المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

البداية والنهاية   «الحوادث زمن الفترة - السيرة النبوية» تأليف الإمام الحافظ المؤرخ أبي - البداية والنهاية - ط دار ابن كثير - جـ ٣

[ابن كثير]

فهرس الكتاب

البداية والنهاية

«الحوادث زمن الفترة - السيرة النبوية»

تأليف

الإمام الحافظ المؤرخ أبي الفداء إسماعيل بن كثير

[701 هـ - 774 هـ]

حققه وخرج أحاديثه وعلق عليه

مأمون محمد سعيد الصاغرجي

راجعه

الشيخ عبد القادر الأرناؤوط - الدكتور بشار عواد معروف

الجزء الثالث

ص: 1

بسم الله الرحمن الرحيم

تنبيه: الرموز المستخدمة في حواشي هذا الجزء هي: (ط) هي النسخة المطبوعة من طبعة القاهرة. (ب) هي نسخة برلين. (ح) هي نسخة المكتبة الأحمدية بحلب.

ص: 2

‌ذكر شيء مما وقع من الحوادث

(1)

في زمن الفترة فمن ذلك بنيان الكعبة

وقد قيل: إن أول من بناه آدم، وجاء في ذلك حديث مرفوع عن عبد الله بن عمرو وفي سنده ابنُ لَهِيْعَةَ وهو ضعيف

(2)

، وأقوى الأقوال أن أول من بناه الخليل عليه السلام. كما تقدم

(3)

.

وكذلك رواه سِمَاك بن حرب عن خالد بن عَرْعَوة عن علي بن أبي طالب قال: ثمّ تهدَّم فبنته العمالقةُ، ثمّ تهدّم فبنته جُرْهم، ثم تهدّم فبنته قريش

(4)

.

قلت: سيأتي بناء قريش له، وذلك قبل المبعث بخمس سنين، وقيل بخمس عشرة سنة. وقال الزهري: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بلغ الحلم. وسيأتي ذلك كلّه في موضعه إن شاء الله، وبه الثقة.

‌ذكر كعب بن لؤي

روى أبو نُعيم من طريق محمد بن الحسن بن زبالة، عن محمد بن طلحة التَّيْمي، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث، عن أبي سلمة، قال: كان كعبُ بن لُؤي يجمع قومَه يوم الجمعة -وكانت قريش تسمّيه العَرُوْبَة

(5)

- فيخطبهم فيقول: أما بعد، فاسمعوا وتعلّموا، وافْهموا واعلموا، ليل ساج، ونهارٌ ضاح

(6)

، والأرض مِهاد، والسماء بناء، والجبال أوتاد، والنجومُ أعلام، والأوّلون كالآخرين، والأنثى والذكر، والزوج إلى بلّى ما يهيج

(7)

. فصلوا أرحامكم، واحفظوا أصْهارَكم، وثَمِّروا أموالكم. فهل رأيتم من هالكٍ رَجع؟ أو ميت نُشِر؟ الدارُ أمامكم، والظنُّ غيرُ ما تقولون، حَرَمُكم زَيِّنوه وعظّموه، وتمسّكوا به، فسيأتي له نبأ عظيم؛ وسيخرجُ منه نبي كريم، ثم يقول:[من الطويل]

نهارٌ وليلٌ كلّ يوم بحادثٍ

سواءٌ علينا ليلُها ونهارها

(1)

في ط: شيء من الحوادث.

(2)

عبد الله بن لهيعة بن عقبة الحضرمي، قاضي مصر، كان يدلس عن الضعفاء. توفي سنة (174 هـ). المجروحين (2/ 11 - 14).

(3)

عند ذكر قصة بناء البيت العتيق في الجزء الأول من هذا الكتاب.

(4)

وهذا سنده ضعيف أيضًا فإن خالد بن عرعرة مجهول الحال. وانظر "مختصر تاريخ دمشق" لابن عساكر (18/ 23).

(5)

في دلائل النبوة لأبي نعيم: وكانت قريش تسمي يوم الجمعة عَروبة. وكذلك في القاموس المحيط.

(6)

ليل ساج: يروح ويجيء، ونهار ضاح: ظاهر مضيء.

(7)

في ط: والروح وما يهيج إلى بلى. وفي دلائل النبوة: والزوج إلى بلى صائرين. ويهيج: يثور.

ص: 5

يؤوبان بالحدَّاث حتى تأوّبا

وبالنعَم الضّافي علينا ستورها

على غَفْلةٍ يأتي النبيُّ محمدٌ

فيخبرُ أخبارًا صدوقًا خبيرها

(1)

ثم يقول: والله لو كنتُ فيها ذا سمعٍ وبصرٍ، ويَدٍ ورِجْل، لتنصَّبْتُ

(2)

فيها تنصُّبَ الجمل، ولأَرْقَلْت فيها إرْقالَ الفَحْل

(3)

. ثم يقول: [من البسيط]

يا ليتَني شاهِدًا نجواءَ دعوته

حينَ العشيرةُ تبغي الحقَّ خِذلانا

(4)

قال: وكان بين موت كعب بن لؤي ومبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسمائة عام وستون سنة

(5)

.

* * *

‌ذِكْر تجديد حفر زمزم

على يدي عبد المطلب بن هاشم، التي

(6)

كان قد درس رسمُها بعد طم جُرْهُم لها إلى زمانه. قال محمد بن إسحاق: ثم إن عبد المطلب بينما هو نائم في الحِجر [إذ أُتيَ فأُمِرَ بحفر زمزم]

(7)

. وكان أول ما ابتدأ به عبد المطلب من حَفْرها، كما حدّثني يزيد بن أبي حبيب المصري، عن مَرْثَد بن عبد الله اليَزَني

(8)

، عن عبد الله بن زُرَيْر

(9)

الغافقي أنه سمع علي بن أبي طالب يُحدّث حديث زمزم

(10)

حين أُمِرَ عبدُ المطلب بحفرها قال: قال عبد المطلب: إني لنائم في الحِجر، إذ أتاني آتٍ فقال لي: احفر طيبة

(11)

. قال: قلت: وما طيبة؟ قال: ثم ذهب عني. قال: فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي

(1)

في ط: صدوق.

(2)

تنصَّبَ: قام رافعًا رأسه.

(3)

في ط: ولأرقلت بها إرقال العجل. والإرقال: الإسراع.

(4)

في دلائل النبوة: فحواء.

(5)

دلائل النبوة (1/ 106 - 107)، وإسناده تالف فإن ابن زبالة، كذاب، كما في "التقريب".

(6)

في ب: الذي.

(7)

سقطت من ط.

(8)

في ط: المزني. وهو تحريف. واليَزَني: نسبة إلى ذي يزن بطن من حمير. واشتهر بهذه النسبة مرثد بن عبد الله اليزني، وهو مصري، توفي سنة تسعين للهجرة. اللباب (3/ 411).

(9)

في أ، وط: رزين وهو سهو. وأثبت ما في ب، والسيرة. وعبد الله بن زُرَيْر الغافقي المصري محدث ثقة، رُمي بالتشيع. توفي سنة ثمانين للهجرة، أو بعدها. تقريب التهذيب (1/ 415).

(10)

في ب: حفر زمزم.

(11)

سميت زمزم (طيبة) لأنها للطيبين والطيبات من ولد إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام. الروض الأنف (1/ 167).

ص: 6

فنمت، فجاءني

(1)

فقال: احفر بَرَّة. قال: قلت: وما بَرَّة؟ قال: ثم ذهب عني، فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمتُ، فجاءني فقال: احفر المَضْنُونة

(2)

. قال: قلت: وما المضنونة؟ قال: ثم ذهب عني، فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمتُ فيه، فجاءني فقال: احفر زمزم. قال: قلت: وما زمزم؟ قال: لا تَنْزِفُ أبدًا ولا تُذَم

(3)

، تسقي الحجيج الأعظم، وهي بين الفَرْث والدم، عند نُقرة الغراب الأَعْصَم

(4)

، عند قرية النمل. قال: فلما بيّنَ لي شأنها، ودلَّ على موضعها، وعَرَف أنه قد صدق، غَدا بمعوله ومعَه ابنُه الحارث بن عبد المطلب، وليس له يومئذ ولد غيره، فحفر، فلما بدا لعبد المطلب الطّي

(5)

كَبَّر، فعرفَتْ قريشٌ أنه قد أدرك حاجته. فقاموا إليه فقالوا: يا عبد المطلب، إنها بئر أبينا إسماعيل، وإن لنا فيها حقًا، فأشرِكْنا معك فيها. فقال: ما أنا بفاعل، إن هذا الأمر قد خُصصتُ به دونَكم، وأُعْطيتُه من بينكم. قالوا له: فأنصفنا، فإنا غيرُ تاركيك حتى نخاصمك فيها. قال: فاجعلوا بيني وبينكم مَنْ شئتم أُحاكِمُكم إليه. قالوا: كاهنة بني سعد بن هُذَيْم. قال: نَعَم. وكانت بأشراف الشام، فركب عبد المطّلب ومعه نفرٌ من بني أمية، وركب من كل قبيلة من قريش نفرٌ، فخرجوا والأرض إذ ذاك مفاوز، حتى إذا كانوا ببعضها نفد ماء عبد المطلب وأصحابه، فعطشوا حتى استيقنوا بالهلكة، فاستسقوا مَن معهم، فأبَوا عليهم وقالوا: إنا بمفازة، وإنا نخشى على أنفسنا مثلَ ما أصابكم. [فقال عبد المطلب: إني أرى أن يحفر كلُّ رجلٍ منكم حفرته لنفسه بما لكم]

(6)

الآن من القوة، فكلما مات رجل دفعه أصحابُه في حفرته ثمّ واروه حتى يكون آخرُهم رجلًا واحدًا، فضَيْعةُ رجلٍ واحدٍ أيسر من ضيعة ركبٍ جميعًا

(7)

. فقالوا: نِعمّا أمرت به. فحفر كلّ رجل

(8)

لنفسه حفرة، ثمّ قعدوا ينتظرون الموت عطشًا. ثمّ إن عبد المطلب قال لأصحابه إن إلقاءنا بأيدينا

(9)

هكذا للموت لا نضرِب في الأرض، لا نبتغي لأنفسنا لَعَجْزٌ، فعسى أن يرزقنا ماءً ببعض البلاد، ارتحلوا

(10)

فارتحلوا، حتى إذا بَعَثَ عبدُ المطلب راحلته انفجرت من تحت خفها عينُ ماء عذبٍ، فكبّر عبد المطلب، وكبّر أصحابُه، ثمّ نزل فشرب

(1)

في ب: رجعت فنمت في مضجعي فجاءني. وقيل لزمزم (برّة): لأنها فاضت للأبرار، وغاضت عن الفجّار. (الروض الأنف).

(2)

سميت زمزم (المضنونة) لأنها ضُنَّ بها على غير المؤمنين. (الروض الأنف).

(3)

لا تنزف: لا يفرغ ماؤها، ولا يلحق قعرها. ولا تذم: لا توجد قليلة الماء.

(4)

الأعصم من الغربان: الذي في جناحيه بياض. الروض الأنف (1/ 169)، ففيه تفسير مطول لهذا الخبر.

(5)

في ط: الطمي. وهو تحريف. والطي: الحجارة الي تبنى على جوانب البئر.

(6)

سقطت من ب. وفي أ: بكم.

(7)

كذا في أ. والسيرة. وفي ب، وط: جميعه.

(8)

في ب: كل منهم.

(9)

في ط: لأصحابه ألقينا بأيدينا.

(10)

زيادة من ب، والسيرة.

ص: 7

وشرب أصحابُه، واستسقوا حتى ملؤوا أسقيتَهم، ثم دعا قبائل قريش وهم ينظرون إليهم في جميع هذه الأحوال، فقال: هلموا إلى الماء، فقد سقانا الله. فجاؤوا، فشربوا واستقوا كلّهم، ثمّ قالوا: قد والله قُضِيَ لك علينا، والله ما نخاصمك في زمزم أبدًا، إن الذي سَقاك هذا الماء بهذه الفلاة هو

(1)

الذي سقاك زمزم، فارجع إلى سقايتك راشدًا، فرجع ورجعوا معه، ولم يصلوا إلى الكاهنة، وخلّوا بينه وبين زمزم

(2)

.

قال ابن إسحاق: فهذا ما بلغني عن علي بن أبي طالب في زمزم. قال ابن إسحاق: وقد سمعت مَنْ يُحدّث عن عبد المطلب أنه قيل له حين أمرَ بحفر زمزم: [من الرجز]

ثُمَّ ادعُ بالماءِ الرِّوَى غيرِ الكَدِرْ

يسقي حَجيجَ الله في كل مَبَرّ

(3)

ليس يُخافُ منه شيء ما عَمَرْ

(4)

قال: فخرج عبد المطلب حين قيل له ذلك إلى قريش، فقال: تعلَّموا أني قد أُمرت أن أحفر زمزم؟ قالوا: فهل بُيِّن لك أين هي؟ قال: لا! قالوا: فارجع إلى مَضْجَعك الذي رأيتَ فيه ما رأيت، فإن يكُ حقًا من الله يبين لك، وإن يك من الشيطان فلن يعودَ إليك فرجع، فنام

(5)

. فأُتي فقيل له:

احفر زمزم، إنك إن حفرتها لن تندم. وهي تراثٌ من أبيك الأعظم. لا تنزِف أبدًا ولا تُذَم. تسقي الحجيج الأعظم. مثل نَعام حافل لم يُقْسَم. ينذر فيها ناذرٌ لِمُنْعم. تكون ميراثًا وعقدًا مُحْكم. ليست لبعض ما قد تعلم. وهي بين الفَرْث والدم

(6)

.

قال ابن إسحاق: فزعموا أن عبد المطلب حين قيل له ذلك قال: وأين هي؟ قيل له: عند قرية النمل حيث ينقر الغراب غدًا. فالله أعلم أين ذلك كان. قال: فغدا عبد المطلب ومعه ابنه الحارث، وليسِ له يومئذ ولد غيره، زاد الأُموي: ومولاه أصرم

(7)

، فوجد قرية النمل، ووجد الغرابَ ينقر عندها بين الوثَنَيْن إسَاف ونائلة اللذين كانت قريش تَنْحَر عندهما، فجاء بالمعوَل وقام ليحفر حيث أُمر، فقامت إليه قريش وقالت

(8)

والله لا نتركك تحفر بين وثنينا هذين

(9)

اللذين ننحر عندهما. فقال عبد المطلب لابنه

(1)

في ب، والسيرة: لهو.

(2)

السيرة (1/ 143 - 145).

(3)

ماء رِوَى، ورَواء: كثير.

(4)

ما عَمرَ: أي ما بقي.

(5)

في ط: ونام.

(6)

السيرة (1/ 145).

(7)

من ب وط. والأموي هو يحيى بن سعيد بن أبان الأموي الكوفي الحنفي، المتوفى سنة (191 هـ). وله كتاب في مغازي رسول الله. كشف الظنون (2/ 1747).

(8)

في ب: فقالوا، وكذلك في السيرة.

(9)

زيادة من ب توافق نص السيرة.

ص: 8

الحارث: ذُدْ عني حتى أحفر، فوالله لأمضيّن لما أُمرتُ به. فلما عرفوا أنه غير نازع

(1)

خلّوا بينه وبين الحفر وكفوا عنه، فلم يحفر إلا يسيرًا حتى بدا له الطّي، فكبَّر، وعرف أنه قد صُدِق. فلما تمادى به

(2)

الحفر وجد فيها غزالين من ذهب اللذين

(3)

كانت جرهم قد دفنتهما، ووجد فيها أسيافًا قَلَعِيَّةً وأدرعًا. فقالت له قريش: يا عبدَ المطّلب لنا معك في هذا شِرْك وحق. قال: لا، ولكن هَلُمّ إلى أمر نَصَفٍ بيني وبينكم نضرب عليها بالقداح. قالوا: وكيف نصنع؟ قال: أجعلُ للكعبة قدحين، ولي قدحين، ولكم قدحين، فمن خرج قدحاه على شيء كان له، ومن تخلّف قدحاه فلا شيء له. قالوا: أنصفت. فجعلَ للكعبة قدحين أصفرين، وله أسودين، ولهم أبيضين، ثم أعطوا القداح للذي يضرب عند هُبل، وهُبل أكبر أصنامهم، ولهذا قال أبو سفيان يوم أحد: أعلُ هُبَل. يعني هذا الصنم. وقام عبد المطلب يدعو الله

(4)

.

وذكر يونس بن بُكير، عن محمد بن إسحاق أن عبد المطلب جعل يقول:[من الرجز]

لاهُمّ أنتَ الملِكُ المحمود

ربي فأنتَ المُبدِئُ المعياد

(5)

وممسك الراسيةِ الجلمودِ

مِن عندك الطارفُ والتليد

إن شئتَ ألهمتَ كما تريد

لموضع الحِليةِ والحديد

فبيّن اليوم لما تريد

إني نَذَرتُ العاهدَ المعهود

اجعله ربِّ لي فلا أعود

(6)

قال: وضرب صاحب القداح فخرج الأصفران على الغزالين للكعبة، وخرج الأسودان على الأسياف والأدراع لعبد المطلب، وتخلف قدحا قريش. فضرب عبد المطلب الأسياف بابًا للكعبة، وضرب في الباب الغزالين من ذهب، فكان أول ذهب حلية للكعبة فيما يزعمون. ثم إن عبد المطلب أقام سِقاية زمزم للحجاج.

وذكر ابن إسحاق وغيره أن مكة كان فيها بئار كثيرة قبل ظهور زمزم في زمن عبد المطلب، ثم عدّدها

(1)

نزع عن الأمر نزوعًا: كف وانتهى.

(2)

زيادة من ب، ط، والسيرة. وفي السيرة: عرفوا أنه قد صدق.

(3)

في ط: غزالتين .. اللتين.

(4)

السيرة (1/ 145 - 146). والنص القادم ليس في السيرة، لأنه من رواية يونس، وإنما هذب ابن هشام رواية البكائي عن ابن إسحاق.

(5)

في ط: اللهم

أنت.

(6)

تتمة خبر ابن إسحاق.

ص: 9

ابن إسحاق

(1)

، وسمّاها، وذكر أماكنها من مكة، وحافِرِيها، إلى أن قال: فَعفَّت زمزمُ على البئار كلّها، وانصرف الناس كلّهم

(2)

إليها، لمكانها من المسجد الحرام، ولفضلها على ما سواها من المياه، ولأنها بئر إسماعيل بن إبراهيم، وافتخرت بها بنو عبد مناف على قريش كلّها وعلى سائر العرب.

وقد ثبت في صحيح مسلم

(3)

في حديث إسلام أبي ذرٍّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في زمزم: "إنّها لَطَعامُ طُعْمٍ، وشِفاءُ سُقْمٍ".

وقال الإمام أحمد

(4)

: حدّثنا عبد الله بن الوليد، حدّثنا عبد الله بن المؤمَّل، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ماءُ زَمزم لما شُرِب منه".

وقد رواه ابن ماجه

(5)

من حديث عبد الله بن المؤمَّل، وقد تكلّموا فيه، ولفظُه:"ماء زمزم لما شرب له".

ورواه سويد بن سعيد، عن عبد الله بن المبارك، عن عبد الرحمن بن أبي الموالي، عن محمد بن المنكدر، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ماء زمزم لما شُرِب له". ولكن سويد بن سعيد ضعيف. والمحفوظ عن ابن المبارك عن عبد الله بن المؤمَّل كما تقدم

(6)

.

وقد رواه الحاكم عن ابن عباس مرفوعًا: "ماء زمزم لما شُرب له". وفيه نظر

(7)

. والله أعلم.

وهكذا روى ابن ماجه

(8)

أيضًا والحاكم

(9)

عن ابن عباس أنه قال لرجل: إذا شَرِبْتَ من زمزم فاستقبلِ الكعبةَ، واذكرِ اسمَ الله، وتنفّس ثلاثًا، وتضَلَّع منها

(10)

، فإذا فرغتَ فاحمد الله فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن آية ما بيننا وبين المنافقين لا يتضلّعون من ماء زمزم".

وقد ذُكِرَ عن عبد المطلب أنه قال: اللهم إني لا أُحِلُّها لمغتسل، وهي لشارب حِلٌّ وبِلٌّ. وقد ذكره

(1)

السيرة (1/ 147 - 150).

(2)

ليست في ب، ولا في السيرة.

(3)

صحيح مسلم رقم (2473)، في فضائل الصحابة، باب من فضائل أبي ذر، من حديث طويل.

(4)

المسند (3/ 372).

(5)

سنن ابن ماجه رقم (3062)، في المناسك، باب الشرب من زمزم. وكذلك رواه أحمد (3/ 357) وهو حديث حسن. وأورد الحديث ابن حبان، عن ابن المؤمل، في المجروحين (2/ 28)، وقال: لم يتابَع عليه.

(6)

وهو حديث حسن.

(7)

المستدرك (1/ 473) وهو حديث حسن.

(8)

سنن ابن ماجه رقم (3061) في المناسك، باب الشرب من زمزم وإسناده ضعيف لضعف تابعيه محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر.

(9)

المستدرك (1/ 372) وقد سقط منه تابعيه محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر.

(10)

تضلَّع منها: أي أكثر من الشرب حتى يمتلئ جنبك وأضلاعك.

ص: 10

بعض الفقهاء عن العباس بن عبد المطلب، والصحيح أنه عن عبد المطلب نفسه، فإنه هو الذي جدّد حفر زمزم كما قدمنا والله أعلم. وقد قال الأموي في "مغازيه": حدّثنا أبو عبيد، أخبرني يحيى بن سعيد عن عبد الرحمن بن حَرْملة، سمعت سعيد بن المسيِّب يحدّث أن عبد المطلب بن هاشم حين احتفر زمزم. قال: لا أُحلُّها لمغتسل وهي لشارب حِلٌّ وبِلٌّ. وذلك أنه جَعَل لها حَوضين: حوضًا للشرب، وحوضًا للوضوء. فعند ذلك قال: لا أحلّها لمغتسلٍ لينزّه المسجدَ عن أن يُغْتَسَل فيه.

قال أبو عبيد: قال الأصمعي: قوله: (وبل) إتباع قال أبو عبيد

(1)

: والإتباع لا يكون بواو العطف، وإنما هو كما قال معتمر بن سليمان إن (بل) بلغة حمير مُباح

(2)

، ثم قال أبو عبيد: حدّثنا أبو بكر بن عيّاش، عن عاصم بن أبي النجود، أنه سمع زرًا، أنه سمع العباس يقول: لا أحلها لمغتسل وهي لشارب حِلٌّ وبِلٌّ. وحدّثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدّثنا سفيان، عن عبد الرحمن بن علقمة أنه سمع ابن عباس يقول ذلك، وهذا صحيحٌ إليهما، وكأنهما يقولان ذلك في أيامهما على سبيل التبليغ والإعلام بما اشترطه عبد المطلب عند حفره لها، فلا ينافي ما تقدم، والله أعلم.

وقد كانت السقاية إلى عبد المطلب أيام حياته، ثمّ صارت إلى ابنه أبي طالب مدةً، ثمّ اتفق أنه أملق في بعض السنين، فاستدان من أخيه العباس عشرة آلاف إلى الموسم الآخر، وصرفها أبو طالب في الحجيج في عامه فيما يتعلق بالسقاية

(3)

، فلما كان العام المقبل لم يكن مع أبي طالب شيء، فقال لأخيه العباس: أسلفني أربعة عشر ألفًا أيضًا إلى العام المقبل أعطيك جميع مالك. فقال له العباس: بشرط إن لم تُعطني تترك السقاية لي أكْفِكَها. فقال: نعم. فلما جاء العام الآخر لم يكن مع أبي طالب ما يعطي العباس، فترك له السقاية، فصارت إليه، ثمّ من بعده صارت إلى عبد الله ولده، ثمّ إلى علي بن عبد الله بن عباس، ثمّ إلى داود بن علي، ثم إلى سليمان بن علي، ثم إلى عيسى بن علي، ثم أخذها المنصور واستناب عليها مولاه أبا رزين. ذكره الأُموي.

* * *

‌ذكر نذر عَبد المطلب ذبح أحد ولده

(4)

قال ابن إسحاق: وكان عبد المطلب فيما يزعمون نَذَر حين لقي من قريشٍ ما لقي

(1)

ليست في ب.

(2)

في اللسان (بلل): قال الأصمعي: كنت أرى أن (بلًا) إتباع لحل، حتى زعم المعتمر بن سليمان أن (بلا): مباح في لغة حمير. النهاية في غريب الحديث (1/ 154).

(3)

في ب: الحجيج عامه ذلك فيما يتعلق بالرفادة.

(4)

سقط من ط: ذكر وأحد من العنوان.

ص: 11

عند

(1)

حفر زمزم: لئن وُلِد له عشرةُ نفرٍ ثمّ بلغوا معه حتى يمنعوه لَيَنْحَرنّ

(2)

أحدَهم لله عند الكعبة. فلما تكامل بنوه عشرة، وَعَرف أنهم سيمنعونه، وهم: الحارث، والزبير، وحَجل، وضرار، والمقرّم، وأبو لَهب، والعباس، وحمزة، وأبو طالب، وعبد الله

(3)

، جمعهم ثمّ أخبرهم بنذره، ودعاهم إلى الوفاء لله عز وجل بذلك، فأطاعوه وقالوا: كيف نصنع؟ قال: ليأخذ كلُّ رجلٍ منكم قِدْحًا، ثمّ يكتبُ فيه اسمَه، ثم ائتوني. ففعلوا ثم أتوه، فدخل بهم على هُبَل في جوف الكعبة، وكانت تلك البئر هي التي يجمع فيها ما يُهدَى للكعبة، وكان عند هُبل قِدَاح سبعة، وهي الأزلام التي يتحاكمون إليها إذا أعضل عليهم أمر من عَقْل أو نَسَب أو أمرٍ من الأمور جاؤوا فاستقسموا بها، فما أمرتهم به أو نهتهم عنه امتثلوه

(4)

.

والمقصود أن عبد المطلب لما جاء يستقسم بالقدح عند هُبل خرج القدح على ابنه عبد الله، وكان أصغرَ ولده وأحبَّهم إليه، فأخذ عبد المطلب بيد ابنه عبد الله، وأخذ الشفرةَ، ثمّ أقبل به إلى إساف ونائلة ليذبحه، فقامت إليه قريش من أنديتها فقالوا: ما تريد يا عبد المطلب؟ قال: أذبحه. فقالت له قريش وبنوه أخوة عبد الله: والله لا تذبحه أبدًا حتى تُعْذِر فيه، لئن فعلتَ هذا لا يزال الرجل يجيء بابنه حتى يذبحه، فما بقاء الناس على هذا

(5)

.

وذكر يونس بن بكير، عن ابن إسحاق أن العباس هو الذي اجتذب عبدَ الله من تحت رجل أبيه حين وضعها عليه ليذبحه، فيقال: إنه شج وجهه شجًا لم يزل في وجهه إلى أن مات.

ثمّ أشارت قريش على عبد المطلب أن يذهب إلى الحجاز فإن بها عَرَّافة لها تابعٌ فيسألها عن ذلك، ثمّ أنت على رأس أمرك إن أمرتك بذبحه فاذبحه، وإن أمرتك بأمرٍ لك وله فيه مخرج قبلته. فانطلقوا حتى أتوا المدينةَ، فوجدوا العرّافة وهي سَجَاح

(6)

-فيما ذكره يونس بن بكير عن ابن إسحاق- بخيبر، فركبوا حتى جاؤوها فسألوها، وقصَّ عليها عبدُ المطلب خبرَه وخبرَ ابنه، فقالت لهم: ارجعوا عني اليومَ حتى يأتيني تابعي فأسأله. فرجعوا من عندها. فلما خرجوا قام عبد المطلب يدعو الله، ثمّ غدوا عليها فقالت لهم: قد جاءني الخبر، كم الدِّيةُ فيكم؟ قالوا: عشرٌ من الإبل، وكانت كذلك. قالت: فارجعوا إلى بلادكم، ثم قرِّبوا صاحبَكم وقرّبوا عشرًا من الإبل، ثم اضربوا عليها وعليه بالقداح، فإن خرجت على

(1)

كذا في ب، وط. وهو موافق للسيرة. وفي أ: حين.

(2)

في ط: ليذبحن.

(3)

لم يذكر ابن إسحاق أسماء العشرة.

(4)

السيرة (1/ 151 - 152).

(5)

السيرة (1/ 153).

(6)

وفي الروض الأنف (1/ 177): عن عبد الغني أن اسمها: قُطبة.

ص: 12

صاحبكم فزيدوا من الإبل حتى يرضى ربُّكم، وإن خرجت على الإبل فانحروها عنه فقد رضي ربكم ونجا صاحبكم. فخرجوا حتى قدموا مكة، فلما أجمعوا على ذلك الأمر قام عبد المطلب يدعو الله، ثم قرّبوا عبدَ الله وعشرًا من الإبل، ثمّ ضربوا فخرج القِدح على عبد الله، فزادوا عشرًا ثمّ ضربوا فخرج القِدح على عبد الله، فزادوا عشرًا. فلم يزالوا يزيدون عشرًا عشرًا ويخرج القِدحُ على عبد الله حتى بلغت الإبل مئة. ثمّ ضربوا فخرج القدح على الإبل. فقالت عند ذلك قريش لعبد المطلب، وهو قائم عند هُبل يدعو الله: قد انتهى، رضيَ ربُّك يا عبد المطلب. فعندها

(1)

زعموا أنه قال: لا، حتى أضرب عليها بالقداح ثلاثَ مرات، فضربوا ثلاثًا ويقع القِدح فيها على الإبل، فنُحِرَت ثم تُرِكَت لا يُصَدُّ عنها إنسان ولا يُمْنع. قال ابن هشام: ويُقال: ولا سَبُع

(2)

.

ويقال

(3)

: إنه لما بلغت الإبل مئة خرج على عبد الله أيضًا، فزادوا مئة أخرى حتى بلغت مئتين، فخرج

(4)

القدح على عبد الله، فزادوا مئة أخرى فصارت الإبل ثلاثمائة، ثم ضربوا فخرج القدح على الإبل، فنحرها عند ذلك عبد المطلب. والصحيح الأول. والله أعلم.

وقد روَى ابن جرير، عن يونس بن عبد الأعلى، عن ابن وهب، عن يونس بن يزيد، عن الزُّهْري، عن قبيصة بن ذُؤيب أن ابن عباس سألته امرأة أنها نَذَرت ذبح ولدها عند الكعبة، فأمرها بذبح مئة من الإبل، وذَكَر لها هذه القصة عن عبد المطلب. وسألتْ عبدَ الله بن عمر فلم يفتها بشيء بل توقّف. فبلغ ذلك مروان بن الحكم، وهو أمير المدينة فقال: إنهما لم يُصيبا الفُتيا، ثم أمر المرأة أن تعمل ما استطاعت من خير، ونهاها عن ذبح ولدها ولم يأمرها بذبح الإبل. وأخذ الناس بقول مروان في ذلك

(5)

. والله أعلم.

* * *

‌ذكر تزويج عبد المطلب ابنه عبد الله من آمنة بنت وهب الزُّهَرية

قال ابن إسحاق: ثم انصرف عبدُ المطلّب آخذًا بيد ابنه عبد الله، فمرّ به -فيما يزعمون- على امرأة من بني أسد بن عبد العُزَّى بن قُصي، وهي أم قتال أخت ورَقَة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قُصي وهي عند الكعبة، فنظرت إلى وجهه فقالت: أين تذهب يا عبد الله؟ قال: مع أبي. قالت: لك مثل

(1)

قوله: فعندها ليس في ب. ولا السيرة.

(2)

السيرة (1/ 154 - 155).

(3)

في ب، وط: وقد روي.

(4)

في ب: فزيدت الإبل حتى بلغت مئتين فضربوا فخرج.

(5)

في ط: بذلك. تاريخ الطبري (2/ 239 - 240).

ص: 13

الإبل التي نُحرت عنك وقَعْ عليَّ الآن. قال: أنا مع أبي ولا أستطيع خِلافه ولا فراقه. فخرج به عبد المطلب حتى أتى وهْبَ بن عبد مناف بن زُهرة بن كلاب بن مُرّة بن كَعْب بن لؤي بن غالب بن فهر، وهو يومئذ سيد بني زهرة نسبًا

(1)

وشرفًا، فزوجه ابنته آمنة بنت وهب، وهي يومئذ سيدةُ نساء قومها، فزعموا أنه دخل عليها حين أُمْلِكَها مكانه

(2)

، فوقع عليها فحملت منه برسول الله صلى الله عليه وسلم، ثمّ خرج من عندها فأتى المرأة التي عَرَضت عليه ما عَرَضت، فقال لها: مالك لا تعرضين عليَّ اليومَ ما كنتِ عرضتِ

(3)

بالأمس؟ قالت له: فارقك النورُ الذي كان معك بالأمس، فليس لي بك

(4)

حاجة. وكانت تسمع من أخيها وَرَقَة بن نوفل -وكان قد تنصَّر واتَّبع الكتبَ- أنه كائن في هذه الأمة نبي

(5)

، فطمعت أن يكون منها، فجعله الله تعالى في أشرف عنصر وأكرم محتد وأطيب أصل، كما قال تعالى:{اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنفال: 124].

وسنذكر المولد مفصلًا.

ومما قالت أم قتال بنت نوفل من الشعر تتأسف على ما فاتها من الأمر الذي رامته، وذلك فيما رواه البيهقي من طريق يونُس بن بكير، عن محمد بن إسحاق رحمه الله:[من الوافر]

عليكَ بآلِ زهرةَ حيثُ كانوا

وآمنةَ التي حَمَلت غلاما

نرى المهديَّ حينَ نزا عليها

ونورًا قد تَقَدّمه أماما

[إلى أن قالت]

(6)

: [من الوافر]

فكلُّ الخَلْق يرجوهُ جميعًا

يسودُ الناسَ مهتديًا إماما

براه اللهُ من نورٍ صَفَاه

فأذهبَ نورُه عنّا الظلاما

وذلكَ صُنْعُ ربك إذ حَباهُ

إذا ما سارَ يومًا أو أقاما

فيهدي أهلَ مكةَ بعدَ كُفرٍ

ويفرضُ بعدَ ذلكمُ الصِّياما

وقال أبو بكر محمد بن جعفر بن سهل الخرائطي: حدّثنا علي بن حرب، حدّثنا محمد بن عمارة القرشي، حدّثنا مسلم بن خالد الزنجي، حدّثنا ابن جُريج، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس قال: لما انطلق عبد المطلب بابنه عبد الله ليزوجَه مرَّ به على كاهنة من أهل تَبَالة مُتهوِّدة قد قرأت الكتب،

(1)

كذا في ب، وهو موافق لنص السيرة. وفي أ: سناءً. وفي ط: سنًا.

(2)

أُملك المرأة، بالبناء للمجهول: تزوجها.

(3)

كذا في ب، وط، والسيرة. وفي أ: تعرضين.

(4)

في ب: اليوم حاجة. وكذلك في السيرة.

(5)

السيرة (1/ 156 - 157). ودلائل النبوة لأبي نعيم (1/ 162 - 167).

(6)

قوله: إلى أن قالت. زيادة من ب، ط.

ص: 14

يقال لها: فاطمة بنت مُرّ الخثعمية، فرأت نور النبوّة في وجه عبد الله، فقالت: يا فتى هل لك أن تقع عليَّ الآن وأُعطيكَ مئة من الإبل؟ فقال عبد الله: [من الرجز]

أمَّا الحرامُ فالمماتُ دونَهُ

والحِلُّ لا حِلَّ فأَسْتبينه

فكيفَ بالأمرِ الذي تبغينَه

يحمي الكريمُ عِرضَه ودينه

(1)

ثم مضى مع أبيه، فزوّجه آمنةَ بنت وهب بن عبد مناف بن زُهرة، فأقام عندها ثلاثًا. ثم إن نفسه دعته إلى ما دعته إليه الكاهنة، فأتاها. فقالت: ما صنعتَ بعدي؟ فأخبرها. فقالت: والله ما أنا بصاحبة رِيبة، ولكني رأيتُ في وجهك نورًا، فأردتُ أن يكون فيَّ. وأبى الله إلا أن يجعله حيث أراد. ثم أنشأت فاطمة تقول:[من الكامل]

إنّي رَأيتُ مَخِيْلةً لَمَعتْ

فتلألأتْ بِحَنَاتِم القَطْر

(2)

فَلَمَأْتُها نُوْرًا يُضيء له

ما حولَه كإضاءةِ البَدر

(3)

ورجوتُها فخرًا أبوءُ به

ما كلُّ قادحِ زَندِه يُورِي

لله ما زُهريَّةٌ سلبت

ثوبَيْك ما استَلبت وما تدري

(4)

وقالت فاطمة أيضًا: [من الطويل]

بني هاشمٍ قد غادرتْ من أخيكُمُ

أمينةُ إذ للباهِ يَعْتَرِكانِ

كما غادرَ المصباحُ عند خُموده

فتائلَ قد مِيثَت له بدِهان

(5)

وما كل ما يحوي الفتى من تِلادهِ

بحزمٍ ولا ما فاتَه لِتَواني

فأَجملْ إذا طالبتَ أمرًا فإنه

سيكفيكه جَدّانِ يعتلجان

(6)

سيكفيكه إما يد مقفعلَّةٌ

وإما يدٌ مبسوطةٌ ببنان

(7)

ولما حَوت منه أمينة ما حوت

حوت منه فخرًا ما لذلك ثان

(8)

وروى الإمام أبو نعيم الحافظ في كتاب "دلائل النبوة" من طريق يعقوب بن محمد الزهري، عن

(1)

قوله: يحمي الكريم عرضه ودينه. زيادة من ط والروض الأنف.

(2)

المَخِيلة: السحابة تخالها ماطرة. الحناتم: السحائب السود.

(3)

لمأتها: أبصرتها. وفي دلائل النبوة: فلمائها.

(4)

أورد الخبر كذلك أبو نعيم في دلائل النبوة (1/ 164 - 166). وهو في الروض الأنف (1/ 180).

(5)

ميثت: خُلطت.

(6)

الجد: الحظ.

(7)

في ط: مقفللة. ومقفعلة: متشنجة منقبضَة.

(8)

دلائل النبوة لأبي نعيم (1/ 166).

ص: 15

عبد العزيز بن عمران، عن عبد الله بن جعفر، عن أبي عَون

(1)

، عن المِسْوَر بن مَخْرَمة، عن ابن عباس قال: إن عبد المطلب قدم اليمن في رحلة الشتاء، فنزل على حَبْرٍ من اليهود، قال: فقال لي رجلٌ من أهل الديور، يعني أهل الكتاب: يا عبد المطلب أتأذن لي أن أنظر إلى بعضك؟ قال: نعم إذا لم

(2)

يكن عورة. قال: ففتح إحدى مَنْخَرَيّ فنظر فيه، ثمّ نظر في الآخر فقال: أَشْهدُ أن في إحدى يديك مُلكًا، وفي الأخرى نُبُوَّة، وإنّا نجد ذلك في بني زُهْرة، فكيف ذلك؟ قلت: لا أدري. قال: هل لك من شاعة؟ قلت: وما الشاعة؟ قال: زوجة. قلت: أمّا اليوم فلا. قال: فإذا رجعت فتزوج فيهم. فرجع عبد المطلب فتزوج هالة بنت وهْب بن عبد مناف بن زهرة، فولدت حمزة وصفية، ثمّ تزوج عبد الله بن عبد المطلب آمنة بنت وهب، فولدت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت قريش حين تزوّج عبد الله بآمنة: فَلَجَ، أي: فاز وغلب عبد الله على أبيه عبد المطلب

(3)

.

* * *

(1)

هو مولى المسور بن مخرمة. وفي ط: ابن عون. وهو خطأ.

(2)

في ب: فقلت نعم ما لم يكن.

(3)

دلائل النبوة (1/ 161 - 162).

ص: 16

‌كتاب سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم

-

قال الله تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}

(1)

. ولما سأل هِرَقْلُ ملكُ الروم لأبي سفيان تلك الأسئلة عن صفاته عليه الصلاة والسلام قال: كيف نَسَبُهُ فيكم؟ قال: هو فينا ذو نسَب. قال: كذلك الرُّسُلُ تُبعث في أنساب قومها. يعني في أكرمها أحسابًا وأكثرِها قبيلة صلواتُ الله عليهم أجمعين.

فهو سيِّد ولدِ آدم، وفخرُهم في الدنيا والآخرة، أبو القاسم، وأبو إبراهيم، محمد، وأحمد، والماحي الذي يُمْحَى به الكفر، والعاقِبُ الذي ما بعدَهُ نَبِيّ، والحاشِرُ الذي يُحْشَرُ الناس على قدميه

(2)

، والمُقَفِّي

(3)

، ونبيُّ الرحمة، ونبيُّ التوبة، ونبيُّ المَلْحَمة، وخاتم النبيين، والفاتح، وطه، ويس، وعبد الله.

قال البيهقي

(4)

: وزاد بعضُ العلماء فقال: سماه الله في القرآن رسولًا، نبيًّا، أُمِّيًّا

(5)

، شاهدًا، مُبَشِّرًا، نذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنِه وسراجًا منيرًا، ورُؤُوفًا رحيمًا، [ونذيرًا مبينًا]،، ومُذَكِّرًا. وجعله رحمةً ونعمةً وهاديًا، [وسمَّاه عبدًا].

وسنورد الأحاديث المرويَّة في أسمائه عليه [الصلاة و]

(6)

السلام في بابٍ نَعْقِدُهُ بعد فراغ السيرة؛ فإنه قد وردت أحاديث كثيرة في ذلك، اعتنى بجمعها الحافظان الكبيران: البيهقيّ، وأبو القاسم بن عساكر. وأفرد الناسُ في ذلك مصنفات

(7)

حتى رام بعضُهم أن يجمع له عليه الصلاة والسلام ألف اسم. وأما الفقيه الكبير أبو بكر بن العربي المالكي شارحُ الترمذي بكتابه الذي سمَّاه الأحْوَذِي

(8)

، فإنه ذكر من ذلك أربعة وستين

(9)

اسمًا. والله أعلم.

(1)

سورة الأنعام الآية (124)، في الأصل "رسالاته" وقرأ ابن كثير وحفص بالتوحيد: رسالته، وبالجمع قراءة الباقين. الكشف (1/ 449، 450).

(2)

معناه: على عهده وزمنه، أي ليس بعده نبي إلى يوم القيامة والحشر، وقيل: يُحشر الناس أمامي وقُدَّامي؛ أي يجتمعون إليَّ يوم القيامة. مشارق الأنوار (1/ 213) واللسان (حشر).

(3)

المقفِّي: المولِّي الذاهب، فكأن المعنى أنه آخر الأنبياء، المتَّبع لهم، فإذا قَفَّى فلا نبي بعده. اللسان (قفي).

(4)

في دلائل النبوة (1/ 160) وما يأتي بين معقوفين منه.

(5)

في (ح، ط): أمينا، والمثبت من الدلائل.

(6)

ما بين معقوفين ليس في ح وهو في ط وهكذا في سائر هذا الجزء كلما ذكر عليه الصلاة والسلام.

(7)

في ط: مؤلفات.

(8)

واسمه الكامل "عارضة الأحوذي في شرح سنن الترمذي".

(9)

كذا، والذي قاله ابن العربي في عارضة الأحوذي (10/ 281) هو: سبعة وستون اسمًا. ذكرها وعدَّها وأحصاها.

ص: 17

وهو ابن عبد الله، وكان أصغر

(1)

أبيه عبد المطلب، وهو الذبيح الثاني المُفَدَّى بمئةٍ من الإبل كما تقدَّم

(2)

.

قال الزُّهْرِيّ

(3)

: وكان أجملَ رجالِ قريش.

وهو أخو الحارث، والزُّبير، وحمزة، وضِرار، وأبي طالب -واسمه عبد مناف- وأبي لهب -واسمه عبد العُزَّى- والمُقَوَّم -واسمه عبد الكعبة- وقيل: هما اثنان، وحَجْل -واسمه المغيرة- والغَيْدَاق وهو كبير الجود -واسمه نوفل- ويقال: إنه حَجْل. فهؤلاء أعمامه عليه الصلاة والسلام.

وعماته ستٌّ وهنّ: أرْوَى، وأُميمة، وبَرَّة، وصَفِيَّة، وعاتِكة، وأمُّ حكيم -وهي البيضاء-.

وسنتكلم على كلٍّ منهم فيما بعد إنْ شاء الله تعالى.

كلُّهم أولادُ عبد المطلب -واسمه شَيْبَة- يقال: لشيبةٍ كانت في رأسه، ويقال له: شيبة الحَمْد لجوده. وإنما قيل له: عبد المطلب، لأنَّ أباه هاشمًا لما مرَّ بالمدينة في تجارته إلى الشام، نزل على عمرو بن زيد بن لَبِيد بن حَرَام بن خِدَاش بن خِنْدِف بن عَدِيِّ بن النجَّار

(4)

الخَزْرَجي النجَّاري، وكان سيِّدَ قومه، فأعجبَتْه ابنتُه سَلْمى، فخطبها إلى أبيها فزوَّجها منه، واشترط عليه مقامها عنده؛ وقيل: بل اشترط عليه أنْ لا تلد إلا عنده بالمدينة، فلمَّا رجع من الشام بنى بها وأخذها معه إلى مكة، فلما خرج في تجارة أخذها معه وهي حُبْلى فتركها بالمدينة ودخل الشام فمات بغزَّة، ووضعت سَلْمى ولدَها فسمَّتْه شَيْبَة؛ فأقام عند أخواله بني عديِّ بن النجَّار سبعَ سنين، ثم جاء عمُّه المطلب

(5)

بن عبد مَنَاف، فأخذه خُفْيَةً من أمه، فذهب به إلى مكة. فلما رآه الناس ورأَوْهُ على الراحلة قالوا: من هذا معك؟ فقال: عبدي ثم جاؤوا فهنَّؤوه به، وجعلوا يقولون له: عبد المطلب لذلك؛ فغلب عليه، وساد في قريش سيادةً عظيمة، وذهب بشرَفهم ورياستهم. فكان جماعُ أمْرِهم عليه، وكانت إليه السِّقايةُ والرِّفادة بعد المطلب، وهو الذي جدَّد حفر زَمْزَم بعدما كانت مَطْمومةً من عهد جُرْهُم، وهو أوَّلُ من حَلَّى الكعبة بذهب في أبوابها من تينك الغزالتين

(6)

اللتين من ذهب، وجدهما في زمزم مع تلك الأسياف القَلَعية

(7)

.

(1)

فوقه في (ح) إحالة، وفي الهامش: وَلَدِ، وفوقها (خ) إشارة إلى رواية نسخة أخرى، وهي رواية ط.

(2)

ص 11 - 13 من هذا الجزء.

(3)

قول الزهري في دلائل النبوة لأبي نعيم (ص 39) ودلائل النبوة للبيهقي (1/ 87).

(4)

كذا في ح، ط ونسبه في الجمهرة لابن الكلبي (ص 96) وجمهرة ابن حزم (ص 14) هكذا: عمرو بن زيد بن لبيد بن خِدَاش بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار.

(5)

في ح: عبد المطلب، وشطبت كلمة عبد بخط ضعيف، وجاء محذوفًا فى ط وهو الصواب.

(6)

في ح: تلك الغزالين والمثبت من ط.

(7)

"القلعية": نسبة إلى القَلَعة، بفتح القاف واللام، وهي موضع بالبادية تنسب إليه السيوف، اللسان (قلع).

ص: 18

قال ابن هشام

(1)

: وعبد المطلب أخو أسد، ونَضْلَة

(2)

، وأبي صَيْفي، وحَيَّة، وخالدة، ورُقَيَّة، والشِّفَاء، وضعيفة.

كلُّهم أولاد هاشم، واسمه عمرو، وإنما سُمي هاشمًا لهشمه الثريد مع اللحم لقومه في سِنيِّ المَحْل، كما قال مطرود بن كعب الخُزَاعي في قصيدته، وقيل للزِّبَعْرَى والد عبد الله:[من الكامل]

عَمْرو الذي هَشَم الثريدَ لقومِهِ

ورجالُ مكةَ مُسنِتون عِجافُ

سُنَّتْ إليْه الرِّحْلَتانِ كلاهما

سَفَرُ الشتاءِ ورِحلةُ الأصياف

(3)

وذلك لأنه أول من سنَّ رِحْلتي الشتاءِ والصيف، وكان أكبرَ ولد أبيه.

وحكى ابنُ جرير

(4)

أنه كان تَوْأَمَ أخيه عبد شمس، وأنَّ هاشمًا خرج ورجلُه ملتصقةٌ برأس عبد شمس، فما تخلَّصت حتى سال بينهما دم، فتفاءل

(5)

الناس بذلك أنْ يكون بين أولادهما حروب، فكانت وقعة بني العباس مع بني أمية بن عبد شمس سنة ثنتين

(6)

وثلاثين ومائة من الهجرة.

وشقيقهم الثالث المطلب، وكان المطلب أصغرَ ولد أبيه، وأمُّهم عاتكة بنت مُرَّة

(7)

بن هلال.

ورابعهم نوفل، من أم أخرى، وهي واقِدَة بنت عمرو المازنيَّة. وكانوا قد سادوا قومهم بعد أبيهم، وصارت إليهم الرياسة، وكان يقال لهم: المُجِيرون؛ وذلك لأنهم أخذوا لقومهم قريش الأمان من ملوك الأقاليم ليدخلوا في التجارات إلى بلادهم، فكان هاشم قد أخذ أمانًا من ملوك الشام والروم وغسان، وأخذ لهم عبد شمس من النجاشي الأكبر ملك الحبشة، وأخذ لهم نوفل من الأكاسرة، وأخذ لهم المطلبُ أمانًا من ملوك حمير. ولهم يقول الشاعر:[من الكامل]

يا أيها الرجلُ المحوِّلُ رَحْلَه

ألَّا نزلتَ بآلِ عبدِ منافِ

(8)

(1)

السيرة النبوية (1/ 107) بخلاف في اللفظ.

(2)

في ح، ط: فضلة، تصحيف، والمثبت من الاشتقاق (ص 69).

(3)

البيتان في سيرة ابن هشام (1/ 136) وتاريخ الطبري (2/ 251، 252) وأمالي المرتضى (2/ 69) وجمهرة الكلبي، وفي حاشيته (ص 92، 93) مصادر أخرى في تخريجه، وفي البيت الأول إقواء.

(4)

تاريخ الطبري (2/ 252).

(5)

قد تقرأ في ح: فقال وكذا هي في ط وهو تصحيف، ولإزالة اللبس كتبها الناسخ في الهامش بشكل واضح تحت كلمة بيان. ولفظ الطبري في تاريخه: فتُطُيِّر من ذلك، فقيل تكون بينهما دماء. والفأل يكون فيما يحسن وما يسوء اللسان (فأل).

(6)

كتب فوقها في (ح): ثلاث، وهو ما أُثبت في ط: وذِكْرُ من قتل من بني أمية، ساقه ابن الأثير في الكامل (5/ 429، 430) في حوادث سنة 132 هـ.

(7)

في الاشتقاق (ص 37): عاتكة بنت مُرّ إحدى بني سُلَيم.

(8)

الشاعر هو مطرود بن كعب الخزاعي كما تقدم في البيتين السابقين، وهو من أبيات يبكي فيها عبد المطلب وبني =

ص: 19

وكان إلى هاشم السقايةُ والرِّفادَةُ

(1)

بعد أبيه، وإليه وإلى أخيه المطلب نسَبُ ذوي القُرْبَى، وقد كانوا شيئًا واحدًا في حالتي الجاهلية والإسلام لم يفترقوا، ودخلوا معهم في الشِّعْب، وانخذل عنهم بنو عبد شمس ونوفل، ولهذا يقول أبو طالب في قصيدته

(2)

: [من الطويل]

جَزَى اللّهُ عَنَّا عبدَ شمسٍ ونَوْفلًا

عُقوبةَ شرٍّ عاجلًا غَيْرَ آجلِ

ولا يُعْرف بنو أبٍ تباينوا في الوفاة مثلهم؛ فإنَّ هاشمًا مات بغزَّةَ من أرض الشام، وعبد شمس مات بمكة، ونوفل مات بَسَلامَان

(3)

من أرض العراق، ومات المطلب -وكان يقال له: القمر لحُسْنه- بِرَيْمَان من طريق اليمن. فهؤلاء الأخوة الأربعة المشاهير وهم هاشم، وعبد شمس، ونوفل، والمطلب. ولهم أخ خامس ليس بمشهور، وهو أبو عمرو واسمه عبد

(4)

، وأصل اسمه عبد قُصَيّ، فقال الناس عبد بن قُصَيّ، دَرَج

(5)

ولا عقب له. قاله الزُّبير بن بكَّار وغيره.

وأخوات ستّ، وهنّ: تُماضِر، وحَيَّة، ورَيْطَة، وقِلابة، وأم الأخْثَم، وأم سفيان.

كلُّ هؤلاء أولاد عبد مناف، ومناف اسم صنم، وأصل اسم عبد مناف: المغيرة. وكان قد رأَس في زمن والده، وذهب به الشرفُ كلَّ مذهب - وهو أخو عبد الدار الذي كان أكبر ولد أبيه، وإليه أوصى بالمناصب كما تقدَّم. وعبد العُزَّى، وعَبْد، وبَرَّة، وتَخْمُر، وأمُّهم كلهم حُبَّى بنت حُلَيل بن حُبْشِيَّة

(6)

بن سَلُول بن كعب بن عمرو الخُزَاعي، وأبوها آخر ملوك خزاعة، وولاة البيتِ منهم.

وكلُّهم أولاد قُصَيّ واسمه زيد.

وإنما سُمِّي بذلك، لأن أمه تزوجت بعد أبيه بربيعة بن حَرَام بن عُذْرة

(7)

، فسافر بها إلى بلاده وابنُها صغير، فسمي قصيًّا لذلك. ثم عاد إلى مكة وهو كبير.

= عبد مناف. انظر سيرة ابن هشام (1/ 178) والروض الأنف (1/ 203) وفيهما: هلا نزلت بإبدال الهمزة هاءً، وهو جائز كما في الجنى (ص 509).

(1)

في ح: الوفادة، وهو تصحيف، والمثبت من ط. والرِّفادة شيء، كانت قريش تترافد به في الجاهلية، فيخرج كل إنسان مالًا بقدر طاقته، فيجمعون من ذلك مالًا عظيمًا أيام الموسم، فيشترون به للحاج الجُزُر والطعام والزبيب للنبيذ، فلا يزالون يطعمون الناس حتى تنقضي أيام موسم الحج. وأما السِّقاية فهي ما كانت قريش تسقيه الحجّاج من الزبيب المنبوذ في الماء. اللسان (رفد، سقي).

(2)

البيت في ديوانه (ص 8) والقصيدة بتمامها فيه (ص 2 - 12) وفي سيرة ابن هشام (1/ 272 - 280).

(3)

سَلامان: ماء لبني شيبان على طريق مكة إلى العراق. معجم ما استعجم (3/ 745).

(4)

في جمهرة النسب لابن الكلبي (1/ 94) عُبيد.

(5)

درج فلان: مات وما ترك نسلًا. الأساس (درج).

(6)

في ح، ط: جبشي تصحيف والمثبت من الإكمال (2/ 412).

(7)

كذا في الأصول، نسبَهُ إلى جده، ولعل الصواب من عذرة، واسم أبي حرام: ضِنَّة بن عبد كبير بن عذرة كما في الإكمال (2/ 412).

ص: 20

ولمَّ شَعَث قريش، وجمعها من متفرِّقات البلاد، وأزاح يدَ خُزَاعة عن البيت، وأجلاهم عن مكة ورجع الحق إلى نصابه، وصار رئيسَ قريش على الإطلاق، وكانت إليه الرِّفادةَ

(1)

والسِّقاية -وهو سنَّها- والسِّدانة والحِجَابة واللواء، ودارُه دار الندوة كما تقدم بَسْط ذلك كلِّه

(2)

- ولهذا قال الشاعر

(3)

: [من الطويل]

قُصَيُّ، لعَمْرِي كان يُدْعى مُجَمِّعًا

به جَمعَ الله القبائلَ من فِهْرِ

وهو أخو زُهْرَة، كلاهما ابن كلاب أخي تَيْم، ويَقَظة أبي مخزوم، وثلاثتهم أبناء مُرَّة أخي عدي وهُصَيص، وهم أبناء كعب، وهو الذي كان يخطب قومه كلَّ جمعة، ويبشِّرهم بمبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويُنْشد في ذلك أشعارًا كما قدَّمنا

(4)

، وهو أخو عامر وسَامَةَ وخُزَيمة وسعد والحارث وعوف، سبعتُهم أبناءُ لُؤَيّ أخي تَيْم الأَدْرَم، وهما أبناء غالب أخي الحارث ومحارب، ثلاثتُهم أبناء فِهْر، وهو أخو الحارث، وكلاهما ابن مالك، وهو أخو الصَّلْت، ويَخْلُد، وهم بنو النَّضْر الذي إليه جماع قريش على الصحيِح، كما قدَّمنا الدليل عليه، وهو أخو مالك ومِلْكَان وعبد مناة وغيرهم، كلُّهم أولاد كِنانَة أخي أسد وأَسَدَة والهُوْن أولاد خُزَيمة، وهو أخو هُذَيْل، وهما ابنا مُدْرِكة، واسمه عمرو أخو طابخة، واسمه عامر، وقَمَعَة، ثلاثَتُهم أبناء إلياس، وأخو إلياس هو عَيْلان والد قيس كلِّها، وهما ولدا مُضَر أخي ربيعة. ويقال لهما: الصريحان من ولد إسماعيل، وأخواهما أنمار وإياد تيامَنا

(5)

، أربعتهم أبناء نزار أخي قضاعة -في قول طائفةٍ ممن ذهب إلى أنَّ قُضاعة حجازيَّة عدنانية- وقد تقدَّم بيانه

(6)

، كلاهما أبناء مَعَدِّ بن عدنان.

وهذا النسب بهذه الصفة لا خلاف فيه بين العلماء، فجميع قبائل عرب الحجاز ينتهون إلى هذا النسب، ولهذا قال ابن عباس وغيره في قوله تعالى:{قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}

(7)

: لم يكن بطن من بطون قريش إلا ولرسول الله صلى الله عليه وسلم نسَبٌ يتصل بهم. وصدق ابن عباس رضي الله عنه فيما قال وأزِيدُ فيما

(8)

قال؛ وذلك أن جميع قبائل العرب العدنانية تنتهي إليه بالآباء، وكثير منهم بالأُمَّهات أيضًا،

(1)

في ح: الوفادة: وهو تصحيف من الناسخ، وتقدمت في الصفحة السابقة.

(2)

في (2/ 210) من (ط) في الفصل الأخير منه تحت عنوان خبر قصي بن كلاب وما كان من أمره.

(3)

هو حذافة بن غانم كما في جمهرة النسب لابن الكلبي (1/ 87، 88) وساقه البلاذري في أنساب الأشراف (1/ 50) مع بيت آخر ونسبهما إلى حذافة بن غانم بن عامر القرشي، وساقه أيضًا في أبيات (1/ 66) لمحقق جمهرة الكلبي حاشية على الأبيات.

(4)

في (2/ 244) من (ط) تحت عنوان ذكر كعب بن لؤي.

(5)

"تيامنا": أخذا ناحية اليمن. اللسان (يمن).

(6)

في (2/ 156، 157) من (ط) تحت عنوان ذكر أخبار العرب.

(7)

سورة الشورى الآية (23) وقول ابن عباس في تفسير القرطبي (16/ 21).

(8)

في ط: مما وفي ح: كما، والمثبت من هامشها، حيث ذكرت تحت كلمة: أصل، إشارة إلى الأصل المقروء على نسخة المؤلف.

ص: 21

كما ذكره محمد بن إسحاق وغيره في أُمَّهاته وأُمَّهات آبائه وأُمَّهاتهم ما يطول ذِكره. وقد حرَّره ابنُ إسحاق

(1)

رحمه الله والحافظُ ابن عساكر

(2)

.

وقد ذكرنا في ترجمة عدنان نسبه وما قيل فيه، وأنه من ولد إسماعيل لا محالة؛ وإن اخْتُلف في كم بينهما أبًا؟ على أقوال قد بسطناها فيما تقدم

(3)

والله أعلم.

وقد ذكرنا بقية النسب من عدنان إلى آدم، وأوردنا قصيدة أبي العباس الناشئ المتضمِّنة ذلك

(4)

، كل ذلك في أخبار عرب الحجاز ولله الحمد.

وقد تكلَّم الإمام أبو جعفر بن جرير رحمه الله في أول تاريخه على ذلك كلامًا مبسوطًا جيدًا محرَّرًا نافعًا.

وقد ورد في حديث انتسابه عليه السلام إلى عدنان، وهو على المنبر، ولكن الله أعلم بصحته كما قال الحافظ أبو بكر البيهقي

(5)

: أنبأنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عمر

(6)

بن حفص المقرئ -ببغداد- حدّثنا أبو عيسى بكَّار بن أحمد بن بكَّار، حدثنا أبو جعفر أحمد بن موسى بن سعيد -إملاءً- سنة ست وتسعين ومئتين، حدّثنا أبو جعفر محمد بن أبان القَلانسيّ، حدثنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن ربيعة القُدَامي، حدثنا مالك بن أنس، عن الزُّهْري، عن أنس، وعن أبي بكر بن عبد الرحمن بن هشام. قالا: بلغ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أنَّ رجالًا من كِنْدة يزعمون أنهم منه وأنه منهم، فقال: "إنما كان يقولُ ذلك العباسُ وأبو سفيانَ بنُ حَرْب فيأمنا بذلك

(7)

، وإنَّا لن نَنْتَفيَ من آبائنا، نحن بنو النَّضْرِ بن كِنَانة".

قال: وخطب النبيُّ صلى الله عليه وسلم فقال: "أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قُصَيِّ بن كلاب بن مُرَّة بن كعب بن لُؤَيِّ بن غالب بن فِهْر بن مالك بن النَّضْر بن كِنَانة بن خُزَيْمةَ بن مُدْرِكة بن إلياس بن مُضَرَ بنِ نِزَار؛ وما افترق الناسُ فِرْقتين إلا جعلني الله في خيرهما

(8)

فأُخْرجتُ من بين أبويّ، فلم يُصِبْني شيءٌ من عُهْر الجاهلية، وخرجتُ من نكاح ولم أخْرُج من سِفَاح من لَدُن آدمَ حتى انتهيتُ إلى أبي وأمي؛ فأنا خيركم نفسًا، وخيركم أبًا".

(1)

سيرة ابن هشام (1/ 1) وما بعدها.

(2)

في تاريخه الكبير (السيرة النبوية - القسم الأول ص 36 وما بعدها).

(3)

الجزء الثاني (ص 195) من نسخة (ط).

(4)

الجزء الثاني (ص/ 239 - 276) من نسخة (ط).

(5)

في دلائل النبوة (1/ 174).

(6)

في ح: عمرو، وفي الدلائل: محمد، وكلاهما تصحيف، والصواب من تاريخ بغداد (11/ 329) والإكمال (3/ 289) وغاية النهاية (1/ 521).

(7)

عبارة البيهقي في الدلائل: "

وأبو سفيان بن حرب، إذا قدما المدينة ليأمنا بذلك".

(8)

في ح، ط: خيرهما، والمثبت من الدلائل.

ص: 22

وهذا حديث غريب جدًا من حديث مالك، تفرَّد به القُدَامي وهو ضعيف

(1)

. ولكن سنذكر له شواهد من وجوه أُخَر.

فمن ذلك قوله: "خرجتُ من نكاح لا من سِفَاح". قال عبد الرزاق

(2)

: أخبرنا ابنُ عُيَيْنَة عن جعفر بن محمد عن أبيه أبي جعفر الباقر في قوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [التوبة: 128] قال: لم يصبْهُ شيء من ولادة الجاهلية. قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني خرجتُ من نكاح ولم أخْرُجْ من سفاح" وهذا مرسلٌ جيد.

وهكذا رواه البيهقي

(3)

عن الحاكم، عن الأصم، عن محمد بن إسحاق الصَّغاني

(4)

، عن يحيى بن أبي بُكَيْر، عن عبد الغفار بن القاسم، عن جعفر بن محمد، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الله أخرجني من النكاح، ولم يُخْرِجْني من السفاح".

وقد رواهُ ابن عَدِي

(5)

موصولًا فقال: حدّثنا أحمد بن حفص، حدّثنا محمد بن أبي عُمر العَدَنيّ المكيّ

(6)

، حدّثنا محمد بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين قال: أشهدُ على أبي حدّثني عن أبيه، عن جدِّه، عن عليِّ بن أبي طالب، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:"خرجتُ من نكاح، ولم أخرُج من سِفَاح، من لَدُنْ آدمَ إلى أنْ ولدني أبي وأمي، ولم يُصْبني من سِفَاحِ الجاهليَّة شيءٌ".

هذا غريبٌ من هذا الوجه ولا يكادُ يصحّ

(7)

.

وقال هُشَيم: حدّثنا المديني عن أبي الحويرث، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما ولدني من نكاح أهل الجاهلية شيء، ما ولدني إلا نكاحٌ كنكاح الإسلام".

(1)

ذكره ابن حبان في المجروحين (2/ 39، 40).

(2)

قول عبد الرزاق في تفسير الطبري (11/ 76). (طبعة عيسى البابي الحلبي القاهرة 1373 هـ - 1954 م) ويبدو أن هذا الحديث مروي في التفسير لعبد الرزاق. وروي بنحوه في المصنف 7/ 303 (13273) كتاب الطلاق باب الدعوة، عن ابن جريج عن جعفر به، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"أخرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح".

(3)

لم أجده في الدلائل.

(4)

في ح، ط: الصنعاني وهو تصحيف، والمثبت من اللباب (2/ 229، 243) وترجمته في سير أعلام النبلاء (12/ 592).

(5)

لم أجد الحديث في الكامل لابن عدي، وإنما أخرجه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(3/ 402) من طريق ابن عدي.

(6)

في ح: محمد بن أبي عمر العدوي المالكي. وفي ط: محمد بن أبي عمرو العدني المكي، والمثبت من الكامل لابن عدي والإكمال (6/ 403) والأنساب للسمعاني (8/ 408) ولسان الميزان (5/ 103) وأبو عمر جده واسم أبيه يحيى، وانظر ترجمته في سير أعلام النبلاء (12/ 96) وتهذيب التهذيب (9/ 518).

(7)

أحمد بن حفص منكر الحديث (الكامل 1/ 202 - 203)، ومحمد بن جعفر متكلَّم فيه (الكامل 6/ 2232، والميزان 3/ 500)، وهو مرسل أيضًا، فكلام المصنف صحيح.

ص: 23

وهذا أيضًا غريب، أورده الحافظ ابن عساكر

(1)

، ثم أسنده من حديث أبي هريرة، وفي إسناده ضعف والله أعلم.

وقال محمد بن سعد

(2)

: أخبرنا محمد بن عمر، حدثني محمد بن عبد الله بن مسلم، عن عمه الزُّهري، عن عروة، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ولدت من نكاحٍ غير سِفاح"

(3)

.

ثم أورد ابن عساكر

(4)

من حديث أبي عاصم، عن شبيب، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله تعالى:{وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء: 219]. قال: من نبيٍّ إلى نبيّ، حتى أُخرجت نبيًّا. ورواه عن عطاء.

وقال محمد بن سعد

(5)

: أخبرنا هشام بن محمد الكلبي عن أبيه قال: كتبتُ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم خمسمائة أُمّ، فما وجدتُ فيهنَّ سِفَاحًا ولا شيئًا مما كان من أمْر الجاهلية.

وثبت في صحيح البخاري

(6)

من حديث عمرو بن أبي عمرو، عن سعيد المَقبُرِي، عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بُعِثْتُ من خيرِ قُرونِ بني آدم قرنًا فقرنًا، حتى بُعِثتُ

(7)

من القرن الذي كنتُ فيه".

وفي صحيح مسلم

(8)

من حديث الأوزاعي، عن شدَّاد أبي عمار، عن واثلة بن الأسْقع، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إنَّ الله اصطفى من ولَدِ إبراهيم إسماعيل، واصطفى من بني إسماعيل بني كنانة، واصطفى من بني كنانة قريشًا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم".

وقال الإمام أحمد

(9)

: حدّثنا أبو نُعيم عن سفيان، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل، عن المطلب بن أبي وَدَاعة قال: قال العباس: بلغه صلى الله عليه وسلم بعضُ ما يقول الناس، فصَعِد المنبر فقال:"مَنْ أنا؟ " قالوا: أنت رسولُ الله. قال: "أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، إنَّ الله خَلقَ

(1)

في تاريخه (السيرة النبوية - القسم الأول)(ص 202).

(2)

في الطبقات (1/ 61)، وإسناده ضعيف جدًا، فإن الواقدي متروك الحديث.

(3)

يمكن أن يكون هذا الحديث بهذه الشواهد التي ذكرها المؤلف، من حديث علي، وابن عباس وأبي هريرة، وعائشة، رضي الله عنهم، حسنًا لغيره.

(4)

في تاريخه (السيرة النبوية - القسم الأول) ص (202) وفي إسناده ضعف.

(5)

في الطبقات (1/ 60)، وإسناده تالف فيه هشام الكلبي وأبوه وهما تالفان.

(6)

فتح الباري (3557) المناقب باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم.

(7)

لفظ البخاري: كنت.

(8)

هكذا نسبه إلى مسلم بهذا اللفظ، وهو وهم ظاهر، فهذا لفظ أحمد (4/ 107) والترمذي (3605) وهو عندهما من رواية محمد بن مصعب القرقساني عن الأوزاعي، وهو ضعيف يعتبر به في المتابعات والشواهد، ولم يتابع في هذه الزيادة، فهي ضعيفة، والحديث صحيح دون هذه الزيادة. وقد رواه مسلم بدونها رقم (2276) والترمذي (3606) وأوله عندهما (إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل

).

(9)

في مسنده (1/ 210) برقم (1788).

ص: 24

الخَلْقَ فجعلَني في خيرِ خَلْقِه، وجعلهم فرقتَيْن

(1)

فجعلني في خير فرقة، وخلق القبائل فجعلني في خيرِ قبيلة، وجعلهم بيوتًا، فجعلني في خيرهم بيتًا، فأنا خيرُكم بيتًا وخيركم نَفْسًا"

(2)

.

صلوات الله وسلامه عليه دائمًا أبدًا إلى يوم الدين.

وقال يعقوبُ بن سفيان

(3)

: حدَّثنا عبيد الله بن موسى، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل، عن العباس بن عبد المطلب قال: قلت: يا رسول الله، إنَّ قريشًا إذا التقَوْا، لَقِيَ بعضُهم بعضًا بالبشاشة، وإذا لَقُونا لَقُونا بوجوهٍ لا نعرفها. فغضب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك غضَبًا شديدًا ثم قال:"والذي نفسُ محمدٍ بيده لا يدخلُ قلبَ رجلٍ الإيمانُ حتى يُحِبَّكم لله ولرسوله" فقلت: يا رسول الله، إنَّ قريشًا جلسوا فتذاكروا أحسابهم فجعلوا مَثَلك كَمَثَلِ نخلةٍ في كَبْوَةٍ من الأرض

(4)

. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الله يوم خَلَقَ الخَلْق جعلني في خيرهم، ثم لما فرَّقهم جعلني في خيرِ [الفريقين، ثم حين جعل القبائل جعلني في خير] هم قبيلة، ثم حين جعل البيوت جعلني في خير بيوتهم، فأنا خَيْرُهم نفسًا وخيرُهم بيتًا".

ورواه أبو بكر بن أبي شيبة

(5)

عن ابن فُضيل، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث، عن [عبد المطلب بن] ربيعة بن الحارث قال: بلغ النبي صلى الله عليه وسلم، فذكره بنحو ما تقدَّم ولم يذكر العباس.

وقال يعقوب بن سفيان

(6)

: حدّثني يحيى بن عبد الحميد، حدّثنا قيس بن عبد الله

(7)

، عن الأعمش عن عَبَايَة بن رِبْعيّ، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الله قسم الخَلْق قسمين، فجعلني في خيرهما قسمًا، فذلك قوله: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ

وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ} [الواقعة: 27 و 41]، فأنا من أصحاب اليمين، وأنا خيرُ أصحاب اليمين، ثم جعل القسمين أثلاثًا، فجعلني في خيرها ثُلثًا، فذلك قوله:

(1)

في (ح) فريقين: والمثبت من ط والمسند.

(2)

وأخرجه الترمذي (3532 و 3608): عن محمود بن غيلان عن أبي أحمد الزبيري عن سفيان، وقال: هذا حديث حسن. قلنا: يزيد بن أبي زياد ضعيف وكان يضطرب فيه وكذلك اقتصر الترمذي على تحسينه.

(3)

في المعرفة والتاريخ (1/ 295، 497) وما يأتي بين معقوفين منه.

(4)

قال شمر: قوله في كبوة. لم نسمع فيها من علمائنا شيئًا، ولكنا سمعنا الكِبَا والكُبَة، وهو الكناسة والتراب الذي يكنس من البيت: وقال ابن الأثير: فإن صحت الرواية بها فوجهه أن تطلق الكَبْوَة، وهي المرة الواحدة من الكَسْح، على الكساحة والكناسة. اللسان (كبو).

(5)

مصنف ابن أبي شيبة (11685) كتاب الفضائل باب ما أعطى الله تعالى محمدًا صلى الله عليه وسلم، وما يأتي بين معقوفين منه.

وأخرجه أيضًا الترمذي (3611) المناقب باب ما جاء في فضل النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه عن يوسف بن موسى القطان البغدادي عن عبيد الله بن موسى. وقال: هذا حديث حسن. أقول: وفي إسناده ضعف.

(6)

في المعرفة والتاريخ (1/ 498).

(7)

كذا في ح، ط: ولم أجد لقيس هذا رواية عن الأعمش، واكتفى الفسوي بذكر اسمه، وذكر المحقق في الحاشية أنه قيس بن الربيع، وهو الصواب الذي نص عليه المزي في ترجمة يحيى بن عبد الحميد الحماني من تهذيب الكمال (31/ 420).

ص: 25

{فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} [الواقعة: 8]{وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} [الواقعة: 10] فأنا من السابقين، وأنا خيرُ السابقين، ثم جعل الأثلاث قبائل، فجعلني في خيرها قبيلة، فذلك قوله:{وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13] وأنا أتقى ولدِ آدمَ وأَكْرَمُهم على الله ولا فخر؛ ثم جعل القبائل بيوتًا فجعلني في خيرها بيتًا، وذلك قوله:{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33]. فأنا وأهلُ بيتي مطهَّرون من الذنوب.

وهذا الحديث فيه غرابة ونكارة

(1)

.

وروى الحاكم والبيهقي

(2)

من حديث محمد بن ذكوان -خال ولد حماد بن زيد- عن عمرو بن دينار، عن ابن عمر قال: إنا لقعودٌ بِفِنَاءَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم إذْ مرَّتْ به امرأة، فقال بعض القوم: هذه ابنةُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم. قال أبو سفيان: مَثَلُ محمد في بني هاشم مَثَلُ الرَّيحانة في وسط النَّتْن. فانطلقتِ المرأةُ فأخبرتِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فجاء رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يُعْرَف في وجهه الغَضَبُ فقال: "ما بالُ أقوالٍ تبلغُنُي عن أقوام: إنَّ الله خلق السماواتِ سبعًا، فاختار العُلْيا منها فأسكنها مَنْ شاءَ من خلقه، ثمِ خلق الخَلْق فاختار من الخلق بني آدم، واختار من بني آدم العرب، واختار من العرب مُضَر، واختار من مُضَر قريشًا، واختار من قريش بني هاشم، واختارني من بني هاشم؛ فأنا من خيار إلى خيار، فمَنْ أحبَّ العرب فبحبَّي أحَبَّهم، ومن أبغض العرب فببغضي أبغضهم".

وهذا أيضًا حديثٌ غريب.

وثبت في الصحيح

(3)

أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "أنا سيِّدُ ولدِ آدم يومَ القيامةِ ولا فَخْر".

وروى الحاكم والبيهقي

(4)

أيضًا من حديث موسى بن عُبيدة، حدثنا عمرو بن عبد الله بن نوفل، عن الزُّهْري عن أبي أسامة وأبي سلمة

(5)

، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "قال لي جبريل: قلَّبت الأرض من مشارقها ومغاربها فلم أجدْ رجلًا أفضلَ من محمد، وقلَّبت الأرض مشارقها ومغاربها فلم أجد بني أب أفضلَ من بني هاشم".

قال الحافظُ البيهقيّ

(6)

: وهذه الأحاديث وإنْ كان في رواتها من لا يُحْتَجُّ به

(7)

،

(1)

إسناده تالف قيس بن عبد الله لا نعرفه، وإن كان محرفًا عن قيس بن الربيع -وهو الأرجح- فهو ضعيف كما هو مبين في تحرير التقريب (3/ 186)، وعباية بن ربعي شيعي ضعيف (الميزان 2/ 387) ومن المحتمل أن الأعمش أخذه عن موسى بن طريف (وهو كذاب كما في الميزان 4/ 208) عن عباية، فدلسه.

(2)

الحاكم في المستدرك (4/ 73) والبيهقي في دلائل النبوة (1/ 171). أقول: وإسناده ضعيف.

(3)

مسلم (2278) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(4)

في دلائل النبوة (1/ 176) والطبراني في "الأوسط" رقم (6285) وإسناده ضعيف لضعف موسى بن عبيدة الربذي.

(5)

في الدلائل: عن أبي سلمة فقط.

(6)

في الدلائل (1/ 176).

(7)

في المطبوع من الدلائل: "يصح به" وهو تحريف.

ص: 26

فبعضها يؤكِّدُ بعضًا، ومعنى جميعها يرجعُ إلى حديثِ واثلةَ بن الأسْقَع

(1)

، والله أعلم.

قلت: وفي هذا المعنى يقول أبو طالب يمتدح النبيَّ صلى الله عليه وسلم: [من الطويل]

إذا اجتمعت يومًا قريشٌ لِمَفْخَرٍ

فعَبْدُ مَنَافٍ سِرُّها وصَمِيمُهَا

(2)

فإنْ حُصِّلتْ أشرافُ عبدِ مَنَافِها

ففي هاشِمٍ أشرافُها وقَدِيمُهَا

وإنْ فَخَرتْ يومًا فإنَّ محمدًا

هو المُصْطَفى من سِرِّها وكريمُها

تداعَتْ قريشٌ غَثُّها وسَمينُها

علينا فلم تَظْفَرْ وطاشَتْ حُلُومُها

وكُنَّا قديمًا لا نُقِرُّ ظُلامةً

إذا ما ثَنَوْا صُعْرَ الخُدودِ نُقِيمُها

ونَحْمي حِماها كلَّ يوم كَريهةٍ

ونضربُ عن أحجارِها من يَرُومُها

بنا انتعشَ العُودُ الذَّوِيُّ وإنَّما

بأكنافنا تَنْدَى وتَنْمى أُرُومُها

(3)

وقال أبو السُّكَين

(4)

زكريا بن يحيى الطائي في الجزء المنسوب إليه المشهور: حدَّثني عمُّ أبي -زَحْرُ بن حِصْن- عن جدِّه حُميد بن مُنْهِب قال: قال جَدِّي خُرَيم بن أوس: هاجرتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدِمْتُ عليه منصرفَهُ من تَبُوك، فأسلمتُ، فسمعت العباس بن عبد المطلب يقول: يا رسول الله، إني أريد أن أمتدحك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"قل لا يَفْضُضِ الله فاك". فأنشأ يقول

(5)

: [من المنسرح]

من قبلها طِبْتَ في الظِّلال وفي

مستودعٍ، حيثُ يُخْصَفُ الوَرَقٌ

(6)

ثم هَبَطْتَ البلادَ لا بَشَرٌ

أنْتَ ولا مُضْغَةٌ ولا عَلَقُ

بل نُطْفَةٌ تركبُ السَّفِين وقد

ألْجَمَ نَسْرًا وأهلَهُ الغَرَقُ

(1)

في الدلائل بعد هذا: "وأبي هريرة"، وهي زيادة مهمة.

(2)

سر الحسب: أوسطه، يقال: فلان في سر قوِمه، أي في أفضلهم. اللسان (سرر).

(3)

قوله: الذَّوي، من ذويَ يَذوى -وهي لغة- ذبَلَ وضعف. وهو في (ح، ط)"الذواء"، والمثبت من الديوان. الأروم: جمع أرومة، وهي الأصل. اللسان (أرم). والأبيات في ديوان شيخ الأباطح ص 25 وسيرة ابن هشام (1/ 269). وإلى جانب البيت الأخير في القصيدة في ح ما نصه بلغ، أي بلغ مقابلةً.

(4)

في (ط): أبو السكن تصحيف، والمثبت من ح، وحاشية الإكمال (2/ 315) رقم (2) نقلًا عن عبد الغني.

(5)

الأبيات في تاريخ ابن عساكر، السيرة النبوية، القسم الأول (ص 209) والأسماء المبهمة للخطيب (ص 249) ومجمع الزوائد (8/ 217 و 218) وأورد ابن منظور أربعة منها في اللسان:(صلب، خصف، أفق، نطق، ظلل، همن). وعزيت الأربعة الأولى منها إلى حسان بن ثابت كما سيأتي، وهي في ديوانه (1/ 498 تحقيق وليد عرفات ط لندن 1971 م) وأوردها القاضي عياض في الشفاء (1/ 167، 168 وزاد:

يا بَرْدَ نار الخليل ياسببًا

لِعِصْمة النار وهي تحترق

ورويت الأبيات بتمامها مع زيادات مشروحة في شرح المواهب (3/ 98 - 100).

(6)

أي في الجنة حيث خصف آدم وحوَّاء عليهما السلام عليهما من ورق الجنة. أي يلزقان بعضه على بعض ليسترا به عورتهما، أي يطابقان بعض الورق على بعض. اللسان (خصف).

ص: 27

تُنْقَلُ من صَالَبٍ إلى رَحِمٍ

إذا مضى عالَمٌ بَدَا طَبَقُ

(1)

حتى احْتَوى بَيْتُكَ المُهَيْمنُ من

خِنْدِفَ علياءَ تحتها النُّطُقُ

(2)

وأنتَ لما وُلِدْتَ أشرقَتِ الْـ

أرْضُ وضاءَتْ بنورِكَ الأُفُقُ

(3)

فنحن في ذلك الضِّياءَ وفي الْـ

ـنُورِ وسُبْلَ الرشادِ نَخْتَرِقُ

(4)

وقد رُوي هذا الشعر لحسان بن ثابت؛ فروى الحافظُ أبو القاسم بن عساكر

(5)

من طريق أبي الحسن بن أبي الحديد، أخبرنا أبو محمد بن أبي نصر، أخبرنا عبد السلام بن أحمد بن محمد

(6)

القرشي، حدّثنا أبو حَصِين محمد بن إسماعيل بن محمد التميمي، حدّثنا محمد بن عبد الله الزاهد الخراساني، حدّثني إسحاق بن إبراهيم بن بَيَان

(7)

، حدثنا سلَّام بن سليمان أبو العباس المكفوف المدائني، حدّثنا ورقاء بن عمر، عن ابن أبي نَجِيح، عن عطاء ومجاهد، عن ابن عباس قال: سألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: فداك أبي وأمي، أين كنتَ وآدم في الجنة؟ قال: فتبسَّم حتى بَدَتْ نواجذه ثم قال: "كنت في صُلْبه ورُكِبَ بي السفينة في صُلْب أبي -نوح- وقُذِف بي في صلب أبي إبراهيم، لم يلتقِ أبوايَ على سفاحٍ قطّ، لم يزل الله ينقلُني من الأصلاب الحَسِيبة إلى الأرحام الطاهرة، صفتي مَهْدي، لا تتشعَّب شعبتان إلا كنتُ في خيرهما، وقد أخذ الله بالنبوَّة ميثاقي، وبالإسلام عهدي، ونشر في التوراةِ والإنجيلِ ذِكري، وبيَّن كلُّ نبيٍّ صفتي، تشرق الأرضُ بنوري، والغمامُ لوجهي وعلَّمني كتابه - ورُوي:

(1)

أراد بالصالَب الصُّلْب. والطبق: القرن، أراد: إذا مضى قرن ظهر قرن. اللسان (صلب، طبق). والصالب: بفتح اللام، كذا ضبط في اللسان ضبط قلم، وفي القاموس وشرحه بكسرها ضبط قلم أيضًا وذكر محقق التاج أن الكسر ضبط التكملة أيضًا.

(2)

"النُّطق": جمع نطاق، وهي أوساط الجبال العالية، وهي أعراض من جبال بعضها فوق بعض، أي نواحٍ وأوساط منها، شبهت بالنطق التي يشد بها أوساط الناس؛ ضربه مثلًا له في ارتفاعه وتوسطه في عشيرته، وجعلهم تحته بمنزلة أوساط الجبال، وأراد ببيته شرفه. والمهيمن نعته؛ أي حتى احتوى شرفك الشاهد على فضلك أعلى مكان من نسب خندف. اللسان (نطق، همن). وخندف هي ليلى بنت حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة وهي امرأة الياس بن مضر، خرجت تسرع، فقال لها إلياس: أين تخندفين؟ فسميت خندف، والخندفة ضرب من المشي. جمهرة ابن الكلبي (ص 75، 76).

(3)

أنت الأفق ذهابًا إلى الناحية؛ وضاءت لغة في أضاءت. اللسان (أفق).

(4)

رواية ابن عساكر: تخترق. وسكَّن الباء من "سبل" ليستقيم الوزن، وحقها الضم. وهذا من الضرائر الشعرية الضرائر (ص 171).

(5)

في تاريخ ابن عساكر -السيرة النبوية- القسم الأول (ص 207، 208).

(6)

في ط: عبد السلام بن محمد بن أحمد، والمثبت من (ح) وتاريخ ابن عساكر.

(7)

في ط: سنان وهو خطأ، وفي تاريخ ابن عساكر: بُنان، وكذا في الإكمال (1/ 364) وذكر محققه في الحاشية: وقيل ابن بيان، بفتح الموحدة تليها مثناة تحت مفتوحة مخففة. كما في التوضيح. وهو ما جاء في أصلنا (ح).

ص: 28

في سحابه

(1)

- وشقَّ لي اسمًا من أسمائه، فذو العرش محمود وأنا محمد

(2)

، ووعدَني أنْ يَحْبُوني بالحَوْضِ والكوثر، وأن يجعلَني أولَ شافعٍ وأول مُشَفَّع، ثمّ أخرجني من خيرِ قرنٍ لأُمتي، وهم الحمَّادون، يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر". قال ابن عباس: فقال حسان بن ثابت في النبيِّ صلى الله عليه وسلم

(3)

: [من المنسرح]

من قَبْلَها طِبْتَ في الظِّلال وفي

مستودَعٍ يَوْمَ يُخْصَفُ الوَرَقُ

(4)

ثم سكنْتَ البلادَ لا بَشَرٌ

أنتَ ولا نُطفَةٌ ولا عَلَقُ

مُطَهَّرٌ تركبُ السَّفينَ وقد

ألْجَمَ نَسْرًا وأهلَهُ الغَرَقُ

تُنْقَلُ من صالَبٍ

(5)

إلى رَحِمٍ

إذا مضى طَبَقٌ بَدَا طَبَقُ

فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "يَرْحَمُ الله حسَّان" فقال عليُّ بن أبي طالب: وجَبتِ الجنةُ لحسَّان وربِّ الكعبة. ثم قال الحافظ ابن عساكر: هذا حديث غريب جدًا -قلت: بل منكر جدًا

(6)

- والمحفوظ أنَّ هذه الأبيات للعباس رضي الله عنه. ثم أوردها من حديث أبي السُّكين زكريا بن يحيى الطائي كما تقدم.

قلت: ومن الناس من يزعم أنها للعباس بن مِرْداس السُّلَمي. فالله أعلم.

تنبيه: قال القاضي عياض في كتابه "الشفا"

(7)

: وأما أحمد الذي أتى في الكتب، وبشَّرت به الأنبياء، فمنع الله بحكمته أنْ يُسمَّى به أحدٌ غيره، ولا يُدْعَى به مدعوٌّ قَبْلَهُ، حتى لا يدخل لَبْسٌ على ضعيف القلب أو شكّ؛ وكذلك محمد لم يُسَمَّ به أحدٌ من العرب ولا غَيرُهم، إلى أن شاع قُبَيل

(8)

وجوده [صلى الله عليه وسلم]، وميلاده، أنَّ نبيًّا يُبعث اسمُه محمد؛ فسمَّى قومٌ قليلٌ من العرب أبناءهم بذلك، رجاءَ أنْ يكون أحَدُهم هو [و] {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124] وهم: محمد بن أُحَيْحَة بن الجُلاح

(1)

يعني: وعلَّمني كتابه في سحابه، ورواية ابن عساكر: ورواني في سحابه، وفي (ط): وعلمني كتابه وزادني [شرفًا] في سمائه.

(2)

زادت (ط): وأحمد، وليست هذه الزيادة في (ح) ولا في تاريخ ابن عساكر.

(3)

انظر تخريج الأبيات (ص 27) الحاشية (4) من هذا الجزء.

(4)

كذا رواية البيت في (ح) وتاريخ ابن عساكر. وقد أصابه زحاف الخَبْل في أوله بحذف "من".

(5)

في (ح): صلبة، وفي تاريخ ابن عساكر، صلب، والمثبت من اللسان والرواية التي في الصفحة السابقة.

(6)

أثبت في هامش (ح) بخط مغاير تحت كلمة فائدة ما يأتي: ذكر ابن عراق في "تنزيه الشريعة" أن ابن عساكر كثيرًا ما يقتصر في وصف الحديث بالنكارة، وهو عنده موضوع، يعرف ذلك بمراجعة كتابه. انتهى.

قلت: هو علي بن محمد بن علي بن عبد الرحمن بن عراق الكناني المتوفى سنة 963 هـ في كتابه "تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة".

(7)

الشفا بتعريف حقوق المصطفى (1/ 229، 230) وما يأتى بين معقوفين منه.

(8)

في ح، ط: قبل، والمثبت من الشفا.

ص: 29

الأوْسي، ومحمد بن مَسْلَمة

(1)

الأنصاريّ، ومحمد بن البراء البكري

(2)

، ومحمد بن سفيان بن مُجَاشِع، ومحمد بن حُمْران الجُعْفِيّ، ومحمد بن خُزَاعي السُّلَمي لا سابع لهم. ويقال: إنَّ أول من سُمِّي محمدًا: محمد بن سفيان بن مجاشع؛ واليَمَنُ تقول: بل محمد بن الْيُحمد من الأزْد. ثم إنَّ الله حمى كلَّ من تسمَّى به أن يَدَّعي النبوَّة أو يدَّعِيها له أحد، أو يظهر عليه سببٌ يشكِّك أحدًا في أمْرِه، حتى تحقَّقت السِّمَتان

(3)

له صلى الله عليه وسلم[و] لم ينازَعْ فيهما.

هذا لفظه.

‌باب مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليمًا كثيرًا

ولد صلوات الله عليه وسلامه يوم الاثنين. لما رواه مسلم في صحيحه

(4)

من حديث غَيْلان بن جَرِير سمع عبد الله بن معبد الزِّمَّاني، عن أبي قتادة، أن أعرابيًّا قال: يا رسول الله! ما تقول في صوم يوم الاثنين؟ فقال: "ذاك يوم وُلِدْتُ فيه، وأُنْزِل عليَّ فيه".

وقال الإمام أحمد

(5)

: حدّثنا موسى بن داود، حدّثنا ابن لهيعة، عن خالد بن أبي عمران، عن حَنَش الصَّنْعاني، عن ابن عباس قال: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، واستُنبئ يوم الاثنين، وخرج مهاجرًا من مكة إلى المدينة يوم الاثنين، وقدم المدينة يوم الاثنين، وتوفي يوم الاثنين، ورفع الحَجَر الأسودَ يوم الاثنين. تفرّد به أحمد.

ورواه ابن عُفَير وابن بُكَير

(6)

عن ابن لَهِيعة، وزاد: نزلت سورة المائدة يوم الاثنين: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3].

وهكذا رواه بعضهم عن موسى بن داود به، وزاد أيضًا: وكانت وقعة بدر يوم الاثنين. وممن قال هذا يزيد بن أبي حَبيبٍ

(7)

، وهذا منكر جدًا.

(1)

في ح، ط: سلمة، والمثبت من الشفا وسيرة ابن هشام (1/ 686).

(2)

في ح، ط: الكندي، تحريف، والمثبت من الشفا، والإصابة (3/ 509).

(3)

في ط: الشيمتان والمثبت من ح والشفا.

(4)

صحيح مسلم (197) الصيام باب استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر.

(5)

في مسنده 1/ 277 رقم (2506)، وإسناده ضعيف بطوله لضعف ابن لهيعة وعند مسلم عن أبي قتادة رقم (1162) (198) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم يوم الاثنين فقال:"فيه ولدت، وفيه أنزل عليَّ" وعن عائشة عند البخاري رقم (1387) وفيه أن أبا بكر قال لها: في أي يوم توفي رسول الله؟ قالت: يوم الاثنين.

(6)

في (ح): رواه ابن عفرا وأبو بكر، وفي ط: ورواه عمرو بن عفير، والمثبت هو الصواب إن شاء الله، ورواية كل من سعيد بن عفير ويحيى بن عبد الله بن بكير في تاريخ ابن عساكر السيرة النبوية - القسم الأول (ص 54).

(7)

في ط: يزيد بن حبيب سقط منه لفظ أبي، والمثبت من ح وهو يزيد بن سويد الأزدي أبو رجاء توفي سنة 128 هـ ترجمته في سير أعلام النبلاء (6/ 31).

ص: 30

قال ابن عساكر

(1)

والمحفوظ أنَّ بدرًا ونزول {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] يوم الجمعة. وصدق ابن عساكر.

وروى عبيد الله بن عمر عن كُريب، عن ابن عباس: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين وتوفي يوم الاثنين

(2)

.

وهكذا روي من غير هذا الوجه عن ابن عباس أنه ولد يوم الاثنين. وهذا ما لا خلاف فيه أنه ولد صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين.

وأبعدَ بل أخطأ من قال: ولد يوم الجمعة لسبعَ عشرَة خلَتْ من ربيع الأول. نقله الحافظ ابن دِحْية

(3)

فيما قرأه من كتاب "إعلام الورى بأعلام الهدى" لبعض الشيعة. ثم شرع ابنُ دحية في تضعيفه، وهو جدير بالتضعيف، إذ هو خلاف النص. ثم الجمهور على أن ذلك كان في شهر ربيع الأول، فقيل: لليلتين خَلَتا منه. قاله ابنُ عبد البرّ في "الاستيعاب"

(4)

، ورواه الواقدي

(5)

عن أبي معشر نَجِيح بن عبد الرحمن المدني.

وقيل: لثمانٍ خلَوْن منه حكاهُ الحُميدي

(6)

عن ابن حزم. ورواه مالك، وعُقَيْل، ويونس بن يزيد، وغيرهم، عن الزُّهْري عن محمد بن جُبير بن مُطْعِم، ونقل ابنُ عبد البر عن أصحاب التاريخ أنهم صحَّحوه، وقطع به الحافظ الكبير محمد بن موسى الخُوَارِزْمي، ورجَّحه الحافظ أبو الخطاب بن دحْية في كتابه "التنوير في مولد البشير النذير".

وقيل: لعشر خلون منه. نقله ابنُ دِحْية في كتابه. ورواه ابنُ عساكر

(7)

عن أبي جعفر الباقر، ورواه مجالد عن الشعبي كما مر.

وقيل: لثنتي عَشْرة خلَتْ منه، نصَّ عليه ابن إسحاق

(8)

؛ ورواه ابن أبي شيبة في "مصنفه"

(9)

عن

(1)

في تاريخه (السيرة النبوية - القسم الأول) ص 56.

(2)

أخرجه ابن عساكر السيرة النبوية - القسم الأول (ص 55).

(3)

هو عمر بن الحسن أبو الخطاب بن دحية الأندلسي الكلبي، توفي سنة 633 هـ، وكتابه الذي نقل منه المصنِّف هو التنوير في مولد البشير النذير كما سيأتي، أو التنوير في مولد السراج المنير كما سيأتي في ترجمته (13/ 144، 145) من هذا الكتاب نسخة (ط).

(4)

الاستيعاب (1/ 30) بتحقيق البجاوي.

(5)

قول الواقدي هذا في طبقات ابن سعد (1/ 100).

(6)

هو محمد بن فتوح بن عبد الله الحميدي المتوفى 488 هـ والغالب على الظن أن قوله هذا في كتابه بلغة المستعجل نسخة منه في أنقرة. تاريخ بروكلمان (6/ 103 - 106) وأعلام الزركلي (6/ 327، 328) وكشف الظنون (1/ 252) ومقدمة جذوة المقتبس (ص 9) و (12/ 153) من هذا الكتاب (ط).

(7)

في تاريخه السيرة النبوية - القسم الأول (ص 62).

(8)

قول ابن إسحاق في سيرة ابن هشام (1/ 158).

(9)

لم أجد هذا الحديث في مصنف ابن أبي شيبة، وقد ذكر الهندي في كنز العمال (12/ 444، 445) أحاديث بنحوه =

ص: 31

عفَّان عن سعيد بن مِيناء عن جابر وابن عباس أنهما قالا: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل، يوم الاثنين الثانىِ عشر من شهر ربيع الأول، وفيه بُعث، وفيه عُرج به إلى السماء، وفيه هاجر، وفيه مات. وهذا هو المشهور عند الجمهور والله أعلم.

وقيل: لسبعَ عشرة خلَتْ منه كما نقله ابن دِحْية عن بعض الشيعة.

وقيل: لثمانٍ بَقِين منه، نقله ابنُ دحية من خط الوزير أبي رافع ابن الحافظ أبي محمد بن حزم، عن أبيه. والصحيح عن ابن حزم الأول أنه لثمان مضين منه كما نقله عنه الحميدي وهو أثبت.

والقول الثاني: أنه ولد في رمضان، نقله ابن عبد البر عن الزُّبير بن بكَّار، وهو قولٌ غريبٌ جدًا، وكان مستنده أنه عليه الصلاة والسلام أُوحي إليه في رمضان بلا خلاف، وذلك على رأس أربعين سنةً من عمره، فيكون مولدُه في رمضان، وهذا فيه نظر والله أعلم.

وقد روى خَيْثَمة بن سليمان الحافظ عن خلف بن محمد -كُرْدُوس الواسطي- عن المعلَّى بن عبد الرحمن، عن عبد الحميد بن جعفر، عن الزُّهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس قال: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين في ربيع الأول، وأُنزلت عليه النبوَّة يوم الاثنين في أول شهر ربيع الأول، وأُنزلت عليه البقرة يوم الاثنين في ربيع الأول.

وهذا غريب جدًا، رواه ابن عساكر

(1)

.

قال الزبير بن بكَّار: حملَتْ به أمُّه في أيام التشريق، في شِعْب أبي طالب، عند الجمْرة الوسطى، وولد بمكة بالدار المعروفة بمحمد بن يوسف -أخي الحجَّاج بن يوسف- لثنتي عَشْرَة خلت من شهر رمضان.

ورواه الحافظ ابن عساكر

(2)

من طريق محمد بن عثمان بن عقبة بن مكرم، عن المسيّب بن شريك، عن شعيب بن شعيب، عن أبيه، عن جدِّه قال: حُمل برسول الله صلى الله عليه وسلم في عاشوراء المحرَّم، وولد يوم الاثنين لثنتي عشرة ليلة خلت من شهر رمضان، سنة ثلاثٍ وعشرين من غزوة أصحاب الفيل.

وذكر غيره أنَّ الخَيْزُران -وهي أمُّ هارون الرشيد- لما حجَّتْ أمرت ببناء هذه الدار مسجدًا. فهو يعرف

(3)

بها اليوم.

وذكر السُّهيلي

(4)

أنَّ مولدَه عليه الصلاة والسلام، كان في العشرين من نَيْسان، وهذا أعدل الأزمانِ

= ورمز فيها إلى ابن عساكر، ولم يرمز في أي منها إلى ابن أبي شيبة. وأورده المؤلف في (3/ 109) وقال: فيه انقطاع.

(1)

في تاريخه السيرة النبوية - القسم الأول (ص 55) وتمامه: وهاجر إلى المدينة في ربيع الأول وتوفي يوم الاثنين في ربيع الأول.

(2)

في تاريخه السيرة النبوية - القسم الأول (ص 54).

(3)

في ح: وتعرف بها اليوم.

(4)

قول السهيلي في الروض الأنف (1/ 184) بلفظ مختلف.

ص: 32

والفصول، وذلك لسنة ثنتين وثمانين وثمانمئة لذي القرنين، فيما ذكر أصحابُ الزِّيج. وزعموا أن الطَّالِعَ كان لعشرين درجةً من الجَدْي، وكان المُشْتري وزُحَل مقترنَيْن في ثلاث دَرَج من العقرب وهي دَرَجَةٌ وَسْط السماء. وكان موافقًا من البروج الحَمَل، وكان ذلك عند طلوع القمر أوَّلَ الليل.

نقله كلَّه ابنُ دِحْية والله أعلم.

قال ابن إسحاق

(1)

: وكان مولده عليه الصلاة والسلام عام الفيل.

وهذا هو المشهور عن الجمهور. قال إبراهيمُ بن المنذر الحِزَاميّ: وهو الذي لا يشكُّ فيه أحَدٌ من علمائنا أنه عليه الصلاة والسلام وُلد عام الفيل، وبُعث على رأس أربعين سنةً من الفيل.

وقد رواه البيهقي

(2)

من حديث أبي إسحاق السَّبيعي، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس قال: ولد رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل.

وقال محمد بن إسحاق

(3)

: حدَّثني المطلب بن عبد الله بن قيس بن مَخْرَمة، عن أبيه، عن جدِّه قيس بنِ مَخْرَمة، قال: ولدتُ أنا ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل، كنا لِدَيْن

(4)

.

قال: وسأل عثمانُ رضي الله عنه قَبَاثَ بن أَشْيَم أخا بني يَعْمَر بن لَيْث: أنتَ أكبرُ، أمْ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أكْبَرُ مني وأنا أقْدَمُ منه في الميلاد، ورأيتُ خِثْيَ الفيلِ أخضرَ مُحِيلا

(5)

. ورواه الترمذي

(6)

والحاكم

(7)

من حديث محمد بن إسحاق به.

قال ابن إسحاق

(8)

: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم عام عُكَاظ ابنَ عشرين سنة.

وقال ابن إسحاق

(9)

: كان الفِجار بعد الفيل بعشرين سنة، وكان بناءُ الكعبة بعد الفِجار بخمس عشرة سنة، والمَبْعَث بعد بنائها بخمس سنين. وقال محمد بن جُبير بن مُطْعِم: كانت عُكاظ بعد الفيل بخمسَ عشرةَ سنة، وبناء الكعبة بعد عُكاظ بعشر سنين، والمبعث بعد بنائها بخمس عشرة سنة. وروى الحافظ

(1)

قول ابن إسحاق في سيرة ابن هشام (1/ 158) بلفظ مختلف.

(2)

في الدلائل (1/ 75).

(3)

قول ابن إسحاق في سيرة ابن هشام (1/ 159).

(4)

لفظ ابن إسحاق: فنحن لِدَان، وفي رواية لابن عساكر ص 60: لدتان، واللِّدَة: التِرْب، وهو الذي يولد معك في وقت واحد. تقول: هما لدان، وهم لدات، ولدون: انظر اللسان والتاج (ولد، لدي).

(5)

"خِثْيَ الفيل": يعني روثه. و "محيل": متغير. اللسان (خثي، حول).

(6)

في جامعه (3619) في المناقب باب ما جاء في ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم وقال: حسن غريب.

(7)

المستدرك (2/ 603 و 3/ 456).

(8)

قول ابن إسحاق في المستدرك (2/ 603) وسيرة ابن هشام (1/ 186).

(9)

سيرة ابن هشام (1/ 186).

ص: 33

البيهقي

(1)

من حديث عبد العزيز بن أبي ثابت المديني، حدّثنا الزُّبير بن موسى، عن أبي الحويرث قال: سمعتُ عبد الملك بن مروان يقول لِقَبَاث بن أَشْيَم الكِنَاني ثمَّ اللَّيثي: يا قَبَاث، أنتَ أكبرُ، أمْ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم أكبر مني، وأنا أسنُّ؛ ولد رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل، ووقفَتْ بي أُمِّي على رَوْث الفيل مُحِيلًا أعقله. وتُنُبِّئ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على رأس أربعين سنة.

وقال يعقوب بن سفيان

(2)

: [حدثنا أحمد بن الخليل] حدّثنا يحيى بن عبد الله بن بُكير، حدّثنا نعيم -يعني ابنَ مَيْسَرة- عن بعضهم عن سُويد بن غَفَلة قال: أنا لِدَةُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، ولدتُ عامَ الفيل.

قال البيهقي

(3)

: وقد رُوي عن سُويد بن غَفَلة أنه قال: أنا أصغَرُ من رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بسنتين.

قال يعقوب

(4)

: وحدّثنا إبراهيم بن المنذر: حدّثنا عبد العزيز بن أبي ثابت، حدّثني عبد الله بن عثمان بن أبي سليمان النَّوفلي، عن أبيه، عن محمد بن جُبير بن مُطْعِم قال: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل، وكانت بعده عُكاظ بخمسَ عشرةَ سنة، وبُني البيت على رأس خمسٍ وعشرين سنة من الفيل، وتنبَّأَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على رأس أربعين سنة من الفيل.

والمقصود أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ولد عامَ الفيل على قول الجمهور، فقيل بعده بشهر، وقيل بأربعين يومًا، وقيل بخمسين يومًا -وهو أشهر- وعن أبي جعفر الباقر، كان قدوم الفيل للنصف من المُحَرَّم، ومولد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده بخمس وخمسين ليلة، وقال آخرون: بل كان عامُ الفيل قبل مولد رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بعشر سنين. قاله ابن أَبْزَى. وقيل بثلاثٍ وعشرين سنة، رواه شُعيب بن شعيب عن أبيه، عن جَدِّه كما تقدم. وقيل بعد الفيل بثلاثين سنة، قاله موسى بن عقبة عن الزُّهْري رحمه الله. واختاره موسى بن عُقْبة أيضًا رحمه الله.

وقال أبو زكريا العجلاني: بعد الفيل بأربعين عامًا. رواه ابن عساكر

(5)

. وهذا غريبٌ جدًّا، وأغربُ منه ما قال خليفة بن خيَّاط

(6)

: حدّثني شعيب بن حَيَّان عن عبد الواحد بن أبي عمرو، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الفيل بخمس عشرة سنة، وهذا حديث غريب ومنكر وضعيف أيضا

(7)

.

قال خليفة بن خياط

(8)

: والمجتمع عليه أنه عليه السلام ولد عام الفيل.

(1)

في الدلائل (1/ 77، 78) وما بين معقوفين منه.

(2)

في المعرفة والتاريخ (1/ 235، 236) وما بين معقوفين منه.

(3)

في الدلائل (1/ 79).

(4)

في المعرفة والتاريخ (3/ 250) وهو القسم المفقود من كتابه.

(5)

في تاريخه السيرة النبوية - القسم الأول (ص 63).

(6)

في تاريخه (ص 53).

(7)

لأنه من رواية الكلبي عن أبي صالح باذام، وقد قال الكلبي:"قال لي أبو صالح: كلُّ ما حدثتك كذب"(الميزان 1/ 296).

(8)

في تاريخه (ص 53).

ص: 34

‌صفة مولده الشريف عليه الصلاة والسلام

قد تقدَّم أنَّ عبد المطلب لما ذبح تلك الإبلَ المئة عن ولده عبد الله، حين كان نَذَرَ ذَبْحَه فسلَّمه الله تعالى، كان قدَّر في الأزل من ظهور النبيِّ الأُمِّيِّ صلى الله عليه وسلم، خاتم الرسل وسيِّدِ ولد آدم من صُلْبه؛ فذهب كما تقدَّم، فزوَّجه أشرفَ عَقِيلةٍ في قريش، آمنةَ بنت وَهْبِ بن عبد مناف بن زُهْرَة الزُّهْريَّة. فحين دخل بها وأفْضَى إليها حملَتْ برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كانت أُمُّ قِتَال رُقيقةُ بنت نَوْفل -أختُ وَرَقة بن نوفل- توسَّمَتْ ما كان بين عينَيْ عبد الله قبل أن يجامع آمنة من النور، فودَّت أن يكون ذلك متصلًا بها لما كانت تسمع من أخيها من البشارات بوجود محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه قد أَزِف زمانُه، فعرضت نفسها عليه. قال بعضهم: ليتزوجها -وهو أظهر والله أعلم- فامتنع عليها، فلما انتقل ذلك النور الباهر إلى آمنة بمواقعته إياها كأنَّه تندَّم على ما كانت عرضَتْ عليه، فتعرَّض لها لتعاوده، فقالت: لا حاجة لي فيك. وتأسفَتْ على ما فاتها من ذلك، وأنشدَت في ذلك ما قدَّمناه من الشعر الفَصِيح البليغ

(1)

.

وهذه الصِّيانة لعبد الله ليست له، وإنما هي لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فإنَّه كما قال الله تعالى:{اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124]. وقد تقدَّم الحديث المرويُّ من طريق جَيِّدة: أنه قال عليه الصلاة والسلام: "ولدتُ من نكاح لا من سِفَاح"

(2)

.

والمقصود أنَّ أُمَّهُ حين حملَتْ به توفي أبوه عبد الله وهو حَمْل في بطنِ أمه على المشهور.

قال محمد بن سعد

(3)

: حدّثنا محمد بن عمر -هو الواقدي- حدّثنا موسى بن عبيدة الرَّبَذِي

(4)

[عن محمد بن كعب]، وحدّثنا سعيد بن أبي زيد عن أيوب بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة قالا: خرج عبد الله بن عبد المطلب إلى الشام إلى غزة في عِيرٍ من عِيَرَاتِ

(5)

قريش يحملون تجارات. ففرغوا من تجاراتهم ثم انصرفوا، فمرُّوا بالمدينة وعبدُ الله بن عبد المطلب يومئذ مريض، فقال:[أنا] أتخلَّفُ عند أخوالي بني عَدِيِّ بن النجَّار. فأقام عندهم مريضًا شهرًا، ومضى أصحابُه فقدِمُوا مكة، فسألهم عبد المطلب عن ابنه عبد الله، فقالوا: خلَّفْناه عند أخواله بني عديِّ بن النجَّار وهو مريض. فبعث إليه

(1)

(ص 14) من هذا الجزء.

(2)

(ص 23) من هذا الجزء.

(3)

في الطبقات (1/ 99) وما يأتي بين معقوفين منه.

(4)

في ط: اليزيدي، تصحيف، والمثبت من ح والطبقات والإكمال (4/ 142) وترجمته في تهذيب التهذيب (10/ 356).

(5)

في ح، ط: عيران، تصحيف، والمثبت من الطبقات، وعِيَرَات: كعنبات، وقد تسكن ياؤه، جمع عير، وهي الإبل التي تحمل الميرة، لا واحد لها من لفظها. قال سيبويه: جمعوه بالألف والتاء لمكان التأنيث وحركوا الياء لمكان الجمع بالتاء. اللسان والتاج (عير).

ص: 35

عبدُ المطلب أكبرَ ولدِهِ الحارث. فوجده قد توفِّي، ودُفن في دار النابغة

(1)

-[وهو رجلٌ من بني عديِّ بن النجار، في الدار التي إذا دخلتَها فالدُّويرة عن يسارك- وأخبره أخوالُهُ بمرضه وبقيامهم عليه، وما وَلُوا من أمره، وأنهم قبروه]، فرجع إلى أبيه فأخبره، فوَجَد

(2)

عليه عبدُ المطلب وإخوتُه وأخواته وَجْدًا شديدًا، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم يومئذ حَمْل. ولعبد الله بن عبد المطلب يوم تُوفِّي خمسٌ وعشرون سنةً.

قال الواقدي

(3)

: هذا هو أثبت الأقاويل في وفاة عبد الله وسِنِّه عندنا.

قال الواقدي (3): وحدّثني مَعْمَر عن الزُّهْري أن عبد المطلب بعث عبد الله إلى المدينة يمتارُ له تمرًا فمات.

قال محمد بن سعد

(4)

: وقد أنبأنا هشام بن محمد بن السائب الكلبي عن أبيه، وعن عَوَانة بن الحكم قالا: تُوفي عبد الله بن عبد المطلب بعدما أتى على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانيةٌ وعشرون شهرًا، وقيل سبعة أشهر.

وقال محمد بن سعد (4): والأول أثبت أنه تُوفي ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم حَمْل.

وقال الزُّبير بن بكَّار: حدّثني محمد بن حسن، عن عبد السلام، عن ابن خَرَّبُوذ قال: توفي عبد الله بالمدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم ابن شهرين، وماتت أمه وهو ابن أربع سنين، ومات جَدُّه وهو ابنُ ثمان سنين، فأوصى به إلى عَمِّه أبي طالب.

والذي رجَّحه الواقدي وكاتبه الحافظ محمد بن سعد، أنه عليه الصلاة والسلام تُوفي أبوه وهو جنينٌ في بطن أُمِّه. وهذا أبلغ اليُتْم وأعلى مراتبه.

وقد تقدم في الحديث

(5)

"ورؤيا أمي التي رأتْ حين حَملتْ بي كأنَّه خرج منها نورٌ أضاءَتْ له قصورُ الشام".

وقال محمد بن إسحاق

(6)

: فكانت آمنة بنت وَهْب أمُّ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم تحدِّث أنها أُتيتْ حين حملَتْ برسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقيل لها: إنَّكِ قد حملْتِ بسيّد هذه الأمة، فإذا وقع إلى الأرض فقولي:[من الرجز]

(1)

كذا في ح، ط: والطبقات وتاريخ ابن الأثير (2/ 10) وفي تاريخ الطبري (2/ 246) وقيل التابعة، وبه جزم الزرقاني في شرح المواهب (1/ 132) وقال: بفوقية فموحدة فعين مهملة كما في الزهر الباسم.

(2)

وجد: حزِن، ويقال بكسر الدال وضمها. التاج (وجد).

(3)

قول الواقدي في طبقات ابن سعد (1/ 99).

(4)

في الطبقات (1/ 100).

(5)

تقدم الحديث في (2/ 85) من (ط)، وانظر ما سيأتي ص 38 من هذا الجزء.

(6)

في سيرة ابن إسحاق (ص 22) وط حميد الله وأخرجه البيهقي في الدلائل (1/ 82) وابن عساكر في تاريخه السيرة النبوية - القسم الأول (ص 68) وابن إسحاق في المغازي والسير (ص 45) وابن هشام في السيرة (1/ 158).

ص: 36

أُعِيذُهُ بالواحِدِي

(1)

من شَرِّ كُلِّ حاسِدِي

في كلِّ بَرٍّ عَاهِدِي

(2)

وكُلِّ عَبْدٍ رائِدِي

[يَرُ] ودُ غَيْرَ رائدي

(3)

عبدُ الحميدِ الماجِدِي

حتى أراهُ وقائدَ المَشَاهِدِي

(4)

وآيةُ ذلك أنه يخرجُ معه نورٌ يملأ قصورَ بُصْرَى من أرض الشام، فإذا وقع فسمِّيه محمدًا، فإنَّ اسمه في التوراة أحمد، يَحْمَدُهُ أهلُ السماء وأهلُ الأرض، واسمه في الإنجيل أحمد، يحمدُهُ أهل السماء وأهل الأرض، واسمه في القرآن محمد

(5)

.

وهذا وذاك يقتضي أنها رأتْ حين حملَتْ به عليه الصلاة والسلام، كأنه خرج منها نورٌ أضاءت له قصورُ الشام. ثم لما وضعَتْه رأتْ عيانًا تأويلَ ذلك كما رأتْهُ قبل ذلك ها هنا. والله أعلم.

وقال محمد بن سعد

(6)

: أنبأنا محمد بن عمر -هو الواقدي- حدّثنا محمد بن عبد الله بن مسلم عن الزهري (ح)

(7)

وقال الواقدي: وحدّثنا موسى بن عُبيدة عن أخيه، ومحمد بن كعب القُرَظي (ح) وحدّثني عبد الله بن جعفر الزُّهْري، عن عمَّتِه أمِّ بكر بنت المِسْوَرِ، عن أبيها ح وحدّثنا عبد الرحمن بن إبراهيم المَدَني

(8)

وزياد بن حَشْرَج، عن أبي وَجْزَة. وحدّثنا معمر، عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد (ح) وحدّثنا

(1)

كذا في ح بإثبات ياء الوصل بعد حرف الروي في سائر الأبيات، ويسميها العروضيون وصلًا لأنها تصل حركة حرف الروي المكسور، كما في الوافي للتبريزي (ص 225).

(2)

"البر": ضد البحر وعاهد: اسم فاعل من عهد صفة لحاسد، أي يتعهده بالحسد أينما سار، كأنه لا ينفك عن حسده. شرح الموهب (1/ 129). وفي سيرة ابن إسحاق (عامد).

(3)

"الرائد": الذي يتقدم بمكروه، وهو طالب السوء. يرود: يطلبه له. غير رائد: غير طالب له الكلأ كناية عن أنه لا ينفعه بوجه. اللسان (رود) وشرح المواهب (1/ 129). وما بين معقوفين من الدلائل وابن عساكر وفي سيرة ابن إسحاق: نزول غير زائد، وهو تصحيف.

(4)

في ح: وسيرة ابن إسحاق والدلائل وابن عساكر: حتى أراه قد أتى المشاهد، وفي نسخة ص: من الدلائل: حتى أراه قائد قد أتى المشاهد فكأنه ذكر الروايتين معًا، فأثبت منه ما يقيم وزن البيت ويوجه معناه. ولا يخفى: أن البيتين الأخيرين من مشطور الرجز والباقي من منهوكه.

(5)

زاد البيهقي: فسمَّيْته كذلك.

(6)

في الطبقات (1/ 101، 102).

(7)

حرف الحاء في هذا الخبر يدل على تحويل السند.

(8)

في ح: المرني وقد تقرأ المدني وفي ط: المزني، والمثبت من الطبقات، ولم أقف على ترجمة له.

ص: 37

طلحة بن عمرو عن عطاء عن ابن عباس -دخل حديث بعضهم في حديث بعض- أنَّ آمنة بنت وَهب قالت: لقد علقتُ به -تعني رسولَ الله صلى الله عليه وسلم- فما وجدْتُ له مَشَقَّةً حتى وضعتُه، فلما فصل مني خرج معه نورٌ أضاء له ما بين المشرق وإلى المغرب، ثم وقع إلى الأرض معتمدًا على يديه، ثم أخذ قبضةً من التراب، فقبضها ورفع رأسه إلى السماء. وقال بعضهم: وقع جاثيًا على ركبتيه، رافعًا رأسه إلى السماء

(1)

، وخرج معه نورٌ أضاءَتْ له قصورُ الشام وأسواقُها حتى رأيتُ أعناق الإبل ببصرى.

وقال الحافظ أبو بكر البيهقي

(2)

: أخبرنا محمد بن عبد الله الحافظ، أخبرنا محمد بن إسماعيل، حدثنا محمد بن إسحاق

(3)

، حدّثنا أبو بِشْر

(4)

مُبَشِّر بن الحسن، حدّثنا يعقوب بن محمد الزهري، حدّثنا عبد العزيز ابن عمران، حدّثنا عبد الله بن عثمان بن أبي سليمان بن جُبير بن مُطْعِم عن أبيه، عن ابن أبي سُوَيد الثقفي، عن عثمان بن أبي العاص، حدّثتني أمِّي أنها شهدت ولادة آمنة بنت وَهْب رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ليلةَ ولدَتْه، قالت: فما شيءٌ أنظرُ إليه في البيت إلا نُوِّر، وإني أنظر إلى النجوم تدنو حتى إني لأقول لَيَقَعْنَ عليّ.

وذكر القاضي عياض

(5)

عن الشِّفَا

(6)

أمِّ عبدِ الرحمن بن عوف، أنها كانت قابِلَتَه، وأنها أُخبرت به حين سقَطَ على يديها واستهلّ، سمعَتْ قائلًا يقول: يرحمكَ الله، وأنه سطع نور منه نَوَّرَ رأتْ منه قصورَ الرُّوم

(7)

.

قال محمد بن إسحاق

(8)

: فلمَّا وضعَتْهُ بعثَتْ إلى عبد المطلب جاريتَها -وقد هلك أبوه وهي حُبْلَى، ويقال: إنَّ عبدَ اللهِ هلك والنبيُّ صلى الله عليه وسلم ابنُ ثمانيةٍ وعشرين شهرًا، فاللهُ أعلم أيَّ ذلك كان- فقالت: قد وُلد

(1)

قوله: رافعًا رأسه إلى السماء، محله في ح، ط في آخر الحديث، والمثبت من الطبقات.

(2)

في دلائل النبوة (1/ 110، 111) ورواه الطبري في تاريخه (2/ 156، 157) عن محمد بن سنان القزاز عن يعقوب بن محمد الزهري به، وأخرجه ابن عساكر في تاريخه السيرة النبوية - القسم الأول (ص 65) عن البيهقي، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 220) وقال: رواه الطبراني، وفيه عبد العزيز بن عمران، وهو متروك احترقت كتبه، فحدث من حفظه، فاشتد غلطه وكان عارفًا بالأنساب.

(3)

هو ابن خزيمة.

(4)

في ط: يونس بن مبشر بن الحسن تحريف، والمثبت من ح ودلائل البيهقي وتاريخ ابن عساكر وترجمته في تاريخ بغداد (13/ 268).

(5)

في الشفا (1/ 366) بلفظ مختلف.

(6)

"الشفا": بالقصر والمدّ، كما في الإكمال (5/ 76 ح 1).

(7)

أخرجه أبو نعيم في دلائل النبوة (ص 40) من طريق النضر بن سلمة عن أحمد بن محمد بن عبد العزيز الزهري عن أبيه وعبد الرحمن بن حميد بن عبد الرحمن بن عوف كلاهما عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه قال: كنت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم تربًا وكانت أمي الشفا فذكر الحديث.

(8)

قول ابن إسحاق في دلائل البيهقي (1/ 112) وتاريخ ابن عساكر السيرة النبوية - القسم الأول (ص 68، 69) وانظره بلفظ مختلف في سيرة ابن هشام (1/ 159، 160) وطبقات ابن سعد (1/ 103).

ص: 38

لك غلامٌ فانظرْ إليه، فلمَّا جاءها أخبرَتْهُ وحدَّثَتْهُ بما كانتْ رأتْ حين حملت به، وما قيل لها فيه، وما أمرت أن تسمِّيه. فأخذه عبدُ المطلب، فأدخله على هُبَل في جوف الكعبة، فقام عبد المطلب يدعو ويشكر الله عز وجل ويقول:[من الرجز]

الحمدُ للهِ الذي أعطاني

هذا الغلامَ الطيِّبَ الأرْدان

(1)

قد سادَ في المَهْدِ على الغِلْمانِ

أُعِيذُه بالبيتِ ذي الأرْكانِ

حتى يكونَ بُلغةَ الفِتْيَانِ

حتى أراه بالغَ البُنْيانِ

أعيذُهُ من كلِّ ذي شَنَآنِ

من حاسدٍ مضطَرِبِ العِنان

ذي هِمَّةٍ ليس له عَيْنانِ

حتى أراه رافعَ اللسان

(2)

أنتَ الذي سُمِّيتَ في القرآن

في كُتُبٍ ثابتة المَباني

(3)

أحمدُ مكتوبٌ على اللسان

وقال البيهقي

(4)

: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ: أنبانا أبو بكر محمد بن أحمد بن حاتم الدَّارَابْجِردي

(5)

-بمرو- حدّثنا أبو عبد الله البوشَنْجي، حدّثنا أبو أيوب سليمان بن سلمة الخبائري، حدّثنا يونس بن عطاء بن عثمان بن ربيعة بن زياد بن حارث الصُّدَّائي -بمصر- حدّثنا الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن أبيه العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: وُلِدَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مَخْتُونًا مَسْرُورًا، قال فأعجب ذلك جدَّه عبد المطلب وحظِيَ عنده وقال: ليكوننَّ لابني هذا شأن. فكان له شأن

(6)

.

(1)

"الأردان": جمع رُدْن، وهو أصل الكمّ. اللسان (ردن) وفي الأساس: كن طيب الأردان وإن لم تلبس الأردان. الأخيرة جمع رَدَن بالتحريك، وهو الحرير والخز.

(2)

في تاريخ ابن عساكر: البنيان.

(3)

في ط: المثاني، والمثبت من ح والدلائل.

(4)

في الدلائل: (1/ 114).

(5)

في ح: الدرايَرْدي، وفي ط: الدرابودي، والمثبت من دلائل البيهقي. ولم أقف على ترجمة له.

(6)

أخرجه ابن سعد في الطبقات (1/ 103) من طريق يونس بن عطاء عن الحكم بن أبان ونقله عنه ابن عساكر في تاريخه السيرة النبوية - القسم الأول (ص 210).

ص: 39

وهذا الحديث في صِحَّتِه نظر، وقد رواه الحافظ ابن عساكر

(1)

من حديث سفيان بن محمد المصِّيصي، عن هشيم، عن يونس بن عُبيد، عن الحسن، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مِنْ كرامتي على الله أني وُلدْتُ مَخْتُونًا ولم ير سوأتي أحد".

ثمَّ أورده

(2)

من طريق الحسن بن عرفة عن هشيم به.

ثم أورده

(3)

من طريق محمد بن محمد بن سليمان -هو الباغَنْدِي- حدّثنا عبد الرحمن بن أيوب الحمصي، حدّثنا موسى بن أبي موسى المقدسي، حدّثني خالد بن سلمة، عن نافع، عن ابن عمر قال: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم مسرورًا مختونًا.

وقال أبو نعيم

(4)

: حدّثنا أبو أحمد محمد بن أحمد الغطريفي، حدّثنا الحسين بن أحمد بن عبد الله المالكي، حدّثنا سليمان بن سلمة الخَبَائري، حدّثنا يونس بن عطاء، حدّثنا الحكم بن أبان، حدّثنا عكرمة، عن ابن عباس، عن أبيه العباس قال: وُلد رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مختونًا مسرورًا، فأَعجبَ ذلك جدَّهُ عبد المطلب وحَظِيَ عنده، وقال: ليكونَنَّ لابني هذا شأن. فكان له شأن.

وقد ادَّعى بعضُهم صِحَّتَه لما ورد له من الطرق، حتى زعم بعضُهم أنه متواتر، وفي هذا كُلِّهِ نظر.

ومعنى مختونًا: أي مقطوع الخِتان: ومسرورًا: أي مقطوع السُّرَّةِ من بَطْنِ أُمِّه.

وقد روى الحافظُ ابن عساكر

(5)

من طريق عبد الرحمن بن عُيينة البصري، حدّثنا عليُّ بن محمد المدائني السلمي، حدّثنا سلمة بن محارب بن مسلم بن زياد عن أبيه، عن أبي بكرة، أنَّ جبريل خَتَنَ النبي صلى الله عليه وسلم حين طَهَّر قَلْبَه. وهذا غريبٌ جدًا.

وقد رُوي أنَّ جدَّهُ عبد المطلب خَتَنهُ وعمِلَ له دَعْوَةً جمع قريشًا عليها، والله أعلم.

وقال البيهقي

(6)

: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأني أحمد

(7)

بن كامل القاضي -شفاهًا- أنَّ محمد بن إسماعيل حدَّثَه -يعني السلمي

(8)

- حدّثنا أبو صالح [عبدُ الله بن صالح قال:]

(9)

حدّثني معاوية بن صالح

(1)

في تاريخه (ص 211).

(2)

(ص 212).

(3)

(ص 213).

(4)

في دلائل النبوة (1/ 154/ 92).

(5)

ليس الخبر في تاريخ دمشق القسم الأول والثّاني من طبعة مجمع اللغة العربية بدمشق. وهو في طبعة دار الفكر 3/ 410، وأخرجه الطبراني في الأوسط 6/ 70 (5821).

(6)

في الدلائل (1/ 113).

(7)

في ط: محمد تصحيف والمثبت من ح والدلائل وترجمته في سير أعلام النبلاء (15/ 544).

(8)

في الدلائل: أن محمد بن إسماعيل السلمي حدثهم.

(9)

ما بين معقوفين من الدلائل.

ص: 40

عن أبي الحكم التَّنوخي. قال: كان المولُود إذا وُلد في قريش دفعوه إلى نسوةٍ من قريش إلى الصبح يَكْفَأْنَ عليه بُرْمَةَ

(1)

، فلما ولد رسولُ الله صلى الله عليه وسلم دفعه عبد المطلب إلى نسوةٍ فكفأنَ عليه بُرْمَةً، فلما أصبحن أَتَيْنَ فوجدنَ البُرْمَةَ قد انفلقت عنه باثنتين، ووجدْنَهُ مفتوحَ العينين، شاخصًا ببصره إلى السماء، فأتاهُنَّ عبدُ المطلب، فقلْنَ له: ما رأينا مولودًا

(2)

مثله، وجدناهُ قد انفلقتْ عنه البُرْمة، ووجدناهُ مفتوح العينين

(3)

، شاخصًا ببصره إلى السماء. فقال: احْفَظْنَهُ فإنِّي أرجو أن يكون له شأن، أو أن يُصيبَ خيرًا. فلما كان اليومُ السابع ذبح عنه ودعا له قريشًا، فلما أكلوا قالوا: يا عبدَ المطلب، أرأيتَ ابنَكَ هذا الذي أكرمتنا على وجهه ما سمَّيْتَه؟ قال سمَّيْتُه محمدًا. قالوا: أفرَغِبْتَ به عن أسماء أهل بيته؟ قال: أردتُ أنْ يَحْمَدَهُ اللهُ في السماء وخَلْقُه في الأرض.

قال أهلُ اللغة: كُلُّ جامعٍ لصفاتِ الخير يُسَمَّى محمدًا، كما قال بعضُهم:[من الطويل]

إليك -أبيتَ اللعنَ- أعملْتُ ناقتي

إلى الماجدِ القَرْمِ الكريمِ المحمَّدِ

(4)

وقال بعض العلماء: ألهمهم الله عز وجل أنْ سمَّوه محمدًا لما فيه من الصفات الحميدة، ليلتقيَ الاسمُ والفعل، ويتطابق الاسمُ والمسمَّى في الصورة والمعنى، كما قال عمُّهُ أبو طالب، ويروى لحسَّان

(5)

.

وشقَّ له من اسمِهِ ليُجِلَّهُ

فذو العَرْشِ محمودٌ وهذا محمَّدُ

وسنذكرُ أسماءَهُ عليه الصلاة والسلام وشمائلَهُ -وهي صفاتهُ الظاهرة وأخلاقُه الطاهرة- ودلائل نبوَّتِهِ وفضائلَ منزلَتِهِ في آخر السيرة إنْ شاء الله.

وقال الحافظ أبو بكر البيهقي

(6)

: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، حدّثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدّثنا أحمد بن شيبان الرَّمْلي، حدّثنا أحمد بن إبراهيم الحَلَبي

(7)

، حدّثنا الهيثم بن جميل، حدّثنا زهير، عن محارب بن دثار، عن عمرو بن يثربي، عن العباس بن عبد المطلب قال: قلت: يا رسول الله، دعاني إلى الدخول فىِ دِينك أمارةٌ لنبوَّتك، رأيتُكَ في المَهْد تُنَاغي القمرَ وتشيرُ إليه بإصْبَعِك، فحيثُ أشرتَ إليه مال. قال: "إنِّي كنتُ أُحَدِّثه، ويحدِّثُني، ويُلْهيني عن البكاء، وأسمعُ

(1)

"يكفأن": يَقْلِبْنَ. البُرْمَةُ: القدر. اللسان (كفأ، برم).

(2)

في ح: مولدًا والمثبت من ط والدلائل.

(3)

في ح، ط: مفتوحًا عينيه والمثبت من الدلائل.

(4)

القَرْم من الرجال: السيِّد المعظم. اللسان (قرم) وهذا البيت من شواهد اللسان (حمد) وروايته "إليك أبيت اللعن كان كلالها" وعزاه للأعشى -أعشى قيس- وهو في ديوانه (ص 28) وروايته: كان كلاهما.

(5)

ليس البيت في ديوان شيخ الأباطح وقد عزي لأبي طالب في خبر ساقه المعافى بن زكريا في الجليس (2/ 204) والبيت في ديوان حسان (1/ 306).

(6)

دلائل النبوة (2/ 41).

(7)

في ط: "الحبلي" وهو تحريف، وما أثبتناه من الجرح والتعديل (2/ 40) وميزان الاعتدال (1/ 81).

ص: 41

وَجْبَتَه

(1)

حين يسجدُ تحت العرش". ثم قال: تفرَّد به الحَبَلي

(2)

وهو مجهول

(3)

.

‌فصل: فيما وقع من الآيات ليلة مولده عليه الصلاة والسلام

قد ذكرنا في باب هواتف الجانّ ما تقدَّم

(4)

من خُرورِ كثيرٍ من الأصنام ليلتئذٍ لوجوهها وسقوطها عن أماكنها، وما رآه النجاشيُّ ملكُ الحبشة، وظهور النور معه حتى أضاءت له قصورُ الشام حين ولد، وما كان من سقوطِهِ جاثيًا رافعًا رأسه إلى السماء، وانفلاقُ تلك البُرْمَة عن وجهه الكريم، وما شوهد من النور في المنزل الذي ولد فيه، ودنوّ النجوم منهم وغير ذلك.

حكى السهيلي

(5)

عن تفسير بَقِيِّ بن مَخْلَد الحافظ، أنَّ إبليسَ رَنَّ أربعَ رنَّات

(6)

: حين لُعِن؛ وحين أُهبط؛ وحين وُلد رسولُ الله صلى الله عليه وسلم؛ وحين أُنزلت الفاتحة.

قال محمد بن إسحاق

(7)

: وكان هشام بن عروة يحدِّث عن أبيه، عن عائشة قالت: كان يهوديٌّ قد سكن مكة يتَّجِر بها، فلما كانت الليلةُ التي وُلد فيها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قال في مجلس من قريش: يا معشر قريش، هل وُلد فيكم الليلةَ مولود؟ فقال القوم: والله ما نعلمه. فقال: الله أكبر، أما إذا

(8)

أخطأكم فلا بأس، انظروا واحفظوا ما أقولُ لكم: وُلد هذه الليلة نبيُّ هذه الأمَّةِ الأخيرة، بين كتفيه علامةٌ فيها شعراتٌ متواتراتٌ كأنهنَّ عُرْفُ فرس، لا يرضعُ ليلتين، وذلك أنَّ عِفْريتًا من الجنِّ أدخل أُصبعه في فمه، فمنعه الرضاع.

فتصدَّع القومُ من مجلسهم وهم يتعجَّبون من قوله وحديثه، فلما صاروا إلى منازلهم أخبر كلُّ إنسانٍ منهم أهله، فقالوا: قد والله وُلد لعبد الله بن عبد المطلب غلامٌ سمَّوهُ محمدًا، فالتقى القوم فقالوا: هل سمعتم حديثَ اليهودي؟ وهل بلغكم مَوْلِدُ هذا الغلام؟ فانطلقوا حتى جاؤوا اليهوديَّ فأخبروه الخبر؛

(1)

وَجْبتُه: صوت سقوطه. ومنه حديث سعيد: لولا أصوات السافرة لسمعتم وجبة الشمس؛ أي سقوطها مع المغيب. اللسان (وجب).

(2)

في ط: "الليثي" وهو تحريف. والحَبَلي: أحمد بن إبراهيم.

(3)

قال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل: "سألت أبي عنه وعرضت عليه حديثه، فقال: لا أعرفه وأحاديثه باطلة موضوعة كلها ليس لها أصول، يدل حديثه على أنه كذَّاب"(2/ 40).

(4)

كذا في (ح، ط) وباب هواتف الجانّ سيأتي في (ص 146) وذكر النجاشي في (ص 170) وهذا يدل على أن باب هواتف الجانّ منتزع من مكانه ومقدم على موضعه، ويؤكد ذلك أيضًا قول المؤلف في (ص 146) موضع الحاشية (7): وسيأتي قول سطيح لعبد المسيح.

(5)

في الروض الأنف (1/ 181).

(6)

"الرنة": الصيحة الشديدة والصوت الحزين. اللسان (رنن).

(7)

قول ابن إسحاق في دلائل البيهقي (1/ 108) ومستدرك الحاكم (2/ 601، 602).

(8)

كذا في ح، ط وفي الدلائل والمستدرك:"إذْ" وهو أشبه بالصواب.

ص: 42

قال: فاذهبوا معي حتى أنظر إليه. فخرجوا به حتى أدخلوه على آمنة، فقالوا

(1)

: أخرجي إلينا ابْنَكِ، فأخرجَتْه، وكشفوا له عنِ ظهره، فرأى تلك الشامة، فوقع اليهوديُّ مَغْشيًا عليه؛ فلما أفاق قالوا له: مالك ويلك؟ قال: قد ذَهبَتْ والله النبوَّةُ من بني إسرائيل، أفرحتم به يا معشر قريش؟ والله ليَسْطُوَنَّ بكم سَطْوَةً يخرج خبرُها من المشرق والمغرب

(2)

.

وقال محمد بن إسحاق

(3)

: حدّثني صالح بن إبراهيم عن يحيى بن [عبد الله بن] عبد الرحمن بن أسعد بن زُرَارة قال: حدّثني منْ شئتَ من رجالِ قومي ممَّنْ لا أتَّهِم عن حسَّان بن ثابت قال: إنِّي لغلامٌ يَفَعَةٌ ابن سبعِ سنين أو ثمانِ سنين، أعقِلُ ما رأيتُ وسمعت، إذا بيهوديٍّ في يثرب يَصْرُخ ذاتَ غداة: يا معشر يهودَ؛ فاجتمعوا إليه -وأنا أسمع- فقالوا: ويلك مالك؟ قال: قد طلع نجمُ أحمد الذي يولد به في هذه الليلة.

وروى الحافظُ أبو نعيم في كتاب "دلائل النبوة"

(4)

من حديث أبي بكر بن عبد الله العامري، عن سليمان بن سُحيم ورُبَيْح

(5)

بن عبد الرحمن كلاهما عن عبد الرحمن بن أبي سعيد [الخُدْري] عن أبيه قال: سمعت أبي مالك بن سنان يقول: جئتُ بني عبد الأشهل يومًا لأتحدَّث فيهم، ونحن يومئذٍ في هُدْنةٍ من الحرب، فسمعت يوشع اليهوديَّ يقول: أظلَّ خروجُ نبيٍّ يقالُ له: أحمد، يخرجُ من الحرم. فقال له خليفةُ بن ثعلبةَ الأشهلي كالمستهزئ به: ما صفته؟ فقال: رجلٌ ليس بالقصير ولا بالطويل، في عينيه حمرة، يلبس الشَّمْلَة، ويركب الحمار، سيفُه على عاتقه، وهذا البلد مُهاجَرُه. قال: فرجعت إلى قومي بني خُدْرَة، وأنا يومئذ أتعجَّبُ مما يقول يوشع، فأسمع رجلًا منا يقول: ويوشع يقول هذا وحده؟! كلُّ يهودِ يثربَ يقولون هذا. قال أبي مالكُ بن سنان: فخرجتُ حتى جئتُ بني قُرَيظة، فأجد جمعًا، فتذاكروا النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال الزبير بن باطا:[قد] طلع الكوكب الأحمر الذي لم يطلع إلا لخروج نبيٍّ أو ظهوره، ولم يبق [أحد] إلا أحمد وهذا مُهاجَرُه. قال أبو سعيد: فلما قدم النبيُّ صلى الله عليه وسلم[المدينة] أخبره أبي هذا الخبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو أسلم الزبير وذووه

(6)

من رؤساء اليهود، إنما هم له تبع".

(1)

كذا في ح، ط، وفي الدلائل والمستدرك: فقال: وهو أشبه بالصواب.

(2)

أخرجه الحاكم في المستدرك (2/ 601، 602) وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. قال الذهبي: قلت: لا.

(3)

في سيرة ابن إسحاق (ص 63) ودلائل النبوة لأبي نعيم (ص 16) وما يأتي بين معقوفين منهما. ومن تهذيب التهذيب (4/ 379) في ترجمة صالح بن إبراهيم.

(4)

دلائل النبوة (1/ 79/ 40) وما يأتي بين معقوفين منه.

(5)

في ط: ذريح وفي الدلائل رميح، وكلاهما تصحيف والمثبت من ح، والتصحيح من الإكمال (4/ 188) وميزان الاعتدال (2/ 38) وتهذيب التهذيب (3/ 238).

(6)

كذا في ط، وفي ح ودلائل أبي نعيم، وفي ط: لو أسلم الزبير لأسلم ذووه وهو الصواب.

ص: 43

وقال أبو نعيم

(1)

: حدّثنا عمر بن محمد، حدّثنا إبراهيم بن السِّنْدي، حدّثنا النَّضْرُ بن سلمة، حدثنا إسماعيل بن قيس بن سعد بن زيد بن ثابت، عن أُمِّ سعد بنت سعد بن الربيع سمعت زيد بن ثابت يقول: كان أحبار يهود بني قُرَيظة والنَّضِير يذكرون صفةَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فلما طلع الكوكبُ الأحمر أخبروا أنه نبيّ، وأنَّهُ لا نبيَّ بعدَه، واسمه أحمد، ومُهاجره إلى يثرب، فلما قدم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المدينة أنكروا وحسدوا وكفروا.

وقد أورد هذه القصة الحافظ أبو نعيم في كتابه

(2)

من طرق أُخرى ولله الحمد.

وقال أبو نعيم

(3)

: حدّثنا أبو محمد بن حبان، حدّثنا أبو بكر بن أبي عاصم، حدّثنا وهْبُ بن مُنَبِّه، حدّثنا خالد عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة ويحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، عن أسامة بن زيد قال: قال زيد بن عمرو بن نُفيل: قال المُوبَذَان -حَبْرٌ من أحبار الشام-: قد خرج في بلدك نبيّ -أو هو خارج- قد خرج نجمُه، فارجِعْ فصدِّقْهُ واتَّبِعْه.

‌ذكر ارتجاج الإيوان

(4)

وسقوطِ الشُرُفات وخمودِ النيران ورؤيا المُوبَذَان وغير ذلك من الدَّلالات

قال الحافظ أبو بكر محمد بن جعفر بن سهل الخرائطي في كتابه "هواتف الجِنَّان"

(5)

: حدّثنا عليُّ بن حرب، حدّثنا أبو أيوب يعلى بن عمران -من آل جرير بن عبد الله البجَلي- حدّثني مخزوم بن هانئ المخزومي عن أبيه -وأتت عليه خمسون ومئة سنة- قال: لما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتجس

(6)

إيوانُ كسرى وسقطَتْ منه أربعَ عشرةَ شُرْفَة، وخمدَت نار فارس، ولم تخمُدْ قبل ذلك بألفِ عام، وغاضَتْ بُحيرة ساوَة

(7)

، ورأى المُوبَذَان

(8)

إبلًا صِعَابًا تقودُ خيلًا عِرابًا قد قطعتْ دِجْلة

(1)

في المطبوع (1/ 79/ 391) بغير هذا الإسناد وسيشير المؤلف إلى ذلك بعد سطور.

(2)

ما أشرت إليه في الحاشية السابقة هي إحدى هذه الطرق، وهذا مما يدل على أن المطبوع هو المختصر لكتاب الدلائل.

(3)

في دلائل النبوة 1/ 80.

(4)

في ط: ارتجاس إيوان كسرى.

(5)

في ح، ط: هواتف الجان والمثبت من كتاب الخرائطي وذيل كشف الظنون (4/ 729) والجنَّان جمع جانّ مثل حائط وحيطان. والنص فيه (ص 179).

(6)

فوقها في ح: ارتج، وكتب فوقها حرف خ إشارة إلى أنها رواية نسخة، وارتجس: اضطرب وتحرك حركة سمع لها صوت. اللسان (رجس).

(7)

ساوه، بعد الألف واو مفتوحة بعدها هاء ساكنة: مدينة حسنة بين الري وهمذان في وسط، بينها وبين كل منهما ثلاثون فرسخًا. معجم البلدان (3/ 179)(ساوه).

(8)

"الموبذان للمجوس": كقاضي القضاة للمسلمين. اللسان (موبذ).

ص: 44

وانتشرت في بلادها. فلما أصبح كِسْرى أفزعَهُ ذلك، فتصبَّر عليه تشجُّعًا، ثم رأى أنه لا يدَّخِرُ ذلك عن مرازبته؛ فجمعهم ولَبِس تاجَهُ وجلس على سريره، ثم بعث إليهم؛ فلمَّا اجتمعوا عنده قال: أتدرون فيما

(1)

بعثتُ إليكم؟ قالوا: لا، إلا أن يُخبِرَنا الملك. فبينما هم كذلك إذْ ورد عليهم كتابٌ بخُمودِ النيران، فازداد غمًّا إلى غمِّه، ثم أخبرهم بما رأى وما هاله، فقال المُوبَذَان: وأنا -أصلح الله الملك- قد رأيتُ في هذه الليلة رؤيا. ثم قصَّ عليه رؤياه في الإبل، فقال: أيُّ شيءٍ يكونُ هذا يا مُوبَذان؟ قال: حَدثٌ يكون في ناحية العرب -وكان أعلمَهم في أنفسهم- فكتب عند ذلك:

من كسرى ملك الملوك إلى النعمان بن المنذر؛ أمَّا بعد، فوجِّه إليَّ برجلٍ عالمٍ بما أريدُ أنْ أسألَه عنه.

فوجَّه إليه بعبد المسيح بن عمرو بن حَيَّان بن بُقَيْلة

(2)

الغسَّاني؛ فلما ورد عليه قال له: ألك علمٌ بما أريد أن أسألك عنه؟ فقال: لتخبرني، أو ليسألني الملكُ عمَّا أحب، فإنْ كان عندي منه علم، وإلا أخبرتُه بمن يعلمه. فأخبره بالذي وجَّه به إليه فيه؛ قال: علم ذلك عند خالٍ لي يسكنُ مشارفَ الشام يقال له: سَطِيح، قال: فأتِهِ فاسألْهُ عما سألتُكَ عنه، ثم أنبِئْني بتفسيره. فخرج عبدُ المسيح، حتى انتهى إلى سَطِيح، وقد أشفى على الضَّريح، فسلَّم عليه وكلَّمه، فلم يردَّ إليه سَطِيحٌ جوابًا، فأنشأ يقول:[من الرجز]

أصَمُّ أم يسمعُ غِطْريفُ اليمن

(3)

أمْ فازَ فازْلَمَّ بِهِ شَأْوُ العَنَنْ

(4)

يا فاصِلَ الخُطَّةِ أعيَتْ مَنْ ومَنْ

(5)

أتاكَ شيخُ الحيِّ من آلِ سَننْ

وأُمُّهُ من آلِ ذِئبِ بْنِ حَجَنْ

أزرَقُ مَهْمُ النابِ صرَّارُ الأذُن

(6)

(1)

كذا في ح بإثبات ألف ما، وإثباتها قليل شاذ. انظر الخزانة (6/ 99) وما بعدها بتحقيق هارون.

(2)

في ح، ط: نفيلة، وفي الهواتف: حنان بن نفيلة، وكلاهما تصحيف، والمثبت من الإكمال (1/ 347) وتاريخ ابن عساكر واللباب (1/ 167).

(3)

"الغطريف": السيد.

(4)

فاز: هلك، ويروى فاد، وهو بمعناه. ازلمَّ: من ازلأمَّ، وازلامَّ بالمد: إذا ولَّى مسرعًا. والشأو: الغاية والسبق. والعنن: الموت. ومعنى "ازلم به شاو العنن": ذهب به غايةُ الموت وسَبْقُه ذهابًا سريعًا. منال الطالب (1/ 137). والبيت في اللسان (زلم).

(5)

"الفاصل": الحاكم المبيِّن. الخُطَّة: الحالة والقضية. قوله: أعيت من ومن: أي إن هذه الخطة لصعوبتها أعجزت كل من جلَّ قدره في حلمه وحكمته، فحذف الصلة التي لمن ومن، كما حذفت في قولهم: بعد اللتيا والتي. منال الطالب (1/ 138).

(6)

"الأزرق": أراد به النمر لزرقة عينيه. مَهْم الناب: محدَّده، ويروى: مهو ولا ممهى ومهمى وكلها بمعنى،

ص: 45

أبيضُ فَضْفَاضُ الرِّداءِ والبَدَنْ

رسولُ قَيْلِ العُجْمِ يَسْرِي للوَسَنْ

(1)

تَجُوبُ بي الأرضَ عَلَنْدَاةٌ شَجَنْ

(2)

لا يَرهَبُ الرَّعْدَ ولا ريْبَ الزَّمَنْ

ترفَعُ بي وَجْنًا وتَهْوي بي وَجَنْ

(3)

حتى أتى عاري الجآجِي والقَطَنْ

(4)

تَلُفُّهُ في الرِّيحِ بَوْغَاءُ الدِّمَنْ

(5)

كأنما حُثْحثَ من حِضْنَيْ ثَكَنْ

(6)

قال: فلما سمع سَطيح شعره رفع رأسه يقول: عبدُ المسيح، على جملٍ مُشيح، أتى

(7)

سطيح، وقد أوفى على الضَّريح، بعثك ملكُ بني ساسان، لارتجاس الإيوان، وخُمود النيران، ورؤيا المُوبَذَان، رأى إبلًا صعابًا، تقودُ خيلًا عِرابًا، قد قطعَتْ دجلةَ، وانتشرت في بلادها، يا عبدَ المسيح، إذا كثرتِ التِّلاوة، وظهر صاحب الهِرَاوة، وفاض وادي السماوة، وغاضَتْ بُحيرة ساوَهْ، وخمدَتْ نار فارس، فليس الشام لسَطيح شامًا، يملكُ منهم ملوكٌ ومَلِكات، على عدد الشُّرُفات، وكلُّ ما هو آتٍ آت. ثم قضى سَطِيحٌ مكانَه، فنهض عبدُ المسيح إلى راحلته وهو يقول:[من البسيط]

= ووقع في ح ومختصر ابن عساكر بم وفي ط نهم، وأظنه تصحيف -والصرار الأذن: الذي نصب أذنه وسواها: منال الطالب (1/ 140).

(1)

"القيل": من ملوك اليمن في الجاهلية، دون الملك الأعظم. "الوسن": النوم، وأراد به رؤيا الموبذان. "يسري": من السرى، سير الليل. منال الطالب (1/ 138) والمعجم الوسيط.

(2)

"العلنداة": الناقة الطويلة العظيمة. "شجن": متداخلة الخَلْق كأنها شجرة متصلة الأغصان؛ ويروى "شزن" بفتح الشين والزاي وضمهما: أي نشيطة. منال الطالب واللسان (علند، شجن).

(3)

الوَجَن، بسكون الجيم وفتحها: الأرض الغليظة الصلبة. اللسان (وجن)؛ ويروى: ترفعني وجناء تهوي من وجن، والوجناء: الناقة القوية الصلبة. منال الطالب (1/ 139).

(4)

في ح: والعطن، والمثبت من ط واللسان ومنال الطالب. الجاجي: جمع جؤجؤ، وهو الصدر. والقطن: جمع قطنة، وهي ما بين الفخذين؛ وقيل: الصواب بكسر الطاء. اللسان (قطن). والعاري: الذي ذهب لحمه، وشحمه، فكأنه عري منه، يعني أن سرعة السير قد هزله وأذهب سمنه. منال الطالب (1/ 139).

(5)

"البوغاء": التراب الناعم؛ والدمن: ما تدمَّن منه، أي تجمَّع وتلبَّد. اللسان (بوغ، دمن).

(6)

"حثحث": حُث وأُسرع: ثكن: اسم جبل حجازي: الحضن. الجنب. ومعنى البيت أنه من كثرة التراب والغبار الذي أصاب جمله في سرعة سيره، كأنه نمر هُيِّج وأعجل من جانبي هذا الجبل. اللسان (حثث، ثكن) ومنال الطالب (1/ 141). وروي في مختصر تاريخ ابن عساكر لابن منظور: جَفنيْ ثكن.

(7)

كذا في ح، ط: وفي مختصر تاريخ ابن عساكر لابن منظور: إلى.

ص: 46

شَمِّرْ فإنَّك ماضي العَزْمِ شِمِّيرُ

لا يُفْزِعَنَّكَ تفريقٌ وتَغْييرٌ

(1)

إنْ يُمْسِ مُلْكُ بني ساسانَ أفْرَطَهُمْ

فإنَّ ذا الدَّهْرَ أطْوَارٌ دَهَاريرُ

(2)

فرُبَّما رَبَّما أضْحَوْا بمنزلةٍ

يخافُ صَوْلَهُمُ الأُسْدُ المَهَاصِيرُ

(3)

منهمْ أخو الصَّرْخٍ بَهْرَامٌ وإخْوتُهُ

والهُرْمُزانُ وسابُورٌ وسابورُ

(4)

والناسُ أولادُ عَلَّاتٍ فمَنْ عَلِموا

أنْ قد أقَلَّ فمَحْقُورٌ ومَهْجُورُ

(5)

وَرُبَّ يَوْمٍ لهم ضَحْيَان ذي أرَنٍ

سُدَّتْ بلهْوهِمُ فيه المزاميرُ

(6)

وهم بنو الأمِّ إمَّا إن رأوا نَشَبًا

فذاك بالغَيْبِ مَحفوظٌ ومَنْصُورُ

(7)

والخيرُ والشرُّ مَقْرُونانِ في قَرَنٍ

فالخيرُ متَّبَعٌ والشرُّ مَحْذُورُ

(8)

قال: فلما قدم عبد المسيح على كسرى أخبره بما قال له سَطِيح، فقال كسرى: إلى أنْ يملكَ منا أربعةَ عشرَ ملكًا كانت أمورٌ وأمور، فملك منهم عشرة في أربعِ سنين، وملك الباقون إلى خلافة عثمان رضي الله عنه.

ورواه البيهقي

(9)

من حديث عبد الرحمن بن محمد بن إدريس عن علي بن حرب الموصلي بنحوه.

(1)

ويروى: ماضي الهم ولا يفرغنك تشريد وتعزير. منال الطالب (1/ 134).

(2)

"أفرطهم": من أفرط الرجلُ القومَ: أي تقدَّمهم وتركهم وراءه. يريد زوال الملك عنهم. دهر دهارير: أي شديد، كقولهم: ليلة ليلاء. منال الطالب (1/ 142).

(3)

"المهاصير": جمع مهصار، والهصْر: أن تميل الشيء إليك وتكسره. أي أنها تكسر كلَّ ما ظفرت به. منال الطالب (1/ 143) ويروى: تهاب صوتهم مختصر تاريخ ابن عساكر لابن منظور (8/ 302).

(4)

"الصرح": القصر، وكل بناءٍ عالٍ. بهرام، والهرمزان وسابور: من أسماء ملوكهم. منال الطالب (1/ 143).

(5)

"أولاد العَلَّات": الإخوة لأب وأمهات شتى. أقلَّ: افتقر وقلَّ ما بيده، والمحقور: المُهان المطَّرَح. منال الطالب (1/ 143).

(6)

رواية البيت في ح:

ورب قوم لهم صحبان ذي أذن

بدت تلهوهمُ فيه المزامير

وكذا في ط: وفيه: تلهيهم، فجاء مصحفًا في أكثر من موضع، وقد قوّمتُ روايته من تاريخ ابن عساكر حيث ساقه مع بيتين آخرين، وسقط منه لفظ لهم. ويوم ضحيان: طلق، والضحيان من كل شيء: البارز للشمس. وذو أرن: ذو نشاط. اللسان (ضحي، أرن).

(7)

"النشب": المال. إمّا: هنا زائدة، وتقديره: وهم بنو الأم إن رأوا، ويروى: لمَّا أن رأوا بفتح أن. منال الطالب (1/ 143).

(8)

"القرن": الحبل يُشدُّ به البعيران معًا. منال الطالب (1/ 143).

(9)

في دلائل النبوة (1/ 126 - 129) ورواه الطبري أيضًا: تاريخه (2/ 166 - 168) وأبو نعيم في دلائل النبوة (ص 41، 42) وابن عساكر في تاريخه: مختصر تاريخ ابن عساكر لابن منظور (8/ 300 - 302) والسهيلي في الروض الأنف (1/ 19) وابن الأثير في منال الطالب (1/ 132 - 134) والأزهري في تهذيب اللغة (4/ 276) وابن منظور في اللسان (سطح) وابن سيد الناس في عيون الأثر (1/ 28 و 29) وابن هشام في السيرة (1/ 15) ومعجم =

ص: 47

قلت: كان آخرَ ملوكهم الذي سُلب الملك منه يَزْدَجِرْدُ بنُ شَهْريار بن أَبْرَوَيْز بن هُرْمُز بن أنُوشِرْوَان، وهو الذي انشقَّ الإيوان في زمانه، وكان لأسلافه في الملك ثلاثة آلاف سنة ومئة وأربعة وستون سنة. وكان أول ملوكهم جيومَرْت

(1)

بن أميم بن لاوذ بن سام بن نوح.

حاشية:

أمَّا سَطِيح هذا، فقال الحافظُ ابن عساكر في "تاريخه"

(2)

: هو الرَّبِيع بن رَبِيعة بن مسعود بن مازن بن ذِئْب بن عَدِيِّ بن مازن بن الأزْد، ويقال: الربيع بن مسعود، وأمه رويمة

(3)

بنت سعد بن الحارث الحَجُوريّ. وذكر غير ذلك في نسبه.

قال: وكان يسكن الجابية، ثم روي عن أبي حاتم السِّجْستاني قال: سمعتُ المشيخة منهم أبو عبيدة وغيره قالوا: وكان من بعد لقمان بن عاد، ولد في زمن سَيْل العَرِم، وعاش إلى ملك ذي نُوَاس، وذلك نحو من ثلاثين قرنًا، وكان مسكَنُهُ البحرين. وزعمَتْ عبد القيس أنه منهم، وتزعم الأزْد أنه منهم، وأكثر المحدِّثين يقولون: هو من الأزْد، ولا ندري ممَّنْ هو، غير أنَّ ولدَهُ يقولون:

(4)

إنه من الأزْد.

وروي عن ابن عباس أنه قال: لم يكن شيءٌ من بني آدم يشبه سَطيحًا، إنما كان لحمًا على وَضَم

(5)

، ليس فيه عظمٌ ولا عَصَب إلا في رأسه وعينَيْه وكفَّيه، وكان يُطوى كما يُطوى الثوب من رِجلَيْه إلى عنقه. ولم يكن فيه شيءٌ يتحرَّك إلا لسانه. وقال غَيْرُه: إنه إذا غضِب انتفخ وجلس.

ثم ذكر ابنُ عباس أنه قدم مكَّةَ فتلقَّاه جماعةٌ من رؤسائها منهم عبدُ شمس وعبد مناف أبناءُ قُصَي، فامتحنوه في أشياء، فأجابهم فيها بالصدق، فسألوه عمَّا يكون في آخر الزمان، فقال: خذوا مني ومن إلهام الله إيَّايِ: أنتم الآن يا معشر العرب، في زمان الهرم سواء بصائرُكم وبصائرُ العجم، ولا علم عندكم ولا فهَم، ويَنْشُو

(6)

من عَقِبكم دَهْم

(7)

، يطلبون أنواعُ

(8)

العلْم، يكسرون الصنَم، يبلغون

= البلدان (ثكن).

(1)

في ط: خيومرت بالخاء المعجمة، وفي ح بالحاء المهملة، والمثبت من تاريخ الطبري (1/ 146، 147) والكامل لابن الأثير (1/ 45، 46) وفي الفارسية: كيومرث: اسم الإنسان الأول من أولاد آدم. أول ملوك البيشداديين. المعجم الذهبي (ص 489).

(2)

قول ابن عساكر هذا في مختصر تاريخ ابن عساكر لابن منظور (8/ 295).

(3)

في ح: روعة، وفي ط: ردعا، والمثبت من مختصر تاريخ ابن عساكر لابن منظور.

(4)

في مختصر تاريخ ابن عساكر: أنهم.

(5)

"الوضم": شرائح من جراد النخل. مختصر تاريخ ابن عساكر (8/ 297).

(6)

"ينشو": لغة في ينشأ. اللسان (نشو).

(7)

"الدهم": الجماعة الكثيرة. اللسان (دهم).

(8)

في ح: انتزاع، والمثبت من ط ومختصر تاريخ ابن عساكر.

ص: 48

الرَّدْم

(1)

، يقتلون العُجْم، يطلبون الغُنْم.

ثم قال: والباقي الأبَد، والبالغ الأمَد، ليخرجنَّ من ذا البلد، نبيٌّ مهتدٍ، يهدي إلى الرَّشَد، [يرفُضُ يغوثَ والفَنَد]

(2)

، يبرأ من عبادة الضَّدَد، يعبدُ ربًّا انفرد، ثم يتوفَّاه الله محمودًا، ومن الأرض مفقوِدًا، وفي السماء مشهودًا؛ ثم يلي أمرَهُ الصدِّيق، إذا قضى صدَق، وفي ردِّ الحقوق لا خَرِقٌ ولا نزِق، ثم يلي أمرَهُ الحَنِيف، مجرِّبٌ غِطْريف، قد أضاف المضيف، وأحكم التحنيف

(3)

.

ثم ذكر عثمان ومَقْتَله، وما يكونُ بعد ذلك من أيام بني أمية ثم بني العباس، وما بعد ذلك من الفتن والملاحم، ساقه ابن عساكر بسنده عن ابن عباس بطوله.

وقد قدَّمنا قوله لربيعة بن نصر ملك اليمن

(4)

، حين أخبره برؤياه قبل أن يُخبره بها، ثم ما يكون في بلاد اليمن من الفتن وتغيُّر الدول، حتى يعود إلى سيف بن ذي يَزَن، فقال له: أفيدوم ذلك من سلطانه، أم ينقطع؟ قال: بل ينقطع. قال: ومَنْ يقطعه؟ قال: نبيٌّ زكي، يأتيه الوَحْي، من قِبَلِ العليّ، قال: وممَّنْ هذا النبيّ؟ قال: من ولد غالب بن فِهر بن مالك بن النَّضْر، يكون المُلْكُ في قومه إلى آخر الدهر. قال: وهل للدهر من آخر؟ قال: نعم، يوم يُجمع فيه الأوَّلون والآخِرون، يسعدُ فيه المحسنون، ويَشْقى فيه المسيؤون. قال: أحقٌّ ما تخبرني؟ قال: نعم، والشفق والغسق، والفلق

(5)

إذا اتسق، إنَّ ما أنبأتُكَ لَحَقّ. ووافقه على ذلك شِقّ، سواء بسواء، بعبارةٍ أُخرى كما تقدَّم. ومن شعر سَطِيح قوله:[من الطويل]

عليكم بتقوى الله في السرِّ والجَهْرِ

ولا تُلبِسُوا صِدْقَ الأمانةِ بالغَدْرِ

وكونوا لجار الجُنْبِ حِصْنًا وجُنَّةً

إذا ما عَرتْهُ النائباتُ من الدَّهْرِ

(6)

وروى ذلك الحافظ ابن عساكر، ثم أورد ذلك المُعَافى بنُ زكريّا الجَريري فقال

(7)

: وأخبارُ سَطِيحٍ كثيرة، وقد جمعها غيرُ واحدٍ من أهل العلم. والمشهور أنَّهُ كان كاهنًا، وقد أخبر عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم وعن نَعْته ومَبْعثه. ورُوي لنا

(8)

بإسنادٍ الله به أعلم أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم سُئل عن سَطِيح فقال: "نبيٌ ضيَّعَهُ قومُه".

قلتُ: أما هذا الحديث فلا أصلَ له في شيءٍ من كتب الإسلام المعهودة، ولم أرَهُ بإسنادٍ أصلًا،

(1)

"الردْم": قرية بالبحرين. معجم البلدان (3/ 40).

(2)

ما بين المعقوفين ليس في ح، والفند: الخطأ في الرأي والقول، والكذب. اللسان (فند).

(3)

تتمة الخبر في مختصر تاريخ دمشق (8/ 299).

(4)

(ص 162، 163) من هذا الجزء (الطبعة القديمة).

(5)

في ط: والقمر، والمثبت من ح.

(6)

البيتان في مختصر تاريخ ابن عساكر (8/ 295) وروايته: ولا تلبسوا صدق الأمانة بالعذر.

(7)

قول المعافى ليس في الجزءين المطبوعين من الجليس (1 و 2).

(8)

القائل هنا ابن عساكر كما في مختصر تاريخه (ص 296).

ص: 49

ويُروى مثلُه في خبر خالد بن سنان العبسي

(1)

ولا يصحُّ أيضًا، وظاهر هذه العبارات تدلُّ على علمٍ جيِّدٍ لِسَطيح، وفيها روائحُ التصديق، لكنَّهُ لم يُدرِكِ الإسلام كما قال الجَريري. فإنه قد ذكرنا في هذا الأثر أنَّه قال لابن أخته: يا عبد المسيح، إذا كَثُرَت التلاوة، وظهر صاحب الهِرَواة، وفاض وادي السماوة، وغاضَتْ بُحيرة ساوَهْ، وخمدَتْ نارُ فارس، فليس الشامُ لسطيحٍ شامًا، يملك منهم ملوكٌ ومَلِكات، على عدد الشُّرُفات، وكلُّ ما هو آت آت. ثم قضى سطيح. وكان ذلك بعد مَوْلد رسول الله صلى الله عليه وسلم بشهرٍ أو شَيْعِة

(2)

-أي أقلَّ منه- وكانت وفاتُه بأطراف الشام مما يلي أرضَ العراق - فالله أعلم بأمْرِهِ وما صار إليه.

وذكر ابنُ طَرَار الجَريري

(3)

أنه عاش سبعمائة سنة؛ وقال غيره: خمسمائة سنة، وقيل: ثلاثمائة سنة، فالله أعلم.

وقد روى ابنُ عساكر

(4)

أنَّ مَلِكًا سأل سَطِيحًا عن نسب غلامٍ اختُلف فيه، فأخبره على الجَلِيَّة في كلامٍ طويل، مليحٍ فصيح، فقال له الملك: يا سَطِيح، ألا تُخبرني عن عِلمك هذا؟ فقال: إنَّ علمي هذا ليس مني، ولا بجَزْمٍ ولا بظني، ولكن أخذْتُه عن أخٍ لي جِنِّي، قد سمع الوَحْيَ بطورِ سَيْناء

(5)

. فقال له: أرأيتَ أخاك هذا الجِنِّي، أهو معك لا يفارقك؟ فقال: إنه ليزولُ حيث أزول، ولا أنطِقُ إلا بما يقول. وتقدَّم أنه وُلد هو وشِقُّ بن صَعْب بن يَشْكُر بن رُهْم بن قَسْر بن عَبْقَر

(6)

الكاهن الآخر، وُلدا في يومٍ واحد، فحُملا إلى الكاهنة طريفة بنت الحسين الحِمْيَريَّة، فتفَلَتْ في أفواههما، فورثا منها الكهانة، وماتت من يومها. وكان نصفَ إنسان، ويقال: إن خالد بن عبد الله القَسْريّ من سُلالته؛ وقد مات شِقٌّ قبل سَطِيح بدهر.

وأما عبد المسيح بن عمرو بن قيس بن حيَّان بن بُقَيْلة

(7)

الغسَّانيّ النصراني، فكان من المعمَّرِين،

(1)

(2/ 211)(الطبعة القديمة) من البداية والنهاية.

(2)

"الشيع": مقدار من العدد، وقولهم: بشهر أو شيعه، أي: ونحو من شهر، مقداره، أو قريبًا منه. اللسان (شيع). ووقع في ط: شية، تصحيف، والمثبت من ح.

(3)

ابن طرار الجريري: هو المعافى بن زكريا السابق ذكره، وطرار اسم جده. والضبط من التاج (طرر). وترجمته تأتي في وفيات سنة 390 من هذا الكتاب.

(4)

مختصر تاريخ ابن عساكر لابن منظور (8/ 296).

(5)

في مختصر تاريخ ابن عساكر: بطور سنِّي.

(6)

في ح: شق بن مصعب بن يشكر بن رهم بن يسر بن عقبة، وهو تصحيف، واضطرب تصحيفه في ط أيضًا، وما أثبته من البيان والتبيين (1/ 361) والاشتقاق (ص 516، 517) وجمهرة الأنساب (ص 388) والأغاني (22/ 1) ط دار الكتب ومروج الذهب (2/ 317، 333) والإكمال (7/ 119) و (6/ 96).

(7)

في ح، ط: نفيلة، انظر الحاشية (2) من (ص 45) من هذا الجزء.

ص: 50

وقد ترجمه الحافظ ابن عساكر في "تاريخه"

(1)

وقال: هو الذي صالح خالدَ بن الوليد على [الحِيْرَة]

(2)

وذكر له معه قصةً طويلة، وأنَّه أكل من يده سمَّ ساعةٍ فلم يُصِبْهُ سوء، لأنه لما أخذه في يدِهِ، قال: بسم الله، وبالله، ربِّ الأرض والسماء، الذي لا يضرُّ مع اسمِهِ داء

(3)

. ثم أكله، فتجلَّتْهُ غشية، فضرب بذَقَنِهِ

(4)

على صدره، ثم عَرِق وأفاق رضي الله عنه. وذكر لعبد المسيح أشعارًا غير ما تقدم.

إلى هنا الحاشية

وقال أبو نعيم

(5)

: حدّثنا محمد بن أحمد بن الحسن، حدّثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، حدّثنا عقبةُ بن مكرم، حدّثنا المسيَّب بن شَرِيك، حدّثنا محمد بن شريك، عن شعيب بن شعيب، عن أبيه، عن جدِّه قال: كان بِمَرِّ الظَّهران

(6)

راهب من الرُّهْبان يدعى عيصا من أهل الشام، وكان متخفِّرًا بالعاص بن وائل، وكان الله قد آتاه علمًا كثيرًا، وجعل فيه منافعَ كثيرةً لأهل مكة من طِيبٍ ورِفْقٍ وعِلْم، وكان يلزم صومعةً له، ويدخلُ مكة في كلِّ سنة، فَيَلْقَى الناس ويقول: إنه يوشك أنْ يولد فيكم مولودٌ يا أهل مكة، يَدينُ له العرب، ويملك العجم، هذا زمانه، ومن أدركه واتَّبعه أصاب حاجته، ومن أدركه فخالفه أخطأ حاجته، وبالله ما تركتُ أرضَ الخُبْز

(7)

والخمير والأمن، ولا حلَلْتُ بأرض الجوع والبؤس والخوف إلَّا في طلبه.

وكان لا يولد بمكة مولود إلا يُسأل عنه، فيقول: ما جاء بَعْدُ. فيقال له: فصِفْه. فيقول: لا. ويكتم ذلك للذي قد علم أنه لاقٍ من قومه مخافةً على نفسه أن يكون ذلك داعيةً إلى أدنى ما يكونُ إليه من الأذى يومًا. ولما كان صبيحة اليوم الذي وُلد فيه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم خرج عبد الله بن عبد المطلب حتى أتى عيصا، فوقف في أصل صومعته، ثم نادى: يا عيصا. فناداه: من هذا؟ فقال: أنا عبد الله، فأشرف عليه فقال: كن أباه، فقد ولد ذلك المولودُ الذي كنتُ أحدِّثكم عنه يوم الاثنين، ويُبعث يوم الاثنين، ويموت يوم الاثنين. قال: فإنه قد ولد لي مع الصبحِ مولود. قال: فما سمَّيتَه؟ قال: محمدًا. قال: والله لقد كنتُ أشتهي أن يكون هذا المولودُ فيكم أهلَ البيت، لثلاث خصالٍ بها نعرفه، منها: أنَّ نجمه طلع البارحة، وأنه ولد اليوم، وأنَّ اسمه محمد، انطلقْ إليه فإنَّ الذي كنتُ أحدِّثكم عنه ابْنُك. قال:

(1)

تاريخ مدينة دمشق (10/ 310) ب (نسخة الظاهرية التي يرمز لها بحرف س).

(2)

ما بين معقوفين ساقط من ح، ط واستدركته من تاريخ ابن عساكر والجليس الصالح (14/ 447).

(3)

في ح: أذًا، وفي ط: أذى، والمثبت من تاريخ ابن عساكر.

(4)

في ح، ط: بيديه، والمثبت من تاريخ ابن عساكر والجليس الصالح.

(5)

لم أجده في دلائل النبوة لأبي نعيم، وهو في تاريخ ابن عساكر السيرة النبوية - القسم الأول (ص 344، 345) رواه بسنده عن أبي القاسم بن بشران عن أبي علي محمد بن أحمد بن الحسن بن الصواف عن محمد بن عثمان بن أبي شيبة.

(6)

"الظهران": واد قرب مكة، وعنده قرية يقال لها: مرّ، تضاف إلى هذا الوادي، معجم البلدان (4/ 63).

(7)

كذا في ح وفي ط وتاريخ ابن عساكر: أرض الخمر.

ص: 51

فما يُدريك أنه ابني؟ ولعله أنْ يولد في هذا اليوم مولودٌ غيره؟ قال: قد وافق ابنك الاسم، ولم يكنْ الله يشبِّه علمَهُ على العلماء، فإنه حجَّة. وآيةُ ذلك أنه الآن وَجِع، فيشتكي

(1)

أيامًا ثلاثة. فيظهر به الجوع ثلاثًا ثم يُعافى؛ فاحفظ لسانك، فإنه لم يُحسَدْ أحدٌ حَسَدَهُ قطّ، ولم يُبْغَ على أحدٍ كما يُبْغَى عليه، إنْ تعشْ حتى يبدوَ مقالُه، ثم يدعو، لَظَهر

(2)

لك من قومك ما لا تحتمله، إلا على صبرٍ على ذُلّ؛ فاحفظْ لسانك ودَارِ عنه. قال: فما عمره؟ قال: إنْ طال عمره أو قَصُر لم يبلغِ السبعين، يموت في وِترٍ دونها من السنين، في إحدى وستين أو ثلاثٍ وستين، في أعمار جُلِّ أمَّته.

قال: وحُمل برسولِ الله صلى الله عليه وسلم في عاشوراء المُحَرَّم. وولد يوم الاثنين لثنتي عشرة ليلةً خلتْ من رمضان سنة اثنتين وعشرين

(3)

من غزوةِ أصحاب الفيل.

هكذا رواه أبو نعيم، وفيه غرابة.

‌ذكر مراضعه وحواضنه عليه الصلاة والسلام

كانت أم أيمن واسمها بَرَكَة تحضُنه، وكانت ممن ورِثها عليه الصلاة والسلام من أبيه، فلما كبر أعتقها وزوَّجها مولاه زيد بن حارثة، فولدت له أسامةَ بن زيد رضي الله عنهم. وأرضعته مع أمه عليه الصلاة والسلام مولاةُ عمِّه أبي لهب ثُوَيبة قبل حَلِيمة السعدية.

أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما

(4)

من حديث الزُّهري عن عروة بن الزُّبير، عن زينب بنت أم سَلمة عن أُمَّ حَبِيبة بنت أبي سفيان. قالت: يا رسولَ الله، انْكِحْ أختي بنتَ أبي سفيان -ولمسلم عزَّة بنت أبي سفيان- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أوَ تُحبِّينَ ذلك"؟ قلت: نعم، لستُ لك بِمُخْلِيَة

(5)

، وأحَبُّ مَنْ شاركني في خيرٍ أُختي، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"فإنَّ ذلك لا يَحِلُّ لي" قلت: فإنَّا نُحَدَّثُ أنك تريدُ أنْ تَنْكِحَ بنتَ أبي

(6)

سلمة -وفي رواية دُرَّة بنت أبي سَلَمة- قال: "بنت أمِّ سَلَمة"؟ قلت: نعم،

(1)

في (ح): أنه الآن يشتكي وجع، والمثبت من ط. وتاريخ ابن عساكر.

(2)

كذا في ح، ط، وفي تاريخ ابن عساكر: يظهر، وهو أشبه بالصواب.

(3)

كذا في ح وط وتاريخ ابن عساكر: سنة ثلاث وعشرين. قلت: وفى سنة ولادته خلاف، جمعه وساق أخباره الزرقاني في شرح المواهب (1/ 157).

(4)

فتح الباري (5101) النكاح باب وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم، وصحيح مسلم (16 - 1449) في الرضاع، باب تحريم الربيبة وأخت المرأة.

(5)

"مخلية": أي منفردة. مشارق الأنوار (1/ 239) وفي اللسان (خلو): لم أجدك خاليًا من الزوجات غيري.

(6)

في ح: أم، والمثبت من ط والبخاري ومسلم.

ص: 52

قال: "إنها لو لم تكنْ رَبيبتي في حَجْري ما حلَّتْ لي. إنها لابْنَةُ أخي من الرَّضاعة، أرضعتني وأبا سَلَمة ثُويبةُ، فلا تَعْرِضْنَ عليَّ بناتِكُنَّ ولا أخَوَاتِكُنّ".

زاد البخاري: قال عُرْوة: وثُويبةُ مولاةٌ لأبي لهب [أعتقها فأرضعَتْ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فلمَّا مات أبو لهب]

(1)

أُرِيهُ بعضُ أهله بِشَرِّ حِيْبَةٍ

(2)

. فقال له: ماذا لقيتَ؟ فقال: أبو لهب: لم ألقَ بعدكم خيرًا، غيرَ أني سُقِيتُ في هذه بعَتَاقتي ثُويبة

(3)

. [وأشار إلى النُقْرة التي بين الإبهام والتي تليها من الأصابع]

(4)

.

وذكر السهيلي وغيره

(5)

: أن الرائي له هو أخوه العباس، وكان ذلك بعد سنة من وفاة أبي لهب بعد وقعة بدر. وفيه: إن أبا لهب قال للعباس: إنه ليخفَّف عليّ في مثل يوم الاثنين. قالوا: لأنه لما بشَّرته ثُويبة بميلاد ابن أخيه محمد بن عبد الله أعتقها من ساعته، فجوزي بذلك لذلك.

‌ذكر رَضَاعه عليه الصلاة والسلام من حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية وما ظهر عليه من البركة وآيات النبوة

قال محمد بن إسحاق

(6)

: فاسْتُرضع له عليه الصلاة والسلام من حَلِيمة بنتِ أبي ذُؤيب، واسمه عبد الله بن الحارث بن شِجْنَة بن جابر بن رزام بن ناصرة بن [فُصَيَّة بن نَصْر بن] سعد بن بكر بن هَوازن بن منصور بن عكرمة بن خَصَفَة

(7)

بن قيس عيلان بن مضر.

قال: واسْمُ أبي رسولِ الله صلى الله عليه وسلم الذي أرضعه -يعني زوج حليمة- الحارث بن عبد العُزَّى بن رفاعة بن ملان بن ناصرة

(8)

بن سعد بن بكر بن هوازن. وإخوتُه عليه الصلاة والسلام -يعني: من الرَّضاعة- عبد الله بن الحارث، وأَنيْسة بنت الحارث، وحُذَافة

(9)

بنت الحارث، وهي الشَّيْماء،

(1)

ما بين المعقوفين ساقط من ح.

(2)

"بشر حيبة": أي بشرِّ حال. والحيبة: الهم والحزن. اللسان (حوب).

(3)

قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري"(9/ 145) وأجيب بأن الخبر مرسل، أرسله عروة، ولم يذكر من حدثه به، وعلى تقدير أن يكون موصولًا، فالذي في الخبر رؤيا منام، فلا حجة فيه، وانظر تتمة البحث فيه.

(4)

ما بين المعقوفين ليس في صحيح البخاري. وهو في الطبقات (1/ 108) ودلائل البيهقي (1/ 149).

(5)

الروض الأنف.

(6)

في سيرة ابن إسحاق (ص 25) والسيرة النبوية (1/ 161) وتاريخ الطبري (2/ 157) والروض الأنف (1/ 183) وما يأتي بين معقوفين منها جميعًا.

(7)

في ح، ط: حفصة وهو تصحيف، والمثبت من السيرة والطبري والروض والاشتاق (ص 266).

(8)

قال ابن هشام: ويقال: هلال بن ناصرة. السيرة (1/ 161).

(9)

في هامش ح: خدامة. وفوقها حرف خاء إشارة إلى رواية نسخة أخرى، وقال السهيلي في الروض (1/ 186): =

ص: 53

وذكروا أنها كانت تحضِن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم مع أمه

(1)

إذ كان عندهم.

قال ابن إسحاق

(2)

: حدّثني جَهْم بن أبي جهم

(3)

، مولى لامرأة من بني تميم، كانت عند الحارث بن حاطب، وكان يقال له: مولى الحارث بن حاطب، قال: حدّثني من سمع عبد الله بن جعفر بن أبي طالب قال: حُدِّثتُ عن حليمة بنت الحارث أنها قالت: قدمتُ مكة في نسوة -[وذكر الواقدى

(4)

بإسناده أنهنَّ كنَّ عشر نسوةٍ من بني سعد بن بكر، يلتمسْنَ بها الرُّضعاء]

(5)

- من بني سعد نلتمسُ بها الرُّضعاءَ في سنةٍ شَهْباء

(6)

، فقدمتُ على أتانٍ لي قَمْراء كانت أذمَّت بالركب

(7)

، ومعي صبيٌّ لنا، وشارف لنا والله ما تَبِضُّ بقطرة

(8)

، وما ننام ليلنا

(9)

ذلك أجمع مع صبينا ذاك، ما نجد في ثديي ما يُغنيه، ولا في شارفنا ما يغذِّيه، ولكنَّا كنَّا نرجو الغيث والفرج؛ فخرجتُ على أتاني تلك، فلقد أذَمَّتْ بالركب حتى شَقَّ ذلك عليهم ضعفًا وعَجَفًا. فقدِمنا مكة، فوالله ما علمتُ منا امرأةً إلا وقد عُرض عليها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فتأباه، إذا قيل إنَّه يتيم تركناه، قلنا: ماذا عسى أنْ تصنعَ إلينا أُمُّه؟ إنما نرجو المعروفَ من أبي الولد، فأما أمُّه فماذا عسى أن تصنع إلينا؟ فوالله ما بقي من صواحبي امرأةٌ إلا أخذت رَضِيعًا غيري. فلما لم نجد غيرَه، وأجمعنا الانطلاق، قلت لزوجي الحارث بن عبد العُزَّى: والله إني لأكره أنْ أرجعَ من بين صواحبي ليس معي رضيع. لأنطلقنَّ إلى ذلك اليتيم فلآخذنَّه. فقال: لا عليك أنْ

= خذامة بكسر الخاء المنقوطة، وقال غيره: حذافة، بالحاء المضمومة وبالفاء مكان الميم، وكذلك ذكره يونس في روايته عن ابن إسحاق، وكذلك ذكره أبو عمر في كتاب النساء".

(1)

في السيرة: إذا.

(2)

في سيرة ابن إسحاق (ص 26) قوله هذا في سيرة ابن هشام (1/ 162) والطبري (2/ 158) والدلائل للبيهقي (1/ 133) بألفاظ مقاربة.

(3)

في ح: جهيم بن أبي جهيم، والمثبت من المصادر السابقة وميزان الاعتدال (1/ 426) وتعجيل المنفعة (ص 74)، وقال فيه ابن حجر: مجهول، وذكره ابن حبان في الثقات.

(4)

رواية الواقدي في طبقات ابن سعد (1/ 110).

(5)

ما بين المعقوفين زيادة من ط ليست في ح.

(6)

"سنة شهباء": إذا كانت مجدبة. اللسان شهب. وقال السهيلي في الروض (1/ 186): قال ابن هشام: إنما هو المراضع. قال: وفي كتاب الله سبحانه: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ} . والذي قاله ابن هشام ظاهر، لأن المراضع جمع مرضع، والرضعاء: جمع رضيع، ولكن لرواية ابن إسحاق مخرج من وجهين: أحدهما حذف المضاف كأنه قال: ذوات الرضعاء؛ والثاني أن يكون أراد بالرضعاء الأطفال على حقيقة اللفظ، لأنهم إذا وجدوا له مرضعة ترضعه فقد وجدوا له رضيعًا يرضع معه، فلا يبعد أن يقال: التمسوا له رضيعًا، علمًا بأن الرضيع لا بد له من مرضع".

(7)

"أتان قمراء": أي بيضاء. أذمت بالركب: أي حبستهم لضعفها وانقطاع سيرها. اللسان والتاج (قمر، ذمم).

(8)

"الشارف": الناقة المسنة. ما تبض: ما تدر ولا ترشح. اللسان (شرف، بضض).

(9)

في ح، ط: ليلتنا، والمثبت من مصادر التخريج.

ص: 54

تفعلي، فعسى أنْ يجعلَ الله لنا فيه بركة. فذهبتُ فأخذتُه، فوالله ما أخذته إلا أني لم أجدْ غيرَه؛ فما هو إلَّا أن أخذتُه فجئت به رَحْلي، فأقبل عليه ثديايَ بما شاء من لبن، فشرب حتى رَوِي، وشرب أخوه حتى رَوِي. وقام صاحبي إلى شارفنا تلك فإذا إنها لحافل، فحلب ما شَرِب وشربتُ حتى رَوينا؛ فبتنا بخير ليلة، فقال صاحبي حين أصبحنا: يا حليمة [والله]

(1)

إني لأراك قد أخذتِ نَسَمَةً مباركة، ألم ترَيْ ما بتنا به الليلةَ من الخير والبركة حين أخذناه؟! فلم يزلِ الله عز وجل يَزِيدُنا خيرًا. ثم خرجنا راجعين إلى بلادنا، فوالله لقطعتْ أتاني بالرَّكْب حتى ما يتعلَّق بها حمار، حتى إنَّ صواحبي ليقلن: ويلك يا بنتَ أبي ذؤيب! هذه أتانك التي خرجتِ عليها معنا؟ فأقول: نعم، والله إنها لهي، فقلن: والله إنَّ لها لشأنًا!. حتى قدمنا أرضَ بني سعد، وما أعلمُ أرضًا من أرض الله أجْدَبَ منها، فإنْ كانتْ غنمي لتَسْرَحُ ثم تَرُوح شِبَاعًا لُبَّنًا، فنحلُب ما شئنا وما حوالينا -أو حولنا- أحا تَبِضُّ له شاةٌ بقطرةِ لبن، وإنَّ أغنامَهُم لتروحُ جياعًا، حتى إنهم ليقولون لرعاتهم -أو لرعيانهم-: ويحكم، انظروا حيث تَسْرَحُ غنمُ بنتِ أبي ذؤيب فاسْرَحوا معهم. فيسرحون مع غنمي حيثُ تسرح، فتروحُ أغنامُهم جياعًا ما فيها قطرةُ لبن، وتروح أغنامي شِبَاعًا لُبَّنًا، نحلُب ما شئنا؛ فلم يزلِ الله يُرينا البركة ونتعرَّفها حتى بلغ سنتيه، فكان يَشِبُّ شبابًا لا تَشِبُّه الغِلْمان، فوالله ما بلغ السنتين حتى كان غلامًا جَفْرًا

(2)

، فقدِمنا به على أمِّه ونحن أضَنُّ شيءٍ به مما رأينا فيه من البركة؛ فلما رأته أمه قالت لها: يا ظِئْر دعينا نرجع بابننا هذه السنة الأخرى، فإنَّا نخشى عليه وَبَاءَ مكة. فوالله ما زلنا بها حتى قالت: فنعم. فسرَّحَتْه معنا، فأقمنا به شهرَيْن أو ثلاثة، فبينا هو خلفَ بيوتِنا مع أخٍ له من الرَّضاعة في بَهْمٍ لنا جاءنا أخوه ذلك يشتّد

(3)

، فقال: ذاك أخي القرشي جاءه رجلان عليهما ثيابٌ بيض، فأضجعاه، فشقَّا بطنه. فخرجتُ أنا وأبوه نشتدُّ نحوه، فنجده قائمًا مُمْتَقَعًا

(4)

لونه. فاعتنقه أبوه وقال: يا بني ما شأنك؟ قال: جاءني رجلان عليهما ثياب بيض، أضجعاني وشقَّا بطني، ثم استخرجا منه شيئًا، فطرحاه ثم ردَّاه كما كان. فرجعنا به معنا، فقال أبوه: يا حليمة لقد خَشِيتُ أن يكون ابني قد أصيب، فانطلقي بنا نردَّهُ إلى أهله قبل أن يظهر به ما نتخوَّف.

قالت حليمة: فاحتملناه فلم تُرَعْ أمُّه إلا به، فقدمنا [به]

(5)

عليها فقالت: ما ردَّكما [به يا ظئر](5) فقد كنتما عليه حريصَيْن؟ فقالا: لا والله، إلَّا أنَّ الله قد أدَّى عنا وقضينا الذي علينا وقلنا: نخشى الإتلاف والأحداث، نردُّه إلى أهله. فقالت: ما ذاك بكما؟ فاصْدُقاني شأنكما. فلم تَدْعنا حتى

(1)

ما بين المعقوفين ليس في ح، وهو في بعض مصادر التخريج وسيرة ابن إسحاق.

(2)

في اللسان (جفر): وفي حديث حليمة ظئر النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: كان يشب في اليوم شباب الصبي في الشهر، فبلغ ستًا وهو جفر. قال ابن الأثير: استجفر الصبي، إذا قوي على الأكل.

(3)

"يشتد": يعدو. اللسان (عدو). وفي شرح المواهب (1/ 180): يسرع في المشي.

(4)

"ممتقعًا": متغيِّرًا. وفي ط ومصادر التخريج: منتقعًا بالنون، وهو بمعناه.

(5)

ما بين المعقوفين ليس في ح، وهو في بعض مصادر التخريج وسيرة ابن إسحاق.

ص: 55

أخبرناها خَبَره، فقالت: أخشيتما عليه الشيطان؟ كلا والله ما للشيطان عليه من سبيل، والله إنَّه لكائنٌ لابني هذا شأن، ألا أخبرُكما خبره، قلنا: بلى. قالت: حملتُ به فما حملتُ حملًا قطُّ أخفَّ منه، فأُريتُ في النوم حين حملتُ به، كأنه خرج مني نورٌ أضاءتْ له قصورُ الشام، ثم وقع حين ولدْتُه وقوعًا ما يقعُه المولود، معتمدًا على يديه، رافعًا رأسَه إلى السماء، فدعاه عنكما.

وهذا الحديث قد روي من طريقٍ آخر، وهو من الأحاديث المشهورة المتداولة بين أهل السير والمغازي

(1)

.

وقال الواقدي

(2)

: حدثني معاذ بن محمد عن عطاء بن أبي رَبَاح، عن ابن عباس قال: خرجتْ حليمةُ تطلب النبيَّ صلى الله عليه وسلم وقد وجدَتِ البَهْم

(3)

تَقيل، فوجدَتْهُ مع أخته، فقالت: في هذا الحر؟ فقالت أخته: يا أُمَّهْ، ما وجد أخي حَرًّا، رأيتُ غمامةً تُظِلُّ عليه، إذا وقف وقفتْ، وإذا سار سارت [معه] حتى انتهى إلى هذا الموضع.

وقال ابن إسحاق

(4)

: حدّثني ثور بن يزيد، عن خالد بن مَعْدَان، عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم قالوا له: أخبرنا عن نفسك. قال: "نَعَمْ، أنا دعوةُ أبي إبراهيم، وبشرى عيسى عليهما السلام، ورأَتْ أُمِّي حين حملَتْ بي كأنَّه

(5)

خرج منها نورٌ أضاءتْ له قصورُ الشام، واستُرِضعتُ في بني سعد بن بكر، فبينا أنا في بَهْمٍ لنا أتاني رجلان عليهما ثياب بيض، معهما طَسْت من ذهب مملوءةٌ

(6)

ثلجًا، فأضجعاني فشقَّا بطني، ثم استخرجا قلبي فشقَّاه، فأخرجا منه عَلَقة سوداء، فألقياها، ثم غسلا قلبي وبطني بذلك الثلج، حتى إذا ألقياه ردَّاه كما كان؛ ثم قال أحدُهما لصاحبه: زِنْهُ بعشرةٍ من أمته، فوزنني بعشرةٍ فوزنتهم، ثم قال: زِنْه بمئةٍ من أمته، فوزنني بمئة فوزنتهم، ثم قال: زِنْه بألفٍ من أُمته، فوزنني بألف فوزنتُهم؛ فقال: دَعْه عنك، فلو وزنتَهُ بأُمَّته لوزنهم. وهذا إسنادٌ جيِّد قوي.

وقد روى أبو نعيم الحافظ في "الدلائل"

(7)

من طريق عمر بن الصُّبح -وهو أبو نعيم- عن ثور بن يزيد، عن مكحول، عن شدَّاد بن أوس هذه القصة مطوَّلة جدًا، ولكنَّ عمر بن صُبح هذا متروكٌ كذاب

(1)

على أنه ليس له إسناد صحيح.

(2)

قول الواقدي في طبقات ابن سعد (1/ 152) وما يأتي بين معقوفين منه.

(3)

في الطبقات: وقد بدت البَهْم. والبَهْم: بفتح الموحدة جمع بهيمة وهي ولد الضأن. اللسان بهم.

(4)

في سيرة ابن إسحاق (ص 28) والسيرة النبوية (1/ 166) وتاريخ الطبري (2/ 165) وأخرجه البيهقي في الدلائل (1/ 145) والحاكم في المستدرك (3/ 600).

(5)

في ط ومصادر التخريج: أنه.

(6)

في ح: ملأنه، وفي ط: مملوء، والمثبت من مصادر التخريج، لأن الطست مؤنثة. وهي من آنية الصُّفْر. اللسان (طست).

(7)

لم أجد القصة بهذا الإسناد في دلائل أبي نعيم.

ص: 56

متَّهم بالوضع. فلهذا لم نذكر لفظ الحديث، إذْ لا يفرحُ به. ثم قال

(1)

: وحدّثنا أبو عمرو بن حمدان

(2)

، حدثنا الحسن بن سفيان

(3)

، حدّثنا عمرو بن عثمان، حدّثنا بَقِيَّةُ بن الوليد، عن بَحِير بن سَعْد

(4)

، عن خالد ابن مَعْدان، عن عبد الرحمن بن عمرو السُّلَمي، عن عُتْبة بن عَبْد أنه حدَّثه أنَّ رجلًا سأل النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: كيف كان أول شأنك يا رسول الله؟ قال: "كانتْ حاضنتي من بني سعد بن بكر، فانطلقتُ أنا وابنٌ لها في بَهْمٍ لنا، ولم نأخذْ معنا زادًا، فقلت: يا أخي، اذهبْ فأْتنا بزادٍ من عند أُمِّنا. فانطلق أخي ومكثتُ عند البَهْم، فأقبل طائران أبيضان كأنهما نَسْران، فقال أحدُهما لصاحبه:[أ] هو هو؟ قال: نعم. فأقبلا

(5)

يبتدراني، فأخذاني فبطَحَاني للقفا، فشقَّا بطني ثم استخرجا قلبي فشقَّاه، فأخرجا منه عَلَقتَيْن سوداوَيْن، فقال أحدُهما لصاحبه: ائتني بماءِ ثلج، فغسلا به جوفي، ثم قال: ائتني بماءَ بَرَد، فغسلا به قلبي، ثم قال: ائتني بالسَّكِينة، فذرَّها في قلبي، ثم قال أحدهما لصاحبه: خِطْه، فخاطه

(6)

وختم على قلبي بخاتم النبوَّة؛ فقال أحدُهما لصاحبه: اجعلْه في كِفَّة، واجعل ألفًا من أُمَّته في كِفَّة؛ فإذا أنا أنظر إلى الألف فوقي أُشفق أنْ يخرَّ عليَّ بعضُهم؛ فقال: لو أنَّ أمته وُزنتْ به لمالَ بهم. ثم انطلقا فتركاني وفرقتُ فرَقًا شديدًا، ثم انطلقتُ إلى أمي فأخبرتُها بالذي لَقيت، فأشفقتْ أن يكون قد أُلبِسَ

(7)

بي، فقالت: أعيذُكَ بالله. فرحَّلَتْ بعيرًا لها وحملَتْني على الرَّحْل، وركبتْ خلْفي، حتى بلَغْنا إلى أُمِّي، فقالت: أديت أمانتي وذمتي وحدَّثَتْها بالذي لَقِيت، فلم يَرُعْها، وقالت: إني رأيتُ خرج مني نور أضاءَتْ منه قصورُ الشام".

ورواه أحمد من حديث بقيَّة بن الوليد به

(8)

.

(1)

لم أجد أيضًا القصة بهذا الإسناد في دلائل أبي نعيم، إلا أن فيه إشارة وروده فيه (1/ 220) (ط عبد البر عباس 1406 هـ) قوله: "ورواه عبد الرحمن بن عمر [و] عن عتبة بن عبد

وقد تقدم ذكره. ولم أجده أيضًا.

(2)

سقطت اللفظة: بن من ح، وهي في ط، وأبو عمرو هذا هو محمد بن أحمد بن حمدان بن علي بن سنان الحيري، توفي 376 هـ ترجمته في سير أعلام النبلاء (16/ 356 - 359).

(3)

في ح، ط: الحسن بن نفير، وهو تصحيف، والمثبت من أسانيد أبي نعيم في كتابه الدلائل، وهو الحسن بن سفيان بن عامر بن عبد العزيز بن النعمان بن عطاء الشيباني الخراساني النسوي. توفي سنة 303 هـ ترجمته ومصادرها في (11/ 124 - 125) من هذا الكتاب (ط) وسير أعلام النبلاء (14/ 157 - 162).

(4)

في ح: يحيى بن سعيد وفي ط: بحير بن سعيد، وكذا وقع في ترجمته في تهذيب التهذيب (1/ 431) وهو تصحيف، والمثبت من الإكمال (1/ 197) والتبصير (1/ 60).

(5)

في ح: فأقبل، والمثبت من ط: ومسند أحمد.

(6)

في مسند أحمد: حُصه، فحاصه، وهو بمعناه.

(7)

كذا في ح ومسند أحمد وفي ط: لبس، وجاء في اللسان (لبس) ما نصه:"وفي المولد والمبعث: فجاء الملك فشق قلبه، قال: فخفت أن يكون قد التبس بي، أي خولطت في عقلي، من قولك: في رأيه لَبْس أي اختلاط". وهي رواية الدارمي في سننه (1/ 9) مقدمة، باب كيف كان شأن النبي صلى الله عليه وسلم عن عتبة بن عبد.

(8)

مسند أحمد (4/ 184)، وإسناده ضعيف، لضعف بقية لأنه يدلس تدليس التسوية وهو أمر قادح في عدالته، وقد عنعن هنا.

ص: 57

وهكذا رواه عبد الله بن المبارك وغيره عن بقية بن الوليد به.

وقد رواه ابنُ عساكر

(1)

من طريق أبي داود الطيالسي، حدَّثنا جعفر بن عبد الله بن عثمان القرشي، أخبرني عمرُ بن عروة بن الزُّبير

(2)

قال: سمعتُ عروة بن الزُّبير يحدِّث عن أبي ذرٍّ الغفاري قال: قلت: يا رسول الله! كيف علمتَ أنَّكَ نبيٌّ حين علمت ذلك، واستيقنتَ أنك نبي؟ قال:"يا أبا ذرّ، أتاني ملكان وأنا ببعض بَطْحاء مكة، فوقع أحدُهما على الأرض، وكان الآخرُ بين السماء والأرض، فقال أحدُهما لصاحبه: أهو هو؟ قال هو هو. قال: زِنْهُ برجلٍ، فوزنني برجلٍ فرجحْتُه" وذكر تمامه، وذكر شقَّ صدره وخياطته، وجعل الخاتم بين كتفَيْه. قال:"فما هو إلا أنْ ولَّيَا عني، فكأنما أُعاينُ الأمْرَ مُعَاينةً".

ثم أورد ابنُ عساكر

(3)

عن أُبَيِّ بن كعب بنحو ذلك، ومن حديث شدَّاد بن أوس بأبسطَ من ذلك

(4)

.

وثبت في صحيحِ مسلم

(5)

من طريق حَمَّاد بن سَلَمة، عن ثابت، عن أنس بن مالك، أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أتاهُ جبريلُ عليه السلام وهو يلعب مع الغلمان

(6)

، فأخذَهُ فصَرَعَه، فشقَّ عن قلبه

(7)

، فاستخرج القلب، واستخرج منه عَلَقَةً سوداء فقال: هذا حظُّ الشيطانِ منك، ثم غسَلَه في طَسْتٍ من ذهب بماءِ زمزم، ثم لأَمَه، ثم أعادَهُ في مكانه؛ وجاء الغلمان يسعَوْن إلى أُمِّه -يعني ظِئْرَه- فقالوا: إنَّ محمدًا قد قُتل فاستَقْبَلُوهُ وهو مُمْتَقَعُ

(8)

اللَّون. قال أنس: وقد كنتُ أرى أثرَ ذلك المِخْيَط في صَدْره.

وقد رواه ابن عساكر

(9)

من طريق ابن وهب عن عمرو بن الحارث، عن عبد رَبِّه بن سعيد، عن

(10)

ثابت البُناني، عن أنس، أنَّ الصلاة فُرضت بمكة

(11)

، وأنَّ ملَكَين أتيا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فذهبا به إلى زمزم،

(1)

في تاريخ دمشق السيرة النبوية - القسم الأول (ص 372، 373) وما يأتي بين معقوفين منه ومن ط.

(2)

جاء الاسم في ط مضطربًا: عمير بن عمر بن عروة بن الزبير، والمثبت من ح وهو الصواب، نَسَبه إلى جده الزبير، وهو عمر بن عبد الله بن عروة بن الزبير، يروي عن جده عروة، ترجمته في تهذيب التهذيب (7/ 469). وساق الذهبي طرفًا من الحديث بهذا الإسناد في الميزان (1/ 412) في ترجمة جعفر بن عبد الله الحميدي وقال: فذكر حديثًا طويلًا لا يتابع عليه.

(3)

في تاريخه السيرة النبوية - القسم الأول (ص 374 - 375).

(4)

المصدر السابق (ص 377 - 383).

(5)

صحيح مسلم (162)(261) الإيمان باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم

(6)

في ح: الصبيان، والمثبت من ط وصحيح مسلم.

(7)

في ح: بطنه، والمثبت من ط وصحيح مسلم.

(8)

كذا في ح وط، وفي صحيح مسلم: منتقع وهو بمعناه؛ وقد مر (ص 55 ح 4) من هذا الجزء.

(9)

في تاريخه السيرة النبوية - القسم الأول (ص 372) وما يأتي بين معقوفين منه ومن ط.

(10)

في ح: ابن، والمثبت من ط.

(11)

في ح، ط: بالمدينة وهو وهم، والمثبت من تاريخ ابن عساكر ورواية النسائي في السنن (1/ 224) باب أين فرضت الصلاة من طريق سليمان بن داود عن ابن وهب به. ولا خلاف بين أهل العلم وجماعة أهل السير أن الصلاة فرضت بمكة ليلة الإسراء. تفسير القرطبي (10/ 210).

ص: 58

فشقَّا بطنه، فأخرجا حِشْوَتَه

(1)

في طَسْتٍ من ذهب، فغسلاه بماءِ زمزم، ثم كَبَسا

(2)

جَوْفَه حكمةً وعلمًا؟

ومن طريق ابن وَهْب أيضًا

(3)

، عن يعقوب بن عبد الرحمن الزُّهْري، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن هاشم

(4)

بن عُتْبة بن أبي وقاص، عن أنس قال: أُتي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ثلاث ليال قال: خذوا خَيْرَهم وسيِّدَهم. فأخذوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فعُمِد به إلى زمزم، فشُقَّ جوفُه، ثم أُتي بتَوْرٍ

(5)

من ذهب، فغُسل جوفُه، ثم مُلئ حكمةً وإيمانًا.

وثبت

(6)

من رواية سُليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن أنس. وفي "الصحيحين" من طريق شريك بن أبي نَمِر، عن أنس

(7)

، وعن الزُّهري، عن أنس، عن أبي ذَرّ

(8)

. وقتادة عن أنس. عن

(9)

مالك بن صعصعة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في حديث الإسراء

(10)

، كما سيأتي

(11)

قصة شرح الصدر ليلتئذ وأنَّه غُسل بماء زمزم؛ ولا منافاةَ لاحْتمال وقوع ذلك مرتين، مرَّةً وهو صغير، ومرَّةً ليلةَ الإسراء، ليتأهَّبَ للوفود إلى الملأ الأعلى، ولمناجاةِ الرَّبِّ عز وجل، والمثول بين يديه تبارك وتعالى.

وقال ابن إسحاق

(12)

: وكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ لأصحابه: "أنا أعْرَبُكم، أنا قُرَشيٌّ واستُرْضِعتُ في بني سعد بن بكر".

وذكر ابن إسحاق

(13)

: أنَّ حليمة لما استرجعته

(14)

إلى أُمِّه بعد فِطامه، مرَّتْ به على ركبٍ من

(1)

"حشوته": بكسر الحاء المهملة وضمها: أمعاؤه، وما في البطن من كبد وطحال وغير ذلك اللسان (حشو). ورواية النسائي: حَشْوَه.

(2)

في ط: لبسا وهو تصحيف. كبسا جوفه: أي ستراه. قاله السندي في حاشيته على شرح السيوطي لسنن النسائي (1/ 225).

(3)

عند ابن عساكر في تاريخه السيرة النبوية - القسم الأول (ص 373) وما يأتي بين معقوفين منه ومن ط.

(4)

في ط: عبد الرحمن بن عامر تصحيف، والمثبت من ح وابن عساكر.

(5)

"التور": الإناء. اللسان (تور).

(6)

في صحيح مسلم (260) الإيمان باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم.

(7)

فتح الباري في صفة النبي صلى الله عليه وسلم (3570)، وفي التوحيد (7517)، ومسلم (162)(262).

(8)

فتح الباري في الصلاة (349)، وفي ذكر بني إسرائيل (3342)، وفي الحج (1636)، وفي أحاديث الأنبياء (3342)، ومسلم في الإيمان (163).

(9)

في ط: "وعن"، وهو تحريف، وإنما رواه قتادة عن أنس عن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

(10)

أخرجه البخاري مقطعًا في أربعة مواضع بعضها في بدء الخلق (3207)، وبعضها في الأنبياء (3393) و (3430) وفي بدء الخلق (3207)، ومسلم في الإيمان (164)(264)(265).

(11)

(3/ 115، 116).

(12)

في سيرة ابن هشام (1/ 167).

(13)

في المصدر السابق، بألفاظ مقاربة.

(14)

في ط: أرجعته.

ص: 59

النَّصَارى، فقاموا إليه عليه الصلاة والسلام وقلَّبوه وقالوا: إنا سنذهبُ بهذا الغلام إلى مَلِكنا، فإنه كائنٌ له شأن. فلم تكَدْ تنفلتُ منهم إلا بعد جَهْد.

وذكر أنها لما ردَّته حين تخوَّفت عليه أنْ يكونَ أصابه عارض، فلمَّا قَرُبَتْ من مكَّة افتقدَتْه فلمْ تجدْه فجاءتْ جدَّه عبدَ المطلب، فخرج هو وجماعة في طلبه، فوجده ورَقَةُ بن نَوْفلٍ ورجلٌ آخر من قريش، فأتيا به جدَّه، فأخذه على عاتقه، وذهب فطاف به يعوِّذُهُ ويدعو له، ثم ردَّه إلى أُمِّه آمنة.

وذكر الأموي

(1)

من طريق عثمان بن عبد الرحمن الوقَّاصي -وهو ضعيف- عن الزُّهْري، عن سعيد بن المُسَيِّب قصةَ مولدِه عليه الصلاة والسلام، ورضاعِه من حَلِيمة، على غير سياق محمد بن إسحاق. وذكر أنَّ عبدَ المطلب أمر ابنَهُ عبدَ الله أن يأخذَهُ فيطوف به في أحياء العرب ليجد

(2)

له مرضعة، فطاف حتى استأجر حليمة على رَضاعه. وذكر أنه أقام عندها ستَّ سنين تُزيرُه جدَّه في كلِّ عام، فلما كان من شقِّ صدره عندهم ما كان، ردَّتْه إليهم، فأقام عند أمه، حتى [إذا]

(3)

كان عمره ثماني سنين، ماتت، فكفَلَه جدُّهُ عبدُ المطلب، فمات وله عليه الصلاة والسلام عَشْرُ سنين، فكفَلَه عمَّاه شقيقا أبيه: الزُّبير وأبو طالب، فلما كان له بضعَ عَشرَةَ سنة خرج مع عمِّه الزُّبير إلى اليمن. فذكر أنهم رأوا منه آياتٍ في تلك السَّفْرة؛ منها أنَّ فَحْلًا من الإبل كان قد قطعَ بعضَ الطريق في وادٍ مَمَرُّهم عليه، فلما رأى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم برك حتى حكَّ بكَلْكَلِه

(4)

الأرضَ، فركبه عليه الصلاة والسلام. ومنها أنه خاض بهم سيلًا عَرِمًا

(5)

فأيبسَهُ الله تعالى حتى جاوزوه. ثم مات عمُّه الزُّبير وله أربعَ عشرة سنة، فانفرد به أبو طالب.

والمقصود أنَّ بركتَهُ عليه الصلاة والسلام حلَّت على حليمةَ السعْدِيَّة وأهْلِها وهو صغير، ثم عادتْ على هوازِنَ بكمالهم فواضِلُه

(6)

حين أسرهم بعد وقعتهم، وذلك بعد فتح مكة بشهر. فمَتُّوا

(7)

إليه برَضاعِه، فأعتقهم وتحنَّن عليهم وأحسن إليهم، كما سيأتي مفصَّلًا في موضعه إنْ شاء الله تعالى.

قال محمد بن إسحاق

(8)

في وقعة هوازن: عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده [عبد الله بن عمرو] قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بحُنَين، فلما أصاب من أموالهم وسباياهم أدركه وَفْدُ هوازن بالجِعْرَانة

(9)

وقد أسلموا، فقالوا: يا رسول الله، إنا أهلٌ وعشيرة، وقد أصابنا من البلاء ما لم يَخْفَ

(1)

الأموي هو أبو محمد سعيد بن يحبى بن سعيد المتوفى (191) هـ في كتابه المغازي.

(2)

في ط: ليتخذ.

(3)

زيادة ليست في ح، ط: ويقتضيها السياق.

(4)

"الكلكل": الصدر. اللسان (كلل).

(5)

في ح: عرمرم والمثبت من ط، والسيل العرم: السيل الذي لا يطاق. والعرمرم: الكثير من كل شيء. اللسان (عرم).

(6)

"الفواضل": الأيادي الجميلة، وفواضل المال: ما يأتيك من مرافقه وغلته. اللسان (فضل).

(7)

"متوا": توسلوا، يقال: مت إليه بالشيء يمت متًا: توسّل. اللسان (متت).

(8)

في سيرة ابن هشام (2/ 488، 489) وما يأتي بين معقوفين منه.

(9)

ويقال: الجِعرَّانة بكسر العين المهملة وتشديد الراء المفتوحة: ماء بين الطائف ومكة، وهي إلى مكة أقرب. =

ص: 60

عليك، فامْنُنْ علينا مَنَّ الله عليك. وقام خطيبهم زهير بن صُرَد فقال: يا رسول الله. إنَّ ما في الحظائر

(1)

من السبايا خالاتُك وحواضنك اللاتي كن يكفُلْنك، فلو أنَّا مَلَحْنا

(2)

ابنَ أبي شَمِر، أو النعمان بن المنذر، ثم أصابنا منهما مثل الذي أصابنا منك رجَوْنا عائدتَهما وعطفَهما، وأنت خيرُ المكفولين. ثم أنشد:[من البسيط]

أُمْنُنْ علينا رسولَ الله في كَرَمٍ

فإنَّك المرءُ نَرْجُوهُ ونَدَّخِرُ

أُمْنُنْ على بَيْضَةٍ قد عاقَها

(3)

قَدَرٌ

ممزَّقٌ شَمْلُها في دهرها غِيَرُ

أبقتْ لنا الدهرَ هتَّافًا على حَزَنٍ

على قلوبهمُ الغَمَّاءُ والغُمَرُ

(4)

إنْ لَمْ تُداركها نَعْماءَ تَنْشُرُها

يا أرجحَ الناسِ حِلْمًا حين يُخْتَبَرُ

(5)

أُمنُنْ على نسوةٍ قد كنتَ ترضعُها

إذْ فُوك يَمْلَؤهُ من مَحْضِها دِرَرُ

(6)

أُمننْ على نسوةٍ قد كنتَ ترضَعُها

وإذْ يَزينُك ما تأتي وما تَذَرُ

لا تجعلنَّا كمن شالتْ نَعامَتُه

واستَبْقِ منّا فإنَّا معشرٌ زُهُرُ

(7)

إنا لنشكرُ للنُّعمى وإنْ كُفرتْ

وعندنا بعدَ هذا اليومِ مُدَّخَرُ

وقد رُويتْ هذه القصة من طريق عبد الله

(8)

بن رُمَاحِس الكلبي الرملي، عن زياد بن طارق الجُشَميّ،

= معجم البلدان (2/ 142).

(1)

في ح: الحضائر، والمثبت من ط وسيرة ابن هشام، والحظيرة: المحيط بالشيء، سواء كان خشبًا أو قصبًا، جمعها الحظائر. التاج (حظر).

(2)

"ملحنا": أرضعنا. الشرح من حاشية ح، وكتب فوقه: ش صحاح، يعني الشرح من صحاح الجوهري. وجاء في اللسان (ملح): وفي حديث وفد هوازن: أنهم كلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبي عشائرهم، فقال خطيبهم: إنا لو كنا ملحنا للحارث بن أبي شمر أو للنعمان بن المنذر ثم نزل منزلك هذا منا لحفظ ذلك لنا، وأنت خير المكفولين فاحفظ ذلك؛ قال الأصمعي: في قوله ملحنا، أي: أرضعنا لهما.

(3)

في ح: .. بيضة أعثانها قدر، والمثبت من ط ومصادر التخريج. والبيضة: من قولهم: بيضة القوم: أصلهم ومجتمعهم، وعشيرتهم. التاج (بيض).

(4)

"الغماء": الكرْب. الغُمَر: جمع غَمْرة، وهي الشدة، كغمرة الهم والموت. اللسان (غمم، غمر). وقال الزرقاني في شرح المواهب: "والغَمَرُ: بفتح المعجمة وتكسر وميم مفتوحة وراء: الحقد".

(5)

الشطر الأول مختل الوزن بهذه الرواية، ويستقيم برواية الواقدي وهي: ألا تداركها، أو رواية الخطيب البغدادي والسهيلي وابن عساكر وهي: تُداركهُمُ.

(6)

"دِرر": أي الدفعات الكثيرة من اللبن. قاله الحلبي في السيرة الحلبية (3/ 126) قلت: هو جمع دِرَّة بكسر الدال، وهي كثرة اللبن وسيلانه. اللسان (درر).

(7)

"شالت نعامة القوم": خفت منازلهم منهم، وذهب عزهم، وتفرقت كلمتهم. اللسان (شول).

(8)

كذا في ح والتاج رمحس، وفي ط واللباب (2/ 36) ومختصر تاريخ ابن عساكر لابن منظور (5/ 471) وميزان الاعتدال (3/ 6).

ص: 61

عن أبي صُرَد زهير بن جَرْوَل

(1)

-وكان رئيسَ قومه- قال: لما أسَرَنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يوم حُنين، فبينا هو يَميزُ بين الرجال والنساء وثبتُ حتى قعدتُ بين يديه، وأسمعتُه شعرًا، أذكره حين شبَّ ونشأ في هوازن حيث أرْضعوه:[من البسيط]

أُمْنُنْ علينا رسولَ الله في دَعَةٍ

فإنَّك المرءُ نرجوهُ ونَنْتَظِرُ

أُمننْ على بَيْضةٍ قد عاقها قَدَرٌ

ممزَّقٌ شَمْلُها في دهرها غِيرُ

أبقت لنا الحربُ هتَّافًا على حَزَنٍ

على قلوبهمُ الغَمَّاءُ والغُمَرُ

إنْ لم تُداركْها نعماءَ تنشرُها

يا أرجحَ الناس حِلْمًا حين يُختبر

أُمننْ على نسوةٍ قد كنتَ ترضَعُها

إذْ فُوك يملؤُه

(2)

من مَحْضِها الدِّرَرُ

إذْ أنْتَ طفلٌ صغيرٌ كنتَ تَرضعها

وإذْ يَزينُكَ ما تأتي وما تذَرُ

لا تجعلنَّا كمن شالَتْ نعامَتُهُ

واسْتَبْقِ منا فإنَّا معشرٌ زُهُرُ

إنَّا لنشكُرُ للنُّعمى وإنْ كُفِرَتْ

وعندنا بعد هذا اليوم مُدَّخَرُ

فأَلبسِ العَفْوَ مَن قد كنتَ تَرضعُه

مِن أُمَّهاتِكَ إنَّ العفوَ مُشْتَهرُ

إنّا نؤمِّلُ عفوًا منك تُلْبِسُهُ

هذي البرِيَّةَ إذْ تعفو وتنتصرُ

فاعفو

(3)

عفا الله عمَّا أنت رَاهبُه

(4)

يومَ القيامة إذْ يُهْدى لك الظَّفَرُ

قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمَّا ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لله ولكم" فقالت [قريش: ما كان لنا فهو لله ولرسوله. وقالت]

(5)

الأنصار: وما كان لنا فهو لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.

(1)

كذا في ح، ط: وفي المصادر السابقة: عن أبي جرول زهير بن صرد، وقال السهيلي في الروض 4/ 166: وأما زهير الذي ذكره يعني ابن إسحاق في سيرة ابن هشام (1/ 488) فهو ابن صرد، يكنى أبا صرد، وقيل: أبا جرول. وقال الذهبي في ميزان الاعتدال (2/ 90): زياد بن طارق عن أبي جرول؛ نكرة لا يُعرف. تفرد عنه عبيد الله بن رماحس.

(2)

في ح: يملؤها وفي ط: تملؤه، والمثبت من مختصر تاريخ ابن عساكر.

(3)

في ط: فاغفر.

(4)

في ح: واهبه، والمثبت من ط ومصادر التخريج، وهي مغازي الواقدي (3/ 950، 951) وتاريخ بغداد (7/ 106) والروض الأنف (4/ 166) ومختصر تاريخ ابن عساكر لابن منظور (5/ 171، 172) وشرح المواهب للزرقاني (4/ 4) ما بعدها، وفيه: راهبه، بموحدة: خائفه. والسيرة الحلبية (3/ 126).

(5)

ما بين معقوفين استدركته من تاريخ بغداد ومختصر تاريخ ابن عساكر. والحديث أخرجه البخاري فتح (4318)(4319) في المغازي باب قول الله تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ

} وفي الوكالة (2307) و (2308) باب إذا وهب شيئًا لوكيل أو شفيع، وفي العتق (2539) و (2540) باب من ملك من العرب رقيقًا، وفي الهبة (2583) و (2584) باب من رأى أن الهبة الغائبة جائز، وباب إذا وهب جماعة لقوم، وفي الجهاد (3131) و (3132) باب ومن الدليل على أن الخمس لنوائب المسلمين، وفي الأحكام (7176) و (7177)، باب العرفاء للناس، وأخرجه أبو داود (2693) في الجهاد باب في فداء الأسير بالمال. ورواه أيضًا الواقدي في المغازي (3/ 949، 950) مطولًا، وكذا ابن سعد في الطبقات (1/ 114، 115) وابن الأثير في جامع الأصول رقم (6171) في غزوة حنين.

ص: 62

وسيأتي أنه عليه الصلاة والسلام أطلق لهم الذرية، وكانت ستة آلاف ما بين صبيٍّ وامرأة، وأعطاهم أنعامًا وأناسيَّ كثيرًا. حتى قال أبو الحسين بن فارس: فكان قيمة ما أطلق لهم يومئذ خمسمائة ألف ألف درهم. فهذا كلُّه من بركته العاجلة في الدنيا، فكيف ببركته على من اتبعه في الدار الآخرة؟.

‌فصل

قال ابن إسحاق بعد ذِكر رجوعه عليه الصلاة والسلام إلى أمه آمنة بعد رَضاعة حليمة له

(1)

: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أُمه آمنةَ بنتِ وَهْب، وجدِّه عبد المطلب في كَلاءَةِ الله وحِفْظه، يُنبته الله نباتًا حسنًا لِمَا يريدُ به من كرامته، فلما بلغ ستَّ سنين توفيت أُمُّه آمنة بنت وَهْب.

قال ابن إسحاق

(2)

: حدّثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حَزْم، أن أُمَّ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم آمنة توفيت وهو ابنُ ستِّ سنين بالأبْواء، بين مكة والمدينة، كانت قد قدِمَتْ به على أخواله من بني عَدِيِّ بن النجَّار، تُزيره إيَّاهم، فماتتْ وهي راجعة به إلى مكة.

وذكر الواقديُّ بأسانيده

(3)

، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم خرجتْ به أمُّه إلى المدينة ومعها أمُّ أيمن وله ستُّ سنين، فزارتْ أخوالَه. قالت أمُّ أيمن: فجاءني ذات يومٍ رجلان من يهودِ المدينة فقالا [لي]

(4)

: أخرجي إلينا أحمد ننظر إليه. فنظرا إليه وقلَّباه، فقال أحدُهما لصاحبه: هذا نبيُّ هذه الأمة، وهذه دارُ هِجْرته، وسيكونُ بها من القتل والسَّبْي أمْرٌ عظيم. فلما سمعتْ أُمُّه خافتْ وانصرفت به، فماتتْ بالأبواء وهي راجعة.

وقد قال الإمام أحمد

(5)

: حدَّثنا حسين بن محمد، حدّثنا أيُّوب بن جابر، عن سِماك، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن ابن

(6)

بريدة عن أبيه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بوَدَّان

(7)

قال: "مكانكم حتى آتيكم" فانطلق ثم جاءنا وهو ثقيل

(8)

، فقال: "إني أتيتُ قبر أُم محمد، فسألتُ ربي الشفاعة -يعني لها- فمنعنيها، وإني كنتُ نهيتُكم عن زيارة القبور فَزُوروها، وكنت نهيتُكم عن لحوم الأضاحي بعد ثلاثة

(1)

في سيرة ابن هشام (1/ 168).

(2)

بهذا اللفظ في سيرة ابن هشام (1/ 168) وبلفظ مختلف في سيرة ابن إسحاق (ص 42).

(3)

طبقات ابن سعد (1/ 116).

(4)

ما بين معقوفين ليس في ح وهو من ط.

(5)

في مسنده (5/ 356، 357).

(6)

وقع في المسند: أبي بريدة، وهو تصحيف، وهو سليمان بن بُريدة.

(7)

"وَدَّان": قرية جامعة من نواحي الفُرْع، بينها وبين هَرْش ستة أميال، وبينها وبين الأبواء نحو من ثمانية أميال، قريبة من الجحفة. معجم البلدان (5/ 365).

(8)

في المسند: "سقيم" خطأ (وهي كما هنا في طبعة مؤسسة الرسالة 38/ 124) وهو الصواب.

ص: 63

أيام، فكُلوا وأمْسِكُوا ما بدا لكم، ونهيتُكم عن الأشربة في هذه الأوعية فاشربوا ما بدا لكم"

(1)

.

وقد رواه البيهقي

(2)

من طريق سفيان الثوري، عن عَلْقَمة بن مَرْثَد

(3)

، عن سليمان بن بُرَيدة، عن أبيه قال: انتهى النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى رَسْم قبر فجلس، وجلس الناسُ حوله، فجعل يحرِّك رأسَه كالمخاطب، ثم بكى، فاستقبله عمر، فقال: ما يبكيك يا رسول الله؟ قال: "هذا قبر آمنة بنت وَهْب، استأذنتُ ربي في أنْ أزورَ قبرها فأذِن لي، واستأذنته في الاستغفار لها فأبى عليّ، وأدركتني رِقَّتها فبكيت". قال: فما رأيتُ

(4)

ساعةً أكثر باكيًا من تلك الساعة.

تابعه محارب بن دِثَار عن ابن بُريدة عن أبيه.

ثم روى البيهقي عن الحاكم، عن الأصمّ، عن بَحْر بن نصر

(5)

، عن عبد الله بن وَهْب، حدَّثنا ابن

(6)

جُرَيج، عن أيوب بن هانئ، عن مَسْروق بن الأجْدَع، عن عبد الله بن مسعود، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر في المقابر، وخرَجْنا معه، فأمَرَنا (5) فجلسنا، ثم تخطَّى القبورَ حتى انتهى إلى قبرٍ منها، فناجاه طويلًا، ثم ارتفع نَحيبُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم باكيًا، فبكينا لبكاءِ رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ثم إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل إلينا، فتلقاه عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله، ما الذي أبكاك؟ لقد أبكانا وأفزعنا. فجاء فجلس إلينا فقال:"أفزَعَكم بكائي"؟ قلنا: نعمِ. قال: "إنَّ القبر الذي رأيتموني أناجي فيه قبرُ آمنة بنت وَهب، وإني استأذنتُ ربي في زيارتها فأذِنَ لي فيه، واستأذنتُ ربي في الاستغفار لها فلم يأذن ليِ فيه. ونزل علي:{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة: 113 - 114]. فأخذني ما يأخذُ الولد للوالدة من الرِّقَّة، فذلك الذي أبكاني.

غريبٌ ولم يخرجوه

(7)

.

وروى مسلم

(8)

عن أبي بكر بن أبي شيبة عن محمد بن عُبيد، عن يزيد بن كَيْسان، عن أبي حَازِم،

(1)

إسناده ضعيف، لضعف أيوب بن جابر، لكن متنه صحيح من غير هذا الوجه (بشار).

(2)

في دلائل النبوة (1/ 189).

(3)

في ح، ط: علقمة بن يزيد، تصحيف، والمثبت من دلائل البيهقي والإكمال (7/ 231) وتهذيب التهذيب (7/ 278).

(4)

في ط: رؤيت، والمثبت من ح والدلائل.

(5)

في ح: محمد بن نصر. تصحيف، والمثبت من ط والدلائل واللباب (1/ 70) وتهذيب التهذيب (1/ 420).

(6)

سقطت اللفظة من ح.

(7)

رواه البيهقي في "دلائل النبوة"(1/ 190).

(8)

في صحيحه (108) الجنائز باب استئذان النبي صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل في زيارة قبر أمه.

ص: 64

عن أبي هريرة قال: زارَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم قبرَ أُمِّه فبكى وأَبْكى مَنْ حَوْلَه، ثم قال: "استأذنتُ ربِّي في زيارة قبر أُمي فأذن لي، واستأذنته في الاستغفار لها

(1)

فلم يأذن لي، فَزُورُوا القبور تُذَكِّركم الموت"

(2)

.

وروى مسلم

(3)

عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن عفَّان، عن حمَّاد بن سَلَمة، عن ثابت عن أنس أنَّ رجلًا قال: يا رسول الله، أين أبي؟ قال:"في النار". فلما قفَّى

(4)

دعاهُ فقال: "إنَّ أبي وأباك في النَّار".

وقد روى البيهقي

(5)

من حديث أبي نُعيم الفَضْل بن دُكَين، عن إبراهيم بن سعد، عن الزُّهري، عن عامر بن سعد، عن أبيه قال: جاء أعرابيٌّ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال: إنَّ أبي كان يصلُ الرَّحم، وكان، وكان، فأين هو؟ قال:"في النار" قال: فكأنَّ الأعرابيَّ وجد من ذلك فقال: يا رسول الله أين [أبي؟ قال: "في النار" قال: أين]

(6)

أبوك؟ قال: "حيثما مررتَ بقبرِ كافرٍ فبشره بالنار". قال: فأسلم الأعرابيُّ بعد ذلك فقال: لقد كلَّفني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم تعبًا، ما مررت بقبر كافرٍ إلا بشَّرْتُه بالنار.

غريب، ولم يخرِّجوه من هذا الوجه

(7)

.

وقال الإمام أحمد

(8)

: حدّثنا أبو عبد الرحمن، حدّثنا سعيد -هو ابن أبي أيوب- حدّثنا ربيعة بن سيف الَمَعَافري، عن أبي عبد الرحمن الحُبُلي، عن عبد الله بن عمرو قال: بينما نحن نمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذْ بَصر بامرأةٍ لا نظنُّ أنه عرفها، فلما توسَّط

(9)

الطريق وقف حتى انتهت إليه، فإذا فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"ما أخرجكِ من بيتك يا فاطمة"؟ فقالت: أتيتُ أهلَ هذا البيت فترحَّمْتُ

(10)

إليهم مَيِّتَهم وعزَّيتُهم. قال: "لعلك بلغتِ معهم الكُدَى"؟ قالت: معاذَ الله أنْ أكون بلغْتُها معهم وقد سمعتُك تذكر في ذلك ما تذكر. قال: "لو بَلَغْتِها

(11)

معهم ما رأيتِ الجنة حتى يراها جَدُّ أبيك".

(1)

سقطت اللفظة من ح.

(2)

وأخرجه أيضًا ابن أبي شيبة (3/ 343)، وأحمد (2/ 441) ابن ماجه في سننه (1569) و (1572) الجنائز باب ما جاء في زيارة قبور المشركين، وأبو داود في سننه (3234) الجنائز باب في زيارة القبور، والنسائي في سننه (4/ 90) الجنائز باب زيارة قبر المشرك، وابن حبان (3169) والحاكم (1/ 375). وقال النووي في شرحه لصحيح مسلم (7/ 46): رجاله كلهم ثقات فهو حديث صحيح بلا شك.

(3)

في صحيحه (347) الإيمان باب بيان أن من مات على الكفر فهو في النار.

(4)

قفَّى: ولَّى قفاه منصرفًا. شرح النووي لصحيح مسلم (3/ 79).

(5)

في دلائل النبوة (1/ 191، 192).

(6)

ما بين المعقوفين ساقط من ط والدلائل، وهو في ح.

(7)

وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 117، 118) وقال: رواه البزار والطبراني في الكبير، ورجاله رجال الصحيح.

(8)

في مسنده (2/ 168، 169).

(9)

في مسند الإمام أحمد: "توجهنا الطريق" وما هنا أصح.

(10)

كذا في ح، ط وسنن النسائي، وفي مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود وسنن البيهقي: فرحمت.

(11)

في ح، ط: بلغتيها، والمثبت من مسند الإمام أحمد وسنن النسائي.

ص: 65

ثم رواه أحمد وأبو داود والنسائي والبيهقي

(1)

من حديث ربيعة بن سيف بن ماتع المعافري الصنمي الإسكندري، وقد قال البُخاري

(2)

: عنده مناكير. وقال النسائي

(3)

: ليس به بأس، وقال مرة

(4)

: صدوق، وفي نسخة

(5)

ضعيف. وذكره ابنُ حِبَّان في الثقات، وقال

(6)

: كان يُخطئ كثيرًا. وقال الدارقطني

(7)

: صالح. وقال ابنُ يونس في تاريخ مصر

(8)

: في حديثه مناكير، توفي قريبًا من سنة عشرين ومئة.

والمراد بالكُدَى: القبور، وقيل: النَّوْح

(9)

.

والمقصود أنَّ عبد المطلب مات على ما كان عليه من دين الجاهلية، خِلافًا لفِرْقةِ الشيعة فيه وفي ابنه أبي طالب، على ما سيأتي في وفاة أبي طالب، وقد قال البيهقي -بعد روايته هذه الأحاديث في كتابه "دلائل النبوة"

(10)

: وكيف لا يكون أبواه وجدُّه عليه الصلاة والسلام بهذه الصفة في الآخرة، وقد كانوا يعبدون الوثن، حتى ماتوا ولم يدينوا دينَ عيسى ابن مريم عليه السلام، وكفرهم

(11)

لا يقدح في نسبه عليه الصلاة والسلام، لأنَّ أنكحة الكفار صحيحة. ألا تراهم يُسْلمون مع زوجاتهم فلا يلزمهم تجديدُ العقد ولا مفارقتهن، إذا كان مثله يجوز في الإسلام، وبالله التوفيق. انتهى كلامه.

قلتُ: وإخباره صلى الله عليه وسلم عن أبويه وجده عبد المطلب بأنهم من أهل النار لا ينافي الحديثَ الوارد عنه من طرق متعددة أن أهل الفترة والأطفال والمجانين والصُّمَّ يُمتحنون في العَرَصات يوم القيامة، كما بسطناه سندًا ومتنًا عند قوله تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}

(12)

[الإسراء: 15] فيكون منهم من يجيب

(1)

الإمام أحمد في مسنده (2/ 168، 169) وأبو داود في سننه (3123) الجنائز باب في التعزية، والنسائي في سننه (4/ 26، 27) الجنائز باب النعي، والبيهقي في الدلائل (1/ 192) وفي إسناده ضعف.

(2)

في التاريخ الكبير (3/ 290).

(3)

تهذيب الكمال (9/ 114).

(4)

لم نقف على هذا القول.

(5)

المجتبى (4/ 28).

(6)

الثقات (6/ 301).

(7)

سؤالات البرقاني للدارقطني (153).

(8)

هو عبد الرحمن بن أحمد بن يونس الصدفي، مؤرخ، محدث، له تاريخان، أحدهما كبير في "أخبار مصر وتاريخها" والثاني صغير في "ذكر الغرباء الواردين على مصر" توفي 347 هـ الأعلام (3/ 294) وكشف الظنون (1/ 304).

(9)

قال ابن منظور في تفسيره: أراد المقابر، وذلك لأنه كانت مقابرهم في مواضع صلبة، وهي جمع كُدْية، ويروى بالراء [الكُرَى] وهي القبور جمع كُرْيه أو كُرْوَة، من كريت الأرض وكروتها: إذا حفرتها، كالحفرة. اللسان (كدي، كرو).

(10)

دلائل النبوة (1/ 192، 193).

(11)

في الدلائل: وأمرهم.

(12)

يعني بسطه في التفسير (3/ 28) وما بعدها.

ص: 66

ومنهم من لا يجيب. فيكون هؤلاء من جملة من لا يجيب، فلا منافاة، ولله الحمد والمنة.

وأما الحديث الذي ذكره السُّهَيْلي، وذكر أنَّ في إسناده مجهولين إلى ابن أبي الزِّنَاد، عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل ربَّه أن يُحيي أبويه؛ فأحياهما وآمنا به، فإنه حديثٌ منكرٌ جدًا. وإن كان ممكنًا بالنظر إلى قدرة الله تعالى، لكن الذي ثبت في الصحيح يعارضُه. والله أعلم.

‌فصل

قال ابن إسحاق

(1)

: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع جدِّه عبد المطلب بن هاشم -يعني بعد موت أُمِّه آمنة بنت وهب- فكان يوضع لعبد المطلب فراشٌ في ظلِّ الكعبة، وكان بنوه يجلسون حول فراشه ذلك حتى يخرج إليه، لا يجلس عليه أحد من بنيه إجلالًا له. قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي وهو غلام جَفْر

(2)

حتى يجلس عليه، فيأخذه أعمامه ليؤخِّرُوه عنه، فيقول عبد المطلب إذا رأى ذلك منهم: دعوا ابني، فوالله إنَّ له لشأنًا. ثم يجلسه معه على فراشه ويمسح ظهره بيده ويسرُّه ما يراه يصنع.

وقال الواقدي

(3)

: حدّثني محمد بن عبد الله عن الزهري، وحدّثنا عبد الله بن جعفر عن عبد الواحد بن حمزة بن

(4)

عبد الله، وحدّثنا هاشم بن عاصم الأسلمي عن المنذر بن جَهْم، وحدّثنا معمر عن ابن أبي نَجيح عن مجاهد، وحدّثنا عبد الرحمن بن عبد العزيز عن أبي الحويرث، وحدّثنا ابن أبي سَبْرَة، عن سليمان بن سُحَيم، عن نافع بن جُبير -دخل حديثُ بعض منهم في بعض- قالوا: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون مع أُمِّه آمنةَ بنتِ وَهْب، فلما تُوفيت قبضَهُ إليه جَدُّه عبد المطلب، وضمَّهُ ورقَّ عليه

(5)

رِقَّةً لم يرقَّها على ولده، وكان يقرِّبُه منه ويُدْنيه، ويدخل عليه إذا خلا وإذا نام، وكان يجلس على فراشه فيقول عبد المطلب إذا رأى ذلك: دعوا ابني إنه يُؤْنس

(6)

ملكًا.

وقال قومٌ من بني مُدْلِج لعبد المطلب: احتفظ به، فإنَّا لم نر قدمًا أشبه بالقدم التي في الحَجَر

(7)

(1)

سيرة ابن إسحاق (ص 42، 43) وسيرة ابن هشام (1/ 168).

(2)

"الجفر": الصبي إذا انتفخ لحمه وأكل وصارت له كرش. اللسان جفر.

(3)

قول الواقدي في طبقات ابن سعد (1/ 117، 118).

(4)

في ح عن، والمثبت من ط وطبقات ابن سعد.

(5)

كذا في الأصول وطبقات ابن سعد، وليس في المعجمات تعدية للفعل (رق) بـ (على) وإنما "رق له" بمعنى رَحِمه.

(6)

في ط: يؤسس، وفي الطبقات: ليُؤنِسُ، والمثبت من ح وفي اللسان من حديث نجدة الحروري وابن عباس: حتى تُؤْنِس منه الرُّشدَ؛ أي تعلم منه كمال العقل وسداد الفعل وحسن التصرف.

(7)

فوق اللفظة في ح إشارة (2) ليست إشارة لَحَق، وفي الهامش كُتب (المقام) وفوقها حرف (خ) إشارة إلى أنها رواية نسخة، وهي رواية الطبقات وط.

والمقام في المسجد الحرام، هو الحَجَر الذي قام عليه إبراهيم عليه السلام حين رفع بناء البيت؛ وقيل: هو الحجر =

ص: 67

منه. فقال عبد المطلب لأبي طالب: اسمع ما يقول هؤلاء! فكان أبو طالب يحتفظ به. وقال عبد المطلب لأُمِّ أيمن -وكانت تحضُنه-: يا بَرَكَة، لا تغفلي عن ابني، فإنِّي وجدتُه مع غلمان قريب

(1)

من السدرة، وإنَّ أهل الكتاب يزعمون أنَّ ابني نبيُّ هذه الأمة. وكان عبد المطلب لا يأكل طعامًا إلا يقول: عليَّ بابني، فيُؤتى به إليه. فلمَّا حضرت عبدَ المطلب الوفاةُ أوصى أبا طالب بحفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم وحياطته، ثم مات عبد المطلب ودُفن بالحَجُون

(2)

.

وقال ابن إسحاق

(3)

: فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثماني سنين هلك جدُّه عبد المطلب بن هاشم. ثم ذكر جمعَه بناتِهِ وأمْرَهُ إياهنَّ أن يرثينه؛ وهن: أروى، وأمية، وبَرَّة، وصفية، وعاتكة، وأمُّ حكيم البيضاء، وذكر أشعارهنَّ وما قُلْنَهُ في رثاء أبيهن، وهو يسمعُ قبل موته، وهذا أبلغ النَّوح. وبسط القول في ذلك.

وقد قال ابن هشام

(4)

: ولم أر أحدًا من أهل العلم بالشعر يعرف هذا الشعر.

قال ابن إسحاق

(5)

: فلما هلك عبد المطلب بن هاشم ولي زمزم والسقاية بعده ابنُه العباس، وهو من أحدث إخوته سنًا، فلم تزل إليه حتى قام الإسلام وأقرَّها في يده رسولُ الله صلى الله عليه وسلم.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد جده عبد المطلب مع عمه أبي طالب لوصية عبد المطلب له به، ولأنه كان شقيق أبيه عبد الله، أمهما فاطمة بنت عمرو بن عائذ

(6)

بن عِمْران بن مخزوم. قال: فكان أبو طالب هو الذي يلي أمْرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان إليه ومعه.

وقال الواقدي

(7)

: أخبرنا مَعْمَر عن ابن [أبي]

(8)

نَجيح عن مجاهد، وحدّثنا معاذ بن محمد الأنصاري، عن عطاء، عن ابن عباس، وحدّثنا محمد بن صالح وعبد الله بن جعفر وإبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة -دخل حديث بعضهم في [حديث]

(9)

بعض- قالوا: لما توفي عبد المطلب قَبَض

= الذي وقف عليه حين غسلت زوج ابنه إسماعيل رأسه، وقيل: بل كان راكبًا فوضعت له حجرًا من ذات اليمين فوقف عليه حتى غسلت شق رأسه الأيمن ثم صرفته إلى الشق الأيسر فرسخت قدماه فيه حال وقوفه عليه؛ وقيل هو الحجر الذي وقف عليه حين أذن في الناس بالحج. وصفه في معجم البلدان (المقام، 5/ 164).

(1)

كذا في ح، ط، والوجه: قريبًا بالنصب.

(2)

"الحجون": جبل بأعلى مكة، عنده مدافن أهلها، على ميل ونصف. معجم البلدان (2/ 225) واللسان (حجن).

(3)

سيرة ابن إسحاق (ص 45) وما بعدها وسيرة ابن هشام (1/ 169) وما بعدها.

(4)

سيرة ابن هشام (1/ 169).

(5)

سيرة ابن إسحاق (ص 47) وسيرة ابن هشام (1/ 178، 179).

(6)

في ح: عابد. وهو تصحيف، والمثبت من ط وسيرة ابن هشام والإكمال (6/ 9).

(7)

قول الواقدي في طبقات ابن سعد (1/ 119).

(8)

ما بين معقوفين سقط من ح، ط، وأثبته من الطبقات.

(9)

ما بين معقوفين من ط وطبقات ابن سعد.

ص: 68

أبو طالب رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فكان يكون معه، وكان أبو طالب لا مال له، وكان يحبُّه حبًّا شديدًا لا يحبّه ولدَه، وكان لا ينام إلا إلى جنبه، ويخرج فيخرج معه، وصَبَّ به أبو طالب صبابةً لم يُصَبَّ

(1)

مثلها بشيءٍ قط. وكان يخصُّه بالطعام، وكان إذا أكل عيالُ أبي طالب جميعًا أو فُرَادى لم يشبعوا، وإذا أكل معهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم شبعوا، فكان إذا أراد أن يُغَدِّيَهم قال: كما أنتم حتى يأتيَ ولدي. فيأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأكل معهم فكانوا

(2)

يُفضلون من طعامهم، وإن لم يكن معهم لم يشبعوا، فيقول أبو طالب: إنَّك لمبارَك، وكان الصبيان يُصبحون رُمْصًا شُعثًا، ويُصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم دَهِينًا كَحيلًا.

وقال الحسن بن عرفة: حدّثنا عليُّ بن ثابت، عن طلحة بن عمرو، وسمعتُ عطاء بن أبي رباح، سمعتُ ابن عباس يقول: كان بنو أبي طالب يُصبحون غُمْصًا رُمْصًا، ويُصبح رسولُ الله صلى الله عليه وسلم صَقِيلًا دَهِينًا

(3)

وكان أبو طالب يُقرِّبُ إلى الصبيانِ صَحْفَتَهمَ

(4)

أوَّلَ البُكْرَة، فيجلسون وينتهبون، ويكف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يدَهُ فلا ينتهبُ معهم

(5)

. فلما رأى ذلك عمُّه عزَلَ له طعامَهُ على حِدَة.

وقال ابن إسحاق

(6)

: حدّثني يحيى بن عبَّاد بن عبد الله بن الزُّبير، أنَّ أباهُ حدَّثه أنَّ رجلًا من لِهْبٍ كان عائفًا

(7)

، فكان إذا قدِم مكة أتاهُ رجالٌ من قريش بغلمانهم ينظر إليهم ويعتاف

(8)

لهم فيهم؛ قال: فأتى أبو طالب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غلام مع من

(9)

يأتيه؛ قال: فنظر إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ثم شغله عنه شيء، فلما فرغَ قال: الغلام عليَّ به. فلما رأِى أبو طالب حِرْصَهُ عليه غيَّبَهُ عنه، فجعل يقول: ويلكم، رُدُّوا عليَّ الغلامَ الذي رأيتُه آنفًا، فوالله ليكوننَّ له شأن. قال: وانطلق به أبو طالب.

(1)

"صبَّ به": أحبَّه وكلف به، جاء في الأساس (صبب): هو صبٌّ بها: كلِفٌ، وهي صبَّة به. وهو من الصبابة ورِقَّة الهوى.

(2)

في ح: فكان، والمثبت من ط.

(3)

قال صاحب اللسان بعد سياق الحديث (رمص): غَمِصت العين ورمِصَت من الغَمَص والرمص، وهو البياض الذي تقطعه العين ويجتمع في زوايا الأجفان، والرَّمص: الرطب منه، والغَمَص: اليابس، والغُمْص والرُّمص: جمع أغمص وأرمص.

(4)

"الصحفة": كالقصعة، وهي تشبع الخمسة ونحوهم. اللسان (صحف)، وحرف في ط إلى صفحتهم. وفي ح على الصواب.

(5)

"ينتهبون": من الانتهاب وهو الأخذ. التاج (نهب).

(6)

قول ابن إسحاق هذا في سيرة ابن هشام (1/ 179، 180).

(7)

"بنو لهِبْ": قبيلة من الأزْد، وهم أهل العِيافة والزَّجْر، زعموا أنها أعيف العرب. والعائف: المتكهِّن الذي يعيف الطير فيزجرها بالحدس والظن فيتفاءَل بأسمائها وأصواتها وممرِّها. اللسان والتاج (لهب، عيف).

(8)

في ح: ويعاف. والمثبت من ط وسيرة ابن هشام.

(9)

في ح: ممن، والمثبت من ط وسيرة ابن هشام.

ص: 69

‌فصل: في خروجِهِ عليه الصلاة والسلام مع عمِّه أبي طالب إلى الشام وقصته مع بَحِيرَى الراهِب

(1)

قال ابن إسحاق

(2)

: ثم إنَّ أبا طالب خرج في ركبٍ تاجرًا إلى الشام، فلمَّا تهيَّأ للرحيل وأجمع السير صَبَّ به

(3)

رسولُ الله صلى الله عليه وسلم -فيما يزعمون-[فأخذ بزمام ناقته وقال: "يا عمّ، إلى من تكلني؟ لا أب لي ولا أُمّ"؟] فَرَقَّ له أبو طالب وقال: والله لأخرجنَّ به معي ولا أفارقُهُ ولا يفارقُني أبدًا. أو كما قال فخرج به [معه]، فلما نزل الرَّكْبُ بُصْرَى

(4)

من أرض الشام، وبها راهبٌ يقال له: بَحِيرى في صومعةٍ له. وكان إليه عِلْمُ أهْل النَّصْرانية، ولم يزلْ في تلك الصومعةِ منذُ قُطٍّ

(5)

راهب فيها

(6)

، إليه

(7)

يصيرُ علمهم عن كتاب [فيها]

(8)

فيما يزعمون، يتوارثونَهُ كابرًا عن كابر، فلما نزلوا ذلك العام بِبَحِيرَى، وكانوا كثيرًا ما يمرُّون [به قبل ذلك] فلا يكلِّمُهم ولا يعرض لهم

(9)

حتى كان ذلك العام، فلما نزلوا قريبًا من صومعته، صنع لهم طعامًا كثيرًا، وذلك فيما يزعمون عن شيءٍ رآه وهو في صومعته. يزعمونَ أنَّهُ رأى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في الرَّكب حين أقبلَ وغمامةٌ تُظِلُّه من بين القوم، ثم أقبلوا فنزلُوا في ظلِّ شجرةٍ قريبًا منه، فنظر إلى الغمامة حين أظلَّتِ الشجرة، وتهصَّرَتْ أغصانُ الشجرةِ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم حتى استظلَّ تحتها

(10)

. فلما رأى ذلك بَحِيرَى نزل من صومعته، وقد أمرَ بطعامٍ فصُنع، ثم أرسل إليهم فقال: إني

(1)

مضت ترجمة بحيرى في الجزء الثاني وهي أيضًا في مختصر ابن منظور (5/ 54) والإصابة (1/ 176) وشرح المواهب (1/ 234).

(2)

سيرة ابن إسحاق (ص 53) وما يأتي بين معقوفين منه. وأيضًا في سيرة ابن هشام (1/ 180) والروض (1/ 205) وتاريخ الطبري (2/ 77) ومختصر ابن منظور لتاريخ ابن عساكر (2/ 7) وشرح المواهب (1/ 233) وما بعدها.

