المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

البداية والنهاية «متعلقات السيرة النبوية شمائله صلى الله عليه وسلم دلائل - البداية والنهاية - ط دار ابن كثير - جـ ٦

[ابن كثير]

فهرس الكتاب

البداية والنهاية

«متعلقات السيرة النبوية شمائله صلى الله عليه وسلم دلائل نبوَّته»

تأليف

الإمام الحافظ المؤرخ أبي الفداء إسماعيل بن كثير

[701 هـ - 774 هـ]

حققه وخرج أحاديثه وعلق عليه

د. محيي الدين ديب مستو

راجعه

الشيخ عبد القادر الأرناؤوط - الدكتور بشار عواد معروف

الجزء السادس

ص: 1

بسم الله الرحمن الرحيم

فصل

وهذا أوان إيراد ما بقي علينا من متعلقات السيرة الشريفة، وذلك أربعة كتب:

الأول في الشمائل؟

والثاني في الدلائل.

والثالث في الفضائل.

والرابع في الخصائص.

والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم.

ص: 5

‌كتاب الشمائل شمائل رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيان خَلْقِهِ الظَّاهر وخُلُقِهِ الطَّاهِرِ

قد صنَّفَ الناسُ في هذا -قديمًا وحديثًا- كتبًا كثيرة مفردةً وغيرَ مفردةٍ، ومن أحسنِ مَن جمع في ذلك فأجاد وأفاد الإمامُ أبو عيسى محمد بن عيسى بن سَورةَ الترمذِيّ رحمه الله، أفردَ في هذا المعنى كتابَه المشهور بـ"الشمائل"

(1)

ولنا به سماعٌ متصل إليه، ونحن نورد عيونَ ما أوردَه فيه، ونزيدُ عليه أشياءَ مهمة لا يستغني عنها المحدِّثُ والفقيه.

ولنذكر أولّا بيانَ حُسنِهِ الباهرِ عليه السلام، وجمالِه الجميلِ، ثم نشرعُ بعد ذلك في إيرادِ الجمل والتفاصيل، فنقولُ -والله حسبنا ونعم الوكيل-:

‌باب ما وردَ في حُسنه الباهر

قال البخاري

(2)

: حدَّثنا أحمد بن سعيد أبو عبد الله، حدَّثنا إسحاقُ بن منصور، حدَّثنا إبراهيمُ بن يوسف، عن أبيه، عن أبي إسحاق، قال: سمعتُ البراءَ بن عازب يقول: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم أحسنَ الناس وجهًا، وأحسنَهم

(3)

خَلْقًا، ليس بالطويل البائن

(4)

، ولا بالقصير.

وهكذا رواه مسلم

(5)

عن أبي كُرَيبٍ، عن إسحاقَ بن منصور به.

(1)

كتاب الشمائل للترمذي، طبع مرارًا، منها طبعة حمص 1388 هـ، بتعليق وإشراف الأستاذ عزت عبيد الدعاس، ومنها طبعة دار الغرب الإسلامي (بيروت 2000) بإشراف الأستاذ الدكتور بشار عواد معروف.

(2)

رواه البخاري في صحيحه رقم (3549) في المناقب، باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم.

(3)

في البخاري: "وأحسنَه خلقًا". قال أبو حاتم وغيره: هكذا تقوله العرب: وأحسنَه. يريدون: وأحسنَهم.

ولكن لا يتكلمون به، وإنما يقولون: أجمل الناس وأحسنَه. ومنه الحديث: "خير نساء ركبن الإبل نساء قريش أشفقه على ولد وأعطفه على زوج" هامش صحيح مسلم (4/ 1819).

(4)

"البائن": من بان؛ أي: ظهر على غيره أو فارق سواه، والمراد بالطويل البائن: المفرط في الطول مع اضطراب القامة.

(5)

في صحيحه رقم (2337)(93) في الفضائل باب في صفة النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 6

وقال البخاري

(1)

: حدَّثنا حفص بن عمر، حدَّثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب، قال: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم مربوعًا، بعيدَ ما بينَ المَنكِبين، له شعرٌ يبلغُ شحمةَ أُذنيه، رأيتُه في حُلّة حمراءَ لم أرَ شيئًا قطّ أحسنَ منه.

قال يوسف بن أبي إسحاق، عن أبيه:"إلى منكبيه".

وقال الإمام أحمد

(2)

: حدَّثنا وكيع، حدَّثنا سفيان

(3)

، عن أبي إسحاق، عن البراء قال: ما رأيتُ من ذي لِمّةٍ

(4)

أحسنَ في حُلّةٍ حمراءَ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، له شعرٌ يضربُ منكبيه، بعيدَ ما بين المنكبين، ليس بالطويل ولا بالقصير.

وقد رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي من حديث وكيع به

(5)

.

وقال الإمام أحمد

(6)

: حدَّثنا أسودُ بن عامر، أخبرنا إسرائيلُ، حدَّثنا أبو إسحاق "ح" وحدّثنا يحيى بنُ أبي بُكير: حدَّثنا إسرائيلُ، عن أبي إسحاق قال: سمعتُ البراء يقول: ما رأيتُ أحدًا من خلقِ الله أحسنَ في حُلَةٍ حمراءَ من رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وإن جُمَّتَه لتضربُ إلى منكبيه.

قال ابنُ أبي بُكير: لتضرب قريبًا من منكبيه.

قال -يعني أبا إسحاق-: وقد سمعتُه يُحدِّثُ به مرارًا، ما حدَّثَ به قطّ إلا ضحكَ.

وقد رواه البخاري في اللباس، والترمذي في الشمائل، والنسائي في الزينة، من حديث إسرائيل، به

(7)

.

(1)

في صحيحه (3551) في المناقب.

(2)

في مسنده (4/ 290).

(3)

في ط: "إسرائيل"، ولا يصح البتة، والصواب ما أثبتناه، فإن هذا الحديث لا يرويه وكيع عن إسرائيل عند أحمد ولا عند مسلم وأبي داود والترمذي كما أشار إليه المصنف. أما الذين رووه عن إسرائيل فهم: أسود بن عامر ويحيى ابن أبي بكير (عند أحمد 4/ 295) كما سيأتي)، ومالك بن إسماعيل (عند البخاري 5901)، وعيسى بن يونس (عند الترمذي في الشمائل 64)، والمعافى بن عمران (عند النسائي 8/ 133)، وتنظر بلابد تفاصيل طرق الحديث في كتابنا: المسند الجامع (3/ 173 - 175) حديث (1805)(بشار).

(4)

اللمة: هي الشعر الذي يلم بالمنكبين، أي: يقاربهما، وقيل: ما نزل عن شحمة الأذن.

(5)

رواه مسلم في صحيحه رقم (2337)(92)، وأبو داود (4183) في الترجل، والترمذي (1724) في اللباس، و (3635) في المناقب، والنسائي (8/ 183) في الزينة، كلهم من حديث وكيع، به.

(6)

في مسنده 4/ 295.

(7)

البخاري (5901)، والترمذي في الشمائل (64)(طبعة دار الغرب)، والنسائي (8/ 133)(وهو في الكبرى 9326).

ص: 7

وقال البخاري

(1)

: حدَّثنا أبو نُعيم، حدَّثنا زهيرٌ، عن أبي إسحاق قال: سُئل البراءُ بنُ عازبٍ أكانَ وجهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلَ السيف؟ قال: لا، بل مثلَ القمر.

ورواه الترمذي

(2)

، من حديث زُهير بن مُعاويةَ الجُعفي الكوفي، عن أبي إسحاق السَّبيعي؛ واسمُه عمرو بن عبد الله الكوفي، عن البراءِ بن عَازب، به وقال: حسن صحيح.

وقال الحافظُ أبو بكر البيهقي في "الدلائل"

(3)

: أخبرنا أبو الحسين بن الفَضل القَطَّان ببغداد، أخبرنا عبدُ الله بن جعفر بن دَرَستَويه، حدَّثنا أبو يُوسف يعقوبُ بن سفيان، حدَّثنا أبو نُعَيم وعبيدُ الله، عن إسرائيلَ، عن سماك؛ أنه سمع جابرَ بن سَمُرة، قال له رجل: أكانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وجهُه مثلُ السَّيف؟ قال: لا، بل مثلُ الشمس والقمر مُستديرًا.

وهكذا رواه مسلم

(4)

، عن أبي بكر بن أبي شَيبةَ، عن عُبيد الله بن موسى، به.

وقد رواه الإمام أحمد مطولًا فقال

(5)

: حدَّثنا عبدُ الرزاق، أخبرنا إسرائيلُ، عن سِماك؛ أنه سمعَ جابرَ بن سَمُرة يقول: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قد شَمِطَ مُقَدَّمُ رأسِه ولحيتِه، فإذا ادَّهَن، ومشَّطَهنَّ لم يتبيّن، وإذا شَعِثَ رأسُه تبيّنَ، وكان كثيرَ الشعر واللحية. فقال رجلٌ: وجهُه مثلُ السيف؟ قال: لا، بل مثلُ الشمس والقمر مستديرًا. قال: ورأيتُ خاتمَه عند كتفِه مثلَ بيضةِ الحمَامة يُشبه جسده.

وقال الحافظ البيهقي

(6)

: أخبرنا أبو طاهر الفقيه، أخبرنا أبو حامد بن بلال، حدَّثنا محمدُ بن إسماعيل الأَحْمَسي، حدَّثنا المُحَاربي، عن أشعثَ، عن أبي إسحاق، عن جابر بن سَمُرة، قال: رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في ليلة إضْحِيَانَ وعليه حُلّةٌ حمراء، فجعلتُ أنظرُ إليه وإلى القمر، فلهو عندي أحسنُ من القمر.

هكذا رواه الترمذي

(7)

والنسائي

(8)

جميعًا، عن هنَّاد بن السَّري، عن عَبْثَرَ بن القاسم، عن أشعثَ بن سَوَّار، قال النسائيُّ: وهو ضعيف، وقد أخطأ، والصوابُ أبو إسحاق عن البراء.

(1)

في صحيحه (3552) في المناقب.

(2)

في الجامع (3636) في المناقب، وفي الشمائل (11).

(3)

دلائل النبوة (1/ 195 - 196).

(4)

في صحيحه (2344).

(5)

مسند أحمد (5/ 104).

(6)

في الدلائل (1/ 196).

(7)

الترمذي (2811) في الاستئذان.

(8)

في الزينة من سننه الكبرى (9640).

ص: 8

وقال الترمذي

(1)

: هذا حديثٌ حسنٌ لا نعرفُه إلا من حديث أشعثَ بن سوَّار، وسألتُ محمد بن إسماعيل -يعني البخاري- قلت: حديثُ أبي إسحاق عن البراء أصحُّ أم حديثُه عن جابر؟ فرأى كلا الحديثين صحيحًا.

وثبتَ في صحيح البخاري

(2)

، عن كعب بن مالك، في حديث التوبة، قال: وكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا سُرَّ استنارَ وجهُه كأنَّه قطعةُ قمر. وقد تقدَّمَ الحديثُ بتمامه.

وقال يعقوبُ بن سفيان

(3)

: حدَّثنا سعيد، حدَّثنا يُونس بن أبي يَعفُور العَبدي، عن أبي إسحاق الهَمْداني، عن امرأة من هَمْدان سمَّاها، قالت: حججتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيتُه على بعيرٍ له يطوفُ بالكعبة بيده مِحْجنٌ، عليه بُردان أحمرانِ، يكادُ يمسُّ شعرُه منكبيْه، إذا مرَّ بالحجر استلمَه بالمِحجن ثم يرفعُه إليه فيقبله. قال أبو إسحاق: فقلت لها: شَبّهيه؟ قالت: كالقمر ليلةَ البدر، لم أرَ قبلَه ولا بعدَه مثله

(4)

.

وقال يعقوبُ بن سفيان

(5)

: حدَّثنا إبراهيمُ بن المنذر، حدَّثنا عبدُ الله بن موسى التَّيمي، حدَّثنا أسامةُ بن زيد، عن أبي عُبيدة بن محمد بن عمّار بن ياسر، قال: قلتُ للرُّبَيِّع بنت مُعَوِّذٍ: صفي لي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، قالت: يا بني لو رأيتَه رأيتَ الشمسَ طالعةً.

ورواه البيهقي

(6)

من حديث يعقوب بن محمد الزهري، عن عبد الله بن موسى التيمي، بسنده، فقالت: لو رأيتَه لقلتَ الشمسَ طالعة

(7)

.

وثبت في الصحيحين

(8)

من حديث الزهري، عن عروةَ، عن عائشةَ، قالت: دخلَ عليَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مسرورًا، تَبْرُقُ أساريرُ وجههِ

الحديثَ.

(1)

عقيب الحديث (2811) من جامعه.

(2)

في المغازي من صحيحه (4418).

(3)

أخرجه البيهقي في الدلائل من طريقه (1/ 199) وهو في القسم المفقود من "المعرفة والتاريخ" ليعقوب.

(4)

إسناده ضعيف، لضعف يونس بن أبي يعفور العبدي عند التفرد، كما هو مبين في تحرير التقريب (4/ 142)، ولجهالة المرأة الهَمْدانية التي روى عنها أبو إسحاق.

(5)

أخرجه البيهقي في الدلائل من طريقه (1/ 200).

(6)

دلائل النبوة (1/ 200).

(7)

يعقوب بن محمد الزهري من الضعفاء الذين يعتبر بحديثهم في الشواهد والمتابعات، كما في تحرير التقريب (4/ 128).

(8)

البخاري (3555)، ومسلم (1459).

ص: 9

‌صفةُ لَوْنِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم

-

قال البخاري

(1)

: حدَّثنا يحيى بن بُكير، حدِّثنا الليثُ، عن خالد -هو ابن يزيد- عن سعيد -يعني ابن أبي هلالٍ- عن ربيعةَ بن أبي عبد الرحمن، قال: سمعتُ أنسَ بن مالك يصفُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: كان رَبعةً من القوم ليس بالطويل ولا بالقصير، أزهرَ اللون

(2)

، ليس بأبيضَ أمْهقَ ولا بآدمَ، ليس بجَعْد قَطِطٍ ولا سَبْطٍ رَجِلٍ، أُنزلَ عليه وهو ابنُ أربعين، فلبثَ بمكةَ عشرَ سنين يُنزَلُ عليه وبالمدينة عشرًا

(3)

، وقُبِضَ وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرةً بيضاء. قال ربيعةُ: فرأيتُ شعرًا من شعره فإذا هو أحمرُ، فسألتُ فقيل: احْمرَّ من الطيب.

ثم قال البخاري

(4)

: حدَّثنا عبدُ الله بن يوسف، أخبرنا مالكُ بن أنس، عن ربيعةَ بن أبي عبد الرحمن، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أنه سمعه يقول: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ليس بالطويل البائنِ ولا بالقصير، وليس بالأبيضِ الأمْهَقِ

(5)

ولا بالآدم، وليس بالجَعْد القَطِط، ولا بالسَّبط، بعثَه الله على رأس أربعينَ سنة، فأقام بمكةَ عشرَ سنين، وبالمدينة عشرَ سنين، فتوفَّاهُ الله على رأسِ ستينَ سنة

(6)

وليس في رأسه ولحيته عشرونَ شعرةً بيضاء.

وكذا رواه مسلم

(7)

عن يحيى بن يحيى، عن مالك، ورواه أيضًا عن قتيبة ويحيى بن أيوب وعليِّ بن حُجرٍ، ثلاثتهم عن إسماعيل بن جعفر، وعن القاسم بن زكريا، عن خالد بن مَخلَد، عن سليمانَ بن بلال، ثلاثتهم عن ربيعة به.

ورواه الترمذي والنسائي

(8)

جميعًا، عن قتيبة، عن مالك به، وقال الترمذي: حسن صحيح.

قال الحافظ البيهقي

(9)

: ورواه ثابت، عن أنس فقال: كان أزهرَ اللون. قال: ورواه حُميد كما

(1)

في المناقب من صحيحه (3547).

(2)

أي: مستنير اللون، وهو أحسن الألوان.

(3)

كذا بالأصل، وفي البخاري: عشر سنين.

(4)

في صحيحه (3548).

(5)

"الأمهق": الشديد البياض الذي لا يُخالطُ بياضَه شيءٌ من الحمرة، وليس بنيِّر، وكله كلون الجَصِّ ونحوه. قاله أبو عُبيد. غريب الحديث؛ لابن الجوزي (1/ 378).

(6)

كذا في أ وليست في صحيح البخاري، وهي في دلائل النبوة؛ للبيهقي (1/ 201) بلفظ: ثم توفي وهو ابن ستين سنة.

(7)

في صحيحه رقم (2347) في الفضائل وفيه: وتوفاه الله على رأس ستين سنة وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء.

(8)

في الجامع رقم (3627) في المناقب، والنسائي في السنن الكبرى (9310).

(9)

دلائل النبوة (1/ 203) وذكرَ الحافظُ ابن حجر أن المحبَّ الطبري ردَّ هذه الرواية بقوله: في حديث البخاري ومسلم =

ص: 10

أخبرنا. ثم ساق بإسناده عن يعقوب بن سفيان، حدّثني عمرو بن عون وسعيد بن منصور، قالا: حدّثنا خالد بن عبد الله، عن حُميد الطويل، عن أنس بن مالك قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أسمرَ اللون.

وهكذا روى هذا الحديث الحافظ أبو بكر البزّار عن الحسن بن عليّ

(1)

، عن خالد بن عبد الله، عن حُميد، عن أنس، قال: وحدّثنا محمد بن المُثَنَّى قال: حدَّثنا عبدُ الوهاب، قال: حدَّثنا حُميد، عن أنس، قال: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالطويل ولا بالقصير، وكان إذا مشى تكفَّأ، وكان أسمرَ اللون

(2)

.

ثم قال البزّار: لا نعلم رواه عن حُميد إلا خالد وعبدُ الوهاب.

ثم قال البيهقيّ

(3)

رحمه الله: وأخبرنا أبو الحسين بن بُشران، أخبرنا أبو جعفر الرازي، حدَّثنا يحيى بن جعفر، حدَّثنا عليُّ بن عاصم، حدَّثنا حُميد قال: سمعت أنس بن مالك يقول -فذكرَ الحديثَ في صفة النبي صلى الله عليه وسلم، قال: وكان أبيضَ بياضُه إلى السُّمرة.

قلت: وهذا السياق أصحُّ من الذي قبلَه، وهو يقتضي أن السمرةَ التي كانت تعلو وجهَه عليه الصلاة والسلام من كثرة أسفاره وبروزه للشمس، والله أعلم.

فقد قال يعقوبُ بن سفيانَ الفَسَوي أيضًا

(4)

: حدَّثني عمرو بن عون وسعيدُ بن منصور، قالا: حدَّثنا خالدُ بن عبد الله، عن الجُرَيري، عن أبي الطفيل، قال: رأيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ولم يبقَ أحدٌ رآه غيري، فقلنا له: صف لنا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: كان أبيضَ مليحَ الوجه.

ورواه مسلم

(5)

عن سعيد بن منصور به.

ورواه أيضًا أبو داود

(6)

من حديث سعيد بن إياس الجُرَيري، عن أبي الطُّفَيل عامرِ بن واثلةَ اللَّيثي،

= من طريق مالك عن ربيعة: ولا بالأبيض الأمهق، وليس بالآدم، والجمع بينهما ممكن

ثم قال الحافظ: وتبين من مجموع الروايات أن المراد بالسمرة: الحمرةُ التي تُخالط البياض، وأن المراد بالبياض المثبت ما يخالطه الحمرة، والمنفي ما لا يُخالطه. فتح الباري (6/ 569).

(1)

في الأصل. عن عليّ والتصحيح من كشف الأستار.

(2)

كشف الأستار عن زوائد البزار رقم (2389) باب صفته صلى الله عليه وسلم، واكتفى الهيثمي فيه بإيراد السند وقال: قلت: فذكره في حديث أطول من هذا. أي: مما ورد في الحديث رقم (2388) السابق.

(3)

دلائل النبوة (1/ 204) وذكره الحافظ ابن حجر في الفتح (6/ 569)، وسكت عليه، وإسناده حسن، فيه أبو جعفر الرازي، عيسى بن أبي عيسى، عبد الله بن ماهان، صدوق، سيِّء الحفظ خصوصًا عن مغيرة. روى له البخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن. تقريب التهذيب ترجمة (8019).

(4)

رواه البيهقي في دلائل النبوة (1/ 204 - 205) من طريقه، وهو في القسم الضائع من المعرفة.

(5)

رواه مسلم في صحيحه رقم (2340) في الفضائل، وقال: مات أبو الطفيل سنة مئة، وكان آخر من مات من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(6)

رواه أبو داود في سننه رقم (4864) في الأدب. وفيه: كأنما يهوي في صَبوب. =

ص: 11

قال: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أبيضَ مليحًا، إذا مشى كأنما ينحَطُّ في صَبُوب. لفظ أبي داود.

وقال الإمام أحمد

(1)

: حدَّثنا يزيد بن هارون، أخبرنا الجُرَيْرِي: قال: كنتُ أطوفُ مع أبي الطُّفَيل فقال: ما بقي أحدٌ رأى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم غيري، قلت: ورأيتَه؟ قال: نعم، قال: قلتُ: كيف كانت صفتُه؟ قال: كان أبيضَ مليحًا مُقَصَّدًا

(2)

.

وقد رواه الترمذي

(3)

، عن سفيانَ بن وَكيع ومحمد بن بَشَّار، كلاهما عن يزيد بن هارون، به.

وقال البيهقي

(4)

: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا عبد الله بن جعفر أو أبو الفضل محمد بن إبراهيم، حدّثنا أحمدُ بن سَلمة، حدَّثنا واصلُ بن عبد الأعلى الأسَدِي، حدَّثنا محمدُ بن فُضَيل، عن إسماعيلَ بن أبي خالد، عن أبي جُحَيْفة قال: رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أبيضَ قد شابَ، وكان الحسنُ بن عليّ يُشبهُه.

ثم قال: رواه مسلم

(5)

، عن واصل بن عبد الأعلى، ورواه البخاري

(6)

، عن عمرو بن عليّ، عن محمد بن فُضَيل.

وأصلُ الحديث كما ذكرَ في الصحيحين، ولكن بلفظ آخر كما سيأتي.

وقال محمّد بن إسحاق، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن مالك بن جُعشم، عن أبيه؛ أن سُراقةَ بنَ مالك قال: أتيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فلما دنوتُ منه وهو على ناقته، جعلتُ أنظرُ إلى ساقه كأنَّها جُمَّارة.

= قال الخطابي: "الصَّبوب": إذا فتحت الصاد كان اسمًا لما يُصبُّ على الإنسان من ماء ونحوه، ومما جاء على وزنه الطَّهور، والغَسُول، والفَطور لما يُفطر به. ومن رواه الصُّبوب بضم الصاد، على أنه جمع الصبب، وهو ما انحدر من الأرض، فقد خالف القياس؛ لأن باب فَعَل لا يُجمع على فُعول؛ وإنما يُجمع على أفعال، كسب وأسباب، وقتب وأقتاب.

وقد جاء في أكثر الروايات: كأنه يمشي في صَبب. وهو المحفوظ.

(1)

في مسنده (5/ 454).

(2)

ورواه البخاري في (الأدب المفرد) رقم (790) والترمذي في "الشمائل" وغيرهما، وهو حديث حسن بطرقه وشواهده.

(3)

في الشمائل (14) من طبعة دار الغرب، وإليها الإشارة دائمًا.

(4)

دلائل النبوة (1/ 205).

(5)

في الفضائل من صحيحه (2343).

(6)

في المناقب من صحيحه (3544).

ص: 12

وفي رواية يُونس، عن ابن إسحاق: والله لكأني أنظرُ إلى ساقِه في غَرْزِه كأنَّها جُمّارة

(1)

.

قلت: يعني من شدة بياضها كأنها جُمَّارة طلع النخل.

وقال الإمام أحمد

(2)

: حدَّثنا سفيان بن عُيينة، عن إسماعيل بن أمية، عن مولى لهم -مُزاحم بن أبي مُزاحم- عن عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد، عن رجل من خزاعة يقال له: مُحرّش أو مخرّش -لم يكن سفيان يقفُ على اسمه، وربما قال مُحَرِّش ولم أسمعه أنا-: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم خرجَ من الجِغرانة ليلًا فاعتمرَ ثم رجعَ فأصبحَ بها كبائت، فنظرتُ إلى ظهره كأنها سبيكةُ فضّة. تفرد به أحمد.

وهكذا رواه يعقوبُ بن سفيان

(3)

، عن الحُمَيدي، عن سفيان بن عُيينة.

وقال يعقوبُ بن سفيان

(4)

: حدَّثنا إسحاقُ بن إبراهيم بن العلاء، حدثني عمرو بنُ الحارث، حدَّثني عبدُ الله بن سالم، عن الزُّبَيْدِي، أخبرني محمد بن مسلم، عن سعيد بن المسيب؛ أنه سمعَ أبا هريرة يصفُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: كان شديدَ البياض.

وهذا إسنادٌ حسن، ولم يخرِّجوه

(5)

.

وقال الإمام أحمد

(6)

: حدَّثنا حسن، حدَّثنا عبد الله بن لَهِيعة، حدَّثنا أبو يونس سَليم بن جُبير مولى أبي هريرة؛ أنه سمع أبا هريرة يقول: ما رأيتُ شيئًا أحسنَ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان كأن الشمسَ تجري في جبهتِه، وما رأيتُ أحدًا أسرعَ في مشيتِه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كأنما الأرضُ تُطوى له، إنا لنُجهِدُ أنفسَنا وإنه لغيرُ مُكترث.

ورواه الترمذي

(7)

عن قتيبة، عن ابن لَهِيعة به، وقال: كأنَّ الشمسَ تجري في وجههِ، وقال: غريب

(8)

.

ورواه البيهقيُّ

(9)

، من حديث عبدِ الله بن المبارك، عن رِشدِين بن سَعد المَهري، عن عمرو بن الحارث، عن أبي يُونسَ، عن أبي هريرة، وقال: كأنما الشمس تجري في وجهه.

(1)

هذا كله من دلائل البيهقي (1/ 207).

(2)

في مسنده (3/ 426) و (4/ 69) و (5/ 380)، وإسناده حسن.

(3)

رواية يعقوب بن سفيان أخرجها البيهقي في الدلائل (1/ 207).

(4)

دلائل النبوة للبيهقي (1/ 208).

(5)

وذكره الحافظ ابن حجر في الفتح (6/ 570) وقال: أخرجه يعقوب بن سفيان والبزار بإسناد قوي.

(6)

في المسند (2/ 350، 380).

(7)

في المناقب من جامعه (3648).

(8)

يعني: ضعيف، وهو حديث حسن لغيره.

(9)

في الدلائل (1/ 209)، وإسناده ضعيف لضعف رشدين بن سعد، وهو حديث حسن لغيره.

ص: 13

وكذلك رواه ابن عساكر من حديث حَرْملةَ

(1)

، عن ابن وَهْب، عن عمران، عن عمرو بن الحارث، عن أبي يُونس، عن أبي هريرة، فذكره وقال: كأنما الشمس تجري في وجهه.

وقال البيهقي

(2)

: أخبرنا علي بن أحمد بن عَبدان، أخبرنا أحمدُ بن عُبيد الصفَّار، حدَّثنا إبراهيم بن عبد الله، حدَّثنا حجَّاج، حدَّثنا حمّاد، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن محمد بن علي -يعني ابن الحنفية- عن أبيه قال: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أزهرَ اللون.

وقال أبو داود الطيالسي: حدَّثنا المسعودي، عن عثمان بن عبد الله بن هُرمُز، عن نافع بن جُبير، عن علي بن أبي طالب قال: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مُشرَبًا وجهُه حُمرةً

(3)

.

وقال يعقوبُ بن سُفيان: حدَّثنا ابن الأصبهاني، حدثنا شريك، عن عبد الملك بن عُمير، عن نافع بن جُبير، قال: وصف لنا عليّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: كان أبيضَ مُشرَب الحُمرة

(4)

. وقد رواه الترمذي

(5)

بنحوه من حديث المسعودي، عن عثمان بن مسلم بن

(6)

هرمز، وقال: هذا حديث صحيح

(7)

.

قال البيهقي

(8)

: وقد روي هكذا عن علي من وجه آخر. قلت: رواه ابن جريج، عن صالح بن سعيد، عن نافع بن جبير، عن علي.

قال البيهقي

(9)

ويقال: إنَّ المُشربَ فيه حمرةٌ ماضحا للشمس والرياح، وما تحت الثياب فهو الأبيضُ الأزهر.

‌صفةُ وجهِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكرُ محاسنه فَرقه وجبينه وحاجبيْه وعينيْه وأنفه وفمه وثناياه وما جرى مجرى ذلك من محاسن طلعته ومُحيَّاه

قد تقدم قول أبي الطفيل: كان أبيضَ مليحَ الوجه. وقول أنس: كان أزهرَ اللون، وقول البراء،

(1)

تاريخ دمشق (ص 230) القسم الأول من السيرة، تحقيق نشاط غزاوي.

(2)

دلائل النبوة (1/ 206).

(3)

دلائل النبوة للبيهقي (1/ 206).

(4)

دلائل النبوة للبيهقي (1/ 206).

(5)

رواه الترمذي في الجامع رقم (3637) في المناقب.

(6)

في الأصل عن هرمز. والتصحيح من جامع الترمذي.

(7)

ولكن ليس في رواية الترمذي لحديث المسعودي صفة اللون، ورواية الترمذي صحيحة كما قال، وقد صوبها الإمام الدارقطني في العلل (3/ 120) سؤال رقم 314.

(8)

دلائل النبوة (1/ 206) ولفظه: وروي ذلك هكذا من أوجه أخرى عن عليّ.

(9)

دلائل النبوة (1/ 206) وفيه: إن المشرب منه حمرة، وما تحت الثياب فهو الأبيض الأزهر: ونقصها ظاهر.

ص: 14

وقد قيل له: أكان وجهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل السيف؟ -يعني في صقاله- فقال: لا، بل مثل القمر. وقول جابر بن سمرةَ، وقد قيل له مثل ذلك، فقال: لا، بل مثلُ الشمس والقمر مُستديرًا. وقول الرُّبيّع بنت مُعوِّذ: لو رأيتَه لقلتَ الشمسَ طالعةً، وفي رواية: لرأيتَ الشمسَ طالعةً. وقال أبو إسحاق السَّبيعي عن امرأة من هَمْدانَ حجَّت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألها عنه، فقالت: كان كالقمر ليلةَ البدر، لم أرَ قبلَه ولا بعدَه مثله، وقال أبو هريرة: كأنَّ الشمسَ تجري في وجهه، وفي رواية: في جبهتِه.

وقال الإمام أحمد: حدَّثنا عفّان وحسن بن موسى، قالا: حدَّثنا حمّاد -وهو ابن سلمة- عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن محمد بن علي، عن أبيه، قال: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ضَخمَ الرأسِ، عظيمَ العَينين، أهْدَبَ الأشفار

(1)

، مُشربَ العينين بحمرةٍ، كثَّ اللِّحية، أزهرَ اللون، شَثْن

(2)

الكفين والقدَمين، إذا مشى كأنما يَمشي في صَعَدٍ، وإذا التفتَ التفت جميعًا. تفرّد به أحمد

(3)

.

وقال أبو يعلى

(4)

: حدَّثنا زكريا بن يحيى الواسطي، حدَّثنا عباد بن العوام، حدَّثنا الحجَّاج، عن سالم المكي، عن ابن الحنفية، عن عليّ؛ أنه سُئل عن صفة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كان لا قصيرًا ولا طويلًا، حسنَ الشعر رَجِلَهُ، مُشربًا وجهُه حُمرةً، ضخمَ الكراديس

(5)

، شثْن الكفين والقدمين، عظيمَ الرأس، طويلَ المَسْرُبَة

(6)

، لم أرَ قبلَه ولا بعدَه مثلَه، إذا مشى تكفَّأَ كأنما ينزلُ من صَبب.

وقال محمد بن سعد

(7)

، عن الواقدي: حدَّثني عبدُ الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب، عن أبيه، عن جده، عن عليّ قال: بعثني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، فإني لأخطبُ يومًا على الناس وحَبرٌ من أحبار يَهود واقفٌ في يده سِفرٌ ينظرُ فيه، فلما رآني قال: صف لنا أبا القاسم. فقال عليٌّ: رسولُ الله ليس بالقصير ولا بالطويل البائن، وليس بالجَعد القَطَط ولا بالسَّبِط، هو رَجلُ الشعر أسودُه، ضخمُ الرأس، مُشربًا لونُه حمرةً، عظيمُ الكَراديس، شَثْن الكفين والقدمين، طويلُ المسرُبة -وهو الشعر الذي يكون من النحر إلى السرة- أهدَبُ الأشفار، مَقرونُ الحاجبين، صَلْتُ الجبين، بعيدُ ما بين المَنكبين، إذا مشى تكفَّأ كأنما ينزلُ من صَبَب، لم أر قبلَه مثله، ولا بعده مثله.

(1)

"أهدب الأشفار": الأهدب: الكثير الهدب، وهو شعر أشفار العين الذي ينبت في طرف الجفن. وفي المسند: هَدِب الأشفار.

(2)

"شثن": غليظ الكفين والقدمين.

(3)

في المسند (1/ 89)، وهو حديث حسن.

(4)

مسند أبي يعلى (1/ 304) رقم (370) وإسناده حسن، وفيه: مشربًا في وجهه حمرة، وكأنما ينحطُّ من صَبَب.

(5)

"ضخم الكراديس": جمع كردوسة، وهي كل عظمين التقيا في مفصل، أو هي رؤوس العظام.

(6)

"طويل المسربة": المَسرُبة: هو الشعر الدقيق الذي كأنه قضيب من الصدر إلى السرة.

(7)

الطبقات (1/ 412 - 413).

ص: 15

قال عليٌّ: ثم سكتُّ. فقال لي الحبر: وماذا؟ قال عليٌّ: هذا ما يَحضرني. قال الحَبرُ: في عينيه حُمرة، حَسنُ اللحية، حَسنُ الفم، تامُّ الأذنين، يُقبل جميعًا ويُدبر جميعًا. فقال عليّ: والله هذه صفتُه، قال الحبر: وشيء آخر؟

(1)

قال عليٌّ: وما هو؟ قال الحبر: وفيه جَنَا

(2)

، قال علي: هو الذي قلت لك كأنما ينزل من صَبَب.

قال الحبرُ: فإني أجد هذه الصفة في سِفرِ آبائي، ونجده يُبعث في حرم الله وأمنِه وموضع بيته، ثم يُهاجر إلى حَرمٍ يحرِّمه هو، ويكون له حُرمةٌ كحرمةِ الحرمِ الذي حرَّمَ الله، ونجدُ أنصارَه الذين هاجرَ إليهم قومًا من ولد عمرو بن عامر أهل نَخل، وأهلُ الأرض قبلَهم يهود.

قال علي: هو هو، وهو رسول الله. قال الحبر: فإني أشهدُ أنه نبيٌّ وأنه رسولُ الله إلى الناس كافةً، فعلى ذلك أحيا وعليه أموتُ، وعليه أُبعث إن شاء الله.

قال: فكان يأتي عليًا فيعلّمه القرآن ويخبره بشرائع الإسلام، ثم خرج عليٌّ والحبرُ من هنالك حتى ماتَ في خلافة أبي بكر وهو مؤمنٌ برسول الله صلى الله عليه وسلم مُصدق به

(3)

.

وهذه الصِّفة قد وردت عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب من طرق متعددة سيأتي ذكرها.

وقال يعقوبُ بن سفيان: حدَّثنا سعيدُ بن منصور، حدَّثنا خالد بن عبد الله، عن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب، عن أبيه، عن جده، قال: سُئل، أو قيل لعليّ: انعتْ لنا رسولَ الله، فقال: كان أبيضَ مُشربًا بياضُه حمرةً، وكان أسودَ الحدقة، أهدبَ الأشفار

(4)

.

قال يعقوب: وحدَّثنا عبدُ الله بن سلمة وسعيدُ بن منصور، قالا: حدَّثنا عيسى بن يُونس، حدَّثنا عمر بن عبد الله مولى غُفرة، عن إبراهيم بن محمد -من ولد عليّ- قال: كان عليٌّ إذا نعتَ رسولَ الله قال: كان في الوجه تَدوير، أبيض

(5)

، أدعج العينين، أهدَب الأشفار

(6)

.

(1)

كذا بالأصل، والطبقات (2/ 174) وفي المطبوع: وماذا؟.

(2)

"جنأ": هو إشراف الكاهل على الصدر، وفي الأصل حياء، وفي المطبوع جناء، والصحيح ما أثبته.

(3)

إسناده تالف، الواقدي متروك، وعلامات الوضع بادية عليه (بشار).

(4)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (1/ 212) وإسناده حسن، وعبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب، أبو محمد العلوي المدني صدوق حسن الحديث كما هو مبين في تحرير التقريب (2/ 265).

(5)

كذا بالأصل والمطبوع، وفي دلائل النبوة للبيهقي (1/ 213) أبيض مشرب.

(6)

أخرجه البيهقي في الدلائل من طريق يعقوب، ومنه نقل المصنف (1/ 213)، وإسناده ضعيف لضعف عمر بن عبد الله مولى غفرة. أما إبراهيم بن محمد فهو ابن علي بن أبي طالب المعروف أبوه بابن الحنفية، وهو صدوق حسن الحديث.

ص: 16

قال الجوهري: الدَّعَج: شدة سواد العينين مع سعتها

(1)

.

وقال أبو داود الطيالسي

(2)

: حدّثنا شعبة، أخبرني سِمَاك، سمعت جابرَ بن سمُرة يقول: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أشهلَ العينين، مَنهوس العَقِب، ضليعَ الفم.

هكذا وقع في رواية أبي دواد عن شعبة: أشهلَ العينين.

قال أبو عبيد: والشُّهلة: حمرة في سواد العين، والشُّكلة: حمرة في بياض العين.

قلت: وقد روى هذا الحديث مسلم في صحيحه

(3)

عن أبي موسى وبندار، كلاهما (عن غُندر، عن شعبة به. وقال: أشكل العينين وهذا هو الصواب. ورواه الترمذي)

(4)

(5)

عن أحمد بن منيع، عن أبي فَطَن، عن شعبة به، وقال: حسن صحيح.

ووقع في صحيح مسلم تفسير الشكلة بطول أشفار العينين، وهو من بعض الرواة، وقول أبي عبيد: حمرة في بياض العين. أشهرُ وأصح، وذلك يدل على القوة والشجاعة، والله تعالى أعلم.

وقال يعقوب بن سفيان: حدَّثنا إسحاق بن إبراهيم، حدَّثني عمرو بن الحارث، حدَّثني عبد الله بن

(1)

في أ: وجدت هذه الحكاية:

حديث آخر: روى الحافظ أبو بكر أحمد بن موسى بن مردويه في كتابه مسانيد الشعراء، من طريق البخاري في التاريخ أنه قال: حدثنا عمرو بن محمد الربيعي، حدثنا أبو عبيدة معمر بن المثنى، حدثني هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت:

كنتُ قاعدةً أغزلُ، وكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَخْصِفُ نعلَه، قال: فنظرتُ إليه، فجعل جبينُه يَعْرق، وجعل عرقُه يتولَّد نورًا، قالت: فبُهتُّ. قالت: فنظرَ إليَّ فقال: مالكِ يا عائشة؟ قال: قلت: يا رسول الله نظرتُ إليكَ فجعل جبينك يعرقُ، وجعل عرقُك يتولَّد نورًا، ولو رآك أبو كثير الهذلي لعلم أنك أحق بشعره. قال: وما يقول أبو كثير؟ قلت: يقول:

ومبرَّأ من كل غُبَّر حَيضةٍ

وفسادِ مرضعةٍ وداء مَغيل

وإذا نظرتَ إلى أسرة وجهه

برقتْ كَبرق العارِض المتهلل

قالت: فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان في يده وقام إليَّ وقبَّل عينيَّ ثم قال: "يا عائشة: ما سررتِ مني كسروري منكِ". أبو عبيدة معمر بن المثنى التميمي، مولاهم، البصري، أحد أئمة اللغة والأدب وأيام الناس، قال الحافظ: كان عالمًا بجميع العلوم. وقال يعقوب بن شيبة: سمعت عليَّ بن المديني يثني عليه ويصحح روايته. وقال الدارقطني: كان لا بأس به، ولكنه كان يُتهم برأي الخوارج وبالإحداث، وتوفي سنة عشر ومئتين، وقد قارب المئة وأكملها؛ فالله أعلم. وشيخ البخاري لا يعرف، وإسناد الحكاية إليه أولى من إسنادها إلى أبي عبيدة. ولم أثبتها في الأصل لأنها من إضافة الناسخ -غالبًا- وفي الحكم عليها ما يدل على أنها مقحمة على الكتاب.

(2)

في مسنده (765).

(3)

صحيح مسلم (2339).

(4)

في جامعه (3646).

(5)

ما بين القوسين سقط من المطبوع وأثبته من الأصل، وبه صحت العبارة واستقامت.

ص: 17

سالم، عن الزبيدي، حدَّثني الزهري، عن سعيد بن المسيب؛ أنه سمع أبا هريرة يصفُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: كان مُفَاضَ الجبين

(1)

، أهدب الأشفار

(2)

.

وقال يعقوب بن سفيان: حدَّثنا أبو غسّان، حدَّثنا جُميع بن عُمر

(3)

بن عبد الرحمن العِجلي، حدَّثني رجلٌ بمكة، عن ابنٍ لأبي هالة التميمي، عن الحسن بن عليّ، عن خاله، قال: كان رسولُ الله واسعَ الجبين، أزجَّ الحواجب

(4)

، سَوابغ

(5)

في غير قَرَن

(6)

، بينهما عِرقٌ يُدِرُّه

(7)

الغضب، أقنى

(8)

العِرنين، له نورٌ يعلوه، يحسبُه مَن لم يتأمله أشم

(9)

، سهلَ الخدين

(10)

، ضليعَ الفم، أشنَب

(11)

، مُفَلَّج

(12)

الأسنان

(13)

.

وقال يعقوب: حدَّثنا إبراهيم بن المنذر، حدَّثنا عبد العزيز بن أبي ثابت الزهري، حدَّثنا إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة، عن عمه موسى بن عقبة، عن كريب، عن ابن عباس، قال: كان رسولُ الله أفلَجَ الثنيتين، وكان إذا تكلم رُئي كالنور بين ثناياه

(14)

.

ورواه الترمذي

(15)

عن عبد الله بن عبد الرحمن، عن إبراهيم بن المنذر به.

(1)

"مُفاض الجبين": واسع الجبين.

(2)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (1/ 214)، وتهذيب تاريخ ابن عساكر (1/ 336) وهو حديث حسن.

(3)

هكذا في ط، وهو أصوب مما قاله ابن حجر في التقريب:"عُمر"، فقد جاء "عمر" مكبرًا في دلائل البيهقي وتهذيب الكمال للمزي (5/ 122) وغيرهما، وهو الصواب، كما بينته في تعليق لي على "تحرير التقريب"(1/ 222). وهو رافضي ضعيف (بشار).

(4)

"أزج الحواجب": الزَّجَج: تقوس في الحاجب مع طول في طرفه وامتداده.

(5)

"سوابغ": جمع سابغ، وهو التام الطويل.

(6)

"في غير قرن": القَرَن: اتصال شعر الحاجبين.

(7)

"يدرُّه الغضب": يُظهره ويحركه. كان صلى الله عليه وسلم إذا غضب امتلأ ذلك العِرق دمًا كما يمتلئ الضَّرع لبنًا إذا درَّ فيظهرُ ويرتفع.

(8)

"أقنى العِرنين": العِرْنين: الأنف، والقنى فيه: طوله ودقة أرنبته، مع ارتفاعٍ في وسطه.

(9)

"أشمّ": الشَّمم: ارتفاع قصبة الأنف، واستواء أعلاها، وإشراف الأرنبة قليلا.

(10)

"سهل الخدين": أي ليس في خديه نُتوء وارتفاع.

(11)

"أشنب": الشَّنَبُ: البياض والبريق والتحديد في الأسنان.

(12)

"مفلج الأسنان" الفَلَج: تباعد ما بين الثنايا والرباعيات.

(13)

"دلائل النبوة؛ للبيهقي (1/ 214 - 215) وإسناده ضعيف لضعف جميع بن عمر وجهالة شيخه.

(14)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (1/ 215) وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 279) وقال: رواه الطبراني في الأوسط، وعبد العزيز بن أبي ثابت: ضعيف.

(15)

رواه الترمذي في الشمائل رقم (15) باب: ما جاء في خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإسناده ضعيف جدًا؛ عبد العزيز بن أبي ثابت متروك.

ص: 18

وقال يعقوب بن سفيان: حدَّثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدَّثنا عباد، عن حجَّاج، عن سِماك، عن جابر بن سمرة قال: كنتُ إذا نظرتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: أكحل العينين، وليس بأكحل، وكان في ساقي رسول الله حموشة

(1)

، وكان لا يضحك إلا تبسمًا

(2)

.

وقال الإمام أحمد

(3)

: حدَّثنا وكيع، حدَّثني مجمّع بن يحيى، عن عبد الله بن عمران الأنصاري، عن عليّ، والمسعودي، عن عثمان بن عبد الله بن هُرمز، عن نافع بن جبير، عن عليّ قال: كان رسولُ الله ليس بالقصير ولا بالطويل، ضخمَ الرأس واللّحية، شَثْنَ الكفين والقدمين، ضخمَ الكراديس، مشربًا وجهُه حمرةً، طويلَ المسرُبة، إذا مشى تكفَّأ تكفُّؤًا كأنما يتقلَّعُ من صخر، لم أرَ قبلَه ولا بعدَه مثله

(4)

.

قال ابن عساكر

(5)

: وقد رواه عبد الله بن داود الخُرَيبي، عن مجمّع، فأدخل بين ابن عمران وبين عليّ رجلًا غير مُسمّى.

ثم أسند من طريق عمرو بن عليّ الفلَّاس، عن عبد الله بن داود، حدَّثنا مجمّع بن يحيى الأنصاري، عن عبد الله بن عمران، عن رجل من الأنصار قال: سألتُ عليَّ بن أبي طالب، وهو مُحتَبٍ

(6)

بحِمالةِ سيفه في مسجد الكوفة عن نعتِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: كان أبيضَ اللون، مُشربًا حمرةً، أدعجَ العينين، سَبطَ الشعر، دقيقَ المَسرُبة، سهلَ الخدِّ، كثَّ اللّحية، ذا وَفرَة، كأن عنقَه إبريقُ فضة، له شعرٌ يجري

(7)

من لَبّته إلى سرّتِه كالقضيب، ليس في بطنه ولا صدره شعر غيره، شَثْنَ الكفين والقدم، إذا مشى كأنما ينحدرُ من صَبَب، وإذا مشى كأنما يتقلّع من صخر، وإذا التفتَ التفتَ جميعًا، ليس بالطويل

(1)

"حموشة": دقة في الساقين.

(2)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (1/ 212) ورواه الترمذي في الجامع رقم (3645) عن جابر بن سمرة وقال: هذا حديث حسن غريب، وهو عند الإمام أحمد في المسند (5/ 105) وفي زيادات عبد الله عليه (5/ 97) ورواه الحاكم في المستدرك (2/ 606) وصححه، واعترض عليه الذهبي بأن حجاجًا لين الحديث.

(3)

المسند (1/ 127).

(4)

حديث صحيح كما قال الإمام الترمذي في جامعه (3637)، ورواه في الشمائل (5)، وقد تقدم قبل قليل. وأخرجه الطيالسي (171)، وابن سعد (1/ 411)، وابن أبي شيبة (11/ 514)، وأبو يعلى (369)، وابن حبان (6311)، والحاكم (2/ 605 - 606)، وغيرهم. وعثمان بن عبد الله، ويقال: ابن مسلم بن هرمز يعتبر به في المتابعات والشواهد فكأن هذا من صحيح حديثه.

(5)

تاريخ مدينة دمشق؛ لابن عساكر، القسم الأول من السيرة النبوية (ص 223).

(6)

"محتب": احتبى الرجل: إذا جمع ظهره وساقيه بعمامته، وقد يحتبي بيديه، وهنا احتبى بحمالة سيفه.

(7)

أثبتها من تاريخ مدينة دمشق (ص 224).

ص: 19

ولا بِالقصير، ولا العاجز ولا اللئيم

(1)

، كأن عرقَه في وجهه اللؤلؤ، ولريحُ عرقه أطيبُ من المسك الأذفَر

(2)

، لم أرَ قبلَه ولا بعدَه مثله

(3)

.

وقال يعقوب بن سفيان: حدَّثنا سعيد بن منصور، حدَّثنا نوح بن قيس الحُدَاني، حدَّثنا خالد بن خالد التميمي، عن يوسف بن مازن المازني؛ أن رجلًا قال لعليّ: يا أميرَ المؤمنين انعتْ لنا رسولَ الله، قال: كان أبيضَ، مشربًا حمرة، ضخمَ الهامة، أغرَّ أبلجَ، أهدبَ الأشفار

(4)

.

وقال الإمام: حدَّثنا أسود بن عامر، حدَّثنا شريك، عن ابن عُمير، قال شريك: قلت له: عمن يا أبا عُمير؟ عَمَّن حدَّثه؟ قال: عن نافع بن جُبير، عن أبيه، عن عليّ قال: كان رسولُ الله ضخمَ الهامة، مُشربًا حمرةً، شَثْنَ الكفين والقدمين، ضخمَ اللحية، طويلَ المَسرُبة، ضخمَ الكراديس، يمشي في صَبَب، يَتكفَّأُ في المِشيَة، لا قصيرٌ ولا طويلٌ، لم أر قبلَه مثلَه، ولا بعدَه

(5)

.

(1)

كذا في (أ) وفي المطبوع: ولا اللأم، وفي تاريخ ابن عساكر: ولا اللَّسَم.

(2)

"الأذفَر": الجيد إلى الغاية.

(3)

تاريخ مدينة دمشق (ص 224) القسم الأول من السيرة النبوية.

(4)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (1/ 216)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 272): ويوسف بن مازن أظنه لم يُدرك عليًّا.

(5)

رواه الإمام أحمد في المسند (1/ 134) وقد صححه الشيخ أحمد شاكر برقم (1122) وقال: وقوله: عن نافع بن جُبير بن مُطعم، عن أبيه عن عليّ. فيه نظر، فإن نافع بن جبير يروي عن علي، وأبوه صحابي لم يُذكر أنه روى عن عليّ، وقد روى عبد الملك بن عُمير هذا الحديث عن نافع عن عليّ، لم يذكر: عن أبيه. وكذلك رواه غيره عن نافع

فأنا أرجّح أن كلمة: عن أبيه، خطأ، إما من أحد الرواة، وإما من الناسخين. المسند شرح أحمد شاكر (2/ 256). قال أفقر العباد بشار بن عواد: لم يوفق العلامة الشيخ أحمد شاكر رحمه الله تعالى في مقولته هذه، وآية ذلك أن هذا الحديث يروى على الوجهين المذكورين، أعني: عن نافع بن جبير عن علي، وعن نافع بن جبير عن أبيه عن عليّ، فقد رواه ابن أبي شيبة (في مصنفه 11/ 514) وعلي بن حكيم وإسماعيل ابن بنت السدي (في زيادات عبد الله على مسند أبيه 1/ 116) ومحمد بن سعيد الأصبهاني (في دلائل النبوة 1/ 245)، وإسحاق بن محمد العزرمي ومنجاب بن الحارث (كما ذكر الدارقطني في العلل 1/ 120)، ستتهم عن شريك، عن عبد الملك ابن عمير عن نافع بن جبير عن علي. ورواه أسود بن عامر (عند أحمد 1/ 134) ويزيد بن هارون (عند البزار 474) -وهما ثقتان- عن شريك، عن عبد الملك، عن نافع، عن أبيه، عن علي.

ورواية نافع عن أبيه في الكتب الأربعة، كما في تهذيب الكمال (29/ 272) فلا تستنكر روايته عنه، أما القول بأنَّه ليس لجبير رواية عن عليّ فهو مدحوض بهذا، وبقول البزار:"وهذا أحسن إسنادًا يروى عن علي وأشده اتصالًا، ولا نعلم روى جبير بن مطعم عن علي إلا هذا الحديث"(البحر الزخار 2/ 119).

على أنَّ أمير المؤمنين في العلل أبا الحسن الدارقطني قد ذكر هذا الاختلاف على شريك. ثم ذكر الاختلاف فيه على عبد الملك بن عمير وذكر أنه يروى عنه: عن نافع عن علي، وعن نافع عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيه علي، وعن نافع عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا، ورجح رواية نافع بن جبير عن علي (العلل 1/ 120 - 122 للسؤال 314)، كما أشرنا قبل هذا، وهذا من دقائق علم العلل، فالحمد لله على مننه وآلائه (بشار).

ص: 20

وقد روي لهذا شواهد كثيرة عن عليّ، وروي عن عمر نحوه.

وقال الواقدي: حدَّثنا بُكير بن مسمار، عن زياد مولى سعد، قال: سألت سعدَ بن أبي وقاص هل خضبَ رسولُ الله؟ قال: لا، ولا هَمَّ به، كان شيبُه في عنفقته وناصيته لو أشاءُ أن أعدَّها لعددتُها. قلت: فما صفتُه؟ قال: كان رجلًا ليس بالطويل ولا بالقصير، ولا بالأبيضِ الأَمْهق، ولا بالآدم، ولا بالسَّبْط ولا بالقَطط، وكانت لحيتُه حسنةً، وجبينُه صَلْتًا، مُشربًا بحمرة، شَثْنَ الأصابع، شديدَ سواد الرأس واللحية

(1)

.

وقال الحافظ أبو نعيم الأصبهاني: حدَّثنا أبو محمد عبد الله بن جعفر بن أحمد بن فارس، حدَّثنا يحيى بن حاتم العسكري، حدَّثنا بسر بن مهران، حدَّثنا شريك، عن عثمان بن المغيرة، عن زيد بن وهب، عن عبد الله بن مسعود، قال: إن أول شيء علمته من رسول الله [حين] قدمت مكة في عمومة لي، فأرشدونا إلى العباس بن عبد المطلب، فانتهينا إليه، وهو جالس إلى زمزم، فجلسنا إليه، فبينا نحن عنده إذ أقبلَ رجل من باب الصفا أبيض تعلوه حمرة، له وفرة جعدة إلى أنصاف أذنيه، أقنى الأنف، برّاق الثنايا، أدعج العينين، كثُّ اللّحية، دقيق المسرُبة، شثن الكفين والقدمين، عليه ثوبان أبيضان، كأنه القمر ليلة البدر.

وذكر تمام الحديث، وطوافه عليه السلام بالبيت، وصلاته عنده هو وخديجة وعليّ بن أبي طالب، وأنَّهم سألوا العباس عنه فقال: هذا هو ابن أخي محمد بن عبد الله، وهو يزعم أن الله أرسلَه إلى الناس

(2)

.

وقد ثبت في الصحيحين، عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني أراكم من وراء ظهري"

(3)

.

فقال بعض العلماء: يعني بعيني قلبه. حتى فسر بعضهم قوله تعالى: {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء: 219] بذلك، وهذا التفسير ضعيف.

وقال آخرون: بل كان هذا من خصائصه عليه الصلاة والسلام، أنه كان ينظر ببصره من ورائه كما ينظر أمامه، وقد نصَّ على ذلك الحافظ أبو زُرعة الرازي في كتابه "دلائل النبوة" فبوَّب به عليه، وأورد الأحاديث الواردة في ذلك من طرق ثابتة، عن حُميد، وعبد العزيز بن صُهيب، وقتادة، كلّهم عن أنس، فذكره.

(1)

الطبقات الكبرى لابن سعد (1/ 418)، طبعة دار صادر ببيروت.

(2)

لم أجد هذا الخبر في المطبوع من دلائل أبي نعيم، وفي إسناده مجاهيل. قال بشار: المطبوع من دلائل أبي نعيم هو مختصر الكتاب.

(3)

رواه البخاري في صحيحه رقم (718) في صلاة الجماعة، ومسلم في صحيحه رقم (433) و (434) في الصلاة.

ص: 21

قال: وحدّثنا علي بن الجَعْد، حدَّثنا ابن أبي ذئب، عن عجلان، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنَّه قال:"إني لأنظرُ إلى ما ورائي كما أنظر إلى ما بين يدي، فأقيموا صفوفكم، وأحسنوا ركوعكم وسجودكم".

وحدَّثنا سعيد بن سليمان، حدَّثنا أبو أسامة، حدَّثنا الوليد بن كثير، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، فذكر حديثًا، فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إني والله لأبصر من ورائي؛ كما أبصر من بين يدي".

ورواه من طريق محمد بن إسحاق، عن سعيد، عن أبي هريرة، بمثله. وهو في الصحيحين من طريق مالك، عن أبي الزِّناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"هل ترون قبلتي هاهنا، فوالله ما يخفى عليَّ خشوعكم ولا ركوعكم ولا سجودكم، إني أراكم من وراء ظهري"

(1)

.

ثم روى الحميدي، عن سفيان، عن داود بن سابور، وحميد الأعرج، وابن أبي نجيح، عن مجاهد {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء: 219] قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى مَن خلفه كما يرى من بين يديه.

ثم روى عن عمرو بن عثمان الحمصي وغيره، عن بقيّة، حدّثني حبيب بن أبي موسى -وهو ابن صالح- قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم عينان في قفاه يُبصرُ بهما مَن وراءَه. وهذا غريب جدًا.

وقال الإمام أحمد

(2)

: حدَّثنا محمد

(3)

بن جعفر، حدَّثنا عوفُ بن أبي جَميلة، عن يزيد الفارسيّ، قال: رأيتُ رسولَ الله في النوم في زمن ابن عباس، قال: وكان يزيدُ يكتب المصاحفَ، قال: فقلتُ لابن عباس: إني رأيتُ رسولَ الله في النوم، قال ابنُ عباس: فإن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "إن الشيطان لا يستطيع أن يتشبَّه بي، فمن رآني في النوم

(4)

فقد رآني" فهل تستطيعُ أن تنعتَ لنا هذا الرجلَ الذي رأيتَ؟ قال: قلت: نعم، رأيتُ رجلًا بين الرجلين، جسمُه ولحمُه، أسمرُ إلى البياض، حَسنُ المَضْحَك، أكحلُ العينين، جميلُ دوائر

(5)

الوجه، قد ملأت لحيتُه من هذه إلى هذه، حتى كادت تملأُ نحرَه. قال عوف: لا أدري ما كان مع هذا من النعت. قال: فقال ابنُ عباس: لو رأيتَه في اليقظة ما استطعتَ أن تنعتَه فوق هذا

(6)

.

(1)

رواه البخاري في صحيحه رقم (741) في الأذان، ومسلم في صحيحه رقم (424) في الصلاة، ومالك في الموطأ (1/ 167) في قصر الصلاة.

(2)

في المسند (1/ 361).

(3)

كذا في أ والمسند (1/ 361) وفي المطبوع: حدثنا جعفر وهو خطأ، وهو غندر.

(4)

في المطبوع: فمن رآني فقد رآني. وهذا نقص مخل بالمعنى، وما أثبته من (أ) والمسند (1/ 361).

(5)

كذا في المسند، وفي أ: جميل دائرة الوجه.

(6)

إسناده ضعيف، لضعف يزيد الفارسي أو جهالته، وهو ما لا يحتمل تفرده، ولا عبرة بقول الهيثمي في مجمع =

ص: 22

وقال أبو زُرْعة الرازي

(1)

في كتاب "دلائل النبوة" بابُ من ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا تكلم رُئي النور من ثنيته: حدَّثنا إبراهيم بن المنذر بن عبد الله الحِزامي، حدَّثنا عبد العزيز بن أبي ثابت، عن إسماعيل بن إبراهيم بن أخي موسى بن عقبة، عن موسى بن عقبة، عن كريب، عن ابن عباس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تكلّم رئي النور من ثنيته. إسناد جيد

(2)

.

وقال محمد بن يحيى الذهلي: حدَّثنا عبد الرزاق

(3)

، حدَّثنا معمر، عن الزهري قال: سُئِلَ أبو هريرة عن صفة رسول الله، فقال: أحسن الصفة وأجملها، كان ربعةً إلى الطول ما هو، بعيدَ ما بين المنكبين، أَسيَلَ الخدين، شديدَ سواد الشعر، أكحلَ العين، أهدبَ الأشفار، إذا وطئ بقدمه وطئ بكلها، ليس لها أخمص، إذا وضع رداءَه على منكبيه فكأنه سبيكةُ فضة، وإذا ضحك كاد يتلألأُ في الجدر، لم أر قبلَه ولا بعدَه مثله.

وقد رواه محمد بن يحيى من وجه آخر متصل، فقال: حدَّثنا إسحاق بن إبراهيم -يعني الزُّبيدي- حدَّثني عمرو بن الحارث، عن عبد الله بن سالم، عن الزُّبيدي، عن الزهري، عن سعيد بن المسِّيب، عن أبي هريرة، فذكر نحو ما تقدم

(4)

.

ورواه الذهلي، عن إسحاق بن راهويه، عن النضر بن شُميل، عن صالح بن أبي الأخضر، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: كان رسولُ الله كأنما صِيغ من فضة، رَجِلَ الشعر، مُفاضَ البطن، عظيمَ مَشاش المنكبين، يطأُ بقدمه جميعًا، إذا أقبلَ أقبلَ جميعًا، وإذا أدبرَ أدبرَ جميعا

(5)

.

ورواه الواقدي: حدَّثني عبد الملك، عن سعيد بن عبيد بن السَّبَّاق، عن أبي هريرة، قال: كان رسولُ الله شثْنَ القدمين والكفين، ضخمَ الساقين، عظيمَ الساعدين، ضخمَ العضدين والمنكبين، بعيدَ ما بينهما، رحبَ الصدر، رَجِلَ الرأس، أهدبَ العينين، حسنَ الفم، حسنَ اللِّحية، تامَّ الأذنين، ربعةً

= الزوائد (8/ 271 - 272): رواه أحمد ورجاله ثقات.

(1)

هذه الفقرة سقطت من المطبوع جملة، فأثبتها من (أ) وكتاب دلائل النبوة لأبي زرعة (وهو مخطوط).

(2)

هكذا قال، وهو ذهول منه -إن صح نسبة هذا إليه- فإن عبد العزيز بن أبي ثابت متروك، قال ابن معين: ليس حديثه بشيء، وقال في موضع آخر: ليس بثقة، وقال البخاري: منكر الحديث لا يكتب حديثه، وقال أبو حاتم والنسائي: متروك الحديث، وقد ترك أبو زرعة الرواية عنه، وضعفه الجمهور (تهذيب الكمال 18/ 180 - 181 والتعليق عليه) فإسناد الحديث ضعيف جدًا (بشار).

(3)

هو في مصنفه (20490)، وهو منقطع.

(4)

في الدلائل للبيهقي (1/ 240 - 241)، وإسناده ضعيف لضعف رواية إسحاق بن إبراهيم الزُّبيدي المعروف بابن زبريق عن عمرو بن الحارث الحمصي خاصة، كما بيناه في تحرير التقريب (1/ 113)(بشار).

(5)

رواه البيهقي في دلائل النبوة (1/ 241). وفي إسناده صالح بن أبي الأخضر اليمامي قال الحافظ في التقريب: ضعيف. يعتبر به.

ص: 23

من القوم، لا طويلٌ ولا قصير، أحسنَ الناس لونًا، يُقبل معًا ويُدبر معًا، لم أرَ مثلَه ولم أسمع بمثله

(1)

.

وقال الحافظ أبو بكر البيهقيّ: أخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي، حَدَّثَنَا أبو الحسن المحمودي المروزي، حَدَّثَنَا أبو عبد الله محمد بن علي الحافظ، حَدَّثَنَا محمد بن المثنى، حَدَّثَنَا عثمان بن عمر، حَدَّثَنَا حرب بن سُريج، صاحب الحلواني، حدَّثني رجل من بلعدويه، حدَّثني جدّي، قال: انطلقت إلى المدينة أذكر الحديث في رؤية رسول الله، قال: فإذا رجل حسن الجسم، عظيم الجمة، دقيق الأنف، دقيق الحاجبين، وإذا من لدن نحره إلى سرته كالخيط الممدود شعره، ورأيتُه بينَ طِمرين، فدنا مني وقال: السلام عليك

(2)

.

‌ذكر شَعْره عليه الصلاة والسلام

قد ثبت في الصحيحين

(3)

من حديث الزُّهري، عن عُبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس قال: كان رسولُ الله يُحبُّ موافقةَ أهل الكتاب فيما لم يُؤمر فيه بشيء، وكان أهلُ الكتاب يَسْدِلون أشعارَهم، وكان المشركون يَفرِقون رؤوسهم، فسدلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، ثم فرَقَ بعد.

وقال الإمام أحمد

(4)

: حَدَّثَنَا حمَّاد بن خالد، حَدَّثَنَا مالك، حَدَّثَنَا زيادُ بن سعد، عن الزهري، عن أنس؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سدلَ ناصيتَه ما شاء أن يَسْدِلَ، ثم فرَقَ بعد. تفرد به من هذا الوجه.

وقال محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروةَ، عن عائشة، قالت: أنا فرقتُ لرسول الله رأسَه، صدعتُ فَرْقه عن يافوخه، وأرسلتُ ناصيتَه بين عينيه. قال ابن إسحاق: وقد قال محمد بن جعفر بن الزبير، وكان فقيهًا مسلمًا: ما هي إِلَّا سيماءُ من سيماءَ الأنبياءَ تمسكت بها النصارى من الناس.

وثبت في الصحيحين، عن البراء، أن رسول الله كان يضربُ شعرُه إلى منكبيه

(5)

.

وجاء في الصحيح عنه

(6)

وعن غيره: إلى أنصاف أذنيه.

(1)

الطبقات الكبرى؛ لابن سعد (1/ 415).

(2)

دلائل النبوة (1/ 248) وإسناده تالف لجهالة من بعد حرب بن سريج. وينظر مجمع الزوائد (8/ 272 - 273).

(3)

رواه البخاري في صحيحه رقم (5917) في اللباس، ومسلم في صحيحه رقم (2336) في الفضائل.

(4)

رواه الإمام أحمد في المسند (2/ 215) وإسناده صحيح.

(5)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (1/ 226) وحديث عائشة أخرجه أبو داود في سننه رقم (4189) في الترجل. وهو حديث صحيح.

و"السيماء": العلامة.

(6)

رواه البخاري في صحيحه (3551) وهي رواية شعبة عن أبي إسحاق عن البراء.

ص: 24

ولا منافاة بين الحالين، فإن الشعرَ تارة يطول، وتارة يقصر منه، فكلٌّ حكى بحسب ما رأى.

وقال أبو داود: حَدَّثَنَا ابن نُفَيْل، حَدَّثَنَا ابن أبي الزِّناد، عن هشام بن عُروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: كان شعرُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فوقَ الوَفرَة ودون الجُمّة

(1)

.

وقد ثبت أنه عليه الصلاة والسلام حلقَ جميعَ رأسِه في حَجّة الودَاع، وقد مات بعد ذلك بأحد وثمانين يومًا، صلواتُ الله وسلامُه عليه دائمًا إلى يوم الدين.

وقال يعقوب بن سفيان: حَدَّثَنَا عبد الله بن مسلم، ويحيى بن عبد الحميد، قالا: حَدَّثَنَا سفيان، عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد، قال: قالت أُم هانئ: قدمَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم مكة قدمةً وله أربع غدائر

(2)

-تعني ضفائر-.

ورواه الترمذي من حديث سفيان بن عيينة.

وثبت في الصحيحين من حديث ربيعة، عن أنس، قال بعد ذكره شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه ليس بالسَّبْط ولا بالقَطط، قال: وتوفاه الله وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرةً بيضاء

(3)

.

وفي صحيح البخاريّ

(4)

من حديث أيوب، عن ابن سيرين أنه قال: قلت لأنس: أخضبَ رسولُ الله؟ قال: إنه لم يرَ من الشيب إِلَّا قليلًا.

وكذا روى هو ومسلم، من طريق حمّاد بن زيد، عن ثابت، عن أنس

(5)

.

وقال حمَّادُ بن سلمة، عن ثابت، قيل لأنس: هل كان شابَ رسولُ الله؟ فقال: ما شانَه الله بالشّيبِ، ما كانَ في رأسِه إِلَّا سبعَ عشرةَ أو ثمانيَ عشرةَ شعرة

(6)

.

وعند مسلم من طريق المثنى بن سعيد، عن قتادة، عن أنس؛ أن رسولَ الله لم يختضب، إنما كان

(1)

رواه أبو داود في سننه رقم (4187) في الترجل، والترمذي في الجامع رقم (1755) في اللباس، وابن ماجه في سننه رقم (3635) في اللباس. وهو حديث صحيح.

و"الوَفرة": الشعر يبلغ شحمة الأذن. والجمّة: الشعر يصل إلى المنكبين.

(2)

في الجامع (1781) عن ابن أبي عمر العدني عن سفيان بن عيينة، به. وقال:"هذا حديث غريب (ضعيف)، قال محمد (هو البخاري): لا أعرف لمجاهد سماعًا من أم هانئ"، وهو كما قال. وأخرجه من هذا الوجه أيضًا: أحمد (6/ 341 - 425)، وأبو داود (4191)، وابن ماجه (3631) وغيرهم.

(3)

رواه البخاري في صحيحه رقم (3548) في المناقب، ومسلم في صحيحه رقم (2347) في الفضائل، وقد تقدم.

(4)

رواه البخاري في صحيحه رقم (5894) في اللباس. ولفظه: أخضبَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم؟ قال: لم يبلغ الشيبَ إِلَّا قليلًا. رواه مسلم بهذا اللفظ في صحيحه رقم (2341)(102) في الفضائل.

(5)

رواه البخاري في صحيحه رقم (5895) في اللباس، ومسلم في صحيحه رقم (2341)(103) في الفضائل.

(6)

رواه الإمام أحمد في المسند (3/ 254).

ص: 25

شمِطَ عند العَنفقة يسيرًا، وفي الصُّدغين يسيرًا، وفي الرأس يسيرًا

(1)

.

وقال البخاري: حَدَّثَنَا أبو نُعيم، حَدَّثَنَا همَّام، عن قتادة، قال: سألتُ أنسًا، هل خضبَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا، إنما كان شيءٌ في صُدغيه

(2)

.

وروى البخاري عن عصام بن خالد، عن حَريز بن عثمان، قال: قلتُ لعبد الله بن بُسْرٍ السُّلميّ: رأيتَ رسولَ الله، أكان شيخًا؟ قال: كان في عَنْفَقتِه شعراتٌ بيض

(3)

.

وتقدَّم عن جابر بن سَمُرة مثله

(4)

.

وفي الصحيحين من حديث أبي إسحاق، عن أبي جُحيفة، قال: رأيتُ رسولَ الله هذه منه بيضاء، يعني عَنفَقته

(5)

.

وقال يعقوبُ بن سفيان: حَدَّثَنَا عبد الله بن عثمان، عن أبي حمزة السُّكري، عن عثمان بن عبد الله بن مَوهَب القُرَشي، قال: دخلنا على أُمّ سلَمة، فأخرجت إلينا من شعر رسول الله، فإذا هو أحمرُ مصبوغٌ بالحِناء والكَتم

(6)

.

رواه البخاري عن إسماعيل بن موسى، عن سَلَّام بن أبي مُطيع، عن عثمان بن عبد الله بن مَوهب، عن أُمّ سلمة

(7)

.

وقال البيهقيّ: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، حَدَّثَنَا أبو العباس محمد بن يعقوب، حَدَّثَنَا محمد بن إسحاق الصَّغاني، حَدَّثَنَا يحيى بن أبي بُكير، حَدَّثَنَا إسرائيل، عن عثمان بن عبد الله بن مَوهب، قال: كان عند أم سلمة جُلجُلٌ

(8)

من فضّة ضخم، فيه من شعر رسول الله، فكان إذا أصاب إنسانًا الحُمَّى بعث إليها فحَضْحَضَتْه

(9)

فيه، ثم ينضحه

(10)

الرجل على وجهه. قال: فبعثني أهلي إليها

(1)

رواه مسلم في صحيحه رقم (2341)(104) في الفضائل، ولفظه: ولم يختضب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، إنما كان البياضُ في عَنْفَقَتِه، وفي الصُّدْغين، وفي الرأس نَبْذٌ. ونُبَذ: بالضم والفتح: أي شعرات متفرقة.

(2)

رواه البخاري في صحيحه (3550) في المناقب.

(3)

رواه البخاري في صحيحه رقم (3546) في المناقب. ولفظه: أرأيت النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم كان شيخًا؟ ....

(4)

تقدم حديث جابر بن سمرة ص 8 وتخريجه في الهامش رقم 5.

(5)

رواه البخاري في صحيحه رقم (3545) في المناقب، ومسلم في صحيحه رقم (2342) في الفضائل، واللفظ له.

(6)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (1/ 235 - 236).

(7)

رواه البخاري في صحيحه رقم (5896) و (5897) في اللباس.

(8)

"جُلْجُل": جرس صغير يُعلق على الدواب.

(9)

"حضحضته": حركته. وفي دلائل النبوة: خضخضته.

(10)

"ينضحه": يرشّه.

ص: 26

فأخرجتهُ، فإذا هو هكذا -وأشار إسرائيلُ بثلاث أصابع- وكان فيه خمس شعرات حمر

(1)

.

ورواه البخاريّ

(2)

عن مالك بن إسماعيل، عن إسرائيل.

وقال يعقوب بن سفيان: حَدَّثَنَا أبو نُعيم، حَدَّثَنَا عُبيد الله بن إياد، حدَّثني إياد

(3)

، عن أبي رِمثة، قال: انطلقتُ مع أبي نحوَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأيتُه، قال: هل تدري من هذا؟ قلت: لا. قال: إنَّ هذا رسولُ الله، فاقشعررتُ حين قال ذلك، وكنتُ أظنُّ أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم شيءٌ لا يُشبه الناسَ، فإذا هو بشر ذو وَفرَةٍ بها رَدع

(4)

من حِنَّاء، وعليه بُردانِ أخضران

(5)

.

ورواه أبو داود والترمذي والنسائي

(6)

من حديث عُبيد الله بن إياد بن لقيط، عن أبيه، عن أبي رِمْثَة، واسمه حبيب بن حيّان، ويقال رفاعة بن يثربي. وقال الترمذي: غريب لا نعرفه إِلَّا من حديث إياد، كذا قال.

وقد رواه النسائي أيضًا من حديث سفيان الثوري

(7)

وعبد الملك بن عمير

(8)

، كلاهما عن إياد بن لَقيط به، ببعضه.

ورواه يعقوب بن سفيان أيضًا عن محمد بن عبد الله المُخَرِّمي، عن أبي سفيان الحِميَري، عن الضَّحَّاك بن حُمْرة، عن غَيلان بن جامع، عن إياد بن لَقيط، عن أبي رِمثَة، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخضب بالحناء والكتم، وكان شعره يبلغ كتفيه أو مَنكبيه

(9)

.

وقال أبو داود

(10)

: حَدَّثَنَا عبد الرحيم بن مطرف بن سفيان، حَدَّثَنَا عمرو بن محمد، أخبرنا ابن أبي رَوَّاد، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يلبس النعال السبتية، ويصفر لحيته بالورس والزعفران، وكان ابن عمر يفعل ذلك.

(1)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (1/ 236).

(2)

رواه البخاري في صحيحه رقم (5896) في اللباس باختلاف لفظي يسير، وهو عند الإمام أحمد في المسند (6/ 296، 319، 322).

(3)

في دلائل النبوة؛ للبيهقِي: حدثني إياد بن أبي رِمْثة، قال

وهو خطأ.

(4)

"رَدعٌ من حِنَّاء": أي لطخٌ من حنَّاء. النهاية لابن الأثير (2/ 215).

(5)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (1/ 237).

(6)

رواه أبو داود (4065) في اللباس و (4206) في الترجل، والترمذي (2812) في الاستئذان، والنسائي في الصلاة من المجتبى (3/ 185) وهو في الكبرى (1781) وفي الزينة منها (9356).

(7)

حديث سفيان في الزينة (8/ 140)، وهو في الكبرى (9357).

(8)

حديث عبد الملك في (8/ 204)، وهو في الكبرى (9657) أيضًا.

(9)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (1/ 238).

(10)

رواه أبو داود في سننه رقم (4210) في الترجل.

ص: 27

ورواه النسائي

(1)

، عن عبدة بن عبد الرحيم المروزي، عن عمرو بن محمد العَنْقَزي

(2)

به.

وقال الحافظ أبو بكر البيهقيّ

(3)

: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ: حَدَّثَنَا أبو الفضل محمد بن إبراهيم، حَدَّثَنَا الحسن بن محمد بن زياد، حَدَّثَنَا إسحاق بن إبراهيم، حَدَّثَنَا يحيى بن آدم، (ح) وأخبرنا أبو الحسين بن الفضل، أخبرنا عبد الله بن جعفر، أخبرنا يعقوبُ بن سفيان، حدَّثني أبو جعفر محمد بن عمر بن الوليد الكندي الكوفي، حَدَّثَنَا يحيى بن آدم، حَدَّثَنَا شريك، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر قال: كان شيبُ رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوًا من عشرين شعرة. وفي رواية إسحاق: رأيتُ شيبَ رسول الله نحوًا من عشرين شعرة بيضاء في مُقَدَّمِه

(4)

.

قال البيهقيّ

(5)

: وحدَّثنا أبو عبد الله الحافظ، حَدَّثَنَا أحمد بن سليمان الفقيه، حَدَّثَنَا هلال بن العلاء الرَّقي، حَدَّثَنَا حسين بن عباس الرَّقي، حَدَّثَنَا جعفر بن بُرقان، حَدَّثَنَا عبد الله بن محمد بن عقيل، قال: قدم أنس بن مالك المدينة وعمرُ بن عبد العزيز والٍ عليها، فبعث إليه عمر وقال للرسول: سله هل خضبَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فإني رأيت شعرًا من شعره قد لُوَّن؟ فقال أنس: إن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان قد مُتِّع بالسواد، ولو عددتُ ما أقبلَ عليَّ من شيبه في رأسه ولحيته ما كنتُ أزيد على إحدى عشرة شيبة، وإنما هذا الذي لُوِّن من الطيب الذي كان يُطَيَّبُ به شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي غيَّرَ لونه

(6)

.

قلتُ: ونفي أنس للخضاب مُعَارض بما تقدم عن غيره من إثباته، والقاعدة المقررة أن الإثبات مُقدَّم على النفي؛ لأن المثبت معه زيادة علم ليست عند النافي. وهكذا إثبات غيره لزيادة ما ذُكر من السبب مُقدَّم؛ لاسيما عن ابن عمر الذي المظنون أنه تلقى ذلك عن أخته أم المؤمنين حفصة، فإن اطلاعها أتم من اطلاع أنس؛ لأنها ربما أنها فلَّت رأسَه الكريم عليه الصلاة والسلام.

‌ذكرُ ما وردَ في مَنكبيه وسَاعديه وإبطيْه وقَدَميْه وكَعبَيه

قد تقدم ما أخرج البخاري ومسلم من حديث شعبة، عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب قال:

(1)

في سننه (8/ 186) في الزينة وهو في الكبرى (9360) وهو حديث صحيح.

(2)

في ط: "المنقري" محرف، وما أثبتناه هو الصواب، فينظر تهذيب الكمال (22/ 220).

(3)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (1/ 238 - 239).

(4)

وأخرجه من حديث شريك أحمد (2/ 90)، والترمذي في الشمائل (40)، وابن ماجه (3630)، وابن حبان (6294) و (6295)، وإسناده ضعيف لضعف شريك بن عبد الله النخعي عند التفرد، وقال الإمام الترمذي في العلل الكبير (2/ 929):"سألت محمدًا -يعني البخاري- عن هذا الحديث فقال: لا أعلم أحدًا روى هذا الحديث عن عبيد الله بن عمر غير شريك".

(5)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (1/ 239).

(6)

في إسناده عبد الله بن محمد بن عقيل ضعيف عند التفرد، كما هو مبين مفصلًا في تحرير التقريب (2/ 264).

ص: 28

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مَربوعًا بعيدَ ما بين المنكبين

(1)

. (وقال الزبيدي، عن الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيدَ ما بين المنكبين)

(2)

.

وروى البخاري

(3)

عن أبي النعمان، عن جرير، عن قتادة، عن أنس قال: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم ضخمَ الرأس والقدمين، سَبط الكفين.

وتقدم من غير وجه أنه عليه السلام كان شَثنَ الكفين والقدمين

(4)

.

وفي رواية: ضخم الكفين والقدمين.

وقال يعقوب بن سفيان: حَدَّثَنَا آدمُ وعاصمُ بن عليّ، قالا: حَدَّثَنَا ابن أبي ذئب، حَدَّثَنَا صالح مَولى التوءمة قال: كان أبو هريرة ينعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: كان شَبحَ الذراعين، بعيدَ ما بين المنكبين، أهدب أشفار العينين

(5)

.

وفي حديث نافع بن جُبير، عن عليّ قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم شَثْنَ الكفين والقدمين، ضخمَ الكراديس، طويل المسرُبة

(6)

.

وتقدَّم في حديث حجَّاج، عن سِمَاك، عن جابر بن سمرة قال: كان في ساقي رسول الله صلى الله عليه وسلم حُموشة

(7)

. أي: لم يكونا ضخمين.

وقال سراقةُ بن مالك بن جعشم: فنظرت إلى ساقيه، وفي رواية: قدميه في الغرز -يعني الركاب- كأنهما جمّارة

(8)

. أي: جمارة النخل من بياضهما.

وفي صحيح مسلم

(9)

، عن جابر بن سمرة "كان ضليعَ الفم" وفسَّره بأنه عظيم الفم "أشكلَ العينين" وفسَّره بأنه طويل شق العينين "منهوس العقب" وفسَّره بأنه قليل لحم العقب. وهذا أنسب وأحسن في حق الرجال.

(1)

في الأصل مربوعًا بعيدًا ما بين المنكبين، وما أثبته هو الصحيح.

(2)

ما بين القوسين سقط من المطبوع، وأثبته من أ.

(3)

رواه البخاري في صحيحه رقم (5907) في اللباس، ولفظه: كان النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم ضخمَ اليدين والقدمين، حسنَ الوجه ..

(4)

تقدم ذلك في ص (15) صفة وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر محاسنه.

(5)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (1/ 244) وهو عند أحمد في المسند (2/ 328، 448). ومعنى شبح الذراعين: عريض الذراعين. وهو حديث حسن.

(6)

تقدم الحديث في صفة وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(7)

تقدم الحديث في صفة وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(8)

تقدم الحديث في صفة لون رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(9)

رواه مسلم في صحيحه رقم (2339) في الفضائل.

ص: 29

وقال الحارث بن أبي أسامة

(1)

: حدثنا عبد الله بن بكر، حَدَّثَنَا حميد، عن أنس قال: أخذت أُم سليم بيدي مقدمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فقالت: يا رسول الله هذا أنس غلام كاتب يخدمك، قال: فخدمته تسع سنين فما قال لشيء صنعت: أسأت، ولا بِئْسَ ما صنعت، ولا مَسِسْتُ شيئًا قط خزًا ولا حريرًا ألين من كف رسول الله، ولا شممت رائحة قط مسكًا ولا عنبرًا أطيب من رائحة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهكذا رواه معتمر بن سليمان، وعلي بن عاصم، ومروان بن معاوية الفزاري، وإبراهيم بن طهمان، كلُّهم عن حميد، عن أنس في لين كفه عليه السلام، وطيب رائحته، صلاة الله وسلامه عليه.

وفي حديث الزُّبيدي، عن الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يطأ بقدمه كلها ليس لها أخمص

(2)

. وقد جاء خلاف هذا كما سيأتي.

وقال يزيد بن هارون: حدَّثني عبد الله بن يزيد بن مِقْسم، قال: حدَّثتني عمتي سَارة بنت مِقسم، عن ميمونة بنت كَردَم، قالت: رأيتُ رسول الله بمكة، وهو على ناقة له، وأنا مع أبي، وبيد رسول الله دِرَّةٌ كدِرّة الكُتَّاب، فدنا منه أبي فأخذ بقدمه، فأقر له رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت: فما نسيتُ فيما نسيت طولَ إصبع قدمه السبابة على سائر أصابعه

(3)

.

ورواه الإمام أحمد عن يزيد بن هارون مطولًا

(4)

.

ورواه أبو داود من حديث يزيد بن هارون ببعضه

(5)

. وعن أحمد بن صالح

(6)

، عن عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن إبراهيم بن ميسرة، عن خالته، عنها.

ورواه ابن ماجه من وجه آخر عنها

(7)

، والله أعلم.

(1)

هو الحارث بن محمد، الحافظ الصدوق، مسند العراق، أبو محمد التميمي، صاحب المسند المشهور توفي سنة 282 ترجمته في سير أعلام النبلاء (13/ 388). ومسنده مفقود. والحديث صحيح.

(2)

تقدم الحديث.

(3)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (1/ 246).

(4)

في "المسند"(6/ 366) وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 280) وقال: رواه الطبراني، وفيه من لم أعرفهم.

قال بشار: سارة بنت مقسم مجهولة تفرد بالرواية عنها ابن أخيها عبد الله بن يزيد بن مقسم.

(5)

أبو داود (2103) في النكاح (أما الحديث الذي في الأيمان والنذور برقم (3314) فلعله من إضافات النساخ، فإن ابن عساكر والمزي لم يذكراه في الأطراف) وهو حديث إسناده ضعيف كما بينا قبل قليل (بشار).

(6)

أبو داود (2104) في النكاح، وإسناده ضعيف.

(7)

رواه ابن ماجه (2131) و (2131 م) في الكفارات عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن مروان بن معاوية، عن عبد الله بن عبد الرحمن الطائفي عن ميمونة. وعن ابن أبي شيبة، عن الفضل بن دكين عن عبد الله بن عبد الرحمن، عن يزيد بن مقسم، عن ميمونة، وهذا إسناد ضعيف لضعف عبد الله بن عبد الرحمن الطائفي، والاختلاف المذكور في إسناد الحديث. وإنما الصحيح في هذا الحديث هو حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو في الصحيحين، كما بيناه في تعليقنا على ابن ماجه (بشار).

ص: 30

وقال البيهقيّ: أخبرنا علي بن أحمد بن عبد الله بن بشران، أخبرنا إسماعيل بن محمد الصَّفَّار، حَدَّثَنَا محمد بن إسحاق أبو بكر، حَدَّثَنَا سَلمة بن حفص السعدي، حَدَّثَنَا يحيى بن اليمان، حَدَّثَنَا إسرائيل، عن سِماك، عن جابر بن سمرة، قال: كانت إصبعُ رسول الله صلى الله عليه وسلم خنصرَه من رجلَيْه مُتظاهرة

(1)

. وهذا حديث غريب.

‌صفة قوامِه عليه الصلاة والسلام وطيبُ رائحته

في صحيح البخاري، من حديث ربيعة، عن أنس قال: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ربعةً من القوم ليس بالطويل ولا بالقصير

(2)

.

وقال أبو إسحاق، عن البراء: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أحسنَ الناس وجهًا، وأحسنهم خلقًا، ليس بالطويل ولا بالقصير

(3)

. أخرجاه في الصحيحين.

وقال نافع بن جبير عن علي: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بالطويل ولا بالقصير، لم أر قبله ولا بعده مثله

(4)

.

وقال سعيد بن منصور، عن خالد بن عبد الله، عن عبد الله

(5)

بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب، عن أبيه، عن جده، عن علي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بالطويل ولا بالقصير، وهو إلى الطول أقرب، وكان عرقه كاللؤلؤ

الحديثَ

(6)

.

وقال سعيد، عن نوح بن قيس

(7)

، عن خالد بن خالد التميمي، عن يوسف بن مازن الراسبي، عن

(1)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (1/ 248) وفي سنده سَلَمة بن حَفص السَّعدي. قال ابن حبَّان: كان يضع الحديث، لا يَحِل الاحتجاج به ولا الرواية عنه، وحديثه هذا باطل لا أصل له، ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان معتدلَ الخَلْق.

(2)

رواه البخاري في صحيحه رقم (3547) في المناقب.

(3)

رواه البخاري في صحيحه رقم (3549) في المناقب، ومسلم في صحيحه رقم (2337) في الفضائل.

(4)

الحديث أخرجه الترمذي في جامعه رقم (3637) في المناقب، وهو عند الإمام أحمد في المسند (1/ 96) وقد تقدم ذكره أكثر من مرة، وهو حديث صحيح.

(5)

في ط: "عن خالد بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي"، وهو غلط محض، والصواب ما أثبتنا، وخالد بن عبد الله هو ابن عبد الرحمن بن يزيد الطحان من رجال الشيخين، ورواية سعيد بن منصور عنه عند مسلم كما في تهذيب الكمال (8/ 101 و 11/ 78). أما عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب فمن رجال النسائيّ وأبي داود، وهو صدوق حسن الحديث وإن قال الحافظ ابن حجر في "التقريب": مقبول، كما بيناه مفصلًا في التحرير (2/ 265). وقد تحرف اسمه في دلائل النبوة للبيهقي (1/ 252)، وينظر تهذيب الكمال (16/ 93)(بشار).

(6)

أخرجه البيهقيّ في الدلائل (1/ 252) من طريق يعقوب بن سفيان، عن سعيد، به، وإسناده حسن.

(7)

في ط: "روح" وهو خطأ، وهو نوح بن قيس بن رباح الأزدي أخو خالد بن قيس، وهو من رجال مسلم، كما في التحرير (4/ 27) ومسند أحمد (1/ 151) وغيرهما (بشار).

ص: 31

علي، قال: كان رسول الله ليس بالذاهب طولًا، وفوق الربعة، إذا جامع القوم غمرهم، وكان عرقه في وجهه كاللؤلؤ

(1)

.. الحديث.

وقال الزبيدي، عن الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة، قال: كان رسولُ الله ربعةً وهو إلى الطول أقرب، وكان يُقبل جميعًا ويُدبر جميعًا، لم أر قبله، ولا بعده مثله

(2)

.

وثبت في البخاري من حديث حماد بن زيد، عن ثابت، عن أنس، قال: ما مسست بيدي ديباجًا ولا حريرًا ولا شيئًا ألين من كف رسول الله، ولا شممت رائحة أطيب من ريح رسول الله صلى الله عليه وسلم

(3)

.

ورواه مسلم

(4)

من حديث سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن أنس به

(5)

.

ورواه مسلم أيضًا من حديث حماد بن سلمة، وسليمان بن المغيرة

(6)

، عن ثابت، عن أنس قال: كان رسول الله أزهر اللون، كان عرقه اللؤلؤ، إذا مشى تكفأ، وما مسست حريرًا ولا ديباجًا ألين من كف رسول الله، ولا شَمِمْتُ مِسكًا ولا عنبرًا أطيبَ من رائحة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقال أحمد

(7)

: حَدَّثَنَا ابن أبي عدي، حَدَّثَنَا حميد، عن أنس، قال: ما مسست شيئًا قط خزًا ولا

حريرًا ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شممتُ رائحةً أطيب من ريح رسول الله صلى الله عليه وسلم. والإسناد ثلاثي على شرط الصحيحين، ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة من هذا الوجه.

وقال يعقوب بن سفيان: أخبرنا عمرو بن حمَّاد بن طلحة القَنَّاد، وأخرجه البيهقيّ من حديث

(1)

أخرجه أحمد (1/ 151)(رقم 1300)، وإسناده ضعيف لانقطاعه فإن يوسف بن مازن لم يدرك عليًا، ولجهالة الراوي عنه خالد بن خالد التميمي، أما قول الحافظ ابن حجر في تعجيل المنفعة (112): إنه خالد بن قيس أخو نوح فهو بعيد جدًا، والصواب ما قاله الحسيني وهو أنه مجهول. وهذا نقله المصنف من البيهقيّ أيضًا (الدلائل 1/ 252)، وهو عند ابن سعد في الطبقات (1/ 411).

(2)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (1/ 252)، وإسناده ضعيف كما بيناه قبل قليل في صفة وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(3)

رواه البخاري في صحيحه رقم (3561) في المناقب.

(4)

رواه مسلم في صحيحه (2330)(81) في المناقب.

(5)

هكذا في ط والأصل، وكان حقه أن يقول:"ورواه مسلم من حديث سليمان بن المغيرة وجعفر بن سليمان، عن ثابت عن أنس" كما في صحيح مسلم وكما في تحفة الأشراف (1/ 243) حديث (264)(بشار).

(6)

هكذا في ط والأصل، وإنما رواه مسلم من حديث حماد بن سلمة عن ثابت، ليس فيه سليمان بن المغيرة (صحيح مسلم 2330 - 82) وكما في تحفة الأشراف (1/ 275) حديث (360)، وهو كذلك عن حماد وحده عند أحمد (3/ 270) والدارمي (62)، فانا أرى أن عبارة "وسليمان بن المغيرة" غلط محض إذ لم يذكره البيهقيّ في الدلائل (1/ 255) حين ذكر هذا النص، ولعلها من أوهام المؤلف رحمه الله حين نقله من الدلائل لتقارب الإسنادين فيه (بشار).

(7)

رواه الإمام أحمد في المسند (3/ 107).

ص: 32

أحمد بن حازم بن أبي غرزة عنه، قال: حَدَّثَنَا أسباط بن نصر، عن سِماك، عن جابر بن سمرة، قال: صلَّيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الأولى، ثم خرج إلى أهله، وخرجت معه فاستقبله ولدان، فجعل يمسح خدي أحدهم واحدًا واحدًا. قال: وأما أنا فمسح خَدِّي، فوجدت لِيَدِه بردًا ورِيحًا كأنما أخرجها من جُونَة عطَّار

(1)

.

ورواه مسلم

(2)

عن عمرو بن حماد به نحوه.

(وقال أبو زرعة الرازي: حَدَّثَنَا سعيد بن محمد الجَرْمي، حَدَّثَنَا أبو تُمَيْلة

(3)

، عن أبي حمزة

(4)

، عن جابر

(5)

، عن عبد الجبار بن وائل، عن أبيه، قال: كنت أصافح النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أو يمَسُّ جلدي جلده، فأتعرفه في يديَّ بعد ما نالته، أطيب رائحة من المِسك)

(6)

.

وقال الإمام أحمد: حَدَّثَنَا محمد بن جعفر، حَدَّثَنَا شعبة، وحجاج

(7)

، أخبرني شعبة، عن الحكم، سمعتُ أبا جحيفة، قال: خرجَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالهاجرة إلى البطحاء، فتوضأ وصلَّى الظهر ركعتين، وبين يديه عَنَزة -زاد فيه عون عن أبيه: يمر من ورائها الحمار والمرأة- قال حجَّاج في الحديث: ثم قام الناسُ فجعلوا يأخذون يدَه فيمسحون بها وجوهَهم، قال: فأخذتُ يدَه فوضعتُها على وجهي، فإذا هي أبردُ من الثلج وأطيبُ ريحًا من المِسك

(8)

.

وهكذا رواه البخاري

(9)

، عن الحسن بن منصور، عن حجّاج بن محمد الأعور، عن شعبة فذكر مثلَه سواء.

وأصل الحديث في الصحيحين أيضًا.

وقال الإمام أحمد: حَدَّثَنَا يزيد بن هارون، أخبرنا هشام بن حسان وشعبة وشريك، عن يعلى بن عطاء، عن جابر بن يزيد، عن أبيه -يعني يزيد بن الأسود- قال: صلَّى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بمنى، فانحرف فرأى رجلين من وراء الناس، فدعا بهما فجيئا تُرْعَدُ فرائصُهما، فقال: "ما منعكما أن تصلِّيا مع

(1)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (1/ 256).

(2)

رواه مسلم في صحيحه رقم (2329) في الفضائل.

(3)

هو يحيى بن واضح الأنصاري، من رجال التهذيب، وهو ثقة.

(4)

هو محمد بن ميمون السكري، من رجال التهذيب، وهو ثقة أيضًا.

(5)

هو جابر الجعفي، وهو متروك، فإسناد الحديث ضعيف جدًا.

(6)

ما بين القوسين سقط من الأصل.

(7)

حجاج هو ابن محمد المصيصي الأعور وهو شيخ أحمد، فهذا الحديث رواه غندر وحجاج كلاهما عن شعبة.

(8)

رواه الإمام أحمد في المسند (4/ 309).

(9)

رواه البخاري في صحيحه رقم (3553) في المناقب، ومسلم في صحيحه رقم (503)(252) في الصلاة.

ص: 33

الناس؟ " قالا: يا رسولَ الله إنا كنا قد صلَّينا في الرِّحال، قال: "فلا تفعلا، إذا صلَّى أحدُكم في رَحْله ثم أدركَ الصلاة مع الإمام فليصلِّها معه، فإنَّها له نافلة" قال: فقال أحدهما: استغفر لي يا رسول الله، فاستغفرَ له، قال: ونهضَ النَّاسُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهضتُ معهم، وأنا يومئذ أشبُّ الرجال وأجلدُه، قال: فما زلتُ أزحَمُ الناسَ حتى وَصَلتُ إلى رسول الله، فأخذتُ يدَه فوضعتُها إما على وجهي أو صدري، قال: فما وجدتُ شيئًا أطيَب ولا أبردَ من يدِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم. قال: وهو يومئذ في مسجد الخيف.

ثم رواه أيضًا، عن أسود بن عامر، وأبي النضر، عن شعبة، عن يعلى بن عطاء، سمعتُ جابرَ بن يزيد بن الأسود، عن أبيه؛ أنه صلّى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح. فذكر الحديث، قال: ثم ثارَ الناسُ يأخذون بيده يمسحون بها وجوهَهم، قال: فأخذتُ بيده فمسحتُ بها وجهي، فوجدتُها أبردَ من الثلج وأطيبَ ريحًا من المسك

(1)

.

وقد رواه أبو داود

(2)

من حديث شعبة، والترمذي والنسائي

(3)

من حديث هشيم عن يعلى به، وقال الترمذي: حسن صحيح.

وقال الإمام أحمد

(4)

: حَدَّثَنَا أبو نعيم، حَدَّثَنَا مِسْعر، عن عبد الجبار بن وائل بن حجر، قال: حدَّثني أهلي، عن أبي، قال: أُتي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بدلو من ماء فشربَ منه، ثم مجَّ في الدلو، ثم صبَّ في البئر، أو شربَ من الدلو ثم مجَّ في البئر، ففاحَ منها مثل ريحِ المسك

(5)

. وهكذا رواه البيهقيّ

(6)

من طريق يعقوب بن سفيان، عن أبي نُعيم، وهو الفضلُ بن دُكين به.

وقال الإمام أحمد: حَدَّثَنَا هاشم، حَدَّثَنَا سليمان، عن ثابت، عن أنس قال: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا صلَّى الغداةَ جاء خدمُ المدينة بآنيتهم فيها الماء، فما يُؤتى بإناء إِلَّا غمسَ يدَه فيها، فربما جاؤُوه في الغَداةِ الباردةِ فيغمِسُ يدَه فيها

(7)

.

(1)

رواهما الإمام أحمد في المسند (4/ 161) ورقم (17404). وهو حديث صحيح.

(2)

رواه أبو داود في سننه رقم (575) في الصلاة.

(3)

في الجامع (219) في الصلاة، والنسائي (2/ 1112) في الصلاة أيضًا.

(4)

رواه الإمام أحمد في المسند (4/ 315).

(5)

وأخرجه أحمد (4/ 316 و 318)، والحميدي (886)، وابن ماجه (659)، والفاكهي في أخبار مكة (1136) وغيرهم من طريق عبد الجبار بن وائل عن أبيه، ليس فيه "حدثني أهلي"، وهو بهذا منقطع لعدم سماعه هذا الحديث من أبيه، كما تقدم.

(6)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (1/ 257).

(7)

رواه الإمام أحمد في المسند (3/ 137).

ص: 34

ورواه مسلم

(1)

من حديث أبي النضر هاشم بن القاسم به.

وقال الإمام أحمد: حَدَّثَنَا حجين بن المثنى، حَدَّثَنَا عبد العزيز -يعني ابن أبي سلمة الماجشُون- عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس قال: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يدخلُ بيتَ أُم سُليم فينامُ على فراشها وليست فيه. قال: فجاء ذاتَ يوم فنامَ على فراشها، فأتت، فقيل لها: هذا رسولُ الله نائمٌ في بيتك على فراشك، قال: فجاءت وقد عَرِقَ واستنقعَ عرقُه على قطعة أديمٍ على الفراش، ففتحت عبيرتَها، فجعلت تُنَشِّف ذلك العرق فتعصره في قواريرها، ففزعَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"ما تصنعينَ يا أُمّ سليم؟ " فقالت: يا رسول الله نرجو بركتَه لصبياننا، قال: أصبتِ

(2)

.

ورواه مسلم

(3)

عن محمد بن رافع، عن حُجين به.

وقال أحمد

(4)

: حَدَّثَنَا هاشم بن القاسم، حَدَّثَنَا سليمان، عن ثابت، عن أنس قال: دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالَ عندنا، فعَرق، وجاءت أمي بقارُورة فجعلت تُسلِت العرقَ فيها، فاستيقظَ رسولُ الله فقال:"يا أُمَّ سُليم! ما هذا الذي تَصنعين؟ " قالت: عرقُك نجعلُه في طيبنا، وهو من أطيب الطيب.

ورواه مسلم

(5)

، عن زهير بن حرب، عن أبي النضر هاشم بن القاسم به.

وقال أحمد

(6)

: حَدَّثَنَا إسحاق بن منصور -يعني السلولي- حَدَّثَنَا عمارة -يعني ابن زاذان- عن ثابت، عن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقيل عند أُم سُلَيم، وكان من أكثر الناس عرقًا، فاتخذت له نِطعًا

(7)

وكان يَقِيل عليه، وخَطَّت بين رجليه خَطًّا، وكانت تُنَشَف العرق فتأخذه، فقال:"ما هذا يا أُمّ سُليم؟ " قالت: عرقُك يا رسول الله أجعله في طيبي، قال: فدعَا لها بدعاءٍ حَسن. تفرَّد به أحمد من هذا الوجه

(8)

.

وقال أحمد

(9)

: حَدَّثَنَا محمد بن عبد الله، حَدَّثَنَا حُميد، عن أنس قال: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا نامَ

(1)

رواه مسلم في صحيحه رقم (2324) في الفضائل.

(2)

رواه الإمام أحمد في المسند (3/ 226).

(3)

رواه مسلم في صحيحه رقم (2331)(84) في الفضائل. ومعنى "قَالَ عندنا": نام للقيلولة.

(4)

رواه الإمام أحمد في المسند (3/ 136).

(5)

مسلم في صحيحه رقم (2331)(83) في الفضائل. و"تُسْلت العرقَ": تمسحه.

(6)

في المسند 3/ 231.

(7)

النطع: بساط من جلد.

(8)

إسناده ضعيف، عمارة بن زاذان ضعيف يعتبر به عند المتابعة، وقد تفرد برواية "وخطت بين رجليه خطًا"، وأما باقي متنه فصحيح إذ رواه سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس، كما في مسند أحمد 3/ 136 وصحيح مسلم (2831)(83).

(9)

رواه الإمام أحمد في المسند (3/ 230).

ص: 35

ذفَّ عرقًا، فتأخذُ أمي عرَقه بقُطْنة في قارورة، فتجعله في مسكها، وهذا إسنادٌ ثلاثيٌّ على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ولا أحدٌ منهما.

وقال البيهقيّ: أخبرنا محمد بن عبد الله الحافظ، حَدَّثَنَا أبو عمرو المغربي، أخبرنا الحسن بن سفيان، حَدَّثَنَا أبو بكر بن أبي شيبة، وقال مسلم: حَدَّثَنَا أبو بكر بن شيبة، حَدَّثَنَا عفان، حَدَّثَنَا وهيب، حَدَّثَنَا أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس، عن أُم سليم؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأتيها فيَقِيل عندها فتبسطُ له نِطعًا، فيقيل عليه، وكان كثيرَ العرق، فكانت تجمعُ عرقَه فتجعله في الطيب والقوارير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يا أُمَّ سُليم ما هذا؟ " فقالت: عَرَقُكَ أدُوف به طِيبي. لفظ مسلم

(1)

.

وقال أبو يعلى الموصلي في "مسنده": حَدَّثَنَا بشر، حَدَّثَنَا حَلْبس

(2)

بن غالب، حَدَّثَنَا سفيان الثوري، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: جاء رجلٌ إلى رسول الله، فقال: يا رسول الله إني زوَّجتُ ابنتي، وأنا أحبُّ أن تُعينني بشيء، قال:"ما عندي شيءٌ ولكن إذا كان غد فائتني بقارورة واسعة الرأس، وعود شجرة، وآية بيني وبينك أن تدقَّ ناحيةَ الباب" قال: فأتاه بقارورة واسعة الرأس وعود شجرة. قال: فجعل يُسْلِتُ العرقَ من ذراعيه حتى امتلأت القارورة، قال:"فخذها، ومر ابنتَك أن تغمسَ هذا العود في القارورة وتطيب به" قال: فكانت إذا تطيبت به شمَّ أهلُ المدينة رائحةَ الطيب، فسُمُّوا بيوتَ المُطيّبين. وهذا حديث غريب جدًا

(3)

.

وقد قال الحافظ أبو بكر البزَّار: حَدَّثَنَا محمد بن هشام، حَدَّثَنَا موسى بن عبد الله، حَدَّثَنَا عمر بن سعيد، عن سعيد، عن قتادة، عن أنس قال: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا مر في طريق من طرق المدينة وجدوا منه رائحة الطيب، وقالوا: مرَّ رسول الله في هذا الطريق.

(وقد رواه أبو زرعة الرازيّ في "دلائل النبوة" من حديث عمر بن سعيد الأشج، عن سعيد، عن قتادة، عن أنس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مرَّ في طريقٍ من طريق المدينة وُجد من ذلك الطريق رائحة المسك، فيقولون: مرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم اليومَ في هذا الطريق)

(4)

.

(1)

رواه مسلم في صحيحه رقم (2332) في الفضائل، ودلائل النبوة؛ للبيهقي (1/ 258) و"أدُوف": أخلط وأمزج.

(2)

في ط: "حليس"، وفي اللآلئ للسيوطي:"جليس"، وكله تصحيف، والصواب ما أثبتناه من الكامل لابن عدي (2/ 862)، والضعفاء والمتروكين للدارقطني (93)، والميزان للذهبي (1/ 587).

(3)

يعني: موضوع، وقد ساقه ابن عدي في ترجمة حلبس من الكامل (2/ 862 - 863) واستنكره، والذهبي في الميزان (1/ 588) وقال: منكر جدًا، والسيوطي في اللآلى المصنوعة في الأحاديث الموضوعة (1/ 274)، وآفته حلبس هذا. (بشار).

(4)

ما بين قوسين ساقط من المطبوع واستدركته من (أ).

ص: 36

ثم قال البيهقيّ: وهذا الحديث رواه أيضًا معاذ بَن هشام، عن أبيه، عن قتادة، عن أنس؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُعرف بريح الطيب

(1)

.

قلت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم طيِّبًا، وريحه طِيب، وكان مع ذلك يُحِبُّ الطيبَ أيضًا.

قال الإمام أحمد: حَدَّثَنَا أبو عبيدة، عن سلَّام أبي المنذر، عن ثابت، عن أنس؛ أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال:"حُبِّب إليَّ النساءُ، والطيب، وجُعلت قرّةُ عيني في الصلاة"

(2)

.

حَدَّثَنَا أبو سعيد مولى بني هاشم، حَدَّثَنَا سلَّام أبو المنذر القاري، عن ثابت، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما حُبِّب إليّ من الدنيا النساء والطيب، وجُعل قرة عيني في الصلاة"

(3)

.

وهكذا رواه النسائي

(4)

بهذا اللفظ عن الحسين بن عيسى القرشي، عن عفان بن مسلم

(5)

، عن سلام بن سليمان أبي المنذر القاري البصري، عن ثابت، عن أنس فذكره.

وقد روي من وجه آخر بلفظ: "حُبِّب إليَّ من دنياكم ثلاث: الطيب والنساء، وجعل قرة عيني في الصلاة"

(6)

وليس بمحفوظ بهذا، فإن الصلاة ليست من أمور الدنيا، وإنما هي من أهم شؤون الآخرة، والله أعلم.

‌صِفةُ خَاتم النبوّة الذي بينَ كتفيه صلواتُ الله وسلامه عليه

قال البخاري

(7)

: حَدَّثَنَا محمد بن عُبيد الله، حَدَّثَنَا حاتم، عن الجَعدِ، قال: سمعتُ السَّائبَ بن يزيد يقول: ذهبت بي خالتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسولَ الله، إن ابن أختي وَجِع، فمسحَ

(1)

لم أقف عليه في دلائل النبوة للبيهقي، ولكن ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 282) وقال: رواه أبو يعلى والبزار والطبراني في الأوسط إِلَّا أنه قال: كنا نعرفُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بطيب رائحته إذا أقبل إلينا. ورجال أبي يعلى وُثِّقوا.

(2)

رواه الإمام أحمد في المسند (3/ 128، 199). وهو حديث حسن.

(3)

رواه الإمام أحمد في المسند (3/ 128)، وإسناده حسن مثل سابقه.

(4)

في عشرة النساء من المجتبى (7/ 61) والكبرى (8887).

(5)

ورواه أحمد عن عفان أيضًا (3/ 285) فلو أشار إلى ذلك لكان أعلى وأغلى.

(6)

هذه الرواية ليست في مسند أحمد، ولكن جاء في روايته عن أبي سعيد مولى بني هاشم (3/ 128) وعفان (3/ 285) عن سلام:"حُبِّب إليَّ من الدينا" من غير ذكر "الثلاث"، فهي رواية شاذة وفاسدة المعنى، قال الإمام المناوي في "فيض القدير" (3/ 370):"زاد الزمخشري والقاضي لفظ ثلاث، وهو وهم، قال الحافظ العراقي في أماليه: لفظ "ثلاث" ليست في شيء من كتب الحديث وهي تفسد المعنى. وقال الزركشي: لم يرد فيه لفظ ثلاثة، وزيادتها مخلة بالمعنى، فإن الصلاة ليست من الدنيا. وقال ابن حجر في تخريج الكشاف: لم يقع في شيء من طرقه"(بشار).

(7)

رواه البخاري في صحيحه رقم (3541) في المناقب.

ص: 37

رأسي ودعا لي بالبركة، وتوضأ فشربتُ من وَضوئه، ثم قمت خلفَ ظهره فنظرتُ إلى خاتم النُبوَّة بين كتفيه مثل زِرّ الحَجَلة. وهكذا رواه مسلم

(1)

، عن قتيبة ومحمد بن عبَّاد، كلاهما عن حاتم بن إسماعيل به.

ثم قال البخاري: (قال ابن عبيد الله)

(2)

الحَجَلة: من حجلة الفرس الذي بين عينيه. وقال إبراهيم بن حمزة: زر الحجلة

(3)

.

قال أبو عُبيد: الرز، الراء قبل الزاي.

وقال مسلم

(4)

: حَدَّثَنَا أبو بكر بن أبي شيبة، حَدَّثَنَا عبيد الله، عن إسرائيل، عن سِماك؛ أنه سمع جابر بن سمرة يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد شمط مقدم رأسه ولحيته، وكان إذا ادَّهن لم يتبين وإذا شعث رأسه تبين، وكان كثير شعر اللحية، فقال رجل: وجهه مثل السيف؟ قال: لا بل كان مثل الشمس والقمر، وكان مستديرًا، ورأيت الخاتم عند كتفه مثل بيضة الحمامة، يشبه جسده.

حَدَّثَنَا

(5)

محمد بن المثنى، حَدَّثَنَا محمد بن حزم، حَدَّثَنَا شعبة، عن سماك: سمعتُ جابرَ بن سمرة قال: رأيتُ خاتمًا في ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه بيضة حمام.

وحَدَّثَنَا ابن نمير، حَدَّثَنَا عبيد الله بن موسى، حَدَّثَنَا حسن بن صالح، عن سِماك بهذا الإسناد مثلَه.

وقال الإمام أحمد: حَدَّثَنَا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن عاصم بن سليمان، عن عبد الله بن سرجس، قال: ترون هذا الشيخ -يعني نفسه- كلَّمتُ نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم، وأكلتُ معه، ورأيتُ العلامةَ التي بين كتفيه، وهي في طرف نغض كتفه اليسرى كأنه جُمعٌ -يعني الكف المجتمع، وقال بيده فقبضها- عليه خِيْلَان كهيئة الثآليل

(6)

.

وقال أحمد: حَدَّثَنَا هاشم بن القاسم وأسود بن عامر، قالا: حَدَّثَنَا شريك، عن عاصم، عن

(1)

مسلم في صحيحه رقم (2345) في الفضائل.

(2)

ما بين القوسين سقط من الأصل، وأثبته من فتح الباري (6/ 561).

(3)

"زر الحجلة": المراد بالحجلة واحدة الحِجال، وهي بيت كالقبة لها أزرار كبار وعرا. هذا هو الصواب الذي قاله الجمهور. وقال بعضهم: المراد بالحجلة الطائر المعروف، وزرها: بيضها. وأشار إليه الترمذي، وأنكره عليه العلماء.

أما "رزّ الحجلة": بتقديم الراء، فهو بَيْض الحجل.

(4)

رواه مسلم في صحيحه رقم (2344)(109) في الفضائل، وقد تقدم.

(5)

الكلام لمسلم وهو في صحيحه رقم (2344)(110) في الفضائل.

(6)

رواه الإمام أحمد في المسند (5/ 82) ورواه مسلم رقم (2346). و"الثآليل": حبيبات تعلو الجسد. وخِيْلان: جمع خَال، وهو الشامة في الجسد.

ص: 38

عبد الله بن سرجس، قال: رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم -وسلَّمت

(1)

عليه، وأكلت معه

(2)

، وشربتُ من شرابه، ورأيتُ خاتمَ النبوة، قال هاشم: في نغض

(3)

كتفه اليسرى كأنه جُمع فيه خِيْلان سُود كأنها الثآليل

(4)

.

ورواه عن غندر، عن شعبة، عن عاصم، عن عبد الله بن سرجس، فذكر الحديث. وشكَّ شعبة في أنه هل هو في نغض الكتف اليمنى أو اليسرى

(5)

.

وقد رواه مسلم، من حديث حماد بن زيد، وعلي بن مُسْهِر، وعبد الواحد بن زياد، ثلاثتهم عن عاصم، عن عبد الله بن سَرْجِس، قال: أتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكلتُ معه خبزًا ولحمًا، أو قال: ثريدًا، فقلت: يا رسولَ الله غفرَ الله لك، قال:"ولك" فقلت: استغفرَ لك رسولُ الله؟ قال: نعم ولكم، ثم تلا هذه الآية:{وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد: 19] قال: ثم درتُ خلفَه، فنظرتُ إلى خاتم النبوة بين كتفيه عند نغض كتفه اليسرى، جُمْعًا، عليه خِيلان كأمثال الثآليل

(6)

.

وقال أبو داود الطيالسي: حَدَّثَنَا قرّة بن خالد، حَدَّثَنَا معاوية بن قرّة، عن أبيه قال: أتيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسولَ الله أرني الخاتمَ، فقال:"أدخلْ يدَك"، فأدخلتُ يدي في جُرُبَّانه، فجعلتُ ألمسُ أنظرُ إلى الخاتم، فإذا هو على نُغُض كتفه مثل البيضة، فما منعه ذاك أن جعل يدعو لي وإن يدي لفي جُرُبَّانه

(7)

.

ورواه النسائي

(8)

، عن أحمد بن سعيد، عن وهب بن جرير، عن قرّة بن خالد، به.

وقال الإمام أحمد: حَدَّثَنَا وكيع، حَدَّثَنَا سفيان، عن إياد بن لقيط السدوسي، عن أبي رِمثة التيمي، قال: خرجتُ مع أبي حتى أتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيتُ برأسه رَدْع

(9)

حِنّاء، ورأيتُ على كتفه مثل التفاحة، فقال أبي: إني طبيب أفلا أطبُّها

(10)

لك، قال:"طبيبُها الذي خلقَها" قال: وقال لأبي:

(1)

كذا بالأصل، وفي المسند (5/ 83) ودخلت عليه.

(2)

كذا في الأصل، وفي المسند:"وأكلت من طعامه".

(3)

"نغض كتفه": أعلى كتفه، وقيل: هو العظم الرقيق الذي على طرف الكتف، وقيل: ما يظهر منه عند التحرك.

(4)

رواه الإمام أحمد في المسند (5/ 83) وهو حديث صحيح، وإن كان إسناده ضعيفًا لسوء حفظ شريك.

(5)

رواه الإمام أحمد في المسند (5/ 82) وهو حديث صحيح.

(6)

رواه مسلم في صحيحه رقم (2346) في الفضائل.

(7)

رواه أبو داود الطيالسي في مسنده رقم (1071) ومن طريق البيهقيّ في الدلائل (1/ 264) وهو في المسند (3/ 434، 5/ 35) عن معاوية بن قرة، عن أبيه وهو حديث صحيح.

(8)

رواه النسائي في المناقب من سننه الكبرى (8307) وهو في فضائل الصحابة، له (202).

(9)

"رَدْع حناء": أثر حِناءٍ في الشعر.

(10)

"أفلا أطبُّها": أفلا أداويها لك.

ص: 39

"هذا ابنك؟ " قال: نعم، قال:"أما إنه لا يَجني عليك ولا تَجني عليه"

(1)

.

وقال يعقوب بن سفيان: حَدَّثَنَا أبو نعيم، حَدَّثَنَا عبيد الله بن إياد، حدَّثني أبي، عن أبي ربيعة

(2)

-أو رِمثة- قال: انطلقت مع أبي نحو النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، فنظر إلى مثل السلعة بين كتفيه، فقال: يا رسول الله إني كأطبّ الرجال أفأعالجها لك؟ قال: "لا، طبيبُها الذي خلقها"

(3)

.

قال البيهقيّ: وقال الثوري: عن إياد بن لقيط في هذا الحديث: فإذا خَلْفَ كتفه مثل التفاحة

(4)

.

وقال عاصم بن بهدلة: عن أبي رِمثة: فإذا في نُغْضِ كتفه مثلُ بَعْرة البعير، أو بَيْضة الحمامة.

ثم روى البيهقيّ من حديث سِماك بن حرب عن [أبي] سلامة العِجْلي، عن سَلمان الفارسي، قال: أتيتُ رسولَ الله فألقى رداءَه وقال: "يا سلمانُ انظر إلى ما أُمرتَ به"، قال: فرأيتُ الخاتمَ بين كتفيه مثل بَيْضة الحمامة

(5)

.

وروى يعقوبُ بن سفيان، عن الحُميدي، عن يحيى بن سُلَيم، عن ابن خثيم

(6)

، عن سعيد بن أبي راشد، عن التنوخي الذي بعثه هرقل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بتبوك، فذكر الحديث كما قدمناه في غزوة تبوك إلى أن قال: فحلَّ حبوتَه عن ظهره ثم قال: هاهنا امضِ لما أُمرتَ به، قال: فجلتُ في ظهره فإذا أنا بخاتَم في موضع غُضْرُوف الكتف مثل المحجَمَة الضَّخمة

(7)

.

حديث غريب جدًا رواه ابن حبان. وقال يعقوب بن سفيان: حَدَّثَنَا مسلم بن إبراهيم، حَدَّثَنَا عبد الله بن مَيْسرة، حَدَّثَنَا عتَّاب، سمعتُ أبا سعيد يقول: الخَتْم الذي بين كتفي النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لحمة ناتئة

(8)

.

وقال الإمام أحمد: حَدَّثَنَا سُرَيْج، حَدَّثَنَا أبو ليلى عبد الله بن ميسرة الخراساني، عن غياث البكري، قال: كنا نجالس أبا سعيد الخدري بالمدينة، فسألته عن خاتم رسولِ الله صلى الله عليه وسلم الذي كان بين

(1)

رواه الإمام أحمد في المسند (4/ 163) وهو حديث صحيح.

(2)

كذا بالأصل والمطبوع، وفي دلائل النبوة؛ للبيهقي (1/ 265): حَدَّثَنَا عبد الله بن إياد، حدّثني أبي، عن أبي رِمْثة.

(3)

دَلائل النبوة؛ للبيهقي (1/ 265) وهو حديث صحيح.

(4)

دلائل النبوة؛ (1/ 265) وهو حديث صحيح.

(5)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (1/ 266) وفيه: مثل بيضة الحمام، وإسناده ضعيف، فيه أبو سلامة العجلي عبد الله بن عميرة بن حصن، وهو مجهول، تفرد بالرواية عنه سماك بن حرب، كما في الميزان (2/ 469).

(6)

في (أ) والمطبوع: عن أبي خثيم. والتصحيح من الدلائل (1/ 266) والمسند (3/ 441).

(7)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (1/ 266) وهو عند أحمد في المسند (3/ 441 - 442) عن ابن خثيم، عن سعيد بن أبي راشد. وإسناده ضعيف.

(8)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (1/ 265) وفي إسناده عبد الله بن ميسرة الحارثي ضعيف.

ص: 40

كتفيه، فقال بإصبعه السبّابة هكذا: لحم ناشز

(1)

بين كتفيه صلى الله عليه وسلم. تفرد به أحمد من هذا الوجه.

وقد ذكر الحافظ أبو الخطاب بن دحية المصري في كتابه "التنوير في مولد البشير النذير" عن أبي عبد الله محمد بن علي بن الحسين بن بشر، المعروف بالحكيم الترمذي؛ أنه قال: كان الخاتم الذي بين كتفي رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه بيضة حمامة مكتوب في باطنها: الله وحده. وفي ظاهرها: توجه حيث شئت فإنك منصور. ثم قال: وهذا غريب، واستنكره.

وقال: وقيل: كان من نور، ذكره الإمام أبو زكريا يحيى بن مالك بن عائذ في كتابه "تنقل الأنوار" وحكى أقوالًا غريبة غير ذلك.

ومن أحسن ما ذكره ابن دحية رحمه الله، وغيره من العلماء قبله، في الحكمة في كون الخاتم كان بين كتفي رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إشارة إلى أنه لا نبيَّ بعدَك يأتي من ورائِك. قال: وقيل كان على نغض كتفه؛ لأنه يقال: هو الموضع الذي يدخلُ الشيطانُ منه إلى الإنسان، فكان هذا عصمةً له عليه الصلاة والسلام من الشيطان.

قلت: وقد ذكرنا الأحاديث الدالة على أنه لا نبيَّ بعدَه عليه الصلاة والسلام، ولا رسول، عند تفسير قوله تعالى:{مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الأحزاب: 40].

‌باب جامعٌ لأحاديثَ متفرقة وردتْ في صفةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم

-

قد تقدم في رواية نافع بن جُبير، عن عليّ بن أبي طالب؛ أنه قال: لم أرَ قبلَه ولا بعدَه مثلَه

(2)

.

(1)

رواه الإمام أحمد في المسند (3/ 69). و"ناشز": مرتفع وظاهر. وإسناده ضعيف لضعف عبد الله بن ميسرة الخراساني وجهالة شيخه.

فائدة: قال الشامي في كتابه سُبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد (2/ 63 - 68) "اختُلف في صفة خاتم النبوة على أقوال كثيرة متقاربة المعنى -وذكر إحدى وعشرين صفة، مع رواياتها- ثم قال:

قال العلماء: هذه الروايات متقاربة في المعنى، وليس ذلك باختلاف، بل كل راو شبَّه بما سنح له، فواحد قال: كزِرِّ الحجلة، وهو بيض الطائر المعروف أو أزرار البشخاناه (بيت كالقبة له عرا).

وآخر كبيضة الحمامة، وآخر كالتفاحة، وآخر بضعة لحم ناشزة، وآخر لحمة ناتئة، وآخر كالمِحجمة، وآخر كرُكبة العنز. وكلها ألفاظ مؤداها واحد وهو قطعة لحم. ومن قال: شعر؛ فلأن الشعر حوله متراكب عليه؛ كما في الرواية الأخرى.

قال أبو العباس القرطبي في المُفهم: دلَّت الأحاديث الثابتة على أن خاتم النبوة كان شيئًا بارزًا أحمر عند كتفه صلى الله عليه وسلم الأيسر، إذا قُلِّل قدْر بيضة الحمامة، وإذا كُبِّر قدر جُمْع اليد.

(2)

تقدم الحديث أكثر من مرة، وهو عند الترمذي في الجامع رقم (3637) في المناقب، وقال عقبة: هذا حديث حسن صحيح.

ص: 41

وقال يعقوبُ بن سفيان: حَدَّثَنَا عبد الله بن مسلم القعنبي وسعيد بن منصور، حَدَّثَنَا عمر بن يونس، حَدَّثَنَا عمر بن عبد الله مولى عُفرة، حدَّثني إبراهيم بن محمد من ولد عليّ، قال: كان علي إذا نعتَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: لم يكن بالطويل الممغَّط ولا القصير المتردِّد، وكان رَبعة من القوم، ولم يكن بالجَعد القَطط، ولا بالسَّبط، كان جَعْدًا رَجِلًا، ولم يكن بالمُطَهَّم ولا المُكَلْثم، وكان في الوجه تدوير أبيضُ مُشْرَبٌ، أدعجَ العينين، أهدب الأشفار، جليل المَشَاش والكتَد، أجردَ، ذو مَسْرُبة، شَثْن الكفين والقدمين، إذا مشى تقلَّع كأنما يمشي في صَبَب، وإذا التفتَ التفتَ معًا، بين كتفيه خاتم النبوة، أجود الناس كفًا، وأرحب الناس صدرًا، وأصدق الناس لهجةً، وأوفى الناس ذمّة، وألينهم عريكةً، وأكرمُهم عشرةً، من رآه بديهة هابه، ومن خالطه معرفةً أحبَّه، يقول ناعتُه: لم أرَ قبلَه ولا بعدَه مثله

(1)

. وقد روى هذا الحديث الإمام أبو عُبيد القاسم بن سلام في كتاب "الغريب"

(2)

.

ثم روى

(3)

عن الكسائي والأصمعي وأبي عمرو تفسير غريبه، وحاصل ما ذكره مما فيه غرابة: أن "المُطَهَّم" هو الممتلئ الجسم، و"المكلثم" شديد تدوير الوجه. يعني لم يكن بالسمين الناهض، ولم يكن ضعيفًا بل كان بين ذلك، ولم يكن وجهه في غاية التدوير بل فيه سهولة، وهي أحلى عند العرب ومن يعرف.

وكان "أبيض مشربًا حمرة" وهي أحسن اللون، ولهذا لم يكن أمهق اللون.

و"الأدعج" هو شديد سواد الحدقة.

و"جليل المشاش" هو عظيم رؤوس العظام؛ مثل الركبتين والمرفقين والمنكبين.

و"الكتد" الكاهل وما يليه من الجسد.

وقوله "شثْن الكفين" أي: غليظهما. "وتقلع في مشيته" أي: شديد المشية. وتقدم الكلام على الشُّكلة والشُّهلة والفرق بينهما.

و"الأهدب" طويل أشفار العين.

وجاء في حديث أنه كان شَبح الذراعين، يعني غليظهما

(4)

، والله تعالى أعلم.

(1)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (1/ 269 - 270). وإسناده ضعيف - لضعف عمر بن عبد الله مولى غفرة.

(2)

غريب الحديث للقاسم بن سلام (1/ 121) وإسناده ضعيف.

(3)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (1/ 271 - 272).

(4)

"غليظهما": طويلهما، أو عريضهما. عن النهاية؛ لابن الأثير.

ص: 42

‌حديثُ أمِّ مَعبَدٍ

(1)

في ذلك

قد تقدم الحديث بتمامه في الهجرة من مكة إلى المدينة، حين ورد عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه أبو بكر ومولاه عامر بن فهيرة، ودليلهم عبد الله بن أريقط الدِّيلي، فسألوها: هل عندها لبن أو لحم يشترونه منها؟ فلم يجدوا عندها شيئًا، وقالت: لو كان عندنا شيء ما أعوزكم القِرى، وكانوا ممحلين، فنظر إلى شاة في كِسْرِ خيمتها فقال:"ما هذه الشاةُ يا أمَّ معبد؟ " فقالت: خلَّفَها الجهد. فقال: "أتأذنين أن أحلبها؟ " فقالت: إن كان بها حلب فاحلبها، فدعا بالشاة فمسحها وذكر اسم الله .. فذكرَ الحديث في حَلْبه منها ما كفاهم أجمعين، ثم حلبها وترك عندها إناءها ملأى وكان يُربض الرهط.

فلما جاء بعلُها استنكر اللبن، وقال: من أين لك هذا يا أم معبد ولا حَلُوبة في البيت، والشاء عازب؟ فقالت: لا والله إنه مرَّ بنا رجلٌ مُبارك كان من حديثه كيت وكيت.

فقال: صفيه لي، فوالله إني لأراه صاحبَ قريش الذي تطلب.

فقالت: رأيتُ رجلًا ظاهرَ الوضاءة، حسن الخلق، مليح الوجه، لم تعبه ثُجلة، ولم تُزْرِ بهِ صُعْلة، قَسِيم وَسِيم، في عينيه دَعَجٌ، وفي أشفاره وَطَف، وفي صوته صَحَل، أحور، أكحل، أزَجُّ،

(1)

حديث أم معبد رواه الحاكم وفي المستدرك (3/ 10) مطولًا، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، ويستدل على صحته وصدق رواته بدلائل:

- فمنها نزول المصطفى صلى الله عليه وسلم بالخيمتين متواتر في أخبار صحيحة ذوات عدد.

- ومنها أن الذين ساقوا الحديث على وجهه أهل الخيمتين من الأعاريب الذين لا يتهمون بوضع الحديث، والزيادة والنقصان، وقد أخذوه لفظًا بعد لفظ عن أبي مَعْبد وأم معبد.

- ومنها أن له أسانيد كالأخذ باليد، أخذ الولد عن أبيه، والأب عن جده، ولا إرسال ولا وهن في الرواة.

- ومنها أن الحر بن الصباح النخعي أخذه عن أبي معبد كما أخذه ولده عنه، فأما الإسناد الذي رويناه بسياقة الحديث عن الكعبين فإنه إسناد صحيح عال للعرب الأعارب، وقد علونا في حديث الحر بن الصباح.

هكذا قال الحاكم، وقال الذهبي معقبًا: ما في هذه الطرق شيء على شرط الصحيح.

وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 57) و (8/ 279) وقال: رواه الطبراني، وفيه عبد العزيز بن يحيى المديني، نسبه البخاري وغيره إلى الكذب، وقال الحاكم: صدوق فالعجب منه. وفيه مجاهيل.

كما أخرجه أبو نعيم في دلائل النبوة (283 - 287) وابن سعد في الطبقات الكبرى (1/ 230) والبيهقي في دلائل النبوة (1/ 276 - 280).

والقصة مذكورة في السيرة النبوية؛ لابن هشام (2/ 100) والروض الأنف (2/ 7 - 8). وتهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر (1/ 326) والاستيعاب لابن عبد البر (2/ 796 - 797) وتاريخ الإسلام للذهبي (2/ 227) وعيون الأثر (1/ 304) والإصابة؛ لابن حجر (4/ 498) وسجلها حسان بن ثابت رضي الله عنه شعرًا في ديوانه (2/ 89).

ص: 43

أقرَن، في عنقه سَطَع، وفي لحيته كثاثة، إذا صمت فعليه الوقار، وإذا تكلَّم سما وعلَاه البهاء، حُلو المنطق، فَصْل لا نزْر ولا هَذر، كأن منطقه خرزات نَظْم يَنحدرن، أَبْهى الناس وأَجْمله من بعيد، وأحلاه وأحسنه من قريب، رَبعة لا تَشْنَؤه عين من طول، ولا تقتحمه عينٌ من قِصَر، غُصْن بين غُصْنَيْن، فهو أنضرُ الثلاثة منظرًا، وأحسنهم قَدًّا، له رفقاء يحفُّون به، وإن قال استمعوا لقوله، وإن أمر تَبادروا إلى أمره، مَحْفُود مَحْشُود، لا عابس، ولا مُفْنِد.

فقال بعلُها: هذا والله صاحبُ قريش الذي تطلب، ولو صادفتُه لالتمستُ أن أصحبه، ولأجْهَدن إن وجدت إلى ذلك سبيلًا.

قال: وأصبحَ صوتٌ بمكة عالٍ بين السماء والأرض يسمعونه ولا يرون من يقوله، وهو يقول:

جَزَى اللهُ رَبّ الْعَرْشِ خَيْرَ جَزَائِه

رَفِيقَيْنِ حَلَّا خَيْمَتَي أُمّ مَعْبَدٍ

هُمَا نَزَلَا بِالْبِرّ وَارْتَحَلَا بِه

فَأَفْلَحَ مَنْ أَمْسَى رَفِيقَ مُحَمّدِ

فَيَا لَقُصَيٍّ مَا رَوَى اللهُ عَنْكُمْ

بِهِ مِنْ فَعَالٍ لَا تُجَازَى وَسُؤْدَدِ

سَلُوا أُخْتَكُمْ عَنْ شَاتِهَا وَإِنَائِهَا

فَإِنّكُمْ إنْ تَسْأَلُوا الشَّاةَ تَشْهَدِ

دَعاهَا بِشَاةٍ حَائلٍ فَتَحَلَّبت

لَهُ بِصريحٍ ضَرَّةُ الشَّاة مُزْبِدِ

فَغَادَرهُ رَهْنًا لَدَيها بحَالبٍ

يَدُرُّ لَها فِي مَصْدَرٍ ثُمَّ مَوْرِدِ

وقد قدمنا جوابَ حسان بن ثابت لهذا الشعر المبارك بمثله في الحسن.

والمقصود أن الحافظ البيهقيّ روى هذا الحديث من طريق عبد الملك بن وهب المَذْحِجي، قال: حَدَّثَنَا الحسن بن الصبَّاح عن أبي مَعبد الخُزَاعي، فذكر الحديث بطوله كما قدمناه بألفاظه

(1)

.

وقد رواه الحافظ يعقوب بن سفيان الفَسوي

(2)

، والحافظ أبو نعيم

(3)

في كتابه "دلائل النبوة".

قال عبد الملك: فبلغني أن أبا معبد أسلم بعد ذلك، وأن أُمَّ معبد هاجرت وأسلمت.

ثم إن الحافظ البيهقيّ أتبع هذا الحديث بذكر غريبه، وقد ذكرناه في الحواشي فيما سبق، ونحن نذكر هاهنا نكتًا من ذلك.

فقولها: ظاهر الوضاءة: أي: ظاهر الجمال. أبلج الوجه: أي: مشرق الوجه مضيئه.

(1)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (1/ 276 - 280).

(2)

المعرفة والتاريخ وهو في القسم الضائع منه، فاستدركه محققه في الجزء الثالث.

(3)

دلائل النبوة لأبي نعيم (2/ 436 - 438).

ص: 44

لم تعبه ثُجْلة: قال أبو عبيد: هو كِبَر البطن. وقال غيره: كِبرَ الرأس، وردَّ أبو عبيدة رواية من روى: لم تعبه نُحْلة. يعني من النُّحول وهو الضعف.

قلت: وهذا هو الذي فسَّر به البيهقيّ الحديث، والصحيح قول أبي عبيد، ولو قيل: إنه كِبر الرأس لكان قويًا، وذلك لقولها بعده: ولم تُزْرِ به صُعْلَة. وهو صِغَر الرأس بلا خلاف، ومنه يقال لولد النعامة: صُعْل، لصغر رأسه، ويقال له: الظَّلِيم، وأما البيهقيّ فرواه: لم تعبه نُحْلة يعني من الضعف كما فسره، ولم تزر به صُعْلة وهو الخاصِرة، يُريد أنه ضَرْب من الرجال ليس بمنتفخ ولا ناحل.

قال: ويُروى: لم تعبه ثُجْلة: وهو كبر البطن، ولم تُزر به صُعْلة: وهو صغر الرأس.

وأما الوسيم: فهو حسن الخلق. وكذلك: القسيم أيضًا. والدعج: شدة سواد الحدقة، والوَطَف: طول أشفار العينين.

ورواه القُتَيْبي: في أشفاره عَطَف. وتبعه البيهقيّ في ذلك.

قال ابن قتيبة: ولا أعرفُ ما هذا؛ لأنه وقع في روايته غلط فحارَ في تفسيره، والصواب ما ذكرناه، والله أعلم.

وفي صوته صَحَلٌ: وهو بَحّة يسيرة، وهي أحلى في الصوت من أن يكون حادًا. قال أبو عبيد: وبالصحل يُوصف الظِّباء.

قال: ومَن رَوى: في صوته صَهَل؛ فقد غلط، فإن ذلك لا يكون إِلَّا في الخيل، ولا يكون في الإنسان.

قلت: وهو الذي أورده البيهقيّ، قال: ويُروى: صَحَل. والصواب قول أبي عبيد، والله أعلم.

وأما قولها: أحور، فمستغرب في صفة النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، وهو قَبَل في العين يزينها لا يشينها كالحَول.

وقولها: أكحل. قد تقدم له شاهد.

وقولها: أزج؛ قال أبو عبيد: هو المتقوس الحاجبين.

قال: وأما قولها: أَقرَن؛ فهو التقاء الحاجبين بين العينين. قال: ولا يُعرف هذا في صفة النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم إِلَّا في هذا الحديث. قال: والمعروف في صفته عليه الصلاة والسلام أنه أبْلَج الحاجبين.

وفي عنقه سَطَع: قال أبو عبيد: أي: طول، وقال غيره: نور. قلت: والجمع ممكن، بل متعيّن.

وقولها: إذا صمتَ فعليه الوقار: أي: الهيبة عليه في حال صمته وسكوته. وإذا تكلَّم سما: أي: علا على الناس. وعلاه البهاء: أي: في حال كلامه.

حُلوُ المنطق فَصْل: أي: فصيح بليغ، يفصل الكلام ويبينه. لا نَزْر ولا هَذْر: أي: لا قليل ولا

ص: 45

كثير، كان منطقه خرزات نظم: يعني الذي من حسنه وبلاغته وفصاحته وبيانه وحلاوة لسانه

(1)

.

أبهى الناس وأجملُه من بعيد وأحلاه وأحسنه من قريب: أي هو مليح من بعيد ومن قريب.

وذكرت أنه لا طويل ولا قصير، بل هو أحسن من هذا ومن هذا، وذكرت أن أصحابَه يعظمونه ويخدمونه ويبادرون إلى طاعته، وما ذلك إِلَّا لجلالته عندهم وعظمته في نفوسهم ومحبتهم له، وأنه ليس بعابس؛ أي: ليس يعبس، ولا يُفنِّد أحدًا: أي يهجِّنه ويستقل عقله، بل جميل المعاشرة حسن الصحبة، صاحبه كريم عليه، وهو حبيب إليه صلى الله عليه وسلم.

(وقال أبو زرعة في "الدلائل"

(2)

حَدَّثَنَا أبو نُعيم، حَدَّثَنَا يوسف -يعني ابن صُهيب- عن عبد الله بن بريدة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أحسن البشر قدمًا. وهذا مرسل.

وقال أبو زرعة أيضًا: حَدَّثَنَا إسماعيل بن أبان الأزدي الورّاق، حَدَّثَنَا عنبسة بن عبد الرحمن، عن محمد بن زاذان، عن أم سعد، عن عائشة، قالت: قلت يا رسول الله! تأتي الخلاءَ فلا يُرى منك شيءٌ من الأذى، فقال:"وما علمت يا عائشة أن الأرض تبتلع ما يخرج من الأنبياء، فلا يُرى منه"؟. هذا الحديث يُعَدُّ من المنكرات، والله أعلم)

(3)

.

‌حديثُ هِنْدِ بن أبي هَالة

(4)

في ذلك

وهند هذا هو رَبيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمه خديجة بنت خُويلد، وأبوه أبو هالة كما قدَّمنا بيانه.

قال يعقوب بن سفيان الفَسوي الحافظ رحمه الله: حَدَّثَنَا سعيدُ بن حمَّاد الأنصاري المصري، وأبو غسان مالك بن إسماعيل النَّهْدِي

(5)

قالا: حَدَّثَنَا جُمَيْع بن عمر بن عبد الرحمن العِجْلي

(6)

، قال:

(1)

أي: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(2)

دلائل النبوة لأبي زرعة (2/ 571 - 572) وهو مرسل، والمرسل ضعيف.

(3)

ما بين القوسين سقط من المطبوع، وأثبته من (أ). لوحة (880 - 881).

(4)

حديث هند بن أبي هالة روى بعضه الترمذي في الشمائل رقم (8)، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 273 - 278) وقال: رواه الطبراني وفيه من لم يسمّ. ورواه البيهقيّ في دلائل النبوة (1/ 285 - 292) وهو في تهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر (1/ 329 - 333) وقال الحافظ ابن عساكر: وإسناد هذا الحديث على جهالة بعض نقلته هو المحفوظ. وأخرج الترمذي منه مواضع مقطعة في كتاب الشمائل (225) و (236) و (351)

وانظر الحديث في الطبقات الكبرى؛ لابن سعد (1/ 422) والخصائص الكبرى؛ للسيوطي (1/ 76) وعيون الأثر (2/ 405) وإسناده ضعيف، بل لا يصح له إسناد.

(5)

النَّهْدي: نسبة لبني نَهْد، وهي قبيلة يمنية.

(6)

جميع بن عمر العجلي، قال عنه ابن حبان: رافضي يضع الحديث، وقال ابن نمير: كان أكذب الناس (الميزان 1/ 421).

ص: 46

حدَّثني رجل بمكة، عن ابنٍ لأبي هالة التميمي، عن الحسن بن علي، قال: سألتُ خالي هندَ بن أبي هالة -وكان وصَّافًا- عن حِلْية رسول الله صلى الله عليه وسلم -وأنا أشتهي أن يصفَ لي منها شيئًا أتعلَّقُ به- فقال:

كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فَخْمًا مُفَخَّما

(1)

، يتلألأُ وجهُه تلألؤَ القمر ليلةَ البدر، أطولَ من المربوع، وأقصرَ من المُشَذَّب

(2)

، عظيمَ الهامة، رَجِلَ الشعر، إذا تفرّقت عقيصتُه

(3)

فَرَق، وإلا فلا يُجاوز شعرُه شحمةَ أذنيه إذا هو وفَّره، أزهر اللون، واسع الجبين، أزجّ الحواجب

(4)

، سوابغَ في غيرِ قَرَنٍ

(5)

، بينهما عِرْق يُدِرّه الغضبُ، أقنى العِرْنين

(6)

، له نور يعلوه، يَحْسبه من لم يتأمله أشمَّ، كثَّ اللّحية، أَدْعَج، سهل الخدين، ضليع الفم، أشنب، مُفَلَّجَ الأسنان، دقيق المسرُبة، كأن عنقَه جِيدُ دُمية في صفاء الفضة، معتدل الخلق، بادن متماسك، سواء البطن والصدر، عريض الصدر، بَعِيد ما بين المنكبين، ضخم الكَرَاديس، أَنْوَر المتجرَّد، موصول ما بين اللُّبة والسُّرة بشعر يجر كالخط، عاري الثديين والبطن مما سوى ذلك، أشْعر الذراعين والمنكبين وأعالي الصدر، طويل الزندين، رَحْب الراحة، سَبْط العصب، شَثْن الكفين والقدمين، سائل الأطراف، خَمْصان الأخمصين، مَسِيح القدمين يَنْبو عنهما الماء، إذا زال زال قَلْعا

(7)

، يخطو تكفِّيًا، ويمشي هَوْنًا

(8)

، ذَريع المشية

(9)

، إذا مشى كأنما ينحطُّ من صَبَب

(10)

، وإذا التفتَ التفتَ جميعًا، خافض الطرف، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، جُلُّ نظره الملاحظة، يَسُوق أصحابه، يبدأ من لقيه بالسلام.

قلت: صف لي مَنْطقه.

قال: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم متواصلَ الأحزان، دائم الفكر، ليست له راحة، لا يتكلَّم في غير حاجة، طويل السكوت، يفتتح الكلام ويختمه بأشداقه، ويتكلَّم بجوامع الكلم، فَصْل لا فُضول ولا تقصير،

(1)

"فخمًا مفخمًا" أي عظيمًا معظمًا.

(2)

"المُشَذَّب": الطويل البائن، من التشذب، وأصله النخلة الطويلة التي شُذِّب جريدها.

(3)

"عقيصته": الخصلة من الشعر إذا لُويت وضُفرت. وفي رواية أخرى: عقيقته، وأصل العقيقة: شعر الصبي قبل أن يحلق، فإذا حُلق ونبت ثانية فقد زال عنه اسم العقيقة. وربما سمي الشعر عقيقة بعد الحلق على الاستعارة والمراد بالحديث: أنه كان لا يفرق شعره إِلَّا أن يفترق هو، وكان هذا في صدر الإسلام، ثم فرق. دلائل النبوة (1/ 292 - 293).

(4)

قوله: أزج الحواجب، الزجج: طول الحاجبين ودقتهما وسبوغهما إلى مؤخر العينين.

(5)

"القَرَن": أن يطول الحاجبان حتى يلتقي طرفاهما.

(6)

"الأقنى": طول ودقة أرنبته وحدب في وسطه. و"العرنين": الأنف وما صلب منه.

(7)

"القلع": انتزاع الشيء من أصله.

(8)

"يخطو تكفِّيًا ويمشي هونًا": يريد أنه يميد إذا خطأ، ويمشي في رفق غير مختال.

(9)

"ذريع المشية": يريد أنه مع هذا الرفق سريع المشية.

(10)

"ينحط من صبب": الصبب: الانحدار.

ص: 47

دَمِث ليس بالجافي ولا المَهين، يُعَظِّم النعمةَ وإن دقت، لا يذمُّ منها شيئًا، لا يذمُّ ذَوَاقًا ولا يمدحه، ولا يقوم لغضبه إذا تُعرِّض للحق شيء حتى ينتصرَ له، وفي رواية: لا تُغضبه الدنيا وما كان لها، فإذا تُعوطي الحقُّ لم يعرفه أحدٌ ولم يقم لغضبه شيءٌ حتى ينتصر له، لا يغضبُ لنفسه ولا ينتصر لها، إذا أشار أشار بكفه كلَّها، وإذا تعجّب قلبها، وإذا تحدَّث فصلَ بها، يضربُ براحته اليمنى باطنَ إبهامه اليسرى، وإذا غضب أعرضَ وأشاح، وإذا فرح غضَّ طرفه، جُلُّ ضحكِه التبسُّم، ويفتر عن مثل حَبِّ الغمام.

قال الحسن: فكتمتُها الحسينَ بن علي زمانًا، ثُمَّ حدَّثته فوجدتُه قد سبقني إليه فسأله عما سألتُه عنه، ووجدته قد سألَ أباه عن مدخله ومخرجه ومجلسه وشكله فلم يدع منه شيئًا.

قال الحسين: سألت أبي عن دُخول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: كان دخولُه لنفسه، مأذون له في ذلك، وكان إذا أوى إلى منزله جزَّأ دخولَه ثلاثةَ أجزاء، جزءًا لله، وجزءًا لأهله، وجزءًا لنفسه. ثم جزأ جزأه بين الناس فرد ذلك على العامة والخاصة، لا يدخر عنهم شيئًا.

وكان من سيرته في جزء الأمة إيثار أهل الفضل بإذنه وقَسْمه على قدر فضلهم في الدين، فمنهم ذو الحاجة، ومنهم ذو الحاجتين، ومنهم ذو الحوائج، فيتشاغل بهم ويُشغلهم فيما أصلحهم والأمة؛ من مسألته عنهم وإخبارهم بالذي ينبغي، ويقول:"ليبلغ الشاهدُ الغائبَ، وأبلغوني حاجةَ من لا يستطيع إبلاغي حاجته، فإنه من بَلَّغَ سلطانًا حاجة من لا يستطيع إبلاغها إياه ثبَّتَ الله قدميه يوم القيامة" لا يُذكر عنده إِلَّا ذلك، ولا يقبل من أحد غيرَه، يدخلون عليه زوارًا -ويُروى: روّادًا. أي: طالبين ما عنده- ولا يفترقون إِلَّا عن ذَواق.

وفي رواية: ولا يتفرقون إِلَّا عن ذَوْق، ويخرجون أدلةً، يعني فقهاء.

قال: وسألته عن مخرجه، كيف كان يصنع فيه؟ فقال:

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَخْزن لسانَه إِلَّا بما يعنيهم ويؤلفهم ولا ينفرهم، ويكرم كريمَ كُلِّ قوم ويُولِّيه عليهم، ويَحْذر الناسَ، ويحترسُ منهم من غير أن يطوي عن أحد منهم بِشْرَهُ ولا خُلُقَهُ، يتفقد أصحابَه، ويسأل الناس عما في الناس، ويُحَسِّن الحسنَ ويقويه، ويُقبِّح القبيح ويوهّيه، معتدل الأمر غير مختلف، ولا يغفل مخافة أن يغفلوا أو يملوا، لكل حال عنده عتاد، لا يُقصِّر عن الحق ولا يجوزه، الذين يلونه من الناس خيارُهم، أفضلُهم عنده أعمُّهم نصيحة، وأعظمهم عنده منزلة أحسنُهم مواساة ومؤازرة.

قال: فسألته عن مجلسه، كيف كان؟ فقال:

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجلس ولا يقوم إِلَّا على ذكرٍ، ولا يُوطن الأماكن وينهى عن إيطانها، وإذا انتهى إلى قوم جلس حيث ينتهي به المجلس، ويأمر بذلك، يُعطي كلَّ جلسائه نصيبَه حتى لا يحسب

ص: 48

جليسه أن أحدًا أكرم عليه منه، من جالسَه أو قاوَمَه في حاجة صابَرَه حتى يكون هو المُنْصَرِف، ومن سأله حاجة لم يردّه إلَّا بها أو بميسور من القول، قد وَسِع الناس منه بَسْطُه وخُلُقُه، فصار لهم أبًا، وصاروا عنده في الحق سواء، مجلسُه مجلس حلم وحياء وصبر وأمانة، لا تُرفع فيه الأصوات، ولا تُؤَبَّن فيه الحُرَم، ولا تُنثى فلتاتُه، متعادلين يتفاضلون فيه بالتقوى، متواضعين يوقِّرون فيه الكبير، ويرحمون فيه الصغير، ويؤثرون ذا الحاجة، ويحفظون الغريب.

قال: فسألته عن سيرته في جلسائه، فقال:

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم دائمَ البِشر، سهل الخُلُقِ، ليِّن الجانب، ليس بفظٍّ ولا غليظ، ولا سخَّاب ولا فحَّاش، ولا عيَّاب ولا مزَّاح، يتغافل عما لا يشتهي، ولا يؤيس منه راجيه، ولا يخيب فيه، قد ترك نفسه من ثلاث: المراء، والإكثار، وما لا يعنيه. وترك الناس من ثلاث: كان لا يذم أحدًا، ولا يعيِّره، ولا يطلب عورته، ولا يتكلَّم إِلَّا فيما يرجو ثوابه، إذا تكلَّم أطرق جلساؤه كأنما على رؤوسهم الطير، فإذا سكت تكلَّموا، ولا يتنازعون عنده، يضحك مما يضحكون منه، ويتعجَّب مما يتعجبون منه، ويصبر للغريب على الجفوة في منطقه ومسألته، حتى إن كان أصحابه ليستجلبونه في المنطق، ويقول:"إذا رأيتم طالب حاجة فأرفدوه" ولا يقبل الثناء إِلَّا من مكافئ، ولا يقطع على أحد حديثه حتى يجوزَ فيقطعه بانتهاء أو قيام.

قال: فسألته، كيف كان سكوته؟ قال:

كان سكوته على أربع: الحلم والحذر والتقدير والتفكر. فأما تقديره ففي تسويته النظر والاستماع بين الناس، وأما تذكره أو قال تفكره ففيما يبقى ويفنى، وجُمع له صلى الله عليه وسلم الحلم والصبر، فكان لا يغضبه شيء ولا يستفزُّه، وجُمع له الحذر في أربع: أخذه بالحسنى، [ليُقتدى به، وتركه القبيح لِيُنتْهَى عنه، واجتهاده الرأي فيما يصلح أمته]

(1)

والقيام بهم فيما جمع لهم الدنيا والآخرة صلى الله عليه وسلم.

وقد روى هذا الحديث بطوله الحافظ أبو عيسى الترمذي رحمه الله في كتاب "شمائل رسول الله صلى الله عليه وسلم"

(2)

عن سفيان بن وكيع بن الجراح، عن جُميع بن عمر بن عبد الرحمن العجلي، حدَّثني رجل من ولد أبي هالة زوج خديجة، يكنى أبا عبد الله -سمَّاه غيره: يزيد بن عمر- عن ابنٍ لأبي هالة، عن الحسن بن علي، قال: سألت خالي .. فذكره، وفيه حديثه عن أخيه الحسين، عن أبيه علي بن أبي طالب.

(1)

ما بين حاصرتين مستدرك من تاريخ الإسلام، السيرة النبوية للإمام الذهبي (ص 449)، طبعة دار الكتاب العربي - بيروت، سنة (1407 هـ).

(2)

شمائل رسول الله للترمذي رقم (8) وإسناده تالف، كما بينا من حال جميع بن عمر.

ص: 49

وقد رواه الحافظ أبو بكر البيهقيّ في "الدلائل"

(1)

عن أبي عبد الله الحاكم النيسابوري لفظًا وقراءة عليه: أخبرنا أبو محمد الحسن بن محمد بن يحيى بن الحسن بن جعفر بن عبيد الله بن الحسين بن علي بن الحسين بن علي

(2)

بن أبي طالب العقيقي

(3)

صاحب كتاب "النسب" ببغداد، حَدَّثَنَا إسماعيل بن محمد بن إسحاق بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب أبو محمد بالمدينة سنة ست وستين ومئتين، حدَّثني علي بن جعفر بن محمد، عن أخيه موسى بن جعفر، عن جعفر بن محمد، عن علي بن الحسين بن علي، عن أبيه محمد بن علي بن الحسين، قال: قال الحسن: سألت خالي هند بن أبي هالة .. فذكره.

قال شيخنا الحافظ أبو الحجَّاج المِزِّي رحمه الله في كتابه "الأطراف"

(4)

بعد ذكره ما تقدم من هاتين الطريقين: وروى إسماعيل بن مسلَمَة بن قَعْنَبٍ القَعْنبي، عن إسحاق بن صالح المخزومي، عن يعقوبٍ التَّيمي، عن عبد الله بن عباس؛ أنه قال لهند بن أبي هالة -وكان وصَّافًا لرسول الله-: صف لنا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم. فذكر بعضَ هذا الحديث.

وقد روى الحافظ البيهقي

(5)

من طريق صَبيح بن عبد الله الفَرْغَاني -وهو ضعيف- عن عبد العزيز بن عبد الصمد، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، وعن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، حديثًا مطولًا في صفة النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قريبًا من حديث هند بن أبي هالة. وسردَه البيهقيُّ بتمامه، وفي أثنائه تفسير ما فيه من الغريب، وفيما ذكرناه غنية عنه، والله تعالى أعلم.

وروى البخاري

(6)

عن أبي عاصم الضَّحاك، عن عمر بن سعيد بن أحمد بن حسين، عن ابن أبي مُلَيكة، عن عقبة بن الحارث قال: صلَّى أبو بكر العصر بعد موت النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم بليال فخرج هو وعلي يمشيان، فإذا الحسن بن علي يلعب مع الغلمان، قال: فاحتمله أبو بكر على كاهله وجعل يقول:

بأبي، شبيه بالنبي،

ليس شبيهًا بعلي

وعلي يضحك منهما رضي الله عنهما.

وقال البخاري

(7)

: حَدَّثَنَا أحمد بن يونس، حَدَّثَنَا زهير، حَدَّثَنَا إسماعيل عن أبي جُحَيفةَ قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان الحسن بن علي يشبهه.

(1)

دلائل النبوة للبيهقي (1/ 285 - 292) وإسناده ضعيف.

(2)

ما بين حاصرتين ساقط من ط واستدرك من الدلائل.

(3)

في ط: القعنبي. تحريف.

(4)

تحفة الأشراف للمزي (8/ 316) حديث رقم (11736) بتحقيق الدكتور بشار عواد معروف.

(5)

دلائل النبوة للبيهقي (1/ 298 - 306).

(6)

رواه البخاري في صحيحه رقم (3542) في المناقب.

(7)

رواه البخاري في صحيحه رقم (3543) في المناقب.

ص: 50

وروى البيهقيّ

(1)

عن أبي علي الرُّوذبَارِيّ، عن عبد الله بن جعفر بن شَوذَب الوأسطي، عن شعيب بن أيوب الصَّرِيفيني، عن عُبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن هانئ، عن علي رضي الله عنه قال: الحسن أشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين الصدر إلى الرأس، والحسين أشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان أسفل من ذلك.

‌باب ذكر أخلاقه وشمائله الطاهرة صلى الله عليه وسلم

-

قد قدمنا طيب أصله ومحتده، وطهارة نسبه ومولده، وقد قال الله تعالى {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124].

وقال البخاري: حَدَّثَنَا قتيبة، حَدَّثَنَا يعقوب بن عبد الرحمن، عن عمرو عن سعيدٍ المَقْبُري، عن أبي هريرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بُعثت من خير قرون بني آدم قَرْنًا فقَرْنًا

(2)

حتى كنتُ من القَرْن الذي كنتُ فيه"

(3)

.

وفي صحيح مسلم، عن واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله اصطفى قريشًا من بني إسماعيل، واصطفى بني هاشم من قريش، واصطفاني من بني هاشم"

(4)

.

وقال الله تعالى: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 1 - 4] قال العَوفي عن ابن عباس: في قوله تعالى {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} يعني: وإنك لعلى دينٍ عظيم، وهو الإسلام. وهكذا قال مجاهد، وأبو مالك، والسُّدي، والضحّاك، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وقال عطية: لعلى أدبٍ عظيم.

وقد ثبت في صحيح مسلم، من حديث قَتادة، عن زُرارة بن أوفى، عن سعد بن هشام، قال:

(1)

دلائل النبوة للبيهقي (1/ 307) وأحمد في المسند (10/ 99 و 108) والترمذي رقم (3779) وقال: حديث حسن غريب. وهانئ بن هانئ مجهول كما قال الشافعي وابن المديني تفرد أبو إسحاق السبيعي بالرواية عنه، ومع أن النسائي قال: لا بأس به، لكن قال ابن سعد: منكر الحديث، كما هو مبين في تحرير التقريب (4/ 34).

(2)

في المطبوع: قرنًا بعد قرن. والتصحيح من (أ) وفتح الباري (6/ 566).

(3)

رواه البخاري في صحيحه رقم (3557) في المناقب.

(4)

رواه مسلم في صحيحه رقم (2276) في الفضائل، ولفظه:"إن الله اصطفى كِنانةَ من ولد إسماعيل، واصطفى قريشًا من كِنانةَ، واصطفى من قريشٍ بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم".

ص: 51

سألتُ عائشةَ أمّ المؤمنين، فقلت: أخبريني عن خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت: أما تقرأ القرآن؟ قلتُ: بلى، فقالت: كان خُلُقُه القرآن

(1)

.

وقد روى الإمام أحمد، عن إسماعيل بن عليّة، عن يُونس بن عُبيد، عن الحسن البصري، قال: سُئلت عائشةُ عن خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: كان خلقُه القرآن

(2)

.

وروى الإمام أحمد، عن عبد الرحمن بن مَهدي

(3)

، والنسائي من حديثه

(4)

، وابن جرير

(5)

من حديث ابن وَهب، كلاهما عن معاوية بن صالح، عن أبي الزاهِريّة، عن جُبير بن نُفير، قال: حججتُ فدخلتُ على عائشةَ، فسألتُها عن خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: كان خُلُقه القرآن

(6)

.

ومضى هذا أنه عليه الصلاة والسلام مهما أمره به القرآن امتثله، ومهما نهاه عنه تركه. هذا ما جبلَه الله عليه من الأخلاق الجِبِليَّة الأصلية العظيمة، التي لم يكن أحد من البشر ولا يكون على أجمل منها، وشرع له الدين العظيم الذي لم يشرعه لأحد قبله، وهو مع ذلك خاتم النبيين فلا رسول بعده ولا نبي صلى الله عليه وسلم، فكان فيه من الحياء والكرم والشجاعة والحِلْم والصَّفْح والرحمة وسائر الأخلاق الكاملة ما لا يُحَدُّ، ولا يُمكن وصفُه.

وقال يعقوب بن سفيان: حَدَّثَنَا سليمان بن عبد الرحمن، حَدَّثَنَا الحسن بن يحيى، حَدَّثَنَا زيد بن واقد، عن بُسْر بن عبيد الله، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي الدرداء، قال: سألتُ عائشةَ عن خُلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: كان خلقُه القرآن يَرضى لرضاه ويَسخطُ لسخَطِه

(7)

.

وقال البيهقيّ: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا أحمد بن سهل الفقيه ببخارى، أخبرنا قيس بن أُنَيْف، حَدَّثَنَا قتيبة بن سعيد، حَدَّثَنَا جعفر بن سليمان، عن أبي عمران، عن يزيد بن بابَنُوس، قال: قلنا لعائشة: يا أم المؤمنين! كيف كان خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: كان خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن. ثم

(1)

رواه مسلم في صحيحه رقم (746) في صلاة المسافرين، والمذكور هنا جزء من حديث طويل. ولفظه:"فإن خُلُقَ نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن" قال النووي -رحمه الله تعالى-: معناه العمل بالقرآن، والوقوف عند حدوده، والتأدب بآدابه، والاعتبار بأمثاله وقصصه، وتدبره، وحسن تلاوته.

(2)

رواه الإمام أحمد في المسند (6/ 216) وهو حديث صحيح لكن هذا الإسناد ضعيف فهو منقطع، فإن الحسن البصري لم يسمعه من عائشة، بل سمعه من سعد بن هشام عنها كما في مسند أحمد (6/ 97).

(3)

رواه الإمام أحمد في المسند (6/ 188).

(4)

في التفسير من سننه الكبرى (11138) وهو في التفسير المفرد له (158).

(5)

في تفسيره (29/ 19).

(6)

وهو صحيح، لكن الحاكم صححه على شرط الشيخين فوهم، لأن معاوية بن صالح لم يرو له البخاري شيئًا.

(7)

نقله من دلائل النبوة للبيهقي (1/ 309 - 310) وهو في القسم الضائع من "المعرفة والتاريخ" ليعقوب بن سفيان، وإسناده ضعيف فإن الحسن بن يحيى هو الخشني الدمشقي البلاطي ضعيف كما بيناه مفصلًا في تحرير التقريب (1/ 283) وينظر تهذيب الكمال وتعليقنا عليه (6/ 340 - 341)(بشار).

ص: 52

قالت: أتقرأ سورة المؤمنين؟ اقرأ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ

} إلى العشر

(1)

. قالت: هكذا كان خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهكذا رواه النسائي

(2)

، عن قتيبة.

وروى البخاري من حديث هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن الزبير، في قوله تعالى:{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199] قال: أُمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذَ العفوَ من أخلاق الناس

(3)

.

وقال الإمام أحمد

(4)

: حَدَّثَنَا سعيدُ بن منصور، حَدَّثَنَا عبدُ العزيز بن محمد، عن محمد بن عَجْلان، عن القعقاع بن حَكيم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما بُعثت لأتمِّمَ صالحَ الأخلاق" تفرد به أحمد

(5)

.

ورواه الحافظ أبو بكر الخرائطي في كتابه

(6)

، فقال:"إنما بُعثتُ لأتمِّم مكارمَ الأخلاق".

وتقدم ما رواه البخاري من حديث أبي إسحاق، عن البراء بن عازب، قال: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أحسنَ الناس وجهًا، وأحسنَ الناس خُلقًا.

وقال مالك

(7)

: عن الزهري، عن عروة، عن عائشة؛ أنها قالت: ما خُيِّرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إِلَّا أخذَ أيسرَهُما ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعدَ الناس منه، وما انتقمَ لنفسه إِلَّا أن تُنتهَكَ حُرمةُ الله فينتقم لله بها.

ورواه البخاري ومسلم

(8)

، من حديث مالك.

وروى مسلم، عن أبي كريب، عن أبي أسامة، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة، قالت:

(1)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (1/ 309) وهو حديث حسن.

(2)

أخرجه النسائي في التفسير من سننه الكبرى (11350) وهو في التفسير المفرد له (370). وأخرجه البخاري في الأدب المفرد (308)، والحاكم (2/ 613).

(3)

رواه البخاري في صحيحه رقم (4644) في التفسير.

(4)

مسند أحمد (2/ 381).

(5)

حديث صحيح، وهذا إسناد حسن من أجل محمد بن عجلان فإن حديثه لا يرتقي إلى مراتب الصحة، وهو في طبقات ابن سعد (1/ 192)، والبزار (2740)، وشرح المشكل للطحاوي (4432)، والبخاري في الأدب المفرد (273)، وتاريخه الكبير (7/ 188)، والحاكم (2/ 613) والبيهقي في السنن (10/ 191)، وفي الشعب (7978) غيرها.

(6)

كتاب مكارم الأخلاق، للخرائطي ص 2. ط: المكتبة السلفية، القاهرة.

(7)

الموطأ (2627 برواية الليثي) و (1882) برواية الزهري كلاهما بتحقيق الدكتور بشار عواد معروف.

(8)

رواه البخاري في صحيحه رقم (3560) في المناقب، ومسلم في صحيحه رقم (2327) في الفضائل.

ص: 53

ما ضربَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بيده شيئًا قط، لا عبدًا ولا امرأةً ولا خادمًا، إِلَّا أن يُجاهدَ في سبيل الله، ولا نِيل منه شيءٌ فينتقمُ من صاحبه، إِلَّا أن يُنتهكَ شيءٌ من محارم الله، فيَنتقمُ لله عز وجل

(1)

.

وقد قال الإمام أحمد

(2)

: حَدَّثَنَا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، قال: ما ضربَ رسولُ الله بيده خادمًا له قطّ ولا امرأة، ولا ضربَ بيده شيئًا إِلَّا أن يُجاهدَ في سبيل الله، ولا خُيِّر بين شيئين قط إِلَّا كان أحبهما إليه أيسرهما، حتى يكون إثمًا، فإذا كان إثمًا كان أبعدَ الناس من الإثم، ولا انتقم لنفسه من شيء يُؤتى إليه حتى تُنتهك حرماتُ الله، فيكون هو ينتقمُ لله عز وجل.

وقال أبو داود الطيالسي

(3)

: حَدَّثَنَا شعبة، عن أبي إسحاق، سمعتُ أبا عبد الله الجَدلِيّ يقول: سمعتُ عائشةَ، وسألتها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: لم يكن فاحشًا ولا متفحشًا، ولا سَخَابًا في الأسواق، ولا يَجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، أو قال: يعفو ويغفر -شك أبو داود-. ورواه الترمذي

(4)

، من حديث شعبة، وقال: حسن صحيح.

وقال يعقوب بن سفيان: حَدَّثَنَا آدم وعاصم بن علي، قالا: حَدَّثَنَا ابن أبي ذئب، حَدَّثَنَا صالح مولى التَّوْءمة، قال: كان أبو هريرة ينعت رسول الله قال: كان يُقبل جميعًا ويُدبر جميعًا، بأبي وأمي، لم يكن فاحشًا ولا مُتَفَحِّشًا ولا سخَّابًا في الأسواق. زاد آدم: ولم أرَ مثله قبله، ولم أرَ مثلَه بعدَه

(5)

.