(3)

في سيرة ابن إسحاق صب له -أظنه تصحيفًا- وعند بعض الرواة: فضبَّ به. أي لزمه كما في شرح المواهب (1/ 233) وقد مضى معناه (الصفحة السابقة ح 1) من هذا الجزء.

(4)

"بُصْرى": قصبة كورة حَوْران من أعمال دمشق، فتحت صلحًا لخمس بقين من ربيع الأول سنة ثلاث عشرة، وهي أول مدينة فتحت بالشام، وردها عليه الصلاة والسلام مرتين. هذه إحداها، والثانية في تجارة لخديجة مع ميسرة غلامها. معجم البلدان (1/ 441) ومختصر ابن منظور (2/ 5) وشرح المواهب (1/ 234) وموقعها اليوم جنوبي دمشق، وتبعد عنها مسافة 142 كم تقريبًا.

(5)

قُطُّ هنا بمعنى الزمان والدهر، وهي مثلثة القاف. التاج (قطط).

(6)

راهب كذا في ح، ط، والوجه: راهبًا بالنصب، ولفظة: فيها، ساقطة من ح.

(7)

في ح: إليهم. والمثبت من ط.

(8)

في سيرة ابن إسحاق ومختصر ابن منظور: فيهم، والمثبت من سيرة ابن هشام والروض الأنف.

(9)

في ح: إليهم. والمثبت من مصادر التخريج.

(10)

"تهصَّرت": أي تهدَّلت عليه ومالت، من الهَصْر، وهو عطف الغصن الرطب. اللسان (هصر).

ص: 70

صنعتُ لكم طعامًا يا معشر قريش، فأنا أحبُّ أنْ تحضُروا كلُّكم، صغيركم وكبيركم، وعبدكم وحُرّكم. فقال له رجل منهم: والله يا بَحِيرى إنَّ لك لشأنًا اليوم، ما كنتَ تصِنعُ هذا بنا وقد كُنَّا نمرُّ بك كثيرًا، فما شأنُكَ اليوم؟ قال له بَحِيرى: صدقت، قد كان ما تقول، ولكنَّكم ضيْف، وقد أحببتُ أنْ أُكرمكم وأصنَعَ لكم طعامًا فتأكلوا منه كلُّكم. فاجتمعوا إليه وتخلَّف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من بينِ القوم لحداثةِ سِنِّه في رِحالِ القوم تحت الشجرة، فلما رآهم بَحِيري لم يرَ الصفةَ التي يعرفُ ويجدُ

(1)

عنده، فقال: يا معشر قريش، لا يتخلَّفَنَّ أحدٌ منكم عن طعامي. قالوا له: يا بحيرى، ما تخلَّفَ عنك أحدٌ ينبغي له أنْ يأتيكَ إلا غلامٌ وهو أحدَثُنا سِنًّا، فتخلَّف في رحالنا. قال: لا تفعلوا، ادعوه فليحضُرْ هذا الطعامَ معكم. قال: فقال رجلٌ من قريش مع القوم: واللاتِ والعُزَّى، إنْ كان للؤْمًا بنا أن يتخلَّف محمدُ بن عبد الله بن عبد المطلب عن طعامٍ من بيننا. ثم قام إليه فاحتضنه [، ثم أقبلَ به] وأجلسه مع القوم، فلما رآه

(2)

بَحِيرى جعل يلحظُه لحظًا شديدًا، وينظرُ إلى أشياء من جسده، قد كان يجدُها عندَهُ من صفته، حتى إذا فرغ القوم من طعامهم وتفرقوا، قام إليه بحيرى وقال له: يا غلام، أسألك بحقِّ اللات والعُزَّى إلا أخبرتني عمَّا أسالُكَ عنه. وإنما قال له بَحِيرى ذلك، لأنه سمع قومَهُ يحلِفُون بهما، فزعموا أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال له:"لا تسألني باللاتِ والعُزَّى شيئًا، فواللهِ ما أبغضتُ شيئًا قطُّ بُغْضَهما". فقال له بَحِيرى: فبالله إلا ما أخبرتني عما أسألُك عنه؟ فقال له: "سلْني عمَّا بدا لك". فجعل يسألُه عن أشياءَ من حاله من نومِهِ وهَيْئَتهِ وأُموره. فجعل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يُخْبِرُه، فوافق

(3)

ذلك ما عند بَحِيرى من صفته. ثم نظر إلى ظهرهِ فرأى خاتم النبوة بين كتفيه [على] موضعه من صفته التي عنده، فلما فرغ أقبل على عمِّهِ أبي طالب فقال: ما هذا الغلامُ منك؟ قال: ابني، قال بَحِيرى: ما هو بابنك، وما ينبغي لهذا الغلام أن يكونَ أبوه حيًّا؟ قال: فإنَّهُ ابنُ أخي. قال: فما فعل أبوه؟ قال: مات وأمُّه حُبْلَى به. قال: صدقت، ارجِعْ بابن أخيك إلى بلَدِه، واحْذَرْ عليه يهود. فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت لَيَبْغُنَّه

(4)

شرًّا، فإنَّهُ كائنٌ لابنِ أخيك هذا شأنٌ عظيم، فأسرعْ به إلى بلاده. فخرج به عمُّه أبو طالب سريعًا حتى أقدمه مكة حين فرغ من تجارته بالشام.

قال ابن إسحاق

(5)

: فزعموا فيما روى الناس أنَّ زُرَيْرًا، وثمامًا

(6)

، ودَريسًا -وهم نفرٌ من أهْلِ الكتاب- قد كانوا رأَوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم مثلما رأى بَحِيرى في ذلك السفر الذي كان فيه مع عمه أبي طالب، فأرادوهُ فردَّهم عنه بَحيرى، فذكَّرَهُم اللهَ وما يجدون في الكتابِ من ذِكره وصفته، وأنهم إنْ أجمعوا لما

(1)

في ح: يعرفه بها، وفي ط: ويجده، والمثبت من مصادر التخريج.

(2)

في ح: رأى. والمثبت من ط ومصادر التخريج.

(3)

في سائر المصادر فيوافق. وهو أشبه بالصواب.

(4)

في ح: إنْ .. ليتبعنه، وفي سيرة ابن إسحاق: ليبغينه. والمثبت من ط وباقي المصادر.

(5)

سيرة ابن إسحاق (ص 55) وسيرة ابن هشام (1/ 183) والروض الأنف (1/ 207) ومختصر ابن منظور (2/ 9).

(6)

كذا في ح، ط وفي سيرة ابن إسحاق وسائر مصادر تخريجه تمامًا بالتاء المثناة من فوق.

ص: 71

أرادوا به لم يخلُصوا إليه، حتى عرفوا ما قالَ لهم وصدَّقوه بما قال، فتركوه وانصرفوا عنه.

وقد ذكر يونس بن بُكير عن ابن إسحاق أنَّ أبا طالب قال في ذلك ثلاثَ قصائد

(1)

. هكذا ذكر ابنُ إسحاق هذا السياق من غير إسنادٍ منه، وقد ورد نحوُهُ من طريقٍ مسندٍ مرفوع.

فقال الحافظ أبو بكر الخرائطي

(2)

: حدّثنا عباس بن محمد الدُّوري، حدّثنا قُرَاد أبو نوح، حدّثنا يونس بن أبي إسحاق

(3)

عن أبي بكر بن أبي موسى عن أبيه قال: خرج أبو طالب إلى الشام [فخرج] معه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في أشياخٍ من قريش، فلما أشرفوا على الراهب -يعني بَحِيرى- هبَطُوا فحلُّوا رحالَهُم، فخرج إليهم الراهب، وكانوا قبل ذلك يمرُّون به فلا يخرجُ ولا يلتفتُ إليهم. قال: فنزل وهم يحلُّون رحالهم، فجعل يتخلَّلُهم حتى جاء فأخذ بيد النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال: هذا سيِّدُ العالمين -وفي روايةِ البيهقي

(4)

زيادة: هذا رسولُ ربِّ العالمين، ابتعثه الله رحمة للعالمين- فقال له أشياخٌ من قريش: وما علمك

(5)

؟ فقال: إنَّكم حين أشرفتُمْ من العَقَبة لم يَبْقَ شجرةٌ ولا حجَرٌ إلَّا خرَّ ساجدًا، ولا يسجدون إلَّا لنبيّ، وإني أعرفه بخاتم النبوَّة أسفل من غُضْرُوف كَتفِهِ. ثم رجع فصنع لهم طعامًا، فلما أتاهم به -وكان هو في رِعْيَةِ الإبلِ- فقال: أرسِلُوا إليه، فأقبل وغَمامةٌ تُظِلُّه. فلما دنا من القوم قال: انظروا إليه، عليه غمامة. فلما دنا من القوم وجدهم قد سبقوه إلى فَيْءِ الشجرة، فلما جلس مال فَيْءُ الشجرةِ عليه. قال: انظروا إلى فيِء الشجرةِ مالَ عليه. قال: فبينما هو قائمٌ عليهم وهو يَنْشُدُهم ألَّا يذهبوا به إلى الرُّوم، فإنَّ الرُّومَ إنْ رأَوهُ عرفوهُ بالصِّفَةِ فقتلوه؛ فالتفت فإذا هو بسبعةِ نفرٍ من الرُّوم قد أقبلوا. قال: فاستقبلهم فقال: ما جاء بكم؟ قالوا: جئنا، إنَّ هذا النبيَّ خارجٌ في هذا الشهر، فلم يبقَ طريقٌ إلا بُعث إليه ناس، وإنَّا أُخبرنا خَبَرهُ إلى طريقكَ هذه. [قال فقال: هل خلَّفتم أحدًا هو خيرٌ منكم؟ قالوا: لا، إنما أُخبرنا خَبَرَهُ]

(6)

إلى طريقك هذه. قال: أفرأيتم أمْرًا أرادَ الله أنْ يقضِيَه، هل يستطيعُ أحدٌ من الناس ردَّه؟ فقالوا: لا. قال: فبايَعُوه وأقاموا معه عنده. قال: فقال الراهب: أَنْشُدُكم الله أيُّكم وليُّه؟ قالوا: أبو طالب. فلم يزَلْ يُناشده حتى رَدَّه، وبعث معه أبو بكر بلالًا، وزوَّدَهُ الراهب من الكعك والزيت.

هكذا رواه الترمذي

(7)

عن أبي العباس الفَضْلِ بن سَهْل الأعرج عن قُرَاد أبي نوح به.

(1)

القصائد الثلاث في سيرة ابن إسحاق (ص 55 - 57).

(2)

في هواتف الجنان (ص 49) نسخة الظاهرية (ص 194 المطبوعة) وما يأتي بين معقوفين منه.

(3)

في الأصل: يونس عن أبي إسحاق، وكذا في هواتف الجنان، وهو تحريف، والصواب من سنن الترمذي (5/ 250) وترجمة يونس بن أبي إسحاق في تهذيب التهذيب (11/ 433) وروايته فيه ثابتة عن أبي بكر بن أبي موسى، كما ثبتت رواية قراد عنه في التهذيب أيضًا (6/ 247) واسم قراد: عبد الرحمن بن غزوان.

(4)

في دلائل النبوة (2/ 24).

(5)

بعد هذه اللفظة في نسخة الظاهرية من كتاب هواتف الجنان سقط بمقدار صفحة.

(6)

ما بين المعقوفين مكرر في الأصل (ح).

(7)

جامع الترمذي (3620) المناقب باب ما جاء في بدء نبوة النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 72

والحاكم

(1)

والبيهقي

(2)

وابن عساكر

(3)

، من طريق أبي العباس محمد بن يعقوب الأصم، عن عباس بن محمد الدُّوري به.

وهكذا رواهُ غيرُ واحدٍ من الحفاظ، من حديث أبي نَوْح عبدِ الرحمن بن غَزْوان الخُزاعي مولاهم -ويقال له

(4)

الضَّبِّيّ- ويُعرف بقُرَاد، سكن بغداد وهو من الثقات الذين أخرجَ لهم البخاري؛ ووثَّقَهُ جماعةٌ من الأئمَّةِ والحُفَّاظ، ولم أرَ أحدًا جَرَّحَه، ومع هذا في حديثهِ هذا غرابة؛ قال الترمذي: حسنٌ غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه.

وقال عبَّاس الدُّوري: ليس في الدنيا أحد يحدث به غَيْرُ قُراد أبي نوح، وقد سمعه منه أحمد بن حنبل رحمه الله، ويحيى بن مَعين لغرابته وانفراده. حكاهُ البيهقيُّ

(5)

وابن عساكر.

قلت: فيه من الغرابة أنه من مرسلاتِ الصحابة، فإنَّ أبا موسى الأشعري إنما قدِم في سنةِ خَيْبَر سنة سبع من الهجرة، ولا يُلتفتُ إلى قول ابن إسحاق في جَعْلِهِ له من المُهاجِرةِ إلى أرض الحبشةِ من مكة، وعلى كُلِّ تقدير فهو مُرْسَل؛ فإنَّ هذه القصة كانت ولرسولِ الله صلى الله عليه وسلم من العمر فيما ذكره بعضُهم ثنتا عشرةَ سنة، ولعل أبا موسى تلقَّاه من النبيِّ صلى الله عليه وسلم فيكون أبلغ، أو من بعضِ كبارِ الصحابة رضي الله عنهم، أو كان هذا مشهورًا مذكورًا أخذه من طريق الاستفاضة.

الثاني: أنَّ الغمامةَ لم تُذكر في حديثٍ أصَحَّ من هذا.

الثالث: أنَّ قولَهُ: وبعث معه أبو بكر بلالًا، إنْ كان عمره عليه الصلاة والسلام إذْ ذاك ثنتي عشرةَ سنة فقد كان عمر أبي بكر إذ ذاك تسع سنين أو عشرة، وعمُر بلالٍ أقلُّ من ذلك، فأين كان أبو بكر إذ ذاك؟ ثم أين كان بلال؟ كلاهما غريب، اللهمَّ إلا أنْ يُقال: إنَّ هذا كان ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم كبيرًا؛ إمَّا بأنْ يكونَ سفرُه بعد هذا؛ أو إنَّ القول

(6)

بأنَّ عُمُرَهُ كان إذ ذاك ثنتيْ عشرةَ سنةً غيرُ محفوظ، فإنَّهُ إنما ذكرَهُ مقيدًا بهذا الواقدي

(7)

.

وحكى السُّهيلي عن بعضهم أنه كان عمره عليه الصلاة والسلام إذ ذاك تسع سنين والله أعلم

(8)

.

(1)

في المستدرك (2/ 615 - 616).

(2)

انظر الحاشية الأولى من هذه الصفحة.

(3)

مختصر ابن منظور لتاريخ ابن عساكر (2/ 6).

(4)

ليست له في ح.

(5)

دلائل النبوة للبيهقي (2/ 26).

(6)

في ط: إن كان القول. بزيادة كان، وليست في ح.

(7)

هذا النقد قال به قبله الذهبي في السيرة (1/ 58 - 59) لذلك استنكره جدًا، والحمل فيه على أبي نوح عبد الرحمن بن غزوان المعروف بقراد، وينظر بلابد تعليقي على الترمذي (بشار).

(8)

انظر قول السهيلي في الروض (1/ 206).

ص: 73

قال الواقدي

(1)

: حدّثني محمد بن صالح، وعبد الله بن جعفر، وإبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة عن داود بن الحُصَين، قالوا: لما بلغ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم اثنتيْ عشرةَ سنةً خرج به عمُّه أبو طالب إلى الشام في العير التي خرج فيها للتجارة، ونزلوا بالراهب بَحِيرى، فقال لأبي طالب في السرِّ

(2)

ما قال، وأمره أن يحتفظ به، فردَّه معه أبو طالب إلى مكة.

[وشبَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مع أبي طالب، يَكْلَؤُه الله ويحفظه ويحوطُه من أمور الجاهلية ومعايبها، لما يريدُ من كرامته، حتى بلغ أنْ كان رجلًا أفضلَ قومه مروءةً، وأحسنهم خلقًا، وأكرمَهم مخالطةً، وأحسنهم جوارًا، وأعظمهم حلمًا وأمانة، وأصدقهم حديثًا، وأبعدهم من الفحش والأذى]

(3)

. ما رُئي ملاحيًا ولا مماريًا أحدًا، حتى سمَّاه قومُه الأمين، لما جمع الله فيه من الأمور الصالحة، فكان أبو طالب يحفظه ويحوطه وينصره ويعضُده حتى مات.

وقال محمد بن سعد

(4)

: أخبرنا خالد بن خِدَاش

(5)

، حدّثنا معمر بن سليمان: سمعتُ أبي يحدِّث عن أبي مِجلَز أنَّ عبد المطلب أو أبا طالب -شكَّ خالد- قال: لما مات عبد الله عطف على محمد [صلى الله عليه وسلم] فكان لا يسافر سفرًا إلا كان معه فيه، وإنه توجَّه نحو الشام، فنزل منزلًا، فأتاه فيه راهب فقال: إنَّ فيكم رجلًا صالحًا. [فقال: إن فينا من يَقْرِي الضيف، ويفكُّ الأسير، ويفعل المعروف. أو نحوًا من هذا.] ثم قال: أين أبو هذا الغلام؟ قال فقال: ها أنا ذا وَلِيُّه -أو قيل هذا وليُّه- قال: احتفظْ بهذا الغلام ولا تذهب به إلى الشام، إنَّ اليهودَ حُسُد، وإني أخشاهم عليه. قال: ما أنت تقول ذلك، ولكنَّ الله يقوله. فردَّه. قال: اللهمَّ إني أستودِعُكَ محمدًا. ثم إنه مات.

حكى السُّهيلي

(6)

عن سِيَرِ الزهري أنَّ بَحِيرى كان حَبْرًا من أحبار اليهود.

قلت: والذي يظهرُ من سياقِ القصَّة أنه كان راهبًا نصرانيًا. والله أعلم.

وعن المسعودي أنه كان من عبد القيس وكان اسمه جِرْجِيس

(7)

.

وفي كتاب المعارف لابن قتيبة

(8)

: سُمع هاتفٌ في الجاهلية قبل الإسلام بقليل يهتف ويقول: ألا إن

(1)

انظر قول الواقدي في طبقات ابن سعد (1/ 120، 121).

(2)

في ح: بالسر، وفي الطبقات: في النبي صلى الله عليه وسلم.

(3)

ما بين المعقوفين في سيرة ابن إسحاق بخلاف يسير، وسيذكره المصنف فى الصفحة التالية.

(4)

في الطبقات (1/ 120) وما يأتي بين معقوفين منه.

(5)

في ط: خالد بن معدان، والمثبت من ح وطبقات ابن سعد.

(6)

في الروض (1/ 205).

(7)

كذا في ح، ط، والضبط من شرح المواهب (1/ 234) وفي الروض: سَرْجِس نقلًا عن المسعودي.

(8)

المعارف (ص 58).

ص: 74

خير أهل الأرض ثلاثة: بَحِيرى، ورِئَاب بن البراء الشَّنِّي، والثالث المنتظر. وكان الثالثُ المنتظر هو رسول صلى الله عليه وسلم. قال ابن قتيبة

(1)

: وكان قبرُ رِئَاب الشَّنيِّ وقبرُ ولدِه من بعده لا يزال يُرى عندهما طَشٌّ. وهو المطر الخفيف

(2)

.

‌فصل: في مَنْشَئِه عليه الصلاة والسلام ومَرْبَاه وكفاية الله له، وحِيَاطته، وكيف كان يتيمًا فآواه وعائلًا فأغناه

قال محمد بن إسحاق

(3)

: فشبَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يكلؤه الله ويحفظه ويحوطُهُ من أقذار الجاهلية لما يُريد به من كرامته ورسالته، حتى بلغ أنْ كان رجلًا أفضلَ قومِهِ مروءةً، وأحسنَهُمْ خُلقًا، وأكرمهم حسبًا، وأحسنَهُمْ جِوارًا، وأعظمهم حِلْمًا، وأصدقهم حديثًا، وأعظمهم أمانة، وأبعدَهُمْ من الفُحْش والأخلاق التي تُدَنِّسُ الرجال تنزُّهًا وتكرُّمًا، حتى ما اسمه في قومِهِ إلا الأمين، لما جمع الله فيه من الأمور الصالحة. وكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فيما ذُكر لي -يُحدِّثُ عما كان الله يحفظُهُ به في صِغَرِه وأمْر جاهليته أنَّهُ قال:

"لقد رأيتُني في غلمان من قريش ننقلُ

(4)

الحجارةَ لبعض ما يلعَبُ به الغلمان، كلنا قد تعرَّى وأخذ إزاره وجعله على رقبته فحمل

(5)

عليه الحجارة، فإني لأُقبل معهم كذلك وأُدْبر، إذْ لَكَمني لاكمٌ ما أراه لكمةً وجيعةً، ثم قال: شُدَّ عليك إزارك. قال: فأخذتُه فشددتُه عليّ، ثم جعلتُ أحمل الحجارة على رقبتي وإزاري عليَّ من بين أصحابي".

وهذه القصة شبيهةٌ بما في الصحيح عند بناء الكعبة حين كان ينقُلُ هو وعمُّه العباس، فإنْ لم تكنْها فهي متقدِّمَةٌ عليها كالتوطئة لها. والله أعلم.

وقد قال عبد الرزاق

(6)

: أخبرنا ابنُ جُرَيج، أخبرني عمرو بن دينار، أنه سمع جابر بن عبد الله

(1)

في المعارف (ص 58) بنحوه، واللفظة في الروض: وقال القتبي.

(2)

كذا في ح، ط، وفي الروض واللسان (طشش): المطر الضعيف وهو أشبه بالصواب.

(3)

سيرة ابن إسحاق (ص 57، 58)، والنص كما يبدو منقول من سيرة ابن هشام (1/ 183) فهو بألفاظه أشبه.

(4)

في ح: ننتقل.

(5)

في ط وسيرة ابن هشام: يحمل.

(6)

في المصنف (1103) الطهارة باب ستر الرجل إذا اغتسل، وما بين معقوفين منه.

ص: 75

يقول: لما بُنيت الكعبة ذهب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ينقل

(1)

الحجارة، فقال العباسُ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم: اجْعَلْ إزارَك على عاتقك من الحجارة، ففعل، فخرَّ إلى الأرض، وطمحَتْ عيناه إلى السماء. ثم قام فقال:"إزاري [إزاري] " فَشَدَّ عليه إزاره. أخرجاه في "الصحيحين" من حديث عبد الرزاق

(2)

. وأخرجاه أيضًا من حديث رَوْح بن عبادة عن زكرياء بن إسحاق عن عَمْرو بن دينار عن جابرٍ بنحوه

(3)

.

وقال البيهقي

(4)

: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، وأبو سعيد بن أبي عمرو قالا: أخبرنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدّثنا محمد بن إسحاق الصاغاني، حدّثنا محمد بن بُكَيْر الحَضْرَمي، حدّثنا عبد الرحمن بن عبد الله الدَّشْتَكِيّ، حدّثنا عمرو بن أبي قيس، عن سِمَاك عن عِكْرِمة، حدّثني ابنُ عباس عن أبيه، أنه كان ينقُلُ الحجارة إلى البيت حين بَنَتْ قريشٌ البيت، قال: وأفردت قريش رجلَيْن رجلين، الرجال ينقلون الحجارة، وكانت النساء تنقل الشِّيد

(5)

. قال: فكنتُ أنا وابنُ أخي، وكُنَّا نحمل على رقابِنا وأُزُرنا تحتَ الحجارة، فإذا غشينا الناس ائْتَزَرْنا

(6)

. فبينما أنا أمشي ومحمد [صلى الله عليه وسلم]، أمامي، قال: فخرَّ وانبطحَ على وجهه، فجئتُ أسعى، وألقَيْتُ حَجَري وهو ينظرُ إلى السماء، فقلت: ما شأنك؟ فقام وأخذ إزاره قال: "إني نُهيت أَنْ أمشيَ عُرْيانًا". قال: وكنت أكتمها الناس

(7)

مخافةَ أنْ يقولوا مجنون.

وروى البيهقي

(8)

من حديث يونس بن بُكير عن محمد بن إسحاق

(9)

، حدّثني محمد بن عبد الله بن قيس بن مَخْرَمة عن الحسن بن محمد بن عليِّ بن أبي طالب عن أبيه عن جده علي بن أبي طالب، قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما همَمْتُ بشيءٍ مما كان أهلُ الجاهلية يهمُّون به من النساء إلا

(1)

كذا في ح، ط، وفي المصنف:"ذهب النبي صلى الله عليه وسلم وعباس ينقلان الحجارة".

(2)

فتح الباري (3829) مناقب الأنصار باب بنيان الكعبة، وصحيح مسلم (340)(76) الحيض باب الاعتناء بحفظ العورة.

(3)

فتح الباري (364) الصلاة باب كراهية التعرِّي في الصلاة وغيرها، وصحيح مسلم (340)(77) الحيض باب الاعتناء بحفظ العورة.

(4)

في الدلائل (2/ 32، 33).

(5)

"الشِّيد": كلُّ ما طُليَ به الحائط من جصٍّ أو بلاط. اللسان (شيد).

(6)

في ح ودلائل البيهقي: اتزرنا، والمثبت من ط، قال في التاج (أزر): ولا تقل اتَّزر بالمئزر بإدغام الهمزة في التاء، ومنهم من جوزه، والائتزار هو لبس الإزار وتشميره.

(7)

في ط: أكتمها من الناس، وليست من في ح ولا في دلائل البيهقي، وفعل كتم يتعدى إلى مفعولين كما في اللسان، ويعدى أيضًا بمن يقال: كتمه عنه وكتمه إياه. اللسان (كتم).

(8)

في الدلائل (2/ 33، 34).

(9)

والخبر أيضًا في سيرة ابن إسحاق (ص 58).

ص: 76

ليلتين، كلتاهما عصمني الله عز وجل فيهما. قلتُ ليلةً لبعض فتيان مكة -ونحن في رعاية غنمِ أهلنا

(1)

- فقلتُ لصاحبي أبْصِرْ لي غنمي حتى أدخلَ مكة، أسمرُ فيها كما يسمرُ الفتيان. فقال: بلى. قال: فدخلتُ حتى [إذا]

(2)

جئتُ أوَّلَ دارٍ من دور مكة سمعتُ عَزْفًا بالغرابيل والمزامير، فقلت: ما هذا؟ قالوا: تزوَّج فلانٌ فلانة. فجلستُ أنظر، وضَرَب الله على أذنيّ، فوالله ما أيقظني إلا مسُّ الشمس، فرجعتُ إلى صاحبي، فقال: ما فعلت؟ فقلت: ما فعلتُ شيئًا، ثم أخبرته بالذي رأيت. ثم قلتُ له ليلةً أخرى: أبصِرْ لي غنمي حتى أسمُرَ [بمكة](8) ففعل، فدخلتُ، فلما جئتُ مكة سمعتُ مثلَ الذي سمعتُ تلك الليلة، فسألتُ، فقيل: نكح فلانٌ فلانة، فجلستُ أنظر، وضرَبَ الله على أذنيّ، فوالله ما أيقظني إلا مسُّ الشمس؛ فرجعتُ إلى صاحبي فقال: ما فعلت؟ فقلتُ: لا شيء، ثم أخبرته الخبر. فوالله ما هممتُ ولا عدت بعدها لشيءٍ من ذلك، حتى أكرمني الله عز وجل بنبوته

(3)

.

وهذا حديث غريب جدًا؛ وقد يكونُ عن عليٍّ نفسه، ويكون قوله في آخره:"حتى أكرمني الله عز وجل بنبوَّته" مُقْحمًا، والله أعلم.

وشيخُ ابن إسحاق هذا ذكره ابنُ حِبَّان في "الثقات"

(4)

. وزعم بعضُهم أنَّه من رجالِ "الصحيحيْنِ"، قال شيخنا في تهذيبه

(5)

: ولم أقف على ذلك. والله أعلم.

وقال الحافظ البيهقي

(6)

: حدّثنا أبو عبد الله الحافظ، حدّثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدّثنا الحسن بن علي بن عفان

(7)

العامريّ، حدّثنا أبو أُسامة، حدّثنا محمد بن عمرو عن أبي سَلَمة، ويحيى بن عبد الرحمن بن حَاطِب، عن أسامةَ بن زيد، عن زيد بن حارثة، قال: كان صنمٌ من نُحاسٍ يُقال له: إسَاف ونائلة

(8)

، يتمسَّحُ به المشركون إذا طافوا. فطاف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وطُفْتُ معه، فلما مررْتُ مسحتُ به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا تمسَّه". قال زيد: فطُفْنا، فقلت في نفسي: لأمسَّنَّه حتى أنظر ما يكون، فمسحته، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"ألم تُنْهَ"؟ قال البيهقي: زاد [فيه]

(9)

غيره عن

(1)

في ح، ط: رعاء غنم أهلها، والمثبت من الدلائل وسيرة ابن إسحاق.

(2)

ما بين معقوفين من الدلائل وسيرة ابن إسحاق.

(3)

وأخرجه أيضًا أبو نعيم في الدلائل (128)(ط عبد البر عباس 1406 هـ) بطرق مختلفة عن محمد بن إسحاق به. وأورده السيوطي في الخصائص الكبرى (1/ 88، 89) وفيه: قال ابن حجر: إسناده حسن متصل، ورجاله ثقات وسبل الهدى (2/ 99، 100).

(4)

الثقات لابن حبان (9/ 82).

(5)

هو تهذيب الكمال للمزي، (25/ 533) والتعليق عليه.

(6)

في الدلائل (2/ 34).

(7)

في ح: عباس وهو تصحيف، والمثبت من ط ودلائل البيهقي.

(8)

في دلائل البيهقي: إساف أو نائلة. وهو أشبه بالصواب. وانظر المحبَّر (ص 311).

(9)

ما بين معقوفين من دلائل البيهقي.

ص: 77

محمد بن عمرو بإسناده: قال زيد: فوالذي أكرمه وأنزل عليه الكتاب، ما استلم صنمًا [قطُّ] حتى أكرمه الله تعالى بالذي أكرمه وأنزل عليه

(1)

.

وتقدم قوله عليه الصلاة والسلام لِبَحِيرى حين سأله باللاتِ والعُزَّى: "لا تسألني بهما فوالله ما أبغضتُ شيئًا بُغْضَهُما"

(2)

.

فأما الحديث الذي قاله الحافظ أبو بكر البيهقي

(3)

: أخبرنا أبو سعد المَالِيني، أخبرنا أبو أحمد بن عَدِيِّ الحافظ، حدّثنا إبراهيم بن أسْباط، حدّثنا عثمان بن أبي شَيبة، حدّثنا جَرير، عن سفيان الثوري، عن عبد الله بن محمد بن عقيل

(4)

، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يشهدُ مع المشركين مشاهدَهم، قال: فسمع مَلَكين خلفه وأحدهما يقول لصاحبه: اذهبْ بنا حتى نقومَ خلف رسولِ الله صلى الله عليه وسلم. قال: كيف نقومُ وإنما عَهْدُه باستلام الأصنام فُبيل؟ قال: فلم يَعُدْ بعد ذلك أن يشهدَ مع المشركين مشاهدَهم. فهو حديثٌ أنكره غيرُ واحدٍ من الأئمة على عثمانَ بن أبي شَيبة حتى قال الإمام أحمد فيه: لم يكنْ أخوهُ يتلفَّظ بشيءٍ من هذا

(5)

.

وقد حكى البيهقي عن بعضهم

(6)

أنَّ معناه أنه شهد مع من يستلم الأصنام، وذلك قبلَ أن يُوحى إليه والله أعلم.

وقد تقدَّم في حديث زيد بن حارثة أنه اعتزل شهودَ مَشَاهِد المشركين حتى أكرمه الله برسالته

(7)

.

وثبت في الحديث أنه كان لا يقف بالمُزْدَلِفَةِ ليلةَ عَرَفة، بل كان يقف مع الناس بعَرَفات، كما قال يونس بن بُكير عن محمد بن إسحاق: حدّثني عبد الله بن أبي بكر عن عثمان بن أبي سليمان، عن نافع بن جُبير بن مُطْعِم، عن أبيه جُبير، قال: لقد رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وهو على دين قومه، وهو يقفُ على بعيرٍ له بعرفات من بين قومه حتى يدفع معهم، توفيقًا من الله عز وجل له.

قال البيهقي

(8)

: معنى قوله: على دين قومه: ما كان بقي من إرث إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام

(1)

وأورده السيوطي في الخصائص الكبرى (1/ 89).

(2)

انظر ص 71 من هذا الجزء.

(3)

في دلائل النبوة (2/ 35).

(4)

في ح، ط: محمد بن عبد الله بن محمد بن عقيل. وهو تحريف، والمثبت من دلائل البيهقي وترجمته في تهذيب التهذب (6/ 13) وهو ابن أبي طالب الهاشمي أبو محمد المدني.

(5)

وأخرجه أبو يعلى في مسنده (1877) عن عثمان بن أبي شيبة به، وذكره ابن حجر في المطالب (4261)، والهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 23 و 8/ 226).

(6)

في دلائل النبوة (2/ 36).

(7)

حديث زيد بن حارثة في الصفحة السابقة.

(8)

في دلائل النبوة (2/ 37) وما بين معقوفين منه.

ص: 78

[في حَجِّهم ومناكحهم وبيوعهم]، ولم يُشْرِكْ بالله قطّ، صلواتُ الله وسلامه عليه دائمًا.

قلت: ويُفهم من قوله هذا أيضًا، أنه كان يقفُ بعَرَفات قبل أنْ يُوحى إليه. وهذا توفيق من الله له.

ورواه الإمام أحمد

(1)

عن يعقوب، عن محمد بن إسحاق به. ولفظُه: رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن ينزل عليه وإنه لواقفٌ على بعير له مع الناس بعرفات حتى يدفع معهم [منها]

(2)

توفيقًا من الله.

وقال الإمام أحمد

(3)

: حدّثنا سفيان، عن عمرو، عن

(4)

محمد بن جُبير بن مُطْعِم عن أبيه قال: أضْلَلْتُ بعيرًا لي بعرفة، فذهبتُ أطلبُه، فإذا النبيُّ صلى الله عليه وسلم واقف، فقلتُ: إنَّ هذا من الحُمس

(5)

، ما شأنُه ها هنا؟ وأخرجاه

(6)

من حديث سُفيان بن عُيينة به.

‌ذكْرُ شهودِهِ عليه الصلاة والسلام حربَ الفِجَار

قال ابن إسحاق

(7)

: هاجت حربُ الفِجَار ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم ابنُ عشرين سنة، وإنما سُمِّي يومَ الفِجار، بما استحلّ فيه هذانِ الحيَّان -كنانة وقيس عَيْلان- من المحارم بينهم. وكان قائدَ قريشٍ وكنانة حَرْبُ بنُ أُمَيَّة بن عبد شمس. وكان الظَّفَر في أولِ النهار لقيس على كِنَانة، حتى إذا كان في وسط النهار كان الظفر لكنانةَ على قيس.

وقال ابن هشام

(8)

: فلما بلغ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أربعَ عشرةَ سنةً -أو خمسَ عشرةَ سنة- فيما حدّثني أبو عُبيدة النَّحْوي عن أبي عمرو بن العلاء: هاجَتْ حربُ الفِجار بين قريشٍ ومن معها من كِنانة، وبين قيس عيلان، وكان الذي هاجها أنَّ عُروة الرَّحَّال بن عُتْبة بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن

(1)

في مسنده (4/ 82).

(2)

ما بين معقوفين من مسند الإمام أحمد. ودفع من عرفات: أي ابتدأ السير ودفع نفسه منها. النهاية (2/ 124 دفع).

(3)

في مسنده (4/ 80).

(4)

في مسند أحمد: عن عمرو بن محمد بن محمد بن جبير بن مطعم. وهو تحريف، وعمرو هذا هو عمرو بن دينار المكي أبو محمد الأثرم الجمحي، وروايته عن محمد بن جبير، ورواية سفيان عنه ثابتة في تهذيب التهذيب في ترجمتهما.

(5)

"الحُمْس": جمع الأحْمَس: وهم قريش، ومَنْ ولدَتْ قريش، وكنانة، وجَدِيلة قيس، سُمُّوا حُمسًا لأنهم تحمَّسُوا في دينهم: أي تشددوا. والحماسة: الشجاعة، كانوا يقفون بمُزْدَلِفة ولا يقفون بعرفة، ويقولون: نحن أهل الله فلا نخرج من الحرم، وكانوا لا يدخلون البيوت من أبوابها وهم محرمون. النهاية (1/ 440)(حمس).

(6)

يعني البخاري ومسلم في صحيحيهما؛ فتح الباري (1664) الحج باب الوقوف بعرفة، وصحيح مسلم (153 - 1220) (153) الحج باب الوقوف وقوله تعالى:{ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} .

(7)

قول ابن إسحاق هذا في سيرة ابن هشام (1/ 186).

(8)

في السيرة (1/ 184) وما يأتي بين معقوفين منه.

ص: 79

صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن أجاز

(1)

لَطِيمةً -أي تجارة

(2)

- للنعمان بن المنذر، فقال [لَهُ] البَرَّاضُ بن قيس -أحدُ بني ضَمْرَة بن بكر بن عبدِ مناة بن كِنانة- أتجيزُها على كنانة؟ قال: نعم وعلى الخلق. فخرج فيها عُروة الرَّحَّال، وخرج البَرَّاض يطلبُ غَفْلَته، حتى إذا كان بتَيْمن ذي طَلَّال

(3)

بالعالية غفَل عُروة، فوثب عليه البَرَّاضُ فقتلَهُ في الشهر الحرام، فلذلك سُمِّي الفِجَار، وقال البرَّاض في ذلك:[من الوافر]

وداهيةٍ تَهُمُّ الناسَ قَبْلي

شدَدْتُ لها بني بَكْرٍ ضلوعي

هدمتُ بها بيوتَ بني كلابٍ

وأرْضعتُ المواليَ بالضروعِ

رفعتُ له بذي طَلَّالَ كَفِّي

فَخَرَّ يَميدُ كالجِذْع الصَّرِيعِ

(4)

وقال لَبِيدُ بن رَبيعةَ بن مالك بن جعفر بن كلاب: [من الوافر]

وأبْلِغْ -إنْ عرضتَ- بني كلابٍ

وعامرَ والخُطُوبُ لها مَوَالي

وأبْلِغْ -إنْ عرضتَ- بني نُمَيْرٍ

وأخوالَ القَتيلِ بني هِلالِ

بأنَّ الوافِدَ الرَّحَّالَ أمْسَى

مُقيمًا عندَ تَيْمِنَ ذي طَلالِ

(5)

(1)

في ح: أجار والمثبت من ط ومصادر تخريجه، وقد ورد في المحبَّر (ص 196) بالزاي المعجمة فأثبتها مصححاه بالراء المهملة، وتبعهما محققو سيرة ابن هشام في ذلك (1/ 184) على الرغم من تظاهر الأصول في إعجامها كما في الأغاني (22/ 57) (ط دار الكتب) وجاء في ديوان أبي تمام بشرح الخطيب التبريزي (2/ 312): "

فطلب لها النعمان من يجيزها إلى عكاظ ليشتري له بثمنها طرائف اليمن

" وفي مجمع الأمثال للميداني (2818): "وكان النعمان يبعث إلى عكاظ بلطيمة كل عام تباع له هناك فقال: من يجيز لي لطيمتي هذه حتى يقدمها عكاظ؟ " وكذا في المستقصى (1/ 265، 266) (1122) والكامل لابن الأثير (1/ 590) وفي التاج (برض) (ط الكويت): ثم قدم [يعني البراض] على النعمان وسأله أن يجعله على لطيمة يريد أن يبعث بها إلى عكاظ. وفي اللسان (جوز): أجازه: أنفذه وجوَّز لهم إبلهم: إذا قادها حتى تجوز "والمجيز": العبد المأذون له في التجارة.

(2)

في النهاية (4/ 251)(لطم): "واللطيمة": الجمال التي تَحْمل العِطْر والبَزّ، غير الميرة.

(3)

سيأتي تعريفه في التعليق على أبيات لبيد الآتي ذكرها.

(4)

الأبيات مع الخبر في السيرة لابن هشام كما تقدم، والأغاني (22/ 58) ومعجم البلدان (4/ 61، ظلال) والروض الأنف (2/ 210) وفيه: وألحقت الموالي بالضروع. جمع ضرع، هو في معنى قولهم لئيم راضع، أي: ألحقت الموالي بمنزلتهم من اللؤم ورضاع الضروع، وأظهرت فسألتهم وهتكت بيوت أشراف بني كلاب وصرحائهم.

(5)

أبيات لبيد في ديوانه (ص 276) وسيرة ابن هشام كما تقدم، والأغاني (22/ 58) عدا الثاني، ومعجم البلدان (4/ 61، 62)(ظلال) و -وكذا في الديوان- (2/ 68 تيمن) عدا الثاني، وفيه: تيمن ذي ظلال: واد إلى جنب فدك في قول بعضهم، والصحيح أنه بعالية نجد. والروض الأنف (1/ 210) وفيه: تيمن: بكسر الميم وفتحها، ولم يصرفه لوزن الفعل والتعريف، وعلق ياقوت على الأبيات بقوله: في هذا عدة اختلافات [يعني طلال] بعضهم يرويه بالطاء المهملة، وبعضهم يرويه بتشديد اللام والظاء المعجمة، وقد حكيناه عن السهيلي، وبعضهم يرويه بتخفيف اللام والظاء المعجمة، وأكثرهم قال: هو اسم موضع، وقال قوم في قول البراض: إن ذا ظلال اسم سيفه، قال السهيلي: وإنما خففه لبيد وغيره ضرورة

وقد اختار ياقوت إعجام الظاء وقواه.

ص: 80

قال ابن هشام

(1)

: فأتى آتٍ قريشًا فقال: إنَّ البرَّاضَ قد قتل عُرْوَةَ، وهو

(2)

في الشهر الحرام بعُكاظ، فارتحلوا وهَوَازنُ لا تشعر بهم، ثم بلغهم الخبر، فاتبعوهم فأدركوهم قبلَ أنْ يدخُلوا الحَرَم، فاقتتلوا حتى جاء الليل، فدخلوا الحرم، فأمسكت هَوَازنُ عنهم، ثم التقَوْا بعد هذا اليوم أيامًا، والقومُ متساندون

(3)

على كلِّ قَبيلٍ من قريش وكِنانة رئيسٌ منهم، وعلى كلِّ قبيلٍ من قيس رئيسٌ منهم.

قال: وشهد رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بعدُ

(4)

أيامَهم. أخرجه أعمامُه معهم. وقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "كنتُ أُنَبِّل على أعمامي" أيْ أرُدُّ عليهم نَبْلَ عدوِّهم إذا رمَوْهم بها

(5)

.

قال ابنُ هشام

(6)

: وحديثُ الفِجار أطولُ ممَّا ذكرت، وإنما منعني من استقصائه قَطْعُه حديثَ سيرةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم.

وقال السُّهيلي

(7)

: والفِجار، بكسر الفاء على وزن قِتال. وكانت الفِجَارات في العرب أربعة ذكرهنَّ المسعودي

(8)

. وآخرهن، فِجَار البَرَّاض هذا. وكان القتال فيه في أربعة أيام، يوم شَمْطَةَ

(9)

، ويوم العبلاء، وهما عند عُكاظ، ويوم الشَّربْ

(10)

-وهو أعظمُها يومًا- وهو الذي حضَرَهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وفيه قيَّدَ رئيسُ قريشٍ وبني كنانة -وهو حَرْبُ بن أمية- وأخوهُ سفيان أنفسَهما لئلا يَفِرَّا

(11)

. وانهزمتْ يومئذٍ قيس إلا بني نصر

(12)

فإنهم ثبتوا. ويوم الحُرَيْرَة عند نخلة

(13)

.

ثم تواعدوا من العام المقبل إلى عكاظ، فلما توافَوُا الموعد ركب عُتْبَةُ بنُ ربيعة جملَه ونادى:

(1)

في السيرة (1/ 186).

(2)

في السيرة: وهم.

(3)

"متساندون": أي لم يجتمعوا على راية واحدة، كل بني أب على راية، ولم يكونوا تحت راية أمير واحد. اللسان (سند).

(4)

كذا في ح وفي ط والسيرة: بعض.

(5)

وفي النهاية (5/ 10، نبل): يقال: نبَّلْتُ الرجل، بالتشديد، إذا ناولته النبل ليرمي.

(6)

في السيرة (1/ 187) وفي ط بزيادة: "طويل هو" ليست في ح ولا في السيرة.

(7)

في الروض (1/ 209 و 211) على خلاف في اللفظ.

(8)

انظر مروج الذهب (2/ 277).

(9)

"شَمْطة": رواه الأزهري بالظاءالمعجمة، كما في معجم البلدان (شمطة، 3/ 363).

(10)

"الشرب": موضع قرب مكة، وبه كانت وقعة الفجار العظمى. معجم البلدان (شرب، 3/ 332).

(11)

في الروض: وفيه قيد حرب بن أمية وسفيان وأبو سفيان أبناء أمية أنفسهم كي لا يفروا، فسُمُّوا العنابس. وكذا في معجم البلدان (شرب).

(12)

وقع في ط والروض بالضاد المعجمة، وهو تصحيف، وهم بنو نصر بن معاوية بن بكر بن هوازن، من قيس.

(13)

"الحريرة" كأنه تصغير حرة، موضع بين الأبواء ومكة، قرب نخلة. قاله ياقوت في معجم البلدان (حريرة، 2/ 250).

ص: 81

يا معشر مُضَر، على ما

(1)

تقاتلون؟ فقالت له هوازن: ما تدعو إليه؟ قال: الصلح. قالوا: وكيف؟ قال نَدِي

(2)

قتلاكم ونرهنكم رهائنَ عليها، ونعفو عن دِياتنا. قالوا: ومَنْ لنا بذلك؟ قال: أنا. قالوا: ومن أنت؟ قال عُتْبَةُ بنُ ربيعة. فوقع الصلح على ذلك، وبعثوا إليهم أربعينَ رجلًا، فيهم حَكيم بن حِزام فلما رأتْ بنو عامر بن صَعْصَعة الرهن في أيديهم عفوا عن دمائهم

(3)

وانقضتْ حرب الفجار.

وقد ذكر الأمَويُّ حروبَ الفِجَار وأيامَها واستقصاها مطوِّلًا فيما رواه عن الأثرم، وهو المغيرة بن علي، عن أبي عُبيدة مَعْمَر بن المُثَنَّى، فذكر ذلك.

‌فصل: في شهودِهِ عليه [الصلاة] والسلام حلف الفضول

قال الحافظ البيهقي

(4)

: أخبرنا أبو سَعْد الماليني، أخبرنا أبو أحمد بن عَدِي الحافظ

(5)

، حدّثنا يحيى بن علي بن هاشم الخفَّاف، حدَّثنا أبو عبد الرحمن الأذْرَمي، حدَّثنا إسماعيل بن عُلَيَّة، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن الزُّهْرِي، عن محمد بن جُبير بن مُطْعِم عن أبيه، [عن عبد الرحمن بن عوف] قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "شهدتُ مع عمومتي حِلْفَ المُطَيَّبين، فما أُحِبُّ أنْ أنْكُثَه -أو كلمة نحوها- وأنَّ لي حُمْرَ النَّعَم".

قال: وكذلك رواهُ بشرُ بن المفضل عن عبد الرحمن

(6)

.

قال

(7)

: وأخبرنا أبو نصر بن قتادة، حدّثنا أبو عمرو بن مطر، حدّثنا أبو بكر بن أحمد بن داود السِّمناني، حدّثنا مُعَلَّى بن مهدي، حدّثنا أبو عَوَانة عن عمر بن أبي سلمة، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "ما شهدتُ حِلْفًا لقريشٍ إلا حِلْفَ المَطَيَّبين، وما أُحِبُّ أنَّ لي حُمْرَ النَّعَم وأني كنتُ نقَضْتُه". قال: والمطيَّبُون: هاشم، وأُمَيَّة، وزُهْرَة، ومَخْزُوم.

قال البيهقي (4): كذا روي هذا التفسير مُدْرَجًا في الحديث، ولا أدري قائله؛ وزعم بعضُ أهلِ السير أنه أراد حِلْفَ الفُضُول، فإنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يُدْرِكْ حلفَ المطيَّبين.

(1)

إثبات ألف ما جائز في لغة بعض العرب. انظر الخزانة (6/ 99)(2/ 238). وفي ط والروض: علام بحذفها.

(2)

"ودى القتيل": أعطى أولياءه حقه. اللسان (ودي).

(3)

في ط: دياتهم.

(4)

في دلائل النبوة (2/ 37، 38) وما سيأتي بين معقوفين منه ومن الكامل لابن عدي.

(5)

والحديث في الكامل في الضعفاء لابن عدي (4/ 1610) أورده في ترجمة عبد الرحمن بن إسحاق.

(6)

وكذا رواه الإمام أحمد في مسنده (1/ 190 و 193) عن بشر بن المفضل عن عبد الرحمن به، وأبو يعلى الموصلي رقم (845) وهو حديث صحيح.

(7)

يعني البيهقي في دلائل النبوة (2/ 38).

ص: 82

قلت: هذا لا شك فيه، وذلك أنَّ قريشًا تحالفوا بعد موت قُصَيّ، وتنازعوا في الذي كان جعله قُصَيٌّ لابنه عبد الدار، من السِّقاية، والرِّفادة، واللواء، والندوة، والحِجابة، ونازعهم فيه بنو عبد مناف. وقامت مع كُلِّ طائفةٍ قبائلُ من قريش، وتحالفوا على النُصْرة لحِزْبهم، فأحضر أصحابُ بني عبد مناف جَفْنَةً فيها طيب، فوضعوا أيديهم فيها وتحالفوا، فلما قاموا مسحوا أيديهم بأركان الكعبة

(1)

. فسُمُّوا المُطَيَّبين كما تقدَّم، وكان هذا قديمًا، ولكنَّ المُرَاد بهذا الحِلْف حلف الفُضُول، وكان في دارِ عبد اللهِ بن جُدْعان كما رواه الحُميدي عن سفيان بن عيينة، عن عبد الله، عن محمد وعبد الرحمن ابني أبي بكر

(2)

، قالا: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لقد شهدتُ في دار عبد الله بن جُدْعان حِلْفًا لو دُعيت به في الإسلام لأجبت، تحالفوا أن يردُّوا الفُضُول على أهلها وألَّا يعد

(3)

ظالمٌ مظلومًا".

قالوا: وكان حلفُ الفُضول قبل المَبْعَثِ بعشرين سنة، في شهر ذي القعدة، وكان بعد حرب الفِجار بأربعة أشهر. وذلك لأن الفجار كان في شعبان من هذه السنة. وكان حلف الفُضول أكرمَ حلفٍ سُمع به، وأشرفَهُ في العرب، وكان أول مَنْ تكلَّم به ودعا إليه الزُّبير بن عبد المطَّلب، وكان سبَبُه أنَّ رجلًا من زُبيد قدِمَ مكَّة ببضاعة، فاشتراها منه العاصُ بنُ وائل

(4)

، فحبس عنه حقَّه، فاستعدَى عليه الزُّبيديُّ الأحلافَ: عَبْدَ الدار ومخزومًا وجُمَح وسهمًا وعَدِيَّ بن كعب، فأبَوْا أنْ يُعينوا على العاص بن وائل، وزَبَرُوه -أي: انتهروه- فلمَّا رأى الزُّبيدي الشرّ، أوفى على أبي قُبَيْس

(5)

عند طلوع الشمس، وقريش في أنديتهم حول الكعبة، وأنشد

(6)

: [من البسيط]

يا آلَ فِهْرٍ لمظلومٍ بضاعتَه

ببطنِ مكة نائي الدارِ والنَّفَرِ

ومُحْرِمٍ أشْعَثٍ لم يقضِ عُمْرَتَه

يا للرِّجالِ وبين الحِجْرِ والحَجَرِ

إنَّ الحرامَ لِمَنْ تمَّتْ كرامَتُه

ولا حرامَ لثوبِ الفاجرِ الغَدِرِ

فقام في ذلك الزُّبير بن عبد المطَّلب وقال: ما لهذا مُتَّرَك؟ فاجتمعتْ هاشمٌ وزُهْرَة وتَيْم بنُ مُرَّة في دار عبد الله بنِ جُدْعان، فصنع لهم طعامًا، وتحالفوا في ذي القَعْدَة، في شهرٍ حَرَام، فتعاقدوا وتعاهدوا بالله ليكونُنَّ يدًا واحدةً مع المظلومِ على الظالم، حتى يُؤَدَّى إليه حقُّه، ما بَلَّ بَحْرٌ صُوفَةً

(7)

، وما رَسَا ثَبِيرٌ

(1)

في ط: بأركان البيت.

(2)

في ح: عن عبد الله بن محمد وعبد الرحمن بن أبي بكر. والمثبت من ط والروض (1/ 155) وسيأتي بسياق مختلف (ص 85).

(3)

كذا في ح، ط وفي الروض: يعز بالزاي المعجمة. قلت: لعله من الوعد والوعيد بالشر، انظر اللسان (وعد).

(4)

زاد السهيلي في الروض (1/ 156) وكان ذا قدر بمكة وشرف.

(5)

"أبو قبيس": جبل مشرف على مسجد مكة معجم البلدان (قبيس، 4/ 308).

(6)

كذا في ح وفي ط: فنادى بأعلى صوته. وفي الروض: فصاح بأعلى صوته. والأبيات فيه.

(7)

يعني إلى الأبد، وهذا القول من أمثالهم، ساقه الجاحظ في الحيوان (4/ 470) والبيان والتبيين (3/ 7) والزمخشري =

ص: 83

وحِرَاء مكانَهما

(1)

، وعلى التأسِّي في المَعاش. فسمَّتْ قُريش ذلك الحِلْف حِلْف الفُضول، وقالوا: لقد دخل هؤلاء في فصلٍ من الأمر. ثم مشَوْا إلى العاص بن وائل، فانتزعوا منه سِلْعةَ الزُّبيديّ، فدفعوها إليه. وقال الزُّبير بنُ عبد المطَّلب في ذلك:[من الوافر]

حلفتُ لَنعقدَنْ حِلْفًا عليهم

وإنْ كُنَّا جميعًا أهلَ دارِ

ونُسْميهِ

(2)

الفُضُولَ إذا عَقدْنا

يَعِزُّ بهِ الغريبُ لَدَى الجِوارِ

(3)

ويَعْلَمُ من حَوَالَى البيتِ أنَّا

أبَاةُ الضَّيمِ نمنعُ كلَّ عارِ

وقال الزُّبير أيضًا: [من الكامل]

إنَّ الفُضولَ تعاقدوا وتحالفوا

ألَّا يُقيمَ بِبَطْنِ مكَّةَ ظالمُ

أمْرٌ عليهِ تعاقَدوا وتواثقوا

فالجارُ والمُعْتَرُّ فيهم سالم

(4)

وذكر قاسم بن ثابت في غريب الحديث: إنَّ رجلًا من خَثْعَم قدِم مكةَ حاجًّا أو مُعْتَمِرًا، ومعه ابنةٌ له، يقال لها: القَتُول من أوضَأِ نساءِ العالمين، فاغتصبها منه

(5)

نُبَيْهُ بن الحجَّاج وغيَّبها عنه، فقال الخثعمي: من يُعْدِيني على هذا الرجل؟ فقيل له: عليك بحِلْف الفضول. فوقف عند الكعبة ونادى: يا لَحِلْفِ الفُضول. فإذا هم يُعْنِقُونَ إليه

(6)

من كل جانب، وقد انتضَوْا أسيافَهم يقولون: جاءك الغَوْث، فمالكَ؟ فقال: إنَّ نُبيهًا ظلمني في بنتي وانتزعها مني قَسْرًا، فساروا معه حتى وقفوا على باب داره، فخرج إليهم، فقالوا له: أخرجِ الجاريةَ ويحك، فقد علمتَ من نحن، وما تعاقدنا عليه. فقال: أفعل، ولكن مَتِّعوني بها الليلة. فقالوا: لا والله ولا شَخْبَ لِقْحَة

(7)

. فأخرجها إليهم وهو يقول: [من الخفيف]

راحَ صَحْبي ولم أُحَيِّ القَتُولا

لم أُوَدِّعْهُمُ وَداعًا جميلًا

إذْ أجَدَّ الفضُول أن يمنعوها

قد أراني ولا أخافُ الفضُولا

(8)

= في الأساس (صوف) والمستقصى (2/ 246) والميداني في مجمع الأمثال (2/ 230) وجاء في اللسان (صوف): وصوف البحر شيء على شكل هذا الصوف الحيواني، واحدته صوفة؛ ومن الأبديات قولهم: لا آتيك ما بل بحر صوفة.

(1)

"ثبير وحراء": جبلان معروفان من جبال مكة، معجم البلدان.

(2)

في ط والروض: نُسَمِّيه.

(3)

في ح، ط: لذي الجوار، والمثبت من الروض.

(4)

"المعترّ": الفقير، والمتعرِّض للمعروف من غير أن يسأل. اللسان (عرر). والأبيات في الروض (1/ 156، 157).

(5)

ليست اللفظة في ح.

(6)

أي أتوا يهرعون إليه مسرعين. ومنه حديث أصحاب الغار "فانفرجت الصخرة فانطلقوا معانقين" أي: مسرعين، من عانق مثل أعنق إذا سارع وأسرع. النهاية (3/ 310)(عنق).

(7)

"اللّقْحة": الناقة الحلوب، غزيرة اللبن؛ والشخب: ما خرج من تحت يد الحالب عند كل غمزة وعصرة، وصوت اللبن عند الحلب. اللسان والتاج (لقح، شخب) يعني: ولا مقدار هذه الغمزة للضرع.

(8)

في ح: إذا وجد الفضول. والمثبت من ط والروض.

ص: 84

لا تخالي أنِّي عَشِيَّة راحَ الرَّكْـ

ــــــبُ هُنتم عليَّ أنْ لا يَزُولا

(1)

وذكر أبياتًا أُخر غيرَ هذه.

وقد قيل: إنما سُمِّي هذا حِلْفَ الفُضول لأنه أشبه حلفًا تحالفَتْهُ جُرْهُم على مثل هذا، منْ نَصْرِ المظلوم على ظالمه، وكان الداعي إليه ثلاثةٌ من أشرافهم، اسمُ كُلِّ واحدٍ منهم فَضْل، وهم: الفضل بن فَضَالة، والفضل بن وَدَاعة، والفضل بن الحارث

(2)

. هذا قولُ ابن قتيبة. وقال غيره: الفضل بن شراعة، والفضل بن بضاعة، والفضل بن قضاعة

(3)

. وقد أوردَ السُّهَيلي هذا رحمه الله.

وقال محمد بن إسحاق بن يسار

(4)

: وتداعتْ قبائلُ من قريش إلى حلف، فاجتمعوا

(5)

إلى دار عبدِ الله بن جُدْعان لشرفه وسِنِّه، وكان حلفُهم عنده: بنو هاشم، وبنو المطَّلب

(6)

وأسد بن

(7)

عبد العُزَّى، وزُهْرَة بن كلاب، وتَيْم بن مُرَّة. فتعاهدوا وتعاقدوا على أنْ لا يجدوا بمكَّةَ مظلومًا من أهلها وغيرهم

(8)

ممن دخلها من سائر الناس إلا كانوا

(9)

معه، وكانوا على مَنْ ظلمه حتى يرُدَّ اللهُ عليه مظلمته، فسمَّتْ قريش ذلك الحلف حلفَ الفُضول.

قال محمد بن إسحاق

(10)

: فحدثني محمد بن زيد بن المهاجر بن قُنْفُذ التَّيْمي، أنه سمع طَلْحَة بن عبد الله بن عَوْف الزُّهْريَّ يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد شهدتُ في دارِ عبد الله بن جُدْعان حِلْفًا ما أُحِبُّ أنَّ لي به حُمْرَ النَّعَم، ولو أُدْعى به في الإسلام لأَجبت".

قال ابنُ إسحاق: وحدثني يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهادِ اللَّيثي، أنَّ محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي

(11)

، حدثه أنه كان بين الحُسين بن علي بن أبي طالب وبين الوليد بن عُتْبة بن أبي سُفْيان -والوليدُ يومئذٍ أمير المدينة، أمَّرَهُ عليها عمُّه معاوية بن أبي سفيان- منازعةٌ في مالٍ كان بينهما بذي المَرْوة

(12)

، فكان الوليد تحاملَ على الحسين في حقه لسلطانه، فقال له الحسين: أحلفُ بالله لتنصفَنِّي

(1)

في الروض: ألا أقولا. والأبيات فيه (1/ 157).

(2)

في الروض: فُضيل بن الحارث. والمثبت من ح، ط واللسان (حلف).

(3)

في الروض: فُضيل بن شراعة، والفضل بن وداعة، والفضل بن قضاعة.

(4)

انظر قول ابن إسحاق في سيرة ابن هشام (1/ 133) والروض الأنف (1/ 155).

(5)

كذا في ح وفي ط وسيرة ابن هشام: فاجتمعوا له في دار عبد الله.

(6)

في ح، ط: وبنو عبد المطلب، والمثبت من سيرة ابن هشام والروض.

(7)

في ط: وبنو أسد، والمثبت من ح وسيرة ابن هشام والروض.

(8)

في ح، ط: وغيرها، والمثبت من سيرة ابن هشام والروض.

(9)

في السيرة والروض؛ قاموا معه. وهو أشبه بالصواب.

(10)

قول ابن إسحاق هذا في سيرة ابن هشام (1/ 134) والروض الأنف (1/ 155).

(11)

ليست اللفظة في ح.

(12)

"ذو المروة": قرية بوادي القرى، وقيل: بين خُشُب ووادي القرى. معجم البلدان (مرو)(5/ 116).

ص: 85

من حَقِّي أو لآخذنَّ سيفي، ثم لأقومنَّ في مسجدِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ثم لأدعوَنَّ بحِلْفِ الفُضول. قال: فقال عبد الله بن الزُّبير -وهو عند الوليد حين قال له الحسين ما قال-: وأنا أحلف بالله، لئن دعا به لآخذنَّ سيفي ثم لأقومنَّ معه حتى يُنصَف من حقِّه أو نموتَ جميعًا. قال: وبلغتِ المِسْوَرَ بن مَخْرَمَة بنِ نوفل الزُّهْري، فقال له مثل ذلك، وبلغتْ عبدَ الرحمن بن عثمان بن عبيد الله

(1)

التَّيْمي فقال مثل ذلك. فلما بلغ ذلك الوليدَ بنَ عُتْبة أنصف الحسين من حقِّه حتى رَضِيَ.

‌فصل: في تزويجهِ عليه الصلاة والسلام خديجةَ بنت خويلد بن أسد بن عبد العُزَّى بن قُصَيّ

قال ابن إسحاق

(2)

: وكانت خَديجةُ بنتُ خُوَيلد امرأةً تاجرة ذاتَ شرفٍ ومال، تستأجرُ الرجالَ على مالها مضاربةٌ

(3)

، فلما بلغها عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ما بلغها من صدق حديثه، وعِظم أمانته، وكَرَم أخلاقه، بعثتْ إليه فعرضَتْ عليه أن يخرُج لها في مالٍ تاجرًا إلى الشام، وتعطيَهُ أفضلَ ما تُعطي غيرَهُ من التجار، مع غلامٍ لها يقال له: مَيْسَرة، فقبِلَهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم منها، وخرج في مالها ذلك، وخرج معها غلامُها ميسرة حتى نزل الشام، فنزل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في ظِلِّ شجرةٍ قريبًا من صَوْمعةِ راهبٍ من الرُّهْبان، فاطَّلعَ الراهبُ إلى مَيْسَرة، فقال: من هذا الرجلُ الذي نزل تحت الشجرة؟ فقال ميسرة: هذا رجلٌ من قريش، من أهل الحَرَم. فقال له الراهب: ما نزل تحت هذه الشجرة قطُّ إلا نبيّ.

ثم باعَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سِلْعَته -يعني تجارته- التي خرج بها، واشترى ما أراد أن يشتريَ. ثم أقبل قافلًا إلى مكة ومعه ميسرة، فكان مَيْسَرةُ -فيما يزعمون- إذا كانت الهاجرةُ واشتدَّ الحرّ، يرى ملَكَيْن يُظلَّانِهِ من الشمس وهو يسير على بعيره؛ فلما قدم مكة على خَدِيجة بمالها باعتْ ما جاء به، فأضعف أو قريبًا، وحدَّثها ميسرةُ عن قول الراهب، وعمَّا كان يرى من إظلال الملَكَيْن اباه. وكانت خديجةُ امرأةً حازمةً شريفةً لَبيبة، مع ما أراد اللهُ بها من كرامتها

(4)

. فلما أخبرها ميسرةُ ما أخبرها، بعثَتْ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقالت له -فيما يزعمون- يا بنَ عم، إني قد رغبثُ فيك لقرابتك وسِطَتِكَ

(5)

في قومك، وأمانتك، وحُسْن خلقك، وصِدْق

(1)

في ح: عبد الله، والمثبت من ط وسيرة ابن هشام والروض، وعبد الرحمن هذا، هو ابن أخي طلحة بن عبد الله كما في الإصابة.

(2)

في سيرة ابن إسحاق (ص 59) بألفاظ مقاربة، وانظره أيضًا في سيرة ابن هشام (1/ 187، 188) والروض (1/ 212).

(3)

زاد في السيرة: بشيء تجعله لهم، والمضاربة أن تعطي مالًا لغيرك يتجر فيه على أن يكون الربح بينكما، أو يكون له سهم معلوم من الربح. وهي مفاعلة من الضرب في الأرض والسير فيها للتجارة. اللسان (ضرب).

(4)

كذا في ح، ط وفي سيرة ابن إسحاق وابن هشام والروض: كرامته.

(5)

في سيرة ابن إسحاق: لقرابتك وشرفك في قومك وسطتك فيهم. والسِّطة: من وسط في حَسَبه: إذا حلّ في أكرمه، فهو وسيط: إذا كان أوسطهم نسبًا وأرفعهم مجدًا. اللسان (وسط) وفسر السهيلي بقوله: فلان أوسط القبيلة: أعرفها وأولاها بالصحيح.

ص: 86

حديثك. ثم عرضتْ نفسها عليه؛ وكانتْ أوسطَ نساءِ فريش نَسبًا، وأعظمهنَّ شرفًا، وأكثرهنَّ مالًا. كلُّ قومِها كان حريصًا على ذلك منها لو يقدِرُ عليه. فلما قالت ذلك لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم ذكر ذلك لأعمامه، فخرج معه عمُّه حمزة حتى دخل على خُويلد بن أسَد، فخطَبَها إليه، فتزوَّجها عليه الصلاة والسلام.

قال ابن هشام

(1)

: فأصْدَقَها عشرين بَكْرَةً

(2)

، وكانتْ أوَّلَ امرأةٍ تزوَّجها، ولم يتزوَّجْ عليها غيرَها حتى ماتت.

قال ابن إسحاق

(3)

: فولدتْ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم ولَدَهُ كُلَّهم إلا إبراهيم: القاسم -وبه كان يُكْنى- والطَّيِّب، والطاهر

(4)

، وزينب، ورُقَيَّة، وأم كُلْثُوم، وفاطمة.

قال ابن هشام

(5)

: أكبَرُهم القاسم، ثم الطَّيِّب، ثم الطاهر، وأكبر بناته رُقيَّة، ثم زينب، ثم أم كلثوم، ثم فاطمة.

قال البيهقي

(6)

عن الحاكم: قرأتُ بخطِّ أبي بكر بن أبي خَيْثَمة، حدَّثنا مُصْعَبُ بن عبد الله الزُّبيري قال

(7)

: أكبر ولدِهِ عليه الصلاة والسلام القاسم، ثم زينب، ثم عبد الله، ثم أم كلثوم، ثم فاطمة، ثم رقية. وكان أول من مات من ولده القاسم، ثم عبد الله، وبلغت خديجة خمسًا وستين سنة، ويقال: خمسين، وهو أصح.

وقال غيره: بلغ القاسم أن يركبَ الدابَّةَ والنَّجيبة، ثم مات بعد النبوَّة.

وقيل: مات وهو رضيع، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"إنَّ له مُرْضعًا في الجنة يستكمل رضاعه"

(8)

والمعروف أنَّ هذا في حقِّ إبراهيم.

(1)

في السيرة (1/ 190).

(2)

"البَكْر": الفتي من الإبل، بمنزلة الغلام من الناس، والأنثى بَكْرَة. اللسان (بكر).

(3)

انظر قول ابن إسحاق في سيرة ابن إسحاق (ص 61) وسيرة ابن هشام (1/ 190) والروض (1/ 214).

(4)

سياق ابن إسحاق وابن هشام يدل على أن الطاهر والطيب اثنان، وهذا خلاف ما ذهب إليه النسابون. قال ابن الكلبي في جمهرة النسب (ص 125، 126) فولد النبي صلى الله عليه وسلم: القاسم، وعبد الله، وهو الطيب، وهو الطاهر، اسم واحد، لأنه ولد بعدما أوحي إليه. وفي هامش أصل الجمهرة فائدة: الطيب والطاهر اسم ولد واحد، لأنه ولد بعد الوحي. وبنحو هذا سياق ابن حزم في جمهرة الأنساب (ص 16) وبنحوه أيضًا عند السهيلي في الروض (1/ 214) وانظر زاد المعاد (1/ 103) وقول الزبير الآتي.

(5)

في السيرة (1/ 190).

(6)

في دلائل النبوة (3/ 70).

(7)

انظر نسب قريش لمصعب (ص 21).

(8)

أخرجه البيهقي في الدلائل (5/ 430، 431) وفي الحاشية، أخرجه البخاري عن سليمان بن حرب (78) كتاب الأدب (109) باب من سمى بأسماء الأنبياء الحديث رقم (6195) فتح الباري (10/ 577) وفي الجنائز عن أبي الوليد. وأورده البيهقي أيضًا في (7/ 289) يرويه في حق إبراهيم ويقول لما مات إبراهيم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ص: 87

وقال يونس بن بكير: حدّثنا إبراهيمُ بن عثمان عن القاسم عن ابن عباس قال: وَلَدَتْ خَديجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: غلامَيْن وأربعَ نسوة: القاسم، وعبد الله، وفاطمة، وأم كُلثوم، وزينب، ورُقَيَّة.

وقال الزُّبير بن بكَّار: عبد الله هو الطَّيِّب وهو الطاهر، سُمِّي بذلك لأنه وُلد بعد النبوَّة، فماتوا قبل البعثة، وأمَّا بناتُه فأدركْنَ البعثة، ودخلْنَ في الإسلام وهاجرْنَ معه صلى الله عليه وسلم.

قال ابن هشام

(1)

: وأمَّا إبراهيم فمن ماريَةَ القِبْطِيَّة التي أهداها له المُقَوْقِسُ صاحبُ إسْكندرية، من حَفْن، من كورة، أَنْصِنَا

(2)

.

وسنتكلَّمُ على ذِكر زوجاته وأولادِه عليه الصلاة والسلام في باب مفرد لذلك في آخر السيرة إن شاء الله تعالى وبه الثقة.

قال ابن هشام

(3)

: وكان عُمُر رسولِ الله صلى الله عليه وسلم حين تزوَّج خَديجة خمسًا وعشرين سنة، فيما حدَّثني غيرُ واحدٍ من أهل العلم، منهم أبو عمرو المدني. وقال يعقوبُ بن سفيان: كتبتُ عن إبراهيم بن المنذر، حدّثني عمر بن أبي بكر المَوْصِلي

(4)

، حدّثني غيرُ واحدٍ أنَّ عمرو بن أسد زوَّج خديجة من رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وعمرُه خمسٌ وعشرون سنة وقريش تبني الكعبة.

وهكذا نقل البيهقيُّ عن الحاكم، أنه كان عمرُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم حين تزوَّج خديجة خمسًا وعشرين سنة، وكان عمرها إذْ ذاك خمسًا وثلاثين -وقيل: خمسًا وعشرين سنة- وقال البيهقي

(5)

:

‌باب: ما كان يشتغلُ به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يتزوَّج خديجة

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا أبو بكر بن عبد الله، أخبرنا الحسن بن سفيان، حدّثنا سويد بن سعيد، حدثنا عمرو بن يحيى

(6)

بن سعيد القرشي، عن جدِّه سعيد، عن أبي هريرة قال: قال

(1)

في السيرة (1/ 191).

(2)

"حَفْن": قرية من قرى صعيد مصر. وأنْصنا: كورة من كور مصر، وهي مدينة أزلية من نواحي الصعيد شرقي النيل. معجم ما استعجم (1/ 199 و 2/ 458) ومعجم البلدان (1/ 265 و 2/ 276).

(3)

انظر قول ابن هشام في السيرة (1/ 187) بسياق مختلف.

(4)

في ح، ط: المؤملي وكذا في أخبار القضاة (1/ 268) في إسناد له، والمثبت من دلائل النبوة للبيهقي (2/ 71) وكما سيأتي في إسناده، ومن ترجمته في الجرح والتعديل (6/ 100) وميزان الاعتدال (3/ 184) وفيه: روى عنه إبراهيم بن المنذر.

(5)

في الدلائل (2/ 65).

(6)

في ط: عمرو بن أبي يحيى. تحريف والمثبت من ح، وترجمته في ميزان الاعتدال (3/ 293) وتهذيب التهذيب (8/ 118) وفيه ثبتت روايته عن جده، ورواية سويد عنه.

ص: 88

رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما بعث اللهُ نبيًّا إلا راعِيَ غنم". فقال له أصحابه: وأنت يا رسول الله؟ قال: "وأنا رعَيْتُها لأهلِ مكةَ بالقَرَاريط".

رواه البخاري

(1)

عن أحمد بن محمد المكي، عن عمرو بن يحيى به.

ثم روى البيهقي

(2)

من طريق الربيع بن بَدْر -وهو ضعيف

(3)

- عن أبي الزُّبير عن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "آجرتُ نفسي من خديجةَ سفرتَيْن بقَلُوص"

(4)

.

وروى البيهقيُّ

(5)

من طريق حمَّاد بن سَلَمة، عن علي بن زيد، عن عمَّار بن أبي عمار، عن ابن عباس، أنَّ أبا خديجةَ زوَّجَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وهو -أظنُّه قال- سكران.

ثمَّ قال البيهقي

(6)

: أخبرنا أبو الحسن بن الفضل القَطَّان أنا عبد الله بن جعفر، حدثنا يعقوب بن سفيان

(7)

، قال: حدّثني إبراهيم بن المنذر، حدَّثني عمر بن أبي بكر المَوْصلي

(8)

، حدّثني عبد الله بن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر عن أبيه، عن مقسم أبي القاسم

(9)

مولى عبد الله بن الحارث بن نوفل، أنَّ عبدَ الله بن الحارث حدَّثه أنَّ عمار بن ياسر كان إذا سمع ما يتحدَّث به الناس عن تزويج رسولِ الله صلى الله عليه وسلم خديجة، وما يُكثرون فيه، يقول: أنا أعلم الناسِ بتزويجه إياها، إني كنتُ له تِرْبًا، وكنت لهُ إلْفًا وخِدْنًا

(10)

، وإني خرجتُ مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ذاتَ يوم، حتى إذا كنا بالحَزْوَرَة

(11)

أجَزْنا على

(1)

في صحيحه، فتح (2262) الإجارة باب رعي الغنم على قراريط. وفيه:"يعني كل شاة بقيراط، يعني القيراط الذي هو جزء من الدينار أو الدرهم". وأخرجه ابن ماجه في سننه (2149) كتاب التجارات باب الصناعات، وابن سعد في الطبقات (1/ 125).

(2)

في الدلائل (2/ 65، 66).

(3)

قوله: وهو ضعيف، ليس في دلائل البيهقي. فهو من قول المصنف. وتضعيف الربيع في ميزان الاعتدال (2/ 38، 39) وتهذيب التهذيب (3/ 239).

(4)

"القلوص": الفتيَّة من الإبل. اللسان (قلص).

(5)

في الدلائل (2/ 73).

(6)

في الدلائل (2/ 71).

(7)

الخبر في المعرفة والتاريخ (3/ 253) في القسم المفقود منه، وهو منقول عما هنا.

(8)

في ح، ط: المؤملي، والمثبت من الدلائل وحاشية (3) من الصفحة السابقة.

(9)

في ح: مقسم بن القاسم. وفي ط: مقسم بن أبي القاسم. وكلاهما تصحيف، والمثبت من دلائل البيهقي وتهذيب التهذيب (10/ 288) وهو مقسم بن بجرة ويقال: ابن نجدة أبو القاسم ويقال: أبو العباس مولى عبد الله بن الحارث بن نوفل.

(10)

"التِّرْب": اللِّدَة، وقد مضى شرحه (ص 33) في الحاشية (4) من هذا الجزء. والخِدْن: الصديق. مختار الصحاح (خدن). وزادت نسخة (ح) لفظة: وخرجنا بعد: وخدنًا. فلعلها مصحفة عن كلمة أخرى والله أعلم.

(11)

"الحزورة": بالفتح ثم السكون وفتح الواو، وراء وهاء، وهو في اللغة الرابية الصغيرة. وقال الدارقطني: كذا =

ص: 89

أخت خَدِيجةَ وهي جالسةٌ على أَدَمٍ تبيعها، فنادتني، فانصرفتُ إليها ووقف لي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقالت: أما لصاحبك

(1)

هذا من حاجة في تزويج خديجة؟ قال عمار: فرجعتُ إليه فأخبرتُه فقال: "بلى لَعَمْري" فذكرتُ لها قولَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقالتْ: اغْدُوا علينا إذا أصبحنا. فغدَوْنا عليهم، فوجدناهم قد ذبحوا بقرة، وألبسوا أبا خديجة حُلَّة، وصُفِّرَتْ لحيته، وكلَّمتْ أخاها، فكلَّم أباها وقد سُقي خمرًا، فذكرتْ له رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ومكانَهُ، وسألتهُ أن يزوِّجه، فزوَّجه خديجة، وصنعوا من البقرة طعامًا فأكلنا منه، ونام أبوها، ثم استيقظ صاحيًا، فقال: ما هذه الحُلَّة وما هذه الصُّفْرة

(2)

وهذا الطعام؟ فقالت له ابنته التي كانت قد كلَّمتْ عمَّارًا: هذه حُلَّةٌ كساكها محمد بن عبد الله خَتَنُكَ، وبقرة أهداها لك، فذبحناها حين زوَّجْتَهُ خديجة. فأنكر أن يكون زوَّجه، وخرج يصيح حتى جاء الحِجر، وخرج بنو هاشم برسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فجاؤوه فكلَّموه، فقال: أين صاحبُكم الذي تزعمون أني زوَّجْتُه خديجة؟ فبرز له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فلما نظر إليه قال: إنْ كنتُ زوَّجْته فسبيل ذاك، وإنْ لم أكن فعلتُ فقد زوَّجته

(3)

.

وقد ذكره الزُّهري في سيره، أن أباها زوَّجها منه، وهو سكران، وذكر نحو ما تقدَّم. حكاه السُّهيلي

(4)

.

قال المَوْصلي

(5)

: المجتمع عليه أنّ عمَّها عمرو بن أسد هو الذي زوَّجها منه

(6)

. وهذا هو الذي رجَّحه السُّهيلي، وحكاه

(7)

عن ابن عباس وعائشة قالت: وكان خويلد قد مات فبل الفِجار، وهو الذي نازع تُبَّعًا حين أراد أخْذَ الحَجَر الأسود إلى اليمن، فقام في ذلك خُويلد، وقام معه جماعةٌ من قريش، ثم رأى تُبَّعٌ في منامه ما رَوَّعَهُ، فنزع عن ذلك وترك الحَجَر الأسود مكانه.

وذكر ابن إسحاق في آخر السيرة

(8)

، أن أخاها عمرو بن خُويلد هو الذي زوَّجها رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فالله أعلم.

= صوابه، والمحدثون يفتحون الزاي ويشددون الواو وهو تصحيف؛ وكانت الحزورة سوق مكة، وقد دخلت في المسجد لمَّا زيد فيه. معجم البلدان (2/ 255).

(1)

في ح، ط: بصاحبك، والمثبت من دلائل البيهقي.

(2)

في دلائل البيهقي النقيعة، وهي ما ينحره الرجل إذا زُوِّج، كما في اللسان (نقع).

(3)

إسناده ضعيف جدًا، فإن عمر بن أبي بكر الموصلي متروك ذاهب الحديث كما قال أبو حاتم الرازي (الجرح والتعديل 6/ الترجمة 524)(بشار).

(4)

في الروض (1/ 214).

(5)

الخبر في المعرفة والتاريخ (3/ 253) في القسم المفقود منه، وهو منقول عما هنا.

(6)

قول الموصلي هذا ذكره البيهقي بعد سياق الخبر الآنف الذكر.

(7)

في الروض (1/ 213) بألفاظ مقاربة.

(8)

سيرة ابن هشام (2/ 643).

ص: 90

‌فصل

قال ابن إسحاق

(1)

: وقد كانت خديجةُ بنت خُويلد ذكرت لورقه بن نوفل بن أسد بن عبد العُزَّى بن قُصَيّ -وكان ابنَ عمِّها وكان، نصرانيًا قد تتبَّعِ الكتب وعَلِم من عِلْم الناس- ما ذكر لها غلامُها [ميسرة] من قول الراهب وما كان يرى منه، إذْ كان الملكان يُظِلَّانه، فقال ورقة: لئن كان هذا حقًا يا خديجة، إنَّ محمدًا لنبيُّ هذه الأمة، قد عرفتُ أنه كائنٌ لهذه الأمة نبيٌّ يُنتظرُ، هذا زمانه. أو كما قال: فجعل وَرَقَةُ يستبطئُ الأمر ويقول: حتى متى؟ وقال في ذلك: [من الوافر]

لججتُ وكنتُ في الذِّكْرى لَجُوجا

لِهَمٍّ طالما بعثَ النَّشِيجا

ووصْفٍ من خديجةَ بعدَ وصْفٍ

فقد طال انتظاري يا خَدِيجا

ببطْنِ المكَّتَيْنِ على رَجائي

حديثكِ أنْ أرى منهُ خُروجا

(2)

بما خَبَّرتِنا من قولِ قَسٍّ

منَ الرُّهْبَانِ أكْرَهُ أنْ يَعُوجا

(3)

بأنَّ محمدًا سيسودُ قومًا

ويخصمُ مَنْ يكونُ له حَجيجا

ويَظْهَرُ في البلادِ ضياءُ نورٍ

يُقيم

(4)

به البَرِيَّةَ أنْ تَمُوجا

(5)

فيلقَى من يحاربُه خَسارًا

ويَلقى من يُسالمُهُ فُلُوجا

(6)

فيالَيْتِي إذا ما كانَ ذاكُم

شهِدْتُ وكُنتُ أوَّلَهم وُلُوجا

وُلُوجًا في الذي كرهَتْ قُريشٌ

ولو عجَّتْ بمكَّتِها عَجِيجًا

أُرجِّي في الذي كَرِهوا جميعًا

إلى ذي العرشِ إن سَفَلُوا عُرُوجا

فإنْ تَبْقَوا

(7)

وأبقَ تكن أمورٌ

يَضِجُّ الكافرون لها ضَجِيجا

وإن أهلِكْ فكلُّ فتى سيلقَى

من الأقدار مَتْلَفةً حَرُوجا

(8)

(1)

سيرة ابن إسحاق (ص 94) وسيرة ابن هشام (1/ 191) والروض (1/ 216) وما يأتي بين معقوفين منها.

(2)

قال السهيلي في الروض (1/ 218): ثنَّى مكة وهي واحدة، لأن لها بطاحًا وظواهر

على أن للعرب مذهبًا في أشعارها في تثنية البقعة الواحدة وجمعها

وإنما يقصد العرب في هذا الإشارة إلى جانبي كل بلدة، أو الإشارة إلى أعلى البلد وأسفلها.

(3)

"القَسُّ": رئيس من رؤساء النصارى في الدين والعلم. اللسان (قسس).

(4)

كذا في ح والسيرة والروض، وفي ط: يقوم.

(5)

قال السهيلي في شرحه: الضياء هو المنتشر عن النور

وذلك أن الصلاة هي عمود الإسلام، وهي ذكر وقرآن، وهي تنهى عن الفحشاء والمنكر، فالصبر عن المنكرات، والصبر على الطاعات، هو الضياء الصادر عن هذا النور الذي هو القرآن والذكر.

(6)

"الفلوج": الفوز والظفر. التاج (فلج).

(7)

في ط والسيرة والروض: يبقوا.

(8)

"المتلفة": المهْواة المشرفة على تلف، دونها جبل أو غيره، أو تكون بين جبلين. اللسان (تلف، هوى) وفي =

ص: 91

وقال ورقة أيضًا فيما رواه يونس بن بُكير عن ابن إسحاق عنه

(1)

: [من الطويل]

أتُبْكِرُ أمْ أنتَ العشيّةَ رائحُ

وفي الصدر من إضْمارك الحُزْن قادحُ

لفُرقةِ قومٍ لا أُحبُّ فِرَاقَهم

كأنَّكَ عنهم بعدَ يومَيْن نازِحُ

وأخبارِ صِدْقٍ خَبَّرَتْ عن محمدٍ

يُخَبِّرُها عنهُ إذا غابَ ناصِحُ

فذاك

(2)

الذي وجَّهْتِ يا خيرَ حُرَّة

بغورٍ وبالنَّجْدَيْن حيثُ الصَحاصح

(3)

إلى سوقِ بُصرى في الرِّكابِ التي غَدتْ

وهنّ من الأحمال قُعصٌ دوالِحُ

(4)

فَيُخبرنا عن كُلِّ خيرٍ بعِلْمِهِ

وللحقِّ أبوابٌ لهنّ مفاتِحُ

(5)

بأنَّ ابنَ عبدِ الله أحمدَ مُرْسَلٌ

إلى كُلِّ من ضُمَّتْ عليه الأباطِحُ

وظنِّي به أنْ سوف يُبعث صَادِقًا

كما أُرسل العَبْدانِ هودٌ وصالحُ

وموسَى وإبراهيمُ حتى يُرى له

بَهاءٌ ومنشورٌ من الذِّكر واضحُ

ويتبَعُه حيا لؤيٍ وغالبٍ

(6)

شبابُهمُ والأشيَبُون الجحاجِحُ

فإنْ أبقَ حتى يُدرِكَ الناسُ دَهْرَهُ

فإنِّي به مستبِشرُ الودِّ فارحُ

وإلا فإني يا خَدِيجةُ فاعلمي

عن ارضِكِ في الأرضِ العَرِيضة سائحُ

وزاد الأموي

(7)

:

= (ح، ط): خروجا. أوله خاء معجمة، والمثبت من السيرة والروض. قلت: لعل معناه: ضيِّقة، من الحرج وهو الضيق. فيكون قوله: متلفة حروجًا. كناية عن القبر.

(1)

سيرة ابن إسحاق (ص 94، 95) وأوردها السهيلي في الروض (1/ 220).

(2)

كذا في ح وفي ط: أتاك، وفي الروض والاكتفا: فتاك.

(3)

في سيرة ابن إسحاق: "بغوري والنجدين". والصحاصح: جمع صحصح: الأرض الجرداء المستوية ذات حصى صغار. اللسان (صحح).

(4)

في ح: والركاب. قعص: كذا في الأصول والسيرة والروض، ولم يتجه لي معناه بهذا اللفظ. قلت لعله "نعص" بنون في أوله، من النَّعَص، وهو التمايل. والدوالح: جمع دالح، وهو البعير [الذكر والأنثى سواء] إذا دلح، وهو تثاقله في مشيه من ثقل الحمل. اللسان (نعص، دلح).

(5)

في ح: فواتح.

(6)

كذا في ح، ط: وأظن الصواب فيه: حيا لؤي بن غالب. قال ابن حزم في جمهرة الأنساب ص 12: فولد لؤي بن غالب: كعب بن لؤي، وفيه البيت والعدد، وعامر بن لؤي، وهذان الصريحان من ولد لؤي. وفي نسب قريش للمصعب (ص 13): فولد لؤي بن غالب كعبًا وعامرًا، وهما البطاح. ويؤيد هذا ما جاء في رواية ابن إسحاق في السيرة والسهيلي في الروض: حيا لؤي جماعة.

(7)

ذكرت هذه الأبيات في هامش (ح).

ص: 92

فمتَّبِعٌ دينَ الذي أسَّسَ البِنَا

وكانَ له فضلٌ على الناسِ راجحُ

وأسَّسَ بُنْيانًا بمكَّةَ ثابتًا

تلألأَ فيه بالظلامِ المصابحُ

مَثابًا لأفناء القبائلِ كلِّها

تَخُبُّ إليهِ اليَعْمُلاتُ الطلائحُ

(1)

حَرَاجِيجُ أمثالُ القِدَاحِ من السُّرَى

يُعَلَّقُ في أرساغِهِنَّ السَّرائِحُ

(2)

ومن شعره فيما أورده له أبو القاسم السُّهَيْلي في "روضه"

(3)

: [من البسيط]

لقد نصحتُ لأقوامٍ وقلتُ لهم:

أنا النذيرُ فلا يغررْكُمُ أحَدُ

لاتعبُدُنَّ إلَهًا غيرَ خالقِكم

فإنْ دعَوْكم فقولوا بيْننا حَدَدُ

(4)

سُبْحان ذي العرشِ سُبْحانًا يدومُ له

وقَبْلَنَا سبَّحَ الجُوديُّ والجُمُدُ

(5)

مسخَّرٌ كلُّ ما تحتَ السماءِ له

لا ينبغي أن يناوي ملكَهُ أحَدُ

لا شيء مما نَرى تبقى بَشاشَتُه

يَبْقَى الإلَهُ ويُودي المالُ والولَدُ

لم تُغنِ عن هُرمْزٍ يومًا خَزائنُهُ

والخُلْدَ قد حاولتْ عادٌ فما خلَدُوا

ولا سليمانُ إذْ تجري الرِّياحُ به

والجِنُّ والإنْسُ فيما بينها تردُ

(6)

أينَ الملوكُ التي كانتْ لِعِزَّتِها

من كلِّ أوبٍ إليها وافدٌ يَفِدُ

حوضٌ هنالك مورودٌ بلا كَذبٍ

لا بدَّ من وِردِه يومًا كما وَرَدُوا

ثم قال: هكذا نسبه أبو الفرج إلى وَرَقَة. قال: وفيه أبياتٌ تُنسب إلى أُميَّة بن أبي الصَّلْت.

قلت: وقد رَوينا عن أمير المؤمنين عمرَ بنِ الخطاب رضي الله عنه أنه كان يستشهد في بعض الأحيان بشيءٍ من هذه الأبيات، فالله أعلم.

(1)

"اليعملات الطلائح": النوق السريعة التي جَهَدَها السير وأهزلها. "وتخبُّ": من الخَبَب، وهو السرعة في العدو. وفي ح: تخف. وهو بمعناه. اللسان (طلح، عمل، خبب).

(2)

"حراجيج": جمع حُرْجُوج وحُرْجيج، وهي الناقة الطويلة. والسرائح: والسُّرُح: نعال الإبل، وقيل سُيُور نعالها، كل سير منها سريحة، وقيل: السيور التي يُخصف بها. اللسان (حرج، سرح).

(3)

الروض الأنف (1/ 217).

(4)

دعوة حَدَد، محركة: أي باطلة. وأمر حَدَد: ممتنع باطل، لا يحل أن يُرتكب. التاج (حدد). ووقع في الروض: جدد، بالجيم المعجمة.

(5)

"الجودي": هو جبل مطل على جزيرة ابن عمر في الجانب الشرقي من دجلة من أعمال الموصل. معجم البلدان (2/ 179). والجمد: بضمتين، هو جبل لبني نصرٍ بنجد، معجم البلدان (2/ 161) والأبيات فيه. ونسب هذا البيت لأمية بن أبي الصلت كما سيأتي، وهو في ديوانه (ص 376) وتخريجه فيه.

(6)

كذا في ح ومعجم البلدان، وفي ط والروض: مرد.

ص: 93

‌فصل: في تجديد قريش بناء الكعبة قبل المبعث بخمس سنين

ذكَرَ البيهقيُّ

(1)

بناءَ الكعبة قبل تزويجة عليه الصلاة والسلام خديجة. والمشهور أنَّ بناء قريش الكعبة بعد تزويج خديجة كما ذكرناه بعشر سنين. ثم شرع البيهقي في ذكر بناء الكعبة في زمنِ إبراهيم كما قدمناه في قصته، وأورد حديثَ ابنِ عباس المتقدِّم في "صحيح" البخاري

(2)

وذكر ما ورد من الإسرائيليات في بنائه في زمن آدم، ولا يصحُّ ذلك، فإنَّ ظاهر القرآن يقتضي أن إبراهيم أولُ من بناه مبتدِئًا، وأولُ مَنْ أسَّسه، وكانت بقعتُه معظَّمة قبل ذلك، معتنًى بها، مشرَّفةً في سائر الأعصارِ والأوقات، قال الله تعالى:{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 96 - 97].

وثبت في "الصحيحين"

(3)

عن أبي ذرّ قال: قلتُ: يا رسولَ الله، أيُّ مسجدٍ وُضع أوَّل؟ قال:"المسجدُ الحرام" قلتُ: ثم أيّ؟ قال: "المسجدُ الأقصى". قلت: كم بينهما؟ قال: "أربعون سنة".

وقد تكلَّمنا على هذا فيما تقدَّم

(4)

، وأنَّ المسجد الأقصى أسَّسه إسرائيلُ وهو يعقوب عليه السلام.

وفي "الصحيحَيْن"

(5)

: "إنَّ هذا البلد حرَّمَهُ اللهُ يومَ خَلَق السماواتِ والأرض، فهو حرامٌ بحُرْمةِ اللهِ إلى يوم القيامة".

وقال البيهقي

(6)

: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، حدّثنا أبو عبد الله الصفَّار، حدّثنا أحمد بن مِهْران، حدّثنا عُبيد الله، حدّثنا إسرائيل، عن أبي يحيى، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو، قال: كان البيتُ قبل الأرض بألفَيْ سنة {وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ} [الانشقاق: 3] قال: من تحته مدًّا

(7)

.

(1)

ذِكْرُ بناء الكعبة في دلائل النبوة للبيهقي (2/ 43 - 64).

(2)

حديث البخاري هذا تقدم في الجزء الأول، عند ذكر مولد إسماعيل عليه السلام.

(3)

فتح الباري (3425) الأنبياء باب قول الله تعالى: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ} وصحيح مسلم (2 - 520) كتاب المساجد ومواضع الصلاة.

(4)

تقدم في (1/ 162) من هذا الكتاب ط.

(5)

صحيح البخاري، فتح (1834) جزاء الصيد باب لا يحل القتال بمكة و (3189) الجزية والموادعة باب إثم الغادر للبر والفاجر، وصحيح مسلم (1353)(445) الحج باب تحريم مكة وصيدها وخلاها.

(6)

في الدلائل (2/ 44).

(7)

في ط: مدت. والمثبت من ح ودلائل البيهقي. والحديث أخرجه الحاكم أيضًا بهذا اللفظ في المستدرك (2/ 518) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد!. أقول: وسيأتي كلام المصنف عليه.

ص: 94

قال: وقد تابعه منصور عن مجاهد.

قلت: وهذا غريبٌ جدًّا، وكأنَّه من الزَّامِلَتَيْن اللتين أصابهما عبد الله بن عمرو يوم اليرموك

(1)

، وكان فيهما إسرائيليات يحدِّثُ منهما، وفيهما منكراتٌ وغرائب.

ثم قال البيهقي

(2)

: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا أبو جعفر محمد بن محمد بن عبد الله البغدادي

(3)

، حدّثنا يحيى بن عثمان بن صالح، حدّثنا أبو صالح الجُهني، حدّثني ابنُ لهيعةَ، عن يزيد، عن أبي الخير

(4)

، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "بعث اللهُ جبريلَ إلى آدم وحوَّاء، فقال لهما: ابْنِيا لي بيتًا. فخطَّ لهما جبريل، فجعل آدم يَحْفِر وحواء تنقل، حتى أجابه الماء نودي من تحته: حَسْبُكَ يا آدم. فلمَّا بَنَياه أوحى اللهُ تعالى إليه أنْ يطوفَ به، وقيل له: أنت أولُ الناس، وهذا أولُ بيت، ثم تناسختِ القرون حتى حجَّه نوح، ثم تناسخت القرون حتى رَفَعَ إبراهيمُ القواعِدَ منه".

قال البيهقي: تفرَّد به ابنُ لَهيعة هكذا مرفوعًا.

قلت: وهو ضعيف، ووَقْفُهُ على عبد الله بن عمرو أقوى وأثبت، والله أعلم.

وقال الربيع

(5)

: أخبرنا الشافعي، أخبرنا سفيان، عن ابن أبي لَبِيد، عن محمد بن كعب القُرَظي -أو غيره- قال: حجَّ آدمُ فلقيتْهُ الملائكة فقالوا: برَّ نُسْكُكَ يا آدم، لقد حجَجْنا قبلك بألفَيْ عام.

وقال يونس بن بُكير عن ابن إسحاق

(6)

: حدّثني بَقِيَّة -أو قال: ثقةٌ من أهل المدينة- عن عُروة بن الزُّبير أنه قال: ما مِنْ نبيٍّ إلا وقد حجَّ البيت، إلا ما كان من هود وصالح.

قلتُ: وقد قدَّمنا حجَّهما إليه

(7)

. والمقصودُ الحجُّ إلى محلَّته، وبُقْعَتِه، وإنْ لم يكنْ ثَمَّ بناء، والله أعلم.

(1)

في ذلك أقوال وردت في الجزء الأول فى قصة شعيب.

(2)

في الدلائل (2/ 44، 45).

(3)

في ط: محمد بن محمد بن محمد بن عبد الله البغدادي، والمثبت من ح ودلائل البيهقي وهو محمد بن محمد بن عبد الله بن حمزة بن جميل البغدادي المشهور بالجمال المتوفى سنة 346 هـ. ترجمته في سير أعلام النبلاء (15/ 547 - 548).

(4)

في ح، ط: يزيد بن أبي الخير. وهو تصحيف، والمثبت من دلائل البيهقي. ويزيد هو ابن أبي حبيب، وأبو الخير هو مرثد بن عبد الله اليزني، ورواية كل منهما عن الآخر ثابتة في ترجمتهما في تهذيب التهذيب (10/ 82 و 11/ 318).

(5)

قول الربيع وإسناده في دلائل البيهقي (2/ 45).

(6)

قول يونس عن ابن إسحاق ساقه البيهقي في الدلائل (2/ 45، 46).

(7)

في الجزء الأول عند قصة هود وصالح.

ص: 95

ثم أورد البيهقيُّ

(1)

حديثَ ابنِ عباس المتقدِّم في قصة إبراهيم عليه السلام بطوله وتمامه، وهو في "صحيح" البخاري.

ثم روى البيهقي

(2)

من حديث سِمَاك بن حَرْب، عن خالد بن عَرْعَرة قال: سأل رجلٌ عليًّا عن قوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} [آل عمران: 96] أهو أولُ بيتٍ بُني في الأرض

(3)

؟ قال: لا، ولكنَّهُ أولُ بيتٍ وُضع فيه البركةُ للناس والهدى، ومقامُ إبراهيم ومَنْ دخله كان آمنًا، وإنْ شئتَ نبَّأتك كيف بناؤه؛ إنَّ الله تعالى أوحى إلى إبراهيم أن ابن لي بيتًا في الأرض. فضاقَ به ذَرْعًا، فأرسل إليه السَّكِينةَ وهي ريحٌ خَجُوج

(4)

لها رأس، فاتَّبع أحدُهما صاحبَه حتى انتهت

(5)

، ثم تطوقتْ في موضع البيت تطوُّقَ الحيَّة، فبنى إبراهيم، حتى [إذا] بلغ مكان الحجر قال لابنه: ابغني حجرًا. فالتمس [ثَمَّ] حجرًا حتى أتاه به، فوجد الحجر الأسود قد رُكِّب، فقال لأبيه: من أين لك هذا؟ قال: جاء به من لا يتكل على بنائك، جاء به جبريلُ من السماء. فأتمَّه

(6)

.

قال

(7)

: فمرَّ عليه الدهر فانهدم، فبنَتْهُ العمالقة، ثم انهدم فبنَتْهُ جُرْهُم، ثم انهدم فبنته قريش ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ رجلٌ شابّ. فلما أرادوا أن يرفعوا الحجر الأسود اختصموا فيه، فقالوا: نُحَكِّمُ بيننا أولَ رجلٍ يخرج من هذه السكة، فكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أولَ من خرج عليهم، فقضى بينهم أن يجعلوه في مِرْط

(8)

، ثم ترفعُه جميعُ القبائل كلُّهم.

وقال أبو داود الطيالسي

(9)

: حدّثنا حماد بن سلمة وقيس وسلام

(10)

، كلُّهم عن سِمَاك بن حَرْب عن خالد بن عرعرة، عن علي بن أبي طالب، قال: لما انهدم البيت بعد جُرْهُم بنتْهُ قريش، فلما أرادوا وضعَ الحجر تشاجروا، مَنْ يضَعه؟ فاتفقوا أن يضعه أولُ مَنْ يدخل من هذا الباب، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1)

دلائل النبوة للبيهقي (2/ 46 - 52).

(2)

في الدلائل (2/ 55) وما يأتي بين معقوفين منه، وأخرج الخبر أيضًا الطبري في تفسيره (3/ 69، 70).

(3)

سياق الخبر في ح على هذا النحو: "

سأل رجل عليًا عن قوله: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ} فيه البركة {لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ} أهو أول بيت في الأرض؟ ". والمثبت من ط ودلائل البيهقي.

(4)

"الريح الخجوج": الشديدة المرّ، التي تلتوي في هبوبها، الخوَّارة. اللسان (خجج).

(5)

في تفسير الطبري: حتى انتهت إلى مكة.

(6)

وأخرجه الطبري في تفسيره (3/ 69 - 71) والحاكم في المستدرك (2/ 292 - 293) وأورده الأزرقي في تاريخ مكة (1/ 24، 25).

(7)

يعني البيهقي في دلائل النبوة (2/ 56) بالسند نفسه.

(8)

"المِرْط": كل ثوب غير مخيط. اللسان (مرط).

(9)

في مسنده رقم (113) وما يأتي بين معقوفين منه. وهو في منحة المعبود (2/ 86، 2316).

(10)

في مسند الطيالسي: وقيس وسماك كلهم عن سماك، والمثبت من ح، ط وتهذيب الكمال (12/ 117، 282) في ترجمتي سماك وسلام، ورواية سلام عن سماك ثابتة فيهما.

ص: 96

من باب بني شَيْبَة، فأمر بثوب، فوضع، [فأخذ] الحجر [ووضعه] في وسطه، وأمر كلَّ فَخِذٍ أنْ يأخذوا بطائفة من الثوب، فرفعوه، وأخذه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فوضعه.

قال يعقوبُ بن سفيان

(1)

: أخبرني أصْبَغ بن فَرَج، أخبرني ابنُ وَهْب عن يونس عن ابن شهاب قال: لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم الحُلُم، أجْمرَتِ امرأةٌ الكعبة

(2)

فطارتْ شرارةٌ من مِجْمَرها في ثياب الكعبة فاحترقتْ، فهدموها، حتى إذا بنوها فبلغوا موضعَ الرُّكْن اختصمتْ قريش في الرُّكْن، أيُّ القبائل تلي رفعه؟ فقالوا: تعالوا نُحَكِّم أولَ مَنْ يطلع علينا، فطلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غلام عليه وشاحُ نَمِرة، فحكَّموه، فأمر بالركن فوضع في ثوب، ثم أخرج سيدَ كلِّ قبيلةٍ فأعطاهُ ناحيةً من الثوب، ثم ارتقى هو فرفعوا إليه الركن، فكان هو يضعه، فكان لا يزدادُ على السِّنِّ إلا رِضى، حتى دعَوْهُ الأمين قبل أن ينزل عليه الوَحْي، فطفِقُوا لا ينحرون جَزُورًا إلا التمسوه، فيدعو لهم فيها.

وهذا سياقٌ حَسَن، وهو من سِيَر الزُّهْري، وفيه من الغرابة قوله: فلما بلغ الحُلُم. والمشهور أنَّ هذا كان ورسول الله صلى الله عليه وسلم عمره خمسٌ وثلاثون سنة، وهو الذي نصَّ عليه محمد بن إسحاق بن يسار رحمه الله.

وقال موسى بن عُقْبة: كان بناءُ الكعبة قبل المَبْعَث بخمس عشرة سنة. وهكذا قال مجاهد، وعروة، ومحمد بن جُبير بن مُطْعِم وغيرهم. فالله أعلم.

وقال موسى بن عُقْبة: كان بين الفجار وبين بناء الكعبة خمس عشرة سنة.

قلت: وكان الفِجَار وحِلْفُ الفُضُول في سنةٍ واحدة، إذْ كان عُمُر رسولِ الله صلى الله عليه وسلم عشرين سنة

(3)

، وهذا يؤيِّدُ ما قال محمد بن إسحاق، والله أعلم.

قال موسى بن عقبة

(4)

: وإنما حمل قريشًا على بنائها أنَّ السُّيول كانت تأتي من فوقها، من فوق الرَّدْم الذي صنعوه، فأخرَّ به، فخافوا أن يدخلها الماء. وكان رجلٌ يُقال له: مليح، سرق طِيب الكعبة. فأرادوا أنْ يشيدوا بُنْيانها وأن يرفعوا بابها حتى لا يدخلَها إلا مَنْ شاؤوا، فأعدُّوا لذلك نفقةً وعُمَّالًا، ثم غَدوْا إليها ليهدموها على شَفَقٍ وحذَر، أن يمنعَهُم [الله] الذي أرادوا. فكان أوَّل رجلٍ طلعها وهدم منها شيئًا الوليد بن المغيرة، فلما رأَوا الذي فعل الوليد تتابعوا فوضعوها، فأعجبهم ذلك. فلما أرادوا أنْ يأخذوا في بنيانها، أحضروا عُمَّالَهم فلم يقدرْ رجلٌ منهم أنْ يمضيَ أمامَهُ موضعَ قدم. فزعموا أنهم رأوا

(1)

في المعرفة والتاريخ (3/ 252) وهو في القسم المفقود منه، اقتبسه المحقق من هنا.

(2)

"أجمرت الكعبة": يعني بخرتها بالطيب وفي ط: جمرت، وهو بمعناه، يقال: أجمرتُ الثوب وجمَّرْتُه: إذا بخرته بالطيب، اللسان (جمر).

(3)

في ح، ط: عشرون سنة.

(4)

قول موسى بن عقبة في عيون الأثر (1/ 51، 52) وما يأتي بين معقوفين منه.

ص: 97

حيَّةً قد أحاطتْ بالبيت، رأسُها عند ذنبها، فأشفقوا منها شفقةً شديدة، وخَشُوا أن يكونوا قد وقعوا مما عمِلُوا في هَلَكة. وكانت الكعبة حرزَهم ومنعتَهم من الناس، وشرفًا لهم. فلما سُقط في أيديهم، والتبس عليهم أمْرُهم قام فيهم المغيرةُ بن عبد الله بن عمر

(1)

بن مَخْزوم، فذكر ما كان من نُصْحه لهم وأمْرِه إياهم أنْ لا يتشاجروا ولا يتحاسدوا في بنائها، وأنْ يقتسموها أربعًا، واْنْ لا يُدخلوا في بنائها مالًا حرامًا.

وذكر أنهم لما عزموا على ذلك ذهبتِ الحيَّةُ في السماء وتغيَّبَتْ عنهم، ورأوا أنَّ ذلك من الله عز وجل. قال: ويقول بعض الناس: إنه اختطفها طائر وألقاها نحو أجْياد

(2)

.

وقال محمد بن إسحاق بن يسار

(3)

: فلما بلغ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم خمسًا وثلاثين سنةً، اجتمعتْ قريش لبناء الكعبة، وكانو يهمُّون بذلك ليسقفوها، ويهابون هَدْمها، وإنما كانتْ رَضْمًا

(4)

فوق القامة، فأرادوا رفعها وتسقيفها، وذلك أنَّ نفرًا سرقوا كنز الكعبة، وإنما كان يكون

(5)

في بئرٍ في جَوْف الكعبة؛ وكان الذي وجد عنده الكنز دُويك، مولى لبني مُلَيح بن عمرو من خُزَاعة، فقطعتْ قريش يده، وتزعم قريش أنَّ الذين

(6)

سرقوه وضعوه عند دويك. وكان البحر قد رمى بسفينةٍ إلى جُدَّة، لرجلٍ من تجار الروم، فتحطمت، فأخذوا خشَبَها فأعدُّوه لتسقيفها.

قال الأموي: كانت هذه السفينةُ لقيصر ملك الرُّوم، تحمل له آلاتِ البناء من الرُّخام والخشَب والحديد، سرَّحها قيصر مع بَاقُوم الرُّومي إلى الكنيسةِ التي أحرقها الفُرْس للحبشة، فلما بلغتْ مرساها من جُدَّة بعث الله عليها ريحًا فحطَّمَتْها.

قال ابن إسحاق

(7)

: وكان بمكة رجلٌ قِبْطِيٌّ نجَّار، فتهيَّأ لهم في أنفسهم بعضُ ما يُصلحها. وكانت حيَّةٌ تخرج من بئر الكعبة التي كان يُطرح فيها ما يُهدى إليها كلَّ يوم، فتتشرَّقُ

(8)

على جدار الكعبة، وكانت مما يهابون، وذلك أنه كان لا يدنو منها أحد إلا احْزألَّتْ وكشَّتْ

(9)

وفتحتْ فاها، فكانوا

(1)

في ح، ط: المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم، والمثبت من عيون الأثر (1/ 52) وجمهرة النسب لابن الكلبي (1/ 264) والمحبر (ص 84، 132، 139) وجمهرة الأنساب لابن حزم (ص 144).

(2)

أجياد: كأنه جمع جيد وهو العنق، موضع بمكة يلي الصفا. معجم البلدان (1/ 105).

(3)

سيرة ابن إسحاق (ص 83، 84) وفيه الخبر مطول، ويبدو أن المصنف نقله من سيرة ابن هشام (1/ 192، 193).

(4)

"الرَّضم": صخور بعضها على بعض. النهاية (2/ 231)(رضم).

(5)

سقطت "يكون" من ط، وهي ثابتة في ح وسيرة ابن هشام.

(6)

في ح: الذي.

(7)

سيرة ابن إسحاق (ص 83، 84) وسيرة ابن هشام (1/ 193).

(8)

في ح: فتتشرف وفي ط: فتشرف، وفي سيرة ابن إسحاق: فتشرق، والمثبت من سيرة ابن هشام والروض. والتشرّق؛ الظهور للشمس حينما يدركها برد السحر. اللسان (شرق) والحيوان للجاحظ (4/ 39، 6/ 55).

(9)

"احزألَّت": ارتفعت واجتمعت. كشت الأفعى كشًا وكشيشًا: وهو صوت جلدها إذا حكت بعضها ببعض. اللسان (حزل، كشش).

ص: 98

يهابونها. فبينما هي يومًا تشرَّقُ على جدار الكعبة كما كانت تصنع، بعث الله عليها طائرًا فاختطفها

(1)

، فذهب بها. فقالت قريش: إنا لنرجو أن يكونَ اللهُ تعالى قد رضي ما أرَدْنا، عندنا عامل رفيق وعندنا خشب، وقد كفانا اللهُ الحيَّة.

وحكى السُّهيلي عن رَزين

(2)

، أنَّ سارقًا دخل الكعبة في أيام جُرْهُم ليسرق كنزها، فانهار البئر عليه

(3)

، حتى جاؤوا فأخرجوه وأخذوا منه ما كان أخذه، ثم سكنتْ هذ

(4)

البئرَ حَيَّةٌ رأسُها كرأس الجَدْي، وبطنها أبيض، وظهرها أسود، فأقامتْ فيها خمسمائة عام، وهي التي ذكرها محمد بن إسحاق.

قال محمد بن إسحاق

(5)

: فلما أجمعوا أمرهم لهدْمها وبنيانها قام أبو وهب بن عمرو بن عائذ بن عبد بن عمران بن مخزوم -وقال ابنُ هشام: عائذ بن عمران بن مخزوم

(6)

- فتناول من الكعبة حجرًا فوثب من يده حتى رجع إلى موضعه، فقال: يا معشر قريش، لا تُدخلوا في بنيانها مِن كَسْبكم إلا طيِّبًا، لا يُدخَلُ فيها مَهْرُ بغيّ، ولا بَيْعُ ربا، ولا مَظْلَمة أحدٍ من الناس. والناسُ يَنْحَلُونَ هذا الكلام الوليدَ بن المُغيرة بن عبد الله بن عمر

(7)

بن مخزوم.

ثم رجَّح ابنُ إسحاق أنَّ قائل ذلك أبو وهب بن عمرو، قال: وكان خالَ أبي النبيِّ صلى الله عليه وسلم وكان شريفًا ممدَّحًا.

وقال ابن إسحاق

(8)

: ثم إنَّ قريشًا تجزَّأتِ الكعبة؛ فكان شِقُّ الباب لبني عبد مناف وزُهْرة، وما بين الركن الأسود والركن اليماني لبني مخزوم وقبائل من قريش انضمُّوا إليهم، وكان ظهرُ الكعبة لبني جُمَح وسهم، وكان شِقُّ الحِجْر لبني عبدِ الدَّار بن قُصَيّ، ولبني أسد بن عبد العُزَّى ولبني عدي بن كعب، وهو الحَطِيم.

ثم إنَّ الناسَ هابوا هَدْمَها وفرِقوا منه، فقال الوليد بن المُغيرة: أنا أبدؤكم في هَدْمها، فأخذ المِعْوَل

(1)

في سيرة ابن إسحاق: طائرًا لا يدرون ما هو، فاختطفها من متشرَّقها.

(2)

في الروض (1/ 224، 225 و 137) بألفاظ مقاربة.

(3)

لفظ السهيلي: فسقط عليه حجر فحبسه فيها.

(4)

في الأصل: هذا، وهو تصحيف من الناسخ، لأن البئر مؤنثة، يدل عليها الضمير في قوله:"فأقامت فيها" الآتي.

(5)

سيرة ابن إسحاق (ص 84) بلفظ مختلف، ويبدو أن المصنف نقله من سيرة ابن هشام (1/ 194) فاللفظ له.

(6)

قلت: وهو الصواب، كما جاء في جمهرة النسب لابن الكلبي (1/ 308) وجمهرة الأنساب لابن حزم (ص 141).

(7)

في ح، ط: عمرو، والمثبت من سيرة ابن هشام وسيرة ابن إسحاق.

(8)

سيرة ابن إسحاق (ص 85) واللفظ لابن هشام (1/ 195).

ص: 99

ثم قام عليها وهو يقول: اللهمَّ لَمْ تُرَعُ

(1)

اللهم إنا لا نريدُ إلا الخير. ثم هَدَم من ناحية الرُّكْنين، فتربَّصَ الناسُ تلك الليلة، وقالوا: ننظر، فإنْ أُصيب لم نهدمْ منها شيئًا وردَدْناها كما كانت، وإنْ لم يُصِبْهُ شيء فقد رضي الله ما صنعنا من هدمها. فأصبح الوليدُ غاديًا على عمله، فهدَمَ وهدمَ الناسُ معه، حتى إذا انتهى الهَدْمُ بهم إلى الأساس، أساسِ إبراهيم عليه السلام، أفْضَوْا إلى حجارةٍ خُضْر كالأسِنَّةِ آخِذٌ بعضُها بعضًا -ووقع في "صحيح" البخاري عن يزيد بن رُومَان: كأسْنِمَةِ الإبل

(2)

- قال السُّهيلي: وأرى رواية السيرة -كالأسنة

(3)

- وهمًا، والله أعلم.

قال ابن إسحاق

(4)

فحدّثني بعضُ مَن يروي الحديث، أنَّ رجلًا من قريش ممن كان يهدِمُها، أدخل عتلةً

(5)

بين حجرين منها ليقلع بها أحدَهما، فلما تحرَّك الحجر انتفضتْ

(6)

مكة بأسْرِها. فانتهَوْا عن ذلك الأساس.

وقال موسى بن عقبة: وزعم عبد الله بن عباس، أن أولية قريش كانوا يحدثون أنَّ رجلًا من قريش، لما اجتمعوا لينزعوا الحجارة انتهَوْا

(7)

إلى تأسيس إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، عمد رجلٌ منهم إلى حجَرٍ من الأساس الأول، فرفعه وهو لا يدري أنه من الأساس الأول، فأبصر القومُ بُرْقَةً تحت الحجر، كادت تلتمعُ بصرَ الرجل، ونزا الحجر من يده فوقع في موضعه وفزع الرجل والبناة. فلما ستر الحجر عنهم ما تحته إلى مكانه عادوا إلى بنيانهم وقالوا: لا تحرِّكوا هذا الحجر ولا شيئًا بحذائه.

(1)

قال السهيلي في الروض: (1/ 225): اللهم لم تُرَعْ: هي كلمة تقال عند تسكين الرُّوع، وإظهار اللين والبر في القول، ولا رَوْعَ في هذا الموطن فيُنفى، ولكن الكلمة تقتضي إظهار قصد البر، فلذلك تكلموا بها، وعلى هذا يجوز التكلم بها في الإسلام، وإن كان فيها ذكر الرَّوع الذي هو محال في حق الباري تعالى، ولكن لما كان المقصود ما ذكرنا جاز النطق بها. ويروى أيضًا "اللهم لم نزِغ" وهو جلي لا يشكل. أي لم نحل عن دينك. وهي رواية ابن هشام.

(2)

فتح الباري (1586) الحج باب فضل مكة وبنيانها.

(3)

في ح، ط: كالألسنة، وهو تصحيف، والمثبت من الروض (1/ 228) ولفظه: وليست هذه رواية السيرة، إنما الصحيح في الكتاب (كالأسنة) وهو وهم من بعض النقلة عن ابن إسحاق والله أعلم.

(4)

سيرة ابن إسحاق (ص 85) وسيرة ابن هشام (1/ 195) واللفظ له.

(5)

"العتلة": العصا الضخمة من حديد لها رأس مفلطح كقبيعة السيف، تكون مع البناء يهدم بها الحيطان. وقبيعة السيف: ما كان على طرف مقبضه من فضة أو حديد، وهي التي يُدخل القائم فيها. اللسان (عتل، قبع).

(6)

كذا في ح، ط، وفي سيرة ابن إسحاق وابن هشام: تنقضت، وفي السيرة الحلبية (1/ 142): تنفضت أي تحركت، وفي شرح المواهب (1/ 246): تنغصت. قلت: أظن الصواب فيه إن شاء الله تنغضت، بالغين والضاد المعجمتين، أي: تحركت ورجفت، جاء في النهاية (5/ 87) (نغض): وفي حديث ابن الزبير: إن الكعبة لما احترقت نغضت، أي تحركت ووهت.

(7)

سقطت اللفظة من ط وهي في ح.

ص: 100

قال ابن إسحاق

(1)

: وحُدِّثت أنَّ قريشًا وجدوا في الرُّكْن كتابًا بالسريانية، فلم يعرفوا ما هو، حتى قرأه لهم رجلٌ من يهود، فإذا هو: أنا الله ذو بَكَّة، خلقتُها يوم خلقتُ السماواتِ والأرض، وصورتُ الشمس والقمر، وحفَفْتُها بسبعة أملاكٍ حُنفاء، لا تزولُ حتى يزولَ أخشباها -قال ابنُ هشام: يعني جبلاها- مباركٌ لأهلها في الماء واللبن.

قال ابنُ إسحاق

(2)

: وحُدِّثت أنهم وجدوا في المقام كتابًا فيه: مكة [بيتُ] اللهِ الحرام، يأتيها رِزْقُها من ثلاثة سُبُل، لا يحلُّها أول من أهلها

(3)

.

قال

(4)

: وزعم ليثُ بن أبي سليم

(5)

أنهم وجدوا [حجَرًا] في الكعبة قبل مبعثِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بأربعين سنة -إن كان ما ذُكر حقًا- مكتوبًا فيه: مَنْ يزرعْ خيرًا يحصدْ غِبْطة، ومَنْ يزرعْ شرًّا يحصُدْ ندامة، تعملون السيئات وتُجزَوْنَ الحسنات؟! أجَل، كما [لا] يُجْتَنى من الشُّوْك العِنَب

(6)

.

وقال سعيد بن يحيى الأموي: حدّثنا المعتمر بن سليمان، عن عبد الله بن بشر الرَّقيِّ، عن الزهري -يرفع الحديث إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "وجد في المقام ثلاثة أصفح، في الصَّفْح الأول: إني أنا الله ذو بَكَّة صنعتُها يوم صنعت

(7)

الشمس والقمر، وحفَفْتُها بسبعةِ أملاك حُنفاء، وباركتُ لأهلها في اللحم واللبن. وفي الصَّفْح الثاني: إني أنا الله ذو بَكَّة، خلقت الرحم وشقَقْتُ لها من اسمي، فمَنْ وصلها وصلْتُه، ومن قطعها بَتَتُّه. وفي الصَّفْح الثالث: إني أنا الله ذو بكَّة، خلقتُ الخيرَ والشرَّ وقدَّرْتُه، فطوبى لمن أجرَيْتُ الخيرَ على يديه، وويلٌ لمن أجريتُ الشرَّ على يديه.

قال ابن إسحاق

(8)

: ثم إنَّ القبائل من قريش جمعتِ الحجارة لبنائها، كلُّ قبيلةٍ تجمع على حدة، ثم بنَوْها، حتى بلغ البناءُ موضعَ الرُّكْن، فاختصموا فيه، كلُّ قبيلة تريد أن ترفعَهُ إلى موضعه دون الأخرى؛

(1)

سيرة ابن إسحاق (ص 86) وسيرة ابن هشام (1/ 196) واللفظ له.

(2)

سيرة ابن إسحاق (ص 86) وسيرة ابن هشام (1/ 196) وما يأتي بين معقوفين منه، واللفظ له.

(3)

قال السهيلي في الروض (1/ 227): يريد -والله أعلم- ما كان من استحلال قريش القتال فيها أيام ابن الزبير، وحُصين بن نمير، ثم الحجاج بعده، ولذلك قال ابن أبي ربيعة:

ألا من لقلب مُعنى غَزِلْ

بحب المحلة أخت المُحِلْ

يعني بالمُحِلّ عبد الله بن الزبير لقتاله في الحرم.

(4)

القائل هو ابن إسحاق كما في سيرة ابن هشام (1/ 196) وما يأتي بين معقوفين منه.

(5)

وهو ضعيف.

(6)

وهو من أمثالهم: أي إذا ظلمت فاحذر الانتصار، فإن الظلم لا يُكْسبكَ إلا مثل فعلك. مجمع الأمثال للميداني (1/ 86 ط محمد أبو الفضل إبراهيم مصر 1977) والأمثال لأبي عبيد (ص 270).

(7)

ساق الخبر السهيلي في الروض (1/ 227) من طريق معمر بن راشد في الجامع عن الزهري أنه قال: بلغني أن قريشًا حين بنوا الكعبة وجدوا فيها

وذكر الحديث، ولفظه: صغتها يوم صغت

(8)

سيرة ابن إسحاق (ص 86 - 88) وسيرة ابن هشام (1/ 196) واللفظ له.

ص: 101

حتى تحاوروا وتحالفوا، وأعدُّوا للقتال، فقرَّبتْ بنو عبد الدار جَفْنةً مملوءةً دمًا، ثم تعاقدوا هم وبنو عديِّ بن كعب بن لؤي على الموت، وأدخلوا أيديَهُمْ في ذلك الدم في تلك الجفنة، فسُمُّوا لعقة الدم. فمكثتْ قريش على ذلك أربعَ ليالٍ أو خمسًا، ثم إنهم اجتمعوا في المسجد، فتشاوروا وتناصفوا.

فزعم بعضُ أهل الرواية، أن أبا أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر

(1)

بن مخزوم -وكان عامئذٍ أسنَّ قريش كلِّها، قال: يا معشر قريش، اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أولَ مَنْ يدخل من باب هذا المسجد يقضي بينكم فيه. ففعلوا، فكان أولَ داخلٍ دخل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأوه قالوا: هذا الأمين، رَضِينا، هذا محمد. فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هَلُمَّ

(2)

إليَّ ثوبًا" فأُتي به، وأخذ الرُّكْن فوضعه فيه بيدهِ ثم قال: "لتأخذْ كلُّ قبيلةٍ بناحيةٍ من الثوب، ثم ارْفَعُوهُ جميعًا" ففعلوا، حتى إذا بلغوا به موضعَه، وضعَهُ هو بيده صلى الله عليه وسلم. ثم بُني عليه. وكانت قريش تسمِّي رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمين.

وقال الإمام أحمد

(3)

: حدّثنا عبد الصمد، حدّثنا ثابت -يعني أبا زيد

(4)

- حدّثنا هلال -يعني ابن خبَّاب

(5)

- عن مجاهد عن مولاه -وهو السائب بن عبد الله- أنه حدّثه أنه كان فيمن بنى الكعبة في الجاهلية قال: وكان لي حجر أنا نحتُّه، أعبدُه من دون الله، قال: وكنتُ أجيء باللبن الخاثر الذي أنْفَسُه

(6)

على نفسي فأصبُّهُ عليه، فيجيءُ الكلبُ فيلحسه، ثم يَشْغَرُ

(7)

فيبول، قال: فبنينا حتى بلغنا موضع الحجر، ولا يرى الحَجَر أحد، فإذا هو وسط حِجَارنا

(8)

مثل رأس الرجل، يكاد يتراءى منه وجهُ الرجل، فقال بطْنٌ من قريش: نحن نضعُهُ. وقال آخرون: نحن نضعه. فقالوا: اجعلوا بينكم حَكَمًا. فقالوا: أوَّلُ رجلٍ يَطْلعُ من الفَجّ. فجاء رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: أتاكم الأمين. فقالوا له: فوضعه في ثوب، ثم دعا بطونهم، فرفعوا نواحيه، فوضعه هو صلى الله عليه وسلم.

(1)

في ح، ط: عمرو، انظر ما مضى (ص 98 حاشية 1).

(2)

في ط: هلموا، والمثبت من ح والسيرة. وهلمّ: بمعنى أقبل، تقال للواحد والاثنين والجماعة.

(3)

في مسنده (3/ 425).

(4)

في ح، ط: أبا يزيد، وهو تصحيف، والمثبت من المسند، وهو ثابت بن يزيد أبو زيد الأحول البصري. ترجمته في سير أعلام النبلاء (7/ 305) وتهذيب التهذيب (2/ 18).

(5)

في ح، ط: حبان وهو تصحيف، والمثبت من المسند، ترجمته في تهذيب التهذيب (11/ 77) وقد ضبطه ابن حجر في التقريب (2/ 323) بقوله: بمعجمة وموحدتين.

(6)

في ح، ط: آنفه، والمثبت من المسند، يقال نفِسْتُ عليه الشيء أنفَسُه: إذا ضننْتَ به ولم تحب أن يصل إليه. اللسان (نفس).

(7)

شغر الكلب: رفع إحدى رجليه ليبول. اللسان (شغر).

(8)

في ط: أحجارنا، وفي المسند حجارتنا، وكل ذلك جمع حَجَر. اللسان (حجر). ط دار المأمون 1400 هـ - دمشق.

ص: 102

قال ابن إسحاق

(1)

: وكانتِ الكعبة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ثماني عشرة ذراعًا، وكانت تُكْسى القَبَاطيّ

(2)

، ثم كُسيت بعدُ البُرود. وأول مَنْ كساها الديباج الحجَّاج بن يوسف

(3)

.

قلت: وقد كانوا أخرجوا منها الحِجْر -وهو ستة أذرع أو سبعة أذرع من ناحية الشام- قصَّرت بهم النفقة، أي: لم يتمكَّنُوا أن يبنوه علىِ قواعد إبراهيم، وجعلوا للكعبة بابًا واحدًا من ناحية الشرق، وجعلوه مرتفعًا لئلا يدخل إليها كل أحد فَيُدخلوا من شاؤوا ويمنعوا من شاؤوا.

وقد ثبت في "الصحيحيْن"

(4)

عن عائشة رضي الله عنها، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها:"ألم تريْ أنَّ قومَكِ قصَّرَتْ بهم النَّفَقَة، ولولا حِدْثانُ قومِكِ بكُفْر لنقضْتُ الكعبةَ، وجعلتُ لها بابًا شرقيًا وبابا غربيًّا، وأدخلتُ فيها الحِجْر".

ولهذا لما تمكَّن ابنُ الزُّبير بناها على ما أشار إليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وجاءتْ في غاية البهاء والحُسْن والسناء كاملة على قواعد الخليل، لها بابان ملصقان بالأرض شرقيًا وغربيًا، يدخلُ الناس من هذا ويخرجونَ من الآخر. فلما قَتَل الحجَّاجُ ابنَ الزبير كتب إلى عبد الملك بن مروان -وهو الخليفة يومئذ- فيما صنعه ابنُ الزبير، واعتقدوا أنَّهُ فعل ذلك من تلقاء نفسه. فأمر بإعادتها إلى ما كانت عليه، فعمدوا إلى الحائط الشامي، فحصوه

(5)

وأخرجوا منه الحِجْر، ورصُّوا حجارته في أرض الكعبة، فارتفع بابُها

(6)

، وسدُّوا الغربي، واستمرَّ الشرقيُّ على ما كان عليه، فلما كان في زمن المهدي -أو ابنه المنصور- استشار مالكًا في إعادتها على ما كان صنعه ابنُ الزبير، فقال مالكٌ رحمه الله: إني أكره أن يتَّخذها الملوك مَلْعَبة، فتركها على ما هي عليه. فهي إلى الآن كذلك.

وأما المسجد الحرام: فأول من أخَّرَ بُنيانَ البيوتِ من حول الكعبة عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه، اشتراها من أهلها وهدمها، فلما كان عثمان اشترى دُورًا وزادها فيه؛ فلما ولي ابنُ الزبير أحكم

(1)

سيرة ابن هشام (1/ 198).

(2)

"القباطي": جمع قُبْطِيَّة، وهي ثياب كتان بيض رقاق تعمل بمصر، وهي منسوبة إلى القِبْط على غير قياس. اللسان (قبط).

(3)

ذكر السهيلي عن الزبير بن بكار في الروض (1/ 224) أن ابن الزبير كساها الديباج قبل الحجاج.

(4)

فتح الباري (126) العلم باب من ترك بعض الاختيار (1583، 1584، 1585، 1586) الحج باب فضل مكة وبنيانها و (3368) الأنبياء باب (10) و (4484) التفسير باب قوله تعالى: "وإذ يرفع إبراهيم القواعد" و (7243) التمني باب ما يجوز من اللوّ. وصحيح مسلم (1333)(398 - 404) الحج باب نقض الكعبة وبنائها.

(5)

كذا في ح، ط ولم يتجه لي معناه بهذا اللفظ. قلت: لعل معناه جعلوه مفتتًا كالحصى، أو أن الصواب فيه: فحصْحَصُوه. من حَصْحَصَ التراب وغيره. إذا حرَّكته وفحصته يمينًا وشمالًا. أو فحَصُوه من الفحص وهو البحث، وفحص المطر التراب قلبه ونحّى بعضه عن بعض. اللسان (حمص، فحص، حصي).

(6)

كذا في ح وفي ط: باباها.

ص: 103

بنيانه، وحسَّن جدرانه وكبَّر

(1)

أبوابه، ولم يوسِّع شيئًا آخر. فلما استبدَّ بالأمر عبدُ الملك بن مروان زاد في ارتفاع جُدْرانه، وأمر بالكعبة فكُسيت الدِّيباج. وكان الذي تولَّى ذلك بأمره الحجَّاج بن يوسف.

وقد ذكرنا قصة بناء البيت، والأحاديث الواردة في ذلك في تفسير سورة البقرة عند قوله:{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} [البقرة: 127]. وذكرنا ذلك مطوَّلا مستقصى، فمن شاء كتبه ها هنا ولله الحمد والمِنة.

قال ابن إسحاق

(2)

: فلما فرغوا من البنيان، وبنَوْها على ما أرادوا قال الزُّبير بن عبد المطلب، فيما كان من أمر الحيَّةِ التي كانت قريش تهابُ بنيان الكعبة لها:[من الوافر]

عجبتُ لِمَا تصوَّبتِ العُقابُ

إلى الثعبانِ وهي لها اضطرابُ

وقد كانتْ يكونُ لها كشيشٌ

وأحيانًا يكونُ لها وِثابُ

(3)

إذا قُمنا إلى التأسيس

(4)

شدَّت

تُهيِّبُنا البناءَ وقد نهابُ

(5)

فلما أن خَشِينا الزَّجْرَ

(6)

جاءتْ

عُقابٌ تَتْلَئِبُّ لها انصبابُ

(7)

فضمَّتْها إليها ثم خلَّتْ

لنا البنيانَ ليسَ له

(8)

حِجاب

فقُمْنا حاشِدينَ إلى بناءٍ

لنا منهُ القواعدُ والتُّرَابُ

غداةَ يرفَّع التأسيسُ منه

وليسَ على مَساوينا ثيابُ

(9)

أعزَّ به المليكُ بني لُؤَيٍّ

فليسَ لأصلِهِ منهم ذَهابُ

وقد حشَدَتْ هناك بنو عَدِيٍّ

ومُرَّةُ قد تقدَّمها كِلابُ

(1)

كذا في ح وفي ط: أكثر.

(2)

سيرة ابن إسحاق (ص 89) وسيرة ابن هشام (1/ 198) والأبيات الآتية فيهما.

(3)

مضى معنى كشيش (ص 98 حاشية 9).

(4)

في سيرة ابن إسحاق البنيان.

(5)

كذا في ح، ط: وفي سيرة ابن إسحاق يُهاب، وفي سيرة ابن هشام تُهاب.

(6)

"الزجر": المنع والنهي، وفي سيرة ابن إسحاق وابن هشام: الرِّجز.

(7)

قال السهيلي في الروض (1/ 229): قوله تتلئب، يقال: اتلأَبّ على طريقه، إذا لم يُعَرِّج يمنة ولا يسرة، وكأنه منحوت من أصلين: من تلا، إذا تبع، وألبَبَ: إذا أقام، وأبَّ أيضًا قريب من هذا المعنى. أب إبابة، إذا استقام وتهيأ. وفي اللسان (تلأب): اتلأب: استقام.

(8)

في ح، ط: لها، والمثبت من سيرة ابن إسحاق وسيرة ابن هشام.

(9)

ويروى: وليس على مُسَوِّينا ثياب، كما في سيرة ابن هشام. والمسوِّي: أي مسوِّي البنيان. وأما مساوينا فيريد السوءات كما في الروض (1/ 229).

ص: 104

فَبَوّأَنا المليكُ بذاكَ عِزًّا

وعند اللهِ يُلْتَمَسُ

(1)

الثوابُ

وقد قدَّمنا في فصل ما كان الله يحفظ

(2)

به رسول الله صلى الله عليه وسلم من أقذار الجاهلية، أنه كان هو والعباس عمُّه ينقلانِ الحجارة، وأنه عليه الصلاة والسلام لما وضع إزارَه تحت الحجارة على كتفه نُهي عن خلْع إزاره، فأعادَه إلى سيرته الأولى.

‌فصل

وذكر ابن إسحاق

(3)

ما كانت قريش ابتدعوه في تسميتهم الحُمْس، وهو الشِّدَّة في الدِّين والصلابة. وذلك لأنهم عظَّموا الحَرَم تعظيمًا زائدًا، بحيث التزموا بسببه أنْ لا يخرجوا منه ليلةَ عَرَفة، وكانوا يقولون: نحن أبناءُ الحَرَم وقُطَّان بيتِ الله. فكانوا لا يقِفُون بعَرَفات، مع عِلْمهم أنها من مشاعِرِ إبراهيم الخليل عليه السلام، حتى لا يخرجوا عن نظامِ ما كانوا قرَّرُوه من البِدْعَةِ الفاسدة.

وكانوا لا يدَّخِرُونَ من اللَّبَنِ أَقِطا

(4)

ولا سمْنًا ولا يَسْلَؤُون

(5)

شَحْمًا وهم حُرُم. ولا يدخلونَ بيتًا من شعر، ولا يستظِلُّون إن استظلُّوا إلا ببيتٍ من أدم. وكانوا يمنعون الحَجيج والعُمَّار -ما داموا مُحْرِمين- أنْ يأكلوا إلا من طعام قريش، ولا يطوفوا

(6)

إلا في ثياب قريش، فإنْ لم يجدْ أحدٌ منهم ثوبَ أحدٍ من الحُمْس -وهم قريش وما وَلَدُوا، ومَنْ دخل معهم من كِنانة وخُزَاعة- طاف عُرْيانًا، ولو كانتِ امرأة، ولهذا كانتِ المرأةُ إذا اتفق طوافُها لذلك وضعتْ يدها على فَرْجها وتقول:[من الرجز]

اليومَ يَبْدُو بعضُه أو كلُّه

وما بَدَا منه فلا أُحِلُّه

(7)

فإنْ تكرَّم أحدٌ ممن يجد ثوبَ أحمسي، فطاف في ثياب نفسه فعليه إذا فرغ من الطواف أن يُلْقِيَها فلا ينتفع بها بعد ذلك، وليس له ولا لغيره أنْ يَمَسَّها. وكانت العربُ تسمِّي تلك الثياب اللُّقَى، قال بعضُ الشعراء:[من الطويل]

كفى حَزَنًا كَرِّي عليهِ كأنَّه

لُقًى بين أيدي الطائفين حَرِيمُ

(1)

في ح نلتمس، والمثبت من ط والسيرة.

(2)

في ط: يحوط، والمثبت من ح. والفصل المذكور يقع في (ص 75) من هذا الجزء.

(3)

سيرة ابن إسحاق (ص 80 - 82) وسيرة ابن هشام (1/ 199 - 203).

(4)

الأقط، ويقال بتثليث الهمزة وسكون القاف: شيء يُتخذ من اللبن المخيض، يُطبخ ثم يترك حتى يمصُل. اللسان (أقط).

(5)

"سلأ السمن يَسْلَؤه": طبخه وعالجه فأذاب زُبْدَه. اللسان (سلأ).

(6)

كذا في ح، ط ولعل الصواب: وألا يطوفوا.

(7)

في ط: وبعد هذا اليوم لا أُحِلُّه، والمثبت من ح وسيرة ابن إسحاق وسيرة ابن هشام.

ص: 105

قال ابن إسحاق

(1)

: فكانوا كذلك حتى بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم، وأنزل عليه القرآن ردًا عليهم فيما ابتدعوه فقال:{ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} أيْ جمهور العرب من عَرَفات {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 199].

وقد قدَّمنا أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان يقفُ بعرفات

(2)

قبل أن يُنزَّل عليه توفيقًا من الله له، وأنزل الله عليه ردًّا عليهم فيما كانوا حرَّموا من اللِّباس والطعام على الناس: {يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ

} الآية [الأعراف: 31 - 32].

وقال زياد البَكَّائي عن ابن إسحاق: ولا أدري أكان ابتداعهم لذلك قبل الفيل أو بعده.

* * *

(1)

سيرة ابن إسحاق (ص 76) وسيرة ابن هشام (1/ 203).

(2)

تقدم ذكر ذلك في الجزء الثاني من هذه الطبعة.

ص: 106

‌كتاب مَبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليمًا كثيرًا وذكر شيء من البشارات بذلك

قال محمد بن إسحاق

(1)

رحمه الله: وكانت الأحبار من اليهود، والرُّهْبانُ من النصارى، والكُّهَّانُ من العرب

(2)

قد تحدَّثوا بأمْرِ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مَبْعثه، لما تقارب زمانه؛ أما الأحبار من اليهود والرهبان من النصارى فعمَّا وجدوا في كُتبهم من صفتِهِ وصِفةِ زمانه، وما كان من عَهْد أنبيائهم إليهم فيه.

قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} [الأعراف: 157] الآية.

وقال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6].

وقال الله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ} [الفتح: 29] الآية.

وقال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 81].

وفي صحيح البخاري

(3)

عن ابن عباس قال: "ما بعث الله نبيًا إلا أخذ عليه الميثاق: لئن بُعث محمد وهو حي ليؤمنَنَّ به ولينصرنَّه، وأمره أن يأخذ على أمته الميثاق: لئن بعث وهم أحياء ليؤمنُنَّ به ولينصرُنَّه وليتبعُنَّه".

يعلم من هذا أنَّ جميع الأنبياء بشَّرُوا به وأمروا باتباعه.

(1)

سيرة ابن إسحاق (ص 62) وسيرة ابن هشام (1/ 204).

(2)

في ح: وكانت الأحبار من اليهود والكهان من النصارى من العرب. وكذا في ط وفيها: ومن العرب. وما أثبتُّه من سيرة ابن هشام.

(3)

لم أجده بهذا اللفظ في صحيح البخاري، قال المؤلف رحمه الله في التفسير (1/ 378): قال علي بن أبي طالب وابن عمه ابن عباس: ما بعث الله نبيًا من الأنبياء إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث الله محمدًا وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه. ولم يعزه لأحد، لا للبخاري ولا غيره، ولعله خطأ من النساخ.

ص: 107

وقد قال إبراهيمُ عليه السلام فيما دعا به لأهل مكة: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ

} الآية [البقرة: 129].

وقال الإمام أحمد

(1)

: حدّثنا أبو النضر، حدّثنا الفرج بن فضالة، حدّثنا لُقْمان بن عامر، سمعتُ أبا أمامة قال: قلت: يا رسولَ الله، ما كان بُدُوُّ

(2)

أمْرِك. قال: "دعوة أبي إبراهيم، وبُشْرى عيسى، ورأتْ أُمِّي أنه يخرُجُ منها نورٌ أضاءت له قصورُ الشام".

وقد روى محمد بن إسحاق

(3)

، عن ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه مثله.

ومعنى هذا أنه أرادَ بُدُوَّ أمره بين الناس، واشتهارَ ذِكْرِهِ وانتشارَه، فذكر دعوةَ إبراهيمَ الذي تُنسب إليه العرب، ثم بُشْرى عيسى الذي هو خاتمُ أنبياء بني إسرائيل كما تقدَّم. يدُلُّ هذا على أنَّ مَنْ بينهما من الأنبياء بشَّروا به أيضًا.

فأمَّا في الملأ الأعلى، فقد كان أمْرُه مشهورًا مذكورًا معلومًا من قَبْلِ خلْقِ آدمَ عليه الصلاة والسلام كما قال الإمام أحمد

(4)

: حدّثنا عبد الرحمن بن مَهْدي، حدّثنا معاوية بن صالح، عن سعيد بن سُويد الكلبي عن عبد الله

(5)

بن هلال السُّلَمي، عن العِرْباض بن سارية قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إني عند الله خاتمُ النبيِّين، وإن آدمَ [عليه السلام] لمنجَدِلٌ في طينته، وسأنبِّئُكم بأوَّلِ ذلك، دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى بي، ورؤيا أُمِّي التي رأتْ، وكذلك أمهاتُ النَّبيِّين

(6)

يَرَيْن".

وقد رواهُ الليث عن معاوية بن صالح

(7)

وقال: إنَّ أمَّه رأتْ حين وضعَتْه نورًا أضاءت منه قصورُ الشام.

(1)

في المسند (5/ 262)، وهو حديث حسن.

(2)

كذا في ح وفي ط: بدء، وفي المسند: أول بدء.

(3)

مضى ذكر هذا الحديث وتخريجه (ص 56 حاشية 4) من هذا الجزء.

(4)

في مسنده (4/ 127) وما يأتي بين معقوفين منه. أقول: وهو حديث حسن، دون قوله:(وكذلك أمهات النبيين يرين).

(5)

قال بشار: هكذا سماه عبد الرحمن بن مهدي في روايته، وهو خطأ صوابه: عبد الأعلى بن هلال، نبه على ذلك عبد الله ابن الإمام أحمد في تعليق له على مسند أبيه عقب هذا الحديث (4/ 128).

وقد جاء هذا الاسم في ط "عبد الأعلى" على الصواب، وهو وإن كان صوابًا لكنه خطأ، لأن عبد الرحمن بن مهدي سماه عبد الله.

(6)

في الأصل: المؤمنين، والمثبت من المسند.

(7)

في المسند أيضًا (4/ 127) وأخرجه ابن سعد (1/ 148)، الطبري في تفسيره (2072)، والطبراني في الكبير (18/ حديث (630)، من طرق عن الليث بن سعد، وهو حديث صحيح.

ص: 108

وقال الإمامُ أحمد أيضًا

(1)

: حدّثنا عبد الرحمن، حدّثنا منصور بن سعد، عن بُديل بن مَيْسرة، عن عبد الله بن شقيق، عن ميسرة الفجر قال: قلتُ: يا رسول الله؛ متى كنت

(2)

نبيًّا؟ قال: "وآدمُ بين الرُّوح والجَسَد" تفرد بهنَّ أحمد.

وقد رواه عمر بن أحمد بن شاهين في كتاب "دلائل النبوة" من حديث أبي هريرة فقال: حدّثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز -يعني أبا القاسم البَغَوِي- حدّثنا أبو هَمَّام [عن]

(3)

الوليد بن مسلم عن الأوزاعي، حدّثني يحيى، عن

(4)

أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: سُئل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: متى وجبتْ لك النبوَّة؟ قال: "بين خلْق آدم ونفخ الروح فيه".

ورواه من وجهٍ آخر عن الأوزاعي به. وقال: "وآدم مُنْجَدِلٌ في طينته".

ورُوي عن البغوي

(5)

أيضًا عن أحمد بن المقدام، عن بقيَّة، عن

(6)

سعيد بن بشير، عن قتادة، عن أبي هريرة -مرفوعًا- في قول الله تعالى:{وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} [الأحزاب: 7] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كنتُ أوَّلَ النبيين في الخَلْق وآخرَهُم في البعث".

ومن حديث ابن مُزَاحم، عن قيس بن الربيع، عن جابر، عن الشعبي، عن ابن عباس قيل: يا رسول الله، متى كنتَ نبيًا؟ قال:"وآدمُ بين الرُّوحِ والجسد"

(7)

.

وأما الكُهَّان من العرب، فأتتهم به الشياطينُ من الجن فيما تسترِقُ من السمع، إذْ كانتْ وهي

(1)

في المسند (5/ 59)، وإسناده صحيح.

(2)

كذا في ح، ط، وفي المسند: كتبت.

(3)

ما بين معقوفين زيادة يقتضيها السياق، إذ إن كنية الوليد بن مسلم "أبو العباس" لا "أبو همَّام" وأبو همَّام هذا هو الوليد بن شجاع السكوني، وهو الذي يروي عن الوليد بن مسلم ويروي عنه أبو القاسم البغوي، كما هو ثابت في تهذيب التهذيب (11/ 135).

(4)

وقع في ح: يحيى بن أبي سلمة وهو تصحيف، والمثبت من ط ويحيى هو ابن أبي كثير الطائي مولاهم، وأبو سلمة هو ابن عبد الرحمن بن عوف الزهري المدني.

(5)

البغوي هو أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز المتوفى 317 هـ؛ وقد صححه السيوطي في الجامع الصغير، وقال المناوي في فيض القدير (5/ 53): أخرجه ابن سعد في الطبقات (1/ 149) عن قتادة مرسلًا، وأخرجه أبو نعيم في الدلائل وابن أبي حاتم في تفسيره وابن لال والديلمي. قلت: وأخرجه الطبري في تفسيره (21/ 125) من طريق بشر عن يزيد به. وسيأتي مرويًا عن أبي نعيم (ص 129 حاشية 10) من هذا الجزء، وساقه المصنف أيضًا في تفسيره (3/ 469).

(6)

في ح، ط: بقية بن سعيد بن بشير وهو تصحيف، وبقية هو ابن الوليد أبو يحمد الحمصي الكلاعي، وروايته عن سعيد بن بشير، ورواية سعيد عن قتادة ثابتة في ترجمة سعيد في تهذيب التهذيب (4/ 8، 9).

(7)

سيأتي سياق الحديث في ص (129 حاشية 6) مرويًا عن أبي نعيم في دلائل النبوة، ولم أجده فيه، إلا أن محقق دلائل أبي نعيم ساقه في مقدمته ص 25 وترجح لديه أن المطبوع من الدلائل هو المنتخب وليس الكتاب بتمامه.

ص: 109

لا تُحجب عن ذلك بالقذف بالنجوم، وكان الكاهنُ والكاهنة لا يزالُ يقع منهما بعضُ ذكرِ أموره، ولا يُلقي العرب لذلك

(1)

فيه بالًا، حتى بعثه الله تعالى. ووقعت تلك الأمور التي كانوا يذكرون فعرفوها، فلما تقارب أمْرُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وحضر زمان مَبْعثه حُجبت الشياطينُ عن السمع، وحيل بينها وبين المقاعد التي كانت تقعد لاستراقِ السمع فيها، فرُمُوا بالنجوم، فعرفت الجِنُّ

(2)

أنَّ ذلك لأمرٍ حدث من أمر الله عز وجل.

قال: وفي ذلك أنزل اللهُ على رسوله صلى الله عليه وسلم: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} [الجن: 1 و 2] إلى آخر السورة. وقد ذكرنا تفسير ذلك كلِّه في كتابنا التفسير، وكذا قوله تعالى:{وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَاقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأحقاف: 29 - 30] الآيات، ذكرنا تفسير ذلك كلِّه هناك.

قال محمد بن إسحاق

(3)

: حدّثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس

(4)

أنه حدَّث أنَّ أول العرب فزع للرمي بالنجوم حين رُمي بها، هذا الحي من ثقيف، وأنهم جاؤوا إلى رجلٍ منهم يقال له: عمرو بن أمية أحد بني عِلاج، وكان أدهى العرب وأنكرها رأيًا

(5)

، فقالوا له: يا عمرو، ألم تر ما حدث في السماء من القَذْف بهذه النجوم؟ قال: بلى، فانظروا، فإنْ كانتْ معالمُ النجوم التي يهتدى بها في البر والبحر، ويُعرف بها الأنواء من الصيف والشتاء، لما يصلح الناس في معايشهم هي التي يُرمى بها، فهو والله طيُّ الدنيا، وهلاكُ هذا الخلق؛ وإنْ كانتْ نجومًا غيرها وهي ثابتة على حالها، فهذا لأمر أراد الله به هذا الخلق فما هو

(6)

؟.

وقال ابن إسحاق

(7)

: وحدّثني بعضُ أهل العلم أنَّ امرأةً من بني سهم، يقال لها: الغَيْطلة، كانت كاهنةً في الجاهلية، جاءها صاحبُها ليلة من الليالي فأنْقَضَ

(8)

تحتها، ثم قال: أدْرِ ما أدْر

(9)

، يوم عَقْرٍ

(1)

ليست اللفظة في ح وهي مثبتة من ط.

(2)

في ط: الشياطين.

(3)

سيرة ابن إسحاق (ص 92) بألفاظ مقاربة وسيرة ابن هشام (1/ 206).

(4)

زاد ابن إسحاق في إسناده: [عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود]. ولم يزد ابن هشام هذه الزيادة في إسناده. قلت: لم أجد ليعقوب بن عتبة رواية عن عبيد الله في ترجمتهما في تهذيب المزي.

(5)

أثبتت اللفظة في هامش ح وسقطت من ط وفيها: وأمكرها.

(6)

في سيرة ابن إسحاق: فانظروا ما هو.

(7)

سيرة ابن إسحاق (ص 91) وسيرة ابن هشام (1/ 208).

(8)

أنقض، من النقيض، وهو الصوت. النهاية (نقض).

(9)

ذكر السهيلي رواية أخرى وهي: "وما بَدْر" ثم قال: وهي أبين من هذه. ووقع في سيرة ابن إسحاق: "أذن من أذن" وأظنه تصحيفًا.

ص: 110

ونحْر. فقالت قريش حين بلغها ذلك: ما يريد؟ ثم جاءها ليلةً أخرى، فأنْقَضَ تحتها ثم قال: شعوب ما شعوب، تُصرع فيه كعبٌ لِجَنُوب

(1)

. فلما بلغ ذلك قريشًا قالوا: ماذا يريد؟ إن هذا لأمرٌ هو كائن فانظروا ما هو. فما عرفوه حتى كانت وقعةُ بدر وأحُد بالشِّعْب، فعرفوا أنه كان الذي جاء به إلى صاحبته.

قال ابن إسحاق

(2)

: وحدّثني علي بن نافع الجُرَشي أنَّ جَنْبًا -بَطْنًا من اليمن- كان لهم كاهنٌ في الجاهلية، فلما ذُكر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتشر في العرب، قالت

(3)

له جَنْب: انظرْ لنا في أمر هذا الرجل. واجتمعوا له في أسفل جَبَله، فنزل إليهم حين طلعت الشمس، فوقف لهم قائمًا متكئًا على قوسٍ له، فرفع رأسَهُ إلى السماء طويلًا، ثم جعل ينزو، ثم قال: أيها الناس، إنَّ الله أكرم محمدًا واصطفاه، وطهَّر قلبه وحشاه، ومُكْثُه فيكم أيها الناس قليل. ثم اشتدَّ

(4)

في جبله راجعًا من حيث جاء.

ثم ذكر ابن إسحاق قصة سَوَاد بن قارِب، وقد أخَّرناها إلى هواتف الجان

(5)

.

‌فصل

قال ابن إسحاق

(6)

: وحدّثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن رجالٍ من قومه قالوا: إنَّ مما دعانا إلى الإسلام -مع رحمة الله تعالى- وهداه لنا -أنْ كُنَّا نسمع من رجالٍ من يهود- وكنَّا أهلَ شِرْك، أصحابَ أوثان، وكانوا أهل كتاب، عندهم علمٌ ليس لنا، وكانت لا يزال بيننا وبينهم شرور، فإذا نِلْنا منهم بعضَ ما يكرهون قالوا لنا: إنه قد تقارب زمانُ نبيٍّ يُبعث الآن نقتلكم معه قتلَ عادٍ وإرَم. فكنا كثيرًا ما نسمع ذلك منهم، فلما بعث الله رسولَه صلى الله عليه وسلم أجبناه حين دعانا إلى الله، وعرفنا ما كانوا يتوعَّدوننا به، فبادرناهم إليه، فآمنا به وكفروا به، ففينا وفيهم نزلت هذه الآية:{وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة: 89].

وقال ورقاء عن ابن أبي نَجيح، عن علي الأزدي: كانتِ اليهود تقول: اللهم ابعث لنا هذا النبيَّ يحكم بيننا وبين الناس يستفتحون به -أي يستنصرون به- رواه البيهقي

(7)

.

(1)

قال السهيلي في الروض (1/ 239): كعب ها هنا هو كعب بن لؤي، والذين صرعوا لجنوبهم ببدر وأحُد من أشراف قريش، معظمهم من كعب بن لؤي، وشعوب ها هنا أحسبها: شعُوب بفتح الشين، وهم اسم للمنيَّة، فإن صح هذا فالوجه أن يقال: يصرع فيها.

(2)

سيرة ابن هشام (1/ 209) والروض (1/ 239، 240).

(3)

في ح: قال.

(4)

في سيرة ابن هشام: وأسند، وهي أجود، جاء في اللسان (سند): وسند في الجبل وأسْند: رَقِي.

(5)

سيأتي باب هواتف الجان في (ص 148) من هذا الجزء.

(6)

سيرة ابن إسحاق (ص 63) وسيرة ابن هشام (1/ 211) والروض (1/ 245).

(7)

الدلائل (2/ 75، 76).

ص: 111

ثم روى

(1)

من طريق عبد الملك بن هارون بن عَنْتَرة

(2)

، عن أبيه، عن جدِّه، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس، قال: كانت اليهود بخيبر تقاتل غطَفَان، فكلَّما التقَوْا هُزمت يهود خَيْبر، فعاذتِ اليهود بهذا الدعاء فقالوا: اللهم إنّا نسألك بحقِّ محمدٍ النبيِّ الأمي

(3)

، الذي وعدتنا أن تخرجَهُ لنا في آخر الزمان إلَّا نصرتنا عليهم. قال: فكانوا إذا التقَوْا دعَوْا بهذا الدعاء فهزموا غطَفَان، فلمَّا بُعث النبيُّ صلى الله عليه وسلم كفروا به، فأنزل اللهُ عز وجل:{وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} الآية [البقرة: 89]

(4)

.

وروى عطيَّةُ عن ابن عباس نحوه

(5)

. وروى عن عكرمة من قوله نحو ذلك أيضًا.

وقال ابن إسحاق

(6)

: وحدّثني صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، عن محمود بن لَبيد

(7)

، عن سَلَمة بن سَلامة بن وَقْش

(8)

-وكان من أهل بَدْر- قال: كان لنا جارٌ من يهود في بني عبد الأشْهل، قال: فخرج علينا يومًا من بيته حتى وقف على بني عبد الأشْهَل -قال سَلَمة: وأنا يومئذٍ أحدثُ مَنْ فيه سِنًّا، على فروةٍ لي، مضطجع فيها بفناء أهلي- فذكر القيامةَ والبَعْثَ والحساب والميزان والجنَّة والنار، قال: فقال ذلك لقومٍ أهلِ شِرْك، أصحابِ أوثان، لا يَرَوْنَ أنَّ بَعْثًا كائنٌ بعد الموت؛ فقالوا له: ويحك يا فلانٍ، أو ترى هذا كائنًا أنَّ الناس يُبعثون بعدَ موتهم إلى دارٍ فيها جنَّةٌ ونار، يُجزَوْن فيها بأعمالهم؟ قال: نعم، والذي يُحلف به، ويودُّ أنَّ له بحظِّهِ من تلك النار أعظمَ تَنُّور في الدار يحمونه ثم يُدخلونه إياه، فيُطبقونه عليه، وأنْ ينجُو من تلك النار غدًا. قالوا له: ويحك يا فلان! فما آيةُ ذلك؟ قال: نبيٌّ مبعوثٌ من نحو هذه البلاد -وأشار بيدهِ إلى نحو مكةَ واليمن- قالوا: ومتى تراه؟ قال: فنظر إليَّ وأنا من أحدثهم سنًّا، فقال: إنْ يستنفِدْ هذا الغلام عمُرَه يدركْه. قال سلمة: فوالله ما ذهب الليل والنهار حتى بعث اللهُ رسولَهُ وهو حيُّ بين أظهرنا، فآمنا به، وكفر به بَغْيًا وحسَدًا؛ قال: فقلنا له: ويحك يا فلان؟ ألست بالذي قلت لنا فيه ما قلت؟ قال: بلى ولكن ليس به.

(1)

في الدلائل أيضًا (2/ 76).

(2)

في ح، ط: عنبرة، وهو تصحيف، والمثبت من دلائل البيهقي والإكمال (6/ 302).

(3)

لا يسأل الله إلا بالله، ولا يسأل بحق أحد.

(4)

إسناده تالف، فإن عبد الملك بن هارون بن عنترة كذّبه يحيى بن معين وابن حبان، وقال أبو حاتم الرازي: متروك ذاهب الحديث، وضعفه أحمد والدارقطني وغيرهما (الميزان 2/ 666)(بشار).

(5)

وهذا إسناد ضعيف أيضًا، فإن عطية وهو ابن سعد العوفي ضعيف (بشار).

(6)

سيرة ابن إسحاق (63، 64) وسيرة ابن هشام (1/ 212) والروض (1/ 245).

(7)

في سيرة ابن إسحاق: محمد بن لبيد، وهو تصحيف، وزاد ابن هشام: أخي بني عبد الأشهل.

(8)

في ح، ط: سلمة بن سلام. وهو تصحيف، والمثبت من سيرة ابن إسحاق وسيرة ابن هشام وتجريد الذهبي (1/ 232) والإصابة (2/ 65) والتاج (وقش) والضبط منه.

ص: 112

رواه أحمد

(1)

عن يعقوب، عن أبيه، عن ابن إسحاق

(2)

. ورواه البيهقي

(3)

عن الحاكم بإسناده، من طريق يونس بن بُكير.

وروى أبو نعيم في "الدلائل"

(4)

عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لَبيد، عن سلمة

(5)

قال: لم يكن في بني عبد الأشهل إلا يهوديٌّ واحد يقال له: يوشع، فسمعتُه يقول - وإني لغلام في إزار: قد أظلَّكم خروجُ نبيٍّ يُبعث من نحو هذا البيت -ثم أشار بيده إلى بيت الله- فمَنْ أدركه فلْيصدِّقْه. فبُعث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فأسلمنا، وهو بين أظهرنا، لم يُسلم حسدًا وبغيًا.

وقد قدَّمنا حديثَ أبي سعيد عن أبيه في أخبار يوشع هذا عن خروج رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وصفته ونعْته وإخبار الزُّبير بن باطا عن ظهور كوكب مولدِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم

(6)

.

قال ابن إسحاق

(7)

: حدّثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن شيخ من بني قُرَيظة قال: قال لي: هل تدري عمَّ كان إسلام ثَعلبة بن سَعْيَة، وأَسِيدِ بن سَعْية، وأَسدِ بن عُبيد - نفرٍ من بني هَدْل، إخوةِ بني قُرَيظة كانوا معهم في جاهليتهم، ثم كانوا سادَتهُم في الإسلام؟ قال: قلت: لا، قال: فإنَّ رجلًا من اليهود من أرض الشام، يقال له: ابن الهَيَّبان، قدم علينا قبل الإسلام بسنين، فحلَّ بين أظْهُرِنا، لا والله ما رأينا رجلًا قط، لا يصلِّي الخَمْس أفضلَ منه؛ فأقام عندنا، فكنا إذا قَحَط عنا المطرُ قلنا له: اخرجْ يا ابنَ الهَيَّبان فاستسق لنا، فيقول: لا والله حتى تقدِّموا بين يدي مَخْرَجكم صدقة. فنقول له: كم؟ فيقول: صاعًا من تمر، أو مُدَّين من شعير. قال: فنخرجها، ثم يخرجُ بنا إلى ظاهر حرثنا

(8)

فيستسقي لنا، فوالله ما يبرحُ مجلسَه حتى يمر السحاب ونُسقَى؛ قد فعل ذلك غيرَ مرَّة ولا مرتين ولا ثلاث. قال:

(1)

في المسند (3/ 467).

(2)

في ط: "ابن عباس"، وهو خطأ جد ظاهر، وأثبتنا ما في المسند، وهو الصواب (بشار).

(3)

في دلائل النبوة (2/ 78).

(4)

لم أجد الحديث فيما طبع من دلائل النبوة لأبي نعيم، وقوله "عن عاصم" لا يصح فأين أبو نعيم من عاصم بن عمر ابن قتادة، إلا أن يريد:"من طريق".

(5)

في ط: "عن محمد بن سلمة" وهو غلط بيّن، فلا يوجد مثل هذا الراوي الذي روى عنه محمود بن لبيد، والصواب ما أثبتنا وهو سلمة بن سلامة بن وقش وانظر تهذيب الكمال (27/ 310)(بشار).

(6)

انظر حديث أبي سعيد المتقدم ص (43) من هذا الجزء في موضع الحواشي 4 - 6 في المتن وقد زادت نسخة ط هنا ما نصه: ورواه الحاكم عن البيهقي (كذا وكأنه يريد: البيهقي عن الحاكم) من طريق يونس بن بكير عنه. وهذه الزيادة ليست في ح، ولعلها أثبتت خطأً بنقل النظر إلى موضع الحاشية (6) من الصفحة السابقة، لذا أسقطتها من المتن لعدم صحتها.

(7)

سيرة ابن إسحاق (ص 64، 65) وسيرة ابن هشام (1/ 213) والروض (1/ 246).

(8)

كذا في ح، ط، وفي سيرة ابن إسحاق وابن هشام والروض: حرَّتنا، وحَرْث موضع من نواحي المدينة. معجم البلدان (2/ 238).

ص: 113

ثم حضرَتْه الوفاة عندنا، فلما عرف أنه ميت قال: يا معشر يَهُود، ما ترَوْنه أخرجني من أرض الخمر والخمير إلى أرض البؤس والجوع؟ قال: قلنا: أنت أعلم. قال: فإني إنما قدِمتُ هذه البلدة أتوكف

(1)

خروجَ نبيٍّ أظلَّ زمانه، هذه البلدة مُهَاجَرُه، فكنتُ أرجو أن يُبعث فأتبعه، وقد أظلَّكم زمانُه، فلا تُسْبَقُنَّ إليه يا معشر يهود، فإنه يُبعث بسفك الدماء، وسَبْي الذَّرَاري ممَّن

(2)

خالفه، فلا يَمْنَعنَّكم ذلك منه، فلما بُعث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وحاصر بني قُريظة قال هؤلاء الفتية -وكانوا شبابًا أحداثًا-: يا بني قُرَيظة، والله إنه للنَّبيُّ الذي عهِد إليكم فيه ابنُ الهَيَّبان. قالوا: ليس به؛ قالوا: بلى والله إنه لهو بصفته. فنزلوا فأسلموا فأحرزوا دماءَهم وأموالَهم وأهليهم.

قال ابن إسحاق: فهذا ما بلغنا عن أحبار

(3)

يهود.

قلت: وقد قدَّمْنا في قدوم تُبَّع اليماني

(4)

، وهو أبو كَرِب تُبَّان أسعد إلى المدينة، ومُحاصرته إيَّاها، وأنه خرج إليه ذانك الحَبْرَان من اليهود فقالا له: إنه لا سبيل لك عليها، إنها مهاجَرُ نبيٍّ يكونُ في آخرِ الزمان؛ فثَنَاهُ ذلك عنها.

وقد روى أبو نُعيم في الدلائل

(5)

، من طريق الوليد بن مسلم، حدثنا محمد بن حمزة بن يوسف بن عبد الله بن سَلام عن أبيه عن جدِّه. قال: قال عبد الله بن سلام: إن الله [عز وجل] لما أراد هُدى زيدِ بن سَعْنَة

(6)

قال زيد: لم يبق من علاماتِ النبوَّة شيء إلا وقد عرفتُها في وجْه محمدٍ صلى الله عليه وسلم حين نظرتُ إليه إلا اثنتين لم أخبُرْهما منه: يسبقُ حِلْمُه جهلَه، ولا يزيدُه شدَّة الجهلِ عليه إلا حِلْمًا. قال: فكنتُ أتلطَّف له لأنْ أُخالطه فأعرفَ حِلمه وجهله.

فذكر قصة إسلافِهِ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم مالًا في ثمرة، قال: فلما حلَّ الأجل

(7)

أتيتُه فأخذتُ بمجامع قميصه وردائه -وهو في جنازة مع أصحابه- ونظرتُ إليه بوجه غليظ، وقلت: يا محمد، ألا تقضيني حقي؟ فوالله ما علمتُكم بني عبد المطلب [إلَّا] لمُطُل

(8)

، قال: فنظر إليَّ عمر وعيناه تدورانِ في وجهه كالفلك

(1)

"يتوكف الخبر": ينتظره، ويسأل عنه ويتوقعه. اللسان (وكف).

(2)

في ح، ط: فيمن، والمثبت من سيرة ابن إسحاق وابن هشام والروض.

(3)

كذا في ح، ط، وفي سيرة ابن هشام والروض: أخبار بالخاء المعجمة.

(4)

انظر الجزء الثاني من الكتاب في قصة تبع أبي كرب.

(5)

الدلائل لأبي نعيم (1/ 91) وما يأتي بين معقوفين منه والخبر في الدلائل مطوَّل.

(6)

في ط: سَعْية. وهو على الصواب في ح والدلائل والروض؛ والضبط من الإكمال (5/ 66). قال السهيلي في الروض: (1/ 249): ويقال في اسمه سَعْية بالياء، ولم يذكره الدارقطني إلا بالنون. المؤتلف والمختلف (3/ 1387).

(7)

في دلائل أبي نعيم: فلما كان قبل محل الأجل بيومين أو ثلاثة.

(8)

مُطُل: بضم الميم والطاء: جمع مَطُول قياسًا، وهو من المَطْل: التسويف والمدافعة بالعِدَة والدين. اللسان (مطل).

ص: 114

المستدير، ثم قال: يا عدو الله، أتقول لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم ما أسمع؟! وتفعل ما أرى؟! فوالذي بعثه بالحق لولا ما أحاذر لَوْمه

(1)

لضربتُ بسيفي رأسك. ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم ينظر إلى عمر في سكونٍ وتُؤَدَةٍ وتبسُّم، ثم قال:"أنا وهو كنَّا أحوجَ إلى غيرِ هذا منك يا عمر: أن تأمرني بحُسْن الأداء، وتأمرَهُ بحُسْنِ التِّبَاعة، اذهبْ به يا عمر فاقْضِهِ حقه. وزد عشرين صاعًا من تمر"

(2)

. فأسلم زيد بن سَعْنة رضي الله عنه، وشهد بقيةَ المشاهد مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وتوفي عام تبوك، رحمه الله.

ثم ذكر محمد بن إسحاق رحمه الله إسلامَ سلمان الفارسي رضي الله عنه وأرضاه فقال

(3)

: حدّثني عاصم بن عمر بن قتادةَ الأنصاريّ، عن محمود بن لَبيد، عن عبد الله بن عباس قال: حدّثني سلمان الفارسي من فيه قال: كنتُ رجلًا فارسيًا من أهل أصْبهان، من أهلِ قريةٍ يُقال لها: جَيّ

(4)

، وكان أبي دِهقَان

(5)

قريتهِ، وكنتُ أحَبَّ خلقِ الله إليه، فلم يزل به حبُّه إيَّاي حتى حبسني في بيته كما تُحبس الجارية؛ واجتهدتُ في المجوسية، حتى كنتُ قَطِن

(6)

النارِ التي يوقدها، لا يتركها تَخبو ساعةً

(7)

. قال: وكانتْ لأبي ضيعةٌ عظيمة، قال: فشُغل في بُنْيان له يومًا، فقال لي: يا بني، إني قد شُغلت في بُنياني هذا اليومَ عن ضَيعتي، فاذهبْ إليها فاطَّلعها، وأمرني فيها ببعض ما يُريد، ثم قال لي ولا تحتبس عني، فإنك إن احْتبستَ عني كنتَ أهمَّ إليَّ من ضَيعتي، وشغَلْتَني عن كلِّ شيءٍ من أمري. قال: فخرجتُ أريد ضيعتَه التي بعثني إليها، فمررتُ بكنيسةٍ من كنائس النصارى، فسمعتُ أصواتَهم فيها وهم يُصَلُّون، وكنتُ لا أدري ما أمْرُ الناس لحَبْسِ أبي إياي في بيته، فلما سمعتُ أصواتهم دخلتُ عليهم أنظرُ ما يصنعون، فلما رأيتُهم أعجبَتْني صلاتُهم ورغبتُ في أمرهم وقلت: هذا والله خيرٌ من الدِّين الذي نحن عليه، فوالله ما بَرِحْتُهم حتى غَرَبتِ الشمس، وتركتُ ضيعةَ أبي فلم آتها، ثم قلت لهم: أين أصلُ هذا الدين؟ قالوا: بالشام. فرجعتُ إلى أبي وقد بعث في طلبي، وشغلتُهُ عن أمره كله، فلما جئتُ قال: أيْ بُني، أين كنت؟ ألم أكنْ أعهدُ إليكَ ما عهدت؟ قال: قلت: يا أبة، مررتُ بأناسٍ يصلُّون في كنيسةٍ لهم، فأعجبني ما رأيتُ من دينهم، فوالله ما زلتُ عندهم حتى غرَبَتِ الشمس. قال: أيْ بُني، ليس في ذلك الدين خير، دينُكَ ودينُ آبائك خيرٌ منه.

(1)

في دلائل أبي نعيم: فوته.

(2)

في دلائل أبي نعيم: وزده عشرين صاعًا مكان مارعته.

(3)

سيرة ابن إسحاق (ص 60 - 77) وسيرة ابن هشام (1/ 214) والروض (247).

(4)

"جَيّ": بالفتح ثم التشديد: اسم مدينة ناحية أصبهان القديمة، وهي الآن كالخراب منفردة، وتسمى الآن عند العجم شهرستان، وعند المحدثين المدينة. معجم البلدان (2/ 202).

(5)

"الدِّهقان": بكسر الدال وضمها: القوي مع التصرف مع حدة، وزعيم فلاحي العجم، ورئيس الإقليم، ومن له عقار كثير، فارسي معرّب. القاموس والمغرب (دهقن).

(6)

قال شمر: قَطِن النار: خازنها وخادمها، ويجوز أنه كان مقيمًا عليها، رواه بكسر الطاء. اللسان (قطن).

(7)

زاد ابن إسحاق في سيرته هنا: فكنت كذاك لا أعلم من أمر الناس شيئًا إلا ما أنا فيه.

ص: 115

قال: قلت: كلا والله، إنه لخيرٌ من ديننا. قال: فخافني، فجعل في رِجْلي قيدًا، ثم حبسني في بيته.

قال: وبعثتُ إلى النصارى فقلت لهم: إذا قدم عليكم ركْبٌ من الشام فأخبروني بهم. قال: فقدم عليهم ركبٌ من الشام، فجاؤوني النصارى

(1)

فأخبروني بهم، فقلت: إذا قضَوْا حوائجَهم وأرادوا الرَّجْعَة إلى بلادهم فآذِنوني قال: فلما أرادوا الرجعةَ إلى بلادهم أخبروني بهم؛ فألقَيْتُ الحديدَ من رجلي ثم خرجتُ معهم حتى قدمتُ الشام، فلما قدمتُها قلت: مَنْ أفضلُ أهلِ هذا الدِّين عِلْمًا؟ قالوا: الأُسْقُفُّ في الكنيسة. قال: فجئتُه فقلتُ له: إني قد رغبتُ في هذا الدِّين، وأحببتُ أن أكونَ معك وأخدُمكَ في كنيستك، وأتعلَّم منك، فأصلِّي معك. قال: ادخُلْ. فدخلتُ معه، فكان رَجُلَ سَوْء، يأمرُهم بالصدقة ويرغِّبهم فيها، فإذا جمعوا له شيئًا كنزَهُ لنفسه، ولم يُعطِهِ المساكين، حتى جمع سبع قِلالَ من ذهبٍ ووَرِق. قال: وأبغضتهُ بُغْضًا شديدًا لِمَا رأيته يصنع، ثم مات، واجتمعت له النصارى ليدفنوه، فقلت لهم: إنَّ هذا كان رجُلَ سوء، يأمرُكم بالصدقة ويرغِّبكم فيها، فإذا جئتموه بها كنزها لنفسه، ولم يُعْطِ المساكين منها شيئًا. قال: فقالوا لي: وما عِلْمك بذلك. قال: فقلتُ لهم: أنا أدلُّكم على كَنْزه. قالوا: فدُلَّنا. قال: فأريتُهم موضِعَه، فاستخرجوا سبع قِلال مملوءةً ذهبًا ووَرِقًا، فلما رأوها قالوا: لا ندفنُه أبدًا. قال: فصلبوه ورجموه بالحجارة، وجاؤوا برجلٍ آخر فجعلوه موضعه.

قال سلمان: فما رأيتُ رجلًا لا يصلي الخمس، أرى أنه أفضل منه، أزهد في الدنيا ولا أرغب في الآخرة، ولا أدأب ليلًا ونهارًا. قال: فأحببتُه حُبًّا لم أُحِبَّ شيئًا قبلَه مثلَه. قال: فأقمتُ معه زمانا، ثم حضرَتْهُ الوفاةُ فقلتُ له: إني قد كنتُ معك وأحببتُكَ حبًّا لم أُحِبَّهُ شيئًا قبلك، وقد حضرك ما ترى من أمْرِ الله تعالى، فإلى من تُوصي بي؟ وبمَ تأمُرني به؟ قال: أيْ بُني، والله ما أعلم اليوم أحدًا على ما كنتُ عليه. لقد هلك الناس وبدَّلوا، وتركوا أكثر ما كانوا عليه، إلا رجلًا بالمَوْصل، وهو فلان، وهو على ما كنتُ عليه، فالحَقْ به.

قال: فلما مات وغُيِّب لحقتُ بصاحبِ المَوْصل

(2)

، فقلت: يا فلان، إنَّ فلانًا أوصاني عند موته أنْ ألحقَ بك، وأخبرني أنك على أمره. فقال لي: أقِمْ عندي. فأقمتُ عنده فوجدتُه خيرَ رجلٍ على أمْر صاحبه، فلم يلبثْ أن مات؛ فلما حضرَتْهُ الوفاةُ قلت له: يا فلان، إنَّ فلانًا أوصى بي إليك، وأمرني باللحوق بك، وقد حضرك من أمر الله ما ترى، فإلى من تُوصي بي؟ وبما

(3)

تأمرني؟ قال: يا بني والله ما أعلم رجلًا على مثل ما كنَّا عليه إلا رجلًا بنَصيبين

(4)

وهو فلان، فالحق به؟

(1)

كذا في ح، ط، وفي سيرة ابن هشام والروض: تجار من النصارى، وهو أشبه بالصواب، وفي سيرة ابن إسحاق: فقدم عليهم ناس من تجارهم، فبعثوا إلي أنه قدم علينا تجار من تجارنا.

(2)

زاد ابن إسحاق في السيرة هنا: فوجدته على مثل حاله من الاجتهاد والزهادة في الدنيا.

(3)

كذا في ح وفي ط والسيرة: "وبم" وإثبات ألف ما المجرورة قليل شاذ. وانظر (ص 82 حاشية 1) من هذا الجزء.

(4)

نَصِيبين، بفتح فكسر ثم ياء علامة الجمع الصحيح: مدينة من بلاد الجزيرة على جادة القوافل من الموصل إلى =

ص: 116

فلما مات وغُيِّب لحقتُ بصاحب نَصيبين، فأخبرتُه خبري وما أمرني به صاحبي

(1)

. فقال: أقم عندي، فأقمتُ عنده، فوجدتُه على أمر صاحبيه، فأقمتُ مع خيرِ رجل، فوالله ما لَبِث أن نزل به الموت، فلما حُضر قلت له: يا فلان، إنَّ فلانًا كان أوصى بي إلى فلان ثم أوصى بي فلان

(2)

إليك، فإلى من تُوصي بي؟ وبم تأمرني؟ قال: يا بني، والله ما أعلمهُ بَقِيَ أحدٌ على أمرنا آمرُكَ أنْ تأتيَهُ إلا رجلٌ بعَمُّورِيَّة

(3)

من أرض الرُّوم، فإنه على مثل ما نحن عليه، فإنْ أحببتَ فأْته فإنَّه على أمرنا.

فلما مات وغُيِّب لحقتُ بصاحب عَمُّورية فأخبرتُه خبَري، فقال: أقمْ عندي. فأقمتُ عند خيرِ رجل، على هَدْي أصحابه وأمرهم. قال: واكتسبتُ حتى كانتْ لي بقرات وغُنيمة. قال: ثم نزل به أمْرُ الله، فلما حُضر قلت له: يا فلان، إني كنتُ مع فلان فأوصى بي إلى فلان، ثم أوصى بي فلانٌ إلى فلان ثم أوصى بي فلانٌ

(4)

إليك، فإلى مَنْ تُوصي بي أنت؟ وبم تأمرني؟ قال: أيْ بُني، والله ما أعلمُه أصبح أحدٌ على مثل ما كنَّا عليه من الناس آمرك أنْ تأتيَه، ولكنه قد أظلَّ زمانُ نبي مبعوثٍ بدينِ إبراهيم، يخرج بأرض العرب، مهاجَرُه إلى أرض بين حرَّتين، بينهما نَخْل، به علاماتٌ لا تخفى، يأكلُ الهديَّة، ولا يأكلُ الصدقة، بين كتفيه خاتم النبوَّة؛ فإنِ استطعتَ أن تلحقَ بتلك البلاد فافعل.

قال: ثم مات وغُيِّب، ومكثتُ بعمُّورية ما شاء الله أنْ أمكث، ثم مرَّ بي نَفَرٌ من كلبٍ، تجَّارٌ، فقلت لهم: احملوني إلى أرض العرب وأعطيكم بقراتي هذه وغُنيمتي هذه، قالوا: نعم. فأعطيتهموها وحملوني معهم، حتى إذا بلغوا واديَ القُرَى ظلموني، فباعوني من رجلٍ يهودي عبدًا، فكنتُ عنده، ورأيتُ النخلَ فرجوتُ أن يكون البلدَ الذي وصف لي صاحبي، ولم يَحِقَّ في نفسي؛ فبينا أنا عنده إذْ قَدِم عليه ابنُ عمٍّ له، من بني قُرَيظة من المدينة، فابتاعني منه، فاحتملني إلى المدينة، فوالله ما هو إلا أن رأيتها فعرفتُها بصفة صاحبي لها، فأقمتُ بها، وبُعث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فأقام بمكة ما أقام لا أسمع له بذكر، ممَّا أنا فيه من شغل الرِّقّ؛ ثم هاجر إلى المدينة، فوالله إني لفي رأسِ عَذْقٍ لسيدي أعمل فيه بعضَ العمل. وسيدي جالس تحتي، إذ أقبل ابنُ عمٍّ له حتى وقف عليه فقال: يا فلان، قاتل الله بني قَيْلَة، والله إنهم لمجتمعون الآن بقُبَاء

(5)

على رجلٍ قدم من مكة اليوم، يزعمون أنه نبيّ. قال سلمان: فلما

= الشام، بينها وبين الموصل ستة أيام. معجم البلدان (5/ 288). وموقعها على الحدود الشمالية الشرقية من سورية.

(1)

كذا في ح، وفي ط: صاحباي، وكذا في الروض، وفي سيرة ابن هشام: صاحبه.

(2)

كذا في ح وسيرة ابن هشام والروض، وزاد في ط: إلى فلان ثم أوصى بي فلان إليك.

(3)

عمُّوريَّة، مشددة الميم والياء. قال الصاغاني: كذا ذكروا، والقياس تخفيف الياء. هي في بلاد الروم. وهي التي غزاها المعتصم سنة 223 هـ. وعمورية أيضًا بليدة على شاطئ العاصي بين أفامية وشيزر. معجم البلدان (4/ 158) والتاج (عمر).

(4)

كذا في ح وسيرة ابن هشام والروض، وزاد في ط: إلى فلان ثم أوصى بي فلان إليك.

(5)

"قباء": يُمد ويقصر: قرية على ميلين من المدينة على يسار القاصد إلى مكة، وبها مسجد التقوى. معجم البلدان (4/ 301، 302).

ص: 117

سمعتُها أخذتْني العُرَواءُ

(1)

حتى ظننتُ أني ساقط على سَيِّدي، فنزلتُ عن النخلة، فجعلتُ أقول لابن عمه: ماذا تقول؟ ماذا تقول؟ قال: فغضب سيِّدي فلكمني لكمةً شديدةً، ثم قال: مالك ولهذا؟! أقبلْ على عملك. قال: فقلت: لا شيء، إنما أردتُ أن أستبينَهُ

(2)

عمَّا قال.

قال: وقد كان عندي شيءٌ قد جمعتُه، فلما أمسيتُ أخذتُه، ثم ذهبتُ به إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وهو بقُبَاء، فدخلت عليه فقلت له: إنه قد بلغني أنك رجلٌ صالح، ومعك أصحابٌ لك غرباء ذوو حاجة، وهذا شيءٌ كان عندي للصدَقة، فرأيتكم أحقَّ به من غيركم. قال: فقرَّبتُه إليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "كُلوا" وأمسكَ يدَهُ فلم يأكل. قال: فقلت في نفسي: هذه واحدة؛ ثم انصرفتُ عنه فجمعتُ شيئًا، وتحوَّل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة؛ ثم جئته [به]

(3)

فقلت له: إني قد رأيتك لا تأكل الصدقة وهذه هديَّة أكرمتُكَ بها. قال: فأكل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم منها، وأمر أصحابه فأكلوا معه. قال: فقلتُ في نفسي: هاتان ثنتان. قال: ثم جئتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وهو ببقيع الغَرْقد، قد تبع جنازةَ رجلٍ من أصحابه

(4)

وعليَّ شملتان لي، وهو جالس في أصحابه، فسلمتُ عليه. ثم استدبرتُه أنظر إلى ظهره، هل أرى الخاتم الذي وصف لي صاحبي؟ فلما رآني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم استدبرته عَرَف أني أستثبت في شيءٍ وُصف لي، فألقى رداءه عن ظهره، فنظرتُ إلى الخاتم فعرفتُه، فأكْبَبْتُ عليه أقبِّلُه وأبكي، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:"تحوَّل" فتحولتُ بين يديه، فقصصت عليه حديثي كما حدَّثتك يا ابن عباس. فأُعجب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يسمع ذاك أصحابه. ثم شَغَلَ سلمانَ الرِّقُّ حتى فاته مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بَدْرٌ وأُحُد.

قال سلمان: ثم قال لي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "كاتِبْ يا سلمان" فكاتبتُ صاحبي على ثلاثمائة نخلة أُحْيِيها له بالفَقِير

(5)

، وأربعين أوقية. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه:"أعينوا أخاكم". فأعانوني بالنخل، الرجل بثلاثين وَدِيَّة

(6)

، والرجل بعشرين ودِيَّة، والرجل بخمس عشرة ودِيَّة، والرجل بعشرة

(7)

. يُعين الرجلُ بقدر ما عنده، حتى اجتمعت لي ثلاثمائة وَدِيَّة؛ فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اذهبْ يا سلمانُ ففقِّرْ

(1)

في هامش ح: هي الرِّعْدة بنافض، وقال ابن هشام في السيرة: والعرواء: الرِّعْدة من البرد والانتفاض، فإن مع ذلك عَرَق فهي الرُّحَضاء، وكلاهما ممدود.

(2)

كذا في ح، وفي ط وسيرة ابن هشام والروض: أستثبته.

(3)

ما بين معقوفين من سيرة ابن هشام.

(4)

هو كلثوم بن الهدم كما في الروض (1/ 252).

(5)

"الفقير": حُفير يحفر حول الفسيلة إذا غُرست اللسان (فقر): وفيه: وفي الحديث: قال لسلمان: اذهب ففقِّر الفسيل، أي احفر لها موضعًا تُغرس فيه.

(6)

"الوَدِيَّة": واحدة الوَدِيّ: وهو فسيل النخل وصغاره. اللسان (ودي).

(7)

كذا في ح، ط وفي سيرة ابن هشام والروض: بعشر. قلت: تأنيث العدد جائز إذا كان المعدود ملحوظًا، حاشية الخضري (2/ 162) والنحو الوافي (4/ 545).

ص: 118

لها، فإذا فرغْتَ فأتِني أكُنْ أنا أضَعُها بيدي". قال: ففقَّرْتُ، وأعانني أصحابي، حتى إذا فرغتُ جئتهُ فأخبرته، فخرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم معي إليها. فجعلنا نقرِّبُ إليه الوَدِيَّ ويضَعُه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بيده، حتى إذا فرَغْنا -فوالذي نفسُ سلْمان بيده ما ماتت ودية واحدة- فأدَّيت النخل وبقي عليَّ المال. فأُتي النبيُّ صلى الله عليه وسلم بمثل بَيْضة الدجاجة من ذهب، من بعض المعادن، فقال:"ما فعل الفارسيُّ المكاتَب"؟ قال: فدُعيت له، قال:"خذْ هذه فأدِّها ممَّا عليك يا سلْمان" قال: قلت: وأين تقعُ هذه مما عليَّ يا رسول؟ قال: "خُذْها فإنَّ الله سيؤدِّي بها عنك" قال: فأخذتُها فوزنتُ لهم منها -والذي نفسُ سلمانَ بيده- أربعين أُوقيَّة، فأوفيتهم حقَّهم [منها]

(1)

وعَتَقَ سلْمان. فشهدتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق حُرًّا، ثم لم يفُتْني معه مشهد.

قال ابن إسحاق

(2)

: وحدّثني يزيد بن أبي حبيب، عن رجلٍ من عبد القيس، عن سلمان أنه

(3)

قال: لما قلت: وأين تقع هذه من الذي عليَّ يا رسول الله؟ أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقلَّبها على لسانه، ثم قال:"خُذْها فأوفِهم منها" فأخذتُها فأوفيتهم منها حقَّهم كلَّه، أربعين أوقية.

وقال محمد بن إسحاق

(4)

: حدّثني عاصم بن عمر بن قتادة، حدّثني مَنْ لا أتَّهم، عن عمر بن عبد العزيز بن مروان قال: حُدِّثت عن سلمان أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين أخبره خَبَره: أن صاحب عَمُّورية قال له: ائتِ كذا وكذا من أرض الشام، فإنَّ بها رجلًا بين غَيْضتَيْن يخرج كلَّ سنةٍ من هذه الغيضة مستجيزًا يعترضه ذوو الأسقام فلا يدعو لأحدٍ منهم إلا شُفي فاسألْهُ عن هذا الدِّين الذي تبتغي فهو يُخبرك عنه. قال سلمان: فخرجتُ حتى جئتُ حيثُ وصف لي، فوجدتُ الناس قد اجتمعوا بمرضاهم هناك، حتى خرج

(5)

لهم تلك الليلةَ مستجيزًا من إحدى الغيضتَيْن إلى الأخرى، فغشيه الناسُ بمَرْضاهم، لا يدعو لمريضٍ إلا شُفي، وغلبوني عليه، فلم أخلُصْ إليه حتى دخل الغيضةَ التي يريدُ أن يدخل إلا مَنْكِبَه؛ قال: فتناولتُه فقال: من هذا؟ والتفت إليّ قال: قلت: يرحمك الله، أخبرني عن الحنيفيَّة دين إبراهيم. قال: إنك لتسألُ عن شيء ما يسأل عنه الناسُ اليوم، قد أظلَّك زمانُ نبيٍّ يُبعثُ بهذا الدين من أهل الحَرم، فأْتِهِ فهو يَحْمِلُكَ عليه.

ثم دخل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسلمان: "لئنْ كنتَ صدقتني يا سلمان لقد لَقِيتَ عيسى بن مَرْيَم".

هكذا وقع في هذه الرواية، وفيها رجلٌ مُبْهَم، وهو شيخ عاصم بن عمر بن قتادة؛ وقد قيل إنه الحسن بن عمارة، ثم هو منقطع، بل مُعْضلٌ بين عمر بن عبد العزيز وسلْمان رضي الله عنه.

(1)

ما بين معقوفين من سيرة ابن هشام والروض.

(2)

سيرة ابن إسحاق (ص 71) وسيرة ابن هشام (1/ 221) والروض (1/ 252).

(3)

سقط من ح قوله: عن سلمان أنه، وهو في ط وسيرة ابن إسحاق وابن هشام والروض.

(4)

سيرة ابن إسحاق (ص 70، 71) وسيرة ابن هشام (1/ 221، 222) والروض (1/ 252، 253).

(5)

في ح، ط: يخرج، والمثبت من سيرة ابن إسحاق وابن هشام والروض.

ص: 119

قوله: "لئن كنتَ صدقتني يا سلمان لقد لَقِيت عيسى بن مريم" غريبٌ جدًا بل مُنْكَر؛ فإنَّ الفترة أقلُّ ما قيل فيها أنها أربعمئة سنة، وقيل ستمئة سنة بالشمسيَّة، وسلمان أكثر ما قيل: إنه عاش ثلاثمئة سنة وخمسين سنة.

وحكى العباس بن يزيد البَحْراني إجماع مشايخِهِ على أنه عاش مئتين وخمسين سنة. واختلفوا فيما زاد إلى ثلاثمئة وخمسين سنة. والله أعلم. والظاهر أنه قال: "لقد لَقِيت وصيَّ عيسى ابن مريم" فهذا ممكن بالصواب

(1)

.

وقال السُّهيلي

(2)

: الرجل المُبْهم هو الحسن بن عُمَارة، وهو ضعيفٌ [بإجماعٍ منهم] فإنْ صحَّ لم يكنْ فيه نكارة. لأنَّ ابن جَرِير ذكر أنَّ المسيح نزل من السماء بعد ما رفع، فوجد أُمه وامرأةً أخرى يبكيانِ عند جذع المصلوب، فأخبرهما أنه لم يقتل، وبعث الحواريين بعد ذلك. قال: وإذا جاز نزوله مرَّة جاز نزوله مرارًا، ثم يكون نزوله الظاهر حين يكسِرُ الصليب، ويقتل الخنزير، ويتزوَّج حينئذٍ امرأةً من بني جُذَام، وإذا مات دُفن في حُجْرة روضةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم.

وقد روى البيهقي في كتاب "دلائل النبوة"

(3)

قصةَ سلمان هذه، من طريق يونس بن بُكير، عن محمد بن إسحاق كما تقدَّم، ورواها أيضًا

(4)

عن الحاكم، عن الأصمّ، عن يحيى بن أبي طالب: حدّثنا عليُّ بن عاصم، حدّثنا حاتم بن أبي صَغِيره

(5)

، عن سِمَاك بن حَرْب، عن زيد

(6)

بن صُوحان أنه سمع سلمان يحدِّث كيف كان أول إسلامه؛ فذكر قصةّ طويلة، وذكر أنه كان من رامَهُرْمُز

(7)

، وكان له أخٌ أكبر منه غنيّ، وكان سلمانُ فقيرًا في كنَفِ أخيه، وأنَّ ابنَ دِهْقانها

(8)

كان صاحبًا له، وكان يختلف معه إلى معلِّم لهم، وأنه كان يختلف ذلك الغلام إلى عُبَّاد من النصارى في كهفٍ، لهم، فسأله سلمان أنْ يذهبَ به معه إليهم، فقال له: إنك غلام، وأخشى أنْ تَنُمَّ عليهم فيقتلهم أبي. فالتزم له أن لا يكون منه شيءٌ

(1)

قلت: وهي رواية الذهبي في السير (1/ 512) عن ابن إسحاق به.

(2)

الروض الأنف (1/ 252، 253) بألفاظ مقاربة، وما يأتي بين معقوفين منه.

(3)

دلائل النبوة (2/ 92).

(4)

في الدلائل أيضًا (2/ 82).

(5)

في ح، ط: صفرة، وهو تصحيف، والمثبت من دلائل البيهقي وتقريب التهذيب (1/ 137) وتهذيب التهذيب (2/ 130).

(6)

في ح، ط: يزيد. والمثبت من دلائل البيهقي وسير أعلام النبلاء (3/ 525) في ترجمته. قلت: أظن أن في السند انقطاعًا، فوفاة سماك سنة 123 هـ ووفاة زيد سنة 36 هـ، وأخبار سلمان يرويها سماك عن أبي قدامة النعمان بن حميد عن زيد بن صوحان، أو سماك عن رجل عن زيد، انظر سير أعلام النبلاء (3/ 527). وسماك ممن يضطرب في حديثه فيزيد في الإسناد أو ينقص، انظر في ذلك شرح علل الترمذي (1/ 141).

(7)

"رامَهُرْمُز": مدينة مشهورة بنواحي خوزستان. معجم البلدان (3/ 17) والتاج (هرمز).

(8)

مضى شرح معنى دهقان (ص 115 الحاشية 5).

ص: 120

يكرهه، فذهب بهِ معه. فإذا هم ستة أو سبعة، كأنَّ الرَّوحَ قد خرجتْ منهم من العبادة، يصومونَ النهار ويقومونَ الليل، يأكلون الشجر وما وجدوا، فذكر عنهم أنهم يؤمنونَ بالرُّسُل المتقدِّمين، وأنَّ عيسى عبدُ الله ورسولُه وابنُ أمَتِه، أيَّدَهُ بالمعجزات. وقالوا له: يا غلام، إنَّ لك ربًّا وإنَّ لك معادًا، وإنَّ بين يديك جنةً ونارًا، وإنَّ هؤلاء القومَ الذين يعبدون النِّيرانَ أهلُ كفرٍ وضلالة، لا يرضى الله بما يصنعون، وليسوا على دين.

ثم جعل يتردَّدُ مع ذلك الغلام إليهم، ثم لزمهم سلمانُ بالكليَّة؛ ثم أجلاهم ملِكُ تلك البلاد، وهو أبو ذلك الغلام الذي صحبه سلمان إليهم عن أرضه، واحتبسَ الملكُ ابنَهُ عنده، وعرض سلمان دِينَهم على أخيه الذي هو أكبر منه، فقال: إني مشتغل بنفسي في طلب المعيشة، فارتحل معهم سلمان حتى دخلوا كنيسةَ المَوْصل، فسلَّم عليهم أهلُها ثم أرادوا أن يتركوني عندهم، فأبَيْتُ إلا صُحْبتَهم؛ فخرجوا حتى أتَوْا واديًا بين جبال، فتحدَّر إليهم رهبانُ تلك الناحية يسلِّمون عليهم، واجتمعوا إليهم وجعلوا يسألونهم عن غيبتهم عنه، ويسألونهم عني فَيُثنون عليَّ خيرًا. وجاء رجلٌ معظَّم فيهم، فخطبهم، فأثنى على الله بما هو أهله، وذكَرَ الرُّسل وما أُيِّدوا به، وذكر عيسى ابن مريم، وأنه كان عبدَ الله ورسولَه، وأمرهم بالخير ونهاهم عن الشر، ثم لما أرادوا الانصراف تبعه سلمان ولزمه. قال: فكان يصومُ النهار ويقوم الليل، من الأحد إلى الأحد، فيخرج إليهم ويَعِظُهم ويأمرُهم وينهاهم، فمكث على ذلك مُدَّةً طويلة، ثم أراد أن يزور بيت المَقْدِس، فصحبه سلمانُ إليه. قال: فكان فيما يمشي يلتفتُ إليَّ ويُقبل عليّ، فيعِظُني ويُخبرني أنَّ لي ربًا، وأنَّ بين يديَّ جنةً ونارًا وحسابًا، ويعلِّمني ويذكِّرُني نَحْوَ ما كان يُذكِّر القومَ يومَ الأحد. قال: فيما يقول لي؟ يا سلمان، إنَّ الله سوفَ يَبْعَثُ رسولًا اسمُه أحمد، يخرج من تِهَامة

(1)

، يأكل الهديَّة، ولا يأكل الصدقة، بين كتفَيْه خاتم، وهذا زمانه الذي يخرج فيه قد تقارب، فأمَّا أنا فإني شيخٌ كبير، ولا أحسبني أُدركه، فإن أدركتَهُ أنتَ فصدِّقْه واتَّبعْه. قلت له: وإنْ أمرني بترك دينكَ وما أنت عليه؟ قال: وإنْ أمرك، فإنَّ الحقَّ فيما يجيءُ به، ورِضَى الرحمن فيما قال.

ثم ذكر قدومَهما إلى بيت المقدس، وأنَّ صاحبه صلَّى فيه هاهنا وهاهنا، ثم نام، وقد أوصاه أنه إذا بلغ الظِّلُّ مكان كذا أنْ يُوقظه، فتركه سلمانُ حينًا آخر أزْيَدَ مما قال ليستريح، فلما استيقظ ذَكَرَ الله ولامَ سلمانَ على تَرْك ما أمْرَهُ بهِ من ذلك. ثم خرجا من بيت المقدس، فسأله مُقْعَدٌ فقال: يا عبد الله، سألتُكَ حين وصلت فلمْ تعطني شيئًا، وها أنا أسألك. فنظر فلم يجدْ أحدًا، فإخذ بيده وقال: قُمْ بسم الله، فقامَ وليس به بأسٌ ولا قَلَبَه

(2)

، كأنما نَشِط من عِقَال

(3)

؛ فقال لي يا عبد الله، احْمِلْ عليَّ متاعي حتى

(1)

ويروى: ويخرِج بتهامة وكلا الروايتين مثبت في ح.

(2)

يقال: ما به قَلبَة: أي ألمٌ وعِلّة يخشِى عليه منها. التاج (قلب).

(3)

جاء في اللسان (نشط): ويقال للآخذ بسرعة في أي عمل كان، وللمريض إذا بَرَأ

كأنما أُنْشِط من عقال، نشط أي حُلّ؛ قال ابن الأثير: وكثيرًا ما يجيء في الرواية: كأنما نشط من عقال، وليس بصحيح. النهاية (5/ 57).

ص: 121

أذهبَ إلى أهلي فأبشِّرَهُم، فاشتغلتُ به، ثم أدركتُ الرجل فلم ألحقه ولم أدْرِ أين ذهب، وكلَّما سألتُ عنه قومًا قالوا: أمامك، حتى لقيني ركبٌ من العرب من بني كلب، فسألتهم، فلما سمعوا لغتي أناخ رجلٌ منهم بعيرَه، فحملني خلفه، حتى أتَوْا بي بلادَهم. فباعوني، فاشترَتْني امراةٌ من الأنصار، فجعلَتْني في حائطٍ لها، وقدِم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم.

ثم ذكر ذهابَهُ إليه بالصَّدَقةِ والهديَّة ليستعلم ما قال صاحبُه، ثم تطلَّب النظر إلى خاتم النبوَّة، فلما رآه آمن من ساعته. وأخبر رسولَ الله خبرَهُ الذي جرى له. قال: فأمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق، فاشتراه من سيدته فأعتقه. قال: ثم سألتُه يومًا عن دين النصارى، فقال:"لا خير فيهم". قال: فوقع في نفسي من أولئك الذين صحِبْتُهم، ومن ذلك الرجل الصالح الذي كان معي ببيت المقدس، فدخلني من ذلك أمْرٌ عظيم، حتى أنزل الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم:{[لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا}

(1)

{وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82)} . فدعاني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فجئتُ وأنا خائف، فجلستُ بين يديه، فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم: {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82)} الآيات [المائدة: 82]، ثم قال:"يا سلمان، أولئك الذين كنتَ معهم وصاحِبُك لم يكونوا نَصارى، كانوا مسلمين" فقلت: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق لهو أمرني باتِّباعك، فقلت له: فإن أمرني بترك دينك وما أنت عليه؟ قال: نعم فاتركه، فإنَّ الحق وما يرضي الله فيما يأمرك.

وفي هذا السياق غرابةٌ كثيرة، وفيه بعضُ المخالفة لسياق محمد بن إسحاق، وطريق محمد بن إسحاق أقوى إسنادًا وأحسن اقتصاصًا، وأقرب إلى ما رواه البخاريُّ في صحيحه

(2)

، من حديث معتمر بن سليمان بن طَرْخان التَّيْمي عن أبيه، عن أبي عثمان النَّهْدي، عن سلمانَ الفارسي، أنَّهُ تداوَلَهُ بضعةَ عشرَ، من ربٍّ إلى ربّ. أي: من معلِّم إلى معلِّم

(3)

، ومُرَبٍّ إلى مثله، والله أعلم.

قال السُّهيلي

(4)

: تداولَهُ ثلاثونَ سيدًا، من سَيِّد إلى سَيِّد. فالله أعلم.

وكذلك استقصى قصةَ إسلامِهِ الحافظُ أبو نعيم في "الدلائل"

(5)

، وأورد لها أسانيدَ وألفاظًا كثيرة، وفي بعضها أنَّ اسْمَ سيِّدتِه التي كاتبَتْه خُليسة

(6)

. فالله أعلم.

(1)

ما بين المعقوفين ليس في ح والآية في سورة المائدة الآية (82).

(2)

فتح الباري (3946) كتاب مناقب الأنصار باب إسلام سلمان الفارسي رضي الله عنه.

(3)

قال ابن حجر في الفتح (7/ 277): أي من سيد إلى سيد، وكأنه لم يبلغه حديث أبي هريرة في النهي عن إطلاق رب على السيد.

(4)

في الروض (1/ 251).

(5)

(1/ 258) وما بعدها.

(6)

في ح: حُليسة بحاء مهملة وضمة فوقها، وفي ط: حلبسة، وكلاهما تصحيف نبه عليه ابن حجر في الإصابة (4/ 279) في القسم الرابع من حرف الحاء، ثم ساق ترجمتها في حرف الخاء المعجمة (4/ 286) وقصة بيع =

ص: 122

‌ذكر أخبار غريبة في ذلك

قال أبو نعيم في "الدلائل"

(1)

: حدّثنا سليمان بن أحمد، حدّثنا محمد بن زكرياء الغَلابي، حدّثنا العلاء بن الفضل بن عبد الملك بن أبي السَّويَّة المِنْقَري، حدّثنا عبَّاد بن كسيب، عن أبيه، عن أبي عِتْوَارة الخُزاعي عن سَعْر

(2)

بن سوادة العامري قال: كنتُ عَسِيفًا لعقيلةٍ من عقائل الحيّ، أركبُ لها الصَّعْبَ والذَّلول

(3)

، لا أبقي

(4)

من البلاد مَطْرَحًا

(5)

أرجو ربحًا في متجر إلا أتيتُه، فانصرفتُ من الشام بحرثٍ وأثاث، أريدُ به كُبَّة

(6)

الموْسم ودهماءَ العرب، فدخلتُ مكة بليلٍ مُسْدِف، فأقمتُ حتى تعرَّى عني قميص الليل، فرفعتُ رأسي، فإذا قِبابٌ مُسَامِتَةٌ شَعَفَ الجبال، مضروبة بأنْطاعِ الطائف

(7)

، وإذا جُزُرٌ تُنحَر، وأخرى تُساق، وإذا أكَلَةٌ وحَثَثةٌ على الطهاة يقولون: ألا عَجِّلُوا ألا عجلوا. وإذا رجل يجهز على نشَز من الأرض، ينادي: يا وَفْد الله مَيِّلوا إلى الغَدَاء. وأُنَيْسَانٌ على مَدْرَجَةٍ يقول: يا وفد الله، من طعِم فلْيَرُحْ إلى العشاء، فجَهَرَني ما رأيت

(8)

، فأقبلتُ أريد عَميدَ القوم، فعرف رجلٌ الذي بي، فقال: أمامك. وإذا شيخ كأن في خدَّيه الأساريع

(9)

، وكأنَّ الشِّعرَى توقد من جبينه، قد لاث على رأسه عِمامةً سوداء، قد أبرز من ملائها جُمَّةً فَيْنَانة، كأنها (سَاسَمْ)

(10)

- قال في بعض الروايات: تحته كرسيُّ سَاسَم- ومن دونها نُمْرُقةٌ، بيده قضيب يتخصَّر

(11)

به، حوله مشايخُ جَلَسَةٌ جِلَّة، نواكسُ الأذقان، ما منهم أحد يفيض بكلمة. وقد كان نُمي إليَّ خَبرٌ من أخبار الشام، أنَّ النبيَّ الأميَّ هذا أوانُ نُجومه،

= سلمان أيضًا في سير أعلام النبلاء (1/ 519) وما بعدها.

(1)

لم أجده في دلائل أبي نعيم طبعة حيدر أباد الدكن الهند، ولا التي بتحقيق قلعه جي وعبد البر عباس، وذكره ابن حجر في الإصابة مختصرًا في ترجمة "سعر".

(2)

في ح: سعيد، وفي ط: سعير، وكلاهما تصحيف، والمثبت من الإصابة في ترجمة سعر بن سوادة.

(3)

يقال: ركبوا كل صَعْب وذَلول في أمرهم: إذا بذلوا فيه الطاقة. والعسيف: الأجير. الأساس (ذلل).

(4)

في ح: التق، أي: ألْتَاقُ، من التاق بالمكان، إذا لزمه وثبت فيه. والمثبت من ط.

(5)

في ط: مسرحًا، والمثبت من ح، والمطرح: المكان البعيد. المعجم الوسيط (طرح).

(6)

"الكُبَّة": الجماعة من الناس، وفي حديث ابن مسعود: أنه رأى جماعة ذهبت فرجعت، فقال: إياكم وكُبَّة السُّوق فإنها كبَّة الشيطان، أي جماعة السوق، واللفظة في ح: كبد الموسم، أي وسطه، وكبد كل شيء: وسطه ومعظمه. اللسان (كبب، كبد).

(7)

"أنطاع": جمع نِطْع، وهو البساط من الجلد. المعجم الوسيط (نطع).

(8)

"جهرني الشيءُ": راعني. اللسان (جهر).

(9)

الأساريع": دود بيض الأجساد حمر الرؤوس. يكون في الرمل، تشبه بها أصابع النساء، ويقال: ثغر ذو أساريع: خطوط وطرائق، وفي صفته صلى الله عليه وسلم: كأن عنقه أساريع الذهب، أي طرائقه. التاج (سرع).

(10)

في ط: سماسم، والمثبت من ح، والسَّاسَم: شجر أسود، وقيل هو الأسود، يتخذ منه السهام. والجُمَّةُ: مجتمع شعر الرأس، ولاث العمامة على رأسه لفَّها. اللسان (سسم، جمم، لوث).

(11)

في ط: متخصر.

ص: 123

فلما رأيته ظننتُه ذلك، فقلت: السلامُ عليك يا رسول الله. فقال: مه مه، كلا وكأنْ قد، وليتني إيَّاه.

فقلت: من هذا الشيخ؟ فقالوا: هذا أبو نَضْلة، هذا هاشم بن عبد مَنَاف. فولَّيتُ وأنا أقول: هذا والله

المجد لا مجد آلِ جفنة. يعني ملوكَ عرب الشام من غسان، كان يقال لهم: آل جفنة، وهذه الوظيفة

التي حكاها عن هاشم هي الرِّفادة، يعني إطعام الحجيج زمن الموسم

(1)

.

وقال أبو نعيم

(2)

: حدّثنا عبد الله بن محمد بن جعفر، حدّثنا محمد بن أحمد بن أبي يحيى، حدّثنا سعيد بن عثمان

(3)

، حدّثنا علي بن قتيبة الخراساني، حدّثنا خالد بن إلياس، عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي الجهم، عن أبيه، عن جده قال: سمعتُ أبا طالبٍ يحدِّث عن عبد المطلب قال: بينا أنا نائم في الحِجْر إذ رأيت رؤيا هالتني، ففزِعْتُ منها فزعًا شديدًا، فأتيتُ كاهنةَ قريش، وعليَّ مطرف خزّ، وجُمَّتي تضربُ مَنْكِبي، فلما نظرتْ إليّ عرفتْ في وجهي التغيير، وأنا يومئذٍ سيِّد قومي، فقالت: ما بال سيدنا قد أتانا متغيِّرَ اللَّون؟ هل رابه من حَدَثان الدهر شيء؟ فقلت لها: بلى! وكان لا يكلِّمها أحدٌ من الناس حتى يُقَبِّل يدَها اليمنى، ثم يضع يده على أُمِّ رأسها ثم يذكر حاجته، ولم أفعل لأني كنت كبير قومي؛ فجلستُ فقلت: إني رأيت الليلةَ وأنا نائم في الحِجْر، كأنَّ شجرةً تنبت، قد نال رأسها السماء، وضربتْ بأغصانها المشرق والمغرب، وما رأيتُ نورًا أزهر منها، أعظم من نور الشمس سبعين ضعفًا

(4)

؛ ورأيتُ العرب والعجم ساجدين لها، وهي تزدادُ كلَّ ساعةٍ عِظَمًا ونورًا وارتفاعًا، ساعة تخفى وساعة تزهر، ورأيتُ رَهْطًا من قريش قد تعلَّقوا بأغصانها، ورأيتُ قومًا من قريش يريدون قطعها، فإذا دَنَوْا منها أخَّرَهم شابٌّ لم أر قطُّ أحسنَ منه وجهًا، ولا أطيبَ منه ريحًا، فيكسِرُ أظهرهم، ويقلع أعينهم؛ فرفعت يدي لأتناول منها نصيبًا، فمنعني الشاب، فقلت: لمن النصيب؟ فقال: النصيب لهؤلاء الذين تعلَّقوا بها وسبقوكَ إليها. فانتبهتُ مذعورًا فزِعًا، فرأيت وجه الكاهنة قد تغيَّر، ثم قالت: لئن صدقَتْ رؤياك ليخرجَنَّ من صُلْبك رجلٌ يَملِكُ المشرق والمغرب، ويَدين له الناس ثم قال - يعني عبد المطلب لأبي طالب -: لعلك تكونُ هذا المولود. قال: فكان أبو طالب يحدِّثُ بهذا الحديث [بعدما وُلد رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وبعد ما بُعث. ثم قال]

(5)

: كانت الشجرةُ والله أعلم أبا القاسم الأمين. فيقال لأبي طالب: ألا تؤمن؟ فيقول: السُبَّة والعار

(6)

.

(1)

إسناده ضعيف، عباد بن كسيب، ذكره البخاري في تاريخه وقال (6/ الترجمة 1624):"لا يصح حديثه" وينظر الميزان (2/ 375)(بشار).

(2)

في الدلائل (1/ 99).

(3)

في ح: سعيد بن أبي عثمان.

(4)

في ح: سبعين مرة ضعفًا.

(5)

لفظ العبارة التي بين المعقوفين في الدلائل هكذا: "والنبي صلى الله عليه وسلم قد خرج ويقول: كانت

".

(6)

إسناده ضعيف جدًا، فإن خالد بن إلياس متروك، وهو من رجال التهذيب (بشار).

ص: 124

وقال أبو نعيم

(1)

: حدّثنا سليمان بن أحمد، حدّثنا محمد بن زكرياء الغَلابي، حدّثنا العباس بن بكَّار الضَّبِّي، حدّثنا أبو بكر الهُذَلي، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال العباس: خرجتُ في تجارةٍ إلى اليمن في ركبٍ منهم أبو سفيان بن حرب، فقدِمتُ اليمن، فكنتُ أصنع يومًا طعامًا، وأنصرف بأبي سفيان وبالنَّفَر، ويصنع أبو سفيان يومًا، ويفعل مثل ذلك، فقال لي في يومي الذي كنت أصنع فيه: هل لك يا أبا الفضل أن تنصرفَ إلى بيتي وترسل إليَّ غداءك؟ فقلت: نعم. فانصرفتُ أنا والنفر إلى بيته، وأرسلتُ إلى الغداء، فلما تغدَّى القوم قاموا واحتبسني، فقال: هل علمت يا أبا الفضل أنَّ ابن أخيك يزعم أنه رسول الله؟ فقلت: أيُّ بني أخي؟ فقال أبو سفيان: إياي تكتم؟ وأيُّ بني أخيك ينبغي أن يقول هذا إلا رجل واحد؟ قلت: وأيُّهم على ذلك؟ قال: هو محمد بن عبد الله. فقلت: قد فعل؟ قال: بلى قد فعل. وأخرج كتابًا باسمه من ابنه حنظلة بن أبي سفيان فيه: أخبرك أنَّ محمدًا قام بالأبْطَح فقال: "أنا رسول، أدعوكم إلى الله عز وجل" فقال العبَّاس: قلت: أجدُه يا أبا حنظلة صادقًا

(2)

. فقال: مهلاً يا أبا الفضل، فوالله ما أحبُّ أن تقول مثل هذا، إني لا أخشى أنْ يكونَ عليَّ ضَيْرٌ من هذا الحديث، يا بني عبد المطلب، إنه والله ما برحتْ قريش تزعم أنَّ لكم هَنَةً وهَنَة

(3)

، كلُّ واحدةٍ منهما غاية. لنَشدْتُكَ يا أبا الفضل، هل سمعتَ ذلك؟ قلت: نعم، قد سمعت. قال: فهذه والله شؤمتكم. قلت: فلعلَّها يُمْنَتُنا. قال: فما كان بعد ذلك إلا ليالٍ

(4)

حتى قدم عبد الله بنُ حُذَافةَ بالخبر وهو مؤمن. ففشا ذلك في مجالس اليمن؛ وكان أبو سفيان يجلس مجلسًا باليمن يتحدَّث فيه حَبْرٌ من أحبار اليهود، فقال له اليهودي: ما هذا الخبر؟ بلغني أنَّ فيكم عمَّ هذا الرجل الذي قال ما قال؟ قال أبو سفيان: صدقوا، وأنا عمُّه. فقال اليهودي: أخو أبيه؟ قال: نعم. قال: فحدِّثني عنه. قال: لا تسألني، ما أحبُّ أن يدَّعي هذا الأمر أبدًا، وما أحبُّ أن أعيبه، وغَيْرُه خيرٌ منه. فرأى اليهوديُّ أنه لا يُغمض

(5)

عليه ولا يحبُّ أن يَعِيبه. فقال اليهودي: ليس به بأس

(6)

على اليهود، وتوراة موسى. قال العباس: فناداني الحَبْر، فجئت فخرجت حتى جلست ذلك المجلس من الغد، وفيه أبو سفيان بن حرب والحبر، فقلت للحبر: بلغني أنك سألتَ ابن عمي عن رجل منا زعم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرك أنه عمُّه، وليس

(1)

في دلائل (1/ 203)، وهو فى السيرة الحلبية (1/ 185) مختصرًا.

(2)

في ح، ط والدلائل: صادق.

(3)

"الهَنَة": تأنيث هن، فهو كناية عن كل اسم جنس؛ وفي حديث سطيح: ثم تكون هنات وهنات: أي شدائد وأمور عظام. اللسان (هنا).

(4)

في ح: ليالي بإثبات الياء، وهو جائز.

(5)

في ط: يغمس، والمثبت من ح، جاء في التاج (غمض): وسمع الأمر فأغمض عنه وعليه، يكنى به عن الصبر. ويقال: سمعت منه كذا وكذا فأغمضت منه وأغضيت، إذا تغافلت عنه. وفى الأساس: التغميض عن الإساءة هو الإغضاء والتغافل.

(6)

كذا في ط وفي ح: ليس به لا بأس

ص: 125

بعمه، ولكن ابن عمه، وأنا عمُّه وأخو أبيه. قال: أخو أبيه؟ قلت: أخو أبيه. فأقبل على أبي سفيان فقال: صدق؟ قال: نعم صدق. فقلت: سلني فإن كذبتُ فليردَّ

(1)

عليّ. فأقبل عليّ. فقال: نشدتُكَ، هل كان لابن أخيك صَبْوةٌ أو سفهة؟ قلت: لا وإلَه عبد المطلب، ولا كذَب ولا خان، وإنه كان اسمُه عند قريش الأمين. قال: فهل كتب بيده؟ قال العباس: فظننت أنه خيرٌ له أن يكتب بيده، فأردتُ أن أقولها، ثم ذكرتُ مكان أبي سفيان أنه يكذبني ويردُّ

(2)

عليَّ، فقلت: لا يكتب. فوثب الحَبْر وترك رداءَهُ وقال: ذُبحت يهود، وقُتلت يهود. قال العباس: فلما رجعنا إلى منزلنا. قال أبو سفيان: يا أبا الفضل، إنَّ اليهود تفزع من ابن أخيك. قلت: قد رأيتَ ما رأيت. فهل لك يا أبا سفيان أن تؤمن به؟ فإنْ كان حقًّا كنتَ قد سبقت، وإنْ كان باطلًا فمعك غيرك من أكفائك. قال: لا أومن به حتى أرى الخيل في كَدَاء

(3)

، قلت: ما تقول؟ قال: كلمةٌ جاءتْ على فمي، إلا أني أعلم أنَّ الله لا يترك خيلًا تطلع من كَدَاء. قال العباس: فلما استفتح رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مكة، ونظرنا إلى الخيل وقد طلعتْ من كداء، قلت: يا أبا سفيان تذكر الكلمة. قال: إي والله إني لذاكرها، فالحمد لله الذي هداني للإسلام.

وهذا سياقٌ حسن عليه البهاء والنور، وضياء الصدق، وإن كان في رجاله من هو متكلَّمٌ فيه

(4)

، والله أعلم.

وقد تقدم ما ذكرناهُ في قصة أبي سفيان مع أمية بن أبي الصلْت

(5)

، وهو شبيهٌ بهذا الباب، وهو من أغرب الأخبار وأحسن السياقات، وعليه النور. وسيأتي أيضًا قصة أبي سفيان مع هرقل

(6)

ملك الروم حين سأله عن صفات رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وأحواله، واستدلاله بذلك على صدقه ونبوَّته ورسالته. وقال له: كنتُ أعلم أنه خارج، ولكن لم أكن أظنُّ أنه فيكم، ولو أعلم أني أخْلُص إليه لتجشَّمتُ لُقِيَّه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه، ولئن كان ما تقول حقًا ليملكنَّ موضع قدميَّ هاتين. وكذلك وقع ولله الحمد والمنة.

وقد أكثر الحافظ أبو نعيم من إيراد الآثار والأخبار عن الرهبان والأحبار والعرب، فأكثر وأطنب، وأحسن وأطيب، رحمه الله ورضي عنه.

(1)

في ح: فليرده.

(2)

في ح: ورادّ.

(3)

"كداء": الثنية العليا بمكة، مما يلي المقابر، عند المحَصَّب. النهاية (4/ 156) ومعجم البلدان (4/ 439).

(4)

قال بشار: هكذا قال المصنف تهوينًا، مع أن العباس بن بَكَّار الضبي كذاب كما قال الدارقطني (الضعفاء والمتروكون 423) وقبله قال ابن حبان في المجروحين (2/ 190): "يروي من العجائب

لا يجوز الاحتجاج به بحال ولا كتابة حديثه إلا على سبيل الاعتبار للخواص".

(5)

انظر في الجزء الثاني من هذا الكتاب (ط).

(6)

انظر ما سيأتي في الجزء الرابع من هذا الكتاب والعبارة في ح هكذا: وسيأتي قصته مع هرقل.

ص: 126

‌قصة عمرو بن مُرَّة الجُهَني

قال الطبراني

(1)

: حدّثنا عليُّ بن إبراهيم الخزاعي الأهوازي، حدّثنا عبد الله بن داود بن دِلْهاث بن إسماعيل بن عبد الله بن مسرع

(2)

بن ياسر بن سُويد - صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم - حدّثنا أبي، عن أبيه دِلْهاث، عن أبيه إسماعيل أنَّ أباه عبد الله حدّثه عن أبيه، أنَّ أباه ياسر بن سُويد حدّثه عن عمرو بن مُرَّة الجُهَني قال: خرجتُ حاجًّا في جماعة من قومي في الجاهلية، فرأيت في نومي وأنا بمكة، نورًا ساطعًا خرج من الكعبة حتى وصل إلى جبل يَثْرِب، وأشْعَرِ جُهينة

(3)

، فسمعت صوتًا بين النور وهو يقول: انقشعت الظلماء، وسطع الضياء، وبُعث خاتم الأنبياء. ثم أضاء إضاءةً أخرى، حتى نظرتُ إلى قصور الحيرة وأبيض المدائن

(4)

، وسمعتُ صوتًا من النور وهو يقول: ظهر الإسلام، وكُسرت الأصنام، ووُصِلَت الأرحام. فانتبهتُ فزعًا، فقلت لقومي: والله ليحدُثَنَّ لهذا الحيِّ من قريش حَدَث، وأخبرتهم بما رأيت فلما انتهينا إلى بلادنا جاء [الخبر]

(5)

والله رجلاً يقال له: أحمد، قد بُعث فأتيتُه فأخبرتُه بما رأيت، فقال:"يا عمرو بن مُرَّة أنا النبيُّ المرسل إلى العباد كافة، أدعوهم إلى الإسلام، وآمرهم بحَقْن الدماء وصِلَة الأرحام، وعبادة الله، ورفض الأصنام، وحجِّ البيت، وصيام شهر رمضان من اثني عشر شهرًا. فمن أجاب فله الجنة، ومن عصى فله النار. فآمن بالله يا عمرو يُؤمنك الله من هَوْل جهنم". فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسولُ الله، آمنت بما جئت به من حلالٍ وحرام، وإنْ رغَّم ذلك كثيرًا من الأقوام

(6)

. ثم أنشدتُه أبياتًا قلتُها حين سمعت به، وكان لنا صنم، وكان أبي سادنًا به، فقمتُ إليه فكسرته. ثمَّ لَحِقت بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم وأنا أقول:[من الطويل]

شهدتُ بأنَّ اللهَ حقٌّ وأنني

لآلهةِ الأحجارِ أولُ تارِكِ

(1)

رواية الطبراني في مجمع الزوائد (8/ 244 - 246) والخبر ساقه ابن الجوزي في الوفا (1/ 81) والكاندهلوي في حياة الصحابة (1/ 293) وما بعدها، وسوف يسوقه المصنف في ص 179 موضع الحاشية (3) في المتن مطولًا عن أبي نعيم، عنه.

(2)

في ح: مشرع وفي ط: شريح. وكلاهما تصحيف، والمثبت من التجريد للذهبي (2/ 72) والإصابة (3/ 478) في القسم الثاني من حرف الميم (باب م - س) ثم من الجرح والتعديل (5/ 48) في ترجمة عبد الله والإصابة (3/ 648) فى ترجمة ياسر.

(3)

الأشعر": جبل جهينة ينحدر على يَنْبُع من أعلاه، وينبع من المدينة على سبع مراحل باتجاه البحر؛ والأشعر والأجرد جبلا جهينة، بين المدينة والشام. معجم البلدان (1/ 198 و 5/ 450).

(4)

"أبيض المدائن": قصر الأكاسرة بالمدائن، كان من عجائب الدنيا، لم يزل قائمًا إلى أيام المكتفي في حدود سنة 290 هـ. وهو الذي وصفه البحتري في سينيته الشهيرة. انظر معجم البلدان (1/ 85).

(5)

ما بين معقوفين من الوفا (1/ 81).

(6)

كذا في ط، وفي ح: الأقوال.

ص: 127

وشمَّرتُ عن ساق

(1)

الإزارِ مُهاجرًا

إليكَ أجوبُ القَفْر بعد الدَّكَادِكِ

(2)

لأصحبَ خيرَ الناسِ نفسًا ووالدًا

رسولَ مَليكِ الناس فوقَ الحبائكِ

(3)

فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "مرحبًا بك يا عمرو بن مُرَّة". فقلت: يا رسول الله ابعثْني إلى قومي، لعل الله يمنُّ عليهم بي كما مَنَّ عليَّ بك. فبعثَني إليهم. وقال:"عليك بالرِّفْق، والقول السديد، ولا تكنْ فظًّا، ولا متكبِّرًا ولا حسودًا".

فذكر أنه أتى قومه، فدعاهم إلى ما دعاه إليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فأسلموا كلُّهم، إلا رجلاً واحدًا منهم، وأنه وفد بهم إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم؛ فرحَّب بهم وحيَّاهم، وكتب لهم كتابًا هذه نسخته:

"بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتابٌ من الله

(4)

على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، بكتابٍ صادق، وحقٍّ ناطق مع عمرو بن مُرَّة الجُهَني، لجُهينة بن زيد: إنَّ لكم بطونَ الأرض وسهولَها، وتلاعَ الأودية وظهورها، تزرعون

(5)

نباته، وتشربون صافيه، على أن تُقِرُّوا بالخُمُس، وتصلُّوا صلاة الخَمْس، وفي التيْعَة

(6)

والصُّرَيمة [شاتانِ] إنِ اجتمعتا، وإنْ تفرَّقتا [فـ] شاة شاة

(7)

، ليس على أهل المُثيرة

(8)

صدقة، ليس الوردة اللبقة

(9)

. وشهد على نبيِّنا صلى الله عليه وسلم مَنْ حضر من المسلمين بكتاب قيس بن شمَّاس".

(1)

كذا في ح، ط، والصواب: ساقي. بالياء كما سيأتي (ص 180).

(2)

في النهاية واللسان: إليك أجُوب القُورَ بعد الدكاك، وفيما سيأتي (ص 180) إليه أدب الغور

" وفي طبقات ابن سعد: "الدعث بعد الدكاك" وفي الوفا ومجمع الزوائد. الدعث بعد الدكاك. والقور: جمع قارة وهي الجبل، وقيل هو الصغير منه كالأكمة. وأما الغور: فكل منخفض من الأرض؛ والدكادك: جمع دكداك، وهو ما تلبد من الرمل بالأرض ولم يرتفع كثيرًا. النهاية (2/ 128)(دكدك) و (4/ 120)(قور) واللسان (غور).

(3)

"الحبائك": الطُّرُق، واحدتها حَبيكة، يعني بها السموات، لأن فيها طرق النجوم. النهاية (1/ 332)(حبك). والأبيات في طبقات ابن سعد (1/ 333).

(4)

في الوفا (1/ 83): كتاب أمان من الله.

(5)

في الوفا (1/ 83) والجمع وحياة الصحابة. ترعون. وهو أشبه بالصواب.

(6)

في ط: التليعة، وفي المجمع "والسعة" وفي حياة الصحابة: الغُنيمة، والمثبت من ح والنهاية (3/ 27)(صرم) وفيه ضُبطت التاء المثناة من فوق بالفتح ضبط قلم. والتصحيح من النهاية واللسان (تيع)، وفيهما: التيعة، بالكسر: اسم لأدنى ما تجب فيه الزكاة من الحيوان، وكأن الجُملة التي للسعاة عليها سبيل، من تاع يتيع إذا ذهب إليه، كالخمس من الإبل والأربعين من الغنم.

(7)

"الصُّريمة": تصغير الصِّرْمة، وهي القطيع من الإبل والغنم، قيل: هي من العشرين إلى الثلاثين والأربعين، كأنها إذا بلغت هذا القدر تستقلُّ بنفسها فيقطعها صاحبها عن معظم إبله وغنمه. والمراد بها في الحديث من مئة وإحدى وعشرين شاة إلى المئتين، إذا اجتمعت ففيها شاتان، وإن كانت لرجلين وفرِّق بينهما، فعلى كل واحد منهما شاة. النهاية (3/ 27)(صرم)، وما بين معقوفين منه.

(8)

في ح، ط: الميرة. والمثبت من مجمع الزوائد، جاء في النهاية (1/ 229) (ثور): ومنه الحديث "أنه كتب لأهل جُرش بالحِمى الذي حماه لهم للفرس والراحلة والمثيرة" أراد بالمثيرة بقر الحَرْث لأنها تثير الأرض.

(9)

كذا في ط، وفي ح: ليس للوردة اللبقةِ، ولم أهتد إلى معناه أو وجه الصواب فيه. وفي الدلائل (1/ 123): =

ص: 128

وذكر شعرًا قاله عمرو بن مُرَّة في ذلك كما هو مبسوطٌ في المسند الكبير

(1)

، وبالله الثقة وعليه التكلان.

وقال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7)} [الأحزاب: 7]. قال كثيرون من السلف: لما أخذ الله ميثاق بني آدم يوم {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} [الأعراف: 172]. أخذ من النبنِّين ميثاقًا خاصًا؛ وأكد مع هؤلاء الخمسة أولي العزم أصحاب الشرائع الكبار الذين أوَّلُهم نوح وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين.

وقد روى الحافظ أبو نعيم في كتاب "دلائل النبوة"

(2)

من طرق، عن الوليد بن مسلم، حدّثنا الأوزاعي، حدّثنا يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم متى وجبت لك النبوة؟ قال: "بين خَلْقِ آدمَ ونَفْخ الرُّوح فيه".

وهكذا رواه الترمذي من طريق الوليد بن مسلم، وقال: حسنٌ غريب من حديث أبي هريرة، لا نعرفه إلا من هذا الوجه

(3)

.

وقال أبو نعيم

(4)

: حدّثنا سليمان بن أحمد، حدّثنا يعقوب بن إسحاق بن الزبير الحلبي

(5)

، حدّثنا أبو جعفر النُّفَيْلي، حدّثنا عمرو بن واقد، عن عروة بن رُويم، عن الصُّنَابِحي قال: قال عمر: يا رسول الله، متى جُعلت نبيًّا؟ قال:"وآدمُ مُنْجَدِلٌ في الطِّين".

ثم رواه

(6)

من حديث نَصْر بن مُزَاحم، عن قيس بن الربيع، عن جابر الجُعْفي، عن الشعبي، عن ابن عباس قال: قيل: يا رسول الله: متى كنتَ نبيًّا؟ قال: "وآدمُ بين الروح والجسَد".

وفي الحديث الذي أوردناه في قصة آدمِ حين استخرج الله من صُلْبه ذُرِّيَّته خصَّ الأنبياء بنورٍ بين أعينهم. والظاهر- والله أعلم- أنه كان على قدْر منازلهم ورُتَبِهم عند الله. وإذا كان الأمر كذلك، فنور محمدٍ صلى الله عليه وسلم كان أظهرَ وأكبر وأعظمَ منهم كُلِّهم؛ وهذا تَنْويهٌ عظيم وتنبيهٌ ظاهرٌ على شَرَفِهِ وعُلُوِّ قَدْره.

= وليس للوارد التيعة وفي حاشية ط: كذا في الأصل، ولعله يريد أنه لا يؤخذ في الصدقة كرائم الأموال. والله أعلم.

(1)

لعله يريد معجم الطبراني، وهو في القسم المفقود منه، والشعر ذكره أيضًا ابن الجوزي في الوفا (1/ 84).

(2)

دلائل النبوة لأبي نعيم (1/ 48).

(3)

جامع الترمذي (3609) المناقب باب في فضل النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرجه الحاكم (2/ 609) والبيهقي في دلائل النبوة (2/ 130).

(4)

لم أجده في دلائل النبوة لأبي نعيم المطبوع من هذا الطريق، وهو فيه (1/ 48) من طريق آخر عن العرباض بن سارية. كما سيأتي وأخرجه الحاكم من طريق العرباض أيضًا (2/ 600).

(5)

هو شيخ للطبراني ذكره في معجمه الصغير (1134)، ومعجمه الأوسط (9435) و (9436) و (9437) و (9438) و (9439) و (9440) و (9441) و (9442) و (9443) و (9444)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: لا أعرفه (7/ 146)(بشار).

(6)

ليس الحديث في دلائل أبي نعيم كما أسلفت في ص (109 حاشية 7).

ص: 129

وفي هذا المعنى الحديث الذي قال الإمام أحمد

(1)

: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا معاوية بن صالح، عن سعيد بن سُويد الكلبي، عن عبد الله بن هلال السلمي

(2)

، عن العِرْباض بن سارية. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني عندَ الله لَخَاتمُ النبيِّين، وإنَّ آدم لمُنْجَدِلٌ في طينته، وسأنبِّئُكم بأوَّل ذلك: دَعْوَةُ أبي إبراهيم، وبشارة عيسى بي، ورُؤْيا أُمي التي رأتْ، وكذلك أمهات النَّبيِّين

(3)

يرين".

ورواه اللَّيث (3)، وابن وهب، عن عبد الرحمن بن مهدي، وعبد الله بن صالح، عن معاوية بن صالح، وزاد:" إنَّ أُمَّهُ رأتْ حين وضعَتْه نورًا أضاءَتْ منه قصورُ الشام".

وقال الإمام أحمد

(4)

: حدّثنا عبد الرحمن، حدّثنا منصور بن سعد

(5)

، عن بُدَيل، عن عبد الله بن شَقيق، عن مَيْسَرة الفَجْر قال: قلت: يا رسولَ الله، متى كنتَ

(6)

نبيًّا؟ قال: "وآدمُ بينَ الرُّوح والجَسد".

[إسناده جيد أيضًا

(7)

. وهكذا رواه إبراهيم بن طَهْمان

(8)

، وحمَّاد بن زيد وخالد الحذَّاء عن بُدَيل بن مَيْسَرة به.

ورواهُ أبو نعيم

(9)

عن محمد بن عمر بن سالم

(10)

، عن محمد بن بكر بن عمرو الباهلي، عن شيبان، عن الحسن بن دينار

(11)

، عن عبد الله بن شقيق

(12)

، عن ميسرة الفَجْر قال: قلت: يا رسول الله

(1)

مسند الإمام أحمد (4/ 127) وقد سبق للمؤلف أن ساقه ص (108) من هذا الجزء، وهو حديث حسن، دون قوله:(وكذلك أمهات النبيين يرين) وكانت أمهات المؤمنين والتصحيح من المسند.

(2)

في ط: "عبد الأعلى بن هلال السلمي" محرف، فهو وإن كان صحيحًا لكنه خطأ لأن الذي في المسند من رواية عبد الرحمن بن مهدي "عبد الله" وهو مما أخطأ فيه عبد الرحمن بن مهدي، فكتابته على الوجه الصحيح تفسد النص وتخالف الأصل، وقد علقنا عليه قبل قليل (بشار).

(3)

انظر ص (108) من هذا الجزء موضع الحاشية (6).

(4)

مسند الإمام أحمد (5/ 59) رقم الحديث (20474).

(5)

في ح، ط: منصور بن سعيد. والمثبت من المسند والجرح والتعديل (8/ 172) وتهذيب المزي (28/ 527) وتهذيب التهذيب (10/ 307).

(6)

في المسند: كُتِبْتَ.

(7)

هكذا قال، ولا أدري لم قال ذلك، فإسناد الحديث صحيح ورجاله ثقات رجال الصحيح غير صحابية ميسرة الفجر، وقد ذكره في الصحابة: البخاري، والبغوي وابن السكن وابن قانع وغيرهم.

(8)

أخرجه ابن سعد (7/ 60)، والطحاوي في شرح المشكل (5977)، وابن قانع (3/ 129)، والحاكم (2/ 608)، والبيهقي في دلائل النبوة (2/ 129) وغيرهم.

(9)

ليس في الدلائل وقد ساقه المحقق في مقدمته (ص 24، 25).

(10)

في ط: "أسلم" محرف، وهو محمد بن عمر بن محمد بن سالم المعروف بابن الجعابي المتوفى سنة 355، وترجمته في تاريخ الخطيب (4/ 42 ط. الدكتور بشار).

(11)

في مقدمة الدلائل: الحسن بن زياد. وهو خطأ، وهو الحسن بن دينار بن واصل، ورواية شيبان بن فروخ عنه في تهذيب الكمال (12/ 599)، وهو كذاب معروف مترجم في الجرح والتعديل (3/ الترجمة 37)، والكامل لابن عدي (2/ 710)، وضعفاء العقيلي (1/ 22)، والميزان للذهبي (1/ 487) وغيرها (بشار).

(12)

في ط: عبد الله بن سفيان. والمثبت من مقدمة الدلائل ومصادر تخريج الحديث المروية من طريق عبد الله بن شقيق =

ص: 130

متى كنت

(1)

نبيًا؟ قال: "وآدمُ بين الرُّوح والجسد"]

(2)

.

وقال الحافظ أبو نعيم في كتابه "دلائل النبوة"

(3)

: حدّثنا أبو عمرو بن حمدان، حدّثنا الحسن بن سفيان، حدّثنا هشام بن عمار، حدّثنا الوليد بن مسلم، عن خُليد بن دَعْلج، وسعيد عن قتادة، عن الحسن، عن أبي هريرة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى:{وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ} [الأحزاب: 7] قال: "كنتُ أوَّلَ النبيِّين في الخَلْق وآخرَهُمْ في البَعْث"

(4)

.

ثم رواه من طريق هشام بن عمَّار، عن بقيَّة، عن سعيد بن بَشيرْ

(5)

، عن قتادة، عن الحسن، عن أبي هريرة مرفوعًا مثله. [وقد رواه من طريق سعيد بن أبي عروبة وشيبان عن قتادة قال: ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال مثله]

(6)

. وهذا أثبت وأصحّ، والله أعلم.

وهذا إخبارٌ عن التنويه بذكرهِ في الملأ الأعلى، وأنَّه معروفٌ بذلك بينهم بأنه خاتمُ النبيِّين، وآدم لم يُنفخ فيه الرُّوح، لأنَّ عِلْمَ اللهِ تعالى بذلك سابقٌ قبل خلقِ السمواتِ والأرض لا محالة، فلم يبق إلا هذا الذي ذكرناه من الإعلام به في الملأ الأعلى. والله أعلم.

وقد أورد أبو نُعيم

(7)

من حديث عبد الرزاق، عن معمر، عن همَّام، عن أبي هريرة الحديث المتفق عليه. "نحنُ الآخِرُون السابقونَ يومَ القيامة

(8)

، المقضي لهم قبل الخلائق، بَيْدَ أنهم أُوتوا الكتابَ من قَبْلنا، وأوتيناه من بعدهم.

وزاد أبو نعيم في آخره: فكان صلى الله عليه وسلم آخرَهُمْ في البعث، وبه خُتمت النبوَّة. وهو السابق يوم القيامة. لأنه أولُ مكتوبٍ في النبوَّة والعَهْد.

ثم قال: ففي هذا الحديث الفضيلةُ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم: لما أوجب الله له النبوة قبل تمام خلق آدم. ويحتملُ أن يكون هذا الإيجاب هو ما أعلم اللهُ ملائكتَهُ ما سبق في علمه وقضائه من بعثتهِ له في آخر الزمان.

= عن ميسرة.

(1)

في مقدمة دلائل أبي نعيم: كتبت.

(2)

ليس ما بين المعقوفين في ح.

(3)

ليس في دلائل النبوة لأبي نعيم المطبوع.

(4)

مضى في ص (109) من هذا الجزء حيث روي الحديث عن البغوي.

(5)

في ح: يسير، وفي ط: نسير، والمثبت من (ص 109) من هذا الجزء في سياق الحديث عن البغوي وترجمة سعيد بن بشير في تهذيب التهذيب (4/ 8، 9).

(6)

ليس ما بين المعقوفين في ح.

(7)

في دلائل النبوة (1/ 49).

(8)

إلى هنا في المطبوع من الدلائل، وهذا يعزز ما ذهب إليه محقق الدلائل وسيرة ابن كثير من قبل من أن المطبوع من الدلائل هو المختصر.

ص: 131

وهذا الكلام يوافق ما ذكرناه ولله الحمد.

وروى الحاكم في "مستدركه"

(1)

من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم - وفيه كلام - عن أبيه، عن جده، عن عمر بن الخطاب رضي لله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما اقترف آدمُ الخطيئة قال: يا رب، أسألُكَ بحقِّ محمد إلَّا

(2)

غفرت لي. فقال الله: يا آدم، كيف عَرفْتَ محمدًا ولم أخلُقْهُ بعد؟ فقال: يا رب، لأنك لما خلقتني بيدك، ونفخْتَ فيَّ من روحك، رفعتُ رأسي، فرأيت على قوائم العرش مكتوبًا: لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله. فعلمتُ أنك لم تُضِفْ إلى اسمك إلا أحبَّ الخَلْقِ إليك. فقال الله: صدقتَ يا آدمَ، إنه لأحبُّ الخَلْقِ إليّ، وإذ قد سألتني بحقه فقد غفرتُ لك، ولولا محمد ما خلقتك".

قال البيهقي: تفرَّد به عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو ضعيف

(3)

، والله أعلم.

وقد قال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82)} [آل عمران: 81، 82].

قال عليُّ بن أبي طالب وعبدُ الله بن عباس رضي الله عنهما: ما بعث الله نبيًا من الأنبياء إلا أخذَ عليه الميثاق، لئن بُعث محمدٌ صلى الله عليه وسلم وهو حيٌّ ليؤمنَنَّ به ولَينصُرَنَّه، [وأمرَه أنْ يأخذَ الميثاق على أُمته، لئن بُعث محمدٌ وهم أحياء ليؤمنُنَّ به ولينصرُنَّه]

(4)

.

وهذا تنويهٌ وتنبيهٌ على شرفِهِ وعظمته في سائر المِلَل، وعلى ألسنة الأنبياء، وإعلامٌ لهم ومنهم برسالته في آخر الزمان، وأنه أكرمُ المرسلين وخاتمُ النبيِّين.

وقد أوضح أمره وكشف خبرَه وبيَّن سرَّه

(5)

، وجلَّى مجده

(6)

ومولده وبلده، إبراهيمُ الخليل في قوله عليه السلام حين فرغ من بناء البيت:{رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)} [البقرة: 129] فكان أوَّلُ بيانِ أمرهِ على الجليَّة والوضوح بين أهلِ الأرض، على لسان إبراهيم الخليل أكرم الأنبياء على الله بعد محمد صلوات الله عليه وسلامه عليهما وعلى سائر الأنبياء.

(1)

مستدرك الحاكم (2/ 615).

(2)

في المستدرك: لما.

(3)

عقب عليه الذهبي بقوله قلت: بل موضوع، وعبد الرحمن واهٍ.

(4)

ما بين المعقوفين مستدرك في هامش ح.

(5)

في ح: مسيره.

(6)

كذا في ط، وفي ح: وحكى محتده.

ص: 132

ولهذا قال الإمام أحمد

(1)

: حدّثنا أبو النضر، حدّثنا الفرج - يعني ابن فَضَالة، حدّثنا لقمان بن عامر [قال]: سمعتُ أبا أُمامة قال: قلت: يا نبيَّ الله، ما كان بَدْءُ أمرِك؟ قال:"دَعْوَةُ أبي إبراهيم، وبُشرى عيسى، ورأتْ أُمي أنَّهُ يخرجُ منها نورٌ أضاءتْ منه قصورُ الشام".

تفرَّد به الإمام أحمد، ولم يخرِّجْهُ أحدٌ من أصحاب الكتب الستة

(2)

.

وروى الحافظ أبو بكر بن أبي عاصم في كتاب المولد، من طريق بقيَّةَ، عن صفوان بن عمرو، عن حُجْر، عن أبي مريم

(3)

أنَّ أعرابيًا قال: يا رسول الله، أيُّ شيءٍ كان أول أمْر نبوتك؟ فقال: أخذَ اللهُ مني الميثاقَ كما أخذ من النبيِّينَ ميثاقَهم. ورأتْ أمُّ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في منامها أنه خرج من بين رجلَيْها سراجٌ أضاءتْ له قصورُ الشام".

وقال الإمام محمد بن إسحاق بن يسار

(4)

: حدّثني ثَوْر بن يزيد، عن خالد بن مَعْدَان، عن أصحابِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنهم قالوا: يا رسول الله، أخبرْنا عن نفسك. قال: "دَعْوةُ أبي إبراهيم، وبُشْرى عيسى. ورأت أمي حين حملَتْ

(5)

كأنَّهُ خرجَ منها نورٌ أضاءَتْ له بُصرى من أرْضِ الشام".

إسنادُه جيد أيضًا. وفيه بشارةٌ لأهل محلَّتنا، أرضِ بُصْرى، وأنها أوَّلُ بُقْعَةٍ من أرض الشام خَلَص إليها نورُ النبوَّة، وللهِ الحَمْدُ والمِنَّة؛ ولهذا كانت أولَ مدينةٍ فُتحت من أرض الشام، وكان فتحُها خَلَص في خلافةِ أبي بكر الصدِّيق رضي الله عنه كما سيأتي بيانُه - وقد قدِمَها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مرَّتين في صُحبة عَمِّه أبي طالب وهو ابن اثنتي عشرة سنةّ، وكانت عندها قصة بَحِيرى الراهب كما بينَّاه، والثانية ومعه مَيْسرة مولى خديجة في تجارةٍ لها. وبها مَبْرَك الناقةِ التي يقال لها: ناقة رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بركت عليه، فأثَرُ ذلك فيها فيما يذكر، ثم نُقل وبُني عليها مسجدٌ مشهور اليوم. وهي المدينةُ التي أضاءتْ أعناقُ الإبل عندها من نور النار التي خرجتْ من أرض الحجاز سنة أربعٍ وخمسين وستمائة، وفق ما أخبر به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في قوله:"تَخْرُجُ نارٌ من أرضِ الحجاز، تُضيءُ لها أعناق الإبل ببُصْرى " وسيأتي الكلامُ على ذلك في موضعه إنْ شاء الله، وبه الثقة وعليه التكلان

(6)

.

وقال الله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ

(1)

مسند الإمام أحمد (5/ 262)، وهو حديث حسن.

(2)

ليست لفظة الستة في ح.

(3)

في ط: مريق، وهو تصحيف، والمثبت من ح، وأبو مريم هو سنان الصحابي. وأخرجه الطبراني في مسند الشاميين (2/ 98) مطولًا.

(4)

سيرة ابن هشام (1/ 166) والروض الأنف (1/ 188).

(5)

في ط: حبلت.

(6)

انظر حوادث سنة 654 من هذا الكتاب.

ص: 133

وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)} [الأعراف: 157] الآية.

قال الإمام أحمد

(1)

: حدّثنا إسماعيل، عن الجُرَيْرِي، عن أبي صخر العقيلي

(2)

، حدّثني رجلٌ من الأعراب قال: جلبت جلوبة إلى المدينة في حياةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلما فرغتُ من بيعي

(3)

قلت: لألقيَنَّ هذا الرجل، فلأسمعنَّ منه. قال: فتلقاني بين أبي بكبر وعمر يمشون، فتبعتُهم [في أقفائهم] حتى أتَوْا على رجل من اليهود، ناشر التوراة يقرؤها، يُعَزِّي بها نفسه عن ابنٍ له في الموت كأحسن الفتيان وأجمله

(4)

. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنْشُدُك بالذي أنزل التوراة، هل تجدني في كتابك، ذا صفتي ومَخْرَجي؟ " فقال برأسه هكذا - أي لا - فقال ابنه: إي والذي أنزلَ التوراة إنَّا لنَجِدُ في كتابنا صفَتَك ومَخْرَجك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله، وأنك رسولُ الله. فقال:"أقيموا اليهوديَّ عن أخيكم". ثم وليَ جَنَنَهُ

(5)

وكَفَنَهُ والصلاة عليه.

هذا إسنادٌ جيِّد، وله شواهدُ في الصحيح عن أنس بن مالك، رضي الله عنه.

وقال أبو القاسم البغوي: حدّثنا عبد الواحد بن غياث، أبو بَحْر، حدّثنا عبد العزيز بن مسلم، حدّثنا عاصم بن كليب، عن أبيه، عن الفَلَتان

(6)

بن عاصم، وذكر أن خاله قال: كنتُ جالسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذْ شخَصَ بصَرُه إلى رجل، فإذا يهوديٌّ عليه قميص وسراويل ونعلان، قال: فجعل النبيُّ صلى الله عليه وسلم يكلِّمُه وهو يقول: يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتشهدُ أني رسولُ الله "!؟ قال: لا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتقرأ التوراة قال: نعم. قال: "أتقرأ الإنْجيل"؟ قال: نعم. قال: "والقرآن "؟ قال: لا، ولو تشاءُ قرأتُه. فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"فبمِ تقرأ التوراة والإنجيل، أتَجِدُني نبيًّا؟ " قال: إنَّا نَجِدُ نَعْتَكَ ومَخْرَجَك، فلمَّا خرجتَ رَجَوْنا أنْ تكون فينا، فلما رأيناك عرفناك أنَكَ لَسْتَ به. قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"ولمَ يا يهودي"؟ قال: إنَا نجدُه مكتوبًا: يدخلُ من أمَّتِهِ الجنَّةَ سبعونَ ألفًا بغير حساب، ولا نرى معك إلا نفرًا يسيرًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن أمتي لأكثر من سبعين ألفًا وسبعين ألفًا".

(1)

مسند الإمام أحمد (5/ 411) وما يأتي بين معقوفين منه. والحديث أخرجه ابن خزيمة في صحيحه، والحسن بن سفيان في مسنده من طريق سالم بن نوح عن الجريري عن عبد الله بن شقيق عن أبي صخر كما في الإصابة (4/ 107).

(2)

ضبط في الكنى لمسلم ص 132، بضم العين وفتح القاف ضبط قلم.

(3)

في المسند: بيعتي.

(4)

في ط: وأجملهم والمثبت من ح ومسند أحمد.

(5)

"الجنن": القبر. واللفظة ساقطة من ط، والعبارة في المسند "ثم ولي كفنه، وحنَّطه وصلى عليه".

(6)

في ط: الصلتان، وفي ح: الغلتان، بغين معجمة، والمثبت من التجريد (2/ 8) والإصابة (3/ 209) والتاج (فلت).

ص: 134

هذا حديثٌ غريبٌ من هذا الوجه، ولم يُخَرِّجوه

(1)

.

وقال محمد بن إسحاق

(2)

عن سالم مولى عبد الله بن مطيع، عن أبي هريرة: قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم[بيتَ المِدْراس]

(3)

فقال: "أخْرِجُوا [إليَّ] أعْلَمَكم" فقالوا: عبد الله بن صوريا، فخلا به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فناشده بدينه، وما أنعم الله به عليهم، وأطعمهم من المَنِّ والسَّلوى، وظلَّلهم به من الغمام:"أتَعْلَمُني رسولَ الله صلى الله عليه وسلم "؟ قال: اللهمَّ نعم. وإنَّ القومَ ليعرفونَ ما أعرف، وإنَّ صفتَكَ ونَعْتَك لَبيِّنُ

(4)

في التوراة، ولكنهم حسدوك. قال:"فما يَمْنَعُكَ أنت"؟ قال: أكره خلافَ قومي، وعسى أن يتبعوكَ ويُسلموا فأسلم.

وقال سَلَمة بن الفَضْل عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، عن ابن عباس، أنه كان يقول: كتب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى يهودِ خَيْبَر:

بسم الله الرحمن الرحيم. من محمدٍ رسولِ الله صاحب موسى، وأخيه، والمصدِّق بما جاء به موسى، ألا إنَّ الله قال لكم: يا معشرَ يَهود وأهلَ التوراة، إنَّكم تجدونَ ذلك في كتابكم: إنَّ محمدًا {رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ [كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)} ]

(5)

. وإنِّي أنْشُدُكم بالله، وبالذي أُنزل عليكم، وأنشُدكم بالذي أطْعَمَ مَنْ كان قبلَكُم من أسلافكم وأسباطكم المنَّ والسَّلْوَى، وأنشُدكم بالذي أيبسَ البحرَ لآبائكم حتى أنْجَاكم من فرْعون وعمله، إلَّا أخبرتمونا، هل تجدونَ فيما أنزلَ اللهُ عليكم أن تؤمنوا بمحمد؟ فإنْ كنتمُ لا تجدون ذلك في كتابكم، فلا كُرْهَ عليكم، قد تبيَّنَ الرُّشْدُ من الغَيّ. وأدعوكم إلى اللهِ تعالى وإلى نبيِّه" صلى الله عليه وسلم.

وقد ذكر محمد بن إسحاق بن يَسَار في كتاب "المبتدأ"

(6)

، عن سعيد بن بشير، عن قتادة، عن كعب الأحبار.

(1)

رواه الحسن بن سفيان في مسنده وابن أبي شيبة وابن منده كما في الإصابة (3/ 209) وأخرجه بنحوه الطبراني والبيهقي وابن عساكر عن الفلتان كما في الخصائص للسيوطي (1/ 14).

(2)

كذا في ح، ولم أجد لمحمد بن إسحاق رواية عن سالم مولى عبد الله بن مطيع في ترجمتهما في تهذيب المزي، وليس الخبر في سيرة ابن إسحاق أو سيرة ابن هشام، وهو في الوفا لابن الجوزي (1/ 50) من غير إسناد عن أبي هريرة.

(3)

ما بين معقوفين ساقط من ح، ط فاستدركته من الوفا لابن الجوزي (1/ 50). وسيأتي معنى المدراس (ص 136 ح 3).

(4)

في ط: لمبين.

(5)

ما بين المعقوفين ليس في ح وفيها لفظ: الآية، وهي من سورة الفتح الآية (29).

(6)

لم أجده في سيرة ابن إسحاق المطبوع، وهو بنحوه في دلائل النبوة لأبي نعيم عن أحمد بن السندي ثنا الحسن بن علويه ثنا إسماعيل بن عيسى قال: ثنا إسحاق بن بشر قال: ثنا سعيد بن بشير، به.

ص: 135

وروى غيره

(1)

عن وهْب بن مُنَبِّه، أنَّ بختنَصَّر بعد أنْ خرَّب بيتَ المَقْدِس، واستذَلَّ بني إسرائيل بسبع سنين رأى في المنام رؤيا عظيمةً هالَتْه، فجمع الكَهَنة والحُزَّار، وسألهم عن رؤياه تلك. فقالوا ليقصَّها الملكُ حتى نخبرَهُ بتأويلها. فقال: إني أنسيتُها. وإنْ لم تخبروني بها إلى ثلاثة أيام قتلتُكُمْ عن آخركم. فذهبوا خائفين وَجِلين من وعيده. فسمع بذلك دانيالُ عليه السلام وهو في سجنه، فقال للسَّجَّان: اذهبْ إليه فقل له: إنَّ هاهنا رجلاً عنده عِلْمُ رؤياك وتأويلُها. فذهب إليه، فأعلمه، فطلبه، فلما دخل عليه لم يسجُدْ له، فقال له: ما منعك من السجود لي؟ فقال: إنَّ الله آتاني علمًا وعلَّمني، وأمرني أنْ لا أسجدَ لغيره. فقال له بختنَصَّر: إني أُحبُّ الذين يوفون لأربابهم بالعهود، فأخبرْني عن رؤياي. قال له دانيال: رأيتَ صنمًا عظيمًا، رِجْلاه في الأرض ورأسه في السماء، أعلاه من ذهب ووسطه من فضَّة، وأسفله من نُحاس، وساقاه من حديد، ورجلاه من فخَّار، فبينا أنتَ تنظر إليه، قد أعجبك حسنُه وإحكامُ صنعتِه، قذَفَهُ الله بحجرٍ من السماء، فوقع على قِمَّة رأسهِ حتى طحنه، واختلط ذهَبُه وفضَّته، ونحاسه وحديده وفخَّاره، حتى تخيَّل لك أنَّه لو اجتمع الإنس والجنُّ على أن يميزُوا بعضَهُ من بعض، لم يقدروا على ذلك؛ ونظرتَ إلى الحجر الذي قُذف به، يَرْبُو ويَعْظُم وينتشر، حتى ملأ الأرض كلَّها، فصرتَ لا ترى إلا الحجر والسماء.

فقال له بختنَصَّر: صدقت! هذه الرُّؤيا التي رأيتُها، فما تأويلها؟ فقال دانيال: أما الصنم فأُمَمٌ مختلفةٌ قي أوَّل الزمان وفي وسطه وفي آخره؟ وأما الحجَرُ الذي قُذف به الصنم فدِينٌ يَقْذِفُ اللّه به هذه الأممَ في آخر الزمان، فيظهرَهُ عليها، فَيَبْعَثُ اللهُ نبيًّا أُمِّيًّا من العرب، فيدوِّخ به الأمم والأديان، كما رأيتَ الحجرَ دوَّخ أصنافَ الصنم، ويظهر على الأديانِ والأمم، كما رأيتَ الحجر ظهر على الأرض كلِّها؛ فيمحِّص الله به الحق، ويُزْهقُ به الباطل، ويَهْدي به أهلَ الضلالة، ويعلِّم به الأميِّين، ويقوِّي به الضَّعَفة، ويُعِزُّ به الأذلَّة، وينصر به المستضعفين.

وذكر تمامَ القصة في إطلاق بختنَصَّر بني إسرائيل على يدي دانيال عليه السلام.

وذكر الواقدي بأسانيده عن المغيرة بن شعبة في قصة وفوده على المقوقس ملك الإسكندرية وسؤاله له عن صفات رسول الله صلى الله عليه وسلم قريبًا من سؤال هرقل لأبي سفيان صخر بن حرب، وذكر أنه سأل أساقفة النصارى في الكنائس عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبروه عن ذلك، وهي قصة طويلة ذكرها الحافظ أبو نعيم في "الدلائل"

(2)

.

وثبت في "الصحيح" أنَّ رسولَ الله مرَّ بمِدْرَاس

(3)

اليهود فقال لهم: "يا معشر يَهُود، أسلموا، فوالذي نفسي بيده، إنَّكم لتَجِدُون صفتي في كُتبكم

" الحديث.

(1)

تاريخ الطبري (1/ 554).

(2)

دلائل أبي نعيم (1/ 85).

(3)

"المِدْراس": بكسر أوله، هو البيت الذي يدرس فيه اليهود كتابهم. فتح الباري (6/ 271).

ص: 136

وقال الإمام أحمد

(1)

: حدّثنا موسى بن داود، حدّثنا فليح بن سليمان، عن هلال بن علي، عن عطاء بن يسار قال: لَقيتُ عبد الله بن عمرو بن العاص فقلت: أخبرني عن صفات رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة. فقال: أجَلْ، والله إنَّه لموصوفٌ في التوراة بصفته في القرآن:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45)} [الأحزاب: 45] وحِرْزًا للأُميِّين، أنت عَبْدي ورسولي، سمَّيْتُكَ المُتَوكِّل، لستَ بفظِّ ولا غَلِيظ

(2)

، ولا سَخَّابٍ بالأسواق

(3)

، ولا يدفعُ بالسِّيئةِ السيئة، ولكنْ يعفو ويغفر، ولن يَقْبضَهُ اللهُ حتى يُقيموا المِلّة

(4)

العَوْجاء، بأن يقولوا: لا إله إلا الله، يفتح به أعيُنًا عُمْيًا، وآذانًا صُمًّا، وقلوبًا غُلْفًا.

ورواهُ البخاري

(5)

عن محمد بن سِنان العَوَقي، عن فُلَيح به. ورواه أيضًا

(6)

عن عبد الله - قيل ابن رجاء، وقيل ابن صالح

(7)

- عن عبد العزيز بن أبي سلمة عن هلال بن علي

(8)

، ولفظه قريبٌ من هذا وفيه زيادة.

ورواه ابن جرير

(9)

من حديث فُليح، عن هلال، عن عطاء، وزاد: قال عطاء: فَلقِيتُ كعبًا فسألته عن ذلك، فما اختلف حرفًا.

وقال في البيوع

(10)

: وقال سعيد عن هلال، عن عطاء، عن عبد الله بن سَلام.

قال الحافظ أبو بكر البيهقي

(11)

: أخبرناه أبو الحسين بن الفَضْل القطَّان، حدّثنا عبد الله بن جعفر، حدّثنا يعقوب بن سفيان

(12)

، حدّثنا أبو صالح، حدّثنا الليث، حدّثني خالد بن يزيد، عن سعيد بن

(1)

مسند الإمام أحمد (2/ 174).

(2)

في ح، ط: لا فظ ولا غليظ، والمثبت من مسند الإمام أحمد، وهو حديث صحيح.

(3)

في ط: ولا صخاب في الأسواق، والمثبت من ح ومسند الإمام أحمد. والسخَّاب من السخب، وهو رفع الصوت بالخصام، ويقال بالصاد المهملة بدل السين. فتح الباري (4/ 343).

(4)

كذا في ح، ط: وفي المسند: حتى يقيم به الملة العوجاء. قال ابن حجر في الفتح: العوجاء: أي ملة العرب، ووصفها بالعوج لما دخل فيها من عبادة الأصنام، والمراد بإقامتها أن يخرج أهلها من الكفر إلى الإيمان.

(5)

فتح الباري (2125) البيوع باب كراهية السَّخَب في الأسواق.

(6)

في فتح الباري (4838) التفسير باب إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا. ومعلقًا ومسندًا، وانظر فتح الباري (4/ 343) و (8/ 585).

(7)

في فتح الباري: عبد الله بن مسلمة القعنبي، وقال: كذا رواية أبي بكر وأبي علي بن السكن، ووقع عند غيرهما "عبد الله" غير منسوب فتردد فيه أبو مسعود بين أن يكون ابن رجاء وابن صالح كاتب الليث. فتح الباري (8/ 585).

(8)

في ح، ط: علويه، والمثبت من البخاري وترجمته في تهذيب التهذيب (11/ 82).

(9)

أخرجه ابن جرير الطري في تفسيره (9/ 83) في تفسير الآية (157) من سورة الأعراف. والحديث من الطريق المذكور مع الزيادة المشار إليها موجودة في الطبقات (1/ 362).

(10)

يعني البخاري في كتاب البيوع، فتح الباري (4/ 343).

(11)

دلائل النبوة للبيهقي (1/ 376).

(12)

المعرفة والتاريخ (3/ 274) وهو في قسم النصوص المقتبسة من المجلد المفقود منه.

ص: 137

أبي هلال [عن هلال]

(1)

بن أسامة، عن عطاء بن يسار، عن ابن سَلام أنَّهُ كان يقول: إنَّا لنَجِدُ صفةَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45)} [الأحزاب: 45] وحِرْزًا للأمِّيِّين، أنت عَبْدِي ورسولي، سمَّيْته المتوكِّل، ليس بفظٍّ ولا غليظ، ولا سَخَّاب في الأسواق، ولا يَجْزي السِّيئة مثْلَها، ولكنْ يعفو ويتجاوز، ولن يَقْبِضَهُ حتى يُقيم به المِلَّة العَوْجاء بأنْ يشهدوا أنْ لا إله إلا الله، يفتح به أعْيُنًا عُمْيًا، وآذانًا صُمًّا، وقلوبًا غُلْفًا.

وقال عطاء بن يسار: وأخبرني الليثي أنه سمع كعبَ الأحْبار يقولُ مثل ما قال ابنُ سلام.

قلت: وهذا عن عبد الله بن سَلام أشبه، ولكنَّ الرواية عن عبد الله بن عمرو أكثر، مع أنه كان قد وجد يوم اليرموك زاملتَيْن من كُتب أهل الكتاب

(2)

، وكان يحدِّثُ عنهما كثيرًا؛ وليُعْلَمْ أنَّ كثيرًا من السلف كانوا يُطلقون التوراة على كتب أهل الكتاب، فهي عندهم أعمُّ من التي أنزلها الله على موسى، وقد ثبت شاهدُ ذلك من الحديث.

وقال يونس عن محمد بن إسحاق

(3)

: حدّثني محمد بن ثابت بن شُرَحبيل، عن أم الدرداء

(4)

قالت: قلت لكعب الأحبار: كيف تجدونَ صفةَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في التوراة؟ قال: نجدُهُ محمد رسول الله، اسمُهُ المتوكل، ليس بفَظٍّ ولا غَليظ، ولا سَخَّابٍ في الأسواق، وأُعطي المفاتيح، فَيُبَصِّر الله به أعْيُنًا عُورًا، ويُسمع بهِ آذانًا وُقْرًا، ويُقيم به ألْسُنًا مُعْوجَّة، حتى يشهدوا

(5)

أنْ لا إله إلا الله وَحْدَهُ لا شريكَ له، يُعين به المظلوم ويمنعه.

وقد رُوي عن كعب من غير هذا الوجه

(6)

.

وروى البيهقيُّ

(7)

عن الحاكم، عن أبي الوليد الفقيه، عن الحسن بن سفيان، حدّثنا عُقْبة

(8)

بن مُكْرَم، حدّثنا أبو قَطَن عمرو بن الهيثم، حدّثنا حمزةُ الزيَّات، عن سُليمان الأعمش، عن علي بن

(1)

ما بين معقوفين من دلائل أبي نعيم (1/ 376) وترجمة هلال بن علي بن أسامة في تهذيب التهذب (11/ 82).

(2)

في ذلك أقوال مضت في الجزء الأول في قصة شعيب من هذا الكتاب والصفحة (95) من هذا الجزء.

(3)

دلائل النبوة للبيهقي (1/ 376، 377).

(4)

في ط: عن ابن أبي أوفى عن أم الدرداء، وليست هذه الزيادة في ح أو دلائل البيهقي.

(5)

في دلائل البيهقي: يُشْهَد.

(6)

هذه الرواية في طبقات ابن سعد (1/ 360).

(7)

في دلائل النبوة (1/ 381) وأخرجه الحاكم في المستدرك (2/ 408) قال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. قال بشار: هكذا قال الحاكم ولا يصح كلامه البتة، فعقبة بن مكرم الذي روى عنه الحسن بن سفيان لم يخرج له أحد من أصحاب الكتب الستة فضلًا عن مسلم، وهو عقبة بن مكرم بن عقبة بن مكرم الضبي الهلالي الكوفي، وقد ذكره المزي في التهذيب تمييزًا (20/ 226) له عن عقبة بن مكرم بن أفلح الصمي البصري (20/ 223)، وهو الذي أخطأ فيه الحاكم فظنه هو الراوي عن الحسن بن سفيان مع أن نسبه ضبيبًا.

(8)

في ح، ط: عتبة، وهو تصحيف، والمثبت من الدلائل وتهذيب المزي (20/ 226).

ص: 138

مُدْرك، عن أبي زُرْعة، عن أبي هريرة:{وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا} [القصص: 46] قال: نُودوا: يا أمَّةَ محمد، استجَبْتُ لكُمْ قبلَ أنْ تدعُوني، وأعطيتكُم قبل أنْ تسألوني.

وذكر وَهْبُ بن مُنَبِّه

(1)

أنَّ الله تعالى أوحى إلى داود في الزَّبُور: يا داود إنَّهُ سيأتي من بَعْدِك نبيٌّ اسْمُه أحمد ومحمد

(2)

، صادقًا سيِّدًا، لا أغضَبُ عليه أبدًا، ولا يعصيني

(3)

أبدًا، وقد غفرتُ له قبلَ أن يعصِيَني ما تقدَّم من ذنبِه وما تأخَّر، وأمَّتُه مَرْحُومة، أعطيتُهم من النوافِل مثلَ ما أعْطيتُ الأنبياء، وفرضْتُ عليهم الفرائضَ التي افترضتُ على الأنبياءِ والرُّسُل، حتى يأتوني يومَ القيامةِ ونورهُمْ مِثْلُ نورِ الأنبياء.

إلى أن قال: يا داود، إني فضَّلْتُ محمدًا وأُمَّتَه على الأمم كلها.

والعِلْمُ بأنه موجودٌ في كُتب أهل الكتاب مَعْلُومٌ من الدِّين ضَرُورةً، وقد دلَّ على ذلك آياتٌ كثيرة في الكتاب العزيز تكلَّمنا عليها في مواضعها ولله الحمد.

فمن ذلك قوله: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53)} [القصص: 52، 53]. وقال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146)} [البقرة: 146]. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108)} [الإسراء: 107، 108]. أي إنْ كان وَعَدنا ربُّنا بوجودِ محمدٍ وإرساله لكائنٌ لا محالة؛ فسبحان القدير على ما يشاء لا يُعجِزُه شيء.

وقال تعالى إخبارًا عن القِسِّيسينَ والرُّهْبان: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83)} [المائدة: 83]. وفي قصَّة النَّجاشي وسَلْمان وعبد اللّه بن سَلام وغيرِهم كما سيأتي شواهدُ كثيرةٌ لهذا المَعْنى وللّه الحَمْدُ والمِنَّة.

وذكَرْنا في تضاعيف قصص الأنبياء ما تقدَّم الإشارة إليه من وصْفِهم لبعثةِ رسولِ اللّه صلى الله عليه وسلم ونَعْته، وبلد مولده ودار مُهاجَرِه، ونعت أُمَّتِه في قصة موسى وشعيا وأرميا ودانيال وغيرهم، وقد أخبر اللّهُ تعالى عن آخر أنبياءِ بني إسرائيل وخاتمهم عيسى ابن مريم، أنه قام في بني إسرائيل خَطيبًا قائلًا لهم:{إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَد} [الصف: 6]. وفي الإنجيل البِشارة بالفارقليط

(4)

والمرادُ به محمد صلى الله عليه وسلم.

(1)

دلائل البيهقي (1/ 380).

(2)

كذا في ح، ط، وفي دلائل البيهقي: يسمى أحمد ومحمدًا.

(3)

في ط: ولا يغضبني، والمثبت من ح.

(4)

ويقال بالباء: البارقليط، وهي رواية ح.

ص: 139

وروى البيهقي

(1)

عن الحاكم، عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبَّار، عن يونس بن بُكير، عن يونس بن عمرو، عن العَيْزَار بن حُرَيث

(2)

، عن عائشةَ رضي الله عنها، أنَّ رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم قال:"مَكْتوبٌ في الإنجيل: لا فظٌّ ولا غَليظ، ولا سَخَّابٌ في الأسواق، ولا يَجْزي بالسيِّئةِ مِثْلَها، بل يَعْفُو ويَصْفَح".

وقال يعقوب بن سفيان

(3)

: حدّثنا فيض البَجَلي، حدّثنا سَلام بن مِسْكين، عن مقاتل بن حَيَّان قال: أوحى اللّه عز وجل إلى عيسى ابن مريم: جِدَّ في أمْري، واسمع وأطِعْ يا بن الطاهر

(4)

البِكْر البَتُول، أنا خلقتُكَ من غير فَحْل فجعلتك آيةً للعالمين؛ فإيَّاي فاعبُدْ، فبين لأهل سوران بالسُّرْيانية، بَلِّغْ من بين يديك أني أنا الحقُّ القائم الذي لا يزول

(5)

، صدِّقوا بالنبيّ الأُمِّيِّ العربي، صاحب الجمل والمِدْرَعة والعمامة -وهي التاج- والنعلَيْنِ والهِرَاوة- وهي القضيب- الجَعْدِ الرأس، الصَّلْتِ الجبين

(6)

، المَقْرُونِ الحاجبيْن، الأَنْجَلِ العينَيْن، الأهدبِ الأشفار

(7)

، الأدعجِ العينين

(8)

، الأقْنَى الأنف

(9)

، الواضحِ الخدَّين، الكثِّ الفَحْية، عَرَقُهُ في وَجْهه كاللُّؤْلُؤ، ريح المسك يَنْفَحُ

(10)

منه، كأنَّ عُنُقَهُ إبْرِيقُ فِضَّة، وكأنَّ الذهب يَجْري في تَرَاقيه، له شَعَراتٌ من لَبَّتِهِ إلى سُرَّته، تجري كالقَضيب، ليس في بطنه شَعَرٌ غيره، شَثْن الكَفِّ والقَدَم

(11)

، إذا جاء مع الناس غمَرَهُم، وإذا مشى كأنما يتقلَّعُ

(12)

من الصخر ويتحدَّر من صَبَب، ذو النسل القليل - وكأنَّهُ أرادَ الذكورَ من صُلْبِه.

هكذا رواهُ البيهقي في "دلائل النبوَّة" من طريق يعقوب بن سفيان

(13)

.

(1)

في دلائل النبوة (1/ 377).

(2)

في ح، ط: حرب، وهو تصحيف، والمثبت من دلائل البيهقي وتهذيب التهذيب (8/ 203) في ترجمته والتقريب.

(3)

في المعرفة والتاريخ (3/ 275) وهو في قسم النصوص المقتبسة من المجلد المفقود منه.

(4)

في ط: الطاهرة. جاء في اللسان (طهر): والمرأة طاهرٌ من الحيض وطاهرةٌ من النجاسة ومن العيوب.

(5)

في ط: أزول.

(6)

"الصلت الجبين": الواسع الجبين، الأبيض الجبين الواضح. التاج (صلت).

(7)

"الأهدب الأشفار": أي طويل شعر الأجفان. التاج (هدب).

(8)

"الأدعج العينين": يريد أن سواد عينيه كان شديد السواد، وقيل: إن الدَّعج عنده: سواد العين مع شدة بياضها. التاج (دعج).

(9)

"من القنى": وهو ارتفاع في أعلى الأنف، واحديداب في وسطه، وسُبوغ في طرفه اللسان (قنا).

(10)

"نفَحَ الطِّيبُ": إذا أرِجَ وفاح. التاج (نفح) وفي ط: ينضح، ومعناه بنحوه.

(11)

أي أنهما تميلان إلى الغلظ والقصر، وقيل: هو الذي في أنامله غِلَظٌ بلا قصر، ويُحمد ذلك في الرجال لأنه أشد لقبضهم. اللسان (شثن).

(12)

في ح، ط: ينقلع، والمثبت من دلائل النبوة ومختصر ابن منظور لتاريخ ابن عساكر (2/ 46).

(13)

دلائل النبوة للبيهقي (1/ 378).

ص: 140

وروى البيهقيُّ

(1)

عن عمر

(2)

بن الحكم بن رافع بن سِنَان، حدّثني بعض عمومتي وآبائي، أنهم كانتْ عندهم ورقةٌ يتوارثونها في الجاهلية، حتى جاء اللّه بالإسلامُ، وهي

(3)

عندهم، فلما قَدِم رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم المدينة ذكروها له، وأتوه بها مكتوبٌ فيها: بسم اللّه وقولُه الحق، وقولُ الظالمين في تباب. هذا الذِّكْر لأُمَّةٍ تأتي في آخرِ الزمان يغسلُون

(4)

أطرافَهم، ويَأْتَزِرُون

(5)

على أوساطهم، ويخوضون البحور إلى أعدائهم، فيهم صلاةٌ لو كانت في قوم نوحٍ ما أُهلكوا بالطُّوفان، وفي عادٍ ما أهلكوا بالرِّيح، وفي ثَمُودَ ما أُهلكوا بالصَّيْحَة. بسم الله، وقولُه الحق، وقولُ الظالمين في تباب. ثم ذكرَ قصةً أخرى، قال: فعجب رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم لما قُرئت عليه، لمَا فيها.

وذكرنا عند قوله تعالى في سورة الأعراف

(6)

: {الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} [الأعراف: 157] قصةَ هشام بن العاص الأموي حين بعثَهُ الصديق، في سريةٍ إلى هِرَقْل يدعوهُ إلى اللّهِ عز وجل، فذكر أنَّهُ أخرج لهم صُوَرَ الأنبياء في رُقعة، من آدم إلى محمدٍ صلواتُ اللّه عليه وسلامُه عليهم أجمعين، على النَّعْتِ والشَّكْلِ الذي كانوا عليه؛ ثم ذكر أنه لما أخرج صورةَ رسولِ اللّه صلى الله عليه وسلم قام فائمًا إكرامًا له، ثم جلس وجعل ينظرُ إليها ويتأمَّلُها؛ قال: فقلنا له: من أين لك هذه الصورة؟ فقال: إنَّ آدمَ سأل ربَّهُ أن يُريَهُ الأنبياءَ من ذريته، فأنزل عليه صورَهم، فكان في خزانةِ آدم عليه السلام عند مَغْرِب الشمس، فاستخرجها ذو القرنين، فدفعها إلى دانيال. ثم قال: أما واللّه إنَّ نفسي قد طابتْ بالخروج من مُلْكي وأني كنتُ عبدًا لأشَرِّكُمْ مَلَكَةً

(7)

حتى أموت. ثم أجازنا فأحسن جائزتنا وسرَّحَنا. فلما أتينا أبا بكرٍ الصَّدِّيق فحدثْناه بما رأينا وما أجازنا وما قال لنا، فال: فبكى وقال: مسكين لو أراد اللّهُ به خيرًا لفعل. ثم قال: أخبرنا رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم أنهم واليهود يجدون نَعْتَ محمدٍ عندهم.

رواهُ الحاكمُ بطوله فَلْيُكْتَب هاهنا من التفسير. ورواه البيهقي في دلائل النبوة

(8)

.

(1)

في دلائل النبوة (1/ 382).

(2)

في ح، ط: عثمان بن الحكم بن رافع، وهو تصحيف، والمثبت من دلائل البيهقي وتهذيب التهذيب في ترجمته (7/ 436، 437).

(3)

في ط: وبقيت عندهم، والمثبت من ح ودلائل البيهقي.

(4)

في ط: ليبلون، وفي ح: يسلون، وفي دلائل البيهقي: يسبلون، والمثبت من الوفا لابن الجوزي.

(5)

في ح، ط: ويوترون، والمثبت من دلائل البيهقي والوفا.

(6)

تفسير ابن كثير (2/ 251 - 253) في تفسير الآية.

(7)

يقال: فلان حَسَنُ المَلَكة، إذا كان حَسَن الصنيع إلى مماليكه، ومنه الحديث:"لا يدخل الجنة سيِّئ الملكة" وهو حديث ضعيف أي الذي يُسيء صُحْبة المماليك. النهاية (4/ 358)(ملك).

(8)

دلائل النبوة (1/ 385 - 390) وقال ابن كثير بعد ذكر الخبر في تفسيره (2/ 253) وهكذا أورده الحافظ الكبير أبو بكر البيهقي رحمه الله في كتاب دلائل النبوة عن الحاكم إجازة، فذكره، وإسناده لا بأس به.

ص: 141

وقال الأموي

(1)

: حدّثنا عبد اللّه بن زياد، عن ابن إسحاق قال: وحدّثني يعقوب بن عبد الله بن جعفر [بن عمرو]

(2)

بن أمية، عن أبيه، عن جدّه عمرو بن أمية قال: قدِمتُ برقيقٍ من عند النجاشي أعطانيهم فقالوا لي: يا عمرو لو رأينا رسولَ اللهِ لعرفناهُ من غير أن تُخْبِرَنا. فمرَّ أبو بكر ففلت: اْهو هذا؟ قالوا: لا. فمرَّ عمر فقلت: أهو هذا؟ قالوا: لا، فدخلنا الدار، فمرَّ رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم فنادَوْني: يا عمرو، هذا رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم فنظرت، فإذا هو هو من غير أنْ يُخبرَهم به أحد، عرفوه بما كانوا يجدونه مكتوبًا عندهم.

وقد تقدَّم إنذارُ سَبَأٍ لقومِهِ، وبشارتُهُ لهم بوجودِ رسولِ اللّه صلى الله عليه وسلم في شعرٍ أسلفناه في ترجمته

(3)

فأغنى عن إعادته، وتقدَّم قولُ الحبرَيْن من اليهود لِتُبَّعٍ اليَماني حين حاصَرَ أهلَ المدينة: إنها مُهَاجَرُ نبيٍّ يكونُ في آخر الزمان، فرجع عنها ونظم شعرًا يتضمن السلام على النبي صلى الله عليه وسلم

(4)

.

‌قصَّةُ سَيْفِ بنِ ذي يَزَن الحِمْيَرِي وبشارتُه بالنبيِّ الأمِّيّ

وقال الحافظ أبو بكر محمد بن جعفر بن سهل الخرائطي في كتابه "هواتف الجِنَّان"

(5)

: حدّثنا علي بن حرب، حدّثنا أحمد بن عثمان بن حكيم

(6)

، حدّثنا عمرو بن بكر

(7)

-هو ابن بكار القَعْنَبي- عن أحمد بن القاسم عن محمد بن السائب الكلبي، عن أبي صالح، عن عبد اللّه بن عباس قال: لما ظهر سَيْفُ بن ذي يَزَن- قال أبو المنذر

(8)

: واسمه النعمان بن قيس - على الحبشة، وذلك بعد مولد رسولِ اللّه صلى الله عليه وسلم بسنتين أتته وفودُ العرب وشعراؤها تهنِّئُه وتمدحه، وتذكر ما كان من حُسْن بلائه، وأتاه فيمن أتاه وفود قريش، فيهم عبد المطلب بن هاشم، وأمية بن عبد شمس، وعبد اللّه بن جُدْعان، وخُويلد بن أسَد،

(1)

انظر ص (60) من هذا الجزء ح 1.

(2)

ليس ما بين المعقوفين في ح وهو من ط.

(3)

انظر في الجزء الثاني من هذا الكتاب.

(4)

انظر في الشعر المشار إليه في الجزء الثاني عند قصة ربيعة بن نصر من هذا الكتاب.

(5)

في ح، ط: هواتف الجان وما أثبته هو الاسم الصحيح كما سبقت الإشارة إليه (ص 44 ح 5)، والنص هنا منقول منه (ص 188) وما يأتي بين معقوفين منه، وساق الخبر أيضًا أبو الفرج في الأغاني (17/ 311) وما بعدها (ط دار الكتب) وابن عساكر مختصر ابن منظور (2/ 57 - 61) وابن الجوزي في الوفا (1/ 125 - 128).

(6)

في هواتف الجنان: حدثنا عثمان بن حكيم.

(7)

في دلائل أبي نعيم: عمرو بن بكير، ولم أقف على ترجمة له. وسيأتي بهذا اللفظ في الصفحة (145) في موضع الحاشية (12).

(8)

في ح، ط: ابن المنذر تصحيف، والمثبت من الهواتف، وهو هشام بن محمد بن السائب الكلبي، وقوله هذا في نسب معد (5/ 545).

ص: 142

في أناسٍ من وجوه قريش، فقدِمُوا عليه صنعاء، فإذا هو في رأسِ غُمْدا

(1)

الذي ذكره أمية بن أبي الصَّلْت: [من الطويل]

واشْرَبْ هنيئًا عليكَ التاجُ مرتفقًا

في رأسِ غُمدانَ دارًا منك مِحْلالًا

(2)

فدخل عليه الآذن، فأخبره بمكانهم، فأذِن لهم، فدنا عبد المطلب، فاستأذنه في الكلام، فقال له: إنْ كنتَ ممن يتكلَّم بين يدي [الملوك] فقد أذِنَّا لك. فقال له عبد المطلب: إنَّ اللّه قد أحلَّك أيها الملك محلًا رفيعًا، صعبًا منيعًا، شامخًا باذِخًا، وأنبتك مَنْبِتًا طابتْ أَرُومَتُه، وعزَّت جُرْثُومَته

(3)

، وثبت أصله، وبَسَق فَرْعُه في أكرم موطن، وأطيب مَعْدِن، فأنتَ -أبيتَ اللَّعْن

(4)

- ملكُ العرب، وربيعها الذي تُخصب به البلاد، ورأس العرب الذي له تنقاد، وعمودها الذي عليه العماد، ومَعْقِلُها الذي يلجأ إليه العباد. سَلَفُكَ خير سلف، وأنت لنا منهم خَيْرُ خَلَف، فلن يَخْمُلَ

(5)

مَنْ هم سَلَفُه، ولن يَهْلِكَ من أنت خَلَفُه؛ ونحن أيها الملك أهلُ حَرَم، وَسَدَنَةُ بيته، أشخصنا إليك الذي أبهجنا من كشفك الكَرْبَ الذي فدَحَنا، [فنحن] وَفْدُ التهنئة لا وفد المَرْزِئة

(6)

.

قال: وأيُّهم أنت أيها المتكلم؟ قال: أنا عبد المطلب بن هاشم. قال: ابن أختنا؟ قال: نعم. قال: ادْنُ. فأدناه، ثم أقبل عليه وعلى القوم فقال: مرحبًا وأهلًا، وناقة ورَحْلًا، ومُستناخًا سهلًا، وَمَلْكًا رِبَحلًا

(7)

يُعطي عطاءً جَزْلًا. قد سمع الملك مقالتكم، وعرف قرابتكم، وقبل وسيلتكم، فأنتم أهلُ الليل والنهار، ولكم الكرامةُ ما أقمتم، والحِبَاء

(8)

إذا ظعنتم. ثم أُنهضوا إلى دارِ الكرامة والوفود، فأقاموا شهرًا لا يصلون إليه ولا يأذنُ لهم بالانصراف، ثم انتبه لهم انتباهة، فأرسل إلى عبد المطلب فأدنى مجلِسَه وأخلاه ثم قال: يا عبد المطلب، إني مفضٍ

(9)

إليك من سِرِّ عِلْمي، ما إنْ لو يكون غيرك

(1)

"غمدان": قصر في صنعاء، بناه ليشرح بن يحصب، وقيل: بناه سليمان بن داود عليهما السلام، وفي معجم البلدان (4/ 210) وصف لهذا القصر.

(2)

البيت في ديوان أمية من قصيدة له (ص 458) والمحلال: التي يكثر فيها الحلول والإقامة.

(3)

"الجرثومة": الأصل، وكذلك الأرومة. اللسان (أرم، جرثم).

(4)

"أبيت اللعن": كلمة كانت العرب تحيي بها ملوكها في الجاهلية؛ معناه: أبيت أيها الملك أن تأتي ما تُلعن عليه. اللسان (لعن).

(5)

في ح، ط: يخمد، والمثبت من هواتف الجنان.

(6)

"المرزئة": المصيبة. اللسان (رزأ).

(7)

"الملك الربحل": الكثير العطاء. اللسان (ربحل). وعبارة ح: مرحبًا وأهلًا وَسهلًا وناقة ورحلًا، ومستناخًا وملكًا ربحلًا، والمثبت من هواتف الجنان وط.

(8)

"الحِباء": العطاء بلا مَنّ ولا جزاء. اللسان (حبو).

(9)

في ح: مفوض، وكذا في هواتف الجنان.

ص: 143

لم أبُحْ به، ولكني رأيتك مَعْدِنَه، فأطلعتكَ طَلِيعَه

(1)

، فلْيكن عندك مطويًّا حتى يأذَنَ الله فيه، فإنَّ اللّه بالغُ أمره، إني أجد في الكتاب المكنون، والعِلْم المخزونِ الذي اخترناه لأنفسنا واحتجنَّاهُ دونَ غيرنا خبرًا عظيمًا، وخطرًا جسيمًا، فيه شرف الحياة، وفضيلة الوفاة للناس عامّةً، ولرَهْطك كافةً ولك خاصة. فقال عبد المطلب: أيها الملك، مثلك سَرَّ وبرَّ، فما هو فداؤك أهل الوبَر. زمرًا بعد زُمَر؟ قال: إذا ولد مولودٌ بتهامة، غلامٌ بين كتفيه شامة، كانت له الإمامة، ولكم به الزَّعامة إلى يوم القيامة. قال عبد المطلب: أبيتَ اللَّعَن، لقد أُبْتُ بخير ما آبَ به وافد، ولولا هيبة الملك وإجلاله وإعظامه لسألته من بشارته

(2)

إياي ما أزدادُ به سرورًا.

قال ابنُ ذي يَزَن: هذا حِينه الذي يولد فيه، أو قد وُلد، واسمه محمد، يموت أبوه وأمُّه، ويكفله جدُّه وعَمُّه. ولَّدناه مرارًا، واللهُ باعثُه جهارًا، وجاعل له منا أنصارًا يُعِزُّ بهم أولياءَه، ويُذِل بهم أعداءَه، يضربُ بهم الناس عن عُرْض، ويستبيحُ بهم كرائمَ الأرض، يكسر الأوثان، ويُخمِد النيران، يعبد الرحمن، ويَدْحَر الشيطان، قوله فَصْل، وحكمه عَدْل، يأمر بالمعروف ويفعَلُه، وينهى عن المنكر ويُبطله. فقال عبد المطلب: أيها الملك عزَّ جدُّك وعلا كَعْبُك، ودام ملكك، وطال عمرك؛ فهل الملكُ سارِّي

(3)

بإفصاح، فقد وضح لي بعض الإيضاح؟ فقال ابن ذي يَزَن: والبيتِ ذي الحُجُب، والعلاماتِ على النُّصُب

(4)

، إنك يا عبد المطلب، لجَدُّه غير كذِب. فخرَّ عبد المطلب ساجدًا، فقال: ارفَعْ رأسَك، ثَلَج صَدْرُك، وعلا أمْرُكَ، فقد أحسستَ شيئًا مما ذكرتُ لك. فقال: أيها الملك، كان لي ابن، وكنتُ به مُعْجَبًا، وعليه رفيقًا، فزوَّجته كريمةً من كرائم قومه، آمنةَ بنت وَهْب، فجاءتْ بغلامٍ سمَّيْتُه محمدًا، فمات أبوه وأمُّه، وكفَلْتُهُ أنا وعَمُّه. قال ابنُ ذي يَزَن: إنَّ الذي قلتُ لك كما قلت، فاحتفظْ بابنك واحذَرْ عليه اليهود، فإنهم له أعداءٌ، ولن يجعل الله لهم عليه سبيلًا، واطوِ ما ذكرتُ لك دون هؤلاء الرَّهْطِ الذين معك، فإني لستُ آمَنُ أن تدخل لهم

(5)

النَّفَاسَةُ من أن تكون لهم

(6)

الرياسة، فيطلبون له

(1)

كذا في ح، ط وهواتف الجنان، وفي النهاية (3/ 133) واللسان (طلع): أطلعتك طِلْعَه؛ أي: أعلمتُكَه، الطِلْع بالكسر: اسم من اطلع على الشيء إذا علمه.

(2)

كذا في ط وفي ح: اساره. وفي هواتف الجنان والوفا: ساره، وأظن الصواب: مُسَارَّتِهِ.

(3)

العبارة في ط هكذا: فهذا نجارى فهل الملك سار لي بإفصاح فقد أوضح

وفي ح هكذا: فهذا ساري بإفصاح فقد وضح، والمثبت من هواتف الجنان والوفا لابن الجوزي وسارِّي: من سارَّه في أذنه مسارَّةً: إذا ناجاه وأعلمه بسرِّه. اللسان (سرر).

(4)

في ح، ط وهواتف الجنان: النقب، والمثت من الوفا لابن الجوزي، ومختصر ابن منظور، والنصب: جمع نصيبة، وهي علامة تنصب للقوم. التاج (نصب).

(5)

في ح: يدخل لهم، وفي هواتف الجنان: تدخلهم.

(6)

في ط: لكم، والمثبت من ح وهواتف الجنان.

ص: 144

الغوائل

(1)

، وينصِبونَ له الحَبَائل، فهم فاعلونَ أو أبناؤهم، ولولا أني أعلم أنَّ الموت مجتاحي قَبْلَ مَبْعَثِه، لسرتُ بخيلي ورَجِلي حتى أصيِّرَ يَثْربَ دارَ مُلْكي

(2)

، فإني أجد في الكتاب الناطق، والعلم السابق، أنَّ بيثرب اسْتِحْكامَ أمْرِه، وأهْلَ نصرته، ومَوْضعَ قبره؛ ولولا أني أقيهِ الآفات، وأحْذَرُ عليه العاهات لأعلنتُ على حداثة سِنِّهِ أمْرَه، ولأوطأتُ أسنانَ العرب عَقِبَه، ولكني صارفٌ ذلك إليك، من

(3)

غير تقصيرٍ بمن معك. قال: ثم أمر لكلِّ رجلٍ منهم بعشرة أعْبُد وعشر إماءٍ وبمئةٍ من الإبل، وحُلَّتين من البرود، وبخمسةِ أرطالٍ من الذهب، وعشرة أرطالِ فضَّة وكَرِشٍ مملوءٍ

(4)

عَنْبَرًا، وأمَرَ لعبد المطلب بعشرةِ أضعافِ ذلك وقال له: إذا حالَ الحَوْل فأتني. فمات ابنُ ذي يَزَن قبل أن يحولَ الحول؛ فكان عبد المطلب كثيرًا ما يقول: لا يغبِطْني رجلٌ منكم بجزيلِ عطاء الملك، فإنه إلى نفاد، ولكنْ لِيَغْبطْني بما يبقى لي ولعَقِبي من بعدي، ذِكره وفخره وشرفه، فإذا قيل له: متى ذلك؟ قال: سيُعلم ولو بعد حين. قال: وفي ذلك يقول أُميَّة بن عبد شمس

(5)

: [من الوافر]

جلبْنا النُّصْح تَحْقُبُه

(6)

المطايا

على أكوارِ أجمالٍ ونُوقِ

مُغَلْغَلَةً مَرَافِقُها

(7)

تَغَالَى

إلى صنعاءَ من فجٍّ عَمِيقِ

تؤمُّ بنا ابنَ ذي يَزَن وتَفْرِي

بذاتِ بُطُونها ذمَّ الطريق

(8)

وترعَى من مخايلِهِ بُروقًا

مُوَاصِلَةَ الوميضِ إلى بُرُوقِ

(9)

فلما واصلتْ

(10)

صَنعاءَ حلَّتْ

بدارِ المُلْكِ والحَسَب العريقِ

وهكذا رواه الحافظ أبو نعيم في "الدلائل"

(11)

من طريق عمرو بن بكير بن بكَّار القعنبي

(12)

.

(1)

"الغوائل": الدواهي. اللسان (غول).

(2)

في ح، ط: بيثرب، وفي ط: مملكته، والمثبت من هواتف الجنان.

(3)

في ح، ط: عن، والمثبت من هواتف الجنان والوفا لابن الجوزي.

(4)

كذا في ح، ط والهواتف، والصواب: مملوءة لأن الكرش مؤنثة.

(5)

ويروى الشعر لأمية بن أبي الصلت، والأبيات في ديوانه (ص 424، 425).

(6)

كذا ضبط في هواتف الجنان، ولعل الصواب في ضبطه: تُحْقَبُه، ويروى تحمله كما في ديوان أمية.

(7)

في ح: مغلغلة مراتعها تعالى، وفي ط: مقلفة، وفي هواتف الجنان: مغلغلة مراقعها تعالى، ورواية النهاية واللسان (غلل): مغلغلة مغالقها تغالى، والمثبت من الديوان والأغاني. والمغلغلة: المسرعة في سيرها،

والمرافق: جمع مرفق، وهو المفصل بين الساعد والعضد، وتغالى: تتغالى، أي تسرع.

(8)

كذا في ح، ط وهواتف الجنان، ورواية الديوان والوفا: بطونَ خِفافِها أمُّ الطريق. وأم الطريق أعظمها. وهو أشبه بالصواب.

(9)

رواية الديوان: ونلمح من مخايله بروقًا.

(10)

رواية الديوان وهواتف الخان: واقعت.

(11)

الدلائل (1/ 114 - 119).

(12)

قال بشار: هذا من رواية الكلبي عن أبي صالح باذام، وقد قال أبو صالح له: كل ما حدثتك فهو كذب (الميزان 1/ 296).

ص: 145

ثم قال أبو نعيم

(1)

: أُخبرت عن أبي الحسن علي بن إبراهيم بن عبد ربه

(2)

بن محمد بن عبد العزيز بن عفير بن

(3)

عبد العزيز بن السفر بن عفير بن زرعة بن سيف بن ذي يزن، حدّثني أبي أبو يَزَن إبراهيم، حدّثنا عمي أحمد بن محمد

(4)

أبو رجاء

(5)

به، حدّثنا عمي محمد بن عبد العزيز، حدّثني عبد العزيز بن عفير، عن أبيه، عن زرعة بن سيف بن ذي يزن الحميري قال: لما ظهر جدي سيف بن ذي يزن على الحبشة. وذكره بطوله

(6)

.

وقال أبو بكر الخرائطي

(7)

: حدّثنا أبو يوسف يعقوب بن إسحاق القُلُوسي، حدّثنا العلاء بن الفضل بن أبي سَوِيَّة، أخبرني أبي عن أبيه عبد الملك بن أبي سَوِية، عن جدِّه أبي سوية، عن أبيه خليفة قال: سألت محمد بن عَدِي

(8)

بن ربيعة بن سواءَة بن جُشَم

(9)

بن سعد فقلت: كيف سمَّاك أبوك محمدًا؟ فقال: سألتُ أبي عمَّا سألتني عنه، فقال: خرجتُ رابعَ أربعةٍ من بني تميم أنا منهم، وسفيان بن مجاشع بن دارم، وأسامة بن مالك بن جُنْدب بن العَنْبَر

(10)

، ويزيد بن ربيعة بن كابِيَة

(11)

بن

(1)

ليس هذا القول في المطبوع من الدلائل وهو في دلائل البيهقي (2/ 1409).

(2)

كذا في ح، ط وفي دلائل البيهقي وميزان الاعتدال (1/ 44) والإصابة (2/ 428) ترجمة عبد العزيز بن سيف:"إبراهيم بن عبد الله".

(3)

في دلائل البيهقي: عن.

(4)

في دلائل البيهقي: أحمد بن حبيش وفي الإصابة: أحمد بن حسين.

(5)

كذا في ط، وفي ح: رخي. قال الذهبي في الميزان: فهؤلاء لا يدرى من هم. وقال ابن حجر في الإصابة: ورجال هذا الإسناد مجاهيل.

(6)

وهذا إسناد تالف، كلهم مجهولون لا يُدرى من هم، كما بينه الإمام الذهبي في الميزان (1/ 44)(بشار).

(7)

في كتابه هواتف الجنان (ص 193) والخبر ساقه أبو نعيم في دلائل النبوة (1/ 112، 113) والبيهقي أيضًا في الدلائل (2/ 114) وابن عساكر في تاريخه مختصر ابن منظور (16/ 305) وهو بتحقيقي وابن الجوزي في الوفا (1/ 46، 47) وابن حجر في الإصابة (3/ 379، 380، 513) والسيوطي في الخصائص (1/ 23). وانظر طبقات ابن سعد (1/ 169) والروض (1/ 182)، في إسناده مجاهيل.

(8)

في ح، ط: محمد بن عثمان. وهي تصحيف، والمثبت من مختصر ابن منظور لتاريخ ابن عساكر والوفا لابن الجوزي والدلائل والإصابة.

(9)

في ح، ط: خثعم، وهو تصحيف، والمثبت من دلائل أبي نعيم والبيهقي ومختصر ابن منظور لتاريخ ابن عساكر والإصابة، وجمهرة النسب لابن الكلبي (1/ 334)(ط العظم) وجمهرة الأنساب لابن حزم (ص 215).

(10)

ليس: ابن العنبر في ح وفي ط: ابن العقيد. والمثبت من الهواتف ومختصر ابن منظور والإصابة. وجمهرة النسب لابن الكلبي (1/ 363) ط العظم. وجمهرة الأنساب لابن حزم (ص 208).

(11)

في ح، ط والهواتف: كنانة، والمثبت من الاشتقاق لابن دريد (ص 204) وجمهرة النسب لابن الكلبي (1/ 371 - 373) ط العظم، وجمهرة النسب لابن حزم (ص 211).

ص: 146

حُرْقُوص

(1)

بن مازن، ونحن نُريد ابنَ جفنة ملك غسَّان، فلما شارفنا الشام نزلنا على غدير عليه شجرات، فتحدَّثنا فسمع كلامنا راهب، فأشرف علينا فقال: إنَّ هذه لغةٌ ما هي بلغةِ [أهلِ]

(2)

هذه البلاد. قلنا: نعم، نحن قومٌ من مُضَر. قال: من أيِّ المُضَريِّين؟ قلنا: من خِنْدِف. قال: أما إنه سيبعث [فيكم](2) وشيكًا نبيٌّ خاتم النبيين، فسارِعُوا إليه وخذوا بحظِّكم منه ترشُدوا. فقلنا له: ما اسمه؟ قال: اسمه محمد. قال: فرجعنا من عند ابن جَفْنَة، فولد لكلِّ واحدٍ منا ابنٌ فسمَّاه محمدًا. يعني أنَّ كلَّ واحدٍ منهم طمع في أن يكون هذا النبيُّ المبشَّر به ولدَه.

وقال الحافظ أبو بكر الخرائطي

(3)

: حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد، حدّثنا حازم بن عِقَال بن

(4)

حبيب بن المنذر بن أبي الحِصْن

(5)

بن السمَوْأل بن عادياء، [حدثني جامع بن خَيْران

(6)

بن جُميع بن عثمان بن سماك بن أبي الحِصْن

(7)

بن السمَوْأل بن عاديا]

(8)

قال: لما حضرتِ الأوسَ بنَ حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر الوفاةُ، اجتمع إليه قَوْمُه من غسَّان فقالوا: إنه قد حضر من أمر اللّه ما ترى، وقد كنَّا نأمُرك بالتزويج في شبابك فتأبى، وهذا أخوك الخَزْرَج له خمسة بنين، وليس لك ولدٌ غير مالك. فقال: لن يَهْلِكَ هالك تركَ مثل مالك، إنَّ الذي يُخرج النارَ من الوَثيمة

(9)

، قادرٌ أن يجعل لمالكٍ نَسْلًا، ورجالًا بُسْلًا، وكلٌّ إلى الموت. ثم أقبل على مالك وقال: أيْ بُني، المنيَّة ولا الدنيَّة، العقاب ولا العتاب، التجلُّد ولا التلدّد

(10)

، القبر خيرٌ من الفقر، إنَّه مَنْ قلَّ ذَل

(11)

؛ ومن كَرَمِ الكريم الدَّفْعُ عن الحريم؛ والدَّهْر يومان، فيوم لك، ويوم عليك، فإذا كان لك فلا تبطَرْ، وإذا كان عليك فاصطبِرْ، وكلاهما سينحسِر، ليس يفلتُ منهما الملك المتوَّج، ولا اللئيم المُعَلْهَج

(12)

، سَلِّم ليومك حيَّاك ربك، ثمّ أنشأ يقول:[من الطويل]

(1)

في ح، ط: حربوص. وهو تصحيف، والمثبت من الهواتف والاشتقاق (ص 203) وجمهرة ابن الكلبي وابن حزم المذكورين في الحاشية السابقة والتاج (حرقص).

(2)

ما بين معقوفين من الهواتف.

(3)

في كتابه هواتف الجنان (ص 187)، وأخرجه ابن عساكر في تاريخه مختصر ابن منظور (2/ 63)، وذكره السيوطي في الخصائص (1/ 28، 29) وساق الخبر أبو علي القالي في أماليه (1/ 102) بنحوه عن أبي بكر بن دريد عن ابن الكلبي.

(4)

انفردت ط بزيادة: عقال بن زهر بن حبيب.

(5)

في ط: أبي الحصين. والمثبت من ح والهواتف والإكمال (2/ 278).

(6)

في ط: جابر بن جدان، والمثبت من الهواتف والإكمال (2/ 278).

(7)

في ط: سماك بن الحصين والمثبت من الهواتف والإكمال.

(8)

سقط ما بين المعقوفين من ح.

(9)

"الوثيمة": الصخرة، والحجر المكسور. النهاية واللسان (وثم).

(10)

"التلدُّد": التلفُّت يمينًا وشمالًا تحيُّرًا. اللسان (لدد). ووقع في مختصر ابن منظور. "التلذذ" وهو تصحيف.

(11)

انفردت ط بزيادة: من كرَّ فرَّ.

(12)

في ح والهواتف: المعلج، قلت: لعل الصواب فيه: العُلَّج. وهو الثديد من الرجال قتالًا ونطاحًا. والمثبت من =

ص: 147

شَهِدتُ السبايا يومَ آلِ مُحَرِّقٍ

وأدرك عُمْري

(1)

صيحةَ اللّه في الحِجْرِ

فلم أرَ ذا مُلكٍ من الناسِ واحدًا

ولا سُوقةً إلَّا إلى الموتِ والقبرِ

فعلَّ الذي أرْدَى ثمودًا وجُرهمًا

سَيُعقِبُ لي نَسْلًا على آخر الدهْر

تقرُّ بهم من آلِ عمرو بن عامرٍ

عيونٌ لدى الداعي إلى طلَب الوِتْر

(2)

فإن لم تكُ الأيَّام

(3)

أبلينَ جِدَّتي

وشيَّبْنَ رأسي والمشيبُ مع العُمْرِ

فإنَّ لنا ربًا علا فوقَ عرشِهِ

عليمًا بما يأتي من الخَيْرِ والشرِّ

ألم يأتِ قومي أنَّ للّه دعوةً

يفوزُ بها أهلُ السعادة والبرِّ

إذا بُعث المبعوثُ من آلِ غالبٍ

بمكةَ فيما بين مكةَ والحِجْرِ

هنالك فابْغُوا نَصْرَهُ ببلادكم

بني عامرٍ إن السعادةَ في النَّصْرِ

قال: ثم قضى من ساعتا

(4)

.

‌باب في هواتف الجانّ وما ألقته الجِنَّان على ألسنة الكهان ومسموعًا من الأوثان

وقد تقدَّم كلامُ شِقٍّ وسَطِيح لربيعة بن نصر ملك اليمن في البشارة بوجود رسولِ اللّه صلى الله عليه وسلم

(5)

. رسولٌ زكي، يأتي إليه الوَحْي، من قبل العلي. وسيأتي في المولد قول سَطِيح لعبد المسيح

(6)

: إذا كثرتِ التلاوة، وغاضت بحيرة ساوه، وظهر صاحبُ الهِرَاوة، يعني بذلك رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم كما سيأتي بيانه مفصلًا.

وقال البخاري

(7)

: حدّثنا يحيى بن سليمان الجُعْفي، حدّثني ابنُ وَهْب، حدّثني عُمر -وهو ابن محمد بن زيد- أن سالمًا حدَّثه عن عبد اللّه بن عمر قال: ما سمعتُ عمر يقولُ لشيءٍ قطّ: إني لأظنُّه كذا

= ط والأمالي، والمعلهج: الأحمق اللئيم والدعي الذي ليس بخالص النسب. التاج (علهج).

(1)

في ح، ط: أمري، والمثبت من الهواتف ومختصر ابن منظور والخصائص.

(2)

"الوِتْر": الثأر. اللسان (وتر، ذحل).

(3)

كذا في ح، ط، وفي الهواتف ومختصر ابن منظور: فإن لم تكن الأيام.

(4)

إسناده تالف، وعلامات الوضع بادية عليه (بشار).

(5)

مضى هذا النص في الجزء الثاني من هذا الكتاب.

(6)

كذا في ح، ط: وهذا يدل على تقدم هذا الباب لأن قول سطيح مضى في (ص 45) وانظر (ص 42 ح 4).

(7)

فتح الباري (3866) مناقب الأنصار باب إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وما يأتي بين معقوفين منه.

ص: 148

إلا كان كما يظُنّ. بينما عمر بن الخطاب جالسٌ إذْ مرَّ به رجلٌ جميل، فقال [عمر:] لقد أخطأ ظني، أو: إنَّ هذا على دينهِ في الجاهلية، أو لقد كان كاهِنَهُم، عليَّ الرَّجُل. فدعا به

(1)

فقال له ذلك، فقال: ما رأيت كاليوم استَقْبَل به رجلًا مسلمًا

(2)

. قال: فإني أعزمُ عليك إلا ما أخبرتني. قال: كنتُ كاهِنَهُم في الجاهلية

(3)

. قال: فما أعجبُ ما جاءَتْكَ به جِنِّيَّتُك؟ قال: بينما أنا يومًا في السُّوق، جاءَتْني أعرفُ فيها الفَزَع، فقالت:[من الرجز]

ألَمْ ترَ الجِنَّ وإبلاسها

(4)

ويأسَها من بعدِ إنكاسِها

(5)

؟

ولحُوقها بالقِلاصِ وأحْلاسِها

(6)

(1)

كذا في ح، وفي ط: فدعي به، وفي فتح الباري: فدُعي له، والرجل هو سواد بن قارب كما سيأتي وكما في فتح الباري.

(2)

رواية البخاري: استُقبل به رجل مسلم، وقال ابن حجر في شرحه: في رواية النسفي وأبي ذر رجلًا مسلمًا. ورأيته مجودًا بفتح تاء (استقبل) على البناء للفاعل وهو محذوف تقديره: أحد، وضبطه الكرماني استُقبل بضم التاء، وأعرب رجلًا مسلمًا على أنه مفعول رأيت، وعلى هذا فالضمير في قوله: به، يعود على الكلام، ويدل عليه السياق.

(3)

قال ابن حجر في الفتح (7/ 179، 180): الكاهن الذي يتعاطى الخبر من الأمور المغيبة

ولقد تلطف سواد في الجواب إذ كان سؤال عمر عن حاله في كهانته إذ كان من أمر الشرك، فلما ألزمه أخبره بآخر شيء وقع له لما تضمن من الإعلام بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وكان سببًا لإسلامه. وقال في (10/ 216، 217): والكهانة: ادعاء علم الغيب كالإخبار بما سيقع في الأرض مع الاستناد إلى سبب، والأصل فيه استراق الجني السمع من كلام الملائكة، فيلقيه في أذن الكاهن

وكانت الكهانة في الجاهلية فاشية خصوصًا في العرب لانقطاع النبوة فيهم وهي على أصناف: منها ما يتلقونه من الجن، فإن الجن كانوا يصعدون إلى جهة السماء فيركب بعضهم بعضًا إلى أن يدنو الأعلى بحيث يسمع الكلام فيلقيه إلى الذي يليه، إلى أن يتلقاه من يلقيه في أذن الكاهن فيزيد فيه فلما جاء الإسلام ونزل القرآن حرست السماء من الشياطين، وأرسلت عليهم الشهب، فبقى من استراقهم ما يتخطَّفه الأعلى فيلقيه إلى الأسفل قبل أن يصيبه الشهاب، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى:{إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} . وكانت إصابة الكهان قبل الإسلام كثيرة جدًا كما جاء في أخبار شق وسطيح ونحوهما، وأما في الإسلام فقد ندر ذلك جدًا حتى كاد يضمحل وللّه الحمد؛ ثانيها: ما يخبر الجني به من يواليه بما غاب عن غيره مما لا يطلع عليه الإنسان غالبًا، أو يطلع عليه من قرب لا من بعد؛ ثالثها: ما يستند إلى ظن وتخمين وحدس، وهذا قد يجعل اللّه فيه لبعض الناس قوة مع كثرة الكذب فيه؛ رابعها: ما يستند إلى التجربة والعادة، فيستدل على الحادث بما وقع قبل ذلك، ومن هذا القسم الأخير ما يضاهي السحر، وقد يعتضد بعضهم في ذلك بالزجر والطرق والنجوم، وكل ذلك مذموم شرعًا. وورد في ذم الكهانة ما أخرجه أصحاب السنن وصححه الحاكم من حديث أبي هريرة رفعه:"من أتى كاهنًا أو عرّافًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد". ثم ساق ابن حجر شواهد لهذا الحديث وأفاض.

(4)

"إبلاسها": تحيُّرها ودَهَشها. النهاية (1/ 152/ بلس).

(5)

"اليأس": ضد الرجاء، والإنكاس: الانقلاب، قال ابن فارس: معناه أنها يئست من استراق السمع بعد أن كانت قد ألفته، فانقلبت عن الاستراق قد يئست من السمع (فتح الباري 7/ 180).

(6)

"القِلاص": جمع قُلُص، وهو جمع قَلُوص، وهي الفتية من النياق، والأحلاس جمع حِلْس، وهو ما يوضع =

ص: 149

قال عمر: صدق، بينما أنا نائمٌ عند آلهتهم إذْ جاء رجلٌ بِعْجلٍ فذبحَهُ، فصرخ به صارخٌ لم أسمعْ صارِخًا قطُ أشدَّ صَوْتًا منه يقول: يا جَليح

(1)

، أمْرٌ نَجِيح، رجلٌ فصيح، يقوِل: لا إله إلا الله. فوثب القوم، فقلت: لا أبْرَحُ حتى أعلمَ ما وراءَ هذا. ثمّ نادى: يا جليح، أمرٌ نجِيح، رجلٌ فصيح يقول لا إله إلا الله، فقمتُ فما نَشِبْنا أنْ قيل: هذا نبيّ. تفرَّد به البخاري.

وهذا الرجل هو سَوَاد بن قارِب الأزْدي، ويقال السَّدُوسي، من أهل الشَّرَاة من جبال البَلْقاء

(2)

له صحبة ووفادة.

قال أبو حاتم وابن مَنْدَه: روى عنه سعيد بن جبير، وأبو جعفر محمد بن علي، وقال البخاري: له صحبة.

وهكذا ذكره في أسماء الصحابة أحمد بن [هارون بن]

(3)

روح البَرْذَعي الحافظ، والدَّارَقُطْني

(4)

، وغيرُهما.

وقال الحافظ عبد الغني بن سعيد المِصْري

(5)

: سَوَاد بن قارِب بالتخفيف.

وقال عثمان الوقَّاصي عن محمد بن كعب القُرَظي: كان من أشراف أهل اليمن. ذكره أبو نعيم في "الدلائل"

(6)

.

وقد رُوي حديثُه من وجوهٍ أُخر مطوَّلة بأبسطَ من روايةِ البخاري

(7)

.

= على ظهور الإبل تحت الرَّحْل. ووقع هذا القسيم (الشطر) غير موزون؛ وفي رواية الباقر "ورحلها العيس بأحلاسها" وهذا موزون. فتح الباري (7/ 180، 181).

(1)

"جليح بوزن عظيم": معناه الوقح المكافح بالعداوة؛ قال ابن التين: يحتمل أن يكون نادى رجلًا بعينه، ويحتمل أن يكون أراد من كان بتلك الصفة. قال ابن حجر: ووقع في معظم الروايات: يا آل ذريح، وهم بطن مشهور من العرب. فتح الباري (7/ 181) وقال السهيلي في الروض (1/ 242): يا جليح: سمعت بعض أشياخنا يقول: هو اسم شيطان، والجليح في اللغة ما تطاير من رؤوس النبات وخفّ نحو الفطر وشبهه.

(2)

في ح، ط: السراة، بالسين المهملة، والمثبت من مختصر ابن منظور (10/ 211) ومعجم البلدان (1/ 489 البلقاء) و (3/ 331، 332 الشراة) والبلقاء: كورة من أعمال دمشق بين الشام ووادي القرى، قصبتها عمان، وبالبلقاء مدينة الشراة شراة الشام، أرض معروفة وبها الكهف والرقيم فيما زعم بعضهم.

(3)

إضافة مفيدة لأنه منسوب إلى جده، وهو البرديجي المتوفى سنة 301 هـ صاحب كتاب طبقات الأسماء المفردة.

(4)

المؤتلف والمختلف (3/ 1233).

(5)

راجع المؤتلف والمختلف لعبد الغني، ص 71.

(6)

دلائل النبوة لأبي نعيم (1/ 111، 112)(طبعة القلعجي 1406 هـ).

(7)

ساق المصنف بعض هذه الوجوه فيما يأتي، وأشرتُ إلى أماكنها، وينضاف إليها دلائل النبوة لأبي نعيم (1/ 137 - 142) ودلائل البيهقي (2/ 248 - 254) ومستدرك الحاكم (3/ 608 - 610) وذكر الخبر ابن حجر في الإصابة ترجمة سواد عن ابن أبي خيثمة والروياني من طريق أبي جعفر الباقر، وابن عبد البر في الاستيعاب، والهيثمي في =

ص: 150

وقال محمد بن إسحاق

(1)

: حدَّثني من لا أتَّهم عن عبد الله بن كعب مولى عثمان بن عفان، أنه حُدِّث أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه، بينما هو جالس في الناس في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذْ أقبل رجلٌ من العرب داخل

(2)

المسجد يريد عمر بن الخطاب، فلما نظر إليه عمر قال: إنَّ الرجل لعلى شِرْكه، ما فارقَهُ بعد، أو لقد كان كاهنًا في الجاهلية. فسلَّم عليه الرجل ثم جلس، فقال له عمر: هل أسلمت؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين. قال: فهل كنتَ كاهنًا في الجاهلية؟ فقال الرجل: سبحان الله يا أمير المؤمنين! لقد خِلْتَ فيّ

(3)

، واستقبلْتَني بأمرٍ ما أراك قلتَهُ لأحدٍ من رعيتك منذ وَليت ما وليت. فقال عمر: اللهم غَفْرًا، قد كنَّا في الجاهلية على شرٍّ من هذا، نعبُد الأصنام، ونعتنق الأوْثان، حتى أكرمنا الله برسولهِ وبالإسلام. قال: نعم والله يا أمير المؤمنين، لقد كنتُ كاهنًا في الجاهلية. قال: فأخبِرْني ما جاء به صاحِبُك. قال: جاءني قبل الإسلام بشهر أو شَيْعِه

(4)

فقال: ألم تَرَ إلى الجِنِّ وإبْلاسها، وإياسِها من دينها، ولحوقها

(5)

بالقِلاص وأحْلاسِها.

قال ابن إسحاق

(6)

: هذا الكلام سجع، وليس بشعر.

[قال عبد الله بن كعب]: فقال عمر عند ذلك يحدِّث الناس: والله إني لعند وَثَنٍ من أوثان الجاهلية في نفَرٍ من قريش، قد ذَبَحَ له رجلٌ من العرب عِجْلًا، فنحن ننتظر أن يقسمَ لنا منه، إذ سمعتُ من جَوْف العجل صوتًا ما سمعتُ صوتًا قطُ أشدَّ منه، وذلك قبل الإسلام بشهرٍ أو شَيْعِه يقول: يا ذَرِيح، أمْرٌ نَجيح، رجلٌ يصيع

(7)

، يقول: لا إله إلا الله.

قال ابن هشام: ويقال رجل يصيح (7)، بلسان فصيح

(8)

، يقول: لا إله إلا الله. قال: وأنشدني بعضُ أهل العلم بالشعر: [من السريع]

= مجمع الزوائد عن الطبراني (8/ 248 - 250) والسيوطي في الخصائص (1/ 102) والبغدادي في شرح أبيات مغني اللبيب (6/ 271 - 275) وقال ابن حجر في الفتح (7/ 179): وهذه الطرق يقوى بعضها ببعض.

(1)

سيرة ابن هشام (1/ 209) والروض (1/ 242) وما يأتي بين معقوفين منهما.

(2)

في السيرة والروض: داخلًا.

(3)

"خلتَ في": من باب حذف الجملة الواقعة بعد خلت وظننت، كقولهم في المثل: من يسمع يَخَل، ولا يجوز حذف أحد المفعولين مع بقاء الآخر، لأن حكمهما حكم الابتداء والخبر، فإذا حذفت الجملة كلها جاز لأن حكمهما حكم المفعول، والمفعول قد يجوز حذفه، ولكن لا بد من قرينة تدل على المراد، ففي قولهم: من يسمع يخل. دليل يدل على المفعول، وهو يسمع، وفي خلت فيّ دليل أيضًا، وهو قوله: فيّ، كأنه قال: خلت فيَّ الشر أو نحو هذا. الروض (1/ 242).

(4)

أي قَدْرَ شهر أو نحوه. غريب الحديث للخطابي (2/ 521).

(5)

في ح: وتخرقها، والمثبت من ط.

(6)

في السيرة والروض: قال ابن هشام.

(7)

في ح: فصيح، والمثبت من ط والسيرة والروض.

(8)

في ح: نصيح والمثبت من ط والسيرة والروض.

ص: 151

عَجِبْتُ للجِنِّ وإبْلاسِها

وشدِّها العِيسَ بأحْلاسِها

تَهْوي إلى مكة تبغي الهُدَى

ما مؤمنو

(1)

الجِنِّ كأنجاسِها

وقال الحافظ أبو يَعْلى المَوْصلي

(2)

: حدّثنا يحيى بن حُجْر بن النعمان السَّامي

(3)

، حدّثنا علي بن منصور الأبناوي

(4)

، عن عثمان

(5)

بن عبد الرحمن الوقَّاصي، عن محمد بن كعب القُرَظي. قال: بينما عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذات يوم جالس، إذ مرَّ به رجل، فقيل: يا أمير المؤمنين أتعرف هذا المارّ؟ قال: ومن هذا؟ قالوا: هذا سَوَاد بن قارب الذي أتاه رَئيُّهُ بظهورِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، قال: فأرسل إليه عمر، فقال له: أنت سَواد بن قارِب؟ قال: نعم. قال: فأنت على ما كنتَ عليه من كهانتك؟ قال: فغضب، وقال: ما استقبلني بهذا أحدٌ منذُ أسلمتُ يا أمير المؤمنين؟ فقال عمر: يا سبحان الله! ما كنا عليه من الشرك أعظمُ مما كنتَ عليه من كهانتك! فأخبرني ما أنبأك رَئيُّكَ بظهور رسولِ الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين بينا أنا ذات ليلةٍ بين النائم واليقظان إذْ أتاني رَئَيِّي فضربني برجله وقال: قم يا سواد بن قارب، واسمعْ مقالتي، واعقِلْ إنْ كنتَ تعقِل، إنه قد بُعث رسولٌ من لُؤَيِّ بن غالب، يدعو إلى الله وإلى عبادته. ثم أنشأ يقول:[من السريع]

عجبتُ للجِنِّ وتَطْلابها

وَشدِّها العيسَ بأقْتَابها

(6)

تهوي إلى مكّةَ تبغي الهُدى

ما صادقُ الجِنِّ ككذَّابها

فارْحَلْ إلى الصِّفْوةِ مِن هاشمٍ

ليسَ قُدَامَاها كأذنابها

(7)

قال: قلت: دعني أنام فإني أمسيتُ ناعسًا. قال: فلما كانت الليلة الثانية أتاني فضربني برجله

(1)

في ح: مومني.

(2)

الخبر في مسند أبي يعلى (1/ 263) وهو في دلائل النبوة للبيهقي (2/ 252، 253)، وأخرجه المعافى بن زكريا في الجليس الصالح (2/ 67) عن عبد الباقي بن قانع عن محمد بن زكريا الغلابي عن بشر بن حجر عن علي بن منصور به.

(3)

في ح، ط: الشامي، بالشين المعجمة، وهو تصحيف، والمثبت من الإكمال (4/ 557) والأنساب (7/ 16) ودلائل البيهقي.

(4)

في ط والمطبوع من دلائل البيهقي: "الأنباري" وهو تحريف، فقد قيده الحافظ معين الدين بن نقطة الحنبلي في إكمال الإكمال في باب "الأنباري والأبياري والأبناوي الأبناري"، فقال: "وأما الأبناوي بعد الباء المعجمة بواحدة نون وبعد الألف واو فهو:

وعلي بن منصور الأبناوي، حدث عن عثمان بن عبد الرحمن الوقاصي بقصة سواد بن قارب، روى عنه بشر (هكذا وقع عنده، وصوابه: يحيى) بن حجر بن النعمان السامي" (1/ 167)، ونقله عنه الحافظ ابن حجر في التبصير (1/ 36)، وكذلك ذكره المزي في ترجمة عثمان بن عبد الرحمن الوقاصي من التهذيب (19/ 426).

(5)

في ط: محمد بن عبد الرحمن الوقاصي وفي ح: محمد بن عثمان الوقاصي، وفي الحاشية: وجميعه تصحيف، والمثبت من اللباب (3/ 370) وتهذيب المزي (19/ 425) وتهذيب التهذيب (7/ 133) ودلائل البيهقي.

(6)

"الأقتاب": جمع قَتَب، وهو الرحْل الصغير على قدر سنام البعير. المعجم الوسيط (قتب).

(7)

الصفوة، مثلثة الصاد، والكسر أفصح اللغات فيه، صفوة الشيء: خياره وأخلصه. الجليس (2/ 70).

ص: 152

وقال: قم يا سواد بن قارِب واسمعْ مقالتي، واعقِل إن كنتَ تعقل، إنه بُعث رسولٌ من لُؤيِّ بن غالب، يدعو إلى اللّه وإلى عبادته، ثمّ أنشأ يقول:[من السريع]

عجبتُ للجنّ وتَخبارِها

وشَدِّها العِيسَ بأكْوارِها

تهوي إلى مكة تبغي الهدى

ما مؤمنو الجنِّ ككُفَّارِها

فارْحَلْ إلى الصِّفْوةِ من هاشمٍ

بينَ رَوابيها وأحْجَارها

قال: قلت: دَعني أنام، فإني أمسيتُ ناعسًا. فلما كانت الليلة الثالثة أتاني فضربني برجله وقال: قم يا سواد بن قارِب، فاسمعْ مقالتي، واعقل إنْ كنت تعقل، إنه قد بُعث رسولٌ من لؤي بن غالب، يدعو إلى اللّه وإلى عبادته ثم أنشأ يقول:[من السريع]

عجبتُ للجنِّ وتَحْساسِها

(1)

وشدِّها العيسَ بأحلاسها

تهوي إلى مكةَ تبغي الهدى

ما خيّرُ الجنِّ كأنْجاسها

فارْحَلْ إلى الصِّفْوة من هاشمٍ

واسمُ بعينيكَ إلى رأسِها

قال: فقمتُ وقلت: قد

(2)

امتحن اللّه قلبي، فرحَّلْتُ ناقتي ثم أتيت المدينة -يعني مكة- فإذا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه حَوْلَه، فدنوتُ فقلت: اسمع مقالتي يا رسول اللّه. قال: هات، فأنشأتُ أقول:[من الطويل]

أتاني نَجِيِّي بعدَ هدْءٍ ورقْدةٍ

ولم يكُ فيما قد بلَوْت

(3)

بكاذبِ

ثلاثَ ليالٍ قولُه كلَّ ليلةٍ

أتاكَ رسولٌ من لُؤيِّ بنِ غالبٍ

فشمَّرتُ عن ذيلي الإزارَ ووسَّطَتْ

بيَ الذِّعْلِبُ الوَجْناءُ غُبْرَ السَّبَاسِبِ

(4)

فأَشهدُ أنّ اللّه لا شيءَ غيرُه

وأنَّكَ مأمونٌ على كلِّ غائبِ

وأنَّكَ أدْنَى المرسلينَ وَسيلةً

إلى اللّه يا بنَ الأكرمينَ الأطايبِ

فمُرْنا بما يأتيكَ يا خيرَ مَنْ مَشَى

وإنْ كان فيما جاء شَيْبُ الذوائبِ

وكنْ لي شفيعًا يومَ لا ذو شفاعةٍ

سِواكَ بِمُغْنٍ عن سَوَادِ بن قارِبِ

(1)

قال ابن حجر في الفتح (7/ 180): وتحساسها: بفتح المثناة وبمهملات، أي: أنها فقدت أمرًا فشرعت تفتش عليه.

(2)

ليست: قد في ح.

(3)

في ح: يكون، وفي ط: والمثبت من الروايات الأخرى.

(4)

"الذِّعْلب": الناقة السريعة. "الوجناء": الغليظة الصلبة، وقيل: العظيمة الوجنتين. "وغبر السباسب": القفار والمفاوز التي لا يهتدى للخروج منها، مفردها: غبراء سبسب. النهاية (2/ 161 ذعلب) و (5/ 158 وجن) و (3/ 337 غبر) و (2/ 334 سبسب). وقال المعافى: السباسب، وهي الأقضية الواسعة من الأرض، وهي ما كان قفرًا أملس. الجليس (1/ 70).

ص: 153

قال: ففرح رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم وأصحابُه بمقالتي فرحًا شديدًا، حتى رُئي الفرَحُ في وجوههم. قال: فوثب إليه عمرُ بن الخطاب فالتزمه وقال: قد كنتُ أشتهي أنْ أسمعَ هذا الحديثَ منك، فهل يأتيك رَئيُّك اليوم؟ قال: أمَّا منذُ قرأتُ القرآن فلا، ونعم العِوَضُ كتابُ اللّه من الجِنّ.

ثم قال عمر: كنا يومًا في حيٍّ من قريش يقال لهم: آل ذَرِيح، وقد ذبحوا عِجْلًا لهم والجزَّار يُعالجه، إذ سمعنا صوتًا من جَوْفِ العجل ولا نرى شيئًا، قال: يا آل ذريح، أمرٌ نَجيح، صائح يَصيح، بلسانٍ فصيح، يشهدُ أن لا إله إلَّا اللّه.

وهذا منقطعٌ من هذا الوجه، ويشهد له روايةُ البخاري. وقد تساعدوا على أنَّ السامعَ الصوتَ من العجل هو عمر بن الخطاب واللّه أعلم.

وقال الحافظ أبو بكر محمد بن جعفر بن سهل الخرائطي في كتابه الذي جمعه في هواتف الجِنَّان

(1)

: حدّثنا أبو موسى عمران بن موسى المؤدِّب، حدّثنا محمد بن عمران بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، حدّثنا سعيد بن عبيد اللّه الوصَّافي

(2)

، عن أبيه، عن أبي جعفر محمد بن علي قال: دخل سَوَادُ بن قارِب السَّدُوسي على عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه فقال: نشدتُكَ بالله يا سواد بن قارب، هل تُحسن اليوم من كَهَانتك شيئًا؟ فقال: سبحان الله يا أمير المؤمنين! ما استقبلتَ أحدًا من جُلَسالْك بمثل ما استقبلتني به! قال: سبحان اللّه يا سواد! ما كنا عليه من شِركنا أعظمُ مما كنتَ عليه من كهانتكَ؛ واللّه يا سواد، لقد بلغني عنك حديثٌ إنه لعجَبٌ من العجَب! [قال: إي واللّه يا أمير المؤمنين إنه لعجبٌ من العجب]

(3)

. قال: فحدِّثنيه. قال: كنتُ كاهنًا في الجاهلية، فبينا أنا ذات ليلةٍ نائمٌ إذْ أتاني نَجِيِّي، فضربني برجله، ثم قال: يا سَوَاد، اسمعْ أقلْ لك. قلت: هات. قال: [من السريع]

عجِبْتُ للجِنِّ وأنجاسها

ورَحْلِها العيسَ بأحْلاسها

تهوي إلى مكة تبغي الهُدَى

ما مؤمنوها مثلُ أرْجَاسها

فارحلْ إلى الصفوةِ من هاشمٍ

واسمُ بعينيكَ إلى رأسها

قال: فنمتُ ولم أحفِل بقوله شيئًا؛ فلما كانت الليلة الثانية أتاني فضربني برجله ثمّ قال لي: قم يا سَوَاد بن قارب، اسمع أقلْ لك. قلت: هات. قال: [من السريع]

عجِبْتُ للجِنِّ وتطلابها

ورَحْلها

(4)

العيسَ بأقتابها

(1)

(ص 148) وقد جاء في ح، ط: هواتف الجان، وما أثبته هو الصحيح. انظر (ص 44 ح 5).

(2)

في ط: الوصابي. والمثبت من ح والهواتف والإكمال (7/ 400) واللباب (3/ 368). ضعفه أبو حاتم. الجرح والتعديل (4/ 38) وميزان الاعتدال (2/ 150) ولسان الميزان (3/ 37).

(3)

ما بين المعقوفين سقط من ح وهو في ط والهواتف.

(4)

في ط: وشدها. والمثبت من ح والهواتف.

ص: 154

تهوي إلى مكة تبغي الهدى

ما صادقو الجِنِّ ككُذَّابها

فارحلْ إلى الصفوة من هاشمٍ

ليس المقاديمُ كأذنابها

قال: فحرَّك قولُه مني شيئًا، ونمت؛ فلما كانت الليلة الثالثة أتاني فضربني برجله ثمّ قال: يا سواد بن قارب، أتعقِلُ أم لا تعقل؟ قلت: وما ذاك؟ قال: ظهر بمكة نبيٌّ يدعو إلى عبادة ربِّهِ

(1)

فالْحَقْ به، اسمع أقل لك. قلت: هات، قال:[من السريع]

عجبتُ للجنِّ وأخبارها

(2)

ورَحْلِها العيسَ بأكْوارها

تهوي إلى مكةَ تبغي الهدى

ما مؤمنوها مثل كُفَّارها

(3)

فارْحَلْ إلى الصفوةِ من هاشمٍ

بينَ روابيها وأَحجارها

(4)

قال: فعلمتُ أنَّ اللّه أرادَ بي خيرًا؛ فقمتُ إلى بُرْدة لي، ففتقتُها ولبستُها، ووضعتُ رجلي في غَرْز

(5)

ركاب الناقة، وأقبلتُ حتى انتهيتُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فعرض عليَّ الإسلام، فأسلمتُ، وأخبرتُه الخبر. قال:"إذا اجتمع المسلمونَ فأخبِرْهم". فلما اجتمع المسلمون قمت فقلت: [من الطويل]

أتاني نَجِيِّي بعدَ هدْءٍ ورَقْدةٍ

ولم يكُ فيما قد بَلَوتُ بكاذبِ

ثلاث ليالٍ قولُه كُلَّ ليلةٍ

أتاك رسولٌ من لُؤَيِّ بن غالبِ

فشمرتُ عن ذيلي الإزارَ ووسَّطَتْ

بيَ الذِّعلبُ الوَجْناءُ غُبْر السَّبَاسِبِ

وأعلمُ أنَّ اللّه لا ربَّ غيرُه

وأنَّك مأمونٌ على كلِّ غائبِ

وأنك أدنى المرسلينَ وسيلةً

إلى اللّهِ يا بنَ الأكرمينَ الأطايبِ

فمُرْنا بما يأتيكَ يا خيرَ مرسَلٍ

وإنْ كان فيما جاءَ شَيْبُ الذوائبِ

قال: فسُرَّ المسلمون بذلك، فقال عمر: هل تُحِسُّ اليومَ منها بشيء؟ قال: أمَّا مُذْ

(6)

علَّمني اللّه القرآنُ فلا.

وقد رواه محمد بن السائب الكلبي عن أبيه، عن عمر بن حفص قال: لما ورد سَوَاد بن قارب على عمر قال: يا سَوَاد بن قارب، ما بقي من كهانتك؟ فغضب وقال: ما أظنُّك يا أمير المؤمنين استقبلتَ أحدًا من العرب بمثل هذا، فلما رأى ما في وجهه من الغضَب، قال: انظرْ سواد، للَّذي كنَّا عليه قبلَ اليوم من

(1)

في ح: عبادة اللّه.

(2)

في ط: وتنفارها.

(3)

في ح: ما مؤمنوها ككفارها، وفي ط: ما مؤمنو الجن ككفارها. والمثبت من الهواتف.

(4)

في الهواتف: وأحبارها، وفوقها إشارت تضبيب.

(5)

"الغرز": ركاب الرحل، من جلود مخروزة، فإذا كان من حديد أو خشب فهو ركاب، وغرز رجله في الغرز: وضعها فيه ليركب وأثتها. اللسان (غرز).

(6)

في ط: إذ، والمثبت من ح والهواتف.

ص: 155

الشِّرْك أعظم. ثمّ قال: يا سواد، حدّثني حديثًا كنتُ أشتهي أسمعه منك. قال: نعم، بينا أنا في إبلٍ لي بالشراه

(1)

ليلًا وأنا نائم، وكان لي نَجِيٌّ، فأتاني

(2)

فضربني برجله فقال لي: قم يا سواد بن قارب، فقد ظهر بتهامة نبيٌّ يدعو إلى الحق وإلى طريقٍ مستقيم. فذكر القصة كما تقدم وزاد في آخر الشعر:[من الطويل]

وكُنْ لي شفيعًا يومَ لا ذو قرابةٍ

سواكَ بمغنٍ عن سَوَاد بن قاربِ

فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "سِرْ في قومِكَ وقل هذا الشعر فيهم".

ورواه الحافظ ابن عساكر

(3)

من طريق سليمان بن عبد الرحمن عن الحكم بن يعلى بن عطاء المحاربي، عن عباد بن عبد الصمد عن سعيد بن جبير قال: أخبرني سواد بن قارب الأزْدي. قال: كنتُ نائمًا على جبل من جبال الشراة فأتاني آتٍ فضربني برجله. وذكر القصة أيضًا.

ورواه

(4)

أيضًا من طريق محمد بن البراء عن أبي بكر بن عياش عن أبي إسحاق عن البراء قال: قال سواد بن قارب: كنت نازلًا بالهند فجاءني رَئيِّي ذات ليلة، فذكر القصة.

وقال بعد إنشاد الشعر الأخير فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدتْ نواجذُه وقال: "أفلحتَ يا سَوَاد".

وقال أبو نعيم في كتاب "دلائل النبوة"

(5)

: حدّثنا عبد اللّه بن جعفر

(6)

، حدّثنا عبد الرحمن بن الحسن، حدّثنا علي بن حرب، حدّثنا أبو المنذر هشام بن محمد بن السّائب، عن أبيه، عن عبد اللّه العُمَاني

(7)

قال: كان منا رجلٌ يقال له: مازن بن الغضوبة

(8)

يَسْدُنُ صنمًا بقريةٍ يقال لها: سمايا، من عُمان، وكانتْ تعظِّمه بنو الصامت وبنو خِطامة

(9)

ومهرة، وهم أخوال مازن- أمه

(10)

زينب بنت

(1)

في ح، ط: السراة بالسين المهملة.

(2)

في ط: وكان لي نجي من الجن أتاني.

(3)

مختصر ابن منظور لتاريخ ابن عساكر (10/ 211).

(4)

لم أجد الرواية في تاريخ ابن عساكر لعدم توفر الأجزاء التي ضمت ترجمة (سواد).

(5)

دلائل النبوة (1/ 142 - 145) وأخرجه البيهقي في الدلائل (2/ 258) عن علي بن حرب به، وذكره ابن حجر في الإصابة (ترجمة مازن بن الغضوبة) والهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 247) والسيوطي في الخصائص (1/ 103). ومن بداية هذا الخبر إلى موضع ح 17 من المتن متقدم في ط متأخر في ح، يدل على ذلك أرقام صفحات ح في الهامش.

(6)

في ح، ط: عبد اللّه بن محمد بن جعفر، والمثبت من دلائل أبي نعيم، وهو عبد اللّه بن جعفر بن أحمد بن فارس أو عبد اللّه بن جعفر الجابري، وأبو نعيم يروي عنهما. سير أعلام النبلاء (15/ 553 و 16/ 133).

(7)

في دلائل أبي نعيم: المعافى.

(8)

في ح: المعصوبة. من غير إعجام، وفي ط: العضوب بالعين المهملة، وفي دلائل أبي نعيم: الغضوب، وما أثبتناه من سائر المصادر المذكورة آنفًا وتجريد الذهبي (2/ 40): وفي التاج (غضب): وغضوبة بطن من العرب. ويسدن فهو سادن، والسادن هو خادم الكعبة وبيت الأصنام. اللسان (سدن).

(9)

في ح، ط: حطامة. بالحاء المهملة والمثبت من دلائل أبي نعيم وجمهرة ابن دريد (2/ 232) والاشتقاق له (ص 274، 446)، والضبط من اللباب (1/ 452) وضبط في الجمهرة والاشتقاق بضم الخاء المعجمة ضبط قلم.

(10)

كذا في ط وفي دلائل أبي نعيم: أخوان مازن لأمه.

ص: 156

عبد الله بن ربيعة بن خويص

(1)

. أخبرني أحد بني نمران - قال مازن: فعتَرْنا ذات يوم عند الصنم عَتِيرة - وهي الذبيحة

(2)

- فسمعتُ صوتًا من الصنم يقول: يا مازن، اسمعْ تُسَرّ، ظَهر خيرٌ وبُطن شَرّ، بُعث نبيٌّ من مُضَر، بدينِ اللّهِ الأكبر

(3)

، فدَع نَحيتًا من حجَر، تَسْلَم من حَرِّ سَقَر. قال: ففزعتُ لذلك فزَعًا شديدًا، ثمّ عتَرْنا بعد أيام عَتيرة أخرى، فسمعتُ صوتًا من الصنم يقول: أقبلْ إليَّ أقبل، تسمعْ ما لا يُجهل، هذا نبيٌّ مرسل، جاء بحق مُنزَل، فآمنْ به كي تُعْدَل، عن حَرِّ نارٍ تُشعل، وقودها الجَنْدل

(4)

. قال مازن: إنَّ هذا لعجب، وإنَّ هذا لخَيْرٌ يُرادُ بي.

وقدم علينا رجل من أهل الحجاز فقلت: ما الخبر وراءك؟ فقال: ظهر رجلٌ يقال له: أحمد، يقول لمن أتاه: أجيبوا داعيَ اللّه، فقلت: هذا نبأ ما سمعتُ، فثُرتُ إلى الصنم فكسرْتُه أجذاذا

(5)

، وركبتُ راحلتي حتى قدمت على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فشرح اللّه صدري للإسلام، فأسلمت، وقلت:[من البسيط]

كسّرْتُ باجِرَ أجْذاذًا وكانَ لنا

رَبًا نُطيفُ به ضُلًّا بتَضْلالِ

(6)

بالهاشميِّ هَدانا مِن ضَلالتنا

ولم يكُنْ دينُه منّي على بالِ

يا راكبًا بلِّغنْ عَمْرًا وإخوتَها

(7)

إني لِمَنْ قال ربي باجِرٌ قالِ

يعني بعمرو بني الصامت وإخوتها خطامه

(8)

. فقلت: يا رسول اللّه إني امرؤ

(9)

مولَعٌ بالطرب، وبالهَلُوك من النساء

(10)

وبشرب الخمر، وألحَّتْ علينا السِّنُونَ فأذهبْنَ الأموال، وأهْزَلْن الذَّرَاري، وليس لي ولد، فادْعُ اللّه أن يُذهب عني ما أجد، ويأتينا بالحَيَا، ويهب لي ولدًا. فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"اللهم أبدلْهُ بالطربِ قراءةَ القرآن، وبالحرام الحلال، وبالإثم وبالعُهْر عِفَّةً، وآتِهِ بالحيا، وهَبْ له ولدًا" قال: فأذهبَ اللّه عني ما أجد، وأُخصبتْ عُمان، وتزوجتُ أربع حرائر، وحفظت شَطْر

(1)

كذا في ح، ط وفي دلائل أبي نعيم: حويص. بالحاء المهملة ولم أقف على ترجمة له.

(2)

جاء في النهاية (3/ 178/ عتر) العتيرة التي كانت تعترها الجاهلية، فهي الذبيحة التي كانت تذبح للأصنام، فيصب دمها على رأسها.

(3)

في ح: يدين اللّه أكبر.

(4)

"الجندل": الحجارة. اللسان (جندل).

(5)

في الدلائل: فسرت إلى الصنم فكسرته جذاذًا. والمثبت من ح والنهاية (1/ 250/ جذذ) وأجذاذًا: أي قطعًا وكِسَرًا، واحدها جَذّ.

(6)

"باجر": تكسر جيمه وتفتح، ويروى بالحاء المهملة، وكان في الأزد. النهاية (1/ 97/ بجر) والأصنام لابن الكلبي (ص 63). ويقال للباطل: ضُلٌّ بتضلال. اللسان (ضلل).

(7)

في دلائل البيهقي: وإخوته.

(8)

انظر الصفحة السابقة، الحاشية (9).

(9)

ليست اللفظة في ح.

(10)

"الهلوك من النساء": الفاجرة، وقيل: هي المتساقطة على الرجال. النهاية (5/ 271/ هلك).

ص: 157

القرآن، ووهب لي حَيَّان بن مازن، وأنشأ

(1)

يقول: [من الطويل]

إليكَ رسولَ اللّهِ خبَّتْ مطيَّتي

تجوبُ الفيافي من عُمَانَ إلى العَرْج

(2)

لتشفعَ لي يا خيرَ من وطئ الثرى

فيغفر لي ربي فأرجعُ بالفَلْج

(3)

إلى معشرٍ خالفتُ في الله دينهم

فلا رأْيُهُم رأيي ولا شرجُهم شَرْجي

(4)

وكنتُ امرأً بالخمر والعُهْر مُولَعًا

شبابيَ حتى آذنَ الجسمُ بالنَّهجِ

(5)

فبدَّلني بالخمرِ خَوْفًا وخشيةً

وبالعُهْر إحصانًا فحصَّن لي فرْجي

فأصبحت هَمِّي في الجهادِ ونيَّتي

فللهِ ما صَوْمي وللّه ما حجِّي

(6)

قال: [فلما أتيت قومي أنَّبُوني وشتموني]

(7)

، وأمروا شاعرًا لهم فهجاني، فقلت: إن رددْتُ عليه فإنما أهجو نفسي؛ فرحلتُ عنهم فأتَتْني منهم زُلْفَةٌ عظيمة، وكنتُ القيِّمَ بأمورهم، فقالوا: يا بن عم، عِبْنا عليك أمرًا وكرهنا ذلك، فإنْ أبيت ذلك فارجعْ وقُمْ بأمورنا، وشأنك وما تدين به. فرجعتُ معهم وقلت:[من البسيط]

لَبُغْضُكُمْ عندنا مُرٌّ مذاقتُه

وبُغْضُنا عندكمْ يا قومَنا لَبَنُ

(8)

لا يفطنُ الدَّهْرُ إن بُثَّتْ معايبُكم

وكلُّكم حينَ يثنى عَيْبُنَا فَطِنُ

شاعرُنا مُفْحَمٌ عنكم وشاعركم

في جَدْبِنا مُبْلِغٌ في شتمِنا لَسِنُ

(9)

ما في القلوب عليكم فاعلموا وَغَرّ

(10)

وفي قلوبِكُمُ البغضاءُ والإحَنُ

قال مازن: فهداهم الله بعدُ إلى الإسلام

(11)

جميعًا.

(1)

في الدلائل لأبي نعيم والبيهقي: وأنشأت.

(2)

"العَرْج": عقبة بين مكة والمدينة على جادة الحاج، تذكر مع السقيا. معجم البلدان (4/ 99).

(3)

"الفَلْج"، بفتح فسكون: الفوز والنصر. التاج (فلج).

(4)

يقال: ليس هو من شرجه: أي من طبقته وشَكله. النهاية (2/ 456 شرج).

(5)

"النَّهْج": البِلى. النهاية (5/ 134 نهج).

(6)

إلى هنا ينتهي الخبر في دلائل أبي نعيم، وتتمته في دلائل البيهقي بنحوه.

(7)

ليس ما بين المعقوفين في ح.

(8)

في ح ودلائل البيهقي ومجمع الزوائد: لين بالياء، والمثبت من ط.

(9)

"المفحَم": العَييَّ، ومن لا يقدر يقول شعرًا. وأفحمه الهمُّ: منعه قول الشعر. "والجَدْب": العيب والذم. وفي ح، ط: حدبنا. بالحاء المهملة، ولا يصح وفي دلائل البيهقي: حربنا.

(10)

"الوَغْر" بفتح فسكون، ويُحرِّك: الحقد والضغن والعداوة. التاج (وغر). وفي ح: رعب.

(11)

في ح: بالإسلام. وإلى هنا تنتهي القطعة المتقدمة في ط المتأخرة في ح.

ص: 158

وروى الحافظ أبو نعيم

(1)

، من حديث عبد اللّه بن محمد بن عقيل

(2)

، عن جابر بن عبد اللّه قال: إنَّ أول خبرٍ كان بالمدينة بمبعث رسولِ اللّه صلى الله عليه وسلم أنَّ امرأةً بالمدينة كان لها تابعٌ من الجن، فجاء في صورة طائرٍ أبيض، فوقع على حائطٍ لهم، فقالت له: لِمَ لا تنزلُ إلينا فتحدِّثنا ونحدِّثك، وتخبرنا ونخبرك؟ فقال لها: إنه قد بُعث نبيٌّ بمكة حرَّم الزِّنا ومنع منا القرار

(3)

.

وقال الواقدي: حدّثني عبد الرحمن بن عبد العزيز، عن الزُّهري، عن علي بن الحسين قال: إنَّ أولَ خبير فدم المدينة عن رسولِ اللّه صلى الله عليه وسلم أنَّ امرأةً تُدعى فاطمة كان لها تابع، فجاءها ذات يوم، فقام على الجدار، فقالت: ألا تنزل؟ فقال: لا، إنه قد بُعث الرسول الذي حرَّم الزِّنا

(4)

.

وأرسله بعض التابعين

(5)

أيضًا وسمَّاه بابن لوذان، وذكر أنه كان قد غاب عنها مدة، ثمّ لما قدم عاتَبَتْهُ فقال: إني جئتُ الرسولَ فسمعته يحرِّم الزِّنا، فعليك السلام.

وقال الواقدي: حدّثني محمد بن صالح، عن عاصم بن عمر بن قتادة قال: قال عثمان بن عفان: خرجنا في عير إلى الشام قبل أن يُبعث رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم فلما كنا بأفواه الشام- وبها كاهنة- فتعرضَتْنا، فقالت: أتاني صاحبي فوقف على بابي، فقلت: ألا تدخل؟ فقال: لا سبيل إلى ذلك، خرج أحمد، وجاء أمْرٌ لا يُطاق. ثم انصرفتُ، فرجعتُ إلى مكة، فوجدتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قد خرج بمكة يدعو إلى اللّه عز وجل.

وقال الواقدي

(6)

: حدّثني محمد بن عبد اللّه الزهري قال: كان الوحي يُسمع، فلما كان الإسلام مُنعوا، وكانتِ امرأةٌ من بني أسد يقال لها: سعيرة، لها تابع من الجن، فلما رأى الوحيَ لا يُستطاع، أتاها فدخل في صدرها، فضجَّ في صدرها، فذهب عقلُها، فجعل يقول من صدرها: وُضع العناق، ومُنع الرِّفاق، وجاء أمر لا يُطاق، وأحمد حرَّم الزِّنا.

(1)

في دلائل النبوة (1/ 131) وأخرجه ابن إسحاق في السيرة (ص 92) رقم (122) وابن سعد في الطبقات (1/ 189، 190) عن عبد اللّه بن جعفر الرقي عن عبيد الله بن عمرو به والإمام أحمد في المسند (3/ 356) عن أبي المليح به، وأخرجه الطبراني كما في مجمع الزوائد (8/ 243) والخطيب في الأسماء المبهمة (ص 259) وسمَّى المرأة فيه بـ: فطيمة اليثربية، وذكره السيوطي في الخصائص (1/ 103).

(2)

عبد اللّه بن محمد بن عقيل ضعيف يعتبر به في المتابعات والشواهد، فهو ضعيف عند التفرد، وقد تفرد هنا (بشار).

(3)

في مسند الإمام أحمد: الفرار. بالفاء.

(4)

طبقات ابن سعد (1/ 167) فيه الخبر بنحوه من طرق عن الزهري وعن علي بن الحسين، وإسناده ضعيف، لإرساله.

(5)

دلائل النبوة لأبي نعيم (1/ 132).

(6)

أخرجه ابن سعد بنحوه في الطبقات (1/ 167) عن علي بن محمد عن عبد اللّه بن محمد القرشي عن الزهري.

ص: 159

وقال الحافظ أبو بكر الخرائطي

(1)

: حدّثنا عبد الله بن محمد البلوي بمصر، حدّثنا عُمارة بن زيد، حدّثنا عيسى بن يزيد، عن صالح بن كيسان، عمن حدّثه، عن مِرْداس بن قيس الدَّوْسي

(2)

قال: حضرتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وقد ذُكرتْ عنده الكهانةُ، وما كان من تعبيرها

(3)

عند مخرجه فقلت: يا رسول اللّه، قد كان عندنا في ذلك شيءٌ، أُخبرك أنَّ جاريةً منّا يقال لها: الخَلَصة، لم نعلم عليها إلا خيرًا، إذْ جاءتنا فقالت: يا معشر دَوْس، العَجَب العَجَب لما أصابني! هل علمتم إلا خيرًا؟ قلنا: وما ذاك؟ قالت: إنِّي لفي غنمي، إذْ غشيتني ظُلْمة، ووجدتُ كحَسِّ الرجل مع المرأة، فقد خَشِيتُ أن أكونَ قد حَبِلْت. حتى إذا دنتْ ولادتها، وضعتْ غلامًا أغضف

(4)

، له أذنان كأُذُني الكلب، فمكث فينا حتى إنَّه ليلعب مع الغلمان إذْ وثب وثبةً، وألقى إزاره، وصاح بأعلى صوته وجعل يقول: يا وَيْلَهُ يا وَيْلَهُ! يا عَوْلهُ يا عَوْلَه

(5)

! يا ويل غَنْم! يا ويل فهم، من قابس النار. [من الرجز]

الخَيْلُ واللّهِ وراءَ العَقَبَهْ

فيهنَّ فتيانٌ حِسَانٌ نَجَبَهْ

قال: فركبنا وأخذْنا للأداة

(6)

، وقلنا: يا ويلك! ما ترى؟ فقال: هل من جاريةٍ طامث؟ فقلنا: ومن لنا بها؟ فقال شيخٌ منا: هي واللّهِ عندي، عفيفة الأم، فقلنا: فعجِّلْها، فأُتي بالجارية، وطلع الجبل، وقال للجارية: اطرحي ثوبَكِ واخْرُجي في وجوههم. وقال للقوم: اتَّبعوا أثرها. وقال لرجل منا يقال له: أحمر بن حابس، فقال: يا أحمر بن حابس، عليك أوَّلَ فارس. فحمل أحمر، فطعن أولَ فارسٍ فصرعه، وانهزموا فغنمناهم. قال

(7)

: فابتنينا عليهم بيتًا وسمَّيناه ذا الخَلَصَة، وكان لا يقول لنا شيئًا إلا كان كما يقول؛ حتى إذا كان مبعثُك يا رسول اللّه قال لنا يومًا: يا معشر دَوْس نزلت

(8)

بنو الحارث بن كعب فاركبوا، فركبنا، فقال لنا: اكْدِسُوا الخيلَ كَدْسًا

(9)

، [و]

(10)

احشوا القوم رَمْسًا،

(1)

في هواتف الجنان (ص 151/ 4) وأخرجه ابن عساكر عن الخرائطي في السيرة النبوية (1/ 365) وما يأتي بين معقوفين منهما، وإسناده ضعيف، واستغربه المصنف.

(2)

في ح، ط السدوسي، والمثبت من الهواتف وتاريخ ابن عساكر نسخة (د) والإصابة ترجمة مرداس بن قيس.

(3)

في ح، ط: تغييرها. والمثبت من الهواتف وتاريخ ابن عساكر نسخة (د) والإصابة ترجمة مرداس بن قيس.

(4)

"الأغضف": كل متثنٍّ متكسِّر مسترخ، وكلب أغضف: إذا صار مسترخي الأذن لطولها وسعتها. اللسان (غضف).

(5)

"الويل": الحزن والهلاك والمشقة، ومعنى النداء فيه: يا حزني ويا هلاكي ويا عذابي احضر، فهذا وقتك وأوانك. وأما العَول: فهو من العويل والبكاء والاستغاثة، ولا يتكلم به إلا مع (ويله). اللسان (ويل، عول).

(6)

كذا في ح، ط: وفي الهواتف وابن عساكر: الأداة. وفي اللسان (أدا): العرب تقول: أخذ هداته أي أداته، على البدل. وأخذ للدهر أداته: من العُدَّة. ورجل مؤدٍ: ذو أداة: شاك في السلاح.

(7)

في ح والهواتف وابن عساكر: قالوا. والمثبت من ط.

(8)

في ح: يركب.

(9)

"كدست الخيل": ازدحمت في سيرها فركب بعضها بعضًا. التاج والمحجم الوسيط (كدس).

(10)

كذا في ح، ط والهواتف، وأظن الصواب: واحثوا، والرمس: تراب القبر.

ص: 160

الْقَوْهم

(1)

غُدَيَّة، واشربوا الخمر عشيَّة. قال: فلقيناهم. فهزمونا وغلبونا، فرجعنا إليه فقلنا: ما حالك؟ وما الذي صنعتَ بنا؟ فنظرنا إليه وقد احمرَّت عيناه وانتصبتْ

(2)

أذناه وانبرم غضبانًا

(3)

حتى كاد أن ينفطر، وقام؛ فركبنا واغتفرنا هذه له، ومكثنا بعد ذلك حينًا، ثم دعانا فقال: هل لكم في غزوةٍ تهب لكم عِزًّا، وتجعل لكم حِرْزًا، ويكون في أيديكم كنزًا؟ فقلنا: ما أحوجنا إلى ذلك! فقال: اركبوا فركبنا فقلنا: ما تقول؟ فقال: بنو الحارث بن مسلمة، ثم قال:[قفوِا. فوقفنا، ثم قال]

(4)

: عليكم بفَهْم. ثم قال: ليس لكم فيهم دم، عليكم بمُضَر، هم أربابُ خيلٍ ونعَم. ثمّ قال: لا، رَهْطُ دُريد بن الصِّمَّة، قليلُ العدد، وفيُّ الذِّمَّة. ثمّ قال: لا، ولكن عليكم بكعب بن ربيعة، واسكنوها ضيعة

(5)

عامر بن صعصعة، فليكن بهم الوقيعة قال: فلَقيناهم، فهزمونا وفضحونا

(6)

، فرجعنا وقلنا: ويلك! ماذا تصنع بنا؟ قال: ما أدري، كذَّبني الذي كان يصدُقني؛ اسجنوني في بيتي ثلاثًا، ثمّ ائتوني. ففعلنا به ذلك، ثمّ أتيناه بعد ثالثة ففتحنا عنه، فإذا هو كأنه جمرة

(7)

نار، فقال: يا معشر دَوْس، حُرستِ السماء، وخرج خير الأنبياء. قلنا: أين؟ قال: بمكة وأنا ميِّت، فادفنوني في رأس جبل، فإني سوف أضطرمُ نارًا، وإنْ تركتموني كنتُ عليكم عارًا، فإذا رأيتمُ اضطرامي وتلهُّبي، فاقذفوني بثلاثةٍ أحجار، ثمّ قولوا مع كل حجر: باسمك اللهمّ. فإني أَهْدَى وأطْفَى

(8)

. قال: وإنَّه مات، فاشتعل نارًا، ففعلنا به ما أمر، وقذفناه بثلاثةٍ أحجار، نقول مع كلِّ حجر: باسمك اللهم. فخمد وطَفِئ، وأقمنا حتى قدم علينا الحاج، فأخبرونا بمبعثك يا رسول اللّه. غريب جدًا.

وروى الواقدي

(9)

عن ابن أبي ذئب، عن مسلم بن جُنْدُب، عن النَّضْر بن سفيان الهُذَلي، عن أبيه، قال: خرجنا في عيرٍ لنا إلى الشام، فلما كنا بين الزَّرْقاء ومَعَان

(10)

قد عرَّسْنا من

(1)

في ط: انفوهم والمثبت من ح والهواتف وابن عساكر.

(2)

في الهواتف: وابيضَّت.

(3)

في الهواتف: وانزمَّ غضبًا. وغضبانًا. كذا بالتنوين على لغة بني أسد في تأنيثه على غضبانة. ومن ثم صُرف. التاج (غضب).

(4)

ليس ما بين المعقوفين في ح.

(5)

كذا في ح، ط وفي الهواتف وابن عساكر: واشكروها صنيعة. وهو أشبه.

(6)

في هامش ح: خـ وقصمونا.

(7)

في ط: حجرة. والمثبت من ح والهواتف وابن عساكر.

(8)

يعني: أْهدأ وأطفأ، وهي رواية الهواتف وابن عساكر.

(9)

رواه ابن سعد عن الواقدي في الطبقات (1/ 161) وذكره السيوطي في الخصائص (1/ 104) وقال أخرجه ابن سعد وأبو نعيم [ستأتي الإشارة إليه] وابن عساكر.

(10)

"الزرقاء": موضع بالشام بناحية مَعان. معجم البلدان (3/ 137) وتقع إلى الشمال الشرقي من عمَّان. ومَعَان: بالفتح، والمحدثون يقولونه بالضم: مدينة في طرف بادية الشام تلقاء الحجاز من نواحي البلقاء [عمَّان]. معجم البلدان (5/ 153) وتقع إلى الشمال الشرقي من العقبة.

ص: 161

الليل

(1)

، فإذا بفارس يقول وهو بين السماء والأرض: أيها النيام هُبُّوا، فليس هذا بحينِ رُقاد، قد خرج أحمد، فطُرِّدت الجنُّ كل مُطَّرَد.

ففزعنا ونحن رفقة حَزَاوِرَة

(2)

، كلُّهم قد سمع بهذا، فرجعنا إلى أهلنا، فإذا هم يذكرونَ اختلافًا بمكَّة بين قريش، في نبيٍّ قد خرج فيهم، من بني عبد المطلب اسمه أحمد. ذكره أبو نُعيم

(3)

.

وقال الخرائطي

(4)

: حدّثنا عبد الله بن محمد البَلَوي بمصر، حدّثنا عُمارة بن زيد، حدّثني عبد الله

(5)

ابن العلاء، حدّثنا يحيى بن عروة، عن أبيه، أنَّ نفرًا من قريش، منهم وَرَقَةُ بن نوفل بن أسد بن عبد العُزَّى بن قُصَيّ، وزيد بن عمرو بن نُفَيْل، وعُبيد الله

(6)

بن جَحْش بن رئاب، وعثمان بن الحُويرث، كانوا عند صنمٍ لهم يجتمعون إليه، قد اتخذوا ذلك اليومَ من كلِّ سنةٍ عيدًا، كانوا يعظمونه وينحرون به الجَزُور

(7)

، ثم يأكلونَ ويشربونَ الخمر، ويعكفُون عليه؛ فدخلوا عليه في الليل فرأَوْه مكبوبًا على وجهه، فأنكروا ذلك، فأخذوه فردُّوه إلى حاله، فلم يلبثْ أن انقلب انقلابًا عنيفًا، فأخذوه فردُّوه إلى حاله، فانقلب الثالثة، فلما رأوا ذلك اغتمُّوا له وأعظموا ذلك. فقال عثمان بن الحُويرث: ما له قد أكثر التنكُّس؟ إنَّ هذا لأمرٍ قد حدث! وذلك في الليلة التي ولد فيها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فجعل عثمان يقول: [من الطويل]

أيا صنمَ العيدِ الذي صُفَّ حولَهُ

صَناديدُ وفدٍ من بعيدٍ ومن قُرْب

تنكَّستَ مغلوبًا فما ذاكَ قُلْ لنا

أذاكَ سفيهٌ أن تنكَّستَ للعَتْب

(8)

فإن كان من ذَنْب أتينا فإننا

نَبُوءُ بإقرارٍ ونُلْوي عن الذَّنْبِ

وإنْ كنتَ مغلوبًا ونكِّستَ صاغرًا

فما أنتَ في الأوثانِ بالسيِّدِ الربِّ

قال: وأخذوا الصنم فردُّوه إلى حاله، فلما استوى هتف بهم هاتفٌ

(9)

من الصنم بصوتٍ جهير، وهو يقول:[من الطويل]

(1)

"التعريس": نزول المسافر آخر الليل نزلة للنوم والاستراحة. النهاية (3/ 206/ عرس).

(2)

في ط: حزورة، وفي ح: حراورة بالراء المهملة، وفي الطبقات: جرارة. والمثبت من دلائل أبي نعيم والخصائص للسيوطي والنهاية (1/ 380/ حزور) وفيه: جمع حَزْوَر، وهو الذي قارب البلوغ، والتاء لتأنيث الجمع.

(3)

في دلائل النبوة (1/ 133)، وإسناده ضعيف جدًا.

(4)

في هواتف الجنان (ص 157) وأخرجه ابن عساكر في تاريخه (1/ 342) عن الخرائطى.

(5)

كذا في ط وتاريخ ابن عساكر، وفي ح والهواتف: عبيد اللّه وسيأتي بهذا اللفظ في (ص 165) موضع الحاشية (2) ولم أقف على ترجمته.

(6)

في ح، ط: عبد اللّه تصحيف، والمثبت من الهواتف وتاريخ ابن عساكر وسيرة ابن هشام (1/ 222) والروض (1/ 253) وجمهرة الأنساب (ص 191) والتاج (جحش).

(7)

في الهواتف وابن عساكر: الجُزُر. والجَزُور: الناقة، جمع جُزُر.

(8)

في تاريخ ابن عساكر: تكوست مقلوبًا.

(9)

في ح: هتف به هاتفا. والمثبت من ط والهواتف وتاريخ ابن عساكر.

ص: 162

تردَّى لمولودٍ أنارتْ بنورِهِ

جميعُ فِجاجِ الأرضِ في الشّرق والغربِ

وخرَّتْ له الأوثانُ طُرًّا وأُرعدتْ

قلوبُ ملوكِ الأرضِ طُرًّا من الرُّعْب

ونارُ جميعِ الفُرْس باختْ وأظلمت

وقد بات شاهُ الفرسِ في أعظَم الكَرْبِ

(1)

وصدّتْ عن الكُهَّان بالغيبِ جِنُّها

فلا مخبرٌ عنه بحقٍّ ولا كِذْبِ

فيالَ قُصَيٍّ ارجعوا عن ضلالِكم

وهبُّوا إلى الإسلام والمنزلِ الرَّحْبِ

قال: فلما سمعوا ذلك خلَصُوا نَجِيًّا، فقال بعضهم لبعض: تصادقوا ولْيَكْتُمْ بعضكم على بعض، فقالوا: أجل. فقال لهم ورقة بن نوفل: تعلمون واللّه ما قومكم على دين، ولقد أخطؤوا المحَجَّة

(2)

، وتركوا دينَ إبراهيم؛ ما حجَرٌ تُطيفونَ به، لا يسمع ولا يُبصر، ولا ينفع ولا يضرّ! يا قوم، التمسوا لأنفسكم الدين. قال: فخرجوا عند ذلك، يضربون في الأرض، ويسألون عن الحنيفيَّةِ، دين إبراهيم عليه السلام.

فأمَّا ورقة بن نوفل فتنصَّر، وقرأ الكتب حتى علم علمًا؛ وأما عثمان بن الحُويرث فصار

(3)

إلى قيصر فتنصَّر وحسنت منزلته عنده؛ وأما زيد بن عمرو بن نُفيل فأراد الخروج فحُبس، ثم إنه خرج بعد ذلك فضرب في الأرض، حتى بلغ الرقَّةَ من أرض الجزيرة، فلقي بها راهبًا عالمًا فأخبره بالذي يطلب، فقال له الراهب: إنك لتطلبُ دينًا ما تجدُ منْ يحملك عليه، ولكنْ قد أظلَّكَ زمانُ نبيٍّ يخرج من بلدك، يُبعث بدين الحنيفيَّة. فلما قال له ذلك رجع يريدُ مكَّة، فغارت عليه لَخْمٌ فقتلوه؛ وأما عُبيد اللّه بن جَحْش فأقام بمكة حتى بُعث النبيُّ صلى الله عليه وسلم ثم خرج مع من خرج إلى أرض الحبشة، فلما صار بها تنصَّر وفارق الإسلام، فكان بها حتى هلك هنالك نصرانيًا.

تقدم في ترجمة يزيد بن عمرو بن نُفيل له شاهد

(4)

.

وقال الخرائطي

(5)

: حدّثنا أحمد بن إسحاق بن صالح أبو بكر الوزَّان

(6)

، حدّثنا عمرو بن عثمان،

(1)

"باخت النار": سكنت وفترت. وأبختها: أطفأتها. الأساس والتاج (بوخ).

(2)

في ح، ط: الحجة. والمثبت من الهواتف. والمَحَجة: الطريق المستقيم.

(3)

في ط: فسار، والمثبت من ح والهواتف.

(4)

ورد ذلك في الجزء الثاني من هذا الكتاب.

(5)

في هواتف الجنان (ص 160) وأخرجه ابن عساكر عن الخرائطي في تاريخه (ج عبادة- عبد اللّه بن ثوب)(ص 237، 238) وإسناده تالف فإن محمد بن عبد العزيز بن عمر الزهري منكر الحديث (الميزان 3/ 628) ورواه ابن هشام عن بعض أهل العلم بالشعر في السيرة (2/ 427) ورواه السهيلي في الروض (4/ 120) عن ابن أبي الدنيا بإسناده عن الزهري به، وأسانيده كلها ضعيفة.

(6)

وقع في ط ومطبوعة الهواتف وتاريخ ابن عساكر: الوراق. وهو تصحيف، والصواب من ح وأصل الهواتف والجرح والتعديل (2/ 41) وتاريخ بغداد (4/ 28) والأنساب للسمعاني (ق 582 ب) (ط: مرغوليوث- ليدن).

ص: 163

حدّثني أبي، حدّثني

(1)

عبد اللّه بن عبد العزيز، حدّثني محمد بن عبد العزيز، عن الزُّهْري عن عبد الرحمن بن أنس السُّلمي، عن العباس بن مرداس، أنَّه كان يُغير

(2)

في لِقاحٍ له نصفَ النهار، إذْ طلعتْ عليه نعامةٌ بيضاء، عليها راكبٌ عليه ثيابُ بياض مثل اللَّبَن، فقال: يا عباَّس بن مِرْدَاس، ألم ترَ أنَّ السماءَ قد كفَّتْ أحراسَها، وأنَّ الحرب تجرَّعتْ أنفاسها، وأنَّ الخيل وضعتْ أحلاسها

(3)

، وأنَّ الدِّين

(4)

نزل بالبرِّ والتقوى، يومَ الاثنين ليلةَ الثلاثا، صاحب الناقة القَصْوا

(5)

. قال: فرجعتُ مَرْعوبًا قد راعني ما رأيتُ وسمعت، حتى جئتُ وثنًا لنا يُدعى الضّمار

(6)

، وكنَّا نعبدُه ونكَلَّم من جَوْفه؛ فكنستُ ما حوله، ثمّ تمسَّحْتُ به وقتَلْته، فإذا صائحٌ، من جوفه يقول:[من الكامل]

قلْ للقبائلِ من سليمٍ كُلِّها

هلكَ الضّمَارُ (3) وفازَ أهلُ المسجدِ

هلكَ الضّمَارُ (3) وكان يعبدُ مَرَّةً

قَبلَ الصلاةِ مع النبيِّ محمَّدِ

إنَّ الذي ورِثَ النبوَّةَ والهُدَى

بَعْدَ ابْنِ مريمَ من قريشٍ مهتدِ

(7)

قال: فخرجتُ مَرْعُوبًا حتى أتيتُ قومي، فقصصتُ عليهم القصة، وأخبرتُهم الخبر، وخرجتُ في ثلاثمئة من قومي من بني حارثة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالمدينة، فدخلنا المسجد، فلما رآني رسولُ اللّه

(1)

في ط: حدثنا، والمثبت من ح والهواتف.

(2)

في ط: يعر. والمثبت من ح والهواتف وتاريخ ابن عساكر، وفي رواية أخرى عند ابن عساكر (ص 238): بغمرة، وغمرة موضع بالحجاز في طريق مكة.

(3)

"أحلاس": جمع حِلْس: وهو ما ولي ظهر الدابة تحت الرحل والقتب والسرج. المعجم الوسيط (حلس).

(4)

في ط: الذي، والمثبت من ح والهواتف وتاريخ ابن عساكر.

(5)

القصوا: بألف من غير همز، مراعاة للفاصلة في السجع كما في ح والقصواء: لقب ناقة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، والقصواء: الناقة التي قطع طرف أذنها، ولم تكن ناقة النبي صلى الله عليه وسلم قصواء، وإنما كان هذا لقبًا لها. وقيل: كانت مقطوعة الأذن. النهاية (4/ 75/ قصو). والعبارة كما يبدو مضطربة، وكذا هي في الهواتف، وكذا رواها ابن عساكر عن الخرائطي، ولابن عساكر (ص 239) رواية أخرى عن سليمان بن الحسن عن عمرو بن عثمان به وفيها:"مع صاحب الناقة القصوى" وكذا في الرواية عند أبي نعيم الآتي ذكرها، وبهذه الرواية يزول الاضطراب من رواية الخرائطي والله أعلم.

(6)

في ح، ط وأصل الهواتف وأصول تاريخ ابن عساكر: الضماد، بالدال المهملة والمثبت من السيرة النبوية والروض الأنف ومعجم البلدان (3/ 462) والتاج (ضمر). وضبطه السهيلي في الروضِ وياقوت: ضَمَار. على وزن فَعَالِ. وضبطه صاحب التاج "ضِمار" بكسر أوله. وقال السهيلي: هو مثل حَذام ورقاشِ، ولا يكون مثل هذا البناء إلا في أسماء المؤنث، وكانوا يجعلون آلهتهم إناثًا كاللات والعزى ومناة لاعتقادهم الخبيث في الملائكة أنها بنات. وفي ضمار لغة أهل الحجاز وبني تميم البناء على الكسر لا غير من أجل أن آخره راء، وما لم يكن في آخره راء كخدام ورقاش فهو مبني في لغة أهل الحجاز ومعرب غير مجرى في لغة غيرهم، كذلك قال سيبويه. الكتاب (3/ 278 - 281)(ط هارون)، (2/ 41)(ط بولاق).

(7)

الأبيات في المصادر السابقة على خلاف في بعض الألفاظ.

ص: 164

صلى الله عليه وسلم قال لي: "يا عباس، كيف كان إسلامُك"؟ فقصصت عليه القصة. قال: فسُرَّ بذلك، وأسلمتُ أنا وقومي.

ورواهُ الحافظ أبو نعيم في "الدلائل"

(1)

من حديث أبي بكر بن أبي عاصم، عن عمرو بن عثمان به.

ثمّ رواهُ أيضًا

(2)

من طريق الأصمعي، حدّثني الوصافي، عن منصور بن المعتمر، عن قَبيصة بنِ عمرو بن إسحاق الخُزاعي، عن العبَّاس بن مِرْداس السُّلَمي قال:[كان] أوّل إسلامي أنَّ مِرْداسًا أبي لما حضرَتْهُ الوفاةُ أوصاني بصنمٍ له يقال ضمار (3)، فجعلتُه في بيت وجعلتُ آتيهِ كُلَّ يومٍ مرَّة، فلما ظهر النبيُّ صلى الله عليه وسلم[إذْ] سمعتُ صوتًا مرسلًا في جَوْفِ اللَّيل راعني، فوثبتُ إلى ضمار (3) مستغيثًا، وإذا بالصوت من جوفه وهو يقول:[من الكامل]

قل للقبيلة من سُلَيْمٍ كُلِّها

هلك الأنيسُ وعاش أهلُ المسجدِ

أودى ضمار

(3)

وكان يُعْبَدُ مرة

(4)

قبل الكتابِ إلى النبيِّ محمَّدِ

إنَّ الذي وَرِثَ النبوَّةَ والهُدى

بعدَ ابنِ مَرْيمَ من قريشٍ مُهْتَدِ

قال: فكتمتُه

(5)

الناسَ، فلما رجع الناسُ من الأحزاب، بينا أنا في إبلي بطرَفِ العَقيق من ذاتِ عِرْقٍ راقدًا

(6)

، سمعتُ صوتًا، وإذا برجلٍ على جناح نعامةٍ وهو يقول: النور الذي وقعَ ليلةَ الثلاثاء مع صاحب الناقة العَضْباء

(7)

في ديار إخوان بني العنقاء. فأجابه هاتفٌ من شماله وهو يقول: بَشِّرِ الجِنَّ وإبْلاسَها أنْ وضَعتِ المَطِيُّ أحلاسَهَا، وكَلأتِ السماءُ أحراسَها. قال: فوثبتُ مذعُورًا، وعلمتُ أنَّ محمدًا مُرْسَل، فركبتُ فرسي وأحثثتُ

(8)

السيرَ حتى انتهيتُ إليه، فبايعتُه ثم انصرفت إلى ضما

(9)

، فأحرقتُه بالنار، ثم رجعتُ إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فأنشدتُه شعرًا أقول فيه:[من الطويل]

(1)

ليست هذه الرواية في المطبوع من دلائل النبوة لأبي نعيم.

(2)

في الدلائل (1/ 146) وما يأتي بين معقوفين منه، وذكره السيوطي في الخصائص، وقال فيه: أخرجه ابن جرير والمعافى بن زكريا وابن الطراح في كتاب الشواعر بأسانيدهم. قال بشار: وهذه الأسانيد كلها غير معروفة وكثير منها مختلق، وكذلك أكثر ما أورده الخرائطي في كتابه.

(3)

في ح، ط وأصل الدلائل: ضماد. وسبقت الإشارة إليه في الصفحة السابقة ح 6.

(4)

في الدلائل: مدة.

(5)

في خ: فكتمه.

(6)

"العقيق": ببطن وادي ذي الحُلَيفة، وهو الأقرب منها، وهو الذي جاء فيه أنه مهلُّ أهل العراق من ذات عِرْق.

معجم البلدان (4/ 139/ العقيق).

(7)

"العضباء": ناقة النبي صلى الله عليه وسلم، وعضباء: أي مشقوقة الأذن، ولم تكن مشقوقة الأذن. النهاية (3/ 251/ عضب).

(8)

في ط: واحتثثت. وفي الدلائل: وأجشمت. والمثبت من ح.

(9)

في ح، ط: وأصل الدلائل: ضماد.

ص: 165

لعمرُكَ إنِّي يومَ أجعلُ جاهلًا

ضمارًا لِربِّ العالمينَ مُشاركا

وتَرْكي رسولَ اللّهِ والأوس حوله

أولئك أنصارٌ له ما أولئكا

كتاركِ سهل الأرضِ والحَزْن يَبْتغي

ليسلُكَ في وَعْثِ الأمورِ المسالكا

فآمنتُ بالله الذي أنا عبدُهُ

وخالفتُ مَنْ أمسى يريد المهالكا

ووجَّهتُ وجهي نحو مكةَ قاصدًا

أبايعْ نبيَّ الأكرمينَ المباركا

(1)

نبيٌّ أتانا بعدَ عيسى بناطقٍ

من الحقِّ فيه الفَصْلُ فيه كذلكا

أمينٌ على القرآنِ أولُ شافعٍ

وأولُ مبعوث يجيبُ الملائكا

تلافى عُرى الإسلامِ بعدَ انتقاضها

فأحكمَها حتى أقام المناسكا

عَنَيْتُكَ يا خيرَ البريَّةِ كُلِّها

توسطتَ في الفرعين والمجدِ مالِكا

وأنت المُصَفَّى من قريشٍ إذا سَمَتْ

على ضُمْرِها تبقَى القَرُونَ المباركا

(2)

إذا انتسبَ الحَيَّانِ كعبٌ ومالكٌ

وجَدْناكَ مَحْضًا والنساءَ العَوَارِكا

(3)

قال الخرائطي

(4)

: وحدّثنا عبد الله بن محمد البَلَوي بمصر، حدّثنا عُمارة بن زيد، حدّثنا إسحاق بن بشر وسلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، حدّثني شيخٌ من الأنصار يقال له: عبد اللّه بن محمود، من آل محمد بن مَسْلَمة قال: بلغني أنَّ رجالًا من خثعم كانوا يقولون: إنَّ مما دعانا إلى الإسلام أنَّا كنَّا قومًا نعبد الأوثان، فبينا نحن ذاتَ يومٍ عند وثنٍ لنا إذْ أقبل نفرٌ يتقاضَوْن إليه، يرجون الفرجَ من عندهِ لشيءٍ شجَرَ بينهم، إذْ هتف بهم هاتف يقول

(5)

: [من الرجز]

يا أيُّها الناسُ ذوو الأجسامِ

من بينِ أشياخٍ إلى غُلامِ

ما أنتمُ وطائشُ الأحلامِ

ومسندُ الحُكم إلى الأصنام

أكلُّكم في حَيْرة نيام

(6)

أمْ لا ترَوْنَ ما الذي أمامي

(1)

قوله: أبايع. بالجزم من غير جازم لضرورة الشعر انظر الضرائر.

(2)

في ح: على صمها سعى القرون المباركا. والمثبت من ط والدلائل، وضُمر: جمع ضامر، وهو الفرس؛ والقرون: بفتح القاف: النفس. اللسان (ضمر، قرن).

(3)

كذا في ح، ط والدلائل، ولعل الصواب: العواتكا، والعواتك ثلاث نسوة كن من أمهات النبي صلى الله عليه وسلم إحداهن عاتكة بنت هلال؛ والثانية عاتكة بنت مرة بن هلال، والثالثة عاتكة بنت الأوقص بن مرة بن هلال. فالأولى من العواتك عمة الثانية والثانية عمة الثالثة. النهاية (3/ 180/ عتك).

(4)

في هواتف الجنان (ص 162) وأخرجه ابن عساكر في تاريخه السيرة النبوية- القسم الأول (ص 364) عن الخرائطي وأبو نعيم في الدلائل (1/ 145) بسنده عن ابن خربوذ المكي عن رجل من خثعم. وأخرجه الماوردي في أعلام النبوة (ص 146) وذكره السيوطي في الخصائص (1/ 107).

(5)

عبارة الخرائطي في الهواتف: إذ هتف بهم هاتف من الصنم فجعل يقول.

(6)

كذا في ح، ط والهواتف، ورواية ابن عساكر: حيرةِ النيامِ. وهي أشبه بالصواب للتخلص من الإقواء.

ص: 166

من ساطعٍ يَجْلو دُجى الظلامِ

قد لاحَ للناظر من تِهَامِ

ذاكَ نبيٌّ سيّدُ الأنامِ

قد جاء بعد الكُفْرِ بالإسلامِ

أكرمَه الرحمنُ من إمامِ

ومن رسولٍ صادقِ الكلامِ

أعدَلُ ذي حكمٍ من الحكَّامِ

يأمرُ بالصلاةِ والصِّيامِ

والبِرِّ والصِّلاتِ

(1)

للأرحامِ

ويزجُرُ الناسَ عن الآثامِ

والرِّجْسِ والأوثانِ والحَرَامِ

من هاشمٍ في ذِرْوَةِ السَّنَامِ

مستعلنًا في البلدِ الحرامِ

قال: فلما سمعنا ذلك تفرَّقْنا عنه، وأتينا النبيَّ صلى الله عليه وسلم فأسلمنا.

وقال الخرائطي

(2)

: حدّثنا عبد اللّه البَلَوي، حدّثنا عُمارة، حدّثني عبد الله

(3)

بن العلاء، حدّثنا محمد بن عكبر

(4)

، عن سعيد بن جُبير، أنَّ رجلًا من بني تميم يقال له رافع بن عُمير؛ وكان أهدى الناسِ للطريق، وأسْرَاهم بليل، وأهجمهم على هَوْل؛ وكانت العربُ تُسَمِّيه لذلك دُعْمُوص العرب، لهدايته وخَرَاتَتِهِ

(5)

، وجَرَاءته على السير، فذكر عن بُدُوِّ إسلامه قال: إني لأسيرُ برمْلِ عالِج

(6)

ذاتَ ليلة، إذْ غلبني النوم، فنزلتُ عن راحلتي وأنَخْتُها، وتوسَّدتُ ذراعَها ونصت، وقد تعوَّذتُ قبل نومي فقلت: أعوذُ بعظيم هذا الوادي من الجِنّ، من أنْ أوذَى أو أُهاج، فرأيتُ في منامي رجلًا شابًا يرصُدُ ناقتي، وبيده حربةٌ يريد أن يضعها في نَحْرِها؛ فانتبهتُ لذلك فزعًا! فنظرتُ يمينًا وشمالًا فلم أرَ شيئًا، فقلت: هذا حُلْم، ثمّ عدتُ فغفَوْت، فرأيت في منامي مثلَ رؤياي الأولى، فانتبهت، فدرتُ حولَ ناقتي فلم أرَ شيئًا، وإذا ناقتي ترعد؛ ثمَّ غفَوْت فرأيتُ مثلَ ذلك، فانتبهت، فرأيتُ ناقتي تضطرب، والتفت، فإذا أنا برجلٍ شابٍّ، كالذي رأيتُ في المنام بيده حربة، ورجلٌ شيخٌ ممسِكٌ بيده يردُّهُ عنها وهو يقول:[من الكامل]

يا مالكَ بنَ مُهَلهلِ بنِ دِثارِ

(7)

مهلًا فِدًى لك مِئْزَري وإزاري

(1)

في ح: والصلة. والمثبت من ط والهواتف.

(2)

في الهواتف (ص 164) وذكره ابن حجر في الإصابة (1/ 498) عن الخرائطي بسنده مختصرًا وقال: وفي إسناد هذا الخبر ضعف.

(3)

في أصل الهواتف: عبيد اللّه. انظر (ص 162 ح 5).

(4)

كذا في ح، ط. وسقط من ط لفظ محمد، وفي أصل الهواتف محمد بن عكير وكذا في الإصابة، ولم أقف على ترجمة له، وجزم محقق الهواتف أنه محمد بن بكير ولا أراه، لأن ابن جبير قتله الحجاج سنة 95 هـ بينما توفي محمد بن بكير بعد 220 هـ كما في ترجمته في تهذيب التهذيب (9/ 81).

(5)

سقطت اللفظة من ط والهواتف. واللفظة مشتقة من الخِرِّيت، وهو الدليل الحاذق والماهر الذي يهتدي لأخْراتِ المفاوز وهي طرقها الخفيفة ومضايقها التاج (خرت).

(6)

"عالج": رمال بين فيد والقُرَيَّات، وهي متصلة بالثعلبية على طريق مكة (4/ 69، 70).

(7)

في الهواتف: إثار.

ص: 167

عن ناقةِ الإنْسيِّ لا تعرضْ لها

واختَرْ بها ما شئتَ من أثواري

ولقد بدَا لي منك ما لم أحتسِبْ

ألا رعَيْتَ قرابتي وذِماري

(1)

تسمو إليه بِحَرْبةٍ مسمومةٍ

تَبًّا لِفِعلكَ يا أبا الغفَّارِ

(2)

لولا الحياءُ وأنَّ أهلَكَ جِيرةٌ

لَعَلِمتَ ما كشَّفت من أخباري

قال: فأجابه الشاب وهو يقول: [من الكامل]

أأردتَ أن تعلو وتخفضَ ذِكرنا

في غيرِ مَرْزِئَةٍ أبا العَيْزار

(3)

ما كانَ فيهمْ سيِّدٌ فيما مضى

إنَّ الخيارَ هُمُ بنو الأخيار

فاقصِدْ لقصدِك يا معكبرُ إنما

كانَ المجيرُ مُهلهِلَ بنَ إثَار

(4)

قال: فبينما هما يتنازعان إذْ طلعت ثلاثة أثوارٍ من الوحش، فقال الشيخ للفتى: قمْ يا بن أُختِ، فخذْ أيَّها شئتَ فداءً لناقةِ جاري الإنسي. فقام الفتى، فأخذ منها ثورًا وانصرف؛ لمّ التفتَ إليَّ الشيخُ فقال: يا هذا، إذا نزلتَ واديًا من الأودية فخفتَ هَوْلَه فقل: أعوذُ باللّه ربِّ محمدٍ من هَوْلِ هذا الوادي، ولا تَعُذْ بأحدٍ من الجِنّ فقد بطل أمْرُها. قال: فقلت له: ومَنْ محمد هذا؟ قال: نبيٌّ عربيّ، لا شرقيٌّ ولا غربي، بُعث يوم الاثنين. قلت: وأنَّى مسكنُهُ؟ قال: يثرب ذات النخل. قال: فركبتُ راحلتي حين بَرَق ليَ الصبح وجدَدْتُ السيرَ حتى تقحَّمْتُ المدينة، فرآني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فحدّثني بحديثي قبل أن أذكُرَ له منه شيئًا، ودعاني إلى الإسلام فأسلمت. قال سعيد بن جُبير: وكنا نرى أنه هو الذي أَنْزَلَ الله فيه: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6)} [الجن: 6].

وروى الخرائطي

(5)

من طريق إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة

(6)

، عن داود بن الحُصَين

(7)

، عن عكرمة، عن ابن عباس عن علي قال: إذا كنتَ بوادٍ تخاف السَّبُعَ فقل: أعوذ بدانيال والجب من شَرِّ الأسد.

وروى البَلَوي

(8)

عن عُمارة بن زيد، عن إبراهيم بن سعد، عن محمد بن إسحاق، حدّثني يحيى بن عبد اللّه بن الحارث، عن أبيه، عن ابن عباس قصة قِتالِ عليٍّ الجِنَّ بالبئر ذات العلم التي بالجُحْفَة حين

(1)

"ذِمار الرجل": كل ما يلزمك حفظه وحياطته وحمايته، وإن ضيعه لزمه اللوم. التاج (ذمر).

(2)

كذا في ح، ط، وفي الهواتف: العقار.

(3)

"المرزئة": المصيبة، مثل الرُّزْء. لتاج (رزًا).

(4)

كذا في ح والهواتف، وفي ط: دثار؛ وفي الهواتف: يا معيكر.

(5)

في الهواتف ص (166) وليس هذا الخبر في ح.

(6)

في ط: إبراهيم بن إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة. وهو تحريف: والمثبت من الهواتف وتهذيب المزي (8/ 380) وهو ضعيف.

(7)

في ط: داود بن الحسين. وهو تحريف: والمثبت من الهواتف وتهذيب المزي (8/ 379) وتهذيب التهذيب (3/ 181).

(8)

يرويه عنه الخرائطي في الهواتف (ص 167) وليس الخبر في ح.

ص: 168

بعثَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يستقي لهم الماء، فأرادوا مَنْعَه، وقطعوا الدَّلْوَ فنزل إليهم. وهي قصة مطوَّلة منكرة جدًّا، واللّه أعلم.

وقال الخرائطي

(1)

: حدّثني أبو الحارث محمد بن مصعب الدمشقي وغيره، حدّثنا سليمان بن بنتِ شُرَحبيل الدمشقي

(2)

، حدّثنا عبد القدوس بن الحجَّاج

(3)

، حدّثنا مجالد

(4)

بن سعيد، عن الشعبي، عن رجل

(5)

قال: كنتُ في مجلسِ عمرَ بنِ الخطاب، وعنده جماعةٌ من أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم يتذاكرون فضائلَ القرآن، فقال بعضهم: خواتيم سورةِ النحل؛ وقال بعضهم: سورة يس. وقال علي: فاين أنتم عن فضيلةِ آية الكرسي؟ أما إنها سبعوا

(6)

كلمة في كل كلمة سبعوا

(7)

بركة. قال: وفي القوم عمرو بن مَعْدِي كَرِب لا يُحيرُ جوايًا. فقال: أين أنتم عن بسم اللّه الرحمن الرحيم؟ فقال عمر: حدّثْنا يا أبا ثَوْر.

قال: بينا أنا في الجاهلية إذْ جهدني الجوع، فأقحمتُ فرسي البرِّيَّة فما أصبتُ إلَّا بَيْضَ النَّعام، فبينا أنا أسير إذا أنا بشيخٍ عربيٍّ في خيمة، وإلى جانبه جاريةٌ كأنها شمسٌ طالعة، ومعه غُنيمات له، فقلت له: اسْتأْسِر

(8)

ثَكِلَتْك أُمُّك. فرفع رأسه إليَّ وقال: يا فتى، إنْ أردتَ قِرّى فانزِلْ، وإنْ أردتَ معونةً أعنَّاك. فقلت له: أستأسر. فقال: [من الطويل]

عَرضْنا عَليكَ النزْلَ مِنَّا تكرُّمًا

فلم ترعوي جَهْلًا كفِعلِ الأشائم

(9)

وَجِئتَ ببُهْتانٍ وزُورٍ ودونَ ما

تمنّيتَه بالبيضِ حزَّ الغَلاصِمْ

(10)

قال: ووثب إليَّ وثبةً وهو يقول: بسم الله الرحمن الرحيم. فكأني مَثَلْتُ تحته، ثم قال: أقتُلك أم

(1)

في الهواتف (ص 174) وأخرجه ابن حذلم الدمشقي في حديثه عن شيوخه، وأبو بكر أحمد بن مروان المالكي في كتابه:"المجالسة وجواهر العلم" وابن عساكر في ترجمة عمرو بن معديكرب. انظر شعر عمرو بن معدي كرب (ص 214).

(2)

هو سليمان بن عبد الرحمن بن عيسى بن ميمون المعروف بابن بنت شرحبيل. ترجمته في سير أعلام النبلاء (11/ 136) ومصادر ترجمته فيه يضاف إليها مختصر تاريخ دمشق لابن منظور (10/ 169).

(3)

كذا في ح، ط والهواتف وفي شعر عمرو: محمد بن عبد القدوس. وهو أشبه بالصواب.

(4)

في ح، ط: خالد. تصحيف، والمثبت من الهواتف وشعر عمرو، وتهذيب التهذيب (10/ 39)، وهو ضعيف.

(5)

في شعر عمرو: الشعبي قال: حدثنا مكحول عن رجل. وهو أشبه بالصواب.

(6)

في الهواتف: خمسون.

(7)

سقطت اللفظة من ط، وهي من ح والهواتف.

(8)

"استأسر": أي كن أسيرًا لي. التاج (أسر).

(9)

قوله: ترعوي بإثبات الياء من الضرائر الشعرية، وهو جائز.

(10)

في الهواتف: الحلاقم؛ والغلاصم: جمع غلصمة، وهي رأس الحلقوم، وهو الموضع الناتئ في الحلق.

اللسان (غلصم) وزاد في رواية ابن حذلم:

فبالأحرف اللاتي تمسَّكت حفظها

دُحضت لحاك اللّه عن أنف راغم

ص: 169

أُخَلِّي عنك؟ قلتُ: بل خلِّ عني. قال: فخلَّى عني. ثم إنَّ نفسي جاذبتْني بالمعاودة فقلت: استأسِرْ ثكلَتْك أمُّك. فقال: [من الوافر]

بِبسم الله والرَّحْمنِ فُزْنا

هُنالكَ والرحيمِ به قَهَرْنا

وما تُغْني جَلادَةُ ذي حِفَاظٍ

إذا يَوْمًا

(1)

لمعركةٍ برزنا

ثم وثب إليَّ

(2)

وثبةً كأني مَثَلْتُ تحته، فقال: أقتلُكَ أمْ أُخَلِّي عنك؟ قال: قلت: بل خَلِّ عني. فخلَّى عني، فانطلقتُ غيرَ بعيد، ثم قلتُ في نفسي: يا عمرو أيقهرُك مِثْلُ هذا الشيخ!؟ واللّهِ لَلْمَوْتُ خيرٌ لك من الحياة. فرجعتُ إليه فقلت له: استأسِرْ، ثكلَتْك أمك. فوثب إليَّ وثبةً وهو يقول: بسم اللّه الرحمن الرحيم، فكأني مثلتُ تحتَه، فقال: أقتلُكَ أم أخلِّي عنك؟ قلت.: بل خلِّ عني، فقال: هيهات، يا جاريةُ ائتيني بالمُدْية. فأتَتْه بالمدية، فجزَّ ناصيتي، وكانتِ العرب إذا ظَفِرَتْ برجل فجزتْ ناصيتَه استعبدَتْه، فكنتُ معه أخدُمه مُدَّةً. ثم إنَّهُ قال: يا عمرو، أريد أن تركب معي البرِّيَّة، وليس بي منك وجَل، فإني ببسم الله الرحمن الرحيم لواثق. قال: فسرنا حتى أتينا واديًا أشِبًا نَشِبًا

(3)

مَهُولًا مَغُولًا

(4)

، فنادى بأعلى صوته: بسم اللّه الرحمن الرحيم. فلم يبقَ طَيْرٌ في وَكْرِه إلا طار، ثم أعادَ القول، فلم يبقَ سَبُعٌ في مَرْبِضِه إلا هرب، ثم أعاد الصوت فإذا نحن بحَبَشيٍّ قد خرج علينا من الوادي كالنخلة السَّحُوق، فقال لي: يا عمرو، إذا رأيتَنا قدِ اتَّخَذْنا

(5)

فقل: غلَبَهُ صاحبي ببسم الله الرحمن الرحيم. قال: فلما رأيتُهما قدِ اتَّخذا قلت: غلَبَهُ صاحبي باللاتِ والعُزَّى، فلم يصنعِ الشيخُ شيئًا، فرجع إليَّ وقال: فد علمتُ أنَّكَ قد خالفتَ قولي. قلت: أجل، ولستُ بعائد. فقال: إذا رأيتَنا قدِ اتَّخذنا فقل: غلبه صاحبي ببسم الله الرحمن الرحيم. قلت: أفعل، فلما رأيتهما قد اتخذا، قلت: غلبه

(1)

في ح: قوم، والمثبت من ط.

(2)

في ح، ط: وثب لي، والمثبت من الهواتف.

(3)

سقطت اللفظة من ط، وهي مثبتة في ح والهواتف. والموضع الأشب: كثير الشجر. ونشب: لعل معناه نشبت وعلقت أشجاره والتفت. أو لعله هو من الإتباع اللسان (أشب، نشب).

(4)

"المَهُول": أي فيه هَوْل، وهو المخُوف. المغول: لعل معناه كثير الغيلان جمع غُول، وهي جنس من الشياطين والجن، كانت العرب تزعم أن الغُول في الفلاة تتراءى للناس فتتغوَّل -تتلون- في صور شتى، وتضلهم عن الطريق وتهلكهم. اللسان (هول، غول).

(5)

في ح، ط ومطبوعة الهواتف: اتحدنا. بالحاء والدال المهملتين، والمثبت من أصل الهواتف، وأصل عجيبة بسم الله الرحمن الرحيم من رواية ابن حذلم نسخة الظاهرية، والمنشور في شعر عمرو بن معدي كرب (ص 214) وفيه تابع محققه رواية البداية والنهاية بالإهمال ولا معنى له، إذ جاء في الأساس (أحد): اتحد الرجلان، وبينهما اتحاد، ولا معنى له في هذا السياق. وبالإعجام كما جاء في أصل الهواتف، وأصلِ ابن حذلم هو الصواب، من قولهم: ائتخذ القوم يأتخذون ائتخاذًا: إذا تصارعوا فأخذ كل منهم على مصارعه أخْذةً يعتقله بها، وقد تليَّنُ وتدغم فيقال: اتَّخَذَ.

ص: 170

صاحبي ببسم اللَّه الرحمن الرحيم. قال: فاتكأ عليه الشيخ فبعجَهُ بسيفه، فاشتق

(1)

بطنه، فاستخرج منه شيئًا كهيئةِ القِنْديل الأسود، ثم قال: يا عمرو، هذا غِشُّه وغِلُّه. ثم قال: أتدري مَنْ تلك الجارية؟ قلت: لا. قال: تلك الفارعَةُ بنتُ السُّليل

(2)

الجُرْهُمي، وكان أبوها

(3)

من خيارِ الجِنّ، وهؤلاء أهلُها بنو عمِّها يغزونني منهم كلَّ عامٍ رجلٌ ينصرني الله عليه ببسم اللَّه الرحمن الرحيم. ثم قال: قد رأيتَ ما كان مني إلى الحَبَشىّ، وقد غلب عليَّ الجوعُ، فأْتني بشيء آكلُه، فأقحمتُ فرسي

(4)

البرِّيَّة فما أصبتُ إلا بَيْضَ النَّعَام، فأتيتُه به فوجدْتُه نائمًا، وإذا تحتَ رأسِهِ شيءٌ كهيئة الخشبة، فاستلَلْتُه فإذا هو سيفٌ عَرْضُه شِبْر، في سبعة أشبار، فضربتُ ساقَيْهِ ضربةً أبنْتُ الساقَيْنِ مع القدمَيْن، فاستوى على فَقَارِ ظَهْرِه وهو يقول: قاتلك اللَّه ما أغدَرَكَ يا غدَّار! قال عمر: ثم ماذا صنعت؟ قلتُ: فلم أزلْ أضربُه بسيفي

(5)

حتَّى قطَّعْتُه إرْبًا إرْبًا. قال: فوجَمَ لذلك ثم أنشأ يقول: [من الكامل]

بالغدرِ نلْتَ أخا الإسلام عن كَثَبٍ

ما إنْ سمعتُ كَذَا

(6)

في سالِفِ العَرَب

والعُجْمُ تأنفُ مما جئتَه كَرَمًا

تَبًّا لما جئتَه في السِّيد الأرِب

(7)

إني لأعجبُ أنَّى نِلْتَ قِتْلَتَهُ

أم كيفَ جازاكَ عند الذَّنبِ لم تَتُبِ؟

قَرْمٌ عفا عنك مرَّاتٍ وقد عَلِقت

بالجسمِ منكَ يداهُ مَوْضِعَ العَطَبِ

لو كنتُ آخُذُ في الإسلام ما فعلوا

في الجاهليَّةِ أهلُ الشِّرْكِ والصُلُب

(8)

إذًا لنالتْكَ من عَدْلي مُشَطَّبةٌ

(9)

تدعو

(10)

لذائِقها بالويْلِ والحَرَب

(11)

قال: ثم ما كانَ من حالِ الجارية؟ قلت: ثم إني أتيتُ الجارية، فلمَّا رأتْني فالت: ما فعل الشيخ؟ قلتُ: قتلَهُ الحَبَشِيُّ. فقالت: كذبتَ، بل قتلتَهُ أنتَ بغَدْرِك. ثم أنشأت تقول:[من الخفيف]

(1)

في الهواتف: فانشق.

(2)

في ح: السهيل. وفي الهامش: السليل. وفوقها خ إشارة إلى رواية أخرى، والمثبت من ط والهواتف والضبط منه.

(3)

وكان أبوها ساقط من ط.

(4)

في ح، ط: بفرسي، والمثبت من الهواتف.

(5)

في الهواتف: بسيفه. وهو أشبه بالصواب.

(6)

في هامش أصل الهواتف: بذا. وفوقها خ إشارة إلى رواية في نسخة أخرى. ورواية ابن حذلم في شعر عمرو: بذا أيضًا.

(7)

"الأرِب": الحاذق الكامل، والماهر البصير. التاج والمعجم الوسيط (أرب).

(8)

كذا على لغة من قال: "أكلوني البراغيث" الكتاب (2/ 40) ط هارون (1/ 236 ط بولاق).

(9)

سيف مشطب كمعظم: فيه شطب؛ أي طرائق في متنه. التاج (شطب).

(10)

في ح: تدعا، وفي الهواتف: يدعى.

(11)

"الحَرَب": نهب مال الإنسان وتركه لا شيء له، والهلاك. التاج والمعجم الوسيط (حرب).

ص: 171

عينٌ

(1)

جُودي للفارسِ المِغْوارِ

ثم جُودي بواكفاتٍ غِزارِ

لا تَمَلِّي البكاءَ إذْ خانكِ الدَّهـ

رُ بوافي حقيقةٍ صبَّارِ

وتقيٍّ وذي وَقارٍ وحِلْمٍ وعديلِ

الفَخَارِ يومَ الفَخارِ

لهفَ نفسي على بقائِكَ عمرٌو

أسلمتْكَ الأعمارُ للأقدار

ولعمري لو لم تَرُمْهُ بغَدْرٍ

رُمتَ ليثًا بصارِمٍ بتَّارِ

(2)

قال: فأحفظَني قولُها، فاستللتُ سيفي، ودخلتُ الخيمةَ لأقتُلَها، فلم أرَ في الخيمة أحدًا، فاستقتُ الماشية وجئتُ إلى أهلي.

وهذا أثرٌ عجيب. والظاهر أنَّ الشيخ كان من الجانِّ، وكان ممن أسلم وتعلَّم القرآن. وفيما تعلَّمه: بسم اللَّه الرحمن الرحيم. وكان يتعوَّذُ بها.

وقال الخرائطي

(3)

: حدَّثَنَا عبد اللَّه بن محمد البَلَويّ، حدّثنا عُمارة بن زيد قال: حدّثني عبد اللَّه

(4)

ابن العلاء، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن جدَّته أسماءَ بنتِ أبي بكر قالت: كان زيدُ بن عمرو بن نُفَيل، ووَرَقَةُ بن نَوْفَل يذكرانِ أنَّهما أتيا النجاشيَّ بعد رجوع أبْرَهة من مكة. قالا: فلما دخلنا عليه قال لنا: اصْدُقاني أيها القرشيَّان، هل وُلد فيكم مولودٌ أراَد أبوهُ ذبْحَه، فضُربَ عليه بالقداح فسَلِم، ونُحرت عنه إبلٌ كثيرة؟ قلنا: نعم. قال: فهل لكما علم به ما فَعَل؟ قلنا: تزوَّج امرأةً يقال لها: آمنة بنت وَهْب، تركها حاملًا وخرج. قال: فهل تعلمان ولد أمْ لا؛ قال ورقةُ بن نوفل: أُخبرك أيها الملك أني ليلة قد بتُّ عند وثَنٍ لنا، كنَّا نُطيف به، ونعبده، إذْ سمعتُ من جَوْفه هاتفًا يقول:[من الوافر]

وُلد النبيُّ فذلَّتِ الأملاكُ

ونأى الضَّلالُ وأَدْبَرَ الإشْراكُ

ثمّ انتكس الصنَمُ على وجهه، فقال زيد بن عمرو بن نُفيل: عندي كخبره أيها الملك. قال: هات. قال: إني في مثل هذه الليلة التي ذكر فيها حديثه، خرجتُ من عند أهلي وهم يذكرون حَمْلَ آمنةَ، حتى أتيتُ جبلَ أبي قُبيس أريد الخُلُوَّ فيه لأمرٍ رابني، إذْ رأيتُ رجلًا نزل من السماء، له جناحان أخضران، فوقف على أبي قُبيس، ثم أشرف على مكة فقال: ذَلَّ الشيطانُ وبطَلَتِ الأوثان، ووُلد الأمين. ثم نشر ثوبًا معه، وأهوى به نحو المَشْرِق والمغرب، فرأيتُه قد جلَّلَ ما تحت السماء، وسطع نورٌ كاد أن يختطف بصري، وهالني ما رأيت. وخفق الهاتفُ بجناحَيْه حتَّى سقط على الكعبة؛ فسطع له نورٌ أشرقت له تِهَامة، وقال: ذَكت

(5)

الأرضُ وأدَّتْ ربيعَها. وأومأ إلى الأصنام التي كانت على الكعبة

(1)

في ط: يا عين، وفي الهواتف: عيني، والمثبت من ح.

(2)

في ح: لصارم، وفي ط: كصارم، والمثبت من الهواتف.

(3)

في هواتف الجنان (ص 183)، وإسناده تالف فعمارة بن زيد كذاب (الميزان 3/ 177).

(4)

في أصل الهواتف: عبيد اللَّه، وانظر ص (162) ح 5 وص (167) ح 3.

(5)

في الهواتف: زلت. وهما بمعنى.

ص: 172

فسقطتْ كلُّها. قال النجاشي: ويحكما. أخبركما عمَّا أصابني، إنِّي لنائم في الليلةِ التي ذكرتما في قُبَّة، وقتَ خَلْوتي، إذ خرجَ عليَّ من الأرض عُنق ورأس، وهو يقول: حلَّ الويل بأصحاب الفيل، رمَتْهُم طَيْرٌ أبابيل، بحجارةٍ من سِجِّيل، هلك الأشرمُ المعتدي المجرم، وولد النبيُّ الأمي، المكي الحَرَمي، مَنْ أجابه سَعِد، ومن أباه عند. ثم دخل الأرض فغاب، فذهبتُ أصيح فلم أُطق الكلام، ورُمْتُ القيام، فلم أطقِ القيام، فقرَعتُ القُبَّة بيدي؛ فسمع بذلك أهلي، فجاؤوني، فقلت: احجبُوا عني الحبشة. فحجبوهم عني، ثم أُطلق عن لساني ورجلي

(1)

.

وروى الحافظ أبو القاسم بنُ عساكر في "تاريخه"

(2)

في ترجمة الحارث بن هانئ بن المُدْلِج بن المِقْداد بن زَمْل بن عمرو العُذْري، عن أبيه، عن جدِّه عن أبيه، عن زَمْل بن عمرو العُذْري قال: كان لبني عُذْرَة صنمٌ يقالُ له: حمام، وكانوا يُعَظِّمونه، وكان في بني هند بن حَرَام بن ضِنَّة

(3)

بن عبد بن كبير

(4)

بن عُذْرة، وكان سادِنُه رجلًا يقال له: طارق، وكانوا يَعْترونَ عند

(5)

، فلما ظهر رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم سمعنا صوتًا يقول: يا بني هند بن حَرَام. ظهر الحق وأودى حمام، ودفع الشركَ الإسلام. قال: ففزعنا لذلك وهالَنا، فمكثنا أيامًا، ثمّ سمعنا صوتًا وهو يقول: يا طارق يا طارق، بُعث النبيُّ الصادق، بوَحْيٍ ناطق، صدع صادع بأرض تِهامَة، لناصريه السلامة، ولخاذليه الندامَة، هذا الوداع مني إلى يوم القيامة. قال زَمْل: فوقع الصنم لوجهه. قال زَمْل: فابتعتُ راحلةً ورحلت، حتَّى أتيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم مع نَفَرٍ من قومي وأنشدته شعرًا قلتُه:[من الطويل]

إليكَ رسولَ اللّهِ أعملتُ نَصَّها

وكلَّفتُها حَزْنًا وغَورًا من الرَّمْلِ

(6)

لأنصرَ خيرَ الناسِ نصرًا مؤزَّرًا

وأعقِدَ حَبْلًا من حِبالك في حَبْلي

وأشهَدَ أنَّ اللّهَ لاشيءَ غيرَهُ

أدينُ به ما أثقلتْ قدمي نعلي

(7)

(1)

جاء في ط بعد هذا الخبر ما نصه: وسيأتي إن شاء اللَّه تعالى في قصة المولد رؤيا كسرى في سقوط أربع عشرة شرفة من إيوانه، وخمود نيرانه ورؤيا موبذانه، وتفسير سطيح لذلك على يدي عبد المسيح. ولا وجود لهذا النص في ح، وقد مرت قصة المولد ورؤيا كسرى في هذا الجزء، وهذا يدل على إنزاله في غير موضعه في ط، لذا آثرت إنزاله إلى الحاشية.

(2)

أورد الخبر ابن منظور في مختصر تاريخ ابن عساكر (6/ 168)، وإسناده مجاهيل.

(3)

في ح: صبية، وفي ط: ضبة، وكلاهما تصحيف، والمثبت من الإكمال (5/ 215).

(4)

في ح، ط ومختصر تاريخ ابن عساكر: كثير؛ والمثبت من جمهرة ابن الكلبي (2/ 196) وجمهرة ابن حزم (ص 315) والإكمال (2/ 412 و 5/ 215). وقد ذكر ابن ماكولا وابن حجر من يسمى كبيرًا إلا أنه لم يعدا هذا منهم. الإكمال (7/ 160) والتبصير (3/ 1187).

(5)

"عَتَر الشاة والظبية ونحوهما يعترها": ذبحها، والعتيرة: أول ما يُنتج، كانوا يذبحونها لآلهتهم. اللسان (عتر).

(6)

في ح: وكلفتها خوفًا وفورًا؛ وفي المختصر: أكلفها حزنًا وفورًا؛ والمثبت من ط.

(7)

في ح: ما أثقلت قدمي رجلي. والمثبت من ط والمختصر. والشعر ظاهر الوضع.

ص: 173

قال: فأسلمتُ وبايعتُه. وأخبرناه بما سمعنا فقال: "ذاك من كلامِ الجِنّ". ثم قال: "يا معشر العرب إنِّي رسولُ اللّهِ إليكم وإلى الأنام كافة، أدعوهم إلى عبادةِ اللّهِ وحده، وأني رسولُه وعبدُه، وأنْ يحجُّوا البيت، ويصوموا شهرًا من اثني عشرَ شهرًا، وهو شهرُ رمضان، فمَنْ أجابني فله الجنة نُزُلا، ومن عصاني كانت النار له مُنْقلبا". قال: فأسلَمْنا وعقد لنا لواءً. وكتب لنا كتابًا نسخته: "بسم الله الرحمن الرحيم، من محمدٍ رسولِ اللّهِ لزَمْلِ بن عمرو ومَنْ أسلم معه خاصّة، إني بعثته إلى قومه عامد

(1)

، فمن أسلم ففي حِزْب اللَّه ورسوله. ومن أبى فله أمانٌ شهرين. شهد على بن أبي طالب ومحمد بن مسلمة الأنصاري" ثمّ قال ابنُ عساكر: غريبٌ جدًا. وقال سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي في مغازيه: حدّثني محمد بن سعيد - يعني عمَّه - قال محمد بن المنكدر: إنه ذُكر لي عن ابن عباس قال: هتف هاتفٌ من الجِنّ على أبي قُبيس فقال: [من الخفيف]

قبَّحَ اللهُ رأيَكُمْ آلَ فِهْرٍ

ما أدقَّ العقول والأفهام

(2)

حِينَ تُغْضي لِمَنْ يعيبُ عَلَيها

دينَ آبائِها الحماةِ الكرامِ

حالفَ الجنُّ جِنُّ بُصرى عليكم

ورجالُ النّخيلِ والآطامِ

توشِكُ الخيلُ أن تَرَوْها نهارًا

تقتلُ القومَ في حرام تَهَام

(3)

هَلْ كريمٌ مِنْكُم لَهُ نفسُ حِرٍّ

مَاجِدِ الوالدَيْن والأعمام

(4)

ضَارِبٌ ضربَةً تكونُ نكالًا

ورواحًا من كُربةٍ واغتمامِ

قال ابنُ عباس: فأصبح هذا الشعر حديثًا لأهل مكة يتناشدونه بينهم. فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "هذا شيطانٌ يكلِّمُ الناسَ في الأوثان يقالُ له: مِسْعَر، واللّهُ مُخْزِيه" فمكثوا ثلاثةَ أيَّام، فإذا هاتفٌ يهتفُ على الجبل يقول:[من الرجز]

نحنُ قتلْنا في ثلاثٍ مِسْعرا

إذْ سفَّهَ الجنَّ وسنَّ المُنْكرا

قنَّعتُه سيفًا حُسامًا مُشْهَرا

بشتمِهِ نبيَّنا المُطَهَّرا

فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "هذا عِفْريتٌ من الجِنّ، اسمه سمج، آمَنَ بي سمَّيتهُ عبد اللَّه، أخبرني أنه

(1)

كذا في ح، ط وفي مختصر ابن منظور: عامة، وهو أشبه بالصواب.

(2)

كذا في ح، ط: ولعل الصواب: يا أدقَّ

جاء في الأساس (دقق): ويقال للذين يمنعون الخير ويشحون: لقد أدقت بكم أخلاقكم، من أدق الرجل إذا اتبع الدقيق من الأمور.

(3)

في ح: مصل

بهام، وما أثبته أشبه بالصواب فـ بهام لا معنى لها في البيت، وتهام نسبة إلى تهامة، اسم مكة، على غير قياس، اللسان (تهم). ورواية ط: أن تردها تهادى.

(4)

كذا في ح، ط، ورواية الشطر الثاني في ح: ماجد الجدَّين.

ص: 174

في طلبه ثلاثةَ أيام". فقال عليّ: جزاهُ اللَّه خيرًا يا رسول اللَّه.

وقد روى الحافظُ أبو نُعيم في "الدلائل"

(1)

قال: حدّثنا عبد اللَّه بن محمد بن جعفر، حدّثنا أبو الفضل محمد بن عبد الرحمن بن موسى بن أبي حرب الصفَّار، حدّثنا عباس بن الفرج الرِّياشيّ، حدّثنا سليمان بن عبد العزيز بن أبي ثابت عن أبيه، عن عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حَوْشب عن ابن عباس، عن سعد بن عُبادَة قال: بعثني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم -إلى حَضْرَمَوت في حاجةٍ قبل الهجرة، حتَّى إذا كنتُ في بعض الطريق ساعةً من الليل، فسمعت هاتفًا يقول:[من الوافر]

أبا عَمرٍو تأوَّبَني

(2)

السُّهودُ

وراحَ النومُ وامتنعَ الهُجُودُ

لِذكْرِ عِصابةٍ سلفوا وبادُوا

وكلُّ الخَلْقِ قَصْرُهُمُ يَبِيدُ

تولَّوْا واردينَ إلى المنايا

حِياضًا ليس مَنْهَلُها الورودُ

مضَوْا لِسبيلهمْ وبَقِيتُ خَلْفًا

وَحيدًا ليسَ يُسعِفُني وحيدُ

سُدًى لا أستطيعُ عِلاجَ أمرٍ

إذا ما عالَجَ الطفلُ الوليدُ

فَلأْيًا ما بَقِيتُ إلى أناسٍ

وقدْ باتَتْ بمَهْلِكها ثَمُودُ

وعادٌ والقرونُ بذي شَعُوبٍ

سواءٌ كلُّهم أرِمٌ حَصِيد

(3)

قال: ثم صاح به آخر: يا خرعب، ذهب بك العجب

(4)

، إن العجب كل

(5)

العجب بين زهرة ويثرب. قال: وما ذاك يا شاصب

(6)

؟ قال نبيُّ السلام، بُعث بخير الكلام، إلى جميع الأنام، فأخرج من البلد الحرام إلى نَخيل وآطام. قال: ما هذا النبيُّ المرسل، والكتابُ المنزل، والأمِّيُ المفضَّل؟ قال: رجلٌ من ولد لُؤَيِّ بنِ غالب بن فِهْرِ بن مالك بن النَّضْرِ بن كِنَانة. قال: هيهات، فات عن هذا سِنِّي، وذهب عنه زَمَني، لقد رأيْتُني والنضرَ بنَ كنانةَ نرمي غَرضًا واحدًا، ونشربُ حَلبًا باردًا، ولقد خرجتُ به من دُومه

(7)

، في غداة شبمة، وطلع مع الشمس وغرب معها، يروي ما يسمع ويُثبت ما يُبصر. ولئن كان هذا من ولده لقد سُلَّ السيف، وذهب الخوف، ودُحِضَ الزِّنا، وهَلَك الرِّبا. قال:

(1)

الخبر في دلائل (1/ 113) برقم (118)، وإسناده ضعيف لضعف شهر بن حوشب.

(2)

في ح، ط: ناوَبَني، ولا يستقيم به الوزن: وفي طبعة مصطفى عبد الواحد: تناوبني، والمثبت من الدلائل، ومعناه: راجعني.

(3)

"شعوب": اسم المنيَّة، سميت به لأنها تفرِّق. التاج (شعب) وأرم الشيء أرمًا فهو أرِم: إذا فني وبلي. اللسان والوسيط (أرم).

(4)

في: اللعب.

(5)

سقطت اللفظة من ح.

(6)

في ط: شاحب، والمثبت من ح والدلائل.

(7)

في ط: دوحة.

ص: 175

فأخبرني ما يكون؟ قال ذهبتِ الضرَّاء والبؤس والمجاعة

(1)

، والشدة والشجاعة، إلا بقيَّةً في خُزاعة. وذهبتِ الضرَّاءُ والبُوس، والخلُق المَنْقُوس

(2)

إلا بقية من الخَزْرَج والأوْس، وذهبتِ الخُيَلاءُ والفَخْر

(3)

، والنميمة والغَدْر، إلا بقيةً في بني بكر - يعني ابن هوازن - وذهب الفعل المُنْدِم، والعمل المُؤْثم، إلا بقيةً في خَثْعَم. قال: أخبرني ما يكون؟ قال: إذا غُلبتِ التَّرَّة

(4)

، وكُظِمتِ الجِرَّة

(5)

، فاخْرُجْ من بلاد الهِجْرَة، وإذا كُفَّ السلام، وقُطعتِ الأرحام، فاخرُجْ من البلد الحرام. قال: أخبرني ما يكون؟ قال: لولا أُذُنٌ تسمع، وعينٌ تلمع لأخبرتُكَ بما تفزَع. ثم قال:[من الخفيف]

لا منامٌ هَدَّأتَه بنعيمٍ

يا ابنَ غوطٍ ولا صباحٌ أتانا

(6)

قال: ثم صرصر

(7)

صرصرةً كأنها صرصرةُ حُبْلى، فذهب الفجر، فذهبتُ لأنظر، فإذا عَظَايَةٌ وثعبان ميتان.

قال: فما علمتُ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم هاجر إلى المدينة إلا بهذا الحديث.

ثمّ رواه عن محمد بن جعفر، عن إبراهيم بن علي، عن النضر بن سلمة، عن حسان بن عبادة بن موسى، عن عبد الحميد بن بَهْرَام، عن شَهْر، عن ابن عباس، عن سعد بن عُبَادة قال: لما بايعنا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ليلةَ العَقَبة خرجتُ إلى حَضْرَموت لبعض الحاج، قال: فقضَيْتُ حاجتي ثم أقبلتُ حتَّى إذا كنتُ ببعض الطريق نمت، ففزِعْتُ من الليل بصائح يقول:[من الوافر]

أبا عمرٍو تأوَّبَني

(8)

السُّهُودُ

وراحَ النومُ وانقطعَ الهجودُ

وذكر مثله بطوله.

وقال أبو نعيم: حدّثنا عمر

(9)

بن محمد بن جعفر، حدّثنا إبراهيم بن علي، حدّثنا النَّضْر بن سلمة،

(1)

في ح: المخادعة.

(2)

"المنقوس": من قولهم: نقس بين القوم: أفسد، ورجل نقس: يعيب الناس ويلقبهم. التاج (نقس)، وفي ط: المنفوس بالفاء.

(3)

في: الفقر.

(4)

في ط: البرة، والمثبت من ح والتُّرَّة، بضم التاء: ضبط القاموس، وفي اللسان بفتحها، وهي الجارية الرعناء الحسناء. التاج (ترر).

(5)

يقال: كظم فلان على جِرَّته: إذا لم يسكت على ما في جوفه حتَّى تكلم به. الأساس (كظم).

(6)

رواية العجز في ح:

عوط

أمانا.

(7)

سقطت اللفظة من ح.

(8)

انظر الصفحة السابقة، حاشية 2.

(9)

سقط عمر بن. من ط، وهو في ح برسم: محصر بن، وما أثبتُّه من دلائل أبي نعيم، حيث ورد هذا الإسناد في الصفحات (91 و 121 و 170 و 171) من الجزء الأول من الدلائل وترجمته في ذكر أخبار أصبهان (1/ 358) وسند الخبر الذي سيأتي بعد التالي، وقد أورده ابن عساكر، مختصر تاريخ دمشق لابن منظور (5/ 318، 319).

ص: 176

حدّثنا أبو غزيَّةً

(1)

محمد بن موسى، عن العطَّاف بن خالد الوابصيّ

(2)

، عن خالد بن سعيد، عن أبيه قال: سمعتُ تميمًا الداريَّ يقول: كنتُ بالشام حين بُعث النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، فخرجتُ لبعضِ حاجتي، فأدركني الليل، فقلت: أنا في جِوارِ عظيم هذا الوادي الليلة. قال: فلما أخذتُ مضجعي إذا أنا بمنادٍ يُنادي - لا أراه - عُذْ باللّه، فإنَّ الجنَّ لا تُجيرُ أحدًا على اللَّه. فقلت: أيم اللَّه تقول

(3)

؟ فقال: قد خرج رسولُ الأمِّيِّين رسولُ اللَّه، وصلَّينا خلفه بالحَجُون، فأسلمنا واتَّبَعْناه، وذهب كَيْدُ الجِنّ، ورُميَتْ بالشُّهب، فانطلِقْ إلى محمد رسولِ ربِّ العالمين فأسلِم. قال تميم: فلما أصبحتُ ذهبتُ إلى دير أيُّوب، فسألتُ راهبًا وأخبرتُه الخبر، فقال الراهب: قد صدَقُوكَ، يخرجُ من الحرم ومهاجَرُهُ الحرم، وهو خيرُ الأنبياء فلا تُسْبَق إليه. قال تميم: فتكلَّفْتُ الشخوصَ حتَّى جئتُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم فأسلمت.

وقال حاتم بن إسماعيل، عن عبد الله بن يزيد الهُذَلي، عن عبد اللَّه بن ساعدة الهُذَلي، عن أبيه، قال: كُنَّا عند صنَمِنا سُوَاع، وقد جلَبْنا إليه غنمًا لنا مئتي شاة، قد أصابها جَرَب، فأدْنَيْتُها منه لِتَطَلُّبِ بركتِه، فسمعتُ مناديًا من جَوْف الصَّنَم يُنادي: قد ذهب كَيْدُ الجِنّ، ورُمينا بالشُّهب، لنبيٍّ اسمُهُ أحمد. قال: فقلت: غَوَيْتُ واللّه، فصرَفْتُ وَجْهَ غنَمي مُنْجِدًا إلى أهلي

(4)

، فخبَّرَني بظهورِ النبيّ صلى الله عليه وسلم.

ذكرَهُ أبو نُعيم هكذا معلَّقًا

(5)

، ثم قال

(6)

:

حدّثنا عمر بن محمد بن جعفر، حدّثنا إبراهيم بن السِّنْديّ، حدّثنا النَّضْر بن سلَمة، حدّثنا محمد بن سلمة

(7)

المَخْزومي، حدّثنا يحيى بن سليمان، عن حكيم بن عطاء الظفري

(8)

- من بني سُليم من ولد راشد بن عبد ربِّه - عن أبيه، عن جدِّه، عن راشد بن عبد رَبِّهِ قال: كان الصَّنَمُ الذي يُقال له: سُوَاع بالمَعْلاة من رُهاط

(9)

، تَدينُ له هُذَيل وبنو ظفر بن سُليم، فأرسلَتْ بنو ظَفَر راشدَ بن عبد ربِّهِ بهديَّةٍ من

(1)

سقطت اللفظة من ح.

(2)

في ط: الوصابي. تصحيف، والمثبت من تهذيب الكمال للمزي (20/ 138) وتهذيب التهذيب لابن حجر، نسبه إلى وابصة بن خالد بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي، أحد أجداده.

(3)

في تاريخ ابن عساكر: أيم تقول. وهو بمعنى: أي شيء تقول؛ انظر مختصر تاريخ دمشق والتاج (أيم).

(4)

في ح: أهله. والمثبت من ط، وفي الإصابة: منحدرًا.

(5)

ليس الخبر في دلائل أبي نعيم المطبوع، وقد أورده ابن حجر في الإصابة في ترجمة ساعدة، وذكر لرواية أبي نعيم له في الدلائل، وقال: وإسناده ضعيف.

(6)

يعني أبا نعيم في الدلائل (1/ 150)، وإسناده فيه مجاهيل.

(7)

في ط: مسلمة، تصحيف، والمثبت من ح والدلائل والجرح والتعديل (7/ 276).

(8)

في دلائل أبي نعيم: الصقري، وفي الإصابة: السلمي. ولم أقف على ترجمة له فيما لدي من المصادر، والمثبت هنا من الإصابة، وهو أشبه بالصواب، لأنه من بني ظفر بن سليم كما سيأتي.

(9)

"المعلاة": بالفتح ثم السكون: موضع بين مكة وبدر. ورُهاط: بضم أوله: موضع على ثلاثة ليال من مكة، وقال قوم: وادي رهاط في بلاد هذيل. وكان أول من اتخذ سواعًا من ولد إسماعيل حين فارقوا دين إسماعيل هذيل بن مدركة. معجم البلدان (3/ 107 و 276، و 5/ 158) والأصنام (ص 9، 10).

ص: 177

سليم إلى سُوَاع، قال راشد: فأُلْقيتُ مع الفَجْرِ إلى صنم قِبَلَ صنمِ سُواع، فإذا صارخٌ يصرخ من جَوْفِه: العجَب كلَّ العَجَب، من خروج نبيٍّ من بني عبد المطلب، يُحزَّم الزِّنا والرِّبا والذَّبْحَ للأصنام، وحُرستِ السماء، ورُمينا بالشُهُب، العجَب كلَّ العجَب. ثم هتف صنمٌ آخَرُ من جوفه: تُرك الضِّمَار

(1)

وكان يُعبد، خرج النبيُّ أحمد، يُصَلِّي الصلاة، ويأمرُ بالزكاةِ والصِّيام، والبِر والصِّلاتِ للأرحام. ثم هتف من جوفِ صنمٍ آخَرَ هاتفٌ يقول:[من الكامل]

إنَّ الذي ورثَ النبوَّةَ والهُدَى

بَعْدَ ابنِ مَرْيَمَ من قريشٍ مهتدِ

نبيٌّ أتى يُخبِرُ بما قد سبق

وبما يكونُ اليومَ حقًّا أو غد

(2)

قال راشد: فألفَيْتُ سُواعًا مع الفجر وثَعْلَبانِ يلحسانِ ما حولَه، ويأكلان ما يُهدى له، ثم يَعُوجانِ عليه بِبَوْلهما، فعند ذلك يقولُ راشدُ بن عبدِ ربِّه

(3)

: [من الطويل]

أربٌّ يَبُولُ الثُّعْلُبانُ برأسِه

لقد ذلَّ مَنْ بالَتْ عليه الثعالبُ

وذلك عند مَخْرَج النبي صلى الله عليه وسلم ومهاجَرِه إلى المدينة، وتسامع الناسُ به، فخرج راشدٌ حتَّى أتى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم المدينةَ ومعه كلبٌ له، واسم راشدٍ يومئذٍ ظالم، واسْمُ كلبِهِ راشد، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم:"ما اسمك؟ " قال: ظالم. قال: "ما اسْمُ كَلْبِك؟ " قال: راشد. قال"اسمك راشِد، واسم كلبك ظالم" وضحِك النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وبايعَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وأقامَ بمكة معه، ثم طلبَ من رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم قَطِيعة برُهاط - ووصفَها له - فأقطعَهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالمَعْلاة من رُهَاط، شَأْوَ الفَرَس

(4)

، ورَمْيَتَهُ ثلاثَ مرَّاتٍ بحَجَر، وأعطاهُ إدَاودة

(5)

مملوءةً من ماءً، وتفَلَ فيها وقال له:"فرِّغْها في أعلى القَطيعة ولا تمنع الناسَ فُضُولَها" ففعل، فجعلَ الماءُ معينًا يجرى

(6)

إلى اليوم، فغرس عليها النخل.

(1)

"الضمار": صنم كان في ديار سليم بالحجاز معجم البلدان (3/ 462) وفي التاج (ضمر): ضِمار صنم عبده العباس بن مرداس السلمي ورهطه.

(2)

كذا في ح، ط: والبيت مضطرب الوزن في صدره، وصواب قافيته غدا، ونثر نثرًا في دلائل أبي نعيم، وروايته: نبي يخبر بما سبق وبما يكون في غد. وسقطت: قد من ط، وفي خبر عباس بن مرداس في السيرة الحلبية (1/ 234) سبق البيت الأول بيتان وهما:

قل للقبائل من قريش كلِّها

هلك الضمار وفاز أهل المسجد

هلك الضمار وكان يعبد مدَّة

قبل الصلاة على النبي محمد

(3)

البيت ينسب لعباس بن مرداس وهو في ديوانه، وينسب أيضًا لغاوي بن ظالم السلمي وأبي ذر الغفاري. اللسان (ثعلب). والثعلبان: ذكر الثعالب، والثعلب يطلق على الذكر والأنثى.

(4)

"شأو الفر": شوطها ومداها. اللسان (شأو).

(5)

"الإداوة": إناء صغير يُحمل فيه الماء. (المعجم الوسيط).

(6)

كذا في ط، وفي ح: محمر. وعلَّق الناسخ على الهامش ما نصه: لعله يجري، وفي دلائل أبي نعيم: مجمة، وأظن الصواب فيه: يجمُّ؛ بمعنى يكثر. واللّه أعلم. اللسان (جمم).

ص: 178

ويقال: إنَّ رُهَاط كلَّهَا تشربُ منه، فسمَّاها الناسُ ماء الرسولِ صلى الله عليه وسلم؛ وأهلُ رُهاط يغتسلون بها. وبلغَتْ رَمْيَةُ راشدٍ الرَّكيب، الذي يقال له: رَكيب الحَجَر

(1)

وغدا راشدٌ على سُوَاعٍ فكسره.

وقال أبو نعيم

(2)

: حدثنا سليمان بن أحمد، حدّثنا علي بن إبراهيم الخُزاعيُّ الأهوازيّ، حدثنا أبو محمد عبدُ اللَّه بن داود بن دِلْهاث بن إسماعيل بن مُسْرع

(3)

بن ياسر بن سويد صاحبِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم حدّثنا أبي عن أبيه دِلْهاث، عن أبيه إسماعيل، أن أباه عبد الله حدثه عن أبيه مسرع بن ياسر أنَّ أباه ياسرًا حدَّثه عن عمرو بن مُرَّة الجُهني أنه كان يحدَّث قال: خرجتُ حاجًّا في جماعةٍ من قومي في الجاهلية، فرأيتُ في المنام وأنا بمكة نورًا ساطعًا من الكعبة، حتَّى أضاء في جبلِ يثربَ وأشْعر جُهينة

(4)

، فسمعتُ صوتًا في النور وهو يقول: انقشعتِ الظلماء، وسطَعَ الضياء، وبُعث خاتمُ الأنبياء، ثم أضاء إضاءةً أخرى حتى نظرتُ إلى قصورِ الحيرة وأبيضِ المدائن

(5)

، فسمعتُ صوتًا في النُّور وهو يقول: ظهر الإسلام، وكُسرتِ الأصنام، ووُصلتِ الأرحام. فانتبهتُ فزِعًا! فقلت لقومي: واللّه ليحدثَنَّ في هذا الحيِّ من قريش حدَث، وأخبرتُهم بما رأيت؛ فلما انتهينا إلى بلادِنا جاءنا رجلٌ فأخبرنا أنَّ رجلًا يقالُ له: أحمد قد بُعث، فأتيتُه فأخبرتُه بما رأيت، فقال:"يا عمرو بن مُرَّة إني المُرْسَل إلى العبادِ كافَّةً، أدعوهم إلى الإسلام، وآمُرُهمْ بحَقْن الدِّماء، وصِلَة الأرحام، وعبادةِ اللَّه، ورَفْضِ الأصنام، وحجِّ البيت، وصيام شهر رمضان، شهر من اثني عشرَ شهرًا، فمَنْ أجاب فله الجنَّة، ومن عصَى فله النار؛ فآمِن يا عمرو بنَ مُرَّة يُؤَمّنْكَ اللّهُ من نار جهنَّم". فقلت: أشهدُ أنْ لا إله إلا اللَّه، وأنك رسول الله. آمنتُ بكلِّ ما جئتَ به من حلالٍ وحرام، وإنْ أرْغَمَ ذلك كثيرًا من الأقوام؛ ثم أنشدتُه أبياتًا قلتُها حين سمعتُ به وكان لنا صنم، وكان أبي سادِنًا له، فقمتُ إليه فكسرته، ثم لحِقْتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وأنا أقول:[من الطويل]

شهدتُ بأنَّ اللّهَ حقُّ وأنني

لآلِهةِ الأحجارِ أولُ تارِكِ

(1)

"الركيب": المَشَارة بالفتح: الساقية أو الجدول بين الدبرتين، أو هي ما بين الحائطين من النخيل والكرم، وقيل هي ما بين النهرين من الكرم؛ أو المزرعة. التاج (ركب).

(2)

إسناد الخبر في الدلائل (1/ 121) مختلف عما هنا، وهو في مجمع الزوائد عن الطبراني (8/ 244) والوفا (1/ 81).

(3)

في ح: سرع، تصحيف، والمثبت من ط والإصابة في ترجمته في القسم الثاني منه، ولسان الميزان (6/ 20) وقال عنه: مجهول. ويبدو أنه سقط اسم عبد اللَّه بن أبي إسماعيل وابن مسرع كما سيأتي في إسناده. والإسناد للطبراني في معجمه الكبير (22/ 277) إلا أنني لم أقع على الخبر فيما طبع منه، وكذلك هو في المعجم الأوسط (4220)، وهو إسناد من المجاهيل.

(4)

مضى تعريف الأشعر في ص (127) ح (3).

(5)

مضى تعريف أبيض المدائن في ص (127) ح (4).

ص: 179

فشمَّرْتُ عن ساقي إزارًا مُهاجِرًا

إليكَ أدِبُّ الغَوْرَ بعدَ الدَّكَادِكِ

(1)

لأصحبَ خيرَ الناسَ نفسًا ووالدًا

رسولَ مليكِ الناسِ فوقَ الحَبَائك

(2)

فقال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "مرحبًا بك يا عَمْرَو بن مُرّة"

(3)

. فقلت: يا رسولَ الله، بأبي أنت وأمي ابعثْ بي إلى

(4)

قومي لعلَّ اللّهَ أنْ يَمُنَّ بي عليهم كما مَنَّ بكَ علىّ. فبعثني إليهم وقال: "عليك بالقولِ السَّدِيد، ولا تكنَّ فَظًّا ولا متكبِّرًا ولا حَسُودًا "فأتيتُ قومي فقلت لهم: يا بني رِفاعة، ثم يا بني جُهَينة، إني رسولٌ من رسولِ اللَّه إليكم، أدعوكم إلى الجنَّة، وأُحَذِّركمُ النَّار، وآمرُكُمْ بحَقْنِ الدَّمَاء، وصلةِ الأرحام، وعبادةِ اللَّه، ورفض الأصنام، وحجِّ البيت، وصيام شهر رمضان، شهرٌ من اثنيْ عشرَ شهرًا؛ فمن أجابَ فله الجنَّة، ومن عَصَى فله النار؛ يا معشرَ جُهينة، إِنَّ اللَّه - وله الحمد - جعلكم خيارَ مَنْ أنتم منه، وبغَضَ إليكم في جاهليَّتِكم ما حُبِّبَ إلى غيركم من الرَّفث - لأنهم كانوا يجمعونَ بين الأُخْتَين، ويَخْلُفُ الرجلُ على امرأةِ أبيه - والتِّراتِ

(5)

في الشهر الحرام؛ فأجيبوا هذا النَّبِيَّ المرسل صلى الله عليه وسلم من بني لُؤَيِّ بن غالب، تنالوا شرفَ الدنيا وكرامةَ الآخرة، سارعوا وسارعوا في ذلك، تكنْ في ذلك لكم فضيلةٌ عند اللَّه. فأجابوا إلا رجلًا منهم قام فقال: يا عمرَو بن مُرَّة، أمَرَّ اللّهُ عليك عَيْشَك! أتأمرُنا أنْ نرفُضَ آلهتنا، ونُفَرِّقَ جماعتنا بمخالفةِ دينِ آبائنا إلى ما يدعُو هذا القرشيُّ من أهل تهامة؟ لا، ولا مَرْحبًا ولا كرامة، ثم أنشأ يقول:[من الكامل]

إنَّ ابنَ مُرَّة قد أتى بمقالةٍ

ليستْ مقالةَ من يُريدُ صَلاحا

إني لأحسِبُ قولَهُ وفعالَهُ

يومًا وإنْ طالَ الزمانُ رياحا

أتسفِّهُ الأشياخَ ممَّنْ قدْ مَضَى

مَن رامَ ذلكَ لا أصابَ فَلاحا

فقال عمرو بن مرة: الكاذب مني ومنك أمَرَّ اللَّه عيشه، وأبْكَمَ لسانه، وأكْمَهَ بصرَه. قال عمرو بن مُرَّة: واللّهِ ما مات حتَّى سقط فُوه، وكان لا يجدُ طعمَ الطعام، وعمِيَ وخرِس.

وخرج عمرو بن مُرَّة ومَنْ أسلمَ من قومه حتَّى أتَوا النبي صلى الله عليه وسلم، فرحَّبَ بهم وحيَّاهم

(6)

، وكتب لهم كتابًا هذة

(7)

نسخته: "بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتابٌ من اللّهِ على لسانِ رسولِ اللهِ، بكتابٍ

(1)

مضى التعليق على ذلك في ص (128) ح (2).

(2)

مضى التعليق على ذلك في ص (128) ح (3).

(3)

سقط: بن مرة من ح.

(4)

في ح: على.

(5)

يعني: وبغض إليكم الترات، وهي جمع تِرَة، وهي الذَّحْل، من قولهم: وترْتَهُ؛ أي أدركته بمكروه، والموتور الذي قتل له قتيل فلم يدرك بدمه. اللسان (وتر).

(6)

في ط: وحباهم.

(7)

في ح: هذا.

ص: 180

صادق، وحقٍّ ناطق، مع عمرو بن مُرَّة الجُهَنيِّ لجُهينة بن زيد، إنَّ لكم بُطُونَ الأرض وسُهولَها، وتِلاع الأوديةِ وظهورَها، ترعَوْن نباتَه، وتشربونَ صافيه، على أنْ تُقِرُّوا بالخُمس، وتصلُّوا الصلواتِ الخَمْس، وفي التِّيعَةِ والصُّريمة شاتان

(1)

إنِ اجتمعتا، وإنْ تفزَّقَتا

(2)

فشاةٌ شاة. ليس على أهل المُثيرة

(3)

صدَقة، ليس الوردة اللبقة". وشهد من حضرَنا من المسلمين بكتابِ قيس بن شماس رضي الله عنهم. وذلك حين يقول عمرو بن مرة:[من الطويل]

ألم ترَ أنّ اللّهَ أظهرَ دِينَهُ

وبَيَّنَ بُرْهانَ القُرانِ لعامرِ

كتابٌ منَ الرحمنِ نورٌ لجَمْعِنا

وأحْلافِنا في كُلِّ بادٍ وحَاضرِ

إلى خيرِ من يَمْشي على الأرض كلِّها

وأفضلِها عند اعْتكارِ الضَّرَائر

(4)

أطعنا رسولَ اللّهِ لمَّا تقطَّعَتْ

بطونُ الأعادي بالظُّبَى والخَواطِر

(5)

فنحنُ قبيلٌ قد بُني المجدُ حولَنا

إذا اجتُلبت في الحرب هامُ الأكابرِ

بنو الحَرْبِ نَقْرِيها بأيدٍ طويلة

وبيضٍ تلالا في أكُفِّ المغاوِرِ

ترى حوله الأنصارَ تحمي أميرَهم

(6)

بِسُمر العوالي والصِّفَاح البواتِر

إذا الحربُ دارت عند كلِّ عظيمةٍ .... ودارت رحاها باللُّيُوثِ الهواصِرِ

تبلَّجَ منهُ اللَّونُ وازداد وجهه

كَمِثلِ ضياء البدْرِ بينَ الزواهرِ

وقال أبو عثمان سعيد بن يحيى الأموي في مغازيه: حدّثنا عبد اللَّه، حدّثنا أبو عبد اللَّه، حدّثنا المُجَالد بن سعيد والأجْلَح عن الشعبي، حدثني شيخٌ من جُهينةَ قال: مرض رجلٌ منا مرضًا شديدًا فثَقُلَ، حتى حفرنا له قبرَه، وهيأنا أمْرَه، فأُغمي عليه ثم فتح عينيه، وأفاق فقال: أحفرتُمْ لي؟ قالوا: نعم. قال: فما فعل القُصَل

(7)

- وهو ابنُ عمٍّ له - قلنا: صالح، مرَّ آنفًا يسألُ عنك. قال: أما إنَّه يُوشك أنْ يُجعل في حفرتي، إنه أتاني آتٍ حين أُغمي عليَّ فقال: ابكِ هُبَل، أما ترى حُفْرَتَك

(1)

مضى التعليق على ذلك في ص (128) ح (6 و 7).

(2)

في ح: إن اجتمعا، وإن تفرقا، والمثبت من النهاية وط.

(3)

في ح، ط: الميرة. والمثبت مما سبق ص (128) ح (8).

(4)

"الاعتكار": الازدحام والكثرة، وهي هنا بمعنى الاختلاط، والضرائر: الأمور المختلفة، كضرائر النساء لا يتفقن. قال ابن الأثير (3/ 284): ويروى باللام. النهاية (عكر، ضرر).

(5)

"الظبى": جمع ظبة، وهي حد السيف. والخواطر: جمع خاطر وهو المتبختر، من الخطران عند الصولة والنشاط، وهو التصاول والوعيد. انظر اللسان (خطر، ظبي). ولفظ ح: الضبار الخواطر.

(6)

في الوفا: يحمون سربه.

(7)

الضبط من تبصير المنتبه (3/ 1080).

ص: 181

تنْتَثَل

(1)

، وأمُّك قد كادت تَثْكَل؟ أرأيتَكَ إن حوَّلْناها عنك بالمِحْوَل، ثم ملأناها بالجَنْدَل، وقذفنا فيها القُصَل، الذي مَضَى فأجزأك، وظنَّ أنْ لن يفعل؟ أتشكرُ لرَبِّكَ وتُصَلّ، وتدَعُ دينَ مَنْ أشرك وضَلّ؟ قال: قلت: نعم. قال: قُمْ، قد برئت. قال: فبرئ الرجل. ومات القُصَل فجُعل في حُفْرته.

قال الجُهَنيُّ: فرأيتُ الجُهنيَّ بعد ذلك يصلَّي ويسبُّ الأوثانَ ويقَعُ فيها

(2)

.

وقال الأموي: حدّثنا عبد اللَّه قال: بينما عمر بن الخطاب رضي الله عنه في مجلس يتحدَّثون عن الجن، فقال خُريم بن فاتك الأسدي: ألا أحدِّثك كيف كان إسلامي؟ قال: بلى. قال: إني يومًا في طلب ذَوْدٍ لي، أنا منها على أَثَر، تنصَبُّ وتصعد

(3)

، حتى إذا كنت بأبْرَقِ العَزَّاف

(4)

، أنختُ راحلتي وقلت: أعوذُ بعظيم هذه البلدة، أعوذ برئيس هذا الوادي، فإذا بهاثف يهتف بي:[من الرجز]

ويحكَ، عُذْ باللهِ ذي الجلالِ

والمجدِ والعلياءَ والإفضالِ

ثم اتلُ آياتٍ من الأنفال

ووحِّدِ اللهَ ولا تبالي

قال: فذُعرت ذُعْرًا شديدًا، ثمَّ رجعتُ إلى نفسي فقلت:[من الرجز]

يا أيُّها الهاتفُ ما تقولُ؟

أرَشَدٌ عندكَ أمْ تَضْليلُ؟

بيِّنْ هداك اللهُ ما الحَوِيلْ

(5)

قال: فقال: [من الرجز]

هذا رسولُ اللَّه ذو الخيراتِ

بِيَثْربٍ يَدْعُو إلى النَجاةِ

يأمر بالبرِّ وبالصَّلاةِ

ويَرْدَعُ الناسَ عن الهَنَاتِ

(6)

قال: قلت له: والله لا أبرَحُ حتَّى اَتيَة وأؤمنَ به، فنصبتُ رِجْلي في غَرْز

(7)

راحلتي وقلت: [من الرجز]

أرشِدْني أرشِدْني هُديتا

(8)

لا جُعتَ ما عشتَ ولا عَرِيتا

(1)

يقال: نثلوا حفرة فلان وانتثلوها: أي حفروا قبره. الأساس واللسان (نثل).

(2)

إسناده ضعيف لجهالة من روى عنه الشعبي.

(3)

"تنصبّ": تنحدر. انظر اللسان (صبب).

(4)

في ح، ط: العراق. وهو تصحيف، والمثبت من تاريخ ابن عساكر ومعجم البلدان (1/ 68) وفيه: أبرق العزاف: ماء لبني أسد بن خزيمة، وهو في طريق القاصد إلى المدينة من البصرة، يجاء من حومانة الدراج إليه. قالوا: وإنما سمي العزاف، لأنهم يسمعون عزيف الجن.

(5)

"ما الحويل": ما الحيلة؟ والحويل: الحذق وجودة النظر، والقدرة على دقة التصرف. اللسان (حول).

(6)

في ط: ويزع، وكلاهما بمعنى، وهو الزجر والنهي والكف.

(7)

"الغرز": ركاب الرَّحْل، من جلد مخروز، يعتمد عليه في الركوب. المعجم الوسيط (غرز).

(8)

كذا في ح، ط، والبيت مضطرب الوزن، ورواية أبي نعيم في الدلائل أشبه بالصواب وهي: أرشدني رُشْدًا بها هُديتا.

ص: 182

ولا برحتَ سيِّدًا مُقِيتا

لا تُؤثَرِ الخيرَ الذي أُتيتا

على جميعِ الجِنِّ ما بَقِيتا

فقال: [من الرجز]

صاحبَكَ اللّهُ وأذَى رَحْلَكا

وعظَّمَ الأجْرَ وعافى نَفْسَكا

آمِنْ به أفلَجَ ربِّي حقَّكا

وانْصُرْهُ أعز ربِّي نصْرَكا

(1)

قال: قلت: مَنْ أنتَ عافاك اللَّه؟ حتَّى أخبرَهُ إذا قدِمتُ عليه؟ فقال: أنا ملك بن ملك، وأنا نَقيبُه على جِنِّ نَصِيبين. وكُفيت إبلَكَ حتَّى أضُمَّها إلى أهلك إنْ شاء اللَّه. قال: فخرجتُ حتَّى أتيتُ المدينةَ يوم الجُمعة والناسُ أرسالٌ إلى المسجد، والنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم على المنبر كأنه البدْر يخطُب الناس، فقلت: أُنيخ على باب المسجد حتَّى يُصلي، وأدخلُ عليه فأسلِّم وأُخْبره عن إسلامي؛ فلما أنختُ خرج إليَّ أبو ذرٍّ فقال: مرحبًا وأهلًا وسهلًا، قد بَلَغَنا إسلامُك، فادخُلْ فصلِّ. ففعلتُ، ثم جئتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -فأخبرني بإسلامي. فقلت: الحمد للّه. قال: "أما إنَّ صاحِبَك قد وفَى لك، وهو أهْلُ ذلك، وأدَّى اللّهُ إبلَك إلى أهلك"

(2)

.

وقد رواه الطبراني في ترجمة خُرَيم بن فاتك من "معجمه الكبير" قائلًا

(3)

: حدَّثَنَا الحسين بن إسحاق التُّسْتَرِيُّ

(4)

، حدّثنا محمد بن إبراهيم الشامي، حدَّثَنَا عبد اللَّه بن موسى الإسكندري، حدَّثَنَا محمد بن إسحاق، عن سعيد بن أبي سعيد المَقْبُري، عن أبي هريرةَ قال: قال خُرَيْمُ بن فاتِك لعمرَ بن الخطاب: يا أميرَ المؤمنين، ألا أخبرك كيف كان بُدُوُّ إسلامي؟ قال: بلى، فذكره، غيرَ أنه قال: فخرج إليَّ أبو بكرٍ الصدِّيق فقال: ادخلْ، فقد بلغَنا إسلامُك. فقلت: لا أُحْسِنُ الطُهُور. فعلَّمَني، فدخلتُ المسجد، فرأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كأنه البدْرُ وهو يقول:"ما من مسلمٍ توضَّأ فأحْسَنَ الوُضُوء، ثم صلَّى صلاةً يَحْفَظُها ويَعْقِلُها إلا دَخَلَ الجنَّة" فقال لي عمر: لتأتينِّي على هذا ببيِّنة أو لأُنكِّلَنَّ بك. فشهِدَ لي شيخَ قُريش عثمانُ بن عفَّان، فأجازَ شهادَتَه.

(1)

كذا في ح، وفي ط: وانصره نصرًا عزيزًا نصركا. وكلاهما مضطرب الوزن، ولعل الصواب: وانصره نصرًا عزَّ ربي نصركا. ورواية الدلائل: وانصر نبيًا عزَّ ربي نصركا.

(2)

الخبر بنحوه في دلائل أبي نعيم (1/ 136) وأخرجه ابن عساكر مختصر ابن منظور (8/ 41، 42). وذكره الهيثمي في المجمع (8/ 251، 252). قال بشار: وإسناده معضل. وانظر رواية الطبراني التالية، فهي من رواية محمد بن إبراهيم الشامي الكذاب.

(3)

المعجم الكبير رقم (4165).

(4)

في ح، ط: اليسيري، والمثبت من المعجم الكبير والمعجم الصغير، والسير (14/ 57).

ص: 183

ثم رواه عن محمد بن عثمان بن أبي شيبة

(1)

، عن محمد بن تيم

(2)

، عن محمد بن خليفة، عن محمد بن الحسن، عن أبيه قال: قال عمر بن الخطاب لخريم بن فاتك: حدثني بحديثٍ يعجبني

(3)

. فذكر مثل السياق الأول سواء.

وقال أبو نعيم

(4)

: حدَّثنا سليمان بن أحمد، حدَّثنا أبو عبد الملك أحمد بن إبراهيم القرشي الدمشقي، حدَّثنا سليمان بن عبد الرحمن ابن بنت شُرَحْبِيل، حدَّثنا إسماعيل بن عياش، عن يحيى بن أبي عمرو السَّيْبَاني

(5)

، عن عبد اللَّه بن الدَّيلمي قال: أتى رجلٌ ابنَ عباس فقال: بلغنا أنك تذكرُ سَطِيحًا، تزعم أنَّ الله خلقه، لم يخلقْ من بني آدم شيئًا يشبه؟ قال: نعم، إنَّ اللَّه خلق سَطيحًا الغسَّانيَّ لحمًا على وضَم

(6)

، ولم يكن فيه

(7)

عظمٌ ولا عصَب إلا الجُمْجُمة، والكفَّان. وكان يُطْوَى من رجلَيْهِ إلى تَرْقُوَتهِ كما يُطوى الثوب، ولم يكن فيه شيءٌ يتحرَّك إلا لسانه. فلما أراد الخروجَ إلى مكة حُمل على وَضَمِه فأُتِي به مكة، فخرج إليه أربعةٌ من قريش: عبد شمس وهاشم ابنا عبد مَنَاف بن قُصَيّ، والأحوصُ بن فهر، وعقيل بن أبي وقاص، فانتمَوْا إلى غير نسَبِهم وقالوا: نحن أناسٌ من جُمَح، أتيناك، بلَغَنا قدومُك، فرأينا أنَّ إتياننا إيَّاك حق لك واجبٌ علينا، وأهْدَى إليه عقيل صفيحةً هنديَّة، وصَعْدَة رُدَيْنيَّة، فوضعت على باب البيت الحرام

(8)

لينظروا، أهل يراها سَطيحٌ أمْ لا؟ فقال: يا عقيل، ناولْني يدَك. فناولَه يدَه فقال:

(1)

المعجم الكبير رقم (4166) وفيه: محمد بن عفان، وهو تحريف، وترجمته في السير (14/ 21). وأخرجه الحاكم في المستدرك (3/ 621) قال فيه الذهبي: لم يصح.

(2)

في المعجم الكبير والمستدرك: محمد بن تسنيم الحضرمي. ولم أقف على ترجمة له، وفي الميزان (3/ 494): محمد بن تسنيم الوراق. قال الذهبي: لم أدر ما حاله ووافقه الحافظ في لسان الميزان.

(3)

في المعجم: تعجبني به.

(4)

دلائل النبوة لأبي نعيم (1/ 152) وذكره السيوطي في الخصائص (1/ 33) وقال: وأخرجه ابن عساكر. وهو في مختصره لابن منظور (8/ 297).

(5)

في ح، ط: الشيباني. بالشين المعجمة، وكذا في الدلائل، وهو تصحيف، والمثبت من الإكمال (5/ 111) والأنساب (7/ 215) والتقريب (2/ 355) وفيه: روايته عن الصحابة مرسلة.

(6)

"الوضم": شرائح من جرائد النخل. هذا الشرح من رواية ابن عساكر، وفي النهاية (5/ 199): الوضم: الخشبة التي يوضع عليها اللحم، تقيه من الأرض. ومنه حديث عمر رضي الله عنه: إنما النساء لحم على وضم، إلا ما ذُبَّ عنه. قال الأزهري: إنما خص اللحم على الوضم وشبه به النساء، لأن من عادة العرب، إذا نحر بعير لجماعة يقتسمون لحمه أن يقلعوا شجرًا ويوضم بعضه على بعض، ويُعضَّى اللحم - يفرَّق - ويوضع عليه، ثم يُلقى لحمه عن عراقه، ويقطَّع على الوضم، هبرًا للقَسْم، وتؤجَّج النار، فإذا سقط جمرها اشتوى من حضر شيئًا بعد شيء على ذلك الجمر، لا يمنع منه أحد، فإذا وقعت المقاسم حوَّل كل واحد قسمه عن الوضم إلى بيته، ولم يعرض له أحد. فشبَّه عمر النساء وقلَّة امتناعهن على طلابهن من الرجال باللحم ما دام على الوضم.

(7)

زاد في ح هنا:

لحمأ ولا عصب ولم يكن فيه.

(8)

في ح: فوضعت على باب الحرم.

ص: 184

يا عقيل، والعالِمِ الخفيَّة، والغافر الخطيَّة، والذِّمَّةِ الوفيَّة، والكعبةِ المبنيَّة، إنك للجائي بالهديَّة، الصفيحةِ الهندية، والصعدةِ الرُّدَينيَّة. قالوا: صدقتَ يا سَطيح، فقال والآتي

(1)

بالفَرَح، وقوسِ قزَح، وسائرِ القُرَّح

(2)

، واللَّطيم المُنْبَطِح

(3)

، والنَّخْلِ والرُّطَب والبَلَح، إنَّ الغراب حيثُ مرَّ سَنَح، فأخبر أنَّ القومَ ليسوا من جُمَح، وأنَّ نسبَهُم من قريشٍ ذي البُطَح. قالوا: صدقتَ يا سَطيح، نحن أهلُ البيت الحرام، أتيناك لنزوركَ لما بَلَغنا من عِلْمِك، فأخْبِرْنا عمَّا يكونُ في زماننا هذا، وما يكون بعده، فلعل أنْ يكونَ عندك في ذلك عِلْم. قال: الآن صدقتم، خذوا مني ومن إلهام اللّهِ إيَّاي، أنتم يا معشر العرب في زمان الهرَم، سواءٌ بصائركم وبصائر العَجَم، لا علم عندكم ولا فَهْم، ويَنْشَؤُ من عَقِبكم ذوو فَهْم

(4)

، يطلبون أنواعَ العلم، فيكسرون الصَّنَم، ويبلغون الرَّدْم

(5)

، ويقتلون العُجْم، يطلبون الغُنْم. قالوا: يا سَطيح، فمن يكون أولئك؟ فقال لهم: والبيت ذي الأركان، والأمن والسكان

(6)

ليَنْشَؤُنَّ من عقبكم وُلْدان، يكسرون الأوثان، ويُنكرون

(7)

عبادة الشيطان، ويوحِّدُونَ الرحمن، وينشُرون دينَ الدَّيَّان، يُشرفون البنيان، ويستفتون الفتيان

(8)

. قالوا: يا سطيح، من نَسْلِ مَنْ يكونُ أولئك؟ قال: وأشرفِ الأشراف، والمُحْصي للإسراف، والمزعزعِ الأحْقَاف

(9)

، والمضعِفِ الأضعاف، ليَنْشَؤُنَّ الآلاف، من عبدِ شمسٍ وعبدِ مَناف، نُشوءًا يكون فيه اختلاف. قالوا: يا سوءتاهُ يا سَطيح ممَّا تخبرنا من العلم بأمرهم! ومن أيِّ بلدٍ يخرج أولئك؟ فقال: والباقي الأبَد، والبالغِ الأمَد، ليخرجَنَّ من ذا البلد، فتىً يَهْدي إلى الرَّشَد، يرفضُ يَغُوثَ والفَنَد

(10)

، يبرَأ من عبادة الضدد، يعبدُ ربًّا انفرد، ثم يتوفاه اللَّه محمودًا، من الأرض مفقودًا، وفي السماء مشهودًا. ثم يلي أمره الصدِّيق إذا قضى صدق، في ردِّ الحقوق لا خرِقٌ ولا نزِق؛ ثم يلي أمره الحَنيف، مُجَرِّبٌ غِطْريف، ويترك قولَ العنيف

(11)

. قد ضاف المضيف. وأحكم التحنيف. ثم يلي أمره داعيًا لأمره مجرِّبا

(12)

. فتجتمع له جموعًا

(1)

في ح والدلائل وابن عساكر: والآتِ والمثبت من ط.

(2)

كذا في ح، ط وأظن رواية الخصائص وابن عساكر أشبه بالصواب، وهي: والسابق القرَّح. والقرح: جمع قارح، وهي من ذي الحافر ما استتم الخامسة، والسابق هو الأول في الخيل في السباق. اللسان (قرح، سبق).

(3)

"اللطيم": هو التاسع من سوابق النخيل، وذلك أنه يلطم وجهه فلا يدخل السرادق. اللسان (لطم).

(4)

في ح: دونهم، وفي تاريخ ابن عساكر والخصائص: دَهْم. وهم الجماعة الكثيرة.

(5)

"الرَّدْم": قرية بالبحرين. (معجم البلدان).

(6)

في تاريخ دمشق والخصائص: والسلطان.

(7)

في تاريخ دمشق والخصائص: ويتركون.

(8)

كذا في ط وفي الدلائل: ويقتنون القيان، وسقطت العبارة من ح، وفي تاريخ دمشق والخصائص: ويسبقون العميان.

(9)

"الأحقاف": جمع حقف، وهو أصل الرمل وأصل الجبل وأصل الحائط. اللسان (حقف).

(10)

"يغوث": من أصنام الجاهلية، والفند: الخطأ في الرأي والقول، والكذب.

(11)

زاد في رواية ابن عساكر هنا: يعني عمر.

(12)

كذا في الدلائل وط، وحُرّف في ح إلى: دراعًا لأمره محرمًا، وفي تاريخ دمشق والخصائص: دارع لأمره =

ص: 185

وعُصَبًا

(1)

، فيقتلونه نِقمةً عليه وغضَبًا، فيؤخذ الشيخ فيذبَحُ إرْبًا، فيقوم به رجالٌ خُطَبا، ثم يلي أمره الناصر

(2)

، ويخلطُ الرأيَ برأي النَّاكر

(3)

، يظهر في الأرض العساكر؛ ثم يلي بعدَهُ ابنه، ياخذُ جَمْعَه، ويُقلُّ حمدَه، ويأخذُ المالَ ويأكلُ وَحْدَه، ويَكْثُر المالُ بعقبِه

(4)

من بعده؛ ثم يلي من [بعده عدةُ ملوك، لا شكَّ، الدَّمُ فيهم مسفوك، ثم]

(5)

بعدهم الصُّعْلوك، يطويهم كطيِّ الدُّرْنُوك

(6)

ثم يلي من بعده عظهور

(7)

، يُقْصي الخلق

(8)

ويُدْني مُضَر، يفتتح الأرضَ افتتاحًا منكرًا، ثم يلي قصيرُ القامة، بظهره علامة يموت موتًا وسلامة؛ ثم يلي قليلًا باكر، يترك الملك بائر

(9)

، يلي أخوه بسنَّته سائر، يختص بالأموال والمنابر، ثم يلي من بعدِهِ أخْوَج، صاحبُ دنيا ونعيم، مُخَلَّج

(10)

، يُثاوِرُه معاشرُه وذووه، ينهضونَ إليه يخلعونَهُ بأخذِ الملك ويقتلونَه، ثم يلي أمْرَهُ من بعده السابع، يترك الملك مُخلَّى ضائع، تثوَّرَ في ملكه كالمُشَوَّهِ جائع، عند ذلك يطمعُ في الملك كل عُرْيان، ويلي أمْرَهُ اللَّهْفان، يُوطئ

(11)

نزارًا جمعَ قحطان، إذا التقيا بدمشق جمعان، بين بَنْيان

(12)

ولُبْنان، يُصنَف اليمن يومئذ صنفان: صنف المَسَرَّة

(13)

، وصنف المخذول، لا ترى إلا حباء محلول

(14)

. وأسيرًا مغلول (4). بين القراب والخيول. عند ذلك تخرب المنازل [وتسلب الأرامل]

(15)

، وتُسقطُ الحوامل، وتظهر الزلازل،

= مجرِّب. وهو أشبه بالصواب.

(1)

كذا في ح، ط والدلائل، وفي تاريخ دمشق والخصائص: فيجتمع له جموع وعصب. وهو الصواب.

(2)

زاد رواية ابن عساكر: معاوية.

(3)

في تاريخ دمشق: ماكر.

(4)

في الدلائل: ويكنز المال لعقبه.

(5)

ما بين المعقوفين سقط من ح.

(6)

"الدرنوك": ضرب من البسط، له خمل قصير، أو هو الطنافس. اللسان (درنك)، وفي تاريخ دمشق والخصائص: يطؤهم كوطأة الدرنوك.

(7)

كذا في ح، ط ولا معنى له، وأظن الصواب فيه: غضوَّر. ومعناه الأسد كما في التاج (غفر)، ورواية تاريخ دمشق والخصائص: عضوض. من كان فيه عسف وظلم، وهو أشبه بالصواب.

(8)

في ح، ط: الحق. والمثبت من تاريخ دمشق والخصائص.

(9)

كذا في ح، ط ويظهر على العبارة الاضطراب والتحريف، والصواب ما جاء في مختصر تاريخ دمشق (8/ 299): ثم يلي بُلبُل ماكر، يترك الملك مُخَلَّى بائر. والبلبل من الرجال الخفيف.

(10)

"مخلج": السمين، فلحمه يضطرب. اللسان (خلج).

(11)

في ح، ط: يرضي. والمثبت من مختصر تاريخ دمشق.

(12)

"بنيان": قرية باليمامة ينزلها بنو سعد بن زيد مناة بن تميم. معجم البلدان (1/ 502) ورواية تاريخ دمشق: بيسان. وهو أشبه بالصواب.

(13)

كذا في ح، وفي ط: المشورة، وفي مختصر تاريخ دمشق المسورة.

(14)

كذا في ح، ط والصواب: محلولا

مغلولا.

(15)

ما بين المعقوفين سقط من ح.

ص: 186

وتطلبُ الخلافةَ وائل، فتغضب نزار، فتُدْني العبيدَ والأشرار، وتُقْصي الأمثال والأخيار، وتغلو الأسعارُ في صفَرِ الأصفار، يُغَلُّ كلُّ جبَّار، ثم يسيرون إلى خنادق وأنها ذاتُ أشعارٍ وأشجار، تصد له الأنهار

(1)

، ويهزمهم أوَّلَ النهار، تظهر الأخيار، فلا ينفعهم نومٌ ولا قرار. حتَّى يدخل مصرًا من الأمصار، فيدركه القضاء والأقدار. ثم يجيء الرُّماة، تلف مشاة، لقتل الكماة، وأسر الحماة، وتهلك الغواة، هنالك يدرك في أعلى المياه. ثم يبور الدِّين، وتُقلب الأمور، ويكفر الزَّبُور، وتُقطع الجسور، فلا يفلت إلا مَنْ كان في جزائر البُحور، ثم تبور الحُبوب، وتظهر الأعاريب، ليس فيهم مَعِيب

(2)

، على أهل الفسوق والريب، في زمان عَصِيب، لو كان للقوم حَيَا، وما تُغْني المُنى. قالوا: ثم ماذا يا سَطيح؟ قال: ثم يظهر رجلٌ من أهل اليمن كالشَّطَن، يُذْهِبُ اللَّه على رأسه الفتن.

وهذا أثرٌ غريب كتبناهُ لغرابته، وما تضمَّنَ من الفتن والملاحم. وقد تقدَّم قصة شِقٍّ وسَطيح مع ربيعة بن نصر، ملك اليمن، وكيف بشَّر بوجود رسولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وكذلك تقدَّم قصة سَطِيح مع ابن أخته عبد المسيح حين أرسله ملك بني ساسان، لارتجاسِ الإيوان، وخُمود النيران، ورؤيا الموبذان. وذلك ليلةَ مولدِ الذي نسخ بشريعته سائرَ الأديان

(3)

.

‌باب كيف بدأ الوحي إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وذكر أول شيء أنزل عليه من القرآن العظيم

كان ذلك وله صلى الله عليه وسلم من العمر أربعون سنة. وحكى ابن جرير

(4)

عن ابن عباس وسعيد بن المسيِّب: أنه كان عمرُه إذْ ذاك ثلاثًا وأربعين سنة.

قال البخارى

(5)

: حدّثنا يحيى بن بُكَير، عن عُقيل، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها، أنها قالت: أوَّلُ ما بُدئ به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من الوَحْي الرُّؤْيا الصالحة

(6)

في النَّوم، وكان لا يرى رؤيا إلا جاءتْ مثلَ فَلَقِ الصُّبْح، ثمّ حُبِّبَ إليه الخَلاء، فكان يخلو بغارِ حِراء فيَتَحنَّثُ فيه - وهو التعبُّد - اللياليَ ذواتِ العدَد، قبل أنْ ينزِعَ إلى أهله، ويتزوَّدُ لذلك، ثم يرجع إلى خديجةَ فيتزوَّدُ

(1)

في مختصر تاريخ دمشق: يعمِدُ لهم الأغيار.

(2)

في مختصر تاريخ دمشق: مُعين. وهو أشبه بالصواب.

(3)

تأمل هذه الأخبار فأكثرها مختلقة وإنما ساقها المصنف لغرابتها وليجمع كل ما قيل في هذا الموضوع، فكن على حذر (بشار).

(4)

يعني الطبري في تاريخه (2/ 292).

(5)

فتح الباري رقم (6982) كتاب التعبير باب أول ما بدئ به رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة.

(6)

وفي رواية: الصادقة. كما في الفتح وط.

ص: 187

لمثلها، حتَّى جاءه

(1)

الحقُّ وهو في غار حِرَاءِ، فجاءه الملَكُ فقال: اقْرَأْ. فقال: "ما أنا بقارئ" قال: فأخذني فغَطَّني

(2)

حتَّى بَلَغ مني الجَهْد، ثمّ أرسلني، فقال: اقرأْ، فقلتُ: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطَّني الثانيةَ حتَّى بلغ مني الجَهْد، ثمّ أرسلني، فقال: اقْرَأْ، فقلتُ: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة حتَّى بلغ مني الجهد، ثمّ أرسلني فقال:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:1 - 5] فرجع بها رسولُ اللَّه - صلى الله عليه سلم - يَرْجُفُ فؤادُهُ، فدخل على خديجة بنتِ خُويلد، فقال:"زَمِّلُوني زَمِّلُوني" فزمَّلُوهُ حتَّى ذهب عنه الزَؤع، قال لخديجة - وأخَبَرها الخَبَر -:"لقد خَشِيتُ على نفسي". فقالت خديجة: كلا واللّه، لا يُخْزِيك اللّهُ أبدًا، إنَّك لتصِلُ الرَّحِم، وتَقْرِي الضَّيف، وتَحْمِلُ الكَلّ، وتَكْسِبُ المَعْدُوم، وتُعينُ على نوائب الحقّ.

فانطلقتْ به خديجةُ حتَّى أتتْ ورقةَ بنَ نَوْفَل بن أسد بنِ عبد العُزَّى ابنَ عمَ خديجة؛ وكان امرءا قد تنصَّرَ في الجاهلية، وكان يكتبُ الكتابَ العِبْرَاني

(3)

، فيكتب من الإنجيل بالعِبْرانيَّةِ ما شاءَ اللَّه أنْ يكتب، وكان شيخًا كبيرًا قد عَمِي، فقالت له خديجة: يا ابنَ عمّ، اسمَعْ من ابنِ أخيك. فقال له ورقة: يا ابن أخي، ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خَبَر ما رأى. فقال له ورقة: هذا الناموس

(4)

الذي كان ينزِلُ على موسى، يا ليتني فيها جذعًا

(5)

، ليتني أكونُ حيًّا إذْ يُخْرِجُكَ قومُك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أو مُخرِجِيَّ هم؟ " فقال: نعم، لِم يأتِ أحدٌ بمثلِ ما جئتَ به إلا عُودي، وإنْ يُدركني يومُكَ أنْصُرْك نصرًا مُؤَزَّرًا. ثم لم يَنْشَبْ وَرَقَةُ أنْ تُوفيَ، وفَتر الوَحْيُ فترة.

حتى حزنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغَنا - حُزْنًا غدا منه مِرارًا كي يتردَّى من رؤوس شواهِقِ الجبال، فكلّما أوْفى بذِرْوَةِ جبل لكي يُلقي نفسَه تبدَّى له جِبْرِيلُ فقال: يا محمد، إنَّك رسولُ اللَّه حقًا فيسكنُ لذلك جَأشُه، وتَقِرُّ نفسُه فيرجع، فإذا طالت عليه فترةُ الوَحْي غَدا كمثلِ ذلك. قال: فإذا أوفى بِذِرْوةِ جبل تبدَّى له جبريلُ فقال لهُ مثل ذلك.

(1)

في الرواية الثانية المشار إليها في الحاشية (2) السابقة والتي عند البخاري هي: حتَّى فَجِئَهُ الحق. ويبدو لي أن ابن كثير نقل هذه الأخيرة، لأنه خصها بالشرح كما سيأتي (ص 193).

(2)

قال ابن حجر في الفتح (1/ 24): وفي رواية الطبري بتاء مثناة من فوق، كأنه أراد ضمني وعصرني، والغط: حبس النفس، ومنه غطه في الماء، أو أراد غمني ومنه الخنق. ولأبي داود الطيالسي في مسنده بسند حسن. فأخذ بحلقي. اهـ.

(3)

قال ابن حجر في الفتح (1/ 25): وفي رواية يونس ومعمر: ويكتب من الإنجيل بالعربية. ولمسلم: فكان يكتب الكتاب العربي. والجميع صحيح، لأن ورقة تعلم اللسان العبراني والكتابة العبرانية.

(4)

"الناموس": صاحب السر الذي يطلعه بما يستره عن غيره، كما جزم به البخاري في أحاديث الأنبياء. انظر الفتح (6/ 422 و 1/ 26) وموضع الحاشية (5) في المتن ص (196) من هذا الجزء.

(5)

يا ليتني فيها جذع: كذا في رواية الأصيلي، وعند الباقين: جذعًا. بالنصب على أنه خبر كان المقدرة. قاله الخطابي. فتح الباري (1/ 26).

ص: 188

هكذا وقع مطوَّلًا في بابِ التعبير من البخاري

(1)

.

قال ابنُ شهاب

(2)

: وأخبرني أبو سَلَمَة بنُ عبدِ الرحمن، أنَّ جابرَ بنَ عبدِ اللَّه الأنصاريَّ قال - وهو يحدِّثُ عن فَتْرةِ الوحي - فقالَ في حديثه:"بينا أنا أمشي، إذْ سمعتُ صوتًا من السماء، فرفعتُ بَصَري فإذا الملَكُ الذي جاءَني بحِرَاء جالسٌ على كُرْسي بينَ السماءَ والأرض. فرُعِبْتُ منه، فرجعتُ فقلت: زَمِّلُوني، زَمِّلوني، فأنزل الله: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر:1 - 5] فَحمِيَ الوَحْيُ وتَتَابَع". ثمّ قال البخاري: تابعَهُ عبدُ اللَّه بن يوسف، وأبو صالح - يعني عن اللَّيث - وتابعه هِلالُ بنُ رَدَّاد، عن الزُّهْري. وقال يونس ومعمر: بوادِرُه.

وهذا الحديث قد رواهُ الإمامُ البخاري رحمه الله في كتابه في مواضع منه

(3)

، وتكلَّمنا عليه مطولًا في أول شرح البخاري في كتاب بَدْء الوحي إسنادًا ومتنًا. وللّه الحمد والمِنَّة.

وأخرجه مسلم في "صحيحه"

(4)

من حديث اللَّيث به، ومن طريق يونس ومَعْمَر، عن الزُّهْري كما علَّقَهُ البخاري عنهما، وقد رمزنا في الحواشي على زياداتِ مسلم ورواياتِه، وللّه الحمدُ، وانتهى سياقُهُ إلى قول ورقة: أنصرُك نصرًا مُؤَزَّرًا.

فقول أمِّ المؤمنين عائشة: أوَّلُ ما بُدئ به من الوحي الرؤيا الصادِقة، فكان لا يَرَى رؤيا إلا جاءتْ مثل فَلَقِ الصُّبْح، يُقَوِّي ما ذكَرَهُ محمد بن إسحاق

(5)

بن يسار، عن عُبيد بن عُمير اللَّيثي، أنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "فجاءني جِبْريلُ وأنا نائم بنَمَطٍ من ديباج فيه كتاب

(6)

. فقال: اقرأ. فقلتُ: ما اقرأُ؟ فغتَّني، حتَّى ظننت أنَّه الموت، ثم أرسلني" وذكر نحوَ حديثِ عائشة سواء.

فكان هذا كالتوطئة لما يأتي بعدَهُ من اليَقَظَة، وقد جاء مصرَّحًا بهذا في مغازي موسى بن عُقْبَةَ عن الزُّهري، أنه رأى ذلك في المنام ثمّ جاءه الملك في اليقظة.

وقد قال الحافظُ أبو نُعيم الأصبهاني في كتابه "دلائل النبوة"

(7)

: حَدَّثَنَا محمد بن أحمد بن الحسن،

(1)

جمع ابن كثير في هذه الرواية بين روايتين عند البخاري في كتاب بدء الوحي وكتاب التعبير كما أشرت آنفًا والزيادة في الحديث من قوله: حتَّى حزن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا إلى آخرة من بلاغات الزهري رقم (6982) في التعبير وليست موصولة، فهي منقطعة.

(2)

يعني الزهري كما في الحديث السابق وبسنده المذكور آنفًا وهو في البخاري رقم (4) كتاب بدء الوحي.

(3)

أرقامه في فتح الباري (3238، 4922، 4924، 4925، 4926، 4954، 6214).

(4)

صحيح مسلم (252 - 160) الإيمان باب بدء الوحي، ورقم (253 و 254).

(5)

سيرة ابن هشام (1/ 236) والروض (1/ 268).

(6)

"النمط": ضرب من البسط له خَمْل رقيق، أو ثوب من صوف ملوَّن له خمل رقيق. النهاية (5/ 119) والتاج (نمط).

(7)

ليس في المطبوع منه.

ص: 189

حَدَّثَنَا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، حَدَّثَنَا مِنْجَاب

(1)

بن الحارث، حَدَّثَنَا عبد اللَّه بن الأجلح، عن إبراهيم، عن علقمة بن قيس، قال: إنَّ أولَ ما يُؤتى به الأنبياءُ في المنام، حتَّى تهدأ قلوبُهم، ثم ينزِلُ الوحي بَعْدُ. وهذا من قبل علقمة بن قيس نفسِه، وهو كلامٌ حسن، يؤيِّدُه ما قبله ويؤيده ما بعده.

‌ذكر عمرِه صلى الله عليه وسلم وقت بعثتِه وتاريخها

قال الإمام أحمد

(2)

: حَدَّثَنَا محمد بن أبي عدي، عن داودَ بن أبي هند، عن عامر الشَّعْبي: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم نزلت عليه النبوة وهو ابنُ أربعين سنة، فقرن بنبوَّتِهِ إسرافيل ثلاثَ سنين، فكان يعلِّمُه الكلمة والشيء، ولم ينزل القرآن، فلما مضتْ ثلاثُ سنين قرن بنبوته جِبريل، فنزل القرآنُ على لسانه عشرين سنة، عشرًا بمكة، وعشرًا بالمدينة. فمات وهو ابن ثلاث وستينَ سنة.

فهذا إسنادٌ صحيح إلى الشعبي، وهو يقتضي أنَّ إسرافيل قرن معه بعد الأربعين ثلاث سنين، ثمّ جاءَهُ جبريل

(3)

.

وأما الشيخ شهاب الدين أبو شامة فإنه قد قال: وحديث عائشة لا يُنافي هذا، فإنه يجوز أنْ يكونَ أول أمره الرُّويا، ثم وُكِّل به إسرافيلُ في تلك المُدَّة التي كان يخلو فيها بِحرَاء، فكان يُلقي إليه الكلمة بسرعة، ولا يقيمُ معه، تدريجًا له وتمرينًا، إلى أن جاءه جبريل، فعلَّمه بعد ما غطَّه ثلاثَ مرَّات، فحكَتْ عائشةُ ما جرى له مع جِبْريلِ، ولم تحكِ ما جرى له مع إسرافيلَ اختصارًا للحديث، أو لم تكن وقفت على قصة إسرافيل.

وقال الإمام أحمد

(4)

: حَدَّثَنَا يحيى عن هشام

(5)

، عن عكرمة، عن ابن عباس، أُنزل على النبي صلى الله عليه وسلم

(1)

في ط: جناب. تصحيف، والمثبت من ح، ورواية منجاب عن عبد الله بن الأجلح، ورواية ابن أبي شيبة عنه ثابتة في ترجماتهم في السير (14/ 21) وتهذيب الكمال (14/ 79) وتهذيب التهذيب (10/ 297).

(2)

أخذه المصنف من دلائل النبوة للبيهقي (1/ 132) الذي رواه عن ابن بشران، عن ابن السماك، عن حنبل بن إسحاق، عن الإمام أحمد. وأخرجه ابن سعد في الطبقات (1/ 191) عن المعلى بن أسد العمي، أخبرنا وهيب بن خالد عن داود به. وقال ابن سعد بعد إيراده الخبر: فذكرت هذا الحديث لمحمد بن عمر فقال: ليس يعرف أهل العلم ببلدنا أن إسرافيل قرن بالنبي صلى الله عليه وسلم، وإن علماءهم وأهل السيرة منهم يقولون: لم يقرن به غير جبريل من حين أنزل عليه الوحي إلى أن قبض صلى الله عليه وسلم اهـ.

(3)

لكنه مرسل، فلا يحتج به (بشار).

(4)

في المسند (1/ 228).

(5)

في ط: "يحيى بن هشام"، وهو تحريف والصواب ما أثبتناه من المسند، ويحيى هو ابن سعيد القطان، وهشام هو ابن حسان (بشار).

ص: 190

وهو ابن ثلاثٍ وأربعين، فمكث بمكةَ عشرًا وبالمدينة عشرًا، ومات وهو ابنُ ثلاثٍ وستين

(1)

.

وهكذا روى يحيى بن سعيد، عن سعيد

(2)

بن المسيِّب. ثمّ رواهُ أحمد

(3)

، عن غُنْدر ويزيد بن هارون كلاهما عن هشام عن عكرمة، عن ابن عباس قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه القرآن، وهو ابنُ أربعين سنة، فمكث بمكة ثلاث عشرة سنة، وبالمدينة عشر سنين. ومات وهو ابنُ ثلاثٍ وستين سنة.

وقال الإمام أحمد

(4)

: حدّثنا عفَّان، حدّثنا حمَّاد بن سلمة، أخبرنا عمار بن أبي عمار، عن ابن عباس قال: أقام النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بمكة خمسَ عشرةَ سنةً، سبعَ سنين يرَى الضَّوءَ ويسمع الصوت، وثماني سنين يُوحَى إليه، وأقام بالمدينة عشرَ سنين.

قال أبو شامة: وقد كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يرى عجائبَ قبلَ بعثتِه، فمن ذلك ما في صحيح مسلم

(5)

عن جابر بن سَمُرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إني لأعْرِفُ حَجَرًا بمكةَ كان يُسَلِّم على قبلَ أنْ أُبْعَث، إني لأعْرِفُه الآن". انتهى كلامُه.

وإنما كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ الخَلاءَ والانفرادَ عن قومه، لِمَا يراهم عليهِ من الضَّلال المُبين، من عبادةِ الأوثان والسجود للأصنام، وقويَتْ مَحبَّتُه للخَلْوَة عند مقاربة إيحاء اللّهِ إليه، صلواتُ اللَّه وسلامه عليه.

وقد ذكر محمد بن إسحاق

(6)

عن عبد الملك بن عبد اللَّه بن أبي سفيان بن العَلاء بن جارية

(7)

- قال: وكان واعية - عن بعض أهل العلم قال: وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يخرجُ إلى حِرَاء في كلِّ عام شهرًا من السنة يتنسَّكُ فيه - وكان مِنْ نُسُكِ قريشٍ في الجاهلية - يُطْعِمُ مَنْ جاءَهُ من المساكين، حتى إذا انصرف من مجاورتِهِ، لم يدخلْ بيتَهُ حتَّى يطوفَ بالكعبة.

(1)

هذا مما أخطأ فيه يحيى بن سعيد القطان على جلالة قدره، فقد خالفه يزيد بن هارون عند ابن أبي شيبة (13/ 53) و (14/ 291)، والنضر بن شميل عند البخاري (3621)، وابن أبي عدي عند الترمذي (3621) وروح بن عبادة عند أحمد (1/ 371) وغيرهم فرووه عن هشام:"وهو ابن أربعين"، وهو الصحيح الذي عليه الجمهور (بشار). وانظر الذي بعده.

(2)

في ط: "وسعيد" خطأ، والصواب ما أثبتنا، والرواية في دلائل النبوة للبيهقي من طريق الإمام أحمد عن يحيى بن سعيد القطان، عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن سعيد بن المسيب (1/ 132)(بشار).

(3)

في المسند (1/ 236 و 249).

(4)

في المسند (1/ 279) وأخرجه أيضًا عن حسن عن حماد به في (1/ 294) وعن أبي كامل عن حماد به في (1/ 312).

(5)

صحيح مسلم (2 - 2277) الفضائل باب فضل نسب النبي صلى الله عليه وسلم.

(6)

سيرة ابن هشام (1/ 234) والروض (1/ 266) ويرويه ابن كثير هنا بالمعنى. سيرة ابن هشام (1/ 235 و 236) عن وهب بن كيسان كما سيأتي.

(7)

في ح، ط: حارثة. تصحيف، والمثبت من التاريخ الكبير للبخاري (5/ 421) والإصابة في ترجمة جده العلاء وسيرة ابن هشام.

ص: 191

وهكذا رُوي عن وهب بن كيسان، أنَّهُ سمع عُبيد بن عُمير يحدِّثُ عبد اللَّه بن الزبير مثل ذلك، وهذا يدلُّ على أن هذا كان من عادة المتعبِّدين في قريش، أنهم يجاورون في حِرَاء للعبادة، ولهذا قال أبو طالب في قصيدته المشهورة

(1)

:

وثورٍ ومَنْ أرْسَى ثَبيرًا مكانَهُ

وراقٍ ليرْقَى في حِرَاءَ ونازِلِ

هكذا صوَّبه على رواية هذا البيت، كما ذكره السُّهيلي وأبو شامة وشيخُنا الحافظ أبو الحجَّاج المِزِّي رحمهم الله، وقد تصحَّف على بعض الرواة فقال فيه: وراقٍ ليرقى في حر ونازل - وهذا ركيك ومخالف للصواب. واللّه أعلم.

وحِرَاء يُقْصَر ويُمَدُّ، ويُصرف ويُمنع، وهو جبلٌ بأعلى مكة، على ثلاثةِ أميالٍ منها، عن يسار المارِّ إلى منى، له قُلَّةٌ مشرفةٌ على الكعبة منحنية، والغار فى تلك المحنيَّة، وما أحسن ما قال رُؤْبَة بن العَجَّاج

(2)

:

فلا وربِّ الآمِناتِ القُطَّنِ

وربّ رُكنٍ من حِرَاءَ مُنْحني

وقوله في الحديث: والتحنُّث: التعبد، تفسيرٌ بالمعنى، وإلَّا فحقيقة التحنُّث من حيثُ البِنْيَة فيما قاله السُّهيلي

(3)

: الدخول في الحِنْث، ولكنْ سمعتُ ألفاظًا قليلة في اللغة معناها الخروجُ من ذلك الشيء، فتحنَّثَ: أي خرج من الحِنْث، وتحوَّب، وتحرَّج، وتأثَّم، وتهجَّد، وهو تَرْكُ الهُجود، وهو النوم للصلاة، وتنجَّس وتقذَّر، أوردها أبو شامة.

وقد سُئل ابنُ الأعرابي عن قوله يتَحنَّث، أي يتعبَّد؟ فقال: لا أعرف هذا، إنما هو يتحنَّف من الحنيفيَّة دينِ إبراهيم عليه السلام.

قال ابنُ هشام

(4)

: والعربُ تقول: التحنُّث والتحنُّف، يُبْدلون الفاء من الثاء، كما قالوا: جَدَث، وجَدَف

(5)

، كما قال رُؤْبة

(6)

:

لو كان أحجاري مع الأجْدَافِ

يريد الأجداث. قال: وحدَّثني أبو عُبيدة أنَّ العرب تقول: فُمَّ في موضع ثُمَّ.

قلت: ومن ذلك قول بعضِ المفسرين وفُومها أنَّ المراد ثومها.

(1)

وهي قصيدة نشرت في ديوان شيخ الأباطح والبيت فيه (ص 3) وروايته: وعير وراق في حراء ونازل.

(2)

ديوان رؤبة (ص 163) والبيتان هما 113 و 116 من القصيدة، وفيه: ورب وجه من حراء منحني.

(3)

الروض (1/ 267) وقد نقل عنه ابن كثير بالمعنى.

(4)

سيرة ابن هشام (1/ 235).

(5)

زاد ابن هشام في سيرته: يريدون القبر.

(6)

ديوان رؤبة (ص 100) رقم البيت (40) وروايته: لو كان أحجارٌ.

ص: 192

وقد اختلف العلماءُ في تعبُّده عليه السلام قبل البعثة، هل كان على شرعِ أم لا؟ وما ذلك الشرع؟ فقيل شرع

(1)

نوح، وقيل شرع (1) إبراهيم. وهو الأشبه الأقوى، وقيل موسى، وقيل عيسى، وقيل: كلُّ ما ثبت أنه شرعٌ عنده اتَّبعه وعمل به، ولبسطِ هذه الأقوال ومناسباتها مواضع أُخر في أصول الفقه والله أعلم.

وقوله: حتَّى فجِئَهُ الحقُّ وهو بغارِ حِرَاء

(2)

؛ أي جاء بغتةً على غير موعد كما قال ثعالى: {وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ} [القصص: 86].

وقد كان نزولُ صَدْر هذه السورة الكريمة وهي {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:1 - 5]. وهي أولُ ما نزل من القرآن كما قرَّرْنا ذلك في "التفسير"

(3)

، وكما سيأتي أيضًا في يوم الاثنين كما ثبتَ في صحيح مسلم

(4)

عن أبي قتادة، أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم سُئل عن صوم يومِ الاثنين؟ فقال:"ذاك يومٌ وُلدتُ فيه، ويومٌ أُنْزِلَ عليَّ فيه".

وقال ابن عباس

(5)

: وُلد نبيُّكم محمدٌ صلى الله عليه وسلم يومَ الاثنين، ونُبِّئَ يومَ الاثنين.

وهَكذا قال عُبيد بن عُمير، وأبو جعفر الباقر، وغيرُ واحدٍ من العلماء: إنه عليه الصلاة والسلام أوحي إليه يوم الاثنين. وهذا ما لا خلافَ فيه بينهم.

ثم قيل: كان ذلك في شهر ربيع الأول كما تقدَّم عن ابن عباس وجابر أنَّه وُلد عليه السلام، في الثاني عشرَ من ربيعِ الأول يوم الاثنين، وفيه بُعث، وفيه عُرج به إلى السماء: والمشهور أنه بُعث عليه الصلاة والسلام في شهر رمضان، كما نص على ذلك عُبيد بن عُمير، ومحمد بن إسحاق وغيرهما.

قال ابن إسحاق مستدلًا على ذلك

(6)

بما قال اللَّه تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ} [البقرة: 185] فقيل في ثاني عشرة.

وروى الواقديُّ بسند

(7)

عن أبي جعفر الباقر أنه قال: كان ابتداءُ الوحي إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يومَ الاثنين، لسبعَ عشرةَ ليلة خلَتْ من رمضان.

وقيل: في الرابع والعشرين منه.

(1)

سقطت اللفظة من ح.

(2)

يعني في حديث البخاري المتقدم (ص 188) ح (1).

(3)

تفسير ابن كثير (4/ 527) تفسير سورة اقرأ.

(4)

تقدم الحديث في (ص 30) في موضع الحاشية (4) من هذا الجزء.

(5)

حديث ابن عباس وتخريجه في ص (30 ح 5) من هذا الجزء، وسيأتي في ص (440).

(6)

سيرة ابن هشام (1/ 239) والروض (1/ 275).

(7)

طبقات ابن سعد (1/ 194).

ص: 193

قال الإمام أحمد

(1)

: حَدَّثَنَا أبو سعيد مولى بني هاشم، حَدَّثَنَا عمران أبو العوَّام، عن قتادة، عن أبي المَليح، عن واثِلَةَ بنِ الأسْقَعِ، أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "أُنْزِلَتْ صُحف إبراهيم في أولِ ليلةٍ من رمضان، وأُنْزلت التوراةُ لستٍّ مضيْنَ من رمضان، والإنجيل لثلاثَ عشرةَ ليلة خلتْ من رمضان، وأُنزل القرآن

(2)

لأربعٍ وعشرين خلَتْ من رمضان".

وروى ابنُ مردويه في "تفسيره"، عن جابر بن عبد الله مرفوعًا نحوه؛ ولهذا ذهب جماعةٌ من الصحابة والتابعين، إلى أنَّ ليلةَ القدر ليلةُ أربع وعشرين.

وأما قول جبريل (اقْرَأْ) فقال: "ما أنا بقارئ" فالصحيح أنَّ قوله "ما أنا بقارئ" نَفْيٌ؛ أيْ لستُ ممن يُحسن القراءة. وممن رجَّحه النووي، وقَبْلَه الشيخ أبو شامة؛ ومَنْ قال: إنها استفهامية، فقوله بعيد، لأنَّ الباء لا تزاد في الإثبات. ويؤيد الأولَ روايةُ أبي نعيم

(3)

من حديث المعتمر بن سليمان عن أبيه: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو خائف يُرْعَد -:"ما قرأتُ كتابًا قطُ ولا أُحْسِنُه، وما أكتبُ وما أقرأ" فأخذَهُ جبريل فغَتَّهُ غتًا شديدًا. ثم تركه فقال له: اقرأ. فقال محمد صلى الله عليه وسلم: "ما أرى شيئًا أقرؤه، وما أقرأ، وما أكتب" - يُروى فغطَّني كما في الصحيحين وغتَّني، ويُروى قد غتَّنى، أي: خنقَني "حتَّى بلغَ مني الجهد" يُروى بضمِّ الجيم وفتحها وبالنَّصْب وبالرفع - وفعل به ذلك ثلاثًا.

قاله أبو سليمان الخطابي

(4)

: وإنما فعل ذلك به ليبلُوَ صَبْرَه، ويُحسنَ تأديبه، فيرتاضَ لاحتمالِ ما كلَّفه به من أعباء النبوَّة؛ ولذلك كان يَعْتَريه مثلُ حالِ المَحْموم، وتاخذُه الرُّحَضَاء - أي: البُهْر والعَرَق -.

وقال غيره: إنما فعل ذلك لأمور: منها أنْ يستيقظ لعظَمَةِ ما يُلقَى إليهِ بعد هذا الصَّنِيع المُشِقِّ على النفوس، كما قال تعالى: ({إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل: 5] ولهذا كان عليه الصلاة والسلام إذا جاءَهُ الوَحْيُ يَحْمَرُّ وَجْهُه، ويَغطُّ كما يَغطُّ البَكْرُ من الإبل

(5)

، ويتفصَّدُ جَبينُهُ عَرقًا في اليوم الشديد البَرْد.

وقوله

(6)

: فرجع بها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى خديجة يَرْجُفُ فؤادُه. وفي رواية: بَوَادِرُه، جمع بادِرَة، قال أبو عبيدة: وهي لحمة بين المنكب والعُنق. وقال غيره: هو عروقٌ تضطرب عند الفَزَع، وفي

(1)

مسند أحمد (4/ 107). قال بشار: وإسناده ضعيف، فقد تفرد به عمران بن داور القطان، وهو ممن لا يحتمل تفرده لضعفه كما بيناه مفصلًا في تحرير التقريب (3/ 114)، ولكن له شاهد من حديث ابن عباس مرفوعًا، أخرجه ابن عساكر من طريق علي بن أبي طلحة، فهو به حسن انظر (مختصر تاريخ ابن عساكر)(3/ 358).

(2)

في المسند: الفرقان.

(3)

ليس الخبر في المطبوع من الدلائل.

(4)

لم أجد قول الخطابي في كتابيه معالم السنن وغريب الحديث.

(5)

"يغط": من الغطيط، وهو الصوت الذي يخرج مع نَفَس النائم، وهو ترديده حيث لا يجد مساغًا. والبَكْر: الفتيُّ من الإبل. النهاية واللسان (غطط، بكر).

(6)

أي في الحديث الذي أورده آنفًا.

ص: 194

بعض الروايات ترجُف بآدِلُه، واحدتها بَأْدَلَة. وقيل بَأْدَل، وهو ما بين العُنق والتَّرْقُوة، وقيل: أصْلُ الثَّدْي، وقيل: لحم الثَّدْيَيْن، وقيل غير ذلك.