وقال البخاري

(6)

: حَدَّثَنَا عبدان، عن أبي حمزة، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن مسروق، عن عبد الله بن عمرو، قال: لم يكن النبيُّ صلى الله عليه وسلم فاحشًا ولا مُتفحشًا، وكان يقول:"إنَّ من خيارِكم أحسنَكم أخلاقًا".

ورواه مسلم

(7)

من حديث الأعمش به.

وقد روى البخاري

(8)

من حديث فليح بن سليمان، عن هلال بن علي، عن عطاء بن يسار، عن عبد الله بن عمرو؛ أنه قال: إن رسولَ الله موصوفٌ في التوراة بما هو موصوف في القرآن،

(1)

رواه مسلم في صحيحه رقم (2328)(79) في الفضائل.

(2)

رواه الإمام أحمد في المسند (6/ 232) وإسناده صحيح.

(3)

رواه أبو داود الطيالسي رقم (1520) وهو في دلائل النبوة؛ للبيهقي (1/ 315) وهو في المسند (6/ 236) بهذا الإسناد.

(4)

رواه الترمذي في الجامع (2016)، وهو عنده في الشمائل (347).

(5)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (1/ 316) وهو حديث حسن.

(6)

رواه البخاري في صحيحه رقم (3559) في المناقب.

(7)

في صحيحه رقم (2321).

(8)

رواه البخاري في صحيحه رقم (4838) في التفسير.

ص: 54

{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الفتح: 8] وحِرْزًا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سمّيتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ ولا سخّاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، ولن يقبضه الله حتى يُقيمَ به الملّة العَوْجاء بأن يقولوا: لا إله إِلَّا الله، ويفتح أعينًا عميًا، وآذانًا صمًّا، وقلوبًا غلفًا.

وقد رُوي عن عبد الله بن سلام، وكعب الأحبار.

وقال البخاري

(1)

: حَدَّثَنَا مسدد، حَدَّثَنَا يحيى، عن شعبة، عن قتادة، عن عبد الله بن أبي عتبة، عن أبي سعيد، قال: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم أشدَّ حياءً من العذراء في خِدْرها.

حَدَّثَنَا ابن بشار، حَدَّثَنَا يحيى وعبد الرحمن، قالا: حَدَّثَنَا شعبة مثله، وإذا كره شيئًا عُرِفَ ذلك في وجهه.

ورواه مسلم

(2)

من حديث شعبة.

وقال الإمام أحمد

(3)

: حَدَّثَنَا أبو عامر، حَدَّثَنَا فُلَيح، عن هلال بن علي، عن أنس بن مالك، قال: لم يكن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سَبَّابًا ولا لَعّانًا ولا فاحشًا، كان يقول لأحدنا عند المعاتبة:"ماله تربت جبينه".

ورواه البخاري

(4)

عن محمد بن سنان، عن فليح.

وفي الصحيحين -واللفظ لمسلم- من حديث حماد بن زيد، عن ثابت، عن أنس، قال: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أحسنَ الناس، وكان أجودَ الناس، وكان أشجعَ الناس، ولقد فَزعَ أهلُ المدينة ذات ليلة، فانطلق ناسٌ قِبَل الصوت، فتلقاهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم راجعًا وقد سبقهم إلى الصوت، وهو على فرس لأبي طلحة عُرْيٍ، في عنقه السيف، وهو يقول:"لم تُرَاعُوا لم ترَاعُوا". قال: "وجدناه بحرًا، أو إنه لبحر" قال: وكان فرسًا يُبَطَّأُ

(5)

.

(1)

رواه البخاري في صحيحه رقم (3562) في المناقب، ورقم (6102) في الأدب عن شعبة، عن قتادة، عن عبد الله -هو ابن أبي عتبة مولى أنس- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

(2)

رواه مسلم في صحيحه رقم (2320) في الفضائل. والعذراء: البكر. وخدرها: سِترها.

(3)

رواه الإمام أحمد في المسند (3/ 126) وفيه: ماله تربَ جبينُه.

(4)

رواه البخاري في صحيحه رقم (6031) و (6046) في الأدب. وفيه: ماله ترب جبينه.

ومعنى "ترب جبينه": قال الخطابي: يحتمل أن يكون المعنى: خرَّ لوجهه فأصاب الترابَ جبينُه. ويحتمل أن يكون دعاء له بالعبادة، كأن يصلي فيترب جبينه. والأول أشبه؛ لأن الجبين لا يُصلّى عليه. فتح الباري (10/ 453).

(5)

رواه البخاري في صحيحه رقم (2908) في الجهاد، ومسلم في صحيحه رقم (2307) في الفضائل. =

ص: 55

ثم قال مسلم: حَدَّثَنَا أبو بكر بن أبي شيبة، حَدَّثَنَا وكيع، عن سعيد، عن قتادة، عن أنس، قال: كان فزعٌ بالمدينة، فاستعارَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فرسًا لأبي طلحة يُقال له "مَنْدُوب" فركبه، فقال:"ما رأينا من فَزَعٍ، وإن وجدناه لبحرًا"

(1)

.

وقال: كنا إذا اشتد البأس اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم

(2)

.

وقال أبو إسحاق السبيعي، عن حارثة بن مُضَرِّب، عن علي بن أبي طالب، قال: لما كان يومُ بدرٍ اتَّقينا المشركينَ برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أشدَّ الناس بأسًا. رواه أحمد والبيهقي

(3)

.

وتقدم في غزوة هوازن أنه عليه الصلاة والسلام لما فرَّ جُمهور أصحابه يومئذ ثبت، وهو راكب بغلته وهو ينوه باسمه الشريف، يقول:

"أنا النبيُّ لا كذب،

أنا ابنُ عبد المطلب"

وهو مع ذلك يركضها إلى نحور الأعداء. وهذا في غاية ما يكون من الشجاعة العظيمة والتوكل التام صلوات الله عليه.

وفي صحيح مسلم، من حديث إسماعيل بن عُلَيَّة، عن عبد العزيز، عن أنس، قال: لما قدم رسولُ الله المدينة أخذَ أبو طلحة بيدي، فانطلقَ بنا إلى رسول الله، فقال: يا رسولَ الله إن أنسًا غلامٌ كيَّسٌ فليخدُمْك. قال: فخدمتُه في السفر والحَضَر، والله! ما قالَ لي لشيء صنعتُه: لم صنعتَ هذا هكذا؟ ولا لشيء لم أصنعه: لمَ لمْ تصنعْ هذا هكذا

(4)

؟.

وله من حديث سعيد بن أبي بردة، عن أنس، قال: خدمتُ رسولَ الله تسعَ سنين، فما أعلمُه قال لي قط: لم فعلت كذا وكذا؟ ولا عابَ عليَّ شيئًا قطُّ

(5)

.

وله من حديث عكرمة بن عمّار، عن إسحاق، قال أنس: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من أحسنِ النَّاس خُلُقًا، فأرسلني يومًا لحاجة، فقلت: والله لا أذهبُ -وفي نفسي أن أذهبَ لما أمرني به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم - فخرجتُ حتى أمرَّ على صبيان وهم يلعبون في السوق، فإذا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قد قبضَ بقفاي من ورائي قال: فنظرتُ إليه وهو يَضحكُ، فقال:"يا أُنيسُ! ذهبتَ حيثُ أمرتُك؟ " فقلتُ: نعم أنا أذهبُ

= ومعنى "لم تُراعوا": أي روعًا دائمًا ومستقرًا، أو روعًا يضركم. "وجدناه بحرًا": أي واسع الجري. "يُبَطَّأ": يُعرف بالبطء والعجز.

(1)

رواه مسلم في صحيحه رقم (2307)(49) في الفضائل، وفيه: كان بالمدينة فَزَعٌ.

(2)

كذا ورد هذا القول، وكأنه جزء من الحديث قبله. وقد وجدت في صحيح مسلم رقم (1776) (79) قال البراء: كنا والله إذا احمرَّ البأسُ نتقي به، وإن الشُّجاع منا للَّذي يُحاذِي به، يعني النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم.

(3)

رواه الإمام أحمد في المسند (1/ 86) والبيهقي في دلائل النبوة (1/ 324) وإسناده صحيح.

(4)

رواه مسلم في صحيحه رقم (2309)(52) في الفضائل.

(5)

رواه مسلم في صحيحه رقم (2309)(53) في الفضائل، ورقم (2310) في الفضائل أيضًا، وفيه: لِمَ فعلتَ كذا وكذا؟.

ص: 56

يا رسول الله. قال أنس: والله لقد خدمته تسع سنين ما علمته قال لشيء صنعتُه: لم صنعتَ كذا وكذا؟ أو لشيء تركته: هلا فعلتَ كذا وكذا؟

(1)

.

وقال الإمام أحمد

(2)

: حَدَّثَنَا كثير بن هشام، حَدَّثَنَا جعفر، حَدَّثَنَا عمران القصير، عن أنس بن مالك، قال: خدمتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما أمرني بأمر فتوانيتُ عنه، أو ضيّعتُه، فلامني، وإن لامني أحدٌ من أهله إِلَّا قال:"دعوه فلو قُدِّرَ -أو قال قُضِيَ- أن يكون كان".

ثم رواه أحمد، عن علي بن ثابتٍ، عن جعفر -هو ابن برقان- عن عمران البصري -وهو القصير- عن أنس فذكره، تفرد به الإمام أحمد.

وقال الإمام أحمد

(3)

: حَدَّثَنَا عبد الصمد، حَدَّثَنَا أبي، حَدَّثَنَا أبو التيّاح، حَدَّثَنَا أنس، قال: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خُلقًا، وكان لي أخ يُقال له أبو عُمير، قال: أحسبُه قال: فطيمًا، قال: فكان إذا جاء رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فرآه قال: "أبا عُمير! ما فعل النَّغَير". قال: نغر كان يلعب به، قال: فربما تحضرهُ الصلاة وهو في بيتنا، فيأمر بالبساط الذي تحته فيُكنس، ثم يُنضح بالماء، ثم يقومُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقوم خلفه يُصلّي بنا، قال: وكان بساطهم من جريد النخل.

وقد رواه الجماعة

(4)

، إِلَّا أبا داود، من طرق عن أبي التياح يزيد بن حميد، عن أنس، بنحوه. وثبت في الصحيحين، من حديث الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن، فَلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة

(5)

.

وقال الإمام أحمد: حَدَّثَنَا أبو كامل، حَدَّثَنَا حمّاد بن زيد، حَدَّثَنَا سَلم العلوي، سمعتُ أنس بن مالك؛ أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم رأى على رجل صُفْرة، فكرهَها، قال: فلما قام قال: "لو أمرتم هذا أن يغسل عنه هذه الصفرة". قال: وكان لا يكاد يواجه أحدًا بشيء يكرهه

(6)

.

(1)

رواه مسلم رقم (2310)(54) في الفضائل.

(2)

رواهما الإمام أحمد في المسند (3/ 231) والبيهقي في الشعب رقم (8070) والضياء في المختارة رقم (1834) وهو حديث صحيح.

(3)

رواه الإمام أحمد في المسند (3/ 212).

(4)

رواه البخاري (6129) و (6203) في الأدب من صحيحه، ومسلم (659) في الصلاة، (2150) في الاستئذان و (2310) في فضائل النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، والترمذي في الصلاة من جامعه (333) وفي البر منه (1989)، (1989 م). والنسائي في عمل اليوم والليلة (334) و (335) و (336)، وابن ماجه في الأدب من سننه (3720) و (3740).

(5)

رواه البخاري في صحيحه رقم (6) في بدء الوحي، ومسلم في "صحيحه" رقم (448) في الصلاة.

(6)

رواه الإمام أحمد في المسند (3/ 133) وفيه: وكان لا يكاد يواجه أحدًا في وجهه .. ، وسلم بن قيس العلوي ضعيف. تقريب التهذيب (1/ 314). وقال ابن حبان في المجروحين (1/ 343): منكر الحديث على قلته، =

ص: 57

وقد رواه أبو داود، والترمذي في "الشمائل"، والنسائي في "اليوم والليلة"

(1)

، من حديث حماد بن زيد، عن سَلْم بن قيس العلوي البصري.

قال أبو داود

(2)

: وليس من ولد علي بن أبي طالب، وكان يُبصر في النجوم، وقد شهد عند عديّ بن أَرْطاة على رؤية الهلال فلم يُجزْ شهادته.

وقال أبو داود: حَدَّثَنَا عثمان بن أبي شيبة، حَدَّثَنَا عبد الحميد الحِمَّاني

(3)

، حَدَّثَنَا الأعمش، عن مسلم، عن مسروق، عن عائشة قالت: كان النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، إذا بلغه عن رجل شيء لم يقل ما بالُ فلان يقول، ولكن يقول: "ما بال أقوام يقولون كذا وكذا؟

(4)

".

وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يُبَلغنِي أحدٌ عن أحدٍ شيئًا، إنِّي أُحِبُّ أن أخرجَ إليكم وأنا سليمُ الصَّدر"

(5)

.

وقال مالك: عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس بن مالك، قال: كنتُ أمشي مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم وعليه بُردٌ غليظ الحاشية، فأدرَكه أعرابي فجبذَ بردائه جبذًا شديدًا، حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا قد أثرت بها حاشيةُ البرد من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد مر لي من مال الله الذي عندكَ. قال: فالتفتَ إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحكَ ثم أمرَ له بعطاء.

أخرجاه

(6)

من حديث مالك.

وقال الإمام أحمد: حَدَّثَنَا زيد بن الحباب، أخبرني محمد بن هلال القرشي، عن أبيه، أنه سمع أبا هريرة يقول: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فلما قام قمنا معه، فجاء أعرابي فقال: أعطني يا محمد، فقال:"لا وأستغفر الله" فجذبه بحجزته فخدشه، قال: فهمُّوا به فقال: "دعوه" قال: ثم أعطاه، قال: فكانت يمينه: "لا وأستغفر الله"

(7)

.

= لا يحتج به إذا وافق الثقات، فكيف إذا انفرد؟!.

(1)

رواه أبو داود في سننه ورقم (4182) في الترجل، ورقم (4789) في الأدب، والترمذي في الشمائل رقم (346)، والنسائي في عمل اليوم والليلة رقم (235) و (236) طبعة الرباط، تحقيق د. فاروق حمادة. وإسناده ضعيف.

(2)

سنن أبي داود (5/ 144) رقم (4789).

(3)

في الأصل: يحيى بن عبد الحميد الحماني، وهو خطأ، والتصحيح من سنن أبي داود.

(4)

رواه أبو داود في سننه رقم (4788) في الأدب. وإسناده حسن.

(5)

يريد بذلك: وثبت في الحديث الصحيح، وقد رواه البخاري في تاريخه الكبير (3/ 394)، ورواه أحمد (1/ 395)، وأبو داود في سننه رقم (4860) في الأدب، والترمذي في الجامع رقم (3896) في المناقب، وقال: غريب (يعني ضعيف).

(6)

رواه البخاري في صحيحه رقم (3149) في فرض الخمس، ومسلم في صحيحه رقم (1057) في الزكاة.

(7)

رواه الإمام أحمد في المسند (2/ 288) وإسناده ضعيف لجهالة هلال بن أبي هلال.

ص: 58

وقد روى أصل هذا الحديث أبو داود والنسائي وابن ماجه

(1)

من طرق، عن محمد بن هلال بن أبي هلال مولى بني كعب، عن أبيه، عن أبي هريرة بنحوه.

وقال يعقوب بن سفيان: حَدَّثَنَا عبيد الله بن موسى، عن شيبان، عن الأعمش، عن ثُمَامَة بن عُقبة، عن زيد بن أرقمَ، قال: كان رجلٌ من الأنصار يدخلُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويأتمنه، وأنه عقد له عُقَدًا وألقاه في بئر، فصَرَعَ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فأتاه ملكان يعودانه فأخبراه أن فلانًا عَقَدَ له عُقَدًا، وهي في بئر فلان، ولقد اصفرَّ الماءُ من شدّة عقده. فأرسل النبيُّ صلى الله عليه وسلم فاستخرجَ العُقَدَ، فوجدَ الماءَ قد اصفرَّ، فحلَّ العُقَدَ، ونام النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم. فلقد رأيتُ الرجلَ بعد ذلك يدخلُ على النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فما رأيتُه في وجه النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حتى مات

(2)

. (ورواه الطبراني من طريق علي بن المديني، عن جرير، عن الأعمش، به. وقال: فلم يُعاتبه)

(3)

.

قلت: والمشهور في الصحيح: أن لبيد بن الأعصم اليهودي هو الذي سحرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم في مِشْطٍ ومُشَاطةٍ في جُفّ طَلعةٍ ذَكَر، تحت بئر ذَرْوَان، وأن الحال استمر نحو ستة أشهر حتى أنزل الله سورتي المعوذتين. ويقال: إن آياتهما إحدى عشرة آية وأن عقد ذلك الذي سحر فيه كان إحدى عشرة عقدة، وقد بسطنا ذلك في كتابنا "التفسير"

(4)

بما فيه كفاية، والله أعلم.

وقال يعقوب بن سفيان: حَدَّثَنَا أبو نُعَيم، حَدَّثَنَا عمران بن زيد أبو يحيى المُلَائي، حَدَّثَنَا زيد العَمِّيُّ، عن أنس بن مالك، قال: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا صافحَ، أو صافحَه الرجلُ، لا يَنْزعُ يدَه من يده حتى يكونَ الرجلُ يَنْزِعُ يدَه، وإن استقبلَه بوجهه لا يصرفه عنه حتى يكونَ الرجلُ ينصرف عنه، ولا يُرى مُقَدِّمًا ركبتيه بين يديْ جليسٍ له

(5)

.

ورواه الترمذي وابن ماجه

(6)

من حديث عمران بن زيد الثعلبي، أبي يحيى الطويل الكوفي، عن زيد بن الحَوَاري العمّيّ، عن أنس به.

(1)

رواه أبو داود في سننه رقم (4775) في الأدب، والنسائي في سننه (8/ 33 - 34) في القسامة. وابن ماجه في سننه رقم (2093) في الكفارات.

(2)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (1/ 319) والطبقات الكبرى؛ لابن سعد (2/ 199).

(3)

ما بين قوسين ساقط من المطبوعة واستدرك من (أ) والحديث في المعجم الكبير للطبراني رقم (5011).

(4)

تفسير ابن كثير (4/ 573).

و"المشاطة": الشعر الذي يسقط من الرأس أو اللحية عند التسريح بالمشط.

و"الجف": وعاء الطلع، وهو أول ما يبدو من ثمر النخل.

(5)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (1/ 320).

(6)

رواه الترمذي في صفة القيامة من جامعه (2490) وابن ماجه في الأدب من سننه (3716)، وضعفه الترمذي فقال: غريب، وهو كما قال، فعمران بن زيد لين الحديث وشيخه زيد العمي ضعيف.

ص: 59

وقال أبو داود: حَدَّثَنَا أحمد بن منيع، حَدَّثَنَا أبو قطن، حَدَّثَنَا مبارك بن فضالة، عن ثابت البناني، عن أنس بن مالك، قال: ما رأيتُ رجلًا قد التقم أذن النبي صلى الله عليه وسلم فينحي رأسه حتى يكون الرجل هو الذي ينحي رأسه، وما رأيتُ رسولَ الله آخذًا بيده رجل فترك يده حتى يكون الرجل هو الذي يدع يده

(1)

. تفرد به أبو داود.

قال الإمام أحمد

(2)

: وحَدَّثَنَا محمد بن جعفر وحجاج قالا: حَدَّثَنَا شعبة، قال ابن جعفر في حديثه قال: سمعت علي بن زيد قال: قال أنس بن مالك: إن كانت الوليدة من ولائد أهل المدينة لتجيء فتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فما ينزع يده من يدها حتى تذهب به حيث شاءت.

ورواه ابن ماجه

(3)

من حديث شعبة.

وفال الإمام أحمد

(4)

: حَدَّثَنَا هشيم، حَدَّثَنَا حميد، عن أنس بن مالك، قال: إن كانت الأمة من أهل المدينة لتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنطلق به في حاجتها.

وقد رواه البخاري في كتاب الأدب من "صحيحه" معلَّقًا فقال: وقال محمد بن عيسى -هو ابن الطباع- حَدَّثَنَا هشيم، فذكره.

وقال الطبراني

(5)

: حَدَّثَنَا أبو شعيب الحراني، حَدَّثَنَا يحيى بن عبد الله البَابْلُتيُّ، حَدَّثَنَا أيوب بن نهيك، سمعت عطاء بن أبي رباح، سمعت ابن عمر، سمعت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأتي بصاحب بزٍّ فاشترى منه قميصًا بأربعة دراهم، فخرج وهو عليه، فإذا رجلٌ من الأنصار فقال: يا رسولَ الله! اكسني قميصًا كساكَ الله من ثياب الجنة، فنزع القميص فكساه إياه، ثم رجع إلى صاحب الحانوت فاشترى منه قميصًا بأربعة دراهم، وبقي معه درهمان، فإذا هو بجاريةٍ في الطريق تبكي، فقال: ما يُبكيك؟ فقالت: يا رسول الله دفع إليَّ أهلي درهمين أشتري بهما دقيقًا فهلكا، فدفع إليها رسول الله الدرهمين الباقيين، ثمَّ انقلب وهي تبكي، فدعاها، فقال:"ما يبكيك وقد أخذت الدرهمين؟ " فقالت: أخاف أن يضربوني، فمشى معها إلى أهلها فسلَّم، فعرفوا صوته، ثمَّ عاد فسلَّم، ثمَّ عاد فسلَّم، ثمَّ عاد فثلث فردوا، فقال:"أسمعتم أول السلام؟ " قالوا: نعم ولكن أحببنا أن تزيدنا من السلام فما أشخصك بأبينا وأمنا، فقال:"أشفقت هذه الجارية أن تضربوها" فقال صاحبها: هي حرة لوجه الله لممشاك معها،

(1)

رواه أبو داود في سننه رقم (4794) في الأدب وإسناده حسن.

(2)

رواه الإمام أحمد في المسند (3/ 174) عن علي بن زيد، وإسناده ضعيف لضعف علي بن زيد بن جدعان.

(3)

رواه ابن ماجه (4177) في الزهد. رقم (6072) في الأدب تعليقًا.

(4)

رواه الإمام أحمد في مسنده (3/ 98) وإسناده صحيح.

(5)

في المعجم الكبير (12/ 441)(13607).

ص: 60

فبشَّرهم رسول الله بالخير والجنَّة. ثم قال: "لقد بارك الله في العشرة: كسا الله نبيه قميصًا، ورجلًا من الأنصار قميصًا، وأعتق الله منها رقبة، وأحمد الله هو الذي رزقنا هذا بقدرته".

هكذا رواه الطبراني وفي إسناده أيوب بن نهيك الحلبي وقد ضعفه أبو حاتم، وقال أبو زرعة: منكر الحديث، وقال الأزدي: متروك

(1)

.

وقال الإمام أحمد

(2)

: حَدَّثَنَا عفان، حَدَّثَنَا حماد، عن ثابت، عن أنس؛ أن امرأة كان في عقلها شيء، فقالت: يا رسول الله إن لي حاجة، فقال:"يا أمَّ فلان انظري أي الطرق شئت" فقام معها يناجيها حتى قضت حاجتها.

وهكذا رواه مسلم

(3)

من حديث حماد بن سلمة.

وثبت في الصحيحين من حديث الأعمش عن أبي حازم، عن أبي هريرة، قال: ما عابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم طعامًا قط، إن اشتهاه أكله وإلا تركه

(4)

.

وقال الثوري عن الأسود بن قيس، عن نبيح العنزي، عن جابر قال: أتانا رسول الله في منزلنا فذبحنا له شاة فقال: "كأنهم علموا أنا نحب اللحم"

(5)

. الحديث.

وقال محمد بن إسحاق، عن يعقوب بن عتبة، عن عمر بن عبد العزيز، عن يوسف بن عبد الله بن سلام، عن أبيه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس يتحدَّث كثيرًا ما يرفع طرفه إلى السماء.

وهكذا رواه أبو داود في كتاب الأدب من "سننه"

(6)

من حديث محمد بن إسحاق به.

وقال أبو داود: حَدَّثَنَا سلمة بن شعيب، حَدَّثَنَا عبد الله بن إبراهيم، حَدَّثَنَا إسحاق بن محمد الأنصاري، عن ربيح بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن جده أبي سعيد الخدري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا جلس احتبى بيده

(7)

.

(1)

الجرح والتعديل (2/ الترجمة 930)، وميزان الاعتدال (1/ 294).

(2)

رواه الإمام أحمد في المسند (3/ 285).

(3)

في صحيحه رقم (2326) في الفضائل.

(4)

رواه البخاري في صحيحه رقم (5409) في الأطعمة، ومسلم في صحيحه رقم (2064) في الأشربة.

(5)

رواه الإمام أحمد في المسند (3/ 303) رقم (14179) وابن حبان رقم (984) وهو حديث صحيح.

(6)

رواه أبو داود في سننه رقم (4837) في الأدب، والبيهقي في دلائل النبوة (1/ 321).

(7)

رواه أبو داود في سننه رقم (4846) في الأدب، والترمذي في الشمائل رقم (129) باب ما جاء في جِلْسة رسول الله صلى الله عليه وسلم والبزار رقم (2021) وإسناده ضعيف جدًا فإن عبد الله بن إبراهيم المدني متروك، نسبه ابن حبان إلى الوضع، وإسحاق بن محمد الأنصاري مجهول، وربيح بن عبد الرحمن مقبول عند المتابعة وإلا فضعيف ولم يتابع.

ص: 61

ورواه البزّار في "مسنده" ولفظه: كان إذا جلس نصب ركبتيه واحتبى بيديه.

ثم قال أبو داواد

(1)

: حَدَّثَنَا حفص بن عمر وموسى بن إسماعيل، قالا: حَدَّثَنَا عبد الله بن حسان العَنْبَري، حدَّثتني جَدّتاي صفية ودُحَيْبة ابنتا عُلَيْبة، قال موسى: ابنة حرملة، وكانتا ربيبتي قَيْلَة بنت مخرمة، وكانت جدة أبيهما؛ أنها أخبرتهما؛ أنها رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قاعد القُرْفُصاء، قالت: فلما رأيتُ رسول الله المُتَخَشعَ في الجِلْسة أُرعدت من الفَرَق.

ورواه الترمذي في "الشمائل"

(2)

وفي "الجامع"

(3)

عن عبد بن حميد، عن عفان بن مسلم، عن عبد الله بن حسان به. وهو قطعة من حديث طويل قد ساقَه الطبراني بتمامه في "معجمه الكبير"

(4)

.

وقال البخاري

(5)

: حَدَّثَنَا الحسن بن الصباح البزار، حَدَّثَنَا سفيان، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان يحدّث حديثًا لو عدَّه العَادُّ لأحصاه.

قال البخاري

(6)

: وقال اللَّيث: حدَّثني يُونس، عن ابن شهاب، أخبرني عروةُ بن الزبير، عن عائشة؛ أنها قالت: ألا أعجبك

(7)

أبو فلان، جاءَ فجلسَ إلى جانب حُجرتي يُحَدِّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسمعني ذلك، وكنت أسبّحُ، فقام قبل أن أقضيَ سُبْحتي، ولو أدركته لرددتُ عليه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يَسْرِدُ الحديثَ كسردِكم.

وقد رواه أحمد

(8)

، عن علي بن إسحاق، ومسلم

(9)

عن حرملة، وأبو داواد

(10)

عن سليمان بن داود، كلُّهم عن ابن وهب، عن يونس بن يزيد به. وفي روايتهم: ألا أعجبك من أبي هريرة .. فذكرت نحوه.

وقال الإمام أحمد

(11)

: حَدَّثَنَا وكيع، عن سفيان، عن أسامة، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: كان كلام النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فصلًا يفهمه كل أحد، لم يكن يسرد سردًا.

(1)

رواه أبو داود في سننه رقم (4847) في الأدب.

(2)

الشمائل (127).

(3)

الجامع (2814) في الأدب.

(4)

المعجم الكبير للطبراني (25/ 7 - 11) وهو حديث ضعيف، لجهالة صفية ودحيبة ابنتي عليبة.

(5)

رواه البخاري في صحيحه رقم (3567) في المناقب.

(6)

في صحيحه (3568) في المناقب.

(7)

في صحيح البخاري: ألا يُعجبك

(8)

في المسند (6/ 118).

(9)

في صحيحه (2493) في الفضائل.

(10)

في سننه (3655).

(11)

رواه الإمام أحمد في المسند (6/ 138) وإسناده حسن من أجل أسامة، فهو ابن زيد الليثي.

ص: 62

وقد رواه أبو داود، عن ابن أبي شيبة، عن وكيع

(1)

.

وقال أبو يَعلى: حَدَّثَنَا عبد الله بن محمد بن أسماء، حَدَّثَنَا عبد الله بن [المبارك

(2)

، عن] مِسْعَر، حدَّثني شيخ؛ أنه سمع جابر بن عبد الله -أو ابن عمر- يقول: كان في كلام النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم ترتيلٌ أو ترسيل.

وقال الإمام أحمد

(3)

: حَدَّثَنَا عبد الصمد، حَدَّثَنَا عبد الله بن المثنى، عن ثمامة، عن أنس؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا تكلَّم بكلمة رددها ثلاثًا، واذا أتى قومًا يُسلّم عليهم سلَّم ثلاثًا.

ورواه البخاري

(4)

من حديث عبد الصمد.

وقال أحمد

(5)

: حَدَّثَنَا أبو سعيد بن أبي مريم، حَدَّثَنَا عبد الله بن المثنى، سمعت ثمامة بن أنس يذكر؛ أن أنسًا كان إذا تكلَّم تكلَّمَ ثلاثًا، ويذكرُ أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: كان إذا تكلَّمَ تكلَّمَ ثلاثًا، وكان يستأذن ثلاثًا.

وجاء في الحديث الذي رواه الترمذي

(6)

، عن عبد الله بن المثنى، عن ثُمامة، عن أنس؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا تكلَّم يُعيدُ الكلمةَ ثلاثًا لتُعقلَ عنه. ثم قال الترمذي: حسن صحيح غريب.

وفي الصحيح؛ أنه قال: "أُوتيت جوامعَ الكلم، وأختصر الحِكَم

(7)

اختصارًا

(8)

".

(1)

في الأدب من سننه (4839).

(2)

في ط: "حَدَّثَنَا عبد الله بن مسعر"، وهو تحريف لا ريب فيه، فلا نعرف في الرواة من اسمه عبد الله بن مسعر، فأضفنا ما بين الحاصرتين ليستقيم الإسناد، فإن عبد الله بن محمد بن أسماء لا يروي عن رجل يسمى عبد الله سوى عبد الله بن المبارك كما في تهذيب الكمال (16/ 45). وأما مسعر فالرواة عنه ممن اسمه عبد الله ثلاثة: عبد الله بن المبارك وعبد الله بن نمير وعبد الله بن محمد بن المغيرة، كما في تهذيب الكمال (27/ 464)، فالمشترك بينهما هو عبد الله بن المبارك. ولا أدل على صحة ما ذهبت إليه من أني وجدت ابن المبارك قد رواه في كتابه "الزهد" من هذا الوجه (147). وقد أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف عن وكيع، عن مسعر، به (9/ 14)، وأخرجه أبو داود عن أبي كريب، عن محمد بن بشر عن مسعر، وفيه:"سمعت شيخًا في المسجد" وهو عنده عن جابر من غير شك، (4838)، ورواية وكيع وابن المبارك أدق، والحديث ضعيف من هذا الوجه لجهالة شيخ مسعر، والله الموفق للصواب (بشار).

(3)

رواه الإمام أحمد في المسند (3/ 213).

(4)

في صحيحه رقم (94) و (95) في العلم.

(5)

رواه الإمام أحمد في المسند (3/ 221) وهو حديث صحيح.

(6)

رواه الترمذي في الجامع رقم (3640).

(7)

في (أ): واختصر إليَّ الحكمة اختصارًا.

(8)

الشطر الأول من الحديث، وهو قول النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم:"أوتيت جوامع الكلم" رواه البخاري (2977) ومسلم (523)، أما الشطر الثاني فلم أجده في الصحيحين بهذا اللفظ. ولعله "وأختصر الكَلِمَ اختصارًا". والمشهور (واخْتُصِر لي الكلام اختصارًا) رواه العسكري في الأمثال، مرسلًا وهو ضعيف.

ص: 63

قال الإمام أحمد

(1)

: حَدَّثَنَا حجَّاج، حَدَّثَنَا ليث، حدّثني عقيل بن خالد، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، أن أبا هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "بُعثت بجوامع الكلم، ونُصرت بالرعب، وبينا أنا نائم أُوتيت بمفاتيح خزائن الأرض فوُضعت في يدي".

وهكذا رواه البخاري

(2)

من حديث الليث.

وقال أحمد

(3)

: حَدَّثَنَا إسحاق بن عيسى، حَدَّثَنَا ابن لَهيعة، عن عبد الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نُصرت بالرعب، وأوتيت جوامع الكلم، وبينا أنا نائم أُتيت بمفاتيح خزائن الأرض فوضعت في يدي"، تفرد به أحمد من هذا الوجه

(4)

.

وقال أحمد

(5)

: حَدَّثَنَا يزيد، حَدَّثَنَا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نُصرتُ بالرعب، وأوتيت جوامع الكلم، وجُعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، وبينا أنا نائم أُتيت بمفاتيح خزائن الأرض فتُلَّت في يدي". تفرد به أحمد من هذا الوجه، وهو على شرط مسلم

(6)

.

وثبت في الصحيحين

(7)

، من حديث ابن وَهْب، عن عمرو بن الحارث حدَّثني أبو النضر، عن سليمان بن يسار عن عائشة، قالت: ما رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم مُستجمعًا ضاحكًا حتى أرى منه لَهَواتِهِ، إنما كان يَتَبسَّم.

وقال الترمذي

(8)

: حَدَّثَنَا قتيبة، حَدَّثَنَا ابن لَهيعة، عن عُبيد الله

(9)

بن المغيرة، عن عبد الله بن الحارث بن جَزْء قال: ما رأيتُ أحدًا أكثر تبسُّمًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(1)

رواه الإمام أحمد في المسند (2/ 455).

(2)

في صحيحه رقم (2977) في الجهاد.

(3)

في المسند (2/ 396).

(4)

حديث صحيح، وهذا إسناد حسن من أجل ابن لهيعة، فإن حديثه يتحسن عند المتابعة وقد توبع، فقد أخرجه أبو يعلى (6287) من طريق ابن أبي الزناد، عن أبيه، عن عبد الرحمن الأعرج، به.

(5)

رواه الإمام أحمد في المسند (2/ 501 - 502).

(6)

حديث صحيح، وهذا إسناد حسن من أجل محمد بن عمرو -وهو ابن علقمة الليثي- فإن حديثه لا يرتقي إلى مراتب الصحة.

(7)

رواه البخاري في صحيحه رقم (4828) في التفسير، ورقم (6092) في الأدب، ومسلم في صحيحه رقم (899) في الاستسقاء.

(8)

في الجامع رقم (3641) في المناقب، وفي الشمائل رقم (228) باب ما جاء في ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال أبو عيسى: هذا حديث غريب.

(9)

في ط وطبعات الجامع القديمة وطبعة الدعاس من الشمائل (227): "عبد الله بن المغيرة" وهو تحريف بين إذ لا نعرف في الرواة من اسمه "عبد الله بن المغيرة"، والتصحيح من طبعات الدكتور بشار عواد معروف لهذين الكتابين، الأول بتحقيقه والثاني بمراجعته، وينظر تهذيب الكمال (19/ 161)، وتحرير التقريب (2/ 415) وغيرهما.

ص: 64

ثم رواه من حديث الليث

(1)

عن يزيد بن أبي حبيب، عن عبد الله بن الحارث بن جَزْء، قال: ما كان ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلَّا تبسمًا. ثم قال: صحيح.

وقال مسلم

(2)

: حَدَّثَنَا يحيى بن يحيى، حَدَّثَنَا أبو خَيْثمة، عن سِمَاك بن حرب، وقلت لجابر بن سَمُرة: أكنتَ تُجالس رسولَ الله صلى الله عليه وسلم؟، قال: نعم، كثيرًا، كان لا يقومُ من مُصلَّاه الذي يُصلِّي فيه الصبحَ، حتى تطلعَ الشمسُ (فإذا طلعت)

(3)

قامَ، وكان يتحدثون فيأخذون في أمر الجاهلية فيضحكُون ويتبسمُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم.

وقال أبو داود الطيالسي

(4)

: حَدَّثَنَا شَرِيك وقيس بن سعد، عن سِماك بن حرب، قال: قلت لجابر بن سَمُرة: أكنتَ تُجالس النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. كان طويلَ الصمت

(5)

، قليلَ الضحك، فكان أصحابُه ربما يتناشدون الشعر عندَه، وربما قالوا الشيءَ من أمورهم، فيضحكون، وربما يتبسم

(6)

.

وقال الحافظ أبو بكر البيهقيّ

(7)

: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد بن أبي عمرو، قالا: حَدَّثَنَا أبو العباس محمد بن يعقوب، حَدَّثَنَا محمد بن إسحاق، أخبرنا أبو عبد الرحمن المقري، حَدَّثَنَا الليث بن سعد عن الوليد بن أبي الوليد؛ أن سليمان بن خارجة أخبره عن خارجة بن زيد -يعني ابن ثابت- أن نفرًا دخلوا على أبيه فقالوا: حَدَّثَنَا عن بعض أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كنتُ جارَه، فكان إذا نزلَ الوحيُ بعثَ إليَّ فآتيه، فأكتبُ الوحيَ. وكنا إذا ذكرنا الدنيا ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الآخرة ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الطعام ذكرَه معنا، فكل هذا نحدّثكم عنه.

ورواه الترمذي في "الشمائل"

(8)

عن عباس الدوري، عن أبي عبد الرحمن، عن عبد الله بن يزيد المقرئ، به نحوه.

(1)

في الجامع رقم (3642) في المناقب، وفي الشمائل رقم (228) باب ما جاء في ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(2)

رواه مسلم في صحيحه رقم (2322) في الفضائل.

(3)

ما بين القوسين أثبته من صحيح مسلم (4/ 1810).

(4)

في مسنده (771)، وإسناده حسن من أجل سماك بن حرب.

(5)

في (أ): كثير الصمت، وفي المطبوع قليل الصمت وهو خطأ ظاهر، وما أثبتناه من مسند الطيالسي (771)، ودلائل البيهقيّ (1/ 324).

(6)

رواه أبو داود الطيالسي رقم (771) وهو في دلائل النبوة؛ للبيهقي (1/ 324).

(7)

دلائل النبوة (1/ 324).

(8)

الشمائل (343) وإسناده ضعيف لجهالة سليمان بن خارجة.

ص: 65

‌ذكرُ كرمِه عليه الصلاة والسلام

تقدم ما أخرجاه في الصحيحين من طريق الزُّهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس وكان أجود ما يكون في شهر رمضان حين يلقاه جبريل بالوحي فيدارسه القرآن فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسله

(1)

.

وهذا التشبيه في غاية ما يكون من البلاغة، في تشبيهه الكرم بالريح المرسلة، في عمومها وتواترها وعدم انقطاعها.

وفي الصحيحين من حديث سفيان بن عُيَينَة

(2)

، عن محمد بن المُنْكَدر، عن جابر بن عبد الله قال: ما سُئِلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم شيئًا قطُ فقال: لا

(3)

.

وقال الإمام أحمد

(4)

: حَدَّثَنَا ابن أبي عدي، عن حميد، عن موسى بن أنيس، عن أنس؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يُسأل شيئًا على الإسلام إِلَّا أعطاه، قال: فأتاه رجل فأمر له بشاء كثير بين جبلين من شاء الصدقة. قال: فرجع إلى قومه، فقال: يا قوم أسلموا فإن محمدًا يُعطي عطاءً ما يخشى الفاقة.

ورواه مسلم

(5)

، عن عاصم بن النضر، عن خالد بن الحارث، عن حميد.

وقال أحمد

(6)

: حَدَّثَنَا عَفَّان، حَدَّثَنَا حمّاد، حَدَّثَنَا ثابت، عن أنس؛ أن رجلًا سأل النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، فأعطاه غنمًا بين جبلين، فأتى قومَه، فقال: يا قوم أسلموا، فإن محمَّدًا يُعطي عطاء من لا يخاف الفاقة. فإن كان الرجل ليجيء إلى رسول الله ما يُريد إِلَّا الدنيا، فما يُمسي حتى يكونَ دينه أحبَّ إليه وأعزَّ عليه من الدنيا وما فيها.

ورواه مسلم

(7)

من حديث حماد بن سلمة به.

وهذا العطاء ليؤلف به قلوب ضعيفي القلوب في الإسلام، ويتألف آخرين ليدخلوا في الإسلام؛ كما

(1)

رواه البخاري في صحيحه رقم (6) في بدء الوحي، ومسلم في صحيحه رقم (2308) في الفضائل، والنسائي في سننه (4/ 125) باب الفضل والجود في شهر رمضان، وهو عند الإمام أحمد في المسند (1/ 231).

(2)

في الأصل والمطبوع: سفيان بن سعيد الثوري خطأ، وما أثبته من الصحيحين.

(3)

رواه البخاري في صحيحه رقم (6034) في الأدب، ومسلم في صحيحه رقم (2311) في الفضائل.

(4)

مسنده (3/ 108).

(5)

في صحيحه رقم (2312) في الفضائل. ومعنى "لم يُسأل شيئًا على الإسلام": أي: من أجل الإسلام.

(6)

في المسند (1/ 284).

(7)

في صحيحه (2312)(58) في الفضائل.

ص: 66

فعل يوم حُنين، قسم

(1)

تلك الأموال الجزيلة من الإبل والشاء والذهب والفضة في المؤلفة، ومع هذا لم يُعط الأنصارَ وجمهور المهاجرين شيئًا، بل أنفقَ فيمن كان يحبُّ أن يتألَّفه على الإسلام، وترك أولئك لما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير، وقال مُسلِّيًا لمن سأل عن وجه الحكمة في هذه القسمة لمن عتَب من جماعة الأنصار:"أما ترضون أن يذهب الناس بالشاء والبعير، وتذهبون برسول الله تحوزونه إلى رِحَالكم؟ " قالوا: رضينا يا رسول الله

(2)

.

وهكذا أعطى عمَّه العباس بعدما أسلم حين جاءه ذلك المال من البحرين، فوُضع بين يديه في المسجد وجاء العباسُ فقال: يا رسولَ الله أعطني فقد فاديتُ نفسي يوم بدر وفاديتُ عقيلًا، فقال:"خذ" فنزع ثوبَه عنه وجعل يضعُ فيه من ذلك المال، ثم قام ليُقِلَّه فلم يقدر، فقال لرسول الله: ارفعه عليَّ، قال:"لا أفعل" فقال: مر بعضَهم ليرفعَه عليَّ، فقال:"لا" فوضع منه شيئًا، ثم عاد فلم يقدر، فسأله أن يرفعَه أو أن يأمرَ بعضَهم برفعه فلم يفعل، فوضع منه، ثم احتمل الباقي وخرجَ به من المسجد، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم يُتبعه بصرَه عجبًا من حرصه!.

قلت: وقد كان العباسُ رضي الله عنه رجلًا شديدًا طويلًا نبيلًا، فأقلّ ما احتمل شيء يُقارب أربعين ألفًا، والله أعلم.

وقد ذكره البخاري في "صحيحه" في مواضع معلَّقًا بصيغة الجزم، وهذا يُورد في مناقب العباس؛ لقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنفال: 70]. وقد تقدم عن أنس بن مالك خادمه عليه الصلاة والسلام أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجودَ الناس، وأشجعَ الناس

الحديث

(3)

. وكيف لا يكون كذلك وهو رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المجبول على أكمل الصفات، الواثق بما في يدي الله عز وجل، الذي أنزل الله عليه في محكم كتابه العزيز:{وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} الآية [الحديد: 10] وقال تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 39]. وهو عليه الصلاة والسلام القائل لمؤذنه بلال، وهو الصادق المصدوق في الوعد والمقال:"أنفق بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالًا"

(4)

.

(1)

كذا في (أ) وفي المطبوع: حين قسم

(2)

الحديث رواه أحمد في المسند (4/ 42) والبخاري في صحيحه رقم (4330) في المغازي، ومسلم في صحيحه رقم (1061) في الزكاة، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام.

(3)

تقدم الحديث.

(4)

قطعة من حديث رواه البزار في مسنده رقم (3653). والطبراني في الكبير رقم (10300) وهو حديث حسن.

ص: 67

وهو القائل عليه الصلاة والسلام: "ما من يوم تُصبح العباد فيه إِلَّا وملكان ينزلان يقول أحدُهما: اللهم أعطِ مُنفقًا خَلَفًا، ويقول الآخر: اللهم أعطِ مُمسكًا تلفًا"

(1)

.

وفي الحديث الآخر؛ أنه قال لعائشة: "لا تُوعي فيُوعِي الله عليكِ، ولا تُوكي فيُوكي الله عليك"

(2)

.

وفي الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام قال: "يقول الله تعالى: ابن آدم أَنفِق أُنْفِق عَلَيكَ"

(3)

.

فكيف لا يكون أكرم الناس، وأشجع الناس، وهو المتوكل الذي لا أعظم منه في توكله، الواثق برزق الله ونصره، المستعين بربه في جميع أمره؟ ثم قد كان قبل بعثته وبعدها وقبل هجرته، ملجأً للفقراء والأرامل، والأيتام: والضعفاء، والمساكين، كما قال عمُّه أبو طالب فيما قدمناه من القصيدة المشهورة:

وَمَا تَركُ قَومٍ لَا أبالَكَ سَيِّدًا

يَحوطُ الذِّمارَ غيرَ ذَربٍ مُوَاكِلِ

وأبيضَ يُستَسقى الغَمَامُ بِوَجهِهِ

ثَمالُ اليتامَى عِصمَة لِلأرامِلِ

يَلوذُ بِهِ الهُلّاكُ مِن آلِ هاشِمٍ

فَهُم عِنْدَهُ في نعمةٍ وَفَواضِلِ

ومن تواضعه صلى الله عليه وسلم ما روى الإمام أحمد من حديث حمَّاد بن سلمة، عن ثابت -زاد النسائي: وحميد- عن أنس؛ أن رجلًا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا سيدنا وابن سيدنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يا أيُّها الناس قُولوا بقولكم ولا يستهوينكم الشيطانُ، أنا محمد بن عبد الله ورسوله، والله ما أحبُّ أن ترفعوني فوقَ ما رفعني الله"

(4)

.

وفي صحيح مسلم

(5)

، عن عمر بن الخطاب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تطرُونى كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا: عبدُ الله ورسولهُ".

وقال الإمام أحمد: حَدَّثَنَا يحيى، عن شعبة، حدَّثني الحكم، عن إبراهيم، عن الأسود، قال:

(1)

رواه البخاري في صحيحه رقم (1442) في الزكاة، ومسلم في صحيحه رقم (1010) في الزكاة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

رواه البخاري في صحيحه رقم (1433) في الزكاة، ومسلم في صحيحه رقم (1029) في الزكاة وفيهما أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال ذلك لأسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها. ومعنى "تُوعِي": تحفظي المال فلا تنفقي منه شيئًا.

(3)

رواه البخاري في صحيحه رقم (6484) في التفسير، ومسلم في صحيحه رقم (993) في الزكاة.

(4)

رواه الإمام أحمد في المسند (3/ 241) والنسائي في عمل اليوم والليلة رقم (248) وهو حديث صحيح.

(5)

هكذا قال المصنف، ولو قال:"وفي صحيح البخاري" لكان أصح فإن الجملة التي ساقها في أحاديث الأنبياء من صحيح البخاري (3445)، أما مسلم فقد ساق حديث عمر مختصرًا (1691)(15) وليس فيه هذه الجملة، وهو في مسند أحمد بتمامه (1/ 55 - 56).

ص: 68

قلت لعائشة: ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنعُ في أهله؟ قالت: كان في مَهنةِ أهله، فإذا حضرتِ الصلاةُ خرجَ إلى الصَّلاة

(1)

.

وحدَّثنا وكيع ومحمد بن جعفر، قالا: حَدَّثَنَا شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم، عن الأسود قال: قلت لعائشة: ما كان النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يصنعُ إذا دخلَ بيته؟ قالت: كان يكون في مَهنة أهله، فإذا حضرت الصلاة خرجَ فصلَّى

(2)

.

ورواه البخاري

(3)

، عن آدم، عن شعبة.

وقال الإمام أحمد

(4)

: حَدَّثَنَا عبدة، حَدَّثَنَا هشام بن عروة، عن رجل، قال: سُئلت عائشة: ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنعُ في بيته؟ قالت: كان يرقعُ الثوبَ، ويخصفُ النعل، ونحو هذا.

وهذا منقطع من هذا الوجه.

وقد قال عبد الرزاق: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن عروة وهشام بن عروة عن أبيه، قال: سأل رجلٌ عائشةَ: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعملُ في بيته؟ قالت: نعم، كان يخصفُ نعلَه، ويخيطُ ثوبَه؛ كما يعمل أحدكم في بيته. رواه البيهقيّ

(5)

فاتصل الإسناد.

وقال البيهقيّ: أخبرنا أبو الحسين بن بشران، أخبرنا أبو جعفر محمد بن عمرو بن البختري -إملاء- حَدَّثَنَا محمد بن إسماعيل السُّلَمي، حَدَّثَنَا أبو صالح، حدَّثني معاوية بن صالح، عن يحيى بن سعيد، عن عَمرَةَ، قالت: قلت لعائشة: ما كان يعملُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في بيته؟ قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرًا من البشر، يَفْلي ثوبَه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه

(6)

.

ورواه الترمذي في "الشمائل"

(7)

عن محمد بن إسماعيل، عن عبد الله بن صالح، عن معاوية بن صالح، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، قالت: قيل لعائشة: ما كان يعملُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في بيته؟ .. الحديث.

وروى ابن عساكر

(8)

، من طريق أبي أسامة، عن حارثة بن محمد الأنصاري، عن عمرة، قالت:

(1)

رواه الإمام أحمد في المسند (6/ 49). ومعنى مهنة أهله: خدمتهم. وهو حديث صحيح.

(2)

رواه الإمام أحمد في المسند (6/ 126).

(3)

في صحيحه رقم (676) في الأذان.

(4)

في المسند (6/ 242) وفيه: أو نحو هذا. وإسناده منقطع كما قال المصنف، وقد وصله البيهقيّ في الحديث التالي وهو حديث صحيح بطرقه وشواهده.

(5)

دلائل النبوة للبيهقي (1/ 328 - 329) وهو حديث صحيح.

(6)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (1/ 328) وهو عند الإمام أحمد في المسند (6/ 256) عن القاسم، عن عائشة.

(7)

الشمائل رقم (342) باب ما جاء في تواضع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهو حديث صحيح.

(8)

تهذيب تاريخ ابن عساكر (2/ 212) وفي سنده حارثة بن أبي الرجال محمد بن عبد الرحمن المدني، وهو ضعيف.

ص: 69

قلتُ لعائشة: كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في أهله؟ قالت: كان ألينَ الناس، وأكرمَ الناس، وكان ضحَّاكًا بسَّامًا.

وقال أبو داود الطيالسي: حَدَّثَنَا شعبة، حدَّثني مسلم أبو عبد الله الأعور، سمع أنسًا يقول: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يُكثرُ الذكر، ويُقِلُّ اللَّغو، ويركبُ الحِمار، ويلبسُ الصُّوف، ويُجيب دعوة المملوك، ولقد رأيته يوم خيبر على حمار خطامه من ليف

(1)

.

وفي الترمذي وابن ماجه

(2)

، من حديث مسلم بن كيسان الملائي، عن أنس بعض ذلك.

وقال البيهقيّ

(3)

: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ -إملاء- حَدَّثَنَا أبو بكر محمد بن جعفر الآدمي القاري ببغداد، حَدَّثَنَا عبد الله بن أحمد بن إبراهيم الدَّورَقي، حَدَّثَنَا أحمد بن نصر بن مالك الخُزَاعي، حَدَّثَنَا علي بن الحسين بن وَاقِد، عن أبيه، قال: سمعتُ يحيى بنَ عقيل يقول: سمعت عبدَ الله بن أبي أَوفى يقول: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يُكثر الذكرَ، ويُقِلُّ اللغوَ، ويُطيل الصلاةَ، ويقصرُ الخطبةَ، ولا يَستنكفُ أن يمشيَ مع العبد، ولا مع الأرملة، حتى يَفرُغَ لهم من حاجاتهم.

ورواه النسائي

(4)

، عن محمد بن عبد العزيز، عن أبي زرعة، عن الفضل بن موسى، عن الحسين بن واقد، عن يحيى بن عقيل الخزاعي البصري، عن ابن أبي أوفى، بنحوه

(5)

.

وقال البيهقي

(6)

: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، حَدَّثَنَا أبو بكر إسماعيل بن محمد بن إسماعيل الفقيه بالريّ، حَدَّثَنَا أبو بكر محمد بن الفرج الأزرق، حَدَّثَنَا هاشم بن القاسم، حَدَّثَنَا شيبان أبو معاوية، عن أشعث بن أبي الشعثاء، عن أبي بُردَة، عن أبي موسى، قال: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يركبُ الحمار، ويلبسُ الصوف، ويَعتَقِلُ الشاةَ، ويَأتي مُراعاة الضيف.

(1)

رواه أبو داود الطيالسي رقم (2425) وهو في دلائل النبوة؛ للبيهقي (1/ 330) والخطام: حبل تقاد به الدابة. في سنده مسلم بن كيسان الأعور أبو عبد الله، وهو ضعيف.

(2)

رواه الترمذي في الجامع رقم (1017) في الجنائز، وقال أبو عيسى: هذا حديث لا نعرفه إِلَّا من حديث مسلم عن أنس، ومسلم الأعور يُضعَّف، وهو مسلم بن كيسَان الملائي تُكلم فيه، وقد روى عنه شعبة وسفيان.

ورواه الترمذي في الشمائل رقم (325) باب ما جاء في تواضع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابن ماجه في سننه رقم (4178) في الزهد. وإسناده ضعيف كما قال الترمذي.

(3)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (1/ 329).

(4)

في المجتبى (3/ 108) وفي الكبرى (1716)، والدارمي (1642) وينظر تحفة الأشراف (5183).

(5)

وأخرجه الحاكم في المستدرك (2/ 614) وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه" هكذا قال وهو وهم منه رحمه الله فإن الحسين بن واقد لم يَرْوِ له البخاري إِلَّا تعليقًا، وشيخه يحيى بن عقيل الخزاعي البصري لم يخرج له شيئًا في الصحيح، وإنما روى له في "الأدب المفرد" وهما صدوقان من رجال مسلم.

(6)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (1/ 329).

ص: 70

وهذا غريب من هذا الوجه، ولم يخرجوه، وإسناده جيد.

وروى محمدُ بن سعد

(1)

، عن إسماعيل بن أبي فُديك، عن موسى بن يعقوب الزمعي، عن سهل مولى عتيبة، أنه كان نصرانيًا من أهل مريس، وأنه كان في حِجر أمه وعمه، وأنه قال: قرأت يومًا في مصحف لعمي، فإذا فيه ورقة بغير الخط، وإذا فيها نعت محمد صلى الله عليه وسلم: لا قصير ولا طويل أبيض ذو ضفيرتين، بين كتفيه خاتم، يُكثِرُ الاحتباءَ، ولا يَقبل الصدقة، ويركب الحمارَ والبعير، ويحتلبُ الشاة، ويلبَس قميصًا مرقوعًا، ومن فعل ذلك فقد برئ من الكِبر، وهو من ذرية إسماعيل، اسمه أحمد. قال: فلما جاء عمي ورآني قد قرأتها ضربني، وقال: مالك وفتح هذه؟ فقلت: إن فيها نعت أحمد، فقال: إنه لم يأت بعد.

وقال الإمام أحمد

(2)

: حَدَّثَنَا إسماعيل، حَدَّثَنَا أيوب، عن عمرو بن سعيد، عن أنس، قال: ما رأيت أحدًا كان أرحم بالعيال من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذكر الحديث.

ورواه مسلم

(3)

عن زهير بن حرب، عن إسماعيل بن عليّة، به.

وقال الترمذي في "الشمائل"

(4)

: حَدَّثَنَا محمود بن غيلان، حَدَّثَنَا أبو داود، عن شُعبة، عن الأشعث بن سُلَيم، [قال]: سمعتُ عمتي تحدِّث عن عمِّها، قال: بينا أنا أمشي بالمدينة إذا إنسان خلفي يقول: "ارفع إزارَك فإنه أنقى وأبقى"، فإذا هو رسول الله، فقلت: يا رسولَ الله إنما هي بُردة ملحاء، قال:"أما لك فيَّ أسوة؟ "(فنظرتُ) فإذا إزارُه إلى نصف ساقيه.

ثم قال

(5)

: حَدَّثَنَا سويد بن نصر، حَدَّثَنَا عبد الله بن المبارك، عن موسى بن عُبيدة، عن إياس بن سلمة، عن أبيه، قال: كان عثمان بن عفان متزرًا إلى أنصاف ساقيه، قال: هكذا كانت إزرَة صاحبي صلى الله عليه وسلم.

وقال أيضًا

(6)

: حَدَّثَنَا يوسف بن عيسى، حَدَّثَنَا وكيع، حَدَّثَنَا الربيع بن صبيح، حَدَّثَنَا يزيد بن أبان، عن أنس بن مالك قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُكثر القناع

(7)

، كأن ثوبه ثوب زيات.

(1)

الطبقات الكبرى (1/ 363).

(2)

رواه الإمام أحمد في المسند (3/ 112).

(3)

في صحيحه (2316) في الفضائل.

(4)

رواه الترمذي في الشمائل رقم (120) باب ما جاء في صفة إزار رسول الله صلى الله عليه وسلم وإسناده ضعيف لجهالة عمة الأشعث بن سليم.

(5)

الشمائل (121)، وإسناده ضعيف لضعف موسى بن عبيدة الربذي.

(6)

الشمائل (33) و (126).

(7)

القناع: الدهن الذي يتطيب به.

ص: 71

وهذا فيه غرابة ونكارة، والله أعلم.

وروى البخاري، عن علي بن الجَعد، عن شُعبة، عن يَسار أبي الحكم، عن ثابت، عن أنس؛ أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم مرَّ على صبيان يلعبون فسلَّم عليهم

(1)

.

ورواه مسلم

(2)

من وجه آخر عن شعبة.

‌ذكرُ مِزَاحِهِ عليه الصلاة والسلام

وقال ابن لَهيعة: حدَّثني عُمَارة بن غَزِيَّة، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس قال: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مِن أَفْكَهِ النَّاسِ مع صبيّ

(3)

.

وقد تقدم حديثه في ملاعبته أخاه أبا عُمير، وقوله:"أبا عُمير! ما فعل النغير؟ " يذكره بموت نُغر كان يلعبُ به ليحرجَه بذلك؛ كما جرت به عادة الناس من المداعبة مع الأطفال الصغار.

وقال الإمام أحمد

(4)

: حدَّثَنَا خلف بن الوليد، حدَّثَنَا خالد بن عبد الله، عن حُميد الطويل، عن أنس بن مالك؛ أن رجلًا أتى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فاستحمله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنا حاملوك على ولد ناقة" فقال: يا رسول الله ما أصنعُ بولد ناقة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وهل تلدُ الإبل إِلَّا النوق؟ ".

ورواه أبو داود

(5)

عن وهب بن بَقية، والترمذي

(6)

عن قتيبة، كلاهما عن خالد بن عبد الله الواسطي الطَّحَّان، به. وقال الترمذي: صحيح غريب.

وقال أبو داود في هذا الباب

(7)

: حَدَّثَنَا يحيى بن معين، حَدَّثَنَا حجَّاج بن محمد، حَدَّثَنَا يونس بن أبي إسحاق، عن أبي إسحاق، عن العَيزَارِ بن حُرَيْث، عن النعمان بن بشير، قال: استأذن أبو بكر على النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، فسمعَ صوت عائشة عاليًا على رسول الله، فلما دخل تناولها ليلطمها، وقال: ألا أراك ترفعين صوتك على رسول الله! فجعل النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم يحجزُه، وخرج أبو بكر مُغضَبًا، فقال رسول الله حين خرج أبو بكر:"كيف رأيتيني أنقذتُك من الرجل؟ " فمكث أبو بكر أيامًا، ثم استأذن على رسول الله

(1)

رواه البخاري في صحيحه رقم (6247) في الاستئذان.

(2)

في صحيحه رقم (2168)(15) في السلام.

(3)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (1/ 331) وابن لهيعة ضعيف.

(4)

في المسند (3/ 267).

(5)

في سننه (4998).

(6)

جامع الترمذي (1991) في البر، وفي الشمائل (238).

(7)

رواه أبو داود في سننه رقم (4999) في الأدب وأخرجه أحمد (4/ 271 و 275) والنسائي في عشرة النساء من سننه الكبرى (9155)، به ولكن ليس فيه "أبو إسحاق" وإسناد أبي داود إسناد صحيح.

ص: 72

فوجدهما قد اصطلحا، فقال لهما: أدخلاني في سِلمِكما كما أدخلتماني في حربكما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"قد فعلنا، قد فعلنا".

وقال أبو داود

(1)

: حَدَّثَنَا مؤمّل بن الفضل، حَدَّثَنَا الوليد بن مسلم، عن عبد الله بن العلاء، عن بُسْر بن عبيد الله، عن أبي إدريس الخولاني، عن عوف بن مالك الأشجعي، قال: أتيتُ رسولَ الله في غزوة تبوك، وهو في قبةٍ من أَدَم، فسلّمتُ فردَّ وقال:"ادخل" فقلت: أكلّي يا رسول الله؟ فقال: "كلَّك"، فدخلتُ.

وحدَّثنا

(2)

صفوان بن صالح، حَدَّثَنَا الوليد بن عثمان بن أبي العاملة: إنما قال: أدخل كلي؟ من صغر القبة.

ثم قال أبو داود

(3)

: حَدَّثَنَا إبراهيم بن مهدي، حَدَّثَنَا شريك، عن عاصم، عن أنس، قال: لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا ذا الأذنين".

قلت: ومن هذا القبيل ما رواه الإمام أحمد

(4)

: حَدَّثَنَا عبد الرزاق، حَدَّثَنَا معمر، عن ثابت، عن أنس؛ أن رجلًا من أهل البادية كان اسمه زاهرًا، وكان يُهدي للنبي صلى الله عليه وسلم الهديّةَ من البادية، فيجهزه النبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرجَ، فقال رسول الله:"إن زاهرًا باديتُنا ونحن حاضرُوه" وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبّه، وكان رجلًا دميمًا، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم (يومًا) وهو يبيعُ متاعَه، فاحتضنه من خلفه ولا يبصره

(5)

الرجل، فقال: أرسلني، من هذا؟ فالتفتَ فعرفَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، فجعل لا يألو

(6)

ما ألصق ظهره بصدر النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم حين عرفه، وجعل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يقول:"من يشتري العبد؟ " فقال: يا رسول الله إذًا والله تجدني كاسدًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لكن عند الله لست بكاسد" أو قال: "لكن عند الله أنت غال".

(1)

رواه أبو داود في سننه رقم (5000) في الأدب، وأخرجه البخاري مطولًا في صحيحه رقم (3176) في الجزية، وليس فيه قصة الدخول، وابن ماجه في سننه رقم (4042) و (4095) في الفتن.

(2)

أبو داود في سننه رقم (5001) في الأدب، وقال المنذري: عثمان هذا -أي عثمان بن أبي العاتكة- فيه مقال. وإسناده ضعيف.

(3)

رواه أبو داود في سننه رقم (5002) في الأدب، والترمذي في الجامع رقم (1992) في البر، و (3828) في المناقب، وهو عند الإمام في المسند (3/ 127) كلهم عن أنس رضي الله عنه. وإسناد ضعيف لضعف شريك وهو ابن عبد الله النخعي سيّء الحفظ، لكنه قد توبع فيتحسن حديثه.

(4)

مسند أحمد (3/ 161).

(5)

كذا في الأصل، وفي المسند والشمائل وهو لا يبصره.

(6)

"لا يألو": لا يقصِّر.

ص: 73

وهذا إسناد رجاله كلهم ثقات على شرط الصحيحين، ولم يروه إلا الترمذي في "الشمائل"

(1)

عن إسحاق بن منصور، عن عبد الرزاق.

ورواه ابن حِبّان في "صحيحه"

(2)

.

ومن هذا القبيل ما رواه البخاري من صحيحه

(3)

؛ أن رجلًا كان يُقال له عبد اللّه -ويلقب حمارًا- وكان يُضحِكُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، وكان يُؤتى به في الشراب، فجيء به يومًا، فقال رجل: لعنه اللّه ما أكثر ما يُؤتى به، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم:"لا تلعنه فإنه يُحِبُّ اللّه ورسوله".

ومن هذا ما قال الإمام أحمد

(4)

: حدَّثنا حجَّاج، حدَّثني شعبة، عن ثابت البناني، عن أنس بن مالك؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في مسير، وكان حاد يحدو بنسائه أو سائق، قال: فكان نساؤُه يتقدمن بين يديه، فقال:"يا أنجشة ويحك، ارفق بالقوارير".

وهذا الحديث في الصحيحين عن أنس

(5)

، قال: كان للنبي صلى الله عليه وسلم حادٍ يحدو بنسائه يقال له أنجشة، فحدا، فأعنقت الإبل، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم:"ويحك يا أنجشة! ارفق بالقوارير". ومعنى القوارير: النساء، وهي كلمةُ دُعابة. صلوات الله وسلامه عليه دائمًا إلى يوم الدين.

ومن مكارم أخلاقه ودعابته وحسن خُلُقه استماعه عليه السلام حديث أُم زرع

(6)

من عائشة بطوله، ووقع في بعض الروايات أنه عليه الصلاة والسلام هو الذي قصَّه على عائشة.

ومن هذا ما رواه الإمام أحمد

(7)

: حدَّثنا أبو النضر، حدَّثنا أبو عقيل- يعني عبد الله بن عقيل الثقفي-. حدَّثنا مجالد بن سعيد، عن عامر، عن مسروق، عن عائشة قالت: حدَّث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم نساءَه ذات ليلة حديثًا، فقالت امرأة منهن: يا رسولَ اللّه كأن الحديثَ حديثُ خرافة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أتدرين ما خرافة؟ إن خرافة كان رجلًا من عذرة أسرته الجن في الجاهلية، فمكث فيهم دهرًا طويلًا، ثم ردوه إلى الإنس، فكان يحدث الناس بما رأى فيهم من الأعاجيب، فقال الناس: حديث خرافة".

(1)

الترمذي في الشمائل رقم (239) باب ما جاء في صفة مُزاح رسول اللّه صلى الله عليه وسلم.

(2)

رواه ابن حبان في صحيحه رقم (5790) في الحظر والإباحة، باب المزاح والضحك.

(3)

رواه البخاري في صحيحه رقم (6780) في الحدود، ولفظه: لا تلعنوه، فوالله ما علمتُ إنه يُحِبُّ الله ورسوله.

(4)

رواه الإمام أحمد في المسند (3/ 187).

(5)

البخاري في صحيحه رقم (6149) في الأدب، ومسلم في صحيحه رقم (2323) في الفضائل.

(6)

حديث أم زرع رواه البخاري في صحيحه رقم (5189) في النكاح، ومسلم في صحيحه رقم (2448) في الفضائل، والنسائي في الكبرى كما في التحفة (12/ 11) والترمذي في الشمائل رقم (251).

(7)

رواه الإمام أحمد في المسند (6/ 157 - 158).

ص: 74

وقد رواه الترمذي في "الشمائل"

(1)

عن الحسن بن الصبَّاح البزَّار، عن أبي النضر هاشم بن القاسم، به.

قلت: وهو من غرائب الأحاديث، وفيه نكارة، ومجالد بن سعيد يتكلمون فيه، فاللّه أعلم.

وقال الترمذي في باب مُزَاحِ النبي صلى الله عليه وسلم من كتابه "الشمائل"

(2)

: حدَّثنا عَبدُ بن حُميد، حدَّثنا مصعب بن المقدام، حدَّثنا المبارك بن فضالة، عن الحسن، فال: أتت عجوز إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله ادع لي أن يدخلني اللّه الجنة، قال:"يا أُمَّ فلان إن الجنة لا يدخلها عجوز" فولَّت العجوز تبكي، فقال: "أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز، فإن اللّه تعالى يقول:{إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا}

(3)

[الواقعة: 35، 36] وهذا مرسل من هذا الوجه.

وقال الترمذي

(4)

: حدَّثنا عباس بن محمد الدوري، حدَّثنا علي بن الحسن بن شقيق، حدَّثنا عبد اللّه بن المبارك، عن أسامة بن زيد، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، قال: قالوا يا رسول اللّه إنك تداعبنا، قال:"إني لا أقول إلا حقًا".

تداعبنا: يعني: تمازحنا. وهكذا رواه الترمذي في "جامعه" في باب البر، بهذا الإسناد، ثم قال: وهذا حديث حسن.

‌بابُ زهده عليه الصلاة والسلام وإعراضُه عن هذه الدار (وإقبالُه واجتهادُه وعملُه لدار القرار)

قال اللّه تعالى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 131] وقال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28]، وقال تعالى:{فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} [النجم: 29، 30] وقال: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر: 87، 88] والآيات في هذا كثيرة.

(1)

الشمائل رقم (252) باب ما جاء في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم في السمر.

(2)

الشمائل رقم (237) باب ما جاء في صفة مزاح رسول الله صلى الله عليه وسلم ولفظه: قالوا: يا رسول الله إنك تداعبنا. قال: نعم، غير أني لا أقول إلا حقًا.

(3)

رواه الترمذي في الشمائل رقم (240) باب ما جاء في صفة مزاح رسول الله صلى الله عليه وسلم. والحسن: هو الحسن البصري.

(4)

جامع الترمذي (1990) وهو حديث حسن، كما قال الإمام الترمذي، فيه أسامة بن زيد الليثي، فهو صدوق حسن الحديث.

ص: 75

وأما الأحاديث، فقال يعقوب بن سفيان: حدَّثني أبو العباس حَيوَةُ بن شُريح، أخبرنا بقيّة، عن الزُّبيدي، عن الزُّهري، عن محمد بن عبد اللّه بن عباس، قال: كان ابن عباس يُحدّث أن اللّه أرسل إلى نبيه مَلَكًا من الملائكة معه جبريل، فقال المَلَكُ لرسول اللّه (صلى الله عليه وسلم)

(1)

: "إن اللّه يُخيِّرك بين أن تكون عبدًا نبيًا، وبين أن تكون مَلِكًا نبيًا" فالتفت رسولُ الله إلى جبريل كالمستشير له، فأشار جبريلُ إلى رسول اللّه أن تواضع، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم:"بل أكون عبدًا نبيًا" قال: فما أكل بعد تلك الكلمة طعاما مُتَّكِئًا حتى لقيَ اللّه عز وجل.

وهكذا رواه البخاري في "التاريخ"

(2)

عن حَيوةَ بن شريح، وأخرجه النسائي

(3)

عن عمرو بن عثمان، كلاهما عن بقية بن الوليد به. وأصل هذا الحديث في الصحيح بنحو من هذا اللفظ.

وقال الإمام أحمد

(4)

: حدَّثنا محمد بن فُضَيل، عن عُمارة، عن أبي زُرعة- ولا أعلمه إلا عن أبي هريرة- قال: جلس جبريل إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فنظر إلى السماء، فإذا مَلَكٌ ينزل، فقال جبريل: إن هذا الملك ما نزل منذ يوم خلق قبل الساعة، فلما نزل قال: يا محمد أرسلني إليك ربك: أفملِكًا نبيًا يجعلك أو عبدًا رسولًا؟

(5)

.

هكذا وجدته بالنسخة التي عندي بالمسند مختصرًا

(6)

وهو من أفراده من هذا الوجه.

وثبت في الصحيحين

(7)

، من حديث ابن عباس، عن عمر بن الخطاب، في حديث إيلاء رسول الله صلى الله عليه وسلم من أزواجه، ألا يدخل عليهن شهرًا، واعتزل عنهن في عِليّة، فلما دخل عليه عمر في تلك العِليّة فإذا ليس فيها سوى صبرة من قرظ، وأهبة معلقة، وصبرة من شعير، وإذا هو مضطجع على رمال حصير قد أثَّر في جنبه، فهملت عينا عمر، فقال:"مالك؟ " فقلت: يا رسول الله أنت صفوة اللّه من خلقه، وكسرى وقيصر فيما هما فيه! فجلس محمرًا وجهه فقال:"أو في شك أنت يا بن الخطاب؟ " ثم قال: "أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا".

(1)

ما بين القوسين أثبته من دلائل النبوة؛ للبيهقي (1/ 334).

(2)

التاريخ الكبير (1/ 1/ 123).

(3)

في الوليمة من سننه الكبرى (6743).

(4)

في المسند (2/ 231).

(5)

لم أجده في الصحيح، إنما أورده ابن حبان في صحيحه (6365) في التاريخ، باب صفته صلى الله عليه وسلم، وقال محققه: إسناده صحيح على شرط الشيخين. ورواه أحمد (2/ 231). والبزار رقم (2462) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وهو حديث صحيح.

(6)

في المطبوع من المسند زيادة نصها: "قال جبريل: تواضع لربك يا محمد. قال: بل عبدًا رسولًا" ولذلك نبه المصنف إلى هذا الاختصار في نسخته.

(7)

البخاري في صحيحه رقم (5191) في النكاح، ومسلم في صحيحه رقم (1479) في الطلاق (30) و (35).

ص: 76

وفي رواية لمسلم "أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟ " فقلت: بلى يا رسول اللّه، قال:"فاحمد اللّه عز وجل" ثم لما انقضى الشهر أمره اللّه عز وجل أن يخير أزواجه وأنزل عليه قوله: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 28، 29]. وقد ذكرنا هذا مبسوطًا في كتابنا التفسير وأنه بدأ بعائشة، فقال لها:"إني ذاكر لك أمرًا فلا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك" وتلا عليها هذه الآية، قالت: فقلت أفي هذا أستأمر أبوي؟ فإني أختار اللّه ورسولَه والدارَ الآخرة. وكذلك قال سائر أزواجه عليه الصلاة والسلام ورضي اللّه عنهن.

وقال مُباركُ بن فَضَالة، عن الحسن، عن أنس، قال: دخلتُ على رسول اللّه وهو على سرير مَرمول

(1)

بالشريط، وتحت رأسه وسادة من أدم

(2)

حشوها ليف، ودخل عليه عمرُ وناسٌ من أصحابه، فانحرفَ رسول اللّه انحرافةً، فرأى عمرُ أثرَ الشريط في جنبه فبكى، فقال له:"ما يُبكيك يا عمر؟ " قال: ومالي لا أبكي وكسرى وقَيصر يعيشان فيما يعيشان فيه من الدنيا، وأنتَ على الحال الذي أرى؟! فقال:"يا عمر! أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟ " قال: بلى، قال:"هو كذلك". هكذا رواه البيهقي

(3)

.

وقال الإمام أحمد

(4)

: حدَّثنا أبو النضر، حدَّثنا مبارك، عن الحسن، عن انس بن مالك، قال: دخلتُ على رسول اللّه وهو على سرير مضطجع مزمل بشريط، وتحت راسه وسادة من أدم حشوها ليف، فدخل عليه نفر من أصحابه، ودخل عمر فانحرف رسول اللّه انحرافة، فلم ير عمر بين جنبه وبين الشريط ثوبًا، وقد أثر الشريط بجنب رسول اللّه، فبكى عمر، فقال له رسول اللّه صلى الله عليه وسلم:"ما يبكيك يا عمر؟ " قال: واللّه ما أبكي إلا أن أكون أعلم أنك أكرم على اللّه من كسرى وقيصر، وهما يعيشان في الدنيا فيما يعيشان فيه، وأنت يا رسول اللّه في المكان الذي أرى؟! فقال رسول اللّه:"أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟ " قال: بلى، قال:"فإنه كذلك"

(5)

.

(1)

"مرْمول": موصول.

(2)

"من أدم": من جلد.

(3)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (1/ 337) وفيه: قلت: بلى يا رسول الله. قال: "فاحمد اللّه عز وجل" وذكر الحديث، وإسناده حسن من أجل مبارك بن فضالة فإنه صدوق حسن الحديث. وقد أخرج الشيخان من رواية الحسن عن أنس أحاديث.

(4)

في مسنده (3/ 140).

(5)

وهو حديث حسن كما تقدم.

ص: 77

وقال أبو داود الطيالسي

(1)

: حدَّثنا المسعودي، عن عمرو بن مُرّة، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله بن مسعود، قال: اضطجعَ رسولُ الله على حصير فأثَّر الحصيرُ بجلده، فجعلتُ أمسحه وأقول: بأبي أنت وأمي ألا آذنتنا فنبسط لك شيئًا يقيك منه تنام عليه؟ فقال: "مالي وللدنيا، ما أنا والدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها".

ورواه ابن ماجه

(2)

عن يحيى بن حكيم، عن أبي داود الطيالسي به.

وأخرجه الترمذي

(3)

، عن موسى بن عبد الرحمن الكندي، عن زيد بن الحُباب، كلاهما عن المسعودي به، وقال الترمذي: حسن صحيح

(4)

.

وقد رواه الإمام أحمد من حديث ابن عباس، فقال

(5)

: حدَّثنا عبد الصمد وأبو سعيد وعفان، قالوا: حَدَّثنا ثابت، حَدَّثنا هلال، عن عكرمة، عن ابن عباس؛ أن رسول اللّه دخل عليه عمر وهو على حصير قد أثَّرَ في جنبه، فقال: يا رسول اللّه لو اتخذت فراشًا أوثرَ من هذا، فقال:"مالي وللدنيا، ما مَثَلي ومثل الدنيا إلا كراكبٍ سارَ في يوم صائفٍ، فاستظلَّ تحتَ شجرة ساعةً من نهار، ثم راحَ وتركها". تفرد به أحمد.

وفي صحيح البخاري

(6)

، من حديث الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن أبي هريرة؛ أن رسول الله قال:"لو أن لي مثل أحد ذهبًا ما سرَّني أن تأتيَ عليّ ثلاثُ ليالٍ وعندي منه شيء إلا شيء أرصدُه لدَين".

وفي الصحيحين

(7)

، من حديث عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"اللهم اجعل رزقَ آلِ محمدٍ قُوتًا".

فأما الحديث الذي رواه ابن ماجه

(8)

، من حديث يزيد بن سنان، عن ابن المبارك، عن عطاء، عن أبي سعيد؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللهمَّ أحيني مسكينًا، وأمتني مسكينًا، واحشرني في زمرة

(1)

في مسنده (277).

(2)

في سننه (4109) في الزهد.

(3)

في جامعه (2377).

(4)

وهو كما قال.

(5)

في مسنده (1/ 301) وإسناده صحيح.

(6)

صحيح البخاري (2389) في الاستقراض، و (6445) في الرقاق.

(7)

رواه البخاري في صحيحه رقم (6460) في الرقاق، ومسلم في صحيحه رقم (1055) في الزكاة و (1055) (18) في الزهد والرقائق. ومعنى قوتًا: قيل: كفايتهم من غير إسراف. وقيل: هو سد الرمق.

(8)

رواه ابن ماجه في سننه رقم (4126) في الزهد.

ص: 78

المساكين". فإنه حديث ضعيف لا يثبت من جهة إسناده؛ لأن فيه يزيد بن سِنان أبا فروة الرُّهاوي، وهو ضعيف جدًا

(1)

، واللّه أعلم.

وقد رواه الترمذي من وجه آخر فقال

(2)

: حَدَّثنا عبد الأعلى بن واصل الكوفي، حدَّثنا ثابت بن محمد العابد الكوفي، حدَّثنا الحارث بن النعمان اللَّيثي، عن أنس؛ أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال:"اللهم أحيني مسكينًا، وأمتني مسكينًا، واحشرني في زمرة المساكين يوم القيامة" فقالت عائشة: لم يا رسول الله؟ قال: "إنهم يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بأربعين خريفًا، يا عائشة! لا ترُدّي المسكين ولو بشِقِّ تمرة، يا عائشة أحبِّي المساكين وقرّبيهم فإن اللّه يُقرّبك يومَ القيامة". ثم قال: هذا حديث غريب.

قلت: وفي إسناده ضعف، وفي متنه

(3)

نكارة، والله أعلم.

وقال الإمام أحمد

(4)

: حدَّثنا عبد الصمد، حَدَّثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، أنه قيل له: هل رأى (رسولُ الله صلى الله عليه وسلم)(5) النَّقيَّ (قبل موته)

(5)

بعينه- يعني الحُوَّارى- فقال له: ما رأى رسول الله التَّقيَّ بعينه حتى لقي اللّه عز وجل، فقيل له: هل كانت لكم مناخل على عهد رسول اللّه؟ فقال: ما كانت لنا مناخل، فقيل له: فكيف كنتم تصنعون بالشعير؟ قال: ننفخه فيطير [منه] ما طار.

وهكذا رواه الترمذي

(6)

من حديث عبد الرحمن بن عبد اللّه بن دينار به، وزاد: ثم نثريه

(7)

ونعجنه. ثم قال: حسن صحيح، وقد رواه مالك عن أبي حازم.

قلت: وقد رواه البخاري

(8)

، عن سعيد بن أبي مريم، عن محمد بن مطرف بن غسان المدني، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد به.

(1)

قال البوصيري في الزوائد: أبو المبارك لا يُعرف اسمه، وهو مجهول. ويزيد بن سنان ضعيف، والحديث صححه الحاكم (4/ 322)، وعدَّه ابن الجوزي في الموضوعات (3/ 141 - 142) وحكم ابن الجوزي بوضعه إسراف، ويمكن أن يكون حسنًا لغيره بطرقه وشواهده.

وقال السيوطي في اللآلئ (2/ 326): قال الحافظ صلاح الدين بن العلاء: الحديث ضعيف السند، لكن لا يُحكم عليه بالوضع. وانظر: النكت البديعات على الموضوعات (ص 215).

(2)

رواه الترمذي في الجامع رقم (2352).

(3)

استغربه الترمذي لضعفه الشديد، فالحارث بن النعمان الليثي منكر الحديث.

(4)

رواه الإمام أحمد في المسند (5/ 332).

(5)

ما بين القوسين أثبته من المسند (5/ 332).

(6)

في جامعه (2364).

(7)

"نثريه": يقال ثرَّى التراب يثريه، إذا رش عليه الماء. وفي المطبوع: نذريه.

(8)

رواه البخاري في صحيحه رقم (5410) في الأطعمة. ومحمد بن مطرف هو أبو غسان.

ص: 79

ورواه البخاري أيضًا والنسائي

(1)

، عن قتيبة، عن يعقوب بن عبد الرحمن القاري، عن أبي حازم، عن سهل به.

وقال الترمذي

(2)

: حدَّثنا عباس بن محمد الدُّوريّ، حَدَّثنا يحيى بن أبي بُكير، حدَّثنا جرير بن عثمان، عن سُليم بن عامر، سمعت أبا أمامة يقول: ما كان يَفضُل عن أهل بيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم خبز الشعير. ثم قال: حسن صحيح غريب.

وقال الإمام أحمد

(3)

: حَدَّثنا يحيى بن سعيد، عن يزيد بن كيسان، حدَّثني أبو حازم، قال: رأيتُ أبا هريرة يُشير بأصبعه مرارًا: والذي نفسُ أبي هريرة بيده! ما شبع نبيُّ الله وأهلُه، ثلاثةَ أيام تباعًا، من خبز حنطةٍ حتى فارقَ الدنيا.

ورواه مسلم والترمذي وابن ماجه

(4)

، من حديث يزيد بن كيسان.

وفي الصحيحين

(5)

من حديث جرير بن عبد الحميد، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت: ما شبع آلُ محمد صلى الله عليه وسلم، منذ قدموا المدينة، ثلاثة أيام تباعًا، من خبز بُرِّ حتى مضى لسبيله.

وقال الإمام أحمد

(6)

: حَدَّثنا هاشم، حَدَّثنا محمد بن طلحة، عن أبي حمزة، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت: ما شبع آل محمد ثلاثًا من خبز بُرٍّ حتى قُبض، وما رُفع من مائدته كسرةٌ قطّ حتى قُبضَ.

وقال أحمد

(7)

: حَدَّثنا محمد بن عُبيد، حَدَّثنا مطيع الغزال، عن كردوس، عن عائشة، قالت: قد مضى رسول الله لسبيله وما شبع أهلُه ثلاثة أيام من طعام بُر.

وقال الإمام أحمد

(8)

: حَدَّثنا حُسين

(9)

، حدَّثنا دويد

(10)

، عن أبي سهل، عن سليمان بن رومان

(1)

رواه البخاري في صحيحه رقم (5413) في الأطعمة، والنسائي في الرقاق من الكبرى كما في التحفة (4785).

(2)

رواه الترمذي في الجامع رقم (2359) في الزهد، وفي الشمائل رقم (144) باب ما جاء في صفة خبز رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(3)

في المسند (2/ 434).

(4)

مسلم في صحيحه رقم (2976) في الزهد، والترمذي في الجامع رقم (2358) في الزهد، وابن ماجه في سننه رقم (3343) في الأطعمة.

(5)

رواه البخاري في صحيحه رقم (5416) في الأطعمة، ومسلم في صحيحه رقم (2970) في الزهد.

(6)

في المسند (6/ 156) وإسناده ضعيف لضعف محمد بن طلحة وهو ابن مصرف وأبي حمزة ميمون الأعور، لكن قوله: ما شبع آل محمد ثلاثًا من خبز بُر حتى قبض صحيح فهو عند أحمد (6/ 42) بإسناد صحيح، ومسلم (2970)(21). وأما قوله "وما رفع من مائدته كسرة قط حتى قبض" فلا يصح.

(7)

في المسند (6/ 255) وهو حديث صحيح بشواهده.

(8)

في مسنده (6/ 71).

(9)

في المطبوع: "حسن" وهو تحريف، وهو حسين بن محمد بن بهرام المرُّوذي.

(10)

دويد بن نافع، أبو عيسى الشامي، ويقال: أوله بالمعجمة، كما في التقريب.

ص: 80

-مولى عروة- عن عروة، عن عائشة؛ أنها قالت: والذي بعث محمدًا بالحق ما رأى منخلًا، ولا أكل خبزًا منخولًا منذ بعثه اللّه [عز وجل] إلى أن قُبِض. قلت: كيف كنتم تأكلون الشعير؟ قالت: كنا نقول أف. تفرد به أحمد من هذا الوجه

(1)

.

وروى البخاري

(2)

عن محمد بن كثير، عن الثوري، عن عبد الرحمن بن عابس بن ربيعة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: إن كنا لنخرج الكراع بعد خمسة عشر يومًا فنأكله، قلت: ولم تفعلون ذلك؟ فضحكت وقالت: ما شبعَ آلُ محمد صلى الله عليه وسلم من خبزِ بُرّ مأدوم حتى لحقَ باللّه عز وجل.

وقال أحمد

(3)

: حدَّثنا يحيى، حدَّثنا هشام، أخبرني أبي، عن عائشة، قالت: كان يأتي على آل محمد الشهر ما يُوقدون فيه نارًا ليس إلا التمر والماء، إلا أن تُؤتى باللحم.

وفي الصحيحين

(4)

، من حديث هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة؛ أنها قالت: إن كنا آل محمد ليمر بنا الهلال ما نُوقد نارًا، إنما هو الأسودان: التمر والماء، إلا أنه كان حولنا أهل دور من الأنصار يبعثون إلى رسول اللّه بلبن منائحهم، فيشربُ ويسقينا من ذلك اللبن.

ورواه أحمد

(5)

، عن يزيد

(6)

عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عنها بنحوه.

(وفي مسند)

(7)

الإمام أحمد

(8)

: حَدَّثنا عبد اللّه، حدَّثني أبي، حَدَّثنا حسين، حدَّثنا محمد بن مطرِّف، عن أبي حازم، عن عروة بن الزبير؛ أنه سمع عائشة تقول: كان يمر بنا هلال وهلال ما يُوقد في بيب من بيوت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نار، قال قلت: يا خالة! على أي شيء كنتم تعيشون؟ قالت: على الأسودين: التمر والماء. تفرد به أحمد.

وقال أبو داود الطيالسي

(9)

، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن

(1)

إسناده ضعيف لجهالة أبي سهل شيخ دويد، وسليمان بن رومان.

(2)

في صحيحه رقم (5423) في الأطعمة، ولفظه "وإن كنا لنرفع الكُراع فنأكله بعد خمس عشرة ليلة. قيل ما اضطركم إليه؟ فضحكت

".

(3)

في المسند (6/ 50) وهو عند البخاري رقم (6458) في الأطعمة.

(4)

رواه البخاري في صحيحه رقم (6459) في الرقاق، ومسلم في صحيحه رقم (2972) في الزهد، وهو فيهما: عن يزيد بن رومان، عن عروة، عن عائشة.

(5)

في مسنده (6/ 182 - 237).

(6)

في المطبوع: "بريدة" محرف، وهو يزيد بن هارون. وينظر المسند الجامع للدكتور بشار ورفاقه (20/ 412 - 413) حديث (17320).

(7)

في المطبوع: "وقال" ولا يصح لأن ساقه من طريق القطيعي عن عبد اللّه بن أحمد عن أبيه.

(8)

مسند الإمام أحمد (6/ 71) وهو حديث صحيح ولكن اختلف فيه على أبي حازم.

(9)

مسند الطيالسي (1389).

ص: 81

الأسود، عن عائشة قالت: ما شبعَ رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم من خبز شعير يومين متتابعين حتى قُبِض. وقد رواه مسلم

(1)

من حديث شعبة.

(وفي مسند) الإمام أحمد

(2)

: حَدَّثنا عبد اللّه، حدَّثني أبي، حَدَّثنا إسماعيل

(3)

، حَدَّثنا سليمان بن المغيرة، عن حُميد بن هلال، قال: قالت عائشة: أرسل إلينا آل أبي بكر بقائمة شاة ليلًا، فأمسكتُ وقطعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو قالت: أمسكَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وقطعتُ. قالت -تقول للذي تحدثه- هذا على غير مصباح. وفي رواية: لو كان عندنا مصباح لائتدمنا به، قال: قالت عائشة: إنه ليأتي على آل محمد الشهر ما يختبزون خبزًا ولا يطبخون قدرًا.

وقد رواه أيضًا عن بهز بن أسد

(4)

، عن سليمان بن المغيرة، وفي روايته

(5)

: شهرين، تفرَّد به أحمد.

وقال الإمام أحمد

(6)

: حَدَّثنا خَلَف، حَدَّثنا أبو معشر، عن سعيد -هو ابن أبي سعيد- عن أبي هريرة، قال: كان يمر بآل رسول الله هلال ثم هلال لا يُوقدون في شيء من بيوتهم النار، لا لخبز ولا لطبيخ، قالوا: بأي شيء كانوا يعيشون يا أبا هريرة؟ قال: الأسودان التمر والماء، وكان لهم جيران من الأنصار، جزاهم اللّه خيرًا، لهم منائح يُرسلون إليهم شيئًا من لبن، تفرد به أحمد.

وفي صحيح مسلم

(7)

، من حديث منصور بن عبد الرحمن الحَجَبي، عن أمه، عن عائشة، قالت: تُوفي رسول الله وقد شبع الناس من الأسودين: التمر والماء.

وقال ابن ماجه

(8)

: حدَّثنا سُوَيدُ بن سعيد، حَدَّثنا علي بن مُسهِر، عن الأعمش، عن أبي صالح،

(1)

في صحيحه (2970)(22).

(2)

مسند أحمد 6/ 217.

(3)

في المطبوع: "بهز" ولا يصح، وما أثبتناه هو الصواب، وهو إسماعيل بن عُلية، فهذه روايته التي في المسند (6/ 217). أما رواية بهز فسيشير إليها المصنف عقيب انتهاء هذا الطريق. ثم إن رواية إسماعيل هي التي فيها:"إنه ليأتي على آل محمد الشهر" أما رواية بهز فهي: "شهرين" كما سيشير المصنف.

وهذا الحديث ضعيف الإسناد لانقطاعه فإننا لا نعرف سماعًا لحميد بن هلال العدوي من عائشة (بشار).

(4)

رواية بهز بن أسد أخرجها الإمام أحمد في المسند (6/ 94).

(5)

في المطبوع: "رواية"، ولا يستقيم النص بها.

(6)

في المسند 2/ 405، وإسناده ضعيف لضعف أبي معشر وهو نجيح بن عبد الرحمن السندي، لكنه صحيح بشواهده.

(7)

صحيح مسلم (2975)(30). وعزوه إلى مسلم فيه تقصير من المصنف رحمه الله فهو في البخاري أيضًا بإسناده ومتنه (صحيح البخاري 5383)(بشار).

(8)

في سننه (4150)، وإسناده حسن من أجل سويد بن سعيد.

ص: 82

عن أبي هريرة، قال: أُتي رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم يومًا بطعام سُخنٍ فأكلَ، فلما فرغ قال:"الحمد للّه، ما دخلَ بطني طعام سخنٌ منذ كذا وكذا".

وقال الإمام أحمد

(1)

: حَدَّثنا عبد الصمد، حَدَّثنا (عمار)

(2)

أبو هاشم صاحب الزعفراني، عن أنس بن مالك؛ أن فاطمة ناولت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كسرةً من خبز شعيرٍ فقال:"هذا أول طعام أكلَه أبوكِ من ثلاثة أيام". تفرد به أحمد

(3)

.

وروى الإمام أحمد، عن عفان، والترمذي وابن ماجه

(4)

جميعًا عن عبد اللّه بن معاوية، كلاهما عن ثابت بن يزيد، عن هلال بن خبَّاب العبدي الكوفي، عن عكرمة، عن ابن عباس؛ أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان يبيتُ الليالي المتتابعة طاويًا وأهلَه لا يجدون عشاء، وكان عامة خبزهم خبز الشعير. وهذا لفظ أحمد.

وقال الترمذي في "الشمائل"

(5)

: حدَّثنا عبد اللّه بن عبد الرحمن الدارمي، حَدَّثنا عمر بن حفص بن غياث، عن أبيه، عن محمد بن أبي يحيى الأسلمي، عن يزيد بن

(6)

أبي أمية الأعور، عن أبي يوسف عبد اللّه بن سلام قال: رأيتُ رسولَ اللّه أخذ كِسرة من خبز الشعير فوضع عليها تمرة، وقال:"هذه إدام هذه" وأكل.

وفي الصحيحين من حديث الزهري، عن عروة، عن عائشة، قالت: كان أحب الشراب إلى رسول اللّه الحلو البارد

(7)

.

وروى البخاري

(8)

من حديث قتادة عن أنس قال: ما أعلم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم رأى رغيفًا مرققًا حتى لحق باللّه، ولا شاة سميطًا بعينه قط.

(1)

في المسند (3/ 213).

(2)

ما بين الحاصرتين من المسند.

(3)

حديث حسن، وهذا إسناد منقطع فإن عمارًا أبا هاشم لم يسمع من أنس.

(4)

رواه الإمام أحمد في المسند (1/ 373 - 374) والترمذي في الجامع رقم (2360) في الزهد، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وابن ماجه في سننه رقم (3347) في الأطعمة. وهو حديث صحيح كما قال الترمذي.

(5)

الشمائل رقم (183) باب ما جاء في إدام رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وإسناده ضعيف، لجهالة يزيد بن أبي أمية.

(6)

في المطبوع: "عن يزيد، عن أبي أمية" وهو غلط محض.

(7)

لم أجده في الصحيحين، وهو عند الترمذي في الجامع رقم (1895) في الأشربة، وقال أبو عيسى: هكذا روى غير واحد عن ابن عُيينة مثل هذا عن معمر، عن الزهري، عن عائشة، والصحيح مارُوي عن الزهري، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا، ثم ساق الرواية المرسلة (1896)، وقال: وهكذا روى عبد الرزاق (في المصنف 19583) عن معمر عن الزهري، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا، وهذا أصح من حديث ابن عُيينة. قلت: وكذلك قال أبو زرعة الرازي كما في العلل لابن أبي حاتم (1588).

(8)

رواه البخاري في صحيحه رقم (5385) في الأطعمة، ورقم (6457) في الرقاق.

ص: 83

وفي رواية له عنه أيضًا: ما أكلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على خوان، ولا فى سكرجة، ولا خُبِزَ له مرقق، فقلت لأنس: فعلى ما كانوا يأكلون؟ قال: على السُّفَر.

وله من حديث قتادة أيضًا، عن أنس؛ أنه مشى إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بخبز شعير وإهَالةٍ سَنِخَة، ولقد رهن درعَه من يهودي، فأخذ لأهله شعيرًا، ولقد سمعته ذات يوم يقول: ما أمسى عند آل محمد صاع ثمر ولا صاع حدب

(1)

.

وقال الإمام أحمد

(2)

: حَدَّثنا عفان، حدَّثنا أبان بن يزيد، حدَّثنا قتادة، عن أنس بن مالك، أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لم يجتمع له غداء ولا عشاء من خبز ولحم إلا على ضَفَفٍ.

ورواه الترمذي في "الشمائل"

(3)

عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، عن عفان. وهذا الإسناد على شرط الشيخين.

وقال أبو داود الطيالسي

(4)

: حدَّثنا شعبة، عن سماك بن حرب، سمعت النعمان بن بشير يقول: سمعت عمر بن الخطاب يخطب، فذكر ما فتح اللّه على الناس، فقال: لقد رأيتُ رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم يتلوَّى من الجوع، ما يجد من الدقل ما يملأُ بطنه. وأخرجه مسلم

(5)

من حديث شعبة.

وفي الصحيح أن أبا طلحة قال: يا أم سليم، لقد سمعت صوت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أعرف فيه الجوع

(6)

وسيأتي الحديث في دلائل النبوة.

وفي قصة أبي الهيثم بن التَّيِّهان: أن أبا بكر وعمر خرجا من الجوع، فبينما هما كذلك إذ خرج رسول الله، فقال:"ما أخرجكما؟ " فقالا: الجوع، فقال:"والذي نفسي بيده لقد أخرجني الذي أخرجكما" فذهبوا إلى حديقة أبي الهيثم بن التَّيِّهان، فأطعمهم رطبًا، وذبح لهم شاة، فأكلوا وشربوا الماء البارد، وقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم:"هذا من النعيم الذي تُسألون عنه"

(7)

.

(1)

رواه البخاري في صحيحه رقم (2069) في البيوع.

و "الإهالة": الدهن الذي يُؤتدم به. و"السنخة": المتغيرة الرائحة.

(2)

في المسند (3/ 270).

(3)

الترمذي في الشمائل رقم (376) باب ما جاء في عيش رسول اللّه صلى الله عليه وسلم. و"الضفف": كثرة الأيدي على الطعام، وقيل: الأكَلَة أكثر من الطعام.

(4)

مسنده (57).

(5)

مسلم في صحيحه: رقم (2976) في الزهد.

و"الدَّقل": التمر الرديء.

(6)

رواه البخاري في صحيحه رقم (3587) في المناقب.

(7)

رواه مسلم رقم (2038) في الأشربة.

ص: 84

وقال الترمذي في "الشمائل"

(1)

: حَدَّثنا عبد اللّه بن أبي زياد، حدَّثنا سيَّار، حَدَّثنا سهل بن أسلم، عن يزيد بن أبي منصور، عن أنس، عن أبي طلحة قال: شكونا إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الجوعَ ورفعنا عن بطوننا عن حجرٍ حجرٍ، فرفع رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم عن حجرين

(2)

. ثم قال: غريب.

وثبت في الصحيحين، من حديث هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، أنها سُئلت عن فراش رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقالت: كان من أَدَمٍ حشوه ليف

(3)

.

وقال الحسن بن عرفة: حَدَّثنا عبَّاد بن عبّاد المُهَلّبي، عن مُجَالد بن سعيد، عن الشعبي، عن مَسروق، عن عائشة قالت: دخلت عليَّ امرأةٌ من الأنصار فرأت فراشَ رسول اللّه عباءةً مَثْنِيّةً، فانطلقت، فبعثت إليّ بفراش حشوُه الصوفُ، فدخلَ عليَّ رسول اللّه، فقال:"ما هذا يا عائشة؟ " قالت: قلت: يا رسول اللّه! فلانةُ الأنصاريّةُ دخلت عليَّ فرأت فراشَك فذهبت فبعثت إليَّ بهذا. فقال: "ردِّيه" قالت: فلم أردَّه وأعجبني أن يكون في بيتي، حتى قال ذلك ثلاث مرات، قالت: فقال: "رُدِّيه يا عائشة، فواللّه لو شئت لأجرى اللّه تعالى معي جبال الذهب والفضة"

(4)

.

وقال الترمذي في "الشمائل"

(5)

: حدَّثنا أبو الخطاب زياد بن يحيى البصري، حَدَّثنا عبد اللّه بن

مَيْمون

(6)

، حدَّثنا جعفر بن محمد، عن أبيه، قال: سُئلت عائشةُ ما كان فراشُ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في بيتك؟

قالت: من أدَمٍ حشوُه ليف. وسُئلت حفصةُ: ما كانَ فراشُ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم؟ قالت: مَسحًا، نَثْنِيه ثَنِيّتين، فينام علّيه، فلما كان ذات ليلة قلت: لو ثنيتُه أربعَ ثنيات كان أوطأَ له، فثنيناه له بأربع ثنيات، فلما أصبح قال:"ما فرشتُم لي الليلة؟ " قالت: قلنا: هو فراشك إلا أنّا ثنيناهُ بأربع ثنيّات، قلنا: هو أوطأُ لك، قال:"ردُّوه لحالته الأولى، فإنه منعتني وطأته صلاتي الليلة".

وقال الطبراني: حدَّثنا محمد بن أبانٍ الأصبهاني، حدَّثنا محمد بن عبادة الواسطي، حدَّثنا يعقوب بن محمد الزهري، حدَّثنا محمد بن إبراهيم، حَدَّثنا ابن لَهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة،

(1)

ما بين القوسين سقط من المطبوع، وأثبته من (أ). وهو في شمائل الترمذي (371).

(2)

ورواه الترمذي في الجامع رقم (2371) في الزهد، وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.

(3)

رواه البخاري في صحيحه رقم (6456) في الرقاق، ورواه مسلم في صحيحه رقم (2082)(38) في اللباس.

و"الأَدَم": الجلد المدبوغ.

(4)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (1/ 345). وفي إسناده مجالد بن سعيد، قال الحافظ: ليس بالقوي، وتغير بأخرة.

(5)

رواه الترمذي في الشمائل (322) باب ما جاء في فراش رسول اللّه صلى الله عليه وسلم. وإسناده ضعيف جدًا بسبب عبد الله بن ميمون؛ فهو متروك منكر الحديث.

و"مَسحًا": كساء خشنًا يعد للفراش من صوف.

(6)

في المطبوع: "مهدي" محرف، وهو عبد اللّه بن ميمون القداح المخزومي.

ص: 85

عن حكيم بن حِزام، قال: خرجتُ إلى اليمن فابتعتُ حُلّة ذي يزن، فأهديتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فردَّها، فبعتُها فاشتراها فلبسها، ثم خرج على أصحابه وهي عليه، فما رأيت شيئًا أحسنَ منه فيها، فما ملكتُ نفسي أن قلت:

مَا يَنظُرُ الحُكَّامُ بالفَضلِ بَعدَما

بَدَا واضحٌ مِن غُرَّةٍ وحَجُولِ

(1)

إذَا قَايسَوهُ المَجْدَ أَربَى

(2)

عَليهِمُ

بِمُستَفْرغ مَاءِ الذِّناب سَجِيلِ

(3)

فسمعها النبي صلى الله عليه وسلم، فالتفت إليَّ يتبسم، ثم دخل فكساها أسامة بن زيد

(4)

.

وقال الإمام أحمد

(5)

: حدَّثني (حسين بن)

(6)

علي، عن زائدة، عن عبد الملك بن عمير، عن رِبعي بن حراش، عن أُم سلمة قالت: دخل عليَّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وهو ساهم الوجه، قالت: فحسبت ذلك من وجع، فقلت: يا رسول الله أراك ساهم الوجه، أفمن وجع؟ فقال:"لا، ولكن الدنانير السبعة التي أتينا بها (أمس، أمسينا) ولم ننفقها، نسيتُها في خصْم الفراش"

(7)

. تفرد به أحمد.

وقال الإمام أحمد: حدَّثنا أبو سلمة، قال: أخبرنا بكرُ بن مُضر، حَدَّثنا موسى بن جُبير، عن أبي أمامة بن سهل، قال: دخلتُ أنا وعروةُ بن الزبير يومًا على عائشة، فقالت: لو رأيتُما نبيَّ اللّه صلى الله عليه وسلم ذاتَ يوم في مرضٍ مرضه؟ قالت: وكان له عندي سِتَّةُ دنانير- قال موسى: أو سبعة- قالت: فأمرني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن أفرّقها، قالت: فشغلني وجعُ نبي اللّه صلى الله عليه وسلم حتى عافاهُ اللْه عز وجل، قالت: ثم سألني عنها، فقال:"ما فعلتِ الستةُ؟ "- قال: أو السبعةُ- قلتُ: لا والله لقد شغلني عنها وجعُك، قالت: فدعا بها ثم صفَّها في كفِّه، فقال:"ما ظنُّ نبيِّ الله لو لقيَ الله وهذه عنده! "

(8)

. تفرد به أحمد.

(1)

"غرة وحجول": الغرة: بياض في الوجه، والحجول: بياض في القوائم.

(2)

"أربى": زاد وفضل.

(3)

"الذناب": ملء الدلو من الماء، و"السجيل": الضخم. والبيتان للحطيئة، وقد ذكر البيت الثاني الزمخشري في الأساس، مادة (سجل).

(4)

المعجم الكبير للطبراني (3/ 193) رقم (3094).

(5)

في مسنده (6/ 314).

(6)

ما بين القوسين سقط من الأصل، وأثبته من مسند أحمد.

(7)

ورواه أبو يعلى رقم (7017)، والطبراني في المعجم الكبير (23/ 327 رقم 751)، والبيهقي في الدلائل (1/ 345 - 346). وإسناده صحيح.

و"خصم الفراش": جانبه.

(8)

رواه الإمام أحمد في المسند (6/ 104) والبيهقي في دلائل النبوة (1/ 346). وإسناده ضعيف.

ص: 86

وقال قتيبة: حدَّثنا جعفر بن سليمان، عن ثابت، عن أنس قال: كان رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم لا يَدَّخِرُ شيئًا لغدٍ

(1)

.

وهذا الحديث في الصحيحين

(2)

. والمراد أنه كان لا يدخر شيئًا لغد مما يُسرع إليه الفساد كالأطعمة ونحوها؛ لما ثبت في الصحيحين

(3)

عن عمر أنه قال: كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يُوجف المسلمون عليها بخيل ولا ركاب، فكان يعزل نفقة أهله سنة، ثم يجعل ما بقي في الكراع والسلاح عُدّة في سبيل اللّه عز وجل.

ومما يؤيد ما ذكرناه ما رواه الإمام أحمد

(4)

: حَدَّثنا مروان بن معاوية، (قال: أخبرني)

(5)

هلال بن سويد أبو معلى (قال): سمعت أنس بن مالك وهو يقول: أهديت لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم ثلاثة طوائر، فأطعم خادمَه طائرًا، فلما كان من الغد أتته به، فقال لها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم:"ألم أنهك أن ترفعي شيئًا لغد، فإن اللّه يأتي برزق كل غد".

حديث بلال في ذلك: قال البيهقي

(6)

: حدَّثنا أبو الحسين بن بشران، أخبرنا أبو محمد جعفر بن نصير، حَدَّثنا إبراهيم بن عبد اللّه البصري، حَدَّثنا بكَار بن محمد، أخبرنا عبد اللّه بن عون، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة؛ أن رسول اللّه دخل على بلال فوجدَ عندَه صُبرًا من تمر، فقال:"ما هذا يا بلال؟ " قال: تمر أدّخره، قال:"ويحك يا بلال، أو ما تخافُ أن تكونَ له بُخارٌ في النار! أنفق بلال ولا تخشَ من ذي العرش إقلالًا".

قال البيهقي

(7)

بسنده عن أبي داود السجستاني

(8)

، وأبي حاتم الرازي، كلاهما عن أبي تَوبَةَ

(1)

رواه الترمذي في الجامع رقم (2362) في الزهد، والبيهقي في دلائل النبوة (1/ 346). وقال الترمذي: هذا حديث غريب، وهو حديث حسن.

(2)

لعل الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى أراد أن معناه في الصحيحين من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(3)

رواه البخاري في صحيحه رقم (2904) في الجهاد، ومسلم في صحيحه رقم (1757) في الجهاد والسير.

(4)

في مسنده (3/ 198) وإسناده ضعيف، لضعف هلال بن سويد الأحمري.

(5)

ما بين القوسين من المسند (3/ 198).

(6)

في الدلائل (1/ 347) وإسناده ضعيف لضعف بكار بن محمد وهو السيريني. ورواه أبو يعلى عن بشر بن سيحان عن حرب بن ميمون عن هشام بن حَسَّان عن ابن سيرين بنحوه، وإسناده ضعيف جدًا، فإن حرب بن ميمون متروك الحديث ولا عبرة بما ذهب إليه محققه حسين سليم الأسد من تجويد إسناده. على أن الهيثمي قد حسن إسناده من طرق أخرى مجمع الزوائد (3/ 126).

(7)

دلائل النبوة (1/ 348 - 350).

(8)

أخرجه أبو داود في سننه (3055) في الإمارة، وهو حديث صحيح.

ص: 87

الربيع بن نافع، حدَّثني معاويةُ بن سَلام، عن زيد بن سَلام، (أنه سمع أبا سلام قال

(1)

: حدَّثني عبد اللّه الهَوْزَني

(2)

قال: لقيتُ بلالًا مؤذنَ رسولِ اللّه صلى الله عليه وسلم بحلبَ، فقلت: يا بلالُ، حدثني كيف كانت نفقةُ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال: ما كان له شيء، إلا أنا الذي كنت ألي ذلك منه منذ بعثه اللّه إلى أن تُوفي، فكان إذا أتاه الإنسان المسلمُ فرآه عاريًا

(3)

، يأمُرني فأنطلقُ فأستقرضُ فأشتري البردةَ والشيءَ فأكسوه وأطعمه، حتى اعترضني رجلٌ من المشركين فقال: يا بلال، إن عندي سَعَةً فلا تستقرض من أحد إلا مني، ففعلتُ، فلما كان ذات يوم توضأتُ ثم قمت لأؤذِّنَ بالصلاة، فإذا المشركُ في عِصابة من التُّجار، فلما رآني قال: يا حبشيُّ، قال: قلت يا لَبَّيه، فتجهَّمني، وقال قولًا عظيمًا أو غليظًا، وقال: أتدري كم بينك وبين الشهر؟ قلت: قريب، قال: إنما بينك وبينه أربع ليال، فآخذك بالذي لي عليك، فإني لم أعطِكَ الذي أعطيتُك من كرامتك ولا من كرامة صاحبك، وإنما أعطيتُك لتصير

(4)

لي عبدًا فأدرك

(5)

ترعى في الغنم كما كنتَ قبل ذلك، قال: فأخذني في نفسي ما يأخدُ في أنفس الناس، فانطلقت، فناديتُ بالصلاة حتى إذا صلّيتُ العَتمَة، ورجعَ رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم إلى أهله، فاستأذنتُ عليه فأذنَ لي، فقلت: يا رسول اللّه، بأبي أنت وأمي، إن المشركَ الذي ذكرتُ لك أني كنت أَتَدَيَّن منه قد قال كذا وكذا، وليس عندك ما يقضي عني، ولا عندي، وهو فاضحي، فائْذَنْ لي أن آتيَ إلى بعض هؤلاء الأحياء الذين قد أسلموا حتى يرزقَ اللّه رسولَه صلى الله عليه وسلم ما يقضي عني. فخرجتُ حتى أتيتُ منزلي، فجعلتُ سيفي وحِرابي ورمحي ونعلي عند رأسي، فاستقبلتُ بوجهي الأفقَ فكلما نمتُ انتبهتُ، فإذا رأيتُ عليَّ ليلًا نمتُ حتى انشقَّ عمودُ الصبح الأوّل، فأردتُ أن أنطلقَ فإذا إنسان يدعو: يا بلال، أجبْ رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم، فانطلقتُ حتى آتيهُ، فإذا أربعُ ركائبَ عليهن أحمالُهُنَّ، فأتيتُ رسولَ اللّه فاستأذنتُ، فقال لي رسول اللّه:"أبشر فقد جاءَك اللّه بقضاءَ دَيْنِكَ"، فحمدتُ الله. وقال:"ألم تمرَّ على الركائب المُناخَات الأربع؟ " قال: قلت: بلى، قال:"فإن لك رقابهن وما عليهن". فإذا عليهن كسوة وطعام أهداهُنَّ له عظيم فَدَكَ، فاقبضهنَّ إليك ثم اقضِ دينَك، قال: ففعلتُ فحططتُ عنهن أحمالَهن ثم علقتهن

(6)

، ثم عمدتُ إلى تأذين صلاة الصبح، حتى إذا صلَّى رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم خرجتُ إلى القيع، فجعلتُ أصبعي في أذني فقلت: من كان يطلبُ من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم دَيْنًا فليحضر، فما زلت أبيعُ وأقضي وأَعرض، حتى لم يبقَ على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم دَين في الأرض، حتى فضلَ عندي أُوقيّتَان أو أوقية ونصف، ثم انطلقتُ إلى المسجد وقد

(1)

إضافة من البيهقي وأبي داود لا يستقيم الإسناد من غيرها.

(2)

في المطبوع: "الهوريني" وهو تحريف قبيح.

(3)

في المطبوع: "عائلًا" محرف، وما أثبتاه يعضده ما في أبي داود والبيهقي.

(4)

في دلائل النبوة؛ للبيهقي (1/ 349): عاريًا.

(5)

في دلائل النبوة؛ للبيهقي (1/ 349): وإنما أعطيتك لتجبَ لي عبدًا فأردَّك.

(6)

في الدلائل (1/ 350) فعَقَلْتُهُنَّ: أي: قيدتهن بالعِقَال.

ص: 88

ذهبَ عامَّةُ النهار، فإذا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قاعدٌ في المسجد وحده، فسلَّمتُ عليه، فقال لي:"ما فعلَ ما قِبَلَكَ؟ " قلتُ: قد قضى اللّه كلَّ شيء كان على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يبقَ شيءٌ، قال:"فضلَ شيء؟ " قلتُ: نعم، ديناران، قال:"انظر أن تريحني منهما فلستُ بداخل على أحد من أهلي حتى تريحني منهما" فلم يأتنا أحدٌ، فباتَ في المسجد حتى أصبحَ، وظلَّ في المسجد اليوم الثاني، حتى إذا كان في آخر النهار جاءَ راكبان فانطلقتُ بهما فكسوتُهما وأطعمتُهما، حتى إذا صلَّى العَتَمَة دعاني فقال:"ما فعل ذلك قِبَلَك؟ " قلت: قد أراحَك الله منه، فكبَّر وحَمِدَ اللّه شَفَقًا من أن يدركَه الموتُ وعنده ذلك. ثم اتبعتُه حتى جاء أزواجَه فسلَّم على امرأة امرأة، حتى أتى مبيتَه، فهذا الذي سألتني عنه.

وقال الترمذي في "الشمائل"

(1)

: حدَّثنا هارون بن موسى بن أبي علقمةَ المدِيني، حدَّثني أبي، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر بن الخطاب؛ أن رجلًا جاء إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فسأله أن يُعطيَه، فقال:"ما عندي ما أعطيك، ولكن ابتغ عليّ شيئًا فإذا جاءني شيءٌ قضيتُه". فقال عمر: يا رسولَ الله قد أعطيتَه، فما كلَّفَك الله ما لا تقدر عليه، فكرهَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم قولَ عمر، فقال رجلٌ من الأنصار: يا رسول الله! أنفقْ ولا تخفْ من ذِي العرش إقلالًا. فتبسّم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وعُرِف التبسُّم

(2)

في وجهه لقول الأنصاري، وقال:"بهذا أمرت".

وفي الحديث؟ "ألا إنهم ليسألوني ويأبى الله عليَّ البخل"

(3)

.

وقال يوم حنين حين سألوه قسم الغنائم: "والله لو أن عندي عدد هذه العضاة نعمًا لقسمتها فيكم، ثم لا تجدوني بخيلًا، ولا جبانًا، ولا كذابًا" صلى الله عليه وسلم.

وقال الترمذي

(4)

: حَدَّثنا علي بن حِجْر، حدَّثنا شَريك، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن الرُّبَيّع بنتِ معوِّذٍ بن عَفراء، قالت: أتيتُ رسولَ الله بقِنَاع

(5)

من رُطب، وأَجْرٍ زُغب

(6)

، فأعطاني ملءَ كفِّه حُليًا أو ذَهَبًا.

وقال الإمام أحمد

(7)

: حدَّثنا سفيان، عن مطرف، عن عطية، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

(1)

الشمائل (355) باب ما جاء في خلق رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وهو ضعيف بسبب جهالة والد هارون.

(2)

في الشمائل: وعُرفَ في وجهه البشرُ.

(3)

رواه الإمام أحمد في المسند (3/ 4) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: ويأبى اللّه لي البخل، وهو حديث صحيح.

(4)

في الشمائل، رقم (356)، وإسناده ضعيف.

(5)

بقناع: أي طبق.

(6)

و"أجر زغب": أجر: بفتح الهمزة وسكون الجيم؛ أي قثاء صغار، والزغب: جمع أزغب، وهو صغار الريش أول طلوعه، شبه ما يكون على القثاء الصغيرة مما يشبه أطراف الريش أول طلوعه.

(7)

في المسند (3/ 7).

ص: 89

"كيف أنعم وقد التقمَ صاحبُ القرن القَرنَ، وحنى جبهتَه وأصغى سمعه ينتظر متى يُؤمر" قال المسلمون: يا رسول الله فما نقول؟ قال: "قولوا: حَسبُنَا الله وَنِعمَ الوكيلُ، على الله تَوَكّلنا".

ورواه الترمذي، عن ابن أبي عمر

(1)

، عن سفيان بن عيينة، عن مطرِّف، ومن حديث خالد بن طهمان

(2)

، كلاهما عن عطية وأبي سعيد العَوفي البَجَلي، وأبي الحسن الكوفي، عن أبي سعيد الخدري، وقال الترمذي: حسن.

قلت: وقد رُوي من وجه آخر عنه، ومن حديث ابن عباس كما سيأتي في موضعه. ومن تواضعه عليه الصلاة والسلام: قال أبو عبد الله بن ماجه

(3)

: حَدَّثنا أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد القطان، حَدَّثنا عمرو بن محمد، حَدَّثنا أسباطُ بن نَصر، عن السُّدي، عن أبي سَعدٍ الأزدِيّ - وكان قارئ الأزد- عن أبي الكَنُود، عن خَبَّابٍ في قوله تعالى:{وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} إلى قوله: {فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 52] قال: جاء الأقرعُ بن حابسٍ التميميُّ، وعُيينة بن حِصن الفزاري، فوجدوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم مع صُهيب وبلال وعمار وخبَّاب، قاعدًا في ناس من الضعفاء من المؤمنين، فلما رأوهُم حولَ رسول الله صلى الله عليه وسلم حَقَرُوهم، فأتوه فخلَوا به، فقالوا: نريدُ أن تجعلَ لنا منك مجلسًا تعرفُ لنا به العربُ فضلَنا، فإن وفودَ العرب تأتيك فنستحي أن ترانا العربُ مع هذه الأعبُد، فإذا نحن جئناك فأقمهم عنكَ، فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئتَ. قال:"نعم" قالوا: فاكتب لنا عليك كتابًا، قال: فدعا بصحيفةٍ ودعا عليًّا ليكتب ونحن قعودٌ في ناحية، فنزل جبريل عليه السلام فقال:{وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 52] ثم ذكر الأقرعَ بن حابس وعُيينةَ بن حصن فقال: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام: 53] ثم قال: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54] قال: فدنونا منه حتى وضعنا ركبَنا على ركبتِه، فكان رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم يجلسُ معنا، فإذا أرادَ أن يقومَ قامَ وتركنا، فأنزل اللّه عز وجل:{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} [الكهف: 28] ولا تجالس الأشراف {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} يعني عيينةَ والأقرع {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} قال: هلاكًا، قال: أمرُ عيينة والأقرع. ثم

(1)

في الجامع (3243) في التفسير.

(2)

في الجامع (2431) في الزهد.

(3)

في سننه (4127) في الزهد. وإسناده ضعيف لضعف أبي سعيد الأزدي فهو مقبول عند المتابعة ضعيف عند التفرد، وقد تفرد. وهو بعد ذلك حديث غريب في تفسير الآية، فإن الآية مكية والأقرع بن حابس وعيينة إنما أسلما بعد الهجرة، والصحيح ما بعده.

ص: 90

ضربَ لهم مثل الرجلين ومثل الحياة الدنيا. قال خَبَّاب: فكنا نقعد مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فإذا بلغنا الساعة التي يقومُ قمنا وتركناه حتى يقوم.

ثم قال ابن ماجه

(1)

: حَدَّثنا يحيى بن حكيم، حدَّثنا أبو داود، حَدَّثنا قيسُ بن الربيع، عن المِقدام بن شُرَيح، عن أبيه، عن سعد، قال: نزلت هذه الآية فينا، ستةٍ، فيّ، وفي ابن مسعود، وصهيب، وعمّار، والمقداد، وبلال. قال: قالت قريش: يا رسول اللّه، إنا لا نرضى أن نكون أتباعًا لهم، فاطردهم عنك، قال: فدخل قلبَ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من ذلك ما شاءَ اللّه أن يدخلَ، فأنزلَ اللّه عز وجل:{وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} الآية [الأنعام: 52].

وقال الحافظ البيهقي: أخبرنا أبو محمد عبد اللّه بن يوسف الأصفهاني، أخبرنا أبو سعيد بن الأعرابي، حدَّثنا أبو الحسن خلف بن محمد الواسطي، كردوس، حدَّثنا يزيد بن هارون، حَدَّثنا جعفر بن سليمان الضُّبَعي، حدَّثنا المعلّى- يعني ابن زياد- عن العلاء بن بشير المزني، عن أبي الصدِّيق النَّاجي، عن أبي سعيد الخدريّ قال: كنت في عصابةٍ من المهاجرين جالسًا معهم وإن بعضَهم ليستترُ ببعضٍ من العُري، وقارئٌ لنا يقرأُ علينا، فكنا نسمعُ إلى كتاب اللّه، فقال رسول اللّه:"الحمدُ للّه الذي جعلَ من أمتي من أُمِرتُ أن أصبرَ معهم نفسي" قال: فاستدارتِ الحلقةُ وبرزت وجوهُهم، قال: فما عرفَ رسولُ اللّه أحدًا منهم غيري، فقال رسول اللّه:"أبشروا معاشرَ صعاليك المهاجرين بالنور يوم القيامة، تدخلون قبل الأغنياء بنصف يوم، وذلك خمسمئة عام"

(2)

.

وقد روى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي، من حديث حمّاد بن سلمة، عن حميد، عن أنس، قال: لم يكن شخصٌ أحبّ إليهم من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، قال: وكانوا إذا رأوه لم يقومُوا؛ لما يعلمون من كراهيته لذلك

(3)

.

‌فَصل عبادته عليه الصلاة والسلام واجتهاده في ذلك

قالت عائشة: كان رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم يصومُ حتى نقولَ لا يُفطر، ويُفطر حتى نقولَ لا يَصوم

(4)

،

(1)

في سننه رقم (4128) في الزهد. وهو عند مسلم في صحيحه رقم (2413) في فضائل الصحابة.

(2)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (1/ 351 - 352) وفي إسناده العلاء بن بشير المزني مجهول.

(3)

رواه الترمذي في الجامع رقم (2754) في الأدب، وأحمد في المسند (3/ 132)، وقال الترمذي: حسن صحيح.

وعزو المصنف الحديث لأبي داود لا يصح، فإن أبا داود لم يخرج هذا الحديث في سننه.

(4)

رواه البخاري في صحيحه رقم (1969) في الصوم، ومسلم في صحيحه رقم (1156) في الصيام.

ص: 91

وكان لا تشاء تراهُ من الليل قائمًا إلا رأيتَه، ولا تشاءُ تراه نائمًا إلا رأيتَة

(1)

.

قالت: وما زاد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في رمضان وفي غيره على إحدى عشرة ركعة، يُصلِّي أربعًا، فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يُصلِّي أربعًا، فلا تسأل عن حسنهن وطُولهن، ثم يوتر بثلاث

(2)

.

(وقالت حفصة)

(3)

: كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقرأ السورةَ فيرتلها حتى تكونَ أطول من أطول منها، قالت: ولقد كان يقوم حتى أرثي له من شدة قيامه.

وذكر ابن مسعود أنه صلَّى معه ليلةً فقرأ في الركعة الأولى البقرة والنساء وآل عمران، ثم ركع قريبًا من ذلك، ورفع نحوه، وسجد نحوه

(4)

.

وعن أبي ذر: أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قام ليلة حتى أصبح يقرأ هذه الآية: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118] رواه أحمد

(5)

.

وكل هذا في الصحيحين وغيرهما من الصحاح، وموضع بسط هذه الأشياء في "كتاب الأحكام الكبير"

(6)

.

وقد ثبت في الصحيحين من حديث سفيان بن عيينة، عن زياد بن عِلاقة، عن المغيرة بن شعبة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام حتى تفطرت قدماه، فقيل له: أليس قد غفر اللّه لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: "أفلا أكون عبدًا شكورًا"

(7)

.

(1)

رواه أحمد (6/ 285) ومسلم في صحيحه رقم (733) في صلاة المسافرين، ومالك في الموطأ (1/ 137) في صلاة الجماعة، والترمذي في الجامع رقم (373) في الصلاة، والنسائي في سننه (2/ 223) في قيام الليل.

(2)

رواه البخاري في صحيحه رقم (1147) في التهجد، ومسلم في صحيحه رقم (738) في صلاة المسافرين.

(3)

في المطبوع: "قالت" ولا يصح، فإن هذا الحديث هو حديث أم المؤمنين حفصة رضي الله عنها، كما سيأتي في تخريجه.

(4)

رواه مسلم في صحيحه رقم (772) في صلاة المسافرين عن حذيفة رضي الله عنه، وأبو داود في "سننه" رقم (871) و (874) في الصلاة، والنسائي في سننه (2/ 176 و 177) في الافتتاح، (3/ 225 و 226) في قيام الليل.

أما عبد الله بن مسعود فقال: صلّيت مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فأطال حتى هممت بأمر سوء .. إلخ وهو في البخاري ومسلم.

(5)

مسند أحمد (5/ 156، 170، 177). وهو عند النسائي (2/ 177) وابن ماجه (1350)، وينظر المسند الجامع للدكتور بشار ورفاقه (16/ 115) حديث (12273)، وهو حديث حسن.

(6)

كتاب الأحكام الكبير: أحال إليه ابن كثير -رحمه اللّه تعالى- في مواضع كثيرة من "البداية والنهاية"، كما أحال إليه في مختصر علوم الحديث، ص (108) من الباعث الحثيث. قال الداودي في طبقات المفسرين (1/ 111): وشرع في أحكام كثيرة حافلة، كتب فيها مجلدات إلى الحج. وقال السيوطي في ذيل تذكرة الحفاظ (ص 361): وشرع في كتاب كبير في الأحكام ولم يتمه.

(7)

رواه البخاري في صحيحه رقم (1130) في التهجد، ومسلم في صحيحه رقم (2819) في صفات المنافقين، والترمذي في الجامع رقم (412) في الصلاة، والنسائي في سننه (3/ 219) في قيام الليل.

ص: 92

وتقدم في حديث سلام بن سليمان، عن ثابت، عن أنس بن مالك: أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: "حبب إليَّ الطيب والنساء، وجُعِلت قُرّة عيني في الصلاة"

(1)

. رواه أحمد والنسائي.

وقال الإمام أحمد: حَدَّثنا عفان، حدَّثنا حماد بن سَلَمة، أخبرني علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس؛ أن جبريلَ قال لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم:"قد حُبِّبَ إليك الصلاة، فخذ منها ما شئت"

(2)

.

وثبت في الصحيحين عن أبي الدرداء قال: خرجنا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان في حر شديد، وما فينا صائم إلا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وعبد اللّه بن رواحة

(3)

.

وفي الصحيحين من حديث منصور عن إبراهيم عن علقمة قال: سألت عائشة هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخص شيئًا من الأيام؟ قالت: لا، كان عمله ديمة. وأيكم يستطيع ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستطيع

(4)

؟

وثبت في الصحيحين من حديث أنس وعبد اللّه بن عمر وأبي هريرة وعائشة أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان يواصل ونهى أصحابه عن الوصال وقال: "إني لست كأحدكم، إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني"

(5)

.

والصحيح أن هذا الإطعام والسقيا معنويان كما ورد في الحديث الذي رواه ابن ماجه

(6)

؛ أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: "لا تُكرهوا مَرضاكم على الطعام والشراب، فإنَّ الله يُطعمهم ويسقيهم"

(7)

.

وما أحسن ما قال بعضهم:

لهَا أحادِيثُ مِن ذِكراكَ يُشغِلُها

عَنِ الشَّرَابِ ويُلهِيهَا عنِ الزَّادِ

(1)

تقدم الحديث.

(2)

رواه الإمام أحمد في المسند (1/ 245) رقم (2205) ولفظه "إنه قد حُبِّبَ إليَّ الصلاة

". وإسناده ضعيف.

(3)

رواه البخاري في صحيحه رقم (1945)، ومسلم في صحيحه رقم (1122) في الصوم، وأبو داود في سننه رقم (2409) في الصوم.

(4)

رواه البخاري في صحيحه رقم (1987) في الصوم، ومسلم في صحيحه رقم (783).

(5)

رواه البخاري في صحيحه رقم (1961) و (1963) و (1964) في الصوم، ومسلم في صحيحه رقم (1102) و (1104) و (1105) في الصوم.

(6)

في المطبوع: عن ابن عاصم عن .. والتصحيح من (أ)، وهو في سننه (3444).

(7)

إسناده ضعيف، لضعف بكر بن يونس بن بكير، وقال ابن أبي حاتم في العلل بعد أن ساق هذا الحديث: قال أبي: هذا حديث باطل، وبكر هذا منكر الحديث" (العلل 2/ 242). وقد حسنه الترمذي واستغربه مما يدل على أنه معلول عنده (جامع الترمذي 2040)(بشار).

ص: 93

وقال النضر بن شميل، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبى هريرة قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "إني لأستغفر اللّه وأتوب إليه في اليوم مئة مرة"

(1)

.

وروى البخاري: عن الفريابي، عن الثوري، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عَبيدة، عن عبد اللّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقرأ علي" فقلت، أقرأ عليك وعليك أنزل؟ فقال:"إني أحب أن أسمعه من غيري" قال: فقرأت سورة النساء حتى إذا بلغت: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} [النساء: 41] قال: حسبك، فالتفت فإذا عيناه تذرفان

(2)

.

وثبت في الصحيح: أنه عليه السلام كان يجد التمرة على فراشه فيقول: "لولا أني أخشى أن تكون

من الصدقة لأكلتها"

(3)

.

وقال الإمام أحمد: حَدَّثنا وكيع، حَدَّثنا أسامة بن زيد، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد تحت جنبه تمرة من الليل، فأكلها فلم ينم تلك الليلة، فقال بعض نسائه: يا رسول اللّه أرقت الليلة، قال:"إني وجدت تحت جنبي تمرة فأكلتها، وكان عندنا تمر من تمر الصدقة، فخشيت أن تكون منه"

(4)

. تفرد به أحمد. وأسامة بن زيد هو اللَّيثي، من رجال مسلم.

والذي نعتقد أن هذه التمرة لم تكن من تمر الصدقة لعصمته عليه السلام، ولكن من كمال ورعه عليه السلام أرق تلك الليلة.

وقد ثبت عنه في الصحيح أنه قال: " [والله إني] لأتقاكم دته وأعلمكم بما أتقي"

(5)

. وفي الحديث الآخر أنه قال: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك"

(6)

.

وقال حماد بن سَلَمة، عن ثابت، عن مطرف بن عبد اللّه بن الشخِّير، عن أبيه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلّي ولجوفه أزيز كأزيز المرجل، وفي رواية: وفي صدره أزيز كأزيز الرحا من البكاء

(7)

.

(1)

رواه البخاري في صحيحه رقم (6307) في الدعوات، والترمذي في الجامع رقم (3259) في تفسير القرآن.

(2)

رواه البخاري رقم (5050) في فضائل القرآن، ومسلم في صحيحه رقم (800) في صلاة المسافرين.

(3)

رواه البخاري في صحيحه رقم (2055) في البيوع، ومسلم في صحيحه رقم (1071) في الزكاة.

(4)

رواه الإمام أحمد في المسند (2/ 193) رقم (6820) وإسناده حسن.

(5)

رواه مسلم في صحيحه رقم (1108) في الصوم، ولفظه:"أما والله إني لأتقاكم لله، وأخشاكم له". وفي الموطأ (1/ 291 و 292) بلفظ: "والله إني لأتقاكم لله، وأعلمُكم بحدوده".

(6)

رواه الترمذي في الجامع رقم (2518) في صفة القيامة، والنسائي في سننه (8/ 327) في الأشربة، من حديث الحسن من علي رضي الله عنهما وإسناده صحيح، كما رواه أيضًا الإمام أحمد (1/ 200) وغيره.

(7)

رواه أبو داود في سننه رقم (904) في الصلاة، والنسائي في سننه (3/ 13) في السهو، ورواه الامام أحمد في المسند (4/ 35 و 26) وهو حديث صحيح.

ص: 94

وروى البيهقي من طريق أبي كُرَيب محمد بن العلاء الهمداني، حَدَّثنا معاوية بن هشام، عن شَيبان، عن أبي إسحاق، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال أبو بكر: يا رسولَ الله! أراك شِبتَ، فقال:"شيّبتني هودٌ، والواقعة، والمرسلات، وعمَّ يَتساءلون، وإذا الشَّمسُ كُوِّرت"

(1)

.

وفي رواية له عن أبي كُريب، عن معاويةَ بن هشام، عن شَيبان، عن فِراس، عن عطيّة، عن أبي سعيد قال: قال عمرُ بن الخطّاب: يا رسولَ الله! أسرعَ إليك الشَّيبُ، فقال:"شيّبتني هودٌ وأخواتُها: الواقعةُ، وعمَّ يَتساءلون، وإذا الشَّمسُ كُوِّرت"

(2)

.

‌فصل في شجاعته عليه الصلاة والسلام

ذكرنا في "التفسير"

(3)

عن بعض السلف؛ أنه استنبط من قوله تعالى: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 84] أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان مأمورًا ألا يفر من المشركين إذا واجهوه ولو كان وحده من قوله: {لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ} .

وقد كان صلى الله عليه وسلم من أشجع الناس وأصبرِ الناس وأجلدهم، ما فرَّ قطُّ من مصافّ ولو تولى عنه أصحابه.

قال بعض صحابه: كنا إذا اشتدَّ الحربُ وحمي البأسُ، نَتَّقِي برسول اللّه صلى الله عليه وسلم

(4)

؟ ففي يوم بدر رمى ألف مشرك بقبضة من حصى، فنالتهم أجمعين حين قال:"شاهت الوجوه". وكذلك يوم حنين كما تقدم، وفرّ أكثر أصحابه في ثاني الحال يوم أحد، وهو ثابت في مقامه لم يبرح منه ولم يبق معه إلا اثنا عشر، قتل منهم سبعة وبقي الخمسة.

وفي هذا الوقت قَتَلَ أبىَّ بن خلف لعنه اللّه، فعجله الله إلى النار.

ويوم حنين ولَّى الناسُ كلُّهم وكانوا يومئذ اثنا عشر ألفًا، وثبت هو في نحو من مئة من الصحابة، وهو راكبٌ يومئذ بغلته وهو يَركُضُ بها إلى نحو العدو، وهو ينوّه باسمه، ويعلن بذلك قائلًا: "أنا النبيُّ

(1)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (1/ 357 - 358) ورواه الترمذي في الجامع رقم (3297) في تفسير القرآن، والحاكم في المستدرك (2/ 343) وصححه. ولكن قال الإمام الترمذي: "هذا حديث حسن غريب لا نعرفه من حديث ابن عباس إلا من هذا الوجه

وقد روي عن أبي إسحاق عن أبي ميسرة شيء من هذا مرسلًا". قال بشار: وهذا يعني أن الحديث عنده معلول بالإرسال، وقد استقصاه الإمام الدارقطني في العلل (ص 17) فأجاد، والصواب أنه مرسل وغلَّط من ذكر فيه ابن عباس (العلل لابن أبي حاتم 2/ 110).

(2)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (1/ 358) وإسناده ضعيف لضعف عطية العوفي.

(3)

تفسير القرآن العظيم؛ للحافظ ابن كثير (1/ 417).

(4)

غريب الحديث للهروي (3/ 479).

ص: 95

لا كذب أنا ابن عبد المطلب"

(1)

. حتى جعلَ العباسُ وعلي وأبو سفيان يتعلقون في تلك البغلة ليبطِّئوا سَيرَها خوفًا عليه من أن يصلَ أحدٌ من الأعداء إليه. ومازال كذلك حتى نصره اللّه وأيَّدَه في مقامه ذلك، وما تراجع الناسُ إلا والأشلاءُ مُجَنْدَلَةٌ بين يديه، صلواتُ اللّه وسلامه عليه.

وقال أبو زرعة: حدَّثنا العباس بن الوليد بن صبح الدمشقي، حدَّثنا مروان -يعني ابن محمد- حدَّثنا سعيد بن بشير، عن قتادة، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "فُضِّلْتُ على النَّاسِ بشدّة البطش"

(2)

.

‌فصل فيما يذكر من صفاته عليه الصلاة والسلام في الكتب المأثور

(3)

عن الأنبياء الأقدمين

قد أسلفنا طرفًا صالحًا من ذلك في البشارات

(4)

قبل مولده، ونحن نذكر هنا غُررًا من ذلك. فقد روى البخاريُّ، والبيهقيُّ واللفظ له، من حديث فُلَيح بن سليمان، عن هِلال بن عليّ، عن عَطَاءِ بن يَسار، قال: لقيتُ عبدَ اللّه بن عمرو، فقلت: أخبرني عن صفةِ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في التوراة، فقال: أجل، والله إنّه لموصوفٌ في التوراة بِبَعض صفتِه في الفرقان:{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الفتح: 8] وحِرزًا لِلأُميين، أنت عبدي ورسولي، سَمَّيتُك المتوكل، ليس بفظٍّ

(5)

ولا غليظٍ ولا سخَّاب

(6)

بالأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويغفر، ولن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء أن يقولوا:{لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} وأفتح به أعينًا عميًا، وآذانًا صمًا، وقلوبًا غلفًا

(7)

.

(1)

الحديث رواه البخاري في صحيحه رقم (4316) في المغازي، وابن حبان في صحيحه رقم (4770) في السير.

(2)

هذه قطعة من الحديث المنسوب إلى أنس رضي الله عنه ونصه: "فُضِّلت على الناس بأربع: بالسخاء والشجاعة وكثرة الجماع وشدة البطش". وهو حديث باطل كما قال الإمام الذهبي في ترجمة أبي علي الحسين بن علي النخعي من الميزان (1/ 543). أخرجه الطبراني في الأوسط (6812)، والإسماعيلي في معجمه (251)، والخطيب في تاريخ مدينة السلام (8/ 620) طبعة الدكتور بشار، وابن الجوزي في العلل المتناهية (268)، وينظر لسان الميزان لابن حجر (2/ 303) وتعليق الدكتور بشار على تاريخ الخطب.

(3)

في (أ) سقطت كلمة: المأثورة.

(4)

تقدم ذلك في مطلع السيرة النبوية.

(5)

"بفظ": الفظ: هو الغليظ الجانب، الخشن الكلام.

(6)

"ولا سخَّاب": السَّخَّاب: الذي يُكثر المشي والتجول في الأسواق.

(7)

ما بين القوسين سقط من المطبوع وأثبته من دلائل النبوة. وقول عطاء ليس في البخاري. وقد روى البخاري حديث عبد الله بن عمرو في صحيحه رقم (2125) في البيوع.

ص: 96

قال عطاء بن يسار: ثم لقيت كعبًا الحَبرَ فسألته، فما اختلفا في حرفٍ، إلا أن كعبًا قال: أعينًا (عموميَ، وآذانًا صُمُويَ، وقُلوبًا غُلوفى)

(1)

.

ورواه البخاري

(2)

أيضًا، عن عبد اللّه -غير منسوب- قيل: هو ابن رجاء، وقيل: عبد اللّه بن صالح، وهو الأرجح، عن عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون عن هلال بن علي به. قال البخاري

(3)

: وقال سعيد: عن هلال، عن عطاء، عن عبد اللّه بن سلام. كذا علَّقه البخاري.

وقد روى البيهقي من طريق يعقوب بن سفيان: حَدَّثنا أبو صالح- هو عبد اللّه بن صالح كاتب الليث- حدَّثني خالدُ بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن أسامة، عن عَطاء بن يَسار، عن ابن سَلام، أنه كان يقول: إنا لنجد صفةَ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا (ونذيرًا، وحِرزًا للأميين)

(4)

، أنت عبدي ورسولي سمَّيته المتوكل، ليس بفظِّ، ولا غليظ، ولا سخَّاب في الأسواق، ولا يَجزي بالسيئة مِثلَها، ولكن يعفو ويتجاوز. ولن أقبضَه حتى يُقيمَ المِلَّةَ العَوجاء: بأن يُشهد {لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} يفتحُ به أعيُنًا عُميًا، وآذانًا صُمًّا، وفُلوبًا غُلفًا

(5)

.

قال عطاء بن يسار: وأخبرني اللَّيثِيُّ أنه سمع كعبَ الأحبار يقولُ مثلَ ما قال ابنُ سلام.

وقد رُوي عن عبد اللّه بن سلام من وجه آخر، فقال الترمذي: حَدَّثنا زيد بن أخزم الطائي البصري، حدَّثنا أبو قُتيبة -سَلم بن قُتيبة-، حدَّثني أبو مَودود المدني، حدَّثنا عثمان بن الضحَّاك، عن محمد بن يوسف بن عبد اللّه بن سَلام، عن أبيه، عن جده، قال: مكتوب في التوراة صفة محمد، وعيسى ابن مريم يُدفن معه. فقال أبو مَودُود: قد بقي في البيت

(6)

موضع قبر

(7)

. ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن. هكذا قال: عثمان بن الضحَّاك، والمعروف: الضحَّاك بن عثمان المدني.

وهكذا حكى شيخُنا الحافظ المِزّي في كتابه "الأطراف"

(8)

عن ابن عساكر؛ أنه قال مثل قول

(1)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (1/ 374).

(2)

رواه البخاري في صحيحه رقم (4838) في التفسير. وذكر الحافظ ابن حجر: أن رواية أبي ذر، وأبي علي بن السكن؛ للبخاري: عن عبد اللّه بن مسلمة القعنبي. ووقع عند غيرها: عبد اللّه غير منسوب، فتردد فيه أبو مسعود بين أن يكون عبد اللّه بن رجاء، وعبد اللّه بن صالح كاتب الليث. فتح الباري (8/ 585).

(3)

في صحيحه عقيب حديث (2125) في البيوع.

(4)

ما بين القوسين سقط من المطبوع، وأثبته من (أ) ودلائل النبوة للبيهقي.

(5)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (1/ 376) وهو حديث حسن، فإن كاتب الليث صدوق في حفظه شيء.

(6)

"في البيت": أي في حجرة عائشة رضي الله عنها.

(7)

رواه الترمذي في الجامع رقم (3617) في المناقب، وإسناده ضعيف. لذلك قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.

(8)

تحفة الأشراف للإمام أبي الحجاج المزي (4/ 249) حديث (5336).

ص: 97

الترمذي. ثم قال: وهو شيخٌ آخر أقدم من الضحاك بن عثمان، ذكره ابن أبي حاتم عن أبيه فيمن اسمه عثمان.

فقد رُوِي هذا عن عبد اللّه بن سلام، وهو من أئمة أهل الكتاب ممن آمن. وعبد اللّه بن عمرو بن العاص، وقد كان له اطلاع على ذلك من جهة زاملتين

(1)

كان أصابهما يوم اليرموك، فكان يحدِّث منهما عن أهل الكتاب. وعن كعب الأحبار، وكان بصيرًا بأقوال المتقدمين على ما فيها من خلط وغلط وتحريف وتبديل، فكان يقولُها بما فيها من غير نقد، وربما أحسن بعضُ السلف بها الظن نقلها عنه مُسلَّمة، وفي ذلك من المخالفة لبعض ما بأيدينا من الحق جملةٌ كثيرة، لا يَتفطَّنُ لها كثيرٌ من الناس. ثم ليُعلم أن كثيرًا من السلف يُطلقون التوراة على كتب أهل الكتاب (سواء كانت هذا)

(2)

المتلوَّ عندَهم، أو أعمَّ من ذلك، كما أن لفظ القرآن يُطلق على كتابنا خصوصًا (وقد يُستعمل)

(3)

ويُراد به غيره، كما في الصحيح:"خُفِّف على داود القرآن، فكان يأمر بدوابه فتُسرج، فيقرأ القرآن مقدار ما يفرغ منها"

(4)

. وقد بُسط هذا في غير هذا الموضع، واللّه أعلم.

وقال البيهقي: عن الحاكم، عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يُونسَ بن بُكير، عن ابن إسحاق، حدّثني محمد بن ثابت بن شُرحبيل، عن أم الدرداء، قالت: قلت لكعبٍ الحَبر: كيف تجدون صفةَ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في التوراة؟ قال: نجدُه: محمدٌ رسولُ اللّه، اسمُه المتوكِّل، ليس بفظّ ولا غليظٍ، ولا سخَّابٍ بالأسواق، وأُعطي المفاتيح ليُبَصِّرَ اللّه به أعينًا عميًا، ويُسمعَ به آذانًا وُقرأْ

(5)

، ويُقيم به ألسُنًا مُعوجَّة حتى يُشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، يُعين المظلوم ويمنعه

(6)

.

وبه عن يُونسَ بن بُكير، عن يُونس بن عمروٍ، عن العَيزَار بن حُرَيثٍ، عن عائشة: أن رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم مكتوبٌ في الإنجيل: لافظٌّ، ولا غليظٌ، ولا سخَّابٌ في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة مثلَها، بل يعفو ويصفح

(7)

.

وقال يعقوبُ بن سفيان: حدَّثنا فيضٌ البَجَليّ: حَدَّثنا سَلاَّمُ بن مِسكين عن مُقاتِل بن حيَّان قال:

(1)

"زاملتين": الزاملة: التي يُحمل عليها من الإبل وغيرها، وكان عليهما بعض كتب أهل الكتاب، فكان عبد اللّه بن عمرو يحدث منها.

(2)

ما بين القوسين سقط من المطبوع، وأثبته من (أ).

(3)

ما بين القوسين سقط من المطبوع، وأثبته من (أ).

(4)

أخرجه الإمام أحمد في مسنده (2/ 314) والبخاري في صحيحه رقم (3417) في الأنبياء.

(5)

"وُقرًا": الوَقر: الصمم.

(6)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (1/ 376 - 377). وإسناده ضعيف ويشهد له حديث عبد الله بن عمرو في البخاري.

(7)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (1/ 377 - 338) وهو حديث حسن.

ص: 98

أوحى الله عز وجل إلى عيسى ابن مريم. جِدَّ في أمري ولا تهزل، واسمع وأطع يا بن الطاهر البَتُول، إني خلقتُك من غير فحل، وجعلتُك آية للعالمين، فإيايَ فاعبد، وعلىَّ فتوكل، بيِّن

(1)

لأهل سُوران

(2)

: أني أنا الحقُّ القائم الذي لا أزول، صَدَّقوا بالنبيّ العربيّ، صاحب الجمل والمِدرعَة والعَمامة (وهي التَّاجُ)

(3)

، والنعلين والهِرَاوة، الجَعد الرأس، الصَّلت

(4)

الجبين، المقرون الحاجبين، الأدعجْ

(5)

العينين، الأقنى الأنف، الواضح الخدين، الكثّ اللحية، عَرَقُه في وجهه كاللؤلؤ، ريحُ المسكِ ينفحُ منه، كأن عنقَه إبريقُ فضة، وكأن الذهَب يجري في تراقيه، له شعراتٌ من لَبّته إلى سُرّته تجري كالقضيب، ليس على صدره ولا بطنه شعرٌ غيرُه، شَثْنُ الكفين والقدم، إذا جاء مع الناس غمرَهم، وإذا مشى كأنما يَتقلَّع من الصخر، وينحدرُ في صَبَب، ذو النسل

(6)

القليل

(7)

.

وروى الحافظ البيهقي بسنده، عن وهب بن منبه اليماني، قال: إن اللّه عز وجل لما قرّبَ موسى نجيًا قال: ربِّ إني أجدُ في التوراة أمةً خيرَ أمّةٍ أُخرِجت للناس، يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويؤمنون باللّه، فاجعلهم أمتي، قال: تلك أمَّة أحمد، قال: ربِّ إني أجد في التوراة أمة هم الآخرون من الأمم، السابقون يوم القيامة، فاجعلهم أمتي، قال: تلك أمّةُ أحمد.

قال: يا ربِّ إني أجدُ في التوراة أمةً أناجيلُهم في صدورهم يقرؤُونها، وكان مَن قبلهم يقرؤون كتبَهم نَظَرًا ولا يحفظُونها، فاجعلهم أمتي، قال: تلك أمة أحمد، قال: ربِّ إني أجدُ في التوراة أمة يُؤمنون بالكتاب الأول والآخر ويُقاتلون رؤوسَ الضلالة حتى يُقاتلوا الأعورَ الكذاب، فاجعلهم أمتي، قال: تلك أمّةُ أحمد.

قال: ربِّ إني أجد في التوراة أمة يأكلون صدقاتهم في بطونهم وكان من قبلهم إذا أخرج صدقته بعث اللّه عليها نارًا فأكلتها فإن لم تقبل لا تقربها النار، فاجعلهم أمتي، قال: تلك أمة أحمد.

قال: ربِّ إني أجدُ في التوراة أمةً إذا همّ أحدُهم بسيئة لم تُكتب عليه، فإن عملَها كُتبت عليه سيئة واحدة، وإذا همّ أحدُهم بحسنة ولم يعملها كُتبت له حسنة، فإن عملها كُتبت له عشر أمثالها إلى سبعمئة ضعف، فاجعلهم أمتي، قال: تلك أمة أحمد.

(1)

في دلائل النبوة: فَسِّر. وفي المطبوع: فَبَيِّن. وهو تصحيف ظاهر.

(2)

في دلائل النبوة (1/ 378): فسِّر لأهل سوران بالسُّريانيّة، بلغ من بَين يَديك: أني أنا الله الحيُّ القيُّوم.

(3)

ما بين القوسين سقط من المطبوع، وأثبته من (أ).

(4)

"الصلت الجبين": أي واسع الجبين. وقيل: الصلت: الأملس. النهاية (3/ 45).

(5)

"الأدعج": يريد أن سواد عينيه كان شديد السواد. النهاية (2/ 119).

(6)

"ذو النسل القليل". وفي دلائل النبوة تتمة. وكأنه أراد الذكورَ من صُلبه.

(7)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (1/ 378) وتهذيب تاريخ ابن عساكر (1/ 344) وهو خبر مقطوع عن مقاتل بن حيان، وهو ظاهر الصنعة والوضع.

ص: 99

قال: ربِّ إني أجد في التوراة أمةً هم المستجيبون والمستجاب لهم فاجعلهم أمتي، قال: تلك أمة أحمد

(1)

.

قال: وذكر وهبُ بن منبّه في قصة داودَ عليه السلام، وما أوحى اللّه إليه في الزبور: يا داود! إنه سيأتي من بعدك نبيٌّ اسمُه أحمد ومحمد، صادقًا سَيدًا، لا أغضبُ عليه أبدًا، ولا يُغضبُني أبدًا، وقد غفرتُ له قبلَ أن يعصيَني ما تقدَّمَ من ذنب وما تأخر، وأمتُه مرحومةٌ، أُعطيهم من النوافل مثل ما أعطيتُ الأنبياء، وافترضتُ عليهم الفرائضَ التي افترضتُ على الأنبياء والرسل، حتى يأتُوني يومَ القيامة ونورُهم مثلُ نور الأنبياء، وذلك أني افترضتُ عليهم أن يتطهروا لي لكلّ صلاة، كما افترضتُ على الأنبياء قبلَهم، وأمرتُهم بالغسل من الجَنابة كما أمرتُ الأنبياءَ قبلَهم، وأمرتُهم بالحجّ كما أمرتُ الأنبياء قبلَهم، وأمرتهم بالجهاد كما أمرت الرسل قبلهم. يا داودُ إني فضلتُ محمدًا وأمته على الأمم كلِّها، وأعطيتُهم ستَّ خِصال لم أعطها غيرَهم من الأمم: لا أؤاخذهم بالخطأ والنسيان، وكلُّ ذنبٍ رَكبوه على غير عَمد إن استغفروني منه غفرتُه لهم، وما قدَّموا لآخرتهم من شيء طيبةً به أنفسهم عجَّلتُه لهم أضعافًا مضاعفة، ولهم في المدخور عندي أضعافٌ مضاعفة، وأفضل من ذلك، وأعطيتُهم على المصائب في البلايا إذا صبروا وقالو ا: إنا للّه وإنا إليه راجعون، الصَّلاةَ والرحمةَ والهُدى إلى جنّات النعيم، فإن دعوني استجبتُ لهم، فإما أن يَروه عاجلًا، وإما أن أصرفَ عنهم سوءًا، وإما أن أدّخِرَه لهم في الآخرة. يا داود من لقيني من أمة محمد يشهد أن لا إله إلا اللّه وحدَه لا شريكَ له صادقًا بها، فهو معي في جنتي وكرامتي، ومَن لقيني وقد كذَّبَ محمدًا أو كذَّبَ بما جاء به، واستهزأَ بكتابي صببتُ عليه في قبره العذابَ صبًّا، وضربتِ الملائكةُ وجهَه ودُبرَه عند مَنشَرِه من قبره، ثم أدخلُه في الدَّركِ الأسفلِ من النّار

(2)

.

وقال الحافظ البيهقي: أخبرنا الشريف أبو الفتح العمري، حَدَّثنا عبد الرحمن بن أبي شريح الهروي، حدَّثنا يحيى بن محمد بن صاعد، حدَّثنا عبد اللّه بن شبيب أبو سعيد الربعي، حدَّثني محمد بن عمر بن سعيد- يعني ابن محمد بن جبير بن مطعم- قال: حدَّثتني أم عثمان بنت سعيد بن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيها، عن أبيه قال: سمعت أبي جُبير بن مطعم يقول: لما بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم وظهرَ أمرُه بمكة، خرجتُ إلى الشام، فلما كنت ببُصرى أتتني جماعةٌ من النصارى فقالوا لي: أمن الحرم أنت؟ قلت: نعم، قالوا: فتعرف هذا الذي تنبَّأ فيكم؟ قلت: نعم، قال: فأخذوا بيدي فأدخلوني دَيرًا

(1)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (1/ 379 - 380) وروى ابن بلبان في المقاصد السنية في الأحاديث الإلهية (ص 443) حديثًا مشابهًا عن أبي هريرة بسند ضعيف لا يُحتج به.

وهذا الكلام المنسوب إلى وهب بن منبه هنا ظاهر الصنعة والتكلف، وكان الأولى أن تُصان كتب السيرة فتبعد عنها منل هذه الإسرائيليات المصنوعة.

(2)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (1/ 380 - 381) وهو كلام متكلف مصنوع.

ص: 100

لهم فيه تماثيل وصور، فقالوا لي: انظر هل ترى صورةَ هذا النبيّ الذي بُعث فيكم؟ فنظرتُ فلم أرَ صورتَه، قلتُ: لا أرى صورتَه، فأدخلوني دَيرًا أكبرَ من ذلك الدَّير، فإذا فيه تماثيلُ وصورٌ أكثرُ مما في ذلك الدَّير، فقالوا لي: انظر هل ترى صورتَه؟ فنظرتُ فإذا أنا بصفة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وصورتِه، وإذا أنا بصفةِ أبي بكر وصورتِه، وهو آخذ بعَقب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم. فقالوا لي: هل ترى صفتَه؟ قلتُ: نعم، قالوا: هو هذا؟ -وأشاروا إلى صفة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قلت: اللهم نعم، أشهدُ أنه هو. قالوا: أتعرفُ هذا الذي آخذٌ بعقبِه؟ قلتُ: نعم، قالوا: نشهدُ أن هذا صاحبُكم، وأن هذا الخليفةُ من بعده

(1)

.

ورواه البخاري

(2)

في "التاريخ"، عن محمد غير منسوب، عن محمد بن عمر هذا بإسناده، فذكره مختصرًا، وعنده فقالوا: إنه لم يكن نبيٌّ إلَّا بعدَه نبيٌّ إلَّا هذا النبيّ.

وقد ذكرنا في كتابنا "التفسير"

(3)

عند قوله تعالى في سورة الأعراف: {(156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} الآية [الأعراف: 157] ذكرنا ما أورده البيهقي وغيره، من طريق أبي أُمامةَ الباهِليّ، عن هشام بن العاص الأمويّ، بُعثتُ أنا ورجلٌ من قريش إلى هرقلَ صاحب الرومِ ندعوه إلى الإسلام، فذكرَ اجتماعهم به وأن غرفتَه تَنَغَّضَت حين ذكروا اللّه عز وجل، فأنزلَهم في دار ضيافتِه ثم استدعاهم بعد ثلاث، فدعا بشيء نحو الرَّبعة العظيمة فيها بيوت صِغارٌ عليها أبواب، وإذا فيها صورُ الأنبياء ممثلة في قِطَعٍ من حرير، من آدمَ إلى محمدٍ صلواتُ اللّه عليهم أجمعين، فجعلَ يُخرج لهم واحدًا واحدًا ويُخبرهم عنه، وأخرجَ لهم صورةَ آدم، ثم نوح، ثم إبراهيم، ثم تعجَّل إخراجَ صورة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، قال: ثم فتح بابًا آخرَ فإذا فيها صورةٌ بيضاء، وإذا رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم، قال: أتعرفون هذا؟ قلنا: نعم، محمّدٌ رسولُ اللّه، قال: وبَكينا، قال: واللّه يعلمُ أنه قامَ قائمًا ثم جلس وقال: واللّه إنه لهو؟ قلنا: نعم إنه لهو كما ننظرُ إليه، فأمسكَ ساعةً ينظر إليها ثم قال: أما إنه كان آخر البيوت، ولكني عجَّلته لكم لأنظرَ ما عندكم.

ثم ذكر تمامَ الحديث في إخراجه بقيّة صور الأنبياء وتعريفه إياهما بهم، وقال في آخره: قلنا له: من أين لك هذه الصور؟ لأنا نعلم أنها على ما صُوِّرت عليه الأنبياءُ عليهم السلام، لأنا رأينا صورةَ نبيّنا عليه السلام مثلَه، فقال: إن آدمَ عليه السلام سألَ ربَّه الأنبياءَ من ولدِه، فأنزلَ عليه صورَهم، فكانت في خزانة آدم عليه السلام عند مغرب الشمس، فاستخرجَها ذو القرنين من مغرب الشمس، فدفعَها إلى دانيال، ثم قال: أما واللّه إن نفسي طابت بالخروج من مُلكي، وأني كنتُ عبدًا لا يتركٌ

(4)

ملكَه حتى أموت.

(1)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (1/ 384 - 385) وإسناده ضعيف.

(2)

التاريخ الكبير؛ للبخاري (1/ 1/ 179) وإسناده ضعيف.

(3)

تفسير القرآن العظيم؛ لابن كثير (3/ 564 - 567).

(4)

في (أ) والمطبوع: وأني كنت عبدًا لأشركم ملكة. والتصحيح من دلائل النبوة.

ص: 101

قال: ثم أجازنا فأحسنَ جائزتَنا وسرَّحَنا، فلما أتينا أبا بكر الصديق رضي الله عنه، حَدَّثناه بما رأينا، وما قال لنا وما أجازنا، قال: فبكى أبو بكر فقال: مسكين، لو أراد اللّه به خيرًا لفعل، ثم قال: أخبرَنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أنهم واليهود يجدون نعتَ محمّد صلى الله عليه وسلم عندَهم

(1)

.

وقال الواقدي: حدَّثني علي بن عيسى الحكِيمي عن أبيه، عن عامر بن ربيعة، قال: سمعتُ زيدَ بن عمرو بن نُفيل يقول: أنا أنتظرُ نبيًا من ولد إسماعيل، ثم من بني عبد المطلب، ولا أراني أدركُه، وأنا أؤمن به وأصدّقه وأشهدُ أنه نبي

(2)

، فإن طالت بك مدة فرأيتَه فأقرئه مني السَّلام، وسأخبرك ما نعتُه، حتى لا يَخفى عليك. قلتُ: هلمَّ، قال: هو رجل ليس بالطويل ولا بالقصير، ولا بكثير الشعر ولا بقليله، وليست تُفارِقُ عينيه حمرةٌ، وخاتَمُ النُّبوة بين كتفيه، واسمه أحمد، وهذا البلد مولدُه ومبعثُه، ثم يُخرجه قومه منها، ويَكرهون ما جاء به حتى يُهاجِرَ إلى يثربَ فيظهر أمرُه، فإياك أن تُخدعَ عنه فإني طِفتُ البلادَ كلَّها أطلبُ دينَ إبراهيم، فكل من أسأل من اليهود والنصارى والمجوس يقولون: هذا الدين وراءَك

(3)

، وينعتُونه مثلَ ما نعتُّه لك، ويقولون: لم يبق نبيٌّ غيره.

قال عمر بن ربيعة: فلما أسلمتُ أخبرتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قولَ زيد بن عمرو بن نُفيل وأقرأتُه منه السَّلام، فردَّ عليه السلام وتَرحم عليه، وقال:"قد رأيتُه في الجنّة يَسحبُ ذُيولًا"

(4)

.

* * *

(1)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (1/ 385 - 390) وهو حديث حسن.

(2)

في المطبوع: وأشهد برسالته.

(3)

في المطبوع: وذاك. والتصحيح من (أ) والطبقات.

(4)

الطبقات الكبرى؛ لابن سعد (1/ 128) وإسناده ضعيف.

ص: 102

‌كتاب دلائل النبوة

وهي معنوية وحسيّة: فمن المعنوية إنزال القرآن العظيم عليه، وهو أعظمُ المعجزات، وأبهرُ الآيات، وأبينُ الحُجج الواضحات؛ لما اشتملَ عليه من التركيب المعجِز الذي تحدَّى به الإنس والجِنَّ أن يأتوا بمثله فعجزوا عن ذلك، مع توافر دواعي أعدائه على معارضتِه، وفصاحتهم وبلاغتهم، ثم تحدَّاهم بعشر سورٍ منه فعجزوا، ثم تنازل إلى التحدي بسورة مِن مِثله، فعجزوا عنه وهم يعلمون عجزَهم وتقصيرَهم عن ذلك، وأنَّ هذا ما لا سبيلَ لأحد إليه أبدًا، قال اللّه تعالى:{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88]. وهذه الآية مكية. وقال في سورة الطور وهي مكيّة: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} [الطور: 33، 34]. أي: إن كنتم صادقين في أنه قاله من عنده، فهو بشر مثلكم، فائتوا بمثل ما جاء به فإنكم مثله. وقال تعالى في سورة البقرة -وهي مدنية- معيدًا للتحدي:{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 23، 24] وقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [هود: 13، 14]. وقال تعالى: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 37]{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} [يونس: 37 - 39]. فبَيَّن تعالى أن الخلقَ عاجزون عن معارضة هذا القرآن، بل عن عشر سور مثلِه، بل عن سورة منه، وأنهم لا يَستطيعون ذلك أبدًا، كما قال تعالى:{فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} [البقرة:24]. أي: فإن لم تفعلوا في الماضي ولن تستطيعوا ذلك في المستقبل، وهذان تحدِّيَان

(1)

، وهو أنه لا يمكن معارضتُهم له لا في الحال ولا في المآل، ومثل هذا الثحدي إنما يصدرُ عن واثقٍ بأنَّ ما جاءَ به لا يُمكن للبشر معارضتُه ولا الإتيان بمثله، ولو كان من متقول

(1)

في المطبوع: وهذا تحدِّ ثان. وهو تصحيف ظاهر.

ص: 103

من عِند نفسه لخاف أن يُعارض، فيُفتضح ويعود عليه نقيضُ ما قصدَه من متابعة الناس له، ومعلومٌ لكل ذي لبّ أن محمدًا صلوات اللّه وسلامه

(1)

عليه من أعقلِ خلق اللّه، بل أعقلُهم وأكملُهم على الإطلاق في نفس الأمر، فما كان ليُقدمَ على هذا الأمر إلا وهو عالم بأنه لا يمكن معارضته، وهكذا وقع، فإنه من لدنِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى زماننا هذا لم يستطع أحدٌ أن يأتيَ بنظيره ولا نظيرِ سورة منه، وهذا لا سبيلَ إليه أبدًا، فإنه كلامُ ربّ العالمين الذي لا يُشبهُه شيءٌ من خلقه لا في ذاته ولا في صفاتِه ولا في أفعاله، فأنَّى يُشبه كلامُ المخلوقين كلامَ الخالق؟ وقول كفار قريش الذي حكاه تعالى عنهم في قوله:[وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [الأنفال: 31] كذبٌ منهم ودعوى باطلة بلا دليل ولا برهان ولا حجّة ولا بيان، ولو كانوا صادقين لأتوا بما يُعارضه، بل هم يعلمون كذبَ أنفسهم، كما يعلمون كذبَ أنفسهم في قولهم:{وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفرقان: 5]. قال اللّه تعالى: {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان: 6]. أي: أنزله عالم الخفيات، ربّ الأرض والسموات، الذي يعلمُ ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، فإنه تعالى أوحى إلى عبده ورسوله النبيّ الأميّ الذي كان لا يُحسن الكتابة ولا يَدريها بالكلية، ولا يعلمُ شيئًا من علم الأوائل وأخبار الماضين، فقصَّ اللّه عليه خبرَ ما كان وما هو كائن على الوجه الواقع سواء بسواء، وهو في ذلك يفصلُ بين الحق والباطل الذي اختلفت في إيراده جملةُ الكتب المتقدمة، كما قال تعالى:{تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود: 49] وقال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة:48] الآية وقال تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [العنكبوت: 48 - 52].

فبيَّن تعالى أن نفس إنزال هذا الكتاب المشتمل على علم ما كان وما يكون، وحكم ما هو كائن بين الناس، على مِثل هذا النبيّ الأمي وحده، كان من الدلالة على صدقه، وقال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ

(1)

في المطبوع: صلى الله عليه وسلم.

ص: 104

بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ} [يونس: 15، 17].