فقال: "زَمِّلُوني زَمِّلُوني" فلما ذهب عنه الرَّوْعُ قال لخديجة: "ما لي؟ أيّ شيءٍ عَرَضَ لي؟ " وأخبرها ما كان من الأمر. ثمّ قال: "لقد خَشِيتُ على نفسي"، وذلك أنه شاهَدَ أمرًا لم يَعْهَدْهُ قبل ذلك، ولا كان في خَلَدِه، ولهذا قالت خديجة: أبْشِرْ، كلا واللّه لا يُخْزِيكَ اللّهُ أبدًا. قيل من الخِزْي، وقيل من الحُزن، وهذا لعلمها بما أجرى اللّهُ به جميلَ العوائدِ في خَلْقِهِ؛ أي: مَنْ كان متصفًا بصفات الخير لا يَخْزَى في الدنيا ولا في الآخرة. ثم ذكرتْ له من صفاتِه الجليلة

(1)

ما كان من سجاياه الحسنة. فقالت: إنك لتصِلُ الرَّحِم، وتَصْدُقُ الحديث - وكان مشهورًا بذلك صلواتُ اللَّه وسلامه عليه عند الموافق والمفارق - وتحمِلُ الكَلَّ؛ أي: عن غيرِك، تُعطي صاحبَ العَيْلَةِ

(2)

ما يُريحُهُ من ثِقَلِ مُؤْنَةِ عِياله - ويكْسِبُ المَعْدُوم، أي تسبقُ إلى فعل الخير، فتبادر إلى إعطاء الفقير، فتكسب حسنته قبل غيرك. ويسمَّى الفقيرُ مَعْدُومًا لأنَّ حياتَهُ ناقصة، فوجودُهُ وعَدَمُه سواء، كما قال بعضهم

(3)

: [من الخفيف]

ليس مَن مات فاستراحَ بمَيْتٍ

إنَّما الميْتُ مَيِّتُ الأحْيَاءِ

وقال أبو الحسن التّهامي، فيما نقله عنه القاضي عياض في شرح مسلم:[من الخفيف]

عُدَّ ذا الفقرِ ميِّتًا، وكُسَاهُ .... كَفَنًا باليًا، ومأواهُ قَبْرا

(4)

وقال الخطابي

(5)

: الصواب: وتكسب المعدوم؛ أي: تبذلُ إليه، أو يكون: وَتكسِبُ المعدمَ بعطيه مالًا يعيشُ به. واختار شيخُنا الحافظ أبو الحجاج المِزِّي أنَّ المراد بالمعدوم هاهنا المال المُعْطى، أي: يُعطي المال لمن هو عادِمُه. ومن قال: إن المراد تَكْسِبُ باتِّجَارِكَ المالَ المعدوم، أو النفيس، القليل النظير، فقد أَبْعَدَ النُّجْعَة، وأَغْرَقَ في النَّزْع

(6)

، وتكلَّف ما ليس له به علم، إنَّ مثل هذا لا يُمدَحُ به غالبًا، وقد ضعَّف هذا القول عياضٌ والنووي وغيرُهما، والله أعلم.

(1)

في: الجميلة.

(2)

"العَيْلَة": الفقر والحاجة.

(3)

هو عدي بن الرعلاء الغساني، قاله في عدة أبيات أوردها الحافظ ابن عساكر في ترجمته، مختصر تاريخ دمشق لابن منظور (16/ 306) وتخريجها فيه وفي الحماسة الشجرية (1/ 194).

(4)

البيت من قصيدة في ديوان أبي الحسن التهامي (ص 37) يمدح بها الشريف أبا عبد الله محمد بن الحسين النصيبي المتوفى سنة 408 هـ.

(5)

لم أجد قول الخطابي في كتابيه معالم السنن وغريب الحديث.

(6)

النجعة في الأصل: طلب الكلأ ومساقط الغيث، وأبعد: اشتط وذهب بعيدًا. والمراد هنا: أي اشتط في طلب هذا المعنى. وأغرق في النزع: أي أغرق النازع في قوسه؛ أي استوفى مدها ليصيب هذا المعنى البعيد، وهو يضرب مثلًا للغلو والإفراط التاج (نجع، بعد، غرق).

ص: 195

وتَقْري الضَّيْف - أي: تُكرِمُه في تقديم قِرَاه، وإحسان مأواه. وتُعينُ على نوائب الحق. ويُروى: الخير. أي: إذا وقعتْ نائبةٌ لأحدٍ في خير أعنتَ فيها، وقمتَ مع صاحبها حتى يجد سِدَادًا من عَيْش، أو قِوَامًا من عيش، وقوله: ثم أخذَتْهُ فانطلقتْ به إلى ابن عمِّها وَرَقَة بن نوفل، وكان شيخًا كبيرًا قد عَمِي. وقد قدَّمنا طرفًا من خبره مع ذكر زيد بن عمرو بن نُفَيل رحمه الله

(1)

، وأنَّهُ كان ممنْ تنصَّر في الجاهلية ففارقهم، وارتحل إلى الشام، هو وزيد بن عمرو، وعثمان بن الحُويرث، وعُبيد اللَّه بن جَحْش، فتنصَّرُوا كلُّهم، لأنهم وجدوه أقربَ الأديانِ إذْ ذاك إلى الحق، إلا زيد بن عمرِو بن نُفيل فإنه رأى فيه دَخَلًا وتخبيطًا

(2)

وتبديلًا وتحريفًا وتأويلًا. فأبَتْ فِطْرَتُه الدخولَ فيه أيضًا، وبشَّروه: الأحبارُ والرهبان

(3)

بوجودِ نبيٍّ قد أزِفَ زمانُه، واقتربَ أوَانُه، فرجع يتطلَّبُ ذلك، واستمرّ على فطرته وتوحيده، لكن اخترمَتْهُ المنيَّةُ قبلَ البِعْثَةِ المحمدية؛ وأدركها ورقةُ بن نوفل، وكان يتوسَّمُها في رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قدَّمنا بما كانتْ خديجةُ تَنْعَتُه له وتصفُه له، وما هو منطوٍ عليه من الصفات الطاهرة الجميلة، وما ظهر عليه من الدلائل والآيات، ولهذا لما وقع ما وقع أخذتْ بيدِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وجاءتْ به إليه، فوقفت به عليه، وقالت: ابنَ عم

(4)

، اسمعْ من ابنِ أخيك. فلما قصَّ عليه رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم خَبَر ما رأى قال ورقة: سُبُّوح سُبُّوح! هذا الناموسُ الذي أُنزل على موسى -[والناموسُ في اللغة: هو الرسول في الخير؛ والجاسوس: هو الرسول في الشر - وقال: الذي أنزله على موسى]

(5)

، ولم يذكُره عيسى، وإنْ كان متأخِّرًا بعد موسى، لأنه كانت شريعتُه مُتَمِّمَة ومكمِّلة لشريعةِ موسى عليهما السلام، ونسختْ بعضَها على الصحيح من قول

(6)

العلماء. كما قال: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران: 50]. وقولُ ورَقَةَ هذا كما قالت الجن: {قَالُوا يَاقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأحقاف: 30].

ثم قال ورقة: يا ليتني فيها جَذَعًا

(7)

. أي: يا ليتني أكونُ اليومَ شابًّا متمكِّنًا من الإيمان والعِلْم النافِع والعملِ الصالح، يا ليتني أكون [اليوم شابّا متمكنًا]

(8)

حَيًّا حين يُخرجك قومُك، يعني حتى أخرجَ معك

(1)

ط (2/ 237، 238).

(2)

الدَّخَل، محركة: الفساد والعيب والرِّيبة. والتخبيط: من الخبط في الظلام، وهو السير على غير هدى: اللسان (دخل، خبط).

(3)

كذا في ح، ط، وهو على لغة من قال: أكلوني البراغيث.

(4)

في: أي عم.

(5)

ما بين المعقوفين مستدرك في هامش ح.

(6)

في ح: قولي.

(7)

انظر (ص 188 ح 5).

(8)

ما بين المعقوفين مستدرك في هامش ح.

ص: 196

وأنصرَكَ. فعندها قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "أوَ مُخْرِجي هُمْ؟ " قال السُّهَيْلي

(1)

: وإنما قال ذلك، لأن فراقَ الوطن شديدٌ على النفوس. فقال: نعم، إنّهُ لم يأتِ أحدٌ بمثلِ ما جئتَ به إلا عُودي، وإنْ يُدْركني يومُك أَنْصُرْكَ نصرًا مؤزَّرًا. أي: أنصركَ نصرًا عَزيزًا أبدًا.

وقوله: ثم لم ينشَبْ ورقَةُ أنْ تُوُفِّي؛ أي: تُوفِّي بعدَ هذه القصة بقليل

(2)

رحمه الله ورضي عنه، فإنَّ مثلَ هذا الذي صَدَر عنه، تصديقٌ بما وجدوا، إيمانٌ بما حَصَل من الوحي، ونيَّةٌ صالحة للمستقبل.

وقد قال الإمام أحمد

(3)

: حَدَّثَنَا حسن، عن ابنِ لَهِيعة، حدّثني أبو الأسود، عن عروة، عن عائشة، أنَّ خديجةَ سألتْ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم عن ورقَةَ بن نوْفَل فقال:"قَدْ رأيتُهُ [في المنام] فرأيتُ عليه ثيابَ بَيَاضٍ، فأحسَبُهُ لو كانَ من أهلِ النارِ لَمْ يَكُنْ عليه ثيابُ بَيَاض".

وهذا إسنادٌ حسن

(4)

، لكنْ رواهُ الزُّهْري وهشام عن عروة مرسلًا. فاللّه أعلم.

وروى الحافظُ أبو يَعْلَى

(5)

عن سُرَيج

(6)

بن يونس، عنِ إسماعيل، عن مجالد، عن الشعبي، عن جابر بن عبد اللَّه، أنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم سُئل عن ورَقَةَ بن نوْفل فقال:[قد رأيتُهُ فرأيتُ عليه ثيابَ بَيَاضٍ]

(7)

، أبْصَرْتُهُ في بُطْنَانِ الجنَّةِ وعليه السُّنْدُس"

(8)

. وسُئل عن زيد بن عمرِو بنِ نُفيل فقال: "يُبْعَثُ يومَ القيامةِ أُمَّةً وَحْدَه"

(9)

. وسئل عن أبي طالب [هل تَنْفَعُهُ نُبوَّتُك؟] فقال: " [نعم] أخْرَجَتْهُ من غَمْرَةٍ من جهنم إلى ضَحْضَاح منها". وسئل عن خَدِيجة - لأنَّها ماتَتْ قَبْلَ الفَرَائِضِ وأحكامِ القرآن - فقال: "أبْصَرْتُها على نَهَرٍ في الجنَّة، في بيتٍ من قَصَب، لا صَخَب فيه ولا نَصَب". إسنادٌ حَسَنْ

(10)

، ولبعضه شواهِدُ في الصَّحِيح. واللّه أعلم.

(1)

الروض الأنف (1/ 276).

(2)

ليست اللفظة في ح.

(3)

مسند أحمد (6/ 65) وما يأتي بين معقوفين منه.

(4)

هكذا قال رحمه الله، ومني أين يأتيه الحسن وهو من رواية ابن لهيعة وهو ضعيف، بل الصواب ما ذكره المصنف بعد هذا أن الزهري رواه مرسلًا (أخرجه عبد الرزاق 9709). وروى الترمذي (2288) بإسناد ضعيف جدًا فيه عثمان بن عبد الرحمن الوقاصي - وهو متروك - عن الزهري عن عروة عن عائشة، وضَعّفه. ولكن صححه الحاكم (4/ 393) فتعقبه الذهبي لظهور ضعفه الشديد. والخلاصة أنه لا يعرف إلا مرسلًا. (بشار).

(5)

مسند أبي يعلى رقم (281) و (2047).

(6)

في ح، ط: شريح تصحيف، والمثبت من مسند أبي يعلى والإكمال (4/ 272) وتهذيب الكمال (10/ 221).

(7)

ما بين المعقوفين ليس في مسند أبي يعلى.

(8)

في مسند أبي يعلى: عليه سندس، وفيه تقديم السؤال عن أبي طالب ثم عن خديجة ثم عن ورقة ثم عن زيد، وما يأتي بين معقوفين منه.

(9)

زاد أبو يعلى: بيني وبين عيسى.

(10)

هكذا قال رحمه الله وفي إسناده مجالد بن سعيد ليس بالقوي وتغير في آخر عمره كما قال الحافظ ابن حجر في =

ص: 197

وقال الحافظ أبو بكر البزَّار

(1)

: حَدَّثَنَا عُبيد بن إسماعيل، حَدَّثَنَا أبو أسامة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة. قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تَسُبُّوا وَرَقَة، فإني رأيتُ له جنَّةً أو جنَّتَيْنِ".

وكذا رواه ابنُ عساكر

(2)

من حديث أبي سعيد الأشجّ، عن أبي معاوية، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة؛ وهذا إسنادٌ جيد. ورُوي مرسلًا، وهو أشبه.

وروى الحافظان: البيهقيّ وأبو نُعيم في كتابيهما "دلائل النبوة"

(3)

، من حديث يونس بن بُكير، عن يونس بن عمرو، عن أبيه، عن عمرو بن شرحبيل، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم -قال لخديجة:"إني إذا خلَوْتُ وحدي سمعتُ نداءً، وقد خَشِيت واللّه أنْ يكون لهذا أمر". قالت: معاذَ اللَّه، ما كان ليفعل ذلك بك، فوالله إنك لَتُؤَدِّي الأمانة، وتصِلُ الرَّحِم، وتَصْدُق الحديث، فلما دخل أبو بكر وليس رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ذكرتْ له خديجةُ، فقالت: يا عَتِيق

(4)

، اذهبْ مع محمدٍ إلى وَرَقة. فلما دخل رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم أخذ بيده أبو بكر فقال: انطلقْ بنا إلى ورقة. قال: "ومنْ أخبرك؟ " قال: خديجة، فانطلقا إليه فقصَّا عليه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إني إذا خلوتُ وحدي سمعتُ نداء خَلْفي: يا محمد، يا محمد، فأنطلقُ هاربًا في الأرض". فقال له: لا تفعلْ، إذا أتاك فاثْبُتْ، حتَّى تسمعَ ما يقولُ لك، ثم ائْتني فأخْبرني. فلما خلا ناداه: يا محمد قُلْ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} حتَّى بلغ {وَلَا الضَّالِّينَ} قُلْ لا إله إلا الله. فأتى وَرَقَة، فذكرَ له ذلك، فقال له ورقة: أبْشِرْ، ثم أبشر. فانا أشهدُ أنك الذي بشَّرَ بك

(5)

ابنُ مريم، وأنك على مثل ناموس موسى، وأنك نبيٌّ مُرسل، وأنَّك ستؤمر بالجهاد بعد يومِك هذا، ولئن أدركني ذلك لأجاهدَنَّ معك. فلما توفي [ورقة] قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لقد رأيتُ القَسَّ في الجنة عليه ثياب الحرير

(6)

، لأنه آمن بي وصدَّقني" يعني ورقة.

هذا لفظ البيهقي، وهو مرسل، وفيه غرابة، وهو كونُ الفاتحةِ أولَ ما نزل، وقد قدَّمنا من شعره ما يدلُّ على إضمارِهِ الإيمان وعَقْدِهِ عليه وتأكده عنده، وذلك حين أخبرته خديجةُ ما كان من أمره مع

= التقريب، وقال البخاري: كان يحيى بن سعيد يضعفه، وكان عبد الرحمن بن مهدي لا يروي عنه شيئًا، وكان أحمد بن حنبل لا يراه شيئًا يقول: ليس بشيء، وضعفه ابن سعد، والجوزجاني، وأبو داود، والترمذي، والدارقطني، والنسائي في أصح الروايات عنه وغيرهم. كما هو مبين في تهذيب الكمال (27/ 221 - 225) وتعليقنا عليه (بشار).

(1)

مجمع الزوائد (9/ 416) وقال الهيثمي: رواه البزار متصلًا ومرسلًا، وزاد في المرسل "كان بين أخي ورقة وبين رجل كلام، فوقع الرجل في ورقة ليغضبه والباقي بنحوه، ورجال المسند والمرسل رجال الصحيح".

(2)

ليس الخبر في قسمي السيرة 1 و 2 من تاريخ ابن عساكر المطبوع بمجمع اللغة العربية بدمشق وهو في (63/ 24).

(3)

دلائل النبوة للبيهقي (2/ 158) وما يأتي بين معقوفين منه، ولم أجد في المطبوع من دلائل أبي نعيم.

(4)

سقطت اللفظة من ح.

(5)

في الدلائل: به.

(6)

في ح: حَبَر وهو جمع حِبَرَة، ضرب من برود اليمن، والمثبت من ط والدلائل.

ص: 198

غلامها ميسرة، وكيف كانت الغمامة تظلِّلُه في هَجير القَيْظ. فقال ورقةُ في ذلك أشعارًا قدَّمناها قبل هذا، منها قوله:[من الوافر]

لَجِجْتُ وكنتُ في الذّكرى لَجُوجًا

لأمرٍ طالما بعث النَّشِيجا

ووصفٍ من خديجةَ بعدَ وصفٍ .... فقد طالَ انتظاري ياخَديجا

ببطنِ المكَّتَيْنِ على رجائي

حديثَكِ أنْ أرى منهُ خُروجا

بما خبَّرْتِنا من قولِ قَسٍّ

من الرُّهْبان أكرهُ أنْ يَعُوجا

بأنَّ محمدًا سيسودُ قومًا

ويَخْصِمُ مَنْ يكونُ له حَجيجا

ويُظهرُ في البلادِ ضياءَ نورٍ

يقيمُ به البريَّةَ أنْ تَعُوجا

(1)

ويلقى مَنْ يُحاربُهُ خَسارًا .... ويَلقى مَنْ يسالمه فُلُوجا

(2)

فيا ليتي إذا ما كانَ ذاكم

شَهِدتُ وكنتُ أوَّلَهُم وُلُوجا

ولو كانَ الذي كرهتْ قريشٌ

ولو عَجَّتْ بمكَّتِها عَجيجا

أُرَجِّي بالذي كرهوا جَميعًا

إلى ذي العرشِ إذ سَفَلُوا عُروجا

فإن يَبْقَوا وأبْقَ تكنْ أمورٌ .... يَضِجُّ الكافرونَ لها ضَجِيجا

(3)

وقال أيضًا في قصيدته الأخرى: [من الطويل]

وأخبارِ صدقٍ خَبَّرَتْ عن محمدٍ

يخبِّرُها عنهُ إذا غابَ ناصحُ

بأنَّ ابنَ عبدِ الله أحمدَ مرسلٌ

إلى كلِّ من ضُمَّتْ عليه الأباطح

وظنِّي به أنْ سوفَ يُبْعَثُ صادِقًا

كما أُرسِلَ العَبْدانِ هودٌ وصالح

وموسى

(4)

وإبراهيمُ حتَّى يُرى له

بهاءٌ ومنشورٌ من الذِّكْر

(5)

واضح

ويتبعُه حيَّا لؤيِّ بنِ غالب

(6)

شبابُهمُ والأشْيَبُونَ الجحاجح

فإنْ أبقَ حتَّى يدركَ الناسُ دهرَهُ

فإني إذًا مستبشرُ الودِّ فارحُ

وإلا فإني يا خديجةُ فاعلمي

عن ارضِكِ في الأرضِ العَرِيضة سائح

(7)

(1)

كذا في ح، ط وفي سيرة ابن هشام (1/ 192): تموجا. وهو أشبه، لأن عوِجَ من باب تعب بمعنى التوى فمضارعه يَعْوَج.

(2)

فلج فلوجًا من باب قعد: ظفِر بما طلب. المصباح (فلج).

(3)

في ح: بها. والأبيات في سيرة ابن هشام (1/ 191، 192).

(4)

هذه رواية ط والروض، وفي ح: ونوح وإبراهيم.

(5)

في ط: منشور من الحق.

(6)

في الروض: ويتبعه حيا لؤي جماعة.

(7)

الأبيات في الروض (1/ 220، 221).

ص: 199

وقال يونس بن بُكير عن ابن إسحاق قال ورَقَة

(1)

: [من الطويل]

فإنْ يكُ حقًّا ياخديجةُ فاعلمي

حديثُكَ إيَّانا فأحمدُ مرسَلُ

وجبريلُ يأتيه وميكالُ معْهُما .... من اللّهِ وحيٌ يشرحُ الصَّدْرَ مُنْزَل

يفوزُ به مَن فازَ فيها بتوبةٍ .... ويشقى به العاني الغريرُ المضلَّل

(2)

فريقان منهمْ فِرْقة في جِنانِهِ

وأُخرى بأجْوازِ الجحيم تُغَلَّل

(3)

إذا ما دَعوا بالويلِ فيها تتابعتْ

مقامعُ في هاماتهمْ ثمَّ تُشْعَلُ

فسُبحانَ من يُهوِي الرياحَ بأمره .... ومن هو في الأيام ما شاءَ يفعل

ومَن عرشُه فوق السمواتِ كلِّها .... وأقضاؤه

(4)

في خَلْقِه لا تُبدَّل

وقال ورقة أيضًا

(5)

: [من البسيط]

يا لَلرِّجالِ وصَرْفِ الدهر والقدَرِ .... وما لشيءٍ قضاهُ اللهُ من غيرِ

حتَّى خديجةُ تدعوني لأُخبرَها

أمرًا أراهُ سيأتي الناسَ من أُخُرِ

وخبَّرَتْني بأمرٍ قد سمعتُ به

فيما مضى من قديم الدهرِ والعُصُر

بأنَّ أحمدَ يأتيهِ ويخبرُه .... جبريلُ أنَّكَ مبعوثٌ إلى البَشَر

فقلتُ علَّ الذي ترجينَ يُنجزُه

لكِ الإلهَ فرجِّي الخيرَ وانتظري

وأرسليه إلينا كي نُسائلَهُ

عن أمرِهِ ما يرى في النوم والسَّهَر

فقالَ - حين أتانا - مَنطقًا عَجَبًا

يَقِفُّ منه أعالي الجِلْدِ والشَّعَرِ

إني رأيتُ أمينَ اللَّه واجَهَني .... في صورةٍ أُكملتْ من أعظم الصور

ثم استمر فكاد

(6)

الخوفُ يَذْعَرُني .... مما يسلِّم مِنْ حولي من الشجر

فقلتُ ظنِّي وما أدري أيصدُقني

أنْ سوفَ يُبْعَثُ يتلو مُنْزَل السُّور

وسوف أُنبيك

(7)

إن أعلنتَ دعوتَهُم .... من الجهادِ بلا مَنٍّ ولا كَدَر

هكذا أورد ذلك الحافظ البيهقي من "الدلائل" وعندي في صحتها عن ورقةَ نظر، واللّه أعلم.

[وقال ابن إسحاق: حدّثني عبد الملك بن عبد اللَّه بن أبي سفيان بن العلاء بن جارية الثقفي - وكان

(1)

الأبيات في دلائل البيهقي (2/ 150).

(2)

في دلائل البيهقي: ويشقى بها العاتي الغوي المضلل. وهو أشبه، ويحتمل: العاني إذا كان أسِيرًا للأهواء.

(3)

الجَوْز من كل شيء وسطه وجمعه أجواز. وتُغَلَّل: تدخل فيها. اللسان (جوز، غلل).

(4)

كذا في ح، ط والدلائل للبيهقي.

(5)

الأبيات في دلائل البيهقي (2/ 150).

(6)

في ح: فكان.

(7)

في ح: أبليك، وفي ط: يبليك. والمثبت من الدلائل.

ص: 200

واعية - عن بعض أهل العلم، أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حين أراد اللَّه كرامته وابتدأه بالنبوَّة، كان إذا خرج لحاجته أبْعَدَ حتَّى يحسر البيوت عنه

(1)

، ويُفضي إلى شعاب مكة وبُطونِ أوديتها، فلا يمرُّ بحجرٍ ولا شجر إلَّا قال: السلام عليك يا رسول الله. قال: فيلتفت حوله عن يمينه وعن شماله وخلفه فلا يرى إِلَّا الشجرَ والحجارة، فمكث كذلك يرى ويسمع ما شاء اللَّه أن يمكثَ، ثمَّ جاءه جبريل عليه السلام بما جاء من كرامة الله وهو بحراء في رمضان]

(2)

.

قال ابن إسحاق

(3)

: وحدّثني وَهْبُ بن كَيْسان مولى آلِ الزبير قال: سمعتُ عبدَ اللَّه بنَ الزبير وهو يقول لِعُبيد بن عُمير بن قتادةَ اللَّيثي: حدَّثَنَا يا عُبيد كيف كان بُدُوُّ ما ابتُدئَ به رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم من النبوة حين جاءه جبريل. قال: فقال عُبيد - وأنا حاضر، يحدِّثُ عبدَ اللَّه بنَ الزبير ومن عندَهُ من الناس -: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يجاور في حِرَاء في كلِّ سنةٍ شهرًا. قال: وكان ذلك مما تحنَّثُ

(4)

به قريش في الجاهلية، والتحنُّث التبرُّر

(5)

.

فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور ذلك الشهر من كل سنة، يُطعم مَنْ جاءه من المساكين، فإذا قَضَى جِوارَهُ من شهرِه ذلك، كان أولُ ما يبدأ به إذا انصرف من جِوارِه الكعبة، قبل أنْ يدخلَ بيتَه فيطوف بها سبعًا، أو ما شاء اللَّه من ذلك، ثم يرجِعُ إلى بيته، حتَّى إذا كان الشهرُ الذي أراد اللَّه به فيه ما أراد من كرامته، من السنة التي بعثَهُ فيها، وذلك الشهر رمضان، خرج إلى حِرَاء كما كان يخرج لجواره، ومعه أهلُه، حتى إذا كانتِ الليلةُ التي أكرمَهُ الله فيها برسالته، ورحِمَ العبادَ به

(6)

جاءه جبريلُ بأمر الله تعالى. قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "فجاءني وأنا نائم بنَمَطٍ من ديباج"

(7)

فيه كتاب فقال: اقرأ. قلت: ما أقرأ؟ قال: فغتَّني حتى ظننتُ أنه الموت

(8)

، ثم أرسلني فقال: اقرأْ. قلت: ما أقرأ؟ قال: فغتَّني حتَّى ظننتُ أنه الموت، ثم أرسلني فقال: اقرأ. قلت: ما اقرأ؟ فقال: فغتَّني حتى ظننتُ أنه الموت، ثم أرسلني فقال: اقرأ. قلتُ: ماذا أقرأ؟ ما أقول ذلك إلا اقتداءً منه أنْ يعود لي بمثل ما صنع بي. فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} . [العلق:1 - 5] قال:

(1)

في ط: لحاجة أبعد حتى يحسر الثوب. والمثبت من سيرة ابن هشام والروض.

(2)

سقط الخبر من ح وهو في ط وسيرة ابن هشام (1/ 234) والروض (1/ 266) وفيهما: عبد الملك بن عبيد اللَّه. تصحيف، وقد تقدمت الإشارة إلى ترجمته في (ص 191) ح (7).

(3)

سيرة ابن هشام (1/ 235، 236) والروض (1/ 267، 268).

(4)

في ط: يحبب، وفي ح بإهمال الحروف، والمثبت من السيرة والروض.

(5)

ومن معانيه أيضًا التعبُّد كما مر (ص 192 في المتن).

(6)

في السيرة والروض: بها.

(7)

انظر (ص 187) ح (2).

(8)

الغت والغط سواء، كأنه أراد عصرني عصرًا شديدًا حتى وجدت منه المشقة، كما يجد من يُغمس في الماء قهرًا. النهاية (غتت).

ص: 201

فقرأتُها، ثم انتهى وانصرف عني وهببتُ من نَوْمي فكأنما كتب في قلبي كتابًا

(1)

. قال فخرجتُ حتى إذا كنتُ في وسطٍ من الجبل، سمعتُ صوتًا من السماء يقول: يا محمد، أنت رسولُ اللَّه وأنا جبريل. قال: فرفعتُ رأسي إلى السماء، فأنظر

(2)

، فإذا جبريلُ في صورةِ رجلٍ صافٍّ قدمَيْه في أُفقِ السماء يقول: يا محمد أنت رسولُ اللَّه وأنا جبريل. فوقفت أنظر إليه. فما أتقدَّم وما أتأخر، وجعلتُ أصرِف وجهي عنه في آفاق السماء. فما أنظر في ناحيةٍ منها إلا رأيتُه كذلك، فما زلتُ واقفًا ما أتقدَّم أمامي وما أرجعُ ورائي حتَّى بعثَتْ خديجةُ رُسلَهَا في طلبي، فبلغوا [أعلى]

(3)

مكة ورجعوا إليها وأنا واقف في مكاني ذلك؛ ثم انصرف عني.

وانصرفتُ راجعًا إلى أهلي حتى أتيتُ خديجة فجلستُ إلى فَخذها مُضيفًا إليها

(4)

فقالت: يا أبا القاسم أين كنت؟ فوالله لقد بعثتُ رُسلي في طلبك، حتى بلغوا مكة ورجعوا إليّ. ثم حدثتها بالذي رأيت، فقالت: أبشِرْ يا ابن العم واثْبُتْ، فوالذي نفسُ خديجةَ بيده، إني لأرجو أن تكون نبيَّ هذه الأمة.

ثم قامتْ فجمعتْ عليها ثيابها، ثم انطلقتْ إلى ورقةَ بنِ نوفل، فأخبرتْهُ بما أخبرها به رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال ورقة: قُدُّوس قدُّوس، والذي نفسُ ورقةَ بيدِه، لئن كنتِ صدقْتِني يا خديجة، لقد جاءه الناموسُ الأكبر الذي كان يأتي موسى، وإنَّه لنبيُّ هذه الأمة، وقولي له فَلْيَثْبُتْ.

فرجعتْ خديجةُ إلى رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم فأخبرتْه بقولِ ورقة، فلما قضى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم جِوارَهُ وانصرف صنع كما كان يصنع، بدأ بالكعبةِ فطاف بها، فلَقِيَهُ ورقةُ بن نوفل وهو يطوفُ بالكعبةِ، فقال: يا ابنَ أخي، أخبرني بما رأيتَ وسمعت. فأخبره، فقال له ورقة: والذي نفسي بيده، إنَّكَ لنبيُّ هذه الأمة، ولقد جاءك الناموسُ الأكبرُ الذي جاء موسى، ولتكذَّبَنَهْ، ولتؤذَينَّهْ، ولتخرجَنَّهْ، ولتقاتَلنَّهْ، ولئن أنا أدركتُ ذلك اليوم لأنصرَنَّ الله نصرًا يعلمه. ثم أدنى رأسَهُ منه فقبَّل يا فُوخَه

(5)

، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منزله.

وهذا الذي ذكره عُبيد بن عُمير كما ذكرناه كالتوطئة لما جاء بعدَهُ من اليقظة كما تقدم من قولِ عائشة رضي الله عنها: فكان لا يرى رؤيا إلا جاءتْ مثلَ فَلَقِ الصُّبْح

(6)

. ويحتمل أنَّ هذا المنام كان بعدَ ما رآه

(1)

انظر ما تقدم (ص 189) والروض للسهيلي (1/ 268/ 269).

(2)

في السيرة والروض: أنظر وهو أشبه.

(3)

ما بين معقوفين من السيرة والروض.

(4)

مضيفًا إليها: من أضاف إليه: إذا مال ودنا. التاج (ضيف) راجع الخشني.

(5)

"اليافوخ": الموضع الذي يتحرك من رأس الطفل أو الليِّن منه قبل أن يتلاقى العظمان، معنى وسط الرأس. التاج (أفخ) وقال السهيلي في الروض (1/ 274): لا يقال في رأس الطفل يافوخ حتى يشتد وإنما يقال له الغاذية.

(6)

انظر ما تقدم (ص 189).

ص: 202

في اليقظة صبيحةَ ليلتئذ، ويحتمل أنه كان بعده بمدَّة. واللّه أعلم

(1)

.

وقال موسى بن عُقْبَة

(2)

، عن الزُّهري، عن سعيد بن المسيِّب قال: وكان فيما بلغنا أولُ ما رأى يعني رسولَ الله صلى الله عليه وسلم -أن اللّهَ تعالى أراه رؤيا في المنام، فشق ذلك عليه، فذكرها لامرأته خديجةَ فعصمها الله عن التكذيب، وشرح صدرَها للتصديق، فقالت: أبشرْ فإنَّ اللَّه لم يصنعْ بك إلا خيرًا، ثم إنه خرج من عندها ثم رجع إليها، فأخبرها أنه رأى بطنَهُ شُقَّ، ثم غُسل وطُهِّر، ثم أعيد كما كان. قالت: هذا واللّه خيرٌ فأبشرْ، ثم استعلَنَ له جبريل وهو بأعلى مكة، فأجلسه على مجلسٍ كريم مُعْجب، كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يقول: "أجلسني على بساط كهيئةِ الدُّرْنوك

(3)

، فيه الياقوت واللُّؤْلُؤ". فبشَّرَهُ برسالةِ اللّهِ عز وجل، حتَّى اطمأنَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال له جبريل: اقرأ. فقال: كيف أقرأ؟ فقال: قال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:1 - 5].

قال: ويزعم ناسٌ أنَّ {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} أولُ سورةٍ نزلَتْ عليه، واللّه أعلم.

قال

(4)

: فقبل رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم رسالةَ ربِّه واتَّبع ما جاءه به جبريل من عند اللَّه، فلما انصرف مُنقلبًا إلى بيته، جعل لا يمرُّ على شجرٍ ولا حجرٍ إلا سلَّم عليه، فرجع إلى أهله مسرورًا موقنًا، قد رأى أمرًا عظيمًا، فلما دخل على خديجة قال: أرأيتكِ التي كنتُ أُحدِّثُكِ أني رأيتُه في المنام؟ فإنَّهُ جبريلُ استعلَنَ إليّ، أرسله إليَّ ربِّي عز وجل". وأخبرها بالذي جاءَهُ من اللَّه وما سمع منه، فقالت: أبشرْ، فواللهِ لا يفعلُ اللَّه بك إلا خيرًا، واقْبَلِ الذي جاءك من أمرِ الله، فإنه حقّ، وأبشرْ، فإنَّكَ رسولُ اللَّه حقًّا.

ثم انطلقت من مكانها فأتت غلامًا لعُتْبَةَ بنِ ربيعةَ بنِ عبد شمس نصرانيًا من أهل نِينوى

(5)

، يقال له عَدَّاس، فقالت له: يا عدَّاس، أُذَكِّرك باللّه إلا ما أخبرتني هل عندك علمٌ من جبريل، فقال: قدُّوسٌ قدُّوس، ما شأنُ جبريلَ يُذكَرُ بهذه الأرض التي أهلُها أهلُ الأوثان! فقالت: أخبرْني بعلْمك فيه: قال: فإنَّهُ أمينُ اللَّه بينه وبين النبيِّيْن، وهو صاحبُ موسى وعيسى عليهما السلام.

فرجعتْ خديجة من عنده، فجاءت ورقةَ بنَ نوفل، فذكرت له ما كان من أمر النبي صلى الله عليه وسلم وما ألقاه إليه

(1)

انظر ما تقدم ص (189).

(2)

أورده البيهقي في دلائل النبوة (1/ 142) عن موسى بن عقبة، وبه أيضًا ذكره السيوطى فى الخصائص (1/ 93) وذكر تخريج أبي نعيم به أيضًا ولم أجده فيه.

(3)

"الدرنوك": سِتْرٌ له خَمْل. النهاية (درنك).

(4)

يعني سعيد بن المسيب.

(5)

"نينوى": هي قرية يونس بن متى عليه السلام بالموصل. معجم البلدان (5/ 339) وجاء في التاج (عدس) عن الروض للسهيلي: أن عداسًا حين سمع رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يذكر يونس بن متى عليه السلام قال: واللّه لقد خرجت منها - يعني نينوى وما فيها عشرة يعرفون ما متَّى، فمن أين عرفت متَّى وأنت أمِّي وفي أُمَّة أميّة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: هو أخي، كان نبيًا وأنا نبي.

ص: 203

جبريلِ. فقال لها ورقة: يا بُنَيَّةَ أخي، ما أدري لعلَّ صاحبَكِ النبيُّ الذي ينتظرُ أهلُ الكتاب، الذي يجدونهُ مكتوبًا عندهم فى التوراةِ والإنجيل، وأُقسمُ باللّه لئن كان إيَّاه، ثم أظهر دعواهُ وأنا حيٌّ لأبْلينَّ اللّهَ في طاعةِ رسوله وحسنِ مؤازرته

(1)

، للصبر

(2)

والنصر. فمات ورقةُ رحمه الله.

قال الزهري: فكانت خديجة أولَ مَنْ آمن باللّه وصدَّق رسوله صلى الله عليه وسلم.

قال الحافظ البيهقي بعد إيرادِهِ ما ذكرنا

(3)

؛ والذي ذُكر فيه من شَقِّ بطنه، يحتمل أن يكونَ حكاية منه لما صُنع به في صباه - يعني شقَّ بطنه عند حليمة - ويحتمل أن يكون شُقَّ مرَّةً أخرى ثم ثالثة حين عُرجَ به إلى السماء. واللّه أعلم.

وقد ذكر الحافظُ ابن عساكر في ترجمةِ ورَقَة

(4)

بإسناده إلى سليمان بن طَرْخان التَّيْميِّ قال: بلغَنا أنَّ الله تعالى بعث محمدًا رسولًا على رأسِ خمسينَ سنةً من بناءِ الكعبة

(5)

، وكان أول شيء اختصَّهُ به من النبوَّة والكرامة رؤيا كان يراها، فقصَّ ذلك على زوجته خديجةَ بنت خُويلد، فقالت له: أبشرْ، فواللّه لا يفعَلُ اللّهُ بك إلا خيرًا. فبينما هو ذات يوم في حِرَاء، وكان يفرُّ إليه من قومِهِ إذْ نَزَل عليه جِبْريل، فدنا منه، فخافه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مخافةً شديدة، فوضع جبريلُ يدَهُ على صدره ومن خلفه بين كتفَيْه. فقال: اللهم احْطُطْ وِزْرَه، واشرَحْ صدره، وطهِّرْ قلبه، يا محمد أبْشِرْ! فإنك نبيُّ هذه الأمة، اقرأْ. فقال له نبيُّ اللَّه وهو خائفٌ يُرْعَد:"ما قرأتُ كتابًا قطُّ ولا أُحْسِنُه، وما أكتبُ وما أقرأ" فأخذه جبريلُ فغتَّةُ غتًا شديدًا، ثم تركه ثم قال له: اقرأْ. فأعادَ عليه مثلَه، فأجلسه على بساطٍ كهيئةِ الدُّرْنُوك، فرأى فيه من صفائِهِ وحسنِه كهيئةِ اللُّؤلُؤِ والياقوت، وقال له:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)} الآيات، ثم قال له: لا تخفْ يا محمد، إنَّكَ رسولُ اللَّه. ثم انصرف وأقبل على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم همُّه فقال:"كيف أصنعُ وكيف أقولُ لقومي؟ " ثم قام رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو خائف، فأتاه جبريل من أمامِه وهو في صورته

(6)

، فرأى رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم أمرًا عظيمًا ملأ صَدْرَه، فقال له جبريل: لا تخَفْ يا محمد، جبريلُ رسولُ اللَّه، جبريلُ رسولُ اللَّه إلى أنبيائِهِ ورُسُله؛ فأيقنْ بكرامةِ اللَّه، فإنك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فرجع رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم لا يمرُّ على شجرٍ ولا حجر إلا هو ساجدٌ يقول: السلامُ عليك يا رسولَ اللَّه. فاطمأنَّتْ نفسُه، وعرفَ كرامةَ اللَّه إياه، فلما انتهى إلى زوجته خديجة أبصرتْ ما بوجههِ من تغيُّر لونه، فأفزَعَها ذلك، فقامتْ إليه: فلما دنَتْ منه جعلتْ تمسَحُ عن وجهه

(1)

"لأبلين": لأخبرَنَّ، وأصله من قولهم: أبليت فلانًا يمينًا: إذا حلفت له بيمين طيَّبتَ بها نفسه. اللسان (بلو).

(2)

كذا في ح، ط وفي الدلائل: الصبر من غير لام.

(3)

الدلائل (2/ 146).

(4)

في تاريخ ابن عساكر (63/ 17)، وهو خبر ضعيف.

(5)

إن كان يريد بناء قريش فهذا لا يصح لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم شهدها كما هو معروف في كتب السيرة، وإن كان يريد أول بنائها، فهذا بعيد جدًا (بشار).

(6)

في ط: صعرته. تحريف.

ص: 204

وتقول: لعلك لبعض ما كنتَ ترى وتسمع قبلَ اليوم! فقال: "يا خديجة، أرأيت الذي كنتُ أرى في المنام، والصوتَ الذي كنتُ أسمع في اليَقَظة وأُهالُ منه، فإنَّهُ جبريلُ قد استعلن لي، وكلَّمني وأقرأني كلامًا فزِعْتُ منه، ثم عاد إليّ، فأخبرني أنِّي نبيُّ هذه الأمة، فأقبلتُ راجعًا فأقبلتُ على شجرٍ وحجارة، فقلْنَ: السلامُ عليكَ يا رسول اللَّه" فقالتْ خديجة: أبشرْ، فواللّهِ لقد كنتُ أعلم أنَّ اللَّه لنْ يفعلَ بك إلا خيرًا، وأشهدُ أنَّك نبيُّ هذه الأمةِ الذي تنتظرُهُ اليهود، قد أخبرني به ناصحٌ، غُلامي وبَحِيرَى الراهب

(1)

، وأمرني أن أتزوَّجَك منذُ أكثرَ من عشرين سنة.

فلم تزَلْ برسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم حتَّى طعِمَ وشرب وضحِك، ثم خرجتْ إلى الراهب وكان قريبًا من مكة، فلما دنتْ منه وعرفها قال: ما لكِ يا سيدةَ نساءَ قريش؟ فقالت: أقبلتُ إليك لتخبرَني عن جبريل، فقال: سبحان اللّهِ ربَّنَا القدُّوس! ما بالُ جبريلَ يُذكَرُ في هذه البلادِ التي يَعبُدُ أهلُها الأوثان؟ جبريلُ أمينُ اللّهِ، ورسُولُه إلى أنبيائه ورسُلِه، وهو صاحبُ موسى وعيسى. فعرفتْ كرامةَ اللّهِ لمحمد، ثم أتتْ عبدًا لِعُتْبَةَ بنِ ربيعةَ يقالُ له: عدَّاس، فسألَتْهُ، فأخبرها بمثلِ ما أخبرها به الراهب وأزيد، قال: جبريلُ كان مع موسى حين أَغْرَق اللهُ فِرْعَوْنَ وقومه، وكان معه حين كلَّمه اللَّه على الطُّور، وهو صاحبُ عيسى بن مريمَ الذي أيَّدَهُ الله به.

ثم قامتْ من عنده فأتت ورقَةَ بنَ نوفل، فسألتْهُ عن جبريل، فقال لها مثلَ ذلك، ثم سألها: ما الخبر؟ فأحلفتهُ أنْ يكتُم ما تقولُ له، فحلف لها، فقالت له: إنَّ ابنَ عبد اللَّه ذكر لي - وهو صادق، أحلفُ باللّه ما كذَبَ ولا كُذِّبَ - أنه نزل عليه جبريلُ بحراء وأنه أخبره أنه نبيُّ هذه الأمة، وأقرأه آياتٍ أُرسل بها. قال: فَذُعِرَ ورقَةُ لذلك وقال: لئنْ كان جبريلُ قد استقرَّتْ قدماهُ على الأرض، لقد نزل على خيرِ أهل الأرض، وما نزل إلا على نبيّ، وهو صاحبُ الأنبياء والرسل، يُرْسله الله إليهم، وقد صدَّقْتُكِ عنه، فأرسلي إليَّ ابنَ عبد اللَّه أسأله وأسمعُ من قوله وأحدِّثُه، فإني أخافُ أنْ يكونَ غيرَ جبريل، فإنَّ بعضَ الشياطينِ يتشَبَّهُ به لِيُضِلَّ به بعضَ بني آدم ويفسِدَهم، حتَّى يصيرَ الرجلُ بعدَ العقلِ الرضيّ، مُدَلَّهًا مجنونًا.

فقامت من عنده وهي واثقةٌ بالله أنْ لا يفعلَ بصاحبها إلَّا خيرًا، فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخْبرتْهُ بما قال ورقَة، فأنزل اللَّه تعالى:{ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ}

(2)

الآيات. فقال لها: "كلا والله، إنَّه لجبريل" فقالت له: أُحِبُّ أن تأتيَهُ فتخبرَه، لعل اللَّه أنْ يَهْدِيَه. فجاءَهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال له ورقة: هذا الذي جاءك، جاءك في نورٍ أو ظُلْمة؟ فأخبره رسولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم عن صفةِ جبريل وما رآه من عظمتِه وهيئتة

(3)

، وما أوحاهُ إليه. فقال ورقة: أشهدُ أنَّ هذا جبريل، وأنَّ هذا كلامُ اللَّه، فقد أمرك

(1)

أين لقيت سيدتنا خديجة بحيرى الراهب حتَّى يخبرها؟ (بشار).

(2)

القلم الآيتان (1 و 2) وسقط لفظ (ن) من ح.

(3)

سقطت اللفظة من ط.

ص: 205

بشيءَ تبلِّغُه قومَك وإنه لأمر نبوة، فإنْ أُدْرِكْ زمانَك أتَّبِعْك. ثم قال: أبشرِ ابنَ عبد المطلب بما بشَرك اللهُ به. قال: وفشا

(1)

قولُ ورقةَ وتصديقُه لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم فشقَّ ذلك على الملأ من قومه. قال وفَتَر الوحْي، فقالوا: لو كان من عند الله لتتابع، ولكنَّ الله قلاهُ. فأنزل الله {وَالضُّحَى} و {أَلَمْ نَشْرَحْ} بكمالهما

(2)

.

وقال البيهقي

(3)

: حَدَّثَنَا أبو عبد الله الحافظ، حَدَّثَنَا أبو العباس، حَدَّثَنَا أحمد بن عبد الجبار، حَدَّثَنَا يونس، عن ابن إسحاق [قال:] حدثني إسماعيل بن أبي حكيم مولى آل الزُّبير، أنه حدَّثه عن خديجةَ بنتِ خُويلد أنها قالت لِرسول اللهِ صلى الله عليه وسلم فيما تُثَبِّتُهُ فيما أكرمه اللَّه به من نبوَّته: يا ابنَ عمّ، تستطيع أنْ تخبرَني بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك؟ فقال:"نعم" فقالت: إذا جاءك فأخبرني. فبينا رسولُ اله صلى الله عليه وسلم عندها إذْ جاء جبريل فرآه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا خديجة، هذا جبريل" قالت: أتراهُ الآن؟ قال: "نعم" قالت: فاجْلِسْ إلى شِقِّي الأيمن، فتحوَّل فجلس، فقالت: أتراه الآن؟ قال: "نعم" قالت: فتحوَّلْ فاجلسْ في حِجْري فتحوَّل فجلس في حِجْرها، فقالت: هل تراهُ الآن؟ قال: "نعم" فتحسَّرَتْ رأسَها فشالَتْ خمارَها ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم جالسٌ في حجرها، فقالَتْ هل تراهُ الآن؟ قال:"لا" قالت: ما هذا بشيطان، إنَّ هذا الملكُ يا ابنَ عمّ، فاثْبُتْ وأبْشِرْ. ثم آمنتْ به وشهدت أنَّ ما جاء به هو الحقّ.

قال ابن إسحاق

(4)

فحدثتُ عبد الله بن حسن هذا الحديث فقال: قد سمعتُ أمي فاطمةَ بنتَ الحسين تحدِّثُ بهذا الحديث عن خديجة، إلا أنِّي سمعتُها تقول: أدخلَتْ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بينها وبين دِرْعِها فذهب عند ذلك جبريلُ عليه السلام.

قال البيهقي

(5)

: وهذا شيءٌ كان من خديجةَ تصنَعُه تستَثْبِتُ به الأمر احتياطًا لدينها وتصديقًا، فأما النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان وَثِقَ بما قال له جبريلُ وأراه من الآيات التي ذكرناها مرَّةً بعد أخرى، وما كان من تسليم الشجر والحجر عليه صلى الله عليه وسلم تسليمًا.

وقد قال مسلم في "صحيحه"

(6)

: حَدَّثَنَا أبو بكر بن أبي شيبة، حَدَّثَنَا يحيى بن أبي بكير، حَدَّثَنَا إبراهيم بن طَهْمان، حدّثني سماكُ بن حَرْب عن جابر بن سَمُرَة رضي الله عنه. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إني لأعرِفُ حجرًا بمكة كان يُسَلِّمُ عليَّ قبلَ أنْ أُبْعَث، إني لأعرفُهُ الآنَ".

وقال أبو داود الطيالسي

(7)

: حدَّثَنَا سليمان بن معاذ، عن سِمَاك بن حَرْب، عن جابر بن سَمُرَة، أنَّ

(1)

في ط: وذاع.

(2)

هما سورتا الضحى والشرح ورقمهما (93 و 94).

(3)

في الدلائل (2/ 151) وما يأتي بين معقوفين منه.

(4)

لا يزال ينقل من دلائل البيهقي (2/ 152).

(5)

عقب الحديث السابق.

(6)

صحيح مسلم (2277)(2) كتاب الفضائل باب فضل نسب النبي صلى الله عليه وسلم وتسليم الحجر عليه قبل النبوة.

(7)

مسند الطيالسي رقم (781) في مسند جابر. وأخرجه الترمذي عن الطيالسي به في جامعه (3624) المناقب باب في =

ص: 206

رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ بمكة لحجرًا كان يسلِّم عليّ لياليَ بُعثت، إني لأعرفُه إذا مرَرْتُ عليه".

وروى البيهقي

(1)

من حديث إسماعيل بن عبد الرحمن السُّدِّيِّ الكبير، عن عباد بن عبد اللَّه، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بمكة فخرج في بعض نواحيها، فما استقبله شجرٌ ولا جبلٌ إلا قال: السلام عليك يا رسول اللَّه.

وفي رواية

(2)

: لقد رأيتُني أدخلُ معه الوادي، فلا يمرُّ بحجرٍ ولا شجير إِلَّا قال: السلام عليك يا رسول الله وأنا أسمعُه.

‌فصل

قال البخاري في روايتِهِ المتقدِّمة

(3)

: ثم فتر الوحْيُ حتَّى حزِن النبيُّ صلى الله عليه وسلم فيما بلَغَنا حُزْنًا غدا

(4)

منه مرارًا كي يتردَّى من رؤوس شواهقِ الجبال، فكلما أوفى بِذِرْوَةِ جبل لكي يُلقي نفسَه تبدَّى لهُ جبريلُ فقال: يا محمد، إنَّك رسولُ الله حقًّا فيسكنُ لذلك جأْشُه وتَقِرُّ نفسُه، فيرجع، فإذا طالتْ عليه فترةُ الوحي غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذِرْوةِ جبل تبدَّى له جبريلُ، فقال له مثل ذلك.

وفي الصحيحين

(5)

من حديث عبد الرزاق، عن معمر، عن الزُّهري قال: سمعتُ أبا سلمة بن عبد الرحمن يحدِّث عن جابر بن عبد الله قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يحدِّث عن فترةِ الوَحْي قال: "فبينما أنا أمشي سمعتُ صوتًا منِ السماء، فرفعتُ بصري

(6)

فإذا الملَكُ الذي جاءني بحِرَاء قاعدٌ على كُرْسيٍّ بين السماء فجُئِثْتُ

(7)

منه فرَقًا

(8)

حتَّى هَوَيْتُ إلى الأرض، فجئتُ أهلي فقلت: زَمِّلُوني زَمِّلُوني

= آيات إثبات نبوة النبي صلى الله عليه وسلم وقال: هذا حديث حسن غريب. وهو كما قال من أصل سماك بن حرب.

(1)

في الدلائل (2/ 153، 154) وأخرجه أيضًا الترمذي في سننه رقم (3630) المناقب باب (6) عن عباد بن يعقوب عن الوليد بن أبي ثور عن عباد بن أبي يزيد عن علي وقال: هذا حديث غريب. أقول: يعني ضعيف.

(2)

عند البيهقي أيضًا في الدلائل (3/ 154).

(3)

المتقدمة ص (187 موضع الحاشية 5)، وقول البخاري هذا رقم (6982). وقال ابن حجر (12/ 359): والذي عدي أن هذه الزيادة خاصة برواية معمر، والزيادة في الحديث من قوله: حتَّى حزن إلى آخره، من بلاغات الزهري، وليست موصولة فهي منقطعة.

(4)

قال ابن حجر (12/ 360): عدا بعين مهملة من العدو، وهو الذهاب بسرعة، ومنهم من أعجمها من الذهاب غدوة.

(5)

فتح الباري رقم (4925) تفسير سورة المدثر (74) باب وثيابك فطهر، وصحيح مسلم (255 - 161) الإيمان باب بدء الوحي.

(6)

زادت نسخة: قبل السماء. وليست هذه الزيادة في هذا الحديث عن البخاري، وإنما هي في الحديث الذي يليه رقم (4926).

(7)

"جئثت منه": أي: ذعرت وخفت، ويروى: جثثت، وقيل معناه قُلعت من مكاني. وقال الحربي: أراد جُئثت - وهي رواية ح والصحيحين - فجعل مكان الهمزة ثاءً. النهاية (جأث - جثث).

(8)

في ح فزعًا وفي البخاري "رعبًا".

ص: 207

فأنزل الله: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: 1 - 5]. قال: "ثم حَمِيَ الوحْيُ وتتابع.

فهذا كان أولَ ما نزل من القرآنِ بعد فترة الوحي، لا مطلقًا، ذاك قوله {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} وقد ثبتَ عن جابر أنَّ أوَّلَ ما نزل {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} واللائق حَمْلُ كلامِه ما أمكن على ما قلناه، فإنَّ في سياقِ كلامه ما يدلُّ على تقدُّم مجيء الملَكِ الذي عرفه ثانيًا بما عرفه به أولًا إليه. ثم قوله: يحدِّثُ عن فترة الوحي، دليلٌ على تقدُّم الوحي على هذا الإيحاء والله أعلم.

وقد ثبت في الصحيحين

(1)

من حديث عليِّ بن المبارك، وعند مسلم عن

(2)

الأوزاعي كلاهما عن يحيى بن أبي كثير قال: سألتُ أبا سَلَمة بنَ عبد الرحمن: أيُّ القرآنِ أُنزِلَ قبلُ؟ فقال: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} فقلت: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} فقال: سألتُ جابرَ بن عبدِ الله: أيُّ القرآنِ أُنزل قبلُ؟ فقال: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} فقلت: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} ؟ فقال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إني جاورتُ بحِرَاء شهرًا، فلما قضَيْتُ جِوَاري نزلتُ فاستبطَنْتُ الوادي، فنُوديتُ، فنظرتُ بين يديَّ وخَلْفي وعن يميني وعن شِمالي فلم أر شيئًا، ثم نظرتُ إلى السماء فإذا هو على العرش في الهواء، فأخذَتْني رِعْدَة - أو قال وحشة

(3)

- فأتيتُ خديجةَ، فأمرتُهم يُدَثِّروني، فأنزل الله:{يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} حتَّى بلغ {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} .

وقال في رواية

(4)

: "فإذا الملَكُ الذي جاءني بحِرَاء جالسٌ على كرسيٍّ بين السماء والأرض، فجَئِثْتُ منه".

وهذا صريحٌ في تقدُّم إتيانِهِ إليه، وإنزالِهِ الوحيَ من الله عليه كما ذكرناه والله أعلم.

ومنهم من زعم أنَّ أولَ ما نزل بعد فترةِ الوحي سورة {وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} إلى آخرها. قاله محمد بن إسحاق

(5)

.

وقال بعضُ القراء

(6)

: ولهذا كبَّرَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم في أولها فرَحًا وهو قولٌ بعيد، يردُّه ما تقدَّم من روايةِ صاحِبَي الصحيح في أنَّ أولَ القرآنِ نزولًا بعد فترةِ الوحي:{يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ} ولكنْ نزلتْ سورةُ والضحى بعد فترةٍ أُخرى كانت لياليَ يسيرة، كما ثبت في الصحيحَيْن

(7)

وغيرهما من حديث الأسود بن

(1)

فتح الباري (4922) تفسير سورة المدثر (74) وصحيح مسلم (161)(257) الإيمان باب بدء الوحي.

(2)

في ط: "وعند مسلم والأوزاعي" وهو خطأ، والصواب ما أثبتناه، فقد رواه مسلم زهير بن حرب، عن الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي. (بشار).

(3)

في صحيح مسلم رجفة.

(4)

وهي رواية البخاري رقم (4925) باب وثيابك فطهر.

(5)

سيرة ابن هشام (1/ 241) والروض (1/ 281).

(6)

النشر لابن الجزري (2/ 405، 406).

(7)

فتح الباري (4950) تفسير سورة والضحى (93) باب ما ودعك ربك. وصحيح مسلم (1797)(115) الجهاد =

ص: 208

قيس عن جُنْدُب بن عبد الله البَجَلي قال: اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يقمْ ليلةً أو ليلتَيْنِ أو ثلاثًا فقالت امرأة

(1)

: ما أرى شيطانك إِلَّا تركك فأنزل اللَّه {وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} .

وبهذا الأمر حصل الإرسالُ إلى الناس، وبالأول حصلتِ النبوة. وقد قال بعضُهم: كانت مدَّة الفترة قريبًا من سنتَيْن أو سنتين ونصفًا، والظاهر واللّه أعلم أنها المدَّةُ التي اقترن معه ميكائيل، كما قال الشعبي وغيرُه

(2)

، ولا ينفي هذا تقدُّم إيحاءِ جبريل إليه أولًا:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} ثم [حصلتِ الفترةُ التي اقترن معه ميكائيل، ثم]

(3)

اقترن به جبريلُ بعد نزولِ {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} ثم حَمِيَ الوَحْيُ بعدَ هذا وتتابع - أي: تدارك شيئًا بعد شيء - وقام حينئذٍ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرسالة أتمَّ القيام، وشمَّرَ عن ساقِ العَزْم، ودعا إلى الله القريبَ والبعيد، والأحرار والعبيد، فآمن به حينئذٍ كل لبيبٍ مُجيبٍ

(4)

سعيد، واستمر على مخالفته وعصيانه كل جبارٍ عنيد، فكان أولَ من بادر إلى التصديق من الرجال الأحرار أبو بكرٍ الصديق، ومن الغلمان على بن أبي طالب، ومن النساء خَديجةُ بنتُ خُويلد زوجتُه عليه السلام، ومن الموالي مولاه زيد بنُ حارثةَ الكلبي رضي الله عنهم وأرضاهم. وتقدَّم الكلام على إيمانِ ورَقَةَ بنِ نوفل بما وَجَدَ من الوحي

(5)

، ومات في الفترة رضي الله عنه.

‌فصل

(6)

في منع الجانّ ومَرَدةِ الشياطين من استراقِ السَّمْعِ حين أُنزل القرآن لئلا يختطف أحد منهم ولو حرفًا واحدًا فيلقيه على لسان وليِّهِ فيلتبس الأمر ويختلط الحقّ

فكان من رحمةِ الله وفضله ولطفه بخلقه أنْ حجَبَهم عن السماء، كما قال اللَّه تعالى إخبارًا عنهم في

قوله: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن:8 - 10] وقال تعالى: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} [الشعراء: 210 - 212].

= والسير باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين والمنافقين. وفيهما بألفاظ متقاربة.

(1)

قال ابن حجر في الفتح (8/ 710): هي أم جميل بنت حرب، امرأة أبي لهب.

(2)

قول الشعبي تقدم في ص (190) في المتن وفيه: إسرافيل لا ميكائيل.

(3)

ما بين المعقوفين سقط من ط.

(4)

في ط: نجيب.

(5)

انظر ص (196).

(6)

في الهامش ما نصه: بلغ مقابلة.

ص: 209

قال الحافظ أبو نعيم

(1)

: حَدَّثَنَا سليمان بن أحمد - وهو الطبراني - حَدَّثَنَا عبد اللَّه بن محمد بن سعيد بن أبي مريم، حَدَّثَنَا محمد بن يوسف الفِرْيابي، حَدَّثَنَا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس قال: كان الجنُّ يصعَدُون إلى السماء يستمعون الوحي، فإذا سمعوا الكلمةَ زادوا فيها تسعًا، فأما الكلمة فتكونُ حقًّا، وأمَّا ما زادوا فيكون باطلًا، فلما بُعث النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُنعوا مقاعِدهم، فذكروا ذلك لإبليس، ولم تكنِ النجومُ يُرْمَى بها قبل ذلك، فقال لهم إبليس: هذا لأمرٍ قد حدث في الأرض، فبعث جنودَه فوجدوا رسول الله قائمًا يصلِّي بين جبلَيْن، فأتوْه فأخبروه فقال:"هذا الأمْرُ الذي قد حَدَث في الأرض".

وقال أبو عوانة عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: انطلق رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عامدين إلى سُوق عكاظ، وقد حِيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأُرسلَتْ عليهم الشُّهُب، فرجعتِ الشياطينُ إلى قومهم فقالوا: ما لكم؟ قالوا: حيلَ بيننا وبين خبرِ السماء، وأُرسلت علينا الشُّهُب، فقالوا: ما ذاك إلا من شيءٍ حدَث، فاضْرِبُوا مشارقَ الأرضِ ومغاربَها، [فانظروا ما هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء. فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها]

(2)

، فمرَّ النَّفَرُ الذين أخذوا نحو تهامة - وهو بنَخْل

(3)

- عامدين إلى سُوق عُكَاظ، وهو يصلِّي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن، استمعوا له فقالوا: هذا الذي حال بيننا وبين خبرِ السماء، فرجعوا إلى قومهم فقالوا: يا قومنا {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} [الجن: 1، 2]. فأوحى الله إلى نبيِّه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} [الجن:1] الآية. أخرجاه في الصحيحيْن

(4)

.

وقال أبو بكر بن أبي شيبة

(5)

: حَدَّثَنَا محمد بن فضيل، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جُبير عن ابن عباس قال: إنه لم تكن قبيلةٌ من الجِنِّ إلا ولهم مقاعدُ للسمْع، فإذا نزل الوحي سمعتِ الملائكة صوتًا كصوتِ الحديدة ألقيتها على الصَّفَا، قال: فإذا سمعتْه

(6)

الملائكةُ خَرُّوا سجَّدًا فلم يرفعوا رؤوسَهُمْ

(1)

لم أجده في المطبوع من الدلائل، وهو عند الطبراني في المعجم الكبير رقم (12431) فيما رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وأخرجه أيضًا أحمد في مسنده (1/ 274) من طريق إسرائيل به، والترمذي في جامعه (3324) تفسير سورة الجن من طريق الفريابي به وقال: هذا حديث حسن صحيح.

(2)

ما بين معقوفين ساقط من ح، ط فاستدركته من صحيح مسلم واللفظ له.

(3)

في فتح الباري "بنخلة" وقال فيه ابن حجر (8/ 674): موضع بين مكة والطائف. قال البكري: على ليلة من مكة، وهي التي ينسب إليها بطن نخل. وقع في رواية مسلم بنخل بلا هاءٍ والصواب إثباتها.

(4)

فتح الباري (4921) تفسير سورة {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ} ، وصحيح مسلم (149 - 449) الصلاة باب الجهر بالقراءة في الصبح والقراءة على الجن. وأخرجه أيضًا عن أبي عوانة به الترمذي في جامعه (3323) التفسير (70) باب ومن سورة الجن وقال: حديث حسن صحيح.

(5)

في المصنف (18391) المغازي باب ما رأى النبي صلى الله عليه وسلم قبل النبوة.

(6)

في ح، ط: سمعت، والمثبت من المصنف.

ص: 210

حتَّى ينزل، فإذا نزل قال بعضُهم لبعض: ماذا قال ربُّكم؟ فإن كان مما يكون في السماء قالوا: الحق وهو العليُّ الكبير، وإنْ كان مما يكون في الأرض من أمر الغَيْبِ أو موتٍ أو شيءٍ مما يكون في الأرض تكلَّموا به فقالوا: يكون كذا وكذا، فتسمَعُه الشياطين فينزلونه على أوليائهم، فلما بُعث النبيُّ محمد صلى الله عليه وسلم دُحِروا بالنجوم، فكان أولَ مَنْ علم بها ثقيف، فكان ذو الغنم منهم ينطلق إلى غنمه، فيذبح كل يومٍ شاة وذو الإبل ينحَرُ

(1)

كل يومٍ بعيرًا، فأسرع الناس في أموالهم، فقال بعضهم لبعض: لا تفعلوا فإنْ كانت النجومُ التي يُهتدَى بها، وإلَّا فإنه لأمرٍ حدث. فنظروا فإذا النجومُ التي يُهتدى بها كما هي لم يَزُلْ منها شيء

(2)

، فكفُّوا، وصرف اللَّه الجِنَّ، فسمعوا القرآن، فلما حضروه قالوا: أنصتوا. وانطلقتِ الشياطين إلى إبليسَ فأخبروه، فقال: هذا حدَثٌ حدَثَ في الأرض، فأْتُوني من كلِّ أرضٍ بتربة، فأتَوْهُ بتربةِ تهامة، فقال .. هاهنا الحدث.

[ورواه البيهقي والحاكم من طريق حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب]

(3)

.

وقال الواقدي: حدّثني أسامة بن زيد بن أسلم عن عمرو بن عبد اللَّه العبسي

(4)

، عن كعب قال: لم يُرْمَ بنجم منذ رُفع عيسى حتَّى تنبَّأ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فرُمي بها، فرأت قريشٌ أمرًا لم تكن تراه، فجعلوا يُسَيِّبُونَ أنعامهم ويعتقون أرقَّاءَهم يظنُّون أنه الفَنَاء، فبلغ ذلك من فعلهم أهلَ الطائف ففعلتْ ثقيفٌ مثل ذلك، فبلغ عبدَ يا ليل بنَ عمرو ما صنعتْ ثقيف. قال: ولم فعلتُم ما أرى؟ قالوا: رُمي بالنجوم، فرأيناها تهافَتُ من السماء. فقال: إنَّ إفادةَ المال بعد ذهابه شديد، فلا تعجلوا وانظروا، فإنْ تكنْ نجومًا تُعرف فهو عندنا من فناء الناس، وإن كانت نجومًا لا تعرف فهو لأمر قد حدث. فنظروا فإذا هي لا تُعرف، فأخبروه فقال: الأمر فيه مُهْلَةٌ بعدُ، هذا عند ظهور نبي. فما مكثوا إلا يسيرًا حتَّى قدم عليهم أبو سفيان بن حرب إلى أمواله، فجاءَهُ عبدُ يا ليل فذاكره أمر النجوم، فقال أبو سفيان: ظهر محمد بن عبد اللَّه يدَّعي أنه نبيٌّ مرسل. فقال عبدُ يا ليل: فعند ذلك رُمي بها

(5)

.

وقال سعيد بن منصور عن خالد، عن

(6)

حصين، عن عامر الشعبي قال: كانت النجومُ لا يُرمى بها

(1)

في ح، ط: فينحر. والمثبت من المصنف.

(2)

في المصنف: لم يرم منها بشيء.

(3)

ما بين المعقوفين ساقط من ح وقد أورده البيهقي في الدلائل بألفاظ مقاربة (2/ 240).

(4)

كذا في ح وفي ط: عمر بن عبدان العبسي. ولم أقف على ترجمة له، والخبر ساقه أبو الفرج بن الجوزي في الوفا (1/ 174) وروى فيه عن أبي بن كعب.

(5)

إسناده تالف، الواقدي متروك، وأسامة بن زيد بن أسلم ضعيف، وشيخه عمرو بن عبد اللَّه العبسي مجهول. (بشار).

(6)

في ح، ط: خالد بن حصين. تصحيف، والمثبت من دلائل البيهقي (2/ 241) ومما ثبت من رواية خالد بن عبد اللَّه الواسطي، عن حصين بن عبد الرحمن في تهذيب الكمال للمزي في ترجمتيهما، ورواية سعيد بن منصور عن خالد.

ص: 211

حتَّى بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فسيَّبوا أنعامَهم، وأعتقوا رقيفهم. فقال عبدُ يا ليل: انظروا، فإنْ كانتِ النجومُ التي تُعرف فهو عند فناء الناس، وإن كانت لا تعرف فهو لأمرٍ قد حدث. فنظروا فإذا هي لا تُعرف. قال: فأمسكوا فلم يلبثوا إلا يسيرًا حتَّى جاءهم خروجُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم.

وروى البيهقي

(1)

والحاكم من طريق العَوْفي عن ابن عباس قال: لم تكن سماءُ الدنيا تحرسُ في الفترة بين عيسى ومحمد صلوات اللَّه عليهما وسلامه، فلعل مرادَ مَنْ نَفَى ذلك أنها لم تكنْ تُحْرَسُ حراسةً شديدة، ويجب حمل ذلك على هذا، لما ثبت في الحديث

(2)

من طريق عبد الرزاق، عن معمر عن الزُّهْري عن علي بن الحسين، عن ابن عباس رضي الله عنهما: بينا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم جالسٌ إذْ رُمي بنجم فاستنار فقال: "ما كنتم تقولون إذا رُمي بهذا؟ " قال: كنا نقول: مات عظيم، وولد عظيم، فقال:"لا ولكن". فذكر الحديث كما تقدَّم عند خلق السماء وما فيها من الكواكب في أول بدء الخلق وللّه الحمد

(3)

.

وقد ذكر ابن إسحاق في "السيرة"

(4)

قصة رمي النجوم وذكر عن كبير ثَقِيف أنه قال لهم في النظر في النجوم: إنْ كانت أعلامُ السماء أو غيرها

(5)

، ولكن سماه عمرو بن أمية. فاللّه أعلم.

وقال السُّدِّي: لم تكن السماء تُحرس إلا أن يكونَ في الأرض نبيٌّ أو دِينٌ للهِ ظاهر، وكانتِ الشياطينُ قبل محمد صلى الله عليه وسلم قد اتخذتِ المقاعد في سماءَ الدنيا، يستمعون ما يحدثُ في السماء من أمر، فلما بَعَثَ اللَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم نبيًّا رُجموا ليلة من الليالي، ففزِعَ لذلك أهلُ الطائف، فقالوا: هلك أهلُ السماء لما رأوا من شدَّةِ النار في السماء، واختلاف الشهب، فجعلوا يعتقون أرقَّاءهم، ويُسَيِّبون مواشيَهم، فقال لهم عبدُ يا ليل بن عمرو بن عمير: ويحكم يا معشر أهلِ الطائف أمسكوا عن أموالكم، وانظروا

(6)

في معالم النجوم، فإن رأيتموها مستقرة

(7)

في أمكنتها فلم يهلك أهلُ السماء، وإنما هو

(8)

من ابن أبي كبشة، وإنْ أنتم لم ترَوْها فقد أُهلك أهل السماء، فنظروا فرأوها، فكفُّوا عن أموالهم، وفزِعَتِ الشياطين في تلك الليلة، فأتَوا إبليس فقال: ائتوني من كلِّ أرضٍ بقبضةٍ من تراب. فأتَوْه، فشمَّ فقال: صاحبُكم بمكة. فبعث سبعةَ نفَرٍ من جِنِّ نَصِيبين، فقدموا مكة، فوجدوا رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم في المسجد الحرام يقرأُ القرآن،

(1)

دلائل البيهقي (2/ 241)، وإسناده ضعيف لضعف العوفي واسمه عطية، وما قبله مجاهيل.

(2)

كما في دلائل البيهقي (2/ 238) وبنحوه أخرجه مسلم (2229)(124) في السلام باب تحريم الكهانة من طريق صالح عن ابن شهاب به. وبنحوه أورده ابن هشام في السيرة عن ابن إسحاق به.

(3)

انظر ما تقدم (1/ 15) وما بعدها.

(4)

سيرة ابن إسحاق (ص 113) وسيرة ابن هشام (1/ 206) والروض (1/ 236).

(5)

في السيرة والروض: فإن كانت معالم النجوم التي يهتدى بها

(6)

في ح: إلى.

(7)

في ح: مستمرة.

(8)

في ح: هذا.

ص: 212

فدنَوْا منه حِرْصًا على القرآن حتَّى كادت كلاكِلُهم تصيبُه، ثم أسلموا، فأنزل الله أمْرَهم على نبيِّه صلى الله عليه وسلم.

وقال الواقدي

(1)

: حدّثني محمد بن صالح عن ابن أبي حكيم - يعني إسحاق - عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة قال: لما بُعث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم -أصبح كلُّ صنم منكَّسًا، فأتت الشياطينُ فقالوا له: ما على الأرض من صنم إِلَّا وقد أصبح منكَّسًا. قال: هذا نبيٌّ قد بُعث، فالتمسوه في قرى الأرياف، فالتمسوه فقالوا: لم نجده. فقال: أنا صاحبه. فخرج يلتمسه، فنودي عليك بحَبَّةِ القلب

(2)

- يعني مكة - فالتمسه بها فوجده بها عند قَرْن الثعالب

(3)

، فخرج إلى الشياطين فقال: إني قد وجدتُه معه جبريل، فما عندكم؟ قالوا: نزيِّن الشهواتِ في أعْيُنِ أصحابه، ونحبِّبها إليهم قال: فلا آسى إذًا.

وقال الواقدي

(4)

: حدّثني طلحةُ بن عمرو، عن ابنِ أبي مُليكة، عن عبد اللَّه بن عمرو قال: لما كان اليوم الذي تنبَّأ فيه رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم مُنعتِ الشياطينُ من السماء، ورُموا بالشهب، فجاؤوا إلى إبليس فذكروا ذلك له، فقال: أمرٌ قد حدث، هذا نبيٌّ قد خرج عليكم بالأرض المقدسة مَخْرَجَ بني إسرائيل. قال: فذهبوا إلى الشام ثم رجعوا إليه فقالوا: ليس بها أحد. فقال إبليس: أنا صاحبُه فخرج في طلبه بمكة، فإذا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بحِرَاء منحدرًا معه جبريل فرجع

(5)

إلى أصحابه فقال: قد بُعث أحمد ومعه جبريل فما عندكم؟ قالوا: الدنيا نحبِّبُها إلى الناس قال: فذاك إذًا.

قال الواقدي

(6)

: وحدّثني طلحة بن عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس قال: كانت الشياطين يستمعون الوحي، فلما بُعث محمد صلى الله عليه وسلم مُنعوا، فشكَوْا ذلك إلى إبليس فقال: لقد حدث أمر فَرَقِيَ فوق أبي قُبيس - وهو أولُ جبلٍ وُضع على وجه الأرض - فرأى رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يصلِّي خلف المقام، فقال: اذهب فاكسرْ عُنقه. فجاء يخطِرُ وجبريل عنده، فركضَه جبريل ركضةً طرحَهُ في كذا وكذا، فولَّى الشيطانُ هاربًا.

ثم رواه الواقدي

(7)

وأبو أحمد الزبيري كلاهما عن رباح بن أبي معروف، عن قيس بن سعد، عن مجاهد فذكر مثل هذا وقال: فركضَهُ برجله فرماه بِعَدَن.

(1)

لم أجده فيما نقله عنه ابن سعد في الطبقات وأورده أبو نعيم في الدلائل (1/ 294) وأبو الفرج بن الجوزي في الوفا (1/ 176). وذكره أيضًا السيوطي في الخصائص (1/ 110).

(2)

في ط: بجنبة الباب، والمثبت من ح والدلائل والوفا.

(3)

قرن الثعالب، هو قرن المنازل: ميقات أهل نجد تلقاء مكة على يوم وليلة. معجم البلدان (4/ 332).

(4)

لم أجده فيما نقله عنه ابن سعد في الطبقات وأورده أبو نعيم في الدلائل (1/ 295) وذكره السيوطي في الخصائص (1/ 111).

(5)

في ح: فدفع. ومعناه: انتهى إلى أصحابه.

(6)

أورده أبو نعيم في الدلائل (1/ 296) وذكره السيوطي في الخصائص (1/ 112).

(7)

ذكره السيوطي في الخصائص (1/ 112).

ص: 213

‌فصل في كيفية إتيان الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

-

قد تقدم كيفيةُ ما جاءَهُ جبريلُ في أول مرة، وثاني مرة أيضًا.

وقال مالك

(1)

عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها، أنَّ الحارثَ بن هشام سأل رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول اللَّه، كيف يأتيك الوَحْيُ؟ فقال: "أحيانًا يأتيني مثلَ صَلْصَلَةِ

(2)

الجرَس - وهو أشدُّهُ عليَّ - فيفصِمُ عني وقد وعَيْتُ ما قال، وأحيانًا يتمثَّلُ لي الملَكُ رجلًا يُكلِّمُني فأعِيَ ما يقول". قالت عائشة رضي الله عنها: ولقد رأيتُه صلى الله عليه وسلم ينزل عليه الوحيُ في اليوم الشديدِ البَرْد فيفصِمُ عنه وإنَّ جبينَهُ ليتفَصَّدُ عَرَقًا.

أخرجاه في الصحيحَيْن من حديث مالكٍ به

(3)

.

ورواه الإمام أحمد

(4)

عن عامر بن صالح، عن هشام بن عروة به نحوه.

وكذا رواه عَبْدَة بن سليمان، وأنس بن عياض، عن هشام بن عروة، وقد رواه أيوب السختياني عن هشام عن أبيه عن الحارث بن هشام أنه قال: سألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: كيف يأتيك الوحي؟ فذكره، ولم يذكر عائشة.

وفي حديث الإفك

(5)

قالت عائشة: فواللّه ما رام رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم ولا خرج أحدٌ من أهل البيت حتَّى أُنزل عليه، فأخَذَهُ ما كان يأخذُهُ من البُرَحَاء، حتَّى إنه كان يتحدَّرُ منه مثلُ الجُمَان من العَرَق، وهو في يومٍ شاتٍ من ثقلِ الوحي الذي نزل عليه.

وقال الإمام أحمد

(6)

: حَدَّثَنَا عبدُ الرزاق، أخبرني يونس بن سُليم قال: أملى عليَّ يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، عن عروة، عن

(7)

عبد الرحمن بن عبدٍ القارِيّ: سمعتُ عمر بن الخطاب يقول: كان

(1)

الموطأ (1/ 202) القرآن باب ما جاء في القرآن.

(2)

في ح، ط: صلصة تصحيف، والمثبت من الموطأ. والصلصلة في الأصل: صوت وقوع الحديد بعضه على بعض ثم أطلق على كل صوت له طنين. فتح الباري (1/ 20).

(3)

فتح الباري (1/ 18) بدء الوحي باب حَدَّثَنَا عبد اللَّه بن يوسف. وصحيح مسلم (2333) الفضائل باب عرق النبي صلى الله عليه وسلم في البرد وحين يأتيه الوحى.

(4)

في مسنده (6/ 158).

(5)

انظر حديث الإفك مخرَّجًا فيما سيأتي في الجزء الرابع.

(6)

في مسنده (1/ 34)، وإسناده ضعيف لجهالة يونس بن سليم.

(7)

في ح، ط: عروة بن عبد الرحمن، وهو تصحيف، والمثبت من المسند. وما يأتي بين معقوفين منه.

ص: 214

إذا نزل على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم الوَحْي، يُسمع عند وجهه [دَوِيٌّ] كدَوِيِّ النَّحْل، وذكر تمام الحديث في نزول {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1)} [المؤمنون: 1].

وكذا رواه الترمذي والنسائي

(1)

من حديث عبد الرزاق، ثم قال النسائي: منكر لا نعرف أحدًا رواه غير يونس بن سليم، ولا نعرفه.

وفي صحيح مسلم وغيره

(2)

من حديث الحسن، عن حِطَّانَ بنِ عبد اللَّه الرَّقاشي، عن عُبادة بن الصامت قال: كان رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي كُرِب لذلك وتربَّد وجهه - وفي رواية وغمض عينَيْه - وكنا نعرفُ ذلك منه.

وفي الصحيحين

(3)

حديث زيد بن ثابت حين نزلت {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [فلما شكا ابنُ أمِّ مَكْتُوم ضرارَتَه نزلت]

(4)

{غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} . قال: وكانت فخذُ رسولِ اللّه صلى الله عليه وسلم على فَخِذي وأنا أكتب، فلما نزل الوحي كادَتْ فخِذُه تَرُضُّ فَخِذي.

وفي صحيح مسلم

(5)

من حديث همَّام بن يحيى، عن عطاء، عن يَعْلى بن أمية قال: قال لي عمر: أيَسُرُّك أنْ تنظُرَ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وهو يُوحَى إليه؟ فرفع [عمرُ] طرفَ الثوب عن وجهه وهو يُوحَى إليه بالجِعْرَانة

(6)

، فإذا هو محمرُّ الوَجْه، وهو يَغِطُّ كما يَغِطُّ البَكْر

(7)

.

وثبت في الصحيحَيْن

(8)

من حديث عائشة لما نزل الحِجَاب، وأنَّ سَوْدَةَ خرجتْ بعد ذلك إلى المَنَاصِع

(9)

ليلًا، فقال عمر: قد عرفناكِ يا سَوْدَة. فرجعتْ إلى رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم فسألَتْهُ وهو جالسٌ يتعشَّى

(1)

أخرجه الترمذي (3173)، و (3173 م)، والنسائي في الصلاة من سننه الكبرى (1439) عن إسحاق بن إبراهيم عن عبد الرزاق به. وتنظر تحفة الأشراف (7/ 267 - 268) حديث (10594) بتحقيقنا (بشار).

(2)

صحيح مسلم (1690)(12) الحدود باب حد الزنى. وأخرجه أيضًا الإمام أحمد في المسند (5/ 317) به.

(3)

صحيح البخاري (2832) الجهاد باب قول اللَّه عز وجل[النساء: 95] و (4592) التفسير باب لا يستوي القاعدون، وصحيح مسلم (1898) في الإمارة باب فرض الجهاد عن المعذورين.

(4)

ما بين المعقوفين ساقط من ح، وهو مروي بالمعنى وبألفاظ مقاربة لما جاء في البخاري.

(5)

صحيح مسلم (1180)(6) الحج باب ما يباح للمحرم بحج أو عمرة. وما يأتي بين معقوفين منه.

(6)

مضى التعريف بها في ص (60 ح 9).

(7)

"البَكْر": الفتي من الإبل، وغَطَّ: صوَّت في شقشقته، فإن لم يكن له شقشقة فهو هدير، وغط النائم غطيطًا: تردَّد نفسه صاعدًا إلى حلقه حتَّى يسمعه من حوله. المصباح (غطط).

(8)

فتح الباري (4795) التفسير باب {لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} وصحيح مسلم (2170)(17) في السلام باب إباحة الخروج للنساء لقضاء حاجة الإنسان.

(9)

"المناصع": هي المواضع التي يُتخلَّى فيها لقضاء الحاجة، واحدُها مَنْصَع، لأنه يُبرز إليها ويُظهر. النهاية (5/ 65 / نصع).

ص: 215

والعَرْقُ في يدا

(1)

، فأوْحَى اللَّه إليه والعَرْفُ في يده، ثم رفع رأسه فقال:"إنَّهُ قد أُذِنَ لكُنَّ أنْ تَخْرُجْنَ لحاجَتِكُنَّ".

فدلَّ هذا على أنه لم يكنِ الوحْيُ يُغَيِّبُ عنه إحساسَهُ بالكُلِّيَّة، بدليلِ أنه جالس لم يسقُطْ ولم يسقطِ العَرْقُ أيضًا من يده صلواتُ اللَّه وسلامه دائمًا عليه.

وقال أبو داود الطيالسي

(2)

: حدثنا عباد بن منصور، حدثنا عكرمة، عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أنزل

(3)

عليه الوَحْي تربَّدَ لذلك جسدهُ ووجههُ، وأمسك عن أصحابه، ولم يكلِّمْه أحدٌ منهم.

وفي مسند أحمد

(4)

وغيره من حديثِ ابن لَهِيعة، حدّثني يزيدُ بنُ أبي حبيب، عن عمرو بن الوليد، عن عبد اللَّه بن عمرو قلت: يارسول الله، هل تُحِسُّ بالوَحْي؟ قال: "نعم، أسمع صَلاصِلَ ثم أسْبُتْ

(5)

عند ذلك، وما من مرَّة يُوحَى إليَّ إلا ظننتُ أنَّ نفسي تَفِيضُ منه"

(6)

.

وقال أبو يعلى المَوْصلي

(7)

: حدثنا إبراهيم بن الحجاج، حدثنا عبد الواحد بن زياد، حَدَّثَنَا عاصم بن كُليب، حدثنا أبي عن خاله الفَلَتَان

(8)

في بن عاصم قال: كُنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وأُنزل عليه، وكان إذا أُنزل عليه دامَ بصَرُه، ومفتوحةً عيناه

(9)

، وفرَّغَ سمعَهُ وقَلْبَهُ لما يأتيهِ من الله عز وجل

(10)

.

وروى أبو نعيم

(11)

من حديث قتيبة، حدثنا عليُّ بن غُرَاب، عن الأحوص بن حكيم، عن أبي

(1)

"العرق" بفتح العين وإسكان الراء: وهو العظم الذي عليه بقية اللحم. شرح النووي لصحيح مسلم (14/ 151).

(2)

مسند الطيالسي (2667).

(3)

في ح: نزل.

(4)

مسند أحمد (2/ 222)، وإسناده ضعيف لضعف ابن لهيعة.

(5)

كذا في ح، وفي ط: أثْبت، وفي مسند أحمد: أسكت. وأسبت من السَّبْت، وهو الراحة والسكون أو من القطع وترك الأعمال. النهاية (سبت/ 2/ 331).

(6)

"فاض الرجل": مات؛ وفاضت نفسه: خرجت. اللسان (فيض). وفي ط تغيظ، وهما بمعنى.

(7)

مسند أبي يعلى (1 - 1583) من حديث الفلتان. وقد خرجه الحافظ ابن حجر في ترجمة الفلتان في الإصابة فقال: رواه ابن أبي شيبة وأبو يعلى في مسنديهما وابن حبان في صحيحه، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (7/ 9) وقال رواه أبو يعلى والبزار بنحوه والطبراني بنحوه، ورجال أبي يعلى ثقات.

(8)

في ح بمهملات، وفي ط: العليان، وفي مجمع الزوائد (الغلبان) وهو تصحيف، والمثبت من مسند أبي يعلى الإصابة في ترجمة الفلتان.

(9)

كذا في ح، وفي مسند أبي يعلى ومجمع الزوائد والإصابة من غير واو، وفي ط: وعيناه مفتوحة.

(10)

لم أجده فيما طبع من الدلائل وأورده السيوطي في الخصائص (1/ 120).

(11)

تتمته في مسند أبي يعلى: قال: فكنا نعرف ذلك منه، فقال للكاتب: اكتب {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}

=

ص: 216

عوانة

(1)

، عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: كان رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي صُدِّع، وغَلَّف رأسه بالحِنّاء.

هذا حديث غريب جدًّا.

وقال الإمام أحمد

(2)

: حَدَّثَنَا أبو النضر، حَدَّثَنَا أبو معاوية شيبان، عن ليث، عن شَهْرِ بن حَوْشَب، عن أسماء بنت يزيد قالت: إني آخذةٌ بزمام العَضْباء ناقةِ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم، إذْ نزلت

(3)

عليه المائدةُ كلّها، وكادت من ثقلها تَدُن عَضُدَ الناقة.

وقد رواه أبو نعيم

(4)

من حديث الثوري عن ليث بن أبي سُليم به.

وقال الإمام أحمدُ أيضًا

(5)

: حَدَّثَنَا حسن، حَدَّثَنَا ابن لَهِيعة، حدّثني حُيَيُّ

(6)

بن عبد اللَّه، عن أبي عبد الرحمن الحُبُلي، عن عبد اللَّه بن عمرو قال: أُنْزلتْ على رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة المائدة وهو راكب على راحلته، فلم تستطع أن تَحْمِله، فنزل عنها.

وروى ابنُ مَرْدويه من حديث صباح بن سهل، عن عاصم الأحول: حدّثتني أمُّ عمرو عن عمها، أنه كان في مسيرٍ مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فأُنزلتْ عليه سورةُ المائدة، فاندقَّ عُنق الراحلة من ثِقْلِها.

وهذا غريبٌ من هذا الوجه

(7)

. ثمّ قد ثبت في الصحيحَيْن

(8)

نزولُ سورةِ الفتح على رسول الله صلى الله عليه وسلم مَرْجِعَهُ من الحُدَيبية، وهو على راحلته، فكأنَّه

(9)

يكون تارة وتارة بحسب الحال. واللّه أعلم.

وقد ذكرنا أنواع الوَحْي إليه صلى الله عليه وسلم في أول شرح البخاري وما ذكره الحَليمي وغيره من الأئمة رضي الله عنهم.

= وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء: 95] قال: فقام الأعمى فقال: يا رسول اللَّه، ما ذنبنا؟ فأنزل اللَّه، فقلنا للأعمى: إنه ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم فخاف أن يكون ينزل عليه شيء من أمره فبقي قائمًا يقول: أعوذ بغضب رسول الله. قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم للكاتب: اكتب {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} ".

(1)

في ح: عن أبي عون، ولم يتبين لي وجه الصواب فيهما.

(2)

في مسنده (6/ 455).

(3)

في المسند: أنزلت. قال بشار: وإسناده ضعيف لضعف ليث، وهو ابن أبي سليم، وشيخه شهر بن حوشب.

(4)

لم أجده فيما طبع من الدلائل وقد ذكره السيوطي في الخصائص (1/ 120) عن أبي نعيم، وإسناده ضعيف مثل سابقه.

(5)

في مسنده (2/ 176)، وإسناده ضعيف لضعف ابن لهيعة.

(6)

في ط: جبر بن عبد اللَّه، تصحيف، والمثبت من ح والمسند والإكمال (2/ 581).

(7)

صباح بن سهل منكر الحديث (الميزان 2/ 305).

(8)

سيأتي من سياق البخاري في غزوة الحديبية (3/ 177) ط.

(9)

في: فكان.

ص: 217

‌فصل

قال الله تعالى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 16 - 19] وقال تعالى: {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114] وكان هذا في الابتداء، كان عليه الصلاة والسلام من شِدَّةِ حِرْصِه على أخْذِهِ من المَلَكِ ما يوحيه إليه عن الله عز وجل ليساوقه في التلاوة، فأمرَهُ اللَّه تعالى أنْ يُنْصِتَ لذلك حتَّى يَفْرُغ من الوحي، وتكفَّلَ له أن يجمعَهُ في صدرِه، وأن يُيَسِّرَ عليه تلاوتَه وتبليغَه، واْن يُبَيِّنَهُ له، ويفسِّرَهُ ويوضِّحَه، ويُوقفَه على المرادِ منه. ولهذا قال:{فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114] وقال: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ} أي في صدرك {وَقُرْآنَهُ} أي وأنْ تقرأهُ {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ} أي تَلاهُ عليكَ المَلَكُ {فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة: 18] أي فاستمِعْ له وتدبَّرْهُ {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 19] وهو نظيرُ قوله: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} .

وفي الصحيحين

(1)

من حديث موسى بن أبي عائشة، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس قال: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يُعالجُ من التنزيلِ شدَّة، فكان يحرِّكُ شفتَيْه، فأنزلَ اللهُ {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} قال: جَمْعَهُ في صدْرك، ثم تقرَأُهُ {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} فاستمعْ له وأنصتْ {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} قال: فكان إذا أتاه جبريلُ أطْرَقَ، فإذا ذهبَ قرأَهُ كما وعدَهُ اللَّه عز وجل.

‌فصل

قال ابن إسحاق

(2)

: ثم تتابع الوحيُّ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وهو مصدِّقٌ بما جاءَهُ منه، قد قبله بقَبُوله، وتحملَ منه ما حمله على رضا العبادِ وسخطهم، وللنبوَّةِ أثقالٌ ومُؤْنة، لا يحملُها ولا يستضلعُ بها

(3)

إلا أهلُ القوة والعَزْم من الرسل، بعون الله وتوفيقه، لما يَلْقَوْن من الناس، وما يُرَدُّ عليهم مما جاؤا به عن الله عز وجل، فمضى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على ما أمر اللَّه، على ما يَلْقَى من قومه من الخلاف والأذى.

قال ابن إسحاق

(4)

: وآمنتْ خديجةُ بنت خُويلد وصدَّقتْ بما جاءه من الله، ووازرَتْهُ على أمره، وكانت أوَّلَ مَنْ آمنَ باللّه ورسوله وصدَّق بما جاء منه، فخفَّفَ اللَّه بذلك عن رسوله، لا يسمع شيئًا

(1)

فتح الباري (4929) التفسير (75) سورة القيامة باب فإذا قرآناه فاتبع قرآنه. وصحيح مسلم (448) الصلاة باب الاستماع للقراءة.

(2)

سيرة ابن هشام (1/ 240) والروض (1/ 276).

(3)

كذا في ط وفي ح: يستظلع، وفي سيرة ابن هشام والروض يستطيع، ولعل الصواب: يضطلع. من اضطلع افتعل من الضلاعة وهي القوة، يقال: اضطلع بحمله أي قوي عليه ونهض به. انظر اللسان (ضلع).

(4)

سيرة ابن هشام (1/ 240) والروض (1/ 277).

ص: 218

يكرهه، مِن ردٍّ عليه، وتكذيبٍ له فيحزنه ذلك، إلا فرَّج اللَّه عنه بها، إذا رجع إليها تثبته وتخفِّفُ عنه، وتصدِّقه وتهوِّن عليه أمر الناس، رضي للّه عنها وأرضاها.

قال ابن إسحاق

(1)

: وحدثني هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد اللَّه بن جعفر قال: قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أُمرتُ أنْ أُبَشِّرَ خديجةَ ببيتٍ من قصَب، لا صَخَب فيه ولا نصَب".

وهذا الحديث مخرَّجٌ في الصحيحَيْن

(2)

من حديث هشام.

قال ابنُ هشام: القصَب هاهنا: اللُّؤْلُؤ المجوَّف.

قال ابن إسحاق

(3)

: وجعل رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم يذكر

(4)

ما أنعم اللَّه به عليه وعلى العباد من النبوة سرًا إلى من يطمئن إليه من أهله.

وقال موسى بن عقبة عن الزُّهْري: كانت خديجةُ أولَ من آمن باللّه وصدَّق رسوله، قبل أن تُفرَض الصلاة.

قلت: يعني الصلواتِ الخمس ليلةَ الإسراء. فأمَّا أصْلُ الصلاة فقد وجب في حياةِ خديجةَ رضي الله عنها كما سنبيِّنهُ.

وقال ابن إسحاق

(5)

: وكانت خديجةُ أولَ من آمن باللّه ورسوله، وصدَّق بما جاء به.

ثم إنّ

(6)

جبريل أتى رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم حين افتُرضتْ عليه الصلاة فهمَزَ له بِعَقبه في ناحيةِ الوادي فانفجرتْ له عينٌ من ماء زَمْزَم، فتوضَّأ جبريلُ ومحمد عليهما السلام، ثم صلَّى ركعتَيْن وسجد أربع سجدات، ثم رجع النبيُّ صلى الله عليه وسلم قد أقرَّ اللَّه عينَه، وطابتْ نفسُه، وجاءه ما يُحبُّ من اللَّه، فأخذ يدَ خديجة حتَّى أتى بها إلى العين، فتوضَّأ كما توضَّأ جبريل، ثم ركع ركعتَيْن وأربع سجدات، ثم كان هو وخديجة يصلِّيان سرًّا.

قلت: صلاةُ جبريلَ هذه غيرُ الصلاة التي صلاها به عند البيت مرَّتيْن، فبيَّن له أوقاتِ الصلوات الخمس، أولها وآخرها، فإنَّ ذلك كان بعد فرضيَّتها ليلة الإسراء، وسيأتي بيانُ ذلك إنْ شاء اللَّه وبه الثقة، وعليه التكلال

(7)

.

(1)

سيرة ابن هشام (1/ 241) والروض (1/ 277).

(2)

فتح الباري (3817) مناقب الأنصار باب تزويج النبي صلى الله عليه وسلم وصحيح مسلم (2432) فضائل الصحابة باب فضائل خديجة أم المؤمنين.

(3)

سيرة ابن هشام (1/ 243).

(4)

في ط: يذكر جميع. وليست هذه الزيادة في ح ولا في سيرة ابن هشام.

(5)

سيرة ابن هشام (1/ 240) والروض (1/ 277).

(6)

سيرة ابن هشام (1/ 244) والروض (1/ 283) بنحوه.

(7)

سيأتي في ص (351، 352) من هذا الجزء.

ص: 219

‌فصل في ذكر أول من أسلم من متقدِّمي الإسلام من الصحابة رضي الله عنهم

قال ابن إسحاق

(1)

: ثم إنَّ عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه جاء بعد ذلك بيوم وهم

(2)

يصلِّيان، فقال علي: يا محمد ما هذا؟ قال: "دينُ الله الذي اصطفى لنفسه، وبعث به رُسُلَه، فأدعوكَ إلى الله وحده لا شريك له، وإلى عبادته وكفرٍ باللاتِ والعُزَّى" فقال علي: هذا أمْرٌ لم أسمعْ به قبل اليوم، فلستُ بقاضٍ أمرًا حتى أحدِّث به أبا طالب. فكره رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أنْ يُفشيَ عليه سرَّهُ قبل أن يستعلن أمْرُه. فقال له: "يا علي، إذ لم تُسْلِم

(3)

فاكتُمْ". فمكث عليٌّ تلك الليلة، ثمَّ إنَّ الله أوقع في قلب عليٍّ الإسلامَ، فأصبح غاديًا إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءه فقال: ماذا عرضتَ عليَّ يا محمد؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وتكفر باللاتِ والعُزَّى، وتبرأُ من الأنداد" ففعل عليٌّ وأسلم، ومكث يأتيه على خوفٍ من أبي طالب، وكتم عليٌّ إسلامه ولم يظهره.

وأسلم ابنُ حارثة -يعني زيدًا- فمكثا

(4)

قريبًا من شهر يختلف عليٌّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان مما أنعم الله به على عليّ أنه كان في حَجْر رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قبل الإسلام.

قال ابن إسحاق

(5)

: حدَّثني ابنُ أبي نَجيح، عن مجاهد، قال: وكان من نعمة الله على عليّ أنَّ قريشًا أصابتهم أزْمةٌ شديدة، وكان أبو طالب ذا عيالٍ كثيرة

(6)

، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمه العباس -وكان من أيسر بني هاشم-:"يا عباس، إنَّ أخاك أبا طالب كثير العيال، وقد أصاب الناسَ ما ترى من هذه الأزْمة، فانطلقْ حتى نخفِّفَ عنه من عياله" فأخذ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عليًّا فضمَّهُ إليه، فلم يزلْ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بعثه الله نبيًا، فاتَّبَعَهُ عليٌّ وآمن به وصدَّقه.

وقال يونس بن بُكير، عن محمد بن إسحاق

(7)

: حدّثني يحيى بن أبي الأشعث الكندي -من أهل الكوفة- حدّثني إسماعيلُ بن إياس بن عفيف، عن أبيه، عن جدِّه عفيف -وكان عفيف أخا الأشعث بن

(1)

سيرة ابن إسحاق (ص 137).

(2)

كذا في ح، وفي ط: وهما، وعند ابن إسحاق: بيومين فوجدهما. وهو أشبه بالصواب.

(3)

جاء في حاشية ط ما نصه: في المصرية: إذ لم تسمع فاكتم. قلت: وما هو مثبت من ح وسيرة ابن إسحاق.

(4)

كذا في ح، ط وفي سيرة ابن إسحاق: فمكث. وهو أشبه بالصواب.

(5)

سيرة ابن هشام (1/ 246) والروض (1/ 285) بأوعب مما هنا.

(6)

في السيرة والروض: كثير.

(7)

في سير ابن إسحاق (ص 137) وما يأتي بين معقوفين منه، وساقه الذهبي في الميزان (1/ 223) وروى نحوه سعيد بن خثيم الهلالي بسنده إلى إسماعيل ولم يصححهما البخاري قاله الذهبي.

ص: 220

قيس لأمه

(1)

- أنه قال: كنتُ امرأً تاجرًا، فقدمتُ مِنىً أيام الحجّ، وكان العباس بن عبد المطلب امرأً تاجرًا، فأتيتُه أبتاع منه وأبيعه، قال: فبينا نحن إذْ خرج رجلٌ من خِباءٍ يصلِّي، فقام تجاه الكعبة، ثم خرجتِ امرأةٌ فقامتْ تصلِّي، وخرج غلامٌ فقام يصلِّي معه، فقلت: يا عباس، ما هذا الدِّين؟ إنَّ هذا الدِّين ما ندري ما هو؟ فقال [العباس]: هذا محمد بن عبد الله، يزعم أنَّ الله أرسله، وأنَّ كنوز كسرى وقيصر ستُفتح عليه، وهذه امرأته خديجةُ بنت خُويلد آمنتْ به، وهذا الغلام ابنُ عمِّه عليُّ بن أبي طالب آمن به.

قال عفيف: فليتني كنتُ آمنت يومئذ، فكنت أكون ثانيًا.

وتابعه إبراهيم بن سعد عن ابن إسحاق

(2)

، وقال في الحديث: إذْ خرج رجلٌ من خِباءٍ قريب منه، فنظر إلى السماء، فلما رآها قد مالت قام يُصلِّي. ثم ذكر قيامَ خديجةَ وراءه.

وقال ابنُ جرير

(3)

: حدّثني محمد بن عبيد المحاربي، حدّثنا سعيد بن خُثيم، عن أسد بن عَبْدَةَ البجَلي، عن يحيى بن عفيف، عن عفيف

(4)

. قال: جئت في

(5)

الجاهلية إلى مكة، فنزلتُ على العباس بن عبد المطلب، فلما طلعت الشمس وحلَّقتْ في السماء وأنا أنظر إلى الكعبة، أقبل شابٌّ فرمى ببصره إلى السماء، ثمّ استقبل الكعبة فقام مستقبلَها، فلم يلبثْ حتى جاء غلامٌ فقام عن يمينه، فلم يلبثْ حتى جاءتِ امرأةٌ فقامتْ خلفهما، فركع الشابُّ، فركع الغلامُ والمرأة؛ فرفع الشابّ فرفع الغلام والمرأة، فخرَّ الشابُّ ساجدًا فسجدا معه، فقلت: يا عباس، أمرٌ عظيم! فقال: أمر عظيم! فقال أتدري (6) مَنْ هذا؟ فقلت: لا، فقال: هذا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ابن أخي، أتدري (6) من الغلام؟ قلت: لا، قال: هذا عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه أتدري

(6)

مَنْ هذه المرأة التي خلفهما؟ قلتُ: لا، قال: هذه خديجةُ بنتُ خويلد زوجةُ ابنِ أخي، وهذا حدثني أنَّ ربَّك ربُّ السماء والأرض، أمره بهذا الذي تراهم عليه، وايْمُ الله ما أعلم على ظهر الأرض كُلِّها أحدًا على هذا الدِّين غير هؤلاء الثلاثة.

وقال ابن جرير

(7)

: حدّثني ابنُ حُميد، حدّثنا عيسى بن سَوادة بن الجَعْد، حدّثنا محمد بن المنكدِر

(1)

المعترضة ما بين الخطين ليست في سيرة ابن إسحاق ولا الميزان.

(2)

ميزان الاعتدال (1/ 223) حيث ساقه عن إبراهيم هذا.

(3)

ابن جرير الطبري في تاريخه (2/ 311) وأخرجه ابن سعد في الطبقات (8/ 17) عن يحيى بن الفرات القزاز عن سعيد بن خثيم به.

(4)

قوله "عن عفيف" سقط من ط ولا يصح إلا به، فأثبتناه من تاريخ الطبري.

(5)

في ح: من، وفي ط: زمن. والمثبت من تاريخ الطبري.

(6)

في ح: أتدرون، والمثبت من ط وتاريخ الطبري.

(7)

تاريخ الطبري (2/ 312).

ص: 221

وربيعة بن أبي عبد الرحمن وأبو حازم والكلبي، قالوا: عليٌّ أوَّل من أسلم. قال الكلبي: أسلم وهو ابنُ تسعِ سنين.

وحدّثنا

(1)

ابن حُميد، حدّثنا سلمة عن ابن إسحاق، قال: أولُ ذَكَر آمنَ برسول الله صلى الله عليه وسلم وصلَّى معه وصدَّقه عليُّ بنُ أبي طالب، وهو ابنُ عشر سنين، وكان في حَجْر رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الإسلام.

قال الواقدي

(2)

: أخبرنا إبراهيم بن نافع، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: أسلم عليٌّ وهو ابنُ عشر سنين

(3)

.

قال الواقدي

(4)

: وأجمع أصحابنا على أنَّ عليًا أسلم بعد ما تنبَّأَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بسنة.

وقال محمد بن كعب: أول من أسلم من هذه الأمة خديجةُ، وأول رجلين أسلما أبو بكر وعليٌّ، وأسلم عليٌّ قبل أبي بكر، وكان عليٌّ يكتم إيمانه خوفًا من أبيه، حتى لَقِيَهُ أبوه قال: أسلمت؟ قال: نعم! قال: وازِرِ ابنَ عمك وانصُرْه. قال: وكان أبو بكر الصديق أولَ من أظهر الإسلام.

وروى ابنُ جرير في تاريخه

(5)

من حديث شعبة، عن أبي بَلْج، عن عمرو بن ميمون، عن ابن عباس، قال: أوَّلُ من صلَّى عليٌّ.

وحدثنا عبد الحميد بن بحر

(6)

، حدثنا شريك، عن عبد الله بن محمد بن عَقيل، عن جابر، قال: بُعث النبيُّ صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، وصلى عليٌّ يوم الثلاثاء.

وروى

(7)

من حديث شعبة، عن عمرو بن مرة، عن أبي حمزة -رجلٍ من الأنصار- سمعتُ زيد بن أرقم يقول: أولُ من أسلم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عليُّ بن أبي طالب. قال: فذكرتُه للنَّخَعيِّ فأنكره وقال: أبو بكر أولُ من أسلم.

ثم قال

(8)

: حدّثنا عبيد الله بن موسى، حدثنا العلاء، عن المنهال بن عمرو، عن عبَّاد بن عبد الله،

(1)

القائل هو ابن جرير الطبري أيضًا في تاريخه (2/ 312) بأوعب مما هنا.

(2)

قول الواقدي فيما نقله عنه ابن سعد في الطبقات (3/ 21) وفيما نقله الطبري في تاريخه (2/ 314).

(3)

في ح، ط: إبراهيم عن نافع، وهو تحريف، والمثبت من الطبقات والطبري وترجمتي إبراهيم بن نافع وعبد الله بن أبي نجيح في تهذيب الكمال.

(4)

قول الواقدي في تاريخ الطبري (2/ 314).

(5)

تاريخ الطبري (2/ 310).

(6)

في ح، ط: عبد الحميد بن يحيى، وهو تصحيف، والمثبت من تاريخ الطبري (2/ 310) وترجمته في الكامل لابن عدي (5/ 1959) ولسان الميزان (3/ 395)، وهو ضعيف يسرق الحديث.

(7)

يعني الطبري في تاريخه (2/ 310).

(8)

يعني الطبري وما يأتي بين معقوفين منه.

ص: 222

سمعتُ عليًا يقول: أنا عبد الله وأخو رسوله، وأنا الصِّدِّيق الأكبر، لا يقولها بعدي إلا كاذبٌ مُفْتَرٍ، صلَّيتُ مع رسول الله قبل الناس بسبع سنين.

وهكذا رواه ابن ماجَه

(1)

، عن محمد بن إسماعيل الرازي، عن عُبيد الله بن موسى العَبْسي

(2)

-وهو شيعيٌّ من رجال الصحيح -عن العلاء بن صالح الأزدي الكوفي- وثقوه، ولكن قال أبو حاتم: كان من عتْق

(3)

الشيعة- وقال عليُّ بن المَديني: روى أحاديث مناكير. والمِنْهال بن عمرو ثقة، وأما شيخُه عباد بن عبد الله -وهو الأسدي الكوفي- فقد قال فيه عليُّ بن المَديني: هو ضعيفُ الحديث. وقال البخاري: فيه نظر. وذكره ابن حِبَّان في الثقات.

وهذا الحديث منكر بكلِّ حال، ولا يقولُه عليٌّ رضي الله عنه، وكيف يمكن أنْ يصلِّيَ قبل الناس بسبع سنين؟ هذا لا يتصوَّرُ أصلًا، والله أعلم.

وقال آخرون: أول من أسلم من هذه الأمة أبو بكر الصدِّيق، والجمعُ بين الأقوال كلَّها أن خديجة أولُ من أسلم من النساء، وظاهر السياقات -وقبل الرجال أيضًا- وأولُ مَنْ أسلم من الموالي زَيْد بن حارثة، وأول من أسلم من الغلمان عليُّ بن أبي طالب. فإنه كان صغيرًا دون البلوغ على المشهور، وهؤلاء كانوا إذْ ذاك أهلَ البيت. وأول من أسلم من الرجال الأحرار أبو بكر الصديق، وإسلامه كان أنفعَ [من إسلام]

(4)

من تقدَّم ذِكْرهم إذْ كان صدرًا معظَّما، ورئيسًا في قريش مكرَّمًا، وصاحبَ مال وداعيةً إلى الإسلام. وكان محبَّبًا متألَّفًا يبذلُ المالَ في طاعة الله ورسوله كما سيأتي تفصيله.

قال يونس عن ابن إسحاق

(5)

ثمّ إنَّ أبا بكر الصديق لقي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: أحقٌّ ما تقول قريشٌ يا محمد؟ مِن تَرْكك آلهتنا، وتسفيهكَ عقولَنا، وتكفيرك آباءنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"بلى إني رسولُ الله ونبيُّه، بعثني لأُبَلِّغ رسالتَه، وأدعوكَ إلى الله بالحق، فوالله إنَّه للحَقُّ، أدعوك يا أبا بكر إلى الله وحده لا شريك له، ولا تعبد غيره، والموالاة على طاعته" وقرأ عليه القرآن، فلم يُقِرَّ ولم يُنكر. فأسلم وكفر بالأصنام، وخلع الأنداد، وأَقرَّ بحق الإسلام، ورجع أبو بكر وهو مؤمن مصدِّق.

(1)

في سننه (120) المقدمة باب فضائل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأخرجه الحاكم في المستدرك (3/ 111، 112) من طريق عبيد الله بن موسى عن أبي إسحاق عن المنهال به. وقال الذهبي: ولا هو بصحيح، بل حديث باطل. وانظر ما قاله الذهبي في الميزان (2/ 368) في ترجمة عباد بن عبد الله.

(2)

في ط: الفهمي، وفي ح: الغمسى. وكلاهما تحريف، والمثبت من أنساب السمعاني (8/ 367) وترجمته في الميزان (3/ 16).

(3)

في ح: عتيق.

(4)

ما بين المعقوفين سقط من ح.

(5)

سيرة ابن إسحاق (ص 139).

ص: 223

قال ابن إسحاق

(1)

: حدّثني محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن الحصين التميمي أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما دَعْوتُ أحدًا إلى الإسلام إلا كانتْ عنده كَبْوَةٌ وتردُّدٌ ونظَر، إلا أبا بكر ما عَكَم عنه حين ذكرتُه، ولا تردَّد فيه".

عكم: أي تَلَبَّثَ

(2)

.

وهذا الذي ذكره ابنُ إسحاق في قوله: فلم يُقِرَّ ولم ينكرْ، فإنَّ ابنَ إسحاقَ وغيرَهُ ذكروا أنَّهُ كان صاحبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، وكان يعلم من صِدْقِه وأمانتِه وحسنِ سجيَّته وكرم أخلاقه، ما يمنعه من الكذب على الخَلْق. فكيف يكذبُ على الله؟ ولهذا بمجرد ما ذكر له إنَّ الله أرسله بادر إلى تصديقِه ولم يتلعثم، ولا عَكَم، وقد ذكرنا كيفية إسلامه في كتابنا الذي أفردناهُ في سيرته، وأوردنا

(3)

فضائله وشمائله وأتبعنا ذلك بسيرة الفاروق أيضًا، وأوردنا ما رواه كلٌّ منهما عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم من الأحاديث، وما رُوي عنه من الآثار والأحكام والفتاوى، فبلغ ذلك ثلاثَ مجلدات، ولله الحمدُ والمِنَّة.

وقد ثبت في صحيح البخاري

(4)

عن أبي الدرداء في حديثِ ما كان بين أبي بكرٍ وعمر رضي الله عنهما من الخصومة، وفيه. فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الله بعثني إليكم، فقلتم كذبتَ، وقال أبو بكرٍ: صدَقَ. وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركوا

(5)

لي صاحبي؟ " فما أُوذي بعدها.

وهذا كالنص على أنه أولُ من أسلم رضي الله عنه.

وقد روى الترمذي وابنُ حبَّان

(6)

من حديث شعبة عن سعيد الجُرَيري، عن أبي نَضْرَة، عن

(1)

سيرة ابن إسحاق (ص 139).

(2)

في سيرة ابن إسحاق: عتم. ومعناهما متقارب، وفي النهاية (عكم / 3/ 285) ما عكم عنه: أي ما تحبّس وما انتظر ولا عدل.

(3)

في ح: وأوردت.

(4)

فتح الباري (3661) فضائل الصحابة باب قول النبي صلى الله عليه وسلم "لو كنت متخذًا خليلًا".

(5)

قال ابن حجر في الفتح (7/ 25): قال أبو البقاء: إن حذف النون من خطأ الرواة، لأن الكلمة ليست مضافة فيها ألف ولام، وإنما يجوز الحذف في هذين الموضعين. ووجَّهها غيره بوجهين: أحدهما أن يكون "صاحبي" مضافًا وفصل بين المضاف والمضاف إليه بالجار والمجرور عناية بتقديم لفظ الإضافة، وفي ذلك جمع بين إضافتين إلى نفسه تعظيمًا للصديق، ونظيره قراءة ابن عامر {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} بنصب أولادهم وخفض شركائهم وفصل بين المضافين بالمفعول، والثاني أن يكون استطال الكلام فحذف النون كما يحذف من الموصول المطول. اهـ.

(6)

في جامع الترمذي (3667) المناقب باب في مناقب أبي بكر وعمر كليهما. والإحسان بترتيب صحيح ابن حبان (6863) إخباره صلى الله عليه وسلم عن مناقب الصحابة باب ذكر البيان بأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه أول من أسلم من الرجال.

قال بشار: وهو حديث معلول رفعَهُ عقبة بن خالد عن شعبة، وخالفه عبد الرحمن بن مهدي فرواه عن شعبة، عن الجريري، عن أبي نضرة، قال: قال أبو بكر. قال الترمذي: وهذا أصح. وكذلك قال ابن أبي حاتم في العلل =

ص: 224

أبي سعيد، قال: قال أبو بكر الصدِّيقُ رضي الله عنه: ألستُ أحقَّ الناسِ بها، ألستُ أولَ منْ أسلم، ألستُ صاحبَ كذا؟

وروى ابنُ عساكر

(1)

من طريق بهلول بن عبيد، حدّثنا أبو إسحاق السَّبيعي عن الحارث، سمعتُ عليًّا يقول: أولُ من أسلم من الرجال أبو بكر الصديق، وأول من صلَّى مع النبي صلى الله عليه وسلم من الرجال عليُّ بن أبي طالب.

وقال شعبة عن عمرو بن مرة، عن أبي حمزة، عن زيد بن أرقم قال: أولُ من صلَّى مع النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصدِّيق.

رواه أحمد والترمذي والنسائي من حديث شعبة وقال الترمذي حسنٌ صحيح

(2)

.

وقد تقدَّم روايةُ ابنِ جرير، من طريق شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي حمزة عن زيد بن أرقم. قال: أولُ من أسلم عليُّ بن أبي طالب. قال عمرو بن مرة: فذكرتُه لإبراهيمْ النَّخعي فأنكره وقال: أولُ من أسلم أبو بكرٍ الصدِّيق رضي الله عنه

(3)

.

وروى الواقدي بأسانيده

(4)

عن أبي أروى الدوسي وأبي سَلَمَة بنِ

(5)

عبد الرحمن في جماعةٍ من السلف: أوَّلُ من أسلم أبو بكر الصدِّيق.

وقال يعقوب بن سفيان

(6)

: حدّثنا أبو بكر الحميدي، حدّثنا سفيان بن عيينة، عن مالك بن مغول، عن رجل قال: سئل ابنُ عباس: مَن أوَّلُ مَنْ آمن؟ فقال: أبو بكر الصدِّيق، أما سمعتَ قول حسَّان:

إذا تذكَّرْتَ شَجْوًا من أخي ثقةٍ

فاذكُرْ أخاكَ أبا بكرٍ بما فَعلا

خيرَ البريّةِ أوفاها وأعدَلَها

بعدَ النبيِّ وأولاها بما حَملا

والتاليَ الثانيَ المحمودَ مَشَهَدُه

وأوَّلَ الناسِ منهم صدَّقَ الرُّسُلا

= (2/ 388)، وقال الدارقطني في العلل (1/ 235) س 37:"وكذلك رواه ابن عُلية وابن المبارك وعدة عن شعبة مرسلًا، وهو الصحيح". وانظر بلا بد تعليقي على جامع الترمذي، وراجع العلل له (690).

(1)

نقله عن ابن عساكر المتقي الهندي في كنز العمال (35669) فضل الصديق رضي الله عنه، وهو في مختصر ابن منظور لتاريخ دمشق (13/ 43).

(2)

مسند أحمد (4/ 368 و 370) وجامع الترمذي (3735) المناقب باب مناقب علي بن أبي طالب. ولفظه: أول من أسلم علي. قال عمرو بن مرة: فذكرت ذلك لإبراهيم النخعي فقال: أول من أسلم أبو بكر الصديق. وأما لفظ أحمد فكرواية ابن جرير الآتي ذكرها، وفضائل الصحابة للنسائي (34).

(3)

مضى في الصفحة التي قبلها، وهو عند الترمذي فلا معنى لهذه الإحالة.

(4)

رواية الواقدي هذه في طبقات ابن سعد (3/ 171، 172).

(5)

في ح، ط: أبو مسلم. وهو تصحيف، والمثبت من طبقات ابن سعد.

(6)

في المعرفة والتاريخ (3/ 254) وهذا الخبر في القسم المفقود منه، ومقتبس من هنا.

ص: 225

عاشَ حميدًا لأمْرِ اللهِ متَّبعًا

بأمرِ صاحبِهِ الماضي وما انتَقَلا

(1)

وقد رواه أبو بكر بنُ أبي شيبة

(2)

: حدّثنا شيخٌ لنا، عن مجالد، عن عامر قال: سألتُ ابنَ عباس -أو سئل ابنُ عباس- أيُّ الناس أولُ إسلامًا؟ قال: أما سمعتَ قولَ حسان بن ثابت؟ فذكره.

وهكذا رواه الهيثمُ بنُ عدي عن مجالد، عن عامر الشعبي: سألتُ ابن عباس فذكره.

وقال أبو القاسم البغوي

(3)

حدّثني سُرَيج بن يونس، حدّثنا يوسف بن الماجشون

(4)

قال: أدركتُ مشيختنا منهم محمد بن المنكدر، وربيعة بن أبي عبد الرحمن، وصالح بن كيسان، وعثمان بن محمد، لا يشكُّون أنَّ أولَ القوم إسلامًا أبو بكر الصدِّيق رضي لله عنه.

قلت: وهكذا قال إبراهيم النَّخَعي، ومحمدُ بن سيرين، وسعد بن إبراهيم، وهو المشهور عن جمهور أهل السنة.

وروى ابنُ عساكر

(5)

عن سعد بن أبي وقاص، ومحمد بن الحنفية، أنهما قالا: لم يكنْ أوَّلَهم إسلامًا، ولكن كان أفضلَهُمْ إسلامًا. قال سعد: وقد آمن قبله خمسة.

وثبت في صحيح البخاري

(6)

من حديث همَّام بن الحارث، عن عمار بن ياسر، قال: رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وما معه إلا خَمْسَةُ أعْبُدٍ وامرأتان وأبو بكر.

وروى الإمام أحمد

(7)

وابنُ ماجه

(8)

من حديث عاصم بن أبي النَّجُود، عن زِرّ، عن ابن مسعود، قال: أولُ من أظهر الإسلام سبعة: رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمَّار، وأمُّه سُمَيَّة، وصُهَيب، وبلال، والمِقْداد. فأمَّا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فمنعَهُ اللهُ بعمِّه، وأمَّا أبو بكر فمنعه الله بقومه، وأمَّا سائرهم فأخذَهُم المشركون فألبسوهم أدْرَاعَ الحديد، وصهروهم في الشمس، فما منهم من أحدٍ إلا وقد واتاهم على ما أرادوا، إلا بِلالًا فإنَّهُ هانتْ عليه نفسُهُ في الله، وهانَ على قومه، فأخذوه، فأعْطَوْهُ الوِلْدَان فجعلوا يطوفونَ به في شعابِ مكةَ وهو يقول: أحدٌ أحَد.

وهكذا رواه الثوري عن منصور عن مجاهد مرسلًا.

(1)

الأبيات في ديوان حسان (1/ 125) بألفاظ مقاربة، وتخريجها فيه.

(2)

في المصنف (18433) المغازي باب إسلام أبي بكر رضي الله عنه.

(3)

أظنه في معجم الصحابة الموجود منه جزءان هما العاشر والحادي عشر في الرباط (341 ك) الأعلام (4/ 119).

(4)

هو يوسف بن يعقوب بن أبي سلمة الماجشون.

(5)

مختصر ابن منظور لتاريخ دمشق (13/ 43).

(6)

فتح الباري (3660) فضائل الصحابة باب قول النبي صلى الله عليه وسلم "لو كنت متخذًا خليلًا".

(7)

في مسنده (1/ 404).

(8)

في سننه (150) المقدمة باب في فضائل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فضل سلمان وأبي ذر والمقداد، وهو حديث صحيح.

ص: 226

فأمَّا ما رواه ابنُ جرير قائلًا

(1)

: أخبرنا ابنُ حُميد، حدّثنا كنانة بن جَبَلة

(2)

عن إبراهيم بن طَهْمان عن حجَّاج، عن قتادة، عن سالم بن أبي الجَعْد، عن محمد بن سعد بن أبي وقَّاص، قال: قلت لأبي: أكان أبو بكر أوَّلَكُم إسلامًا؟ قال: لا! ولقد أسلم قَبْلَهُ أكثرُ من خمسين، ولكن كانَ أفْضَلَنا إسلاما. فإنَّهُ حديثٌ منكر إسنادًا ومتنًا.

قال ابنُ جرير

(3)

: وقال آخرون: كان أولَ من أسلم زيدُ بنُ حارثة. ثمّ روى من طريق الواقدي عن ابن أبي ذئب، سألتُ الزهري: مَن أولُ من أسلم من النساء؟ قال خديجة: قلت: فمن الرجال؟ قال: زيد بن حارثة.

وكذا قال عروة وسليمانُ بنُ يسار، وغيرُ واحدٍ: أولُ من أسلم من الرجال زيد بن حارثة. وقد أجاب أبو حنيفة رضي الله عنه بالجمع بين هذه الأقوال بأنَّ أولَ مَنْ أسلم من الرجال الأحرار أبو بكر، ومن النساء خديجة، ومن الموالي زيد بن حارثة، ومن الغلمان عليُّ بن أبي طالب، رضي الله عنهم أجمعين.

قال محمد بن إسحاق

(4)

: فلما أسلم أبو بكر وأظهر إسلامه دعا إلى الله عز وجل، وكان أبو بكر رجلًا مَأْلفًا لقومه، مُحَبًّا

(5)

سهلًا، وكان أنسبَ قريشٍ لقريش، وأعلم قريشٍ بما كان فيها من خير وشر؛ وكان رجلًا تاجرًا، ذا خُلُقٍ ومعروف، وكان رجالُ قومه يأتونه ويألفونه لغير واحدٍ من الأمر، لعلمهِ وتجارتِه وحُسْنِ مجالسته. فجعل يدعو إلى الإسلام مَنْ وَثِقَ به من قومه ممن يغشاهُ ويجلس إليه، فأسلم على يديه فيما بلغني الزُّبيرُ بنُ العوَّام، وعثمانُ بن عفَّان، وطلحةُ بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقَّاص، وعبد الرحمنِ بنُ عوف، رضي الله عنهم، فانطلقوا إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ومعهم أبو بكر، فعرض عليهم الإسلام وقرأ عليهم القرآن وأنبأهم بحقِّ الإسلام

(6)

فآمنوا، وكان هؤلاء النفر الثمانية الذين سبقوا في الإسلام، فصدَّقوا

(7)

رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وآمنوا بما جاء من عند الله.

وقال محمد بن عمر الواقدي

(8)

: حدّثني الضحاك بن عثمان، عن مَخْرَمَة بنِ سليمان الوالبيّ، عن

(1)

في تاريخه (2/ 316).

(2)

في ح، ط: حبلة، بالحاء المهملة، والمثبت من الطبري وتهذيب الكمال (25/ 98)، وقد جعل ابن ماكولا وغيره "جبلة" الجادة، وأحصوا ما سواه فلم يذكروا كنانة هذا.

(3)

في تاريخه (2/ 316).

(4)

سيرة ابن إسحاق (ص 140).

(5)

في السير: محبَّبًا.

(6)

زاد ابن إسحاق هنا: وبما وعدهم من كرامة فآمنوا

(7)

في السير: فصلوا وصدقوا.

(8)

قول الواقدي هذا في طبقات ابن سعد (3/ 214، 215) ودلائل النبوة للبيهقي (2/ 166).

ص: 227

إبراهيم بن محمد بن طلحة، قال: قال طلحةُ بن عُبيد الله: حضرتُ سوق بصرى، فإذا راهبٌ في صَوْمعتِه يقول: سلوا أهلَ المَوْسِم، أفيهم رجلٌ من أهل الحرم؟ قال طلحة: قلتُ: نعم! أنا، فقال: هل ظهر أحمدُ بعد؟ قلتُ: ومن أحمد؟ قال: ابن عبدِ الله بن عبد المطلب، هذا شهره الذي يخرجُ فيه، وهو آخر الأنبياء، مَخْرَجُه من الحرَم، ومُهاجَرُه إلى نَخْلٍ وحَرَّةٍ وسباخ، فإياك أنْ تُسبَقَ إليه. قال طلحة: فوقع في قلبي ما قال، فخرجتُ سريعًا حتى قدمت مكة، فقلت: هل كان من حديث

(1)

؟ قالوا: نعم، محمد بن عبد الله الأمين، قد تنبَّأ، وقد تبعه أبو بكرِ بنُ أبي قُحَافَة. قال: فخرجتُ حتى قدمت على أبي بكر، فقلت: أتبعتَ هذا الرجل؟ قال: نعم، فانطلقْ إليه فادخلْ عليه فاتبعْهُ، فإنه يدعو إلى الحقّ. فأخْبَرَهُ طلحةُ بما قال الراهب. فخرج أبو بكرٍ بطلحةَ فدخل به على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم طلحة، وأخبر رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بما قال الراهب، فسُرَّ بذلك، فلما أسلم أبو بكر وطلحة أخذهما نوفلُ بن خُويلد بن العَدَوِيَّة -وكان يُدْعَى أسَدَ قريش- فشدَّهما في حبلٍ واحد، ولم يمنَعْهما بنو تَيم، فلذلك سُمِّي أبو بكر وطلحةُ القرينَيْن.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللَّهم اكْفِنا شرَّ ابنِ العدَوِيَّة" رواه البيهقي

(2)

.

وقال الحافظ أبو الحسن خيثمةُ بن سليمان الأطرابُلسي

(3)

: حدّثنا عُبيد الله بن محمد بن عبد العزيز العمري قاضي المَصِّيصة

(4)

، حدّثنا أبو بكر عبد الله بن عُبَيْد الله بن إسحاق بن محمد بن عمران بن موسى بن طلحة بن عبيد الله، حدّثني أبي عبيد الله، حدّثني عبد الله بن عمران بن إبراهيم بن محمد بن طلحة قال: حدّثني أبي محمد بن عمران، عن القاسم بن محمد بن أبي بكر، عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: خرج أبو بكر يريد رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وكان له صديقًا في الجاهلية، فلقيه فقال: يا أبا القاسم، فقدتَ من مجالس قومك، واتَّهموك بالعيبِ لآبائها وأمهاتها. فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"إني رسولُ الله أدعوك إلى الله" فلما فرغ [رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من] كلامه أسلم أبو بكر، فانطلق عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وما بين الأخشبين أحدٌ أكثر سرورًا منه بإسلام أبي بكر، ومضى أبو بكرٍ فراح لعثمان

(5)

بن عفَّان، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، فأسلموا، ثم جاء الغد بعثمان

(6)

بن مظعون، وأبي عبيدة بن الجراح وعبد الرحمن بن عوف، وأبي سلمة بن عبد الأسد، والأرقم بن أبي الأرقم، فأسلموا رضي الله عنهم.

(1)

في الطبقات: ودلائل البيهقي: حَدَث.

(2)

في دلائل النبوة (2/ 167) وإسناده ضعيف.

(3)

في فضائل الصديق مجموع (62) في الظاهرية ق (3) أ، ب، وما يأتي بين معقوفين منه.

(4)

كذا ضبطه الأزهري وغيره من اللغويين بتشديد الصاد الأولى، وتفرَّد الجوهري وخالد الفارابي بتخفيف الصادين، والأول أصح. معجم البلدان (5/ 144، 145).

(5)

كذا في ح، ط وفي فضائل الصديق: وراح بعثمان. وهو أشبه بالصواب.

(6)

في فضائل الصديق: ثم جاء الغد عثمان. بالرفع وهكذا الكنى بعدها بالرفع.

ص: 228

قال عبد الله بن محمد: فحدّثني أبي محمد بن عمران، عن القاسم بن محمد، عن عائشة، قالت: لما اجتمع أصحابُ النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا ثمانيةً وثلاثين رجلًا ألحَّ أبو بكرٍ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في الظُّهور، فقال:"يا أبا بكر إنَّا قليل". فلم يزلْ أبو بكر يلحُّ حتى ظهر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وتفرَّق المسلمون في نواحي المسجد، كلُّ رجلٍ في عشيرته، وقام أبو بكرٍ في الناس خطيبًا ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم جالس، فكان أوَّلَ خطيبٍ دعا إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم وثار المشركون على أبي بكرٍ وعلى المسلمين، فضُربوا في نواحي المسجد ضربًا شديدًا ووُطئ أبو بكر وضُرب ضربًا شديدًا، ودنا منه الفاسق عتبة بن ربيعة، فجعل يضربه بنعلين مخصوفَتَيْن

(1)

ويحرفهما لوجهه، ونزا على بطن أبي بكر حتى ما يُعرف وجهه من أنفه وجاءت بنو تَيْم يتعادَوْن، فأجلتِ المشركينَ عن أبي بكر، وحملت بنو تيم أبا بكرٍ في ثوب حتى أدخلوه منزله، ولا يشكُّون في موته، ثمّ رجعتْ بنو تيم فدخلوا المسجد وقالوا: والله لئن مات أبو بكر لنقتلنَّ عتبة بن ربيعة. فرجعوا إلى أبي بكر، فجعل أبو قحافة وبنو تيم يكلمون أبا بكر حتى أجاب، فتكلّم آخر النهار فقال: ما فعل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فمسوا منه بألسنتهم وعذلوه، ثم قاموا وقالوا لأمه أُمِّ الخير: انْظري أن تطعميه شيئًا أو تسقيه إياه، فلما خلَتْ به ألحَّتْ عليه وجعل يقول: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: والله مالي علم بصاحبك. فقال: اذهبي إلى أمِّ جميل بنتِ الخطَّاب فاسأليها عنه، فخرجت حتى جاءت أمَّ جميل، فقالت: إنَّ أبا بكر يسألك عن محمد بن عبد الله؟ فقالت: ما أعرف أبا بكر ولا محمد بن عبد الله، وإن كنتِ تُحبِّينَ أنْ أذهب معك إلى ابنك؟ قالت: نعم، فمضت معها حتى وجدتْ أبا بكر صريعًا دَنِفًا، فدنت أمُّ جميل وأعلنت بالصياح وقالت: والله إنَّ قومًا نالوا هذا منك لأهلُ فسقٍ وكُفْر، وإني لأرجو أن ينتقم الله لك منهم. قال: فما فعل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: هذه أمُّك تسمع، قال: فلا شيء عليك منها

(2)

. قالت: سالمٌ صالح. قال: فأين هو؟ قالت: في دار أبي

(3)

الأرقم. قال: فإنَّ لله عليَّ أنْ لا أذوقَ طعامًا ولا أشرب شرابًا أو آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأمهلتا حتى إذا هدأتِ الرِّجل، وسكن الناس، خرجتا به يتَّكئ عليهما، حتى أدخلتاه على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، قال: فأكبَّ عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقبَّله وأكبَّ عليه المسلمون، ورقَّ له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم رقَّةً شديدة. فقال أبو بكر: بأبي وأمي يا رسول الله ليس بي بأس إلا ما نال الفاسق من وجهي، وهذه أمي بَرَّةٌ بوالديها

(4)

، وأنت مبارك فادْعُها إلى الله وادْعُ الله لها عسى الله أن يستنقذها بك من النار. قال: فدعا لها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ودعاها إلى الله فأسلمتْ، وأقاموا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدار شهرًا هم تسعةٌ وثلاثون رجلًا، وقد كان حمزة بن عبد المطلب أسلم يوم ضُرب

(1)

في ح وفضائل الصديق: مخصوفين، والمثبت من ط.

(2)

في فضائل الصديق: فيها.

(3)

سقطت كلمة أبي من ح، والمثبت من فضائل الصديق، وهي في ط: ابن.

(4)

في ح، ط: بولدها. والمثبت من فضائل الصديق.

ص: 229

أبو بكر، فدعا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب -أو

(1)

لأبي جهل بن هشام- فأصبح عمر وكانتِ الدعوةُ يوم الأربعاء، فأسلم عمر يوم الخميس، فكبَّرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأهلُ البيت تكبيرةً سُمعت بأعلى مكة، وخرج أبو الأرقم -وهو أعمى كافر- وهو يقول: اللهمَّ اغفرْ لبني عبد

(2)

الأرقم فإنَّه كفر. فقام عمر فقال: يا رسول الله، على ما نُخفي دينَنا ونحن على الحق، ويَظْهر دينُهم وهم على الباطل؟ قال:"يا عمر إنَّا قليل قد رأيتَ ما لَقينا" فقال عمر: فوالذي بعثك بالحق، لا يبقى مجلسٌ جلستُ فيه بالكفر إلا أظهرتُ فيه الإيمان، ثمّ خرج، فطاف بالبيت، ثمّ مرَّ بقريش وهي تنتظره، فقال أبو جهل بن هشام: يزعم فلان أنك صبَوْت؟ فقال عمر: أشهدُ أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأنَّ محمدًا عبدُه ورسوله. فوثب المشركون إليه، ووثب على عتبة فبرك عليه وجعل يضربه، وأدخل أصبعَيْه في عينيه، فجعل عتبة يصيح، فتنحَّى الناس، فقام عمر، فجعل لا يدنو منه أحد إلا أخذ شريف من دنا

(3)

منه، حتى أعجز الناس. واتبع المجالس التي كان يجالس فيها فيُظهِرُ الإيمان، ثمّ انصرف إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم وهو ظاهرٌ عليهم فقال: ما عليك

(4)

بأبي وأمي، والله ما بقي مجلسٌ كنتُ أجلسُ فيه بالكفر إلا أظهرتُ فيه الإيمان غير هائب ولا خائف، فخرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وخرج عمرُ أمامه، وحمزةُ بن عبد المطلب حتى طاف بالبيت وصلَّى الظُّهْر مؤمنًا

(5)

، ثم انصرف إلى دار الأرقم ومعه عمر، ثم انصرف عمر وحده [فصلَّى]، ثم انصرف إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم.

والصحيح أنَّ عمر إنما أسلم بعد خروج المهاجرين إلى أرض الحبشة، وذلك في السنة السادسة من البعثة كما سيأتي في موضعه إنْ شاء الله. وقد استقصَيْنا كيفية إسلام أبي بكرٍ وعمر رضي الله عنهما في كتاب سيرتهما على انفرادِها، وبسطنا القول هنالك ولله الحمد.

وثبت في صحيح مسلم

(6)

من حديث أبي أمامة، عن عمرو بنِ عَبَسَةَ السُّلَميِّ رضي الله عنه قال: أتيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في أوَّلِ ما بُعث وهو بمكة، وهو حينئذٍ مُستخفي

(7)

، فقلت: ما أنت؟ قال: "أنا نبيّ" فقلت: وما النبيّ؟ قال: "رسولُ الله" قلت: الله أرسلك؟ قال: "نعم". قلت: بما أرسلك؟ قال: "بأن تعبدَ الله وحده [وحده لا شريك له]

(8)

وتكسر الأصنام، وتوصل

(9)

الأرحام" قال

(1)

في فضائل الصديق: ولأبي جهل من غير همزة.

(2)

في ح: غير. وفي ط: عبيد، والمثبت من فضائل الصديق.

(3)

في ط: بشريف ممن دنا منه. والمثبت من ح وفضائل الصديق.

(4)

في فضائل الصديق: ما علمتك.

(5)

في فضائل الصديق: معلنًا وهو أشبه.

(6)

صحيح مسلم (832) صلاة المسافرين باب إسلام عمرو بن عبسة بألفاظ مقاربة.

(7)

كذا في ح، ط والوجه: مستخف، وفي صحيح مسلم:"فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفيًا".

(8)

سقط ما بين المعقوفين من ح.

(9)

كذا في ح، ط: والوجه: وتصل. وفي صحيح مسلم: أرسلني بصلة الأرحام.

ص: 230

قلت: نِعْمَ ما أرسلكَ به! فمن معك على هذا؟ قال: حُرٌّ وعَبْد -يعني أبا بكر وبلالًا-[قال: فكان عَمْرٌو يقول: لقد رأيتُني وأنا رُبُعُ الإسلام]

(1)

قال: فأسلمت، قلت: فأتبعُكَ يا رسول الله؟ قال: "لا، ولكنِ الْحَقْ بقومك، فإذا أُخبرتَ أنِّي قد خرجتُ فاتبعْني".

ويقال: إنَّ معنى قوله عليه السلام "حُرٌّ وعبد" اسم جنس، وتفسير ذلك بأبي بكرٍ وبلال فقط فيه نظر، فإنه قد كان جماعةٌ قد أسلموا قبل عمرو بن عَبَسة، وقد كان زيدُ بن حارثة أسلم قبل بلال أيضًا، فلعلَّه أخبر أنه رُبُع الإسلام بحسَبِ علمه، فإنَّ المسلين كانوا إذ ذاك يستترون

(2)

بإسلامهم، لا يطَّلع على أمرهم كثيرُ أحدٍ من قراباتهم، دع الأجانب، دعْ أهل البادية من الأعراب والله أعلم.

وفي صحيح البخاري

(3)

من طريق أبي أسامة عن هاشم بن هاشم، عن سعيد بن المُسَيِّب قال: سمعتُ سعدَ بن أبي وقَّاصٍ يقول: ما أسلم أحدٌ في اليوم الذي أسلمتُ فيه، ولقد مكثتُ سبعةَ أيام، وإني لَثُلُثُ الإسلام.

أمَّا قول: ما أسلم أحدٌ في اليوم الذي أسلمتُ فيه فسهل، ويُروى إلا في اليوم الذي أسلمتُ فيه، وهو مشكل، إذ يقتضي أنه لم يسبقْهُ أحدٌ بالإسلام. وقد علم أنَّ الصدِّيق وعليًا وخديجة وزيدَ بنَ حارثةَ أسلموا قبله، كما قد حَكَى الإجماعَ على تقدُّم إسلام هؤلاء غَيْرُ واحد، منهم ابنُ الأثير. ونص أبو حنيفةَ رضي الله عنه على أنَّ كلًّا من هؤلاء أسلم قبل أبناءِ جنسه. والله أعلم. وأما قولُه: ولقد مكثتُ سبعة أيام وإنِّي لَثُلُث الإسلام، فمشكل، وما أدري على ماذا يُوضع عليه إلا أن يكونَ أخبر بحسَب ما عَلِمه، والله أعلم.

وقال أبو داود الطيالسيّ

(4)

: حدّثنا حماد بن سلمة، عن عاصم، عن زِرّ، عن عبد الله -وهو ابنُ مسعود- قال: كنتُ غلامًا يافعًا أرعى غنمًا لعقبةَ بن أبي مُعيط بمكة. فأتى عليَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر -وقد فرَّا من المشركين- فقال -أو فقالا-: "عندك يا غلام لبنٌ تسقينا؟ " قلت: إني مؤتمَن، ولستُ بساقيكما. فقال: "هل عندك من جَذَعَةٍ

(5)

لم يَنْزُ عليها الفحلُ بعد؟ قلت: نعم. فأتيتُهما بها، فاعتقلها أبو بكر، وأخذ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الضَّرْعَ ودعا، فَحفِلَ الضَّرْع، وأتاه أبو بكر بصخرةٍ مُنْقَعِرَة

(6)

، فحَلَبَ فيها ثم شرب هو وأبو بكر، ثم سَقَياني، ثم قال للضرع:"اقْلِصْ" فَقَلَص، فلما كان بعدُ،

(1)

سقط ما بين المعقوفين من ح، وجاء في النهاية (ربع /2/ 186): وفي حديث عمرو بن عبسة: لقد رأيتني وإني لرُبُع الإسلام. أي رابع أهل الإسلام، تقدمني ثلاثة وكنت رابعهم.

(2)

في ط فإن المؤمنين كانوا إذ ذاك يستسرون. والمثبت من ح.

(3)

فتح الباري (3858) مناقب الأنصار باب إسلام سعد بن أبي وقاص.

(4)

في مسنده (353).

(5)

الجذعة من الضأن: الفتية التي تمَّ لها سنة أو نحوها. النهاية (1/ 250/ جذع).

(6)

في ط: متقعرة، والمثبت من ح ومسند الطيالسي ومسند أحمد. وفي رواية عند أحمد منقورة.

ص: 231

أتيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقلت: علِّمني من هذا القولِ الطيِّب -يعني القرآن- فقال: "إنك غلامٌ مُعَلَّم" فأخذت من فيهِ سبعينَ سورةً ما يُنازعُني فيها أحد.

وهكذا رواهُ الإمام أحمد

(1)

، عن عفَّان، عن حماد بن سلمة به.

ورواه الحسن بن عَرَفَة عن أبي بكر بن عياش، عن عاصم بن أبي النَّجُود

(2)

به.

وقال البيهقي

(3)

: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، حدّثنا أبو عبد الله بن بُطَّةَ

(4)

الأصبهاني، حدّثنا الحسن بن الجَهْم، حدّثنا الحسين بن الفرج، حدّثنا محمد بن عمر، حدّثني جعفر بن محمد بن خالد بن الزبير، [عن أبيه -أو]

(5)

عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان- قال: كان إسلامُ خالد بن سعيد بن العاص قديمًا، وكان أولَ إخوته أسلم، وكان بُدُوُّ إسلامه أنه رأى في المنام أنه وُقف به على شفير النار، فذكر من سعتها ما الله أعلم به، ويرى في النوم كأنَّ أباه

(6)

يدفعه فيها، ويرى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم آخذًا بحَقْوَيْه لا يقع، ففزع من نومه فقال: أحلف بالله إنَّ هذه لرؤيا حقّ؛ فَلَقِيَ أبا بكر بن أبي قُحافة، فذكر ذلك له، فقال: أُريدَ بك خير، هذا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فاتَّبعه، فإنك ستتبعُه وتدخل معه في الإسلام، والإسلام يَحْجُزكَ أنْ تدخلَ فيها، وأبوك واقعٌ فيها، فلقي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وهو بأجْياد، فقال: يا رسولَ الله، يا محمد، إلى ما

(7)

تدعو؟ قال: "أدعوك

(8)

إلى الله وحدَهُ لا شريكَ له، وأنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، وتخلعَ ما أنت عليه من عبادةِ حجرٍ لا يسمع ولا يُبصر ولا يضُرّ ولا ينفع، ولا يدري من عَبَدَهُ ممن لا يعبدُه". قال خالد: فإني أشهدُ أنْ لا إله إلا الله، وأشهدُ أنَّك رسولُ الله، فسُرَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بإسلامه، وتغيَّب خالد، وعلم أبوه بإسلامه، فأرسل في طلبه، فأتي به، فأنَّبَهُ وضربه بمِقْرَعةٍ في يده حتى كسرها على رأسه، وقال: والله لأمنعنَّكَ القُوت. فقال خالد: إنْ منعتني فإنَّ الله يرزقُني ما أعيش به. وانصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يكرمه

(9)

ويكون معه.

(1)

مسند أحمد (1/ 379، 462).

(2)

ساق هذه الرواية البيهقي في دلائل النبوة (2/ 172).

(3)

في دلائل النبوة (2/ 172).

(4)

بضم الباء الموحدة، قيّده الذهبي في المشتبه (84)، وابن ناصر الدين في توضيحه (1/ 556) وهو محمد بن أحمد بن بُطة المتوفى بأصبهان سنة 344 هـ (بشار).

(5)

ليس ما بين المعقوفين في دلائل البيهقي.

(6)

في ح: كأن آت أتى يدفعه، وفي ط: كان آتٍ أتاه. والمثبت من دلائل البيهقي.

(7)

في الدلائل: إلى من. وإثبات ألف ما المجرورة قليل شاذ كما في الخزانة (6/ 99).

(8)

في الدلائل: أدعو.

(9)

كذا في ح، ط وفي الدلائل: يلزمه وهو أشبه بالصواب. وإلى جانب السطر في ح كلمة: بلغ. يعني بلغ مقابلة.

ص: 232

‌ذكر إسلام حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه عمِّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم

-

قال يونس بن بُكير عن محمد بن إسحاق

(1)

: حدّثني رجلٌ ممن أسلم -وكان واعية- أنَّ أبا جهل اعترض رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عند الصفا، فآذاه وشتمه ونال منه ما يكرهُ من العَيْب لدينه، فذُكر ذلك لحمزة بن عبد المطلب، فأقبل نحوه، حتى إذا قام على رأسه رفع القوس، فضربه بها ضربةً شجَّه منها شَجَّةً مُنْكَرةً، وقامت رجالٌ من قريش من بني مَخْزوم إلى حمزة لينصُروا أبا جهلٍ منه، وقالوا: ما نراك يا حمزة إلا قد صبَوْت؟ قال حمزة: ومَنْ يمنعني وقد استبانَ لي منه ما أشهد

(2)

أنَّه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأنَّ الذي يقولُ حقّ، فوالله لا أنزعُ، فامنعوني إنْ كنتُم صادقين. فقال أبو جهل: دعوا أبا عُمارة، فإني والله لقد سببتُ ابنَ أخيه سبًّا قبيحًا.

فلما أسلم حمزة عرفتْ قريشٌ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قد عزَّ وامتنع، فكفُّوا عما كانوا يتناولون منه.

وقال حمزة في ذلك شعرًا

(3)

.

قال ابن إسحاق

(4)

: ثم رجع حمزةُ إلى بيته، فأتاهُ الشيطانُ فقال: أنت سيِّدُ قريش أتَّبعْتَ هذا الصابئ وتركتَ دينَ آبائك، للْمَوْتُ خيرٌ لك مما صنعت. فأقبل على حمزةَ بَثُّهُ وقال: ما صنعت؟ اللهمَّ إنْ كان رُشْدًا فاجعلْ تصديقَهُ في قلبي، وإلا فاجعل لي مما وقعتُ فيه مَخْرَجًا. فباتَ بليلةٍ لم يبتْ بمثلها من وسوسة الشيطان حتى أصبح، فغدا على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا ابن أخي إني قد وقعتُ في أمرٍ ولا أعرف المخرجَ منه، وإقامةُ مثلي على ما لا أدري ما هو، أرُشْدٌ أم هو غَيٌّ شديد؟ فحدِّثْني حديثًا فقد اشتهيتُ يا ابن أخي أنْ تحدِّثَني، فأقبل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فذكرَهُ ووعَظَهُ، وخوَّفه وبشَّره، فألْقَى الله في قلبهِ الإيمان بما قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم. فقال: أشهد أنك الصادقُ شهادةَ الصِّدْق، فأظْهِرْ يا ابن أخي دينَك، فوالله ما أُحبُّ أن لي ما أظلَّته السماء، وأني على دينيَ الأول. فكان حمزةُ ممن أعزَّ الله به الدين.

وهكذا رواهُ البيهقيُّ

(5)

عن الحاكم، عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبَّار، عن يونس بن بُكير به.

(1)

سيرة ابن إسحاق (ص 171) وسيرة ابن هشام (1/ 291)، ونقله عن ابن إسحاق البيهقي في الدلائل (2/ 213) باختصار وابن كثير هنا ينقله عن البيهقي كما سيأتي.

(2)

في سيرة ابن إسحاق والدلائل: أنا أشهد

(3)

ذكر ابن إسحاق في السيرة (ص 173) والسهيلي في الروض (2/ 49 و 50) الأبيات المعزوَّة إلى حمزة رضي الله عنه.

(4)

سيرة ابن إسحاق (ص 172).

(5)

في الدلائل (2/ 213، 214).

ص: 233

‌ذكر إسلام أبي ذَرٍّ رضي الله عنه

قال الحافظ البيهقي

(1)

: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، حدّثنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب الحافظ، حدّثنا الحسين بن محمد بن زياد، حدّثنا عبد الله بن الرومي، حدّثنا النضر بن محمد، حدّثنا عكرمة بن عمار عن أبي زُمَيل سِماك بن الوليد، عن مالك بن مرثد، عن أبيه، عن أبي ذرّ، قال: كنت رُبُعَ الإسلام، أسلم قبلي ثلاثةُ نفرٍ وأنا الرابع

(2)

، أتيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقلت: السلام عليك يا رسول الله، أشهد أنْ لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فرأيتُ الاستبشارَ في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

هذا سياقٌ مختصر.

وقال البخاري: إسلام أبي ذَرّ

(3)

: حدّثنا عمرو بن عباس، حدّثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن المثنى عن أبي جمْرَة

(4)

، عن ابن عباس، قال: لما بلغ أبا ذر مبعثُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قال لأخيه: اركبْ إلى هذا الوادي فاعْلَمْ لي عِلْمَ هذا الرجلِ الذي يزعم أنه نبيٌّ يأتيه الخبَرُ من السماء، فاسمعْ من قولِهِ ثم ائْتِني، فانطلق الآخر

(5)

حتى قدِمَهُ وسمع من كلامه، ثم رجع إلى أبي ذرٍّ فقال له: رأيته يأمُرُ بمكارم الأخلاق، وكلامًا ما هو بالشِّعر. فقال: ما شفيتني مما أردتُ. فتزوَّدَ وحملَ شَنَّةً فيها ماء حتى قدم مكة، فأتى المسجد، فالتمس رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ولا يعرفه وكره أن يسألَ عنه، حتى أدركه بعضُ الليل اضطجع

(6)

، فرآه عليّ فعرف أنه غريب، فلما رآه تبِعَهُ ولم يسألْ واحدٌ منهما صاحبَهُ عن شيءٍ حتى أصبح، ثم احتمل قِرْبَتَه وزادَهُ إلى المسجد، وظلَّ ذلك اليوم ولا يراه النبي صلى الله عليه وسلم حتى أمسى، فعاد إلى مضجعه، فمرَّ به عليٌّ فقال: أما آن للرجل أن يعلمَ مَنْزِلَه؟ فأقامه، فذهب به معه، لا يسأل واحدٌ منهما صاحبَه عن شيء حتى إذا كان يومُ الثالث، فعاد عليٌّ مثل ذلك، فأقام معه فقال: ألا تحدِّثُني بالذي أقدمك؟ قال: إنْ أعطيتَني عهدًا وميثاقًا لَتُرشِدَنِّي فعلتُ. ففعل، فأخبره. قال: فإنَّهُ حَقّ وإنه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فإذا أصبحتَ فاتْبَعْني فإني إنْ رأيتُ شيئًا أخافُ عليكَ قمتُ كأنِّي أُريقُ الماء، وإنْ مضيتُ فاتْبَعْني حتى تدخُلَ مَدْخَلي، ففعل، فانطلق يَقْفُوهُ حتى دخل على النبي صلى الله عليه وسلم ودخل معه، فسمع من قوله وأسلم مكانه. فقال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"ارجِعْ إلى قومِكَ فأخْبِرْهم حتى يأتيك أمري" فقال: والذي بعثك بالحق

(1)

في دلائل النبوة (2/ 212).

(2)

مضى معنى ربع الإسلام (ص 231 ح 1).

(3)

يعني باب إسلام أبي ذر، فتح الباري (3861) مناقب الأنصار باب إسلام أبي ذر الغفاري.

(4)

في ح، ط: أبي حمزة. والمثبت من البخاري، وقال ابن حجر في الفتح: هو بالجيم نصر بن عمران.

(5)

كذا في ح، ط: وهي رواية الكشميهني كما في الفتح (7/ 174)، وفي البخاري: الأخ. وهو أخوه أنيس كما سيأتي.

(6)

ليست هذه الكلمة في البخاري.

ص: 234

لأصْرُخَنَّ بها بين ظَهْرَانَيْهم. فخرج حتى أتى المسجد فنادى بأعلى صوته: أشهدُ أنْ لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسولُ الله، ثم قام [القوم] فضربوه حتى أضجعوه

(1)

، فأتى العباس فأكبَّ عليه فقال: وَيْلَكم! ألستم تعلمون أنه من غِفَار، وأنَّ طريق تجارتكم إلى الشام؟ فأنقذه منهم. ثم عاد من الغدِ بمثلها، فضربوه وثاروا إليه، فأكبَّ العباس عليه.

هذا لفظ البخاري.

وقد جاء إسلامُه مبسوطًا في صحيح مسلم

(2)

وغيره، فقال الإمام أحمد

(3)

: حدّثنا يزيد بن هارون، حدّثنا سليمان بن المغيرة، حدّثنا حميد بن هلال عن عبد الله بن الصامت، قال أبو ذر: خرجنا من قومنا غفار -وكانوا يُحِلُّونَ الشهرَ الحرام- أنا وأخي أنيس وأُمُّنا، فانطلقنا حتى نزلنا على خالٍ لنا ذي مالٍ وذي هيئة، فأكرمنا خالُنا وأحسن إلينا، فحَسَدنا قومُه، فقالوا له: إنَّك إذا خرجت عن أهلك خَلَفَك إليهم أنيس، فجاء خالنا فَنَثَى ما قيل له

(4)

فقلت له: أمَّا ما مضى من معروفك فقد كدَّرْتَه، ولا جِمَاعَ لنا فيما بعد

(5)

. قال: فقرَّبْنا صِرْمَتَنا

(6)

، فاحتمَلْنا عليها، وتغَطَّى خالُنا بثَوْبه، وجعل يبكي قال: فانطلَقْنا حتى نزلنا حَضْرَةَ

(7)

مكة، قال فنافر أُنَيْسٌ عن صِرْمَتِنا

(8)

وعن مثلها فأتيا الكاهن فخيَّر أُنيسًا. فأتانا بصِرْمتنا ومثلِها، وقد صلَّيتُ يا بن أخي قبلَ أنْ ألقى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ثلاثَ سنين، قال: قلت: لمن؟ قال: لله، قلت: فأين توجَّهُ؟ قال: حيث وجَّهني الله. قال: وأُصلِّي عشاءً حتى إذا كان من آخر الليل أُلقيتُ كأني خِفَاء

(9)

حتى تعلوني الشمس. قال: فقال أُنيس: إنَّ لي حاجةً بمكة فألقني

(10)

حتى آتيك. قال:

(1)

في البخاري: أوجعوه. وما بين معقوفين منه.

(2)

صحيح مسلم (2473) فضائل الصحابة باب من فضائل أبي ذر رضي الله عنه.

(3)

في مسنده (5/ 174) وما يأتي بين معقوفين منه.

(4)

في مسند أحمد: فنثى عليه ما قيل له، وفي النهاية (نثي/ 5/ 16): فنثى علينا الذي قيل له. أي أظهره إلينا وحدثنا به.

(5)

أي: لا اجتماع لنا. النهاية (جمع/ 1/ 297).

(6)

"الصِّرْمة": القطعة من الإبل، وهي ما بين عشرة إلى بضع عشرة، وقيل: أكثر من ذلك إلى الخمسين اللسان (صرم).

(7)

أي بقربها، الحضرة: قرب الشيء، ولفظ الإمام أحمد ومسلم: بحَضْرَة.

(8)

معناه: تراهن هو وآخر أيهما أفضل، وكان الرهن صرمة ذا وصرمة ذاك، فأيهما أفضل أخذ الصرمتين، فتحاكما إلى الكاهن فحكم بأن أُنيسًا أفضل وهو معنى قوله فخير أنيسًا أي جعله الخيار والأفضل. قاله النووي في شرح صحيح مسلم (16/ 27). وفي النهاية (نفر / 5/ 93): وفي حديث أبي ذر نافر أخي أنيسٌ فلانًا الشاعر وتنافر الرجلان: إذا تفاخرا ثم حكَّما بينهما واحدًا، أراد أنهما تفاخرا أيهما أجود شعرًا.

(9)

"الخِفاء": الكِساء، وكل شيء غطيت به شيئًا فهو خفاء. النهاية (خفي /2/ 57).

(10)

كذا في ح، ط وفي مسند أحمد وصحيح مسلم: فاكفني.

ص: 235

فانطلق، فراثَ عليّ

(1)

، ثم أتاني فقلت: ما حبسك؟ قال لَقيتُ رجلًا يزعُم أنَّ الله أرسله على دينك، قال: فقلت ما يقولُ الناسُ له؟ قال: يقولون إنه شاعرٌ وساحر [وكاهن. قال:] وكان أُنيس شاعرًا. قال: فقال: لقد سمعتُ الكُهَّان، فما يقولُ بقولهم، وقد وضعتُ قولَهُ على أَقْراءِ الشعر

(2)

، فوالله ما يلتئم لسانُ أحدٍ أنَّهُ شعر، ووالله إنَّه لصادق وإنهم لكاذبون. قال: فقلت له: هل أنت كافيَّ

(3)

حتى أنطلق [فأنظر]؟ قال: نعم، وكنْ من أهل مكةَ على حَذَر، فإنهم قد شَنِفُوا له

(4)

، وتجهَّموا له. قال: فانطلقتُ حتى قدمتُ مكة فتَضعَّفْتُ رجلًا منهم فقلت

(5)

: أين هذا الرجل الذي يدعونه الصابئ؟ قال: فأشار إليّ، فمالَ أهلُ الوادي عليَّ بكلِّ مَدَرَةٍ وعَظْم، حتى خرَرْتُ مغشيًّا علي، فارتفعتُ حين ارتفعت كأني نُصُبٌ أحمر، فأتيتُ زمزم فشربْتُ من مائها، وغسلتُ عني الدم، ودخلتُ بين الكعبة وأستارها، فلبثت به يا بن أخي ثلاثينَ من بين يومٍ وليلةٍ، ما لي طعامٌ إلا ماءُ زمزم، فسمِنْتُ حتى تكسَّرت عُكَنُ بَطْني

(6)

، وما وجدتُ على كَبْدي سَخْفَةَ جُوع

(7)

قال: فبينا أهلُ مكة في ليلةٍ قمراءَ إضْحِيان

(8)

، وضرب الله على أصْمِخةِ

(9)

أهل مكة، فما يطوف بالبيت غيرُ امرأتين، فأتتا عليَّ وهما تدعوان إساف ونائلة. فقلت: أنكِحوا أحدَهما الآخر: فما ثناهما ذلك

(10)

، [قال: فأتتا عليَّ] فقلت: وهن

(11)

مثلُ الخشبة، غيرَ أنِّي لم أركن. قال: فانطلقتا تولولان وتقولان: لو كان ها هنا أحدٌ من أنفارنا. قال: فاستقبلهما رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وهما هابطان من الجبل فقال: "ما لكما" فقالتا: الصابئُ بين الكعبة

(1)

"راث": أي أبطأ. شرح النووي لصحيح مسلم (16/ 28).

(2)

"أقراء الشعر": أي طرقه وأنواعه. المصدر السابق.

(3)

في ح: كاتمي، والمثبت من ط ومسند أحمد.

(4)

في ح، ط: شنعوا، والمثبت من مسند أحمد والنهاية (شنف/ 2/ 505) وفيه: في إسلام أبي ذر: فإنهم قد شنفوا له. أي أبغضوه. وفي مسند أحمد: وقال عفان: شيفوا له، وقال بهز: سبقوا له، وقال أبو النضر: شفوا له.

(5)

يعني نظرت إلى أضعفهم فسألته، لأن الضعيف مأمون الغائلة غالبًا. شرح النووي لصحيح مسلم (16/ 28).

(6)

"العُكَن": الأطواء في البطن من السِّمَن، واحدتها: عُكْنة. اللسان (عكن).

(7)

"سخفة": هي بفتح السين المهملة وضمها وإسكان الخاء المعجمة؛ وهي رقة الجوع وضعفه وهزاله. شرح النووي لصحيح مسلم (16/ 28، 29).

(8)

"إضحيان": مضيئة، ويقال: ليلة إضحيان وإضحيانة. شرح النووي لصحيح مسلم (16/ 29).

(9)

في ح: وصرت على أسحمه، وفي ط: وضرب على أشحمة، والمثبت من مسند الإمام أحمد والنهاية (صمخ/ 3/ 52) وفيه: هي جمع قلة للصِّماخ، وهو ثقب الأذن، ويقال بالسين، وهي رواية مسلم أي أن الله أنامهم.

(10)

في صحيح مسلم: "فما تناهتا عن ذلك".

(11)

قال النووي في شرح صحيح مسلم (16/ 29): الهنُ والهنة بتخفيف نونهما هو كناية عن كل شيء، وأكثر ما يستعمل كناية عن الفرج والذكر، فقال لهما: ومثل الخشبة بالفرج، وأراد بذلك سب إساف ونائلة وغيظ الكفار بذلك.

ص: 236

وأستارها. قالا: "ما قال لكما؟ " قالتا: قال لنا كلمةً تملأُ الفم. قال: وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وصاحبه حتى استلمَ الحجَر، وطاف بالبيت، ثم صلَّى. قال فأتيتُه فكنتُ أوَّلَ من حيَّاهُ بتحيَّةِ أهلِ الإسلام. فقال:"عليك السلامُ ورحمةُ الله من أنت؟ " قال: قلت من غفار، قال: فأهوى بيده فوضعها على جبهته. قال: فقلت في نفسي. كرهَ أنِ انتميتُ إلى غفار. قال: فاردتُ أن آخذَ بيده فقدَعَني

(1)

صاحبهُ، وكان أعلم به مني، قال: متى كنتَ ها هنا؟ قال: قلت: كنتُ ها هنا منذُ ثلاثين، من بين ليلةٍ ويوم. قال: فمَنْ كان يُطعمك؟ قلت: ما كان لي طعامٌ إلا ماءُ زمزم، فسمنتُ حتى تكسرتْ عُكَنُ بطني، وما وجدتُ على كبدي سَخْفَةَ جُوع. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنها مباركة، إنها طعامُ طُعْمٍ

(2)

". قال: فقال أبو بكر: ائذَنْ لي يا رسول اللهِ في طعامِهِ اللَّيلة. قال: ففعل، قال: فانطلق النبيُّ صلى الله عليه وسلم[وانطلق أبو بكر] وانطلقتُ معهما حتى فتح أبو بكرٍ بابًا، فجعل يقبضُ لنا من زبيب الطائف، قال: فكان ذلك أولَ طعامٍ أكلتُه بها، فلبثتُ ما لبثت. فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إني قد وُجِّهتُ إلى أرضٍ ذاتِ نَخْل ولا أحْسَبُها إلا يثرب، فهل أنت مبلِّغٌ عني قومكَ لعلَّ اللهَ ينفعُهم بك ويأجُرُكَ فيهم؟ ". قال: فانطلقتُ حتى أتيتُ أخي أُنيسًا. قال: فقال لي: ما صنعت؟ قال: قلتُ: صنعتُ أني أسلمتُ وصدَّقت. قال: فما بي رغبةٌ عن دينك، فإني قد أسلمتُ وصدَّقت. ثم أتينا أُمَّنا فقالت: ما بي رغبةٌ عن دينكما، فإني قد أسلمتُ وصدَّقت، فتحمَّلنا حتى أتينا قومنا غفارًا. قال: فأسلم بعضُهم قبلَ أنْ يقدَمَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وكان يؤمُّهُمْ خُفَافُ بن إيماءَ بنِ رَحَضَة

(3)

الغفاريّ، وكان سيِّدَهم يومئذ، وقال بقيَّتُهم: إذا قدِم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أسلمْنا. قال: فقدِمَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فأسلم بقيَّتُهم. قال: وجاءتْ أسْلَمُ فقالوا: يا رسول الله، إخوانُنا نسلم على الذي أسلموا عليه. [فأسلموا]، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم "غِفَارُ غفَرَ اللهُ لها، وأسْلَمُ سالَمَها الله".

ورواه مسلم عن هُدْبَة

(4)

بن خالد، عن سليمان بن المغيرة به نحوه.

وقد روى قصة إسلامه على وجهٍ آخر وفيه زيادات غريبة. فالله أعلم. وتقدَّم ذِكْرُ إسلام سلمان الفارسي في كتاب البِشَاراتِ بمبعثه عليه الصلاة والسلام

(5)

.

(1)

في ط: فقذفني. والمثبت من ح ومسند أحمد وصحيح مسلم والنهاية (قدع/ 4/ 24) وفيه: أي كفَّني.

(2)

قال النووي: أي تشبع شاربها كما يشبعه الطعام. شرح صحيح مسلم (16/ 30).

(3)

وقع في ح، ط: رخصة. وكذا في الإصابة في ترجمة خفاف، والمثبت من مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم وشرحة للنووي (16/ 31) وقال في ضبطه: إيماء ممدود والهمزة في أوله مكسورة على المشهور وحكى القاضي فتحها أيضًا وأشار إلى ترجيحه وليس براجح؛ ورحضة براءٍ وحاءٍ مهملة وضاد معجمة مفتوحات. وكذا ضبطه صاحب التاج (رحض).

(4)

هو هدَّاب كما في صحيح مسلم (2473) فضائل الصحابة باب من فضائل أبي ذر. ويقال له: هُدْبَة كما في تقريب التهذيب (2/ 315).

(5)

وردت قصة إسلام سلمان في (ص 115) وما بعدها من هذا الجزء.

ص: 237

‌ذكر إسلام ضِمَاد

روى مسلم والبيهقي

(1)

من حديث داودَ بن أبي هند، عن عمرِو بن سعيد، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس. قال: قدم ضِمَادٌ مكة وهو رجلٌ من أزْدِ شَنُوءة، وكان يَرْقِي من هذه الرياح

(2)

، فسمع سفهاء من سفهاء الناس يقولون: إنَّ محمدًا مجنون. فقال: أين

(3)

هذا الرجل لعلَّ الله أنْ يشفيَهُ على يدي؟ فلقيتُ محمدًا فقلت: إني أرقِي من هذه الرياح، وإنَّ اللهَ يَشْفي على يدي، مَنْ شاء، فهَلُمّ. فقال محمد:"إنَّ الحمد لله نحمَدُه ونستعينُه، من يهدِهِ الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضْلِلْ فلا هادي له، أشهدُ أنْ لا إله إلا الله وحدَهُ لا شريكَ له" ثلاثَ مرَّات. فقال: والله لقد سمعتُ قولَ الكهنة، وقول السَّحَرة، وقول الشعراء، فما سمعتُ مثل هؤلاء الكلمات، فهلمَّ يدك أبايعْكَ على الإسلام. فبايعه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال له:"وعلى قومك؟ " فقال: وعلى قومي. فبعث النبيُّ صلى الله عليه وسلم جيشًا

(4)

فمرُّوا بقوم ضِمَاد، فقال صاحبُ الجيش للسرية: هل أصبتُم من هؤلاء القوم شيئًا؟ فقال رجلٌ منهم: أصبتُ منهم مِطْهَرة. فقال: رُدَّها عليهم فإنهم قومُ ضِمَاد.

وفي رواية فقال له ضماد: أعِدْ عليَّ كلماتك هؤلاء، فلقد بلغْنَ قاموس البحر

(5)

.

وقد ذكر أبو نعيم في "دلائل النبوة"

(6)

إسلام من أسلم من الأعيان فصلًا طويلًا واستقصى ذلك استقصاءً حسنًا رحمه الله وأثابه.

وقد سرد ابنُ إسحاق أسماء من أسلم قديمًا من الصحابة رضي الله عنهم، قال

(7)

: ثمّ أسلم أبو عُبيدة، وأبو سَلَمة، والأرقم بن أبي الأرقم

(8)

، وعثمان بن مَظْعُون، وعُبيدة بن الحارث،

(1)

صحيح مسلم (868) الجمعة باب تخفيف الصلاة والخطبة؛ ودلائل النبوة للبيهقي (2/ 223) واللفظ له.

(2)

في صحيح مسلم: الريح. وقال النووي في شرحه (6/ 157): والمراد بالريح هنا الجنون ومس الجن، في غير رواية مسلم: يرقي من الأرواح، أي الجن سموا بذلك لأنهم لا يبصرهم الناس فهم كالروح والريح.

(3)

كذا في ح، ط، وفي الدلائل: آتي.

(4)

في ح: جيش، وفي الدلائل وصحيح مسلم: سرية.

(5)

في ح: قابوس البحر. وفي صحيح مسلم: ناعوس البحر، والمثبت من ط، وقال النووي في شرحه (6/ 157): ضبطناه بوجهين أشهرهما ناعوس بالنون والعين، هذا هو الموجود في أكثر نسخ بلادنا، والثاني قاموس بالقاف والميم، وهذا الثاني هو المشهور في روايات الحديث في غير صحيح مسلم اهـ. ثم ذكر روايات أخرى ومعناها؛ وقاموس البحر: قعره أولجته التي تضطرب أمواجها.

(6)

في الجزء الثاني في مواضع متفرقة منه.

(7)

سيرة ابن إسحاق (ص 143) وسيرة ابن هشام (1/ 252) والروض (1/ 290). واللفظ مختصر من سيرة ابن هشام.

(8)

وقع في سيرة ابن إسحاق: وعبد الله بن الأرقم المخزومي. سقط منه لفظ أبو، إذ هو أبو عبد الله الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي. الإصابة.

ص: 238

وسعيد بن زيد، وامرأته فاطمة بنتُ الخطَّاب، وأسماءُ بنت أبي بكر، وعائشة بنت أبي بكر -وهي صغيرة- وقُدَامة بن مظعون، وعبد الله بن مظعون، وخَبَّاب بن الأرتّ، وعُمير

(1)

بن أبي وقَّاص، وعبد الله بن مسعود، ومسعود بن القاريّ، وسَلِيط بن عمرو، وعيَّاش بن أبي ربيعة، [وامرأته أسماء بنت سلمة

(2)

بن مُخَرِّبَة التميميَّة

(3)

وخُنَيْس بن حُذافة، وعامر بن ربيعة]

(4)

، وعبد الله بن جَحْش، وأبو أحمد بن جحش، وجعفر بن أبي طالب، وامرأته أسماء بنت عُمَيس، وحاطب بن الحارث، وامرأته [فاطمة بنت المُجَلِّل، وأخوه حطَّاب بن الحارث، وامرأته]

(5)

فُكَيهة ابنة يَسَار، ومعمر بن الحارث بن معمر الجُمَحي، والسائب بن عثمان بن مظعون، والمطلب بن أزهر بن عبد عوفِ

(6)

. وامرأته رملة بنت أبي عوف بن صُبيرة

(7)

بن سعيد بن سهم، والنَّحَّام، واسمُه نُعيم بن عبد الله بن أَسِيد، وعامر بن فُهيرة مولى أبي بكر، وخالد بن سعيد، وأمينة ابنةُ خلف بن سعد بن عامر بن بياضة بن خُزاعة، وحاطب بن عمرو بن عبد شمس، وأبو حُذيفة بن عتبة بن ربيعة، وواقد بن عبد الله بن عَرِين بن ثعلبة التميمي، حليفُ بني عدي، وخالد بن البُكير، وعامر بن البُكير، وعاقل بن البُكير، وإياس بن البُكير بن عبد يا ليل بن ناشب بن غِيَرَة، من بني سعد بن ليث، وكان اسمُ عاقلٍ غافلًا فسمَّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عاقلًا، وهم حلفاء بني عدي بن كعب، وعمار بن ياسر، وصُهيب بن سنان. ثم دخل الناسُ أرسالا من الرجال والنساء حتى فشا أمر الإسلام بمكة وتحدث به.

قال ابن إسحاق

(8)

: ثم أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بعد ثلاثِ سنين من البعثة بأنْ يصدَع بما أمر، وأن يصبر على أذى المشركين.

قال

(9)

: وكان أصحابُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إذا صلَّوْا ذهبوا في الشِّعاب واستخفَوْا بصلاتهم من قومهم. فبينا سعدُ بن أبي وقاص في نفرٍ يُصلُّون بشعاب مكة إذْ ظهر عليهم بعضُ المشركين فناكروهم وعابوا عليهم

(1)

في ح: وعمرو.

(2)

في سيرة ابن إسحاق وسيرة ابن هشام: سلامة وكلاهما سميت به كما في ترجمتها في الإصابة.

(3)

في ط: مخرمة التيمي. وهو تصحيف: والمثبت من المؤتلف والمختلف للدارقطني (4/ 2152) والمصادر في حاشيته وسيرة ابن هشام.

(4)

سقط ما بين المعقوفين من ح.

(5)

سقط ما بين المعقوفين من ح، ط فاستدركته من سيرة ابن هشام وترجمتيهما في الإصابة.

(6)

في ح، ط: المطلب بن أزهر بن عبد مناف. والمثبت من سيرة ابن إسحاق وسيرة ابن هشام وترجمته في الإصابة، وفيه وهو ابن عم عبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف".

(7)

في ط: صييرة. بياءين، وقد تقرأ في ح: جبيرة، والمثبت من سيرة ابن هشام والروض والاشتقاق لابن دريد (ص 125).

(8)

سيرة ابن إسحاق (ص 145) وسيرة ابن هشام (1/ 262) والروض (2/ 3).

(9)

يعني ابن إسحاق في السيرة (ص 147) وسيرة ابن هشام (1/ 263) والروض (2/ 3).

ص: 239

ما يصنعون حتى قاتلوهم، فضرب سعدٌ رجلًا من المشركين بلَحْي جملٍ فشجَّه، فكان أول دمٍ أُهريق في الإسلام.

وروى الأمويُّ في مغازيه، من طريق الوقَّاصي عن الزهري عن عامر بن سعد عن أبيه. فذكر القصة بطولها وفيه: أنَّ المشجوج هو عبد الله بن خَطَل لعنه الله.

‌باب أمر الله رسوله عليه الصلاة والسلام بإبلاغ الرسالة

إلى الخاص والعام، وأمرهِ له بالصبر والاحتمال والإعراض عن الجاهلين المعاندين المكذِّبين بعد قيام الحجةِ عليهم، وإرسال الرسول الأعظم إليهم وذِكْر ما لقي من الأذِيَّةِ منهم هو وأصحابه رضي الله عنهم.

قال الله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ

(1)

جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الشعراء: 214 - 220]. وقال تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزخرف: 44] وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص: 85] أي إنَّ الذي فَرض عليك وأوجب عليك بتبليغ القرآن لرادُّك إلى دار الآخرة وهي المعاد، فيسألك عن ذلك كما قال تعالى:{فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر: 92 - 93].

- والآيات والأحاديث في هذا كثيرةٌ جدًّا. وقد استقصينا الكلام على ذلك في كتابنا التفسير، وبسطنا من القول في ذلك عند قوله تعالى في سورة الشعراء:{وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} . وأوردْنا أحاديث جَمَّةً في ذلك، فمن ذلك. قال الإمام أحمد

(2)

: حدّثنا عبد الله بن نُمير، عن الأعمش، عن عمرو بن مُرَّة، عن سعيد بن جُبَير عن ابن عباس قال: لما أنزل اللهُ [عز وجل]{وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} أتى النبيُّ صلى الله عليه وسلم الصَّفَا فصعِدَ عليه ثم نادى: "يا صباحاه" فاجتمع الناسُ إليه بين رجلٍ يجيء إليه، وبين رجل يبعث رسولَه. فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"يا بني عبد المطلب، يا بني فِهْر، يا بني كعب، أرأيتم لو أخبرتُكم أنَّ خيلًا بسفح هذا الجبل، تريدُ أنْ تُغِيرَ عليكم، صدَّقتموني؟ " قالوا: نعم! قال: "فإني نَذِيرٌ لكم بين يَدَيْ عذابٍ شديد" فقال أبو لهب -لعنه الله

(3)

- تبًّا لك سائرَ اليوم أما دعَوْتَنا إلا لهذا؟ فأنزل الله عز وجل

(1)

في ح: واخفظ.

(2)

في مسنده (1/ 307) وما يأتي بين معقوفين منه.

(3)

ليست الجملة المعترضة في مسند أحمد.

ص: 240

{تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1] وأخرجاه

(1)

من حديث الأعمش به نحوه.

وقال أحمد

(2)

: حدثنا معاويةُ بن عمرو، حدثنا زائدة، حدثنا عبد الملك بن عُمير، عن موسى بن طلحة، قال: لما نزلتْ هذه الآية {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} دعا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قريشًا فعمَّ وخصَّ فقال: "يا معشر قريش، أنقذوا أنْفُسَكُمْ من النار، يا معشر بني كعب [بن لُؤَي أنقذوا أنفسكم من النار، يا معشر بني عبد مناف] أنقذوا أنفسَكم من النار، يا معشر بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار، يا معشر بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمةُ بنتَ محمد أنقذي نفسَكِ من النار، فإني والله لا أمْلِكُ لكم من اللهِ شيئًا، إلا أنَّ لكم رَحِمًا سأبُلُّها بِبلالِها

(3)

.

ورواه مسلم

(4)

من حديث عبد الملك بن عُمير، وأخرجاه في الصحيحين

(5)

، من حديث الزُّهْري، عن سعيد بن المُسَيِّب وأبي سَلَمَة، عن أبي هريرة، وله طُرُقٌ أُخَرُ عن أبي هريرة في مسند أحمد وغيره

(6)

.

وقال أحمدُ أيضًا:

(7)

حدثنا وكيع، حدَّثنا هشام، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: لمَّا نزل {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} قام رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا فاطمةُ بنتَ محمد، يا صَفِيَّةُ بنتَ عبد المطلب، يا بني عبد المطلب لا أمْلِكُ لكم من الله شيئًا، سَلُوني من مالي ما شِئْتُمْ".

ورواه مسلمٌ أيضًا

(8)

.

وقال الحافظ أبو بكرٍ البيهقيُّ في الدلائل

(9)

: أخبرنا محمد بن عبد [الله] الحافظ، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا أحمد بن عبد الجبار، حدثنا يونس بن بُكَير، عن محمد بن إسحاق قال: فحدثني مَنْ سمع عبد الله بن الحارث بن نَوْفل -واستكتمني اسمه- عن ابن عباس، عن عليِّ بن أبي طالب، قال: لما نزلتْ هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ

(1)

يعني البخاري ومسلم، فتح (4972) التفسير سورة 111 باب وتب. وصحيح مسلم (208) الإيمان باب في قوله تعالى وأنذر عشيرتك الأقربين.

(2)

في مسنده (2/ 360) وما يأتي بين معقوفين منه.

(3)

أي أصلكم في الدنيا ولا أغني عنكم من الله شيئًا. والبلال جمع بلل؛ وقيل: هو كل ما بلَّ الحلق من ماءٍ أو لبن أو غيره. النهاية (1/ 153/ بلل).

(4)

صحيح مسلم (204) الإيمان باب في قوله تعالى: وأنذر عشيرتك الأقربين.

(5)

فتح الباري (2753) الوصايا باب هل يدخل النساء والولد في الأقارب، وصحيح مسلم (206) الإيمان باب في قوله تعالى وأنذر عشيرتك الأقربين.

(6)

مسند أحمد (2/ 333 و 519) وجامع الترمذي (3185) التفسير باب 27 ومن سورة الشعراء وسنن النسائي (3644) الوصايا باب إذا أوصى لعشيرته الأقربين.

(7)

في مسنده (6/ 187).

(8)

صحيح مسلم (205) الإيمان باب في قوله تعالى: وأنذر عشيرتك الأقربين.

(9)

دلائل النبوة للبيهقي (2/ 178، 179) وما يأتي بين معقوفين منه. وساقه أيضًا ابن الجوزي في الوفا (1/ 184).

ص: 241

جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}. قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "عرَفْتُ أنِّي إنْ بادَيْتُ

(1)

بها قومي رأيتُ منهم ما أكره فصمتُّ، فجاءني جبريلُ عليه السلام فقال: يا محمد، إنْ لم تفعل ما أمَرَكَ به رَبُّكَ عذَّبَكَ بالنار". قال [علي]: فدعاني فقال: "يا عليّ إن الله قد أمرني أن أُنذِرَ عشيرتي الأقربين [فعرفتُ أني إنْ باديتهم بذلك رأيتُ منهم ما أكره، فصمتُّ من ذلك، ثم جاءني جبريل فقال: يا محمد، إن لم تفعل ما أُمرت به عذبك ربُّك]، فاصْنَعْ لنا يا علي [رِجل] شاة على صاعٍ من طعام، وأعِدَّ لنا عُسَّ لبنٍ

(2)

، ثم اجمعْ لي بني عبد المطلب". ففعلت فاجتمعوا له يومئذٍ وهم أربعون رجلًا يزيدون رجلًا أو ينقصون، فيهم أعمامه أبو طالب، وحمزة، والعباس، وأبو لهب الكافر الخبيث، فقدَّمتُ إليهم تلك الجَفْنَة فأخذ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم منها حِذْيَةً

(3)

فشقَّها بأسنانه ثم رمى بها في نواحيها وقال: "كلُوا بسم الله". فأكل القوم حتى نَهِلُوا عنه، ما نرَى إلا آثارَ أصابعِهم، والله إنْ كان الرجلُ ليأكلُ مثلَها. ثم قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"اسْقِهِمْ يا عليّ"

(4)

. فجئتُ بذلك القَعْب، فشربوا منه حتى نَهِلُوا جميعًا، وايْمُ الله إنْ كان الرجل منهم ليشربُ مثله، فلما أراد رسول الله أن يكلمهم، بدَرَهُ أبو لهب -لعنه الله- إلى الكلام فقال: لهدَّ ما سحركم صاحبكم؟ فتفرَّقُوا ولم يكلِّمْهُمْ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم. فلمَّا كان من الغد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عليُّ عُدْ لنا بمثل الذي كنتَ صنعتَ لنا بالأمسِ من الطعام والشراب، فإنَّ هذا الرجلَ قد بَدَرَني إلى ما سمعتَ قبلَ أنْ أكلِّمَ القوم" ففعلتُ، ثم جمعتُهم له. فصنع رسولُ الله صلى الله عليه وسلم كما صنع بالأمس فأكلوا حتى نَهِلُوا عنه، ثم سقَيْتُهم من ذلك القَعْب حتى نهِلوا عنه، وايْمُ الله إنْ كان الرجلُ ليأكلُ مثلها ويشربُ مثلها. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يا بني عبد المطَّلِب، إنِّي والله ما أعلمُ شابًّا من العرب جاء قومَهُ بأفضلَ ممَّا جئتكم به، إني قد جئتُكُم بأمْرِ الدُّنيا والآخرة".

هكذا رواه البيهقي من طريق يونس بن بُكَير، عن ابن إسحاق عن شيخ أبهم اسمَهُ، عن عبد الله بن الحارث به.

وقد رواه أبو جعفر بن جرير

(5)

، عن محمد بن حُميد الرازي، عن سلمة بن الفضل الأبرش، عن محمد بن إسحاق عن عبد الغفار أبي مريم بن القاسم، عن المنهال بن عمرو عن عبد الله بن الحارث، عن ابن عباس، عن علي، فذكر مثله. وزاد بعد قوله:"وإني قد جئتُكم بخيرِ الدنيا والآخرة، وقد أمَرَني الله أنْ أدْعُوَكم إليه، فأيُّكم يؤازرُني على هذا الأمر على أنْ يكونَ أخي" وكذا وكذا. قال: فأحجم

(1)

"باداه": بارزه، وكاشفتُ الرجل وباديته وجاليته بمعنى، ومنه الحديث أنه أمر أن يُبَادِي الناسَ بأمره؛ أي يظهره لهم. الأساس والنهاية (بدي).

(2)

"العس": القدح الكبير. المصباح (عسس).

(3)

"الحذية": القطعة من اللحم كالحِذْوة اللسان (حذا) واوية يائية.

(4)

في ح، ط تكرار بمقدار خمسة أسطر ونصف، لعلها سهو من الناسخ.

(5)

في تاريخه تاريخ الأمم والملوك (2/ 319).

ص: 242

القومُ عنها جميعًا، وقلتُ وإني

(1)

لأحدَثُهم سنًا وأرْمَصُهم عينًا، وأعظمُهم بطنًا، وأحْمَشُهُمْ ساقًا: أنا يا نبيَّ الله أكونُ وزيرَكَ عليه. فأخَذَ برقبتي فقال: "إنَّ هذا أخي وكذا وكذا، فاسمعوا له وأطيعوا". قال: فقام القوم يَضْحَكُونَ ويقولونَ لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع.

تفرَّد به عبدُ الغفَّار بن القاسم أبو مريم، وهو كذَّابٌ شيعي، اتهمه عليُّ بن المَديني وغيرُه بوَضْع الحديث. وضعفه الباقون

(2)

.

ولكنْ روى ابنُ أبي حاتم في تفسيره عن أبيه، عن الحسين بن عيسى بن ميسرة الحارثي عن عبد الله بن عبد القدُّوس، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن عبد الله بن الحارث، قال: قال علي: لما نزلتْ هذه الآية: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اصنَعْ لي رِجلَ شاة بِصَاعٍ من طعام، وإناء لبن، وادْعُ لي بني هاشم". فدعَوْتُهم وإنَّهم يومئذٍ لأربعونَ غيرَ رجلٍ، أو أربعونَ ورجل، فذكر القصة نحو ما تقدَّم، إلى أن قال: وبدرهم

(3)

رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الكلام. فقال: "أيكم يَقْضي عني دَيْني ويكونُ خليفتي في أهلي؟ " قال: فسكتوا وسكتَ العباسُ خشية أنْ يُحيط ذلك بماله، قال: وسكتُّ أنا لسِنِّ العباس. ثم قالها مرَّةً أخرى فسكتَ العباس، فلما رأيتُ ذلك قلت: أنا يا رسول الله، قال:"أنت؟ " قال: وإنِّي يومئذٍ لأسْوَؤهم هيئةً، وإني لأعْمَشُ العينَيْن، ضخْمُ البطن؛ حَمِشُ الساقين.

وهذه الطريق فيها شاهدٌ لما تقدَّم، إلا أنه لم يذكرِ ابنَ عباس فيها. فالله أعلم.

وقد روى الإمام أحمدُ في "مسنده"

(4)

، من حديث عبَّاد بن عبد الله الأسدي، وربيعة بن ناجذ عن علي نحو ما تقدَّم -أو كالشاهد له- والله أعلم

(5)

.

ومعنى قوله في هذا الحديث: مَن يقضي عني دَيْني ويكونُ خليفتي في أهلي: يعني إذا متُّ، وكأنه صلى الله عليه وسلم خشي إذا قام بإبلاغِ الرسالة إلى مشركي العرب أن يقتلوه، فاستوثق مَنْ يقوم بعدَهُ بما يُصلح أهله، ويقضي عنه؛ وقد أمَّنَهُ الله من ذلك في قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} ]

(6)

الآية.

(1)

في ح، ط: ولأني، والمثبت من تاريخ الطبري.

(2)

ميزان الاعتدال (2/ 640).

(3)

في ح: بدأهم.

(4)

مسند أحمد (1/ 111 و 159).

(5)

قال بشار: كلا الحديثين ضعيف، فعباد بن عبد الله الأسدي ضعيف، وفي الثاني ربيعة بن ناجذ مجهول تفرد بالرواية عنه أبو صادق الأزدي ولم يذكره في الثقات سوى ابن حبان والعجلي، وقال الذهبي في الميزان (2/ 45):"لا يكاد يعرف، وعنه أبو صادق بخبر منكر فيه: علي أخي ووارثي"، وقال في المغني: فيه جهالة، وينظر كتابنا تحرير التقريب (1/ 398).

(6)

سقط ما بين المعقوفين من ح والآية (67) من سورة المائدة.

ص: 243

والمقصود أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم استمرَّ يَدْعُو إلى الله تعالى ليلًا ونهارًا، وسِرًّا وجِهارًا، لا يصرِفُه عن ذلك صارف، ولا يردُّه عن ذلك رادّ، ولا يصدُّه عنه ذلك صادّ، يتبع الناس في أنديتهم، ومجامعهم ومحافلهم وفي المواسم، ومواقف الحج. يدعو مَنْ لَقِيَهُ مِنْ حُرٍّ وعَبْد، وضعيفٍ وقويّ، وغنيٍّ وفقير، جميعُ الخَلْق في ذلك عنده

(1)

شَرْعٌ سَوَاء. وتسلَّط عليه وعلى من اتَّبعَهُ من آحاد الناس من ضعفائهم الأشداء الأقوياء من مشركي قريش بالأذيَّة القولية

(2)

والفعلية، وكان من أشدِّ الناس عليه عمُّه أبو لهب -واسمه عبد العُزَّى بن عبد المطلب- وامرأتُه أمُّ جميل أرْوَى بنتُ حَرْب بن أمية، أختُ أبي سفيان. وخالفه في ذلك عمُّه أبو طالب بن عبد المطلب، وكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أحبَّ خلقِ الله إليه طبعًا، وكان يَحْنُو عليه ويُحسن إليه، ويُدَافع عنه ويحامي، ويخالف قومَهُ في ذلك، مع أنَّه على دينهم وعلى خَلَّتهم

(3)

، إلا أنَّ الله تعالى قد امتحن قَلْبَهُ بحبِّهِ حبًا طبعيًّا

(4)

لا شرعيًا. وكان استمرارُه على دين قومه من حكمة الله تعالى، ومما صنعه لرسوله من الحماية، إذْ لو كان أسلم أبو طالب لما كان له عند مشركي قريش وَجَاهةٌ ولا كلمة، ولا كانوا يهابونه ويحترمونه. ولاجترؤوا عليه، ولمدُّوا أيديَهُم وألسنتهم بالسوء إليه، وربك يخلقُ ما يشاء ويختار. وقد قسم خلقه أنواعًا وأجناسًا، فهذانِ العَمَّانِ كافران، أبو طالب وأبو لهب، ولكن هذا يكونُ في القيامة في ضَحْضاحٍ من نار، وذلك في الدَّرْكِ الأسفل من النار، وأنزل الله فيه سورةً في كتابه تُتْلَى على المنابر، وتُقرأ في المواعظ والخُطَب، تتضمَّن أنه سيَصْلى نارًا ذات لهب، وامراتُه حمَّالة الحَطَب.

قال الإمام أحمد

(5)

: حدّثنا إبراهيم بنُ أبي العباس، حدّثنا عبد الرحمن بنُ أبي الزناد، عن أبيه قال: أخبر [ني] رجلٌ يقال له: ربيعة بن عِبَاد من بني الدِّيل

(6)

-وكان جاهليًا فأسلم- قال: رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية في سوق ذي المَجَاز وهو يقول: "يا أيُّها الناس قولوا لا إله إلا الله تُفْلِحُوا" والناسُ مجتمعون عليه، ووراءه رجلٌ وضيءُ الوجه، أحْوَلُ ذو غَدِيرتَيْن يقول: إنَّه صابئ كاذب يتبعه حيث ذهب، فسألتُ عنه [فذكروا لي نسبَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم] فقالوا: هذا عمُّه أبو لهب.

(1)

ليست اللفظة في ح.

(2)

في ح: القوية، ووضع فوقها: خ وأثبت الناسخ إلى جانب السطر في الهامش ما نصه: القولية. وإلى جانبها كلمة صح.

(3)

"الخلة": بفتح الخاء: الخصلة. وبضم الخاء: الصداقة المختصة لا خلل فيها تكون في عفاف وفي دعارة. القاموس (خلل).

(4)

في ح: طبعًا.

(5)

في المسند (4/ 341) وما يأتي بين معقوفين منه.

(6)

نسبته في الإكمال (6/ 61/ الدؤلي) وفي الإصابة: الديلي، وكلاهما جائز.

ص: 244

ثم رواه هو والبيهقي

(1)

من حديث عبد الرحمن بن أبي الزِّناد بنحوه.

وقال البيهقيُّ أيضًا

(2)

حدّثنا أبو طاهر الفقيه، حدّثنا أبو بكر محمد بن الحسن

(3)

القطَّان، حدّثنا أبو الأزهر، حدّثنا محمد بن عبد الله الأنصاري، حدّثنا محمد بن عمرو

(4)

، عن محمد بن المنكدر، عن ربيعةَ الدِّيلي.

قال: رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي المجاز يتبع الناسَ في منازلهم، يدعوهم إلى الله، وراءَهُ رجلٌ أحْوَل، تَقِدُ وجنتاهُ وهو يقول: [أيُّها الناس لا يَغُرَّنَّكم هذا عن دينكم ودينِ آبائكم. قلتُ: من هذا؟ قيل: هذا أبو لهب.

ثمّ رواه

(5)

من طريق شعبة عن الأشعث بن سُليم، عن رجل من كنانة. قال: رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بسوق ذي المَجاز وهو يقول]

(6)

: "يا أيُّها الناس، قولوا لا إله إلا الله تفلحوا" وإذا رجلٌ خلْفَه يَسْفي عليه التراب، فإذا هو أبو جهل، وإذا هو يقول: يا أيها الناس، لا يغرَّنَّكم هذا عن دينكم، فإنما يريد أن تتركوا عبادة اللاتِ والعُزَّى.

كذا قال أبو جهل، والظاهر أنه أبو لهب، وسنذكر بقية ترجمته عند ذكر وفاته، وذلك بعد وقعة بدر إن شاء الله تعالى

(7)

.

وأمَّا أبو طالب فكان في غاية الشفَقَة والحُنُوِّ الطبيعي كما سيظهر من صنائعه وسجاياه، واعتماده فيما يُحامي به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم.

قال يونس بن بُكير، عن طلحة بن يحيى بن عبيد الله، عن موسى بن طلحة

(8)

، أخبرني عقيل بن أبي طالب قال: جاءتْ قريش إلى أبي طالب فقالوا: إنَّ ابن أخيك هذا قد آذانا في نادينا ومسجدنا فانْهَهُ

(1)

في المسند (4/ 341) والدلائل (2/ 185، 186).

(2)

في الدلائل (2/ 185) وأخرجه الإمام أحمد في المسند (3/ 492) عن محمد بن بشار عن عبد الوهاب عن محمد بن عمرو به.

(3)

في الدلائل: الحسين. وهو اسم أبيه، والحسن جده، ترجمته في سير أعلام النبلاء (15/ 318) وتذكرة الحفاظ (3/ 842).

(4)

في ح، ط: محمد بن عمر، والمثبت من الدلائل ومن ترجمته في تهذيب الكمال (26/ 212) وهو محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي.

(5)

يعني البيهقي في الدلائل (2/ 186).

(6)

ما بين المعقوفين سقط من ح.

(7)

انظر مقتل أبي لهب في الجزء الرابع.

(8)

في ح، ط: طلحة بن يحيى عن عبد الله بن موسى بن طلحة. وهو تحريف، والمثبت من ترجمة طلحة في تهذيب الكمال (13/ 441) والتاريخ الكبير للبخاري (7/ 51) ودلائل النبوة (2/ 186).

ص: 245

عنا. فقال: يا عقيل، انطلقْ فأْتِني بمحمد، فانطلقتُ إليه، فاستخرجته من كِنْس

(1)

-أو قال خِنْس- يقول: بيت صغير، فجاء به في الظهيرة في شدة الحر، فلما أتاهم قال: إنَّ بني عمِّك هؤلاء زعموا أنك تؤذيهم في ناديهم ومسجدهم، فانْتَهِ عن أذاهم. فحلَّق

(2)

رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ببصره إلى السماء فقال: "ترون هذه الشمس؟ " قالوا: نعم! قال: "فما أنا بأقدر [على] أن أدعَ ذلك منكم على أن تشتعلوا

(3)

منها بشعلة". فقال أبو طالب: والله ما كذب ابنُ أخي قطّ، فارجعوا.

رواه البخاري في التاريخ

(4)

عن محمد بن العلاء عن يونس بن بكير.

ورواه البيهقي

(5)

عن الحاكم عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار عنه به -وهذا لفظه-.

ثمّ روى البيهقي

(6)

من طريق يونس عن ابن إسحاق، حدّثني يعقوب بن عتبة

(7)

بن المغيرة بن الأخنس، أنه حدث أنَّ قريشًا حين قالت لأبي طالب هذه المقالة بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: يا ابن أخي، إنَّ قومك قد جاؤوني وقالوا كذا وكذا، فأبْقِ عليَّ وعلى نفسك، ولا تحمِّلني من الأمر ما لا أُطيق أنا ولا أنت؛ فاكفُفْ عن قومك ما يكرهون من قولك. فظنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قد بَدَا لعمِّه فيه، وأنَّه خاذلُه ومُسْلِمُه، وضعُفَ عن القيام معه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يا عمّ، لو وضعتِ الشمسُ في يميني والقمر في يساري ما تركتُ هذا الأمر حتى يُظهرهُ الله أو أهلكَ في طلبه" ثم استعبر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فبكى، فلما ولَّى قال له حين رأى ما بلغ الأمْرُ برسول الله صلى الله عليه وسلم: يا ابن أخي، فأقبَلَ عليه، فقال: امضِ على أمرك وافْعَلْ ما أحببت، فوالله لا أُسْلِمُك لشيءٍ أبدًا

(8)

.

قال ابن إسحاق

(9)

: ثم قال أبو طالب في ذلك: [من الكامل]

واللهِ لنْ يَصِلوا إليكَ بِجَمْعِهم

حتى أُوسَّدَ في الترابِ دَفينا

فامضي لأمرِكَ ما عليكَ غضاضةٌ

أبشرْ وقرَّ بذاكَ منكَ عيونا

ودعوتَني وعلمتُ أنك ناصحي

فلقدْ صدقتَ وكنتَ قِدْمُ أمينا

(10)

(1)

كذا في ح، ط بالنون، وكذا في أصل الدلائل؛ قال ابن الأثير في النهاية (كبس/ 4/ 143) بعد سياق الحديث: الكِبْس بالكسر: بيت صغير. ويروى بالنون، من الكناس، وهو بيت الظبي اهـ.

(2)

في هامش ح: فحدّق، لعلها رواية نسخة.

(3)

في التاريخ للبخاري: تشعلوا منها شعلة، وفي الدلائل: تستشعلوا منها شعلة.

(4)

التاريخ الكبير (7/ 51).

(5)

دلائل النبوة (2/ 186).

(6)

في الدلائل أيضًا (2/ 187، 188) سيأتي.

(7)

في الدلائل: عقبة، تصحيف.

(8)

الخبر بنحوه في سيرة ابن هشام (1/ 266).

(9)

دلائل النبوة (2/ 188) والأبيات فيه.

(10)

في الدلائل: قبل أمينا.

ص: 246

وعرضتَ دينًا قد عرفتُ بأنه

من خيرِ أديان البرية دينا

لولا الملامةُ أو حِذَاري سُبَّةً

لوجدتَني سمحًا بذاك مُبينا

ثم قال البيهقي: وذكر ابن إسحاق لأبي طالب في ذلك أشعارًا

(1)

؛ وفي ذلك دلالةٌ على أنَّ الله تعالى عصَمَهُ بعمِّه مع خلافِهِ إيَّاه في دينه، وقد كان يعصِمُه حيث لا يكون عمُّه بما شاء لا معقِّب لحكمه.

وقال يونس بن بكير، عن

(2)

محمد بن إسحاق: حدّثني رجلٌ من أهل مصر قديمًا منذ بضع وأربعين سنة، عن عكرمة، عن ابن عباس في قصةٍ طويلة جرتْ بين مشركي مكة وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قام رسولُ الله قال أبو جهل بن هشام: يا معشر قريش، إنَّ محمدًا قد أبى إلا ما ترَوْن، من عيب ديننا، وشتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وسبِّ آلهتنا، وإني أُعاهد الله لأجلسنَّ له غدًا بحجر، فإذا سجد في صلاته فضختُ به رأسه

(3)

، فليصنع بعد ذلك بنو عبدِ منافٍ ما بَدَا لهم. فلما أصبح أبو جهلٍ -لعنه الله- أخذ حجرًا ثم جلس لرسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظره، وغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان يغدو، وكان قبلته الشام، فكان إذا صلَّى صلَّى بين الركنين الأسودِ واليَمَاني، وجعل الكعبة بينه وبين الشام، فقام رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يصلِّي، وقد غدَتْ قريش، فجلسوا في أنديتهم ينتظرون، فلما سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم احتمل أبو جهل الحَجَر، ثم أقبل نحوه، حتى إذا دنا منه رجع منبهتًا، ممتقعًا لونه، مرعوبًا قد يَبِستْ يداه على حَجَره، حتى قذف الحجر من يده، وقامت إليه رجالٌ من قريش، فقالوا له: ما بك يا أبا الحكم؟ فقال: قمتُ إليه لأفعل ما قلتُ لكم البارحة، فلما دنَوْت منه عَرَض لي دونه فحلٌ من الإبل، والله ما رأيت مثلَ هامته، ولا قَصَرَتِه

(4)

، ولا أنيابه لفحلٍ قط، فهمَّ أن يأكلني.

قال ابنُ إسحاق

(5)

: فذُكر لي أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ذلك جبريل، لو دنا مني لأخذه"

(6)

.

وقال البيهقي

(7)

: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرني أبو النضْر الفقيه، حدّثنا عثمان الدارمي، حدّثنا عبد الله بن صالح، حدّثنا الليث بن سعد، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، عن أبان بن صالح، عن علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه، عن عباس بن عبد المطلب. قال: كنتُ يومًا في المسجد فأقبل أبو جهل -لعنه الله- فقال: إنَّ لله عليَّ إنْ رأيتُ محمدًا ساجدًا أن أطأ على رقبته؛ فخرجتُ

(1)

ساق ابن هشام شيئًا منها في السيرة (1/ 267 - 269).

(2)

في ط: حدثني محمد بن إسحاق، والمثبت من ح ودلائل النبوة للبيهقي (2/ 190) والخبر فيه عن الحاكم الأصم عن أحمد بن عبد الجبار عنه به.

(3)

هذه رواية ط ودلائل البيهقي، وأما رواية ح فهكذا: وإني أعاهد الله لأجلس له عند الحِجْر، فإذا سجد فضخت رأسه

(4)

"قصرته": أي عنقه وأصل رقبته.

(5)

دلائل البيهقي (2/ 191).

(6)

في ط: ولو دنا منه، والمثبت من ح ودلائل البيهقي.

(7)

في دلائل النبوة (2/ 191).

ص: 247

على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخلتُ عليه فأخبرتُه بقول أبي جهل، فخرج غضبانًا

(1)

، حتى جاء المسجد، فعجل أن يدخل من الباب فاقتحم الحائط فقلت: هذا يومُ شرّ، فأتزرْتُ ثم اتّبعته، فدخل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقرأ:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} ، فلما بلغ شأن أبي جهل {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6 - 7] فقال إنسانٌ لأبي جهل: يا أبا الحكم، هذا محمد! فقال أبو جهل: ألا ترَوْنَ ما أرى؟ والله لقد سدَّ أُفُقَ السماء عليّ، فلما بلغ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم آخر السورة سجد.

وقال الإمام أحمد

(2)

: حدّثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن عبد الكريم، عن عكرمة قال: قال ابنُ عباس: قال أبو جهل: لئن رأيتُ محمدًا يُصلِّي عند الكعبة لأطأنَّ على عُنقه. فبلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لو فعل لأخذَتْهُ الملائكةُ عِيانًا".

ورواهُ البخاريُّ

(3)

عن يحيى، عن عبد الرزاق به.

قال داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: مرَّ أبو جهل بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم وهو يصلِّي فقال: ألم أنهك أنْ تصلِّيَ يا محمد؟ لقد علمتَ ما بها أحد أكثر ناديًا مني. فانتهره النبيُّ صلى الله عليه وسلم. فقال جبريل: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} [العلق: 17 - 18] والله لو دعا ناديه لأخذَتْهُ زبانيةُ العذاب.

رواه أحمد والترمذي وصحَّحه النسائي

(4)

من طريق داود به.

وقال الإمام أحمد

(5)

: حدّثنا إسماعيلُ بن يزيد أبو يزيد

(6)

، حدّثنا فرات، عن عبد الكريم، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال أبو جهل: لئن رأيت محمدًا عند الكعبة يصلِّي لآتينَّهُ حتى أطأ على عنقه. قال فقال: "لو فعل لأخذَتْهُ الزبانيةُ عيانًا".

وقال أبو جعفر بن جرير

(7)

: حدّثنا ابن حميد، حدّثنا يحيى بن واضح، حدّثنا يونس بن أبي إسحاق، عن الوليد بن العَيْزار، عن ابن عباس قال: قال أبو جهل: لئن عاد محمدٌ يصلِّي عند المقام لأقتلنَّه. فأنزل الله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} حتى بلغ من الآية [{لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ

(1)

كذا في ح، ط والدلائل بالتنوين وهو جائز على لغة بني أسد. النحو الوافي (4/ 217) والتاج (غضب).

(2)

في مسنده (1/ 368).

(3)

فتح الباري (4958) التفسير سورة 96 باب كلا لئن لم ينته. قلت: وأخرجه به أيضًا الترمذي في الجامع (3348) التفسير باب ومن سورة اقرأ باسم ربك (96) وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب. والبيهقي في الدلائل (2/ 191، 192).

(4)

مسند أحمد (1/ 256) وجامع الترمذي (3349) باب ومن سورة اقرأ باسم ربك (96) والسنن الكبرى للنسائي (11061) و (11684).

(5)

في مسنده (1/ 248).

(6)

في ح، ط: أبو زيد. والمثبت من مسند أحمد وترجمته في تعجيل المنفعة (ص 38).

(7)

في تفسيره -تفسير الطبري- (15/ 256) في تفسير سورة العلق (96). وما يأتي بين معقوفين منه.

ص: 248

كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16)]

(1)

فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} فجاء النبيُّ صلى الله عليه وسلم يصلِّي، فقيل [له]: ما يمنعك؟ قال: قد اسودَّ ما بيني وبينه من الكتائب. قال ابن عباس: والله لو تحرَّك لأخذتْهُ الملائكة والناسُ ينظرون إليه.

وقال ابن جرير

(2)

: حدّثنا ابن عبد الأعلى، حدّثنا المعتمر، عن أبيه، عن نعيم بن أبي هند، عن أبي حازم، عن أبي هريرة قال: قال أبو جهل: هل يُعَفِّر محمدٌ وجهه بين أظهركم؟ قالوا: نعم! قال فقال: واللَّاتِ والعزَّى، لئن رأيتُه يصلِّي كذلك لأطأنَّ على رقبته، ولأعفرنَّ وجهه بالتراب. فأتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلِّي ليطأ على رقبته. قال: فما فَجِئَهُمْ منه إلا وهو ينكُصُ على عَقِبَيْه، ويتَّقي بيديه، قال: فقيل له: مالك؟ قال: إنَّ بيني وبينه خَنْدقًا من نار وهوْلًا وأجنحة. قال: فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لو دنا منِّي لاختطفَتْه الملائكة عضوًا عضوًا". قال وأنزل اللهُ تعالى -لا أدري في حديث أبي هريرة أم لا- {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى} إلى آخر السورة.

وقد رواهُ أحمد ومسلم والنَّسائي وابن أبي حاتم والبيهقي

(3)

من حديث معتمر بن سليمان بن طرخان التيمي به.

وقال الإمام أحمد

(4)

: حدّثنا وهب بن جرير، حدّثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، عن عبد الله قال: ما رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم دعا على قريش، غيرَ يوم واحد، فإنه كان يصلِّي ورهْطٌ من قريش جلوس، وسَلا جَزُورٍ قريبٌ منه. فقالوا: من يأخذ هذا السَّلا فيلقيه على ظهره؟ فقال عقبة بن أبي مُعيط: أنا، فأخذَهُ فألقاه على ظهره، فلم يزلْ ساجدًا حتى جاءتْ فاطمةُ فأخذَتْهُ عن ظهره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهمَّ عليك بهذا

(5)

الملأ من قريش، اللهم عليك بعتبةَ بن ربيعة، اللهمَّ عليك بشيبة بن ربيعة، اللهم عليك بأبي جهل بن هشام، اللهمَّ عليك بعقبة بن أبي مُعيط، اللهم عليك بأبيِّ بن خلف -أو أمية بن خلف-" شعبة الشاكّ قال عبد الله: فلقد رأيتُهم قُتلوا يوم بدرٍ جميعًا، ثم سُحبوا إلى القَليب غيرَ أُبَيّ -أو أمية بن خلف- فإنَّه كان رجلًا ضخمًا فتقطع.

وقد رواه البخاري في مواضع متعددة من صحيحه، ومسلم من طرق عن أبي إسحاق به

(6)

.

والصواب أمية بن خلف، فإنَّه الذي قُتل يوم بدر، وأخوه أُبَيّ إنما قُتل يوم أحد كما سيأتي بيانه

(1)

ما بين المعقوفين سقط من ح.

(2)

هو ابن جرير الطبري في تفسيره (15/ 256).

(3)

مسند الإمام أحمد (2/ 370) وصحيح مسلم (2797)(38) صفات المنافقين وأحكامهم والنسائي في التفسير من سننه الكبرى (11683) ودلائل النبوة للبيهقي (2/ 188، 189).

(4)

في مسنده (1/ 417).

(5)

ليست اللفظة في مسند أحمد.

(6)

صحيح البخاري في الطهارة (240)، وفي الصلاة (520) وفي الجهاد (2934)، وفي الجزية (3185) وفي مبعث النبي صلى الله عليه وسلم (3854)، وفي المغازي (3960)، ومسلم في الجهاد (1794)(107) و (108) و (109) و (110).

ص: 249

- والسَّلى هو الذي يخرج مع ولد الناقة كالمشيمة لولد المرأة. وفي بعض ألفاظ الصحيح أنهم لما فعلوا ذلك استضحكوا حتى جعل بعضهم يميلُ على بعض، أي يميل هذا على هذا من شدَّة الضحك لعنهم الله. وفيه أن فاطمة لما ألقَتْه عنه أقبلتْ عليهم فسبَّتْهم، وأنه صلى الله عليه وسلم لما فرغ من صلاته رفع يديه يدعو عليهم، فلما رأوا ذلك سكن عنهم الضحك، وخافوا دعوته، وأنه صلى الله عليه وسلم دعا على الملأ منهم جملةً، وعيَّن في دعائه سبعة. وقع في أكثر الروايات تسميةُ ستةٍ منهم: وهم عُتْبة، وأخوه شَيْبة ابنا ربيعة، والوليد بن عتبة، وأبو جهل بن هشام، وعقبة بن أبي مُعَيط، وأمية بن خلف.

قال أبو إسحاق

(1)

: ونسيتُ السابع.

قلتُ: وهو عمارة بن الوليد وقع تسميته في صحيح البخاري

(2)

.

‌قصة الإراشي

(3)

قال يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق

(4)

حدّثنا عبد الملك بن أبي سفيان الثقفي. قال: قدم رجل من إراش بإبلٍ له إلى مكة، فابتاعها منه أبو جهل بن هشام، فمطله بأثمانها، فأقبل الإراشيُّ حتى وقف على نادي قريش ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في ناحية المسجد، فقال: يا معشر قريش مَنْ رجلٌ يُعْديني على أبي الحكم بن هشام، فإني غريبٌ وابنُ سبيل، وقد غلبني على حقِّي؟ فقال أهل المجلس: ترى ذلك [الرجل]-وهم يهوونَ به

(5)

إلى رسول الله لما يعلمون ما بينه وبين أبي جهل من العداوة- اذهب إليه، فهو يعديك عليه. فأقبل الإراشيُّ حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقام معه، فلما رأوه قام معه قالوا لرجلٍ ممن معهم: اتبعْه فانظر ما يصنع؟ فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءه فضرب عليه بابه فقال: من هذا؟ قال: "محمد، فاخرُجْ" فخرجَ إليه وما في وجهه قطرةُ دم، وقد انتقع لونه. فقال:"أعْطِ هذا الرجل حقَّه". قال: لا تبرَحْ حتى أُعطيه الذي له. قال: فدخل فخرج إليه بحقِّه فدفعه إليه، ثم انصرف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم. وقال للإراشي:"الحقْ لشأنك". فأقبل الإراشيُّ حتى وقف على ذلك المجلس فقال: جزاه الله خيرًا، فقد أخذتُ

(6)

الذي لي.

(1)

في ح، ط: ابن إسحاق. وهو تصحيف، والصواب من صحيح مسلم في الحديث المشار إليه في الحاشية السابقة رقمه 109.

(2)

فتح الباري (520) الصلاة باب المرأة تطرح عن المصلِّي شيئًا من الأذى.

(3)

"الإراشي": نسبة إلى إراش، بالكسر والشين المعجمة، موضع حكاه ياقوت في معجم البلدان (1/ 134).

وإراش أيضًا: هو ابن لِحْيان بن الغوث، وقيل: هو ابن عمرو بن الغوث، وهو والد أنمار، أبو بجيلة من خثعم. انظر التاج (أرش) وإراشة أيضًا من بني وائل بن قاسط. انظر الاشتقاق ص 335.

(4)

أخرجه البيهقي في الدلائل (2/ 193) عن الحاكم عن الأصم عن أحمد بن عبد الجبار عن يونس بن بكير به.

(5)

في ح، ط: يهزون به إلى رسول الله. والمثبت من دلائل النبوة للبيهقي وما بين معقوفين منه.

(6)

كذا في ط وفي ح والدلائل: أخذ من غير تاء.

ص: 250

وجاء الرجل الذي بعثوا معه فقالوا: ويحك ماذا رأيت؟ قال: عجبًا من العجب! والله ما هو إلا أن ضرب عليه بابه فخرج وما معه روحُه فقال: "أعط هذا الرجل حقَّه". فقال: نعم! لا تبرح حتى أخرج إليه حقه، فدخل فأخرج إليه حقه فأعطاه. ثم لم يلبث أنْ جاء أبو جهل فقالوا له: ويلك مالك؛ فوالله ما رأينا مثل ما صنعت؟ فقال: ويحكم، والله ما هو إلا أن ضرَبَ عليَّ بابي وسمعتُ صوته فملئتُ رُعْبا، ثم خرجتُ إليه وإنَّ فوق رأسه لفحلًا من الإبل ما رأيتُ مثل هامته، ولا قَصَرَته ولا أنيابه لفحلٍ قط، فوالله لو أبيت لأكلني.

‌فصل

وقال البخاري

(1)

: حدّثنا عياش بن الوليد، حدّثنا الوليد بن مسلم، حدّثنا الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن إبراهيم التيميّ، حدّثني عُروة بن الزُّبير [قال]: سألتُ ابن [عمرو] العاص فقلت: أخبرْني بأشدِّ شيءٍ صنعه المشركون برسولِ الله؟ قال: بينما النبيُّ صلى الله عليه وسلم يصلِّي في حِجْر الكعبة، إذْ أقبل عليه عقبة بن أبي مُعيط، فوضع ثوبه على عنقه فخنقه خنقًا شديدًا، فأقبل أبو بكر رضي الله عنه حتى أخذ بمنكبه ودفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال:{أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} [غافر: 28] الآية.

تابعه ابنُ إسحاق قال: أخبرني يحيى بن عروة، عن أبيه، قال: قلت لعبد الله بن عمرو. وقال عبدة عن هشام عن أبيه قال: قيل لعمرو بن العاص. وقال محمد بن عمرو عن أبي سلمة: حدثني عمرو بن العاص.

قال البيهقي

(2)

: وكذلك رواه سليمان بن بلال عن هشام بن عروة كما رواه عبدة.

انفرد به البخاري، وقد رواه في أماكن من صحيحه

(3)

، وصرَّح في بعضها بعبد الله بن عمرو بن العاص، وهو أشبه، لرواية عروة عنه، وكونه عن عمرو أشبه لتقدُّم هذه القصة.

وقد روى البيهقي

(4)

، عن الحاكم، عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس عن محمد بن إسحاق: حدّثني يحيى بن عروة، عن أبيه عروة قال: قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص:

(1)

في صحيحه، فتح الباري (3856) مناقب الأنصار باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المشركين بمكة، وما يأتي بين معقوفين منه.

(2)

في الدلائل (2/ 276) بعد سياق حديث البخاري.

(3)

فتح الباري (3678) فضائل الصحابة باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: لو كنت متخذًا خليلًا، وفي مبعث النبي صلى الله عليه وسلم (3856) و (4815) التفسير سورة المؤمن 40.

(4)

في الدلائل (2/ 275) وأخرجه ابن هشام عن ابن إسحاق في السيرة النبوية (1/ 289) به.

ص: 251

ما أكثرُ ما رأيتَ قريشًا أصابتْ من

(1)

رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما كانت تظهره من عداوته؟ فقال: لقد رأيتُهم وقد اجتمع أشرافُهم يومًا في الحِجْر، فذكروا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من هذا الرجل قط، سفَّه أحلامنا وشتم آباءنا، وعاب ديننا، وفرَّق جماعاتنا، وسبَّ آلهتنا، وصرنا منه على أمرٍ عظيم -أو كما قال- قال: فبينما هم في ذلك طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل يمشي حتى استلم الركن، ثم مرَّ بهم طائفًا بالبيت، فغمزوه ببعض القول، فعرفتُ ذلك في وجه رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فمضى، فلما مرَّ بهم الثانية غمزوه بمثلها، فعرفتُها في وجهه، فمضى، فمر بهم الثالثة، فغمزوه بمثلها، فقال:"أتسمعون يا معشر قريش؟ أما والذي نفسي بيده، لقد جئتكم بالذبح". فأخذت القوم كلمتُه حتى ما منهم من رجل إلا وكأنَّما على رأسه طائر وقع حتى إنَّ أشدَّهم فيه وصاةً قبل ذلك ليرفَؤُه

(2)

حتى إنه ليقول: انصرفْ أبا القاسم راشدًا، فما كنت بجهول.

فانصرف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان الغد اجتمعوا في الحِجْر وأنا معهم، فقال بعضُهم لبعض: ذكرتم ما بلغ منكم وما بلغكم عنه، حتى إذا بادأكم بما تكرهون تركتموه. فبينما هم على ذلك طلع رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فوثبوا إليه وثبةَ رجلٍ واحد، فأحاطوا به يقولون: أنت الذي تقول كذا وكذا؟ لما كان يبلغهم من عَيْبِ آلهتهم ودينهم، فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"نعم، أنا الذي أقولُ ذلك" ولقد رأيتُ رجلًا منهم أخذ بمجامع ردائِه، وقام أبو بكر يَبْكي دونه ويقول: ويلكم {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} [غافر: 28] ثم انصرفوا عنه. فإنَّ ذلك لأكثر ما رأيت قريشًا بلغتْ منه قط.

‌فصل في تأليب الملأ من قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، واجتماعهم بعمِّه أبي طالب القائم في منعه ونصرته، وحرصهم عليه أن يسلمه إليهم، فأبَى عليهم ذلك بحول الله وقوته.

قال الإمام أحمد

(3)

: حدّثنا وكيع، عن حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد أُوذيتُ في الله وما يُؤذَى أحد، وأُخفت في الله وما يُخاف أحد، ولقد أتت عليَّ ثلاثون

(4)

من بين يوم وليلة، وما لي ولبلالٍ ما يأكلُه ذو كَبِد إلا ما يُواري إبْطُ بلال".

وأخرجه الترمذيّ وابنُ ماجَه

(5)

من حديث حماد بن سلمة به، وقال الترمذي: حسنٌ صحيح.

(1)

ليست اللفظة في ح ولا في الدلائل، وهي في سيرة ابن هشام.

(2)

"يرفؤه": أي يسكِّنُه ويرفق به ويدعو له. النهاية واللسان (ارفأ) وفيهما: إن أشدهم فيه وضاءة؟.

(3)

في مسنده (3/ 120).

(4)

في المسند: ثلاثة.

(5)

جامع الترمذي (2472) صفة القيامة باب 34 وسنن ابن ماجه (151) المقدمة باب في فضائل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فضائل سلمان وأبي ذر والمقداد. ولفظ الأخير "ولقد أتت عليَّ ثالثة".

ص: 252

وقال محمد بن إسحاق

(1)

: وحَدِبَ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم عَمُّهُ أبو طاب ومنعه وقام دونه، ومضى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على أمر الله، مظهرًا لدينه لا يردُّه عنه شيء. فلما رأتْ قريش أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لا يُعْتِبُهم من شيءٍ أنكروه عليه، من فراقهم وعَيْب آلهتهم، ورأَوْا أنَّ عمَّه أبا

(2)

طالب قد حَدِبَ عليه وقام دونه، فلم يُسْلِمْهُ لهم، مشى رجالٌ من أشراف قريش إلى أبي طالب، عتبةُ وشيبة ابنا ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصّي، وأبو سفيان صَخْر بن حرب بن أمية بن عبد شمس، وأبو البَخْتَرِي -واسمه العاصُ بن هشام بن الحارث بن أسد بن عبد العُزَّى بن قُصَيّ، والأسود بن المطَّلب بن أسد بن عبد العُزَّى، وأبو جهل- واسمه عمرو بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مَخْزوم، والوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يَقَظَة بن مُرَّة بن كعب بن لُؤَيّ ونُبَيْه ومُنَبِّه ابنا الحجَّاج بن عامر بن حُذَيفة بن سعْد

(3)

بن سهم بن عمرو بن هُصَيص بن كعب بن لؤي، والعاص بن وائل بن سُعيد بن سهم.

قال ابن إسحاق

(4)

: أو من مشى منهم فقالوا: يا أبا طالب، إنَّ ابن أخيك قد سبَّ آلهتنا، وعاب ديننا وسفَّه أحلامنا، وضلَّلَ آباءنا، فإما أن تكفَّه عنا وإما أن تُخَلِّيَ بيننا وبينه، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه فنكفيكه؟ فقال لهم أبو طالب قولًا رفيقًا، وردَّهم ردًّا جميلًا، فانصرفوا عنه، ومضى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على ما هو عليه، يُظهر دين الله ويدعو إليه، ثم شَرِيَ

(5)

الأمر بينهم وبينه حتى تباعد الرجال وتضاغنوا. وأكثرت قريش ذِكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بينها فتذامروا

(6)

فيه، وحضَّ بعضهم بعضًا عليه، ثم إنهم مشَوْا إلى أبي طالب مرَّةً أخرى. فقالوا: يا أبا طالب، إنَّ لك سنًّا وشرفًا ومنزلةً فينا، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تَنْهَهُ عنا، وإنَّا والله لا نصبر على هذا من شَتْم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وعيب آلهتنا، حتى تكفَّه عنا أو ننازله وإياك في ذلك، حتى يَهْلِك أحدُ الفريقين -أو كما قالوا- ثم انصرفوا عنه، فعظم على أبي طالب فراقُ قومه وعداوتهم، ولم يطِبْ نفسًا بإسلامِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ولا خِذْلانِه.

قال ابن إسحاق

(7)

: وحدّثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس أنه حُدِّث أنَّ قريشًا حين قالوا لأبي طالب هذه المقالة بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: يا ابن أخي إنَّ قومك قد جاؤوني فقالوا كذا وكذا الذي قالوا له، فأبق عليَّ وعلى نفسك، ولا تحمِّلني من الأمر ما لا أُطيق. قال: فظنَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أنه

(1)

سيرة ابن هشام (1/ 264) والروض (2/ 4).

(2)

في ح، ط: أبو طالب، والمثبت من سيرة ابن هشام.

(3)

في ح، ط: سعيد، والمثبت من سيرة ابن هشام وجمهرة الأنساب لابن حزم (ص 164).

(4)

سيرة ابن إسحاق (ص 148) وسيرة ابن هشام (1/ 265) والروض (2/ 4).

(5)

في ح، ط: سرى بالسين المهملة، والمثبت من سيرة ابن هشام والروض والنهاية لابن الأثير (شري) وفيه: عظم وتفاقم ولجُّوا فيه. وجاء في الروض (2/ 9) فشري الأمر عند ذلك: أي انتشر الشر.

(6)

في ح: فتوامروا، وتذامروا: تحاضُّوا. والقوم يتذامرون، أي يحضُّ بعضهم بعضًا على الجد. اللسان (ذمر).

(7)

سيرة ابن إسحاق (ص 154) وسيرة ابن هشام (1/ 266) والروض (2/ 5).

ص: 253

قد بَدَا لعمِّهِ فيه بَدْوٌ

(1)

، وأنَّه خاذله ومُسْلِمُه، وأنَّه قد ضعُف عن نصرته والقيام معه، قال: فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري

(2)

على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله، أو أهلك فيه ما تركتُه" قال: ثم استعبر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فبكى ثم قام، فلما ولَّى ناداه أبو طالب. فقال: أقْبِلْ يا بن أخي، فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اذهب يا بن أخي، فقلْ ما أحببت، فوالله لا أسلمتُك لشيءٍ أبدًا.

قال ابن إسحاق

(3)

: ثم إنَّ قريشًا حين عرفوا أن أبا طالب قد أبَى خِذْلانَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وإسلامه وإجماعه لفراقهم في ذلك وعداوته، مشَوْا إليه بعُمارة بنِ الوليد بن المغيرة فقالوا له -فيما بلغني-: يا أبا طالب، هذا عُمارة بن الوليد أنهد

(4)

فتًى في قريش وأجمله، فخُذْهُ فلك عَقْلُه ونَصْرُه، واتخذْه ولدًا فهو لك، وأسْلِمْ إلينا ابنَ أخيك هذا الذي قد خالف دينك ودينَ آبائك، وفرَّق جماعة قومِك، وسفَّه أحلامنا فنقتله، فإنما هو رجلٌ برجل! قال: والله لبئس ما تسومونني؟ أتعطونني ابنكم أغذوه لكم، وأُعطيكم ابني فتقتلونه! هذا والله ما لا يكون أبدًا. قال فقال المُطْعِمُ بن عدي بن نوفل بن عبد مناف بن قصي: والله يا أبا طالب لقد أنصفك قومُك وجهِدوا على التخلُّص مما تكره، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئًا؟ فقال أبو طالب للمطعم: والله ما أنصفوني، ولكنَّك قد أجمعتَ خِذْلاني ومظاهرةَ القوم عليّ، فاصنَعْ ما بدا لك -أو كما قال- فحقب الأمر

(5)

، وحميت الحرب، وتنابذ القوم، وبادَى

(6)

بعضُهم بعضًا. فقال أبو طالب عند ذلك يعرِّضُ بالمُطعِمِ بن عديّ ويعمُّ مَنْ خذله من بني عبد مناف ومَنْ عاداه من قبائل قريش، ويذكر ما سألوه وما تباعد من أمرهم

(7)

: [من الطويل]

(1)

كذا في ح، ط وفي مصادر الخبر "بَدَآء" يقال: بدا له في الأمر، بَدْوًا وبدًا وبداءً: أي تغيَّر له من أمره، أي ظهر له رأي. انظر اللسان (بدو) والروض (2/ 8).

(2)

قال السهيلي في الروض (2/ 8): خصَّ الشمس باليمين لأنها الآية المبصرة وخصَّ القمر بالشمال لأنها الآية الممحوَّة، وقد قال عمر رحمه الله لرجل قال له: إني رأيت في المنام كأن الشمس والقمر يقتتلان، ومع كل واحد منهما نجوم. فقال عمر: مع أيهما كنت؟ فقال: مع القمر. قال: كنت مع الآية الممحوة، اذهب فلا تعمل لي عملًا. وكان عاملًا له فعزله، فقتل الرجل في صفين مع معاوية واسمه حابس بن سعد. وخصَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم النيرين حين ضرب المثل بهما، لأن نورهما محسوس والنور الذي جاء به من عند الله -وهو الذي أرادوه على تركه- هو لا محالة أشرف من النور المخلوق، قال الله سبحانه:{يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} فاقتضت بلاغة النبوة لما أرادوه على ترك النور الأعلى أن يقابله بالنور الأدنى، وأن يخص أعلى النيرين، وهي الآية المبصرة بأشرف اليدين، وهي اليمين، بلاغة لا مثلها، وحكمة لا يجهل اللبيب فضلها. اهـ.

(3)

سيرة ابن إسحاق (ص 152) وسيرة ابن هشام (1/ 266) والروض (2/ 5).

(4)

في ح: أبهى. ومعنى أنهد، أي: أقوى وأجلد. الروض (2/ 8).

(5)

"حقب الأمر": يريد اشتد. الروض (2/ 9).

(6)

في ح، ط: نادى بالنون، والمثبت من مصادر الخبر.

(7)

القصيدة في ديوان شيخ الأباطح (ص 21 - 23) على خلاف في بعض ألفاظها وأبياتها ومطلعها: =

ص: 254

ألا قُلْ لعمرٍو والوليدِ ومُطعِم

ألا ليتَ حظّي من حياطتكم بَكْرُ

(1)

من الخُورِ حَبْحَابٌ كثيرٌ رُغاؤهُ

يُرَشُّ على الساقين من بولِهِ قَطْرُ

(2)

تخلَّفَ خلفَ الوِرْدِ ليسَ بلاحقٍ

إذا ماعلا الفَيفاءَ قيلَ له وَبْرُ

(3)

أرى أخوَيْنا من أبينا وأُمِّنا

إذا سُئلا قالا إلى غيرِنا الأمرُ

بلى لهما أمرٌ ولكنْ تجرْجَما

كما جَرجمتْ من رأسِ ذي عَلَقَ الصخرُ

(4)

أخُصُّ خصوصًا عبدَ شمسٍ ونَوفلًا

هما نَبذَانا مثلَ ما نُبذ الجمر

(5)

هما أغمزا للقومِ في أخويهِما

فقد أصبحا منهم أكفُّهما صِفر

(6)

هما أشركا في المجدِ مَنْ لا أبالَهُ

من الناسِ إلا أنْ يُرَسَّ له ذِكْرُ

(7)

وتَيْمٌ ومخزومٌ وزُهرةُ منهمُ

وكانُوا لنا مولًى إذا بُغيَ النَّصْرُ

فواللهِ لا تنفكُّ منَّا عداوةٌ

ولا منهمُ ما قام مِنْ نسلِنا شَفْرُ

(8)

قال ابن هشام

(9)

: وتركنا منها بيتين أقذع فيهما.

= ألا ليت حظي من حياطة نصركم

بأن ليس لي نفع لديكم ولا ضرُّ

وسار برملي فاطر الناب جاشم

ضعيف القصيرى لا كبير ولا بكرُ

وقال في شرحه: جاشم: متكاره على السير، والقصيرى: أضعف الأضلاع.

(1)

قال السهيلي في الروض (2/ 10): أي: إن بكرًا من الإبل أنفع لي منكم، فليته لي بدلًا من حياطتكم كما قال طرفة في عمرو بن هند:[من الوافر]

فليت لنا مكان الملك عمرو

رغوثًا حول قبَّتنا تخور

(2)

"الخور": الضعاف: والحجاب بالحاء: الصغير. وفي حاشية كتاب الشيخ أبي بحر: جبجاب بالجيم، وفسره فقال: هو الكثير الهدر. الروض (2/ 10).

(3)

أي يشبه الوَبْر لصغره؛ والوبر: دويبَّة على قدر السنَّوْر. ويحتمل أن يكون أراد أن يصغر في العين لعلو المكان وبعده. الروض (2/ 10) والنهاية (وبر).

(4)

رواية السهيلي في الروض: كما جرجمت من راس ذي علقٍ صخر وقال: وترك صرف علق إما لأنه جعله اسم بقعة، وإما لأنه اسم علم، وترك صرف الاسم العلم سائغ في الشعر

ثم قال: ولو رُوي: من رأس ذي علق الصخر. بحذف التنوين لالتقاء الساكنين لكان حسنًا. الروض (2/ 10، 11) وقوله: جرجمت أي: سقط وتهدّم. ورواية الديوان: ترجما

كما رجمت. وقال: الترجم القول بالظن.

(5)

في ح: الخمر.

(6)

أغمز في الرجل إغمازًا: استضعفه وعابه وصغَّر شأنه اللسان (غمز).

(7)

أي إلا أن يذكر ذكرًا خفيًّا، من رسَّ له الخبر: ذكره له. اللسان (رسس).

(8)

في ط: ولا منكم ما دام من نسلنا شفر. والمثبت من ح. وشَفْر: أحد. يقال: ما بالدار شَفْر وشُفُر: أي أحد. اللسان شفر.

(9)

ليست اللفظة في ح.

ص: 255

‌فصل في مبالغتهم في الأذية لآحاد المسلمين المستضعفين

قال ابن إسحاق

(1)

: ثم إنَّ قريشًا تذامروا

(2)

بينهم على مَنْ في القبائل من منهم

(3)

أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين أسلموا معه، فوثبتْ كلُّ قبيلة على مَنْ فيها من المسلمين يعذِّبونهم ويفتنونهم عن دينهم، ومنع الله منهم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بعمِّه أبي طالب، وقد قام أبو طالب حين رأى قريشًا يصنعون ما يصنعون في بني هاشم وبني المطلب، فدعاهم إلى ما هو عليه من مَنع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم والقيام دونه، فاجتمعوا إليه وقاموا معه وأجابوه إلى ما دعاهم إليه -إلا ما كان من أبي لهب عدو الله- فقال

(4)

في ذلك يمدحهم ويحرِّضهم على ما وافقوه عليه من الحدب والنُّصْرَة لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم: [من الطويل]

إذا اجتمعتْ يومًا قريشٌ لِمَفْخَرٍ

فعبدُ منافٍ سرُّها وصَمِيمُها

وإنْ حُصِّلتْ أشرافُ عبدِ منافِها

ففي هاشمٍ أشرافُها وقديمُها

وإنْ فخرَتْ يومًا فإنَّ محمدًا

هو المصطفى من سرِّها وكريمها

تداعتْ قريشٌ غَثُّها وسمِينُها

علينا فلم تظفر وطاشَتْ حُلومُها

(5)

وكنّا قديمًا لا نُقِرُّ ظُلامةً

إذا ما ثَنَوْا صُعْرَ الرقابِ نُقِيمُها

ونحمي حِماها كلَّ يومِ كريهةٍ

ونضربُ عن أحجارِها مَنْ يرومها

(6)

بنا انتعش العُودُ الدَّوَاءُ وإنما

بأكنافِنا تندَى وتَنْمي أرومُها

‌فصل

فيما اعترض به المشركون على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما تعنَّتوا له في أسئلتهم إياه أنواعًا من الآيات وخَرْق العادات على وجه العِنَاد، لا على سبيل

(7)

الهدى والرشاد. فلهذا لم يُجابوا إلى كثيرٍ مما طلبوا، ولا ما إليه رغبوا، لعلْم الحقِّ سبحانه أنهم لو عاينوا وشاهدوا ما أرادوا لاستمرُّوا في طغيانهم يعمهون، ولظلُّوا

(1)

سيرة ابن هشام (1/ 268).

(2)

في الأصل ح: توامروا، والمثبت من ط وسيرة ابن هشام.

(3)

سقطت اللفظة من ط.

(4)

أي أبو طالب.

(5)

هذه رواية ط وسيرة ابن هشام للبيت، أما رواية ح فهكذا:

تداعت علينا غثها وسمينها

فلم يظفروا شيئًا وطاشت حلومها

(6)

قال السهيلي في الروض (2/ 11): ونضرب عن أحجارها من يرومها، أي ندفع عن حصونها ومعاقلها، وإن كانت الرواية: أجحارها، بتقديم الجيم فهو جمع جحر، والجحر هنا مستعار، وإنما يريد عن بيوتها ومساكنها.

(7)

في ط: على وجه طلب الهدى

ص: 256

في غيِّهم وضلالهم يتردَّوْن. قال الله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا [قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110) وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ]

(1)

وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} [الأنعام: 109 - 111] وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [يونس: 96 - 97]. وقال تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ [وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا]

(2)

}. وقال تعالى: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90)[أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا]

(3)

بَشَرًا رَسُولًا} [الإسراء: 90 - 93]. وقد تكلَّمنا على هذه الآيات وما يشابهها في أماكنها في التفسير ولله الحمد.

وقد روى يونس وزياد عن ابن إسحاق

(4)

عن بعض أهل العلم -وهو شيخٌ من أهل مصر يقال له: محمد بن أبي محمد- عن سعيد بن جُبير، وعكرمة عن ابن عباس قال: اجتمع عِلْيَةٌ

(5)

من أشراف قريش -وعدَّد أسماءهم- بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة، فقال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمدٍ فكلِّموه، وخاصِمُوه حتى تُعْذِروا فيه. فبعثوا إليه: إن أشرافَ قومك قد اجتمعوا لك ليكلِّموك، فجاءهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سريعًا وهو يظنُّ أنه قد بدا لهم في أمره بَدَاء

(6)

، وكان حريصًا يحبُّ رُشْدَهم ويَعِزُّ عليه عَنَتُهم، حتى جلس إليهم، فقالوا: يا محمد، إنَّا قد بعثنا إليك لنعذر فيك، وإنَّا والله لا نعلمُ رجلًا من العرب أدْخَلَ على قومه ما أدخلتَ على فومك، لقد شتمتَ الآباء، وعِبْتَ الدِّين، وسفَّهْتَ الأحلام، وشتمتَ الآلهة، وفرَّقْتَ الجماعة، وما بقي من قبيحٍ إلا وقد جِئْتَه فيما بيننا وبينك؛ فإنْ كنتَ إنما جئتَ بهذا الحديث تطلب مالًا جمعنا لَكَ من أموالنا حتى تكونَ أكثرَنا مالًا، وإنْ كنتَ إنما تطلب الشَّرَف فينا سوَّدْناك علينا، وإنْ كنتَ تريدُ مُلْكًا ملَّكناكَ علينا، وإنْ كان هذا الذي يأتيك [بما يأتيك]

(7)

رَئِيًّا تراه قد غلب عليك -وكان يسمُّون التابعَ من الجِنّ الرَّئِيّ- فربما كان ذلك؛ بذلنا أموالنا في طلب الطبِّ حتى نُبْرِئَكَ منه أو نُعْذِرَ فيك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما بي ما تقولون، ما جئتكم بما جئتكم به أطلبُ

(1)

ما بين المعقوفين ساقط من ح وأثبت محله: "إلى قوله".

(2)

ما بين المعقوفين ليس في ح وأثبت محله لفظ: الآية وهي الآية 59 من سورة الإسراء.

(3)

ما بين المعقوفين ساقط من ح وأثبت محله: "إلى قوله".

(4)

سيرة ابن إسحاق (ص 197) وسيرة ابن هشام (1/ 295) والروض (2/ 36).

(5)

في ح: جماعة.

(6)

مضى شرح معناه ص 254 ح 1.

(7)

ليس ما بين معقوفين في ح ولا سيرة ابن هشام ولا الروض، وهو في سيرة ابن إسحاق.

ص: 257

أموالكم، ولا الشَّرَفَ فيكم، ولا الملك عليكم، ولكنَّ اللهَ بعثني إليكم رسولًا، وأنزل عليَّ كتابًا، وأمرني أنْ أكونَ لكم بشيرًا ونذيرًا، فبلَّغتكم رسالةَ ربِّي ونصحتُ لكم، فإنْ تقبلوا مني ما جئتُكم به فهو حظُّكم من

(1)

الدنيا والآخرة، وإنْ تردُّوه عليّ أصبرْ لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم" -أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم- فقالوا: يا محمد، فإنْ كنتَ غيرَ قابلٍ منَّا ما عرَضْنا عليك فقد علمتَ أنَّه ليس أحدٌ من الناس أضيقَ بلادًا، ولا أقلَّ مالًا

(2)

، ولا أشدَّ عيشًا منّا. فسَلْ لنا ربَّك الذي بعثك بما بعثك به، فَلْيُسَيِّرْ عنَّا هذه الجبالَ التي قد ضيَّقت علينا، ولْيَبْسُطْ لنا بلادنا، وليجر

(3)

فيها أنهارًا كأنهار الشام والعراق، وليبعثْ لنا مَنْ مَضَى من آبائنا، وليكُنْ فيمن

(4)

يبعث لنا منهم قصيُّ بن كلاب، فإنَّه كان شيخًا صدوقًا، فنسألَهم عمَّا تقول أحقٌّ هو أم باطل؟ فإنْ فعلت ما سألناك وصدَّقوك صدَّقناك وعرفنا به منزلتك عند الله، وأنه بعثك رسولًا كما تقول. فقال لهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"ما بهذا بُعثت، إنما جئتُكم من عند الله بما بعثني به فقد بلَّغْتُكم ما أُرسلتُ به إليكم، فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردُّوا عليَّ أصبرْ لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم".

قالوا: فإنْ لم تفعل لنا هذا فخُذْ لنفسك فسلْ ربَّك أن يبعث لنا ملَكًا يصدِّقك بما تقول، ويراجعنا عنك، وتسأله فيجعل لنا

(5)

جِنانًا وكنوزًا وقصورًا من ذهب وفضة، ويُغنيك عمَّا نراك تبتغي، فإنَّك تقومُ في الأسواق وتلتمس المعايش كما نلتمسُه، حتى نعرف فضلَ منزلتك من ربِّك إنْ كنتَ رسولًا كما تزعم. فقال لهم:"ما أنا بفاعل، ما أنا بالذي يسألُ ربَّه هذا، وما بُعثتُ إليكم بهذا، ولكنَّ الله بعثني بشيرًا ونذيرًا، فإنْ تقبلوا ما جئتُكم به فهو حظُّكم في الدنيا والآخرة. وإن تردُّوه عليَّ أصبرْ لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم".

قالوا: فأسقطِ السماء كما زعمت أنَّ ربَّك إن شاء فعل، فإنَّا لن نؤمن لك إلا أنْ تفعل. فقال:"ذلك إلى الله إنْ شاء فعل بكم ذلك" فقالوا: يا محمد، ما علم ربُّك أنَّا سنجلسُ معك ونسألك عما سألناك عنه، ونطلب منك ما نطلب، فيتقدَّم إليك ويعلمك ما تُراجعنا به، ويخبرك ما هو صانع في ذلك بنا إذا لم نقبلْ منك ما جئتنا به؟ فقد بلغنا أنه إنما يعلِّمك هذا رجلٌ باليمامة يقال له الرحمن، وإنا والله لا نؤمنُ بالرحمن أبدًا؛ فقد أعْذَرْنا إليك يا محمد، أما والله لا نتركُك وما فعلت بنا حتى نهلكَكَ أو تهلكنا. وقال قائلهم: نحن نعبد الملائكة وهم

(6)

بناتُ الله، وقال قائلُهم: لن نؤمن لك حتى تأتينا بالله

(7)

والملائكة قَبيلًا.

(1)

في سيرة ابن إسحاق وسيرة ابن هشام والروض: في.

(2)

في سيرة ابن إسحاق وسيرة ابن هشام والروض: ماءً. وهو أشبه بالصواب.

(3)

في سيرة ابن هشام والروض: وليفجِّرْ.

(4)

في ح، ط: فيما. والمثبت من سيرة وابن إسحاق وسيرة ابن هشام والروض.

(5)

في سيرة ابن هشام والروض: لك.

(6)

في ط وسيرة ابن هشام والروض: وهي وفي سيرة ابن إسحاق: وهن والمثبت من ح.

(7)

في ح: حتى يأتينا الله.

ص: 258

فلما قالوا ذلك قام رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عنهم، وقام معه عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم -وهو ابنُ عمته عاتكة بنت عبد المطلب- فقال: يا محمد عرَضَ عليك قومُك ما عرضوا فلم تقبلْه. ثم سألوك لأنفسهم أمورًا ليعرفوا بها منزلتَك من الله فلم تفعل، ثم سألوك أن تعجل ما تخوِّفُهم به من العذاب. فوالله لا أومن لك أبدًا حتى تتخذ إلى السماء سُلَّما ثم ترقى منه وأنا أنظر حتى تأتيَها وتأتيَ معك بنسخةٍ منشورة، ومعك أربعةٌ من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول؛ وايْمُ الله، لو فعلتَ ذلك لظننتُ أني لا أصدقك. ثم انصرف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وانصرف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله حزينًا أسِفًا لما فاتَهُ بما طمع فيه من قومه حين دعَوْه، ولما رأى من مباعدتهم إياه.

وهذا المجلس الذي اجتمع عليه هؤلاء الملأ مجلسُ ظلمٍ وعُدْوانٍ وعِنَاد، ولهذا اقتضتِ الحكمة الإلهية، والرحمةُ الربَّانية، ألَّا يجابوا إلى ما سألوا، لأن

(1)

الله علم أنهم لا يؤمنون بذلك فيعاجلهم بالعذاب؛ كما قال الإمام أحمد

(2)

: حدّثنا عثمان بن محمد، حدّثنا جرير، عن الأعمش، عن جعفر بن إياس، عنِ سعيد بن جُبير، عن ابن عباس قال: سأل أهلُ مكةَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أنْ يجعل لهم الصَّفا ذهبًا، وأنْ يُنحِّيَ عنهم الجبال فيزْدَرِعوا، فقيل له: إنْ شئت أن تَسْتَأنيَ بهم، وإنْ شئتَ أن تؤتيَهُمُ الذي سألوا، فإنْ كفروا هلَكُوا كما أهلكتُ مَنْ قبلهم من القرون فقال

(3)

: "لا، بل أستأني بهم". فأنزل الله تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ [وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا]

(4)

} الآية.

وهكذا رواه النسائي

(5)

من حديث جرير.

وقال أحمد

(6)

: حدّثنا عبد الرحمن، حدّثنا سفيان عن سَلَمة بن كُهَيْل، عن عمران بن حَكَم

(7)

، عن ابن عباس قال: قالت قريشٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: ادْعُ لنا ربَّك يجعل لنا الصَّفَا ذهبًا ونؤمنُ بك. قال:

(1)

في ح: سألوه لأنه، والمثبت من ط.

(2)

في مسنده (1/ 258).

(3)

في ط: من قبلهم الأمم قال، والمثبت من ح.

(4)

ما بين المعقوفين ليس في ح، والآية هي رقم (59) من سورة الإسراء.

(5)

في التفسير (310) وهو في سننه الكبرى (11290).

(6)

في مسنده (1/ 242).

(7)

في ح، ط: حكيم، والمثبت من مسند أحمد؛ قال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على مسند أحمد (4/ 26) ما نصه: هكذا هو في الأصلين، والظاهر أن أصل الرواية: عن عمران أبي الحكم. فأخطأ أحد الرواة فقال: عن عمران بن الحكم، وليس في الرواة الذين رأينا تراجمهم من يسمَّى عمران بن الحكم. والصواب عمران بن الحارث أبو الحكم.

ص: 259

"وتفعلون"

(1)

قالوا: نعم. قال: فدعا، فأتاه جبريل فقال: إنَّ ربَّكَ يقرأُ عليك السلام ويقول لك: إنْ شئتَ أصبح الصَّفا لهم ذهبًا. فمَنْ كفر منهم بعد ذلك أعذِّبُه عذابًا لا أعذِّبه أحدًا من العالمين، وإنْ شئتَ فتحتُ لهم باب الرحمة والتوبة، قال:"بل باب التوبة والرحمة".

وهذان إسنادان جيِّدان، وقد جاء مرسلًا عن جماعةٍ من التابعين، منهم سعيد بن جُبير وقتادة وابن جُريج وغير واحد.

وروى الإمام أحمد والترمذي

(2)

، من حديث عبد الله بن المبارك حدّثنا يحيى بن أيُّوب، عن عُبيد الله بن زَحْر، عن علي بن يَزيد، عن القاسم، عن

(3)

أبي أمامة، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"عَرَضَ عليَّ ربِّي عز وجل أن يجعلَ لي بطحاءَ مكَّةَ ذهبًا، فقلت: لا يا ربّ، [ولكن] أشبع يومًا وأجوع يومًا -أو نحو ذلك- فإذا جعتُ تضرَّعْتُ إليك وذكرتُك، وإذا شبعتُ حَمِدْتُك وشكرتك" لفظ أحمد. وقال الترمذي: هذا حديثٌ حسن، وعليُّ بن يزيد يُضعَّف في الحديث.

وقال محمد بن إسحاق

(4)

: حدّثني شيخٌ من أهل مصر -قدم علينا منذ بضعٍ وأربعين سنة- عن عكرمة، عن ابن عباس قال: بعثتْ قريشٌ النَّضْرَ بن الحارث وعُقْبة بن أبي مُعَيط إلى أحبار يهود بالمدينة، فقالوا لهما: سلوهم عن محمد وصفوا

(5)

لهم صفته وأخبروهم (5) بقوله، فإنَّهم أهلُ الكتاب الأول، وعندهم علْمُ ما ليس عندنا من علم الأنبياء. فخرجا حتى قدِمَا المدينة، فسألا أحبارَ يَهُود عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ووصفوا (1) لهم أمْرَهُ وبعضَ قوله، وقالا: إنَّكم أهلُ التوراة، وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا. فقالت لهم أحبارُ يهود: سلوه عن ثلاثٍ نأمرُكم بهنّ، فإنْ أخبركم بهنَّ فهو نبيٌّ مرسَل، وإنْ لم يفعلْ فالرجل متقوِّل، فرَوْا فيه رأْيَكم: سلوهُ عن فتيةٍ ذهبوا في الدَّهْر الأول ما كان من أمرهم؟ فإنَّه قد كان لهم حديثٌ عجيب؛ وسلوه عن رجل طوَّاف بلغ

(6)

مشارق الأرض ومغاربها، ما كان [نَبَؤُه]

(7)

؛ وسلوه عن الروح ما هو

(8)

؛ فإنْ أخبركم بذلك فهو نبيٌّ فاتَّبِعُوه، وإنْ لم يخبرْكم فإنَّه رجلٌ متقوِّل، فاصنعوا في أمره ما بدا لكم.

(1)

في ح، ط: وتفعلوا، والمثبت من مسند أحمد.

(2)

مسند أحمد (5/ 254) وجامع الترمذي (2347 م) الزهد باب ما جاء في الكفاف والصبر عليه وفي إسناده ضعف.

(3)

في ح: القاسم بن أبي أسامة. والمثبت من مسند أحمد والترمذي، وما يأتي بين معقوفين منهما.

(4)

في سيرة ابن إسحاق (ص 201) وسيرة ابن هشام (1/ 300) والروض (2/ 39).

(5)

في ط وسيرة ابن هشام والروض: وصفا

وأخبراهم، والمثبت من ح وسيرة ابن إسحاق.

(6)

في ط: طاف، والمثبت من ح.

(7)

ما بين معقوفين من سيرة ابن إسحاق وسيرة ابن هشام.

(8)

في ط وسيرة ابن هشام والروض: ما هي، والمثبت من ح والسير والمغازي. والروح: مذكر وقد يؤنث. اللسان (روح).

ص: 260

فأقبل النَّضْر وعُقبة حتى قدما على قريش فقالا: يا معشر قريش، قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد، قد أمَرَنا أحبارُ يهود أن نسأله عن أمور فأخبروهم بها، فجاؤوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد، أخبرْنا فسألوه عما أمروهم به. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أخبرُكم غدًا بما سألتُم عنه"، ولم يستثن. فانصرفوا عنه، ومكثَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم خمسَ عشرةَ ليلةً لا يُحْدِثُ له في ذلك وَحْيًا، ولا يأتيه جبريل، حتى أرجف أهلُ مكة وقالوا: وعَدَنا محمدٌ غدًا واليوم خمس عشرة ليلة قد أصبحنا فيها لا يخبرنا بشيءٍ مما سألناه عنه، وحتى أحْزَنَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم مكْثُ الوحي عنه، وشقَّ عليه ما يتكلَّم به أهلُ مكة، ثم جاءه جبريل عليه السلام من الله عز وجل بسورة الكهف، فيها معاتبته إياه على حُزْنه عليهم، وخبر

(1)

ما سألوه عنه، من أمر الفتية والرجل الطوَّاف، وقال الله تعالى:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85].

وقد تكلَّمنا على ذلك كلِّه في التفسير مطولًا، فمن أراده فعليه بكشفه من هناك.

ونزل قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} [الكهف: 9] ثم شرَعَ في تفصيلِ أمرهم واعترض في الوسط بتعليمه الاستثناء

(2)

تحقيقًا لا تعليقًا في قوله: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 23 - 24] ثم ذكر قصة موسى لتعلُّقها بقصة الخضِر، ثم ذي القرنَيْن، ثم قال:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا} [الكهف: 83] ثم شرح أمره وحكى خَبَره.

وقال في سورة سبحان: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85] أي: خَلْقٌ عجيبٌ من خلْقه، وأمْرٌ من أمْرِه، قال لها: كوني فكانت. وليس لكم الاطلاع على كل ما خلَقَه، وتفسير كيفيته

(3)

، في نفس الأمر يصعُب عليكم بالنسبة إلى قدرةِ الله تعالى وحكمته، ولهذا قال:{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85] وقد ثبت في الصحيحَيْن

(4)

أنَّ اليهود سألوا عن ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فتلا عليهم هذه الآية -فإمَّا أنها نزلَتْ مرَّةً ثانية، أو ذَكرها جوابًا

(5)

- وإن كان نزولُها متقدِّمًا، ومن قال: إنها إنما نزلتْ بالمدينة واستثناها من سورة سُبْحَان، ففي قوله نظر، والله أعلم.

قال ابنُ إسحاق

(6)

: ولما خَشِيَ أبو طالبٍ دَهْمَ العرَبِ أن يركبوهُ مع قومه قال قصيدَته التي تعوَّذَ فيها

(1)

في ط: فأخبراهم. والمثبت من ح وسيرة ابن إسحاق.

(2)

في ح: الأنبياء، تصحيف.

(3)

في ط: وتصوير حقيقته، والمثبت من ح.

(4)

فتح الباري (4721) التفسير [سورة: 17] باب ويسألونك عن الروح، وصحيح مسلم (2794)(32) صفات المنافقين باب سؤال اليهود النبي صلى الله عليه وسلم عن الروح.

(5)

في ح: أو ذكرنا جوابها.

(6)

سيرة ابن هشام (1/ 272) والروض (2/ 13) وفي سيرة ابن هشام (ص 156) سبعة الأبيات الأولى من القصيدة. =

ص: 261

بحرَمِ مكَّة وبمكانه منها، وتودَّدَ فيها أشرافَ قومه، وهو على ذلك يُخبرهم وغيرَهم في شعرِهِ أنَّه غير مسلمٍ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم، ولا تاركه لشيءً أبدًا حتى يهلِكَ دونه. فقال:[من الطويل]

ولما رأيتُ القومَ لا وُدَّ فيهمُ

وقد قطعوا كلَّ العُرَى والوسائلِ

وقد صارَحُونا بالعَدَاوةِ والأذى

وقد طاوَعُوا أمرَ العدوِّ المُزايلِ

وقد حالَفُوا قومًا علينا أَظِنّةً

يَعَضُّونَ غيظًا خَلْفنا بالأناملِ

صبرتُ لهم نفسي بسمراءَ سَمْحةٍ

وأبيضَ عَضْبٍ من تُراثِ المَقاولِ

(1)

وأحضرتُ عند البيت رَهْطي وإخوتي

وأمسكتُ من أثوابِهِ بالوصائلِ

قيامًا معًا مُستقبلينَ رِتاجَه

لدى حيث يَقضي حَلفَه كلَّ نافلِ

(2)

وحيثُ يُنيخ الأشعرونَ ركابهم

بمُفْضَى السيولِ من إسافٍ ونائلِ

موسّمةَ الأعضادِ أو قَصَرَاتِها

مخيَّسةً بين السَّديسِ وبازِل

(3)

ترى الودْعَ فيها والرخامَ وزينةً

بأعناقها معقودةً كالعثاكلِ

(4)

أَعُوذُ بربّ الناس من كلِّ طاعنٍ

علينا بسوءٍ أو مُلحٍّ بباطل

(5)

ومن كاشحٍ يسعى لنا بمَعيبةٍ

ومن مُلحِقٍ في الدين ما لم نحاول

(6)

وثَوْرٍ ومن أرسى ثَبيرًا مكانَهُ

وراقٍ ليرقى في حِرَاءَ ونازلِ

(7)

= والقصيدة في ديوان شيخ الأباطح (ص 2 - 12).

(1)

"المقاول": الملوك. جمع مِقْول. اللسان (قول). وأراد بالمقاول آباءه، شبههم بالملوك، ولم يكونوا ملوكًا، ولا كان فيهم من ملك، بدليل حديث أبي سفيان حين قال له هرقل: هل كان في آبائه من ملك؟ فقال: لا. ويحتمل أن يكون هذا السيف الذي ذكر أبو طالب من هبات الملوك لأبيه، فقد وهب بن ذي يزن لعبد المطلب هبات جزلة حين وفد عليه مع قريش، يهنئونه بظفره بالحبشة، وذلك بعد مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعامين. الروض (2/ 22).

(2)

رواية الشطر الأول في السير والمغازي: عكوفًا معًا مستقبلين وتارة. وفي ح: يستقبلون.

(3)

قال السهيلي في الروض (2/ 22): وقوله: موسمة الأعضاد، يعني معلمة بسمة في أعضادها، ويقال لذلك الوسم السطاع والخباط في الفخذ، والرقمة أيضًا في العضد، ويقال للوسم في الكشح: الكشاح: ولما في قَصَرَةِ العنق العلاط. وقصراتها: جمع قصرة، وهي أصل العنق، وخفضها بالعطف على الأعضاد. والمخيَّسة: المذلَّلة الي لم تسرَّح، ولكنها خُيِّست للنحر أو القَسْم. والسَّديس من الإبل: ما دخل في السنة الثامنة. والبازل: الذي خرج نابه وذلك في السنة التاسعة. الروض (2/ 22) واللسان (خيس، سدس، بزل) ولفظ ح: محبَّسة.

(4)

"الوَدْع": بالسكون والفتح: خرزات تنظم ويتحلَّى بها النساء والصبيان. والرخام: أي ما قطع من الرخام، فنظم، وهو حجر أبيض ناصح. والعثاكل: أراد العثاكيل، فحذف الياء ضرورة كما قال ابن مضاض: وفيها العصافر، أراد: العصافير. الروض (2/ 22).

(5)

هكذا في ح، ط وسيرة ابن هشام والروض: ولعل الصواب: ملجٍّ بالجيم.

(6)

في ح: لنا بمعشة .. ما لم يجادل.

(7)

قال السهيلي في الروض (2/ 24): وأصح الروايتين فيه: وراق لبرٍّ في حراءَ ونازلِ. قال البرقي: هكذا رواه ابن إسحاق وغيره وهو الصواب.

ص: 262

وبالبيتِ حقِّ البيت من بطن مكةٍ

وبالله إنَّ اللهَ ليس بغافلِ

وبالحجَرِ المسودِّ إذْ يمسحونه

إذا اكتنفوهُ بالضُّحَى والأصائلِ

(1)

وموطئِ إبراهيمَ في الصخر رطبةً

على قدمَيْه حافيًا غيرَ ناعلِ

(2)

وأشواطِ بين المروَتَيْن إلى الصَّفَا

وما فيهما من صورةٍ وتماثِلِ

(3)

ومن حجَّ بيتَ الله من كلِّ راكبٍ

ومن كلِّ ذي نَذْرٍ ومن كلِّ راجلِ

وبالمشعَرِ الأقصى إذا عمدوا له

إلالَ إلى مُفْضَى الشّراجِ القوابلِ

(4)

وتَوقافِهِم فوقَ الجبال عشيَّةً

يُقيمون بالأيدي صدورَ الرواحلِ

وليلةِ جمعٍ والمنازلِ من مِنَى

وهل فوقَها من حُرمةٍ ومنازلِ

وجمعٍ إذا ما المقرُبات أجَزْنَه

سِراعًا كما يخرُجْنَ من وقع وابلِ

(5)

وبالجمرةِ الكُبرى إذا صَمدوا لها

يؤمُّون قَذْفًا رأسَها بالجنادلِ

وكندةَ إذْ هم بالحِصَابِ عشيَّةً

تُجِيزُ بهم حجَّاج بكرِ بن وائلِ

(6)

حليفانِ شدَّا عَقْدَ ما احتلفا له

وردًا عليه عاطفاتِ الوسائلِ

وحَطْمِهِمُ سُمرَ الصِّفاح وسَرْحَه

وشِبْرِقَه وخْدَ النعامِ الجوافلِ

(7)

(1)

رواية الروض: وبالحجر الأسود. دلّ عليه قوله: وقوله: وبالحجر الأسود، فيه زحاف يسمى الكف، وهو حذف النون من مفاعيلن، وموضع الزحاف بعد اللام من ذلك. اهـ. أما روايته في المتن فقد جاءت المسودّ.

وقوله: إذا اكتنفوه بالضحى والأصائل: جمع أصيلة، والأصل جمع أصيل. ورواية ح: إذا كشفوه.

(2)

وقوله: وموطئ إبراهيم في الصخر رطبة، يعني موضع قدميه حين غسلت كنته (زوج ابنه) رأسه، وهو راكب، فاعتمد بقدمه على الصخرة حين أمال رأسه ليغسل، وكانت سارة قد أخذت عليه عهدًا حين استأذنها في أن يطالع تركته بمكة، فحلف لها أنه لا ينزل عن دابته، ولا يزيد على السلام، واستطلاع الحال غيرة من سارة عليه من هاجر، فحين اعتمد على الصخرة أبقى الله فيها أثر قدمه آية. قال الله سبحانه:{فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ} أي: منها مقام إبراهيم، ومن جعل مقامًا بدلًا من آيات قال: المقام جمع مقامة، وقيل هو أثر قدمه حين رفع القواعد من البيت وهو قائم عليه. الروض (2/ 25).

(3)

بين المروتين: كنحو ما تقدم في بطن المكتين لما ورد مثنى من أسماء المواضع، وهو واحد في الحقيقة. وتماثل: أراد تماثيل، كمفاتح ومفاتيح. الروض (2/ 25).

(4)

"المشعر الأقصى": عَرَفَة، وإلال ككتاب وسحاب: جبل عرفة، وسمِّي إلالًا لأن الحجيج إذا رأوه ألُّوا في السير، أي اجتهدوا فيه ليدركوا الموقف. والشراج: جمع شرج؛ وهو مسيل الماء، والقوابل: المتقابلة. الروض (2/ 25، 26) وروايته إلالًا. معجم البلدان (1/ 242، 243).

(5)

ليس هذا البيت في ح.

(6)

"الحِصَاب": موضع رمي الجمار بمنى. معجم البلدان (2/ 262).

(7)

"الصفاح": جمع صفح؛ وهو سطح الجبل. والسمر: يجوز أن يكون أراد به السمر يقال فيه: سمُر وسمْر بضم الميم وسكونها، ويجوز نقل ضمة الميم إلى ما قبلها إلى السين، غير أن هذا النقل إنما يقع غالبًا فيما يراد به المدح =

ص: 263

فهل بعدَ هذا من مَعَاذٍ لعائذٍ

وهل من مُعيذٍ يتقي اللهَ عادلِ

(1)

يُطاع بنا العِدَى وودُّوا لو أنَّنَا

تُسَدُّ بنا أبوابُ تُرْكٍ وكابُلِ

(2)

كذبتم وبيتِ الله نترك مكةً

ونظعنُ إلَّا أمرُكم في بلابِلِ

(3)

كذبتم وبيتِ الله نُبْزَى محمدًا

ولمَّا نُطاعنْ دُونه ونناضلِ

(4)

ونسلمه حتى نصرَّعَ حوله

ونَذهلَ عن أبنائِنا والحلائلِ

وينهضَ قومٌ بالحديد إليكمُ

نهوضَ الروايا تحتَ ذاتِ الصلاصل

(5)

وحتى نرى ذا الضِّغْنِ يركبُ رَدْعَهُ

من الطَّعنِ فعل الأنكبِ المتحاملِ

(6)

وإنا لعمرُ الله إنْ جدَّ ما أرى

لتَلْتَبِسَنْ أسيافُنا بالأماثلِ

بكفَّيْ فتًى مثلِ الشهابِ سَميْدَعٍ

أخي ثقةٍ حامي الحقيقةِ باسلِ

شهورًا وأيامًا وحَوْلًا مُجَرَّمًا

علينا وتأتي حِجَّةٌ بعدَ قابل

(7)

وما ترْكُ قومٍ -لا أبا لكَ- سيَّدًا

يحوطُ الذِّمارَ غيرَ ذَرْبٍ مُوَاكِل

(8)

وأبيضَ يُستسقى الغمامُ بوجهه

ثِمَالَ اليتامى عِصْمةً للأراملِ

(9)

= أو الذم، نحو حسن وقبح. كما قال:"وحسن ذا أدبا". وجائز أن يراد بالسمر ها هنا جمع أسمر وسمراء ويكون وصفًا للبنات، والشجر يوصف بالدهمة إذا كان مخضرًّا. والسَّرْح: جمع سَرْحة، وهي الشجرة العظيمة. وقوله: وشبرقه؛ وهو نبات يقال ليابسه: الحِلَّة، ولرطبه الشبرق. والوَخْد: السير السريع. والجوافل: الذاهبة المسرعة. الروض (2/ 26) واللسان (وخد، جفل، سرح).

(1)

في ح: وهل من مقيل.

(2)

في ط: يطاع بنا أمر العِدَا ودأننا، والمثبت من ح وسيرة ابن هشام.

(3)

"البلابل والبلبال": شدة الهم والوسواس في الصدور وحديث النفس. اللسن (بلل).

(4)

في ح: نقاتل، بدل: نطاعن. وقد تقدم شرح البيت.

(5)

في ح: وننهض قومًا. الروايا: هي الإبل تحمل الماء، واحدتها: راوية. والصلاصل: المزادات لها صلصلة بالماء. الروض (2/ 26).

(6)

ركب فلان رَدْعَه: إذا خرَّ لوجهه على دمه، وطعنه فركب ردعه، أي مقاديمه وعلى ما سال من دمه، وقيل: ركب ردعه، أي خرَّ ضريعًا لوجهه على دمه وعلى رأسه وإن لم يمت بعد، غير أنه كلما همَّ بالنهوض ركب مقاديمه فخر لوجهه. والأنكب: من المنكب، وهو الميل في الشيء وعن الحق، وهي صفة المتطاول الجائر قال رجل من فقعس:

فهلا أعدُّوني لمثلي تفاقدوا

إذا الخصم أبزى مائل الرأي أنكب

اللسان (ردع، نكب).

(7)

في ح، ط: محرمًا بالحاء المهملة، والمثبت من سيرة ابن هشام، والسنة المجرَّمة: التامَّة التي انقضت. اللسان (جرم).

(8)

في ح: يحوط الذمار من غير ثوب ثواكل"، والمثبت من ط وسيرة ابن هشام والروض (2/ 26) وجاء فيه: وهو مخفف من ذَرِب، والذرب اللسان: الفاحش المنطق، والمواكل: الذي لا جدَّ عنده فهو يكل أموره إلى غيره.

(9)

"ثمال اليتامى": أي: يثملهم ويقوم بهم، والثِّمال: هو الغياث والملجأ والمطعم في الشدائد. الروض (1/ 26) =

ص: 264

يلوذُ به الهُلَّاك من آلِ هاشمٍ

فهمْ عندَهُ في نعمةٍ وفواضلِ

(1)

لعمري لقد أجْرَى أسيدٌ وبكرُهُ

إلى بُغضنا وجزَّآنا لآكلِ

(2)

وعثمانُ لم يَرْبَعْ علينا وقُنْفُذٌ

ولكنْ أطاعا أمرَ تلك القبائلِ

أطاعا أُبَيًّا وابنَ عبدِ يَغوثِهم

ولم يرقُبا فينا مقالةَ قائلِ

كما قد لقينا من سُبَيْعٍ ونوفلٍ

وكلٌّ تولَّى مُعرِضًا لم يجامِلِ

فإنْ يُلْفَيَا أو يُمْكن اللهُ منهما

نَكِلْ لهما صاعًا بصاعِ المكايل

وذاك أبو عمرٍو أبَى غيرَ بُغضنا

ليُظْعِننا في أهلِ شاءٍ وجامل

(3)

يناجي بنا في كلِّ مُمْسَى ومُصْبَحٍ

فناجِ أبا عمرو بنا ثم خَاتِلِ

ويؤلي لنا باللهِ ما إنْ يغشُّنا

بلى قد نراهُ جهرةً غيرَ حائلِ

(4)

أضاقَ عليه بغضُنا كلَّ تَلْعَةٍ

من الأرض بينَ أخشُبٍ فمَجَادِلِ

(5)

وسائلْ أبا الوليدِ ماذا حَبَوْتنا

بسعيك فينا مُعْرِضًا كالمخاتلِ

(6)

وكنتَ امرأً ممَّنْ يُعاشُ برأيِهِ

ورحمتِهِ فينا ولستَ بجاهلِ

فعتبةُ لا تسمعْ بنا قولَ كاشحٍ

حسودٍ كذوبٍ مبغضٍ ذي دَغَاوِلِ

(7)

ومرَّ أبو سفيانَ عنّيَ مُعْرِضًا

كما مرَّ قَيْلٌ من عظام المَقَاولِ

يَفِرُّ إلى نَجْدٍ وبَرْدِ مياهِهِ

ويزعُمُ أني لستُ عنكم بغافلِ

(8)

= واللسان (ثمل).

(1)

في ح وسيرة ابن هشام: فهم عنده في رحمة. والمثبت من ح.

(2)

أسيد هو ابن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس، وبكره: هو عتاب ابنه كما في سيرة ابن هشام (1/ 282).

(3)

"الشاء والشوى": اسم للجمع مثل الباقر والبقير، ولا واحد لشاء والشوى من لفظه، وإذا قالوا في الواحد: شاة، فليس من هذا، لأن لام الفعل في شاة هاء بدليل قولهم في التصغير: شويهة، وفي الجمع شياه. والجامل: اسم جمع بمنزلة الباقر. الروض (2/ 26).

(4)

في ط: خائل بالخاء المعجمة، والمثبت من ح وسيرة ابن هشام، والحائل: الحاجز بين الشيئين.

(5)

في ح: حرشب. والمثبت من ط وسيرة ابن هشام، وقوله: أخشُب: أراد الأخاشب، وهي جبال مكة، وجاء به على أخشب لأنه في معنى أجبُل، مع أن الاسم قد يجمع على حذف الزوائد كما يصغرونه كذلك؛ والمجادل: جمع مِجْدَل، وهو القصر، كأنه يريد ما بين جبال مكة فقصور الشام أو العراق؛ والفاء في قوله: فمجادل. تعطي الاتصال بخلاف الواو

تقول: مطرنا بين مكة فالمدينة، إذا اتصل المطر من هذه إلى هذه؛ ولو كانت الواو لم تعط هذا المعنى. الروض (2/ 26، 27).

(6)

في ح: بسعيك في تفريقنا كالمخاتل، والمثبت من ط وسيرة ابن هشام.

(7)

"الدغاول": الدواهي: لا واحد لها، والغوائل أيضًا. تاج العروس (غول).

(8)

في ح: يحن إلى نجد.

ص: 265

ويخبرُنا فعلَ المناصحِ أنَّهُ

شفيقٌ ويُخْفي عارماتِ الدواخِلِ

(1)

أمُطْعِمُ لم أخْذُلكَ في يومِ نَجْدَةٍ

ولا مُعْظِمٍ عندَ الأمور الجلائلِ

ولا يومَ خَصْمٍ إذْ أتوك ألدَّةٍ

أولي جَدَلٍ بين الخصومِ المَسَاجِلِ

(2)

أمُطْعِمُ إنَّ القومَ سامُوكَ خُطَّةً

وإنِّي متى أوكلْ فلستُ بوائلِ

(3)

جزى الله عنَّا عبدَ شمسٍ ونَوْفلًا

عقوبةَ شرٍّ عاجلًا غير آجلِ

بميزانِ قسطٍ لا يُخِسُّ شَعيرةً

له شاهدٌ من نفسِه غيرُ عائلِ

(4)

لقد سفهتْ أحلامُ قومٍ تبدَّلوا

بني خَلَفٍ قيضًا بنا والغياطل

(5)

ونحن الصَّميمُ من ذُؤابةِ هاشمٍ

وآل قُصيٍّ في الخطوبِ الأوائلِ

وسهمٍ ومخزوم تمالَوْا وألَّبوا

علينا العِدَى من كل طِمْلٍ وخاملِ

(6)

فعبدُ منافٍ أنتمُ خيرُ قومِكم

فلا تُشركوا في أمركم كلَّ واغِلِ

لعمري لقد وَهَنْتُمُ وعَجَزْتُمُ

وجئتُمْ بأمرٍ مخطئٍ للمَفَاصلِ

(7)

وكنتم حديثًا حَطْبَ قِدْرٍ وأنتمُ

أَلان حِطَابُ أَقْدُرٍ ومَراجلِ

(8)

لِيهنِ بني عبدِ المنافِ عقوقُنا

وخذلانُنا وتركُنا في المعاقلِ

(1)

"العارمات": الشديدات. الدواخل: جمع داخلة، وهي النيَّة والطويَّة والمذهب. اللسان والتاج (عرم، دخل).

(2)

في ح: أشدَّة بدل ألدَّة. وفي ط: من الخصوم. وكذا في سيرة ابن هشام، والمثبت من ح. والمساجل: يروى بالجيم وبالحاء، فمن رواه بالجيم فهو من المساجلة في القول، وأصله في استقاء الماء بالسجل وصبه، فكأنه جمع مساجل على تقدير حذف الألف الزائدة من مفاعل، أو جمع مِسْجل بكسر الميم، وهو من نعت الخصوم، ومن رواه المساحل بالحاء فهو جمع مسحل، وهو اللسان، وليس بصفة للخصوم، إنما هو مخفوض بالإضافة؛ أي خصماء الألسنة. الروض (2/ 27).

(3)

"ساموك": كلَّفوك. الوائل: الناجي. اللسان (سوم، وآل).

(4)

"لا يخسُّ": لا ينقص. ورواية ط: لا يخيس، ويروى في غير السيرة: يحص بالصاد والحاء مهملة من حص الشعر: إذا أذهبه، والعائل من قولهم: عال في الميزان: إذا نقص أو زاد. اللسان والتاج (خسس، عول) والروض (2/ 27).

(5)

"قيضًا": أي معاوضة: ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لذي الجوشن: "إن شئت قايضتك به المختار من دروع بدر" فقال: ما كنت لأقيضه اليوم بشيء، يعني فرسًا له. والغياطل: بنو سهم، لأن أمهم الغيطلة. الروض (2/ 27).

(6)

"الطمل": اللص والرجل الفاحش والفقير. الروض (2/ 27).

(7)

في ح: أدهنتم، بدل: وهنتم.

(8)

في ط: ألان أحطاب، والمثبت من ح وسيرة ابن هشام؛ قال السهيلي في الروض (2/ 26): وقوله: وكنتم زمانًا حطب قدر: حطب اسم للجمع من ركب وليس بجمع، لأنك تقول في تصغيره: حطيب وركيب. وقوله: حطاب أقدر هو جمع حاطب فلا يصغر، إلا أن تردَّه إلى الواحد فتقول: حويطبون، ومعنى البيت: أي كنتم متفقين لا تحطبون إلا لقدر واحدة، فأنتم الآن بخلاف ذلك. اهـ.

ص: 266

فإنْ نكُ قومًا نَبْتَئِرْ ما صنعتُمُ

وتحتلبوها لَقْحَةً غيرَ باهلِ

(1)

[وسائطُ كانتْ في لؤيِّ بن غالبٍ

نفاهم إلينا كلُّ صَقْرٍ حُلَاحِلِ

ورهطُ نُفَيلٍ شرُّ من وَطِئَ الحَصَى

وأَلأَمُ حافٍ من معدٍّ وناعِلِ]

(2)

فأَبلغ قُصَيًّا أنْ سينشَرُ أمْرُنا

وبشِّرْ قصيًّا بعدنا بالتخاذُلِ

ولو طرقتْ ليلًا قصيًا عظيمةٌ

إذا ما لجأنا دونهم في المداخل

ولو صَدَقوا ضربًا خِلال ديارِهم

لكنَّا أسًى عندَ النِّسَا والمطافلِ

(3)

فكلُّ صديقٍ وابن أُختٍ نودُّه

لعمري وجدنا غَيْبَهُ غيرَ طائلِ

(4)

سوى أنَّ رَهْطًا من كلابِ بنِ مرَّة

براءٌ إلينا من مَعقَّةِ خاذلِ

(5)

[وهُنَّا لهمْ حتى تبدَّدَ جمعُهم

ويُحْسَر عنَّا كلُّ باغٍ وجاهلِ

وكان لنا حوضُ السقايةِ فيهمُ

ونحن الكُدَى من غالبٍ والكواهلِ

شبابٌ من المطَيِّبين وهاشمٌ

كبِيض السيوفِ بين أيدي الصياقلِ

فما أدركوا ذَحْلًا ولا سَفكُوا دمًا

ولا حالفوا إلا شِرَار القبائل

بضربٍ ترى الفتيانَ فيه كأنهم

ضواري أُسودٍ فوقَ لحم خرادِل

بني أمةٍ محبوبةٍ هِنْدِ كِيَّة

بني جُمَحٍ عُبَيْد قيس بن عاقل

ولكنّنا نَسْلٌ كرامٌ لسادةٍ

بهم نُعِيَ الأقوامُ عند البواطل]

ونِعم ابنُ أُختِ القومِ غير مكذَّبٍ

زهيرٌ حسامًا مفرَدًا من حمائل

أشمُّ من الشُّمِّ البهاليلِ يَنْتَمي

إلى حسَب في حَوْمةِ المجدِ فاضل

لعمري لقد كُلِّفتُ وَجْدًا بأحمدٍ

وإخوته دَأْبَ المحبِّ المُواصلِ

(6)

فمن مثلُه في الناسِ أيُّ مُؤَمَّلٍ

إذا قاسَهُ الحُكَّامُ عند التفاضلِ

(1)

في ط وسيرة ابن هشام: نتَّئر، والمثبت من ح وأثبتها الناسخ في هامشها وكتب فوقها كلمة: صح، ومعنى نبتئر: من ابتأر الشيء إذا خبأه وادَّخره. اللسان (بأر) وقال صاحب الروض (2/ 27): وقوله لقحة غير باهل: الباهل: الناقة التي لا صرار على أخلافها، فهي مباحة الحليب.

(2)

ما بين معقوفين ساقط من نسخ البداية والنهاية، وبعض نسخ سيرة ابن هشام، وهو مثبت في بعضها فأثبته هنا ناشر المطبوعة نقلًا عن سيرة ابن هشام فتبعناه في ذلك.

(3)

في ط وسيرة ابن هشام: خلال بيوتهم

النساء المطافل، والمثبت من ح، والأسى: جمع أسوى. والمطافل: ذوات الأطفال، واحدها مطفل. اللسان (أسو، طفل).

(4)

في ط وسيرة ابن هشام: وابن أخت نعده

وجدنا غبَّه.

(5)

"برا": بفتح الباء وكسرها، فبالكسر جمع بريْ مثل كريم وكرام، وأما بَراء فمصدر مثل سلام. الروض (2/ 28).

(6)

بعد هذا البيت في سيرة ابن هشام بيت آخر هو:

فلا زال في الدنيا جمالًا لأهلها

وزينًا لمن والاه ربُّ المشاكلِ

ص: 267

حليمٌ رشيد عادلٌ غيرُ طائس

يوالي إلهًا ليس عنه بغافل

كريمُ المساعي ماجدٌ وابنُ ماجدٍ

له إرثُ مجدٍ ثابتٌ غيرُ ناصِلِ

(1)

وأيَّدَهُ ربُّ العبادِ بنصره

وأظهرَ دينًا حقُّه غيرُ زائلِ

فواللّهِ لولا أنْ أجيءَ بسُبَّةٍ

تجرُّ على أشياخِنا في المحافِل

لكنّا تَبِعناه على كلِّ حالةٍ

من الدهر جدًّا غير قولِ التهازل

لقد عَلِموا أنَّ ابنَنا لا مكذَّبٌ

لدينا ولا يُعنى بقولِ الأباطل

فأصبح فينا أحمدٌ في أرومةٍ

تُقَصِّرُ عنها سَورةُ المتطاول

(2)

حَدِبْتُ بنفسي دونَهُ وحمَيْتُه

ودافعتُ عنه بالذُّرَا والكلاكلِ

(3)

قال ابن هشام

(4)

: هذا ما صحَّ لي من هذه القصيدة، وبعض أهل العلم بالشعر يُنكر أكثرها.

قلث: هذه قصيدةٌ عظيمةٌ بليغة جدًّا لا يستطيعُ أن يقولها إلا من نُسبت إليه، وهي أفحل من المعلَّقات السبع، وأبلغ في تأدية المعنى فيها جميعها، وقد أوردها الأموي في مغازيه مطوَّلة بزياداتٍ أُخَرَ. والله أعلم.

‌فصل

قال ابن إسحاق

(5)

: ثمّ إنهم عدَوْا على من أسلم واتَّبع رسولَ الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه فوثبَتْ كلُّ قبيلةٍ على مَنْ فيها من المسلمين، فجعلوا يحبسونهم ويعذِّبونهم

(6)

بالضرب والجوع والعطش، وبرمضاءِ مكةَ إذا اشتدَّ الحرّ؛ مَنِ استضعفوه منهم يفتنونهم عن دينهم، فمنهم مَنْ يُفتن من شدَّةِ البلاءِ الذي يُصيبهم، ومنهم من يَصْلُبُ لهم ويعصمه الله منهم؛ فكان بلال مولى أبي بكر لبعض بني جُمَح، مولَّدًا من مولَّديهم، وهو بلال بن رَبَاح، واسمُ أُمِّه حَمَامة، وكان صادقَ الإسلام طاهِرَ القلب، وكان أميةُ بن خلف يُخرِجُه إذا حميتِ الظَّهيرة ثم يأمر بالصخرَةِ العَظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول له: لا والله لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم، وتعبد اللاتَ والعُزَّى. فيقول: -وهو في ذلك- أحَدٌ أحد.

(1)

هذا البيت والذي يليه ليسا في سيرة ابن هشام، وفيها تقديم وتأخير في بعض الأبيات. وناصل: لا يزول.

(2)

"السَّورة": الوَثْبة والرفعة في المجد والمنزلة. اللسان والأساس (سور).

(3)

زاد ابن هشام بعدها هذين البيتين:

رجال كرام غير ميلٍ نماهمُ

إلى الخير آباءٌ كرام المحاصل

فإن تك كعب من لؤي صقيبة

فلا بد يومًا مرة من تزايل

(4)

في السيرة (2/ 80).

(5)

سيرة ابن إسحاق (ص 190) وسيرة ابن هشام (1/ 317) والروض (2/ 67).

(6)

ما بعد هذه اللفظة ساقط من سيرة ابن إسحاق.

ص: 268

قال ابن إسحاق

(1)

: فحدثني هشام بن عروة، عن أبيه قال: كان ورَقَةُ بن نَوْفَل يمرُّ به وهو يعذَّب لذلك وهو يقول: أحَدٌ أحَد، فيقول [ورقة:]

(2)

أحَد أحَد واللهِ يا بلال، ثم يُقْبِلُ على أميَّة بن خلف ومَنْ يصنع ذلك به من بني جُمح فيقول: أحلفُ بالله، لئنْ قتلتموه على هذا لأتَّخِذَنَّهُ حَنَانًا

(3)

.

قلت: قد استشكل بعضُهم هذا من جهة أنَّ ورَقَة توفِّي بعد البِعْثة في فترة الوحي، وإسلام مَنْ أسلم إنما كان بعد نزول {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} فكيف يمرُّ ورَقَةُ ببلال، وهو يعذَّب؟ [وفيه نظر.

ثم ذكر ابنُ إسحاق

(4)

مرور أبي بكرٍ ببلال وهو يعذَّب]

(5)

، فاشتراه من أمية بعبدٍ له أسود فأعتقه وأراحَهُ من العذاب. وذكر مشتراه لجماعةٍ ممن أسلم من العَبيد والإماء، منهم بلال، وعامر بن فُهيرة، وأم عُبَيس

(6)

، [وزِنِّيرة]

(7)

التي أُصيب بصَرُها، ثم ردَّه الله تعالى لها، والنهديَّة وابنتها اشتراها من بني عبد الدار بعثَتْهما سيدتُهما تطحنانِ لها فسمعها وهي تقول لهما: والله لا أعتقكما أبدًا، فقال أبو بكر: حِلًا

(8)

يا أمَّ فلان، فقالت: حلَّ أنت، أفسدْتَهما فأعتِقْهما. قال: فبكم هما؟ قالت: بكذا وكذا. قال: قد أخذتُهما وهما حُرَّتان، أرْجِعا إليها طحينها. قالتا: أو نفرُغُ منه يا أبا بكر ثم نردُّه إليها؟ قال: أو ذلك إنْ شئتما.

واشترى جاريةَ بني مؤمَّل -حي من بني عَدِيّ- كان عمر يضربها على الإسلام.

قال ابن إسحاق

(9)

: فحدّثني محمد بن عبد الله بن أبي عَتِيق، عن عامر بن عبد الله بن الزُّبير، عن

(1)

سيرة ابن إسحاق (ص 190) وسيرة ابن هشام (1/ 318) والروض (2/ 67).

(2)

ما بين معقوفين من سيرة ابن إسحاق.

(3)

قال ابن الأثير في النهاية (1/ 452): "الحنان": الرحمة والعطف، والحنان الرزق والبركة. وكان ورقة على دين عيسى عليه السلام. وهلك قبيل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن يدركني يومك لأنصرنك نصرًا مؤزرًّا.

وفي هذا نظر، فإن بلالًا ما عُذب إلا بعد أن أسلم. اهـ.

(4)

سيرة ابن إسحاق (ص 191) وسيرة ابن هشام (1/ 318) والروض (2/ 68).

(5)

ما بين المعقوفين ليس في ح ولعله سقط من انتقال النظر بين كلمة: يعذب الأولى والثانية.

(6)

في ح، ط والروض: عميس. تصحيف، والمثبت من السير والمغازي وسيرة ابن هشام والإصابة في ترجمتها في الكنى.

(7)

ما بين معقوفين سقط من ح، ط وأثبته من مصادر الخبر. قال السهيلي في الروض (2/ 78): وأول اسمها زاي مكسورة بعدها نون مكسورة مشددة على وزن فِعِّيلة، هكذا صحَّت الرواية في الكتابة، والزنيرة: واحدة الزنانير، وهي الحصا الصغار، قاله أبو عبيدة، وبعضهم يقول فيها: زنيرة بفتح الزاي وسكون النون وباء بعدها، ولا تعرف زنيرة في النساء. اهـ.

(8)

في ح، ط وسيرة ابن هشام: حل وفي السير والمغازي: أجل، والمثبت من الروض. قال ابن الأثير في النهاية (حلل): وفي حديث أبي بكر أنه قال لامرأة حلفت أن لا تعتق مولاة لها، فقال لها: حِلًا أمَّ فلان، واشتراها وأعتقها. أي تحلَّلي من يمينك، وهو منصوب على المصدر.

(9)

في السير والمغازي (ص 191، 192) وسيرة ابن هشام (2/ 319) والروض (2/ 68).

ص: 269

بعض أهله، قال: قال أبو قحافةَ لابنه أبي بكر: يا بني إنِّي أراك تُعْتِقُ ضعافًا، فلو أنك إذْ فعلتَ ما فعلت أعتقتَ رجالًا جُلْدًا، يمنعونك ويقومون دونك؟ قال: فقال أبو بكر: يا أبة، إنِّي إنما أريدُ ما أريد. قال: فيتحدَّث أنه ما أنزل هؤلاءِ الآيات إلا فيه وفيما قال أبوه {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل: 5 - 7] إلى آخر السورة.

وقد تقدَّم ما رواه الإمام أحمد وابنُ ماجه

(1)

من حديث عاصم بن بَهْدَلة، عن زِرّ، عن ابن مسعود قال: أول من أظهر الإسلامَ سبعةٌ، رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمار، وأمُّهُ سُمَيَّة، وصُهَيب، وبلال، والمِقْدَاد؛ فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعه الله بعمِّه، و [أما] أبو بكر منعه الله بقومه، وأما سائرهم فأخذَهُم المشركون فألبسوهم أدراعَ الحديد، وصهروهم في الشمس، فما منهم من أحدٍ إلا وقد واتاهم على ما أرادوا إلا بلالًا فإنَّه هانتْ عليه نفسُهُ في الله تعالى، وهان على قومه، فأخذوه، فأعطَوْه الولدان فجعلوا يطوفون به في شِعَابِ مكة وهو يقول: أحدٌ أحدٌ.

ورواه الثَّوْري عن منصور عن مجاهد مرسلًا.

قال ابنُ إسحاق

(2)

: وكانتْ بنو مَخْزوم يخرجون بعمار بن ياسر وبأبيه وأمه -وكانوا أهلَ بيت إسلام- إذا حميتِ الظهيرة يعذِّبونهم برَمْضَاء مكة، فيمرُّ بهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فيقول -فيما بلغني-:"صبرًا آلَ ياسر، مَوْعِدُكُمُ الجنَّة".

وقد روى البيهقيُّ

(3)

عن الحاكم، عن إبراهيم بن عِصْمَة العدل، حدَّثنا السَّرِيُّ بنُ خُزيمة، حدَّثنا مسلم بن إبراهيم، حدَّثنا هشام بن أبي عبد الله

(4)

، عن أبي الزُّبير، عن جابر، أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم مَرَّ بعمَّارٍ وأهله وهم يُعَذَّبون فقال: "أبشرُوا آلَ عمَّار وآل ياسر

(5)

، فإنَّ موعدَكُمُ الجنَّة".

فأما أمُّه فيقتلونها فتأبى إلا الإسلام

(6)

.

وقال الإمام أحمد

(7)

: حدثنا وكيع عن سفيان عن منصور عن مجاهد قال: أول شهيدٍ كان في

(1)

انظر ما تقدم (ص 226) موضع الحاشية (7 و 8) وما يأتي بين معقوفين من ثم، وعاصم بن بهدلة هو ابن أبي النجود.

(2)

في المغازي والسير وسيرة ابن هشام (1/ 319، 320) والروض (2/ 68).

(3)

في دلائل النبوة (2/ 282) وأخرجه الحاكم في المستدرك (3/ 388) وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه؛ وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 293) وقال: رواه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح غير إبراهيم بن عبد العزيز المقوم وهو ثقة.

(4)

في ح، ط: هشام بن أبي عبيد الله، والمثبت من دلائل النبوة ومستدرك الحاكم وترجمته في تهذيب الكمال (30/ 215).

(5)

في دلائل النبوة: أو آل ياسر.

(6)

كذا وردت هذه العبارة في ح، ط، وليس في دلائل البيهقي.

(7)

كذا في الأصول، وأخرجه البيهقي في الدلائل (2/ 282) عن الحسين بن بشران قال: أخبرنا أبو عمرو بن السماك=

ص: 270

الإسلام استشهد أمُّ عمَّار سُمَيَّة، طعنها أبو جهل بحَرْبةٍ في قُبُلها

(1)

وهذا مرسل.

قال محمد بن إسحاق

(2)

: وكان أبو جهل الفاسق الذي يُغْري بهم في رجالٍ من قريش، إذا سمع برجل قد أسلم له شرفٌ ومَنَعَة أنَّبه

(3)

وخَزَاه وقال: تركتَ دينَ أبيك وهو خيرٌ منك، لنسفهنَّ حِلْمك، ولَنُفَيِّلَنَّ

(4)

رأيَك، ولنضعَنَّ شرفَك. وإنْ كان تاجرًا قال: والله لنكسدَنَّ تجارتك، ولنهلكنَّ مالك. وإن كان ضعيفًا ضربه وأغْرَى به، لعنه الله وقبَّحه.

قال ابنُ إسحاق

(5)

: وحدَّثني حكيم بن جُبير، عن سعيد بن جُبير قال: قلت لعبد الله بن عباس: أكان المشركون يبلغون من أصحابِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم من العذاب ما يُعذَرون به في ترك دينهم؟ قال: نعم والله! إنْ كانوا ليضربون أحدَهم ويُجيعونه ويُعطشونه، حتى ما يقدر أنْ يستويَ جالسًا من شدَّة الضُّرِّ الذي به، حتى يُعطِيهمْ ما سألوه من الفِتْنَة، حتى يقولوا له: اللات والعُزَّى إلَهان من دونِ الله؟ فيقول: نعم! [وحتى إنَّ الجُعَلَ ليمرُّ بهم فيقولون له: أهذا الجُعَل إلَهك من دون الله؟ فيقول: نعم] افتداءً منهم بما يبلغون من جهدهم.

قلت: وفي مثل هذا أنزل الله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ [وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ]

(6)

} الآية، فهؤلاء كانوا معذورين بما حصل لهم من الإهانة والتعذيب

(7)

البليغ، أجارنا الله من ذلك بحوله وقوته.

وقال الإمام أحمد

(8)

: حدّثنا أبو معاوية، حدّثنا الأعمش، عن مسلم، عن مسروق، عن خَبَّاب بن

= قال: حدثنا حنبل بن إسحاق قال: حدثني أبو عبد الله أحمد بن حنبل (في المطبوع: أبو عبد الله يزيد بن أحمد، وهو تحريف) قال: حدثنا وكيع به فذكره. قلت: لم أجد الخبر في مسند أحمد ولا في فضائل الصحابة له، وذكره صاحب الكنز (37597) ورمز إلى أبي بكر بن أبي شيبة في مصنفه وهو فيه (17619) عن وكيع به، ولم يرمز صاحب الكنز إلى الإمام أحمد؛ وساقه ابن حجر في ترجمة سمية في الإصابة عن أبي بكر بن أبي شيبة عن جرير عن منصور عن مجاهد وقال: وهو مرسل صحيح السند. قال بشار: هذا من حديث ابن السماك، وهو يروي عن أحمد بواسطة حنبل، ولا علاقة له بالمسند.

(1)

في ح، ط: قلبها. والمثبت من دلائل النبوة والاستيعاب.

(2)

سيرة ابن هشام (1/ 320) والروض (2/ 68).

(3)

في ح: أباه. تصحيف، والمثبت من ط.

(4)

في ط: ولنفلِّين. تصحيف، والمثبت من ح. وهو فيَّلْتُ رأيه، إذا خطَّأته وصحَّفتُه. انظر اللسان والأساس (فيل).

(5)

في المغازي والسير (ص 192) وسيرة ابن هشام (1/ 320) والروض (2/ 69) وما بين معقوفين في هذا الخبر من هذه المصادر سقط من الأصول بسبب انتقال النظر.

(6)

ما بين المعقوفين ليس في ح وهو من ط حرفت فيه بعض الكلمات والآية هي رقم (106) من سورة النحل.

(7)

في ط: والعذاب.

(8)

في مسنده (5/ 111) رقم (20966).

ص: 271

الأرَتّ. قال: كنتُ رجلًا قَيْنًا، وكان لي على العاص بن وائل دَيْن، فأتَيْتُه أتقاضاه فقال: لا والله لا أقضيك حتى تكفُرَ بمحمد. فقلت: لا والله لا أكفر بمحمد حتى تموت ثم تُبعث. قال: فإني إذا متُّ ثم بُعثت جئتني ولي ثمَّ مالٌ وولد فأعطيك

(1)

. فأنزل الله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا} إلى قوله: {وَيَأْتِينَا فَرْدًا} [مريم: 77 - 80].

أخرجاه في الصحيحين

(2)

وغيرهما من طرق عن الأعمش به.

وفي لفظِ البخاري

(3)

: كنتُ قَيْنًا بمكة، فعملتُ للعاص بن وائل سيفًا، فجئتُ أتقاضاه فذكر الحديث.

وقال البخاري

(4)

: حدَّثنا الحُميدي، حدَّثنا سفيان، حدَّثنا بَيَان

(5)

وإسماعيل قالا: سمعنا قيسًا يقول: سمعتُ خَبَّابًا يقول: أتيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وهو متوسِّدٌ بردةً

(6)

وهو في ظلِّ الكعبة، وقد لَقينا من المشركين شدَّة، فقلت:[يا رسول الله]، ألا تدعو الله [لنا]؟ فقعدَ وهو مُحْمَرٌّ وجْهُهُ فقال: "قد كان مَنْ كان قبلَكم ليُمشطُ بأمشاطِ الحديد ما دُون عظامِه من لحمٍ أوْ عَصَب، ما يصرِفُه ذلك عن دينه، ويوضَعُ المنشار

(7)

على مفرِق رأسه فيُشَقُّ باثنين، ما يَصْرِفُه ذلك عن دينه، ولَيُتِمَّنَّ اللهُ هذا الأمر حتى يسيرَ الراكبُ من صنعاءَ إلى حَضْرَمَوْت ما يخافُ إلا اللهَ عز وجل" زاد بَيَان:"والذئبَ على غنمه".

وفي رواية

(8)

: "ولكنكم تستعجلون" انفرد به البخاري دون مسلم.

وقد رُوي من وجهٍ آخر عن خَبَّاب، وهو مختصرٌ من هذا. والله أعلم.

وقال الإمام أحمد

(9)

: حدّثنا عبد الرحمن، عن سفيان، وابن جعفر، حدّثنا شعبة، عن

(1)

في مسند أحمد: فأعطيتك.

(2)

فتح الباري (2091) بيوع باب ذكر القين والحداد، وصحيح مسلم (2795)(35) و (36) صفات المنافقين باب سؤال اليهود النبي صلى الله عليه وسلم عن الروح.

(3)

فتح الباري (4733) التفسير سورة 19 باب أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدًا.

(4)

فتح الباري (3852) مناقب الأنصار باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المشركين بمكة. وما يأتي بين معقوفين منه.

(5)

في ح، ط: بنان. تصحيف، والمثبت من فتح الباري وترجمته في تهذيب الكمال (4/ 303) وهو بنان بن بشر الأحمسي البجلي، وإسماعيل هو ابن أبي خالد، وقيس هو قيس بن أبي حازم كما ذكر ابن حجر في الفتح.

(6)

في ح، ط: ببردة، والمثبت من فتح الباري.

(7)

كذا في ح، ط: وفي البخاري والفتح: بميشار. وقال ابن حجر في الفتح (7/ 166)(الميشار) بكسر الميم وسكون التحتانية بهمز وغير همز، تقول: وشرت الخشبة وأشرتها، ويقال فيه بالنون، وهي أشهر في الاستعمال.

(8)

فتح الباري (3612) مناقب باب علامات النبوة في الاسلام.

(9)

في مسنده (5/ 110) رقم (20961).

ص: 272

أبي إسحاق، عن سعيد بن وَهْب، عن خبَّاب قال: شكَوْنا إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم شدَّةَ الرَّمْضَاء [فما أشكانا -يعني في الصلاة- وقال ابنُ جعفر: فلم يُشْكِنا.

وقال أيضًا

(1)

: حدثنا سليمان بن داود، حدّثنا شعبة، عن أبي إسحاق قال: سمعتُ سعيد بن وَهْبٍ يقول: سمعت خَبَّابًا يقول: شكونا إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم الرَّمْضَاء

(2)

فلم يُشْكِنا.

قال شعبة: يعني في الظُّهر

(3)

.

ورواه مسلم والنَّسائي والبيهقي

(4)

من حديث أبي إسحاق السَّبيعي، عن سعيد بن وَهْب، عن خَبَّاب قال: شكَوْنا إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم حَرَّ الرَّمْضاء -زاد البيهقي في وجوهنا وأكُفِّنا- فلم يُشْكِنا

(5)

.

وفي رواية

(6)

: شكونا إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم الصلاة في الرَّمضاء فلم يُشْكنا.

ورواهُ ابنُ ماجه

(7)

عن علي بن محمد الطَّنَافِسِيّ، عن وكيع، عن الأعمش، عن أبي إسحاق، عن حارثة بن مُضَرِّب

(8)

العَبْدي، عن خباب قال: شكونا إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم حَرَّ الرَّمْضاء فلم يُشْكِنا.

والذي يقع لي -والله أعلم- أنَّ هذا الحديث مختصرٌ من الأول، وهو أنهم شكَوْا إليه صلى الله عليه وسلم ما يَلْقَوْن من المشركين من التعذيب بحرِّ الرَّمْضَاء، وأنهم يسحبونهم على وجوههم فيتَّقون بأكفِّهم، وغير ذلك من أنواع العذاب كما تقدم عن ابن إسحاق وغيره، وسألوا منه صلى الله عليه وسلم أن يدعُوَ الله لهم على المشركين أو يستنصر عليهم، فوعدهم ذلك ولم ينجزْه لهم في الحالة الرَّاهنة، وأخبرهم عمَّن كان قبلهم أنهم كانوا يلقَوْن من العذاب ما هو أشدُّ مما أصابهم، ولا يصرفُهم ذلك عن دينهم، ويبشِّرُهم أنَّ الله سيتِمُّ هذا الأمر ويُظهره ويُعلنه وينشره وينصُره في الأقاليم والآفاق، حتى يسير الراكبُ من صنعاء إلى حَضْرَمَوت لا يخافُ إلا اللهَ عز وجل والذئبَ على غنمه، ولكنكم تستعجلون، ولهذا قال: شكَوْنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حرَّ الرمضاء في وجوهنا وأكُفِّنا فلم يُشْكِنا، أي: لم يدْعُ لنا في الساعة الراهنة. فمن استدلَّ بهذا الحديث على عدَمِ الإبراد أو على وجوب مباشرة المصلِّي بالكفِّ كما هو أحد قولي الشافعي، ففيه نظر. والله أعلم.

(1)

يعني الإمام أحمد في مسنده (5/ 108) رقم (20950).

(2)

ما بين المعقوفين سقط من ح.

(3)

في ط: الظهيرة. والمثبت من ح ومسند الإمام أحمد.

(4)

صحيح مسلم (189 - 619) مساجد باب استحباب تقديم ظهر في أول الوقت، وسنن النسائي (497) مواقيت باب أول وقت الظهر، وسنن البيهقي (2/ 105) كتاب الصلاة باب الكشف عن الجبهة في السجود.

(5)

قوله: لم يُشْكِنا: أي لم يُزِل شكوانا. شرح صحيح مسلم للنووي (5/ 121).

(6)

وهي رواية مسلم السابقة.

(7)

في سننه (675) الصلاة باب وقت صلاة الظهر.

(8)

وقع في سنن ابن ماجه: مضرَّب. براء مشددة مفتوحة، والصواب براء مشددة مكسورة كما في التقريب (1/ 145) وكتب الضبط الأخرى.

ص: 273

‌باب مجادلة المشركين رسول الله صلى الله عليه وسلم وإقامة الحُجَّة الدامغة عليهم واعترافهم في أنفسهم بالحق وإنْ أظهروا المخالفة عِنادًا وحسدًا وبَغْيًا وجُحودًا

قال إسحاقُ بن راهويه: حدَّثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن أيُّوب السّخْتِياني، عن عكرمة، عن ابن عباس، أنَّ الوليد بن المغيرة جاء إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه القرآن، فكأنه رقَّ له، فبلَغَ ذلك أبا جهل، فأتاهُ فقال: يا عم، إنَّ قومك يريدون

(1)

أنْ يجمعوا لك مالًا. قال: لم؟ قال: ليعطوكه، فإنك أتيتَ محمدًا لتعرض ما قِبَله، قال: قد علمتْ قريشٌ أنِّي من أكثرها مالًا. قال: فقل فيه قولًا يبلُغ قومَك أنَّك منكرٌ له. قال: وماذا أقول؟ فوالله ما منكم رجلٌ أعرف بالأشعار مني، ولا أعلم برَجَزِه، ولا بقصيده مني، ولا بأشعار الجِنّ، والله ما يُشبه الذي يقولُ شيئًا من هذا، ووالله إنَّ لقوله الذي يقوله حلاوةً، وإنَّ عليه لطلاوة، وإنَّهُ لمثمرٌ أعلاه، مُغْدِقٌ أسفله، وإنَّهُ لَيَعْلُو ولا يُعْلى، وإنَّه لَيحْطِمُ ما تحته. قال: لا يرضى عنك قومُك حتى تقولَ فيه، قال: قف عني

(2)

حتى أفكِّر فيه. فلما فكَّر قال: إنْ هذا إلا سحرٌ يُؤثَر يَأْثُرُهُ عن غيره. فنزلتْ: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا} [المدثر: 11 - 13] الآيات.

هكذا رواهُ البيهقي

(3)

عن الحاكم، عن عبد الله بن محمد الصَّنْعاني بمكَّة، عن إسحاق به.

وقد رواهُ حماد بن زيد، عن أيوب، عن عكرمة مرسلًا. فيه أنه قرأ عليه {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90].

وقال البيهقي

(4)

: عن الحاكم، عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار

(5)

، عن يونس بن بُكَير

(6)

، عن محمد بن إسحاق، حدثني محمد بن أبي محمد، عن سعيد بن جبير -أو عكرمة عن ابن عباس- أنَّ الوليد بن المغيرة اجتمع ونفرٌ من قريش، وكان ذا سِنٍّ فيهم، وقد حَضَر المواسم

(7)

فقال: إنَّ وفود

(1)

في دلائل البيهقي (2/ 198): يرون.

(2)

كذا في ح، ط، وفي دلائل النبوة: فدعني، وهو أشبه بالصواب.

(3)

في دلائل النبوة (2/ 198).

(4)

في دلائل النبوة (2/ 199).

(5)

قال الحافظ ابن حجر في "التقريب": أحمد بن عبد الجبار العُطَاردي، ضعيف، وسماعه للسيرة صحيح.

(6)

قال الحافظ في "التقريب": صدوق يخطئ.

(7)

في ح: الموسم.

ص: 274

العرب ستقدمُ عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فأجمعوا فيه رأيًا واحدًا ولا تختلفوا، فيكذِّب بعضُكم بعضًا، ويردُّ قولُ بعضكم بعضًا. فقيل: يا أبا عبد شمس، فقُلْ، وأقِمْ لنا رأيًا نقومُ به. فقال: بل أنتم فقولوا وأنا أسمع. فقالوا: نقولُ كاهن؟ فقال ما هو بكاهن، رأيتُ الكُهَّان، فما هو بزَمْزَمة الكُهَّان. فقالوا: نقول مجنون؟ فقال ما هو بمجنون، ولقد رأينا الجنون وعرفناه، فما هو بخَنْقِه ولا تَخَالُجِهِ ولا وسوسته. فقالوا: نقول شاعر؟ فقال: ما هو بشاعر، قد عرفنا الشعر بِرَجَزِه وهَزَجِه وقَرِيضه ومَقْبوضه ومبسوطه، فما هو بالشعر. قالوا: فنقول هو ساحر؟ قال ما هو بساحر، قد رأينا السُّحَّار وسِحْرَهم، فما هو بنَفْثِه ولا بعَقْدِه. قالوا: فما نقولُ يا أبا عبد شمس؟ قال: والله إن لقوله لحلاوة، وإن أصله لمُغْدق، وإنَّ فَرْعَهُ لجنيّ

(1)

، فما أنتم بقائلين من هذا شيئًا إلا عُرف

(2)

أنه باطل؛ وإنَّ أقربَ القول لأنْ تقولوا ساحر، فتقولوا

(3)

: هو ساحرٌ يفرِّقُ بين المرء ودينه، وبين المرء وأبيه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وعشيرته. فتفرَّقوا عنه بذلك، فجعلوا يجلسون للناس حين قدِموا المَوْسم، لا يمرُّ بهم أحَدٌ إلا حذَّرُوهُ إيَّاه، وذكروا لهم أمره، وأنزل الله في الوليد:{ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا} [المدثر: 11 - 13] الآيات. وفي أولئك النَّفرِ: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر: 91 - 93]. قلت: وفي ذلك قال الله تعالى أخبارًا عن جهلهم وقِلَّةِ عقلهم {بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ} [الأنبياء: 5] فحارُوا ماذا يقولون فيه، فكلُّ شيءٍ يقولونه باطل، لأن مَنْ خرج عن الحق مهما قاله أخطأ.

قال الله تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} [الإسراء: 48، الفرقان: 9].

وقال الإمام عبد بن حُميد في مسنده

(4)

؛ حدثني أبو بكر بن أبي شيبة

(5)

، حدثنا عليُّ بن مُسْهِر عن الأجْلَح -هو ابن عبد الله الكِنْدِي- عن الذَّيَّال بن حَرْمَلَة الأسَدِي، عن جابر بن عبد الله قال: اجتمع قريش يومًا فقالوا: انظروا أعلمَكم بالسِّحْر والكهانةِ والشعر، فَلْيأتِ هذا الرجل الذي

(6)

فرَّق جماعتنا وشتَّتَ أمرنا، وعابَ ديننا فلْيُكلِّمْه ولينظرْ ماذا يردُّ عليه؟ فقالوا: ما نعلم أحدًا غيرَ عتبة بن ربيعة.

(1)

في ح: وإنّ لفرعه، وفي دلائل النبوة: إن فرعه لجنًا.

(2)

في ح: أعرف.

(3)

كذا في ح، ط والدلائل، ولعل الصواب: فتقولون.

(4)

ذكره ابن حجر في المطالب العالية (4285) وخرّجه بقوله: لأبي بكر وأبي يعلى وعبد بن حميد. اهـ، وفي الطبعة الجديدة بإسناده رقم (4229). وأخرجه أيضًا الحاكم في المستدرك (2/ 253) وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وذكره الهيثمي في المجمع 6/ 19، 20 وقال رواه أبو يعلى وفيه الأجلح الكندي وثقه ابن معين وغيره وضعفه النسائي وغيره وبقية رجاله ثقات.

(5)

في مصنفه (18409) كتاب المغازي باب في أذى قريش للنبي صلى الله عليه وسلم.

(6)

في ح: الذي قد فرق، وليست هذه الزيادة في ط ولا في مصنف أبي بكر بن أبي شيبة.

ص: 275

فقالوا: أنت يا أبا الوليد. فأتاهُ عتبةُ فقال: يا محمد أنت خيرٌ أمْ عبدُ الله؟ فسكت رسولُ الله صلى الله عليه وسلم. فقال: أنت خيرٌ أمْ عبد المطلب؟ فسكت رسولُ الله صلى الله عليه وسلم. قال: فإنْ كنتَ تزعم أنَّ هؤلاء خيرٌ منك فقد عبدُوا الآلهة التي عِبْتَ، وإنْ كنت تزعمُ أنك خيرٌ منهم فتكلَّم حتى نسمع قولك، إنَّا والله ما رأينا سَخْلَةً

(1)

قطُ أشأم على قومه منك، فرَّقتَ جماعتنا، وشتَّتَّ أمرنا، وعِبتَ ديننا، وفضَحْتَنا في العرب حتى لقد طار فيهم أنَّ في قريش ساحرًا، وأنَّ في قريش كاهنًا؛ والله ما ننتظر إلا مثل صيحة الحُبْلى

(2)

أن يقوم بعضُنا إلى بعض بالسيوف حتى نتفانى؛ أيها الرجل، إنْ كان إنما بك الحاجة جمَعْنا لك حتى تكون أغْنَى قريش رجلا، وإنْ كان إنما بك الباءَة

(3)

فاخْتَرْ أي نساءِ قريش شئت فلنزوجك عَشْرًا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفرغتَ

(4)

؟ " قال: نعم. فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} إلى أنْ بلغَ {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت: 13]. فقال عتبة: [حَسْبُك]

(5)

ما عندك غير هذا؟ قال: "لا" فرجع إلى قُريش فقالوا: ما وراءك؟ قال: ما تركتُ شيئًا أرى أنَّكم تكلِّمونه إلا كلَّمتُه [به]

(6)

. قالوا: فهل أجابك؟ فقال نعم. ثم قال: لا والذي نصَبَها بنيَّة، ما فهمتُ شيئًا مما قال، غير أنه أنذركم صاعقةً مثل صاعقةِ عادٍ وثمود. قال: ويلك يكلِّمُك الرجلُ بالعربية لا تدري ما قال؟! قال: لا والله ما فهمتُ شيئًا مما قال غير ذكر الصاعقة.

وقد رواه البيهقي

(7)

وغيره عن الحاكم وغير

(8)

، عن الأصم، عن عباس الدُّوري، عن يحيى بن مَعِين، عن محمد بن فُضَيل، عن الأجْلَح به، وفيه كلام

(9)

، وزاد: وإنْ كنتَ إنما بك الرِّياسة عقَدْنا ألويتنا لك، فكنتَ رأسًا ما بَقيت.

وعنده أنه لما قال: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت: 13] أمسك عتبةُ

(1)

في النهاية: سخل، السخل: المولود المحبب إلى أبويه. وهو في الأصل ولد الغنم.

(2)

كذا في ط ومصنف ابن أبي شيبة وفي ح بإهمال الحروف، وفي المطالب العالية: صيحة الخيل. وهو أشبه بالصواب.

(3)

في ح، ط: الباه، والمثبت من مصنف ابن أبي شيبة والمطالب.

(4)

في ح، ط: فرغت من غير همزة، والمثبت من مصادر الخبر.

(5)

الزيادة من المصنف والمطالب.

(6)

الزيادة من المصنف والمطالب.

(7)

في دلائل النبوة (2/ 202 - 204).

(8)

ليست اللفظة في ط وأثبتها من ح.

(9)

يعني الأجلح، وقد ضعفه أحمد وأبو داود والنسائي وابن سعيد والجوزجاني والساجي وابن حبان وابن الجارود، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به. واختلف فيه قول ابن معين بين ثقة وصويلح، كما بيناه في تحرير التقريب (1/ 106)(بشار).

ص: 276

على فيه وناشدَهُ الرَّحِمَ أنْ يَكُفَّ عنه؛ ولم يخرجْ إلى أهله واحتَبَسَ عنهم. فقال أبو جهل: والله يا معشر قريش، ما نرى عتبة إلا صَبَأ إلى محمدٍ وأعجبَهُ طعامُه، وما ذاك إلا من حاجةٍ أصابَتْه، انطلقوا بنا إليه، فأتوه، فقال أبو جهل: والله يا عتبة ما جئنا

(1)

إلا أنَّك صبَوْتَ إلى محمد وأعجبَك أمْرُه، فإنْ كان بك حاجة جمَعْنا لك من أموالنا ما يُغنيك عن طعام محمد. فغضِبَ وأقسم بالله لا يكلِّمُ محمدًا أبدًا. وقال: لقد علمتم أني من أكثر قريش مالًا، ولكنِّي أتيتُه -وقص عليهم القصة- فأجابني بشيءٍ والله ما هو بسحرٍ ولا بشعر ولا كَهانة، قرأ:{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (*) حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2)} حتى بلغ {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت: 1 - 13] فأمسكتُ بفيه وناشدتُه الرحمَ أنْ يكُفّ، وقد علمتم أنَّ محمدًا إذا قال شيئًا لم يكذب، فخفتُ أنْ ينزلَ عليكم العذاب.

ثم قال البيهقي

(2)

، عن الحاكم، عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبَّار، عن يونس

(3)

، عن محمد بن إسحاق: حدثني يزيد بن أبي زياد مولى بني هاشم، عن محمد بن كعب قال: حُدِّثتُ أنَّ عتبة بن ربيعة -وكان سيدًا حليمًا- قال ذات يوم وهو جالسٌ في نادي قريش، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم جالسٌ وَحْدَه في المسجد: يا معشر قريش، ألا أقوم إلى هذا [فأُكلِّمَهُ] فأعرضَ عليه أمورًا لعلَّه يقبلُ بعضَها ويكفُّ عنا؟ قالوا: بلى يا أبا الوليد! فقام عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر الحديث فيما قال له عتبة وفيما عرض عليا

(4)

من المال والمُلْك وغير ذلك

(5)

، حتى إذا فَرَغ عتبة قال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "أفرغْتَ

(6)

يا أبا الوليد؟ " قال: نعم. قال: "اسمَعْ مني" قال: أفعل. فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:

(1)

في الدلائل: حسبنا وهو أشبه بالصواب.

(2)

في دلائل النبوة (2/ 204) وما يأتي بين معقوفين منه.

(3)

هو يونس بن بكير.

(4)

في ط: على رسول الله صلى الله عليه وسلم. بدل عليه، والمثبت من ح والدلائل.

(5)

زادت نسخة ط ما سيأتي، وليست هذه الزيادة في ح ولا في دلائل النبوة للبيهقي، ويبدو أن هذه الزيادة هي التي اختصرها البيهقي من حديث عتبة، فأعادها بعض النساخ دون أن ينتبه إلى ذلك، والزيادة هي قوله: وقال زياد بن إسحاق: فقال عتبة: يا معشر قريش ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورًا لعله يقل بعضها فنعطيه إياها ويكف عنا .. وذلك حين أسلم حمزة ورأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيدون ويكثرون .. فقالوا: بلى يا أبا الوليد، فقم إليه وكلمه. فقام عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا بن أخي، إنك منا حيث قد علمت من السطة في العشيرة والمكان في النسب، وأنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت جماعتهم، وسفهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفَّرت به من مضى من آبائهم. فاسمع مني حتى أعرض عليك أمورًا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها، قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يا أبا الوليد أسمع". قال: يا بن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالًا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالًا، وإن كنت تريد به شرفًا سودناك علينا حتى لا نقطع أمرًا دونك، وإن كنت تريد به ملكًا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رَئِيًا تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يتداوى منه. أو كما قال له.

(6)

في الدلائل: أفرأيتَ، ولعله تصحيف.

ص: 277

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (*) حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [فصلت: 1 - 3] فمضى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها، فلما سمع بها عتبةُ أنصتَ لها وألْقَى بيديه خلْفَه -أو خلْفَ ظهره- معتمدًا عليهما يسمع منه، حتى انتهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة فسجد فيها ثم قال:"سمعتَ يا أبا الوليد؟ " قال: سمعتُ. قال: "فأنتَ وذاك" فقام عتبةُ إلى أصحابه فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغيرِ الوَجْه الذي ذهب به. فلما جلسوا إليه قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: ورائي أنِّي والله قد سمعتُ قولًا ما سمعتُ مثله قط، والله ما هو بالشعر [ولا السِّحْر] ولا الكهانة، يا معشر قريش، أطيعوني واجعلوها بي، خلُّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه واعتزلوه، فوالله ليكونَنَّ لقوله الذي سمعتُ نبأٌ، فإن تُصِبْهُ العرب فقد كُفيتموهُ بغيركم، وإنْ يظهرْ على العرب فملْكُه ملْكُكم، وعِزُّه عِزُّكم، وكنتم أسعدَ الناسِ به. قالوا: سحَرَكَ والله يا أبا الوليد بلسانه. قال: هذا رأيي لكم فاصنعوا ما بدا لكم.

ثم ذكر يونس عن ابن إسحاق شعرًا قاله أبو طالب يمدح فيه عتبة.

وقال البيهقي

(1)

: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن يوسف الأصبهاني، أخبرنا أبو قتيبة سلمة بن الفضل الأدَمي بمكة، حدثنا أبو أيوب أحمد بن بِشْر الطَّيَالسي، حدثنا داود بن عمرو الضَّبِّي، حدثنا المثنى بن زُرْعَة عن محمد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر قال: لما قرأ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على عتبة بن ربيعة {حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} أتى أصحابه فقال لهم: يا قوم، أطيعوني في هذا الأمر اليوم، واعْصُوني فيما بعده، فوالله لقد سمعتُ من هذا الرجل كلامًا ما سمعتْ أُذناي كلامًا مثله، وما درَيْتُ ما أردُّ عليه.

وهذا حديثٌ غريبٌ جدًّا من هذا الوجه.

ثم روى البيهقي

(2)

عن الحاكم، عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبَّار، عن يونس

(3)

، عن ابن إسحاق: حدثني الزُّهْري قال: حُدِّثتُ أنَّ أبا جهلٍ وأبا سفيان والأخنس بن شُريق خرجوا ليلةً ليسمعوا من رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وهو يصلِّي بالليل في بيته، فأخذ كلُّ رجلٍ منهم مجلسًا ليستمع منه، وكلٌّ لا يعلمُ بمكانِ صاحبه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا أصبحوا وطَلَع الفجر تفرَّقوا، فجمعهم الطريق، فتلاوموا وقال بعضهم لبعض: لا تعودوا، فلو رآكم بعضُ سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئًا.

ثم انصرفوا، حتى إذا كانت الليلةُ الثانية عاد كلُّ رجلٍ منهم إلى مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طَلَع الفجرُ تفرَّقوا، فجمعهم الطريق، قال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرَّة.

(1)

في دلائل النبوة (2/ 205).

(2)

في دلائل النبوة (2/ 206).

(3)

هو يونس بن بكير، وهو أحد رواة سيرة ابن إسحاق.

ص: 278

ثم انصرفوا، فلما كانتِ الليلةُ الثالثة أخذ كلُّ رجل منهم مجلسَه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرَّقوا فجمعهم الطريق، فقالوا: لا نبرحُ حتى نتعاهد أن لا نعود. فتعاهدوا على ذلك ثم تفرقوا. فلما أصبح الأخنس بن شُرَيق أخَذَ عصاه ثم خرج حتى أتى أبا سفيانَ في بيته فقال: أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعتَ من محمد؟ فقال: يا أبا ثعلبة والله لقد سمعتُ أشياءَ أعرفُها وأعرفُ ما يُرادُ بها. فقال الأخنس: وأنا والذي حلفتَ به. ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل، فدخل عليه بيته فقال: يا أبا الحكم، مارأيُكَ فيما سمعتَ من محمد؟ فقال: ماذا سمعت! تنازَعْنا نحن وبنو عبد مَنَافٍ الشَّرَف، أطعموا فأطعَمْنا، وحمَلوا فحملنا، وأعطَوْا فأعطَيْنا، حتى إذا تجاثَيْنا على الرُّكب، وكنَّا كفَرَسَيْ رِهان قالوا: منا نبيٌّ يأتيهِ الوَحْيُ من السماء، فمتى ندرك هذه؟ والله لا نسمع

(1)

به أبدًا ولا نصدِّقُه. فقام عنه الأخنس بن شُريق.

ثم قال البيهقي

(2)

: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا أبو العباس، حدثنا أحمد، حدثنا يونس، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن المغيرة بن شعبة قال: إنَّ أوَّلَ يومٍ عرفتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أنِّي [كنتُ] أمشي أنا وأبو جهل بن هشام في بعض أزِقَّة مكة، إذْ لَقِينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لأبي جهل:"يا أبا الحكم، هَلُمَّ إلى الله وإلى رسوله، أدعوك إلى الله". فقال أبو جهل: يا محمد، هل أنتَ مُنْتهٍ عن سَبِّ آلهتنا؟ هل تريد إلا أن نشهدَ أنك قد بلَّغْت؟ فنحن نشهد أنْ قد بلغت، فوالله لو أني أعلمُ أنَّ ما تقول حقٌّ لاتَّبعتُك. فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبلَ عليَّ فقال: والله إني لأعلم أن ما يقولُ حق، ولكنَّ بني قُصَيٍّ

(3)

قالوا: فينا الحِجَابة. فقلنا: نعم؛ ثم قالوا: فينا السقاية، فقلنا: نعم، ثم قالوا: فينا الندوة. فقلنا: نعم. ثم قالوا: فينا اللِّواء. فقلنا: نعم. ثم أطعموا وأطعمْنا. حتى إذا تحاكَّت الرُّكب قالوا: منَّا نبيّ. واللّهِ لا أفعل.

وقال البيهقي

(4)

: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو بكر، قالا

(5)

: أخبرنا أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم، حدّثنا محمد بن خالد، حدّثنا أحمد بن خالد

(6)

، حدّثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق قال: مرَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم على أبي جهل وأبي سفيان، وهما جالسان، فقال أبو جهل: هذا نبيُّكم يا بني عبد شمس.

(1)

في الدلائل: لا نؤمن. وهو أشبه بالصواب.

(2)

في دلائل النبوة (2/ 207) وما يأتي بين معقوفين منه.

(3)

في ح: ولكن شيء أن بني قصى. وزادت ط بين معقوفين [يمنعني] بعد: ولكن. وما أثبتُّه من الدلائل.

(4)

في دلائل النبوة (2/ 284) وما يأتي بين معقوفين منه.

(5)

قوله: وأبو بكر سقط من ط وهو في ح والدلائل وزاد الدلائل "القاضي".

(6)

في ح، ط: أحمد بن خلف وهو تحريف، والمثبت من دلائل البيهقي وترجمة كل من محمد بن خالد بن خَلِيٍّ الكَلاعي وأحمد بن خالد بن موسى الوهبي في تهذيب الكمال (1/ 299) المطبوع أو (3/ 1193)(مصورة المخطوطة).

ص: 279

قال أبو سفيان: وتعجَبُ أنْ يكون منَّا نبيّ؟ فالنبيُّ يكون فيمنْ [هو] أقلّ منا وأذلّ. فقال أبو جهل: أعجب أن يخرج غلامٌ من بين شيوخ نبيًا، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم يسمع. فأتاهما فقال:"أما أنتَ يا أبا سفيان، فما لله ورسولهِ غضِبت، ولكنك حَميتَ للأصل؛ وأمَّا أنت يا أبا الحكم، فوالله لتضحكَنَّ قليلًا ولتبكيَنَّ كثيرًا" فقال: بئسما تَعِدُني يا ابن أخي من نبوَّتِك.

هذا مرسلٌ من هذا الوجه وفيه غرابة.

وقولُ أبي جهلٍ -لعنه الله- كما قاله الله تعالى مخبرًا عنه وعن أضرابه {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41) إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 41 - 42].

وقال الإمام أحمد

(1)

: حدّثنا هُشَيم، حدّثنا أبو بشر، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس قال: نزلَتْ هذه الآيةُ ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم متوارٍ بمكة: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء: 110] قال: كان إذا صلَّى بأصحابه رفَعَ صوتَهُ بالقرآن، فلما سمع ذلك المشركون سَبُّوا القرآن وسَبُّوامن أنزلَهُ ومَنْ جاء به، قال: فقال الله تعالى لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ} أي بقراءَتك فيسمعَ المشركونَ فيَسُبُّوا القرآن {وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء: 110] عن أصحابك، فلا تُسْمِعْهمُ القرآن حتى يأخذوه عنك {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} .

وهكذا رواه صاحبا الصحيح

(2)

من حديث أبي بشر جعفر بن أبي وَحْشيَّة به

(3)

.

وقال محمد بن إسحاق

(4)

: حدَّثني داودُ بن الحُصَين عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جهر بالقرآن -وهو يصلِّي- تفرَّقوا عنه وأبَوْا أن يستمعوا منه، وكان الرجل إذا أراد أن يسمع من رسول الله بعضَ ما يتلو، وهو يصلِّي، استرق السمع دونهم فرَقًا منهم، فانْ رأى أنهم قد عرفوا أنه يستمع ذهب خشية أذاهم فلم يستمع، فإنْ خَفَضَ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسمع الذين يستمعون من قراءته شيئًا، فأنزل الله تعالى:{وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ} فيتفرَّقوا عنك {وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} فلا يسمع من أرادَ أن يسمعَها ممن يَسْتَرِقُ ذلك، لعلَّه يَرْعَوِي إلى بعض ما يسمع، فينتفع به {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} [الإسراء: 110].

(1)

في مسنده (1/ 215).

(2)

البخاري في فتح الباري (4722) التفسير سورة الإسراء باب {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} ، و (7490) التوحيد باب قول الله تعالى:{أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ} ، ومسلم في صحيحه (446)(145) الصلاة باب التوسط في القراءة في الصلاة.

(3)

في ط: جعفر بن أبي حية. وهو تحريف، والمثبت من ح وفتح الباري وترجمته في تهذيب الكمال (5/ 5) وهو جعفر بن إياس.

(4)

في السير والمغازي (ص 206) وسيرة ابن هشام (1/ 214) والروض (2/ 47) على خلاف في نهاية الخبر.

ص: 280

‌باب هجرة من هاجر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، من مكة إلى أرض الحبشة فرارًا بدينهم من الفتنة

قد تقدم ذِكْر

(1)

أذيَّةِ المشركين للمستضعفين من المؤمنين، وما كانوا يعاملونهم به من الضَّرْب الشديد، والإهانة البالغة، وكان الله عز وجل قد حجرهم عن رسوله صلى الله عليه وسلم، ومنعه بعمِّه أبي طالب، كما تقدَّمَ تفصيلُه ولله الحمد والمنة.

وروى الواقدي

(2)

أنَّ خروجهم إليها في رجب سنة خمسٍ من البعْثَة، وأن أولَ من هاجر منهم أحد عشر رجلًا وأربع نسوة، وأنهم انتهوا

(3)

إلى البحر، ما بين ماشٍ وراكب، فاستأجروا سفينةً بنصف دينار إلى الحبشة

(4)

، وهم عثمان بن عفان، وامرأته رُقَيَّة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو حُذيفة بن عتبة، وامرأته سهلة بنت سُهيل، والزُّبَير بن العوَّام، ومُصْعَب بن عُمير، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو سلمة بن عبد الأسد، وامرأته أم سلمة بنت أبي أمية، وعثمان بن مَظْعون، وعامر بن ربيعة العَنْزي، وامرأته ليلى بنت أبي حَثْمة، وأبو سَبْرَة بن أبي رُهْم، وحاطب بن عمرو، وسُهيل بن بَيْضاء، وعبد الله بن مسعود، رضي الله عنهم أجمعين.

قال ابنُ جرير

(5)

: وقال آخرون: بل كانوا اثنين وثمانينَ رجلًا، سوى نسائهم وأبنائهم؛ وعمار بن ياسر -فشَكَّ

(6)

- فإنْ كان فيهم فقد كانوا ثلاثةً وثمانينَ رجلًا.

وقال محمد بن إسحاق

(7)

: فلما رأى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ما يُصيبُ أصحابَهُ من البلاء، وما هو فيه من العافية، بمكانه من الله عز وجل، ومن عمه أبي طالب، وأنه لا يقدر على أن يمنعَهُمْ مما هم فيه من البلاء. قال لهم:"لو خرَجْتُمْ إلى أرض الحبشة، فإنَّ بها مَلِكًا لا يُظلم عنده أحد، وهي أرضُ صِدْق، حتى يجعلَ الله لكم فرجًا مما أنتم فيه". فخرج عند ذلك المسلمون من أصحابِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم

(1)

سقطت اللفظة من ح.

(2)

طبقات ابن سعد (1/ 204).

(3)

في ح: أتوا. بدل: انتهوا.

(4)

لفظ الواقدي في الطبقات: ووفق الله تعالى للمسلمين ساعة جاؤوا سفينتين للتجار حملوهم فيهما إلى أرض الحبشة بنصف دينار.

(5)

يعني الطبري في تاريخه (2/ 330).

(6)

عبارة الطبري هكذا: وهو يُشَكُّ فيه، وفي ط: نشك، والمثبت من ح.

(7)

في السير والمغازي (ص 213) وسيرة ابن هشام (1/ 321) والروض (2/ 69).

ص: 281

إلى أرض الحبشة مخافةَ الفتنة، وفرارًا إلى الله بدينهم. فكانتْ أولَ هجرةٍ كانتْ في الإسلام.

وكان أولَ من خرج من المسلمين عثمانُ بن عفان، وزوجتُه رُقَيَّةُ بنتُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم.

وكذا روى البيهقي

(1)

من حديث يعقوب بن سفيان، عن عباس العَنْبَرِيّ، عن بشر بن موسى، عن الحسن بن زياد البُرْجُمي، حدثنا قتادة قال: إنَّ أولَ من هاجر إلى الله تعالى بأهله عثمانُ بن عفان رضي الله عنه، سمعتُ النَّضْرَ بن أنس يقول: سمعت أبا حمزة -يعني أنس بن مالك- يقول: خرج عثمان بنُ عفَّان ومعه امرأتهُ رُقَيَّة بنتُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض الحبشة، فأبطأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرهم، فقدمتِ امرأةٌ من قريش فقالت: يا محمد، قد رأيتُ خَتَنَك ومعه امرأته. قال:"على أي حال رأيتِهما؟ ".

قالت: رأيتُه قد حمل امرأتَهُ على حمارٍ من هذه الدَّبَّابَة

(2)

، وهو يسوقها. فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"صَحِبَهُما الله، إنَّ عثمانَ أولُ من هاجر بأهله بعد لوط عليه السلام".

قال ابن إسحاق

(3)

: وأبو حذيفة [بن عتبة، وزوجته سَهْلة بنت سُهيل بن عمرو -وولدت له بالحبشة محمد بن أبي حذيفة]

(4)

- والزُّبير بن العوَّام، ومُصْعَب بن عُمير، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو سَلَمة بن عبد الأسد، وامرأتُه أمُّ سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة -وولدت له بها زينب- وعثمان بن مَظْعُون، وعامر بن ربيعة -حليف آلِ الخطَّاب، وهو من بني عَنْز بن وائل وامرأته ليلى بنت أبي حَثْمة، وأبو سَبْرَة بن أبي رُهْم العامري، وامرأته أم كلثوم بنت سهيل بن عمرو- ويقال: أبو حاطب بن عمرو بن عبد شمس بن عبد وُدّ بن نَصْر بن مالك بن حِسْل بن عامر -وهو أوَّلُ مَنْ قدِمها فيما قيل- وسُهيل بن بَيْضاء.

فهؤلاء العشرة أولُ مَنْ خرج من المسلمين إلى أرض الحبشة فيما بلغني.

قال ابنُ هشام

(5)

: وكان عليهم عثمان بن مظعون، فيما ذكر بعضُ أهل العلم.

قال ابن إسحاق

(6)

: ثم خرج جعفر بن أبي طالب ومعه امرأته أسماء بنت عميس وولدت له بها عبد الله بن جعفر؛ وتتابع المسلمون حتى اجتمعوا بأرض الحبشة.

وقد زعم موسى بن عقبة أنَّ الهجرة الأولى إلى أرض الحبشة كانت حين دخل أبو طالب ومن حالفه مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إلى الشِّعْب، وفي هذا نظر. والله أعلم. وزعم أن خروج جعفر بن أبي طالب إنما كان في

(1)

في الدلائل (2/ 297).

(2)

أي الضعاف التي تدِبّ في المشي ولا تسرع. النهاية لابن الأثير (دبب).

(3)

في سيرة ابن هشام (1/ 322) والروض (2/ 70) وهو تتمة الخبر المروي في الصفحة السابقة، السير والمغازي (ص 223).

(4)

ما بين المعقوفين سقط من ح.

(5)

سيرة ابن هشام (1/ 323).

(6)

السير والمغازي (ص 226) وسيرة ابن هشام -واللفظ له- (1/ 323) والروض (2/ 70).

ص: 282

الهجرة الثانية إليها. وذلك بعد عَوْدِ بعض من كان خرج أولًا، حين بلغهم أنَّ المشركين أسلموا وصلَّوا، فلما قدموا مكة -وكان فيمن قدم عثمان بن مظعون- فلم يجدوا ما أُخبروا به من إسلام المشركين صحيحًا، فرجع من رجع منهم ومكث آخرون بمكة.

وخرج آخرون من المسلمين إلى أرض الحبشة، وهي الهجرة الثانية - كما سيأتي بيانُه.

قال موسى بن عقبة: وكان جعفر بن أبي طالب فيمن خرج ثانيًا. وما ذكره ابن إسحاق من خروجه في الرَّعِيل الأول أظهر كما سيأتي بيانه. والله أعلم. لكنه كان في زمرة ثانية من المهاجرين أولًا، وهو المقدَّم عليهم والمترجم عنهم عند النجاشي وغيره، كما سنوردُه مبسوطًا.

ثم إنَّ ابن إسحاق سرد الخارجين

(1)

صحبةَ جعفرٍ رضي الله عنهم. وهم عمرو بن سعيد بن العاص، وامرأته فاطمة بنت صفوان بن أمية بن مُحَرِّث بن شِقّ الكِنَاني. وأخوه خالد. وامرأتُه أُمينة

(2)

بنت خلف بن أسعد الخُزَاعي. وولدت له بها سعيدًا، وأُخْتَهُ

(3)

أَمَة التي تزوَّجها بعد ذلك الزُّبير، فولدت له عمرًا وخالدًا. قال: وعبد الله بن جَحْش بن رئاب، وأخوه عُبيد الله، ومعه امرأته أمّ حَبيبة بنت أبي سفيان، وقيس بن عبد الله من بني أسد بن خُزَيمة، وامرأته بَرَكة بنت يَسار مولاة أبي سفيان، ومُعَيقيب بن أبي فاطمة، وهو من موالي آلِ سعيد بن العاص

(4)

. قال ابن هشام: وهو من دَوْس. قال

(5)

: وأبو موسى [الأشعري] عبدُ الله بن قيس

(6)

حليفُ آلِ عتبة بن ربيعة -وسنتكلَّم معه في هذا- وعتبة بن غَزْوان، ويزيد بن زَمَعة بن الأسود، وعمرو بن أمية بن الحارث بن أسد، وطُليب بن عُمير بن وهب بن أبي كثير

(7)

بن عبد، وسُويبط بن سعد بن حَرْمَلة، وجَهْم بن قيس العَبْدَرِي

(8)

، ومعه امرأته أم حَرْمَلة بنت عبد الأسود بن جذيمة

(9)

، وولداه عمرو بن جَهْم وخزيمة

(10)

بن جهم، وأبو الرُّوم ابن عُمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار، وفِرَاس بن النَّضْر بن الحارث بن كَلَدة، وعامر بن أبي وقَّاص أخو سعد، والمطَّلب بن أزهر بن عبد عوف الزُّهْري، وامرأته رَمْلَة بنتُ أبي عوف بن

(1)

السير والمغازي (ص 226 - 228) وسيرة ابن هشام (1/ 323) واللفظ له.

(2)

قال ابن هشام في السيرة (1/ 323): ويقال همينة. نقل ذلك ابن حجر في الإصابة في ترجمتها.

(3)

سقطت اللفظة من ط، وهي مستدركة في هامش ح.

(4)

لفظ ابن هشام في السيرة النبوية هكذا: وهؤلاء آل سعيد بن العاص، سبعة نفر.

(5)

يعني ابن إسحاق في سيرة ابن هشام (1/ 324) وما يأتي بين معقوفين منه.

(6)

زادت نسخة ح: من بني أسد بن خزيمة وامرأته بركة. وهذه الزيادة أقحمها الناسخ سهوًا.

(7)

كذا في ط والروض (2/ 71) والاستيعاب والإصابة في ترجمته؛ وفي ح والسير والمغازي وسيرة ابن هشام "كبير" بالموحدة. ولم تذكره كتب ضبط الأسماء -كالإكمال والتبصير وغيرها- فيما أحصته من هذا الرسم.

(8)

في ح، ط: العبدوي، تحريف، وهو منسوب إلى عبد الدار كما في السيرة.

(9)

في ط: خزيمة، والمثبت من ح وسيرة ابن هشام، ولم أقف على نص يضبطه.

(10)

في ح: جذيمة، تصحيف، والمثبت من سيرة ابن هشام والإصابة في ترجمته.

ص: 283

ضبَيرَة

(1)

؛ وولدت بها عبد الله. وعبد الله بن مسعود، وأخوه عتبة، والمقداد بن الأسود، والحارث بن خالد بن صَخر التَّيْمي، وامرأته رَيْطة بنت الحارث بن جُبيلة

(2)

، وولدت له بها موسى وعائشة وزينب وفاطمة. وعمرو بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تَيْم بن مرة، وشماس بن عثمان بن الشَّريد المخزومي -قال وإنما سمي شَمَّاسًا لحُسْنه وأصل اسمه عثمان بن عثمان- وهبار بن سفيان بن عبد الأسد المخزومي، وأخوه عبد الله، وهشام بن أبي حُذيفة بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وسلمة بن هشام بن المغيرة، وعياش بن أبي ربيعة بن المغيرة؛ ومُعَتِّب بن عوف بن عامر -ويقال له عيهامة

(3)

- وهو من حلفاء بني مخزوم. قال: وقدامة وعبد الله أخوا عثمانَ بن مَظْعون، والسائب بن عثمان بن مظعون، وحاطب بن الحارث بن معمر، ومعه امرأته فاطمة بنت المجلَّل، وابناه منها محمد والحارث، وأخوه حطَّاب

(4)

، وامرأته فُكيهة بنت يسار، وسفيان بن معمر بن حبيب، وامرأته حسَنة، وابناهُ منها جابر وجُنَادة، وابنها من غيره، وهو شُرَحْبِيل بن عبد الله -[أحد الغَوْث بن مُرّ، أخي تميم بن مُرّ]

(5)

، وهو الذي يقال له: شُرَحْبيل بن حَسَنة -وعثمان بن ربيعة بن أُهبان بن وَهْب بن حُذَافة بن جمح، وخُنَيس بن حُذَافة بن قيس بن عدي، وعبد الله بن الحارث بن قيس بن عدي بن سَعْد

(6)

بن سهم، وهشام بن العاص بن وائل بن سُعيد

(7)

، وقيس بن حذافة بن قيس بن عدي، وأخوه عبد الله، وأبو قيس بنُ الحارث بن قيس بن عدي، وإخوته الحارث ومعمر والسائب وبشر وسعيد أبناء الحارث

(8)

بن قيس بن عدي [وأخو بشر بن الحارث بن قيس بن عدي]

(9)

لأمِّه، وهو سعيد بن عمرو التميمي؛ وعُمير بن رئاب بن حُذيفة بن

(1)

في ح: صبيرة بالصاد المهملة. ذكر محقق الاشتقاق لابن دريد في حاشية رقم (3) ص (125) معلقًا على هذا الاسم ما نصه: رسم في الأصل بالضاد المعجمة وتحتها حرف صاد مهملة، وفوق الحرف كلمة: معًا، إشارة إلى أنه بالصاد والضاد معًا.

(2)

في سيرة ابن هشام والروض: جبلة.

(3)

كذا في ح، ط: وسيرة ابن هشام، وفي السير والمغازي: عيهلة، وفي الإصابة ميعانة. ولم أقف على نص يضبطه.

(4)

في ح، ط: خطاب بالخاء المعجمة، والمثبت من سيرة ابن هشام والإكمال (3/ 163).

(5)

ليس ما بين المعقوفين في ح، وتحرّف في ط إلى: أحد الغوث بن مزاحم بن تميم، والمثبت من سيرة ابن هشام والروض.

(6)

في ح، ط وأصول ابن هشام: سعيد وهو تحريف، والمثبت من جمهرة الأنساب لابن حزم ص (165) وترجمته في الإصابة.

(7)

غيَّر محققو سيرة ابن هشام أصول السيرة من سُعيد إلى سعد وهو خطأ لأن هشامًا وعمرًا هما ابنا سُعيد لا سَعْد.

جمهرة الأنساب لابن حزم (ص 163).

(8)

بعده في ط: وسعيد. ولا وجود له في ح وهو الصواب كما يدل عليه سياق ابن هشام في السيرة.

(9)

ما بين المعقوفين ليس في ط وهو من ح ولكن بتحريف الكلمة الأولى إلى: وأبو والتصحيح من سيرة ابن هشام (1/ 328).

ص: 284

مُهشِّم بن سُعَيد

(1)

بن سهم، وحليفٌ لبني سَهْم: وهو مَحْميةُ بن جَزْء الزُّبَيدي، ومعمر بن عبد الله العدوي، وعروة بن عبد العُزَّى، وعدي بن نَضْلة بن عبد العزَّى، وابنه النعمان، وعبد الله بن مَخْرمة العامري، وعبد الله بن سُهيل بن عمرو، وسَليط بن عمرو، وأخوه السكران، ومعه زوجته سَوْدَة بنت زَمْعَة، ومالك بن زَمْعَة

(2)

، وامرأته عمرة بنت السَّعْدِيّ، وأبو حاطب بن عمرو العامريُّون وحليفُهم سعد بن خولة -وهو من اليمن- وأبو عبيدة عامر بن عبد الله بن الجرَّاح الفِهري، وسهيل بن بَيْضاء -وهي أمُّه- واسمها دعد بنت جَحْدَم بن أميَّة بن ظَرِب بن الحارث بن فِهْر، وهو سهيل بن وَهْب بن ربيعة بن هلال بن ضَبَّة

(3)

بن الحارث، وعمرو بن أبي سَرْح بن ربيعة بن [هلال بن مالك بن ضبة بن الحارث]

(4)

، وعياض بن زهير بن أبي شداد بن ربيعة بن [أُهَيب بن ضبَّة بن الحارث]

(5)

ويقال: بل [ربيعة بن](8) هلال بن مالك بن ضبَّة، وعمرو بن الحارث بن زهير بن أبي شداد بن ربيعة، وعثمان بن عبد غَنْم بن زُهير

(6)

، وسعد

(7)

بن عبد قيس بن لَقِيط، وأخوه الحارث الفهريون.

قال ابن إسحاق

(8)

: فكان جميعُ من لَحِق بأرض الحبشة وهاجر إليها من المسلمين سوى أبنائهم الذين خرجوا بهم صغارًا أو ولدوا بها -ثلاثةً وثمانين رجلًا إنْ كان عمار بن ياسر فيهم، وهو يُشَكُّ فيه.

قلت: وذِكْرُ ابن إسحاق أبا موسى الأشعري فيمَنْ هاجر من مكة إلى أرض الحبشة غريبٌ جدًّا. وقد قال الإمام أحمد

(9)

: حدثنا حسن بن موسى، سمعتُ حُدَيجًا

(10)

أخا زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق

(1)

غيَّر محققو سيرة ابن هشام أصول السيرة من: سُعيد إلى سعد وهو خطأ لأن عميرًا من ولد سُعَيد لا من ولد سعد جمهرة الأنساب لابن حزم (ص 163 و 164) وترجمته في الإصابة.

(2)

في ح، ط: ربيعة، تحريف، والمثبت من سيرة ابن هشام وجمهرة أنساب العرب (ص 166) وترجمته في الإصابة.

(3)

في ح وسيرة ابن هشام: هلال بن أهيب بن ضبة. وأظنه تحريفًا، والصواب: هلال بن مالك بن ضبة. كما في جمهرة ابن حزم (ص 177) وترجمة سهل وسهيل ابني بيضاء في الإصابة.

(4)

ليس ما بين المعقوفين في ح والمثبت من ط وسيرة ابن هشام (1/ 330) وفيه: أهيب بدل: مالك. وقد نبه ابن هشام على هذا الخلاف.

(5)

ما بين معقوفين سقط من ح، ط استدركته من سيرة ابن هشام لأنه بيَّن فيه الخلاف بين مالك وأهيب، وما جعلته خارج المعقوفين هو من ح.

(6)

زادت ط هنا لفظ: أخوات. أو أخوان. وليست هذه الزيادة في ح ولا في سيرة ابن هشام، وهي إقحام من النساخ ليزيلوا الاضطراب بين النسخ المشار إليه آنفًا.

(7)

في ط: سعيد، والمثبت من ح وسيرة ابن هشام وجمهرة الأنساب لابن حزم (ص 178)، ويبدو أن ثمة اختلافًا فيه فقد أورده ابن حجر في الإصابة في رسم: سعد وعزا إلى رسم: سعيد. وترجمه فيه.

(8)

في السير والمغازي (ص 228) وسيرة ابن هشام (1/ 330) -واللفظ له- والروض (2/ 75).

(9)

في مسنده (1/ 461).

(10)

في ح، ط: خديجًا بالخاء المعجمة، وهو تصحيف، والمثبت من مسند أحمد والإكمال (2/ 396).

ص: 285

عن عبد الله بن عتبة، عن ابن مسعود قال: بَعَثَنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي، ونحن نَحْوٌ من ثمانين رجلًا، فيهم عبد الله بن مسعود، وجعفر، وعبد الله بن عُرْفُطَة، وعثمان بن مَظْعون، وأبو موسى، فأتَوْا النجاشيّ، وبعثتْ قريش عمرَو بن العاص وعُمارةَ بن الوليد بهديَّة، فلما دخلا على النجاشي سجدا له ثم ابتدراه عن يمينه وعن شماله، ثم قالا له: إنَّ نفرًا من بني عمِّنا نزلوا أرضك ورَغِبوا عنَّا وعن مِلَّتنا. قال فأين هم؟ قالا: في أرضك، فابعثْ إليهم. فبعَثَ إليهم، فقال جعفر: أنا خطيبكُم اليوم فاتَّبعوه، فسلَّم ولم يسجُد، فقالوا له: مالك لا تسجدُ للملك؟ قال إنَّا لا نسجدُ إلَّا لله عز وجل، قال وما ذاك؟ قال إنَّ اللهَ بعثَ إلينا رسولًا، فأمرنا أنْ لا نسجدَ لأحَدٍ إلَّا للهِ عز وجل، وأمرَنا بالصلاة والزكاة. قال عمرو: فإنَّهم يخالفونكَ في عيسى بنِ مريم، قال: ما تقولونَ في عيسى بن مريم وأمِّه؟ قال: نقول كما قال الله: هو كلمة الله ورُوحُه، ألقاها إلى العذراءِ البَتُول، التي لم يمسَّها بشَر، ولم يَفْرِضْها ولد

(1)

. قال: فرفع عُودًا من الأرض ثم قال: يا معشر الحبشةِ والقِسِّيسينَ والرُّهْبان، والله ما يزيدون على الذي نقول فيه ما سوى

(2)

هذا، مرحبًا بكم وبمن جئتُم من عنده، أشهدُ أنَّه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأنَّه الذي نجِدُ في الإنجيل، وأنه الرسولُ الذي بشَّرَ به عيسى بن مريم، انزلوا حيثُ شتم، والله لولا ما أنا فيه من الملك لأتَيْتُه حتى أكونَ أنا الذي

(3)

أحملُ نَعلَيْه. وأمر بهديَّة الآخرين فرُدَّتْ إليهما، ثم تعجَّل عبد الله بن مسعود حتى أدرك بدرًا. وزعم أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم استغفر له حين بلغَهُ موتُه.

وهذا إسنادٌ جيد قوي، وسياقٌ حسن

(4)

. وفيه ما يقتضي أنَّ أبا موسى كان ممن هاجر من مكة إلى أرض الحبشة، إنْ لم يكن ذِكْره مدرجًا من بعض الرواة والله أعلم. وقد رُوي عن أبي إسحاق السَّبيعي من وجهٍ آخر.

فقال الحافظ أبو نعيم في "الدلائل"

(5)

: حدثنا سليمان بن أحمد، حدَّثنا محمد بن زكرياء

(1)

كذا في ح، ط ومسند أحمد، وفي النهاية لابن الأثير (فرض): وفي صفة مريم عليها السلام: لم يفترضها ولد. أي لم يؤثر فيها ولم يحزَّها، يعني قبل المسيح عليه السلام. وجاء في اللسان: والفرْض: الحزُّ في الشيء والقطع. وسيأتي في موضع الحاشية (9) من الصفحة التالية.

(2)

في المسند: ما يسوى.

(3)

ليست اللفظة في ح ولا المسند.

(4)

قال بشار: هكذا جَوَّد المصنف إسناده، وحَسَّنه الحافظ في الفتح (7/ 189)، وفي إسناده حُدَيْج بن معاوية ضعفه أبو زرعة الرازي وأبو داود والنسائي وابن سعد وابن ماكولا، وقال البخاري: يتكلمون في بعض حديثه، وقال ابن حبان في المجروحين: منكر الحديث كثير الوهم على قلة روايته، وقال الدارقطني: يغلب عليه الوهم، ولم يحسن القول فيه سوى أحمد، وقال أبو حاتم: محله الصدق، في بعض حديثه وهم، يكتب حديثه. يعني للاعتبار في الشواهد والمتابعات. فمثل هذا لا يحتمل التفرد (وتنظر ترجمته في تهذيب الكمال (5/ 488 - 490)، وتحرير التقريب 1/ 256).

(5)

دلائل النبوة (1/ 330) وليس فيه من هذه الأسانيد إلا الأخير، وأما الأول هذا فقد رواه أبو نعيم في الحلية =

ص: 286

الغَلابي

(1)

، حدَّثنا عبد الله بن رجاء، حدّثنا إسرائيل ح وحدَّثنا سليمان بن أحمد، حدّثنا [محمد بن زكريا، حدَّثنا الحسن]

(2)

بن علَّويه القطَّان، حدَّثنا عباد

(3)

بن موسى الخُتَّلي، حدّثنا إسماعيل بن جعفر، حدّثنا إسرائيل ح

(4)

وحدَّثنا أبو أحمد، حدَّثنا عبد الله بن محمد بن شيرويه، حدَّثنا إسحاق بن إبراهيم -هو ابن راهويه- حدَّثنا عبيد الله

(5)

بن موسى، حدَّثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي بردة، عن أبي موسى. قال: أمرنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أنْ ننطلق مع جعفر بن أبي طالب إلى أرضِ النجاشيّ، فبلغ ذلك قريشًا، فبعثوا عمرو بن العاص وعُمارة بن الوليد، وجمعوا للنجاشيِّ هدية، وقدما على النجاشي فأتياه بالهدية، فقبلها، وسجدَا له، ثم قال عمرو بن العاص: إنَّ ناسًا من أرضنا رَغِبوا عن ديننا وهم في أرضك. قال لهم النجاشي: في أرضي؟ قالا: نعم! فبعث إلينا، فقال لنا جعفر: لا يتكلَّمْ منكم أحد، أنا خطيبُكم اليوم، فانتهينا إلى النجاشي، وهو جالسٌ في مجلسه وعمرو بن العاص عن يمينه، وعُمارة عن يساره. والقسِّيسُونَ جلوسٌ سماطَيْن. وقد قال لهم عمرو وعُمارة: إنهم لا يسجدون لك. فلما انتهينا بدرَنا مَنْ عندَهُ من القسِّيسينَ والرُّهبان: اسجدوا للملك. فقال جعفر: لا نسجدُ إلا لله عز وجل. [فلما انتهينا إلى النجاشي قال: ما منعك أن تسجد؟ قال: لا نسجدُ إلا لله]

(6)

. فقال له النجاشي: وما ذاك؟ قال: إنَّ الله بعث فينا رسولًا - وهو الرسولُ الذي بشَّرَ به عيسى ابنُ مريم عليه الصلاة والسلام

(7)

: {مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} فأمرنا أنْ نعبدَ اللهَ ولا نشركَ به شيئًا، [ونقيمَ الصلاة]

(8)

، ونؤتي الزكاة، وأمرنا بالمعروف، ونهانا عن المنكر. فأعْجَبَ النجاشيَّ قولُه، فلما رأى ذلك عمرو بن العاص، قال: أصلح الله الملك إنهم يخالفونك في عيسى ابن مريم، فقال النجاشي لجعفر: ما يقولُ صاحبُكم في ابن مريم؟ قال: يقول فيه قول الله: هو رُوْحُ الله وكلمته، أخرجه من العذراء البَتُول التي لم يَقْرَبْها بشر، ولم يَفْتَرِضْها ولد

(9)

: فتناول النجاشيُّ عُودًا من الأرض فرفعه فقال: يا معشر القسِّيسينَ والرُّهْبان، ما يزيد

(10)

هؤلاء على ما نقول في ابن مريم ولا وزْنَ هذه.

= (1/ 114). وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 31) وقال: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح.

(1)

الغَلَابي بالتخفيف كما في اللباب (2/ 395).

(2)

ما بين المعقوفين ليس في ح وبدلًا عنه: سليمان.

(3)

في ح: عباس بن موسى. وهو تحريف.

(4)

هذا الإسناد في دلائل أبي نعيم المشار إليه في الحاشية (1).

(5)

في دلائل أبي نعيم: عبد الله. تحريف، والمثبت من ح وترجمته في سير أعلام النبلاء (9/ 553) وتذكرة الحفاظ (1/ 353).

(6)

ليس ما بين المعقوفين في ح ولا دلائل أبي نعيم ولا الحلية، وانفردت به ط.

(7)

زاد في الحلية: قال. والآية (6) من سورة الصف.

(8)

ليس ما بين المعقوفين في ح.

(9)

في ح، ط: يفرضها، والمثبت من الحلية (1/ 115).

(10)

في ح، ط: ما يزيدون، والمثبت من الحلية.

ص: 287

مرحبًا بكم وبمن جئتُم من عنده، فأنا أشهد أنه رسول الله، وأنه الذي بشَّرَ به عيسى، ولولا ما أنا فيه من الملك لأتيتُه حتى أقبِّل نعلَيْه؛ امكثوا في أرضي ما شتئم، وأمر لنا بطعام وكسوة وقال: ردُّوا على هذَيْن هديتَهما.

وكان عمرو بن العاص رجلًا قصيرًا، وكان عُمارة رجلًا جميلًا، وكانا أقبلا في البحر، فشربا ومع عمرو امرأتُه، فلما شربا قال عمارة لعمرو مُرِ امرأتك فلْتقبِّلني. فقال له عمرو: ألا تستحي؟ فأخذ عُمارة عَمْرًا فرَمَى به في البحر، فجعل عمرو: يناشد عمارة حتى أدخله السفينة، فحقد عليه عمرٌو في ذلك. فقال عمرو للنجاشي: إنك إذا خرجت خَلَفَ

(1)

عُمارةُ في أهلك

(2)

، فدعا النجاشيُّ بعمارة، فنفخ في إحليله، فطار مع الوحش.

وهكذا رواه الحافظ البيهقي في الدلائل

(3)

من طريق أبي علي الحسن بن سلام السوَّاق، عن عبيد الله بن موسى، فذكر بإسناده مثلَه، إلى قوله: فأمر لنا بطعامٍ وكسوة. قال: وهذا إسنادٌ صحيح، وظاهرهُ يدلُّ على أنَّ أبا موسى كان بمكة، وأنه خرج مع جعفر بن أبي طالب إلى أرض الحبشة، والصحيح عن يزيد بن عبد الله بن أبي بُرْدَة، عن جدِّه أبي بُردة، عن أبي موسى: أنهم بلغهم مَخْرَجُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وهم باليمن فخرجوا مهاجرين في بضعٍ وخمسين رجلًا في سفينة، فألْقَتْهم سفينَتُهم إلى النجاشيِّ بأرضِ الحبشة، فوافقوا جعفر بن أبي طالب وأصحابَهُ عندهم

(4)

، فأمره

(5)

جعفر بالإقامة، فأقاموا عنده حتى قدموا على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم زمنَ خيبر. قال: وأبو موسى شهِدَ ما جرى بين جعفر وبين النجاشي، فأخبر عنه. قال: ولعلَّ الراوي وهَم في قوله: أمرنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن ننطلق؛ والله أعلم.

وهكذا رواه البخاري في باب هجرة الحبشة

(6)

: حدَّثنا محمد بن العلاء، حدَّثنا أبو أسامة، حدَّثنا بُرَيْدُ

(7)

بن عبد الله عن أبي بُرْدَة، عن أبي موسى قال: بلَغَنا مَخْرَجُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ونحن باليمن، فركبنا سفينةً، فألقَتْنا سفينتُنا إلى النجاشي بالحبشة، فوافَقْنا جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، فأقمنا معه حتى قدِمْنا، فوافَيْنا

(8)

النبيَّ صلى الله عليه وسلم حين افتتح خَيْبَر، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"لكم أنتم أهلَ السفينةِ هجرتان". وهكذا

(1)

في ط: خلفك، والمثبت من ح ومن دلائل أبي نعيم.

(2)

في ح: في الملك.

(3)

دلائل النبوة للبيهقي (2/ 299).

(4)

في دلائل البيهقي: عنده.

(5)

في دلائل البيهقي: فآمرهم.

(6)

فتح الباري (3876) مناقب الأنصار باب هجرة الحبشة.

(7)

في ح، ط: يزيد. وهو تصحيف، والمثبت من فتح الباري وترجمته في تهذيب الكمال (4/ 50).

(8)

كذا في ح، ط وفي فتح الباري: فوافقنا.

ص: 288

رواه مسلم

(1)

عن أبي كُريب وأبي عامر عبد الله بن بَراد [بن يوسف بن أبي بُردة بن أبي موسى]

(2)

كلاهما عن أبي أسامة به، وروياه في مواضع أُخر مطولًا. والله أعلم.

وأما قصة جعفر مع النجاشي فإنَّ الحافظ ابن عساكر رواها في ترجمة جعفر بن أبي طالب من "تاريخه"

(3)

من رواية نفسه، ومن رواية عمرو بن العاص. وعلى يديهما جرى الحديث، ومن رواية ابن مسعود كما تقدم. وأم سلمة كما سيأتي. فأما رواية جعفر فإنها عزيزة جدًّا. رواها ابن عساكر عن أبي القاسم [السمرقندي، عن أبي الحسين بن النقُّور، عن أبي طاهر المخلِّص، عن أبي القاسم]

(4)

البَغَوِي، قال: حدَّثنا أبو عبد الرحمن الجُعْفي، عن عبد الله بن عمر

(5)

بن أبان، حدَّثنا أسد بن عمرو البَجَلي، عن مجالد بن سعيد، عن الشعبي، عن عبد الله بن جعفر، عن أبيه. قال: بعثتْ قريشٌ عمرَو بن العاص وعُمارةَ بن الوليد بهديَّةٍ من أبي سفيان إلى النجاشي. فقالوا له -ونحن عنده-: قد صار إليك ناسٌ من سَفِلَتِنا وسفهائنا، فادْفَعْهم إلينا. قال: لا، حتى أسمعَ كلامهم. قال: فبعث إلينا فقال: ما يقولُ هؤلاء؟ قال: قلنا هؤلاء قوم يعبدونَ الأوثان، وإن الله بعث إلينا رسولًا فآمنا به وصدَّقناه. فقال لهم النجاشي: أعبيدٌ هم لكم؟ قالوا: لا. فقال: فلكم عليهم دَيْن؟ قالوا: لا. قال: فخلُّوا سبيلَهم. قال: فخرجْنا من عنده، فقال عمرو ابن العاص: إنَّ هؤلاء يقولونَ في عيسى غيرَ ما تقول، قال: إنْ لم يقولوا في عيسى مثل قولي لم أدَعْهم في أرضي ساعةً من نهار. فأرسل إلينا، فكانتِ الدعوةُ الثانية أشدَّ علينا من الأولى. قال: ما يقولُ صاحبُكم في عيسى ابن مريم؟ قلنا: يقول: هو رُوْحُ الله وكلمتُه ألقاها إلى عذراء بَتُول، قال: فأرسل، فقال: ادعوا لي فلانًا القسّ، وفلانًا الراهب. فأتاهُ ناسٌ منهم فقال: ما تقولون في عيسى ابن مريم؟ فقالوا: أنت أعلمنا، فما تقول؟ قال النجاشي -وأخذ شيئًا من الأرض- قال: ما عَدَا عيسى ما قال هؤلاء مثل هذا، ثم قال أيؤذيكم أحد؟ قالوا: نعم، فنادى منادٍ: مَنْ آذى أحدًا منهم فأغرموه أربعةَ دراهم. ثم قال: أيكفيكُم؟ قلنا: لا، فأضعفها. قال: فلما هاجر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وظهر [بها قلنا له: إنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قد ظهر وهاجر إلى المدينة]

(6)

، وقتل الذين كنَّا حدثناك عنهم، وقد أردْنا الرحيلَ إليه، فزوِّدْنا

(7)

قال: نعم! فحملنا وزوَّدنا. ثم قال: [أخبرْ صاحبَك بما صنعتُ إليكم، وهذا صاحبي معكم أشهدُ أنْ لا إله إلا الله

(1)

في صحيحه (2502)(169) فضائل الصحابة باب من فضائل جعفر بن أبي طالب وأسماء بنت عميس.

(2)

ما بين معقوفين ليس في ح.

(3)

سقطت ترجمة جعفر من النسخ المتبقية من تاريخ ابن عساكر والتي تحتفظ بها خزانة مجمع اللغة العربية بدمشق إلا أنها لم تسقط من مختصر ابن منظور للتاريخ، وهذا الخبر بالذات لم يذكره ابن منظور في مختصره.

(4)

ما بين المعقوفين ليس في ح.

(5)

في ح: عمرو.

(6)

ما بين المعقوفين سقط من ح.

(7)

في ط: فردنا. والمثبت من ح.

ص: 289

وأنَّهُ رسولُ الله، وقل له يستغفر لي. قال]

(1)

جعفر: فخرجْنا حتى أتينا المدينة، فتلقَّاني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم واعتنقني، ثم قال:"ما أدْري أنا بفتحِ خيبرَ أفرحُ أمْ بقدومِ جعفر؟ "

(2)

. ووافق ذلك فتحَ خيبر، ثم جلس، فقال رسول النجاشي: هذا جعفر فسلْه ما صنَعَ به صاحبُنا؟ فقال: نعم، فعل بنا كذا وكذا وحمَلَنا وزوَّدَنا، وشهد أنْ لا إله إلا الله وأنك رسول الله. وقال لي: قل له يستغفر لي. فقام رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فتوضأ، ثم دعا ثلاثَ مرَّات:"اللهمَّ اغْفِرْ للنجاشي" فقال المسلمون: آمين. ثم قال جعفر: فقلتُ للرسول: انطلقْ فأخبرْ صاحبَك بما رأيتَ من رسولِ الله صلى الله عليه وسلم.

ثم قال ابن عساكر: حسنٌ غريب.

وأما رواية أمِّ سلمة فقد قال يونس بن بُكَير، عن محمد بن إسحاق

(3)

: حدَّثني الزُّهْري عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن حارث بن هشام، عن أمِّ سلمة رضي الله عنها. أنها قالت: لما ضاقت علينا مكة، وأُوذيَ أصحابُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وفُتنوا ورأوا ما يصيبُهم من البلاء والفتنة في دينهم، وأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستطيعُ دفعَ ذلك عنهم، وكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في مَنَعةٍ من قومه ومن عمِّه، لا يصلُ إليه شيء مما يكره ومما ينالُ أصحابُه، فقال لهم رسولُ الله-صلى الله عليه وسلم:"إنَّ بأرضِ الحَبَشَةِ مَلِكًا لا يُظلم أحدٌ عنده، فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجًا ومخرجًا مما أنتم فيه "فخرجنا إليها أرسالًا حتى اجتمعنا بها، فنزلنا بخيرِ دارٍ إلى خير جار، آمنين على ديننا، ولم نخش فيها ظلمًا.

فلما رأتْ قريشٌ أنا قد أصَبْنا دارًا وأمْنًا، [غاروا مِنَّا]

(4)

، فاجتمعوا على أنْ يبعثوا إلى النجاشي فينا ليخرجونا من بلاده وليردَّنا عليهم، فبعثوا عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة، فجمعوا له هدايا ولبطارقته، فلم يدعوا منهم رجلًا إلا هيَّؤوا له هدية على حدة، وقالوا لهما: ادفعوا إلى كل بِطْرِيقٍ هديتَهُ قبل أن تتكلَّموا فيهم، ثم ادفعوا إليه هداياه، فإن استطعتم أن يردَّهم عليكم قبل أن يكلمهم فافعلوا. فقدما عليه فلم يبقَ بطريقٌ من بطارقته إلا قدَّموا إليه هديته، فكلَّموه فقالوا له: إنما قدِمنا على هذا الملك في [سفهاء من]

(5)

سفهائنا، فارقوا أقوامهم في دينهم، ولم يدخلوا في دينكم. فبعثنا قومهم ليردَّهم الملك عليهم، فإذا نحن كلَّمناه فأشيروا عليه بأن يفعل. فقالوا: نفعل. ثم قدَّموا إلى النجاشي هداياه،

(1)

ما بين المعقوفين سقط من ح.

(2)

سيأتي تخريج الحديث في (ص 296 ح 4).

(3)

السير والمغازي (ص 213) واللفظ له، وسيرة ابن هشام (1/ 334) والروض (2/ 87) وأخرجه البيهقي في الدلائل (2/ 301) عن الحاكم وأحمد بن الحسن القاضي وأبي سعيد بن ابي عمرو عن الأصم عن أحمد بن عبد الجبار عن يونس به. وأخرجه أبو نعيم في دلائل النبوة (194) عن محمد بن أحمد حدثنا عبد الله بن محمد بن شيرويه حدثنا إسحاق بن إبراهيم حدثنا وهب بن جرير عن جرير عن محمد بن إسحاق به.

(4)

ليس ما بين المعقوفين في مصادر الخبر.

(5)

ما بين معقوفين من مصادر الخبر.

ص: 290

وكان من أحبِّ ما يُهْدُون إليه من مكة الأدَم -وذكر موسى بن عُقبة أنَّهم أهدَوْا إليه فرسًا وجُبَّةَ ديباج- فلما أدخلوا عليه هداياه قالوا له: أيها الملك، إنَّ فتية منا سفهاء فارقوا دينَ قومهم ولم يدخلوا في دينك، وجاؤوا بدينٍ مبتدَعٍ لا نعرفُه، وقد لجؤوا إلى بلادك، فبَعَثَنا إليك فيهم عشائرُهم، آباؤهم وأعمامُهم وقومُهم لتردَّهم عليهم، فإنهم أعْلَى بهم عينًا

(1)

، [فقالت بطارقته: صدقوا أيها الملك، لو رددتهم عليهم كانوا هم أعلى بهم عينًا]

(2)

، فإنهم لن

(3)

يدخلوا في دينك فتمنعهم لذلك. فغضب ثم قال: لا لعمر الله، لا أردُّهم عليهم حتى أدعوَهم، فأكلمهم وأنظر ما أمْرُهم، قوم لجؤوا إلى بلادي، واختاروا جِوَاري على جوار غيري، فإنْ كانوا كما يقولون رددتُهم عليهم، وإنْ كانوا على غير ذلك منعتُهم ولم أدخلْ بينهم وبينهم، ولم أنعم عينًا.

[وذكر موسى بن عقبة أنَّ أمراءَه أشاروا عليه بأن يردَّهم إليهم. فقال: لا والله! حتى أسمع كلامهم، وأعلم على أيِّ شيءٍ هم عليه؟ فلما دخلوا عليه سلَّموا ولم يسجدوا له، فقال: أيُّها الرَّهْط، ألا تحدِّثوني، ما لكم لا تحيُّوني كما يُحَيِّيني مَنْ أتانا من قومكم؟! فأخبروني ماذا تقولونَ في عيسى وما دينكم؟ أنَصَارَى أنتم؟ قالوا: لا. قال: أفيهودُ أنتم؟ قالوا: لا. قال: فعلى دينِ قومكم؟ قالوا: لا. قال: فما دينُكم؟ قالوا: الإسلام. قال: وما الإسلام؟ قالوا: نعبدُ الله لا نشركُ به شيئًا. قال: مَنْ جاءكم بهذا؟ قالوا: جاءنا به رجلٌ من أنفسنا، قد عرفْنا وجهه ونسَبَه، بعثه الله إلينا كما بعث الرُّسلَ إلى مَنْ قبلنا، فأمَرَنا بالبِرِّ والصدَقة، والوفاء، وأداءِ الأمانة. ونهانا أن نعبدَ الأوثان، وأمَرَنا بعبادةِ الله وَحْدَه لا شريك له، فصدَّقْناه، وعرَفْنا كلامَ الله، وعلمنا أنَّ الذي جاءَ به من عند الله، فلما فعلنا ذلك عادانا قومُنا، وعادوا النبيَّ الصادقَ وكذَّبوه، وأرادوا قتله، وأرادونا على عبادةِ الأوثان، ففرَرْنا إليك بديننا ودمائنا من قومنا. قال: والله إن هذا لمن المِشْكاة التي خرج منها أمْر موسى. قال جعفر: وأمَّا التحيَّة فإنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أخبرَنا أنَّ تحيَّةَ أهلِ الجنة السلام، وأمَرَنا بذلك فحيَّيْناكَ بالذي يُحَيِّي بعضُنا بعضًا. وأما عيسى ابنُ مريم فعبدُ الله ورسولُه وكلمته ألقاها إلى مريم وروحٌ منه، وابنُ العذراء البَتُول. فأخَذَ عودًا وقال: والله ما زاد ابنُ مريم على هذا وزن هذا العُود. فقال عظماء الحبشة: والله لئن سمعتِ الحبشةُ لتخلعنَّك. فقال: والله لا أقول في عيسى غير هذا أبدًا. وما أطاعَ اللهُ الناسَ فيَّ حين ردَّ عليَّ ملكي فأطع

(4)

الناسَ في دين الله. معاذ الله من ذلك. وقال يونس عن ابن إسحاق:]

(5)

.

فأرسل إليهم النجاشيُّ فجمعهم، ولم يكن شيءٌ أبغضَ لعمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة

(1)

"أعلى بهم عينًا": أي أبصرُ بهم وأعلمُ بحالهم. اللسان (علو).

(2)

ما بين معقوفين مستدرك من مصادر الخبر.

(3)

في السير ودلائل البيهقي: لم.

(4)

كذا، والصواب: فأطيع، كما سيأتي (ص 295 س 3).

(5)

هنا تتمة الخبر، وما بين معقوفين ليس في ح ولا في مصادر الخبر المشار إليها في الحاشية (4) من الصفحة السابقة.

ص: 291

من أن يسمعَ كلامهم. فلما جاءهم رسولُ النجاشي اجتمع القومُ فقالوا: ماذا تقولون؟ فقالوا: وماذا نقول، نقول والله ما نعرف. وما نحن عليه من أمْرِ ديننا، وما جاء به نبيُّنا صلى الله عليه وسلم كائنٌ من ذلك ما كان، فلما دخلوا عليه كان الذي يكلِّمُه منهم جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه. فقال له النجاشي: ما هذا الدينُ الذي أنتم عليه؟ فارقتم دين قومكم ولم تدخلوا في يهودية، ولا نصرانيَّة. فقال له جعفر: أيها الملك، كنَّا قومًا على الشِّرْك نعبدُ الأوثان، ونأكلُ المَيْتة، ونُسيءُ الجِوار، ونستحلُّ

(1)

المحارم، بعضُنا من بعض في سفك الدماء وغيرها، لا نحلُّ شيئًا ولا نحرِّمه، فبعث الله إلينا نبيًّا من أنفسنا، نعرف وفاءه وصدقه وأمانته، فدعانا إلى أنْ نعبد الله وحدَهُ لا شريكَ له ونَصِلَ الأرحام ونحمي

(2)

الجوار ونصلِّيَ للهِ عز وجل، ونصومَ له، ولا نعبدَ غيرَه.

وقال [زياد عن ابن إسحاق: فدعانا إلى الله لنوحِّدَه ونعبده ونخلعَ ما كنا نعبدُ نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدْقِ الحديث، وأداءِ الأمانة، وصِلَةِ الأرْحام، وحسن الجوار، والكفِّ عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقَوْل الزُّور، وأكْلِ مال اليتيم، وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبدَ الله ولا نشرك به شيئًا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام قال -فعدُّوا عليه أمورَ الإسلام- فصدَّقْناه وآمنَّا به، واتبعناه على ما جاء به من عند الله، فعبَدْنا الله وحده لا شريك له ولم نشركْ به شيئًا، وحرَّمْنا ما حرَّم علينا، وأحْلَلْنا ما أحلَّ لنا، فعَدَا علينا قومُنا فعذَّبُونا ليفتنونا عن ديننا ويردُّونا إلى عبادةِ الأوثان عن عبادة الله، وأن نستحلَّ ما كنَّا نستحلُّ من الخبائث؛ فلما قهرونا وظلمونا وضيَّقُوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجْنا إلى بلادِك واخترناك على مَنْ سواك ورغبنا في جوارِك ورجَوْنا أن لا نُظْلَم عندك أيها الملك.

قالت

(3)

: فقال النجاشي]

(4)

: هل معك شيءٌ مما جاء به؟ وقد دعا أساقفته فأمرهم فنشروا المصاحفَ حوله. فقال له جعفر: نعم. قال: هلمَّ فاتْلُ عليَّ مما جاء به، فقرأ عليه صدرًا من كهيعص، فبكى والله النجاشي حتى اخضلَّتْ لحيتُه، وبكتْ أساقفتُه حتى أخْضَلُوا مصاحفهم. ثم قال: إنَّ هذا الكلام ليخرج من المشْكاة التي جاء بها موسى

(5)

، انطلقوا راشدين، لا والله لا أردُّهم عليكم ولا أُنْعِمُكم عينًا

(6)

. فخرجْنا من عنده وكان أتقى الرجلَيْن فينا عبد الله بن أبي ربيعة؛ فقال عمرو بن

(1)

في ح: ونحل، وفي ط: يستحل، والمثبت من السير والدلائل.

(2)

في مصادر الخبر: ونحسن.

(3)

يعني أم سلمة كما جاء في أول الخبر.

(4)

ما بين المعقوفين ليس في مصادر الخبر المذكورة في ح (3) ص (290).

(5)

في بعض نسخ سيرة ابن هشام ودلائل البيهقي: عيسى.

(6)

أي: لا أجعل أعينكم تقرُّ بهم. يقال: نعم ونعمة عين: أي: قرة عين، يعني أقرُّ عينك بطاعتك واتباع أمرك. اللسان (نعم).

ص: 292

العاص: والله لآتينَّه غدًا بما أستأصل به خضراءهم، ولأخبرنَّه أنهم يزعمون أنَّ إلهه الذي يعبد عيسى ابن مريم عبد. فقال له عبد الله بن أبي ربيعة: لا تفعل فإنَّهم وإن كانوا خالفونا فإنَّ لهم رحمًا ولهم حقًا. فقال: والله لأفعلن!.

فلما كان الغد دخل عليه فقال: أيها الملك، إنهم يقولون في عيسى قولًا عظيمًا. فأرسلْ إليهم فسلْهم عنه. فبعث والله إليهم ولم ينزل بنا مثلُها، فقال بعضُنا لبعض: ماذا تقولون له في عيسى إن هو سألكم

(1)

عنه؟ فقالوا: نقول والله الذي قاله الله فيه، والذي أمرَنا نبيُّنا أن نقوله فيه، فدخلوا عليه وعنده بطارقته فقال: ما تقولونَ في عيسى ابن مريم؟ فقال له جعفر: نقولُ هو عبد الله ورسوله وروحُه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البَتُول. فدلَّى النجاشيُّ يده إلى الأرض، فأخذ عودًا بين أصبعيه فقال: ما عدا عيسى ابن مريم مما قلت هذا العُوَيد. فتناخرتْ بطارقته. فقال: وإن تناخرتُم والله! اذهبوا فأنتم سُيُومٌ في الأرض -السُّيُوم: الآمنون في الأرض

(2)

- مَنْ سبَّكم غَرِم، من سبَّكم غرِم، من سبَّكم غرِم -ثلاثًا- ما أُحِبُّ أنَّ لي دَبْرًا وأني آذَيْتُ رجلًا منكم- والدَّبْرُ بلسانهم الذهب.

وقال زياد عن ابن إسحاق: ما أُحِبُّ أنَّ لي دَبْرًا من ذهب؛ قال ابن هشام: ويقال: دَبْرًا

(3)

، وهو الجبل بلغتهم -ثم قال النجاشي: فوالله ما أخذ اللهُ مني الرِّشْوَة حين ردَّ عليَّ مُلْكي، ولا أطاعَ الناسَ فيّ فأطيع الناس فيه. رُدُّوا عليهما هداياهم فلا حاجة لي بها، واخْرُجا من بلادي: فخرجا مقبوحَيْن مردودًا عليهما ما جاءا به.

قالت: فأقمنا مع خير جارٍ في خير دار، فلم ينشَبْ أنْ خرجَ عليه رجلٌ من الحبشة ينازعُه في مُلْكه، فوالله ما علمنا حُزْنًا حزِنَّا قطُّ هو أشدَّ منه، فرَقًا من أن يظهر ذلك الملكُ عليه، فيأتي ملكٌ لا يعرفُ من حقِّنا ما كان يعرفه، فجعلْنا ندعو الله ونستنصرُه للنجاشي فخرج إليه سائرًا، فقال أصحابُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم[بعضهم لبعض]

(4)

: مَنْ رجلٌ يخرجُ فيحضر الوقعة حتى ينظرَ على مَنْ تكون؟ وقال الزُّبير -وكان من أحدثهم سِنًّا-: أنا. فنفَخُوا له قِرْبَةً فجعلها في صدره، فجعل يسبحُ عليها في النِّيل حتى خرج من شِقِّه الآخر إلى حيث التقى الناس، فحضر الوقعة، فهزم الله ذلك الملك وقتله، وظهر النجاشيُّ عليه. فجاءنا الزُّبير، فجعل يُليحُ لنا بردائه ويقول: ألا فأبشروا، فقد أظهر الله النجاشيّ. قلت: فوالله ما علمنا فرِحْنا

(1)

في ح، ط: يسألكم، والمثبت من مصادر الخبر.

(2)

في النهاية لابن الأثير (سيم): امكثوا فأنتم سيوم. أي آمنون: كذا جاء تفسيره في الحديث، وهي كلمة حبشية، وتروى بفتح السين. وقيل: سيوم جمع سائم، أي تسومون في بلدي كالغنم السائمة لا يعارضكم أحد. اهـ. وفي ح والسير والمغازي: شيوم. بالشين المعجمة.

(3)

في ط: زبرًا، وفي ح: زيرًا، وكلاهما تصحيف، والمثبت من سيرة ابن هشام (1/ 338) والنهاية لابن الأثير (دبر).

(4)

ما بين المعقوفين ليس في ح وهو من دلائل البيهقي.

ص: 293

بشيءٍ قطُ فرَحَنا بظهور النجاشيّ؛ ثم أقمنا عندَهُ حتى خرج من خرج منَّا [راجعًا]

(1)

إلى مكة، وأقام من أقام.

قال الزُّهري: فحدثتُ هذا الحديث عروة بن الزُّبير عن أمِّ سلمة. فقال عروة: أتدري ما قولُه ما أخذ الله مني الرِّشْوة حين ردَّ عليَّ مُلْكي فآخذ الرشوة فيه، ولا أطاع الناس فِيَّ فأطيع الناس فيه؟ فقلت لا، ما حدَّثني ذلك أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن أمِّ سلمة. فقال عروة: فإنَّ عائشة حدثَتْني أنَّ أباه كان مَلَكَ قومَه، وكان له أخٌ له من صُلْبه اثنا عشر رجلًا، ولم يكنْ لأبي

(2)

النجاشي ولدٌ غيرَ النجاشي، فأدارتِ الحبشةُ رأيَها بينها فقالوا: لو أنا قتلنا أبا النجاشي وملَّكنا أخاه فإنَّ له اثني عشر رجلًا من صُلْبه فتوارثوا الملك، لبقيتِ الحبشة عليهم دَهْرًا طويلًا لا يكون بينهمُ اختلاف، فغدَوْا

(3)

عليه فقتلوه وملَّكوا أخاه. فدخل النجاشي لعمِّه حتى غلب عليه، فلا يدبِّر أمْرَهُ غيرُه، وكان لبيبًا حازمًا من الرجال، فلما رأتِ الحبشةُ مكانَهُ من عمِّه قالوا: قد غلب هذا الغلام على أمر عمِّه، فما نأمن أنْ يملِّكه علينا، وقد عرف أنا قتلنا أباه، فلئن فعل لم يدَعْ منَّا شريفًا إلا قتله، فكلِّموه فيه فلْيقتله أو ليخرجنه من بلادنا، فمشَوْا [إلى عمه فقالوا: قد رأينا مكان هذا الفتى منك، وقد عرفتَ أنَّا قتلنا]

(4)

أباه وجعلناكَ مكانه، وإنَّا لا نأمنُ أنْ يُمَلَّك علينا فيقتلنا، فإمَّا أنْ تقتله وإمَّا أن تخرجَهُ من بلادنا. قال: ويحكم قتلتم أباه بالأمس وأقتلُه اليوم! بل أُخرجُه من بلادكم.

فخرجوا به فوقفوه في السوق وباعوه من تاجر من التجَّار قذفه في سفينة بستمئة درهم أو بسبعمئة

(5)

، فانطلق به فلما كان العشي هاجَتْ سحابةٌ من سحائب الخريف فخرج عمه يتمطَّرُ تحتها فأصابته صاعقةٌ فقتلَتْه، ففزعوا إلى ولده فإذا هم محمقون ليس في أحدٍ منهم خير، فمرجَ على الحبشة أمْرُهم

(6)

، فقال بعضُهم لبعض: تعلمون والله إنَّ مَلِكَكم الذي لا يُصلح أمرَكم غيرُه للَّذي بعتُمْ بالغَدَاة، فإنْ كان لكم بأمْرِ الحبشةِ حاجة فأدركوه قبل أن يذهب.

فخرجوا في طلبه، فأدركوه فردُّوه، فعقدوا عليه تاجَه، وأجلسوه على سريره وملَّكوه. فقال التاجر: ردُّوا عليَّ مالي كما أخذتُمْ مني غلامي، فقالوا: لا نُعطيك. فقال: إذًا والله لأكلمنَّه. فمشى إليه فكلَّمه فقال: أيُّها الملك، إني ابتعتُ غلامًا فقبض مني الذينَ باعونيه

(7)

ثمنه، ثم عدَوْا على غلامي

(1)

الزيادة من السير والمغازي والدلائل.

(2)

في ح، ط: لأب، والمثبت من السير والمغازي والدلائل.

(3)

في ط والدلائل: فعدوا. بالعين المهملة.

(4)

ما بين المعقوفين ليس في ح وهو من دلائل البيهقي.

(5)

في ح: أو تسع مئة.

(6)

أي التبس واختلط. اللسان (مرج).

(7)

في ط: الذي باعوه، والمثبت من ح.

ص: 294

فنزعوه من يدي ولم يردُّوا عليَّ مالي. فكان أولَ ما خُبر به من صلابةِ حُكمه وعَدْله أن قال: لتردُّنَّ عليه ماله. أو لتجعلنَّ يدَ غلامِهِ في يده، فليذهبنَّ به حيث شاء. فقالوا: بل نعطيه ماله فأعْطَوْه إياه، فلذلك يقول: ما أخذ الله مني الرَّشوَة فآخذَ الرشوة حين ردَّ عليَّ ملْكي، وما أطاع الناسَ فيّ فأطيع الناسَ فيه.

وقال موسى بن عقبة

(1)

: كان أبو النجاشي ملكَ الحبشة، فمات والنجاشيُّ غلامٌ صغير، فأوصى إلى أخيه: أنْ إليك ملكُ قومك حتى يبلغَ ابني، فإذا بلغ فله الملك. فرغب أخوه في الملك، فباع النجاشيَّ من بعض التجَّار، فمات عمُّه من ليلته وقَضَى، فردَّتِ الحبشةُ النجاشيَّ حتى وضعوا التاجَ على رأسه.

هكذا ذكره مختصرًا، وسياقُ ابن إسحاق أحسنُ وأبْسَطُ، فالله أعلم.

والذي وقع في سياقِ ابنِ إسحاق. إنما هو ذكر عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة، والذي ذكره موسى بن عقبة والأموي وغيرُ واحدٍ أنهما عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد بن المغيرة، وهو أحد السبعة الذين دعا عليهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حين تضاحكوا يوم وُضع سَلا الجَزُورِ على ظهره صلى الله عليه وسلم وهو ساجدٌ عند الكعبة.

وهكذا تقدم في حديث ابن مسعود وأبي موسى الأشعري. والمقصود أنَّهما حين خرجا من مكة كانت زوجةُ عمرٍو معه، وعُمارة كان شابًّا حسنًا، فاصطحبا في السفينة، وكان عُمارة طمِعَ في امرأةِ عمرِو بن العاص، فألقى عَمْرًا في البحر ليُهْلكه فسبح حتى رجع إليها. فقال له عُمارة: لو أعلم أنك تُحسن السباحة لما ألقَيْتُكَ، فحقد عمرٌو عليه، فلما لم يقض لهما حاجة في المهاجرين من النجاشي، وكان عمارة قد توصَّل إلى بعضِ أهلِ النجاشي، فوشى به عمرٌو فأمر به النجاشيُّ فسُحر حتى ذهب عقلُه وساح في البرِّيَّة مع الوحوش.

وقد ذكر الأموي قصةً مطوَّلة جدًّا وأنه عاش إلى زمن إمارة عمر بن الخطاب، وأنه تقصَّده بعضُ الصحابة ومسكه، فجعل يقول: أرسلني وإلا متّ. فلما لم يرسله مات من ساعته. فالله أعلم.

وقد قيل: إنَّ قريشًا بعثتْ إلى النجاشي في أمر المهاجرين مرَّتين: الأولى مع عمرو بن العاص وعمارة، والثانية مع عمرو، وعبد الله بن أبي ربيعة. نص عليه أبو نُعيم في "الدلائل"

(2)

والله أعلم. وقد قيل: إن البعثة الثانية كانت بعد وقعة بدر؛ قاله الزهري، لينالوا ممن هناك ثأرًا فلم يُجبهم النجاشيُّ رضي الله عنه وأرضاه إلى شيءٍ مما سألوا. فالله أعلم.

[وقد ذكر زياد عن ابن إسحاق

(3)

: أن أبا طالب لما رأى ذلك من صنيع قريش كتب إلى النجاشيِّ

(1)

دلائل النبوة للبيهقي (2/ 295).

(2)

دلائل النبوة لأبي نعيم (1/ 331).

(3)

السير والمغازي (ص 221) وسيرة ابن هشام (1/ 333) والروض (2/ 86).

ص: 295

أبياتًا يحضُّه فيها على العَدْل وعلى الإحسان إلى مَنْ نزل عنده من قومه: [من الطويل]

ألا ليتَ شعري كيفَ في النأْي جعفرٌ

وعمرٌو وأعداءُ العدوِّ الأقاربُ

وما

(1)

نالت أفعالُ النجاشيِّ جعفرًا

وأصحابَهُ أو عاقَ ذلك شاغِبُ

تعلَّم

(2)

-أبيتَ اللعنَ- أنك ماجدٌ

كريمٌ فلا يَشقى إليكَ المُجَانب

تعلَّمْ بأنَّ اللهَ زادك بسطةً

وأسبابَ خير كلُّها بكَ لازِبُ]

(3)

وقال يونس عن ابن إسحاق

(4)

: حدّثني يزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير. قال: إنما كان يكلِّم النجاشي عثمان بن عفان رضي الله عنه.

والمشهور أن جعفرًا هو المترجم رضي الله عنه.

وقال زياد البكَّائي عن ابن إسحاق

(5)

: حدّثني يزيد بن رومان، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها. قالت: لما مات النجاشي كان يتحدث أنه لا يزال يُرى على قبره نور.

ورواه أبو داود

(6)

عن محمد بن عمرو الرازي عن سَلَمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق به: لما مات النجاشيُّ رضي الله عنه كنا نتحدَّث أنه لا يزال يُرَى على قبرِهِ نور.

وقال زياد عن محمد بن إسحاق

(7)

: حدَّثني جعفر بن محمد، عن أبيه قال: اجتمعتِ الحبشة فقالوا للنجاشي: إنك فارقتَ ديننا وخرجوا عليه، فأرسل إلى جعفر وأصحابه فهيَّأ لهم سُفُنًا وقال: اركبوا فيها وكونوا كما أنتم فإن هُزمت

(8)

فامضوا حتى تلحقوا بحيث شئتم، وإنْ ظفرتُ فاثبتوا. ثم عمد إلى كتاب فكتب فيه: هو يشهدُ أنْ لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، ويشهدُ أن عيسى عبدُه ورسولُه وروحُه وكلمتُه ألقاها إلى مريم، ثم جعله في قَبَائه عند المنكِبِ الأيمن، وخرج إلى الحبشة، وصفُّوا له. فقال: يا معشر الحبشة ألستُ أحقَّ الناس بكم؟ قالوا: بلى. قال: فكيف أنتم بسيرتي فيكم؟ قالوا: خير سيرة. قال: فما بكم

(9)

؟ قالوا: فارقتَ ديننا، وزعمتَ أنَّ عيسى عبد

(10)

. قال: فما تقولون أنتم في

(1)

في مصادر الخبر: وهل نالت.

(2)

في ط: ونعلم. والمثبت من مصادر الخبر.

(3)

ما بين معقوفين ليس في ح.

(4)

السير والمغازي (ص 217، 218) ودلائل النبوة للبيهقي (2/ 306).

(5)

السير والمغازي (ص 219) وسيرة ابن هشام والروض (2/ 90).

(6)

في سننه (2523) الجهاد باب في النور يُرى عند قبر الشهيد، وإسناده ضعيف.

(7)

سيرة ابن هشام (1/ 340) والروض (2/ 90).

(8)

في ح: هربت.

(9)

في سيرة ابن هشام: فما بالكم، وفي الروض: فمالكم.

(10)

في ط: عبده ورسوله، والمثبت من ح وسيرة ابن هشام والروض.

ص: 296

عيسى؟ قالوا: نقول هو ابن الله. فقال النجاشي -ووضع يدَهُ على صدره على قبائه-: وهو يشهدُ أنَّ عيسى ابنُ مريم. لم يزد على هذا، وإنما يعني على ما كَتَب، فرَضُوا وانصرفوا. فبلغ [ذلك]

(1)

رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما مات النجاشيُّ صلى عليه واستغفر له.

وقد ثبت في الصحيحين

(2)

من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ رسول الله-صلى الله عليه وسلم نعى النجاشيَّ في اليومِ الذي ماتَ فيه، وخرَجَ بهم إلى المصلَّى، فصفَّ بهم وكبَّرَ أربعَ تكبيرات.

وقال البخاري: موت النجاشي

(3)

: حدّثنا أبو الربيع، حدّثنا ابن عُيينة، عن ابن جُرَيج، عن عطاء، عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مات النجاشي-: "مات اليومَ رجلٌ صالح، فقوموا فصلُّوا على أخيكم أصْحَمة".

ورُوي ذلك من حديث أنس بن مالك وابن مسعود وغير واحد، وفي بعض الروايات تسميته أصحمة، وفي رواية مصحمة

(4)

. وهو أصحمة بن أبجر

(5)

وكان عبدًا صالحًا لبيبًا زكيًا

(6)

، وكان عادلًا عالمًا رضي الله عنه وأرضاه.

وقال يونس عن إسحاق

(7)

: اسم النجاشي مصحمة -وفي نسخة صحَّحَها البيهقي أصحم- وهو بالعربية عطيَّة قال: وإنما النجاشي اسم الملك: كقولك كسرى، هرقل.

(1)

زيادة من مصادر الخبر.

(2)

فتح الباري (1333) الجنائز باب التكبير على الجنازة أربعًا. وصحيح مسلم (62 - 951) الجنائز باب في التكبير على الجنازة.

(3)

يعني في باب موت النجاشي من كتاب مناقب الأنصار، فتح الباري (3877).

(4)

قال ابن حجر في الفتح (3/ 203): وقع في جميع الطرق التي اتصلت لنا من البخاري: أصحمة. بمهملتين بوزن أفعلة مفتوح العين في المسند والمعلق معًا، وفيه نظر لأن إيراد المصنف يشعر بأن يزيد خالف محمد بن سنان، وأن عبد الصمد تابع يزيد، ووقع في مصنف ابن أبي شيبة عن يزيد: صحمة، بفتح الصاد وسكون الحاء، فهذا متجه، ويتحصل منه أن الرواة اختلفوا في إثبات الألف وحذفها. وحكى الإسماعيلي أن في رواية عبد الصمد "أصخمة" بخاء معجمة وإثبات الألف، قال: وهو غلط فيحتمل أن يكون هذا محل الاختلاف الذي أشار إليه البخاري. وحكى كثير من الشراح أن رواية يزيد ورفيقه: صحمة بالمهملة بغير ألف، وحكى الكرماني أن في بعض النسخ في رواية محمد بن سنان: أصحبة. بموحدة بدل الميم. اهـ.

(5)

كذا في ح وأصول المطبوعة وصحَّحه ناشرها بـ "بحر" محتجًا بالقاموس، إلا أن الزَّبيدي شارحه قال (صحم): كذا في النسخ، والصواب ابن أبجر. اهـ. ثم ساق الخلاف في أصحمة كما بينته عن ابن حجر في الحاشية السابقة، وزاد في اختلاف الروايات فيه قوله: صمخة. بتقديم الميم على الخاء، وقيل غير ذلك مما استوعبه شراح البخاري. وسيأتي برسم: أبجر ص (301) نقلًا عن البيهقي.

(6)

ليست اللفظة في ح.

(7)

دلائل البيهقي (2/ 310).

ص: 297

قلت: كذا

(1)

ولعله يريد به قيصر، فإنه عَلَمٌ لكلِّ مَنْ ملك الشام مع الجزيرة من بلاد الرُّوم، وكسرى علمٌ على مَنْ ملَكَ الفرس، وفرعون علمٌ لمن ملك مصر كافة (1)، والمقوقس لمن ملك الاسكندريَّة، وتُبَّع لمن مَلَك اليمن والشِّحْر

(2)

، والنجاشِي لمن مَلَك الحبشة، وبطليموس لمن مَلَك اليونان وقيل الهند، وخاقان لمن ملَكَ التُرْك.

وقال بعضُ العلماء إنما صُلَّي عليه لأنه كان يكتُم إيمانه من قومه، فلم يكن عنده يوم مات مَنْ يصلِّي عليه، فلهذا صلَّى عليه صلى الله عليه وسلم. قالوا: فالغائب إنْ كان قد صُلِّي عليه ببلده لا تشرع الصلاة عليه ببلدٍ أخرى؟ ولهذا لم يصلَّ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم في غير المدينة، لا أهل مكة ولا غيرهم، وهكذا أبو بكر وعمر وعثمان وغيرهم من الصحابة لم يُنقَلْ أنه صُلِّي على أحدٍ منهم في غير البلدة التي صُلِّي عليه فيها فالله أعلم.

قلت: وشهود أبي هريرة رضي الله عنه الصلاةَ على النجاشي، دليلٌ على أنه إنما مات بعد فتح خَيْبَر

(3)

التي قدِم بقيةُ المهاجرين إلى الحبشة مع جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه يوم فتح خيبر، ولهذا رُوي أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"والله ما أدري بأيِّهما أنا أسرُّ، بفتح خَيْبَر أمْ بقدُوم جعفر بن أبي طالب"

(4)

. وقدموا معهم بهدايا وتُحَف من عند النجاشي رضي الله عنه إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم وصحبتهم أهل السفينة اليمنية أصحاب أبي موسى الأشعري وقومه من الأشعريِّين رضي الله عنهم، ومع جعفر هدايا النجاشي ابن أخي النجاشي ذو مخبر أو ذو مخمر

(5)

، أرسله ليخدُمَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم عوضًا عن عمِّه رضي الله عنهما وأرضاهما.

وقال السهيلي

(6)

: توفي النجاشي قي رجب سنة تسعٍ من الهجرة، وفي هذا نظر. والله أعلم.

وقال البيهقي

(7)

: أخبرنا الفقيه أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الطّوسي، حدثنا أبو العباس

(1)

ليست اللفظة في ح.

(2)

"الشِّحْر": الشّطّ وهو صقع على ساحل بحر الهند من ناحية اليمن. قال الأصمعي: هو بين عَدَن وعُمان. معجم البلدان (3/ 327).

(3)

كذا في الأصول، ولعل الصواب: في السنة التي.

(4)

أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (244) عن أنس بن سالم الخولاني وأحمد بن خالد بن مسرح قالا: حدّثنا الوليد بن عبد الملك بن مسرح حدثنا مخلد بن يزيد حدثنا مسعر عن عون بن أبي جحيفة عن أبيه، وأخرجه ابن عدي في الكامل في الضعفاء (5/ 1884) عن أحمد بن حفص، حدثنا بكر بن عبد الوهاب حدثنا عيسى بن عبد الله عن أبيه عن جده عن علي رضي الله عنه؛ وأخرجه البيهقي في السنن (7/ 101) النكاح باب ما جاء في قبلة ما بين العينين عن أبي القاسم زيد بن أبي هاشم العلوي وأبي القاسم عبد الواحد بن محمد بن النجار المقرئ بالكوفة قالا: أنبا أبو جعفر محمد بن علي بن دحم حدثنا إبراهيم بن إسحاق القاضي حدثنا قبيصة عن سفيان عن الأجلح عن الشعبي. مرسلًا. وأخرجه ابن عساكر كما تقدم.

(5)

في ط: ذو نخترا أو ذو مخمرا. والمثبت من ح.

(6)

في الروض (2/ 94).

(7)

في الدلائل (2/ 307).

ص: 298

محمد بن يعقوب، حدثنا هلال بن العلاء الرَّقِّي، حدثنا أبي العلاءُ بن هلال

(1)

، حدثنا أبي

(2)

هلالُ بن العلاء عن أبيه، عن أبي غالب، عن أبي أُمامة قال: قدِم وَفْدُ النجاشي على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقام يخدُمهم، فقال أصحابُه: نحن نكفيك [يا رسول الله]

(3)

. فقال: "إنهم كانوا لأصحابي مُكْرِمين، وإني أُحبُّ أنْ أكافئَهم".

ثم قال

(4)

: وأخبرنا أبو محمد عبد الله بن يوسف الأصبهاني، أنبأنا أبو سعيد بن الأعرابي، حدّثنا هلال بن العلاء، حدَّثنا أبي، حدَّثنا طلحة بن زيد

(5)

، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي قتادة قال: قدم وفدُ النجاشي على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يخدُمهم، فقال أصحابُه: نحن نكفيك يا رسول الله. فقال: "إنهم كانوا لأصحابنا

(6)

مُكْرِمين، وإنِّي أُحبُّ أنْ أكافئهم". تفرَّدَ به طلحة بن زيد عن الأوزاعي

(7)

.

وقال البيهقي

(8)

: حدَّثنا أبو الحسين بن بِشْران، حدَّثنا أبو عمرو بن السماك، حدَّثنا حنبلُ بن إسحاق، حدَّثنا الحُميدي، حدَّثنا سفيان، حدَّثنا عمرو قال: لما قدم عمرُو بن العاص من أرض الحبشة جلس في بيته فلم يخرجْ إليهم، فقالوا: ما شأنه ماله لا يخرج؟ فقال عمرو: إنَّ أصْحَمةَ يزعم أنَّ صاحبَكم نبيّ.

قال ابن إسحاق

(9)

: ولما قدم عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة على قريش، ولم يدركوا ما طلبوا من أصحابِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وردهم النجاشي بما يكرهون، وأسلم عمر بن الخطاب، وكان رجلًا ذا شَكِيمة لا يُرام ما وراء ظهره، امتنع به أصحابُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وبحَمْزَة حتى غاظوا

(10)

قريشًا، فكان عبد الله بن مسعود يقول: ما كنَّا نقدِرُ على أنْ نصلِّي عند الكعبة حتى أسلم عمر، فلما أسلم عمر قاتل قريشًا حتى صلَّى عند الكعبة وصلَّينا معه.

قلت: وثبت في صحيح البخاري

(11)

عن ابنِ مسعود أنه قال: ما زلنا أعِزَّةً منذُ أسْلَمَ عمر

(12)

.

(1)

في ط: العلاء بن مدرك، وهو تحريف، والمثبت من ح ودلائل البيهقي وترجمته في تهذيب التهذيب.

(2)

في ط: أبو والمثبت من ح والدلائل.

(3)

ليس ما بين المعقوفين في ح أو الدلائل.

(4)

يعني البيهقي في الدلائل (2/ 307).

(5)

في الدلائل: يزيد تحريف، والمثبت من ح، ط وترجمته في تهذيب الكمال (13/ 395).

(6)

في ح: لأصحابي.

(7)

وهو متروك، بل قال أحمد وعلي وأبو داود: كان يضع الحديث (بشار).

(8)

في الدلائل أيضًا (2/ 307).

(9)

سيرة ابن هشام (1/ 342) والروض (2/ 95).

(10)

كذا في ط، وفي ح: غاروا براء مهملة، وفي سيرة ابن هشام والروض: غازوا.

(11)

فتح الباري (3684) فضائل الصحابة باب مناقب عمر بن الخطاب. و (3863) مناقب الأنصار باب إسلام عمر بن الخطاب.

(12)

في ط: "عمر بن الخطاب"، وليست في ح ولا في صحيح البخاري الذي ينقل منه المصنف.

ص: 299

وقال زياد البكَّائي

(1)

: حدَّثني مِسْعَر بن كِدَام، عن سعد بن إبراهيم قال: قال ابنُ مسعود: إنَّ إسلامَ عمر كان فتحًا، وإنَّ هجرتَه كانتْ نصرًا، وإنَّ إمارته كانت رحمة، ولقد كنَّا وما نصلِّي عند الكعبة حتى أسلم عمر، فلما أسلم عمر قاتل قريشًا حتى صلَّى عند الكعبة وصلَّينا معه.

قال ابن إسحاق

(2)

: وكان إسلامُ عمر بعد خروج مَنْ خرج من أصحاب رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إلى الحبشة.

حدّثني

(3)

عبد الرحمن بن الحارث بن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة، عن عبد العزيز بن عبد الله بن عامر بن ربيعة، عن أمِّه أمِّ عبد الله بنت أبي حَثْمة قالت: والله إنَّا لنترحل إلى أرض الحبشة وقد ذهب عامر في بعض حاجتنا، إذ أقبل عمر فوقف عليَّ وهو على شِرْكه؛ فقالت: وكنَّا نلقى منه أذى لنا وشدَّة علينا قالت: فقال: إنه للانطلاق يا أمَّ عبد الله. قلت: نعم والله، لنخرجنَّ في أرض من أرض الله إذ آذيتمونا وقهرتمونا؟ حتى يجعل اللهُ لنا مخرجًا. قالت: فقال: صحِبَكُم الله ورأيتُ له رِقَّةً لم أكنْ أراها. ثم انصرفَ وقد أحزنه -فيما أرى- خروجُنا. قالت: فجاء عامر بحاجتنا تلك، فقلت له: يا أبا عبد الله لو رأيتَ عمر آنفًا ورقَّته وحُزْنَهُ علينا. قال: أطمعتِ في إسلامه؟ قالت: قلت نعم! قال: لا يُسلم الذي رأيتِ حتى يُسلم حمار الخطَّاب. قالت: يَأْسًا منه لما كان يُرى من غِلْظَتِه وقسوته على الإسلام.

قلت: هذا يردُّ قولَ من زعم أنه كان تمام الأربعينَ من المسلمين، فإن المهاجرين إلى الحبشة كانوا فوق الثمانين، اللهم إلا أنْ يُقال: إنه كان تمام الأربعين بعد خروج المهاجرين؛ ويؤيد هذا ما ذكره ابنُ إسحاق هاهنا في قصة إسلام عمر وحده رضي الله عنه، وسياقها فإنه قال

(4)

: وكان إسلام عمر فيما بلغني أنَّ أختَهُ فاطمة بنت الخطَّاب وكانت عند سعيد بن زيد بن عمرو بن نُفَيل كانت قد أسلمت وأسلم زوجُها سعيد بن زيد، وهم مستخفُون بإسلامهم من عُمر، وكان نُعيم بن عبد الله النحَّام -رجلٌ من بني عَدِيّ- قد أسلم أيضًا مستخفيًا بإسلامه من قومه، وكان خَبَّابُ بن الأرَتّ يختلف إلى فاطمة بنت الخطاب يُقرئها القرآن، فخرج عمرُ يومًا متوشِّحًا سيفه يريدُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ورَهْطًا من أصحابه، فذكروا له أنهم قد اجتمعوا في بيتٍ عند الصَّفا، وهم قريبٌ من أربعينَ من بين رجالٍ ونساءٍ، ومع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم عمُّه حمزة وأبو بكر بن أبي قُحَافة الصدِّيق، وعليُّ بن أبي طالب رضي الله عنهم، وفي رجالٍ من المسلمين ممن كان أقام مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بمكة ولم يخرُجْ فيمن خرج إلى أرض الحَبَشة. فلقِيَهُ نُعيم بن عبد الله فقال: أين تريد يا عمر؟ قال: أريدُ محمدًا هذا الصابئُ الذي فرَّقَ أمْرَ قريش، وسفَّه أحلامها وعاب دينها وسبَّ آلهتها فأقتله. فقال له نُعيم: والله لقد غرَّتْك نفسُك يا عمر، أترى بني عبد مَنَاف تاركيك تمشي

(1)

في سيرة ابن هشام (1/ 342).

(2)

دلائل النبوة للبيهقي (2/ 221).

(3)

المتكلم هو ابن إسحاق، والخبر في سيرة ابن هشام (1/ 342).

(4)

سيرة ابن هشام (1/ 343) والروض (2/ 95).

ص: 300

على الأرض وقد قتلتَ محمدا؟ أفلا ترجعُ إلى أهل بيتك فتقيمَ أمْرَهم؟ قال: وأيَّ أهل بيتي، قال: خَتَنك وابن عمِّك سعيد بن زيد، وأختك فاطمة، فقد والله أسلما وتابعا محمدًا صلى الله عليه وسلم على دينه، فعليك بهما.

فرجع عمر عائدًا إلى أخته فاطمة وعندها خباب

(1)

بن الأرتّ، معه صحيفةٌ فيها {طه} يُقرِئُها إياها، فلما سمعوا حِسَّ عمر تغيَّب خبَّابٌ في مُخْدَعٍ لهم

(2)

-أو في بعض البيت- وأخذَتْ فاطمةُ بنتُ الخطاب الصحيفةَ فجعلَتْها تحت فَخِذِها، وقد سمع عمرُ حين دنا إلى الباب قراءةَ خبَّاب عليها، فلما دخل قال: ما هذه الهينمة

(3)

التي سمعتُ؟ قالا له: ما سمعتَ شيئًا. قال: بلى والله، لقد أُخبرتُ أنكما تابعتما محمدًا على دينه، وبَطَش بخَتَنِه سعيد بن زيد. فقامت إليه أختُه فاطمةُ بنتُ الخطَّاب لتكفَّه عن زوجها فضربها فشجَّها، فلما فعل ذلك قالت له أخته وختَنُه: نعم قد أسلَمْنا وآمنا بالله ورسوله فاصنَعْ ما بدا لك. فلما رأى عمر ما بأختِهِ من الدَّم ندم على ما صنع وارْعَوَى، وقال لأخته: أعطيني هذه الصحيفةَ التي كنتم تقرؤونَ آنفًا أنظرْ ما هذا الذي جاء به محمد؟ -وكان عمر كاتبًا- فلما قال ذلك قالتْ له أختُه إنا نخشاك عليها. قال: لا تخافي وحلَفَ لها بآلهته ليرُدَّنَّها إذا قرأها إليها، فلما قال ذلك طمعَتْ في إسلامه، فقالت: يا أخي، إنك نجَسٌ على شِرْكك، وإنَّه لا يمسُّه إلا المُطَهَّرُون. فقام عمر فاغتسل، فأعطَتْهُ الصحيفة، وفيها {طه} فقرأها، فلما قرأ منها صدرًا قال: ما أحسن هذا الكلام وأكرمَه. فلما سمع ذلك خبَّاب بن الأرت خرج إليه فقال له: والله يا عمر، إنِّي لأرجو أن يكون الله قد خصَّك بدعوةِ نبيِّه صلى الله عليه وسلم، فإني سمعتُه أمسِ وهو يقول:"اللهمَّ أيِّدِ الإسلامَ بأبي الحكم بن هشام، أو بعمرَ بنِ الخطَّاب". فاللهَ اللهَ يا عمر. فقال عند ذلك: فدُلَّني يا خبابُ على محمدٍ حتى آتيَهُ فاُسلم. فقال له خباب: هو في بيتٍ عند الصَّفا، معه نفرٌ من أصحابه.

فأخذ عمر سيفه فتوشَّحه ثم عمد إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فضرَبَ عليهمُ الباب. فلما سمعوا صوْتَه قام رجلٌ من أصحابِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فنظر من خَلَلِ الباب، فإذا هو بعمر متوشِّحٌ بالسيف، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو فَزِع فقال: يا رسولَ الله، هذا عمر بن الخطاب متوشِّحًا بالسيف، فقال حمزة: فأْذَنْ له، فإنْ كان جاء يريدُ خيرًا بذَلْناه، وإنْ كان يريدُ شرًّا قتلناهُ بسيفه. فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"ايذنْ له" فأذِنَ له الرجل ونهض إليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حتى لَقيهُ في الحُجْرَة، فأخذ بحُجْزتِه أو بمجمع ردائه ثم جذَبهُ جذبةً شديدة فقال:"ما جاء بك يا ابنَ الخطاب؟ فوالله ما أرى أنْ تنتهيَ حتى ينزلَ اللهُ بك قارعة". فقال عمر: يا رسول الله جئتُك لأومنَ بالله وبرسوله، وبما جاء من عند الله. قال: فكبَّر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم

(1)

في سيرة ابن هشام: إلى أخته وختنه، وعندهما خباب.

(2)

"المخدع": هو البيت الصغير الذي يكون داخل البيت، وتضم ميمه وتفتح. اللسان (خدع).

(3)

في ح: الهمهمة. وفي الهامش: الهينمة. وفوقها (خ) إشارة إلى رواية نسخة، والهمهمة والهينمة: الكلام الخفي لا يفهم. النهاية لابن الأثير (همهم، هينم).

ص: 301

تكبيرة، فعرف أهلُ البيت أنَّ عمر قد أسلم. فتفرَّق أصحابُ رسولِ الله من مكانهم وقد عزُّوا في أنفسهم حين أسلم عمر مع إسلام حمزة، وعلموا أنهما سيمنعان رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وينتصفون بهما من عدوِّهم.

قال ابن إسحاق

(1)

: فهذا حديثُ الرواةِ من أهل المدينة عن إسلام عمرَ حين أسلم رضي الله عنه.

قال ابن إسحاق

(2)

: وحدَّثني عبد الله بن أبي نَجيح المكي عن أصحابه: عَطَاء ومجاهد وعمن روى ذلك. أنَّ إسلام عمر فيما تحدَّثوا به عنه، أنه كان يقول: كنتُ للإسلام مُبَاعدًا وكنتُ صاحبَ خمرٍ في الجاهليَّة أُحِبُّها وأشربها

(3)

، وكان لنا مجلسٌ يجتمع فيه رجالٌ من قريش بالحَزْوَرَة

(4)

فخرجتُ ليلةً أريدُ جلسائي أولئك فلم أجدْ فيه منهم أحدًا، فقلت: لو أني جئتُ فلانًا الخمَّار لعلِّي أجد عنده خمرًا فأشربَ منها. فخرجتُ فجئتُه فلم أجدْه قال: فقلت: لو أنِّي جئتُ الكعبة فطُفْتُ سبعًا أو سَبْعَين، قال: فجئتُ المسجد، فإذا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قائمٌ يصلِّي، وكان إذا صلَّى استقبل الشام وجعل الكعبة بينه وبين الشام، وكان مصلاه بين الرُّكْنَين: الأسود واليماني. قال: فقلت حين رأيتُه: واللهِ لو أنِّي استمعتُ لمحمدٍ الليلةَ حتى أسمعَ ما يقول، فقلت: لئن دنوتُ منه لأستمع منه لأُرَوِّعَنَّه، فجئتُ من قِبَلِ الحِجْر، فدخلت تحت ثيابها، فجعلتُ أمشي رويدًا ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم قائمٌ يصلِّي يقرأ القرآن، حتى قمتُ في قبلتِه مستقبلَهُ، ما بيني وبينه إلا ثيابُ الكعبة قال: فلما سمعتُ القرآن رقَّ له قلبي وبكَيْتُ ودَخَلني الإسلام، فلم أزَلْ في مكاني قائمًا حتى قَضَى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم صلاتَه ثم انصرف، وكان إذا انصرف خرج عل دار ابن أبي حُسين -وكان مسكنه في الدار الرَّقْطَاء التي كانت بيد معاوية-. قال عمر: فتبعتُه حتى إذا دخل بين دار عباس ودار ابن أزْهر أدركتُه. فلما سمع [رسول الله صلى الله عليه وسلم]

(5)

حِسِّي عرفني، فظنَّ أني إنما اتبعتُه لأُوذِيَه، فنَهَمني

(6)

، ثم قال:"ماجاءَ بك يا ابنَ الخطَّاب هذه الساعة" قال: قلت: جئتُ لأومنَ بالله وبرسوله، وبما جاء من عند الله. قال: فحمد الله رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: "قد هَدَاكَ الله يا عمر" ثم مسَح صَدْري ودعا لي بالثبات ثم انصرفتُ ودخلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بيتَه.

قال ابنُ إسحاق: فالله أعلم أيّ ذلك كان.

(1)

سيرة ابن هشام (1/ 346) والروض (2/ 96).

(2)

سيرة ابن هشام (1/ 346) والروض (2/ 97).

(3)

في سيرة ابن هشام والروض: وأُسرُّ بها.

(4)

"الحزورة": بالفتح ثم السكون وفتحت الواو، وراء وهاء؛ هو في اللغة الرابية الصغيرة وجمعها حزاور، وقال الدارقطني: كذا صوابه، والمحدثون يفتحون الزاي ويشددون الواو وهو تصحيف، وكانت الحزورة سوق مكة وقد دخلت المسجد لمَّا زيد فيه. معجم البلدان (2/ 255).

(5)

الزيادة من سيرة ابن هشام.

(6)

أي زجرني وصاح بي. النهاية لابن الأثير (نهم).

ص: 302

قلت: وقد استقصيتُ كيفيَّة إسلام عمر رضي الله عنه وما ورد في ذلك من الأحاديث والآثار مطوَّلًا في أول سيرتِه التي أفردْتُها على حدة ولله الحمد والمنَّة.

قال ابن إسحاق

(1)

: وحدَّثني نافع مولى ابنِ عمر عن ابن عمر. قال: لما أسلم عمر قال: أيُّ قريش أنقل للحديث؟ فقيل له: جميل بن معمر الجمحي، فغدا عليه، قال عبد الله: وغدوتُ أتبع أثره وأنظر ما يفعل -وأنا غلامٌ أعقِلُ كلَّ ما رأيت- حتى جاءه فقال له: أعلمتَ يا جميلُ أني أسلمتُ ودخلتُ في دينِ محمد صلى الله عليه وسلم؟ قال: فوالله ما راجعه حتى قام يجُرُّ رداءَه واتَّبعه عمر، واتبعتُه أنا حتى قام على باب المسجد، صرَخَ بأعلى صوته: يا معشر قريش -وهم في أنديتهم حول الكعبة- ألا إنَّ ابنَ الخطَّاب قد صبَأ. قال: يقول عمر من خلفه: كذَب، ولكنِّي قد أسلمْتُ وشهدتُ أنْ لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسولُ الله، وثاروا إليه، فما بَرِح يقاتلُهم ويقاتلونه حتى قامتِ الشمس على رؤوسهم. قال: وطَلَح

(2)

فقعد، وقاموا على رأسه وهو يقول: افعلوا ما بَدَا لكم، فأحلفُ بالله أنْ لو قد كنَّا ثلاثمئة رجل لقد تركناها لكم أو تركتموها لنا. قال: فبينما هم على ذلك إذْ أقبل شيخٌ من قريش، عليه حُلَّةٌ حِبَرَة، وقميصٌ مُوَشَّى، حتى وقف عليهم فقال: ما شأنكم؟ فقالوا: صَبَأ عمر. قال: فمه؟ رجلٌ اختارَ لنفسه أمْرًا فماذا تريدون؟ أترون بني عديٍّ يُسلمون لكم صاحبَهم هكذا؟ خلُّوا عن الرجل. قال: فوالله لكأنما كانوا ثوبًا كُشِط عنه. قال: فقلت لأبي بعد أنْ هاجر إلى المدينة: يا أبة من الرجلُ الذي زَجَر القومَ عنك بمكةَ يوم أسلمت وهم يقاتلونك؟ قال: ذاك أيْ بُني العاصُ بن وائل السهمي.

وهذا إسنادٌ جيدٌ قويّ، وهو يدلُّ على تأخُّر إسلام عمر، لأنَّ ابنَ عمر عُرض يومَ أُحُد وهو ابنُ أربعَ عشرةَ سنة، وكانت أُحُد في سنة ثلاثٍ من الهجرة، وقد كان مميزًا يوم أسلم أبوه، فيكون إسلامهُ قبل الهجرة بنحوٍ من أربع سنين، وذلك بعد البِعْثة بنحْوِ تسعِ سنين والله أعلم.

وقال البيهقي

(3)

حدَّثنا الحاكم، أخبرنا الأصم، أخبرنا أحمد بن عبد الجبَّار، حدَّثنا يونس، عن ابن إسحاق قال: ثم قدِم على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم عشرون رجلًا وهو بمكة -أو قريبٌ من ذلك- من النصارى حين ظهر خبَرُه من أرض الحبشة، فوجدوه في المجلس، فكلَّموه وساءلوه، ورجالٌ من قريش في أنديتهم حول الكعبة، فلما فرغوا من مساءلتهم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عما أرادوا، دعاهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى الله عز وجل، وتلا عليهم القرآن. فلما سمعوا فاضَتْ أعينُهم من الدَّمْع، ثمَّ استجابوا له وآمنوا به وصدَّقوه، وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره، فلما قاموا من عنده اعترضهم أبو جهل في نفرٍ من قريش فقال: خيَّبكم الله مِنْ ركْب بعثكم مَنْ وراءكم من أهل دينِكم ترتادون لهم، فتأتونهم بخبر الرجل، فلم تطمئنَّ مجالسكم عنده حتى فارقتُم دينَكم وصدَّقتموهُ بما قال لكم! ما نعلم ركبًا أحمقَ منكم

(1)

سيرة ابن هشام (1/ 348) والروض (2/ 97).

(2)

"طَلَحَ": أي أعْيَا. النهاية (طلح).

(3)

في دلائل النبوة (2/ 306).

ص: 303

-أو كما قال- قالوا لهم: لا نجاهلكم، سلام عليكم، لنا أعمالُنا ولكم أعمالُكم لا نأْلُوَن

(1)

أنفسنا خيرًا. فيقال: إن النَّفَرَ من نصارى نجران؛ والله أعلم أيّ ذلك كان. ويقال: والله أعلم: إنَّ فيهم نزلت هذه الآيات: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص: 52 - 55].

‌فصل

قال البيهقي في "الدلائل"

(2)

: باب ما جاء في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي، ثم روى عن الحاكم، عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبَّار، عن يونس، عن ابن إسحاق قال: هذا كتابٌ من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي: ["بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد رسول الله إلى النجاشي] الأصحم عظيم الحبشة، سلامٌ على من اتَّبَع الهُدَى، وآمن بالله ورسوله، وشهد أنْ لا إله إلا الله وحدَهُ لا شريكَ له. لم يتَّخِذْ صاحبةً ولا ولدًا، وأنَّ محمدًا عبدُه ورسوله؛ وأدعوك بدعاية الله، فإنِّي أنا رسولُه، فأسلمْ تَسْلَمْ {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64] فإنْ أبَيْتَ فعليكَ إثْمُ النَّصَارَى من قومِك".

هكذا ذكره البيهقي بعد قصة هجرة الحبشة، وفي ذِكْره هاهنا نظر، فإن الظاهرَ أنَّ هذا الكتاب إنما هو إلى النجاشي الذي كان بعد المسلم صاحبِ جعفرٍ وأصحابه، وذلك حين كتَبَ إلى ملوكِ الأرض يدعوهم إلى الله عز وجل قُبيل الفتح، كما كتب إلى هِرَقْلَ عظيمِ الرُّوم قيصر الشام، وإلى كسرى ملك الفرس، وإلى صاحب مصر، وإلى النجاشي.

قال الزُّهْري: كانت كتبُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم إليهم واحدة يعني نسخةً واحدة، وكلُّها فيها هذه الآية وهي من سورة آلِ عمران، وهي مدنيَّة بلا خلاف، فإنَّهُ من صَدْر السورة، وقد نزل ثلاث وثمانون آية من أولها في وَفْد نَجْرَان كما قرَّرْنا ذلك في التفسير ولله الحمد والمنة. فهذا الكتاب إلى الثاني لا إلى الأول، وقوله فيه إلى النجاشي الأصحم، لعلَّ الأصحم مقحمٌ من الراوي بحسب ما فهم. والله أعلم.

وأنسب من هذا ها هنا ما ذكره البيهقي

(3)

أيضًا عن الحاكم، عن أبي الحسن محمد بن عبد الله الفقيه

(1)

في الدلائل: لا نألوا.

(2)

دلائل النبوة (2/ 308) وما يأتي بين معقوفين منه، وأخرجه الحاكم في المستدرك (2/ 623) كتاب التاريخ من كتاب الهجرة الأولى إلى الحبشة.

(3)

في دلائل النبوة (2/ 309).

ص: 304

-بمرو- حدَّثنا حماد بن أحمد، حدَّثنا محمد بن حُميد، حدَّثنا سَلَمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق قال: بعث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضَّمْري إلى النجاشي في شأنِ جعفر بن أبي طالب وأصحابه، وكتب معه كتابًا: "بسم الله الرحمن الرحيم، من محمدٍ رسول الله إلى النجاشي الأصْحم ملكِ الحَبَشة، سلامٌ عليك، فإني أحمد إليك الله الملكَ القدُّوس المؤمنَ المُهَيْمنَ، وأشهدُ أنَّ عيسى روحُ الله وكلمتُه ألقاها إلى مريم البَتُول

(1)

الطيبة الحصينة، فحملتْ بعيسى، فخلقَهُ من رُوحه ونَفْخَتِه، كما خلَقَ آدم بيده ونفخه، وإني أدعوك إلى الله وحدَهُ لا شريكَ له، والموالاة على طاعَتِه وأنْ تتَّبِعَني فتؤمنَ بي وبالذي جاءني، فإني رسولُ الله، وقد بعثتُ إليك ابنَ عمِّي جعفرًا، ومعه نفرٌ من المسلمين، فإذا جاؤوك فأقِرَّهم ودع التجَبُّر فإنَي أدعوك وجنودَك إلى الله عز وجل، وقد بلَّغْتُ ونصحت، فاقبلوا نصيحتي، والسلام على من اتَّبع الهُدى".

فكتب النجاشي إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم، إلى محمدٍ رسولِ الله من النجاشي، الأصحم بن أبجر، سلامٌ عليك يا نبيَّ الله، من الله ورحمة الله وبركاته، لا إله إلا هو الذي هدَاني إلى الإسلام، فقد بلغني كتابُكَ يا رسول الله فيما ذكرتَ من أمْرِ عيسى، فَوَربِّ السماءِ والأرض إنَّ عيسى ما يزيد على ما ذكرت، وقد عرفْنا ما بُعثتَ به إلينا، وقرَيْنا ابنَ عمِّك وأصحابَه، فأشهدُ أنَّكَ رسولُ الله صادقًا ومصدَّقًا وقد بايعتك

(2)

وبايعتُ ابنَ عمِّك، وأسلمتُ على يديه للهِ ربِّ العالمين، وقد بعثتُ إليك يا نبي الله بأريحا بن الأصحم بن أبجر، فإنِّي لا أمْلِكُ إلا نفسي، وإنْ شئتَ أنْ آتيكَ فعلتُ يا رسولَ الله، فإنِّي أشهدُ أنَّ ما تقولُ حقّ

(3)

.

‌فصل في ذِكر مخالفة قبائل قريش بني هاشم وبني عبد المطلب في نصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحالفهم فيما بينهم عليهم، على أن لا يبايعوهم ولا يُناكحوهم حتى يُسلموا إليهم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وحَصْرهم إيَّاهم في شِعْبِ أبي طالب مدَّةً طويلة، وكتاباتهم بذلك صحيفةً ظالمة فاجرة؛ وما ظهر في ذلك كلِّه من آياتِ النبوَّة ودلائل الصدق

قال موسى بن عقبة عن الزهري

(4)

: ثم إن المشركين اشتدوا على المسلمين كأشد ما كانوا، حتى بلغ

(1)

زادت ط: الطاهرة. وليست هذه الزيادة في ح أو الدلائل.

(2)

في ح: تابعتك. وكذا في إحدى نسخ الدلائل.

(3)

إسناده ضعيف لضعف محمد بن حميد الرازي، فضلًا عن إرساله.

(4)

الدلائل للبيهقي (2/ 311).

ص: 305

المسلمين الجهد، واشتدَّ عليهم البلاء واجتمعمت

(1)

قريشٌ في مكْرها أنْ يقتلوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم علانيةً. فلما رأى أبو طالب عملَ القوم جمع بني عبد المطلب وأمرهم أنْ يُدْخِلوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم شِعْبَهُمْ، وأمرهم أنْ يمنعوه ممن أرادوا قتله. فاجتمع على ذلك مسلمُهم وكافرُهم، فمنهم من فعله حميَّةً، ومنهم من فعله إيمانًا ويقينًا؛ فلما عرفتْ قريش أنَّ القوم قد منعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأجمعوا على ذلك اجتمع المشركون من قريش فأجمعوا أمرهم أن لا يجالسوهم ولا يبايعوهم ولا يدخلوا بيوتهم حتى يُسلموا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم للقَتْل، وكتبوا في مكْرهم صحيفةً وعهودًا ومواثيق، لا يقبلوا

(2)

من بني هاشم صُلْحًا أبدًا، ولا تأخذهم بهم

(3)

رأفة حتى يسلموه للقتل.

فلبث بنو هاشم في شِعْبهم ثلاثَ سنين، واشتدَّ عليهم البلاءُ والجهد، وقطعوا عنهم الأسواق، فلا يتركوا

(4)

لهم طعامًا يقدم مكة، ولا بيعًا إلا بادروهم إليه فاشترَوْه يريدون بذلك أنْ يدركوا سفكَ دمِ رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فكان أبو طالب إذا أخذ الناسُ مضاجعَهم أمر رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فاضطجع على فراشِه حتى يرى ذلك من أراد به مكرًا واغتيالًا له، فإذا نامَ الناسُ أمر أحدَ بنيه أو إخوته أو بني عمه فاضطجعوا على فراش رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وأمر رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أنْ يأتيَ بعضَ فُرشِهم فينامَ عليه؛ فلما كان رأس ثلاثِ سنين تلاوم رجالٌ من بني عبد مناف ومن [بني]

(5)

قصي، ورجالٌ سواهم من قريش قد ولدَتْهم نساءٌ من بني هاشم، ورأوا أنهم قد قطعوا الرَّحِم واستخفُّوْا بالحق، واجتمع أمرُهم من ليلتهم على نقض ما تعاهدوا عليه من الغَدْر والبراءةِ منه، وبعث الله على صحيفتهم الأرَضَة

(6)

فلَحِسَتْ كلَّ ما كان فيها من عهدٍ وميثاق.

ويقال: كانتْ معلَّقةً في سقف البيت، فلم تتركِ اسمًا لله فيها إلا لَحِسَتْه، وبقي ما كان فيها من شِرْكٍ أو ظلم أو قطيعة رحم؛ وأطلع اللهُ عز وجل رسولَهُ على الذي صنع بصحيفتهم، فذكر ذلك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لأبي طالب. فقال أبو طالب: لا والثواقب

(7)

ما كذبني. فانطلق يمشي بعصابةٍ من بني عبد المطلب حتى أتى المسجدَ وهو حافلٌ من قريش، فلما رأوهم عامدين لجماعتهم أنكروا ذلك، وظنُّوا أنهم خرجوا من شدَّة البلاء، فأتَوْهم ليعطوهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فتكلم أبو طالب فقال: قد حدَثتْ أمورٌ بينكم لم نذكُرْها لكم، فأْتُوا بصحيفتِكم التي تعاهدْتُم عليها فلعلَّه أن يكونَ بيننا وبينكم صُلْح. وإنما قال ذلك خشيةَ أنْ ينظروا في الصحيفة قبل أنْ يأتوا بها. فأتَوْا بصحيفتهم معجَبينَ بها، لا يشكُّون أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم

(1)

في ط: وجمعت، والمثبت من ح والدلائل.

(2)

كذا في ح، ط ودلائل البيهقي.

(3)

في الدلائل: به.

(4)

كذا في جميع الأصول والدلائل بحذف نون الرفع، وهي لغة.

(5)

الزيادة من الدلائل.

(6)

"الأرضة": دويبة، أو دودة تأكل (تلحس) الخشب ونحوه. المعجم الوسيط (أرض).

(7)

في ح: الثوابت، والمثبت من ط والدلائل؛ والثواقب: جمع ثاقب، وهو النجم المضيء، أو ما ارتفع من النجوم. اللسان (ثقب).

ص: 306

مدفوعًا

(1)

إليهم فوضعوها بينهم وقال: قد آن لكم أن تقبلوا وترجعوا إلى أمر يَجْمَعُ قومكم، فإنما قطع بيننا وبينكم رجلٌ واحد جعلتموه خطرًا لهلكة قومكم وعشيرتكم وفسادهم. فقال أبو طالب: إنما أتيتُكم لأعطيَكم أمرًا لكم فيه نَصَف

(2)

، إنَّ ابن أخي أخبرني -ولم يكذبْني- أنَّ الله بريءٌ من هذه الصحيفةِ التي في أيديكم، ومحا كلَّ اسمٍ هو له فيها، وترك فيها غَدْرَكم وقطيعتكم إيانا وتظاهرَكم علينا بالظُّلْم، فإنْ كان الحديثُ الذي قال ابنُ أخي كما قال فأفيقوا، فوالله لا نُسْلِمُه أبدًا حتى نموت من عند

(3)

آخرنا، وإن كان الذي قال باطلًا دفعناهُ إليكم فقتلتموه أو استحييتم.

قالوا: قد رَضِينا بالذي تقول، ففتحوا الصحيفة فوجدوا الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم قد أخبر خبرها، فلما رأتها قريش كالذي قال أبو طالب قالوا: والله إنْ كان هذا قطُّ إلا سحرٌ من صاحبكم. فارتكسوا وعادوا بشرِّ ما كانوا عليه من كفرهم، والشدَّة على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم والقيام على رهطه بما تعاهدوا عليه

(4)

. فقال أولئك النفر من بني عبد المطلب: إنَّ أولى بالكذب والسحر غيرُنا، فكيف ترَوْن؟ فإنَّا نعلم أن الذي اجتمعتم عليه من قطيعتنا أقربُ إلى الجبْتِ والسِّحْر من أمرنا، ولولا أنكم اجتمعتم على السحر لم تفسد صحيفتُكم، وهي في أيديكم طمس [الله]

(5)

ما كان فيها من اسمه، وما كان فيها من بغي تركه، أفنحن السَّحَرَةُ أم أنتم؟ فقال عند ذلك النَّفَرُ من بني عبد مناف وبني قُصَيّ ورجالٌ من قريش ولدتْهم نساءٌ من بني هاشم، منهم أبو البَخْتَري والمُطْعِم بن عدي، وزُهير بن أبي أمية بن المغيرة، وزَمَعَة بن الأسود، وهشام بن عمرو؛ وكانت الصحيفةُ عنده وهو من بني عامر بن لُؤَيّ -في رجالٍ من أشرافهم ووجوههم- نحن بُرَآءُ مما في هذه الصحيفة. فقال أبو جهل لعنه الله: هذا أمر قُضي بليل. وأنشأ أبو طالب يقول الشعر في شأن صحيفتهم ويمدح النفر الذين تبرَّؤوا منها ونقضُوا ما كان فيها من عهد ويمتدح النجاشي

(6)

.

قال البيهقي

(7)

: وهكذا روى شيخنا أبو عبد الله الحافظ -يعني من طريق ابنِ لهيعة عن أبي الأسود عن عروة بن الزبير- يعني كسياق موسى بن عقبة رحمه الله وقد تقدَّم عن موسى بن عقبة أنه قال: إنما كانت هجرة الحبشة بعد دخولهم إلى الشِّعب عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم في ذلك. فالله أعلم

(8)

.

(1)

كذا في ح، ط والدلائل، والوجه: مدفوع.

(2)

"النَّصَف": من الإنصاف وهو العدل، قال ابن الأعرابي: أنصف؛ إذا أخذ الحق وأعطى الحق، والاسم النَّصف والنصَفة محركتين، وتفسيره أن تعطيه من الحق كالذي تستحقه لنفسك. التاج (نصف).

(3)

في ح، ط: عندنا، والمثبت من الدلائل.

(4)

في الدلائل: والشدة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين رهطه، والقيام بما تعاهدوا عليه.

(5)

الزيادة من الدلائل.

(6)

القصيدة ستأتي.

(7)

في الدلائل (2/ 314).

(8)

انظر قول موسى بن عقبة في ص (282).

ص: 307

قلت: والأشبه أنَّ أبا طالب إنما قال قصيدته اللَّاميَّة التي قدَّمنا ذِكرها بعد دخولهم الشعب أيضًا فذِكْرُها ها هنا أنسب. والله أعلم.

ثم روى البيهقي

(1)

من طريق يونس، عن محمد بن إسحاق قال: لما مضى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على الذي بعث به [وقامَتْ بنو هاشم وبنو المطلب دونه، وأبَوْا أن يُسْلموه وهم من خلافه على مِثْلِ ما قومُهم عليه، إلا أنهم أنِفُوا أن يُستذلُّوا ويُسْلِموا أخاهم لمن فارقه من قومه. فلما فعلتْ ذلك بنو هاشم وبنو المطلب وعرفتْ قريش أنْ لا سبيلَ إلى محمد، اجتمعوا على أن]

(2)

يكتبوا فيما بينهم على بني هاشم وبني عبد المطلب أن لا يناكحوهم ولا ينكحوا إليهم ولا يبايعوهم ولا يبتاعوا منهم، وكتبوا صحيفةً في ذلك وعلَّقوها بالكعبة، ثم عدَوْا على مَنْ أسلم فأوثقوهم وآذَوْهم، واشتدَّ عليهم البلاء وعظمتِ الفتنة وزُلْزلُوا زِلْزالًا شديدًا.

ثم ذكر القصةَ بطولها في دخولهم شِعْبَ أبي طالب وما بلَغُوا فيه من فتنة الجهْد الشديد، حتى كان يسمعُ أصواتَ صبيانِهم يتضاغَوْنَ من وراء الشِّعْب من الجوع، حتى كره عامَّةُ قريش ما أصابهم وأظهروا كراهيتهم لصحيفتهم الظالمة، وذكر

(3)

أن الله برحمته أرسل على صحيفة قريش الأرَضة فلم تدَعْ فيها اسمًا هو لله إلا أكلَتْه وبقي فيها الظلم والقَطِيعة والبُهْتان، فأخبر اللهُ تعالى بذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فأُخبر بذلك عمُّه أبو طالب، ثم ذكر بقيَّة القصة كرواية موسى بن عقبة وأتم.

وقال ابنُ هشام

(4)

عن زيد عن محمد بن إسحاق: فلما رأت قريش أنَّ أصحابَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قد نزلوا بلدًا أصابوا فيها أمْنًا وقرارًا، وأنَّ النجاشِي قد مَنَعَ مَنْ لجأ إليه منهم، وأنَّ عمر قد أسلم فكان هو وحمزةُ مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وجعل الإسلام يَفْشُو في القبائل اجتمعوا وأتَمروا على أن يكتبوا كتابًا يتعاقدون فيه على بني هاشم وبني المطلب

(5)

على أن لا يُنكحوا إليهم ولا يُنكحوهم، ولا يبيعوهم شيئًا ولا يبتاعوا منهم؛ فلما اجتمعوا لذلك كتبوه

(6)

في صحيفة ثم تعاهدوا وتواثقوا على ذلك، ثم علَّقوا الصحيفة في جَوْف الكعبة توكيدًا على أنفسهم، وكان كاتبَ الصحيفة منصورُ بنُ عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي. قال ابنُ هشام: ويقال: النَّضْر بن الحارث، فدعا عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فشلَّ بعضُ أصابعه.

(1)

في الدلائل (2/ 314).

(2)

سقط ما بين المعقوفين من ح وتقويمه من الدلائل.

(3)

في ح، ط: وذكروا. والمثبت من الدلائل، والذي ذكر هو محمد بن إسحاق كما تقدم.

(4)

سيرة ابن هشام (1/ 350) والروض (2/ 101).

(5)

في ح، ط: وبني عبد المطلب، والمثبت من سيرة ابن هشام.

(6)

في ح، ط: كتبوا، والمثبت من سيرة ابن هشام.

ص: 308

وقال الواقدي: كان الذي كتب الصحيفة طلحة بن أبي طلحة العَبْدَري

(1)

.

قلت: والمشهور أنه منصور بن عكرمة كما ذكره ابن إسحاق، وهو الذي شَلَّتْ يدُه فما كان ينتفع بها، وكانت قريش تقول بينها: انظروا إلى منصور بن عكرمة.

قال الواقدي

(2)

: وكانت الصحيفة معلقة في جوف الكعبة.

قال ابن إسحاق

(3)

: فلما فعلتْ ذلك قريش انحازتْ بنو هاشم وبنو المطلب إلى أبي طالب فدخلوا معه في شِعْبِه واجتمعوا إليه، وخرج من بني هاشم أبو لهب عبدُ العُزَّى بن عبد المطلب إلى قريش فظاهرهم.

وحدَّثني حسين بن عبد الله، أن أبا لهب لقي هند بنت عتبة بن ربيعة حين فارق قومه وظاهر عليهم قريشا، فقال: يا ابنة عتبة، هل نصرتِ اللاتَ والعُزَّى وفارقتِ مَنْ فارقها وظاهر عليها

(4)

؟ قالت: نعم! فجزاك الله خيرًا يا أبا عتبة.

قال ابن إسحاق (3): وحُدِّثتُ أنه كان يقول -في بعض ما يقول- يَعِدُني محمد أشياءَ لا أراها يزعم أنها كائنةٌ بعد الموت، فماذا وضع في يدي بعد ذلك، ثم ينفخ في يدَيْه فيقول: تبًّا لكما، لا أرى فيكما شيئًا مما يقول محمد. فأنزل الله تعالى {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1].

قال ابن إسحاق

(5)

: فلما اجتمعتْ على ذلك قريش وصنعوا فيه الذي صنعوا قال أبو طالب: [من الطويل]

ألا أبلِغَا عنِّي على ذاتِ بيننا

لُؤَيًا وخُصَّا من لُؤَيٍّ بني كَعْبِ

(6)

ألم تعلموا أنا وجدْنا محمدًا

نبيًا كموسى خُطَّ في أولِ الكُتْبِ

(7)

وأنَّ عليه في العبادِ محبةً

ولا خير ممَّنْ خصَّهُ اللهُ بالحُبِّ

(8)

(1)

في ط: العبدوي، والمثبت من ح والإكمال (6/ 349).

(2)

قول الواقدي في طبقات ابن سعد (1/ 209).

(3)

سيرة ابن هشام (1/ 351) والروض (2/ 102).

(4)

في سيرة ابن هشام والروض: فارقهما وظاهر عليهما.

(5)

سيرة ابن هشام (1/ 352) والروض (2/ 102) والشعر فقط في السير والمغازي ص (157).

(6)

هذه رواية ط وسيرة ابن هشام والروض. ورواية ح:

ألا بلِّغا عني قريشًا وبيتنا

لؤيًا وخصَّا من لؤي بني كعب

وفي السير:

على ذات نايها، والمثبت من سيرة ابن هشام والروض وقال السهيلي فيه (2/ 109): "ذات بيننا وذات يده وما كان نحوه: صفة لمحذوف مؤنث، كأنه يريد الحال التي هي ذات بينهم، كما قال الله سبحانه:{وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} ، فكذلك إذا قلت ذات يده، يريد أمواله أو مكتسباته.

(7)

رواية ح: نبيًا كما قد خط

، وفي الهامش: كموسى، وفوقها حرف: خ إشارة إلى رواية نسخة.

(8)

قال السهيلي: معلقًا على الشطر الثاني في الروض (2/ 110): وهو مشكل جدًّا لأن "لا" في باب التبرئة لا تنصب مثل هذا إلا منونًا تقول: لا خيرًا من زيد في الدار، و لا شرًا من فلان، وإنما تنصب بغير تنوين إذا كان الاسم غير=

ص: 309

وأن الذي ألصقْتُمُ من كتابكم

لكم كائنٌ نحسًا كراغيةِ السَّقْبِ

(1)

أفيقوا أفيقوا قبل أنْ يُحفَرَ الثَّرَى

ويصبحَ من لم يجنِ ذنبًا كذي الذنْب

ولا تَتْبَعُوا أمرَ الوشاةِ وتقطعوا

أواصرَنا بعدَ المودَّة والقُرْبِ

(2)

وتستَجلِبوا حَرْبًا عَوانًا وربما

أمَرَّ على مَن ذاقه حَلَبُ الحرب

(3)

فلسنا وربِّ البيتِ نُسْلم أحمدًا

لعزَّاءَ من حضَّ الزمانِ ولا كَرْب

(4)

ولما تَبِنْ منَّا ومنكُم سوالفٌ

وأيدٍ تبارَتْ بالقساسِيَةِ الشُّهْبِ

(5)

بمعتركٍ ضَيْقٍ ترى كِسَرَ القَنَا

بهِ والنسورَ الطُّخْمَ يعْكُفْنَ كالشَّرْبِ

(6)

كأن مَجَالَ الخيل في حَجَراتِهِ

ومعمعةَ الأبطالِ معركةُ الحرب

(7)

أليس أبونا هاشمٌ شُدَّ أزْرُهُ

وأوصَى بنيهِ بالطِّعانِ وبالضَّرْبِ

ولسنا نملُّ الحربَ حتى تملَّنا

ولا نشتكي ما قد ينوبُ من النَّكْبِ

ولكنَّنا أهلُ الحفائظِ والنُّهى

إذا طارَ أرواحُ الكماةِ من الرُّعْبِ

= موصول بما بعده كقوله تعالى: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} لأن عليكم ليس من صلة التثريب، لأنه في موضع الخبر؛ وأشبه ما يقال في بيت أبي طالب أن خير مخفف من "خيِّر" كهيِّن وميِّت وفي التنزيل {خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} [الرحمن: 70] هو مخفف من خيَّرات. وقوله "ممن من متعلقة بمحذوف، كأنه قال: لا خير أخير ممن خصه الله، وخير أخير: لفظان في جنس واحد فحسُن الحذف استثقالًا لتكرار اللفظ كما حسُن {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} و {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} لما في تكرار الكلمة مرتين من الثقل على اللسان

وفيه يجوز وجه آخر، وهو أن يكون حذف التنوين مراعاة لأصل الكلمة لأن خيرًا من زيد إنما معناه: أخير من زيد، وكذلك شر من فلان، إنما أصله: أشر على وزن أفعل، وحذف الهمزة تخفيفًا، وأفعل لا ينصرف، فإذا انحذفت الهمزة انصرف ونوِّن، فإذا توهمتها غير ساقطة التفاتًا إلى أصل الكلمة لم يبعد حذف التنوين على هذا الوجه مع ما يقويه من ضرورة الشعر. اهـ.

(1)

في ح: لصَّقتُم

لراعية الشعب. قال السهيلي في الروض (2/ 111): وقوله كراغية السقب: يريد ولد الناقة التي عقرها قدار، فرغا ولدها، فصاح برغائه كل شيء له صوت فهلكت ثمود عند ذلك، فضربت العرب ذلك مثلًا في كل هلكة اهـ.

(2)

في ح: وتقطعوا عناصرنا

(3)

جاء في الأساس (حلب): هذا فَيْءُ المسلمين وحَلَبُ أسيافهم. وذاقوا حلب أمرهم: أي وباله. وفي سيرة ابن هشام "جلب" بالجيم.

(4)

"العزَّاء": الشدة من مرض أو موت أو غير ذلك. الأساس (عزز).

(5)

قال السهيلي في الروض: (2/ 111): وقوله بالقساسية الشهب: يعني السيوف، نسبها إلى قساس، وهو مَعْدن حديد لبني أسد، وقيام اسم للجبل الذي فيه المعدن. ورواية ط والسيرة: وأيد أُتِرَّتْ. أي قطعت. وما أثبتُه رواية ح.

(6)

"النسور الطخم": هي السود الرؤوس، قاله صاحب العين، وقال أيضًا: الطخمة سواد في مقدَّم الأنف. الروض (2/ 111).

(7)

"الحَجَرات": النواحي مفردها. حجرة، وهي الناحية. اللسان (حجر).

ص: 310

قال ابن إسحاق

(1)

: فأقاموا على ذلك سنتَيْن أو ثلاثًا حتى جُهدوا، ولم يصلْ إليهمِ شيءٌ إلا سرًا مستخفيًا به مَنْ أراد صِلَتَهُمْ من قريش. وقد كان أبو جهل بنُ هشام -فيما يذكرون- لَقِي حَكيمَ بنَ حِزَام بن خُويلد بن أسد معه غلامٌ يحمل قمحًا، يُريد به عمَّتهُ خَدِيجة بنت خُويلد، وهي عند رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في الشِّعْب، فتعلَّق به وقال: أتذهبُ بالطعام إلى بني هاشم؟ والله لا تذهب أنت وطعامك حتى أفضحك بمكة. فجاءه أبو البَخْتَرِيِّ بنُ هشام بن الحارث بن أسد فقال: ما لك وله؟ فقال: يحمِلُ الطعام إلى بني هاشم. فقال له أبو البختريّ: طعامٌ كان لعمَّتِه عنده بعثتْ به إليه أتمنعه أنْ يأتيَها بطعامها؟ خلِّ سبيلَ الرجل. قال: فأبَى أبو جهل لعنه الله حتى نالَ أحدُهما من صاحبه، فأخذ أبو البختريِّ لَحْيَ بعيرٍ فضربه، فشجَّهُ ووطِئَهُ وطْئًا شديدًا، وحمزةُ بن عبد المطلب قريبٌ يرى ذلك، وهم يكرهون أن يبلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابَه فيشمتون بهم، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم على ذلك يدعو قومَهُ ليلًا ونهارًا وسِرًّا وإعلانًا وجهارًا مُبَاديا لأمر

(2)

الله تعالى، لا يتقي فيه أحدًا من الناس.

فجعلت قريشٌ حين منعَهُ الله منها وقام عمُّه وقومُه من بني هاشم وبني عبد المطلب

(3)

دونه وحالُوا بينهم وبين ما أرادوا من البَطْش به، يهمزونه ويستهزئون به ويخاصمونه وجعل القرآنُ ينزلُ في قريش بأحداثهم وفيمن نَصَبَ لعداوته، منهم من سُمّي لنا، ومنهم من نزل القرآن في عامَّةِ مَنْ ذكر الله من الكفار.

فذكر ابن إسحاق

(4)

أبا لهب ونزولَ السورةِ فيه، وأُميَّة بن خلف ونزول قوله تعالى:{وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [الهمزة: 1] السورة بكمالها فيه. والعاص بن وائل ونزول قوله: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا} [مريم: 77] فيه. وقد تقدَّم شيءٌ من ذلك. وأبا جهل بن هشام وقولهُ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم لتَتْرُكَنَّ سبَّ آلهتِنا أو لنسبَّنَّ آلهتك، ونزول قول الله فيه {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108] الآية. والنَّضْر بن الحارث بن كَلَدة بن علقمة

(5)

، وجلوسه بعد النبي صلى الله عليه وسلم في مجالسه حيث يتلو القرآن، ويدعو إلى الله، فيتلو عليهم النضْرُ شيئًا من أخبار رستم واسفنديار، وما جرى بينهما من الحروب في زمنِ الفرس، ثم يقول: والله ما محمدٌ بأحسنَ حديثًا مني، وما حديثُه

(1)

سيرة ابن هشام (1/ 353) والروض (2/ 103).

(2)

في ط: مناديًا بأمر الله، والمثبت من ح.

(3)

في السيرة والروض: وبني المطلب.

(4)

في سيرة ابن هشام (1/ 356 - 360).

(5)

زادت ط بين معترضتين ما نصه: ومنهم من يقول علقمة بن كلدة قاله السهيلي. وليست هذه الزيادة في ح ولعلها من النساخ لأن السهيلي أثبت نص ابن هشام كما هو ثم علق عليه بقوله الروض (2/ 115): وقال في نسبه: كلدة بن علقمة، وغيره من النساب يقول: علقمة بن كلدة، وكذلك ألفيته في حاشية كتاب الشيخ أبي بحر عن الوليد. اهـ. جمهرة الأنساب لابن حزم (ص 126).

ص: 311

إلا أساطير الأولين اكتتبها كما اكتتبها. فأنزلَ اللهُ تعالى: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفرقان: 5] وقوله: {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الجاثية: 7].

قال ابن إسحاق

(1)

: وجلس رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا

(2)

- يومًا مع الوليد بن المغيرة في المسجد، فجاء النَّضْر بن الحارث حتى جلس معهم، وفي المجلس غيرُ واحدٍ من رجال قريش، فتكلَّم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فعرض له النضر، فكلَّمه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حتى أفحمه، ثم تلا عليه وعليهم {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ} [الأنبياء: 98 - 100]. ثم قام رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وأقبل عبد الله بن الزِّبَعْرَى السَّهْمِيّ حتى جلس، فقال الوليد بن المغيرة له: والله ما قامَ النضْرُ بن الحارث لا بن عبد المطَّلبِ آنفًا وما قعد، وقد زعم محمدٌ أنَّا وما نعبدُ من آلهتنا هذه حَصَبُ جهنَّم. فقال عبد الله بن الزِّبَعْرَى: أَما والله لو وجدتُه لخصَمْتُه، فسلوا محمدًا أكلُّ ما

(3)

يُعبَدُ من دون الله حَصَب جهنم مع من عَبَدَه؟ فنحن نعبدُ الملائكة، واليهود تعبدُ عُزَيْرًا، والنصارى تعبدُ عيسى. فعجِبَ الوليدُ ومَنْ كان معه في المجلس من قول ابن الزِّبَعْرَى! ورأَوْا أنه قد احتجَّ وخاصم. فذُكر ذلك لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم. فقال:"كلُّ مَن أحبَّ أن يُعبد من دونِ الله فهو مع مَنْ عبَدَهُ في النَّار، إنَّهم إنما يعبدُون الشياطين ومن أمَرَتْهُمْ بعبادته". فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ} [الأنبياء: 101 - 102] أي: عيسى وعُزَير ومَنْ عُبد من الأحبار والرُّهْبان الذينَ مضَوْا على طاعةِ الله تعالى. ونزّل فيما يذكرون أنهم يعبدون الملائكة وأنها بناتُ الله {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء: 26]. والآيات بعدَها ونزّل في إعجاب المشركين بقول ابن الزِّبَعْرَى {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف: 57 - 58] وهذا الجدل الذي سَلَكُوه باطلٌ وهم يَعْلَمُون ذلك لأنهم قومٌ عَرَبٌ ومِنْ لُغتِهم أنَّ ما لما لا يعقل، فقوله:{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء: 98] إنما أُريدَ بذلك ما كانوا يعبدونه من الأحجار التي كانتْ صورَ أصنامٍ، ولا يتناولُ ذلك الملائكةَ الذين زعموا أنهم يعبدونهم في هذه الصور، ولا المسيحَ، ولا عُزيرًا، ولا أحدًا من الصالحين لأنَّ اللفظ لا يتناولهم لا لفظًا ولا معنىً. فهم يعلمون أنَّ ما ضربوه بعيسى بنِ مريم من المَثَل جدلٌ باطلٌ كما قال الله تعالى {وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ}. ثم قال:{إِنْ هُوَ} أي عيسى {إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} أي بنبوَّتنا {وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [الزخرف: 59] أي دليلًا على تمام قدرتنا على ما نشاء حيث خلقناه من أنثى بلا ذكر، وقد

(1)

سيرة ابن هشام (1/ 358) والروض (2/ 106).

(2)

في سيرة ابن هشام والروض: فيما بلغني.

(3)

في ط: أكل من بعده. والمثبت من ح وسيرة ابن هشام والروض.

ص: 312

خلقنا حواءَ من ذكرٍ بلا أنثى، وخلقنا آدم لا من هذا ولا من هذا، وخلَقْنا سائر بني آدم من ذكرٍ وأنثى كما قال في الآية الأخرى:{وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ} أي أَمَارةً ودليلًا على قُدْرتنا الباهرة {وَرَحْمَةً مِنَّا} [مريم: 21] نرحم بها مَنْ نشاء.

وذكر ابن إسحاق

(1)

: الأخنس بن شَريق ونزول قوله تعالى فيه: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} [القلم: 10] الآيات، وذكر الوليد بن المغيرة حيث قال: أينزَّلُ على محمدٍ وأُترك وأنا كبيرُ قريش وسيِّدُها، ويترك أبو مسعود عمرو بن عُمير

(2)

الثقفي سيد ثقيف فنحن عظيما القريتين. ونزل قوله فيه {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} (2) والتي بعدها.

وذكر

(3)

أُبيَّ بن خلف حين قال لعقبة بن مُعَيط: ألم يَبْلُغْني أنك جالستَ محمدًا وسمعتَ منه، وَجْهي من وجهك حرام إلا أنْ تتْفُلَ في وجهه. ففعل ذلك عدوُّ الله عقبةُ لعنَهُ الله، فأنزل الله {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَاوَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا} [الفرقان 27 - 28] والتي بعدها. قال: ومشى أُبَيُّ بن خلف بعظمٍ بالٍ قد أرَمَّ

(4)

فقال: يا محمد، أنت تزعمُ أن الله يبعث هذا بعدما أرمّ. ثم فتَّهُ بيده ثم نفخَهُ في الرِّيح نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال:"نعم، أنا أقولُ ذلك، يبعثُهُ الله وإيَّاك بعدَما تكونانِ هكذا، ثم يُدخلكَ النار". فأنزل الله تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس: 78 - 79] إلى آخر السورة.

قال: واعترضَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فيما بلغني -وهو يطوف عند باب الكعبة- الأسودُ بن المغيرة، وأميَّةُ بن خلف، والعاص بن وائل فقالوا: يا محمد، هَلُمَّ فلنعْبُدْ ما تعبد، وتعبدُ ما نعبد، فنشترك نحن وأنتَ في الأمر. فأنزل الله فيهم {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [الكافرون: 1 - 2] إلى آخرها.

ولما سمع أبو جهل بشجرة الزَّقُّوم. قال: أتدرون ما الزَّقُّوم؟ هو تمر يثرب

(5)

بالزُّبْد. ثم قال: هلمُّوا فلنتزقَّمْ. فأنزلَ الله تعالى {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ} [الدخان: 43 - 44].

(1)

في سيرة ابن هشام (1/ 360) والروض (2/ 107).

(2)

في ح: عمرو بن عمرو وفي أصل ط: عمرو بن عمر والمثبت من سيرة ابن هشام (1/ 361) واختلف فيمن نزلت هذه الآية {عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} من بني ثقيف؛ فقيل: نزلت بأبي مسعود عروة بن مسعود، أو حبيب بن عمرو بن عمير الثقفي، أو مسعود بن عمرو بن عمر الثقفي، أو كنانة بن عمرو بن عمير. تفسير الطبري (13/ 65) وتفسير ابن كثير (7/ 374، 375) في تفسير آية 31 من سورة الزخرف.

(3)

يعني ابن إسحاق في سيرة ابن هشام (1/ 361).

(4)

"أرمَّ": بلي؛ وفي السيرة: ارفثَّ. ومعناه تحطم وتكسَّر. اللسان (رمم، رمُت).

(5)

في ط: يضرب، والمثبت من ح وسيرة ابن هشام والروض. قال السهيلي في الروض (2/ 118).

ص: 313

قال

(1)

: ووقف الوليد بن المغيرة فكلَّم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم يكلِّمُه وقد طَمِع في إسلامه فمرَّ به ابنُ أمِّ مكتوم -عاتكة بنت عبد الله بن عَنْكَثَة

(2)

- الأعمى، فكلَّم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وجعل يستقرئه القرآن، فشقَّ ذلك عليه حتى أضْجَرَه، وذلك أنه شغَلَهُ عمَّا كان فيه من أمْرِ الوليدِ وما طمع فيه من إسلامه، فلما أكثر عليه انصرف عنه عابسًا، وتركه فأنزل الله تعالى {عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى} إلى قوله {مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ} [عبس: 1 - 14].

وقد قيل: إنَّ الذي كان يحدِّث رسولَ الله صلى الله عليه وسلم حين جاءه ابنُ أمِّ مكتوم أميةُ بن خلف. فالله أعلم.

ثم ذكر ابنُ إسحاق

(3)

مَنْ عاد من مهاجرة الحبشة إلى مكة وذلك حين بلغهم إسلامُ أهلِ مكة، وكان النقلُ ليس بصحيح، ولكن كان له سبب، وهو ما ثبت في الصحيح وغيره أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس يومًا مع المشركين، وأنزل الله عليه {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ} [النجم: 1 - 2] يقرؤها عليهم حتى ختمها وسجد. فسجد مَنْ هناك مِنَ المسلمين والمشركين والجنِّ والإنس، وكان لذلك سببٌ ذكرهُ كثيرٌ من المفسِّرين عند قوله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحج: 52] وذكروا قصة الغَرَانِيق

(4)

، وقد أحببنا الإضرابَ عن ذكرها صفحًا لئلا يسمعها مَنْ لا يضَعُها على مواضيعها، إلا أنَّ أصلَ القصة في الصحيح.

قال البخاري

(5)

: حدَّثنا أبو معمر، حدَّثنا عبد الوارث، حدَّثنا أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: سَجَدَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالنجم، وسجد معه المسلمون والمشركون والجنُّ والإنس.

انفرد به البخاري دون مسلم.

وقال البخاري

(6)

: حدَّثنا محمد بن بشار، حدَّثنا غُنْدَر، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق، سمعتُ الأسود، عن عبد الله قال: قرأ النبيُّ صلى الله عليه وسلم والنجم بمكة، فسجد فيها وسجد مَنْ معه غيرَ شيخٍ أخذَ كفًّا من حصًا -أو تراب- فرفعه إلى جَبْهَتِهِ وقال: يكفيني هذا، فرأيتُه بعد [ذلك] قُتل كافرًا.

ورواه مسلم وأبو داود والنسائي من حديث شعبة

(7)

.

(1)

يعني ابن إسحاق في سيرة ابن هشام (1/ 363) والروض (2/ 108).

(2)

ليس ما بين المعترضتين في ح ولا في سيرة ابن هشام، وهو في الروض وترجمته في الإصابة عمرو بن أم مكتوم ويقال: اسمه عبد الله.

(3)

سيرة ابن هشام (1/ 365) وما بعدها.

(4)

قصة الغرانيق باطلة.

(5)

فتح الباري (4862) التفسير باب فاسجدوا لله واعبدوا.

(6)

فتح الباري (1067) سجود القرآن باب ما جاء في سجود القرآن وسنتها. وما يأتي بين معقوفين منه.

(7)

صحيح مسلم (576)(105) المساجد ومواضع الصلاة باب سجود التلاوة، وسنن أبي داود (1406) الصلاة باب =

ص: 314

وقال الإمام أحمد

(1)

: حدَّثنا إبراهيم، حدَّثنا رباح، عن معمر، عن ابن طاووس، عن عكرمة بن خالد، عن جعفر بن عبد المطلب بن أبي وَدَاعَة، عن أبيه قال: قرأ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بمكة سورةَ النجم، فسجد وسجد من عنده، فرفعتُ رأسي وأبَيْتُ أنْ أسجد -ولم يكن أسلم يومئذ المطلب- فكان بعد ذلك

(2)

لا يسمعُ أحدًا يقرؤها إلا سجد معه.

وقد رواهُ النَّسائي

(3)

عن عبد الملك بن عبد الحميد، عن أحمد بن حنبل به.

وقد يجمع بين هذا والذي قبلَه بأنَّ هذا سجد ولكنه رفع رأسه استكبارًا، وذلك الشيخ الذي استثناهُ ابنُ مسعود لم يسجد بالكَليَّة. والله أعلم.

والمقصود أنَّ الناقل لما رأى المشركين قد سجدوا متابعةً لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم اعتقد أنهم قد أسلموا واصطلحوا معه، ولم يبق نزاعٌ بينهم. فطار الخبر بذلك وانتشر حتى بلغ مهاجرةَ الحبشة بها، فظنُّوا صحة ذلك، فأقبل منهم طائفةٌ طامعين بذلك. وثبتتْ جماعةٌ، وكلاهما محسِنٌ مُصيبٌ فيما فعل، فذكر ابن إسحاق

(4)

أسماء مَنْ رجعَ، منهم: عثمان بن عفان، وامرأتُه رُقَيَّة بنتُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وأبو حُذَيفة بن عُتبة بن رَبيعة، وامرأته سَهْلَة بنت سُهَيل، وعبد الله بن جَحْش بن رِئَاب، وعُتْبَة بن غَزْوان، والزُّبير بن العوَّام، ومُصعب بن عُمير، وسُوَيبط بن سعد، وطُلَيب بن عمر، وعبد الرحمن بن عَوْف والمِقْدَاد بن عمرو، وعبد الله بن مسعود، وأبو سلمة بن عبد الأسد، وامرأتُهُ أم سلمة بنت أبي أُمَيَّة بن المغيرة، وشَمَّاس بن عثمان، وسَلَمة بن هشام، وعيَّاش بن أبي ربيعة - وقد حُبسا بمكة حتى مضت بدرٌ وأُحُد

(5)

والخندق -وعمَّار بن ياسر- وهو ممَّنْ شُكَّ فيه أَخَرَجَ إلى الحبشة أمْ لا. ومُعَتِّب بن عوف، وعثمان بن مَظْعون، وابنه السائب، وأخواه قدامة وعبد الله ابنا مظعون، وخُنَيْس بن حُذَافة، وهشام بن العاص بن وائل -وقد حُبس بمكة إلى بعد الخندق- وعامر بن ربيعة، وامرأته ليلى بنت أبي حَثْمة، وعبد الله بن مَخْرَمة، وعبد الله بن سُهيل بن عمرو -وقد حُبس حتى كان يوم بدر فانحاز إلى المسلمين فشهد معهم بَدْرا- وأبو سَبْرَة بن أبي رُهْم، وامرأته أم كلثوم بنت سُهيل، والسكران بن عمرو بن عبد شَمْس، وامرأتُه سَوْدَة بنت زمعة - وقد ماتَ بمكة قبل الهجرة، وخَلَف على امرأته رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وسعد بن خَوْلَة، وأبو عُبيدة بن الجرَّاح، وعمرو بن الحارث بن زهير، وسُهَيل بن بَيْضاء، وعمرو بن أبي سَرْح، فجميعُهم ثلاثةٌ وثلاثونَ رجلًا رضي الله عنهم.

= من رأى فيها السجود، وسنن النسائي (959) الافتتاح باب السجود في والنجم.

(1)

في مسنده (3/ 420) رقم (15403 - 15404).

(2)

ليست اللفظة في مسند أحمد.

(3)

سنن النسائي (958) الافتتاح باب السجود في والنجم، وهو حديث صحيح.

(4)

سيرة ابن هشام (1/ 365) وما بعدها.

(5)

في ح، ط: مضت بدرًا واحدًا، والمثبت من سيرة ابن هشام.

ص: 315

وقال البخاري

(1)

: وقالت عائشة: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أُريتُ دارَ هجرتِكُمْ ذاتَ نخلٍ بينَ لابتَيْن" فهاجر مَنْ هاجر قِبَلَ المدينة، ورجَعَ عامَّةُ مَنْ كان هاجر إلى الحبشة إلى المدينة، فيه عن أبي موسى وأسماء رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وقد تقدَّم حديثُ أبي موسى وهو في الصحيحيْن

(2)

، وسيأتي حديثُ أسماء بنت عُمَيس بعد فتح خيبر حين قَدِمَ مَنْ كان تأخَّر من مهاجرةِ الحَبَشةِ إنْ شاء الله وبه الثقة

(3)

.

وقال البخاري

(4)

: حدَّثنا يحيى بن حمَّاد: حدَّثنا أبو عَوَانة، عن سليمان، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، قال: كنَّا نسلِّمُ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم وهو يصلِّي، فيرُدُّ علينا، فلما رجعنا من عند النَّجاشي سلَّمنا عليه فلم يرُدَّ علينا، فقلنا: يا رسول الله، إنَّا كنَّا نسلِّمُ عليك فتردُّ علينا، فلما رجعنا من عند النجاشي لم تردَّ علينا؟ قال:"إنَّ في الصلاة شُغْلًا".

وقد روى البخاري أيضًا ومسلم وأبو داود والنسائي من طرُق أُخَر عن سليمان بن مهران عن الأعمش به

(5)

؛ وهو يقوِّي تأويل مَنْ تأوَّل حديثَ زيد بن أرقم الثابت في الصحيحين

(6)

: كنا نتكلَّم في الصلاة حتى نزلَ قوله: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] فأُمِرْنا بالسُّكوت ونُهينا عن الكلام.

على أنَّ المراد جنس الصحابة، فإنَّ زيدًا أنصاريٌّ مدنيّ، وتحريمُ الكلام في الصلاة ثَبَتَ بمكة، فتعيَّنَ الحَمْلُ على ما تقدَّم. وأمَّا ذكْرُه الآية وهي مدنيَّة فمشكل، ولعلَّه اعتقدَ أنَّها المحرِّمة لذلك، وإنما كان المحرِّم له غيرُها معها، والله أعلم.

قال ابن إسحاق

(7)

: وكان ممن دخل معهم بِجِوَارٍ؛ عثمان بن مظعون في جوار الوليد بن المغيرة، وأبو سلمة بن عبد الأسد في جوارِ خاله أبي طالب، فإنَّ أُمَّهُ بَرَّة بنتَ عبد المطَّلب. فأما عثمان بن

(1)

فتح الباري (7/ 186) مناقب الأنصار بهجرة الحبشة. هكذا رواه هنا معلقًا مجزومًا، وأخرجه موصولًا في باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة (3905) عن عائشة في حديث طويل. وأخرجه أيضًا في (2297) الكفالة باب جوار أبي بكر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعقده.

(2)

تقدم حديث أبي موسى في ص (288 ح 6)، وروايته التامة في فتح الباري (3876) مناقب الأنصار وباب هجرة الحبشة، وصحيح مسلم (2502)(169) فضائل الصحابة باب فضائل جعفر بن أبي طالب.

(3)

سيأتي في (4/ 205) ط.

(4)

فتح الباري (3875) مناقب الأنصار باب هجرة الحبشة.

(5)

فتح الباري (1199) العمل في الصلاة باب ما ينهى من الكلام في الصلاة و (1216) باب لا يرد السلام في الصلاة، وصحيح مسلم (538)(34) المساجد ومواضع الصلاة باب تحريم الكلام في الصلاة، وسنن أبي داود (923) الصلاة باب رد السلام في الصلاة، وسنن النسائي (1221) السهو باب الكلام في الصلاة.

(6)

فتح الباري (1200) العمل في الصلاة باب ما ينهى من الكلام في الصلاة، و (4534) التفسير باب وقوموا لله قانتين، وصحيح مسلم (539)(35) المساجد ومواضع الصلاة باب تحريم الكلام في الصلاة.

(7)

سيرة ابن هشام (1/ 369).

ص: 316

مظعون فإنَّ صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف حدَّثني عمن حدَّثه عن عثمان قال: لما رأى عثمان بن مظعون ما فيه أصحابُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم من البلاء وهو يروح ويغدو في أمانٍ من الوليد بن المغيرة قال: والله إنَّ غُدُوِّي ورَوَاحي في جوار رجلٍ من أهل الشِّرْك، وأصحابي وأهلُ ديني يَلْقَوْنَ من البلاء والأذى في الله ما لا يُصيبني لنقصٌ كبير

(1)

في نفسي. فمشى إلى الوليد بن المغيرة فقال له: يا أبا عبد شمس، وفَتْ ذِمَّتُك، وقد رددتُ إليك جِوارَك. قال: لِمَ يا ابنَ أخي؟ لعلَّه آذاك أحدٌ من قومي! قال: لا، ولكنِّي أرضَى بجوارِ الله عز وجل، ولا أريد أن أستجيرَ بغيره. قال: فانطلقْ إلى المسجد فاردُدْ عليَّ جوارِي علانيةً كما أجَرْتُكَ علانيةً. قال: فانطلقا فخرجا حتى أتيا المسجد، فقال الوليد بن المغيرة: هذا عثمان قد جاء يردُّ عليَّ جواري. قال: صَدَقَ، قد وجدْتُه وفيًّا كريم الجِوار، ولكنِّي قد أحببتُ أنْ لا أستجيرَ بغيرِ الله فقد رددتُ عليه جِواره. ثمَّ انصرف عثمان رضي الله عنه ولَبيدُ بن ربيعة بن مالك بن جعفر في مجلسٍ من قريش يُنشدِهُم، فجلس معهم عثمان فقال لبيد:[من الطويل]

* ألا كُلُّ شيءٍ ما خَلا اللهَ باطِلُ *

فقال عثمان: صَدَقْت. فقال لَبيد:

* وكلُّ نعيمٍ لا محالةَ زائلُ

(2)

*

فقال عثمان: كذبت، نعيمُ الجنَّةِ لا يزول. فقال لبيد: يا معشر قريش، والله ما كان يُؤذَى جليسُكُم، فمتى حدَثَ هذا فيكم؟ فقال رجلٌ من القوم: إنَّ هذا سَفِيه في سفهاءَ معه قد فارقوا دينَنا، فلا تَجِدَنَّ في نفسك من قوله. فردَّ عليه عثمان حتى شَرِيَ أمْرُهما

(3)

، فقام إليه ذلك الرجل ولطَمَ عَيْنَه فخضَّرَها والوليد بن المغيرة قريب يَرَى ما بلغ عثمان. فقال: أما والله يا ابن أخي إنْ كانت عينُك عمَّا أصابها لغَنِيَّة، ولقد كنت في ذمَّةٍ منيعة. قال يقول عثمان: بل والله، إنَّ عيني الصحيحة لفقيرةٌ إلى مثل ما أصاب أختَها في الله، وإني لفي جوارِ مَنْ هو أعزُّ منك وأقدر يا أبا عبد شمس. فقال له الوليد: هلمَّ يا بن أخي إلى جوارِك فعُدْ. قال: لا.

قال ابن إسحاق

(4)

: وأما أبو سلمة بن عبد الأسد، فحدَّثني أبي إسحاقُ بن يسار، عن سَلَمة بن عبد الله بن عمر بن أبي سلمة، أنه حدَّثه أن أبا سلمة لما استجار بأبي طالب مشى إليه رجالٌ من بني مَخْزوم فقالوا له: يا أبا طالب، هلَّا

(5)

منعت منا ابنَ أخيك محمدًا فمالك ولصاحبنا تمنعه منَّا؟ قال: إنَّه استجار بي، وهو ابنُ أُختي، وإنْ أنا لم أمنعِ ابنَ أختي لم أمنع ابن أخي. فقام أبو لهب فقال: يا معشر

(1)

في ح، ط: كثير، والمثبت من سيرة ابن هشام.

(2)

البيت في شرح ديوان لبيد (ص 256) من قصيدة يرثي فيها النعمان بن المنذر، وتخريجه فيه (ص 389).

(3)

"شري أمرهما": أي عظم وتفاقم ولجُّوا فيه. النهاية لابن الأثير (شري).

(4)

سيرة ابن هشام (1/ 371) والروض (2/ 121).

(5)

في سيرة ابن هشام: لقد منعت

ص: 317

قريش، والله لقد أكثرتم على هذا الشيخ، ما تزالون تتواثبون عليه في جواره من بين قومه، والله لتنتهنَّ أو لنقومنَّ معه في كلِّ ما قام فيه حتى يبلغ ما أراد. قالوا: بل ننصرف عما تكره يا أبا عُتيبة

(1)

. وكان لهم وليًّا وناصرًا على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فأبقَوْا على ذلك، فطمع فيه أبو طالب حين سمعه يقولُ ما يقول، ورجا أن يقوم معه في شأنِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو طالب يُحرِّضُ أبا لهبٍ على نصرتِه ونصرةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم

(2)

: [من الطويل]

وإنَّ امرءًا أبو عُتَيْبة عمُّهُ

لفي روضةٍ ما إنْ يُسَامُ المظالما

أقول لهُ، وأينَ منه نَصِيحتي

أبا مُعْتبٍ ثبِّتْ سَوادك قائما

ولا تقبلَنَّ الدهرَ ما عشتَ خُطَّةً

تُسَبُّ بها إمَّا هبطْتَ المواسما

ووَلِّ سبيلَ العجز غيرَك منهمُ

فإنك لم تُخلقَ على العجزِ لازما

وحاربْ فإنَّ الحربَ نِصْفٌ ولن ترى

أخا الحرب يُعطى الخَسْفَ حتى يسالما

وكيفَ ولم يَجْنُوا عليكَ عظيمةً

ولم يخذلوك غانمًا أو مُغارما

جزى اللهُ عنَّا عبدَ شمسٍ ونَوْفَلًا

وتَيْمًا ومخزومًا عُقُوقًا ومَأثما

بتفريقهمْ من بعدِ وُدٍّ وأُلفةٍ

جماعتَنا كيما ينالوا المحارِما

كذبتم وبيتِ الله نُبْزَى محمدًا

ولما ترَوْا يومًا لدى الشِّعْبِ قائمًا

(3)

قال بن هشام: وبقى منها بيتٌ تركناه.

‌ذكر عَزْم الصدِّيق على الهجرة إلى أرض الحبشة

قال ابن إسحاق

(4)

: وقد كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه كما حدَّثني محمد بن مسلم الزُّهْري، عن عروة، عن عائشة حين ضاقَتْ عليه مكة، وأصابه فيها الأذى، ورأى من تظاهر قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ما رأى، استأذنَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة فأذِنَ له، فخرج أبو بكرٍ رضي الله عنه مهاجرًا حتى إذا سار من مكة يومًا -أو يومين- لقيَهُ ابنُ الدُّغُنَّة

(5)

أخو بني الحارث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة وهو

(1)

في ط وسيرة ابن هشام: عتبة، والمثبت من ح.

(2)

لم أجد الأبيات في ديوان شيخ الأباطح.

(3)

انظر صدر هذا البيت في (ص 264 موضع ح 4).

(4)

سيرة ابن هشام (1/ 372) والروض (2/ 121).

(5)

قال ابن حجر في الفتح (7/ 233): ابن الدغنة: بضم المهملة والمعجمة وتشديد النون عند أهل اللغة، وعند الرواة بفتح أوله وكسر ثانيه وتخفيف النون؛ قال الأصيلي وقرأه لنا المروزي بفتح الغين. وقيل: إن ذلك لاسترخاء في لسانه والصواب الكسر، وثبت بالتخفيف والتشديد من طريق، وهي أمه وقيل أم أبيه وقيل دابته، ومعنى الدغنة المسترخية وأصلها الغمامة الكثيرة المطر.

ص: 318

يومئذ سيد الأحابيش

(1)

فقال

(2)

: أين يا أبا بكر؟ قال: أخرَجني قومي وآذَوْني وضيَّقُوا عليَّ قال: ولم؟ فوالله إنَّك لتزيِّنُ العشيرة، وتُعين على النوائب، وتفعل المعروف، وتكسِبُ المعدوم؛ ارجعْ فإنك في جِوَارِي. فرجع حتى إذا دخل مكة قام ابنُ الدُّغُنَّة فقال: يا معشر قريش، إني قد أجرتُ ابنَ أبي قُحافة فلا يعرِضْ له

(3)

أحدٌ إلا بخير. قالت: فكفُّوا عنه. قالت: وكان لأبي بكر مسجد عند باب داره في بني جُمَح، فكان يصلي فيه، وكان رجلًا رقيقًا إذا قرأ القرآن استبكى. قالت: فيقف عليه الصبيانُ والعبيد والنساء يَعْجَبُون لما يَرَوْنَ من هيئته! قالت: فمشى رجالٌ من قريش إلى ابنِ الدُّغُنَّة فقالوا: يا ابنَ الدُّغُنَّة، إنك لم تُجِرْ هذا الرجل ليؤذيَنا، إنه رجلٌ إذا صلَّى وقرأ ما جاء به محمد يَرقّ، وكانت له هيئة، ونحن نتخوَّف على صبياننا ونسائنا وضعفائنا أن يَفْتِنَهم، فأْتِهِ فمُرْهُ بأن يدخل بيته فليصنَعْ فيه ما شاء. قالت: فمشى ابن الدُّغُنَّة إليه فقال: يا أبا بكر، إني لم أُجِرْكَ لتؤذيَ قومَك. وقد

(4)

كرهوا مكانك الذي أنت به وتأذَّوْا بذلك منك، فادْخُلْ بيتك فاصنع فيه ما أحببت. قال: أوَ أردّ عليك جوارك وأرْضَى بجوارِ الله؟ قال: فارْدُدْ عليَّ جواري. قال: قد ردَدْتُه عليك. قالت: فقام ابنُ الدُّغُنَّة فقال: يا معشر قريش، إنَّ ابنَ أبي قُحَافة قد ردَّ علي جواري فشأنكم بصاحبكم.

وقد روى الإمام البخاري هذا الحديث متفردًا به، وفيه زياداتٌ حسنة، فقال

(5)

: حدَّثنا يحيى بن بُكير، حدَّثنا الليث، عن عُقَيل، قال ابن شهاب

(6)

: فأخبرني عروة بن الزُّبير أنَّ عائشة زوجَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قالت: لم أعْقِلْ أبويَّ

(7)

قط إلا وهما يَدِينان الدِّين، ولم يَمُرَّ علينا يوم إلا يأتينا فيه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم طرَفي النهار بُكْرَةً وعشيَّة، فلما ابتُليَ المسلمون خرج أبو بكر مهاجرًا نحو أرض الحبشة، حتى إذا بلغ بَرْكَ الغِمَاد، لَقِيَهُ ابنُ الدُّغُنَّة -وهو سيدُ القارَة- فقال: أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر: أخرجني قومي

(1)

في ح: القارَة، وسيأتي، والقارة: قبيلة مشهورة من بني الهون بن خزيمة كما في جمهرة الأنساب لابن حزم (ص 188، 190) وسيرة ابن هشام (1/ 373) وفتح الباري (7/ 233).

(2)

زادت ط ما نصه: قال الواقدي: اسمه الحارث بن يزيد أحد بني بكر من عبد مناة بن كنانة. وقال السهيلي: اسمه مالك. قلت: جعلتُ هذه الزيادة في الحاشية لأنها ليست في ح، من جهة ولا يعقل أن تكون من ابن إسحاق لتقدمه على الواقدي والسهيلي من جهة أخرى، ثم إن ابن كثير ينقل عن ابن إسحاق وهو ما جاء في سيرة ابن هشام الذي أحلت عليه في أول الخبر. وقول السهيلي هذا في الروض (2/ 127) أما قول الواقدي فلم أجده في طبقات ابن سعد. ولعل هذه الزيادة كانت تعليقًا في الحاشية على الكتاب فأدخلها بعض النساخ إلى المتن. والله أعلم.

(3)

في سيرة ابن هشام (1/ 373): فلا يعترض إليه.

(4)

في ح: أي قد وفي سيرة ابن هشام: إنهم قد. وهو أشبه.

(5)

فتح الباري (3905) مناقب الأنصار باب هجرة النبي وأصحابه إلى المدينة، وساقه مختصرًا في (476) الصلاة باب المسجد يكون في الطريق من غير ضرر بالناس.

(6)

في ط: قال ابن هشام. تحريف، والمثبت من ح وفتح الباري. وعُقيل هو ابن خالد بن عقيل الأيلي الأموي مولى عثمان، ترجمته في تهذيب التهذيب، يروي عن ابن شهاب الزهري وعنه الليث بن سعد.

(7)

في ح، ط: أبواي، والمثبت من فتح الباري.

ص: 319

فأريد أنْ أسيحَ في الأرض فأعبدَ ربِّي. فقال ابنُ الدغنَّة: فإنَّ مثلكَ يا أبا بكر لا يخرجُ ولا يُخرَجُ مثله، إنك تَكْسِبُ المعدوم، وتصِلُ الرَّحِم، وتحمِلُ الكَلّ، وتَقْري الضيف، وتُعينُ على نوائب الحق. وأنا لك جارٌ فاعبُدْ ربَّك ببلدك. فرجع وارتحل معه ابن الدُّغُنَّة، وطافَ ابنُ الدغنَة عشيةً في أشراف قريش فقال لهم: إنَّ أبا بكر لا يَخْرُجُ مثلُه ولا يُخرج، أتُخْرِجون رجلًا يكسِبُ المعدوم، ويصلُ الرَّحِم، ويحمِلُ الكَلَّ، ويَقْري الضيف، ويُعين على نوائب الحق؟ فلم تُكذِّبْ قريشٌ بجوارِ ابنِ الدغُنَّة وقالوا لابن الدُّغُنَّة: مُرْ أبا بكر فلْيعبُدْ ربَّه في داره ويصلِّ فيها ولْيقرأ ما شاء، ولا يؤذينا بذلك ولا يستعلنْ به، فإنا نخشى أنْ يفتِنَ نساءنا وأبناءنا. فقال ابنُ الدغنَّة ذلك لأبي بكر، فلبث أبو بكر بذلك يعبُدُ ربَّه في داره، ولا يستعلنُ بصلاته، ولا يقرأ في غير داره، ثم بَدَا لأبي بكر فابتنى مسجدًا بفِناءَ دارِه، وكان يصلِّي فيه ويقرأ القرآن، فيتقذَّفُ

(1)

عليه نساءُ المشركينَ وأبناؤهم [وهم] يعجبونَ منه وينظرون إليه. وكان أبو بكر رجلًا بكَّاءً لا يملكُ عينَيْهِ إذا قرأ القرآن، فأفزَعَ ذلك أشرافَ قريش من المشركين فأرسلوا إلى ابن الدغُنَّة فقدِم عليهم، فقالوا: إنَّا كنَّا أجرْنا أبا بكر بجوارك على أن يعبُدَ ربَّه في داره، فقد جاوز ذلك فابتنى مسجدًا بفِناء داره، فأعلن بالصلاة والقراءةِ فيه، وإنَّا قد خَشِينا أن يفتتن أبناؤنا ونساؤنا فانْهَهُ، فإنْ أحبَّ على أنْ يقتصرَ أنْ يعبُدَ ربَّه في دارِه فعل، وإنْ أبَى إلا أنْ يُعلن ذلك فسلْه أن يرُدَّ عليك ذِمَّتكَ، فإنَّا قد كرِهنا نخفرك، ولسنا مُقِرِّين لأبي بكرٍ الاستعلان. قالت عائشة: فأتى ابنُ الدغُنَّة إلى أبي بكر فقال: قد علمتَ الذي قد عاقدتُ عليه قريش، فإمَّا أن تقتصرَ على ذلك وإمَّا أنْ تردَّ إليَّ ذمَّتي، فإنِّي لا أحبُّ أن تسمعَ العربُ أنِّي أُخفرتُ في رجلٍ عقدتُ له. فقال أبو بكر: فإني أرُدُّ عليك جوارك وأرضى بجوارِ الله عز وجل.

ثم ذكر تمامَ الحديث في هجرة أبي بكرٍ رضي الله عنه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سيأتي مبسوطًا

(2)

.

قال ابنُ إسحاق

(3)

: وحدَّثني عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه القاسم بن محمد بن أبي بكر الصدِّيق قال: لقيه -يعني أبا بكر الصديق حين خرج من جوار ابنِ الدُّغُنَّة- سَفيهٌ من سفهاء قريش وهو عامدٌ إلى الكعبة، فحَثَا على رأسه ترابًا، فمر بأبي بكر الوليد بن المغيرة -أو العاص بن وائل- فقال له أبو بكر رضي الله عنه: ألا ترى ما يصنعُ هذا السَّفيه؟ فقال: أنت فعلتَ ذلك بنفسك. وهو يقول: أي ربِّ ما أحْلَمَكَ! أي ربِّ ما أحلمك! أي رب! ما أحلمك!

(1)

في ح: وكان نساء المشركين، والمثبت من النسخة المصرية بدلالة ط، وفتح الباري، وما يأتي بين معقوفين منه، قال ابن حجر (7/ 234): قوله فيتقذف، بالمثناة والقاف والذال المعجمة الثقيلة، تقدم في الكفالة بلفظ: فيتقصف. أي يزدحمون عليه حتى يسقط بعضهم على بعض فيكاد ينكسر، وأطلق يتقصف مبالغة. قال الخطابي: هذا هو المحفوظ، وأما يتقذف فلا معنى له إلا أن يكون من القذف أي يتدافعون فيقذف بعضهم بعضًا فيتساقطون عليه فيرجع إلى معنى الأول.

(2)

سيرد في ص (448) موضع الحاشية (1) من هذا الجزء.

(3)

سيرة ابن هشام (1/ 374) والروض (2/ 122).

ص: 320

‌فصل

كلُّ هذه القصص ذكرها ابنُ إسحاق معترضًا بها بين تعاقُدِ قريش على بني هاشم وبني المطلب وكتابتهم عليهم الصحيفة الظالمة وحضرهم إياهم في الشعب، وبين نقض الصحيفة وما كان من أمرها، وهي أمورٌ مناسبة لهذا الوقت، ولهذا قال الشافعى رحمه الله: من أراد المغازي فهو عيالٌ على ابن إسحاق.

‌ذكر نقض الصحيفة

قال ابن إسحاق

(1)

: هذا وبنو هاشم، وبنو المطلب في منزلهم الذي تعاقدت فيه قريش عليهم في الصحيفة التي كتبوها، ثمَّ إنَّه قام في نقضِ الصحيفة نفرٌ من قريش، ولم يُبْلِ فيها أحدٌ أحسنَ من بلاء هشام بن عمرو بن الحارث بن حُبَيْب

(2)

بن نصر بن مالك بن حِسْل بن عامر بن لؤي، وذلك أنه كان ابنَ أخي نَضْلَة بن هاشم بن عبد مناف لأُمه، وكان هشام لبني هاشم واصلًا، وكان ذا شرفٍ في قومه، فكان - فيما بلغني - يأتي بالبعير وبنو هاشم وبنو المطلب في الشِّعْب ليلًا، قد أوقره طعامًا، حتى إذا بلغ به فمَ الشِّعْب خلَع خِطَامه من رأسه ثم ضرب على جَنْبَيْه فدخل الشعبَ عليهم. ثم يأتي به قد أوقره بزًّا

(3)

فيفعل به مثل ذلك.

ثم إنَّه مشى إلى زهير بن أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر

(4)

بن مخزوم، وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب. فقال: يا زهير، أقد رضيتَ أنْ تأكلَ الطعام وتلبس الثياب وتَنْكِحَ النساء وأخوالُك حيثُ علمتَ لا يُباعون ولا يُبتاع منهم، ولا يَنكحون ولا يُنكح إليهم؟ أمَا إنِّي أحْلِفُ بالله لو كانوا أخوالَ أبي الحكم بن هشام ثم دعوتَهُ إلى مثل ما دعاك إليه منهم ما أجابك إليه أبدًا. قال: ويحك يا هشام، فماذا أصنع؟ إنما أنا رجلٌ واحد، والله لو كان معي رجلٌ آخر لقمتُ في نَقْضِها. قال: قد وجدت رجلًا، قال: مَنْ هو؟ قال: أنا. قال له زهير: ابْغِنَا ثالثًا. فذهب إلى المُطْعِم بن عدي فقال له: يا مُطْعِم أقد رضيتَ أن يَهْلِكَ بَطْنان من بني عبْد مناف وأنت شاهدٌ على ذلك موافق لقريش فيه، أما

(1)

السير والمغازي (ص 165) وسيرة ابن هشام (1/ 374) - واللفظ له - والروض (2/ 122).

(2)

اختلف في ضبطه: حُبَيْب بياء مخففة أم: حُبَيِّب بالتثقيل. انظر الإكمال (2/ 295) وحاشية المعلمي اليماني عليه رقم (3) ص (296، 297).

(3)

قال السهيلي في الروض: (2/ 127): بزًا، بالزاي المعجمة، وفي غير نسخة الشيخ أبي بحر: برًا؛ وفي رواية يونس: بزًا أو برًا على الشك من الراوي.

(4)

في ح، ط: عمرو، والمثبت من السير والمغازى وسيرة ابن هشام.

ص: 321

والله لئن أمكنتموهم من هذه لتجدُنَّهم إليها منكم سراعًا، قال: ويحك فماذا أصنع؟ إنما أنا رجلٌ واحد، قال: قدْ وجدتُ لك ثانيًا. قال: مَنْ؟ قال أنا؟ قال: ابْغِنَا ثالثًا. قال: قد فعلتُ. قال: من هو؟ قال: زهير بن أبي أمية. قال: ابْغِنا رابعًا.

فذهب إلى أبي البَخْتَرِيِّ بن هشام فقال نحو ما قال للمُطْعِم بن عَدِي؛ فقال: وهل تجد أحدًا يُعينُ على هذا؟ قال: نعم. قال: من هو؟ قال: زهير بن أبي أمية والمُطْعِم بن عَدِيّ وأنا معك. قال: ابْغِنَا خامسًا. فذهب إلى زَمَعَةَ بنِ الأسودِ بن المطلب بن أسد فكلَّمه وذكر له قرابتَهم وحقَّهم. فقال له: وهل على هذا الأمر الذي تدعوني إليه مِنْ أحد؟ قال: نعم. ثم سمَّى القوم. فاتعدوا خَطْمَ الحَجُون

(1)

ليلًا بأعلى مكة. فاجتمعوا هنالك وأجمعوا أمرهم وتعاقدوا على القيام في الصحيفة حتى ينقُضُوها. وقال زهير: أنا أبدؤكم فأكون أوَّلَ مَنْ يتكلَّم. فلما أصبحوا غدَوْا إلى أنديتهم، وغدا زهيرُ بن أبي أمية عليه حُفَة، فطاف بالبيت سبعًا ثمَّ أقبل على الناس فقال: يا أهل مكة، أنأكلُ الطعامَ، ونَلْبَسُ الثياب، وبنو هاشم هَلْكَى لا يبتاعونَ ولا يُبتاع منهم، والله لا أقعد حتى تُشَقَّ هذه الصحيفةُ القاطعة الظالمة.

قال أبو جهل - وكان في ناحيةِ المسجد -: والله لا تُشَقّ. قال: زَمَعَةُ بن الأسود: أنت والله أكذب، ما رضينا كتابَها حين كُتبت. قال أبو البَخْتَري: صدق زَمَعة، لا نرضى ما كُتب فيها ولا نُقِرُّ به. قال المُطْعِم بن عدي: صدقتما وكذبَ مَنْ قال غيرَ ذلك، نبَرأُ إلى الله منها ومما كُتب فيها. قال هشام بن عمرو نَحْوًا من ذلك. قال أبو جهل: هذا أمْرٌ قد قُضِيَ بليل، تُشوور فيه بغير هذا المكان، وأبو طالب جالسٌ في ناحيةِ المسجد، وقام المطعم بن عدي إلى الصحيفة ليشقَّها فوجد الأرَضة قد أكلَتْها إلا "باسمكَ اللهمّ" وكان كاتبَ الصحيفة منصورُ بن عكرمة، فشَلَّتْ يدُهُ فيما يزعمون.

قال ابن هشام

(2)

: وذكر بعضُ أهل العلم أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي طالب: "يا عم، إنَّ الله قد سلَّط الأرَضة على صحيفةِ قريش، فلم تدَعْ فيها اسمًا هو لله إلا أثبتَتْه فيها، ونفت منها الظُلم والقطيعة والبُهْتان". فقال: أرَبُّك أخبرك بهذا؟ قال: "نعم". قال: فوالله ما يدخل عليك أحد. ثمَّ خرج إلى قريش فقال: يا معشر قريش، إنَّ ابن أخي قد أخبرني بكذا وكذا، فهلمَّ صحيفتكم، فإنْ كانتْ كما قالوا فانتهوا عن قطيعتنا وانزلوا عنها، وإنْ كان كاذبًا دفعتُ إليكم ابنَ أخي. فقال القوم: قد رَضِينا. فتعاقدوا على ذلك، ثم نظروا فإذا هي كما قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فزادهم ذلك شرًّا، فعند ذلك صنع الرَّهْطُ من قريش في نَقْض الصحيفة ما صنعوا.

(1)

"الحجون": جبل بأعلى مكة عند مدافن أهلها، وقال السكري: مكان من البيت على ميل ونصف. وقال الأصمعي: الحجون هو الجبل المشرف الذي بحذاء مسجد البيعة على شعب الجزارين. معجم البلدان (2/ 225) وخطمُه: مقدمة أنفه، اللسان (خطم).

(2)

سيرة ابن هشام (1/ 377) والروض (2/ 124).

ص: 322

قال ابن إسحاق

(1)

: فلما مُزِّقتْ وبطلَ ما فيها قال أبو طالب فيما كان من أمْر أولئك القوم الذين قاموا في نَقْض الصحيفةِ يمدحُهم: [من الطويل]

ألا هل أتَى بَحْريَّنا صُنْعُ ربِّنا

على نأيْهم واللهُ بالناسِ أرْوَد

(2)

فيُخبِرَهم أنَّ الصحيفة مُزِّقت

وأنْ كلُّ ما لم يرضهُ اللهُ مُفْسَدُ

تراوحها إفْكٌ وسِحْرٌ مجمَّع

ولم يُلْفَ سِحْر آخرَ الدهرِ يصعد

(3)

تداعى لها مَن ليس فيها بقرقرٍ

فطائرُها في رأسِها يتردَّدُ

(4)

وكانت كفاءً وقعةً بأثيمةٍ

ليُقطعُ منها ساعدٌ ومقلَّدٌ

(5)

ويظعنُ أهل المَكَّتين فيهربوا

فرائصُهم من خشيةِ الشرِّ تُرْعَدُ

ويترك حرَّاثٌ يقلِّب أمْرَهُ

أَيُتْهِمُ فيهم عندَ ذلك ويُنْجِدُ

(6)

[وتصعد بين الأخشبَيْنِ كتيبةٌ

لها حُدُجٌ سَهْمٌ وقَوْسٌ ومِرْهَدُ]

(7)

فمَنْ ينْشَ من حُضَّارِ مكةَ عِزَّةً

فعزّتنا في بطنِ مكَّة أتلد

(8)

نشأنا بها والناسُ فيها قلائلٌ

فلم ننفكِكْ نزدادُ خيرًا ونُحمدُ

(1)

السير والمغازي (ص 167) وسيرة ابن هشام (1/ 377) والروض (2/ 124).