يقول لهم: إني لا أُطيق تبديلَ هذا من تلقاء نفسي، وإنما اللّه عز وجل هو الذي يمحو ما يشاء ويُثبت، وأنا مبلّغ عنه وأنتم تعلمون صدقي فيما جئتكم به، لأني نشأت بين أظهركم وأنتم تعلمون نسبي وصدقي وأمانتي، وأني لم أكذب على أحد منكم يومًا من الدهر، فكيف يَسعني أن أكذبَ على اللّه عز وجل، مالك الضُّر والنفع، الذي هو على كل شيء قدير، وبكل شيء عليم؟ وأي ذنب عنده أعظم من الكذب عليه، ونسبة ما ليس منه إليه، كما قال تعالى:{وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 44 - 47].

أي: لو كذبَ علينا لانتقمنا منه أشدَّ الانتقام، وما استطاع أحدٌ من أهل الأرض أن يحجزَنا عنه ويمنعنا منه.

وقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام: 93].

وقال تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19].

وهذا الكلام فيه الإخبار بأن اللّه شهيدٌ على كل شيء، وأنه تعالى أعظمُ الشهداء، وهو مطلع عليّ وعليكم فيما جئتكم به عنه، وتتضمن قوة الكلام قَسَمًا به أنه قد أرسلني إلى الخلق لأنذرهم بهذا القرآن، فمن بلغه منهم فهو نذير له، كما قال تعالى:{وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ} [هود: 17].

ففي هذا القرآن من الأخبار الصادقة عن اللّه وملائكته وعرشه ومخلوقاته العلوية والسفلية كالسموات والأرضين وما بينهما وما فيهن، أمور عظيمة كثيرة مبرهنة بالأدلة القطعية المرشدة إلى العلم بذلك من جهة العقل الصحيح.

كما قال تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} [الإسراء: 88] وقال تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43] وقال تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الزمر: 27، 28].

وفي القرآن العظيم الإخبار عما مضى على الوجه الحق، وبرهانه ما في كتب أهل الكتاب من ذلك

ص: 105

شاهدًا له، مع كونه نزل على رجل أمّيٍّ لا يعرفُ الكتابة ولم يُعَانِ يومًا من الدهر شيئًا من علوم الأوائل، ولا أخبار الماضين، فلم يفجأ الناس إلا بوحي إليه عما كان من الأخبار النافعة، التي ينبغي أن تُذكر للاعتبار بها من أخبار الأمم مع الأنبياء، وما كان منهم من أمورهم معهم، وكيف نجَّى اللّه المؤمنين وأهلك الكافرين، بعبارة لا يستطيع بشر أن يأتي بمثلها أبد الآبدين، ودهرَ الداهرين.

ففي مكان تُقصُّ القِصَّة موجزة في غاية البيان والفصاحة، وتارة تُبسط، فلا أحلى ولا أجلى ولا أعلى من ذلك السياق، حتى كأنَّ التالي أو السامع مشاهد لما كان، حاضر له، معاين للخبر بنفسه، كما قال تعالى:{وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [القصص: 46] وقال تعالى: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران: 44] وقال تعالى في سورة يوسف {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} [يوسف: 102 - 104]، إلى أن قال في آخرها:{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: 111].

وقال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى} [طه: 133].

وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 52: 53].

وعدَ تعالى أنه سيُظهر آيات القرآن وصدقه، وصدق ما جاء به، بما يخلقه في الآفاق من الآيات الدالة على صدق هذا الكتاب، وفي أنفس المنكرين له المكذبين ما فيه حجة عليهم وبرهان قاطع لشبههم، حتى يستيقنوا أنه منزل من عند اللّه على لسان الصادق.

ثم أرشد إلى دليل مستقل بقوله: {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53]. أي: في العلم بأن اللّه يطّلع على هذا الأمر كفاية في صدق هذا المخبر عنه، إذ لو كان مفتريًا عليه لعاجلَه بالعقوبة البليغة كما تقدم بيان ذلك.

وفي هذا القرآن إخبار عما وقع في المستقبل طبق ما وقع سواء بسواء، وكذلك في الأحاديث حسب ما قررناه في كتابنا "التفسير"

(1)

وما سنذكره من الملاحم والفتن؛ كقوله تعالى: {أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ}

(1)

تفسير القرآن العظيم لابن كثير (4/ 439).

ص: 106

مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل: 20] وهذه السورة من أوائل ما نزل بمكة.

وكذلك قوله تعالى في سورة اقتربت، وهي مكية بلا خلاف:{سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} [القمر: 45، 46] وقعَ مصداق هذه الهزيمة يومَ بدر بعد ذلك. إلى أمثال هذا من الأمور البيّنة الواضحة، وسيأتي فصلٌ فيما أخبر به من الأمور التي وفعت بعده عليه الصلاة والسلام طبقَ ما أخبر به.

وفي القرآن الأحكام العادلة أمرًا ونهيًا، المشتملة على الحكم البالغة التي إذا تأملها ذو الفهم والعقل الصحيح قطع بأن هذه الأحكام إنما أنزلها العالم بالخفيات، الرحيم بعباده، الذي يعاملهم بلطفه ورحمته، وإحسانه، قال اللّه تعالى:{وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام: 115] أي: صدقًا في الأخبار، وعدلًا في الأوامر والنواهي، وقال تعالى:{الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود: 1] أي: أحكمت ألفاظه وفصلت معانيه، وقال تعالى:{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} [الفتح:28]، أي العلم النادع والعمل الصالح.

وهكذا رُوي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أنه قال لكُمَيل بن زياد: هو كتابُ اللّه، فيه خبرُ ما قبلكم، وحكمُ ما بينكم، ونبأ ما بعدكم. وقد بسطنا هذا كله في كتابنا "التفسير"

(1)

بما فيه كفايه

(2)

.

فالقرآن العظيم معجز من وجوه كثيرة: في فصاحته، وبلاغته، ونَظمه، وتراكيبه، وأساليبه، وما تضمنه من الأخبار الماضية والمستقبلة، وما اشتمل عليه من الأحكام الجلية، والتحدّي ببلاغة ألفاظه يخصُّ فصحاء العرب، والتحدي بما اشتمل عليه من المعاني الصحيحة الكاملة- وهي أعظم في التحدي عند كثير من العلماء- يعمُّ جميعَ أهل الأرض، من الملّتين

(3)

أهل الكتابين، وغيرهم من عقلاء اليونان والهند والفرس والقبط، وغيرهم من أصناف بني آدم في سائر الأقطار والأمصار.

وأما من زعم من المتكلمين

(4)

أن الإعجاز إنما هو من صَرف دواعي الكفرة عن معارضته مع إنكار ذلك، أو هو سلبُ قدرتهم على ذلك، فقولٌ باطل، وهو مُفَرّعٌ على اعتقادهم أن القرآن مخلوق، خلقه اللّه في بعض الأجرام، ولا فرق عندهم بين مخلوق ومخلوق. وقولُهم هذا كفر وباطل، وليس

(1)

تفسير القرآن العظيم لابن كثير (4/ 201).

(2)

في المطبوع زيادة: فلله الحمد والمنّة.

(3)

"الملّتين": اليهود والنصارى.

(4)

هو إبراهيم النَّظَّام من المعتزلة.

ص: 107

مطابقًا لما في نفس الأمر، بل القرآن كلامُ اللّه غير مخلوق، تكلَّم به كما شاء تعالى وتقدَّس وتنزه عما يقولون علوًا كبيرًا، فالخَلقُ كلُّهم عاجزون حقيقة وفي نفس الأمر عن الإتيان بمثله ولو تعاضدوا وتناصروا على ذلك، بل لا تقدر الرسلُ الذين هم أفصحُ الخلق وأكملُهم، أن يتكلموا بمثل كلام اللّه.

وهذا القرآن الذي يبلّغُه الرسولُ صلى الله عليه وسلم عن اللّه، أسلوبُ كلامه لا يُشبه أساليبَ كلامِ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وأساليبُ كلامه عليه الصلاة والسلام المحفوظة عنه بالسند الصحيح إليه، لا يقدر أحد من الصحابة ولا من بعدهم أن يتكلم بمثل أساليبه في فصاحته وبلاغته، فيما يرويه من المعاني بألفاظه الشريفة، بل وأسلوبُ كلام الصحابة أعلى من أساليب كلام التابعين، وهلم جرًا إلى زماننا.

وعلماء السلف أفصحُ وأعلمُ، وأقل تكلفًا، فيما يرونه من المعاني بألفاظهم من علماء الخلف، وهذا يَشهده من له ذوق بكلام الناس، كما يُدرك تفاوتَ ما بين أشعار العرب في زمن الجاهلية، وبين أشعار المولّدين الذين كانوا بعد ذلك.

ولهذا جاء الحديثُ الثابت في هذا المعنى، وهو فيما رواه الإمام أحمد قائلًا

(1)

: حدَّثنا يونسُ وحجّاج، حدَّثنا ليث، حدَّثني سعيد بن أبي سعيد، عن أبيه، عن أبي هريرة؛ أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال:"ما من الأنبياء نبيٌّ إلا وقد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وَحيًا أوحاه اللّه إليّ، فأرجو أن أكونَ أكثَرهم تابعًا يومَ القيامة".

وقد أخرجه البخاري ومسلم من حديث الليث بن سعد به

(2)

.

ومعنى هذا أن الأنبياء عليهم السلام كل منهم قد أُوتي من الحجج والدلائل على صدقه وصحة ما جاء به عن ربه ما فيه كفاية وحجة لقومه الذين بُعث إليهم، سواء آمنوا به ففازوا بثواب إيمانهم، أو جحدوا فاستحقوا العقوبة، وقوله:"وإنما كان الذي أوتيت" أي: جلّه وأعظمه، الوحي الذي أوحاه إليه، وهو القرآن، الحجّة المستمرة الدائمة القائمة في زمانه وبعده، فإن البراهين التي كانت للأنبياء انقرض زمانها في حياتهم، ولم يبق منها إلا الخبر عنها، وأما القرآن فهو حجة قائمة كأنما يسمعُه السامعُ من في رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فحجة الله قائمة به في حياته عليه الصلاة والسلام وبعد وفاته، ولهذا قال:"فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة" أي: لاستمرار ما آتاني اللّه من الحجّة البالغة والبراهين الدامغة، فلهذا يكون يوم القيامة أكثرَ الأنبياء تبعًا.

(1)

في المسند (2/ 341).

(2)

البخاري في صحيحه رقم (4891) في فضائل القرآن، ومسلم في صحيحه رقم (152) في الإيمان.

ص: 108

‌فصل من الدلائل المعنوية

ومن الدلائل المعنوية أخلاقُه عليه الصلاة والسلام الطاهرة، وخلقُه الكامل، وشجاعته وحِلمه، وكرمه وزهده، وقناعته وإيثاره، وجميل صحبته، وصدقه وأمانته، وتقواه وعبادته، وكرم أصله. وطيب مولده ومنشئه ومربَاه؛ كما قدمناه مبسوطًا في مواضعه، وما أحسن ما ذكَره شيخُنا العلاّمة أبو العباس بن تيمية رحمه الله في كتابه الذي ردَّ فيه على فِرق النصارى واليهود وما أشبههم من أهل الكتاب وغيرهم، فإنه ذكر في آخره دلائل النبوة، وسلكَ فيها مسالك حسنة صحيحة منتِجة، بكلام بليغ يخضَعُ له كلُّ من تأمله وفهمه.

قال في آخر هذا الكتاب المذكور:

فصل: وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأخلاقه وأقوالُه وأفعاله من أياته، أي: من دلائل نبوته.

قال: وشريعته من آياته، وأمته من آياته، ودينهم من آياته، وكراماتُ صالحي أمته من آياته، وذلك يَظهر بتدبر سيرته من حين وُلد إلى أن بُعث، ومن حين بُعث إلى أن مات، وتدبُّر نسبه وبلده وأصله وفصله.

فإنه كان من أشرف أهل الأرض نسبًا، من صميم سلالة إبراهيم الذي جعل اللّه في ذريته النبوة والكتاب، فلم يأت بعد إبراهيم نبيٌّ إلا من ذريته، وجعل اللّه له ابنين: إسماعيل وإسحاق، وذكر في التوراة هذا وهذا، وبشَّر في التوراة بما يكون من ولد إسماعيل، ولم يكن من ولد إسماعيل من ظَهر فيه ما بَشَّرَت به النبوات غيره، ودعا إبراهيمُ لذرية إسماعيل بأن يبعث اللّه فيهم رسولًا منهم.

ثم الرسولُ صلى الله عليه وسلم من قريش صفوة بني إبراهيم، ثم من بني هاشم صفوة قريش، ومن مكة أُمّ القرى، وبلد البيت الذي بناه إبراهيمُ ودعا الناسَ إلى حجّه، ولم يزل مَحجوجًا من عهد إبراهيم، مذكورًا في كتب الأنبياء بأحسن وصف.

وكان صلى الله عليه وسلم من أكمل الناس تربية ونَشأة، لم يزل معروفًا بالصدق والبر والعدل، ومكارم الأخلاق، وترك الفواحش والظلم، وكلِّ وصف مذموم، مَشهودًا له بذلك عند جميع من يعرفه قبل النبوة، ومن آمن به ومن كفر بعد النبوة، ولا يُعرف له شيءٌ يُعاب به لا في أقواله ولا في أفعاله ولا في أخلاقه، ولا جرت عليه كِذبة قط، ولا ظلم ولا فاحشة.

وقد كان صلى الله عليه وسلم خَلقه وصورته من أحسن الصُّور وأتمها وأجمعها للمحاسن الدالة على كماله، وكان أمّيًا من قوم أمّيين، لا يعرف هو ولا هم ما يعرفه أهل الكتاب من التوراة والإنجيل، ولم يقرأ شيئًا من علوم الناس، ولا جالسَ أهلها، ولم يدَّع نبوة إلى أن أكمل اللّه له أربعين سنة، فأتى بأمر هو أعجبُ الأمور

ص: 109

وأعظمُها، وبكلام لم يَسمع الأولون والآخرون بنظيره، وأخبرَ بأمر لم يكن في بلده وقومه من يعرف مثلَه.

ثم اتَّبَعه أتباعُ الأنبياء، وهم ضعفاء الناس، وكذَّبَه أهلُ الرياسة وعادوه، وسعَوا في هلاكه وهلاك من اتبعه بكل طريق، كما كان الكفار يفعلون بالأنبياء وأتباعهم.

والذين اتَّبعُوه لم يتبعوه لرغبة ولا لرهبة، فإنه لم يكن عنده مال يُعطيهم ولا جِهاتٌ يولّيهم إياها، ولا كان له سيف، بل كان السيفُ والجاهُ والمالُ مع أعدائه، وقد آذَوا أتباعَه بأنواع الأذى وهم صابرون محتسبون، لا يرتدون عن دينهم، لما خالط قلوبهم من حلاوة الإيمان والمعرفة.

وكانت مكة يحجُّها العربُ من عهد إبراهيم، فيجتمع في الموسم قبائل العرب، فيخرج إليهم يبلّغهم الرسالةَ، ويدعوهم إلى الله صابرًا على ما يلقاه من تكذيب المكذب، وجفاء الجافي، وإعراض المعرض، إلى أن اجتمع بأهل يثربَ وكانوا جيران اليهود، وقد سمعوا أخباره منهم وعرفوه، فلما دعاهم علموا أنه النبيُّ المنتظر الذي يُخبرهم به اليهود، وكانوا سمعوا من أخباره أيضًا ما عَرفوا به مكانته، فإن أمره كان قد انتشر وظهر في بضع عشرة سنة، فآمنوا به وبايعوه على هجرته وهجرة أصحابه إلى بلدهم، وعلى الجهاد معه، فهاجر هو ومن اتَّبعَه إلى المدينة، وبها المهاجرون والأنصار ليس فيهم من آمن برغبة دنيوية، ولا برهبة إلا قليلًا من الأنصار أسلموا في الظاهر ثم حَسُن إسلام بعضهم، ثم أذن له في الجهاد، ثم أُمر به.

ولم يزل قائمًا بأمر الله على أكمل طريقة وأتمَّها، من الصدق والعدل والوفاء، لا يُحفظ له كِذبة واحدة، ولا ظلمٌ لأحد، ولا غدر بأحد، بل كان أصدقَ الناس وأعدلَهم، وأوفاهم بالعهد مع اختلاف الأحوال، من حرب وسلم، وأمن وخوف، وغِنًى وفقر، وقدرة وعجز، وتمكّن وضعف، وقلّة وكثرة، وظهور على العدو تارة، وظهور العدو تارة.

وهو على ذلك كلِّه لازمٌ لأكمل الطرق وأتمها، حتى ظهرت الدعوةُ في جميع أرض العرب التي كانت مملوءةً من عبادة الأوثان، ومن أخبار الكُهّان، وطاعة المخلوق في الكفر بالخالق، وسفك الدماء المحرّمة، وقطيعة الأرحام، لا يَعرفون آخرة ولا مَعادًا، فصاروا أعلمَ أهل الأرض وأدينَهم وأعدلَهم وأفضلَهم، حتى أن النصارى لما رأوهم حين قدموا الشام قالوا: ما كان الذين صَحِبوا المسيحَ أفضلَ من هؤلاء.

وهذه آثارُ علمهم وعملهم في الأرض وآثار غيرهم؛ تعرفُ العقلاء فرقَ ما بين الأمرين.

وهو صلى الله عليه وسلم مع ظهور أمره، وطاعة الخلق له، وتقديمهم له على الأنفس والأموال، مات ولم يُخلِّف درهمًا ولا دينارًا، ولا شاة ولا بعيرًا، إلا بغلتَه وسلاحَه، ودرعُه مرهونةٌ عند يهودي على ثلاثين

ص: 110

وَسقًّا

(1)

من شعير ابتاعها لأهله، وكان بيده عَقَارٌ يُنفق منه على أهله، والباقي يصرفُه في مصالح المسلمين، فحكم بأنه لا يُورَث ولا يأخذ ورثته شيئًا من ذلك.

وهو في كل وقت يظهر من عجائب الآيات وفنون الكرامات ما يطول وَصفه، ويُخبرهم بما كان وما يكون، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويُحِل لهم الطيبات ويُحَرِّمُ عليهم الخبائثَ، ويَشرع الشريعةَ شيئًا بعد شيء، حتى أكمل اللّه دينَه الذي بعثه به، وجاءت شريعتُه أكملَ شريعة، لم يبق معروفٌ تعرف العقولُ أنه معروف إلا أمرَ به، ولا منكرٌ تعرفُ العقولُ أنه منكر إلا نهى عنه، لم يأمر بشيء فقيل: ليته لم يأمر به، ولا نهى عن شيء فقيل: ليته لم ينه عنه، وأحلَّ لهم الطيبات لم يحرم منها شيئًا كما حُرِّمَ في شريعة غيره، وحرَّم الخبائثَ لم يُحِلّ منها شيئًا كما استحلَّ غيره.

وجمعَ محاسنَ ما عليه الأمم، فلا يُذكر في التوراة والإنجيل والزبور نوعٌ من الخبر عن اللّه وعن الملائكة وعن اليوم الآخر إلا وقد جاء به على أكمل وجه، وأخبرَ بأشياء ليست في الكتب، وليس في الكتب إيجابٌ لعدل، وقضاء بفضل، وندب إلى الفضائل، وترغيب في الحسنات؛ إلا وقد جاء به وبما هو أحسن منه.

وإذا نظرَ اللبيبُ في العباداتِ التي شرعَها وعباداتِ غيره من الأمم ظهرَ له فضلُها ورُجحانُها، وكذلك في الحدود والأحكام وسائر الشرائع.

وأمّته أكملُ الأمم في كل فضيلة، وإذا قيس علمُهم بعلم سائر الأمم ظهرَ فضلُ علمهم، وإن قيس دينهم وعبادتهم وطاعتُهم للّه بغيرهم ظهرَ أنهم أدْيَنُ من غيرهم، وإذا قيس شجاعتُهم وجهادُهم في سبيل اللّه وصبرهم على المكاره في ذات اللّه، ظهر أنهم أعظمُ جهادًا وأشجعُ قلوبًا، وإذا قيس سخاؤُهم وبرّهم وسماحةُ أنفسهم بغيرهم: ظهر أنهم أسخى وأكرم من غيرهم.

وهذه الفضائلُ به نالوها، ومنه تعلَّموها، وهو الذي أمرهم بها، لم يكونوا قبلًا متبعين لكتاب جاء هو بتكميله، كما جاء المسيح بتكميل شريعة التوراة، فكانت فضائلُ أتباع المسيح وعلومُهم بعضُها من التوراة، وبعضُها من الزبور، وبعضُها من النبوات، وبعضُها من المسيح، وبعضُها ممن بعدَه؛ كالحواريين وممن بعدَ الحواريين

(2)

، وقد استعانوا بكلام الفلاسفة وغيرهم حتى أدخلوا -لما غيروا دينَ المسيح- في دين المسيح أمورًا من أمور الكفّار المناقضة لدين المسيح.

وأما أمّةُ محمد صلى الله عليه وسلم فلم يكونوا قبله يقرؤون كتابًا، بل عامّتُهم ما آمنوا بموسى وعيسى وداود والتوراة والإنجيل والزبور إلا من جهته، وهو الذي أمرهم أن يؤمنوا بجميع الأنبياء، ويُقِرُّوا بجميع الكتب المنزلة

(1)

الوسق: ستون صاعًا، أو حمل بعير.

(2)

كذا في (أ) وكانت العبارة في المطبوع: وبعضها ممن بعده من الحواريين ومن بعض الحواريين.

ص: 111

من عند اللّه، ونهاهم عن أن يُفَرَّقوا بين أحدٍ من الرسل، فقال تعالى في الكتاب الذي جاء به:{قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 136، 137]، وقال تعالى:{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} الآية [البقرة: 285، 286] وأمته عليه الصلاة والسلام لا يستحلون أن يأخذوا

(1)

شيئًا من الدين غير ما جاءَ به، ولا يَبتدعون بدعة ما أنزل الله بها من سلطان، ولا يَشرعون من الدين ما لم يأذن به الله، لكن ما قصَّه عليهم من أخبار الأنبياء وأممهم، اعتبروا به، وما حدَّثهم أهلُ الكتاب موافقًا لما عندهم صدّقوه، وما لم يعلم صدقه ولا كذبه أمسكوا عنه، وما عرفوا بأنه باطل كذَّبوه، ومن أدخل في الدين ما ليس منه من أقوال متفلسفة الهند والفرس واليونان أو غيرهم، كان عندهم من أهل الإلحاد والابتداع.

وهذا هو الدِّين الذي كان عليه أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم والتابعون، وهو الذي عليه أئمةُ الدين الذين لهم في الأمة لسان صدق، وعليه جماعة المسلمين وعامَّتُهم، ومن خرجَ عن ذلك كان مذمومًا مدحورًا عند الجماعة، وهو مذهب أهل السنة والجماعة، الظاهرين إلى قيام الساعة، الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا تزال طائفة من أمتي، ظاهرين على الحق، لا يضرِّهم من خالفهم ولا من خذلهم، حتى تقوم الساعة"

(2)

.

وقد يَتنازعُ بعضُ المسلمين مع اتفاقهم على هذا الأصل الذي هو دين الرسل عمومًا، ودين محمد صلى الله عليه وسلم خصوصًا، ومن خالف في هذا الأصل كان عندهم مُلحدًا مَذمومًا، ليسوا كالنصارى الذين ابتدعوا دينًا ما قام به أكابر علمائهم وعبَّادهم، وقاتل عليه ملوكُهم، ودانَ به جُمهورهم، وهو دينٌ مُبتدع ليس هو دين المسيح ولا دين غيره من الأنبياء، والله سبحانه أرسلَ رسلَه بالعلم النافع، والعمل الصالح، فمن اتَّبعَ الرسلَ حصل له سعادة الدنيا والآخرة، وإنما دخل في البدع من قصَّرَ في اتِّباع الأنبياء علمًا وعملًا. ولما بعثَ اللّه محمدًا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق، تلقى ذلك عنه المسلمون أمّتُه، فكلُّ علم نافع وعمل صالح عليه أمة محمد، أخذوه عن نبيهم؛ كما ظهر لكل عاقل أن أمَّته أكملُ الأمم في جميع الفضائل، العلمية والعملية، ومعلومٌ أن كل كمال في الفرع المتعلِّم هو في الأصل المعلِّم، وهذا يقتضي أنه عليه الصلاة والسلام كان أكمل الناس عِلمًا ودينًا.

(1)

في المطبوع: يوجدوا.

(2)

قطعة من حديث طويل رواه مسلم في صحيحه رقم (1920) في الجهاد، والترمذي في الفتن (2229)، وابن ماجه في السنة (10)، وفي الفتن (3952)، وابن حبان (6714) من حديث ثوبان رضي الله عنه.

ص: 112

وهذه الأمور تُوجب العلمَ الضروري بأنه كان صادقًا في قوله: {إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158] لم يكن كاذبًا مفتريًا، فإن هذا القول لا يَقولُه إلا من هو من خيار الناس وأكملهم؛ إن كان صادقًا، أو من هو من أشر الناس وأخبثهم إن كان كاذبًا، وما ذُكِرَ من كمال علمه ودينه يُناقض الشرَّ والخبثَ والجهل، فتعيَّنَ أنه مُتّصفٌ بغاية الكمال في العلم والدين، وهذا يَستلزم أنه كان صادقًا في قوله:{إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158].

لأن الذي لم يكن صادقًا إما أن يكونَ متعمّدًا للكذب أو مُخطِئًا، والأوّل يُوجب أنه كان ظالمًا غاويًا، والثاني يقتضي أنه كان جاهلًا ضَالًا، ومحمد صلى الله عليه وسلم كان علمُه يُنافي جهلَه، وكمالُ دينه يُنافي تعمّدَ الكذب، فالعلمُ بصفاته يستلزمُ العلمَ بأنه لم يكن يتعمّدُ الكذبَ ولم يكن جاهلًا يكذبُ بلا علم، وإذا انتفى هذا وذاك تعيَّنَ أنه كان صادقًا عالمًا بأنه صادق، ولهذا نزَّهه الله عن هذين الأمرين بقوله تعالى:{وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 1 - 4]. وقال تعالى عن الملك الذي جاء به: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير: 19 - 21] ثم قال عنه: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} [التكوير: 22 - 27] وقال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 193 - 195] إلى قوله: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} [الشعراء: 221 - 223]، بَيَّن سبحانه أن الشيطان إنما يَنزلُ على مَن يُناسبه ليُحَصِّلَ به غرضَه، فإن الشيطانَ يقصِد الشرَّ، وهو الكذب والفجور، ولا يقصد الصدق والعدل، فلا يقترن إلا بمن فيه كذبٌ إما عمدًا وإما خطأً، وفجورًا أيضًا، فإن الخطأ في الدين هو من الشيطان أيضًا، كما قال ابن مسعود لما سُئل عن مسألة: أقول فيها برأي؛ فإن يكن صوابًا فمن اللّه، وإن يكن خطأ فمنى ومن الشيطان، واللّه ورسولُه بريئان منه.

فإن رسول اللّه بريءٌ من تنزل الشياطين عليه في العمد والخطأ، بخلاف غير الرسول؛ فإنه قد يُخطئُ ويكون خطؤه من الشيطان، وإن كان خطؤه مغفورًا له، فإذا لم يُعرف له خبرٌ أخبرَ به كان فيه مخطئًا، ولا أمرٌ به كان فيه فاجرًا، عُلم أن الشيطان لم ينزل عليه، وإنما ينزل عليه مَلَك كريم، ولهذا قال في الآية الأخرى عن النبي:{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الحاقة: 40 - 43].

انتهى ما ذكره

(1)

، وهذا عين ما أورده بحروفه.

(1)

تفسير القرآن العظيم لابن كثير (3/ 752).

ص: 113

‌باب (وأمَّا)

(1)

دلائلُ النبوة الحسيّة (-أعني المشاهدةَ بالأبصار- فسماويّةٌ وأرضيّة)

(2)

ومن أعظم ذلك كله انشقاق القمر المنير فرقتين، قال اللّه تعالى:{اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} [القمر:1 - 5]. وقد اتفق العلماءُ مع بقية الأئمة على أن انشقاق القمر كان في عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وقد وردت الأحاديث بذلك من طريق تفيد القطعَ عند الأمة.

رواية أنس بن مالك: قال الإمام أحمد

(3)

: حَدَّثنا عبد الرزاق، حَدَّثنا معمر، عن قتادة، عن أنس قال: سألَ أهلُ مكةَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم آيةً فانشقَّ القمرُ بمكة مرتين، فقال:{اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1].

ورواه مسلم

(4)

، عن محمد بن رافع، عن عبد الرزاق.

وقال البخاري

(5)

: حدَّثني عبد اللّه بن عبد الوهاب، حدَّثنا بِشرُ بن المفضل، حدَّثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس بن مالك، أن أهلَ مكة سألوا رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم أن يريَهم آية فأراهم القمرَ شِقّين، حتى رأوا حِرَاء بينهما.

وأخرجاه في الصحيحين

(6)

من حديث شيبان، عن قتادة.

ومسلم

(7)

من حديث شعبة، عن قتادة.

رواية جُبير بن مُطعم: قال أحمد

(8)

: حدّثنا محمد بن كثير، حدَّثنا سُليمان بن كثير، عن حُصين بن

(1)

ما بين قوسين ساقط من الأصل، وأثبته من (أ).

(2)

ما بين قوسين ساقط من الأصل، وأثبته من (أ).

(3)

في المسند (3/ 165) رقم (12688) ومسلم رقم (2802 و 46).

(4)

صحيح مسلم (2802)(46).

(5)

رواه البخاري في صحيحه رقم (3868) في مناقب الأنصار.

(6)

رواه البخاري في صحيحه رقم (4867) في التفسير، ومسلم في صحيحه رقم (2802)(46) في صفات المنافقين وأحكامهم.

(7)

رواه مسلم في صحيحه رقم (2802)(47) في صفات المنافقين.

(8)

رواه الإمام أحمد في المسند (4/ 82).

ص: 114

عبد الرحمن، عن محمد بن جُبير بن مُطعم، عن أبيه قال: انشقَّ القمرُ على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فصارَ فِرقتين: فرقةُ على هذا الجبل وفرقةٌ على هذا الجبل، فقالوا: سحَرَنا محمدٌ، فقالوا: إن كان سحَرَنا فإنه لا يستطيعُ أن يسحرَ الناسَ (كلَّهم). تفرد به أحمد

(1)

.

ورواية ابن جرير والبيهقي

(2)

، من طرقٍ، عن حُصين بن عبد الرحمن به.

رواية حذيفة بن اليمان: قال أبو جعفر بن جرير

(3)

: حدَّثني يعقوب، حدَّثني ابن عُلَية، أخبرنا عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن السُّلمي قال: نزلنا المدائنَ فكنا منها على فرسخ، فجاءت الجمعةُ فحضر أبي وحضرتُ معه، فخطبنا حُذيفةُ فقال: إن اللّه تعالى يقول: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر: 1] ألا وإن الساعة قد اقتربت، ألا وإن القمر قد انشقَّ، ألا وإن الدنيا قد آذنت بفِراق، ألا وإن اليومَ المِضمارَ وغدًا السباق. فقلت لأبي: أتستبقُ الناس غدًا؟ فقال: يا بني إنك لجاهل، إنما هو السِّباق بالأعمال. ثم جاءت الجمعةُ الأخرى فحضرَه فخطبَ حذيفةُ، فقال: ألا إن اللّه يقول: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر: 1](ألا وإنَّ الساعةَ قد اقتربت، ألا وإنَّ القمر قد انشقَّ) ألا وإن الدنيا قد آذنت بفِرَاق. (ألا وإن اليوم المضمارَ وغدًا السباق، ألا وإنَّ الغاية النار، والسابقُ مَن سَبَقَ إلى الجنة).

ورواه أيو زُرعة الرازي في كتاب "دلائل النبوة" من غير وجه، عن عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن، عن حذيفة، فذكر نحوَه، وقال: ألا وإن القمر قد انشقَّ على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ألا وإن اليومَ المضمارَ وغدًا السباق، ألا وإن الغايةَ النار، والسابقُ من سَبَقَ إلى الجنة.

رواية عبد اللّه بن عباس: قال البخاري

(4)

: حَدَّثنا يحيى بن بُكير، حَدَّثنا بكر، عن جعفر، عن

عراك بن مالك، عن عُبيد الله بن عبد اللّه بن عُتبَة، عن ابن عباس، قال: انشقَّ القمرُ في زمان النبي صلى الله عليه وسلم.

ورواه البخاري أيضًا ومسلم

(5)

، من حديث بكر بن مضر، عن جعفر بن ربيعة به.

(1)

إسناده ضعيف لانقطاعه، فإن حصين بن عبد الرحمن السلمي لم يسمع هذا الحديث من محمد بن جبير بن مطعم، بينهما جبير بن محمد بن جبير وهو مجهول، كما بينه الإمام الترمذي في جامعه (3289)، والرواية المتصلة أخرجها الطبراني في الكبير (1560)، والحاكم (2/ 472) والبيهقي في الدلائل (2/ 268) وهذه الرواية هي الأشبه كما قال الإمام الدارقطني في كتابه العلل (4/ الورقة 104). على أن أصل الحديث في الصحيحين من حديث ابن مسعود، كما سيأتي.

(2)

رواه ابن جرير الطبري في تفسيره (27/ 51) والبيهقي في دلائل النبوة (2/ 268).

(3)

تفسير الطبري (27/ 51) وما بين الأقواس سقط من الأصل، وأثبته من التفسير.

(4)

رواه البخاري في صحيحه رقم (4866) في التفسير.

(5)

رواه البخاري في صحيحه رقم (3870) في مناقب الأنصار، ومسلم في صحيحه رقم (2803) في صفات المنافقين.

ص: 115

طريق أخرى عنه: قال ابن جرير

(1)

: حَدَّثنا ابن المثنى، حَدَّثنا عبد الأعلى، حدَّثنا داود بن أبي هند، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله:{اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [القمر:1 - 2] قال: قد مضى ذلك، كان قبل الهجرة انشقَّ القمرُ حتى رَأَوا شِقّيه.

وروى العوفى

(2)

، عن ابن عباس نحوًا من هذا.

وقد روي من وجه آخر، عن ابن عباس، فقال أبو القاسم الطبراني

(3)

: حدَّثنا أحمد بن عمرو البزار، حدَّثنا محمد بن يحيى القطيعي، حدَّثنا محمد بن بكير، حدَّثنا ابن جُريج، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: كُسِفَ القمرُ على عهد رسولِ اللّه صلى الله عليه وسلم فقالوا: سَحَرَ القمرَ، فنزلت:{اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [القمر: 1 - 2].

وهذا سياق غريب، وقد يكون حصل للقمر مع انشقاقه كسوف، فيدل على أن انشقاقه إنما كان في ليالي إبداره، واللّه أعلم.

رواية عبد اللّه بن عمر بن الخطاب: قال الحافظ أبو بكر البيهقي

(4)

: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو بكر أحمد بن الحسن القاضي، قالا: حدَّثنا أبو العباس الأصمّ، حدَّثنا العباس بن محمد الدُّوريّ: حدَّثنا وهبُ بن جرير، عن شعبة، عن الأعمش، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمر بن الخطاب، في قوله عز وجل:{اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر: 1] قال: وقد كان ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، انشقَّ فِلقتين؛ فِلقة من دون الجبل، وفِلقة من خلف الجبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اللهم اشهد".

وهكذا رواه مسلم والترمذي

(5)

، من طرق عن شعبة، عن الأعمش، عن مجاهد. قال مسلم كرواية مجاهد، عن أبي معمر، عن ابن مسعود. وقال الترمذي: حسن صحيح.

رواية عبد اللّه بن مسعود: قال الإمام أحمد

(6)

: حدَّثنا سفيان، عن أبي نجيح، عن مجاهد، عن أبي معمر، عن ابن مسعود قال: انشقَّ القمرُ على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم شقتين، حتى نظروا إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اشهدوا".

(1)

تفسير الطبري (27/ 51) وفي الإسناد علي بن أبي طلحة قال الحافظ: أرسل عن ابن عباس ولم يره.

(2)

المعجم الكبير للطبراني (12/ 128) رقم (12671)، والعوفي هو عطية، ضعيف.

(3)

المعجم الكبير للطبراني (11/ 250).

(4)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (2/ 267).

(5)

رواه مسلم في صحيحه رقم (2801) في صفات المنافقين، والترمذي في الجامع (2182) في الفتن، و (3288) في التفسير.

(6)

رواه الإمام أحمد في المسند (1/ 377).

ص: 116

ورواه البخاري ومسلم

(1)

، من حديث سفيان بن عيينة.

وأخرجاه

(2)

من حديث الأعمش، عن إبراهيم، عن أبي معمر عبد اللّه بن سخبرة، عن ابن مسعود به.

قال البخاري

(3)

: وقال أبو الضحى، عن مسروق عن عبد اللّه:"انشقَّ بمكة".

وهذا الذي علَّقه البخاري، قد أسنده أبو داود الطيالسي في"مسنده"

(4)

، فقال: حدَّثنا أبو عوانة، عن المغيرة، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عبد اللّه بن مسعود قال: انشقَّ القمرُ على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فقالت قريش: هذا سحر ابن أبي كبشة، قال: فقالوا: انظروا ما يأتينا به السُّفار، فإن محمدًا لا يستطيعُ أن يسحرَ الناس كلَّهم. قال: فجاء السُّفار فقالوا ذلك.

وروى البيهقي

(5)

، عن الحاكم، عن الأصم، عن عباس الدوري

(6)

، عن سعيد بن سُليمان، عن هُشَيْم

(7)

، عن مغيرة، عن أبي الضُّحى، عن مسروقٍ، عن عبد اللّه، قال: انشقَّ القمرُ بمكةَ حتى صار فِرقتين، فقالت كفارُ قريش أهل مكة: ذا سحرٌ سحرَكم به ابن أبي كبشة، انظروا المسافرينَ فإن كانوا رأَوا ما رأيتم فقد صدقَ، وإن كانوا لم يَروا ما رأيتُم فهو سحرٌ سحرَكم به، قال: فسُئل السُّفار- وقدموا من كل وجه- فقالوا: رأيناه.

ورواه ابن جرير

(8)

من حديث المغيرة، وزاد: فأنزل اللّه: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر: 1].

وقال الإمام أحمد

(9)

: حدَّثنا مُؤَمِّل، عن إسرائيل، عن سِمَاك، عن إبراهيم، عن الأسود، عن

(1)

رواه البخاري في صحيحه رقم (3626) في المناقب، ومسلم في صحيحه رقم (2800) في صفات المنافقين.

(2)

رواه البخاري في صحيحه رقم (3871) في مناقب الأنصار، ومسلم في صحيحه رقم (2800)(44) في صفات المنافقين.

(3)

رواه البخاري في صحيحه عقيب حديث (3869).

(4)

مسند أبي داود الطيالسي (ص 38) رقم (295) وذكره البيهقي في الشعب (2/ 266) وهو حديث صحيح.

(5)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (2/ 266 - 267). وقال البيهقي عقبه: استشهد به البخاري في أن ذلك كان بمكة.

(6)

في المطبوع: "ابن عباس الدوري" وهو خطأ بيِّن، فإنه عباس بن محمد الدوري.

(7)

في المطبوع: "هشام" ولا يصح، وما أثبتناه يعضده ما في دلائل النبوة للبيهقي (2/ 266) وهو هشيم بن بشير بن القاسم السلمي الواسطي، وروايته عن مغيرة بن مقسم الضبي في الصحيحين، كما في تهذيب الكمال للمزي (30/ 274).

(8)

تفسير الطبري (27/ 50 - 51).

(9)

رواه الإمام أحمد في المسند (1/ 413) وإسناده حسن من أجل سماك بن حرب فإنه صدوق حسن الحديث في روايته عن غير عكرمة، ومتن الحديث صحيح من غير طريقه.

ص: 117

عبد اللّه، قال: انشقَّ القمرُ على عهد رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، حتى رأيتُ الجبلَ بين فُرجَتَي القمر.

وروى ابن جرير

(1)

، عن يعقوب الدَّورقي

(2)

عن ابن عُلَيّة، عن أيوب، عن محمد بن سيرين، قال: نُبِّئتُ أن ابنَ مسعودٍ كان يقول: لقد انشقَّ القمر.

ففي صحيح البخاري، عن ابن مسعود، أنه كان يقول: خمسٌ قد مَضَينَ: الرُّوم، واللِّزام، والبَطشَةُ، والدُّخانُ، والقمر، في حديث طويل عنه، مذكورٌ في تفسير سورة الدخان

(3)

.

وقال أبو زرعة في "الدلائلا"

(4)

: حَدَّثنا عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقي، حَدَّثنا الوليد، عن الأوزاعي، عن ابن بُكير قال: انشقَّ القمر بمكةَ والنبيُّ صلى الله عليه وسلم قبلَ الهجرة فخرَّ شقتين، فقال المشركون: سَحَرَه ابنُ أبي كبشة. وهذا مرسل من هذا الوجه.

هذه طرقٌ عن هؤلاء الجماعة من الصحابة، وشهرةُ هذا الأمر تُغني عن إسناده، مع وُروده في الكتاب العزيز.

وما يذكُره بعضُ القصّاص: من أن القمر دخل في جيب النبي صلى الله عليه وسلم وخرج من كُمّه

(5)

، ونحو هذا الكلام فليس له أصلٌ يُعتمد عليه، والقمر في حال انشقاقه لم يزايل السماء، بل انفرق باثنتين، وسارت إحداهُما حتى صارت وراءَ جبل حِرَاءَ، والأخرى من الناحية الأخرى، وصار الجبلُ بينهما، وكلتا الفِرقتين في السماء، وأهلُ مكة يَنظرون إلى ذلك، وظنَّ كثيرٌ من جهلتهم أن هذا شيء سُحرت به أبصارُهم. فسألوا من قَدِمَ عليهم من المسافرين فأخبرُوهم بنظير ما شاهدوه، فعلموا صِحَّةَ ذلك وتيقنوه.

فإن قيل: فلم لم يُعرف هذا في جميع أقطار الأرض؟ فالجوابُ: ومن يَنفي ذلك، ولكن تطاول العهد والكفرةُ يجحدون بآيات اللّه، ولعلَّهم لما أخبروا أن هذا كان آية لهذا النبي المبعوث، تداعت آراؤُهم الفاسدة على كتمانه وتناسيه، على أنه قد ذَكرَ غيرُ واحد من المسافرين أنهم شاهدوا هيكلًا بالهند مكتوبًا عليه أنه بني في الليلة التي انشقَّ القمرُ فيها.

ثم لما كان انشقاقُ القمر ليلًا قد يُخفى أمرُه على كثير من الناس لأمورٍ مانعةٍ من مشاهدته في تلك الساعة، من غيومٍ متراكمةٍ كانت تلك الليلة في بلدانهم، ولنومِ كثيرٍ منهم، أو لعلّه كان في أثناء الليل حيثُ ينامُ كثيرٌ من الناس، وغير ذلك من الأمور، واللّه أعلم.

(1)

تفسير الطبري (27/ 51) وفيه: قد انشقَّ القمر. وهو موقوف صحيح.

(2)

في المطبوع: "الدوري" محرف، وما أثبتناه يعضده ما في تفسير الطبري، ويعقوب الدورقي شيخ الطبري.

(3)

رواه البخاري في صحيحه رقم (4825) في التفسير.

(4)

دلائل النبوة لأبي زرعة (1/ 369).

(5)

انظر المصنوع (ص 261) وكشف الخفاء (2/ 555) وأسنى المطالب (330).

ص: 118

وقد حرَّرنا هذا فيما تقدم في كتابنا "التفسير"

(1)

.

فأما حديث رد الشمس بعد مغيبها: فقد أنبأني شيخُنا المسند الرَّحَّالة بهاء الدين القاسم بن المظفر بن تاج الأمناء بن عساكر

(2)

إذنًا، قال: أخبرنا الحافظ أبو عبد اللّه محمد بن أحمد بن عساكر المشهور بالنسَّابة، قال: أخبرنا أبو المظفر بن القُشَيري وأبو القاسم المستملي، قا لا: حدَّثنا أبو عثمان المحبر، أخبرنا أبو محمد عبد اللّه بن محمد بن الحسن الدَّنْدَقاني

(3)

بها، أخبرنا محمد بن أحمد بن محبوب. وفي حديث ابن القشيري: حدَّثنا أبو العباس المَحبوبي، حدَّثنا سعيد بن مسعود "ح" قال الحافظ أبو القاسم بن عساكر، وأخبرنا أبو الفتح الماهاني، أخبرنا شجاع بن علي، أخبرنا أبو عبد اللّه بن منده، أخبرنا عثمان بن أحمد الننسي، أخبرنا أبو أميّة محمد بن إبراهيم، قال: حدَّثنا عبيدُ اللّه بن موسى، حدَّثنا فضيل بن مرزوق، عن إبراهيم بن الحسن، زاد أبو أميّة بن الحسن، عن فاطمة بنت الحسين، عن أسماء بنت عُمَيس، قالت: كان رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم يُوحى إليه ورأسه في حِجر عليّ، فلم يُصَلِّ العصرَ حتى غربت الشَّمسُ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم:"صَلَّيتَ العصرَ؟ " وقال أبو أمية: "صَلّيتَ يا علي؟ " قال: لا، قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وقال أبو أمية: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم إنه كان في طاعتِك وطاعةِ نبيّك" وقال أبو أمية: "رسولك، فاردد عليه الشمسَ" قالت أسماء: فرأيتُها غَرُبَت ثم رأيتُها طَلَعت بعدما غَرُبَت".

وقد رواه الشيخ أبو الفرج بن الجوزي في "الموضوعات"

(4)

من طريق أبي عبد اللّه بن منده كما تقدم، ومن طريق أبي جعفر العقيلي: حدَّثنا أحمد بن داود، حدَّثنا عمّار بن مطر، حَدَّثنا فضيل بن مرزوق، فذكره.

ثم قال: وهذا حديث موضوع، وقد اضطربَ الرواةُ فيه، فرواه سعيدُ بن مَسعود، عن عُبيد اللّه بن موسى، عن فُضَيل بن مرزوق، عن عبد الرحمن بن عبد اللّه بن دينار، عن عليّ بن الحسن، عن فاطمة بنت عليّ، عن أسماء. وهذا تخليط في الرواية.

قال: وأحمد بن داود ليس بشيء، قال الدارقطني

(5)

: متروك كذاب، وقال ابن حِبّان

(6)

: كان

(1)

تفسير القرآن العظيم لابن كثير (4/ 260).

(2)

ابن عساكر: القاسم بن أبي غالب المظفر محمود، من بني هبة اللّه بن عساكر الدمشقي، طبيب، عالم بالحديث، سمع منه ابن كثير، ومولده ووفاته بدمشق، توفي سنة 723 هـ. الدرر الكامنة (3/ 239) والأعلام (5/ 186).

(3)

نسبة إلى الدنداقان، وهي بليدة عند مرو، خرج منها جماعة من المحدثين، اللباب (1/ 426).

(4)

الموضوعات؛ لابن الجوزي (1/ 355 - 356).

(5)

الضعفاء والمتروكون (52).

(6)

المجروحين (1/ 146).

ص: 119

يضعُ الحديث. وعمَّار بن مَطر، قال فيه العقيلي

(1)

: كان يُحدِّث عن الثقات بالمناكير. وقال ابن عدي

(2)

: متروك الحديث. قال: وفُضيل بن مَرزوق قد ضعَّفه يحيى

(3)

. قال ابن حِبّان

(4)

: يَروي الموضوعات ويُخطئ عن الثقات.

وبه، قال الحافظ ابن عساكر: وأخبرنا أبو محمد، عن طاووس، أخبرنا عاصم بن الحسن، أخبرنا أبو عمرو بن مَهدي، أخبرنا أبو العباس بن عُقْدة، حدَّثنا أحمد بن يحيى الصوفي، حَدَّثنا عبد الرحمن بن شَريك، حدَّثني أبي، عن عروة بن عبد اللّه بن قشير، قال: دخلتُ على فاطمةَ بنت علىّ فرأيتُ في عنقها خرزة، ورأيت في يديها مَسكتين غليظتين -وهي عجوز كبيرة- فقلتُ لها: ما هذا؟ فقالت: إنه يُكره للمرأة أن تتشبَّه بالرجال.

ثم حدَّثتني: أن أسماءَ بنت عُمَيس حدَّثتها: أن عليَّ بن أبي طالب دفعَ إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد أُوحي إليه، فجلَّلَه بثوبه، فلم يزل كذلك حتى أدبرتِ الشمسُ -يقول: غابت أو كادت أن تغيب- ثم إن نبى اللّه صلى الله عليه وسلم سُرِّي عنه، فقال: أصلَّيتَ يا عليّ؟ قال: لا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"اللهم ردّ على عليّ الشمس" فرجعتْ حتى بلغت نصفَ المسجد. قال عبد الرحمن: وقال أبي: حدَّثني موسى الجهني نحوَه.

ثم قال الحافظ ابن عساكر: هذا حديث منكر، وفيه غير واحد من المجاهيل.

وقال الشيخ أبو الفرج بن الجوزي في "الموضوعات"

(5)

: وقد روى ابنُ شاهين هذا الحديث عن ابن عقدة، فذكره. ثم قال: وهذا باطل، والمتهم به ابن عقدة، فإنه كان رافضيًا، يُحدِّثُ بمثالب الصحابة. قال الخطيب

(6)

: حَدَّثنا علي بن محمد بن نصر، سمعت حمزة بن يوسف يقول

(7)

: كان ابن عقدة بجامع "براثا" يملي مثالب الصحابة- أو قال: الشيخين- فتركته. وقال الدارقطني: كان ابن عقدة رجل سوء، وقال ابن عدي

(8)

: سمعت أبا بكر بن أبي غالب يقول: ابن عقدة لا يتديّنُ بالحديث، لأنه

(1)

الضعفاء الكبير (3/ 327).

(2)

الكامل (5/ 1727).

(3)

هكذا قال، وفي قوله نظر، فالمعروف عن يحيى غير ذلك، فقد وثقه في رواية عباس الدوري (تاريخه 2/ 476)، وفي رواية ابن أبي خيثمة (الجرح والتعديل 7/ الترجمة 423)، وقال الكوسج عنه: صالح الحديث، وقال الدارمي (تاريخه 698): لا بأس به. فمثل هذا لا يقال فيه: ضعفه (بشار).

(4)

المجروحين 2/ 209.

(5)

الموضوعات؛ لابن الجوزي (1/ 356).

(6)

الكلام لابن الجوزي وهو في تاريخ الخطيب (6/ 158)(ط. الدكتور بشار).

(7)

هكذا وقع في الموضوعات لابن الجوزي ولا يصح فالكلام رواه حمزة بن يوسف السهمي عن أبي عمر بن حيويه، كما في سؤالات السهمي (166) وتاريخ الخطيب (6/ 158).

(8)

الكامل (1/ 208 - 209).

ص: 120

كان يحملُ شيوخًا بالكوفة على الكذب فيَروي لهم نُسَخًا ويأمرهم أن يروُوها. وقد تبينا

(1)

ذلك منه في غير شيخ بالكوفة.

وقال الحافظ أبو بشر الدُّولابي

(2)

في كتابه "الذرية الطاهرة": حَدَّثنا إسحاق بن يونس، حَدَّثنا سُويد بن سعيد، حدَّثنا المطلب بن زياد، عن إبراهيم بن حَيَّان، عن عبد اللّه بن حَسَن، عن فاطمة بنت الحسين، عن الحسين، قال: كان رأسُ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في حِجر علي وهو يُوحَى إليه، فذكر الحديث بنحو ما تقدم.

إبراهيمُ بن حَيَّان هذا تركه الدارقطني

(3)

، وغيره

(4)

.

وقال محمد بن ناصر البغدادي الحافظ: هذا الحديث موضوع، قال شيخنا الحافظ أبو عبد اللّه الذهبي: وصدق ابن ناصر.

وقال ابن الجوزي

(5)

: وقد رواه ابن مردويه من حديث داود بن فراهيج

(6)

، عن أبي هريرة قال: نام رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم ورأسُه في حِجر عليّ، ولم يكن صلَّى العصرَ، حتى غَرُبت الشمسُ، فلما قامَ رسولُ اللّه دعا له فرُدّت عليه الشمسُ حتى صلَّى، ثم غابت ثانية. ثم قال: وداود ضعَّفه شعبةُ.

ثم قال ابن الجوزي: ومن تغفيل واضع هذا الحديث أنه نظر إلى صورة فضله ولم يتلمَّح عدمَ الفائدة، فإن صلاة العصر بغيبوبة الشمس صارت قضاءً، فرجوع الشمس لا يُعيدها أداءً، وفي الصحيح

(7)

عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "إن الشمس لم تُحبَس على أحدٍ إلا ليُوشع".

قلت: هذا الحديث

(8)

ضعيفٌ ومُنكر من جميع طرقه، فلا تخلو واحدة منها عن شيعيّ ومجهول الحال، وشيعيّ ومتروك، ومثل هذا الحديث لا يُقبل فيه خبرُ واحد إذا اتَّصلَ سندُه، لأنه من باب

(1)

في الموضوعات لابن الجوزي: "تيقنا" وهو تحريف، وما أثبتناه من (أ) وهو الذي في كامل ابن عدي (1/ 208) وتاريخ الخطيب (6/ 157) الذي نقل منه ابن الجوزي.

(2)

أبو بشر الدُّولابي: محمد بن أحمد بن حماد الأنصاري، الرازي، الوراق إمام حافظ، توفي سنة 310 هـ. السير (14/ 309). وكتابه الذرية الطاهرة طغ في مؤسسة الأعلمي بيروت.

(3)

ذكره في الضعفاء والمتروكين (15).

(4)

وقال ابن عدي: أحاديثه موضوعة (الكامل 1/ 253).

(5)

الموضوعات؛ لابن الجوزي (1/ 357).

(6)

في المطبوع: "من طريق حديث داود بن واهيج" وكله تحريف.

(7)

حديث حبس الشمس على يوشع بن نون رواه البخاري ومسلم، أما حديث "إن الشمس لم تُحبس لبشر إلا ليوشعَ .. ". فقد رواه الإمام أحمد في المسند (2/ 325) عن أبي هريرة، بسند صحيح. وانظر فتح الباري (6/ 221).

(8)

أي: حديث رد الشمس لعليّ بن أبي طالب رضي الله عنه.

ص: 121

ما تتوفر الدواعي على نقله، فلا بد من نقله بالتواتر والاستفاضة، لا أقل من ذلك. ونحنُ لا نُنكر هذا في قدرة اللّه تعالى وبالنسبة إلى جناب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فقد ثبتَ في الصحيح

(1)

أنها رُدّت ليوشع بن نون، وذلك يوم حاصر بيتَ المقدس، واتفق ذلك في آخر يوم الجمعة، وكانوا لا يُقاتلون يومَ السبت فنظر إلى الشمس وقد تَنَصَّفَت للغروب فقال:"إنّكِ مأمورةٌ، وأنا مأمورٌ، اللهم احبسها عليّ، فحبَسها اللّه عليه حتى فتحُوها".

ورسول اللّه صلى الله عليه وسلم أعظمُ جاهًا، وأجلُّ منصبًا، وأعلى قدرًا من يُوشعَ بن نون، بل من سائر الأنبياء على الإطلاق، ولكن لا نقول إلا ما صحَّ عندنا عنه، ولا نُسند إليه ما ليس بصحيح، ولو صحَّ لكنّا من أول القائلين به، والمعتقدين له، وباللّه المستعان. (وقال الحافظ أبو بكر محمد بن حاتم بن زنجويه البخاري في كتابه "إثبات إمامة أبي بكر الصديق")

(2)

: فإن قال قائل من الروافض: إن أفضلَ فضيلةٍ لأبي الحسن، وأدلَّ دليل على إمامته ما رُوي عن أسماء بنت عُمَيس، قالت:

كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يُوحى إليه ورأسُه في حِجر عليّ بن أبي طالب، فلم يُصَلِّ العصرَ حتى غَرُبت الشمسُ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لعلي:"صَلَّيتَ؟ " قال: لا، فقال رسول اللّه:"اللهم إنه كان في طاعتِك وطاعةِ رسولك، فاردد عليه الشمس" قالت أسماء: فرأيتُها غَرُبَت، ثم رأيتُها طلعت بعدما غربت.

قيل له: كيف لنا لو صحَّ هذا الحديثُ فنَحتجُّ على مخالفينا من اليهود والنصارى، ولكنَّ الحديثَ ضعيفٌ جدًا لا أصلَ له، وهذا مما كَسبت أيدي الروافض، ولو رُدّت الشمسُ بعدما غَرُبَت لرآها المؤمنُ والكافرُ، ونقلوا إلينا أن في يوم كذا في شهر كذا في سنة كذا رُدّت الشمسُ بعدما غَرُبَت.

ثم يقال للروافض: أيجوزُ أن تُرَدَّ الشمسُ لأبي الحسن حين فاتته صلاةُ العصر، ولا تُرَدُّ لرسول اللّه ولجميع المهاجرين والأنصار وعليٌّ فيهم حين فاتتهم صلاة الظهر والعصر والمغرب يوم الخندق؟.

قال: وأيضًا مرة أخرى عَرَّسَ رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم بالمهاجرين والأنصار حين قفلَ من غزوة خيبر، فذكرَ نومَهم عن صلاة الصبح، وصلاتهم لها بعد طلوع الشمس، قال: فلم يُرَدَّ الليلُ على رسول اللّه وعلى أصحابه.

قال: ولو كان هذا فضلًا أُعطيه رسولُ اللّه، وما كان اللّه ليمنعَ رسولَه شرفًا وفضلًا- يعني أُعطيه علي بن أبي طالب-.

(1)

رواه البخاري في صحيحه رقم (3124) في فرض الخمس عن أبي هريرة رضي الله عنه، ومسلم في صحيحه رقم (1747) في الجهاد عن أبي هريرة أيضًا.

(2)

ما بين قوسين ساقط من المطبوع واستدركته من الأصل.

ص: 122

ثم قال: وقال إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني

(1)

: قلت لمحمد بن عُبيد الطنافسي

(2)

: ما تقولُ فيمن يقولُ: رجعت الشمس على عليّ بن أبي طالب حتى صلَّى العصرَ؟ فقال: مَن قال هذا فقد كذَب. وقال إبراهيم بن يعقوب: سألت يَعلى بن عُبيد الطنافسي

(3)

، قلت: إن ناسًا عندنا يقولون: إن عليًا وصيُّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ورجعت عليه الشَّمسُ، فقال: كذبٌ هذا كلُّه.

‌فصل في إيراد هذا الحديث من أماكن متفرقة

وقد جمعَ أبو القاسم عُبيد اللّه بن عبد اللّه بن أحمد الحَسَكاني جزءًا، وسمَّاه "مسألة في تَصحيح ردّ الشَّمس وترغيم النواصِب الشُّمسِ".

وقال: قد رُوي ذلك من طريق أسماءِ بنت عُميس، وعليّ بن أبي طالب، وأبي هريرة، وأبي سعيد الخدري.

ثم رواه من طريق أحمد بن صالح المصري، وأحمد بن الوليد الأنطاكي، والحسن بن داود، ثلاثتُهم عن محمد بن إسماعيل بن أبي فديك -وهو ثقة- أخبرني محمد بن موسى الفطري المدني، وهو ثقة أيضًا، عن عون بن محمد، قال: وهو ابن محمد ابن الحنفية، عن أمِّه أمّ جعفر بنت محمد بن جعفر بن أبي طالب، عن جدتها أسماء بنت عُمَيس: أن رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم صلَّى الظهرَ بالصهباء من أرضِ خَيبر، ثم أرسل عليًّا في حاجةٍ، فجاء وقد صلَّى رسولُ اللّه العصرَ، فوضعَ رأسَه في حِجر عليّ، ولم يحرّكه حتى غَرُبت الشمسُ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم:"اللهم إن عبدَك عليًّا احتبسَ نفسه على نبيّه فرُدَّ عليه شرقَها" قالت أسماء: فطلعتِ الشمسُ حتى رفعت على الجبال، فقام عليٌّ فتوضأ وصلَّى العصر، ثم غابت الشمسُ.

وهذا الإسناد فيه من يُجهل حالُه؛ فإن عَونًا هذا وأمه لا يُعرف أمرُهما بعدالة وضبط يُقبل بسببهما خبرُهما فيما هو دون هذا المقام، فكيف يثبتُ بخبرهما هذا الأمر العظيم، الذي لم يروه أحدٌ من أصحاب الصحاح ولا السنن ولا المسانيد المشهورة؟ فاللّه أعلم. ولا ندري أسمعتْ أمُّ هذا من جَدتها أسماء بنت عُميس أم لا؟.

(1)

إبراهيم بن يعقوب السعدي الجُوزجاني، أبو إسحاق الحافظ، نزيل دمشق، روى عنه أبو داود والترمذي والنسائي، توفي سنة 256 هـ، خَفَضه ابن عدي من جهة النَّصب. ترجمته في توضيح المشتبه (5/ 97).

(2)

محمد بن عبيد الطنافسي، حافظ ثقة من أهل الحديث توفي سنة 204 ترجمته في سير أعلام النبلاء (9/ 436).

(3)

يعلى بن عبيد الطنافسي أخو محمد بن عبيد، حافظ ثقة إمام، توفي سنة 209. ترجمته في سير أعلام النبلاء (9/ 476).

ص: 123

ثم أورده هذا المصنف من طريق الحسين بن الحسن الأشعر، وهو شيعي جلد، وضعَّفه غيرُ واحد عن الفُضيل بن مرزوق، عن إبراهيم بن الحسين بن الحسن، عن فاطمة بنت الحسين الشهيد، عن أسماء بنت عُمَيس، فذكر الحديث.

قال: وقد رواه عن فُضيل بن مرزوق جماعة، منهم عبيد اللّه بن موسى. ثم أورده من طريق أبي جعفر الطحاوي من طريق عبد اللّه. وقد قدَّمنا روايتنا له من حديث سعيد بن مسعود، وأبي أمية الطرسوسي، عن عُبيد اللّه بن موسى العبسي، وهو من الشيعة.

ثم أورده هذا المصنف من طريق أبي جعفر العقيلي، عن أحمد بن داود، عن عمار بن مطر، عن فُضيل بن مرزوق الأغر الرقاشي ويقال الرَّوّاسي أبو عبد الرحمن الكوفي مولى بني عنزة، وثقه الثوري وابن عيينة، وقال أحمد: لا أعلم إِلَّا خيرًا. وقال ابن معين: ثقة، وقال مرة: صالح ولكنه شديد التشيّع، وقال مرة: لا بأس به. وقال أبو حاتم: صدوق صالح الحديث، يَهِمُ كثيرًا، يُكتب حديثه ولا يُحتج به. وقال عثمان بن سعيد الدارمي: يقال: إنه ضعيف. وقال النسائي: ضعيف. وقال ابن عدي: أرجو أن لا بأس به. وقال ابن حِتان: منكر الحديث جدًا، كان يُخطئ على الثقات ويروي عن عطية الموضوعات.

وقد روى له مسلم وأهلُ السنن الأربعة. فمن هذه ترجمته لا يُتهم بتعفد الكذب ولكنه قد يتساهل، ولا سيما فيما يُوافق مذهبه، فيروي عمن لا يعرفه، أو يحسن به الظن، فيدلس حديثه ويسقطه ويذكر شيخه، ولهذا قال في هذا الحديث الذي يجب الاحتراز فيه، وتوقي الكذب فيه "عن" بصيغة التدليس، ولم يأت بصيغة التحديث، فلعل بينهما من يُجهل أمرُه، على أن شيخَه هذا - إبراهيم بن الحسن بن علي بن أبي طالب - ليس بذلك المشهور في حاله، ولم يرو له أحدٌ من أصحاب الكتب المعتمدة، ولا روى عنه غيرُ الفضيل بن مرزوق هذا، ويحيى بن المتوكل، قاله أبو حاتم وأبو زرعة الرازيان ولم يتعرضا لجرح ولا تعديل.

وأما فاطمةُ بنت الحسين بن عليّ بن أبي طالب - وهي أخت زين العابدين - فحديثُها مشهور، روى لها أهلُ السنن الأربعة، وكانت فيمن قُدِمَ بها مع أهل البيت بعد مقتل أبيها إلى دمشق، وهي من الثقات، ولكن لاندري أسمعت هذا الحديث من أسماء أم لا؟ فاللّه أعلم.

ثم رواه هذا المصنف من حديث أبي حفص الكَتَّاني: حَدَّثَنَا محمد بن عمر القاضي، هو الجعابي، حدَّثني محمد بن القاسم بن جعفر العَسكري من أصل كتابه، حَدَّثَنَا أحمد بن محمد بن يزيد بن سليم، حَدَّثَنَا خلف بن سالم، حَدَّثَنَا عبد الرزاق، حَدَّثَنَا سفيان الثوري، عن أشعث أبي الشعثاء، عن أمّه، عن فاطمة - يعني بنت الحسين - عن أسماء؛ أن رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم دعا لعليّ حتى رُدّت عليه الشمس.

ص: 124

وهذا إسناد غريب جدًّا، وحديث عبد الرزاق وشيخُه الثوري محفوظٌ عند الأئمة، لا يكاد يُترك منه شيء من المهمات، فكيف لم يَرو عن عبد الرزاق مثل هذا الحديث العظيم إِلَّا خلفُ بن سالم بما قبله من الرجال، الذين لا يُعرف حالُهم في الضبط والعدالة لغربتهم؟ ثم إن أمّ أشعثَ مجهولةٌ، فاللّه أعلم

(1)

.

ثم ساقه هذا المصنف من طريق محمد بن مرزوق: حَدَّثَنَا حسين الأشقر - وهو شيعي وضعيف كما تقدم - عن عليّ بن هاشم بن البريد - وقد قال فيه ابن حِبّان: كان غالبًا في التشيّع، يَروي المناكير عن المشاهير - عن عبد الرحمن بن عبد اللّه بن دينار، عن عليّ بن الحسين بن الحسن، عن فاطمة بنت عليّ، عن أسماءَ بنت عُمَيس فذكرَه.

وهذا إسناد لا يثبت.

ثم أسنده من طريق عبد الرحمن بن شَريك، عن أبيه، عن عروة بن عبد اللّه، عن فاطمة بنت عليّ، عن أسماءَ بنت عُمَيس، فذكر الحديث كما قدمنا إيراده من طريق ابن عُقدة، عن أحمد بن يَحيى الصُّوفي، عن عبد الرحمن بن شريك، عن عبد اللّه النخعي. وقد روى عنه البخاريُّ في كتاب "الأدب" وحدَّث عنه جماعة من الأئمة، وقال فيه أبو حاتم الرازي: كان واهي الحديث، وذكره ابن حبان في كتاب الثقات وقال: ربما أخطأ. وأرخ ابن عقدة وفاتَه سنة سبع وعشرين ومئتين.

وقد قدَّمنا أن الشيخ أبا الفرج بن الجوزي قال: إنما اتهم بوضعه أبا العباس بن عُقدة، ثم أورد كلام الأئمة فيه بالطعن والجرح، وأنه كان يسوي النسخ للمشايخ فيرويهم إياها، فاللّه أعلم.

قلت: في سياق هذا الإسناد عن أسماء؛ أن الشمس رجعت حتى بلغت نصف المسجد، وهذا يُناقض ما تقدَّم من أن ذلك كان بالصَّهباء من أرض خيبر، ومثل هذا يُوجب توهينَ الحديث وضعفَه والقدحَ فيه. ثم سردَه من حديث محمد بن عمر القاضي الجعابي: حَدَّثَنَا علي بن العباس بن الوليد، حَدَّثَنَا عَبَّاد بن يعقوب الرَّواجيني، حَدَّثَنَا علي بن هاشم، عن صباح، عن عبد الله بن الحسن - أبي جعفر - عن حسين المقتول، عن فاطمة، عن أسماء بنت عُمَيس قالت: لما كان يوم شُغِل علي؛ لمكانه من قسم المغنم، حتى غربت الشمس أو كادت، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم:"أما صلّيت؟ " قال: لا، فدعا اللّه، فارتفعت الشمس حتى توسطت السماء، فصلَّى علي، فلما غربت الشمس سمعتُ لها صريرًا كصرير الميشار في الحديد.

وهذا أيضًا سياقٌ مخالف لما تقدم من وجوه كثيرة، مع أن إسناده مظلم جدًا، فإن صباحًا هذا لا يُعرف، وكيف يَروي الحسينُ بن علي المقتول شهيدًا عن واحد عن واحد عن أسماءَ بنت عُمَيس؟ هذا

(1)

ومحمد بن عمر الجعابي فاسق رقيق الدين وتشيعه معروف، كما في الميزان (3/ 670).

ص: 125

تخبيط إسنادًا ومتنًا، ففي هذا أن عليًا شُغل بمجرد قسم الغنيمة، وهذا لم يقله أحدٌ ولا ذهب إلى جواز ترك الصلاة لذلك ذاهب، وإن كان قد جوَّز بعضُ العلماء تأخيرَ الصلاة عن وقتِها لعذر القتال؛ كما حكاه البخاري عن مكحول والأوزاعي وأنس بن مالك في جماعة من أصحابه بتسترَ، واحتجَّ لهم في بني قريظة. وذهبَ جماعة من العلماء إلى أن هذا نُسِخَ بصلاة الخوف. والمقصودُ أنه لم يقل أحدٌ من العلماء إنه يجوز تأخيرُ الصلاة بعذر قسم الغنيمة، حتى يُسند هذا إلى صنيع عليّ رضي الله عنه، وهو الراوي عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن الوسطى هي العصر، فإن كان هذا ثابتًا على ما رواه هؤلاء الجماعة، وكان عليّ متعمدًا لتأخير الصلاة لعذر قسم الغنيمة، وأقرَّه عليه الثارع صارَ هذا وحدَه دليلًا على جواز ذلك، ويكون أقطع في الحجة مما ذكره البخاري، لأن هذا بعد مشروعية صلاة الخوف قطعًا، لأنه كان بخيبر سنة سبع، وصلاة الخوف شُرعت قبل ذلك، وإن كان عليّ ناسيًا حتى تركَ الصلاة إلى الغروب فهو معذور، فلا يحتاج إلى ردّ الشمس، بل وقتها بعد الغروب، والحالة هذه إذن، كما ورد به الحديث، واللّه أعلم.

وهذا كلُّه مما يدل على ضعف هذا الحديث.

ثم إن جعلناه قضيَّةً أخرى، وواقعة غير ما تقدم، فقد تعدد رد الشمس غير مرة، ومع هذا لم ينقله أحدٌ من أئمة العلماء، ولا رواه أهلُ الكتب المشهورة، وتفرد بهذه الفائدة هؤلاء الرواة الذين لا يخلو إسناد منها عن مجهول ومتروك ومتهم، واللّه أعلم.

ثم أورده هذا المصنف من طريق أبي العباس بن عُقدة: حَدَّثَنَا يحيى بن زكريا، حَدَّثَنَا يعقوبُ بن سعيد، حَدَّثَنَا عمرو بن ثابت، قال: سألتُ عبدَ اللّه بن حسن بن حسن بن على (بن أبي طالب)، عن حديث رد الشمس على عليّ بن أبي طالب: هل يثبتُ عندكم؟ فقال لي: ما أنزلَ الله في كتابه أعظمُ من ردّ الشمس، قلت: صدقتَ - جعلني اللّه فداك - ولكني أحبُّ أن أسمعَه منك، فقال: حدَّثني أبي - الحسن - عن أسماء بنت عُمَيس؛ أنها قالت: أقبل عليُّ بن أبي طالب ذاتَ يوم وهو يُريد أن يصلِّي العصرَ مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فوافق رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم قد انصرفَ ونزل عليه الوحي، فأسندَه إلى صدره، فلم يزل مُسندَه إلى صدره، حتى أفاقَ رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم فقال:"أصلّيتَ العصرَ يا عليّ؟ "قال: جئتُ والوحيُ ينزلُ عليكَ، فلم أزل مُسندَك إلى صدري حتى الساعة، فاستقبلَ رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم القبلةَ - وقد غربت الشمس - وقال:"اللهم إن عليًّا كان في طاعتِك فارددها عليه" قالت أسماء: فأقبلتِ الشَّمسُ ولها صريرٌ كصرير الرحى، حتى كانت في موضعها وقت العصر. فقام عليٌّ متمكنًا فصلَّى، فلما فرغَ رجعتِ الشمس ولها صرير كصرير الرحى، فلما غابت اختلطَ الظلامُ، وبدت النجوم.

وهذا منكرٌ أيضًا إسنادًا ومتنًا، وهو مناقض لما قبله من السياقات، وعمرو بن ثابت هذا هو المتهم بوضع هذا الحديث أو سرقته من غيره، وهو عمرو بن ثابت بن هرمز البكري الكوفي، مولى بكر بن وائل، ويُعرف بعمرو بن المِقدام الحداد، روى عن غير واحد من التابعين، وحدَّث عنه جماعة، منهم

ص: 126

سعيد بن منصور، وأبو داود وأبو الوليد الطيالسيان، قال: تركه عبد اللّه بن المبارك، وقال: لا تحدِّثوا عنه فإنه كان يسبُّ السلفَ. ولما مرَّت به جنازته توارى عنها. وكذلك تركه عبد الرحمن بن مهدي، وقال ابنُ معين والنسائي: ليس بثقة، ولا مأمون، ولا يكتب حديثه. وقال مرة أخرى هو وأبو زرعة وأبو حاتم: كان ضعيفًا. زاد أبو حاتم: وكان رديء الرأي شديدَ التشيّع، لا يُكتب حديثه. وقال البخاري: ليس بالقوي عندهم. وقال أبو داود: كان مِن شرار الناس، كان رافضيًا خبيثًا رجلَ سُوء، قال هنا: ولما مات لم أصلِّ عليه؛ لأنه قال لما مات رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كفر الناس إِلَّا خمسة. وجعلَ أبو داود يذمّه. وقال ابن حِبّان: يَروي الموضوعات عن الأثبات. وقال ابن عدي: والضعف على حديثه بيّن، وأرَّخُوا وفاتَه في سنة سبع وعشرين ومئة، ولهذا قال شيخنا أبو العباس ابن تيمية: وكان عبد اللّه بن حسن وأبوه أجلَّ قدرًا من أن يُحدِّثا بهذا الحديث.

قال هذا المُصَنِّف لا المنصف: وأما حديث أبي هريرة؛ فأخبرنا عقيل بن الحسن العسكري، أخبرنا أبو محمد صالح بن الفتح النسائي، حَدَّثَنَا أحمد بن عمير بن جوصاء، حَدَّثَنَا إبراهيم بن سعيد الجوهري، حَدَّثَنَا يحيى بن زيد بن عبد الملك النوفلي، عن أبيه، حَدَّثَنَا داود بن فراهيج، عن عمارة بن برود، عن أبي هريرة فذكره. وقال: اختصرته من حديث طويل.

وهذا إسناد مظلم، ويحيى بن يزيد وأبوه وشيخه داود بن فراهيج كلُّهم مُضعّفون، وهذا هو الذي أشار ابن الجوزي إلى أن ابن مردويه رواه من طريق داود بن فراهيج عن أبي هريرة، وضعَّف داود هذا شعبة والنسائي وغيرهما.

والذي يظهر أن هذا مفتعل من بعض الرواة، أو قد دخل على أحدهم وهو لا يشعر، واللّه أعلم.

قال: وأما حديث أبي سعيد، فأخبرنا محمد بن إسماعيل الجرجاني في كتابه؛ أن أبا طاهر محمد بن علي الواعظ أخبرهم: أخبرنا محمد بن أحمد بن متيم، أخبرنا القاسم بن جعفر بن محمد بن عبد اللّه بن عمر بن علي بن أبي طالب: حدثني أبي، عن أبيه محمد، عن أبيه عبد اللّه، عن أبيه عمر قال: قال الحسين بن عليّ: سمعتُ أبا سعيد الخدري يقول: دخلتُ على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فإذا رأسُه في حجر عليّ وقد غابت الشمس، فانتبه النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وقال:"يا عليّ! أصلّيتَ العصر؟ "قال: لا، يا رسول اللّه ما صلَّيت، كرهتُ أن أضعَ رأسَك من حِجري وأنت وَجِع. فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم:"يا عليّ، ادعُ يا عليّ أن تُرَدَّ عليك الشمسُ"، فقال عليٌّ: يا رسول اللّه، ادعُ أنت وأنا أُؤمن، فقال:"يا ربّ إنَّ عليًا في طاعتِك وطاعةِ نبيّك فاردد عليه الشمس". قال أبو سعيد: فواللّه لقد سمعتُ للشمس صريرًا كصرير البَكَرَة، حتى رجعت بيضاءَ نقيّة.

وهذا إسناد مظلم أيضًا، ومتنه منكرٌ مخالف لما تقدّمه من السياقات، وكل هذا يدل على أنه موضوع مصنوع مفتعل، يسرقُه هؤلاء الرافضة بعضُهم من بعض، ولو كان له أصل من رواية أبي سعيد لتلقاه عنه

ص: 127

كبار أصحابه؛ كما أخرجا في الصحيحين من طريقه حديث قتال الخوارج، وقصة المخدج، وغير ذلك من فضائل علي.

قال: وأما حديثُ أمير المؤمنين عليّ، فأخبرنا أبو العباس الفرغاني، أخبرنا أبو المُفَضَّل الشيباني، حَدَّثَنَا رجاء بن يحيى السَّاماني، حَدَّثَنَا هارون بن مسلم بن سعدان بسامرَّاء سنة أربعين ومئتين، حَدَّثَنَا عبد الله بن عمرو بن الأشعث عن داود بن الكُمَيت، عن عمّه المستهل بن زيد، عن أبيه ابن سلهب، عن جويرية بنت شهر، قالت: خرجتُ مع علي بن أبي طالب، فقال: يا جويرية! إن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان يُوحى إليه ورأسه في حِجري. فذكر الحديث.

وهذا الإسناد مظلم، وأكثر رجاله لا يُعرفون، والذي يظهرُ واللّه أعلم أنه مركب مصنوع، مما عملته أيدي الروافضِ قبحهم الله، ولعن من كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعجَّلَ له ما توعَّدَه الشارعُ من العذاب والنَّكَال، حيث قال وهو الصادق في المقال:"من كذب عليَّ معتمدًا فليتبوأ مقعده من النار"

(1)

.

وكيف يدخلُ في عقل أحد من أهل العلم أن يكون هذا الحديث يَرويه علي بن أبي طالب، وفيه منقبة عظيمة له، ودلالة معجزة باهرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لا يُروى عنه إِلَّا بهذا الإسناد المظلم المركّب على رجال لا يُعرفون، وهل لهم وجود في الخارج أم لا؟ الظاهر - واللّه أعلم - لا.

ثم هو عن امرأة مجهولة العين والحال، فأين أصحاب علي الثقات؛ كعبيد السلماني، وشريح القاضي، وعامر الشعبي، وأضرابهم.

ثم في ترك الأئمة كمالك، وأصحاب الكتب الستة، وأصحاب المسانيد والسنن والصحاح والحسان؛ رواية هذا الحديث وإيداعه في كتبهم، أكبر دليل على أنه لا أصل له عندهم، أو هو مفتعل، مأفوك بعدهم.

وهذا أبو عبد الرحمن النسائي، قد جمع كتابًا في "خصائص على بن أبي طالب". ولم يذكره، وكذلك لم يروه الحاكمُ في "مُستدركه"

(2)

، وكلاهما يُنسب إلى شيء من التشيع، ولا رَواهُ من رواه من الناس المعتبرين إِلَّا على سبيل الاستغراب والتعجب، وكيف يقعُ مثلُ هذا نهارًا جهرة وهو مما تتوفر الدواعي على نقله، ثم لا يُروى إِلَّا من طرق ضعيفة منكرة، وأكثرها مركبة موضوعة. وأجودُ ما فيها ما قدَّمناه من طريق أحمد بن صالح المصري، عن ابن أبي فُديك، عن محمد بن موسى الفِطْري، عن عون بن محمد، عن أمّه أم جعفر، عن أسماءَ، على ما فيها من التعليل الذي أشرنا إليه فيما سلف. وقد اغترَّ بذلك أحمد بن صالح رحمه الله، ومال إلى صحته، ورجَّح ثبوتَه.

(1)

حديث متواتر عن عدد من الصحابة. فرواه البخاري (110) ومسلم (3) عن أبي هريرة.

(2)

مشكل الآثار للطحاوي (2/ 11).

ص: 128

قال الطحاوي في كتابه "مشكل الحديث": عن علي بن عبد الرحمن، عن أحمد بن صالح المصري؛ أنه كان يقول: لا ينبغي لمن كان سبجله العلم التخلّف عن حفظ حديث أسماء في ردّ الشمس؛ لأنه من علامات النبوة. وهكذا مال إليه أبو جعفر الطحاوي أيضًا فيما قيل.

ونقل أبو القاسم الحسكاني هذا عن أبي عبد اللّه البصري المتكلم المعتزلي أنه قال: عَودُ الشمس بعد مغيبها آكدُ حالًا فيما يقتضي نقلُه؛ لأنه وإن كان فضيلة لأمير المؤمنين فإنه من أعلام النبوة، وهو مُقارِن لغيره في فضائله في كثير من أعلام النبوة.

وحاصل هذا الكلام يقتضي أنه كان ينبغي أن يُنقل هذا نقلًا متواترًا، وهذا حقّ لو كان الحديث صحيحًا، ولكنه لم يُنقل كذلك فدلَّ على أنه ليس بصحيح في نفس الأمر، واللّه أعلم.

قلت: والأئمة في كلّ عصر يُنكرون صحة هذا الحديث، ويردُّونه ويُبالغون في التشنيع على رُواته كما قدَّمنا عن غير واحد من الحفّاظ، كمحمد ويعلى بن عبيد الطنافِسيَّين، وكإبراهيم بن يَعقوب الجوزجاني خطيب دمشق، وكأبي بكر محمد بن حاتم البخاري، المعروف بابن زنجويه، وكالحافظ أبي القاسم بن عساكر، والشيخ أبي الفرج بن الجوزي، وغيرهم من المتقدمين والمتأخرين.

وممن صرَّحَ بأنه موضوع شيخُنا الحافظ أبو الحجاج المِزّي، والعلَّامة أبو العباس بن تيمية، وقال

الحاكم أبو عبد اللّه النيسابوري: قرأتُ على قاضي القضاة أبي الحسن محمد بن صالح الهاشمي: حَدَّثَنَا

عبد اللّه بن الحسين بن موسى، حَدَّثَنَا عبد اللّه بن عليّ بن المديني قال: سمعتُ أبي يقول: خمسةُ أحاديث يروونها، ولا أصل لها عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم؛ حديث: لو صدقَ السائلُ ما أفلحَ من رَدَّه، وحديث: لا وجع إِلَّا وَجَعَ العين، ولا غمَّ إِلَّا غم الدين، وحديث: أن الشمس رُدّت على عليّ بن أبي طالب، وحديث: أنا أكرمُ على اللّه من أن يدعني تحت الأرض مئتي عام، وحديث: أفطرَ الحاجمُ والمحجوم؛ إنهما كانا يَغتابان.

والطحاوي رحمه الله وإن كان قد اشتَبه عليه أمرُه، فقد روى عن أبي حنيفة رحمه الله إنكاره والتهكم بمن رواه، قال أبو العباس بن عُقدة: حَدَّثَنَا جعفر بن محمد بن عُمير، حَدَّثَنَا سليمان بن عبَّاد، سمعتُ بشّار بن دراع قال: لقي أبو حنيفة محمد بن النعمان، فقال: عمن رويتَ حديثَ ردّ الشمس؟ فقال: عن غير الذي رويتَ عنه: يا سارية الجبل.

فهذا أبو حنيفة رحمه الله، وهو من الأئمة المعتبرين، وهو كوفيٌّ لا يُتَّهم على حبّ عليّ بن أبي طالب وتفضيله بما فضله اللّه به ورسولُه، وهو مع هذا يُنكر على راويه، وقول محمد بن النعمان له ليس بجواب بل مجرد معارضة بما لا يُجدي، أي: أنا رويتُ في فضل عليّ هذا الحديث، وهو وإن كان مستغربًا فهو في الغرابة نظيرُ ما رويتَه أنت في فضل عمر بن الخطاب في قوله: يا ساريةَ الجبل. وهذا

ص: 129

ليس بصحيح من محمد بن النعمان، فإن هذا ليس إسنادًا ولا متنًا، وأين مكاشفة إمام قد شهد الشارع له بأنه مُحَدَّثٌ بأمرِ خيرٍ، من ردّ الشمس طالعة بعد مغيبها الذي هو أكبر علامات الساعة؛ والذي وقع ليوشع بن نون ليس ردًّا للشمس عليه، بل حُبِست ساعة قبل غروبها، بمعنى تباطأت في سيرها حتى أمكنهم الفتح، واللّه تعالى أعلم.

وتقدم ما أورده هذا المصنف من طرق هذا الحديث: عن على، وأبي هريرة، وأبي سعيد، وأسماء بنت عميس، وقد وقع في كتاب أبي بشر الدولابي في "الذرية الطاهرة"

(1)

من حديث الحسين بن علي، والظاهر أنه عنه، عن أبي سعيد الخدري كما تقدم، واللّه أعلم.

وقد قال شيخُ الرافضة جمال الدين يُوسف بن الحسن الملقب بابن المُطَهِّر الحِلِّي في كتابه "في الإمامة" الذي ردَّ عليه شيخنا العلامة أبو العباس ابن تيمية، قال ابن المُطهر: التاسع: رجوع الشمس مرتين: إحداهما في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، والثانية بعده. أما الأولى، فروى جابر وأبو سعيد: أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نزلَ عليه جبريل يومًا يُناجيه من عند اللّه، فلما تغشَّاه الوحيُ توسَّد فخذَ أمير المؤمنين، فلم يرفع رأسَه حتى غابت الشمس، فصلَّى عليٌّ العصرَ بالإيماء، فلما استيقظَ رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم قال له: سل اللّه أن يردَّ عليك الشمسَ فتُصلِّي قائمًا. فدعا فرُدَّتِ الشمسُ فصلّى العصر قائمًا.

وأما الثانية فلما أراد أن يعبرَ الفرات ببابل، واشتغلَ كثيرٌ من الصحابة بدوائهم، وصلَّى لنفسه في طائفة من أصحابه العصرَ، وفاتَ كثيرًا منهم، فتكلّموا في ذلك، فسأل اللّه رَدَّ الشمسِ فرُدَّت.

قال: وقد نظمه الحِميَريّ فقال:

رُدَّت عَليهِ الشمسُ لَمَّا فَاتَهُ

وَقتُ الصَّلاةِ وقد دَنَت للمَغرِبِ

حَتَّى تَبَلَّجَ نُورها في وَقتِها

لِلعَصرِ ثُمَّ هَوَت هَوِيَّ الكوكَبِ

وَعليهِ قَد رُدَّت بِبابِلَ مَرَّةً

أخرى وَما رُدَّت لِخَلقِ المغرِبِ

قال شيخُنا أبو العباس (ابن تيمية) رحمه الله

(2)

: فضل عليّ وولايتُه وعلوّ منزلته عند اللّه معلوم وللّه الحمد بطرق ثابتة، أفادتنا العلم اليقيني، لا يُحتاج معها إلى ما لا يُعلم صدقُه أو يُعلم أنه كذب، وحديثُ ردّ الشمس قد ذكرَه طائفةٌ كأبي جعفر الطحاوي، والقاضي عياض، وغيرهما، وعدُّوا ذلك من معجزات رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، لكن المحقّقون من أهل العلم والمعرفة بالحديث يَعلمون أن هذا الحديث كذبٌ موضوع، ثم أورَد طرقَه واحدة واحدةً كما قدّمنا، وناقش أبا القاسم الحسكاني فيما تقدم، وقد أوردنا كلَّ ذلك، وزدنا عليه ونقصنا منه، واللّه الموفق.

(1)

الذرية الطاهرة لأبي بشر الدولابي (ص 93).

(2)

منهاج السنة (8/ 165) وهذا الفصل أكثره منه كما سيصرح المصنف.

ص: 130

واعتذرَ عن أحمد بن صالح المِصري في تصحيحه هذا الحديث بأنه اغترَّ بسنده، وعن الطحاوي بأنه لم يكن عندَه نقلٌ جيّد للأسانيد كجهابذة الحفاظ، وقال في عيون كلامه: والذي يقطع به أنه كذب مفتعل.

قلت: وإيراد ابن المطهر لهذا الحديث من طريق جابر غريب، ولكن لم يُسنده، وفي سياقه ما يقتضي أن عليًا هو الذي دعا بردِّ الشمس في الأولى والثانية، وأما إيرادُه لقصة بابل فليس لها إسناد وأظنه - واللّه أعلم - من وضع الزنادقة من الشيعة ونحوهم، فإن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه يومَ الخندق قد غربت عليهم الشمس ولم يكونوا صلّوا العصرَ بل قاموا إلى بُطحان - وهو واد هناك - فتوضؤوا وصلّوا العصر بعدما غربت الشمس، وكان عليّ أيضًا فيهم ولم تُرَدّ لهم، وكذلك كثيرٌ من الصحابة الذين ساروا إلى بني قريظة فاتتهم العصرُ يومئذ حتى غربت الشمسُ ولم ترد لهم، وكذلك لمَّا نامَ رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم وأصحابُه عن صلاة الصبح حتى طلعت الشمس، صلّوها بعد ارتفاع النهار ولم يُرَدّ لهم الليل؛ فما كان الله عز وجل ليعطي عليًّا وأصحابَه شيئًا من الفضائل لم يعظها رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه.

وأما نظم الحِميَري فليس [فيه] حُجّة، بل هو كهذيان ابن المُطَهّر، هذا لا يَعلم ما يقول من النثر وهذا لا يدري صحة ما ينظم، بل كلاهما كما قال الشاعر:

إن كُنتُ أدري فَعَليَّ بَدَنَه

مِن كَثرَةِ التخلِيطِ أنّي من أنه

والمشهور عن عليّ في أرض بابلَ، ما رواه أبو داود رحمه الله في "سننه" عن عليّ، أنه مرَّ بأرض بابلَ وقد حانت صلاة العصر، فلم يُصل حتى جاوزَها، وقال: نهاني خليلي صلى الله عليه وسلم أن أُصلِّي بأرضِ بابلَ فإنّها ملعونه

(1)

.

وقد قال أبو محمد بن حزم في كتابه "الملل والنحل" مُبطلًا لردّ الشمس على عليّ بعد كلام ذكره رادًّا على من ادَّعى باطلًا من الأمر، فقال: ولا فرق بين من ادعى شيئًا مما ذكرنا لفاضلٍ، وبين دعوى الرافضة ردّ الشمس على عليّ بن أبي طالب مرتين، حتى ادعى بعضُهم أن حبيب بن أوس قال:

فَرُدَّت عَلَينَا الشمسُ والليلُ راغِمٌ

بِشَمسٍ لَهُم مِن جانِبِ الخِدرِ تَطلَعُ

نضَا ضَوءُها صِبغَ الدِّجنةِ وانطَوى

لِبهجَتِها نُور السَّماءِ المُرَجَّعُ

فَواللّه ما أدري أأحلَامُ نَائمٍ

ألَمَّت

(2)

بنا أم كَانَ في القومِ يُوشَعُ

(1)

رواه أبو داود في سننه رقم (490) في الصلاة. وقال الخطابي: في إسناد هذا الحديث مقال، ولا أعلم أحدًا من العلماء حرَّم الصلاة في أرض بابل، وقد عارضه ما هو أصحُّ منه؛ وهو قوله صلى الله عليه وسلم:"وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا".

(2)

كذا في الملل والنحل؛ لابن حزم (1/ 147)، والبيت الثاني في (أ) والمطبوع: =

ص: 131

هكذا أوردَه ابنُ حزم في كتابه

(1)

، وهذا الشِّعرُ تظهر عليه الركة والتركيب، وأنه مصنوع، واللّه أعلم.

* * *

‌استسقاء الرسول صلى الله عليه وسلم

-

ومما يتعلّق بالآيات السماوية في باب دلائل النبوة، استسقاؤه عليه الصلاة والسلام ربَّه عز وجل لأمته حين تأخر المطر، فأجابه إلى سؤاله سريعًا، بحيث لم ينزل عن مِنبره إِلَّا والمطرُ يتحادرُ على لحيته عليه الصلاة والسلام، وكذلك استصحاؤه.

قال البخاري: حَدَّثَنَا عمرو بن عليّ، حَدَّثَنَا أبو قُتيبة، حَدَّثَنَا عبدُ الرحمن بن عبد اللّه بن دينار، عن أبيه، قال: سمعتُ ابنَ عمر يَتمثَّلُ بشعر أبي طالب:

وَأبيضَ يُستَسقى الغَمامُ بِوَجهِهِ

ثِمَالُ

(2)

اليتامَى عِصمةٌ لِلأرامِلِ

(3)

قال البخاري

(4)

: وقال عُمر بن حمزة: حَدَّثَنَا سالم، عن أبيه. ربما ذكرتُ قولَ الشاعر وأنا أنظر إلى وجه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يَستسقي، فما ينزلُ حتى يَجيشَ كلُّ ميزاب.

وَأَبيضَ يُستسقَى الغَمامُ بِوَجهِهِ

ثِمَالُ اليتامَى عِصمَةٌ لِلأرامِل

وهو قول أبي طالب. تفرد به البخاري.

وهذا الذي علَّقه

(5)

، قد أسنده ابن ماجة

(6)

في "سننه"، فرواه عن أحمد بن الأزهر، عن أبي النضر، عن أبي عقيل، عن عمر بن حمزة عن سالم عن أبيه.

وقال البخاري: حَدَّثَنَا محمد - هو ابن سَلام - حَدَّثَنَا أبو ضمرة، حَدَّثَنَا شَريك بن عبد اللّه بن أبي نمر؛ أنه سمع أنس بن مالك يذكُر أن رجلًا دخلَ المسجدَ يومَ جمعةٍ من باب كان وِجاهَ المِنبر،

= فواللّه ما ندري عليٌّ ما بدا لنا

فردّت له أم كان في القوم يوشع

(1)

الملل والنحل؛ لابن حزم (1/ 147).

(2)

"ثِمَال": العماد والملجأ. والمُطعِم والمُغيث والمُعين والكافي.

(3)

رواه البخاري في صحيحه رقم (1008) في الاستسقاء.

(4)

رواه البخاري في صحيحه (1009) معلقًا.

(5)

وقد رواه الحافظ ابن حجر في تغليق التعليق (2/ 389) بسنده عن الإمام أحمد، حَدَّثَنَا أبو النضر، حَدَّثَنَا أبو عقيل، حَدَّثَنَا عمر بن حمزة .. إلخ، والحديث في المسند (2/ 93) وزاد فيه: على المنبر.

(6)

رواه ابن ماجه في سننه رقم (1272) في إقامة الصلاة، باب ما جاء في الدعاء في الاستسقاء، وإسناده ضعيف لضعف عمر بن حمزة، كما قال الحافظ ابن حجر في "التقريب"، وهو حديث حسن بالذي قبله، ومتن الذي قبله صحيح.

ص: 132

ورسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم قائمٌ يخطب، فاستقبلَ رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم قائمًا، فقال: يا رسولَ اللّه هلكتِ الأموال، وتقطَّعتِ السُّبل، فادعُ اللّه لنا يُغيثنا، قال: فرفعَ رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم يديه فقال: "اللهم اسقنا، اللهم اسقنا، اللهم اسقنا" قال أنس: ولا واللّه ما نرى في السماء من سحاب ولا قَزَعة ولا شيئًا، وما بيننا وبين سَلع من بيت ولا دار، قال: فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس، فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت، قال: واللّه ما رأينا الشَّمسَ سِتًا، ثم دخلَ رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة، ورسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم قائم يخطب، فاستقبله قائمًا، وقال: يا رسولَ اللّه هلكت الأموال وانقطعت السُّبل، ادعُ اللّه يُمسكها، قال: فرفعَ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يديه ثم قال: "اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكَام والجبال والظِّرَاب ومنابت الشجر" قال: فأقلعت، وخرجنا نمشي في الشمس. قال شريك: فسألتُ أنسًا أهو الرجل الذي سأل أولًا؛ قال: لا أدري

(1)

.

وهكذا رواه البخاريُّ أيضًا ومسلم

(2)

، من حديث إسماعيل بن جعفر، عن شريك به. وقال البخاري: حَدَّثَنَا مُسدَّدٌ، حَدَّثَنَا أبو عَوانة، عن قَتادةَ، عن أنس قال: بينما رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم يخطبُ يومَ جمعة إذ جاء رجل فقال: يا رسول اللّه قَحَط المطرُ، فادعُ اللّه أن يسقينا، فدعا فمُطرنا، فما كدنا أن نصلَ إلى منازلنا، فما زلنا نُمطر إلى الجمعة المقبلة، قال: فقام ذلك الرجل - أو غيرُه - فقال: يا رسولَ اللّه ادعُ اللّه أن يصرفَه عنا، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم:"اللهم حَوالَينا ولا علينا" قال: فلقد رأيتُ السحابَ يتقطَّع يمينًا وشِمالًا، يُمطرون ولا تُمطر

(3)

المدينة

(4)

. تفرد به البخاري من هذا الوجه.

وقال البخاري: حَدَّثَنَا عبدُ اللّه بن مسلمة، عن مالك، عن شَريك بن عبد اللّه بن أبي نَمِر، عن أنس، قال: جاء رجل إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال: هلكتِ المواشي وتقطَّعت السُّبل، فادعُ اللّه، فدعا، فمُطرنا من لجمعة إلى الجمعة، ثم جاء فقال: تَهدَّمت البيوتُ وتقطَّعت السبل وهلكت المواشي (فادعُ اللّه أن يُمسكَها)

(5)

فقال: "اللهم، على الآكام والظِّراب والأودية ومنابت الشجر"، فانجابت عن المدينة انجيابَ الثوب

(6)

.

وقال البخاري: حَدَّثَنَا محمد بن مُقاتل، حَدَّثَنَا عبد اللّه، حَدَّثَنَا الأوزاعي، حَدَّثَنَا إسحاق بن

(1)

رواه البخاري في صحيحه رقم (1013) في الاستسقاء. والظِّراب: جمع ظَرِب: وهو الجبل المنبسط، ليس بالعالي.

(2)

رواه البخاري في صحيحه رقم (1014) في الاستسقاء، ومسلم في صحيحه رقم (897) في الاستسقاء.

(3)

كذا في (أ) وفي البخاري: ولا يُمطر أهل المدينة.

(4)

رواه البخاري في صحيحه رقم (1015) في الاستسقاء.

(5)

ما بين القوسين أثبته من البخاري.

(6)

رواه البخاري في صحيحه رقم (1016) في الاستسقاء.

ص: 133

عبد الله بن أبي طلحة الأنصاري، حدَّثني أنس بن مالك قال: أصابتِ النَّاسَ سَنةٌ على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فبينا رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم يخطُب على المنبر يوم الجمعة، فقام أعرابيٌّ فقال: يا رسولَ اللّه هلك المال، وجاعَ العيال، فادعُ الله أن يسقينَا، قال: فرفعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه وما في السماء قَزَعة، فوالذي نفسي بيده ما وضعَها حتى ثارَ سحابٌ أمثالُ الجبال، ثم لم ينزل عن مِنبره حتى رأيتُ المطرَ يتحادرُ على لحيته قال: فمُطرنا يومنا ذلك ومن الغد ومن بعد الغد، والذي يليه إلى الجمعة الأخرى، فقام ذلك الأعرابي - أو غيره - فقال: يا رسول اللّه تهدَّم البناء، وغَرِق المالُ، فادعُ اللّه لنا، فرفعَ رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم يديه فقال:"اللهم حَوالَينا ولا علينا" قال: فما جعلَ رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم يُشير بيده إلى ناحية من السماء إِلَّا انفرجت، حتى صارت المدينة في مثل الجَوبَة، وسأل الوادي - وادي قناة - شهرًا، ولم يجئ أحدٌ من ناحية إِلَّا حدَّثَ بالجود

(1)

.

ورواه البخاري أيضًا في الجمعة، ومسلم

(2)

من حديث الوليد، عن الأوزاعي.

وقال البخاري: وقال أيوب بنُ سليمان: حدَّثني أبو بكر بن أبي أُوَيس، عن سُليمان بن بلال، قال: قال يَحيى بن سعيد: سمعت أنس بن مالك، قال: أتى (رجلٌ) أعرابيٌّ من أهل البدو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة، فقال: يا رسولَ اللّه هلكتِ الماشيةُ، هلكَ العيال، هلك الناس، فرفع رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يديه يدعو، ورفع الناس أيديهم مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يدعون، قال: فما خرجنا من المسجد حتى مُطرنا، فما زلنا نُمطر حتى كانت الجمعة الأخرى، فأتى الرجلُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول اللّه بَشِقَ المسافرُ ومُنع الطريق

(3)

.

قال البخاري: وقال الأوَيسي -يعني عبد اللّه-: حدَّثني محمد بن جعفر -هو ابن كثير- عن يحيى بن سعيد وشَريك، سمعا أنسًا، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رفعَ يديه حتى رأيتُ بياضَ إبطيه

(4)

.

هكذا علَّق هذين الحديثين، ولم يسندهما أحد من أصحاب الكتب الستة بالكلية.

وقال البخاري: حَدَّثَنَا محمد بن أبي بكر قال: حَدَّثَنَا معتمر، عن عُبيد الله، عن ثابت، عن أنس بن مالك قال: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَخطب يومَ جُمعة، فقام الناس فصاحوا، فقالوا: يا رسول اللّه قَحَطَ

(1)

رواه البخاري في صحيحه رقم (1033) في الاستسقاء.

(2)

رواه البخاري في صحيحه رقم (933) في الجمعة، وجمسلم في صحيحه رقم (897) (9) في الاستسقاء. و" الجَوبَة": الفجوة، ومعناه تقطَّع السحابُ عن المدينة وصار مستديرًا حولها، وهي خالية منه.

(3)

ذكره البخاري تعليقًا في صحيحه رقم (1029) في الاستسقاء. وبَشِق المسافر: قلَّ وقيل: ضعف عن السفر وعجز عنه. وقيل: هي مصحفة من لَثقَ أو مثق، فتح الباري (2/ 516) وهو حديث صحيح.

(4)

ذكره البخاري في صحيحه رقم (1030) في الاستسقاء تعليقًا، وهو متن صحيح، وانظر البخاري رقم (1031).

ص: 134

المَطر، واحمرَّت الشجر، وهلكت البهائمُ، فادعُ اللّه أن يسقيَنا، فقال:"اللهم اسقنا" مرتين، وايمُ اللّه ما نرى في السماء قزعة من سحاب، فنشأت سحابة وأمطرت، ونزل عن المنبر فصلَّى، فلما انصرف لم تزل تمطر إلى الجمعة التي تليها، فلما قام النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَخطب صاحوا إليه: تهدمت البيوت، وانقطعت السبل، فادعُ اللّه يحبسَها عنا، قال: فتبسَّم رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم ثم قال: "اللهم حوالَينا ولا علينا، فتكشَّفت

(1)

المدينة، فجعلت تُمطر حولَها ولا تُمطر بالمدينة قطرةً، فنظرتُ إلى المدينة وإنها لفي مثل الإكليل

(2)

.

وقد رواه مسلم

(3)

من حديث معتمر بن سليمان، عن عبيد اللّه -وهو ابن عمر العمري- به.

وقال الإمام أحمد: حَدَّثَنَا ابن أبي عدي، عن حُميد، قال: سُئل أنس: هل كان رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم يَرفع يديه؛ فقال: قيل له يوم جمعة: يا رسول اللّه! قَحَطَ المطرُ، وأجدبتِ الأرضُ، وهلَك المالُ، قال: فرفع يديه حتى رأيتُ بياضَ إبطيه، فاستسقى، ولقد رفعَ يديه فاستسقى، ولقد رفعَ يديه وما نرى في السماء سحابةً، فما قضينا الصَّلاةَ حتى إن الشَّابَّ قريب الدَّار

(4)

ليهمّه الرجوعُ إلى أهله، قال: فلما كانت الجمعة التي تليها قالوا: يا رسولَ اللّه! تهدَّمتِ البيوتُ واحتبست الرُّكبان، فتبسَّم رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم من سرعة مَلالة ابن آدم، وقال:"اللهم حوالَينا ولا علينا"، قال: فتكشَّطَت عن المدينة. وهذا إسناد ثلاثي على شرط الشيخين، ولم يخرجوه

(5)

.

وقال البخاريُّ وأبو داود واللفظ له: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا حمَّاد بن زيد، عن عبد العزيز بن صُهَيب، عن أنس بن مالك، وعن يونس بن عُبيد، عن ثابت، عن أنس رضي الله عنه، قال: أصابَ أهلَ المدينة قَحطٌ على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فبينا هو يخطب يوم جمعة؛ إذ قام رجل فقال: يا رسول اللّه! هلكت الكُراع، هلكت الشاء، فادعُ اللّه يسقينا، فمدَّ يدَه ودعا. قال أنس: وإن السماء لمثل الزجاجة، فهاجت الريح فأنشأت سحابًا، ثم اجتمع، ثم أرسلت السماء عَزاليها فخرجنا نخوض الماء حتى أتينا منازلنا، فلم تزل تُمطر إلى الجمعة الأخرى، فقام إليه ذلك الرجل -أو غيره- فقال: يا رسول اللّه! تهدَّمت البيوتُ فادعُ اللّه يحبسه. فتبسَّم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ثم قال: "حوالينا ولا علينا" فنظرت إلى السحاب يتصدَّع حول المدينة كأنه إكليل

(6)

.

(1)

كذا في (أ) وفي البخاري: فكشَطَت. وفي مسلم: تقشَّعَت، وهي بمعنى ارتفع الغيم عنها وانكشف وزال.

(2)

رواه البخاري في صحيحه رقم (1021) في الاستسقاء.

(3)

مسلم في صحيحه رقم (897)(10) في الاستسقاء.

(4)

في المسند: حتى أن قريب الدار الشَّابّ

(5)

رواه الإمام أحمد في المسند (3/ 104).

(6)

أخرجه البخاري في صحيحه (932) في الجمعة و (3582) في علامات النبوة، وأبو داود (1174) في الصلاة. =

ص: 135

فهذه طرق متواترة عن أنس بن مالك؛ لأنها تُفيد القطعَ عند أئمة هذا الشأن.

وقال البيهقيُّ بإسناده من غير وجه إلى أبي مَعمَر سعيد بن خثيم الهِلَالي، عن مسلم الملائي، عن أنس بن مالك قال: جاء أعرابي فقال: يا رسولَ اللّه! واللّه لقد أتيناكَ، وما لنا بعير يَئِطُّ

(1)

، ولا صبيٌّ يَصطبح، وأنشد:

أَتَيناكَ والعَذراءُ يَدمِي لُبانُها

(2)

وَقَد شُغِلَت أُمُّ الصَّبيِّ عَنِ الطفلِ

وَألقى بِكَفّيهِ الفَتَى لاستِكانَةٍ

مِنَ الجوعِ ضعفًا قائم

(3)

وهو لا يُخلي

وَلَا شيءَ مِمَّا يَأكُلُ النَّاسُ عِندنا

سوى الحَنظَلِ العَامِيِّ والعِلهِزِ الفَسْلِ

(4)

وَلَيسَ لنا إلَّا إليكَ فِرارُنا .... وَأَينَ فِرَارُ النَّاس إِلَّا إلى الرُّسل

قال: فقام رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وهو يجرُّ رداءَه حتى صَعِد المنبرَ فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم رفعَ يديه نحوَ السماء وقال:"اللهم اسقنا غيثًا مُغيثًا مَريئًا مَريعًا سريعًا غَدَقًا طَبَقًا، عاجلًا غير رائثٍ، نافعًا غير ضار، تملأ به الضرع، وتُنبت به الزرع، وتحيي به الأرض بعد موتها، وكذلك تخرجون". قال: فواللّه ما ردَّ يدَه إلى نحره حتى ألقت السماءُ بأوراقها، وجاء أهلُ البطانة يَصيحون: يا رسولَ الله الغرقَ الغرقَ، فرفع يديه إلى السماء وقال:"اللهم حوالينا ولا علينا" فانجابَ السَّحابُ عن المدينة حتى أحدق بها كالإكليل فضحك رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه ثم قال: "للّه درّ أبي طالب لو كان حيًّا قرَّت عيناه، مَن يُنشد قولَه؟ " فقام عليُّ بن أبي طالب فقال: يا رسول اللّه كأنك أردتَ قوله:

وأبيضَ يُستَسقَى الغَمامُ بوجهِهِ

ثِمَالُ اليَتَامى عصمَةٌ للأرامِلِ

يَلوذُ به الهُلَّاكُ مِن آل هاشمٍ

فَهُم عِندَهُ في نِعمَةٍ وَفَواضِلِ

كَذبتمْ وبَيتِ اللّه يُبزَى مُحَمَّدٌ

ولَما نُقاتِل دُونَهُ ونُنَاضِل

وَنسلِمُهُ حتَّى نُصرَّعَ حَولَهُ

وَنَذهَل عن أبنائِنا وَالحلائِلِ

قال: وقام رجل من بني كِنانة فقال:

= و"الكُراع": جماعة الخيل.

"عزاليها" جمع عُزَلَاء، وهي فم المزادة الأسفل الذي يصب فيه الماء، والمزادة: الراوية. وهو كناية عن شدة المطر وغزارته، فكأنه ينزل من السماء كنزوله من أفواه القرب.

و"يتصدع": يتشقق.

(1)

"يئط": يصوِّت.

(2)

"لبانُها": صدورها.

(3)

كذا في (أ) وفي دلائل النبوة (6/ 141) من الجوع ضعفًا ما يمز ولا يُخلي.

(4)

"الحنظل": نبات ثمره شديد المرارة، و"العلهز": دم الشعر، "الفَسْل": الرديء.

ص: 136

لَكَ الحمدُ والحمدُ مِمَّن شَكَر

سُقينا بوَجهِ النَّبِيّ المَطَرْ

دَعا اللّه خَالِقَهُ دَعوةً

إليهِ وأشخصَ مِنهُ البصَر

فَلَم يَكُ إِلَّا كلفِّ الرِّدَاءِ

وأَسرَعَ حتى رَأينا الدِّرَرَ

(1)

دِفَاقُ العَزالَى

(2)

عَمَّ البِقَاعَ

أغاثَ بِهِ اللّه عَينًا مُضر

وكانَ كما قَالَهُ عَمُّهُ

أبو طالبٍ أبيضٌ ذو غُرَر

بهِ اللّه يَسقي بِصَوبِ الغَمامِ

وهذا العيان كذَاك الخبر

فَمَن يَشكُرِ اللّه يَلقى المزيدَ

ومَن يكفر اللّه يَلقى الغِيَر

قال: فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "إن يكُ شاعر يُحسنُ فقد أحسنتَ"

(3)

.

وهذا السياق فيه غرابة، ولا يُشبه ما قدَّمنا من الروايات الصحيحة المتواترة عن أنس، فإن كان هذا هكذا محفوظًا فهو قصة أخرى غير ما تقدم، واللّه أعلم.

وقال الحافظ البيهقيّ: أخبرنا أبو بكر بن الحارث الأصبهاني، حَدَّثَنَا أبو محمد بن حَيَّان

(4)

، حَدَّثَنَا عبد اللّه بن مصعب، حَدَّثَنَا عبد الجبار، حَدَّثَنَا مروان بن معاوية، حَدَّثَنَا محمد بن أبي ذئب المدني، عن عبد اللّه بن محمد بن عمر بن حاطب الجمحي، عن أبي وَجرَةَ يزيد بن عُبيد السُّلمي، قال: لما قفلَ رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك أتاه وفدُ بني فِزارة بضعة عشر رجلًا، فيهم خارجة بن الحصين، والحرُّ بن قيس - وهو أصغرهم - ابن أخي عُيينة بن حِصن، فنزلوا في دار رملةَ بنت الحارث من الأنصار، وقدموا على إبل ضِعاف عِجاف، وهم مسنتون

(5)

، فأتوا رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم مُقزين بالإسلام، فسألهم رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم عن بلادهم قالوا: يا رسول اللّه، أسنتتْ بلادُنا، وأجدَبت أحياؤنا، وعَرِيت عيالُنا، وهلكت مواشينا، فادعُ ربَّك أن يغيثَنا، وتشفَّع لنا إلى ربِّك ويشفع ربُّك إليك، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "سبحان اللّه، ويلك! هذا ما شفعت إلى ربِّي، فمن ذا الذي يشَفع ربُّنا إليه؟ لا إله إِلَّا اللّه، وسع كرسيُّه السموات والأرض، وهو يَئِطُّ من عظمته وجلاله كما يَئِطُّ

(6)

الرَّحلُ الجديد".

وقال رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم: "إن اللّه يضحكُ من شفقتكم وأزلكُم

(7)

وقُربِ غِيَاثِكم".

(1)

"الدِّرَر": المطر المتساقط، و"الدَّر": الحلب.

(2)

كذا في الأصل، وفي دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 142): رقاق العوالي جَمُّ البعاق، وفيه تصحيف ظاهر.

(3)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 141 - 142).

(4)

هو أبو الشيخ الأصبهاني.

(5)

"مسنتون": أي أصابتهم سَة، وهي الجدب والقحط.

(6)

"يئط الرَّحل": يُصوّت.

(7)

"أزْلكم": شدتكم.

ص: 137

فقال الأعرابي: ويضحك ربنا يا رسول اللّه؟ قال: نعم، فقال الأعرابي: لن نعدم يا رسولَ اللّه من ربّ يضحكُ خيرًا، فضحكَ رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم من قوله، فقام رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم فصَعِد المنبرَ وتكلَّم بكلام ورفع يديه - وكان رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم لا يرفعُ يديه في شيء من الدعاء إِلَّا في الاستسقاء - ورفعَ يديه حتى رُئي بياضُ إبطيه، وكان مما حُفظ من دعائه: "اللهم اسق بلدَك وبهائمك، وانشر رحمتَك وأَحْي بلدكَ الميت، اللهم اسقنا غَيثًا مُغيثًامَرِيئًا

(1)

مَريعًا

(2)

طبقًا واسعًا عاجلًا غير آجل، نافعًا غيرَ ضَارّ، اللهم سقيا رحمةٍ ولا سُقيا عذاب ولا هدم ولا غرق ولا محق، اللهم اسقنا الغيثَ وانصرنا على الأعداء".

فقام أبو لبابة بن عبد المنذر فقال: يا رسول الله! إن التَّمرَ في المرابد، فقال رسول الله:"اللهم اسقنا" فقال أبو لبابة: التمر في المرابد، ثلاث مرات، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "اللهم اسقنا حتى يقومَ أبو لبابة عُريَانَ فيسدّ ثَعلَب

(3)

مِربد

(4)

بازاره" قال: فلا والله ما في السماء من قَزعَةٍ ولا سَحاب، وما بين المسجد وسَلع من بناء ولا دار، فطلعت من وراء سلع سحابةٌ مثلُ التُّرس، فلما توسطتِ السماءَ انتشرت وهم يَنظرون ثم أمطرت، فوالله ما رأوا الشمسَ ستًا، وقام أبو لبابة عُريَانَ يسدّ ثعلبَ مِربده بمازاره لئلا يخرج التمر منه، فقال رجل: يا رسولَ اللّه! هلكتِ الأموالُ وانقطعتِ السُّبلُ، فصعِد النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم المِنبرَ فدعا ورفعَ يديه حتى رُئي بياضُ إبطيهِ، ثم قال: "اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والظِّراب وبطون الأودية، ومنابتِ الشَّجر" فانجابت السَّحابة عن المدينة كانجياب الثوب

(5)

.

وهذا السياق يشبه سياق مسلم المُلَائي عن أنس، ولبعضه شاهد في سنن أبي داود، وفي حديث أبي رَزِين العُقَيلي شاهد لبعضه، واللّه أعلم

(6)

.

وقال الحافظ أبو بكر البيهقيّ في "الدلائل": أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسن بن عليّ بن المؤمل، أخبرنا أبو أحمد محمد بن محمد الحافظ، أخبرنا عبد الرحمن بن أبي حاتم، حَدَّثَنَا محمد بن حمَّاد الظِّهرَاني، أخبرنا سهل بن عبد الرحمن المعروف بالسندي بن عبد ربه، عن عبد الله بن عبد اللّه بن أبي أُويس المدني، عن عبد الرحمن بن حَرمَلة، عن سعيد بن المسيب، عن أبي لُبابة بن عبد المنذر

(1)

"مَريئًا": عاقبتهُ حميدة.

(2)

"مَريعًا": خصبًا.

(3)

"ثَعلب": مخرج الماء.

(4)

"مربده": المِربد: المكان الذي يبسط فيه التمر ويجفف.

(5)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 143 - 144).

(6)

وتقدم أنه قال عن حديث مسلم الملائي أن فيه غرابة ولا يثبه الروايات الصحيحة، فهذا مثله، وعبد اللّه بن محمد بن عمر ذكره الذهبي في الميزان (2/ 483 - 484) ونقل عن أبي حاتم قوله فيه "محله الصدق" يعني هو تحت الاعتبار، ثم ذكر الذهبي أنه ليس له شيء في كتب الحديث المعتبرة.

ص: 138

الأنصاري قال: استسقى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يومَ جمعة وقال: "اللهم اسقنا، اللهم اسقنا" فقام أبو لُبابة فقال: يا رسولَ الله إن التَّمرَ في المَرَابدِ. وما في السماء من سَحاب نراه، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم:"اللهم اسقنا، حتى يقومَ أبو لبابة يَسدُّ ثَعلَب مِربَده بإزاره" فاستهلّت

(1)

السماءُ ومَطرت، وصلَّى بنا رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم، فأتى أبا لبابةَ

(2)

يقولون له: يا أبا لبابة، إن السَّماءَ والله لن تُقلعَ حتى تقومَ عُريَانًا فتسدَّ ثَعلبَ مِربَدك بإزارك كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فقام أبو لبابة عُريَانَ يَسذُ ثَعلبَ مِربده بإزاره، فأقلعت السماءُ

(3)

.

وهذا إسناد حسن، ولم يروه أحمد ولا أهلُ الكتب، واللّه أعلم.

وقد وقعَ مثلُ هذا الاستسقاء في غزوة تبوك في أثناء الطريق؛ كما قال عبد اللّه بن وهب: أخبرني عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبي هلال، عن عتبة بن أبي عتبة، عن نافع بن جبير، عن عبد الله بن عباس؛ أنه قيل لعمرَ بن الخطاب: حدِّثنا عن شأن ساعة العُسرة، فقال عمر: خرجنا إلى تبوك في قَيظ شديد، فنزلنا منزلًا وأصابنا فيه عَطشٌ حتى ظننا أن رقابَنا ستنقطع، حتى أن كان أحدُنا ليذهبُ فيلتمسُ الرَّحلَ فلا يجده حتى يظن أن رقبته ستنقطع، حتى أن الرجل ليَنحرُ بعيره فيعصر فَرثه فيشربه، ثم يجعل ما بقي على كبده، فقال أبو بكر الصديق: يا رسول الله! إن الله قد عَوَّدكَ في الدعاء خيرًا، فادعُ الله لنا، فقال:"أو تحبُّ ذلك؟ " قال: نعم، فرفع يديه نحو السماء، فلم يَرجعهما حتى قالت

(4)

السماء فأطلّحتْ

(5)

، ثم سكبت، فملؤوا ما معهم، ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر

(6)

.

وهذا إسناد جيد قوي ولم يخرجوه.

وقد قال الواقديّ

(7)

: كان مع المسلمين في هذه الغزوة اثنا عشر ألف بعير ومثلَها من الخيل، وكانوا ثلاثين ألفًا من المُقاتلة، قال: ونزل من المطر ماءٌ أغدقَ الأرض حتى صارت الغُدران تسكبُ بعضُها في بعض، وذلك في حمأة القيظ -أي: شدة الحر البليغ- فصلوات الله وسلامه عليه.

وكم له عليه الصلاة والسلام من مثل هذا في غير ما حديث صحيح، ولله الحمد.

وقد تقدم أنه لما دعا على قريش حين استعصت؛ أن يُسَلِّطَ اله عليها سَبعًا كسبع يوسف، فأصابتهم

(1)

كذا بالأصل، وفي دلائل النبوة: فأسبَلت.

(2)

في الدلائل: ثم طاف الأنصار بأبي لبابة يقولون

(3)

"دلائل النبوة" للبيهقي (6/ 144 - 145).

(4)

"قالت السماء": امتلأت بالغيوم.

(5)

"فأطلّت": تهيأت للهطول.

(6)

رواه البزار رقم (1841).

(7)

الطبقات الكبرى؛ لابن سعد (2/ 166).

ص: 139

سنة حَصَّت

(1)

كلَّ شيء حتى أكلوا العظام والكلاب والعِلْهز، ثم أتى أبو سفيان يَشفع عنده في أن يدعوَ اللّه لهم، فدعا لهم، فرُفِعَ ذلك عنهم.

وقد قال البخاري: حَدَّثَنَا الحسن بن محمد، حَدَّثَنَا محمد بن عبد اللّه الأنصاري، حَدَّثَنَا أبي عبد اللّه بن المثنى، عن ثمامة بن عبد اللّه بن أنس، عن أنس بن مالك؛ أن عمر بن الخطاب كان إذا قُحطوا استسقى بالعباس، وقال: اللهم إنا كُنّا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، قال: فيُسقون

(2)

. تفرد به البخاري.

‌فصل وأما المعجزات الأرضية

فمنها ما هو متعلّق بالجمادات، ومنها ما هو متعلّق بالحيوانات، فمن المتعلّق بالجمادات: تكثيرُه الماءَ في غير ما موطن على صفات متنوعة سنوردُها بأسانيدها إن شاء اللّه، وبدأنا بذلك لأنه أنسبُ باتّباع ما أسلفنا ذكرَه من استسقائه وإجابة اللّه له.

قال البخاريّ

(3)

حَدَّثَنَا عبد اللّه بن مسلمة، عن مالك، عن إسحاق بن عبد اللّه بن أبي طلحة، عن أنس بن مالك، قال: رأيتُ رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم وحانت صلاةُ العصرِ، والتمسَ النَّاسُ الوضوءَ فلم يجدوه، فأتى رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم بوضوء، فوضع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يدَه في ذلك الإناء، فأمرَ النَّاسَ أن يتوضؤوا منه، فرأيت الماءَ ينبعُ من تحت أصابعه، فتوضأ النَّاسُ حتى توضؤوا من عند آخرهم.

وقد رواه مسلم والترمذي والنسائي

(4)

، من طرق، عن مالك، به. وقال الترمذي: حسن صحيح. طريق أخرى عن أنس: قال الإمام أحمد

(5)

: حَدَّثَنَا يونس بن محمد، حَدَّثَنَا حزم، سمعت الحسن يقول: حَدَّثَنَا أنس بن مالك: أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم خرجَ ذاتَ يوم لبعضِ مخارجه معه ناس من أصحابه، فانطلقوا تسيرون، فحضرت الصلاة، فلم يجد القومُ ماءً يتوضؤون به، فقالوا: يا رسول اللّه! ما نجدُ ما نتوضأ به ورأى في وجوه أصحابه كراهيةَ ذلك، فانطلقَ رجلٌ من القوم فجاء بقدح من ماء يسير،

(1)

"حصَّت": أتلفت.

(2)

رواه البخاري في صحيحه رقم (1010) في الاستسقاء.

(3)

رواه البخاري في صحيحه رقم (169) في الوضوء.

(4)

رواه مسلم رقم (2279) في الفضائل وفي الطهارة، والنسائي في سننه (1/ 60) في الطهارة، والترمذي في الجامع رقم (3631) في المناقب.

(5)

في المسند (3/ 216).

ص: 140

فأخذه نبيُّ اللّه فتوضأ منه، ثم مد أصابعه الأربع على القدح، ثم قال:"هلُمُّوا فتوضؤوا" فتوضأ القومُ حتى بلغوا فيما يريدون من الوضوء، قال الحسن: سئل أنس كم بلغوا؟ قال: سبعين أو ثمانين.

وهكذا رواه البخاري، عن عبد الرحمن بن المبارك العَنْسي، عن حَزْم بن مِهْران القُطَعي

(1)

.

طريق أخرى عن أنس: قال الإمام أحمد

(2)

: حَدَّثَنَا ابن أبي عدي، عن حميد ويزيد قال: أخبرنا حُميد المَعْنى، عن أنس بن مالك، قال: نُودي بالصلاة فقام كلُّ قريب الدار من المسجد، وبقي من كان أهله نائي الدار، فأُتي رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم بمِخْضب من حجارة، فَصَغُرَ أن يَبسطَ كفَّه فيه، قال: فضمَّ أصابعه. قال: فتوضأ بقيّتهم. قال حميد: وسُئل أنس: كم كانوا؟ قال: ثمانين أو زيادة.

وقد روى البخاري

(3)

، عن عبد اللّه بن منير، عن يزيد بن هارون، عن حُميد، عن أنس بن مالك، قال: حضرتِ الصَّلاةُ، فقام من كان قريبَ الدار من المسجد يتوضأ، وبقي قومٌ، فأُتي رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم بمِخْضب من حجارة فيه ماء، فوضع كفَّه، فَصَغُر المِخْضب أن يبسطَ فيه كفَّه، فضمَّ أصابعَه فوضعَها في المِخْضب، فتوضأ القومُ كلُّهم جميعًا. قلت: كم كانوا؟ قال: كانوا ثمانين رجلًا.

طريق أخرى عنه: قال الإمام أحمد

(4)

: حَدَّثَنَا محمد بن جعفر، حَدَّثَنَا سعيد إملاءً، عن قتادة، عن أنس بن مالك: أن رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم كان بالزَّوراء، فأُتي بإناء فيه ماء لا يَغمرُ أصابعَه، فأمرَ أصحابَه يتوضؤوا، فوضع كفَّه في الماء، فجعل الماءُ ينبعُ من بين أصابعه وأطراف أصابعه، حتى توضأ القوم، قال: فقلت لأنس: كم كنتم؟ قال: كنا ثلاثمئة.

وهكذا رواه البخاري، عن بُنْدار، عن ابن أبي عدي، ومسلم عن أبي موسى

(5)

، عن غندر، كلاهما عن سعيد بن أبي عروبة، وبعضُهم يقول عن شعبة، والصحيح سعيد، عن قتادة، عن أنس، قال: أُتي رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم بماناء وهو في الزوراء، فوضع يدَه في الإناء، فجعلَ الماءُ ينبعُ من بين أصابعه فتوضَّأ القومُ. قال قتادة: فقلت لأنس: كم كنتم؟ قال: ثلاثمئة، أو زُهَاءَ ثلاثمئة. لفظ البخاري.

حديث البراء بن عازب في ذلك: قال البخاري

(6)

: حَدَّثَنَا مالك بن إسماعيل، حَدَّثَنَا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب، قال: كنا يومَ الحديبية أربعَ عشرة مئة، والحُدَيبيةُ بئرٌ فنزحناها حتى

(1)

رواه البخاري في صحيحه رقم (3574) في المناقب.

(2)

في المسند (3/ 106).

(3)

رواه البخاري في صحيحه رقم (3575) في المناقب. و"المِخْضب": وعاء كالإجانة.

(4)

في مسنده (3/ 170).

(5)

رواه البخاري في صحيحه رقم (3572) في المناقب، ومسلم في صحيحه رقم (2279) (7) في الفضائل. و"زهاء": قدر كذا وما يقاربه.

(6)

رواه البخاري في صحيحه رقم (3577) في المناقب، و (4151) في المغازي.

ص: 141

لم نترك فيها قطرةً، فجلسَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على شفير البئر، فدعا بماء فَمَضْمَضَ ومَجَّ في البئر، فمكثنا غيرَ بعيد، ثم استقينا حتى روينا ورَوَتْ -أو صدرت- رِكَابُنا

(1)

. تفرد به البخاري إسنادًا ومتنًا.

حديث آخر عن البراء بن عازب: قال الإمام أحمد: حَدَّثَنَا عفَّان وهاشم

(2)

، حَدَّثَنَا سليمان بن المغيرة، حَدَّثَنَا حُميد بن هِلال، حَدَّثَنَا يُونس -هو ابن عُبَيدة مولى محمد بن القاسم- عن البراء قال: كنا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في سفر، فأتينا على رَكِيٍّ ذَمَّة

(3)

- يعني قليلة الماء - قال: فنزل فيها ستةُ أناسٍ أنا سادسُهم ومعهم مَاحَةٌ

(4)

، فأُدليتْ إلينا دلوٌ قال: ورسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم على شفا الرَّكيّ، فجعلنا فيها نصفها أو ثلثيها، فرُفعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال البراء: فكدتُ

(5)

بإنائي هل أجدُ شيئًا أجعلُه في حَلْقي؟ فما وجدتُ، فرُفعت الدلو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فغمسَ يدَه فيها، فقال ما شاءَ اللّه أن يقول، وأُعيدت إلينا الدلو بما فيها، قال: فلقد رأيتُ أحدَنا أُخرج بثوبٍ خشيةَ الغرق. قال: ثم ساحتْ - يَعني جرتْ نهرًا -.

تفرد به الإمام أحمد، وإسنادُه جيِّد قوي

(6)

، والظاهر أنها قصة أخرى غير يوم الحديبية، واللّه أعلم.

حديث آخر عن جابر في ذلك: قال الإمام أحمد: حَدَّثَنَا سِنان بن حاتم، حَدَّثَنَا جعفر - يعني ابن سليمان - حَدَّثَنَا الجَعد أبو عثمان، حَدَّثَنَا أنس بن مالك، عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري، قال: اشتكى أصحابُ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إليه العطشَ، قال: فدعا بعُسٍّ

(7)

، فصحث فيه شيءٌ من الماء، ووضعَ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فيه يدَه، وقال:"استقوا" فاستقى الناسُ قال: فكنتُ أرى العيونَ تنبعُ من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

تفرد به أحمد من هذا الوجه.

وفي أفراد مسلم من حديث حاتم بن إسماعيل، عن أبي حَزْرَة يَعقوب بن مُجاهد، عن عُبادةَ بن الوليد بن عُبادة، عن جابر بن عبد الله في حديث طويل، قال فيه:

(1)

في البخاري: ركائبنا.

(2)

هكذا جمع المصنف بين حديثين للإمام أحمد أحدهما عن عفان عن سليمان (المسند 4/ 297)، والثانية عن هاشم عن سليمان (المسند 4/ 292).

(3)

"ركي ذَمّة": بئر قليل الماء.

(4)

"الماحة": جمع مائح، وهو الذي ينزل في البئر إذا قل ماؤها، فيملأ الدلو بيده. وفي رواية عفان عن سليمان: فنزلنا فيها ستة أنا سابعُهم، أو سبعة أنا ثامنهم. قال: ماحة

(5)

"كدتُ": احتلتُ وبالغت في طلب الماء من الدلو.

(6)

هكذا جَوّد المصنف إسناده، وفيه نظر، فإن إسناد الحديث ضعيف لجهالة يونس وهو ابن عُبيد مولى محمد بن القاسم الثقفي، قال ابن القطان: مجهول، وقال الذهبي: لا يدرى من هو. وقال الحافظ ابن حجر في التقريب: مقبول (يعني حديث يتابع وإلا فضعيف) ولم يتابع. وينظر تحرير التقريب (4/ 140)(بشار).

(7)

"بعسٍّ": بقدح ضخم.

ص: 142

سِرْنا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حتى نزلنا واديًا أَفْيَحَ

(1)

فذهبَ رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم يَقضي حاجتَه، فاتبعته بإداوةٍ من ماء، فنظرَ رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم فلم يرَ شيئًا يَسْتترُ به، وإذا بشجرتين بشاطئ

(2)

الوادي، فانطلق رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم إلى إحداهما، فأخذ بغصن من أغصانها، فقال:"انقادي عليَّ بإذن اللّه" فانقادتْ معه كالبعير المخشوش

(3)

الذي يُصَانع قائدَه، حتى أتى الأخرى، فأخذَ بغصنٍ من أغصانها، فقال:"انقادي عليّ بإذن اللّه" فانقادت معه كذلك، حتى إذا كان بالمنتصف مما بينهما لأمَ بينهما - يعني: جمعهما - فقال: "التئما عليَّ بإذن اللّه" فالتأمتا.

قال جابر: فخرجتُ أُحْضِرُ

(4)

مخافةَ أن يُحِسَّ رسولُ اللّه بقربي فيبتعدَ، فجلستُ أُحدّث نفسي، فحانت مني لفتةٌ، فإذا أنا برسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وإذا بالشجرتين قد افترقتا، فقامت كلُّ واحدة منهما على ساق، فرأيتُ رسولَ اللّه وقفَ وقفةً، فقال برأسه هكذا: يمينًا وشمالًا، ثم أقبلَ، فلما انتهى إليَّ قال:"يا جابرُ! هل رأيتَ مَقَامي"؟ قلت: نعم يا رسولَ اللّه، قال:"فانطلقْ إلى الشجرتين فاقطع من كلِّ واحدةٍ منهما غُصْنًا فَأقبل بهما، حتى إذا قمتَ مَقَامي فأرسلْ غُصنًا عن يمينك وغصنًا عن شمالك".

قال جابر: فقمتُ فأخذتُ حجرًا فكسرتُه وحَسَرْتُه

(5)

فانذلق

(6)

لي، فأتيتُ الشجرتين فقطعتُ من كل واحدة منهما غصنًا، ثم أقبلتُ حتى قمتُ مَقام رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، أرسلتُ غصنًا عن يميني وغصنًا عن يَساري، ثم لحقتُه فقلت: قد فعلتُ يا رسول اللّه، قال: فقلت: فلم

(7)

ذاك؛ قال: "إني مررتُ بقبرين يُعذّبان، فأحببت بشفاعتي أن يُرَفِّه ذلك

(8)

؛ عنهما، ما دامَ الغصنان رَطْبين".

قال: فأتينا العسكرَ فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "يا جابرُ نادِ الوَضوءَ"

(9)

فقلت: ألا وضوءَ، ألا وضوءَ، ألا وضوءَ؟ قال: قلت: يا رسول اللّه! ما وجدتُ في الركب من قطرة، وكان رجلٌ من الأنصار يُبَرِّدُ لرسول اللّه في أَشْجابٍ

(10)

له على حِمَارةٍ

(11)

من جريد، قال: فقال لي: "انطلق إلى فلانٍ الأنصاريّ،

(1)

"أفيح": واسع.

(2)

"بشاطئ الوادي": بجانبه.

(3)

"كالبعير المخشوش": هو الذي يُجعل في أنفه خثاش، وهو عود يجعل في أنف البعير إذا كان صعبًا، ويُشد فيه حبلٌ ليذل وينقاد، وقد يتمانع لصعوبته، فإذا اشتد عليه وآلمه انقاد شيئًا، ولهذا قال: الذي يُصانع قائده.

(4)

"أحْضِرُ": أعدو وأسعى سَعيًا شديدًا.

(5)

"حسرته": أي أحددته ونحيت عنه ما يمنع حدته، بحيث صار مما يمكن قطع الأغصان به.

(6)

"فانذلق": أي صار حادًّا.

(7)

في صحيح مسلم: فعمَّ ذاك؟.

(8)

في صحيح مسلم: أن يُرَفَّهَ: أي يُخفف.

(9)

في صحيح مسلم: نادِ بوضوء.

(10)

"أشجاب له": جمع شِجَاب، وهو السقاء الذي قد أخلق وبلي وصار شنًا.

(11)

"حمَارة": هي أعواد تعلّق عليها أسقية الماء.

ص: 143

فانظرْ هل ترى في أشجابه من شيء؟ " قال: فانطلقتُ إليه فنظرتُ فيها فلم أجد فيها إِلَّا قطة في عَزْلاءِ

(1)

- شَجَبٍ منها - لو أني أفرغته لشربَه يا بِسُه، فأتيتُ رسولَ اللّه فقلت: يا رسول الله! لم أجدْ فيها إِلَّا قطرة في عَزْلاءِ شَجَبٍ منها، لو أني أفرغتُه لشربَه يا بسُهُ. قال:"اذهبْ فائْتِني به" فأتيتُه فأخذَه بيده فجعلَ يتكلَّم بشيء لا أدري ما هو، ويغمزُ بيده

(2)

، ثم أعطانيه فقال:"يا جابرُ! نادِ بجفنةٍ" فقلتُ: يا جفنةَ الرَّكبِ، فأُتيتُ بها تُحمل، فوضعتُها بين يديه، فقال رسولُ اللّه بيده في الجَفْنة هكذا، فبسطَها وفرَّقَ بين أصابعه، ثم وضعها في قعر الجفنة وقال:"خذْ يا جابرُ، فصُبَّ عليَّ، وقل: باسم الله" فصببتُ عليه وقلت: باسم اللّه، فرأيتُ الماء يفورُ من بين أصابعِ رسولِ اللّه صلى الله عليه وسلم، ثم فارتِ الجفنةُ ودارت حتى امتلأت فقال:"يا جابر! نادِ من كانت له حاجةٌ بماء "قال: فأتى الناسُ فاستقَوْا حتى رَوُوا، فقلت: هل بقي أحد له حاجة؛ فرفعَ رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم يدَه من الجفنة وهي ملأى.

قال: وشكا الناسُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجوعَ، فقال:"عسى الله أن يُطعمَكم" فأتينا سَيْفَ

(3)

البحر، فزجرَ زجرةً، فألقى دابةً فأَوْرَينا على شِقها النارَ، فطبخنا واشتوينا وأكلنا وشبعنا، قال جابر: فدخلتُ أنا وفلان وفلان وفلان، حتى عذَ خمسة في مَحاجرِ عَيْنها ما يَرانا أحد، حتى خرجنا وأخذنا ضِلْعًا من أضلاعِها فقَوَسناه، ثم دعوْنا بأعظم رجل في الركب، وأعظم جمل في الركب، وأعظم كِفْل في الركب، فدخل تحتها ما يُطأطئُ رأسَه

(4)

.

وقال البخاري

(5)

: حَدَّثَنَا موسى بن إسماعيل، حَدَّثَنَا عبد العزيز بن مسلم، حَدَّثَنَا حُصين، عن سالم بن أبي الجَعْد، عن جابر بن عبد اللّه، قال: عَطِشَ الناسُ يوم الحديبية والنبيُّ صلى الله عليه وسلم بين يديْه ركوة نتوضأ فجهش الناس نحوه قال: "ما لكم؟ "قالوا: ليس عندنا ماء نتوضأ ولا نشرب إِلَّا ما بين يديك، فوضع يده في الركوة فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأمثال العيون فشربنا وتوضأنا، قلت: كم كنتم؟ قال: لو كنا مئة ألف لكفانا، كنا خمس عشرة مئة.

وهكذا رواه مسلم من حديث حُصين

(6)

وأخرجا

(7)

من حديث الأعمش. زاد مسلم

(8)

: وشعبة، ثلاثتهم عن سالم، عن جابر، به. وفي رواية الأعمش كنا أربع عشرة مئة.

(1)

"عزلاء": فم القربة والقاء.

(2)

"يغمز": يعصر.

(3)

"سيف البحر": ساحله.

(4)

رواه مسلم في صحيحه رقم (3012) في الزهد والرقائق (باب حديث جابر الطويل).

(5)

رواه البخاري في صحيحه رقم (3576) في المناقب.

(6)

في صحيحه رقم (1856)(73) في الإمارة.

(7)

رواه البخاري في صحيحه رقم (4154) في المغازي، ومسلم في صحيحه رقم (1856)(74). وسالم هو ابن أبي الجَعْد.

(8)

رواه مسلم في صحيحه رقم (1857) في الإمارة.

ص: 144

وقال الإمام أحمد

(1)

: حَدَّثَنَا يحيى بن حماد، حَدَّثَنَا أبو عوانة، عن الأسود بن قيسر، عن شقيق العبدي؛ أن جابر بن عبد اللّه قال: غزونا - أو سافرنا - مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ونحن يومئذ بضعَ عشرَة ومئتان، فحضرت الصَّلاةُ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم:"هل في القوم من ماء؟ " فجاءَه رجلٌ يَسعى بإداوة فيها شيء من ماء. قال: فصبّه رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم في قدح. قال: فتوضأ رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم فأحسنَ الوضوءَ، ثم انصرف وتركَ القدحَ، فركبَ النَّاسُ القدحَ تمسّحوا وتمسّحوا، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم:"على رِسْلكم" حين سمعهم يقولون ذلك، قال: فوضع رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم كفَّه في الماء، ثم قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: باسم اللّه" ثم قال: "أسبغوا الوضوء". قال جابر: فوالذي هو ابتلاني ببصري، لقد رأيتُ العيونَ عيونَ الماء يومئذٍ تخرجُ من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما رفعها حتى توضؤوا أجمعون.

وهذا إسناد جيد تفرد به أحمد

(2)

، وظاهره كأنه قصة أخرى غير ما تقدم.

وفي صحيح مسلم، عن سلمة بن الأكوع، قال: قدمنا الحديبيةَ مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ونحن أربع عشرة مئة - أو أكثر من ذلك

(3)

- وعليه خمسون شاة لا تُرْويهَا، فقعد رسول اللّه على شفا

(4)

الركية، فإما دعا وإما بصق فيها قال: فجاشت، فسقينا واستقينا

(5)

.

وفي صحيح البخاري، من حديث الزهري، عن عروة عن المِسوَر ومروان بن الحكم، في حديث صُلح الحديبية الطويل: فعدلَ عنهم رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم حتى نزلَ بأقصى الحديبية على ثَمَدٍ

(6)

قليلِ الماءِ يَتَبَرَّضه تَبَرُّضأ

(7)

، فلم يُلَبِّثْه الناسُ حتى نزحوه، وشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطشَ، فانتزعَ سهمًا من كِنانته، ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، واللّه ما زالَ يجيشُ لهم بالرِّيّ حتى صدروا عنه

(8)

.

وقد تقدَّم الحديثُ بتمامه في صُلْح الحديبية، فأغنى عن إعادته.

(1)

رواه الإمام أحمد في المسند (3/ 292).

(2)

هكذا اقتصر المصنف على تجويد إسناده ولم يصححه، وكأن ذلك بسبب نبيح بن عبد اللّه العنزي الذي قال فيه الحافظ ابن حجر في التقريب: مقبول. وفي هذا التجويد وفي قول الحافظ مقبول نظر، فإن نبيحًا هذا ثقة، وثقه أبو زرعة الرازي - وناهيك به - وذكره ابن حبان والعجلي في الئقات، وصحح حديثه الترمذي وابن خزيمة وابن حبان، وقد جهله ابن المديني، وهو مدفوع بما ذكرنا من التوثيق والتصحيح. (ينظر تحرير التقريب 4/ 10)، فإسناد الحديث صحيح إن شاء اللّه تعالى (بشار).

(3)

في صحيح مسلم (3/ 1433) لا وجود لهذا الشك، وإنما قال جازمًا: ونحن أربع عشرة مئة.

(4)

كذا بالأصل، وفي صحيح مسلم: على جبا الركيّة. والجبا: ما حول البئر.

(5)

رواه مسلم في صحيحه رقم (1807) في الجهاد، وهو حديث طويل، ذكر منه ابن كثير محل الشاهد.

(6)

"على ثمد": الثمد: الحفيرة فيها الماء القليل.

(7)

"يتبرضه تبرضًا": يأخذ منه قليلًا قليلًا.

(8)

رواه البخاري في صحيحه رقم (2731) و (2732) بطوله في الشروط.

ص: 145

وروى ابنُ إسحاق عن بعضهم أن الذي نزلَ بالسهم ناجيةُ بن جُندُب سائقُ البُدْن، قال: وقيل: البَراءُ بن عازب. ثم رجَّحَ ابنُ إسحاق الأول.

حديث آخر عن ابن عباس في ذلك: قال الإمام أحمد

(1)

: حَدَّثَنَا حسين الأشقر وحدَّثنا أبو كدينة، عن عطاء، عن أبي الضحى، عن ابن عباس، قال: أصبحَ رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم ذاتَ يوم وليس في العسكر ماء، فأتاه رجلٌ فقال: يا رسولَ اللّه! ليس في العسكر ماء، قال:"هل عندك شيء؟ " قال: نعم، قال:"فائتني" قال: فأتاهُ بإناء فيه شيءٌ من ماء قليل، قال: فجعلَ رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم أصابعَه في فم الإناء وفتحَ أصابعَه، قال: فانفجرت من بين أصابعِه عيونٌ، وأمرَ بلالًا فقال:"نادِ في النَّاس الوضوءَ المبارك".

تفرَّد به أحمد، ورواه الطبرانيُّ

(2)

من حديث عامر الشعبي، عن ابن عباس، بنحوه.

حديث عن عبد الله بن مسعود في ذلك: قال البخاري

(3)

: حَدَّثَنَا محمد بن المثنى، حَدَّثَنَا أبو أحمد الزبيري، حَدَّثَنَا إسرائيل، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد اللّه قال: كنا نعدُّ الآيات بركةً، وأنتم تعدُّونها تخويفًا، كنّا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في سفر، فقلَّ الماء فقال:"اطلبوا فَضْلَةً من ماء" فجاؤوا بإناء فيه ماءٌ قليل، فأدخل يدَه في الإناء ثم قال:"حيَّ على الطَّهور المبارك، والبركةُ من اللّه عز وجل" قال: فلقد رأيتُ الماءَ ينبعُ من بين أصابعِ رسولِ اللّه صلى الله عليه وسلم، ولقد كنّا نسمعُ تسبيحَ الطَّعام وهو يُؤكل.

ورواه الترمذي

(4)

، عن بُنْدار، عن أبي أحمد، وقال: حسن صحيح.

حديث عن عمران بن حصين في ذلك: قال البخاري: حَدَّثَنَا أبو الوليد، حَدَّثَنَا مسلم بن زيد، سمعت أبا رجاء قال: حَدَّثَنَا عمران بن حُصَيْن: أنهم كانوا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في مسير فأدلَجوا ليلتَهم حتى إذا كانوا

(5)

في وجه الصبح عرَّسُوا، فغلبتهم أعينهُم حتى ارتفعت الشَّمسُ، فكان أوّلَ من استيقظَ من منامه أبو بكر، وكان لا يُوقظ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم من منامه حتى يستيقظَ، فاستيقظَ عمرُ، فقعدَ أبو بكر عندَ رأسِه فجعلَ يكبِّر ويرفعُ صوتَه حتى استيقظَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فنزلَ وصلَّى بنا الغداةَ، فاعتزلَ رجلٌ من القوم لم

(1)

رواه الإمام أحمد في المسند (1/ 251) رقم (2268) وإسناده ضعيف، وله شاهد عند البخاري من حديث جابر بن عبد الله رقم (5639)، فهو حديث حسن لغيره.

(2)

المعجم الكبير للطبراني (12/ 87).

(3)

في صحيحه (3579) في الأنبياء.

(4)

في الجامع رقم (3633) في المناقب.

(5)

كذا في (أ) وفي البخاري: حتى إذا كان وجه الصبح.

ص: 146

يصلّ معنا، فلما انصرفَ قال:"يا فلان! ما يمنعُك أن تصلّي معنا؟ " قال: أصابتني جنابة، فأمره أن يتيمَّم بالصَّعيد ثم صلَّى، وجعلني رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم في رَكوبٍ بين يديه، وقد عطشنا عطشًا شديدًا، فبينما نحن نسيرُ مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا نحن بامرأةٍ سادلةٍ رجليها بين مَزادتين، فقلنا لها: أين الماء؟ قالت: إنه لا ماء. فقلنا: كم بين أهلِك وبينَ الماء؟ قالت: يومٌ وليلة، فقلنا: انطلقي إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، قالت: وما رسولُ اللّه؟ فلم نملِّكْها من أمرها حتى استقبلنا بها النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فحدَّثَته الذي حدَّثَتْنا، غيرَ أنها حدَّثته أنها مُؤْتمةٌ

(1)

، فأمر بمزادتيها، فمسحَ في العزلاوين

(2)

، فشربنا عِطَاشًا أربعينَ رجلًا، حتى روينا وملأنا كل قِرْبةٍ معنا وإدَاوة، غير أنَّه لم نسقِ بعيرًا، وهي تكادُ تبضُّ من المِلء

(3)

، ثم قال: هاتُوا ما عندكم، فجمعَ لها من الكِسَر والتَّمر حتى أتت أهلَها، قالت: أتيتُ أسحرَ النَّاس أو هو نبيٌّ كما زَعموا، فهدى اللّه ذاكَ الصِّرم بتلك المرأة فأسلمتْ وأسلمُوا

(4)

.

وكذلك رواه مسلم

(5)

، من حديث سَلم بن زريرٍ.

وأخرجاه

(6)

من حديث عوف الأعرابي، كلاهما عن أبي رجاء العُطَاردي - واسمه عِمْران بن تَيْم - عن عِمرَان بن حُصَيْن، به.

وفي رواية لهما فقال لها: اذهبي بهذا معك لعيالك، واعلمي أنّا لم نرزأك

(7)

من مائك شيئًا، غير أن اللّه سقانا، وفيه: أنه لما فتح العزلاوين سمَّى اللّه عر وجلّ.

حديث عن أبي قتادة في ذلك: قال الإمام أحمد: حَدَّثَنَا يزيد بن هارون، حَدَّثَنَا حمَّاد بن سلمة، عن ثابت، عن عبد اللّه بن رَباح، عن أبي قتادة قال: كنّا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في سفر، فقال:"إنكم إن لا تُدركوا الماءَ غدًا تعطشوا" وانطلق سُرعانٌ

(8)

النَّاس يُريدون الماءَ، ولزمتُ رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم، فمالت برسول اللّه صلى الله عليه وسلم راحلته، فنعِس رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم، فدَعَمْتُه فاندعَم، ثم مال فدَعَمْتُه فاندعمَ، ثم مال حتى كاد أن يَنْجَفِل

(9)

عن راحلته فدَعَمْتُه فانتبَه، فقال:"من الرجل؟ " فقلت: أبو قتادة، قال:"منذ كم كان مسيرُك؟ " قلت: منذ الليلة، قال:"حَفِظَكَ اللّه كما حَفِظْتَ رسولَه، ثم قال: لو عَرَّسْنا".

(1)

"مؤتمة": ذات أيتام، تُوفي زوجها وترك أولادًا صغارًا.

(2)

"العزلاوين": مثنى العزلاء، وهو المصب الأسفل للمزادة، الذي يفرغ منه الماء.

(3)

تبضُّ من الملء: تسيل بسبب أنها ممتلئة. وفي المطبوع: تفضي من الملء.

(4)

رواه البخاري في صحيحه رقم (3571) في المناقب.

(5)

في صحيحه رقم (682)(312) في المساجد.

(6)

رواه البخاري في صحيحه رقم (344) في التيمم، ومسلم في صحيحه رقم (682) في المساجد.

(7)

"لم نرزأك": لم نأخذ، أو ننقص من مائك شيئًا.

(8)

"سُرْعان الناس": المسرعون منهم.

(9)

"ينجفل": يزول.

ص: 147

فمال إلى شجرة فنزلَ فقال: "انظرْ هل ترى أحدًا؟ " قلت: هذا راكب، هذان راكبان، حتى بلغ سبعة، فقال:"احفظوا علينا صلاتنا" فنمنا، فما أيقظنا إِلَّا حرُّ الشمس، فانتبهنا، فركبَ رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم فسارَ وسرنا هُنَيْهَةً، ثم نزل فقال:"أمعكم ماء؟ "قال: قلت: نعم، معي مَيْضَأة فيها شيء من ماء، قال:"ائت بها" قال: فأتيته بها فقال: "مُسُّوا منها، مُسُّوا منها" فتوضأ القوم وبقيت جرعة فقال: "ازدهر

(1)

بها يا أبا قَتادة فإنّه سيكونُ لها نبأٌ".

ثم أذّنَ بلال وصلُّوا الركعتين قبل الفجر، ثم صَلُّوا الفجرَ، ثم ركبَ وركبنا فقال بعضُهم لبعض: فرَّطنَا في صلاتنا، فقال رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم:"ما تقولون؟ إن كان أمرُ دنياكم فشأنكم، وإن كان أمرُ دينك فإليَّ" قلنا: يا رسول اللّه! فرَّطْنا في صلاتنا، فقال:"لا تفريط في النوم، إنما التفريطُ في اليَقظة، فإذا كانَ ذلك فصلُّوها، ومن الغد وقتها، ثم قال: "ظنُّوا بالقوم" قالوا: إنك قلتَ بالأمس: إن لا تدركوا الماء غدًا تعطشوا، فالناس بالماء.

قال: فلما أصبحَ الناسُ وقد فقدُوا نبيَّهم، فقال بعضهم لبعض: إن رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم بالماء، وفي القوم أبو بكر وعمر، فقالا: أيُّها الناس إن رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم لم يكن ليسبقَكم إلى الماء ويخلِّفَكم، وإن يطع الناسُ أبا بكر وعمرَ يَرشدوا، قالها ثلاثًا.

فلما اشتدَّت الظهيرةُ رُفِعَ لهم رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسولَ اللّه هلكنا عطشًا، تقطَّعت الأعناقُ، فقال:"لا هُلْكَ عليكم"، ثم قال:"يا أبا قتادة! ائت بالميضأة" فأتيته بها، فقال: "احللْ لي غُمَري

(2)

- يعني قدحه - فحللته، فأتيته به، فجعلَ يصبُّ فيه ويسقي الناسَ، فازدحمَ الناسُ عليه، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم:"يا أيّها الناس أحسنوا الملءَ، فكلّكم سيصدرُ عن رِيّ، فشربَ القوم حتى لم يبقَ غيري وغير رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فصبَّ لي، فقال: "اشرب يا أبا قتادة" قال: قلت: اشربْ أنت يا رسولَ اللّه، قال: "إن ساقي القوم آخرُهم" فشربتُ وشربَ بعدي، وبقي في الميضأة نحو مما كان فيها، وهم يومئذ ثلاثمئة.

قال عبدُ اللّه: فسمعني عِمران بن حُصين وأنا أحدِّث هذا الحديثَ في المسجد الجامع، فقال: مَن الرجل؟ قلت: أنا عبد اللّه بن رَباح الأنصاري، قال: القومُ أعلمُ بحديثهم، انظر كيف تُحَدَّث فإني أحدُ السبعة تلك الليلة، فلما فرغتُ قال: ما كنتُ أحسَبُ أحدًا يحفظ هذا الحديث غيري

(3)

.

(1)

"ازدهر": احتفظ.

(2)

"غُمَرِي": الغمر: القدح الصغير.

(3)

رواه الإمام أحمد في المسند (5/ 298) وهو حديث صحيح.

ص: 148

قال حمادُ بن سَلمة: وحدَّثنا حُميد الطويل، عن بكر بن عبد اللّه المزني، عن عبد اللّه بن رَباحِ، عن أبي قتادة، عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم بمثله، وزاد: قال: كان رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم إذا عرَّسَ وعليه ليلٌ توسَّدَ يمينه، وإذا عرَّسَ الصبحَ وضع رأسَه على كفّه اليُمنى وأقام ساعدَه

(1)

.

وقد رواه مسلم

(2)

، عن شيبانَ بن فروخ، عن سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن عبد اللّه بن رَبَاح، عن أبي قتادة الحارث بن رَبعي الأنصاري بطوله.

وأخرج

(3)

من حديث حماد بن سلمة، بسنده الأخير أيضًا.

حديث آخر عن أنس يُشبه هذا: روى البيهقيّ من حديث الحافظ أبي يعلى الموصلي: حَدَّثَنَا شَيْبان، حَدَّثَنَا سعيدُ بن سُليمان الضَّبْعي

(4)

، حَدَّثَنَا أنس بن مالك، أن رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم جهَّزَ جيشًا إلى المشركين، فيهم أبو بكر، فقال لهم: "جدُّوا

(5)

السَّيرَ فإن بينكم وبين المشركين ماء، إن يَسبقِ المشركون إلى ذلك الماء شقَّ على الناس، وعطشتُم عطشًا شديدًا أنتم ودوابكم" قال: وتخلَّفَ رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم في ثمانية أنا تاسعُهم، وقال لأصحابه:"هل لكم أن نُعرِّسَ قليلًا ثم نلحق بالناس؟ " قالوا: نعم يا رسولَ اللّه، لمحعرَّسُوا فما أيقظهم إِلَّا حرُّ الشمس، فاستيقظَ رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم واستيقظَ أصحابُه، فقال لهم:"تقدَّموا واقضوا حاجاتِكم" ففعلوا ثم رجعوا إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فقال لهم:"هل مع أحد منكم ماء؟ " قال رجل منهم: يارسولَ اللّه معي مَيْضأة فيها شيء من ماء، قال:"فجئ بها" فجاء بها، فأخذَها نبيُّ اللّه صلى الله عليه وسلم فمسحَها بكفيه، ودعا بالبركة فيها، وقال لأصحابه:"تعالوا فتوضؤوا" فجاؤوا وجعلَ يصبُّ عليهم رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم حتى توضؤوا كلُّهم، فأذن رجلٌ منهم وأقام، فصلَّى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لهم، وقال لصاحب الميضأة:"ازدهرْ بميضأتِك فسيكون لها شأنٌ".

وركب رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم قبلَ الناس، وقال لأصحابه:"ما ترون الناسَ فعلوا؟ " فقالوا: اللّه ورسولُه أعلم. فقال لهم: فيهم أبو بكر وعمر، وسيرشدُ الناس، فقدمَ الناسُ وقد سبقَ المشركون إلى ذلك الماء، فشقَّ ذلك على الناس وعطشوا عطشًا شديدًا ركابُهم ودوابُّهم، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم:"أين صاحب الميضأة؟ " قالوا: هو ذا يا رسولَ اللّه، قال:"جئني بميضأتك" فجاء بها، وفيها شيءٌ من ماء، فقال لهم:"تعالوا فاشربوا" فجعلَ يصبُّ لهم رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم، حتى شربَ النَّاسُ كلُّهم، وسقَوا

(1)

رواه الإمام أحمد في المسند (5/ 298) وهو حديث صحيح.

(2)

رواه مسلم في صحيحه رقم (681) في المساجد.

(3)

في صحيحه رقم (683) في المساجد أيضًا.

(4)

هو سعيد بن سليم، وقيل: سليمان، الضبي، ويُقال: الضبعي، ماذكره أحد غير ابن عدي في الكامل (3/ 1238) وضَعَّفه وساق له هذا الحديث، وقال الأزدي: متروك. وينظر ميزان الاعتدال الذهبي (2/ 142).

(5)

في دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 134): أجدوا ..

ص: 149

دوابَّهم ورِكابَهم، وملؤوا ما كان معهم من إداوة وقِربة ومَزادة، ثم نهضَ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وأصحابُه إلى المشركين، فبعثَ الله ريحًا فضربَ وجوهَ المشركين، وأنزل اللّه نصرَه، وأمكنَ من أدبارهم، فقتلوا (منهم)

(1)

مقتلة عظيمة، وأسَروا أُسَارى كثيرة، واستاقُوا غنائمَ كثيرة، ورجعَ رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم والناسُ وافرين صالحين

(2)

.

وقد تقدَّم

(3)

قريبًا عن جابر ما يشبهُ هذا وهو في صحيح مسلم.

وقدَّمنا في غزوة تبوك ما رواه مسلمٌ، من طريق مالك، عن أبي الزبير، عن أبي الطفيل، عن مُعاذ بن جبل. فذكرَ حديثَ جمع الصلاة في غزوة تبوك، إلى أن قال: وقال - يعني رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "إنكم ستأتون غدًا إن شاء الله عينَ تبوك، وإنكم لن تأتوها حتى يُضحيَ ضُحى النهار، فمن جاءَها فلا يمسَّ من مائِها شيئًا حتى آتي" قال: فجئناها وقد سبق إليها رجلان، والعينُ مثلُ الشِّراكِ تبضُّ بشيء من ماءٍ، فسألهما رسول اللّه صلى الله عليه وسلم:"هل مسستما من مائها شيئًا؟ " قالا: نعم، فسبَّهما، وقال لهما ما شاء اللّه أن يقول، ثم غرفوا (بأيديهم)

(4)

من العين قليلًا قليلًا، حتى اجتمع في شيء، ثم غسل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فيه وجهَه ويديْه، ثم أعادَه فيها فجرتِ العينُ بماء كثير

(5)

، فاستقى الناسُ، ثم قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم:"يا معاذ يُوشك إن طالت بك حياةٌ أن ترى ما هاهنا قد مُلئ جِنَانًا"

(6)

.

وذكرنا في باب الوفود من طريق عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، عن زياد بن الحارث الصُّدّائي في قصة وفادته، فذكر حديثًا طويلًا فيه:

ثم قلنا: يا رسول الله! إن لنا بئرًا إذا كان الشتاءُ وَسِعَنَا ماؤُها واجتمعنا عليها، وإذا كان الصَّيف قلَّ ماؤُها، فتفرقنا على مياه حَوْلنا وقد أسلمنا، وكلُّ من حَوْلنا عدوٌّ، فادعُ الله لنا في بئرنا فيسعُنا ماؤُها، فنجتمعُ عليه ولا نتفرق، فدعا بسبع حَصيات ففركهن بيده ودعا فيهن، ثم قال:"اذهبوا بهذه الحصياتِ، فإذا أتيتم البئرَ فالقوا واحدةً واحدة واذكروا اللّه عز وجل".

قال الصدائي: ففعلنا ما قال لنا، فما استطعنا بعد ذلك أن ننظرَ إلى قَعْرها -يعني البئر-.

(1)

من الدلائل.

(2)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 134 - 135) وإسناده ضعيف، لضعف سعيد الضبعي.

(3)

تقدم حديث جابر في المعجزات الأرضية.

(4)

من صحيح مسلم.

(5)

كذا في (أ) وفي صحيح مسلم (4/ 1784) بماء مُنهمر - أو قال: غزير، وإنما ينقل المصنف من دلائل النبوة للبيهقي (5/ 236) فهذا لفظه.

(6)

رواه مسلم في صحيحه رقم (2281)(10) في الفضائل.

ص: 150

وأصلُ هذا الحديث في المسند، وسنن أبي داود، والترمذي، وابن ماجه

(1)

.

وأما الحديث بطوله ففي "دلائل النبوة"

(2)

للبيهقي رحمه الله.

وقال البيهقيّ

(3)

:

‌باب ما ظهرَ في البئر التي كانت بقباء من بركته صلى الله عليه وسلم

-

أخبرنا أبو الحسن محمد بن الحسين العلوي، حَدَّثَنَا أبو حامد بن الشرقي، أخبرنا أحمد بن حفص بن عبد اللّه، أخبرنا أبي، حَدَّثَنَا إبراهيم بن طهمان، عن يحيى بن سعيد؛ أنه حدثه: أن أنس بن مالك أتاهم بقباء فسأله عن بئر هناك، قال: فدلَلْتُه عليها، فقال: لقد كانت هذه، وإنَّ الرجلَ لينضَحُ على حمارِه، فيُنزحُ، فجاء رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم وأمرَ بذَنوبٍ فسُقي، فإما أن يكون توضأ منه، وإما أن يكون تَفَلَ فيه، ثم أمرَ به فأُعيد في البئر، قال: فما نَزَحت بَعدُ. قال: فرأيته بالَ، ثم جاء فتوضأ، ومسح على خفّيه ثم صلَّى.

وقال أبو بكر البزار: حَدَّثَنَا الوليد بن عمرو بن مسكين، حَدَّثَنَا محمد بن عبد اللّه بن مثنى، عن أبيه، عن ثُمَامة، عن أنس، قال: أتى رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم، فنزلنا فسقيناه من بئر لنا في دَارنا، كانت تسمى النزور في الجاهلية، فتفلَ فيها، فكانت لا تَنزَحُ بَعد

(4)

. ثم قال: لا نعلم هذا يُروى إِلَّا من هذا الوجه.

‌باب تكثيره عليه الصلاة والسلام الأطعمة

(للحاجة إليها في غير ما موطنٍ كما سنورده مبسوطًا)

(5)

، وتكثيره اللبن في مواطن أيضًا.

قال الإمام أحمد

(6)

: حَدَّثَنَا روح، حَدَّثَنَا عمر بن ذر، عن مُجاهد؛ أن أبا هريرة كان يقول: واللّه إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنتُ لأشدُّ الحجرَ على بطني من الجوع، ولقد قعدتُ يومًا على طريقهم الذي يخرجون منه، فمرَّ أبو بكر فسألته عن آية من كتاب الله عر وجل؛ ما سألته

(1)

رواه الإمام أحمد في المسند (4/ 169) والترمذي في الجامع رقم (199) وأبو دأود في السنن رقم (514) وابن ماجه رقم (717) وفي إسناده عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، قال الحافظ في التقريب: ضعيف في حفظه.

(2)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (5/ 355 - 357) ورواه البغوي، وابن عساكر وحسنه، وروى بعضه ابن سعد في الطبقات (1/ 326 - 327) وإسناده ضعيف.

(3)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 136).

(4)

لم أجد هذا الحديث في مسند البزار (البحر الزخّار) ولا في كشف الأستار.

(5)

ما بين القوسين أثبته من (أ) وسقط من المطبوع.

(6)

في المسند (2/ 515).

ص: 151

إِلَّا ليستتبعني فلم يفعل، فمرَّ عمرُ رضي الله عنه فسألتُه عن آيةٍ من كتاب اللّه؛ ما سألته إِلَّا ليستتبعني فلم

يفعل، فمرَّ أبو القاسم صلى الله عليه وسلم فعرفَ ما في وجهي وما في نفسي فقال:"أبا هريرة" قلت له: لبيك

يا رسولَ اللّه، فقال:"الحق" واستأذنتُ فأذِنَ لي، فوجدتُ لبنًا في قدح، قال: "من أين لكم هذا

اللبن؟ " فقالوا: أهداه لنا فلان أو آل فلان، قال: "أبا هريرة" قلت: لبيك يا رسولَ اللّه، قال: "انطلق

إلى أهل الصُّفة فادعهم لي" قال: وأهل الصفة أضيافُ الإسلام، لم يأووا إلى أهل ولا مال، إذا جاءت

رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم هديةٌ أصابَ منها وبعث إليهم منها، وإذا جاءته الصدقة أرسل بها إليهم ولم يصب منها.

قال: وأحزنني ذلك، وكنت أرجو أن أُصيبَ من اللبن شَرْبةً أتقوّى بها بقيّةَ يومي وليلتي، وقلت: أنا الرسولُ، فإذا جاءَ القومُ كنتُ أنا الذي أُعطيهم، وقلت: ما يبقى لي من هذا اللبن! ولم يكن من طاعة اللّه وطاعة رسوله بدٌّ، فانطلقتُ فدعوتُهم، فأقبلوا فاستأذنوا فأذن لهم، فأخذَ الرجلُ القدَح فيشرب حتى يَروى، ثم يردّ القدحَ حتى أتيتُ على آخرهم، ودفعتُ إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فأخذَ القدحَ فيشرب حتى يَروى، ثم يردّ القدحَ حتى أتيتُ على آخرهم، ودفعتُ إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فأخذَ القدحَ فوضعَه في يده، وبقي فيه فَضلَةٌ، ثم رفعَ رأسَه ونظرَ إليّ وتبسَّم وقال:"أبا هريرة" فقلت: لبيك رسول اللّه، قال:"بقيتُ أنا وأنت" فقلت: صدقتَ يا رسول اللّه، قال:"فاقعد فاشرب" قال: فقعدتُ فشربتُ، ثم قال لي:"اشرب" فشربت، فما زال يقول لي: اشرب فأشرب حتى قلت: لا والذي بعثك بالحق ما أجدُ له فيَّ مَسلكًا، قال:"ناولني القدح " فرددت إليه القدح، فشربَ من الفَضلة.

ورواه البخاري

(1)

، عن أبي نُعيم، وعن محمد بن مقاتل، عن عبد الله بن المبارك. وأخرجه الترمذيُّ

(2)

، عن هَنَّاد، عن يونس بن بُكير

(3)

، ثلاثتُهم عن عمر بن ذر، وقال الترمذي: صحيح.

وقال الإمام أحمد: حَدَّثَنَا أبو بكر بن عيَّاش، حدَّثني (عاصم)، عن زِرّ، عن ابن مسعود، قال: كنت أرعى غنمًا لعُقبةَ بن أبي مُعيط، فمرَّ بي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، فقال:"يا غلام! هل من لبن؟ " قال: فقلت: نعم، ولكني مُؤتمن، قال: "فهل من شاةٍ لم ينز

(4)

عليها الفحلُ؟ " فأتيتُه بشاةٍ فمسحَ ضَرعَها، فنزل لبنٌ، فحلَبه في إناء فشربَ وسقى أبا بكر، ثم قال للضِّرع: "اقلُص"

(5)

فقلصَ، قال: ثم أتيتُه بعدَ هذا، فقلتُ: يا رسولَ الله علّمني من هذا القول، قال: فمسحَ رأسي وقال: "يا غلامُ يرحمُك اللّه، فإنك غُليم مُعلَّم"

(6)

.

(1)

في صحيحه رقم (6452) في الرقاق.

(2)

في الجامع رقم (2479) في صفة القيامة.

(3)

في المطبوع: "عباد بن يونس بن بكير" وهو تحريف قبيح.

(4)

"لم ينز": لم يثب. كناية عن عدم الوطء.

(5)

"اقلص": ارتفع. كاية عن صغر حجمه لحدم وجود اللبن فيه أصلًا.

(6)

رواه الإمام أحمد في المسند (1/ 379 و 462) رقم (3598). وابن حبان رقم (7061). وإسناده حسن.

ص: 152

ورواه البيهقيُّ من حديث أبي عوانة، عن عاصم بن أبي النَّجود، عن زِرّ، عن ابن مسعود، وقال فيه: فأتيتُه بعَناق

(1)

جَذعة فاعتقلها، ثم جعلَ يمسحُ ضَرعَها ويدعو، وأتاه أبو بكر بجَفنة، فحلب فيها، وسقى أبا بكر، ثم شرب، ثم قال للضرع:"اقْلُصْ" فقلَص، فقلت: يا رسولَ اللّه علّمني من هذا القول، فمسحَ رأسي وقال:"إنك غُلَامٌ مُعَلَّمٌ"، فأخذتُ عنه سبعينَ سورةً ما نازعنيها بشر

(2)

.

وتقدَّم في الهجرة حديثُ أُمّ مَعبدٍ، وحلبُه عليه الصلاة والسلام شاتَها، وكانت عَجْفَاءَ لا لبنَ لها، فشربَ هو وأصحابُه، وغادَر عندها إناءً كبيرًا من لبن حتى جاءَ زوجُها.

وتقدَّم في ذكر من كان

(3)

يخدمُه، من غير مواليه عليه الصلاة والسلام؛ المقدادُ بن الأسود، حين شربَ اللبن الذي كان قد جاءَ لرسولِ اللّه صلى الله عليه وسلم، ثم قامَ في الليل ليذبحَ له شاةً، فوجدَ لبنًا كثيرًا، فحلبَ ما ملأ منه إناءً كبيرًا جدًا .. الحديث.

وقال أبو داود الطيالسي: حَدَّثَنَا زهير، عن أبي إسحاق، عن ابنة خَبَّابٍ؛ أنها أتت رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم بشاة، فاعتقلَها وحلبَها، فقال:"ائتني بأعظم إناء لكم" فأتيناه بجفنة العجين، فحلبَ فيها حتى ملأها، ثم قال:"اشربوا أنتم وجيرانكم"

(4)

.

وقال البيهقيّ: أخبرنا أبو الحسين بن بشران ببغداد، أخبرنا إسماعيل بن محمد الصفَّار، أخبرنا محمد بن الفرج الأزرق، حَدَّثَنَا عصمة بن سليمان الخزاز، حَدَّثَنَا خلفُ بن خليفة، عن أبي هاشم الرماني، عن نافع -وكانت له صحبة- قال: كنا مع رسول اللّه في سفر، وكنا زُهَاءَ أربعمئة، فنزلنا في موضع ليس فيه ماء، فشقَّ ذلك على أصحابه، وقالوا: رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أعلمُ، قال: فجاءت شُوَيهةٌ لها قرنان، فقامت بين يدي رسولِ اللّه صلى الله عليه وسلم فحلبَها، فشربَ حتى رَوي وسقى أصحابَه حتى رَوَوا، ثم قال:"يا نافع املكها الليلة، وما أراك تملكها "قال: فأخذتُها فوتدتُ لها وتدًا، ثم ربطتُها بحبلٍ، ثم قمتُ في بعض الليل فلم أرَ الشَّاةَ، ورأيتُ الحبلَ مطروحًا، فجئت رسولَ اللّه فأخبرتهُ من قبل أن يسألني، وقال:"يا نافع! ذهبَ بها الذي جاءَ بها".

قال البيهقيّ: ورواه محمد بن سعد، عن خلف بن الوليد -أبي الوليد الأزدي- عن خلف بن

(1)

"عَناق": الأنثى من ولد المعز.

(2)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 84) وطبقات ابن سعد (3/ 1/ 106) عن عفان، عن حماد، بهذا الإسناد، وأبو نعيم في الدلائل (ص 114) من طريق الطيالسي رقم (353) وهو حديث حسن.

(3)

تقدم ذلك في السيرة النبوية.

(4)

رواه أبو داود الطيالسي رقم (1663) ودلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 138) وفيه: اشربوا وجيرانكم، وابنة خباب لم نقف لها على ترجمة.

ص: 153

خليفة، عن أبان (بن بشير، عن شيخٍ من أهل البصرة، عن نافع، فذكره)

(1)

.

وهذا حديثٌ غريبٌ جدًا إسنادًا ومتنًا.

ثم قال البيهقيّ: أخبرنا أبو سعيد الماليني، أخبرنا أبو أحمد بن عدي، أخبرنا العباس بن محمد بن العباس، حَدَّثَنَا أحمد بن سعيد بن أبي مريم، حَدَّثَنَا أبو حفص الرياحي، حَدَّثَنَا عامر بن أبي عامر الخزاز، عن أبيه، عن الحسن بن سعد - يعني: مولى أبي بكر - قال: قال رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم: "احلب لي العنز" قال: وعهدي بذلك الموضع لا عنزَ فيه، قال: فأتيتُ فاذا العنزُ حافلٌ، قال: فاحتلبتُها، واحتفظتُ بالعنز وأوصيتُ بها، قال: فاشتغلنا بالرحلة ففقدتُ (العنزَ) فقلتُ: يا رسول اللّه قد فقدتُ العنزَ، فقال:"إنَّ لها رَبًّا"

(2)

.

وهذا أيضًا حديثٌ غريبٌ جدًا إسنادًا ومتنًا، وفي إسناده من لا يُعرف حالُه.

وسيأتي حديث الغزالة في قسم ما يتعلَّقُ من المعجزات بالحيوانات.

‌تكثيره عليه الصلاة والسلام السَّمنَ لأُمِّ سُليم

قال الحافظ أبو يَعلى: حَدَّثَنَا شيبان، حَدَّثَنَا محمد بن زيادة البرجمي، عن أبي ظِلَال، عن أنس، عن أمّه قال: كانت لها شاة، فجمعت من سمنها في عُكّةٍ

(3)

، فملأت العُكّةَ ثم بعثت بها مع ربيبة، فقالت: يا ربيبةُ أبلغي هذه العكّةَ رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم يَأتدمُ بها، فانطلقت بها ربيبةُ حتى أتت رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسولَ الله! هذه عكّة سمنٍ بعثت بها إليك أمّ سُليم، قال:"أفرغوا لها عكتها" ففرغت العكّة فدُفعت إليها، فانطلقت بها، وجاءت وأمّ سُليم ليست في البيت، فعلَّقت العكّة على وتد، فجاءت أُمُّ سُليم فرأت العكة ممتلئة تقطرُ، فقالت أم سُليم: يا ربيبة! أليس أمرتُك أن تنطلقي بها إلى رسول اللّه؟ فقالت: قد فعلتُ، فإن لم تصدقيني فانطلقي فسلي رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم، فانطلقت ومعها ربيبة، فقالت: يا رسولَ اللّه! إني بعثتُ معها إليك بعكّة فيها سمن، قال: قد فعلت، قد جاءت، قالت: والذي بعثَك بالحق ودينِ الحق إنها لممتلئةٌ تقطرُ سمنًا، قال: فقال لها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "يا أمَّ سليم أتعجبينَ إن كان اللّه أطعمَكِ كما أطعمتِ نبيَّه؟ كُلي وأطعمي" قالت: فجئتُ إلى البيت فقسمتُ في قَعبٍ

(4)

لنا وكذا وكذا، وتركتُ فيها ما ائتدمنا به شهرًا أو شهرين

(5)

.

(1)

ما بين القوسين أثبته من دلاثل النبوة (6/ 137).

(2)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 138).

(3)

"عكة": زق صغير يوضع فيه السمن، وهو من الجلد.

(4)

"قعب": القدح الضخم.

(5)

لم أجده في المطبوع من مسند أبي يعلى؛ ولعله في الكبير، وفي إسناده أبو ظلال القسملي هلال بن أبي هلال ضعيف.

ص: 154

حديث آخرُ في ذلك: قال البيهقيّ

(1)

: أخبرنا الحاكم، أخبرنا الأصم، حَدَّثَنَا عباس الدُّوري، حَدَّثَنَا علي بن بحر القطان، حَدَّثَنَا خلف بن خليفة، عن أبي هاشم الرُّمَّاني، عن يوسف بن خالد، عن أوسٍ بن خالد، عن أُمّ أوسٍ البهزية، قالت: سَلَيتُ سمنًا لي فجعلته في عُكّةٍ فأهديته لرسول اللّه، فقبله وترك في العكّة قليلًا، ونفخ فيها ودعا بالبركة، ثم قال:"رُدُّوا عليها عكّتها" فردُّوها عليها وهي مملوءةٌ سمنًا، قالت: فظننتُ أنَّ رسولَ اللّه لم يقبلها، فجاءت ولها صُراخٌ، فقالت: يا رسولَ اللّه! إنما سليتُه لك لتأكلَه، فعلم أنه قد استُجيب له، فقال:"اذهبوا فقولوا لها فلتأكل سمنها وتدعو بالبركة" فأكلت بقيّة عمر النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، وولاية أبي بكر، وولاية عمر، وولاية عثمان، حتى كان من أمر عليّ، ومعاوية ما كان.

حديث آخر: روى البيهقيّ، عن الحاكم، عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يُونس بن بُكير، عن عبد الأعلى بن أبي المساور

(2)

القرشي، عن محمد بن عمرو بن عَطاء، عن أبي هريرة، قال: كانت امرأة من دوس يقال لها: أمّ شريك، أسلمت في رمضان، فذكرَ الحديث في هِجرتها وصحبة ذلك اليهوديّ لها، وأنها عَطِشَت فأبى أن يسقيَها حتى تهوَّدَ، فنامت فرأت في النوم مَن يَسقيهما، فاستيقظت وهي ريَّانة، فلما جاءت رسولَ اللّه قصَّت عليه القِصَّةَ، فخطبَها إلى نفسها فرأت نفسَها أقلَّ من ذلك، وقالت: بل زوّجني من شئتَ، فزوَّجَها زيدًا وأمرَ لها بثلاثين صاعًا، وقال:"كُلُوا ولا تَكِيلُوا" وكانت معها عكّة سمنٍ هديّة لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فأمرت جاريتَها أن تحملَها إلى رسول اللّه، فَفُرِّغَت، وأمرَها رسولُ اللّه إذا ردتها أن تعلقَها ولا تُوكئها، فدخلت أم شريك فوجدتها ملأى، فقالت للجارية: ألم آمرك أن تذهبي بها إلى رسول اللّه؛ فقالت: قد فعلتُ، فذكروا ذلك لرسول اللّه، فأمرَهم أن لا يوكئوها، فلم تزل حتى أوكتها أمّ شريك

(3)

، ثم كالوا الشعيرَ فوجدوه ثلاثينَ صاعًا لم ينقص منه شيء

(4)

.

حديث آخر في ذلك: قال الإمام أحمد: حَدَّثَنَا حسن، حَدَّثَنَا ابن لهيعة، حَدَّثَنَا أبو الزبير، عن جابر؛ أن أُمَّ مالك البهزية كانت تهدي في عُكّة لها سمنًا للنبي صلى الله عليه وسلم فبينما بنوها يسألونها الإدام، وليس

(1)

دلائل النبوة، للبيهقي (6/ 115) وإسناده ضعيف جدًا، يوسف بن خالد هو السمتي متروك، وكذبه ابن معين، كما في التقريب وغيره.

(2)

في الأصل: ابن المسور، وما أثبته من دلائل النبوة.

(3)

في الدلائل: وقد أوكتها أم شريك حين رأتها مملوءَةً، فأكلوا منها حتى فنيت.

(4)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 123/ 124) وإسناده ضعجف جدًا، فإن عبد الأعلى بن أبي المساور متروك.

ص: 155

عندَها شيءٌ، فعمدَت إلى عكّتها التي كانت تُهدي فيها إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (فوجدت فيها سمنًا، فما زال يدوم لها أُدم بنيها حتى عصرته، وأتت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم)

(1)

، فقال:"أعصرتيه؟ " فقالت: نعم، قال:"لو تركتيه ما زال ذلك مُقيمًا"

(2)

.

ثم روى الإمام أحمد بهذا الإسناد عن جابر، عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم؛ أنه أتاه رجلٌ يستطعمُه فأطعمَه شطرَ وَسقِ شعيرٍ، فما زالَ الرجلُ يأكلُ منه هو وامرأته ووصيفٌ لهم حتى كالوه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لو لم تكيلوه لأكلتم منه، ولقام لكم"

(3)

.

وقد روى هذين الحديثين مسلم

(4)

من وجه آخر، عن أبي الزبير، عن جابر.

‌ذكرُ ضيافةِ أبي طَلحةَ الأنصاريّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم

-

قال البخاري

(5)

: حَدَّثَنَا عبدُ الله بن يُوسف، أخبرنا مالك، عن إسحاقَ بن عبدِ الله بن أبي طَلحةَ؛ أنه سمعَ أنسَ بن مالك يقول: قال أبو طلحة لأمّ سُليم: لقد سمعتُ صوتَ رسول الله ضعيفًا أعرفُ فيه الجوعَ، فهل عندك من شيء؟ قالت: نعم، فأخرجت أقراصًا من شعير، ثم أخرجت خِمارًا لها فلفَّت الخبزَ ببعضه، ثم دسَّتهُ تحتَ يدي ولائتني

(6)

ببعضِه، ثم أرسلتني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فذهبتُ به فوجدتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ومعه الناس، فقمتُ عليهم، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أرسلكَ أبو طلحة؟ " فقلت: نعم. قال: "بطعام؟ " قلت: نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن معه:"قوموا" فانطلقَ وانطلقتُ بين أيديهم حتى جئت أبا طلحة فأخبرتُه، فقال أبو طلحة: يا أم سُليم قد جاء رسولَ الله صلى الله عليه وسلم والناسُ وليس عندنا ما نُطعمُهم، فقالت: اله ورسولُه أعلم، فانطلق أبو طلحة حتى لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل رسولَ الله وأبو طلحة معه، فقال رسول الله:"هلمَّ يا أُمَّ سُليم، ما عندَك؟ " فأتت بذلك الخبز، فأمرَ

(1)

ما بين القوسين سقط من الأصل والمطبوع، وأثبته من المسند (3/ 340).

(2)

رواه الإمام أحمد (3/ 340) عن الحسن عن ابن لهيعة بهذا اللفظ، و (3/ 347) عن موسى عن ابن لهيعة بلفظ: أن أم مالك البهزية كانت تُهدي في عكة لها سمنًا للنبي صلى الله عليه وسلم، فبينما بنوها يسألونها عن إدام، وليس عندها شيء، فعمدت إلى نِحْيِها التي كانت تهدي فيه السمن إلى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فوجدت فيه سمنًا، فما زال يقيم لها إدامَ بنيها حتى عصرته، فأتت النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"أعصرتيه؟ " قالت: نعم، قال:"لو تركتيه ما زال ذلك مقيمًا". وإسناده حسن، وهو بنحوه عند مسلم في الفضائل.

(3)

رواه الإمام أحمد في المسند (3/ 347) عن موسى عن ابن لهيعة، و (3/ 337) عن الحسن عن ابن لهيعة.

(4)

رواهما مسلم في صحيحه رقم (2280) و (2281) في الفضائل.

(5)

في صحيحه (3578) في علامات النبوة.

(6)

"لائتني": لفتني به.

ص: 156

به رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم فَفُتَّ، وعصرت أمُّ سُليم عُكَّة فأدمته، ثم قال رسول اللّه فيه ما شاء الله أن يقول، ثم قال:"ائذن لعشرةٍ"، فأذنَ لهم، فأكلوا حتى شبعوا، ثم خرجوا، ثم قال:"ائذن لعشرة" فأذنَ لهم فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا، ثم قال:"ائذن لعشرة" فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا ثم قال: "ائذن لعشرة" فأكل القومُ كلُّهم والقوم سبعون أو ثمانون رجلًا.

وقد رواه البخاريُّ في مواضع أخر من صحيحه، ومسلم من غير وجه، عن مالك

(1)

.

‌طريقٌ آخرُ عن أنسِ بن مالك رضي الله عنه

قال أبو يَعلى: حَدَّثَنَا هُدْبَة بن خالد، حَدَّثَنَا مُباركُ بن فضالة، حَدَّثَنَا بُكير وثابت البُناني، عن أنس؛ أن أبا طلحةَ رأى رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم طاويًا، فجاء إلى أمّ سُليم فقال: إني رأيتُ رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم طاويًا؛ فهل عندك من شيء؟ قلت: ما عندنا إِلَّا نحو من مُدّ دقيق وشعير. قال: فاعجنيه وأصلحيه عسى أن ندعوَ رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم فيأكل عندنا، قال: فعجنته وخبزته، فجاء قرصًا، فقال: يا أنسُ ادعُ رسولَ اللّه، فأتيتُ رسولَ اللّه ومعه أناسٌ. قال مبارك: أحسبه قال: بضعةٌ وثمانون. قال: فقلت: يا رسولَ اللّه أبو طلحة يدعوك، فقال لأصحابه:"أجيبُوا أبا طلحةَ" فجئتُ جَزِعًا، حتى أخبرته أنه قد جاءَ بأصحابه. قال بكر: فعدى قومه وقال ثابت: قال أبو طلحة: رسولُ اللّه أعلمُ بما في بيتي مني. وقالا جميعًا: عن أنس، فاستقبلَه أبو طلحة فقال: يا رسولَ اللّه ما عندنا شيءٌ إِلَّا قرصٌ، رأيتُك طاويًا فأمرتُ أمَّ سُليم فجعلت لك قرصًا، قال: فدعا بالقرص، ودعا بجفنة، فوضعَه فيها، وقال:"هل من سمن؟ " قال أبو طلحة: قد كان في العكّة شيء، قال: فجاء بها، قال: فجعل رسولُ اللّه وأبو طلحة يعصرانها، حتى خرجَ شيء مسح رسول اللّه به سبابته ثم مسح القرص فانتفخ وقال:"باسم اللّه" فانتفخَ القرصُ، فلم يزل يصنعُ كذلك والقرصُ ينتفخُ حتى رأيتُ القرصَ في الجَفنة يميعُ، فقال:"ادعُ عشرةً من أصحابي" فدعوتُ له عشرةً، قال: فوضعَ رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم يدَه وسطَ القرص وقال: "كلوا باسم اللّه" فأكلوا من حَوالي القرص حتى شبعوا، ثم قال:"ادعُ لي عشرة أُخرى" فدعوت له عشرة أخرى، فقال:"كلوا باسم اللّه" فأكلوا من حوالي القرص حتى شبعوا، فلم يزل يدعو عشرة عشرة يأكلون من ذلك القرص حتى أكل منه بضعة وثمانون من حوالي القرص، حتى شبعوا، وإن وسطَ القرص حيثُ وضعَ رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم يدَه كما

(2)

هو.

وهذا إسناد حسن على شرط أصحاب السنن، ولم يخرجوه، فاللّه أعلم.

(1)

صحيح البخاري (422) في الصلاة، و (5386) في الأطعمة و (6688) في النذور، ومسلم (2040)(142) في الأطعمة.

(2)

لعله في المسند الكبير لأبي يعلى.

ص: 157

‌طريقٌ أخرى عن أنسِ بن مالك

قال الإمام أحمد

(1)

: حَدَّثَنَا عبد اللّه بن نُمَير، حَدَّثَنَا سعد -يعني ابن سعيد بن قيس- أخبرني أنس بن مالك، قال: بعثني أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأدعوه، وقد جعل له طعامًا، فأقبلتُ ورسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم مع الناس، قال: فنظرَ إليَّ فاستحيَيتُ فقلت: أجب أبا طلحة، فقال للناس:"قوموا"، فقال أبو طلحة: يا رسولَ اللّه إنما صنعتُ شيئًا لك. قال: فمسَّها رسولُ اللّه ودعا فيها بالبركة، ثم قال:"أدخل نفرًا من أصحابي عشرة" فقال: "كلُوا" فأكلوا حتى شبعوا وخرجوا، وقال:"أدخل عشرة" فأكلوا حتى شبعوا، فما زال يُدخل عشرةً ويُخرج عشرة، حتى لم يبق منهم أحدٌ إِلَّا دخلَ فأكل حتى شبع ثم هيَّأها فإذا هي مثلها حين أكلوا منها.

وقد رواه مسلم

(2)

عن أبي بكر بن أبي شيبة، ومحمد بن عبد اللّه بن نُمَير؛ كلاهما عن عبد اللّه بن نُمَير، وعن سعيد بن يَحيى الأموي

(3)

، عن أبيه، كلاهما عن سعد بن سعيد بن قيس الأنصاري.

‌طريق أخرى

رواه مسلم

(4)

في الأطعمة، عن عبد بن حميد، عن خالد بن مَخلَد، عن محمّد بن مُوسى، عن عبد اللّه بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس، فذكرَ نحو ما تقدم.

وقد رواه أبو يَعلى الموصلي، عن محمد بن عبّاد المكي، عن حاتم، عن معاوية بن أبي مزرد، عن عبد الله بن عبد اللّه بن أبي طلحة، عن أبيه، عن أبي طلحة، فذكره، واللّه أعلم

(5)

.

‌طريقٌ أخرى عن أنس

قال الإمام أحمد

(6)

: حَدَّثَنَا علي بن عاصم، حَدَّثَنَا حُصين بن عبد الرحمن، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أنس بن مالك، قال: أتى أبو طلحة بمُدّين من شعيرٍ، فأمر به فصُنع طعامًا، ثم قال لي:

(1)

رواه الإمام أحمد في المسند (3/ 218) وهو حديث صحيح.

(2)

رواه مسلم في صحيحه رقم (2040)(143) في الأشربة.

(3)

رواه مسلم في صحيحه (3/ 1613) في الأشربة.

(4)

رواه مسلم في صحيحه (3/ 1614) في الأشربة.

(5)

لم نقف عليه من هذا الوجه في مسنده، لكن رواه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن عبد الله بن نمير مثل إسناد مسلم (مسنده 4145 و 4331).

(6)

في المسند (3/ 232).

ص: 158

يا أنسُ: انطلق ائت رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم فادعُه، وقد تعلمُ ما عندنا، قال: فأتيتُ رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم، وأصحابُه عنده، فقلت: إن أبا طلحةَ يدعوك إلى طعامه، فقام، وقال للناس:"قوموا" فقاموا، فجئتُ أمشي بين يديه، حتى دخلتُ على أبي طلحة فأخبرتُه، قال: فضَحْتَنا، قلت: إني لم أستطع أن أردَّ على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أمرَه.

فلما انتهى رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم قال لهم: "اقعدوا" ودخل عاشرُ عشرةٍ، فلما دخلَ أُتي بالطعام تناولَ فأكلَ وأكلَ معه القومُ حتى شبعوا، ثم قال لهم:"قوموا، وليدخل عشرة مكانكم" حتى دخلَ القومُ كلُّهم وأكلوا، قال: قلت: كم كانوا؟ قال: كانوا نيّفًا وثمانين، قال: وفضل لأهل البيت ما أشبعهم.

وقد رواه مسلم في الأطعمة

(1)

، عن عمرو الناقد، عن عبد اللّه بن جعفر الرقي، عن عُبيد اللّه بن عمرو، عن عبد الملك بن عُمير، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أنس، قال: أمر أبو طلحة أمَّ سُليم قال: اصنعي للنبيّ صلى الله عليه وسلم لنفسه خاصة طعامًا يأكلُ منه. فذكر نحو ما تقدم.

‌طريقٌ أخرى عن أنس

قال أبو يعلى: حَدَّثَنَا شُجاع بن مَخلَد، حَدَّثَنَا وَهب بن جرير، حَدَّثَنَا أبي، سمعت جريرَ بن زيد يُحَدِّثُ عن عمرو بن عبد اللّه بن أبي طلحة، عن أنس بن مالك، قال: رأى أبو طلحة رسولَ اللّه في المسجد مضطجعًا، يتقلّب ظهرًا لبطن، فأتى أمَّ سُلَيم فقال: رأيتُ رسولَ اللّه مضطجعًا في المسجد، يتقلَّبُ ظهرًا لبطن، فخبزت أمُّ سُليم قُرصًا. ثم قال لي أبو طلحة: اذهب فادعُ رسولَ اللّه، فأتيتُه، وعنده أصحابه، فقلت: يا رسولَ اللّه يدعوكَ أبو طلحة، فقام وقال:"قوموا" قال: فجئتُ أسعى إلى أبي طلحةَ فأخبرتُه أنَّ رسولَ اللّه قد كان تبعَه أصحابُه، فتلقّاه أبو طلحة، فقال: يا رسولَ اللّه إنما هو قُرصٌ، فقال:"إن اللّه سيُبارك فيه" فدخلَ رسولُ اللّه، وجيء بالقرص في قصعةٍ، فقال:"هل من سمن؟ " فجيء بشيءٍ من سمنٍ فغوَّرَ القرصَ بأصبعه هكذا، ورفعَها، ثم صبَّ وقال:"كلوا من بين أصابعي" فأكلَ القومُ حتى شبعوا، ثم قال:"أَدخل عليَّ عشرة" فأكلوا حتى شبعوا، حتى أكل القومُ فشبعوا، وأكل رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم وأبو طلحة وأم سُليم وأنا حتى شبعنا، وفضلَت فضلة أهديت لجيران لنا

(2)

. ورواه مسلم

(3)

في الأطعمة من صحيحه، عن حسن الحُلوَاني، عن وهب

(4)

، عن جرير بن

(1)

في صحيحه (3/ 1613).

(2)

لعله في مسنده الكبير بهذا السند.

(3)

رواه مسلم في صحيحه (3/ 1614).

(4)

هو وهب بن جرير بن حازم، فهو عن أبيه جرير.

ص: 159

حازم، عن عمه جرير بن زيد

(1)

، عن عمرو بن عبد اللّه بن أبي طلحة، عن أنس بن مالك، فذكر نحو ما تقدم.

‌طريقٌ أخرى عن أنس

قال الإمام أحمد: حَدَّثَنَا يُونس بن محمد، حَدَّثَنَا حمَّاد -يعني ابن زيدٍ- عن هشام، عن محمد - يعني ابن سيرين - عن أنس - قال حمَّاد: والجعد قد ذكر

(2)

- قال: عَمَدَت أُمُّ سُليم إلى نصف مُدّ شعيرٍ فطحنتهُ، ثم عَمَدَت إلى عُكّةٍ كان فيها شيء من سمن، فاتَّخذت منه خطيفة

(3)

قال: ثم أرسلتني إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: فأتيتُه وهو في أصحابه فقلتُ: إن أُمَّ سُليم أرسلتني إليك تدعوك، فقال:"أنا ومن معي" قال: فجاء هو ومن معه، قال: فدخلتُ فقلتُ لأبي طلحةَ: قد جاءَ رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم ومن معه، فخرج أبو طلحة فمشى إلى جنب النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، قال: يا رسولَ اللّه إنما هو خطيفة اتَّخذَتها أُمُّ سُليم من نصف مُدّ شعير، قال: فدخل فأتى به، قال: فوضع يدَه فيها. ثم قال: "أدخل عشرة" قال: فدخل عشرةٌ فأكلوا حتى شبعوا، ثم دخل عشرة فأكلوا، ثم عشرة فأكلوا، حتى أكلَ منها أربعون كلُّهم أكلوا حتى شبعوا، قال: وبقيت كما هي قال: فأكلنا

(4)

.

وقد رواه البخاري

(5)

في الأطعمة، عن الضَلتِ بن محمد، عن حمَّاد بن زيد، عن الجعد أبي عثمان، عن أنس. وعن هشام، عن محمد

(6)

، عن أنس. وعن سِنان بن ربيعة أبي ربيعة

(7)

، عن أنس: أن أم سُليم عَمَدَت إلى مُدٍّ من شعير جَشَّتة

(8)

وجعلت منه خطيفة، وعمدت إلى عُكةٍ فيها شيء من سمن فعصرته، ثم بعثتني إلى رسول اللّه وهو في أصحابه .. الحديث بطوله.

ورواه أبو يعلى المَوصلي: حَدَّثَنَا عمرو بن الضحاك، حَدَّثَنَا أبي، سمعتُ أشعثَ الحُدَّاني

(9)

قال:

(1)

في الأصل والمطبوع: جرير بن يزيد. والتصحيح من صحيح مسلم.

(2)

ما بين المعترضتين أثبته من المسند، ومعناه أن الجعد أبا عثمان روى الحديث أيضًا عن أنس كما في رواية البخاري.

(3)

"خطيفة": دقيق يذر عليه اللبن ثم يُطبخ.

(4)

رواه الإمام أحمد في المسند (3/ 147) وهو حديث صحيح.

(5)

رواه البخاري في صحيحه رقم (5450) في الأطعمة، كما رواه برقم (422) في الصلاة، و (3634) في المناقب.

(6)

عن محمد: هو ابن سيرين.

(7)

عن سنان أبي ربيعة: "قال الحافظ ابن حجر: سنان بن ربيعة، وهو أبو ربيعة، وافقت كنيته اسم أبيه. فتح الباري (9/ 574).

(8)

"جشَّته": جعلته جشيشًا، والجشيش: دقيق غير ناعم.

(9)

في المطبوع: "الحراني" وهو خطأ ظاهر، وهو أشعث بن عبد اللّه بن جابر الحداني من رجال التهذيب.

ص: 160

قال محمد بن سيرين: حدَّثني أنس بن مالك؛ أن أبا طلحة بلغَه أنه ليس عندَ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم طعامٌ، فذهبَ فأجَّرَ نفسَه بصاعٍ من شعير، فعَمِل يومَه ذلك، فجاءَ به وأمرَ أمَّ سُلَيم أن تعملَه خطيفةً

(1)

. وذكر الحديث.

‌طريق أخرى عن أنس

قال الإمام أحمد: حَدَّثَنَا يُونس بن محمد، حَدَّثَنَا حربُ بن ميمون، عن النضر بن أنس، عن أنس بن مالك قال: قالت أُمُّ سُليم: اذهب إلى نبي اللّه صلى الله عليه وسلم فقل: إن رأيتَ أن تغدَّى عندنا فافعل، فجئتُه فبلّغتُه، فقال:"ومن عندي؟ " قلت: نعم، قال:"انهضوا" قال: فجئتُه فدخلتُ على أُمّ سُلَيم وأنا لَدَهِشٌ لمن أقبلَ مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، قال: فقالت أم سُلَيم: ما صنعتَ يا أنس؟ فدخلَ رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم على إثر ذلك، فقال:"هل عندك سمن؟ " قالت: نعم، قد كان منه عندي عُكّة فيها شيء من سمن، قال:"فائتِ بها" قالت: فجئتُ بها، ففتحَ رباطَها ثم قال:"باسم اللّه، اللهم أعظم فيها البركة" قال: فقال: "اقلبيها " فقلبتُها، فعصرَها نبيُّ اللّه صلى الله عليه وسلم وهو يُسمّي، فأخذتُ نَقعَ قِدرٍ، فأكلَ منها بضعٌ وثمانون رجلًا، وفضل فضلةً، فدفعها إلى أُمّ سُليم فقال:"كلي وأطعمي جيرانك"

(2)

.

وقد رواه مسلم

(3)

في الأطعمة، عن حَجَّاج بن الشاعر، عن يونس بن محمد المؤدب، به.

‌طريق أخرى

قال أبو القاسم البغوي: حَدَّثَنَا علي بن المَديني، حَدَّثَنَا عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن عمرو بن يحيى بن عُمارة المازني، عن أبيه، عن أنس بن مالك؛ أن أمَّه أمّ سُليم صنعت خزيرًا

(4)

. فقال أبو طلحة: اذهب يا بنيّ فادعُ رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم قال: فجئتُه وهو بين ظَهراني الناس، فقلت: إن أبي يدعوكَ، قال: فقام وقال للناس: "انطلقوا" قال: فلما رأيتُه قام بالناس تقدّمتُ بين أيديهم، فجئت أبا طلحة، فقلت: يا أبت قد جاءَك رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم بالناس، قال: فقام أبو طلحة على الباب وقال: يارسول اللّه إنما كان شيئًا يَسيرًا، فقال:"هلمَّهُ، فإن اللّه سيجعلُ فيه البركة! فجاء به، فجعل رسولُ اللّه يدَه فيه، ودعا اللّه بما شاء أن يدعوَ، ثم قال: "أدخل عشرة عشرة" فجاءه منهم ثمانون فأكلوا وشبعوا.

(1)

رواه أبو يعلى في مسنده (5/ 214 - 215) رقم (2830) وإسناده صحيح، وهو عند مالك رقم (9) في صفة النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم.

(2)

رواه الإمام أحمد في المسند (3/ 242).

(3)

صحيح مسلم (3/ 1614).

(4)

"الخزيرة": لحم يقطَّع صغارًا ويصب عليه ماء كثير، فإذا نضج ذُرَّ عليه الدقيق. النهاية لابن الأثير (2/ 28).

ص: 161

ورواه مسلم في الأطعمة

(1)

، عن عبد بن حُميد، عن القعنبي، عن الدراوردي، عن يحيى بن عُمارة بن أبي حسن الأنصاري، المازني، عن أبيه، عن أنس بن مالك، بنحو ما تقدم.

‌طريق أخرى

ورواه مسلم في الأطعمة أيضًا

(2)

، عن حرملة، عن ابن وهب، عن أسامة بن زيد اللَّيثي، عن يعقوب بن عبد اللّه بن أبي طلحة، عن أنس كنحو ما تقدم.

قال البيهقيّ

(3)

: وفي بعض حديث هؤلاء: ثم أكلَ رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم، وأكلَ أهلُ البيت، وأفضلوا ما بلغَ جيرانَهم.

فهذه طرق متواترة عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه شاهدَ ذلك، على ما فيه من اختلاف عنه في بعض حروفه. ولكن أصلَ القصة متواترٌ لا محالة كما ترى، وللّه الحمد والمنة؛ فقد رواه عن أنس بن مالك: إسحاق بن عبد اللّه بن أبي طلحة، وبكر بن عبد اللّه المُزَني، وثابت بن أسلم البناني، والجعد أبو

(4)

عثمان، وسعد بن سعيد أخو يحيى بن سعيد الأنصاري، وسِنان بن ربيعة، وعبد اللّه بن عبد اللّه بن أبي طلحة، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وعمرو بن عبد اللّه بن أبي طلحة، ومحمد بن سيرين، والنضر بن أنس، ويحيى بن عُمارة بن أبي حسن، ويَعقوب بن عبد اللّه بن أبي طلحة.

وقد تقدَّم في غزوة الخندق حديث جابر في إضافته صلى الله عليه وسلم على صاعٍ من شعير وعَناق

(5)

، فعزمَ عليه الصلاة والسلام على أهل الخندق بكمالهم، وكانوا ألفًا -أو قريبًا من ألف- فأكلوا كلُّهم من تبك العَنَاق وذلك الصاع حتى شَبِعوا وتركوه كما كان، وقد أسلفنا بسنده ومتنه وطرقه، وللّه الحمد والمنة.

ومن العجيب الغريب ما ذكرَه الحافظُ أبو عبد الرحمن بن محمد بن المنذر الهروي -المعروف بشكر- في كتاب "العجائب الغريبة" في هذا الحديث فإنه أسنده وساقه بطوله، وذكر في آخره شيئًا غريبًا، فقال: حَدَّثَنَا محمد بن علي بن طرخان، حَدَّثَنَا محمد بن مَسرور، أخبرنا هاشم بن هاشم -ويكنى بأبي برزة- بمكة في المسجد الحرام، حَدَّثَنَا أبو كعب البداح بن سهل الأنصاري من أهل المدينة، من الناقلة الذين نقلهم هارون إلى بغداد، سمعتُ منه بالمَصِّيصة، عن أبيه سهل بن

(1)

رواه مسلم في صحيحه (3/ 1613).

(2)

رواه مسلم في صحيحه (3/ 1614).

(3)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 91).

(4)

في الأصل والمطبوع: الجعد بن عثمان. والتصحيح من تقريب التهذيب (1/ 128) ومما سبق، فهو الجعد بن دينار، أبو عثمان اليشكري.

(5)

"عناقًا": الأنثى من أولاد المعز.

ص: 162

عبد الرحمن، عن أبيه عبد الرحمن بن كعب، عن أبيه كعب بن مالك، قال: أتى جابرُ بن عبد اللّه إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فعرفَ في وجهه الجوع، فذكر أنه رجعَ إلى منزله، فذبح دَاجِنًا كانت عندهم، وطبخَها وثردَ تحتها في جَفنة وحملَها إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فأمره أن يدعوَ له الأنصار، فأدخلهم عليه أرسالًا، فأكلوا كلُّهم وبقي مثل ما كان، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرُهم أن يأكلوا ولا يَكسروا عظمًا، ثم إنه جمعَ العظامَ في وسط الجَفنة

(1)

فوضعَ عليها يدَه، ثم تكلَّم بكلام لا أسمعُه إِلَّا أني أرى شفتيه تتحرك، فإذا الشاة قد قامت تنفضُ أُذنيها، فقال:"خذ شاتَك يا جابر باركَ اللّه لك فيها" قال: فأخذتُها ومضيت، وإنها لتنازعُني أذنَها، حتى أتيتُ بها البيتَ، فقالت لي المرأة: ما هذا يا جابر؟ فقلت: هذه واللّه شاتُنا التي ذبحنَاها لرسول اللّه، دعا اللّه فأحياها لنا، فقالت: أنا أشهدُ أنه رسولُ اللّه، أشهدُ أنه رسولُ الله، أشهدُ أنه رسولُ اللّه.

‌حديث آخر عن أنس في معنى ما تقدم

قال أبو يعلى المَوصلي والبَاغندي: حَدَّثَنَا شَيبان، حدَّثنا محمد بن عيسى بصري - وهو صاحب الطعام

(2)

- حَدَّثَنَا ثابت البُناني، قلتُ لأنس بن مالك: يا أنس أخبرني بأعجب شيء رأيتَه، قال: نعم يا ثابت خدمتُ رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم عشرَ سنين فلم يعب

(3)

عليَّ شيئًا أسأتُ فيه، وإن نبيَّ اللّه صلى الله عليه وسلم لما تزوَّج زينبَ بنتَ جحش، قالت لي أمي: يا أنس، إنَّ رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم أصبحَ عَروسًا ولا أدري أصبحَ له غداءٌ، فهلمَّ

(4)

تلك العُكَّة، فأتيتُها بالعُكّة وبتمرٍ، فجعلت له حَيسًا

(5)

، فقالت: يا أنس اذهب بهذا إلى نبيّ الله وامرأته، فلما أتيتُ رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم بتَورٍ

(6)

من حجارة فيه ذلك الحَيس، قال: "دعه

(7)

ناحية البيت، وادع لي أبا بكر وعمر وعليًا وعثمان" ونفرًا من أصحابه، "ثم ادعُ لي أهل المسجد ومن رأيتَ في الطريق" قال: فجعلتُ أتعجّب من قلّة الطعام، ومن كثرة ما يأمُرني أن أدعوَ النَّاسَ، وكرهتُ أن أعصيَه حتى امتلأ البيتُ والحجرةُ، فقال: "يا أنس هل ترى من أحد؟ " فقلت: لا يا رسولَ اللّه، قال: "هات ذلك التَّورَ" فجئتُ بذلك التَّورِ فوضعتُه قدّامه، فغمسَ ثلاثَ أصابعَ في التَّورِ، فجعلَ التَّورُ

(8)

يربُو

(1)

"الجفنة": القصعة للطعام.

(2)

كذا بالأصل، ولم أجد هذه الجملة المعترضة في مسند أبي يعلى.

(3)

"فلم يعب": كذا في الأصل، وفي مسند أبي يعلى: فلم يُغَير.

(4)

"فهلمَّ": أحضر.

(5)

"حيسًا": تمر ينزع نواه ويُدق مع أقط ويعجنان بالسمن، لْم يدلك باليد حتى يبقى كالثريد، وربما جعل معه سويق.

(6)

"تَور": إناء يُشرب فيه.

(7)

كذا بالأصل، وفي مسند أبي يعلى: ضعه.

(8)

في (أ) التمر، وهو تصحيف.

ص: 163

(ويرتفعُ)

(1)

فجعلوا يتغذون ويخرجون، حتى إذا فرغوا أجمعون وبقيَ في التَّورِ نحو ما جئتُ به، فقال:"ضعه قدّام زينبَ"، فخرجتُ وأسففت عليهم بابًا من جريد.

قال ثابت: قلنا: يا أبا حمزة، كم ترى كان الذين أكلوا من ذلك التَّورِ؟ فقال: أحسب واحدًا وسبعين أو اثنين وسبعين

(2)

.

وهذا حديثٌ غريب من هذا الوجه ولم يخرجوه.

‌حديث آخر عن أبي هريرة في ذلك

قال جعفرُ بن محمد الفِريابي

(3)

: حَدَّثَنَا عثمان بن أبي شَيبةَ، حَدَّثَنَا حاتم بن إسماعيل، عن أنيس بن أبي يحيى، عن إسحاق بن سالم، عن أبي هريرة، قال: خرجَ عليَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ادعُ لي أصحابَك من أصحابِ الصُّفة" فجعلتُ أُنبِّههم رجلًا رجلًا، فجمعتُهم، فجئنا بابَ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فاستأذنا. فأذنَ لنا، قال أبو هريرة: فوُضِعَت بين أيدينا صَحفَةٌ أظنُّ أن فيها قَدرَ مُدٍّ من شعير، قال: فوضعَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عليه يدَه وقال: "كُلوا باسم الله" قال: فأكلنا ما شئنا ثم رفعنا أيديَنا، فقالَ رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم حين وُضِعَت الصَّحفَةُ:"والذي نفسي بيده ما أمسى في آلِ محمّدٍ طعامٌ ليس تَرونه" قيل لأبي هريرة: قَدرُ كَم كانت حين فرغتُم منها؟ قال: مثلها حين وُضعت إِلَّا أن فيها أثرُ الأصابع

(4)

.

وهذه قصة غير قصة أهل الصُّفة المتقدمة في شربهم اللبن، كما قدَّمنا.

‌حديث آخر عن أبي أيوب في ذلك

قال جعفر الفريابي: حَدَّثَنَا أبو سلمة يحيى بن خلف، حَدَّثَنَا عبد الأعلى، عن سعيد الجريري، عن أبي الورد، عن أبي محمد الحضرمي، عن أبي أيوب الأنصاري، قال: صنعتُ لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم ولأبي بكر طعامًا قَدرَ ما يَكفيهما فأتيتُهما به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اذهب فادعُ لي ثلاثينَ من أشراف الأنصار"

(1)

سقطت من (أ) وأثبتها من المسند.

(2)

مسند أبي يعلى (6/ 167 - 169) رقم (3449) وإسناده ضعيف جدًا، لضعف محمد بن عيسى، وهو العبدي. قال البخاري والفلَّاس: منكر الحديث. وقال أبو زرعة: لا ينبغي أن يحذَث عنه. وقال الدارقطني: ضعيف. وقال ابن حبان في المجروحين: لا يجوز الاحتجاج بخبره إذا انفرد. لسان الميزان (5/ 332) والكامل في ضعفاء الرجال (6/ 2249).

(3)

الفريابي: جعفر بن محمد بن الحسن بن المستفاض، إمام حافظ ثبت، شيخ الوقت، أبو بكر القاضي، ونسبته إلى فارياب -بلدة بنواحي بلخ- توفي سنة 301. ترجمته في سير أعلام النبلاء (14/ 96).

(4)

دلائل النبوة للفريابي، طبعة دار طيبة (ص 29) وفي إسناده إسحاق بن سالم، مجهول الحال كما قال الحافظ في التقريب.

ص: 164

قال: فشقَّ ذلك عليّ، ما عندي شيءٌ أزيدُه، قال: فكأني تثاقلتُ، فقال:"اذهب فادعُ لي ثلاثينَ من أشراف الأنصار" فدعوتُهم، فجاؤُوا، فقال:"اطعَمُوا" فأكلوا حتى صدروا، ثم شهدوا أنه رسولُ اللّه، ثم بايعوه قبل أن يخرجوا، ثم قال:"اذهب فادعُ لي ستينَ من أشراف الأنصار" قال أبو أيوب: فواللّه لأنا بالستين أجود مني بالثلاثين، قال: فدعوتُهم، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"تربعوا" فأكلوا حتى صَدَرُوا ثم شَهِدوا أنه رسولُ اللّه وبايعوه قبل أن يخرجوا، قال:"فاذهب فادعُ لي تسعين من الأنصار "قال: فلأنا أجود بالتسعين والستين مني بالثلاثين، قال: فدعوتُهم فأكلوا حتى صَدَروا ثم شهدوا أنه رسولُ اللّه وبايعوه قبل أن يخرجوا، قال: فأكل من طعامي ذلك مئة وثمانون رجلًا كلُّهم من الأنصار.

وهذا حديث غريب جدًا إسنادًا

(1)

ومتنًا.

وقد رواه البيهقيُّ

(2)

من حديث محمد بن أبي بكر المقدمي، عن عبد الأعلى، به.

‌قصة أخرى في تكثير الطعام في بيت فاطمة

قال الحافظ أبو يعلى: حَدَّثَنَا سهل بن الحنظلية، حَدَّثَنَا عبد اللّه بن صالح، حدَّثني ابن لهيعة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر: أن رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم أقامَ أيامًا لم يَطعَم طعامًا حتى شقَّ عليه، فطافَ في منازل أزواجه فلم يُصِب عندَ واحدة منهنّ شيئًا، فأتى فاطمةَ فقال:"يا بنيّة، هل عندك شيء آكله فإني جائع؟ " فقالت: لا واللّه بأبي أنت وأمي، فلما خرجَ من عندها رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم بعثت إليها جارةٌ لها برغيفين وقطعة لحم، فأخذته منها فوضَعته في جَفنةٍ لها وغطَّت عليها، وقالت: واللّه لأُوثرنَّ بهذا رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم على نفسي ومن عندي، وكانوا جميعًا مُحتاجين إلى شبعةِ طعام، فبعثت حسنًا -أو حُسينًا- إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فرجعَ إليها، فقالت له: بأبي أنت وأمي قد أتى اللّه بشيء فخبَّأته لك، قال:"هلمّي يا بنية" فكشفت عن الجفنةِ فإذا هي مملوءةٌ خبزًا ولحمًا، فلما نظرت إليها بُهتت وعرفت أنها بركة من اللّه، فحمدتِ اللّه وصلَّت على نبيه صلى الله عليه وسلم وقدَّمته إلى رسول اللّه، فلما رآه حَمِدَ اللّه وقال:"من أين لك هذا يا بنية؟ "قالت: يا أبتِ هو من عند اللّه، إن اللّه يرزقُ من يشاءُ بغير حساب، فحَمِد اللّه وقال:"الحمد للّه الذي جعلك يا بنيَّة شبيهة سيدة نساء بني إسرائيل، فإنها كانت إذا رزقَها اللّه شيئًا فسُئلت عنه، قالت: هو من عند اللّه، إن اللّه يرزقُ مَن يشاءُ بغير حساب" فبعثَ رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم إلى عليّ، ثم أكلَ رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم وعليٌّ وفاطمةُ وحسنٌ وحُسين، وجميعُ أزواج رسولِ اللّه صلى الله عليه وسلم، وأهلُ بيته جميعًا حتى

(1)

دلائل النبوة للفريابي (ص 28).

(2)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 94) وإسناده ضعيف أيضًا.

ص: 165

شبعوا، قالت: وبقيت الجَفنَةُ كما هي، فاوسعت بقيّتَها على جميع جيرانها، وجعلَ اللّه فيها بركةً وخيرًا كثيرًا.

وهذا حديث غريب أيضًا إسنادًا ومتنًا.

وقد قدَّمنا في أوّل البعثة حين نزل قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214]، حديثَ ربيعةَ بن ناجد، عن عليّ في دعوته عليه الصلاة والسلام بني هاشم - وكانوا نحوًا من أربعين - فقدَّمَ إليهم طعامًا من مُدّ، فأكلوا حتى شَبِعوا وتركوه كما هو، وسقاهم من عُسٍّ

(1)

شرابًا حتى رووا، وتركوه كما هو ثلاثة أيام متتابعة، ثم دعاهم إلى الله، كما تقدم.

‌قصة أخرى في بيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم

-

قال الإمام أحمد

(2)

: حَدَّثَنَا على بن عاصم، حَدَّثَنَا سُليمان التَّيمِي، عن أبي العَلاء بن الشِّخير، عن سمُرةَ بن جُندب، قال: بينما نحن عند النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم إذ أُتي بقصعةٍ فيها ثريد، قال: فأكلَ وأكلَ كل القوم، فلم يزالوا يتداولونها إلى قريب من الظهر، يأكلُ قولم ثم يقومون، ويجيءُ قوم فيتعاقبونه، قال: فقال له رجل: هل كانت تُمَدُّ بطعامٍ؛ قال: "أمَّا من الأرضِ فلا، إِلَّا أن تكون كانت تُمدُّ من السماء".

ثم رواه أحمد

(3)

عن يزيد بن هارون، عن سُليمان، عن أبي العلاء، عن سَمُرة؛ أن رسولَ اللّه أُتي بقصعةٍ فيها ثريد، فتعاقبُوها إلى الظهر من غَدوَة، يقومُ ناس ويقعدُ آخرون، قال له رجل: هل كانت تُمَدُّ؛ فقال له: "فمن أين؟ - تَعجَّبَ - ما كانت تُمَدُّ إِلَّا من هاهنا"، وأشار إلى السماء.

وقد رواه الترمذي والنسائي

(4)

أيضًا، من حديث مُعتمر بن سليمان، عن أبيه، عن أبي العلاء - واسمُه يزيد بن عبد الله بن الشخير - عن سَمُرة بن جُندب، به.

‌قصة قصعة بيت الصديق

ولعلها هي القصة المذكورة في حديث سمرة، واللّه أعلم.

قال البخاري

(5)

: حَدَّثَنَا موسى بن إسماعيل، حَدَّثَنَا مُعتَمِرٌ عن أبيه، حَدَّثَنَا أبو عثمان؛ أنه حدَّثه

(1)

" عُسّ": القدح الضخم.

(2)

في المسند (5/ 12) وهو حديث صحيح، مع أن إسناده ضعيف لضعف علي بن عاصم، لأن غيره من الثقات رووه كذلك.

(3)

في المسند (5/ 18) وهو حديث صحيح.

(4)

رواه الترمذي في جامعه (3625) في المناقب، والنسائي في الوليمة من سننه الكبرى (6740).

(5)

في صحيحه، رقم (3581) في المناقب.

ص: 166

عبدُ الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما: أن أصحاب الصُّفة كانوا أناسًا فقراءَ، وأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال مرة:"مَن كان عندَه طعامُ اثنين فليذهب بثالث، ومن كان عندَه طعامُ أربعة فليذهب بخامس، أو سادس" أو كما قال، وإن أبا بكر جاء بثلاثة، وانطلقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بعشرةٍ، وأبو بكر بثلاثة قال: فهو أنا وأبي وأمي، ولا أدري هل قال امرأتي وخادم بين بيتنا وبين بيت أبي بكر، وإن أبا بكر تعشَّى عندَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، ثم لبثَ حتى صلَّى العشاءَ، ثم رجعَ فلبثَ حتى تعشَى رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم، فجاء بعدما مضى من الليل ما شاء اللّه، قالت له امرأتُه: ما حبسكَ عن أضيافك أو ضيفك؟ قال: أو ما عشّيْتِيهم؛ قالت: أبوا حتى تجيءَ، قد عرضوا عليهم فغلبوهم. قال: فذهبتُ فاختبأتُ. فقال: يا غُنثرُ -فجَدَّعَ وسبَّ- وقال: كلوا. وفي رواية أخرى: لا هنيئًا. وقال: لا أطعَمُه أبدًا، وايم اللّه ما كنّا نأخذُ من لقمةٍ إِلَّا رَبَا من أسفلها أكثرُ منها، حتى شبعوا وصارت أكثرَ مما كانت قبلُ. فنظر أبو بكر فإذا هي شيءٌ أو أكثرُ. فقال لامرأته:(وفي رواية أخرى: ما هذا) يا أختَ بني فراس؛ قالت: لا وَقرَّةِ عيني لهي الآن أكثرُ مما قبلُ بثلاثِ مرار. فأكلَ منها أبو بكر، وقال: إنما كان الشيطانُ -يعني يمينَه- ثم أكل منها لقمةً ثم حملَها إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فأصبحَت عندَه، وكان بيننا وبين قوم عهدٌ، فمضى الأجلُ فعرَّفنا

(1)

اثنا عشر رجلًا مع كلِّ رجلٍ منهم أناسٌ اللّه أعلمُ كم معَ كلِّ رجلٍ، غيرَ أنه بَعَثَ معهم، قال: فأكلوا منها أجمعون، أو كما قال. وغيرهم يقول:"فتفرقنا"

(2)

.

هذا لفظه، وقد رواه في مواضعَ أخر من صحيحه

(3)

، ومسلم

(4)

من غير وجه، عن أبي عثمان عبد الرحمن بن مُلٍّ النهدي، عن عبد الرحمن بن أبي بكر.

‌حديث آخر عن عبد الرحمن بن أبي بكر في هذا المعنى

قال الإمام أحمد

(5)

: حَدَّثَنَا عارمٌ، حَدَّثَنَا مُعتمر بن سليمان، عن أبيه، عن أبي عثمان، عن عبد الرحمن بن أبي بكر؛ أنه قال: كنا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ثلاثينَ ومئة، فقال النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم:"هل مع أحد منكم طعام؟ " فإذا مع رجل صاعٌ من طعام أو نحوُه، فعجن، ثم جاء رجل مشرك مُشعانٌ

(6)

طويل بغنم يسوقُها، فقال النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم:"أبَيعًا أم عطيّة؟ - أو قال: أم هدية؟ "قال: لا، بل بَيعٌ، فاشترى منه

(1)

كذا بالأصل، وفي البخاري: بين.

(2)

كذا بالأصل وفي البخاري: ففرَّقنا، وفي آخره: وغيره يقول: فعرفنا؛ من العِرافة. أي: جعلنا عرفاء.

(3)

صحيح البخاري (602) في الصلاة و (6140) و (6141) في الأدب.

(4)

صحيح مسلم (2056) و (2057).

(5)

رواه الإمام أحمد في المسند (1/ 197، 198).

(6)

"مشعانّ": ثائر الرأس، منتفش الشعر.

ص: 167

شاة، فصنعت، وأمر النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم بسواد البطن أن يشوى، قال: وايم الله ما من الثلاثين والمئة إِلَّا قد حز له رسولَ الله حزةً من سَوَاد بطنِها، إن كان شاهدًا أعطاه إياه، وإن كان غائبًا خبَّأ له، قال: وجعلَ منها قصعتين، قال: فأكلنا منهما أجمعون وشبعنا وفَضَلَ في القصعتين، فحملناه على البعير، أو كما قال.

وقد أخرجه البخاريُّ ومسلم

(1)

، من حديث معتمر بن سليمان.

‌حديث آخر في تكثير الطعام في السفر

قال الإمام أحمد: حَدَّثَنَا فزارة بن عمر، أخبرنا فُلَيحٌ، عن سُهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: خرجَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها، فأرملَ فيها المسلمون، واحتاجوا إلى الطعام، فاستأذنوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في نَحرِ الإبل فأذنَ لهم، فبلغَ ذلك عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه قال: فجاء فقال: يا رسولَ الله، إبلُهم تحملُهم وتبلِّغُهم عدوَّهم ينحرونَها؟ ادعُ يا رسول الله، بغبراتِ

(2)

الزَّادِ، فادعُ الله عز وجل فيها بالبركة، قال:"أجل" فدعا بغبرات الزاد، فجاء الناس بما بقي معهم، فجمَعه ثم دعا له عز وجل فيه بالبركة، ودعاهم بأوعيتهم فملأها وفضل فضل كثير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك:"أشهد أن لا إله إِلَّا اله وأشهدُ أني عبدُ الله ورسوله، ومن لقيَ الله عز وجل بهما غيرَ شَاك دخلَ الجنة"

(3)

.

وكذلك رواه جعفر الفريابي عن أبي مصعب الزهري، عن عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه عن

(4)

سهيل، به.

ورواه مسلم والنسائي

(5)

جميعًا، عن أبي بكر بن أبي النضر، عن أبيه، عن عُبيد اللّه الأشجعي، عن مالك بن مِغوَل، عن طلحة بن مصرف، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، به.

وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي

(6)

: حَدَّثَنَا زهير، حَدَّثَنَا أبو معاوية، عن الأعمش، عن

(1)

رواه البخاري في صحيحه رقم (2216) في البيوع، وردم (2618) في الهبة، ومسلم في صحيحه رقم (2056) في الأطعمة.

(2)

"بغبرات الزاد": بقايا الزاد.

(3)

رواه الإمام أحمد في المسند (2/ 421 - 422) في إسناده فزارة بن عمر، أبو الفضل، قال الحافظ في "تعجيل المنفعة": فيه نظر، وفليح دمان كان من رجال البخاري لكنه إنما يتحسن حديثه بالمتابعة.

(4)

في المطبوع: "عن أبيه سهيل" وهو خطأ ظاهر، إنما يرويه عن أبيه أبي حازم سلمة بن دينار، عن سهيل، به.

ولم أقف على مثل هذه الرواية في الكتب الأولى. والمحفوظ أن عبد العزيز قد رواه عن سهيل عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة، كما في مسند أبي عوانة (1/ 8) وسنن النسائي الكبرى (8796).

(5)

رواه مسلم في صحيحه رقم (27) في الإيمان، والنسائي في الكبرى (8794).

(6)

رواه أبو يعلى في مسنده رقم (1199).

ص: 168

أبي صالح، (عن أبي سعيد)

(1)

، أو عن أبي هريرة - شك الأعمش - قال: لما كانت غزوةُ تبوك أصابَ النَاسَ مجاعةٌ، فقالوا: يا رسول اللّه، لو أذنتَ لنا فنحرنا نواضحَنا فأكلنا وادَّهَنَّا؟ فقال:"افعلوا" فجاء عمرُ، فقال: يا رسولَ الله، إن فعلوا قل الظَّهرُ، ولكن ادعُهم بفضل أزوادِهم، ثم ادعُ لهم عليها بالبركة لعلَّ اللّه أن يجعلَ في ذلك البركة، فأمرَ رسولُ اللّه بنِطعٍ فبُسِطَ ودعا بفضل أزوادهم، قال: فجعلَ الرجلُ يجيءُ بكفِّ التمرِ، والآخرُ بالكِسرة، حتى اجتمعَ على النطعِ شيءٌ من ذلك يَسير، فدعا عليهم بالبركة، ثم قال:"خذوا في أوعيتكم" فأخذوا في أوعيتهم، حتى ما تركوا في العسكر وعاء إِلَّا مَلؤُوه، وأكلوا حتى شبِعوا وفضُلَت فَضلَةٌ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "أشهد أن لا إله إِلَّا اللّه وأني رسولُ اللّه، لا يلقى اللّه بها عبدٌ غيرَ شَاكٍّ فتُحتَجَبُ

(2)

عنه الجنّة".

وهكذا رواه مسلم

(3)

أيضًا عن سهل بن عثمان وأبي كُريب، كلاهما عن أبىِ مُعاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد أو أبي هريرة، فذكر مثلَه.

‌حديث آخر في هذه القصة

قال الإمام أحمد: حَدَّثَنَا علي بن إسحاق، حَدَّثَنَا عبد اللّه - هو ابن المبارك - أخبرنا الأوزاعي، أخبرنا المطلبُ بن حتطب المخزومي، حدَّثني عبد الرحمن بن أبي عَمرة الأنصاري، حدَّثني أبي قال: كنا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في غزاة فأصاب النَّاسَ مَخمَصةٌ

(4)

، فاستأذنَ النَّاسُ رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم في نحرِ بعض ظُهورهم، وقالوا: يُبلِّغنا اللّه به، فلما رأى عمرُ بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد همَّ أن يأذنَ لهم في نحر بعض ظُهورهم، قال: يا رسولَ اللّه، كيف بنا إذا نحن لقينا العدوَّ غدًا جِياعًا رِجَالًا؛ ولكن إن رأيتَ يا رسولَ اللّه، أن تدعوَ لنا ببقايا أزوادهم وتجمِّعها، ثم تدعو الله فيها بالبركةِ فإن الله سيبلّغنا بدعوتك، أو سيُبارك لنا في دعوتك، فدعا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ببقايا أزوادهم، فجعل النَّاسُ يَجيئون بالحبَّة من الطعام وفوقَ ذلك، فكان أعلاهم من جاءَ بصاعٍ من تمر، فجمعَها رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم، ثم قام فدعا ما شاء اللّه أن يدعوَ، ثم دعا الجيشَ بأوعيتهم وأمرَهم أن يحتثوا، فما بقي في الجيش وعاء إِلَّا ملؤوه، وبقي مثله، فضحكَ رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذُه وقال:"أشهد أن لا إله إِلَّا اللّه وأشهد أني رسولُ اللّه، لا يلقى اللّهَ عبدٌ يُؤمن بها إِلَّا حُجِبَت عنه النَّار يومَ القيامة"

(5)

.

(1)

في الأصل: عن سعيد، والتصحيح من (أ) ومسند أبي يعلى (2/ 411 - 412).

(2)

كذا بالأصل، وفي المسند: فيُحجبُ عن الجنة.

(3)

في صحيحه رقم (27) في الإيمان.

(4)

"مخمصة": جوع.

(5)

رواه الإمام أحمد في المسند (3/ 417 - 418).

ص: 169

وقد رواه النسائيّ، من حديث عبد الله بن المبارك بإسناده نحو ما تقدم

(1)

.

‌حديث آخر في هذه القصة

قال الحافظُ أبو بكر البَزَّار: حَدَّثَنَا أحمد بن المُعَلَّى الأَدَمِي، حَدَّثَنَا عبدُ اللّه بن رجاء، حَدَّثَنَا سعيدُ بن سلمة، حدَّثني أبو بكر - أظنُّه من ولد عمرَ بن الخطاب - عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن أبي ربيعةَ، أنه سمعَ أبا خُنَيْس الغِفاري، أنه كانَ مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في غزوة تِهامة حتى إذا كنا بعُسفان جاءَه أصحابُه فقالوا: يا رسولَ اللّه، جَهدنَا الجوعُ فأذن لنا في الظهر أن نأكلَه، قال: نعم، فأُخبرَ بذلك عمرُ بن الخطاب فجاءَ رسول الله، فقال: يا نبيّ اللّه ما صنعتَ؟ أمرتَ الناسَ أن يَنحروا الظهرَ فعلى ماذا يركبون؟ قال: "فما ترَى يا بن الخطاب؟ "قال: أرى أن تأمرَهم أن يأتُوا بفضل أزوادِهم فتجمعَه في ثوبٍ ثم تدعو لهم، فأمرهم فجمعوا فضلَ أزوادهم في ثوبٍ ثم دعا لهم، ثم قال:"ائتوا بأوعيتكم" فملأ كلُّ إنسان وعاءَه، ثم أذن بالرحيل، فلما جاوزَ مُطروا، فنزلَ ونزلوا معه، وشربوا من ماء السماء، فجاء ثلاثةُ نفر، فجلس اثنان مع رسول اللّه وذهبَ الآخر مُعرضًا، فقال رسول الله:"ألا أخبركم عن النفر الثلاثة؛ أما واحدٌ فاستحى من اللّه فاستحى اللّه منه، وأمّا الآخرُ فأقبلَ تائبًا فتابَ اللّه عليه، وأما الآخر فأعرضَ فأعرضَ الله عنه".

ثم قال البزار: لا نعلم روى أبو خُنَيس إِلَّا هذا الحديث بهذا الإسناد.

وقد رواه البيهقيّ

(2)

عن أبي الحُسين بن بِشران، عن أبي بكر الشافعي: حَدَّثَنَا إسحاق بن الحسن الحَرْبي

(3)

، أخبرنا أبو رجاء، حَدَّثَنَا سعيد بن سلمة، حدَّثني أبو بكر بن عمرو بن عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد اللّه بن أبي ربيعة؛ أنه سمع أبا خُنَيس الغِفاري، فذكرَه.

‌حديث آخر عن عمر بن الخطاب في هذه القصة

قال الحافظ أبو يعلى: حَدَّثَنَا أبو هشام - محمد بن زيد الرفاعي - حَدَّثَنَا ابنُ فُضيل، حَدَّثَنَا يزيد

(1)

في السنن الكبرى (8793) وفي عمل اليوم والليلة رقم (1140)، وإسناد الحديث حسن.

(2)

البيهقيّ في الدلائل (6/ 122) ورواه الحافظ ابن حجر في الإصابة (4/ 52) وقال: وسند الحديث حسن، وقد سمعناه بعلو في الثاني من أمالي المحاملي رواية الأصبهانيين، وشاهده في الصحيحين، وله شاهد آخر عنه عند الحاكم عن أنس.

(3)

في أ والمطبوع: "الخرزي" محرف، والصواب ما أثبتناه وهو حنبلي من أهل الحربية ببغداد، كما هو في طبقات الحنابلة (1/ 112)، وسير أعلام النبلاء (13/ 410) والوافي (8/ 409) وغيرها.

ص: 170

-وهو ابن أبي زياد- عن عاصم بن عُبيد اللّه بن عاصم، عن أبيه، عن جده عمر، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غَزَاة، فقلنا: يا رسول الله، إن العدوَّ قد حضرَ، وهم شِبَاعٌ والنَّاس جِيَاع، فقالت الأنصار: ألا ننحرُ نواضحَنا فنُطعمَها الناسَ؟ فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "من كان معه فضل طعايم فليجئ به" فجعل الرجلُ يجيء بالمُدِّ والصَّاعِ وأقلّ وأكثر، فكان جميعُ ما في الجيش بضعًا وعشرين صَاعًا، فجلسَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إلى جنبه فدعا بالبركة، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"خذوا ولا تَنتهبوا" فجعل الرجلُ يأخذُ في جِرَابه

(1)

وفي غِرَارته

(2)

، وأخذوا في أوعيتهم، حتى أن الرجل ليربطَ كمَّ قميصه فيملؤُه، ففرغوا والطعام كما هو، ثم قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"أشهدُ أن لا إلهَ إِلَّا اللّه وأني رسولُ اللّه، لا يأتي بها عبدٌ مُحِقٌّ إِلَّا وَقاه اللّه حرَّ النار"

(3)

.

ورواه أبو يعلى

(4)

أيضًا، عن إسحاق بن إسماعيل الطَّالقانيّ، عن جرير، عن يزيد بن أبي زياد، فذكره.

وما قبلَه شاهد له بالصحة، كما أنه مُتَابع لما قبله، والله أعلم.

‌حديث آخر عن سلمة بن الأكوع في ذلك

قال الحافظ أبو يعلى: حَدَّثَنَا محمد بن بشار، حَدَّثَنَا يعقوب بن إسحاق الحضرمي القاري، حَدَّثَنَا عكرمة بن عمار، عن إياس بن سلمة، عن أبيه، قال: كنا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في غزوة خيبر، فأمرَنا أن نجمعَ ما في أزوادِنا -يعني من التمر- فبسطَ نِطعًا

(5)

، فنثرنا عليه أزوادَنا، فال: فتمطَّيمتُ

(6)

فتطاولتُ فنظرتُ، فحزرتُه

(7)

كَربضَةِ

(8)

شاةٍ، ونحن أربع عشرة مئة، قال: فأكلنا، ثم تطا ولتُ فنظرتُ فحزرته كرَبضَةِ شاةٍ، وقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم:"هل من وضوء؟ "قال: فجاء رجلٌ بنطفةٍ في إداوة وقال: فقبضَها فجعلَها في قدحٍ، قال: فتوضَّأنا كلُّنا ندغفقها

(9)

دغفقةً، ونحن أربع عشرة مئة، قال: فجاء أناسٌ

(1)

"جرابه": الجراب: وعاء، وقيل: هو المِزود.

(2)

"غِرَارته": وعاء شبه العدل.

(3)

رواه أبو يعلى في مسنده (1/ 199) رقم (230) وإسناده ضعيف، فيه يزيد بن أبي زياد، وشيخه عاصم بن عبيد اللّه ابن عاصم، وهما ضعيفان. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 304): رواه أبو يعلى، وفيه عاصم بن عُبيد اللّه العمري، وثقه العجلي، وضعَّفه جماعة، وبقية رجاله ثقات.

(4)

رواه أبو يعلى في مسنده (1/ 199) رقم (230) وإسناده ضعيف.

(5)

"نِطعًا": بساطًا.

(6)

"فتمطيت": تطاولتُ حتى أنظر، وتمطّى: امتد وطال.

(7)

"فحزرته": قدرته.

(8)

"ربضة شاة": مقدار جلوس شاة.

(9)

"ندغفقها": نصبُّها صبًا كثيرًا.

ص: 171

فقالوا: يا رسولَ اللّه ألا وضوء؟ فقال: "قد فرغ الوضوء"

(1)

.

وقد رواه مسلم

(2)

، عن أحمد بن يُوسف السلميّ، عن النضر بن محمد، عن عكرمة بن عمّار، عن إياس، عن أبيه سلمة، وقال: فأكلنا حتى شبعنا ثم حشونا جُرُبَنا.

وتقدَّم

(3)

ما ذكرَه ابنُ إسحاق في حفر الخندق، حيث قال: حدَّثني سعيد بن مِيناء؛ أنه قد حُدِّث أن

ابنةً لبشير بن سعد -أخت النُّعمان بن بشير- قالت: دعتني أُمّي عمرةُ بنتُ رَواحة، فأعطتني جَفنةً من تمر

في ثوبي، ثم قالت: أين بنية، اذهبي إلى أبيك وخالك عبد اللّه بغدائهما. قالت: فأخذتُها فانطلقتُ بها،

فمررتُ برسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ألتمسُ أبي وخالي، فقال:"تعالي يا بنية! ما هذا معك؟ "قالت: قلت:

يا رسول اللّه، هذا تمرٌ بعثتني به أمّي إلى أبي بشير بن سعد وخالي عبد اللّه بن رواحة يتغديانه. فقال:

"هاتيه" قالت: فصببتُه في كفّي رسولِ اللّه صلى الله عليه وسلم فما ملأَتهما، ثم أمر بثوبٍ فبُسِطَ له، ثم دعا بالتمر فنُبِذَ

فوق الثوب، ثم قال لإنسان عندَه:"اصرخ في أهل الخندق أن هلمَّ إلى الغداء" فاجتمع أهلُ الخندق

عليه، فجعلُوا يأكلون منه وجعلَ يزيدُ حتى صدرَ أهلُ الخندق عنه، وإنه ليسقطُ من أطرافِ الثوب.

‌قصّةُ جابر ودَينُ أبيه وتكثيرُه عليه الصلاة والسلام التَّمرَ

قال البخاري في "دلائل النبوة"

(4)

: حَدَّثَنَا أبو نُعيم، حَدَّثَنَا زكريا، حدَّثني عامر، حدَّثني جابر؛ أن أباه تُوفيَ وعليه دينٌ، فأتيتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فقلتُ: إن أبي تركَ عليه دَينًا، وليس عندي إِلَّا ما يُخرجُ نخلُه، ولا يبلغُ ما يُخرج سنين ما عليه، فانطلق معي لكيلا يَفحش علي الغرماءُ، فمشى حول بيدر من بيادر التمر فدعا، ثم آخر، ثم جلسَ عليه، فقال:"انزعوه" فأوفاهم الذي لهم ويقي مثل ما أعطاهم

(5)

.

هكذا رواه هنا مختصرًا.

وقد أسندَه من طرق، عن عامر بن شراحيل الشَّعبي عن جابر به.

وهذا الحديثُ قد رُوي من طرق متعددة عن جابر

(6)

؛ بألفاظ كثيرة، وحاصلُها أنه ببركةِ

(1)

رواه أبو يعلى في مسنده (1/ 560).

(2)

رواه مسلم في صحيحه رقم (1729) في اللقطة.

(3)

تقدم ذلك في السيرة النبوية.

(4)

المراد به: باب علامات النبوة في الإسلام في صحيح البخاري.

(5)

رواه البخاري في صحيحه رقم (3580) في المناقب.

(6)

روى البخاري حديث جابر رضي الله عنه في صحيحه رقم (2127) في البيوع، وأطرافه في (2395) و (2396) و (2405) و (2601) و (2709) و (2781) و (3580) و (4053) و (6250)، والنسائي (6/ 245 - 246) في الوصايا، وأبو داود في سننه رقم (2884) في الوصايا أيضًا.

ص: 172

رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ودعائِه له ومشيهِ في حائطه وجلوسه على تمره وَفَّى اللّه دَينَ أبيه، وكان قد قُتِل يومَ أحد وكان لا يرجو وفاءَه في ذلك العام ولا ما بعدَه، ومع هذا فَضَلَ له من التمر أكثره، فوقَ ما كان يُؤَمِّلُه ويرجوه، وللّه الحمدُ والمِنّة.

‌قصة سلمان في تكثيره صلى الله عليه وسلم تلك القطعة من الذهب لوفاء دَينهِ في مكاتبته

قال الإمام أحمد: حَدَّثَنَا يعقوب، حَدَّثَنَا أبي، عن ابن إسحاق، حدَّثني يزيد بن أبي حبيب -رجل من عبد القيس- عن سلمان، قال:

لمّا قلتُ: وأين تقعُ هذه

(1)

من الذي عليّ يا رسولَ اللّه؟ أخذَها رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم فقلَّبها على لسانه ثم قال: "خذها فأَوْفِهم منها" فأخذتُها فأوفيتُهم منها حقهم أربعين أوقيّة

(2)

.

‌ذكرُ مِزودِ أبي هريرة وتمرِه

قال الإمام أحمد

(3)

: حَدَّثَنَا يونس، حَدَّثَنَا حمّاد - يعني: ابن زيد - عن المُهاجر، عن أبي العَالية، عن أبي هريرة قال: أتيتُ رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم يومًا بتمراتٍ، فقال: ادعُ الله لي فيهن بالبركة قال: فصفَّهن بينَ يديه ثم دعا، فقال لي:"اجعلهن في مِزودٍ، وأدخل يدَك ولا تنثره" قال: فحملتُ منه كذا وكذا وَسقًا في سبيل اللّه، ونأكلُ ونطعَم، وكان لا يُفارق حقويَّ. فلما قُتل عثمان رضي الله عنه انقطعَ عن حقويّ فسقط

(4)

.

ورواه الترمذي، عن عمران بن موسى القزّاز البصري، عن حمّاد بن زيد، عن المُهاجر، عن أبي مَخلد، عن رُفيع أبي العالية، عنه، وقال الترمذي: حسن غريب من هذا الوجه.

‌طريق أخرى عنه

قال الحافظ أبو بكر البيهقيّ: أخبرنا أبو الفتح هلال بن محمد بن جعفر الحفار، أنبأنا الحسين بن

(1)

وأين تقعُ هذه: المراد قطعة ذهب، قال عنها سلمان: فأتي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بمثل بيضة الدجاجة من ذهب من بعض المغازي.

(2)

رواه الإمام أحمد في المسند (5/ 444) رقم (23628) وفي إسناده ضعف لجهالة الراوي عن سلمان رضي الله عنه.

(3)

في المسند (2: 352).

(4)

رواه الترمذي في الجامع رقم (3839) في المناقب - مناقب أبي هريرة، و"حقويّ": أي وسطي، والمراد موضع شد الإزار.

ص: 173

يحيى بن عباس القطان، حدَّثنا حفصُ بن عمرو، حدَّثنا سهلُ بن زياد أبو زياد، حدَّثنا أيوب السختياني، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة قال: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في غزاة فأصابهم عَوَزٌ من الطعام فقال: "يا أبا هريرة، عندكَ شيءٌ؟ " قال: قلتُ: شيءٌ من تمر في مِزودٍ لي، قال:"جئ به" قال: فجئتُ بالمِزود، قال:"هاتِ نِطعًا" فجئتُ بالنطع فبسطتُه، فأدخلَ يدَه فقبضَ على التمر، فإذا هو إحدى وعشرون (تمرةً، ثم قال: باسم الله)

(1)

فجعل يضعُ كلَّ تمرةٍ ويُسمّي، حتى أتى على التمر، فقالَ به هكذا، فجمَعه، فقال:"ادعُ فلانًا وأصحابَه" فأكلوا حتى شبعوا وخرجوا، ثم قال:"ادعُ فلانًا وأصحابَه" فأكلوا حتى شبعوا وخرجوا، ثم قال:"ادعُ فلانًا وأصحابَه" فأكلوا وشبعوا وخرَجوا، ثم قال:"ادعُ فلانًا وأصحابَه" فأكلوا وشبِعوا وخرجوا، وفضل، ثم قال لي:"اقعد" فقعدتُ، فأكلَ وأكلتُ، وفضل تمرٌ فأدخلتُه فى المِزود، وقال لي: "يا أبا هريرة، إذا أردتَ شيئًا فأدخل يَدك وخذه ولا تَكفِي

(2)

فيُكفَى عليكَ" قال: فما كنتُ أريد تمرًا إلا أدخلتُ يدي فأخذتُ منه خمسين وَسقًا في سبيل الله، قال: وكان معلّقًا خلفَ رحلي، فوقعَ في زمن عثمان فذهبَ

(3)

.

‌طريق أخرى عن أبي هريرة في ذلك

روى البيهقيُّ من طريقين، عن سهل بن أسلم العدوي، عن يزيد بن أبي منصور، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: أُصبت بثلاث مُصيباتٍ في الإسلام لم أُصب بمثلهن: موت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنتُ صُويحبه، وقتل عثمان، والمِزود، قالوا: وما المِزود يا أبا هريرة؟ قال: كنّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فقال:"يا أبا هريرة أمعك شيء؟ " قال: قلت: تمرٌ في مِزود، قال:"جئ به" فأخرجتُ تمرًا فأتيتُه به، قال: فمسّه ودعا فيه، ثم قال:"ادع عشرة" فدعوتُ عشرة فأكلوا حتى شبعوا، ثم كذلك حتى أكل الجيشُ كلّه، وبقي من تمر معي في المِزود، فقال: "يا أبا هريرة، إذا أردتَ أن تأخذَ منه شيئًا فأدخل يدك فيه ولا تكبّه قال: فأكلتُ منه حياةَ النبي صلى الله عليه وسلم، وأكلتُ منه حياةَ أبي بكر كلّها، وأكلتُ منه حياةَ عمر كلّها، وأكلتُ منه حياة عثمان كلّها، فلما قُتل عثمان انتُهبَ ما في يدي وانتُهبَ المِزود، ألا أخبرُكم كم أكلتُ منه؟ أكلتُ منه أكثرَ من مئتي وَسق

(4)

.

(1)

ما بين القوسين أثبته من دلائل النبوة (6/ 110).

(2)

"ولا تُكفي": لا تقلب المِزود لتستخرج ما فيه.

(3)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 109 - 110) وإسناده حسن.

(4)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 111) وإسناده حسن.

ص: 174

‌طريق أخرى عن عبد الملك بن عمرو العقدي

قال الإمام أحمد

(1)

: حدَّثنا أبو عامر، حدَّثنا إسماعيل - يعني ابن مسلم - عن أبي المتوكل، عن أبي هريرة، قال: أعطاني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم شيئًا من تمر، فجعلتُه في مِكتلٍ فعلّقناه في سقف البيت، فلم نزل نأكلُ منه حتى كان آخره، أصابه أهلُ الشَّام حيثُ أغاروا بالمدينة.

تفرَّد به أحمد.

‌حديثٌ عن العِربَاض بن سارية في ذلك رواه الحافظُ ابن عساكر في ترجمته من طريق محمد بن عمر الواقدي

حدَّثني ابن أبي سبرةَ، عن موسى بن سعد، عن العِرباض، قال: كنتُ ألزمُ بابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحَضرِ والسفر، فرأينا ليلةً ونحن بتبوك، فذهبنا لحاجةٍ فرجعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تعشَّى ومَن عندَه، فقال:"أين كنت منذ الليلة؟ " فأخبرته، وطلعَ جُعالُ بن سُراقة وعبد الله بن مغفل المزني، فكنا ثلاثة، كلُّنا جائع، فدخلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيتَ أمّ سلمة، فطلب شيئًا نأكلُه فلم يجده، فنادى بلالًا:"هل من شيء؟ " فأخذ الجرب ينفضُها فاجتمع سبعُ تمرات، فوضعَها في صَحفةٍ، ووضعَ عليهن يدَه وسمَّى الله. وقال:"كلوا باسم الله" فأكلنا، فأحصيتُ أربَعًا وخمسين تمرة، كلها أعدُّها، ونواها في يدي الأخرى، وصاحباي يصنعان ما أصنع، فأكل كل منهما خمسينَ تمرة، ورفعنا أيدينا فإذا التمرات السبع كما هنَّ، فقال:"يا بلال ارفعهن في جرابك" فلما كان الغد وضعهنَّ في الصَّحفَة وقال: "كلوا باسم الله" فأكلنا حتى شبعنا وإنا لعشرة، ثم رفعنا أيدينا وإنهن كما هنّ سبع، فقال:"لولا أني أستحي من ربّي عز وجل لأكلتُ من هذه التمرات حتى نَرِدَ إلى المدينة عن آخرنا" فلما رجعَ إلى المدينة طلعَ غُلَيم من أهل المدينة، فدفعهن إلى ذلك الغلام فانطلق يَلُوكهن

(2)

.

حديث آخر

روى البخاريُّ ومسلم، من حديث أبي أسامة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت له:

(1)

رواه الإمام أحمد في المسند (2/ 324) وهو حديث حسن.

(2)

مختصر تاريخ دمشق لابن منظور (16/ 341) وفي إسناده الواقدي وهو متروك.

ص: 175

لقد تُوفي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وما في بيتي شيءٌ يأكلُه ذو كَبد، إلا شطرَ شعيرٍ في رفٍّ لي، فأكلتُ منه حتى طال عليَّ، فكِلته ففَنِيَ

(1)

.

حديث آخر

روى مسلم في "صحيحه"، عن سلمةَ بن شَبيب، عن الحسن بن أعينَ، عن مَعقِل، عن أبي الزُّبير، عن جابر:

أن رجلًا أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم يستطعمُه فأطعمَه شطرَ وَسقِ شعيرٍ، فما زال الرجلُ يأكلُ منه وامرأته وضيفُهما حتى كالَه فأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال:"لو لم تَكِله لأكلتُم منه ولقامَ لكم"

(2)

.

وبهذا الإسناد عن جابرٍ:

أن أمَّ مالكٍ كانت تُهدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في عُكّتِها سمنًا، فيأتيها بنوها فيسألون الأدمَ وليس عندها شيء، فتعمد إلى الذي كانت تُهدي فيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتجد فيه سمنًا، فما زال يُقيم لها أدم بيتها حتى عصرتها، فأتت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال:" أعصرتيها؟ " قالت: نعم، فقال: " لو تركتيها ما زالت قائمة

(3)

.

وقد رواهما الإمام أحمد، عن موسى، عن ابن لهيعة، عن أبي الزبير، عن جابر

(4)

.

حديث آخر

قال البيهقيُّ

(5)

: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا أبو جعفر البغدادي، حدَّثنا يحيى بن عثمان بن صالح، حدَّثنا حسان بن عبد الله، حدَّثنا ابن لهيعة، حدَّثنا يونس بن يزيد، حدَّثنا أبو إسحاق

(6)

، عن سعيد بن الحارث، عن جده نوفل بن الحارث بن عبد المطلب؛ أنه استعانَ رسولَ الله التزويج فأنكحَه امرأة، فالتمسَ شيئًا فلم يجده، فبعثَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أبا رافع وأبا أيوب بدرعِه فرهناها عندَ رجلٍ من

(1)

رواه البخاري في صحيحه رقم (6451) في الرقاق، ومسلم في صحيحه رقم (2973) في الزهد.

(2)

رواه مسلم في صحيحه رقم (2281) في الفضائل.

(3)

رواه مسلم في صحيحه رقم (2280) في الفضائل.

(4)

رواهما الإمام أحمد في المسند (3/ 347).

(5)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 114) وفي إسناده ابن لهيعة ضعيف.

(6)

في المطبوع: "ابن إسحاق"، وهو خطأ، إذ يونس بن يزيد الراوي عنه من طبقته. وما أثبتناه هو الصواب، وهو عمرو بن عبد الله السبيعي من رجال التهذيب، وقد صَرَّح به الحافظ ابن حجر حينما روى هذا الحديث في ترجمة نوفل بن الحارث من الإصابة (3/ 577)(بشار).

ص: 176

اليهود بثلاثين صاعًا من شعير، فدفَعه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إليه، قال: فطَعِمنا منه نصفَ سنةٍ، ثم كِلنَاهُ فوجدناه كما أدخلناه، قال نوفل: فذكرتُ ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " لو لم تَكِله لأكلتَ منه ما عِشتَ".

حديث آخر

قال الحافظ البيهقي في "الدلائل": أخبرنا عبد الله بن يوسف الأصفهاني، أخبرنا أبو سعيد

(1)

ابن الأعرابي، حدَّثنا عباس بن محمد الدُّوريّ، أخبرنا أحمدُ بن عبد الله بن يونس، أخبرنا أبو بكر بن عيّاشٍ، وعن هشام - يعني ابن حسّان - عن ابن سيرين، عن أبي هريرة قال:

أتى رجلٌ أهلَه فرأَى ما بهم من الحاجة، فخرجَ إلى البريّة، فقالت امرأته: اللهم ارزقنا ما نعتجنُ ونختبزُ، قال: فإذا الجَفنة ملأى خميرًا، والرحا تطحن، والتنور ملأى خبزًا وشواءً، قال: فجاء زوجُها فقال: عندكم شيء؟ قالت: نعم رزقُ الله، فرفع الرحا فكنسَ ما حَوله، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال:" لو تركتها لدارت إلى يوم القيامة ".

وأخبرنا علي بن أحمد بن عَبدَان، أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار، حدَّثنا أبو إسماعيل الترمذي، حدَّثنا أبو صالح عبدُ الله بن صالح، حدَّثني اللَّيث بن سعد، عن سعيد بن أبي سعيدٍ المَقبُري عن أبي هريرة؛ أن رجلًا من الأنصار كان ذا حاجة، فخرجَ وليس عند أهله شيء، فقالت امرأته: لو حرَّكتُ رحايَ، وجعلتُ في تنّوري سعفاتٍ، فسمعَ جيراني صوتَ الرحا ورأوا الدخانَ، فظنوا أن عندنا طعامًا وليس بنا خَصَاصة؟ فقامت إلى تنوّرها فأوقدته وقعدت تُحرّكُ الرحا، قال: فأقبلَ زوجُها وسمعَ الرحا، فقامت إليه لتفتحَ له الباب، فقال: ماذا كنتِ تطحنين؟ فأخبرته فدخلا وإن رحاهما لتدور وتصبُّ دقيقًا، فلم يبقَ في البيت وعاء إلا مُلئ، ثم خرجت إلى تنوّرها فوجدته مملوءًا خبزًا، فأقبلَ زوجُها فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم قال:"فما فعلت الرحا؟ " قال: رفعتُها ونفضتها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لو تركتموها ما زالت لكم حياتي"

(2)

-أو قال: حياتكم

(3)

.

وهذا غريب سندًا ومتنًا.

حديث آخر

وقال مالك: عن سُهَيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة:

(1)

في دلائل النبوة (6/ 105) أنبأنا أبو سعيد بن محمد بن زياد.

(2)

في الدلائل: لو تركتموها ما زالت لكم حياتكم. من غير شك.

(3)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 105 - 106).

ص: 177

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضافَه ضيفٌ كافرٌ، فأمرَ له بشاة فحُلبت فشربَ حِلَابها، ثم أخرى فشربَ حِلَابها، ثم أُخرى فشربَ حِلَابهَا

(1)

، حتى شربَ حِلَابَ سبع شياهٍ، ثم إنه أصبحَ فأسلمَ، فأتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فأمرَ له بشاة فحُلِبَت فشربَ حِلَابَها، ثم أمر له بأخرى فلم يَسْتَتِمَّها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن المسلم

(2)

يشربُ في مِعىً واحدٍ، والكافرُ يشربُ في سبعةِ أمعاءٍ

(3)

".

ورواه مسلم

(4)

من حديث مالك.

حديث آخر

قال الحافظ البيهقي: أخبرنا عليّ بن أحمد بن عَبدان، حدَّثنا أحمد بن عُبيد الصفَّار، حدَّثني محمد بن الفضل بن حاتم

(5)

، حدَّثنا الحسين بن عبد الأول، حدَّثنا حفصُ بن غِياث، حدَّثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال:

ضافَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أعرابيٌّ، قال: فطلبَ له شيئًا فلم يجد إلا كِسرةً في كوّة. قال: فجزَّأَها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أجزاءً ودعا عليها، وقال:"كل! " قال: فأكلَ فأفضَلَ. قال: فقال: يا محمّد إنك لرجلٌ صالح، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"أسلم" فقال: إنك لرجلٌ صالح

(6)

.

ثم رواه البيهقي

(7)

من حديث سهل بن عثمان، عن حفص بن غِيَاث بإسناده، نحوه.

حديث آخر

قال الحافظ البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا أبو علي الحسين بن علي الحافظ، قال وفيما ذكر عبدان الأهوازي: حدَّثنا محمد بن زياد البرجمي، حدَّثنا عبيد الله بن موسى، عن مِسعَر، عن زبيد، عن مرة، عن عبد الله بن مسعود قال:

(1)

في الموطأ (2/ 924) ثم أخرى فشربَه، ثم أخرى فشربَه.

(2)

في الموطأ (2/ 924) المؤمنُ يشربُ.

(3)

رواه مالك في الموطأ (2/ 924) كتاب صفة النبي (باب ما جاء في مِعى الكافر) رقم (10).

و" مِعىً ": مفرد أمعاء، كعنب وأعناب، وهي المصارين.

و" حِلابها ": اللبن الذي يُحلب، والإناء الذي يحلب فيه اللبن، وهو المحلب.

(4)

في صحيحه (2063) في الأطعمة.

(5)

في الدلائل: ابن جابر وهو مجهول لا يعرف.

(6)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 117) وفي إسناده حسين بن عبد الأول - قال أبو زرعة: لا أحدث عنه. وكذبه ابن معين، الميزان (1/ 539).

(7)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 117 - 118) وإسناده ضعيف.

ص: 178

أضاف النبيُّ صلى الله عليه وسلم ضيفًا، فأرسلَ إلى أزواجه يبتغي عندهن طعامًا، فلم يجد عند واحدةٍ منهن شيئًا، فقال:"اللهم إني أسألُك من فضلك ورحمتك، فإنه لا يملكها إلا أنت" قال: فأُهديت له شاةٌ مصليَّةٌ

(1)

فقال: " هذا من فضل الله، ونحنُ ننتظر الرحمة"

(2)

.

قال أبو علي: حدَّثنيه محمد بن عَبدان الأهوازي عنه، قال: والصحيح عن زبيد مرسلًا.

حدَّثناه محمدُ بن عَبدان، حدَّثنا أبي، حدَّثنا الحسن بن الحارث الأهوازي، أخبرنا عبيد الله بن موسى، عن مِسعر، عن زَبيد

(3)

، فذكره مرسلًا.

حديث آخر

قال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الرحمن السُّلَمي، حدَّثنا أبو عمرو بن حَمدان، أنبأنا الحسن بن سفيان، حدَّثنا إسحاق بن منصور، حدَّثنا سليمان بن عبد الرحمن، حدَّثنا عمرو بن بشر بن السرح، حدَّثنا الوليد بن سليمان بن أبي السائب، حدَّثنا واثلة بن الخطاب، عن أبيه، عن جده واثلة بن الأسقع قال: حضرَ رمضانُ ونحن في أهل الصُّفة، فصمنا فكنّا إذا أفطرنَا أتى كلَّ رجلٍ منا رجلٌ من أهل البَيعة، فانطلق به فعشَّاه، فأتت علينا ليلةٌ لم يأتنا أحد، وأصبحنا صَباحًا، وأتت علينا القابلة فلم يأتنا أحد، فانطلقنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه بالذي كان من أمرنا، فأرسلَ إلى كلّ امرأة من نسائه يسألُها هل عندها شيءٌ، فما بقيت منهنّ امرأة إلا أرسلت تُقسِمُ ما أمسى في بيتها ما يأكلُ ذو كبدٍ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجتمعوا، فدعا وقال:"اللهم إني أسألك من فضلِك ورحمتِك فإنها بيدِك لا يملكُها أحدٌ غيرُك" فلم يكن إلا ومستأذنٌ يستأذنُ، فإذا بشاةٍ مصليَّة ورُغُفٍ، فأمر بها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فوُضعت بين أيدينا، فأكلنا حتى شَبعنا، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنا سألنا الله من فضله ورحمته، فهذا فضلُه وقد ذَخَر

(4)

لنا عندَه رحمتَه"

(5)

.

‌حديث الذِّراع

قال الإمام أحمد: حدَّثنا إسماعيل، حدَّثنا يحيى بن إسحاق، حدَّثني رجل من بني غِفَار في مجلس سالم بن عبد الله، قال: حدَّثني فلان:

(1)

"مصليّة": مشويّة.

(2)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 128) وقال الهيثمي في المجمع (10/ 159) رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح غير محمد بن زياد البرجمي وهو ثقة. قلت: لكن لا يصح هذا متصلًا كما سيأتي.

(3)

في دلائل النبوة (6/ 128 - 129): عن زبيد قال: أضاف النبي صلى الله عليه وسلم وذكره وهو مرسل، أي ضعيف.

(4)

كذا في الأصل والدلائل: ذخر: أي اختار واتخذ وفي المطبوع: ادَّخَر.

(5)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 129) وفي إسناده واثلة بن الخطاب عن أبيه لم نقف له على ترجمة.

ص: 179

أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أُتي بطعام من خبز ولحم، فقال:"ناولني الذراع" فنُوول ذراعًا

(1)

. قال يحيى: لا أعلمه إلا هكذا، ثم قال:"ناولني الذراع" فنُووِل ذراعًا، فأكلها، ثم قال:"ناولني الذراع" فقال: يا رسولَ الله إنما هما ذراعان! فقال: "وأبيك لو سكت ما زلتُ أُناول منها ذِراعًا ما دعوتُ به"

(2)

.

فقال سالم: أمّا هذه فلا، سمعتُ عبدَ الله بن عمر يقول: قالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم".

هكذا وقعَ إسنادُ هذا الحديث، وهو عن مُبهم، عن مثله، وقد رُوي من طرق أخرى.

قال الإمام أحمد: حدَّثنا خلفُ بن الوليد، حدَّثنا أبو جعفر -يعني: الرازي- عن شُرحبيل، عن أبي رافع، مولى النبي صلى الله عليه وسلم قال: أُهديت له شاةٌ، فجعلَها في القِدر، فدخلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فقال:" ما هذا يا أبا رافع؟ " قال: شاة أُهديت لنا يا رسولَ الله، فطبختُها في القِدر، فقال:"ناولني الذراعَ يا أبا رافع" فناولتُه الذراعَ، ثم قال:" ناولني الذراع الآخر " فناولتُه الذراعَ الآخرَ، ثم قال:" ناولني الذراع الآخر " فقال: يا رسول الله إنما للشاة ذراعان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أما إنك لو سكتَّ لناولتني ذِراعًا فذِراعًا ما سكتَّ " ثم دعا بماءٍ فمضمضَ فاه وغسلَ أطرافَ أصابعِه ثم قامَ فصلَّى، ثم عاد إليهم فوجدَ عندهم لحمًا باردًا فأكل، ثم دخلَ المسجدَ فصلَّى ولم يمسَّ ماء

(3)

.

طريق أخرى عن أبي رافع: قال الإمام أحمد

(4)

: حدَّثنا مؤمَّل

(5)

، حدَّثنا حماد، حدَّثني عبد الرحمن ابن أبي رافع، عن عمته، عن أبي رافع، قال:

صُنع لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاةٌ مَصليّة، فأتي بها، فقال لي:"يا أبا رافع، ناولني الذراع" فناولته، ثم قال:"يا أبا رافع، ناولني الذراع" فناولته، ثم قال:"يا أبا رافع، ناولني الذراع" فقلتُ: يا رسول الله هل للشاة إلّا ذراعان؟ فقال: لو سكتَّ لناولتني منها ما دعوتُ به، قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعجبه الذِّراع.

قلت: ولهذا لما علمت اليهودُ -عليهم لعائن الله- بخيبرَ سَمُّوه في الذراع في تلك الشاة التي

(1)

في مجمع الزوائد (8/ 311) والمسند (2/ 48) فنُوول ذراعًا فأكلَها.

(2)

رواه الإمام أحمد في المسند (2/ 48) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 312): رواه أحمد وفيه راو لم يُسَمَّ وهو حديث حسن بشواهده.

(3)

رواه الإمام أحمد في المسند (6/ 392) وإسناده حسن لغيره في قصة مناولة الذراع، وهذا إسناد ضعيف لضعف شرحبيل بن سعد، وأبو جعفر الرازي مختلف فيه وقد اختلف عنه، في هذا الإسناد، كما بينه الإمام الدارقطني في العلل (7/ 20) فراجعه تجد فائدة.

(4)

رواه الإمام أحمد في المسند (6/ 8) رقم (23749) وهو حديث حسن.

(5)

في المطبوع: "نوفل" ولا نعرف شيخًا لأحمد اسمه نوفل، والصواب ما أثبتنا من المسند.

ص: 180

أحضرتها زينبُ اليهودية، فأخبرَه الذراعُ بما فيه من السُّمّ، لمَّا نَهَسَ

(1)

منه نهسةً، كما قدمنا ذلك في غزوة خيبر مبسوطًا.

طريق أخرى: قال الحافظ أبو يعلى: حدَّثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدَّثنا زيدُ بن الحُباب، حدَّثني فائد مولى عُبيد الله بن أبي رافع، عن أبي رافع قال:

أتيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يومَ الخندق بشاةٍ في مِكتل فقال: " يا أبا رافع، ناولني الذراع" فناولته، ثم قال:"يا أبا رافع، ناولني الذراع " فناولته، ثم قال:" يا أبا رافع، ناولني الذراع" فقلت: يا رسولَ الله أللشاة إلا ذراعان؟ فقال: " لو سكتَّ ساعةً ناولتنيه ما سألتُك ".

فيه انقطاع من هذا الوجه.

وقال أبو يعلى أيضًا: حدَّثنا محمد بن أبي بكر المقدمي، حدَّثنا فُضيل بن سليمان، حدَّثنا فايد مولى عُبيد الله، حدَّثني عُبيد الله؛ أن جدَّته سلمى أخبرته: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم بعثَ إلى أبي رافع بشاة، وذلك يومَ الخندق فيما أعلم، فَصَلاها أبو رافع ليس معها خبز، ثم انطلق بها، فلقيَه النبيُّ صلى الله عليه وسلم راجعًا من الخندق فقال:"يا أبا رافع، ضع الذي معك" فوضعه، ثم قال: يا أبا رافع، ناولني الذراع " فناولته، ثم قال: " يا أبا رافع، ناولني الذراع" فناولته، ثم قال: "يا أبا رافع، ناولني الذراع" فقلت: يا رسولَ الله، هل للشاة غير ذراعين؟ فقال: لو سكتَّ لناولتني ما سألتك.

وقد رُوي من طريق أبي هريرة. قال الإمام أحمد: حدَّثنا الضحَّاك، حدَّثنا ابن عَجلان، عن أبيه، عن أبي هريرة:

أن شاةً طُبخت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أعطني الذراع " فناولته إياه، فقال:"أعطني الذراع" فناولته إياه، ثم قال: أعطني الذراع" فقال: يا رسول الله إنما للشاة ذراعان، قال: " أما إنك لو التمستَها لوجدتَها"

(2)

.

حديثٌ آخر: قال الإمام أحمد: حدَّثنا وكيع (عن إسماعيل، عن قيس)

(3)

، عن دُكين بن سعيد الخثعمي، قال: أتينا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، ونحن أربعون وأربعمئة نسألُه الطعامَ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم لعمرَ:" قم فأعطهم " فقال: يا رسول الله، ما عندي إلا ما يَقيظني والصِّبية، قال وكيع: القيظ في كلام العرب أربعة أشهر. قال: " قم فأعطِهم " قال: يا رسول الله، سمعًا وطاعة. قال: فقام عمرُ وقمنا معه فصعِدَ

(1)

" نهسَ ": أخذ من اللحم بأطراف الأسنان، وبكل الأسنان: نهش.

(2)

رواه أحمد في المسند رقم (2/ 517) من حديث أبي هريرة، وإسناده حسن من أصل محمد بن عجلان، فإن حديثه لا يرتقي إلى مرتبة الصحيح.

(3)

ما بين القوسين سقط من الأصل، وأثبته من المسند، وإسماعيل هو ابن أبي خالد، وقيس هو ابن أبي حازم.

ص: 181

بنا إلى غرفةٍ له فأخرجَ المفتاحَ من حُجزته، ففتح الباب، قال دُكين: فإذا في الغرفة من التمر شبيه بالفَصِيل الرَّابض، قال: شأنكم، قال: فأخذ كلُّ رجل منا حاجتَه ما شاء، ثم التفتَ وإني لمن آخرهم، فكأنا لم نرزأ منه تمرةٌ

(1)

.

ثم رواه أحمد، عن محمد ويعلى ابني

(2)

عبيد، عن إسماعيل- وهو ابن أبي خالد- عن قيس- وهو ابن أبي حازم - عن دُكين به

(3)

.

ورواه أبو داود

(4)

عن عبد الرحيم بن مُطرف الرَّواسي، عن عيسى بن يونس، عن إسماعيل، به.

حديث آخر: قال عليُّ بن عبد العزيز: حدَّثنا أبو نُعيم، حدَّثنا حشرج بن نُباتة، حدَّثنا أبو نضرة، حدَّثني أبو رجاء، قال:

خرجَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حتى دخلَ حائطًا لبعض الأنصار، فإذا هو يَستوفيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما تجعلُ لي إن أرويتُ حائطكَ هذا؟ " قال: إني أجهدُ أن أرويَه فما أُطيق ذلك، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:" تجعلُ لي مئة تمرة أختارُها من تمرك؟ " قال: نعم، فأخذ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الغَربَ، فما لبثَ أن أرواهُ، حتى قال الرجل: غرقت حائطي، فاختارَ رسول الله صلى الله عليه وسلم من تمره مئة تمرةٍ، قال: فأكلَ هو وأصحابُه حتى شبعوا، ثم ردَّ عليه مئة تمرة، كما أخذها

(5)

منه.

هذا حديث غريب، أوردَه الحافظ ابن عساكر في " دلائل النبوة " من أول تاريخه بسنده، عن علي بن عبد العزيز البغوي، كما أوردناه.

وقد تقدَّم في ذكر إسلام سلمان الفارسي ما كان من أمر النخيل التي غرسَها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بيده الكريمة لسلمانَ، فلم يهلك منهنّ واحدة، بل أنجبَ الجميعُ وكنّ ثلاثمئة، وما كان من تكثيره الذهبَ حين قلَّبه على لسانه الشريف، حتى قضى منه سلمانُ ما كان عليه من نُجوم كتابته، وعَتَق رضي الله عنه وأرضاه.

‌باب انقيادِ الشَّجر لرسول الله صلى الله عليه وسلم

-

قد تقدَّم الحديث الذي رواه مسلم

(6)

، من حديث حاتمِ بن إسماعيل، عن أبي حَرزَةَ يعقوب بن مجاهد، عن عُبادةَ بن الوليد بن عُبادة، عن جابر بن عبد الله، قال:

(1)

رواه الإمام أحمد في المسند (4/ 174) رقم (17506) وهو حديث صحيح.

(2)

ذكره ابن منظور في مختصر تاريخ دمشق (2/ 153 - 154) في المطبوع: " أبي " وهو تحريف.

(3)

المسند (4/ 174) وقد فصل حديثهما.

(4)

في سننه (5238) في الأدب.

(5)

ذكره ابن منظور في مختصر تاريخ دمشق (2/ 153 - 154).

(6)

رواه مسلم في صحيحه رقم (3011) في الزهد والرقائق (باب حديث جابر الطويل). وتقدم في المعجزات الأرضية.

ص: 182

سِرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزلنا واديًا أفيحَ

(1)

فذهبَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته، فاتّبعته بإداوة من ماء فنظر فلم ير شيئًا يستترُ به، وإذا شجرتان بشاطئ الوادي، فانطلق إلى إحداهما فأخذَ بغصنٍ من أغصانها، وقال:" انقادي عليّ بإذن الله " فانقادت معه كالبعير المخشوش الذي يُصانِع قائده، حتى أتى الشجرة الأخرى، فأخذ بغصنٍ من أغصانها وقال:"انقادي عليّ بإذن الله" فانقادت معه كالبعير المخشوش الذي يُصانع قائده، حتى إذا كان بالمنتصف فيما بينهما لأمَ بينهما - يعني: جمعَهما - وقال: التئما عليّ بإذن الله" فالتأمتا، قال جابر: فخرجتُ أُحضِرُ

(2)

مخافة أن يُحسَّ بقربي فيبعد، فجلستُ أحدّث نفسي، فحانت مني لفتة، فإذا أنا برسول الله مقبلٌ، وإذا الشجرتان قد افترقتا وقامت كل واحدة منهما على ساق، فرأيتُ رسول الله وقفَ وقفةً وقال برأسه هكذا

(3)

-يمينًا وشمالًا-.

وذكر تمامَ الحديث في قصّة الماء، وقصة الحوت، الذي دسَرَه

(4)

البحرُ، كما تقدم، ولله الحمد والمنة.

حديث آخر

قال الإمام أحمد

(5)

: حدَّثنا أبو معاوية، حدَّثنا الأعمش، عن أبي سفيان -وهو طلحة بن نافع- عن أنس، قال:

جاء جبريلُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، وهو جالس حزين، قد خُضب بالدماء، من ضربةِ بعض أهل مكة، قال: فقال له: مالك؟ قال: "فعلَ بي هؤلاء وفعلوا" قال: فقال له جبريل: أتحبُّ أن أريك آية؟ قال: فقال: نعم، قال: فنظرَ إلى شجرةٍ من وراء الوادي فقال: ادع تلك الشجرة، فدعاها، قال: فجاءت تمشي حتى قامت بين يديه، فقال: مرها فلترجع، فأمرَها فرجعت إلى مكانها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"حسبي".

وهذا إسناد على شرط مسلم، ولم يروه إلا ابن ماجه

(6)

، عن محمد بن طريف، عن أبي معاوية.

حديث آخر

روى البيهقي، من حديث حمَّاد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن أبي رافع، عن عمر بن الخطاب:

(1)

"أفيحَ": واسعًا.

(2)

"أحْضر": أعدو وأسعى سعيًا شديدًا.

(3)

في صحيح مسلم (4/ 2307): وقال برأسه هكذا - وأشار أبو إسماعيل برأسه يمينًا وشمالًا.

(4)

"دسره البحر": ألقاه.

(5)

في مسنده (3/ 113).

(6)

في سننه رقم (4028) في الفتن.

ص: 183

أن رسول الله كان على الحجون كئيبًا لما آذاه المشركون، فقال:"اللهم أرني اليوم آية لا أُبالي من كذَّبني بعدَها" قال: فأُمِرَ، فنادى شجرةً من قِبَل عَقَبةِ أهل المدينة، فأقبلت تخدُّ الأرضَ حتى انتهت إليه، قال: ثم أمرَها فرجعت إلى موضِعها، قال: فقال: " ما أبالي من كذَّبني بعدَها من قومي"

(1)

.

ثم قال البيهقي: أخبرنا الحاكم وأبو سعيد بن أبي عمرو، قالا: حدَّثنا الأصم، حدَّثنا أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن بُكير، عن مُبارك بن فَضالة، عن الحسن، قال:

خرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى بعض شِعَاب مكة، وقد دخله من الغمّ ما شاء الله من تكذيب قومه إياه، فقال:"يارب أرني ما أطمئن إليه، ويذهب عني هذا الغم" فأوحى الله إليه: ادعُ إليك أيّ أغصانِ هذه الشجرة شئتَ، قال: فدعا غصنًا، فانتزعَ من مكانه ثم خدَّ في الأرض حتى جاء رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله:"ارجع إلى مكانك" فرجعَ، فحمد اللهَ رسولُ الله وطابت نفسُه، وكان قد قال المشركون: "أَفَضَلت أباكَ وأجدادَك يا محمد؟! فأنزل الله: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} [الزمر: 64] الآيات

(2)

.

قال البيهقي

(3)

: وهذا المرسل يشهد له ما قبله.

حديث آخر

قال الإمام أحمد

(4)

: حدَّثنا أبو معاوية، حدَّثنا الأعمش، عن أبي ظبيان - وهو حصين بن جندب - عن ابن عباس، قال:

أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم رجلٌ من بني عامر فقال: يا رسول الله أرني الخاتَم الذي بين كتفيك فإني من أطبِّ الناس، فقال له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"ألا أريك آية؟ " قال: بلى، قال: فنظرَ إلى نخلةٍ، فقال:"ادعُ ذلكَ العِذق" فدعاه، فجاء ينقز بين يديه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ارجع" فرجعَ إلى مكانه، فقال العامري: يا آل بني عامر، ما رأيتُ كاليوم رجلًا أسحرَ من هذا

(5)

.

(1)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 13) في إسناده علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف. و" عقبة ": الطريق الصاعد في الجبل، و "تخد": تشق.

(2)

دلائل النبوة، للبيهقي (6/ 14) وهو مرسل عن الحسن البصري.

(3)

في الدلائل: قال البيهقي: وهذا المرسل لما تقدم من الموصول شاهد.

(4)

في مسنده (1/ 223).

(5)

رواه الإمام أحمد في المسند (1/ 223) رقم (1954) وهو حديث صحيح.

ص: 184

هكذا رواه الإمام أحمد، وقد أسندَه البيهقيُّ

(1)

من طريق محمد بن أبي عُبيدة، عن أبيه، عن الأعمش، عن أبي ظِبيان، عن ابن عباس، قال:

جاءَ رجلٌ من بني عامرٍ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنَّ عندي طِبًّا وعلمًا، فما تَشتكي؟ هل يَريبك من نفسِك شيءٌ؟ إلى ما

(2)

تدعو؟ قال: "أدعو إلى الله والإسلام". قال: فإنك لتقول قولًا، فهل لكَ من آية؟ قال:" نعم، إن شئتَ أريتُك آية " وبين يديه شجرةٌ، فقال لغصنٍ منها:" تعالَ يا غصن " فانقطعَ الغصنُ من الشجرة، ثم أقبلَ ينقزُ حتى قامَ بين يديه، فقال:" ارجع إلى مكانِك " فرجعَ. فقال العامريُّ: يا آلَ عامرِ بن صَعصَعة، لا ألومُكَ على شيءٍ قلتَهُ أبدًا.

وهذا يقتضي أنه سلَّم الأمرَ ولم يُجب من كل وجه.

وقد قال البيهقي

(3)

: أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عبدان، أخبرنا أحمد بن عبيد الصَّفار وحدَّثنا ابن أبي قماش، حدَّثنا ابن عائشة، عن عبد الواحد بن زياد، عن الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن ابن عباس قال:

جاء رجلٌ إلى رسول الله، فقال: ما هذا الذي يقول أصحابُك؟ قال: وحولَ رسول الله أعذاقٌ وشجرٌ، قال: فقال رسول الله: " هل لك أن أُريك آيةً؟ " قال: نعم، قال: فدعا عِذقًا منها، فأقبلَ يخدُّ الأرضَ، حتى وقفَ بين يديه يخدُّ الأرضَ ويسجدُ ويرفعُ رأسه، حتى وقفَ بين يديه، ثم أمرَه فرجعَ.

قال: فخرج

(4)

العامريُّ وهو يقول: يا آلَ عامر بن صَعصَعة، والله لا أكذِّبُه بشيءٍ يقولُه أبدًا.

طريق أخرى، فيها أن العامريّ أسلم: قال البيهقي: أخبرنا أبو نصر بن قتادة، أنبأنا أبو علي حامد بن محمد بن الرفاء، أنبأنا علي بن عبد العزيز، حدَّثنا محمد بن سعيد بن الأصبهاني، أنبأنا شريك، عن سِماك، عن أبي ظِبيان، عن ابن عباس، قال:

جاءَ أعرابيٌّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بم أعرفُ أنك رسولُ الله؟ قال: " أرأيتَ إن دعوتُ هذا العِذق من هذه النخلة، أتشهدُ أني رسولُ الله؟ " قال: نعم، قال: فدعا العِذقَ فجعلَ العِذقُ ينزلُ من النخلة

(1)

في دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 16).

(2)

في دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 16): إلى من تدعو؟

(3)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 16 - 17) وهو حديث صحيح.

(4)

كذا في دلائل النبوة، وفي (أ): فرجع.

ص: 185

حتى سقطَ في الأرض، فجعل ينقزُ حتى أتى رسولَ الله، ثم قال له:" ارجع " فرجعَ حتى عادَ إلى مكانه، فقال: أشهد أنك رسول الله، وآمن

(1)

.

قال البيهقي: رواه البخاريُّ في " التاريخ "، عن محمد بن سعيد الأصبهاني

(2)

.

قلت: ولعله قال أولًا إنه سحرٌ، ثم تَبَصَّرَ لنفسِه، فأسلمَ وآمنَ لما هداهُ الله عز وجل، والله أعلم.

حديث آخر، عن ابن عمر في ذلك: قال الحاكم أبو عبد الله النيسابوري: أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله الوراق، أنبأنا الحسَن بن سفيان، أنبأنا أبو عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن أَبان الجُعفي، حدَّثنا محمد بن فُضيل، عن أبي حيّان، عن عطاء، عن ابن عمر، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فأقبل أعرابيٌّ، فلما دنا منه قال له رسول الله:"أين تريد؟ " قال: إلى أهلي، قال:"هل لك إلى خير؟ " قال: ما هو؟ قال: "تشهدُ أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأن محمدًا عبدُه ورسولهُ" قال: هل من شاهد على ما تقولُ؟ قال: "هذه الشجرة" فدعاها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وهي على شاطئ الوادي، فأقبلت تخدُّ الأرض خدًّا، فقامت بين يديه، فاستشهدَها ثلاثًا فشهدت أنه كما قال، ثم إنها رجعت إلى منبتِها، ورجعَ الأعرابيُّ إلى قومه، فقال: إن يتبعوني أتيتُك بهم، وإلا رجعتُ إليك وكنتُ معك

(3)

.

وهذا إسنادٌ جيد ولم يخرجوه

(4)

، ولا رواه الإمام أحمد، والله أعلم.

‌باب حنينُ الجِذع، شَوقًا إلى رسول الله، وشَغَفًا من فِراقه

وقد وردَ من حديث جماعة من الصحابة، بطرق متعددة تفيدُ القطعَ، عند أئمة هذا الشأن، وفرسان هذا الميدان.

(قال القاضي عياض في كتابه "الشفاء"

(5)

: وهو حديث مشهورٌ منتشرٌ متواتر، خرَّجه أهل الصحيح، ورواه من الصحابة بضعة عشر، منهم: أبيٌّ، وجابر، وأنس، وابن عمر، وابن عباس، وسهل بن سعد، وأبو سعيد، وبُريدة، وأم سلمة، والمطلبُ بن أبي وداعة، رضي الله عنهم

(6)

.

(1)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 15). وفي إسناده شريك وهو ابن عبد الله النخعي سيِّء الحفظ، وسماك هو ابن حرب صدوق حسن الحديث، فالحديث حسن بشواهده.

(2)

التاريخ الكبير؛ للبخاري (3/ 2/ 416).

(3)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 14 - 15).

(4)

أي في الكتب الستة.

(5)

الشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض (1/ 427).

(6)

ما بين القوسين سقط من المطبوع، وأثبته من (أ).

ص: 186

الحديث الأول عن أبيّ بن كعب: قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله

(1)

: حدَّثنا إبراهيم بن محمد، قال: أخبرني عبدُ الله بن محمد بن عقيل، عن الطفيل بن أبيّ بن كعب، عن أبيه، قال: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي إلى جِذع نخلةٍ إذ كان المسجدُ عريشًا، وكان يخطبُ إلى ذلك الجذع، فقال رجل من أصحابه: يا رسولَ الله، هل لك أن نجعل لك مِنبرًا تقوم عليه يوم الجمعة، ويَسمعُ الناسُ خطبتكَ؟ قال:" نعم " فصنعَ له ثلاثَ درجات هنّ اللاتي على المنبر، فلما صُنع المنبرُ ووُضع موضعه الذي وضعه فيه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، بدا للنبيّ صلى الله عليه وسلم أن يقومَ على ذلك المنبر فيخطب عليه، فمر إليه، فلما جاوز ذلك الجِذع الذي كان يخطبُ إليه، خارَ حتى تصدَّعِ وانشقَّ، فنزل النبي صلى الله عليه وسلم لما سمعَ صوتَ الجِذع فمسحَه بيده، ثم رجعَ إلى المنبر، فلما هُدم المسجدُ أخذ ذلك الجذعَ أبيُّ بن كعب رضي الله عنه، فكان عنده حتى بليَ وأكلته الأرضةُ، وعاد رُفاتًا

(2)

.

وهكذا رواه الإمام أحمد بن حنبل

(3)

: عن زكريا بن عديّ، عن عُبيد الله بن عمرو الرقي، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن الطفيل، عن أبيّ بن كعب، فذكره. وعنده: فمسحَه بيده حتى سكنَ، ثم رجعَ إلى المنبر، وكان إذا صلَّى صلَّى إليه. والباقي مثله.

وقد رواه ابن ماجه

(4)

عن إسماعيل بن عبد الله الرقي، عن عُبيد الله بن عمرو الرقي، به.

الحديث الثاني عن أنس بن مالك: قال الحافظ أبو يَعلى المَوصلي

(5)

: حدَّثنا أبو خيثمة، حدَّثنا عمر بن يُونس الحنفي، حدَّثنا عكرمة بن عمّار، حدَّثنا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، حدَّثنا أنس بن مالك: أن رسول الله كان يوم الجمعة يُسند ظهرَه إلى جِذعٍ منصوبٍ في المسجد فيخطبُ الناس، فجاءَه روميٌّ فقال: ألا أصنعُ لك شيئًا تقعدُ عليه كأنَّك قائم؟ فصنعَ له مِنبرًا درجتان، ويقعد على الثالثة، فلما قعدَ نبيُّ الله على المِنبر خارَ كخُوار الثور، ارتجَّ لخواره؛ حزنًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلَ إليه رسولُ الله من المنبر فالتزمَه، وهو يخورُ، فلما التزمَه سكتَ، ثم قال:"والذي نفسُ محمّدٍ بيده لو لم ألتزمه لما زالَ هكذا حتى يوم القيامة حزنًا على رسول الله" فأمر به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فدُفِنَ.

(1)

مسند الشافعي (1/ 142).

(2)

إسناده ضعيف جدًا، فإن شيخ الشافعي إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى الأسلمي متروك، ولكن سيأتي من غير طريقه. كما أن في إسناده أيضًا عبد الله بن محمد بن عقيل ضعيف إنما يعتبر به فيتحسن حديثه عند المتابعة، ولم يتابع على قصة أخذ أبيّ للجذع، ولا نعرف ما يشهد لها.

(3)

في مسنده (5/ 137)، وفيه عبد الله بن محمد بن عقيل.

(4)

في سننه (1414) في الإقامة.

(5)

في مسنده (6/ 311) رقم (3384).

ص: 187

وقد رواه الترمذي

(1)

، عن محمود بن غَيلان، عن عمر بن يونس، به. وقال: صحيح غريب من هذا الوجه. طريق أخرى عن أنس: قال الحافظ أبو بكر البزَّار في " مسنده ": حدَّثنا هدبة، حدَّثنا حمَّاد، عن ثابت، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم:

(وحبيب بن الشهيد، عن الحسن، عن النبي صلى الله عليه وسلم)

(2)

أنه كان يخطبُ إلى جِذع نخلةٍ، فلما اتَّخذَ المِنبرَ تحوَّلَ إليه، فحنَّ فجاءَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حتى احتضنَه فسكنَ، وقال:"لو لم أحتضنه لحنَّ إلى يومِ القيامة"

(3)

وهكذا رواه ابن ماجه، عن أبي بكر بن خَلَّاد، عن بَهز بن أسد، عن حمّاد بن سَلمة، عن ثابت، عن أنس، وعن حمّاد، عن عمّار بن أبي عمّار، عن ابن عباس به. وهذا إسناد على شرط مسلم.

طريق أخرى عن أنس: قال الإمام أحمد: حدَّثنا هاشم، حدَّثنا المبارك، عن الحسن، عن أنس بن مالك، قال: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا خطبَ يومَ الجمعةِ يُسند ظهرَه إلى خَشبةٍ، فلما كَثُرَ النَّاسُ قال:"ابنوا لي مِنبرًا" -أراد أن يسمعَهم- فبَنَوا له عتبتين، فتحوَّلَ من الخشبة إلى المِنبر، قال: فأُخبرَ أنسُ بن مالك أنه سمعَ الخشبةَ تَحِنُّ حنينَ الوالِه، قال: فما زالت تَحِنُّ حتى نزلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن المنبر، فمشى إليها فاحتضنَها، فسكنت

(4)

.

تفرَّد به أحمد.

وقد رواه أبو القاسم البغوي، عن شيبان بن فروخ، عن مُبارك بن فَضَالة، عن الحسن، عن أنس فذكره، وزاد: فكان الحسنُ إذا حدَّثَ بهذا الحديث بَكى، ثم قال: يا عبادَ الله، الخشبةُ تَحِنُّ إلى رسول الله شوقًا إليه لمكانه من الله، فأنتم أحقُّ أن تَشتاقوا إلى لقائه

(5)

.

وقد رواه الحافظ أبو نعيم

(6)

، من حديث الوليد بن مسلم، عن سالم بن عبد الله الخياط، عن أنس بن مالك، فذكره.

(1)

في الجامع رقم (3627) في المناقب.

(2)

ما بين القوسين سقط من المطبوع وأثبته من (أ).

(3)

رواه ابن ماجه في سننه رقم (1415) في كتاب إقامة الصلاة، عن ابن عباس وعن أنس، وقال البوصيري في الزوائد: إسناده صحيح، ورجاله ثقات وهو حديث صحيح.

(4)

رواه الإمام أحمد في المسند (3/ 226) رقم (13296)، وهو حديث صحيح، وهذا إسناد حسن.

(5)

من طريق البغوي رواه الذهبي في سير أعلام النبلاء (4/ 570) وهو حديث حسن بشواهده.

(6)

دلائل النبوة لأبي نعيم (2/ 513).

ص: 188

طريق أخرى عن أنس: قال أبو نُعيم: حدَّثنا أبو بكر بن خَلَّاد، حدَّثنا الحارث بن محمد بن أبي أُسامة، حدَّثنا يَعلى بن عبَّاد، حدَّثنا الحكم، عن أنس، قال:

كانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يخطبُ إلى جذع، فحنَّ الجِذعُ، فاحتضنَه وقال:" لو لم أحتضنه لحنَّ إلى يوم القيامة "

(1)

.

الحديث الثالث عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: قال الإمام أحمد

(2)

: حدَّثنا وكيع، حدَّثنا عبد الواحد بن أيمن، عن أبيه، عن جابر قال:

كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يخطبُ إلى جِذعِ نخلةٍ، قال: فقالت امرأةٌ من الأنصار- وكان لها غلام نجّار - يا رسولَ الله، إن لي غلامًا نجارًا أفآمُره أن يتَّخذَ لك مِنبرًا تخطبُ عليه؟ قال:" بلى " قال: فاتَّخذ له مِنبرًا، قال: فلما كان يوم الجمعة خطبَ على المنبر، قال: فأنَّ الجِذعُ الذي كان يقومُ عليه كما يَئِن الصبيُّ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"إن هذا بكى لِمَا فَقَدَ من الذِّكر ".

هكذا رواه أحمد.

وقد قال البخاريُّ

(3)

: حدَّثنا أبو نُعيم، حدَّثنا عبد الواحد بن أيمن، قال: سمعتُ أبي، عن جابر بن عبد الله:

أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان يقومُ يومَ الجمعة إلى شجرة - أو نخلة - فقالت امرأة من الأنصار - أو رجل -:

يا رسولَ الله، ألا نجعلُ لك منبرًا؟ قال:"إن شِئتم" فجعلُوا له منبرًا، فلما كان يوم الجمعة دُفِعَ إلى المِنبر، فصاحتِ النَّخلةُ صِياحَ الصبيّ، ثم نزلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم فضمَّه إليه يَئِنُّ أنينَ الصبيّ الذي يُسَكَّنُ. قال:" كانت تبكي على ما كانت تسمعُ من الذكر عندَها ".

وقد ذكره البخاري في غير ما موضع من صحيحه، من حديث عبد الواحد بن أيمن، عن أبيه، عن أيمن الحبشي المكي، مولى ابن أبي عمرة المخزومي، عن جابر، به.

طريق أخرى عن جابر: قال البخاريُّ: حدَّثنا إسماعيل، حدَّثني أخي، عن سُليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد، حدَّثني حفصُ بن عُبيد الله بن أنس بن مالك؛ أنه سمعَ جابرَ بنَ عبد الله الأنصاري يقول: كان المسجدُ مسقوفًا على جذوع من نخل، فكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا خطبَ يقومُ إلى جِذعٍ منها، فلما

(1)

لم أجده في المطبوع من دلائل أبي نعيم، ومعلوم أن المطبوع هو المختصر.

(2)

رواه الإمام أحمد في المسند (1/ 300).

(3)

في صحيحه رقم (3584) في المناقب، ورقم (2095) في البيوع.

ص: 189

صنع له المنبر، وكان عليه، فسمعنا لذلك الجِذعِ صوتًا كصوتِ العِشَار، حتى جاء النبيُّ صلى الله عليه وسلم فوضعَ يدَه عليها فسكنت

(1)

.

تفرد به البخاري.

طريق أخرى عنه: قال الحافظ أبو بكر البزار، حدَّثنا محمد بن المثنى، حدَّثنا أبو المساور، حدَّثنا أبو عوانة، عن الأعمش، عن أبي صالح -وهو ذكوان- عن جابر بن عبد الله، وعن أبي إسحاق، عن كُريب، عن جابر قال:

كانت خشبةٌ في المسجد يخطبُ إليها النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فقالوا: لو اتخذنا لك مِثلَ الكرسي تقومُ عليه؟ ففعلَ، فحنَّتِ الخشبةُ كما تَحِنُّ الناقةُ الحلوجُ، فأتاها فاحتضنها فوضعَ يدَه عليها فسكنت

(2)

.

قال أبو بكر البزار: أحسبُ أنا قد حدَّثناه عن أبي عوانة، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن جابر، وعن أبي إسحاق، عن كريب، عن جابر بهذه القصة التي رواها أبو المساور، عن أبي عوانة.

وحدَّثنا محمد بن عثمان بن كرامة، حدَّثنا عُبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن أبي كَرِب

(3)

، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه.

والصواب إنما هو سعيدُ بن أبي كرب (3)، وكريب خطأ، ولا نعلم يروي عن سعيد بن أبي كَرِب (3) إلا أبا إسحاق.

قلت: ولم يخرجوه من هذا الوجه، وهو جيد.

طريق أخرى عن جابر: قال الإمام أحمد

(4)

: حدَّثنا يحيى بن آدم، حدَّثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن أبي كرب، عن جابر بن عبد الله، قال:

كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يخطبُ إلى خشبةٍ، فلما جُعل له مُنبر حنَّت حنينَ النَّاقة، فأتاها فوضعَ يدَه عليها فسكنت.

(1)

رواه البخاري في صحيحه رقم (3585) في المناقب، ورقم (918) في الجمعة.

و" العِشار": جمع عُشَراء، وهي الناقة الحامل. وقال الخطابي: العِشار: الحوامل من الإبل التي قاربت الولادة.

(2)

لم أجد هذه الرواية في البحر الزخار ولا في كشف الأستار.

(3)

في المطبوع: "كريب" خطأ.

(4)

رواه الإمام أحمد في المسند (3/ 293) رقم (14051) وإسناده صحيح، سعيد بن أبي كرب ثقة، وثقة أبو زرعة الرازي، وناهيك به. (الجرح والتعديل 4/ الترجمة 253) وكأن الذهبي لم يقف على هذا فذكره في الميزان بسبب تجهيل علي بن المديني له (2/ 156).

ص: 190

تفرد به أحمد.

طريق أخرى عن جابر: قال الحافظ أبو بكر البزار: حدَّثنا محمد بن مَعْمَر، حدَّثنا محمد بن كَثير، حدَّثنا سُليمان بن كثير، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن جابر بن عبد الله قال:

كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يقومُ إلى جِذع قبلَ أن يُجعل له المنبر، فلما جُعل المنبرُ حَنَّ الجِذعُ حتى سمعنا حنينَه، فمسحَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يدَه عليه فسكنَ.

قال البزار: لا نعلمُ رواه عن الزهري إلا سليمان بن كثير.

قلت: وهذا إسنادٌ جيد، رجاله على شرط الصحيح، ولم يروه أحدٌ من أصحاب الكتب الستة.

وقال الحافظ أبو نُعيم في " الدلائل"

(1)

: ورواه عبدُ الرزاق عن مَعْمَر، عن الزهري، عن رجل سمَّاه، عن جابر.

ثم أوردَه

(2)

من طريق أبي عاصم بن علي، عن سُليمان بن كثير، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، عن جابر مثله.

ثم قال: حدَّثنا أبو بكر بن خَلَّاد، حدَّثنا أحمدُ بن علي الخراز، حدَّثنا عيسى بن المساور، حدَّثنا الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن جابر:

أن رسولَ الله كان يخطبُ إلى جذع، فلما بُني المنبرُ حنَّ الجذعُ فاحتضنَه فسكنَ، وقال:" لو لم أحتضنه لحنَّ إلى يوم القيامة"

(3)

.

ثم رواه

(4)

من حديث أبي عَوانة، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن جابر. وعن أبي إسحاق، عن كريب، عن جابر، مثله.

طريق أخرى عن جابر: قال الإمام أحمد

(5)

: حدَّثنا عبدُ الرزاق، أخبرنا ابنُ جُريج، ورَوح قال: حدَّثنا ابن جُريج: أخبرني أبو الزبير؛ أنه سمعَ جابر بن عبد الله يقول:

كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا خطبَ يستندُ إلى جذعِ نخلةٍ من سَواري المسجد، فلما صُنع له مِنبرُه واستوى عليه،

(1)

لم أجده في الدلائل المطبوع؛ لأنه منتخب من الدلائل؛ لأبي نُعيم.

(2)

لم أجده في الدلائل المطبوع.

(3)

دلائل النبوة؛ لأبي نعيم رقم (302) طبعة المكتبة العربية بحلب 1392 هـ وهو حديث حسن بشواهده.

(4)

دلائل النبوة؛ لأبي نعيم رقم (304) وهو حديث حسن بشواهده.

(5)

رواه الإمام أحمد في المسند (3/ 295) رقم (14075).

ص: 191

فاضطربت تلك السَّاريةُ كحنين الناقة، حتى سمعَها أهلُ المسجد، حتى نزلَ إليها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فاعتنقَها فسكنت. وقال رَوح: فسكتت.

وهذا إسناد على شرط مسلم ولم يخرجوه.

طريق أخرى عن جابر: قال الإمام أحمد

(1)

: حدَّثنا محمد بن أبي عديّ، عن سُليمان، عن أبي نَضرةَ، عن جابر، قال:

كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يقومُ في أصلِ شجرةٍ -أو قال: إلى جِذعٍ- ثم اتخذَ منبرًا، قال: فحنَّ الجِذعُ، قال جابر: حتى سمعَه أهلُ المسجد، حتى أتاه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فمسحَه فسكنَ، فقال بعضُهم: لو لم يأتِه لحنَّ أبَدًا إلى يومِ القيامة.

وهذا على شرط مسلم، ولم يروه إلا ابن ماجه

(2)

، عن بَكر بن خَلف، عن ابن أبي عديٍّ، عن سُليمان التَّيمِيِّ، عن أبي نَضرَةَ - المُنذِر بن مالك بن قُطَعَةً

(3)

العَبديِّ النَّضريِّ، عن جابر، به.

الحديث الرابع عن سهل بن سعد: قال أبو بكر بن أبي شيبة

(4)

: حدَّثنا سفيان بن عيينة، عن أبي حازم، قال: أتَوا سهلَ بن سعد فقالوا: من أيّ شيءٍ منبرُ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يستندُ إلى جِذعٍ في المسجد يُصلِّي إليه إذا خطبَ، فلما اتَّخذَ المِنبَرَ فصَعِدَ حنَّ الجِذعُ، حتى أتاه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فوطَّنَه حتى سكنَ.

وأصل هذا الحديث في الصحيحين

(5)

، وإسناده على شرطهما. وقد رواه إسحاق بن راهويه، وابن أبي فديك، عن عبد المهيمن بن عباس بن سهل بن سعد، عن أبيه، عن جده، ورواه عبدُ الله بن نافع، وابنُ وهب، عن عبد الله بن عمر، عن عباسِ بن سهل، عن أبيه، فذكره.

ورواه ابنُ لهيعة، عن عمارة بن عرفة، عن ابن عباس بن سهل بن سعد، عن أبيه، بنحوه.

الحديث الخامس عن عبد الله بن عباس: قال الإمام أحمد

(6)

: حدَّثنا عفَّان، حدَّثنا حمَّادٌ، عن عمار بن أبي عمار، عن ابن عباس رضي الله عنهما:

(1)

رواه الإمام أحمد في المسند (3/ 306).

(2)

في سننه رقم (1417) في إقامة الصلاة.

(3)

في المطبوع: "قطفة" وهو تحريف قبيح.

(4)

مسند ابن أبي شيبة (87).

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه رقم (377) في الصلاة، ومسلم في صحيحه رقم (544)(45).

(6)

في مسنده (1/ 249).

ص: 192

أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان يخطبُ إلى جِذعٍ قبلَ أن يتَّخِذَ المنبر، فلما اتَّخذَ المنبر وتحوَّل إليه، حنّ عليه، فأتاه فاحتضنَه فسكنَ، قال:"ولو لم أحتضنه لحنَّ إلى يوم القيامة".

وهذا الإسنادُ على شرط مسلم، ولم يروه إلا ابن ماجه

(1)

، من حديث حماد بن سلمة.

الحديث السادس عن عبد الله بن عمر: قال البخاري

(2)

: حدَّثنا محمد بن المثنى، حدَّثنا يحيى بن كثير أبو غسان، حدَّثنا أبو حفص واسمُه عمر بن العلاء -أخو أبي عمرو بن العلاء- قال: سمعتُ نافعًا، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال:

كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يخطبُ إلى جِذعٍ، فلما اتَّخذَ المِنبَر تحوَّل إليه، فحنّ الجذعُ، فأتاهُ فمسحَ يدَه عليه.

وقال عبد الحميد: أخبرنا عثمان بن عمر، أخبرنا معاذُ بن العلاء، عن نافع بهذا. ورواه أبو عاصم، عن ابن أبي رواد، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم. وهكذا ذكره البخاري.

وقد رواه الترمذي

(3)

، عن عمرو بن علي الفَلَّاس، عن عثمان بن عمرو ويحيى بن كثير أبي غَسَّان العنبري

(4)

، كلاهما عن معاذ بن العلاء، به. وقال: حسن صحيح غريب.

قال شيخنا الحافظ أبو الحجَّاج المِزِّي في "أطرافه"

(5)

: ورواه علي بن نصر بن علي الجهضمي، وأحمد بن خالد الخلال، وعبد الله بن عبد الرحمن الدارمي في آخرين، عن عثمان بن عمر، عن معاذ بن العلاء. قال: وعبد الحميد هذا -يعني: الذي ذكره البخاري- يقال: إنه عبدُ بن حميد، والله أعلم.

قال شيخُنا: وقد قيل: إن قول البخاري: عن أبي حفص، واسمه عُمر

(6)

بن العلاء، وهمٌ، والصواب معاذ بن العلاء؛ كما وقع في رواية الترمذي.

قلت: وليس هذا ثابتًا في جميع النسخ، ولم أرَه في النسخ التي كتبتُ منها تسميته بالكلية، والله أعلم.

وقد روى هذا الحديث الحافظ أبو نُعيم

(7)

، من حديث عبد الله بن رجاء، عن عبد الله بن عمر.

ومن حديث أبي عاصم، عن ابن أبي رواد، كلاهما عن نافعٍ، عن ابن عمر، قال:

(1)

في إقامة الصلاة من سننه (1415).

(2)

في صحيحه (3583) في دلائل النبوة.

(3)

رواه في الجامع رقم (505) في الصلاة.

(4)

في المطبوع: "ويحيى بن كثير عن أبي غسان العنبري " وهو تحريف ظاهر.

(5)

تحفة الأشراف (5/ 610) عقيب حديث 8449 (تحقيق الدكتور بشار).

(6)

في المطبوع " عمرو " خطأ، وما أثبتناه من التحفة والبخاري.

(7)

لم أجده في المطبوع من دلائل أبي نعيم.

ص: 193

قال تميمٌ الداريّ: ألا نتخذُ لك منبرًا. فذكر الحديث.

طريق أخرى عن ابن عمر: قال الإمام أحمد

(1)

: حدَّثنا حسين، حدَّثنا خلفٌ، عن أبي جَناب - وهو يحيى بن أبي حَيّة - عن أبيه، عن عبد الله بن عمر، قال:

كان جذعُ نخلةٍ في المسجد يُسند رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ظهرَه إليه إذا كان يومَ جمعةٍ، أو حدثَ أمرٌ يُريدُ أن يُكلِّمَ الناسَ، فقالوا: ألا نجعلُ لكَ يا رسولَ الله شيئًا كقَدرِ قيامِك؟ قال: "لا عليكم أن تفعلوا" فصنعوا له منبرًا ثلاثَ مراقٍ، قال: فجلس عليه، قال: فخارَ الجذعُ كما تخورُ البقرةُ جزعًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالتزمَه ومسحَه حتى سكنَ

(2)

.

تفرد به أحمد.

الحديث السابع عن أبي سعيد الخدري: قال عبدُ بن حُميد الكشي

(3)

: حدَّثنا علي بن عاصم، عن الجريري، عن أبي نضرة العيدي، حدَّثني أبو سعيد الخدري، قال:

كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يخطبُ يومَ الجمعة إلى جذعِ نخلةٍ، فقال له الناس: يا رسول الله، إنه قد كَثُرَ الناسُ - يعني: المسلمين - وإنهم ليحبُّون أن يروكَ، فلو اتَّخذتَ مِنبرًا تقومُ عليه ليراكَ الناس؟ قال:"نعم، مَن يجعلُ لنا هذا المنبر؟ " فقامَ إليه رجلٌ فقال: أنا، قال:" تجعله؟ " قال: نعم، ولم يقل: إن شاء الله، قال:"ما اسمك؟ " قال: فلان، قال:"اقعد" فقعدَ، ثم عاد فقال:"مَن يجعلُ لنا هذا المنبر؟ " فقام إليه رجل فقال: أنا، قال:" تجعله؟ " قال: نعم، ولم يقل: إن شاء الله، قال:" ما اسمك؟ " قال: فلان، قال:"اقعد" فقعد، ثم عاد فقال:"مَن يجعلُ لنا هذا المنبر؟ " فقام إليه رجلٌ، فقال: أنا، قال:"تجعلُه؟ " قال: نعم، ولم يقل: إن شاء الله، قال:"ما اسمك؟ " قال: فلان، قال:"اقعد" فقعد، ثم عاد فقال:"مَن يجعلُ لنا هذا المنبر" فقام إليه

(1)

في المسند (2/ 109).

(2)

وهو حديث حسن، وهذا إسناد ضعيف لضعف أبي جناب وهو يحيى بن أبي حية الكلبي، وأبوه مجهول. هكذا قال المصنف رحمه الله، وفي قوله هذا وهم من وجهين، الأول: أن علي بن عاصم هو ابن صهيب الواسطي ليس من رجال مسلم إنما روى له أبو داود والترمذي وابن ماجه حسب، وهو ضعيف يعتبر به كما بيناه مفصلًا في كتابنا التحرير (3/ 47)، الثاني: أن الجريري وهو سعيد بن إياس قد اختلط بأخرة، ولم يذكر أحد أن علي بن عاصم سمع منه قبل الاختلاط فالراجح أنه سمع منه بعد اختلاطه، ولعل هذا هو سبب الغرابة في هذا السياق، والله أعلم (بشار).

(3)

كذا في (أ) وفي المطبوع: الليثي. وهو تصحيف، ويقال فيه الكسي، بالسين أيضًا، وطبع المنتخب من مسنده، وهذا الحديث ليس فيه.

ص: 194

رجلٌ، فقال: أنا، قال:"تجعله؟ " قال: نعم إن شاءَ الله، قال:"ما اسمك؟ " قال: إبراهيم، قال:"اجعله".

فلما كان يومُ الجمعة اجتمعَ الناسُ للنبيّ صلى الله عليه وسلم في آخر المسجد، فلما صَعِدَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المنبرَ فاستوى عليه فاستقبل وحنَّتِ النخلةُ، حتى أسمعتني وأنا في آخر المسجد، قال: فنزلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن المِنبر فاعتنقَها، فلم يزل حتى سكنت، ثم عاد إلى المِنبر فحمِدَ الله وأثنى عليه، ثم قال:" إن هذه النَّخلةَ إنما حنَّت شوقًا إلى رسول الله، لمَّا فارقَها، فوالله لو لم أنزل إليها فأعتنقُها، لما سكنت إلى يوم القيامة ".

وهذا إسناد على شرط مسلم، ولكن في السياق غرابة، والله تعالى أعلم.

طريق أخرى عن أبي سعيد: قال الحافظ أبو يَعلى

(1)

: حدَّثنا مسروق بن المَرزُبَان، حدَّثنا يحيى بن زكريا، عن مُجالد، عن أبي الوداك وهو جبرُ بن نوف، عن أبي سعيد، قال:

كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يقومُ إلى خشبةٍ يتوكَّأُ عليها، يخطبُ كلَّ جمعةٍ، حتى أتاه رجلٌ من الروم

(2)

، فقال:

إن شئتَ جعلتُ لك شيئًا إذا قعدتَ عليه كنتَ كأنك قائم، قال:" نعم " قال: فجعلَ له المنبرَ، فلما جلسَ عليه حنَّتِ الخشبةُ حنينَ النَّاقةِ على ولدها، حتى نزلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم فوضعَ يدَه عليها، فلما كان الغدُ رأيتُها قد حُوَّلت، فقلنا: ما هذا؟ قالوا: جاء رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر البارحة فحوَّلوها.

وهذا غريب أيضًا

(3)

.

الحديث الثامن عن عائشة رضي الله عنها: ورواه الحافظ أبو نُعيم

(4)

من حديث علي بن أحمد الجوربي، عن قبيصة، عن حَيّان بن علي، عن صالح بن حيان، عن عبد الله بن بريدة، عن عائشة، فذكر الحديثَ بطوله، وفيه أنه خيَّرَه بين الدنيا والآخرة، فاختارَ الجِذعُ الآخرةَ، وغارَ حتى ذهبَ فلم يُعرف

(5)

.

هذا حديث غريب إسنادًا ومتنًا.

(1)

في مسنده (1067).

(2)

في مسند أبي يعلى من القوم. وهو تصحيف.

(3)

وإسناده ضعيف؛ لضعف مجالد بن سعيد.

(4)

في (أ) البيهقي، وهو خطأ؛ لأني لم أجده في دلائل النبوة؛ للبيهقي، ووجدته في الدلائل؛ لأبي نعيم، بطوله وبهذا الإسناد.

(5)

دلائل النبوة؛ لأبي نُعيم رقم (310) وإسناده ضعيف، لضعف صالح بن حيان. وقد ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (2/ 182) وقال: رواه الطبراني في الأوسط، وفيه صالح بن حيان، وهو ضعيف.

ص: 195

الحديث التاسع عن أم سلمة رضي الله عنها: روى أبو نُعيم، من طريق شريك القاضي، وعمرو بن أبي قيس، ومعلّى بن هلال، ثلاثتُهم عن عمار الدهني، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أم سلمة، قالت:

كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم خشبة يستندُ إليها إذا خطبَ، فصُنع له كرسيٌّ - أو منبر - فلما فقدتهُ خارت كما يخورُ الثور، حتى سمعَ أهلُ المسجد، فأتاها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فسكنت

(1)

. هذا لفظ شريك.

وفي رواية معلى بن هلال: أنها كانت من دَوم.

وهذا إسناد جيد ولم يخرجوه.

وقد روى الإمام أحمد والنسائي

(2)

، من حديث عمار الدُّهني، عن أبي سلمة، عن أم سلمة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قوائمُ مِنبري رواتبُ في الجنة".

وروى النسائيُّ أيضًا بهذا الإسناد: " ما بينَ بَيتي ومِنبري روضةٌ من رِياض الجنة"

(3)

.

فهذه الطرق من هذه الوجوه، تفيدُ القطعَ بوقوع ذلك عند أئمة هذا الفن، وكذا من تأملَها وأنعمَ فيها النظر والتأمل، مع معرفته بأحوال الرجال، وبالله المستعان.

وقد قال الحافظ أبو بكر البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرني أبو أحمد بن أبي الحسن، حدَّثنا عبدُ الرحمن بن محمد بن إدريس الرازي، قال: قال أبي -يعني: أبا حاتم الرازي-: قال عمرو بن سواد، قال لي الشافعي:

ما أعطى الله نبيًا ما أعطى محمدًا صلى الله عليه وسلم، فقلت له: أعطى عيسى إحياء الموتى، فقال: أعطى محمدًا الجِذعَ الذي كان يخطبُ إلى جنبه حتى هُيِّئ له المنبر، فلما هُيِّئَ له المِنبر حنَّ الجذعُ حتى سُمعَ صوتُه، فهذا أكبر من ذلك

(4)

.

(1)

لم أجده في دلائل النبوة لأبي نعيم المطبوع. ووجدته في مجمع الزوائد بلفظ مقارب عن أم سلمة، وقال الهيثمي: رواه الطبراني في الكبير، ورجاله موثقون. قلت: هكذا قال وهو من رواية شريك القاضي السَّيِّئ الحفظ وكلام المصنف أجود منه.

(2)

رواه أحمد في المسند (6/ 318) والنسائي في سننه (2/ 34) في المساجد.

(3)

أخرجه النسائي في الحج من سننه الكبرى (4290). ومن هذا الوجه أخرجه الحميدي (290) وأحمد (6/ 289 و 292 و 318).

(4)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 68) وذكره الحافظ ابن حجر في فتح الباري (6/ 603) وعزاه إلى ابن أبي حاتم في مناقب الشافعي.

ص: 196

‌باب تسبيحِ الحَصَى في كفه عليه الصلاة والسلام

قال الحافظ أبو بكر البيهقي: أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عَبَدان، أنبأنا أحمد بن عُبيد الصفار، حدَّثنا الكُدَيميُّ، حدَّثنا قريش بن أنس، حدَّثنا صالح بن أبي الأخضر، عن الزهري، عن رجل يُقال له: سُويد بن يزيد السُّلمي، قال: سمعت أبا ذر يقول:

لا أذكرُ عثمانَ إلا بخير بعد شيء رأيتُه، كنتُ رجلًا أتَّبعُ خلوات رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فرأيتُه يومًا جالسًا وحده، فاغتنمتُ خلوتَه فجئتُ حتى جلستُ إليه، فجاءَ أبوبكر فسلَّم عليه ثم جلسَ عن يمين رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، ثم جاء عمرُ فسلَّم وجلس على يمينِ أبي بكر، ثم جاء عثمانُ فسلَّم ثم جلس عن يمين عمر، وبين يدي رسول الله سبعُ حَصَياتٍ -أو قال: تسعُ حصيات- فأخذهنَّ في كفِّه فسبَّحن حتى سمعتُ لهن حنينًا كحنين النحل، ثم وضعهن فخرسن، ثم أخذهن فوضعهن في كفِّ أبي بكر فسبَّحن حتى سمعت لهن حنينًا كحنين النحل، ثم وضعهن فخَرِسنَ، ثم تناولهن فوضعهن في يد عمر، فسبَّحْنَ حتى سمعتُ لهن حنينًا كحنين النحل، ثم وضعهن فخرسنَ، ثم تناولهن فوضعهن في يد عثمان فسبَّحن حتى سمعت لهن حنينًا كحنين النحل، ثم وضعهن فخرسن، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"هذه خلافة النبوة"

(1)

.

قال البيهقيُّ

(2)

: وكذلك رواه محمد بن بشار، عن قريش بن أنس، عن صالح بن أبي الأخضر، وصالح لم يكن حافظًا، والمحفوظ رواية شُعيب بن أبي حمزة، عن الزهري، قال: ذكر الوليد بن سُويد أن رجلًا من بني سليم كبير السنّ كان ممن أدرك أبا ذر بالرَّبَذَة ذكرَ له هذا الحديث عن أبي ذر. هكذا قال البيهقي.

وقد قال محمد بن يحيى الذهلي

(3)

في "الزهريات" التي جمعَ فيها أحاديثَ الزهري: حدَّثنا أبو اليمان، حدَّثنا شعيب قال:

ذكر الوليدُ بن سُويد أن رجلًا من بني سُليم كبير السن، كان ممن أدركَ أبا ذر بالرَّبَذة، ذكر أنه بينما

(1)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 64 - 65) وفي إسناده: محمد بن يونس الكديمي، أحد المتروكين، كان يضع الحديث وضعًا، ولعله وضح أكثر من ألف حديث. المجروحين (3/ 312) وصالح بن أبي الأخضر: اختلط عليه ما سمع، فقال ابن معين: ليس بشيء. وذكر العقيلي في الضعفاء (2/ 198) وابن حبان في المجروحين (1/ 368) والذهبي في الميزان (2/ 288).

(2)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 65)، وإسناده ضعيف.

(3)

محمد بن يحيى بن عبد الله الذهلي، الإمام العلامة الحافظ البارع، عالم أهل المشرق، وإمام أهل الحديث بخراسان، جمع علم الزهري، وصنفه، وجوّده. توفي سنة 258. ترجمته في سير أعلام النبلاء (21/ 273).

ص: 197

هو قاعدٌ يومًا في ذلك المجلس وأبو ذر في المجلس؛ إذ ذُكرَ عثمانُ بن عفان، يقول السلمي: فأنا أظنُّ أن في نفس أبي ذر على عثمان معتبة لإنزاله إياه بالرَّبَذة، فلما ذُكر له عثمان عرضَ له بعضُ أهل العلم بذلك، وهو يظنُّ أن في نفسه عليه مَعتبة، فلما ذكره قال: لا تقل في عثمان إلا خيرًا فإني أشهدُ لقد رأيتُ منه منظرًا، وشهدتُ منه مَشهدًا لا أنساه حتى أموت، كنتُ رجلًا ألتمسُ خلوات النبيِّ صلى الله عليه وسلم لأسمعَ منه أو لآخذَ عنه، فهجَّرتُ يومًا من الأيام، فإذا النبيُّ صلى الله عليه وسلم قد خرجَ من بيته فسألتُ عنه الخادمَ فأخبرني أنه في بيت، فأتيتُه وهو جالسٌ ليس عندَه أحدٌ من الناس، وكأني حينئذٍ أرى أنه في وحي، فسلَّمتُ عليه فردَّ السلام، ثم قال:"ما جاءَ بك؟ " فجلستُ إلى جنبه، لا أسألُه عن شيء، ولا يذكرُه لي، فمكثتُ غيرَ كثير، فجاءَ أبو بكر يمشي مُسرعًا فسلَّم عليه فردَّ السلام ثم قال:"ما جاء بك؟ ". قال: جاء بي الله ورسولهُ، فأشار بيده أن اجلس، فجلس إلى ربوة مُقابل النبي صلى الله عليه وسلم، بينَه وبينها الطريق، حتى إذا استوى أبو بكر جالسًا، فأشار بيده فجلسَ إلى جنبي عن يميني، ثم جاءَ عمرُ ففعلَ مثلَ ذلك، وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، وجلس إلى جنب أبي بكر على تلك الربوة، ثم جاءَ عثمانُ فسلَّم فردَّ السلام وقال:"ما جاء بك؟ " قال: جاء بي الله ورسولُ، فأشار إليه بيده فقعدَ إلى الربوة، ثم أشار بيده فقعدَ إلى جنب عمر، فتكلَّم النبي صلى الله عليه وسلم بكلمة لم أفقه أولها غير أنه قال:"قليل ما يبقين" ثم قبضَ على حَصيات سبع -أو تسع، أو قريب من ذلك- فسبَّحنَ في يده، حتى سُمع لهن حنينٌ كحنين النحل في كفّي النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ناولَهن أبا بكر وجاوزني، فسبَّحن في كفِّ أبي بكر كما سبَّحن في كفِّ النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أخذَهن منه فوضعهن في الأرض فخرسنَ فصرنَ حصى، ثم ناولَهن عمر فسبَّحن في كفِّه كما سبحَّن في كفِّ أبي بكر، ثم أخذهن فوضعهن في الأرض فخرسن، ثم ناولهن عثمان فسبَّحن في كفِّه نحوَ ما سبَّحن في كفِّ أبي بكر وعمر، ثم أخذهن فوضعهن في الأرض فخرسن

(1)

.

قال الحافظ ابن عساكر: رواه صالح بن أبي الأخضر، عن الزهري، فقال: عن رجل يُقال له سُويد بن يَزيد السلمي، وقول شُعيب أصح.

وقال أبو نُعيم

(2)

في كتاب "دلائل النبوة": وقد روى داودُ بن أبي هند، عن الوليد بن عبد الرحمن الجرشي، عن جُبير بن نُفير، عن أبي ذر، مثله.

(1)

تاريخ دمشق لابن عساكر. جزء عثمان بن عفان ص (107 - 108).

(2)

دلائل النبوة؛ لأبي نعيم رقم (338)، وقد ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (5/ 179) وقال: أخرجه الطبراني في الأوسط وفيه محمد بن أبي حُميد، وهو ضعيف، وله طريق أحسن من هذا في علامات النبوة (8/ 299) وإسناده صحيح، وليس فيها قول الزهري: في الخلافة.

وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (6/ 592): وأما تسبيح الحصى فليست له إلا هذه الطريق الواحدة مع ضعفها.

ص: 198

ورواه شهرُ بن حَوشب وسعيد بن المسيّب، عن أبي سعيد. قال: وفيه عن أبي هريرة.

وقد تقدَّم ما رواه البخاريُّ

(1)

، عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: ولقد كنا نسمعُ تسبيحَ الطعام وهو يُؤكل.

حديث آخر في ذلك: روى الحافظ البيهقي، من حديث عبد الله بن عثمان بن إسحاق بن سعد بن أبي وقاص، قال: حدَّثني أبو أمي مالك بن حمزة بن أبي أُسيد السَّاعدي، عن أبيه، عن جده أبي أسيد السَّاعدي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس بن عبد المطلب: "يا أبا الفضل لا تَرِم

(2)

منزلك غدًا أنت وبنوك حتى آتيَكم، فإنَّ لي فيكم حاجة" فانتظروه حتى جاء بعدما أضحى، فدخلَ عليهم فقال: "السلام عليكم" فقالوا: وعليك السلام ورحمةُ الله وبركاته، قال: " كيف أصبحتم؟ " قالوا: أصبحنا بخير نحمدُ الله، فكيف أصبحتَ بأبينا وأمنا أنتَ يا رسولَ الله؟ قال: " أصبحتُ بخير أحمدُ الله " وقال لهم: " تقاربُوا تقاربُوا يزحفُ بعضُكم إلى بعض " حتى إذا أمكنوه اشتملَ عليهم بمُلاءته، وقال: " يا ربِّ عمِّي وصِنو أبي، وهؤلاء أهل بيتي فاسترهم من النَّار كسَتري إياهم بمُلاءتي هذه " قال: فأمَّنت أُسكُفَّةُ

(3)

الباب وحوائط البيت فقالت: آمين آمين آمين

(4)

.

وقد رواه أبو عبد الله بن ماجه في "سننه" مختصرًا

(5)

، عن أبي إسحاق إبراهيم بن عبد الله بن أبي حاتم الهروي، عن عبد الله بن عثمان بن إسحاق بن سعد بن أبي وقاص الوقَّاصي الزهري (به، وعبد الله بن عثمان الوقاصي)

(6)

روى عنه جماعة.

وقد قال ابن معين: لا أعرفه، وقال أبو حاتم: يروي أحاديث

(7)

.

حديث آخر: قال الإمام أحمد

(8)

: حدَّثنا يحيى بن أبي بُكير، حدَّثنا إبراهيم بن طَهمَان، حدَّثني

(1)

رواه البخاري في صحيحه رقم (3579) في المناقب. وقد تقدم.

(2)

" لا ترم ": لا تبرح.

(3)

"أُسكُفّة الباب": عتبة الباب، أو الخشبة التي يطأ عليها الداخل إلى البيت.

(4)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 71) وإسناده ضعيف. قال البخاري: مالك بن حمزة، عن أبيه، عن جده: أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا العباس .. الحديث. لا يُتابع عليه.

وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 270) وقال: رواه الطبراني، وإسناده حسن. ورواه أبو نعيم في "الدلائل" رقم (340). قلت: هكذا قال بحسن إسناده ولا يصح.

(5)

سنن ابن ماجه، رقم (3711) في الأدب.

(6)

ما بين الحاصرتين إضافة لا بد منها لا يستقيم النص من غيرها.

(7)

ينظر تحرير تقريب التهذيب (2/ 238).

(8)

في مسنده (5/ 89 و 95) وإسناده حسن من أجل سماك بن حرب.

ص: 199

سِمَاك بن حَرب، عن جابر بن سمرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لأعرفُ حجرًا بمكةَ كان يُسَلِّمُ عليَّ قبل أن أُبعثَ، إني لأعرفُه الآن".

رواه مسلم

(1)

عن أبي بكر بن أبي شَيبة

(2)

، عن يحيى بن أبي بُكير، به.

ورواه أبو داود الطيالسي

(3)

، عن سليمان بن معاذ، عن سِماك، به.

حديث آخر: قال الترمذيُّ

(4)

: حدَّثنا عبَّادُ بن يَعقوب الكوفي، حدَّثنا الوليد بن أبي ثَور، عن السُّدي، عن عبَّاد بن أبي يَزيد، عن عليّ بن أبي طالب، قال: كنتُ مع النبيّ صلى الله عليه وسلم بمكةَ، فخرجنا في بعض نواحيها فما استقبلَه جبلٌ ولا شجرٌ إلا قال: السَّلامُ عليكَ يا رسولَ الله. ثم قال: وهذا حديث حسن غريب، وقد رواه غيرُ واحد، عن الوليد بن أبي ثور، عن عبَّاد بن أبي يزيد، منهم فروة بن أبي المَغْراء

(5)

.

ورواه الحافظُ أبو نُعيم، من حديث زياد بن خيثمة، عن السُّدي، عن أبي عمارة الخيواني

(6)

، عن علي، قال: خرجتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعلَ لا يمرُّ على شجرٍ ولا حجرٍ إلا سلَّمَ عليه.

وقدَّمنا في المبعث أنه عليه الصلاة والسلام لمَّا رجعَ وقد أوحي إليه، جعلَ لا يمرُّ بحجرٍ ولا شجرٍ ولا مَدَرٍ ولا شيءٍ إلا قال له: السَّلامُ عليكَ يا رسول الله.

وذكرنا في وقعة بدر، ووقعة حُنين رميه عليه الصلاة والسلام بتلك القبضة من التراب، وأمره أصحابه أن يتبعوها بالحملة الصادقة، فيكون النصر والظفر والتأييد عقب ذلك سريعًا، أما في وقعة بدر فقد قال الله تعالى في سياقها في سورة الأنفال:{وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17].

وأما في غزوة حُنين فقد ذكرناه في الأحاديث بأسانيده وألفاظه بما أغنى عن إعادته هاهنا، ولله الحمد والمنة.

حديث آخر: ذكرنا في غزوة الفتح أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لمَّا دخلَ المسجدَ الحرامَ فوجدَ الأصنامَ حولَ

(1)

صحيح مسلم (2277) في الفضائل.

(2)

وهو في مصنفه 11/ 464.

(3)

في مسنده (1907).

(4)

في جامعه (3626).

(5)

فهذه هي العلة التي أعله بها الإمام الترمذي رحمه الله فاقتصر على تحسينه واستغرابه، بل وقع في بعض النسخ والتحفة (10159):"غريب" فقط، وهو الصواب (بشار).

(6)

نسبة إلى: خيوان، بلدة في اليمن.

ص: 200

الكعبة، فجعلَ يطعنُها بشيء في يده ويقول:"جاءَ الحقُّ وزهقَ الباطلُ إنَّ الباطلَ كان زَهُوقًا، قل جاءَ الحقُّ وما يُبدئ الباطلُ وما يُعيد"

(1)

.

وفي رواية أنه جعلَ لا يُشير إلى صنمٍ منها إلا خرَّ لقفاه، وفي رواية: إلا سقطَ.

وقال البيهقي

(2)

: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، وأبو بكر أحمد بن الحسن القاضي، قالا: حدَّثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدَّثنا بحرُ بن نصر وأحمد بن عيسى اللخمي، قالا: حدَّثنا بشر بن بَكْر

(3)

، أخبرنا الأوزاعي، عن ابن شهاب أنه قال: أخبرني القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، عن عائشة، قالت:

دخلَ عليَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأنا مُستترة بقِرام فهتكه ثم قال: " إن أشدَّ النَّاس عَذابًا يومَ القيامة الذين يُشَبِّهون بخلق الله"

(4)

.

قال الأوزاعي: وقالت عائشة: أُتي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بترسٍ فيه تِمثال عِقابٍ، فوضعَ عليه يدَه، فأذهبَه الله عز وجل.

‌باب ما يتعلق بالحيوانات من دلائل النبوة قصة البعير النادّ وسجوده له وشكواه إليه

قال الإمام أحمد

(5)

: حدَّثنا حسين، حدَّثنا خلف بن خليفة، عن حفص - هو ابن عمر - عن عمِّه أنس بن مالك، قال:

كان أهلُ بيتٍ من الأنصار لهم جملٌ يُسنون

(6)

عليه، وأنه

(7)

استصعبَ عليهم فمنعَهم ظهرَه، وأن الأنصارَ جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إنه كان لنا جملٌ نُسني عليه، وأنه استصعبَ علينا ومنعنا

(1)

رواه البخاري في صحيحه رقم (4287) في المغازي، ومسلم في صحيحه رقم (1781) في الجهاد، والترمذي في الجامع رقم (3138) في التفسير. وقد تقدم.

(2)

دلائل النبوة (6/ 81).

(3)

في المطبوع: "بكير" محرف، وهو بشر بن بكر التنيسي البجلي، من رجال التهذيب.

(4)

حديث عائشة: إن أشد الناس عذابًا .. رواه البخاري في صحيحه رقم (5954) في اللباس، ومسلم في صحيحه رقم (2105) في اللباس.

(5)

في المسند (3/ 158).

(6)

"يسنون ": يسقون بالسانية. والسانية: الساقية. والناقة يُسْتقى عليها من البئر.

(7)

كذا في (أ) والمطبوع، وفي المسند (3/ 158): وأن الجملَ استصعبَ ....

ص: 201

ظهرَه، وقد عَطِشَ الزرعُ والنَّخلُ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه:"قوموا" فقاموا، فدخل الحائطَ والجملُ في ناحيته، فمشَى النبيُّ صلى الله عليه وسلم نحوَه، فقالت الأنصارُ: يا رسولَ الله، إنه قد صارَ مثلَ الكَلبِ الكَلِب وإنا نخافُ عليك صَولَته، فقال:"ليس عليَّ منه بأسٌ" فلما نظر الجملُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبلَ نحوَه حتى خرَّ ساجدًا بين يديه، فأخذَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بناصيتِه أذلَّ ما كانت قط، حتى أدخلَه في العمل، فقال له أصحابُه: يا رسولَ الله، هذه البهيمةُ لا تعقلُ تسجدُ لك، ونحن أحقُّ أن نسجدَ لك، فقال: " لا يصلحُ لبشرٍ أن يسجدَ لبشرٍ، ولو صَلَحَ لبشرٍ أن يسجدَ لبشرٍ لأمرتُ المرأةَ أن تسجدَ لزوجها من عِظَم حقِّه عليها، والذي نفسي بيده لو كان من قدمِه إلى مَفرِق رأسِه قرحة تنبجسُ

(1)

بالقيحِ والصَّديد، ثم استقبلتْه فلحَسَتهُ ما أدَّت حقَّه".

وهذا إسناد جيد، وقد روى النسائيُّ بعضَه من حديث خلف بن خليفة به

(2)

.

رواية جابر في ذلك: قال الإمام أحمد

(3)

: حدَّثنا مُصعبُ بن سَلَّام، سمعته من أبي مرتين، حدَّثنا الأجلَحُ، عن الذيَّال بن حَرمَلة، عن جابر بن عبد الله، قال:

أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفر حتى إذا دَفَعنَا إلى حائطٍ من حِيطانِ بني النجار، إذا فيه جملٌ لا يدخلُ الحائطَ أحدٌ إلا شَدَّ عليه، قال: فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءَ حتى أتى الحائطَ، فدعا البعيرَ، فجاءَ واضعًا مِشفَرَه إلى الأرض حتى بَرَكَ بين يديه، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هاتوا خِطَامًا" فخطمَه ودفعَه إلى صاحبه، قال: ثم التفتَ إلى الناس، فقال:"إنه ليس شيءٌ بين السماءِ والأرض إلا يعلمُ أني رسولُ الله إلا عَاصِي الجِنّ والإنس".