(2)

قال السهيلي في الروض (2/ 128): بحريَّنا: يعني الذين بأرض الحبشة نسبهم إلى البحر لركوبهم إياه

أرود: أي أرفق؛ ومنه: رويدك، أي رفقًا، جاء بلفظ التصغير لأنهم يريدون به تقليلا، أي أرفق قليلًا، اهـ.

(3)

في ح: ترى أوجهًا، وفي السيرة والمغازي: تداعى لها، وفي ح، ط: يلف سحرًا. والمثبت من سيرة ابن هشام والروض.

(4)

"من ليس فيها بقرقر": أي ليس بذليل، لأن القرقر: الأرض الموطوءة التي لا يمنع سالكها، ويجوز أن يريد به: ليس بذي هزل، لأن القرقرة الضحك. وقوله: وطائرها في رأسها يتردد: أي حظها من الشؤم والشر، وفي التزيل:{أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} .

(5)

في سيرة ابن هشام والروض: رقعة بأثيمة.

(6)

في ط: أيتهم فيها. والمثبت من ح والسيرة والروض.

(7)

سقط البيت من ح ويبدو أنه سقط من المصرية أيضًا لأنه وضع بين معقوفين في ط. وأثبتناه من السيرة والروض، وشرحه السهيلي (2/ 128) نقلًا عن حاشية الكناني بقوله: لعل "حُدُج" بضم الحاء والدال جمع "حِدْج" وهو من مراكب النساء ونظير سِتْر وسُتُر، فيكون المعنى: إن الذي يقوم لها مقام الحدُج سهم وقوس ومرهد. ثم قال: وفي العين: الحَدْج: حسك القطب ما دام رطبًا، فيكون الحدج في البيت مستعارًا من هذا، أي لها حسك، ثم فسره فقال: سهم وقوس ومِرْهد، وهكذا في الأصل بالراء وكسر الميم، فيحتمل أن يكون مقلوبًا من مرهد: مفعل من رهد الثوب إذا مزقه، ويعني به رمحًا أو سيفًا، ويحتمل أن يكون غير مقلوب، ويكون من الرهيد، وهو الناعم، أي ينعم صاحبه بالظفر. وفي بعض النسخ: مزهد بفتح الميم والزاي، فإن صحت الرواية به فمعناه: مزهد في الحياة وحرص على الممات. والله أعلم. اهـ.

(8)

في السيرة والروض: مكة عزُّه.

ص: 323

ونُطعِمُ حتى يتركَ الناسُ فضلَهم

إذا جَعلت أيدي المُفيضينَ تُرعَد

(1)

جزى الله رهطًا بالحَجُون تجمَّعوا

(2)

على مَلأٍ يَهدي لحزمٍ ويُرشد

قعودًا لدى خَطْم الحجُونِ كأنهم

مَقَاولةٌ بل هم أعزُّ وأمجدُ

(3)

أعانَ عليها كلُّ صقرٍ كأنه

إذا ما مشى في رَفْرَفِ الدِّرْع أحْرَدُ

(4)

جَرِيءٌ على جَلِّ

(5)

الخطوبِ كأنه

شهابٌ بكفَّيْ قابسٍ يتوقَّدُ

من الأكرمينَ من لؤيِّ بن غالبٍ

إذا سيمَ خسفًا وجهُه يتربَّدُ

(6)

طويلُ النِّجادِ خارجٌ نصفُ ساقِهِ

على وجهه يَسقي الغمامُ ويُسْعِدُ

عظيمُ الرمادِ سيّدٌ وابنُ سيّدٍ

يحُضُّ على مقرى الضيوفِ ويحشِدُ

ويبني لأبناءِ العشيرةِ صالحًا

إذا نحنُ طُفنا في البلادِ ويمهَدُ

ألظَّ بهذا الصلحِ كلُّ مُبَوَّأٍ

(7)

عظيمِ اللواءِ أمرُه ثمّ يُحمدُ

قضوا ما قضوا في ليلِهِم ثم أصبَحوا

على مَهَلٍ وسائرُ الناس رُقَّدُ

همُ رجعوا سهلَ بن بيضاءَ راضيًا

وسُرَّ أبو بكرٍ بها ومحمَّد

متى شُركَ الأقوامُ في حلِّ أمرنا

وكنَّا قديمًا قبلَها نتودَّدُ

(8)

وكنّا قديمًا لا نُقِرُّ ظُلامةً

وندركُ ما شِئنا ولا نتشدَّدُ

فيالَ قُصَيٍّ هل لكُم في نفوسِكم

وهلْ لكُمُ فيما يجيءُ به غَدُ

فإني وإياكُم كما قالَ قائلٌ

لديكَ البيانُ لو تكلّمتَ أسودٌ

(9)

(1)

"ترعد": يعني أيدي المفيضين بالقداح في الميسر، وكان لا يفيض معهم في الميسر إلا سخي

يريد أبو طالب إنهم يطعمون إذا بخل الناس. والميسر هي الجزور التي تقسم؛ يقال: يسرت إذا قسمت. الروض (2/ 129).

(2)

في السيرة والروض: تبايعوا.

(3)

مض شرح المقاول (ص 262 ح 1). وخطم الحجون (ص 322 ح 1).

(4)

"رفرف الدرع": فضولها، وقيل في معنى: رفرف خضر: فضول الفرش والبسط، وهو قول ابن عباس، وعن علي أنها المرافق، وعن سعيد بن جبير: الرفارف رياض الجنة. والأحرد: الذي في مثيه تثاقل، وهو من الحرَد، وهو عيب في الرِّجل.

(5)

في السيرة والروض: جُلَّى.

(6)

في ح: ابن لؤي.

(7)

"ألظَّ": من الإلظاظ، وهو الإلحاح كما في مختار الصحاح (لظظ)، وفي ط والسيرة والروض: كل مبرَّأ. والمثبت من ح.

(8)

في السيرة والروض: جل أمرنا بالجيم، وتقرأ في ح: متى يشرك لكها من غير نقط.

(9)

"أسود": اسم جبل كان قد قتل فيه قتيل، فلم يعرف قاتله، فقال أولياء المقتول هذه المقالة، فذهبت مثلًا. الروض (2/ 129). وقد زادت (ط) بعد هذا البيت ما نقلتُه هنا عن السهيلي في الروض، وزادت فيه قوله: أي يا أسود لو تكلمت لأبنت لنا عمن قتلته.

ص: 324

ثمَّ ذكر ابن إسحاق

(1)

شعر حسان يمدحُ المُطْعِمَ بن عديّ، وهشامَ بن عمرو لقيامهما في نقضِ الصحيفة الظالمة الفاجرة الغاشمة.

وقد ذكر الأموي هاهنا أشعارًا كثيرة اكتفينا بما أوردَهُ ابنُ إسحاق.

وقال الواقدي: سألتُ محمد بن صالح وعبد الرحمن بن عبد العزيز: متى خرج بنو هاشم من الشعب؟ قالا: في السنة العاشرة - يعني من البعثة - قبل الهجرة بثلاث سنين.

قلت: وفي هذه السنة بعد خروجهم توفي أبو طالب عمُّ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وزوجتُه خديجة بنت خويلد رضي الله عنها كما سيأتي بيانُ ذلك إن شاء الله تعالى.

‌فصل

وقد ذكر محمد بن إسحاق رحمه الله بعد إبطال الصحيفة قصصًا كثيرة تتضمَّنُ نَصْبَ عداوة قريش لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وتنفير أحياءَ العرب والقادمين إلى مكة لحجٍّ أو عمرة أو غير ذلك منه، وإظهار الله المعجزاتِ على يديه دلالةً على صدقه فيما جاءهم به من البيناتِ والهدى، وتكذيبًا لهم فيما يرمونه من البغي والعدوان والمكر والخداع، ويرمونه من الجنون والسحر والكهانة والتقوُّل، واللهُ غالبٌ على أمره، فذكر قصةَ الطفيل بن عمرو الدَّوْسي مرسلة

(2)

، وكان سيدًا مطاعًا شريفًا في دَوْس، وكان قد قدم مكة فاجتمع به أشرافُ قريش وحذَّروه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهَوْهُ أن يجتمعِ به أو يسمع كلامه؛ قال: فوالله ما زالوا بي حتى أجمعتُ أن لا أسمعَ منه شيئا ولا أكلِّمه، حتى حشَوْتُ أُذنيَّ حين غدوتُ إلى المجسد كُرْسُفًا

(3)

، فَرَقًا من أنْ يبلُغَني شيءٌ من قوله، وأنا لا أريد أن أسمعه. قال: فغدوتُ إلى المسجد فإذا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قائمٌ يُصلِّي عند الكعبة؛ قال: فقمتُ منه قريبًا فأبَى اللهُ إلا أن يُسمعَني بعضَ قوله، قال: فسمعتُ كلاما حسنًا. قال: فقلتُ في نفسي: واثكل أُمِّي، والله إني لرجلٌ لَبيبٌ شاعر ما يَخْفَى عليَّ الحسَنُ من القبيح، فما يمنعُني أن أسمعَ من هذا الرجل ما يقول، فإن كان الذي يأتي به حسنًا قبلتُه، وإنْ كان قبيحًا تركته.

قال: فمكثتُ حتى انصرفَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته فاتبعتُه، حتى إذا دخل بيته دخلتُ عليه فقلت: يا محمد، إنَّ قومك قالوا لي كذا وكذا - الذي قالوا - قال: فوالله ما بَرِحوا بي يُخَوِّفونني أمرَك حتى سددتُ أُذنيَّ بكُرْسُفٍ لئلا أسمع قولك، ثم أبَى اللهُ إلا أن يُسمعني قولك، فسمعتُ قولًا حسنًا، فاعرضْ عليَّ أمرك. قال: فعرض عليَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الإسلام وتلا عليَّ القرآن، فلا والله ما سمعتُ قولًا قطُّ

(1)

في سيرة ابن هشام (1/ 380) والروض (2/ 125).

(2)

سيرة ابن هشام (1/ 382) والروض (2/ 130).

(3)

"الكرسف": القطن. النهاية لابن الأثير (كرسف).

ص: 325

أحسنَ منه، ولا أمرًا أعدلَ منه. قال: فأسلمتُ وشهدتُ شهادة الحق وقلت: يا نبيَّ الله، إني امرؤٌ مطاعٌ في قومي، وأنا

(1)

راجعٌ إليهم وداعيهم إلى الإسلام، فادْعُ اللهَ أنْ يجعلَ لي آيةً تكونُ لي عونًا عليهم فيما أدعوهم إليه. قال فقال:"اللهمَّ اجعلْ له آية".

قال: فخرجتُ إلى قومي، حتى إذا كنت بثنيَّةٍ تطلعُني على الحاضِر

(2)

، وقع بين عينيّ نورٌ مثلُ المِصْباح. قال فقلت: اللهمَّ في غير وَجْهي، فإني أخشى أن يظنُّوا أنَّها

(3)

مثلة وقعَتْ في وجهي لفراقي دينَهم. قال: فتحوَّل فوقع في رأسِ سَوْطي قال: فجعل الحاضرُ يتراءَوْن ذلك النورَ في رأس سَوْطي كالقنديل المعلَّق وأنا أتهبَّطُ

(4)

عليهم من الثنيَّة حتى جئتهم فأصبحت فيهم.

فلما نزلتُ أتاني أبي - وكان شيخًا كبيرًا - فقلت: إليك عني يا أبة فلستُ منك ولستَ مني. قال: ولمَ يا بني؟ قال: قلت: أسلمتُ وتابعتُ دين محمد صلى الله عليه وسلم قال: أي بني، فدينك ديني

(5)

. فقلت: فاذهبْ فاغتسلْ وطهِّرْ ثيابك ثم ائتني حتى أعلِّمك مما عُلِّمت. قال: فذهبَ فاغتسل وطهَّر ثيابه، ثمَّ جاء فعرضتُ عليه الإسلام فأسلم.

قال ثم أتتني صاحبتي فقلت: إليكِ عني، فلستُ منكِ ولستِ مني. قالت: لم بأبي أنت وأُمِّي؟ قال: قلت: فرَّق بيني وبينكِ الإسلام، وتابعتُ دينَ محمد صلى الله عليه وسلم قالت: فديني دينُك. قال: فقلت فاذهبي إلى حنا

(6)

ذي الشَّرَى فتطهَّرِي منه - وكان ذو الشرى صنمًا لدَوْس، وكان الحمى حِمى حمَوْهُ له، به وشَلُ

(7)

من ماء يهبط من جبل - قالت: بأبي أنتَ وأُمِّي، أتخشى على الصبيَّة من ذي الشَّرَى شيئًا؟ قال: قلت: لا، أنا ضامنٌ لذلك. قال: فذهبَتْ فاغتسلتْ ثمَّ جاءتْ، فعرضتُ عليها الإسلام فأسلمتْ.

ثم دعوتُ دَوْسًا إلى الإسلام فأبطؤوا عليَّ، ثم جئتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بمكة. فقلتُ: يا رسول الله، إنه قد غلبني على دوسٍ الزِّنا فادْعُ اللهَ عليهم. قال: "اللهمَّ اهدِ دَوْسًا، ارْجِعْ إلى قومك فادْعُهم وارْفُقْ

(1)

في ط: وإني.

(2)

"الحاضر": القوم النزول على ماءٍ يقيمون به ولا يرحلون عنه. ويقال للمناهل المَحَاضر، للاجتماع والحضور عليه" النهاية لابن الأثير (حضر).

(3)

في ح، ط: يظنوا بها، والمثبت من سيرة ابن هشام.

(4)

"أتهبَّط": أي أتحدَّر. هكذا جاء في الرواية وهو بمعنى نهبط وأهبط. النهاية لابن الأثير (هبط).

(5)

في ح: ديني دينك، وفي السيرة: فديني دينك.

(6)

في ط: حمى، والمثبت من ح وسيرة ابن هشام والروض. قال السهيلي (2/ 136): حنا ذي الشرى، وقد قال ابن هشام: هو حمى، وهو موضع حموه لصنمهم ذي الشرى، فإن صحت رواية ابن إسحاق، فالنون تبدل من الميم، كما قالوا: حلان وحلام للجَدي. ويجوز أن يكون من حنوت العود، ومن محنية الوادي، وهو ما انحنى منه. اهـ.

(7)

"الوشل": القليل من الماء، وما بين معترضين هو قول ابن هشام كما في سيرته.

ص: 326

بهم". قال: فلم أزلْ بأرض دَوْس أدعوهم إلى الإسلام، حتى هاجر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ومضى بدرٌ وأحدٌ والخندق، ثم قدمتُ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بمن أسلم معي من قومي، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم بخيبر، حتى نزلتُ المدينة بسبعين - أو ثمانين بيتًا - من دَوْس، فلحقنا برسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر فأسهم لنا مع المسلمين.

ثم لم أزلْ مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم حتى فتح الله عليه مكة. فقلت: يا رسول الله، ابعثْني إلى ذي الكفَّيْن، صنم عمرو بن حُمَمَة حتى أُحرقه.

قال ابن إسحاق

(1)

: فخرج إليه فجعل الطفيل وهو يُوقدُ عليه النار يقول: [من الرجز]

يا ذا الكَفَينِ لستُ من عُبَّادكا

(2)

ميلادُنا أقْدَمُ من ميلادكا

* إني حشَوْتُ النارَ في فؤادكا *

قال: ثم رجع رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فكان معه بالمدينة حتى قُبض رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فلما ارتدَّتِ العرب خرج الطُّفيل مع المسلمين، فسار معهم حتى فرغوا من طُليحة ومن أرض نَجْدٍ كفَها، ثمَّ سار مع المسلمين إلى اليمامة ومعه ابنه عمرو بن الطُّفيل، فرأى رؤيا وهو متوجِّهٌ إلى اليمامة فقال لأصحابه: إنِّي قد رأيتُ رؤيا فاعْبُروها لي؛ رأيتُ أنَّ رأسي حُلق وأنه خرج من فمي طائر، وأنه لقيَتْني امرأةٌ فادخلَتْني في فَرْجها، وأرى ابني يطلُبني طلبًا حثيثًا، ثم رأيتُه حُبس عني؟ قالوا: خيرًا، قال: أمَّا أنا والله فقد أوَّلْتُها، قالوا: ماذا؟ قال: أمَّا حلْق رأسي فوضْعُه، وأما الطائر الذي خرج منه فرُوحي، ومَّا المرأة التي أدخلتني في فرجها فالأرض تُحفَرُ لي فأغَيَّبُ فيها. وأما طلَبُ ابني إيَّاي ثم حَبْسه عني، فإنِّي أراه سيجتهد أنْ يصيبه ما أصابني. فقُتل رحمه الله تعالى شهيدًا باليمامة، وجُرح ابنُه جراحة شديدة، ثم استَبَلَّ منها، ثمَّ قُتل عام اليرموك زمن عمر شهيدًا رحمه الله.

هكذا ذكر محمد بن إسحاق قصةَ الطُّفيل بن عمرو مرسلةً بلا إسناد. ولخبره شاهدٌ في الحديث الصحيح. قال الإمام أحمد

(3)

: حدَّثنا وكيع، حدَّثنا سفيان، عن أبي الزِّنَاد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: لما قدم الطفيل وأصحابُه على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قال: إنَّ دَوْسًا قد استعصتْ قال: "اللهمَّ اهْدِ دوسًا وأْتِ بِهِمْ".

(1)

سيرة ابن هام (1/ 385) والروض (2/ 132).

(2)

قال السهيلي في الروض (2/ 136): أراد: الكفَّين، بالتشديد، فخفف للضرورة، غير أن في نسخة الشيخ أن الصنم كان يسمى "ذا الكفين" وخفف الفاء بخطه بعد أن كانت مشددة، فدل أنه عنده مخفف في غير الشعر. فإن صحَّ هذا فهو محذوف اللام، كأنه تثنية كفاء، ومن كفأت الإناء.

(3)

في المسند (2/ 448) رقم (9746).

ص: 327

رواه البخاري

(1)

عن أبي نعيم، عن سفيان الثوري.

وقال الإمام أحمد

(2)

حدَّثنا يزيد، أخبرنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قدِم الطُّفيل بن عمرو الدُّوْسي وأصحابُه فقالوا: يا رسول الله، إنَّ دَوْسًا قد عَصَتْ وأبَتْ فادْعُ اللهَ عليها. قال أبو هريرة: فرفع رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يدَيْه فقلت: هلكَتْ دَوْس. فقال: "اللهمَّ اهْدِ دَوسًا، وأتِ بهم"

(3)

.

إسناد جيد ولم يخرجوه.

وقال الإمام أحمد

(4)

: حدَّثنا سليمان بن حرب، حدَّثنا حماد بن زيد، عن حجَّاج الصوَّاف، عن أبي الزُّبير، عن جابر، أنَّ الطُّفيل بن عمرو الدَّوْسي أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، هل لك في حصن حصين

(5)

ومنعة؟ - قال: حصنٌ كان لدَوْسٍ في الجاهلية - فأبَى ذلك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم للذي ذخَر اللهُ للأنصار، فلما هاجرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى المدينة هاجر إليه الطُّفيل بن عمرو، وهاجر معه رجلٌ من قومه، فاجتوَوُا المدينة، فمرض فجزِع، فأخذ مشاقص [له] فقطع بها براجمه فشخبَتْ يداه فما رقأ الدم حتى مات؛ فرآه الطفيل بن عمرو في منامه في هيئةٍ حسنة، ورآه مغطِّيًا يديه، فقال له: ما صنع ربُّك بك؟ فقال: غفر لي بهجرتي إلى نبيِّ صلى الله عليه وسلم. قال: فما لي أراك مغطِّيًا يديك؟ قال: قيل لي لن نُصلح

(6)

منك ما أفسدت. قال: فقصَّها الطُّفَيل على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"اللهمَّ وليدَيْه فاغْفِرْ".

رواه مسلم

(7)

عن أبي بكر بن أبي شيبة، وإسحاق بن إبراهيم، كلاهما عن سليمان بن حرب به.

فإنْ قيل: فما الجمعُ بين هذا الحديث وبين ما ثبت في الصحيحَيْن

(8)

من طريق الحسن عن جُندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كان فيمن كانَ قبلكم رجلٌ به جُزح فَجزع، فأخذَ سكِّينا، فجزَّ بها يده فما رَقَأ الدمُ حتى مات، فقال الله عز وجل: عبدي بادرني بنفسه، فحرَّمْتُ عليه الجنة".

فالجواب من وجوه: أحدها أنه قد يكون ذلك مشركًا وهذا مؤمن، ويكون قد جعل هذا الصنيع سببًا مستقلًا في دخوله النار وإنْ كان شركُه مستقلًا، إلا أنه نبَّه على هذا لتعتبر أمته.

(1)

فتح الباري (3492) المغازي باب قصة دوس والطفيل بن عمرو الدوسي.

(2)

في المسند (2/ 502) رقم (10474).

(3)

في المسند: وأت بها.

(4)

في المسند (3/ 370) وما سيأتي بين معقوفين منه.

(5)

في المسند: حصينة.

(6)

في ط: يصلح، والمثبت من مسند أحمد وصحيح مسلم.

(7)

في صحيحه (116)(184) الإيمان باب الدليل على أن قاتل نفسه لا يكفر.

(8)

فتح الباري (3463) أحاديث الأنبياء باب ما ذكر عن بني إسرائيل - واللفظ له - وصحيح مسلم (113)(180) و (181) الإيمان باب غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه.

ص: 328

الثاني: قد يكون ذلك عالمًا بالتحريم، وهذا غير عالم لحداثة عهده بالإسلام.

الثالث: قد يكون ذلك فعله مستحلًا له، وهذا لم يكن مستحلًا بل مخطئًا.

الرابع: قد يكون أراد ذلك بصنيعه المذكور أن يقتل نفسه بخلاف هذا فإنه يجوز أنه لم يقصِد قتل نفسه وإنما أراد غير ذلك.

الخامس: قد يكون ذلك قليل الحسنات فلم تقاوم كبرَ ذنْبِه المذكور فدخل النار، وهذا قد يكون كثير الحسنات، فقاومتِ الذنب فلم يلج النار بل غُفر له بالهجرة إلى نبيِّه صلى الله عليه وسلم.

ولكنْ بقي الشَّيْنُ في يده فقط، وحسُنَتْ هيئة سائره فغطَّى الشينَ منه، فلما رآه الطفيل بن عمرو مغطِّيًا يدَيْه قال له: ما لك؟ قال: قيل لي: لن نُصلح

(1)

منك ما أفسدت، فلما قصَّها الطفيل على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم دعا له فقال:"اللهمَّ وليديهِ فاغْفِرْ" أي: فأصْلِحْ منها ما كان فاسدًا. والمحقَّق أنَّ الله استجابَ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم في صاحب الطفيل بن عمرو.

‌قصَّة أعشى

(2)

بن قيس

قال ابن هشام

(3)

: حدَّثني خلاد بن قُرَّة بن خالد السَّدُوسي وغيرُه من مشايخ بَكْر بن وائل - من أهل العلم - أنَّ أعشى بن (2) قيس بن ثعلبة بن عُكَابة بن صَعْب بن علي بن بَكْر بن وائل خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يُريدُ الإسلام، فقال يمدح النبيَّ صلى الله عليه وسلم:[من الطويل]

ألم تغتمضْ عيناكَ ليلةَ أرمَدَا

وبتَّ كما باتَ السَّلِيمُ مسهَّدا

وما ذلك من عِشْقِ النساءَ وإنما

تناسيتَ قبلَ اليومِ صُحْبَةَ مَهْدَدا

(4)

ولكن أرى الدهرَ الذي هو خائن

(5)

إذا أصلحتْ كفَّاي عادَ فأفسدا

كُهولًا وشُبَّانًا فقدتُ وثروةً

فللهِ هذا الدهرُ كيفَ تردَّدا

وما زلتُ أبغي المالَ مُذْ أنا يافعٌ

وليدًا وكهلًا حين شِبْتُ وأمْرَدا

وأَبتذلُ العيسَ المراقيلَ تَغْتَلي

(6)

مسافةَ ما بين النُّجَير فَصَرْخَدا

(1)

في ط: يصلح، والمثبت من مسند أحمد وصحيح مسلم.

(2)

في سيرة ابن هشام: بني قيس، وكله صحيح.

(3)

سيرة ابن هشام (1/ 386). والأبيات في ديوان الأعشى (ص 135).

(4)

في ط والديوان: خلة مهددا، والمثبت من ح وسيرة ابن هشام.

(5)

في الديوان: خاتر.

(6)

في ح، ط: تعتلي. بالعين المهملة، والمثبت من السيرة والديوان وأساس البلاغة، والبيت فيه (غلي)، وتغتلي: من الاغتلاء وهو الإسراع.

ص: 329

ألا أيُّهذا السائلي أينَ يَمَّمَتْ

فإنَّ لها في أهل يثربَ مَوْعِدا

فإنْ تسألي عني فيا رُبَّ سائلٍ

حَفِي عن الأعشى به حيثُ أصعدا

أجدَّتْ برجلَيْها النَّجاءَ وراجعتْ

يداها خِنافًا ليّنًا غيرَ أحردا

(1)

وفيها إذا ما هجَّرَتْ عجرفيَّةٌ

إذا خلتَ حرباءَ الظهيرةِ أصيدا

(2)

وآليتُ لا آوِي لها من كلالةٍ

ولا من حَفى حتى تُلاقي محمَّدا

(3)

متى ما تُناخي عند بابِ ابن هاشمٍ

تُراحي وتلقَيْ من فواضله نَدَى

نبيٌّ يرى ما لا تَرَوْن وذِكرُه

أغارَ لَعمري في البلاد وأنجدَا

له صدقاتٌ ما تُغِبُّ ونائلٌ

فليسَ عَطاءُ اليومِ مانعَهُ غدا

أجِدَّكَ لم تسمعْ وصاةَ محمدٍ

نبي الإلهِ حيثُ أوصى وأَشهدا

إذا أنتَ لم ترحل بزادٍ من التُّقى

ولاقيتَ بعد الموتِ مَن قد تزوَّدا

ندمتَ على أن لا تكونَ كمثلِهِ

فترصدَ للأمر الذي كان أرصدا

فإياكَ والميتاتِ لا تقرَبَنَّها

ولا تأخذنْ سهمًا حديدًا لِتَفْصِدَا

وذا النُصُب المنصوبِ لا تَنْسُكَنَّهُ

ولا تعبدِ الأوثانَ واللهَ فاعْبُدا

ولا تقربَنَّ جارةً كان سِرُّها

(4)

عليكَ حرامًا فانكحَنْ أو تأبَّدَا

(5)

وذا الرحِمِ القُربى فلا تقطعنَّهُ

لعاقبةٍ ولا الأسيرَ المقيَّدا

وسبِّحْ على حينِ العشية والضحى

(6)

ولا تَحَمدِ الشيطانَ واللهَ فاحْمَدا

ولا تَسْخَرَنْ من بائسٍ ذي ضَرارةٍ

ولا تحسبنَّ المالَ للمرءَ مُخْلِدا

(1)

في ح: النجاة. وفي ط: النجاد. والمثبت من السيرة والديوان. وخنافًا من خنفت الناقة تخنف بيديها في السير، إذا مالت بهما نشاطًا. ولينًا غير أحرد: أي تفعل ذلك من غير حرد في يديها، أي اعوجاج. الروض (2/ 137).

(2)

يكون الجمل عجرفيَّ المشي، وفيه تعجرف وعجرفية وعجرفة: قلة مبالاة لسرعته. القاموس (عجرف). والأصيد المائل العنق؛ ولما كانت الحرباء تدور بوجهها مع الشمس كيفما دارت، كانت في وسط السماء في أول الزوال كالأصيد، وذلك أحرُّما تكون الرمضاء. يصف ناقته بالنشاط وقوة المشي في ذلك الوقت. الروض (2/ 137).

(3)

في ح والديوان: حتى تزور محمدا. وآليت لا آوي لها من كلالة ولا من حفى: أي لا أرقُّ لها ولا أرحمها ويروى: ولا من جنى. وهما بمعنى كما في الروض (2/ 137).

(4)

في سيرة ابن هشام: ولا تقربن حرة، وفي ح: كان أمرها.

(5)

قوله: فالله فاعبدا، وقف على النون الخفيفة بالألف، وكذلك فانكحن أو تأبدا، ولذلك كتبت في الخط بألف، لأن الوقف عليها بالألف، وقد قيل في مثل هذا، إنه لم يرد النون الخفيفة، وإنما خاطب الواحد بخطاب الاثنين، وزعموا أنه معروف في كلام العرب. الروض (2/ 138).

(6)

في السيرة والديوان: العشيات.

ص: 330

قال ابن هشام: فلما كان بمكة - أو قريب منها - اعترضه بعضُ المشركين من قريش، فسأله عن أمره، فأخبره أنه جاء يريدُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لِيُسلم. فقال له: يا أبا بَصير، إنَّهُ يُحرِّم الزِّنا. فقال الأعشى: والله إنَّ ذلك لأمرٌ مالي فيه من أَرَب. فقال: يا أبا بصير، إنَّه يحرِّمُ الخمر. فقال الأعشى: أمَّا هذه فوالله إنَّ في نفسي منها لَعُلالات، ولكني منصرفٌ فأتروَّى منها عامي هذا، ثمَّ آتيه فأسلم. فانصرف فمات في عامه ذلك ولم يَعُدْ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم.

هكذا أورد ابنُ هشام هذه القصة هاهنا، وهو كثيرُ المؤاخذات لمحمد بن إسحاق رحمه الله، وهذا مما يؤاخَذُ به ابنُ هشام رحمه الله، فإنَّ الخمر إنما حُرِّمت بالمدينة بعد وقعة بني النَّضِير كما سيأتي بيانه، فالظاهر أنَّ عَزمَ الأعشى على القدوم للإسلام إنما كان بعد الهجرة، وفي شعره ما يدلُّ على ذلك وهو قوله:[من الطويل]

ألا أيُّهذا السائلي أين يممتْ

فإنَّ لها في أهلِ يثربَ مَوْعِدا

وكان الأنسب والأليق بابن هشام أن يؤخِّرَ ذِكر هذه القصة إلى ما بعد الهجرة، ولا يُوردَها هاهنا. والله أعلم.

قال السُّهيلي

(1)

: وهذه غفلةٌ من ابنِ هشام ومَنْ تابعه، فإنَّ الناس مجمعون على أنَّ الخمر لم ينزل تحريمُها إلا في المدينة بعد أُحُد.

وقد قال

(2)

: وقيل: إنَّ القائل للأعشى هو أبو جهل بن هشام في دار عتبة بن ربيعة.

وذكر أبو عبيدة أن القائل له ذلك هو عامر بن الطفيل في بلاد قيس وهو مقبلٌ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم. قال وقوله: ثمَّ آته فأُسلم - لا يخرجُه عن كفره بلا خلاف. والله أعلم.

ثم ذكر ابن إسحاق

(3)

هاهنا قصة الإراشي وكيف استعدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبي جهل في ثمن الجمل الذي ابتاعه منه، وكيف أذلَّ اللهُ أبا جهلٍ وأرغم أنفَه حتى أعطاه ثمنه في الساعة الراهنة، وقد قدَّمنا ذلك في ابتداءِ الوحي وما كان من أذيَّة المشركين عند ذلك

(4)

.

(1)

في الروض (2/ 136).

(2)

يعني السهيلي في الروض.

(3)

في سيرة ابن هشام (1/ 389) والروض (2/ 133).

(4)

مضى الخبر (ص 250).

ص: 331

‌قصّة مصَارعة رُكانة وكيف أراه الشجرة التي دعاها فأقبلتْ صلى الله عليه وسلم

-

قال ابن إسحاق

(1)

: وحدَّثني أبي إسحاقُ بن يسار قال: وكان رُكانة بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف أشدَّ قريش

(2)

فخلا يومًا برسولِ الله صلى الله عليه وسلم في بعض شعاب مكة، فقال له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"يا رُكانة، ألا تتقي الله وتقبل ما أدعوك إليه؟ " قال: إني لو أعلم أنَّ الذي تقولُ حق لاتَّبعتُك. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفرأيت إنْ صرعتُك، أتعلم أنَّ ما أقولُ حقّ؟ " قال: نعم. قال: "فقُمْ حتى أُصارعَك". قال: فقام رُكانةُ إليه فصارعه، فلما بطش به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أضْجعه لا يملك من نفسه شيئًا ثم قال: عُدْ يا محمد، فعاد فصرعه. فقال: يا محمد، والله إنَّ هذا للعجب! أتصرعني؟ قال:"وأعجب من ذلك إنْ شئت أُريكه إن اتقيت الله واتبعتَ أمري". قال: وما هو؟ قال: "أدعو لك هذه الشجرة التي ترى فتأتيني". قال: فادْعُها. فدعاها فأقبلتْ حتى وقفتْ بين يديْ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقال لها: ارجعي إلى مكانك فرجعتْ إلى مكانها.

قال: فذهب رُكانةُ إلى قومه فقال: يا بني عبد مناف، ساحِرُوا بصاحبِكم أهلَ الأرض، فواللهِ ما رأيتُ أسحرَ منه قطّ. ثمَّ أخبرَهم بالذي رأى والذي صنَع.

هكذا روى ابنُ إسحاق هذه القصة مرسلة بهذا البيان. وقد روى أبو داود والترمذي

(3)

من حديث أبي الحسن العسقلاني، عن أبي جعفر بن محمد بن رُكانة، عن أبيه، أنَّ رُكانة صارع النبيُّ صلى الله عليه وسلم فصرعه النبيُّ صلى الله عليه وسلم. ثمَّ قال الترمذي: غريبٌ ولا نعرف أبا الحسن ولا ابنَ رُكانة

(4)

.

قلت: وقد روى أبو بكر الشافعي بإسنادٍ جيد عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن يزيد بن رُكانة صارَعَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فصرعه النبيُّ صلى الله عليه وسلم ثلاث مرَّات، كل مرة على مئةٍ من الغنم، فلما كان في الثالثة قال: يا محمد، ما وَضَع ظهري إلى الأرض أحَدٌ قبلك، وما كان أحدٌ أبغض إليَّ منك. وأنا أشهدُ أنْ لا إله إلا الله وأنك رسولُ الله. فقام عنه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وردَّ عليه غَنَمه.

وأما قصة دعائه الشجرة فأقبلتْ، فسيأتي في كتاب دلائل النبوة بعد السيرةِ من طُرقٍ جيدة صحيحة

(5)

، في مرَّات متعدِّدة إنْ شاء الله وبه الثقة.

(1)

السير والمغازي (ص 276) وسيرة ابن هشام (1/ 390) واللفظ له، والروض (2/ 134).

(2)

في ح، ط: قريشًا، والمثبت من سيرة ابن هشام والروض.

(3)

سنن أبي داود (4078) اللباس باب في العمائم، وسنن الترمذي (1784) اللباس باب العمائم على القلانس.

(4)

عبارة الترمذي: "هذا حديث غريب (يعني: ضعيف) وإسناده ليس بالقائم ولا نعرف أبا الحسن العسقلاني ولا ابن ركانة".

(5)

سيأتي في (6/ 123) من ط.

ص: 332

وقد تقدَّم عن أبي الأشدين

(1)

أنه صارعَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فصرعَهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم.

ثم ذكر ابن إسحاق

(2)

قصة قدوم النصارى من أهل الحبشة نحوًا من عشرين راكبًا إلى مكة، فأسلموا عن آخرهم، وقد تقدَّم ذلك بعد قصة النجاشي ولله الحمد والمنة

(3)

.

قال ابن إسحاق

(4)

: وكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس في المسجد يجلسُ إليه المستضعفون من أصحابه: خَبَّاب، وعمَّار، وأبو فُكيهة يسار

(5)

مولى صفوان بن أمية، وصُهيب. وأشباههم من المسلمين هَزِئت بهم قريش، وقال بعضُهم لبعض: هؤلاء أصحابُه كما ترَوْن، أهؤلاء من اللهُ عليهم من بيننا بالهدى والحق

(6)

، لو كان ما جاء به محمدٌ خيرًا ما سبَقَنا هؤلاء إليه، وما خصَّهم اللهُ به دوننا. فأنزل اللهُ عز وجل فيهم:{وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53) وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام: 52 - 54].

قال: وكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما يجلسُ عند المَرْوَة إلى مبيعة غلام

(7)

نصراني يقال له: جَبْر، عبدٌ لبني الحَضْرَمي. وكانوا يقولون: والله ما يعلّم محمدًا كثيرًا مما يأتي به إلا جَبْر، فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهم:{إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل:103].

ثم ذكر

(8)

نزولَ سورةِ الكوثر في العاص بن وائل، حين قال في رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: إنه أبتر، أي: لا عَقِبَ له، فإذا ماتَ انقطع ذِكْرُه. فقال الله تعالى:{إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} [الكوثر: 3] أي: المقطوع الذِّكْر [بعده، ولو خلَّف أُلوفًا من النَّسْل والذُّرِّيَّة وليس الذَّكر]

(9)

والصيتُ ولسان الصدق بكثرةِ الأولاد والأنسال والعَقِب، وقد تكلَّمنا على هذه السورة في التفسير ولله الحمد.

(1)

كذا في ح، ط ولم يتقدم لهذه الكنية ذِكر، فلعل الصواب:"أشد قريش" أو في النص سقطًا أو تصحيفًا.

(2)

في سيرة ابن هشام (1/ 391) والروض (2/ 135).

(3)

مضى الخبر في (ص 303 ح 3).

(4)

في سيرة ابن هشام (1/ 392) - والروض (2/ 135).

(5)

في ط: ويسار، والمثبت من ح والسيرة وترجمته في الإصابة، ويقال في اسمه: أفلح. أيضًا.

(6)

في ط: ودين الحق والمثبت من ح والسيرة.

(7)

في ح: ميعه، والمثبت من سيرة ابن هشام. قال السهيلي في الروض (2/ 139) المبيعة: مفعلة مثل المعيشة، وقد يجوز أن يكون مفعلة بضم العين وهو قول الأخفش.

(8)

يعني ابن إسحاق في سيرة ابن هشام (1/ 393).

(9)

ليس ما بين المعقوفين في ح.

ص: 333

وقد رُوي عن أبي جعفر الباقر: أنَّ العاص بن وائل إنما قال ذلك حين مات القاسم بن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وكان قد بلغ أنْ يركب الدابَّة ويسير على النَّجِيبة

(1)

.

ثم ذكر

(2)

نزول قوله: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ} [الأنعام: 8] وذلك بسبب قول أُبيّ بن خلف، وزَمَعة بن الأسود، والعاص بن وائل، والنضر بن الحارث. لولا أنزل عليكَ مَلكٌ يكلِّمُ الناسَ عنك.

قال ابنُ إسحاق

(3)

: ومرَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغنا - بالوليدِ بن المغيرة وأميةَ بن خلف وأبي جهل بن هشام، فهمزوه واستهزؤوا به. فغاظه ذلك، فأنزل الله تعالى في ذلك منْ أمرِهم {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الأنعام: 10، والأنبياء: 41].

قلت: وقال الله تعالى: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ

(4)

مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ} وقال تعالى: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر: 95].

قال سفيان عن جعفر بن إياس، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس قال: المستهزؤن الوليدُ بن المغيرة، والأسود بن عبد يَغُوث الزُّهْري، والأسود بن المطلب أبو زمعه

(5)

، والحارث بن غَيْطَلَة

(6)

، والعاص بن وائل السَّهْمي، فأتاهُ جبريلُ فشكاهم إليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فأراهُ الوليد، فأشار جبريل إلى أنمله

(7)

وقال: كُفيتَه؛ ثم أراه الأسودَ بن المطلب، فأومأ إلى عُنقه وقال: كُفيته، ثم أراه الأسود بن عبد يَغُوث فأومأ إلى رأسه وقال: كُفيتَه؛ ثم أراهُ الحارث بن غَيْطَلَة (6)، فأومأ إلى بطنه وقال: كُفيتَه؛ ومرَّ به العاصُ بن وائل فأومأ إلى أخمصه وقال: كُفيتَه. فأما الوليد فمرَّ برجُلٍ من خُزَاعة وهو يَرِيشُ نَبْلًا له فأصاب أنمله (7) فقطعها؟ وأمَّا الأسود بن عبد يغوث فخرج في رأسه قُروح فماتَ منها، وأما الأسود بن المطَّلب فعَمِيَ. وكان سببُ ذلك أنه نزل تحت سَمُرَةٍ فجعل يقول: يا بَنيَّ ألا تدفعون عني قد قُتلت. فجعلوا يقولون: ما نرى شيئًا! وجعل يقول: يا بَنيَّ ألا تمنعون عني قد هلكت، هاهو ذا الطعْنُ بالشوك

(1)

هذه الرواية في الدر المنثور (8/ 652) وذكر السيوطي أن البيهقي أخرجها في الدلائل غير أني لم أجدها فيه.

(2)

يعني ابن إسحاق في سيرة ابن هشام (1/ 395).

(3)

سيرة ابن هشام (1/ 395) والروض (2/ 141).

(4)

في ح، ط: ولقد استهزئ برسل، والمثبت من المصف سورة الأنعام الآية (34).

(5)

في ح: أبو ربيعة تصحيف، والمثبت من ط وسيرة ابن هشام (1/ 409) ودلائل النبوة للبيهقي (2/ 316) والاشتقاق (ص 94).

(6)

في ح: عنطل، وفي ط: عيطل، وفي دلائل البيهقي: عنطلة، وكلها تصحيف، والمثبت من جمهرة الأنساب لابن حزم (ص 165) والتاج (غطل) وسيأتي في موضع آخر من الدلائل على الصواب. وسيأتي من رواية ابن إسحاق على أنه الحارث بن الطلاطلة من خزاعة لا من بني سهم. وذكر الروايتين الطبري في تفسيره (14/ 70، 71).

(7)

في دلائل النبوة: أبجله. والأبجل عِرْق غليظ في اليد بإزاء الأكحل. القاموس (بجل).

ص: 334

في عينيّ. فجعلوا يقولون: ما نَرَى شيئًا! فلم يزل كذلك حتى عَمِيَتْ عيناه. وأما الحارث بن غيطلة فأخذه الماءُ الأصفر في بطنه حتى خرج خُرْؤه من فيه فمات منها. وأما العاص بن وائل فبينما هو كذلك يومًا إذ دخل في رأسه شِبْرِقة حتى امتلأت منها فمات منها.

وقال غيرُه في هذا الحديث: فركب إلى الطائف على حمار فربض به على شِبْرِقَة - يعني شَوْكَة - فدخلتْ في أخمصِ قدمه شوكة فقتلَتْه. رواهُ البيهقي

(1)

بنحو من هذا السياق.

وقال ابن إسحاق

(2)

: وكان عظماءُ المستهزئين كما حدَّثني يزيد بن رُومان عن عروة بن الزبير خمسةَ نَفَر، وكانوا ذوي أسنانٍ وشرفٍ في قومهم؛ الأسود بن المطلب أبو زَمَعة، دعا عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال:"اللهمَّ أعْم بصَرَه وأثْكِلْهُ ولَدَه". والأسود بن عبد يَغُوث، والوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والحارث بن الطُّلاطِلَة. وذكر أنَّ الله تعالي أنزل فيهم {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر 94 - 96]. وذكر أنَّ جبريلَ أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وهم يطوفونَ بالبيت، فقام وقام رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى جَنْبه، فمرَّ به الأسود بن المطلب فرَمَى في وجهه بورقةٍ خضراء فعَمِي، ومرَّ به الأسود بن عبد يغوث فأشار إلى بطنه فاستسقى بطنُه فمات منه حَبَنًا

(3)

. ومرَّ به الوليدُ بن المغيرة فأشار إلى أثَرِ جُرحٍ بأسفل كعبه كان أصابه قبل ذلك بسنين من مروره برجل يَرِيشُ نَبْلًا له من خزاعة، فتعلَّق سهمٌ بإزاره فخدشه خَدْشًا يسيرًا، فانتقض بعد ذلك فمات. ومر به العاصُ بن وائل فأشار إلى أخمص رجله فخرج على حمارٍ له يريد الطائف، فربض به على شِبْرِقةٍ فدخلت في أخمص رِجلِهِ شوكةٌ فقتلَتْه. ومرَّ به الحارث بن الطُّلاطلة فأشار إلى رأسه فامتحض قَيْحًا فقتله.

ثم ذكر ابنُ إسحاق

(4)

: أنَّ الوليد بنَ المغيرة لما حضره الموتُ أوصى بنيه الثلاثةَ وهم: خالد وهشام والوليد. فقال لهم: أي بَنِيَّ، أوصيكم بثلاث، دمي في خُزَاعة فلا تُطِلُّوه، والله إني لأعلم أنهم منه بُرَآء ولكني أخشى أن تُسَبُّوا به بعد اليوم. وربايَ في ثَقِيف فلا تدعوه حتى تأخذوه، وعُقْرِي

(5)

عند أبي أُزَيهر الدَّوسيّ فلا يفوتنَّكم به - وكان أبو أُزَيْهر قد زوَّج الوليد بنتًا له ثم أمسكها عنه فلم يُدْخِلْها عليه حتى مات،

(1)

في دلائل النبوة (2/ 316 - 318) وأخرجه الطبراني في الأوسط بسند حسن والضياء في المختارة عن ابن عباس كما في الدر المنثور (5/ 101) في تفسير الآية. وذكره أيضًا الهيثمي في مجمع الزوائد (7/ 47) وقال: رواه الطبراني في الأوسط وفيه محمد بن عبد الحكيم النيسابوري ولم أعرفه، وبقيه رجاله ثقات.

(2)

في السيرة والمغازي (ص 273) وسيرة ابن هشام (1/ 408) والروض (2/ 163) والطبري في التفسير (14/ 70)، وأخرجه أبو نعيم في الدلائل (201) عن حبيب بن الحسن، حدثنا محمد بن يحيى المروزي، حدثنا أحمد بن محمد حدثنا إبراهيم بن سعد عن محمد بن إسحاق به.

(3)

"الحَبَن": داء في البطن، يعظم منه ويرم. القاموس (حبن). ووقع في ح، ط:"فاستسقى باطنه" والمثبت من السيرة.

(4)

في سيرة ابن هشام (1/ 410) والروض (2/ 163).

(5)

"العقر": دية الفرج الصغصوب. قاله السهيلي في الروض (2/ 168).

ص: 335

وكان قد قبض عُقْرَها منه، وهو صَدَاقُها - فلما مات الوليد وثَبَتَ بنو مخزوم على خُزَاعة يلتمسون منهم عَقْلَ الوليد، وقالوا: إنما قتله سَهْمُ صاحبكم، فأبَتْ عليهم خُزَاعة ذلك حتى تقاولوا أشعارًا، وغَلُظَ بينهم الأمر. ثم أعطَتْهم خزاعةُ بعض العَقْل واصطلحوا وتحاجزوا.

قال ابن إسحاق

(1)

: ثم عَدَا هشامُ بن الوليد على أبي أُزَيهر وهو بسوق ذي المَجَاز فقتله، وكان شريفًا في قومه. وكانت ابنته تحت أبي سفيان - وذلك بعد بدر - فعمد يزيدُ بن أبي سفيان فجمع الناس لبني مخزوم وكان أبوه غائبًا، فلما جاء أبو سفيان غاظه ما صنَعَ ابنُه يزيد فلامه على ذلك [وضربه وودى أبا أزيهر وقال لابنه: أعمدت إلى أن تقتل قريش بعضها بعضًا في رجل من دوس]

(2)

؟ وكتب حسان بنُ ثابت قصيدةً له يُحَرِّض

(3)

أبا سفيان في دم أبي أُزيهر، فقال: بئس ما ظنَّ حسان أن يقتل بعضنُا بعضًا وقد ذهب أشرافُنا يوم بَدْر. ولما أسلم خالدُ بن الوليد وشهد الطائف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله في رِبا أبيه من أهل الطائف.

قال ابن إسحاق

(4)

: فذكر لي بعضُ أهل العلم أنَّ هؤلاء الآيات نزلْنَ في ذلك: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 278] وما بعدها.

قال ابن إسحاق (4): ولم يكنْ في بني أُزَيهِر ثأرٌ نعلمه حتى حجَزَ الإسلامُ بين الناس، إلا أنَّ ضِرار بن الخطاب بن مِرْداس الأسلمي خرج في نفرٍ من قريشٍ إلى أرض دَوْس، فنزلوا على امرأةٍ يُقال لها: أم غيلان مولاة لدوس، وكانت تمشُط النساء وتجهز العرائس، فأرادتْ دَوْس قتلَهم بأبي أُزيهر فقامتْ دونه أُمُّ غَيْلان ونسوةٌ كُنَّ معها حتى منعَتْهم.

قال السهيلي

(5)

: يقال: إنها أدخلته بين درعها وبدنها.

قال ابنُ هشام

(6)

: فلما كانت أيام عمر بن الخطاب أتَتْهُ أمُّ غَيْلان وهي ترى أنَّ ضرارًا أخوه، فقال لها عمر: لستُ بأخيه إلا في الإسلام، وقد عرفتُ منَّتك عليه، فأعطاها على أنها بنتُ سَبيل.

قال ابنُ هشام: وكان ضرارُ بن الخطاب لحق عمر بن الخطاب يوم أُحُد فجعل يضربُه بعَرْض الرمح ويقول: انج يا ابنَ الخطاب لا أقتلك. فكان عمر يعرفُها له بعد الإسلام رضي الله عنهما.

(1)

في سيرة ابن هشام (1/ 413) والروض (2/ 164).

(2)

سقط ما بين المعقوفين من ح.

(3)

في ط: يحض. والمثبت من ط وسيرة ابن هام.

(4)

في سيرة ابن هشام (1/ 414) والروض (2/ 165).

(5)

في الروض (2/ 168) والقول فيه لضرار؟

(6)

في السيرة النبوية (1/ 415) والروض (2/ 166).

ص: 336

‌فصل

وذكر البيهقيُّ

(1)

هاهنا دعاءَ النبي صلى الله عليه وسلم على قريش حين استعصَتْ عليه بسبعٍ مثل سبع يوسف، وأورَدَ ما أخرجاه في "الصحيحَيْن"

(2)

من طريق الأعمش، عن مسلم بن صُبيح، عن مسروق، عن ابن مسعود. قال: خمسٌ [قد] مضَيْن؛ اللِّزَام

(3)

، والرُّوم، والدُّخان، والبَطْشَة، والقمر.

وفي روايةٍ عن ابن مسعود. قال

(4)

: إنَّ قريشًا، لما استعصَتْ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وأبطؤوا عن الإسلام. قال اللهمَّ أَعِنِّي عليهم بسبعٍ كسبعِ يوسُف" قال: فأصابتهم سَنَةٌ فحصَّتْ

(5)

كلَّ شيء، حتى أكلوا الجِيفَ والميتة وحتى إنَّ أحدهم كان يرى ما بينه وبين السماء كهيئة الدخان من الجُوع. ثم دعا فكشف الله عنهم، ثم قرأ عبد الله هذه الآية {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} [الدخان: 15] قال: فعادوا فكفروا فاخِّروا إلى يوم القيامة - أو قال: فأُخِّروا إلى يوم بَدْر - قال عبد الله: إنَّ ذلك لو كان يوم القيامة كان لا يُكشفُ عنهم {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ} [الدخان: 16] قال: يوم بَدْر.

وفي روايةٍ عنه، قال

(6)

: لما رأى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من الناس إدْبارًا قال: "اللهمَّ سبع كسبعِ يوسف" فأخذتْهُمْ سَنةٌ حتى أكلوا المَيْتَةَ والجلودَ والعظام. فجاءَهُ أبو سفيان وناسٌ من أهل مكة فقالوا: يا محمد، إنك تزعمُ انَّكَ بُعثتَ رحمةً وإنَّ قومَكَ قد هَلكُوا، فادْعُ اللهَ لهم. فدعا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فسقُوا الغيثَ، فأطبقَتْ عليهم سبعًا فشكا الناسُ كثرة المطَر. فقال:"اللهمَّ حوالَيْنا ولا علينا" فانحدَرَتِ السحابه

(7)

عن رأسه، فسُقي الناسُ حولَهم.

قال: لقد مضَتْ آيةُ الذُخان - وهو الجوع الذي أصابهم - وذلك قوله {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} [الدخان: 15] وآيةُ الروم، والبطشة الكبرى. وانشقاق القمر، ودْلك كله يوم بَدْر.

(1)

في الدلائل (2/ 324).

(2)

أورده في الدلائل (2/ 327) وهو في فتح الباري (4825) التفسير سورة الدخان باب يوم نبطش البطشة الكبرى.

وصحيح مسلم (2798)(41) صفات المنافقين باب الدخان، وما سيأتي بين معقوفين منهما.

(3)

المراد به قوله تعالى: {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} أي: يكون عذابهم لازمًا. قالوا: وهو ما جرى عليهم يوم بدر من القتل والأسر، وهي البطشة الكبرى. مكمل إكمال الإكمال للسنوسي (7/ 198، 199).

(4)

دلائل البيهقي (2/ 325) واللفظ له والحديث في فتح الباري (4823) التفسير سورة الدخان باب (أنى لهم الذكرى). و (4809) التفسير سورة ص باب (وما أنا من المتكلفين).

(5)

في ح، ط:"حتى فصت"، والمثبت من دلائل البيهقي وصحيح البخاري، وحصتْ كل شيء: أي أذهبته، والحص: إذهاب الشعر عن الرأس. بحلق أو مرض. النهاية (حصص).

(6)

في دلائل البيهقي (2/ 326) وهي رواية البخاري كما سيأتي، فتح الباري (2/ 510)(1020) الاستسقاء باب إذا استشفع المشركون بالمسلمين عند القحط.

(7)

في ط: فانجذب السحاب. وفي ح: فانحدت، والمثبت من الدلائل وصحيح البخاري في الفتح.

ص: 337

قال البيهقي

(1)

: يريد - والله أعلم - البطشةَ الكبرى والدخان وآية اللزام، كلُّها حصلَتْ ببدر. قال: وقد أشار البخاري

(2)

إلى هذه الرواية.

ثمَّ أورد

(3)

من طريق عبد الرزَّاق، عن معمر، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: جاء أبو سفيان إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يستغيثُ من الجوع، لأنهم لم يجدوا شيئًا، حتى أكلوا العِلْهِزَ بالدَّم

(4)

، فأنزل الله تعالى:{وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون: 76] قال: فدعا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حتى فرَّج الله عنهم.

ثم قال الحافظ البيهقي

(5)

: وقد روي في قصة أبي سفيان ما دلَّ على أنَّ ذلك بعد الهجرة، ولعله كان مرتَيْن، والله أعلم.

‌فصل

ثمَّ أورد البيهقي

(6)

قصة فارس والرُّوم، ونزولَ قوله تعالى:{الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الروم: 1 - 5].

ثم رَوَى (6) من طريق سفيانَ الثوري، عن حَبيب بن أبي عَمْرَة

(7)

، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس قال: كان المسلمون يُحِبُّون أنْ يظهرَ الرُّوم على فارس لأنهم أهلُ كتاب، وكان المشركون يحبُّونَ أن تظهر فارسُ على الروم لأنهم أهلُ أوثان؛ فذكر ذلك المسلمون لأبي بكر فذكر [ذلك]

(8)

أبو بكر للنبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال: "أمَا إنَّهم سيظهرون" فذكر أبو بكر ذلك للمشركين فقالوا: اجعل بيننا وبينك أجلًا إنْ ظهروا كان لك كذا وكذا، وإنْ ظهَرْنا كان بنا كذا وكذا. [فجعل بينهم أجل خمس سنين، فلم يظهروا]

(1)

في الدلائل (2/ 327).

(2)

مضى في الصفحة السابقة ح 6.

(3)

يعني البيهقي في الدلائل (2/ 328).

(4)

في ط: العهن. والمثبت من ح والدلائل، وقوله: بالدم مستدرك في هامش ح. والعلهز: هو شيء يتخذونه في سني المجاعة، يخلطون الدم بأوبار الإبل ثم يشوونه بالنار ويأكلونه. وقيل: كانوا يخلطون فيه القِرْدان. ويقال للقراد الضخم "عِلْهِز". وقيل: العلهز شيء ينبت ببلاد بني سُليم له أصل كأصل البَرْدِي. النهاية لابن الأثير (علهز).

(5)

في الدلائل (2/ 329).

(6)

في الدلائل (2/ 330).

(7)

في ح: حبيب عن أبي عمرو، وفي ط: حبيب بن أبي عمرو، وكلاهما تحريف، والمثبت من الدلائل وترجمته في تهذيب الكمال (5/ 386).

(8)

في ط: فذكره، والمثبت من ح والدلائل، وما بين معقوفين في هذا الخبر منه.

ص: 338

فذكر ذلك أبو بكر للنبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال: "ألا جَعَلْتَهُ - أُره

(1)

قال - دون العشر". فظهرتِ الرُّوم بعد ذلك.

وقد أورَدْنا طرق هذا الحديث في التفسير وذكرنا أن المُبَاحث - أي: المراهن - لأبي بكر أمية بن خلف، وأن الرَّهْن كان على خمس قلائص، وأنه كان إلى مدة، فزاد فيها الصدِّيق عن أمر رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وفي الرَّهن. وأنَّ غلبة الروم على فارس كان يوم بَدْر - أو كان يوم الحُديبية - فالله أعلم.

ثم روى

(2)

من طريق الوليد بن مسلم، حدَّثنا أُسَيد

(3)

الكلابي أنه سمع العلاء بن الزبير الكلابي يحدِّث عن أبيه قال: رأيتُ غَلَبَة فارس الروم، ثم رأيتُ غلبة الرومِ فارس، ثم رأيتُ غلبة المسلمين فارسَ والرُّوم وظهورَهم على الشام والعراق، كل ذلك في خمسَ عشرة سنة.

‌فصل في الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى بيت المقدس ثم عروجه من هناك إلى السماوات وما رأى هنالك من الآيات

ذكر ابنُ عساكر أحاديثَ الإسراء في أوائل البِعْثَة

(4)

، وأما ابن إسحاق فذكرها في هذا الموطن بعد البعثة بنحوٍ من عشر سنين

(5)

.

وروى البيهقي

(6)

من طريق موسى بن عقبة، عن الزهري أنه قال: أُسري برسولِ الله صلى الله عليه وسلم قبل خروجه إلى المدينة بسنة. قال: وكذلك ذكره ابنُ لَهيعة عن أبي الأسود عن عروة.

ثم روى [عن]

(7)

الحاكم عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبَّار، عن يونس بن بُكير، عن أسباط بن نصر، عن إسماعيل السُّدِّيِّ أنه قال: فُرض على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم الخَمْس ببيت المقدس، ليلة أُسري به قبل مُهَاجَرِهِ بستةَ عشرَ شهرًا.

فعلى قول السدِّيّ يكون الإسراءُ في شهر ذي القعدة، وعلى قول الزُّهْرِيّ وعروة يكون في ربيع الأول.

(1)

في ح: أداه، وفي ط: أداة. وكلاهما تصحيف، والمثبت من الدلائل.

(2)

أي البيهقي في الدلائل (2/ 334) بسنده إلى يعقوب بن سفيان، وهو في كتابه المعرفة والتاريخ (1/ 279) وأخرجه ابن الأثير أيضًا في أسد الغابة في ترجمة الزبير بن عبد الله (2/ 196) بسنده إلى يعقوب أيضًا.

(3)

ذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (1/ 311) وأدرجه تحت من اسمه: أسيد بالتصغير، وكذا ذكره ابن عساكر في تاريخه (3/ 25) (نسخة الظاهرية) ثم قال: ويقال: أسيد أي بفتح أوله وساق الخبر.

(4)

تاريخ ابن عساكر (1/ 566) نسخة الظاهرية.

(5)

السير والمغازي (ص 295).

(6)

في دلائل النبوة (2/ 354).

(7)

زيادة يقتضيها السياق، والذي روى البيهقي في الدلائل (2/ 355).

ص: 339

وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدَّثنا عفَّان

(1)

، عن سعيد بن ميناء، عن جابر وابن عباس قالا: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل يوم الاثنين، الثاني عشر من ربيع الأول، وفيه بُعث، وفيه عُرج به إلى السماء، وفيه هاجر، وفيه مات.

فيه انقطاع

(2)

. وقد اختاره الحافظ عبد الغني بن سرور المقدسي في سيرته

(3)

وقد أورد حديثًا لا يصحُّ سنَدُه، ذكرناه في فضائل شهر رجب أن الإسراء كان ليلة السابع والعشرين من رجب، والله أعلم. ومن الناس من يزعم أن الإسراء كان أول ليلة جمعة من شهر رجب، وهي ليلة الرغائب التي أُحدثت فيها الصلاة المشهورة، ولا أصل لذلك، والله أعلم. وينشد بعضُهم في ذلك:

ليلةَ الجمعةِ عُرِّج بالنبي

ليلةَ الجمعةِ أوّل رجب

(4)

وهذا الشعر عليه ركاكة، وإنما ذكرناه استشهادًا لمن يقول به.

وقد ذكرنا الأحاديث الواردة في ذلك مستقصاةً عند قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء: 1] فلتُكتَبْ من هناك على ما هي عليه من الأسانيد والعَزْو، والكلام عليها ومعها ففيها مَقْنَع وكفاية، ولله الحمدُ والمِنَّة.

ولنذكُر ملخَّصَ كلامِ ابنِ إسحاق رحمه الله فإنَّه قال بعد ذكر ما تقدَّم من الفصول

(5)

: ثم أُسْرِيَ برسولِ الله صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى - وهو بيت المقدس من إيلياء - وقد فشا الإسلامُ بمكة في قريش وفي القبائل كلِّها.

وقال: وكان من الحديث فيما بلغني عن مَسْرَاهُ صلى الله عليه وسلم عن ابن مسعود، وأبي سعيد، وعائشة، ومعاوية، وأم هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنهم، والحسن بن أبي الحسن، وابن شهاب الزُّهْرِي وقتادة وغيرهم من أهل العلم ما اجتمع في هذا الحديث، كلٌّ يحدِّثُ عنه بعضَ ما ذُكر لي من أمره وكان في مسراه وما ذُكر لي منه بلاء وتمحيص وأمرٌ من أمْرِ الله [عز وجل] في قدرته

(6)

وسلطانه، فيه عبرةٌ لأولي الألباب، وهدًى ورحمةٌ وثبات لمن آمَنَ وصدَّق وكان من أمر الله على يقين، فأسرى به كيف شاء وكما شاء لِيُرِيَهُ من آياته ما أراد، حتى عايَنَ ما عاين من أمْرِهِ وسلطانه العظيم، وقدرته التي يصنع بها ما يُريد.

(1)

في ط: عثمان، والمثبت مما تقدم ص (32) سطر (1) من هذا الجزء، حيث أورد المؤلف الحديث.

(2)

يعني: بين عفان وسعيد بن مينا.

(3)

يسمى السيرة النبوية، أو الدرة المضية في السيرة النبوية لعبد الغني بن عبد الواحد بن سرور المقدسي، وهو مخطوط. معجم ما ألف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (ص 110 و 116).

(4)

كذا في ط وزادت ح بين الشطرين صلى الله عليه وسلم، وفي الشطر الثاني: ليلة جمعة.

(5)

السير والمغازي (ص 295) وسيرة ابن هشام (1/ 396) والروض (2/ 141).

(6)

في ط: وقدرته، والمثبت من مصادر الخبر عند ابن إسحاق وما بين معقوفين منها.

ص: 340

وكان عبدُ الله بن مسعود - فيما بلغني - يقول: أُتي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالبُرَاق - وهي الدابّهُ التي كانتْ تُحمل عليها الأنبياء قبلَه، تضَعُ حافرَها في موضع منتهى طَرْفِها - فحُمل عليها، ثمَّ خرج به صاحبُه يرى الآيات فيما بين السماء والأرض، حتى انتهى إلى بيت المقدس، فوجد فيه إبراهيم وموسى وعيسى في نَفَرٍ من الأنبياء قد جُمعوا له، فصلَّى بهم ثم أتي بثلاثةِ آنيةٍ من لبنٍ وخمرٍ وماءً.

فذكر أنه شرِب إناءَ اللبن، فقال لي جبريل: هُديتَ وهدِيَتْ أُمتك.

وذكر ابنُ إسحاق في سياق الحسن البصري مرسلًا

(1)

أنَّ جبريل أيقظه ثم خرج به إلى باب المسجد الحرام فأركبَهُ البُرَاق وهو دابةٌ أبيض، بين البَغْلِ والحمار، وفي فخذيه جناحان يَحْفِزُ بهما رجلَيْه، يضع حافره في منتهى طَرْفه. ثم حملني عليه ثم خرج معي لا يفوتُني ولا أفوته.

قلت: وفي الحديث وهو عن قتادة، فيما ذكره ابنُ إسحاق

(2)

أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لما أراد ركوب البُرَاق شَمَسَ به

(3)

، فوضع جبريلُ يدَهُ على مَعْرَفَتِه ثم قال: ألا تستحي يا بُراق مما تصنع، فوالله ما ركبكَ عبدٌ لله قبلَ محمدٍ أكرمُ عليه منه. قال: "فاستحى حتى ارفضَّ عرَقًا ثم قرَّ

(4)

حتى ركبتُه".

قال الحسن في حديثه: فمضَى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ومضى معه جبريلُ حتى انتهى به إلى بيت المقدس، فوجد فيه إبراهيم وموسى وعيسى في نَفَرٍ من الأنبياء، فأمَّهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فصلَّى بهم، ثم ذكر اختيارَهُ إناءَ اللبن على إناء الخمر وقول جبريل له: هُديت وهديَتْ أُمَّتُك، وحُرِّمَتْ عليكم الخمر.

قال: ثم انصرفَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة فأصبح يُخبر قريشًا بذلك، فذكر أنه كذَّبه أكثرُ الناس، وارتدَّتْ طائفةٌ بعد إسلامها، وبادر الصدِّيقُ إلى التصديق وقال: إني لأصدِّقُه في خبر السماء بُكْرَةً وعشيَّة، أفلا أصدِّقه في بيت المقدس؟ وذكر أنَّ الصدِّيقَ سأله عن صفة بيتِ المقدس، فذكرها له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قال: فيومئذٍ سُمّي أبو بكر الصدِّيق.

قال الحسن: وأنزل الله في ذلك {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء: 60] الآية.

وذكر ابنُ إسحاق

(5)

فيما بلغَهُ عن أُم هانئ أنها قالت: ما أُسريَ برسولِ الله صلى الله عليه وسلم إلا من بيتي، نام عندي ثلك الليلة بعدما صلَّى العشاءَ الآخرة، فلما كان قُبيل الفَجْر أهَبَّنا

(6)

، فلما كان الصُّبْح وصلَّينا معه، قال: "يا أُمَّ هانئ لقد صلَّيتُ معكم العشاء الآخرة في هذا الوادي، ثم جئتُ بيتَ المقدس

(1)

سيرة ابن هشام (1/ 397) والروض (2/ 142).

(2)

سيرة ابن هشام (1/ 398) والروض (2/ 142).

(3)

"شمست الدابة والفرس": شردت وجمحَتْ ومنعَتْ ظهرها فلا تستقر لحدتها وشغبها. اللسان (شمس).

(4)

في ح: تقدم. وفوقها قرَّ.

(5)

سيرة ابن هشام (1/ 402) والروض (2/ 144).

(6)

في ح: أنبهنا، أي أيقظنا، وهما بمعنى.

ص: 341

فصلَّيتُ فيه، ثم قد صلَّيتُ الغَدَاة معكم الآن كما ترَيْن". ثم قام ليخرج، فأخذتُ بطرَفِ ردائه، فقلت: يا نبيَّ الله لا تحدِّثْ بهذا الحديث الناسَ فيكذِّبوك ويُؤذوك. قال: "والله لأحدِّثنَّهموه". فأخبرهم فكذَّبوه. فقال: وآيةُ ذلك أنِّي مرَرْتُ بعِيرِ بني فلان بوادي كذا وكذا، فأنفرَهُمْ حِسُّ الدابَّه، فندَّ لهم بعِيرٌ فدلَلْتُهم عليه وأنا متوجِّهٌ إلى الشام، ثم أقبلتُ حتى إذا كنتُ بضَجَنَان

(1)

مررتُ بعيرِ بني فلان، فوجدتُ القومَ نيامًا ولهم إناءٌ فيه ماء قد غطَوا عليه بشيء، فكشفتُ غطاءه وشربتُ ما فيه، ثم غطَّيْتُ عليه كما كان. وآية ذلك أنَّ عِيرَهم تُصَوِّبُ الآنَ من ثنيَّة التنعيم البَيْضَاء يقدُمها جمَلٌ أوْرَق

(2)

، عليه غِرَارتان، إحداهما سوداء والأخرى بَرْقاء

(3)

. قال: فابتدروا القومَ بالثنيَّه

(4)

، فلم يلقَهُمْ أول من الجمل الذي وصف لهم، وسألوهم عن الإناء وعن البعير فأخبروهم كما ذكر صلواتُ الله وسلامُه عليه.

وذكر يونس بن بكير، عن أسباط، عن إسماعيل السُّدي، أنَّ الشمسَ كادتْ أن تغرُبَ قبل أن يقدُمَ ذلك العِير

(5)

، فدعا الله عز وجل فحبسها حتى قدموا كما وصف لهم. قال: فلم تحتبس الشمسُ على أحل! إلا عليه ذلك اليوم وعلى يوشع بن نون. رواه البيهقي

(6)

.

قال ابن إسحاق

(7)

: وأخبرني من لا أتهم عن أبي سعيدٍ قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لما فرغتُ مما كان في بيت المقدس أُتي بالمِعْرَاج ولم أر شيئًا قط أحسنَ منه وهو الذي يمدُّ إليه ميِّتْكم

(8)

عينيه إذا حُضر، فأصعدني فيه صاحبي حتى انتهى بي إلى باب من أبواب السماء يقال له: باب الحَفَظة، عليه بريدٌ

(9)

من الملائكة يقال له: إسماعيل، تحت يده اثنا عشر ألف ملك، تحت يد كل مَلَكٍ منهم اثنا عشر ألف مَلَك. قال: يقول رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا حدَّث بهذا الحديث: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر: 31].

ثم ذكر بقيةَ الحديث، وهو مطوَّلٌ جدًّا، وقد سقناه بإسنادِهِ ولفظه بكماله في التفسير، وتكلَّمنا عليه، فإنه من غرائب الأحاديث وفي إسنادِهِ ضَعْف.

(1)

"ضَجَنَان": بالتحريك ونونين، جُبَيل على بريد من مكة، وقيل بينه وبين مكة خمسة وعشرون ميلًا. معجم البلدان (3/ 453).

(2)

الأورق من كل شيء: ما كان لونه لون الرماد، ومن الإبل: ما في لونه بياض إلى سواد. اللسان (ورق).

(3)

"برقاء": مؤنث أبرق، وهو كل شيء اجتمع فيه سواد وبياض. القاموس (برق).

(4)

في ط وسيرة ابن هشام: فابتدر القومُ الثنية.

(5)

كذا في ح، ط قلت: الصواب أن يقول: قبل أن تقدم تلك العير. لأن العير مؤنثة كما في اللسان، وهي القافلة أو الإبل التي تحمل الميرة، قال تعالى:{وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ} . ويبدو أن اللفظ هنا لابن كثير نقلها عن البيهقي بتصرف كما سيأتي.

(6)

رواه البيهقي في الدلائل (2/ 404): بنحوه عن الحاكم عن أبي العباس الأصم عن أحمد بن عبد الجبار عن يونس به أقول: ويونس بن بكير صدوق يخطئ.

(7)

سيرة ابن هشام (1/ 403) والروض (2/ 154).

(8)

في ح: يمتد إليه منكم. والمثبت من ط وسيرة ابن هشام والروض.

(9)

البريد هنا: الرسول. وفي السيرة والروض: ملك من الملائكة.

ص: 342

وكذا في سياق حديث أمِّ هانئ، فإنَّ الثابت في الصحيحين

(1)

، من روايةِ شَرِيك بن أبي نَمِر، عن أنس أنَّ الإسراء كان من المسجد من عند الحِجْر، وفي سياقه غَرَابَةٌ أيضًا من وجوه قد تكلَّمنا عليها هناك، ومنها قوله: قبلَ أنْ يُوحَى إليه

(2)

. والجوابُ أنَّ مجيئهم أولَ مرَّةٍ كان قبل أن يُوحَى إليه، فكانتْ تلك الليلة ولم يكن فيها شيء، ثم جاءه الملائكة ليلةً أخرى ولم يقل في ذلك، وذلك قبل أن يُوحَى إليه بل جاؤوا بعد ما أوحي إليه، فكان الإسراءُ قطعًا بعد الإيحاء، إمَّا بقليل كما زعمه طائفة، أو بكثير نحو من عشر سنين كما زعمه آخرون، وهو الأظهر؛ وغسل صدره تلك الليلة قبل الإسراء غسلًا ثانيًا - أو ثالثا - على قوله أنه مطلوب إلى الملأ الأعلى والحضرة الإلهية، ثم ركب البُرَاق رِفْعَةً له وتعظيمًا وتكريمًا، فلما جاء بيتَ المقدس ربطه بالحَلْقة التي كانت تربط بها الأنبياء، ثم دخل بيت المقدس، فصلَّى في قبلته تحيَّةَ المسجد.

وأنكر حُذيفة رضي الله عنه دخولَهُ إلى بيت المقدس وربْطَه الدَّابَّة وصلاته فيه، وهذا غريب؛ والنصُّ المُثْبتُ مقدَّمٌ على النافي.

ثم اختلفوا في اجتماعه بالأنبياء وصلاته بهم، أكان قبل عُروجه إلى السماء كما دلَّ عليه ما تقدَّم أو بعد نزوله منها كما دلَّ عليه بعضُ السياقات، وهو أنسبُ كما سنذكره على قولين، فالله أعلم.

وقيل: إنَّ صلاته بالأنبياء كانتْ في السماء، وهكذا تخَيُّرُه بين

(3)

الآنية، اللبن والخمر والماء، هل كانت ببيت المقدس كما تقدم أو في السماء كما ثبت في الحديث الصحيح؟ والمقصود أنه صلى الله عليه وسلم لما فرغ من أمر بيت المقدس نُصب له المعراج - وهو السُّلَّم - فصعِدَ فيه إلى السماء، ولم يكنِ الصُّعود على البُراق كما قد يتوهَّمُه بعضُ الناس، بل كان البُراق مربوطًا على باب مسجدِ بيتِ المقدس ليرجع عليه إلى مكة. فصعِدَ من سماءً إلى سماءٍ في المِعْرَاج حتى جاوز السابعة، وكلما جاء سماءً تلقَّتْهُ منها مقرَّبوها ومَنْ فيها من أكابر الملائكة والأنبياء. وذكَرَ أعيان من رأى

(4)

من المرسلين، كآدم في سماء الدنيا، ويحيى وعيسى في الثانية، وإدريس في الرابعة

(5)

، وموسى في السادسة - على الصحيح - وإبراهيم في السابعة مسندًا ظهره إلى البيت المعمور الذي يدخلُه كلَّ يوم سبعون ألفًا من الملائكة يتعبَّدون فيه صلاةً وطوافًا،

(1)

فتح الباري (3570) المناقب باب كان النبي صلى الله عليه وسلم تنام عينه ولا ينام قلبه، وصحيح مسلم (162)(266) الإيمان باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم.

(2)

وهذه العبارة في رواية البخاري المشار إليها في الحاشية السابقة، وقد زادت نسخة ط بعد قوله: وذلك.

(3)

في ط: من.

(4)

في ط: رآه.

(5)

كذا، لم يذكر الثالثة ولا الخامسة، وفي سيوة ابن هشام (1/ 406، 407) من حديث أبي سعيد الخدري أنه رأى في الثالثة يوسف بن يعقوب، وفي الخامسة هارون بن عمران.

ص: 343

ثم لا يعودون إليه إلى يوم القيامة، ثم جاوز مراتِبَهُم كلَّهم حتى ظهر لمستوى يسمعُ فيه صَرِيفَ الأقلام، ورُفعت لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم سِدْرَةُ المُنْتَهى، وإذا ورَقُها كاَذان الفِيَلَة، ونَبِقُها كقِلالِ هَجَر

(1)

، وغشيها عند ذلك أمورٌ عظيمة، ألوانٌ متعدِّدة باهرة، وركبتها الملائكةُ مثل الغِرْبان على الشجرة كثرةً، وفَرَاش من ذهب، وغشيها من نور الربّ جل جلاله، ورأى هنالك

(2)

جبريلَ عليه السلام له ستمئة جناح ما بين كلِّ جناحَيْن كما بين السماءَ والأرض وهو الذي يقول الله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم: 13 - 17] أي ما زَاغَ يمينًا ولا شمالًا، ولا ارتفع عن المكان الذي حُدَّ له النظر إليه. وهذا هو الثباتُ العظيمِ والأدب الكريم، وهذه الرؤيا الثانية لجبريلَ عليه السلام على الصفة التي خلقَهُ الله تعالى عليها، كما نقلهُ ابنُ مسعود وأبو هريرة وأبو ذر وعائشة رضي الله عنهم أجمعين. والأُولى هي قوله تعالى:{عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم: 5 - 10] وكان ذلك بالأبْطَح، تدلَّى جبريلُ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم سادًّا عِظَمُ خَلْقِهِ ما بين السماءَ والأرض، حتى كان بينه وبينه قابَ قوسَيْن أو أدْنَى، هذا هو الصحيحُ في التفسير كما دلَّ عليه كلامُ أكابرِ الصحابةِ المتقدِّم ذِكرُهم رضي الله عنهم.

فأمَّا قولُ شريك عن أنس في حديث الإسراء

(3)

: ثمَّ دنا الجبَّارُ ربُّ العِزةِ فتدلَّى فكان قابَ قوسين أو أدنى فقد يكونُ من فَهْم الراوي فأقحمه في الحديث. والله أعلم.

وإنْ كان محفوظًا فليس بتفسير للآية الكريمة [بل هو شيءٌ آخر غير ما دلَّتْ عليه الآيةُ الكريمة]

(4)

. والله أعلم.

وفرض الله سبحانه وتعالى على عبده محمدٍ صلى الله عليه وسلم وعلى أمته الصلواتِ ليلتئذ خمسين صلاةً في كلِّ يومٍ وليلة، ثم لم يزَلْ يختلفُ بين موسى وبين ربِّهِ عز وجل حتى وضعها الربُّ جل جلاله وله الحمدُ والمِنَّة إلى خمس وقد قال:"هي خمسٌ وهي خمسون، الحسنَةُ بعشرِ أمثالها"

(5)

فحصل له التكليم

(1)

"النَّبِق": ثمر السِّدر، واحدته: نَبِقَة، وأشبه شيء به العُنَّاب قبل أن تشتد حمرته. وهَجَر: قرية قريبة من المدينة، وليست هَجَر البحرين؛ وكانت تعمل بها القِلال، تأخذ الواحدة منها مزادة من الماء؛ مفردها: قُلَّة وهي الجرَّة الضخمة. النهاية لابن الأثير والقاموس (نبق، قلل).

(2)

في ط: هناك.

(3)

هذا القول رواه البخاري فتح (7517) التوحيد باب ما جاء في قول الله عز وجل: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} وهذا الحديث، اضطرب فيه شريك بن عبد الله بن أبي نمر، وماء حفظه ولم يضبط ولذلك ضعفه العلماء لاضطراب شريك فيه، قال البيهقي: في حديث شريك زيادة تفرد بها على مذهب من زعم أنه صلى الله عليه وسلم رأى الله عز وجل، وحمل الآية على جبريل أصح. قال بشار: وتعقب الحافظ ابن حجر في الفتح المواضع التي أخطا فيها شريك وفصّل فيها.

(4)

سقط ما بين المعقوفين من ح.

(5)

أخرجه مسلم في صحيحه (162)(259) الإيمان باب الاسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عند البخاري بنحوه المشار إليه في الحاشية (3) من هذه الصفحة.

ص: 344

من الربِّ عز وجل ليلتئذ، وأئمة السُّنَّة كالمطبقين على هذا.

واختلفوا في الرؤية، فقال بعضُهم رآه بفؤادِه مرَّتين، قاله ابن عباس وطائفة، وأطلق [ابن عباس]

(1)

وغيره الرؤية وهو محمول على التقييد، وممن أطلق الرؤية أبو هريرة وأحمد بن حنبل رضي الله عنهما، وصرَّح بعضُهم بالرؤية بالعينين، واختاره ابنُ جرير وبالغ فيه، وتبِعَهُ على ذلك آخرون من المتأخرين.

وممن نصَّ على الرؤية بعيني رأسه الشيخ أبو الحسن الأشعري فيما نقله السهيليُّ عنه، واختاره الشيخ أبو زكريا النووي في فتاويه

(2)

.

وقالت طائفة: لم يقع ذلك لحديث أبي ذرّ في صحيح مسلم

(3)

: قلت: يا رسول الله هل رأيت ربك؟ فقال: "نورٌ أنَّى أراه". وفي رواية

(4)

: "رأيت نورًا".

قالوا: ولم يكن رؤية الباقي بالعين الفانية؛ ولهذا قال الله تعالى لموسى فيما رُوي في بعض الكتب الإلهَية: يا موسى إنه لا يراني حيٌّ إلا مات، ولا يابسٌ إلا تدَهْدَه. والخلاف في هذه المسألة مشهورٌ بين السلف والخَلَف، والله أعلم.

ثم هبط رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس، والظاهر أنَّ الأنبياء هبطوا معه تكريمًا له وتعظيمًا عند رجوعه من الحضرة الإلهَية العظيمة كما هي عادة الوافدين، لا يجتمعون بأحد قبل الذي طُلبوا إليه، ولهذا كان كلَّما مرَّ على واحدٍ منهم يقولُ له جبريل - عندما يتقدم ذلك للسلام علمِه -: هذا فلان، فسلِّم عليه، فلو كان قد اجتمع بهم قبل صعودِهِ لما احتاج إلى تعرُّفٍ بهم مرة ثانية. ومما يدلُّ على ذلك أنه قال:"فلما حانتِ الصلاةُ أمَمْتُهُمْ"

(5)

. ولم يحِنْ وقتٌ إذْ ذلك إلى صلاة الفجر فتقدَّمهم إمامًا بهم عن أمر جبريلَ فيما يرويه عن ربِّه عز وجل؛ فاستفاد بعضُهم من هذا أنَّ الإمام الأعظم يقدَّمُ في الإمامة على ربِّ المنزِل، حيثُ كان بيت المقدس محلَّتهم ودارَ إقامتهم؛ ثم خرج منهم فركب البُرَاق وعاد إلى مكة، فأصبح بها وهو في غايةِ الثبات والسَّكينةِ والوَقَار.

وقد عايَنَ في تلك الليلة من الآيات والأمور التي لو رآها - أو بعضها - غيرُه لأصبح مندهشًا أو طائشَ العقل، ولكنه صلى الله عليه وسلم أصبح واجمًا - أي: ساكنًا - يَخْشَى إنْ بدأ فأخبر قومه بما رأى أن يبادروا إلى تكذيبه، فتلطَّف بإخبارهم أولًا بأنه جاء بيتَ المقدس في تلك الليلة، وذلك أنَّ أبا جهل لعنه الله - رأى رسولَ الله

(1)

سقط ما بين المعقوفين من ح.

(2)

الروض الأنف للسهيلي (2/ 156) وفتاوى الإمام النووي (ص 15) المسمَّى: المنثورات "أو المسائل المنثورة".

(3)

صحيح مسلم (291، 292 - 17) الإيمان باب في قوله عليه السلام: نور أنى أراه.

(4)

هي رقم (292) المشار إليها في الحاشية السابقة.

(5)

الحديث أخرجه مسلم في صحيحه (278 - 172) الإيمان باب ذكر المسيح ابن مريم والمسيح الدجال.

ص: 345

صلى الله عليه وسلم في المسجد الحرام وهو جالسٌ واجم، فقال:"إنِّي أُسْرِيَ بيَ الليلةَ إلى بيتِ المَقْدِس". قال: إلى بيت المقدس!؟ قال: "نعم". قال: أرأيتَ إنْ دعَوْتُ قومَك لك لتخبرَهم أتخبرُهم بما أخبرتني به؟ قال: "نعم". فأراد أبو جهل جمعَ قريش ليسمعوا منه ذلك، وأراد رسولُ الله صلى الله عليه وسلم جمعهم ليخبرَهم ذلك ويبلغهم. فقال أبو جهل: هيا معشر قريش وقد اجتمعوا من أنديتهم فقال: أخْبِرْ قوْمَكَ بما أخبرتني به. فقصَّ عليهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ما رأى وأنه جاء بيتَ المقدس هذه الليلة وصلَّى فيه؛ فمن بين مصفِّقٍ وبين مصفِّر تكذيبًا له واستبعادًا لخبره. وطار الخبرُ بمكة، وجاءَ الناسُ إلى أبي بكير رضي الله عنه فأخبروه أنَّ محمد صلى الله عليه وسلم يقول كذا وكذا فقال: إنكم تكذبونَ عليه. فقالوا: والله إنه ليقولُه. فقال: إنْ كان قالَهُ فلقَدْ صَدَق. ثم جاء إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وحوله مشركو

(1)

قريش، فسأله عن ذلك، فأخبره، فاستعلمه عن صفاتِ بيتِ المقدس ليَسْمَع المشركون ويعلموا صِدْقَهُ فيما أخبرهم به

(2)

.

وفي الصحيع

(3)

: أنَّ المشركين هم الذين سألوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك. قال: "فجعلتُ أخبرُهم عن آياته فالتبس على بعض الشيء

(4)

، فجلَّى الله لي بيتَ المقدس حتى جعلتُ أنظرُ إليه دون دارِ عُقيل وأنعته لهم". فقال: أما الصفة فقد أصاب.

وذكر ابنُ إسحاق ما تقدَّم

(5)

من إخباره لهم بمرورِهِ بعيرهم وما كان من شربه ماءهم، فأقام الله عليهم الحُجَّة واستنارت لهم المَحَجَّة، فآمن مَنْ آمن على يقينٍ من ربِّه، وكفر من كفر بعد قيام الحُجَّةِ عليه، كما قال الله تعالى:{وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء: 60]، أي: اختبارًا لهم وامتحانًا.

قال ابنُ عباس: هي رؤيا عين أُريها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وهذا مذهب جمهور السَّلَف والخَلَف من أنَّ الإسراء كان ببدَنِه ورُوحه صلواتُ الله وسلامُه عليه، كما دلَّ على ذلك ظاهرُ السِّياقات، من رُكوبه وصعوده في المِعْرَاج وغير ذلك. ولهذا قال {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ} [الإسراء: 1] والتسبيحُ إنما يكونُ عند الآياتِ العظيمةِ الخارقة، فدلَّ

(1)

في ح، ط: وحوله مشركي.

(2)

الحديث أخرجه بنحوه الإمام أحمد في مسنده: (1/ 309) رقم (2820) عن ابن عباس وإسناده صحيح، وذكره المؤلف في التفسير عن الإمام أحمد وقال: وأخرجه النسائي من حديث عوف بن أبي جميلة وهو الأعرابي به (وهو في التفسير 305 وسننه الكبرى 11285). ورواه البيهقي (في الدلائل 2/ 363 و 364) من حديث النضر بن شميل وهوذة عن عوف وهو ابن أبي جميلة الأعرابي أحد الأئمة الثقات، وهو في مجمع الزوائد (1/ 64) وقال: رواه أحمد والبزار والطبراني في الكبير والأوسط، ورجال أحمد رجال الصحيح.

(3)

يعني البخاري، انظر فتح الباري (3886) مناقب الأنصار باب حديث الإسراء و (4710) التفسير سورة بني إسرائيل (17) باب أسرى بعبده ليلًا.

(4)

في مسند أحمد: بعض النعت. ولا ذكر لهذه العبارة في البخاري، مما يدل على أنه اقتبس هذا النص في مسند أحمد، وأنه استشهد بالصحيح في ذكر أن المشركين هم الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فحسب.

(5)

تقدم حديث أم هانئ.

ص: 346

على أنه بالرُّوح والجَسَد، والعبدُ عبارةٌ عنهما، وأيضًا فلو كان منامًا لما بادَرَ كُفَّارُ قريشٍ إلى التكذيب به والاستبعاد له، إذْ ليس في ذلك كبيرُ أمْرٍ، فدلَّ على أنه أخبرهم بأنه أُسْرِيَ به يقظَةً لا منامًا. وقولُه في حديث شَرِيك عن أنس: "ثم استيقظت فإذا أنا في الحِجْر

(1)

معدودٌ في غلطاتِ شريك، أو محمولٌ على أن الانتقالَ من حالٍ إلى حال يُسمَّى يقظَةً كما سيأتي في حديث عائشة رضي الله عنها حين ذهبَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم[إلى]

(2)

الطائف فكذَّبوه، قال:"فرجعتُ مهمومًا، فلم أستفِقْ إلا بقَرْنِ الثعالب". وفي حديث أبي أُسيد حين جاء بابنِهِ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ليحنِّكَهُ فوضعه على فَخِذِ رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتغل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالحديث مع الناس، فرَفَعَ أبو أُسيد ابنَه، ثم استيقظ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فلم يجدِ الصبي، فسأل عنه، فقالوا: رفع، فسمَّاهُ المنذر

(3)

. وهذا الحمل أحسن من التغليط. والله أعلم.

وقد حكى ابنُ إسحاق فقال

(4)

: حدَّثني بعضُ آلِ أبي بكرٍ عن عائشةَ أمِّ المؤمنين أنها كانت تقول: ما فُقدَ جسدُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ولكن الله أسْرَى برُوحِه.

قال

(5)

: وحدَّثني يعقوب بن عتبة، أنَّ معاوية كان إذا سُئل عن مَسْرَى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قال كانت رؤيا من الله صادقة.

قال ابنُ إسحاق (5): فلم يُنكَرْ ذلك من قولهما، لقول الحسن: إنَّ هذه الآية نزلَتْ في ذلك: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء: 60] وكما قال إبراهيمُ عليه السلام: {يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات: 102] وفي الحديث: "تنامُ عيني وقلبي يَقْظان"

(6)

.

قال ابنُ إسحاق

(7)

: فالله أعلم أي ذلك كان، قد جاءه وعايَنَ فيه ما عاينَ من أمر الله تعالى، على أيِّ

(1)

هو الحديث المشار إليه فيما تقدم.

(2)

زيادة يقتضيها السياق، والحديث سيأتي.

(3)

أخرجه البخاري ومسلم من حديث سهل بن سعد، فتح الباري (6191) الأدب باب تحويل الاسم إلى اسم أحسن منه، وصحيح مسلم (29 - 2149) الآداب باب استحباب تحنيك المولود عند ولادته.

(4)

في السير والمغازي (ص 295) وسيرة ابن هشام (1/ 399) والروض (2/ 143).

(5)

في سيرة ابن هشام (1/ 400) والروض (2/ 143).

(6)

رواه ابن إسحاق في سيرة ابن هشام (1/ 400) وهو قطعة من حديث عائشة رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي ولفظهم: "إن عيني تنامان ولا ينام قلبي": فتح الباري ("47) التهجد باب قيام النبي صلى الله عليه وسلم (2013) صلاة التراويح باب فضل من قام رمضان، وصحيح مسلم (738)(125) صلاة المسافرين باب صلاة الليل وعدد ركعات النبي صلى الله عليه وسلم. وسنن أبي داود (1341) الصلاة باب في صلاة الليل، وجامع الترمذي (439) الصلاة باب ما جاء في وصف صلاة النبي صلى الله عليه وسلم. وأورده البخاري من حديث جابر فتح (7281) الاعتصام باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلفظ:"إن العين نائمة والقلب يقظان".

(7)

في سيرة ابن هشام (1/ 400) والروض (2/ 143).

ص: 347

حاله كان، نائمًا أو يقظانًا

(1)

، كل ذلك حقٌّ وصدق.

قلت: وقد توقَّف ابنُ إسحاق في ذلك وجوَّز كلًّا من الأمرَيْن من حيث الجملة، ولكنَّ الذي لا يُشكُّ فيه ولا يتمارى أنه كان يقظانًا

(2)

لا محالة لما تقدَّم، وليس مقتضى كلام عائشة رضي الله عنها أنَّ جسده صلى الله عليه وسلم ما فُقِد، وإنما كان الإسراءُ برُوحه أن يكونَ منامًا كما فهمه ابنُ إسحاق، بل قد يكون وقع الإسراءُ بروحه حقيقةً [وهو يقظان لا نائم، وركب البُرَاقَ وجاء بيت المقدس، وصعِدَ السمواتِ وعاين ما عاين حقيقة]

(3)

، ويقظة لا منامًا. لعل هذا مُرَادُ عائشة أمِّ المؤمنين رضي الله عنها، ومرادُ مَنْ تابعها على ذلك. لا ما فهمه ابن إسحاق من أنهم أرادوا بذلك المنام. والله أعلم.

تنبيه: ونحن لا نُنْكِرُ وقوعَ منامٍ قبل الإسراء طِبْقَ ما وقع بعد ذلك، فإنَّه صلى الله عليه وسلم كان لا يرَى رؤيا إلا جاءَتْ مثل فَلَقِ الصُّبْح، وقد تقدَّم مثل ذلك في حديث بَدْء الوحي أنه رأى مثل ما وقع له يقظةً منامًا قبله ليكون ذلك من باب الإرْهاص والتَّوْطئة والتثبُّت والإيناس. والله أعلم.

وقد

(4)

اختلف العلماءُ في أنَّ الإسراء والمعراج: هل كانا في ليلةٍ واحدة؟ أو كلٌّ في ليلةٍ على حِدَة؟ فمنهم من يزعم أنَّ الإسراء في اليقظة، والمعراجَ في المنام. وقد حكى المهلَّبُ بن أبي صُفْرَة في شرحه البخاري

(5)

عن طائفةٍ أنهم ذهبوا إلى أنَّ الإسراء [كان]

(6)

مرتين؛ مرَّة برُوحه منامًا، ومرةً ببدنه ورُوحه يقظةً، وقد حكاه الحافظ أبو القاسم السُّهَيْلي، [عن شيخه أبي بكر بن العربي الفقيه. قال السُّهيلي]

(7)

: وهذا القول يجمع الأحاديث فإنَّ في حديث شَرِيك عن أنس وذلك فيما يرى قلبه، وتنامُ عيناه ولا ينامُ قلبه، وقال في آخره:"ثم استيقظتُ فإذا أنا في الحِجْر"

(8)

وهذا منام، ودلَّ غيرُه على اليقظة.

ومنهم من يدَّعي تعدُّدَ الإسراء في اليقظةِ أيضًا، حتى قال بعضُهم: إنها أربعُ إسراءات. وزعم بعضُهم أنَّ بعضَها كان بالمدينة، وقد حاول الشيخ شهاب الدين أبو شامة رحمه الله أن يوفق بين اختلاف

(1)

كذا في ح، ط، وفي سيرة ابن هشام والروض: يقظان. وهو أشبه بالصواب لأن مؤنثه: يقظى. إلا أن بعضهم أجازها على لغة بعض العرب.

(2)

مضى التعليق عليها في الحاشية السابقة.

(3)

سقط ما بين المعقوفين من ح.

(4)

في ط: ثم قد. والمثبت من ح.

(5)

هو المهلب بن أحمد بن أبي صفرة الأندلسي المريِّي المتوفِّى سنة 435 هـ - وهو غير الأزدي البصري قائد الكتائب - صنف شرحًا لصحيح البخاري، ترجمته في سير أعلام النبلاء (17/ 579).

(6)

زيادة يقتضيها السياق منقولة من قول السهيلي في الروض (2/ 149) الذي سيشير إليه المؤلف.

(7)

ما بين المعقوفين ليس في ح وأظنه مقحمًا من قبل النساخ، لأن السهيلي لم يذكر شيخه أبا بكر في هذا الموضع من الروض (2/ 149) حيث عقد فصلًا: أكان الإسراء يقظه أم منامًا. كان المؤلف هنا ينقل قول السهيلي بمعناه لا بلفظه، ولفظ السهيلي: وهذا القول هو الذي يصح، وبه تتفق معاني الأخبار. اهـ.

(8)

هو الحديث المشار إليه في الصفحة السابقة.

ص: 348

ما وقع في روايات وحديث الإسراء بالجمع المتعدد

(1)

فجعل ثلاثَ إسراءات، مرةً من مكة إلى البيت المقدَّس فقط على البُرَاق، ومرةً من مكة إلى السماء على البراق أيضًا لحديث حُذيفة، ومرة من مكة إلى بيت المقدس ثم إلى السموات.

فنقول: إنْ كان إنما حمله على القول بهذه الثلاث اختلافُ الروايات فقد اختلف لفظُ الحديث في ذلك على أكثر من هذه الثلاث صفات، ومَنْ أراد الوقوف على ذلك فلينظرْ فيما جمعناه مستقصيًا في كتابنا التفسير عند قوله تعالى:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء: 1]: وإن كان إنما حمله أنَّ التقسيم انحصر في ثلاثِ صفات بالنسبة إلى بيتِ المقدس وإلى السموات فلا يلزم من الحَصْرِ العقلي والوقوع كذلك في الخارج إلا بدليل. والله أعلم.

والعجب أنَّ الإمام أبا عبد الله البخاري رحمه الله ذكر الإسراء بعد ذكِرِهِ موتَ أبي طالب، فوافق ابنَ إسحاق في ذكره المعراج في أواخر الأمر، وخالفَهُ في ذكره بعد موت أبي طالب، وابنُ إسحاق أخَّرَ ذِكر موت أبي طالب على الإسراء، فاللهُ أعلم أيُّ ذلك كان.

والمقصود أنَّ البخاري فرَّق بين الإسراء وبين المِعْرَاج، فبوَّبَ لكلِّ واحدٍ منهما بابًا على حِدَة فقال

(2)

:

بابُ حديثِ الإسراءَ وقول الله سبحانه وتعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} حدَّثنا يحيى بن بُكير، حدَّثنا الليث، عن عُقَيل، عن ابن شهاب، حدَّثني أبو سَلَمة بنُ عبد الرحمن قال: سمعتُ جابرَ بن عبد الله أنه سمع رسولَ الله يقول: "لما كذَّبَتْني قُريش قمتُ

(3)

في الحِجْر، فجلَّى اللهُ لي بيتَ المقدس، فطفِقْتُ أُخبِرهُم

(4)

عن آياتِهِ وأنا أنظُرُ إليه".

وقد رواه مسلم والترمذي والنسائي من حديث [الزهري، عن أبي سَلَمة، عن جابر به

(5)

.

ورواه مسلم والنسائي

(6)

من حديث]

(7)

عبد الله بن الفضل عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه

(8)

.

(1)

في ح: بالمتعدد.

(2)

فتح الباري (7/ 196).

(3)

في ح، ط: كنت في الحجر، والمثبت من فتح الباري.

(4)

في ح، ط: أحدثهم. والمثبت من فتح الباري.

(5)

صحيح مسلم (170)(276) الإيمان باب ذكر المسيح بن مريم والمسيح الدجال، وجامع الترمذي (3133) التفسير باب سورة بني إسرائيل، والنسائي في التفسير (302) وهو في سننه الكبرى (11282)، وبه أخرجه الإمام أحمد أيضًا في المسند (3/ 377).

(6)

في ط: "مسلم والنسائي والترمذي"، وهو خطأ، فإن الترمذي لم يخرج الحديث من هذا الوجه، ولا ذكره أحد بما فيهم المزي في تحفة الأشراف (10/ 353 حديث 14965 من طبعتنا). ولا أشك أن لفظة "الترمذي" مقحمة من النساخ، فإنها قد أقحمت في غير موضعها، ذلك أن من عادة المؤلف تقديم الترمذي على النسائي عند الإحالة، كما في الذي قبله (بشار).

(7)

سقط ما بين المعقوفين من ح.

(8)

صحيح مسلم (172)(278) الإيمان باب ذكر المسيح عيسى بن مريم والمسيح الدجال؛ وهو في التفسير من السنن =

ص: 349

ثم قال البخاري باب حديث المِعْراج

(1)

: حدَّثنا هُدْبَةُ بن خالد، حدَّثنا همَّام، حدَّثنا قتادة، عن أنس بن مالك، عن مالك بن صعصعة، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم حدَّثهم عن ليلةِ أُسريَ به. قال: "بينما أنا في الحَطِيم - وربما قال في الحِجْر - مضطجعًا إذْ أتاني آتٍ فقدَّ - قال: وسمعته يقول: فشق

(2)

- ما بين هذه إلى هذه" فقلتُ: للجارود - وهو إلى جنبي -: ما يَعني به؟ قال: من ثُغْرَةِ

(3)

نَحْرِه إلى شِعْرَتِه، وسمعتُه يقول: من قَصِّه

(4)

إلى شِعرته. "فاستخرج قلبي، ثم أُتيتُ بطسْتٍ من ذهب مملوءةٍ إيمانًا فغُسل قلبي، ثم حُشِيَ ثم أُعيد، ثم أُتيتُ بدابَّةٍ دون البَغْل وفوق الحمار، أبيض" - فقال له الجارود: وهو البراق يا أبا حمزة؟ قال أنس نعم - "يضَعُ خَطْوَهُ عند أقْصَى طَرْفِهِ؛ فحُملْتُ عليه، فانطلق بي جبريل

(5)

حتى أتى السماءَ الدنيا فاستفتحَ، قيل: مَنْ هذا؟ قال: جبريل قيل: ومَنْ معك؟ قال: محمد. قيل: وقد أُرسل إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحبًا به، فنعمَ المجيءُ جاء! فَفَتح، فلما خَلَصتُ فإذا فيها آدم فقال: هذا أبوك آدمُ فسلِّم عليه. فسلَّمت عليه، فردَّ السلام ثم قال: مرحبًا بالابنِ الصالح والنبيِّ الصالح.

ثم صعِدَ بي إلى السماءِ الثانية، فاستفتح قيل: مَنْ هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومَنْ معك؟ قال: محمد، قيل وقد أُرسل إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحبًا به، فنعم المجيءُ جاء! ففَتح، فلما خلَصْتُ إذا يحيى وعيسى وهما ابنا خالة. قال: هذا يحيى وعيسى فسلِّمْ عليهما. فسلمتُ عليهما، فردَّا ثم قالا: مرحبًا بالأخِ الصالح والنبيِّ الصالح.

ثم صعِدَ بي إلى السماء الثالثة، فاستفتح، قيل: مَنْ هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومَنْ معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أُرسل إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحبًا به، فنعمَ المجيءُ جاء! ففتح، فلما خلصتُ إذا يوسُف، قال: هذا يُوسف فسلِّم عليه فسلمتُ عليه، فردَّ ثم قال: مرحبًا بالأخ الصالح والنبيِّ الصالح.

ثم صعِدَ بي حتى أتى السماءَ الرابعة فاستفتح، قيل: مَنْ هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومَنْ معك؟

= الكبرى (11284) و (11480).

(1)

فتح الباري (3887).

(2)

في ط: إذ أتاني آت فقال وسمعته يقول فشق. وفي ح: فقال مال وضرب على اللفظة الثانية، وكلاهما تصحيف، والمثبت من صحيح البخاري في الفتح، قال ابن حجر شرحه (7/ 204): القائل قتادة والمقول عنه أنس، ولأحمد:"قال قتادة سمعت أنسًا يقول" فشق.

(3)

في ح: ثعر، وفي ط: نقرة. وكلاهما تصحيف، والمثبت من صحيح البخاري، قال ابن حجر في الفتح (7/ 204): وهي الموضع المنخفض بين الترقوتين.

(4)

"قصه": أي رأس صدره. فتح الباري (7/ 204).

(5)

في ط: جبرائيل. وفي كل المواضع، والمثبت من ح وصحيح البخاري.

ص: 350

قال: محمد. قيل: وقد أُرسل إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحبًا به، فنعم المجيءُ جاء ففتح، فلما خلصتُ إذا إدريس، قال: هذا إدريس فسلِّم عليه فسلمتُ عليه فردَّ. ثم قال: مرحبًا بالأخِ الصالح والنبيِّ الصالح.

ثم صعِدَ بي حتى أتى السماءَ الخامسة، فاستفتح قيل: مَنْ هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومَنْ معك؟ قال: محمد. قيل: وقد أُرسل إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحبًا به، فنعمَ المجيءُ جاء! فلما خلصتُ إذا هارون، قال: هذا هارونُ فسلِّم عليه. فسلمتُ عليه. فردَّ، ثم قال: مرحبًا بالأخِ الصالح والنبيِّ الصالح.

ثم صعِدَ بي حتى أتى السماءَ السادسة، فاستفتح، قيل: مَنْ هذا؟ قال: جبريل، قيل ومَنْ معك؟ قال: محمد. قيل: وقد أُرسل إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحبًا به، فنعم المجيءُ جاء! فلما خلصتُ إذا موسى، قال: هذا موسى فسلِّمْ عليه. فسلمتُ عليه، فردَّ، ثم قال: مرحبًا بالأخِ الصالح والنبيِّ الصالح. فلما تجاوزتُ بكى، فقيل له: ما يُبكيك؟ قال: أبكي لأنَّ غلامًا بُعث بعدي يدخُل الجنةَ من أمته أكثرُ ممن يدخلُها من أمتي.

ثم صعِدَ بي إلى السماء السابعة، فاستفتح جبريل، قيل: مَنْ هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومَنْ معك؟ قال: محمد. قيل: وقد بُعثَ إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحبًا به، فنعم المجيءُ جاء! فلما خلصتُ إذا إبراهيم، قال: هذا أبوك إبراهيم فسلِّمْ عليه، فسلَّمت عليه، فرد السلام ثم قال: مرحبًا بالابنِ الصالح والنبيِّ الصالح.

ثم رُفعتْ لي سِدْرَةُ المُنْتَهَى، [فإذا نَبِقُها مثل قِلالِ هَجَر، وإذا ورقُها مثلُ آذان الفِيَلَة. قال: هذه سِدْرَة المنتهى]

(1)

وإذا أربعةُ أنهار؛ نهرانِ ظاهران، ونهرانِ باطنان، فقلتُ: ما هذا

(2)

، يا جبريل؟ قال: أما الباطنان فنهران في الجنة؛ وأمَّا الظاهرانِ فالنيلُ والفرات، ثم رُفع لي البيتُ المعمور -[يدخله كلَّ يوم سبعون ألف ملك]

(3)

- ثم أُتيت بإناءٍ من خمر وإناءٍ من لَبَن وإناءَ من عَسَل، فأخذتُ اللَّبَن، فقال: هي الفطرة التي أنت عليها وأُمَّتُك. ثم فرضت علي الصلاة خمسينَ صلاة

(4)

كلَّ يوم، فرجعتُ فمررتُ على موسى فقال: بما

(5)

أُمِرت؟ قال: أُمرتُ بخمسين صلاة كلَّ يوم. قال: إنَّ أمتك لا تستطيعُ خمسينَ صلاةً كل يوم، وإني والله قد جرَّبتُ الناسَ قبلك، وعالجتُ بني إسرائيل أشدَّ

(1)

ما بين المعقوفين سقط من ط وهو مثبت من ح وصحيح البخاري.

(2)

في فتح الباري: "ما هذان".

(3)

ما بين المعقوفين ليس في صحيح البخاري، وهو زيادة من رواية الكشميهني أشار لها ابن حجر في الفتح (7/ 215).

(4)

في ح، ط: ثم فرض علي الصلوات خمسون، والمثبت من الفتح.

(5)

إثبات ألف ما المجرورة قليل شاذ، وجائز في بعض لغة العرب، انظر الخزانة (6/ 99).

ص: 351

المعالجة؛ فارجعْ إلى ربِّك فاسْألْهُ التخفيفَ لأمتك. فرجعتُ، فوضع عني عشرًا. فرجعتُ إلى موسى فقال مثله، فرجعتُ فوضعَ عني عشرًا. فرجعتُ إلى موسى فقال مثله، فرجعتُ فوضع عني عشرًا. فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعتُ فأُمرت بعشر صلواتٍ كل يوم، فرجعت، فقال مثله فرجعتُ فأُمرتُ بخمس صلواتٍ كل يوم، فرجعتُ إلى موسى فقال: بم

(1)

أمرت؟ فقلت: أمرت بخمس صلواتٍ كلَّ يوم. قال: إنَّ أُمَّتك لا تستطيعُ خمسَ صلواتٍ كل يوم، وإنِّي قد جرَّبتُ الناسَ قبلك وعالجتُ بني إسرائيلَ أشدَّ المعالجة، فارجِعْ إلى ربِّك فاسألْه التخفيفَ لأُمتك. قال: سألتُ ربِّي حتى استحيَيْتُ، ولكنْ أرضى وأُسَلِّم. قال: فلما جاوزتُ نادَى منادٍ: أمضَيْتُ فريضتي، وخفَّفْتُ عن عبادي".

هكذا روى البخاري هذا الحديث هاهنا. وقد رواه في مواضع أُخر من صحيحه ومسلم والترمذي والنسائي من طرق، عن قتادة، عن أنس، عن مالك بن صعصعة

(2)

.

ورويناه من حديث أنس بن مالك، عن أبي بن كعب، ومن حديث أنس عن أبي ذر. ومن طرقٍ كثيرة، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقد ذكرنا ذلك مستقصًى بطُرقِه وألفاظِه في التفسير

(3)

، ولم يقع في هذا السياق ذكرُ بيت المقدس، وكان بعضُ الرواة يحذفُ بعضَ الخبر للعلم به، أو ينساه، أو يذكر ما هو الأهم عنده، أو يبسط تارةً فيسوقُه كلَّه، وتارة يحدِّث مُخاطِبَه بما هو الأنفعُ له

(4)

.

ومَنْ جعل كلَّ روايةِ إسراء على حِدَة كما تقدَّمَ عن بعضهم فقد أبعد جدًّا. وذلك أنَّ كلَّ السياقاتِ فيها السلامُ على الأنبياء، وفي كل منها يُعَرِّفه بهم، وفي كلِّها يفرضُ عليه الصلوات. فكيف يمكن أن يدَّعي تعدُّدَ ذلك؟ هذا في غاية البُعْد والاستحالة. والله أعلم.

ثم قال البخاري

(5)

: حدَّثنا الحُميدي، حدَّثنا سفيان، عن عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله تعالى:{وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء: 60]. قال: هي رُؤْيا عَيْن، أُريها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ليلةَ أُسري بهِ إلى بيتِ المقدس؛ والشجرة الملعونةَ في القرآن. قال: هي شجرة الزَّقُّوم

(6)

.

(1)

في فتح الباري: بما.

(2)

فتح الباري (3207) بدء الخلق باب ذكر الملائكة وفي الأنبياء (3393) و (3430)، وصحيح مسلم (164) و (264) الإيمان باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم، وجامع الترمذي (3346) التفسير باب ومن سورة ألم نشرح، وسنن النسائي (448) الصلاة باب فرض الصلاة وذكر اختلاف الناقلين.

(3)

تفسير ابن كثير (4/ 239) وما بعد عند سورة الإسراء.

(4)

في ط: وتارة يحذف عن مخاطبه بما هو الأنفع عنده، والمثبت من ح.

(5)

فتح الباري (3888) مناقب الأنصار باب المعراج.

(6)

زادت نسخة ح هنا ما نصه: انفرد به البخاري، وليس كذلك، فقد رواه الترمذي عن ابن أبي عمر، حدَّثنا سفيان به.

ص: 352

‌فصل

ولما أصبح رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من صبيحة ليلة الإسراء جاءه جبريل عند الزوال فبيَّن له كيفية الصلاة وأوقاتها، وأمرَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أصحابه فاجتمعوا فصلى به جبريل في ذلك اليوم إلى الغد والمسلمون يأتمون بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو يقتدي بجبريل كما جاء في الحديث عن ابن عباس وجابر:"أَمَّني جبريل عند البيت مرَّتين"

(1)

. فبين له الوقتَيْن الأول والآخِر. فهما وما بينهما الوقت الموسع، ولم يذكر توسعةً في وقت المغرب.

وقد ثبت ذلك في حديث أبي موسى وبُرَيدة وعبد الله بن عمرو، وكلُّها في صحيح مسلم

(2)

. وموضع بسط ذلك في كتابنا الأحكام وللهِ الحمد.

فأما ما ثبتَ في صحيح البخاري

(3)

عن معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: فُرضتِ الصلاةُ أولَ ما فُرضتْ ركعتَيْن، فأُقِرَّتْ صلاةُ السَّفَر، وزيدَ في صلاةِ الحَضَر.

وكذا رواهُ الأوزاعي، عن الزهري

(4)

، ورواه الشعبي، عن مسروق عنها

(5)

؛ وهذا مشكل من جهةِ أنَّ عائشة كانتْ تتمُّ الصلاةَ في السفر، وكذا عثمان بن عفان، وقد تكلَّمنا على ذلك عند قوله تعالى:{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101].

قال البيهقي

(6)

: وقد ذهب الحسَنُ البصريّ إلى أنَّ صلاة الحَضَر أول ما فُرضتْ أربعًا. كما ذكرَهُ مرسلًا من صلاته صلى الله عليه وسلم صبيحةَ الإسراء الظهرَ أربعًا، والعصرَ أربعًا، والمغرب ثلاثًا يجهر في الأُوَلَيَيْن والعشاءَ أربعًا يجهر في الأولَيَيْن، والصبح ركعتين يَجْهَرُ فيهما. قلت: فلعلَّ عائشةَ أرادتْ أنَّ الصلاةَ

(1)

رواه أبو داود في السنن (393) الصلاة باب ما جاء في المواقيت، والترمذي في الجامع (149) الصلاة باب ما جاء في مواقيت الصلاة، وأخرجه الإمام أحمد في المسند (1/ 333 و 354) وابن خزيمة في صحيحه (325) الصلاة باب ذكر مواقيت الصلاة الخمس، والدارقطني في السنن (1/ 258) الصلاة باب إمامة جبريل، وغيرهم.

(2)

يضاف إليها حديث أبي مسعود الأنصاري وهي مروية في صحيح مسلم (1/ 425 - 430) الأرقام (610 - 614) كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب أوقات الصلوات الخمس.

(3)

فتح الباري (3935) مناقب الأنصار باب التاريخ من أين أرخوا التاريخ. وهذه الرواية هي المشار إليها عن معمر.

ولفظها يختلف عن اللفظ الذي ساقه المؤلف وهو من طريق صالح بن كيسان عن عروة به، وهو في صحيح البخاري فتح (350) الصلاة باب كيف فرضت الصلوات في الإسراء، وهي رواية مسلم في صحيحه (1 - 685) صلاة المسافرين وقصرها باب صلاة المسافرين وقصرها، وأخرجه مالك في الموطأ (8) قصر الصلاة في السفر باب قصر الصلاة في السفر، والنسائي في السنن (454) الصلاة باب كيف فرضت الصلاة.

(4)

وهي رواية النسائي المشار إليها في الحاشية السابقة، وأخرجه البيهقي بنحوه في الدلائل (2/ 406).

(5)

أخرجه ابن خزيمة في صحيحه (305) الصلاة باب ذكر فرض الصلوات الخمس من طريق داود بن أبي هند عن الشعبي به.

(6)

في دلائل النبوة (2/ 407).

ص: 353

كانتْ قبل الإسراء تكون ركعتين، ثم لما فُرِضتِ الخمس فُرضت حَضَرًا على ما هي عليه، ورُخِّص في السفر أنْ يصلي ركعتين كما كان الأمر عليه قديمًا، وعلى هذا لا يَبْقَى إشكال بالكليَّة. والله أعلم.

‌فصل انشقاق القمر في زمان النبيِّ صلى الله عليه وسلم

-

وجعل الله آية على صدقِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من الهُدَى ودينِ الحق حيث كان وَفْقَ إشارته الكريمه

(1)

، قال الله تعالى في محكم كتابه العزيز:{اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ} [القمر: 1 - 3] وقد أجمع المسلمون على وقوع ذلك في زمنه صلى الله عليه وسلم، وجاءَتْ بذلك الأحاديثُ المتواترة، من طُرقٍ متعدِّدة، تفيد القَطْعَ عند مَنْ أحاط بها ونظر فيها. ونحن نذكرُ من ذلك ما تيسَّر إنْ شاء الله، وبه الثقةُ وعليه التكلان. وقد استقصَيْنا

(2)

ذلك في كتابنا التفسير فذكرنا الطُّرقَ والألفاظ محرَّرةً، ونحن نشير هاهنا إلى أطرافٍ من طُرقها ونعزوها إلى الكتب المشهورة بحول الله وقوته. وذلك مَرْويٌّ عن أنس بن مالك، وجُبير بن مطعم، وحُذيفة، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين.

أما أنس فقال الإمام أحمد

(3)

: حدَّثنا عبدُ الرزاق، حدَّثنا معمر، عن [الزهري، عن] قتادة، عن أنس بن مالك قال: سألَ أهلُ مكةَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم آية، فانشقَّ القمرُ بمكةَ مرَّتَيْن. فقال:{اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} .

ورواه مسلم

(4)

عن محمد بن رافع، عن عبد الرزاق به. وهذا من مرسلاتِ الصحابة؛ والظاهر أنه تلقَّاه عن الجمِّ الغفير من الصحابة، أو عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، أو عن الجميع.

وقد روى البخاري ومسلم

(5)

هذا الحديث من طريق شَيْبان؟ زاد البخاري: وسعيد بن أبي عَروبة، وزاد مسلم

(6)

: وشعبة، ثلاثتهم، عن قتادة، عن أنس: أنَّ أهلَ مكة سألوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أنْ يُريَهُمْ آيةً، فأراهُم القمرَ شِقَّتَيْنِ، حتى رأوْا حِرَاء بينهما. لفظ البخاري

(7)

.

(1)

في ط: كان ذلك وقت إشارته الكريمة، والمثبت من ح.

(2)

في ط: تقصينا.

(3)

في المسند (3/ 165) رقم (12624) وما يأتي بين معقوفين منه.

(4)

في صحيحه (2802)(46) صفات المنافقين وأحكامهم باب انشقاق القمر.

(5)

فتح الباري (3637) المناقب باب سؤال المشركين أن يريهم النبي صلى الله عليه وسلم آية. ورواية مسلم هي المشار إليها في الحاشية السابقة.

(6)

هي رقم (2802)(47) من الكتاب والباب المشار إليه في الحاشية (4).

(7)

هذا اللفظ في الفتح (3868) مناقب الأنصار باب انشقاق القمر. قال ابن حجر في قوله: حتى يروا حراء بينهما: أي: بين الفرقتين.

ص: 354

وأما جُبير بن مُطْعم، فقال الإمامُ أحمد

(1)

: حدَّثنا محمد بن كثير، حدَّثنا سليمان بن كثير، عن حصين بن عبد الرحمن، عن محمد بن جُبير بن مُطْعم، عن أبيه قال: انشقَّ القمرُ على عهدِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فصار فِرْقَتين، فرقة على هذا الجبل، وفرقة على هذا الجبل. فقالوا: سحرَنَا محمد! فقالوا: إنْ كان سحَرَنا فإنه لا يستطيعُ أن يسحَرَ الناسَ كُلَّهم.

تفرَّد به أحمد

(2)

.

وهكذا رواه ابنُ جرير

(3)

، من حديث محمد بن فضيل وغيره عن حصين به.

وقد رواه البيهقي

(4)

من طريق إبراهيم بن طَهْمان وهُشيم كلاهما عن حُصين بن عبد الرحمن، عن جُبير بن محمد بن جُبير بن مطعم، عن أبيه، عن جدِّه به، فزاد رجلًا في الإسناد

(5)

.

وأما حُذيفة بن اليمان فروى أبو نعيم في "الدلائل"

(6)

من طريق عن عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن السلمي. قال: خطبنا حذيفة بن اليمان بالمدائن

(7)

فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} ألا وإنَّ الساعة قد اقتربتْ، ألا وإنَّ القمرَ قدِ انشقّ [على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم

(8)

، ألا وإنَّ الدُّنيا قد آذنَتْ بفراق، ألا وإنَّ اليوم المِضْمار

(9)

وغدًا السِّبَاق

(10)

. فلما كانت الجمعةُ الثانية انطلقتُ مع أبي إلى الجُمعة، فحمدَ الله وقال مثله وزاد: ألا وإنَّ السابقَ مَنْ سبقَ إلى الجنة

(11)

. فلما كنَّا في الطريق قلتُ لأبي: ما يعني بقوله: غدًا اسباق؟ قال: مَنْ سبَقَ إلى الجنة.

(1)

في المسند (4/ 81 - 82).

(2)

وإسناده ضعيف لانقطاعه، فإن حصين بن عبد الرحمن لم يسمع هذا الحديث من محمد بن جبير بن مطعم، بينهما جبير بن محمد بن جبير كما سيأتي بعد قليل، وجبير هذا مجهول. وقد رواه من هذا الوجه: الترمذي (3289)، والطبراني في الكبير (1559)، والبيهقي في الدلائل (2/ 268). (بشار).

(3)

يعني الطبري في تفسيره (27/ 86) في تفسير سورة القمر.

(4)

في الدلائل (2/ 268) وذكره السيوطي في الدر المنثور (7/ 671) في تفسير الآية وقال: أخرجه أحمد وعبد بن حميد والترمذي وابن جرير والحاكم وأبو نعيم والبيهقي عن جبير.

(5)

وهذا هو الأشبه كما بينه الإمام الدارقطني في العلل (4/ الورقة 104)، وقال البيهقي: أقام إسناده إبراهيم بن طهمان وهشيم وأبو كريب والمفضل بن يونس عن حصين.

(6)

أورده السيوطي في الدر المنثور (7/ 672) وقال: أخرجه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن جرير وابن مردويه وأبو نعيم عن أبي عبد الرحمن السلمي قال خطبنا حذيفة

الحديث.

(7)

ليست اللفظة في ح.

(8)

ما بين معقوفين من الدر المنثور.

(9)

في ح والدر المنثور: الضمار، والمثبت من ط والنهاية لابن الأثير وشرحه فيه: أي اليوم العمل في الدنيا للاستباق في الجنة. والمضمار: الموضع الذي تضمَّرُ فيه الخيل، ويكون وقتًا للأيام التي تضمَّر فيها.

(10)

إلى هنا في الدر المنثور.

(11)

في ط: الجمعة، والمثبت من ح.

ص: 355

وأما ابنُ عباس، فقال البخاري

(1)

: حدَّثنا يحيى بن بُكَيْر

(2)

، حدَّثنا بكر، عن جعفر، عن عِرَاك بن مالك، عن عُبيد الله بن عبد الله بن عُتْبَة، عن ابن عباس، قال: إنَّ القمر انْشَقَّ في زمانِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم.

ورواه البخاري أيضًا ومسلم

(3)

من حديث بكر - وهو ابنُ مُضَر

(4)

- عن جعفر [- هو ابن ربيعة - عن عِرَاك به.

وقال ابنُ جرير

(5)

: حدّثنا ابن مثنى، حدَّثنا عبد الأعلى، حدَّثنا داود بن أبي هند، عن

(6)

ابن عباس]

(7)

قوله: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} . قال: قد مضى ذلك، كان قبلَ الهجرة، انشقَّ القمر حتى رأوا شِقَّيْه.

وهكذا رواهُ العَوْفي عن ابن عباس رضي الله عنه وهو من مرسلاته.

وقال الحافظ أبو نعيم

(8)

: حدَّثنا سليمان بن أحمد، حدثنا بكر بن سهل

(9)

، حدَّثنا عبد الغني بن سعيد، حدَّثنا موسى بن عبد الرحمن، عن ابن جُريج، عن عطاء، عن ابن عباس، وعن مقاتل عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله:{اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} ، قال ابن عباس: اجتمعَ المشركون إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، منهم الوليدُ بن المغيرة، وأبو جهل بن هشام، والعاص بن وائل، والعاص بن هشام، والأسود بن عبد يغوث، والأسود بن المطلب، وزَمَعة بن الاْسود، والنضْر بن الحارث، ونظراؤهم، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إنْ كنت صادقًا فشُق لنا القمر فرقتَيْن، نصفًا على أبي قُبيس ونصفًا على قُعَيقعان. فقال لهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"إنْ فعلتُ تؤمنوا؟ " قالوا: نعم - وكانت ليلة بَدْر - فسأل اللهَ عز وجل أنْ يُعطيَهُ ما سألوا، فأمسى القمَرُ قد مَثُلَ

(10)

نصفًا على أبي قُبيس، ونصفًا على قُعَيقِعان، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم يُنادي:"يا أبا سلمة بن عبد الأسد، والأقم بن أبي الأرقم، اشْهَدُوا".

(1)

فتح الباري (4866) التفسير سورة القمر (54) باب وانشق القمر.

(2)

في ط: يحيى بن كثير، وهو تصحيف، والمثبت من ط وصحيح البخاري في الفتح.

(3)

فتح الباري (3870) مناقب الأنصار باب انشقاق القمر، وصحيح مسلم (2803)(48) صفات المنافقين وأحكامهم باب انشقاق القمر.

(4)

في ح، ط: ابن نصر، وهو تصحيف، والمثبت من صحيح البخاري ومسلم وترجمته في تهذيب الكمال (7/ 227).

(5)

يعني الطبري في تفسيره (27/ 86) في تفسير سورة القمر.

(6)

كذا في ح، وزادت مطبوعة تفسير الطبري: عن علي قبل ابن عباس، وأظنه تصحيفًا، والصواب: عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس.

(7)

ما بين المعقوفين سقط من ط وهو مثبت في ح.

(8)

في دلائل النبوة (1/ 368) وإسناده ضعيف لضعف بكر بن سهيل، وشيخه عبد الغني بن سعيد الثقفي (الميزان 2/ 642).

(9)

في ط: سهيل، تصحيف، والمثبت من ح ودلائل أبي نعيم، وترجمته في الميزان ولسان الميزان.

(10)

في ح: فانشق القمر نصفًا

وفي ط: فأمسى القمر قد سلب نصفًا

، والمثبت من دلائل النبوة لأبي نعيم.

ص: 356

ثم قال أبو نعيم

(1)

: وحدَّثنا سليمان بن أحمد، حدَّثنا الحسن بن العباس الرازي، عن الهيثم بن النعمان

(2)

، حدَّثنا إسماعيل بن زياد، عن ابن جُريج، عن عطاء عن ابن عباس، قال: انتهى أهلُ مكة إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: هل من آيةٍ نعرف بها أنك رسولُ الله؟ فهبط جبرائيل فقال: يا محمد، قل لأهل مكَّةَ أَنْ يحتفلوا هذه الليلة فسَيَرَوْا آيةً إن انتفعوا بها. فأخبرهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بمقالة جبرائيل فخرجوا [ليلة الشق]

(3)

، ليلة أربعَ عشرة، فانشق القمرُ بنصفَيْن، نصفًا على الصَّفَا ونصفًا على المَرْوَة، فنظروا، ثم قالوا بأبصارهم فمسحوها، ثمَ أعادوا النظر فنظروا، ثمَّ مسحوا أعينهم ثمَّ نظروا، فقالوا: يا محمد ما هذا إلا سحرٌ ذاهب

(4)

فأنزل الله: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} .

ثمَّ روى

(5)

عن الضحاك، عن ابن عباس قال: جاءت أحبارُ اليهود إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: أرِنا آيةً حتى نؤمن بها. فسأل ربَّهُ فأراهم القمرَ قدِ انشق فصار نصفين

(6)

أحدهما على الصَّفَا، والآخر على المَرْوَة، قَدْرَ ما بين العصر إلى الليل ينظرون إليه، ثمَّ غاب. فقالوا: هذا سحرٌ مستمر

(7)

.

وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني

(8)

: حدَّثنا أحمد بن عمرو البزَّار

(9)

، حدَّثنا محمد بن يحيى القُطَعي، حدَّثنا محمد بن بكر، حدَّثنا ابن جُريج، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابنِ عباس، قال: كَسَفَ القمَرُ على عهد رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: سحر القمر. فنزلَتْ: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [القمر: 1 - 2].

وهذا إسنادٌ جيِّد، وفيه أنه كَسَف تلك الليلة، فلعلَّه حصل له انشقاقٌ في ليلةِ كُسوفه، ولهذا خَفِيَ أمْرُه على كثيرٍ من أهل الأرض، [ولعلَّ ذلك في بعض ليالي الشتاء حيث يكون أكثر الناس في البيوت، أو ستره غَيْمٌ عن كثير من الأرض]

(10)

، ومع هذا قد شوهد ذلك في كثيرٍ من بقاعِ الأرض.

ويقال: إنه أُرِّخ ذلك في بعضِ بلاد الهند، وبُني بناء تلك الليلة وأُرِّخ بليلةِ انشقاق القمر.

(1)

ليست هذه الرواية في المطبوع من دلائل النبوة لأبي نعيم، قال بشار: وإسنادها تالف، فإسماعيل بن زياد كذاب.

(2)

في ط: العمان. والمثبت من ح ولم أقف على ترجمة له.

(3)

ليس ما بين المعقوفين في ح.

(4)

في ط: واهب. وفي المطبوع بتحقيق عبد الواحد: راهب، والمثبت من ح.

(5)

يعني أبا نعيم في دلائل النبوة (1/ 369).

(6)

في ط: انشق بجزأين. والمثبت من ح.

(7)

في ط: مفترى، والمثبت من ح والدلائل.

(8)

في المعجم الكبير (11642).

(9)

في ح، ط: الرزاز، وهو تصحيف، والمثبت من معجم الطبراني وترجمة البزار في سير أعلام النبلاء (13/ 554).

(10)

ما بين المعقوفين مثبت في هامش ح بإشارة لَحَق في المتن.

ص: 357

وأما ابنُ عمر فقال الحافظ البيهقي

(1)

: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو بكر أحمد بن الحسن القاضي قالا: حدَّثنا أبو العباس الأصمّ، حدثنا العباس بن محمد الدُّوري، حدَّثنا وهب بن جرير، عن شعبة، عن الأعمش، عن مجاهد عن عبد الله بن عمر في قوله:{اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} قال: وقد كان ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، انشق فِلْقَتَيْن

(2)

، فِلْقَة من دون الجبل، وفلقة من خلف الجبل، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"اللهمَّ اشْهَدْ".

رواه مسلم والترمذي من طرق

(3)

، [عن شعبة، عن الأعمش، عن مجاهد]

(4)

، به.

قال مسلم

(5)

: كرواية مجاهد عن أبي معمر عن ابن مسعود.

وقال الترمذي

(6)

: هذا حديث حسن صحيح.

وأما عبد الله بن مسعود فقال الإمام أحمد

(7)

: حدَّثنا سفيان، عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد، عن أبي معمر، عن ابن مسعود، قال: انشقَّ القمَرُ على عهدِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم شقتَيْن حتى نظروا إليه، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"اشهدوا".

وهكذا أخرجاه

(8)

من حديث سفيان - وهو ابنُ عيينة - به.

ومن

(9)

حديث الأعمش، عن إبراهيم، عن أبي معمر، عن عبد الله بن مسعود

(10)

قال: انشقَّ القمرُ ونحنُ مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بمنى، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"اشهَدُوا" وذهبَتْ فِرْقَة نحو الجبل. (لفظ

(1)

في الدلائل (2/ 267) وذكره السيوطي في الدر المنثور (7/ 671) فقال: وأخرج مسلم والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه والحاكم والبيهقي وأبو نعيم في الدلائل

فذكر الحديث.

(2)

لفظ الدر المنثور: فرقتين

فرقة

وفرقة.

(3)

صحيح مسلم (2801) صفات المنافقين وأحكامهم باب انشقاق القمر، وجامع الترمذي (2182) في الفتن، و (3288) في التفسير تفسير سورة القمر.

(4)

ما بين المعقوفين سقط من ط واستعيض عنه بلفظ: به وهو مثبت في ح.

(5)

يعني أنه ساق الإسناد ثم قال: مثلَ ذلك. صحيح مسلم (2801)، وحديث ابن مسعود برقم (2800).

(6)

يعني بعد رواية الحديث رقم (2182).

(7)

في المسند (1/ 377) رقم (3583).

(8)

يعني البخاري ومسلم، فتح الباري (3636) المناقب باب سؤال المشركين أن يريهم النبي صلى الله عليه وسلم آية. وصحيح مسلم (2800)(43) صفات المنافقين باب انشقاق القمر.

(9)

فتح الباري (3869) مناقب الأنصار باب انشقاق القمر، وصحيح مسلم (2800)(44) صفات المنافقين باب انشقاق القمر.

(10)

في ح: عن أبي معمر عن عبد الله بن سخبرة عن ابن مسعود، وكذا في ط غير: سخبرة. ففيها: سمرة. ويبدو أنه مقحم من قبل الناسخ فأسقطته وأثبت ما جاء في البخاري ومسلم.

ص: 358

البخاري)، ثم قال البخاري: وقال أبو الضُّحَى

(1)

عن مسروق عن عبد الله " [انشقَّ] بمكة". وتابعه محمد بن مسلم عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد عن أبي معمر عن عبد الله رضي الله عنه.

وقد أسند أبو داود الطيالسي حديثَ أبي الضُّحى عن مسروق [ذلك في "مسنده

(2)

" فقال: حدثنا أبو عوانة عن المغيرة، عن أبي الضحى، عن مسروق]

(3)

، عن عبد الله بن مسعود. قال: انشقَّ القمر على عهدِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فقالت قريش: هذا سِحْرُ ابنِ أبي كبشة، فقالوا: انظروا

(4)

ما يأتيكم به السُّفَّار، فإنَّ محمدًا لا يستطيعُ أن يسحَرَ الناسَ كلَّهم. قال: فجاء السُّفَّار فقالوا ذلك.

وقال البيهقي

(5)

: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، [ثنا أبو العباس]

(6)

، حدَّثنا العباسُ بن محمد الدُّوريّ، حدَّثنا سعيد بن سليمان، حدَّثنا هُشيم، حدَّثنا مغيرة، عن أبي الضُّحَى، عن مسروق، عن عبد الله، قال: انشقَّ القمرُ بمكةَ حتى صار فِرْقَتَيْن، فقال كفَّار قريش لأهل مكة: هذا سِحْر، سحركم به ابنُ أبي كَبْشَة، انظروا السُّفَّار، فإنْ كانوا رأَوْا ما رأيتم فقد صدق، وإنْ كانوا لم يرَوْا مثل ما رأيتم فهو سِحْرٌ سحركم به. قال: فسُئل السُّفَّار، قال: وقد وقدِموا من كلِّ وجهه

(7)

، فقالوا: رأينا.

وهكذا رواه [ابنُ جرير

(8)

من حديث المغيرة، وزاد: فأنزل الله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} .

رواهُ]

(9)

أبو نعيم من حديث جابر

(10)

عن الأعمش، عن أبي الضُّحى، عن مسروق عن عبد الله، به.

وقال الإمام أحمد

(11)

: حدَّثنا مؤمَّل، حدَّثنا إسرائيل، عن سماك، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عبد الله - وهو ابن مسعود - قال: انشقَّ القمَرُ على عهدِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم حتى رأيتُ الجبل من بينِ فُرْجتَي القمر.

(1)

في ط: أبو الضحاك. تصحيف، والمثبت من ح وصحيح البخاري، وما سيأتي بين معقوفين منه.

(2)

في مسنده (295).

(3)

ما بين المعقوفين سقط من ط وهو في ح.

(4)

في مسند أبي داود: انتظروا.

(5)

في الدلائل (2/ 267).

(6)

ليس ما بين المعقوفين في دلائل البيهقي.

(7)

في الدلائل: وجه.

(8)

يعني الطبري في تفسيره (27/ 85) تفسير سورة القمر.

(9)

ما بين المعقوفين سقط من ط وهو مثبت في ح.

(10)

في ح: جرير. وأثبت ما في ط، وليست هذه الرواية فيما طبع من دلائل أبي نعيم، وقد روى كل من جابر بن نوح الحماني وجرير بن حازم وجرير بن عبد الحميد عن الأعمش، فالله أعلم أيهم المقصود في هذه الرواية. وترجمة الأعمش في تهذيب الكمال (12/ 76 - 91).

(11)

في المسند (1/ 413).

ص: 359

وهكذا رواه ابنُ جرير

(1)

من حديث أسباط، عن سماك به.

وقال الحافظ أبو نعيم

(2)

: حدَّثنا أبو بكر الطَّلْحي، حدَّثنا أبو حَصِين محمد بن الحسين الوادِعي، حدَّثنا يحيى الحِمَّاني، حدَّثنا يزيد، عن عطاء، عن سماك، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال: كنَّا مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم بمنى فانشقَّ القمر، حتى صار فِرْقَتَيْن فتوارت، فِرْقة خلْف الجَبَل، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"اشهدوا، اشهدوا"

(3)

.

وقال أبو نعيم

(4)

: حدَّثنا سليمان بن [أحمد، حدَّثنا جعفر بن محمد القلانسي، حدَّثنا آدم بن أبي إياس، حدثنا الليث بن]

(5)

سعد، حدَّثنا هشام بن سعد، عن عتبة، عن عبد الله بن عتبة، عن ابن مسعود، قال: انشقَّ القمَر ونحن بمكَّة، [فلقد رأيت أحد شقيه على الجبل الذي بمنى ونحن بمكة](5).

وحدَّثنا

(6)

أحمد بن إسحاق، حدَّثنا أبو بكر بن أبي عاصم، حدَّثنا محمد بن حاتم، حدَّثنا معاوية بن عمرو، عن زائدة، عن عاصم، عن زِرّ، عن عبد الله، قال: انشقَّ القمرُ بمكَّة، فرأيتُه فِرْقَتَيْن.

ثم روى (4) من حديث علي بن سعيد بن مسروق، حدَّثنا موسى بن عمير، عن منصور بن المعتمر، عن زيد بن وهب، عن عبد الله بن مسعود، قال: رأيتُ القمرَ واللهِ منشقًا باثنتَيْن بينهما حِرَاء.

وروى أبو نعيم (4) من طريق السُّدِّي الصغير، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس. قال: انشق القمر فِلْقَتَيْن. فِلْقَةٌ ذهبَتْ، وفلقةٌ بقيتْ. قال ابنُ مسعود: لقد رأيتُ جبلَ حِرَاء بين فِلْقَتي القمر، فذهبَتْ فِلْقَة. فتعجَّب أهلُ مكَّة من ذلك وقالوا: هذا سحرٌ مصنوع، سيذهب. وقال ليث بن أبي سُليم، عن مجاهد. قال: انشقَّ القمَرُ على عهدِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فصار فرقتَيْن، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: "اشْهَدْ

(7)

يا أبا بكر". وقال المشركون: سحرَ القمرَ حتى انشقَّ.

فهذه طرقٌ متعدِّدةٌ، قويَّةُ الأسانيد، تفيد القَطْع لمن تأمَّلها وعرف عدالة رجالها. وما يذكُره بعضُ القُصَّاص من أنَّ القمر سقط إلى الأرض حتى دَخَلَ في كُمِّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وخرج من الكُمِّ الآخر فلا أصلَ له،

(1)

يعني الطبري في تفسير سورة القمر التفسير (27/ 85).

(2)

ليست هذه الرواية فيما طبع من دلائل أبي نعيم، وقد ذكرها السيوطي في الدر المنثور (7/ 671) فقال: وأخرج ابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل من طريق علقمة عن ابن مسعود

فذكر الحديث.

(3)

في الدر المنثور: اشهدوا مرة واحدة.

(4)

لم أجد هذه الرواية فيما طبع من الدلائل ولا في الدر المنثور.

(5)

ما بين المعقوفين ليس في ح.

(6)

القائل أبو نعيم في الدلائل (1/ 367).

(7)

في ط: فاشهد، والمثبت من ح.

ص: 360

وهو كذبٌ مُفْتَرى ليس بصحيح. والقمر حين انشقّ لم يزايلِ السماء، غيرَ أنه حين أشار إليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم انشقَّ عن إشارته، فصار فرقتَيْن، فسارَت واحدة حتى صارت من وراء حِراء، ونظروا إلى الجبل بين هذه وهذه كما أخبر بذلك ابنُ مسعود أنه شاهد ذلك. وما وقع في رواية أنس في مسند أحمد

(1)

: فانشق القمر بمكة مرَّتين فيه نظر، والظاهر أنه أراد فرقتَيْن. والله أعلم.

‌فصل وفاة أبي طالب عمِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم

-

ثم من بعده خديجة بنت خُويلد زوجة رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها. وقيل: بل هي تُوفِّيت قبله والمشهور الأول. وهما المُشْفِقان، هذاك

(2)

في الظاهر وهذه في الباطن؛ هذاك كافر، وهذه مؤمنة صِدِّيقة رضي الله عنها وأرضاها.

قال ابنُ إسحاق

(3)

: ثم إنَّ خديجة وأبا طالب هَلَكا في عام واحد، فتتابعَتْ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم المصائب بهُلْكِ خديجة، وكانت له وزيرَ صِدْق على الإسلام

(4)

، يسكنُ إليها، وبهُلْكِ عمِّه أبي طالب، وكان له عَضُدًا وحِرْزًا في أمره، ومَنَعةً وناصرًا على قومه. وذلك قبلَ مُهَاجره إلى المدينة بثلاثِ سنين، فلما هَلَك أبو طالب، نالتْ قريش من رسولِ الله صلى الله عليه وسلم من الأذى ما لم تكنْ تطمَعُ به في حياة أبي طالب حتى اعترضَهُ سفيهٌ من سفهاء قريش، فنثر على رأسه تُرابًا. فحدَّثني هشامُ بن عروة، عن أبيه، قال: فدخل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بيتَه والترابُ على رأسه، فقامتْ إليه إحدى بناته، فجعلتْ تغسلُه وتبكي، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم لا يبكي يقول:"لا تبكي يا بُنَيَّة، فإنَّ الله مانعٌ أباك". ويقول بين ذلك: "ما نالَتْني قريش شيئًا أكرهه

(5)

حتى مات أبو طالب".

وذكر ابن إسحاق قبل ذلك: أنَّ أحدهم ربما طرح الأذى في بُرْمَتِه

(6)

صلى الله عليه وسلم إذا نُصِبَتْ له. قال: فكان إذا فعلوا ذلك كما حدَّثني عمر بن عبد الله، عن عروة، يخرج بذلك الشيء على العود فيقذفه، فيقف [به]

(7)

على بابه ثم يقول: "يا بني عبد مناف، أيُّ جوارٍ هذا"؟! ثم يلقيه في الطريق.

(1)

هي الرواية المتقدمة (ص 354) موضع الحاشية (3).

(2)

في ط: وهذان المشفقان هذا. والمثبت من ح.

(3)

السير والمغازي (ص 243) وسيرة ابن هشام (1/ 416) والروض (2/ 166).

(4)

في ط: الابتلاء. والمثبت من ح ومصادر الخبر.

(5)

في سيرة ابن هشام: ما نالت مني قريش شيئًا أكرهه. وهو أشبه بالصواب.

(6)

البُرْمَة: القدر. النهاية لابن الأثير.

(7)

ما بين معقوفين من سيرة ابن هشام (1/ 416).

ص: 361

قال ابن إسحاق

(1)

: ولما اشتكى أبو طالب وبلغ قريشًا ثِقَلُه قالت قريش بعضُها لبعض: إنَّ حمزة وعمر قد أسلما، وقد فَشَا أمْرُ محمدٍ في قبائل قريش كلِّها، فانطلقوا بنا إلى أبي طالب فلْيأخُذ لنا على ابنِ أخيه ولْيُعْطِهِ منَّا، فإنا والله ما نأمن أن يبتزُّونا أمْرَنا.

قال ابنُ إسحاق: وحدثني العبّاسُ بن عبد الله بن معبد عن بعض أهله، عن ابن عباس قال: لما مشَوْا إلى أبي طالب وكلَّموه - وهم أشراف قومه عتبة بن ربيعة، وشَيْبَة بن ربيعة، وأبو جهل بن هشام، وأُميَّة بن خلف، وأبو سفيان بن حَرْب، في رجالٍ من أشرافهم - فقالوا: يا أبا طالب، إنك منَّا حيثُ قد علمت، وقد حضَرَك ما ترى وتخوَّفنا عليك وقد علمتَ الذي بيننا وبين ابنِ أخيك فادْعُه فخُذْ لنا منه وخذْ له منَّا، ليكفَّ عنا ولنكفَّ عنه، وليدعنا وديننا ولندعه ودينه. فبعث إليه أبو طالب، فجاءه فقال: يا ابن أخي، هؤلاء أشرافُ قومك قد اجتمعوا لك

(2)

، ليعطوك وليأخذوا منك. قال: فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "نعم

(3)

، كلمة واحدة تعطونيها تملكون بها العرب وتَدينُ لكِم بها العَجَم". فقال أبو جهل: نعم، وأبيك وعشر كلمات. قال:"تقولون لا إله إلا الله وتخلعون ما تعبدون من دونه". قال: فصفَّقوا بأيديهم، ثم قالوا: يا محمد أتريدُ أن تجعلَ الآلهة! إلهًا واحدًا؟! إنَّ أمرك لعَجَب! قال: ثم قال بعضُهم لبعض: إنه والله ما هذا الرجل بمعطيكم شيئًا مما تريدون، فانطلقوا وامضُوا على دينِ آبائكم حتى يحكم الله بنيكم وبينه، ثم تفرقوا.

قال: فقال أبو طالب: والله يا ابنَ أخي، ما رأيتك سألتَهم شَطَطا. قال: فطمع رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فيه

(4)

، فجعل يقول له:"أي عم، فأنتَ فقُلْها أستحلَّ لك بها الشفاعةَ يوم القيامة" فلما رأى حِرْصَ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا ابن أخي، والله لولا مخافة السُّبَّة عليك وعلى بني أبيك من بعدي، وأن تظنَّ قُريش أني إنما قلتُها جَزعًا من الموت لقلتُها، لا أقولُها إلا لأسُرَّك بها. قال: فلما تقارب من أبي طالب الموتُ نظر العباسُ إليه يحرِّك شفتَيْه، فأصغَى إليه بإذنه، قال: فقال: يا ابنَ أخي، والله لقد قال أخي الكلمةَ التي أمرتَهُ أنْ يقولَها. قال فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"لم أسمَعْ"

(5)

.

(1)

سيرة ابن هشام (1/ 417) والروض (2/ 166).

(2)

في ط: إليك، والمثبت من ح ومصادر الخبر.

(3)

في ط: يا عم، والمثبت من ح ومصادر الخبر.

(4)

في السيرة والروض: فلما قالها أبو طالب طمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في إسلامه.

(5)

قال السهيلي في الروض (2/ 170) معلقًا على هذا الحديث: شهادة العباس لأبي طالب لو أداها بعدما أسلم لكانت مقبولة، ولم يرد بقوله "لم أسمع" لأن الشاهد العدْل إذا قال: سمعت وقال من هو أعدل منه: لم أسمع، أُخذ بقول من أثبت السماع، لأن عدم السماع يحتمل أسبابًا منعت الشاهد من السمع، ولكن العباس شهد بذلك قبل أن يسلم، مع أن الصحيح من الأثر قد أثبت لأبي طالب الوفاة على الكفر والشرك وأثبت نزول هذه الآية فيه:{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} وانظر ما نقله المؤلف عن السهيلي (ص 366 الآتية السطر الأول).

ص: 362

قال: وأنزل الله تعالى في أولئك الرهط {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} [ص: 1 - 2] الآيات.

وقد تكلَّمنا على ذلك في التفسير ولله الحمد والمنة.

وقد استدلَّ بعضُ مَنْ ذهب من الشيعة وغيرُهم من الغُلاة إلى أن أبا طالبٍ مات مسلمًا بقولِ العباس في هذا الحديث: يا ابنَ أخي، لقد قال أخي الكلمةَ التي أمرتَهُ أنْ يقولها - يعني لا إله إلا الله - والجواب عن هذا من وجوه.

أحَدُها أنَّ في السَّنَدِ مُبْهَمًا لا يُعرف حالُه، وهو قولُه: عن بعضِ أهلِه. وهذا إبهامٌ في الاسم والحال، ومثله يتوقف فيه لو انفرد؛ وقد روى الإمام أحمد والنسائي وابنُ جرير

(1)

نحوًا من هذا السياق من طريق أبي أسامة، عن الأعمش، حدثنا عبّاد

(2)

، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس، فذكره ولم يذكر قولَ العباس.

ورواه الثوري أيضًا عن الأعمش، عن يحيى بن عمارة الكوفي، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فذكره بغير زيادة قول العباس، ورواه الترمذي وحسَّنه والنسائي وابنُ جرير أيضًا

(3)

.

ولفظ الحديث من سياق البيهقي

(4)

فيما رواه من طريق الثوري، عن الأعمش، عن يحيى بن عمارة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبَّاس، قال: مرض أبو طالب فجاءت قريش وجاء النبيُّ صلى الله عليه وسلم وعند رأسِ أبي طالب مَجْلسُ

(5)

رجل، فقام أبو جهل كي يمنعه ذلك. وشكَوْه إلى أبي طالب، فقال: يا ابن أخي، ما تريدُ من قومك؟ فقال:"يا عم إنما أريد منهم كلمةً تَذِلُّ لهم بها العرب، وتؤدِّي إليهم بها الجزيةَ العجم، كلمة واحدة". قال؛ ما هي؟ قال: "لا إله إلا الله" قال: فقالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5] قال: ونزل فيهم {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} الآيات إلى قوله: {إِلَّا اخْتِلَاقٌ} [ص: 7].

(1)

مسند الإمام أحمد (1/ 227) والنسائي في التفسير في سننه الكبرى (11437) وتفسير الطبري (23/ 125) سورة ص.

(2)

هكذا سماه أبو أسامة حماد بن أسامة، كما في رواية لأحمد (1/ 228) والنسائي وابن جرير التي خرجت في الهامش السابق. وقد صَرَّح أحمد في موضع آخر (1/ 362) أنه ابن جعفر. وسماه أبو أحمد الزبيري في روايته عن سفيان عن الأعمش: يحيى بن عباد (جامع الترمذي 3232)، وسماه يحيى بن سعيد في روايته عن سفيان عن الأعمش يحيى بن عمارة، كما سيأتي. وهو مجهول بكل حال، فقد تفرد الأعمش بالرواية عنه، ولم يوثقه أحد. (بشار).

(3)

جامع الترمذي في التفسير (3232) و (3232 م)، والنسائي في التفسير في الكبرى (11436)، وتفسير الطبري (23/ 125). (بشار).

(4)

في الدلائل (2/ 345)، وهو من رواية محمد بن عبد الله الأسدي عن سفيان.

(5)

في ط: فجلس، والمثبت من ح ودلائل البيهقي.

ص: 363

ثم قد عارضه - أعني سياقَ ابنِ إسحاق - ما هو أصحُّ منه، وهو ما رواه البخاري قائلًا

(1)

: حدثنا محمود، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن الزُّهري، عن ابن المُسَيِّب، عن أبيه رضي الله عنه، أنَّ أبا طالب لما حضرَتْهُ الوفاةُ دخلَ عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل، فقال:"أيْ عم، قُلْ لا إله إلا الله، كلمةً أحاجُّ لكَ بها عند الله". فقال أبو جهل وعبدُ الله بن أبي أمية: يا أبا طالب، ترغب

(2)

عن ملَّةِ عبدِ المطلب؟ فلم يزالا يكلمانِهِ حتى قال آخر شيءٍ

(3)

كلمهم به: على مِلَّةِ عبدِ المطلب. فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "لأستغفرنَّ لك ما لم أُنْهَ عنك". فنزلت: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة: 113] ونزلت {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56].

ورواه مسلم

(4)

عن إسحاق بن إبراهيم وعبد بن حُميد

(5)

عن عبد الرزاق.

وأخرجا

(6)

أيضًا من حديث الزهري، عن سعيد بن المسيِّب، عن أبيه بنحوه، وقال فيه: فلم يزَلْ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يعرضُها عليها ويَعُودان له بتلك المقالة

(7)

، حتى قال آخرَ ما قال: هو على مِلَّةِ عبد المطلب. وأبَى أنْ يقول لا إله إلا الله؛ فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "أمَا [واللهِ] لأستغفرنَّ لك ما لم أُنْهَ عنك". فأنزل الله - يعني بعد ذلك - {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} [التوبة: 113] ونزل في أبي طالب {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص: 56].

وهكذا روى الإمام أحمد ومسلم والترمذي

(8)

والنسائي

(9)

، من حديث يزيد بن كَيْسَان، عن

(1)

فتح الباري (3884) مناقب الأنصار باب قصة أبي طالب.

(2)

في ط: أترغب، والمثبت من ح وصحيح البخاري.

(3)

في ط: ما كلمهم. والمثبت من ح وصحيح البخاري.

(4)

في صحيحه (24)(40) الإيمان باب الدليل على صحة إسلام من حضره الموت.

(5)

في ح سقط قوله: وعبد بن حميد عن، وفي ط: إسحاق بن إبراهيم وعبد الله عن عبد الرزاق. والمثبت من صحيح مسلم.

(6)

فتح الباري (1360) الجنائز باب إذا قال المشرك عند الموت لا إله إلا الله، وصحيح مسلم (24)(39) الإيمان باب الدليل على صحة إسلام من حضره الموت. وما سيأتي بين معقوفين منه.

(7)

هذا لفظ البخاري، أما لفظ مسلم فهكذا: ويُعيدُ له تلك المقالة.

(8)

مسند أحمد (2/ 434 و 441) وصحيح مسلم (25)(41) و (42) الإيمان باب الدليل على صحة إسلام من حضره الموت، وجامع الترمذي (3188) التفسير سورة القصص. وأخرجه البيهقي في الدلائل (2/ 345) عن أحمد بن سلمة عن عبد الله بن هاشم عن أبي اْسامة عن يزيد بن كيسان به.

(9)

هكذا عزاه المصنف - إن صحت النسخ - إلى النسائي، وهو وهم منه أو من النساخ فإن النسائي لم يخرج هذا الحديث من طريق يزيد بن كيسان، ولا ذكره المزي في التحفة (9/ 451 حديث 13442 بتحقيقنا). وقد أخرجه من طريق =

ص: 364

أبي حازم، عن أبي هريرة قال: لما حضرتْ وفاةُ أبي طالب أتاه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا عماه، قُلْ لا إله إلا الله أشهد لك بها يوم القيامة" فقال: لولا أن تعيِّرَني قريش يقولون ما حمله عليه إلا جَزَع الموت لأقرَرْتُ بها عينَك، ولا أقولُها إلا لأقرَّ بها عينك. فأنزل الله عز وجل:{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص: 56].

وهكذا قال عبد الله بن عباس وابنُ عمر ومجاهد والشعبي وقتادة: إنها نزلتْ في أبي طالب حين عَرَض عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يقول لا إله إلا الله فأبى أن يقولها، وقال: هو على مِلَّة الأشياخ. وكان آخر ما قال: هو على ملةِ عبد المطلب.

ويؤكد هذا كلَّه ما قال البخاري

(1)

: حدَّثنا مُسَدَّد، حدَّثنا يحيى، عن سفيان، عن عبد الملك بن عُمير، حدثنا عبد الله بنُ الحارث قال: حدثنا العباسُ بن عبد المطلب أنه قال: قلت للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: ما أغنيتَ عن عمِّك، فإنَّهُ كان يَحُوطُكَ ويَغْضَب لك

(2)

؟ قال: "هو في ضَحْضَاحٍ من نار، ولولا أنا لكانَ في الدَّرْك الأسفل من النار".

ورواه مسلم في صحيحة

(3)

من طرق عن عبد الملك بن عُمير به.

وأخرجاه في الصحيحَيْن

(4)

، من حديث اللَّيث، حدثني ابنُ الهادِ عن عبد الله بن خَبَّاب، عن أبي سعيدٍ أنه سمع النبيَّ صلى الله عليه وسلم وذُكر عنده عمُّه فقال:"لعله تنفَعُه شفاعتي يومَ القيامة، فيُجْعَل في ضَحْضاحٍ من النارِ يبلغُ كَعْبَيْه يَغْلي منهُ دماغُه". (لفظ البخاري).

وفي رواية

(5)

: "يغلي منه أمُّ دِماغِهِ".

وروى مسلم

(6)

عن أبي بكر بن أبي شَيْبَة، عن عفَّان، عن حمَّاد بن سَلَمة، عن ثابت، عن أبي عثمان، عن ابنِ عباس، أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "أهْوَنُ أهْلِ النارِ عذابًا أبو طالب، مُنْتَعِلٌ بنعلَيْن

(7)

يَغْلِي منهما دماغُه".

= يزيد: الطبري في تفسيره (20/ 92)، وابن حبان (6270)، وابن مندة في الإيمان (38) و (39)، والواحدي في أسباب النزول (228) إضافة إلى من ذكروا في الهامش السابق. (بشار).

(1)

فتح الباري (3883) مناقب الأنصار باب قصة أبي طالب.

(2)

في هامش ح: لغضبك. وسقطت: لك من المتن.

(3)

صحيح مسلم (209)(357) الإيمان باب شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب والتخفيف عنه بسببه.

(4)

فتح الباري (3885) مناقب الأنصار باب قصة أبي طالب، وصحيح مسلم (210)(360) الإيمان باب شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب والتخفيف عنه.

(5)

هي رواية البخاري، فتح (6564) الرقاق باب صفة الجنة والنار.

(6)

في صحيحه (212)(362) الإيمان باب أهون أهل النار عذابًا.

(7)

زادت ط: من نار. وليست هذه الزيادة في ح ولا في صحيح مسلم. أقول: وإنما هي عند أحمد (3/ 78) رقم (11678) وهي زيادة صحيحة.

ص: 365

وفي مغازي يونس بن بُكير

(1)

: "يغلي منهما دماغه حتى يسيل على قدميه". ذكره السُّهيلي

(2)

.

وقال الحافظ أبو بكر البزَّار في "مسنده"

(3)

حدَّثنا عمر

(4)

- هو ابن إسماعيل بن مُجَالد - حدَّثنا أبي عن مجالد، عن الشعبي، عن جابر، قال: سُئل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أو قيل له - هل نفعتَ أبا طالب؟ قال: "أخرجتُه من النار إلى ضَحْضَاحٍ منها". تفرَّد به البزَّار.

قال السُّهيلي

(5)

: وإنما لم يقبلِ النبيُّ صلى الله عليه وسلم شهادةَ العباس أخيه أنه قال الكلمة وقال: "لم أسمع" لأنَّ العباس كان إذْ ذلك كافرًا غيرَ مقبول الشهادة.

قلت: وعندي أنَّ الخبر بذلك ما صحَّ لضعفِ سنده كما تقدَّم. ومما يدلُّ على ذلك أنه سأل النبيَّ صلى الله عليه وسلم بعد ذلك عن أبي طالب فذكر له ما تقدَّم، وبتعليل صحته لعله قال ذلك عند معاينة الملك بعد الغرغرة حين لا ينفعُ نفسًا إيمانُها، والله أعلم.

وقال أبو داود الطيالسي

(6)

: حدَّثنا شعبة، عن أبي إسحاق، سمعتُ ناجية بن كعب يقول: سمعت

(7)

عليًا يقول: لما تُوفي أبي أتيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إنَّ عمَّك قد توفي. فقال: "اذهبْ فَوارِه" فقلت: إنَّه مات مشركًا. فقال: "اذهبْ فوارِه، ولا تحدثنَّ شيئًا حتى تأتِيَني

(8)

". ففعلتُ ثم أتيتُه، فأمرني أنْ أغتسل.

ورواه النسائي

(9)

، عن محمد بن المثنى، عن غُنْدَر

(10)

، عن شعبة.

ورواه أبو داود والنسائي

(11)

من حديث سفيان، عن أبي إسحاق، عن ناجيةَ، عن علي: لما ماتَ أبو طالب قلت: يا رسول الله، إنَّ عمَّك الشيخَ الضَّالَّ قد مات فَمَنْ يُواريه؟ قال: "اذْهَبْ فوارِ أباك،

(1)

السير والمغازي (ص 239) ولفظه: يغلي من وهجهما دماغه حتى يسيل على قوائمه.

(2)

في الروض (2/ 170).

(3)

ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 395) وقال: رواه البزار، وفيه من لم أعرفه.

(4)

في ط: عمرو، تصحيف، والمثبت من ح وترجمته في تهذيب الكمال (21/ 274).

(5)

في الروض (2/ 170).

(6)

في مسنده (120).

(7)

في مسند الطيالسي: شهدت.

(8)

في ط: تأتي، والمثبت من ح ومسند الطيالسي.

(9)

في السنن (190) الطهارة باب الغسل من مواراة المشرك. أقول: وهو حديث صحيح.

(10)

في سنن النسائي: عن محمد. قلت: محمد هو ابن جعفر يعرف بغندر. ترجمته في التهذيب.

(11)

سنن أبي داود (3214) الجنائز باب الرجل يموت له قرابة مشرك، وسنن النسائي (2006) الجنائز باب مواراة المشرك. أقول: وهو حديث صحيح.

ص: 366

ولا تحدثَنَّ شيئًا حتى تأتيني" فأتيتُه

(1)

، فأمرني فاغتسلت، ثم دعا لي

(2)

بدعواتٍ ما يسرُّني أنَّ لي بهنَّ ما على الأرض من شيء.

وقال الحافظ البيهقي

(3)

: أخبرنا أبو سعد الماليني، حدَّثنا أبو أحمد بن عديّ، حدَّثنا محمد بن هارون بن حُميد، حدَّثنا محمد بن عبد العزيز بن أبي رِزْمَة، حدَّثنا الفضل، عن إبراهيم بن عبد الرحمن، عن ابن جُرَيج، عن عطاء، عن ابن عباس: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم عارَضَ

(4)

جنازة أبي طالب فقال: "وصلَتْكَ رَحِم، وجُزيتَ خيرًا يا عم".

قال: وروي عن أبي اليمَان الهوزني، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا وزاد:"ولم يقُمْ على قبره". قال: وإبراهيم بن عبد الرحمن هذا هو الخُوَارَزْمي تكلَّموا فيه.

قلت: قد روى عنه غيرُ واحدٍ، منهم الفضل بن موسى السِّينَاني

(5)

ومحمد بن سلام البِيكَنْدي، ومع هذا قال ابنُ عدس

(6)

: ليس بمعروف، وأحاديثه عن كل مَنْ روى عنه ليست بمستقيمة.

وقد قدَّمنا ما كان يتعاطاهُ أبو طالب من المحاماة والمُحَاجَّة والممانعة عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم والدفعِ عنه وعن أصحابه، وما قاله فيه من الممادح والثناء، وما أظهره له ولأصحابه من المودَّة والمحبَّة والشفقة في أشعاره التي أسلفناها، وما تضمنَتْه من العَيْب والتنقُّصِ لمن خالفه وكذَّبه بتلك العبارة الفصيحة البليغة الهاشمية المطلبية، التي لا تُدانى ولا تُسامَى ولا يمكن عربيًا مقاربتُها ولا معارضتُها، وهو في ذلك كلِّه يعلم أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم صادقٌ بارٌّ راشد، ولكنْ مع هذا لم يؤمنْ قلبُه. وفرَّق بين علم القلب وتصديقه كما قرَّرْنا ذلك في شرح كتابِ الإيمان من صحيح البخاري؛ وشاهدُ ذلك قوله تعالى:{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 146] وقال تعالى في قوم فرعون: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل: 14] وقال موسى لفرعون: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} [الإسراء: 102] وقولُ بعضِ السلف في قوله تعالى: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} [الأنعاء: 26] أنها نزلتْ في أبي طالب حيث كان يَنْهَى الناسَ عن أذيَّة رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ويَنْأى هو عمَّا جاء به الرسولُ من الهُدَى ودينِ الحق. فقد روي عن ابنِ عباس، والقاسم بن

(1)

كذا في ح، ط، وفي سنن النسائي: فواريته ثم جئت فأمرني .. وفي سنن أبي داود: فذهبت فواريته وجئته فأمرني.

(2)

إلى هنا في سنن أبي داود والنسائي، وزاد النسائي قوله: وذكر دعاءٌ لم أحفظه.

(3)

في الدلائل (2/ 349).

(4)

في ط: عاد من. وهو تصحيف، والمثبت من ح ودلائل البيهقي.

(5)

نسبة إلى سينان إحدى قرى مرو كما في اللباب (2/ 169)، ووقع في ح: الشيباني. تصحيف، وترجمته في سير أعلام النبلاء (9/ 103).

(6)

الكامل لابن عدي (1/ 259).

ص: 367

مُخَيْمرة، وحبيب بن أبي ثابت، وعطاء بن دينار، ومحمد بن كعب، وغيرهم، ففيه نظر. والله أعلم.

والأظهر والله أعلم الرواية الأخرى عن ابن عباس؛ وهم ينهَوْنَ الناس عن محمد أن يؤمنوا به. وبهذا قال مجاهد وقتادة والضحَّاك وغير واحد - وهو اختيارُ ابنِ جرير - وتوجيهه أن هذا الكلام سيق لتمام ذمِّ المشركين حيث كانوا يصدُّون الناسَ عن اتباعه ولا ينتفعون هم أيضًا به.

ولهذا قال الله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [الأنعام: 25 و 26] وهذا اللفظ وهو قوله {وَهُمْ} يدلُّ على أنَّ المراد بهذا جماعة، وهم المذكورونَ في سياقِ الكلام في قوله:{وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [الأنعام: 26] يدلُّ على تمامِ الذَّم. وأبو طالب لم يكن بهذه المثابة، بل كان يصُدُّ الناسَ عن أذيَّةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابِه بكلِّ ما يقدِرُ عليه من فعالٍ ومقال، ونفسٍ ومال. ولكنْ مع هذا لم يقدِّرِ الله له الإيمان لما له تعالى في ذلك من الحكمة العظيمة، والحُجَّة القاطعة البالغة الدامغة التي يجب الإيمان بها والتسليم لها، ولولا ما نهانا اللهُ عنه من الاستغفار للمشركينَ لاستغفرْنا لأبي طالب وترحَّمنا عليه.

‌فصل في موت

(1)

خديجة بنت خُوَيْلِد

وذكرِ شيءٍ من فضائلها ومناقبها رضي الله عنها وأرْضاها، وجعل جناتِ الفردوس مُنْقَلَبَها ومَثْواها. وقد فعل ذلك لا محالةَ بخبرِ الصادقِ المصدوق حيث بشَّرَها ببيتِ في الجنَّة من قصَب، لا صَخَبَ فيه ولا نصَب.

قال يعقوب بن سفيان

(2)

: حدَّثنا أبو صالح، حدَّثنا الليث، حدَّثني عقيل، عن ابن شهاب، قال: قال عروة بن الزُّبير: وقد كانت خديجةُ توفِّيت قبل أنْ تُفرض الصلاة.

ثمَّ روى من وجهٍ آخر عن الزُّهْرِي أنه قال: توفِّيت خديجة بمكة قبل خروجِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وقبل أنْ تفرض الصلاة.

وقال محمد بن إسحاق

(3)

: ماتتْ خديجةُ وأبو طالب في عام واحد.

وقال البيهقي

(4)

: بلغني أنَّ خديجة توفيت بعد موتِ أبي طالب بثلاثة أيام. ذكره أبو عبد الله بن مَنْدَه

(1)

في ح: وفاة.

(2)

في المعرفة والتاريخ (3/ 255) وهو من الجزء المفقود نقله المحقق من هنا.

(3)

السير والمغازي (ص 243) وسيرة ابن هشام (1/ 416) والروض (2/ 166).

(4)

في دلائل النبوة (2/ 352).

ص: 368

في كتاب المعرفة

(1)

، وشيخنا أبو عبد الله الحافظ.

قال البيهقي

(2)

: وزعم الواقدي أنَّ خديجة وأبا طالب ماتا قبل الهجرة بثلاث سنين عامَ خرجوا من الشِّعْب، وأنَّ خديجة توفيتْ قبل أبي طالب بخمسٍ وثلاثين ليلة.

قلت: مرادُهم قبل أن تُفرض الصلواتُ الخمس ليلةَ الإسراء، وكان الأنسب بنا أن نذكرَ وفاةَ أبي طالب وخديجة قبلَ الإسراء كما ذكرَهُ البيهقي وغير واحد، ولكنْ أخَّرْنا ذلك عن الإسراء، لمقصدٍ ستطلع عليه بعد ذلك، فإنَّ الكلام به ينتظم، ويتسق الباب كما تقفُ على ذلك إنْ شاء الله

(3)

.

وقال البخاري

(4)

: حدَّثنا قُتيبة، حدَّثنا محمد بن فُضيل بن غَزْوان، عن عُمارة عن أبي زُرْعة، عن أبي هريرة، قال: أتى جبريل إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسولَ الله، هذه خديجةُ قد أتتْ معها إناءٌ فيه إدامٌ - أو طعامٌ أو شراب - فإذا هي أتَتْك فاقرَأْ عليها السلام من ربِّها ومنِّي، وبشِّرْها ببيتٍ في الجنَّة من قَصَب، لا صَخَب فيه ولا نَصَب.

وقد رواه مسلم

(5)

من حديث محمد بن فُضَيل به.

وقال البخاري

(6)

: حدَّثنا مُسَدَّد، حدَّثنا يحيى، عن إسماعيل قال: قلتُ لعبد الله بن أبي أوْفَى: بشَّرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم خديجة؟ قال: نعم، ببيتٍ من قَصَب، لا صَخَبَ فيهِ ولا نَصَب.

ورواه البخاري أيضًا ومسلم من طرق عن إسماعيل بن أبي خالد به

(7)

.

قال السهيلي

(8)

: وإنما بشَّرها ببيتٍ في الجنة من قصَب - يعني قصَبَ اللُّؤلؤ - لأنها حازَتْ قَصْبَ السَّبَق إلى الإيمان، لا صَخَب فيه ولا نصَب، لأنها لم ترفعْ صوتَها على النبي صلى الله عليه وسلم، ولم تُتْعِبْهُ يومًا من الدَّهْر، فلم تصخَبْ عليه يومًا، ولا آذته أبدًا.

وأخرجاه في الصحيحَيْن

(9)

من حديث هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها أنها

(1)

يعني كتاب معرفة الصحابة، منه نسخة خطية في الظاهرية رقم 344 حديث.

(2)

في دلائل النبوة (2/ 353) بنحوه.

(3)

العبارة في ح هكذا: لمقصدٍ سيُطَّلع عليه بعد ذلك، فإن الكلام ينتظم، ويتسق السياق.

(4)

فتح الباري (3820) مناقب الأنصار باب تزويج النبي صلى الله عليه وسلم خديجة.

(5)

صحيح مسلم (2432)(71) فضائل الصحابة باب فضائل خديجة أم المؤمنين.

(6)

فتح الباري (3819) مناقب الأنصار باب تزويج النبي صلى الله عليه وسلم خديجة.

(7)

فتح الباري (1792) العمرة باب متى يحل المعتمر، وصحيح مسلم (2433)(72) فضائل الصحابة باب فضائل خديجة أم المؤمنين.

(8)

في الروض (1/ 279) بنحوه.

(9)

فتح الباري (3816) مناقب الأنصار باب تزويج النبي صلى الله عليه وسلم خديجة، وصحيح مسلم (2435)(74) فضائل الصحابة باب فضائل خديجة أم المؤمنين.

ص: 369

قالت: ما غِرْتُ على امرأةٍ للنبي صلى الله عليه وسلم ما غرتُ على خَدِيجة، وهلكَتْ قبل أن يتزوَّجني- لِمَا كنتُ أسمعهُ يذكرُها، وأمرَهُ اللهُ أنْ يُبَشِّرَها ببيتٍ

(1)

من قصب. وإنْ كان ليذبَحُ الشاةَ فيُهْدِي في خلائلها منها ما يسَعُهنّ. (لفظ البخاري).

وفي لفظٍ

(2)

عن عائشة: ما غِرْتُ على امرأةٍ ما غرْتُ على خديجة من كثرة ذِكْرِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إياها. قالت: وتزوَّجني بعدها بثلاثِ سنين، وأمرَهُ ربُّه -أو جبريل- أن يُبشِّرَها ببيتٍ في الجنَّة من قصَب.

وفي لفظٍ له

(3)

قالت: ما غِرتُ على أحدٍ من نساء النبيِّ صلى الله عليه وسلم ما غرتُ على خديجة -وما رأيتُها- ولكنْ كان [النبي صلى الله عليه وسلم] يُكثر ذكْرَها، وربما ذبح الشاةَ فيقطِّعها أعضاءً ثم يبعثها في صدائقِ خديجة، فربما قلت [له]: كأنه لم يكن في الدنيا امرأةٌ إلا خديجة! فيقول: "إنها كانت وكانت، وكان لي منها وَلَد".

ثم قال البخاري: حدثنا إسماعيل بن خليل، أخبرنا عليُّ بن مُسْهِر عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: استأذنَت هالَةُ بنتُ خُويلد: -أخت خديجة- على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فعَرَفَ استئذانَ خديجة، فارتاعَ [لذلك] فقال:"اللهمَّ هالة". فغِرْتُ فقلت ما تذكرُ من عجوزٍ من عجائز قريش، حمراء الشِّدْقين هلكَتْ في الدهر، أبدلك اللهُ خيرًا منها.

وهكذا رواه مسلم

(4)

عن سُويد بن سعيد، عن عليِّ بن مُسْهِر به.

وهذا ظاهرٌ في التقريرِ على أنَّ عائشةَ خيرٌ من خديجة، إمَّا فضلًا وإما عِشْرَةً. إذْ لم يُنكرْ عليها ولا ردَّ عليها ذلك، كما هو ظاهرُ سياقِ البخاري رحمه الله ولكن قال الإمام أحمد

(5)

: حدَّثنا مؤمَّل أبو عبد الرحمن، حدَّثنا حماد بن سلمة، عن عبد الملك -هو ابنُ عُمير- عن موسى بن طلحة عن عائشة قالت: ذَكَرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يومًا خديجةَ فأطنبَ في الثناء عليها، فأدركني ما يُدركُ النساءَ من الغيرة، فقلت: لقد أعقبكَ اللهُ يا رسول الله، من عجوزٍ من عجائزِ قريش حمراء الشدقين. قال: فتغيَّرَ وجْهُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم تغيُّرًا لم أرَهُ تغيَّر عند شيءٍ قط إلا عند نزول الوَحْي، أو عند المَخِيلة

(6)

حتى يعلم، رحمةٌ أو عذاب

(7)

.

وكذا رواهُ عن بَهْزِ بن أسد وعفَّان

(8)

بن مسلم، كلاهما عن حمَّاد بن سَلَمَة، عن عبد الملك بن

(1)

زادت ط هنا: في الجنة. وليست هذه الزيادة في ح ولا في صحيح البخاري في هذه الرواية.

(2)

هي الرواية التالية للرواية السابقة رقم (3817) في صحيح البخاري.

(3)

يعني للبخاري وهي الرواية التالية للرواية السابقة رقم (3818). وما يأتي بين معقوفين منه.

(4)

في صحيحه (2437)(78) فضائل الصحابة باب فضائل خديجة أم المؤمين.

(5)

في المسند (6/ 154).

(6)

المخيلة": السحابة التي تحسبها ماطرة، أو هي الخليقة بالمطر. النهاية والقاموس (خيل).

(7)

يعني أهي رحمةٌ أو عذاب؛ ووقعت في ط: عذابًا بالنصب خطأً، والمثبت من ح ومسند أحمد.

(8)

في ط: عثمان، تصحيف، والمثبت من ح ومسند أحمد وترجمته في تهذيب التهذيب.

ص: 370

عُمير به. وزاد بعد قوله: حمراء الشدقَيْن؛ هلكتْ في الدهر الأول. قال: فتمعَّرَ وجهُه تمعُّرًا ما كنتُ أراه إلا عند نزول الوحي أو عند المخِيلة، حتى ينظر، أرحمةٌ أو عذاب.

تفرَّد به أحمد. وهذا إسنادٌ جيِّد.

وقال الإمام أحمد

(1)

أيضًا عن [علي] بن إسحاق أخبرنا عبد الله [قال]: أخبرنا مجالد عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة، قالت: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا ذكرَ خديجةَ أثْنَى عليها بأحسن

(2)

الثناء. قالت: فغِرْتُ يومًا فقلت: ما أكثرَ ما تذكرُها حمراء الشدقين

(3)

قد أبدلك الله خيرًا منها. قال: "ما أبدلني اللهُ خيرًا منها، قد آمنتْ بي إذْ كفَرَ بي الناس، وصدَّقَتْني إذْ كذَّبني الناس، وواستني

(4)

بمالها إذْ حرَمني الناس، ورزقني الله ولدها إذْ حرمني أولادَ النساء".

تفرَّد به أحمد أيضًا، وإسنادهُ لا بأس به، ومجالد روى له مسلم متابعةً، وفيه كلامٌ مشهور، والله أعلم. ولعل هذا أعني قوله:"ورزقني الله ولدَها إذْ حرمني أولاد النساء" كان قبل أن يُولد إبراهيم بنُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم من مَاريَة، وقبل مَقْدَمها بالكلِّيَّة، وهذا متعيِّن، فإنَّ جميع أولادِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم كما تقدَّم وكما سيأتي من خديجة إلا إبراهيم فإنَّهُ من ماريَةَ القبطيَّة المصرية رضي الله عنها.

وقد استدلَّ بهذا الحديث جماعةٌ من أهل العلم على تفضيل خديجةَ على عائشة رضي الله عنها وأرضاها. وتكلَّم آخرون في إسناده، وتأوَّله آخرون على أنها كانتْ خيرًا عشرةً، وهو محتملٌ أو ظاهر. وسببه أنَّ عائشة تمَّت بشبابها وحسنها وجميل عشرتها، وليس مرادها بقولها: قد أبدلك الله خيرًا منها أنها تزكِّي نفسها وتفضِّلها على خديجة، فإنَّ هذا أمرٌ مَرْجِعه إلى الله عر وجلَّ كما قال:{فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم: 32] وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} [النساء: 49] الآية.

وهذه مسألةٌ وقع النزاعُ فيها بين العلماء قديمًا وحديثًا وبجانبها طرقٌ يقتصر عليها أهل التشيُّع وغيرهم، لا يعدِلون بخديجةَ أحدًا من النساء، لسلام الربِّ عليها، وكونِ ولدِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم جميعهم - إلا إبراهيم - منها. وكونِه لم يتزوَّج عليها حتى ماتتْ إكرامًا لها، وتقدُّم

(5)

إسلامها، وكونها من الصدِّيقات، ولها مقامُ صدْقٍ في أول البِعْثَة. وبذلَتْ نفسَها ومالَها لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم.

وأمَّا أهلُ السُّنَة، فمنهم من يَغْلُو أيضًا ويُثبتُ لكلِّ واحدة منهما من الفضائل ما هو معروف، ولكنْ

(1)

في المسند (6/ 117، 118) وما بين معقوفين منه.

(2)

في المسند: فأحسن.

(3)

في المسند: الشدق.

(4)

في ط: وآستني. وكلاهما بمعنى، والمثبت من ح والمسند.

(5)

في ط: وتقدير. والمثبت من ح.

ص: 371

تحمِلُهم قوةُ التسنُّن على تفضيلِ عائشةَ لكونها ابنةَ الصدِّيق، ولكونها أعلمَ من خديجة فإنه لم يكنْ في الأُمم مثل عائشة في حفظِها وعلمِها وفصاحتها وعقلِها، ولم يكنِ الرسولُ يحبُّ أحدًا من نسائه كمحبَّتِه إيَّاها، ونزلَتْ براءتُها من فوق سبعِ سموات، وروَتْ بعده عنه عليه السلام علمًا جمًّا كثيرًا طيِّبًا مبارَكًا فيه، حتى قد ذكر كثيرٌ من الناس الحديثَ المشهور "خُذُوا شَطْرَ دينِكُمْ عن الحُمَيْرَاء"

(1)

. والحق أنَّ كلًّا منهما لها من الفضائل

(2)

ما لو نظر الناظرُ فيه لبَهَرَهُ وحيَّرَهُ، والأحسن التوقُّف في ذلك وردُّ علم ذلك إلى الله عز وجل. ومن ظهر له دليلٌ يقطَعُ به، أو يغلِبُ على ظنِّه في هذا الباب، فذاك الذي يجبُ عليه أن يقول بما عنده من العلم، ومن حصل له توقُّفٌ في هذه المسألة أو في غيرها فالطريقُ الأقوم والمسلك الأسلم أن يقول: الله أعلم.

وقد روى الإمامُ أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي

(3)

من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن جعفر، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "خيرُ نسائِها مريم بنتُ عمران، وخير نسائها خديجةُ بنتُ خويلد" أي: خير زمانهما

(4)

.

وروى شعبة عن معاوية بن قرة، عن أبيه قرة بن إياس رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "كَمَلَ من الرجال كثير، ولم يكمُلْ من النساء إلا

(5)

ثلاث: مريم بنت عمران، وآسية امرأةُ فرعون، وخديجة بنت خُويلد؛ وفضلُ عائشة على النساء كفضل الثَّريد على سائرِ الطعام".

رواه ابنُ مردويه في تفسيره. وهذا إسنادٌ صحيح إلى شعبة وبعدَه. قالوا: والقَدْر المشترك بين الثلاث نسوة؛ آسية ومريم وخديجة، أنَّ كلًّا منهن كفَلَتْ نبيًّا مرسلًا وأحسنتِ الصُّحْبة في كفالتها وصدَّقَتْه. فآسيةُ ربَّتْ موسى وأحسنتْ إليه، وصدَّقَتْه حين بُعث؛ ومريم كفَلَتْ ولدَها أتمَّ كفالة وأعظمَها، وصدَّقته حين أُرسل؛ وخديجة رَغِبتْ في تزويجِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بها وبذلَتْ في ذلك أموالها كما تقدَّم وصدَّقته حين نَزَل عليه الوَحْي من الله عز وجل. وقوله "وفضل عائشة على النساءِ كفضل الثريدِ على سائرِ الطعام" هو ثابتٌ في الصحيحَيْن

(6)

من طريق شعبة أيضًا عن عمرو بن مُرَّة، عن مرَّة الطيِّب الهَمْدَاني، عن أبي موسى

(1)

حديث غريب جدًّا بل هو منكر، قال الذهبي: هو من الأحاديث الواهية التي لا يعرف لها إسناد. كشف الخفا (1/ 449).

(2)

في ح: والحق أن لكل منهما فضائل.

(3)

مسند الإمام أحمد (1/ 84) وفتح الباري (3815) مناقب الأنصار باب تزويج النبي صلى الله عليه وسلم خديجة، وصحيح مسلم (69 - 2430) فضائل الصحابة باب فضائل خديجة أم المؤمنين، وسنن الترمذي (3877) المناقب باب فضل خديجة رضي الله عنها، وهو في السنن الكبرى (8354).

(4)

قال القرطبي: الضمير عائد على غير مذكور لكنه يفسره الحال والمشاهدة، يعني به الدنيا. وقال الطيبي: الضمير الأول يعود على الأمة التي كانت فيها مريم والثاني على هذه الأمة. فتح الباري (7/ 135).

(5)

في ح: غير ثلاث.

(6)

فتح الباري (3411) أحاديث الأنبياء باب قول الله تعالى {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا} [التحريم: 11]،=

ص: 372

الأشعري قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "كَمَلَ من الرجالِ كثير، ولم يَكْمُلْ من النساءِ إلا آسِيَةُ امرأةُ فِرْعَون، ومريمُ بنتُ عمران؛ وإنَّ فضلَ عائشة على النساءِ كفضْل الثريدِ على سائر الطعام" والثَّريد: هو الخبز واللَّحْم جميعًا، وهو أفخر طعامِ العَرَب كما قال بعضُ الشعراء:

إذا ما الخبزُ تَأدِمُهُ بلحْمٍ

فذاكَ، أمانة الله، الثريدُ

ويحتمل

(1)

قوله: "وفضلُ عائشةَ على النساءِ" أنْ يكون عامًّا

(2)

فيعم النساء المذكورات وغيرَهنَّ، ويحتمل أن يكون مخصوصًا

(3)

فيما عداهن، ويَبْقى الكلامُ فيها وفيهنّ موقوفًا يحتملُ التسوية بينهن، فيحتاج من رجَّح واحدةً منهنّ على غيرِها إلى دليل خارج

(4)

، والله أعلم.

‌فصل في تزويجه صلى الله عليه وسلم بعد خديجة رضي الله عنها بعائشة بنت الصديق وسودة بنت زَمَعَة رضي الله عنها

والصحيح أنَّ عائشةَ تزوَّجها أولًا كما سيأتي، قال البخاري في تزويج عائشة

(5)

: حدَّثنا مُعَلَّى بنُ أسد، حدَّثنا وُهيب عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لها: "أُريتكِ في المنام مرَّتَيْن، أرَى أنَّكِ في سَرَقةٍ من حَرِير

(6)

، ويقول: هذه امرأتك، فاكشفْ عنها، فإذا هي أنتِ، فأقول: إن كان

(7)

هذا من عند الله يُمْضِه".

قال البخاري باب نكاح الأبكار

(8)

: وقال ابنُ أبي مُليكة: قال ابنُ عباس لعائشة: لم ينكحِ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بكرًا غيرَكِ: حدَّثنا

(9)

إسماعيل بن عبد الله، حدَّثني أخي

(10)

، عن سليمان بن بلال، عن هشام بن

= وصحيح مسلم (2431)(70) فضائل الصحابة باب فضائل خديجة أم المؤمنين.

(1)

في ط: ويحمل والمثبت من ح.

(2)

في ط: محفوظًا فيعم، والمثبت من ح.

(3)

في ط: عامًا فيما، والمثبت من ح.

(4)

"الخارج": الظاهر المحسوس. وفي ط: من خارج. والمثبت من ح.

(5)

فتح الباري (3895) مناقب الأنصار باب تزويج النبي صلى الله عليه وسلم عائشة.

(6)

سَرَقة: أي قطعة، أي يريه صورتها. (فتح الباري 7/ 224).

(7)

في صحيح البخاري: إن يك، وفي رواية له: إن يكن.

(8)

فتح الباري (9/ 120) النكاح باب نكاح الأبكار - في أول الباب، وهو طرفٌ من حديث وصله البخاري في تفسير سورة النور. قاله ابن حجر في الفتح.

(9)

هنا يبدأ الحديث رقم (5077) في الموضع المشار إليه في الحاشية السابقة.

(10)

هو عبد الحميد. قاله ابن حجر في الفتح.

ص: 373

عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: قلتُ يا رسولَ الله: أرأيتَ لو نزلتَ واديًا وفيه شجرةٌ قد أُكل منها، ووجدتَ شجرةً لم يُؤكلْ منها، في أيِّها كنتَ تُرْتِعُ بعيرك؟ قال:"في التي لم يرتَعْ منها" تعني

(1)

أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يتزوَّجْ بكرًا غيرها.

انفرد به البخاري ثم قال

(2)

: حدَّثنا عُبيد بنُ إسماعيل، حدَّثنا أبو أسامة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: قال لي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم "أُريتك في المنام [مرَّتين، إذا رجلٌ يحملك في سرَقَةٍ من حرير، فيقول: هذه امرأتك. فأكشفُها فإذا هي أنتِ، فأقول: إنْ كان

(3)

هذا من عند الله يُمضِه".

ورواه مسلم

(4)

من طريق هشام بن عروة به.

ورواه البخاري في باب النظر إلى المرأة قبل التزويج

(5)

: حدَّثنا مُسَدَّد، حدَّثنا حماد بن زيد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أُريتُكِ في المنام]

(6)

يَجِيء

(7)

بكِ الملَكُ في سَرَقةٍ من حَرير فقال لي: هذه امرأتُك. فكشفتُ عن وجهكِ الثوبَ فإذا أنتِ هي

(8)

، فقلت إنْ يكُ

(9)

هذا من عند الله يُمْضِه".

وفي رواية

(10)

: "أُريتُكِ في المنام ثلاثَ ليالٍ".

وعند الترمذي

(11)

: أن جبريلَ جاءَهُ بصورتِها في خِرْقَةٍ من حَرير خَضْرَاء فقال: هذه زوجتُك في الدنيا والآخرة.

وقال البخاري باب تزويج الصغار من الكبار

(12)

: حدَّثنا عبد الله بن يوسف، حدَّثنا الليث عن يزيد،

(1)

في الفتح: يعني.

(2)

في صحيحه فتح (5078) النكاح باب نكاح الأبكار.

(3)

في صحيح البخاري: إن يكن.

(4)

في صحيحه (2438)(79) فضائل الصحابة باب في فضل عائشة.

(5)

فتح الباري (5125) النكاح باب النظر إلى المرأة قبل التزويج.

(6)

ما بين المعقوفين سقط من ط وهو مثت في ح.

(7)

في ط: فيجيء، والمثبت من ح وصحيح البخاري.

(8)

في ح: فإذا هي أنت. والمثبت من ط وصحيح البخاري.

(9)

في ط: يكن، والمثبت من ح وصحيح البخاري.

(10)

وهي رواية مسلم المشار إليها في ح (16).

(11)

في الجامع (3880) المناقب باب فضل عائشة رضي الله عنها. قال بشار: واقتصر الترمذي على تحسينه واستغرابه وقال: لا نعرفه إلا من حديث عبد الله بن عمرو بن علقمة، وقد روى عبد الرحمن بن مهدي هذا الحديث عن عبد الله بن عمرو بن علقمة بهذا الإسناد مرسلًا، ولم يذكر فيه عن عائشة ثم أشار إلى حديث عروة عن عائشة المتقدم في الصحيحين.

(12)

فتح الباري (5081) النكاح باب تزويج الصغار من الكبار.

ص: 374

عن عِرَاك، عن عروة، أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم خطب عائشة إلى أبي بكر، فقال له أبو بكر: إنما أنا أخوك. فقال: "أنت أخي في دينِ الله وكتابِه، وهي لي حلال".

هذا الحديث ظاهر سياقه كأنَّهُ مرسل وهو عند البخاري والمحقِّقين متَّصل، لأنه من حديث عروةَ عن عائشة رضي الله عنها، وهذا من أفراد البخاري رحمه الله.

وقال يُونس بن بُكير

(1)

: عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: تزوَّج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عائشة بعد خديجة بثلاثِ سنين، وعائشةُ يومئذ ابنة ستِّ سنين، وبَنَى بها وهي ابنةُ تسع. ومات رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وعائشة ابنة ثمانية عشرة سنة.

وهذا غريب. وقد روى البخاري

(2)

عن عُبيد بن إسماعيل عن أبي أُسامة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: تُوفِّيتْ خديجةُ قبل مَخْرَجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم[إلى المدينة] بثلاثِ سنين، فلبث سنتَيْن - أو قريبًا من ذلك - ونكَحَ عائشة وهي بنتُ ستِّ سنين، ثم بنى بها وهي بنت تسع سنين. وهذا الذي قاله عروة مرسلٌ في ظاهر السِّيَاق كما قدَّمنا ولكنَّهُ في حُكْمِ المتَّصِل في نفس الأمر. وقوله تزوَّجها وهي ابنة ستِّ سنين وبنى بها وهي ابنة تسع سنين، ما لا خلافَ فيه بين الناس - وقد ثبت في الصِّحاح وغيرها - وكان بناؤه بها عليه السلام في السنةِ الثانية من الهجرة إلى المدينة. وأما كون تزويجها كان بعد موت خديجة بنحوٍ من ثلاث سنين ففيه نظر. فإنَّ يعقوب بن سفيان الحافظ قال

(3)

: حدَّثنا الحجّاج، حدَّثنا حماد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: تزوَّجني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم متوفَّى خديجة قبل مخرجِه من مكة وأنا ابنة سبع - أو ست - سنين، فلما قدمنا المدينة جاءني نسوة وأنا ألعبُ في أرجوحة وأنا مُجَمَّمَة، فهيَّأنني وصنَّعْنَني، ثمَّ أتَيْنَ بي إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابنة تسع سنين.

فقوله في هذا الحديث: متوفَّى خديجة يقتضي أنه على أثر ذلك قريبًا، اللهمَّ إلا أن يكون قد سقط من النسخة بعد متوفَّى خديجة، فلا ينفي ما ذكره يونسُ بن بكير وأبو أسامةَ، عن هشام بن عروة، عن أبيه، والله أعلم.

وقال البخاري

(4)

: حدَّثنا فروة بنُ أبي المَغْرَاء، حدَّثنا عليُّ بن مُسْهِر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة. قالت: تزوَّجني النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأنا بنتُ ستِّ سنين، فقدِمنا المدينة، فنزَلْنا في بني الحارث بن الخزرج، فَوُعِكْتُ فتمزَّق شعري

(5)

، وقد وفَتْ لي جُمَيْمَة

(6)

، فأتتني أمي أمُّ رُومان - وإنِّي

(1)

السير والمغازي (ص 255).

(2)

فتح الباري (3896) مناقب الأنصار باب تزويج النبي صلى الله عليه وسلم عائشة، وما سيأتي بين معقوفين منه.

(3)

المعرفة والتاريخ (3/ 268) وهو من الجزء المفقود نقله المحقق من هنا.

(4)

فتح الباري (3894) مناقب الأنصار باب تزويج النبي صلى الله عليه وسلم عائشة.

(5)

"فتمزق": أي تقطَّع، ورواية الكشميهني: فتمرق. بالراء المهملة، أي انتتف. فتح الباري (7/ 224).

(6)

كذا في ط والنهاية لابن الأثير (جمم)، وفي ح: ولي جُميمة، وفي صحيح البخاري: فوفى جُميمة. قال ابن=

ص: 375

لفي أُرْجُوحةٍ ومعي صواحبُ لي - فصرخَتْ بي، فأتيتُها ما أدري ما تريدُ مني، فاْخذتْ بيدي حتى أوقفَتني على باب الدار، وإني لأنْهَجُ

(1)

، حتى سكن بعضُ نفسي، ثمَّ أخذتُ شيئًا من ماءٍ فمسَحْتُ به

(2)

وجهي ورأسي، ثم أدخلتني الدَّار، فإذا نسوةٌ من الأنصار في البيت فقلن: على الخير والبركة، وعلى خير طائر. فأسلَمَتْني إليهن، فأصلَحْنَ من شأني، فلم يَرُعْني إلا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ضُحىً، فأسلمَتْني إليه، وأنا يومئذٍ بنتُ تسع سنين.

وقال الإمامُ أحمد في مسند عائشةَ أمِّ المؤمنين

(3)

: حدَّثنا محمد بن بشر، حدَّثنا محمد بن عمرو

(4)

حدثنا أبو سلمة ويحيى. قالا: لما هلكَتْ خديجةُ جاءتْ خولةُ بنت حكيم امرأةُ عثمانَ بنِ مظعون فقالت: يا رسول الله ألا تزوَّج؟ قال: "مَنْ؟ " قالت: إنْ شئتَ بكرًا، وإنْ شئت ثيبًا، قال:"فمَنِ البِكْر" قالت: ابنة أحبِّ خلقِ الله إليك عائشة ابنة أبي بكر. قال: "ومَن الثَّيِّب"؟ قالت: سَوْدَة بنتُ زَمَعَة. قد آمنتْ بكَ واتبعتك على ما تقول. قال: "فاذْهبي فاذكُريهما علىّ " فدخلتْ بيتَ أبي بكرٍ فقالت: يا أمَّ رُومان، ماذا أدخل الله عليك من الخير والبركة، فالت: وما ذاك؟ قالت: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم أخطُبُ عليه عائشة. قالتْ: انتظري أبا بكرٍ حتى يأتي. فجاء أبو بكر فقالت: يا أبا بكر، ماذا أدخل اللهُ عليكم من الخير والبركة! قال: وما ذاك؟ قالت: أرسلني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أخطُب عليه عائشة قال: وهل تصلُح له؟ إنما هي ابنةُ أخيه، فرجعتْ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فذكرَتْ ذلك له قال:"ارْجِعي إليه فقولي له: أنا أخوكَ وأنتَ أخي في الإسلام، وابنتُكَ تصلُح لي" فرجعَتْ فذكرتْ ذلك له، قال: انتظري، وخرج. قالت أمُ رُومان: إنَّ مُطْعِمَ بن عَدي قد كان ذكرها على ابنه، ووالله ما وَعَدَ وعدًا قطُّ فأخلَفَه لأبي بكر

(5)

. فدخل أبو بكرٍ على مطعم بن عَدِي وعنده امراتّه أم الصَّبي

(6)

. فقالت: يا ابن أبي قُحَافة لعلك مُصْبِي

(7)

صاحبَنا مُدخلُه في دينِك الذي أنتَ عليه إنْ تزوَّج إليك؟ فقال أبو بكر للمُطْعِم بن عدي: أقول هذه. يقول قال: إنها تقولُ ذلك. فخرج من عنده وقد أذهب اللهُ ما كان في نفسِه من عِدَته التي وعدَه، فرجع فقال لخولة: ادعي لي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فدَعَتْه فزوَّجها إيَّاه، وعائشة يومئذ

= حجر: فوفى. أي كثر، وفي الكلام حذف تقديره: ثم فصلت من الوعك فتربَّى شعري فكثر؛ وقولها: جميمة. مصغَّر الجُمَّة، وهي مجتمع شعر الناصية، ويقال للشعر إذا سقط عن المنكبين جُمَّة، وإذا كان إلى شحمة الأذنين فتح الباري (7/ 224).

(1)

"أنهج الرجل": إذا أصابه البَهَر والربو من الجري والتعب، وهو علو النَّفَس. مشارق الأنوار (2/ 29).

(2)

في ط: فمست، والمثبت من ح وصحيح البخاري.

(3)

مسند أحمد (6/ 210).

(4)

في ط: محمد بن بشر، حدثنا بشر، حدثنا محمد بن عمر. زيادة من الناسخ ليست في ح ولا في مسند أحمد.

(5)

في ط: ووالله ما وعد أبو بكر وعدًا قط فأخلفه. والمثبت من ح والمسند.

(6)

كذا في ح، ط، وفي المسند: أم الفتى.

(7)

كذا في ح، ط، وفي المسند: مصبٍ.

ص: 376

بنت ستِّ سنين. ثم خرجتْ فدخلتْ على سَوْدَة بنتِ زَمَعة فقال: ما أدخل الله عليكِ من الخيرِ والبركة! قالت: وما ذاك؟ قالت: أرسلني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أخطُبك عليه، قالت: ودِدْتُ، ادخلي إلى أبي

(1)

فاذكرى ذلك له - وكان شيخًا كبيرًا قد أدركه السِّنّ، قد تخلَّف عن الحج - فدخلتْ عليه فحييته

(2)

بتحيَّة الجاهلية، فقال: مَنْ هذه؟ قالت: خولةُ بنت حكيم. قال: فما شأنُك؟ قالت: أرسلني محمد بن عبد الله أخطُب عليه سَوْدَة. فقال: كفؤٌ كريم، ماذا تقولُ صاحبتُك؟ قال: تحبُّ ذلك. قال: ادعيها لي. فدعَتْها، قال: أيْ بُنَيَّة إنَّ هذه تزعم أنَّ محمد بن عبد الله بن عبد المطلب قد أرسل يخطُبك وهو كفؤٌ كريم، أتحبِّينَ أن أزوِّجَكِ به؟ قالت: نعم. قال: ادعيهِ لي. فجاء رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فزوَّجها إياه. فجاء أخوها عبد بن زَمَعَة من الحجّ فجعل

(3)

يَحْثِي على رأسه التراب. فقال بعد أن أسلم: لعمرك إني لسفيه يوم أحثي في رأسي التراب أنْ تزوَّج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سودةَ بنتَ زَمَعة. قالت عائشة: فقدِمنا المدينة فنزلْنا في بني الحارث بن الخَزْرَج في الشُّنْح

(4)

. قالت فجاء رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فدخل بيتَنا واجتمع إليه رجالٌ من الأنصار ونساءٌ، فجاءَتْني أُمِّي وإني

(5)

لفي أُرجوحةٍ بين عِذْقَيْن، يُرجَح بي، فأنزلَتْني من الأُرجوحة ولي جُميمة، ففرَقَتْها، ومسحَتْ وجهي بشيء من ماءٍ، ثم أقبلتْ بي تقودني حتى وقفتْ بي عند الباب وإني لأنْهَج

(6)

حتى سكن من نَفَسي، ثم دخلَتْ بي فإذا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم جالسٌ على سرير في بيتنا وعنده رجالٌ ونساءٌ من الأنصار، فأجلسَتْني في حَجْرِهِ

(7)

ثم قالت: هؤلاء أهلك فباركَ الله لك فيهم، وبارك لهم فيك. فوثب الرجالُ والنساء فخرجوا، وبنَى بي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في بيتنا ما نُحِرتْ عليَّ جَزُور، ولا ذُبحتْ عليَّ شاة، حتى أرسل إلينا سعد بن عُبادة بجَفْنَةٍ كان يرسلُ بها إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إذا دار إلى نسائه

(8)

، وأنا يومئذ ابنة تسع سنين.

وهذا السياق كأنه مرسل، وهو متصل لما رواه البيهقي

(9)

من طريق أحمد بن عبد الجبار، حدَّثنا عبد الله بن إدريس الأوْدِي

(10)

عن محمد بن عمرو، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب قال: قالت

(1)

في ط: إلى أبي بكر. خطأ من الناسخ، والمثبت من ح ومسند أحمد.

(2)

كذا. في ح، ط والمسند، والوجه: فحيَّتْهُ.

(3)

في ط: فجاء. والمثبت من ح والمسند.

(4)

السُّنح: تقع في طرف من أطراف المدينة، بينها وبين منزل النبي صلى الله عليه وسلم ميل. معجم البلدان (3/ 265).

(5)

في ط: وأنا، والمثبت من ح والمسند.

(6)

مضى معناه في الصفحة السابقة ح 1.

(7)

في ط: حجرة. بهاء معجمة باثنتين، والمثبت من ح والمسند.

(8)

كذا في ط والمسند، وفي ح: زار نساءه، وفي الأساس (دور): فلان يدور على أربع نسوة ويطوف عليهن: أي يسوسهن ويرعاهن.

(9)

في دلائل النبوة (2/ 411).

(10)

في ط: الأزدي، تصحيف، والمثبت من ح والدلائل وتوضيح المشتبه (1/ 281).

ص: 377

عائشة: لما ماتتْ خديجةُ جاءت خَوْلة بنت حكيم فقالت: يا رسولَ الله، ألا تزوَّج؟ قال:"ومن"؟ قالت: إنْ شئتَ بكرًا وإنْ شئتَ ثَيِّبًا. قال: "مَنِ البِكْرُ ومَن الثَيِّب"؟ قالت: أما البِكْر فابنةُ أحبِّ خلقِ الله إليك عائشة، وأما الثيِّب فسَوْدَة بنت زَمَعة، قد آمنتْ بك واتبعَتْك. قال:"فاذكريهما عليَّ" وذكر تمام الحديث نحو ما تقدَّم.

وهذا يقتضي أنَّ عَقْدَهُ على عائشة كان متقدِّمًا على تزويجه بسودة بنت زمعة، ولكنَّ دخوله على سَوْدَة كان بمكة، وأما دخوله على عائشة فتأخَّرَ إلى المدينة في السنة الثانية كما تقدَّم وكما سيأتي.

وقال الإمام أحمد

(1)

: حدَّثنا أسود، حدَّثنا شريك، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت: لما كبِرَت سَوْدَةُ وهبَتْ يَوْمَها لي، فكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَقْسِم لي بيومها مع نسائه. قالت: وكانتْ أولَ امرأةٍ تزوَّجها بعدي.

وقال الإمام أحمد

(2)

: حدَّثنا أبو النَّضْر، حدَّثنا عبد الحميد، حدَّثني شهر، حدَّثني عبد الله بن عباس، أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم خطب امرأةً من قومه يقالُ لها سَوْدَة وكانت مُصْبِيَة، كان لها خمس صبْيَة - أو ستة - من بعل لها مات. فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"ما يَمْنَعُكِ مني؟ " قالت: والله يا نبيَّ الله، ما يمنعُني منك

(3)

أن لا تكونَ أحبَّ البريَّةِ إليَّ، ولكنِّي أُكْرِمُك أن يضعوا هؤلاء الصبية عند رأسِكَ بُكْرةً وعشيَّة. قال:"فهل منَعَكِ مني شيءٌ غيرُ ذلك؟ " قالت: لا والله، قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"يرحمكِ الله، إنَّ خيرَ نساءٍ ركبنَ أعجاز الإبل، صالحُ نساء قريش، أحناه على ولد في صغره، وأرعاه على بعلٍ بذاتِ يده".

قلت: وكان زوجَها قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم السكران بن عمرو، أخو سُهيل بن عمرو، وكان ممن أسلم وهاجر إلى الحبشة كما تقدَّم

(4)

، ثم رجع إلى مكة فمات بها قبل الهجرة رضي الله عنه.

وهذه السياقات كلُّها دالَّةٌ على أن العَقْد على عائشة كان متقدِّما على العَقْد بسَوْدَة، وهو قول عبد الله بن محمد بن عقيل، ورواه يونس، عن الزُّهْري. واختار ابن عبد البرِّ أن العَقْد على سَوَدة قبلَ عائشة، وحكاه عن قتادة وأبي عُبيد. قال: ورواه عقيل عن الزُّهْري.

‌فصل

قد تقدم ذِكر موت أبي طالب عمَّ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وأنه كان ناصرًا له وقائمًا في صفِّه، ومُدَافعًا عنه بكلِّ ما يقدِرُ عليه من نفس ومال ومقال وفعال، فلما مات اجترأ سفهاءُ قريش على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ونالوا منه

(1)

في المسند (6/ 68) رقم (24276) ورواه بنحوه البخاري رقم (2593).

(2)

في المسند (1/ 318) وهو حديث حسن.

(3)

في ط: أن يمنعوا، تصحيف، والمثبت من ح ومسند أحمد.

(4)

تقدم ذلك في الخبر (ص 285).

ص: 378

ما لم يكونوا يَصِلُون إليه ولا يقدرون عليه. كما قد رواه البيهقي

(1)

عن الحاكم، عن الأصم، حدَّثنا محمد بن إسحاق الصَّغَاني

(2)

، حدَّثنا يوسف بن بهلول، حدَّثنا عبد الله بن إدريس، حدَّثنا محمد بن إسحاق عمن حدثه، عن عروة بن الزبير، عن عبد الله بن جعفر قال: لما مات أبو طالب عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم سفيهٌ من سُفَهاء قريش، فألقَى عليه ترابًا، فرجع إلى بيته، فأتتِ امرأةٌ من بناته، تمسَحُ عن وجهه التراب وتبكي، فجعل يقول: "أيْ بُنَيَّة لا تبكين

(3)

، فإنَّ الله مانعٌ أباك" ويقول ما بين ذلك:"ما نالتْ قريشٌ شيئًا أكْرَهُه حتى مات أبو طالب"

(4)

.

وقد رواه زياد البكَّائي عن محمد بن إسحاق، عن هشام بن عروة، عن أبيه مرسلًا. والله أعلم.

وروى البيهقي

(5)

أيضًا عن الحاكم وغير

(6)

، عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن بُكير، عن هشام بن عروة، عن أبيه، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما زالتْ قريشٌ كاعِّين

(7)

حتى مات أبو طالب".

ثم رواه

(8)

عن الحاكم، عن الأصم، عن عباس الدُّوري، عن يحيى بن مَعِين، حدَّثنا عقبة المجدَّر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"ما زالتْ قريشٌ كاعَّةً حتى توفي أبو طالب".

وقد روى الحافظ أبو الفرج بن الجوزي بسند

(9)

عن ثعلبة بن صُعَير، وحَكيم بن حِزام أنهما قالا: لما تُوفِّي أبو طالب وخديجة - وكان بينهما خمسة أيام

(10)

- اجتمع على رسول الله صلى الله عليه وسلم مصيبتان، ولزم بيته، وأقلَّ الخروج، ونالتْ منه قريشٌ ما لم تَكُنْ تنال ولا تطمع فيه، فبلغ ذلك أبا لهب، فجاءه فقال:

(1)

في دلائل النبوة (2/ 350).

(2)

في ح، ط: الصنعاني. تصحيف، والمثبت من الدلائل وترجمه في تذكرة الحفاظ (598) وفيه: الصاغاني.

(3)

كذا في ح، ط والدلائل.

(4)

زادت ط هنا ما نصه: ثم شرعوا. وهو زيادة من الناسخ لا وجود لها في الدلائل، ولا في ح.

(5)

في الدلائل (2/ 349) وهو حديث حسن يشهد له الذي بعده بطرقه.

(6)

هو أبو سعيد بن أبي عمرو شيخ البيهقي كما في الدلائل.

(7)

في النهاية لابن الأثير: ما زالت قريش كاعَّة. الكاعَّة: جمع كاعّ، وهو الجبان، يقال: كعَّ الرجل عن الشيء ويكعُّ كعًّا فهو كاعّ، إذا جبن عنه وأحجم، أراد أنهم كانوا يجبنون عن أذى النبي صلى الله عليه وسلم في حياة أبي طالب، فلما مات اجترؤوا عليه.

(8)

في دلائل البيهقي (2/ 349، 350) ورواه الطبراني في الأوسط رقم (598) والحاكم في المستدرك (2/ 622) وهو حديث حسن بطرقه.

(9)

لعله في كتابه المختار من أخبار المختار (مخطوط) وقد أورده في الوفا بأحوال المصطفى (1/ 210) من غير إسناد، وفيه "صقير" وهو تصحيف.

(10)

في الوفا: وكان بينهما شهر وخمسة أيام.

ص: 379

يا محمد، امضِ لما أردتَ وما كنتَ صانعًا إذْ كان أبو طالب حيًّا فاصنَعْه، لا واللات

(1)

لا يُوصَل إليك حتى أموت. وسبَّ ابنُ الغَيْطَلة رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فأقبل إليه أبو لهب فنال منه، فولَّى يَصِيح: يا معشر قريش صَبَأ أبو عتبة. فأقبلَتْ قريش حتى وقفوا على أبي لَهَب فقال: ما فارقتُ دينَ عبد المطلب، ولكني أمْنَعُ ابنَ أخي أنْ يُضام حتى يمضيَ لما يُريد. فقالوا: لقد أحسنت وأجملت ووصلْتَ الرَّحِم. فمكث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم كذلك أيامًا يأتي ويذهب لا يعرِضُ له أحدٌ من قريش، وهابوا أبا لهب إذْ جاء عُقبة بن أبي مُعَيْط وأبو جهل

(2)

إلى أبي لهب فقالا له: أخبرك ابنُ أخيك أين مُدْخَلُ أبيك؟ فقال له أبو لهب: يا محمد، أين مُدْخَل عبد المطلب؟ قال:"مع قومه". فخرج إليهما فقال: قد سألتُه فقال مع قومه. فقالا: يزعم أنه في النار. فقال: يا محمد، أيدخل عبدُ المطلب النار؟ فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم

(3)

: "ومَنْ ماتَ على ما مات عليه عبدُ المطلب دخل النار " فقال أبو لهب - لعنه الله -: والله لا بَرِحْتُ لك

(4)

عدوًّا أبدًا وأنت تزعم أنَّ عبد المطلب في النار. واشتدَّ عند ذلك أبو لهب وسائرُ قريش عليه.

قال ابن إسحاق

(5)

: وكان النفر الذين يؤذون رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في بيته: أبو لهب، والحكم بن أبي العاص بن أميه، وعقبة بن أبي معيط، وعدي بن الحمراء، وابن الأصْدَاء الهُذَلي - وكانوا جيرانَه - لم يُسلم منهم أحد إلا الحكم بن أبي العاص. وكان أحدهم - فيما ذُكر لي - يطرح عليه رَحِم الشاة وهو يصلِّي، وكان أحدُهم يطرحُها في بُرمتِه إذا نُصبتْ له، حتى اتخذ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حجرًا يستتر به منهم إذا صلَّى، فكان إذا طرَحُوا شيئًا من ذلك يحملُه على عُودٍ ثم يقف به على بابه ثم يقول:"يا بني عبدِ مناف، أيُ جوارٍ هذا "؟! ثم يُلقيه في الطريق.

قلت: وعندي أنَّ غالبَ ما رُوي مما تقدَّم من طَرْحِهم سَلا الجَزُور بين كتفيه وهو يصلِّي كما رواه ابنُ مسعود، وفيه أنَّ فاطمة جاءتْ فطرحَتْهُ عنه وأقبلتْ عليهم فشتمَتْهُمْ، ثم لما انصرف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم دعا على سبعةٍ منهم كما تقدَّم. وكذلك ما أخبر به عبد الله بن عمرو بن العاص من خنقهم له عليه السلام خنقًا شديدًا حتى حال

(6)

دونه أبو بكر الصديق قائلًا: أتقتلون رجلًا أنْ يقول: ربِّيَ الله!. وكذلك عَزْم أبي جهل - لعنه الله - على أن يَطَأ على عُنقه وهو يصلِّي فحيل بينه وبين ذلك، وما أشبه ذلك كان بعد وفاةِ أبي طالب والله أعلم. فذكرها هاهنا أنسب وأشبه.

(1)

زادت ح: والعزى. وليست هذه الزيادة في الوفا ولا في ط.

(2)

زادت ح: لعنهما الله. وليست هذه الزيادة في الوفا ولا في ط.

(3)

زاد في الوفا: نعَمْ ومن مات

(4)

زادت ط هنا: إلا. وليست هذه الزيادة في الوفا ولا في ط.

(5)

سيرة ابن هشام (1/ 415) والروض (2/ 166).

(6)

في ح: قام.

ص: 380

‌فصل في ذهابه صلى الله عليه وسلم إلى أهل الطائف يدعوهم إلى دين الله فردوا عليه ذلك ولم يقبلوه منه فرجع عنهم إلى مكة

قال ابن إسحاق

(1)

: فلما هلك أبو طالب نالت قريشٌ من رسولِ الله صلى الله عليه وسلم من الأذى ما لم تكنْ تنالُ منه في حياة عمِّه أبي طالب، فخرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف يلتمسُ من ثقيف النُّصْرَة والمَنَعة بهم من قومه. ورجاءَ أن يقبلوا منه ما جاءهم به من الله تعالى، فخرج إليهم وحدَه؛ فحدَّثني يزيد بن أبي زياد، عن محمد بن كعب القُرَظي قال: لما انتهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف عَمَد إلى نفير من ثقيف هم سادةُ ثقيف وأشرافُهم، وهم إخوة ثلاثة: عبْد يا ليل، ومسعود، وحبيب بن عمرو بن عُمير بن عَوْف بن عُقْدَة بن غِيَرة بن عوف بن ثَقيف. وعند أحدهم امرأةٌ من قريش، من بني جُمَح، فجلس إليهم فدعاهم إلى الله وكلَّمهم لما جاءهم له من نُصرته على الإسلام والقيام معه على مَنْ خالفه من قومه، فقال أحدهم - هو يَمْرُطُ ثيابَ الكعبة

(2)

-: إنْ كان الله أرسلك. وقال الآخر: أما وَجَد الله أحدًا أرسله غيرَك؟ وقال الثالث: والله لا أكلِّمك أبدًا؛ لئن كنتَ رسولًا من الله كما تقول لأنت أعظمُ خَطَرًا من أنْ أرُدَّ عليك الكلام، ولئن كنتَ تكذِبُ على الله ما ينبغي لي أنْ أكلِّمَك. فقام رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من عندهم وقد يئس من خَيْر ثقيف، وقد قال لهم - فيما ذُكر لي -: "إنْ فعلتم ما فعلتم فاكتُمُوا عليّ

(3)

" وكره رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يبلغ قومه عنه فَيُذْئِرَهُم

(4)

ذلك عليه. فلم يفعلوا، وأغْرَوْا به سفهاءهم وعَبيدَهم يسبُّونه ويَصِيحون به، حتى اجتمع عليه الناس وألجؤوهُ إلى حائطٍ لعتبة بنِ ربيعة وشيبة بن ربيعة وهما فيه، ورجع عنه من سفهاء ثَقيف مَنْ كان يتبعه. فعَمَد إلى ظلِّ حَبَلةٍ

(5)

من عِنب، فجلس فيه وابنا ربيعةَ ينظران إليه ويريانِ ما لَقي من سفهاء أهل الطائف، وقد لقي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم - فيما ذُكر لي - المرأةَ التي من بني جُمَح، فقال لها:"ماذا لَقِينا من أحْمائك"

(6)

؟!

فلما اطمأنَّ قال - فيما ذُكر -: "اللهمَّ إليك أشكو ضَعْفَ قُوَّتي، وقِلَّة حيلتي، وهَوَاني على الناس"؛ يا أرحم الراحمين، أنت ربُّ المستضعفين، وأنت ربِّي، إلى مَنْ تَكِلُني؟! إلى بعيدٍ

(1)

في سيرة ابن هشام (1/ 419) والروض (2/ 172).

(2)

في الأساس (مرط): فلان يمرط ما يجده ويمترطه: يجمعُه. ويقال: مرَّط الثوب، قصَّر كُمَّيْه فجعله مِرْطًا. القاموس (مرط).

(3)

في سيرة ابن هشام: إذا فعلتم ما فعلتم فاكتموا عني.

(4)

يقال: أذأرتُ الرجل بصاحبه: أي حرَّشتُه وأوْلَعْتُه به وجزَّأتُه عليه. الصحاح (ذأر).

(5)

"الحَبَلة": الكرمة، والحَبَل: شجر العنب. الروض (2/ 177) والقاموس (حبل).

(6)

إسناده ضعيف لضعف يزيد بن أبي زياد.

ص: 381

يتجَهَّمُني، أم إلى عدوٍّ ملَّكْتَهُ أمْرِي؟ إنْ لم يكنْ بك غضبٌ عليَّ فلا أُبالي، ولكنْ عافيتُك هي أوسعُ لي، أعوذُ بنورِ وجهك الذي أشرقتْ له الظلمات

(1)

، وصَلَح عليه أمْرُ الدنيا والآخرة، من أنْ تُنْزل بي غضَبَك، أو يَحِلَّ عليَّ سَخَطُك، لك العُتْبَى حتى ترضى، ولا حولَ ولا قُوَّةَ إلا بك"

(2)

.

قال: فلما رآه ابنا ربيعةَ عتبةُ وشيبةُ، وما لَقِيَ تحركتْ له رَحِمُهما، فدَعَوْا غلامًا لهما نصرانيًا يقال له عدَّاس فقالا له: خُذْ قِطْفًا من هذا العِنَب فضَعْهُ في هذا الطبق، ثم اذهب به إلى ذلك الرجل فقل له يأكل منه. ففعل عدَّاس، ثم ذهب به حتى وضعه بين يدي رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ثم قال له: كُلْ. فلما وضع رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يده فيه قال: "بسم الله". ثم أكل، فنظر عدَّاسٌ في وجهه ثم قال: واللهِ إنَّ هذا الكلامَ ما يقولُه أهلُ هذه البلاد! فقال له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "ومن أهلِ أيِّ بلادٍ أنتَ يا عدَّاس وما دينُك"؟ قال: نَصْرَاني، وأنا رجلٌ من أهلِ نِينَوَى. فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"من قريةِ الرجلِ الصالح يُونُس بن متَّى". فقال له عدَّاس: وما يُدريك ما يونس بن متى؟ فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ذلك أخي، كان نبيًّا وأنا نبيّ. فأكبَّ عدَّاس على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يقبِّلُ رأسَه ويدَيْه وقدمَيْه

(3)

.

قال: يقولُ ابنا ربيعة أحدهما لصاحبه: أمَّا غلامك فقد أفسدَهُ عليك. فلما جاءهما عدَّاس قالا له: ويلك يا عدّاس، ما لك تقبِّلُ رأسَ هذا الرجل ويدَيْه وقدميه؟ قال: يا سيدي، ما في الأرض شيءٌ خيرٌ من هذا، لقد أخبرني بأمرٍ ما يعلمه إلا نبيّ! قالا له: ويحك يا عداس، لا يصرفنَّك عن دينك، فإنَّ دينَكَ خيرٌ من دينه.

وقد ذكر موسى بن عُقبة نحوًا من هذا السياق، إلا أنه لم يذكرِ الدُّعاء، وزاد: وقعد له أهلُ الطائف صفَّين على طريقه، فلما مرّ جعلوا لا يرفعُ رجلَيْه ولا يضعهما إلا رضخوهما بالحجارة حتى أدْمَوْه، فخلص منهم وهما يسيلانِ بالدماء، فعمد إلى ظلِّ نخلةٍ وهو مكروب، وفي ذلك الحائط عتبة وشيبة ابنا ربيعة، فكره مكانهما لعداوتهما الله ورسوله. ثم ذكر قصة عدَّاس النصراني كنحو ما تقدَّم.

وقد روى الإمام أحمد

(4)

عن أبي بكر بن أبي شيبة، حدَّثنا مروان بن معاوية الفَزَاريّ، عن عبد الله

(1)

معنى الوجه وإشراق الظلمات: أما الوجه إذا جاء ذكره في الكتاب والسنة فهو ينقسم في الذكر إلى موطنين: موطن تقرّب واسترضاء بعمل كقوله تعالى: {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} وكقوله {إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} ، فالمطلوب في هذا الموطن: رضاه وقبوله للعمل، وإقباله على العبد العامل؛ وأصله أن من رضي عنك أقبل عليك، ومن غضب عليك أعرض عنك ولم يرك وجهه. والموطن الثاني: ما ظهر إلى القلوب والبصائر من أوصاف جلاله ومجده، والوجه لغة ما ظهر من الشيء معقولًا كان أو محسوسًا، تقول: هذا وجه المسألة، ووجه الحديث، أي الظاهر إلى رأيك منه. الروض (2/ 178).

(2)

ذكر دعاء الطائف هذا الحافظ الهيثمي في "مجمع الزوائد"(6/ 35) وفيه تدليس ابن اسحاق. فالحديث ضعيف.

(3)

قال السهيلي في الروض (2/ 179): وزاد التميمي فيها أنَّ عدَّاسًا حين سمعه يذكر يونس بن متَّى قال: والله لقد خرجت منها - يعني نينوى - وما فيها عشرة يعرفون ما متَّى، فمن أين عرفت أنت متَّى، وأنت أمي، وفي أمة أمِّيَّة؟.

(4)

في مسنده (4/ 335).

ص: 382

ابن عبد الرحمن الطائفي، عن عبد الرحمن بن خالد بن أبي جَبَل

(1)

العَدَوانيّ، عن أبيه، أنه أبصر رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في مَشْرِق ثقيف، وهو قائم على قوس - أو عصا - حين أتاهم يبتغي عندهم النصر، فسمعته يقول:{وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} [الطارق: 1]. حتى ختمها. قال: فوعَيْتُها في الجاهليَّة وأنا مشرك، ثم قرأتُها في الإسلام.

قال: فدعتني ثقيفٌ فقالوا: ماذا سمعتَ من هذا الرجل؟ فقرأتُها عليهم، فقال مَنْ معهم من قريش: نحن أعلم بصاحبنا، لو كنَّا نعلم ما يقولُ حقًّا لاتبعناه.

وثبت في الصحيحَيْن

(2)

من طريق عبد الله بن وَهْب، أخبرني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب قال: أخبرني عروة بن الزُّبير أنَّ عائشة حدَّثَتْه أنها قالَتْ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يومٌ كان أشدَّ عليكَ من يومِ أُحُد؟ قال: "ما لقيتُ من قومك كانَ أشدَّ منه يومُ العقبه

(3)

، إذْ عرضتُ نفسي على ابنِ عَبْدِ يا ليلَ بن عبد كُلال، فلم يُجِبْني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهمومٌ على وَجْهي، فلم أستفق إلا وأنا بقَرْنِ الثعالب، فرفعتُ رأسي، فإذا أنا بسحابةٍ قد أظلَّتْني، فنظرتُ فإذا فيها جِبْريلُ عليه السلام، فناداني فقال: إنَّ الله قد سمع قولَ قَوْمِكَ لك، وما ردُّوا عليك، وقد بعث إليك مَلَك الجِبال، لتأمُرَهُ بما شئتَ فيهم. ثم ناداني مَلَكُ الجبال فسلَّم عليَّ ثم قال: يا محم

(4)

، إنَّ الله قد سمع قولَ قومِكَ لك، وأنا مَلَك الجبال قد بعثني إليك ربُّك لتأمرني بما شئت، إنْ شئتَ تطبق عليهم الأخْشَبَيْن

(5)

؟ فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "بل أرجو أن يُخرِجَ اللهُ من أصلابهم مَنْ يعبُدَ اللهَ لا يُشرك به شيئًا".

‌فصل

وقد ذكر محمد بن إسحاق

(6)

سماع الجن لقراءة رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وذلك مرجعه من الطائف حين بات بنَخْلَة وصلَّى بأصحابه الصُّبْح، فاستمع الجنُّ الذين صرفوا إليه قراءته هنالك.

(1)

قال ابن حجر في الإصابة في ترجمة خالد بن أبي جبل: بفتح الجيم والموحَّدة، ووقع في رواية البخاري وابن البرقي: جيل. بكسر الجيم بعدها تحتانية ساكنة، ورجَّح ابن ماكولا الأول والخطيب الثاني.

(2)

فتح الباري (3231) بدء الخلق باب إذا قال أحدكم آمين، وصحيح مسلم (1795)(111) الجهاد والسير باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين والمنافقين.

(3)

كذا في ح، ط، ولفظ البخاري هكذا: لقد لقيتُ من قومك ما لقيت، وكان أشدَّ ما لقيت منهم يوم العقبة".

وكذا رواية مسلم إلا أنه ليس فيه قوله: "ما لقيت"، وكذلك هي في إحدى روايات البخاري، كما يظهر من إشارة في النسخة اليونينية.

(4)

زادت ط هنا ما نصه: قد بعثني الله وليست هذه الزيادة فى ح ولا في الصحيحين.

(5)

"الأخشبان": جبلا مكة، أبو قبيس والذي يقابله وكأنه قُعيقعان، وقال الصغاني: بل هو الجبل الأحمر الذي يشرف على قعيقعان، ووهم من قال ثور كالكرماني، وسُمِّيا بذلك لصلابتهما وغلظ حجارتهما. فتح الباري (6/ 316).

(6)

سيرة ابن هشام (1/ 421) والروض (2/ 173).

ص: 383

قال ابنُ إسحاق: وكانوا سبعةَ نَفَر، وأنزل الله تعالى فيهم قوله:{وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} [الأحقاف: 29].

قلت: وقد تكلَّمنا على ذلك مستقصىً في التفسير، وتقدَّم قطعةٌ من ذلك. والله أعلم.

ثم دخل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مكة مَرْجِعَهُ من الطائف في جوار المُطْعِم بن عدي، وازداد قومُه عليه حَنَقًا وغيظًا وجرأة وتكذيبًا، وعنادًا، والله المستعانُ وعليه التُّكْلان.

وقد ذكر الأموي في "مغازيه" أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن أُريقط إلى الأخنس بن شَرِيق يطلبُ منه أن يُجيرَهُ بمكة. فقال: إنَّ حليفَ قريش لا يُجيرُ على صَميمها. ثم بعثه إلى سُهيل بن عمرو ليجيرَهُ فقال: إنَّ بني عامرِ بنِ لُؤي لا تجيرُ على بني كعب بن لؤي. فبعثه إلى المُطِعِم بن عدي ليجيرَه فقال: نعم، قل له فلْيأَتِ.

فذهب إليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فبات عنده تلك الليلة، فلما أصبح خرج معه هو وبنوه ستة - أو سبعة - متقلدي السيوف جميعًا، فدخلوا المسجد وقالوا لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم: طُفْ واحْتَبَوْا بحمائل سيوفهمِ في المطاف، فأقبل أبو سفيان إلى مُطْعِم. فقال: أمجيرٌ أو تابع

(1)

؟ قال: لا بلْ مُجير. قال إذًا لا تُخْفَر. فجلس معه حتى قَضَى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم طوافه؛ فلما انصرف انصرفوا معه. وذهب أبو سفيان إلى مجلسه. قال: فمكث أياما ثم أذن الله له في الهجرة، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة تُوفِّي مطعم بن عدي بعدَهُ بيسير، فقال حسانُ بن ثابت: والله لأرْثِيَنَّه فقال فيما قال

(2)

: [من الطويل]

فلو كانَ مَجْدٌ يُخْلِدُ اليومَ واحدًا

من الناس نجَّى مَجْدُهُ اليومَ مُطْعِما

أجرتَ رسولَ الله منهم فأصبحوا

عِبادَك ما لبَّى مُحِلٌّ وأحرما

فلو سُئلَتْ عنه مَعَدٌّ بأسرها

وقَحْطانُ أو باقي بقيَّةِ جُرْهُما

لقالوا هو المُوفي بخُفْرَةِ جارِهِ

وذِمَّتِهِ يومًا إذًا ما تجشَّما

(3)

وما تطلعُ الشمسُ المنيرةُ فوقهم

على مثلِهِ فيهم أعزَّ وأكْرَما

(4)

إباءً إذا يأبى وألينَ شيمةٍ

وأنومَ عن جارٍ إذا الليلُ أظلما

قلتُ: ولهذا قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم يوم أُسَارَى بَدْر: "لو كانَ المَطْعِمُ بنُ عَدِي حيًّا ثمَّ سألني في هؤلاء النَّتْنى لوهبتُهُمْ له"

(5)

.

(1)

في ديوان حسان: أمجر أم مانع. والخبر في مقدمة القصيدة.

(2)

القصيدة في ديوان حسان (1/ 199) والخبر في مقدمة القصيدة. وتخريجها فيه.

(3)

كذا في ط، وفي ح: تحتما. وفي الديوان: تذمَّما وهو أشبه.

(4)

في ح: المنيرة عندهم

أعزَّ وأعظما.

(5)

انظر الحديث في الجزء التالي.

ص: 384

‌فصل في عَرْض رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسَة الكريمة على أحياء العرب في مواسم الحج أن يؤوه وينصروه، ويمنعوه ممن خالفه وكذَّبه، فلم يجبه أحد منهم لما ذخره الله للأنصار من الكرامة العظيمة رضي الله عنهم

قال ابنُ إسحاق

(1)

: ثم قدم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مكة وقومُه أشدُّ ما كانوا عليه من خِلافه وفراقِ دينه، إلا قليلًا مستضعفين ممن آمن به، فكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يعرضُ نفسه في المواسم - إذا كانت - على قبائل العرب، يدعوهم إلى الله عز وجل، ويُخبرهم أنه نبيٌّ مُرْسَل، ويسألهم أنْ يصدِّقوه ويمنعوه حتى يبيِّنَ عن الله ما بعثَهُ به.

قال ابن إسحاق

(2)

: فحدَّثني من أصحابنا من لا أتَّهم، عن زيد بن أسلم، عن ربيعة بن عباد الدُّؤَلي - ومن حدَّثه أبو الزناد عنه - وحدَّثني حُسين بن عبد الله بن عُبيد الله بن عباس قال: سمعتُ ربيعة بن عبَّاد يحدِّثه أبِي، قال: إني لغلامٌ شابٌّ مع أبي بمنى، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم يقفُ على منازلِ القبائل من العرب فيقول:"يا بني فلان، إني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إليكم، أمرَكم أن تعبدوا اللهَ ولا تُشْرِكوا به شيئًا، وأنْ تَخْلَعُوا ما تعبدون من دونه من هذه الأنْداد، وأن تؤمنوا بي وتصدِّقوا بي، وتمنعوني حتى أُبَيِّنَ عن الله ما بعثني به". قال: وخلفَهُ رجلٌ أحول وَضِيء له غَدِيرتان، عليه حُلَّةٌ عَدَنيَّة، فإذا فرغ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من قوله وما دعا إليه. قال ذلك الرجل: يا بني فلان، إنَّ هذا إنما يدعوكم إلى أنْ تسلخوا اللاتَ والعُزَّى من أعناقكم، وحلفاءكم من الجِنّ من بني مالك بن أُقَيْش، إلى ما جاء به من البِدْعَةِ والضَّلالة، فلا تطيعوه ولا تسمعوا منه. قال: فقلت لأبي: يا أبتِ، من هذا الرجلُ الذي يتبعه ويردُّ عليه ما يقول؟ قال: هذا عمُّه عبد العُزَّى بن عبد المطلب أبو لهب.

وقد روى الإمام أحمد

(3)

هذا الحديث عن إبراهيم بن أبي العباس، حدَّثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، أخبرني رجلٌ يقال له: ربيعة بن عبَّاد، من بني الدِّيل - وكان جاهليًا فأسلم

(4)

- قال: رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية، في سوق ذي المجاز وهو يقول:"يا أيُّها الناس، قولوا لا إله إلا الله تُفْلِحوا" والناسُ مجتمعونَ عليه، ووراءهُ رجلٌ وَضِيءُ الوجه أحول، ذو غَدِيرتين يقول: إنَّه صابئ كاذب - يتبعه حيثُ ذهب - فسألتُ عنه

(5)

فقالوا: هذا عمُّه أبو لهب.

(1)

في سيرة ابن هشام (1/ 422) والروض (2/ 173).

(2)

في سيرة ابن هشام (1/ 422) والروض (2/ 173).

(3)

في مسنده (4/ 341).

(4)

قوله: فأسلم. ليس في مسند أحمد.

(5)

زاد مسند أحمد هنا قوله: فذكروا لي نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ص: 385

ورواه البيهقي

(1)

من طريق محمد بن عبد الله الأنصاري، عن محمد بن عمرو، عن محمد بن المُنْكَدِر، عن ربيعة الدُّئلي: رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بسوقِ ذي المَجَاز يَتَبْعُ الناسَ في منازلهم يدعوهم إلى الله، ووراءَهُ رجلٌ أحْوَل تَقِدُ وَجْنتاه وهو يقول: أيُّها الناس لا يَغُرَّنَّكم هذا عن دينكم ودينِ آبائكم. قلت: مَنْ هذا؟ قالوا: هذا أبو لهب.

وكذا رواه أبو نعيم في "الدلائل"

(2)

من طريق ابن أبي ذئب، وسعيد بن سلمة بن أبي الحسام كلاهما عن محمد بن المنكدر به نحوه.

ثم رواه البيهقي

(3)

من طريق شعبة عن الأشعث بن سُليم، عن رجل من كنانة، قال: رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بسوقِ ذي المَجَاز وهو يقول: "يا أيها الناس، قولوا لا إله إلا الله تُفْلِحُوا". وإذا رجلٌ خلفَهُ يَسْفِي عليه التراب، فإذا هو أبو جهل، وإذا هو يقول: يا أيها الناس، لا يغرَّنَّكم هذا عن دينِكم، فإنما يريدُ اْن تتركوا عبادةَ اللاتِ والعُزَّى.

كذا قال في هذا السياق أبو جهل. وقد يكون وهمًا، ويحتمل أن يكون تارة يكون ذا، وتارة يكون ذا وأنهما كانا يتناوبَانِ على إيذائه صلى الله عليه وسلم.

قال ابن إسحاق

(4)

: وحدَّثني ابنُ شهاب الزُّهري أنه صلى الله عليه وسلم أتى كِنْدَةَ في منازلهم، وفيهم سيِّدٌ لهم يقال له مُلَيح، فدعاهم إلى اللهِ عز وجل وعَرَض عليهم نفسه فأبَوْا عليه.

قال ابن إسحاق (2): وحدَّثني محمد بن عبد الرحمن بن حُصين أنه أتى كلبًا في منازلهم إلى بطنٍ منهم يقال لهم بنو عبد الله، فدعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسَه حتى إنه ليقول:"يا بني عبد الله، إنَّ الله قد أحسن اسم أبيكم". فلم يقبلوا منه ما عرض عليهم.

وحدَّثني بعضُ أصحابنا عن عبد الله بن كعب بن مالك، أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أتى بني حَنِيفة في منازلهم، فدعاهم إلى الله، وعرَضَ عليهم نفسَه، فلم يكنْ أحدٌ من العربِ أقبحَ ردًّا عليه منهم.

وحدَّثني الزُهري أنه أتى بني عامر بن صَعْصعة، فدعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه، فقال له رجلٌ منهم يقال له بَيْحَرة بن فراس: والله لو أني أخذتُ هذا الفتى من قريش لأكلتُ به العربَ. ثم قال له: أرأيتَ إنْ نحنُ تابعناك

(5)

على أمرك، ثم أظهرك الله على من يخالفك، أيكونُ لنا الأمر من بعدك؟ قال:"الأمر لله يضَعُه حيثُ يشاء". قال فقال له: أفَنُهدِفُ نحورَنا للعرب دونَك

(6)

، فماذا أظهرك الله كان الأمر

(1)

في الدلائل (2/ 185).

(2)

ليس فيما طبع منه.

(3)

في الدلائل (2/ 186).

(4)

في سيرة ابن هشام (1/ 424) والروض (2/ 174).

(5)

في إحدى نسخ سيرة ابن هشام: بايعناك.

(6)

أي أنجعلها هدفًا لسهامهم؟ والهدف: الغرض. الروض (2/ 181).

ص: 386

لغيرنا؟! لا حاجة لنا بأمرك. فأبَوْا عليه. فلما صدرَ الناسُ رجعتْ بنو عامر إلى شيخٍ لهم، قد كان أدركه السنّ، حتى لا يقدِرُ أنْ يوافي معهم المواسم، فكانوا إذا رجعوا إليه حدَّثوه بما يكون في ذلك الموسم، فلما قدموا عليه ذلك العام سألهم عمَّا كان في مَوْسِمهم فقالوا: جاءنا فتًى من قريش، ثم أحد بني عبد المطلب يزعمُ أنه نبيّ يدعونا إلى أنْ نمنعه ونقومَ معه، ونخرج به إلى بلادنا. قال: فوضع الشيخ يده على رأسِه ثم قال: يا بني عامر، هل لها من تَلافٍ؟ هل لذُنَابَاها من مَطْلب

(1)

؟ والذي نفسُ فلانٍ بيده ما تقوَّلها إسماعيليٌّ قطّ

(2)

، وإنها لحق، فأين رأْيُكم كان عنكم؟!

وقال موسى بن عقبة عن الزهري: فكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في تلك السنين يعرضُ نفسه على قبائل العرب في كلِّ موسم، ويكلِّم كلَّ شريفِ قوم، لا يسألهم مع ذلك إلا أن يُؤْووه ويمنعوه ويقول:"لا أُكْرِهُ أحدًا منكم على شيء، مَنْ رَضِي منكم بالذي أدعوه إليه فذلك، ومن كره لم أُكْرِهْه، إنما أُريدُ أن تُحرزوني مما يُرادُ بي من القتل حتى أُبَلِّغ رسالة رَبِّي، وحتى يقضيَ الله لي ولمن صحبني بما شاء". فلم يقبله

(3)

أحدٌ منهم، وما يأتي أحدًا من تلك القبائل إلا قال: قومُ الرجلِ أعلم به، أترَوْنَ أنَّ رجلًا يُصلحنا وقد أفسد قومَهُ ولفظوه؟! وكان ذلك مما ذَخَرَهُ اللهُ للأنصار وأكرمَهُمْ به

(4)

.

وقد روى الحافظ أبو نعيم

(5)

من طريق عبد الله بن الأجلح ويحيى بن سعيد الأموي، كلاهما عن محمد بن السائب الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس عن العباس، قال: قال لي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لا أرى لي عندك ولا عند أخيك منَعة، فهل أنت مُخْرِجي إلى السُّوق غدًا حتى تُعَرِّفني

(6)

منازلَ قبائلِ الناس" وكانتْ مجمعَ العرب. قال: فقلت: هذه كِنْدَةُ ولفّها

(7)

، وهي أفضلُ مَنْ يحجُّ البيت من اليمن، وهذه منازلُ بكر بن وائل، وهذه منازلُ بني عامر بن صعصعة، فاختَرْ لنفسك؟ قال فبدأ بكِنْدَةَ فأتاهم فقال:"ممنِ القوم؟ " قالوا: من أهل اليمن. قال: "من أيِّ اليمن؟ " قالوا: من كِنْدَة. قال: "من أيِّ كِنْدَة؟ " قالوا: من بني عمرو بن معاوية. قال: "فهل لكم إلى خير؟ " قالوا: وما هو؟ قال: "تشهدونَ أنْ لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وتقيمون الصلاة، وتؤمنون بما جاء من عند الله".

(1)

هل لها من تلافٍ": أي تدارك. وقوله هل لذناباها من مطلب: مثل ضُرب لما فاته منها، وأصله: من ذنَابَى الطائر: إذا أفلت من الحبالة، فطلب الأخذ بذناباه. الروض (2/ 181).

(2)

أي ما ادعى النبوة كاذبًا أحد من بني إسماعيل. الروض (2/ 181).

(3)

في ح: يصحبه. وإلى جابنها في الهامش: يقبله. وفوقها: (خ) إشارة إلى رواية نسخة.

(4)

أخرجه البيهقي في الدلائل (2/ 414) عن موسى بن عقبة، وأخرجه أبو نعيم في الدلائل (1/ 389) عن الطبراني، حدثنا محمد بن عمرو بن خالد الحراني، حدثنا أبي، حدثنا ابن لهيعة عن الأسود عن عروة بن الزبير فذكره.

(5)

ليس فيما طبع من دلائل النبوة وسيأتي شطر من هذا الخبر مثبت في الدلائل يشار إليه في موضعه.

(6)

في ط: حتى نقرّ في، والمثبت من ح.

(7)

ليست اللفظة في ح.

ص: 387

قال عبد الله بن الأجلح: وحدثني أبي عن أشياخِ قومه أنَّ كندةَ قالت له: إن ظفِرْتَ تجعلْ لنا المُلْكَ من بعدك؟ فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ المُلْكَ لله يجعله حيثُ يشاء" فقالوا: لا حاجة لنا فيما جئتنَا به.

وقال الكلبي فقالوا: أجئتنا لتصدَّنا عن آلهتنا وننابذ العَرَب. الحَقْ بقومك فلا حاجةَ لنا بك. فانصرف من عندِهم، فأتَى بكر بن وائل فقال:"ممنِ القوم؟ " قالوا: من بكر بن وائل. فقال: "من أيِّ بكر بن وائل"؟ قالوا: من بني قيس بن ثعلبة. قال: "كيف العدَدُ؟ قالوا: أكثر من الثرَى

(1)

. قال: "فكيف المنعة "؟ قالوا: لا مَنَعة، جاوَرْنا فارس، فنحن لا نمتنع منهم ولا نجير عليهم. قال:"فتجعلون لله عليكم إنْ هو أبقاكم حتى تنزلوا منازلهم، وتنكحوا نساءهم، وتستعبدوا أبناءهم، أن تسبِّحوا الله ثلاثًا وثلاثين، وتحمدوه ثلاثًا وثلاثين، وتكبروه أربعًا وثلاثين" قالوا: ومن أنت؟ قال: "أنا رسولُ الله". ثم انطلق فلما ولَّى عنهم قال الكلبي: وكان عمُّه أبو لهب يتبعه فيقول للناس: لا تقبلوا قولَه. ثم مرَّ أبو لهب فقالوا: هل تعرفُ هذا الرجل؟ قال: "نعم، هذا في الذِّرْوَة منَّا، فعن أي شأنِهِ تسألون؟ فأخبروه بما دعاهم إليه وقالوا: يزعم أنه رسولُ الله، قال: ألا لا ترفعوا بقوله رأسًا

(2)

فإنَّه مجنون، يَهْذي من أُمِّ رأسه. قالوا: قد رأينا ذلك حين ذكر من أمرِ فارس ما ذكر.

قال الكلبي

(3)

: فأخبرني عبدُ الرحمن العامري

(4)

: عن أشياخٍ من قومه قالوا: أتانا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ونحن بسوقِ عُكاظ، فقال:"ممنِ القوم؟ " قلنا: من بني عامر بن صَعْصَعة. قال: "من أيِّ بني عامرِ بن صعصعة؟ قالوا: بنو كعب بن ربيعة. قال: "كيف المَنَعةُ؟ قلنا: لا يُرامُ ما قِبَلنا، ولا يُصْطلى بنارنا. قال: فقال لهم: "إنِّي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأتيتُكم لتمنعوني حتى أبلِّغ رسالةَ ربِّي، ولا أُكْرِهُ أحدًا منكم على شيءٍ". قالوا: ومن أيِّ قريشٍ أنت؟ قال: "من بني عبد المطلب" قالوا: فأين أنت من عبد مَنافَ؟ قال: "هم أولُ مَنْ كذِّبني وطردني". قالوا: ولكنَّا لا نطردُك ولا نؤمنُ بك، وسنمنعُك حتى تبلِّغ رسالةَ ربِّك. قال: فنزلَ إليهم والقوم يتسوَّقون، إذْ أتاهم بَيْحَرة

(5)

بن فراس القُشيري فقال: مَنْ هذا الرجل أراه عندكم؟ أنكره. قالوا: محمد بن عبد الله القُرَشي. قال: فما لكم وله؟ قالوا: ويزعم لنا أنه رسولُ الله فطلب إلينا أن نمنعَهُ حتى يبلِّغ رسالةَ ربِّه. قال: ماذا ردَدْتُم عليه؟ قالوا بالرَّحْبِ والسَّعَة، نُخرِجُك إلى بلادنا ونمنعُك ما نمنع به أنفسنا. قال بَيْحَرَة (5): ما أعلم أحدًا من

(1)

في ط: كثير مثل الثرى.

(2)

في ط: لا ترفعوا برأسه قولًا، والمثبت من ح.

(3)

قول الكلبي من هنا إلى نهاية الخبر في دلائل النبوة لأبي نعيم (1/ 380) يبدو أن مختصر المطبوع حذف الشطر الأول منه كما أشار محققه.

(4)

في ط: المعايري، والمثبت من ح ودلائل النبوة.

(5)

في الدلائل: بجرة. والمثبت من ح ومما سلف (ص 382) نقلًا عن ابن إسحاق في سيرة ابن هشام، ومما ذكره ابن حجر في الإصابة في ترجمة سميِّه بيحرة بن عامر.

ص: 388

أهل هذه السوق يرجعُ بشيءٍ أشرَّ من شيءٍ ترجعون به بدءًا، ثم

(1)

لتنابذوا الناسَ وترميكم العربُ عن قوسٍ واحدة، قومُه أعلم به لو آنسوا منه خيرًا لكانوا أسعدَ الناس به، أتعمدون إلى رَهيقِ قومٍ

(2)

قد طردَهُ قومُه وكذَّبوه فتؤوونَه وتنصرونه؟ فبئس الرأي رأيتُم. ثم أقبل على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقال: قمْ فالْحَقْ بقومِك، فوالله لولا أنك عند قومي لضربتُ عنقك. قال: فقام رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى ناقته فركبها، فغمزَ الخبيثُ بَيْحَرَةُ شاكِلَتَها فقَمَصَتْ

(3)

برسولِ الله صلى الله عليه وسلم فألْقَتْه. وعند بني عامر يومئذ ضُبَاعة ابنة عامر بن قُرْط، كانتْ من النسوةِ اللاتي أسلَمْنَ مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بمكة، جاءتْ زائرةً إلى بني عمِّها، فقالت: يا آل عامر - ولا عامرَ لي - أيُصنعُ هذا برسول الله بين أظهركمٍ لا يمنعه أحدٌ منكم؟ فقام ثلاثةُ نفر من بني عمها إلى بَيْحَرَة واثنين أعاناه، فأخذ كلُّ رجل منهم رجلًا فجلَدَ به الأرض، ثم جلس على صدره، ثم علَوْا وجوهَهم لطمًا، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"اللهمَّ باركْ على هؤلاء والْعَنْ هؤلاء" قال: فأسلم الثلاثةُ الذين نصروه، وقُتلوا شهداء وهم؛ غطيف وغطفان ابنا سهل

(4)

، وعروة - أو عذرة

(5)

- بن عبد الله بن سلمة رضي الله عنهم.

وقد روَى هذا الحديثَ بتمامه الحافظ سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي في "مغازيه"، عن أبيه به. وهلك الآخرون لعنًا وهم: بَيْحَرة بن فراس، وحَزْن بن عبد الله بن سلمة بن قشير، ومعاوية بن عُبَادة، أحد بني عقيل، لعنهم الله لعنًا كثيرًا. وهذا أثرٌ غريب كتبناه لغرابته والله أعلم

(6)

.