تفرد به الإمام أحمد

(4)

، وسيأتي عن جابر من وجه آخر بسياق آخر، إن شاء الله، وبه الثقة.

‌رواية ابن عباس

قال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدَّثنا بشر بن موسى، حدَّثنا يزيدُ بن مِهران أخو خالد الجيّار، حدَّثنا أبو بكر بن عيّاش، عن الأجلح، عن الذيَّال بن حرملة، عن ابن عباس، قال:

جاء قوم إلى رسول الله، فقالوا: يا رسولَ الله إن لنا بعيرًا قد ندَّ في حائط، فجاءَ إليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال:"تعالَ" فجاءَ مطأطئًا رأسَه حتى حطمه وأعطاه أصحابه، فقال له أبو بكر الصديق:

(1)

كذا في (أ) وفي المطبوع: تتفجر.

(2)

في المجتبى (8/ 214) في الزينة.

(3)

في المسند (3/ 310).

(4)

إسناده حسن، الذيال بن حرملة صدوق حسن الحديث، وهو حديث صحيح لغيره.

ص: 202

يا رسول الله، كأنه علم أنك نبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما بين لابتيها أحدٌ إلا يعلمُ أني نبيُّ الله، إلا كفرةُ الجِنّ والإنس"

(1)

.

وهذا من هذا الوجه، عن ابن عباس غريب جدًا، والأشبه رواية الإمام أحمد عن جابر، اللهم إلا أن يكون الأجلح قد رواه عن الذيّال، عن جابر، وعن ابن عباس، والله أعلم.

طريق أخرى عن ابن عباس: قال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدَّثنا العباس بن الفضل الأسفاطي، حدَّثنا أبو عون الزِّيادي، حدَّثنا أبو عزة الدباغ، عن أبي يزيد المديني، عن عكرمة، عن ابن عباس: أن رجلًا من الأنصار، كان له فحلان فاغتلما

(2)

، فأدخلهما حائطًا فسدَّ عليهما الباب، ثم جاءَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرادَ أن يدعوَ له، والنبيُّ قاعدٌ معه نفرٌ من الأنصار، فقال: يا نبيُّ الله، إني جئتُ في حاجةٍ فإن فحلين لي اغتلما، وإني أدخلتُهما حائطاً وسددتُ عليهما البابَ، فأحبُّ أن تدعوَ لي أن يُسَخِّرَهما الله لي، فقال لأصحابه:" قوموا معنا " فذهبَ حتى أتى البابَ فقال: " افتح " فأشفقَ الرجلُ على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:"افتح" ففتحَ الباب، فإذا أحد الفحلين قريبًا من الباب، فلما رأى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم سجدَ له، فقال رسولُ الله:"ائتِ بشيءٍ أشدُّ رأسَه وأُمَكِّنُكَ منه" فجاءَ بخطام فشدَّ رأسَه وأمكنَه منه، ثم مشى إلى أقصى الحائط إلى الفحل الآخر، فلما رآه وقع له ساجدًا، فقال للرجل:" ائتني بشيءٍ أشدُّ رأسَه" فشدَّ رأسَه وأمكنَه منه، فقال:" اذهب فإنهما لا يَعصيانِك " فلما رأى أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك قالوا: يا رسولَ الله، هذان فحلان سجدا لك، أفلا نسجدُ لك؟ قال:"لا آمرُ أحدًا أن يسجدَ لأحدٍ، ولو أمرتُ أحدًا أن يسجدَ لأحدٍ لأمرتُ المرأة أن تسجدَ لزوجها"

(3)

.

وهذا إسناد غريب ومتن غريب.

ورواه الفقيه أبو محمد عبد الله بن حامد في كتابه "دلائل النبوة" عن أحمد بن حمدان السجزي، عن عمر بن محمد بن بجير البُجيري

(4)

، عن بشر بن آدم

(5)

، عن محمد بن عون أبي عون الزيادي، به.

(1)

رواه الطبراني في المعجم الكبير (12/ 120) رقم (12744). ورواه أيضًا البيهقي في دلائل النبوة (6/ 30) وأبو نعيم في الدلائل رقم (279) عن جابر رضي الله عنه كما مرَّ، والسيوطي في الخصائص الكبرى. وعزاه للبيهقي ولأبي نُعيم وللطبراني.

(2)

"فاغتلما": هاجا.

(3)

المعجم الكبير للطبراني (11/ 282) رقم (12003).

(4)

في المطبوع: "البحتري" وهو تصحيف، وهو منسوب إلى جده بجير كما في " البجيري " من أنساب السمعاني.

(5)

هو بشر بن آدم بن يزيد البصري، وترجمته في التهذيب (4/ 90).

ص: 203

وقد رواه أيضًا من طريق مكي بن إبراهيم، عن فائد أبي الورقاء، عن عبد الله بن أبي أوفى، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بنحو ما تقدَّمَ عن ابن عباس.

رواية أبي هريرة: قال أبو محمد عبد الله بن حامد الفقيه: أخبرنا أحمد بن حمدان، أخبرنا عمر بن محمد بن بجير، حدَّثنا يوسف بن موسى، حدَّثنا جرير، عن يحيى بن عبيد الله، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: انطلقنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ناحية، فأشرفنا إلى حائط، فإذا نحن بناضحٍ، فلما أقبلَ الناضحُ رفعَ رأسَه فبَصُرَ برسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعَ جِرَانَه على الأرض، فقال أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم: فنحن أحقُّ أن نسجدَ لك من هذه البهيمة، فقال:"سبحان الله! أدون الله؟ ما ينبغي لأحدٍ أن يسجدَ لأحدٍ دون الله، ولو أمرتُ أحدًا أن يسجدَ لشيءٍ من دون الله لأمرتُ المرأةَ أن تسجدَ لزوجها".

رواية عبد الله بن جعفر في ذلك: قال الإمام أحمد

(1)

: حدَّثنا يزيد، حدَّثنا مَهدي بن ميمون، عن محمد بن أبي يعقوب، عن الحسن بن سعد، عن عبد الله بن جعفر "ح" وحدَّثنا بهز وعفان، قالا: حدَّثنا مَهدي، حدَّثنا محمد بن أبي يعقوب، عن الحسن بن سعد -مولى الحسن بن علي- عن عبد الله بن جعفر، قال: أردفني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ذاتَ يومٍ خلفَه، فأسرَّ إليّ حديثًا لا أخبرُ به أحدًا أبدًا، وكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أحبَّ ما استترَ به في حاجته هدفٌ

(2)

أو حائشُ

(3)

نخلٍ، فدخلَ يومًا حائطًا من حِيطان الأنصار، فإذا جملٌ قد أتاه، فجرجرَ

(4)

وذرفَت

(5)

عيناه، وقال بهز وعفان: فلما رأى رسول الله حنَّ وذرفت عيناه. فمسحَ رسولُ الله سَرَاته

(6)

وذِفراه

(7)

فسكنَ، فقال:"من صاحبُ الجمل؟ " فجاءَ فتًى من الأنصار قال: هو لي يا رسولَ الله، فقال:"أما تتقي الله في هذه البهيمة التي ملَّكها الله؟ إنه شكا إليَّ أنك تُجِيعه وتُدئبه"

(8)

.

(1)

في المسند (1/ 204).

(2)

"هدف": أرض مرتفعة.

(3)

"حائش نخل": جماعة النخل، لا مفرد له.

(4)

" جَرجَرَ ": ردد صوته في حنجرته.

(5)

" ذرفت ": سالت دموع عينيه من مآقيه.

(6)

"سراته": ظهره.

(7)

"ذفراه": الذفرى: العظم الشاخص خلف الأذن.

(8)

"تُدئبه": تتعبه وتجهده بالعمل الزائد.

ص: 204

وقد رواه مسلم

(1)

من حديث مهدي بن ميمون، به.

رواية عائشة أُمِّ المؤمنين في ذلك: قال الإمام أحمد

(2)

: حدَّثنا عبد الصمد وعفَّان، قالا: حدَّثنا حماد- هو ابن سلمة - (قال عفان: أخبرنا المعنى)

(3)

عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيِّب، عن عائشة:

أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان في نَفَرٍ من المهاجرين والأنصار، فجاءَ بعيرٌ فسجدَ له، فقال أصحابه: يا رسولَ الله، تسجدُ لك البهائمُ والشَّجر، فنحن أحقُّ أن نسجدَ لك، فقال:"اعبدوا ربَّكم، وأكرموا أخاكم، ولو كنتُ آمرًا أحدًا أن يسجدَ لأحدٍ لأمرتُ المرأة أن تسجدَ لزوجها، ولو أمرها أن تنقل من جبلٍ أصفرَ إلى جبلٍ أسود، ومن جبلٍ أسودَ إلى جبلٍ أبيضَ كان ينبغي لها أن تفعَله".

وهذا الإسناد على شرط السنن، وإنما روى ابن ماجه

(4)

، عن أبي بكر بن أبي شيبة

(5)

، عن عفَّان، عن حماد، به:"لو أمرت أحدًا أن يسجدَ لأحدٍ لأمرتُ المرأةَ أن تسجدَ لزوجها .. " إلى آخره.

روايةُ يَعلَى بن مُرَّة الثَّقَفِيّ، أو هي قِصَّة أُخرى: قال الإمام أحمد

(6)

: حدَّثنا أبو سَلمة الخزاعي،

حدَّثنا حمّاد بن سلمة، عن عاصم بن بهدلة، عن حبيب بن أبي جُبيرة، عن يعلى بن سيابة

(7)

قال:

كنتُ مع النبي صلى الله عليه وسلم في مسيرٍ له، فأراد أن يقضيَ حاجتَه فأمرَ وَديَتين

(8)

فانضَمَّت إحداهُما إلى الأخرى، ثم أمرَهما فرجعتا إلى منابتهما، وجاء بعيرٌ فضربَ بجِرَانه إلى الأرض، ثم جرجرَ حتى ابتلَّ ما حولَه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أتدرون ما يقولُ البعيرُ؟ إنه يزعمُ أن صاحبَه يُريد نحرَه" فبعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أواهبه أنت لي؟ " فقال: يا رسول الله مالي مالٌ أحبّ إليَّ منه، فقال:"استوصِ به معروفًا" فقال: لا جرمَ لا أكرمُ مالًا لي كرامتَه يا رسولَ الله، قال: وأتى على قبر يُعَذَّبُ

(1)

في صحيحه رقم (342) في كتاب الحيض مختصرًا، و (2429).

(2)

في المسند (6/ 76)، الشطر الأول منه حسن لغيره.

(3)

ما بين القوسين أثبته من المسند (6/ 76).

(4)

في سننه رقم (1852) في النكاح، وإسناده ضعيف بطوله لضعف علي بن زيد بن جدعان، والقطعة الأولى منه تقوى ببعض الشواهد.

(5)

وهو في مصنفه (2/ 528 و 4/ 306).

(6)

في المسند (4/ 172).

(7)

يعلى بن سيابة: هو يعلى بن مرة، وسيابة أمه، وهي بتخفيف التحتانية، قيده الحافظ ابن حجر وغيره. الإصابة (4/ 669).

(8)

"وديتين": الودي: صغار النخل.

ص: 205

صاحبُه فقال: "إنه يُعذبُ في غير كبير" فأمرَ بجريدةٍ فوُضعت على قبره، وقال:" عسى أن يُخَفَّفَ عنه ما دامت رطبة"

(1)

.

طريق أخرى عنه: قال الإمام أحمد

(2)

: حدَّثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن عطاء بن السائب، عن عبد الله بن حفص، عن يَعلى بن مرة الثقفي، قال:

ثلاثةُ أشياء رأيتُهنَّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم: بينا نحن نسيرُ معه إذ مررنا ببعير يُسنَى عليه، فلما رآهُ البعيرُ جرجرَ ووضعَ جِرانه، فوقفَ عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم فقال:" أين صاحبُ هذا البعير؟ " فجاء، فقال:"بعنيه" فقال: لا، بَل أهبُه لك، فقال:"لا، بل بعنيه " قال: لا، بل نهبُه لك، وإنه لأهل بيتٍ ما لهم معيشة غيره، قال:" أما إذا ذكرتَ هذا من أمره فإنه شكا كثرةَ العملِ وقلّةَ العَلفِ فأحسنوا إليه ". قال: ثم سِرنا فنزلنا منزلًا فنامَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فجاءت شجرةٌ تشقُّ الأرضَ حتى غشيتهُ ثم رجعت إلى مكانها، فلما استيقظ ذكرتُ له، فقال:"هي شجرةٌ استأذنت ربَّها عز وجل في أن تُسَلِّمَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذِنَ لها". قال: ثم سِرنا فمررنا بماءٍ فأتته امرأةٌ بابنٍ لها به جِنَّةٌ، فأخذَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بمِنخره فقال:"اخرج إني محمدٌ رسولُ الله" قال: ثم سِرنَا فلمَّا رجعنا من سَفرنا مررنَا بذلك الماء، فأَتتهُ امرأةٌ بجَزرٍ

(3)

ولبن، فأمرها أن تردَّ الجَزرَ، وأمر أصحابَه فشربُوا من اللبن، فسألها عن الصبيِّ فقالت: والذي بعثكَ بالحقِّ ما رأينا منه رَيبًا بعدكَ

(4)

.

طريق أخرى عنه: قال الإمام أحمد

(5)

: حدَّثنا عبد الله بن نُمير، حدَّثنا عثمان بن حكيم، أخبرني عبد الرحمن بن عبد العزيز، عن يعلى بن مرة، قال:

لقد رأيتُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثًا ما رآها أحدٌ قبلي، ولا يَراها أحدٌ بعدي: لقد خرجتُ معه في سفرٍ حتى إذا كنا ببعض الطريق، مَرَرنَا بامرأةٍ جالسةٍ معها صبيٌّ لها، فقالت: يا رسولَ الله، هذا صبيٌّ أصابَه بلاءٌ، وأصابنا منه بلاءٌ، يُؤخذ في اليوم ما أدري كم مرة، قال:" ناولينيه " فرفعته إليه، فجعلته بينَه وبينَ وَاسطةِ الرَّحل، ثم فغرَ فاه فنفثَ فيه ثلاثًا وقال:" باسم الله، أنا عبدُ الله، اخسأ عدوَّ الله " ثم ناولَها إيّاه، فقال:" القينا في الرجعة في هذا المكان، فأخبرينا ما فعل" قال: فذهبنا ورجعنا، فوجدناها في ذلك المكان معها شياهٌ ثلاث، فقال:"ما فعل صبيُّك؟ " فقالت: والذي بعثَك بالحقِّ

(1)

إسناده ضعيف لجهالة حبيب بن أبي جبيرة.

(2)

فى المسند (4/ 173).

(3)

"الجَزر": ما يذبح من الشاء.

(4)

إسناده ضعيف لجهالة عبد الله بن حفص، واختلاط عطاء بن السائب.

(5)

في المسند (4/ 170).

ص: 206

ما حسَسنَا منه شيئًا حتى الساعة، فاحترز

(1)

هذه الغنم، قال:"انزل فخذ منها واحدةً وردَّ البقيّة".

قال: وخرجتُ ذاتَ يومٍ إلى الجبَّانة حتى إذا برزنا قال: "ويحكَ، انظر هل ترى من شيءٍ يُواريني؟ " قلت: ما أرى شيئًا يُواريك إلا شجرةٌ ما أراها تُواريك، قال:" فما بقربها؟ " قلت: شجرة مثلُها أو قريبٌ منها، قال:"فاذهب إليهما فقل: إن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يأمرُكما أن تجتمعا بإذن الله" قال: فاجتمعتا فبرزَ لحاجته ثم رجع، فقال:"اذهب إليهما فقل لهما: "إن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يأمُركما أن ترجعَ كلُّ واحدةٍ منكما إلى مكانها" فرجعت.

قال: وكنتُ معه جالسًا ذاتَ يوم إذ جاء جملٌ نجيب حتى ضربَ

(2)

بجِرانه بين يديه، ثم ذرفت عيناه فقال:" ويحك، انظر لمن هذا الجمل، إن له لشأنًا " قال: فخرجتُ ألتمسُ صاحبَه، فوجدتُه لرجل من الأنصار فدعوته إليه، فقال:"ما شأنُ جملِك هذا؟ " فقال: وما شأنه؟ لا أدري والله ما شأنه، عملنا عليه ونضَحنَا عليه، حتى عجزَ عن السِّقاية، فائتمرنا البارحةَ أن ننحرَه ونقسمَ لحمه، قال:" فلا تفعل، هبه لي أو بعنيه" فقال: بل هو لك يا رسول الله، فوسمَه بسمة الصَّدقةِ ثم بعثَ به

(3)

.

طريق أخرى عنه: قال الإمام أحمد

(4)

: حدَّثنا وكيع، حدَّثنا الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن يعلى بن مرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه أتته امرأةٌ بابن لها قد أصابَه لَمَمٌ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اخرج عدوَّ الله، أنا رسول الله" قال: فبرَأ، قال: فأهدت إليه كبشين وشيئًا من أقط وشيئًا من سمن، قال: فقال رسول الله: "خذ الأقطَ والسمنَ وأحدَ الكبشين وردَّ عليها الآخر " ثم ذكر قصة الشجرتين كما تقدَّم

(5)

.

وقال أحمد

(6)

: حدَّثنا أسود، حدَّثنا أبو بكر بن عياش، عن حبيب بن أبي عمرة، عن المنهال بن عمرو، عن يعلى، قال:

ما أظنُّ أن أحدًا من الناس رأى من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا دونَ ما رأيتُ فذكرَ أمرَ الصَّبيّ، والنخلتين، وأمرَ البعير، إلا أنه قال:"ما لبعيرك يشكوك؟ زعم أنك سانيه حتى إذا كَبُر تريدُ أن تنحرَه" قال: صدقتَ والذي بعثَك بالحقِّ نبيًّا قد أردتُ ذلك، والذي بعثكَ بالحقِّ لا أفعلُ

(7)

.

(1)

كذا في (أ) وفي المطبوع: فاجترر.

(2)

كذا في (أ)، وفي المسند: صَوَّبَ، وفي المطبوع: صَوَّى.

(3)

إسناده ضعيف لجهالة عبد الرحمن بن عبد العزيز.

(4)

في المسند (4/ 171 و 172).

(5)

إسناده ضعيف لانقطاعه، فإن المنهال بن عمرو لم يسمع من يعلى بن مرة.

(6)

في المسند (4/ 173).

(7)

إسناده ضعيف مثل سابقه.

ص: 207

طريق أخرى عنه: روى البيهقي

(1)

عن الحاكم وغيره، عن الأصم: حدَّثنا عباس بن محمد الدوري، حدَّثنا حمدانُ بن الأصبهاني، حدَّثنا شريك، عن عُمر بن عبد الله بن يعلى بن مرة، عن أبيه، عن جده، قال:

رأيتُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثةَ أشياءٍ ما رآها أحدٌ قبلي، كنتُ معه في طريق مكة، فمرَّ بامرأةٍ معها ابنٌ لها به لَمَمٌ ما رأيتُ لَمَمًا أشدَّ منه، فقالت: يا رسول الله، ابني هذا كما ترى، فقال:"إن شئتِ دعوتُ له" فدعا له. ثم مضى فمرَّ على بعيرٍ نَادٍّ جِرَانَه يَرغو، فقال:"عليَّ بصاحب هذا البعير" فجيء به، فقال:"هذا يقول: نتجتُ عندَهم فاستعملوني حتى إذا كبرتُ عندَهم أرادوا أن يَنحروني".

قال: ثم مضى ورأى شجرتين متفرقتين، فقال لي:" اذهب فمرهُمَا فلتجتمعا لي " قال: فاجتمعتا، فقضى حاجتَه.

قال: ثم مضى، فلما انصرف، مرَّ على الصبيِّ وهو يلعبُ مع الغلمانِ وقد ذهبَ ما به، وهيَّأت أمُّه أكبُشًا، فأهدت له كبشين، وقالت: ما عاد إليه شيء من اللمم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"ما من شيءٍ إلا ويعلم أني رسولُ الله، إلا كفرةُ -أو فسقة- الجنّ والإنس"

(2)

.

فهذه طرق جيدة متعددة تُفيد غلبةَ الظنِّ والقطع عندَ المتبحّرين؛ أن يَعلى بن مرة حدَّث بهذه القصة في الجملة، وقد تفرَّد بهذا كلّه الإمام أحمد دون أصحاب الكتب الستة، ولم يرو أحدٌ منهم شيئًا سوى ابن ماجه، فإنه روى عن يعقوب بن حُميد بن كاسِب، عن يحيى بن سُليم، عن (ابن) خُثَيم، عن يونس بن خَبّاب، عن يَعلى بن مُرّة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا ذهبَ إلى الغَائِط أبعدَ

(3)

. وقد اعتنى الحافظ أبو نُعيم بحديث البعير في كتابه "دلائل النبوة" وطرقه من وجوه كثيرة

(4)

.

ثم أوردَ حديثَ عبد الله بن قرط اليماني قال: جيء رسول الله صلى الله عليه وسلم بست ذَودٍ

(5)

فجعلنَ يزدَلفن إليه بأيتهن يبدأ. وقد قدمت الحديث في حجة الوداع.

(1)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 22 - 23).

(2)

إسناده ضعيف، لضعف عمر بن عبد الله بن يعلى بن مرة.

(3)

رواه ابن ماجه في سننه رقم (333) في الطهارة، وهو حديث صحيح. من حديث المغيرة بن شعبة (331)، وهذا إسناد ضعيف، فإن يونس بن خباب ضعيف جدًا وإن قال الحافظ ابن حجر في التقريب " صدوق يخطئ ورمي بالرفض" فقد ضعفه يحيى القطان، وابن مهدي، وابن معين، والنسائي، وقال البخاري: منكر الحديث، وقال مرة: مضطرب الحديث. وقال الجوزجاني: كذاب، وقال الدارقطني في العلل: رجل سوء فيه شيعية مفرطة (تحرير التقريب 4/ 139).

(4)

في المختصر المطبوع من دلائل النبوة؛ لأبي نُعيم: الأحاديث من رقم (278) إلى (287) عن سجود البعير.

(5)

"ذود": إبل.

ص: 208

قلت: قد أسلفنا عن جابر بن عبد الله نحو قصة الشجرتين، وذكرنا آنفًا عن غير واحد من الصحابة نحوًا من حديث الجمل؛ لكن بسياق يُشبه أن يكون غيرَ هذا، فالله أعلم.

وسيأتي حديثُ الصبيّ الذي كان يُصرع ودعاؤه عليه الصلاة والسلام له، وبرؤه في الحال، من طرق أخرى.

وقد روى الحافظ البيهقيُّ عن أبي عبد الله الحاكم وغيره، عن أبي العباس الأصم، عن أحمد بن عبد

الجبار، عن يُونس بن بُكير، عن إسماعيل بن عبد الملك، عن أبي الزبير، عن جابر، قال:

خرجتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفرٍ، وكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا أرادَ البرازَ تباعدَ حتى لا يراهُ أحدٌ، فنزلنا منزلًا بفلاةٍ من الأرض ليس فيها عَلَمٌ ولا شجر، فقال لي:"يا جابر، خذ الأداوَةَ وانطلق بنا" فملأتُ الأداوةَ ماءً وانطلقنا، فمشينا حتى لا نكادُ نرى، فإذا شجرتان بينهما أذرعٌ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" يا جابر، انطلق فقل لهذه الشجرة: يقولُ لك رسولُ الله: الحقِي بصاحبتِك حتى أجلس خلفَكُما" ففعلت فرجعت فلحِقَت بصاحبتها، فجلسَ خلفَهما حتى قضَى حاجته.

ئم رجعنا فركبنا رواحلنَا فسِرنا كأنما على رؤوسنا الطير تُظَلِّلُنَا، وإذا نحنُ بامرأةٍ قد عَرَضت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسولَ الله، إن ابني هذا يأخذُه الشيطان كلَّ يوم ثلاثَ مراتٍ لا يدعه، فوقفَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فتناولَه فجعلَه بينَه وبين مُقَدّمة الرَّحل فقال:" اخسأ عدؤَ الله، أنا رسولُ الله " وأعاد ذلك ثلاثَ مراتٍ، ثم ناولَها إيّاه، فلمَّا رجعنا وكنّا بذلك الماء، عرضَت لنا تلك المرأة ومعها كَبشان تقودُهما والصبيّ تحملُه، فقالت: يا رسول الله، اقبل مني هديتي، فوالذي بعثَك بالحقِّ إن عاد إليه بعدُ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"خذوا أحدَهما وردُّوا الآخرَ ".

قال: ثم سِرنا ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم بيننا، فجاءَ جملٌ نادٌّ، فلما كان بين السِّماطين خرَّ ساجدًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يا أيها الناسُ، من صاحبُ هذا الجمل؟ " فقال فِتية من الأنصار: هو لنا يا رسول الله، قال:"فما شأنه؟ " قالوا: سَنَونَا عليه منذُ عشرينَ سنةً، فلما كَبُرَت سِنُّه وكانت عليه شحيمة أردنا نحرَه لنقسمَه بين غِلمَتِنَا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"تبيعونيه؟ " قالوا: يا رسول الله، هو لك، قال:"فأحسنوا إليه حتى يأتيَه أجلُه" قالوا: يا رسولَ الله، نحن أحقُّ أن نسجدَ لك من البهائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" لا يَنبغي لبشرٍ أن يسجدَ لبشرٍ، ولو كانَ ذلك كانَ النساءُ لأزواجهنّ"

(1)

.

وقد روى أبو داود وابن ماجه

(2)

، من حديث إسماعيل بن عبد الملك بن أبي الصفراء، عن أبي

(1)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 18 - 19)، وإسناده ضعيف.

(2)

رواه أبو داود في سننه رقم (2) في الطهارة، وابن ماجه في سننه رقم (335) في الطهارة، وهو حديث صحيح بشواهده.

ص: 209

الزبير، عن جابر: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان إذا ذهبَ المذهبَ أبعدَ

(1)

.

ثم قال البيهقي

(2)

: وحدَّثنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا أبو بكر بن إسحاق، أخبرنا الحسن بن علي بن زياد، حدَّثنا أبو حُمَة، حدَّثنا أبو قرة عن زمعة، عن زياد - هو ابن سعد - عن أبي الزبير؛ أنه سمع يُونس بن خبَّاب الكُوفي يُحدّثُ؛ أنه سمعَ أبا عبيدة يُحَدِّث، عن عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان في سفر إلى مكّةَ فذهبَ إلى الغائط، وكان يُبعِدُ حتى لا يراهُ أحدٌ، قال: فلم يجد شيئًا يُتوارى به، فبصرَ بشجرتين، فذكرَ قصّةَ الشجرتين وقصة الجمل، بنحو من حديث جابر.

قال البيهقيُّ: وحديث جابر أصح، قال: وهذه الرواية ينفردُ بها زمعة بن صالح، عن زياد - أظنه ابن سعد- عن أبي الزبير.

قلت: وقد تكون هذه أيضًا محفوظةً، ولا تُنافي حديثَ جابر ويَعلى بن مرة، بل تشهد لهما، ويكون هذا الحديث عند أبي الزبير محمد بن مسلم بن تَدرُس المكي، عن جابر. وعن يُونس بن خَبَّاب، عن أبي عُبيدة بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه، والله أعلم

(3)

.

وروى البيهقيُّ، من حديث مُعاوية بن يحيى الصدفي - وهو ضعيف - عن الزهري، عن خارجة بن زيد، عن أسامة بن زيد، حديثًا طويلًا نحو سياق حديث يَعلى بن مرة وجابر بن عبد الله، وفيه قصة الصبيِّ الذي كان يُصرع، ومجيء أمّهِ بشاةٍ مشويّةٍ فقال:" ناولني الذراعَ " فناولته، ثم قال:"ناولني الذراع" فناولته، ثم قال:"ناولني الذراع" فقلت: كم للشاة من ذراع؟ فقال: "والذي نفسي بيده لو سكتَّ لناوَلتَني ما دعوتُ " ثم ذكر قصةَ النخلات واجتماعهما وانتقال الحِجارة معهما، حتى صارت الحجارةُ رجمًا خلف النخلات

(4)

. وليس في سِياقه قصة البعير، فلهذا لم أورده

(5)

بلفظه وإسناده، وبالله المستعان.

وقد روى ابنُ عساكر في ترجمة غَيلَان بن سلمةَ الثقفي، بسنده إلى يَعلى بن منصور الرازي، عن شبيب بن شيبة، عن بشر بن عاصم، عن غَيلان بن سلمة، قال:

خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأينا عَجَبًا، فذكر قصّةَ الشجرتين واستتارَه بهما عندَ الخَلاء، وقصّةَ الصبيّ الذي كان يُصرع، وقوله:"باسم الله أنا رسولُ الله، اخرج عدوَّ الله" فعُوفي. ثم ذكرَ قصّةَ البعيرين النادّين وأنهما سجدَا له، بنحو ما تقدم في البعير الواحد

(6)

. فلعلَّ هذه قصة أخرى، والله أعلم.

(1)

لفظه عند أبي داود وابن ماجه (كان إذا أراد البراز انطلق حتى لا يراه أحد).

(2)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 20).

(3)

لكن يونس بن خَبّاب ضعيف، كما بينا.

(4)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 24 - 26).

(5)

في الأصل: لم يُورده، والمتكلم هو ابن كثير رحمه الله تعالى؛ لأن البيهقي أورده في الدلائل بلفظه وإسناده.

(6)

مختصر تاريخ دمشق لابن منظور (20/ 223).

ص: 210

وقد ذكرنا فيما سلف حديثَ جابرًا

(1)

وقصَّة جملهِ الذي كان قد أَعْيَا، وذلك مرجعَهم من تبوك، وتأخّره في أخريات القوم، فلحقَه النبيُّ صلى الله عليه وسلم فدعا له وضربَه فسارَ سَيرًا لم يسر مثله حتى جعلَ يتقدّمُ أمامَ الناس، وذكرنا شراءَه عليه الصلاة والسلام منه، وفي ثمنه اختلاف كثير وقعَ من الرواة لا يَضرُّ أصلَ القِصّة كما بيناه.

وتقدَّم حديثُ أنسٍ

(2)

في ركوبه عليه الصلاة والسلام على فرس أبي طلحة حين سَمِعَ الناسُ صَوتًا بالمدينة، فركبَ ذلك الفرس، وكان يُبطئ، وركبَ الفرسانُ نحوَ ذلك الصوت، فوجدوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قد رجعَ بعدما كشفَ ذلك الأمر، فلم يجد له حقيقةً، وكان قد ركبَه عُريًا لا شيءَ عليه وهو مُتقلّدٌ سيفًا، فرجعَ وهو يقول:"لن تراعوا لن تراعوا، ما وجدنا من شيء، وإن وجدناه لبحرًا" أي: لسابقًا.

وكان ذلك الفرسُ يُبَطَّأ قبلَ تلك الليلة، فكان بعد ذلك لا يُجارى، ولا يُكشف له غبار، وذلك كلُّه ببركته عليه الصلاة والسلام.

حديث آخر غريب في قصة البعير: قال الشيخ أبو محمد عبد الله بن حامد الفقيه، في كتابه " دلائل النبوة"، وهو مجلد كبير حافل كثير الفوائد: أخبرني أبو علي الفارسي، حدَّثنا أبو سعيد عبد العزيز بن شهلان القوَّاس، حدَّثنا أبو عمرو عثمان بن محمد بن خالد الراسبي، حدَّثنا عبد الرحمن بن علي البصري، حدَّثنا سلامة بن سعيد بن زياد بن أبي هند الرازي، حدَّثني أبي، عن أبيه، عن جده، حدَّثنا غُنَيم

(3)

بن أوس -يعني: الرازي- قال:

كنا جلوسًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أقبلَ بعيرٌ يعدو حتى وقفَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فَزِعًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

"أيُّها البعيرُ اسكن، فإن تكُ صادقًا فلك صِدقُك، وإن تك كذابًا فعليك كذبك، مع أنَّ الله تعالى قد أمَّنَ عائذنا، ولا يخاف لائذنا" قلنا: يا رسول الله، ما يقولُ هذا البعير قال:" هذا بعيرٌ هَمَّ أهلُه بنحره، فهربَ منهم، فاستغاثَ بنبيّكم" فبينا نحن كذلك؛ إذ أقبلَ أصحابُه يتعادون، فلما نظرَ إليهم البعيرُ عادَ إلى هامةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم. فقالوا: يا رسول الله، هذا بعيرُنا هربَ منا منذُ ثلاثة أيام، فلم نلقَه إلا بينَ يديكَ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"يشكو مرَّ الشّكاية" فقالوا: يا رسولَ الله، ما يقول قال:"يقولُ إنه رُبِّي في إبلكم حوارًا، وكنتم تحملون عليه في الصيف إلى موضع الكلأ، فإذا كان الشتاء رحلتُم إلى موضع الدفء " فقالوا: قد كان ذلك يا رسول الله، فقال:"ما جزاءُ العبد الصالح من مَواليه؟ " قالوا:

(1)

تقدم الحديث.

(2)

تقدم الحديث.

(3)

كذا في المطبوع، وفي (أ) كأن صورة رسمه: تميم، ولم أجده في الإصابة بهذين الاسمين، فظهر أنه مختلق.

ص: 211

يا رسول الله، فإنا لا نبيعُه ولا نَنحَرُه، قال:"فقد استغاثَ فلم تُغيثوه، وأنا أولى بالرحمة منكم، لأن الله نزعَ الرحمةَ من قلوبِ المنافقين وأسكنَها في قلوب المؤمنين".

فاشتراه النبيُّ صلى الله عليه وسلم بمئة درهم، ثم قال:" أيُّها البعير انطلق فأنت حرٌّ لوجه الله " فرغا على هامة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله:" آمين " ثم رغا الثانية فقال: " آمين " ثم رغا الثالثة فقال: " آمين " ثم رغا الرابعة، فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلنا: يا رسول الله، ما يقولُ هذا البعير؟ قال: يقول: "جزاكَ الله أيُّها النبيُّ عن الإسلام والقرآن خيرًا، قلت: آمين، قال: سكَّنَ الله رعبَ أمتك يوم القيامة كما سكَّنتَ رعبي قلت: آمين، قال: حقنَ الله دماءَ أمتك من أعدائها كما حقنتَ دمي، قلت: آمين، قال: لا جعلَ الله بأسَها بينها، فبكيتُ وقلت: هذه خِصال سألت ربي فأعطانيها ومنعني واحدة، وأخبرني جبريلُ عن الله أن فناءَ أمتك بالسيف، فجرى القلمُ بما هو كائن"

(1)

.

قلت: هذا الحديث غريبٌ جدًا، لم أرَ أحدًا من هؤلاء المصنفين في الدلائل أورده سوى هذا المُصنِّف، وفيه غرابةٌ ونكارةٌ في إسناده ومتنه أيضًا، والله أعلم.

‌حديث في سجود الغنم له صلى الله عليه وسلم

-

قال أبو محمد عبد الله بن حامد أيضًا: قال يحيى بن صاعد: حدَّثنا محمد بن عوف الحمصي، حدَّثنا إبراهيم بن العلاء الزَّبيدي، حدَّثنا عَبّاد بن يوسف الكندي أبو عثمان، حدَّثنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أنس بن مالك قال:

دخلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم حائطًا للأنصار ومعه أبو بكر وعمر ورجلٌ من الأنصار، وفي الحائط غنمٌ فسجدَت له، فقال أبو بكر: يا رسول الله، كنا نحنُ أحقُّ بالسجود لك من الغنم، فقال:" إنه لا يَنبغي أن يسجدَ أحدٌ لأحد، ولو كان ينبغي لأحد أن يسجدَ لأحدٍ لأمرتُ المرأةَ أن تسجدَ لزوجها"

(2)

.

غريب، وفي إسناده من لا يُعرف.

‌قصة الذئب، وشهادته بالرسالة

قال الإمام أحمد

(3)

: حدَّثنا يزيد، حدَّثنا القاسم بن الفضل الحداني، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري، قال:

(1)

رحم الله ابن كثير ماكان أغنانا وإياه عن مثل هذه الغراثب التي لا طائل تحتها ولا فائدة. والقصة ظاهرة الصنعة، بعيدة كل البعد عن منطق النبوة.

(2)

دلائل النبوة، لعبد الله بن حامد (مخطوط)، ودلائل النبوة؛ لأبي نُعيم رقم (276).

(3)

في المسند (3/ 83 - 84). و"عذبة سوطه": علاقة السوط وطرفه.

ص: 212

عدا الذئبُ على شاةٍ فأخذَها، فطلبَه الراعي فانتزعها منه، فأقعى الذئبُ على ذنبه فقال: ألا تتقي الله؟ تنزعُ مني رِزقًا ساقَه الله إليَّ؟ فقال: يا عَجبي ذئبٌ يُكلِّمني كلامَ الإنس! فقال الذئب: ألا أخبرك بأعجبَ من ذلك؟ محمّدٌ صلى الله عليه وسلم بيثربَ يُخبر الناسَ بأنباء ما قد سبقَ، قال: فأقبلَ الراعي يسوقُ غنمَه حتى دخلَ المدينةَ، فزواها إلى زاوية من زواياها، ثم أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فأخبرَه، فأمرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فنُودي الصلاةُ جامعة، ثم خرجَ فقال للراعي: أخبرهم، فأخبرَهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"صدقَ، والذي نفسُ محمّدٍ بيده لا تقومُ الساعة حتى يُكَلِّمَ السِّباعُ الإنسَ، ويُكلِّم الرجلُ عذبةَ سَوطه، وشِرَاك نعله، ويُخبره فخذه بما أحدث أهله بعده".

وهذا إسناد على شرط الصحيح، وقد صححه البيهقي، ولم يروه إلا الترمذيُّ

(1)

من قوله: " والذي نفسي بيده لا تقومُ السَّاعةُ حتى يكلم السباعُ الإنسَ .. " إلى آخره. عن سفيان بن وكيع، عن أبيه، عن القاسم بن الفضل. ثم قال: وهذا حديث حسن غريب صحيح لا نعرفه إلا من حديث القاسم، وهو ثقة مأمون عند أهل الحديث، وثَّقَه يحيى وابن مهدي.

طريق أخرى عن أبي سعيد الخدري: قال الإمام أحمد

(2)

: حدَّثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، حدَّثني عبد الله بن أبي حسين، حدَّثني شهر؛ أن أبا سعيد الخدريّ حدَّثه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: بينا أعرابيٌّ فيِ بعض نواحي المدينة في غنم له، عدا عليه الذئب فأخذ شاة من غنمه فأدركه الأعرابي، فاستنقذها منه وهجهجه

(3)

، فعاندَه الذئبُ يمشي، ثم أقعى مستذفرًا

(4)

بذنبه يُخاطبه، فقال: أخذتَ رزقًا رزقنيه الله، قال: واعجبًا من ذئبٍ مُستذفرٍ بذنبه يُخاطبني! فقال: والله إنك لتتركُ أعجبَ من ذلك، قال: وما أعجبُ من ذلك؟ قال: رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في النخلتين بين الحرتين يُحَدِّث الناسَ عن أنباءِ ما قد سبقَ وما يكون بعدَ ذلك، قال: فنعقَ الأعرابيُّ بغنمه حتى ألجأَها إلى بعض المدينة، ثم مشى إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم حتى ضربَ عليه بابَه، فلما صلَّى النبيُّ صلى الله عليه وسلم قال:"أينَ الأعرابيُّ صاحبُ الغنم؟ " فقام الأعرابي، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"حدِّث الناسَ بما سمعتَ وبما رأيتَ " فحدث الأعرابي الناس بما رأى من الذئب وما سمعَ منه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك:" صدق، آياتٌ تكون قبلَ الساعة، والذي نفسي بيده لا تقومُ السَّاعةُ حتى يخرجَ أحدُكم من أهله فيخبرَه نعلُه أو سوطُه أو عَصاه بما أحدثَ أهلُه بعده".

(1)

جامع الترمذي (2181) في الفتن.

(2)

في المسند 3/ 89.

(3)

"هجهجه": صاح به.

(4)

" مستذفرًا ": جاعلًا ذنبه بين رجليه.

ص: 213

وهذا على شرط أهل السنن، ولم يُخرِّجوه

(1)

.

وقد رواه البيهقيُّ

(2)

من حديث النُّفَيليّ قال: قرأتُ على مَعقل بن عبد الله بن شَهر بن حَوشب، عن أبي سعيد، فذكره. ثم رواه عن الحاكم وأبي سعيد بن أبي عمروٍ، عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يُونس بن بُكير، عن عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب، عن أبي سعيد فذكره.

ورواه الحافظ أبو نُعيم من طريق عبد الرحمن بن يَزيد بن تميم، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي سعيد، فذكره

(3)

.

حديث أبي هريرة في ذلك: قال الإمام أحمد

(4)

: حدَّثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن أشعث بن عبد الله

(5)

، عن شهر بن حوشب، عن أبي هريرة قال:

جاءَ ذئبٌ إلى راعي غنمٍ فأخذَ منها شاةً، فطلبَه الراعي حتى انتزعَها منه، قال: فصعِدَ الذئبُ على تلٍّ فأقعى فاستذفَر وقال: عَمدتَ إلى رزقٍ رزقنيه الله عز وجل انتزعتَه منِّي، فقال الرجل: لله إن رأيتُ كاليوم ذئبًا يتكلَّمُ، فقال الذئب: أعجبُ من هذا رجلٌ في النخلاتِ بين الحرّتين يُخبرُكم بما مضى وما هو كائنٌ بعدَكم، وكان الرجلُ يهوديًا، فجاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فأسلمَ وخبَّرَه فصدَّقه النبيُّ صلى الله عليه وسلم ثم قال رسول الله:"إنها أمارة من أماراتٍ بين يدي الساعة، قد أوشكَ الرجلُ أن يخرجَ فلا يرجعَ حتى تُحدِّثَه نعلاهُ وسوطُهُ بما أحدَثه أهلُه بعَده".

تفرد به أحمد، وهو على شرط السنن، ولم يخرجوه، ولعل شهر بن حوشب قد سمعَه من أبي سعيد وأبي هريرة أيضًا، والله أعلم

(6)

.

حديث أنس في ذلك: قال أبو نعيم في "دلائل النبوة ": حدَّثنا عبد الله بن محمد بن جعفر، حدَّثنا

(1)

إسناده ضعيف لضعف شهر بن حوشب.

(2)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 42 - 43)، وإسناده ضعيف، كما تقدم.

(3)

لم أجده في دلائل أبي نعيم المطبوع بهذا الإسناد، وإنما هو موجود عن القاسم بن الفضل الحداني عن أبي نضرة، عن أبي سعيد.

(4)

في المسند (2/ 306).

(5)

في المطبوع: "عبد الملك" وهذا يعني أنه أشعث بن عبد الملك الحمراني، ولا يصح، وما أثبتناه من مسند أحمد وهو الصواب، وهو أشعث بن عبد الله بن جابر الحداني البصري وهو الراوي عن شهر بن حوشب وروي عنه معمر ابن راشد كما في تهذيب الكمال 3/ 272. أما ابن عبد الملك فلم يرو عن شهر ولا روى عنه معمر، كما في ترجمته من تهذيب الكمال (3/ 277) (بشار).

(6)

إسناده ضعيف لضعف شهر بن حوشب.

ص: 214

محمد بن يحيى بن منده، حدَّثنا علي بن الحسن بن سالم، حدَّثنا الحسين الرفاء، عن عبد الملك بن عُمير، عن أنس، وحدَّثنا سليمان - هو الطبراني -: حدَّثنا عبد الله بن محمد بن ناجية، حدَّثنا هشام بن يُونس اللؤلؤي، حدَّثنا حسين بن سليمان الرفاء، عن عبد الملك بن عُمير، عن أنس بن مالك قال:

كنتُ مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فشردَت عليَّ غنمي، فجاءَ الذئبُ فأخذَ منها شاةً، فاشتدَّ الرِّعَاءُ خلفَه، فقال: طعمةٌ أطعمنيها الله تنزعونَها مني؟ قال: فبُهِتَ القومُ، فقال:" ما تعجبون من كلام الذئب وقد نزلَ الوحيُ على محمدٍ فمن مُصدّق ومكذّب"

(1)

.

ثم قال أبو نُعيم: تفرَّد به حسين بن سليمان، عن عبد الملك.

قلت: الحسين بن سليمان الرفاء هذا يُقال له الطلحي كوفي، أورد له ابن عديّ عن عبد الملك بن عُمير أحاديثَ، ثم قال: لا يُتابع عليها

(2)

.

حديث ابن عمر في ذلك: قال البيهقي: أخبرنا أبو سعدٍ الماليني، أخبرنا أبو أحمد بن عدي، حدَّثنا عبد الله بن أبي داود السجستاني، حدَّثنا يعقوب بن يوسف بن أبي عيسى، حدَّثنا جعفر بن حسن، أخبرني أبو حسن، حدَّثنا عبد الرحمن بن حرملة، عن سعيد بن المسيب، قال: قال ابن عمر:

كان راعٍ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ جاءَ الذئبُ فأخذَ شاةً ووثبَ الراعي حتى انتزعَها من فيه، فقال له الذئبُ: أما تتقي الله أن تمنعني طعمة أطعمنيها الله تنزعُها مني؟ فقال له الراعي: العجبُ من ذئبٍ يتكلَّم، فقال الذئبُ: أفلا أدلُّك على ما هو أعجبُ من كلامي؟ ذلك الرجل في النخل يُخبر الناس بحديث الأوّلين والآخرين أعجبُ من كلامي، فانطلقَ الراعي حتى جاءَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فأخبرَه وأسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"حدِّث به الناسَ"

(3)

.

قال الحافظ ابن عديّ: قال لنا أبو بكر بن أبي داود: وَلدُ هذا الراعي يُقال لهم: بنو مُكلّم الذئب، ولهم أموالٌ ونَعَمٌ، وهم من خزاعة، واسم مُكلّم الذئب أَهبَان، قال: ومحمد بن أشعث الخزاعي من ولده.

قال البيهقي

(4)

: فدلَّ على اشتهار ذلك، وهذا مِمَّا يُقَوِّي الحديثَ.

(1)

لم أجده في دلائل النبوة لأبي نعيم المطبوع - وإسناده ضعيف كما قال المصنف.

(2)

الكامل في الضعفاء (2/ 773).

(3)

من المؤكد أن هذه الرواية سقطت من دلائل النبوة؛ للبيهقي. وفيه بعض السند وبعض كلام الحافظ ابن عدي، وحديث كلام الذئب للراعي بطرق متعددة مبسوط في الدلائل (6/ 44).

(4)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 44) وفي إسناده جهالة.

ص: 215

وقد رُوي من حديث محمد بن إسماعيل البخاري في "التاريخ"

(1)

: حدَّثني أبو طلحة، حدَّثني سفيان بن حمزة الأسلمي، سمعَ عبد الله بن عامر الأسلمي، عن ربيعةَ بن أوس، عن أنس بن عمرو، عن أهبان بن أوس، قال: كنتُ في غنمٍ لي، فكلَّمه الذئب وأسلَم. قال البخاري: إسنادُه ليس بالقوي.

ثم روى البيهقيُّ عن أبي عبد الرحمن السُّلميّ، سمعتُ الحسينَ بن أحمد الرازي، سمعتُ أبا سُليمان المقري يقول:

خرجت في بعض البلدان على حمار فجعلَ الحمارُ يَحيد بي عن الطريق، فضربتُ رأسَه ضرباتٍ، فرفعَ رأسَه إليَّ وقال: اضرب يا أبا سُليمان، فإنما على دماغِك هو ذا تضرب، قال: قلت له: كلَّمَك كلامًا يُفهم! قال: كما تُكلِّمني وأكلِّمك.

حديث آخر عن أبي هريرة في الذئب: وقد قال سعيدُ بن منصور: حدَّثنا حَبَّان بن على، حدَّثنا عبد الملك بن عُمير، عن أبي الأدبر الحارثي، عن أبي هريرة قال:

جاء الذئبُ فأقعى بين يدي النبيِّ صلى الله عليه وسلم وجعلَ يُبَصبِصُ بذنبه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هذا وافدُ الذئاب، جاءَ ليسألكم أن تجعلوا له من أموالكم شيئًا، قالوا: والله لا نفعلُ، وأخذَ رجلٌ من القوم حَجَرًا فرماه فأدبرَ الذئبُ وله عُوَاء، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "الذئبُ، وما الذئبُ؟ ".

وقد رواه البيهقيُّ

(2)

، عن الحاكم، عن أبي عبد الله الأصبهاني، عن محمد بن مسلمة، عن يزيد بن هارون، عن شعبة، عن عبد الملك بن عُمير، به.

ورواه الحافظُ أبو بكر البزار

(3)

، عن محمد بن المثنى، عن غُندر، عن شعبة، عن عبد الملك بن عُمير، عن رجل، عن مَكحول، عن أبي هريرة، فذكره. وعن يوسف بن موسى، عن جرير بن عبد الحميد، عن عبد الملك بن عُمير، عن [زياد] أبي الأوبر، عن أبي هريرة، قال:

صلَّى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يومًا صلاةَ الغداة ثم قال: " هذا الذئبُ، وما الذئبُ؟ جاءَكم يسألُكم أن تعطوه أو تشركوه في أموالِكم، فرمَاه رجلٌ بحجر فمرَّ -أو ولَّى- وله عُوَاء".

وقال محمدُ بن إسحاق: عن الزهري، عن حمزة بن أبي أُسَيدٍ، قال:

خرجَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في جَنازة رجلٍ من الأنصار بالبقيع، فإذا الذئبُ مُفترشًا ذِراعيه على الطريق،

(1)

التاريخ الكبير؛ للبخاري (1/ 2/ 45).

(2)

في دلائل النبوة (6/ 40) عن سعيد بن منصور، و (6/ 39) عن الحاكم. وفي إسناده حبان بن علي قال الحافظ في التقريب: ضعيف. وعبد الملك بن عمير تغير حفظه وربما دلس.

(3)

كشف الأستار للهيثمي (3/ 143) رقم (2432).

ص: 216

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا جاءَ

(1)

يستفرضُ فأفرِضُوا له " قالوا: نرى رأيكَ يا رسولَ الله، قال: " من كُلِّ سائمةٍ شاةٌ في كلّ عام " قالوا: كثير، قال: فأشارَ إلى الذئب أن خالسهم، فانطلقَ الذئبُ. رواه البيهقي

(2)

.

وروى الواقديُّ عن رجل

(3)

سمَّاه، عن المطلب بن عبد الله بن حَنطب، قال:

بينا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في المدينة إذ أقبلَ ذئبٌ فوقفَ بين يديه، فقال:" هذا وافدُ السِّبَاعِ إليكم، فإن أحببتم أن تفرضوا له شيئًا لا يَعدُوه إلى غيره، وإن أحببتُم تركتُموه واحترزتُم منه، فما أخَذَ فهو رزقُه" فقالوا: يا رسول الله، ما تطيبُ أنفُسنا له بشيء، فأومأَ إليه بأصابعه الثلاث أن خالسهم، قال: فولَّى وله عَسلان

(4)

(5)

.

وقال أبو نُعيم: حدَّثنا سُليمان بن أحمد، حدَّثنا مُعاذ بن المثنى، حدَّثنا محمد بن كثير، حدَّثنا سفيان، حدَّثنا الأعمش، عن شمر بن عطية، عن رجل من مُزينة - أو جهينة - قال:

أتت وفودُ الذئاب قريبٌ من مئة ذئب حين صلَّى رسولُ الله، فأقعينَ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"هذه وفودُ الذئابِ، جئنكم يسألنكم لتفرضوا لهنّ من قُوت طعامِكم وتأمَنوا على ما سواه " فشكَوا إليه الحاجةَ، فأنذروهم. قال: فخرجنَ ولهنَّ عُواء

(6)

.

وقد تكلَّم القاضي عِياض

(7)

على حديثِ الذئب، فذكرَ عن أبي هريرة، وأبي سعيد، وعن أهبان بن أوس، وأنه يُقال له: مُكَلِّم الذئب.

قال: وقد روى ابنُ وهبٍ أنه جرى مثل هذا لأبي سفيان بن حرب، وصفوان بن أمية، مع ذئبٍ وجدَاه أخذَ ظبيًا فدخلَ الظبيُ الحرمَ، فانصرفَ الذئبُ، فعجبا من ذلك، فقال الذئبُ: أعجبُ من ذلك محمّدُ بنُ عبد الله بالمدينة يَدعُوكم إلى الجنة وتدعونه إلى النار، فقال أبو سفيان: واللَّات والعزَّى لأن ذكرتُ هذا بمكّةَ لتتركنها خَلوفًا

(8)

.

(1)

في دلائل النبوة: هذا أُوَيسٌ.

(2)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 40).

(3)

في الطبقات الكبرى (1/ 359) قال محمد بن عمر - أي الواقدي -: حدثني شُعيب بن عبادة، عن المطلب ..

(4)

"عسلان ": اضطراب.

(5)

الطبقات الكبرى؛ لابن سعد (1/ 359) وقد نقله ابن كثير بتصرف يسير .. وأبو نعيم في الدلائل رقم (272) عن الواقدي، وهو متروك.

(6)

لم أجده في دلائل النبوة المطبوع؛ لأبي نعيم.

(7)

الشفاء؛ للقاضي عياض (1/ 437) بتحقيق البجاوي ط: دار الكتاب العربي.

(8)

"خَلُوفًا": أي فارغة من غير سكان.

ص: 217

‌قصة الوحش الذي كان في بيت النبي صلى الله عليه وسلم وكان يحترمُه عليه الصلاة والسلام ويُوَقّرُه ويُجِلُّه

قال الإمام أحمد

(1)

: حدَّثنا أبو نُعيم، حدَّثنا يُونس، عن مجاهد، قال: قالت عائشة رضي الله عنها:

كان لآلِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وحشٌ، فإذا خرجَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لَعِبَ واشتدَّ، وأقبلَ وأدبرَ، فإذا أحسَّ برسولِ الله صلى الله عليه وسلم قد دخل ربضَ فلم

(2)

يَتَرَمرم، ما دامَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في البيت كراهيةَ أن يُؤذيه.

ورواه أحمد أيضًا عن وكيع

(3)

، وعن أبي

(4)

قطن، كلاهما عن يونس - وهو ابن أبي إسحاق السَّبيعي - وهذا الإسناد على شرط الصحيح. ولم يُخرِّجوه، وهو حديث مشهور، والله أعلم.

‌قصة الأسد

وقد ذكرنا في ترجمة "سفينة" مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثَه حين انكسرت بهم السفينةُ فركبَ لوحًا منها، حتى دخل جزيرةً في البحر فوجد فيها الأسدَ، فقال له: يا أبَا الحارث إني سفينة مولى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، قالَ فضربَ منكبيّ

(5)

وجعلَ يُحاذيني حتى أقامَني على الطريق، ثم هَمْهَمَ ساعةً، فرأيتُ أنه يُوَدِّعني

(6)

.

وقال عبد الرزاق

(7)

: حدَّثنا معمر، عن الجَحْشي

(8)

، عن محمد بن المنكدر:

أن سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخطأ الجيشَ بأرض الروم، أو أُسِرَ في أرض الروم، فانطلقَ هاربًا يلتمسُ الجيش، فإذا هو بالأسد، فقال: يا أبا الحارث، إني مولى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم كان من أمري كَيتَ وكيتَ، فأقبل الأسد يُبَصبِصُه، حتى قامَ إلى جنبه، كلما سمعَ صوتًا أهوى إليه، ثم أقبل يمشي إلى جنبه، فلم يزل كذلك حتى أبلغه الجيشَ، ثم رجع الأسدُ عنه.

(1)

في المسند (6/ 112 - 113).

(2)

"لم يترمرم": سكن ولم يتحرك.

(3)

حديث وكيع أخرجه أحمد في المسند (6/ 209).

(4)

سقطت من المطبوع، وأبو قطن هو عمرو بن الهيثم، وحديثه في المسند (6/ 150).

(5)

في دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 45) حتى ضربني بمنكبهِ، وفيه: ثم همهم ساعة، وضربني بذنبه

(6)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 45).

(7)

المصنف (11/ 281 رقم 20544).

(8)

في المطبوع: "الحجبي" خطأ، والصواب ما أثبتناه، وهو الذي في مصنف عبد الرزاق، وهو سعيد بن عبد الرحمن الجحشي، صدوق، من رجال التهذيب.

ص: 218

رواه البيهقي

(1)

.

‌حديث الغزالة

قال الحافظ أبو نُعيم الأصبهاني رحمه الله في كتابه " دلائل النبوة ": حدَّثنا سليمان بن أحمد - إملاء - حدَّثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، حدَّثنا إبراهيم بن محمد بن ميمون، حدَّثنا عبد الكريم بن هلال الجعفي، عن صالح المُرّي، عن ثابت البناني، عن أنس بن مالك، قال:

مرَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على قومٍ قد اصطَادوا ظَبيَةً فشدُّوها على عمودِ فسطاطٍ، فقالت: يا رسول الله، إني أُخذتُ ولي خُشفان

(2)

، فاستأذن لي أُرضعهُما وأعودُ إليهم، فقال:" أين صاحبُ هذه؟ " فقال القوم: نحنُ يا رسول الله، قال:" خلُّوا عنها حتى تأتيَ خُشفَيها تُرضعهُما وترجعُ إليكم " فقالوا: من لنا بذلك؟ قال: "أنا" فأطلقوها، فذهبت فأرضعت، ثم رجعت إليهم فأوثقوها، فمرّ بهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال:" أين أصحابُ هذه؟ " فقالوا: هو ذا نحنُ يا رسولَ الله، فقال:" تبيعونها؟ " فقالوا: هي لكَ يا رسولَ الله، فقال:" خلُّوا عنها " فأطلقوها فذهبت

(3)

.

وقال أبو نُعيم: حدَّثنا أبو أحمد محمد بن أحمد الغِطريفي - من أصله - حدَّثنا أحمد بن موسى بن أنس بن نصر بن عُبيد الله بن محمد بن سيرين بالبصرة، حدَّثنا زكريا بن يحيى بن خَلَّاد، حدَّثنا حَسَّان بن أغلب بن تميم، حدَّثنا أبي، عن هشام بن حسان، عن الحسن، عن ضَبَّةَ بن محصن، عن أمِّ سلمة زوجِ النبي صلى الله عليه وسلم قالت:

بينا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في صحراءَ من الأرض إذا هاتفٌ يهتفُ: يا رسول الله، يا رسولَ الله، قال: فالتفتُّ فلم أرَ أحدًا، قال: فمشيت غير بعيد فإذا الهاتف: يا رسولَ الله، يا رسول الله، قال: فالتفتُّ فلم أر أحدًا، وإذا الهاتف يهتف بي، فاتَّبعتُ الصوتَ وهجمتُ على ظَبيةٍ مشدودةٍ في وَثاق، وإذا أعرابيٌّ مُنجَدِلٌ في شملةٍ نائمٌ في الشمس، فقالت الظبيةُ: يا رسول الله، إن هذا الأعرابي صادَني قبلُ، ولي خُشفَان في هذا الجبل، فإن رأيتَ أن تطلقني حتى أرضعَهما ثم أعودُ إلى وثاقي؟ قال:" وتفعلين؟ " قالت: عذبني الله عذابَ العَشَّار إن لم أفعل، فأطلقَها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم. فمضت فأرضعت الخُشفَين

(1)

في دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 46). وذكره السيوطي في الخصائص الكبرى (2/ 65) عن ابن سعد، وأبي يعلى، والبزار، وابن منده، والحاكم وصححه، والبيهقي، وأبي نُعيم، وهو حديث حسن.

(2)

" خشفان ": ولدان، والخُشْف: ولد الغزال.

(3)

دلائل النبوة؛ لأبي نعيم رقم (274)، وذكره السيوطي في الخصائص (2/ 266) وقال: أخرجه الطبراني في الأوسط وأبو نعيم من طريق صالح المري، وهو ضعيف. وكذلك قال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 295).

ص: 219

وجاءت، قال: فبينا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يُوثقها إذ انتبَه الأعرابيُّ، فقال: بأبي أنت وأمي يا رسولَ الله، إن أصبتها قُبَيلًا. فلك فيها من حاجة؟ قال: قلت: " نعم " قال: هي لك، فأطلقَها، فخرجت تعدو في الصحراء فرحًا وهي تضربُ برجليها في الأرض وتقول: أشهدُ أن لا إله إلا الله وأنك رسولُ الله

(1)

.

قال أبو نُعيم: وقد رواه آدم بن أبي إياس، فقال: حدثني ختني الصدوق، نوح بن الهيثم، عن حسان بن أغلب، عن أبيه، عن هشام بن حسان ولم يجاوزه.

وقد رواه أبو محمد عبد الله بن حامد الفقيه في كتابه " دلائل النبوة " من حديث إبراهيم بن مهدي، عن ابن أغلب بن تميم، عن أبيه، عن هشام بن حسان، عن الحسن بن ضبة، عن أمِّ سلمة، به.

وقال الحافظ أبو بكر البيهقي

(2)

: أنبأني أبو عبد الله الحافظ - إجازة - أخبرنا أبو جعفر محمد بن علي بن دُحيم الشيباني، حدَّثنا أحمد بن حازم بن أبي غَرزَةَ الغِفاري، حدَّثنا علي بن قَادم، حدَّثنا أبو العلاء خالد بن طهمان، عن عطية، عن أبي سعيد، قال:

مرَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بظَبية مَربوطة إلى خِبَاءٍ، فقالت: يا رسولَ الله خَلِّني حتى أذهبَ فأرضع خُشْفي ثم أرجع فتربطني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"صَيدُ قومٍ وربيطةُ قوم " قال: فأخذ عليها فحلفت له، قال: فحلَّها، فما مَكثت إلا قليلًا حتى جاءت وقد نَفَضَت ما في ضَرعِهَا، فربطَها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، ثم أتى خِبَاءَ أصحابها، فاستوهبَها منهم فوهبُوها له فحلَّها، ثم قالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لو تعلم البهائمُ من الموت ما تَعلمون، ما أكلتُم منها سَمينًا أبدًا ".

قال البيهقي: وروي من وجه آخر ضعيف؛ أخبرنا أبو بكر أحمد

(3)

بن الحسن القاضي، أخبرنا أبو علي حامد بن محمد الهروي، حدَّثنا بشرُ بن موسى، حدَّثنا أبو حفص عَمرو بن علي، حدَّثنا يعلى بن إبراهيم الغَزَّال، حدَّثنا الهيثمُ بن حمّاد عن أبي كثير، عن زيد بن أرقم قال:

كنتُ مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض سِكك المدينة، قال: فمررنا بخباءِ أعرابي، فإذا ظَبيةٌ مشدودةٌ إلى الخِبَاء، فقالت: يا رسولَ الله، إن هذا الأعرابي اصطادني، وإن لي خَشَفين في البريَّة، وقد تعقَّد اللبنُ في أخلافي

(4)

، فلا هو يذبحني فأستريحُ ولا هو يدعُني فأرجع إلى خَشَفي في البريّة. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن تركتُكِ ترجعين؟ " قالت: نعم وإلا عذبني الله عذابَ العَشَّار

(5)

، قال: فأطلقَها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم

(1)

لم أجده في دلائل أبي نعيم المطبوع، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد عن أم سلمة رضي الله عنها، وقال: رواه الطبراني وفيه أغلب بن تميم، وهو ضعيف.

(2)

في دلائل النبوة؛ (6/ 34) وإسناده ضعيف.

(3)

في البيهقي: " محمد "، خطأ.

(4)

"أخلافي": مفردها خِلف: وهو حلمة الثدي.

(5)

"العشَّار": صاحب المكوس الذي يأخذ العشر من الأموال.

ص: 220

فلم تلبث أن جاءت تَلَمَّظ

(1)

فشدَّها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى الخِبَاء، وأقبلَ الأعرابيُّ ومعهُ قِربة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أتبيعنيها؟ " قال: هي لك يا رسولَ الله، فأطلقَها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم

(2)

.

قال زيدُ بن أرقم: فأنا والله رأيتُها تسيحُ في البريّة. وهي تقولُ: لا إله إلا الله محمدٌ رسولُ الله.

ورواه أبو نعيم: حدَّثنا أبو علي محمد بن أحمد بن الحسن بن مطر، حدَّثنا بشرُ بن موسى، فذكره. قلت: وفي بعضه نكارة، والله أعلم.

وقد ذكرنَا في باب تكثيره عليه الصلاة والسلام اللبنَ

(3)

، حديثَ تلك الشاة التي جاءت وهي في البريّة، فأمرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الحسنَ بن سعيد، مولى أبي بكر أن يحلبَها فحلبَها، وأمرَه أن يحفظَها فذهبت وهو لا يشعرُ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"ذهبَ بها الذي جاء بها ".

وهو مرويٌّ من طريقين، عن صحابيين، كما تقدم، والله أعلم.

‌حديث الضبِّ على ما فيه من النكارة والغرابة

قال البيهقي

(4)

: أخبرنا أبو منصور أحمد بن علي الدامغانيُّ، من ساكني قرية نامين من ناحية بَيهق - قراءة عليه من أصل كتابه - حدَّثنا أبو أحمد عبد الله بن عدي الحافظ - في شعبان سنة اثنتين وستين وثلاثمئة (بجُرجان)

(5)

حدَّثنا محمد بن علي بن الوليد السلمي، حدَّثنا محمد بن عبد الأعلى، حدَّثنا معمرُ بن سُليمان، حدَّثنا كهمس، عن داود بن أبي هندٍ، عن عامر، عن ابن عمر، عن عمرَ بن الخطاب:

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في محفلٍ من أصحابه إذ جاءَ أعرابيٌّ من بني سُليم قد صاد ضَبًّا. وجعلَه في كمّه ليذهبَ به إلى رَحلِه فَيشويه ويأكُلَه، فلما رأى الجماعةَ قال: ما هذا؟ قالوا: هذا الذي يذكرُ أنه نبيٌّ فجاءَ فشقَّ الناسَ فقال: واللات والعزى ما اشتملتِ النساء على ذي لهجةٍ أبغضَ إليَّ منكَ، ولا أَمقتَ منك، ولولا أن يُسمِّيني قومي عَجولًا لعَجِلتُ عليك فقتلتُك، فسَرَرتُ بقتلك الأسودَ والأحمرَ والأبيضَ وغيرَهم.

(1)

"تلمّظ": تخرج لسانها بعد الأكل أو الشرب فتمسح شفتيها به.

(2)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 34 - 35) ودلائل النبوة؛ لأبي نعيم رقم (273) والسيوطي في الخصائص الكبرى (2/ 267). قال الذهبي في ميزان الاعتدال في ترجمة يعلى بن إبراهيم الغزَّال: لا أعرفه، له خبر باطل عن شيخ واه، ثم ذكره بإسناده. والهيثم بن حمَّاد، عن أبي كثير: لا يُعرف لا هو ولا شيخه.

(3)

تقدم ذلك.

(4)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 36 - 38).

(5)

إضافة من دلائل النبوة.

ص: 221

فقال عمرُ بن الخطاب: يا رسولَ الله، دعني فأقومُ فأقتلَه. قال:" يا عمر، أما علمتَ أن الحليمَ كادَ أن يكونَ نبيًّا؟ ".

ثم أقبلَ على الأعرابي وقال: "ما حملكَ على أن قلتَ ما قلتَ، وقلتَ غير الحقِّ ولم تكرمني في مجلسي؟ " فقال: وتكلّمني أيضًا؟ -استخفافًا برسول الله صلى الله عليه وسلم واللات والعزى لا آمنتُ بك أو يُؤمن بك هذا الضبُّ - وأخرج الضبَّ من كمّه وطرحَه بين يدي رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"يا ضبُّ" فأجابه الضبُّ بلسانٍ عربيّ مُبين يسمعُه القومُ جميعًا: لبَّيك وسعديك يا زينَ مَن وافى القيامةَ. قال: "مَن تعبدُ يا ضبُّ؟ " قال: الذي في السماء عرشُهُ، وفي الأرض سلطانُه، وفي البحر سبيلُه، وفي الجنّة رحمتُه، وفي النار عقابُه، قال:"فمن أنا يا ضبُّ؟ " فقال: رسولُ ربِّ العالمين وخاتمُ النبيين، وقد أفلحَ من صدَّقَكَ، وقد خابَ من كذّبك، فقال الأعرابي: والله لا أتّبعُ أثرًا بعدَ عين، والله لقد جئتُك وما على ظهر الأرض أبغض إليَّ منك، وإنك اليومَ أحبُّ إليَّ من والدي، ومن عَيني، ومِني، وإني لأحبّك بداخلي وخارجي، وسِري وعلانيتي، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا الله وأنك رسولُ الله، فقال رسول الله:"الحمد لله الذي هداكَ بي، إن هذا الدينَ يَعلو ولا يُعلى ولا يُقبل إلا بصلاة، ولا تُقبل الصلاة إلا بقرآنٍ".

قال: فعلّمني، فعلّمه {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} قال: زدني فما سمعتُ في البَسِيطِ ولا في الوجيز

(1)

أحسنَ من هذا، قال:" يا أعرابيُّ إنَّ هذا كلامُ الله، ليس بشعر، إنك إن قرأت {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} مرةً كان لك كأجرِ من قرأَ ثلثَ القرآن، وإن قرأتَها مرتين كان لك كأجر من قرأ ثلثي القرآن، وإذا قرأتها ثلاثَ مرات كان لكَ كأجر من قرأَ القرآنَ كلَّه" قال الأعرابي: نِعمَ الإلهُ إلهنا. يقبلُ اليسيرَ ويُعطي الجزيلَ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألك مالٌ؟ " فقال: ما في بني سُليم قاطبةً رجلٌ هو أفقرُ مني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه:"أعطوه" فأعطوه حتى أبطروه

(2)

.

قال: فقال عبدُ الرحمن بن عوف، فقال: يا رسولَ الله! إن له عندي ناقة عُشَراء

(3)

، دون البختية

(4)

وفوق الأغرى

(5)

، تَلحق ولا تُلحق، أُهديت إليَّ يوم تبوك، أتقربُ بها إلى الله عز وجل فأدفعُها إلى الأعرابي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"وصفت ناقتك، فأصِف مالك عندَ الله يوم القيامة؟ " قال: نعم، قال: "لك ناقةٌ من دُرّة جَوفاء قوائمها من زَبَرجَدٍ أخضر، وعنقها من زبرجد أصفر عليها هودج، وعلى

(1)

كذا في الأصل وفي دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 37): الرجز. وهو تحريف.

(2)

"أبطروه": أشبعوه بالنعم.

(3)

"العشراء": الناقة التي مضى على حملها عشرة أشهر.

(4)

"البختية": الإبل الخراسانية.

(5)

"الأغرى": كل مولود، أو المهزول.

ص: 222

الهودج السندسُ والإستبرق، وتمرُّ بك على الصراط كالبرق الخاطف. يغبطك بها كل من رآك يوم القيامة " فقال عبدُ الرحمن: قد رضيتُ.

فخرجَ الأعرابيُّ فلقيَه ألفُ أعرابي من بني سُليم على ألف دابّة، معهم ألفُ سيف وألفُ رمح، فقال لهم: أين تُريدون؟ قالوا: نذهبُ إلى هذا الذي سَفَّه آلهتنا فنقتلَه. قال: لا تفعلوا، أنا أشهدُ أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسولُ الله، وحدَّثهم الحديثَ، فقالوا بأجمعهم: نشهدُ أن لا إلهَ إلا الله وأن محمدًا رسولُ الله، ثم دخلوا، فقيل لرسول الله، فتلقَّاهم بلا رداءٍ، ونزلوا عن ركابهم يُقَبِّلون حيث وافوا عنه، وهم يقولون: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ثم قالوا: يا رسول الله! مُرنا بأمرك. قال: " كونوا تحت راية خالد بن الوليد " فلم يؤمن من العرب ولا من غيرهم ألفٌ غيرُهم

(1)

.

قال البيهقي: قد أخرجه شيخُنا أبو عبد الله الحافظ في المعجزات بالإجازة عن أبي أحمد بن عديّ الحافظ.

قلت: ورواه الحافظ أبو نُعيم في " الدلائل " عن أبي القاسم بن أحمد الطبراني - إملاء وقراءة -: حدَّثنا محمد بن علي بن الوليد السلمي البصري أبو بكر بن كنانة. فذكرَ مثلَه. ورواه أبو بكر الإسماعيلي عن محمد بن علي بن علي بن الوليد السُّلمي.

قال البيهقي: روي في ذلك عن عائشة وأبي هريرة وما ذكرناه هو أمثلُ الأسانيد فيه، وهو أيضًا ضعيف، والحملُ فيه على هذا السُّلَمي، والله أعلم.

‌حديث الحِمَار

وقد أنكره غيرُ واحدٍ من الحفَّاظ الكبار، فقال أبو محمد عبد الله بن حامد: أخبرنا أبو الحسن أحمد بن حمدان السحركي، حدَّثنا عمر بن محمد بن بُجير، حدَّثنا أبو جعفر محمد بن يزيد - إملاء - أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عقبة بن أبي الصهباء، حدَّثنا أبو حذيفة، عن عبد الله بن حَبيب الهذلي، عن أبي عبد الرحمن السُّلمي، عن أبي منظور، قال:

لما فتحَ الله على نبيّه صلى الله عليه وسلم خيبرَ أصابَه من سهمه أربعةُ أزواجِ بغالٍ وأربعةُ أزواجِ خِفَافٍ، وعشرُ أواق

(1)

ورواه أبو نعيم في دلائل النبوة؛ رقم (275). وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 292 - 294) وقال: رواه الطبراني في الصغير والأوسط عن شيخه محمد بن علي بن الوليد البصري، قال البيهقي: والحمل في هذا الحديث عليه. قلت: وبقية رجاله رجال الصحيح. وقد ذهب ابن دحية والذهبي إلى أن حديث الضب موضوع لا أصل له. الميزان (3/ 651). وقال المِزي: لا يصح إسنادًا ولا متنًا. وهو مطعون فيه، وقيل: إنه موضوع. شرح المواهب (4/ 148 - 149).

ص: 223

ذهبًا وفضة، وحمار أسود، ومِكتَل، قال: فكلَّمَ النبىِّ صلى الله عليه وسلم الحمارَ فكلَّمَه الحمارُ، فقال له:"ما اسمُك " قال: يزيدُ بنُ شهاب، أخرج الله من نسل جَدِّي ستين حِمارًا كلُّهم لم يركبهم إلا نبي، لم يبقَ من نسل جدّي غيري، ولا من الأنبياء غيرك، وقد كنتُ أتوقعُك أن تركبني، قد كنتُ قبلَك لرجل يَهودي، وكنتُ أعثر به عَمدًا، وكان يُجيعُ بطني ويضربُ ظهري، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" سمّيتُك يَعفور، يا يعفورُ " قال: لبيك، قال:"تشتهي الإناث؟ " قال: لا، فكانَ النبىِّ صلى الله عليه وسلم يركبُه لحاجته، فإذا نزلَ عنه بعثَ به إلى باب الرجل، فيأتي البابَ فيقرعُه برأسه، فإذا خرجَ إليه صاحبُ الدار أوما إليه أن أجِب رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فلما قُبض النبىِّ صلى الله عليه وسلم جاء إلى بئرٍ كان لأبي الهيثم التَّيِّهَان فتردّى فيها، فصارت قبرَه، جزعًا منه على رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1)

.

‌حديث الحُمَّرة، وهي طائرٌ مشهور

قال أبو داود الطيالسي: حدَّثنا المَسعودي، عن الحسن بن سعد، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه قال:

كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فدخلَ رجلٌ غَيضَةً فأخرجَ بيضةَ حمَّرة، فجاءت الحُمَّرة ترفُّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقال:" أيُّكم فجعَ هذه؟ " فقال رجلٌ من القوم: أنا أخذتُ بيضتَها، فقال " ردَّه ردَّه رحمةً بها "

(2)

.

وروى البيهقي، عن الحاكم وغيره، عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار: حدَّثنا أبو مُعاوية، عن أبي إسحاق الشيباني، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه، قال:

كنا مع رسول الله في سفر فمررنا بشجرة فيها فرخا حمَّرة فأخذناهما. قال: فجاءت الحمَّرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تُعَرِّشُ

(3)

، فقال:" من فَجَعَ هذه بفرخيها؟ " قال: فقلنا: نحن، قال:"رُدُّوهما" فرددناهما إلى موضعهما، فلم ترجع

(4)

.

(1)

الخبر باطل ولا أصل له، وكان الأولى بالحافظ ابن كثير أن يضرب صفحًا عنه، وهو القائل في كتابه الفصول (ص 232) بعد أن أشار إليه: فهذا شيء باطل لا أصل له من طريق صحيح ولا ضعيف، إلا ماذكره أبو محمد بن أبي حاتم من طريق منكر مردود، ولا يشك أهل العلم بهذا الشأن أنه موضوع. وقد ذكر هذا أبو إسحاق الإسفراييني، وإمام الحرمين، حتى ذكره القاضي عياض في كتابه الشفاء استطرادًا، وكان الأولى ترك ذكره؛ لأنه موضوع.

سألت شيخنا أبا الحجاج عنه فقال: ليس له أصل وهو ضحكة.

(2)

مسند الطيالسي (ص 44) رقم (336) ودلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 32) وهو حديث حسن.

(3)

" تعرِّش ": ترتفع وتظلل بجناحيها على من تحتها. ووردت في الدلائل وسنن أبي داود: تفرش. وهو تحريف ظاهر.

(4)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 33) وقد رواه الحاكم في المستدرك (4/ 239) وصححه، ووافقه الذهبي. ورواه =

ص: 224

حديث آخر في ذلك، وفيه غرابة: قال البيهقيّ: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ومحمد بن الحسين بن داود العلوي، قالا: حدَّثنا أبو العباس محمد بن يَعقوب الأموي، حدَّثنا محمد بن عُبيد بن عتبة الكندي، حدَّثنا محمد بن الصَّلت، حدَّثنا حِبَّان، حدَّثنا أبو سعيد البقال، عن عِكرمة، عن ابنِ عباس رضي الله عنهما، قال:

كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا أرادَ الحاجةَ أبعدَ، قال: فذهبَ يومًا فقعدَ تحتَ سَمُرَةٍ ونزعَ خفيّه، قال: ولبسَ أحدَهما، فجاءَ طيرٌ فأخذَ الخف الآخرَ فحلَّقَ به في السماء. فانسلتَ منه أسودُ سَالم

(1)

. فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "هذه كرامةٌ أكرمني الله بها، اللهم إني أعوذُ بك من شرِّ ما مَشى على رجليه، ومن شَرِّ ما يَمشي على بطنِه

(2)

.

(باب ما جاء في إضاءة عصا الرجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حين خرجا من عنده)

(3)

قال البخاري

(4)

: حدَّثنا محمد بن المثنى، حدَّثنا مُعاذ، حدَّثني أبي، عن قتادة، قال: حدَّثنا أنس بن مالك:

أن رجلين من أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم خرجا من عند النبيّ صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة، ومعهما مثلُ المِصباحين بين أيديهما، فلما افترقا صارَ مع كل واحدٍ منهما واحدٌ حتى أتى أهله.

وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر، عن ثابت، عن أنس:

أن أسيد بن حُضير الأنصاري ورجلًا آخر من الأنصار تحدَّثا عند النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة لهما، حتى ذهب من الليل ساعة، وهي ليلة شديدة الظلمة حتى خرجا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يَنقلبان، وبيد كل واحد منهما عصية، فأضاءت عصا أحدهما لهما حتى مَشيا في ضوئها، حتى إذا افترقت بهما الطريقُ أضاءت للآخر عصاه، حتى مشى في ضوئها حتى أتى كلُّ واحد منهما في ضوء عصاه حتى بلغ أهله

(5)

.

= أبو داود في سننه رقم (2675) في الجهاد، ورقم (5268) في الأدب عن محبوب بن موسى، عن أبي إسحاق الفزاري، عن أبي إسحاق الشيباني، عن ابن سعد، عن عبد الرحمن بن عبد الله، عن أبيه.

(1)

" سالخ ": اسم الأسود من الحيّات، شديد السَّواد، سُمي بذلك لأنه يسلخ جلده كل سنة.

(2)

وهو عند الطبراني في " الأوسط " رقم (9300) وفي سنده سعد بن طريف، وهو متروك كما قال الحافظ ابن حجر في التقريب، ورماه ابن حبان بالوضع.

(3)

هذا العنوان أثبته من دلائل النبوة للبيهقي (6/ 77)، وفي الأصل: حديث آخر ولا صلة له بما قبله.

(4)

رواه البخاري في صحيحه رقم (465) في الصلاة و (3639) في المناقب.

(5)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 77 - 78). وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه (11/ 280) رقم (20541) ورواه عنه =

ص: 225

وقد علَّقه البخاري

(1)

. فقال: وقال معمر، فذكره.

وعلَّقه البخاريُّ أيضًا، عن حمَّاد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس: أن عبَّاد بن بشر وأسيد بن حضير خرجا من عند النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر مثله.

وقد رواه النسائي

(2)

، عن أبي بكر بن نافع عن بَهز بن أسد.

وأسنده البيهقي من طريق يزيد بن هارون كلاهما، عن حماد بن سلمة، به.

حديث آخر: قال البيهقي

(3)

: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، حدَّثنا أبو عبد الله محمد بن عبد الوهاب الأصبهاني، حدَّثنا أحمد بن مهران، حدَّثنا عبيد الله بن موسى، أنبأنا كامل بن العلاء، عن أبي صالح، عن أبي هريرة. قال:

كنا نُصلّي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العِشَاءَ، وكان يُصلّي فإذا سجدَ وثبَ الحسنُ والحسين على ظهره، فإذا رفعَ رأسَه أخذَهما فوضعهما وضعًا رفيقًا، فإذا عادَ عادا، فلما صلَّى جعلَ واحدًا هاهنا وواحدًا هاهنا، فجئتُه فقلتُ: يا رسولَ الله، ألا أذهبُ بهما إلى أمّهما؟ قال:" لا ". فبرَقت بَرقة

(4)

فقال: " الحقا بأمّكما " فما زالا يمشيان في ضوئها حتى دخلا

(5)

.

حديث آخر: قال البخاري في " التاريخ "

(6)

: حدَّثني أحمد بن الحجَّاج، حدَّثنا سفيان بن حمزة، عن كثير بن زيد، عن محمد بن حمزة بن عمرو الأسلمي، عن أبيه، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتفرَّقنا في ليلة ظلماءَ دَحمسَةٍ، فأضاءت أصابعي حتى جَمَعُوا عليها ظهرَهم وما هلكَ منهم، وإن أصابعي لتُنير.

ورواه البيهقي

(7)

من حديث إبراهيم بن المنذر الحِزامي، عن سفيان بن حمزة.

= الحافظ ابن حجر في كتابه تغليق التعليق (4/ 78) وذكره السيوطي في الخصائص الكبرى (2/ 80) وعزاه لابن سعد، والحاكم، والبيهقي، وأبي نعيم.

(1)

علقهما البخاري في صحيحه بعد رقم (3805) في مناقب الأنصار. وقد وصلهما ابن حجر في كتابه تغليق التعليق (4/ 78 - 79). وحديث ثابت عن أنس رواه الإمام أحمد في المسند (3/ 190 و 272) والحاكم في المستدرك (3/ 288) وقال: صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه.

(2)

في المناقب من سننه الكبرى (8245) وهو في فضائل الصحابة، له (141).

(3)

في الدلائل (6/ 76).

(4)

"برقت برقة": أظهرت ضوءًا متلألئًا.

(5)

ورواه الإمام أحمد في المسند (2/ 513) وإسناده حسن من أجل كامل بن العلاء، فهو حسن الحديث.

(6)

رواه البخاري في التاريخ (2/ 1/ 46).

(7)

في الدلائل (6/ 79).

ص: 226

ورواه الطبراني

(1)

من حديث إبراهيم بن حمزة الزهري، عن سفيان بن حمزة، به.

حديث آخر: قال البيهقي

(2)

: حدَّثنا أبو عبد الله الحافظ، حدَّثنا أبو أحمد بن عبد الله المزني، حدَّثنا محمد بن عبد الله الحضرمي، حدَّثنا أبو كُريب، حدَّثنا زيدُ بن الحُباب، حدَّثنا عبدُ الحميد بن أبي عَبس الأنصاري من بني حارثةَ، أخبرني ميمون بن زيد بن أبي عبس، أخبرني أبي:

أنَّ أبا عبسٍ، كان يُصلّي مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم الصلواتِ ثم يرجعُ إلى بني حارثةَ، فخرجَ في ليلةٍ مظلمةٍ مَطيرةٍ، فنُوَّر له في عصاه حتى دخلَ دارَ بني حارثة.

قال البيهقي: أبو عبس ممن شَهِدَ بدرًا.

قلتُ: وروينا عن يزيد بن الأسود، وهو من التابعين، أنه كان يشهدُ الصَّلاةَ بجامعِ دمشق من جسرين فربما أضاءت له إبهامُ قدمه في الليلة المظلمة

(3)

.

وقد قدَّمنا في قصة إسلام الطُّفيل بن عمرو الدَّوسي بمكّةَ قبلَ الهجرة، وأنه سألَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بآيةٍ يدعو قومَه بها، فلما ذهبَ إليهم وانهبَطَ من الثنيّة أضاءَ له نورٌ بين عينيه. فقال: اللهم لا يقولوا: هو مُثلَة. فحوَّله الله إلى طرف سَوطِه حتى جعلُوا يَرونه مثلَ القِنديل.

حديث آخر فيه كرامةٌ لتميم الداري: روى الحافظ البيهقي، من حديث عفان بن مسلم، عن حمَّاد بن سلمة، عن الجريري، (عن أبي العلاء)

(4)

عن معاوية بن حرمل

(5)

، قال:

خرجت نارٌ بالحرة فجاءَ عمر إلى تميم الداريّ فقال: قم إلى هذه النار، قال: يا أمير المؤمنين، ومن أنا وما أنا؟ قال: فلم يزل به حتى قامَ معه، قال: وتبعتُهما، فانطلقا إلى النَّار، فجعلَ تميمٌ

(1)

في المعجم الكبير (3/ 159) رقم (2991) وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 411) وقال: رواه الطبراني، ورجاله ثقات، وفي كثير بن زيد خلاف.

و " دحمسة ": شديدة الظلام.

(2)

في دلائل النبوة (6/ 78 - 79) ورواه الحاكم في المستدرك (3/ 350 - 351) وقال الذهبي: مرسل، لأن الحاكم لم يذكر في الإسناد ميمون بن زيد بن أبي عبس. ورواه أبو نعيم في الدلائل رقم (504)، وذكره السيوطي في الخصائص الكبرى (2/ 322)، وفيه مجاهيل.

(3)

مختصر تاريخ دمشق لابن منظور (27/ 318) وذكر قرية زبدين، وهي قريبة من جسرين.

(4)

ما بين قوسين ساقط من الأصل والمطبوع واستدركته من دلائل النبوة، وأبو العلاء هذا، هو يزيد به عبد الله بن الشخير العامري.

(5)

معاوية بن حرمل الحنفي صهر مسيلمة الكذاب، له إدراك، وكان مع مسيلمة في الردة ثم قدم على عمر تائبًا (الإصابة 3/ 497).

ص: 227

يَحوشُها بيديه حتى دخلت الشِّعبَ، ودخل تميمٌ خلفَها، قال: فجعل عمر يقول: ليس من رأى كمن لم ير، قالها ثلاثًا

(1)

.

‌حديث فيه كرامة لوليّ من هذه الأمة

وهي معدودةٌ من المعجزات، لأن كلَّ ما يثبتُ لوليِّ فهو معجزةٌ لنبيه.

قال الحسن بن عرفة: حدَّثنا عبد الله بن إدريس، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي سَبرة النخعي، قال:

أقبلَ رجلٌ من اليمن فلما كان ببعض الطريق، نَفَقَ حمارُه، فقامَ فتوضأ ثم صلَّى ركعتين، ثم قال: اللهم إني جئتُ من الدثينه

(2)

مُجاهدًا في سبيلك وابتغاء مرضاتِك، وأنا أشهدُ أنك تُحيي الموتى وتبعثُ مَن في القبور، لا تجعل لأحدٍ عليَّ اليومَ مِنة، أطلبُ إليك اليومَ أن تبعثَ حِمَاري، فقامَ الحِمَارُ ينفضُ أُذنيه

(3)

.

قال البيهقي: هذا إسناد صحيح، ومثلُ هذا يكون كرامة لصاحب الشريعة.

قال البيهقي: وكذلك رواه محمد بن يحيى الذهلي وغيره، عن محمد بن عُبيد، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، وكأنه عند إسماعيل

(4)

عنهما، واللّه أعلم.

طريق أخرى: قال أبو بكر بن أبي الدنيا في كتاب "من عاش بعد الموت ": حدَّثنا إسحاق بن إسماعيل وأحمدُ بن بُجَير وغيرهما، قالوا: حدَّثنا محمد بن عُبيد، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي:

أن قومًا أقبلوا من اليمن مُتطوّعين في سبيل الله، فنفَقَ حِمَارُ رجل منهم، فأرادُوه أن ينطلقَ معهم فأبى فقامَ فتوضأ وصلَّى ثم قال: اللهم إني جئتُ من الدثينة مجاهدًا في سبيلك وابتغاء مَرضاتك، وإني أشهدُ أنك تُحيي الموتى وتبعثُ من في القبور، لا تجعل لأحدٍ عليٍّ مِنّة، فإني أطلبُ إليك أن تبعثَ لي حِماري، ثم قام إلى الحمار، فقامَ الحمارُ ينفضُ أذنيه فأسرَجَه وألجمَه، ثم ركبَه وأجراه، فلحقَ بأصحابه، فقالوا له: ما شأنُك؟ قال: شأني أن الله بعثَ حماري

(5)

.

(1)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 80) وقد نقله ابن كثير مختصرًا.

(2)

كذا في الأصل وفي المطبوع: الدفينة؛ وهي ناحية بين الجَنَد وعدن

وقال الزمخشري: الدثينة والدفينة منزل لبني سُليم. معجم البلدان (2/ 440).

(3)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 48).

(4)

كذا في الأصل، وفي دلائل البيهقي: وكأنه سمعه منهما.

(5)

من عاش بعد الموت؛ لابن أبي الدنيا (ص 68) ودلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 49).

ص: 228

قال الشعبي: فأنا رأيتُ الحِمار بيع أو يُباع في الكُنَاسة -يعني بالكوفة-.

قال ابن أبي الدنيا: وأخبرني العباسُ بن هشام، عن أبيه، عن جده، عن مسلم بن عبد الله بن شريك النخعي، أن صاحبَ الحِمار رجلٌ من النَّخع، يُقال له: نُباتة بن يزيد خرجَ في زمنِ عمرَ غازيًا، حتى إذا كان بِشِق

(1)

عُمَيرَةَ نفقَ حمارُه، فذكرَ القِصَّه

(2)

. غير أنه قال: فباعَه بعدُ بالكُناسة، فقيل له: تبيعُ حمارك وقد أحياه الله لك؟ قال: فكيف أصنعُ؟ وقد قال رجلٌ من رهطه ثلاثةَ أبياتٍ، فحفظتُ هذا البيت:

وَمِنَا الَّذي أَحيا الإلهُ حِمَارَهُ

وَقَد مَاتَ مِنهُ كُلُّ عُضوٍ ومَفصِلِ

وقد ذكرنا في باب رَضاعه عليه الصلاة والسلام، ما كان من حمارة حليمة السعدية، وكيف كانت تسبقُ الركابَ في رجوعها لمَّا ركبَ معها عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو رضيع، وقد كانت أَذَمَّت

(3)

بالركب في مسيرهم إلى مكة.

وكذلك ظهرت بركتُه عليهم في شارفهم -وهي الناقةُ التي كانوا يحلبُونها- وشياههم وسمنها وكثرة ألبانها، صلوات الله وسلامه عليه.

‌قصة أخرى مع قصة العلاء بن الحضرمي

قال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدَّثني خالد بن خِدَاش بن عَجلان المُهلّبي وإسماعيل بن إبراهيم بن بَشَّار، قالا: حدَّثنا صالح المُرّي، عت ثابت البُناني، عن أنس بن مالك قال: عدنا شابًا من الأنصار، فما كان بأسرعَ من أن ماتَ، فأغمضناه ومدَدنا عليه الثوبَ، وقال بعضُنا لأمه: احتسبيه، قالت: وقد مات؛ قلنا: نعم، فمدَّت يَدَيها إلى السماء وقالت: اللهم إني آمنتُ بك، وهاجرتُ إلى رسولك، فإذا نزلت بي شدةٌ دعوتُك فَفَرَّجتَهَا، فأسألُك اللهم لا تحمل علي هذه المصيبةَ اليوم، قال: فكشفَ الثوبَ عن وجهه، فما بَرحنَا حتى أكلنَا وأكلَ معنا.

وقد رواه البيهقي، عن أبي سعيد الماليني عن ابن عدي، عن محمد بن طاهر بن أبي الدُّميك، عن عُبيد الله بن عائشة

(4)

، عن صالح بن بشير المرِّي -أحد زُهَّاد البصرة وعُبَّادها- مع لين في حديثه عن

(1)

كذا في الأصل، وفي دلائل البيهقي: بسِرِّ عَميرة.

(2)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 49).

(3)

" أذمّت ": أبطأت.

(4)

في المطبوع: "عبد الله بن عائشة "، وفي المطبوع من دلائل البيهقي:" عُبيد بن عائشة " وكله تحريف، والصواب ما أثبتناه، وهو عبيد الله بن محمد بن حفص بن عمر التيمي، وقيل له ابن عائشة، لأنه من ذرية عائشة بنت طلحة، كما في التهذيب وفروعه.

ص: 229

أنس، فذكرَ القصةَ، وفيه أن أمَّ السائبِ كانت عجوزًا عمياء

(1)

.

قال البيهقي: وقد رُوي من وجه آخر مرسل- يعني فيه انقطاع- عن ابن عدي وأنس بن مالك.

ثم ساقَه من طريق عيسى بن يُونس، عن عبد الله بن عون، عن أنس، قال:

أدركتُ في هذه الأمة ثلاثًا لو كانت في بني إسرائيل لما تقاسمتها الأممُ، قلنا: ما هي يا أبا حمزة؟ قال: كنا في الصُّفة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتته امرأةٌ مُهاجرة ومعها ابن لها قد بلغ، فأضافَ المرأةَ إلى النساء، وأضاف ابنها إلينا، فلم يلبث أن أصابَه وباءُ المدينة فمرضَ أيامًا ثم قُبِضَ، فغمَّضَه النبىِّ صلى الله عليه وسلم وأمرَ بجهازه، فلما أردنَا أن نغسلَه، قال:"يا أنسُ، ائتِ أمَّه فأعلمها" فأعلمتُها، قال: فجاءت حتى جلست عند قدميه، فأخذت بهما، ثم قالت: اللهم إني أسلمتُ لك طوعًا، وخالفتُ الأوثان زُهدًا، وهاجرتُ لك رغبةً، اللهم لا تشمِّت بي عَبَدةَ الأوثان، ولا تحفلني من هذه المُصيبةِ ما لا طاقةَ لي بحملها، قال: فوالله ما انقضى كلامُها حتى حرَّكَ قدميه وألقى الثوبَ عن وجهِه وعاشَ حتى قَبَضَ الله رسولَه صلى الله عليه وسلم، وحتى هَلَكت أمُّه.

قال: ثم جهَّزَ عمرُ بن الخطاب جَيشًا واستعملَ عليهم العلاء بن الحضرمي، قال أنس: وكنتُ في غزاتِه فأتينا مغازينا، فوجدنا القومَ قد نذروا بنا فعَفوا آثارَ الماء، والحرُّ شديد، فجَهَدنَا العطشُ ودوائنَا، وذلك يوم الجمعة، فلما مالتِ الشمسُ لغروبها صلَّى بنا ركعتين، ثم مدَّ يدَه إلى السماء، وما نرى في السماء شيئًا. قال: فوالله ما حط يدَه حتى بعثَ الله ريحًا وأنشأَ سَحابًا، وأفرغت حتى ملأت الغُدُرَ والشعاب، فشربنا وسقينا ركابنا واستقينا، ثم أتينا عدوَّنا وقد جَاوزوا خليجًا في البحر إلى جزيرة، فوقفَ على الخليج وقال: يا عليٍّ، يا عظيمُ، يا حليمُ، كريمُ، ثم قال: أجيزوا باسم الله، قال: فأجزنا ما يبل الماءُ حوافرَ دوابنا، فلم نلبث إلا يسيرًا فاصبنا العدوَّ عليه فقتلنا وأسرنا وسبينا، ثم أتينا الخليجَ، فقال مثلَ مقالته، فأجزنا ما يبلُّ الماءُ حوافرَ دوائنا، قال: فلم نلبث إلا يسيرًا حتى رُمي

(2)

في جنازته، قال: فحفرنا له وغسَّلناه ودفناه، فأتى رجلٌ بعد فراغِنَا من دفنه، فقال: من هذا؛ فقلنا: هذا خيرُ البشر، هذا ابنُ الحضرميّ، فقال: إن هذه الأرض تلفظُ الموتى، فلو نقلتُموه إلى مِيل أو ميلين، إلى أرض تقبلُ الموتى، فقلنا: ما جزاءُ صاحبِنا أن نُعَرِّضَه للسباع تأكلُه، قال: فاجتمعنا على نبشِه، فلما وصلنا إلى اللحد إذا صاحبُنا ليس فيه، وإذا اللحدُ مدَّ البصر نورٌ يتلألأ، قال: فأعدنا الترابَ إلى اللحد ثم ارتحلنا

(3)

.

(1)

من عاش بعد الموت؛ لابن أبي الدنيا (ص 28) ودلائل النبوة للبيهقي (6/ 51 - 52).

(2)

في دلائل البيهقي: حتى رؤي في دفنه.

(3)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 51 - 53). ويعارض هذا الخبر؛ أن العلاء بن الحضرمي عاش إلى أيام عمر بن الخطاب =

ص: 230

قال البيهقي

(1)

رحمه الله: وقد رُوي عن أبي هريرة في قصة العلاء بن الحضرمي في استسقائه، ومشيهم على الماء، دون قصة الموت، بنحو من هذا.

وذكر البخاريّ

(2)

في " التاريخ " لهذه القصة إسنادًا آخر.

وقد أسندَه ابنُ أبي الدنيا، عن أبي كُريب، عن محمد بن فُضيل، عن الصلت بن مطر العجلي، عن عبد الملك بن سهم، عن سهم بن منجاب، قال:

غزونا مع العلاء بن الحضرمي، فذكرَه. وقال في الدعاء: يا عليمُ، يا حليمُ، ويا عليُّ، يا عظيمُ، إنا عبيدُك وفي سبيلك نقاتلُ عدوَّك، اسقنا غَيثًا نشربُ منه ونتوضَّأ، فإذا تركناه فلا تجعل لأحدٍ فيه نصيبًا غيرَنا. وقال في البحر: اجعل لنا سبيلًا إلى عدوِّك. وقال في الموت: اخفِ جثتي ولا تُطلع على عورتي أحدًا، فلم يُقدَر عليه

(3)

. واللّه أعلم.

قصة أخرى: قال البيهقي: أنبأنا أبو الحسين بن بشران، أنبأنا إسماعيل الصفار، حدَّثنا الحسن بن علي بن عثمان، حدَّثنا ابن نُمير، عن الأعمش، عن بعض أصحابه قال:

انتهينا إلى دجلةَ وهي مادَّةٌ والأعاجمُ خلفَها، فقال رجلٌ من المسلمين: باسم الله، ثم اقتحمَ بفرسِه فارتفعَ على الماء، فقال الناسِ: باسم الله، ثم اقتحموا فارتفعُوا على الماء، فنظر إليهم الأعاجمُ وقالوا: ديوان ديوان

(4)

، ثم ذهبوا على وجوههم. قال: فما فقدَ الناسُ إلا قدحًا كان مُعلّقًا بِعَذبَةِ سَرج، فلما خرجوا أصابوا الغنائمَ فاقتسمُوها، فجعلَ الرجلُ يقول: من يُبادِلُ صفراءَ ببيضاء؟

قصة أخرى: قال البيهقي

(5)

: أخبرنا أبو عبد الرحمن السُّلمي، أنبأنا أبو محمد عبد الله بن محمد السمري، حدَّثنا أبو العباس السرَّاج، حدَّثنا الفضل بن سهل وهارون بن عبد الله، قالا: حدَّثنا أبو النضر، حدَّثنا سُليمان بن المغيرة: أن أبا مسلم الخولاني جاءَ إلى دجلةَ، وهي ترمي بالخشب من مَدِّها، فمشى على الماء والتفتَ إلى أصحابه، وقال: هل تفقدون من متاعكم شيئًا فندعو الله عز وجل؟

قال البيهقي: هذا إسناد صحيح.

= وتوفي بالبصرة.

(1)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 53).

(2)

التاريخ الكبير؛ للبخاري (3/ 2/ 506).

(3)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 163).

(4)

لفظة فارسية تعني: جِني، عفريت.

(5)

في الدلائل (6/ 54).

ص: 231

قلتُ: وستأتي

(1)

قصة أبي مسلم الخولاني -واسمه عبد الله بن ثُوَب- مع الأسود العنسي حين ألقاه في النار، فكانت عليه بردًا وسلامًا كما كانت على الخليل إبراهيم عليه السلام.

‌قصة زيد بن خارجة وكلامُه بعدَ الموت

وشهادتُه بالرسالة لمحمد صلى الله عليه وسلم، وبالخلافة لأبي بكر الصديق، ثم لعمر، ثم لعثمان رضي الله عنهم.

قال الحافظ أبو بكر البيهقي

(2)

: أخبرنا أبو صالح بن أبي طاهر العنبري، أنبأنا جدي يحيى بن منصور القاضي، حدَّثنا أبو علي محمد بن عمرو كشمرد، أنبانا القعنبي، حدَّثنا سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيّب:

أن زيدَ بن خارجة الأنصاري، ثم من بني الحارث بن الخزرج تُوفي زمنَ عثمانَ بن عفانَ، فسُجِّي بثوبه، ثم إنهم سمعوا جلجلة في صدره، ثم تكلَّم، ثم قال: أحمدُ أحمدُ في الكتاب الأول، صدقَ صدقَ أبو بكر الصديق الضعيف في نفسه القويّ في أمر الله في الكتاب الأول، صدقَ صدقَ عمرُ بن الخطاب القويُّ الأمينُ في الكتاب الأول، صدقَ صدقَ عثمانُ بن عفان على منهاجهم، مضت أربعٌ وبقيت اثنتان، أتت الفتنُ، وأكلَ الشديدُ الضعيفَ، وقامتِ الشَاعةُ وسيأتيكم عن جيشكم خبر، بئر أريس، وما بئر أريس.

قال يحيى: قال سعيد: ثم هلكَ رجلٌ من بني خَطمة، فسُجِّيَ بثوبه، فسُمع جلجلةٌ في صدره، ثم تكلّم، فقال: إن أخا بني الحارث بن الخزرج صدقَ صدقَ.

ثم رواه البيهقيُّ، عن الحاكم، عن أبي بكر بن إسحاق، عن موسى بن الحسن

(3)

، عن القعنبي، فذكره. وقال: هذا إسناد صحيح، وله شواهد

(4)

.

ثم ساقه من طريق أبي بكر عبد الله بن أبي الدنيا، في كتاب "من عاش بعد الموت": حدَّثنا أبو مسلم عبد الرحمن بن يونس، حدَّثنا عبد الله بن إدريس، عن إسماعيل بن أبي خالد. قال:

جاءنا يزيدُ بن النعمان بن بشير إلى حلقة القاسم بن عبد الرحمن، بكتاب أبيه النعمان بن بشير- يعني إلى أمه- بسم الله الرحمن الرحيم، من النعمان بن بشير إلى أم عبد الله بنت أبي هاشم، سلامٌ عليكِ، فإني أحمدُ إليك الله الذي لا إلهَ إلا هو، فإنَّكِ كتبتِ إليَّ لأكتبَ إليكِ بشأن زيد بن خارجة، وأنه كان من

(1)

في الشمائل المطبوع، بتحقيق د. مصطفى عبد الواحد (ص 298): وقد ذكرنا. فلعل ذلك في نسخة.

(2)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 55).

(3)

في دلائل البيهقي عن قريش بن الحسن.

(4)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 56).

ص: 232

شأنه أنه أخذَه وجعٌ في حَلقِه، وهو يومئذٍ من أصحِّ الناس

(1)

- أو أهل المدينة- فتوفي بين صلاة الأولى وصلاة العصر، فأضجعنَاه لظهره وغشّيناه ببردين وكساء.

فأتاني آتٍ في مقامي، وأنا أسبِّح بعد المغرب، فقال: إن زيدًا قد تكلَّم بعد وفاته، فانصرفتُ إليه مسرعًا، وقد حضرَه قومٌ من الأنصار، وهو يقولُ أو يُقال على لسانه: الأوسطُ أجلدُ الثلاثه

(2)

، الذي كان لا يُبالي في الله لومةَ لائم، كان لا يأمرُ الناسَ أن يأكلَ قويُّهم ضعيفَهم، عبدُ الله أميرُ المؤمنين، صدقَ صدقَ كان ذلك في الكتاب الأول. ثم قال: عثمانُ أميرُ المؤمنين وهو يُعافي الناسَ من ذنوب كثيرة، خَلَتِ اثنتان

(3)

وبقيَ أربع، ثم اختلفَ الناسُ وأكلَ بعضُهم بعضًا فلا نظام وأُبيحت الأحماء

(4)

، ثم ارعوى المؤمنون وقالوا: كتاب الله وقدره، أيُّها الناس: أقبلوا على أميركم واسمعوا وأطيعوا، فمن تولَّى فلا يعهدَن ذمًّا، وكان أمرُ الله قدرًا مقدورًا، الله أكبر هذه الجنة وهذه النار، ويقول النجيون والصدِّيقون: سلامٌ عليكم. يا عبدَ الله بنَ رواحة، هل أحسست لي خارجة، لأبيه، وسعدًا اللذين قُتلا يومَ أحد؟ {كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى} [المعارج: 15 - 18] ثم خفتَ صوتُه، فسألتُ الرَّهطَ عما سبقني من كلامه، فقالوا: سمعناه يقول: أنصتوا أنصتوا، فنظرَ بعضُنا إلى بعض، فإذا الصوتُ من تحتِ الثياب، قال: فكشفنا عن وجههِ فقال: هذا أحمدُ رسولُ الله، سلامٌ عليك يا رسولَ الله ورحمةُ الله وبركاتُه، ثم قال: أبو بكر الصدِّيقُ الأمين، خليفةُ رسول الله، كان ضعيفًا في جسمه، قويًا في أمر الله، صدقَ صدقَ وكان في الكتاب الأول

(5)

.

ثم رواه الحافظ البيهقي عن أبي نصر بن قتادة، عن أبي عمرو بن نجيد، عن علي بن الحسين بن الجنيد، عن المُعَافى بن سُليمان، عن زهير بن معاوية، عن إسماعيل بن أبي خالد، فذكر

(6)

. وقال: هذا إسناد صحيح.

وقد روى هشام بن عمَّار في كتاب "البعث" عن الوليد بن مسلم، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، قال: حدَّثني عُمير بن هانئ، حدَّثني النعمان بن بشير، قال: تُوفي رجلٌ منا يقال له: زيدُ بن خارجة فسخينا عليه ثوبًا، فذكرَ نحو ما تقدم.

(1)

في دلائل البيهقي: من أصح أهل المدينة من غير شك.

(2)

في دلائل البيهقي: أجلد القوم.

(3)

في دلائل البيهقي: خلت ليلتان وهي أربع. وفيها تحريف ظاهر.

(4)

كذا في دلائل البيهقي (6/ 56) وفي الشمائل: وأنتجت الأكماء والرسم في (أ) يحتمل التحريف.

(5)

من عاش بعد الموت؛ لابن أبي الدنيا (ص 32) ودلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 57).

(6)

المصدر السابق (6/ 57).

ص: 233

قال البيهقي: وروي ذلك عن حبيب بن سالم، عن النعمان بن بشير، وذكرَ فيها بئرَ أريس، كما ذكرنا في رواية ابن المسيب.

قال البيهقي

(1)

: والأمرُ فيها: أن النبىِّ صلى الله عليه وسلم اتخذَ خاتمًا فكان في يده، ثم كان في يد أبي بكر من بعده، ثم كان في يد عمر، ثم كان في يدِ عثمان حتى وقعَ منه في بئر أريس بعدما مضى من خلافته ست سنين، فعند ذلك تغثرت عمّاله، وظهرت أسبابُ الفتن، كما قيل على لسان زيد بن خارجة.

قلت: وهي المرادة من قوله: مضت اثنتان وبقي أربع، أو مضت أربع وبقي اثنتان، على اختلاف الرواية، واللّه أعلم.

وقد قال البخارى

(2)

في "التاريخ": زيدُ بن خارجة الخزرجي الأنصاري شهِدَ بدرًا، تُوفي زمنَ عثمان، وهو الذي تكلَّم بعد الموت.

قال البيهقي

(3)

: وقد روي في التكلُّم بعد الموت، عن جماعة بأسانيد صحيحة، واللّه أعلم.

قال ابن أبي الدنيا: حدَّثنا خلف بن هشام البرار، حدَّثنا خالد الطحان، عن حصين، عن عبد الله بن عُبيد الأنصاري:

أن رجلًا من بني

(4)

سلمة تكلَّم فقال: محمدٌ رسولُ الله، أبو بكر الصدّيق، عثمان اللّين الرحيم، قال: ولا أدري إيش قال في عمر

(5)

.

كذا رواه ابن أبي الدنيا في كتابه

(6)

.

وقد قال الحافظ البيهقي: أخبرنا أبو سعيد بن أبي عمرو، حدَّثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدَّثنا يحيى بن أبي طالب، أخبرنا علي بن عاصم، أخبرنا حُصَينُ بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن عُبيد الأنصاري، قال:

بينما هم يُثوِّرون

(7)

القتلى يوم صفين أو يوم الجمل، إذ تكلَّم رجلٌ من الأنصار من القتلى، فقال: محمدٌ رسولُ الله، أبو بكرٍ الصدِّيق، عمرُ الشهيد، عثمان الرحيم، ثم سكت

(8)

.

(1)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 57).

(2)

التاريخ الكبير؛ للبخاري (2/ 1/ 382).

(3)

دلائل النبوة (6/ 58).

(4)

في دلائل البيهقي: من قتلى مسيلمة.

(5)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 58).

(6)

من عاش بعد الموت؛ لابن أبي الدنيا (37) وفي إسناده عبد الله بن عبيد الأنصاري مجهول.

(7)

"يُثورون": يرفعون القتلى للدفن.

(8)

دلائل النبوة (6/ 58) وفي إسناده عبد الله بن عبيد الأنصاري، قال الحافظ في التقريب: مجهول.

ص: 234

وقال هشامُ بن عمَّار في كتاب "البعث":

‌باب في كلام الأموات وعجائبهم

حدَّثنا الحكم بن هشام الثقفي، حدَّثنا عبد الحكم بن عُمير، عن رِبعي بن حِرَاش

(1)

العبسي قال: مرض أخي: الربيع بن حِرَاش، فمرَّضتُه ثم ماتَ فذهبنا نُجَهّزه، فلما جئنا رفعَ الثوبَ عن وجهه ثم قال: السلام عليكم، قلنا: وعليكَ السلام، قَد مِتَّ، قال: بلى، ولكن لقيتُ بعدَكم ربي ولقيني بروحِ ورَيحان وربّ غير غضبان، ثم كساني ثيابًا من سُندسٍ أخضر، وإني سألتهُ أن يأذنَ لي أن أبشِّركم فأذن لي، وإن الأمرَ كما ترون، فسدَّدوا وقاربُوا، وبشِّروا ولا تُنفِّروا، فلما قالها كانت كحصاة وقعت في ماء.

ثم أورده بأسانيد كثيرة في هذا الباب، وهي آخر كتابه.

‌حديث غريب جدًا

قال البيهقي: أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان، حدَّثنا أحمد بن عُبيد الصَّفَّار، حدَّثنا محمد بن يُونس الكُدَيميُّ، حدَّثنا شاصُونة

(2)

بن عُبيد أبو محمد اليَمَاني- وانصَرَفنا من عدن بقرية يقال لها الحَردَة- حدَّثني مُعَرِّضُ بن عبد الله بن مُعَرِّض بن مُعيقيب اليمامي، عن أبيه، عن جده قال:

حَجَجتُ حَجَّة الوداع فدخلتُ دارًا بمكةَ فرأيتُ فيها رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ووجهُه مثلُ دَارةِ القمر، وسمعتُ منه عجبًا، جاءه رجلٌ بغلامٍ يومَ وُلد، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:" مَن أنا؟ " قال: أنت رسولُ الله، قال:"صدقت، بارك الله فيك" ثم قال: إن الغلامَ لم يتكلَّم بعد ذلك حتى شبَّ، قال أبي: فكنا نُسَمِّيه مُبارك اليمامة، قال شَاصُونةُ: وقد كنتُ أمرُّ على مَعمَرٍ فلا أسمعُ منه

(3)

.

(1)

رِبعي بن حِرَاش: أبو مريم العبسي، الكوفي، ثقة عابد، مخضرم توفي سنة مئة، وروى له الجماعة. تقريب التهذيب (ص 205) ترجمة رقم (1879).

(2)

وقع في الإصابة: "شاصوية" وهو خطأ، والصواب ما أثبتناه كما في تاريخ الخطيب 4/ 698 وتهذيب الكمال (27/ 75) كلاهما بتحقيق الدكتور بشار.

(3)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 59) وفي إسناده: محمد بن يونى الكُديمي؛ أحد المتروكين الوضَّاعين، كان يضع على الثقات الحديث وضعًا، ولعله وضع أكثر من ألف حديث. المجروحين (2/ 312) والكامل في الضعفاء (6/ 2294). وذكر الحافظ ابن حجر الحديث في الإصابة (4/ 445) في ترجمة معرض بن معيقيب اليمامي: وقال عقبه: ومعرض وشيخه مجهولان وكذلك شاصونة، واستنكروه على الكديمي.

ص: 235

قلت: هذا الحديث مما تكلَّم الناسُ في محمد بن يُونس الكُدَيمي بسببه وأنكروه عليه، واستغربوا شيخه هذا، وليس هذا مما يُنكر عقلًا ولا شرعًا، فقد ثبتَ في الصحيح

(1)

في قصة جُرَيج العابد أنه استنطقَ ابنَ تلك البغيّ، فقال له: يا أبا يونس، ابن من أنت؟ قال: ابنُ الراعي، فعلمَ بنو إسرائيل براءة عرض جريج مما كان نسب إليه. وقد تقدم ذلك.

على أنه قد رُوي هذا الحديث من غير طريق الكُدَيمي، إلا أنه بإسناد غريب أيضًا.

قال البيهقي: أخبرنا أبو سعد عبد الملك بن أبي عثمانَ الزاهدُ، أنبأنا أبو الحسين محمد بن أحمد بن جميع الغساني- بثغر صيدا- حدَّثنا العباس بن محبوب بن عثمان بن عبيد أبو الفضل، حدَّثنا أبي، حدَّثنا جدي شاصُونة بن عُبيد، حدَّثني مُعرَّض بن عبد الله بن مُعرَّض بن مُعيقيب، عن أبيه، عن جده. قال: حججتُ حجّةَ الوَداع فدخلتُ دارًا بمكةَ فرأيتُ فيها رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وجهه كدارة القمر، فسمعتُ منه عجبًا، أتاه رجلٌ من أهل اليمامة بغلام يوم وُلد، وقد لفَّه في خِرقةٍ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يا غلام، من أنا؟ " قال: أنتَ رسولُ الله، فقال له:"باركَ الله فيك" ثم إن الغلامَ لم يتكلَّم بعدَها.

قال البيهقي

(2)

: وقد ذكرَه شيخُنا أبو عبد الله الحافظ، عن أبي الحسن علي بن العباس الورَّاق، عن أبي الفضل أحمد بن خَلَف بن محمد المقري القزويني، عن أبي الفضل العباس بن محمد بن شَاصُونة، به.

قال الحاكم: وقد أخبرني الثقة من أصحابنا، عن أبي عمر الزاهد، قال:

لما دخلتُ اليمنَ دخلتُ حَردَة، فسألتُ عن هذا الحديث فوجدتُ فيها لشاصُونة عَقبًا، وحُملتُ إلى قبره فزرتُه

(3)

.

قال البيهقي

(4)

: ولهذا الحديث أصل من حديث الكوفيين بإسناد مرسل يُخالفه في وقت الكلام.

ثم أوردَ من حديث وكيع، عن الأعمش، عن شمر بن عطية، عن بعض أشياخه:

أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أُتي بصبي قد شبَّ لم يتكلَّم قط، قال:" من أنا؟ " قال: أنت رسولُ الله

(5)

.

(1)

قصة جريج الإسرائيلي رواها البخاري في صحيحه رقم (1206) في العمل في الصلاة ورقم (3436) في أحاديث الأنبياء، ومسلم في صحيحه رقم (2550) في البر والصلة.

(2)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 59 - 60) وإسناده تألف لوجود رواة مجهولين كما مرَّ في الحديث السابق.

(3)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 60) وذكر ذلك الحافظ ابن حجر في الإصابة (4/ 445). وهذه القصة لا ترفع عن شاصونة الجهالة. وينظر كلام الخطيب على هذا الحديث.

(4)

دلائل النبوة (6/ 60) وهو مرسل كما ذكر المؤلف والمرسل ضعيف.

(5)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 61) والخبر عند البيهقي والحاكم مرسل، وشمر بن عطية الأسدي الكاهلي الكوفي، =

ص: 236

ثم روى عن الحاكم، عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن بُكير، عن الأعمش، عن شمر بن عطية، عن بعض أشياخه، قال:

جاءت امرأو بابن لها قد تحرَّك فقالت: يارسولَ الله، إن ابني هذا لم يتكلَّم منذ وُلد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أدنيه مني " فأدنته منه، فقال:" من أنا؟ " فقال: أنتَ رسولُ الله.

‌قصة الصبي الذي كان يُصرع فدعا له عليه الصلاة والسلام فبرأ

قد تقدَّم ذلك من رواية أسامة بن زيد، وجابر بن عبد الله، ويعلى بن مرة الثقفي، مع قصة الجمل

الحديث بطوله.

وقال الإمام أحمد

(1)

: حدَّثنا يزيد، حدَّثنا حماد بن سلمة، عن فَرقَد السَّبخي، عن سعيد بن جبير عن ابن عباسٍ:

أن امرأةً جاءت بولدها إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إن به لَمَمًا

(2)

وإنه يأخذُه عند طعامِنا فيفسدُ علينا طعامَنا، قال: فَمسحَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم صدرَه ودعا له فثَعَّ ثَعَّه

(3)

، فخرجَ منه مِثلُ الجرو الأسود يَسعى

(4)

، تفرد به أحمد.

وفرقد السَّبخِي رجلٌ صالح، ولكنه سيِّئ الحفظ، وقد روى عنه شعبة وغيرُ واحد، واحتُمِل حديثُه

(5)

، ولما رواه هاهنا شاهد مما تقدم، واللّه أعلم.

وقد تكون هذه القصة هي ما سبقَ إيرادُها، ويُحتمل أن تكونَ أخرى غيرها، واللّه أعلم.

حديث آخر في ذلك: قال أبو بكر البزار: حدَّثنا محمد بن مرزوق، حَدَّثنا مُسلم بن إبراهيم، حدَّثنا صدقة- يعني ابن موسى- حدَّثنا فرقد- يعني السبخي- عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم بمكّةَ فجاءته امرأةٌ من الأنصار، فقالت: يا رسولَ الله إن هذا الخبيثَ قد غلَبني، فقال لها:" إِن تَصبِري على ما أنتِ عليه تجيئينَ يوم القيامة ليس عليك ذنوبٌ ولا حسابٌ ". قالت: والذي

= مجمع على توثيقه، فلا معنى لقول الحافظ ابن حجر في التقريب: صدوق (تحرير التقريب 2/ 120).

(1)

في المسند 1/ 239.

(2)

"لمم ": جنون.

(3)

"ثَعَّ ": قاء.

(4)

ورواه الدارمي رقم (19) والطبراني رقم (12460) وإسناده ضعيف.

(5)

قلت: لا يحتمل، فإن فرقدًا السبخي ضعيف ضعفه الأئمة كما هو مبين في تحرير أحكام التقريب (3/ 155).

ص: 237

بعثكَ بالحق لأصبرنَ حتى ألقى الله، قالت: إني أخافُ الخبيثَ أن يجرِّدَني، فدعا لها، فكانت إذا خشيت أن يأتيَها تأتي أستارَ الكعبة فتعلق بها، وتقول له: اخسأ، فيذهبُ عنها

(1)

.

قال البزار: لا نعلمُه يُروى بهذا اللفظ إلا من هذا الوجه، وصدقةُ ليس به بأس، وفرقدٌ حدَّثَ عنه جماعةٌ من أهل العلم، منهم شُعبة وغيرُه، واحتُمِلَ حديثُه على سوء حفظه فيه.

طريق أخرى عن ابن عباس: قال الإمام أحمد

(2)

: حدَّثنا يحيى بن سعيد، عن عمران بن مسلم أبي بكر، حدَّثنا عطاء بن أبي رباح، قال: قال لي ابنُ عباس:

ألا أُريك امرأةً من أهلِ الجنة؟ قلت: بلى، قال: هذه السوداءُ أتت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إني أُصرع وأنكشفُ، فادعُ الله لي، قال:"إن شئتِ صبرتِ ولك الجنة، وإن شئت دعوتُ الله لك أن يعافيَك " قالت: لا بل أصبرُ فادعُ الله ألا أنكشفَ ولا ينكشف عني، فقال: فدعا لها.

وهكذا رواه البخاريُّ

(3)

عن مُسدّد عن يحيى- وهو ابن سعيد القطان- وأخرجه مسلم

(4)

عن القواريري، عن يحيى القطان، وبشر بن الفضل، كلاهما عن عمران بن مسلم أبي بكر الفقيه البصري، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس، فذكر مثله ثم قال البخاريُّ: حدَّثنا محمد، حدَّثنا مخلد، عن ابن جريج، قال: أخبرني عطاءٌ؛ أنه رأى أمَّ زُفَر تلك امرأةٌ طويلةٌ سوداء على ستر الكعبة.

وقد ذكر الحافظ ابن الأثير في " الغابة "

(5)

أن أمِّ زفر هذه كانت مَشَاطةَ خديجة بنت خُويلد قديمًا، وأنها عُمَرتْ حتى أدركَها عطاءُ بن أبي رباح، فاللّه أعلم.

حديث آخر: قال البيهقي: أخبرنا علي بن أحمد بن عَبدان، أخبرنا أحمد بن عُبيد، حدَّثنا محمد بن يونس، حدَّثنا قُرة بن حبيب القَنوي، حدَّثنا إياس بن أبي تميمة، عن عطاء، عن أبي هريرة، قال: جاءت الحمَّى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسولَ الله ابعثني إلى أحبِّ قومِك إليكَ- أو أحث أصحابك إليك- شك قرَّةُ، فقال:" اذهبي إلى الأنصار " فذهبت إليهم فصرعتهم، فجاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسولَ الله قد أتت الحمّى علينا، فادعُ الله لنا بالشفاء، فدعَا لهم، فكُشِفَت عنهم، قال: فاتبَعتْهُ امرأةٌ فقالت: يا رسولَ الله، ادعُ الله لي، فإني من الأنصار (وإن أبي لمن

(1)

كشف الأستار (1/ 367) رقم (773) وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (2/ 307) وقال: رواه البزار، وفيه فرقد السبخي ضعيف.

(2)

مسند أحمد (1/ 346 - 347).

(3)

في صحيحه (5652) في المرضى.

(4)

في صحيحه (2576) في البر والصلة.

(5)

أسد الغابة؛ لابن الأثير (5/ 584).

ص: 238

الأنصار)، فادع الله كما دعوت لهم، فقال:" أيُّهما أحبُّ إليك أن أدعوَ لك فيكشفَ عنك، أو تصبرينَ وتجبُ لك الجنة؟ " فقالت: لا واللّه يا رسولَ الله بل أصبرُ ثلاثًا ولا أجعلُ واللّه لجنته خطرًا

(1)

.

محمد بن يونس الكديمي ضعيف.

وقد قال البيهقي: أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان، أنبأنا أحمد بن عبيد الصَّفار، حدَّثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدَّثنا أبي، حدَّثنا هشام بن لاحق -سنة خمس وثمانين ومئة- حدَّثنا عاصم الأحول، عن أبي عثمان النَّهدي، عن سلمان الفارسي، قال:

استأذنتِ الحمَّى على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " من أنتِ؟ " قالت: أنا الحمَّى، أبري اللحم، وأمصُّ الدَّمَ، قال:" اذهبي إلى أهل قباء " فأتتهم، فجاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد اصفرَّت وجوهُهم، فشكوا إليه الحمّى، فقال لهم:" ما شئتم؟ إن شئتم دعوتُ الله فيكشف عنكم، وإن شئتم تركتمُوها فأسقطت ذنوبَكم " قالوا: بل ندعُها يا رسولَ الله

(2)

.

وهذا الحديث ليس هو في مسند الإمام أحمد، ولم يروه أحدٌ من أصحابِ الكتب الستة.

وقد ذكرنا في أول الهجرة دعاءَه عليه الصلاة والسلام لأهل المدينة أن يُذهِبَ حُمَّاها إلى الجُحفة، فاستجابَ الله له ذلك، فإن المدينةَ كانت من أوبأ أرضِ الله، فصحَّحَها الله ببركة حلوله بها، ودعائِه لأهلها، صلواتُ الله وسلامه عليه.

حديث آخر في ذلك: قال الإمام أحمد: حدَّثنا روح، حدَّثنا شعبة، عن أبي جعفر المديني، سمعتُ عُمارةَ بن خزيمة بن ثابت يُحدِّث عن عثمان بن حنيف:

أن رجلًا ضريرًا أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسولَ الله، ادعُ الله أن يُعافيني، فقال:" إن شئتَ أخَّرتُ ذلك فهو أفضلُ لآخرتِكَ، وإن شئتَ دعوتُ لك " قال: لا، بل ادعُ الله لي، قال: فأمرَه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يتوضأ ويُصلِّي ركعتين وأن يدعوَ بهذا الدعاء: " اللهم إني أسألُك وأتوجّه إليك بنبيك محمد نبيِّ الرحمة، يا محمد، إني أتوجّه بك إلى ربي في حاجتي هذه فتُقضى وتشفعني فيه وتشفعه فيَّ" قال: فكان يقولُ مِرارًا. ثم قال بعدُ: أحسبُ أن فيها أن " تشفعني فيه " قال: ففعل الرجل فَبَرأ.

وقد رواه أحمد

(3)

أيضًا، عن عثمان بن عمر، عن شعبة، به. وقال:" اللهم شفعه فيَّ " ولم يقل الأخرى، وكأنها غلط من الراوي، واللّه أعلم.

(1)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 160) وإسناده ضعيف جدًا لوجود محمد بن يونس الكديمي وهو كذاب وضَّاع.

(2)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 159 - 160) وذكره السيوطي في الخصائص الكبرى (2/ 87) نقلًا عن البيهقي. وفي إسناده هشام بن لاحق ترك حديثه الإمام أحمد، وقال ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج به، وقواه النسائي.

(3)

في المسند (4/ 138).

ص: 239

وهكذا رواه الترمذي

(1)

والنسائي

(2)

، عن محمود بن غيلان، وابن ماجه

(3)

عن أحمد بن منصور بن سَيَّار، كلاهما، عن عثمان بن عُمر، وقال الترمذي: حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث أبي جعفر الخطمي.

ثم رواه أحمد

(4)

أيضًا، عن مؤمل بن حماد بن سلمة، عن أبي جعفر الخطمي، عن عمارة بن خزيمة، عن عثمان بن حنيف، فذكر الحديث.

وهكذا رواه النسائي

(5)

، عن محمد بن معمر، عن حبان، عن حماد بن سلمة به.

ثم رواه النسائي

(6)

عن زكريا بن يحيى عن محمد بن المثنى، عن معاذ بن هشام، عن أبيه، عن أبي جعفر، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن عمَّه عثمان بن حنيف.

وهذه الرواية تخالف ما تقدم، ولعله عند أبي جعفر الخطمي من الوجهين، واللّه أعلم.

وقد روى البيهقي والحاكم، من حديث يعقوب بن سفيان، عن أحمد بن شبيب بن سعيد الحَبَطي، عن أبيه، عن رَوح بن القاسم، عن أبي جعفر المديني، عن أبي أُمامة بن سهل بن حنيف، عن عمه عثمان بن حنيف، قال:

سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاءه رجل ضرير، فشكا إليه ذهابَ بصره، فقال: يا رسول الله ليس لي قائدٌ وقد شقَّ عليَّ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"ائتِ المِيْضَأةَ فتوضَّأ ثم صل ركعتين، ثم قل: اللهم إني أسألُك وأتوتجَه إليك بنبيك محمد نبيّ الرحمة، يا محمّدُ إني أتوجَّهُ بك إلى ربّي فتجلي لي بصري، اللهم فشفّعه فيَّ وشفعني في نفسي ". قال عثمان: فواللّه ما تفرَّقنا، ولا طالَ الحديثُ بنا حتى دخلَ الرجلُ كأنّه لم يكن به ضُرٌّ قط

(7)

.

قال البيهقي: ورواه أيضًا هشام الدستوائي، عن أبي جعفر، عن أبي أُمامة بن سهل، عن عمِّه عثمان بن حنيف.

حديث آخر: قال أبو بكر بن أبي شيبة: حدَّثنا محمد بن بشر، حدَّثنا عبد العزيز بن عمر، حدَّثني

(1)

في الجامع رقم (3578) في الدعوات.

(2)

في عمل اليوم والليلة رقم (659) وهو حديث صحيح.

(3)

في سننه (1385) في الصلاة.

(4)

في المسند (4/ 138).

(5)

النسائي في عمل اليوم والليلة رقم (658).

(6)

رواه النسائي في عمل اليوم والليلة رقم (660).

(7)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 168) وهو حديث صحيح بشواهده.

ص: 240

رجلٌ من بني سلَامَان بن سعد، عن أبيه عن أمه، عن خالِه -أو أن خالَه أو خالَها- حبيب بن فويك حدَّثها:

أن أباه خرجَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعينَاه مُبيضَّتان، لا يُبصر بهما شيئًا أصلًا، فسأله:" ما أصابَك؟ " فقالت: كنت أُمرئ

(1)

جملًا لي فوقعت رجلي على بيض حيّة فأُصبتُ ببصري، قالَ: فنفثَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في عينيه فأبصرَ، فرأيتُه وإنه ليُدخِلُ الخيطَ في الإبرة، وإنه لابن ثمانين سنة، وإن عينيه لمبيضتان

(2)

.

قال البيهقي: كذا في كتابه. وغيره يقول: حبيب بن مدرك

(3)

. قال: وقد مضى في هذا المعنى حديث قتادة بن النعمان أنه أصيبت عينه فسالت حدقته، فردها رسول الله إلى موضعها، فكان لا يدري أيهما أصيبت

(4)

.

قلت: وقد تقدم ذلك في غزوة أحد.

وقد ذكرنا في مقتل أبي رافع مسحَه بيده الكريمة على رجلِ عبد الله بن عتيك- وقد انكسرَ ساقُه- فبَرأ من ساعته.

وذكر البيهقي بإسناده: أنه صلى الله عليه وسلم مسح يد محمد بن حاطب- وقد احترقت يده بالنار- فبرأ من ساعته

(5)

وأنه عليه الصلاة والسلام نَفَثَ في كف شُرَحبيل

(6)

الجُعفِيِّ، فذهبت من كفِّه سلعَة كانت به.

قلت: وتقدَّم في غزوة خيبر تفلُه في عيني على وهو أرمد فبرأ.

وروى الترمذي

(7)

عن عليٍّ حديثه في تعليمه عليه السلام ذلك الدعاء لحفظ القرآن فحفظه.

وفي الصحيح

(8)

أنه قال لأبي هريرة وجماعة: " مَن يَبسطُ رداءَه اليوم فإنه لا ينسى شيئًا من مقالتي "، قال: فبسطته فلم أنس شيئًا من مقالته تلك، فقيل: كان ذلك حفظًا من أبي هريرة لكل ما سمعه منه في ذلك اليوم، وقيل: وفي غيره، فالله أعلم.

(1)

كذا في الأصل، وفي الاستعياب: أمرّن، وفي المطبوع: أرعى.

(2)

دلائل النبوة، للبيهقي (6/ 173) وفي إسناده جهالة.

(3)

لم أجد ذلك في دلائل البيهقي المطبوع.

(4)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 173).

(5)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 174، 175، 176) والنسائي في السنن البهرى وفي عمل اليوم والليلة رقم (1024) ورواه أحمد في مسنده (4/ 259) والنسائي في البهرى (6/ 253 و 254) وهو حديث حسن.

(6)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 176) وإسناده ضعيف.

(7)

رواه الترمذي في الجامع رقم (3570) في الدعوات، وقال: هذا حديث غريب (يعني ضعيف).

(8)

رواه البخاري في صحيحه رقم (3648) في المناقب.

ص: 241

ودعا لسعد بن أبي وقاص

(1)

فبرأ.

وروى البيهقي

(2)

؛ أنه دعا لعمه أبي طالب في مرضةٍ مرضها، وطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعوَ له ربَّه، فدعا له فبرأ من ساعته.

والأحاديث في هذا كثيرة جدًا يطول استقصاؤها.

وقد أورد البيهقيُ من هذا النوع كثيرًا طيِّبًا أشرنا إلى أطراف منه، وتركنا أحاديث ضعيفة الإسناد، واكتفينا بما أوردنا عما تركنا، وباللّه المستعان.

حديث آخر: ثبت في الصحيحين

(3)

من حديث زكريا بن أبي زائدة، زاد مسلم: والمغيرة، كلاهما عن شراحيل الشعبي، عن جابر بن عبد الله:

أنه كان يسيرُ على جمل قد أعيا، فأراد أن يُسَيِّبَه، قال: فلحقني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فضربَه ودعا لي، فسارَ سيرًا لم يسر مثلَه.

وفي رواية: فما زال بين يدي الإبل قدَّامَها حتى كنتُ أحبسُ خِطامَه فلا أقدرُ عليه، فقال:" كيف ترى جملك؟ " فقلت: قد أصابتهُ بركتُك يا رسولَ الله، ثم ذكرَ أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم اشتراه منه.

واختلفَ الرواة في مِقدارِ ثمنِه على روايات كثيرة، وأنه استثنى حِملانَه إلى المدينة، ثم لما قدِمَ المدينةَ جاءَه بالجمل فنقدَه ثمنَه وزادَه، ثم أطلقَ له الجملَ أيضًا، الحديث بطوله.

حديث آخر: روى البيهقي واللفظ له، وهو في صحيح البخاري

(4)

، من حديث حسن بن محمد المروزي، عن جرير بن حازم، عن محمد بن سيرين، عن أنس بن مالك، قال:

فَزِعَ الناسُ فركبَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فرسًا لأبي طلحة بطيئًا، ثم خرجَ يركضُ وحده، فركبَ الناسُ يركضون خلفَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"لن تُراعوا إنه لبحرٌ " قال: فوالله ما سُبق بعدَ ذلك اليوم.

حديث آخر: قال البيهقي

(5)

أخبرنا أبو بكر القاضي، أنبأنا حامد بن محمد الهروي، حدَّثنا علي بن

(1)

رواه مسلم في صحيحه رقم (1628)(8) في الوصية.

(2)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 170) وفي إسناده: هيثم البكاء؛ وهو ضعيف كما ذكر ذلك البيهقي. وقال ابن معين: الهيثم بن جماز الحنفي البكاء: كان قاصًا بالبصرة، وهو ضعيف وقال مرة: ليس بذاك. المجروحين (3/ 91) وميزان الاعتدال (4/ 319) والكامل في الضعفاء (7/ 2560).

(3)

رواه البخاري في صحيحه رقم (2718) في الشروط، ومسلم في صحيحه رقم (715)(109) و (110) في المساقاة.

(4)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 152 - 153) وهو عند البخاري في صحيحه رقم (2968) في الجهاد.

(5)

دلائل النبوة للبيهقي (6/ 153).

ص: 242

عبد العزيز، حدَّثنا محمد بن عبد الله الرقاشي، حدَّثنا رافع بن سلمة بن زياد، حدَّثني عبد الله بن أبي

الجعد (الأشجعي)، عن جُعَيل الأشجعي، قال:

غزوتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته، وأنا على فرسٍ لي عَجفَاءَ ضعيفة، قال: فكنتُ في أخريات الناس، فلحقني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وقال:" سر يا صاحبَ الفرس " فقلت: يا رسولَ الله عَجفَاء ضَعيفة، قال: فرفعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم مِخفَقَةً

(1)

معه فضربَها بها وقال: " اللهم بارك له " قال: فلقد رأيتني أمسكُ برأسِها أن تقدَمَ الناسَ، ولقد بعتُ من بطنها باثني عشر ألفًا.

ورواه النسائي

(2)

عن محمد بن رافع، عن محمد بن عبد الله الرقاشي، فذكره.

وهكذا رواه أبو بكر بن أبي خيثمة، عن عبيد بن يعيش، عن زيد بن الخُباب، عن رافع بن سلمة الأشجعي، فذكره.

وقال البخاري في " التاريخ "

(3)

: وقال رافع بن زياد بن الجعد بن أبي الجعد: حدَّثني أبي، عن

عبد الله بن أبي الجعد أخي سالم، عن جُعيل، فذكره.

حديث آخر: قال البيهقي

(4)

: أخبرنا أبو الحسين بن الفضل القطان ببغداد، أنبأنا أبو سهل بن زياد القطان، حدَّثنا محمد بن شاذان الجوهري، حدَّثنا زكريا بن عدي، حدَّثنا مروان بن معاوية، عن يزيد بن كيسان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، قال:

جاءَ رجلٌ إلى النبىِّ صلى الله عليه وسلم فقال: إني تزوّجتُ امرأةً، فقال:" هلا نظرتَ إليها فإن في أعين الأنصار شيئًا؟ " قال: قد نظرتُ إليها، قال:" على كم تزوجتَها؟ " فذكر شيئًا قال: " كأنَهم يَنحِتُون الذهبَ والفضةَ من عُرضِ هذه الجبال، ما عندنا اليومَ شيءٌ نعطيكَه، ولكن سأبعثُك في وجه تُصيب فيه " فبعثَ بَعثًا إلى بني عبس وبعثَ الرجلَ فيهم، فأتاه، فقال: يا رسول الله، أعيَتني ناقتي أن تنبعثَ، قال: فناوله رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يدَه كالمعتمد عليه للقيام، فأتاها فضربَها برجله.

قال أبو هريرة: والذي نفسي بيده لقد رأيتُها تسبقُ به القائدَ.

رواه مسلم

(5)

في الصحيح عن يحيى بن معين عن مروان.

(1)

"مخفقة": شيءٌ يضرب به نحو سَيرٍ أو دِرَّة. القاموس.

(2)

في السنن الكبرى رقم (8818): في السير، باب ضرب الفرس.

(3)

البخاري في التاريخ (1/ 2/ 249).

(4)

في دلائل النبوة (6/ 154).

(5)

في صحيحه رقم (1424)(75) في النكاح. وفيه: كراهة إكثار المهر بالنسبة إلى حال الزوج.

ص: 243

حديث آخر: قال البيهقي

(1)

: أخبرنا أبو زكريا بن أبي إسحاق المُزَكِّي، أنبأنا أبو عبد الله محمد بن

يعقوب، حدَّثنا أبو أحمد محمد بن عبد الوهاب، أخبرنا أبو جعفر بن عون، أخبرنا الأعمش، عن مجاهد:

إن رجلًا اشترى بعيرًا فأتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني اشتريتُ بعيرًا فادعُ الله أن يُبارك لي فيه، فقال:

"اللهم بارك له فيه " فلم يلبث إلا يسيرًا أن نَفَقَ، ثم اشترى بعيرًا آخر، فأتى به رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني اشتريتُ بعيرًا فادعُ الله أن يُبارك لي فيه، فقال:" اللهم بارك له فيه " فلم يلبث حتى نَفَقَ، ثم اشترى بعيرًا آخرَ، فأتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، قد اشتريتُ بعيرين فدعوتُ الله أن يُبارك لي فيهما، فادعُ الله أن يحملني عليه، فقال:" اللهم احمله عليه " فمكثَ عندَه عشرينَ سنة

(2)

.

قال البيهقي: وهذا مرسل، ودعاؤه عليه الصلاة والسلام صارَ إلى أمر الآخرة في المرتين الأوليين.

حديث آخر: قال الحافظ البيهقي: أخبرنا أبو عبد الرحمن السُّلمي، أنبأنا إسماعيل بن عبد الله الميكالي، حدَّثنا علي بن سعد العسكري؛ أخبرنا أبو أمية عبد الله بن محمد بن خَلَّاد الواسطيّ، حدَّثنا يزيد بن هارون، أخبرنا المُستلمُ بنُ سعيد، حدَّثنا خبيب بن عبد الرحمن بن خبيب بن إساف، عن أبيه، عن جده خبيب بن إساف قال:

أتيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، أنا ورجلٌ من قومي في بعض مغازيه، فقلنا: إنا نشتهي أن نشهَد معك مشهدًا، قال:" أسلمتم؟ " قلنا: لا، قال:" فإنا لا نستعينُ بالمشركين على المشركين " قال: فأسلمنا

(3)

وشهدتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصابتني ضربةٌ على عاتقي فجافتني، فتعلَّقَت يدي، فأتيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فتفلَ فيها وألزقَها فالتأمت وبرأت، وقتلتُ الذي ضربني، ثم تزوّجتُ ابنةَ الذي قتلته

(4)

وضربني، فكانت تقول: لا عدمتُ رجلًا وشَّحَكَ هذا الوِشَاح، فأقول: لا عدمت رجلًا أعجل

(5)

أباك إلى النار.

وقد روى الإمام

(6)

أحمد هذا الحديث، عن يزيد بن هارون بإسناده مثلَه، ولم يذكر: فتفلَ فيها فبرأَت.

(1)

دلائل النبهوة؛ للبيهقي (6/ 154 - 155) وتتمة كلام البيهقي: ثم سأله صاحب البعحر الدعاء بأن يحمله عليه؛ وقعت الإجابة إليه أفضل زكاة وأطيبها وأنماها. وهو حديث مرسل، والمرسل ضعيف.

(2)

في دلائل النبوة (6/ 178).

(3)

في دلال البيهقي: فأسلمت.

(4)

في دلائل البيهقي: ثم تزوجت ابنة الذي ضربته فقتلته. وفيها تحريف.

(5)

في دلائل البيهقي: عجَّلَ.

(6)

في المسند: (3/ 454)، وذكره الحافظ ابن حجر في الإصابة (1/ 418) عن أحمد بن منغ، وإسناده ضعيف، لجهالة والد خبيب بن عبد الرحمن، على أن قوله: إنا لا نستعين بالمشركين على المشركين. صحيح من غير هذا الوجه.

ص: 244

حديث آخر: ثبت في الصحيحين، من حديث أبي النضر هاشم بن القاسم، عن ورقاء بن عمر السكري، عن عبد الله بن يزيد، عن ابن عباس، قال:

أتى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الخلاءَ، فوضعت له وَضُوءًا، فلما خرجَ قال:" من صنع هذا؟ " قالوا: ابنُ عباس، قال:"اللهم فقهه في الدين"

(1)

.

وروى البيهقيُّ عن الحاكم وغيره، عن الأصم، عن عباس الدَّورقي، عن الحسن بن موسى الأشيب، عن زهير، عن عبد الله بن عثمان بن خُثَيم، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس:

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضعَ يدَه على كتفي- أو قال: منكبي، شك سعيد- ثم قال:" اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل "

(2)

.

وقد استجاب الله لرسوله صلى الله عليه وسلم هذه الدعوة في ابن عمه، فكان إمامًا يُهتدى بهداه، ويُقتدى بسناه في علوم الشريعة، ولاسيما في علم التأويل وهو التفسير، فإنه انتهت إليه علوم الصحابة قبلَه، وما كان عقَلَه من كلام ابن عمه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد قال الأعمش عن أبي الضحى

(3)

، عن مسروق، قال: قال عبد الله بن مسعود: لو أن ابن عباس أدرك أسناننا ما عاشَره أحدٌ منا، وكان يقول لهم: نعم ترجمان القرآن ابن عباس

(4)

.

هذا وقد تأخرت وفاة ابن عباس عن وفاة عبد الله بن مسعود ببضع وثلاثين سنة، فما ظنك بما حصله بعده في هذه المدة؟

وقد روينا عن بعض أصحابه أنه قال: خطبَ النَّاسَ ابنُ عبَّاسٍ في عشيّة عرفَةَ ففسَّرَ لهم سورةَ البقرة، أو قال سورةً، ففسَّرَها تفسيرًا لو سمعه الروم والترك والديلم لأسلموا

(5)

. رضي الله عنه وأرضاه.

(1)

رواه البخاري في صحيحه رقم (143) في الوضوء، ومسلم في صحيحه رقم (2477) في فضائل الصحابة.

(2)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 192 - 193) والحاكم في المستدرك (3/ 534) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، قال الحافظ ابن حجر في الفتح (7/ 100): وهذه اللفظة اشتهرت على الألسنة " اللهم فقهه فيِ الدين، وعلمه التأويل " حتى نسبها بعضهم للصحيحين، ولم يُصب، والحديث عند أحمد بهذا اللفظ من طريق ابن خُثيم عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس، وعند الطبراني من وجهين آخرين. وانظر المسند بشرح أحمد شاكر رحمه الله رقم (3033).

(3)

في دلائل البيهقي: عن مسلم بن صُبيح: وهو أبو الضحى. تقريب التهذيب (ص 530) ترجمة رقم (6632) طبعة دار الرشيد بحلب 1406 هـ.

(4)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 193) وهما حديثان عند الحاكم في المستدرك (3/ 537) وصححهما. وقال الحافظ ابن حجر في الفتح (7/ 100): وروى يعقوب بن سفيان في تاريخه بإسناد صحيح، عن ابن مسعود: لو أدرك ابن عباس أسناننا

(5)

رواه يعقوب بن سفيان في تاريخه بإسناد صحيح عن أبي وائل، كما رواه أبو نُعيم في الحلية من وجه آخر. فتح الباري (7/ 100).

ص: 245

حديث آخر: ثبت في الصحيح

(1)

أنه عليه الصلاة والسلام دعا لأنس بن مالك بكثرة المال والولد، فكان كذلك، حتى روى الترمذيُّ

(2)

عن محمود بن غيلان، عن أبي داود الطيالسي، عن أبي خلدة، قال: قلتُ لأبي العالية: سمعَ أنس من النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: خدمه عشر سنين ودعا له، وكان له بستان

(3)

يحمل في السنة الفاكهة مرتين، وكان فيه ريحان يجيء منه ريح المسك.

وقد روينا في الصحيح

(4)

أنه ولد له لصلبه قريب من مئة أو ما ينيف عليها، وفي رواية: أنه صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم أطل عمرَه، فعمَّره مئة.

وقد دعا صلى الله عليه وسلم-لأم سُليم ولأبي طلحة في غابر ليلتهما، فولدت له غلامًا سمَّاه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عبدَ الله، فجاءَ من صُلبه تسعة كلُّهم قد حفظَ القرآن، ثبت ذلك في الصحيح

(5)

.

وثبت في صحيح مسلم من حديث عكرمة بن عمار، عن أبي كثير الغُبَريِّ، عن أبي هريرة:

أنه سألَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أن يدعوَ لأمِّه فيهديَها الله، فدعا لها، فذهبَ أبو هريرة فوجدَ أمَّه تغتسلُ خلفَ الباب، فلما فرغت قالت: أشهدُ أن لا إله إلا الله، وأشهدُ أنَّ محمّدًا رسولُ الله، فجعلَ أبو هريرة يبكي من الفرح، ثم ذهبَ فأعلمَ بذلك رسولَ الله، وسألَه أن يدعوَ لهما أن يُحبِّبَهما الله إلى عباده المؤمنين، فدعا لهما، فحصلَ ذلك، قال أبو هريرة: فليس مؤمنٌ ولا مؤمنةٌ إلا وهو يُحِبُّنا

(6)

.

وقد صدقَ أبو هريرة في ذلك رضي الله عنه وأرضاه، ومن تمام هذه الدعوة أن الله شهر ذكرَه في أيام الجمع حيثُ يذكُره الناسُ بين يدي خُطبةِ الجمعة، وهذا من التقييض القدَري والتقدير المعنوي.

وثبت في الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام، دعا لسعد بن أبي وقاص وهو مريضٌ فعُوفِي، ودعا له أن يكون مُجابَ الدعوة، فقال:" اللهم أجبْ دعوتَه وسدذِد رَميَتَه "

(7)

فكان كذلك، فنعمَ أميرُ السرايا والجيوش كان.

(1)

رواه البخاري في صحيحه رقم (6334) و (6344) في الدعوات، ومسلم في صحيحه رقم (2481) في فضائل الصحابة.

(2)

رواه الترمذي في الجامع رقم (3833)، وقال: هذا حديث حسن غريب.

(3)

بستان: في البصرة.

(4)

رواه مسلم في صحيحه رقم (2481)(143).

(5)

رواه البخاري في صحيحه رقم (1301) في الجنائز، و (5470) في العقيقة، ومسلم في صحيحه رقم (2144) في الآداب.

(6)

رواه مسلم في صحيحه رقم (2491) في فضائل الصحابة.

(7)

رواه الحاكم في المستدرك (3/ 500) بلفظ: اللهم سدد رميته، وأجب دعوته. وقال: هذا حديث تفرد به يحيى بن هانئ بن خالد الشجري، وهو شيخ ثقة من أهل المدينة، ووافقه الذهبي. وإسناده ضعيف وله شواهد فهو بها حسن.

ص: 246

وقد دعا

(1)

على أبي سَعدة أسامةَ بن قتادة، حين شَهِدَ فيه بالزّور بطولِ العمر، وكثرة الفقر، والتعرّض للفتن، فكان ذلك، فكان إذا سُئل ذلك الرجلُ يقول: شيخٌ كبيرٌ مَفتون أصابتني دعوةُ سعد

(2)

.

وثبت في صحيح البخاري وغيره: أنه صلى الله عليه وسلم دعا للسائب بن يزيد، ومسحَ بيده على رأسِه

(3)

فطالَ عُمُره حتى بلغَ أربعًا وتسعين سنة، وهو تامُّ القامةِ مُعتدل، ولم يشب منه موضعٌ أصابت يدُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومُتِّعَ بحواسه وقواه

(4)

.

وقال أحمد: حدَّثنا حرمي بن عُمارة، حدَّثَنا عَزرَةُ بن ثابت، حدَّثنا عِلبَاءُ بن أحمر، حدَّثني أبو زيد الأنصاري، قال:

قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ادنُ مني " فمسحَ بيده على رأسي، ثم قال:" اللهم جَمِّله وأدم جمالَه" قال: فبلغَ بِضعًا ومئة- يعني سنة- وما في لحيته بياضٌ إلا نُبذ يسيرة

(5)

، ولقد كان مُنبسطَ الوجه لم ينقبض وجهُه حتى مات

(6)

.

قال السهيلي: إسناده صحيح موصول.

ولقد أوردَ البيهقيّ لهذا نظائرَ كثيرة في هذا المعنى، تشفي القلوب، وتحصّل المطلوب.

وقد قال الإمام أحمد: حدَّثنا عارم، حدَّثنا معتمر، وقال يحيى بن معين: حدَّثنا عبد الأعلى، حدَّثنا معتمر -هو ابن سليمان- قال: سمعتُ أبي يُحدِّث عن أبي العلاء قال:

كنتُ عند قتادةَ بن مِلحَان في مرضِه الذي مات فيه، قال: فمرَّ رجلٌ في مؤخر الدار، قال: فرأيتُه في وجهِ قتادةَ، وقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مسحَ وجهَهُ، قال: وكنتُ قلَّما رأيته إلا ورأيتُ كأن على وجهه الدِّهان

(7)

.

(1)

أي سعد بن أبي وقاص.

(2)

رواه البخاري في صحيحه رقم (755) في الأذان، ومسلم في صحيحه رقم (453) في الصلاة.

(3)

رواه البخاري في صحيحه رقم (3541) في المناقب (باب خاتم الخبوة)، ومسلم في صحيحه رقم (2345) في الفضائل (باب إثبات خاتم الخبوة).

(4)

ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 409) ما أشار إليه الحافظ ابن كثير من وصف السائب بن يزيد، وقال: أخرجه الطبراني في الكبير، ورجال الكبير رجال الصحيح، غير عطاء مولى السائب، وهو ثقة.

(5)

رواه الإمام أحمد في المسند (5/ 77، 340) وإسناده صحيح.

(6)

كذا في الأصل، وفي المسند نبذ يسير، وفي المطبوع: نبذة يسيرة.

(7)

رواه الإمام أحمد في المسند (5/ 27 - 28) وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 319) وقال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح.

ص: 247

وثبت في الصحيحين

(1)

؛ أنه عليه الصلاة والسلام دعا لعبد الرحمن بن عوف بالبركة حين رأى عليه ذلك الرَّدع

(2)

من الزعفران لأجل العُرسِ، فاستجابَ الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، ففتحَ له في المتجر والمغانم، حتى حصلَ له مال جزيلٌ بحيث إنه لما مات صُولحت امرأةٌ من نسائه الأربع عن ربع الثمن على ثمانين ألفًا.

وثبت في الحديث من طريق شبيب بن غَرقَدَةَ؛ أنه سمع الحي يُخبرون عن عروةَ بن أبي الجَعد المازني، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاه دينارًا ليشتري له به شاةً " أُضحيةً " فاشترى به شاتين، وباع إحداهما بدينار، وأتاه بشاةٍ ودينار، فقال له:" باركَ الله لكَ في صفقة يمينك " وفي رواية: فدعا له بالبركة في البيع، فكان لو اشترى التراب لربح فيه

(3)

.

وقال البخاري: حدَّثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا ابن وهب، حدَّثنا سعيد بن أبي أيوب، عن أبي عقيل:

أنه كان يخرج به جدُّه عبدُ الله بن هشام إلى السوق

(4)

فيثتري الطعامَ فيلقاهُ ابنُ الزبير وابنُ عمر فيقولان: أشركنا في بَيعك فإنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قد دعا لك بالبركة فيشركهم، فربما أصابَ الراحلةَ كما هي فيبعثُ بها إلى المنزل

(5)

.

وقال البيهقي: أخبرنا أبو سعد الماليني، أنبأنا ابنُ عدي، حدَّثنا علي بن محمد بن سليمان الحلبي، حدَّثنا محمد بن يزيد المستملي، حدَّثنا شبابة بن عبد الله، حدَّثنا أيوب بن سَيَّار، عن محمد بن المنكدر، عن جابر، عن أبي بكر، عن بلال، قال:

أذَّنتُ في غداة باردة، فخرج النبىِّ صلى الله عليه وسلم فلم يرَ في المسجد أحدًا، فقال:" أين الناس؟ " فقلت: منعهم البَردُ، فقال:" اللهم أذهِب عنهم البَردَ " فرأيتهم يَتَروَّحون

(6)

.

ثم قال البيهقي: تفردَ به أيوب بن سيّار، ونظيرُ

(7)

قد مضى في الحديث المشهور عن حذيفة فى قصة الخندق.

(1)

رواه البخاري في صحيحه في النكاح رقم (2049)، ومسلم في صحيحه رقم (1427) في النكاح.

(2)

"الرَّدع": أثر الطيب.

(3)

رواه البخاري رقم (3642) وأبو داود رقم (3384) وابن ماجه رقم (2402) وهو حديث صحيح.

(4)

في البخاري: من السوق- أو إلى السوق.

(5)

رواه البخاري في صحيحه رقم (6353) في الدعوات.

(6)

دلائل النبوة، للبيهقي (6/ 224) ودلائل النبوة؛ لأبي نعيم رقم (392)، وإسناده ضعيف، فيه أيوب بن سيار ضعيف، وقال النسائي: متروك، وفيه المستملي ضعيف أيضًا. ميزان الاعتدال؛ للذهبي (1/ 289) والمجروحين (1/ 171) والكامل في الضعفاء، لابن عدي (1/ 340).

(7)

في دلائل البيهقي: ومثله.

ص: 248

حديث آخر: قال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الأصبهاني- إملاء- أنبأنا أبو إسماعيل الترمذي محمد بن إسماعيل، حدَّثنا عبد العزيز بن عبد الله الأويسي، حدَّثنا علي بن أبي علي اللهبيّ، عن ابن أبي ذِئب، عن نافع، عن ابن عمر:

أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم خرجَ وعمر بن الخطاب معه، فَعَرَضت له امرأةٌ، فقالت: يا رسولَ الله، إني امرأة مسلمة محرمة، ومعي زوجٌ لي في بيتي مِثل المرأة، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ادعي لي زوجك" فدعته وكان جَزَّارًا

(1)

، فقال له:" ما تقول في امرأتك يا عبد الله؟ " فقال الرجلُ: والذي أكرَمك ما جفَّ رأسي منها، فقالت امرأته: جاء

(2)

مرةً واحدة في الشهر، فقال لها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"أتبغضينه؟ " قالت: نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أدنيا رؤوسَكُما " فوضعَ جبهتَها على جبهةِ زوجِها ثم قال: " اللهم ألّف بينهما وحبِّب أحَدهما إلى صاحبه".

ثم مرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوق النَّمَطِ ومعه عمرُ بن الخطاب، فطلعتِ المرأةُ تحملُ أدمًا على رأسها، فلما رأت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم طرحته وأقبلَت فقبَّلت رِجليه، فقال:" كيف أنت وزوجك؟ " فقالت: والذي أكرمَك ما طارف ولا تالدٌ أحبُّ إليَّ منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أشهدُ أني رسولُ الله " فقال عمر: وأنا أشهدُ أنك رسولُ الله

(3)

.

قال أبو عبد الله

(4)

: تفرَّدَ به علي بن أبي عليٍّ اللهبي، وهو كثير الرواية للمناكير.

قال البيهقي: وقد روى يوسف بن محمد بن المنكدر، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله- يعني هذه

القصة- إلا أنه لم يذكر عمر بن الخطاب.

حديث آخر: قال أبو القاسم البغوي: حدَّثنا كامل بن طلحة، حدَّثنا حمَّاد بن سلمة، حدَّثنا علي بن زيد بن جُدعان، عن أبي الطفيل:

أن رجلًا وُلد له غلام، فأتى به رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فدعا له بالبركة وأخذ بجبهته فنبتت شعرةٌ في جبهته كأنها هُلبَة

(5)

فرس، فشبَّ الغلام، فلما كان زمنُ الخوارج أجابهم فسقطت الشعرةُ عن جبهتهِ، فأخذهُ

(1)

كذا في الأصل، وفي دلائل البيهقي: خرازًا.

(2)

في دلائل البيهقي: ما مرةٌ واحدة في الشهر.

(3)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 228) وإسناده ضعيف، فيه علي بن أبي علي اللَّهبي، من ولد أبي لهب، يروي عن الثقات الموضوعات، وعن الثقات المقلوبات، لا يجوز الاحتجاج به. وقال البخاري: منكر الحديث، وقال أبو حاتم والنسائي: متروك. المجروحين (2/ 107) الكامل في الضعفاء (5/ 1830) والقصة ظاهرة التكلف والصنعة بعيدة كل البعد عن إشراقة نور النبوة.

(4)

قال أبو عبد الله: أي الحاكم. وهذا ليس في المستدرك.

(5)

" هُلبة فرس ": الهلبة ما فوق العانة إلى قريب من السرّة. النهاية (5/ 268).

ص: 249

أبوه فحبسَه وقيَّده مخافةَ أن يلحقَ بهم، قال: فدخلنا عليه فوعظنَاه وقلنا له: ألم ترَ إلى بركةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وقعت؟ فلم نزل به حتى رجعَ عن رأيهم، قال: فردَّ الله تلك الشعرةَ إلى جبهتهِ إذ تابَ

(1)

.

وقد رواه الحافظ أبو بكر البيهقي عن الحاكم وغيره، عن الأصم، عن أبي أسامة الكلبي، عن شريح بن مسلمه

(2)

، عن أبي يحيى إسماعيل بن إبراهيم التيمي، حدَّثني سيف بن وهب، عن أبي الطفيل:

أن رجلًا من بني ليث يقال له: فِراش بن عمرو، أصابَه صداعٌ شديدٌ فذهبَ به أبوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجلسَه بين يديه، وأخذَ بجلدةٍ بين عينيه فجذبَها حتى تنقصت

(3)

، فنبتت في موضع أصابعِ رسول الله صلى الله عليه وسلم شعرةٌ، وذهب عنه الصُّداع فلم يُصدع

(4)

.

وذكر بقيَّةَ القصة في الشعرة كنحو ما تقدم.

حديث آخر: قال الحافظ أبو بكر البزار: حدَّثنا هاشم بن القاسم الحزَاني، حدَّثنا يَعلى بن الأشدق، سمعت عبدَ الله بن جَراد العقيلي، حدَّثني النابغة- يعني الجَعدِيّ- قال: أتيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فأنشدتُه من قولي:

علونا العبادَ عِفَّةً وتكرُّمًا

وإنَّا لنرجو فوقَ ذلك مَظهَرا

قال: " أين المظهرُ يا أبا ليلى؟ " قال: قلت: أي: الجنّة، قال:" أجل إن شاءَ الله " قال: " أنشدني " فأنشدتُه من قولي:

وَلا خيرَ في حِلمٍ إذا لَم يَكُنْ لَهُ

بَوادِرُ تَحمي صَفوَهُ أن يُكَدَّرا

وَلَا خَيرَ في جَهل إذا لَم يَكُن لَهُ

حَلِيمٌ إذَا ما أَورَدَ الأمر أصدَرَا

(5)

قال: " أحسنتَ لا يَفضُضِ الله فاك "

(6)

.

(1)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 230) وفي إسناده علي بن زيد بن جُدعان، ضعفه ابن سعد والجوزجاني والنسائي، وقال غيرهم: ليس بقوي. مات سنة 130 هـ. الكامل في الضعفاء (5/ 1840) وتهذيب التهذيب (6/ 322).

(2)

في المطبوع: " سريج بن مسلم " وهو تحريف، وما أثبتناه من دلائل البيهقي، وهو من رجال التهذيب (12/ 448) وقد نص المزي على روايته عن أبي يحيى إسماعيل بن إبراهيم التيمي.

(3)

كذا في الأصل، وفي دلائل البيهقي: تَنَقَّصَت، وفي المطبوع: تبعضت: أي تجزأت.

(4)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 231) وفي إسناده إسماعيل بن إبراهيم أبو يحيى التيمي كوفي يُكنى أبا يحيى، ضعفه غير واحد. الكامل في الضعفاء (1/ 302) وتهذيب التهذيب (1/ 281) والخبر ظاهر الضعف.

(5)

"أورد الأمر وأصدرا": طلب تنفيذه ثم تراجع عنه حِلمًا منه.

(6)

رواه البزار رقم (2104) وذكره الهثمي في مجمع الزوائد (8/ 126) وقال: رواه البزار وفيه يعلى بن الأشدق ضعيف.

ص: 250

هكذا رواه البزار إسنادًا ومتنًا.

وقد رواه الحافظ البيهقي من طريق أخرى فقال: أخبرنا أبو عثمان سعيد بن محمد بن عبدان، أنبأنا أبو بكر بن محمد بن المؤمل، حدَّثنا جعفرُ بن محمد بن سَوَّار، حدَّثنا إسماعيل بن عبد الله بن خالد السكري الرقي، حدَّثني يَعلى بن الأشدَق قال: سمعتُ النابغةَ- نابغةَ بني جَعدة- يقول: أنشدتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الشعر، فأعجبَه:

بَلَغْنَا السَّماءَ مَجدَنَا وثراءَنا

وَإنا لَنرجُو فَوقَ ذَلِكَ مَظهرا

(1)

فقال: " أين المظهر يا أبا ليلى؟ " قلت: الجنة. قال: " كذلك إن شاء الله ":

وَلا خيرَ في حِلمٍ إذا لَم يَكُنْ لَهُ

بَوادِرُ تَحمي صَفوَهُ أن يُكَدَّرا

وَلَا خَيرَ في جَهلٍ إذا لَم يَكُن لَهُ

حَلِيمٌ إذَا ما أَورَدَ الأمر أصدَرَا

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أجدت لا يَفضُضِ الله فاكَ".

قال يعلى: فلقد رأيتُه ولقد أتى عليه نيّفٌ ومئة سنة وما ذهب له سِن

(2)

.

قال البيهقي

(3)

: ورُوي عن مجاهد بن سليم، عن عبد الله بن جَرَادٍ: سمعتُ نابغةَ يقول: سمعني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأنا أنشدُ من قولي:

بَلَغنا السَّماءِ عِفَّةً وتكَرُّمًا

وإِنَّا لَنرجو فَوقَ ذَلِكَ مظهَرا

ثم ذكر الباقي بمعناه، قال: فلقد رأيتُ سِنَّه كلها كأنها البَرَدُ المُنهَل ما سقط له سنٌ ولا انفلت.

حديث آخر: قال الحافظ البيهقي

(4)

: أخبرنا أبو بكر القاضي وأبو سعيد بن يوسف أبي عمرو، قالا: حدَّثنا الأصم، حدَّثنا عباس الدوري، حدَّثنا علي بن بحر القطّان، حدَّثنا هشام

(5)

بن يوسف، حدَّثنا معمر، حدَّثنا ثابت وسليمان التيمي، عن أنس:

(1)

" مظهرًا ": أي ظهورًا وعلوًّا وشهرة.

(2)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 232 - 233) ودلائل النبوة؛ لأبي نعيم رقم (385)، والإصابة (3/ 509) وقال الحافظ ابن حجر بعد أن ذكر مثله: وهكذا أخرجه البزار والحسن بن سفيان في مسنديهما، وأبو نُعيم في تاريخ أصبهان، والشيرازي في الألقاب، كلهم من رواية يعلى بن الأشدق، قال: وهو ساقط الحديث

ثم ذكر عن أبي نعيم شواهد ومتابعات يعتضد بها.

(3)

دلائل النبوة (6/ 233) والخصائص البهرى، للسيوطي (2/ 167) وعزاه لابن السكن. وفي إسناد عبد الله بن جراد مجهول.

(4)

في دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 236) وإسناده صحيح.

(5)

في المطبوع: "هاشم" محرف، وهو هشام بن يوسف الصنعاني من رجال البخاري.

ص: 251

أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم نظرَ قِبَلَ العراق والشام واليمن -لا أدري بأيتهن بدأ- ثم قال: " اللهم أقبل بقلوبهم إلى طاعِتك وحطَ من أوزارهم "

(1)

.

ثم رواه عن الحاكم، عن الأصم، عن محمد بن إسحاق الصغاني، عن علي بن بحر بن بري، فذكره بمعنا

(2)

. وقال أبو داود الطيالسي: حدَّثنا عمران القطَّان، عن قتادة، عن أنس بن مالك، عن زيد بن ثابت، قال: نظَرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قِبَلَ اليمن فقال: " اللهم أقبل بقلوبهم " ثم نظرَ قِبَلَ الشام فقال: "اللهم أقبل بقلوبهم" ثم نظرَ قِبَلَ العراق فقال: "اللهم أقبل بقلوبهم، وبارك لنا في صَاعِنا ومُدِّنا "

(3)

.

وهكذا وقعَ الأمرُ، أسلتم أهلُ اليمن قبلَ أهل الشام، ثم كان الخيرُ والبركةُ قِبَلَ العراق، وَوُعِدَ أهلُ الشام بالدَّوَام على الهداية والقيام بنصرةِ الدين إلى آخر الأمر.

وروى أحمدُ في "مسنده": " لا تقومُ الساعة حتى يتحوَّلَ خيارُ أهل العراق إلى الشام، ويتحوَّلَ شِرَارُ أهل الشام إلى العراق "

(4)

.

‌فَصل

وروى مسلم، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن زيد بن الحباب، عن عكرمة بن عمار: حدَّثني إياس بن سلمة بن الأكوع؛ أن أباه حدَّثه:

أن رجلًا أكل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بشماله، فقال له:" كل بيمينك " قال: لا أستطيع، قال:" لا استطعت "ما مَنعَه إلا الكبرُ، قال: فما رفعَها إلى فيه

(5)

.

وقد رواه أبو الوليد

(6)

الطيالسي، عن عكرمة، عن إياس، عن أبيه، قال:

أبصرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بسرَ بن راعي العَير، وهو ياكل بشماله فقال:" كل بيمينك " قال: لا أستطيع، قال:" لا استطعت " قال: فما وصلت يدُه إلى فيه بعد.

(1)

كذا في المطبوع، وفي الأصل والدلائل: وحط من ورائهم.

(2)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 236) وفيه: وأحِط من ورائهم.

(3)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 236) ورواه الترمذي (3934) مختصرًا: وقال: حسن غريب، وهو كما قال.

(4)

رواه الإمام أحمد في المسند (5/ 249) عن أبي أمامة رضي الله عنه.

(5)

رواه مسلم في صحيحه رقم (2021) في الأشربة، والرجل المذكور هو بُسر بن راعي العَير الأشجعي، كذا ذكره ابن منده وأبو نعيم الأصبهاني وابن ماكولا وآخرون، وهو صحابي مشهور.

(6)

في المطبوع " أبو داود " وهو غلط، وما أثبتناه هو الذي في دلائل البيهقي (6/ 238) الذي ينقل منه المصنف.

ص: 252

وثبت في صحيح مسلم، من حديث شعبة، عن أبي حمزة

(1)

، عن ابن عباس، قال:

كنتُ ألعبُ مع الغلمان فجاءَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فاختبأتُ منه، فجاءَني فَحَطَأنِي

(2)

حَطأةً- أو حَطأَتين- وأرسلني إلى معاوية في حاجة، فأتيته وهو يأكلُ، فقلت: أتيتُه وهو يأكلُ، فأرسلني الثانية، فأتيتُه وهو يأكلُ، فقلت: أتيتُه وهو يأكلُ، فقال:" لا أشبع الله بطنَه "

(3)

.

وقد روى البيهقي، عن الحاكم، عن علي بن حماد، عن هشام بن علي، عن موسى بن إسماعيل: حدَّثني أبو عوانة، عن أبي حَمزَة: سمعتُ ابن عباسٍ قال:

كنتُ ألعبُ مع الغلمان فإذا رسولُ الله قد جاء، فقلت: ما جاءَ إلا إليّ، فذهبتُ فاختبأتُ على باب، فجاء فحطأني حطأة، وقال:" اذهب فادعُ لي معاوية "- وكان يكتبُ الوحيَ- قال: فذهبتُ فدعوتُه له، فقيل: إنه يأكلُ، فأتيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقلتُ: إنه يأكلُ، فقال:" اذهب فادعُهُ لي " فأتيتُه الثانيةَ، فقيل: إنه يأكلُ، فأتيتُ رسولَ الله فأخبرتُه، فقال في الثالثة:"لا أشبعَ الله بطنَه". قال: فما شبعَ بعدَها

(4)

.

قلت: وقد كان معاويةُ رضي الله عنه لا يشبعُ بعدَها، ووافقته هذه الدعوةُ في أيام إمارته، فيُقال: إنه كان يأكلُ في اليوم سبعَ مرّات طعامًا بلحم، وكان يقول: واللّه لا أشبعُ وإنما أَعْيَا.

وقدمنا في غزوة تبوك

(5)

أنه مرَّ بين أيديهم وهم يُصَلُّون غلامٌ، فدعا عليه، فأُقعدَ، فلم يقم بعدَها.

وجاء من طرق أوردها البيهقي

(6)

، أن رجلًا حاكَى النبي صلى الله عليه وسلم في كلامٍ، واختلج

(7)

بوجهه، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"كن كذلك " فلم يزل يختلجُ ويرتعشُ مدّةَ عمره حتى مات.

وقد ورد في بعض

(8)

الروايات أنه الحكم بن أبي العاص، أبو مروان بن الحكم، فاللّه أعلم.

وقال مالك: عن زيد بن أسلم، عن جابر بن عبد الله، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بني

(1)

هو عمران بن أبي عطاء الأسدي أبو حمزة القصاب، وهو ضعيف يعتبر به في المتابعات وحسب.

(2)

" فحطأني حَطأةً ": أي قفدني. وهو الضرب باليد مبسوطة بين الكتفين.

(3)

رواه مسلم في صحيحه رقم (2604) في البر والصلة.

(4)

دلائل النبوة للبيهقي (6/ 243) وقال بعده: ورُوي عن هُريم، عن أبي حمزة في هذا الحديث زيادة تدل على الاستجابة.

(5)

تقدم هذا في السيرة النبوية.

(6)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 239 - 240) من حديث عبد الرحمن بن أبي بكر بن عبد الله بن أبي مليكة القرشي التيمي المليكي المدني، وهو ضعيف، والإسناد منقطع.

(7)

و" اختلج ": تحرَّك واضطرب.

(8)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 240).

ص: 253

أنمار، فذكرَ الحديثَ في الرجل الذي عليه ثوبان قد خَلَقَا، وله ثوبان في العَيبَة

(1)

، فأمرَه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فلبسَهُما، ثم ولَّى، فقال رسول الله:" ماله؟ ضرب الله عنقه "

(2)

، فقال الرجل: في سبيل الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" في سبيل الله " فقُتِل الرجلُ في سبيل الله "

(3)

.

وقد ورد من هذا النوع كثير.

وقد ثبَت في الأحاديث الصحيحة بطرق متعددة عن جماعة من الصحابة تفيدُ القطعَ كما سنُوردها قريبًا في باب فضائله صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال: " اللهم من سَبَبْتُه أو جلدتُه أو لعنتُه وليس لذلك أهلًا، فاجعل ذلك قربةً له تقربُه بها عندكَ يومَ القيامة ".

وقد قدمنا في أوّل البعثة حديثَ ابن مسعود في دعائه صلى الله عليه وسلم على أولئك النفر السبعة، الذين أحدهم أبو جهل بن هشام وأصحابه، حين طرَحوا على ظهره عليه الصلاة والسلام سَلا

(4)

الجزور، وألقته عنه ابنته فاطمة، فلما انصرفَ قال:" اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بأبي جهل بن هشام، وشَيبةَ بن ربيعة، وعُتبةَ بن ربيعة، والوليد بن عُتبة " ثم سمّى بقيّة السبعة، قال ابن مسعود: فوالذي بعثَه بالحق لقد رأيتُهم صرعى في القَلِيبِ

(5)

قليبِ بدر

(6)

الحديث. وهو متفق عليه.

حديث آخر: قال الإمام أحمد

(7)

: حدَّثني هاشم، حدَّثنا سليمان- يعني ابن المغيرة- عن ثابت، عن أنس بن مالك، قال:

كان مِنَّا رجلٌ من بني النجار قد قرأَ البقرةَ وآل عمران، وكان يكتبُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلقَ هاربًا حتى لَحِقَ بأهل الكتاب، قال: فرفعُوه، وقالوا: هذا كان يكتُبُ لمحمّد، وأُعجبُوا به، فما لبث أن قصمَ الله عنقَه فيهم، فحفروا له فَوارَوه، فأصبحتِ الأرضُ قد نبذتهُ على وجهِها، ثم عادُوا فحفروا له ووَارَوه، فأصبحتِ الأرضُ قد نبذتهُ على وجهِها، فتركُوه مَنبوذًا.

(1)

" العَيبَة ": مستودع الثياب.

(2)

في الموطأ: فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ما له؟ ضرب الله عنقه، أليس هذا خيرًا له؛ والحافظ ابن كثير ذكره باختصار.

(3)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 244) وهو عند مالك في الموطا (2/ 910) في اللباس من حديث زيد بن أسلم عن جابر. ورواه الحاكم (4/ 183) من حديث زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن جابر، وإسناده حسن.

(4)

"سلا الجزور": الذي يكون فيه الولد في بطن أمه، وقيل: هو الكرش.

(5)

" القليب ": البئر لا ماء فيه.

(6)

رواه البخاري في صحيحه رقم (240) في الوضوء وغيره، ومسلم في صحيحه رقم (1794) في الجهاد، والنسائي في سننه (1/ 161 - 162) في الطهارة.

(7)

رواه الإمام أحمد في المسند (3/ 223) وفيه تكرار الحفر والنبذ ثلاث مرات. ومعنى نبذته: طرحته على وجهها عبرة للناظرين.

ص: 254

ورواه مسلم

(1)

، عن محمد بن رافع، عن أبي النضر هاشم بن القاسم، به.

طريق أخرى عن أنس: قال الإمام أحمد

(2)

: حدَّثنا يزيدُ بن هارون، حدَّثنا حُميد، عن أنس: أن رجلًا كان يكتبُ للنبي صلى الله عليه وسلم، وكان قد قرَأ البقرةَ وآل عمران، وكان الرجلُ إذا قرأ البقرة وآل عمران عز

(3)

فينا- يعني عَظُمَ- فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُملي عليه: غفورًا رحيمًا، فيكتبُ: عليمًا حكيمًا، فيقول له النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"اكتب كذا وكذا " فيقول: أكتبُ كيفَ شِئتُ، ويُملي عليه: عليمًا حكيمًا، فيكتبُ: سميعًا بصيرًا، فيقول: أكتبُ كيف شئتُ، قال: فارتدَّ ذلكَ الرجل عن الإسلام فلحِقَ بالمشركين. وقال: أنا أعلمُكم بمحمد، وإني كنتُ لا أكتبُ إلّا ما شئتُ، فماتَ ذلك الرجل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الأرض

(4)

لا تقبله ".

قال أنس: فحدَّثني أبو طلحة أنه أتى الأرضَ التي ماتَ فيها ذلك الرجل فوجدَه منبوذًا، فقال

أبو طلحة: ما شأنُ هذا الرجل؟ قالوا: قد دفنّاه مِرَارًا فلم تقبله الأرضُ.

وهذا على شرط الشيخين ولم يخرجوه.

‌طريق أخوى عن أنس

وقال البخاري

(5)

: حدَّثنا أبو مَعمر، حدَّثنا عبد الرزاق، حدَّثنا عبد العزيز، عن أنس بن مالك، قال: كان رجل نصراني فأسلمَ وقرأَ البقرةَ وآل عمران، وكان يكتبُ للنبيّ صلى الله عليه وسلم فعادَ نصرانيًا، وكان يقولُ: لا يدري محمّد إلا ما كتبتُ له، فأماتَه الله فدفنوه، فأصبحَ وقد لَفَظَته الأرض، فقالوا: هذا فعل محمد وأصحابه- لما هربَ منهم نَبَشُوا عن صاحبت فألقَوه-، فحفروا له فأعمَقُوا له في الأرض ما استطاعوا، فأصبحوا وقد لفظَته الأرضُ، فعلِمُوا أنه ليس من الناس فألقَوه.

‌باب المسائل التي سُئل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجابَ عنها بما يُطابقُ الحقَّ الموافقَ لها في الكتب الموروثة عن الأنبياء

قد ذكرنا في أول البعثة ما تَعنّتَت به قريشٌ، وبعثت إلى يهود المدينة يَسألونَهم عن أشياء يسألونَ عنها

(1)

في صحيحه رقم (2781) في صفات المنافقين.

(2)

في مسنده (3/ 120).

(3)

في المسند: جدَّ وهي بمعنى عَظُم.

(4)

في المسند: لم تقبله.

(5)

رواه البخاري في صحيحه رقم (3617) في المناقب (باب علامات النبوة في الإسلام).

ص: 255

رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: سَلوه عن الروح، وعن أقوام ذهبوا في الدهر فلا يُدرى ما صَنعوا، وعن رجل طوَّافٍ في الأرض بلغَ المشارقَ والمغاربَ، فلما رجعوا سألُوا عن ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل قوله تعالى:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85].

وأنزلَ سورةَ الكهف يشرحُ فيها خبرَ الفِتية الذين فارقوا دينَ قومهم وآمنوا بالله العزيز الحميد، وأفردُوه بالعبادة، واعتزلُوا قومَهم، ونزلوا غارًا وهو الكهف، فنامُوا فيه، ثم أيقظَهم الله بعد ثلاثمئة سنة وتسع سنين، وكان من أمرهم ما قصَّ الله علينا في كتابه العزيز، ثم قصَّ خبرَ الرجلين المؤمن والكافر، وما كان من أمرِهما، ثم ذكرَ خبرَ موسى والخضر وما جرى لهما من الحكم والمواعظ.

ثم قال: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا} [الكهف: 83].

ثم شرحَ، ثم ذكرَ خبرَه وما وصلَ إليه من المشارق والمغارب، وما عَمِلَ من المصالح في العالم، وهذا الإخبارُ هو الواقعُ في الواقع، وإنما يُوافقه من الكتب التي بأيدي أهل الكتاب، ما كان منها حقًا، وأما ما كان مُحرَّفًا مُبدَّلًا فذاك مردود، فإن الله بعثَ محمدًا بالحق وأنزل عليه الكتاب ليبيِّنَ للناس ما اختلفوا فيه من الأخبار والأحكام، قال الله تعالى بعد ذكر التوراة والأنجيل:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة: 48]. وذكرنا في أول الهجرة قصّة إسلام عبد الله بن سَلام، وأنه قال:

لما قدِمَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المدينة انجفلَ الناسُ إليه، فكنتُ فيمنِ انجفلَ، فلما رأيتُ وجهه علمت

(1)

أن وجهَه ليس بوجه كذاب، فكان أول ما سمعته يقول:" أيها النَّاسُ، أفشُوا السَّلامَ، وصِلُوا الأرحامَ، وأطعموا الطعامَ، وصَلُّوا بالليل والناسُ نيام، تَدخُلوا الجنَّة بسلام "

(2)

.

وثبتَ في صحيح البخاري وغيره، من حديث إسماعيل بن عَطيّة، وغيره، عن حُميد، عن أنس:

قصة سؤاله رسول الله صلى الله عليه وسلم: عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبيّ، ما أوّل أشراط الساعة؟ وما أول طعام يأكلُه أهلُ الجنّة؟ وما ينزع الولد إلى أبيه وإلى أمه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أخبرني بهنَّ جبريل آنفًا، ثم قال: أما أوَّلُ أشراط الساعة فنارٌ تحشرُ الناسَ من المشرق إلى المغرب، وأما أوّلُ طعامٍ يأكلُه أهلُ الجنّةِ فزيادَةُ كَبدِ الحوت، وأما الولدُ فإذا سبقَ ماءُ الرجل ماءَ المرأة نَزَعَ الولدُ إلى أبيه، وإذا سبقَ مَاءُ المرأةِ ماءَ الرجلِ نَزَعَ الولدُ إلى أمِّه "

(3)

.

(1)

كذا في الأصل، وفي المطبوع: قلت.

(2)

رواه الإمام أحمد في المسند (5/ 451) وابن أبي شيبة في المصنف (8/ 536 و 624) و (14/ 95) والترمذي في الجامع رقم (2485) في صفة القيامة، وابن ماجه في سننه رقم (1334) في إقامة الصلاة وهو حديث صحيح.

(3)

رواه البخاري في صحيحه رقم (3938) في مناقب الأنصار، وهو عند الإمام أحمد في المسند (3/ 108) كلاهما عن =

ص: 256

وقد رواه البيهقيُّ، عن الحاكم، عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يُونس بن بُكير، عن أبي مَعشر، عن سعيد المقبري، فذكر مُساءَلةَ عبد الله بن سلام إلا أنه قال: فسأله عن السَّوَاد الذي في القمر، بدلَ أشراط الساعة، فذكرَ الحديث إلى أن قال: " وأما السَّوادُ الذي في القمر فإنهما كانا

(1)

شمسين، فقال الله عز وجل:{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ} [الإسراء: 12]. فالسَّوَادُ الذي رأيتَ هو المحو " فقال عبدُ الله بن سلام: أشهدُ أن لا إلهَ إلا الله وأن محمّدًا رسولُ الله

(2)

.

حديث آخر في معناه: قال الحافظ البيهقي: أخبرنا أبو زكريا يحيى بن إبراهيم المزكي، أنبأنا أبو الحسن- أحمد بن محمد بن عبدوس

(3)

- حدثنا عثمان بن سعيد، أخبرنا الرَّبِيعُ بن نافع، أبو توبة، حدَّثنا معاويةُ بن سَلام، عن زيد بن سَلام؛ أنه سمع أبا سَلامٍ يقول: أخبرني أبو أسماء الرَّحَبيّ؛ أن ثَوبانَ حدَّثه، قال:

كنتُ قائمًا عندَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءَه حَبرٌ من أحبارِ اليهود، فقال: السَّلامُ عليك يا محمّد، فدفعتُه دفعة كاد يُصرع منها، قال: لمَ تدفعني؛ قال: قلت: ألا تقول: يا رسول الله؟ قال: إنما سمّيته باسمه الذي سمَّاه به أهلُه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن اسمي الذي سمَّاني به أهلي محمد " فقال اليهودي: جئتُ أسألُكَ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ينفعُك شيءٌ إن حدَّثتُك؟ " قال: أسمعُ بأذني، فنكتَ بعودٍ معَه فقال له: سل، فقال له اليهودي: أينَ النَّاسُ يومَ تُبَدَّلُ الأرضُ غيرَ الأرض والسَّموات؟ فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "في الظّلمة دون الجسر " قال: فمن أوّل الناس إجازةً؟ فقال: " فقراء المهاجرين " قال اليهودي: فما تُحفَتُهم حين يدخلونَ الجنّة؟ قال: " زيادةُ كَبِدِ الحُوت " قال: وما غذاؤهم على إثره؟ قال: "يُنحَرُ لهم ثَورُ الجنةِ الذي كان يأكلُ من أطرافِها " قال: فما شرابُهم عليه؟ قال: " من عين فيها تُسمَّى سَلسَبيلًا " قال: صدقت.

قال: وجئتُ أسألُك عن شيءً لا يعلمُه أحدٌ من الأرض إلا نبيٌّ أو رجلٌ أو رجلان. قال: " ينفعُك إن حدَّثتُك؟ " قال: أسمع بأذني، قال: جئتُ أسألُك عن الولد، قال: " ماءُ الرجل أبيض وماءُ المرأة أصفر، فإذا اجتمعا فَعَلا منيُّ الرجل منيَّ المرأة أذكرا بإذن الله، وإذا علا منيُّ المرأة منيَّ الرجل أنّثا

= أنس رضي الله عنه، والسائل هو عبد الله بن سَلام.

(1)

في دلائل البيهقي: فإنهما كأنهما شمسين.

(2)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 262) وإسناده ضعيف، لضعف أبي معشر نجيح السندي؛ قال ابن أبي شيبة: كان يحدّث عن المقبري بأحاديث منكرة.

(3)

كذا في الأصل ودلائل البيهقي، وفي المطبوع: عيدروس.

ص: 257

بإذن الله" فقال اليهودي: صدقتَ، وإنك لنبيّ، ثم انصرفَ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه سألني عنه وما أعلم شيئًا منه حتى أتاني الله به"

(1)

.

وهكذا رواه مسلم

(2)

، عن الحسن بن عليّ الحلواني، عن أبي توبة، الربيع بن نافع، به، وهذا الرجلُ يُحتملُ أن يكونَ هو عبد الله بن سلام، ويُحتمل أن يكون غيره، واللّه أعلم.

حديث آخر: قال أبو داود الطيالسي: حدَّثنا عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب، حدَّثني ابنُ عباس، قال: حضرت عصابة من اليهود يومًا عند رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسولَ الله حدَّثنا عن خلالٍ نسألُك عنها لا يعلمُها إلا نبى، قال: "سَلوني عما شِئتم، ولكن اجعلُوا لي ذمَّةَ الله وما أخذَ يعقوبُ على بنيه إن أنا حدَّثتكم بشيء تعرفونَه صِدقًا لتُتَابعُنِّي

(3)

على الإسلام " قالوا: لك ذلك، قال: " سَلُوا عما شِئتم " قالوا: أخبرنا عن أربع خِلال ثم نسألُك، أخبرنا عن الطعام الذي حرَّمَ إسرائيلُ على نفسه من قبل أن تنزلَ التوراة، وأخبرنا عن ماءِ الرجلِ كيف يكونُ الذكرُ منه حتى يكونَ ذكرًا، وكيف تكونُ الأنثى حتى تكونَ أنثى، وأخبرنا عن هذا النبيِّ في النوم، ومن وليّك من الملائكة؟ قال: " فعليكم عهدُ الله لئن أنا حدَّثتكم لتُتَابِعُنّي " فأعطوه ما شاءَ من عهد وميثاق، قال: "أنشدُكم بالله الذي أنزلَ التوراةَ على موسى، هل تعلمون أن إسرائيلَ -يعقوب- مَرِضَ مرضًا شديدًا طال سقمُه فيه، فنذرَ للّه نَذرًا لئن شفاهُ الله من سقمِه ليحرمَنَّ أحبَّ الشرابِ إليه وأحبَّ الطعام إليه، وكان أحبَّ الشرابِ إليه ألبانُ الإبل، وأحبَّ الطعام إليه لحمان الابل؟ " قالوا: اللهم نعم، فقال رسول الله:"اللهم اشهد عليهم" قال: فانشُدكُم الله الذي لا إلهَ إلا هو، الذي أنزلَ التوراةَ على موسى، هل تعلمونَ أن ماءَ الرجلِ أبيض، وأن ماء المرأة رقيقٌ أصفر، فأيُّهما علا كان له الولد والشَّبَه بإذن الله، وإن علا ماءُ الرجل ماءَ المرأة كان ذكرًا بإذن الله، وإن علا ماءُ المرأةِ ماءَ الرجل كان أنثى بإذن الله؟ " قالوا: اللهم نعم. قال رسول الله: "اللهم اشهد عليهم".

قال: "وأنشدُكم بالله الذي لا إلهَ إلا هو، الذي أنزلَ التوراةَ على موسى، هل تعلمونَ أن هذا النبي تنامُ عيناه ولا ينامُ قلبُه؟ " قالوا: اللهم نعم. قال: "اللهم اشهد عليهم".

قالوا: أنت الآن حدّثنا عن وليَّك من الملائكةِ، فعندَها نجامعُكَ أو نفارِقُكَ، قال: " وليّي جبريلُ

(1)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 263 - 264) وإسناده صحيح. ومعنى فنكت: خط في الأرض بعود وأثَّر فيها. والجسر: الصراط. وتحفتهم: ما يهدى إلى الرجل ويخصف له ويُلاطف. وآنثا: كان الولد أنثى.

(2)

رواه مسلم في صحيحه رقم (315) في الحيض.

(3)

في دلائل البيهقي (6/ 266) لتبايعني. والتحريف فيها قريب.

ص: 258

عليه السلام، ولم يبعثِ الله نبيًّا قطُّ إلا وهو وليّه " فقالوا: نفارقُك، لو كان وليُّك غيره من الملائكة لبايعنَاك وصدَّقناكَ، قال:" فما يمنعُكم أن تُصدِّقوه؟ " قالوا: إنه عدوُّنا من الملائكة، فأنزل الله عز وجل:{قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ} الآية [البقرة: 97]، ونزلت {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} الآية

(1)

[البقرة: 90].

حديث آخر: قال الإمام أحمد، حدَّثنا يزيد، حدَّثنا شُعبة عن عمرو بن مُرَّةَ، سمعت عبدَ الله بن سلمة يُحدِّث عن صفوان بن عسال المرادي، قال:

قال يهوديٌّ لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا النبي حتى نسألَه عن هذه الآية: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [الإسراء: 101] فقال: لا تقل له شيئًا، فإنه لو سمعَك لصارت له أربعُ أعين، فسألاه: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تشركوا باللّه شيئًا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تسحروا، ولا تأكلوا الربا، ولا تمشوا ببريءٍ إلى ذي سلطان ليقتلَه، ولا تقذفوا محصنةً، أوقال: لا تَفِرُّوا من الزحف- شعبةُ الشَّاكُّ- وأنتم يا معشرَ يهود عليكم خاصة ألَّا تَعدُوا في السَّبت " قال: فقبَّلا يديه ورجليه وقالا: نشهدُ أنَّك نبيّ، قال: فما يمنعُكما أن تَتَّبِعَاني؟ قالا: إن داودَ عليه السلام دعا ألا يزالَ من ذريته نبي، وإنا نخشى إن أسلمنا أن تقتلنَا يهودُ.

وقد رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه وابن جرير والحاكم والبيهقي

(2)

من طرق، عن شُعبة، به، وقال الترمذيُّ: حسنٌ صحيح.

قلت: وفي رجاله من تُكُلِّمَ فيه

(3)

، وكأنه اشتُبِه على الراوي التسعُ الآيات بالعشر الكلمات، وذلك أن الوصايا التي أوصاها الله إلى موسى وكلَّمه بها ليلة الطور بعدما خرجوا من ديار مصر، وشعبُ بني إسرائيل حول الطور حضورٌ، وهارون ومن معه من العلماء وقوف على الطور أيضًا، وحينئذ كلَّم الله موسى آمرأ له بهذه العشر كلمات، وقد فُسّرَت في هذا الحديث، وأما التسعُ الآيات فتلك دلائلُ وخوارق عادات أُيّدَ بها موسى عليه السلام، وأظهَرها الله على يديه بديار مصر، وهي العصا، واليد، والطوفان، والجراد، والقُمَّل، والضفادع، والدم، والجدب، ونقص الثمرات.

وقد بسطتُ القولَ على ذلك في " التفسير "

(4)

بما فيه الكفاية، واللّه أعلم.

(1)

رواه أبو داود الطيالسي رقم (2731) ولكن المصنف نقله من دلائل البيهقي (6/ 266 - 267).

(2)

رواه الترمذي (2733) في الاستئذان، والنسائي (7/ 111) وهو في الكبرى (3541) و (8656)، وابن ماجه (3705) في الأدب، وابن جرير في تفسيره (15/ 172)، والحاكم (1/ 9)، والبيهقي في السنن (8/ 166).

(3)

لعله يشير إلى عبد الله بن سلمة المرادي، فهو ضعيف يعتبر به كما هو مبين في تحرير التقريب (2/ 217).

(4)

تفسير القرآن العظيم؛ لابن كثير (3/ 66).

ص: 259

‌فَصل

وقد ذكرنا في " التفسير " عند قوله تعالى في سورة البقرة: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [البقرة: 94 - 95]، ومثلها في سورة الجمعة، وهي قوله:{قُلْ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [الجمعة: 6 - 7]، وذكرنا أقوال المفسرين في ذلك، وأن الصوابَ أنه دعاهم إلى المباهلة، وأن يدعُوا بالموت على المبطل منهم أو المسلمين، فَنَكلُوا عن ذلك لعلمِهم بظلم أنفسهم، وأن الدعوةَ تنقلبُ عليهم، ويعودُ وَبالُها إليهم.

وهكذا دعا النصارى من أهل نجران حين حاجُّوه في عيسى ابن مريم، فأمرَه الله أن يدعوَهم إلى المباهلة في قوله:{فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران: 61].

وهكذا دعا على المشركين على وجه المباهلة في قوله: {قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} [مريم: 75]. وقد بسطنا القول في ذلك عند هذه الآيات في كتابنا " التفسير " بما فيه كفاية، وللّه الحمد والمنة.

‌حديثٌ آخر: يتضمّن اعترافَ اليهود بأنه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ويتضمّن تحاكُمَهم إليه، ولكن بقصدٍ منهم مذموم

وذلك أنهم ائتمروا بينهم: أنه إن حكمَ بما يُوافق هواهُم اتَّبعوه، وإلا فاحذَرُوا ذلك، وقد ذمَّهم الله في كتابه العزيز على هذا القصد.

قال عبد الله بن المبارك: حدَّثنا معمر، عن الزهري، قال: كنتُ جالسًا عند سعيد بن المسيب، وعند سعيد رجلٌ وهو يوقِّره، وإذا هو رجلٌ من مُزينة، كان أبوه شهدَ الحُدَيبية، وكان من أصحاب أبي هريرة، قال: قال أبو هريرة: كنتُ جالسًا عندَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءَ نفرٌ من اليهود- وفد زنى رجل منهم وامرأة- فقال بعضُهم لبعض: اذهبوا بنا إلى هذا النبي فإنه نبيٌّ بُعث بالتخفيف، فإن أفتانا حَدًّا دون الرجم فعلنَاه واحتجَجنا عند الله حين نلقاهُ بتصديق نبيٍّ من أنبيائه.

قال مُرّة: عن الزهري: وإن أمرنا بالرجم عصينَاه، فقد عَصَينَا الله فيما كتبَ علينا من الرجم في التوراة.

ص: 260

فأتوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وهو جالسٌ في المسجد في أصحابه، فقالوا: يا أبا القاسم ما تَرى في رجل منا زنى بعد ما أُحصِنَ؟ فقام رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ولم يُرجع إليهم شيئًا، وقام معه رجالٌ من المسلمين، حتى أتَوا بيتَ مِدراس اليهود، فوجدوهم يَتدارسون التوارةَ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يا معشر اليهود، أنشدُكم باللّه الذي أنزلَ التوراةَ على موسى، ما تَجدون في التوراةِ من العقوبةِ على مَن زنى إذا أُحصِنَ؟ " قالوا: نجبيه

(1)

، والتجبية أن يحملوا اثنين على حِمار، فيُولّوا ظهرَ أحدهما ظهرَ الآخر. قال: وسكتَ حَبرُهم، وهو فتى شاب، فلما رآه رسولُ اللِّه صلى الله عليه وسلم صَامتًا ألظَّ به النَّشدَةَ.

فقال حَبرُهم: أما إذ نشدتُهم فإنا نجدُ في التوراة الرجمَ على من أُحصِنَ، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"فما أولُ ما تَرَخَّصتُم أمرَ الله عز وجل؟ " فقال: زنى رجل منا ذو قرابةٍ بملِكٍ من مُلوكنا، فأخَّر عنه الرجمَ، فزنى بعدَه آخرُ في إثرِه من الناس فأراد ذلك الملكُ أن يرجمَه، فقام قومُه دونَه، فقالوا: لا واللّه لا نرجمُهُ حتى يرجمَ فلانًا ابنَ عمِّه، فاصطلحوا بينَهم على هذه العقوبة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"فإني أحكُم بما حُكِمَ في التوراة " فأمرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بهما فرُجِمَا.

قال الزهري: وبلغنا أن هذه الآيات نزلت فيهم: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} [المائدة: 44].

وله شاهدٌ في الصحيح عن ابن عمر.

قلت: وقد ذكرنا ما وردَ في هذا السياق من الأحاديث عند قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ} [المائدة: 41] يعني الجلد والتحميم الذي اصطلحوا عليه وابتدعوه من عند أنفسهم، يعني: إن حكم لكم محمد بهذا فخذوه: {وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا} [المائدة: 41]، يعني: وإن لم يحكم لكم بذلك فاحذرُوا قبولَه، قال الله تعالى:{وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 41] إلى أن قال: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [المائدة: 43] فذمَّهم الله تعالى على سوء ظنِّهم وقصدهم بالنسبة إلى اعتقادهم في كتابهم، وأن فيه حكم الله بالرجم، وهم من ذلك يعلمون صحته، ثم يعدلون عنه إلى ما ابتدعوه من التحميم والتجبية.

وقد روى هذا الحديثَ محمد بن إسحاق، عن الزهري، قال: سمعتُ رجلًا من مزينةَ يُحدِّث سعيدَ بن المسيب؛ أن أبا هريرة حدَّثهم فذكرَه، وعنده: فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لابن صوريا: "أنشدُك باللّه

(1)

كذا في الأصل، وفي دلائل البيهقي: نجبّه. وبهامشه: نحممه.

ص: 261

وأذكرك أيامَه عند بني إسرائيل، هل تعلمُ أنَّ الله حكمَ فيمن زنى بعدَ إحصانِه بالرجمِ في التوراة؟ " فقال: اللهم نعم، أما والله يا أبا القاسم، إنهم يَعرفون أنك نبيٌّ مرسل، ولكنَّهم يَحسدونَك.

فخرجَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فأمرَ بهما فرُجِما عندَ باب مسجده في بني غنم بن مالك بن النجار.

قال: ثم كفرَ بعد ذلك ابنُ صوريا، فأنزل الله:{يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} [المائدة: 41] الآيات.

وقد وردَ ذكرُ عبد الله بن صُوريا الأعور في حديث ابن عمر وغيره، برواياتٍ صحيحة قد بيَّنَّاها في "التفسير".

حديث آخر: قال حمَّادُ بن سلمة: حدَّثنا ثابت، عن أنس؛ أن غلامًا يهوديًا كان يخدمُ النبي صلى الله عليه وسلم فمرضَ، فأتاه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يعودُه، فوجدَ أباه عندَ رأسِه يقرأُ التوراةَ، فقال له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:" يا يهوديُّ، أنشدُكَ بالله الذي أنزلَ التوارةَ على موسى، هل تجدونَ في التوارة نَعتي وصِفَاتِي ومَخرجي؟ " فقال: لا، فقال الفتى: بلى والله يا رسولَ الله، إنا نجد في التوراة نعتك وصفتك ومخرجك وإني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، فقال النبيُّ لأصحابه: " أقيمُوا هذا من عند رأسه، وَلُوا

(1)

أخاكم". رواه البيهقيّ من هذا الوجه بهذا اللفظ

(2)

.

حديث آخر: قال أبو بكر بن أبي شيبة، حدَّثنا عفّان، حدَّثنا حمَّاد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن أبي عُبيدة بن عبد الله، عن أبيه، قال:

إن الله ابتعثَ نبيَّه صلى الله عليه وسلم لإدخال رجل الجنَّةَ، فدخلَ النبىِّ صلى الله عليه وسلم كنيسةً، وإذا يهوديٌّ يقرأُ التوراةَ، فلما أتى على صفتِه أمسكَ، قال: وفي ناحيتها رجلٌ مريض، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:" ما لكم أمسكتُم؟ " فقال المريضُ: إنهم أتَوا على صفة نبي فأمسَكُوا، ثم جاء المريضُ يَحبُو حتى أخذَ التوراة وقال: ارفع يدَك، فقرأَ حتى أتى على صفتِه، فقال: هذه صفتُك وصفةُ أمّتك، أشهدُ أن لا إلهَ إلا الله وأشهدُ أنَّ محمّدًا رسولُ الله، ثم ماتَ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" لوا أخاكم "

(3)

.

حديث آخر: إن النبي صلى الله عليه وسلم: وقف على مِدراس اليهود فقال: " يا معشرَ يهودَ أسلموا، فوالذي لا إلهَ إلا هو إنَّكم لتعلمونَ أني رسولُ الله إليكم " فقالوا: قد بلَّغتَ يا أبا القاسم، فقال:" ذلك أريد "

(4)

.

(1)

" ولوا ": من الولاية: أي اهتموا بتجهيزه ودفنه.

(2)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 272) وهو حديث حسن.

(3)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 272 - 273) وأبو عبيدة لم يسمع من أبيه عبد الله بن مسعود. ولكن يشهد له الذي قبله.

(4)

رواه البخاري في صحيحه رقم (6944) في الإكراه، ومسلم في صحيحه رقم (1765) في الجهاد والسير بلفظ متقارب. وبيت المِدراس: المراد به كبير اليهود، ونسب البيت إليه لأنه هو الذي كان صاحب دراسة كتبهم أي:=

ص: 262

‌فصل

فالذي يقطعُ به كتابُ الله وسنّة رسولهِ، ومن حيث المعنى: أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قد بشَّرت به الأنبياء قبلَه، وأتباعُ الأنبياء يعلمون ذلك، ولكنَّ أكثرَهم يكتمون ذلك ويُخفونه.

قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 157 - 158].

وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [الأنعام: 114] وقال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 146] وقال تعالى: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ} [آل عمران: 20]، وقال تعالى:{هَذَا بَلَاَغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ} [إبراهيم: 52] وقال تعالى: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلغَ} [الأنعام: 19] وقال تعالى {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ} [هود: 17] وقال تعالى: {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} [يس: 70].

فذكر تعالى بعثته إلى الأمّيينَ وأهلِ الكتاب وسائرِ الخلق من عربهم وعجمهم، فكل من بلغَه القرآنُ فهو نذير له، قال صلى الله عليه وسلم:"والذي نفسي بيده لا يسمعُ بي أحدٌ من هذه الأمة يهوديّ ولا نصرانيّ ولا يُؤمن بي إلا دخلَ النار ". رواه مسلم

(1)

.

وفي الصحيحين: " أعطيت خمسًا لم يُعطَهن أحد من الأنبياء قبلي: نُصِرتُ بالرُّعب مسيرةَ شهرٍ، وأُحِلَّت لي الغنائمُ ولم تحلَّ لأحدٍ قبلي، وجُعلت لي الأرضُ مَسجدًا وطَهورًا، وأُعطيت الشفاعةَ، وكان النبيُّ يُبعثُ إلى قومه وبُعثت إلى الناس عامّة "

(2)

.

= قراءتها. الفتح (12/ 393).

(1)

رواه مسلم في صحيحه رقم (153) في الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس ونسخ الملل بملته، وأحمد في المسند (2/ 350) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، بلفظ:" والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أُرسلت به، إلا كان من أصحاب النار ".

(2)

رواه البخاري في صحيحه رقم (335) في التيمم في أوله، ورقم (438) في الصلاة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: جعلت =

ص: 263

وفيهما: "بُعثت إلى الأسود والأحمر"

(1)

قيل: إلى العرب والعجم، وقيل: إلى الإنس والجن، والصحيح أعمُ من ذلك.

والمقصود أن البشارات به صلى الله عليه وسلم موجودة في الكتب الموروثة عن الأنبياء قبله، حتى تناهتِ النبوّةُ إلى آخر أنبياء بني إسرائيل، وهو عيسى ابن مريم، وقد قام بهذه البشارة في بني إسرائيل، وقصنَ الله خبرَ في ذلك، فقال تعالى:{وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6].

فأخبارُ محمّدٍ صلواتُ الله وسلامُه عليه بأن ذكرَه موجودٌ في الكتب المتقدمة، فيما جاء به من القرآن، وفيما وردَ عنه من الأحاديث الصحيحة كما تقدَّمَ، وهو مع ذلك من أعقلِ الخلق باتفاق المُوافق والمُفارق، يدل على صدقه في ذلك قطعًا، لأنه لو لم يكن واثقًا بما أخبرَ به من ذلك، لكان ذلك من أشدِّ المُنَفِّراتِ عنه، ولا يُقدم على ذلك عاقل، والغرضُ أنه من أعقلِ الخلقِ حتى عند من يُخالفه بل هو أعقلُهم في نفس الأمر.

ثم إنه قد انتشرت دعوتُه في المشارق والمَغارب، وعمَّت دولةُ أمَّتِه في أقطار الآفاق عمومًا لم يحصل لأمةٍ من الأمم قبلَها، فلو لم يكن محمد صلى الله عليه وسلم نبيًا، لكان ضررُه أعظمَ من كل أحد، ولو كان كذلك لحذَّرَ عنه الأنبياءُ أشدَّ التحذير، ولنفروا أممَهم منه أشدَّ التنفير، فإنهم جميعهم قد حذروا من دعاة الضلالة في كتبهم، ونهوا أممَهم عن اتِّباعِهم والاقتداء بهم، ونصُّوا على المسيح الدجال، الأعورِ الكذاب، حتى قد أنذرَ نوح- وهو أوَّلُ الرسل- قومَه، ومعلومٌ أنه لم يَنصَّ نبي من الأنبياء على التحذير من محمَّد، ولا التنفير عنه، ولا الإخبار عنه بشيء خلافَ مدحه، والثناء عليه، والبشارة بوجوده، والأمر باتباعه، والنهي عن مخالفته، والخروج من طاعته.

قال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 81 - 82] قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما بعثَ الله نبيًا إلا أخذَ عليه الميثاق؛ لئن بُعث محمد وهو حيٌّ ليُؤمِنن به ولينصرنَه، وأمرَه أن يأخذَ على أُمّته الميثاقَ لئن بُعث محمَّدٌ وهم أحياء ليُؤمِنُنَ به وليتبعُنَّه

(2)

. رواه البخاري

(3)

.

= لي الأرض مسجدًا وطهورًا. ومسلم في صحيحه (521) في كتاب المساجد ومواضع الصلاة من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.

(1)

رواه مسلم في صحيحه رقم (521) بلفظ " بعثت إلى كل أحمر وأسود " وهو جزء من حديث جابر الذي قبله.

(2)

في فتح القدير للشوكاني (1/ 437): لينصرنَّه.

(3)

لم يروه البخاري، ولم يذكره ابن كثير في تفسيره عن البخاري، وقد ذكره من كلام علي وابن عباس وإنما هو غلط، =

ص: 264

وقد وجدت البشارات بِه صلى الله عليه وسلم في الكتب المتقدمة، وهي أشهرُ من أن تُذكرَ وأكثرُ من أن تُحصر.

وقد قدَّمنا قبلَ مولده عليه الصلاة والسلام طَرفًا صالحًا من ذلك، وقرَّرنا في كتاب " التفسير " عند الآيات المقتضية لذلك آثارًا كثيرة.

ونحنُ نُورد هاهنا شيئًا مما وُجد في كتبهم التي يَعترفون بصحتها، وَيتديَّنون بتلاوتِها، مما جمعَه العلماءُ قديمًا وحديثًا ممن آمن منهم، واطلعَ على ذلك من كتبهم التي بأيديهم.

ففي السِّفر الأوّل من التوراة التي بأيديهم في قصة إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام ما مضمونُه وتعريبُه: إن الله أوحى إلى إبراهيمَ عليه السلام، بعدما سلَّمَه من نار النمروذ: أن قم فاسلُك الأرضَ مشارقَها ومغاربَها لولدك. فلما قصَّ ذلك على سارة طمعت أن يكونَ ذلك لولدها منه، وحرصت على إبعاد هاجرَ وولدها، حتى ذهبَ بهما الخليلُ إلى بريّة الحجازِ وجبالِ فاران، وظن إبراهيم عليه السلام أن هذه البشارة تكونُ لولده إسحاق، حتى أوحى الله إليه ما مضمونُه: أما ولدُك إسحاق فإنه يُرزق ذريَّة عظيمةً، وأما ولدُك إسماعيل فإني باركتُه وعظّمتُه، وكثَّرتُ ذرِّيتَه، وجعلتُ من ذرِّئته ماذ ماذ؛ يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم، وجعلتُ في ذرّيته اثنا عشر إمامًا، وتكون له أمّة عظيمة.

وكذلك بُشِّرَت هاجر حين وضعها الخليلُ عند البيت فعطِشَت وحزنت على ولدها، وجاءَ الملَكُ فأنبعَ زمزمَ، وأمرَها بالاحتفاظ بهذا الولد، فإنه سيُولد منه عظيم، له ذريّةٌ عددَ نجوم السماء.

ومعلوم أنه لم يُولد من ذريّة إسماعيلَ، بل من ذريّة آدم، أعظمُ قدرًا ولا أوسعُ جاهًا، ولا أعلى منزلةً، ولا أجلُّ منصبًا، من محمد صلى الله عليه وسلم، وهو الذي استولت دولةُ أمّتِه على المشارق والمغارب، وحكموا على سائرِ الأمم.

وهكذا في قصة إسماعيل من السِّفر الأوّل: أن ولد إسماعيل تكونُ يدُه على كل الأمم، وكلُّ الأمم تحتَ يده، وبجميع مساكن إخوته يسكن. وهذا لم يكن لأحدٍ يصدقُ على الطائفة إلا لمحمد صلى الله عليه وسلم.

وأيضًا في السفر الرابع في قصة موسى، أن الله أوحى إلى موسى عليه السلام: أن قل لبني إسرائيلَ: سأقيم لهم نبيًّا من أقاربهم مثلَك يا موسى، وأجعلُ وحيي بفيه وإيَّاه تَسمعون.

= ولعله من النساخ، وإنما رواه ابن جرير الطبري كما ذكر ذلك الشوكاني في تفسيره فتح القدير (1/ 437) عند قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيِّنَ

} آية (81) من سورة آل عمران.

قال الشوكاني: وأخرج ابن جرير عن علي قال: لم يبعث الله نبيًا آدم فمن بعده إلا أخذ عليه العهد من محمد لئن بعث وهو حي ليؤمنن به، ولينصرنَّه ويأمره فيأخذ العهد على قومه، ثم تلا {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيِّنَ

} وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس نحوه، وأخرج ابن أبي حاتم نحوه رقم (876) عن ابن عباس، ورقم (877) عن ابن طاووس عن أبيه طاووس، وانظر بقية الروايات في فتح القدير للشوكاني (1/ 437).

ص: 265

وفي السِّفر الخامس -وهو سفر الميعاد- أن موسى عليه السلام خطبَ بني إسرائيلَ في آخر عمره - وذلك في السنة التاسعة والثلاثين من سني التيه- وذكَّرَهم بأيام الله، وأياديه عليهم، وإحسانه إليهم، وقال لهم فيما قال: واعلموا أن الله سيبعثُ لكم نبيًّا من أقاربِكم مثلَ ما أرسلني إليكم، يأمرُكم بالمعروف، وينهاكم عن المنكر، ويُحِلُّ لكم الطيبات، ويُحرِّم عليكم الخبائث، فمن عَصَاهُ فله الخزيُ في الدنيا، والعذابُ في الآخرة.

وأيضًا في آخر السِّفر الخامس وهو آخر التوراة التي بأيديهم: جاء الله من طُور سَيناء، وأشرقَ من ساعير، واستعلنَ من جبال فاران، وظهرَ من ربوات قدسه، عن يمينه نور، وعن شماله نار، عليه تجتمع الشعوب. أي: جاء أمرُ الله وشرعه من طُور سَيناء- وهو الجبل الذي كلَّم الله موسى عليه السلام عنده- وأشرقَ من ساعير وهي جبال بيت المقدس- المَحلّة التي كان بها عيسى ابن مريم عليه السلام واستعلنَ، أي ظهرَ وعلا أمرُه من جبال فاران، وهي جبالُ الحجاز بلا خلاف، ولم يكن ذلك إلا على لسان محمد صلى الله عليه وسلم.

فذكر تعالى هذه الأماكن الثلاثة على الترتيب الوقوعي، ذكر مَحلّة موسى، ثم عيسى، ثم بلد محمد صلى الله عليه وسلم، ولما أقسم تعالى بهذه الأماكن الثلاثة ذكر الفاضلَ أوَّلًا، ثم الأفضلَ منه، ثم الأفضلَ منه على قاعدة القسم، فقال تعالى:{وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} والمراد بها محلة بيت المقدس حيث كان عيسى عليه السلام {وَطُورِ سِينِينَ} وهو الجبل الذي كلم الله عليه موسى {وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} [التين: 1 - 3] وهو البلد الذي ابتعث منه محمدًا صلى الله عليه وسلم.

قاله غير واحد من المفسرين في تفسير هذه الآيات الكريمات.

وفي زبور داود عليه السلام صفة هذه الأمة بالجهاد والعبادة، وفيه مَثَلٌ ضَربَه لمحمّدٍ صلى الله عليه وسلم، بأنه خِتَام القبّة المبنية، كما وردَ به الحديث في الصحيحين

(1)

: " مَثلي ومثلُ الأنبياء قَبلي كمَثَلِ رجل بنى دارًا فاكملَها إلا موضِعَ لَبِنَةٍ. فجعلَ الناسُ يُطيفون بها ويقولون: هلاّ وضعت هذه اللَّبنة؟ " ومِصداقُ ذلك أيضًا في فوله تعالى: {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40].

وفي الزبور صفةُ محمّد صلى الله عليه وسلم بأنه ستنبسطُ نبوّتُه ودعوتُه وتنفذُ كلمتُه من البحر إلى البحر، وتأتيه الملوكُ من سائر الأقطار طائعينَ بالقرابين والهدايا، وأنه يُخَلِّصُ المضطرَ، ويَكشفُ الضُّرَّ عن الأمم، ويُنقذُ الضعيفَ الذي لا ناصرَ له، ويُصَلّى عليه في كل وقت، ويُبارِك الله عليه في كلّ يوم، ويَدوم ذكرُه إلى الأبد. وهذا إنما ينطبق على محمد صلى الله عليه وسلم.

(1)

رواه البخاري رقم (3535). ومسلم رقم (2286 و 22) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وهو في مسند أحمد (2/ 398).

ص: 266

وفي صحف شعيا عليه السلام في كلام طويل فيه معاتبة لبني إسرائيل، وفيه: فإني أبعثُ إليكم وإلى الأمم نبيًّا ليس بفظٍّ ولا غليظ القلب، ولاسخَّابٍ في الأسواق، أُسَدِّده لكل جميل، وأهبُ له كل خُلُقٍ كريم، ثم أجعلُ السكينةَ لباسَه، والبِرَّ شعارَه، والتقوى في ضميره، والحكمَ معقولَه، والوفاءَ طبيعتَه، والعدلَ سيرتَه، والحقَّ شريعتَه، والهدى مِلَّتَه، والإسلام دينَه، والقرآنَ كتابَه، أحمدُ اسمه، أهدي به من الضلالة، وأرفعُ به بعدَ الخمالة، وأجمعُ به بعد الفرفة، وأؤلّفُ به بين القلوب المختلفة، وأجعلُ أمّتَه خيرَ أمّةٍ أُخرجت للناس، قرابينُهم دماؤهم، أناجيلُهم في صدورهم، رهبانًا بالليل، ليوثًا بالنهار {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 21].

وفي الفصل العاشر من كلام شعيا: يدوسُ الأممَ كدوس البَيَادر، ويُنزلُ البلاءَ بمشركي العرب، ويَنهزمون قدّامه.

وفي الفصل السادس والعشرين منه: ليفرح أرضَ البادية العطشى، ويعطي أحمد محاسن لبنان، ويرون جلال الله ببهجته.

وفي صحف إلياس عليه السلام: أنه خرج مع جماعة من أصحابه سائحًا، فلما رأى العربَ بأرض الحجاز قال لمن معه: انظروا إلى هؤلاء فإنهم هم الذين يَملكون حصونكم العظيمة، فقالوا: يا نبيَّ الله، فما الذي يَكون مَعبودُهم؟ فقال: يُعظمون ربَّ العزة فوقَ كل رابية عالية.

ومن صحف حزقيل: إن عبدي خيرتي أنزل عليه وحيي، يُظهر في الأمم عدلي، اخترتُه واصطفيتُه لنفسي، وأرسلتُه إلى الأمم بأحكام صادقة.

ومن كتاب النبوات: أن نبيًا من الأنبياء مرّ بالمدينة فأضافَه بنو قُريظة والنضير، فلما رآهم بكى، فقالوا له: ما الذي يُبكيك يا نبيَّ الله؟ فقال: نبيٌّ يَبعثه الله من الحرّة، يُخَرّبُ ديارَكم ويَسبي حريمَكم، قال: فأرادَ اليهودُ قتلَه فهربَ منهم.

ومن كلام حزقيل عليه السلام: يقول الله: من قبل أن صوَّرتُك في الأحشاء قدَّستُك، وجعلتك نبيًّا، وأرسلتُك إلى سائر الأمم.

وفي صحف شعيا أيضًا، مثلٌ مضروب لمكّة شرَّفها الله: افرحي يا عاقرُ بهذا الولد الذي يَهَبُه لكِ ربُّك، فإن يبركته تتسعُ لك الأماكن، وتثبتُ أوتادُك في الأرض، وتعلو أبوابُ مساكنك، ويأتيك مُلوكُ الأرض عن يمينك وشمالِك بالهدايا والتقادم، وولدُك هذا يرثُ جميعَ الأمم، ويملك سائر المدنِ والأقاليم، ولا تَخافي ولا تحزني، فما بقي يلحقُكِ ضيمٌ من عدو أبدًا، وجميعُ أيام تَرَمُّلك تنسيها.

وهذا كله إنما حصلَ على يدي محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما المرادُ بهذه العاقر مكة، ثم صارت كما ذُكر في هذا

ص: 267

الكلام لا محالة. ومن أرادَ من أهل الكتاب أن يصرفَ هذا ويتأوّله على بيت المقدس، فهذا لا يناسبُه من كل وجه، واللّه أعلم.

وفي صحف أرميا: كوكبٌ ظهرَ من الجنوب، أشعتُه صواعق، سِهامُه خوارق، دُكَّت له الجبال. وهذا المراد به محمد صلى الله عليه وسلم.

وفي الإنجيل يقولُ عيسى عليه السلام: إني مُرتقٍ إلى جناتِ العُلى، ومرسلٌ إليكم الفارقليط، روحُ الحق يُعلّمكُم كلَّ شيء، ولم يقل شيئًا من تِلقاء نفسه.

والمراد بالفارقليط محمد صلوات الله وسلامه عليه، وهذا كما تقدم عن عيسى أنه قال:{وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6].

وهذا بابٌ متسع، ولو تقصّينا جميعَ ما ذكرَه الناسُ لطالَ هذا الفصلُ جدًا، وقد أشرنا إلى نُبَذٍ من ذلك يَهتدي بها من نوَّرَ الله بصيرَته، وهدَاه إلى صراطه المستقيم، وأكثرُ هذه النصوص يعلمُها كثيرٌ من علمائهم وأحبارهم، وهم مع ذلك يتكاتمُونها ويُخفونها.

وقال الحافظ أبو بكر البيهقي

(1)

: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ومحمد بن موسى بن الفضل قالا: حدَّثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدَّثنا محمد بن عُبيد الله بن أبي داود المُنادي، حدَّثنا يُونس بن محمد المُؤَدِّب، حدَّثنا صالح بن عمر، حدَّثنا عاصم بن كُليب، عن أبيه، عن الفلتان بن عاصم، قال: كنا جلوسًا عند النبيِّ صلى الله عليه وسلم، إذ شخصَ بصرُه إلى رجلٍ فدعَاه، فأقبلَ رجلٌ من اليهود مُجتمعٌ عليه قميصٌ وسراويلُ ونعلان

(2)

. فجعلَ يقول: يا رسولَ الله، فجعلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يقول:" أتشهدُ أني رسولُ الله؟ " فجعلَ لا يقولُ شيئًا إلا قال: يا رسول الله، فيقولُ:"أتشهد أني رسولُ الله؟ " فيأبى، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"أتقرأُ التوراة؟ " قال: نعم، قال:"والإنجيل؟ " قال: نعم، والفرقان وربّ محمد لو شئتُ لقرأتُه. قال:"فأنشدُك بالذي أنزلَ التوراة والإنجيلَ -وأشياء حَلَّفَه بها- تجدني فيهما؟ " قال: نجدُ مثلَ نَعتِكَ، يخرجُ من مَخرجِك، كنا نرجو أن يكون فينا، فلما خرجتَ رأينا أنَّك هو، فلما نظرنَا إذا أنتَ لستَ به، قال:"من أين؟ " قال: نجدُ من أمَّتك سبعينَ ألفًا يدخلون الجنَة بغير حساب، وإنما أنتم قليل، قال: فهلَّلَ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وكبَّر، وهلَّلَ وكبَّر، ثم قال:"والذي نفسُ محمّد بيده إنني لأنا هو، وإن من أمّتي لأكثر من سبعين ألفًا وسبعين وسبعين"

(3)

.

(1)

دلائل النبوة (6/ 273).

(2)

" ونعلان ": ليست في دلائل البيهقي.

(3)

ورواه ابن حبان رقم (6580). والبزار رقم (3554). والطبراني في الكبير (18/ 854) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 242) و (10/ 407 و 408): رواه البزار ورجاله ثقات. وهو حديث حسن.

ص: 268

‌حديث في جوابه عليه الصلاة والسلام لمن سأل عما سأل، قبلَ أن يسألَه عن شيء منه

قال الإمام أحمد

(1)

: حدَّثنا عفان، حدَّثنا حمَّاد بن سلمة، أخبرنا الزبير أبو عبد السلام، عن أيوب بن عبد الله بن مكرز -ولم يسمعه منه- قال: حدَّثني جلساؤُه وقد رأيتُه، عن وابصة الأسدي، وقال

(2)

عفان: حدَّثنا

(3)

غيرَ مرّة ولم يقل: حدَّثني جلساؤه، قال:

أتيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأنا أُريدُ ألَّا أدعَ شيئًا من البِرِّ والإثم إلا سألتُه عنه، وحولَه عصابةٌ من المسلمين يستفتُونه، فجعلتُ أتخطَاهم، فقالوا: إليك يا وابصةُ عن رسول الله، فقلتُ: دعوني فأدنو منه، فإنه أحبُّ الناس إليَّ أن أدنوَ منه، قال:" دعوا وابصةَ، ادنُ يا وابصةَ " مرتين أو ثلاثًا، قال: فدنوتُ منه حتى قعدتُ بين يديه، فقال:" يا وابصةُ أخبرُك أم تسألُني؟ " فقلت: لا، بل أخبرني. فقال:" جئتَ تسألُ عن البرِّ والإثم " فقلت: نعم، فجمعَ أناملَه فجعلَ ينكتُ بهِنَ في صدري ويقول:" يا وابصةُ، استفتِ قلبكَ واستفتِ نفسكَ- ثلاث مرات- البِرُّ ما اطمأنت إليه النفسُ، والإثمُ ما حاكَ في النفس وتردَّدَ في الصدر، وإن أفتاكَ الناسُ وأفتوكَ "

(4)

.

‌باب ما أخبر به صلى الله عليه وسلم من الكائنات المستقبلة في حياته وبعده فوقعت طِبق ما أخبرَ به سواءً بسواء

وهذا باب عظيم لا يُمكن استقصاءُ جميع ما فيه لكثرتها، ولكن نحن نُشير إلى طرفي منها، وباللّه المستعان، وعليه التكلان، ولا حولَ ولا قوّة إلا باللّه العزيز الحكيم، وذلك منتزع من القرآن، ومن الأحاديث.

أما القرآن، فقال تعالى في سورة المزمل- وهي من أوائل ما نزل بمكة- {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ

(1)

في المسند (4/ 228).

(2)

في المسند: قال.

(3)

في المسند: حدَّثني.

(4)

إسناده ضعيف جدًا، الزبير أبو عبد السلام هو الزبير بن جواتشير، ضعفه الدولابي في الكنى (2/ 72)، وسماه ابن حبان أيوب بن عبد السلام (المجروحين 1/ 65) فذكر الدارقطني أنه هو (كما في الموضوعات لابن الجوزي 1/ 127)، وهو بعد ذلك منقطع فإن الزبير هذا على ما فيه لم يسمع من أيوب بن عبد الله بن مكرز.

ص: 269

فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [المزمل: 20] ومعلوم أن الجهاد لم يُشرع إلا بالمدينة بعد الهجرة.

وقال تعالى في سورة اقتربت -وهي مكية- {أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر: 44 - 45] ووقعَ هذا يوم بدر، وقد تلاها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وهو خارجٌ من العريش، ورماهم بقبضةٍ من الحَصبَاء فكان النصرُ والطفرُ، وهذا مِصداقُ ذاك.

وقال تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} [المسد: 1 - 5] فأخبرَ أن عمَّه عبد العزى بن عبد المطلب -المُلقب بأبي لَهب- سيدخلُ النار هو وامرأته، فقدَّر الله عز وجل أنهما ماتا على شركهما لم يُسلما، حتى ولا ظاهرًا، وهذا من دلائل النبوة الباهرة.

وقال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88] وقال تعالى في سورة البقرة: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} الآية [البقرة: 23 - 24]، فأخبرَ أن جميعَ الخليقة لو اجتمعوا، وتعاضَدُوا وتناصَروا وتعاونوا على أن يأتوا بمثل هذا القرآن في فصاحتِه وبلاغتِه، وحلاوتِه وإحكام أحكامِه، وبيان حَلاله وحَرامه، وغير ذلك من وجوه إعجازه، لما استطاعوا ذلك، ولما قَدَروا عليه ولا على عَشرِ سورٍ منه، بل ولا سورةٍ، وأخبرَ أنهم لن يفعلوا ذلك أبدأ، ولن لنفي التابيد

(1)

في المستقبل، ومثل هذا التحدّي، وهذا القطع، وهذا الإخبار الجازم، لا يصدرُ إلا عن واثقٍ بما يُخبر به، عالمٍ بما يَقوله، قاطع أن أحدًا لا يُمكنه أن يعارضَه، ولا يأتي بمثل ما جاءبه عن ربه عز وجل.

وقال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} [النور: 55] الآية، وهكذا وقع سواء بسواء، مَكَّنَ الله هذا الدين وأظهره، وأعلاه ونشرَه في سائر الآفاق، وأنفذَه وأمضاه، وقد فسَّرَ كثيرٌ من السلف هذه الآية بخلافة الصديق، ولا شك في دخوله فيها، ولكن لا تختصُّ به، بل تعمُّه كما تعمُّ غيرَه، كما ثبت في الصحيح " إذا هلكَ قيصرُ فلا قيصرَ بعدَه، وإذا هلك كسرى فلا كسرى بعدَه، والذي نفسي بيده لننفقن كنوزَهما في سبيل الله "

(2)

وقد كان ذلك فى زمن الخلفاء الثلاثة أبى بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم وأرضاهم.

(1)

كذا في الأصل، والصحيح أن يقال: ولن لنفي الفعل في المستقبل.

(2)

رواه مسلم في " صحيحه " رقم (2918) في الفتن وأشراط الساعة، ولفظه:" وقد مات كسرى فلا كسرى بعدَه، وإذا هلك قيصر " وتتمته سواء.

ص: 270

وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33] وهكذا وقع وعمَّ هذا الدين، وغلبَ وعلا على سائر الأديان، في مشارق الأرض ومغاربها، وعلت كلمتُه في زمن الصحابة ومَن بعدَهم، وذلَّت لهم سائرُ البلاد، ودان لهم جميعُ أهلها، على اختلاف أصنافهم، وصارَ الناسُ إما مؤمنٌ داخلٌ في الدين، وإما مُهادِنٌ باذلٌ الطاعةَ والمال، هاما مُحاربٌ خائفٌ وَجِلٌ من سَطوة الإسلام وأهله.

وقد ثبت في الحديث: " إن الله زوى لي الأرضَ مشارقَها ومغاربَها، وسيبلغ ملكُ أمتي ما زوى لي منها "

(1)

.

وقال تعالى: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} [الفتح: 16] الآية، وسواء كان هؤلاء هوازن أو أصحاب مُسيلمة، أو الروم، فقد وقعَ ذلك.

وقال تعالى: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20) وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} [الفتح: 20 - 21] وسواء كانت هذه الأخرى خيبرَ أو مكةَ، فقد فُتحت وأُخذت كما وقع به الوعد سواءٌ بسواء.

وقال تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 27] فكان هذا الوعدُ في سنة الحُديبية عامَ ست، ووقعَ إنجازه في سنة سبع عام عُمرة القضاء كما تقدم. وذكرنا هناك الحديثَ بطوله، وفيه أن عمر قال: يا رسولَ الله ألم تكن تُخبرُنا أنا سنأتي البيتَ ونطوفُ به؟ قال: "بلى، أفأخبرتُك أنك تأتيه عامَك هذا؟ " قال: لا، قال:"فإنَّك تأتيه وتطوفُ به"

(2)

.

وقال تعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} [الأنفال:7] وهذا الوعد كان في وقعة بدر لمَّا خرجَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من المدينة ليأخذَ عيرَ قريش، فبلغَ قريشًا خروجُه إلى عيرهم، فنَفروا في قريبٍ من ألف مُقاتل، فلما تحقَّقَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابُه قدومَهم وعدَه الله إحدى الطائفتين أن سيُظفِره بهم

(3)

، إما العيرُ وإما النفيرُ، فودَّ كثيرٌ من الصحابة -ممن كان

(1)

رواه مسلم في صحيحه رقم (1920) و (2889) في الفتن وأشراط الساعة، ولفظه:" إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها " ورواه الترمذي في الجامع رقم (2176) في الفتن، وأبو داود في سننه رقم (4252) في الفتن، وهو عند أحمد في المسند (5/ 278).

(2)

تقدم ذلك في السيرة النبوية.

(3)

كذا في (أ) وفي المطبوع: سيظفره بها.

ص: 271

معه - أن يكونَ الوعدُ للعير، لما فيه من الأموال وقفةِ الرجال، وكرهوا لقاءَ النفير، لما فيه من العَدد والعُدد، فخَارَ الله لهم وأنجزَ لهم وعدَه في النفير، فأوقع بهم بأسَه الذي لا يُرَدّ، فقُتِلَ من سَراتِهم سبعون، وأُسِرَ سبعون، وفادُوا أنفسَهم بأموال جزيلة، فجمعَ لهم بين خيري الدنيا والآخرة، ولهذا قال تعالى:{وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} [الأنفال: 7]. وقد تقدم بيان هذا في غزوة بدر.

وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنفال: 70] وهكذا وقع؛ فإن الله عوَّضَ مَن أسلمَ منهم بخير الدنيا والآخرة.

ومن ذلك ما ذكرَه البخاريُّ

(1)

أن العباسَ جاءَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسولَ الله، أعطني، فإني فاديتُ نفسي، وفاديتُ عَقيلًا، فقال له:" خذ " فأخذَ في ثوبٍ مقدارًا لم يُمكنهُ أن يُقِلَّه، ثم وضعَ منه مرةً بعد مرةٍ حتى أمكنَه أن يحملَه على كاهله، وانطلقَ به كما ذكرناه في موضعه مبسوطًا. هذا من تصديق هذه الآية الكريمة.

وقال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [التوبة: 128] وهكذا وقعَ، عوَّضَهم الله عما كان يغدو إليهم مع حُجَّاج المشركين، بما شرَعه لهم من قتال أهل الكتاب، وضَربِ الجِزية عليهم، وسلبِ أموالِ من قُتل منهم على كفره، كما وقع بكفّار أهل الشام من الروم وَمَجوس الفرس، بالعراق وكيرها من البلدان التي انتشرَ الإسلام على أرجائها، وحكم على مدائنها وفَيفَائها، قال تعالى:{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33].

وقال تعالى: {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ} الآية [التوبة: 95]، وهكذا وقع، لمَّا رجعَ صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك، كان قد تخلَّفَ عنه طائفةٌ من المنافقين، فجعلوا يَحلِفون باللّه لقد كانوا معذورينَ في تخلّفهم، وهم في ذلك كاذبون، فأمرَ الله رسولَه أن يُجرِيَ أحوالَهم على ظاهرها، ولا يفضحَهم عند الناس، وقد أطلَعه الله على أعيان جماعةٍ منهم أربعةَ عشرَ رجلًا كما قدَّمناه لك في غزوة تبوك، فكان حُذيفةُ بن اليَمَان ممن يعرفُهم بتعريفه إياه صلى الله عليه وسلم.

وقال تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 76] وهكذا وقع، لما اشتوروا عليه ليثبتوه، أو يقتلوه، أو يُخرجوه من بين أظهرهم، ثم وقع الرأي على القتل، فعند ذلك أمر الله رسولَه بالخروج من بين أظهرهم، فخرجَ هو وصديقُه أبو بكر،

(1)

تقدم الحديث.

ص: 272

فكَمَنا في غار ثورٍ ثلاثًا، ثم ارتحلا بعدَها كما قدَّمنا، وهذا هو المرادُ بقوله:{إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 40] وهو المراد من قوله: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30] ولهذا قال: {وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 76] وقد وقعَ كما أخبرَ فإن الملأ الذين اشتوَرُوا على ذلك لم يلبثوا بمكة بعد هجرته صلى الله عليه وسلم إلا ريثما استقرَّ ركابُه الشريف بالمدينة وتابعه المهاجرون والأنصار، ثم كانت وقعة بدرٍ فقُتلت تلك النفوسُ، وكُسِرَت تلك الرؤوس، وقد كان صلى الله عليه وسلم يعلمُ ذلك قبل كونه من إخبار الله له بذلك، ولهذا قال سعدُ بن معاذ لأميّة بن خلف: أما إني سمعتُ محمّدًا صلى الله عليه وسلم يذكرُ أنه قاتلُك، فقال: أنت سمعتَه؟ قال: نعم، قال: فإنه واللّه لا يكذبُ، وسيأتي الحديثُ في بابه.

وقد قدَّمنا أنه عليه الصلاة والسلام جعلَ يُشيرُ لأصحابه قبلَ الوقعة إلى مَصارع القتلى، فما تعدَّى أحد منهم موضعَه الذي أشارَ إليه، صلوات الله وسلامه عليه.

وقال تعالى: {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 1 - 6] وهذا الوعدُ وقعَ كما أخبرَ به، وذلك أنه لما غَلبت فارسُ الرومَ فرحَ المشركون، واغتمَّ بذلك المؤمنون، لأن النصارى أقربُ إلى الإسلام من المجوس، فأخبرَ الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأنَّ الرومَ ستغلبُ الفرسَ بعد هذه المدة بسبع سنين، وكان من أمر مُراهنةِ الصدّيق رؤوس المشركين على أن ذلك سيقعُ في هذه المدة، ما هو مشهورٌ كما قرَّرنَاهُ في "التفسير"

(1)

فوقعَ الأمرُ كما أخبرَ به القرآن، غَلبتِ الرومُ فارسَ بعد غَلَبِهم غَلَبًا عظيمًا جدًا، وقصّتُهم في ذلك يطولُ بسطُها، وقد شرحناها في "التفسير" بما فيه الكفاية، وللّه الحمدُ والمِنّةُ.

وقال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53] وكذلك وقع، أظهرَ الله من آياتِه ودلائِله في أنفس البشر وفي الآفاق بما أوقعَه من الناس بأعداء النبوة، ومخالفي الشرع ممن كذَّبَ به من أهلِ الكتابين، والمجوس والمشركين، ما دلَّ ذوي البصائر والنُّهى على أن محمدًا رسول الله حقًا، وأن ما جاءَ به من الوحي عن الله صدق، وقد أوقعَ له في صدور أعدائه وقلوبهم رُعبًا ومهابةً وخوفًا، كما ثبتَ عنه في الصحيحين أنه قال: "نُصرتُ بالرعب

(1)

تفسير القرآن العظيم؛ لابن كثير (3/ 422).

ص: 273

مسيرةَ شهر"

(1)

وهذا من التأييد والنصر الذي آتاه اللّه عز وجل، وكان عدوّه يخافُه وبينه وبينه مسيرة شهر، وقيل: كان إذا عزمَ على غزو قومٍ أُرعبوا قبل مجيئه إليهم، ووروده عليهم بشهر، صلواتُ اللّه وسلامه عليه دائمًا إلى يوم الدين.

‌فصل

وأما الأحاديث الدّالة على إخباره بما وقعَ كما أخبر، فمن ذلك ما أسلفنَاه في قصة الصحيفة التي تعاقدت فيها بطونُ قريش، وتمالؤوا على بني هاشم وبني المطلب ألا يُؤووهم، ولا يُناكحوهم، ولا يُبايعوهم، حتى يُسلموا إليهم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم.

فدخلت بنو هاشم وبنو المطلب، بمُسلمهم وكافرهم شِعبَ أبي طالب آنِفِينَ لذلك مُمتنعينَ منه أبدًا، ما بَقُوا دائمًا، ما تَناسلوا وتَعاقبوا. وفي ذلك عمل أبو طالب قصيدته اللامية التي يقول فيها:

كذَبتُم وَبَيتِ اللّه نبزي

(2)

مُحَمَّدًا

وَلَمَّا نُقَاتِل دُونَهُ وَنُنَاضِل

ونُسلِمُهُ حَتَّى نُصَرَّعَ حَولَهُ

ونَذهَلَ عَنْ أَبنائِنَا والحَلائِلِ

وَمَا تَرْكُ قَومٍ لَا أبا لَكَ سَيّدًا

يَحُوطُ الذِّمَارَ غيرَ ذَرْبٍ مُواكِلِ

وَأَبيضَ يُستَسْقى الغَمامُ بِوَجْهِهِ

ثِمَالُ اليتَامَى عِصْمَةٌ لِلأرامِلِ

يَلوذُ بِهِ الهُلّاكُ مِن آلِ هاشِمٍ

فَهُمْ عِنْدَهُ في نِعْمةٍ وَفَواضِلِ

وكانت قريشٌ قد علَّقت صحيفة التعاقد في سقف الكعبة، فسلَّطَ اللّه عليها الأَرَضةَ فأكلت ما فيها من أسماء الله، لئلا يجتمعَ بما فيها من الظلم والفجور، وقيل: إنها أكلتْ ما فيها إِلَّا أسماء الله عز وجل، فأخبرَ بذلك رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم عمَّه أبا طالب، فجاء أبو طالب إلى قريش فقال: إن ابن أخي قد أخبرَني بخيرٍ عن صحيفَتكم، فإن اللّه قد سقَطَ عليها الأرَضة فأكلتهَا إِلَّا ما فيها من أسماء اللّه، أو كما قال: فأحْضِرُوها، فإن كان كما قال وإلا أسلمتُه إليكم، فانزلُوها ففتحوها فإذا الأمرُ كما أخبرَ به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فعند ذلك نقضُوا حكمَها ودخلتْ بنو هاشم وبنو المطلب مكة، ورجعوا إلى ما كانوا عليه قبل ذلك، كما أسلفنا

(3)

ذكرَه، ولله الحمد.

ومن ذلك حديثُ خبَّاب بن الأرت، حين جاء هو وأمثالهُ من المستضعفين يَستنصرون النبيَّ صلى الله عليه وسلم، وهو يتوَسَّدُ رداءَه في ظلِّ الكعبة فيدعو لهم لما هم فيه من العذاب والإهانة، فجلسَ مُحْمَرًا وجهُه وقال:

(1)

رواه البخاري في صحيحه رقم (335) في التيمم، ومسلم في صحيحه رقم (521) في المساجد.

(2)

كذا في (أ)، و "نبزي": نقهر. وفى نسخة "يُبْزى".

(3)

تقدم ذلك في قسم السيرة النبوية.

ص: 274

"إن من كان قبلكم كان أحدُهم يُشقُّ باثنتين، ما يصرفُه ذلك عن دينه، واللّه ليتمّنَّ اللّه هذا الأمرَ ولكنّكم تَستعجلون"

(1)

.

ومن ذلك الحديث الذي رواه البخاري: حَدَّثَنَا محمد بن العلاء، حَدَّثَنَا حمَّادُ بن أسامة، عن بُرَيد بن عبد اللّه بن أبي بُردة، عن أبيه، عن جده أبي بُردة، عن أبي موسى؛ أُراهُ عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال: "رأيتُ في المنام أني أهاجرُ من مكةَ إلى أرضٍ فيها نخلٌ، فذهبَ وَهَلي

(2)

إلى أنها اليَمَامةُ أو هَجَرٌ، فإذا هي المدينةُ يَثرب، ورأيتُ في رؤياي هذه أني هززتُ سيفًا فانقطعَ صدرُه، فإذا هو ما أُصيبَ من المؤمنينَ يومَ أُحدٍ، ثم هززتُه أخرى فعادَ أحسنَ ما كان، فإذا هو ما جاءَ به من الفتح واجتماعِ المؤمنينَ، ورأيتُ فيها بَقرًا والله خيرٌ، فإذا هُم المؤمنون يومَ أُحدٍ، وإذا الخيرُ ما جاء اللّه به من الخير وثوابِ الصدقِ الذي آتانا اللّه بعدَ يوم بدر"

(3)

.

ومن ذلك قصة سعد بن معاذ مع أمية بن خلف حين قدم عليه مكة.

قال البخاري: حَدَّثَنَا أحمدُ بن إسحاق، حَدَّثَنَا عُبيد اللّه بن موسى، حَدَّثَنَا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، عن عبد اللّه بن مسعود قال:

انطلقَ سعدُ بن معاذ مُعتمرًا، فنزلَ على أُميّةَ بن خلف، أبي صفوانَ، وكان أميّةُ إذا انطلقَ إلى الشام فمرَّ بالمدينة نزلَ على سعدٍ، فقال أميّةُ لسعدٍ: انتظر حتى إذا انتصفَ النهارُ وغفلَ الناسُ انطلقتَ فطفتَ، فبينما سعدٌ يطوفُ فإذا أبو جهل، فقال: من هذا الذي يطوفُ بالكعبة؛ فقال سعدٌ: أنا سعد، فقال أبو جهل: تطوفُ بالكعبة آمنًا وقد آويتُم محمّدًا وأصحابَه؛ فقال: نعم، فتلاحيا بينهما، فقال أميّةُ لسعدٍ: لا ترفع صوتَك على أبي الحكم فإنه سيّدُ أهل الوادي، ثم قال سعد: والله لئن منعتني أن أطوفَ بالبيت لأقطعنَّ متجرَك بالشام، قال: فجعلَ أميةُ يقولُ لسعدٍ: لا ترفع صوتَك، وجعل يُمسكه، فغضِبَ سعدٌ فقال: دعنا عنكَ، فإني سمعتُ محمَّدًا يزعمُ أنه قاتلُك، قال: إيايَ؟ قال: نعم، قال: واللّه ما يكذبُ محمّدٌ إذا حدَّثَ، فرجعَ إلى امرأته فقال: أما تعلمينَ ما قال لي أخي اليثربي؟ قالت: وما قالَ لكَ؛ قال: زعمَ أنه سمعَ محمّدًا يزعمُ أنه قاتلي، قالت: فوالله ما يكذبُ محمّد، قال: فلما خرجوا إلى بدر وجاء الصريخُ، قالت له امرأته: أما ذكرتَ ما قالَ لك أخوك اليثربيُّ؟ قال: فأرادَ ألا يخرجَ، فقال له أبو جهل: إنك من أشرافِ الوادي، فسر يومًا أو يومَين، فسارَ معهم فقتلَهُ اللّه

(4)

.

(1)

رواه البخاري في صحيحه رقم (3612) في المناقب (باب علامات النبوة).

(2)

"وَهَلي": ظني، يقال: وَهَل إلى الشيء: إذا ذهب وهمه إليه.

(3)

رواه البخاري في صحيحه رقم (3622) في المناقب، ومسلم في صحيحه رقم (2272) في الرؤيا، عن أبي موسى، عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم من غير شك.

(4)

رواه البخاري في صحيحه رقم (3632) في المناقب.

ص: 275

وهذا الحديث من أفراد البخاري، وقد تقدَّمَ بأبسطَ من هذا السياق.

ومن ذلك قصة أبيّ بن خلف الذي كان يعلفُ حِصَانًا له، فإذا مرَّ برسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: إني سأقتلُك عليه، فيقولُ له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"بل أنا أقتلُك إن شاء اللّه"

(1)

فقتلَه يوم أحد كما قدَّمنا بسطَه.

ومن ذلك إخبارُه عن مَصارع القتلى يومَ بدرٍ كما تقدم الحديثُ في الصحيح؛ أنه جعل يشيرُ قبلَ الوقعةِ إلى محلها ويقول: "هذا مصرعُ فلان غدًا إن شاء اللّه، وهذا مصرعُ فلان"

(2)

قال: فوالذي بعثَه بالحقِّ ما حادَ أحدٌ منهم عن مكانه الذي أشارَ إليه رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم.

ومن ذلك قولُه لذلك الرجل الذي كان لا يتركُ للمشركين شادةً ولا فاذّةً إِلَّا اتبعها ففراها بسيفه، وذلك يوم أحد، وقيل: خيبر - وهو الصحيح - وقيل: في يوم حُنين، فقال الناس: ما أغنى أحدٌ اليوم ما أغنى فلان، يقال: إنه قَزْمَان، فقال:"إنه من أهل النار" فقال بعضُ الناسِ: أنا صاحبُه، فاتَّبعَه، فجُرح، فاستعجلَ الموتَ، فوضعَ ذُبَابَ سيفه في صدرِه ثم تحاملَ عليه حتى أنفذَه، فرجعَ ذلك الرجل فقال: أشهدُ أن لا إله إِلَّا اللّه وأَنَّكَ رسولُ اللّه، فقال:"وما ذاك؟ " فقال: إن الرجلَ الذي ذكرتَ آنفًا كان من أمره كيتَ وكيتَ. فذكرَ الحديث

(3)

، كما تقدم.

ومن ذلك إخبارُه عن فتح مدائن كسرى وقصور الشام وغيرها من البلاد يومَ حَفر الخندق، لمَّا ضربَ بيده الكريمة تلك الصخرةَ فبَرِقَت من ضربه، ثم أخرى، ثم أُخرى، كما قدَّمنا

(4)

.

ومن ذلك إخبارُه صلى الله عليه وسلم عن ذلك الذراع

(5)

أنه مسمومٌ، فكان كما أخبرَ به، اعترف اليهودُ بذلك، وماتَ من أكلَ معه - بِشْرُ بن البراء بن مَعرور -.

ومن ذلك ما ذكرَه عبدُ الرزاق، عن مَعمر؛ أنه بلغَه أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم: "اللهم نجِّ

(1)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (3/ 258) عن الحاكم أبي عبد اللّه، وفي إسناده ابن لهيعة، وهو ضعيف، ورواه موسى بن عقبة، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، ورواه عبد الرحمن بن خالد بن معافر، عن ابن شهاب، عن ابن المسيب. والحديث في سيرة ابن هشام (3/ 37) ومغازي الواقدي (1/ 250) وهو مرسل، وله شاهد.

(2)

رواه مسلم في صحيحه رقم (1779) في الجهاد، عن أبي بكر بن أبي شيبة، وأبو داود في سننه رقم (2681) في الجهاد عن موسى بن إسماعيل.

(3)

رواه البخاري في صحيحه رقم (4202) و (4207) في المغازي باب غزوة خيبر. ومعنى لا يترك شاذة ولا فاذة: أي لا يترك عدوًا إِلَّا قتله؛ منفردًا كان أو مع الجماعة. ورجح الحافظ ابن حجر أن تكون القصة قد وقعت في غزوة خيبر؛ كما أوردها البخاري. فح الباري (7/ 472) وقد تقدم هذا الموضوع مستوفى عند ابن كثير في قسم السيرة النبوية.

(4)

تقدم ذلك في السيرة النبوية؛ باب معجزاته صلى الله عليه وسلم في غزوة الخندق.

(5)

رواه البخاري في صحيحه رقم (3169) في الجزية، ورقم (5777) في الطب، ورواه مسلم في صحيحه رقم (2190) في السلام.

ص: 276

أصحابَ السفينة"

(1)

ثم مكثَ ساعةً، ثم قال:"قد استمرَّتْ" والحديثُ بتمامه في "دلائل النبوة" للبيهقي، وكانت تلك السفينة قد أشرفتْ على الغرق، وفيها الأشعريون الذين قَدِمُوا عليه وهو بخيبر.

ومن ذلك إخبارُه عن قبر أبي رِغَال، حين مرَّ عليه وهو ذاهبٌ إلى الطائف وأنَّ معه غصنًا من ذهب، فحفرُوه فوجدُوه كما أخبرَ، صلواتُ اللّه وسلامُه عليه.

رواه أبو داود

(2)

، من حديث أبي إسحاق، عن إسماعيل بن أمية، عن بحر بن أبي بحر، عن عبد اللّه بن عمرو به.

ومن ذلك قولُه عليه الصلاة والسلام للأنصار، لما خطبَهم تلك الخطبة مسلِّيًا لهم عمَّا كان وقعَ في نفوس بَعضِهم من الإيثار عليهم في القِسْمَة لما تألَفَ قلوبَ من تألَّفَ من ساداتِ العرب، ورؤوس قريش، وغيرهم، فقال:"أما ترضون أن يذهبَ الناسُ بالشاه والبعير، وتذهبُون برسول اللّه تَحوزُونه إلى رحالكم؟ "

(3)

.

وقال: "إنكم ستجدون بعدي أثرةً فاصبرُوا حتى تلقوني على الحوض"

(4)

.

وقال: "إن الناسَ يكثُرون وتقلّ الأنصار"

(5)

.

وقال لهم في الخطبة قبلَ هذا على الصفا: "بل المَحْيَا مَحْيَاكم، والمماتُ مماتكم"

(6)

. وقد وقع جميعُ ذلك كما أخبرَ به سواءٌ بسواء.

وقال البخاري

(7)

: حَدَّثَنَا يحيى بن بكير، حَدَّثَنَا اللَّيث، عن يونس، عن ابن شهاب، قال: وأخبرني سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة قال:

قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "إذا هَلَكَ كِسْرى فلا كِسْرى بعدَه، وإذا هلك قيصرَ فلا قيصرُ بعدَه، والذي نفسُ محمَّد بيده لتنفقنَّ كنوزهما في سبيل اللّه".

(1)

رواه عبد الرزاق في مصنفه (11/ 54) رقم (19891) والبيهقي في دلائل النبوة (6/ 298) عن معمر بلاغًا وفيه: فقال: اللهم نجٍّ أصحاب السفينة، وإسناده منقطع.

(2)

رواه أبو داود في سننه رقم (3088) في الخراج، والبيهقي في دلائل النبوة (6/ 297) وذكره الذهبي في ميزان الاعتدال (1/ 297) في ترجمة بُجير بن أبي بُجير وإسناده ضعيف.

(3)

رواه البخاري رقم (4331) ومسلم رقم (1059) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

(4)

رواه البخاري في صحيحه رقم (2376) في المساقاة، ورقم (3794) في مناقب الأنصار، عن أنس بن مالك رضي الله عنه ورقم (3792) في مناقب الأنصار، عن أُسيد بن حضير، وهو عند مسلم برقم (1845) في الإمارة، ولفظه عند الجميع إنكم ستلقون بعدي

(5)

رواه البخاري في صحيحه رقم (3800) في مناقب الأنصار، عن عبد اللّه بن عباس رضي الله عنهما.

(6)

رواه ابن سعد في الطبقات (2/ 2/ 42).

(7)

في صحيحه (3618) في المناقب.

ص: 277

ورواه مسلم

(1)

عن حرملة، عن ابن وهب، عن يونس، به.

وقال البخاري

(2)

: حَدَّثَنَا قبيصة، حَدَّثَنَا سفيان، عن عبد الملك بن عُمير، عن جابر بن سمرة، رفعه:"إذا هلكَ كِسرى فلا كسرى بعدَه، واذا هَلَكَ قيصرُ فلا قيصَرَ بعدَه" وقال: "لتنفقنَّ كنوزهما في سبيل الله".

وقد رواه البخاري أيضًا ومسلم من حديث جرير

(3)

، وزاد البخاري وأبي عَوانة ثلاثتُهم عن عبد الملك بن عُمير، به.

وقد وقعَ مِصداقُ ذلك بعدَه في أيام الخلفاء الثلاثة أبي بكر، وعمر، وعثمان، استوثقت هذه الممالكُ فتحًا على أيدي المسلمين، وأنفقتْ أموالُ قيصرَ ملك الروم، وكسرى ملك الفرس، في سبيل الله، على ما سنذكُره بعدُ إن شاء اللّه.

وفي هذا الحديث بشارةٌ عظيمة للمسلمين، وهي أن مُلكَ فارسَ قد انقطعَ فلا عودةَ له، ومُلك الروم للشام قد زالَ عنها، فلا يملكوه بعدَ ذلك، ولله الحمدُ والمِنّة.

وفيه دلالةٌ على صحّة خلافِة أبي بكر، وعمر، وعثمان، والشهادةُ لهم بالعدل، حيث أُنفقت الأموال المغنومة في زمانهم في سبيل الله على الوجه المَرضيّ الممدوح.

وقال البخاري

(4)

: حَدَّثَنَا محمد بن الحكم، حَدَّثَنَا النضر، حَدَّثَنَا إسرائيلُ، حَدَّثَنَا سعدٌ الطائيُّ، أخبرنا مُحِلُّ بن خليفةَ، عن عديّ بن حاتم، قال:

بينا أنا عند النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم إذ أتاه رجلٌ، فشكا إليه الفاقة، ثم أتاه آخرُ فشكا إليه قَطْعَ السبيل، فقال:"يا عديُّ هل رأيتَ الحِيْرةَ؟ " قلتُ: لم أرَها، وقد أُنبئتُ عنها، قال:، فإن طالتْ بك حياةٌ لترَينَّ الظعينةَ ترتحلُ من الحيرةِ حتى تطوفَ بالكعبة ما تخافُ أحَدًا إِلَّا الله عز وجل". قلتُ فيما بيني وبين نفسي: فأينَ دُعَّارُ طيئ

(5)

الذين قد سَعَّروا

(6)

البلادَ؟ "ولئن طالتْ بك حياةٌ لتفتحنَّ كنوز كسرى"

(1)

في صحيحه (2918) في الفتن.

(2)

في صحيحه (3619) في المناقب.

(3)

رواه البخاري في صحيحه رقم (3121) في الخصى، ومسلم في صحيحه رقم (2919) في الفتن، وجرير هو ابن عبد الحميد الرازي. حديث أبي عوانة أخرجه البخاري في الأيمان والنذور من صحيحه (6629) عن موسى بن إسماعيل عنه.

(4)

صحيح البخاري (3595) في المناقب.

(5)

"دُعَّار طيئ": جمع داعر، وهو الشاطر الخبيث المفسد، والمراد قطاع الطرق.

(6)

"سَعَّروا": أوقدوا نار الفتنة، وملؤوا الأرض شرًا وفسادًا. وقبيلة "طيئ" مشهورة، منها عدي بن حاتم رضي =

ص: 278

قلت: كسرى بن هرمز؛ قال: "كسرى بن هرمز، ولئن طالت بك حياة لترينَّ الرجلَ يُخرجُ مِلءَ كفِّه من ذهبٍ أو فضّةٍ، يطلبُ من يَقبلُه منه فلا يجدُ أحدًا يقبلُه منه، وليلقين اللّه أحدُكم يومَ يلقاه وليس بينه وبينه ترجمانٌ يُترجم له، فيقولنَّ له: ألم أبعثْ إليك رسولًا فيُبلِّغكَ؟ فيقول: بلى، فيقول: ألم أعطِكَ مالًا وولدا

(1)

وأُفضل عليكَ؟ فيقول: بلى، فينظرُ عن يمينه فلا يرى إِلَّا جهنَّمَ، وينظرُ عن يساره فلا يرى إِلَّا جهنَّمَ". قال عدي: سمعتُ رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: "اتقوا النَّارَ ولو بشقِّ تمرة، فإن لم

(2)

تجد فبكلمةٍ طيّبة".

قال عدي: فرأيتُ الظعينةَ ترتحلُ من الحِيرة حتى تطوفَ بالكعبة فلا تخافُ إِلَّا اللّه عر وجل، وكنتُ فيمن افتتحَ كنوزَ كسرى بن هرمز، ولئن طالتْ بكم حياةٌ لترون ما قال النَّبِيّ أبو القاسم صلى الله عليه وسلم:"يُخرجُ ملءَ كفّه".

ثم رواه البخاري

(3)

عن عبد اللّه بن محمد - هو أبو بكر بن أبي شيبة - عن أبي عاصم النبيل، عن سَعدان بن بشرٍ، عن أبي مجاهد - سعد الطائي - عن مُحِلّ عنه، به.

وقد تفرَّد به البخاريُّ من هذين الوجهين.

ورواه النسائيُّ

(4)

، من حديث شعبة، عن مُحِلّ عنه:"اتقوا الثار ولو بِشق تمرة".

وقد رواه البخاري من حديث شعبة، ومسلم من حديث زهير، كلاهما عن أبي إسحاق، عن عبد اللّه بن مَعْقِلٍ، عن عدي مرفوعًا:"اتقوا النَّارَ ولو بشق تمرةٍ"

(5)

.

وكذلك أخرجاه في الصحيحين

(6)

، من حديث الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن خيثمة، عن عدي.

= اللّه عنه، وبلادهم ما بين العراق والحجاز، وكانوا يقطعون الطريق على من مرَّ عليهم بغير جواز، ولذلك تعجب عدي كيف تمرُّ المرأة عليهم وهي غير خائفة.

(1)

كذا بالأصل، وفي البخاري: ألم أعطِك مالًا وأفضل عليك.

(2)

كذا بالأصل، وفي البخاري: فمن لم يجد شِقَّ تمرة فبكلمةٍ طيّبة.

(3)

رواه البخاري في صحيحه رقم (1413) في الزكاة.

(4)

رواه النسائي في سننه (5/ 74 - 75) في الزكاة.

(5)

رواه البخاري في صحيحه رقم (1417) في الزكاة واللفظ له، ومسلم في صحيحه رقم (1116) في الزكاة، ولفظه: من استطاع منكم أن يستترَ من النار ولو بثِقّ تمرة فليفعل.

(6)

رواه البخاري في صحيحه رقم (6539) في الرقاق، ومسلم في صحيحه رقم (1016)(67) و (68) في الزكاة، وكان السند في الأصل: من حديث الأعمش، عن خيثمة، عن عبد الرحمن، عن عدي، والتصحيح من البخاري ومسلم.

ص: 279

وفيهما

(1)

، من حديث شعبة، عن عمرو بن مرة، عن خيثمة، عن عدي، به.

وهذه كلّها شواهدُ لأصل هذا الحديث الذي أوردناه.

وقد تقدم في غزوة الخندق الإخبار بفتح مدائن كسرى وقصوره، وقصور الشام، وغير ذلك من البلاد.

وقال الإمام أحمد

(2)

: حَدَّثَنَا محمد بن عًبيد، حَدَّثَنَا إسماعيل، عن قيس، عن خبَّاب قال: أتينا رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم وهو في ظِلِّ الكعبةِ مُتَوَسِّدًا بردةً له، فقلنا: يا رسولَ اللّه، ادعُ اللّه لنا واستنصِرْه، قال: فاحمَرَّ لونُه أوٍ تغيَّر، فقال:"لقد كان من قبلَكم تُحفر له الحُفيرةً، ويُجاء بالميشار فيُوضع على رأسه فيُشقّ ما يصرفه عن دينه، ويُمْشَط بأمشاط الحديد ما دونَ عظمٍ أو لحمٍ أو عَصَبٍ ما يصرفُه عن دينه، وليُتِمَّنَّ اللّه هذا الأمرَ حتى يسيرَ الراكبُ ما بين صنعاءَ إلى حضرَموْت ما يَخشى إِلَّا اللّه والذئبَ على غنمه، ولكنَكم تَعجلون".

وهكذا رواه البخاريُّ

(3)

عن مُسَدد، ومحمَّد بن المثنى، عن يحيى بن سعيد، عن إسماعيل بن أبي خالد، به.

ثم قال البخاريُّ في كتاب"علامات النبوة": حَدَّثَنَا سعيدُ بن شُرحبيل، حَدَّثَنَا ليث، عن يزيدَ بن أبي حَبيب، عن أبي الخير، عن عقبةَ، عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم؛ أنه خرج

(4)

يومًا فصلَّى على أهل أُحُدٍ صلاتَه على الميّت، ثم انصرفَ إلى المِنبَرِ فقال: "أنا

(5)

فَرطُكم، وأنا شهيدٌ عليكم، وإني والله لأنظرُ إلى حَوْضي الآن، وإني قد أُعطيت مفاتيحَ خزائن الأرض، وإني واللّه ما أخافُ بعدي أن تُشْركُوا، ولكني أخافُ أن تَنافَسُوا فيها"

(6)

.

وقد رواه البخاري أيضًا، من حديث حَيوَةَ بن شُريح، ومسلم، من حديث يحيى بن أيوب، كلاهُما عن يزيد بن أبي حَبيب، كرواية الليث عنا

(7)

.

ففي هذا الحديث مما نحنُ بصدده أشياء، منها: أنه أخبرَ الحاضرين أنه فرَطُهم، أي: المتقدم

(1)

رواه البخاري في صحيحه رقم (6023) في الأدب، ومسلم في صحيحه (2/ 704) في الزكاة.

(2)

في المسند (5/ 109) وينظر الدلائل (6/ 315).

(3)

البخاري في صحيحه رقم (3612) في المناقب.

(4)

في صحيح البخاري: عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم خرجَ.

(5)

في صحيح البخاري: إني.

(6)

رواه البخاري في صحيحه رقم (3596) في المناقب، باب علامات النبوة.

(7)

رواه البخاري في صحيحه رقم (4042) في المغازي، ومسلم في صحيحه رقم (2996)(31) في الفضائل.

ص: 280

عليهم في الموت، وهكذا وقعَ، فإن هذا كان في مرض موْته عليه الصلاة والسلام، ثم أخبرَ أنه شهيدٌ عليهم وإن تقدَّمتْ وفاتُه عليهم، وأخبرَ أنه أُعطي مفاتيحَ خزائن الأرض، أي: فُتحت له البلاد كما جاء في حديث أبي هريرة المتقدم.

قال أبو هريرة: فذهبَ رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم وأنتم تفتحونها كَفرًا كَفرًا؛ أي بلدًا بلدًا، وأخبرَ أن أصحابَه لا يُشركون بعدَه، وهكذا وقعَ وللّه الحمد والمِنّة، ولكن خافَ عليهم أن ينافسُوا في الدنيا، وقد وقعَ هذا في زمان عليٍّ ومعاوية رضي الله عنهما، ثم مَن بعدَهما، وهلمَّ جرًا إلى وقتنا هذا.

ثم قال البخاري: حَدَّثَنَا عليُّ بن عبد اللّه، أخبرنا أزهرُ بن سعد، أخبرنا ابنُ عَوْن، أنبأني موسى بنُ أنس بن مالك، عن أنس:

أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم افتقدَ ثابتَ بن قَيْس، فقال رجلٌ: يا رسولَ اللّه، أنا أعلمُ لك علمَه؛ فأتاه فوجدَه جالسًا في بيته مُنكِّسًا رأسَه، فقال: ما شأنُك؛ فقال: شرًا، كان يرفعُ صوتَه فوقَ صوتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فقد حَبِطَ عملُه، وهو من أهلِ النَّار، فأتى الرجلُ فأخبَره أنه قال كذا وكذا، قال موسى: فرجعَ المرّة الآخِرَة ببشارةٍ عظيمةٍ، فقال:"اذهبْ إليه فقل له: إنك لستَ من أهلِ النَّار، ولكن من أهلِ الجنة".

تفرد به البخاريّ

(1)

.

وقد قُتل ثابتُ بن قيس بن شمَّاس شهيدًا يوم اليمامة كما سيأتي تفصيلُه.

وهكذا ثبتَ في الحديث الصحيح البشارة لعبد اللّه بن سَلام أنه يموتُ على الإسلام، ويكون من أهل الجنة، وقد مات رضي الله عنه على أكملِ أحوالِه وأجملها، وكان الناسُ يَشهدون له بالجنة في حياته؛ لإخبار

(2)

الصادق عنه بأنه يموتُ على الإسلام، وكذلك وقع.

وقد ثبتَ في الصحيح الإخبار عن العشر

(3)

بأنهم من أهل الجنة.

بل ثبتَ أيضًا الإخبار عنه صلى الله عليه وسلم "بأنه لا يدخل النَّارَ أحدٌ بايعَ تحتَ الشجرة

(4)

" وكانوا ألفًا وأربعمئة،

(1)

رواه البخاري في صحيحه رقم (3613) في المناقب باب علامات النبوة.

(2)

رواه البخاري في صحيحه رقم (3812) في فضائل أصحاب النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، ومسلم في صحيحه رقم (2483) في فضائل الصحابة.

(3)

المبشرون بالجنة أكثر من ذلك بكثير، ولكن هؤلاء العشرة اجتمعت أسماؤهم في حديث واحد، رواه أبو داود في سننه رقم (4648) و (4649) و (4650) في السنة، والترمذي في الجامع رقم (3748) و (3757) في المناقب عن سعيد بن زيد. وهو حديث صحيح، وثبتت البشارة لهم في البخاري ومسلم: الخلفاء الأربعة وكلٌّ بمفرده، رضي الله عنهم جميعًا. وهذا ما أراده ابن كثير رحمه الله تعالى بقوله: وقد ثبت في الصحيح.

(4)

رواه مسلم في صحيحه رقم (2496)، في فضائل الصحابة، وأبو داود في سننه رقم (4653) في السنة، والترمذي في الجامع رقم (3860) في المناقب كلهم عن جابر بن عبد اللّه رضي الله عنه.

ص: 281

وقيل: وخمسمئة، ولم يُنقلْ أن أحدًا من هؤلاء رضي الله عنه عاشَ إِلَّا حميدًا، ولا ماتَ إِلَّا على السَّداد والاستقامة والتوفيق، وللّه الحمد والمنة. وهذا من أعلام النبوات، ودلائل

(1)

الرسالة.

‌فصل في الإخبار بغيوبٍ ماضية ومُستقبلة

روى البيهقيّ، من حديث إسرائيل، عن سِماك، عن جابر بن سمرة، قال:

جاءَ رجلٌ فقال: يا رسول اللّه إن فلانًا مات، فقال:"لم يمتْ" فعادَ الثانية فقال: إن فلانًا مات، فقال:"لم يمت" فعاد الثالثة فقال: إن فلانًا (مات) نحرَ نفسه بِمشقصٍ عندَه، فلم يصلِّ عليه

(2)

.

ثم قال البيهقيّ: تابعه زهير عن سماك.

ومن ذلك الوجه رواه مسلم

(3)

ختصرًا في الصلاة.

وقال أحمد

(4)

: حَدَّثَنَا أسود بن عامر، حَدَّثَنَا هُرَيم بن سفيان، عن بَيَان بن بشر، عن قيس بن أبي حازم، عن أبي شَهم، قال:

مرَّتْ بي جاريةٌ بالمدينة فأخذتُ بكَشْحها

(5)

، قال: وأصبحَ الرسولُ صلى الله عليه وسلم يُبايع الناسَ، قال: فأتيتُه فلم يُبايعْني، فقال:"صاحبُ الجبيذة؟ "

(6)

قال: قلتُ: واللّه لا أعودُ، قال: فبايعني.

ورواه النسائي

(7)

عن محمد بن عبد الرحمن المُخَرَّمي، عن أسود بن عامر، به.

ثم رواه أحمد عن سُرَيج، عن يزيد بن عَطاء، عن بَيان بن بِشر، عن قيس، عن أبي شَهْم، فذكره

(8)

.

(1)

كذا بالأصل، وفي المطبوع: ودلالات.

(2)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 302) وقد أخرجه الترمذي في الجامع رقم (1068) في الجنائز، والنسائي في سننه (4/ 67 - 66) في الجنائز، وقال الترمذي: حسن.

(3)

رواه مسلم في صحيحه رقم (978) في (الجنائز) ولفظه: أُتي النبيُّ صلى الله عليه وسلم برجلِ قتلَ نفسَه بمشاقص، فلم يُصل عليه. ومشاقص: سهام عِراض، واحدها مِشقص.

(4)

في المسند (5/ 294) وإسناده صحيح.

(5)

"بكشحها": الكِشْح: ما بين الخاصرة إلى الضلع من الخلف.

(6)

"الجبيذة": تصغير الجبذة، وهي الجذبة.

(7)

في الكبرى (7329).

(8)

المسند (5/ 294).

ص: 282

وفي صحيح البخاري

(1)

: عن أبي نُعيم، عن سفيانَ، عن عبد اللّه بن دِينار، عن عبد اللّه بن عمر، قال: كنا نتقي الكلامَ والانبساطَ إلى نسائِنا في عهدِ رسولِ اللّه صلى الله عليه وسلم خشيةَ أن ينزلَ فينا شيءٌ، فلما توفي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تكلّمنا وانبَسطنا.

وقال ابنُ وهب

(2)

: أخبرني عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبي هلال، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد أنه قال: واللّه لقد كان أحدنا يكف عن الشيء مع امرأته وهو وإياها في ثوب واحد تخوفًا أن ينزل فيه شيء من القرآن.

وقال أبو داود

(3)

: حَدَّثَنَا محمد بن العلاء، حَدَّثَنَا ابن إدريس، حَدَّثَنَا عاصم بن كليب، عن أبيه، عن رجل من الأنصار، قال:

خرجنا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في جنازة فرأيتُ رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم وهو على القبر يُوصي الحافر: "أوسعْ من قبل رجليه، أوسع من قبل رأسه" فلما رجع استقبله داعي امرأة، فجاء وجيء بالطعام فوضع يده فيه ووضع القوم أيديهم فأكلوا فنظر آباؤنا رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم يلوك لقمة في فيه، ثم قال:"أجد لحم شاة أخذت بغير إذن أهلها، قال: فأرسلت المرأة: يا رسول اللّه إني أرسلت إلى البقيع يشترى لي شاة فلم توجد، فأرسلت إلى جار لي قد اشترى شاة: أن أرسل بها إليَّ بثمنها فلم يوجد، فأرسلت إلى امرأته فأرسلت إليَّ بها، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "أطعميه الأسارى".

‌فصل في ترتيب الإخبار بالغيوب المستقبلة بعده عليه الصلاة والسلام

ثبت في صحيح البخاري ومسلم، من حديث الأعمش، عن أبي وائل، عن حُذيفة بن اليَمان: قال: قامَ رسول اللّه فينا مَقامًا، ما تركَ فيه شيئًا إلى قيامِ السَّاعة إِلَّا ذكرَه، عَلِمَه مَن عَلِمَه، وجَهِلَه مَن جَهِلَه، وقد كنتُ أرى الشيءَ قد كنتُ نسيتُه فأعرفه كما يعرفُ الرجلُ الرجلَ إذا غابَ عنه فرآهُ فعرفَه

(4)

.

وقال البخاري

(5)

: حَدَّثَنَا يحيى بن موسى، حَدَّثَنَا الوليدُ، حدَّثني ابن جابر، حدَّثني بُسر بن

(1)

رواه البخاري في صحيحه رقم (5187) في النكاح، باب الوصاة بالنساء، وهو عند أحمد في المسند (2/ 62). ومعنى نتقي: نجتنب.

(2)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 307) وإسناده حسن.

(3)

في سننه (3332) في البيوع، وهو حديث صحيح.

(4)

رواه البخاري في صحيحه رقم (6604) في القدر، ومسلم في صحيحه رقم (2891) في الفتن، وأبو داود في سننه رقم (4240) في الفتن.

(5)

رواه البخاري في صحيحه رقم (3606) في المناقب، باب علامات النبوة. و"الدخن": الحقد، وقيل: الدَّغَل، =

ص: 283

عُبيد اللّه الحضرميّ، حدَّثني أبو إدريس الخَولاني؛ أنه سمع حذيفةَ بن اليَمان يقولُ: كان الناسُ يَسألون رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم عن الخيرِ، وكنتُ أسألُه عن الشر مخافةَ أن يُدركَني، فقلتُ: يا رسولَ اللّه، إنا كنّا في جَاهليةٍ وسرّ، فجاءَ اللّه بهذا الخير، فهل بعدَ هذا الخير من شرّ؟ قال:"نعم" قلتُ: وهل بعد ذلك الشرِّ من خَيْر؟ قال: "نعم، وفيه دَخَنٌ" قلتُ: وما دَخَنُه؟ فقال: "قومٌ يَهْدُون بغير هَدي تَعرفُ منهم وتُنكر" قلت: فهل بعد ذلك الخيرِ من شرٍّ؟ قال: "نعم، دُعاةٌ على أبواب جهنّم، مَن أجابَهم إليها قَذَفوه فيها" قلتُ: يا رسولَ الله صِفهم لنا، قال:"هم من جِلدتِنَا، ويتكلّمون بألسنتنا" قلت: فما تَأْمُرني إن أدركني ذلك؟ قال: "تلزمُ جَماعةَ المسلمين وإمامَهم" قلت: فإن لم يكنْ لهم جماعةٌ ولا إمامٌ؟ قال: "فاعتزلْ تلكَ الفِرقَ كلَّها، ولو أن تعضَّ بأصل شجرة حتى يُدرِكَكَ الموتُ وأنت على ذلك".

وقد رواه البخاري أيضًا ومسلم

(1)

، عن محمد بن المثنى، عن الوليد، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، به.

قال البخاري، حَدَّثَنَا محمد بن مثنى، حَدَّثَنَا يحيى بنُ سعيد، عن إسماعيل، عن قيس، عن حذيفةَ قال: تعلَّمَ أصحابي الخيرَ، وتعلّمتُ الشرَّ. تفرد به البخاري

(2)

.

وفي صحيح مسلم من حديث شعبةَ، عن عديّ بن ثابت، عن عبد اللّه بن يَزيد، عن حذيفةَ، قال: لقد حدَّثني رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم بما يكونُ حتى تقومَ الساعةُ، غير أني لم أسألْه ما يُخرجُ أهلَ المدينة منها

(3)

.

وفي صحيح مسلم، من حديث عِلْبَاء بن أحمر، عن أبي زيد - عمرو بن أخطب - قال: أخبرنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بما كان وبما هو كائنٌ إلى يوم القيامة، فأعلمنا أحفظُنا

(4)

.

وفي الحديث الآخر: حتى دخلَ أهلُ الجنَّةِ الجنَّةَ، وأهلُ النَّارِ النَّارَ

(5)

.

وقد تقدَّمَ حديثُ خبَّاب بن الأرت: "واللّه ليتمنّ الله هذا الأمرَ ولكنَّكم تستعجلون"

(6)

.

وكذا حديث عدي بن حاتم

(7)

في ذلك.

= وقيل: فساد القلب.

(1)

رواه البخاري في صحيحه رقم (7084) في المن، ومسلم في صحيحه رقم (1847) في الإمارة.

(2)

رواه البخاري في صحيحه رقم (3607) في المناقب.

(3)

رواه مسلم في صحيحه رقم (2891)(24) في الفتن، ولفظه: فما منه شيءٌ الا قد سألتُه، الا أني لم أسألْه: ما يُخرج

(4)

رواه مسلم في صحيحه رقم (2892) في الفتن وأشراط الساعة.

(5)

رواه البخاري في صحيحه رقم (6943) في الإكراه، وابن حبان في صحيحه (10/ 91) رقم (6698) في التاريخ.

(6)

تقدم الحديث.

(7)

تقدم الحديث.

ص: 284

وقال اللّه تعالى: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة: 33] وقال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ} الآية [النور: 55].

وفي صحيح مسلم، من حديث أبي نضرة، عن أبي سعيد، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "إن الدنيا حُلوَة خضرة، وإن اللّه مستخلفكم فيها فناظرٌ كيف تعملون، فاتقُوا الدنيا، واتَّقُوا النساءَ، فإنَّ أولَ فتنة بني إسرائيل كانت في النساء"

(1)

.

وفي حديث آخر: "ما تركتُ بعدي فِتنةً هيَ أضرُّ على الرجال من النساء"

(2)

.

وفي الصحيحين، من حديث الزهري، عن عروةَ بن المِسْوَر، عن عمرو بن عَوْف، فذكرَ قصّةَ بعثِ أبي عُبيدة إلى البحرين قال: وفيه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "أبشِروا وأمِّلُوا ما يسرُّكم، فواللّه ما الفقرَ أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تنبسطَ عليكم الدنيا كما بُسطت على مَن كان قبلَكم، فتنافَسوها كما تنافسوها، فتهلكَكم كما أهلكَتْهُم"

(3)

.

وفي الصحيحين، من حديث سفيان الثوري، عن محمد بن المُنْكدر، عن جابرٍ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل لكم من أنماط؟ " قال: قلت يا رسولَ اللّه: وأنى يكونُ لنا أنماط؟ فقال: "أما إنها ستكونُ لكم أنماط". قال: فأنا أقولُ لامرأتي: نَحِّي عني أنماطَك، فتقول: ألم يقلْ رسولُ الله: "إنها ستكون لكم أنماط؟ " فأتركها

(4)

.

وفي الصحيحين، والمسانيد، والسنن وغيرها، من حديث هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد اللّه بن الزبير، عن سفيان بن أبي زُهير، قال:

قال رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم: "تُفتحُ اليمنُ، فيأتي قومٌ يَبُسُّون

(5)

فيتحمَّلون بأهليهم ومن أطاعَهم، والمدينةُ خيرٌ لهم لو كانوا يَعلمون"

(6)

.

(1)

رواه مسلم في صحيحه رقم (2742) في الذكر والدعاء. وفيه: فينظرُ كيف تعملون.

(2)

رواه مسلم في صحيحه رقم (2741) في الذكر والدعاء، عن أسامة بن زيد بن حارثة، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل ولفظه: ما تركتُ بعدي في الناس فتنةً أضرَّ

(3)

رواه البخاري في صحيحه رقم (3158) في الجزية، ومسلم في صحيحه رقم (2961) في الزهد.

(4)

رواه البخاري في صحيحه رقم (3631) في المناقب، ومسلم في صحيحه رقم (2083) في اللباس. وأنماطًا: جمع نَمَط، وهو ظهارة الفراش، وقيل: ظهر الفراش. ويطلق أيضًا على بساط لطيف له خَمْل يُجعل على الهودج، وقد يُجعل سترًا.

(5)

"يبسُّون": يسوقون الإبل ويزجرونها في السير، المعنى: أنهم يسوقون بهائمهم سائرين عن المدينة إلى غيرها. والأصل فيه: أنه بَسْ بَسْ: زجر للإبل.

(6)

رواه البخاري في صحيحه رقم (1875) في فضائل المدينة، ومسلم في صحيحه رقم (1388) في الحج، ومالك في الموطأ (2/ 887 و 888) في الجامع (باب ما جاء في سكنى المدينة والخروج منها).

ص: 285

كذلك رواه عن هشام بن عروة جماعةٌ كثيرون.

وقد أسندَه الحافظُ ابن عساكر، من حديث مالك، وسفيان بن عُيينة، وابن جُريج، وأبي مُعاوية، ومالك بن سعد بن الحسن، وأبي ضَمْرة أنس بن عِيَاض، وعبد العزيز بن أبي حازم سلمة بن دينار، وجرير بن عبد الحميد.

ورواهُ أحمد

(1)

، عن يونس، عن حماد بن زيد، عن هشام بن عروة. وعبد الرزاق

(2)

، عن ابن جريج، عن هشام. ومن حديث مالك

(3)

، عن هشام به بنحوه.

ثم روى أحمد

(4)

، عن سُليمان بن داود الهاشمي، عن إسماعيل بن جعفر، أخبرني يزيدُ بن خُصَيْفة؛ أن بُسْرَ بن سعيد أخبرَه، أنه سمعَ

(5)

في مجلس الليثيين يذكرون أن سُفيان أخبرَهم، فذكر قصة، وفيها:

أن رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم قال له: "ويُوشك الشامُ أن يُفتح فيأتيه رجالٌ من هذا البلد - يعني: المدينة - فيعجبُهم ريفُه ورخاؤه، والمدينةُ خيرٌ لهم لو كانوا يَعلمون، ثم يُفتح العراق فيأتي قوم يَبُسُّون، فيتحملون بأهليهم ومَن أطاعهم، والمدينة خيرٌ لهم لو كانوا يعلمون"

(6)

.

وأخرجه ابن خزيمة من طريق إسماعيل.

ورواه الحافظ ابنُ عساكر من حديث أبي ذر، عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم بنحوه.

وكذا حديث ابن

(7)

حوالة.

ويشهدُ لذلك: "مَنَعتِ الشَّامُ مدها ودينارَها، وَمَنعتِ العراقُ درهمها وقَفِيزَها، ومنعت مصرُ أَرْدُبَّهَا ودينارَها، وعُدتم من حيث بَدأتم" وهو في الصحيح

(8)

.

(1)

رواه أحمد في المسند (5/ 220) رقم (21814) وهو حديث صحيح.

(2)

مسند أحمد (5/ 220) وهو في مصنف عبد الرزاق (9/ 265) رقم (17159) وهو بمعنى الذي قبله.

(3)

مسند أحمد (5/ 220) وهو في موطأ الإمام مالك رقم (1851).

(4)

في المسند (5/ 219 - 220).

(5)

كذا في الأصل، وفي المسند (5/ 219) أنه في مجلس الليثيين.

(6)

في سنده جهالة الليثيين ولكن له شاهد في الصحيحين فهو حسن.

(7)

ابن حوالة: هو عبد الله بن حوالة، قال البخاري: له صحبة، توفي بالشام سنة 80 هـ، روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثًا فيه البشارة بفتح الشام، ويأمره صلى الله عليه وسلم فيه بلزومها

وسيُورد الحافظ ابن كثير هذا الحديث برواياته قريبًا. الإصابة (2/ 300).

(8)

رواه مسلم في صحيحه رقم (2896) في الفتن وأشراط الساعة، عن أبي هريرة رضي الله عنه وأوله: منعت العراق درهمها .. وفيه: ومنعت الشام مُدّيها .. ومُدْيَها على وزن قُفْل، مكيال معروف لأهل الشام، يسع خمسة عشر =

ص: 286

وكذلك حديث: المواقيت لأهل الشام واليمن، وهو في الصحيحين

(1)

، وعند مسلم

(2)

: ميقات أهل العراق.

ويشهد لذلك أيضًا حديث: "إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل اللّه عز وجل"

(3)

.

وفي صحيح البخاري، من حديث أبي إدريس الخَوْلاني، عن عَوْف بن مالك؛ أنه قال:

قال رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك: "اعدد ستًا بين يدي الساعة

" فذكرَ موته عليه الصلاة والسلام، ثم فتحَ بيت المقدس، ثم مُوتان - وهو الوباء - ثم كثرةَ المال، ثم فتنةً، ثم هدنةً بين المسلمين والروم"

(4)

وسيأتي الحديث فيما بعد.

وفي صحيح مسلم، من حديث عبد الرحمن بن شُمَاسَة، عن أبي ذر، قال:

قال رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم: "إنكم ستفتحون أرضًا يُذكر فيها القيراطُ فاستوصُوا بأهلها خيرًا، فإن لهم ذِمّةً وَرَحِمًا، فإذا رأيتَ رجلين يَختصمان في موضع لَبِنَة فاخرج منها"

(5)

.

قال: فمرَّ بربيعةَ وعبد الرحمن ابني شُرحبيل بن حَسَنَة يختصمان في موضع لَبِنة، فخرجَ منها. يعني ديار مصر، على يدي

(6)

عمرو بن العاص في سنة عشرين، كما سيأتي.

وروى ابن وهب، عن مالك والليث، عن الزهري، عن ابن لكعب بن مالك

(7)

، أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال:"إذا افتتحتم مصر فاستوصُوا بالقبط خيرًا، فإن لهم ذمة ورحمًا".

ورواه البيهقيّ، من حديث إسحاق بن راشد

(8)

، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن كعب بن

= مكوكًا. و"قفيزها": مكيال معروف لأهل العراق. يسع خمسة عشر مكوكًا. و"إردبَّها": مكيال معروف لأهل مصر، يسع أربعة وعشرين صاعًا.

(1)

حديث المواقيت المكانية رواه البخاري ومسلم وغيرهما، عن عبد اللّه بن عمر بن الخطاب، وعبد اللّه بن عباس رضي الله عنهم.

(2)

رواه مسلم في صحيحه رقم (1183) في الحج، عن جابر رضي الله عنهما.

(3)

تقدم الحديث مع تخريجه.

(4)

رواه البخاري في صحيحه رقم (3176) في الجزية والموادعة.

(5)

رواه مسلم في صحيحه رقم (2543)(227) في فضائل الصحابة، وهو في المسند (5/ 174). والقيراط: جزء من أجزاء الدينار والدرهم وغيرهما، وكان أهل مصر يُكثرون من استعماله والتكلم به.

(6)

أي فُتحت ديار مصر على يدي عمرو بن العاص رضي الله عنه.

(7)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 322) وفيه: عن أبي بن كعب بن مالك، وهو تصحيف.

(8)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 322). وفيه: عن إسحاق بن أسد، وهو تصحيف، إنما هو إسحاق بن راشد الجزري.

ص: 287

مالك، عن أبيه

(1)

.

وحكى أحمد بن حنبل، عن سفيان بن عيينة أنه سُئل عن قوله:"ذمةً ورحمًا" فقال: مِن الناس مَن قال: إن أم إسماعيل - هاجر - كانت قبطية، ومن الناس من قال: أم إبراهيم.

قلت: الصحيحُ الذي لا شكَّ فيه أنهما قبطيتان كما قدَّمنا ذلك، ومعنى قوله:"ذمةً" يعني بذلك هديَّة المُقوقس إليه وقبولَه ذلك منه، وذلك نوع ذِمام ومُهادنة، واللّه تعالى أعلم.

وتقدَّم ما رواه البخاريُّ من حديث مُحِلّ بن خليفة، عن عديّ بن حاتم، في فتح كنوز كسرى وانتشار الأمن، وفيضان المال حتى لا يتقبَّلَه أحدٌ، وفي الحديث أن عديًّا شهدَ الفتحَ، ورأى الظعينةَ ترتحلُ من الحيرة إلى مكة لا تخاف إِلَّا اللّه، قال: ولئن طالت بكم حياةُ لترونَّ ما قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم، من كثرة المال حتى لا يقبلَه أحدٌ.

قال البيهقيُّ: وقد كان ذلك في زمن عمرَ بن عبد العزيز

(2)

.

قلت: ويُحتمل أن يكون ذلك متأخرًا إلى زمن المَهدي؛ كما جاء في صفته، أو إلى زمن نزول عيسى ابن مريم عليه السلام بعد قتله الدجال، فإنه قد ورد في الصحيح

(3)

أنه يقتلُ الخِنزيرَ، ويكسرُ الصليبَ، ويفيضُ المالُ حتى لا يقبلَه أحدٌ، واللّه تعالى أعلم.

وفي صحيح مسلم من حديث ابن أبي ذِئب، عن مُهاجر بن مِسمَار، عن عامر بن سعد، عن جابر بن سَمُرة قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يزالُ هذا الدينُ قائمًا ما كان اثنا عشرَ خليفة كلّهم من قريش، ثم يخرج كذابون بين يدي الساعة، وليفتحنَّ عصابةٌ من المسلمين كنزَ القصر الأبيض، قصر كسرى، وأنا فَرَطُكم على الحوض" الحديث بمعناه

(4)

.

وتقدم حديث عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن همَّام، عن أبي هريرة، مرفوعًا: "إذا هلكَ قيصرُ فلا

(1)

رواه البيهقيّ في "دلائل النبوة"(6/ 322) وهو حديث صحيح يشهد له حديث مسلم المتقدم.

(2)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 323).

(3)

رواه مسلم في صحيحه رقم (155) في الإيمان، وهو عند أحمد (2/ 493) وابن حبان في صحيحه (15/ 228) رقم (6816).

(4)

الحديث رواه مسلم في صحيحه رقم (1822) في الإمارة، عن جابر بن سمرة؛ قال: سمعتُ رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يزال الدينُ قائمًا حتى تقومَ الساعةُ. أو يكونَ عليكم اثنا عشر خليفة كلُّهم من قريش وسمعته يقول: "عُصَيْبةٌ من المسلمين يفتتحون البيتَ الأبيضَ، بيتَ كسرى، أو آل كسرى". وسمعته يقول:"إن بين يدي الساعة كذابين فاحذروهم" وسمعته يقولُ: "إذا أعطى الله أحدَكم خيرًا فليبدأ بنفسِه وأهل بيته" وسمعته يقول: "أنا الفَرَطُ على الحوض" وهو في دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 324) والحافظ ابن كثير ذكره بمعناه من رواية البيهقيّ.

ص: 288

قيصرَ بعده، وإذا هلكَ كسرى فلا كسرى بعدَه، والذي نفسي بيده لتنفقنَّ كنوزَهما في سبيل الله عز وجل" أخرجاه

(1)

.

وقال البيهقيّ

(2)

: المراد زوال ملك قيصر، عن الشام، ولا يبقى كبقاءِ ملكهِ على الروم، لقوله عليه السلام، لما عظم كتابه: ثبت ملكه، وأما ملك فارس فبادَ بالكلية، لقوله:"مزَّق اللّه ملكَه".

وقد روى أبو داود

(3)

عن محمد بن عُبيد، عن حمَّاد، عن يونس، عن الحسن؛ عن عمر بن الخطاب. وروينا

(4)

من طريق أخرى عن عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه، لما جيء بفروة كِسرى وسيفه ومنطقته وتاجه وسواريه ألبسَ ذلك كلَّه لسراقةَ بن مالك بن جُعشم، وقال: قل الحمد لله الذي ألبسَ ثيابَ كسرى لرجل أعرابي من البادية.

قال الشافعيُّ

(5)

: إنما ألبسَه ذلك لأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لسراقة - ونظر إلى ذراعيه -: "كأني بك وقد لبستَ سواري كسرى" واللّه أعلم.

وقال سفيان بن عيينة: عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن عدي بن حاتم، قال:

قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "مُثِّلَت لي الحيرةُ كأنياب الكلاب، وإنكم ستفتحونها" فقام رجلٌ، فقال: يا رسول اللّه، هب لي ابنةَ بُقَيْلَة، قال:"هي لك" فأعطوه إياها، فجاء أبوها فقال: أتبيعها؟ قال: نعم، قال: فبكم؟ قال: احكم ما شئتَ، قال: ألف درهمء قال: قد أخذتها، فقالوا له: لو قلت ثلاثين ألفًا لأخذها، فقال: وهل عددٌ أكثرُ من ألف

(6)

؟

وقال الإمام أحمد

(7)

: حَدَّثَنَا عبدُ الرحمن بن مهدي، حَدَّثَنَا معاوية، عن ضَمرة بن حبيب، أن ابنَ زُغبٍ الإيادي حدَّثه قال: نزلَ عليَّ عبدُ اللّه بن حوالة الأزدي، فقال لي (وإنه لنازلٌ عليَّ في بيتي)

(8)

: بعثنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حولَ المدينة على أقدامنا لنغنمَ، فرجعنا ولم نغنم شيئًا، وعرف الجَهْدَ في وجوهنا،

(1)

هو عند البخاري رقم (3120) ومسلم رقم (2918)(76) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

دلائل النبوة (6/ 325) وقد تصرف الحافظ ابن كثير بكلام البيهقيّ وذكر معناه.

(3)

دلائل النبوة (6/ 325).

(4)

دلائل النبوة (6/ 325).

(5)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 325).

(6)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 326) وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 212)، وقال: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح.

(7)

في المسند (5/ 288).

(8)

ما بين القوسين أثبته من المسند (5/ 288).

ص: 289

فقام فينا فقال: "اللهم لا تَكِلْهُم إليَّ فأضعفَ، ولا تَكِلْهُم إلى أنفسهم فيعجزوا عنها، ولا تَكِلْهُم إلى النَّاس فيستأثروا عليهم" ثم قال: "لتفتحنَّ لكم الشامُ والرومُ وفارسُ، أو الرومُ وفارسُ، وحتى يكونَ لأحدِكُم من الإبل كذا وكذا، ومن البقر كذا وكذا، ومن الغنم كذا وكذا، وحتى يُعطى أحدُكم مئةَ دينار فيَسْخَطُها" ثم وضعَ يدَه على رأسي أو على هامتي فقال: "يا بنَ حَوَالةَ، إذا رأيتَ الخلافَةَ قد نزلت الأرضَ المقدسةَ فقد دنت الزلازلُ والبَلابِلُ

(1)

والأمورُ العظام، والسَّاعة يومئذ أقربُ إلى النَّاس من يدي هذه من رأسِك".

ورواه أبو داود

(2)

: حديث معاوية بن صالح

(3)

.

وقال أحمد

(4)

: حَدَّثَنَا حيوةُ بن شريح، ويزيدُ بن عبد ربه قالا: حَدَّثَنَا بقيَّة، حدّثني بَحِير بن سعد، عن خالد بن مَعْدَان، عن أبي قُتَيْلَةَ، عن ابن حوالة؛ أنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "سيصيرُ الأمرُ إلى أن تكون جنودٌ مجنَّدةٌ، جندٌ بالشام، وجندٌ باليمن، وجندٌ بالعراق" فقال ابن حَوَالَة: خِرْ لي يا رسولَ الله إن أدركتُ ذلك، فقال: "عليكَ بالشام فإنه خِيْرَةُ الله من أرضِه يَجتبي إليه خيرتَه من عباده، فإن أبيتُم فعليكم بيمنِكم واسْقُوا من غُدُره، فإنَّ الله تكفل لي بالشام وأهله.

وهكذا رواه أبو داود

(5)

، عن حيوة بن شريح به.

وقد رواه أحمد

(6)

أيضًا، عن عصام بن خالد وعلي بن عياش، كلاهُما عن حَريز بن عثمان، عن سليمان بن شمير، عن عبد اللّه بن حوالة، فذكر نحوَه.

ورواه الوليدُ بن مسلم الدمشقي، عن سعيد بن عبد العزيز، عن مكحولٍ وربيعةَ بن يزيد، عن أبي إدريس، عن عبدِ الله بن حَوَالة، به

(7)

.

(1)

كذا في الأصل والمطبوع وسنن أبي داود، والبلابل: الهموم والأحزان، وبلبلة الصدر: وسواس الهموم واضطرابها فيه. وفي المسند: البلايا.

(2)

رواه أبو داود في سننه رقم (2535) في الجهاد.

(3)

إسناده ضعيف، لجهالة ابن زغب الإيادي، قال أبو نعيم: مختلف في صحبته يعد من تابعي أهل حمص، وقد تفرد بالرواية عنه ضمرة بن حبيب. وفي متن الحديث نكارة بينة، لعلها من معاوية بن صالح، فقد عرف عنه مثل هذه النكارة لا سيما أنه لم يتابع على هذا الحديث (بشار).

(4)

رواه الإمام أحمد في المسند (4/ 110) وهو حديث صحيح بطرقه، وهذا إسناد ضعيف لضعف بقية فإنه كان يدلس تدليس التسوية، وهو أمر قادح في عدالته. و"غُدُره": كذا في الأصل، وفي المسند وسنن أبي دواد: غُدُركم: جمع غدير، وهي القطعة من الماء يغادرها السيل.

(5)

في سننه (2483) في الجهاد. وهذا إسناد حسن.

(6)

رواه الإمام أحمد في المسند (5/ 288) وهو حديث صحيح.

(7)

دلائل النبوة، للبيهقي (6/ 327) وهو حديث حسن.

ص: 290

وقال البيهقيّ: أخبرنا أبو الحسين بن الفضل القطان، أخبرنا عبدُ اللّه بن جعفر، حَدَّثَنَا يعقوب بن سفيان، حَدَّثَنَا عبدُ الله بن يوسف، حَدَّثَنَا يحيى بن حمزة، حدَّثني أبو علقمة - نصرُ بن علقمة - يَردُّ الحديثَ إلى جُبَيْر بن نُفَيْر. قال: قال عبد اللّه بن حَوَالة: كنّا عندَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فشكونا إليه العُرْيَ والفقرَ، وقِلَّةَ الشيء، فقال:"أبشروا فوالله لأنا بكثرةِ الشيء أخوفني عليكم من قِلَّته، والله لا يزالُ هذا الأمرُ فيكم حتى يفتَح اله عليكم أرضَ الشام - أو قال: أرضَ فارسَ وأرضَ الروم وأرضَ حِمْيَرَ - وحتى تكونوا أجنادًا ثلاثة: جندًا بالشام، وجندًا بالعراق، وجندًا باليمن، وحتى يُعطى الرجل المئة، فيسخَطُها" قال ابنُ حَوَالة: قلت: يا رسولَ الله، ومن يستطيعُ الشام وبه الروم ذاتُ القرون؟ قال: "واللّه ليفتحنَّها الله عليكم، وليستخلفنَّكم فيها حتى تظلَّ العصابةُ البِيضُ منهم قُمُصُهم، الملحمة

(1)

أقفاؤهم، قيامًا على الرُّوَيْجل الأسودِ منكم المحلوق، ما أمرَهم من شيءٍ فعلوه

" وذكر الحديث.

قال أبو علقمة: سمعتُ عبد الرحمن بن مهدي يقول: فعرفَ أصحابُ رسول الله نَعْتَ هذا الحديث في جَزءِ بن

(2)

سُهيل السُّلمي، وكان على الأعاجم في ذلك - الزمان، فكانوا إذا راحوا إلى المسجد نظروا إليه وإليهم قيامًا حولَه، فيتعجبون بنعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فيه وفيهم

(3)

.

وقال أحمد: حَدَّثَنَا حجَّاج، حَدَّثَنَا اللَّيث بن سعد، حدَّثني يزيد بن أبي حبيب

(4)

، عن ربيعة بن لقيط التجيبي، عن عبد اللّه بن حَوَالة الأزدي؛ أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال:"من نجا من ثلاثٍ فقد نجا"(قاله ثلاث مرات) قالوا: ماذا يا رسولَ الله؟ قال: "موتي، ومن قتل خليفةٍ مصطبر بالحق يعطيه، والدجال"

(5)

.

وقال أحمد: حَدَّثَنَا إسماعيل بن إبراهيم، حَدَّثَنَا الجُرَيْري، عن عبد الله بن شقيق، عن عبد الله بن حَوالة، قال: أتيتُ على

(6)

رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وهو جالسٌ في ظل دَوْمةٍ

(7)

، وهو

(8)

عنده كاتب له يُملي

(1)

كذا في الأصل، وفي مجمع الزوائد: المحلقة.

(2)

جزء بن سهيل: قال الحافظ ابن حجر: جاء ذكره في حديث ذكره ابن عساكر في تاريخه، وثابت بن قاسم في الدلائل من طريق نصر بن علقمة، عن جُبير بن نُفيْر، عن عبد الله بن حَوَالة .. وكان جزء أسود قصيرًا، فكانوا يرون تلك الأعاجم، وهم حوله قيام لا يأمرهم بشيء إِلَّا فعلوه، فيتعجبون من هذا الحديث. الإصابة (1/ 234).

(3)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 327) وفيه بعض التحريف في ألفاظه، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 212 - 211) وقال: رواه الطبراني بإسنادين رجال أحدهما رجال الصحيح، غير نصر بن علقمة، وهو ثقة.

(4)

كذا في الأصل، وهو الصحيح، وفي المسند:"يزيد بن أبي حكيم" محرف.

(5)

رواه الإمام أحمد في المسند (5/ 288) وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (7/ 334) وقال: رواه أحمد والطبراني، ورجال أحمد رجال الصحيح غير ربيعة بن لقيط، وهو ثقة، ورواه الحاكم في المستدرك (3/ 101) وصححه.

(6)

كذا في الأصل، وفي المسند: أتيتُ رسول الله.

(7)

"دَوْمة": نوع من الشجر.

(8)

كذا في الأصل، وفي المسند: وعنده كاتب ....

ص: 291

عليه، فقال: "ألا نكتبك

(1)

يا بن حوالة؟ " قلتُ: لا أدري ما خارَ اللّه لي ورسولُه، فأعرضَ عني، وأكبَّ على كاتبه يُملي عليه. ثم قال: "ألا نكتبك يا بن حوالة؟ " قلت: لا أدري ما خار الله لي ورسوله، فأعرض عني، وأكبَّ على كاتبه يملي عليه. قال: فنظرتُ فإذا في الكتاب عمر، فقلت: لا يكتبُ عمرَ إِلَّا في خير، ثم قال: "أنكتبك

(2)

يا بن حوالة؟ " قلت: نعم، فقال: "يا بن حَوالة، كيف تفعلُ في فتنة تخرجُ في أطراف الأرض كأنها صَيَاصِي

(3)

بقر؟ " قلت: لا أدري ما خارَ الله لي ورسولُه، قال: "فكيف تفعلُ في أخرى تخرجُ بعدهَا كأن الأولى فيها انتفاجةٌ

(4)

أرنب؟ " قلت: لا أدري ما خارَ اللّه لي ورسولُه، قال: "اتبعُوا هذا" قال: ورجلٌ مقفي حينئذ، فانطلقتُ فسعيْتُ، وأخذتُ بمنكبيه فأقبلتُ بوجهه إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقلتُ: هذا؟ قال: "نعم" قال: فإذا هو عثمان بن عفان رضي الله عنه."

(5)

".

وثبت في صحيح مسلم، من حديث يحيى بن آدم، عن زهير بن معاوية، عن سُهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "منعتِ العراقُ درهمَها وقفيزَها، منعتِ الشَّامُ مُدْيَها ودِينارَها، ومنعتِ مصرُ إردبها ودينارها، وعُدتُم من حيث بدأتُم، وعدتُم من حيث بدأتُم، وعدتُم من حيث بدأتُم، شهدَ على ذلك لحمُ أبي هُريرة ودمُه"

(6)

.

وقال يحيى بن آدم وغيره من أهل العلم: هذا من دلائل النبوة حيث أخبرَ عما ضربَه عمرُ على أرض العراق من الدراهم والقفزان، وعما ضربَ من الخراج بالشام ومصر قبل وجود ذلك، صلواتُ اللّه وسلامه عليه.

وقد اختلفَ الناسُ في معنى قوله عليه الصلاة والسلام: "منعتِ العراقُ

" إلخ، فقيل: معناه أنهم يُسلمون فيسقطُ عنهم الخراجُ، ورجَّحه البيهقيُّ

(7)

، وقيل: معناه أنهم يَرجعون عن الطاعة ولا يُؤدُّون الخراجَ المضروبَ عليهم، ولهذا قال: وعدتُم من حيثُ بدأتم، أي: رجعتُم إلى ما كنتم عليه قبل ذلك؛ كما ثبت في صحيح مسلم: "إن الإسلامَ بدأ غريبًا وسيعودُ غريبًا فطُوبى للغرباء"

(8)

.

(1)

في المسند: ألا أكتبك.

(2)

كذا في المسند تكرار قول النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: ألا نكتبك

مرتين، وفي الأصل لم يتكرر، وفي المطبوع تكرر ثلاث مرات.

(3)

"صياصي" قرون.

(4)

"انتفاجةُ أرنب": وثبة أرنب.

(5)

رواه الإمام أحمد في المسند (4/ 109 - 110) وإسناده صحيح، والجريري وإن اختلط لكن سماع إسماعيل من قبل الاختلاط.

(6)

رواه مسلم في صحيحه رقم (2896) في الفتن وأشراط الساعة، وقد تقدم، وذكره هنا أتم وأكمل.

(7)

دلائل النبوة (6/ 330).

(8)

رواه مسلم (145) في الإيمان.

ص: 292

ويؤيّدُ هذا القولَ ما رواه الإمامُ أحمد

(1)

: حَدَّثَنَا إسماعيل، عن الجُرَيْري، عن أبي نضرة، قال: كنا عند جابر بن عبد اللّه فقال: يُوشك أهلُ العراق ألا يجبى إليهم قفيزٌ ولا درهمٌ، قلنا: من أين ذلك؟ قال: من قبل العجم، يَمنعون ذلك، ثم قال: يُوشك أهلُ الشام ألا يُجبى إليهم دينارٌ ولا مُدّ، قلنا: من أين ذلك؟ قال: من قبل الروم، يَمنعون ذلك، قال: ثم سكتَ

(2)

هُنيهة، ثم قال: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "يكونُ في آخر أمتي خليفة يَحْثي المال حَثْيًا"

(3)

، لا يعدُّه عدًّا".

قال الجُرَيْرِيُّ: فقلتُ لأبي نضرة وأبي العلاء: أتريانِه عمرَ بن عبد العزيز رضي اللّه تعالى عنه؟ فقالا: لا.

وقد رواه مسلم

(4)

، من حديث إسماعيل بن إبراهيم بن عُلَيّة وعبد الوهاب الثقفي، كلاهُما عن سعيد بن إياس الجُرَيْرِي، عن أبي نَضْرةَ المُنذر بن مالك بن قُطَعَة العَبْدي، عن جابر، كما تقدم.

والعجب أن الحافظ أبا بكر البيهقيّ احتجَّ به على ما رجَّحه من أحد القولين المتقدمين، وفيما سلكه نظر، والظاهر خلافه.

وَثبت في الصحيحين

(5)

، من غير وجه؛ أن رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم وقَّتَ لأهل المدينة ذا الحُلَيفة، ولأهل الشام الجُحْفة، ولأهل اليمن يَلَمْلَم، وفي صحيح

(6)

مسلم، عن جابر: ولأهل العراق ذاتِ عرق. فهذا من دلائل النبوة، حيث أخبرَ عما وقعَ من حجِّ أهل الشَّام واليمن والعراق، صلواتُ اللّه وسلامه عليه.

وفي الصحيحين، من حديث سفيان بن عُيينة، عن عمرو بن دينار، عن جابر، عن أبي سعيد، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "ليأتينَّ على النَّاسِ زمانٌ يغزو فيه فِئَامٌ من النَّاس، فيُقال لهم: هل فيكم من صَحِبَ رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم؟ فيقال: نعم. فيفتحُ اللّه لهم، ثم يأتي على الناس زمانٌ فيغزو فئامٌ من الناس، فيُقال لهم: هل فيكم من صحبَ أصحابَ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم؟ فيُقال: نعم، فيُفْتَحُ لهم، ثم يأتي على الناس زمان يغزو فيه فئامٌ من الناس، فيقال: هل فيكم من صَحِبَ من صاحبَهم؟ فيُقال: نعم، فيفتح اللّه لهم"

(7)

.

(1)

في المسند (3/ 317).

(2)

في المسند: ثم أمسك.

(3)

في المسند: حَثوًا، وكلاهما صحيح، والحثو: الحفن باليد، وهو دليل على كثرة المال والسخاء.

(4)

رواه في صحيحه رقم (2913) في الفتن وأشراط الساعة.

(5)

حديث المواقيت المكانية رواه البخاري في صحيحه رقم (1524) في الحج، عن ابن عباس، و (1522) في الحج عن ابن عمر، ومسلم في صحيحه رقم (1181) في الحج، عن ابن عباس و (1182) في الحج عن ابن عمر.

(6)

رواه مسلم في صحيحه رقم (1183)(18) في الحج.

(7)

رواه البخاري في صحيحه رقم (2897) في الجهاد، ومسلم في صحيحه رقم (2532) في فضائل الصحابة.

ص: 293

وثبت في الصحيحين، من حديث ثور بن زيد، عن أبي الغيث، عن أبي هريرة، قال: كنا جلوسًا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأُنزلتْ عليه سورةُ الجمعة {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} [الجمعة: 3] فقال رجلٌ: مَن هؤلاء يا رسولَ الله؟ فوضَعَ يدَه على سلمانَ الفارسي وقال: "لو كان الإيمانُ عند الثُّرَيَّا لنالَه رجالٌ من هؤلاء"

(1)

وهكذا وقع كما أخبر به عليه الصلاة والسلام.

وروى الحافظُ البيهقيّ من حديث محمد بن عبد الرحمن بن عِرْقٍ، عن عبد اللّه بن بُسْرٍ، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لتُفتحنَّ عليكم فارسُ والروم حتى يكثرَ الطعام فلا يُذكرُ عليه اسمُ اللّه عز وجل

(2)

.

وروى الإمام أحمد والبيهقي وابن عدي وغيرُ واحدٍ من حديث أوس بن عبد اللّه بن بريدة، عن أخيه سهل، عن أبيه عبد الله بن بُريدة بن الخصيب مرفوعًا:"ستُبعثُ بعوثٌ، فكنْ في بَعْثِ خُراسان، ثم اسكنْ مدينةَ مرو، فإنه بناها ذو القرنين، ودعا لها بالبركة، وقال: لا يُصيبُ أهلَها سوء"

(3)

.

وهذا الحديثُ يُعدُّ من غرائب المسند، ومنهم من يجعلُه موضوعًا، فالله أعلم

(4)

.

وقد تقدَّم حديث أبي هريرة

(5)

، من جميع طرقه في قتال الترك، وقد وقع ذلك كما أخبر به سواء بسواء، وسيقعُ أيضًا.

وفي صحيح البخاري، من حديث شعبة، عن فُرَاتٍ القَزَّاز، عن أبي حَازمٍ، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"كانت بنو إسرائيلَ تسوسُهم الأنبياءُ، كلما هلكَ نبيٌّ خلفَه نبيٌّ، وإنه لا نبيَّ بعدي، وإنه سيكون خُلفاءُ فيَكثُرون" قالوا: فما تأمُرنا يا رسُولَ الله " قال: "فُوا ببيعةِ الأَوَّل فالأول، وأعطوهم حقَّهم، فإن الله سائلُهم عما استرعاهُم"

(6)

.

(1)

رواه البخاري في صحيحه رقم (4897) في تفسير سورة الجمعة، ومسلم في صحيحه رقم (2546)(231) في فضائل الصحابة، وعندهما أن الرجل سأل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم مرة أو مرتين أو ثلاثًا. وفي البخاري أنه سأل ثلاثًا.

(2)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 334) بأطول مما هاهنا، والحافظ ابن كثير ذكر منه آخره، ورواه ابن ماجة في سننه رقم (3263) في الأطعمة، وذكره من أوله مختصرًا. وقال في الزوائد: إسناده صحيح، رجاله ثقات.

(3)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 332) وهو عند الإمام أحمد في المسند (5/ 357) وابن عدي في "الكامل"(2/ 841) وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 64) وقال: رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط بنحوه، وفي إسناد أحمد والأوسط: أوس بن عبد الله، وفي إسناد الكبير: حسام بن مصك؛ مجمعٌ على ضعفهما.

(4)

العجب من الحافظ ابن حجر أنه حَسَّنه في القول المسدد (133)، وأمارات الوضع بادية عليه.

(5)

تقدم الحديث.

(6)

رواه البخاري في صحيحه رقم (3455) في الأنبياء، ورواه مسلم في صحيحه رقم (1842) في الإمارة و"تسوسهم الأنبياء": يتولون أمورهم كما تفعل الأمراء والولاة بالرعية، والسيامة: القيام على الشيء بما يُصلحه.

ص: 294

وفي صحيح مسلم، من حديث أبي رافع، عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "ما كان نبيٌّ إِلَّا كان له حواريُّون يَهدون بهديه، ويَسْتَنُّون بسنته، ثم يكونُ من بعدهم خلوفٌ يقولون ما لا يفعلون ويعملون ما تنكرون"

(1)

.

وروى الحافظ البيهقيّ، من حديث عبد اللّه بن الحارث بن محمد (بن عمرو) بن حاطب الجُمَحِي، عن سُهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "يكون بعد الأنبياء خلفاء يَعملون بكتاب اللّه، ويَعدلونَ في عبادة اللّه، ثم يكونُ من بعد الخلفاء ملوكٌ يأخذون بالثأر، ويقتلون الرجالَ، ويصطفون الأموالَ، فمغيِّرٌ بيده، ومغيِّرٌ بلسانه، وليس وراءَ ذلك من الإيمان شيءٌ"

(2)

.

وقال أبو داود الطيالسي

(3)

: حَدَّثَنَا جرير بن حازم، عن ليث، عن عبد الرحمن بن سابط، عن أبي ثعلبة الخشني، عن أبي عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فقال:"إنَّ الله بدأَ هذا الأمرَ نُبُوَّةً ورحمةً، وكائنًا خلافة ورحمة، وكائنًا مُلكًا عضوضًا، وكائنًا عزةً وجبرية وفسادًا في الأمة، يستحِلُّون الفروج والخمور والحرير، ويُنصرون على ذلك، ويُرزقون أبدًا حتى يلقوا الله عز وجل"

(4)

.

وهذا كله واقع.

وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي - وحسَّنه - والنسائي، من حديث سعيد بن جُمْهان، عن سفينةَ مولى رسول الله؛ أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال:"الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثم تكون ملكًا" وفي رواية: "ثم يُؤتي اللّه ملكَه مَنْ يشاء"

(5)

.

وهكذا وقع سواء، فإن أبا بكر رضي الله عنه كانت خلافتُه سنتين وأربعة أشهر وعشر ليالٍ

(6)

، وكانت خلافةُ عمر عشرَ سنين وستة أشهر وأربعة أيام، وخلافةُ عثمان اثنتا عشرة سنة إِلَّا اثني عشر يومًا، وكانت خلافة علي بن أبي طالب خمس سنين إِلَّا شهرين

(7)

.

(1)

رواه مسلم في صحيحه رقم (50) في الإيمان، واللفظ الذي ذكره الحافظ ابن كثير هو من رواية البيهقيّ في الدلائل (6/ 339).

(2)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 339).

(3)

مسند الطيالسي (ص 31) رقم (228) وإسناده ضعيف.

(4)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 340) وإسناده ضعيف.

(5)

رواه الإمام أحمد في المسند (5/ 221) وأبو داود في سته رقم (4646) و (4647) في السنة، والترمذي في الجامع رقم (2226) في الفتن، والنسائي في فضائل الصحابة (52)، قال الحافظ في الفتح: أخرجه أصحاب السنن، وصححه ابن حبان، وقال الترمذي: وفي الباب عن عمر وعلي قالا: لم يعهد النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم في الخلافة شيئًا.

(6)

في الأصل، ودلائل النبوة (6/ 342) إِلَّا عشر ليال.

(7)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 242).

ص: 295

قلت: تكميلُ الثلاثين بخلافة الحسن بن علي نحوًا من ستة أشهر، حتى نزلَ عنها لمعاوية عام أربعين من الهجرة، كما سيأتي بيانه وتفصيله.

وقال يعقوبُ بن سفيان: حدَّثني محمد بن فُضيل، حَدَّثَنَا مُؤمل، حَدَّثَنَا حمَّاد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة (عن أبيه)

(1)

، قال: سمعتُ رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: "خلافة نبوة ثلاثون

(2)

عامًا، ثم يُؤتي الله ملكَه مَنْ يشاء"

(3)

.

فقال معاوية: رضينا بالملك.

وهذا الحديث فيه ردٌّ صريح على الروافض المنكرين لخلافة الثلاثة، وعلى النواصب من بني أمية ومَن تَبِعَهم من أهل الشام، في إنكار خلافة عليّ بن أبي طالب.

فإن قيل: فما وجهُ الجمع بين حديث سفينةَ هذا، وبين حديث جابر بن سَمُرة المتقدم في صحيح مسلم:"لا يزالُ هذا الدينُ قائمًا ما كان على الناس اثنا عشرَ خليفة كلُّهم من قريش"

(4)

؟ فالجوابُ: أن من الناس من قال: إن الدينَ لم يزل قائمًا حتى ولي اثنا عشر خليفة، ثم وقع تخبيطٌ بعدَهم في زمان بني أمية، وقال آخرون: بل هذا الحديث فيه بشارةٌ بوجود اثني عشرَ خليفة عادلًا من قريش، وإن لم يُوجدوا على الولاء، وإنما اتفق وقوع المُتابعة بعد النبوة في ثلاثين سنة، ثم قد كان خلفاءُ راشدون.

فمنهم عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم الأموي رحمه الله، وقد نصَّ على خلافتِه وعدله وكونه من الخلفاء الراشدين، غيرُ واحد من الأئمة، حتى قال أحمدُ بن حنبل: ليس قولُ أحدٍ من التابعين حجَّة إِلَّا قول عمر بن عبد العزيز.

ومنهم من ذَكر من هؤلاء المَهدي بأمر الله العباسي. والمَهدي المُبَشِّر بوجوده في آخر الزمان منهم أيضًا بالنص على كونه من أهل البيت، واسمُه محمد بن عبد اللّه، وليس بالمنتظر في سرداب سامرا، فإن ذاك ليس بموجود بالكلية، وإنّما ينتظرُه الجهلة من الروافض.

وقد تقدَّم في الصحيحين، من حديث الزهري، عن عروة، عن عائشة؛ أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال:"لقد هممتُ أن أدعوَ أباكِ وأخاكِ وأكتبَ كتابًا لئلا يقول قائلٌ، أو يتمنى متمنٍّ" ثم قال رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم:

(1)

سقطت من الأصل، وأثبتها من دلائل النبوة، ولا بد منها.

(2)

كذا في الأصل، وفي الدلائل: ثلاثين.

(3)

دلائل النبوة، للبيهقي (6/ 342).

(4)

رواه مسلم في صحيحه رقم (1822) في الإمارة، ولفظه: لا يزالُ الدين قائمًا حتى تقوم السَّاعة، أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة، كلهم من قريش.

ص: 296

"يأبى اللّه والمؤمنون إِلَّا أبا بكرٍ"

(1)

.

وهكذا وقع، فإن اللّه ولَّاه، وبايَعه المؤمنون قاطبةً كما تقدم.

وفي صحيح البخاري: أن امرأة قالت: يا رسول الله، أرأيتَ إن جئتُ فلم أجدْك؛ كأنها تُعَرِّضُ بالموت - فقال:"إن لم تجديني فائْتِ أبا بكر"

(2)

.

وثبت في الصحيحين، من حديث ابن عمر وأبي هريرة، أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال:"بينا أنا نائمٌ رأيتني على قَليب فنزعتُ منها ما شاءَ اللّه، ثم أخذَها ابن أبي قُحَافة فنزعَ منها ذَنُوبًا أو ذنوبين، وفي نزعه ضعفٌ والله يغفر له، ثم أخذها ابنُ الخطاب فاستحالت غَرْبًا، فلم أرَ عبقريًا من الناس يفري فريَه، حتى ضربَ الناسُ بعطن"

(3)

.

قال الشافعي

(4)

رحمه الله: رؤيا الأنبياء وحي، وقوله:"وفي نزعه ضعف" قصر مدته، وعجلة موته، واشتغاله بحرب أهل الردة عن الفتح الذي ناله عمر بن الخطاب في طول مدته.

قلت: وهذا فيه البشارة بولايتهما على الناس، فوقعَ كما أخبرَ سواء.

ولهذا جاء في الحديث الآخر الذي رواه أحمد والترمذي وابن ماجة وابن حبان، من حديث ربعي بن خِراش، عن حذيفة بن اليمان، عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال:"اقتدوا باللذين من بعدي، أبي بكر وعمر"

(5)

رضي الله عنهما. وقال الترمذي: حسن.

وأخرجه

(6)

من حديث ابن مسعود، عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم.

(1)

رواه البخاري في صحيحه رقم (5666) في المرضى، ورقم (7217) في الأحكام، ومسلم في صحيحه رقم (2387) في فضائل الصحابة.

(2)

رواه البخاري في صحيحه رقم (3659) في فضائل الصحابة ورقم (7220) في الأحكام و (7360) في الاعتصام بالكتاب والسنة.

(3)

رواه البخاري في صحيحه رقم (3676) في فضائل الصحابة عن عبد الله بن عمر، ومسلم في صحيحه رقم (2392) في فضائل الصحابة عن أبي هريرة رضي الله عنه.

و"قليب": البئر غير المطوية. و"ذنُوبًا": الدلو المملوءة. و"غرْبًا": الدلو العظيمة. و"عبقريًا": هو السيد، وقيل: الذي ليس فوقه شيء. و"ضرب الناس بعطن": أي أرووا إليهم ثم آووها إلى عطنها، وهو الموضع الذي تُساق إليه بعد السقي لتستريح.

(4)

مسند الشافعي (2/ 195).

(5)

رواه أحمد في المسند (5/ 385 و 399 و 402) والترمذي في الجامع رقم (3662) في المناقب، وابن ماجة في سننه رقم (97) في المقدمة، وابن حبان في صحيحه (15/ 327) رقم (6902)، والحاكم (3/ 75) وإسناده حسن كما قال الترمذي.

(6)

يعني: الترمذي، وهو في جامعه (3805) وقال: غريب من هذا الوجه من حديث ابن مسعود لا نعرفه إِلَّا من =

ص: 297

وتقدَّم من طريق الزهري، عن رجل عن أبي ذر، حديث تسبيح الحصى في يد رسول اللّه، ثم يد أبي بكر، ثم عمر، ثم عثمان، وقوله عليه الصلاة والسلام: "هذه خلافة النبوة

(1)

.

وفي الصحيح، عن أبي موسى، قال: دخلَ رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم حائطًا فدلَّى رجليه في القف، فقلت: لأكوننَّ اليوم بَوَّابَ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فجلستُ خلفَ الباب، فجاء رجل فقال: افتحْ، فقلت: من أنت؛ قال: أبو بكر، فأخبرت رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم فقال:"افتحْ له وبشِّره بالجنة" ثم جاء عمر فقال كذلك، ثم جاء عثمان فقال:"ائذنْ له وبشره بالجنة على بلوى تُصيبه" فدخل وهو يقول: اللّه المستعان

(2)

.

وثبت في صحيح البخاري، من حديث سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس، قال: صَعِدَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم أُحدًا ومعه أبو بكر وعمر وعثمان، فرجفَ بهم الجبلُ، فضربَه رسول الله صلى الله عليه وسلم برجله وقال:"اثبتْ، فإنما عليك نبيٌّ وصدِّيقٌ وشهيدان"

(3)

.

وقال عبد الرزاق

(4)

: أخبرنا معمر، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد؛ أن حِراءَ ارتجَّ وعليه النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان، فقال النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم:"اثبتْ ما عليك إِلَّا نبيٌّ وصدِّيقٌ وشهيدان".

قال معمر: قد سمعتُ قتادة يُحدِّث عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم مثله.

وقد روى مسلم، عن قتيبةَ، عن الدراوردي

(5)

، عن أبيه، عن أبي هُريرة؛ أن رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم كان على حِرَاء، هو وأبو بكر وعمرُ وعثمانُ وعليٌّ وطلحةُ والزبير، فَتَحَرَّكَت الصخرةُ، فقال النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم:"اهدأ فما عليكَ إِلَّا نبيٌّ أو صدِّيق أو شهيد"

(6)

.

وهذا من دلائل النبوة، فإن هؤلاء كلّهم أصابوا الشهادة، واختصَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بأعلى مراتب الرسالة والنبوة، واختصَّ أبو بكر بأعلى مقامات الصديقية.

وقد ثبتَ في الصحيح الشهادة للعشرة بالجنة، بل لجميع من شهدَ بيعةَ الرضوان عام الحُديبية،

= حديث يحيى بن سلمة بن كهيل، ويحيى بن سلمة يضعف في الحديث، وينظر تمام تخريجه في تعليق الدكتور بشار على جامع الترمذي.

(1)

تقدم الحديث.

(2)

رواه البخاري في صحيحه رقم (3674) في فضائل أصحاب النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، ومسلم في صحيحه رقم (2403) في فضائل الصحابة.

(3)

رواه البخاري في صحيحه رقم (3675) في فضائل أصحاب النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم.

(4)

المصنف لعبد الرزاق (11/ 229) رقم (20401) وهو في دلائل النبوة للبيهقي (6/ 351) وإسناده صحيح.

(5)

الدراوردي: هو عبد العزيز بن محمد، أبو محمد الجهني، مولاهم، المدني. توفي سنة 86 أو 87 هـ. تقريب التهذيب (ص 358) ترجمة (4119).

(6)

رواه مسلم في صحيحه رقم (2417) في فضائل الصحابة.

ص: 298

وكانوا ألفًا وأربعمئة، وقيل: وثلاثمئة، وقيل: خمسمئة، وكلُّهم استمرَّ على السَّدَاد والاستقامة حتى مات، رضي الله عنهم أجمعين.

وثبت في صحيح البخاري

(1)

البشارة لعُكَّاشَة بأنه من أهل الجنة، فقُتل شهيدًا يوم اليمامة.

وفي الصحيحين، من حديث يونس، عن الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة؛ أنه سمعَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول:"يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفًا بغير حساب، تُضيء وجوههم إضاءة القمر ليلة البدر" فقام عُكَّاشة بن مِحْصَن الأسدي يجرُّ نمرةً عليه، فقال: يا رسولَ اللّه ادعُ الله أن يجعلَني منهم، فقال صلى الله عليه وسلم:"اللهم اجعله منهم" ثم قام رجلٌ من الأنصار فقال: يا رسولَ الله، ادعُ اللّه أن يجعلَني منهم، فقال:"سبقك بها عُكَّاشة"

(2)

.

وهذا الحديث قد روي من طرق متعددة تُفيد القطعَ، وسنُورده في باب صفة الجنة، وسنذكرُ في قتال أهل الردة أن طلحةَ الأسدي قتلَ عُكَّاشَة بن مِحْصن شهيدًا رضي الله عنه، ثم رجعَ طلحةُ الأسديُّ عما كان يدعيه من النبوة وتاب إلى اللّه، وقدم على أبي بكر الصديق واعتمرَ وحَسُنَ إسلامه.

وثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم قال: "بينا أنا نائم رأيتُ كأنه وُضع في يدي سِواران فقطعتهما، فأُوحي إليّ في المنام: أن انفخْهما، فنفختُهما فطارا، فأوَّلتُهما كذَّابين يَخرجان، صاحبَ صنعاء، وصاحبَ اليمامة"

(3)

.

وقد تقدَّم في الوفود أنَّه قالَ لمُسيلمةَ حينَ قَدِمَ مع قومِه وجعلَ يقولُ إنْ جعلَ لي محمّد الأمرَ مِن بعدِه اتَّبعتُه، فوقفَ عليه رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم قالَ به:"واللّه لو سَألتَنِي هَذَا العَسِيْبَ مَا أعطيتُكَه، ولئنْ أدبرتَ ليعقرنَّك اللّه، وإني لأراكَ الذي أُريتُ إليه ما أُريتُ"

(4)

.

وهكذا وقعَ، عقرَه اللّه وأهانَه وكسرَه وغلبَه يومَ اليَمامةَ، كما قُتل الأسودُ العَنْسِيُّ بصنعاءَ، وعلى ما سنُورده إن شاء اللّه تعالى.

وروى البيهقيُّ من حديث مبارك بن فَضالة، عن الحسن، عن أنس، قال: لقي رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم مسيلمةُ، فقال له مسيلمة: أتشهدُ أني رسولُ اللّه؛ فقال النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: "آمنتُ بالله ورسولِه" ثم قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ هذا رجلٌ أُخرَ لِهَلَكَةِ قومِه"

(5)

.

(1)

رواه البخاري في صحيحه رقم (6541) في الرقاق، وهو عند مسلم في صحيحه رقم (367) في الإيمان.

(2)

رواه البخاري في صحيحه رقم (6541) في الرقاق، وهو عند مسلم في صحيحه رقم (367) في الإيمان.

(3)

رواه البخاري في صحيحه رقم (7037) في التعبير وفي المغازي، ومسلم في صحيحه رقم (2274) في الرؤيا.

(4)

تقدم.

(5)

دلائل النبوة للبيهقي (6/ 359) وهو حديث حسن يشهد له ما بعده.

ص: 299

وقد ثبتَ في الحديث الآخر، أنَّ مسيلمةَ كتبَ بعد ذلك إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم، مِن مسيلمةَ رسولِ اللّه، إلى محمّدٍ رسولِ الله، سلامٌ عليكَ، أمَّا بعدُ قد أُشْرِكْتُ في الأمرِ معكَ، فلكَ المَدَرُ ولي الوَبَرُ، ولكن قُريشًا قومٌ يعتدُونَ. فكتبَ إليه رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم:"بسم اللّه الرَّحمن الرَّحيم، مِن محمَّدٍ رسولِ اللّه إلى مُسيلمةَ الكَذابِ، سَلامٌ على مَنِ اتَّبَعَ الهُدى، أمَّا بعدُ فإنَّ الأرضَ للّه يُورثها مَن يَشَاءُ مِن عبادِه والعَاقِبَةُ للمُتَّقين"

(1)

. وقد جعل اللّه العاقبةَ لمحمَّدٍ وأصحابِه لأنَّهم هُم المتَّقون، وهم العَادِلون المؤمنون، لا مَن عَداهُم.

وقد وردتِ الأحاديثُ المَروَيَّةُ من طُرق عنه صلى الله عليه وسلم في الأخبار عن الرِّدة التي وقعت في زمن الصِّدِّيقِ، فقاتلَهم الصِّدِّيقِ بالجُنُودِ المُحمَّديَّةِ حتى رَجعُوا إلى دين اللّه أفواجًا، وعَذُبَ مَاءُ الإيمان كما كانَ بعدما صَار أُجاجًا، وقد قال الله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: 54]، قال المفسرون: هم أبو بكر وأصحابُه رضي الله عنهم.

وثبتَ في الصحيحين: من حديث عَامرٍ الشَّعبيِّ، عن مَسْروق، عن عائشَةَ، في قِصَّة مسَارَّةِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم ابنتَه فاطمةَ وإخبارِه إيَّاهَا بأَنَّ جبريلَ كان يُعارضهُ بالقرآنِ في كلِّ عامٍ مرَّة "وإِنَّه عارضني العَامَ مرتين، وما أرى ذلك إِلَّا لاقترابِ أَجَلي" فبكت، ثم سارَّها، فأخبرَها بأنَّها سَيِّدَةُ نِساءَ أهلِ الجنَّة، وأنَّها أَوّلُ أهلِه لُحوقًا به

(2)

. وكانَ كما أخبرَ. قال البيهقيُّ: واختلفُوا في مُكثِ فاطمةَ بعدَ رسولِ اللّه صلى الله عليه وسلم، فقيل: شهرانِ، وقيلَ: ثلاثة، وقيل: ستة، وقيل: ثمانية، قالَ: وأصحُّ الروايات رواية الزهري: عن عروةَ، عن عائشةَ، قالت: مكثت فاطمةُ بعدَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ستةَ أشهرٍ. أخرجاه في الصحيحين

(3)

.

‌ومن كتاب دلائل النبوة في باب إخباره عليه الصلاة والسلام عن الغُيوبِ المستقبلة

فمن ذلك ما ثبتَ في الصحيحين: من حديث إبراهيم بن سَعد، عن أبيه، عن أبي سَلَمَة، عن عائشة، قالت: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّه قد كانَ في الأُمم مُحَدَّثونَ، فإن تكن في أُمَّتي فعمرُ بنُ الخطَّاب"

(4)

.

(1)

السيرة النبوية لابن هشام (4/ 210) ودلائل النبوة للبيهقي (5/ 331) وهو حديث حسن.

(2)

رواه البخاري في صحيحه رقم (3624) في المناقب، ومسلم في صحيحه رقم (2450) في فضائل الصحابة.

(3)

قطعة من حديث رواه البخاري في صحيحه رقم (4240) في المغازي، ومسلم في صحيحه رقم (1759)(520) في الإمارة.

(4)

رواه البخاري في صحيحه رقم (3469) في أحاديث الأنبياء، ومسلم في صحيحه رقم (2398) في فضائل الصحابة.

ص: 300

وقال يعقوبُ بن سُفيان: حَدَّثَنَا عُبيد اللّه بن مُوسى، أخبرنا أبو إسرائيلَ كوفي، عن الوليدِ بن العَيْزَار، عن عمرو بن ميمون، عن عليٍّ رضي الله عنه، قال: ما كنَّا ننكرُ ونحنُ مُتوافِرونَ أصحاب محمّد صلى الله عليه وسلم، أنَّ السكينةَ تنطقُ على لسان عُمَر

(1)

. قال البيهقيُّ: تابعه زرُّ بن حُبَيْش، والشعبيُّ عن عليٍّ.

وقالَ يعقوبُ بن سُفيان: حَدَّثَنَا مسلم بن إبراهيم، حَدَّثَنَا شعبةُ، عن قَيس بن مُسلم، عن طارق بن شِهاب، قال: كنَّا نُحدَّثُ أنَّ عمرَ بنَ الخَطَّابِ ينطقُ على لِسَانِ مَلَك

(2)

.

وقد ذكرنَا في سيرةِ عمرَ بن الخطَاب رضي الله عنه أشياءَ كثيرة، من مُكاشفاتِه وما كانَ يُخبرُ به من المُغَيَّبَات، كقِصَّةِ ساريةَ بن زُنَيم

(3)

، وما شاكلَها، وللّه الحمدُ والمِنَّةُ.