وقد روى أبو نُعيم له شاهدًا من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه في قصة عامر بن صَعْصعة وقبيح ردِّهم عليه. وأغْرَبُ من ذلك وأطول ما رواه أبو نُعيم والحاكم والبيهقي

(7)

- والسياق لأبي نعيم رحمهم الله من حديث أبان بن عبد الله البَجَلي عن أبان بن تغلب، عن عكرمة، عن ابن عباس، حدَّثني عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال: لما أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يعرِض نفسه على قبائل العرب خرج - وأنا معه وأبو بكر - إلى مِنَى حتى دَفَعْنَا إلى مجلسٍ من مجالسِ العرب، فتقدَّم أبو بكرٍ رضي الله عنه فسلَّم، وكان أبو بكر مقدَّمًا في كلِّ خير، وكان رجلًا نسَّابة فقال: ممنِ القوم؟ قالوا: من ربيعة. قال: وأيِّ ربيعةَ

(1)

كذا في ح، ط، وفي الدلائل: ثم بدأتم لتنابُذِ الناس.

(2)

"الرهيق": السفيه. النهاية لابن الأثير. ووقع في ط: زهيق. تصحيف، وسقطت لفظة قوم. والمثبت من ح والدلائل.

(3)

"الشاكلة من الفرس": الجلد الذي في عرض الخاصرة والثَّفِنة وهو مدخل الفخذ في الساق. وقمصت: هو أن ترفع يديها وتطرحهما معًا وتعجن برجليها. اللسان والتاج (شكل، قمص).

(4)

كذا في ط، وفي ح: سهيل، وفي دلائل أبي نعيم: غطريف وغطفان ابنا سهل. ولم أقف لهما على ترجمة.

(5)

في ح: عزرة ولم أقف له على ترجمة.

(6)

هو من رواية الكلبي الكذاب.

(7)

دلائل النبوة لأبي نعيم (1/ 372) ودلائل النبوة للبيهقي (2/ 422) وتاريخ ابن عساكر في ترجمة دغفل انظر مختصر ابن منظور لتاريخ ابن عساكر (8/ 199).

ص: 389

أنتم؟ أمِنْ هامها أم من لَهَازِمِها

(1)

؟ قالوا: بل من هامتها العظمى. قال أبو بكر: فمن أيِّ هامتها العظمى أنتم؟ فقالوا: ذُهْل الأكبر. قال لهم أبو بكر: منكم عَوْف الذي كان يقال لهم: لا حُرَّ بوادي عَوْف

(2)

؟ قالوا: لا. قال: فمنكم بِسْطَام بن قيس بن مسعود أبو اللواء ومنتَهَى الأحياء؟ قالوا لا. قال فمنكم الحَوْفَزان

(3)

بن شريك، قاتل الملوك وسالبها أنفسها؟ قالوا: لا. قال: فمنكم جسَّاس بن مُرَّة بن ذُهْل، حامي الذِّمَار ومانع الجار؟ قالوا: لا. قال: فمنكم المُزْدَلِف صاحبُ العِمَامة الفَرْدَة

(4)

؟ قالوا: لا. قال: فأنتم أخوالُ الملوك من كِنْدَة؟ قالوا: لا. قال: فأنتم أصهار الملوك من لَخْم؟ قالوا: لا. فقال لهم أبو بكرٍ رضي الله عنه: فلستم بذُهْل الأكبر، بل أنتم ذُهْل الأصغر. قال: فوثب إليه منهم غلامٌ يُدْعَى دَغْفَل بن حنظلة الذُّهْلي - حين بَقَلَ وَجْهُه

(5)

- فأخذ بزِمام ناقةِ أبي بكرٍ وهو يقول: [من الرجز]

إنّ علَى سائِلِنا أن نسألَهْ

والعبءُ لا نعرفُهُ أوْ نحمِلَهْ

يا هذا، إنك سألتنا فأخبرناك ولم نكتُمْك شيئًا، ونحن نريد أن نسألك فمن أنت؟ قال: رجلٌ من قريش. فقَلا الغلام: بخ بخ! أهل السُّؤْدُدِ والرياسة، قادمةُ العرب وهداتُها

(6)

، فمن أنت من قريش؟ فقال له: رجلٌ من بني تَيْم بن مُرَّة. فقال له الغلام: أمكنتَ واللهِ الرامي من سواءَ الثُّغْرَة

(7)

؟ أفمنكم قُصَيُّ بن كلاب الذي قتل بمكة المتغلِّبين عليها، وأجْلَى بقيَّتَهم، وجمعَ قومَهُ من كل أَوْبٍ حتى أوطنهم مكة، ثم استولى على الدار ونزل قريشًا منازلَها، فسمَّتْهُ العربُ بذلك مُجَمِّعًا، وفيه يقول الشاعر:[من الطويل]

أليسَ أبوكم كان يُدعى مُجَمِّعًا

به جَمَع اللهُ القبائلَ من فِهْرِ

فقال أبو بكر: لا. قال: فمنكم عبدُ مناف الذي انتهتْ إليه الوصايا وأبو الغطاريف السادة؟ فقال

(1)

أي من أشرافها أو من أوساطها؛ واللهازم: أصول الحنكين، واحدتها لِهْزمة، فاستعارها لوسط النسب والقبيلة. اللسان (لهزم).

(2)

أي لا سيِّد يناوئه، وهو من أمثالهم، يعني أنه يقهر من حلَّ بواديه؛ يضرب للعزيز الذي يذلُّ له الأعزّاء. وعوف هو ابنُ مُحَلَّم بن ذهل بن شيبان. مجمع الأمثال (2/ 236) والمستقصى (2/ 262 و 1/ 437) واللسان (عوف).

(3)

سمي بذلك لأن قيس بن عاصم التميمي حفزه بالرمح حين خاف أن يفوته، فعرج من تلك الحفزة. وكل ما قلعته فقد حفزته. اللسان (حفز) والاشتقاق لابن دريد (ص 358).

(4)

سمِّي المزدلف لاقترابه إلى الأقران وإقدامه عليهم. اللسان (زلف) وقال ابن دريد في الاشتقاق (ص 358): لأنه قال لقومه وهو في حرب: ازدلفوا قيد رمحي. أي اقتربوا.

(5)

"بَقَل وجهه": أي أول ما نبتت لحيته. اللسان (بقل). وترجمة دغفل هذا في مختصر تاريخ ابن عساكر لابن منظور (8/ 198) والخبر فيه.

(6)

في ح والدلائل: وأزمة العرب، والمثبت من ط. والقادم والقادمة: الرأس. القاموس (قدم). وصحفت "هداتها" في ط والمثبت من الدلائل.

(7)

سواء الثُّغْرَة": أي وسط الثغرة، وهي نقرة النحر فوق الصدر. اللسان (ثغر).

ص: 390

أبو بكر: لا. قال: فمنكم عمرو بن عبد مناف، هاشم الذي هَشَم الثريدَ لقومه، وأهل مكة مسنتون، ففيه يقول الشاعر

(1)

: [من الكامل]

عَمْرو العُلا هشَمَ الثريدَ لقومِهِ

ورجالُ مكّةَ مُسْنِتونَ عجِافُ

سَنُّوا إليه الرحلتَيْن كِلَيْهما

عندَ الشتاءِ ورحلةَ الأصْيافِ

كانت قريشٌ بيضةً فتفلَّقَتْ

فالمُحُّ خالِصُهُ لعبدِ مَنَافِ

(2)

الرائِشينَ وليس يُعْرَفُ رائشٌ

والقائلينَ هلُمَّ للأَضياف

(3)

والضاربين الكَبْشَ يَبْرُقُ بَيْضُهُ

والمانعينَ البَيْضَ بالأسياف

(4)

للهِ درُّكَ لو نزلتَ بدارِهم

منَعُوكَ من أَزْلٍ ومن إِقْراف

(5)

فقال أبو بكر: لا. قال: فمنكم عبد المطلب شَيبَةُ الحَمْد، وصاحب عِيرِ

(6)

مكة، ومطعم طيرِ السماء، والوحوش والسباع في الفلا، الذي كأنَّ وجهه قمَرٌ يتلألأ في الليلةِ الظلماء؟ قال: لا. قال: أفمِنْ أهلِ الإفاضة أنت؟ قال: لا. قال: أفمن أهل الحِجَابَة أنت؟ قال: لا. قال أفمن أهلِ النَّدْوَة أنت؟ قال: لا. قال: أفمن أهل السِّقَاية أنت؟ قال: لا. قال: أفمن أهل الرِّفَادَةِ أنت؟ قال: لا. قال: أفمن المفيضين [بالناسِ]

(7)

أنت؟ قال: لا. ثم جذَبَ أبو بكر رضي الله عنه زِمام ناقتِهِ من يده، فقال له الغلام:[من الرجز]

صادَفَ دَرْءُ السَّيلِ دَرْءًا يدْفَعُهْ

يَهيضُهُ حينًا وحينًا يَصْدَعُهْ

(8)

ثم قال: أما والله يا أخا قريش لو ثبت لخبَّرْتُك أنك من زَمَعَاتِ قريش ولست من

(1)

قيل: هو عبد الله بن الزِّبَعْرَى، وقيل غيره. سيرة ابن هشام (1/ 136) والروض (1/ 161).

(2)

في ح، ط: فالمخ بالخاء المعجمة، والمثبت من دلائل أبي نعيم والروض الأنف (1/ 161) وكلاهما بمعنى، وهو الخالص من كل شيء، وبالمهملة: صُفْرة البيض. القاموس (محح، مخخ).

(3)

"الرائش": من قولهم: رِشْتُ فلانًا: قوَّيتُ جناحه بالإحسان إليه فارتاش وتريَّش، قال النابغة:[من البسيط]

كم قد أحَلَّ بدار الفقر بعد غِنًى

قومًا وكم راشَ قومًا بعد إقتارِ

يَريش قومًا ويبري آخرين بهم

لله من رائشٍ عمرٌو ومن بارِ

أساس البلاغة (ريش).

(4)

الكبش هنا": قائد الكتيبة في الحرب؛ وبَيْضُه: ما عليه من حديد وسلاح. والبَيْض الثانية: ساحة القوم، وحوزة كل شيء. القاموس والأساس (كبش، بيض).

(5)

"الأزْل": ضيق العيش. يقال: أزِلوا حتى هزلوا: أي حُبسوا وضُيِّق عليهم. والإقراف: أن يأتيهم وهم مرضى فيصيبه ذلك. أساس البلاغة (أزل - قرف).

(6)

في الدلائل: بئر مكة.

(7)

من الدلائل: وفي ح: أفمن الصفين أنت.

(8)

يقال للسيل إذا أتاك من حيث لا تحتسبه: سيلٌ دَرْء، أي يدفع هذا ذاك، وذاك هذا. وقوله يهيضه حينًا وحينًا يصدعه: أي يكسره مرة ويشقُّه أخرى. اللسان (درأ، هيض) والبيتان فيهما. ووقع في ط في القافية: يرفعه. تصحيف.

ص: 391

الذوائب

(1)

. قال: فأقبل إلينا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يتبسَّم. قال عليّ: فقلت له: يا أبا بكر لقد وقَعْتَ من الأعرابيِّ على باقِعَة

(2)

. فقال: أجل يا أبا الحسن، إنه ليس من طامَّةٍ إلا وفوقها طامَّة، والبلاءُ مُوَكَّلٌ بالقول

(3)

.

قال: ثمَّ انتهينا إلى مجلسٍ عليه السَّكينةُ والوقار، وإذا مشايخ لهم أقدار وهيئات، فتقدَّم أبو بكر فسلَّم - قال علي: وكان أبو بكر مقدَّمًا في كلِّ خَيْر - فقال لهم أبو بكر: ممِن القَوْم؟ قالوا: من بني شيبان بن ثعلبة. فالتفت إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقال: بأبي أنت وأمي، ليس بعد هؤلاء من عِزٍّ في قومهم - وفي رواية: ليس وراء هؤلاء عذر

(4)

من قومهم، وهؤلاء [غرر في قومهم، وهؤلاء]

(5)

غرر الناس - وكان في القوم مَفروق بن عمرو، وهانئ بن قَبيصة، والمُثَنَّى بن حارثة، والنعمان بن شريك. وكان أقرب القوم إلى أبي بكر مفروقُ بن عمرو، وكان مفروق بن عمرو قد غلب عليهم بيانًا ولسانًا

(6)

، وكانت له غَدِيرتان تسقطان على صدره؛ فكان أدنى القوم مجلسًا من أبي بكر، فقال له أبو بكر: كيف العددُ فيكم؟ فقال له: إنا لنزيدُ على ألف، ولن يُغلب ألفٌ من قِلَّة. فقال له: فكيف المَنَعَةُ فيكم؟ فقال: علينا الجهد، ولكل قوم جدّ. فقال أبو بكر: فكيف الحرب بينكم وبين عدوِّكم؟ فقال مفروق: إنا أشد ما نكونُ غضبًا حين نُلْقَى

(7)

، وأشد ما نكونُ لقاءً حين نغضب، وإنَّا لنؤثرُ الجيادَ جملى الأولاد، والسلاحَ على اللِّقاح، والنصرُ من عند الله، يديلُنا مرَّة، ويُديل علينا

(8)

. لعلك أخو قريش؟ فقال أبو بكر: إنْ كان بلغكم أنَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم فها هو ذا. فقال مفروق: قد بَلَغنا أنه يذكر ذلك، ثم التفت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إلى ما تدعو يا أخا قريش؟ فتقدَّم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فجلس، وقام أبو بكرٍ يُظِلُّه بثوبه، فقال صلى الله عليه وسلم:"أدعوكم إلى شهادةِ أنْ لا إله إلا الله وحدَهُ لا شَريكَ له وأنِّي رسولُ الله، وأن تؤووني وتمنعوني وتنصروني، حتى أؤديَ عن الله الذي أمرني به، فإنَّ قريشًا قد تظاهرتْ على أمْرِ الله، وكذبتْ رسولَه، واستغنَتْ بالباطل عن الحق، والله هو الغنيُّ الحميد". قال له: وإلى ما تدعو أيضًا يا أخا قريش؟ فتلا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} إلى قوله {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الأنعام: 131 - 153] فقال له مفروق: وإلى ما تدعو أيضًا يا أخا

(1)

أي ليست من أشرافهم: والزَّمَعَة في الأصل: التَّلْعَة الصغيرة، أو هي ما دون مسايل الماء من جانبي الوادي. النهاية لابن الأثير (زمع).

(2)

"الباقعة": الرجل الداهية، والذكي العارف الذي لا يفوته شيء. اللسان (بقع).

(3)

وفي رواية: والبلاء موكَّلٌ بالمنطق. فذهب مثلًا، وأبو بكر أول من قاله، مجمع الأمثال (1/ 17).

(4)

كذا في ط وفي ح: غرر. وليس ما بين المعترضتين في الدلائل.

(5)

ما بين المعقوفين ليس في ح.

(6)

في مختصر تاريخ ابن عساكر: جمالًا ولسانًا.

(7)

في ح: نلتقي. والمثبت من الدلائل، وسقطت اللفظة وما قبلها وما بعدها من ط.

(8)

"يديلنا": ينصرنا.

ص: 392

قريش؟ فوالله ما هذا من كلام أهلِ الأرض، ولو كان من كلامهم لعرفناه، فتلا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90] فقال له مفروق: دعوتَ والله يا قرشيّ

(1)

إلى مكارمِ الأخلاق ومحاسنِ الأعمال، ولقد أفِكَ قومٌ كذَّبوكَ وظاهروا عليك - وكأنَّه أحبَّ أن يشركه في الكلام هانئُ بن قَبيصة فقال -: وهذا هانئُ بن قَبيصة شيخُنا وصاحبُ ديننا.

فقال له هانئ: قد سمعتُ مقالتَك يا أخا قريش، وصدَّقْتُ قولك، وإني أرى أنَّ ترْكَنَا ديننا واتَّباعَنا إيَّاك على دينِك لمجلسٍ جلستَهُ إلينا ليس له أولٌ ولا آخر، لم نتفكَّرْ في أمرك، وننظر في عاقبة ما تدعو إليه زلَّةٌ في الرأي، وطَيْشةٌ في العقل، وقلَّة نظرٍ في العاقبة، وإنما تكونُ الزَّلَّةُ مع العَجَلة، وإن من ورائنا قومًا نكرَهُ أن نعقِد عليهم عَقْدًا؛ ولكنْ ترجع ونرجع، وتنظر وننظر - وكأنَّه أحبَّ أن يشركه في الكلام المثنَّى بنُ حارثة فقال -: وهذا المثنَّى شيخُنا وصاحبُ حَرْبنا.

فقال المثنى: قد سمعتُ مقالتَك واستحسنتُ قولَك يا أخا قريش، وأعجبني ما تكلَّمتَ به. والجوابُ هو جوابُ هانئ بن قَبيصة، وترْكنا دينَنا واتِّباعنا إياك على ديننا لمجلسٍ جلستَهُ إلينا، وإنا إنما نزلنا بين صَرَيَيْن

(2)

أحدُهما اليمامة، والآخر السماوة

(3)

. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وما هذان الصَّرَيَان"؟ فقال له: أما أحدُهما فطُفُوف

(4)

البَرَّ وأرضُ العرب، وأما الآخر فأرضُ فارس وأنهارُ كسرى وإنما نزلنا على عهدٍ أخذه علينا كسرى أن لا نحدثَ حدَثًا، ولا نُؤْوي مُحدِثًا. ولعلَّ هذا الأمر الذي تدعونا إليه مما تكرهه الملوك؛ فأما ما كان مما يلي بلاد العرب فذنبُ صاحبه مغفور، وعُذرُه مقبول، وأما ما كان يلي بلادَ فارس، فذنبُ صاحبِه غيرُ مغفور، وعذرُهُ غيرُ مقبول؛ فإن أردت أن ننصرَك ونمنعك مما يلي العرب فعلْنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما أسأتُمُ الرَّدّ، إذْ أفصحتُمْ بالصدق، إنه لا يقوم بدين الله إلا مَنْ حاطَهُ من جميع جوانبه". ثم قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ("أرأيتُمْ إنْ لم تَلْبَثُوا إلا يسيرًا حتى يمنحَكم اللهُ بلادَهم وأموالهم ويفرشَكُم بناتِهم، أتسبِّحون الله وتقدَّسونه؟ " فقال له النعمان بن شريك: اللهمَّ وإن ذلك لك يا أخا قريش! فتلا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب: 45 - 46] ثم نهض رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قابضًا على يد أبي بكر. قال علي: ثم التفتَ إلينا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا علي أيَّةُ أخلاقٍ للعربِ كانت في الجاهليَّة؟ ما أشرفها! بها يتحاجَزَون فيما بينهم في الحياة الدنيا".

(1)

في ط: يا أخا قريش، والمثبت من ح والدلائل.

(2)

"الصَّرَيان": تثنية صَرًى وهو الماء المجتمع الذي يحضره الناس. ورواية ح: صِيرَيْن تثنية صِير، وهو بمعناه وبهما وردت الرواية في النهاية لابن الأثير (صير، صري) ووقع في رواية ابن منظور في مختصر ابن عساكر: ضرَّتين.

(3)

في النهاية لابن الأثير: اليمامة والسمامة. وفي مختصر ابن منظور: الشأْمة.

(4)

"الطُّفوف": جمع طَفّ، وهو ساحل البحر وجانب البَرّ. النهاية لابن الأثير (طفف).

ص: 393

قال: ثم دفعنا إلى مجلسِ الأوْسِ والخَزْرَج، فما نهضنا حتى بايعوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم.

قال عليّ: وكانوا صدُقًا صُبُرًا، فسُرَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بذلك، مما رأى من معرفة أبي بكرٍ رضي الله عنه بأنسابهم.

قال: فلم يلبَثْ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلا يسيرًا حتى خرج إلى أصحابه فقال: "ادعوا لإخوانكم من ربيعة، فقد أحاطت بهم اليوم أبناء فارس" ثم دخل منزله، فلم يلبَثْ إلا يسيرًا حتى خرج إلى أصحابه فقال لهم: "احْمَدُوا الله كثيرًا

(1)

فقد ظفِرتِ اليومَ أبناءُ ربيعةَ بأهل فارس، قتلوا ملوكهم واستباحوا عسكرهم وبي نُصروا". قال: وكانت الوقعة بقُرَاقر إلى جَنْب ذي قار، وفيها يقول الأعشى

(2)

: [من الطويل]

فِدًى لبني ذُهْلِ بنِ شَيْبانَ ناقتي

وراكبُها عند اللِّقاء وقَلّتِ

هُمُو ضربوا بالحِنْوِ حِنْوِ قُرَاقِرٍ

مُقَدِّمةَ الهامُرْزِ حتَّى تولَّتِ

فللهِ عينا مَنْ رأى من فوارسٍ

كذُهلِ بنِ شيبان بها حينَ ولَّتِ

(3)

فَثَاروا وثُرْنا والمودَّة بينَنا

وكانت علينا غَمْرةً فَتَجَلَّت

(4)

هذا حديثٌ غريبٌ جدًّا، كتبناه لما فيه من دلائلِ النبوَّة ومحاسنِ الأخلاق، ومكارم الشِّيَم، وفصاحةِ العرب وقد ورد هذا من طريقٍ أخرى، وفيه أنهم لما تحاربوا وفارس والتقَوْا معهم بقُرَاقِر - مكانٍ قريبٍ من الفُرات - جعلوا شعارَهم اسم محمد صلى الله عليه وسلم فنُصروا على فارس بذلك، وقد دخلوا بعد ذلك في الإسلام.

وقال الواقدي

(5)

: أخبرنا عبد الله بن وابصة العبسي عن أبيه عن جده قال: جاءنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في منازلنا بمنى ونحن نازلون بإزاء الجمرة الأولى التي تَلِي مسجد الخَيْف، وهو على راحلته مُرْدِفًا خلفه زيدَ بن حارثة، فدعانا، فوالله ما استجَبْنا له ولا خُيِّر لنا. قال: وقد كنَّا سمعنا به وبدعائه في المواسم، فوقف علينا يدعونا، فلم نستجبْ له، وكان معنا ميسرةُ بنُ مسروق العَبْسي، فقال لنا: أحلفُ بالله لو قد صدَّقنا هذا الرجل وحَملْنَاهُ حتى نحلَّ به وسطَ بلادِنا لكان الرأي. فأحلف بالله ليظهرنَّ أمْرُهُ حتى يبلغ كلَّ مبلغ. فقال القوم: دعنا منك لا تعرِّضنا لما لا قِبَلَ لنا به. وطمع رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في ميسرة، فكلَّمه فقال

(1)

في ح: احمدوا الله تعالى فقد ظهرت.

(2)

الأبيات في ديوان الأعشى ميمون بن قيس (259) بتحقيق د. محمد حسين هيكل.

(3)

رواية هذا البيت وبيتين من بعده في الديوان هكذا:

فلله عينًا من رأى من عصابة

أشدَّ على أيدي السُّعاةِ من التي

أتتهم من البطحاء يبرق بَيْضُها

وقد رفعت راياتها فاستقلَّتِ

فثاروا وثرنا والمنية بيننا

وهاجت علينا غمرةٌ فتجلَّتِ

(4)

رواية ح للشطر الثاني هكذا: وكانت علينا جمرة فتولت.

(5)

أخرجه أبو نعيم في دلائل النبوة (1/ 387) بسنده عن الواقدي. أقول: الواقدي: متروك مع سعة علمه. كما قال الحافظ ابن حجر في التقريب.

ص: 394

ميسرة: ما أحسنَ كلامَكَ وأنورَه! ولكن قومي يخالفونني وإنما الرجلُ بقومه، فإذا لم يعضُدوه فالعِدَى أبْعَدُ

(1)

. فانصرف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وخرج القوم مبادرين

(2)

إلى أهليهم.

فقال لهم ميسرة: ميلوا بنا إلى

(3)

فَدَك، فإنَّ بها يهود، نسائلهم عن هذا الرجل. فمالوا إلى يهود، فأخرجوا سِفْرًا لهم فوضعوه، ثم درسوا ذكْرَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم النبيِّ الأميِّ العربي، يركبُ الحمار ويَجْتَزِئ بالكِسْرَة، وليس بالطويل ولا بالقصير، ولا بالجَعْد القَطَط ولا بالسَّبَط، في عينيه حُمْرَة، مشرق

(4)

اللَّون. فإنْ كان هو الذي دعاكم فأجيبوه وادْخُلوا في دينه، فإنا نحسُده ولا نتَّبِعُه، ولنا منه في مواطن

(5)

بلاءٌ عظيم، ولا يَبْقَى أحدٌ من العرب إلا اتَّبعه وإلا قاتله

(6)

، فكونوا ممن يتَّبِعُه. فقال ميسرة: يا قوم، إنَّ

(7)

هذا الأمر بيِّن، فقال القوم نرجعُ إلى الموسم ونلقاه.

فرجعوا إلى بلادهم وأبَى ذلك عليهم رجالُهم، فلم يتَّبعْهُ أحدٌ منهم، فلما قدِم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المدينة مهاجرًا وحجَّ حجَّة الوداع لَقِيَهُ ميسرةُ فعرفه. فقال: يا رسولَ الله، والله ما زلتُ حريصًا على اتِّباعك من يوم أنختَ بنا حتى كان ما كان، وأبَى الله إلا ما ترى من تأخُّر إسلامي، وقد مات عامَّةُ النفر الذين كانوا معي فأين مدخَلُهم يا رسول الله؟ فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"كُل مَنْ مات على غير دين الإسلام فهو في النار" فقال: الحمد لله الذي أنقذني. فأسلم وحسُن إسلامه، وكان له عند أبي بكرٍ مكان.

وقد استقصى الإمام محمد بن عمر الواقدي قصصَ القبائل واحدةً واحدة، فذكر عَرْضَهُ عليه السلام نفسَه على بني عامر وغسان، وبني فَزَارة، وبني مُرَّة، وبني حنيفة، وبني سُليم، وبني عبس، وبني نضر بن هوازن، وبني ثعلبة بن عُكَابة، وكِنْدة وكَلْب وبني الحارث بن كعب، وبني عُذْرَة وقيس بن الخَطيم وغيرهم. وساق أخبارَها مطوَّلةً، وقد ذكرنا من ذلك طَرَفًا صالحًا ولله الحمدُ والمنة.

وقال الإمام أحمد

(8)

: حدَّثنا أسودُ بن عامر، أنا إسرائيل، عن عثمان - يعني ابن المغيرة - عن سالم بن أبي الجَعْد، عن جابر بن عبد الله، قال: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يعرضُ نفسَه على الناس بالموقف فيقول: "هل مِنْ رجل يحمِلُني إلى قومه؟ فإنَّ قريشًا قد منعوني أنْ أبلِّغ كلامَ ربي عز وجل" فأتاه رجلٌ من هَمْدان فقال: "ممن أنت؟ " قال الرجل: من هَمْدان. قال: "فهل عند قومِك من مَنعة؟ " قال:

(1)

"العِدَى": بالكسر، الغرباء والأجانب والأعداء، وأما بالضم فهم الأعداء خاصة. النهاية لابن الأثير (عدي).

(2)

في ط والدلائل: صادرين، والمثبت من ح.

(3)

في ط: ميلوا نأتي. والمثبت من ح والدلائل.

(4)

في الدلائل: مشرب.

(5)

في ط: وإنا [منه] في مواطن. وفي ح: وليأتيه بلاء. والمثبت من الدلائل.

(6)

في الدلائل: إلا اتبعه أو قاتله وهو أشبه بالصواب.

(7)

في ط: ألا [إن] هذا الأمر، وفي ح: إلى هذا الأمر، والمثبت من الدلائل.

(8)

في المسند (3/ 390) رقم (15130).

ص: 395

نعم. ثم إنَّ الرجل خَشِيَ أن يُخْفِرَهُ

(1)

قومُه، فأتَى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: آتيهم فأُخبرُهم ثم آتيكَ من عام قابِل. قال: "نعم" فانطلق وجاء وَفْدُ الأنصار في رجب.

وقد رواهُ أهل السُّنَنِ الأربعة من طرق عن إسرائيل به، وقال الترمذي: حسنٌ صحيح

(2)

.

‌فصل قدوم وفد الأنصار عامًا بعد عام حتى بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعةً بعد بيعة ثم بعد ذلك تحوَّل إليهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فنزل بين أظهرهم كما سيأتي بيانه وتفصيله إن شاء الله وبه الثقة

‌حديث سويد بن صامت الأنصاري

وهو سويد بن الصامت بن عطيَّة بن حَوْط بن حُبَيِّب بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس، وأمُّه ليلى بنت عمرو النجَّاريَّة، أخت سلمى بنت عمرو أم عبد المطلب بن هاشم، فسويد هذا ابنُ خالة عبدِ المطلب جدِّ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم.

قال محمد بن إسحاق بن يسار

(3)

: وكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على ذلك من أمره، كلَّما اجتمع له الناسُ بالمَوْسم أتاهم يدعو القبائلَ إلى الله وإلى الإسلام ويعرضُ عليهم نفسه وما جاء به من الهدى والرحمة، ولا يسمع بقادمٍ يقدم مكةَ من العرب، له اسمٌ وشرف إلا تصدَّى له فدعاه إلى الله تعالى، وعرَض عليه ما عنده.

قال ابنُ إسحاق

(4)

: حدَّثني عاصم بن عمر بن قتادة عن أشياخ من قومه، قالوا: قدم سُويد بن الصامت أخو بني عمرو بن عَوْف مكة حاجًّا - أو معتمرًا - وكان سُويد إنما يُسمِّيه قومُه فيهم الكامل، لجَلَدِه وشعرِه وشرَفه ونسبه، وهو الذي يقول:[من الطويل]

ألا رُبَّ مَنْ تدعو صديقًا ولو تَرَى

مقالتَهُ بالغَيْب ساءَكَ ما يَفْري

(5)

(1)

في المسند: يحقره، وأخفرتُه: نقضتُ عهدَه؛ ويحقره: يستهين به التاج (خفر، حقر).

(2)

في سنن أبي داود (4734) السنة باب في القرآن، وسنن الترمذي (2925) فضائل القرآن باب (24) حدثنا محمد بن إسماعيل، وسنن ابن ماجه (201) المقدمة باب فيما أنكرت الجهمية، وسنن النسائي الكبرى، في النعوت (7727). وأخرجه الدارمي (3357)، والبخاري في خلق أفعال العباد (13) و (28) والحاكم في المستدرك (2/ 612/ 613) كتاب التاريخ.

(3)

في سيرة ابن هشام (1/ 425) والروض (2/ 174).

(4)

في سيرة ابن هشام (1/ 425) والروض (2/ 175).

(5)

في ح: من يفري.

ص: 396

مقالتُه كالشَّهْدِ

(1)

ما كان شاهدًا

وبالغيبِ مأثورٌ على ثُغْرةِ النَّحْر

(2)

يسرُّك باديهِ وتحتَ أديمهِ

نَميمةُ غِشٍّ تَبْتَري عَقَبَ الظَّهر

(3)

تُبين لك العينانِ ما هو كاتمٌ

من الغِلِّ والبغضاءِ بالنظر الشَّزْر

فَرِشْني بخيرٍ طالما قد بَرَيْتَني

وخيرُ الموالي من يَريشُ ولا يَبري

(4)

قال

(5)

: فتصدَّى له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حين سمع به، فدعاه إلى الله والإسلام، فقال له سويد: فلعلَّ الذي معك مثلُ الذي معي. فقال له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "وما الذي معك؟ " قال: مجلَّة لُقْمان

(6)

- يعني حكمة لقمان - فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "اعرِضْها عليَّ" فعرضها عليه فقال: "إنَّ هذا الكلام حسن، والذي معي أفضلُ من هذا؛ قرآنٌ أنزله الله علىّ، هو هُدًى ونُور" فتلا عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم القرآن، ودعاه إلى الإسلام. فلم يَبْعُدْ منه وقال: إنَّ هذا القول حسن. ثم انصرف عنه، فقدِم المدينة على قومه، فلم يلبَثْ أن قَتَلَتْهُ الخزرج؛ فإن كان رجالٌ من قومه ليقولون: إنَّا لنراه قُتل وهو مسلم. وكان قتلُه قبل بُعَاث.

وقد رواه البيهقي

(7)

عن الحاكم، عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن بُكير، عن ابن إسحاق بأخصرَ من هذا.

‌إسلام إياس بن معاذ

قال ابن إسحاق

(8)

: وحدَّثني الحُصَين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن مُعَاذ عن محمود بن لَبيد، قال: لما قدم أبو الحَيْسَر أنسُ بن رافع مكة ومعه فتيةٌ من بني عبد الأشْهَل، فيهم إياس بن معاذ يلتمسون الحِلْفَ من قريش على قومهم من الخزرج، سمع بهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فأتاهم فجلس إليهم فقال:"هل لكم في خيرٍ مما جئتم له؟ " فقالوا: وما ذاك؟ قال: "أنا رسولُ الله إلى العباد، أدعوهم إلى أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئًا، وأنزل عليَّ الكتاب". ثم ذكر لهم الإسلام وتلا عليهم القرآن. قال: فقال إياسُ بن معاذ - وكان غلامًا حدَثًا -: يا قوم، هذا والله خيرٌ مما جئتم له. فأخذ أبو الحَيْسَر أنسُ بن

(1)

في ح: كالشحم.

(2)

"المأثور": يعني به السيف، ومأثور: من الأثر، وهو فِرَنْد السيف. الروض (2/ 185).

(3)

في ط: تميمة عش. والمثبت من ح وسيرة ابن هشام والروض.

(4)

في ح: وشر الموالي، والمثبت من ط وسيرة ابن هشام والروض.

(5)

يعني ابن إسحاق في سيرة ابن هشام (1/ 427) والروض (2/ 175).

(6)

قال السهيلي في الروض (2/ 183): ولقمان كان نوبيًا من أهل أيلة، وهو لقمان بن عنقاء بن سرور فيما ذكروا، وابنه الذي ذكر في القرآن هو ثاران فيما ذكر الزجاج وغيره، وقد قيل في اسمه غير ذلك، وليس بلقمان بن عاد الحميري. اهـ.

(7)

في دلائل النبوة (2/ 419).

(8)

في سيرة ابن هشام (1/ 427) والروض (2/ 175) وأخرجه البيهقي في الدلائل (2/ 420).

ص: 397

رافع حفنةً من تراب البَطْحاء فضرب بها وجه إياس بن معاذ وقال: دعنا منك، فلعمري لقد جئنا لغيرِ هذا. قال: فصمَتَ إياس، وقام رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عنهم، وانصرفوا إلى المدينة، وكانت وقعةُ بُعَاث بين الأوس والخزرج.

قال: ثم لم يلبَثْ إياسُ بن معاذ أنْ هلك. قال محمود بن لَبيد: فأخبرني مَنْ حضرَهُ

(1)

من قومه أنهم لم يزالوا يسمعونه يهلِّلُ الله ويكبِّرُه ويحمَدُه، ويسِّبحُه حتى مات. فما كانوا يشكُّون أنه قد مات مسلمًا، لقد كان استشعر الإسلام في ذلك المجلس حين سمع من رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ما سمع.

قلتُ: كان يومُ بُعَاث - وبُعَاث موضعٌ بالمدينة - كانت فيه وقعةٌ عظيمة قُتل فيها خلقٌ كثير من أشرافِ الأوس والخزرج وكبرائهم، ولم يبقَ من شيوخهم إلا القليل.

وقد روى البخاري في صحيحه

(2)

عن عُبيد بن إسماعيل، عن أبي أسامه

(3)

، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة، قالت: كان يوم بُعَاث يومًا قدَّمَهُ الله لرسوله، فقدِم

(4)

رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وقد افترق مَلَؤهم، وقُتلَتْ سَرَواتُهم

(5)

.

وقال

(6)

أبو زرعة الرازي في كتابه "دلائل النبوة" باب إسلام رافع بن مالك ومعاذ بن عفراء: حدَّثنا إبراهيم بن يحيى بن محمد

(7)

بن هانئ الشَّجري

(8)

، حدثنا أبي، عن ابن إسحاق

(9)

، حدَّثني عبيد

(10)

بن يحيى عن معاذ بن رفاعة بن رافع، عن أبيه، عن جدِّه، أنه خرج هو وابن خالته معاذ بن عفراء حتى قدِما مكة، فلما هبطا من الثنيَّة رأيا رجلًا تحت شجرة - قال: وهذا قبل خروج الستة من

(1)

في ط: حضرني، وفي ح: حضر، والمثبت من سيرة ابن هشام والروض.

(2)

فتح الباري (3777) مناقب الأنصار باب مناقب الأنصار.

(3)

في ط: عن أبي أمامة. تصحيف، والمثبت من ح وصحيح البخاري في الفتح.

(4)

في ح، ط: قدم والمثبت من صحيح البخاري.

(5)

"الملأ": عِلْيَةُ القوم وأشرافهم. وفي ط: قتل سراتهم. وفي ح: قتلت سراتهم، والمثبت من صحيح البخاري. قال ابن حجر في الفتح (7/ 111): سرواتهم: أي خيارهم، والسروات جمع سراة بفتح المهملة وتخفيف الراء، والسراة جمع سَرِيّ وهو الشريف.

(6)

من هنا يبدأ سقط من نسخة ط وزيادة في ح تنتهي بنهاية هذا الفصل وهذا الخبر أخرجه الحاكم في المستدرك (4/ 149).

(7)

في ح: "إبراهيم بن محمد بن يحيى" مقلوب، والصواب ما أثبتناه من المستدرك (4/ 149) وتهذيب الكمال (2/ 230)، والجرح والتعديل (2/ 147) وغيرها. (بشار).

(8)

في ح: "السِّجْزي"، مصحف، والصواب ما أثبتنا، نسب كذلك لأنه كان ينزل الشجرة بذي الحليفة، كما في أنساب السمعاني (8/ 63)، وتهذيب الكمال (2/ 231)، وهي على ستة أميال من المدينة وتعرف اليوم بآبار علي. (بشار).

(9)

قوله: "عن ابن إسحاق" ليس في المستدرك، وما هنا أصح، فرواية يحيى بن محمد بن عباد الشجري عن ابن إسحاق عند الترمذي، ونص عليها المزي في التهذيب (31/ 521)، ولا تصح روايته عن عبيد بن يحيى. (بشار).

(10)

في المستدرك: "عبد" محرف، وما أثبتناه من تهذيب الكمال (28/ 121). (بشار).

ص: 398

الأنصار - قال: فلما رأيناه كلمنا

(1)

قلنا: نأتي هذا الرجل نستودعه راحلتينا حتى نطوف بالبيت، فجئنا فسلَّمنا عليه تسليم أهل الجاهلية، فردَّ علينا تسليم أهل الإسلام، وقد سمعتُ بالنبي [صلى الله عليه وسلم]

(2)

قال: فأنكرنا، فقلنا: من أنت؟ قال: "انزلوا". فنزلنا فقلنا: أين هذا الرجل الذي يدَّعي ما يدَّعي ويقول ما يقول؟ قال: "أنا هو". قلنا: فاعْرِضْ علينا الإسلام. فعرض وقال: "من خلق السماوات والأرض والجبال؟ " قلنا: خلقهنَّ الله. قال: "من خلقكم"؟ قلنا: الله. قال: "فمن عمل هذه الأصنام التي تعبدون؟ " قلنا: نحن. قال: "الخالق أحقُّ بالعبادة أو المخلوق؟! قلنا: الخالق. قال: "فأنتم أحق أن تعبدوا ربكم، وأنتم عملتموهن، والله أحق أن تعبدوه من شيء عملتموه، وأنا أدعو إلى عبادة الله وشهادة أن لا إله إلا الله وأنِّي رسول الله، وصلةِ الرَّحِم، وترك الولدان

(3)

العدوان وإن غضب الناس" فقالا: لو كان هذا الذي تدعوه إليه باطلًا لكان من معالي الأمور ومحاسن الأخلاق، فأمسك راحلتينا حتى نأتي البيت، فجلس عنده معاذ بن عفراء. قال رافع: وجئت البيت فطفت وأخرجت سبعة قداح، وجعلت له بينها قدحًا فاستقبلت وقلت: اللهمَّ إن كان ما يدعو إليه محمد حقًا فأخرج قدَحَه سبع مرات، فضربتُ بها سبع مرات، فصحت أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسولُ الله، فاجتمع الناسُ علي وقالوا: مجنون رجلٌ صبا. فقلت: رجلٌ صبأ! بل رجل مؤمن. ثم جئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأعلى مكة، فلما رآني معاذ بن عفراء قال: لقد جئتَ بوجهٍ ما ذهبت به [قال]

(4)

رافع: فجئت وآمنت، وعلَّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة يوسف [و](4) اقرأ باسم ربك الذي خلق، ثم خرجنا راجعين إلى المدينة فلما كنا بالعَقيق قال معاذ: إني لم أطْرُقْ ليلًا قط، فبتْ بنا حتى نصبح. فقلت: أبيتُ ومعي ما معي من الخير!؟ ما كنتُ لأفعل. وكان رافع إذا خرج سفرًا ثم قدم عرض قومه.

إسنادٌ حسن

(5)

وسياقٌ حسَن

(6)

.

(1)

في ح: "وترك الولدان العدوان"، وفي المستدرك: فلما رأيناه كلمناه قلنا. كما أثبتناه.

(2)

زيادة يقتضيها السياق.

(3)

كذا في ح، ولكن كلمة الولدان مقحمة من الناسخ وليست في المستدرك.

(4)

زيادة يقتضيها السياق.

(5)

قال بشار: هكذا قال، ومن أين يأتيه الحسن ويحيى بن محمد بن عباد بن هانئ الشجري ضعيف، كما قال أبو حاتم وغيره. وقال الذهبي متعقبًا تصحيح الحاكم لهذا الحديث في المستدرك:"يحيى الشجري صاحب مناكير"، وقال الحافظ ابن حجر في التقريب: ضعيف.

(6)

إلى هنا ينتهي السقط المشار إليه في الحاشية (6) من الصفحة السابقة.

ص: 399

‌باب بُدُوِّ إسلام الأنصار رضي الله عنهم

قال ابن إسحاق: فلما أراد اللهُ إظهار دينه وإعزازَ نبيِّه، وإنجاز موعده له، خرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في الموسم الذي لقيَهُ فيه النَّفَر من الأنصار فعرض نفسَه على قبائل العرب كما كان يصنعُ في كلِّ مَوْسم، فبينا هو عند العقبة لَقِيَ رَهْطًا من الخزرج أراد الله لهم خيرًا.

فحدَّثني عاصمُ بن عمر بن قتادة. عن أشياخ من قومه قالوا: لما لقيهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: "من أنتم؟ " قالوا: نفر من الخزرج. قال: "أمن موالي يَهُود؟! قالوا: نعم. قال: "أفلا تجلسونَ أكلِّمكم؟ " قالوا: بلى. فجلسوا معه فدعاهم إلى الله وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهمُ القرآن. قال: وكان مما صنع الله بهم في الإسلام أنَّ يهودَ كانوا معهم في بلادهم، وكانوا أهلَ كتابٍ وعِلْم، وكانوا هم أهلَ شِرْكٍ وأصحاب أوثان، وكانوا قد غزَوْهم ببلادهم، فكانوا إذا كان بينهم شيءٌ قالوا: إنَّ نبيًّا مبعوث الآن قد أظلَّ زمانُه نتَّبعه، نقتلكم معه قَتْلَ عادٍ وإرَم. فلمَّا كلَّم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أولئك النَّفَر ودعاهم إلى الله، قال بعضُهم لبعض: يا قوم، تعلمون والله إنه النبيُّ الذي توعَّدكم به يهود، فلا يسبِقُنَّكم إليه، فأجابوه فيما دعاهم إليه، بأن صدَّقوه وقبلوا منه ما عرَض عليهم من الإسلام وقالوا له: إنا قد ترَكْنا قومَنا، ولا قومَ بينهم من العداوة والشرِّ ما بينهم، وعسى أن يجمعَهُم اللهُ بك، فسنقدَم عليهم فندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإنْ يجمَعْهم الله عليك فلا رجلَ أعزُّ منك. ثم انصرفوا راجعين إلى بلادهم قد آمنوا وصدَّقوا.

قال ابن إسحاق

(1)

: وهم - فيما ذُكر لي - ستة نفر، كلُّهم من الخزرج، وهم أبو أمامة أسعدُ بن زُرَارة بن عُدَس بن عبيد بن ثعلبة بن غَنْم بن مالك بن النجَّار

(2)

، وعوف بن الحارث بن رفاعة بن سَوَاد بن مالك بن غنم بن مالك بن النجَّار - وهو ابن عَفْراء - النجَّاريان، ورافع بن مالك بن العَجْلان بن عمرو بن عامر بن زُرَيق الزُّرَقي، وقُطْبَة بن عامر بن حَدِيدة بن عمرو بن غَنْم بن سواد

(3)

بن غَنْم بن كعب بن سَلِمة بن سعد بن علي بن أسَد بن سارِدَة بن تَزِيد بن جُشَم بن الخَزْرَج السَّلَمي ثم من بني سواد،

(1)

في سيرة ابن هشام (1/ 429) والروض (2/ 176).

(2)

زادت نسخة ط هنا ما نصه: قال أبو نعيم: وقد قيل: إنه أول من أسلم من الأنصار من الخزرج. ومن الأوس أبو الهيثم بن التيهان. وقيل إن أول من أسلم رافع بن مالك ومعاذ بن عفراء والله أعلم، وهذه الزيادة ليست في ح ويبدو لي أنها حاشية كانت في إحدى النسخ فأدخلها النساخ في المتن، إذ ليس من عادة المؤلف أن يقحم رواية ما في رواية أخرى وخاصة إذا كانت من سيرة ابن هشام.

(3)

قال ابن هشام بعد أن ساق قول ابن إسحاق في السيرة (1/ 430): عمرو بن سواد، وليس لسواد ابن يقال له غَنْم. اهـ قلت: وكتب الأنساب تؤيد ما ذهب إليه ابن هشام، انظر جمهرة أنساب العرب لابن حزم (ص 358، 359) وترجمة قطبة بن عامر في الإصابة.

ص: 400

وعقبة بن عامر بن نابي بن زَيْد بن حَرَام بن كَعب بن سَلِمة السَّلَمي أيضًا، ثم من بني حَرَام. وجابر بن عبد الله بن رئاب بن النعمان بن سِنان بن عُبيد بن عَدِيّ بن غَنْم بن كعب بن سَلِمة السَّلَمي أيضًا، ثم من بني عُبيد رضي الله عنهم.

وهكذا روي عن الشعبي والزُّهري وغيرهما

(1)

، أنهم كانوا ليلتئذٍ ستةَ نفرٍ من الخزرج.

وذكر موسى بن عقبة

(2)

فيما رواهُ عن الزُّهْري وعروة بن الزُّبير، أنَّ أول اجتماعه عليه السلام بهم كانوا ثمانية وهم؛ معاذ بن عفراء، وأسعد بن زُرارة، ورافع بن مالك، وذكوان - وهو ابن عبد قيس - وعُبادة بن الصامت، وأبو عبد الرحمن يزيد بن ثعلبة، وأبو الهيثم بن التَّيِّهان، وعُويم بن ساعدة. فأسلموا وواعدُوه إلى قابل. فرجعوا إلى قومهم فدعوهم إلى الإسلام، وأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذَ بن عَفْرَاء، ورافع بن مالك، أن ابعَثْ إلينا رجلًا يفقِّهُنا. فبعث إليهم مصعب بن عمير، فنزل على أسعد بن زُرَارة وذكر تمامَ القصة كما سيوردُها ابنُ إسحاق أتمَّ من سياقِ موسى بن عقبة، والله أعلم.

قال ابن إسحاق

(3)

: فلما قدِموا المدينةَ إلى قومهم ذكروا لهم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ودعَوْهم إلى الإسلام حتى فشا فيهم، فلم يبقَ دارٌ من دُور الأنصار إلا وفيها ذكْرُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان العامُ المقبل وافَى المَوْسم من الأنصار اثنا عشر رجلًا وهم: أبو أمامة أسعدُ بن زُرارة المتقدِّم ذكره، وعوف بن الحارث المتقدِّم، وأخوه معاذ وهما ابنا عَفْراء، ورافع بن مالك المتقدِّم أيضًا. وذَكْوَان بن عبد قيس بن خَلْدَة بن مُخَلَّد بن عامر بن زُرَيق الزُّرَقي.

قال ابنُ هشام

(4)

: وهو أنصاريٌّ مهاجريّ.

وعبادة بن الصامت بن قيس بن أصْرَم بن فِهْر بن ثعلبة بن غَنْم بن عَوْف بن عمرو بن عوف بن الخزرج، وحليفهم أبو عبد الرحمن يزيد بن ثعلبة بن خَزْمَة بن أصْرم البَلَوِيّ، والعباس بن عُبَادة بن نَضْلَة بن مالك بن العَجْلان بن يزيد بن غَنْم بن سالم بن عوف بن عمرو بن عوف بن الخزرج العَجْلاني، وعقبة بن عامر بن نابي المتقدِّم، وقُطْبَة بن عامر بن حَديدة المتقدم؛ فهؤلاء عشرةٌ من الخزرج، ومن الأوس اثنان وهما: عُويم بن ساعدة. وأبو الهيثم مالك بن التيِّهان.

قال ابنُ هشام

(5)

: التَّيِّهان يخفَّفُ ويُثَقَّل كمَيْتٍ ومَيِّت.

(1)

في ح: وعندهما.

(2)

دلائل البيهقي (2/ 430، 431).

(3)

سيرة ابن هشام (1/ 430) والروض (2/ 177).

(4)

في السيرة (1/ 431).

(5)

في السيرة (1/ 433).

ص: 401

قال السُّهيلي

(1)

: أبو الهيثم بن التَّيِّهان، اسْمُه مالك بن مالك بن عَتِيك بن عمرو بن عبد الأعلم بن عامر بن زَعُوراء بن جُشَم

(2)

بن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس. قال: وقيل إنه أرَاشيّ وقيل بَلَوي. وهذا لم ينسُبْهُ ابنُ إسحاق ولا ابنُ هشام.

قال: والهيثم فَرْخُ العقاب، وضرْبٌ من النبات

(3)

.

والمقصود أن هؤلاء الاثني عشر رجلًا شهدوا المَوْسِم عامئذ، وعزموا على الاجتماع برسولِ الله صلى الله عليه وسلم فلَقُوه بالعقبة فبايعوه عندها بيعةَ النساء وهي العقبةُ الأولى.

وروى أبو نُعيم

(4)

أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ عليهم من قوله في سورة إبراهيم: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا} [البقرة: 126] إلى آخرها.

وقال ابن إسحاق

(5)

: حدَّثني يزيد بن أبي حَبيب، عن مَرْثد بن عبد الله اليَزَني، عن عبد الرحمن بن عُسَيلة الصُّنَابحي، عن عُبادَة بنِ الصامت قال: كنتُ فيمن حضر العقبة الأولى وكنا اثني عشر رجلًا، فبايعنا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم على بَيْعة النساء، وذلك قبل أن يُفترض الحرب، على أن لا نُشرك بالله شيئًا، ولا نَسْرق ولا نَزْني، ولا نقتل أولادَنا، ولا نأتي ببُهْتانٍ نَفْتريه بين أيدينا وأرجُلنا ولا نعصيه في معروف. فإنْ وفَّيتُمْ فلكم الجنَّة، وإنْ غَشِيتم من ذلك شيئًا فأمْرُكم إلى الله، إنْ شاء عذَّب وإنْ شاء غَفَر.

وقد روى البخاري ومسلم

(6)

هذا الحديث من طريق اللَّيث بن سعد عن يزيد بن أبي حَبيب به نحوه.

قال ابنُ إسحاق

(7)

: وذكر ابنُ شهاب الزُّهْري عن عائذ الله بن عبد الله أبي إدريس الخَوْلاني أنَّ عُبادَةَ بن الصامت حدَّثه قال: بايعنا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبةِ الأولى أن لا نشرك بالله شيئًا ولا نسِرِق ولا نزني ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببُهْتانٍ نفتريهِ بين أيدينا وأرجُلنا، ولا نعصيهِ في معروف، فإنْ وفَيْتم فلكم الجنَّة، وإنْ غشيتم من ذلك شيئًا فأخذتم بحدِّه في الدُّنيا، فهو كفَّارةٌ له، وإن سُترتم عليه إلى يوم القيامة فأمْرُكم إلى الله، إنْ شاء عذَّب، وإن شاء غَفَر.

(1)

في الروض (2/ 194، 195).

(2)

في ح: عمر بن رعور بن جبير، وفوق جبير خيثم، وفي ط والروض: عامر بن زعون بن جشم. وكلاهما فيه تصحيف، والمثبت من الاشتقاق لابن دريد (ص 443) وجمهرة الأنساب لابن حزم (ص 340).

(3)

في الروض: ضرب من العشب فيما ذكر أبو حنيفة.

(4)

في الدلائل (1/ 400).

(5)

في سيرة ابن هشام (1/ 433) والروض (2/ 185).

(6)

فتح الباري (3893) مناقب الأنصار باب وفود الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وصحيح مسلم (1709)(44) الحدود باب الحدود كفارات لأهلها.

(7)

في سيرة ابن هشام (1/ 434) والروض (2/ 185).

ص: 402

وهذا الحديث مخرَّجٌ في الصحيحَيْن

(1)

وغيرهما من طُرق عن الزُّهري به نحوه، وقوله: على بيعة النساء - يعني على وفق ما نزلت عليه بيعة النساء بعد ذلك عام الحُدَيبية - وكان هذا مما نزل على وفق ما بايع عليه أصحابه ليلة العقبة. وليس هذا بعجيب، فإنَّ القرآن نزل بموافقة عمر بن الخطاب في غير ما مَوْطنٍ كما بيَّناه في سيرته وفي التفسير، وإنْ كانت هذه البيعة وقعَتْ عن وَحْيٍ غيرِ مَتْلُوّ، فهو أظهر والله أعلم.

قال ابن إسحاق

(2)

: فلما انصرف عنه القوم بعث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم معهم مُصْعَب بن عُمير بن هاشم بن عبد مَنَاف بن عبد الدَّار بن قُصَي. وأمرَهُ أنْ يُقرئهم القرآن، ويعلِّمهم الإسلام ويفقِّههم في الدين.

وقد روى البيهقي

(3)

عن ابن إسحاق قال: فحدّثني عاصم بن عمر بن قتادة أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم إنما بعث مصعبًا حين كتبوا إليه أن يبعثه إليهم.

وهو الذي ذكره موسى بن عقبة كما تقدّم، إلا أنه جعل المرةَ الثانية هي الأولى.

قال البيهقي

(4)

: وسياق ابن إسحاق أتمّ.

وقال ابن إسحاق

(5)

: فكان عبد الله بن أبي بكر يقول: لا أدري ما العقبةُ الأولى. ثم يقول ابنُ إسحاق: بلى لعمري فد كانت عَقَبة وعَقَبة. قالوا كلُّهم: فنزل مصعبٌ على أسعد بن زُرارة فكان يسمَّى بالمدينة المقرئ.

قال ابن إسحاق

(6)

: فحدَّثني عاصم بن عمر بن قتادة أنه كان يصلي بهم، وذلك أن الأوْس والخَزْرَج كرِه بعضُهم أن يؤمَّه بعضٌ رضي الله عنهم أجمعين.

قال ابن إسحاق

(7)

: وحدَّثني محمد بن أبي أُمامة بن سَهْل بن حُنيف، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك قال: كنت قائدَ أبي حين ذهبَ بصرُهُ، فكنتُ إذا خرجتُ به إلى الجمعة فسمع الأذان بها صلَّى على أبي أمامة أسعد بن زُرَارة قال: فمكث حينًا على ذلك لا يسمع الأذانَ للجمعة إلا صلَّى عليه واستغفرَ له. قال: فقلتُ في نفسي والله إنَّ هذا لي لَعَجْزٌ، ألا أسأله؟ فقلت: يا أبت مالك إذا سمعتَ الأذانَ للجمعة صلَّيتَ على أبي أمامة؟ فقال: أيْ بُنَيّ، كان أولَ مَنْ جمَّع بنا بالمدينة في هَزْم

(1)

فتح الباري (3892) مناقب الأنصار باب وفود الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وصحيح مسلم (1709)(41) الحدود باب الحدود كفارات لأهلها.

(2)

في سيرة ابن هشام (1/ 434) والروض (2/ 185).

(3)

في الدلائل (2/ 437).

(4)

في الدلائل (2/ 433).

(5)

قول ابن إسحاق هذا في الدلائل للبيهقي (2/ 438).

(6)

في سيرة ابن هشام (1/ 434) والروض (2/ 185).

(7)

في سيرة ابن هشام (1/ 435) والروض (2/ 185).

ص: 403

النَّبِيت

(1)

من حَرَّة بني بَيَاضة في نقيعٍ يقال له نَقيع الخَضِمات

(2)

. قال: قلت: وكم أنتم يومئذ؟ قال: أربعون رجلًا.

وقد روى هذا الحديث أبو داود وابنُ ماجَه

(3)

من طريق محمد بن إسحاق رحمه الله. وقد روى الدارقطني

(4)

عن ابن عباس أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى مصعب بن عمير يأمره بإقامة الجُمعة. وفي إسناده غرابة، والله أعلم.

وقال ابن إسحاق

(5)

: وحدَّثني عبيد الله بن المغيرة بن مُعَيْقِيب

(6)

، وعبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حَزْم أنَّ أسعد بن زُرارة خرج بمصعب بن عُمير يُريد به دارَ بني عبد الأشهل، ودارَ بني ظَفَر، وكان سعدُ بن معاذ ابنَ خالة أسعد بن زرارة. فدخل به حائطًا من حوائط بني ظَفَر على بئر يقالُ له بئر مَرَق، فجلسا في الحائط واجتمع إليهما رجالٌ ممن أسلم، وسعدُ بن معاذ وأُسيد بن الحُضَير يومئذٍ سيِّدا قومِهما من بني عبد الأشهل، وكلاهما مُشْرِكٌ على دين قومه، فلما سمعا به قال سعد لأُسيد: لا أبالك، انطلقْ إلى هذين الرجلَيْن اللذين قد أتيا دارَينا ليسفِّها ضعفاءنا، فازْجُرْهُما، وانههما أن يأتيا دارَينا، فإنه لولا أسعد بن زرارة مني حيث قد علمت كفيتُك ذلك، هو ابنُ خالتي ولا أجد عليك مقدَّمًا.

قال: فأخذ أُسيد بن حُضَير حَرْبَتَه ثم أقبل إليهما، فلما رآه أسعدُ بن زُرارة قال لمصعب: هذا سيِّدُ قومه وقد جاءك، فاصْدُقِ الله فيه، قال مصعب: إنْ يجلسْ أكلِّمْهُ. قال: فوقف عليهما متشتِّمًا فقال: ما جاء بكما إلينا تسفِّهانِ ضعفاءنا؟ اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة - وقال موسى بن عقبة: فقال له غلام: أتيتنا في دارنا بهذا الوحيد الغريب الطريد ليُسَفِّه ضعفاءنا بالباطل ويدعوهم إليه - قال ابنُ

(1)

في ح: هزم الحرم. والمثبت من ط والسيرة والروض وقال السهيلي فيه (2/ 196): هزم النبيت جبل على بريد من المدينة.

(2)

قال السهيلي في الروض (2/ 196): بقيع: بالباء وجدته في نسخة الشيخ أبي بحر وكذلك وجدته في رواية يونس عن ابن إسحاق وذكره البكري في كتاب معجم ما استعجم من أسماء البقع أنه نقيع بالنون ذكره في باب النون والقاف

وقال النووي في تهذيب الأسماء واللغات (4/ 177): وأما نقيع الخضمات بقرب المدينة فبالنون، كذا قيده الحازمي وغيره، ونقل الحازمي أن الخطابي قال: من قاله بالباء فقد أخطا، وهو قرية بقرب المدينة على ميل من منازل بني سلمة. وقال ياقوت في معجم البلدان (2/ 377): فكأنه جمع خَضِمة، وهي الماشية التي تخضم فكأنه سمي بذلك للخِصْب فيه.

(3)

سنن أبي داود (1069) الصلاة باب الجمعة في القرى، وسنن ابن ماجه (1082) إقامة الصلاة باب في فرض الجمعة. وأخرجه أيضًا عن ابن إسحاق الدارقطني في السنن (2/ 5) الجمعة باب ذكر العدد في الجمعة. أقول: وهو حديث حسن.

(4)

لم أجده في كتاب السنن للدارقطني.

(5)

في سيرة ابن هشام (1/ 435) والروض (2/ 186).

(6)

وقع في سيرة ابن هشام والروض: معيقب. والمثبت من ط وتهذيب الكمال للمزي وتهذب التهذب والتقرب لابن حجر والجرح والتعديل.

ص: 404

إسحاق: فقال له مصعب: أو تجلسُ فتسمع، فإنْ رضيتَ أمْرًا قَبِلْتَه، وإنْ كرهتَهُ كُفَّ عنك ما تكره؟ قال: أنصفت. قال: ثم ركز حَرْبَته وجلس إليهما، فكلَّمه مُصعب بالإسلام، وقرأ عليه القرآن، فقالا فيما يُذكر عنهما: والله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلَّم في إشرافه وتسهُّله. ثم قال: ما أحسن هذا وأجمله! كيف تصنعون إذا أردتُم أن تدخلوا في هذا الدين؟ قالا له: تغتسل فتطهَّر، وتطهِّر ثوبَيْك ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلي، فقام فاغتسل، وطهَّر ثوبيه وتشهَّد شهادة الحقّ، ثم قام فركع ركعتَيْن، ثم قال لهما: إنَّ ورائي رجلًا إن اتبعَكما لم يتخلَّفْ عنه أحدٌ من قومه، وسأُرسله إليكما الآن، سعدَ بن معاذ.

ثم أخذ حربته وانصرف إلى سعدٍ وقومه وهم جلوسٌ في ناديهم، فلما نظر إليه سعد بن مُعاذ مُقْبِلًا، قال: أحلف بالله لقد جاءكم أُسَيد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم. فلما وقف على النادي قال له سعد: ما فعلت؟ قال: كلَّمتُ الرجلَيْن، فوالله ما رأيتُ بهما بأسًا. وقد نهيتُهما فقالا: نفعل ما أحببت، وقد حُدِّثت أن بني حارثة خرجوا إلى أسعد بن زُرارة ليقتلوه، وذلك أنهم عرفوا أنه ابنُ خالتك ليُخْفِرُوك

(1)

، قال: فقام سعدُ بن معاذ مُغْضَبًا مبادرًا تخوُّفًا للذي ذكر له من بني حارثة، فأخذ الحربة في يده ثم قال: والله ما أراك أغْنَيْتَ شيئًا، ثم خرج إليهما فلما رآهما سعد مطمئنَّينِ عرف أن أُسيدًا إنما أراد أن يسمعَ منهما، فوقف عليهما متشتِّمًا ثم قال لأسعد بن زرارة: يا أبا أمامة، والله لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رُمْتَ هذا مني، أتغشانا في دارَينا بما نكره؟ - قال: وقد قال أسعد لمصعب: جاءك واللّه سيدُ من وراءَهُ قومُه، إنْ يتَبعْك لا يتخلَّفْ عنك منهم اثنان - قال: فقال له مصعب: أو تقعد فتسمع، فإنْ رضِيتَ أمرًا ورغبتَ فيه قَبِلْتَه، وإنْ كرهتَه عَزْلنا عنكَ ما تكره؟ قال سعد: أنصفت. ثم ركز الحربة وجلس، فرض عليه الإسلام وقرأ عليه القرآن -[وذكر موسى بنُ عقبة أنه قرأ عليه أول الزخرف]

(2)

- قال: فعرفنا والله في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم في إشراقه وتسهُّله. ثم قال لهما: كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم ودخلتم في هذا الدين؟ قالا: تغتسل فتطهَّرُ وتطهِّرُ ثوبَيْك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلي ركعتين. قال: فقام فاغتسل، وطهَّر ثوبيه وشهد شهادة الحق، ثم ركع ركعتين، ثم أخذ حربته فأقبل عائدًا إلى نادي قومه ومعه أُسيد بن الحُضير.

فلما رآه قومُه مقبلًا قالوا: نحلف بالله لقد رجع إليكم سعدٌ بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم، فلما وقف عليهم قال: يا بني عبد الأشهل، كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيِّدُنا وأفْضَلُنا رأيًا وأيمننا نَقِيبةً. قال: فإنَّ كلام رجالكم ونسائكم عليَّ حرامٌ حتى تؤمنوا بالله ورسوله.

قال: فوالله ما أمسى في دار بني عبد الأشهل رجلٌ ولا امرأة إلا مسلمًا ومسلمة، ورجع أسعد

(3)

(1)

في ح، ط: ليحقروك، والمثبت من سيرة ابن هشام، والإخفار نقض العهد والغدر. اللسان (خفر).

(2)

ليس ما بين المعقوفين في سيرة ابن هشام.

(3)

في ط: سعد. تصحيف، والمثبت من ح ومصادر الخبر.

ص: 405

ومصعب إلى منزل أسعد بن زُرارة فأقام

(1)

عنده يدعو

(2)

الناس إلى الإسلام حتى لم تبق دارٌ من دور الأنصار إلا وفيها رجالٌ ونساء مسلمون، إلا ما كان من دار بني أمية بن زيد، وخَطْمة، ووائل، وواقف، وتلك أوْسُ الله، وهم من الأوس بن حارثة، وذلك أنهم كان فيهم أبو قيس بن الأسْلَت واسمه صَيْفي -[وقال الزبير بن بكَّار: اسمه الحارث، وقيل عبيد الله واسم أبيه الأسلت عامر بن جُشَم بن وائل بن زيد بن قيس بن عامر بن مرة بن مالك بن الأوس. وكذا نسبه ابن الكلبي أيضًا]- وكان شاعرًا لهم قائدًا يستمعون منه ويطيعونه، فوقف بهم عن الإسلام حتى كان بعد الخندق.

قلت: وأبو قيس بن الأسْلَت هذا ذكر له ابنُ إسحاق أشعارًا ربَّانيةُ

(3)

حسنة، تقرب من أشعار أمية بن أبي الصَّلْت الثقفي.

قال ابن إسحاق فيما تقدم

(4)

: ولما انتشر أمر رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في العرب، وبلغ البلدان ذُكر بالمدينة، ولم يكن حيٌّ من العرب أعلمَ بأمر رسولِ الله صلى الله عليه وسلم حين ذُكر، وقبل أن يُذكر من هذا الحيِّ من الأوس والخزرج، وذلك لما كان يسمعون من أحبار يهود. فلما وقع أمره

(5)

بالمدينة وتحدَّثوا بما بين قريش فيه من الاختلاف قال أبو قيس بن الأسْلت أخو بني واقف

(6)

- وكان يحبُّ قريشًا، وكان لهم صِهْرًا. كانت تحته أرْنَبُ بنت أسد بن عبد العُزَّى بن قُصَيّ، وكان يُقيم عندهم السنين بامرأته - قال قصيدة يُعَظِّم فيها الحُرْمة، وينهَى قريشًا فيها عن الحرب، ويذكر فضلهم وأحلامهم، ويذكِّرهم بلاءَ الله عندهم ودَفْعَهُ عنهم الفيل وكَيْدَه، ويأمرهم بالكفِّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:[من الطويل]

أيا راكبًا إمَّا عرَضْتَ فبلِّغَنْ

مُغَلْغَلةً عنّي لُؤَيَّ بنَ غالبِ

(7)

رسولَ امرئٍ قد راعَه ذاتُ بينكم

على النَّأْي محزونٍ بذلك ناصِبِ

(1)

في ط: فأقاما. تصحيف، والمثبت من ح ومصادر الخبر.

(2)

في ط: يدعوان. تصحيف، والمثبت من ح ومصادر الخبر.

(3)

في ط: بائية، والمثبت من ح.

(4)

في سيرة ابن هشام (1/ 282) والروض (2/ 17).

(5)

في السيرة والروض: ذكره.

(6)

زادت نسخة ط هنا ما نصه: قال السهيلي: هو أبو قيس صرمة بن أبي أنس، واسم أبي أنس قيس بن صرمة بن مالك بن عدي بن عمرو بن غنم بن عدي بن النجار، قال: وهو الذي أنزل فيه وفي عمر {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} الآية. قال ابن إسحاق: قلت: إن إثبات هذه الزيادة خَلطٌ شنيع وغفلةٌ فاضحة، لأن أبا قيس بن الأسلت تقدم اسمه ونسبه قبل أسطر، أما أبو قيس صرمة بن أبي أنس فشاعر آخر ذكره ابن هشام في السيرة (1/ 510) وساق السهيلي نسبه المذكور في هذه الزيادة في الروض (2/ 287). ومن فضل الله تعالى أن هذه الزيادة ليست في ح ولعلها من تعليق أحد القراء أو النساخ والله أعلم.

(7)

"المغلغلة من الرسائل": المحمولة من بلد إلى بلد. القاموس (غلل) وفي الروض (2/ 29): الداخلة إلى أقصى ما يراد بلوغه منها.

ص: 406

وقد كان عندي للهموم مُعَرَّسٌ

ولم أقضِ منها حاجتي ومآربي

(1)

نُبِيتُكم شَرْجَيْنِ، كلَّ قبيلة

لها أزْمَلٌ من بينِ مُذْكٍ وحاطِب

(2)

أعيذُكُم بالله من شرِّ صُنْعِكم

وشرِّ تَباغيكم ودسِّ العقارب

وإظهارِ أخلاقٍ ونجوى سقيمةٍ

كوَخْزِ الأشَافي وقْعُها حقُّ صائب

(3)

فذكِّرْهُمُ بالله أوَّلَ وَهْلَةٍ

وإحلالِ إحرام الظِّباء الشوازِب

(4)

وقلْ لهمُ واللهُ يُحكم حُكْمَهُ

ذَرُوا الحربَ تذهبْ عنكمُ في المَرَاحِب

(5)

متى تبعثوها تبعثوها ذَميمةً

هي الغُولُ للأقْصَيْنَ أو للأقاربِ

(6)

تُقَطِّعُ أرحامًا وتُهلكُ أمَّةً

وتَبْرِي السَّدِيفَ من سنَامٍ وغاربِ

(7)

وتستبدلوا بالأتْحَمِيَّةِ بعدَها

شَليلًا وأصْداءً ثيابَ المحارب

(8)

وبالمسكِ والكافورِ غُبْرًا سَوابغًا

كأنَّ قَتيرَيْها عيونُ الجنادِبِ

(9)

فإياكُم والحربَ لا تَعْلَقَنَّكم

وحَوْضًا وخيمَ الماء مُرَّ المشارب

تزيَّنُ للأقوام ثم يَرَوْنها

بعاقبةٍ إذْ بيَّنتْ أمَّ صاحب

(10)

(1)

"المُعَرَّس": المكان الذي ينزله المسافرون آخر الليل للاستراحة. القاموس (عرس).

(2)

قال السهيلي في الروض (2/ 30): نبيتكم شرجين: أي فريقين مختلفين، ونبئتكم لفظ مشكل وفي حاشية الشيخ: نبيتكم شرجين، وهو بيِّنٌ في المعنى، وفيه زحاف خرم، ولكن لا يعاب المعنى بذلك، وأما لفظ التبيت في هذا البيت فبعيد من معناه. والأزمل: الصوت، والمذكي: الذي يوقد النار، والحاطب: الذي يحطب لها. ضرب هذا مثلًا لنار الحرب كما قال الآخر: [من الوافر]

أرى خلل الرماد وميضَ جمرٍ

ويوشك أن يكون لها ضرامُ

فإن النار بالعودين تُذْكى

وإن الحرب أولها الكلامُ

(3)

"الإشفَى": المِثْقب يخرز به. جمعه أشافي القاموس (شفى).

(4)

أي: إن بلدكم بلد حرام تأمن فيه الظباء الشوازب التي تأتيه من بُعْد لتأمن فيه فهي شازبة، أي ضامرة من بعد المسافة، وإذا لم تحلوا بالظباء فيه فأحرى ألا تحلوا بدمائكم، وإحرام الظباء: كونها في الحرم، يقال من دخل في الشهر الحرام، أو في البلد الحرام: مُحْرِم. الروض (2/ 30).

(5)

"المراحب": جمع مَرْحَب وهو من الأمكنة الواسع الفسيح انظر اللسان (رحب).

(6)

"الغول": الهلاك. الروض (2/ 30) والشطر الأول من البيت صدر بيت في معلقة زهير: [من الطويل]

متى تبعثوها تبعثوها ذميمة

وتضرَ إذا ضريتموها فتضرم

(7)

"السَّديف": شحم السنام، والغارب: ما بين السنام والعنق. وتبري: تُهْزِل. القاموس (سدف، غرب، برى).

(8)

"الأتحمية": ثياب رقاق تصنع باليمن. والشليل: درع قصيرة. والأصداء: جمع صدأ الحديد. الروض (2/ 30).

(9)

"القتير": حلق الدرع، شبهها بعيون الجراد. الروض (2/ 30).

(10)

قال السهيلي في الروض (2/ 30): هو كقول عمرو بن معديكرب: [من الكامل] =

ص: 407

تحرَّقُ لا تُشْوِي ضعيفًا وتنتحي

ذوي العِرِّ منكم بالحُتوف الصوائب

(1)

ألم تعلموا ما كان في حَرْبِ داحِسٍ

فتعتبروا أو كانَ في حَرْب حاطِب

وكم ذا أصابتْ من شريفٍ مُسَوَّدٍ

طويل العِماد ضيفُه غيرُ خائب

عظيمِ رمادِ النارِ يُحمَد أمرُه

وذي شيمةٍ مَحْضٍ كريمِ المَضَارب

(2)

وماءٍ هُريقَ في الضَّلال كأنما

أذاعَتْ به ريحُ الصَّبَا والجَنَائبِ

(3)

يخبِّركم عنها امرؤٌ حقّ عالمٍ

بأيامها والعلمُ علمُ التجارب

فبيعوا الحِرَاب مِلْمُحاربِ واذكروا

حِسَابكم واللهُ خيرُ محاسب

وليُّ امرئٍ فاختارَ دينًا فلا يَكُنْ

عليكم رقيبًا غيرَ ربِّ الثواقب

(4)

أقيموا لنا دينًا حَنيفًا فأنتمو

لنا غايةٌ، قد يُهتدَى بالذوائب

وأنتم لهذا الناسِ نُورٌ وعِصْمةٌ

تؤمُّون والأحلامُ غيرُ عوازب

وأنتم إذا ما حُصِّلَ الناسُ جوهرٌ

لكم سُرَّةُ البطحاء شُمُّ الأرانبِ

تصونون أجسامًا كِرامًا عتيقةً

مهذَّبة الأنسابِ غيرَ أشائب

يرى طالبُ الحاجات نحو بيوتكم

عصائبَ هَلْكَى تهتدي بعصائب

لقد علمَ الأقوامُ أنَّ سَرَاتكم

على كل حالٍ خيرُ أهلِ الجباجب

(5)

وأفضلُه رأيًا وأعلاه سُنّةً

وأقولُه للحقِّ وسْط المواكب

= الحرب أول ما تكون فتية

تسعى بزينتها لكلِّ جهولِ

حتى إذا اشتعلت وشب ضرامها

ولت عجوزًا غير ذات خليل

شمطاء جزت رأسها فتنكرت

مكروهة للشم والتقبيل

فقوله أم صاحب: أي عجوزًا كام صاحب لك، إذ لا يصحب الرجلَ إلا رجلٌ في سنه.

(1)

"تُشوي": لا تخطئ في قتلها. وتنتحي: تقصد. القاموس (شوي، نحي).

(2)

"كريم المضارب": وفي حاشية الشيخ: لعله الضرائب. يريد جميع ضريبة (الطبيعة)، ولا يبعد أيضًا أن يكون قال: المضارب. يريد أن مضارب سيوفه غير مذمومة، ولا راجعة عليه إلا بالثناء والحمد والوصف بالمكارم. الروض (2/ 31).

(3)

ويروى في الصلال جمع صَلَّة، وهي الأرض التي لا تمسك الماء. أي رب ماءٍ هريق في الضلال من أجل السراب، لأنه لا يهريق ماء من أجل السراب إلا ضال غير مميز بمواضع الماء. وأذاعت به: أي بدَّدته فلم ينتفع به. وهذا مثل ضربه للنظر في عواقب الأمور. ويروى: وما أهريق في أمر. ومعناه والذي أهريق في أمر الضلال، فوصل ألف القطع ضرورة. الروض (2/ 31).

(4)

أي هو وليُّ امرئٍ اختار دينًا، والفاء زائدة. الروض (2/ 31).

(5)

"الجباجب": منازل منى، وقيل هي حفر بمنى يجمع فيها دم البُدْن، والهدايا، والعرب تعظمها وتفخر بها. الروض (2/ 31).

ص: 408

فقوموا فصلُّوا ربَّكم وتمسَّحوا

بأركان هذا البيتِ بينَ الأخاشب

(1)

فعندكمُ منهُ بلاءٌ ومِصْدَقٌ

غداةَ أبي يَكسومَ هادي الكتائب

(2)

كتيبتُه بالسَّهْل تُمسي ورَجْله

على القاذفاتِ في رؤوسِ المناقب

(3)

فلما أتاكم نصرُ ذي العرش ردَّهم

جنودُ المليك بين سافٍ وحاصب

(4)

فولَّوا سِراعًا هاربين ولم يَؤُبْ

إلى أهله مِلحُبْشِ غيرُ عصائب

فإنْ تهلِكوا نهلِكْ وتَهلِكْ مواسمٌ

يُعاشُ بها، قولُ امرئٍ غيرِ كاذب

(5)

وحَرْب داحس الذي

(6)

ذكرها أبو قيس في شعره كانت في زمن الجاهلية مشهورة، وكان سببها فيما ذكره أبو عبيدة معمرُ بن المثنَّى وغيره: أنَّ فرسًا يقال له داحس، كانت لقيس بن زهير بن جَذِيمة بن رواحة الغَطَفاني، أجراه مع فرسٍ لحُذَيفة بن بَدْر بن عمرو بن جَوَيَّة

(7)

الغَطَفاني أيضًا، يقال لها الغَبْراء، فجاءتْ داحِسُ سابقًا، فأمر حُذيفةُ من ضرب وجهها، فوثب مالك بن زهير فلطم وجه الغبراء، فقام حَمَلُ بنُ بَدْر فلطم مالكًا، ثم إنَّ أبا جُنيدب العَبْسي لقي عوفَ بن حُذيفة فقتله، ثم لقي رجلٌ من بني فزارة مالكًا فقتله، فشبَّتِ الحرب بين بني عبس وفَزَارة، فقُتل حذيفةُ بن بدر وأخوه حَمَلُ بن بدر وجماعاتٌ آخرون، وقالوا في ذلك أشعارًا كثيرة يطول بسطُها وذكرها.

قال ابن هشام

(8)

: ويُقال: أَرسل قيسٌ داحسًا والغبراء، وأرسل حذيفةُ الخطَّار والحَنْفاء، والأول أصحّ. قال: وأما حَرْبُ حاطب فيعني حاطب بن الحارث بن قيس بن هَيْشَة بن الحارث بن أمية بن معاوية بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس. كان قَتَل يهوديًا جارًا للخَزْرَج، فخرج إليه يزيد

(9)

بن الحارث بن قيس بن مالك بن أحمر بن حارثة بن ثعلبة بن كعب بن [مالك بن كعب]

(10)

(1)

"الأخاشب": جمع أخشب، وهو الجبل الخشن العظيم. والأخشبان: جبلا مكة أبو قبيس والأحمر. القاموس: (خشب).

(2)

"أبو يكسوم": صاحب الفيل المذكور في التنزيل. القاموس (كسم).

(3)

كذا في ح، ط: القاذفات. ولعل الصواب: القُذُفات. وهي ما أشرف من رؤوس الجبال واحدتها قُذْفة كغُرْفة. والمناقب: الجبل فيه ثنايا. اللسان (قذف، نقب).

(4)

"السافي": الذي يرمي بالتراب، والحاصب الذي يقذف بالحصباء. الروض (2/ 31).

(5)

في هامش ح عند نهاية القصيدة ما نصه: بلغ مقابلة على الأصل المعتمد الموقوف بشيخو.

(6)

كذا في ح، ط والحرب مؤنثة وقد تذكَّر.

(7)

في ط: جؤبة، وفي سيرة ابن هشام: جؤيَّة. والمثبت من الإكمال (2/ 170) من غير همز.

(8)

في سيرة ابن هشام (1/ 287) والروض (2/ 20).

(9)

في ط: زيد. والمثبت من السيرة وشرح القاموس مادة فسحم.

(10)

ليس ما بين المعقوفين في سيرة ابن هشام ولا الروض ولا جمهرة الأنساب لابن حزم (ص 312، 313) في ترجمته، ولعله زيدَ وهمًا.

ص: 409

ابن الخزرج بن الحارث بن الخزرج وهو الذي يقال له ابن فُسْحُم

(1)

في نفرٍ من بني الحارث بن الخزرج فقتلوه، فوقعتِ الحرب بين الأوس والخزرج فاقتتلوا قتالًا شديدًا، وكان الظفر للخزرج، وقتل يومئذ سُويد بن الصامت الأوسي، قتله المُجَذَّر بن ذياد، حليفُ بني عوف بن الخزرج؛ ثم كانت بنيهم حروب يطول ذِكْرُها أيضًا.

والمقصود أن أبا قيس بن الأسْلَت مع علْمه وفهمه لم ينتفع بذلك حين قدم مصعب بن عمير المدينة ودعا أهلها إلى الإسلام، فأسلم من أهلها بشرٌ كثير ولم يبق دارٌ - أي محلة - من دور المدينة إلا وفيها مسلم ومسلمات غيرَ دارِ بني واقف قبيلةِ أبي قيس، ثبَّطهم عن الإسلام، وهو القائل أيضًا:[من الوافر]

أربَّ الناسِ أشياءٌ ألمَّتْ

يُلَفُّ الصَّعْبُ منها بالذَّلُولِ

أربَّ الناس أمَّا إذْ ضَلَلْنا

فَيَسِّرْنا لمعروفِ السبيل

(2)

فلولا ربُّنا كنَّا يهودًا

وما دينُ اليهودِ بذي شُكول

(3)

ولولا ربُّنا كنَّا نصارَى

مع الرُّهبانِ في جَبَل الجَلِيل

(4)

ولكنَّا خُلقنا إذْ خُلقنا

حنيفًا دينُنا عن كلِّ جيل

نسوقُ الهَدْيَ ترسفُ مُذْعِناتٍ

مكشَّفةَ المناكبِ في الجلُول

(5)

وحاصلُ ما يقول أنه حائرٌ فيما وقع من الأمر الذي قد سمعه من بعثةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوقَّف الواقفيُّ في ذلك مع علمه ومعرفته. وكان الذي ثبَّطَه عن الإسلام أولًا عبدُ الله بن أُبيِّ بن سَلُول، بعد ما أخبره أبو قيس أنه الذي بشر به يهود، فمنعه عن الإسلام.

قال ابنُ إسحاق: ولم يسلم إلى يوم الفتح هو وأخوه وخرج.

وأنكر الزُّبير بن بكَّار أن يكون أبو قيس أسلم. وكذا الواقدي

(6)

، قال:

(1)

في ط: قسحم. بالقاف تصحيف، والمثبت من القاموس وشرحه: وفسحم أُمُّه، ومعناه: الواسع الصدر.

(2)

في ح، ط: إمَّا أن ضللنا. والمثبت من السيرة والروض.

(3)

أراد جمع شَكْل، وشَكْل الشيء - بالفتح - هو مثله، والشِّكل بالكسر: الدَّلُّ والحُسْن، فكأنه أراد أن دين اليهود بدع، فليس له شكول أي: ليس له نظير في الحقائق؛ ولا مثيل يعضده من الأمر المعروف المقبول. الروض (2/ 200).

(4)

الجليل بالجيم الثُّمام، وهذا الجبل من جبال الشام معروف. الروض (2/ 200).

(5)

"ترسف": تمشي مشي المقيَّد. الجلول: مفردها جل وهو ما تلبسه الدابة لتصان به. القاموس (رسف، جلل). والأبيات في سيرة ابن هشام (1/ 438) والروض (2/ 187) وما عدا الأول برواية مختلفة في طبقات ابن سعد (4/ 385).

(6)

رواية الواقدي بأطول مما هنا في طبقات ابن سعد (4/ 383 - 385).

ص: 410

كان عزَمَ على الإسلام أولَ ما دعاه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فلامَهُ عبدُ الله بن أُبَيّ، فحلف لا يسلم إلى حَوْل فمات في ذي القعدة.

وقد ذكر غيرُه فيما حكاه ابنُ الأثير في كتابه: "أُسْد الغابة"

(1)

أنه لما حضرَهُ الموتُ دعاهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام فسُمع

(2)

يقول: لا إله إلا الله.

وقال الإمام أحمد

(3)

: حدَّثنا حسن بن موسى، حدَّثنا حماد بن سَلَمة، عن ثابت، عن أنس بن مالك، أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عاد رجلًا من الأنصار، فقال:"يا خال، قُلْ لا إله إلا الله" فقال: أخالٌ أمْ عَمّ؟ قال: "لا، بلْ خال" قال: فخير لي أنْ أقولَ لا إله إلا الله؟ فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "نعم".

تفرَّد به أحمد رحمه الله تعالى.

وذكر عكرمةُ وغيرُه أنه لما تُوفِّي أراد ابنُه أن يتزوَّج امرأتَهُ كُبَيشة بنت مَعْن بن عاصم، فسألَتْ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فأنزل الله {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} الآية

(4)

.

وقال ابن إسحاق

(5)

وسعيدُ بن يحيى الأموي في "مغازيه": كان أبو قيس هذا قد ترهَّب في الجاهلية ولبس المسوح، وفارق الأوثان، واغتسل من الجنابة، وتطهَّر من الحائض من النساء، وهمَّ بالنصرانية ثم أمسك عنها، ودخل بيتًا له فاتخذه مسجدًا، لا يدخل عليه فيه حائضٌ ولا جُنُب. وقال: أعْبُد إله إبراهيم حين فارق الأوثان وكرهها، حتى قدم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المدينة فأسلم، فحسُن إسلامه، وهو شيخٌ كبير، وكان قوَّالًا بالحق، معظِّمًا لله في جاهليَّته، يقولُ في ذلك أشعارًا حِسانًا وهو الذي يقول:[من الطويل]

يقول أبو قيسٍ وأصبحَ غاديًا

ألا ما استطعتُم من وَصَاتيَ فافعلوا

(1)

أسد الغابة (5/ 278).

(2)

في ح: فسمعه، والمثبت من ط وأسد الغابة.

(3)

في مسنده (3/ 154) رقم (12501) وهو حديث صحيح.

(4)

سورة النساء الآية (22). قلت: رواية عكرمة في تفسير الطبري (4/ 318) تقول: إن الآية نزلت في أبي قيس نفسه خلف على أم عبيد بنت ضمرة، كانت تحت الأسلت أبيه. أما رواية غيره التي تعزوها لابنه قيس فقد أخرجها البيهقي في سننه (7/ 161) عن عدي بن ثابت الأنصاري. وأخرجها أيضًا الفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني كما ذكره السيوطي في الدر المنثور (2/ 468) وذكر رواية عكرمة أيضًا ابن حجر في الإصابة ترجمة كبشة هذه إذ يقال لها كبشة وكبيشة وقال: أخرجه أبو موسى المستغفري.

(5)

في سيرة ابن هشام (1/ 510) قلت: ابن إسحاق يسوق هذا الخبر بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم ويعزو الشعر إلى أبي قيس صِرْمة بن أبي أنس لا إلى أبي قيس بن الأسلت، ولا أدري سبب هذا الخلط بين الشاعرين والذي نبهت عليه سابقًا، وإني لأستبعد أن يكون وضع هذه الفقرة هنا من صنع ابن كثير بدلالة ذكره اسم صرمة في الصفحة الآتية بعد هذه، فحق هذه الأشعار إذًا أن يكون محلُّها فيما سيأتي بعد الهجرة كما ساقها ابن هشام في السيرة (1/ 510 - 512). وربما كانت قد سقطت من هناك فأعيد وضعها إلى هنا على يد أحد النساخ والله أعلم.

ص: 411

فأُوصيكمُ باللهِ والبرِّ والتُّقَى

وأعراضِكم، والبرُّ بالله أولُ

وإنْ قومُكم سادوا فلا تَحْسُدُنَّهُمْ

وإنْ كنتمُ أهلَ الرِّياسةِ فاعدِلوا

وإنْ نزلتْ إحدى الدواهي بقومكم

فأنفسَكم دونَ العشيرة فاجعلوا

وإن نابَ غُرْمٌ فادحٌ فارْفقُوهمُ

وما حَمَّلوكم في المُلِمَّاتِ فاحملوا

وإن أنتمُ مَعَّرْتُم

(1)

فتعفَّفوا

وإنْ كان فضلُ الخيرِ فيكم فأفضلوا

وقال أبو قيس أيضًا: [من الخفيف]

سبِّحوا اللهَ شرقَ كلِّ صباحٍ

طلعتْ شمسُه وكلِّ هلالِ

عالمُ السرِّ والبيانِ جميعًا

ليس ما قال ربُّنا بضلالِ

وله الطيرُ تستريد وتأوي

في وكورٍ من آمناتِ الجبال

(2)

وله الوحشُ بالفَلاةِ تراها

في حِقافٍ وفي ظلالِ الرمالِ

(3)

وله هوَّدَتْ يهودُ ودانَتْ

كلَّ دينٍ مخافةً من عُضالِ

وله شمَّس النصارى وقامُوا

كل عيدٍ لربِّهم واحتفالِ

(4)

وله الراهبُ الحبيسُ تراه

رَهْنَ بؤسٍ وكان ناعمَ بالِ

(5)

يا بنيَّ الأرحامَ لا تقطَعوها

وصِلُوها قصيرةً من طِوال

(6)

واتَّقوا اللهَ في ضِعاف اليتامى

وبما

(7)

يُستحَلُّ غيرُ الحلال

واعلموا أنَّ لليتيم وليًّا

عالمًا يَهتدي بغير سؤال

ثم مالَ اليتيم لا تأكلُوه

إنَّ مالَ اليتيم يرعاه والي

(1)

في ط: أمعزتم، وفي السيرة: أمعرتم. براء مهملة ومعناه: افتقرتم، والمثبت من ح وهو بمعناه.

(2)

"تستريد": تطلب مواضع الكلأ. القاموس (كلأ).

(3)

"الحقاف": جمع حِقْف، وهو ما اعوجَّ من الرمل. القاموس (حقف).

(4)

"شمَّس النصارى": يعني دين الشماسة، وهم الرهبان لأنهم يشمِّسون أنفسهم، يريدون تعذيب النفوس بذلك في زعمهم. الروض (2/ 288).

(5)

في ط: أنعم. والمثبت من ح وسيرة ابن هشام.

(6)

قصيرة من طوال: فيحتمل تأويلين أحدهما: أن يريد صِلوا قصرها من طولكم، أي: كونوا أنتم طوالًا بالصلة والبر إن قصرت هي. وفي الحديث: "أسرعكن لحوقًا بي أطولكن يدًا". أراد الطول بالصدقة والبر، فكانت صفة زينب بنت جحش. والتأويل الآخر أن يريد مدحًا لقوله بأن أرحامهم قصيرة النسب، ولكنها من قوم طوال كما قال:

أحب من النسوان كل طويلة

لها نسب في الصالحين قصير

الروض الأنف (2/ 288)

(7)

في السيرة: ربما. وهو أشبه.

ص: 412

يا بَنيَّ التُّخُومَ لا تَجْزِلوها

إن جَزْلَ التُّخومِ ذو عُقَّال

(1)

يا بنيَّ الأيامَ لا تأمنوها

واحذَروا مَكرها ومَرَّ الليالي

واعلموا أنَّ مُرَّها لنِفادِ الْـ

خلْقِ ما كان في جديدٍ وبال

واجمعوا أمرَكم على البرِّ والتَّقْـ

ــــــوى وتَرْكِ الخَنا وأخذِ الحلال

قال ابن إسحاق

(2)

: وقال أبو قيس صرمة

(3)

أيضًا يذكرُ ما أكرمهم الله به من الإسلام، وما خصَّهم به من نزول رسول الله صلى الله عليه وسلم عندهم [من الطويل]

ثوى في قريشٍ بضعَ عشرةَ حجَّةً

يُذكِّر لو يَلقى صَديقًا مُواتيا

وسيأتي ذِكرها بتمامها فيما بعد إنْ شاء الله وبه الثقة.

‌قصة بيعة العقبة الثانية

(4)

قال ابن إسحاق

(5)

: ثم إنَّ مصعب بن عُمير رجع إلى مكة، وخرج مَنْ خرج من الأنصار من المسلمين مع حُجَّاج قومهم من أهل الشَّرك حتى قدموا مكة فواعدوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم العقبةَ من أوسط أيام التشريق حين أراد الله بهم [ما أراد] من كرامته، والنَّصر لنبيِّه، وإعزاز الإسلام وأهله [وإذلال الشِّرك وأهله].

فحدِّثني معبد بن كعب بن مالك أنَّ أخاه عبد الله بن كعب - وكان من أعلم الأنصار - حدَّثه أنَّ أباه كعبًا حدَّثه - وكان ممن شهد العقبة وبايع رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بها - قال: خرجنا في حُجَّاج قومنا من المشركين، وقد صلَّينا وفقهنا ومعنا البراءُ بن معرور سيِّدُنا وكبيرُنا، فلما وجَّهنا لسفرنا، وخرجْنا من المدينة قال البراء: يا هؤلاء، إني قد رأيتُ رأيًا، والله ما أدري أتوافقونني عليه أم لا؟ قلنا: وما ذاك؟ قال: قد رأيتُ أن لا أدعَ هذه البنيَّة مني بظَهْر - يعني الكعبة - وأنْ أصلِّي إليها. قال: فقلنا والله ما بلغنا أن نبيَّنا صلى الله عليه وسلم يصلِّي إلا إلى الشام، وما نريد أن نخالفه. فقال: إنِّي لمصلٍّ إليها، قال: فقلنا له: لكنَّا لا نفعل. قال: فكنا إذا حضرتِ الصلاةُ صلَّينا إلى الشام وصلَّى هو إلى الكعبة، حتى قدمنا مكة. قال وقد كنَّا عبنا

(1)

"التخوم": حدود البلاد والقرى، والعقال: ما يمنع الرِّجْلَ من المشي ويعقلها. يريد أن الظُّلم يخلف صاحبه ويعقله عن السباق، ويحبسه في مضايق الاحتقاق. الروض (2/ 288) وفي السيرة والروض: لا تخزلوها

خزل. بالخاء المعجمة، ومعناه: لا تقطعوها، وكلا الروايتين بمعنى.

(2)

في سيرة ابن هشام (1/ 512) والروض (2/ 255).

(3)

سقطت هذه اللفظة من ح وهي في ط وسيرة ابن هشام. ولعل سقوطها من ح عن عمد لتوافق سياق الأبيات لأبي قيس بن الأسلت. كما تقدم في الصفحة السابقة.

(4)

سقطت هذه اللفظة من ح.

(5)

في سيرة ابن هشام (1/ 438) والروض (2/ 187) وما يأتي بين معقوفين منهما.

ص: 413

عليه ما صنع، وأبى إلا الإقامة على ذلك، فلما قدمنا مكة قال لي: يا ابن أخي، انطلقْ بنا إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم حتى أسأله عما صنعتُ في سفري هذا، فإنه قد وقع في نفسي منه شيء لما رأيتُ من خلافِكم إيَّايَ فيه. قال: فخرجنا نسألُ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وكنَّا لا نعرفُه ولم نره قبل ذلك - فلَقِينا رجلًا من أهل مكة فسألناه عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قال: هل تعرفانه؟ فقلنا: لا. فقال: هل تعرفانِ العباسَ بن عبد المطلب عمَّه؟ قال: قلنا نعم - وقد كنَّا نعرفُ العباس، كان لا يزال يقدم علينا تاجرًا - قال: فإذا دخلتما المسجد فهو الرجلُ الجالسُ مع العباس. قال: فدخلنا المسجد وإذا العباسُ جالسٌ ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم جالسٌ معه، فسلَّمنا ثم جلسنا إليه، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم للعباس:"هل تعرفُ هذيْن الرجلَيْن يا أبا الفضل؟ " قال: نعم هذا البراءُ بن مَعْرُور سيدُ قومه، وهذا كعب بن مالك. قال: فوالله ما أنسى قولَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: "الشاعر"؟ قال: نعم. فقال له البراءُ بن معرور: يا نبيَّ الله، إني خرجتُ في سفري هذا، قد هداني الله تعالى للإسلام، فرأيتُ أن لا أجعلَ هذه البنيَّة مني بظَهْر، فصلَّيتُ إليها وقد خالفني أصحابي في ذلك، حتى وقع في نفسي من ذلك شيء فماذا ترى يا رسول الله؟ قال:"قد كنتَ على قبلهٍ لو صبرتَ عليها" قال: فرجع البراءُ إلى قبلةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فصلَّى معنا إلى الشام. قال: وأهله يزعمون أنه صلَّى إلى الكعبة حتى مات، وليس ذلك كما قالوا، نحن أعلم به منهم.

قال كعب بن مالك: ثم خرجنا إلى الحج وواعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة من أوسط أيام التشريق، فلما فرغنا من الحج وكانت الليلة التي واعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لها

(1)

ومعنا عبدُ الله بن عمرو بن حَرَام أبو جابر، سيدٌ من سادتنا، أخذناه وكنَّا نكتم مَنْ معنا من قومنا من المشركين أمرنا، فكلَّمناه وقلنا له: يا أبا جابر إنك سيدٌ من ساداتنا، وشريفٌ من أشرافنا، وإنا نرغبُ بك عما أنت فيه أن تكون حَطبًا للنار غدًا، ثم دعوناه إلى الإسلام، وأخبرناه بميعاد رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إيَّانا العقبة. قال: فأسلم وشهد معنا العقبة، وكان نقيبًا.

وقد روى البخاري

(2)

: حدَّثني إبراهيم، حدَّثنا هشام، أنَّ ابن جُرَيج أخبرهم، قال عطاء: قال جابر: أنا وأبي وخالي

(3)

من أصحاب العقبة.

قال عبد الله بن محمد: قال ابنُ عيينة: أحدُهم البراءُ بن مَعْرور.

(1)

في ط: فيها، والمثبت من ح والسيرة.

(2)

في صحيحه، فتح الباري (3891) مناقب الأنصار باب وفود الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم بمكة.

(3)

رواية البخاري: خالاي. وقال ابن حجر في الفتح (7/ 222): ووقع عند ابن التين: وخالي. بغير ألف وتشديد التحتانية وقال: لعل الواو واو المعية أي مع خالي، ويحتمل أن يكون بالإفراد بكسر اللام وتخفيف الياء. وقال الدمياطي: أم جابر هي أنيسة بنت غنمة بن عدي، وأخواها ثعلبة وعمرو وهما خالا جابر، وقد شهدا العقبة الأخيرة؛ وأما البراء فليس من أخوال جابر، قلت (القائل بن حجر): لكن من أقارب أمه وأقارب الأم يسمون أخوالًا مجازًا.

ص: 414

وحدثنا علي بن المَدِيني

(1)

، حدثنا سفيان قال: كان عمرٌو يقول: سمعتُ جابرَ بن عبد الله يقول: شهِدَ بي خالايَ العقبة.

وقال الإمامُ أحمد

(2)

: حدَّثنا عبد الرزاق، أخبرنا مَعْمَر، عن ابن خُثَيم، عن أبي الزُّبير، عن جابر، قال: مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكةَ عشر سنين يتبعُ الناسَ في منازلهم، بعُكاظ ومَجَنَّة، وفي المواسم يقول:"مَنْ يُؤويني؟ مَنْ يَنْصُرُني؟ حتى أبلَّغَ رسالةَ ربِّي وله الجنَّة"[فلا يجدُ أحدًا يؤويه ولا ينصره]

(3)

، حتى إنَّ الرجلَ ليخرجُ من اليمن أو من مضر

(4)

- كذا قال فيه - فيأتيه قومه [وذوو رحمه] فيقولون: احذر غلام قريش لا يفتنك، ويمشي

(5)

بين رحالهم

(6)

، وهم يشيرون إليه بالأصابع حتى بعثَنا الله إليه من يثرب، فآويناه وصدَّقناه، فيخرج الرجل منا فيؤمن به، ويقرئه القرآن فينقلب إلى أهله فيسلمون بإسلامه، حتى لم يبقَ دارٌ من دور الأنصار إلا وفيها رهطٌ من المسلمين يُظهرون الإسلام، ثم ائتمروا جميعًا، فقلنا: حتى متى نتركُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يُطردُ في جبال مكة ويخاف؟ فرحل إليه منَّا سبعونَ رجلًا حتى قدموا عليه في الموسم فواعدناه شعبَ العقبة، فاجتمعنا عندها

(7)

، من رجل ورجلَيْن حتى توافَيْنا فقلنا: يا رسولَ الله، علامَ نبايُعك؟ قال:"تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في العُسْر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنْ تقولوا في الله لا تخافون في الله لومة لائم، وعلى أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمتُ عليكم مما تمنعون منه أنفسَكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة". فقمنا إليه [فبايعناه]، وأخذ بيده أسعدُ بن زُرارة - وهو من أصغرهم - وفي رواية البيهقي: وهو أصغر السبعينَ إلا أنا

(8)

. فقال: رويدًا يا أهلَ يثرب، فإنَّا لم نضربْ إليه أكبادَ الإبل إلا ونحنُ نعلم أنه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وأنَّ إخراجَهُ اليوم مفارقةُ العرب

(9)

كافَّة، وقتلُ خياركم و [أن] تعضَّكم السيوف، فإما أنتم قومٌ تصبرونَ على ذلك فخذوه وأجرُكم على الله، وإمَّا أنتم قوم تخافونَ من أنفسكم خيفة فذروه

(10)

. فبينوا ذلك، فهو أعذَرُ لكم عند الله. قالوا: أمطْ عنَّا

(11)

يا أسعد

(1)

وهي الرواية الثانية للحديث عند البخاري فتح (3890) مناقب الأنصار باب وفود الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم بمكة.

(2)

في مسنده (3/ 322) وما يأتي بين معقوفين منه.

(3)

ليس ما بين المعقوفين في ح ولا في مسند أحمد في هذه الرواية، وهو من الرواية الثانية عند أحمد والبيهقي الآتي ذكرها.

(4)

في ح: مصر. بصاد مهملة.

(5)

في ط: ويمضى. والمثبت من ح ومسند أحمد.

(6)

كذا في ح، ط، وفي المسند: رجالهم بجيم.

(7)

في مسند أحمد: عليه.

(8)

ما بين معترضين من رواية البيهقي في الدلائل (2/ 443). وقوله: إلا أنا. يعني جابرٌ وهو راوي الخبر.

(9)

في ط: مناوأة للعرب. والمثبت من ح ومسند أحمد.

(10)

كذا في ط، وفي مسند أحمد: جينة، وسقطت الكلمتان من ح.

(11)

في ط: أبط تصحيف، والمثبت من ح والمسند، وفي النهاية لابن الأثير: أمط عنا: أي ابْعُدْ.

ص: 415

فوالله لا ندَعُ هذه البيعة أبدًا، ولا نُسلَبُها

(1)

أبدًا. قال: فقمنا إليه فبايعناه، وأخذَ علينا وشرط، ويعطينا على ذلك الجنَّة.

وقد رواه الإمام أحمد أيضًا - والبيهقي

(2)

من طريق داود بن عبد الرحمن العطَّار، زاد البيهقي عن الحاكم - بسنده إلى يحيى بن سليم، كلاهما عن عبد الله بن عثمان بن خُثَيم عن أبي الزُّبير

(3)

، به نحوه. وهذا إسناد على شرط مسلم

(4)

ولم يخرِّجوه.

[وقال البزار

(5)

: وروى غيرُ واحدٍ عن ابنِ خُثَيم ولا نعلمه يُروى عن جابر إلا من هذا الوجه]

(6)

.

وقال الإمام أحمد

(7)

: حدَّثنا سليمان بن داود، حدَّثنا عبد الرحمن بن أبي الزِّناد، عن موسى بن عُقْبة

(8)

، عن أبي الزُّبير، عن جابر، قال: كان العباسُ آخذًا بيد رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ورسولُ اللّه يواثقنا، فلما فرغنا قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"أخذتُ وأعطَيْت".

وقال البزَّار

(9)

: حدَّثنا محمد بن معمر، حدَّثنا قَبِيصة، حدَّثنا سفيان - هو الثوري - عن جابر - يعني الجُعْفي - وداود

(10)

- وهو ابنُ أبي هند - عن الشعبي، عن جابر - يعني ابنَ عبد الله - قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم للنقباء من الأنصار: "تُؤْووني وتمنعوني؟ " قالوا: نعم، فما لنا؟ قال:"الجنَّة". ثم قال

(11)

: لا نعلمه يُروى إلا بهذا الإسناد عن جابر.

ثم قال ابنُ إسحاق

(12)

، عن معبد، عن عبد الله عن أبيه كعب بن مالك، قال: فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا، حتى إذا مضى ثلثُ الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسولِ الله صلى الله عليه وسلم نتسلُّلُ تسلُّلَ القَطَا مُسْتَخفين، حتى اجتمعنا في الشِّعْب عند العقبة، ونحن ثلاثة وسبعون رجلًا ومعنا امرأتانِ من نسائنا:

(1)

في ح: ولا نستقيلها، وهي رواية البيهقي وفيه: نستقبلها. بالموحّدة تصحيف.

(2)

مسند أحمد (3/ 339) ودلائل النبوة للبيهقي (2/ 442).

(3)

في ط: عن أبي إدريس. تحريف، والمثبت من ح ومسند أحمد ودلائل البيهقي.

(4)

في ط: "إسناد جيد على شرط مسلم"، وما أثبتناه من ح، وهو الأصوب.

(5)

قول البزار هذا في كشف الأستار للهيثمي (2/ 308) وأخرجه أيضًا فيه (1756) الهجرة والمغازي باب البيعة على الحرب.

(6)

ليس ما بين المعقوفين في ح، ولعلها ملاحظة كتبت على الهامش فدخلت النص.

(7)

في المسند (3/ 396)، وإسناده حسن.

(8)

في ط: موسى بن عبد الله. تحريف، والمثبت من ح ومسند أحمد وترجمة موسى بن عقبة في تهذيب الكمال (29/ 115).

(9)

في كشف الأستار (1755) الهجرة والمغازي باب البيعة على الحرب.

(10)

في ط: عن داود. تحريف، والمثبت من ح وكشف الأستار.

(11)

يعني البزار.

(12)

في سيرة ابن هشام (1/ 441).

ص: 416

نُسَيبة بنتُ كعب أمُّ عمارة، إحدى نساء بني مازن بن النجَّار، وأسماء ابنة عمرو بن عدي بن نابي، إحدى نساء بني سَلِمة، وهي أمُّ مَنيع.

وقد صرَّح ابنُ إسحاق في روايةِ يونس بن بُكير عنه بأسمائهم وأنسابهم، وما ورد في بعض الأحاديث أنهما كانوا سبعين، فالعرب كثيرًا ما تحذف الكسر.

وقال عروة بن الزبير وموسى بن عقبة

(1)

: كانوا سبعين رجلًا، وامرأة واحدة. قال: منهم أربعون من ذوي أسنانهم، وثلاثون من شبابهم. قال: وأصغرهم أبو مسعود، وجابر بن عبد الله.

[وقول محمد بن إسحاق: إنهم خمسة وسبعون أثبت]

(2)

.

قال كعب بن مالك

(3)

: فاجتمعنا في الشِّعب ننتظرُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءنا ومعه العباس بن عبد المطلب وهو يومئذ على دينِ قومه، إلا أنه أحبَّ أن يحضُرَ أمرَ ابنِ أخيه ويتوثق له، فلما جلس كان أوَّل متكلِّم العباسُ بن عبد المطلب فقال: يا معشر الخزرج - قال: وكانتِ العرب إنما يسمُّون هذا الحيَّ من الأنصار الخزرجَ خزرجَها وأَوْسَها -: إنَّ محمدًا منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل - رأينا فيه، فهو في عزٍّ من قومه، ومنَعة في بلده، وإنه قد أبَى إلا الانحيازَ إليكم واللحوقَ بكم، فإنْ كنتم ترَوْن أنكم وافُونَ له بما دعوتموه إليه ومانعوه ممن خالفه، فأنتم وما تحمَّلتم من ذلك؛ وإن كنتم ترَوْن أنكم مُسْلموه وخاذلوه بعد الخروج إليكم فمن الآن فدَعُوه، فإنه في عزٍّ ومنعَةٍ من قومه وبلده. قال: فقلنا له: قد سمعنا ما قلت، فتكلَّم يا رسول الله، فخذْ لنفسك ولربِّك ما أحببت.

قال: فتكلَّم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فتلا القرآن ودعا إلى الله ورغَّب في الإسلام. قال: "أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعونَ منه نساءكم وأبناءكم" قال: فأخذ البراءُ بن معرور بيده ثم قال: نعم. فوالذي بعثك بالحق لنمنعنَّك مما نمنعُ منه أُزُرَنا

(4)

: فبايعنا يا رسولَ الله فنحن والله أبناء الحروب وأهل الحَلْقة

(5)

، ورثناها كابرًا عن كابر. قال: فاعترض القولَ والبراءُ يكلِّم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أبو الهيثم بن التَّيِّهان فقال: يا رسول الله، إنَّ بيننا وبين الرجال حبالًا وإنَّا قاطعوها - يعني اليهود - فهل عسيتَ إن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ قال: فتبسَّم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: "بل الدَّمَ الدَّم، والهَدْمَ

(1)

روايتهما في دلائل النبوة للبيهقي (2/ 454).

(2)

سقط ما بين المعقوفين من ط.

(3)

رجع الحديث إلى رواية ابن إسحاق في سيرة ابن هشام (1/ 441).

(4)

"أُزرنا": أي نساءنا وأهلنا، كنَّى عنهنّ بالأزر. وقيل أراد أنفسنا، وقد يكنَّى عن النفس بالإزار، ومنه حديث عمر: كتب إليه من بعض البعوث أبيات في صحيفة منها:

ألا أبلغ أبا حفص رسولًا

فدىً لك من أخي ثقة إزاري

أي أهلي ونفسي. النهاية لابن الأثير (1/ 45).

(5)

"الحلقة": أي السلاح. النهاية لابن الأثير (1/ 427).

ص: 417

الهَدْم

(1)

، أنا منكم وأنتم مني، أحاربُ مَن حاربتم وأسالمُ مَنْ سالمتم".

قال كعب: وقد قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أخرجوا إليَّ منكم اثني عَشَر نقيبًا يكونون على قومهم بما فيهم". فأخرجوا منهم اثني عشر نَقِيبًا، تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس.

قال ابن إسحاق

(2)

: وهم أبو أمامة أسعد بن زُرارة المتقدم، وسعد بن الربيع بن عمرو بن أبي زُهير بن مالك بن امرئ القيس بن مالك بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج، وعبد الله بن رواحة بن امرئ القيس [بن عمرو بن امرئ القيس]

(3)

بن مالك بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج، ورافع بن مالك بن العَجْلان المتقدم، والبراء بن معرور بن صخر بن خَنْساء بن سنان بن عُبيد بن عدي بن غَنْم بن كعب بن سلمة بن سعد بن عليّ بن أسد بن ساردة بن تَزيد بن جُشَم بن الخزرج، وعبد الله بن عمرو بن حَرَام بن ثعلبة بن حرام بن كعب بن غنم بن كعب بن سلمة، وعبادة بن الصامت المتقدم، وسعد بن عبادة بن دُليم بن حارثة بن [أبي] حَزيمة

(4)

بن ثعلبة بن طَرِيف بن الخزرج بن ساعدة بن كعب بن الخزرج، والمنذر بن عمرو بن خُنيس بن حارثة بن لَوْذان بن عبد ودّ بن زيد بن ثعلبة بن الخَزرج بن ساعدة بن كعب بن الخزرج.

فهؤلاء تسعةٌ من الخزرج، ومن الأوس ثلاثة وهم: أُسَيد بن حُضير بن سماك بن عتيك بن رافع بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل بن جشم بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس، وسعد بن خَيْثَمة بن الحارث بن مالك بن كعب بن النخَّاط بن كعب بن حارثة بن غَنْم بن السَّلْم بن امرئ القيس بن مالك بن الأوس، ورفاعة بن عبد المنذر بن زَنْبَر

(5)

بن زيد بن أمية بن زيد بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس.

(1)

"الهَدْم": يُروى بسكون الدال وفتحها، فالهدَم بالتحريك: القَبْر، يعني أني أُقبر حيث تقبرون، أو هو كحديث الآخر:"المحيا محياكم والممات مماتكم" أي لا أفارقكم. والهدْم بالسكون والفتح أيضًا: هو إهدار دم القتيل، يُقال: دماؤهم بنيهم هَدْم: أي مُهْدَرة. والمعنى: إن طُلب دَمُكم فقد طُلب دمي، وإن أهدر دمكم فقد أهدر دمي لاستحكام الألْفَة بيننا، وهو قول معروف للعرب، يقولون: دمي دمك وهدمي هدمك، وذلك عند المعاهدة والنصرة. النهاية لابن الأثير (5/ 251) والروض (2/ 202).

(2)

سيرة ابن هشام (1/ 443) والروض (2/ 189).

(3)

ما بين معقوفين من سيرة ابن هشام والروض.

(4)

في ط: خزيمة تصحيف، والمثبت من ح وسيرة ابن هشام وشرح السيرة لأبي ذر، والإكمال (3/ 141) وضبطه: أوله حاء مهملة مفتوحة بعدها زاي مكسورة وقال: أبو ثابت أحد السبعين الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة وأحد النقاء الاثني عشر.

(5)

في ط: زنير، وفي السيرة والروض: زبير. وكلاهما تصحيف، والمثبت من ح والإكمال (4/ 167) وضبطه فيه: زنبر بفتح الزاي وبعدها نون ساكنة وباء مفتوحة.

ص: 418

قال ابنُ هشام

(1)

: وأهل العلم يعدُّون فيهم أبا الهيثم بن التَّيِّهان بدَلَ رفاعة هذا.

وهو كذلك في رواية يونس، عن ابن إسحاق. واختاره السُّهيلي وابنُ الأثير في "أسد الغابة"

(2)

.

ثم استشهد ابنُ هشام

(3)

على ذلك بما رواه عن أبي زيد الأنصاري فيما ذكره من شعر كعب بن مالك في ذكر النقباء الاثني عشر هذه الليلة - ليلة العقبة الثانية - حين قال: [من الطويل]

أبلغْ أبَيًّا أنَّهُ فالَ رأيُه

وحان غداةَ الشِّعبِ والحَيْنُ واقعُ

(4)

أبَى اللهُ ما منَّتْكَ نفسُك إنه

بمرصادِ أمرِ الناس راء وسامعُ

وأبلغْ أبا سفيانَ أنْ قد بدا لَنا

بأحمد نورٌ من هُدى الله ساطعُ

فلا ترغَبَنْ في حشدِ أمرٍ تُريده

وألِّبْ وجمِّعْ كلَّ ما أنت جامعُ

ودونَك فاعلمْ أنّ نقضَ عهودنا

أباه عليكَ الرهطُ حينَ تتابعوا

أباهُ البراءُ وابنُ عمرو كلاهما

وأسعدُ يأباه عليكَ ورافعُ

وسعدٌ أباه الساعديُّ ومنذِرٌ .... لأنفِك إنْ حاولتَ ذلك جادِعُ

وما ابنُ ربيعٍ إن تناولتَ عهدَه

بمُسْلِمِهِ لا يطمعَنْ ثَمَّ طامعُ

وأيضًا فلا يعطيكهُ ابنُ رَواحة

وإخفارُه من دونه السمُّ ناقع

وفاءً به، والقوقليّ بنُ صامتٍ

بمندوحةٍ عمَّا تُحاولُ يافع

(5)

أبو هيثم أيضًا وفيٌّ بمثلها

وفاءً بما أعطى من العهدِ خانع

وما ابنُ حُضيرٍ إنْ أردتَ بمَطْمَعٍ

فهل أنتَ عن أُحموقةِ الغي نازع

وسعدُ أخو عمرو بن عوف فإنه

ضَروحٌ لما حاولتَ مِلأمرِ مانع

(6)

أولاكَ نجومٌ لا يُغِبُّك منهمُ

عليكَ بنحسٍ في دُجى الليل طالع

قال ابنُ هشام

(7)

: فذكر فيهم أبا الهيثم بن التَّيِّهان ولم يذكُرْ رفاعة.

قلت: وذكر سعد بن معاذ وليس من النقباء بالكلية في هذه الليلة، والله أعلم.

وروى يعقوبُ بن سفيان عن يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب عن مالك، قال: كان الأنصار ليلة

(1)

في السيرة النبوية (1/ 445) والروض (2/ 190).

(2)

أسد الغابة (5/ 280).

(3)

في السيرة (1/ 445) والروض: (190).

(4)

قال رأيه: ضعف وأخطأ. والحَيْن: الهلاك والمِحنة. القاموس (فيل، حين).

(5)

"القوقلي": نسبة إلى قوقل وهو أبو بطن من الأنصار سمِّي به لأنه كان إذا أتاه إنسان يستجير به أو بيثرب قال له قَوْقِلْ في هذا الجبل وقد أمنت، أي: ارتقِ. وهم القواقلة. القاموس (قوقل).

(6)

"الضَّرُوح": الدفوع المنوع. القاموس (ضرح) وفي ح: للأمر.

(7)

في السيرة (1/ 445) والروض (2/ 191).

ص: 419

العقبة سبعين

(1)

رجلًا، وكان نقباؤهم اثني عشر نقيبًا تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس. وحدثني شيخٌ من الأنصار أن جبريل عليه السلام كان يُشير إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى مَنْ يجعله نقيبًا ليلة العقبة، وكان أُسيد بن حُضير أحد النقباء تلك الليلة. رواه البيهقي

(2)

.

وقال ابنُ إسحاق

(3)

: فحدَّثني عبد اللَّه بن أبي بكر أنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قال للنقباء: "أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم، وأنا كفيلٌ على قومي". قالوا: نعم.

وحدَّثني عاصم بن عمر بن قتادة أنَّ القوم لما اجتمعوا لبيعةِ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم قال العباس بن عُبادة بن نَضْلَة الأنصاري أخو بني سالم بن عوف: يا معشر الخَزْرج، هل تدرون علامَ

(4)

تبايعون هذا الرجل؟ قالوا: نعم. قال: إنكم تبايعونه على حَرْب الأحمر والأسود من الناس، فإنْ كنتم ترَوْن أنكم إذا نُهكتْ أموالُكم مُصِيبةً وأشرافُكم قتلًا أسلمتموه، فمن الآن، فهو واللَّه إنْ فعلتم خزْيُ الدنيا والآخرة، وإنْ كنتم ترون أنكم وافُون له بما دعوتموه إليه على نَهْكَةِ الأموال وقتل الأشراف فخذوه، فهو واللَّه خيرُ الدنيا والآخرة. قالوا: فإنا نأخذُه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف فما لنا بذلك يا رسول اللَّه إن نحن وفَّينا؟ قال: "الجنَّة" قالوا: ابْسُطْ يدَك. فبسط يده فبايعوه.

قال عاصم بن عمر بن قتادة: وإنما قال العباس بن عبادة ذلك ليشدَّ العقد في أعناقهم.

وزعم عبد اللَّه بن أبي بكر أنه إنما قال ذلك ليؤخر البيعة تلك الليلة، رجاءَ أن يحضُرَها عبد اللَّه بن أُبَي بن سَلُول سيِّدُ الخزرج ليكون أقوى لأمر القوم، فاللَّه أعلم أيّ ذلك كان.

قال ابن إسحاق

(5)

: فبنو النجَّار يزعمون أن أبا أمامة أسعد بن زُرارة كان أوَّلَ مَنْ ضرب على يده. وبنو عبد الأشهل يقولون: بل أبو الهيثم بن التَّيِّهان.

قال ابن إسحاق

(6)

: وحدَّثني معبد بن كعب، عن أخيه عبد اللَّه، عن أبيه كعب بن مالك قال: فكان أول من ضرب على يد رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم البرَاءُ بن مَعْرور، ثم بايع القوم.

وقال ابنُ الأثير في "أسد الغابة"

(7)

: وبنو سلمة يزعمون أنَّ أول من بايعه ليلتئذٍ كعب بن مالك.

وقد ثبت في صحيح البخاري ومسلم

(8)

من حديث الزُّهْري، عن عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن كعب،

(1)

في ط: سبعون. والمثبت من ح ودلائل البيهقي.

(2)

في الدلائل (2/ 453).

(3)

في سيرة ابن هشام (1/ 446) والروض (2/ 191).

(4)

في ح: على ما.

(5)

في سيرة ابن هشام (1/ 447) والروض (2/ 191).

(6)

في سيرة ابن هشام (1/ 447) والروض (2/ 191).

(7)

انظر الكامل (2/ 100).

(8)

فتح الباري (3889) مناقب الأنصار باب وفود الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، وصحيح مسلم (53 - 2769) التوبة =

ص: 420

عن أبيه، عن كعب بن مالك، في حديثه حين تخلَّف عن غزوة تبوك. قال: ولقد شهدتُ مع رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام، وما أُحبُّ أنَّ لي بها مَشْهَدَ بدْر، وإنْ كانتْ بَدْرٌ أذْكَرَ في الناسِ منها

(1)

.

وقال البيهقي

(2)

: أخبرنا أبو الحسين بن بُشران، أخبرنا أبو عمرو بن السمَّاك، حدَّثنا حنبل بن إسحاق، حدَّثنا أبو نُعيم

(3)

، حدَّثنا زكريا بن أبي زائدة، عن عامر الشعبي قال: انطلق رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم معه العباس عمُّه إلى السبعين من الأنصار عند العقبة تحت الشجرة، فقال: "ليتكلَّمْ متكلِّمُكم ولا يطل

(4)

الخُطْبَة، فإنَّ عليكم من المشركين عينًا، وإنْ يعلموا بكم يفضحوكم" فقال قائلهم -وهو أبو أمامة-: سلْ يا محمد لربِّكَ ما شئت، ثم سلْ لنفسك بعد ذلك ما شئت. ثم أخبرنا ما لنا من الثواب على اللَّه وعليكم إذا فعلنا ذلك؟ قال:"أسألكم لربِّي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وأسألكم لنفسي وأصحابي أن تؤوونا وتنصرونا وتمنعونا مما تمنعون منه أنفسَكم" قالوا: فما لنا إذا فعلنا ذلك؟ قال: "لكم الجنة". قالوا: فلك ذلك.

ثم رواه حنبل عن الإمام أحمد

(5)

، عن يحيى بن زكريا، عن مجالد، عن الشعبي، عن أبي مسعود الأنصاري فذكره، قال: وكان أبو مسعود أصغرَهم.

وقال أحمد

(6)

: عن يحيى، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي قال: فما سمع الشِّيبُ والشُّبَّانُ خطبةً مثلها.

وقال البيهقي

(7)

: أخبرنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمد بن محمش، أخبرنا محمد بن إبراهيم بن الفضل الفحام، أخبرنا محمد بن يحيى الذُّهْلي، أخبرنا عمرو بن عثمان الرَّقِّي، حدّثنا زهير، حدثنا عبد اللَّه بن عثمان بن خُثَيم، عن إسماعيل بن عُبيد

(8)

بن رفاعة عن أبيه قال: قدمتْ روايا خَمْر، فأتاها عبادةُ بن الصامت فخرقها وقال: إنَّا بايعنا رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في النشاط

= باب حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه.

(1)

في ط: وإن كانت بدرًا كثير في الناس منها. تصحيف وتحريف، والمثبت من ح وصحيحي البخاري ومسلم.

(2)

في الدلائل (2/ 450).

(3)

زاد البيهقي: الفضل بن دُكين.

(4)

كذا في ح، ط وفي الدلائل ومسند أحمد: ولا يطيل: وله وجه.

(5)

يعني عند البيهقي، وهي من رواية عبد اللَّه عن أبيه في المسند (4/ 120)، وهي رواية ضعيفة لضعف مجالد، والأصح أنها مرسلة عن الشعبي، كما تقدم، وكما في المسند أيضًا (4/ 120). (بشار).

(6)

المسند (4/ 120) وهو مرسل صحيح.

(7)

في الدلائل (2/ 451).

(8)

في ط: إسماعيل بن عبيد اللَّه. وكلاهما صحيح إذ يقال له عُبيد وعبيد اللَّه، والمثبت من ح والدلائل وترجمته في تهذيب الكمال للمزي (3/ 151).

ص: 421

والكسل، والنفقة في العُسْر واليُسْر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أنْ نقولَ في اللَّه لا تأخذنا فيه لومةُ لائم، وعلى أن ننصرَ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا قدم علينا يثرب ممّا نمنع منه أنفسنا وأزواجنا وأبناءنا ولنا الجنة فهذه بيعةُ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم التي بايعناهُ عليها.

وهذا إسنادٌ جيدٌ قويّ ولم يخرِّجوه.

وقد روى يونس

(1)

عن ابن إسحاق: حدَّثني عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت، عن أبيه، عن جدِّه عبادة بن الصامت. قال: بايَعْنا رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم بيعةَ الحَرْب على السمع والطاعة في عُسْرنا ويُسْرنا، ومَنْشَطِنا ومكرهِنا، وأثرة علينا، وأنْ لا ننازعَ الأمْرَ أهله، وأن نقول بالحق أينما كنَّا لا نخافُ في اللَّه لومةَ لائم.

قال ابن إسحاق

(2)

في حديثه عن معبد بن كعب، عن أخيه عبد اللَّه بن كعب بن مالك، قال: فلمَّا بايعنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صرخ الشيطانُ من رأس العَقَبة بأنفذ صوتٍ سمعتُه قطّ: يا أهلَ الجَبَاجِب، -والجباجب المنازل- هل لكم في مُذَمَّم والصُّبَّاء معه قد اجتمعوا على حربكم. قال: فقال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "هذا أزَبُّ العَقَبة، هذا ابنُ أزْيَب" -قال ابنُ هشام: ويقال ابن أُزَيْب-: "أتسمع أي عدوَّ اللَّه؟ أما واللَّه لأتفزَغَنَّ لك" ثم قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ارْفَضُّوا إلى رحالِكم". قال فقال العباس بن عُبادة بن نَضْلَة: يا رسول اللَّه، والذي بعثك بالحق إنْ شئتَ لنميلَنَّ على أهلِ منًى غدًا بأسيافنا. قال: فقال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لم نُؤْمَرْ بذلك، ولكن ارجعوا إلى رحالكم". قال: فرجعنا إلى مضاجعنا فنمنا فيها حتى أصبحنا.

فلما أصبحنا غدَتْ علينا جِلَّةُ قريش حتى جاؤونا في منازلنا فقالوا: يا معشر الخزرج، إنه قد بلغنا أنكم قد جئتم إلى صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا، وتبايعونه على حَرْبنا. وإنه واللَّه ما مِنْ حي من العرب أبغض إلينا من أن تنشبَ الحربُ بيننا وبينهم منكم. قال: فانبعث مَنْ هناك من مشركي قومنا يحلفون ما كان من هذا شيءٌ وما علمناه. قال: وصدقوا لم يعلموا. قال: وبعضنا ينظرُ إلى بعض. قال: ثم قام القومُ وفيهم الحارث بن هشام بن المغيرة المَخْزُومي وعليه نعلانِ له جَديدان. قال: فقلت له كلمة -كأني أريدُ أن أشركَ القومَ بها فيما قالوا-: يا أبا جابر، أما تستطيعُ أنْ تتَّخذ وأنت سيدٌ من سادتنا مثل نعلَيْ هذا الفتى من قريش؟ قال: فسمعها الحارث فخلعهما من رجليه ثم رمى بهما إليّ. قال: واللَّه لتنتعلنَّهما، قال: يقول أبو جابر: مَهْ أحفظتَ واللَّه الفتى، فاردُدْ إليه نعلَيْه. قال: قلت واللَّه لا أردُّهما. فألٌ واللَّه صالح، لئن صدق الفألُ لأسْلُبَنَّه.

قال ابن إسحاق

(3)

: وحدَّثني عبد اللَّه بن أبي بكر أنهم أتَوْا عبدَ اللَّه بن أُبَيّ بن سَلُول فقالوا مثل

(1)

هذه الرواية أيضًا عن البيهقي في الدلائل (2/ 452).

(2)

في سيرة ابن هشام (1/ 447) والروض (2/ 192).

(3)

في سيرة ابن هشام (1/ 448) والروض (2/ 192).

ص: 422

ما ذكر كعب من القول فقال لهم: إنَّ هذا الأمر جَسيم ما كان قومي ليتفرقوا

(1)

على مثل هذا وما علمتُه كان. قال: فانصرفوا عنه. قال: ونفر الناسُ من مِنى فتنطَّسَ القومُ الخبر

(2)

، فوجدوه قد كان، فخرجوا في طلب القوم، فأدركوا سعد بن عبادة بأذَاخِر

(3)

، والمنذرَ بن عمرو أخا بني ساعدة بن كعب بن الخَزْرَج، وكلاهما كان نقيبًا. فأمَّا المنذر فأعجزَ القومَ، وأما سعد بن عبادة فأخذوه فربَطُوا يديه إلى عُنقه بنِسْع رَحْله

(4)

، ثم أقبلوا به حتى أدخلوه مكَّة يضربونه ويجذبونه بجُمَّتِه -وكان ذا شعرٍ كثير- قال سعد: فواللَّه إني لفي أيديهم إذ طلع على نفرٌ من قريش فيهم رجلٌ وضِيءٌ أبيض، شَعْشَاع

(5)

، حلْوٌ من الرجال، فقلت في نفسي: إن يكُ عند أحدٍ من القوم خيرٌ فعند هذا. فلما دنا مني رفع يدَه فلكمني لكمةً شديدة، فقلتُ في نفسي: لا واللَّه ما عندهم بعد هذا من خير، قال: فواللَّه إني لفي أيديهم يسحبونني إذْ أوَى لي

(6)

رجلٌ ممن معهم، قال: ويحك، أما بينك وبين أحدٍ من قريش جِوَارٌ ولا عَهْد؟ قال: قلتُ بلى واللَّه، لقد كنتُ أُجِيرُ لجبيرِ بن مُطْعِم تجَّاره، وأمنعهم ممن أراد ظلمهم ببلادي. وللحارث بن حَرْب بن أمية بن عبد شمس. فقال: ويحك، فاهتِفْ باسم الرجلَيْن، واذكر ما بينك وبينهما، قال: ففعلت، وخرج ذلك الرجل إليهما فوجدهما في المسجد عند الكعبة فقال لهما: إنَّ رجلًا من الخزرج الآن يضربُ بالأبْطَح ليهتف بكما. قالا: ومن هو؟ قال: سعد بن عبادة. قالا: صدق واللَّه إنْ كان ليجير لنا تجَّارنا ويمنعهم أن يُظلموا ببلده؛ قال فجاءا فخلَّصا سعدًا من أيديهم، فانطلق. وكان الذي لَكَم سعدًا سُهيل بن عمرو. قال ابن هشام: وكان الذي أوى له أبو البَخْتَري بن هشام.

وروى البيهقي

(7)

بسنده عن عبد المجيد بن أبي عَبْس بن جَبْر

(8)

عن أبيه قال: سمعتْ قريشٌ قائلًا

(1)

كذا في ح، ط، وفي سيرة ابن هشام والروض: ليتفوَّتوا عليَّ بمثل هذا، وهو من قولهم: تفوَّت فلانٌ على فلان في كذا، وافتات عليه: إذا انفرد برأيه دونه في التصرف فيه. النهاية لابن الأثير (3/ 477/ فوت).

(2)

أي أكثروا البحث عنه؛ والتنطُّس: تدقيق النظر. الروض (2/ 204).

(3)

جاء في معجم البلدان (1/ 127): قال ابن إسحاق: لما وصل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مكة عام الفتح دخل من أذاخر حتى نزل بأعلى مكة وضربت هناك قبته اهـ.

(4)

"النِّسْع": سَيْرٌ يُنسج عريضًا على هيئة أعِنَّه النعال تُشَدُّ به الرحال، والقطعة منه نِسْعة، وسمي نسعًا لطوله. القاموس (نسع).

(5)

"الشعشاع": الطويل الحسن. القاموس (شعشع).

(6)

"أوى له": رقَّ له. القاموس (أوي).

(7)

في الدلائل (2/ 428).

(8)

في ح، ط: عن عيسى بن أبي عيسى بن جبير. وهو تحريف، وفي دلائل البيهقي: حدثنا هشام بن محمد بن السائب الكلبي قال: حدثنا عبد الحميد بن أبي عيسى بن خير -كذا قال- وهو عبد الحميد بن أبي عبس بن محمد بن خير عن أبيه قال. . . وفيه تحريف كثير أيضًا. والصواب إن شاء اللَّه هو ما أثبتُّه من تاريخ البخاري (6/ 111) والجرح والتعديل (6/ 64) والإكمال (6/ 89) رسم "عَبْس" وميزان الاعتدال (2/ 651) ولسان الميزان (4/ 55) ويبدو أن التحريف ابتدأ من الكلبي أو ممن رووا عنه، فلذلك علَّق البيهقي بقوله: كذا قال. ثم صحح =

ص: 423

يقول في الليل على أبي قُبَيس: [من الطويل]

فإن يُسْلِمِ الشَعدانِ يصبحْ محمدٌ

بمكّةَ لا يخشى خِلافَ المُخَالف

فلما أصبحوا قال أبو سفيان: من السَّعدانِ؟ أسعد بن بكر أم سعد بن هُذيم؟ فلما كانت الليلة الثانية سمعوا قائلًا يقول: [من الطويل]

أيا سعدُ سعدَ الأوسِ كُن أنت ناصرًا

ويا سعدُ سعدَ الخزرجين الغطارِفِ

أجيبا إلى داعي الهدى وتمنَّيا

على اللَّهِ فى الفِردوسِ مُنْيَةَ عارفِ

فإنَّ ثوابَ اللَّهِ للطالبِ الهدى

جِنان من الفردوس ذاتُ رفارفِ

فلما أصبحوا قال أبو سفيان: هو واللَّه سعد بن معاذ، وسعد بن عُبَادة.

‌فصل

قال ابن إسحاق

(1)

: فلما رجع الأنصار الذين بايعوا رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة الثانية إلى المدينة أظهروا الإسلام بها. وفي قومهم بقايا من شيوخ لهم على دينهم من الشرك منهم: عمرو بن الجَمُوح بن زيد بن حَرَام بن كعب بن غَنْم بن كعب بن سَلِمة، وكان ابنه مُعاذ بن عمرو ممن شهد العقبة، وكان عمرو بن الجموح من سادات بني سَلِمة وأشرافِهم، وكان قد اتخذ صنمًا من خشب في داره يقال له مناة، كما كانتِ الأشراف يصنعون، يتخذُه

(2)

إلهًا، يعظِّمه ويُطَهِّرُه، فلما أسلم فتيانُ بني سَلِمة؛ ابنه معاذ، ومعاذ بن جبل كانوا يُدلجون بالليل على صنمِ عمرٍو ذلك، فيحملونه فيطرحونه في بعض حُفَر بني سَلِمة، وفيها عِذَرُ الناس منكَّسًا على رأسه، فإذا أصبح عمرو قال: ويلكم! مَنْ عدا على إلَهنا هذه الليلة؟ ثم يغدو يلتمسُه، حتى إذا وجده غسله وطَهَّرَهُ وطيَّبه ثم قال: أما واللَّه لو أعلم مَنْ فعل بك هذا لأخْزِيَنَّه فإذا أمسى ونام عمرو عَدَوْا عليه ففعلوا مثل ذلك. فيغدو فيجده في مثل ما كان فيه من الأذى، فيغسله ويطهره ويطيبه، ثم يعدون عليه إذا أمسى فيفعلون به مثل ذلك، فلما أَكثروا عليه استخرجه من حيث ألقَوْه يوما فغسله وطهَّره، ثم جاء بسيفه فعلَّقه عليه ثم قال له: إني واللَّه ما

(3)

أعلم مَنْ يصنعُ بك ما أرى، فإنْ كان فيك خير فامتنعْ، فهذا السيف معك. فلما أمسى ونام عمرو عدَوْا عليه فأخذوا السيف من عتقه ثم أخذوا كلْبًا ميتًا فقرنوه به بحبل ثم ألْقَوْه في بئرٍ من آبار بني سَلِمة فيها عِذَرٌ من عِذَر الناس، وغدا عمرو بن الجموح فلم يجده في مكانه الذي كان به، فخرج يتبعه حتى إذا وجده في تلك البئر منكَسًا

= الاسم، غير أن محقق الدلائل لم يعر هذا التصحيح اهتمامه فبقيت بعض الأسماء محرفة كما كتبها النساخ أو أخرجتها لنا المطبعة. وذكر أبو عبس في الإصابة في الكنى محرفًا أيضًا إلى: أبو عبيس.

(1)

في سيرة ابن هشام (1/ 452) والروض (2/ 205).

(2)

في ح: يصنعون شجرة، وفي السيرة تتخذه إلهًا تعظمه وتطهِّره.

(3)

في ح: لا.

ص: 424

مقرونًا بكلب ميت، فلما رآه أبصر شأنه، وكلَّمه مَنْ أسلم من قومه فأسلم برحمةِ اللَّه، وحسُن إسلامه، فقال حين أسلم، وعرَفَ من اللَّه ما عرف، وهو يذكر صنمه ذلك وما أبصر من أمره، ويشكر اللَّه الذي أنقذَهُ مما كان فيه من العمى والضلالة ويقول:[من الرجز]

واللَّهِ لو كنتَ إلهًا لم تكُنْ

أنت وكلبٌ وسْطَ بئرٍ في قَرَنْ

أُفٍّ لملقاكَ إلهًا مُسْتَدَنْ

الآنَ فتَّشناك عن سوء الغَبَن

(1)

الحمدُ للَّه العليِّ ذي المِنَنْ

الواهبِ الرزَّاقِ ديَّان الدِّيَن

(2)

هو الذي أنقذني من قبل أنْ

أكونَ في ظلمة قبير مُرْتَهَن

(3)

‌فصل يتضمن أسماء من شهد بيعة العقبة الثانية وجملتهم على ما ذكره ابن إسحاق رحمه الله ثلاثة وسبعون رجلًا وامرأتان

فمن الأوس أحدَ عشرَ رجلًا؛ أُسيد بن حُضير أحدُ النقباء، وأبو الهيثم بن التَّيِّهان بدريٌّ أيضًا، وسلمة بن سلامة بن وَقْش بدري، وظُهير بن رافع، وأبو بُرْدَة بن نيار

(4)

بدري، ونُهير بن الهيثم بن نابي بن مَجْدَعة بن حارثة، وسعدُ بن خَيْثمة أحدُ النقباء بدريّ وقتل بها شهيدًا، ورفاعة بن عبد المنذر بن زَنْبَر

(5)

نقيبٌ بَدْريّ، وعبد اللَّه بن جُبير بن النعمان بن أمية بن البُرَك بدري، وقُتل يوم أحد شهيدًا أميرًا على الرُّماة، ومَعْنُ بن عدي بن الجَدّ بن عَجْلان بن الحارث بن ضُبيعة البَلَوِيّ، حليفٌ للأوس، شهد بدرًا وما بعدها وقتل باليمامة شهيدًا، وعُويم بن ساعدة شهد بدرًا وما بعدها.

(1)

"مستدن": قال أبو ذر في شرح السيرة: ذليل مستعبد. وقال السهيلي في الروض (2/ 214): من السدانة وهي خدمة البيت وتعظيمه. والغَبَن في الرأي اهـ. وفي القاموس: الضعف.

(2)

"الدِّيَن": جمع دينة، وهي العادة. ويجوز أن يكون أراد بالدين: الأديان، أي هو ديَّان أهل الأديان. الروض (2/ 214).

(3)

زادت سيرة ابن هشام هذا البيت:

بأحمد المهدي النبيِّ المُرْتَهنْ

(4)

في ط: دينار تحريف، والمثبت من ح وسيرة ابن هشام والقاموس (نير).

(5)

في ح: زبير. وفي ط: زنير. وكلاهما تصحيف، والمثبت من السيرة وتبصير المنتبه.

ص: 425

ومن الخَزْرَج اثنانِ وستونَ رجلًا؛ أبو أيوب خالد بن زيد وشهد بدرًا وما بعدها، ومات بأرض الروم زمن معاوية شهيدًا. ومعاذ بن الحارث، وأخواه عَوف ومُعَوِّذ وهم بنو عَفْراء بدريُّون، وعُمارة بن حَزْم شهد بدرًا وما بعدها وقتل باليمامة؛ وأسعد بن زرارة أبو أمامة أحدُ النقباء مات قبل بَدْر، وسهل بن عَتيك بدري، وأوس بن ثابت بن المنذر بدري، وأبو طلحة زيد بن سهل بدري، وقيسُ بن أبي صعصعة عمرو بن زيد بن عوف بن مبذول بن عمرو بن غَنْم بن مازن كان أميرًا على الساقة يوم بدر، وعمرو بن غَزِيَّة، وسعد بن الرَّبيع أحدُ النقباء شهد بدرًا وقُتل يوم أحد، وخارجة بن زيد شهد بدرًا وقتل يوم أحد، وعبدُ اللَّه بن رواحة أحد النقباء شهد بدرًا وأُحُدًا والخندق، وقتل يوم مُؤْتة أميرًا، وبَشِير بن سَعْد بدري، وعبد اللَّه بن زيد بن ثعلبة بن عبد ربه

(1)

الذي أُرِيَ النداء [للصلاة]

(2)

وهو بدري، وخلاد بن سُويد بدريٌّ أحُدِيٌّ خَنْدَقيٌّ، وقتل يوم بني قُريَظة شهيدًا، طُرحت عليه رَحَى فشدخَتْه، فيقال إنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"إنَّ له لأجْرَ شهيدَيْن"

(3)

وأبو مسعود عُقْبَة بن عمرو البدري - قال ابن إسحاق: وهو أحدَثُ مَنْ شهد العقبة سِنًّا ولم يشهد بدرًا، وزياد بن لَبِيد بدري، وفروة بن عمرو بن وَدْفة

(4)

بدريّ، وخالد بن قيس بن مالك بدري، ورافع بن مالك أحد النقباء، وذَكْوان بن عبد قيس بن خَلْدَة بن مُخَلَّد بن عامر بن زُرَيق؛ وهو الذي يقال له مهاجري أنصاري لأنه أقام عند رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم بمكة حتى هاجر منها وهو بدريٌّ قُتل يوم أحُد، وعباد بن قيس بن عامر بن خالد بن عامر بن زريق بدري، وأخوه الحارث بن قيس بن عامر بدريٌّ أيضًا، والبراء بن مَعْرور أحَدُ النقباء وأول من بايع فيما تزعم بنو سَلِمة، وقد مات قبل مَقْدَم النبيِّ صلى الله عليه وسلم المدينة، وأوصى له بثلُث ماله، فردَّه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على وَرَثَتِه، وابنهُ بشْر بن البَرَاء وقد شهد بدرًا وأحدًا والخندق وماتَ بخَيْبَر شهيدًا من أكْلِه مع رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم من تلك الشاة المَسْمومة رضي الله عنه، وسِنَان بن صَيْفي بن صَخْر بدري، والطُّفيل بن النعمان بن خَنْساء بدري، قتل يوم الخندق، ومعقل بن المنذر بن سَرْح بدري، وأخوه يزيد بن المنذر بدري، ومسعود بن زيد

(5)

بن سُبيع، والضحاك بن

(1)

كذا في ح، ط وأصول سيرة ابن هشام وفي الاستيعاب في الإصابة: عبد اللَّه بن زيد بن ثعلبة بن عبد اللَّه.

(2)

من سيرة ابن هشام (1/ 459).

(3)

أخرجه ابن سعد في الطبقات (3/ 531) عن أحمد بن إبراهيم قال: أخبرنا أبو فضالة الفرج بن فضالة عن عبد الخبير بن إسماعيل بن محمد بن ثابت بن قيس بن شماس عن أبيه عن جده فذكره. أقول: وإسناده ضعيف.

(4)

في سيرة ابن هشام: وذفة. ويقال: وَدْفَة. وضبطه ابن حجر في آخر ترجمته في الإصابة بقوله: ضبطه الداني في كتاب أطراف الموطأ له بفتح الواو وسكون الدال المهملة بعدها قاف. قال: وهي الروضة. قلت: والصحيح هو ضبط ابن هشام لأنه ليس في المعجمات: ودقة بالقاف بمعنى الروضة إنما هو: وَدْفة. والذال المعجمة لغة فيه. وبهذا ضبطه ابن دريد في الاشتقاق (ص 461) قال: والوَذَفَة زعموا: الروضة. ويقال: استوذفتُ الإناء إذا استقطرت ما فيه. وقال السهيلي في الروض (2/ 215): وَدْفة بدال مهملة وهو الأصح.

(5)

في السيرة: يزيد والمثبت من ح، ط والإصابة في ترجمته.

ص: 426

حارثة بن زيد بن ثعلبة بدري، ويزيد بن خِذَام بن سُبيع

(1)

، وجبَّار بن صَخْر [بن أمية]

(2)

بن خنساء بن سنان بن عُبيد بدري، والطفيل بن مالك بن خنساء بدري، وكعب بن مالك، وسليم بن عمرو

(3)

بن حَديدة بدري، وقُطْبة بن عامر بن حَديدة بدري، وأخوه أبو المنذر يزيد بدريٌّ أيضًا، وأبو اليَسَر كعب بن عمرو بدري، وصَيْفيّ بن سَوَاد بن عبَّاد، وثعلبة بن غَنَمة بن عدي بن نابي بدري واستشهد بالخندق، وأخوه عمرو بن غنمة بن عدي، وعَبْس بن عامر بن عدي بدري، وخالد بن عمرو بن عدي بن نابي، وعبد اللَّه بن أُنَيس حَليفٌ لهم من قضاعة، وعبد اللَّه بن عمرو بن حَرَام أحد النقباء بدري، واستشهد يوم أحد، وابنه جابر بن عبد اللَّه، ومعاذ بن عمرو بن الجَمُوح بدري، وثابت بن الجِذْع بدري، وقتل شهيدًا بالطائف، وعمير بن الحارث بن ثعلبة بدري، وخَديج بن سلامة حليفٌ لهم من بَلِيّ، ومعاذ بن جَبَل، شهد بدرًا وما بعدها ومات بطاعون عَمَوَاس في خلافة عمر بن الخطاب، وعُبادة بن الصامت أحد النقباء شهد بدرًا وما بعدها، والعباس بن عُبَادة بن نَضْلَة وقد أقام بمكة حتى هاجر منها

(4)

فكان يقال له مهاجري أنصاري أيضًا، وقتل يوم أحدُ شهيدًا، وأبو عبد الرحمن يزيد بن ثَعلبة بن خَزْمة

(5)

بن أصْرم حليفٌ له من بَلِى، وعمرو بن الحارث بن كِنْدَة

(6)

، ورفاعة بن عمرو بن زيد بدري، وعُقبة بن وهب بن كَلَدة، حليفٌ لهم بدري، وكان ممن خرج إلى مكة فأقام بها حتى هاجر منها فهو ممن يقال له مهاجريٌّ أنصاريٌّ أيضًا، وسعدُ بن عُبَادة بن دُلَيْم أحدُ النقباء، والمنذر بن عمرو نقيبٌ بدري أُحُديّ، وقُتل يوم بئر معونة أميرًا، وهو الذي يُقال له:"أعْنَقَ لِيَمُوت"

(7)

وأما المرأتان فأمُّ عُمارة نُسيبة بنت كعب بن عمرو بن عوف بن مَبْذول بن عمرو بن غَنْم بن مازن بن النجَّار المازنيَّة النجَّارية. قال ابن إسحاق: وقد كانتْ شهدتِ الحربَ مع رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم وشهدتْ معها أختُها وزوجُها زيد بن عاصم [بن كعب، وابناها

(1)

في الإصابة في ترجمة يزيد: يزيد بن خدام بن سبيع بموحدة مصغَّرًا قال ابن حجر: واختلف النسخ في مغازي موسى بن عقبة، ففي بعضها كذلك وفي بعضها حرام وفي بعضها خدارة.

(2)

زيادة من السيرة وجمهرة الأنساب لابن حزم (ص 359).

(3)

في ط: عامر، والمثبت من ح وسيرة ابن هشام، وكلاهما صحيح كما قال ابن حجر في الإصابة: عمرو أو عامر.

(4)

يعني حتى هاجر مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

(5)

ويقال فيه: خَزَمة بالتحريك. الروض (2/ 215).

(6)

في السيرة والروض: لبدة. وأظنه تصحيفًا.

(7)

في ط: أعتق بمثناة من فوق تصحيف، والصواب بالنون كما جاء في ح وسيرة ابن هشام. والقائل هو الرسول صلى الله عليه وسلم، أخرجه البيهقي في الدلائل باب غزوة بئر معونة (3/ 342) بسنده عن موسى بن عقبة، وفيه: أعتق مصحَّف. قال ابن الأثير في النهاية (3/ 310/ عنق): ومنه الحديث أنه بعث سرية، فبعثوا حرام بن ملحان بكتاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى بني سليم فانتحى له عامر بن الطفيل فقتله، فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم قتله قال: أعنق ليموت. أي إن المنية أسرعت به وساقته إلى مصرعه. اهـ. وكذا ذكره الزمخشري في الفائق (3/ 72) وقال: أعنق: من العَنَق، وهو سيرٌ فسيح.

ص: 427

حَبيب

(1)

وعبد اللَّه، وابنها حَبيب هذا هو الذي قتله مُسيلمة الكذَّاب]

(2)

حين جعل يقول له: أتشهدُ أنَّ محمدًا رسولُ اللَّه؟ فيقول نعم، فيقول: أتشهدُ أني رسولُ اللَّه؟ فيقول: لا أسمع فجعل يقطِّعُه عضوًا عضوًا حتى مات في يديه، لا يزيدُه على ذلك؛ فكانت أمُّ عُمارة ممن خرج إلى اليمامة مع المسلمين حين قُتل مسيلمة ورجعتْ وبها اثنا

(3)

عشر جرحًا من بينِ طعنةٍ وضربة رضي الله عنها وأرضاها، والأخرى أمُّ مَنيع أسماء ابنة عمرو بن عدي بن نابي بن عمرو بن سواد بن غَنْم بن كعب بن سَلِمة رضي الله عنها.

‌باب بُدُوِّ الهجرة من مكة إلى المدينة

قال الزُّهْري، عن عروة، عن عائشة قالت: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو يومئذ بمكة- للمسلمين: "قد أُريتُ دار هجرتِكم، أريتُ سَبْخَةً ذاتَ نَخْلِ بين لابَتَيْنِ"

(4)

فهاجر مَنْ هاجر قِبَلَ المدينة حينَ ذَكَر رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، ورجع إلى المدينة [بعضُ] مَنْ كان هاجر إلى أرض الحبشة من المسلمين.

رواه البخاري

(5)

.

وقال أبو موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم: "رأيتُ في المنام أني أهاجرُ من مكَّةَ إلى أرضٍ بها نخل، فذهب وَهَلي

(6)

إلى أنها اليمامةُ أو هَجَر، فإذا هي المدينة يَثْرِب".

وهذا الحديث قد أسندَهُ البخاري في مواضع أخر بطوله، ورواه مسلم كلاهما عن أبي كُريب

(7)

، زاد مسلم: وعبد اللَّه بن بَرَّاد

(8)

كلاهما عن أبي أسامة، عن بُرَيد

(9)

بن عبد اللَّه بن أبي بُرْدة عن جدِّه أبي بُرْدَة، عن أبي موسى عبد اللَّه بن قيس الأشعري، عن النبي صلى الله عليه وسلم الحديث بطوله.

(1)

في ط: خبيب بخاء معجمة وهو تصحيف، والمثبت من سيرة ابن هشام وترجمته في الإصابة بحاء مهملة وبوزن عَظِيم.

(2)

ما بين المعقوفين ليس في ح.

(3)

في ح، ط: اثني عشر جرحًا.

(4)

وهما الحَرَّتان، والحرَّة أرض حجارتها سود. فتح الباري (7/ 234).

(5)

فتح الباري (2297) الكفالة باب جوار أبي بكر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وما مر بين معقوفين منه.

(6)

وَهَلتُ بالفتح أهِلُ وهلًا: إذا ذهب وهمك إليه وأنت تريد غيره مثل وهمت. فتح الباري (12/ 422).

(7)

أخرجه البخاري فتح (7/ 226) مناقب الأنصار أول باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأخرجه أيضًا في (3622) المناقب باب علامات النبوة (7035) التعبير باب إذا رأى بقرًا تنحر، وصحيح مسلم (20 - 2272) الرؤيا باب رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم.

(8)

في ط: مراد. تصحيف، والمثبت من ح وصحيح مسلم والإكمال (1/ 244).

(9)

في ح، ط: يزيد تصحيف، والمثبت من صحيح مسلم والإكمال (1/ 227).

ص: 428

وقال الحافظ أبو بكر البيهقي

(1)

: أخبرنا أبو عبد اللَّه الحافظ إملاءً، أخبرنا أبو العباس القاسم بن القاسم السِّياري بمَرْو، وحدثنا إبراهيم بن هلال، حدثنا العامري، عن علي بن الحسن بن شقيق، حدَّثنا عيسى بن عُبيد الكِنْدي، عن غيلان بن عبد اللَّه العامري، عن أبي زُرْعَة بن عمرو بن جرير، عن جرير، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"إن اللَّه أوحَى إليَّ: أيَّ هؤلاء البلاد الثلاث نزلتَ فهيَ دارُ هجرتك؛ المدينة، أو البحرَيْن، أو قِنَّسْرِين" قال أهلُ العلم: ثم عزَمَ له على المدينة فأمر أصحابَهُ بالهجرة إليها.

هذا حديثٌ غريبٌ جدًا، وقد رواهُ الترمذي في المناقب من جامعة

(2)

منفردًا به عن أبي عمار الحسين بن حُريث، عن الفضل بن موسى، عن عيسى بن عُبيد، عن غيلان بن عبد اللَّه العامريّ، عن أبي زُرعة بن عمرو بن جرير، عن جرير، قال: قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللَّه أوحَى إليَّ: أيَّ هؤلاء الثلاثة نزلت فهي دارُ هجرتك؛ المدينة، أو البَحْرَين، أو قِنَّسْرين". ثم قال: غريبٌ لا نعرفه إلا من حديث الفضل، تفرَّد به أبو عمار.

قلت: وغيلان بن عبد اللَّه العامري هذا ذكره ابن حِبَّان في "الثقات"

(3)

إلا أنه قال: روى عن أبي زرعة حديثًا منكرًا في الهجر

(4)

، واللَّه أعلم.

قال ابنُ إسحاق

(5)

: لما أذن اللَّه تعالى في الحرب [بقوله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج: 39 - 40] الآية. فلما أذنَ اللَّه في الحرب]

(6)

وبايعه هذا الحيُّ من الأنصار على الإسلام والنُّصْرة له، ولمن اتبعه، وأوَى إليهم من المسلمين، أمر رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم أصحابَهُ من المهاجرين من قومه ومن معه بمكة من المسلمين بالخروج إلى المدينة والهجرة إليها، واللحوق بإخوانهم من الأنصار وقال:"إن اللَّه قد جعل لكم إخوانًا ودارًا تأمنونَ بها" فخرجوا أرسالًا، وأقام رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بمكة ينتظر أن يأذن له ربُّه في الخروج من مكة والهجرة إلى المدينة، فكان أولَ من هاجر إلى المدينة من أصحاب رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم من المهاجرينَ من قريش من بني مخزوم، أبو سَلَمة عبد اللَّه بن عبد الأسَد بن هلال بن عبد اللَّه بن عمر بن مَخْزوم وكانت هجرته إليها قبل بيعة العقبة بسنة حين آذَتْهُ قريش مَرْجِعَهُ من الحبشة فعزم على الرجوع إليها ثم بلغه أن بالمدينة لهم إخوانًا فعزم إليها.

(1)

في دلائل النبوة (2/ 458).

(2)

جامع الترمذي (3923) المناقب باب في فضل المدينة.

(3)

الثقات (7/ 311).

(4)

قال بشار: هو شبه الموضوع.

(5)

في سيرة ابن هشام (1/ 468) والروض (2/ 211).

(6)

ليس ما بين المعقوفين في سيرة ابن هشام.

ص: 429

قال ابن إسحاق

(1)

: فحدَّثني أبي عن سلمة بن عبد اللَّه بن عمر بن أبي سَلَمة، عن جدَّته أمِّ سلمة قالت: لما أجمع أبو سلمة الخروجَ إلى المدينة رحلَ لي بعيرَه، ثم حملني عليه، وجعل معي ابني سلمةَ بن أبي سلمة في حَجْري، ثم خرج يقود بي بعيرَه، فلما رأتْهُ رجالُ بني المغيرة قاموا إليه فقالوا: هذه نفسُك غلبتَنا عليها، أرأيت صاحبتنا

(2)

هذه علامَ نتركُكَ تسيرُ بها في البلاد؟ قالت: فنزعوا خطام البعير من يده وأخذوني منه. قالت: وغضب عند ذلك بنو عبد الأسد رَهْطُ أبي سلمة فقالوا: لا واللَّه لا نتركُ ابننا عندها إذْ نزعتموها من صاحبنا. قالت: فتجاذبوا ابني سلمة بينهم حتى خلعوا يدَه، وانطلق به بنو عبد الأسد، وحبسني بنو المغيرة عندهم، وانطلق زوجي أبو سلمة إلى المدينة. قالت: ففُرِّق بيني وبين ابني وبين زوجي. قالت: فكنت أخرجُ كل غداة فأجلسُ في الأبْطَح، فما أزالُ أبكي حتى امسي -سنة أو قريبًا منها- حتى مرَّ بي رجلٌ من بني عمِّي أحد بني المغيرة، فرأى ما بي فرَحِمني، فقال لبني المغيرة: ألا تخرجون

(3)

من هذه المسكينة؟ فرَّقتم بينها وبين زوجها وبين ولدها؟ قالت: فقالوا لي الحَقي بزوجك إنْ شئت. قالت: فردَّ بنو عبد الأسد إليَّ عند ذلك ابني. قالت: فارتحلتُ بعيري، ثم أخذتُ ابني فوضعتُه في حَجْري، ثم خرجتُ أريد زوجي بالمدينة. قالت: وما معي أحدٌ من خلق اللَّه. [قالت: فقلت: أتبلَّغ بمن لَقيتُ حتى أقدم على زوجي.] حتى إذا كنتُ بالتَّنْعيم

(4)

لقيتُ عثمان بن طلحة بن أبي طلحة أخا بني عبد الدار فقال: إلى أين يا ابنة أبي أميَّة؟ قلت: أريد زوجي بالمدينة. قال: أو ما معك أحد؟ قلت: ما معي أحدٌ إلا اللَّه وبُني هذا. فقال: واللَّه مالك من مَتْرك. فأخذ بخطام البعير، فانطلق معي يهوي بي، فواللَّه ما صحبتُ رجلًا من العرب قط، أرى أنه كان أكرم منه، كان إذا بلغ المنزل أناخَ بي ثم استأخَرَ عني، حتى إذا نزلت استأخر ببعيري فحط عنه، ثم قيدَه في الشجر، ثم تنحَّى إلى شجرةٍ فاضطجع تحتها. فإذا دنا الرَّواح قام إلى بعيري فقدَّمه فرحَله ثم استأخر عني وقال: اركبي. فإذا ركبتُ فاستويتُ على بعيري أتَى فأخذ بخطامه، فقادني حتى ينزل بي، فلم يزلْ يصنعُ ذلك بي حتى أقدمني المدينة، فلما نظر إلى قرية بني عمرو بن عوف بقُبَاء قال: زوجك في هذه القرية -وكان أبو سلمة بها نازلًا- فادْخُليها على بركة اللَّه. ثم انصرف راجعًا إلى مكَّة. فكانت تقول: ما أعلمُ أهلَ بيتٍ في الإسلام أصابهم ما أصابَ آلَ أبي سَلَمة، وما رأيتُ صاحبًا قطُّ كان أكرم من عثمانَ بن طلحة.

(1)

في سيرة ابن هشام (1/ 469) والروض (2/ 211) وما يأتي بين معقوفين منهما.

(2)

في السيرة والروض: صاحبتك.

(3)

كذا في ط والسيرة، وفي ح بمهملات. قلت: لعل الصواب: تحرَّجُون. من قولهم: تحرَّج من كذا: إذا تأثم. اللسان (حرج).

(4)

"التنعيم": موضع بمكة في الحِلّ، وهو بين مكة وسَرِف، على فرسخين من مكة وقيل على أربعة. معجم البلدان (2/ 49).

ص: 430

أسلم عثمان بن طلحة بن أبي طلحة العبدري هذا بعد الحُديبية، وهاجر هو وخالدُ بن الوليد معًا، وقتل يوم أحد أبوه وإخوته؛ الحارث وكلاب ومُسافع، وعمه عثمان بن أبي طلحة. ودَفَع إليه رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم يوم الفتح وإلى ابنِ عمه شيبة والد بني شيبة مفاتيحَ الكعبة، أقرَّها عليهم في الإسلام كما كانتْ في الجاهليَّة، ونزل في ذلك قولُه تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58].

قال ابن إسحاق

(1)

: ثم كان أوَّلَ من قدمها من المهاجرين بعد أبي سلمة عامرُ بن ربيعة حليفُ بني عدي، معه امرأتُه ليلى بنتُ أبي حَثْمَة العدويَّة، ثم عبدُ اللَّه بن جحش بن رئاب بن يَعْمر بن صَبْرَة بن مرَّة بن كبير

(2)

بن غَنْم بن دُودان بن أسد بن خُزيمة، حليفُ بني أمية بن عبد شمس، احتمل بأهله وبأخيه عبد أبي أحمد

(3)

.

وكان أبو أحمد رجلًا ضرير البصر، وكان يطوفُ مكة أعلاها وأسفلها بغير قائد، وكان شاعرًا، وكانت عنده الفارعة بنت أبي سفيان بن حرب، وكانت أمُّه أميمة بنت عبد المطلب بن هاشم، فغُلِّقَتْ دارُ بني جحش هجرةً، فمرَّ بها عتبة بن ربيعة والعباس بن عبد المطلب وأبو جهل بن هشام وهم مُصْعدون إلى أعلى مكة، فنظر إليها عتبة تخفِقُ أبوابُها يَبَابًا ليس بها ساكن، فلما رآها كذلك تنفس الصُّعَداء وقال:[من البسيط]

وكلّ دارٍ وإنْ طالتْ سلامتُها

يومًا ستدركُها النَّكباءُ والحُوبُ

(4)

قال ابنُ هشام: وهذا البيت لأبي دُوَاد الإيادي في قصيدةٍ له -[قال السُّهيلي

(5)

: واسم أبي دُوَاد حنظلة بن شرقي وقيل جارية]

(6)

(7)

- ثم قال عتبة: أصبحت دارُ بني جحش خلاءً من أهلها. فقال أبو جهل: وما تبكي عليه من قُلِّ بن قُلِّ

(8)

ثم قال -يعني العباس-: هذا من عمل ابنِ أخيك هذا، فرَّق جماعتنا، وشتَّت أمْرَنا، وقطعَ بيننا.

(1)

في سيرة ابن هشام (1/ 470) والروض (2/ 212).

(2)

في سيرة ابن هشام والروض: كثير. وهو تصحيف، صوابه من الإكمال (7/ 160).

(3)

زادت نسخة ط هنا ما نصه: اسمه عبد كما ذكره ابن إسحاق وقيل: ثمامة. قال السهيلي: والأول أصح. وليست هذه الزيادة في ح وربما كانت هذه الزيادة من تعليقات على الكتاب فأدخلها النساخ في المتن واللَّه أعلم.

(4)

الحُوب: التوجُّع.

(5)

في الروض (2/ 216).

(6)

ما بين المعقوفين ليس في ح. ولعله من تعليقات على الأصل ثم أدخله النساخ في المتن. انظر الحاشية السابقة.

(7)

في ط: حارثة. وهو تصحيف، والمثبت من الروض (2/ 216) والخزانة (9/ 590) والإكمال (2/ 3) وفيها: جارية بن الحجاج.

(8)

في ط: فل بن فل بالفاء، وهو تصحيف، والمثبت من السيرة وفيه: قال ابن هشام: القُلّ: الواحد. قال لبيد بن ربيعة: [من المنسرح]

كل بني حرة مصيرهم

قلٌّ وإن أكثرتْ من العَدَدِ

ص: 431

قال ابن إسحاق

(1)

: فنزل أبو سلمة وعامر بن ربيعة وبنو جحش بقُبَاء على مُبَشِّر بن عبد المنذر، ثم قدم المهاجرون أرسالا. قال: وكان بنو غَنْم بن دُودان أهلَ إسلام قد أوْعَبوا إلى المدينة هجرةً، رجالُهم ونساؤهم

(2)

، وهم عبد اللَّه بن جحش، وأخوه أبو أحمد، وعُكَاشة بن مِحْصَن، وشجاع، وعقبة ابنا وهب، وأرْبد بن حُمَيِّر

(3)

ومُنقذ بن نُبَاتة، وسعيد بن رقيش، ومُحرز بن نَضْلَة، وزيد بن رُقيش، وقيس بن جابر، وعمرو بن مِحْصن، ومالك بن عمرو، وصفوان بن عمرو، وثَقْف بن عمرو، وربيعة بن أكثم. والزُّبير بن عبيدة، وتمَّام بن عُبيدة، وسَخْبَرة بن عبيدة، ومحمد بن عبد اللَّه بن جحش.

ومن نسائهم زينبُ بنتُ جَحْش، وحَمْنة بنت جحش، وأم حبيب بنت جحش، وجُدَامة

(4)

بنت جَنْدَل، وأم قيس بنت مِحْصَن، وأمّ حبيب بنت ثُمَامة، وآمنة بنت رُقيش، وسَخْبَرَة بنت تميم.

قال أبو أحمد بن جحش في هجرتهم إلى المدينة

(5)

: [من الطويل]

ولما رأتني أمُّ أحمدَ غاديا

بذمَّةِ مَنْ أخشى بغيبٍ وأرهَبُ

تقولُ فإمَّا كنتَ لابدَّ فاعلًا

فيمِّمْ بنا البلدانَ ولْنَنْأ يثربُ

فقلتُ لها ما يثربٌ بمظَنَّةٍ

(6)

وما يشأ الرحمنُ فالعبدُ يركب

إلى اللَّهِ وجْهي والرسولِ ومن يُقِمْ

إلى اللَّه يومًا وجهَه لا يُخَيَّب

فكَمْ قد تركنا من حميم مُناصحٍ

وناصحةٍ تبكي بدمعٍ وتندُب

ترى أن وترًا نائيًا عن بلادنا

ونحن نرى أنَّ الرغائبَ نطلُب

دعوتُ بني غَنْم لحقْنِ دمائهم

وللحقِّ لما لاح للناس مَلْحَبُ

أجابوا بحمدِ اللَّه لما دعاهُمُ

إلى الحق داعٍ والنجاحِ فأوعبوا

وكنَا وأصحابًا لنا فارقوا الهُدَى

أعانوا علينا بالسلاح وأجْلبوا

كفَوجَيْن أمَّا مِنْهُما فموفَّقٌ

على الحق مهديٌّ وفوجٌ معذَّبُ

(1)

في السيرة لابن هشام (1/ 471) والروض (2/ 213).

(2)

"أوعب بنو فلان": جلَوْا أجمعون. اللسان (وعب).

(3)

في ط: جُميرة. وسقط من ح، وفي سيرة ابن هشام: ابن حُمَيِّرة، ويقال ابن حُمَيْرَة. والمثبت من الإكمال (2/ 517) والإصابة وقال ابن حجر فيه: أربد بن جُبير، وقيل ابن حمزة، وقيل ابن حُمَيِّر مصغَّرًا مثقَّلًا، وبهذا الأخير جزم ابن ماكولا.

(4)

في سيرة ابن هشام: جذامة. بالذال المعجمة، تصحيف، والصواب بالمهملة من القاموس. وانظر الروض (2/ 218).

(5)

الأبيات في السيرة لابن هشام (1/ 473) والروض (2/ 213).

(6)

في سيرة ابن هشام والروض: بل يثرب اليوم وجهنا.

ص: 432

طَغَوا وتمنَّوا كِذبةً وأزلَّهم

عن الحقِّ إبليسٌ فخابوا وخيّبوا

ورعنا إلى قول النبيّ محمدٍ

فطابَ ولاةُ الحق منا وطُيِّبوا

نمُتُّ بأرحامٍ إليهم قريبةٍ

ولا قُرْبَ بالأرحام إذ لا تُقَرَّبُ

فأيُّ ابنِ أختٍ بعدنا يأمننَّكم

وأيَّةُ صِهْرٍ بعد صهري يرقَّب

ستعلم يومًا أيُّنا إذ تزايلوا

وزُيِّل أمرُ الناسِ للحقِّ أصوبُ

قال ابن إسحاق

(1)

: ثم خرج عمر بن الخطاب، وعياش بن أبي ربيعة حتى قدما المدينة. فحدَّثني نافع، عن عبد اللَّه بن عمر، عن أبيه، قال: اتَّعدنا لما أردتُ الهجرةَ إلى المدينة أنا وعيَّاش بن أبي ربيعة، وهشام بن العاص؛ التَّنَاضب من أضاةِ بني غِفَار فوق سَرِف

(2)

، وقلنا: أيُّنا لم يُصبح عندها فقد حُبس فليمض صاحباه. قال: فأصبحتُ أنا وعياش عند التَّناضب

(3)

، وحُبس هشام وفُتن فافتتن؛ فلما قدمنا المدينة نزلنا في بني عمرو بن عوف بقُباء، وخرج أبو جهل بن هشام والحارث بن هشام إلى عياش -وكان ابنُ عمِّهما وأخاهما لأمِّهما- حتى قدما المدينة ورسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بمكة، فكلَّماه وقالا له: إنَّ أمك قد نذرَتْ أن لا يمسَّ رأسها مشط حَتَّى تراك، ولا تستظلّ من شمس حتى تراك، فرقَّ لها، فقلت له: إنه واللَّه إنْ يريدك القوم إلا ليفتنوك عن دينك فاحْذَرْهم، فواللَّه لو قد آذى أمَّك القملُ لامتشطَتْ، ولو قد اشتدَّ عليها حرُّ مكة لاستظلَّتْ. قال فقال: أبِرُّ قسم أُمِّي ولي هنالك مالٌ فآخذه. قال: قلت واللَّه إنَّك لتعلمُ أني لمِن أكثرِ قريشٍ مالًا، فلك نصفُ مالي ولا تذهبْ معهما. قال: فأبَى عليَّ إلا أن يخرج معهما، فلما أبى إلا ذلك قلت: أمَّا إذْ فعلت ما فعلت، فخُذْ ناقتي هذه فإنَّها ناقة نَجِيبة ذَلُول فالْزَمْ ظهرَها، فإنْ رابكَ من أمر القوم رَيْبٌ فانْجُ عليها.

فخرج عليها معهما حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال له أبو جهل: يا أخي، واللَّه لقد استغلظتُ بعيري هذا، أفلا تُعْقِبُني على ناقتك هذه؟ قال: بلى. فأناخ وأناخا ليتحوَّل عليها، فلما استوَوْا بالأرض عدَوَا عليه فأوثقاهُ رباطًا، ثم دخلا به مكة، وفَتَناهُ فافتتن.

قال عمر: فكنَّا نقول لا يقبلُ اللَّهُ ممنِ افتتن توبةً. وكانوا يقولون ذلك لأنفسهم، حتى قدم رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم المدينة، وأنزل اللَّه:{قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} [الزمر: 53 - 55].

قال عمر: فكتبتها بيدي، وبعثتُ بها إلى هشام بن العاص. قال هشام: فلما أتتني جعلتُ اقرؤها بذي

(1)

في سيرة ابن هشام (1/ 474) والروض (2/ 219).

(2)

أضاءة بني غفار: على عشرة أميال من مكة، والأضاة: الغدير، كأنها مقلوب من وضاة، واشتقاقه من الوضاءة بالمد وهي النظافة. الروض (2/ 227).

(3)

الضبط من معجم البلدان (2/ 47) وبعضهم يضمُّ الضاد وهو موضع قرب مكة.

ص: 433

طُوَى

(1)

أُصَعِّد بها فيه وأُصَوِّب أخرى ولا أفهمها حتى قلت: اللهم فهِّمْنيها، فألقى اللَّه في قلبي أنها إنما أُنزلت فينا وفيما كنَّا نقولُ في أنفسنا، ويقال فينا. قال: فرجعتُ إلى بعيري فجلستُ عليه فلحقتُ برسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم بالمدينة.

وذكر ابنُ هشام

(2)

أنَّ الذي قدم بهشام بن العاص، وعياش بن أبي ربيعة إلى المدينة؛ الوليد بن الوليد بن المغيرة، سرقهما من مكة وقدِم بهما يحملهما على بعيره وهو ماشٍ معهما، فعثر فدميَتْ أصبعُه فقال:[من الرجز]

هل أنتِ إلا أصبعٌ دَميتِ

وفي سبيلِ اللَّه ما لَقِيتِ

وقال البخاري

(3)

: حدَّثنا أبو الوليد، حدَّنا شعبة، أنبأنا أبو إسحاق، سمع البراء قال: أوَّلُ مَنْ قدم علينا مصعبُ بن عُمير وابنُ أمِّ مكتوم، ثم قدم علينا عمَّار وبلال.

وحدَّثني محمد بن بشَّار، حدَّثنا غُنْدَر، حدَّثنا شعبة، عن أبي إسحاق، سمعتُ البراء بن عازِب قال: أولُ مَنْ قدِم علينا مصعبُ بن عمير وابنُ أُمِّ مَكْتُوم، وكانا يقرئانِ الناسَ، فقدِمَ بلالٌ وسعدٌ وعمار بن ياسر، ثم قدم عمر بن الخطاب في عشرين نَفَرًا من أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ثم قدم النبيُّ صلى الله عليه وسلم فما رأيتُ أهلَ المدينة فرحوا بشيءٍ فرحَهم برسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى جعل الإماءُ يقلن: قدم رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم. فما قدم حتى قرأت: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} في سورٍ من المفصَّل.

ورواهُ مسلم في "صحيحه"

(4)

من حديث إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب بنحوه وفيه التصريح بأنَّ سعد بن أبي وقاص هاجر قبل قدوم رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم المدينة.

وقد زعم موسى بن عقبة، عن الزهري، أنه إنما هاجر بعد رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم والصواب ما تقدَّم.

قال ابن إسحاق

(5)

: ولما قدم عمر بن الخطاب المدينة هو ومن لحق به من أهله وقومه وأخوه زيد بن الخطاب وعمرو وعبد اللَّه ابنا سراقة بن المعتمر، وخُنيس بن حُذَافة السهمي زوج ابنته حفصة، وابن عمه سعيد بن زيد بن عمرو بن نُفَيل، وواقد بن عبد اللَّه التميمي حليفٌ لهم، وخَوْليُّ بن أبي خَوْليّ، ومالك بن أبي خَوْلي حليفانِ لهم من بني عِجْل، وبنو البُكير إياس وخالد وعاقل وعامر وحلفاؤهم من بني

(1)

ذو طُوَى: موضع عند مكة. معجم البلدان (4/ 45).

(2)

في السيرة (1/ 476).

(3)

في صحيحه فتح (3924) مناقب الأنصار باب مقدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة.

(4)

كذا، ولم أجده في صحيح مسلم ولا ذكره المزي في تحفة الأشراف في حديث إسرائيل عن أبي إسحاق، فهو وهم بلا ريب. والرواية التي فيها التصريح بأن سعد بن أبي وقاص هاجر قبل قدوم الرسول صلى الله عليه وسلم ساقها أحمد في مسنده (4/ 284) عن عفان حدثنا شعبة عن أبي إسحاق به. ورواه أيضًا في (4/ 291) عن محمد بن جعفر عن شعبة عن أبي إسحاق به.

(5)

في سيرة ابن هشام (1/ 476) والروض (2/ 220).

ص: 434

سعد بن ليث، فنزلوا على رفاعة بن عبد المنذر بن زَنْبَر

(1)

في بني عمرو بن عوف بقباء.

قال ابنُ إسحاق

(2)

: ثم تتابع المهاجرون رضي الله عنهم، فنزل طلحةُ بن عبيد اللَّه وصُهيب بن سنان على خُبيب بن إساف أخي بَلْحارث بن الخزرج بالسُّنْح

(3)

. ويقال بل نزل طلحة على أسعد بن زُرَارة.

قال ابن هشام

(4)

: وذُكر لي عن أبي عثمان النَّهْديّ أنه قال: بلغني أنَّ صُهيبًا حين أراد الهجرة قال له كفَّارُ قريش: أتيتنا صُعْلوكًا حَقيرًا فكثُر مالك عندنا وبلغتَ الذي بلغت، ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك واللَّه لا يكونُ ذلك. فقال لهم صُهيب: أرأيتم إنْ جعلتُ لكم مالي أتخلُّون سبيلي؟ قالوا: نعم. قال: فإني قد جعلتُ لكم مالي. فبلغ ذلك رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: "رَبحَ صُهيب، رَبحَ صُهيب" وقد قال الحافظ البيهقي

(5)

: حدَّثنا الحافظ أبو عبد اللَّه -إملاءً- أخبرنا أبو العباس إسماعيل بن عبد اللَّه بن محمد بن ميكال، أخبرنا عبدان الأهوازي، حدَّثنا زيد بن الحَرِيش

(6)

، حدَّثنا يعقوب بن محمد الزهري، حدَّثنا

(7)

حصين بن حذيفة بن صيفي بن صُهيب، حدَّثني أبي وعمومتي، عن سعيد بن المُسَيِّب، عن صهيب، قال: قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أريتُ دارَ هجرتكم سَبَخَةً بين ظهرانيْ حرَّتَيْن، فإمَّا أن تكون هَجَر أو تكون يثرب" قال: وخرج رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وخرج معه أبو بكر، وكنتُ قد هممت معه بالخروج فصدَّني فتيانٌ من قريش، فجعلت ليلتي تلك أقومُ لا أقعد، فقالوا: قد شغله اللَّه عنكم ببطْنه -ولم أكن شاكيًا- فناموا. فخرجتُ ولحقني منهم ناسٌ بعدما سرت بريدًا

(8)

ليردُّوني، فقلت لهم: هل لكم أن أعطيَكم أواقي

(9)

من ذهب وتخلُّوا سبيلي، وتوفون لي؟ ففعلوا. فتبعتُهم

(10)

إلى مكة فقلت: احفروا تحت أُسْكُفَّة الباب فإنَّ تحتها أواقي (9)، واذهبوا إلى فلانة فخذوا الحُلَّتَيْن، وخرجتُ حتى قدمت على رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم قُباء قبل أن يتحوَّل منها، فلما رآني قال:"يا أبا يحيى ربح البيع" -ثلاثًا- فقلت: يا رسول اللَّه، ما سبقني إليك أحد وما أخبرك إلا جبريل عليه السلام.

قال ابن إسحاق

(11)

: ونزل حمزةُ بن عبد المطلب وزيد بن حارثة وأبو مَرْثَد كَنَّاز بن

(1)

في ط: زنير وفي ح زبير: والمثبت من الإكمال (4/ 167).

(2)

في سيرة ابن هشام (1/ 477) والروض (2/ 220).

(3)

"السُّنْح": موضع قرب المدينة. القاموس (سنح).

(4)

السيرة (1/ 477) والروض (2/ 220).

(5)

في دلائل النبوة (2/ 522).

(6)

في ط: الجريش بالجيم تصحيف، والمثبت من ح والدلائل والإكمال (2/ 422).

(7)

في ح: انا.

(8)

في ط: يريدوا. تصحيف، والمثبت من ح والدلائل.

(9)

في ح: أواني. والمثبت من ط والدلائل.

(10)

في الدلائل: فسقتهم.

(11)

في سيرة ابن هشام (1/ 478) والروض (2/ 220).

ص: 435

الحُصَين

(1)

وابنه مرثد الغنويَّان حليفا حمزة، وأنَسَة وأبو كبشة موليا رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم على كلثوم بن الهِدْم أخي بني عمرو بن عوف بقُباء، وقيل على سعد بن خيثمة، وقيل بل نزل حمزة على أسعد بن زرارة. [واللَّه أعلم]

(2)

. قال: ونزل عُبيدة بن الحارث وأخواه الطفيل وحُصين ومِسْطَح بن أُثَاثَة وسُويبط بن سعد بن حُريملة أخو بني عبد الدار وطُليب بن عُمير أخو بني عبد بن قصي وخَبَّاب مولى عتبة بن غَزْوان على عبد اللَّه بن سلمة أخي بَلْعَجْلان بقُباء.

ونزل عبد الرحمن بن عوف في رجالٍ من المهاجرين على سعد بن الربيع، ونزل الزُّبير بن العوام وأبو سَبْرة بن أبي رُهْم على منذر بن محمد بن عقبة بن أُحَيْحَة بن الجُلاح بالعُصْبة دار بني جَحْجَبَى ونزل مصعب بن عمير على سعد بن معاذ، ونزل أبو حُذيفة بن عتبة وسالم مولاه على سلمة.

قال

(3)

ابنُ إسحاق، وقال الأموي: على خُبيب بن إساف أخي بني حارثة.

ونزل عتبة بن غزوان على عبَّاد بن بِشْر بن وَقْش في بني عبد الأشْهَل؛ ونزل عثمان بن عفان على أوس بن ثابت بن المنذر أخي حسَّان بن ثابت في دار بني النجَّار.

قال ابنُ إسحاق

(4)

: ونزل العُزَّابُ من المهاجرين على سَعْد بن خيثمة، وذلك أنه كان عَزَبًا واللَّه أعلم أيَّ ذلك كان.

وقال يعقوب بن سفياد

(5)

: حدَّثني أحمد بن أبي بكر بن الحارث بن زُرارة بن مُصعب بن عبد الرحمن بن عوف، حدَّثنا عبد العزيز بن محمد، عن عبيد اللَّه، عن نافع، عن ابن عمر أنه قال: قدمنا من مكة فنزلنا العُصْبة، ونزل عمر بن الخطَّاب وأبو عبيدة بن الجرَّاح وسالم مولى أبي حذيفة، فكان يؤمُّهم سالم مولى أبي حذيفة لأنه كان أكثرهم قرآنا.

‌فصل في سبب هجرة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بنفسه الكريمة

قال اللَّه تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} [الإسراء: 80] أرشده اللَّه وألهمه أن يدعوَ بهذا الدُّعاء [و] أن يجعل له مما هو فيه فرجًا قريبًا ومخرجًا

(1)

في السيرة والروض: حِصْن. وكلاهما صحيح كما في القاموس (كنز).

(2)

ما بين المعقوفين ليس في ح ولا في السيرة.

(3)

كذا في ح، ط ولعل الصواب: قاله. يعني القول السابق وهو موجود في سيرة ابن هشام (1/ 479) فتكون هذه العبارة ملحقة عندئذ بالفقرة السابقة.

(4)

في سيرة ابن هشام (1/ 480) والروض (2/ 221).

(5)

المعرفة والتاريخ (3/ 367) وهو في القسم المفقود من الكتاب ونقله المحقق من هنا.

ص: 436

عاجلًا، فأذن له تعالى في الهجرةِ إلى المدينة النبويَّة حيث الأنصار والأحباب فصارت له دارًا وقرارًا، وأهلها له أنصارًا.

قال أحمد بن حنبل

(1)

وعثمان بن أبي شيبة

(2)

، عن جرير، عن قابوس بن أبي ظَبْيَان

(3)

، عن أبيه، عن ابن عباس: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بمكة، فأمر بالهجرة وأُنزل عليه:{وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} [الإسراء: 80].

وقال قتادة: {أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ} المدينة {وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ} الهجرة من مكة {وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} كتاب اللَّه وفرائضه وحدوده.

قال ابنُ إسحاق

(4)

: وأقام رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بمكة بعد أصحابه من المهاجرين ينتظر أن يُؤذَن له في الهجرة ولم يتخلَّفْ معه بمكة إلا من حُبس أو فُتن، إلا عليُّ بن أبي طالب وأبو بكر بن أبي قحافة رضي الله عنهما، وكان أبو بكر كثيرًا ما يستأذنُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم في الهجرة فيقول له:"لا تَعْجَلْ لعلَّ اللَّهَ يجعلُ لك صاحبًا" فيطمع أبو بكر أن يكونه.

فلما رأتْ قريشٌ أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قد صار له شيعةٌ وأصحاب من غيرهم بغير بلدهم، ورأوا خروجَ أصحابه من المهاجرين إليهم عرفوا أنهم قد نزلوا دارًا وأصابوا منهم منَعةً، فحذِرُوا خروجَ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم إليهم وعرفوا أنه قد أجمع لحربهم، فاجتمعوا له في دار الندوة -وهي دارُ قصيّ بن كلاب التي كانت قريشٌ لا تقضي أمرًا إلا فيها- يتشاورونَ فيما يصنعون في أمر رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم حين خافوه.

قال ابن إسحاق (4): فحدَّثني من لا أتَّهمُ من أصحابنا، عن عبد اللَّه بن أبي نجيح، عن مجاهد بن جَبْر

(5)

وغيره ممن لا أتَّهم، عن عبد اللَّه بن عباس، قال: لما اجتمعوا لذلك واتَّعدوا أن يدخلوا في دار الندوة ليتشاوروا فيها في أمرِ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم غدَوْا في اليوم الذي اتَّعدوا له، وكان ذلك اليوم يسمى يوم الزَّحْمة، فاعترضهم إبليسُ لعنه اللَّه في هيئة شيخٍ جليل عليه بتٌّ

(6)

له فوقف على باب الدار، فلما رأوه

(1)

في مسنده (1/ 223) رقم (1948).

(2)

أخرجه من طريق عثمان: الحاكم (3/ 3) وعنه البيهقي في دلائل النبوة (2/ 516). ورواه الترمذي (3139) عن أحمد بن منيع عن جرير، والطبري في تفسيره (15/ 148) عن سفيان بن وكيع ومحمد بن حميد الرازي عن جرير، وابن عدي في الكامل (6/ 2072) من طريق الحسين بن سيار عن جرير، وصححه الترمذي مع ضعف قابوس بن أبي ظبيان. (بشار).

(3)

في ح: طهمان. تصحيف، والمثبت من ط وتقريب التهذيب لابن حجر في ترجمة قابوس.

(4)

في سيرة ابن هشام (1/ 480) والروض (2/ 221).

(5)

زادت ح، ط: عن عبد اللَّه بن عباس. وليست هذه الزيادة في السيرة وهي مقحمة على النص فحذفتُها.

(6)

"البتُّ": كساء غليظ مربَّع، وقيل طيلسان من خز ويجمع على بتوت. النهاية لابن الأثير (بتت/ 1/ 92). وفي السيرة وط: بتله. وأظنه تصحيفًا من وصل التاء باللام.

ص: 437

واقفًا على بابها قالوا: من الشيخ؟ قال: شيخ من أهل نَجْد، سمع بالذي اتعدتم له فحضرَ معكم ليسمعَ ما تقولون، وعسى أن لا يُعْدِمَكم منه رايًا ونُصْحًا. قالوا: أجل فادخلْ. فدخل معهم وقد اجتمع فيها أشرافُ قريش: عتبة، وشيبة، وأبو سفيان وطعيمة بن عدي، وجُبير بن مُطْعِم بن عدي، والحارث بن عامر بن نوفل، والنضْر بن الحارث وأبو البَخْتَرِيِّ بنُ هشام، وزَمَعَة بن الأسود، وحَكيم بن حِزَام، وأبو جَهل بن هشام ونُبيه ومُنَبِّه ابنا الحجَّاج وأمية بن خلف، ومَنْ كان منهم

(1)

وغيرهم ممن لا يعدُّ من قريش.

فقال بعضهم لبعض: إنَّ هذا الرجل قد كان من أمره ما قد رأيتم، وإننا واللَّه ما نأمنه على الوثوب علينا بمن قد اتبعه من غيرنا، فأجمعوا فيه رأيًا. قال: فتشاوروا، ثم قال قائلٌ منهم -[قيل إنه أبو البَخْتَرِي بنُ هشام]

(2)

-: احبسوه في الحديد، وأغلقوا عليه بابًا، ثم ترَّبصوا به ما أصاب أشباهه من الشعراء الذين كانوا قبله، زهيرًا والنابغة ومن مضى منهم من هذا الموت، حتى يصيبه ما أصابهم. فقال الشيخ النجدي: لا واللَّه ما هذا لكم برأي، واللَّه لئن حبستموه كما تقولون ليخرجَنَّ أمرُه من وراء الباب هذا الذي أغلقتم دونه إلى أصحابه، فلأوشكوا أن يثبوا عليكم فينتزعوه من أيديكم، ثم يكاثروكم به حتى يغلبوكم على أمركم، ما هذا لكم برأي.

فتشاوروا، ثم قال قائل منهم: نخرجه من بين أظهرنا فننفيه من بلادنا، فإذا خرج عنا فواللَّه ما نبالي أين ذهب، ولا حيث وقع، إذا غاب عنا وفرغنا منه فأصلحنا أمرنا وأُلْفَتَنا كما كانت. قال الشيخ النجديّ: لا واللَّه ما هذا لكم برأي ألم تروا حسن حديثه وحلاوةَ منطقِه، وغلبته على قلوب الرجال، بما يأتي به؟ واللَّه لو فعلتم ذلك ما أمنت

(3)

أنْ يحل على حي من العرب، فيغلب عليهم بذلك من قوله وحديثه حتى يتابعوه عليه، ثم يسير بهم إليكم حتى يطأكم بهم، فيأخذ أمركم بين أيديكم، ثم يفعل بكم ما أراد، أو تروا

(4)

فيه رأيًا غير هذا. فقال أبو جهل بن هشام: واللَّه إنَّ لي فيه لرأيًا ما أراكم وقعتم عليه بعد. قالوا: وما هو يا أبا الحكم؟ قال: أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتى شابًّا جَليدًا نسيبًا وسيطًا فينا، ثم نعطي كلَّ فتى منهم سيفًا صارمًا، ثم يَعْمِدوا إليه، فيضربوه بها ضربة رجلٍ واحد، فيقتلوه، فنستريح منه؛ فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرَّق دمُهُ في القبائل جميعها فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعًا. فرضوا منا بالعقل فعقَلْناه لهم. قال: يقول الشيخُ النجدي: القولُ ما قال الرجل، هذا الرأي، ولا رأي غيره: فتفرَّقَ القومُ على ذلك وهم مجمعون له.

(1)

في السيرة: معهم.

(2)

ما بين المعقوفين ليس في ح.

(3)

في السيرة: ما أمنتم.

(4)

في السيرة: دَبِّروا، والمثبت من ط.

ص: 438

فأتى جبريلُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال له: لا تبِتْ هذه الليلةَ على فراشكَ الذي كنتَ تَبيتُ عليه. قال: فلما كانت عَتَمةٌ من الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه حتى ينام فيثبون عليه، فلما رأى رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم مكانهم قال لعلي بن أبي طالب:"نمْ على فراشي وتَسَجَّ ببُرْدِي هذا الحَضْرَميِّ الأخضر، فنمْ فيه، فإنه لن يخلُصَ إليك شيءٌ تكرهه منهم" وكان رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم ينامُ في بُرْده ذلك إذا نام.

وهذه القصة التي ذكرها ابنُ إسحاق قد رواها الواقدي بأسانيده عن عائشة وابن عباس وعليّ وسُراقة ابن مالك بن جُعْشُم وغيرهم دخل حديثُ بعضهم في بعض فذكر نحو ما تقدَّمَ

(1)

.

قال ابن إسحاق

(2)

: فحدَّثني يزيد بن أبي زياد عن محمد بن كعب القُرَظي قال: لما اجتمعوا له وفيهم أبو جهل قال -وهم على بابه-: إنَّ محمدًا يزعم أنكم إنْ تابعتموه على أمره، كنتم ملوكَ العرب والعجم، ثم بُعثتم من بعد موتكم، فجُعلت لكم جنانٌ كجنانِ الأردُنّ، وإنْ لم تفعلوا كان فيكم ذَبْح، ثم بُعثتم بعد موتكم، ثم جُعلتْ لكم نارٌ تُحرَقون فيها.

قال: فخرج رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم فأخذ حَفْنَةً من تراب في يده ثم قال: "نعم أنا أقول ذلك، أنت أحدهم" وأخذ اللَّه على أبصارهم عنه فلا يرَوْنَه، فجعل ينثر ذلك الترابَ على رؤوسهم وهو يتلو هذه الآيات {يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} إلى قوله:{وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} [يس: 1 - 9] ولم يبق منهم رجلٌ إلا وقد وضع على رأسه ترابًا، ثم انصرف إلى حيث أراد أن يذهب، فأتاهم آتٍ ممن لم يكنْ معهم فقال: ما تنتظرون هاهنا؟ قالوا: محمدًا، فقال: خيَّبَكم اللَّه، قد واللَّه خرج عليكم محمد ثم ما ترك منكم رجلًا إلا وقد وضع على رأسه ترابًا، وانطلق لحاجته! أنهما ترَونَ ما بكم؟ قال: فوضع كلُّ رجلٍ منهم يده على رأسه فإذا عليه تراب، ثم جعلوا يتطلَّعون فيرَوْنَ عليًّا على الفراش متسجِّيًا بِبُردِ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم فيقولون: واللَّه إنَّ هذا لمحمدٌ نائمًا، عليه بُرْدُه، فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا، فقام عليٌّ من الفراش فقالوا: واللَّه لقد كان صدقنا الذي كان حدَّثنا.

قال ابنُ إسحاق

(3)

: فكان مما أنزل اللَّه في ذلك اليوم وما كانو أجمعوا له قولُه تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30] وقولُه: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ} [الطور: 30 - 31].

قال ابنُ إسحاق: فأذِنَ اللَّهُ لنبيه صلى الله عليه وسلم عند ذلك بالهجرة.

(1)

رواية الواقدي هذه وأسانيده في طبقات ابن سعد (1/ 227) وما بعدها.

(2)

في سيرة ابن هشام (1/ 483) والروض (2/ 222).

(3)

في سيرة ابن هشام (1/ 484) والروض (2/ 223).

ص: 439

‌باب هجرةِ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم بنفسه الكريمة مق مكةَ إلى المدينة ومعه أبو بكر الصديق رضي الله عنه

وذلك أولُ التاريخ الإسلامي كما اتفق عليه الصحابةُ في الدولة العُمَرية كما بيَّناه في سيرة عمر رضي الله عنه وعنهم أجمعين

(1)

.

قال البخاري

(2)

: حدَّثنا مَطَرَ بنُ الفَضْل، حدثنا رَوْح، حدثنا هشام، حدثنا عكرمة عن ابن عباس، قال: بُعِثَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم لأربعينَ سنةً، فمكث بمكَّة

(3)

ثلاثَ عشرةَ [سنةً] يُوحى إليه، ثم أُمر بالهِجْرَة فهاجر عشرَ سنينَ، ومات وهو ابنُ ثلاثٍ وستينَ سنة.

وقد كانت هجرتُه عليه السلام في شهر ربيع الأول سنة ثلاث عشرة من بعثته عليه السلام، وذلك في يوم الاثنين كما رواه الإمام أحمد عن ابن عباس

(4)

أنه قال: ولد نبيُّكم يوم الاثنين، وخرج من مكة يوم الاثنين، ونُبِّئ يوم الاثنين، ودخل المدينة يوم الاثنين، وتوفي يوم الاثنين

(5)

.

قال محمد بن إسحاق

(6)

: وكان أبو بكر حين استأذنَ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم في الهجرة فقال له: لا تعجَلْ لعل اللَّه أن يجعلَ لك صاحبًا؛ قد طمع بأن يكون رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم إنما يعني نفسَه، فابتاعَ راحلتَيْن فحبسهما في داره يعلفهما إعدادًا لذلك.

قال الواقدي

(7)

: اشتراهما بثمانمئة درهم.

قال ابن إسحاق

(8)

: فحدَّثني مَنْ لا أتَّهم عن عروة بن الزُّبير، عن عائشة أمِّ المؤمنين أنها قالت: كان لا يخطئُ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يأتيَ بيتَ أبي بكر أحدَ طرفي النهار، إمَّا بُكْرَة، وإمَّا عشِيَّة، حتى إذا كان اليومُ الذي أَذِن اللَّه فيه لرسوله في الهجرة، والخروج من مكة من بين ظَهْرَيْ قومه، أتانا رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم

(1)

أفرد المؤلف لعمر رضي الله عنه مصنفًا سمَّاه سيرة عمر، أشار إليه في ص (230)، وذكر اتفاق الصحابة في الدولة العمرية على التأريخ الهجري في ص (478) من هذا الجزء.

(2)

في صحيحه، فتح (3902) مناقب الأنصار باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وما بين معقوفين منه.

(3)

في ط: فيها بدل: بمكة، وهو تصحيف، والمثبت من ح والبخاري.

(4)

مسند الإمام أحمد (1/ 277) رقم (2506).

(5)

لفظ ابن عباس في المسند هكذا: ولد النبي صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين واستنبئ يوم الاثنين، وتوفي يوم الاثنين، وخرج مهاجرًا من مكة إلى المدينة يوم الإثنين، وقدم المدينة يوم الإثنين، ورفع الحجر الأسود يوم الإثنين. وتقدم ص (30) وإسناده ضعيف بطوله، ولبعض فقراته شواهد، وقد تقدم الكلام عليه صفحة (30).

(6)

في سيرة ابن هشام (1/ 484) والروض (2/ 223).

(7)

قول الواقدي في طبقات ابن سعد (1/ 228) وزاد: من نَعَم بني قُشير.

(8)

في سيرة ابن هشام (1/ 484) والروض (2/ 223).

ص: 440

بالهاجرة، في ساعةٍ كان لا يأتي فيها. قالت: فلما رآهُ أبو بكر قال: ما جاء رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم في هذه الساعة إلا لأمر حدَث! قالت: فلما دخل تأخَّر له أبو بكر عن سريره، فجلس رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم وليس عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم

(1)

أحدٌ إلا أنا وأختي أسماء بنت أبي بكر، فقال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم:"أخْرِجْ عني مَنْ عِنْدَك" قال: يا رسول اللَّه! إنما هما ابنتاي، وما ذاك فداك أبي وأمي؟ قال:"إن اللَّه قد أذِنَ لي في الخروج والهجرة" قالت: فقال أبو بكر: الصُّحْبَة يا رسولَ اللَّه؟ قال: "الصُّحبة" قالت: فواللَّه ما شعرتُ قطُ قبل ذلك اليوم أنَّ أحدًا يبكي من الفَرَح حتى رأيتُ أبا بكر يومئذٍ يبكي. ثم قال: يا نبى اللَّه، إنَّ هاتين راحلتين كنت أعددتهما لهذا، فاستأجَرَا عبد اللَّه بن أرقد

(2)

-قال ابنُ هشام: ويقال عبد اللَّه بن الأُرَيْقط- رجلًا من بني الدُّئلِ بن بكر، وكانت أمُّه من بني سهم بن عمرو، وكان مشركًا يدلُّهما على الطريق ودفعا إليه راحلتيهما، فكانتا عنده يرعاهما لميعادهما.

قال ابنُ إسحاق

(3)

: ولم يعلم -فيما بلغني- بخروج رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم أحدٌ حين خرج إلا عليُّ بن أبي طالب وأبو بكر الصديق وآلُ أبي بكر؛ أمَّا عليّ فإنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم أمره أن يتخلَّف حتى يؤدِّي عن رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم الودائع التي كانت عنده للناس، وكان رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم وليس بمكة أحدٌ عنده شيءٌ يخشى عليه إلا وضعه عنده لما يعلم من صِدْقِه وأمانته.

قال ابن إسحاق (3): فلما أجمع رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم الخروج أتى أبا بكر بن أبي قُحَافة فخرجا من خوخةٍ لأبي بكر في ظهر بيته.

وقد روى أبو نُعيم

(4)

من طريق إبراهيم بن سعد عن محمد بن إسحاق. قال: بلغني أنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم لما خرج من مكة مهاجرًا إلى اللَّه يريد المدينة قال: "الحمد للَّه الذي خلقني ولم أكُ شيئًا، اللهم أعنِّي على هول الدنيا، وبوائق الدهر، ومصائب الليالي والأيام، اللهم اصحبني في سفري، واخْلُفني في أهلي، وباركْ لي فيما رزقتني، ولك فذلِّلْني، وعلى صالح خُلقي فقوِّمْني، وإليك ربِّ فحبِّبْني، وإلى الناس فلا تكِلْني، ربَّ المستضعفين وأنت ربِّي، أعوذُ بوجهك الكريم الذي أشرقت له السماوات والأرض، وكُشفت به الظلمات، وصَلَح عليه أمْرُ الأولين والآخرين، أنْ تُحل عليَّ غَضَبَك، وتنزل بي سخطَك، أعوذ بك من زوالِ نعمتك، وفجأة نقمتِك، وتحوُّل عافيتك وجميعِ سخطك. لك العُتْبَى عندي خير ما استطعت، لا حول ولا قوة إلا بك".

(1)

كذا في ح، ط، وفي سيرة ابن هشام: وليس عند أبي بكر إلا أنا وأختي أسماء. . .

(2)

كذا في ح، ط، وقال ابن حجر في ترجمته في الإصابة: عبد اللَّه بن أريقط، ويقال أريقد بالدال بدل الطاء المهملتين، وهو بقاف بصيغة التصغير اهـ.

(3)

في سيرة ابن هشام (1/ 485) والروض (2/ 224).

(4)

لم أجده في دلائل أبي نعيم. أقول: الحديث ضعيف، لأنه عن ابن إسحاق بلاغًا، فهو منقطع.

ص: 441

قال ابنُ إسحاق

(1)

: ثم عمدا إلى غارٍ بثَوْر -جبل بأسفلِ مكة- فدخلاه، وأمر أبو بكر الصديق ابنه عبد اللَّه أن يتسمَّع لهما ما يقولُ الناسُ فيهما نهاره، ثم يأتيهما إذا أمسى بما يكون في ذلك اليوم من الخبر، وأمر عامر بن فُهَيرة مولاه أنْ يرعى غنمه نهاره، ثم يُريحها عليهما إذا أمسى في الغار. فكان عبد اللَّه بن أبي بكر يكونُ في قريش نهاره معهم يسمع ما يأتمرونَ به، وما يقولون في شأن رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، ثم يأتيهما إذا أمسى فيخبرهما الخبر. وكان عامرُ بن فُهيرة يرعى في رعيان أهل مكة، فإذا أمسى أراح عليهما غنمَ أبي بكر فاحتلبا وذبحا. فإذا غدا عبد اللَّه بن أبي بكر من عندهما إلى مكة أتبع عامرُ بن فُهيرة أثرَهُ بالغنم يُعَفِّى عليه. وسيأتي في سياقِ البخاري ما يشهد لهذا.

وقد [حكى ابنُ جريز

(2)

عن بعضهم أنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم سبق الصديقَ في الذهاب إلى غار ثور، وأمر عليًّا أنْ يدلَّه على مسيره ليلحقه، فلحقه في أثناءِ الطريق.

وهذا غريبٌ جدًا، وخلاف المشهور من أنهما خرجا معًا]

(3)

.

قال ابنُ إسحاق

(4)

: وكانت أسماءُ بنت أبي بكر رضي الله عنها تأتيهما من الطعام إذا أمست بما يصلحهما. قالت أسماء

(5)

: ولما خرج رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم وأبو بكر أتانا نفرٌ من قريش فيهم أبو جهل بن هشام فوقفوا على باب أبي بكر، فخرجتُ إليهم، فقالوا: أين أبوك يا ابنة أبي بكر؟ قالت: قلت لا أدري واللَّه، أين أبي؟ قالت: فرفع أبو جهلٍ يدَه -وكان فاحشًا خبيثًا- فلطم خدِّي لطمةً طرح منها قُرْطي ثم انصرفوا.

قال ابنُ إسحاق

(6)

: وحدثني يحيى بن عبَّاد بن عبد اللَّه بن الزبير أنَّ أباه حدَّثه عن جدته أسماء قالت: لما خرج رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، وخرج أبو بكر معه، احتمل أبو بكر ماله كلَّه معه، خمسة آلاف درهم -أو ستة آلاف درهم- فانطلق بها معه، قالت: فدخل علينا جدِّي أبو قُحَافة -وقد ذهب بصره- فقال: واللَّه إني لا أراه قد فجعكم بماله مع نفسه؟ قالت: قلت كلا يا أبة، إنه قد ترك لنا خيرًا كثيرًا. قالت: وأخذت أحجارًا فوضعَتْها في كُوَّةٍ في البيت الذي كان أبي يضع ماله فيها، لْم وضعتُ عليها ثوبًا، ثم أخذت بيده فقلت: يا أبة ضَعْ يدك على هذا المال. قالت فوضع يده عليه فقال: لا باس إذا كان قد ترك لكم هذا فقد أحسن، وفي هذا بلاغٌ لكم، ولا واللَّه ما ترك لنا شيئًا، ولكن أردتُ أنْ أسكِّن الشيخ بذلك.

(1)

يتابع هنا الخبر السابق عن ابن إسحاق في سيرة ابن هشام (1/ 485) ويختلف هنا من سيرة ابن هشام في تقديم وتأخير بعض الفقر.

(2)

في تاريخه تاريخ الطبري (2/ 374).

(3)

ما بين المعقوفين ليس في ح.

(4)

في سيرة ابن هشام (1/ 485) والروض (2/ 224).

(5)

في سيرة ابن هشام (1/ 487) والروض (2/ 225).

(6)

في سيرة ابن هشام (1/ 488) والروض (2/ 225).

ص: 442

وقال ابنُ هشام

(1)

: وحدَّثني بعضُ أهل العلم أنَّ الحسن بن أبي الحسن البصري قال: انتهى رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم وأبو بكر إلى الغار ليلًا، فدخل أبو بكر قبل رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم، فلمس الغار لينظرَ أفيه سَبُعٌ أو حيَّة، يَقيَ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم بنفسه.

وهذا فيه انقطاعٌ من طرفيه.

وقد قال أبو القاسم البغوي: حدَّثنا داود بن عمرو الضبيِّ، حدثنا نافع بن عمر الجمحي عن ابنِ أبي مُليكة، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لما خرج هو وأبو بكرٍ إلى ثَوْر، فجعل أبو بكر يكون أمامَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم مرَّة. وخلفَهُ مرَّة، فسأله النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: إذا كنتُ خلفك خشيتُ أنْ تُؤْتَى من أمامك، وإذا كنتُ أمامَك خشيتُ أن تُؤتَى من خلفك. حتى إذا انتهى إلى الغار من ثور قال أبو بكر: كما أنتَ حتى أُدخل يدي فأُحِسَّهُ وأقُصَّه، فإنْ كانتْ فيه دابَّةٌ أصابَتني قبلك. قال نافع: فبلغني أنه كان في الغار جُحْرٌ فألقم أبو بكر رِجْلَهُ ذلك الجُحْر تخوُّفًا أن يخرج منه دابّهٌ أو شيءٌ يؤذي رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم.

وهذا مرسل. وقد ذكرنا له شواهد أُخر في سيرة الصدِّيق رضي الله عنه

(2)

.

وقال البيهقي

(3)

: أخبرنا أبو عبد اللَّه الحافظ إملاءً، أخبرنا أبو بكر أحمد بن إسحاق، أنا موسى بن الحسن بن

(4)

عباد، ثنا عفَّان بن مسلم، ثنا السريُّ بن يحيى ثنا محمد بن سيرين، قال: ذكر رجالٌ على عهد عمر، فكأنهم فضَّلوا عمر على أبي بكر، فبلغ ذلك عمر فقال: واللَّه لليلةٌ من أبي بكر خيرٌ من آل عمر، وليومٌ من أبي بكر خيرٌ من آل عمر؛ لقد خرج رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم ليلةَ انطلق إلى الغار ومعه أبو بكر، فجعل يمشي ساعةً بين يديه، وساعة خلفه، حتى فطِن رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال:"يا أبا بكر! مالك تمشي ساعة بين يدي وساعة خلفي؟ " فقال: يا رسولَ اللَّه! أذكر الطلب فأمشي خلفك، ثم أذكر الرَّصَد فأمشي بين يديك. فقال:"يا أبا بكر لو كان شيءٌ أحببتَ أن يكون بك دوني؟ " قال: نعم، والذي بعثك بالحق [ما كانت لتكن من ملمّةٍ إلَّا أحببتُ أنْ تكونَ لي دونك]، فلما انتهيا إلى الغار قال أبو بكر: مكانك يا رسولَ اللَّه حتى أستبرِئ لك الغار؛ فدخل فاستبرأه، حتى إذا كان في أعلاه ذكر أنه لم يستبرئ الجِحَرَة فقال: مكانك يا رسول اللَّه حتى أستبرئ. فدخل فاستبرأ ثم قال: انزلْ يا رسول اللَّه. فنزل. ثم قال عمر: والذي نفسي بيده لتلك الليلة خيرٌ من آل عمر.

وقد رواه البيهقي

(5)

من وجه آخر عن عمر وفيه: أنَّ أبا بكر جعل يمشي بين يدي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم تارة،

(1)

في السيرة (1/ 486) والروض (2/ 224).

(2)

أفرد المؤلف لأبي بكر رضي الله عنه مصنفًا سمَّاه سيرة أبي بكر، وقد أشار إليه في ص 227 من هذا الجزء.

(3)

في دلائل النبوة (2/ 476) وما يأتي بين معقوفين منه.

(4)

في ط: أنا موسى بن الحسن ثنا عباد ثنا عفان. وهو تصحيف، والمثبت من ح ودلائل البيهقي وترجمته في سير أعلام النبلاء (13/ 378).

(5)

في الدلائل (2/ 477).

ص: 443

وخلفه أخرى، وعن يمينه وعن شماله. وفيه أنه لما حفيَتْ رجلا رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم حمله الصدِّيقُ على كاهله، وأنه لما دخل الغار سدد تلك الأجحر

(1)

كلَّها، وبقي منها جحرٌ واحد، فألقمه كعبه فجعلتِ الأفاعي تنهَشُه ودموعُه تسيل، فقال له رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم:"لا تحزَنْ إنَّ اللَّه معنا".

وفي هذا السياق غرابةٌ ونَكَارة.

ثم قال البيهقي

(2)

: أخبرنا أبو عبد اللَّه الحافظ وأبو سعيد بن أبي عمرو، قالا: ثنا أبو العباس الأصم، ثنا عباس الدُّوري، ثنا أسود بن عامر شاذان، ثنا إسرائيل عن الأسود، عن جندب بن عبد اللَّه، قال: كان أبو بكر مع رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم في الغار، فأصاب يدَه حجَرٌ فقال:[من الرجز]

إنْ أنتِ إلا أصبعٌ دَميتِ

وفي سَبيل اللَّه ما لَقيتِ

وقال الإمام أحمد

(3)

: حدَّثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، أخبرني عثمان الجَزَري أنَّ مِقْسِمًا مولى ابنِ عباس أخبره عن ابن عباس في قوله تعالى:{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ} [الأنفال: 30] قال: تشاورتْ قريقٌ ليلةً بمكة، فقال بعضهم: إذا أصبح فأثبتوه بالوَثَاق، يريدون النبيَّ صلى الله عليه وسلم وقال بعضهم: بل اقتلوه. وقال بعضهم: بل أخرجوه. فأطْلَعَ اللَّهُ نبيَّهُ صلى الله عليه وسلم على ذلك، فبات عليٌّ على فراش النبيِّ صلى الله عليه وسلم تلك الليلة، وخرج النبيُّ صلى الله عليه وسلم حتى لحق بالغار، وبات المشركونَ يحرسُون عليًّا يحسَبونه النبيَّ صلى الله عليه وسلم. فلما أصبحوا ثاروا عليه

(4)

، فلما رأوا عليًا ردَّ اللَّه مَكْرَهم. فقالوا: أين صاحبُك هذا؟ فقال: لا أدري. فاقتصُّوا

(5)

أثره، فلما بلغوا الجبل اختلط

(6)

عليهم، فصعَّدوا [في] الجبل فمرُّوا بالغار، فرأوا على بابه نسج العنكبوت، فقالوا: لو دخل هاهنا أحد لم يكن نسج العنكبوت على بابه، فمكث فيه ثلاث ليال.

وهذا إسنادٌ حسن

(7)

، وهو من أجود ما رُوي في قصة نسْجِ العنكبوت على فم الغار، وذلك من حماية اللَّه رسولَه صلى الله عليه وسلم.

[وقال الحافظ أبو بكر أحمد بن علي بن سعيد القاضي في مسند أبي بكر

(8)

: حدَّثنا بشَّارُ الخفَّاف

(1)

كذا في ح، ط والصواب فيه: سدّ تلك الجِحَرَة. وليست العبارة في دلائل البيهقي بهذا اللفظ.

(2)

في الدلائل (2/ 480).

(3)

في مسنده (1/ 348) رقم (3251) وما يأتي بين معقوفين منه.

(4)

في المسند: إليه.

(5)

في ط: فاقتفوا. والمثبت من ح والمسند.

(6)

في المسند: خُلِّط. وهو أشبه.

(7)

من أين يأتيه الحسن وفي إسناده عئمان الجزري وهو ضعيف، وهو غير عثمان بن عمرو بن ساج المذكور في التهذيب، وانظر تخريجه والكلام عليه مفصلًا في تعليقنا على تاريخ الخطيب (15/ 251 - 252).

(8)

مسند أبي بكر ص 140 وما يأتي بين معقوفين منه.

ص: 444

حدثنا جعفر بن

(1)

سليمان، حدَّثنا أبو عمران الجَوْني، حدَّثنا المُعَلَّى بن زياد عن الحسن البصري قال: انطلق النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأبو بكر إلى الغار فدخلا فيه، فجاء العنكبوت فنسجتْ على باب الغار، وجاءت قريشٌ يطلبون النبيَّ صلى الله عليه وسلم، وكانوا إذا رأوا على باب الغار نَسْجَ العنكبوت قالوا: لم يدخلْ أحد، وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم قائمًا يصلِّي، وأبو بكر يرتقب، فقال أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم: فداك أبي وأمي هؤلاء قومُك يطلبونك، أما واللَّه ما على نفسي أبكي

(2)

، ولكن مخافة أنْ أرى فيك ما أكره. فقال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "يا أبا بكر، لا تخَفْ

(3)

إنَّ اللَّهَ معنا".

وهذا مرسلٌ عن الحسن، وهو حسن بحالة

(4)

من الشاهد

(5)

، وفيه زيادةُ صلاة النبيِّ صلى الله عليه وسلم في الغار. وقد كان عليه السلام إذا أحزنه أمر صلَّى، وروى هذا الرجل -أعني أبو

(6)

بكر أحمد بن علي القاضي

(7)

- عن عمرو الناقد، عن خلف بن تميم، عن موسى بن مُطَير

(8)

عن أبيه عن أبي هريرة أن أبا بكر قال لابنه: يا بني، إذا حدث في الناس حدثٌ فأتِ الغارَ الذي اختبأتُ فيه أنا ورسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم فكُنْ فيه، فإنَّه سيأتيكَ رزقُك فيه بُكْرَةً وعَشِيَّا

(9)

].

وقد نظم بعضُهم هذا في شعرِه حيث يقول: [من الخفيف]

نَسْجُ داودَ ما حمى صاحبَ الغا

رِ وكان الفخارُ للعنكبوتِ

وقد ورد أن حمامتَيْن عشَّشَتَا على بابه أيضًا، وقد نظم ذلك الصَّرْصَرِيُّ في شعره حيث يقول

(10)

:

فعمَّى عليه العنكبوتُ بنسْجِهِ

وظلَّ على البابِ الحمامُ يَبيضُ

والحديث بذلك رواهُ الحافظ ابنُ عساكر

(11)

من طريق يحيى بن محمد بن صاعد، حدَّثنا عمرو بن علي، حدثنا عون بن عمرو أبو عمرو القَيْسي -ويُلَقب عُوين- حدَّثني أبو مصعب المكِّي، قال: أدركتُ زيد بن أرقم والمغيرةَ بن شعبة وأنس بن مالك، يذكرون أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ليلة الغار، أمرَ اللَّهُ شجرةً فخرجتْ

(1)

في ح، ط: جعفر وسليمان، وهو تصحيف، والمثبت من مسند أبي بكر.

(2)

في ط: أئل. وكذا في ح إلا أنها من غير همز، والمثبت من مسند أبي بكر.

(3)

كذا في ح، ط، في مسند أبي بكر: لا تحزن.

(4)

في ط: بماله.

(5)

بشار بن موسى الخفاف ضعيف جدًا لا يصلح حديثه للشواهد والمتابعات. (بشار).

(6)

كذا في ح، ط والصواب: أبا.

(7)

مسند أبي بكر (ص 117)، وانظر رواية البزار (ص 447 ح 3).

(8)

في ح، ط: مطر تصحيف، والمثبت من مسند أبي بكر وميزان الاعتدال (4/ 223).

(9)

في مسند أبي بكر: فإنه سيأتيك فيه رزقك غدوة وعشية، وسيأتي قول المؤلف بتضعيف الرواية.

(10)

هو يحيى بن يوسف بن يحيى الأنصاري أبو زكريا جمال الدين الصرصري المتوفى سنة 656 هـ له ديوان شعر صغير مخطوط و"المنتقى من مدائح الرسول" أعلام الزركلي (8/ 177).

(11)

الرواية في مختصر تاريخ ابن عساكر لابن منظور (2/ 178).

ص: 445

في وَجْهِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم تسترُه، وأنَّ اللَّه بعث العنكبوتَ فنسجَتْ ما بينهما، فسترَتْ وجه رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأمرَ اللَّهُ حمامتَيْن وحشيَّتَيْن فأقبلتا

(1)

تدِفَّان حتى وقعتا بين العنكبوت وبين الشجرة، وأقبلَ فتيانُ قريش من كلِّ بطنٍ منهم رجل، معهم عِصِيُّهم وقِسِيُّهم وهراواتُهم، حتى إذا كانوا من رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم قَدْرَ مئتي ذراع قال الدليل -وهو سُرَاقةُ بن مالك بن جُعْشُم المُدْلجي-: هذا الحَجَر ثم لا أدري أين وضع رجله. فقال الفتيان: أنت لم تخطئ منذ الليلة، حتى إذا أصبحنا. قال: انظروا في الغار. فاستبقه القومُ حتى إذا كانوا من النبيِّ صلى الله عليه وسلم قَدْرَ خمسين ذراعًا، فإذا الحمامتان، فرَجَعَ. فقالوا: ما ردَّكَ أن تنظر في الغار؟ قال: رأيتُ حمامتين وحشيتين بفم الغار، فعرفتُ أنْ ليس فيه أحد. فسمعَها النبيُّ صلى الله عليه وسلم فعرف أنَّ اللَّه قد دَرَأ عنهما بهما، فشمَّت

(2)

عليهما -أي برَّك عليهما- وأحْدَرهما

(3)

اللَّه إلى الحرم فأفرخا كما ترى.

وهذا حديث غريبٌ جدًّا من هذا الوجه. قد رواه الحافظ أبو نُعيم

(4)

من حديث مسلم بن إبراهيم وغيره، عن عَوْن بن عمرو -وهو الملقَّب بِعُوَين- بإسناده مثله.

وفيه أن جميعَ حمام مكة من نسل تيك الحمامتَيْن.

وفي هذا الحديث أنَّ القائف الذي اقتفى لهم الأثر سراقةُ بن مالك المُدْلجي.

وقد روى الواقدي عن موسى بن محمد بن إبراهيم، عن أبيه، أنَّ الذي اقتفى لهم الأثر كُرْز بن علقمة.

قلت: ويحتمل أن يكونا جميعًا اقتفيا

(5)

الأثر واللَّه أعلم. وقد قال اللَّه تعالى: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 40]، يقول تعالى مُؤَنِّبًا لمنْ تخلَّف عن الجهاد مع الرسول:{إِلَّا تَنْصُرُوهُ} أنتم فإنَّ اللَّه ناصِرُه ومؤيِّدُه ومظفِّره كما نصَرَهُ {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} من أهلِ مكة هاربًا ليس معه غيرُ صاحبه وصديقِه أبي بكر، ليس معه غيره، ولهذا قال:{ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} أي: وقد لجأ إلى الغارِ فأقاما فيه ثلاثةَ أيام ليسْكُنَ الطلبُ عنهما، وذلك لأنَّ المشركين حين فقدوهما كما تقدَّم ذهبوا في طلبهما كلَّ مذهب من سائر الجهات، وجعلوا لمن ردَّهما -أو أحدَهما- مئةً من الإبل، واقتصُّوا آثارهما حتى اختلط عليهم، وكان الذي يقتصُّ الأثر لِقُرَيش سُرَاقة بن مالك بن

(1)

في ح: ومختصر ابن منظور: فأقبلا يدفَّان حتى وقعا، والمثبت من ط وتدفان: تحركان أجنحتهما.

(2)

في س: فسمَّت. بالسين وكلاهما صحيح، وقال ابن الأثير: والمعجمة أعلاهما وهو من الدعاء بالخير والبركة النهاية (2/ 397 و 499).

(3)

في مختصر ابن منظور: فأخذهما.

(4)

في دلائل النبوة (2/ 419).

(5)

في ح: اقتصّا.

ص: 446

جُعْشُم كما تقدَّم، فصعَّدوا [في] الجبل الذي هما فيه وجعلوا يمرُّون على باب الغار، فتُحاذي أرجلُهم لبابِ الغار ولا يرَوْنَهما، حفظًا من اللَّه لهما كما قال الإمامُ أحمد

(1)

: حدَّثنا عفَّان، حدَّثنا همام، أخبرنا ثابت، عن أنس بن مالك، أنَّ أبا بكرٍ حدَّثه، قال: قلتُ للنبي صلى الله عليه وسلم ونحن في الغار: لو أنَّ أحدَهم نظر إلى قدَمَيْه لأبصَرَنا تحت قدميه فقال: "يا أبا بكر، ما ظنُّك باثْنَيْن اللَّهُ ثالثُهما".

وأخرجَهُ البخاري ومسلم في صحيحَيْهما

(2)

من حديث همَّام به.

وقد ذكر بعض أهلِ السِّير أن أبا بكرٍ لما قال ذلك، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"لو جاؤنا من هاهنا لذهبنا من هاهنا" فنظر الصدِّيق إلى الغار قد انفرج من الجانب الآخر، وإذا البحر قد اتصَل به. وسفينةٌ مشدودة إلى جانبه.

وهذا ليس بمنكَرٍ من حيثُ القدرة العظيمة، ولكنْ لم يردْ ذلك بإسنادٍ قويٍّ ولا ضعيف، ولسنا نُثْبِتُ شيئًا من تِلْقاءِ أنفسنا، ولكن ما صحَّ أو حَسُنَ سنَدُه قُلْنا به. واللَّه أعلم.

وقد قال الحافظ أبو بكر البزَّار

(3)

: حدَّثنا الفضلُ بن سهل، حدثنا خلف بن تميم، حدثنا موسى بن مُطَير القُرشي، عن أبيه، عن أبي هريرة أنَّ أبا بكرٍ قال لابنه: يا بني، إنْ حدَث في الناس حَدثٌ فأتِ الغار الذي رأيتني اختبأتُ فيه أنا ورسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم فكُنْ فيه، فإنَّه سيأتيك فيه رزقك غدوة وعشية

(4)

.

ثم قال البزَّار: لا نعلم يرويه غير خلف بن تميم.

قلت: وموسى بن مُطَير هذا ضعيفٌ متروك، وكذَّبه يحيى بن معين فلا يُقْبَلُ حديثه واللَّه أعلم.

وقد ذكر يونس بن بُكير عن محمد بن إسحاق أنَّ الصدِّيق قال في دخولهما الغار، وسَيْرهما بعد ذلك وما كان من قصة سُرَاقة كما سيأتي شعرًا فمنه قوله:[من البسيط]

قال النبيُّ -ولم أجزَعْ- يوقِّرني

ونحنُ في سُدُفٍ

(5)

من ظُلمة الغارِ

لا تخشَ شيئًا فإنَّ اللَّه ثالثُنا

وقد توكَّل لي منهُ بإظهار

وقد روى أبو نعيم هذه القصيدة من طريق زياد عن محمد بن إسحاق فذكرها مطوَّلةً جدًّا، وذكر معها قصيدة أخرى

(6)

واللَّه أعلم.

(1)

في مسنده (1/ 4) رقم (11).

(2)

فتح الباري (3653) فضائل الصحابة باب مناقب المهاجرين وفضلهم؛ وصحيح مسلم (1 - 2381) فضائل الصحابة باب من فضائل أبي بكر.

(3)

مسند البزار (102).

(4)

في ح: بكرة وعشيا.

(5)

في دلائل النبوة لأبي نعيم (2/ 432) في سدنة.

(6)

لأبي بكر أيضًا ومطلعها: =

ص: 447

وقد روى ابنُ لَهِيعة عن أبي الأسود عن عروة بن الزبير، قال: فمكث رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بعد الحج -يعني الذي بايع فيه الأنصار- بقية ذي الحجَّة والمحرَّم وصفر، ثم إنَّ مشركي قريش أجمعوا أمْرَهم ومكرهم على أن يقتلوا رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم أو يحبسوه، أو يخرجوه فأطلعه اللَّه على ذلك، فأنزل عليه:{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنفال: 30] الآية. فأمر عليًّا فنام على فراشه، وذهب هو وأبو بكر، فلما أصبحوا ذهبوا في طلبهما في كلِّ وجه يطلبونهما.

وهكذا ذكر موسى بن عقبة في "مغازيه"، وأنَّ خروجه هو وأبو بكر إلى الغار كان ليلًا.

وقد تقدَّم عن الحسن البصري فيما ذكره ابنُ هشام التصريح بذلك أيضًا.

وقال البخارى

(1)

: حدَّثنا يحيى بن بُكير، حدَّثنا اللَّيث، عن عُقَيل، قال ابنُ شهاب: فأخبرني عروةُ بن الزبير، عن عائشة زوج النبيِّ صلى الله عليه وسلم قالت: لم أعقِلْ أبويَّ قطُ إلا وهما يَدِينانِ الدِّين، ولم يمرَّ علينا يومٌ إلا يأتينا فيه رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم طَرَفي النهارِ بُكْرَةً وعَشِيَّة، فلما ابتُلي المسلمون خرج أبو بكر مهاجرًا نحوَ أرض الحبشة، حتى إذا بلغ بَرْكَ الغِمَاد لقيه ابنُ الدُّغُنَّة وهو سيِّد القارة. فذكرتْ ما كان من ردِّهِ لأبي بكر إلى مكة وجِوارَهُ له كما قدمناه عند هجرة الحبشة، إلى قوله فقال أبو بكر: فإني أردُّ عليك جوارك وأرضَى بجوارِ اللَّه. قالت: والنبيُّ صلى الله عليه وسلم يومئذ بمكة. فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم للمسلمين: "إني أُريتُ دارَ هجرتكم ذاتَ نخلٍ بين لابَتَيْن وهما الحرَّتان. فهاجر مَنْ هاجر قبل المدينة، ورجعَ بعض

(2)

من كان هاجر قِبَلَ الحبشة إلى المدينة، وتجهَّزَ أبو بكر مهاجرًا قبل المدينة. فقال له رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم:"على رِسْلِكَ، فإني أرجو أنْ يُؤذَنَ لي" فقال أبو بكر: وهل ترجو ذلك بابي أنت وأمي؟ قال: "نعم" فحَبَسَ أبو بكر نفسهُ على رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم ليصحَبَه، وعلفَ راحلتَيْن كانتا عنده ورقَ السَّمُر -وهو الخَبَط- أربعة أشهر. [وذكر بعضهم أنه علفهما ستة أشهر]

(3)

- قال ابنُ شهاب: قال عروة: قالت عائشة: فبينما نحن يومًا جلوسٌ في بيت أبي بكر في حرِّ الظهيرة، فقال قائلٌ لأبي بكر: هذا رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم متقنِّعًا في ساعةٍ لم يكن يأتينا فيها. فقال أبو بكر: فداءٌ له أبي وأُمِّي، واللَّهِ ما جاء به في هذه الساعة إلا أمْر. قالت: فجاء رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم فاستأذن، فأذِنَ له، فدخل، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"أخْرِجْ مَنْ عندك" فقال أبو بكر: إنما هم أهلُكَ بأبي أنت يا رسول اللَّه. قال: فإنه قد أذن لي في الخروج. فقال أبو بكر: الصُّحْبَة بابي أنت وأمي؟ قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم "نعم" قال أبو بكر: فخذ بأبي أنت يا رسول اللَّه إحدى راحلتيَّ هاتين. فقال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "بالثمن". قالت عائشة: فجهَّزناهما أحثَّ الجَهَاز

(4)

، فصنعنا لهما

= ألم ترني صاحبتُ أيمن صاحب

على واضح من سُنَّة الحق منهج

(1)

البخاري (2298) في الحوالة: باب جوار أبي بكر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم والمناقب (3906) باب هجرَة النبي صلى الله عليه وسلم.

(2)

في فتح الباري: ورجع عامة من كان هاجر.

(3)

ليىس ما بين المعقوفين في صحح البخاري "فتح".

(4)

"أحث": بالمهملة والمثلثة أفعل تفضيل من الحث وهو الإسراع، وفي رواية لأبي ذر: أحب بالموحدة، =

ص: 448

سُفْرَةً في جِرَاب، فقطعتْ أسماءُ بنت أبي بكر قطعةً من نطاقها فربطَتْ به على فم الجِرَاب، فبذلك سُمِّيت ذات النطاقَيْن. قالت: ثم لحق رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بغارٍ في جبلِ ثَوْر، فمكثا فيه ثلاثَ ليال، يبيتُ عندهما عبدُ اللَّه بن أبي بكر وهو غلامٌ شابٌّ ثَقِفٌ لَقِن، فيُدْلج من عندهما بسَحَر، فيُصبح مع قريش بمكة كبائت، لا يسمع أمرًا يُكادان به إلا وَعَاه، حتى يأتيَهما بخبرِ ذلك حين يختلط الظلام، ويرعى عليهما عامرُ بن فُهَيرة مولى أبي بكر مِنْحَةً

(1)

من غَنَم، فيريحها عليهما حين يذهب ساعةً من العشاء، فيبيتانِ في رِسْل

(2)

-وهو لَبَنُ مِنْحَتِهما ورَضِيفُهما

(3)

- حتى يَنْعِقَ بهما

(4)

عامرُ بن فُهيرة بِغَلَس، يفعل ذلك في كلِّ ليلة من تلك الليالي الثلاث. واستأجر رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلًا من بني الدُّئِل

(5)

وهو من بني عبد بن عَدِي هاديا خِرِّيتًا -والخِرِّيت: الماهر بالهداية

(6)

- قد غَمَس حِلْفًا

(7)

في آل العاص بن وائل السَّهْمي وهو على دين كُفَّار قريش فأمِنَاه فدفعا إليه راحلتَيْهما، وواعداه غارَ ثَوْر بعد ثلاث ليال براحلتَيْهما صُبْحَ ثلاثِ ليال

(8)

. وانطلق معهما عامرُ بن فُهيرة والدليل فأخذ بهم طريقَ السواحل.

قال ابنُ شهاب

(9)

: فأخبرني عبد الرحمن بن مالك المُدْلِجيّ -وهو ابنُ أخي سُرَاقة- أنَّ أباه أخبره أنه سمع سُرَاقة بن مالك بن جُعْشُم. يقول: جاءنا رُسل كُفَّارِ قريش يجعلونَ في رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم وأبي بكر دِيَةَ كلِّ واحدٍ منهما لمن قَتَله أو أسره؛ فبينما أنا جالسٌ في مجلسٍ من مجالسِ قومي بني مُدْلج إذْ أقبلَ رجلٌ منهم حتى قام علينا ونحن جلوس. فقال: يا سُراقة إني رأيت آنفا أسْوِدَةً بالسَّاحل

(10)

، أراها محمدًا وأصحابَه. قال سراقة: فعرفتُ أنهم هم، فقلت له: إنهم ليسوا بهم، ولكنَّك رأيت فلانًا وفلانًا انطلقوا

= والأول أصح. والجهاز بفتح الجيم وقد تكسر: ما يُحتاج إليه في السفر. فتح الباري (7/ 235، 236).

(1)

"المِنْحَة": أن يعطيه ناقة أو شاة، ينتفع بلبنها ويُعيدها، وكذلك إذا أعطاه لينتفع بوبرها وصوفها زمانًا ثم يردُّها. النهاية لابن الأثير (4/ 364).

(2)

"الرِّسْل": اللبن الطَّرِي. قال ابن حجر في الفتح (7/ 237).

(3)

"الرَّضيف": اللبن المرضوف، أي الذي وضعت فيه الحجارة المحماة بالشمس أو النار لينعقد وتزول رخاوته، وهو بالرفع ويجوز الجر. فتح الباري (7/ 237) ووقع في ط: ورضيعهما. تصحيف.

(4)

"ينعق بهما": أي يسمعهما صوته إذا زجر غنمه. قاله ابن حجر في الفتح، وهي رواية أبي ذر، وأما رواية ط والصحيح فـ: حتى ينعق بها. أي يصيح بغنمه.

(5)

"الدِّيل": بكسر الدال وسكون التحتانية، وقيل بضم أوله وكسر ثانيه مهموز. فتح الباري (7/ 237).

(6)

هذا التفسير مدرج في الخبر من كلام الزهري بيَّنه ابن سعد. فتح الباري (7/ 238).

(7)

أي كان حليفًا، وكانوا إذا تحالفوا غمسوا أيمانهم في دم أو خلوق أو في شيء يكون فيه تلويث فيكون ذلك تأكيدًا للحلف. فتح الباري (7/ 238).

(8)

ليست اللفظة في صحيح البخاري.

(9)

قال ابن حجر في الفتح (7/ 240): هو موصولٌ بإسناد حديث عائشة السابق. وهو في الفتح (3906) مناقب الأنصار باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم.

(10)

"أسودة": أي أشخاصًا. فتح الباري (7/ 241).

ص: 449

بأعْيُننا، ثم لبثتُ في المجلس ساعة، ثم قمتُ فدخلتُ فأمَرْتُ جاريتي أن تخرُجَ بفرسي وهي من وراءِ أكَمَةٍ فتحبسَها عليَّ، وأخذتُ رُمْحي فخرجتُ به من ظَهْر البيت، فخططت بزُجِّهِ الأرضَ وخفَضْتُ عالِيَه

(1)

، حتى أتيتُ فرسي فركبتُها فرفَعْتُها تُقَرِّبُ بي

(2)

حتى دنوتُ منهم، فعثرَتْ بي فرسي فخرَرْتُ عنها، فقُمتُ فأهوَيْتُ يدي إلى كنانتي فاستخرَجْتُ منها الأزلام فاستقسمتُ بها: أضرُّهم أم لا؟ فخرج الذي أكره، فركبتُ فرسي وعصَيْتُ الأزلام فجعل فرسي يُقَرِّبُ بي، حتى إذا سمعتُ قراءةَ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو لا يلتفِتُ، وأبو بكرٍ يُكثر الالتفات ساخَتْ يدا فرسي في الأرض

(3)

، حتى بلغتا الرُّكْبَتَيْن، فخررتُ عنها فقمتُ فأهويت، ثم زجرتُها فنهضَتْ، فلم تكد تُخرج يديها، فلما استوت قائمة إذ لأثر يديها غبارٌ

(4)

ساطعٌ في السماء مثل الدخان، فاستقسمتُ بالأزلام، فخرج الذي أكره؛ فناديتُهم بالأمان، فوقفوا، فركبتُ فرسي حتى جئتُهم، ووقع في نفسي حين لَقِيتُ ما لقيتُ من الحَبْس عنهم أنْ سيظهرُ أمْرُ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقلتُ له: إنَّ قومك قد جعلوا فيك الدِّيَة. وأخبرتُهم أخبارَ ما يريدُ الناسُ بهم، وعرضتُ عليهم الزادَ والمتاع فلم يَرْزَآني ولم يسألاني إلا أن قال

(5)

: أخْفِ عنَّا. فسألتُه أن يكتُبَ لي كتابَ أمْنٍ، فأمر عامر بن فُهَيرة فكتب في رقعةٍ من أدَم. ثم مضَى رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم.

[وقد روى محمد بن إسحاق

(6)

، عن الزُّهْري، عن عبد الرحمن بن مالك بن جُعْشُم، عن أبيه، عن عمه سُرَاقة فذكر هذه القصة، إلا أنه ذكر أنه استقسم بالأزلام أولَ ما خرج من منزله، فخرج السهمُ الذي يكره لا يضرُّه، وذكر أنه عثر به فرسه أربع مرات، وكل ذلك يستقسم بالأزلام ويخرج الذي يكره لا يضرُّه. حتى ناداهم بالأمان. وسأل أن يكتب له كتابًا يكون أمارةَ ما بينَه وبين رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم؛ قال: فكتب لي كتابًا في عَظْم -أو رقعة أو خِرْقَة- وذكر أنه جاء به إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو بالجِعِرَّانة

(7)

مرجعه من الطائف، فقال له:"يوم وفاءَ وبرّ، ادْنُهْ" فدنَوْتُ منه وأسلمتُ.

(1)

"الزُّج": الحديدة التي في أسفل الرمح. وخفضت: أي أمسكه بيده وجرَّ زُجَّه على الأرض فخطها به لئلا يظهر بريقه لمن بعد منه، لأنه كره إن تبعه منهم أحد فيشركوه في الجعالة. فتح الباري (7/ 241).

(2)

"فرفعتها": أي أسرعت بها السير. وتقرّب بي: من التقريب، وهو السير دون العدو وفوق العادة، وقيل: أن ترفع الفرس يديها معًا وتضعهما معًا. فتح الباري (7/ 241) وصحفت العبارة في ط إلى: فدفعتها ففرت بي، وهي على الصواب في ح.

(3)

"ساخت": غاصت. فتح (7/ 241).

(4)

لفظ البخاري في الفتح: عُثَان: بضم المهملة بعدها مثلثة خفيفة، أي دخان. قال معمر: قلت لأبي عمرو بن العلاء: ما العثان؟ قال: الدخان من غير نار، وفي رواية الكشميهني: غبار بمعجمة ثم موحدة ثم راء. قاله ابن حجر.

(5)

في ط: قالا، والمثبت من ح والبخاري.

(6)

في سيرة ابن هشام (1/ 489) والروض (2/ 225).

(7)

مضى التعريف بالجعرانة وضبطها ص (60 ح 9).

ص: 450

قال ابن هشام: هو عبد الرحمن بن الحارث بن مالك بن جُعْشُم. وهذا الذي قاله جيد.

ولما رجع سُرَاقة جعل لا يلقى أحدًا من الطلب إلا ردَّه وقال: كُفيتم هذا الوجه، فلما ظهر أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قد وصل إلى المدينة. جعل سُراقة يقصُّ على الناس ما رأى وما شاهد من أمر النبيِّ صلى الله عليه وسلم وما كان من قضية جواده، واشتهر هذا عنه. فخاف رؤساءُ قريش معرَّته، وخَشُوا أن يكون ذلك سببًا لإسلام كثيرٍ منهم، وكان سُراقة أميرَ بني مُدْلِج ورئيسَهم، فكتب أبو جهل -لعنه اللَّه- إليهم:[من الطويل]

بني مدلج إني أخافُ سفيهَكم

سُرَاقُةُ مستغوٍ لنصرِ محمدِ

عليكم به ألا يفرِّق جمعَكم

فيصبحَ شتَّى بعد عِزٍّ وسؤدُدِ

قال فقال سُراقة بن مالك يُجيب أبا جهل في قوله هذا: [من الطويل]

أبا حكم واللَّهِ لو كنتَ شاهدًا

لأمرِ جوادي إذ تسُوخُ قوائمُهْ

عجبتَ ولم تشكُكْ بأنَّ محمدًا

رسولٌ وبرهانٌ فمن ذا يقاومُهْ

عليكَ فكُفَّ القومَ عنه فإنني

إخالُ لنا يومًا ستبدو معالمه

بأمرٍ تودُّ النصرَ فيه فإنهم

وإنّ جميعَ الناسِ طرًّا مُسالمه

وذكر هذا الشعر الأموي في مغازيه بسنده عن أبي إسحاق، وقد رواه أبو نعيم

(1)

بسنده من طريق زياد عن ابن إسحاق، وزاد في شعر أبي جهل أبياتًا تتضمَّن كفرًا بليغًا]

(2)

.

وقال البخاري

(3)

بسنده إلى ابن شهاب: فأخبرني عروةُ بن الزبير، أنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم لَقِيَ الزبير في ركبٍ من المسلمين كانوا تجارًا قافلين من الشام، فكَسَا الزبيرُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم وأبا بكرٍ ثيابَ بياض، وسمع المسلمون بالمدينة بمخرج رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم من مكة، فكانوا يغدُونَ كلَّ غداةٍ إلى الحرَّة فينتظرونه حتى يردَّهم حرُّ الظهيرة، فانقلبوا يومًا بعد ما أطالوا انتظارهم، فلما أوَوْا إلى بيوتهم أوفى رجلٌ من اليهود على أُطُمٍ من آطامِهِم لأمرٍ ينظرُ إليه، فبصُر برسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه مُبَيَّضِين

(4)

، يزولُ بهم السراب

(5)

، فلم يملك اليهوديُّ أنْ قال بأعلى صوتِه: يا معشرَ العرب هذا جدُّكم الذي تنتظرون فثار المسلمون إلى السلاح فتلقَّوْا رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم بظهر الحَرَّة، فعدل بهم ذاتَ اليمينِ حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف، وذلك يوم الاثنين من شهرِ ربيعِ الأول، فقام أبو بكر للناس وجلس رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم صامتًا، فطفق من جاء من الأنصار ممن لم يرَ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يُحيِّي أبا بكر حتى أصابتِ الشمسُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأقبل أبو بكر حتى ظلَّلَ عليه

(1)

في دلائل النبوة (2/ 435).

(2)

ما بين المعقوفين ليس في ح.

(3)

فتح الباري (7/ 239).

(4)

أي عليهم الثياب البيض التي كساهم إياها الزبير. فتح (7/ 243).

(5)

أي يزول السراب من النظر بسبب عروضهم له. فتح (7/ 243).

ص: 451

بردائه، فعرف الناسُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم عند ذلك، فلبثَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم في بني عمرو بن عوف بضعَ عشرةَ ليلة، وأُسِّسَ

(1)

المسجدُ الذي أُسِّسَ على التقوى، وصلَّى فيه رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، ثم ركب راحلته، وسار يمشي معه الناسُ حتى بركَتْ عند مسجد رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وهو يصلِّي فيه يومئذٍ رجالٌ من المسلمين، وكان مِرْبدًا للتمر، لسُهيلٍ وسهل، غلامَيْن يتيمين في حَجْر أسعد بن زُرَارة، فقال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم حين بركَتْ به راحلته:"هذا إنْ شاء اللَّه المنزل"، ثم دعا رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم الغلامَيْن فساوَمَهُما بالمِرْبَدِ ليتَّخِذَهُ مسجدًا، فقالا: بل نهَبُه لكَ يا رسول اللَّه، فأبى رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم أنْ يقبلَهُ منهما هِبَةً حتى ابتاعه منهما، ثم بناه مسجدًا. فطفِق رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم ينْقُلُ معهم اللَّبنَ في بُنْيانه، وهو يقول حين ينقلُ اللَّبِنَ:[من الرجز]

هذا الحِمالُ لا حِمالَ خَيْبَرْ

هذا أبرُّ رَبَّنا وأطْهَرْ

(2)

ويقول: [من الرجز]

لا هُمَّ إنَّ الأجرَ أجرُ الآخرَهْ

فارْحَم الأنصارَ والمُهاجرَهْ

فتمثل بشعرِ رجلٍ من المسلمين لم يُسَمَّ لي

(3)

.

قال ابن شهاب: ولم يبلُغْنا في الأحاديث أنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم تمثل ببيتِ شعرٍ تامّ غير هذه الأبيات.

هذا لفظُ البخاري وقد تفرَّد بروايتِهِ دونَ مسلم، وله شواهد من وجوهٍ أُخَر، وليس فِيه قصةُ أمِّ معبد الخزاعيَّة، ولنذكر هنا ما يناسب ذلك مرتبًا أوَّلًا فأوَّلًا.

قال الإمامُ أحمد

(4)

: حدَّثنا عمرو بن محمد أبو سعيد العَنْقَزَي، حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق، عن البَرَاء بن عازب، قال: اشترى أبو بكر من عازب سَرْجًا بثلاثةَ عشرَ درهمًا، فقال أبو بكر لعازب: مُرِ البراءَ فلْيحملْهُ إلى منزلي. فقال: لا، حتى تحدِّثنا كيف صنعتَ حين خرجَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم وأنت معه؟ فقال أبو بكر: خرجنا فأدْلجنا فأحْثَثْنا يومنا وليلتَنا حتى أظهرنا، وقام قائمُ الظهيرة، فضربتُ بصري

(5)

هل أرى ظِلًّا ناوي إليه، فإذا أنا بصخرةٍ فأهويتُ إليها فإذا بقيةُ ظِلِّها، فسوَّيْتُه لرسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم وفرشتُ له فروةً وقلت: اضْطَجِعْ يا رسولَ اللَّه فاضطجع، ثم خرجتُ أنظر هل أرى أحدًا من الطلب، فإذا أنا براعي

(1)

الضبط من صحيح البخاري.

(2)

"الحِمال": المحمول من اللَّبن. أبرُّ: عند اللَّه أي أبقى ذُخْرًا من حمال خيبر، أي التي يحمل منها التمر والزبيب ونحو ذلك. قال ابن حجر: ووقع في بعض النسخ في رواية المستملي: الجمال بفتح الجيم، وقوله: ربنا. منادى مضاف. اهـ فتح (7/ 246).

(3)

قال ابن حجر: قال غير الزهري: إن الشعر المذكور لعبد اللَّه بن رواحة فكأنه لم يبلغه. وما في الصحيح أصح وهو قوله: شعر رجل من المسلمين، وفي الحديث جواز قول الشعر وأنواعه خصوصًا الرجز في الحرب والتعاون على سائر الأعمال الشاقة اهـ.

(4)

في مسنده (1/ 3) وما يأتي بين معقوفين منه.

(5)

في المسند: ببصري.

ص: 452

غنم، فقلتُ: لمن أنت يا غلام؟ فقال لرجل من قريش. فسمَّاه. فعرفتُه، فقلت: هل في غنمكَ من لَبَن؟ قال: نعم. قلت: هل أنت حالبٌ لي؟ قال: نعم! فأمرتُه، فاعتقل شاةً منها ثم أمرتُه فنفض ضَرْعَها من الغبار، ثم أمرتُه فنفض كفَّيه من الغبار، ومعي إداوةٌ على فمها خِرْقَة، فحلب لي كُثْبَة

(1)

من اللَّبَن فصبَبْتُ -[يعني الماء]- على القدَحِ حتى بر أسفله، ثم أتيتُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم فوافَيْتُه وقد استيقظ، فقلت: اشرَبْ يا رسول اللَّه فشرِبَ حتى رضيتُ، ثم قلت: هل آنَ

(2)

الرحيلُ؟ فارتحلنا والقومُ يطلبوننا، فلم يُدْركْنا أحد منهم إلا سُرَاقة بن مالك بن جُعْشُم على فرسٍ له، فقلت: يا رسولَ اللَّه هذا الطلب قد لحِقَنا؟ قال: "لا تحْزَنْ إنَّ اللَّهَ مَعَنا" حتى إذا دنا منَّا، فكان بيننا وبينه قَدْرُ رمحٍ أو رمحين -أو قال: رمحين أو ثلاثة- قلت: يا رسول اللَّه، هذا الطلب قد لحقنا؟ وبكَيْت، قال: لم تبكي؟ قلت: أما واللَّه ما على نفسي أبكي، ولكنْ أبكي عليك. فدعا عليه رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال:"اللهمَّ اكفِنَاهُ بما شئت" فساخَتْ قوائمُ فرسه إلى بطنها في أرض صَلْد، ووثب عنها وقال: يا محمد، قد علمتُ أنَّ هذا عملك، فادعُ اللَّه أنْ يُنجيني مما أنا فيه، فواللَّه لأعَمِّيَنَّ على مَنْ ورائي من الطلب، وهذه كنانتي فخذْ منها سهمًا فإنك ستمرُّ بإبلي وغنمي بموضع كذا وكذا فخُذْ منها حاجتك. قال: فقال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا حاجة لي فيها" ودعا له رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم فأطلق ورَجَع إلى أصحابه؛ ومَضَى رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم وأنا معه حتى قدمنا المدينة وتلقَّاه الناسُ فخرجوا في الطرق وعلى الأناجير

(3)

واشتدَّ الخدم والصبيانُ في الطريق يقولون: اللَّه أكبر جاء رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، جاء محمد. قال: وتنازَعَ القومُ أيُّهم ينزلُ عليه، قال: فقال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أنزِلُ الليلة على بني النجَّار أخوالِ عبدِ المطلب لأكْرِمَهُمْ بذلك" فلما أصبح غدا حيث أُمر.