ومن ذلك ما رواه البخاريُّ: من حديث فِراس، عن الشعبيِّ، عن مَسروق، عن عائشة رضي الله عنها؛ أنَّ نساءَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اجتمعنَ عندَه، فقلنَ يومًا: يا رسولَ اللّه! أيَّتُنَا أسرعُ بكَ لُحوقًا؟ فقال: "أطولكن يدًا" فكانت سودةُ أطولنا ذراعًا، فكانت أسرعنا به لحوقًا. هكذا وقع في الصحيح عند البخاري أنها سودة

(4)

. وقد رواه يُونس بن بكير: عن زكريا بن أبي زائدة، عن الشعبي، فذكرَ الحديث مُرسلًا، وقال: فلما تُوفيت زينبُ علمنَ أنها كانت أطولَهُنَّ يدًا في الخير والصدقة

(5)

. والذي رواه مسلم: عن محمود بن غيلان، عن الفضل بن موسى، عن طلحة بن يحيى بن طلحة، عن عائشة بنت طلحة، عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها .. فذكرَ الحديثَ، وفيه: فكانت زينبُ أطولَنا يدًا، لأنها كانت تعملُ بيدها وتَصدَّق

(6)

. وهذا هو المشهور عن علماء التاريخ؛ أن زينبَ بنت جحش كانت أوَّل أزواج النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وفاةً. قال الواقدي: تُوفيت سنة عشرين، وصلَّى عليها عمر بن الخطاب

(7)

.

قلت: وأما سودة فإنها توفيت في آخر إمارة عمر بن الخطاب أيضًا، قاله ابن أبي خيثمة.

ومن ذلك ما رواه مسلم

(8)

: من حديث أُسيد بن جابر، عن عمرَ بن الخطَّاب، في قصة أُويس القرنيّ، وإخباره عليه الصلاة والسلام عنه بأنه خيرُ التابعين، وأنه كان به بَرَصٌ، فدعا اللّه فأذهبَه عنه،

(1)

رواه البيهقيّ في دلائل النبوة (6/ 370) وأبو نعيم في الحلية (1/ 42) وهو حديث حسن.

(2)

رواه البيهقيّ في دلائل النبوة (6/ 370) وهو حديث حسن.

(3)

سارية بن زُنَيْم: الدِّيلي، الصحابيّ، كان من أشد الناس حُضْرًا (عدوًا) وهو الذي ناداه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو يخطبُ الجمعة بالمدينة المنورة، يا ساريةُ! الجبلَ الجبلَ. وتمام القصة في أسد الغابة (2/ 306).

(4)

رواه البخاري في صحيحه رقم (1420) في الزكاة.

(5)

رواه البيهقيّ في دلائل النبوة (6/ 374) وهو مرسل، ولكن يشهد له رواية مسلم بعده.

(6)

رواه مسلم في صحيحه رقم (2452) في فضائل الصحابة.

(7)

رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى (8/ 91).

(8)

رواه مسلم في صحيحه رقم (2452) في فضائل الصحابة.

ص: 301

إِلَّا موضعَ قَدْرِ الدِّرهم من جسده، وأنه بَارٌّ بأُمِّه، وأمرُه لعمرَ بن الخطاب أن يستغفرَ له، وقد وُجد هذا الرجل في زمان عمرَ بن الخطَّاب على الصفة والنعت الذي ذكرَه في الحديث سواء. وقد ذكرتُ طرقَ هذا الحديث وألفاظه والكلام عليه مطوَّلًا في الذي جمعته من مسند عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وللّه الحمد والمنة.

ومن ذلك ما رواه أبو داود: حَدَّثَنَا عثمان بن أبي شيبة، حَدَّثَنَا وكيع، حَدَّثَنَا الوليد بن عبد اللّه بن جُميع، حدَّثني جرير بن عبد اللّه. وعبد الرحمن بن خَلَّاد الأنصاري، عن أم ورقة بنت نوفل؛ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لما غزا بدرًا قالت: يا رسول اللّه! ائذنْ لي في الغزو معكَ، أُمرِّضُ مرضاكم، لعل اللّه يرزقني الشهادة، فقال لها: "قرِّي في بيتك فإنَّ الله يرزقكِ الشهادةَ

(1)

" فكانت تسمَّى الشهيدة، وكانت قد قرأتِ القرآن، فاستأذنت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أن يتخذ في دارها

(2)

مؤذنًا يُؤذن لها، وكانت دَبَّرت غلامًا لها وجارية، فقاما إليها بالليل فغمَّاها

(3)

في قطيفةٍ لها حتى ماتت، وذهبا، فأصبح عمر، فقام في الناس وقال: من عنده من هذين علم أو من رآهما فليجئ بهما، فجيء بهما، فأمر بهما فصُلبَا، فكانا أَوَّلَ مصلوبين بالمدينة. وقد رواه البيهقيّ: من حديث أبي نُعيم: حَدَّثَنَا الوليد بن جُميع، حدَّثَتني جدَّتي، عن أم ورقة بنت عبد الله بن الحارث، فكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يزورُها ويُسمِّيها الشهيدة، فذكر الحديث، وفي آخره فقال عمر: صدقَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "انطلقوا بنا نزور الشهيدةَ"

(4)

.

ومن ذلك ما رواه البخاري

(5)

: من حديث أبي إدريس الخَوْلاني، عن عَوْف بن مالك في حديثه عنه، في الآيات الست بعد موته، وفيه: "ثم مُوتانٌ يأخذ

(6)

فيكم كقُعاص

(7)

الغنم" وهكذا وقع في أيام عمرَ، وهو طاعون عمَواس سنة ثماني عشرة، ومات بسببه جماعات من سادات الصحابة، منهم معاذ بن جبل، وأبو عُبيدة، ويزيد بن أبي سفيان، وشُرحبيل بن حَسَنة، وأبو جندل بن سهل بن عمرو وأبوه، والفَضْل بن العبَّاس بن عبد المطلب، رضي الله عنهم أجمعين.

وقد قال الإمام أحمد: حَدَّثَنَا وكيع، حَدَّثَنَا النَّهَّاسُ بن قَهْم، حَدَّثَنَا شدَّاد أبو عمَّار، عن معاذ بن جبل، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سِتٌّ من أشراط الساعة: موتي، وفتح بيت المقدس، وموتٌ يأخذ

(1)

رواه أبو داود في سننه رقم (591) في الصلاة، وإسناده ضعيف.

(2)

كذا في الأصل وفي المطبوع: أن تتخذ في بيتها.

(3)

"فغمَّاها": أي: وضعا فوق رأسها قطيفة أو وسادة وخنقاها.

(4)

رواه البيهقيّ في دلائل النبوة (6/ 381 - 382)، ورواه الإمام أحمد في المسند (6/ 405) وأبو داود رقم (592) وإسناده ضعيف لجهالة عبد الرحمن بن خلاد، وجدة الوليد بن عبد اللّه بن جميع، فضلًا عن اضطراب الوليد بن جميع فيه.

(5)

رواه البخاري في صحيحه رقم (3176) في الجزية والموادعة.

(6)

في نسخة: يأخذكم.

(7)

في نسخة: كعقاع. والتصحيح من الأصل والبخاري. القُعَاص: داءٌ يأخذُ الغنم، لا يُلبثُها أن تموتَ.

ص: 302

الناسَ كقُعاص الغنم، وفتنة يدخل حريمها بيت كل مسلم، وأن يعطى الرجل ألف دينار فيسخطها، وأن يعدو الروم فيسيرون إليكم بثمانين بندًا، تحت كل بند اثنا عشر ألفًا"

(1)

.

وقد قال الحافظ البيهقيّ: أخبرنا أبو زكريا بن أبي إسحاق، حَدَّثَنَا أبو العباس محمد بن يعقوب، حَدَّثَنَا بَحْر بن نصر، حَدَّثَنَا ابن وَهْب، أخبرني ابن لهيعة، عن عبد الله بن حيَّان؛ أنه سمع سُليمان بن موسى يذكر: أنَّ الطاعونَ وقع بالناس يوم جسر عموسة

(2)

، فقام عمرو بن العاص، فقال: يا أيها الناس، إنما هذا الوجع رجسٌ فتنحَّوا عنه. فقام شُرحبيل بن حسنة، فقال: يا أيها الناس، إني قد سمعتُ قولَ صاحبكم، وإني والله لقد أسلمتُ وصلَّيتُ، وإن عمرًا لأضلُّ من بعير أهله، وإنما هو بلاءٌ أنزلَه الله عز وجل، فاصبروا. فقام معاذُ بن جبل فقال: يا أيُّها الناس! إني قد سمعتُ قولَ صاحبيْكم هذين، وإن هذا الطاعون رحمةُ ربَكُم ودعوة نبيكم صلى الله عليه وسلم، وإني قد سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول:"إنكم ستَقدَمون الشَّامَ، فتنزلون أرضًا يُقال لها: أرض عموسة، فيخرج بكم فيها خُرْجَانٌ له ذُبَابٌ كذُباب الدُّمَّل، يستشهد الله به أنفسَكم وذراريكم، ويُزَكِّي به أموالَكم" اللَّهُمَّ إنْ كنتَ تعلم أني قد سمعتُ هذا من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فارزقْ معاذًا وآلَ معاذ منه الحظَّ الأوفى ولا تُعافِه منه، قال: فطُعنَ في السَّبَّابة، فجعلَ ينظر إليها، ويقول: اللَّهُمَّ باركْ فيها، فإنَّكَ إذا باركتَ في الصغير كان كبيرًا، ثم طُعن ابنه، فدخلَ عليه فقال:{الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [البقرة: 147]، فقال:{سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}

(3)

[الصافات: 102].

وثبت في الصحيحين: من حديث الأعمش وجامع بن أبي راشد، عن شقيق بن سَلَمة، عن حُذيفةَ، قال: كُنَّا جلوسًا عند عمرَ، فقال: أيُّكُم يحفظُ حديثَ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في الفتنة؟ قلتُ: أنا، قال: هاتِ، إنَّك لجريء، فقلت: ذكر فتنةَ الرَّجُل في أهله ومالِه وولدِه وجارِه، يُكَفِّرُها الصَّلاة والصَّدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال: ليس هذا أعني، إنما أعني التي تموجُ مَوجَ البحر، فقلتُ: يا أميرَ المؤمنين! إنَّ بينَكَ وبينَها بابًا مُغْلقًا، قال: وَيْحَكَ! أيُفتحُ الباب أم يُكسرُ؟ قلت: بل يُكسرُ، قال: إذًا لا يُغلقُ أبدًا. قلت: أجل. فقلنا لحُذيفة: فكان عمر يعلمُ من الباب؟ قال: نعم، إني حدَّثته حديثًا ليس بالأغاليط، قال: فهبنا أن نسألَ حذيفةَ من الباب، فقلنا لمَسْروق، فسأله، فقال: مَنِ الباب؟ قال: عمر

(4)

.

(1)

رواه الإمام أحمد في المسند (5/ 228) وفي إسناده النهاس بن قهم ضعيف، ولكن له شاهد عند البخاري في حديث عوف بن مالك رضي الله عنه، فهو به حسن.

(2)

كذا في الدلائل، وفي معجم البلدان: إمَواس: كورة من فلسطين بالقرب من بيت المقدس، ومنها كان الطاعون أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

(3)

ورواه بطوله البيهقيّ في الدلائل (6/ 384 - 385) وفي إسناده ضعف، وهو في مسند أحمد (4/ 195 - 196) مختصرًا.

(4)

رواه البخاري في صحيحه رقم (7096) في الفتن، ومسلم في صحيحه رقم (144/ 26) في الفتن وأشراط الساعة.

ص: 303

وهكذا وقعَ من بعد مقتل عمر، وقعت الفتنُ في النَّاس، وتأكَّد ظهورُها بمقتل عثمانَ بن عفَّان رضي الله عنه.

وقد قال يَعلى بن عُبيد، عن الأعمش، عن شقيق، عن عَزْرة بن قَيْس، قال: خطبنا خالدُ بن الوليد، فقال: إنَّ أميرَ المؤمنينَ عمر بعثني إلى الشام، فحين ألقى بَوانِيَهُ

(1)

بَثْنيَّة وعسلًا، أراد أن يُؤثِرَ بها غيري ويبعثني إلى الهند، فقال رجلٌ من تحته: اصبرْ أيها الأمير فإنَّ الفتنَ قد ظهرتْ، فقال خالد: أما وابنُ الخطاب حيٌّ فلا، وإنما ذاك بعدَ

(2)

.

وقد روى الإمام أحمد

(3)

: حَدَّثَنَا عبد الرزاق

(4)

، عن مَعمَر، عن الزُّهريِّ، عن سالم، عن أبيه، قال: أبصرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على عمرَ ثوبًا، فقال:"أجديدٌ ثوبُكَ أم غسيلٌ؟ "قالَ: بل غَسيل، قال:"البسْ جديدًا، وعِشْ حَمِيْدًا، ومُتْ شَهيدًا" وأظنُّه قال: "ويرزقُك اللّه قُرَّة عَيْنٍ في الدُّنيا والآخرة". وهكذا رواه النسائيُّ

(5)

وابن ماجة

(6)

من حديث عبد الرزاق به. ثم قال النَّسائي: هذا حديث منكرٌ، أنكرَه يحيى القطَّان على عبد الرزاق، وقد رُوي عن الزهريّ من وجه آخر مُرسلًا، وقال حمزةُ بن محمَّد الكِناني الحافظ: لا أعلمُ أحدًا رواه عن الزُّهريّ غيرَ مَعْمَر، وما أحسبه بالصحيح، واللّه أعلم.

قلت: رجال إسناده واتصاله على شرط الصحيحين، وقد قَبِلَ الشيخان تَفرُّدَ مَعمر عن الزُّهريِّ في غير ما حديث. ثم قد روى البَزَّارُ هذا الحديثَ من طريق جابرٍ الجُعفيّ - وهو ضعيف - عن عبد الرحمن بن سَابط، عن جابر بن عبد الله مرفوعًا مثلَه سَواء

(7)

. وقد وقعَ ما أُخبرَ به في هذا الحديث، فإنه رضي الله عنه قُتل شهيدًا وهو قائمٌ يصلِّي الفجرَ في مِحرابهِ من المسجدِ النبويِّ، على صاحبهِ أفضلُ الصَّلاة والسَّلام.

(1)

في الدلائل: وهو يهمه فألقى بوائِنَهُ بَثنيَّةً وعسلًا.

(2)

رواه البيهقيّ في دلائل النبوة (6/ 387) وفي إسناده عزرة بن قيس، وهو ضعيف.

(3)

في المسند (2/ 88).

(4)

هو في مصنفه (20382).

(5)

في عمل اليوم والليلة (311).

(6)

في سننه (3558).

(7)

هكذا دافع المصنف عن هذا الحديث، وفي دفاعه نظر من أوجه:

الأول: إن استدلاله بحديث جابر الجعفي غير صحيح لأنه ضعيف.

الثاني: إن النسائي لم ينفرد بهذا القول فهو قول يحيى بن سعيد القطان، وناهيك به، وهو قول يحيى بن معين على ما نقله ابن عدي في الكامل (5/ 1948)، وقال أبو حاتم فيما نقله عنه ابنه في العلل (1/ 490): هو حديث باطل.

وقال البزار: لا نعلم رواه بهذا الإسناد إِلَّا عبد الرزاق، ولم يتابع عليه؛ فحديث ينكره ويعله يحيى القطان، وابن معين، وأبو حاتم والنسائي وغيرهم من الجهابذة لا ينفعه تصحيح المتأخرين.

الثالث: إن الشيخين كانا ينتقيان من أحاديث الثقات ولا يرويان كل حديثهم (بشار).

ص: 304

وقد تقدَّمَ حديثُ أبي ذرٍّ في تسبيح الحصى في يد أبي بكر، ثم عمرَ، ثم عثمان، وقوله عليه الصلاة والسلام:"هذه خلافة النبوة"

(1)

.

وقال نعيم بن حمَّاد: حَدَّثَنَا عبدُ اللّه بن المبارك، أنبأنا حَشْرَجُ بن نُباتة، عن سعيد بن جُمْهَان، عن سفينة، قال: لمَّا بنَى رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم مسجدَ المدينة، جاء أبو بكر بحجرٍ فوضعَه، ثم جاءَ عمرُ بحجرٍ فوضعَه، ثم جاءَ عثمانُ بحجرٍ فوضعَه، فقال رسول اللّه:"هؤلاء يكونون الخلفاء بعدي"

(2)

.

وقد تقدَّم في حديث عبد الله بن حَوالة قوله صلى الله عليه وسلم: "ثَلاثٌ مَن نَجا مِنهنَّ فقد نَجا: موتي، وقتلُ خليفة مضطهدًا، والدَّجَّال"

(3)

وفي حديثه الآخر، الأمر باتباع عثمان عند وقوع الفتنة.

وثبتَ في الصحيحين، من حديث سُليمان بن بِلال، عن شَريك بن أبي نَمر، عن سَعِيد بن المُسيِّب، عن أبي مُوسى، قال: تَوَضَّأتُ في بَيتي، ثم خَرَجْتُ فقلتُ: لأَكوننَّ اليومَ مع رسولِ اللّه صلى الله عليه وسلم، فجئتُ المسجدَ فسألتُ عنه، فقالُوا: خرجَ وتوجَّه هاهنا، فخرجتُ في أثرهِ حتى جئتُ بئرَ أريس - وبَابُها من جَريد - فمكثتُ عند بابها حتَّى ظننت أنَّ رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم قد قَضى حاجتَه وجلسَ، فجئتُه فسلَّمتُ عليه فإذا هو قد جلسَ على قُفِّ بئرِ أريسٍ، فتوسَّطَه ثم دلَّى رِجْلَيهِ في البئرِ وكشفَ عن سَاقيه، فرجعتُ إلى البابِ وقلتُ: لأَكُوننَّ بَوَّابَ رسولِ اللّه صلى الله عليه وسلم، فلم أَنْشب أن دقَّ البابُ، فقلتُ: مَنْ هذا؟ قال: أبو بكر، قلتُ: على رِسْلِكَ، وذهبتُ إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فقلتُ: يا رسولَ اللّه! هذا أبو بكر يستأذنُ، فقالَ:"ائذنْ له وَبَشِّرهُ بالجنَّةِ"، قالَ: فخرجتُ مُسرعًا حتَّى قلتُ لأبي بكرٍ: ادخل ورسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم يُبَشرُكَ بالجَنَّة، قالَ: فدخلَ حتى جلسَ إلى جَنْبِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم في القُفِّ على يمينه، ودلَّى رِجْلَيهِ وكشفَ عن سَاقيه، كما صنعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. قالَ: ثم رجعتُ وقد كنتُ تركتُ أخي يَتَوَضَّأُ وقد كانَ قال لي: أنا على إثْرِكَ. فقلتُ: إن يُردِ اللّه بفلانٍ خَيرًا يأتِ به، قال: فسمعتُ تحريكَ البابِ، فقلتُ: مَن هذا؟ قال: عمرُ، فقلتُ: على رِسْلِكَ. قال: وجئتُ النَّبِيَّ فسلَّمتُ عليه وأخبرتُه، فقالَ:"ائذنْ له وبَشِّرْهُ بالجَنَّةِ". قالَ: فجئتُ وأَذِنْتُ له وقلتُ له: رَسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم يُبَشِّرُكَ بالجَنَّةِ. قالَ: فدخلَ حتَّى جلسَ مع رسولِ اللّه صلى الله عليه وسلم على يَسارِه، وكشفَ عن سَاقيْه ودلَّى رِجْليه في البئرِ كمَا صنعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، قالَ: ثم رجعتُ فقلتُ: إن يُرِد اللّه بفلانٍ خيرًا يأتِ به، يُريدُ أخَاه، فإذا تحريكُ البَابِ، فقلتُ: مَن هَذا؟ قال: عُثمانُ بنُ عفان، قلتُ: على رِسْلِكَ. وذهبتُ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقلتُ: هذا عثمانُ يستأذنُ، فقالَ:"ائذنْ له وبَشِّرهُ بالجَنَّةِ على بَلْوَى تُصيبُه" قالَ: فجئتُ، فقلتُ: رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يأذنُ لكَ ويُبَشِّرُكَ بالجَنَّةِ

(1)

تقدم الحديث.

(2)

رواه نعيم بن حماد في كتاب الفتن (ص 59) والبيهقي في دلائل النبوة (2/ 553) وإسناده ضعيف.

(3)

تقدم وفي مجمع الزوائد (7/ 334) ومسند أحمد (4/ 105) وفيهما: وقتل خليفة مصطبر.

ص: 305

مع

(1)

بَلْوَى أو بَلاءٍ يُصيبُكَ، فدخلَ وهو يقولُ: الله المُستعانُ، فلم يجد في القُفِّ مَجْلِسًا، فجلسَ وِجَاهَهُمْ مِنْ شِقِّ البئرِ، وكشفَ عن سَاقَيْهِ ودَلَّاهُمَا في البئرِ، كمَا صنعَ رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعُمَرُ، رضي الله عنهما، قالَ سعيدُ بنُ المُسَيِّبِ: فأَوَّلتُها قُبورهم، اجتمعت وانفرد عثمان

(2)

.

وقد روى البيهقيّ من حديث عبد الأعلى بن أبي المساور، عن إبراهيم بن محمد بن حَاطب، عن عبد الرحمن بن محيريز، عن زيدِ بن أرقمَ، قال: بَعثَني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقالَ:، انطلقْ حتى تأتيَ أبا بكرٍ فتجدَه في دَارِه جالسًا مُحْتَبِيًا، فقلْ: إنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقرأُ عليكَ السَّلام ويقولُ: أبشرْ بالجَنَّة، ثم انطلقْ حتَّى تأتيَ الثَّنِيَّة فتلقَى عمرَ راكبًا على حِمَارٍ تلوحُ صَلْعَتُه فقلْ: إنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقرأُ عليكَ السَّلامَ، ويقولُ: أبشرْ بالجَنَّةِ، ثم انصرفْ حتى تأتيَ عثمانَ، فتجدَه في السُّوق يبيعُ ويَبتاعُ، فقل: إنَّ رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم يقرأُ عليكَ السَّلامَ، ويقولُ: أبشرْ بالجَنَّةِ بعدَ بَلَاءً شَديدٍ". فذكرَ الحديثَ في ذهابهِ إليهم، فوجدَ كُلًّا منهم كما ذكرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وكُلًّا منهم يقولُ: أينَ رسولُ الله؟ فيقولُ: في مَكانِ كذا وكذا، فيذهبُ إليه، وأن عثمانَ لمَّا رجعَ قال: يا رسول الله! وأيُّ بَلاء يُصيبُني؟ والذي بعثَكَ بالحَقِّ ما تَغَيَّبتُ ولا تَمَنَّيْتُ ولا مَسَسْتُ ذكري بيميني منذ بايعتُك، فأيّ بَلاء يُصيبُني؟ فقالَ: "هو ذاك"

(3)

. ثم قالَ البيهقيُّ: عبدُ الأعلى ضعيفٌ، فإن كانَ حفظَ هذا الحديثَ فيحتملُ أنَّ رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم بعثَ إليهم زيدَ بنَ أرقمَ، فجاءَ وأبو مُوسى الأشعريّ جالسٌ على الباب كما تقدم.

وهذا البلاءُ الذي أصابَه

(4)

هو ما اتَّفقَ وقوعه على يدي مَنْ أنكرَ عليه من رُعَاع أهل الأمصار بلا علم، فوقعَ ما سنذكُره في دولته إن شاء اللّه من حَصْرِهم إيَّاه في دارِه، حتَّى آلَ الحالُ بَعدَ ذاك كُلِّه إلى اضطهاده وقتله وإلقائه على الطريق أيَّامًا، لا يُصلَّى عليه ولا يُلتفتُ إليه، حتى غُسِّلَ بعد ذلك وصُلِّيَ عليه ودُفن بحَشِّ كَوْكَبٍ

(5)

- بستان في طرفِ البَقيع رضي الله عنه وأرضاه، وجعلَ جَنَّاتِ الفردوسِ متقلَّبه ومَثواه.

كما قال الإمامُ أحمدٌ

(6)

: حَدَّثَنَا يحيى، عن إسماعيل بن قيس، عن أبي سهلة مولى عثمان، عن عائشة، قالت: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "ادعُوا لي بعضَ أصحَابي، قلتُ: أبو بكر؟ قال: "لا" قلتُ: عمرُ؟ قال: "لا" قلتُ: ابنُ عَمِّكَ عَليٌّ؟ قال: "لا" قلتُ: عثمانُ؟ قال: "نعم" فلمَّا جاءَ

(1)

في مسلم: على.

(2)

رواه البخاري في صحيحه رقم (3674) في فضاثل الصحابة، ومسلم في صحيحه رقم (2423)(29) في فضائل الصحابة.

(3)

رواه البيهقيّ في الدلائل (6/ 390) وفيه: عبد الرحمن بن بُجير، وفي الأصل: عبد الرحمن بن جبر، وكلاهما خطأ، وفي سنده عبد الأعلى بن أبي المساور، وهو متروك.

(4)

البلاء الذي أصاب عثمان: الفتنة التي ألَّبت الناس عليه وأدت إلى مقتله رضي الله عنه.

(5)

"حَشّ كوكب": بستان في المدينة عند بقيع الغرقد، اشتراه عثمان بن عفان رضي الله عنه وزاده في البقيع.

(6)

في المسند (6/ 52) والبيهقي في الدلائل (6/ 391) وهو حديث صحيح.

ص: 306

عُثمانُ، قال:"تَنَحَّي" فجعلَ يُسارُّه ولونُ عثمانَ يَتغيَّرُ. قال أبو سَهلة: فلمَّا كانَ يومُ الدَّار وحضرَ فيها، قلتُ: يا أميرَ المؤمنين! ألا تقاتلُ؟ قالَ: لا، إنَّ رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم عَهِدَ إليَّ عَهْدًا وإنِّي صَابرٌ نَفْسِي عليه. تفرَّد به أحمدُ.

ثم قد رواه أحمدُ

(1)

: عن وكيع، عن إسماعيل، عن قيس، عن عائشة، فذكرَ مثلَه، وأخرجه ابنُ ماجة

(2)

من حديث وكيع.

وقال نُعيم بنُ حمَّاد في كتابه "الفتن والملاحم"

(3)

: حَدَّثَنَا عتَاب بن بَشير، عن خُصَيْف، عن مُجاهد، عن عائشَةَ رضي الله عنها، قالت: دخلتُ على رسولِ اللّه صلى الله عليه وسلم وعثمانُ بين يَديْه يُناجيه، فلم أُدركْ مِن مَقالتِه شيئًا إِلَّا قولَ عثمان: أظلمًا وعُدوانًا يا رسولَ الله؟! فمَا دريتُ ما هو، حتَّى قُتِلَ عثمانُ، فعلمتُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم إنَّمَا عَنى قتلَه. قالت عائشةُ: وما أحببتُ أن يصل إلى عثمانَ شيءٌ إلَّا وصلَ إلِيَّ مثلُه، غيرَ أَنَّ الله علمَ أَنِّي لم أُحبَّ قتلَه. ولو أحببتُ قتلَه لقُتِلتُ. وذلكَ لمَّا رُمي هودجُها من النَّبْل حتَّى صارَ مثلَ القُنفذ.

وقال أبو داود الطَّيالسي

(4)

: حَدَّثَنَا إسماعيل بن جعفر، عن عمرو بن أبي عمرو مولى المُطَّلب، عن حذيفة، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "لا تقومُ السَّاعة حتَّى تقتلُوا إمامَكم، وتَجتلِدُوا بأسيافِكُم، ويرثَ دنياكُم شِرارُكُم".

وقال البيهقيُّ: أخبرنا أبو الحُسين بن بشران، أخبرنا علي بن محمد المصري، حَدَّثَنَا محمد بن إسماعيل السُّلمي، حَدَّثَنَا عبد اللّه بن صالح، حدَّثني اللَّيث، حدَّثني خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن رَبيعة بن سَيف، أنَّه حَدَّثه أنَّه جلسَ يومًا مع شُفَيٍّ الأصبحيّ فقالَ: سمعتُ عبدَ اللّه بن عمرو يقولُ: سمعتُ رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم يقولُ: "سيكونُ فيكم اثني عشرَ خليفةً: أبو بكر الصِّديق، لا يلبثُ خلفي إِلَّا قليلًا، وصاحبُ رَحى العرب، يَعيشُ حَميدًا ويموتُ شهيدًا، فقال رجلٌ: ومَنْ هو يا رسولَ اللّه؟ قال: عمرُ بن الخطَّاب. ثم التفتَ إلى عثمانَ، فقالَ: وأنتَ يسألُكَ النَّاسُ أن تخلعَ قميصًا كسَاكَه اللّه، والذي بعثني بالحَقِّ إن خلعتَه لا تدخلِ الجنَّةَ حتَّى يلجَ الجملُ في سَمِّ الخِياط"

(5)

.

(1)

في مسنده (6/ 214).

(2)

رواه ابن ماجة في سننه (113) في المقدمة، وهو حديث صحيح.

(3)

رواه نعيم بن حماد في كتاب الفتن (ص 47) في سنده خصيف بن عبد الرحمن الجزري، صدوق سيِّء الحفظ خلط بأخرة، ونعيم بن حماد نفسه ضعيف.

(4)

رواه أبو داود الطيالسي رقم (439) وإسناده ضعيف. عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب لم يرو عن حذيفة، وإنما يروي عن عبد اللّه بن عبد الرحمن الأنصاري الأشهلي.

(5)

رواه البيهقيّ في الدلائل (6/ 393) وفي إسناده ربيعة بن سيف، قال الحافظ في التقريب: صدوق له مناكير.

ص: 307

ثم روى البيهقيُّ من حديث مُوسى بن عُقبة: حدَّثني جَدِّي أبو أُمِّي، أبو حَبيبة، أنه دخلَ الدَّارَ وعثمانُ مَحصورٌ فيها، وأنَّه سمعَ أبا هُريرة يستأذنُ عثمانَ في الكلام، فأذنَ له، فقامَ فحمدَ الله وأثنى عليه، ثم قالَ: إنِّي سمعتُ رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم يقولُ: "إنكم سَتلقون بعدي فتنة واختلافًا". فقالَ له قائلٌ من الناس: فمَن لنا يا رسولَ اللّه؟ أو ما تأمرُنا؟ فقال: "عَليكُم بالأمينِ وأصحابهِ" وهو يُشير إلى عثمانَ بذلك

(1)

.

وقد رواه الإمام أحمد

(2)

: عن عفَّان، عن وُهيب، عن موسى بن عُقبة، به. وقد تقدَّم في حديث عبد اللّه بن حَوالة شاهدان له بالصحة، واللّه أعلم.

وقال الإمام أحمد

(3)

: حَدَّثَنَا عبدُ الرحمن، عن سفيان، عن منصور، عن ربعي، عن البراء بن ناجية، عن عبد الله - هو ابن مسعود - عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"تدورُ رَحى الإسلام لخمسٍ وثلاثينَ، أو لسِت وثلاثينَ، أو سبعٍ وثلاثينَ، فإن هلكوا فسبيلُ مَنْ قد هلكَ، وإن يقم لهم دينُهم يقم لهم سبعين عامًا" قال: قلت: أمِمَّا مضى أو مِمَّا بقيَ؟ قال: "مما بقي".

ورواه أبو داود

(4)

: عن محمد بن سُليمان الأنباري، عن عبد الرحمن بن مَهدي، به.

ثم رواه أحمد: عن إسحاق

(5)

، وحجَّاج

(6)

، عن سفيان، عن منصور، عن رَبعي، عن البراء بن ناجية الكاهلي، عن عبد اللّه بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ رَحى الإسلام ستزول لخمسٍ وثلاثينَ أو ست وثلاثين، أو سبعٍ وثلاثينَ، فإن تهلك فسبيلُ مَنْ هلك، وإن يقمْ لهم دِينُهم يقمْ لهم سبعينَ عامًا" قال: قال عمر: يا رسولَ الله! أبما مضى أو بما بقيَ؟ قال: "بل بما بقيَ".

وهكذا رواه يعقوب بن سفيان: عن عُبيد اللّه بن موسى، عن إسرائيل، عن منصور به، فقال له عمرُ: فذكرَه. قال البيهقيُّ

(7)

: وقد تابعَ إسرائيلُ الأعمشَ وسفيانَ الثوري عن منصور. قال: وبلغني أنَّ في هذا إشارة إلى الفتنة التي كان فيها قتل عثمان سنة خمس وثلاثين، ثم إلى الفتن التي كانت في أيام عليّ، وأرادَ بالسبعينَ ملكَ بني أمية، فإنه بقيَ ما بينَ أن استقرَّ لهم المُلك إلى أن ظهرتِ الدعاة بخراسان، وضَعُفَ أمرُ بني أُميَّة ودخلَ الوَهَن فيه، نحوًا من سبعين سنة.

(1)

رواه البيهقيّ في الدلائل (6/ 393) وهو حديث حسن.

(2)

رواه الإمام أحمد في المسند (2/ 345) رقم (8541) والحاكم (3/ 99) وصححه، وهو حديث حسن.

(3)

رواه الإمام أحمد في المسند (1/ 393) وهو حديث حسن من أجل البراء بن ناجية.

(4)

في سننه (4254) في الفتن.

(5)

في المسند (1/ 393).

(6)

في المسند (1/ 395) وهو حديث حسن.

(7)

في دلائل النبوة (6/ 394).

ص: 308

قلت: ثم انطوتْ هذه الحروبُ أيَّام صِفِّين، وقاتلَ عليٌّ الخوارجَ في أثناء ذلك، كما تقدَّم الحديث المتفق على صحته، في الأخبار بذلك، وفي صِفتهم وصفةِ الرجل المُخَدَّج

(1)

فيهم.

‌حديث آخر

قال الإمام أحمد

(2)

: حَدَّثَنَا إسحاق بن عيسى، حدَّثني يحيى بن سُلَيْم، عن عبد اللّه بن عثمان، عن مجاهد، عن إبراهيم بن الأشتر، عن أبيه، عن أُمِّ ذَرٍّ قالت: لما حضرت أبا ذر الوفاة بكيتُ. فقال: ما يُبكيكِ؟ فقلتُ: وما لي لا أبكي وأنتَ تموتُ بفلاةٍ من الأرض ولا يَد لي بدفنِكَ، وليس عندي ثوبٌ يسعكَ فأُكفِّنكَ فيه. قال: فلا تبكي وأبشري، فإني سمعتُ رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم يقولُ لنَفَرٍ:"ليموتنَّ رجل منكم بفَلاةٍ من الأرض، يشهدُه عِصابةٌ من المؤمنين" وليس من أولئك النَّفَر أحدٌ إِلَّا وقد مات في قرية أو جماعة، وإنِّي أنا الذي أموتُ بالفَلاة، واللّه ما كذبَ ولا كذبتُ.

تفرَّد به أحمدُ رحمه الله، وقد رواه البيهقيُّ من حديث عليِّ بن المَديني، عن يحيى بن سُليم الطَّائفي به مطوَّلًا

(3)

. والحديث مشهور في موته رضي الله عنه بالرَّبَذة سنة ثنتين وثلاثين، في خلافة عثمان بن عفان، وكان في النَّفَر الذين قدموا عليه وهو في السياق

(4)

عبد اللّه بن مسعود، وهو الذي صلَّى عليه ثم قدم المدينة فأقام بها عشرَ ليال ومات رضي الله عنه.

‌حديث آخر

قال البيهقيُّ: أخبرنا الحاكم، أخبرنا الأصم، حَدَّثَنَا محمد بن إسحاق الصَّغَّاني، حَدَّثَنَا عمر بن سعيد الدمشقي، حَدَّثَنَا سعيد بن عبد العزيز، عن إسماعيل بن عُبيد اللّه، عن أبي عبد اللّه الأشعري، عن أبي الدرداء، قال: قلتُ: يا رسولَ اللّه! بلغني أَنَّكَ تقول: "لَيَرْتَدَّنَّ أقوامٌ بعد إيمانهم". قال: "أجل، ولستَ منهم". قال: فتوفي أبو الدرداء قبلَ أن يُقتلَ عثمان

(5)

.

وقال يعقوبُ بن سفيان: حَدَّثَنَا صفوان، حَدَّثَنَا الوليد بن مسلم، حَدَّثَنَا عبد الله أو عبد الغفار بن إسماعيل بن عُبيد اللّه، عن أبيه أنه حدَّثه عن شيخ من السَّلف، قال: سمعتُ أبا الدرداء يقول: قال

(1)

"المُخَدَّج": الناقص الخلقة، وتقدم الحديث.

(2)

في المسند (5/ 155) ورواه ابن حبان رقم (6670) والبزار رقم (2716) وهو حديث حسن.

(3)

رواه البيهقيّ في الدلائل (6/ 401 - 402) وهو حديث حسن.

(4)

أي: في الاحتضار.

(5)

رواه البيهقيّ في الدلائل (6/ 403) وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 367) وقال: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح غير أبي عبد اللّه الأشعري وهو ثقة.

ص: 309

رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إنِّي فَرَطُكُم على الحوض، أنتظرُ من يَرِدُ عليَّ منكم، فلا أُلفينَّ أُنازعُ أحدَكم، فأقولُ: إنه من أُمَّتِي، فيقال: هل تدري ما أَحدثوا بعدكَ؟ "قال أبو الدرداء: فتخوَّفتُ أن أكونَ منهم، فأتيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فذكرتُ ذلك له، فقال:"إنَّكَ لستَ منهم". قال: فتوفي أبو الدرداء قبل أن يُقتلَ عثمان، وقبل أن تقعَ الفتنُ.

قال البيهقيّ: تابعه يزيد بن أبي مريم، عن أبي عُبيد الله مسلم بن مِشْكم

(1)

، عن أبي الدرداء إلى قوله:"لستَ منهم"

(2)

.

قلت: قال سعيد بن عبد العزيز: توفي أبو الدرداء لسنتين بقيتا من خلافة عثمان، وقال الواقدي وأبو عُبيد وغير واحد: توفي سنة اثنتين وثلاثين، رضي الله عنه

(3)

.

‌ذكر إخباره صلى الله عليه وسلم عن الفتن الواقعة في آخر أيام عثمان بن عفَّان وفي خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنهما

ثبت في الصحيحين من حديث سفيان بن عُيينة، عن الزهري، عن عروةَ، عن أسامة بن زيد: أنَّ رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم أشرفَ على أُطُمٍ من آطام المدينة، فقال:"هل ترونَ ما أرى؟ إنِّي لأرى مواقعَ الفتن خلالَ بيوتِكم كمواقعِ القَطر"

(4)

.

وروى الإمام أحمد ومسلم من حديث الزهريّ، عن أبي إدريس الخَوْلانيِّ: سمعتُ حذيفةَ بنَ اليمان يقول: والله إنِّي لأعلمُ النَّاس بكلِّ فتنةٍ هي كائنةٌ فيما بيني وبينَ الساعة، وما ذاكَ أن يكون رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم حدَّثني من ذلك شيئًا أسَرَّه إليَّ لم يكن حدَّث به غيري، ولكنَّ رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم قال: - وهو يُحدِّثُ مجلسًا أنا فيه - سُئل عن الفتن وهو يَعُدُّ الفتنَ: "فيهن ثلاث لا يذرنَ شيئًا، منهنَّ كرياح الصَّيف، منها صغار ومنها كبار" قال حذيفةُ: فذهبَ أولئك الرَّهطُ كلُّهم غيري. وهذا لفظ أحمد

(5)

.

قال البيهقيّ: مات حذيفة بعد الفتنة الأولى بقتل عثمانَ، وقبل الفتنتين الأُخرَيَين في أيَّام عليٍّ

(6)

.

قلت: قال العِجْلِيُّ، وغير واحد من علماء التاريخ: كانت وفاة حذيفةَ بعد مقتل عثمان بأربعين

(1)

في المطبوع: "يشكر" محرف، وهو مسلم بن مشكم الخزاعي كاتب أبي الدرداء، من رجال التهذيب.

(2)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 404) وهو حديث حسن.

(3)

الطبقات الكبرى؛ لابن سعد (7/ 393) والسير؛ للذهبي (2/ 353).

(4)

رواه البخاري في صحيحه رقم (1878) في فضائل الصحابة، ومسلم في صحيحه رقم (2885) في الفتن. والأُطُم: القصر والحصن.

(5)

رواه أحمد في المسند (5/ 388) ومسلم في صحيحه رقم (2819) في الفتن.

(6)

دلائل النبوة (6/ 406).

ص: 310

يومًا

(1)

. وهو الذي قال: لو كان قتلُ عثمانَ هدىً لاحتلبتْ به الأُمَّة لبنًا، ولكنَّه كان ضلالةً، فاحتلبتْ به الأُمَّة دمًا، وقال: ولو أن أحدًا ارفضَ لِمَا صنعتُم بعثمانَ، لكان جديرًا أن يرفضَّ.

وقال الإمام أحمد: حَدَّثَنَا سفيان بن عُيينة، عن الزُّهريِّ، عن عووةَ، عن زينت بنت أبي سلمة، عن حَبيبةَ بنت أُمِّ حَبيبة بنت أبي سفيان، عن أُمِّها أم حَبيبة، عن زينبَ بنت جَحْشٍ زوج النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم - قال سفيان: أربع نسوة - قالت: استيقظَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم من نومه وهو مُحْمَرُّ الوجه، وهو يقول:"لا إلهَ إِلَّا اللّه، ويلٌ للعرب من شرٍّ قد اقتربَ، فُتحَ اليومَ من رَدْمِ يأجوجَ ومأجوجَ مثلُ هذه - وحلَّقَ بأصبعه الإبهام والتي تليها - قلتُ: يا رسولَ اللّه! أنهلكُ وفينا الصَّالحون؟ "قال: "نعم، إذا كثر الخبث"

(2)

.

هكذا رواه الإمام أحمد عن سفيان بن عُيينة به، وكذلك رواه مسلم

(3)

عن أبي بكر بن أبي شيبة، وسعيد بن عمرو الأَشْعَثي، وزُهير بن حَرْب، وابن أبي عُمرَ، كلّهم عن سفيان بن عُيينة به سواء. ورواه الترمذي

(4)

عن سعيد بن عبد الرحمن المخزوميّ وغير واحد، كلّهم عن سفيان بن عُيينة. وقال الترمذي: حسن صحيح، وقال الترمذي: قال الحُمَيْديُّ عن سفيانَ: حفظت من الزهريِّ في هذا الإسناد أربع نسوة.

قلت: وقد أخرجه البخاريّ

(5)

: عن مالك بن إسماعيل، ومسلم

(6)

: عن عمرو الناقد، عن سفيان بن عُيينة، عن الزهري، عن عُروةَ، عن زينبَ، عن أُمّ حَبيبة، عن زينبَ بنت جَحْش، فلم يذكروا حبيبة في الإسناد، وكذلك رواه عن الزهري: شعيب، وصالح بن كيسان، وعقيل، ومحمد بن إسحاق، ومحمد بن أبي عتيق، ويونس بن يزيد؛ فلم يذكروا عنه في الإسناد حَبيبة. فاللّه أعلم.

فعلى ما رواه أحمد ومن تابعه عن سفيان بن عُيينة، يكون قد اجتمعَ في هذا الإسناد تابعيان، وهما الزهري وعروة بن الزبير، وأربع صحابيات، وبنتان، وزوجتان، وهذا عزيزٌ جدًّا. ثم قال البخاري بعد رواية الحديث المتقدِّم: عن أبي اليَمَان، عن شُعيب، عن الزُّهْريّ، فذكره إلى آخره

(7)

. ثم قال: وعن الزُّهْريّ: حدَّثتني هندُ بنت الحارث، أَنَّ أُمَّ سلمةَ، قالت: استقيظَ رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم فقال: "سبحان الله! ماذا أنزل من الخزائن؟! وماذا أنزل من الفتن؟! ". وقد أسند

(8)

البخاريُّ في مواضع أُخر

(1)

الطبقات الكبرى (6/ 15).

(2)

رواه أحمد في المسند (6/ 428) وهو حديث صحيح.

(3)

رواه مسلم في صحيحه رقم (2880) في الفتن.

(4)

رواه الترمذي في جامعه رقم (2187) في الفتن.

(5)

رواه البخاري في صحيحه رقم (3346) الأنبياء ورقم (7059) و (7135) في الفتن.

(6)

رواه مسلم في صحيحه رقم (2880)(1) في الفتن.

(7)

رواه البخاري في صحيحه رقم (6128) في الأدب.

(8)

في نسخة: أسند.

ص: 311

من طُرق عن الزهريّ به. ورواه الترمذيُّ من حديث مَعْمَر عن الزهريِّ، وقال: حسن صحيح

(1)

.

وقال أبو داود الطيالسي: حَدَّثَنَا الصَّلْتُ بن دينار، حَدَّثَنَا عُقبةُ بن صهبان وأبو رجاء العطاردي، قالا: سمعنا الزبيرَ وهو يتلو هذه الآية: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25]. قال: لقد تلوتُ هذه الآية زمنًا وما أُراني من أهلها، فأصبحنا مِن أهلها

(2)

.

وهذا الإسناد ضعيف، ولكن روي من وجه آخر، فقال الإمام أحمد: حَدَّثَنَا أسود بن عامر، حَدَّثَنَا جرير، قال: سمعتُ الحسن قال: قال الزُّبيرُ بن العوَّام: نزلت هذه الآية ونحن متوافرون مع النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنقال: 25] فجعلنا نقول: ما هذه الفتنة؟ وما نشعرُ أنَّها تقعُ حيث وقعت

(3)

.

ورواه النسائي عن إسحاق بن إبراهيم عن ابن مهدي، عن جرير بن حازم، به

(4)

.

وقد قُتل الزبير بوادي السِّباع مرجعه من قتال يوم الجمل؛ على ما سنورده في موضعه إن شاء اللّه تعالى.

وقال أبو داود السجستاني في "سننه": حَدَّثَنَا مُسَدَّد، حَدَّثَنَا أبو الأحوص - سَلَّام بن سُلَيم - عن منصور، عن هِلال بن يَساف، عن سعيد بن زيد، قال: كنَّا عند النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فذكرَ فتنةً فعظَّم أمرَها. فقلنا: يا رسولَ الله! لئن أَدركَتْنا هذه لتُهْلِكُنا. فقال: "كلَّا، إنَّ بِحَسْبِكُم القتل"

(5)

قال سعيد: فرأيتُ إخواني قُتلوا. تفرد به أبو داود.

وقال أبو داود السجستاني: حَدَّثَنَا الحسن بن علي، حَدَّثَنَا يزيد، أخبرنا هشام، عن محمد، قال: قال حذيفة: ما أحدٌ من الناس تدركُه الفتنة إِلَّا أنا أخافُها عليه إلَّا محمد بن مسلمة، فإني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"لا تَضُرُّك الفتنة". وهذا منقطع

(6)

.

وقال أبو داود الطيالسيّ، حَدَّثَنَا شعبة، عن أشعث بن أبي الشعثاء، سمعت أبا بُرْدةَ يُحدِّث، عن ثعلبة بن أبي ضُبيعة

(7)

، سمعتُ حذيفة يقول: إني لأعرف رجلًا لا تضرُّه الفتنةُ، فأتينا المدينة فإذا

(1)

رواه الترمذي في الجامع رقم (2196) في الفتن، وهو كما قال.

(2)

رواه الطيالسي في مسنده (192) وفي إسناده الصلت بن دينار، وهو متروك، ولكن يشهد لمعناه الذي بعده.

(3)

رواه أحمد في المسند (1/ 167) رقم (1438) وهو حديث حسن.

(4)

رواه النسائي في الكبرى (11206).

(5)

رواه أبو داود في سننه رقم (4277) في الفتن، وهو حديث صحيح. وأراد سعيد بإخوانه الذين قُتلوا: عثمان وطلحة والزبير وعليًا رضي الله عنهم.

(6)

رواه أبو داود في سننه رقم (4663) في السنة.

(7)

ويقال: ضبيعة بن حصين، وهو مجهول، تفرد بالرواية عنه أبو بردة بن أبي موسى الأشعري لم يوثقه غير ابن حبان.

ص: 312

فُسطاطٌ مضروب، وإذا محمد بن مسلمة الأنصاري، فسألته: فقال: لا أستقرُّ بمصرٍ من أمصارهم حتَّى تنجليَ هذه الفتنة عن جماعة المسلمين

(1)

. قال البيهقيّ: ورواه أبو داود - يعني السجستاني - عن عمرو بن مرزوق، عن شعبة، به

(2)

. وقال أبو داود: حَدَّثَنَا مُسَدَّد، حَدَّثَنَا أبو عوانة، عن أشعث بن سُلَيم، عن أبي بُرْدةَ، عن ضُبيعة بن حصيق الثعلبي، عن حذيفة، بمعناه

(3)

. قال البخاريّ

(4)

في "التاريخ": هذا عندي أولى.

وقال الإمام أحمد: حَدَّثَنَا يزيد، حَدَّثَنَا حمَّاد بن سَلَمَة، عن عليِّ بن زيد، عن أبي بُرْدة، قال: مررتُ بالرَّبذَة فإذا فُسْطاط، فقلت: لمن هذا؛ فقيل: لمحمد بن مَسْلَمة، فاستأذنت عليه فدخلتُ عليه فقلت: رحمكَ اللّه إنَّكَ من هذا الأمر بمكان، فلو خرجتَ إلى الناس فأمرتَ ونهيتَ، فقال: إنَّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: "إنها

(5)

ستكون فتنةٌ وفرقةٌ واختلافٌ، فإذا كانَ ذلك فائْتِ بسيفك أُحُدًا فاضربْ به عَرْضَه، واكسر نبلَكَ، واقطعْ وَتَرَكَ، واجلسْ في بيتِكَ حتى تأتيَكَ يدٌ خاطئةٌ أو يُعافيك اللّه عز وجل". فقد كان ما قال رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم، وفعلتُ ما أمرني به، ثم استنزلَ سيفًا كان مُعلَّقًا بعمود الفُسطاط، واخترَطَه فإذا سيفٌ من خشب، فقال: قد فعلتُ ما أمرَني به، واتَّخذتُ هذا أُرهبُ به النّاسَ. تفرَّد به أحمد

(6)

.

وقال البيهقيّ: أخبرنا الحاكم

(7)

، حَدَّثَنَا عليُّ بن عيسى المَدني، أخبرنا أحمد بن نجدة

(8)

القُرشيُّ، حَدَّثَنَا يحيى بن عبد الحميد، أخبرنا إبراهيم بن سعد، حَدَّثَنَا سالم بن صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبيه، عن محمود بن لبيد، عن محمد بن مسلمة؛ أنه قال: يا رسول اللّه! كيف أصنعُ إذا اختلفَ المُصَلُّون! قال: "تخرجُ بسيفك إلى الحرَّة فتضربَها به، ثم تدخلُ بيتَك حتَّى تأتيَك مَنِيَّةٌ قاضِيَةٌ أو يدٌ خاطئةٌ".

وقال الإمام أحمد

(9)

: حَدَّثَنَا عبدُ الصَّمد، حَدَّثَنَا زياد بن مسلم أبو عمر، حَدَّثَنَا أبو الأشعث

(1)

رواه الحاكم في المستدرك (3/ 433) وصححه، وأخرجه ابن سعد في الطبقات (3/ 444) والبيهقي في دلائل النبوة (6/ 407) وإسناده ضعيف لجهالة ضبيعة بن حصين.

(2)

رواه أبو داود في سننه رقم (4664) في السنة، وهو في دلائل النبوة للبيهقي (6/ 408).

(3)

رواه أبو داود في سننه رقم (4665) في السنة وإسناده ضعيف كما قدمنا.

(4)

تاريخ البخاري (2/ 2/ 343) وأراد بالأولى: حديث أبي عوانة، كما في الدلائل؛ للبيهقي (6/ 408).

(5)

في المسند (3/ 493): إنه. وفي نسخة: قال لي: ستكون.

(6)

رواه أحمد في المسند (3/ 493) رقم (16029) وإسناده ضعيف، لضعف علي بن زيد وهو ابن جدعان.

(7)

وهو في مستدركه (3/ 117).

(8)

في المطبوع "بحرة" محرف.

(9)

في المسند (4/ 226) إسناده حسن من أجل زياد بن مسلم فهو صدوق حسن الحديث.

ص: 313

الصَّنعاني، قال: بعثنا يزيدُ بن معاوية إلى ابن الزبير، فلمَّا قدمتُ المدينةَ دخلتُ على فلان - نسي زياد اسمَه - فقال: إنَّ النَّاس قد صَنعُوا ما صَنَعُوا فما ترى؟ قال: أوصاني خليلي أبو القاسم إن أدركت شيئًا من هذه الفتن فاعتمد إلى أُحدٍ فاكسر به حدَّ سيفِك ثم اقعدْ في بشِك، فإن دخلَ عليكَ أحدٌ البيتَ فقم إلى المَخْدَع، فإن دخلَ عليك المَخْدَعَ فاجْثُ على ركبتيْكَ وقل: بؤ

(1)

بإثمي وإثمك فتكونَ من أصحاب النَّار وذلك جزاءُ الظالمين، فقد كسرتُ سيفي وقعدتُ في بيتي.

هكذا وقعَ إيرادُ هذا الحديث في مسند محمَّد بن مَسْلَمة عند الإمام أحمد، ولكنْ وقعَ إبهامُ اسمه، وليس هو لمحمَّد بن مَسْلَمَة بل صحابي آخر، فإن محمد بن مَسْلَمة رضي الله عنه، لا خلافَ عند أهل التاريخ أنه تُوفِّي فيما بين الأربعين إلى الخمسين، فقيل سنة ثنتين، وقيل: ثلاث، وقيل: سبع وأربعين، ولم يُدركْ أيَّام يزيد بن معاوية وعبد اللّه بن الزبير بلا خلاف، فتعيَّنَ أنه صحابيٌّ آخر خبرُه كخبر محمَّد بن مسلمة.

وقال نُعيم بن حمَّاد في "الفتن والملاحم": حَدَّثَنَا عبد الصمد بن عبد الوارث، عن حمَّاد بن سلمة، حَدَّثَنَا أبو عمرو القسملي، عن ابنة أهبان

(2)

الغفاري؛ أنَّ عليًا أتى أهبان فقال: ما يمنعُكَ أن تتبعنا؟ فقال: أوصاني خليلي وابنُ عَمِّكَ صلى الله عليه وسلم: "أنْ ستكونُ فرقةٌ وفتنةٌ واختلاف، فإذا كان ذلك فاكسرْ سيفَك واقعدْ في بيتِكَ واتَّخذْ سيفًا من خشب

(3)

. وقد رواه أحمد بن عفَّان، وأسود بن عامر، ومُؤَمِّل، ثلاثتهم عن حمَّاد بن سلمة به، وزاد مُؤَمّلٌ في روايته بعد قوله: واتَّخذْ سيفًا من خشبٍ "واقعدْ في بيتِكَ حتى تأتيَك خاطئةٌ أو مَنِيةٌ قاضِيَةٌ"

(4)

.

ورواه الإمام أحمد أيضًا والترمذيُّ وابن ماجة، من حديث عبد الله بن عُبيد الدِّيلي، عن عُدَيْسَةَ بنتِ اهْبَانَ بن صَيْفِيّ، عن أبيها به

(5)

. وقال الترمذي: حسن غريب لا نعرفه إِلَّا من حديث عبد الله بن عُبيد، كذا قال، وقد تقدَّم من غير طريقه.

وقال البخاريُّ: حَدَّثَنَا عبد العزيز الأويسي، حَدَّثَنَا إبراهيم بن سعد، عن صالح بن كَيْسَان، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المُسيّب وأبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي

(6)

هريرة رضي الله عنه، قال:

(1)

"بؤ": ارجع، من باء يبوء بالشيء: رجعَ.

(2)

هي عديسة ابنة أهبان.

(3)

رواه نعيم بن حماد في الفتن والملاحم (ص 80).

(4)

رواه أحمد في المسند رقم (5/ 69) وهو حديث حسن.

(5)

رواه أحمد في المسند (5/ 69) والترمذي في جامعه (2203) في الفتن وابن ماجة في سننه رقم (3960) في الفتن وهو حديث حسن.

(6)

في البخاري: أن أبا هريرة قال:

ص: 314

قال رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم: "ستكون فتنةٌ

(1)

القاعدُ فيها خيرٌ من القائم، والقائمُ فيها خيرٌ من الماشي، والماشي فيها خيرٌ من السَّاعي، من تشرَّف لها تَسْتَشْرِفْهُ، ومَنْ وجدَ ملجأً أو مَعاذًا فَلْيَعُذْ به"

(2)

.

وعن ابن شهاب: حدَّثني أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، عن عبد الرحمن بن مُطيع بن الأسود، عن نَوْفَل بن مُعاوية مثل حديث أبي هريرة هذا

(3)

.

وقد روى مسلمٌ حديثَ أبي هريرة من طريق إبراهيم بن سعد كما رواه البخاري، وكذلك حديثَ نوفل بن مُعاوية بإسناد البخاري ولفظه

(4)

.

ثم قال البخاري: حَدَّثَنَا محمد بن كثير، أخبرني سُفيان، عن الأعمش، عن زيد بن وَهْبٍ، عن ابن مسعود، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "ستكونُ أَثَرَةٌ وأمورٌ تُنكرونها، قالوا: يا رسولَ اللّه! فما تأمرُنا؟ قال: تُؤَدُّونَ الحَقَّ الذي عليكم وتسألونَ اللّه الذي لكم

(5)

. ورواه مسلم من حديث الأعمش به

(6)

.

وقال الإمام أحمد: حَدَّثَنَا رَوْحٌ، حَدَّثَنَا عثمانُ الشَّحَّام، حَدَّثَنَا سَلمةُ بن أبي بَكْرَةَ، عن أبي بَكْرَةَ، عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إنها ستكونُ فتنةٌ، ثم تكونُ فتنةٌ، ألا فالماشي فيها خيرٌ من السَّاعي إليها، والقاعدُ فيها خيرٌ من القائم فيها، ألا والمُضْطَجِعُ فيها خيرٌ من القاعد، ألا فإذا نزلتْ فمن كان له غنمٌ فليلحقْ بغنمهِ، ألا ومَنْ كانت له أرضٌ فليلحقْ بأرضه، ألا ومن كانت له إبلٌ فليلحقْ بإبله" فقال رجلٌ من القوم: يا نبيَّ اللّه! جعلني اللّه فداكَ، أرأيتَ مَنْ ليست له غنمٌ ولا أرضٌ ولا إبلٌ، كيف يصنعُ؟ قال:"ليأخذْ سيفَه ثم ليَعْمَدْ إلى صخرةٍ، ثمَّ ليدن على حدِّه بحجرٍ، ثم لينجُ إن استطاعَ النَّجاء، اللَّهُمَّ هلْ بلَّغتُ" إذ قال رجلٌ: يا رسولَ الله! جعلني اللّه فداكَ، أرأيتَ إن أُخِذَ بيدي مُكرهًا حتى يُنطلقَ بي إلى أحد الصَّفَّين أو إحدى الفئتين؟ - عثمانُ يشكُّ - فيَحْذفنِي رجل بسيفه فيَقتُلني، ماذا يكونُ من شأني؟ قال:"يبوءُ بإثمكَ وإثمهِ، ويكون من أصحاب النَّار"

(7)

. وهكذا رواه مسلم من حديث عثمان الشَّحَّام بنحوه

(8)

.

وهذا إخبارٌ عن إقبال الفتن، وقد وردت أحاديث كثيرة في معنى هذا.

(1)

كذا في الأصل، وفي البخاري: فتنٌ.

(2)

رواه البخاري في صحيحه رقم (3601) في المناقب.

(3)

رواه البخاري في صحيحه رقم (3602) في المناقب.

(4)

رواهما مسلم في صحيحه رقم (3886)(11) و (12) في الفتن وأشراط الساعة.

(5)

رواه البخاري في صحيحه رقم (3603) في المناقب.

(6)

رواه مسلم في صحيحه رقم (1843) في الإمارة.

(7)

رواه أحمد في المسند (5/ 48) وهو حديث حسن.

(8)

رواه مسلم في صحيحه رقم (2887)(13) في الفتن.

ص: 315

وقال الإمام أحمد: حَدَّثَنَا يحيى بن إسماعيل، حَدَّثَنَا قيس، قال: لما أقبلتْ عائشةُ - يعني في مسيرها إلى وقعة الجمل - بلغتْ مياهَ بني عامرٍ ليلًا، نبحتِ الكِلابُ، فقالت: أيُّ ماءٍ هذا؟ قالوا: ماء الحَوْأَب، فقالت: ما أَظُنُّنِي إِلَّا أني راجعةٌ. فقالَ بعضُ مَنْ كانَ معها: بل تَقْدَمِينَ فيرَاكِ المسلمون، فيصلحُ الله ذاتَ بينهم. قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قالَ لها ذاتَ يومٍ: "كيفَ بإحداكُنَّ تنبحُ عليها كِلابُ الحَوْأب"

(1)

. ورواه نُعيم بن حمَّاد في "الملاحم": عن يزيد بن هارون، عن إسماعيل بن خالد، عن قيس بن أبي حازم

(2)

به.

ثم رواه أحمد: عن غُنْدَر، عن شعبةَ، عن إسماعيلَ بن أبي خالد، عن قَيْسِ بن أبي حَازم؛ أنَّ عائشةَ لما أتتْ على الحوأبِ، فسمعتْ نباح الكِلاب فقالت: ما أظنني إِلَّا راجعةً، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا:"أَيَّتُكُنَّ تنبح عليها كِلابُ الحَوْأب" فقال لها الزُّبَيرُ: ترجعينَ؟ عسى الله أن يُصلحَ بكِ بينَ النَّاس

(3)

. وهذا إسناد على شرط الصحيحين ولم يُخرِّجوه.

وقال الحافظ أبو بكر البزَّار: حَدَّثَنَا محمد بن عثمان بن كرامة، حَدَّثَنَا عُبيدُ الله بن موسى، عن عصام بن قُدامة البَجَليِّ، عن عكرمةَ، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليتَ شِعْري أيتكم صاحبة الجمل الأدبب

(4)

تسير حتى تنبحها كلاب الحوأب، يقتل عن يمينها وعن يسارها خلق كثير"

(5)

. ثم قال: لا نعلمه يُروى عن ابن عباس إِلَّا بهذا الإسناد.

وقال الطبراني: حَدَّثَنَا إبراهيم بن نائلة الأصبهاني، حَدَّثَنَا إسماعيل بن عمرو البَجَلِيّ، حَدَّثَنَا نُوح بن درَّاج، عن الأَجْلح بن عبد الله، عن زيد بن عليّ، عن أبيه، عن ابن عباس قال: لما بلغَ أصحابُ عليّ، حينَ ساروا إلى البصرة؛ أنَّ أهلَ البصرةِ قد اجتمعوا لطلحةَ والزُّبير، شقَّ عليهم، ووقع في قلوبهم، فقال عليّ: والذي لا إله غيره ليظهرنَّه على أهل البصرة، وليقتلنَّ طلحةَ والزُّبير، وليخرجنَّ إليكم من الكوفة ستة آلاف وخمسمئة وخمسون رجلًا، أو خمسةُ آلافٍ وخمسمئة وخمسون رجلًا - شكَّ الأجلح - قال ابنُ عباس: فوقع ذلكَ في نفسي. فلما أتى الكوفةَ خرجتُ، فقلت: لأنظرنَّ، فإن كانَ كما يقولُ، فهو أمرٌ سمعَه، وإلا فهو خديعةُ الحربِ، فلقيتُ رجلًا من الجيش فسألته، فوالله ما عَتَمَ أنْ قالَ ما قالَ عليّ، قال ابن عباس: وهو ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُخبر

(6)

.

(1)

رواه أحمد في المسند (6/ 52) وهو حديث حسن.

(2)

رواه نعيم بن حماد في الفتن (ص 45) وفيه: عن أبي خالد عن قيس بن حازم. والتصحيح من التهذيب.

(3)

رواه أحمد في المسند (6/ 97).

(4)

الأدبب: هو الكثير وَبر الوجه.

(5)

رواه البزار كما في كشف الأستار (3273) وقال الهيثمي في المجمع (7/ 234): رجاله ثقات وهو حديث حسن.

(6)

رواه الطبراني في الكبير (10738) وذكره الهيثمي في المجمع (7/ 236) وقال: فيه إسماعيل بن عمرو البجلي، وهو ضعيف.

ص: 316

وقال البيهقيّ: أخبرنا عبد اللّه الحافظ؛ حَدَّثَنَا أبو بكر محمد بن عبد الله الجنيد، حَدَّثَنَا أحمد بن نصر، حَدَّثَنَا أبو نُعيم الفَضْل بن دُكَيْن، حَدَّثَنَا عبد الجبَّار بن الوَرْد، عن عمَّار الدُّهني، عن سالم بن أبي الجَعْد، عن أُمِّ سلمةَ، قالت: ذكرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم خروجَ بعض نسائه أمهات المؤمنين، فضحكت عائشةُ، فقال لها:"انظُري يا حُميراء ألا تَكوني أنتِ" ثم التفتَ إلى عليّ وقال: "يا عليّ! إن وليتَ من أمرِها شيئًا فَارْفُقْ بها". وهذا حديث غريب جدًّا

(1)

.

وأغربُ منه ما رواه البيهقيّ أيضًا، عن الحاكم، عن الأصمِّ، عن محمد بن إسحاق الصَّنعاني، عن أبي نُعيم، عن عبد الجبار بن العباس الشَّباميِّ، عن عطاءَ بن السَّائب، عن عمرَ بن الهُجَنَّع، عن أبي بكرة، قال: قيل له ما يمنعُك ألا تكونَ قاتلتَ على نصرتك يوم الجمل؟ فقال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يخرجُ قوم هَلْكَى لا يُفلحون، قائدُهم امرأة، قائدُهم في الجنَّة"

(2)

وهذا منكرٌ جدًّا.

والمحفوظ ما رواه البخاريُّ من حديث الحسن البصري، عن أبي بكرةَ، قال: نفعني اللّه بكلمة سمعتُها من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وبلغه أنَّ فارسَ ملَّكُوا عليهم امرأةَ كسرى - فقال: "لن يُفلحَ قومٌ وَلوْا أمرَهم امرأةً"

(3)

.

وقال الإمام أحمد: حَدَّثَنَا محمد بن جعفر، حَدَّثَنَا شُعبةُ، عن الحكم، سمعتُ أبا وائل قال: لمَّا بعثَ عليٌّ عمَّارًا والحسنَ إلى الكوفة يستنفرُهم، خطبَ عمَّار فقال: إنِّي لأعلمُ أنها زوجته في الدُّنيا والآخرة، لكن اله ابتلاكم لتتبعوه أو إياها

(4)

. ورواه البخاريُّ عن بندار عن غندر

(5)

.

وهذا كلُّه وقع في أيام الجمل، وقد ندمت عائشةُ رضي الله عنها على ما كان من خروجها، على ما سنُورده في موضعه، وكذلك الزبير بن العوَّام أيضًا، تذكَّر وهو واقفٌ في المعركة أن قتالَه في هذا الموطن ليس بصواب، فرجعَ عن ذلك.

قال عبد الرزاق: أخبرنا مَعْمَرُ، عن قتادة، قال: لما وَلَّى الزبيرُ يومَ الجمل بلغَ عليًّا، قال: لو كانَ ابنُ صفيَّةَ يعلم أنَّه على حقٍّ ما ولَّى، وذلك أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لقيَهما في سقيفةِ بني ساعدةَ، فقال:"أتحبُّه يا زبيرُ؟ " فقال: وما يَمنعُني؟ قال: "فكيف بك إذا قاتلتَه وأنتَ ظالمٌ له؟ "قال: فيرون أنه إنما وَلَّى لذلك. وهذا مرسل من هذا الوجه

(6)

.

(1)

رواه الحاكم (3/ 119) والبيهقي في الدلائل (6/ 411).

(2)

رواه البيهقيّ في الدلائل (6/ 413) وعمر بن الهجنَّع: ذكره العقيلي في الضعفاء الكبير (3/ 196) وابن حجر في لسان الميزان (4/ 341).

(3)

رواه البخاري في صحيحه رقم (7099) في الفتن.

(4)

رواه أحمد في المسند (4/ 265) وهو حديث صحيح.

(5)

رواه البخاري في صحيحه رقم (3772) في فضائل الصحابة.

(6)

رواه عبد الرزاق في مصنفه (11/ 241) وهو عند البيهقيّ في الدلائل (6/ 414) وهو حديث مرسل، أي: ضعيف.

ص: 317

وقد أسنده الحافظ البيهقيُّ من وجه آخر فقال: أخبرنا أبو بكر - أحمد بن الحسن القاضي - حَدَّثَنَا أبو عمرو بن مطر، أخبرنا أبو العباس عبد الله بن محمد بن سوار الهاشمي الكوفي، حَدَّثَنَا منجاب بن الحارث، حَدَّثَنَا عبد اللّه بن الأجلح، حَدَّثَنَا أبي، عن يزيد الفقير، عن أبيه، قال: وسمعتُ المفضل بن فَضَالة يُحدِّث أبي، عن أبي حرب بن أبي الأسود الدُّؤلِيِّ، عن أبيه، دخلَ حديثُ أحدهما في حديث صاحبه، قال: لما دنا عليُّ وأصحابُه من طلحة والزبير، ودنتِ الصفوفُ بعضُها من بعض، خرجَ عليٌّ وهو على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنادى: ادعوا لي الزبيرَ بن العوَّام، فإنِّي عليٌّ، فدُعي له الزُّبيرُ، فأقبلَ حتى اختلفتْ أعناقُ دوابِّهما، فقال عليٌّ: يا زبير نشدتُكَ بالله، أتذكرُ يوم مرَّ بك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مكانَ كذا وكذا، فقال:"يا زبيرُ تحبُّ عليًّا؟ " فقلتَ: ألا أحبُّ ابنَ خالي وابنَ عمِّي وعلى ديني؟ فقال: "يا عليّ أتحبُّه؟ " فقلت: يا رسولَ الله! ألا أحبُّ ابن عمَّتي وعلى ديني؟ فقال: "يا زبيرُ! أما والله لَتقاتلنَّه وأنت ظالمٌ له" فقال الزبيرُ: بلى، والله لقد نسيتُه منذ سمعتُه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ذكرتُه الآن، والله لا أقاتلُكَ، فرجعَ الزُّبيرُ على دابَتِه يشقُّ الصفوفَ، فعرضَ له ابنه عبدُ اللّه بن الزبير فقال: ما لكَ؟ فقال: ذكَّرني عليٌّ حديثًا سمعتُه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمعتُه يقول:"لتقاتلنَّهُ وأنت ظالمٌ له" فلا أقاتله. فقال: وللقتال جئت؟ إنما جئتَ تصلحُ بين الناس، ويُصلح الله هذا الأمرَ. قال: قد حلفتُ أن لا أقاتله، قال: فأعتق غلامك جَرْجِسَ، وقفْ حتى تُصلحَ بين الناس، فاعتقَ غلامَه ووقفَ، فلمَا اختلفَ أمرُ الناس ذهبَ على فرسِه

(1)

.

قال البيهقيُّ: وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا الإمام أبو الوليد، حَدَّثَنَا الحسنُ بن سفيان، حَدَّثَنَا قَطَنُ بن بشير، حَدَّثَنَا جعفرُ بن سُليمان، حَدَّثَنَا عبدُ الله بن محمد الرَّقاشيُّ، حَدَّثَنَا جدي - وهو عبد الملك بن مسلم - عن أبي جَرْو المازنيّ، قال: سمعتُ عليًّا والزبير، وعليٌّ يقول له: نشدتك

(2)

الله يا زبيرُ! أما سمعتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنك مُقاتلي

(3)

وأنتَ لي ظالمٌ؟ " قال: بلى، ولكنِّي نسيتُ

(4)

. وهذا غريب كالسياق الذي قبله.

وقد روى البيهقيُّ من طريق الهُذيل بن بلال - وفيه ضعفٌ - عن عبد الرحمن بن مسعود العَبْدي، عن

(1)

رواه البيهقيُّ في الدلائل (6/ 414 - 415) والحاكم في المستدرك بنحوه (3/ 366) وهو ضعيف.

(2)

كذا في الدلائل، وفي نسخة: سألتك بالله.

(3)

كذا بالأصل، وفي الدلائل: تُقاتِلُني.

(4)

رواه البيهقيّ في الدلائل (6/ 415) وأبو يعلى رقم (666) وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (7/ 235) وقال: رواه أبو يعلى وفيه عبد الملك بن مسلم الرقاشي، قال البخاري: لم يصح حديثه.

ص: 318

عليٍّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ سرَّه أن ينظرَ إلى رجلٍ يسبقُه بعضُ أعضائه إلى الجنَّة فلينظرْ إلى زيدِ بن صُوحَان

(1)

" قلت: قُتل زيد هذا في وقعة الجمل من ناحية عليٍّ.

وثبتَ في الصحيحين من حديث همَّام بن منبه، عن أبي هريرة، قال: قالَ رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم: "لا تقومُ الساعة حتى تقتتلَ فئتان عظيمتان دعواهما واحدة"

(2)

. ورواه البخاريُّ أيضًا: عن أبي اليَمان، عن شُعيب، عن أبي الزِّناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة

(3)

. مثله.

وهاتان الفئتان هما أصحاب الجمل، وأصحاب صِفِّين، فإنهما جميعًا يدعون إلى الإسلام، وإنما يتنازعون في شيء من أمور المُلْك، ومراعاة المصالح العائد نفعُها على الأُمَّة والرعايا، وكان ترك القتال أولى من فعله، كما هو مذهب جمهور الصحابة على ما سنذكره.

وقد قال يعقوبُ بن سفيان: حَدَّثَنَا أبو اليمان، حَدَّثَنَا صفوان بن عمر، وقال: كان أهلُ الشام ستين ألفًا، فقُتل منهم عشرون ألفًا، وكان أهل العراق مئة وعشرين ألفًا، فقُتل منهم أربعون ألفًا. ولكن كان على وأصحابُه أدنى الطائفتين إلى الحقِّ من أصحاب معاوية، وأصحابُ معاوية كانوا باغين عليهم، كما ثبتَ في صحيح مسلم: من حديث شعبة، عن أبي سلمة، عن أبي نضرةَ، عن أبي سعيد الخدريّ، قال: حدَّثني من هو خير مني - يعني أبا قتادةَ - أنَّ رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم قال لعمَّار: "تَقتلُكَ الفئة الباغيةُ"

(4)

.

ورواه أيضًا من حديث ابن عُليَّةَ، عن ابن عَوْن، عن الحسن، عن أُمه، عن أُمِّ سلمة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تقتلُ عمَّارًا الفئةُ الباغيةُ"

(5)

. وفي رواية: "وقاتلُه في النَّار".

وقد تقدَّم الحديثُ بطرقه عند بناء المسجد النبوي في أَوَّل الهجرة النبوية، وما يزيدُه بعضُ الرافضة في هذا الحديث من قولهم بعد ذلك: لا أنالَها الله شفاعتي حتى يوم القيامة. فليس له أصل يُعتمد عليه، بل هو من اختلاق الروافض - قبَّحهم الله -.

وقد روى البيهقيّ من حديث أبي عُبيدة بن محمد بن عمَّار بن ياسر عن مولاة لعمَّار قالت: اشتكى عمَّارٌ شكوى، أَرِقَ منها، فغُشي عليه، فأفاقَ ونحنُ نبكي حولَه، فقال: ما تبكون؟ أتخشونَ أن أموتَ على فراشي؟ أخبرني حبيبي صلى الله عليه وسلم أنه تَقْتُلُني الفئةُ الباغيةُ، وأنَّ آخرَ زادي من الدنيا مَذْقة من لبن

(6)

.

(1)

رواه البيهقيّ في الدلائل (6/ 416) وقال: هذيل بن بلال غير قوي. وفي ميزان الاعتدال (4/ 294): ضعفه النسائي والدارقطني، وقال يحيى بن معين: ليس بشيء. وقال ابن حبان: متروك.

(2)

رواه البخاري في صحيحه رقم (6535) في استتابة المرتدين، ومسلم في صحيحه رقم (157)(17) في الفتن.

(3)

رواه البخاري في صحيحه رقم (7121) في الفتن.

(4)

رواه مسلم في صحيحه رقم (2916)(72) في الفتن.

(5)

رواه مسلم في صحيحه رقم (2916)(73) في الفتن.

(6)

رواه البيهقيّ في الدلائل (6/ 421) ورواه أحمد في المسند (4/ 419) والحاكم في المستدرك (3/ 389) وهو حديث حسن يشهد له الذي بعده. ومَذْقَةُ اللَّبن: شَرْبةُ اللبن الممزوج بالماء.

ص: 319

وقال الإمام أحمد: حدَّثني وكيع، حَدَّثَنَا سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي البَخْتَريِّ، قال: قال عمَّارٌ يومَ صِفِّين: ائتوني بِشَرْبَةِ لَبَنٍ، فإنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: (آخرُ شَرْبَةٍ تشربُها من الدنيا شَرْبَةُ لَبَنٍ" فشربَها ثم تقدَّم فقُتل

(1)

. وحدَّثنا عبد الرحمن بن مَهْدي، عن سفيان، عن حبيب، عن أبي البَخْتَريِّ، أن عمَّار بن ياسر أُتي بشَرْبةِ لَبَنٍ فضحكَ، وقال: إنَّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال لي: آخرُ شراب أشربُه لَبَنٌ حتَّى أموتَ

(2)

.

وروى البيهقيُّ من حديث عمَّار الدُّهني، عن سالم بن أبي الجعد، عن ابن مسعود، سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إذا اختلفَ الناسُ كان ابن سُمية مع الحقّ"

(3)

.

ومعلومٌ أنَّ عمَّارًا كان في جيش عليٍّ يوم صِفِّين، وقتلَه أصحابُ معاوية من أهل الشام، وكان الذي تولَّى قَتْلَه رجل يُقال له أبو الغادية، رجل من أفناء الناس، وقيل: إنه صحابي. وقد ذكره أبو عمر بن عبد البر

(4)

وغيره من أسماء الصحابة، وهو أبو الغادية مسلم، وقيل: يَسَار بن أزيهر الجهنيّ من قُضاعة، وقيل: مزنيٌّ، وقيل: هما اثنان

(5)

. سكَنَ الشام ثم صار إلى واسط، روى له أحمد حديثًا، وله عند غيره آخر، قالوا: وهو قاتل عمَّار بن ياسر. وكان يذكرُ صفة قتله لعمَّار لا يتحاشى من ذلك، وسنورد ترجمتَه عند قتله لعمَّار أيَّام معاوية في وقعة صِفِّين، وأخطأ من قال: كان بدريًا.

وقال الإمام أحمد

(6)

: حَدَّثَنَا يزيد بن هارون، حَدَّثَنَا العوَّام، حدَّثني أسود بن مسعود، عن حنظلةَ بن خُويلد العنزي، قال: بينما أنا عند معاوية إذ جاءَه رجلان يختصمان في رأس عمَّار، يقولُ كلُّ واحد منهما: أنا قتلتُه، فقال عبد الله بن عمرو: ليطبْ به أحدُكما لصاحبه نفسًا، فإنّي سمعتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يقول:"تقتله الفئة الباغية" فقال معاوية: ألا نحِّ عنا مجنونَك يا عمرو، فما بالك معنا؟! قال: إن أبي شكاني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أطعْ أباكَ ما دامَ حيًّا ولا تعصِه" فأنا معكم ولست أُقاتل.

وقال الإمام أحمد

(7)

: حَدَّثَنَا أبو معاويةَ، حَدَّثَنَا الأعمشُ، عن عبد الرحمن بن زياد، عن

(1)

رواه أحمد في المسند (4/ 319) والحاكم في المستدرك (3/ 389) وصححه وهو حديث حسن.

(2)

رواه أحمد في المسند (4/ 319) وهو حديث حسن.

(3)

رواه البيهقيّ في الدلائل (6/ 421) واسناده ضعيف.

(4)

الاستيعاب (4/ 1725).

(5)

أسد الغابة (6/ 237 و 238).

(6)

في المسند (2/ 164 و 206) رقم (6538) و (6929)، ومن طريق يزيد ذكره المزي في تهذيب الكمال (7/ 437)، وهو حديث صحيح.

(7)

رواه أحمد في المسند (2/ 161) رقم (6499) والنسائي في خصائص على رقم (167) والبزار رقم (3281) وهو حديث صحيح.

ص: 320

عبد اللّه بن الحارث بن نوفل، قال: إني لأسيرُ مع معاوية مُنصرفه من صِفِّين، بينه وبين عمرو بن العاص، فقال عبد اللّه بن عمرو: يا أبة، أما سمعتَ رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم يقول لعمَّار:"ويحكَ يا بن سُميَّة! تَقتُلُكَ الفئةُ الباغيةُ؟ "قال: فقال عمرو لمعاوية: ألا تسمع ما يقول هذا؟ فقال معاوية: لا تزال تأتينا بِهَنَةٍ، أو نحنُ قتلناهُ؟ إنما قتلَه الذين جاؤوا به.

ثم رواه أحمد عن أبي نُعيم، عن الثوريِّ، عن الأعمش، عن عبد الرحمن بن أبي زياد

(1)

، فذكرَ مثله

(2)

.

فقول معاوية: إنما قتلَه من قدَّمه إلى سيوفنا، تأويل بعيدٌ جدًّا، إذ لو كان كذلك لكان أميرُ الجيش هو القاتلُ للذين يُقتلون في سبيل اللّه، حيث قدَّمهم إلى سُيوف الأعداء.

وقال عبدُ الرزاق: أخبرنا ابن عُيينة، أخبرني عمرو بن دينار، عن ابن أبي مُليكة، عن المِسْوَر بن مَخْرمةَ، قال عمرُ لعبد الرحمن بن عوف: أما علمتَ أنَّا كنَّا نقرأ {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج: 78] في آخر الزمان، كما جاهدتُم في أوَّله؟ فقال عبد الرحمن: ومتى ذلك يا أميرَ المؤمنين؟ قال: إذا كان بنو أمية الأمراء وبنو المغيرة الوزراء. ذكره البيهقيّ هاهنا، وكأنه يستشهد به على ما عقد له الباب بعده من ذكر الحكمين وما كان من أمرهما، فقال:"باب ما جاء في إخباره صلى الله عليه وسلم عن الحكمين اللذين بُعثا في زمان عليٍّ رضي الله عنه".

أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان، أخبرنا أحمد بن عُبيد الصفار، حَدَّثَنَا إسماعيل بن الفضل، حَدَّثَنَا قُتيبة بن سعيد، عن جرير، عن زكريا بن يحيى، عن عبد اللّه بن يزيد وحبيب بن يسار، عن سُويد بن غَفَلة قال: إني لأمشي مع عليٍّ بشطِّ الفُرات فقال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "إن بني إسرائيلَ اختلفوا فلم يزلْ اختلافهم بينهم حتى بعثوا حكمين فضَلَّا وأضلا من اتَّبعَهما، وإنَّ هذه الأمة ستختلفُ فلا يزالُ اختلافهم بينَهم حتى بعثوا حكمين ضَلَّا وأضَلَّا من اتَّبَعَهُما"

(3)

.

هكذا أورده ولم يُبيِّن شيئًا من أمره، وهو حديث منكر جدًّا، وآفته من زكريا بن يحيى هذا - وهو الكِنْديُّ الأعمى - قال يحيى بن معين: لسس بشيء، والحَكَمان كانا من خيار الصحابة، وهما عمرو بن العاص السَّهْمِيُّ من جهة أهل الشام، الثاني أبو موسى عبد الله بن قيس الأشعريُّ، من جهة أهل العراق،

(1)

تقدم في الرواية السابقة أنه "عبد الرحمن بن زياد" فيقال فيه: ابن أبي زياد أيضًا، كما في تهذيب الكمال (17/ 112) وقد ساق المزي هذا الحديث في التهذيب من طريق المسند الأحمدي.

(2)

رواه أحمد في المسند (2/ 161) و (206) رقم (6500) و (6926) والنسائي في خصائص عليّ رقم (168) وهو حديث صحيح.

(3)

رواه البيهقيّ في الدلائل (6/ 423) وهو حديث منكر جدًّا، وقد أوضح ذلك الحافظ ابن كثير رحمه اللّه تعالى في تتمة الحديث.

ص: 321

وإنما نُصِبَا ليُصلحا بين النَّاس ويتفقا على أمر فيه رِفْقٌ بالمسلمين، وحقنٌ لدمائهم، وكذلك وقع، ولم يَضِلَّ بسببهم إِلَّا فرقة الخوارج حيث أنكروا على الأميرين التحكيم، وخرجوا عليهما وكفَّروهما، حتى قاتلَهم عليُّ بن أبي طالب، وناظرَهم ابنُ عباس، فرجعَ منهم شِرذِمَة إلى الحقِّ، واستمرَّ بقيَّتُهم حتى قُتِلَ أكثرُهم بالنَّهْرَوان وغيره، من المواقف المرذولة عليهم، كما سنذكره.

‌ذكر إخباره عليه الصلاة والسلام عن خروج الخوارج، وعلامتهم بالرجل المُخَدَّج ذي الثدية، فوُجد ذلك في خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه

قال البخاري: حَدَّثَنَا أبو اليمان، حَدَّثَنَا شُعيب، عن الزُّهريِّ، أخبرني أبو سلمةَ بنُ عبد الرحمن، أنَّ أبا سعيدٍ الخدريَّ، قال: بينما نحنُ عند رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وهو يُقسم قَسْمًا، أتاه ذُو الخُويصرة - وهو رجلٌ من بني تَميمٍ - فقال: يا رسولَ الله! اعدلْ، فقال:"ويلكَ، ومَنْ يعدلُ إذا لم أعدلْ؟ قد خبت وخسرت إن لم أكنْ أعدلُ" فقال عمر: يا رسول اللّه! ائذن لي فيه فأضربَ عنقَه، فقال: "دعْه فإنَّ له أصحابًا يَحْقِرُ أحدُكم صلاتَه مع صلاتِهم، وصيامَه مع صيامِهم، يقرؤون القرآن لا يُجاوزُ تَراقيَهم، يَمْرُقون

(1)

من الدِّين كما يَمْرُقُ السَّهْمُ من الرَّمِيَّةِ، يُنظرُ إلى نَصْلِهِ فلا يُوجد فيه شيءٌ، ثم يُنظرُ إلى رِصَافِهِ فلا يُوجدُ فيه شيءٌ، ثم ينظرُ إلى نَضِيّه هو قِدْحُهُ - فلا يُوجدُ فيه شيءٌ، ثم يُنْظَرُ إلى قُذذِهِ فلا يُوجد فيه شيءٌ، قد سبَقَ الفَرْثَ والدَّمَ، آيتُهم رجلٌ أسود، إحدى عَضُدَيهِ مِثلُ ثَدْي المرأةِ أو مِثْلُ البَضْعَةِ تَدَرْدَرُ، ويخرجونَ على حينِ فُرْقَةٍ من النَّاس".

قال أبو سعيد: فأشهدُ أنِّي سمعتُ هذا الحديث من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم؟ وأشهدُ أنَّ عليَّ بن أبي طالب قاتِلَهم وأنا معه، فأمرَ بذلك الرجل فالتُمسَ، فأُتي به، حتى نظرتُ إليه على نَعْتِ رسولِ اللّه صلى الله عليه وسلم الذي نَعْتَه

(2)

.

وهكذا رواه مسلم من حديث أبي سلمة عن أبي سعيد

(3)

.

ورواه البخاريُّ أيضًا من حديث الأوزاعيِّ، عن الزُّهْريِّ، عن أبي سَلَمَة والضَّحَّاك، عن أبي سعيد

(4)

.

(1)

"يمرقون من الدين": يخرجون منه.

(2)

رواه البخاري في صحيحه رقم (3344) في استتابة المرتدين، ورقم (3610) في المناقب.

(3)

رواه مسلم في صحيحه رقم (1064)(148) في الزكاة.

(4)

رواه البخاري في صحيحه رقم (6163) في الأدب.

ص: 322

وأخرجه البخاريُّ أيضًا من حديث سفيان بن سعيد الثوري عن أبيه

(1)

. ومسلم عن هَنَّاد، عن أبي الأحوصِ سَلَّام بن سُلَيم، عن سعيدِ بن مَسروقٍ، عن عبد الرحمن بن أبي نُعْم، عن أبي سعيد الخدري

(2)

به.

وقد روى مسلم في صحيحه: من حديث داود بن أبي هند، والقاسم بن الفضل، وقتادة، عن أبي نضرةَ عن أبي سعيد قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "تمرقُ مارقةٌ عند فُرْقةٍ من المسلمين يقتلُها أولى الطائفتين بالحقِّ"

(3)

.

ورواه أيضًا من حديث أبي إسحاق الثَّوْريِّ، عن حبيبِ بن أبي ثابت، عن الضحَّاك المشرقيِّ، عن أبي سعيد، مرفوعًا

(4)

. وروى مسلم: عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن ابن مُسْهر، عن الشيبانيِّ، عن بشير بن عمرو، قال: سألت سهلَ بن حُنيف، هل سمعتَ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يذكر هؤلاء الخوارج؟ فقال: سمعتُه وأشارَ بيده نحو المشرق - وفي رواية نحو العِراق - "ويخرجُ قومٌ يقرؤون القرآن بألسنتهم لا يُجاوز تراقيَهم، يَمْرقُون من الدِّين كما يمرقُ السَّهمُ من الرَّمِيَّة، مُحَلَّقَةٌ رؤوسُهم"

(5)

.

وروى مسلم: من حديث حُميد بن هلال، عن عبد اللّه بن الصَّامت، عن أبي ذر نحوَه، وقال:"سيماهُم التَّحْليقُ، شرُّ الخَلْقِ والخَلِيقة"

(6)

.

وكذلك رواه محمد بن كثير المِصِّيصي: عن الأوزاعي، عن قتادة، عن أنس بن مالك مرفوعًا، وقال: "سيماهُمُ التَّحليقُ، شرَّ الخَلْقِ والخَلِيقة

(7)

".

وفي الصحيحين: من حديث الأعمش، عن خيثمةَ، عن سُويد بن غَفَلَة، عن عليٍّ: سمعتُ رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: "يخرجُ قومٌ في آخر الزمان حُدَثَاءُ الأسنان، سُفَهَاءُ الأحلام، يقولونَ مِن قولِ خيرِ البَرِيَّةِ، لا يُجاوز إيمانُهم حناجرَهم، فأينما لقيتموهم فاقتلُوهُم، فإن في قَتلِهم أجرًا لمن قَتلَهم إلى يوم القيامة"

(8)

.

(1)

رواه البخاري في صحيحه رقم (3344) في الأنبياء.

(2)

رواه مسلم في صحيحه رقم (1064)(1) في الزكاة.

(3)

رواه مسلم في صحيحه رقم (1064)(150 - 152) في الزكاة.

(4)

رواه مسلم في صحيحه رقم (1064)(153) في الزكاة.

(5)

رواه مسلم في صحيحه رقم (1068)(159) و (160) في الزكاة.

(6)

رواه مسلم في صحيحه رقم (1067)(158) في الزكاة.

(7)

رواه أبو داود في سننه رقم (4765) في السنة، والبيهقي في الدلائل (6/ 430) وقد ذكره الحافظ ابن كثير مختصرًا وهو حديث صحيح.

(8)

رواه البخاري في صحيحه رقم (3611) في المناقب، ومسلم في صحيحه رقم (1066)(154) في الزكاة.

ص: 323

وقد روى مسلم: عن قُتيبة، عن حمَّاد، عن أيوب، عن محمد بن عبدة، عن عليّ في خبر "مودون اليد، وهو ذو الثدية"

(1)

.

وأسنده من وجه آخر: عن ابن عون، عن ابن سيرين، عن عبيدة عن علي وفيه: أنه حلَّفَ عليًا على ذلك، فحلفَ له أنَّه سمعَ ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ورواه مسلم: عن عبد بن حُميد، عن عبد الرزاق، عن عبد الملك بن أبي سُليمان، عن زيد بن وَهْب، عن عليّ بالقصة مطوَّلة، وفيه قصة ذي الثدْيَة

(2)

.

ورواه: من حديث عُبيد الله بن أبي رافع، عن عليٍّ

(3)

. ورواه أبو داود الطيالسي: عن حمَّاد بن زيد، عن حميد بن مُرَّة، عن أبي الوضيِّ السُّحَيْميِّ، عن عليٍّ في قصة ذي الثدية

(4)

. ورواه الثوري: عن محمد بن قيس عن أبي موسى - رجل من قومه - عن عليٍّ بالقصة

(5)

. وقال يعقوب بن سفيان: حدَّثنا الحُمَيْدي، حدَّثنا سفيان، حدَّثني العلاء بن أبي العباس أنه سمع أبا الطفيل يُحدِّث عن بكر بن قِرْواش، عن سعد بن أبي وقَّاص، قال: ذكرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ذا الثُّدْيَة فقال: "شيطانُ الرَّدْهَة، كراعي الخيل، يحذرُه رجل من بَجِيلةَ، يقال له: الأشهب - أو ابن الأشهب - علامة في قوم ظلمة" قال سفيان: فأخبرني عمار الدُّهنِي أنه جاء رجل منهم يُقال له: الأشهب - أو ابن الأشهب

(6)

-.

قال يعقوب بن سفيان: وحدَّثنا عُبيد الله بن مُعاذ، عن أبيه، عن شُعبة، عن أبي إسحاق، عن حامد الهَمْداني، سمعت سعدَ بن مالك يقول: قتلَ عليُّ بن أبي طالب شيطانَ الرَّدْهَة - يعني المُخْدَجَ - يُريد والله أعلم - قتلَهُ أصحابُ عليّ

(7)

. وقال عليُّ بن عياش: عن حبيب، عن سلَمَةَ، قال: لقد علمتْ عائشةُ أن جيشَ المَرْوَة وأهلَ النَّهْرَوانِ ملعونونَ على لسان محمد صلى الله عليه وسلم

(8)

.

قال ابن عيَّاش: جيش المروة قَتَلةُ عثمان. رواه البيهقي.

(1)

رواه مسلم في صحيحه رقم (1066)(155) في الزكاة. ومودن اليد: ناقص اليد، ومثدون اليد: صغير اليد مجتمعها.

(2)

رواه مسلم في صحيحه رقم (1066)(156) في الزكاة.

(3)

رواه مسلم في صحيحه رقم (1066)(157) في الزكاة.

(4)

رواه أبو داود الطيالسي في مسنده (169) ورواه البيهقي في الدلائل (6/ 433) وهو بمعنى الذي قبله.

(5)

رواه البيهقي في الدلائل (6/ 433).

(6)

رواه البيهقي في الدلائل (6/ 433 - 434) وفي سنده بكر بن قرواش، قال الذهبي في الميزان: لا يعرف، والحديث منكر.

(7)

رواه البيهقي في الدلائل (6/ 434) وفي سنده حامد الهمداني، لم نجده.

(8)

رواه البيهقي في الدلائل (6/ 434).

ص: 324

ثم قال البيهقي: أخبرنا الحاكم، أخبرنا الأصمُّ، حدَّثنا أحمد بن عبد الجبَّار، حدَّثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إسماعيل بن رجاء، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري، قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن منكم من يُقاتلُ على تأويل القرآن، كما قاتلتُ على تنزيله" فقال أبو بكر: أنا هو يا رسولَ الله، قال:"لا" فقال عمر: أنا هو يا رسولَ الله، قال:"لا، ولكن خاصِفُ النَّعلِ - يعني عليًّا"

(1)

.

وقال يعقوب بن سفيان: عن عُبيد الله بن مُعاذ، عن أبيه، عن عمران بن جرير عن لاحق، قال: كان الذين خرجوا على عليٍّ بالنَّهْرَوان أربعة آلاف في الحديد، فركبَهم المسلمون فقتلوهُم، ولم يقتلوا من المسلمين إلا تسعة رهط، وإن شئتَ فاذهبْ إلى أبي برزةَ فإنه يشهدُ بذلك.

قلت: الأخبار بقتال الخوارج متواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن ذلك من طرق تُفيد القطعَ عند أئمة هذا الشأن، ووقوع ذلك في زمان علىّ معلومٌ ضرورة لأهل العلم قاطبة، وأما كيفية خروجهم وسببه ومناظرة ابن عباس لهم في ذلك، ورجوع كثير منهم إليه، فسيأتي بيان ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى.

‌إخباره صلى الله عليه وسلم بمقتل عليِّ بن أبي طالب فكان كما أخبرَ

قال الإمام أحمد

(2)

: حدَّثنا عليُّ بن بحر، حدَّثنا عيسى بن يُونس، حدَّثنا محمد بن إسحاق، حدَّثني يزيد بن محمد بن خُثَيم المحاربي، عن محمد بن كعب [القرظي، عن محمد، بن خُثَيْم] عن عمار بن ياسر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي - حين وَلَّى في غزوة العُشَيْرة: "يا أبا تراب! - لِمَا يرى عليه من التراب - ألا أُحَدِّثُكَ بأشقى الناس رجلين؟ قلنا: بلى يا رسول الله! قال: أُحَيْمِرُ ثمودَ الذي عقرَ الناقة، والذي يضربُك يا علي على هذه - يعني قرنَه - حتى تَبُلَّ هذه - يعني لحيتَه" -.

وروى البيهقيُّ

(3)

: عن الحاكم، عن الأصمِّ، عن الحسن بن مكرم، عن أبي النَضْر، عن محمد بن راشد، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن فَضَالة بن أبي فَضَالة الأنصاريّ - وكان أبوه من أهل بدر - قال: خرجتُ مع أبي عائدًا لعلي بن أبي طالب في مرضٍ أصابَه ثَقُلَ منه، قال: فقال له أبي: ما يُقيمُك بمنزِلكَ هذا؟ فلو أصابَكَ أجلُكَ لم يكن

(4)

إلا أعرابُ جهينة! تُحملُ إلى المدينة، فإن أصابَك أجلُكَ وَليَكَ أصحابُكَ وصَلَّوا عليكَ. فقال عليٌّ: إنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عَهِدَ إليَّ ألا أموتَ حتَّى تُخضبَ هذه

(1)

رواه البيهقي في الدلائل (6/ 436) وهو حديث حسن.

(2)

في المسند (4/ 263) ومعنى ولَّى: انصرف. وإسناده ضعيف لجهالة محمد بن خثيم، ولانقطاعه بين يزيد بن محمد ومحمد بن كعب، وبين محمد بن كعب وابن خثيم، وبين ابن خثيم وعمار. تاريخ البخاري الكبير (1/ 71).

(3)

في الدلائل (6/ 438).

(4)

كذا في الأصل، وفي دلائل النبوة؛ للبيهقي والمسند: لم يَلِكَ.

ص: 325

- يعني لحيتَه - من دم هذه - يعني: هامتَه - فقُتِلَ، وقُتِلَ أبو فَضَالة مع على يومَ صِفِّين

(1)

.

وقال أبو داود الطيالسي: حدَّثنا شَريك، عن عثمانَ بن المغيرة، عن زيد بن وَهْب، قال: جاء رأسُ الخوارج إلى عليّ فقال له: اتَّقِ الله فإنَّكَ مَيِّتٌ، فقال: لا والذي فلقَ الحبَّةَ وبَرَأَ النَّسْمَةَ، ولكن مقتولٌ من ضربةٍ على هذه تَخْضِبُ هذه - وأشارَ بيده إلى لحيته - عهدٌ معهودٌ، وقضاءٌ مقضيٌّ، وقد خابَ من افتري

(2)

.

وقد روى البيهقي: بإسناد صحيح عن زيد بن أسلم، عن أبي سِنان الدُّؤليّ، عن علي، في إخبار النبيِّ صلى الله عليه وسلم بقتله

(3)

. وروى: من حديث هُشَيم، عن إسماعيل بن سالم، عن أبي إدريس الأزدي، عن علي، قال: إنَّ مما عَهِدَ إليَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: أنَّ الأُمَّةَ ستغدرُ بكَ بعدي

(4)

. ثم ساقَه من طريق فِطْر بن خليفةَ وعبد العزيز بن سِيَاه، عن حبيب بن أبي ثابت، عن ثعلبةَ بن يزيد الحِمَّاني، قال: سمعتُ عليًّا يقول: إنَّه لعهدُ النبيِّ الأُمِّي إليَّ، إنَّ الأمة ستغدرُ بكَ بعدي. قال البخاري: ثعلبة هذا فيه نظر، ولا يُتابع على حديثه هذا

(5)

.

وروى البيهقي: عن الحاكم، عن الأصمِّ عن محمد بن إسحاق الصَّغَّاني، عن أبي الجوَّاب الأحوص بن جَوَّاب، عن عمَّار بن زُريق، عن الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن ثعلبة بن يزيد، قال: قال علي: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لتُخْضَبَنَّ هذه من هذه، للحيته من رأسه، فما يحبس

(6)

أشقاها؟ فقال عبدُ الله بن سَبُعٍ: والله يا أميرَ المؤمنين! لو أنَّ رجلًا فعل ذلك لأبرْنا

(7)

عشيرته، فقال: أنشدُ بالله ألا يُقتل بي غير قاتلي. قالوا: يا أمير المؤمنين! ألا تستخلفُ؟ قال: لا، ولكنْ أتركُكُم كما تَرَكَكُم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: فما تقولُ لربِّك إذا تركتَنا هَمَلًا؟ قال: أقولُ: اللَّهُمَّ استخلفتَني فيهم ما بدا لكَ، ثم قبضتَني وتركتُكَ فيهم، فإن شئتَ أصلحتَهم، وإن شئتَ أفسدتَهم

(8)

.

(1)

وهو في المسند (1/ 102) رقم (802) ومجمع الزوائد (9/ 136) وفيها زيادة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إليَّ أني لا أموت حتى أؤمَّرَ ثم تخضبُ

وفضالة بن أبي فضالة مجهول. الميزان للذهبي (3/ 349) وعبد الله بن محمد بن عقيل ضعيف.

(2)

رواه أبو داود الطيالسي في مسنده (ص 23) وفي إسناده شريك بن عبد الله النخعي الكوفي القاضي، وهو صدوق يخطئ كثيرًا، تغير حفظه.

(3)

رواه البيهقي في السنن كما في الدلائل (6/ 439).

(4)

رواه البيهقي في الدلائل (6/ 440).

(5)

رواه البيهقي في الدلائل (6/ 440).

(6)

سقطت كلمة (يحيس) من الأصل.

(7)

"لأبَرْنا عشيرته": أهلكناهم. وفي الدلائل: لأبرنا عترته، أي: عشيرته.

(8)

رواه البيهقي في الدلائل (6/ 439) في سنده ثعلبة بن يزيد الحماني، ضعيف.

ص: 326

هكذا روى البيهقيُّ هذا، وهو موقوف، وفيه غَرَابةٌ من حيث اللفظ ومن حيث المعنى، ثم المشهورُ عن عليٍّ أنَّه لما طعنَه عبدُ الرحمن بن مُلْجَم الخارجيُّ، وهو خارج لصلاة الصبح عند السُّدَّة، فبقيَ عليٌّ يومين من طعنته، وحُبس ابن مُلْجَم، وأوصى عليٌّ إلى ابنه الحسن بن عليّ كما سيأتي بيانه، وأمر أن يركبَ في الجنود، وقال له: لا يَجُرْ عليٌّ كما تَجُرِ الجاريةُ. فلما ماتَ قُتِلَ عبدُ الرحمن بن مُلْجَم قَوَدًا، وقيل: حَدًّا، والله أعلم، ثم ركبَ الحسنُ بن علي في الجنود، وسارَ إلى معاويةَ كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

‌ذكر إخباره عليه الصلاة والسلام بذلك، وسيادة ولده الحسن بن عليّ في تركه الأمرَ من يده، وإعطائه ذلك الأمر لمعاوية، ما كان سواه يقومُ بأعبائه

قال البخاري في دلائل النبوة

(1)

: حدَّثنا عبد الله بن محمد، حدَّثنا يحيى بن آدم، حدَّثنا حسين الجُعْفِيّ، عن أبي موسى، عن الحسن، عن أبي بكرةَ، قال: أخرجَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم ذاتَ يومٍ الحسنَ بنَ عليٍّ فصَعِدَ به على المنبر فقال: "إنَّ ابني هذا سَيِّدٌ: ولعلَّ الله أَنْ يُصلحَ به بين فئتين من المُسلمين".

وقال في كتاب الصلح

(2)

: حدَّثنا عبدُ الله بن محمد، حدَّثنا سُفيان، عن أبي موسى، قال: سمعتُ الحسنَ يقولُ: استقبلَ والله الحسنُ بن عليّ معاويةَ بن أبي سفيان بكتائبَ أمثالِ الجبال، فقال عمرو بن العاص: إنِّي لأرى كتائبَ لا تُولِّي حتى تَقْتُلَ أقرانَها، فقال له معاويةُ، - وكان والله خيرَ الرجلين -: أي عمرو! إنْ قتلَ هؤلاء هؤلاء، وهؤلاء هؤلاء، مَن لي بأُمورِ النَّاس؟ مَنْ لي بنسائهم؟ مَنْ لي بضَيْعتِهم؟ فبعثَ إليه رجلين من قريش من بني عبد شمس، عبدَ الرحمن بن سَمُرة، وعبدَ الله بنَ عامِرُ

(3)

بن كُرَيْز، فقال: اذهبا إلى هذا الرجل فاعْرِضَا عليه وقُولا له واطْلُبَا إليه، فأتَياه فدخلا عليه فتكلَّما وقالا له، وطلبَا إليه، فقال لهما الحسنُ بنُ عليّ: إنا بنو عبد المطلب قد أَصَبْنَا من هذا المال، وإنَّ هذه الأمة قد عاثتْ في دمائها، قالا: فإنه يعرضُ عليكَ كذا وكذا، ويطلبُ إليكَ ويسألُكَ، قال: فمن لي بهذا؟ قالا: نحنُ لك به، فما سألَهما شيئًا إلا قالا: نحنُ لك به، فصالحَه، فقال الحسنُ: ولقد سمعتُ أبا بكرة يقول: رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم على المِنجر والحسنُ بن عليّ إلى جَنْبِه، وهو يُقبلُ على النَّاس مرَّة وعليه

(1)

رواه البخاري في صحيحه رقم (3629) في دلائل النبوة.

(2)

في صحيحه رقم (2704).

(3)

في الأصل: عبد الله بن عباس. وهو خطأ ظاهر، والتصحيح من البخاري.

ص: 327

أخرى، ويقول:"إنَّ ابنى هذا سَيِّدٌ، ولعلَّ الله أن يُصلحَ به بين فئتين عظيمتين من المسلمين".

وقال البخاري

(1)

: قال لي علي بن المديني: إنما ثبت عندنا سَماعُ الحسن من أبي بكرةَ بهذا الحديث. وقد رواه البخاري أيضًا في فضل الحسن

(2)

، وفي كتاب الفتن عن عليِّ ين المدينيّ

(3)

، عن سفيان بن عُيينة، عن أبي موسى - وهو إسرائيل بن يُونس بن أبي إسحاق -.

ورواه أبو داود

(4)

والترمذي

(5)

: من حديث أشعث. وأبو داود أيضًا والنَّسائي

(6)

: من حديث على بن زيد بن جدعان، كلُّهم عن الحسن البصري، عن أبي بكرة به. وقال الترمذي: صحيح. وله طرق عن الحسن مرسلًا، وعن الحسن وعن أم سلمة به.

وهكذا وقع الأمر كما أخبر به النبيُّ صلى الله عليه وسلم سواء، فإنَّ الحسنَ بن عليّ لمَّا صارَ إليه الأمرُ بعد أبيه، وركبَ في جيوش أهل العراق، وسار

(7)

إليه معاوية، فتصافَّا بصِفِّينَ، على ما ذكرَه الحسنُ البصريُّ

(8)

، فمالَ الحسنُ بن علي إلى الصُّلْح، وخطبَ النَّاسَ وخلعَ نفسَه من الأمر وسلَّمه إلى معاوية، وذلك سنة أربعين، فبايَعه الأُمراءُ من الجيشين، واستقلَّ باعباء الأُمَّة، فسُمِّي ذلك العام عامَ الجماعة، لاجتماع الكلمة فيه على رجل واحد، وسنُورد ذلك مُفَصَّلًا في موضعه إن شاء الله تعالى. وقد شهدَ الصادقُ المصدوقُ للفِرْقتين بالإسلام، فمن كفرهم أو واحدًا منهم بمجرد ما وقعَ فقد أخطأ وخالفَ النَّصَّ النَّبَوِيَّ المُحَمَّدِيَّ الذي لا ينطقُ عن الهوى إن هو إلا وحيٌ يُوحى، وقد تَكمُلُ بهذه السَّنة المُدَّة التي أشار إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها مدة الخلافة المتتابعة بعدَه، كما تقدَّم في حديث سفينةَ مولاهُ أنه قال:"الخِلافةُ بعدي ثلاثونَ سَنَةً، ثم تكونُ مُلْكًا"

(9)

وفي رواية "عَضُوضًا" وفي رواية عن معاوية، أنه قال: رَضِيْنَا بها مُلْكًا.

وقد قالَ نُعَيْم بن حمَّاد في كتابه "الفتن والملاحم": سمعتُ محمد بن فضيل عن السَّرِيِّ بن إسماعيل، عن عامر الشعبي، عن سفيان بن اللَّيل قال: سمعتُ الحسنَ بن علي يقول: سمعتُ عليًا يقول: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: "لا تذهبُ الأيَّام واللَّيالي حتَّى يجتمعَ أمرُ هذه الأُمَّة على

(1)

قول البخاري عقيب حديث رقم (2704).

(2)

في صحيحه (3746) في المناقب.

(3)

في صحيحه (7109).

(4)

رواه أبو داود في سننه رقم (4662) في السنة.

(5)

رواه الترمذي في الجامع رقم (3773).

(6)

في فضائل الصحابة (63) وفي الصلاة (1718) من سننه الكبرى، وهو في المجتبى (3/ 107).

(7)

في نسخة: وصار.

(8)

تقدم الخبر قبل قليل.

(9)

تقدم الحديث. والمُلكُ العَضُوضُ: الذي يصيب النَّاسَ فيه عسفٌ وظلم، كأنَّهم يعضُّون فيه عضًّا.

ص: 328

رَجُلٍ واسعِ القدم، ضخم البُلعوم، يأكلُ ولا يشبعُ وهو معاوية"

(1)

.

هكذا وقع في هذه الرواية، وفي رواية بهذا الإسناد:"لا تذهبُ الأيَّام واللَّيالي حتَّى تجتمعَ هذه الأُمَّة على مُعاوية".

وروى البيهقيُّ من حديث إسماعيل بن إبراهيم بن مُهاجر - وهو ضعيف - عن عبد الملك بن عُمَيْر قال: قال معاوية: والله ما حمَلني على الخِلافة إلا قولُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لي: "يا معاوية! إنْ ملكتَ فأحسنْ

(2)

.

ثم قال البيهقيُّ: وله شواهد، من ذلك، حديث عمرو بن يحيى بن سعيد بن العاص، عن جدِّه سعيد، أن معاويةَ أخذَ الإدارة، فتبعَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فنظر إليه، فقال له:"يا معاويةُ! إن وَلِيْتَ أمرًا فَاتَّقِ الله واعدلْ" قال معاويةُ: فما زلتُ أظنُّ أنِّي مُبتلى بعمل لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم

(3)

.

ومنها: حديث الثوري، عن ثور بن يزيد، عن راشد بن سعد المَقْرائي، عن معاوية قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنَّكَ إنِ اتَّبَعْتَ عوراتِ النَّاسِ أفسدتَهم، أو كِدْتَ أن تُفسدَهم". ثم يقول أبو الدرداء: كلمةً سمعها معاويةُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم فنفعه الله بها. رواه أبو داود

(4)

.

وروى البيهقيُّ من طريق هُشَيْم عن العوَّام بن حَوْشبٍ، عن سُليمان بن أبي سُليمان، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الخِلافةُ بالمدينة والمُلْكُ بالشام"

(5)

.

وقال الإمام أحمد

(6)

: حدَّثنا إسحاق بن عيسى، حدَّثنا يحيى بن حمزة، عن زيد بن واقد، حدَّثني بُسْر بن عُبيد الله، حدَّثني أبو إدريس الخَوْلاني، عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بينا أنا نائمٌ إذ رأيتُ عمودَ الكتابِ رُفعَ احْتُمِلَ من تحتِ رأسي، فظننتُ أنه مذهوبٌ به، فأتبعتهُ بصري، فعُمِدَ به إلى الشام، ألا وإنَّ الإيمانَ - حين تقعُ الفتنُ - بالشام".

وها هنا رواه البيهقي من طريق يعقوب بن سفيان، عن عبد الله بن يُوسف، عن يحيى بن حمزة

(1)

ذكره المتقي الهندي في كنز العمال (31708) وذكره الحافظ ابن حجر في لسان الميزان (3/ 53) في ترجمة: سفيان بن الليل الكوفي، وقال: روى عنه الشعبي، قال العقيلي: كان ممن يغلو في الرَّفض، لا يصح حديثه. وقال الحافظ: لأن حديثه انفرد به السَّرِيُّ بن إسماعيل، أحد الهلكى عن الشعبي.

(2)

رواه البيهقي في الدلائل (6/ 446).

(3)

رواه البيهقي في الدلائل (6/ 446) وهو حديث صحيح.

(4)

رواه أبو داود في سننه رقم (4888) في الأدب، وهو حديث صحيح.

(5)

رواه البيهقي في الدلائل (6/ 447) وفيه سليمان بن أبي سليمان الهاشمي مولى ابن عباس، لا يكاد يعرف، هو وأبوه مجهولان.

(6)

في المسند (5/ 198) وإسناده صحيح رجاله ثقات رجال الصحيح.

ص: 329

السلمي به. قال البيهقي: هذا إسناد صحيح، وروي من وجه آخر

(1)

. ثم ساقَه من طريق عقبةَ بن علقمةَ، عن سعيد بن عبد العزيز الدِّمشقيّ، عن عطيَّةَ بن قيس، عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنِّي رأيتُ أنَّ عمودَ الكتابِ انتُزِعَ من تحتِ وسَادَتِي، فنظرتُ فإذا هو نور ساطعٌ عُمِدَ به إلى الشام، ألا إنَّ الإيمانَ إذا وقعتِ الفتنُ بالشام"

(2)

. ثم أورده البيهقيُّ: من طريق الوليد بن مسلم، عن سعيد بن عبد العزيز، عن يُونس بن ميسرة، عن عبد الله بن عمرو، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرَ نحوَه، إلا أنه قال: فَاتَّبَعْتُه بَصري حتَّى ظننتُ أنه مذهوبٌ به" قال: وإنِّي أَوَّلتُ أنَّ الفتنَ إذا وقعت، أنَّ الإيمانَ بالشَّام

(3)

. قال الوليد: وحدَّثني عُفَيرُ بن مَعدان أنه سمعَ سليمانَ بن عامر يُحدِّث، عن أبي أُمامةَ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلَ ذلك

(4)

. وقال يعقوبُ بن سفيان: حدَّثني نصرُ بن محمد بن سليمان الحمصي، حدَّثنا أبو ضمرة - محمد بن سليمان السُّلَمي - حدَّثني عبدُ الله بن أبي قيس، سمعتُ عمرَ بن الخطاب يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيتُ عَمُودًا من نورٍ خرجَ من تحتِ رأسي ساطِعًا حتَّى استقرَّ بالشام"

(5)

.

وقال عبدُ الرزاق: أخبرنا معمرُ، عن الزهريِّ، عن عبد الله بن صَفْوان، قال: قال رجلٌ يومَ صِفِّين: اللَّهُمَّ العنْ أهلَ الشَّام، فقال له عليٌّ: لا تسبَّ أهلَ الشَّام جَمًّا غَفِيْرًا، فإنَّ بها الأبدالَ، فإن بها الأبدالَ، فإنَّ بها الأبدالَ

(6)

. وقد روي من وجه آخر عن عليّ، قال الإمام أحمد: حدَّثنا أبو المغيرة، حدَّثنا صفوان، حدَّثني شريح - يعني ابن عبيد الحضرمي - قال: ذُكِرَ أهلُ الشام عند عليّ بن أبي طالب وهو بالعراق، فقالوا: العنْهم يا أميرَ المؤمنين، قال: لا، إنِّي سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"الأبدالُ يكونون بالشام، وهم أربعون رجلًا، كلَّما ماتَ رجلٌ أبدلَ الله مكانَه رجلًا، يُستسقى بهم الغيثُ، ويُنتصرُ بهم على الأعداء، ويُصرفُ عن أهل الشام بهمُ العذابُ"

(7)

. تفرَّدَ به أحمد، وفيه انقطاع، فقد نصَّ أبو حاتم الرازيُّ على أن شُرَيح بن عُبيد هذا لم يسمع من أبي أُمامة ولا من أبي مالك الأشعري وأن روايته عنهما مرسلة، فما ظَنُّكَ بروايته عن علي بن أبي طالب، وهو أقدم وفاة منهما؟!.

(1)

رواه البيهقي في الدلائل (6/ 447) وهو حديث صحيح.

(2)

رواه البيهقي في الدلائل (6/ 448) والحاكم في المستدرك (4/ 509) وصححه.

(3)

رواه البيهقي في الدلائل (6/ 448) وهو حديث حسن.

(4)

رواه البيهقي في الدلائل (6/ 448) وهو حديث حسن.

(5)

رواه البيهقي في الدلائل (6/ 449) وهو حديث حسن.

(6)

رواه البيهقي في الدلائل (6/ 449) وإسناده ضعيف.

(7)

رواه أحمد في المسند (1/ 112) وينظر كلام الإمام ابن القيم في المنار المنيف (ص 136).

ص: 330

‌إخباره عليه الصلاة والسلام عن غزوة البحر إلى قبرص التي كانت في أيام أمير المؤمنين عثمان بن عفَّان رضي الله عنه

قال مالك: عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس بن مالك، أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان يدخل على أُمِّ حَرَام بنت مِلْحَانَ، فتُطعمُه، وكانت تحتَ عُبادةَ بن الصَّامتِ، فدخلَ عليها يومًا فأطعمتهُ ثم جلست تَفْلِي رأسَه، فنامَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم استيقظَ وهو يضحكُ، قالت: فقلتُ: ما يُضحِكُكَ يا رسول الله؟! قال: "ناس من أُمَّتي عُرِضوا عليّ غُزاةً في سبيلِ الله يركبون ثبج هذا البحر، ملوكًا على الأسرَّة - أو مثل الملوك على الأسرَّة -" شك إسحاق، فقلت: يا رسول الله! ادعُ الله أنْ يجعلَني منهم، فدعَا لها، ثم وضعَ رأسَه فنامَ ثم استيقظَ وهو يضحكُ، قالت: قلتُ ما يُضحِكُكَ يا رسولَ الله؟ قال: "ناس مِن أُمَّتي عُرِضُوا عليَّ غُزاةً في سبيل الله" كما قال في الأولى، قالت: فقلت: يا رسولَ الله: ادعُ الله أن يجعلَني منهم، قال:"أَنْتِ من الأَوَّلِين" قال: فركبت أُمُّ حَرَام بنت مِلْحَانَ البحرَ في زمان معاويةَ، فصُرعت عن دابَّتِها حينَ خرجت من البحر فهلكت.

رواه البخاريُّ عن عبد الله بن يُوسف. ومسلم عن يحيى بن يحيى، كلاهما عن مالك به

(1)

.

وأخرجاه في الصحيحين من حديث اللَّيْث

(2)

وحمَّاد بن زيد

(3)

، كلاهما عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن يحيى بن حبَّان، عن أنس بن مالك، عن خالته أم حَرَام بنت مِلْحَان، فذكر الحديث إلى أن قال: فخرجتْ مع زوجها عبادةَ بن الصَّامت غازيةً أَوَّلَ مَا رَكِبُوا مع معاوية، أو أَوَّلَ ما ركبَ المسلمون البحر مع معاوية بن أبي سفيان، فلما انصرفُوا من غَزَاتهم قافلين فنزلُوا الشَّامَ، فقُرَّبَتْ إليها دَابَّةٌ لتركبَها فصَرَعَتْهَا فماتت.

ورواه البخاريُّ من حديث أبي إسحاق الفَزَاري، عن أبي حَوَالة عبد الله بن عبد الرحمن، عن أنس به

(4)

.

وأخرجه أبو داود: من حديث معمر عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أخت أم سُلَيم

(5)

.

(1)

رواه البخاري في صحيحه رقم (2788) و (2789) في الجهاد. ومسلم في صحيحه رقم (1912)(161) و (162) في الإمارة.

(2)

رواه البخاري في صحيحه رقم (2799) و (2800) في الجهاد والسير باب فضل من يصرع في سبيل الله فمات فهو منهم، ومسلم في صحيحه رقم (1912)(162) في الإمارة، باب فضل الغزو في البحر.

(3)

رواه البخاري في صحيحه رقم (2894) و (2895) في الجهاد، ومسلم (1912)(161) في الجهاد أيضًا.

(4)

رواه البخاري في صحيحه رقم (2877) و (2878) في الجهاد والسير، باب غزو المرأة في البحر.

(5)

رواه أبو داود في سننه رقم (2490) في الجهاد.

ص: 331

‌باب ما قيل في غزو الروم

وقال البخاريُّ: حدَّثنا إسحاقُ بن يزيد الدِّمشقي، حدَّثنا يحيى بن حمزة، حدَّثني ثورُ بن يزيد، عن خالد بن مَعْدَان أن عمير بن الأسود العَنْسيَّ حدَّثه: أنه أتى عبادةَ بن الصَّامت وهو نازلٌ إلى ساحل

(1)

حمصَ، وهو في بناء له، ومعه أُمُّ حَرَام، قال عُمير: فحدَّثتنا أُمّ حَرَام أنَها سمعت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أَوَّلُ جيشٍ مِن أُمَّتي يَغزونَ البحرَ قد أَوْجَبُوا" قالت أُمُّ حَرَام: فقلتُ: يا رسولَ الله! أنا فيهم؟ قال: "أنتِ فيهم" قالت: ثم قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "أَوَّلُ جَيْشٍ مِن أُمَّتِي يغزونَ مدينةَ قيصرَ مغفورٌ لهم "قلتُ: أنا فيهم يا رسول الله؟ قال: "لا"

(2)

. تفرَّد به البخاريُّ دون أصحاب الكتب الستة.

وقد رواه البيهقيُّ في الدلائل: عن الحاكم، عن أبي عمرو بن أبي جعفر، عن الحسن بن سُفيان، عن هشام بن عمَّار الخطيب، عن يحيى بن حمزة القاضي به، وهو يُشبه معنى الحديث الأول

(3)

.

وفيه من دلائل النبوة ثلاث: إحداها الإخبار عن الغزوة الأولى في البحر، وقد كانت في سنة سبع وعشرين مع معاويةَ بن أبي سفيان حين غزا قبرصَ، وهو نائبُ الشام عن عثمان بن عفان، وكانت معهم أُمُّ حَرَام بنت مِلْحَان هذه، صُحْبَةَ زوجها عبادةَ بن الصَّامت، أحدِ النُقَبَاء ليلةَ العقبة، فتُوفِّيَتْ مرجعهم من الغزو قبلُ بالشَّام، كما تقدم في الرواية عند البخاري. وقال ابنُ زيد: تُوفِّيَتْ بقبرصَ سنة سبع وعشرين، الغزوة الثانية غزوة قسطنطينيةَ مع أوَّل جيش غزاها، وكان أميرها يزيدُ بن معاويةَ بن أبي سُفيان، وذلك في سنة ثنتين وخمسين، وكان معهم أبو أيوب، خالدُ بن زيد الأنصاريُّ، فماتَ هنالك رضي الله عنه وأرضاه، ولم تكن هذه المرأةُ معهم؛ لأنَّها كانت قد تُوفِّيت قبل ذلك في الغزوة الأولى.

فهذا الحديث فيه ثلاث آيات من دلائل النبوة: الإخبار عن الغزوتين، والإخبار عن المرأة بأنها من الأوَّليْنَ وليست من الآخِرين، وكذلك وقعَ كما أخبرَ صلواتُ الله وسلامُه عليه.

‌الإخبارُ عن غزوة الهند

قال الإمام أحمد

(4)

: حدَّثنا هُشيم، عن سيَّار، عن جبر بن عبيدة، عن أبي هريرة قال: وعدَنا

(1)

كذا في الأصل، وفي البخاري: في ساحة.

(2)

رواه البخاري في صحيحه رقم (2924) في الجهاد.

(3)

رواه البيهقي في الدلائل (6/ 452).

(4)

في المسند (2/ 229) رقم (7128) وإسناده ضعيف لجهالة جبر بن عبيدة، واستنكره الإمام الذهبي في الميزان (1/ 388).

ص: 332

رسولُ الله صلى الله عليه وسلم غزوة الهند، فإن استُشهدتُ كنتُ من خيرِ الشهداء، وإن رجعتُ فأنا أبو هريرة المُحرَّر.

ورواه النَّسائيُّ

(1)

: من حديث هُشيم، وزيد بن أبي أُنيسة، عن سيَّار، عن جَبْر - ويُقال: جُبَيْر - عن أبي هريرة، قال: وعدَنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم غزوة الهند

وذكره.

وقال أحمد

(2)

: حدَّثنا يحيى بن إسحاق، حدَّثنا البراءُ، عن الحسن، عن أبي هريرة، قال: حدَّثني خليلي الصَّادقُ المصدوقُ، رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال:"يكونُ في هذه الأمة بعثٌ إلى الهند والهند، فإنْ أنا أدركتُه فاستشهدتُ فذاك، وإن أنا" فذكرَ كلمة "رجعتُ" فأنا أبو هريرة المُحَرَّر قد أعتقني من النار. تفرَّد به أحمد.

وقد غزا المسلمون الهندَ في أيام مُعاويةَ سنة أربع وأربعينَ، وكانت هنالك أمورٌ سيأتي بسطُهَا في مَوْضِعِها، وقد غزا الملكُ الكبيرُ الجليلُ محمود بن سُبُكْتكين، صاحب غَزْنَةَ، في حدود سنة أربعمئة، بلاد الهند فوغَلَ فيها وقتلَ وأسرَ وسبى وغنم ودخل السومنات وكسرَ البدّ الأعظم الذي يعبدونه، واستلبَ سيوفَه وقلائدَه، ثم رجع سالمًا مؤيَّدًا منصورًا، كما سيأتي.

‌فصل في الإخبار عن قتال الترك كما سنبيّنه إن شاء الله

قال البخاري: حدَّثنا أبو اليمان، أخبرنا شُعيب، حدَّثنا أبو الزِّناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"لا تقومُ السَّاعةُ حتى تُقاتلوا قومًا نعالُهم الشعر، وحتَّى تُقاتلوا التّركَ صغارَ الأعين حُمْرَ الوجوه، ذُلْفَ الأنوف، كأن وجوهَهُم المِجَانُّ المُطْرَقَةُ، وتجدونَ مِن خير النَّاس أشدَّهُم كراهيةً لهذا الأمر حتى يقعَ فيه، والنَّاس معادنُ: خيارُهم في الجاهلية خيارُهم في الإسلام، ولَيَأتينَّ على أحدِكُم زمانٌ لأن يراني أحبُّ إليه من أنْ يكونَ له مِثْلُ أهلهِ ومالِه"

(3)

. تفرَّد به من هذا الوجه.

ثم قال البخاري: حدَّثنا يحيى، حدَّثنا عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن هَمَّام، عن أبي هريرة، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقومُ الساعة حتَّى تُقاتلوا خُوزًا وكِرْمانَ من الأعاجم، حُمْرَ الوجوه، فُطْسَ الأُنوفِ،

(1)

رواه النسائي في سننه (6/ 42) في الجهاد وإسناده ضعيف.

(2)

رواه أحمد في المسند (2/ 369) وإسناده ضعيف لضعف البراء بن عبد الله الغنوي، ولانقطاعه فإن الحسن مدلس وقد عنعنه، وهو لم يسمع من أبي هريرة.

(3)

رواه البخاري في صحيحه رقم (3587 و 3588 و 3589) في المناقب، والمجان: التروس.

ص: 333

صِغَارَ الأَعينِ، كأن وجوهَهم المِجَانَ المُطْرَقةُ

(1)

، نِعالُهم الشَّعرُ"

(2)

تابَعهُ غيرُه عن عبد الرزاق.

وقد ذُكر عن الإمام أحمد أنه قال: أخطأَ عبدُ الرزاق في قوله: "خُوزًا" بالخاء، وإنما هو بالجيم "جُوزًا وكِرْمَانَ" هما بلدان معروفان بالشرق

(3)

، فالله أعلم.

وقال الإمام أحمد: حدَّثنا سفيان، عن الزُّهْري، عن سعيد، عن أبي هريرة فبلغَ به النبيَّ صلى الله عليه وسلم:"لا تقومُ السَّاعةُ حتى تُقاتلوا قومًا كأنَ وجوهَهم المِجَانّ المُطْرَقَةُ، نعالُهم الشَّعْر". وقد رواه الجماعة إلا النَّسَائي من حديث سُفيان بن عُيينة به

(4)

. وقال البخاريُّ: حدَّثنا على بن عبد الله، حدَّثنا سُفيانُ، قال: قال إسماعيلُ: أخبرني قيسٌ، قال: أتينا أبا هريرة رضي الله عنه، فقال: صحبتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ثلاثَ سِنينَ لم أكنْ في سِنِيَّ أحرصَ على أن أعيَ الحديثَ مِنِّي فيهن، سمعتُه يقول: - وقال هكذا بيده - " بين يدي السَّاعة تقاتلون قومًا نِعالُهم الشَعَر، وهو هذا البارِزُ" وقال سفيانُ مرَّةً: وهم أهلُ البارز"

(5)

.

وقد رواه مسلم: عن أبي كُرَيْب، عن أبي أُسامَة ووكيع، كلاهُما عن إسماعيلَ بن أبي خالد عن قَيْسِ بن أبي حَازمٍ، عن أبي هُريرةَ، قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقومُ القِيَامةُ حتَّى تُقاتِلُوا قومًا نعالُهم الشَّعَر، كأنَ وُجوهَهم المِجَانُ المُطْرَقَةُ، حُمْرُ الوجوه، صِغَارُ الأَعيُنِ

(6)

.

قلت: وأما قول سُفيان بن عُيينةَ: أنَّهم هم أهلُ البَازِر، فالمشهورُ في الرواية تقديمُ الراء على الزاي، ولعلَّه تصحيف اشتبهَ على القائل "البارز" وهو السُّوق بلغتهم، فالله أعلم.

وقال الإمام أحمد: حدَّثنا عفان، حدَّثنا جرير بن حازم، سمعتُ الحسنَ، قال: حدَّثنا عمرُو بن تَغْلب، قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: "إنَّ من أشراطِ السَّاعة أن تُقاتلوا قومًا نِعالُهم الشَّعَر - أو ينتعلون الشَّعرَ - وإنَّ من أشراطِ السَّاعة أن تُقاتلوا قومًا عِراضَ الوجوه كأنَّ وجوهَهم المِجَان المُطْرَقَة"

(7)

.

ورواه البخاريُّ: عن سُليمانَ بن حَرْبٍ، عن جرير بن حازمٍ به

(8)

.

(1)

رواه البخاري في صحيحه رقم (3587 و 3588 و 3589) في المناقب، والمجان: التروس.

(2)

رواه البخاري في صحيحه رقم (3590) في المناقب.

(3)

فتح الباري (6/ 607).

(4)

رواه أحمد في المسند (2/ 530) والبخاري في صحيحه رقم (3591) في المناقب، ومسلم في صحيحه رقم (2912) في الفتن، وأبو داود في سننه رقم (4304) في الملاحم، والترمذي في جامعه رقم (2215) في الفتن، وابن ماجه في سننه رقم (4096) في الفتن.

(5)

رواه البخاري في صحيحه رقم (3591) في المناقب.

(6)

رواه مسلم في صحيحه رقم (2912)(66) في الفتن وأشراط الساعة.

(7)

رواه أحمد في المسند (5/ 70) وهو حديث صحيح.

(8)

رواه البخاري في صحيحه رقم (3592) في المناقب.

ص: 334

والمقصودُ أنَّ قتالَ الترك وقع في آخرِ أيام الصحابة، قاتلوا القان الأعظم

(1)

، فكسروه كسرةً عظيمةً على ما سنُورده في موضعه إذا انتهينا [إليه] بحول الله وقُوَّته، وحسن توفيقه

(2)

.

‌خبرُ عبدِ الله بن سَلَام

قال الإمام أحمد: حدَّثنا إسحاق بن يوسف الأزرق، حدَّثنا ابن عون، عن محمد - هو ابن سيرين - عن قيس بن عُبَاد، قال: كنتُ في المسجد فجاءَ رجلٌ في وجههِ أثرُ خُشوعٍ، فدخلَ فصلَّى ركعتين فأوجزَ فيهما، فقال القومُ: هذا رجلٌ من أهل الجنَّةِ، فلمَّا خرجَ اتَّبعْتُه حتى دخلَ منزلَه، فدخلتُ معه فحدَّثتُه، فلما استأنسَ، قلت له: إنَّ القومَ لما دخلتَ [قبَل]

(3)

المسجدِ قالُوا كذا وكذا، قال: سبحان الله! والله ما ينبغي لأحدٍ أن يقولَ ما لا يعلم، وسأُحَدِّثُكَ أنِّي رأيتُ رؤيا على عهدِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فَقَصَصْتُها عليه، رأيت كأني في روضةٍ خضراءَ - قال ابنُ عَوْن: فذكر من خُضْرتِها وسَعَتِها - وَسْطها عمودُ حديدٍ أسفلُه في الأرض وأعلاه في السَّماءِ، في أعلاهُ عُروةٌ، فقيل لي: اصعدْ عليه، فقلتُ: لا أستطيعُ، فجاءَ بنَصِيف

(4)

- قال ابن عون: هو الوصيفُ - فرفعَ ثيابي من خَلْفِي فقال: اصعدْ عليه، فَصَعِدْتُ حتى أخذتُ بالعُروة، فقال: استمسكْ بالعُروةِ، فاستيقظتُ وإنَّها لفي يدي، قال: فأتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم فقَصصتُها عليه، فقال: "أما الروضةُ فروضةُ الإسلام، وأمَّا العمودُ فعمودُ الإسلام، وأما العروةُ فهي العروةُ الوثقى، أنتَ على الإسلام [حتَّى، تموتَ]

(5)

قال: وهو عبد الله بن سلام.

ورواه البخاريُّ من حديث ابن عونٍ

(6)

.

ثم قد رواه الإمامُ أحمدُ

(7)

: من حديث حمَّاد بن سلمةَ، عن عاصم بن بهدلةَ، عن المُسَيِّب بن رافع، عن خرشةَ بن الحر، عن عبد الله بن سلام، فذكرَه مُطوَّلًا، وفيه قال: حتى انتهيت إلى جبل زَلق، فأخذ بيدي وزجلِ بي، فإذا أنا على ذروته، فلم أتقارَّ ولم أتماسك، فإذا عمودٌ من حديدٍ في ذروته حَلَقةُ ذَهَبٍ، فأخذ بيدي فزجلَ بي حتَّى أخذتُ بالعروة

وذكرَ تمامَ الحديث.

(1)

القان الأعظم: الخان.

(2)

هذا الفصل سقط من نسخة الأحمدية.

(3)

زيادة من المسند والبخاري.

(4)

في المسند: فجاءني مِنصَفٌ. والمِنْصَفُ: الخادم. وفسَّره ابن عون بالوصيف.

(5)

رواه أحمد في المسند (5/ 452) والبخاري في صحيحه رقم (3813) في مناقب الأنصار.

(6)

رواه أحمد في المسند (5/ 452) والبخاري رقم (3813). والذروة: القمة. وأتقارّ: أثبت. وزجل بي: رماني ودفع بي.

(7)

في مسنده (5/ 452 - 453) وإسناده حسن.

ص: 335

وأخرجه مسلم في صحيحه

(1)

: من حديث الأعمش، عن سُليمانَ بن مُسْهرٍ، عن خرَشَةَ بن الحُرِّ، عن عبدِ الله بن سَلَام فذكرَه، وقال: حتَّى أتى بي جبلًا فقال لي: اصعدْ، فجعلتُ إذا أردتُ أن أصعدَ خررتُ على اسْتِي، حتى فعلتُ ذلك مرارًا، وأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له حين ذكر رؤياه:"وأما الجبلُ فهو منزلُ الشُّهداء، ولنْ تنالَه".

قال البيهقيُّ

(2)

: وهذه معجزةٌ ثانية، حيث أخبرَ أنه لا ينالُ الشهادةَ، وهكذا وقعَ، فإنَّه ماتَ سنة ثلاث وأربعين فيما ذكره أبو عُبيد القاسم بن سَلَّام وغيرُه.

‌الإخبارُ عن مَوْتِ ميمونةَ بنت الحارِث بِسَرِف

قال البخاريُّ في "التاريخ"

(3)

: أخبرنا موسى بن إسماعيل، حدَّثنا عبدُ الواحد بن زياد، حدَّثنا عبدُ الله بن عبد الله بن الأصمّ، حدَّثنا يزيدُ بن الأصمّ، قال: ثَقَلَتْ ميمونةُ بمكَة وليس عندَها من بني أخيها أحدٌ، فقالت: أخرجوني من مَكَّةَ فإني لا أموتُ بها، إنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أخبرني أني لا أموتُ بمكَّةَ، فحملُوها حتى أتوا بها سَرِفَ، إلى الصخرة التي بَنى بها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم تحتَها في موضع القُبَّةِ، فماتت رضي الله عنها. قلتُ: وكان موتُها سنة إحدى وخمسين على الصحيح.

‌ما رُوي في إخباره عن مَقْتَلِ حُجْرِ بن عديٍّ وأصحابه

قال يعقوب بن سفيان: حدَّثنا ابن بُكير، حدَّثنا ابنُ لهيعة، حدَّثني الحارث بن يزيد، عن عبد الله بن زُرير الغافقي قال: سمعتُ عليَّ بن أبي طالب، يقول: يا أهل العراق! سيُقتل منكم سبعة نفر بِعَذْراءَ، مثلُهم كَمَثل أصحاب الأخدود، فقُتل حُجْر بن عديّ وأصحابُه

(4)

.

وقال يعقوب: قال أبو نعيم: ذكرَ زياد بن سُمَيَّة عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه على المِنْبر، فقبضَ حُجْرٌ على الحَصْبَاء ثم أرسلَها، وحصبَ مَنْ حولَه زيادًا، فكتب إلى معاويةَ يقول: إن حُجْرَا حَصَبَنِي وأنا على المِنْبر، فكتبَ إليه معاويةُ أن يَحْمِلَ إليه حُجْرًا، فلما قربَ من دمشق بعث من يَتَلَقَّاهُم، فالتقى معهم بعذراءَ فقتلَهم.

قال البيهقيُّ: لا يقولُ عليٌّ مثلَ هذا إلا أن يكونَ سمعَه من رسول الله صلى الله عليه وسلم

(5)

.

(1)

رواه مسلم في صحيحه رقم (2484)(150) في فضائل الصحابة.

(2)

ذكره البيهقي في دلائل النبوة (6/ 230).

(3)

رواه البخاري في التاريخ (3/ 1/ 128) والبيهقي في الدلائل (6/ 437).

(4)

رواه البيهقي في الدلائل (6/ 456) وإسناده ضعيف، لضعف ابن لهيعة.

(5)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 456).

ص: 336

وقال يعقوبُ بن سفيان: حدَّثنا حرملةُ، حدَّثنا ابنُ وهب، أخبرني ابنُ لَهيعة، عن أبي الأسود قال: دخلَ معاويةُ على عائشةَ، فقالت: ما حملكَ على قتل أهل عذراءَ حجرٍ وأصحابهِ؟ فقال: يا أمَّ المؤمنينَ، إني رأيتُ قتلَهم إصلاحًا للأمة، وأن بقاءَهم فسادًا، فقالت: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "سيُقتلُ بعذراءَ ناسٌ يغضبُ الله لهم وأهلُ السماء

(1)

.

وقال يعقوب: حدَّثنا عمرو بن عاصم، حدَّثنا حمَّاد بن سلمةَ، عن علي بن زيد، عن سعيد بن المُسيب، عن مروان بن الحكم، قال: دخلتُ مع معاويةَ على أُمِّ المؤمنينَ عائشةَ رضي الله عنها، فقالت: يا معاويةُ! قتلتَ حُجْرًا وأصحابَه، وفعلتَ الذي فعلتَ، أما خشيتَ أن أُخَبِّئ لك رجلًا فيقتلكَ؟ قالَ: لا، إني في بيتِ أمانٍ، سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول:"الإيمانُ قيَّدَ الفَتْكَ، لا يفتكُ مؤمنٌ" يا أُمَّ المؤمنينَ، كيف أنا فيما سوى ذلك من حاجاتِكِ؟ قالت: صالح. قال: فدعيني وحُجْرًا حتى نلتقي عندَ ربِّنا عز وجل

(2)

.

‌خبر آخر

قال يعقوب بن سفيان: حدَّثنا عُبيد الله بن مُعاذ، حدَّثنا أبي، حدَّثنا شعبةُ، عن أبي سَلَمةَ، عن أبي نَضْرَةَ، عن أبي هريرة، أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال لعَشَرةٍ من أصحابه:"آخرُكم موتًا في النَّار" فيهم: سمرةُ بن جُنْدَبٍ، قال أبو نضرة: فكانَ سمرة آخرهم موتًا

(3)

.

قال البيهقي: رواتُه ثقات إلا أن أبا نضرة العَبْديّ لم يثبت له من أبي هريرة سماع، والله أعلم

(4)

.

ثُم رُوي من طريق إسماعيل بن حكيم، عن يُونسَ بن عُبيد، عن الحسن، عن أنس بن حَكيم قال: كنتُ أمرُّ بالمدينة فألقى أبا هريرةَ، فلا يبدأُ بشيءٍ حتَّى يسألني عن سَمُرةَ، فإذا أخبرتُه بحياته وصِحَّته فرحَ وقال: إنَّا كنا عشرةً في بيتٍ، وإنَّ رسول الله قامَ علينا ونظرَ في وُجوهنا وأخذَ بعَضادَتَي الباب وقال:"آخرُكم موتًا في النَّار" فقد ماتَ منا ثمانيةٌ ولم يبقَ غيري وغيرُه، فليس شيءٌ أحبَّ إليَّ من أن أكون قد ذقتُ الموتَ

(5)

. وله شاهد من وجه آخر.

(1)

رواه البيهقي في الدلائل (6/ 457)، وإسناده ضعيف.

(2)

رواه البيهقي في الدلائل (6/ 457) بطوله، وفي سنده ابن جدعان، ضعيف، وروى المرفوع منه أبو داود في سننه رقم (2769) في الجهاد عن أبي هريرة رضي الله عنه، وإسناده ضعيف لجهالة عبد الرحمن بن أبي كريمة السدي راويه عن أبي هريرة، وقد ساقه المزي بسنده من طريق أبي نعيم به (تهذيب الكمال 71/ 367 - 368).

(3)

رواه البيهقي في الدلائل (6/ 458).

(4)

وقال الذهبي في السير (3/ 184): هذا حديث غريب جدًّا، ولم يصح لأبي نضرة سماع من أبي هريرة.

(5)

رواه البيهقي في الدلائل (6/ 459) وفي سنده أنس بن حكيم، وهو مجهول.

ص: 337

قال يعقوبُ بن سفيان: حدَّثنا حجَّاج بنُ مِنهالٍ، حدَّثنا حمَّادُ بن سلمةَ، عن عليِّ بن زيد، عن أوسِ بن خالد، قال: كنتُ إذا قدمتُ على أبي محذورة سألني عن سَمُرةَ، وإذا قدمتُ على سَمُرةَ سألني عن أبي محذورةَ، فقلتُ لأبي محذورةَ: مالكَ إذا قدمتُ عليكَ تسألُني عن سَمُرةَ، وإذا قدمتُ على سَمُرةَ سألني عنكَ؟ فقال: إنَي كنتُ أنا وسَمُرةَ وأبو هريرة في بيتٍ، فجاءَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"آخرُكم موتًا في النَّار" قال: فماتَ أبو هريرة ثم ماتَ أبو محذورة ثم مات سَمُرة

(1)

. وقال عبدُ الرزاق: أخبرنا معمرُ: سمعتُ ابنَ طاووس وغيرَه يقولون: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم لأبي هُريرةَ وسَمُرةَ بن جُنْدَبٍ ولرجل آخرَ: "آخرُكم موتًا في النار" فماتَ الرجلُ قبلَهما، بقي أبو هريرة وسَمُرَة، فكانَ الرجلُ إذا أرادَ أن يغيظَ أبا هريرة يقول: مات سَمُرة، فإذا سمعَه غُشِي عليه وصَعِقَ، ثم مات أبو هريرة قبل سَمُرَة. وقتلَ سمرةُ بشرًا كثيرًا

(2)

.

وقد ضعَّفَ البيهقي عامَّة هذه الروايات، لانقطاع بعضها وإرساله، ثم قال: وقد قال بعض أهل العلم: إن سَمُرة ماتَ في الحريق، ثم قال: ويَحتملُ أن يُوردَ النَّارَ بذنوبه، ثم ينجو منها بإيمانه، فيخرجُ منها بشفاعة الشافعين، والله أعلم

(3)

. ثم أوردَ من طريق هلال بن العَلاء الرَّقي: أنَّ عبدَ الله بن معاوية حدَّثهم عن رجل قد سمَّاه؛ أنَّ سمرةَ استجمرَ فغفلَ عن نفسه وغفلَ أهلُه عنه حتى أخذته النَّار

(4)

.

قلتُ: وذكرَ غيرُه أن سمرةَ بن جندب رضي الله عنه أصابه كُزاز

(5)

شديد، فكان يُوقد له على قِدْر مملوءةٍ ماءً حارًا فيجلسُ فوقَها فيتدفأ ببخارها، فسقطَ يومًا فيها فماتَ رضي الله عنه، وكان موتُه سنة تسع وخمسين بعد أبي هريرة بسنة، وقد كان ينوبُ عن زياد بن سُمَيَّة في البصرة إذا سار إلى الكوفة، وفي الكوفة إذا سارَ إلى البصرة، فكان يُقيم في كل منهما ستةَ أشهرٍ من السنة، وكان شديدًا على الخوارج، مُكثرًا للقتل فيهم، ويقولُ: هم شرُّ قتلى تحتَ أديمِ السماء، وقد كان الحسنُ البصريُّ ومحمد بن سيرين وغيرُهما من علماء البصرة يُثنون عليه، رضي الله عنه.

‌خبر رافع بن خديج

روى البيهقي: من حديث مسلم بن إبراهيم، عن عمرو بن مرزوق الواشحي، حدَّثنا يحيى بن

(1)

رواه البيهقي في الدلائل (6/ 459) في سنده علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف.

(2)

الدلائل للبيهقي (6/ 459) وهو مرسل.

(3)

رواه البيهقي في دلائل النبوة (6/ 460).

(4)

رواه في الدلائل (6/ 460) بلاغًا. قال الذهبي في السير (3/ 185): هذا إن صحَّ فهو مراد النبي صلى الله عليه وسلم، يعني نار الدنيا.

(5)

داء يأخذ الإنسان من شدّة البرد. تاج العروس - مادة كزَزَ.

ص: 338

عبد الحميد بن رافع، عن جدته؛ أن رافعَ بن حديج رُمِيَ - قال: ولا أدري أيهما قال - يوم أحد أو يوم حنين بسهم في ثَنْدُوَته

(1)

، فأتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسولَ الله أنزعُ السَّهْمَ، فقال له: "يا رافعُ! إن شئتَ نزعتُ السَّهمَ والقُطْبة

(2)

جميعًا، وإن شئتَ نزعتُ السَّهمَ وتركتُ القُطبة وشهدتُ لك يوم القيامة أنك شهيدٌ" فقال: يا رسولَ الله انزعِ السَّهمَ واتركْ القُطْبة واشهدْ لي يومَ القيامةِ أنِّي شهيدٌ

(3)

. قال: فعاشَ حتى كانت خلافةُ معاويةَ، انتقضَ الجرحُ فماتَ بعد العصر.

هكذا وقع في هذه الرواية أنه مات في إمارة معاوية، والذي ذكرَه الواقديّ

(4)

وغيرُ واحد أنه مات في سنة ثلاث، وقيل: أربع وسبعين. ومعاويةُ رضي الله عنه كانت وفاته في سنة ستين بلا خلاف، فاللّه أعلم.

‌ذكر إخباره عليه الصلاة والسلام لما وقعَ من الفتن من بني هاشم بعد موته وغير ذلك

قال البخاريُّ: حدَّثنا محمد بن كثير، أخبرنا سُفيانُ، عن الأعْمَشِ، عن زيدِ بن وَهب، عن ابن مسعود، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"ستكون أثَرَةٌ وأمورٌ تُنْكِرونَها". قالوا: يا رسولَ الله! فما تأمُرنا؟ قال: "تُؤَدُّونَ الحَقَّ الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم"

(5)

.

وقال البخاري: حدَّثنا محمد بن عبد الرحيم، أخبرنا أبو مَعْمَرٍ إسماعيلُ بن إبراهيم، حدَّثنا أبو أسامةَ، حدَّثنا شعبةُ، عن أبي التَّيَّاح، عن أبي زُرْعَةَ، عن أبي هريرةَ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "يُهْلِكُ النَّاسَ هذا الحيُّ من قُريش" قالوا: فما تأمُرنا يارسولَ الله؟ قال: "لو أن النَّاس اعتزلُوهم"

(6)

.

ورواه مسلمٌ عن أبي بكر بن أبي شيبةَ، عن أبي أُسَامة

(7)

.

(1)

"الثَّنْدُوَةُ": وهي للرجل كالثدي للمرأة.

(2)

"القطبة": نصل صغير قصير مُرَبع في طرف السهم.

(3)

رواه البيهقي في الدلائل (6/ 463) ورواه أحمد في المسند (6/ 378) والطبراني في الكبير (4242) وذكره الهيثمي في المجمع (9/ 346) وقال: امرأة رافع إن كانت صحابية، وإلا فإني لم أعرفها وبقية رجاله ثقات. والذي شكَّ هو عمرو بن مرزوق.

(4)

ترجمته في المستدرك للحاكم (2/ 562) وطبقات خليفة بن خياط ترجمة رقم (519) وسير أعلام النبلاء (3/ 183).

(5)

رواه البخاري في صحيحه رقم (3603) في المناقب.

(6)

رواه البخاري في صحيحه رقم (3604) في المناقب.

(7)

رواه مسلم في صحيحه رقم (2917)(74) في الفتن.

ص: 339

وقال البخاريُّ: حدَّثنا محمودٌ، حدَّثنا أبو داودَ، أخبرنا شعبةُ، عن أبي التياح، قال: سمعتُ أبا زُرْعَة

(1)

.

وحدَّثنا أحمدُ بن محمد المَكِّيُّ، حدَّثنا عمرو بن يحيى بن سَعيد الأُمويُّ عن جَدِّه، قال: كنتُ مع مروانَ وأبي هُريرةَ، فسمعتُ أبا هريرة يقولُ: سمعتُ الصَّادق المَصْدوقَ يقولُ: "هلاكُ أُمَّتِي على يَدَي غِلْمَةٍ من قُريشٍ" فقال مروانُ: غِلْمَةٌ؟ قال أبو هريرة: إن شئتَ أن أُسمِّيهم بني فلانٍ وبني فلان

(2)

.

تفرَّد به البخاري.

وقال أحمد

(3)

: حدَّثنا روح، حدَّثنا أبو أُمَيَّةَ عمرو بن يحيى، عن سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص، قال: أخبرني جَدِّي سعيدُ بن عمرو بن سعيد، عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "هلاكُ أُمَّتي على يدي غِلْمَةٍ من قريش" قال مروان: - وهو معنا في الحلقة قبلَ أن يليَ شيئًا - فلعنةُ الله عليهم من غِلْمَة؟ قال: وأما والله لو أشاءُ أقولُ: بنو فلانٍ وبنو فلانٍ لفعلتُ. قال: فقمتُ أخرجُ مع أبي وجَدِّي إلى بني مروان - بعدما ملكوا - فإذا هم يُبايعون الصِّبيانَ، ومنهم مَن يُبايَعُ له وهو في خِرْقَةٍ، قال لنا: هل عسى أصحابُكم هؤلاء أن يكونوا الذين سمعتُ أبا هريرة يذكرُ، إنَّ هذه الملوك يشبه بعضُها بعضًا.

وقال أحمد: حدَّثنا عبد الرحمن، عن سفيان، عن سماك، حدَّثني عبدُ الله بن ظالم

(4)

قال: سمعتُ أبا هريرة قال: سمعتُ حِبِّي أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول: "إنَّ فسادَ أُمَّتِي على يدي غِلْمَةٍ سفهاءَ مِن قُريش"

(5)

.

ثم رواه أحمد عن زيد بن الحُباب، عن سفيان - وهو الثوريُّ - عن سِماك، عن مالكِ بن ظَالم، عن أبي هريرة

فذكره

(6)

.

ثم روى عن غندر

(7)

وروح بن عبادة، عن شعبة، عن سِماكِ بن حَرْب، عن مالك بن ظالم قال: سمعت أبا هريرة، زاد روح: يحدث مروان بن الحكم، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا القاسم

(1)

رواه البخاري في صحيحه رقم (3604) في المناقب.

(2)

رواه البخاري في صحيحه رقم (3605) في المناقب.

(3)

في المسند (2/ 324) رقم (8287) وهو حديث صحيح.

(4)

الصواب: مالك بن ظالم، كما في الرواية التي بعدها.

(5)

رواه أحمد في المسند (2/ 304 و 485) رقم (8020) و (10241) وهو متن صحيح، وهذا إسناد ضعيف عبد الله بن ظالم هو مالك بن ظالم أخطأ فيه عبد الرحمن بن مهدي فسماه كذلك، وهو مجهول.

(6)

رواه أحمد في المسند (2/ 288) رقم (7858) وهو حديث صحيح وإسناده ضعيف.

(7)

هو محمد بن جعفر الهذلي.

ص: 340

الصَّادقَ المَصْدوق، يقول:"هلاكُ أمتي على يدِ غِلْمَة أمراء سفهاء من قريش"

(1)

.

وقال الإمام أحمد: حدَّثنا أبو عبد الرحمن، حدَّثنا حَيْوَة، حدَّثني بشيرُ بن أبي عمرو الخَوْلاني: أنَّ الوليدَ بن قَيْس التُّجيبي حدَّثه؛ أنَّه سمعَ أبا سعيد الخُدْريَّ يقولُ: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: "يكونُ خَلْفٌ مِنْ بعدِ الستين سنة {أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59] ثم يكون خَلْفٌ يقرؤون القرآنَ لا يَعْدُو تَراقِيهم، ويقرأُ القرآنَ ثلاثة: مؤمن، ومنافق، وفاجر. قال بشيرٌ: فقلتُ للوليد: ما هؤلاء الثلاثة؟ قال: المنافقُ كافرٌ به، والفاجرُ يتأكَّلُ به، والمؤمنُ يُؤمن به

(2)

. تفرَّد به أحمد، وإسناده جيد قويٌّ على شرط السنن.

وقد روى البيهقيُّ: عن الحاكم، عن الأصمِّ، عن الحسن بن عليّ بن عفَّان، عن أبي أُسامةَ، عن مجالد، عن الشَّعبِيِّ، قال: لما رجَع عليٌّ من صِفِّين قال: أيُّها النَّاسُ، لا تَكرهوا إمارةَ معاويةَ فإنه لو فَقَدْتُمُوه لقد رأيتم الرؤوس تَنْزو

(3)

من كواهِلها كالحَنْظَلْ

(4)

.

ثم روى: عن الحاكم وغيره، عن الأَصمِّ، عن العبَّاس بن الوليد بن مَزْيَد، عن أبيه، عن ابن جابر، عن عُمير بن هانئ، أنَّه حدَّثه قال: كان أبو هريرة يَمْشي في سُوقِ المدينة وهو يقول: اللهم لا تُدْرِكني سنةُ الستين، ويحكم تمسَّكوا بصُدْغَيْ معاويةَ، اللَّهُمَّ لا تُدْرِكني إمارةُ الصِّبيَان

(5)

.

قال البيهقي: وعلي وأبو هريرة إنما يقولان: هذا الشيءُ سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم

(6)

.

وقال يعقوبُ بن سُفيان: أخبرنا عبدُ الرحمن بن عمرو الحرَّاني، حدَّثنا محمد بن سُليمان، عن أبي غنيم البَعْلَبَكي، عن هشام بن الغاز، عن مكحول، عن أبي ثعلبة الخُشَني، عن أبي عُبيدة بن الجراح، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يزالُ هذا الأمرُ معتدلًا قائمًا بالقِسْطِ حتى يُثْلِمَه رجلٌ من بني أمية"

(7)

.

وروى البيهقيُّ: من طريق عَوْف الأعرابيِّ، عن أبي خلدة، عن أبي العالية، عن أبي ذرّ، قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنَّ أوَّلَ من يُبَدِّلُ سُنَّتي رجل من بني أمية"

(8)

وهذا منقطع بين أبي العالية

(1)

رواه أحمد في المسند (2/ 299 و 328) وفيه: على رؤوس غلمة رقم (7961) و (8329) وهو حديث صحيح، وهذا إسناد ضعيف.

(2)

رواه أحمد في المسند (3/ 38 - 39) وفي الأصل المخطوط: "مؤمن، ومنافق، وكافرٌ" ورواه ابن حبان رقم (755) والحاكم (2/ 374) وهو كما قال المصنف.

(3)

كذا في الدلائل، وفي الأصل: تبدو. والتحريف فيها قريب.

(4)

رواه البيهقي في الدلائل (6/ 466) عن الشعبي عن علي، ولم يرد الشعبي عن علي رضي الله عنه.

(5)

رواه البيهقي في الدلائل (6/ 466) عن عمير بن هانئ أنه حدث عن أبي هريرة، وإسناده صحيح.

(6)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 466).

(7)

رواه البيهقي في الدلائل (6/ 467) وإسناده منقطع، وانظر المطالب العالية رقم (4531).

(8)

رواه البيهقي في الدلائل (6/ 467).

ص: 341

وأبي ذر، وقد رجَّحه البيهقيُّ بحديث أبي عُبيدة المُتقدِّم، قال: ويُشبه أن يكونَ هذا الرجلُ هو يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، والله أعلم.

قلت: النَّاسُ في يزيد بن معاويةَ أقسامٌ: فمنهم من يُحبُّه ويتولاه، وهم طائفةٌ من أهل الشَّام، مِنَ النَّواصِب، وأما الرَّوافضُ فيُشَنِّعون عليه، ويفترونَ عليه أشياء كثيرة ليست فيه، ويتهمه كثيرٌ منهم أو أكثرهم بالزندقة، ولم يكنْ كذلك، وطائفةٌ أخرى لا يُحِثونه ولا يَسبُّونه، لما يَعلمونَ من أنه لم يكن زنديقًا كما تقولُه الرافضةُ، ولِما وقع في زمانِه من الحَوادثِ الفظيعة، والأمور المُستَنْكَرة البَشِعةِ الشَّنيعةِ، فمِنْ أَنْكَرِها قتلُ الحُسين بن علي بكَرْبلَاءَ، ولكن لم يكن ذلك عن علم منه، ولعلَّه لم يرضَ به ولم يَسُؤهُ، وذلكَ من الأمور المُنكرة جِدًّا، ووقعةُ الحَرَّة، وكانت من الأمور القبيحة بالمدينة النَّبَوِيَّة على ما سنُورده إذا انتهينا إليه في التاريخ إن شاء الله تعالى.

‌الإخبار بمقتل الحُسين بن عليٍّ رضي الله عنهما

وقد ورد الحديث في مقتل الحُسين، فقال الإمام أحمد: حدَّثنا عبدُ الصمد بن حسَّان، حدَّثنا عمارةُ - يعني ابن زاذان - عن ثابت، عن أنس، قال: استأذنَ مَلَكُ القَطْرِ أن يأتيَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فأذنَ له، فقالَ لأُمِّ سلمةَ:"احفظِي علينا البابَ لا يدخل علينا أحدٌ" فجاءَ الحُسينُ بن عليٍّ، فوثبَ حتَّى دخلَ، فجعلَ يصعدُ على مِنْكَبِ النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له المَلَكُ: أتحبُّه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "نعم" قال: فإنَّ أُمَّتَكَ تَقْتُلُهُ، وإن شئتَ أريتُكَ المكانَ الذي يُقتلُ فيه، قال: فضربَ بيدِه فأراهُ تُرابًا أحمرَ. فأخذت أُمُّ سلمةَ ذلك الترابَ فَصَرَّته في طَرفِ ثوبها، قال: وكنا نسمعُ [أنه] يُقتلُ بكربلاء

(1)

.

ورواه البيهقيُّ من حديث بشر بن موسى، عن عبد الصمد، عن عمارة

(2)

.. فذكرَه. ثم قال: وكذلك رواه شيبانُ بن فَرُّوخ، عن عُمارة

(3)

.

وعمارة بن زاذان هذا هو الصَّيْدلانيُّ، أبو سلمةَ البصريُّ، اختلفوا فيه. وقد قال فيه أبو حاتم

(4)

:

يُكتب حديثه ولا يُحْتَجُّ به، ليس بالمتين. وضغَفه أحمدُ مرَّةً ووثَّقه أخرى

(5)

. وحديثُه هذا قد رُوي عن غيره من وجه آخر.

(1)

رواه الإمام أحمد في المسند (3/ 265) رقم (13729) وابن حبان رقم (2242) موارد.

(2)

رواه البيهقي في الدلائل (6/ 469) وهو حسن.

(3)

المصدر السابق (6/ 469).

(4)

الجرح والتعديل (6/ الترجمة 2016).

(5)

ولكن قال الإمام أحمد: يروي عن أنس أحاديث مناكير، كما في الجرح والتعديل (6/ الترجمة 2016) وتهذيب الكمال (21/ 245) فهذا منها.

ص: 342

فرواهُ الحافظُ البيهقيُّ من طريق عمارة بن غَزِيَّة، عن محمد بن إبراهيم، عن أبي سلمة، عن عائشة رضي الله عنها نحو هذا

(1)

.

وقد قال البيهقيُّ: أخبرنا الحاكم في آخرين، قالوا: أخبرنا الأصم، أخبرنا عباس الدوري، حدَّثنا خالد بن مخلد، حدَّثنا موسى بن يعقوب، عن هاشم بن هاشم بن

(2)

عُتبة بن أبي وقاص، عن عبد الله بن وَهْب بن زَمْعة، أخبرتني أُمُّ سلمةَ: أن رسولَ الله؟! صلى الله عليه وسلم اضطجعَ ذاتَ يوم للنوم، فاستيقظَ وهو حائرٌ، ثم اضطجعَ فرقدَ، ثم استيقظَ وهو حائر دونَ ما رأيتُ منه في المرة الأولى، ثم اضطجعَ واستيقظَ وفي يده تربةٌ حمراء وهو يُقَلِّبها، فقلتَ: ما هذه التربةُ يا رسول الله؟! قال: "أخبرني جبريلُ أن هذا يُقتلُ بأرضِ العراقِ - للحسين - قُلتُ له: يا جبريلُ أرني تربةَ الأرض التي يُقتل بها، فهذه تربتُها

(3)

.

ثم قال البيهقيُّ: تابعه موسى الجُهَنِيّ، عن صالح بن يزيد النخعي، عن أمِّ سلمةَ، وأبان عن شهر بن حوشَب، عن أُمِّ سلمة

(4)

. وقال الحافظُ أبو بكر البزار في "مسنده": حدَّثنا إبراهيم بن يوسف الصيرفي، حدَّثنا الحُسين بن عيسى، حدَّثنا الحَكَم بن أَبَان، عن عِكْرمةَ، عن ابن عباس، قال: كان الحسينُ جالسًا في حِجْر النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال جبريلُ: أتحبُّه؟ فقال: "وكيف لا أحبُّه وهو ثمرةُ فُؤادي؟! " فقال: أما إنَّ أمَّتَكَ ستقتُله، ألا أُريكَ مِن مَوضعِ قَبرهِ؟ فقبضَ قبضةً فإذا تربةٌ حمراء"

(5)

.

ثم قال البزار: لا نعلمُه يُروى إلا بهذا الإسناد، والحُسين بن عيسى قد حدَّث عن الحكم بن أبان بأحاديث لا نعلمُها عند غيره.

قلت: هو الحسين بن عيسى بن مسلم الحنفي أبو عبد الرحمن الكوفي أخو سليم القاري، قال فيه البخاري: مجهول الحال - وإلا فقد روى عنه سبعةُ نفرٍ - وقال أبو زُرعة: منكرُ الحديث. وقال أبو حاتم: ليس بالقويِّ، رَوى عن الحَكَمِ بن أَبَان أحاديثَ منكرة. وذكره ابنُ حِبَّان في "الثقات"،

(1)

هذا غلط محض، لم يقله البيهقي، فإما أن يكون قد وقع سقط من النص، أو يكون المصنف رحمه الله قد وهم في حال النقل، وهو الأرجح، وآية ذلك أنَّ البيهقي قد ذكر هذا الحديث في الدلائل (6/ 470) موصلًا، فقال أبو سلمة ابن عبد الرحمن، كان لعائشة. وهو مرسل صحيح الإسناد، لا يحتج به لإرساله. ثم ذكره موصولًا من طريق ضعيف جدًّا. فقال:"هكذا رواه يحيى بن أيوب عن عمارة بن غزية مرسلًا. ورواه إبراهيم بن أبي يحيى عن عمارة موصولًا، فقال: عن محمد بن إبراهيم، عن أبي سلمة، عن عائشة "والذي وصله هو إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى الأسلمي وهو متروك، فسقط الاستدلال بالحديث (بشار).

(2)

في المطبوع: "عن" وهو تحريف قبيح.

(3)

رواه البيهقي في الدلائل (6/ 468) وإسناد ضعيف لضعف خالد بن مخلد، فهو لا يحتمل تفرده، وكذلك شيخه موسى بن يعقوب وهو الزمعي.

(4)

ذكره البيهقي في الدلائل (6/ 468).

(5)

رواه البزار رقم (2640).

ص: 343

وقال ابن عديّ: قليل الحديث، وعَامَّةُ حديثه غرائب، وفي بعض أحاديثه المنكرات.

وروى البيهقيُّ: عن الحكم وغيره، عن أبي الأحوص، عن محمد بن الهيثم القاضي: حدَّثنا محمد بن مُصعب، حدَّثنا الأوزاعي، عن أبي عمَّار شدَّاد بن عبد الله، عن أُمِّ الفضل بن الحارث أنها دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسولَ الله! إني رأيتُ حُلُمًا منكرًا الليلة، قال: وما هو؟ قالت: رأيتُ كأنَّ قطعة من جَسدِكَ قُطِعَتْ ووُضِعَتْ في حِجْري، فقال:"رأيتِ خيرًا، تلدُ فاطمةُ إن شاء الله غلامًا فيكونُ في حِجْرِك" فولدتْ فاطمةُ الحسينَ، فكان في حِجْري، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخلتُ يومًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعتُه في حِجْره، ثم حانت مِنَي التفاتةٌ، فإذا عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تُهريقان الدموعَ، قالت: قلتُ: يا نبي الله! بأبي أنتَ وأُمِّي، مالكَ؟ فقال:"أتاني جبريلُ عليه السلام فأخبرَني أَنَّ أُمَّتِي ستقتلُ ابني هذا" فقلتُ: هذا؟ قال: "نعم، وأتاني بتربةٍ من تُربته حمراء"

(1)

.