قال البراء: أولُ مَنْ قدم علينا من المهاجرين مُصعب بن عُمير أخو بني عبدِ الدار، ثم قدِم علينا ابنُ أمَّ مكتوم الأعمى أحد

(4)

بني فهر، ثم قدم علينا عمر بن الخطاب في عشرينَ راكبًا، فقلنا ما فعل رسولُ اللَّه؟ قال: هو على أثري، ثم قدم رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم وأبو بكرٍ معه. قال البراء: ولم يقدَمْ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى قرأتُ سُورًا من المفصَّل.

أخرجاهُ في الصحيحَيْن من حديث إسرائيل بدون قولِ البراء: أول من قدم علينا إلخ. فقد انفرد به مسلم فرواه من طريق إسرائيل به

(5)

.

(1)

"الكُثْبَة": كل قليل جمعته من طعام أو لبن أو غير ذلك. النهاية لابن الأثير (4/ 151).

(2)

في المسند: أنى وفي طبعة شاكر: آنى. ووقع في ح: أتى. وفوقها "ن".

(3)

في ح: في الطرق وفي الأناجير. والمثبت من المسند، وفي النهاية لابن الأثير (1/ 26): في السوق وعلى الأجاجير والأناجير. وفيه: الإخاء والإنجاز: السطح وجمعه أجاجير وأناجير.

(4)

كذا في ح، ط، وفي المسند: أخو.

(5)

فتح الباري (3615) المناقب باب علامات النبوة في الإسلام، وصحيح مسلم (75 - 2009) الزهد والرقائق باب في =

ص: 453

وقال ابنُ إسحاق

(1)

: فأقام رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم في الغار ثلاثًا ومعه أبو بكر، وجعلتْ قريشٌ فيه حين فقدوه مئة ناقة لمن ردَّه عليهم

(2)

، فلما مضت الثلاث وسكن عنهما الناس، أتاهما صاحبهما الذي استأجره ببعيرَيْهما وبعيرٍ له، وأتتهما أسماءُ بنتُ أبي بكر بسُفْرتهما، ونسيتْ أن تجعل لها عِصاما، فلما ارتحلا ذهبت لتعلِّق السُّفرة فماذا ليس فيها عصام، فتحل نِطَاقها فتجعله عصامًا ثم علَّقتها به. فكان يقال لها ذات النطاقَيْن لذلك.

قال ابنُ إسحاق

(3)

: فلما قرَّب أبو بكر الراحلتين إلى رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم قدم له أفضلهما ثم قال: اركَبْ فداك أبي وأمي، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"إني لا أركبُ بعيرًا ليس لي" قال: فهي لك يا رسول اللَّه، بأبي أنت وأمي. قال:"لا، ولكن ما الثمن الذي ابتعتَها به؟ " قال: كذا وكذا. قال "أخذتُها بذلك" قال: هي لك يا رسول اللَّه.

وروى الواقديُّ بأسانيده

(4)

أنه عليه السلام أخذ القصواء، قال وكان أبو بكر اشتراهما بثمانمئة درهم.

وروى ابن عساكر

(5)

من طريق أبي أسامة، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت: وهي الجَدْعاء وهكذا حكى السُّهيلي

(6)

عن ابن إسحاق أنها الجدعاء. واللَّه أعلم.

قال ابنُ إسحاق

(7)

: فركبا وانطلقا وأردف أبو بكر عامرَ بن فُهيرة مولاه خلفه ليخدمَهما في الطريق. فحُدِّثت عن أسماء أنها قالت: لما خرج رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم وأبو بكر أتانا نفرٌ من قريش فيهم أبو جهل؛ فذكر ضربَهُ لها على خدِّها لَطْمةً طرح منها قُرْطها من أذنها كما تقدَّم. قالت: فمكثنا ثلاث ليالي ما ندري أين وجهُ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى أقبل رجلٌ من الجِن من أسفل مكة يتغنَّى بأبياتٍ من شعر غناءِ العرب، وإنَّ الناس ليتَّبعونه، يسمعون صوته وما يرَوْنه، حتى خرج من أعلى مكة وهو يقول:[من الطويل]

جزى اللَّهُ ربِّ الناسِ خيرَ جزائِهِ

رفيقَيْن حلَّا خيمتي أمِّ مَعْبَدِ

هما نزلا بالبرِّ ثم تروَّحا

فأفلحَ من أمسى رفيقَ محمدِ

= حديث الهجرة. قلت: أما قول البراء فقد أخرجه البخاري من طريق شعبة عن أبي إسحاق في الفتح (3925) مناقب الأنصار باب مقدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة.

(1)

في سيرة ابن هشام (1/ 486) والروض (2/ 224).

(2)

زاد ابن هشام هنا ما حذفه ابن كثير لتقدمه.

(3)

في سيرة ابن هشام (1/ 486) والروض (2/ 224).

(4)

طبقات ابن سعد (1/ 228).

(5)

مختصر ابن منظور لتاريخ ابن عساكر (2/ 357).

(6)

في الروض (2/ 230).

(7)

في سيرة ابن هشام (1/ 487) والروض (2/ 225).

ص: 454

ليهْنِ بني كعبٍ مكانُ فتاتهم

ومقعدُها للمؤمنينَ بمَرْصَدِ

قالت أسماء: فلما سمعنا قوله عرفنا حيثُ وَجْهُ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأنَّ وجهه إلى المدينة.

قال ابنُ إسحاق

(1)

: وكانوا أربعة؛ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعامر بن فُهيرة مولى أبي بكر، وعبد اللَّه بن أرقد، كذا يقول ابن إسحاق، والمشهور عبد اللَّه بن أُرَيقط الدُّئلي. وكان إذ ذاك مشركًا.

قال ابن إسحاق

(2)

: ولما خرج بهما دلُيلهما عبد اللَّه بن أرقد سلك بهما أسفلَ مكة، ثم مضى بهما على الساحل، حتى عارض الطريق أسفلَ من عُسْفان، ثم سلك بهما على أسفل أَمَج

(3)

، ثم استجاز بهما حتى عارَضَ الطريقَ بعد أن أجاز قُدَيدًا، ثم أجاز بهما من مكانه ذلك فسلك بهما الخَرَّار

(4)

ثم أجاز بهما ثنيَّةَ المَرَة، ثم سلك بهما لَقْفًا

(5)

، ثم أجاز بهما مَدْلَجة لَقْف، ثم استبطن بهما مَدْلَجة مِجَاج

(6)

ثم سلك بهما مَرْجِحَ مجَاج، ثم تبطَّن بهما مَرْجحَ من ذي الغَضَويْن

(7)

، ثم بطن ذي كَشْر

(8)

، ثم أخذ بهما على الجَدَاجِد، ثم على الأجْرَد، ثم سلك بهما ذا سَلَم من بطن أعداء مَجْلجة تِعْهِن

(9)

، ثم على العَبَابيد

(10)

، ثم أجاز بهما القاحَة

(11)

ثم هبط بهما العَرْج وقد أبطأ عليهم بعضُ ظَهْرِهم، فحمل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رجلٌ من أسلم يقال له أوس بن حُجْر على جمل يقال له ابن الرداء إلى المدينة وبعث معه غلامًا له يقال له مسعود بن هُنيدة، ثم خرج بهما دليلُهما من العَرْج، فسلك بها ثنية العائر عن يمين رَكوبة -ويقال ثنية الغائر فيما قال ابن هشام- حتى هبط بهما بطن رئم، ثم قدم

(1)

سيرة ابن هشام (1/ 488) والروض (2/ 225).

(2)

في سيرة ابن هشام (1/ 491) والروض (2/ 236).

(3)

"أمج": بلد من أعراض المدينة. معجم البلدان (1/ 249).

(4)

"الخرار": واد من أودية المدينة معجم البلدان (2/ 350).

(5)

ويقال: لفتًا وتكسر اللام، الروض (2/ 244).

(6)

اختلف في ضبطه فقيل: مِجَاج، ومِجَاح، ومُجَاح، ومَجاج وقال السهيلي في الروض (2/ 244): وقد ألغيت شاهدًا لرواية ابن إسحاق في لقف، وفيه ذكر مجاح بالحاء المهملة بعد الجيم وهو قول محمد بن عروة بن الزبير:

لعن اللَّه بن لقف مسيلًا

ومجاحًا وما أحب مجاحًا

لقيت ناقتي به وبلقف

بلدًا مجدبًا وأرضًا شحاحًا

وانظر معجم البلدان (5/ 55).

(7)

في ح، ط: العَضَوين بالعين المهملة - وهي رواية كما قال ابن هشام، والمثبت من السيرة والروض ومعجم البلدان (4/ 206).

(8)

في ح، ط: ذي كشد بالدال المهملة، والمثبت من السيرة والروض ومعجم البلدان (4/ 462).

(9)

قيل فيه: تِعْهِن وتَعْهِن وتُعهن. معجم البلدان (2/ 35).

(10)

قال ابن هشام في السيرة (1/ 491): ويقال: العبابيب.

(11)

قال ابن هشام في السيرة (1/ 491): ويقال: الفاجَّة. بالفاء والجيم.

ص: 455

بهما قباء على بني عمرو بن عوف لاثنتي عشرة ليلةً خلَتْ من شهر ربيع الأول يوم الاثنين حين اشتد الضَّحاء وكادت الشمس تعتدل.

وقد روى أبو نعيم من طريق الواقدي نحوًا من ذكر هذه المنازل، وخالفه في بعضها. واللَّه أعلم

(1)

.

قال أبو نعيم

(2)

: حدَّثنا أبو حامد بن جبلة، حدَّثنا محمد بن إسحاق -هو

(3)

السرَّاج- حدَّثنا محمد ابن عبَّاد بن موسى العُكْلي

(4)

، حدَّثني أبي موسى بن عبَّاد، حدَّثني عبد اللَّه بن يَسَار

(5)

، حدَّثني إياس ابن مالك بن الأوس الأسلمي عن أبيه. قال: لما هاجر رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم وأبو بكر مرُّوا بإبل لنا بالجُحْفة، فقال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم:"لمن هذه الإبل؟ " فقالوا: لرجل من أسلم. فالتفت إلى أبي بكر فقال: "سلمت إنْ شاء اللَّه" فقال: "ما اسمك؟ " قال: مسعود. فالتفت إلى أبي بكر فقال: "سعدت إنْ شاء اللَّه". قال فأتاهُ أبي فحمله على جمل يقال له ابن الرداء

(6)

.

قلت: وقد تقدَّم عن ابن عباس أنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم خرج من مكة يوم الاثنين، ودخل المدينة يوم الاثنين.

والظاهر أنَّ بين خروجِه عليه السلام من مكة ودخوله المدينة خمسة عشر يومًا، لأنه أقام بغار ثَوْر ثلاثةَ أيام، ثم سلك طريق الساحل، وهي أبعدُ من الطريق الجاد، واجتاز في مروره على أُمِّ معْبَد بنت كعب، من بني كعب بن خُزَاعة.

قال ابن هشام: وقال يونس عن ابن إسحاق: اسمها عاتكة بنت خلف

(7)

بن مَعْبَد بن ربيعة بن أصْرَم.

وقال الأموي: هي عاتكة بنت تبيع خُليف بن مُنقذ بن ربيعة بن أصْرَم بن ضَبيس بن حَرَام بن حُبْشية ابن كعب بن عمرو

(8)

، ولهذه المرأة من الولد مَعْبَد ونضرة وحنيدة بنو أبي معبد، واسمه أكتم بن عبد العزى بن معبد بن ربيعة بن أصرم بن ضَبيس، وقصته مشهورة مرويَّة من طرق يشدُّ بعضُها بعضا.

وهذه قصة أُمِّ معبد الخُزَاعيَّة:

(1)

لم أجد هذه الرواية فيما طبع من دلائل النبوة لأبي نعيم.

(2)

لم أجد هذه الرواية فيما طبع من دلائل النبوة لأبي نعيم، وهي في الإصابة في ترجمة أوس بن عد اللَّه ومالك بن أوس، وفي الخصائص الكبرى للسيوطي (1/ 190).

(3)

في ط: عن السرَّاج. والمثبت من ح.

(4)

في ط: محمد بن عبادة بن موسى العجلي. تصحيف، والمثبت من ح وأنساب السمعاني (9/ 33).

(5)

في ح، ط: سيار تصحيف، والمثبت من الإصابة.

(6)

في ح: ابن الردِّي.

(7)

كذا في ح، ط وفي الإصابة والروض: عاتكة بنت خالد، وهو أشبه بالصواب.

(8)

أصاب النسب في مختلف المصادر تصحيف وتحريف كثير. انظر الاشتقاق لابن دريد (ص 474 و 473) وجمهرة أنساب العرب لابن حزم (ص 238) والروض (2/ 235) وأثبتُّ ما ظننته أقرب للصواب فيها.

ص: 456

قال يونس عن ابن إسحاق

(1)

: فنزل رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بخيمة أمِّ معبد، [واسمها عاتكة بنت خَلَف بن معبد بن ربيعة بن أصرم]

(2)

فأرادوا القِرَى، فقالت: واللَّه ما عندنا طعامٌ ولا لنا مِنْحَة

(3)

ولا لنا شاةٌ إلا حائل، فدعا رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم ببعض غنمها فمسح ضَرعها بيده، ودعا اللَّه وحلبَ في العُسّ حتى أرْغَى وقال:"اشربي يا أمِّ مَعْبَد" فقالت: اشرَبْ فأنت أحقُّ به، فردَّهُ عليها فشربَتْ، ثم دعا بحائلٍ أخرى ففعل مثل ذلك بها فشربه، ثم دعا بحائلٍ أخرى ففعل بها مثل ذلك فسَقَى دليله، ثم دعا بحائلٍ أخرى ففعل بها مثل ذلك فسقى عامرًا، ثم تروَّح.

وطلبتْ قريش رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى بلغوا أمَّ معبد، فسألوا عنه فقالوا: أرأيت محمدًا من حليته كذا كذا؟ فوصفوه لها. فقالت: ما أدري ما تقولون، قدِمَنا فتًى حالبُ الحائل. قالت قريش: ذاك الذي نريد.

وقال الحافظ أبو بكر البزَّار

(4)

: حدّثنا محمد بن معمر، حدّثنا يعقوب بن محمد، حدّثنا عبد الرحمن بن عقبة بن عبد الرحمن بن جابر بن عبد اللَّه، حدثنا أبي، عن أبيه، عن جابر، قال: لما خرجِ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم وأبو بكر مهاجرَيْن فدخلا الغار، إذا في الغار جُحْر، فألْقَمَه أبو بكر عَقِبَه حتى أصبح مخافَةَ أن يخرُجَ على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم منه شيءٌ، فأقاما في الغار ثلاثَ ليال، ثم خرجا حتى نزلا بخيمات أمِّ معبد، فأرسلَتْ إليه أمُّ معبد: إني أرى وجوهًا حسانًا، وإنَّ الحيَّ أقوى على كرامتكم منِّي، فلما أمْسَوْا عندها بعثَتْ مع ابنٍ لها صغير بشفرةٍ وشاة. فقال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم:"ارِدُدِ الشفرةَ وهاتِ لنا فَرَقًا" -يعني القَدَح

(5)

- فأرسلتْ إليه أن لا لَبَنَ فيها ولا وَلَد. قال: "هاتِ لنا فرَقًا" فجاءت بفرقٍ فضرَب ظهرها فاجترَّتْ ودرَّت، فَحَلب فملأ القدح، فشرِبَ وسَقَى أبا بكر، ثم حلب فبعث به إلى أمِّ معبد.

ثم قال البزَّار: لا نعلمه يُروى [بهذا اللفظ] إلَّا بهذا الإسناد، وعبد الرحمن بن عقبة لا نعلم أحدًا حدَّث عنه إلَّا يعقوب بن محمد، وإن كان معروفًا في النسب.

وروى الحافظ البيهقي

(6)

من حديث يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، حدَّثنا محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، حدثنا عبد الرحمن بن الأصبهاني، سمعتُ عبد الرحمن بن أبي ليلى [يحدث] عن أبي بكر الصديق. قال: خرجتُ مع رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم من مكة، فانتهينا إلى حيٍّ من أحياء العرب، فنظر رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى بيت مُنْتَحيًا فقصد إليه، فلما نزلنا لم يكن فيه إلا امرأة، فقالت: يا عبد اللَّه، إنما أنا امرأة وليس

(1)

رواية ابن إسحاق هذه في دلائل النبوة للبيهقي (2/ 493).

(2)

ما بين المعقوفين ليس في ح.

(3)

"المنحة": الناقة.

(4)

كشف الأستار للهيثمي (1742) الهجرة والمغازي باب الهجرة إلى المدينة وما يأتي بين معقوفين منه.

(5)

"الفَرَق": مكيال يسع ثلاثة آصُع عند أهل الحجاز. النهاية لابن الأثير.

(6)

في دلائل النبوة (2/ 491).

ص: 457

معي أحد، فعليكما بعظيم الحيِّ إنْ أردتم القِرَى. قال: فلم يُجِبْها وذلك عند المساء، فجاء ابنٌ لها بأعْنُزٍ يسوقُها، فقالت: يا بني انطلقْ بهذه العَنْز والشَّفْرَة إلى هذين الرجلين فقل لهما تقول لكما أمِّي اذْبَحَا هذه وكُلا وأطعمانا فلما جاء قال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "انطلق بالشفرة وجئني بالقَدَح" قال: إنها قد عزَبَتْ وليس بها لبن، قال انطلق، فجاء بقدح فمسح النبيُّ صلى الله عليه وسلم ضَرْعَها، ثم حلب حتى مَلأ القدَح، ثم قال:"انطلقْ به إلى أمّك" فشربت حتى رويَتْ، ثم جاء به فقال:"انطلقْ بهذه وجئْني بأخرى" ففعل بها كذلك، ثم سَقَى أبا بكر، ثم جاء بأخرى ففعل بها كذلك، ثم شرب النبيُّ صلى الله عليه وسلم فبتنا ليلتنا، ثم انطلقنا.

فكانت تسمِّيه المُبَارَك. وكَثُرَتْ غنمُها حتى جلبَتْ جَلْبًا إلى المدينة، فمرَّ أبو بكرٍ فرأى ابنَها فعرَفَه فقال: يا أُمَّهْ، هذا الرجل الذي كان مع المُبَارك. فقامت إليه فقالت: يا عبد اللَّه، من الرجلُ الذي كان معك؟ قال: أو ما تدرين من هو؟ قالت: لا، قال: هو نبىُّ اللَّه. قالت: فادخلني عليه. قال: فأدخَلَها، فأطعمها رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم وأعطاها -زاد ابنُ عبدان في روايته:- قالت: فدُلَّني عليه، فانطلقتْ معي وأهدَتْ لرسولِ اللَّه شيئًا من أقِطِ ومتاعِ الأعراب. قال: فكساها وأعطاها. قال: ولا أعلمه إلا قال وأسلمَتْ.

إسنادٌ حسن.

وقال البيهقي: هذه القصة شبيهةٌ بقصةِ أُمِّ معبد، والظاهر أنها هي واللَّه أعلم.

وقال البيهقي

(1)

: أخبرنا أبو عبد اللَّه الحافظ وأبو بكر أحمد بن الحسن القاضي، قالا: حدثنا أبو العباس الأصم، حدَّثنا الحسن

(2)

بن مُكرم، حدَّثني أبو أحمد بشر بن محمد السُّكَّري، حدثنا عبد الملك بن وهب المَذْحِجي، حدثنا الحُرُّ بن الصَّيَّاح

(3)

عن أبي مَعْبَد الخُزَاعي أنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم خرج ليلةَ هاجر من مكة إلى المدينة، هو وأبو بكرٍ وعامر بن فُهيرة مولى أبي بكر، ودليلُهم عبد اللَّه بن أُرَيْقِط اللَّيثي، فمرُّوا بخيمتي أمِّ معبد الخزاعيَّة، وكانت أمُّ معبد امرأةً بَرْزَة

(4)

جَلْدَة تحتبي وتجلس بفناء الخيمة

(1)

سقطت هذه الرواية من دلائل النبوة المطبوع للبيهقي وقد تسرَّع محققه (2/ 494) في الحاشية فذكر أن البيهقي لم يعرج على قصة أم معبد، ولو أنه أمعن النظر في المتن وما هو مثبت هنا لما قال ذلك. قال البيهقي في (2/ 493): فيحتمل أن يكون أولًا أي التي في كِسْر الخيمة، كما روينا في حديث أم معبد، ثم رجع ابنها بأعنز، كما روينا في حديث ابن أبي ليلى، ثم لما أتى زوجها وصفته له واللَّه أعلم. فدل هذا على أن البيهقي روى حديث أم معبد قبل رواية ابن أبي ليلى ولو فتشت عنه قبلها لما وجدته وهذا يعني أنه سقط من النسخ التي اعتمدها في التحقيق واللَّه أعلم. وقد ساق الحاكم إسناد هذه الرواية في المستدرك (3/ 11).

(2)

في المستدرك: الحسين بن مكرم. تصحيف، ترجمته في تاريخ بغداد (7/ 432) وسير أعلام النبلاء (13/ 192).

(3)

في ط: أبجر بن الصباح، وفي ح: الحر بن الصباح. وكذا في المستدرك وكله تصحيف والمثبت من ترجمته في تهذيب الكمال (5/ 514) والإكمال (5/ 161).

(4)

"البَرْزَة": الكَهْلَة التي لا تحتجب احتجاب الوابّ، وهي مع ذلك عفيفة عاقلة تجلس للناس وتحدثهم. النهاية لابن الأثير (1/ 117).

ص: 458

فتُطعِمُ وتَسْقي، فسألوها هل عندها لحمٌ أو لبنٌ يشترونه منها؟ فلم يجدوا عندها شيئًا من ذلك. وقالت: لو كان عندنا شيءٌ ما أعوزكم القِرَى؛ وإذا القومُ مُرْمِلُون مُسْنِتُون. فنظر رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم فإذا شاةٌ في كِسْرِ خيمتها فقال: "ما هذه الشاةُ يا أمَّ معبد؟ " فقالت: شاةٌ خلَّفَها الجَهْدُ عن الغَنَم قال: "فهل بها من لبن؟ " قالت: هي أجهدُ من ذلك قال: "تأذنينَ لي أن أحْلِبَها؟ " قالت: إنْ كان بها حَلَبٌ فاحْلبها. فدعا رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بالشاة، فمسحَها وذكر اسْمَ اللَّه، ومسَحَ ضَرْعَها وذكر اسم اللَّه ودعا بإناءً لها يُرْبِضُ الرَّهْط

(1)

فتفَاجَّتْ ودَرَّتْ واجْتَرَّتْ

(2)

، فحلب فيه ثجًا حتى عَلاهُ البَهَاءُ

(3)

فسقاها وسقى أصحابه، فشربوا عَللًا بعد نَهَل، حتى إذا رَوُوا شرب آخِرهم وقال:"ساقي القومِ آخرهم". ثم حلب فيه ثانيًا عَوْدًا على بَدْء، فغادره عندها ثم ارتحلوا. قال: فقلَّما لبث حتى جاء زوجُها أبو معبد يسوق أعْنُزًا عِجافًا يتساوَكْنَ هَزْلَى

(4)

، لا نِقْيَ بهنّ

(5)

، مُخُّهنَّ قليل، فلما رأى اللبن عَجب وقال من أين هذا اللبن يا أمَّ معبد ولا حلوبةَ في البيت والشاءُ عازب؟ فقالت: لا واللَّه، إنه مرَّ بنا رجلٌ مبارك، كان من حديثه كيت وكيت. فقال: صِفيه لي، فواللَّه إني لأراهُ صاحبَ قريش الذي تطلب. فقالت: رأيتُ رجلًا ظاهر الوَضَاءة، حَسَن الخلق، مليح الوجه، لم تعبه ثَجْلَة

(6)

، ولم تُزْرِ به صَعْلَة

(7)

، قسيمٌ وسيم، في عينيه دَعَج، وفي أشفاره وَطَف، وفي صوته صَحَل

(8)

، أحْوَرُ

(9)

أكحل أزَجُّ أقْرَن، في عُنقه لسَطع وفي لحيته كَثَاثَة. إذا صمَتَ فعليه الوَقَار، وإذا تكلَّم سما وعلاهُ البهاء، حُلْو المَنْطِق، فَصْلٌ لا نَزْرَ -قليل- ولا هَذْرَ -كثير- كأنَّ منطقه خَرَزات نَظْمٍ يَتَحَدَّرْن، أبْهَى الناسِ وأجمله من بعيد، وأحسنه من قريب؛ رَبْعَة، لا تَشْنَؤُه

(10)

عينٌ من طول، ولا تقتحمُه عينٌ من قِصَر، غُصْنٌ بين غُصنَيْنِ، فهو أنْضَرُ الثلاثةِ منظرًا، وأحسنهم قدًّا، له رُفقاء يَحُفُّون به، إنْ قال أنصتوا لقوله، وإنْ أمَرَ تبادروا لأمره. مَحْفُودٌ مَحْشُود، لا عابِسٌ ولا معتد فقال -يعني بعلُها-: هذا واللَّه صاحبُ قريش الذي تطلب، ولو صادفتُه لالتمستُ أنْ أصحبه، ولأجْهَدَنّ إنْ وجدتُ إلى ذلك سبيلًا. قال: وأصبح صوتٌ

(1)

"يُرْبض الرهط": أي يُرويهم ويُثْقِلُهم حتى يناموا ويمتدوا على الأرض. النهاية لابن الأثير (2/ 184).

(2)

"تفجَّت": من التفاجّ وهو المبالغة في تفريج ما بين الرجلين. النهاية لابن الأثير (3/ 412).

(3)

"الثجّ": اللبن السائل الكثير. ووقع في ح، ط: حتى ملأه إليها. وهو تصحيف، والمثبت من المستدرك والنهاية لابن الأثير (1/ 169) وفيه: أراد بَهَاء اللبن، وهو وَبيص رغوته أي بريقها.

(4)

أراد أنها تتمايل من ضعفها. النهاية لابن الأثير (2/ 425).

(5)

"النِّقْيِ": المخِ. النهاية لابن الأثير.

(6)

"الثَّجْلة": ضِخمُ البطن. النهاية لابن الأثير (1/ 208).

(7)

"الصَّعْلَة": صِغَرُ الرأس؛ وهي أيضًا الدقَّة والنحول في البدن. النهاية لابن الأثير (3/ 32).

(8)

"الوَطَف": طول شعر الأجفان. والصَّحَل: كالبُحَّة وألا يكون حادَّ الصوت. النهاية لابن الأثير.

(9)

في ط: أحول، والمثبت من ح.

(10)

"لا تشنؤه": أي لا يُبغَض لفرط طوله. هذه رواية ح والمستدرك والنهاية لابن الأثير. وفي الفائق للزمخشري (1/ 81): لا يائس من طول. وفي ط: لا تنساه. تصحيف. وتقتحمه: تزدريه كما في الفائق.

ص: 459

بمكة عالٍ بين السماء والأرض يسمعونه ولا يرَوْن من يقول وهو يقول: [من الطويل]

جزى اللَّه ربُّ الناسِ خيرَ جزائِهِ

رفيقَيْنِ حلَّا خَيْمَتَيْ أُمِّ مَعْبَدِ

هما نَزَلا بالبرِّ وارتحلا به

(1)

فافلح مَنْ أمسى رفيقَ محمدِ

فيالَ قصي ما زَوَى اللَّهُ عنكمُ

به من فَعالٍ لا تُجارَى وسُؤْدُدِ

سلوا أختكم عن شاتِها وإنائها

فإنَّكم إنْ تسالوا الشاةَ تَشْهَدِ

دعاها بشاةٍ حائل فتحلَّبتْ

له بصريحٍ ضرّةُ الشاةِ مُزْبِدِ

(2)

فغادره رهنًا لديها لحالبٍ

يدرُّ لها في مصدرٍ ثم مَوْرِدِ

(3)

قال وأصبح الناس -يعني بمكة- وقد فقدوا نبيَّهم، فأخذوا على خيمتَيْ أمِّ معبد حتى لحقوا برسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم.

قال وأجابه حسان بن ثابت: [من الطويل]

لقد خابَ قومٌ زال عنهم نبيُّهم

وقد سُرَّ مَنْ يَسْرِي إليهم ويَغْتدي

(4)

ترحّلَ عن قوم فزالتْ عقولُهم

وحلَّ على قوم بنورٍ مجدَّدِ

[هداهم به بعد الضلالة ربُّهم

وأرشدَهم من يتْبَعِ الحقَّ يرشُدِ]

(5)

وهل يستوي ضُلَّالُ قومٍ تسفَّهوا

عَمًى وهداةٌ يهتدون بمهتدِ

نبيُّ يَرَى ما لا يرى الناسُ حَوْلَهُ

ويتلو كتابَ اللَّه في كلِّ مَشْهدِ

وإنْ قال في يومٍ مقالةَ غائبٍ

فتصديقُها في اليوم أو في ضُحى الغدِ

ليهنِ أبا بكرٍ سعادةُ جدِّه

بصُحْبته، من يُسْعِدِ اللَّهُ يَسْعَدِ

ويَهْنِ بني كعبِ مكانُ فتاتِهم

ومقعدُها للمسلمينَ بمَرْصَدِ

قال -يعني عبد الملك بن وَهْب-: فبلغني أنَّ أبا معبد أسلم وهاجر إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم.

وهكذا رواه الحافظُ أبو نعيم

(6)

من طريق عبد الملك بن وهب المَذْحِجِيّ فذكر مثله سواء وزاد في آخره قال عبد الملك: بلغني أنَّ أمَّ معبد هاجرتْ وأسلمت ولحقت برسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم.

(1)

في الفائق ودلائل أبي نعيم: هما نزلاها بالهدى واهتدت بهم.

(2)

في ح: لديه بضرع ضرة الشاة مُزْبِدِ.

(3)

في الفائق ودلائل أبي نعيم: يرددها في مصدر ثم مورد.

(4)

ويروى: غاب عنهم نبيهم وقُدّس من يسري. ديوان حسان (1/ 464) ودلائل أبي نعيم (2/ 439).

(5)

سقط هذا البيت من ح، ط فأثبتُّه من مصادر الخبر.

(6)

ليست هذه الرواية فيما طبع من دلائل النبوة؛ غير أنَّ ما ذكره من قول عبد الملك مثبت في الدلائل (2/ 439).

ص: 460

ثم رواه أبو نعيم

(1)

من طُرق عن مُكْرَم بن مُحْرِز الكعبي الخُزَاعي

(2)

، عن أبيه محرز بن مَهْدي عن حِزام بن هشام بن حُبيش بن خالد عن أبيه عن جدِّه حُبيش بن خالد صاحبِ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم، أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حين خرج

(3)

من مكة خرج منها مهاجرًا هو وأبو بكر وعامر بن فُهيرة ودليلُهم

(4)

عبد اللَّه بن أريقط الليثي، فمرُّوا بخيمتَيْ أُمِّ معبد، وكانتِ امرأةً بَرْزة جلدةً تحتبي بفناء القُبَّة.

وذكر مثل ما تقدَّم سواء.

قال: وحدَّثَنَاهُ

(5)

-فيما أظن- محمد بن أحمد بن علي بن مَخْلد، حدثنا محمد بن يونس بن موسى -يعني الكُدَيمي- حدثنا عبد العزيز بن يحيى بن عبد العزيز مولى العباس بن عبد المطلب، حدثنا محمد بن سليمان بن سَلِيط الأنصاري، حدثني أبي عن أبيه سَليط البدري قال: لما خرج رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم في الهجرة ومعه أبو بكر وعامر بن فُهيرة وابنُ أرَيقط يدلُّهم على الطريق، مرَّا بأمِّ معبد الخُزَاعية وهي لا تعرفه فقال لها:"يا أمِّ معبد هل عندك من لبن؟ " قالت: لا واللَّه إنَّ الغنم لعازِبَة. قال: "فما هذه الشاة؟ " قالت: خلَّفها الجَهْدُ عن الغنم؟ ثم ذكر تمام الحديث كنحو ما تقدَّم.

ثم قال البيهقي

(6)

: يحتمل أن هذه القصص كلُّها واحدة.

ثم ذكر قصةً شبيهة بقصة شاة أمِّ معبد الخزاعية فقال

(7)

: حدَّثنا أبو عبد اللَّه الحافظ -إملاءً- حدَّثنا أبو بكر أحمد بن إسحاق بن أيوب، أخبرنا محمد بن غالب، حدثنا أبو الوليد، حدثنا عُبيد

(8)

اللَّه بن إياد بن لَقِيط، حدثنا إياد بن لَقِيط عن قيس بن النعمان قال: لما انطلق النبيّ صلى الله عليه وسلم وأبو بكر مستخفين، مرُّوا بعبدٍ يرعى غنمًا فاستسقياه اللبن فقال: ما عندي شاة تُحلب، غيرَ أنَّ هاهنا عناقًا حملَتْ أولَ الشتاء، وقد أخْدَجَتْ

(9)

وما بقي لها لبن، فقال:"ادْعُ بها". فدعا بها، فاعتقلها النبيُّ صلى الله عليه وسلم ومسح

(1)

في دلائل النبوة (2/ 436).

(2)

في ح، ط: بكر بن محرز الكلبي الخزاعي. وهو تصحيف، والمثبت من دلائل النبوة وأنساب السمعاني (10/ 443). قال بشار: وهو بضم الميم وسكون الكاف وفتح الراء وتخفيفها، قيده الدارقطني في المؤتلف (4/ 2153) والأمير في الإكمال (7/ 286)، وتوهم محقق الأنساب فقيده بالتثقيل.

(3)

في ح، ط: أخرج. والمثبت من دلائل أبي نعيم.

(4)

في ح، ط: ودليلهما. والمثبت من دلائل أبي نعيم.

(5)

وليست هذه الرواية أيضًا فيما طبع من الدلائل لأبي نعيم، وذكرها ابن حجر في الإصابة في ترجمة سَليط الأنصاري.

(6)

في الدلائل (2/ 492 و 493) بألفاظ مقاربة.

(7)

في الدلائل (2/ 497).

(8)

في ح، ط: عبد اللَّه تصحيف، والمثبت من الدلائل والتاريخ الكبير (5/ 373). وسير أعلام النبلاء (7/ 317).

(9)

خدجتِ الناقة: إذا ألقت ولدها قبل أوانه وإن كان تامَّ الخلق؛ وأخدجَتْهُ: إذا ولدته ناقص الخلق وإن كان لتمام الحمل. النهاية لابن الأثير (2/ 12).

ص: 461

ضَرْعَها، ودعا حتى أنزلت، وجاء أبو بكر بِمِجَنّ، فحلب فسقى أبا بكر، ثم حلب فسقى الراعي، ثم حلب فشرب. فقال الراعي: باللَّه من أنت؟ فواللَّه ما رأيتُ مثلك قط. قال: "أو تراك تكتمُ عليَّ حتى أخبرك؟ " قال: نعم. قال: "فإني محمدٌ رسولُ اللَّه" فقال: أنت الذي تزعم قريشٌ أنه صابئ؟ قال: "إنهم ليقولون ذلك" قال: فأشهد أنك نبيّ، وأشهد أنَّ ما جئت به حَقّ، وأنه لا يفعل ما فعلتَ إلا نبيّ، وأنا مُتَّبعُك. قال:"إنك لا تستطيعُ ذلك يومك هذا، فإذا بلغك أني قد ظهرت فأتِنا" ورواه أبو يعلى المَوْصلي

(1)

عن جعفر بن حُميد الكوفي عن عبد اللَّه بن إياد بن لَقِيط به.

وقد ذكر أبو نعيم هاهنا

(2)

قصة عبد اللَّه بن مسعود فقال: حدَّثنا عبد اللَّه بن جعفر حدثنا يونس بن حبيب، حدثنا أبو داود

(3)

، حدثنا حمَّاد بن سلمة، عن عاصم، عن زِرّ، عن عبد اللَّه بن مسعود قال: كنتُ غلامًا يافعًا أرْعَى غنمًا لعقبة بن أبي مُعَيط بمكة، فأتى رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم وأبو بكر -وقد فرَّا من المشركينِ- فقال:"يا غلام، عندك لبنٌ تَسْقِينا؟ " فقلت: إني مؤتَمن ولستُ بساقيكما، فقالا: هل عندك من جَذعة لم ينْزُ عليها الفحلُ بعد؟ قلت: نعم فأتيتهُما بها، فاعتقلها أبو بكر وأخذ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم الضَّرْع، فدعا فحفَل الضَّرْع، وجاء أبو بكر بصخرة منقعرة

(4)

فحلب فيها. ثم شرب هو وأبو بكر وسقياني، ثم قال للضرع:"اقْلِصْ" فقلَصَ. فلما كان بعدُ

(5)

أتيتُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم فقلت: علِّمني من هذا القول الطيِّب -يعني القرآن- فقال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إنَّك غلامٌ مُعَلَّم" فأخذت من فيه سبعين سورةً ما يُنازعني فيها أحد.

فقوله في هذا السياق وقد فرَّا من المشركين ليس المرادُ منه وقتَ الهجرة، إنما ذلك في بعضِ الأحوال قبل الهجرة. فإنَّ ابنَ مسعود ممن أسلم قديمًا وهاجر إلى الحبشة ورجع إلى مكة كما تقدَّم، وقصتُه هذه صحيحة ثابتةٌ في الصحاح وغيرِها. واللَّه أعلم.

وقال عبد اللَّه ابن الإمام أحمد

(6)

: حدثنا مصعب بن عبد اللَّه

(7)

-هو الزُّبيري- حدثني أبي، عن فائد

(1)

ذكره السيوطي في الخصائص فقال: أخرج أبو يعلى والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي وأبو نعيم عن قيس بن النعمان. . . فذكره. وهو في مسند أبي يعلى رقم (5311) من حديث ابن مسعود.

(2)

في دلائل النبوة (233) وأخرجه أحمد في المسند (1/ 479) عن أبي بكر بن عياش عن عاصم به وقال الشيخ أحمد شاكر: إسناده صحيح، وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (11850) عن عفان عن حماد به، وأخرجه أيضًا الطبراني في الكبير (8455) عن علي بن عبد العزيز وأبي مسلم الكش عن حجاج بن المنهال عن حماد به؛ وأخرجه البيهقي في الدلائل (2/ 171) عن أبي بكر بن فورك عن عبد اللَّه بن جعفر به.

(3)

يعني الطيالسي في مسنده (353).

(4)

في المصنف لابن أبي شيبة: منقعرة - أو منقرة، وفي معجم الطبراني: مقعرة.

(5)

في دلائل أبي نعيم: الغد.

(6)

في ح: "وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد اللَّه" ولا يصح البتة، وما أثبتناه هو الصواب، فالحديث من زيادة عبد اللَّه على مسند أبيه (4/ 74)، وإسناده ضعيف لضعف عبد اللَّه بن مصعب الزبيري.

(7)

في ط، ح: عبد اللَّه بن مصعب. تصحيف، والمثبت من مسند أحمد.

ص: 462

مولى عبادل قال: خرجتُ مع إبراهيم بن عبد الرحمن إلى ابن سعد

(1)

حتى إذا كنَّا بالعَرْج أتى ابنُ سعد -وسعد هو الذي دلَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم على طريق رَكُوبة

(2)

- فقال إبراهيم: أخبرني ما حدَّثك أبوك؟ قال ابنُ سعد: حدثني أبي أنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم أتاهم ومعه أبو بكر -وكانت لأبي بكرٍ عندنا بنت مُسترضعة- وكان رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم أراد الاختصار في الطريق إلى المدينة، فقال له سعد: هذا الغائر من رَكُوبة

(3)

، وبه لصَّانِ من أسلم يقال لهما المهانان؛ فإنْ شئت أخذنا عليهما. فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"خذ بنا عليهما". قال سعد: فخرجنا حتى إذا أشرفنا إذا أحدها يقول لصاحبه: هذا اليماني. فدعاهما رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم فعرض عليهما الإسلام فأسلما، ثم سألهما عن أسمائهما فقالا: نحن المهانان فقال: "بل أنتما المكرمان" وأمرهما أن يقدَما عليه المدينة فخرجْنا حتى إذا أتينا

(4)

ظاهر قُباء فتلقَّى

(5)

بنو عمرو بن عوف فقال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أين أبو أمامة أسعد بن زُرَارة؟ " فقال سعد بن خيثمة: إنه أصاب قبلي يا رسول اللَّه، أفلا أخبره ذلك

(6)

؟ ثم مضى رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى إذا طلع على النخل فإذا الشرب مملوء، فالتفت رسولُ اللَّه إلى أبي بكر فقال: يا أبا بكر هذا المنزل. رأيتني أنزل إلى

(7)

حياضٍ كحياض بني مُدْلج. انفرد به أحمد.

‌فصل في دخوله عليه الصلاة والسلام المدينة وأينَ استقرَّ منزلُه بها وما يتعلَّقُ بذلك

قد تقدَّم الكلامُ فيما رواهُ البخاري عن الزهري عن عروة أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم دخل المدينة عند الظهيرة

(8)

.

قلت: ولعلَّ ذلك كان بعد الزوال، لما ثبت في الصحيحَيْن

(9)

من حديث إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب، عن أبي بكر، في حديث الهجرة قال: فقدمنا ليلًا فتنازعه القومُ أيُّهم ينزلُ عليه، فقال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم:"أَنزلُ على بني النجَّار أخوالِ عبد المطَّلب أُكْرِمُهم بذلك" وهذا واللَّه أعلم إمَّا أن يكون يومَ قدومِه إلى قُباء فيكون حال وصوله إلى قرب المدينة كان في حرِّ الظهيرة، وأقام

(1)

عبارة المسند هكذا: خرجتُ مع إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن أبي ربيعة فأرسل إبراهيم بن عبد الرحمن بن سعد حتى. . .

(2)

"رَكُوبة": ثنية بين مكة والمدينة عند العَرْح. معجم البلدان (3/ 64).

(3)

في ح: العامر من ركونة وفي ط: الغامر، والمثبت من مسند أحمد وسيرة ابن هشام (1/ 492) وقال ابن هشام: ثنية العائر. . . ويقال ثنية الغائر بالمهملة والمعجمة، ونقله ياقوت في معجم البلدان (4/ 73).

(4)

في ح: فخرجا حتى إذا أتيا، والمثبت من ط ومسند أحمد.

(5)

في ط: فتلقاه، والمثبت من ح ومسند أحمد.

(6)

في مسند أحمد لك، والمثبت من ح، ط.

(7)

في مسند أحمد: على.

(8)

تقدم في (ص 451) موضع الحاشية (3).

(9)

رواية الصحيحين تقدمت الإشارة إليها في المتن (ص 453).

ص: 463

تحت تلك النخلة، ثم سار بالمسلمين فنزل قُباء وذلك ليلًا، وأنه أطلق على ما بعد الزوال ليلًا. لأنَّ العشيَّ من الزوال؛ وإمَّا أن يكون المرادُ بذلك لما رحل من قُباء كما سيأتي، وسار، فما انتهى إلى بني النجَّار إلا عشاءً كما سيأتي بيانُه، واللَّه أعلم.

وذكر البخاري

(1)

عن الزهري عن عروة أنه نزل في بني عمرو بن عوف بقباء، وأقام فيهم بِضْع عشرةَ ليلة، وأسَّسَ مسجد قُباء في تلك الأيام، ثم ركب ومعه الناس حتى بركت به راحلتُه في مكان مسجده، وكان مِرْبَدًا لغلامين يتيمَيْن وهما سَهْل وسُهيل، فابتاعه منهما واتخذه مسجدًا. وذلك في دار بني النجَّار رضي الله عنهم.

وقال محمد بن إسحاق

(2)

: حدَّثني محمد بن جعفر بن الزُّبير، عن عروة بن الزبير، عن عبد الرحمن بن عُوَيم

(3)

بن ساعدة قال: حدثني رجال من قومي من أصحاب

(4)

النبيِّ صلى الله عليه وسلم قالوا: لما بلغنا مخرجُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم من مكة وتوكَّفنا قدومَه، كنا نخرجُ إذا صلينا الصُّبح إلى ظاهر حَرَّتنا ننتظرُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فواللَّه ما نبْرَحُ حتى تغلبنا الشمسُ على الظلال فإذا لم نجدْ ظلًا دخلنا -وذلك في أيامٍ حارَّة- حتى إذا كان اليومُ الذي قدِم فيه رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم جلسنا كما كنَّا نجلس، حتى إذا لم يبق ظل دخلنا بيوتنا وقدم رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم حين دخلنا البيوت، فكان أولَ من رآه رجلٌ من اليهود [وقد رأى ما كنَّا نصنع، وأنَّا ننتظر قدوم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم] فصرخ بأعلى صوته: يا بني قَيْلَة

(5)

، هذا جدُّكم قد جاء. فخرجْنا إلى رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو في ظلِّ نخلة ومعه أبو بكر في مثل سِنِّه، وأكثرنا لم يكنْ رأى رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قبل ذلك. ورَكِبَهُ الناس وما يعرفونه من أبي بكر حتى زال الظلُّ عن رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقام أبو بكر فأظلَّه بردائه، فعرفناه عند ذلك.

وقد تقدَّم مثلُ ذلك في سياقِ البخاري

(6)

وكذا ذكر موسى بن عقبة في مغازيه.

وقال الإمام أحمد

(7)

: حدثنا هشام، حدثنا سليمان، عن ثابت، عن أنس بن مالك، قال: إني لأسعى في الغلمان يقولون: جاء محمد؛ فأسعى ولا أرى شيئًا، ثم يقولون: جاء محمد فأسعى ولا أرى شيئًا، قال: حتى جاء رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم وصاحبُه أبو بكر، فكَمَنَا

(8)

في بعض حِرَار

(9)

المدينة، ثم

(1)

تقدم في (ص 451) موضع الحاشية (3).

(2)

في سيرة ابن هشام (1/ 492) والروض (2/ 236) وما سيأتي بين معقوفين منهما.

(3)

وقع في سيرة ابن هشام والروض: عويمر. وهو تصحيف، انظر ترجمة عبد الرحمن وترجمة أبي عويم في الإصابة وفيه ساق ابن حجر طرف الحديث.

(4)

في ح: رجال من قومي عن النبي صلى الله عليه وسلم. والمثبت من ط وسيرة ابن هشام والإصابة.

(5)

"قيلة": هي أم الأوس والخزرج. القاموس (قل).

(6)

تقدم في (ص 451) موضع الحاشية (3).

(7)

في مسنده (3/ 222) رقم (13251) وهو صحيح.

(8)

في ح: فمكنا. وأثبتنا ما في ط، وهو الذي في الطبعة الجديدة من مسند أحمد (21/ 40). .

(9)

في ح، ط: خراب تصحيف، والمثبت من مسند أحمد.

ص: 464

بعَثَا رجلًا من أهلِ البادية يؤذنُ بهما الأنصار، فاستقبلهما زهاءُ خمسمئةٍ من الأنصار حتى انتهوا إليهما فقالت الأنصار: انطلقا آمنَيْن مطاعَيْن. فأقبل رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم وصاحبُه بين أظهرهم، فخرج أهلُ المدينة حتى إنَّ العَوَاتق لفوق البيوت يتراءينه يقلن: أيُّهم هو؟ أيهم هو؟ فما رأينا منظرًا شبيهًا به. قال أنس: فلقد رأيتُه يوم دخل علينا ويوم قبض. فلم أر يومين شبيهًا بهما.

ورواهُ البيهقي

(1)

عن الحاكم، عن الأصم، عن محمد بن إسحاق الصَّنْعاني، عن أبي النَّضْر هاشم ابن القاسم، عن سليمان بن المغيرة، عن ثابت عن أنس بنحوه -أو مثله- وفي الصحيحَيْن

(2)

من طريق إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء، عن أبي بكرٍ في حديث الهجرة، قال: وخرج الناس حين قدمنا المدينة في الطرق وعلى البيوت والغلمان والخدم يقولون: اللَّه أكبر، جاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، اللَّه أكبر جاء محمد، اللَّه أكبر جاء محمد، اللَّه أكبر جاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فلما أصبح انطلق وذهب حيث أُمر.

وقال البيهقي

(3)

: أخبرنا أبو عمرو الأديب، أخبرنا أبو بكر الإسماعيلي، سمعتُ أبا خليفة يقول: سمعت ابنَ عائشة يقول: لما قدم رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم المدينة جعل النساءُ والصبيان يقلن: [من مجزوء الرمل]

طلعَ البدرُ علينا

من ثَنيَّات الوَدَاع

وجبَ الشُّكْرُ علينا

ما دعا للَّه داع

(4)

قال محمد بن إسحاق

(5)

: فنزل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فيما يذكرون يعني حين نزل بُقباء- على كلثوم بن الهِدْم أخي بني عمرو بن عَوف، ثم أحدِ بني عُبيد، ويقال: بل نزل على سعد بن خَيْثَمة، ويقول من يذكر أنه نزل على كلثوم بن الهِدْم: إنما كان رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا خرج من منزل كلثوم بن الهِدْم جلس للناس في بيت سعد بن خيثمة، وذلك أنه كان عزَبًا لا أهل له، وكان يقالُ لبيته بيت العزَّاب واللَّه أعلم. ونزل أبو بكر رضي الله عنه على خُبيب بن إساف أحدِ بني الحارث بن الخزرج بالسُّنح؛ وقيل على خارجة بن زيد بن أبي زهير أخي بني الحارث بن الخزرج.

قال ابن إسحاق

(6)

: وأقام عليُّ بن أبي طالب بمكة ثلاثَ ليالٍ وأيامها حتى أدَّى عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم

(1)

في دلائل النبوة (2/ 507).

(2)

فتح الباري (3652) فضائل الصحابة باب مناقب المهاجرين وفضلهم، وصحيح مسلم (75 - 2009) الزهد باب في حديث الهجرة.

(3)

في الدلائل (2/ 506).

(4)

وإسناده ضعيف. والصواب أن ذلك كان عند رجوعه من تبوك، ولذلك قال ابن قيم الجوزية في "زاد المعاد"(3/ 551) وبعض الرواة يهم في هذا، ويقول: إنما كان ذلك عند مقدمه إلى المدينة من مكة وهو وهم ظاهر، لأن ثنيات الوداع، إنما هي من ناحية الشام لا يراها القادم من مكة إلى المدينة، ولا يمر بها إلا إذا توجه إلى الشام.

(5)

في سيرة ابن هشام (1/ 493) والروض (2/ 237).

(6)

في سيرة ابن هشام (1/ 493) والروض (2/ 237).

ص: 465

الودائع التي كانت عنده، ثم لحق برسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم فنزل معه على كلثوم بن الهِدْم. فكان عليُّ بنُ أبي طالب إنما كانت إقامته بقُباء ليلة أو ليلتين. يقول: كانت بقباء امرأةٌ لا زوجَ لها، مسلمة، فرأيتُ إنسانًا يأتيها من جَوْف الليل، فيضرب عليها بابها، فتخرج إليه، فيعطيها شيئًا معه فتأخذه، فاستربْتُ بشأنه فقلت لها: يا أمة اللَّه، مَنْ هذا الذي يضرب عليك بابكِ كلَّ ليلة فتخرجين إليه، فيعطيك شيئًا لا أدري ما هو؟ وأنت امرأةٌ مسلمة لا زوج لك؟ قالت: هذا سهلُ بن حُنَيف. وقد عرف أني امرأةٌ لا أحد لي، فإذا أمسى عدا على أوثانِ قومه فكسرها، ثم جاءني بها فقال: احتطبي بهذا، فكان عليٌّ رضي الله عنه يأثرُ ذلك من شأنِ سَهْل بن حُنيف حين هلك عنده بالعراق.

قال ابن إسحاق

(1)

: فأقام رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بقُباء في بني عمرو بن عوف يوم الاثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء ويوم الخميس وأسَّس مسجده؛ ثم أخرجه اللَّه من بين أظهرهم يوم الجمعة وبنو عمرو بن عوف يزعمون أنه مكث فيهم أكثر من ذلك.

وقال عبد اللَّه بن إدريس عن محمد بن إسحاق قال: وبنو عمرو بن عوف يزعمون أنه عليه السلام أقام فيهم ثماني عشرة ليلة.

قلت: وقد تقدَّم فيما رواه البخارى

(2)

من طريق الزُّهري عن عروة أنه عليه السلام أقام فيهم بضعَ عشرة ليلةً، وحكى موسى بن عقبة عن مُجَمِّع بن يزيد بن جارية

(3)

أنه قال: أقام رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم فينا -يعني في بني عمرو بن عَوْف بقُباء- اثنتين وعشرين ليلة.

وقال الواقدي: ويقال: أقام فيهم أربع عشرة ليلة. فاللَّه أعلم.

قال ابنُ إسحاق

(4)

: فأدركتْ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم الجمعةُ في بني سالم بن عوف، فصلاها في المسجد الذي في بطن الوادي -وادي رانُونَاء- فكانت أولَ جمعةٍ صلاها بالمدينة.

فأتاه عِتْبان بن مالك وعباس بن عُبادة بن نَضْلَة، في رجالٍ من بني سالم فقالوا: يا رسول اللَّه، أقمْ عندنا في العدد والعُدَّة والمنعة. قال "خلُّوا سبيلَهِا فإنها مأمورة" لناقته، فخلُّوا سبيلَها فانطلقتْ حتى إذا وازت

(5)

دار بني بَيَاضَة تلقَّاه زياد بن لبيد وفَرْوةُ بن عمرو، في رجالٍ من بني بياضة فقالوا: يا رسول اللَّه! هلمَّ إلينا إلى العدد والعُدَّة والمَنَعة؟ قال: "خلُّوا سبيلها فإنَّها مأمورة" فخلوا سبيلها. فانطلقتْ حتى إذا مرَّت بدار بني ساعدة اعترضه سعدُ بن عُبادة والمنذر بن عمرو، في رجالٍ من بني

(1)

في سيرة ابن هشام (1/ 494) والروض (2/ 237).

(2)

تقدم في (ص 451) موضع الحاشية (3).

(3)

في ح، ط: حارثة، تصحيف، والمثبت من الإكمال (2/ 4) وتقريب التهذيب.

(4)

في سيرة ابن هشام (1/ 494) والروض (2/ 237).

(5)

في ح: وارت، وفي سيرة ابن هشام: وازنت. والمثبت من ط.

ص: 466

ساعدة، فقالوا: يا رسول اللَّه، هلَّم إلينا في العدد والعُدَّة والمنعة. قال:"خلُّوا سبيلها فإنها مأمورة" فخلَّوا سبيلها، فانطلقت، حتى إذا وازت

(1)

دار بني الحارث بن الخزرج اعترضه سعدُ بن الرَّبيع وخارجةُ بن زيد وعبد اللَّه بن رَوَاحة، في رجالٍ من بني الحارث

(2)

بن الخزرج فقالوا: يا رسول اللَّه هلمَّ إلينا إلى العدد والعُدَّة والمَنَعة. قال: "خلُّوا سبيلَها فإنها مأمورة" فخلَّوا سبيلَها، فانطلقت حتى إذا مرَّت بدار عديِّ بن النجَّار -وهم أخواله دِنْيًا- أم عبد المطلب، سلمى بنت عمرو إحدى نسائهم، اعترضه سَليط بن قيس وأبو سَليط أُسَيْرَة بن خارجة

(3)

في رجالي من بني عديِّ بن النجَّار، فقالوا: يا رسول اللَّه! هلمَّ إلى أخوالك إلى العدد والعُدَّة والمنعة؟ قال: "خلُّوا سبيلها فإنَّها مأمورة" فخلوا سبيلها، فانطلقت، حتى إذا أتتْ دارَ بني مالك بن النجَّار بركَتْ على باب مسجده عليه السلام اليوم، وكان يومئذٍ مِرْبدًا لغلامَيْن يتيمَيْن من بني مالك بن النجار، وهما سَهْل وسُهيل ابنا عمرو، وكانا في حَجْر معاذ بن عَفْرَاء.

قلت: وقد تقدَّم في روايةِ البخاري

(4)

من طريق الزُّهري عن عروة أنهما كانا في حَجْر أسعد بن زرارة، واللَّه أعلم.

وذكر موسى بن عقبة

(5)

أنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم مرَّ في طريقه بعبد اللَّه بن أُبيِّ بن سلُول وهو في بيت. فوقف رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم ينتظر أن يدعوَهُ إلى المنزل-وهو يومئذٍ سيد الخزرج في أنفسهم- فقال عبد اللَّه انظر الذين دعَوْك فانزلْ عليهم. فذكر ذلك رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم لنفر من الأنصار، فقال سعد بن عبادة يعتذر عنه: لقد مَنَّ اللَّه علينا بك يا رسول اللَّه! وإنا نريد أن نعقِدَ على رأسه التاج ونملِّكه علينا.

قال موسى بن عقبة

(6)

: وكانتِ الأنصار قد اجتمعوا قبل أن يركبَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم من بني عمرو بن عوف فمشَوْا حولَ ناقته لا يزال أحدُهم ينازعُ صاحبه زمام الناقة شُحًّا على كرامة رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم وتعظيمًا له، وكلما مرَّ بدارٍ من دور الأنصار دعَوْهُ إلى المنزل فيقول صلى الله عليه وسلم:"دعوها فإنها مأمورة، فإنما أنزلُ حيث أنزلني اللَّه" فلما انتهتْ به إلى دار أبي أيوب بَرَكتْ به على الباب، فنزل، فدخل بيت أبي أيوب حتى ابتنى مسجده ومساكنه.

(1)

في ح: وارت، وفي سيرة ابن هشام: وازنت. والمثبت من ط.

(2)

في ح: من بلحارث.

(3)

كذا في (ح، ط) وفي سيرة ابن هشام: أسيرة بن أبي خارجة، وفي الإكمال (1/ 78): أُسيرة بن عمرو من بني عدي بن النجار.

(4)

تقدم في أول الصفحة (452).

(5)

في الحديث الذي رواه عنه البيهقي بسنده في دلائل النبوة (2/ 499).

(6)

في الحديث الذي رواه عنه البيهقي بسنده في دلائل النبوة (2/ 501).

ص: 467

وقال ابنُ إسحاق

(1)

: لما بركتِ الناقةُ برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لم ينزلْ عنها حتى وثبت فسارَتْ غيرَ بعيد، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم واضعٌ لها زمِامها لا يَثْنِيها به، ثم التفتَتْ خَلْفَها فرجعَتْ إلى مَبْرَكها أولَ مرَّة فبركتْ فيه، ثم تحَلْحَلَتْ ورَزَمَتْ

(2)

ووضعَتْ جِرانها، فنزل عنها رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم. فاحتمل أبو أيوب خالد بن زيد رحله، فوضعه في بيته ونزل عليه رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، وسأل عن المِرْبد: لمن هو؟ فقال له معاذ بن عفراء: هو يا رسول اللَّه! لسهل وسُهيل ابني عمرو وهما يتيمان لي، وسأرضيهما منه، فاتَّخذهُ مسجدًا. فأمر به رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يُبنى، ونزل رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم دار أبي أيوب حتى بنى مسجده ومساكنه، فعمل فيه رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم والمسلمون من المهاجرين والأنصار.

وستأتي قصةُ بناء المسجد قريبًا إن شاء اللَّه.

وقال البيهقي في "الدلائل"

(3)

: وقال أبو عبد اللَّه: أخبرنا أبو الحسن علي بن عمر

(4)

الحافظ حدثنا أبو عبد اللَّه محمد بن مَخْلد الدُّوري، حدثنا محمد بن سليمان بن إسماعيل بن أبي الورد، حدثنا إبراهيم بن صِرْمَة، حدثنا يحيى بن سعيد عن إسحاق بن عبد اللَّه بن أبي طلحة، عن أنس. قال: قدم رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم المدينة، فلما دخلنا

(5)

جاء الأنصار برجالها ونسائها فقالوا: إلينا يا رسول اللَّه! فقال: "دعوا الناقة فإنها مأمورة" فبركت على باب أبي أيوب، فخرجت جوَارٍ من بني النجَّار يضربنَ بالدُّفوف وهنَّ يقلْن:

نحنُ جوارٍ من بني النجَّار

يا حبّذا محمدٌ من جارِ

فخرج إليهم رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: "أتحبونني؟ " فقالوا: إي واللَّه يا رسول اللَّه. فقال: وأنا واللَّه أحبُّكم، وأنا واللَّه أحبُّكم، وأنا واللَّه أحبُّكم".

هذا حديثٌ غريبٌ من هذا الوجه لم يَرْوِه أحدٌ من أصحاب السنن، وقد خرَّجه الحاكم في مستدركه

(6)

كما يروى

(7)

.

(1)

في سيرة ابن هشام (1/ 495) والروض (2/ 238).

(2)

في سيرة ابن هشام: زمَّتْ. تصحيف، وفي النهاية لابن الأثير (2/ 220): تلحلحت وأرْزَمَتْ أي صوَّتت، والإرزام: الصوت لا يفتح به الفم، وفيه أيضًا: الناقة الرازم: أي ذات رُزام، التي لا تتحرَّك من الهُزَال، رزَمتْ فهي رازم. وفي اللسان (لحح): تلحلحت عند بيت أبي أيوب ووضعت جِرانها: أي أقامت وثبتت، وأصله من قولك ألحَّ يُلحُّ. ووقع في ح، ط والسيرة: تحلحلت وهو خلاف المعنى.

(3)

دلائل النبوة للبيهقي (2/ 508).

(4)

في ح، ط: عمرو. تصحيف، والمثبت من الدلائل وترجمته -وهو الدارقطني- في السير (16/ 449).

(5)

في الدلائل: دخل. وهو أشبه بالصواب.

(6)

لم أجده في مستدرك الحاكم.

(7)

هكذا في ح، ط، ولعله يريد: كما يروى من طريق أخرى، ثم ساقه من وجه آخر وهو الآتي (بشار).

ص: 468

ثم قال البيهقي

(1)

: أخبرنا أبو عبد الرحمن السُّلمي، أخبرنا أبو القاسم عبد الرحمن

(2)

بن سليمان النحاس المقرئ ببغداد، حدثنا عمر بن الحسن الحلبي، حدثنا أبو خيثمة المصيصي، حدثنا عيسى بن يونس، عن عَوْف الأعرابي، عن ثمامة عن أنس، قال: مرَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بحيٍّ من بني النجار، وإذا جوارٍ يضربن بالدفوف يقلْن:[من الرجز]

نحن جوارٍ من بني النجَّارِ

يا حَبَّذا محمدٌ من جار

فقال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم "يعلم اللَّه أن قلبي يحبُّكم"

(3)

.

ورواه ابن ماجه

(4)

عن هشام بن عمَّار، عن عيسى بن يونس به

(5)

.

وفي صحيح البخارى

(6)

عن أبي معمر عن عبد الوارث، عن عبد العزيز، عن أنس قال: رأى النبيُّ صلى الله عليه وسلم النساءَ والصِّبيانَ مقبلين -حسبتُ أنه قال من عُرْس- فقام النبيُّ صلى الله عليه وسلم مُمْثِلًا

(7)

فقال: "اللهمَّ أنتم من أحبِّ الناسِ إليّ" قالها ثلاث مرَّات.

وقال الإمام أحمد

(8)

: حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، حدثني أبي، حدثني عبد العزيز بن صُهيب، حدثنا أنس بن مالك، قال: أقبل رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وهو مردفٌ أبا بكر، وأبو بكر شيخٌ يعرف، ورسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم شابٌّ لا يعرف، قال: فيلقى الرجلُ أبا بكر فيقول: يا أبا بكر من هذا الرجلُ الذي بين يديك؟ فيقول: هذا الرجل يهديني

(9)

السبيل. فيحسب الحاسب أنما يهديه الطريق، وإنما يعني سبيلَ الخير. فالتفت أبو بكر، فإذا هو بفارسٍ قد لحقهم فقال: يا نبي اللَّه، هذا فارسٌ قد لحق بنا. فالتفت رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال:"اللهمَّ اصْرَعْهُ" فصرعتْه فرسُه، ثم قامت تُحَمْحم، ثم قال: مُرْني يا نبيَّ اللَّه بما شئت. فقال: "قفْ مكانك ولا تتركنَّ أحدًا يلحقُ بنا". قال: فكان أولَ النهار جاهدًا على

(1)

الدلائل (2/ 508).

(2)

في الدلائل: عبد اللَّه بن سليمان. ولم أقف على ترجمة له.

(3)

في الدلائل: يحبُّكنَ. وهو أشبه.

(4)

في السنن (1899) وأخرجه الخطيب في تاريخه (15/ 59 ط. د. بشار)، وهو حديث صحيح.

(5)

وأخرجه أبو نعيم في الحلية (3/ 120) من طريق ثابت عن أنس (بشار).

(6)

فتح الباري (3785) مناقب الأنصار باب قول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار أنتم أحب الناس إلي.

(7)

قال ابن حجر في الفتح (9/ 248): مُمْثلًا بضم أوله وسكون الميم الثانية بعدها مثلثة مكسورة وقد تفتح، وضُبط أيضًا بفتح الميم الثانية وتشديد المثلثة والمعنى قائمًا منتصبًا، قال ابن التين: كذا وقع في البخاري، والذي في اللغة: مَثُل بفتح أوله وضم المثلثة وبفتحها قائمًا يمثل بضم المثلثة مثولًا فهو ماثل إذا انتصب قائمًا. قال عياض: وجاء هنا ممثلًا يعني بالتشديد أي مكلِّفًا نفسه ذلك.

(8)

في مسنده (3/ 211) رقم (13138) وما يأتي بين معقوفين منه.

(9)

في المسند: يهديني إلى السبيل.

ص: 469

رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم، وكان آخرَ النهار مَسْلَحةً له

(1)

. قال: فنزل رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم جانب الحرَّة، ثم بعث إلى الأنصار، فجاؤا فسلَّموا عليهما وقالوا: اركبا آمنين مطاعين

(2)

. فركب رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، وحفُّوا حولهما بالسلاح، وقيل في المدينة: جاء نبيُّ اللَّه صلى الله عليه وسلم فاستشرفوا نبيَّ اللَّه صلى الله عليه وسلم ينظرون إليه ويقولون: جاء نبيُّ اللَّه صلى الله عليه وسلم. قال: فأقبل يسيرُ حتى نزل

(3)

إلى جانب جار أبي أيوب، قال: فإنه ليحدث أهله

(4)

إذْ سمع به عبدُ اللَّه بن سلام وهو في نخلٍ لأهله، يَخْتَرِفُ لهم

(5)

، فعجل أن يضع الذي يخترف فيها، فجاء وهي معه، فسمع من نبيِّ اللَّه صلى الله عليه وسلم، فرجع إلى أهله، فقال نبيُّ اللَّه صلى الله عليه وسلم:"أيُّ بيوتِ أهلنا أقرب"؟ فقال أبو أيوب: أنا يا نبيَّ اللَّه، هذه داري، وهذا بابي. قال:"فانطلق فهيِّئ لنا مَقيلًا" فذهب فهيَّأ [لهما مقيلًا] ثم جاء فقال: يا رسولَ اللَّه! قد هيَّأتُ مقيلًا، قوما على بركة اللَّه فقيلا. فلما جاء نبيُّ اللَّه صلى الله عليه وسلم جاء عبد اللَّه بن سَلام فقال: أشهدُ أنك نبيُّ اللَّه حقًا، وأنك جئتَ بحق، ولقد علمت يهودُ أني سيِّدهم وابنُ سيدِهم، وأعلمهم وابن أعلمهم، فادْعُهم فسَلْهم، فدخلوا عليه، فقال لهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"يا معشر اليهود، ويلكم اتقوا اللَّه فوالذي لا إله إلا اللَّه إنكم لتعلمونَ أني رسولُ اللَّه حقًا، وأني جئت بحق، أسْلِمُوا". فقالوا: ما نعلمه -ثلاثًا-.

وكذا رواه البخاري

(6)

منفردًا به عن محمد -غير منسوب- عن عبد الصمد به.

قال ابن إسحاق

(7)

: وحدَّثني يزيد بن أبي حَبيب عن مَرْثَد بن عبد اللَّه اليَزَني، عن أبي رُهْم السَّمَاعي، حدَّثني أبو أيوب، قال: لما نزل عليَّ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم في بيتي نزل في السُّفْل، وأنا وأمُّ أيُّوب في العُلْو، فقلت له: بأبي أنتَ وأُمِّي يا رسولَ اللَّه! إني أكره وأُعْظِمُ أن أكون فوقك وتكون تحتي، فاظْهَرْ أنت فكُنْ في العُلْو وننزل نحن فنكون في السُّفْل. فقال:"يا أبا أيُّوب! إنَّ أرفقَ بنا وبمن يَغْشانا أن أكون في سُفْل البيت" فكان رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم في سُفله وكنّا فوقه في المَسْكن؛ فلقد انكسر حُبٌّ لنا فيه ماءٌ، فقمتُ أنا وأم أيوب بقَطيفةٍ لنا، ما لنا لحافٌ غيرها ننشفُ بها الماء، تخوُّفًا أن يقطُرَ على رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم منه شيءٌ فيؤذيه.

قال: وكنا نصنع له العشاء، ثم نبعث به إليه، فإذا ردَّ علينا فَضْلَه تيمَّمْتُ أنا وأمُّ أيوب مَوْضِعَ يده

(1)

أي بمثابة المسلحة، وهو المكان الذي يراقَبُ منه العدوّ يقيم فيه القوم ذوو السلاح لئلا يطرقهم على غفلة. انظر النهاية لابن الأثير (سلح).

(2)

في المسند: مطمئنَّين.

(3)

في المسند: جاء إلى جانب.

(4)

في المسند: أهلها. وهو أشبه.

(5)

يخترف لهم: يجني لهم من ثماره. القاموس (خرف).

(6)

فتح الباري (3911) مناقب الأنصار باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة.

(7)

في سيرة ابن هشام (1/ 498) والروض (2/ 239).

ص: 470

فأكلنا منه، نبتغي بذلك البركة، حتى بعثنا إليه ليلةً بعشائه وقد جعلنا له فيه بصلًا -أو ثُومًا- فردَّه رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم فلم أرَ ليده فيه أثرًا. قال: فجئتُه فزِعًا فقلت: يا رسولَ اللَّه! بأبي أنت وأمي، رددتَ عشاءك ولم أر فيه موضِعَ يدك؟ فقال "إني وجدتُ فيه ريحَ هذه الشجرة، وأنا رجلٌ أُنَاجِي، فأما أنتم فكلُوه". قال: فأكلناه ولم نصنع له تلك الشجرة بعدُ.

وكذلك رواهُ البيهقي

(1)

من طريق الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حَبيب عن أبي الحسن -أو أبي الخير- مرثد بن عبد اللَّه اليَزَني عن أبي رُهْم، عن أبي أيوب. . . فذكره.

ورواه أبو بكر بن أبي شيبة

(2)

، عن يونس بن محمد المؤدب، عن الليث.

وقال البيهقي

(3)

: أخبرنا أبو عبد اللَّه الحافظ، أخبرنا أبو عمرو الحيري، حدثنا عبد اللَّه بن محمد، حدثنا أحمد بن سعيد الدارمي حدثنا أبو النعمان، حدثنا ثابت بن يزيد

(4)

، حدثنا عاصم الأحول، عن عبد اللَّه بن الحارث، عن أفلح مولى أبي أيوب، عن أبي أيوب، أنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم نزل عليه فنزل في السُّفل وأبو أيُّوب في العُلْو، فانتبه أبو أيوب [ليلةً] فقال: نمشي فوق رأسِ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم! فتنحَّوا فباتوا في جانب، ثم قال للنبيِّ صلى الله عليه وسلم يعني في ذلك- فقال:"السُّفْل أرْفَقُ بنا" فقال: لا أعلو سقيفةً أنت تحتها. فتحوَّل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في العُلْو، وأبو أيوب في السفل، فكان يصنع لرسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم طعامًا، فإذا جيءَ به سأل عن موضع أصابعه فيتتبع موضع أصابع رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم، فصنع له طعامًا فيه ثوم، فلما رُدَّ إليه سأل عن موضع أصابع رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم فقيل له: لم يأكل. ففَزِعَ وصَعِدَ إليه فقال: أحرام؟ فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "لا، ولكني أكرهه" قال: فإني أكره ما تكره -أو ما كرهت- قال: وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يأتيه المَلَكُ.

رواه مسلم

(5)

عن أحمد بن سعيد به.

وثبَتَ في الصحيحين عن أنس بن مالك

(6)

قال: جيءَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم ببَدْرٍ

(7)

-وفي رواية بقِدْر- فيه خَضِراتٌ من بقُول، [فوجَدَ لها ريحًا]

(8)

قال: فسأل فأخبر بما فيها [من البقول فقال: "قَرِّبوها" فقرَّبوها إلى بعض أصحابه](8) فلما رآهُ كَرِهَ أكْلَها، قال:"كُل، فإني أُناجي مَنْ لا تُناجي".

(1)

في دلائل النبوة (2/ 510).

(2)

في مصنفه (4541) العقيقة باب من يكره أكل الثوم.

(3)

في دلائل النبوة (2/ 509) وما سيأتي بين معقوفين منه.

(4)

في الدلائل: ثابت بن زيد. تصحيف، وأبو النعمان هو محمد بن الفضل السدوسي.

(5)

في صحيحه: (171 - 2053) الأشربة باب إباحة أكل الثوم.

(6)

كذا في ح، ط وهو وهم والذي في الصحيحين: عن جابر بن عبد اللَّه. فتح الباري (7359) الاعتصام باب الأحكام التي تعرف بالدلائل، وصحيح مسلم (564)(73) المساجد باب نهي من أكل ثومًا أو بصلًا أو كراثًا.

(7)

أي طبق، شبه بالبدر لاستدارته. النهاية لابن الأثير.

(8)

ما بين معقوفين من الصحيحين.

ص: 471

وقد روى الواقدي

(1)

أنَّ أسعد بن زُرارة لما نزل رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم في دار أبي أيوب أخذ بخطام ناقة رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم فكانت عنده؛ وروَى عن زيد بن ثابت أنه قال: أولُ هديةٍ أهديت إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حين نزل دار أبي أيوب أنا جئتُ بها، قصعةٌ فيها خبز مثرود بلبنٍ وسمن، فقلت: أرسلتْ بهذه القصعة أُمِّي. فقال: "بارك اللَّه فيك" ودعا أصحابه فأكلوا، ثم جاءت قصعةُ سعد بن عُبادة ثريد وعُرَاق لحم، وما كانت من ليلة إلا وعلى باب رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم الثلاثة والأربعة يحملون الطعام

(2)

يتناوبون، وكان مقامُه في دار أبي أيوب سبعةَ أشهر، قال: وبعث رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو نازل في دار أبي أيوب- مولاه زيدَ بن حارثة وأبا رافع ومعهما بعيران وخمسمئة درهم ليجيئا بفاطمةَ وأمِّ كلثوم ابنتَيْ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم، وسودةَ بنتِ زمعة زوجته، وأسامة بن زيد، وكانت رُقَيَّةُ قد هاجرتْ مع زوجها عثمان، وزينب عند زوجها -بمكة- أبي العاص بن الربيع؛ وجاءت معهم أمُّ أيمن امرأة زيد بن حارثة وخرج معهم عبد اللَّه بن أبي بكر بعيالِ أبي بكر وفيهم عائشةُ أمُّ المؤمنين، ولم يدخل بها رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بعد.

وقال البيهقي

(3)

: أخبرنا عليُّ بن أحمد بن عبدان، أخبرنا أحمد بن عبيد الصفَّار، حدَّثنا خلف بن عمرو العُكْبَري، حدثنا سعيد بن منصور، حدثنا عطاف بن خالد، حدثنا صدِّيق بن موسى

(4)

عن عبد اللَّه بن الزُّبير أنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قدم المدينة، فاستناخت به راحلتُه بين دار جعفر بن محمد بن علي وبين دار الحسن بن زيد، فأتاه الناس فقالوا: يا رسول اللَّه! المنزل. فانبعثت به راحلتُه فقال: "دعوها فإنها مأمورة" ثم خرجتْ به حتى جاءتْ موضع المنبر فاستناخت، ثم تخلَّلتِ [الناس]

(5)

، وثمَّ عريشٌ كانوا يعرِشونه ويعمُرونه ويتبرَّدون فيه، فنزل رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم عن راحلته فيه فأوى إلى الظل، فأتاه أبو أيوب فقال: يا رسولَ اللَّه! إنَّ منزلي أقربُ المنازلِ إليك فانقُلْ رحلك إليّ؟ قال: "نعم". فذهب برحلِه إلى المنزل، ثم أتاه رجلٌ فقال: يا رسول اللَّه! أين تحل؟ قال: "إن الرجلَ مع رحله حيثُ كان" وثبت رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم في العريش اثنتي عشرةَ ليلةً حتى بنى المسجد.

وهذه مَنْقَبةٌ عظيمةٌ لأبي أيوب خالد بن زيد رضي الله عنه، حيث نزل في داره رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم. وقد روينا من طريق يزيد بن أبي حبيب عن محمد بن علي بن عبد اللَّه بن عباس رضي الله عنه، أنه لما قدم أبو أيوب البصرة -وكان ابنُ عباس نائبًا عليها من جهة عليِّ بن أبي طالب رضي الله عنه فخرج له ابنُ

(1)

طبقات ابن سعد (1/ 237).

(2)

في ح: السلاح. والمثبت من ط وطبقات ابن سعد.

(3)

في دلائل النبوة (2/ 509).

(4)

صديق بن مرسى بن عبد اللَّه بن الزبير ضعيف، وترجمته في الميزان (2/ 314) ولسان الميزان (3/ 189) وجمهرة أنساب العرب لابن حزم (ص 123).

(5)

في ح، ط: تحللت بالحاء المهملة، والمثبت من الدلائل وما بين معقوفين منه.

ص: 472

عباس عن داره [حتى أنزله فيها كما أنزل رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم في داره]

(1)

، وملَّكه كلَّ ما أغلق عليها بابها. ولما أراد الانصراف أعطاهُ ابنُ عباس عشرين ألفًا، وأربعين عبدًا. وقد صارت دارُ أبي أيوب بعده إلى مولاه أفلح. فاشتراها منه المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بألف دينار وصلَّح ما وَهَى من بُنيانها ووهَبها لأهل بيتٍ فقراء من أهل المدينة.

وكذلك نزولُه عليه السلام في دار بني النجَّار واختيار اللَّه له ذلك منقبةٌ عظيمة لهم، وقد كان في المدينة دورٌ كثيرة تبلغ تسعًا، كل دار محلَّة مستقلةٌ بمساكنها ونخيلها وزروعِها وأهلِها، كل قبيلة من قبائلهم قد اجتمعوا في محلَّتهم وهي كالقرى المتلاصقة، فاختار اللَّه لرسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم دار بني مالك بن النجَّار.

وقد ثبث في الصحيحين

(2)

من حديث شعبة، سمعتُ قتادة عن أنس بن مالك. قال: قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "خيرُ دورِ الأنصار بنو النجَّار، ثم بنو عبد الأشْهَل، ثم بنو الحارث بن الخَزْرَج، ثم بنو ساعدة، وفي كلِّ دورِ الأنصار خير" فقال سعدُ بن عُبَادة: ما أُرى النبيَّ صلى الله عليه وسلم إلا قد فضل علينا. فقيل: قد فضَّلكم على كثير. هذا لفظ البخاري.

وكذلك رواه البخاري ومسلم

(3)

من حديث أنس وأبي سَلَمة عن أبي أُسَيْد مالك بن ربيعة. ومن حديث عباس

(4)

بن سهل، عن أبي حُميد، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم بمثله سواء.

زاد في حديث أبي حُميد؛ فقال أبو أُسَيد لسعد بن عبادة

(5)

: ألم تر أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم خيَّرَ الأنصار فجعلنا آخرًا، فأدرك سعدٌ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول اللَّه! خيَّرت دورَ الأنصار فجعلتنا آخرًا؟ قال: "أو ليس بحَسْبكم أن تكونوا من الأخيار"

(6)

.

بل قد ثبت لجميع من أسلم من أهل المدينة وهم الأنصار الشرفُ والرفعةُ في الدنيا والآخرة. قال اللَّه تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100] وقال تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9] وقال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم:

(1)

ما بين المعقوفين ليس في ح.

(2)

فتح الباري (3789) مناقب الأنصار باب فضل دور الأنصار، وصحيح مسلم (2511)(177) فضائل الصحابة باب في خير دور الأنصار.

(3)

الأحاديث التي تلي الحديث السابق ذكره مخرجة في البخاري ومسلم.

(4)

في ح، ط: عبادة بن سهل. تصحيف، والمثبت من فتح الباري (7/ 115) والحديث فيه رقم (3791).

(5)

كذا في ح، ط وفي البخاري: فلحقنا سعد بن عبادة فقال: أبا أُسَيد، ألم تر. . وهو أشبه بالصواب.

(6)

رواية البخاري: من الخيار.

ص: 473

"لولا الهِجْرَة لكنتُ امْرءًا من الأنصار، ولو سَلَكَ الناسُ واديًا وشِعْبًا لسلَكْتُ واديَ الأنصارِ وشِعْبَهم، الأنصارُ شعار، والناسُ دِثار

(1)

".

وقال: "الأنصارُ كَرِشي وعَيْبَتي"

(2)

.

وقال: "أنا سلْمٌ لمن سالمهم، وحربٌ لمن حاربَهم"

(3)

.

وقال البخاري

(4)

: حدَّثنا حجَّاج بن مِنهال، حدثنا شعبة، حدَّثني عديُّ بن ثابت قال: سمعتُ البراءَ بن عازب يقول: سمعتُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم أو قال: قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "الأنصار لا يُحبُّهم إلا مؤمن، ولا يُبغضُهم إلا منافق. فمن أحبَّهم أحبَّه اللَّه، ومن أبغضهم أبغضَه اللَّه".

وقد أخرجه بقيةُ الجماعةِ إلا أبا داود من حديث شعبةَ به

(5)

.

وقال البخاريُّ أيضًا

(6)

: حدَّثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا شعبة عن عبد اللَّه بن عبد اللَّه بن جَبْر

(7)

، عن أنس بن مالك، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"آيةُ الإيمان حُبُّ الأنصار، وآيةُ النِّفاق بغضُ الأنصار".

ورواه البخاري أيضًا عن أبي الوليد الطيالسي

(8)

، ومسلم

(9)

، من حديث خالد بن الحارث، وعبد الرحمن بن مَهْديّ، أربعتُهم عن شعبة به.

والآيات والأحاديث في فضائلِ الأنصار كثيرةٌ جدًا. وما أحسنَ ما قال أبو قيس صرمةُ بن أبي أنس المتقدِّم ذكْرُه

(10)

أحد شعراءِ الأنصار في قدوم رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم إليه ونصرهم إياه، ومواساتهم له ولأصحابه رضي الله عنهم أجمعين.

(1)

أخرجه البخاري ومسلم، فتح الباري (4330) المغازي باب غزوة الطائف، وصحيح مسلم (139 - 1061) الزكاة باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام.

(2)

أخرجه الشيخان، فتح الباري (3801) مناقب الأنصار باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"اقبلوا من محسنهم"، وصحيح مسلم (2510)(176) فضائل الصحابة باب من فضائل الأنصار.

(3)

أخرجه أحمد في المسند (3/ 462) وهو جزء من حديث طويل رواه بسنده إلى كعب بن مالك وقد تقدم.

(4)

في فتح الباري (3783) مناقب الأنصار باب حب الأنصار من الإيمان.

(5)

وأخرجه مسلم (75)(129) الإيمان باب الدليل على أن حب الأنصار وعلي من الإيمان. وأخرجه أيضًا الترمذي (3900) المناقب باب في فضل الأنصار وقريش، وابن ماجه (163)، والنسائي (229).

(6)

فتح الباري (3784) مناقب الأنصار باب حب الأنصار من الإيمان.

(7)

في ط: عن عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن جبير. وهو تصحيف، والمثبت من ح وفتح الباري.

(8)

في ط: أضاف الناشر [و] فقال: والطيالسي ظنًا منه أنه أبو داود، وليست الواو في البخاري ولا في ح، وأبو الوليد هو هشام بن عبد الملك الطيالسي تجد ترجمته ومصادرها في السير (10/ 341).

(9)

صحيح مسلم (74)(128) الإيمان باب الدليل على أن حب الأنصار وعلي من الإيمان.

(10)

تقدم ذكره وشعره في (ص 406 و 407) وما بعدها.

ص: 474

قال ابن إسحاق

(1)

: وقال أبو قيس صِرْمةُ بن أبي أنس أيضًا يذكرُ ما أكرمهم اللَّه به من الإسلام، وما خصَّهم به من رسوله عليه السلام:[من الطويل]

ثَوَى في قريشٍ بضعَ عشْرة حِجَّة

يذكِّر لو يَلْقَى صديقًا مُواتيا

ويعرضُ في أهلِ المواسم نفسَه

فلم يرَ من يُؤْوي ولم يَرَ داعيا

فلما أتانا واطمأنَّتْ به النَّوَى

(2)

وأصبح مسرورًا بِطَيْبَةَ راضيا

وألفى صديقًا واطمأنتْ به النَّوَى

وكانَ له عَوْنًا من اللَّه باديا

يقصُّ لنا ما قالَ نوحٌ لقومه

وما قال موسى إذ أجابَ المناديا

فأصبحَ لا يَخْشَى من الناسِ واحدًا

قريبًا ولا يخشى من الناس نائيا

(3)

بذلنا له الأموالَ من حِلِّ مالنا

وأنفُسنا عندَ الوَغَى والتآسيا

نُعادي الذي عادَى من الناس كلِّهم

جميعًا ولو كانَ الحبيبَ المواسيا

(4)

ونعلمُ أنَّ اللَّهَ لا شيء غيره

وأن كتابَ اللَّه أصبحَ هاديا

(5)

أقولُ إذا صلَّيتُ في كلِّ بيعةٍ

حَنانَيْكَ لا تُظْهِرْ علينا الأعاديا

أقول إذا جاوزتُ أرضًا مُخيفةً

تباركتَ اسمَ اللَّه أنتَ المواليا

فَطأْ مُعرضًا إنَّ الحتوفَ كثيرةٌ

وإنك لا تُبقي لنفسك باقيا

فواللَّهِ ما يدري الفتى كيف سعيُهُ

إذا هو لم يجعلْ له اللَّهَ واقيا

ولا تحفلُ النخلُ المعيمةُ ربَّها

(6)

إذا أصبحتْ رَيًّا وأصبحَ ناويا

ذكرها ابنُ إسحاق وغيرُه، ورواها عبد اللَّه بن الزُّبير الحُميدي وغيره، عن سفيان بن عُيينة عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن عجوزٍ من الأنصار قالت: رأيتُ عبدَ اللَّه بن عباس يختلفُ إلى صِرْمة بن قيس يروي هذه الأبيات. رواه البيهقي

(7)

.

‌فصل

وقد شرفت المدينة أيضًا بهجرته عليه السلام إليها، وصارتْ كهفًا لأولياء اللَّه وعباده الصالحين،

(1)

في سيرة ابن هشام: (1/ 512) والروض (2/ 255).

(2)

في السيرة والروض: فلما أتانا أظهر اللَّه دينه. وهو أشبه بالصواب.

(3)

في ح: باغيا.

(4)

في السيرة والروض: المصافيا. وقد قُدّم هذا البيت فيهما على التالي له.

(5)

في السيرة والروض: ونعلم أن اللَّه أفضلُ هاديا.

(6)

في ح: ولا نجعل النحل المقيمة ريها، والمثبت من ط والسيرة.

(7)

في الدلائل (2/ 513).

ص: 475

ومَعْقلًا وحِصْنًا منيعًا للمسلمين، ودارَ هَدْيٍ للعالمين، والأحاديثُ في فَضْلها كثيرةٌ جدًا، لها موضعٌ آخر نوردها فيه إن شاء اللَّه.

وقد ثبَتَ في الصحيحَيْن

(1)

من طريق خُبيب [بن] عبد الرحمن بن يَسَاف، عن حفص

(2)

بن عاصم، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الإيمانَ لَيأرِزُ إلى المدينةِ كما تأرِزُ الحيَّةُ إلى جُحْرِها"

(3)

.

ورواه مسلمٌ أيضًا

(4)

عن محمد بن رافع عن شَبَابة، عن عاصم بن محمد بن زيد بن عبد اللَّه بن عمر، عن أبيه، عن ابن عمر، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم نحوه.

وفي الصحيحَيْن أيضًا

(5)

، من حديث مالك، عن يحيى بن سعيد، أنه سمع أبا الحُباب سعيدَ بن يَسَار، سمعتُ أبا هريرة يقول: قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أُمرتُ بقَرْيةٍ تأكل القُرَى

(6)

، يقولون: يثرب، وهي المدينة، تَنْفي

(7)

الناس كما ينفي (7) الكِيرُ خَبَثَ الحديد".

وقد انفرد الإمامُ مالكٌ عن بقية الأئمة الأربعة بتفضيلها على مكة.

وقد قال البيهقي

(8)

: أخبرنا أبو عبد اللَّه الحافظ، أخبرني أبو الوليد وأبو بكر بن عبد اللَّه قالا: حدثنا الحسن بن سفيان، حدثنا أبو موسى الأنصاري، ثنا سعد

(9)

بن سعيد، حدَّثني أخي عن أبي هريرة أنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"اللهم إنك أخرجتني من أحبِّ البلاد إليّ، فأسكني أحبَّ البلادِ إليك" فأسكنه اللَّه المدينة.

وهذا حديثٌ غريبٌ جدًّا، والمشهور عن الجمهور أنَّ مكةَ أفضلُ من المدينة، إلا المكان الذي ضمَّ

(1)

فتح الباري (1876) فضائل المدينة باب الإيمان يأرز إلى المدينة. وصحيح مسلم (147)(233) الإيمان باب بيان أن الإسلام بدأ غريبًا، وما يأتي بين معقوفين منهما.

(2)

في ح، ط والدلائل (2/ 520): جعفر بن عاصم. وهو تصحيف، والمثبت من الصحيحين. ووقع في ح، ط: حبيب. تصحيف أيضًا، تجد ترجمته في تهذيب الكمال (8/ 227).

(3)

"يأرزُ": ينضمُّ ويجتمع. فتح الباري (4/ 93).

(4)

صحيح مسلم (146) الإيمان باب بيان أن الاسلام بدأ غريبًا.

(5)

فتح الباري (1871) فضائل المدينة باب فضل المدينة وأنها تنفي الناس، وصحيح مسلم (1382)(488) الحج باب المدينة تنفي شرارها. وأخرجه أيضًا مالك في الموطأ (2/ 887) الجامع باب ما جاء في سكن المدينة.

(6)

قال النووي في شرح صحيح مسلم (9/ 154): ذكروا في معنى أكلها القرى وجهين: أحدهما أنها مركز جيوش الإسلام في أول الأمر، فمنها فتحت القرى وغنمت أموالها وسباياها. والثاني: معناه أن أكلها وميرتها تكون من القرى المفتتحة وإليها تساق غنائمها.

(7)

في ط: تنقي. . . ينقي. بالقاف تصحيف، والمثبت من ح والصحيحين.

(8)

في الدلائل (2/ 519) وأخرجه الحاكم في المستدرك (3/ 3).

(9)

في ح، ط: سعيد بن سعيد، وهو تصحيف، والمثبت من الدلائل ومستدرك الحاكم، وترجمته في تهذيب الكمال (10/ 261) وأخوه هو عبد اللَّه بن سعيد المَقْبري.

ص: 476

جسدَ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم، وقد استدلَّ الجمهور على ذلك بأدلَّةٍ يطولُ ذِكْرُها ها هنا ومحلُّها، ذكرناها في كتاب المناسك من الأحكام إن شاء اللَّه تعالى.

وأشهرُ دليلٍ لهم في ذلك ما قال الإمام أحمد

(1)

: حدثنا أبو اليَمَان، حدثنا شعيب عن الزُّهري، أخبرنا أبو سلمة بن عبد الرحمن، أنَّ عبد اللَّه بن عديِّ بنِ الحمراء أخبره، أنَّه سمع النبيَّ صلى الله عليه وسلم وهو واقفٌ بالحَزْوَرَة في سوقِ مكَّة يقول:"واللَّه إنَّكِ لخيرُ أرضِ اللَّه، وأحبُّ أرضِ اللَّهِ إليّ، ولولا أني أُخرجتُ منكِ ما خرَجتُ".

وكذا رواه أحمد، عن يعقوب بن إبراهيم، عن أبيه، عن صالح بن كيسان عن الزُّهري به

(2)

.

وهكذا رواهُ الترمذيُّ والنَّسائيُّ وابنُ ماجَه

(3)

من حديث الليث، عن عَقِيل، عن الزُّهري به. وقال الترمذي: حسنٌ صحيح. وقد رواه يونس عن الزُّهري به. ورواهُ محمد بن عمرو، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، وحديث الزُّهْريَّ عندي أصحّ.

قال الإمام أحمد

(4)

: حدَّثنا عبد الرزاق، حدثنا مَعْمَر عن الزُّهري، عن أبي سَلَمَة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة. قال: وقف رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم على الحَزْوَرَة فقال: "علمتُ أنَّكِ خيرُ أرضِ اللَّه وأحبُّ الأرض إلى اللَّه، ولولا أنَّ أهلَكِ أخرجوني منكِ ما خرجتُ".

وكذا رواهُ النسائي من حديث معمر به

(5)

. قال الحافظُ البيهقي

(6)

: وهذا وهم من معمر، وقد رواهُ بعضُهم عن محمد بن عمرو، عن أبي سَلَمة، عن أبي هريرة، وهو أيضًا وهم، والصحيح رواية الجماعة.

وقال أحمدُ أيضًا

(7)

: حدثنا إبراهيم بنُ خالد حدثنا رباح، عن معمر، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزُّهري، عن أبي سَلمة، عن بعضهم أنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قال وهو في سوق الحَزْوَرة:"واللَّه إنكِ لخيرُ أرضِ اللَّه، وأحبُّ الأرض إلى اللَّه ولولا أني أُخرجتُ منكِ ما خَرَجت"

(8)

.

(1)

في مسنده (4/ 305) رقم (18715).

(2)

رواه أحمد في مسنده (4/ 305) رقم (17816).

(3)

جامع الترمذي (3925) المناقب باب في فضل مكة، وسنن ابن ماجه (3108) المناسك باب فضل مكة. وهو في السنن الكبرى والنسائي (4252).

(4)

في مسنده (4/ 305) رقم (18717) وهو حديث صحيح.

(5)

في فضائل مكة من سننه الكبرى (4254).

(6)

في الدلائل (2/ 518).

(7)

في مسنده (4/ 305).

(8)

وهذا من أوهام معمر أيضًا حيث رواه عن أبي سلمة "عن بعضهم"، والصواب: عن أبي سلمة عن عبد اللَّه بن عدي، كما تقدم (بشار).

ص: 477

ورواه الطبراني عن أحمد بن خُليد الحلبي، عن الحُميدي، عن الدَّراوَرْدِي

(1)

، عن ابنِ أخي الزُّهري، عن الزهري، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن عبد اللَّه بن عدي بن الحمراء به. فهذه طرق هذا الحديث، وأصحها ما تقدم. واللَّه أعلم.

‌ذكر ما وقع في السنة الأولى من الهجرة النبوية من الحوادث والوقائع العظيمة

(2)

اتفق الصحابةُ رضي الله عنهم في سنة ست عشرة -وقيل سنة سبع عشرة، أو ثماني عشرة- في الدولة العُمَريَّة على جعل ابتداءِ التاريخ الإسلامي من سنة الهجرة، وذلك أنَّ أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه رُفعِ إليه صكٌّ -أي: حُجَّةٌ- لرجلٍ على آخر وفيه؛ إنه يحلُّ عليه في شعبان. فقال عمر: أيُّ شعبان؟ أشعبان هذه السنة التي نحن فيها أو السنة الماضية، أو الآتية؟ ثم جمع الصحابة فاستشارهم في وضعِ تاريخ يتعرَّفون به حُلولَ الدُّيُون وغير ذلك، فقال قائل: أرِّخوا كتاريخ الفُرْس. فكره ذلك، وكانتِ الفرسُ يؤرِّخون بملوكهم واحدًا بعد واحد. وقال قائل: أرِّخُوا بتاريخ الروم. وكانوا يؤرِّخون بملك اسكندر بن فِلْبُس المقدوني فكره ذلك. وقال آخرون: أرِّخوا بمولد رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم. وقال آخرون: بل بمَبْعَثِه. وقال آخرون: بل بهِجْرَته، وقال آخرون: بل بوفاتِه عليه السلام. فمالَ عمرُ رضي الله عنه إلى التاريخ بالهجرة لظهورهِ واشتهاره. واتفقوا معه على ذلك.

وقال البخاريُّ في "صحيحه"

(3)

: التاريخ ومتى أرَّخوا التاريخ. حدَّثنا عبد اللَّه بن مسلمة

(4)

حدثنا عبد العزيز عن أبيه، عن سهل بن سعد قال: ما عدُّوا من مَبْعَثِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ولا من وفاته، ما عدُّوا إلا من مَقْدَمِه المدينة.

وقال الواقدي: حدَّثنا ابنُ أبي الزِّناد عن أبيه، قال: استشار عمر في التاريخ، فأجمعوا على الهجرة.

وقال أبو داود الطيالسي، عن قرَّة بن خالد السَّدُوسي

(5)

، عن محمد بن سيرين قال: قام رجلٌ إلى عمر فقال: أرِّخوا. فقال: ما أرِّخوا؟ فقال: شيءٌ تفعله الأعاجم، يكتبون في شهر كذا من سنة كذا.

(1)

في ح: الداروردي.

(2)

في ط: وقائع السنة الأولى من الهجرة.

(3)

فتح الباري (7/ 267) كتاب مناقب الأنصار باب التاريخ من أين أرخوا التاريخ.

(4)

في ح، ط: مسلم. تصحيف، والمثبت من البخاري وتهذيب الكمال في ترجمته.

(5)

في ح: فروة بن خالد السدي. تصحيف، والمثبت من ترجمته في سير أعلام النبلاء (7/ 95) ولم أجد الخبر في مسند أبي داود الطيالسي، وقد أخرجه الطبري في تاريخه (2/ 389) عن أمية بن خالد عن أبي داود الطيالسي به.

ص: 478

فقال عمر: حسنٌ، فأرِّخوا. فقالوا: من أيِّ السنينَ نبدأ؟ فقالوا: من مبعثه. وقالوا: من وفاته، ثم أجمعوا على الهجرة، ثم قالوا: وأيُّ الشهور نبدأ؟ قالوا: رمضان، ثم قالوا: المحرم فهو مَصْرَف الناسِ من حجِّهم، وهو شهرٌ حرام. فاجتمعوا على المحرَّم.

وقال ابن جرير

(1)

: حدَّثنا قتيبة، حدثنا نوح بن قيس الطَّاحي

(2)

، عن عثمان بن مِحْصَن، أنَّ ابنَ عباس كان يقول في قوله تعالى:{وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 1 - 2] هو المحرَّم فجر السنة.

ورُوي عن عبيد بن عُمير

(3)

، قال: إنَّ المحرَّم شهرُ اللَّه، وهو رأسُ السنة يُكسى البيت، ويؤرِّخ به الناس، ويُضرب فيه الوَرِق.

وقال أحمد

(4)

: حدَّثنا روح بن عبادة، حدثنا زكريا بن إسحاق، عن عمرو بن دينار قال: إنَّ أولَ مَنْ ورَّخ الكتب يعلى بن أمية باليمن، وأنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قدِم المدينة في ربيع الأول، وأنَّ الناس أرَّخوا لأول السنة.

وروى محمد بن إسحاق

(5)

عن الزُّهري، وعن محمد بن صالح عن الشعبي، أنهما قالا: أرَّخ بنو إسماعيل من نار إبراهيم، ثم أرخوا من بنيان إبراهيم وإسماعيل البيت، ثم أرخوا من موت كعب بن لؤي. ثم أرخوا من الفيل، ثم أرَّخ عمر بن الخطاب من الهجرة وذلك سنة سبع عشرة -أو ثماني عشرة- وقد ذكرنا هذا الفصل محرَّرًا بأسانيده وطُرقه في السيرة العُمَريَّة

(6)

وللَّه الحمد، والمقصود أنهم جعلوا ابتداء التاريخ الإسلامي من سنة الهجرة، وجعلوا أولها من المحرَّم فيما اشتهر عنهم، وهذا قول جمهور الأئمة.

وحكى السُّهيليُّ وغيره عن الإمام مالك أنه قال: أول السنة الإسلامية ربيع الأول لأنه الشهر الذي هاجر فيه رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم.

[وقد استدلَّ السُّهيلي على ذلك في موضع آخر بقوله تعالى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} [التوبة: 108] أي من أولِ حُلولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم المدينة، وهو أولُ يومٍ من التاريخ كما اتفق الصحابةُ على أولِ سني التاريخ عام الهجرة]

(7)

.

(1)

لم أجد هذا الخبر في تفسير الطبري وهو في تاريخه (2/ 390) وجاء في الدر المنثور للسيوطي (8/ 498) في تفسير الآية: وأخرج سعيد بن منصور والبيهقي في الشعب وابن عساكر عن ابن عباس في قوله {وَالْفَجْرِ} قال: هو المحرم أول فجر السنة.

(2)

في ط: الطائي، وهو تصحيف، والمثبت من ح والمؤتلف والمختلف للدارقطني (3/ 1492) وتاريخ الطبري.

(3)

هذه الرواية في تاريخ الطبري أيضًا (2/ 390) بنحوه.

(4)

هذه الرواية أيضًا أخرجها الطبري (2/ 390) عن أحمد بن ثابت الرازي عن أحمد به، ولم أجدها في مسند أحمد.

(5)

أخرجه الطبري عن علي بن مجاهد عن محمد بن إسحاق به بأتم ما هنا.

(6)

هذه الرواية في تاريخ الطبري أيضًا (2/ 390) بنحوه.

(7)

استدلال السهيلي هذا في الروض (2/ 246).

ص: 479

ولا شكَّ أنَّ هذا الذي قاله الإمامُ مالك رحمه الله مناسب، ولكن العمل على خلافه، وذلك لأن أولَ شهورِ العرب المحرَّم، فجعلوا السنةَ الأولى سنة الهجرة. وجعلوا أولها المحرَّم كما هو المعروف لئلا يختلط النظام. واللَّه أعلم.

فنقول وباللَّه المستعان: استهلت سنة الهجرة المباركة ورسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم مقيمٌ بمكة، وقد بايع الأنصار بيعة العقبة الثانية كما قدَّمنا في أوسط أيام التشريق، وهي ليلةُ الثاني عشر من ذي الحجَّة قبل سنة الهجرة، ثم رجع الأنصار وأذن رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم للمسلمينَ في الهجرة إلى المدينة، فهاجر مَنْ هاجر من أصحابه إلى المدينة حتى لم يبق بمكةَ مَنْ يمكنه الخروج إلا رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، وحبَس أبو بكرٍ نفسَه على رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم ليصحبَه في الطريق كما قدَّمنا، ثم خرجا على الوَجْه الذي تقدَّم بسطُه، وتأخر عليُّ بن أبي طالب بعد النبيِّ صلى الله عليه وسلم بأمرِه ليؤدِّي ما كان عنده عليه السلام من الودائع ثم لحقهم بقُباء

(1)

. فقدِم رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم يوم الإثنين قريبًا من الزَّوال وقد اشتدَّ الضَّحَاءُ

(2)

.

قال الواقدي وغيرُه: وذلك لليلتَيْن خَلَتا من شهر ربيع الأول.

وحكاه ابنُ إسحاق إلا أنه لم يعرِّج عليه، ورجَّح أنه لثنتي عشرةَ ليلةً خلَتْ منه، وهذا هو المشهور الذي عليه الجمهور.

وقد كانت مدةُ إقامته عليه السلام بمكة بعد البِعْثة ثلاثَ عشرةَ سنةً في أصحِّ الأقوال، وهو روايةُ حماد بن سلمة عن أبي جَمْرَة الضُّبَعي

(3)

عن ابن عباس، قال: بُعث رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم لأربعين سنة، وأقام بمكة ثلاث عشرة سنة.

وهكذا روى ابنُ جرير

(4)

عن محمد بن مَعْمَر، عن رَوْح بن عبادة، عن زكريا بن إسحاق، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس أنه قال: مكث رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاثَ عشرةَ.

وتقدَّم أنَّ ابن عباس كتب أبياتَ صِرْمَة بن أبي أنس بن قيس

(5)

: [من الطويل]

ثَوَى في قريشٍ بضعَ عشرةَ حِجَّةً

يذكِّرُ لو يَلْقَى صديقًا مُوَاتيا

(1)

في ح: ثم يلحق به.

(2)

"الضحاء": قريبًا من نصف النهار، وأما الضَّحْوَة فهو ارتفاع أول النهار، والضُّحى بالضم والقصر: فوقه. النهاية (3/ 76).

(3)

في ح، ط: عن أبي حمزة الضبي. وهو تصحيف، والمثبت من تهذيب الكمال في ترجمة حماد (7/ 256) والتبصير لابن حجر (1/ 454) وأبو جمرة هو نصر بن عمران. وقد أخرج هذه الرواية الطبري في تاريخه (2/ 384) عن محمد بن خلف عن آدم عن حماد به.

(4)

في تاريخه (2/ 385).

(5)

مضت الأبيات ص (475).

ص: 480

وقال الواقدي عن إبراهيم بن إسماعيل، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه استشهد بقول صِرْمة:

ثَوَى في قريشٍ بضعَ عشرةً حجَّةً

يذكِّر لو يلقى صديقًا مواتيا

وهكذا رواهُ ابنُ جرير

(1)

، عن الحارث، عن محمد بن سعد، عن الواقدي خمسَ عشرةَ حجَّة، وهو قولٌ غريبٌ جدًا؛ وأغرب منه ما قال ابنُ جرير

(2)

:

حُدِّثت عن روح بن عبادة، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: نزل القرآنُ على رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم ثمانيَ سنين بمكة، وعشرًا بالمدينة. وكان الحسن يقول: عشرًا بمكة، وعشرًا بالمدينة.

وهذا القول الآخر الذي ذهب إليه الحسنُ البصري من أنه أقام بمكة عشرَ سنين؛ ذهب إليه أنس بن مالك وعائشة وسعيدُ بن المُسَيِّب وعمرو بن دينار فيما رواه ابن جرير عنهم، وهو روايةٌ عن ابن عباس رواها أحمدُ بن حنبل

(3)

عن يحيى بن سعيد، عن هشام، عن عكرمة عن ابن عباس، قال: أُنزل على النبيِّ صلى الله عليه وسلم وهو ابنُ ثلاثٍ وأربعين، فمكث بمكة عشرًا.

وقد قدمنا عن الشعبي أنه قال

(4)

: قُرن إسرافيل برسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين يُلقي إليه الكلمة والشيء - وفي رواية يسمع حسَّه ولا يرى شخصَه، ثم كان بعد ذلك جبريل. وقد حكى الواقدي عن بعض مشايخه أنه أنكر قول الشعبي هذا، وحاول ابن جرير أن يجمع بين قول من قال إنه عليه السلام أقام بمكة عشرًا، وقول من قال ثلاث عشرة بهذا الذي ذكره الشعبي. واللَّه أعلم.

‌فصل

ولما حلَّ الرِّكابُ النبويُّ بالمدينة، وكان أولَ نزوله بها في دار بني عمرو بن عوف، وهي قُبَاء كما تقدم فأقام بها -أكثر ما قيل- ثنتين وعشرين ليلة، وقيل ثماني عشرة ليلة. وقيل بضع عشرة ليلة. وقال موسى بن عقبة: ثلاث ليال.

والأشهر ما ذكره ابنُ إسحاق

(5)

وغيرُه، أنه عليه السلام أقام فيهم بقُباء من يوم الإثنين إلى يوم الجمعة، وقد أسَّس في هذه المُدَّة المختلف في مقدارها -على ما ذكرناه- مسجدَ قباء. [وقد ادَّعى السُّهَيلي أنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم أسَّسه في أولِ يومٍ قدم إلى قُباء، وحمل على ذلك قوله تعالى: {لَمَسْجِدٌ

(1)

في تاريخه (2/ 386).

(2)

في تاريخه (2/ 387).

(3)

في مسنده (1/ 228) رقم (2017) وهو حديث صحيح.

(4)

مضى الخبر.

(5)

في سيرة ابن هشام (1/ 494).

ص: 481

أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} [التوبة: 108] وردَّ قول من أعربها من تأسيس أولِ يوم]

(1)

، وهو مسجدٌ شريفٌ فاضل نزل فيه قولُه تعالى:{لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة: 108] كما تكلمنا على تقرير ذلك في التفسير وذكرنا الحديث الذي [في صحيح مسلم

(2)

أنه مسجد المدينة والجواب عنه. وذكرنا الحديث الذي] (1) رواه الإمامُ أحمد

(3)

: حدّثنا حُسين

(4)

بن محمد، حدثنا أبو أُوَيْس

(5)

، حدثنا شُرَحْبِيل عن عُويم بن ساعدة، أنه حدثه أنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم أتاهم في مسجد قُباء فقال:"إنَّ اللَّهَ قد أحْسَنَ عليكم الثَّنَاء في الطَّهور في قصة مسجدكم، فما هذا الطَّهُورُ الذي تطَّهرون به؟ " قالوا: واللَّه يا رسول اللَّه! ما نعلم شيئًا إلا أنه كان لنا جيرانٌ من اليهود، فكانوا يغسِلُونَ أدبارهم من الغائط فغسَلْنا كما غسلوا.

وأخرجه ابنُ خُزيمةَ في صحيحه

(6)

وله شواهد أُخر.

ورُوي عن خُزيمة بن ثابت، ومحمد بن عبد اللَّه بن سلام، وابنِ عباس.

وقد روى أبو داود والترمذي، وابن ماجه

(7)

، من حديث يونس بن الحارث، عن إبراهيم بن أبي ميمونة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"نزلت هذه الآيةُ في أهْلِ قُبَاء: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة: 108] قال: كانوا يَسْتَنْجُونَ بالماءِ فنزلَتْ فيهم هذه الآية". ثم قال الترمذي: غريبٌ من هذا الوجه.

قلت: ويونس بن الحارث هذا ضعيفٌ واللَّه أعلم.

وممن قال بأنه المسجدُ الذي أُسِّسَ على التقوى ما رواهُ عبدُ الرزَّاق، عن معمر، عن الزهري، عن

(1)

ما بين المعقوفين ليس في ح وقد سبق أن أشير إلى ذلك ص (479) موضع الحاشية (7) وقول السهيلي هذا في الروض (2/ 246) فأظن هذه الزيادة من عمل النساخ واللَّه أعلم.

(2)

صحيح مسلم (1398)(514) الحج باب بيان أن المسجد الذي أسس على التقوى هو مسجد النبي صلى الله عليه وسلم. وأيضًا تفسير ابن كثير (3/ 456) في تفسير الآية.

(3)

مسند أحمد (3/ 422) رقم (15424).

(4)

في ح، ط: حسن بن محمد. تصحيف، والمثبت من مسند أحمد وترجمته في تهذيب الكمال (6/ 471) وهو الحسين بن محمد بن بهرام التميمي المؤدب المروزي توفي سنة 214 هـ.

(5)

في ح، ط: أبو إدريس. تصحيف، والمثبت من مسند أحمد وترجمته في تهذيب الكمال (15/ 166) وهو عبد اللَّه بن عبد اللَّه بن أويس بن مالك الأصبحي، توفي سنة 167 هـ، وهو ضعيف يعتبر به في المتابعات والشواهد.

(6)

صحيح ابن خزيمة (83) الوضوء أبواب الاستنجاء بالماء باب ذكر ثناء اللَّه عز وجل على المتطهرين بالماء. قال بشار: وإسناده ضعيف، لضعف أبي أويس، وشرحبيل بن سعد، وفي سماع شرحبيل من عويم نظر كما قال الحافظ ابن حجر (4/ 322).

(7)

سنن أبي داود (44) الطهارة باب في الاستنجاء بالماء، وجامع الترمذي (3100) التفسير باب من سورة التوبة، وسنن ابن ماجه (357) الطهارة باب الاستنجاء بالماء.

ص: 482

عروة بن الزُّبير. ورواه علي بنُ أبي طلحة، عن ابن عباس، وحُكي عن الشعبي، والحسنِ البصري، وقتادة، وسعيد بن جُبير، وعطية العَوْفي، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم.

وقد كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يزورُه فيما بعدُ ويصلِّي فيه، وكان يأتي قُباء كلَّ سبت، تارةً راكبًا وتارةً ماشيًا. وفي الحديث:"صلاةٌ في مسجد قُباء كَعُمْرَة"

(1)

.

وقد ورد في حديث أن جبرائيل عليه السلام هو الذي أشار للنبي صلى الله عليه وسلم إلى موضع قبلةِ مسجد قباء، فكان هذا المسجد أولَ مسجد بني في الإسلام بالمدينة، بل أول مسجدٍ جُعل لعموم الناس في هذه المِلَّة. واحترَزْنا بهذا عن المسجد الذي بناه الصدِّيق بمكة، عند باب دارِه يتعبَّدُ فيه ويصلِّي، لأنَّ ذاك كان لخاصَّةِ نفسه، لم يكن للناس عامةً. واللَّه أعلم.

وقد تقدَّم إسلامُ سلمانَ في البشارات، أنَّ سلمانَ الفارسيّ لما سمع بقدوم رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ذهب إليه وأخذ معه شيئًا، فوضعه بين يديه، وهو بقُباء، قال: هذا صدقة. فكفَّ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم فلم يأكُلْه، وأمر أصحابَهُ فأكلُوا منه، ثم جاء مرةً أخرى ومعه شيءٌ فوضعه وقال: هذه هديَّة. فأكل منه وأمر أصحابَهُ فأكلوا. تقدَّم الحديث بطوله

(2)

.

‌فصل في إسلام عبد اللَّه بن سَلَام رضي الله عنه

قال الإمامُ أحمد

(3)

: حدَّثنا محمد بن جعفر، حدثنا عوف، عن زُرارة، عن عبد اللَّه بن سلام، قال: لما قدم رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل الناس إليه

(4)

، فكنتُ فيمن انجفل، فلما تبيَّنتُ وجهه عرفتُ أنه ليس بوجه كذَّاب، فكان أولُ شيءٍ سمعتُه، يقول:"أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلُّوا باللَّيل والناسُ نيام، تدخلوا الجنة بسلام".

(1)

أخرجه الترمذي (324) الصلاة باب ما جاء في الصلاة في مسجد قباء، وابن أبي شيبة في المصنف (2/ 373) الصلاة باب في الصلاة في مسجد قباء و (12570) الفضائل باب في مسجد قباء، كلاهما عن أسيد بن ظهير الأنصاري وقال الترمذي: حسن صحيح (كما في تحقيق الدكتور بشار، وانظر تعليقه عليه)، وأخرجه ابن ماجه في السنن عن أُسيد أيضًا (1411) إقامة الصلاة باب ما جاء في الصلاة في مسجد قباء وكذا البيهقي في السنن (5/ 248) الحج باب إتيان مسجد قباء والصلاة فيه؛ وأخرجه ابن ماجه برقم (1412) في الباب نفسه والنسائي في السنن (699) المساجد باب فضل مسجد قباء كلاهما عن سهل بن حنيف بلفظ "من خرج حتى يأتي هذا المسجد مسجد قُباء فيصلي فيه كان له كعدل عمرة، وكذا أخرجه الحاكم في مستدركه (3/ 12) في كتاب الهجرة.

(2)

مضى الحديث (ص 113 - 117)؛ وقد أشار ناشر ط في الحاشية هنا إلى الأسطر الثلاثة الأخيرة أنها لم تذكر في النسخة الحلبية يعني ح، وهذه النسخة بين يدي لا نقص فيها فلعله أراد أن يقول: المصرية؛ فوَهَم.

(3)

في مسنده (1/ 451).

(4)

في المسند: عليه، وفي النهاية: قِبَلَه، ومعناه: ذهبوا مسرعينَ نحوه. النهاية لابن الأثير (1/ 279).

ص: 483

ورواه الترمذي وابنُ ماجه

(1)

من طرق، عن عوف الأعرابي، عن زُرارة بن أوفى به عنه. وقال الترمذي: صحيح.

ومقتضى هذا السياق يقتضي أنه سمع بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم ورآه أولَ قدومه حين أناخ بقُباء في بني عمرو بن عوف.

وتقدَّم في رواية عبد العزيز بن صُهيب عن أنس أنه اجتمع به حين أناخ عند دار أبي أيوب بعد

(2)

ارتحاله من قُباء إلى دار بني النجار كما تقدم؛ فلعله رآه أولَ ما رآه بقُباء، واجتمع به بعد ما صار إلى دار بني النجَّار. واللَّه أعلم.

وفي سياق البخاري من طريق عبد العزيز عن أنس. قال: فلما جاء النبيُّ صلى الله عليه وسلم جاء عبدُ اللَّه بن سَلام فقال أشهدُ أنَّك رسولُ اللَّه وأنك جئث بحقّ، وقد علمت يهودُ أنِّي سيِّدُهم وابنُ سيِّدِهم، وأعلمُهم وابنُ أعْلَمِهم، فادْعُهم فسلْهم عني قبل أن يعلموا أني قد أسلمت، فإنهم إنْ يعلموا أني قد أسلمت قالوا فيَّ ما ليس فيّ. فأرسل نبيُّ اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى اليهود فدخلوا عليه. فقال لهم:"يا معشرَ اليهود، ويلكم اتقوا اللَّه، فواللَّه الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمونَ أنِّي رسولُ اللَّه حقًّا وأني جئتُكم بحقّ فأسلموا" قالوا: ما نعلمه -قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم قالها ثلاثَ مرار- قال: "فأيُّ رجلٍ فيكم عبدُ اللَّه بنُ سَلام"؟ قالوا: ذاكَ سيدُنا وابنُ سيدِنا، وأعلمُنا وابن أعلِمنا. قال:"أفرأيتُم إنْ أسلم" قالوا: حاش للَّه ما كان ليُسلم. قال: "يا ابن سَلام اخْرُج عليهم" فخرج فقال: يا معشر يهود اتقوا اللَّه فواللَّه الذي لا إله إلا هو، إنكم لتعلمون أنه رسول اللَّه وأنه جاء بالحق. فقالوا: كذبتَ. فأخرجهم رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم.

هذا لفظه

(3)

.

وفي رواية

(4)

: فلما خرج عليهم شهد شهادة الحق قالوا: شرُّنا وابنُ شرِّنا، وتنقَّصُوه. فقال: يا رسول اللَّه هذا الذي كنتُ أخاف.

وقال البيهقي

(5)

: أخبرنا أبو عبد اللَّه الحافظ، أخبرنا الأصم، حدّثنا محمد بن إسحاق الصَّغَاني

(6)

، حدثنا عبد اللَّه بن بكر

(7)

، حدثنا حُميد عن أنس، قال: سمع عبد اللَّه بن سَلام بقدوم النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو في أرض له- فأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: إني سائلك عن ثلاثٍ لا يعلمهنَّ إلا نبيّ؛ ما أولُ أشراطِ الساعة؟

(1)

جامع الترمذي (2485) صفة القيامة باب (42) وسنن ابن ماجه (3251) الأطعمة باب إطعام الطعام.

(2)

في ط: عند.

(3)

يعني البخاري في (7/ 249، 250).

(4)

للبخاري في الفتح (3938) مناقب الأنصار باب 50.

(5)

في دلائل النبوة (2/ 528).

(6)

في ح، ط: الصنعاني. تصحيف، والمثبت من الدلائل وسير أعلام النبلاء في ترجمته (12/ 592) ومصادرها فيه.

(7)

في ط: عبد اللَّه بن أبي بكر. تصحيف، والمثبت من ط ودلائل البيهقي وترجمته في تهذيب الكمال (14/ 340).

ص: 484

وما أولُ طعامٍ يأكلُه أهلُ الجنة؟ وما ينزعُ الولد

(1)

إلى أبيه أو إلى أمه؟ قال: "أخبرني بهنَّ جبريلُ آنفًا" قال: جبريل؟! قال: "نعم" قال: عدوُّ اليهود من الملائكة. ثم قرأ {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 97]، "أما أول أشراطِ الساعة: فنارٌ تخرجُ على الناس من المشرقِ تسوقهم إلى المغرب؛ وأمَّا أولُ طعامٍ يأكلُه أهلُ الجنة فزيادةُ كبد حُوت، وإذا

(2)

سبق ماءُ الرجلِ ماءَ المرأةِ نزَع الولدُ، وإذا سبق ماءُ المرأةِ نزَعَتْ" فقال: أشهدُ أن لا إله إلا اللَّه، وأنك رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم؛ يا رسول اللَّه! إنَّ اليهودَ قومٌ بُهْتٌ

(3)

وإنهم إنْ يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم عني بهَتُوني، فجاءت اليهود، فقال:"أيُّ رجل عبدُ اللَّه فيكم؟ " قالوا: خيرُنا وابنُ خيرِنا، وسيدُنا وابنُ سيدِنا. قال:"أرأيتم إنْ أسلمَ؟ " قالوا: أعاذهُ اللَّه من ذلك. فخرج عبد اللَّه فقال: أشهدُ أن لا إله إلا اللَّه وأشهدُ أن محمدًا رسولُ اللَّه. قالوا: شرُّنا وابنُ شرِّنا. وانتقصوه. قال: هذا الذي كنتُ أخافُ يا رسولَ اللَّه.

ورواه البخاري

(4)

عن عبد اللَّه بن مُنير، عن عبد اللَّه بن بكر به، ورواه

(5)

عن حامد بن عمر، عن بشر بن المفضل، عن حميد، به.

قال محمد بن إسحاق

(6)

: حدَّثني عبد اللَّه بن أبي بكر، عن يحيى بن عبد اللَّه، عن رجلٍ من آل عبد اللَّه ابن سَلام. قال: كان من حديث عبد اللَّه بن سَلام حين أسلم -وكان حَبْرًا عالمًا- قال: لما سمعتُ برسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم وعرفتُ صفته واسمه وهيئته والذي كنَّا نتوكَّف له

(7)

، فكنتُ مُسِرًّا لذلك، صامتًا عليه حتى قدِم رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم المدينة، فلما قدم نزل بقُباء في بني عمرو بن عَوف، فأقبل رجلٌ حتى أخبر بقدومه، وأنا في رأسِ نخلةٍ لي أعمل فيها، وعمتي خالدةُ بنت الحارث تحتي جالسة، فلما سمعتُ الخبر بقدوم رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم كبَّرْتُ، فقالت عمتي حين سمعتْ تكبيري: لو كنت سمعتَ بموسى بن عمران ما زدتَ! قال: قلتُ لها: أي عَمَّة، واللَّه هو أخو موسى بنِ عمران، وعلى دينِه بُعثَ بما بُعث به. قال فقالت له: يا ابنَ أخي أهو الذي كنَّا نُخبرُ به أنه يُبعث مع نفسِ الساعة؟ قال قلتُ لها: نعم. قال: فذاك إذًا.

قال: فخرجتُ إلى رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم فأسلمتُ ثم رجعتُ إلى أهل بيتي، فأمرتُهم فأسلموا، وكتمتُ

(1)

في ط: وما بال الولد. . . والمثبت من ح والدلائل.

(2)

في ط: وأما الولد إذا سبق، والمثبت من ح والدلائل والبخاري.

(3)

"بُهْت": جمع بَهُوت وهو من بناء المبالغة في البُهْت: وهو الكذب والافتراء. مثل صَبُور وصُبُر. ثم سُكّن تخفيفًا. النهاية لابن الأثير (1/ 165).

(4)

فتح الباري (4480) التفسير باب قوله من كان عدوًّا لجبريل من سورة البقرة.

(5)

فتح الباري (3938) مناقب الأنصار باب كيف آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه.

(6)

في سيرة ابن هشام (1/ 516) إلا أنه لم يذكر إسناده، وأخرجه البيهقي في الدلائل (2/ 530) عن علي بن أحمد بن عبدان الأهوازي عن أحمد بن عُبيد الصفار عن محمد بن عثمان بن أبي شيبة عن الضحاك بن الحارث عن عبد اللَّه بن الأجلح عن محمد بن إسحاق به.

(7)

"توكف الخبر": انتظر وَكْفَه، أي وقوعه. النهاية لابن الأثير.

ص: 485

إسلامي من اليهود وقلت: يا رسول اللَّه! إنَّ اليهودَ قومٌ بُهْت، وإني أحبُّ أنْ تُدخلَني في بعضِ بيوتِك فتغيِّبَني عنهم، ثم تسألُهم عني فيخبروك كيف أنا فيهم، قبلَ أن يعلموا بإسلامي، فإنهم إنْ يعلموا بذلك بهَتُوني وعابوني. وذكر نحو ما تقدَّم.

قال: فأظهرتُ إسلامي وإسلامَ أهلِ بيتي، وأسلمتْ عمتي خالدة بنت الحارث.

وقال يونس بن بُكير

(1)

: عن محمد بن إسحاق، حدثني عبد اللَّه بن أبي بكر، حدثنا محدِّثٌ عن صفيةَ بنتِ حُيَيّ قالت: لم يكن أحد من ولد أبي وعمي أحب إليهما مني، لم ألقهما في ولد لهما قط

(2)

أهش إليهما إلا أخذاني دونه، فلما قدم رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم قُباء -قرية بني عمرو بن عوف- غدا إليه أبي وعمي أبو ياسر بن أخطب مغلِّسين

(3)

، فواللَّه ما جاآنا إلا مع مغيب الشمس، فجاآنا فاترَيْن كسلانَيْن ساقطَيْن يمشيانِ الهُوَينى، فهششتُ إليهما كما كنتُ أصنع، فواللَّه ما نظر إليّ واحدٌ منهما، فسمعتُ عمي أبا ياسر يقول لأبي: أهو هو؟ قال: نعم واللَّه. قال: تعرفه بنعته

(4)

وصفته؟ قال: نعم واللَّه. قال: فماذا في نفسك منه؟ قال: عداوتُه واللَّه ما بَقِيت.

وذكر موسى بن عقبة

(5)

عن الزهري أنَّ أبا ياسر بن أخطب حين قدم رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم المدينة ذهب إليه وسمع منه وحادثه، ثم رجع إلى قومه فقال: يا قوم، أطيعوني، فإنَّ اللَّه قد جاءكم بالذي كنتم تنتظرون، فاتبعوه ولا تخالفوه. فانطلق أخوه حيي بن أخطب -وهو يومئذ سيدُ اليهود، وهما من بني النَّضِير- فجلس إلى رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم وسمع منه، ثم رجع إلى قومه -وكان فيهم مُطاعًا- فقال: أتيتُ من عندِ رجلٍ واللَّه لا أزال له عدوًا أبدًا. فقال له أخوه أبو ياسر: يا ابن أمّ، أطعني في هذا الأمر واعصني فيما شئت بعدَه لا تَهْلِك. قال: لا واللَّه لا أطيعك أبدًا، واستحوذ عليه الشيطان، واتبعه قومُه على رأيه.

قلت: أما أبو ياسر واسمه جُدَيُّ بن أخطب

(6)

، فلا أدري ما آل إليه أمرُه، وأما أخوه حُيَيُّ بن أخطب والد صفية بنت حيي فشرب عداوةَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولم يزل ذلك دأبُه لعنه اللَّه حتى قُتل صبرًا بين يدي رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم يوم قَتَل مقاتلة بني قُرَيظة كما سيأتي إن شاء اللَّه.

(1)

قول يونس هذا في دلائل النبوة للبيهقي (2/ 533) أخرجه بإسناده عنه به.

(2)

في الدلائل: لم ألقهما قط مع ولد لهما أهش. . .

(3)

في ح: بغلس.

(4)

في الدلائل: بعينه.

(5)

خبر موسى بن عقبة هذا في دلائل البيهقي (2/ 532) ذكره بإسناده إلى ابن شهاب الزهري.

(6)

في ط: واسمه حيي بن أخطب. تصحيف والمثبت من ح والمؤتلف والمختلف للدارقطني (1/ 526) والإكمال (2/ 62) ولم يذكرا كنيته، وفي سيرة ابن هشام (1/ 514) ثلاثة: حيي بن أخطب، وأخواه أبو ياسر بن أخطب وجُدي بن أخطب.

ص: 486

‌فصل

ولما ارتحل عليه السلام من قُباء وهو راكبٌ ناقته القَصْواء، وذلك يوم الجمعة أدركه وقت الزوال وهو في دار بني سالم بن عوف، فصلَّى بالمسلمين الجُمعةَ هنالك، في وادٍ يقالُ له وادي رانُوناء

(1)

، فكانت أولَ جمعةٍ صلاها رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بالمسلمين بالمدينة، أو مطلقًا لأنه واللَّه أعلم لم يكن يتمكَّن هو وأصحابه بمكَّة من الاجتماع حتى يُقيموا بها جمعةً ذات خطبةٍ وإعلان بموعظة، وما ذاك إلا لشدَّة مخالفةِ المشركين له، وأذيَّتهم إياه.

‌ذكر خطبة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يومئذ

قال ابن جرير

(2)

: حدَّثني يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابنُ وهب، حدثنا

(3)

سعيدُ بن عبد الرحمن الجُمَحي أنه بلغه عن خطبة النبيِّ صلى الله عليه وسلم في أولِ جمعةٍ صلاها بالمدينة في بني سالم بن عوف رضي الله عنهم: "الحمد للَّه أحمده وأستعينُه، وأستغفره وأستهديه، وأومن به ولا أكفُره، وأعادي مَنْ يكفره، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحدَهُ لا شريكَ له، وأنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، أرسله بالهدى ودينِ الحقِّ والنورِ والموعظة على فترةٍ من الرُّسل، وقلَّةٍ من العلم، وضلالةٍ من الناس، وانقطاعٍ من الزمان، ودنوٍّ من الساعة، وقُرْبٍ من الأجل؛ مَنْ يطعِ اللَّهَ ورسولَه فقد رَشَد؛ ومن يعصِهما فقد غَوَى وفرَّط، وضلَّ ضلالًا بعيدًا، وأوصيكم بتقوى اللَّه، فإنه خيرُ ما أوصى به المسلمُ المسلمَ أن يحُضَّه على الآخرة. وأن يأمرَهُ بتقوى اللَّه. فاحذروا ما حذَّركم اللَّهُ من نفسِه. ولا أفضل من ذلك نصيحة، ولا أفضل من ذلك ذكرى. وإنه تقوى لمن عَمِل به على وَجَلٍ ومَخَافة، وعون صدق على ما تَبْغُونَ من أمرِ الآخرة، ومَنْ يُصلح الذي بينَهُ وبين اللَّه من أمر السرِّ والعلانية، لا ينوي بذلك إلا وَجْهَ اللَّه يكن له ذِكرًا في عاجلِ أمره وذُخْرًا فيما بعد الموت، حين يفتقر المرءُ إلى ما قدَّم، وما كان من سوى ذلك يودُّ لو أنَّ بينه وبينه أمدًا بعيدًا، ويحذِّركُم اللَّه نفسَه واللَّه رؤوفٌ بالعباد. والذي صدَّق قوله، وأنجز

(4)

وعده، لا خُلْفَ لذلك، فإنَّهُ يقولُ تعالى:{مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [ق: 29] واتقوا اللَّه في عاجل أمرِكم وآجلِه، في السِّرِّ والعلانية، فإنَّه {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} [الطلاق: 5]، ومن يتَّقِ اللَّهَ فقد فازَ فَوْزًا عَظيمًا؛ وإنَّ تقوى اللَّه تُوَقِّي مَقْتَه، وتوقِّي عُقوبتَه، وتوقِّي سُخْطَه؛ وإنَّ تقوى اللَّه تُبَيِّضُ الوجه

(5)

، وتُرْضي الربّ، وترفع

(1)

في ط: رانواناء. تصحيف، والمثبت من هامش ح ومعجم البلدان (3/ 19) وقال فيه: بوزن عاشوراء وخابوراء.

(2)

في تاريخه (2/ 394).

(3)

في ط: عن وفي الطبري: حدثني.

(4)

في ح: ونجز، وكذا في بعض نسخ الطبري.

(5)

في الطبري: الوجوه.

ص: 487

الدرجة، خُذُوا بحظِّكم ولا تفرِّطوا في جَنْب اللَّه، قد علَّمكم اللَّه كتابَه، ونَهَج لكم سبيله ليعلمَ الذينَ صدَقوا وليعلمَ الكاذبين، فأحسنوا كما أحسنَ اللَّه إليكم وعادُوا أعداءه وجاهِدُوا في اللَّهِ حقَّ جهادِه هو اجتباكم وسمَّاكم المسلمين {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال: 42] ولا قوَّة إلا باللَّه، فأكثرُوا ذكْرَ اللَّه واعملوا لما بعد الموت

(1)

فإنه مَنْ أصلح ما بينهُ وبين اللَّه يَكْفِهِ ما بينه وبين الناس، ذلك بأنَّ اللَّه يقضي على الناس ولا يقضُون عليه، ويملكُ من الناس ولا يملكون منه، اللَّه أكبر ولا قوة إلا باللَّه العلي العظيم".

هكذا أورده ابنُ جرير، وفي السند إرْسال.

وقال البيهقي

(2)

: باب -أول خطبة خطبها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة-.

أخبرنا أبو عبد اللَّه الحافظ، أخبرنا أبو العباس الأصم، حدَّثنا أحمد بن عبد الجبَّار، حدثنا يونس بن بُكير، عن ابن إسحاق، حدثني المغيرة

(3)

بن عثمان بن محمد بن عثمان بن الأخنس بن شَرِيق، عن أبي سَلَمة بنِ عبد الرحمنِ بنِ عوف قال: كانتْ أول خطبةٍ خطبها رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بالمدينة أنْ قام فيهم فحمد اللَّه وأثنى عليه بما هو أهلُه ثم قال: "أما بعدُ أيها الناس، فقدِّموا لأنفسكم، تعلَمنَّ واللَّه ليُصْعقَنَّ أحدكم ثم ليدعَنَّ غنمه ليس لها راعٍ، ثم ليقولَنَّ له ربُّه -ليس له ترجمان ولا حاجب يحجُبه دونه-: ألم يأتك رسولي فبلَّغك، وآتيتُك مالًا وأفضلت عليك، فما قدَّمتَ لنفسك؟ فينظر يمينًا وشمالا فلا يرى شيئًا، ثم ينظر قُدَّامه فلا يرى غير جهنَّم، فمن استطاع أن يَقيَ وجهه من النار ولو بشقِّ تمرة فليفعل، ومن لم يجد فبكلمةٍ طيبة، فإنَّ بها تُجْزى الحسنةُ عشرَ أمثالها إلى سبعمئة ضعف، والسلامُ على رسول اللَّه

(4)

ورحمة اللَّه وبركاته.

ثم خطب رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم مرَّةً أخرى فقال: "إنَّ الحمد للَّه أحمدُه وأستعينه، نعوذُ باللَّه من شرور أنفسِنا وسيئاتِ أعمالنا، من يهده اللَّه فلا مُضِلَّ له، ومن يُضْلِلْ فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه [وحده لا شريك له]

(5)

، إنَّ أحسن الحديثِ كتابُ اللَّه، قد أفلح مَنْ زَيَّنَهُ اللَّه في قلبه وأدخله في الإسلام بعد الكُفْر، واختاره على ما سواه من أحاديث الناس، إنه أحْسَنُ الحديث وأبلغُه، أحبُّوا مَن أحبَّ اللَّه، أحبوا اللَّه من كلِّ قلوبكم [ولا تملُّوا كلامَ اللَّه وذِكْرَه، ولا تَقْسُ عنه قلوبُكم](5) فإنه من كلٍّ يختار اللَّه

(1)

في الطبري: اليوم.

(2)

في دلائل النبوة (2/ 524) وأخرجه ابن هشام في السيرة (1/ 500).

(3)

المغيرة هذا لم أقف له على ترجمة في كتب العلم، لكن من أقربائه، إن وجد: أبو سفيان بن سعيد بن المغيرة بن الأخنس بن شريق الثقفي المدني، ابن أخت أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مترجم في التهذيب (33/ 361)(بشار).

(4)

في سيرة ابن هشام (1/ 501): والسلام عليكم ورحمة اللَّه وبركاته.

(5)

ما بين معقوفين من الدلائل وسيرة ابن هشام.

ص: 488

ويصطفى، فقد سمَّاه خِيرتَهُ من الأعمال وخيرته

(1)

من العباد، والصالح من الحديث ومن كلِّ ما أُوتي الناسُ من الحلال والحرام، فاعبدوا اللَّه ولا تشركوا به شيئًا، واتقوه حقَّ تقاته، واصْدُقوا اللَّه صالحَ ما تقولون بأفواهِكم وتحابُّوا بروحِ اللَّه بينكم إنَّ اللَّه يغضَبُ أن يُنكَثَ عهدُه، والسلام عليكم ورحمة اللَّه وبركاته".

وهذه الطريق أيضًا مرسلة إلا أنها مقوِّيةٌ لما قبلها وإن اختلفتِ الألفاظ.

‌فصل في بناء مسجده الشريف في مدة مقامة عليه [الصلاة] والسلام بدار أبي أيوب رضي الله عنه

وقد اختُلف في مدة مقامه بها، فقال الواقدي: سبعة أشهر، وقال غيره: أقلّ من شهر. واللَّه أعلم.

قال البخاري

(2)

: حدثنا إسحاق بن منصور، أخبرنا عبدُ الصمد قال: سمعتُ أبي يحدِّث فقال: حدثنا أبو التَّيَّاح يزيد بن حُميد الضُّبَعي

(3)

، حدثنا أنس بن مالك، قال: لما قدم رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم المدينة نزلَ في عُلْوِ المدينة، في حيٍّ يقال لهم: بنو عمرو بن عوف، فأقام فيهم أربعَ عشرةَ ليلةً، ثم أرسلَ إلى ملأ بني النجَّار فجاؤوا متقلِّدي سيوفهم، قال: وكأنِّي أنظرُ إلى رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم على راحلته وأبو بكر رِدْفَه، ومَلأ بني النجَّارِ حولَه، حتى ألْقَى

(4)

بفناءِ أبي أيوب، قال: فكان يصلِّي حيثُ أدركَتْه الصلاة، ويصلِّي في مرابضِ الغنم. قال: ثم إنه أمر ببناء المسجد، فأرسل إلى مَلأ بني النجَّار، فجاؤوا فقال: "يا بني النجَّار ثامنوني بحائطِكم هذا

(5)

" فقالوا: لا واللَّه لا نطلبُ ثمنَهُ إلا إلى اللَّه. قال: فكان فيه ما أقولُ لكم، كانت فيه قبورُ المشركين، وكانت فيه خِرَبٌ، وكان فيه نخل، فأمر رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بقبور المشركين فنُبشتْ، وبالخِرَبِ فسُوِّيتْ، وبالنخل فقُطِع. قال: فصفُّوا النخلَ قبلةَ المسجد، وجعلوا عِضَادَتَيْهِ حجارة. قال: فجعلوا ينقلُون ذلك الصخر وهم يرتجزون، ورسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم معهم يقول

(6)

: اللهمَّ إنه لا خيرَ إلا خَيْرُ الآخرة، فانصرِ الأنصارَ والمهاجرة.

(1)

في الدلائل والسيرة: ومصطفاه من العباد.

(2)

فتح الباري (3932) مناقب الأنصار باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة.

(3)

في ط: الضبي. تصحيف، والمثبت من ح والبخاري في الفتح.

(4)

قال ابن حجر في الفتح (7/ 266): ألقى: أي نزل، أو المراد ألقى رحله.

(5)

"ثامنوني": أي قرروا معي ثمنه، أو ساوموني بثمنه، تقول: ثامنت الرجل في كذا، إذا ساومته. فتح الباري (7/ 266).

(6)

في الفتح: ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم معهم يقولون: وكتب قولهم في البخاري كما يكتب الشعر في شطرين. وفي رواية أخرى وهي الآتي ذكرها:

اللهمَّ لا خير إلا خير الآخرة

فاغفر للأنصار والمهاجره

وانظر قول ابن هشام ص (492 ح 2).

ص: 489

وقد رواه البخاري في مواضعَ أخر ومسلم

(1)

من حديث أبي عبد الصمد وعبد الوارث بن سعيد.

وقد تقدَّم في صحيح البخاري

(2)

، عن الزهري، عن عروة، أنَّ المسجد الذي كان مِرْبَدًا -وهو بَيْدَرُ التمر- ليتيمَيْن كانا في حَجْر أسعد بن زُرارة وهما سَهْل وسُهيل، فساومهما فيه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقالا: بل نهَبُه لك يا رسول اللَّه! فأبَى حتى ابتاعه منهما وبناه مسجدًا. قال: وجعل رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول وهو ينقل معهم التراب: [من الرجز]

هذا الحِمالُ لا حمالَ خَيْبَرْ

هذا أبَرُّ رَبَّنا وأطْهَرْ

ويقول: [من الرجز]

لا هُمَّ إنَّ الأجْرَ أجْرُ الآخِرَهْ

فارْحَم الأنْصَارَ وَالمُهاجِرَهْ

وذكر موسى بن عُقْبَة أنَّ أسعد بن زُرَارة عوَّضَهما منه نخلًا له في بني بَيَاضة، قال: وقيل ابتاعه منهما رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم.

قلت: وذكر محمد بن إسحاق

(3)

أن المِرْبَدَ كان لغلامين يتيمين في حجر معاذ بن عَفْراء وهما سهل وسُهيل ابنا عمرو، فاللَّه أعلم.

وروى البيهقي

(4)

من طريق أبي بكر بن أبي الدنيا، حدّثنا الحسن بن حماد الضبي، حدثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن إسماعيل بن مسلم، عن الحسن، قال: لما بنى رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم المسجد أعانه عليه أصحابه وهو معهم يتناول اللبن، حتى اغبرَّ صَدْرُه، فقال:"ابنوهُ عَرِيشًا كعريشِ موسى" فقلت للحسن: ما عريشُ موسى؟ قال: إذا رفع يديه بلغ العريش -يعني السقف-.

وهذا مرسل.

ورَوَى

(5)

من حديث حمَّاد بن سلمة، عن أبي سنان، عن يعلى بن شداد بن أوس، عن عُبادة، أنَّ الأنصار جمعوا مالًا فأتَوْا به النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول اللَّه، ابنِ هذا المسجدَ وزَيِّنْه، إلى متى نصلِّي تحت هذا الجريد؟ فقال:"ما بي رغبةٌ عن أخي موسى، عريشٌ كعريشِ موسى".

(1)

فتح الباري (428) الصلاة باب هل تنبش قبور مشركي الجاهلية ويُتخذ مكانها مساجد وفي الحج (1886) والبيوع (906)، وفي موضعين من الوصايا (2771) و (2774) و (2779)؛ وصحيح مسلم (524)(9) المساجد باب ابتناء مسجد النبي صلى الله عليه وسلم.

(2)

تقدم الخبر ص (451، 452).

(3)

تقدم حديث ابن إسحاق في أول ص (468).

(4)

دلائل البيهقي (2/ 542).

(5)

يعني البيهقي في الدلائل (2/ 542).

ص: 490

وهذا حديثٌ غريبٌ من هذا الوجه.

وقال أبو داود

(1)

: حدَّثنا محمد بن حاتم، حدَّثنا عبيد

(2)

اللَّه بن موسى، عن شَيْبَان

(3)

، عن فراس، عن عطيَّة، عن ابن عمر، أنَّ مسجد النبيِّ صلى الله عليه وسلم كانت سَوَاريه على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من جُذوع النَّخْل، أعلاهُ مُظَلَّلٌ بجريدِ النخل، ثم إنها نَخِرَتْ (4) في خلافة أبي بكر، فبناها بجذوع وبجريدِ النخل، ثم أنها نَخِرَتْ

(4)

في خلافة عثمان فبناها بالآجُرّ، فلم تزَلْ

(5)

ثابتةً حتى الآن.

وهذا غريب.

وقد قال أبو داودَ أيضًا

(6)

: حدَّثنا مجاهد بن موسى، حدَّثني يعقوب بن إبراهيم، حدَّثني أبي، عن صالح

(7)

، حدثنا نافع عن ابن عمر أخبره، أنَّ المسجد كان على عهد رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم مبنيًّا باللَّبِن، وسقفُه الجَريد، وعمدُهُ خشب النخْل، فلم يزد فيه أبو بكرٍ شيئًا وزاد فيه عمر وبناه على بنائه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم باللَّبن والجَرِيد، وأعاد عمده خشبًا؛ وغيَّرَهُ عثمان رضي الله عنه، وزاد فيه زيادةً كثيرة، وبنى جداره بالحجارة المنقوشة والقَصَّة

(8)

وجعل عمدَهُ من حجارةٍ منقوشة وسَقَفَهُ بالسَّاج

(9)

.

وهكذا رواه البخاري

(10)

عن علي بن المَدِيني، عن يعقوب بن إبراهيم به.

قلت: زاده عثمان بن عفان رضي الله عنه متأوَّلًا قوله صلى الله عليه وسلم "مَنْ بَنَى للَّهِ مسجدًا ولو كَمَفْحَصِ قَطَاةٍ بنى اللَّه له بيتًا في الجنة"

(11)

ووافقه الصحابةُ الموجودون على ذلك ولم يُغَيِّرُوه بعده، فيُستدل بذلك على

(1)

في السنن (452) الصلاة باب في بناء المسجد، وإسناده ضعيف، كما قال المصنف.

(2)

في ط: عبد اللَّه، تصحيف، والمثبت من ح وسنن أبي داود وترجمته في تهذيب الكمال (2/ 889) وهو أبو محمد الكوفي.

(3)

في ح، ط: سنان، تصحيف، والمثبت من سنن أبي داود وترجمته في تهذيب الكمال (12/ 592). وهو شيبان بن عبد الرحمن التميمي مولاهم توفي سنة 164 هـ.

(4)

في ط: تخربت. تصحيف، والمثبت من ح وسنن أبي داود. ومعنى نخرت: بليت وتفتت. القاموس (نخر).

(5)

في ط: فما زالت. والمثبت من ح والسنن.

(6)

في السنن (451) الصلاة باب في بناء المسجد.

(7)

في ح، ط: عن أبي صالح. وهو تحريف، والمثبت من سنن أبي داود وترجمته في تهذيب الكمال (13/ 79) وهو صالح بن كيسان المدني يروي عن نافع مولى ابن عمرو عنه إبراهيم بن سعد عن إبراهيم.

(8)

قال الخطابي في معالم السنن (1/ 256): القصة: شيء يشبه الجصّ وليس به. وقال أبو داود في آخر الحديث: القصة: الجصّ.

(9)

"الساج": نوع من الخشب يؤتى به من الهند. فتح الباري (1/ 540).

(10)

فتح الباري (446) الصلاة باب بنيان المسجد.

(11)

أخرجه بهذا اللفظ ابن حبان بسنده إلى أبي ذر، الإحسان (1610) وقال الأستاذ شعيب في حاشيته: إسناده =

ص: 491

الراجح من قول العلماء أنَّ حكم الزيادة حكم المزيد، فتدخل الزيادة في حكم سائر المسجد من تضعيف الصلاة فيه وشدِّ الرحال إليه؛ وقد زيد في زمان الوليد بن عبد الملك باني جامعِ دمشق، زاده له بأمره عمر بن عبد العزيز حين كان نائبَهُ على المدينة، وأدخل الحجرة النبوية فيه كما سيأتي بيانُه في وقته، ثم زيد زيادة كثيرة فيما بعد، وزيد من جهة القبلة حتى صارتِ الرَّوضة والمنبر بعد الصفوف المقدمة كما هو المشاهد اليوم.

قال ابن إسحاق

(1)

: ونزل رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم على أبي أيوب حتى بنى مسجده ومساكنه، وعمل فيه رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم ليرغِّب المسلمين في العمل فيه؛ فعمل فيه المهاجرون والأنصار ودأبوا فيه. فقال قائل من المسلمين:[من الرجز]

لئنْ قَعدْنا والنبيُّ يعمَلُ

لذاك منَّا العمل المَضلِّلُ

وارتجز المسلمون وهم يبنونه يقولون: [من الرجز]

لا عيشَ إلا عيشُ الآخرَهْ

اللهم ارحمِ الأنصارَ والمُهاجرهْ

(2)

فيقول رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا عيش إلا عيشُ الآخرة، اللهم ارحمِ المهاجرينَ والأنصار".

قال: فدخل عمار بن ياسر وقد أثقلوه باللَّبِن فقال: يا رسول اللَّه! قتلوني، يحملون عليَّ ما لا يحملون. قالت أمُّ سلمة: فرأيتُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم ينفُضُ وَفْرَتَهُ بيده -وكان رجلًا جَعْدًا- وهو يقول: "وَيْحَ ابنِ سُميَّة، ليسوا بالذين يقتلونك، إنما تقتلك الفئةُ الباغية".

وهذا منقطعٌ من هذا الوجه، بل هو مُعْضَلٌ بين محمد بن إسحاق وبين أمِّ سلمة، وقد وصله مسلم في صحيحه

(3)

من حديث شعبة عن خالد الحذَّاء عن سعيد والحسن -يعني ابني أبي الحسن البصري- عن أمِّهما خيرة مولاة أمِّ سلمة، عن أمِّ سلمة قالت: قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "تقتلُ عمارًا الفئةُ الباغية".

ورواه

(4)

من حديث ابنِ عُلَيَّة عن ابن عَوْن، عن الحسن، عن أمِّه، عن أمِّ سلمة أنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قال لعمار وهو ينقلُ الحجارة:"ويحٌ لك يا ابنَ سُمَيَّة، تقتُلكَ الفئةُ الباغية".

= صحيح، وهو في مصنف ابن أبي شيبة (1/ 310) وأخرجه الطبراني في الصغير (2/ 138) والبيهقي في السنن (2/ 437) بإسنادهم عن أبي ذر، والطيالسي في مسنده (461)، والطحاوي في مشكل الآثار (1/ 485) والقضاعي في مسند الشهاب (479) والطبراني في الصغير (2/ 120) والبزار (401) والبيهقي (2/ 437) من طرق عن الأعمش به. وتقدم من حديث عمر. . . ومن حديث عثمان. اهـ.

(1)

سيرة ابن هشام (1/ 496).

(2)

قال ابن هشام: هذا كلام وليس برجز.

(3)

صحيح مسلم (2916)(72) الفتن وأشراط الساعة باب لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيتمنى أن يكون مكان الميت.

(4)

يعني مسلمًا في صحيحه برقم (2916)(73) وابن عُليّة هو إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم.

ص: 492

وقال عبد الرزاق

(1)

: أخبرنا معمر عن

(2)

الحسن يحدِّث عن أمه، عن أمِّ سلمة قالت: لما كان رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابُه يبنون المسجد، جعل أصحابُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم يحمل كلُّ واحدٍ لَبِنةً لَبِنة، وعمار يحمل لَبِنتَيْن، لبنةً عَنه ولبنةً عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم فمسح ظهره

(3)

. وقال "ابنَ سُميَّة، للناسِ أجْر، ولك أجْرَان، وآخر زادِكَ شربةً من لبن، وتقتُلك الفئةُ الباغية".

وهذا إسنادٌ على شرط الصحيحَيْن

(4)

.

وقد أورد البيهقي

(5)

وغيرُه من طريق جماعةٍ عن خالد الحذَّاء، عن عكرمة، عن أبي سعيد الخُدْرِيّ قال: كنا نحملُ في بناءَ المسجد لبنةً لبنة، وعمار يحمل لبنتَيْن لبنتَيْن، فرآه النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فجعل ينفُض الترابَ عنه ويقول:"وَيْحَ عمار تقتلُه الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنَّة ويدعونه إلى النار" قال: يقول عمار: أعوذُ باللَّه من الفِتَن.

لكن روى هذا الحديث الإمامُ البخاري

(6)

عن مُسَدَّد، عن عبد العزيز بن المختار، عن خالد الحذَّاء؛ وعن إبراهيم بن موسى، عن عبد الوهَّاب الثقفي، عن خالد الحذَّاء به؛ إلا أنه لم يذكر قوله "تقتلك الفئة الباغية"

(7)

.

(1)

في المصنف (20426) باب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

(2)

في المصنف: معمر عمن سمع الحسن يحدث، قال بشار: الصحيح، فإن معمرًا لم يحدث عن الحسن.

(3)

في المصنف: فقام النبي صلى الله عليه وسلم فمسح ظهره.

(4)

كيف يكون على شرط الشيخين؟ فإن كان ما أورده المصنف صحيحًا، فإن معمرًا لم يحدث عن الحسن، بل رأى جنازته وهو صغير، وذكر أنه طلب العلم سنة مات الحسن، كما رواه عبد الرزاق عنه (تاريخ البخاري الصغير 2/ 115، والجرح والتعديل 8/ الترجمة 1165)، ولم تذكر كتب العلم رواية له عن الحسن، ولا ذكر ذلك المزي في التهذيب. وإن كان ما جاء في مصنف عبد الرزاق هو الصواب، أعني بينهما رجل مجهول -وهو الأرجح- فلا يصح هذا الإسناد لجهالة من روى عنه معمر. (بشار).

(5)

في دلائل النبوة (2/ 546).

(6)

فتح الباري (447) الصلاة باب التعاون في بناء المسجد، و (2812) الجهاد باب مسح الغار عن الرأس في سبيل اللَّه.

(7)

هذا هو الصواب، وكذلك ذكر المزي هذا الحديث ولم يذكر فيه عبارة "تقتله الفئة الباغية"(تحفة الأشراف 3/ 415 حديث 4248 بتحقيقي) وكذا ذكر البيهقي في الدلائل أن البخاري تركها. أما وجود العبارة في المطبوع من الفتح في الموضعين (447) و (2812) فهو من تصرف الناشرين، ولم يحسنوا صنعًا. ويلاحظ أن إشارة قد وضعت في النسخة اليونينية من صحيح البخاري على هذه العبارة فكتب في أولها "لا" وفي آخرها "إلى" أي: احذف هذه العبارة، فالأصح أن هذه العبارة مقحمة من بعض الروايات، وأن الروايات المتقنة الأصيلة قد خلت منها، قال الحافظ ابن حجر في الفتح (1/ 542) "واعلم أن هذه الزيادة لم يذكرها الحميدي في الجمع وقال: إن البخاري لم يذكرها أصلًا، وكذا قال أبو مسعود (الدمشقي). قال الحميدي: ولعلها لم تقع للبخاري أو وقعت فحذفها عمدًا، قال: وقد أخرجها الإسماعيلي والبرقاني في هذا الحديث. قلت (ابن حجر): ويظهر لي أن البخاري حذفها عمدًا وذلك لنكتة خفية وهي أن أبا سعيد الخدري اعترف أنه لم يسمع هذه الزيادة من النبي صلى الله عليه وسلم فدل على أنها في هذه =

ص: 493

قال البيهقي

(1)

: وكأنه إنما تركها لما رواه مسلم

(2)

من طريق عن أبي نَضْرَة عن أبي سعيد قال: أخبرَني مَنْ هو خيرٌ مني أنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قال لعمار حين جعل يحفرُ الخندق، جعل يمسح رأسه ويقول:"بُؤْسَ ابنِ سُمَيَّة تقتُلكَ فئةٌ باغية".

وقد رواه مسلمٌ أيضا

(3)

من حديث شعبة عن أبي مَسْلَمة

(4)

، عن أبي نَضْرَة عن أبي سعيد، قال: حدَّثني مَنْ هو خيرٌ منِّي -أبو قتادة- أنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قال لعمارِ بن ياسر: "بؤسًا لك يا ابنَ سُمَيَّة تقتلك الفئة الباغية".

وقال أبو داود الطَّيالسي

(5)

: حدَّثنا وهيب عن داود بن أبي هند، عن أبي نَضْرة، عن أبي سعيد، أنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم لما حفر الخندق كان الناسُ يحملون لَبنةً لَبنة، وعمار -ناقِهٌ من وَجَعٍ كانَ به- فجعل يحملُ لبنتَيْن لبنتَيْن. قال أبو سعيد: فحدَّثني أصحابي أنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم كان ينفضُ الترابَ عن رأسه ويقول: "وَيْحَك ابنَ سُميَّة تقتلك الفئةُ الباغية".

قال البيهقي

(6)

: فقد فرَّق بين ما سمعه بنفسه وما سمعه من أصحابه. قال ويُشبه أن يكون قولُه الخندق وَهْمًا، أو أنه قال له ذلك في بناء المسجد وفي حفر الخندق. واللَّه أعلم.

قلت: حَمْلُ اللبن في حفر الخندق لا معنى له، والظاهر أنه اشتبه على الناقل واللَّه أعلم. وهذا الحديث من دلائل النبوة حيث أخبر صلواتُ اللَّه وسلامه عليه عن عمَّار أنه تقتُله الفئةُ الباغية، وقد قتله أهلُ

= الرواية مدرجة، والرواية التي بينت ذلك ليست على شرط البخاري. وقد أخرجها البزار من طريق داود بن أبي هند عن أبي نضرة عن أبي سعيد فذكر الحديث في بناء المسجد، وحملهم لبنة لبنة وفيه: فقال أبو سعيد: فحدثني أصحابي ولم أسمعه من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه قال: يا ابن سمية تقتلك الفئة الباغية. . . وهذا الإسناد على شرط مسلم وقد عين أبو سعيد من حدثه بذلك، ففي مسلم والنسائي من طريق أبي سلمة عن أبي نضرة عن أبي سعيد قال: حدثني من هو خير مني أبو قتادة، فذكره، فاقتصر البخاري على القدر الذي سمعه أبو سعيد من النبي صلى الله عليه وسلم دون غيره، وهذا دال على دقة فهمه وتبحره في الاطلاع على علل الحديث." انتهى كلام الحافظ.

قلت: فهذا من أقوى دليل على أن الحافظ ابن حجر يؤيد أن هذه العبارة ليست في الصحيح، فكيف يكتبها في "الفتح"؟ لكن الناشرين كتبوا المتن من مكان وكتبوا الحواشي من النسخ الخطية، وخلاصة القول أن ما ذكره المصنف ابن كثير هو الصواب، وأن العبارة ينبغي أن تحذف من المطبوع من صحيح البخاري (بشار).

(1)

في الدلائل (2/ 548).

(2)

صحيح مسلم (71 - 2915) الفتن وأشراط الساعة باب لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيتمنى أن يكون مكان الميت.

(3)

وهي الرواية التي تلي الرواية السابقة برقم (72).

(4)

في ح، ط: عن أبي مسلم. وهو تصحيف، والمثبت من صحيح مسلم وترجمته في تهذيب الكمال (11/ 114) وهو سعيد بن يزيد بن مسلمة الأزدي الطاحي البصري.

(5)

مسند الطيالسي (2168).

(6)

في دلائل النبوة (2/ 549).

ص: 494

الشام في وقعة صِفِّين وعمَّار مع علي وأهلِ العراق كما سيأتي بيانُه وتفصيلُه في موضعه. وقد كان عليٌّ أحقَّ بالأمر من معاوية. ولا يلزم من تسمية أصحاب معاوية بُغاةً تكفيرُهم كما يحاولُه جهلَةُ الفرقة الضالَّة من الشِّيعة وغيرهم، لأنهم وإنْ كانوا بغاةً في نفس الأمر فإنهم كانوا مجتهدين فيما تعاطَوْه من القتال وليس كلُّ مجتهدٍ مصيبًا، بل المصيبُ له أجران والمخطئ له أجر، ومن زاد في هذا الحديث بعد تقتلك الفئة الباغية - (لا أنالها اللَّه شفاعتي يوم القيامة) - فقد افترى في هذه الزيادة على رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم، فإنه لم يقلْها إذ لم تُنقل من طريقٍ تُقبل. واللَّه أعلم.

وأما قولُه: يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار، فإنَّ عمارًا وأصحابه يدعون أهل الشام إلى الأُلفة واجتماع الكلمة. وأهلُ الشام يريدون أن يستأثروا بالأمر دون مَنْ هو أحقُّ به، وأن يكون الناسُ أوزاعًا على كلِّ قُطْرٍ إمامٌ برأسه، وهذا يؤدِّي إلى افتراق الكلمة واختلاف الأمة، فهو لازمُ مذهبهم وناشئٌ عن مسلكهم، وإنْ كانوا لا يقصدونه. واللَّه أعلم. وسيأتي تقريرُ هذه المباحث إذا انتهينا إلى وقعةِ صفين من كتابنا هذا بحول اللَّه وفوته وحُسْنِ تأييده وتوفيقه، والمقصود ها هنا إنما هو قصة بناء المسجدِ النبوي على بانيه أفضل الصلاة والتسليم.

وقد قال الحافظ البيهقي في "الدلائل"

(1)

: حدَّثنا أبو عبد اللَّه الحافظ إملاءً، حدثنا أبو بكر بن إسحاق، أخبرنا عبيد بن شريك، حدثنا نعيم بن حماد، حدثنا عبد اللَّه بن المبارك أخبرنا حَشْرَج بن نُبَاتة، عن سعيد بن جُمْهَان، عن سَفينة مولى رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال:[لما بنى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المسجد] جاء أبو بكر بحجرٍ فوضعه، ثم جاء عثمان بحجرٍ فوضعه، ثم جاء عمر بحجرٍ فوضعه، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"هؤلاء ولاةُ الأمْرِ بعدي".

ثم رواه (1) من حديث يحيى بن عبد الحميد الحِمَّاني، عن حَشْرَج، عن سعيد، عن سَفينة. قال: لما بنى رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم المسجد وضع حجرًا. ثم قال: "ليضعْ أبو بكر حجرًا إلى جنب حجري، ثم ليضعْ عمر حجره إلى جنب حجر أبي بكر، ثم ليضع عثمانُ حجره إلى جنب حجر عمر" فقال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "هؤلاء الخلفاء من بعدي".

وهذا الحديث بهذا السياق غريبٌ جدًا.

والمعروف ما رواه الإمامُ أحمد

(2)

عن أبي النَّضْر، عن حَشْرَج بن نُباتة العبسي؛ وعن بَهْز وزيد بن الحُبَاب؛ وعبد الصمد وحماد بن سلمة كلاهما عن سعيد بن جُمْهان عن سفينة قال سمعت رسولَ اللَّه يقول:"الخلافة ثلاثون عامًا، ثم يكون من بعد ذلك المُلك" ثم قال سفينة: أمسك؛ خلافة أبي بكر سنتين، وخلافة عمر عشر سنين وخلافة عثمان اثنتا عشر سنة، وخلافة علي ست سنين.

(1)

(2/ 553) وما يأتي بين معقوفين منه.

(2)

في المسند: (5/ 220، 221) رقم (21816).

ص: 495

هذا لفظ أحمد، ورواه أبو داود والترمذي والنسائي

(1)

من طرق عن سعيد بن جُمْهَان، وقال الترمذي: حسن لا نعرفه إلا من حديثه ولفظه "الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم يكون ملكًا عَضُوضًا" وذكر بقيته.

قلت: ولم يكن في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أول ما بني مِنْبَرٌ يخطب الناس عليه، بل كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يخطب الناس وهو مستند إلى جِذْعٍ عند مصلاهُ في الحائط القبلي، فلما اتُّخذ له عليه السلام المنبر كما سيأتي بيانه في موضعه وعدل إليه ليخطب عليه، فلما جاوز ذلك الجِذْع خار ذلك الجذعُ وحَنَّ حنين النُّوق العِشَار لما كان يسمع من خُطَب الرسولِ عليه السلام عنده، فرجع إليه النبي صلى الله عليه وسلم فاحتضَنَهُ حتى سكن كما يسكنُ المولودُ الذي يسكت، كما سيأتي تفصيل ذلك من طرقٍ

(2)

عن سهل بن سعدِ الساعدي، وجابر بن عبد اللَّه بن عمر، وعبد اللَّه بن عباس، وأنس بن مالك، وأمِّ سلمة رضي الله عنهم. وما أحسن ما قال الحسنُ البصري: بعدَ ما روَى هذا الحديث عن أنس بن مالك: يا معشر المسلمين، الخشبة تحنُّ إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم شوقًا إليه، أو ليس الرجالُ الذين يرجونَ لقاءه أحقُّ أن يشتاقوا إليه؟!

‌تنبيه على فضل هذا المسجد الشريف والمحل المنيف

قال الإمام أحمد

(3)

: حدّثنا يحيى، عن

(4)

أنيس بن أبي يحيى، حدَّثني أبي قال: سمعتُ أبا سعيدٍ الخُدْرِيَّ قال: اختلف رجلانِ: رجلٌ من بني خُدْرَة، ورجلٌ من بني عمرو بن عوف في المسجد الذي أُسِّسَ على التقوى، فقال الخدري: هو مسجدُ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم وقال العَمْرِي هو مسجدُ قُبَاء، فأتَيَا رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم فسألاه عن ذلك فقال:"هو هذا المسجد" لمسجدِ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وقال: "في ذلك خيرٌ كثير" يعني مسجدَ قُباء.

ورواه الترمذي

(5)

عن قتيبة، عن حاتم بن إسماعيل، عن أنيس بن أبي يحيى الأسلمي به، وقال: حسنٌ صحيح.

وروى الإمام أحمد

(6)

عن إسحاق بن عيسى، عن الليث بن سعد، والترمذي والنسائي

(7)

جميعًا عن

(1)

سنن أبي داود (4646) السنة باب في الخلفاء، وجامع الترمذي (2226) الفتن باب ما جاء في الخلافة، والنسائي في المناقب من سننه الكبرى (8155).

(2)

سيرد في الجزء التالي.

(3)

في المسند (3/ 23) رقم (11121).

(4)

في ط: يحيى بن أنيس بن أبي يحيى. وهو تحريف، والمثبت من ح والمسند.

(5)

في الجامع (323) الصلاة باب ما جاء في المسجد الذي أُسّس على التقوى، وهو حديث صحيح كما قال.

(6)

في المسند (3/ 8) رقم (10987).

(7)

جامع الترمذي (3099) تفسير القرآن باب ومن سورة التوبة؛ وسنن النسائي (697) مساجد باب ذكر المسجد الذي =

ص: 496

قتيبة عن الليث عن عمرانَ بن أبي أنس، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبيه، قال: تمارى رجلانِ في المسجد الذي أُسِّسَ على التقوى؛ وذكر نحو ما تقدَّم.

وفي صحيح مسلم

(1)

من حديث حُميد الخرَّاط عن أبي سلمة بنِ عبد الرحمن، أنه سأل عبد الرحمن ابن أبي سعيد: كيف سمعتَ أباك يقول في المسجد الذي أُسِّس على التقوى؟ فقال: قال أبي: أتيتُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم فسألته عن المسجد الذي أسِّسَ على التقوى؟ فأخذ كفًّا من حَصْبَاء، فضربَ بهِ الأرض، ثم قال:"هو مَسْجِدُكم هذا".

وقال الإمام أحمد

(2)

: حدَّثنا وكيع، حدثنا ربيعة بن عثمان التَيْمي

(3)

عن عمران بن أبي أنس، عن سهل بن سعد قال: اختلف رجلانِ على عهدِ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم في المسجد الذي أُسِّسَ على التقوى، فقال أحدهما: هو مسجدُ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم وقال الآخر: هو مسجد قُباء، فأتَيَا رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم فسألاه فقال:"هو مسجدي هذا".

وقال الإمام أحمد

(4)

: حدَّثنا أبو نعيم، حدَّثنا عبد اللَّه بن عامر الأسلمي، عن عمران بن أبي أنس، عن سهل بن سعد، عن أُبَيِّ بن كعب، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"المسجد الذي أُسِّس على التقوى مسجدي هذا".

فهذه طرقٌ متعدِّدة لعلها تقرِّب من إفادة القَطْع بأنه مسجدُ الرسولِ صلى الله عليه وسلم، وإلى هذا ذهب عمر وابنُه عبد اللَّه، وزيد بن ثابت، وسعيد بن المُسَيِّب، واختاره ابنُ جرير. وقال آخرون: لا منافاة بين نزولِ الآية في مسجدِ قُباء كما تقدَّم بيانُه، وبين هذه الأحاديث، لأن هذا المسجد أولى بهذه الصفة من ذلك، لأنَّ هذا أحد المساجد الثلاثة التي تُشَدُّ الرِّحالُ إليها كما ثبت في الصحيحَيْن

(5)

من حديث أبي هريرة قال قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا تشدُّ الرِّحال إلا إلى ثلاثةِ مساجد؛ مسجدي هذا، والمسجد الحرام، ومسجد بيت المقدس".

وفي صحيح مسلم

(6)

عن أبي سعيد عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "لا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلا إلى ثلاثة مساجد" وذكرها.

= أسس على التقوى، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح من حديث عمران.

(1)

صحيح مسلم (1398)(514) الحج باب بيان أن المسجد الذي أسس على التقوى هو مسجد النبي صلى الله عليه وسلم.

(2)

في المسند (5/ 331) رقم (22704).

(3)

في ط: التميمي. تصحيف، والمثبت من ح ومسند أحمد وترجمته في تهذيب الكمال (9/ 132).

(4)

في المسند (5/ 116) رقم (21005).

(5)

فتح الباري (1189) مسجد مكة باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، وصحيح مسلم (1397)(511) الحج باب لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد.

(6)

صحيح مسلم (827)(415) الحج باب سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره.

ص: 497

وثبت في الصحيحَيْن

(1)

أنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "صلاةٌ في مسجدي هذا خيرٌ من ألف صلاةٍ فيما سواه إلا المسجدَ الحَرَام".

وفي مسند الإمام أحمد

(2)

بإسناد حسن زيادةٌ حسنة وهي قوله "فإن ذلك أفضل".

وفي الصحيحَيْن

(3)

من حديث يحيى القطَّان، عن خُبَيْب، عن حفص بن عاصم، عن أبي هُريرة قال: قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ما بينَ بيتي ومنبري رَوْضَةٌ من رياضِ الجنَّة، ومنبري على حَوْضي".

والأحاديثُ في فضائل هذا المسجدِ الشريف كثيرةٌ جدًا، وسنوردُها في كتاب المناسك من كتاب الأحكام الكبير إنْ شاء اللَّه، وبه الثقةُ وعليه التُّكْلان ولا حَوْلَ ولا قوةَ إلا باللَّه العزيز الحكيم.

وقد ذهب الإمامُ مالكٌ وأصحابُه إلى أنَّ مسجدَ المدينة أفضلُ من المسجد الحرام، لأنَّ ذاك بناهُ إبراهيم، وهذا بناه محمدٌ صلى الله عليه وسلم، ومعلومٌ أن محمدًا أفضلُ من إبراهيمَ عليه السلام. وقد ذهب الجمهورُ إلى خلاف ذلك، وقرَّروا أنَّ المسجد الحرام أفضلُ لأنه في بلدٍ حرَّمَهُ اللَّه يوم خلق السماواتِ والأرض، وحرَّمه إبراهيمُ الخليل عليه السلام، ومحمد خاتم المرسلين فاجتمع فيه من الصفات ما ليس في غيره، ولبَسْط هذه المسألة موضعٌ آخر وباللَّه المستعان.

‌فصل

وبُني لرسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم حول مسجده الشريف حُجَرٌ لتكون مساكنَ له ولأهله، وكانتْ مساكنَ قصيرةَ البناء قريبةَ الفِناء قال الحسن بن أبي الحسن البصري -وكان غلامًا مع أمه خيرة مولاة أمِّ سَلَمة- لقد كنتُ أنالُ أطولَ سقفٍ في حُجَرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بيدي.

قلت: إلا أنه قد كان الحسن البصري شكلًا ضَخْما طُوَالا رحمه الله.

وقال السُّهيلي في "الرَّوض"

(4)

: كانت مساكنُه عليه السلام مبنيَّةً من جَريد عليه طين، وبعضها من حجارةٍ مرضومة

(5)

وسقوفها كلُّها من جَريد. ثم

(6)

حكَى عن الحسن البصري ما تقدَّم.

(1)

فتح الباري (1190) مسجد مكة باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، وصحيح مسلم (1394)(506) الحج باب فضل الصلاة بمسجدي مكة والمدينة.

(2)

لعل الرواية المذكورة في المسند (3/ 343) عن جابر والزيادة فيه هكذا "وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مئة ألف صلاة". ولم أجد هذه الزيادة فيما روي من طريق الإمام أحمد في مسنده.

(3)

فتح الباري (1196) فضل الصلاة في مسجد مكة باب فضل ما بين القبر والمنبر، وصحيح مسلم (1391)(502) الحج باب ما بين القبر والمنبر.

(4)

(2/ 248) بنحوه وبألفاظ مقاربة.

(5)

زاد السهيلي في الروض: بعضها فوق بعض. وهو تفسير المرضومة.

(6)

في ط: وقد حكى، والمثبت من ح ويعني بالذي حكى السهيليّ. وما يأتي بين معقوفين من الروض.

ص: 498

قال: وكانتْ حُجَرُه [أكسيةً] من شعرٍ مربوطةٍ بخشب من عَرْعَر

(1)

.

قال

(2)

: وفي تاريخ البخاري أنَّ بابه عليه السلام كان يُقْرَع بالأظافير، فدلَّ على أنه لم يكن لأبوابه حَلَق. قال: وقد أُضيفت الحُجَر كلُّها بعد موت أزواج رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى المسجد.

قال الواقدي وابنُ جَرير وغيرهما

(3)

: ولما رجع عبد اللَّه بن أُريقط الدُّئَلي إلى مكة بعث معه رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم وأبو بكر زيدَ بن حارثة وأبا رافع موليا رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم ليأتوا بأهاليهم من مكة، وبعثا معهم بحِمْلَيْن وخمسمئة درهم ليشتروا بها إبلًا من قُدَيد؛ فذهبوا فجاؤوا ببنتي النبيِّ صلى الله عليه وسلم فاطمة وأم كلثوم وزوجتَيْه سودةَ وعائشةَ، وأمِّها أمِّ رُومان وأهلِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وآلِ أبي بكر صحبةَ عبد اللَّه بن أبي بكر، وقد شَرَّدَ بعائشة وأمِّها أمِّ رُومان الجمَلُ في أثناء الطريق، فجعلتْ أمُّ رُومان تقول: واعروساه! وابنتاه! قالت عائشة: فسمعتُ قائلًا يقول: أرسلي خِطامَه، فأرسلتْ خطامه فوقف بإذن اللَّه وسلَّمَنا اللَّه عز وجل. فقَدِموا فنزلوا بالسُّنْح

(4)

. ثم دخل رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بعائشةَ في شوال بعد ثمانية أشهر كما سيأتي، وقدمتْ معهم أسماءُ بنتُ أبي بكر امرأةُ الزبيرِ بن العوَّام وهي حاملٌ مُتمٌّ بعبد اللَّه بن الزُّبير كما سيأتي بيانُه في موضعه من آخر هذه السنة.

‌فصل فيما أصابَ المهاجرين من حُمَّى المدينة رضي الله عنهم أجمعين

وقد سلم الرسول منها بحول اللَّه وقوته ودعا اللَّه فأزاحها عن مدينته.

قال البخاري

(5)

: حدَّثنا عبد اللَّه بن يوسف

(6)

، ثنا مالك عن

(7)

هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أنها قالت: لما قدم رسولُ للَّه صلى الله عليه وسلم المدينة وُعِكَ

(8)

أبو بكرٍ وبلال، قالت: فدخلتُ عليهما فقلت: يا أبةِ كيف تَجِدُك؟ ويا بلال كيف تجدك؟ قالت: وكان أبو بكر إذا أخذَتْهُ الحُمَّى يقول: [من الرجز]

كُلُّ امرئٍ مُصَبَّحٌ في أهلِهِ

(9)

والموتُ أدْنَى من شِرَاكِ نَعْلِهِ

(1)

"العَرْعَر": شجر السَّرْو. القاموس (عرعر).

(2)

يعني السهيلي في الروض.

(3)

طبقات ابن سعد (8/ 62، 63) وتاريخ الطبري (2/ 400).

(4)

تقدم تعريف السُّنح (ص 377 ح 4).

(5)

فتح الباري (3926) مناقب الأنصار باب مقدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة.

(6)

في ط: عبد اللَّه بن وهب بن يوسف. تحريف، والمثبت من ح وصحيح البخاري في الفتح.

(7)

في ح، ط: مالك بن هشام. تحريف، والمثبت من صحيح البخاري.

(8)

"وُعِك": أصابه الوعك وهي الحُمَّى. فتح الباري.

(9)

"مصبَّحٌ": أي مصاب بالموت صباحًا، أو يقال له وهو مقيم بأهله: صبَّحَكَ اللَّهُ بالخير وقد يفجؤه الموت في بقية =

ص: 499

وكان بلال إذا أقلع عنه الحُمَّى يرفع عَقِيرَتَهُ ويقول: [من الطويل]

ألا ليتَ شِعْرِي هل أبيتَنَّ ليلةً

بوادٍ وحولي إذخِرٌ وجليلُ

(1)

وهل أرِدَنْ يومًا مياهَ مَجنَّةٍ

وهل يَبْدُوَنْ لي شَامَةٌ وطَفيلُ

(2)

قالت عائشة: فجئتُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم فأخبرتُه فقال: "اللهمَّ حَبِّبْ إلينا المدينة كحُبِّنا مكة أو أشدّ، وصحِّحْهَا، وباركْ لنا في صاعِها ومُدِّها، وانْقُلْ حُمَّاها فاجْعَلْها بالجُحْفة".

ورواه مسلم

(3)

عن أبي بكر بن أبي شيبة عن هشام مختصرًا.

وفي رواية البخاري

(4)

له عن أبي سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، فذكره، وزاد بعد شعرِ بلال: ثم يقول بلال: اللهمَّ الْعَنْ عُتبةَ بن ربيعة، وشيبةَ بن ربيعة، وأُميَّة بن خَلَف كما أخرجونا من أرضنا إلى أرض الوَبَاء. فقال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "اللهمَّ حَبِّبْ إلينا المدينة كحُبِّنا مكةَ أو أشدّ، اللهمَّ بارِكْ لنا في صاعِها وفي مُدِّها

(5)

وصحِّحها لنا، وانقُلْ حُمَّاها إلى الجُحْفَة" قالت: وقدمنا المدينة وهي أوْبأ أرضِ اللَّه، وكان بُطْحانُ يجري نَجْلًا

(6)

-تعني ماءً آجنًا-.

وقال زياد عن محمد بن إسحاق

(7)

: حدثني هشام بن عروة وعمر

(8)

بن عبد اللَّه بن عروة [عن عروة] بن الزبير عن عائشة قالت: لما قدم رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم المدينة قدمها وهي أوْبأ أرض اللَّه من الحُمَّى فأصاب أصحابه منها بلاءٌ وسُقْم، وصرف اللَّه ذلك عن نبيِّه. قالت: فكان أبو بكر وعامر بن فُهَيرة وبلال موليا أبي بكر في بيتٍ واحد، فأصابَتْهُمُ الحُمَّى، فدخلتُ عليهم أعودهم وذلك قبل أن يُضرب علينا الحِجَاب، وبهم ما لا يعلمه إلا اللَّه من شدَّةِ الوَعْك، فدنَوْتُ من أبي بكرٍ فقلت: كيف تَجِدُك يا أبة؟ فقال: [من الرجز]

كلُّ امرئٍ مصبِّحٌ في أهلِهِ

والموتُ أدْنَى من شِرَاكِ نَعْلِهِ

= النهار. الفتح (7/ 262).

(1)

"الإذْخِر": حشيش طيب الريح أطول من الثيل، واحدته إذْخِرَة. اللسان (ذخر). وجليل: نبت ضعيف يُحشى به خَصَاص البيوت وغيرها (فتح الباري).

(2)

مجنة موضعٌ على أميال من مكة، (قد تكسر ميمه). وشامَةٌ وطفيلُ: جبلان، قال الخطابي: كنت أحسب أنهما جبلان حتى ثبت عندي أنهما عينان. فتح الباري (7/ 263).

(3)

صحيح مسلم (1376)(480) الحج باب الترغيب في سكنى المدينة والصبر على لأوائها.

(4)

فتح الباري (1889) فضائل المدينة باب 12 بعد باب كراهية النبي صلى الله عليه وسلم أن تعرى المدينة. وما يأتي بين معقوفين منه.

(5)

في الفتح: في صاعِنا وفي مدِّنا.

(6)

"بُطحان": وادي المدينة.

(7)

سيرة ابن هشام (1/ 588) والروض (3/ 10) وما يأتي بين معقوفين منهما.

(8)

وقع في الروض: وعمرو بن عبد اللَّه بن فروة. تحريف.

ص: 500

قالت: فقلت: واللَّه ما يَدْري أبي ما يقولُ. قالت: ثم دنوتُ إلى عامر بن فُهيرة فقلت: كيف تَجِدُك يا عامر؟ قال: [من الرجز]

لقد وجدتُ الموتَ قبل ذَوْقِهِ

إنَّ الجَبَانَ حَتْفُهُ من فَوْقِهِ

كلُّ امرئٍ مجاهدٌ بطَوْقِهِ

كالثورِ يَحْمي جِلدَهُ بِرَوْقِهِ

(1)

قالت: فقلت: واللَّه ما يدري عامرٌ ما يقول. قالت: وكان بلال إذا أدركته الحُمَّى اضْطَجَعَ بفِناءِ البيت ثم رفع عَقِيرَتَه فقال: [من الطويل]

ألا ليتَ شعري هل أبيتنَّ ليلةً

بفَخٍّ وحَوْلي إذْخِرٌ وجَليلُ

(2)

وهل أرِدَنْ يومًا مياهَ مَجَنَّةٍ

وهل يَبْدُوَنْ لي شامةٌ وطَفِيلُ

قالت عائشة: فذكرتُ لرسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم ما سمعتُ منهم وقلت: إنهم ليَهْذُونَ وما يعقلون من شِدَّةِ الحُمَّى. فقال: "اللهمَّ حَبِّبْ إلينا المدينة، كما حَبَّبْتَ إلينا مكة أو أشدّ، وباركْ لنا في مُدِّها وصاعها، وانقُلْ وباءَها إلى مَهْيَعَة" ومَهْيَعة هي الجُحْفَة.

وقال الإمامُ أحمد

(3)

: حدَّثنا يونس، حدثنا ليث عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي بكر بن إسحاق بن يسار، عن عبد اللَّه بن عروة، عن عروة، عن عائشة قالت: لما قدم رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم المدينة اشتكى أصحابُه واشتكى أبو بكر وعامرُ بن فُهيرة مولى أبي بكر وبلال، فاستأذنتْ عائشةُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم في عيادتهم فأذن لها، فقالت لأبي بكر: كيف تجدك؟ فقال: [من الرجز]

كلُّ امرئٍ مصبِّحٌ في أهلِهِ

والموتُ أدنى من شِرَاكِ نَعْلِهِ

وسألت عامرًا فقال: [من الرجز]

إني وجدتُ الموتَ قبل ذَوْقِهِ

إنَّ الجَبَانَ حَتْفُهُ من فَوْقِهِ

وسألتُ بلالًا فقال: [من الطويل]

يا ليتَ شعري هل أبيتَنَّ ليلةً

بفَخٍّ وحولي إذْخِرٌ وجَليلُ

(4)

فأتَتِ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم فأخبرَتْه، فنظر إلى السماء وقال:"اللهم حَبِّبْ إلينا المدينة كما حبَّبْتَ إلينا مكة أو أشدّ، اللهم باركْ لنا في صاعها وفي مُدِّها، وانقُلْ وباءها إلى مَهْيَعَة". وهي الجُحْفَة فيما زعموا.

(1)

"الرَّوْق": القرن. اللسان (روق). بطوقه: بطاقته. قاله ابن هشام في السيرة.

(2)

"فخ": موضع بمكة. القاموس المحيط.

(3)

في مسنده (6/ 65) وما يأتي بين معقوفين منه.

(4)

وقع في مسند أحمد: بفج. بالجيم وهو تصحيف. انظر معجم البلدان (4/ 237) وما سبق.

ص: 501

وكذا رواه النَّسائي عن قُتيبة عن الليث به

(1)

.

ورواهُ الإمام أحمد

(2)

من طريق عبد الرحمن بن الحارث عنها مثله.

وقال البيهقي

(3)

: أخبرنا أبو عبد اللَّه الحافظ وأبو سعيد بن أبي عمرو، قالا: حدثنا أبو العباس الأصمّ، حدَّثنا أحمد بن عبد الجبار، حدثنا يونس بن بُكير، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: قدم رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم المدينةَ وهي أوْبأ أرضِ اللَّه، وواديها بُطحان نَجْل. قال هشام: وكان وباؤها معروفًا في الجاهلية، وكان إذا كان الوادي وَبِيئًا فأشرف عليها

(4)

الإنسان قيل له أن ينهقَ نَهيقَ الحمار، فإذا فعل ذلك لم يضرَّهُ وباءُ ذلك الوادي. وقد قال الشاعر حين أشرف على المدينة:[من الطويل]

لعمري لئنْ عَشَّرْتُ

(5)

من خيفةِ الرَّدَى

نهيقَ الحمارِ إنني لَجزوعُ

وروى البخاري

(6)

من حديث موسى بن عُقْبة، عن سالم، عن أبيه، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"رأيتُ كأنَّ امرأةً سوداءَ ثائرةَ الرأس، خرجَتْ من المدينة حتى قامت بمَهْيَعَة -وهي الجُحْفَة- فأولتُها أنَّ وباءَ المدينة نُقل إلى مَهْيَعَة -وهي الجُحْفَة-".

هذا لفظ البخاري ولم يخرِّجْه مسلم، ورواه الترمذي وصحَّحه، والنَّسائي وابنُ ماجَه

(7)

من حديث موسى بن عقبة.

وقد روى حماد بن زيد، عن هشام بن عروة، [عن أبيه]، عن عائشة قالت: قدم رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم المدينة وهي وبيئة

(8)

، فذكر الحديث بطوله إلى قوله:"وانقل حُمَّاها إلى الجُحْفَة". قال هشام: فكان المولود يولد بالجُحْفَة فلا يبلغُ الحلم حتى تصرَعَهُ الحُمّى.

رواه البيهقي في "دلائل النبوة"

(9)

.

(1)

أخرجه في الحج من سننه الكبرى (4272)، وفي الطب منها (7519)، وهو حديث صحيح.

(2)

في المسند (6/ 239، 240).

(3)

في دلائل النبوة (2/ 567).

(4)

كذا في ح، ط، وفي الدلائل: عليه.

(5)

في ح، ط: عبرت. وهو تصحيف، والمثبت من الدلائل، والبيت لعروة بن الورد وهو في ديوانه ص (95) وساقه صاحبا اللسان والتاج في (عشر)؛ وعشَّر الحمار تعشيرًا: تابع النهيق عشرًا.

(6)

في صحيحه فتح (7038) و (7039) و (7040) التعبير باب المرأة السوداء وباب المرأة الثائرة الرأس.

(7)

جامع الترمذي (2290) الرؤيا باب ما جاء في رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم وسنن ابن ماجه (3924) تعبير الرؤيا باب تعبير الرؤيا والنسائي في تعبير الرؤيا من سننه الكبرى (7651).

(8)

في دلائل النبوة: وبئة.

(9)

(2/ 568) وما ورد بين معقوفين منه.

ص: 502

وقال يونس عن ابن إسحاق: قدم رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم المدينة وهي وبيئة

(1)

، فأصاب أصحابَهُ بها بلاءٌ وسُقْم حتى أجهدهم ذلك، وصرف اللَّه ذلك عن نبيِّه صلى الله عليه وسلم.

وقد ثبت في الصحيحَيْن

(2)

عن ابن عباس قال: قدم رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه [صبيحة رابعة -يعني مكة- عام عمرة القضاء]

(3)

، فقال المشركون: إنه يقدمُ عليكم وَفْدٌ قد وَهَنَهُمْ حُمَّى يَثْرِب؛ فأمرهم رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يَرْمُلوا وأن يمشوا ما بين الرُّكْنَيْن، ولم يمنَعْهُ أن يرملوا الأشواطَ كلها إلا الإبقاءُ عليهم.

قلت: وعمرة القضاء كانت في سنةِ سبعٍ في ذي القَعْدَة، فإما أن يكون تأخَّر دعاؤه عليه السلام بنقل الوباء إلى قريب من ذلك، أو أنه رُفع وبقي آثَارٌ منه قليل. أو أنهم بَقُوا في خُمَارِ ما كان أصابهم من ذلك إلى تلك المُدَّة. اللَّه أعلم.

وقال زياد عن ابن إسحاق

(4)

: وذكر ابنُ شهاب الزُّهري عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص أنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة هو وأصحابُه أصابَتْهُمُ حُمَّى المدينة حتى جهدوا مرضًا، وصرف اللَّه ذلك عن نبيِّهِ صلى الله عليه وسلم حتى كانوا وما يصلُّون إلا وهم قعود، قال فخرج رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم وهم يصلُّون كذلك فقال لهم:"اعلموا أنَّ صلاة القاعد على النِّصْفِ من صلاة القائم". فتجشَّمَ المسلمونَ القيامَ على ما بهم من الضعف والسُّقْم التماسَ الفَضْل.

‌فصل في عقده عليه الصلاة السلام الألْفَة بين المهاجرين والأنصار بالكتاب الذي أمر به فكتب بينهم والمؤاخاة التي أمرهم بها وقرَّرهم عليها وموادعته اليهود الذين كانوا بالمدينة

وكان بها من أحياء اليهود بنو قَيْنُقَاع وبنو النَّضِير وبنو قُرَيظة، وكان نزولهم بالحجاز قبل الأنصار أيام بُخْت نَصَّر حين دوَّخ بلادَ المَقْدِس فيما ذكره الطَّبَري

(5)

. ثم لما كان سيل العرم وتفرَّقَتْ سَبَأ شَذَر مَذَر نزل الأوسُ والخزرج المدينةَ عند اليهود، فحالفوهم وصاروا يتشبَّهون بهم لما يرَوْن لهم عليهم من الفضل في العلم المأثور عن الأنبياء، لكن مَنَّ اللَّه على هؤلاء الذين كانوا مشركين بالهدى والإسلام وخَذَلَ أولئك لحسَدهم وبَغْيهم واستكبارهم عن اتِّباع الحقّ.

(1)

في دلائل النبوة (2/ 568): وهي أوبأ أرض اللَّه من الحمى. والمصنف ينقل عنه.

(2)

فتح الباري (1602) الحج باب كيف كان بدءُ الرَّمَل (4256) المغازي باب عمرة القضاء، وصحيح مسلم (1266)(240) الحج باب استحباب الرمل في الطواف والعمرة.

(3)

ما بين المعقوفين ليس في صحيح البخاري ولا في صحيح مسلم.

(4)

سيرة ابن هشام (1/ 560) والروض (3/ 10).

(5)

تاريخ الطبري (1/ 538، 539).

ص: 503

وقال الإمام أحمد

(1)

: حدَّثنا عفَّان، حدثنا حمَّاد بنُ سَلَمة، حدثنا عاصم الأحول عن أنس بن مالك، قال: حالَفَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار في دارِ أنس بن مالك.

وقد رواه الإمام أحمد أيضًا والبخاري ومسلم وأبو داود

(2)

من طُرقٍ متعدِّدة عن عاصم بن سليمان الأحول عن أنس بن مالك، قال: حالف رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بين قريش والأنصار في داري.

وقال الإمام أحمد

(3)

: حدَّثنا نصر بن باب، عن حجاج -هو ابنُ أرطاة- قال: وحدَّثنا سُريج، حدثنا عبَّاد عن حجَّاج، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدِّه، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كتب كتابًا بين المهاجرين والأنصار أن يَعْقِلُوا مَعَاقِلَهُم

(4)

، وأن يَفْدوا عانِيَهُم بالمعروف، والإصلاح بين المسلمين.

قال أحمد: وحدَّثنا سُريج، حدثنا عبَّاد عن حجَّاج، عن الحكم عن مِقْسَم

(5)

عن ابن عباس مثله.

تفرَّد به الإمام أحمد.

وفي صحيح مسلم

(6)

عن جابر: كتب رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم على كل بَطْنٍ عُقُولَة

(7)

.

وقال محمد بن إسحاق

(8)

: كتب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كتابًا بين المهاجرين والأنصار وادَعَ فيه اليهود وعاهدهم، وأقرَّهم على دينهم وأموالهم واشترط عليهم وشرط لهم:

بسم اللَّه الرحمن الرحيم "هذا كتابٌ من محمد النبيِّ صلى الله عليه وسلم

(9)

بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويَثْرِب، ومن تبعهم فلحق بهم، وجاهد معهم، أنهم أُمَّةٌ واحدةٌ من دون الناس، المهاجرون من قريش على رِبْعَتِهم، يتعاقَلُونَ بينهم وهم يَفْدُونَ عانِيَهُمْ بالمعروف والقِسط، وبنو عوف على رِبْعَتِهم يتعاقلون مَعَاقِلهُم الأولى، وكلُّ طائفة تَفْدي عانِيَها بالمعروف والقِسْط بين المؤمنين.

(1)

في مسنده (3/ 281).

(2)

مسند أحمد (3/ 111) و (145) وفتح الباري (2294) في الكفالة، و (6083) الأدب باب الإخاء والحلف، (7340) الاعتصام باب ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وحض على اتفاق أهل العلم، وصحيح مسلم (2529)(204) و (205) فضائل الصحابة باب مؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه، وسنن أبي داود (2926) الفرائض باب في الحلف.

(3)

في المسند (1/ 271 و 2/ 204).

(4)

"يعقلون معاقلهم": أي يكونون على ما كانوا عليه من أخذ الديات وإعطائها. والمَعَاقل: الدِّيات جمع مَعْقُلة. النهاية لابن الأثير (عقل).

(5)

في ط: قاسم. تحريف، والمثبت من ح وترجمته في تهذيب التهذيب، وهو مقسم بن بجرة.

(6)

صحيح مسلم (1507)(17) العتق باب النهي عن بيع الولاء وهبته.

(7)

في ط: عقولة. تصحيف، والمثبت من ح وصحيح مسلم. والعقول: الديات.

(8)

سيرة ابن هشام (1/ 501) والروض (2/ 240) وما يأتي بين معقوفين منهما، وأخرجه أبو عبيد في الأموال (ص 202) عن يحيى بن بكير وعبد اللَّه بن صالح كلاهما عن الليث بن سعد عن عُقيل بن خالد عن ابن شهاب أنه قال: بلغني أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كتب بهذا الكتاب. . فذكره.

(9)

في ط: النبي الأمي. وفي ح: النبي بين. . والمثبت من سيرة ابن هشام.

ص: 504

ثم ذكر كلَّ بَطْنٍ من بطونِ الأنصار، وأهلَ كلِّ دارِ بني ساعدة، وبني جُشَم، وبني النجار، وبني عمرو بن عوف، وبني النَّبيت، إلى أن قال: وإن المؤمنين لا يتركون مُفْرَحا

(1)

بينهم أن يُعطوه بالمعروف في فِدَاءٍ وَعَقْل

(2)

، ولا يحالف مؤمنٌ مولى مؤمنٍ دونه، وإن المؤمنين المتقين على مَنْ بَغَى منهم أو ابتغَى دَسِيعَة

(3)

ظُلْم أو إثم، أو عدوان، أو فساد بين المؤمنين، وإن أيديَهُمْ عليه جميعهم ولو كان ولدَ أحدِهم، ولا يقتل مؤمنٌ مؤمنًا في كافر، ولا يُنصر كافر على مؤمن، وإنَّ ذِمَّة اللَّه واحدة، يُجير عليهم أدناهم، وإنَّ المؤمنين بعضُهم مواليَ بعض دون الناس، وإنَّ مَنْ تبعنا من يهود فإنَّ له النَّصْر والأسوة غير مظلومين ولا متناصرَ عليهم، وإنَّ سِلْمَ المؤمنين واحدة لا يسالم مؤمنٌ دون مؤمن في قتالٍ في سبيل اللَّه إلا على سواءٍ وعَدْل بينهم؛ وإنَّ كلَّ غازيةٍ غزَتْ معنا يَعْقُبُ بعضُها بعضا

(4)

، وإن المؤمنين يُبِيء

(5)

بعضُهم بعضًا بما نال دماءهم في سبيل اللَّه، وإن المؤمنين المتقين على أحسن هَدْي وأقْوَمِه، وإنه لا يجير مشرك مالًا لقريش ولا نفسًا، ولا يحول دونه على مؤمن، وأنه من اعْتَبَط

(6)

مؤمنًا قَتْلًا عن بَيِّنةٍ فإنَّه قَوَدٌ به إلى أن يرضى وليُّ المقتول، وإنَّ المؤمنين عليه كافة، ولا يحلُّ لهم إلا قيامٌ عليه، وإنه لا يحل لمؤمنٍ أقرَّ بما في هذه الصحيفة وآمن باللَّه واليوم الآخر أن ينصر مُحدِثًا ولا يُؤويه، وأنه من نَصَره أو آواه فإنَّ عليه لعنة اللَّه وغضَبَه يوم القيامة ولا يؤخذ منه صَرْفٌ ولا عَدْل؛ وإنكم مهما اختلفتم فيه من شيءٍ فإنَّ مرده إلى اللَّه عز وجل، وإلى محمد صلى الله عليه وسلم وإنَّ اليهود يتفقونَ مع المؤمنين ما داموا محاربين، وإنَّ يهودَ بني عَوف أمَّة مع المؤمنين، لليهود دينُهم وللمسلمين دينُهم، مواليهم وأنفسهم إلا من ظَلَم وأَثِم فإنه لا يُوتِغُ

(7)

إلا نفسَه وأهلَ بيته، وإنَّ ليهود بني النجَّار وبني الحارث وبني ساعدة وبني جُشَم وبني الأوس وبني ثعلبة وجفنة وبني الشطنة

(8)

مثل ما ليهود بني عوف، وإنَّ بطَانة يهود كأنفسهم، وإنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن

(1)

قال ابن هشام في السيرة (1/ 502): المُفْرَح: المثقل بالدَّين والكثير العيال.

(2)

في السيرة: في فداء أو عقل.

(3)

في ط: دسيسة. تصحيف، والمثبت من ح وسيرة ابن هشام والنهاية لابن الأثير وفيه (2/ 117): أي طلب دفعًا على سبيل الظلم، فأضافه إليه، وهي إضافة بمعنى من. ويجوز أن يراد بالدسيعة العطية: أي ابتغى منهم أن يدفعوا إليه عطية على وجه ظُلْمهم.

(4)

أن يكون الغزو بينهم نُوَبًا، فإذا خرجت طائفة ثم عادت لم تكلَّف أن تعود ثانية حتى تعقبها أخرى غيرها. النهاية لابن الأثير (3/ 367).

(5)

في ح: يبوء. والمثبت من السيرة وط، وجاء في اللسان (بوء): باءَ دَمُهُ بوءًا وبواءً: عَدَلَهُ، وأباءَهُ وباوَأهُ: إذا قُتل به وصار دمه بدمه. والبَواء السَّواء. وفلان بَوَاءُ فلان: أي كفؤه إن قتل به اهـ.

(6)

في ح، ط: اغتبط. تصحيف، والمثبت من السيرة، وجاء في النهاية لابن الأثير (3/ 172/ عبط): أي قتله بلا جنايةٍ كانت منه ولا جريرة توجب قتله، فإن القاتل يقاد به ويقتل. وكل من مات بغير عِلَّة فقد اعتبُط.

(7)

"لا يوتغ": أي لا يُهلك. النهاية (وتغ).

(8)

كذا في ط وفي ح: سطنه بالسين المهملة، وفي السيرة والروض: الشُّطَّيبة. وفي الأموال لأبي عبيد: وإن بني الشَّطْبَة بطن من جفنة. ولم أقف عليه.

ص: 505

محمد [صلى الله عليه وسلم]، ولا يَتَحَجَّرُ

(1)

على ثأرٍ جُرْح، وإنه مَنْ فَتَكَ فبنفسه، إلا من ظُلم، وإن اللَّه على أثر

(2)

هذا، وإن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتُهم، وإن بينهم النصرَ على من حارب أهلَ هذه الصحيفة، وإنَّ بينهم النصحَ والنَّصيحة والبرَّ دون الإثم، وإنَّه لم يأثم امرؤ بحَلِيفه، وإنَّ النصرَ للمظلوم، [وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين] وإنَّ يثرب حرام جَوْفُها

(3)

لأهل هذه الصحيفة، وإن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم، وإنه لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها، وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حَدَثٍ أو اشتجارٍ

(4)

يُخاف فسادُه فإن مرَدَّه إلى اللَّه وإلى محمدٍ رسولِ اللَّه، وإن اللَّه على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبرِّه، وإنه لا تُجارُ قريش ولا من نصرها، وإن بينهم النَّصْر على مَنْ دَهِم يثرب، وإذا دُعُوا إلى صلْح يصالحونه ويَلْبَسونه فإنهم يصالحونه وإنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإنه لهم على المؤمنين إلا مَنْ حارب في الدين على كل أناس

(5)

حصَّتهم من جانبهم الذي قِبَلهم، وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالمٍ أو آثم، وإنه من خرج آمنٌ، ومن قعد آمنٌ بالمدينة إلا من ظَلَم أو أثم، وإنَّ اللَّه جارٌ لمن برَّ واتَّقى".

كذا أوردهُ ابنُ إسحاق بنحوه. وقد تكلَّم عليه أبو عُبيد القاسمُ بن سلام رحمه الله في كتاب الغَريب وغيره

(6)

بما يطول ذكره.

‌فصل في مؤاخاة النبيِّ صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار ليرتفق المهاجريُّ بالأنصاريّ

كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9] وقال تعالى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ

(7)

أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا} [النساء: 33].

(1)

في ط: ينحجر. بالنون والواو المهملة وفي السيرة والروض: ينحجز بالزاي، والمثبت من ح، والمعنى واللَّه أعلم: أن القتيل يؤخذ بحقه، وأن القاتل يلقى جزاءه ولا يمكن السكوت عنه. فقد جاء في النهاية (حجر/ 1/ 342):"لما تحجَّر جُرْحُه، أي اجتمع والتأم وقرب بعضه من بعض".

(2)

كذا في ح، ط وفي السيرة والروض: على أبرِّ هذا. أي على الرضا.

(3)

في ط: حرفها، وفي ح: خوفها، والمثبت من السيرة والروض والأموال، وفيه: حرَمٌ جَوْفها.

(4)

في ح: استحبار. والمثبت من ط والسيرة والروض.

(5)

في ح: إنسان. والمثبت من ط والسيرة والروض.

(6)

انظر تخريج الخبر في الحاشية (3) ص (504).

(7)

في الأصول {عاقدَتْ} ، وهي رواية البخاري؛ وبها قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي {عَقَدَتْ} بغير ألف. انظر السبعة لابن مجاهد ص (233) والكشف للقيسي (1/ 388).

ص: 506

قال البخاري

(1)

: حدَّثنا الصَّلْتُ بن محمد، حدثنا أبو أسامة، عن إدريس، عن طلحة بن مُصَرِّف، عن سعيد بن جُبير عن ابن عباس {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} قال: وَرَثة {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} كان المهاجرون لما قَدِموا المدينة يَرِثُ المهاجريُّ الأنصاريّ دونَ ذوي رَحِمه للأخوَّةِ التي آخى النبيُّ صلى الله عليه وسلم بينهم، فلما نزلتْ {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} نُسِخَتْ ثم قال:{وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} من النَّصرِ والرِّفَادةِ والنَّصِيحة، وقد ذهب الميراثُ، ويوصي له.

وقال الإمام أحمد

(2)

: قُرئ على سفيان، سمعتُ عاصمًا عن أنس قال: حالف النبيُّ صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار في دارنا. قال سفيان: كأنَّه يقول آخى.

وقال محمد بن إسحاق

(3)

: وآخَى رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بين أصحابه من المهاجرين والأنصار، فقال: -فيما بلغنا ونعوذ باللَّه أن نقول عليه ما لم يقل-: "تآخُوا في اللَّهِ أخوَيْنِ أخوين" ثم أخذ بيد عليِّ بن أبي طالب فقال: "هذا أخي" فكان رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم سيِّدُ المرسلين، وإمامُ المتقين، ورسولُ ربِّ العالمين، الذي ليس له خَطيرٌ

(4)

ولا نَظير من العباد، وعليُّ بن أبي طالب أخوَينِ؛ وكان حمزةُ بنُ عبد المطلب أسَدُ اللَّه وأسدُ رسولِه وعمُّ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم وزيدُ بن حارثة مولى رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم أخوَيْن، وإليه أوْصَى حمزةُ يومَ أُحُدٍ [حين حضره القتال إن حدث به حادث الموت]؛ وجعفرُ بن أبي طالب ذو الجناحَيْنِ [الطيَّار في الجنة] ومُعاذُ بن جَبَل أخوَيْن -قال ابنُ هشام: كان جعفر يومئذٍ غائبًا بأرضِ الحبشة- قال ابن إسحاق: وكان أبو بكر، وخارجةُ بن زيد الخزرجي أخوَيْن؛ وعمر بن الخطاب، وعِتْبان بن مالك أخوَيْنَ؛ وأبو عبيدة، وسعد بن معاذ أخوين؛ وعبدُ الرحمن بن عوف، وسعد بن الربيع أخوين؛ والزبير بن العوَّام، وسلَمَةُ بنُ سَلامة بن وَقْش أخَوَيْن، ويقال: بل كان الزُّبير وعبدُ اللَّه بن مسعود أخَوْين؛ وعثمانُ بن عفان، وأوس بن ثابت بن المنذر النجَّاري أخوين؛ وطلحة بن عُبيد اللَّه، وكعب بن مالك أخوَيْن؛ وسعيد بن زيد، وأُبَيُّ بن كعب أخَوَين؛ ومُصْعَب بن عُمير، وأبو أيُّوب أخَوَيْن؛ وأبو حُذَيْفة بن عتبة، وعبَّاد بن بِشْر أخوَين؛ وعمَّار، وحُذيفة بن اليَمَان العَبْسي حليف بني عبدِ الأشْهَل أخوين؛ ويقال: بل كان عمَّار وثابت بن قيس بن شمَّاس أخوَيْن.

قلت: وهذا السند

(5)

من وجهين. قال: وأبو ذر بُرَيْر بن جُنَادة

(6)

والمنذر بن عمرو

(1)

في صحيحه فتح (4580) التفسير باب {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ. . .} الآية.

(2)

في المسند (3/ 111) رقم (12028)، وإسناده صحيح.

(3)

سيرة ابن هشام (1/ 504) والروض (2/ 242) وما يأتي بين معقوفين منهما.

(4)

في ح: خَطَر. وهما بمعنى. الخَطَر: المِثْل في العُلُوّ والقَدْر، ولا يكون في الشيء الدُّون كالخَطير كأمير؛ وفي الحديث "ألا هل مشمِّرٌ للجنة فإن الجنة لا خطر لها" أي لا مثل لها. انظر التاج والنهاية لابن الأثير (خطر).

(5)

في ح: وهذا النسب.

(6)

قال ابن هشام في السيرة (1/ 506): وسمعت غير واحد من العلماء يقول: أبو ذر جندب بن جنادة.

ص: 507

المُعْنِقُ

(1)

ليموت أخَوَيْن، وحاطب بن أبي بَلْتَعة وعُويم بن ساعدة أخوَيْن؛ وسلمان، وأبو الدرداء أخوين؛ وبلال، وأبو رُوَيْحة عبد اللَّه بن عبد الرحمن الخَثْعَمي ثم أحد الفَزَع

(2)

أخوين.

قال: فهؤلاء ممن سُمِّي لنا ممن كان رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم آخى بينهم من أصحابه رضي الله عنهم.

قلت: وفي بعض ما ذكره نظر؛ أمَّا مؤاخاة النبيِّ صلى الله عليه وسلم وعلي فإنَّ من العلماء من يُنكر ذلك ويمنع صحته؛ ومستندُه في ذلك أنَّ هذه المؤاخاة إنما شُرعت لأجل ارتفاق بعضِهم من بعض وليتألف قلوب بعضهم على بعض، فلا معنى لمؤاخاةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لأحدٍ منهم، ولا مهاجريّ لمهاجريٍّ آخر، كما ذكره من مؤاخاةِ حمزةَ وزيد بن حارثة، اللهمَّ إلا أن يكون النبيُّ صلى الله عليه وسلم لم يجعل مصلحةَ عليٍّ إلى غيره، فإنه كان ممن يُنفق عليه رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم من صغره في حياة أبيه أبي طالب كما تقدَّم عن مجاهد وغيره. وكذلك يكونُ حمزة قد التزم بمصالحِ مولاهم زيدِ بن حارثة فآخاه بهذا الاعتبار. واللَّه أعلم.

وهكذا ذِكْرُه لمؤاخاةِ جعفر ومعاذ بن جبل فيه نظر كما أشار إليه عبد الملك بن هشام، فإنَّ جعفر بن أبي طالب إنما قدِم في فتح خيبر في أول سنة سبعٍ كما سيأتي بيانُه، فكيف يؤاخي بينه وبين معاذ بن جبل أولَ مقدَمه عليه السلام إلى المدينة؟ اللهم إلا أن يقال: إنه أرصد لإخوته إذا قدم حين يقدم، وقوله: وكان أبو عبيدة وسعد بن معاذ أخوين يخالف لما رواهُ الإمام أحمد

(3)

: حدثنا عبدُ الصمد، حدثنا حمَّاد، حدثنا ثابت عن أنس بن مالك، أنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم آخى بين أبي عبيدةَ بن الجرَّاح وبين أبي طلحة. وكذا رواه مسلم

(4)

منفردًا به عن حجَّاج بنِ الشَّاعِر، عن عبد الصمد بن عبد الوارث به. وهذا أصحُّ مما ذكره ابنُ إسحاق من مؤاخاةِ أبي عُبيدة وسعد بن معاذ. واللَّه أعلم.

وقال البخاري

(5)

باب كيف آخى النبيُّ صلى الله عليه وسلم بين أصحابه؛ وقال عبدُ الرحمن بن عوف: آخى النبيُّ صلى الله عليه وسلم بيني وبين سعد بن الرَّبيع لما قدِمنا المدينة. وقال أبو جُحَيْفة: آخى النبيُّ صلى الله عليه وسلم بين سلمان الفارسي وأبي الدرداء رضي الله عنهما.

حدثنا محمد بن يوسف، حدثنا سفيان عن حُميد، عن أنس قال: قدم عبدُ الرحمن بن عوف فآخَى النبيُّ صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري، فعَرَض عليه أنْ يُناصِفَه أهلَهُ وماله. فقال عبدُ الرحمن: بارك اللَّهُ لكَ في أهْلِكَ ومالك، دُلَّني على السُّوق. فربح شيئًا من أقط وسمن، فرآه النبيُّ صلى الله عليه وسلم بعد أيام

(1)

في ح، ط: المعتق. تصحيف، والمثبت من السيرة والروض. وهو لقبه لأنه لما بلغ النبي مقتله قال: أعنق ليموت. أي إن المنية أسرعت به وساقته إلى مصرعه. انظر النهاية (عنق) وما سيأتي.

(2)

قال السهيلي في الروض (2/ 252): الفَزَع: هو ابن شَهْرَان بن عِفْرس بن حلف بن أفتل، وأفتل هو خثعم، وانظر المؤتلف والمختلف للدارقطني (4/ 1818).

(3)

في المسند (3/ 152) رقم (12484).

(4)

في صحيحه (2528)(203) فضائل الصحابة باب مؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم.

(5)

في صحيحه فتح (3937) مناقب الأنصار.

ص: 508

وعليه وضرٌ من صُفْرَة

(1)

، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"مَهْيَم يا عبد الرحمن؟ "

(2)

قال: يا رسول اللَّه! تزوجْتُ امرأةً من الأنصار. قال: "فما سُقْتَ فيها؟ " قال: وَزْنَ نواةٍ من ذَهَب، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"أوْلمْ ولو بشاة".

تفرَّد به من هذا الوَجْه.

وقد رواهُ أيضًا في مواضعَ أخر، ومسلم من طرقٍ عن حُميد به

(3)

.

وقال الإمام أحمد

(4)

: حدثنا عفان، حدثنا حماد، حدثنا ثابت وحُميد عن أنس، أنَّ عبد الرحمن بنَ عوف قدم المدينة فآخى رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري، فقال له سعد: أي أخي أنا أكثرُ أهلِ المدينة مالًا، فانظُرْ شَطْرَ مالي فخذه، وتحتي امرأتان فانظُرْ أيُّهما أعجبُ إليك حتى أُطَلِّقها. فقال عبدُ الرحمن: بارَكَ اللَّهُ لك في أهلك ومالك، دُلُّوني على السُّوق. فدلُّوه، فذهب فاشترى وباعَ فربح، فجاء بشيءٍ من أقطٍ وسَمن؛ ثم لبث ما شاء اللَّه أنْ يَلْبَث فجاء وعليه رَدْعُ زَعْفَران

(5)

فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "مَهْيَمْ؟ " فقال: يا رسول اللَّه! تزوجتُ امرأةً، قال:"ما أصدقتَها؟ " قال: وزنَ نَوَاةٍ من ذهب. قال: "أوْلِمْ ولو بشاة". قال عبد الرحمن: فلقد رأيتني ولو رفعت حجرًا لرجوتُ أن أصيبَ ذهبًا وفضة

(6)

.

وتعليقُ البخاري هذا الحديث عن عبد الرحمن بن عوف غريبٌ، فإنه لا يُعرَفُ مسندًا

(7)

إلا عن أنس اللهم إلا أن يكون أنس تلقَّاه عنه. فاللَّه أعلم.

وقال الإمام أحمد

(8)

: حدثنا يزيد، أخبرنا حُميد عن أنس، قال: قال المهاجرون: يا رسول اللَّه! ما رأينا مثل قومٍ قدِمْنا عليهم أحسن مواساةً في قليل، ولا أحسنَ بَذْلًا من

(9)

كثير! لقد كفوْنا المؤونة

(1)

"وضر من صفرة": أي لَطْخٌ من خَلُوق أو طيبٌ له لون، وذلك من فعل العروس إذا دخل على زوجته، والوضر: الأثر من غير الطيب. النهاية لابن الأثير (وضر).

(2)

"مَهْيَمْ": أي ما أمرك وما شأنك؟ وهي كلمة يمانية. النهاية لابن الأثير (مهيم/ 4/ 378).

(3)

فتح الباري (2049) البيوع باب ما جاء في قول اللَّه عز وجل {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا} [الجمعة: 10]. وصحيح مسلم (1427)(79) النكاح باب الصداق وجواز كونه تعليم قرآن وخاتم حديد.

(4)

في المسند (3/ 271).

(5)

"رَدْعُ زعفران": لَطْخٌ منه. القاموس (ردع)، ووقع في ط: ودع. تصحيف.

(6)

في المسند: أو فضة. وهو أشبه.

(7)

جاء في هامش ح فوق قوله: مسندًا. ما نصُّه: هذا غريب! بل رواه البخاري موصولًا في أول البيوع فراجعه تجده عن عبد الرحمن. قلت: هذا صحيح، انظر فتح الباري (2048) كتاب البيوع باب ما جاء في قول اللَّه عز وجل {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا. . .} [الجمعة: 10].

(8)

في المسند (3/ 200).

(9)

في المسند: في. وهو أشبه.

ص: 509

وأشركونا في المَهْنأ، حتى لقد خشينا

(1)

أن يذهبوا بالأجر كُلِّه. قال: "لا! ما أثنيتم عليهم ودعوتم اللَّه لهم".

هذا حديثٌ ثلاثيُّ الإسناد على سْرط الصحيحَيْن ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة من هذا الوجه، وهو ثابتٌ في الصحيح من

(2)

.

وقال البخاري

(3)

: أخبرنا الحكم بن نافع أخبرنا شُعيب، حدثنا أبو الزِّنَاد عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قالت الأنصار [للنبيِّ صلى الله عليه وسلم]: اقْسِمْ بيننا وبين إخواننا النَّخيل. قال: "لا" قالوا: تكفونَنا المؤونة

(4)

ونَشْرَكُكُم في الثمرة. قالوا: سمعنا وأطعنا.

تفرد به.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم للأنصار: "إنَّ إخوانَكم قد تركوا الأموال والأولاد وخرجوا إليكم" فقالوا: أموالنا بيننا قطائع. فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أو غيرَ ذلك؟ ". قالوا: وما ذاك يا رسول اللَّه؟ قال: "هم قوم لا يعرفون العمل، فتكفونَهم وتقاسمونهم الثَّمَر" قالوا: نعم

(5)

.

وقد ذكرنا

(6)

ما ورد من الأحاديث والآثار في فضائل الأنصار وحُسْن سجاياهم عند قوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ} الآية.

‌فصل

في موت أبي أُمامة أسعد بن زُرَارة بن عُدَس بن عُبيد بن ثعلبة بن غَنْم بن مالك بن النجَّار أحد النقباء الاثني عشر ليلةَ العقبة على قومه بني النجار، وقد شهد العقباتِ الثلاث وكان أولَ مَنْ بايع رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم ليلةَ العقبة الثانية في قول، وكان شابًّا، وهو أول من جَمَّع بالمدينة في نقيع الخَضِمات في هزم النَّبيت كما تقدَّم

(7)

.

قال محمد بن إسحاق

(8)

: وهلك في تلك الأشهر أبو أمامة أسعد بن زُرَارة والمسجد يُبنى، أخَذَتْهُ الذّبحة -أو الشَّهْقَة

(9)

-.

(1)

في المسند: حسبنا. وهنا أجود.

(2)

كذا بياض في كل من ط وح.

(3)

في صحيحه فتح (2325) الحرث والمزارعة باب إذا قال اكفني مؤونة النخل، وما يأتي بين معقوفين منه.

(4)

"المؤونة": العمل في البساتين من سقيها والقيام عليها. فتح الباري (5/ 8).

(5)

أخرجه الطبراني في التفسير (28/ 47) في تفسير سورة الحشر الآية (9) وذكره المصنف أيضًا في تفسير الآية.

(6)

ص (473، 474) من هذا الجزء.

(7)

في هذا الجزء (ص 403، 404).

(8)

في سيرة ابن هشام (1/ 507) والروض (2/ 243).

(9)

"الذبحة": كهُمَزة وعِنَبَة وكِسْرة وصُبْرَة: وجع يعرض في الحلق من الدم؛ وقيل: هي قُرْحة تظهر فيه فينسدُّ معها =

ص: 510

وقال ابنُ جرير في "التاريخ"

(1)

: أخبرنا محمد بن عبد الأعلى، حدثنا يزيد بن زُرَيع، عن معمر، عن الزُّهري، عن أنس أنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم كَوَى أسعد بن زُرارة في الشَّوْكة. رجاله ثقات.

قال ابن إسحاق

(2)

: حدّثني عبد اللَّه بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن يحيى بن عبد اللَّه بن عبد الرحمن بن أسعد بن زُرارة، قال: قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "بئس الميتُ أبو أمامة ليهود ومنافقي العرب، يقولون لو كان نبيًّا لم يَمُتْ صاحبُه، ولا أملك لنفسي ولا لصاحبي من اللَّه شيئًا".

وهذا يقتضي أنه أول مَنْ مات بعد مقدَم النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وقد زعم أبو الحسن بنُ الأثير في "أسد الغابة"

(3)

: أنه مات في شوال بعد مقدم النبي صلى الله عليه وسلم بسبعة أشهر. فاللَّه أعلم.

وذكر محمد بن إسحاق

(4)

عن عاصم بن عمر بن قتادة، أنَّ بني النجَّار سألوا رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أنْ يقيمَ لهم نقيبًا بعد أبي أمامة أسعد بن زُرارة؛ فقال:"أنتم أخْوَالي وأنا بما فيكم وأنا نقيبُكم" وكره أن يخصَّ بها بعضهم دون بعض. فكان من فضل بني النجَّار الذي يعتدُّون به على قومهم أنْ كان رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم نقيبَهم.

قال ابن الأثير

(5)

: وهذا يردُّ قول أبي نعيم وابن مَنْدَه في قولهما أنَّ أسعد بن زرارة كان نقيبًا على بني ساعدة، إنما كان على بني النجار، وصدق ابن الأثير فيما قال.

وقد قال أبو جعفر بن جرير في "التاريخ"

(6)

: كان أولَ مَنْ تُوفِّي بعد مقدمه عليه السلام المدينة من المسلمين -فيما ذُكر- صاحب منزله كلثومُ بنُ الهِدْم، لم يلبث بعد مقدمه إلا يسيرًا حتى مات. ثم توفِّي بعده أسعدُ بن زُرارة وكانت وفاتُه في سنة مقدمِهِ قبل أن يَفْرُغَ بناءُ المسجد بالذّبْحَة أو الشَّهْقَة.

قلت: وكلثوم بن الهِدْم بن امرئ القيس بن الحارث بن زيد بن عبيد بن زيد بن مالك بن عوف بن عمرو بن مالك بن الأوس الأنصاري الأَوْسي وهو من بني عمرو بن عوف وكان شيخًا كبيرًا أسلم قبل مقدم رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم المدينة، ولما قدم رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم المدينة ونزل بقُبَاء نزل في منزل هذا في الليل، وكان

= وينقطع النفس فتقتل. والشهقة: الصَّيْحَة. النهاية لابن الأثير (ذبح) واللسان (شهق).

(1)

تاريخ الطبري (2/ 398).

(2)

في سيرة ابن هشام (1/ 507) والروض (2/ 243).

(3)

أسد الغابة (1/ 71).

(4)

في سيرة ابن هشام (1/ 507) والروض.

(5)

أسد الغابة (1/ 71، 52).

(6)

تاريخ الطبري (2/ 397).

ص: 511

يتحدث بالنهار مع أصحابه في منزل سعد بن الرَّبيع رضي الله عنهما إلى أن ارتحل إلى دارِ بني النجَّار كما تقدَّم.

قال ابن الأثير

(1)

: وقد قيل إنه أولُ مَنْ مات من المسلمين بعد مقدَم رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم، ثم بعده أسعد بن زُرارة.

ذكره الطبري

(2)

.

‌فصل في ميلاد عبد اللَّه بن الزبير في شوال سنة الهجرة

فكان أولَ مولود ولد في الإسلام من المهاجرين كما أنَّ النعمان بن بشير أولُ مولود ولد للأنصار بعد الهجرة رضي الله عنهما. وقد زعم بعضُهم أنَّ ابن الزبير ولد بعد الهجرة بعشرين شهرًا قاله أبو الأسود

(3)

.

ورواهُ الواقدي عن محمد بن يحيى بن سهل بن أبي حَثْمَة عن أبيه عن جده.

وزعموا أنَّ النعمان ولد قبل ابن الزبير بستة أشهر على رأس أربعةَ عشرَ شهرًا من الهجرة، والصحيحُ ما قدَّمنا.

قال البخاري

(4)

: حدثنا زكريا بن يحيى، حدثنا أبو أسامة عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن أسماء أنَّها حملَتْ بعبدِ اللَّه بن الزُّبير، قالت: فخرجتُ وأنا مُتِمٌّ، فأتيتُ المدينة، فنزلتُ بقُباء، فولدْتُهُ بقباء، ثم أتيتُ به رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم فوضعه في حَجْره، ثم دعا بتمرةٍ فمضَغَها ثم تفل في فيه، فكان أولَ شيءٍ دخلَ جوفَه ريقُ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم ثم حنَّكه بتمرة، ثم دعا له وبرَّكَ عليه. فكان أولَ مولودٍ ولد في الإسلام.

تابعَهُ خالد بن مَخْلَد عن عليِّ بن مُسْهِر، عن هشام، عن أبيه، عن أسماء أنها هاجرَتْ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم وهي حُبْلى.

حدثنا

(5)

قُتيبة عن أبي أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: أوَّلُ مولودٍ وُلد في الإسلام عبدُ اللَّه بن الزُّبير، أتَوْا به النبيَّ صلى الله عليه وسلم فأخذ النبيُّ صلى الله عليه وسلم تمرةً فلاكَها ثم أدخلها في فيه، فأولُ ما دخل بطنَهُ ريقُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم.

فهذا حُجَّةٌ على الواقدي وغيره لأنه ذكر أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم بعث مع عبد اللَّه بن أُرَيْقط لما رجع إلى مكة

(1)

في أسد الغابة (4/ 252).

(2)

في تاريخه (2/ 397).

(3)

أبو الأسود هو محمد بن عبد الرحمن كما في تاريخ ابن عساكر ص 392 في ترجمة عبد اللَّه بن الزبير.

(4)

في صحيحه فتح (3909) مناقب الأنصار باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة.

(5)

يتابع المصنف نقل التالي من صحيح البخاري ورقمه (3910).

ص: 512

زيدَ بن حارثة وأبا رافع ليأتوا بعياله وعيالِ أبي بكر، فقدِموا بهم إثر هجرةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأسماء حامل مُتِمّ، أي مُقْرِبٌ قد دَنَا وَضْعُها لولدها، فلما ولدَتْه كبَّر المسلمون تكبيرةً عظيمة فرحًا بمولده، لأنه كان قد بلغهم عن اليهود أنهم سحروهم حتى لا يولد لهم بعد هجرتهم ولد، فأكذب اللَّه اليهود فيما زعموا.

‌فصل وبنى رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بعائشة في شوال من هذه السنة

قال الإمام أحمد

(1)

: حدثنا وكيع، حدثنا سفيان، عن إسماعيل بن أُميَّة، عن عبد اللَّه بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: تزوَّجني رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم في شوال، وبنى بي في شوال، فأيُّ نساءِ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم كان أحظى عنده مني؟! وكانت عائشةُ تستحبُّ أن تُدخل نساءها في شوال.

ورواهُ مسلم والترمذي والنسائي وابنُ ماجَهْ من طرق عن سفيان الثوري به

(2)

. وقال الترمذي: حسنٌ صحيحٌ لا نعرفه إلا من حديث سفيان الثوري.

فعلى هذا يكون دخولُه بها عليه السلام بعد الهجرة بسبعةِ أشهر -أو ثمانية أشهر- وقد حكى القولين ابنُ جرير

(3)

، وقد تقدَّم في تزويجه عليه السلام بسَوْدَة كيفية تزويجه ودخوله بعائشة بعد ما قدموا المدينة وأن دخوله بها كان بالسُّنح نهارًا

(4)

، وهذا خلاف ما يعتادُه الناسُ اليوم، وفي دخوله عليه السلام بها في شوال ردٌّ لما يتوهَّمُه بعضُ الناس من كراهية الدخول بين العيدين خشية المفارقة بين الزوجين، وهذا ليس بشيء لما قالَته عائشة رادَّةً على من توهَّمه من الناس في ذلك الوقت: تزوَّجني في شوَّال، وبنى بي في شوال -أي دخل بي- في شوال، فأيُّ نسائه كان أحْظَى عنده مني؟ فدلَّ هذا على أنها فهمَتْ منه عليه السلام أنها أحبُّ نسائِهِ إليه، وهذا الفهم منها صحيح، لما دلَّ على ذلك من الدلائل الواضحة، ولو لم يكن إلا الحديثُ الثابتُ في صحيح البخاري

(5)

عن عمرو بن العاص، قلت يا رسول اللَّه: أيُّ الناس أحبُّ إليك؟ قال: "عائشة". قلت: من الرجال؟ قال: "أبوها".

(1)

في المسند (6/ 206).

(2)

صحيح مسلم (1423)(73) النكاح باب استحباب التزوج والتزويج في شوال. وجامع الترمذي (1093) النكاح باب ما جاء في الأوقات التي يستحب فيها النكاح. وسنن النسائي (3377) النكاح باب البناء في شوال. وسنن ابن ماجه (1990) النكاح باب متى يستحب البناء بالنساء.

(3)

في تاريخ الطبري (2/ 398).

(4)

تقدم الخبر ص (376، 377).

(5)

فتح الباري (3662) فضائل الصحابة باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لو كنت متخذًا خليلًا".

ص: 513

‌فصل

قال ابن جرير

(1)

: وفي هذه السنة -يعني السنة الأولى من الهجرة- زيد في صلاة الحَضَر -فيما قيل- ركعتان، وكانت صلاةُ الحضر والسفرِ ركعتين، وذلك بعد مقدم النبيِّ صلى الله عليه وسلم المدينة بشهرٍ في ربيع الآخر لمُضِيِّ ثنتي عشرةَ ليلة منه

(2)

. وقال (4): وزعم الواقدي أنه لا خلاف بين أهل الحجاز فيه.

قلت: قد تقدم

(3)

الحديث الذي رواه البخاري من طريق معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: فرضت الصلاة أول ما فرضت ركعتين، فأقرَّت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر. ورُوي من طريق الشعبي عن مسروق عنها.

وقد حكى البيهقي

(4)

عن الحسن البصري أن صلاة الحضر أول ما فُرضت فُرضت أربعًا. واللَّه أعلم.

وقد تكلَّمنا على ذلك في تفسير سورة النساء عند قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء: 101] الآية.

‌فصل في الأذان ومشروعيته عند مقدمه عليه السلام المدينة النبوية

قال ابن إسحاق

(5)

: فلما اطمأنّ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بالمدينة واجتمع إليه إخوانه من المهاجرين واجتمع الأنصار استحكم أمرُ الإسلام، فقامت الصلاة وفُرضت الزكاة والصيام، وقامتِ الحدود وفُرض الحلالُ والحرام وتبوَّأ الإسلامُ بين أظهرهم، وكان هذا الحيُّ من الأنصار هم الذين تبوَّءوا الدارَ والإيمان وقد كان رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم حين قدِمها إنما يجتمع الناسُ إليه للصلاة لحين مواقيتها بغيرِ دَعْوة، فهمَّ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يجعل بُوقًا كبوقِ يهود الذي يدعون به لصلاتهم ثم كرهه، ثم أمر بالنَّاقوس فنُحت ليُضرب به للمسلمين للصلاة؛ فبينا هم على ذلك رأى عبدُ اللَّه بن زيد بن ثعلبة بن عبد ربه، أخو بَلْحارث بن الخَزْرَج النداءَ، فأتى رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول اللَّه، إنه طاف بي هذه الليلةَ طائف، مرَّ بي رجلٌ عليه ثوبان أخضران يحملُ ناقوسًا في يده، فقلت: يا عبد اللَّه أتَبيعُ هذا الناقوس؟ فقال: وما تصنع به؟ قال: قلت: ندعو به إلى الصلاة. قال: ألا أدلُّكَ على خيرٍ من ذلك؟ قلت: وما هو؟ قال: تقول، اللَّه أكبر اللَّه أكبر، اللَّه أكبر اللَّه أكبر، أشهد أن لا إله إلا اللَّه، أشهد أن لا إله إلا اللَّه، أشهد أن محمدًا رسول اللَّه، أشهد أن

(1)

تاريخ الطبري (2/ 400).

(2)

في ط: مضت. والمثبت من ح وتاريخ الطبري، وفي نسخة منه: مضت منه.

(3)

تقدم في حديث الإسراء.

(4)

السنن الكبرى للبيهقي (1/ 362).

(5)

في سيرة ابن هشام (1/ 508) والروض (2/ 253).

ص: 514

محمدًا رسول اللَّه، حيَّ على الصلاة، حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح، حيَّ على الفلاح، اللَّه أكبر اللَّه أكبر، لا إله إلا اللَّه. فلما أخبر بها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"إنها لرؤيا حق إنْ شاء اللَّه، فقمْ مع بلال فألقِها عليه فليؤذِّن بها، فإنه أنْدَى صوتًا منك"

(1)

. فلما أذَّن بها بلال سمعه عمر بن الخطاب وهو في بيته، فخرج إلى رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو يجرُّ رداءَه وهو يقول: يا نبيَّ اللَّه، والذي بعثك بالحق لقد رأيتُ مثلَ الذي رأى. فقال رسولُ اللَّه: فلله الحمد.

قال ابنُ إسحاق

(2)

: حدثني بهذا الحديث محمد بن إبراهيم بن الحارث، عن محمد بن عبد اللَّه بن زيد بن ثعلبة بن عبد ربه، عن أبيه.

وقد روى هذا الحديث أبو داود والترمذي وابن ماجَهْ وابنُ خزيمة

(3)

من طرق عن محمد بن إسحاق به. وصحَّحه الترمذي وابنُ خزيمة وغيرُهما.

وعند أبي داود أنه علمه الإقامة قال: ثم تقول إذا أقمت الصلاة: اللَّه أكبر اللَّه أكبر، أشهدُ أن لا إله إلا اللَّه، أشهد أنَّ محمدًا رسول اللَّه، حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح، قد قامتِ الصلاةُ قد قامتِ الصلاة، اللَّه أكبر اللَّه أكبر، لا إله إلا اللَّه.

وقد

(4)

روى ابنُ ماجَهْ هذا الحديث عن أبي عُبيد محمد بن عُبيد بن ميمون عن محمد بن سَلَمة الحرَّاني عن ابنِ إسحاق كما تقدَّم، ثم قال

(5)

: قال أبو عُبيد: وأخبرني أبو بكر الحَكَميّ أنَّ عبد اللَّه بن زيد الأنصاري قال في ذلك: [من الخفيف]

أحمدُ اللَّه ذا الجلالِ وذا الإكْـ

ـرام حَمْدًا على الأذانِ كثيرا

(6)

إذْ أتاني به البشيرُ من اللَّهِ

فأَكرِمْ به لديَّ بَشيرا

في ليالٍ والَى بهنَّ ثلاثٍ

كلَّما جاء زادني توقيرا

(1)

"أندى": أرفع وأعلى وأبعد. وقيل: أحسن وأعذب. النهاية لابن الأثير (ندي).

(2)

في سيرة ابن هشام (1/ 509) والروض (2/ 253).

(3)

سنن أبي داود (499) الصلاة باب كيف الأذان. وجامع الترمذي (189) الصلاة باب ما جاء في بدء الأذان. وسنن ابن ماجه (706) الأذان باب بدء الأذان. وصحيح ابن خزيمة (363) جماع أبواب الأذان والإقامة باب ذكر الدليل على أن من كان أرفع صوتًا وأجهر كان أحق بالأذان.

(4)

تأخر هذا الحديث في ح إلى ما بعد قول المصنف: واللَّه أعلم. في تعليقه على حديث الإسراء الذي رواه السهيلي.

(5)

سنن ابن ماجه (706) وهو حديث صحيح كما قال الترمذي، فإن ابن إسحاق قد صرح بالسماع فانتفت شبهة تدليسه، وقد صححه جماعة من الأئمة إضافة الترمذي منهم: البخاري والنووي والذهبي. أما ما ساقه أبو عبيد من الشعر عن الحكمي بعد الحديث فإسناده منقطع، كما هو ظاهر، فلا يصح سنده (بشار).

(6)

رواية البيت في ح، ط هكذا:

الحمد للَّه ذي الجلال وذي الإكرام

ولا يستقيم به الوزن، والمثبت من سنن ابن ماجه، وإعجام: كثيرًا منه ومن ح.

ص: 515

قلت: وهذا الشعر غريب، وهو يقتضي أنه رأى ذلك ثلاثَ ليالٍ حتى أخبر به رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم فاللَّه أعلم.

ورواه الإمام أحمد

(1)

من حديث محمد بن إسحاق، قال: وذكر الزُّهري عن سعيد بن المُسَيِّب عن عبد اللَّه بن زيد به، نحو روايةِ ابنِ إسحاق عن محمد بن إبراهيم التيمي، ولم يذكر الشعر.

وقال ابنُ ماجَه

(2)

: حدَّثنا محمد بن خالد بن عبد اللَّه الواسطي، حدثنا أبي عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن الزُّهري، عن سالم عن أبيه، أنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم استشار الناسَ لما يهمُّهُمْ من الصلاة

(3)

، فذكروا البوق فكَرِهَهُ من أجل اليهود، ثم ذكروا الناقوسَ فكرِهَهُ من أجل النَّصارى. فأري النداء تلك الليلة رجلٌ من الأنصار يُقال له عبد اللَّه بن زيد وعمرُ بن الخطاب، فطرَقَ الأنصاريُّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم ليلًا، فأمر رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بلالًا فأذَّن به.

قال الزُّهري: وزادَ بلالٌ في نداءِ صلاةِ الغَداة، الصلاةُ خيرٌ من النَّوْم. مرَّتَيْن

(4)

. فأقرَّها رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال عمر: يا رسول اللَّه، رأيت مثلَ الذي رأى ولكنَّه سبقني.

وسيأتي تحريرُ هذا الفصل في باب الأذان من كتاب الأحكام الكبير إن شاء اللَّهُ تعالى وبه الثقة.

فأما الحديث الذي أورَدَهُ السُّهيلي بسنده

(5)

من طريق البزَّار: حدّثنا محمد بن عثمان بن مخلد، حدثنا أبي، عن زياد بن المنذر، عن محمد بن عليّ بن الحسين، عن أبيه، عن جدّه، عن عليِّ بن أبي طالب، فذكر حديث الإسراء وفيه: فخرج ملكٌ من وراء الحِجاب، فأذَّن بهذا الأذان، وكلما قال كلمةً صدَّقَهُ اللَّه تعالى، ثم أخذ الملَكُ بيد محمد صلى الله عليه وسلم فقدَّمه فأمَّ أهلَ

(6)

السماء وفيهم آدَمُ ونوح.

ثم قال السُّهيلي: وأخلِقْ بهذا الحديثِ أنْ يكون صحيحًا لما يعضُدُه ويُشَاكِلُه من حديث الإسراء.

فهذا الحديث ليس كما زعم السُّهيلي أنه صحيح بل هو مُنْكر، تفرَّد به زياد بن المنذر أبو الجارود الذي تُنسب إليه الفِرْقَةُ الجاروديَّة وهو من المُتَّهمين

(7)

. ثم لو كان هذا قد سمعه رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء لأوشك أن يأمر به بعد الهِجْرَة في الدعوةِ إلى الصلاة. واللَّه أعلم.

(1)

مسند أحمد (4/ 42، 43) رقم (16429).

(2)

في سننه (707) الأذان باب بدء الأذان، وإسناده ضعيف بسبب شيخ ابن ماجه فإنه مجمع على تضعيفه. على أن متن الحديث صحيح من حديث ابن عمر فهو في الصحيحين البخاري (604)، ومسلم (377).

(3)

في سنن ابن ماجه: يُهمُّهُمْ إلى الصلاة.

(4)

ليس لفظ: مرتين في سنن ابن ماجه.

(5)

في الروض (2/ 285) وكشف الأستار (352) الصلاة باب بدء الأذان.

(6)

في ح، ط: فأمَّ بأهل، والمثبت من الروض وكشف الأستار.

(7)

ميزان الاعتدال (2/ 93).

ص: 516

قال ابن هشام

(1)

: وذكر ابنُ جريج قال: قال لي عطاء: سمعتُ عُبيد بن عُمير يقول: ائتمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأصحابُه بالناقوس للاجتماع للصلاة، فبينا عمر بن الخطاب يُريد أن يشتريَ خشبَتَيْن للناقوس إذْ رأى عمرُ في المنام: لا تجعلوا الناقوسَ، بل أذِّنوا للصلاة. فذهب عمرُ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم ليُخبره بما رأى وقد جاء النبيَّ صلى الله عليه وسلم الوحيُ بذلك، فما راعَ عمرَ إلا بلالٌ يؤذِّن؟ فقال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم حين أخبره بذلك "قد سبقك بذلك الوَحْي".

وهذا يدلُّ على أنه قد جاء الوحيُ بتقريرِ ما رآه عبدُ اللَّه بن زَيْد بن عبد ربه، كما صرَّح به بعضُهم. واللَّه تعالى أعلم.

قال ابن إسحاق (1): وحدَّثني محمد بن جعفر بن الزُّبير، عن عروة بن الزبير، عن امرأةٍ من بني النجَّار قالت: كان بيتي من أطول بيتٍ حول المسجد، فكان بلال يؤذِّنُ عليه للفجر كلَّ غَدَاة فيأتي بسَحَر، فيجلس على البيت ينتظر الفجر، فإذا رآه تمطَّى ثم قال: اللهمَّ [إنِّي] أحمدك وأستعينك على قريش أن يُقيموا دينك. قالت: ثم يؤذِّن؛ قالت: واللَّه ما علمتُه كان تركها ليلةً واحدة - يعني هذه الكلمات. ورواه أبو داود من حديثه منفردًا به

(2)

.

‌فصل في سرية حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه

قال ابنُ جرير

(3)

: وزعم الواقديّ أنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم عقَدَ في هذه السنة في شهر رمضان على رأس سبعة أشهر من مهاجَرِه لحمزة بن عبد المطَّلب لواءً أبيض في ثلاثينَ رجلًا من المهاجرين ليعترض لِعَيراتِ قُريش

(4)

، وأنَّ حمزة لقي أبا جهل في ثلاثمئة رجلٍ من قريش، فحجز بينهم مَجْديُّ بن عمرو، ولم يكن بينهم قتال. قال: وكان الذي يحمل لواءَ حمزةَ أبو مرثد الغَنَويّ.

‌فصل في سرية عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب

قال ابنُ جرير (3): وزعم الواقديُّ أيضًا أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم عقَدَ في هذه السنة على رأسِ ثمانيةِ أشهر في

(1)

في السيرة (1/ 509) والروض (2/ 253) وما يأتي بين معقوفين منهما.

(2)

سنن أبي داود (519) الصلاة باب الأذان فوق المنارة، وهو حديث حسن.

(3)

في تاريخه تاريخ الطبري (2/ 402).

(4)

"عِيَرَات": جمع عِير، قال سيبويه: جمعوه بالألف والتاء لمكان التأنيث وحرَّكوا الياء لمكان الجمع بالتاء. وقد قال بعضهم: عِيْرات. بالإسكان اللسان (عير).

ص: 517

شوال، لعُبيدة بن الحارث لواءً أبيض وأمرَهُ بالمسير

(1)

إلى بطن رابغٍ. وكان لواؤه مع مِسْطَح بن أُثَاثة، فبلغ ثنيَّة المَرَة وهي بناحيةِ الجُحْفَة

(2)

في ستين من المهاجرين ليس فيهم أنصاريّ، وأنهم التقوْا هم والمشركين على ماءٍ يُقالُ له أحياء، وكان بينهم الرَّمي دون المُسَايفة

(3)

. قال الواقدي: وكان المشركون مئتين عليهم أبو سفيان صَخْر بن حَرْب وهو الثابت

(4)

عندنا؛ وقيل: كان عليهم مِكْرَز بن حَفْص.

‌فصل

قال الواقدي

(5)

: وفيها -يعني في السنة الأولى في ذي القَعْدَة- عقد رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم لسعدِ بن أبي وقَّاص إلى الخرَّار لواءً أبيض يحملُه المقدادُ بن الأسود؛ فحدَّثني أبو بكر بن إسماعيل، عن أبيه، عن عامر بن سعد [عن أبيه]. قال: خرجتُ في عشرين رجلًا على أقدامنا -أو قال أحد وعشرين رجلًا- فكنا نكمُنُ النهارَ ونسير الليل حتى صبَّحنا الخرَّار صُبْح خامسة، وكان رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم قد عهد إليَّ أن لا أجاوز الخرَّار، وكانت العير قد سبقتني قبل ذلك بيوم. قال الواقدي: كانت العير ستين، وكان مَنْ مع سعد كلُّهم من المهاجرين.

قال أبو جعفر بن جرير

(6)

رحمه الله وعندَ ابنِ إسحاق رحمه الله أنَّ هذه السرايا الثلاث التي ذكرها الواقدي كلُّها في السنة الثانيةِ من الهِجْرَة من وقت التاريخ.

قلت: كلام ابنِ إسحاق ليس بصريح فيما قاله أبو جعفر رحمه الله لمن تأمَّله كما سنوردُه في أول كتابِ المغازي في أولِ السنةِ الثانيةِ من الهجرة وذلك تِلْو ما نحنُ فيه إنْ شاء اللَّه تعالى، أو يحتمل أن يكون مرادُه أنها وقعت هذه السرايا في السنة الأولى، وسنزيدُها بسطًا وشرحًا إذا انتهينا إليها إن شاء اللَّه تعالى. والواقدي رحمه الله عنده زياداتٌ حسنة، وتاريخٌ محرَّرٌ غالبًا فإنه من أئمةِ هذا الشأن الكبار وهو صدوقٌ في نفسه مِكْثار كما بسطْنَا القولَ في عدالته وجَرْحِه في كتابنا الموسوم "بالتكميل في معرفة الثقات والضعفاء والمجاهيل" وللَّه الحمدُ والمِنَّة.

‌فصل

وممن ولد في هذه السنة المباركة -وهي الأولى من الهجرة- عبدُ اللَّه بن الزُّبير، فكان أولَ مولودٍ ولد

(1)

في ح: بالسير. وكذا في إحدى نسخ الطبري.

(2)

الجُحْفة: على طريق المدينة من مكة على أربع مراحل، وهي ميقات أهل مصر والشام. معجم البلدان (2/ 111).

(3)

في ط: المسابقة. والمثبت من تاريخ الطبري. والمسايفة: التضارب بالسيف.

(4)

في ط: المثبت. والمثبت من ح.

(5)

قول الواقدي في تاريخ الطبري (2/ 403) وما يأتي بين معقوفين منه، الخبر في مغازي الواقدي (1/ 2).

(6)

في تاريخه تاريخ الطبري (2/ 403).

ص: 518

في الإسلام بعد الهجرة كما رواه البخاري عن أمه أسماء وخالته عائشة أمِّ المؤمنين ابنتَي الصدِّيق رضي الله عنهما، ومن الناس من يقول: ولد النعمان بن بشير قبله بستة أشهر، فعلى هذا يكون عبد اللَّه بن الزبير أولَ مولودٍ ولد بعد الهجرة من المهاجرين، ومن الناس من يقول إنهما ولدا في السنة الثانية من الهجرة والظاهر الأول، كما قدَّمنا بيانه وللَّه الحمد والمِنَّة

(1)

، وسنشير في آخر السنة الثانية إلى القول الثاني إن شاء اللَّه تعالى.

قال ابنُ جرير

(2)

: وقد قيل: إنَّ المختارَ بن أبي عُبيد وزياد بن سُمَيَّة وُلدا في هذه السنة

(3)

. فاللَّه أعلم.

وممن توفي في هذه السنة الأولى من الصحابة؛ كلثوم بن الهِدْم الأوسي الذي نزل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في مسكنه بقُباء إلى حين ارتحل منها إلى دارِ بني النجَّار كما تقدَّم، وبعده -فيها- أبو أمامة أسعد بن زرارة نقيبُ بني النجَّار، توفي ورسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم يبني المسجد كما تقدَّم رضي الله عنهما وأرضاهما.

قال ابن جرير

(4)

: وفي هذه السنة -يعني الأولى من الهجرة- مات أبو أُحَيحة بمالِهِ بالطائف، ومات الوليد بن المغيرة والعاصُ بن وائل السَّهْمي فيها بمكة.

قلت: وهؤلاء ماتوا على شِرْكهم لم يُسلموا للَّه عز وجل

(5)

.

(1)

في ص (512).

(2)

في تاريخه (2/ 402).

(3)

أشار ناشر ط في الحاشية إلى أنه في الأصلين: السنة الثانية، غير أنني لم أجد كلمة: الثانية في ح.

(4)

في تاريخه (2/ 398).

(5)

في هامش ح ما نصه: بلغ مقابلة على أصل معتمد وقف. . . حسب الطاقة.

ص: 519