وقد روى الإمام أحمد

(2)

: عن عفَّان، عن وُهيب، عن أَيوب، عن صالح أبي الخليل، عن عبد الله بن الحارث، عن أُمِّ الفَضْلِ، قالت: أتيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقلتُ: إنِّي رأيتُ في منامي أن في بيتي وفي حِجْري عضوًا من أعضائِكَ، قال:"تلدُ فاطمةُ إن شاءَ الله غلامًا تَكفلينَه" فولدتْ فاطمةُ حُسينًا، فدفعته إليها، فأرضعَتْه بلبنِ قُثَم، وأتيتُ به رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يومًا أزورُه، فأخذَه فوضعَه على صدره فبالَ فأصابَ البولُ إزارَه، فزخختُ بيدي على كَتفيْه، فقال: أوجعتِ ابني أصلَحكِ الله - أو قال: رَحِمَكِ الله - فقلتُ: أعطني إزارَك أَغْسِله، فقال:"إنَّما يُغسلُ بولُ الجارية ويُصبُّ على بول الغلام".

ورواه أحمد أيضًا: عن يحيى بن بُكير، عن إسرائيلَ، عن سِماك، عن قابوس بن أبي المُخَارق، عن أُمِّ الفضل

(3)

.. فذكرَ مثلَه سواء، وليس فيه الإخبار بقتله

(4)

، فالله أعلم.

وقال الإمامُ أحمد: حدَّثنا عفَّان، حدَّثنا حمَّاد، أخبرنا عمَّار بن أبي عمَّار، عن ابن عباس. قال: رأيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فيما يرى النائم بنصفِ النَّهار وهو قائلٌ، أشعثَ أغبرَ، بيده قارورةٌ فيها دمٌ، فقلتُ: بأبي أنتَ وأُمِّي يا رسولَ الله، ما هذا؟ قال:"دمُ الحُسين وأصحابِه، لم أزلْ ألتقطُه منذ اليومَ" قال عمَّارٌ: فأحصينا ذلكَ اليومَ فوجد قُتلَ في ذلك اليوم

(5)

. رضي الله عنه.

(1)

رواه البيهقي في الدلائل (6/ 469) وإسناده ضعيف.

(2)

رواه أحمد في المسند (6/ 340) رقم (26757) وهو حديث صحيح. وزَخَخْتُ: دفعتُه في قفاه.

(3)

رواه أحمد في المسند (6/ 339)(26753) وهو حديث حسن.

(4)

على أن بعض الروايات تذكر هنا عن "الحسن" وليس الحسين.

(5)

رواه أحمد في المسند (1/ 283) رقم (2553) و (2165) ورواه الطبراني (2822) و (12837) والحاكم في المستدرك (4/ 397) وصححه على شرط مسلم، وإسناده قوي من أجل حماد بن سلمة، وهذه رؤيا، والرؤيا لا تصلح دليلًا.

ص: 344

قال قتادةُ: قُتل الحسينُ يومَ الجمعة، يومَ عاشوراء سنة إحدى وستين، وله أربع وخمسون سنة وستة أشهر ونصف شهر، وهكذا قال اللَّيث، وأبو بكر بن عيَّاش، والواقديُّ، وخليفةُ بن خيَّاط، وأبو مَعْشر، وغيرُ واحد: إنه قُتل يومَ عاشوراء عام إحدى وستين. وزعمَ بعضُهم أنَّه قُتل يوم السبت، والأوَّلُ أصحُّ

(1)

. وقد ذَكروا في مَقْتَلِه أشياءَ كثيرة، أنَّها وقعتْ: من كسوف الشمس يومئذ، وهو ضعيف، وتغيير آفاقِ السماء، ولم يُقلبْ حجرٌ إلا وُجد تحتَه دمٌ، ومنهم مَنْ خَصَّصَ ذلك بحجارةِ بيت المقدس، وأن الورسَ استحالَ رمادًا، وأن اللَّحم صارَ مِثْلَ العلقم وكان فيه النَّار، إلى غير ذلك مما في بعضها نكارة، وفي بعضها احتمالٌ، والله أعلم.

وقد ماتَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وهو سيِّدُ ولدِ آدمَ في الدنيا والآخرة، ولم يقعْ شيءٌ من هذه الأشياء، وكذلك الصِّدِّيق بعدَه، مات ولم يكن شيءٌ من هذا، وكذا عمرُ بن الخطَّاب قُتل شهيدًا وهو قائمٌ يُصَلِّي في المحراب صلاةَ الفَجر، وحُصِرَ عثمانُ في داره، وقُتِل بعدَ ذلك شهيدًا، وقُتلَ عليُّ بن أبي طالب شهيدًا بعدَ صلاة الفجر، ولم يكن شيءٌ من هذه الأشياء، فالله أعلم. وقد روى حمَّادُ بن سلمة: عن عمَّار بن أبي عمَّار، عن أُمِّ سلمةَ؟ أنَّها سمعتِ الجِنَّ تنوحُ على الحُسين بن عليّ

(2)

. وهذا صحيح.

وقال شهرُ بن حَوْشب: كنَّا عند أُمِّ سلمةَ، فجاءَها الخبرُ بقتلِ الحُسين، فخَرَّتْ مغشية عليها

(3)

.

وكان سببُ قتل الحُسين أنه كتبَ إليه أهلُ العراق يطلبون منه أن يقدَم إليهم ليُبايعوه بالخلافة، وكثرَ تواترُ الكتب عليه من العامَّة ومن ابن عمه مُسلم بن عقيل، فلما ظهرَ على ذلك عبيدُ الله بن زياد نائبُ العراق ليزيدَ بن معاوية، فبعثَ إلى مسلم بن عقيل فضربَ عنقَه ورماه من القصر إلى العامَّة، فتفرَّق ملؤهم وتبدَّدت كلمتُهم، هذا وقد تجهَّز الحسينُ من الحجاز إلى العراق، ولم يشعرْ بما وقعَ، فتحمَّل بأهله ومن أطاعَه، وكانوا قريبًا من ثلاثمئة، وقد نهاه عن ذلك جماعةٌ من الصحابة، منهم أبو سعيد، وجابر، وابن عبَّاس، وابن عمر، فلم يُطعْهم، وما أحسنَ ما نهاه ابنُ عمر عن ذلك، واستدلَّ له على أن لا يقع ما يُريده، فلم يقبلْ، فروى الحافظ البيهقي: من حديث يحيى بن سالم الأَسدي، ورواه أبو داود الطيالسي في "مسنده" عنه، قال: سمعتُ الشعبيَّ يقول: كان ابنُ عمر قدمَ المدينة فأُخبرَ أن الحسينَ بن علي قد تَوَجَّه إلى العراق، فلحقَه على مسيرة ليلتين أو ثلاث من المدينة، فقال: أين تريدُ؟ قال: العراق، ومعه طواميرُ وكتبٌ، فقال: لا تأتِهمْ، فقال: هذه كُتبهم وبَيْعَتُهم، فقال: إنَّ الله خيَّر نبيِّه صلى الله عليه وسلم بينَ الدنيا والآخرة، فاختارَ الآخرة ولم يُردِ الدنيا، وإنَّكُم بضعةٌ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله لا يَليها أحدٌ

(1)

ذكر الذهبي تاريخ استشهاد الحسين رضي الله عنه في سير أعلام النبلاء (3/ 318).

(2)

ذكره الذهبي في السِّيَر (3/ 316) ورواه الطبراني في الكبير (2867) ورجاله رجال الصحيح كما قال الهيثمي في المجمع (9/ 199).

(3)

سير أعلام النبلاء (3/ 318).

ص: 345

منكم أبدًا، وما صرفَها عنكم إلَّا للذي هو خير لكم، فارجعوا، فأبى. وقال: هذه كتبهم وبَيْعَتُهم، قال: فاعتنقَه ابن عمر وقال: أستودعُك الله من قتيل

(1)

.

وقد وقع ما فهمه عبدُ الله بن عمر من ذلك سواء، من أنه لم يلِ أحدٌ من أهل البيت الخلافةَ على سبيل الاستقلال ويتمُّ له الأمر، وقد قال ذلك عثمان بن عفَّان، وعليّ بن أبي طالب: إنه لا يلي أحدٌ من أهل البيت أبدًا. رواه عنهما أبو صالح الخليل بن أحمد بن عيسى بن الشيخ في كتاب "الفتن والملاحم".

قلت: وأما الخلفاءُ الفاطميُّون الذين كانوا بالديار المصرية، فإنَّ أكثرَ العلماء على أنهم أدعياء، وعليُّ بن أبي طالب من أهل البيت، ومع هذا لم يتمَّ له الأمرُ كما كان للخلفاء الثلاثة قبلَه، ولا اتَّسعت يدُه في البلاد كلِّها، ثم تَنكَّدتْ عليه الأمورُ. وأما ابنه الحسن رضي الله عنه فإنَّه لمَّا جاء في جيوشه وتَصافى هو وأهلُ الشام، ورأى أنَّ المصلحةَ في تركِ الخلافة، تركَها لله عز وجل، وصيانةً لدماءِ المسلمين وأثابَه الله ورضي الله عنه، وأما الحُسينُ رضي الله عنه فإنَّ ابن عمر لما أشار عليه بترك الذهاب إلى العراق وخالفَه، اعتنقَه مُوَدِّعًا وقال: أستودعكُ الله من قتيل، وقد وقعَ ما تفرَّسه ابنُ عمر، فإنَّه لمَّا استقلَّ ذاهبًا بعثَ إليه عبيد الله بن زياد كتيبةً فيها أربعة آلاف يَتقدَّمهُم عمرُ بن سعد بن أبي وقَّاص، وذلك بعد ما استعفاه فلم يُعفه، فالتقوا بمكان يُقال له "كربلاء" بالطَّفِّ، فالتجأ الحسين بن علي رضي الله عنه وأصحابه إلى مقصبة هنالك، جعلوها منهم بظهر، وواجهوا أولئك، وطلبَ منهم الحسينُ إحدى ثلاث: إما أن يدَعُوه أن يرجعَ من حيثُ جاء، وإما أن يذهبَ إلى ثغْرٍ من الثُّغور فيقاتل فيه، أو يتركوه حتى يذهبَ إلى يزيد بن معاوية فيضعَ يدَه في يده، فيحكم فيه بما شاء، فأبَوْا عليه واحدةً منهنَّ، وقالوا: لا بُدَّ من قدومك على عُبيد الله بن زياد فيرى فيكَ رأيه، فَأَبى أن يقدَم عليه أبدأ، وقاتلَهم دون ذلك، فقتلُوه رحمه الله، وذهبُوا برأسه إلى عُبيد الله بن زياد فوضعُوه بين يديه فجعل ينكتُ

(2)

بقضيب في يده على ثناياه، وعندَه أنسُ بن مالك جالسٌ، فقال له: يا هذا! ارفعْ قضيبكَ، قد طالما رأيتُ رسولَ الله يُقَبِّلُ هذه الثنايا. ثم أمرَ عُبيد الله بن زياد أن يُسارَ بأهلِه ومَنْ كان معه إلى الشام، إلى يزيدَ بن معاوية، ويُقال: إنَّه بعثَ معهم بالرأس حتى وُضع بين يديْ يزيد، فأنشدَ حينئذٍ قولَ بعضهم:

نُفَلِّقُ هامًا مِنْ رِجال أَعِزةٍ

عَلينَا وَهُم كانُوا أَعقَّ وأَظلَما

(3)

ثم أمرَ بتجهيزهم إلى المدينة النبويَّة، فلمَّا دخلوها تَلفتْهم امرأة من بنات عبد المطلب ناشرةً شعرها، واضعةً ترابًا على رأسها تبكي وهي تقول شعرًا:

(1)

رواه البيهقي في الدلائل (6/ 470).

(2)

"ينكت": يقلَب ويُحرِّك.

(3)

"أعق": من العقوق، وهو عدم البر.

ص: 346

مَاذَا تَقُولون إنْ قالَ النَّبيُّ لَكُم

مَاذَا فَعلتُمْ وَأَنتمْ آخِرُ الأُمَمِ

بِعترتي وبِأَهلي بَعْدَ مُفتَقَدي

مِنْهُم أسارى وَقَتلَى ضُرِّجوا بِدَم

(1)

مَا كان هذَا جَزائي إذْ نَصَحتُ لَكُمْ

أَن تَخْلفُوني بشرٍّ في ذوِي رَحمي

وسَنُورد هذا مفصَّلًا في موضعه إذا انتهينا إليه إن شاء الله، وبه الثقة وعليه التكلان.

وقد رثاه الناس بمراثٍ كثيرة، ومن أحسنِ ذلك ما أوردَه الحاكمُ أبو عبد الله النيسابوري، وكان فيه تشيع:

جاؤوا بِرَأْسِكَ يا بنَ بِنتِ مُحمَّدٍ

مُتَزَمِّلًا بدِمائِه تَزْميلا

(2)

فَكَأَنَّما بِكَ يا بنَ بنتِ مُحَمَّدٍ

قَتَلُوا جِهَارًا عَامِدِين رَسُولا

قَتَلوكَ عَطْشانًا وَلَمْ يَتَرَقَّبُوا

في قَتلِكَ التنزِيلَ والتأويلا

ويُكَبِّرون بِأَنْ قُتِلتَ وإنَّما

قَتَلوا بِكَ التكبِيرَ والتهليلا

‌ذكر الإخبار عن وقعة الحَرَّة التي كانت في زمن يزيد أيضًا

قال يعقوبُ بن سفيان: حدَّثني إبراهيمُ بن المنذر، حدَّثني ابن فُلَيْح، عن أبيه، عن أيوب بن عبد الرحمن، عن أيوب بن بشير المُعَافِريّ، أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم خرجَ في سفر من أسفاره، فلمَّا مرَّ بحرَّةِ زُهْرَة وقفَ فاسترجعَ، فساءَ ذلك مَنْ معه، وظَنُّوا أنَّ ذلكَ من أمر سفرهم، فقالَ عمرُ بن الخطاب: يا رسولَ الله! ما الذي رأيتَ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما إنَّ ذلكَ ليس مِن سَفرِكم هذا" قالوا: فما هو يا رسولَ الله؟ قال: "يُقتل بهذه الحَرَّة خيارُ أمتي بعد أصحابي"

(3)

. هذا مرسل.

وقد قالَ يعقوبُ بن سفيان: قال وهبُ بن جرير: قال جويريةُ: حدَّثني ثور بن زيد، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: جاء تأويلُ هذه الآية على رأس ستين سنة {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا} [الأحزاب: 14] قال: لأعطوها. يعني إدخال بني حارثة أهلَ الشام على أهل المدينة

(4)

.

وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس، وتفسير الصحابي في حكم المرفوع عند كثير من العلماء.

وقال نُعَيْمُ بن حمَّاد في كتاب "الفتن والملاحم": حدَّثنا أبو عبد الصمد العَمِّيُّ، حدَّثنا أبو عمران الجَوني، عن عبد الله بن الصَّامت، عن أبي ذر، قال: قال لي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا ذر! أرأيتَ إن

(1)

"العِترة": نسل الرجل ورهطه وعشيرته الأدنون ممن مضى.

(2)

"مُتزمِّلًا": ملتفًا ومتشحًا.

(3)

رواه البيهقي في الدلائل (6/ 473).

(4)

رواه البيهقي في الدلائل (6/ 473 - 474).

ص: 347

النَّاسُ قُتلوا حتى تغرقَ حجارةُ الزَّيتِ من الدِّماء، كيف أنتَ صانعٌ؟ "قال: قلتُ: الله ورسولهُ أعلمُ، قال:"تدخلُ بيتَك" قال: قلت: فإن أتى عليَّ؟ قال: "يأتي من أنت منه" قال: قلت: "وأحمل السلاح؟ " قال: "إذًا تُشرك معهم" قال: قلت: فكيفَ أصنعُ يا رسول الله؟ قال: "إن خفتَ أن يبهرَكَ شعاعُ السيف فألقِ طائفةً من رِدائِك على وجهكِ يبوءُ بإثمِك وإثمِه"

(1)

.

ورواه الإمام أحمد في "مسنده" عن مرحوم - هو ابن عبد العزيز

(2)

- عن أبي عمران الجَوني .. فذكرَه مطوَّلًا.

قلت: وكان سببُ وقعةِ الحرَّة أن وفدًا من أهل المدينة قَدِمُوا على يزيدَ بن معاوية بدمشق، فأكرمَهم وأحسنَ جائزتهم، وأطلقَ لأميرهم - وهو عبدُ الله بن حنظلةَ بن أبي عامر - قريبًا من مئة ألف، فلما رَجعُوا ذَكروا لأهليهم عن يزيدَ ما كان يقعُ منه من القبائح في شُرْبهِ الخمرَ، وما يتبعُ ذلك من الفواحش التي من أكبرها تركُ الصَّلاة عن وقتِها، بسبب السُّكْر، فاجتمعُوا على خَلْعِه، فخلعُوه عند المنبرِ النَّبويِّ، فلما بلغَه ذلك بعثَ إليهم سرية، يَقْدَمُها رجلٌ يُقال له مسلم بن عُقبةَ، وإنَّما يُسمِّيه السَّلفُ: مُسْرِف بن عُقبةَ، فلما وردَ المدينةَ استباحَها ثلاثة أيام، فَقتلَ في غُضون هذه الأيام بشرًا كثيرًا، حتَّى كادَ لا يُفلتُ أحدٌ من أهلها، وزعمَ بعضُ علماء السَّلف أنه قتلَ في غُضون ذلك ألفَ بكرٍ، والله أعلم.

وقال عبدُ الله بن وَهْبٍ، عن الإمام مالك: قُتِلَ يومَ الحَرَّة سبعمئة رجلٍ من حَمَلةِ القُرآن، حسبت أنه قال: وكان فيهم ثلاثة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك في خلافة يزيد

(3)

.

وقال يعقوبُ بن سُفيان: سمعتُ سعيدَ بن كَثير بن عُفير الأنصاري، يقول: قُتلَ يومَ الحَرَّة عبد الله بن زيد المازني، ومَعْقل بن سنان الأشجعي، ومعاذ بن الحارث القاري، وقُتل عبدُ الله بن حنظلةَ بن أبي عامر

(4)

.

قال يعقوبُ: وحدَّثنا يحيى بن عبد الله بن بكير عن اللَّيث، قال: كانتْ وقعةُ الحَرَّة يومَ الأربعاء لثلاث بقين من ذي الحجة سنة ثلاب وستين

(5)

.

ثم انبعثَ مُسرفُ بن عُقبَةَ إلى مكة قاصدًا عبد الله بن الزبير ليقتلَه بها، لأنه فرَّ من بيعةِ يزيدَ، فماتَ يزيدُ بن معاوية في غضون ذلك، واستفحلَ أمرُ عبد الله بن الزبير في الخِلافة بالحجاز، ثم أخذَ العراقَ

(1)

رواه نُعيم بن حمَّاد في كتاب الفتن (ص 93) وإسناده ضعيف لضعف نعيم بن حماد.

(2)

مسند أحمد (5/ 149) ورواه عن عبد العزيز بن عبد الصمد العمي به (5/ 163).

(3)

رواه البيهقي في الدلائل (6/ 474) رقم (21337) وهو حديث صحيح، والفسوي في المعرفة والتاريخ (3/ 325).

(4)

رواه البيهقي في الدلائل (6/ 474) والفسوي في المعرفة والتاريخ (3/ 326).

(5)

رواه البيهقي في الدلائل (6/ 475).

ص: 348

ومِصْرَ، وبُويع بعد يزيدَ لابنه معاويةَ بن يزيد، وكانَ رجلًا صالحًا، فلم تطلْ مُدَّتُه، مكثَ أربعين يومًا، وقيل: عشرين يومًا، ثم مات رحمه الله، فوثبَ مروانُ بن الحَكَم على الشام فأخذَها، فبقي تسعة أشهر ثم مات، وقام بعدَه ابنه عبدُ الملك، فنازعَه فيها عمرو بن سعيد الأشدق، وكان نائبًا على المدينة من زمن معاوية وأيَّام يزيدَ ومروان، فلما هلكَ مروانُ زعمَ أنَّه أوصى له بالأمر من بعد ابنه عبد الملك، فضاقَ به ذرعًا

(1)

، ولم يزل به حتى أخذه بعدما استفحلَ

(2)

أمره بدمشقَ فقتلهُ في سنة تسع وستين، ويقالُ: في سنة سبعين. واستمرَّت أيام عبد الملك حتى ظفر بابن الزبير سنة ثلاث وسبعين، قتلَه الحَجَّاج بن يُوسف الثَّقَفِيّ عن أمره بمكَّة، بعد مُحاصرةٍ طويلة، اقتضتْ أنْ نصبَ المنجنيقَ على الكعبة، من أجل أنَّ ابنَ الزبير لجأ إلى الحَرَمِ، فلم يزلْ له حتى قتلَه، ثم عَهِدَ في الأمر إلى بنيه الأربعة بعدَه: الوليدُ، ثم سليمانُ، ثم يزيدُ، ثم هشامُ بن عبد الملك.

وقد قال الإمام أحمد: حدَّثنا أسودُ ويحيى بن أبي بكر، حدَّثنا كامل أبو العلاء، سمعتُ أبا صالح - وهو مولى ضباعة المؤذن، واسمه مينا - قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تعوَّذوا بالله من رأس السبعين، وإمارة الصِّبيان". وقال: "لا تذهب الدنيا حتى تصيرَ لِلُكَع

(3)

بن لُكَع"

(4)

. وقال الأسود: يعني اللئيم ابن اللئيم.

وقد روى الترمذيُّ: من حديث أبي كامل، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "عُمْرُ أُمَّتي من ستينَ إلى سبعينَ سنة"

(5)

ثم قال: حسن غريب

(6)

.

وقد روى الإمام أحمد، عن عفَّان وعبد الصمد، عن حمَّاد بن سلمة، عن علي بن زيد حدَّثني من سمع أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لَيَنْعَقَنَّ - وقال عبدُ الصمد في روايته: ليَرْعَفَنَّ - جَبَّار من جبابرةِ بني أُميَّةَ على منبري هذا" زادَ عبدُ الصمد "حتَّى يسيلَ رُعَافُه" قال: فحدَّثني من رأى عمروَ بنَ سعيد بن العاص: يَرْعَفُ على مِنْبر النبيِّ صلى الله عليه وسلم حتى سال رُعَافُه.

قلت: علي بن زيد بن جُدْعان في روايته غَرابة ونكارة، وفيه تَشيُّعٌ.

(1)

"ضاق به ذرعًا": كرهه وتبرَّم منه.

(2)

"استفحلَ أمره": اشتد واستطار.

(3)

"اللُّكَع": اللئيم.

(4)

رواه أحمد في المسند (2/ 326) و (448) وإسناده ضعيف لجهالة أبي صالح.

(5)

رواه الترمذي في جامعه رقم (2331)، وهو كما قال الترمذي ورواه الترمذي (3550)، وابن ماجه (4236)، وأبو يعلى (5990)، وابن حبان (2980)، والحاكم (2/ 427) والبيهقي في السنن (3/ 370) وغيرهم من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة، بنحوه.

(6)

رواه الإمام أحمد في المسند (2/ 522) وهو حديث حسن بطرقه، وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة.

ص: 349

وعمرو بن سعيد هذا، يُقال له: الأشدق، كان من سادات المسلمين وأشرافهم في الدُّنيا لا في الدِّين

(1)

، رأى النبيّ

(2)

صلى الله عليه وسلم، وروى عن جماعة من الصحابة، منهم في صحيح مسلم عن عثمان في فضل الطهور، وكان نائبًا على المدينة لمعاوية ولابنه يزيد من بعده، ثم استفحل أمره حتى كادَ يُصاولُ عبدَ الملك بن مروان، ثم خدعَه عبدُ الملك حتى ظفرَ به فقتلَه في سنة تسع وستين، أو سنة سبعين، فالله أعلم. وقد رُوي عنه من المكارم أشياء كثيرة من أحسنِها أنَّه لمَّا حضرتْ أباه الوفاة قال لبنيه، وكانوا ثلاثة، عمرو هذا، وأُمَيَّة، وموسى، فقال لهم: من يتحمَّل ما عليَّ؟ فبدرَ ابنه عمرو هذا وقال: أنا يا أبة، وما عليكَ؟ قال: ثلاثون ألفَ دينار، قال: نعم، قال: وأخواتك لا تُزوجْهنَّ إلا بالأكفاء ولو أكلنَ خبزَ الشعير، قال: نعم، قال: وأصحابي مِن بعدي، إن فقدوا وجهي فلا يفقدوا مَعروفي، قال: نعم، قال: أما لئن قلتَ ذلك، فلقد كنتُ أعرفه من حَماليقِ وجهكَ وأنتَ في مَهْدكَ

(3)

.

وقد ذكرَ البيهقيُّ: من طريق عبد الله بن صالح - كاتب الليث - عن حرملةَ بن عمران، عن أبيه، عن يزيدَ بن أبي حبيب؛ أنَّه سمعَه يُحدِّث عن محمد بن يزيد بن أبي زياد الثقفيِّ، قال: اصطحبَ قيسُ بن خَرَشَة وكعبٌ حتى إذا بلغا صِفِّينَ، وقفَ كعبُ الأحبار، فذكرَ كلامَه فيما يقعُ هناك من سفك دماءِ المسلمين، وأنَّه يجدُ ذلك في التوراة، وذكرَ عن قيس بن خرشةَ أنه بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يقولَ الحق، وقال: يا قيس بن خرشةَ! عسى أن يمُدَّ لكَ الدَّهرُ حتى يليكَ بعدي من لا تستطيعُ أن تقولَ بالحقِّ معهم. فقال: والله لا أبايعُكَ على شيءِ إلا وَفَّيْتُ لك به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إذًا لا يضرُّك بشر" فبلغَ قيسٌ إلى أيام عُبيد الله بن زياد بن أبي سفيان، فنقمَ عليه عبيد الله في شيء فأحضرَه فقال: أنتَ الذي زعمَ أنه لا يضرّك بشرٍّ؟ قال: نعم، قال: لتعلمنَّ اليوم أنك قد كذبتَ، ائتوني بصاحب العذاب، قال: فمالَ قيس عند ذلك فماتَ

(4)

.

‌معجزة أخرى

روى البيهقي: من طريق الدراوردي، عن ثور بن زيد، عن مُوسى بن مَيْسرةَ؛ أنَّ بعضَ بني

(1)

كذا في الأصل، ولعل الحافظ ابن كثير احترزَ بهذا عمَّا ذكرَه السُّهيلي في الروض الأنف (2/ 277) من أخباره المذمومة، وأنه كان يُسمَّى لطيمَ الشيطان، وكان جبَّارًا شديدَ البأس .. وفي كتاب ثمار القلوب في المضاف والمنسوب، للثعالبي (ص 75) لطيم الشيطان: يُقال لمن به لقوة أو شتر: يا لطيم الشيطان، وكان عمرو بن سعيد بن العاص يُلَقَّبُ بذلك. واللقوة: داء في الوجه، والشَّتَر: انقلاب في جفن العين.

(2)

جزمَ الحافظ ابن حجر في الإصابة أنه لم يرَ النبي صلى الله عليه وسلم، لأن أباه سعيدًا كان له من العمر ثماني سنين أو نحوها عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. الإصابة (5/ 178).

(3)

العقد الثمين؛ للفاسي (6/ 393).

(4)

رواه البيهقي في الدلائل (6/ 476) وفي سنده محمد بن أبي زياد الثقفي، قال الحافظ ابن حجر: مجهول الحال.

ص: 350

عبد الله

(1)

سايره في بعض طريق مكة، قال: حدَّثني العبَّاسُ بنُ عبد المُطلب أنَّه بعثَ ابنه عبدَ الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجةٍ، فوجدَ عندَه رجلًا فرجعَ ولم يُكلِّمه من أجل مكان الرجل معه، فلقيَ العبَّاسُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فأخبرهَ بذلك، فقال:"ورآه؟ " قال: نعم، قال:"أتدري مَنْ ذلكَ الرجلُ؟ ذاكَ جبريلُ، ولن يموتَ حتى يذهبَ بصرُه ويُؤتى علمًا"

(2)

.

وقد ماتَ ابنُ عبَّاس سنة ثمان وستين

(3)

بعدما عَمِيَ رضي الله عنه.

وروى البيهقي

(4)

: من حديث المعتمر بن سُليمان، حدَّثتنا نباتةُ بنت بريد، عن حمادة، عن أنيسةَ بنت زيد بن أرقم، عن أبيها؛ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دخلَ على زيد يعودُه من مرضٍ كان به، قال:"ليس عليكَ مِنْ مَرَضكَ هذا بأسٌ، ولكنْ كيفَ بك إذا عُمِّرتَ بعدي فَعَمِيْتَ؟ "قال: إذن أحتسب وأصبر، قال:"إذن تدخلَ الجنَّةَ بغير حساب" قال: فَعَميَ بعدما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ردَّ الله عليه بصرَه، ثم مات. وذلك في سنة [ثمان وستين]

(5)

.

‌فصل

وثبت في الصحيحين عن أبي هريرة، وعند مسلم عن جابر بن سَمُرَة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إنَّ بينَ يدي السَّاعة ثلاثينَ كذَّابًا دجَّالًا، كلُّهم يزعمُ أنه نبيٌّ"

(6)

.

وقال البيهقي

(7)

عن الماليني، عن أبي أحمد بن عديّ، عن أبي يَعلى المَوصليِّ، حدَّثنا عثمانُ بن أبي شيبة، حدَّثنا محمد بن الحسن الأسديّ، حدَّثنا شَريك، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن الزبير، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقومُ الساعةُ حتى يخرجَ ثلاثون كذَّابًا، منهم مسيلمةُ، والعنسيُّ، والمختارُ. وشرُّ قبائل العربِ بنو أمية وبنو حنيفة وثقيف". قال ابنُ عديّ

(8)

: محمد بن الحسن له أفرادات، وقد حدَّث عنه الثقات، ولم أر بحديثه بأسًا، وقال البيهقي: لحديثه في المختار شواهدُ صحيحة.

(1)

أي: بني عبد الله بن عباس.

(2)

رواه البيهقي في الدلائل (6/ 478) وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 277) وقال: رواه الطبراني بأسانيد، ورجاله ثقات. قلت: لكن الراوي عن العباس مجهول.

(3)

سير أعلام النبلاء (3/ 331).

(4)

دلائل النبوة (6/ 479) وإسناده ضعيف، نباتة وحمادة وأنيسة مجهولون.

(5)

ما بين حاصرتين سقط من الأصل وأثبته من السير (3/ 165).

(6)

رواه البخاري في صحيحه رقم (3609) في المناقب ومسلم في صحيحه رقم (2923) في الفتن.

(7)

دلائل النبوة (6/ 480 - 481).

(8)

الكامل لابن عدي (6/ 2182).

ص: 351

ثم أوردَ من طريق أبي داود الطيالسي، حدَّثنا الأسود بن شيبان، عن أبي نوفل بن أبي عقرب، عن أسماء بنت أبي بكر؛ أنها قالت للحجاج بن يُوسف: أما إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدَّثنا أن في ثقيف كذابًا ومبيرًا، فأمَّا الكذَّابُ فقد رأيناه، وأما المبيرُ فلا إخالُكَ إلا إيَّاه

(1)

.

قال: ورواه مسلم

(2)

من حديث الأسود بن شيبان، وله طرق عن أسماء وألفاظ سيأتي إيرادها في موضعه.

وقال البيهقي

(3)

: أخبرنا الحاكمُ وأبو سعيد، عن الأصمِّ، عن عبَّاس الدراوردي، عن عبد الله بن الزبير الحُميدي

(4)

، حدَّثنا سفيان بن عُيينة، عن أبي المحيَّاة

(5)

، عن أمه، قالت: لما قتلَ الحجَّاجُ عبدَ الله بن الزبير دخلَ الحجَّاجُ على أسماءَ بنت أبي بكر، فقال: يا أُمَّة، إن أميرَ المؤمنين أَوْصاني بكِ، فهل لكِ مِنْ حاجة؟ فقالت: لستُ لكَ أُمًّا، ولكنِّي أُمّ المصلوبِ على رأسِ الثنيَّة، وما لي مِن حاجة، ولكن انتظرْ حتى أُحدِّثَكَ ما سمعتُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: "يخرجُ من ثقيفَ كذابٌ ومُبيرٌ فأمَّا الكذَّابُ فقد رَأَيْنَاهُ، وأمَّا المُبيرُ فأنتَ، فقال الحجَّاجُ: مُبير المنافقين.

وقال أبو داود الطيالسي: حدَّثنا شريك، عن أبي عَلْوان - عبد الله بن عِصْمة - عن ابن عمر قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنَّ في ثقيف كذابًا ومُبيرًا"

(6)

".

وقد تواترَ خبر المختار بن أبي عُبيد الكذاب الذي كانَ نائبًا على العراق، وكان يزعمُ أنَّه نبيّ، وأنَّ جبريلَ كان يأتيه بالوحي، وقد قيل لابن عمر - وكان زوجَ أختِ المختار صفيَّة -: إن المختارَ يزعمُ أنَّ الوحيَ يأتيه. قال: صدقَ، قال الله تعالى:{وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} [الأنعام: 121].

وقال أبو داود الطيالسي: حدَّثنا قرَّةُ بن خالد، عن عبد الملك بن عُمير، عن رِفاعة بن شدَّاد، قال: كنتُ أبطنَ شيءٍ بالمختار الكذاب، قال: فدخلتُ عليه ذاتَ يومٍ، فقال: دخلتَ وقد قامَ جبريلُ قبلُ من هذا الكرسيّ! قال: فأهويتُ إلى قائم السيف لأضربَه حتى ذكرتُ حديثًا حدَّثنيه عمرُو بن الحَمِقِ الخُزاعيّ، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أمَّنَ الرجلُ الرَّجلَ على دمِه ثم قتلَه رُفعَ له لواءُ الغدر يومَ القيامة

(7)

" فكففتُ عنه.

(1)

رواه البيهقي في الدلائل (6/ 481) وهو في مسند الطيالسي (1641). والمير: المهلك، وهو حديث صحيح.

(2)

رواه مسلم في صحيحه رقم (2545)(229) في فضائل الصحابة.

(3)

في الدلائل (6/ 481 - 482) وهو حديث صحيح.

(4)

وهو في مسنده (326).

(5)

هو يحيى بن يعلى من رجال التهذيب،

(6)

رواه الطيالسي في مسنده (ص 260) رقم (1925) ومسلم رقم (2545).

(7)

رواه الطيالسي في المسند (ص 181) رقم (1286) والبيهقي في الدلائل من طريقه (6/ 482) وهو حديث حسن.

ص: 352

وقد رواه أسباطُ بن نصر وزائدةُ والثوريُّ، عن إسماعيل السُّديِّ، عن رِفاعة بن شدَّاد القِتْباني، فذكرَ نحوه

(1)

.

وقال يعقوبُ بن سفيان: حدَّثنا أبو بكر الحُميدي، حدَّثنا سُفيان بن عُيينة، عن مجالد، عن الشعبي قال: فاخرتُ أهلَ البصرة فغلبتُهم بأهل الكوفة، والأحنفُ ساكتٌ لا يتكلَّم، فلما رآني غلبتُهم أرسلَ غلامًا له فجاءَ بكتاب فقال: هاكَ اقرأْ. فقرأتُه فإذا فيه: من المختار إليه، يذكرُ أنَّه نبي، يقولُ الأحنف: أنَّى فينا مثلُ هذا

(2)

.؟!

وأما الحجَّاج بن يُوسف، فقد تقدَّم الحديث أنه الغلام المبير الثقَفِي، وسنذكرُ ترجمته إذا انتهينا إلى أيامه، فإنَّه كان نائبًا على العراق لعبد الملك بن مَرْوان، ثم لابنه الوليد بن عبد الملك، وكان من جبابرة الملوك، على ما كان فيه من الكَرم والفصاحة على ما سنذكره.

وقد قال البيهقي: حدَّثنا الحاكم، عن أبي نصر الفقيه، عن عثمان بن سعيد الدَّارميِّ، أنَّ معاويةَ بن صالح حدَّثه، عن شُريح بن عُبيد، عن أبي عَذَبَةَ قال: جاءَ رجلٌ إلى عمرَ بن الخطاب، فأخبرَه أنَّ أهلَ العراق قد حَصَبُوا أميرَهم، فخرجَ غضبانَ، فصلَّى لنا الصَّلاةَ، فسَها فيها حتَّى جعلَ النَّاسُ يقولون: سبحان الله! سبحان الله! فلمَّا سلَّمَ أقبلَ على النَّاس، فقال: من هاهنا من أهل الشام؟ فقام رجل ثم قام آخر، ثم قمت أنا ثالثًا أو رابعًا، فقال: يا أهل الشام! استعدُّوا لأهل العراق، فإن الشيطان قد باضَ فيهم وفرَّخَ، اللهم إنهم قد لبَّسُوا عليَّ، فألبس عليهم وعَجِّلْ عليهم بالغُلام الثَّقَفِيِّ، يحكمُ فيهم بحكم أهل الجاهلية، لا يقبلُ مِن مُحسنهم، ولا يتجاوز عن مسيئهم

(3)

.

قال عبد الله: وحدَّثني ابن لهيعة بمثله، قال: وما وُلدَ الحجَّاجُ يومئذ

(4)

.

ورواه الدارمي أيضًا: عن أبي اليَمان، عن حريز بن عثمان، عن عبد الرحمن بن ميسرة، عن أبي عَذَبَة الحِمْصي، عن عمر، فذكرَ مثله

(5)

.

قال اليَمَان: علمَ عمرُ أنَّ الحجَّاج خارجٌ لا محالة، فلما أغضبوه استعجلَ لهم العقوبة

(6)

.

(1)

رواه البيهقي في الدلائل (6/ 483).

(2)

رواه البيهقي في الدلائل (6/ 483). وإسناده ضعيف لضعف مجالد، وهو ابن سعيد.

(3)

رواه البيهقي في الدلائل (6/ 488) وفي سنده (أبو عذبة) مجهول.

(4)

رواه البيهقي في الدلائل (6/ 488) وفي إسناده ابن لهيعة، وهو ضعيف.

(5)

رواه البيهقي في الدلائل (6/ 487) وفي سنده أبو عذبة، مجهول.

(6)

رواه البيهقي في الدلائل (6/ 488).

ص: 353

قلت: فإن كان هذا نقلَه عمرُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد تقدَّم له شاهد عن غيره، وإن كان عن تحديثٍ، فكرامةُ الوَلِيِّ معجزةٌ لنبيِّه.

وقال عبدُ الرزاق: أخبرنا جعفر - يعني ابن سليمان - عن مالك بن دينار، عن الحسن، قال: قال عليٌّ لأهل الكوفة: اللَّهُمَّ كما ائتمنتُهم فخانُوني، ونصحتُ لهم فغشُّوني، فسلط عليهم فتى ثقيف الذيَّال الميَّال، يأكلُ خُضْرتَها، ويلبسُ فروتَها، ويحكمُ فيهم بحكم الجاهلية. قال: فتوفي الحسنُ وما خلقَ الله الحجاج يومئذ

(1)

. وهذا منقطع.

وقد رواه البيهقيُّ أيضًا من حديث معتمر بن سليمان، عن أبيه، عن أيوب، عن مالك بن أوس بن الحَدَثَان، عن عليِّ بن أبي طالب، أنه قال: الشَّابُّ الذيَّال أميرُ المِصْريين، يَلبَسُ فروتَها، ويأكلُ خضرتَها، ويقتلُ أشرافَ أهلها، يَشتدُّ منه العرق، ويكثُر من الأرَق، ويُسلِّطه الله على شيعته

(2)

.

وله من حديث يزيد بن هارون: أخبرنا العوَّامُ بن حَوْشب، حدَّثني حبيبُ بن أبي ثابت، قال: قال عليّ: لا مُتَّ حتى تدركَ فتى ثقيف. فقيل له: يا أميرَ المؤمنين! وما فتى ثقيف؟ فقال: لَيُقَالَنَّ له يوم القيامة: اكفنا زاويةً من زوايا جهنَّم، رجلٌ يملك عشرين سنة أو بضعًا وعشرين سنة، لا يدعُ لله معصيةً إلا ارتكبَها، حتى لو لم يبقَ إلا معصيةٌ واحدة وكان بينَه وبينَها بابٌ مُغلقٌ لَكَسَرهُ حتَّى يرتكبَها، يقتلُ بمن أطاعَه مَنْ عصاه

(3)

. وهذا معضل، وفي صحته عن عليٍّ نظر، والله أعلم.

وقال البيهقي: عن الحاكم، عن الحُسين بن الحَسن بن أيوب، عن أبي حاتم الرازي، عن عبد الله بن يوسف التَّنِّيسي، حدَّثنا هشام بن يحيى الغسَّاني، قال: قال عمرُ بن عبد العزيز: لو جاءتْ كلُّ أُمَّةٍ بخبيثها، وجئناهم بالحجَّاج لغَلبنَاهم

(4)

. وقال أبو بكر بن عياش: عن عاصم بن أبي النَّجود: ما بقيتْ لله حُرْمَةٌ إلا وقد ارتكبَها الحجَّاج

(5)

. وقال عبدُ الرزَّاق: عن معمر، عن ابن طاووس؛ أن أباه لما تحقَّق موتَ الحجَّاج تلا قوله تعالى:{فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}

(6)

[الأنعام: 45].

قلت: وقد تُوفي الحجَّاجُ سنة خمس وتسعين.

(1)

رواه البيهقي في الدلائل (6/ 488).

(2)

رواه البيهقي في الدلائل (6/ 488).

(3)

رواه البيهقي في الدلائل (6/ 489).

(4)

رواه البيهقي في الدلائل (6/ 489).

(5)

رواه البيهقي في الدلائل (6/ 489).

(6)

تقدم تخريج الحديث.

ص: 354

‌ذكر الإشارة النبويَّة إلى دولة عمرَ بن عبد العزيز تاجِ بني أميَّة

قد تقدَّم حديث أبي إدريس الخَوْلاني، عن حذيفة، قال: سألتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم هل بعد هذا الخير من شر؟ قال: "نعم" قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: "نعم وفيه دَخَنٌ" قلتُ: وما دخنُه؟ قال: "قومٌ يَستنُّون بغير سُنَّتي، ويهدونَ بغير هَديي، يُعرف منهم ويُنكر"

(1)

الحديث. فحملَ البيهقيُّ وغيرُه هذا الخبر الثاني على أيَّام عمرَ بن عبد العزيز.

وروى: عن الحاكم، عن الأصمِّ، عن العبَّاس بن الوليد بن مزيد، عن أبيه، قال: سُئل الأوزاعيُّ عن تفسير حديث حُذيفة حين سألَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن الشرِّ الذي يكون بعد ذلك الخير، فقال الأوزاعيُّ: هي الرِّدَّةُ التي كانت بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي مسألة حُذيفة: فهل بعد ذلك الشرِّ من خير؟ قال: نعم، وفيه دَخَنٌ، قال الأوزاعي: فالخيرُ الجماعة، وفي ولاتهم من يعرفُ سيرتَه، وفيهم من يُنكرُ سيرتَه، قال: فلم يأذن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في قِتالهم ما صَلُّوا الصَّلاة

(2)

.

وروى أبو داود الطيالسي: عن داود الواسطي - وكان ثقةً - عن حبيب بن سالم، عن نُعمان بن بشير بن سعد، عن حُذيفةَ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنكم في النبوة ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكونُ خلافةٌ على منهاج النبوة تكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء، ثم تكون جبرية ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة"، قال: فقدمَ عمرُ بن عبد العزيز ومعه يزيدُ بن النُّعمان، فكتبتُ إليه أُذَكِّرُه الحديثَ، وكتبتُه إليه، أقول: إني أرجو أن تكونَ أميرَ المؤمنين بعد الجبرية، قال: فأخذ يزيدُ الكتابَ فأدخلَه على عمر، فسُرَّ به وأعجبَه

(3)

.

وقال نعيمُ بن حمَّاد: حدَّثنا رَوْحُ بن عُبادة، عن سعيد بن أبي عَرُوبة، عن قتادة، قال: قال عمرُ بن عبد العزيز: رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وعندَه عمرُ وعثمان وعليّ، فقال لي:"ادنُ" فدنوتُ حتى قمتُ بين يديْه، فرفعَ بصرَه إليَّ، وقال:"أَما إنَّكَ سَتَلِي أمرَ هذه الأمَّة وستعدلُ عليهم"

(4)

.

وسيأتي في الحديث الآخر إن شاءَ الله: "إنَّ الله يبعثُ لهذه الأُمَّة على رأسِ كلِّ مئةِ سنةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لها

(1)

أي: البيهقي.

(2)

رواه البيهقي في الدلائل (6/ 491).

(3)

رواه أبو داود الطيالسي رقم (438) وإسناده حسن.

(4)

رواه أبو نعيم في الفتن صفحة (291) وهو ضعيف.

ص: 355

أمرَ دينِها"

(1)

وقد قالَ كثيرٌ من الأئمة: إنه عمرُ بن عبد العزيز، فإنه توفي سنة إحدى ومئة.

وقال البيهقيُّ: أخبرنا الحاكم، أخبرنا أبو حامد أحمد بن علي المقري، حدَّثنا أبو عيسى الترمذي، حدَّثنا أحمد بن إبراهيم، حدَّثنا عفَّان بن مسلم، حدَّثنا عثمان بن عبد الحميد بن لاحق، عن جويرية بن أسماء، عن نافع، عن ابن عمر، قال: بلغنا أن عمر بن الخطاب قال: إن من ولدي رجلًا بوجهه شين يلي فيملأ الأرض عدلًا، قال نافع من قبله: ولا أحسبه إلا عمر بن عبد العزيز

(2)

.

وقد رواه نُعيم بن حمَّاد: عن عثمان بن عبد الحميد به، ولهذا طرقٌ عن ابن عمر أنه كان يقول: ليتَ شِعري، مَنْ هذا الذي من ولدِ عمرَ بن الخطاب في وجهه علامة يملأ الأرض عدلًا

(3)

. وقد روي ذلك عن عبد الرحمن بن حرملةَ، عن سعيد بن المسيب نحوًا من هذا.

وقد كان هذا الأمرُ مشهورًا قبل ولايته وميلاده بالكلية؛ أنه يلي رجل من بني أمية يقال له: أشجّ بني مروان، وكانت أمُّه أروى بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، وكان أبوه عبد العزيز بن مروان نائبًا لأخيه عبد الملك على مصر، وكان يُكرمُ عبد الله بن عمر، ويبعثُ إليه بالتحف والهدايا والجوائز فيقبلُها، وبعث إليه مرة بألف دينار فأخذَها، وقد دخلَ عمر بن عبد العزيز يومًا إلى إصطبل أبيه وهو صغير، فرمَحه فرسٌ فشجَّه في جبينه، فجعل أبوه يسلتُ عنه الدَّمَ، ويقول: أما لئن كنتَ أشجَّ بني مروان، إنَّكَ إذًا لسعيد، وكان النَّاسُ يقولون: الأشجُّ والنَّاقِصُ أعدلَ بني مروان. فالأشجُّ هو عمر بن عبد العزيز، والنَّاقصُ هو يزيد بن الوليد بن عبد الملك، الذي يقول فيه الشاعر:

رَأَيت اليَزِيدَ بنَ الوليدِ مُباركًا

شَدِيدًا بأعباءَ الخلافَةِ كاهِلُه

قلت: وقد وُلِّي عمرُ بن عبد العزيز بن سُليمانَ بن عبد الملك سنتين ونصفًا، فملأ الأرض عدلًا، وفاضَ المالُ حتى كان الرجلُ يَهمُّه لمن يُعطي صدقتَه، وقد حمل البيهقيُّ الحديثَ المتقدِّم عن عديِّ بن حاتم، على أيام عمر بن عبد العزيز، وعندي في ذلك نظر، والله أعلم.

وقد روى البيهقي من حديث إسماعيل بن أبي أُويس: حدَّثني أبو مَعْن الأنصاري: حدَّثنا أُسيد قال: بينما عمرُ بن عبد العزيز يَمشي إلى مكَّةَ بفلاةٍ من الأرض إذ رأى حية ميتة فقال: عليَّ بِمحفار، فقالوا: تكفيكَ أصلحكَ الله، قال: لا، ثم أخذَه، ثم لفَّه في خِرْقة ودفنَه، فإذا هاتفٌ يهتف: رحمة الله عليك يا سُرَّق، فقال له عمرُ بن عبد العزيز: مَنْ أنتَ يرحمُك الله؟ قال: أنا رجلٌ من الجِن وهذا سُرَّق، ولم

(1)

رواه أبو داود رقم (4291) والحاكم (4/ 522) وهو حديث صحيح.

(2)

رواه البيهقي في الدلائل (6/ 492).

(3)

رواه البيهقي في الدلائل (6/ 492).

ص: 356

يبق ممن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم غيري وغيره، وأشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"تموتُ يا سُرَّقُ بفلاةٍ من الأرض ويدفِنُكَ خيرُ أُمَّتي"

(1)

.

وقد روي هذا من وجه آخر، وفيه: أنهم كانوا تسعةً بايعوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وفيه: أن عمرَ بن عبد العزيز حلَّفه، فلما حلفَ بكى عمرُ بن عبد العزيز

(2)

. وقد رجَّحه البيهقي وحسنه، فالله أعلم.

‌حديث آخر في صحته نظر، في ذكر وَهْبِ بن مُنَبِّه بالمَدْح، وذِكر غَيْلَان بالذَّمِّ

روى البيهقي: من حديث هشام بن عمّار وغيره، عن الوليد بن مسلم، عن مروان بن سالم القرقساني، عن الأحوص بن حكيم، عن خالد بن مَعْدان، عن عُبادة بن الصامت، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يكونُ في أُمتي رجل يُقال له: وَهْب، يَهَب الله له الحكمةَ، ورجل يُقال له: غَيْلان، هو أضرُّ على أُمَّتي من إبليس"

(3)

. وهذا لا يصحُّ؛ لأن مروانَ بن سالم هذا متروك، وبه: إلى الوليد، حدَّثنا ابنُ لهيعةَ، عن موسى بن وردان، عن أبي هُريرة، قال: قال النبيُّ: "ينعقُ الشيطانُ بالشَّام نعقةً يُكَذِّبُ ثلثاهم بالقَدَر". قال البيهقي: وفي هذا - إن صحَّ - وأمثاله؛ إشارة إلى غَيْلان وما ظهرَ بالشام بسببه من التَّكَذيب بالقَدَر حتى قُتِلَ

(4)

.

‌الإشارة إلى محمد بن كعب القُرَظيّ وعلمه بتفسير القرآن وحفظه

قال حرملةُ عن ابن وَهْب: أخبرني أبو صَخْر، عن عبد الله بن مغيث بن أبي بردة الظفري، عن أبيه، عن جده، قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يخرج في أحد الكاهنين رجل قد درسَ القرآنَ دراسة لا يدرسُها أحدٌ يكون من بعده"

(5)

.

وروى البيهقي: عن الحاكم، عن الأصم، عن إسماعيل القاضي، حدَّثنا أبو ثابت، حدَّثنا ابن وَهْب، حدَّثني عبد الجبار بن عمر، عن ربيعةَ بن أبي عبد الرحمن، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "يكونُ في أحد الكاهنين رجل يدرس القرآن دراسةً لا يدرسُها أحدٌ غيره"

(6)

. قال: فكانوا يرون أنَّه محمدُ بن

(1)

رواه البيهقي في الدلائل (6/ 494) وفي إسناده ضعف.

(2)

المصدر السابق.

(3)

ذكره البيهقي في الدلائل (6/ 496).

(4)

رواه البيهقي في الدلائل (6/ 497) وإسناده ضعيف.

(5)

رواه البيهقي في الدلائل (6/ 498). والكاهنان: قبيلة قريظة والنضير.

(6)

رواه ابن عساكر في تاريخه (5/ 323)، والبيهقي في الدلائل (6/ 498) مرسلًا وهو ضعيف.

ص: 357

كعب القُرَظيّ، قال أبو ثابت: الكاهنان: قريظة والنضير.

وقد رُوي من وجه آخر مرسل: "يخرجُ من الكاهنين رجل أعلمُ الناسِ بكتابِ الله"

(1)

.

وقد قالَ عَوْنُ بن عبد الله: ما رأيتُ أحدًا أعلم بتأويل القرآن من محمد بن كعب

(2)

.

‌ذكر الإخبار بانخرام قرنه عليه الصلاة والسلام بعد مئة سنة من ليلة إخباره فكانَ كما أخبرَ

ثبتَ في الصحيحين: من حديث الزهري، عن سالم وأبي بكر بن سُليمانَ بن أبي خيثمةَ، عن عبد الله بن عمر، قال: صلَّى بنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم صلاةَ العِشاء في ليلةٍ في آخر عُمُره، فلما سلَّمَ قامَ فقال:"أرأيتُمِ ليلَتكم هذه؟ فإنَّ على رأسِ مئةِ سنة منها لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد"

(3)

قال عمر: فوَهَلَ النَّاسُ في مَقالةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، إلى ما يتحدَّثون من هذه الأحاديث عن مئة سنة، وإنما يُريد بذلك أنَّها تخرمُ ذلكَ القرنَ. وفي رواية: إنَّما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم انخرام قرنه.

وفي صحيح مسلم: من حديث ابن جريج: أخبرني أبو الزبير، أنه سمعَ جابرَ بنَ عبد الله، يقول: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول قبل موته بشهر: "تسألوني عن السَّاعة، وإنَّما علمُها عند الله، فأقسم بالله ما على ظهر الأرض من نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ اليومَ، يأتي عليها مئةُ سنةٍ

(4)

.

وهذا الحديث وأمثالهُ مما يَحتجُّ به من ذهبَ من الأئمة إلى أن الخَضِرَ ليس بموجود الآن، كما قدَّمنا ذلك في ترجمته في قصص الأنبياء عليهم السلام، وهو نصٌّ على أن جميعَ الأحياء في الأرض يموتون إلى تمام مئة سنة من إخباره عليه الصلاة والسلام، وكذا وقعَ سواء، فما نعلمُ تأخَّرَ أحدٌ من أصحابه إلى ما يُجاوز هذه المدة، وكذلك جميع الناس. ثم قد طردَ بعضُ العلماء هذا الحكمَ في كل مئة سنةٍ، وليسَ في الحديث تعرُّض لهذا، والله أعلم.

‌حديث آخر

قال محمَّدُ بن عمرَ الواقديّ: حدَّثني شُرَيْح بن يزيد، عن إبراهيم بن محمد بن زياد الألْهاني، عن

(1)

رواه البخاري في التاريخ الكبير (5/ 14) والبيهقي في الدلائل (6/ 499) وهو مرسل ضعيف.

(2)

ذكره البيهقي في الدلائل (6/ 499).

(3)

رواه البخاري رقم (601). ومسلم رقم (2537) من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

(4)

رواه مسلم رقم (2538) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.

ص: 358

أبيه، عن عبد الله بن بُسْر، قال: وضعَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يدَه على رأسي وقال: "هذا الغلامُ يعيشُ قَرْنًا

(1)

قال: فعاشَ مئة سنة.

وقد رواه البخاريُّ في "التاريخ": عن أبي حيوة شريح بن يزيد به .. فذكرَ

(2)

. قال: وزاد غيرُه: وكان في وجهه ثُؤْلولٌ، فقال:"ولا يموتُ حتى يذهبَ الثُّؤْلول من وجهه" فلم يمتْ حتى ذهبَ الثُّؤْلول من وجهه

(3)

. وهذا إسناد على شرط السنن. ولم يُخَرِّجوه.

ورواه البيهقيُّ: عن الحاكم، عن محمد بن المؤمل بن الحسن بن عيسى، عن الفَضْل بن مُحْرز الشعراني، حدَّثنا حيوة بن شريح، عن إبراهيم بن محمد بن زياد الألهاني، عن أبيه، عن عبد الله بن بُسْر، أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال له:"يعيشُ هذا الغلامُ قرنًا"

(4)

فعاش مئة سنة. قال الواقدي وغيرُ واحد: توفي عبد الله بن بُسْر بحمصَ سنة ثمان وثمانين عن أربع وتسعين

(5)

، وهو آخرُ من بقي من الصحابة بالشام.

‌الإخبارُ عن الوليد بما فيه له من الوعيد الشديد وإن صحَّ فهو الوليد بن يزيد لا الوليد بن عبد الملك

قال يعقوب بن سفيان: حدَّثني محمد بن خالد بن العبَّاس السَّكْسَكِي، حدَّثني الوليد بن مسلم، حدثني أبو عمرو الأوزاعي، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، قال: ولد لأخي أم سلمة

(6)

غلام، فسمَّوه الوليدَ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد جعلتُم تُسمُّون بأسماء فراعنتِكُم، إنَّه سيكونُ في

(1)

رواه البيهقي في "دلائل النبوة"(6/ 503) وإسناده ضعيف جدًّا، محمد بن عمر بن واقد الواقدي، قال الحافظ ابن حجر في التقريب: متروك مع سعة علمه، وإبراهيم بن محمد بن زياد الألهاني، ذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل، ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلًا.

(2)

رواه البخاري في "التاريخ الكبير"(1/ 323) وفي سنده إبراهيم بن محمد بن زياد الألهاني، ذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل، ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلا. ورواه أحمد في المسند رقم (4/ 189) بلفظ:"لتبلغن قرنًا" وهو حديث حسن.

وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد"(9/ 405) وقال: رواه الطبراني وأحمد، ورجال أحمد رجال الصحيح، غير الحسن بن أيوب، وهو ثقة، ورجال الطبراني ثقات. أقول: فهو حديث حسن.

(3)

رواه البيهقي في "دلائل النبوة"(6/ 503) وفي سنده أيضًا إبراهيم بن محمد بن زياد الألهاني، ذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلًا.

(4)

رواه الحاكم في المستدرك (4/ 500) وهو حديث حسن.

(5)

انظر الإصابة - ترجمة عبد الله بن بسر (2/ 282).

(6)

في نسخة: أم سليم.

ص: 359

هذه الأمة رجلٌ يُقالُ له الوليدُ، هو أضرُّ على أمَّتِي مِن فرعونَ على قومه"

(1)

.

قال أبو عمرو الأوزاعي: فكان النَّاسُ يَرَوْنَ أنَّه الوليد بن عبد الملك، ثم رأينا أنه الوليد بن يزيد لفتنة الناس به، حين خَرجُوا عليه فقتلُوه، وانفتحت على الأمة الفتنة والهَرْج

(2)

.

وقد رواه البيهقيُّ: عن الحاكم، وغيره، عن الأصم، عن سعيد بن عُثمان التَنُوخِي، عن بِشْر بن بَكْر، عن الأوزاعيّ، عن الزُّهريّ، عن سعيد

فذكرَه. ولم يذكر قولَ الأوزاعيّ، ثم قال: وهذا مرسلٌ حسن

(3)

.

وقد رواه نُعيم بن حمَّاد: عن الوليد بن مسلم به، وعندَه قال الزهري: إنِ استُخْلِفَ الوليدُ بن يزيد، فهو هو، وإلا فهو الوليدُ بن عبد الملك

(4)

.

وقال نُعيمُ بن حمَّاد: حدَّثنا هُشيم عن أبي حمزةَ، عن الحسن، قال: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "سيكونُ رجلٌ اسمُه الوليدُ، يُسَدُّ به ركنٌ من أركان جهنَّمَ وزاويةٌ من زواياها"

(5)

. وهذا مرسل أيضًا.

‌حديث آخر

قال سليمانُ بن بلال: عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إذا بلغَ بنو أبي العاص أربعينَ رجلًا، اتَّخذُوا دينَ الله دَغَلًا، وعبادَ الله خَوَلًا، ومالَ الله دُوَلًا"

(6)

. رواه البيهقي من حديثه.

وقال نُعَيْمُ بن حمَّاد: حدَّثنا بقيَّةُ بن الوليد وعبد القدُّوس، عن أبي بكر بن أبي مريم، عن راشدِ بن سعد، عن أبي ذر، قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: "إذا بلغتْ بنو أمية أربعينَ، اتخذُوا عبادَ الله خَوَلًا، ومالَ الله نِحَلًا، وكتابَ الله دَغَلًا"

(7)

وهذا منقطع بين راشد بن سعد وبينَ أبي ذر.

وقال إسحاق بن راهويه: أخبرنا جريرٌ، عن الأعمش، عن عطية، عن أبي سعيد، قال: قال

(1)

رواه البيهقي في الدلائل (6/ 505) وهو مرسل.

(2)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 506).

(3)

دلائل النبوة (6/ 505).

(4)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 505).

(5)

رواه نعيم بن حماد في الفتن والملاحم (ص 74).

(6)

رواه البيهقي في الدلائل (6/ 507) ومعنى خَوَلًا: أتباعًا وخدمًا.

(7)

رواه نُعيم بن حماد في الفتن والملاحم (ص 72) ومعنى نِحَلًا: عطايا وهبات، دَغَلًا: أي أدغلوا في التفسير، وأدغلَ في الأمر: أدخل فيه ما يُفسده ويُخالفه. وفي النهاية: اتخذوا دين الله دغلًا: أي يخدعون به الناس.

ص: 360

رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا بلغَ بنو أبي العاص ثلاثينَ رجلًا اتَّخذوا دينَ الله دغلًا، ومالَ الله دُولًا، وعبادَ الله خَوَلًا"

(1)

".

ورواه أحمد: عن عثمان بن أبي شيبة، عن جرير به

(2)

.

وقال البيهقي: أخبرنا عليُّ بن أحمد بن عبدان، أخبرنا أحمدُ بن عبيد الصَّفَّار، حدَّثنا بسَّام - وهو محمد بن غالب -، حدَّثنا كاملُ بن طلحة، حدَّثنا ابن لَهيعة، عن أبي قبيل؛ أن ابنَ وَهْب أخبرَه، أنه كان عند معاويةَ بن أبي سفيان فدخلَ عليه مروانُ فكلَّمه في حاجته، فقال: اقضِ حاجَتِي يا أميرَ المؤمنين، فوالله إنَّ مُؤْنَتِي لعظيمةٌ، وإنِّي لأبو عشرة، وعم عشرة، وأخو عشرة. فلما أدبرَ مروانُ - وابنُ عباس جالسٌ مع معاويةَ على السرير - قال معاوية: أنشدُك بالله يا بنَ عبَّاس، أما تعلم أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال:"إذا بلغَ بنو الحكم ثلاثينَ رجلًا اتَّخذوا مالَ الله بينهم دُولًا، وعبادَ الله خَوَلًا، وكتابَ الله دَغَلًا؟ "فإذا بلغوا سبعة وتسعين وأربعمئة، كان هلاكهم أسرع من لوك ثمرة؟ فقال ابنُ عباس: اللَّهُمَّ نعم. قال: وذكرَ مروانُ حاجةً له، فردَّ مروان عبدَ الملك إلى معاوية فكلَّمَه فيها، فلما أدبرَ عبدُ الملك قال معاويةُ: أنشدُك بالله يا بنَ عبَّاس، أما تعلمُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ذكرَ هذا فقال:"أبو الجبابرة الأربعة؟ "فقال ابن عباس: اللَّهُمَّ نعم

(3)

.

وهذا الحديثُ فيه غرابةٌ ونكارةٌ شديدة، وابنُ لَهِيعَة ضعيف.

وقد قال أبو محمد عبدُ الله بن عبد الرحمن الدَّارمي: حدَّثنا مسلم بن إبراهيم، حدَّثنا سعدُ بن زيد، أخو حمَّاد بن زيد، عن علي بن الحكم البناني، عن أبي الحسن، عن عمرو بن مرَّة - وكانت له صحبة - قال: جاءَ الحَكَمُ بن أبي العاص يستأذنُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فعرفَ كلامَه، فقال:"ائذنُوا له، حيَّة - أو ولد حيَّة - عليه لعنة الله، وعلى مَنْ يخرجُ من صُلْبه إلا المؤمنينَ، وقليلٌ ما هم، لَيُتْرَفُونَ في الدُّنيا ويُوضعونَ في الآخرة، ذوو مكر وخديعة، يُعطون في الدنيا ومالهم في الآخرة من خَلَاق"

(4)

. قال الدارمي: أبو الحسن هذا حمصيٌّ.

وقال نُعيم بن حمَّاد في "الفتن والملاحم": حدَّثنا عبد الله بن مروان بن الحكم، عن أبي بكر بن أبي مريم، عن راشد بن سعد، أن مروان بن الحكم لما وُلدَ دُفعَ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم ليدعوَ له، فأَبى أن يفعل، ثم قال:"ابنُ الزَّرْقاء، هَلاكُ أُمَّتي على يَدَيْه ويدي ذريَّته". وهذا حديث مرسل.

(1)

رواه البيهقي في الدلائل (6/ 507).

(2)

رواه أحمد في المسند (3/ 80) وهو حديث ضعيف لضعف عطية العوفي، ومعنى: دُولًا: جمع دُولة؛ أي: ما يُتداول من المال، فيكون لقوم دون قوم.

(3)

رواه البيهقي في الدلائل (6/ 507 - 508).

(4)

ذكره الهيثمي في المجمع بنحوه (5/ 243) وفي إسناده ضعف.

ص: 361

‌ذكر الإخبار عن خُلفاء بني أميّه جملةً من جملة والإشارة إلى مدَّة دولتهم

قال يعقوب بن سفيان: حدَّثنا أحمدُ بن محمد أبو محمد الزرقي، حدَّثنا الزنجي - يعني مسلم بن خالد - عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"رأيتُ في المنام بني الحكم - أو بني أبي العاص - ينزونَ على مِنْبري كما تنزو القِرَدَةُ" قال: فما رُئي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مُستجمعًا ضَاحِكًا حتى تُوفى

(1)

.

وقال الثوريُّ: عن عليِّ بن زيد بن جُدْعان، عن سعيد بن المسيب قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني أُمية على منبره فساءَه ذلك، فأُوحي إليه:"إنما هي دنيا أُعطوها" فقرَّت به عينُه، وهي قوله:{وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء: 60]، يعني: بلاء للناس

(2)

. عليٌّ بن زيد بن جُدْعان ضعيف، والحديثُ مرسلٌ أيضًا.

وقال أبو داود الطيالسي: حدَّثنا القاسم بن الفضل - وهو الحَذَّاء - حدَّثنا يُوسف بن مازن الرَّاسبِي، قال: قامَ رجل إلى الحسن بن علي بعدما بايعَ مُعاوية، فقال: يا مُسَوِّدَ وجوهَ المؤمنين، فقال الحسن: لا تُؤَنِّبني رحمك الله، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى بني أمية يَخطُبون على مِنبره رجلًا رجلًا، فساءَه ذلك، فنزلتْ:{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر: 1]- يعني نهرًا في الجنة - ونزلت: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 1 - 3]. يملكه بنو أمية. قال القاسم: فحسبنا ذلك فإذا هو ألف شهر لا يزيد يومًا ولا ينقصُ يومًا.

وقد رواه الترمذي وابن جرير الطبري، والحاكمُ في "مستدركه"، والبيهقي في "دلائل النبوة"

(3)

، كلُّهم من حديث القاسم بن الفضل الحُدَّاني - وقد وثقه يحيى بن سعيد القَطَّان، وابن مَهدي - عن يوسف بن سعد، ويقال: يُوسف بن مازن الراسبي، وفي رواية ابن جرير: عيسى بن مازن، قال الترمذي: وهو رجل مجهول، وهذا الحديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه. فقوله: إن يوسف هذا مجهول، مشكل، والظاهر أنه أراد أنه مجهول الحال، فإنه قد روى عنه جماعة، منهم حمَّاد بن سلمة، وخالد الحَذَّاء، ويُونس بن عُبيد. وقالَ يحيى بن معين: هُو مشهور، وفي رواية عنه قال: هو ثقة،

(1)

رواه البيهقي في الدلائل (6/ 511).

(2)

رواه البيهقي في الدلائل (6/ 509).

(3)

رواه الترمذي في جامعه (3350)، والحاكم (3/ 170 و 175) والبيهقي في دلائل النبوة (6/ 509 - 510) وقال: الترمذي غريب (أي ضعيف).

ص: 362

فارتفعت الجهالة عنه مطلقًا، قلت: ولكن في شهوده قصة الحسن ومعاوية نظر، وقد يكون أرسلَها عمن لا يُعتمد عليه، والله أعلم. وقد سألتُ شيخنا الحافظ أبا الحجَّاج المِزِّي رحمه الله عن هذا الحديث فقال: هو حديث منكر.

وأما قول القاسم بن الفضل رحمه الله: إنه حَسَبَ دَوْلَة بني أميَّة فوجدَها ألفَ شهرٍ، لا تزيدُ يومًا ولا تنقصه، فهو غريب جدًّا، وفيه نظر، وذلك لأنه لا يُمكن إدخال دولة عثمان بن عفان رضي الله عنه، وكانت ثنتا عشرة سنة، في هذه المدة، لا من حيث الصورة ولا من حيث المعنى، وذلك أنها ممدوحة، لأنه أحد الخلفاء الراشدين والأئمة المَهْدِيِّين الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون.

وهذا الحديثُ إنما سِيق لذمِّ دَوْلتِهم، وفي دلالة الحديث على الذمِّ نظر، وذلك أنه دل على أن ليلة القدر خيرٌ من ألف شهر التي هي دَوْلتهم، وليلةُ القَدْر ليلةٌ خَيِّرةٌ، عظيمةُ المِقْدار والبَركة، كما وصفَها الله تعالى به، فلم يلزم من تفضيلها على دولتهم ذمُّ دولتهم، فليتأمل هذا فإنه دقيقٌ يدلُّ على أنَّ الحديثَ في صحته نظر، لأنه إنما سيق لذم أيامهم، والله تعالى أعلم.

وأما إذا أراد أن ابتداء دولتهم منذ وَلِيَ معاوية حين تسلَّمها من الحسن بن علي، فقد كان ذلك سنة أربعين، أو إحدى وأربعين، وكان يُقال له عامَ الجماعة، لأن النَّاسَ كلَّهم اجتمعوا على إمام واحد. وقد تقدَّم الحديثُ في صحيح البخاري عن أبي بكرة؛ أنه سمعَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ للحسن بن علي: "إن ابني هذا سَيِّدٌ، ولعل الله أن يُصْلِحَ به بين فئتين عظيمتين من المسلمين

(1)

، فكان هذا في هذا العام، ولله الحمد والمنة.

واستمرَّ الأمرُ في أيدي بني أمية من هذه السنة إلى سنة ثنتين وثلاثين ومئة، حتى انتقلَ إلى بني العباس كما سنذكره

(2)

، ومجموعُ ذلك ثنتان وتسعون سنة، وهذا لا يُطابق ألف شهر، لأن مُعَدَّل ألف شهر ثلاث وثمانون سنة وأربعة أشهر، فإن قال: أنا أُخرجُ منها ولاية ابن الزبير وكانت تسع سنين، فحينئذ يبقى ثلاث وثمانون سنة، فالجواب أنه وإن خرجت ولاية ابن الزبير، فإنه لا يكون ما بقي مُطابقًا لألف شهر تحديدًا، بحيث لا ينقص يومًا ولا يزيده، كما قاله، بل يكون ذلك تقريبًا، هذا وجه.

والثاني: أن ولاية ابن الزبير كانت بالحجاز والأهواز والعراق في بعض أيامه، وفي مصر في قول، ولم تنسلب يد بني أمية من الشام أصلًا، ولا زالت دولتهم بالكلية في ذلك الحين، الثالث: أن هذا يقتضي دخولَ دولة عمر بن عبد العزيز في حساب بني أمية، ومقتضى ما ذكره أن تكون دولته مذمومة، وهذا لا يقوله أحد من أئمة الإسلام، وإنَهم مُصرِّحون بأنه أحد الخلفاء الراشدين، حتى قرنوا أيامه تابعة

(1)

رواه البخاري في صحيحه رقم (2704).

(2)

في الأصل: على ما سنذكره.

ص: 363

لأيام الأربعة، وحتَّى اختلفوا في أيِّهما أفضل؟ هو أو معاوية بن أبي سفيان أحد الصحابة. وقد قالَ أحمد بن حنبل: لا أرى قولَ أحدٍ من التابعين حجَّةً إلا قول عمر بن عبد العزيز، فإذا علم هذا، فإن أخرجَ أيَّامَه من حسابه انخرمَ حسابُه، وإن أدخلَها فيه مذمومةً، خالف الأئمة، وهذا لا محيدَ عنه. وكلُّ هذا مِمَّا يدلُّ على نَكَارة هذا الحديث، والله أعلم.

وقال نُعيم بن حمَّاد: حدَّثنا سُفيان، عن العلاء بن أبي العباس، سمعَ أبا الطفيل، سمعَ عليًا يقول: لا يزالُ هذا الأمر في بني أمية ما لم يختلفوا بينهم

(1)

.

حدَّثنا ابنُ وَهْب عن حرملةَ بن عمران عن سعيد بن سالم، عن أبي سالم الجيشاني، سمعَ عليًا يقول: الأمرُ لهم حتى يقتلوا قتيلَهم، ويتنافسوا بينهم، فإذا كان ذلك بعث الله عليهم أقوامًا من المشرق يقتلوهم بددًا ويحصوهم عددًا، والله لا يملكون سنة إلا ملكنا سنتين، ولا يملكون سنتين إلا ملكنا أربعًا

(2)

.

وقال نعيم بن حمَّاد: حدَّثنا الوليد بن مسلم عن حصين بن الوليد، عن الأزهر بن الوليد، سمعت أم الدرداء سمعت أبا الدرداء يقول: إذا قتل الخليفة الشاب من بني أمية بين الشام والعراق مظلومًا، ما لم تزل طاعة يستخف بها، ودم مسفوك بغير حق - يعني: الوليد بن يزيد

(3)

- ومثل هذه الأشياء إنما تقال عن توقيف.

‌ذكر الإخبار عن دولة بني العباس وكان أول ظهورهم من خُراسان بالرايات السُّود سنة اثنتين وثلاثين ومئة

قال يعقوبُ بن سفيان: حدَّثني محمَّدُ بن خالد بن العبَّاس، حدَّثنا الوليدُ بن مسلم، حدَّثني أبو عبد الله، عن الوليد بن هشام المعيطي، عن أبان بن الوليد بن عقبة بن أبي معيط، قال: قدمَ عبدُ الله بن عباس على معاويةَ وأنا حاضر، فأجازَه فأحسنَ جائزتَه، ثم قال: يا أبا العباس! هل لكم دولة؟ فقال: اعفِني يا أميرَ المؤمنين! فقال: لتخْبِرُني. قال: نعم. قال: فمن أنصارُكم؟ قال: أهلُ خُراسانَ، ولبني أميَّة من بني هاشم بُطْحَاتٌ. رواه البيهقي

(4)

.

(1)

رواه نُعيم بن حمَّاد في الفتن والملاحم (ص 110)، وإسناده ضعيف.

(2)

رواه نُعيم بن حمَّاد في الفتن والملاحم (ص 110)، وإسناده ضعيف.

(3)

رواه نُعيم بن حمَّاد في الفتن والملاحم (ص 111)، وإسناده ضعيف.

(4)

رواه البيهقي في الدلائل (6/ 513).

ص: 364

وقال ابنُ عَدِيّ: سمعتُ ابن حمَّاد، أخبرنا محمد بن عبدةَ بن حَرْب، حدَّثنا سُويد بن سعيد، حدَّثنا حجاج بن تميم؛ عن ميمون بن مهران، عن ابن عباس، قال: مررتُ بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم وإذا معه جبريلُ، وأنا أظنُّه دحيةَ الكَلْبِيّ، فقال جبريل للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: إنه لَوَسِخُ الثياب وسَيَلْبَسُ ولدُه من بعده السَّوادَ

(1)

.

وذكرَ تمامَ الحديث في ذهاب بصره، ثم عودته إليه قبل موته. قال البيهقي

(2)

: تفرَّد به حجَّاج بن تميم وليس بالقوي.

وقال البيهقي: أخبرنا الحاكم، حدَّثنا أبو بكر بن إسحاق، وأبو بكر محمد بن أحمد بن بالويه في آخرين، قالوا: حدَّثنا عبدُ الله بن أحمد بن حنبل، حدَّثنا يحيى بن معين، حدَّثنا عُبيد بن أبي قرَّة، حدَّثنا الليث بن سعد، عن أبي قبيل، عن أبي ميسرةَ مولى العبَّاس، قال: سمعتُ العبَّاسَ، قال: كنتُ عندَ النبي صلى الله عليه وسلم ذاتَ ليلةٍ فقال: "انظر هل ترى في السَّماء مِن شيء؟ قلتُ: نعم، قال: ما ترى؟ قلتُ: الثُّرَيَّا، قال: أما إنه سيملكُ هذه الأمة بعددها مِن صُلْبِكَ"

(3)

. قال البخاري: عُبيد بن أبي قرَّة بغدادي سمعَ الليثَ، لا يُتابعُ على حديثه في قصة العباس

(4)

.

وروى البيهقي: من حديث محمد بن عبد الرحمن العامري - وهو ضعيف - عن سُهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ للعبَّاس: "فيكُم النبوة وفيكم الملكُ"

(5)

.

وقال أبو بكر بن أبي خيثمة: حدَّثنا يحيى بن مَعين، حدَّثنا سفيانُ، عن عمرو بن دينار، عن أبي مَعْبَد قال: قال ابنُ عبَّاس: كما فتحَ الله بأوَّلنا فأرجو أن يختمَه بنا

(6)

. هذا إسنادٌ جيّد، وهو موقوفٌ على ابن عباس من كلامه.

وقال يعقوبُ بن سفيان: حدَّثني إبراهيمُ بن أيوب، حدَّثنا الوليد، حدَّثنا عبدُ الملك بن حُميد بن أبي غَنِيَّة، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، قال: سَمِعنَا ابنَ عباس ونحن نقول: اثنا عشر أميرًا واثنا عشر أميرًا، ثمَّ هي السَّاعة، فقال ابنُ عباس: ما أحمقكم؟! إنَّ مِنَّا أهلَ البيت بعد ذلك، المنصور، والسَّفَّاح، والمَهْدِيُّ، يدفعُها إلى عيسى ابن مريم

(7)

. وهذا أيضًا موقوف.

(1)

رواه ابن عدي في الكامل (2/ 647) وقال: حجاج بن تميم هذا، ليس له كبير رواية. وترجمته في الميزان (1/ 410) وقال الذهبي: أحاديثه تدلُّ على أنه واهٍ.

(2)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 518).

(3)

رواه البيهقي في الدلائل (6/ 518) وابن عدي في الكامل (5/ 1988).

(4)

نقله ابن عدي في الكامل (5/ 1988).

(5)

رواه البيهقي في الدلائل (6/ 517) بلفظ: "فيكم النبوة والمملكة".

(6)

رواه البيهقي في الدلائل (6/ 517).

(7)

رواه البيهقي في الدلائل (6/ 514).

ص: 365

وقد رواه البيهقي من طريق الأعمش، عن الضحَّاك، عن ابن عباس مرفوعًا:"منا السَّفَّاح، والمنصور، والمهدي"

(1)

. وهذا إسناد ضعيف، والضحَّاك لم يسمع من ابن عباس شيئًا على الصحيح، فهو منقطع، والله أعلم.

وقد قال عبدُ الرزَّاق: عن الثوري، عن خالد الحذَّاء، عن أبي قِلَابة، عن أبي أسماء، عن ثَوْبان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَقْتَتِلُ عندَ كَنْزِكُم ثلاثةٌ، كلُّهم وَلَدُ خليفةٍ، ثمَّ لا يصيرُ إلى واحد منهم، ثم تُقبل الراياتُ السُّود من خراسان، فيقتلونَهم مقتلةً لم يروا مثلَها، ثم يجيءُ خليفةُ الله المَهْدِيُّ، فإذا سمعتُم فائْتُوه فبايعوه ولو حَبوًا على الثَّلْجِ، فإنَّه خليفةُ الله المهدي". أخرجه ابن ماجه عن أحمد بن يوسف السُّلمي، ومحمد بن يحيى الذهلي، كلاهما عن عبد الرزاق به

(2)

.

ورواه البيهقي من طرقٍ عن عبد الرزاق، ثم قال: تفرّد به عبد الرزاق. قال البيهقي: ورواه عبد الوهاب بن عطاء، عن خالد الحذاء، عن أبي قِلابة، عن أبي أسماء، عن ثوبانَ، موقوفًا

(3)

.

ثم قال البيهقي: أخبرنا عليُّ بن أحمد بن عبدان، أخبرنا أحمد بن عُبيد الصَّفار، حدَّثنا محمد بن غالب، حدَّثنا كثير بن يحيى، حدَّثنا شريك، عن علي بن زيد، عن أبي قلابة، عن أبي أسماء، عن ثوبان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أقبلت الرايات السُّود من عَقِب خُراسانَ، فائْتُوها ولو حَبْوًا على الثلْجِ، فإنَّ فيها خليفةَ الله المَهْدي

(4)

.

وقال الحافظ أبو بكر البزَّار: حدَّثنا الفَضل بن سَهْل، حدَّثنا عبد الله بن داهر الرَّازي، حدَّثنا أبي، عن ابن أبي ليلى، عن الحاكم، عن إبراهيم، عن عبد الله بن مسعود؛ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ذكرَ فِتْيةً من بني هاشم، فاغرورقتْ عيناه، وذكرَ الرَّاياتِ، قال:"فمن أدركَها فليأتِها ولو حَبْوًا على الثلْجِ"

(5)

. ثم قال: وهذا الحديث لا نعلمُ رواه عن الحاكم إلا ابن أبي ليلى، ولا نعلمُ يُروى إلا من حديث داهر بن يحيى، وهو من أهل الرأي صالح الحديث، وإنما يُعرف من حديث يزيد بن أبي زياد، عن إبراهيم

(6)

.

وقال الحافظ أبو يعلى: حدَّثنا أبو هشام بن يزيد بن رفاعة، حدَّثنا أبو بكر بن عيَّاش، حدَّثنا يزيد بن أبي زياد، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله - هو ابن مسعود - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تجيءُ رايات سُود من قِبَلِ المَشْرق، وتخوضُ الخيلُ الدِّماء إلى ثُنَتِها، يُظهرونَ العدلَ، ويَطلبونَ

(1)

رواه البيهقي في الدلائل (6/ 514).

(2)

رواه ابن ماجه في سننه رقم (4084) في الفتن، وإسناده ضعيف.

(3)

رواه البيهقي في الدلائل (6/ 515) وقال: وروي من وجه آخر عن أبي قلابة، وليس بالقويِّ.

(4)

رواه البيهقي في الدلائل (6/ 515) وإسناده ضعيف.

(5)

ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (7/ 316) وقال: فيه زياد بن أبي زياد، وهو لَيِّنٌ.

(6)

وإسناده ضعيف.

ص: 366

العَدْلَ فلا يُعطونه، فيَظْهَرُون، فيُطلَبُ منهم العَدْلُ فلا يُعطونه"

(1)

. وهذا إسناد حسن

(2)

.

وقال الإمام أحمد

(3)

: حدَّثنا يحيى بن غَيْلان، وقُتيبة بن سعيد، قالا: حدَّثنا رشدين بن سعد. قال يَحيى بن غيلان في حديثه، قال: حدَّثني يُونس بن يزيد، عن ابن شهاب، عن قبيصة - هو ابن ذؤيب الخزاعي - عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"يخرجُ من خراسان راياتٌ سودٌ لا يردّها شيء حتى تُنْصَبَ بإيلياء".

وقد رواه الترمذي

(4)

عن قتيبة به وقال: غريب.

ورواه البيهقي والحاكم: من حديث عبد الله بن مسعود، عن رشدين بن سعد. وقال البيهقي: تفرد به رشدين بن سعد، وقد رُوي قريبٌ من هذا عن كعب الأحبار، ولعله أشبه، والله أعلم

(5)

.

ثم رُوي من طريق يعقوب بن سُفيان: حدَّثنا محمد، عن أبي المغيرة عبد القدوس، عن إسماعيل بن عيَّاش، عمَّن حدَّثه عن كعب الأحبار، قال: تظهرُ راياتٌ سودٌ لبني العبَّاس حتَّى ينزلوا بالشَّام، ويقتلُ الله على أيديهم كلَّ جبَّار، وكلَّ عدو لهم

(6)

.

وقال الإمام أحمد

(7)

: حدَّثنا عثمان - هو ابن أبي شيبة - حدَّثنا جريرٌ، عن الأعمش، عن عطية العوفي، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يخرجُ عندَ انقطاع من الزمان، وظهور من الفِتن، رجلٌ يُقالُ له السَّفاح، فيكونُ إعطاؤُه المالَ حَثْوًا".

ورواه البيهقيُّ

(8)

: عن الحاكم، عن الأصَمِّ، عن أحمد بن عبد الجبار، عن أبي عَوَانة، عن الأعمش به، وقال فيه:"يخرجُ رجلٌ مِن أهل بيتي يُقال له السَّفَاح .. "فذكرَه. وهذا الإسناد على شرط أهل السنن ولم يُخَرِّجوه.

فهذه الأخبار في خروج الرايات السُّود من خُراسانَ، وفي ولاية السَّفاح، وهو ابن العبَّاس عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب، وقد وقعت ولايتُه في حدود سنة ثنتين وثلاثين ومنة، ثم ظهرَ بأعوانه ومعهم الراياتُ السُّود، وشعارهم لبسُ السَّواد، كما دخلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مكةَ يومَ

(1)

رواه أبو يعلى في المسند (5084).

(2)

هكذا قال وفي قوله نظر ففي إسناده يزيد بن أبي زياد وهو ضعيف، كما قال الحافظ ابن حجر في التقريب.

(3)

رواه أحمد في المسند (2/ 365) رقم (8760).

(4)

في الجامع (2269) في الفتن.

(5)

رواه البيهقي في الدلائل (6/ 516) والحاكم في المستدرك (4/ 464) وقال الذهبي في التلخيص: هذا موضوع.

(6)

رواه البيهقي في الدلائل (6/ 517) وإسناده ضعيف.

(7)

في المسند (3/ 80).

(8)

في الدلائل (6/ 514) وإسناده ضعيف لضعف عطية العوفي.

ص: 367

الفتح، وعلى رأسه المِغْفَرُ وفوقَه عِمامةٌ سوداء. ثم بعثَ عمَّه عبد الله بن عليّ لقتال بني أميَّةَ، فكسَرهم في سنة اثنتين وثلاثين ومئة، وهربَ من المعركة آخرُ خلفائهم، وهو مروان بن محمد بن مروان، ويُلقَّبُ بمروانَ الحمار، ويُقال له: مروان الجَعْدِيّ، لاشتغاله على الجَعْد بن درهم فيما قيل. ودخلَ عمُّه دمشقَ واستحوذَ على ما كانَ لبني أُميَّةَ من الملك والأْملاك والأموال، وجرتْ خُطوب كثيرة سنُوردها مُفَصَّلةً في موضعها إن شاء الله.

وقد وردَ عن جماعةٍ من السلف في ذكر الرايات السُّود التي تخرجُ من خُراسانَ بما يطولُ ذكره، وقد استقصَى ذلك نُعيمُ بن حمَّاد في كتابه، وفي بعض الروايات ما يدلُّ على أنه لم يقع أمرها بعدُ، وأن ذلك يكونُ في آخر الزمان، كما سنُورده في موضعه إن شاء الله تعالى، وبه الثقة وعليه التكلان.

وقد روى عبد الرَّزاق عن معمر، عن الزهريِّ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقومُ السَّاعةُ حتى تكونَ الدنيا للكع ابن لكع" قال أبو معمر: هو أبو مسلم الخراساني - يعني: الذي أقامَ دولة بني العباس -.

والمقصودُ أنَّه تحوَّلت الدولة من بني أمية إلى بني العبَّاس في هذه السنة، وكان أول قائم منهم أبو العبَّاس السَّفَّاح، ثم أخوه أبو جعفر عبد الله المنصور باني مدينة السلام بغداد، ثم من بعده ابنه المهدي محمد بن عبد الله، ثم من بعده ابنه الهادي، ثم ابنه الآخر هارون الرشيد، ثم انتشرتِ الخلافةُ في ذُرِّيَّتِهِ على ما سنُفصِّله إذا وصلنَا إلى تلك الأيام.

وقد نطقتْ هذه الأحاديث التي أوردناها آنفًا بالسَّفَّاح والمنصور والمَهْدي، ولا شك أن المَهْدي الذي هو ابن المنصور وثالث خلفاء بني العباس، ليس هو المَهْديُّ الذي وردت الأحاديث المستفيضة بذكره، وأنَّه يكونُ في آخر الزمان، يملأ الأرضَ عَدْلًا وقِسْطًا كما مُلِئتْ جَورًا وظُلمًا، وقد أفردنَا للأحاديث الواردة فيه جزءًا على حِدَة، كما أفردَ له أبو داود كتابًا في "سننه"، وقد تقدَّمَ في بعض هذه الأحاديث آنفًا أنه يُسَلِّمُ الخلافةَ إلى عيسى ابن مريم إذا نزلَ إلى الأرض، والله أعلم.

وأمَّا السَّفَّاحُ فقد تقدَّم أنه يكونُ في آخر الزمان، فيبعدُ أن يكونَ هو الذي بُويع أوَّلَ خلفاء بني العباس، فقد يكون خليفةً آخر، وهذا هو الظاهر، فإنه قد روى نُعيمُ بن حمَّاد: عن ابن وهب، عن ابن لهيعة، عن يزيد بن عمرو المعافري، عن تدوم الحميري، سمعَ تبيع بن عامر، يقول: يعيشُ السَّفَّاحُ أربعينَ سنة، اسمُه في التوراة طائر السماء

(1)

.

قلت: وقد تكون صفة للمهدي الذي يظهرُ في آخر الزمان، لكثرة ما يَسفحُ - أي: يُريق من الدماء لإقامة العدل، ونشر القسط - وتكونُ الرايات السود المذكورة في هذه الأحاديث إن صَحَّتْ هي التي تكون مع المَهْديّ، ويكونُ أول ظهور بيعتِه بمكَة، ثم تكون أنصاره من خُراسانَ، كما وقع قديمًا للسَّفَّاح،

(1)

رواه نُعيم بن حمَّاد في الفتن والملاحم رقم (272).

ص: 368

والله تعالى أعلم. هذا كلُّه تفريعٌ على صِحَّة هذه الأحاديث، وإلا فلا يخلو سندٌ منها عن كلام، والله سبحانه وتعالى أعلمُ بالصواب.

‌ذكْرُ الإخبار عن الأئمة الاثني عشر الذين كلّهم من قريش

وليسوا بالاثني عشر الذين يدعون إمامتَهم الرافضة، فإن هؤلاء الذين يزعمون لم يل أمرَ الناس منهم إلا عليّ بن أبي طالب وابنه الحسن، وآخرُهم في زعمهم المَهْدي المنتظر في زعمهم بسرداب سامرّا، وليس له وجود، ولا عينٌ، ولا أثر، بل هؤلاء من الأئمة الاثني عشر المخبر عنهم في الحديث، الأئمة الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ، رضي الله عنهم، ومنهم عمرُ بن عبد العزيز، بلا خلاف بين الأئمة على كلا القولين لأهل السنة في تفسير الاثني عشر على ما سنذكره بعدَ إيراد الحديث.

ثبت في صحيح البخاري من حديث شعبة، ومسلم من حديث سفيان بن عُيينة، كلاهما عن عبد الملك بن عُمير، عن جابرِ بن سَمُرةَ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يكونُ اثنا عشرَ خليفة" ثم قال كلمة لم أسمعها، فقلت لأبي: ما قال: قال: "كلهم من قريش"

(1)

.

وقال نُعيم بن حماد في كتاب الفتن والملاحم

(2)

: حدَّثنا عيسى بن يونس، حدَّثنا مجالد، عن الشعبي، عن مسروق، عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يكونُ بعدي من الخلفاء عِدة أصحاب موسى".

وقد رُوي مثل هذا عن عبد الله بن عمر، وحذيفةَ، وابن عبَّاس، وكعب الأحبار، من قولهم.

وقال أبو داود: حدَّثنا عمرو بن عثمان، حدَّثنا مروانُ بن مُعاوية، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبيه، عن جابر بن سَمُرة، قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يزال هذا الأمرُ قائمًا حتى يكونَ عليهم اثنا عشر خليفة - أو أميرًا - كلهم تجتمع عليه الأمَّة" وسمعتُ كلامًا من النبيِّ صلى الله عليه وسلم لم أفهمه، فقلتُ لأبي: ما يقولُ؟ قال: يقول: "كلُّهم من قريش"

(3)

.

وقال أبو داود أيضًا: حدَّثنا ابن نُفَيْل، حدَّثنا زهيرُ بن مُعاوية، حدَّثنا زياد بن خَيْثمة، حدَّثنا الأسود بن سعيد الهَمْدَاني، عن جابر بن سَمُرة، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال هذه الأمة مستقيمًا أمرها، ظاهرةً على عدوِّها، حتى يمضيَ منهم اثنا عشرَ خليفة، كلُّهم من قريش" قال: فلما

(1)

رواه البخاري في الأحكام (7222) و (7223) ومسلم في الإمارة (1821)(6).

(2)

الفتن والملاحم (ص 52) وروايته: "عدّة نقباء موسى".

(3)

رواه أبو داود في سننه رقم (4279) في أول كتاب المهدي، وهو صحيح، دون قوله:"تجتمع عليه الأمة".

ص: 369

رجعَ إلى منزله أتته قريشٌ فقالوا: ثم يكونُ ماذا؟ قال: "ثم يكون الهَرْج"

(1)

.

قال البيهقي

(2)

: ففي الرواية الأولى بيان العدد، وفي الثانية بيان المراد بالعدد، وفي الثالثة بيان وقوع الهَرْج، وهو القتل بعدهم، وقد وُجد هذا العدد بالصفة المذكورة إلى وقت الوليد بن يزيد بن عبد الملك، ثم وقعَ الهَرْج والفتنة العظيمة كما أخبر في هذه الرواية، ثم ظهرَ ملك العبَّاسية، كما أُشير إليه في الباب قبلَه، وإنما يزيدون على العدد المذكور في الخبر، إذا تُركت الصفة المذكورة فيه، أو عُدَّ منهم من كان بعد الهَرْج المذكور فيه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا يزال هذا الأمرُ في قريش ما بقي من الناس اثنان"

(3)

.

ثم ساقَه من حديث عاصم بن محمد، عن أبيه، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم

فذكرَه

(4)

.

وفي صحيح البخاري: من طريق الزهري، عن محمد بن جُبير بن مُطْعم، عن معاويةَ بن أبي سفيان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن هذا الأمرَ في قريش لا يُعاديهم أحدٌ إلا كبَّه الله على وجهه ما أقاموا الدِّين"

(5)

.

قال البيهقي

(6)

: أي: أقاموا معالمَه وإن قصَّروا هم في أعمال أنفسهم.

ثم ساقَ أحاديث تقتضي ما ذكره من هذا، والله أعلم.

فهذا الذي سلكه البيهقي، وقد وافقَه عليه جماعةٌ، من أن المراد بالخلفاء الاثني عشر المذكورين في هذا الحديث هم المتتابعون إلى زمن الوليد بن يزيد بن عبد الملك الفاسق، الذي قدَّمنا الحديث فيه بالذم والوعيد، فإنه مسلك فيه نظر.

وبيان ذلك أن الخلفاء إلى زمن الوليد بن يزيد هذا أكثر من اثني عشر على كل تقدير، وبرهانُه أنَّ الخلفاء الأربعة، أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، خلافتُهم محقَّقة بنص حديث سفينة:"الخلافة بعدي ثلاثون سنة"

(7)

. ثم بعدَهم الحسنُ بن على كما وقعَ، لأن عليًا أوصى إليه، وبايَعه أهلُ العراق، وركبَ وركبُوا معه لقتال أهل الشام حتى اصطلح هو ومعاوية، كما دلَّ عليه حديث أبي بكرة في صحيح

(1)

رواه أبو داود في سننه رقم (4281) في كتاب المهدي، وهو صحيح إلى قوله:"كلهم من قريش" فقط.

(2)

دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 520).

(3)

رواه البخاري في الأحكام (7140).

(4)

رواه البيهقي في الدلائل (6/ 521).

(5)

رواه البخاري في الأحكام (7139).

(6)

دلائل النبوة (6/ 521).

(7)

رواه أحمد (5/ 221) وأبو داود (4646) و (4647) في السنة؛ والترمذي في جامعه (2226) في الفتن وهو حديث حسن كما قال الترمذي.

ص: 370

البخاري

(1)

، ثمَّ معاوية، ثم ابنه يزيد بن معاوية، ثم ابنه معاوية بن يزيد، ثم مروان بن الحكم، ثم ابنه عبد الملك بن مروان، ثم ابنه الوليد بن عبد الملك، ثم سليمان بن عبد الملك، ثم عمرُ بن عبد العزيز، ثم يزيدُ بن عبد الملك، ثم هشام بن عبد الملك.

فهؤلاء خمسة عشر، ثم الوليد بن يزيد بن عبد الملك، فإن اعتبرنا ولاية الزبير قبلَ عبد الملك صارُوا ستة عشر رجلًا، وعلى كل تقدير فهم اثنا عشر قبل عمر بن عبد العزيز، فهذا الذي سلكه على هذا التقدير يدخل في الاثني عشر يزيد بن معاوية، ويخرج منهم عمر بن عبد العزيز، الذي أطبقَ الأئمة على شكره وعلى مدحه، وعدُّوه من الخلفاء الراشدين، وأجمعَ النَّاسُ قاطبةً على عدله، وأن أيَّامَه كانت من أعدل الأيام، حتى إنَّ الرافضة يعترفونَ بذلك. فإن قال: أنا لا أعتبر في هذا إلا من اجتمعت الأمَّةُ عليه، لزمَه على هذا القول أن لا يَعُدَّ عليَّ بن أبي طالب ولا ابنه؛ لأن الناس لم يجتمعوا عليهما، وذلك أن أهل الشام بكمالهم لم يُبايعوهما، وعَدَّ معاوية، وابنه يزيد، وابن ابنه معاوية بن يزيد، ولم يعتدَّ بأيَّام مروان ولا ابن الزبير؛ لأن الأمَّةَ لم تجتمع على واحد منهما، فعلى هذا نقول في مسلكه هذا عادًّا للخلفاء أبا بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم معاوية، ثم يزيد بن معاويه

(2)

، ثم عبد الملك، ثم الوليد، ثم سليمان، ثم عمر بن عبد العزيز، ثم يزيد، ثم هشام، فهؤلاء اثنا عشرة، ثم من بعدهم الوليد بن يزيد بن عبد الملك الفاسق، ولكن هذا لا يمكن أن يُسلكَ لأنه يلزم منه إخراج عليّ وابنه الحسن من هؤلاء الاثني عشر، وهو خلاف ما نصَ عليه أئمةُ السُّنَّة، بل والشيعة. ثم هو خلاف ما دلَّ عليه نصًا حديث سفينة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الخلافةُ بعدي ثلاثون سنة، ثم تكون مُلْكًا عَضُوضًا

(3)

. وقد ذكرَ سفينة تفصيلَ هذه الثلاثين سنة، فجمعَها من خلافة الأربعة، وقد بينَّا دخولَ خلافة الحسن، وكانت نحوًا من ستة أشهر فيها أيضًا، ثم صار الملكُ إلى معاويةَ لما سَلَّم الأمرَ إليه الحسنُ بن عليّ، وهذا الحديث فيه المنع من تسمية معاوية خليفة، وبيانُ أن الخِلافةَ قد إنقطعتْ بعد الثلاثين سنة لا مطلقًا، بل انقطعَ تتابُعها، ولا ينفي وجودَ خلفاءَ راشدين بعد ذلك، كما دل عليه حديث جابر بن سَمُرة.

وقال نُعيمُ بن حمَّاد: حدَّثنا راشد بن سعد، عن ابن لهيعة، عن خالد بن أبي عمران، عن حذيفة بن اليمان قال:"يكونُ بعدَ عثمان اثنا عشر ملكًا من بني أمية" قيل له: خلفاء؟ قال: "لا، بل ملوك

(4)

.

وقد روى البيهقيُّ: من حديث حاتم بن [أبي صغيرة]، عن أبي بَحْر، قال: كان أبو الجَلْد جارًا

(1)

تقدم تخريج الحديث.

(2)

[ثم معاوية بن يزيد] وقد سقط هذا الاسم من المخطوط، ولا بد منه ليكتمل العدد.

(3)

تقدم تخريجه.

(4)

رواه نعيم بن حماد في الفتن والملاحم (ص 53) وفي سنده ابن لهيعة، وهو ضعيف، ونعيم ضعيف أيضًا.

ص: 371

لي، فسمعتُه يقولُ - يحلفُ عليه -: إنَّ هذه الأمَّةَ لن تهلكَ حتى يكونَ فيها اثنا عشر خليفة، كلّهم يعمل بالهُدى ودين الحق، منهم رجلان من أهل البيت، أحدُهما يعيشُ أربعينَ سنة، والآخر ثلاثين سنة

(1)

.

ثم شرعَ البيهقيُّ في ردِّ ما قاله أبو الجَلْد بما لا يحصلُ به الرَّدُّ، وهذا عجيبٌ منه، وقد وافقَ أبا الجَلْدِ طائفةٌ من العلماء، ولعل قولَه أرجحُ لما ذكرنا، وقد كان ينظر في شيء من الكتب المتقدمة.

وفي التوراة التي بأيدي أهل الكتاب ما معناه: إن الله تعالى بشَّر إبراهيمَ بإسماعيل، وإنه يُنَمِّيه ويُكَثِّره، ويجعلُ من ذريته اثني عشر عظيمًا.

قال شيخنا العلَّامة أبو العباس بن تيمية: وهؤلاء المُبَشَّر بهم في حديث جابر بن سَمُرة، وقرَّرَ أنهم يكونون مُفَرِّقِين في الأُمَّة، ولا تقومُ الساعة حتى يُوجدوا، قال: وغلط كثير ممن تشرَّف بالإسلام من اليهود فظنُّوا أنهم الذين تدعو إليهم فرقةُ الرافضة فاتَّبعوهم.

وقد قال نعيمُ بن حمَّاد: حدَّثنا ضمرةُ، عن ابن شَوْذب، عن أبي المِنْهال، عن أبي زياد، عن كعب، قال: إنَّ الله وَهبَ لإسماعيلَ من صُلْبه اثني عشر قيِّمًا، أفضلُهم وخيرُهم أبو بكر وعمرُ وعثمان.

وقال نُعيمٌ: حدَّثنا ضمرةُ، عن ابن شَوْذب، عن يحيى بن أبي عمرو السَّيْبَاني قال: ليس من الخلفاء من لم يملك المَسجِديْن: المسجدَ الحرام، والمسجدَ الأقصى

(2)

.

‌ذكْرُ الإخبار عن أمور وقعت في دولة بني العباس إلى زماننا هذا

فمن ذلك: [ما وقع في زمن] أبي جعفر عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عبَّاس الخليفة بعد أخيه الخليفة السَّفَّاح، وهو المنصورُ الباني لمدينة بغداد، في سنة خمس وأربعين ومئة.

قال نُعيم بن حمَّاد في كتابه: عن أبي المُغيرة، عن أرطأة بن المنذر، عمن حَدَّثه، عن ابن عباس، أنه أتاه رجل وعنده حذيفة فقال: يا بن عباس قوله: {حمعسق} فأطرقَ ساعة وأعرَض عنه، ثم كرَّرها فلم يُجبْه بشيء، فقال له حذيفة: أنا أنبئك، وقد عرفتُ لم كَرَّرَها، إنما نزلتْ في رجلٍ من أهل بيته يُقال له عبد الإله، أو عبد الله، ينزلُ على نهر من أنهار المشرق، يبني عليه مدينتين يشقُّ النهرُ بينهما شقًّا، يَجتمعُ فيهما كلُّ جبَّار عنيد

(3)

.

(1)

رواه البيهقي في الدلائل (6/ 523).

(2)

رواه نعيم بن حماد في الفتن والملاحم (صفحة 58) وفيه: ومسجد بيت المقدس، وفي نسخة: وبيت المقدس.

(3)

رواه نُعيم بن حماد في الفتن والملاحم (ص 119) وفي إسناده جهالة.

ص: 372

وقال أبو القاسم الطبراني

(1)

: حدَّثنا أحمدُ بن عبد الوهاب بن نَجْدة الحَوْطي، حدَّثنا أبو المُغيرة، حدَّثنا عبدُ الله بن السَّمْط، حدَّثنا صالحُ بن عليّ الهاشمي، عن أبيه، عن جدِّه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"لأن يُرَبِّي أحدُكم بعد أربع وخمسين ومئة جروَ كلبٍ، خيرٌ من أن يُرَبِّي ولدًا لصُلْبِه". قال شيخنا الذهبيُّ

(2)

: هذا الحديث موضوع، واتَّهمَ به عبدَ الله بن السَّمْط هذا.

وقال نعيمُ بن حمَّاد الخُزَاعي شيخ البخاريّ، في كتابه "الفتن والملاحم"

(3)

: حدَّثنا أبو عمرو البَصْري، عن أبي بيان المعافريّ، عن بديع، عن كعب، قال: إذا كانت سنة ستين ومئة انتقصَ فيها حلمُ ذوي الأحلام، ورأيُ ذَوِي الرأي.

‌حديث آخر فيه إشارة إلى مالك بن أنس الإمام

روى الترمذي

(4)

: من حديث ابن عُيينة، عن ابن جُريج، عن أبي الزبير، عن أبي صالح، عن أبي هُريرة رواية: يُوشك أن يضربَ النَّاسُ أكبادَ الإبل يَطلبونَ العلمَ ولا يجدون أحدًا أعلم من عالم المدينة

(5)

. ثم قال: "هذا حديث حسن، وهو حديث ابن عيينة، وقد رُوي عنه أنه قال: هو مالك بن أنس، وكذا قال عبد الرزاق".

قلت: وقد تُوفي مالك رحمه الله سنة تسع وسبعين ومئة.

‌حديث آخر فيه إشارة إلى محمد بن إدريس الشافعي

قال أبو داود الطيالسي

(6)

: حدَّثنا جعفر بن سليمان، عن النضر بن مَعْبد الكندي - أو العبدي - عن

(1)

في المعجم الكبير (10685).

(2)

ميزان الاعتدال (2/ 32 و 436).

(3)

الفتن والملاحم (ص 36).

(4)

الجامع للترمذي رقم (2680) في العلم.

(5)

رواه أيضًا الحميدي (1147)، وأحمد في المسند (2/ 299) وإسناده ضعيف بسبب تدليس ابن جريج وهو عبد الملك بن عبد العزيز. وقال الحافظ الذهبي في السير (8/ 56) بعد أن ساق الحديث بروايته: "هذا حديث نظيف الإسناد غريب المتن رواه عدة عن سفيان بن عيينة

وقد رواه المحاربي عن ابن جريج موقوفًا، ويروى عن محمد بن عبد الله الأنصاري عن ابن جريج مرفوعًا".

(6)

مسند أبي داود الطيالسي (309) وإسناده ضعيف جدًّا، فإن النضر الكندي متروك. وتمام تخريجه في تاريخ الخطيب (2/ 298) تحقيق الدكتور بشار.

ص: 373

الجارود، عن أبي الأحوص، عن عبد الله، قال: قالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تَسبُّوا قريشًا فإن عالمها يملأ الأرضَ علمًا، اللَّهُمَّ إنَّكَ أذقتَ أَوَّلَها وَبالًا، فأذقْ آخرَها نَوَالًا".

وقد رواه الحاكم من طريق أبي هُريرة

(1)

.

قال الحافظُ أبو نُعيم الأصبهاني: وهو الشافعي.

قلت: وقد تُوفي الشافعيّ رحمه الله في سنة أربع ومئتين، وقد أفردنا ترجمتَه في مجلد، وذكرنا معه تراجمَ أصحابه من بعده.

‌حديث آخر

وروى رواد بن الجرَّاح: عن سفيان الثوري، عن منصور، عن ربعي، عن حذيفة، مرفوعًا:"خيرُكم بعد المئتين خفيفُ الحَاذِّ" قالوا: وما خفيفُ الحَاذِّ يا رسول الله؟ قال: "من لا أهل له ولا مال ولا ولد"

(2)

.

‌حديث آخر

قال ابن ماجه

(3)

: حدَّثنا الحسنُ بن عليّ الخَلَّال، حدَّثنا عَوْن بن عُمارة، حدَّثني عبدُ الله بن المُثنَّى، ابن

(4)

ثُمامة بن عبد الله بن أنس بن مالك، عن أبيه، عن جدّه، عن أنس بن مالك، عن أبي قتادة قال:

قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "الآيات بعد المئتين"

(5)

.

وحدَّثنا نصرُ بن عليّ الجَهْضَمِيّ، حدَّثنا نُوح بن قَيْس، حدَّثنا عبدُ الله بن معقل، عن يزيد الرَّقَاشي، عن أنس بن مالك، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"أُفَتي على خمسِ طبقاتٍ، فأربعونَ سنة، أهلُ بِرٍّ وتَقوى، ثم الذين يَلونَهم إلى عشرين ومئة سنة، أهلُ تَراحُم وتَواصُل، ثم الذين يلونَهم إلى ستين ومئة، أهلُ تَدَابُرٍ وتَقاطع، ثم الهَرجُ الهَرْجُ، النَّجَاء النَّجاء"

(6)

.

(1)

ذكره المتقي الهندي في الكنز (33876) ولم نجده عند الحاكم، وهو ضعيف.

(2)

ذكره الحوت في "أسنى المطالب" رقم (621) وقال: وفي سنده روّاد بن الجراح، ضعفه الحافظ.

(3)

رواه ابن ماجه في الفتن. من سننه (4057).

(4)

في المطبوع: "حدثنا" خطأ، وهذه رواية ابن ماجه. وراجع ما قاله المزي في تهذيب الكمال (27/ 197) وتعليق الدكتور بشار على سنن ابن ماجه.

(5)

في إسناده عون بن عمارة العَبْدي، وهو ضعيف، وهو حديث موضوع.

(6)

رواه ابن ماجه في الفتن (4058) وفي إسناده يزيد بن أبان الرَّقاشيُّ، وهو ضعيف، والراوي عنه عبد الله بن معقل=

ص: 374

وحدَّثنا نصرُ بن عليّ، حدَّثنا حازم أبو محمد العَنَزِيّ، حدَّثنا المِسْور بن الحسن، عن أبي مَعْن، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أُمتي على خمس طبقاتٍ، كل طبقةٍ أربعونَ عامًا، فأمَّا طَبقتِي وطبقةُ أَصحابي فأهلُ علم وإيمان، وأما الطبقةُ الثانية ما بينَ الأربعينَ إلى الثمانين، فأهلُ بِرٍّ وتَقوى"

(1)

ثم ذكر نحوه.

هذا لفظه، وهو حديث غريب من هذين الوجهين، لا يَخلُو عن نكارةٍ، واللّه أعلم.

وقد قال الإمام أحمد: حدَّثنا وكيعٌ، حدَّثنا الأعمشُ، حدَّثنا هلالُ بن يسار، عن عمرانَ بن حُصين، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "خيرُ النَّاس قَرْني ثم الذين يَلونَهم، ثم الذين يَلونَهم، ثم يجيءُ قومٌ يتسمَّنون، يُحِبُّونَ السِّمَنَ، يُعطون الشهادة قبلَ أن يُسألوها"

(2)

.

ورواه الترمذي

(3)

من طريق الأعمش.

وقد رواه البخاري ومسلم من حديث شعبة عن أبي حمزة، عن زَهْدَم بن مُغَرَّبٍ، سمعت عِمرانَ بن حُصَيْن، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خيرُ أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم - قال عمران: فلا أدري أذكرَ بعد قرنه قرنين أو ثلاثة - ثم إن بعدكم قومًا يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن" لفظ البخاري

(4)

.

وقال البخاري: حدَّثنا محمد بن كثير، أخبرنا سفيانُ، عن منصورٍ، عن إبراهيمَ، عن عبَيْدَة، عن عبد الله؛ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال:"خيرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثمَّ الذينَ يلونَهم، ثمَّ الذين يَلونَهم، ثم الذين يلونهم، ثم يَجيءُ قوم تسبق شهادةُ أحدِهم يمينَه، ويمينُه شهادَتَه"

(5)

. قال إبراهيم: وكانوا يضربُوننا على الشهادة والعهد ونحنُ صغار.

وقد رواه بقية الجماعة إلا أبا داود من طرق متعدِّدة عن منصورٍ به

(6)

.

= مجهول ومتن الحديث منكر.

(1)

رواه ابن ماجه في الفتن (4058) وأبو معن، والمسور بن الحسن، وخازم العنزي؛ مجهولون. وقال أبو حاتم: هذا حديث باطل، وقال الذهبي في ترجمة المسور: حديثه منكر، وينظر تعليق الدكتور بشار على سنن ابن ماجه.

(2)

رواه أحمد في المسند (4/ 426) وهو حديث صحيح.

(3)

رواه الترمذي في الشهادات (2302) وهو حديث صحيح.

(4)

رواه البخاري رقم (3650) ومسلم رقم (2535)(214).

(5)

رواه البخاري في فضائل أصحاب النبي (3650).

(6)

رواه مسلم (2533)(210) و (211) و (212) في الفضائل، والترمذي (3859) في المناقب، والنسائي في الكبرى (6031) في القضاء، وابن ماجه (2362) في الأحكام. وهو في مسند أحمد (1/ 378).

ص: 375

‌حديث آخر

قال نُعيم بن حمَّاد: حدَّثنا أبو عمرو البَصْري، عن ابن لَهِيْعَة، عن عبد الوهاب بن حُسين، عن محمد بن ثابت البُناني، عن أبيه، عن الحارث الهَمَداني، عن ابن مسعود، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"السابع من ولد العباس يدعُو النّاسَ إلى الكفر فلا يُجيبونه، فيقولُ له أهلُ بيته: تُريد أن تُخرجَنا من معايشنا؟ فيقولُ: إني أسيرُ فيكم بسيرة أبي بكر وعمرَ، فيأبون عليه، فيقتلَه عدوٌّ له من أهل بيته من بني هاشم، فإذا وثبَ عليه اختلفُوا فيما بينَهم"

(1)

فذكرَ اختلافًا طويلًا إلى خروج السُّفيانيّ.

وهذا الحديثُ ينطبقُ على عبد الله المأمون، الذي دعا النَّاسَ إلى القول بخَلْق القرآن، ووقى الله شَرَّها، كما سنورد في موضعِه، والسُّفْيَانِيُّ رجل يكون آخر الزمان، منسوبٌ إلى أبي سفيان، يكونُ من سلالته، وسيأتي في آخر كتاب الملاحم.

‌حديث آخر

قال الإمام أحمد: حدَّثنا هاشم، حدَّثنا ليث، عن معاويةَ بن صالح، عن عبد الرحمن بن جُبير، عن أبيه، سمعتُ أبا ثَعْلَبةَ الخُشَنِيّ صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه سمعَه يقولُ - وهو بالفُسْطاط في خلافةِ معاويةَ -، وكان معاوية أغزى النَّاس القُسطنطينية، فقال: والله لا تَعْجِزُ هذه الأمَّةُ من نصفِ يوم إذا رأيتَ الشام مائدةَ رجل واحدٍ وأهلِ بيته، فعندَ ذلك فتحُ القُسطنطينينة

(2)

.

هكذا رواه أحمد موقوفًا على أبي ثعلبة، وقد أخرجه أبو داود في "سننه": من حديث ابن وَهْب، عن معاويةَ بن صالح، عن عبد الرحمن بن جُبير، عن أبيه، عن أبي ثعلبة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لن يُعْجِزَ الله هذه الأُمَّة من نصفِ يومٍ"

(3)

تفرد به أبو داود.

ثم قال أبو داود: حدَّثنا عمرو بن عثمان، حدَّثنا أبو المُغيرةَ، حدَّثنى صَفوان، عن شُرَيْح بن عُبيد، عن سعد بن أبي وقَّاص، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إنِّي لأرجُو أنْ لا تعْجِزَ أُمَّتِي عندَ ربِّها أن يُؤخِّرَهم نصفَ يوم"

(4)

قيل لسعدٍ: وكم نصفُ يومٍ؟ قال: خمسمئة سنة. تفرَّد به أبو داود، وإسناده جيد.

(1)

رواه نُعيم بن حمَّاد في كتاب الفتن والملاحم (ص 24) وإسناده ضعيف، لضعف نعيم بن حماد وابن لهيعة والحارث الأعور.

(2)

رواه أحمد في المسند (4/ 193) رقم (17663) عن أبي ثعلبة الخشني، وهو حديث صحيح.

(3)

رواه أبو داود في الملاحم (4349)، وقد رجح الإمام البخاري الرواية الموقوفة. كما في فتح الباري (11/ 351).

(4)

رواه أبو داود في الملاحم (4350).

ص: 376

وهذا من دلائل النبوة فإن هذا يقتضي وقوع تأخير الأمة نصف يوم، وهو خمسمئة سنة، كما فسَّره الصحابي، وهو مأخوذ من قوله تعالى:{وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج: 47] ثم هذا الإخبار بوقوع هذه المدة لا ينفي وقوع ما زاد عليها، فأمَّا ما يذكره كثيرٌ من الناس من أنه عليه الصلاة والسلام لا يُؤَلِّف في قبره، بمعنى لا يمضي عليه ألف سنة من يوم مات إلى حين قيام الساعة، فإنه حديث لا أصل له في شيء من كتب الإسلام، واللّه أعلم.

‌حديث آخر

فيه الإخبار عن ظهور النَّار التي كانت بأرض الحجاز، حتى أضاءت لها أعناقُ الإبل ببصرى، وقد وقعَ هذا في سنة أربع وخمسين وستمئة.

قال البخاري في صحيحه: حدَّثنا أبو اليَمان، حدَّثنا شُعيب، عن الزُّهري، قال: قال سعيدُ بن المُسيِّب: أخبرني أبو هُريرة؛ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقومُ السَّاعةُ حتى تخرجَ نارٌ من أرضِ الحجاز تضيءُ لها أعناقُ الإبل ببصرى". تفرَّد به البخاري

(1)

.

وقد ذكرَ أهلُ التاريخ وغيرُهم من الناس، وتواترَ وقوع هذا في سنة أربع وخمسين وستمئة، قال الشيخ الإمام الحافظ شيخ الحديث وإمام المؤرخين في زمانه، شهاب الدين عبد الرحمن بن إسماعيل المُلَقَّب بأبي شامة في "تاريخه": إنها ظهرت يومَ الجُمعة في خامس جُمادى الآخرة سنة أربع وخمسين وستمئة، وأنها استمرَّت شهرًا وأزيدَ منه، وذكرَ كتبًا متواترة عن أهل المدينة، في كيفية ظهورها شرقي المدينة من ناحية وادي شظاة

(2)

، تلقاءَ أُحد، وأنها ملأت الأودية، وأنَّه يخرجُ منها شررٌ يأكلُ الحِجازَ، وذكرَ أن المدينةَ زُلزلت بسببها، وأنهم سمعوا أصواتًا مزعجة قبلَ ظهورها بخمسة أيام، أَوَّلُ ذلك مستهلّ الشهر يوم الإثنين، فلم تزل ليلًا ونهارًا حتَّى ظهرت يومَ الجمعة خامسه، فانبجستْ تلك الأرض عند وادي شظاة عن نار عظيمة جدًّا صارت مثل الوادي، طوله أربعة فراسخ في عرض أربعة أميال وعمقه قامة ونصف، يسيلُ الصَّخر حتى يبقى مثل الآنك، ثم يصيرُ كالفحم الأسود، وذكر أن ضوءها يمتد إلى تَيْمَاء، بحيث كتب الناس على ضوئها في الليل، وكأن في بيت كل منهم مصباحًا، ورأى النَّاسُ سناها من مكة شرَّفها الله.

قلت: وأما بصرى فأخبرني قاضي القضاة صدر الدين عليّ بن أبي قاسم التَّيمِيّ الحنفي قال: أخبرني والدي، وهو الشيخ صفيّ الدين أحد مدرسي بُصرى، أنه أخبرَه غير واحد من الأعراب صبيحة تلك الليلة

(1)

رواه البخاري في الفتن (7118).

(2)

وادي شظاة: يأتي من شرقي المدينة، من أماكن بعيدة إلى أن يصل السد الذي أحدثته نار الحرة التي ظهرت في المدينة المنورة في جمادى الآخرة، سنة أربع وخمسين وستمئة. انظر تحقيق النصرة للمراغي (ص 190).

ص: 377

من كان بحاضرة بلدة بصرى أنهم رأوا صفحاتِ أعناق إبلهم في ضوء هذه النَّار التي ظهرت من أرض الحجاز.

وقد ذكرَ الشيخ شهاب الدين أن أهل المدينة لجؤوا في هذه الأيام إلى المسجد النبوي، وتابوا إلى الله من ذنوب كانوا عليها، واستغفروا عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم مما سلفَ منهم وأعتقوا الغلمانَ، وتصدَّقوا على فقرائهم ومَحاوِيجهم، وقد قال قائلُهم في ذلك:

يا كاشِفَ الضُّرّ صَفحًا عن جَرَائِمنا

فَقَد

(1)

أَحاطَت بِنَا يَا رَبُّ بأسَاءُ

نَشْكو إليكَ خُطوبًا لا نُطيق لَها

حَملًا ونحنُ بها حقًا أَحِقَّاءُ

زَلازِلًا تَخْشعُ الصُّمُّ الصِّلادُ لَها

وَكَيف تَقوى على الزلزالِ صَمَّاءُ

أَقَامَ سَبْعًا يَرُجُّ الأرضَ فانصدَعَتْ

عَن مَنْظَير مِنهُ عينُ الشمسِ عَشْواء

(2)

بَحرٌ مِنَ النارِ تَجري فَوقَهُ سُفُنٌ

مِنَ الهِضَابِ لها في الأرضِ إرساءُ

يُرَى لَها شَرَرٌ كالقَصْرِ طَائِشة

كَأنَّها دِيمةٌ تَنصَبُّ هَطْلاء

(3)

تَنْشَقٌّ منها قُلوبُ الصخر إن زَفَرَتْ

رُعبًا وَتَرعُدُ مِثْلُ الشُّهبِ أَضواءُ

مِنْها تكاثَفَ في الجوِّ الدُّخانُ إلى

أَن عادَتِ الشمسُ مِنهُ وَهيَ دَهماء

(4)

قَدْ أَثَّرَتْ سُعفةً في البدر لَفحتها

فَلَيْلَةُ التمِّ بَعْد النُورِ لَيلاء

(5)

فَيَا لها آية من مُعجِزاتِ رَسو

لِ الله يَعقِلُها القَومُ الألِبَّاء

(6)

ومما قيل في هذه النَّار مع غرق بغداد وفي هذه السنة إلى آخرها:

سُبحانَ مَنْ أَصْبَحَت مَشِيئَتُهُ

جَارِيَةً في الوَرى بِمقدَار

أَغرقَ بَغدادَ بالمِيَاهِ كَمَا

أَحرَقَ أَرْضَ الحِجَازِ بِالنَّارِ

‌حديث آخر

قال الإمام أحمد

(7)

: حدَّثنا أبو عامر، حدَّثنا أفلح بن سعيد الأنصاري - شيخٌ من أهلِ قباء من

(1)

في " أ": لقد.

(2)

"انصدعت": انشقت. و "عشواء": لا تبصر.

(3)

"شرر كالقصر": كل شرارة كالبناء المشيد في العظم والارتفاع. و "هطلاء": ممطرة.

(4)

"هماء": مسودَّة.

(5)

"ليلاء": مظلمة، شديدة الظلمة.

(6)

"الألباء": العقلاء.

(7)

رواه أحمد في المسند (2/ 323) رقم (8276) و (8059) ورواه مسلم رقم (2857)(53) و (54) من حديث أبي=

ص: 378

الأنصار - حدَّثني عبدُ الله بن رافع مولى أمِّ سلمة، قال: سمعتُ أبا هريرة يقولُ: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنْ طالتْ بكم مُدَّةٌ أوشكَ أن تَرَوا قومًا يَغدونَ في سَخَطِ الله ويَروحُون في لعنتهِ، في أيديهم مثلُ أذناب البقر".

ورواه مسلم: عن محمد بن عبد الله بن نُمير، عن زيد بن الحُباب، عن أفلحَ بن سعيد به

(1)

.

وروى مسلم أيضًا: عن زهير بن حرب، عن جرير، عن سُهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال صلى الله عليه وسلم: "صنفانِ مِن أهل النَّار لم أرَهُما بعدُ، قولم معهم سياطٌ كأذنابِ البقر يضربونَ بها النَّاسَ، ونساءٌ كاسيات عاريات، مائلاتٌ مُمِيْلاتٌ رؤُوسهن كأسنمةِ البُخْتِ المائلة، لا يدخلنَ الجَنَّةَ، ولا يجدنَ ريحَها، وإنَّ ريحَها ليُوجدُ مِن مَسيرةِ كذا وكذا"

(2)

.

وهذان الصنفان وهما الجَلَّادون الذين يُسمَّون بالرجالة، والجاندارية، كثيرون في زماننا هذا، ومن قبله، وقبلَ قبله بدهر، والنساء الكاسيات العاريات، أي: عليهن لبس لا يُواري سوءاتهنَّ، بل هو زيادة في العورة، وإبداء للزينة، مائلات في مشيهنَّ، مميلات غيرهنَّ إليهن، وقد عمَّ البلاء بهنَّ في زماننا هذا، ومن قبله أيضًا، وهذا من أكبر دلالات النبوة، إذ وقع الأمر في الخارج طِبْقَ ما أخبرَ به عليه الصلاة والسلام، وقد تقدَّم حديثُ جابر:"أما إنها ستكون لكم أنماط"

(3)

وذكر تمامَ الحديث في وقوع ذلك، واحتجاج امرأته عليه بهذا.

‌حديث آخر

روى الإمام أحمد: عن عبد الصمد بن عبد الوارث، عن داود بن أبي هند

(4)

.

وأخرجه البيهقي من حديثه: عن أبي حرب بن أبي الأسود الديلي، عن طلحةَ بن عمرو البصري؛ أنَّه قدمَ المدينةَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبينما هو يُصلِّي إذ أتاه رجل فقال: يا رسول الله أحرقَ بُطونَنا التَّمرُ، وتحرَّقت عنا الجيف، قال: فحمدَ الله وأثنى عليه، ثم قال: "لقد رأيتني وصاحبي وما لنا طعامٌ غير البَرِيْر، حتَّى أتينَا إخواننا من الأنصار فآسونا من طعامهم وكان جلّ طعامهم التمر، والذي لا إله إلا هو لو قَدِرْتُ لكم على الخبز والتمر لأطعمتكُموه، وسيأتي عليكم زمان - أو مَن أدركَه منكم - يلبسون مثلَ أستار

= هريرة رضي الله عنه، وقد أخطأ ابن الجوزي فذكره في الموضوعات (3/ 101)، وتبعه ابن حبان أيضًا (المجروحين 1/ 176) والحديث صحيح.

(1)

رواه مسلم في الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2857)(53).

(2)

رواه مسلم في اللباس والزينة (2128)(125).

(3)

رواه أحمد في المسند (3/ 294) رقم (14064) وهو حديث صحيح.

(4)

رواه أحمد في المسند (3/ 487) رقم (15930) وهو حديث صحيح.

ص: 379

الكعبة، ويُغْدى ويُراح عليكم بالجِفَان، قالوا: يا رسولَ الله! أنحنُ يومئذٍ خيرٌ أم اليوم؟ قال: بل أنتم اليومَ خير، أنتُم اليومَ إخوان، وأنتمُ يومئذٍ يَضْرِبُ بعضُكم رقابَ بعضٍ

(1)

.

وقد روى سفيانُ الثوريُّ: عن يحيى بن سعيد، عن أبي موسى يُحَنَّس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا مَشَتْ أُمَّتي المُطَيْطَاءَ، وخدَمتهم فارس والرُّومُ، وسلَّط الله بعضَهم على بعض"

(2)

.

وقد أسندَه البيهقيّ من طريق موسى بن عُبيدة، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم

(3)

.

‌حديث آخر

قال أبو داود: حدَّثنا سليمانُ بن داود المَهْريّ، حدَّثنا ابنُ وَهْب، حدَّثنا سعيدُ بن أبي أيوب، عن شَرَاحِيْلَ بن يزيد المَعَافِريّ، عن أبي علقمة، عن أبي هريرة - فيما أعلم - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يُجَدّد لها أمرَ دينها"

(4)

. قال أبو داود: رواه عبدُ الرحمن بن شريح الإسكندراني لم يَجُزْ به شر احيلَ، تفرَّد به أبو داود.

وقد ذكرَ كلُّ طائفة من العلماء في رأس كل مئة سنة عالمًا من علمائهم، ينزلون هذا الحديث عليه، وقال طائفة من العلماء: بل الصحيح أن الحديث يشملُ كلَّ فرد من آحاد العلماء في هذه الأعصار ممن يقومُ بفرض الكفاية في أداء العلم عمَّن أدركَ من السلف إلى من يُدركه من الخلف، كما جاء في الحديث من طرق مرسلة وغير مرسلة:"يحملُ هذا العلمَ من كلِّ خَلَفٍ عُدوله، ينفون عنه تحريفَ الغالين، وانتحالَ المبطلين"

(5)

. وهذا موجودٌ وللّه الحمد والمِنَّة إلى زماننا هذا، ونحنُ في القرن الثامن، والله المسؤول أن يختمَ لنا بخير، وأن يجعلَنا من عباده الصَّالحين، ومن ورثة جنَة النعيم آمين آمين يا رب العالمين.

(1)

رواه البيهقي في الدلائل (6/ 524) وهو حديث صحيح وذكره الحافظ في الإصابة (2/ 231) والبرير: هو تمر الأراك عامة، وهو أول ما يظهر من تمر الأراك، وهو حلو.

(2)

رواه البيهقي في الدلائل (6/ 525)، وهو مرسل، فهو ضعيف.

(3)

وكذلك أسنده قبله ابن المبارك في الزهد (187)، والترمذي في الجامع (2261) وقال: غريب، أي ضعيف. والرواية الموقوفة أصح، وقد تابع سفيان مالك فرواه كذلك أيضًا. وينظر بلا بد تعليق الدكتور بشّار على جامع الترمذي (4/ 111) من طبعته.

(4)

رواه أبو داود في أول كتاب الملاحم (4291) باب ما يذكر في قرن المئة، وهو حديث صحيح.

(5)

وهو حديث مشهور، صححه ابن عبد البر، وروي عن أحمد بن حنبل أنه قال: حديث صحيح، ولكن الحديث في إسناده ضعف، ولكن له روايات كثيرة، فهو حسن بمجموعها. وانظر كتاب "العواصم والقواصم" لمحمد بن إبراهيم الوزير (1/ 308 - 310).

ص: 380

وسيأتي الحديث المخرج في الصحيح: "لا تزالُ طائفةٌ من أمتي ظاهرينَ على الحَقِّ لا يضرُّهم من خذلَهم ولا من خالفَهم حتى يأتيَ أمرُ الله

(1)

وهم كذلك".

وفي صحيح البخاري: وهم بالشام

(2)

. وقد قال كثير من علماء السلف: إنهم أهلُ الحديث، وهذا أيضًا من دلائل النبوة، فإن أهلَ الحديث بالشام أكثر من سائر أقاليم الإسلام، وللّه الحمد، ولا سيما بمدينة دمشق حَماها الله وصانَها، كما ورد في الحديث الذي سنذكرُه؛ أنها تكون معقلَ المسلمين عند وقوع الفتن.

وفي صحيح مسلم عن النَّوَّاس بن سمعان؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرَ عن عيسى ابن مريم، أنه ينزلُ من السماء على المنارة البيضاء شرقيّ دمشق

(3)

. ولعل أصل لفظ الحديث "على المنارة البيضاء الشرقية بدمشق" وقد بلغني أنه كذلك في بعض الأجزاء، ولم أقف عليه إلى الآن، والله المُيَسِّرُ، وقد جُدِّدت هذه المنارة البيضاء الشرقية بجامع دمشق بعدما أحرَقها النصارى في أيامنا هذه بعد سنة أربعين وسبعمئة، فأقامُوها من أموال النَّصَارى مقاصَّة على ما فعلوا من العُدوان، وفي هذا حكمة عظيمة، وهو أن ينزلَ على هذه المَبْنيَّة من أموالهم عيسى ابن مريم نبيّ الله، فيُكَذِّبُهم فيما افتروه عليه من الكذب عليه وعلى الله، ويكسرُ الصليبَ، ويقتل الخنزيرَ ويضعُ الجزيةَ - أي: يتركها - ولا يقبل من أحد منهم ولا من غيرهم إلا الإسلام، يعني: أو يقتله، وقد أخبرَ بهذا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرَّره عليه وسوَّغه له، صلواتُ الله وسلامه عليه دائمًا إلى يوم الدين، ورضي الله عن أصحاب رسول الله أجمعين

(4)

.

‌باب التنبيه على ذكر معجزاتٍ لرسول الله صلى الله عليه وسلم مماثلةٍ لمعجزاتِ جماعةٍ من الأنبياء قبلَه، وأعلى منها، خارجةٍ عما اختصَّ به من المعجزات العظيمة التي لم يكن لأحد قبلَه منهم عليهم السلام

فمن ذلك القرآن العظيم الذي {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42] فإنَّه معجزةٌ مستمرة على الآباد، ولا يخفى برهانُها، ولا يتفحص مثلها. وقد تحدَّى به الثقلين من الجن والإنس على أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور، أو بسورة من مثله، فعجزوا عن ذلك كما تقدَّم تقرير ذلك في أول كتاب المعجزات، وقد سبقَ الحديثُ المتفق على إخراجه في الصحيحين من طريق الليث بن سعد

(1)

رواه البخاري في الاعتصام (7311) ومسلم في الإمارة (1921) وكلاهما من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.

(2)

رواه البخاري في المناقب (3641). وقوله: "وهم بالشام" من قول معاذ رضي الله عنه.

(3)

رواه مسلم في الفتن وأشراط الساعة (2137)(110).

(4)

في المطبوع: وعلى آله وصحبه أجمعين والتابعين لهم بإحسان.

ص: 381

عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"ما من نبي إلا وقد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحيًا أوحاه الله إليّ، فأرجُو أَنْ أكونَ أكثَرهم تابعًا يومَ القيامة"

(1)

. والمعنى أن كل نبي قد أوتي من خوارق العادات ما يقتضي إيمان من رأى ذلك من أُولي البَصائر والنُهى، لا من أهل العِناد والشقاء، وإنما كان الذي أُوتيه، أي: جلُّه وأعظمُه وأبهرُه، القرآن الذي أوحاه الله إليه، فإنه لا يبيدُ ولا يذهبُ كما ذهبت معجزات الأنبياء وانقضت بانقضاء أيامهم، فلا تُشاهد، بل يخبر عنها بالتواتر والآحاد، بخلاف القرآن العظيم الذي أوحاه الله إليه فإنه معجزة متواترة عنه، مستمرة دائمة البقاء بعده، مسموعة لكل من ألقى السمع وهو شهيد.

وقد تقدَّم في الخصائص ذكر ما اختصَّ به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: عن بقية إخوانه من الأنبياء عليهم السلام، كما ثبت في الصحيحين: عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أُعطيتُ خمسًا لم يُعطهن أحد قبلي، نصرتُ بالرُّعْب مسيرةَ شهر، وجُعلتْ ليَ الأرضُ مسجدًا وطَهُورًا، فأيما رجل مِن أمتي أدركته الصَّلاة فليُصَل، وأُحِلَّتْ لي الغنائم ولم تحلّ لأحد قبلي، وأُعطِيت الشفاعة، وكان النبيُّ يُبعثُ إلى قومه، وبُعثت إلى الناس عامة"

(2)

. وقد تكلَّمنا على ذلك وما شاكلَه فيما سلفَ بما أغنى عن إعادته وللّه الحمد.

وقد ذكرَ غيرُ واحد من العلماء أنَّ كلَّ معجزة لنبي من الأنبياء فهي في الحقيقة معجزة لخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك أن كلًّا منهم بَشّر بمبعثه، وأمر بمتابعته، كما قال الله تعالى:{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 81 - 82] وقد ذكرَ البخاريُّ وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ما بعثَ الله نبيًا من الأنبياء إلا أخذَ عليه العهدَ والميثاق لئن بُعثَ محمد وهو حيٌّ لَيؤمِنُن به وليتبعنَه ولينصرنَّه، وأمره أن يأخذ العهد على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه

(3)

.

وذكر غير واحد من العلماء أن كرامات الأولياء معجزات للأنبياء، لأن الولي إنما نالَ ذلك ببركة متابعته لنبيّه، وثواب إيمانه به.

والمقصود أنه كان الباعث لي على عقد هذا الباب أنِّي وقفتُ على مولد اختصرَه من سيرة الإمام محمد بن إسحاق بن يَسار وغيرها شيخنا الإمام العلَّامة شيخ الإسلام كمال الدين أبو المَعالي محمَّدُ بن

(1)

رواه البخاري في فضائل القرآن (4981) والاعتصام (7273) ومسلم في الايمان (152)(239).

(2)

رواه البخاري في التيمم (335) ومسلم في المساجد (521)(3).

(3)

ليس عند البخاري، وقد رواه المصنف في تفسيره عن علي وابن عباس من قولهما. ولم يسنده إلى البخاري.

ص: 382

عليٍّ الأنصاري السِّماكي، نسبة إلى أبي دجانة الأنصاري، سِمَاك بن أوس بن خرشة الأوسيّ، رضي الله عنه، شيخ الشافعية في زمانه بلا مدافعة، المعروف بابن الزملكاني رحمه الله وبلَّ بالرحمة ثراهُ، وقد ذكر في أواخره شيئًا من فضائل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعقدَ فصلًا في هذا الباب فأوردَ فيه أشياء حسنة، ونبَّه على فوائد جمة، وفرائد مهمة، وتركَ أشياءَ أخرى حسنة، ذكرَها غيرُه من الأئمة المُتقدِّمين، ولم أره استوعبَ الكلامَ إلى آخره، فإما أنه قد سقطَ من خطِّه، أو أنه لم يُكمل تصنيفَه، فسألني بعضُ أهله من أصحابنا ممن تتاكدُ إجابتهُ، تكرَّرَ ذلك منه، في تكميله، وتبويبه، وترتيبه، وتهذيبه، والزيادة عليه، والإضافة إليه، فاستخرت الله تعالى حينًا من الدهر، ثم نشطتُ لذلك ابتغاءَ الثواب والأجر، وقد كنتُ سمعتُ من شيخنا الإمام العلامة الحافظ الجِهْبِذ، أبي الحجَّاج المِري تغمَّده الله برحمته، أنَّ أوَّلَ من تكلَّم في هذا المقام الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله.

وقد روى الحافظ أبو بكر البيهقي رحمه الله في كتابه دلائل النبوة

(1)

: عن شيخه الحاكم أبي عبد الله، أخبرني أبو أحمد بن أبي الحسن، أخبرنا عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي، عن أبيه، قال عمرو بن سوَّاد: قال الشافعي: ما أعطى الله نبيًّا ما أعطى محمّدًا صلى الله عليه وسلم، فقلتُ: أعطى عيسى إحياءَ الموتى، فقال: أعطى محمَّدًا صلى الله عليه وسلم الجِذْعَ الذي كان يخطبُ إلى جنبه حينَ بنِي له المنبر، حنّ الجِذعُ حتَّى سُمِعَ صوتُه، فهذا أكبرُ من ذلك، هذا لفظه رحمه الله تعالى.

والمراد من إيراد ما نذكره في هذا الباب، التنبيه على ما أعطى الله أنبياءَه عليهم السلام من الآيات البَيِّنات، والخَوارق القاطعاتِ، والحُجَج الواضحات، وأن الله تعالى جمعَ لعبده ورسوله سيد الأنبياء وخاتمهم من جميع أنواع المحاسن والآيات، مع ما اختصَّه به مما لم يُؤتِ أحدًا قبله، كما ذكرنا في خصائصه وشمائله صلى الله عليه وسلم.

ووقفتُ على فصل مليح في هذا المعنى، في كتاب دلائل النبوة للحافظ أبي نُعيم، أحمد بن عبد الله الأصبهاني، وهو كتابٌ حافلٌ في ثلاث مجلدات

(2)

، عقد فيه فصلًا في هذا المعنى، وكذا ذكرَ ذلك الفقيه أبو محمد عبد الله بن حامد، في كتابه "دلائل النبوة" وهو كتابٌ كبيرٌ جليل حافل، مشتملٌ على فرائد نفيسة. وكذا الصَّرْصَرِي الشاعر، يُورد في بعض قصائده أشياء من ذلك كما سيأتي.

وها أنا أذكرُ بعون الله مجامعَ ما ذكرنا من هذه الأماكن المتفرقة بأوجز عبارة، وأقصرِ إشارة، وباللّه المستعان، وعليه التُّكلان، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العليّ العظيم.

(1)

دلائل النبوة (6/ 68).

(2)

هذا من أوكد الأدلة على أن المطبوع هو مختصر الكتاب (بشار).

ص: 383

‌القولُ فيما أُوتي نوح عليه السلام

قال الله تعالى: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: 10 - 15] وقد ذكرت القصة مبسوطة في أول هذا الكتاب، وكيف دعا على قومه، فنجَّاه الله ومن اتَّبعَه من المؤمنين، فلم يهلك منهم أحدٌ، وأغرقَ من خالفَه من الكافرينَ، فلم يسلم منهم أحد، حتى ولا ولد

(1)

.

قال شيخنا العلَّامة أبو المَعالي محمد بن عليّ الأنصاري بن الزملكاني

(2)

، ومن خطه نقلتُ: وبيان أن كل معجزة لنبيٍّ فلنبيِّنا مثلها، إذا تمَّ يستدعي كلامًا طويلًا، وتفصيلًا لا يسعه مُجلَّدات عديدة، ولكن نُنَبِّه بالبعض على البعض، فلنذكر جلائلَ معجزات الأنبياء عليهم السلام، فمنها نجاة نوح في السفينة بالمؤمنين، ولا شك أنَّ حملَ الماء للناس من غير سفينة أعظمُ من السُّلوك عليه في السفينة، وقد مشى كثيرٌ من الأولياء على متن الماء، وفي قصة العلاء بن زياد، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يدلُّ على ذلك؛ روى سهمُ بن مِنْجاب قال: غزونا مع العلاء بن الحضرمي "دَارِيْن"

(3)

، فدعا بثلاث دعوات فاستجيبتْ له، فنزلنا منزلًا فطلبَ الماء فلم يجده، فقام وصلَّى ركعتين، وقال: اللَّهُمَّ إنَّا عبيدُك وفي سبيلك، نقاتلُ عدوَّك، اللَّهُمَّ اسقنا غيثًا نتوضَأ به ونشربُ، ولا يكونُ لأحد فيه نصيبٌ غيرنا، فسرنا قليلًا فإذا نحن بماءً حين أقلعتِ السَّماءُ عنه، فتوضأنا منه وتزوَّدْنا، وملأتُ إداوتي وتركتها مكانَها حتى أنظر هل استجيب له أم لا، فسرنا قليلًا ثم قلت لأصحابي: نسيتُ إداوتي فرجعت إلى ذلك المكان فكأنَّه لم يصبه ماء قط، ثم سرنا حتى أتينا "دارين" والبحر بيننا وبينهم، فقال: يا عليٍّ يا حكيمُ يا عظيم! إنا عبيدك وفي سبيلك، نقاتل عدوك، اللهم فاجعل لنا إليهم سبيلًا، فدخلنا البحر فلم يبلغ الماء لبودنا، ومشينا على متن الماء ولم يبتل لنا شيء

وذكر بقية القصة. قال: فهذا أبلغُ من ركوب السفينة، فإنَّ حملَ الماء للسفينة معتاد، وأبلغ من فلق البحر لموسى، فإن هناك انحسرَ الماء حتَّى مشوا على الأرض، فالمعجزةُ انحسار الماء، وها هنا صار الماءُ جسدًا يمشون عليه كالأرض، وانما هذا منسوبٌ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم

(1)

رواه البيهقي في الدلائل (6/ 68).

(2)

المتوفى سنة (727)، كما في البداية والنهاية (14/ 131) وهو من شيوخ الحافظ ابن كثير كما تقدم في الصفحة السابقة.

(3)

"دارين": فرضة بالبحرين، يجلب إليها المِسْك من الهند، والنسبة إليها داريٌّ. وفي كتاب سيف: أن المسلمين اقتحموا إلى دارين البحر مع العلاء بن الحضرمي .. ثم قال ياقوت: وهذه صفة "أُوال" أشهر مدن البحرين اليوم، ولعلَّ اسمها أُوال ودارين. انظر معجم البلدان (2/ 432).

ص: 384

وبركته. انتهى ما ذكره بحروفه فيما يتعلَّق بنوح عليه السلام، وهذه القصة التي ساقها شيخُنا ذكرَها الحافظ أبو بكر البيهقي في كتابه "الدلائل": من طريق أبي بكر بن أبي الدنيا، عن أبي كريب، عن محمد بن فُضيل، عن الصَّلْت بن مطر العجلي، عن عبد الملك بن أخت سهم، عن سَهْم بن مِنْجَاب، قال: غزونا مع العلاء بن الحضرمي فذكره

(1)

.

وقد ذكرَها البخاريُّ في التاريخ الكبير من وجه آخر.

ورواها البيهقي: من طريق أبي هريرة رضي الله عنه؛ أنه كان مع العلاء وشاهدَ ذلك.

وساقَها البيهقيُّ: من طريق عيسى بن يونس، عن عبد الله بن عَوْن، عن أنس بن مالك، قال: أدركتُ في هذه الأمة ثلاثًا لو كانت في بني إسرائيل لما تقاسمتها الأمم [ولكان عجبًا]

(2)

قلنا: ما هنَّ يا أبا حمزة؟! قال: كنا في الصُّفَّة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتته امرأةٌ مهاجرةٌ، ومعها ابن لها قد بلغ، فأضاف المرأة إلى النساء، وأضاف ابنها إلينا، فلم يلبث أن أصابه وباء المدينة، فمرض أيَّامًا ثم قُبِضَ، فغمَّضَه النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأمرَ بجهازه، فلما أردنا أن نُغَسِّلَه قال:"يا أنس! ائتِ أمَّه، فأعلمْها " فأعلمتُها، قال: فجاءتْ حتى جلستْ عند قَدَمَيْه، فأخذتْ بهما ثم قالت: اللَّهم إني أسلمتُ لك طَوعًا، وخلعتُ الأوثان، فلا تُحمّلْنِي من هذه المُصيبة ما لا طاقةَ لي بحملِه. قال: فواللّه ما انقضَى كلامُها حتَّى حرَّكَ قدميْه، وألقى الثوبَ عن وجههِ، وعاشَ حتَّى قبضَ الله رسولَه صلى الله عليه وسلم، وحتى هلكت أُمُّه.

قال أنس: ثم جَهَّزَ عمرُ بن الخَطَّاب جيشًا، واستعمل عليهم العلاء بن الحَضْرمِيّ، قال أنس: وكنتُ في غزاته، فأتينا مَغازينا فوجدنا القوم قد نذروا بنا فعَفَوا آثارَ الماء، الحرّ شديدٌ، فجَهِدَنا العطشُ ودوابَّنا، وذلك يومَ الجمعة، فلمَّا مالتِ الشَّمسُ لمغرِبِها، صلَّى بنا ركعتين، ثم مدَّ يدَه إلى السماء وما نرى في السماء شيئًا، قال: فوالله ما حَطَّ يدَه حتى بعثَ الله ريحًا وأنشأ سَحابًا وأفرغت حتى ملأت الغُدُرَ والشِّعاب، فشربنا، وسَقَيْنا رِكَابنا، واسْتَقَيْنا، قال: ثم أتينا عدوَّنا وقد جاوزوا خليجًا في البحر إلى جزيرة، قوقفَ على الخليج وقال: يا عليُّ يا عظيمُ! يا حليمُ يا كريمُ! ثم قال: أجيزوا باسم الله، قال: فأجزنا ما يبلُّ الماء حوافر دوابّنا، فلم نلبثْ إلا يسيرًا، فاصبنا العدوَّ غيلةً فقَتلْنا وأسرْنا وسَبَيْنَا، ثم أتينا الخليجَ، فقال مثل مقالته، فأجزنا ما يبلّ الماء حوافرَ دوابّنا. ثم ذكرَ موتَ العلاء ودفنَهم إيَّاه في أرض لا تقبلُ الموتى، ثم إنهم حفروا عليه لينقلوه منها إلى غيرها فلم يجدوه ثَمَّ، وإذا اللَّحْد يتلألأُ نورًا، فأعادوا التراب عليه ثم ارتحلوا

(3)

.

(1)

رواه البيهقي في الدلائل (6/ 53).

(2)

سقطت من الأصل، وأثبتها من دلائل النبوة، للبيهقي.

(3)

رواه البيهقي في الدلائل (6/ 52 - 53).

ص: 385

فهذا السِّياق أتمُّ، وفيه قصة المرأة التي أحيا الله لها ولدَها بدعائها، وسننبِّه على ذلك فيما يتعلَّق بمعجزاتِ المسيح عيسى ابن مريم، مع ما يُشابهها إن شاء الله تعالى، كما سنُشير إلى قصة العلاء هذه مع ما سنُورده معها هاهنا، فيما يتعلَّق بمعجزات موسى عليه السلام، في قصَّة فَلْق البحر لبني إسرائيل، وقد أرشدَ إلى ذلك شيخنا في عيون كلامه.

‌قصة أخرى تُشبه قصَّةَ العَلاء بن الحضرميّ

روى البيهقي في "الدلائل" - وقد تقدَّم ذلك أيضًا -: من طريق سُليمان بن مهران الأعمش، عن بعض أصحابه، قال: انتهينا إلى دجلةَ وهي مَادَّة والأعاجم خلفَها، فقال رجلٌ من المسلمين: باسم الله، ثم اقتحمَ بفرسِه فارتفعَ على الماء، فقال النَّاسُ: باسم الله، ثم اقتحموا فارتفعوا على الماء، فنظرَ إليهم الأعاجمُ، وقالوا: ديوان، ديوان، أي: مجانين، ثم ذهبوا على وجوههم، قال: فما فقدَ النَّاسُ إلا قَدَحًا كان معلَّقًا بعلابة سرج، فلما خرجوا أصابوا الغنائمَ فاقتسموها، فجعل الرجل يقول: مَن يبادل صفراءَ ببيضاء

(1)

؟

وقد ذكرنا في "السيرة العمرية" وأيَّامها، وفي التفسير

(2)

أيضًا: أن أول من اقتحم دجلة يومئذ أبو عُبيد الثَّقَفي

(3)

أمير الجيوش في أيام عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه، وأنه نظرَ إلى دجلةَ فتلا قولَه تعالى:{وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا} [آل عمران: 145} ثم سمَّى الله تعالى واقتحم بفرسه الماء واقتحمَ الجيشُ وراءَه، ولما نظرَ إليهم الأعاجمُ يفعلون ذلك جعلوا يقولون: ديوانا ديوانا، أي: مجانين مجانين، ثم وَلَّوا مُدبرينَ، فقتلَهم المسلمون، وغنموا منهم مغانمَ كثيرة.

‌قصة أخرى شبيهة بذلك

روى البيهقي: من طريق أبي النضر، عن سليمان بن المغيرة، أن أبا مسلم الخَوْلاني جاء إلى دجلةَ وهي ترمي الخشبَ مِنْ مَدِّها فمشَى على الماء والتفتَ إلى أصحابِه، وقال: هل تفقدونَ من متاعِكم شيئًا، فندعو الله تعالى؟ ثم قال: هذا إسناد صحيح

(4)

.

(1)

رواه البيهقي في الدلائل (6/ 54).

(2)

انظر تفسير ابن كثير (1/ 501) طبعة دار ابن كثير بدمشق.

(3)

كذا في الأصل، وفي التفسير؛ للمؤلف رحمه الله أن أول من اقتحم دجلة: هو حُجْر بن عديٍّ. وسعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه هو أمير الجيش في أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه. أما أبو عُبيد الثقفي فاستشهد في معركة الجسر قبل سنتين من عبور المسلمين دجلة لفتح المدائن.

(4)

رواه البيهقي في الدلائل (6/ 54) وأبو مسلم الخولاني: هو عبد الله بن ثوب وقيل: ابن ثواب وقيل: ابن أثوب، =

ص: 386

قلت: وقد ذكر الحافظ الكبير، أبو القاسم، بن عساكر، في ترجمة أبي مسلم عبد الله بن ثوب الخَوْلاني هذه القصة بأبسط من هذا من طريق بقيَّة بن الوليد، حدَّثني محمد بن زياد، عن أبي مسلم الخولاني أنه كان إذا غزا أرض الروم فمروا بنهر قال: أجيزوا باسم الله، قال: ويمر بين أيديهم فيمرون على الماء، فما يبلغ من الدواب إلا إلى الركب، أو بعض ذلك، أو قريبًا من ذلك، قال: فإذا جازوا قال للناس: هل ذهبَ لكم شيء؟ من ذهبَ له شيء فأنا له ضامنٌ، قال: فألقى بعضهم مِخْلاةً عَمْدًا، فلما جاوزوا قال الرجلُ: مخلاتي وقعت في النهر، قال له: اتبعني، فإذا المِخْلاةُ قد تعلَّقت ببعض أعواد النَّهْر، فقال: خذها

(1)

. وقد رواه أبو داود: من طريق ابن الأعرابي عنه، عن عمرو بن عثمان، عن بقية، به.

ثم قال أبو داود: حدَّثنا موسى بن إسماعيل، حدَّثنا سليمان بن المغيرة، عن حُميد: أن أبا مسلم الخولاني أتى على دجلةَ وهي ترمي بالخشب من مَدِّها، فوقفَ عليها، ثم حَمِدَ الله وأثنى عليه، وذكرَ مسيرَ بني إسرائيل في البحر، ثم لهزَ دابَّه فخاضتِ الماءَ، وتبعَه النَّاسُ حتى قطعُوا، ثم قال: هل فقدتُم شيئًا من مَتاعِكُم فأدْعُو الله أن يَردَّه عليَّ

(2)

؟.

وقد رواه ابنُ عساكر: من طريق أخرى عن عبد الكريم بن رشيد عن حُميد بن هلال العدوي، حدَّثني ابن عَمِّي أخي أبي، قال: خرجت مع أبي مسلم في جيش فأتينا على نهر عجاج منكر، فقلنا لأهل القرية: أين المخاضة؟ فقالوا: ما كانت ها هنا مخاضة قطُ ولكن المخاضة أسفل منكم على ليلتين، فقال أبو مسلم: اللَّهُمَّ أجزتَ بني إسرائيل البحرَ، وإنا عبيدك وفي سبيلك، فأجزنا هذا النهرَ اليوم، ثم قال: اعبُروا باسم الله، قال ابن عَمَّي: وأنا على فرس، فقلت: لأدفعنَّه أوَّل النَّاس خلفَ فرسِه، قال: فواللّه ما بلغَ الماءُ بطونَ الخيل، حتَّى عبرَ النَّاسُ كلُّهم، ثم وقفَ فقال: يا معشر المسلمين! هل ذهبَ لأحدٍ منكم شيءٌ فأدعو الله تعالى أن يردَّه

(3)

؟.

فهذه الكراماتُ لهؤلاء الأولياء، هي معجزات لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم كما تقدَّم تقريره، لأنهم إنما نالوها ببركة متابعته، ويُمْن سفارته، إذ فيها حجة في الدين، وحاجةٌ أكيدةٌ للمسلمين، وهي مشابهة لمعجزة نوح عليه السلام في مسيره فوقَ الماء بالسفينة التي أمره الله تعالى بعملها، ولمعجزة موسى عليه السلام في فَلْقِ البحر، وهذه فيها ما هو أعجب من ذلك، من جهة مسيرهم على متن الماء من غير حائل، ومن جهة أنه ماء جار والسير عليه أعجبُ من السير على الماء القَارِّ الذي يُجاز، وإن كان ماء الطوفان أَطمَّ وأعظم،

= أبو مسلم، التابعي، الدارانيُّ الزاهد، المتوفى سنة 62 هـ.

(1)

ذكره ابن منظور في مختصر تاريخ دمشق؛ للحافظ ابن عساكر (12/ 59).

(2)

ذكره الحافظ الذهبي في السير (4/ 11) وتاريخ الإسلام (3/ 104).

(3)

ذكره ابن منظور في مختصر تاريخ دمشق (12/ 59).

ص: 387

فهذه خارقة، والخارقُ لا فرقَ بين قليله وكثيره، فإن من سلكَ على وجه الماء الخِضَم الجاري العجاج فلم تبتلَّ منه نعالُ خيولهم، أو لم يَصلْ إلى بُطونها، فلا فرقَ في الخارق بين أنْ يكونَ قامة أو ألف قامة، أو أن يكون نهرًا أو بحرًا، بل كونه نهرًا عجاجًا كالبرق الخاطف والسَّيْل الجاري، أعظمُ وأغربُ، وكذلك بالنسبة إلى فلق

(1)

البحر، وهو جانب بحر القلزم، حتى صار كل فِرْقٍ كالطود العظيم، أي: الجبل الكبير، فانحاز الماء يمينًا وشمالًا، حتى بدت أرض البحر، وأرسلَ الله عليها الريحَ حتى أيبسَها، ومشت الخيولُ عليها بلا انزعاج حتى جاوزوا عن آخرهم، وأقبلَ فرعون بجنوده:{فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى} [طه: 78 - 79] وذلك أنهم لما توسَّطوه وهمَّ أولهم بالخروج منه، أمر الله البحر فارتطمَ عليهم فَغرِقُوا عن آخرهم، فلم يفلت منهم أحدٌ، كما لم يفقد من بني إسرائيل واحدٌ، ففي ذلك آية عظيمة بل آيات معدودات، كما بسطنا ذلك في "التفسير"

(2)

وللّه الحمد والمنة. والمقصود أنَّ ما ذكرناه من قصة العلاء بن الحضرمي، وأبي عُبيد

(3)

الثقفي، وأبي مسلم الخَولاني، من مسيرهم على تيَّار الماء الجاري، فلم يُفقد منهم أحد، ولم يفقدوا شيئًا من أمتعتهم، هذا وهم أولياء، منهم صحابيُّ وتابعيان، فما الظن لو احتيجَ إلى ذلك بحضرة النبيّ صلى الله عليه وسلم، سيّد الأنبياء وخاتمهم، وأعلاهم منزلة ليلة الإسراء، وإمامهم [ليلتئذ] ببيت المقدس، والذي هو محل ولايتهم، ودار بدايتهم، وخطيبهم يوم القيامة، وأعلاهم منزلة في الجنة، وأول شافع في المحشر، وفي الخروج من النار، وفي دخول الجنة، وفي رفع الدرجات بها، كما بسطنا أقسام الشفاعة وأنواعها، في آخر الكتاب في أحوال يوم القيامة، وبالله المستعان.

وسنذكر في المعجزات الموسوية ما وردَ من المعجزات المحمَّدية، ما هو أظهر وأبهر منها، ونحنُ الآن فيما يتعلَّق بمعجزات نوح عليه السلام، ولم يذكر شيخنا سوى ما تقدَّم، وأما الحافظ أبو نُعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني، فإنه قال في آخر كتابه في "دلائل النبوة"، وهو في مجلدات ثلاث: الفصل الثالث والثلاثون: في ذكر موازنة الأنبياء في فضائلهم، بفضائل نبيِّنا، ومقابلة ما أُوتوا من الآيات بما أُوتي، إذ أُوتي ما أوتوا وشبهَه ونظيرَه، فكان أوَّل الرسل نوح عليه السلام، وآيتُه التي أُوتي شفاء غيظه، وإجابة دعوته، في تعجيل نقمة الله لمُكذبيه حتى هلك من على بسيط الأرض من صامت وناطق، إلا من آمن به ودخل معه في سفينته. ولعَمْري إنَّها آية جليلة، وافقت سابقَ قَدَر الله وما قد علمه في هلاكهم، وكذلك نبينا صلى الله عليه وسلم لما كذبه قومُه وبالغوا في أذيَّتِه، والاستهانة بمنزلته من الله عر وجل، حتى ألقى السفيهُ عقبةُ بن أبي مُعيط سَلا الجزور على ظهره وهو ساجد، فقال: "اللهم عليكَ بالملأ من

(1)

في نسخة: بالتشبيه إلى فرق.

(2)

انظر تفسير ابن كثير (3/ 203).

(3)

بل هو حُجْرُ بن عدي كما سبق.

ص: 388

قريشًا

(1)

" ثم ساقَ الحديثَ عن ابن مسعود، كما تقدَّم ذِكْرُنا له في صحيح البخاري وغيره في وضمع الملأ من قريش على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ساجد عند الكعبة سلا تلك الجزور، واستضحاكهم من ذلك، حتَّى إنَّ بعضَهم يميلُ على بعض من شدة الضحك، ولم يزل على ظهره، حتى جاءت ابنتُه فاطمةُ عليها السلام فطرحته عن ظهره، ثم أقبلتْ عليهم تسبهم، فلما سلَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاته رفع يديه فقال: "اللهم عليك الملأ من قريش" ثم سمَّى فقال: "اللهم عليك بأبي جهل بن هشام، وعتبةَ، وشيبةَ، والوليد بن عتبة، وأميَّة بن خلف، وعقبة بن أبي مُعيط، وعمارة بن الوليد".

قال عبد الله بن مسعود: فوالذي بعثَه بالحقِّ رأيتُهم صرعى يوم بدر، ثم سُحبوا إلى القَليب قَليب بدر.

وكذلك لما أقبلت قريشٌ يومَ بدر في عُددها وعَديدها

(2)

، فحين عاينَهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: قال رافعًا يديه: "اللهم هذه قريش جاءَتك بفخرها وخيلائها، تحادُّك وتُكَذِّب رسولَك، اللهم أحِنْهم الغداةَ"

(3)

فقُتل من أشرافهم

(4)

سبعون، وأُسر من أشرافهم سبعون. ولو شاء الله لاستأصلَهم عن آخرهم، ولكن من حِلْمِ وشَرف نبيِّه أبقى منهم مَنْ سبقَ في قَدَرِه أن سيُؤمنُ به وبرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد دعا على عتبة بن أبي لَهَبٍ أن يُسَلِّط عليه كلبَه بالشام، فقتله الأسدُ عند وادي الزرقاء قبل مدينة بُصرى

(5)

. وكم له من مثلها ونظيرها [مما سلفَ ذكرناه وما لم نذكره وكذلك دعا على قريش سبعًا]

(6)

كسبعِ يُوسفَ فقُحِطوا حتى أكلوا العِلْهِزَ، وهو الدَّمُ بالوبر، وأكلوا العظامَ وكلَّ شيء، ثم توسَّلوا إلى تراحمه وشفقته ورأفته، فدعا لهم، ففرَّج الله عنهم، وسُقوا الغيثَ ببركة دعائه.

وقال الإمام الفقيه أبو محمد عبد الله بن حامد في كتاب "دلائل النبوة" - وهو كتاب حافل -: ذكرُ ما أُوتيَ نوح عليه السلام من الفضائل، وبيان ما أُوتي محمد صلى الله عليه وسلم مما يُضاهي فضائلَه ويزيد عليها: إن قوم نوح لما بلغوا من أذِيَّتِه والاستخفاف به، وترك الإيمان بما جاءهم به من عند الله، دعا عليهم فقال:{رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26] فاستجابَ الله دعوتَه، وغرق قومه، حتى لم يسلى شيء من الحيوانات والدوَّاب إلا مَنْ ركبَ السفينة، وكان ذلك فضيلة أُوتيها؛ إذ أُجيبتْ دعوتُه، وشفى صَدْرَه بإهلاك قومه. قلنا: قد أُوتي محمَّد صلى الله عليه وسلم مثلَه حين نالَه من قريش ما نالَه من التكَذيب والاستخفاف،

(1)

رواه البخاري في صحيحه (240) في الوضوء و (520) في الصلاة.

(2)

في نسخة "حَدِّها وحديدها".

(3)

انظر السيرة النبوية؛ لابن إسحاق (1/ 621).

(4)

في نسخة "من سَراتهم".

(5)

تقدم الحديث.

(6)

سقط ما بين حاصرتين من المطبوع.

ص: 389

فأنزلَ الله إليه مَلَكَ الجبال وأمرَه بطاعته فيما يأمُره به من إهلاك قومه، فاختارَ الصبر على أَذِيَّتِهم، والابتهال في الدعاء لهم بالهداية.

قلت: وهذا أحسن، وقد تقدَّمَ الحديث بذلك عن عائشة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ في قصة ذهابه إلى الطائف، فدعاهم فآذوه، فرجع وهو مهموم، فلما كان عند قَرنِ الثعالب ناداه مَلَكُ الجبال فقال: يا محمَّد! إنَّ ربَّكَ قد سمعَ قولَ قومِكَ وما ردُّوا عليكَ، وقد أرسلني إليكَ لأفعلَ ما تأمرُني به، فإن شئتَ أطبقتُ عليهم الأخشبين - يعني: جبلي مكة اللذين يكتنفانها جنوبًا وشمالًا، أبو قبيس والأحمر - فقال:"بل أستأني بهم لعلَّ الله أن يُخرجَ من أصلابهم من لا يشرك بالله شيئًا"

(1)

. وقد ذكرَ الحافظُ أبو نُعيم في مقابلة قوله تعالى: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} [القمر: 10 - 12] أحاديث الاستسقاء عن أنس وغيره، كما تقدَّم ذكرنا لذلك في دلائل النبوة قريبًا؛ أنه صلى الله عليه وسلم سأله ذلك الأعرابي أن يدعوَ الله لهم، لما بهم من الجدب والجوع، فرفعَ يديه وقال:"اللهم اسقنا، اللهم اسقنا"

(2)

فما نزلَ عن المنبر حتى رُئيَ المطرُ يتحادرُ على لحيته الكريمة صلى الله عليه وسلم، فاستحضرَ من استحضرَ من الصحابة رضي الله عنهم قولَ عمِّه أبي طالب فيه:

وأَبيضَ يُستسقَى الغَمَامُ بوجهِهِ

ثِمالُ اليَتَامَى عِصمةٌ لِلأرامِلِ

يَلُوذ بهِ الهلاكُ مِن آلِ هاشِمٍ

فَهُم عِندَه في نِعمَةٍ وَفَواضِلِ

وكذلك استسقى في غير ما موضع للجدب والعطش فيُجاب كما يُريدُ على قَدْرِ الحاجة المائيَّة، ولا أزيد ولا أنقص، وهذا أبلغُ في المعجزة، وأيضًا فإن هذا ماءُ رحمةٍ ونعمة، وماءُ الطُوفان، ماءُ غَضَب ونقمة، وأيضًا فإنَّ عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه كان يَستسقي بالعبَّاس عمِّ النبي صلى الله عليه وسلم فيُسقون، وكذلك ما زالَ المسلمون في غالب الأزمان والبلدان، يَستسقونَ فيُجابون فيُسقون، و [غيرُهم] لا يُجابون غالبًا ولا يُسقون، وللّه الحمد.

قال أبوَ نُعيم: لبثَ نوحٌ في قومه ألفَ سنة إلا خمسين عامًا، فبلَّغَ جميعَ من آمن به رجالًا ونساء، الذين ركبوا معه في السفينة، دون مئة نفس، وآمنَ بنبيِّنا - في مدة عشرين سنة - النَّاسُ شرقًا وغربًا، ودانت له جبابرةُ الأرض وملوكها، وخافت زوال ملكهم، ككسرى وقيصر، وأسلم النجاشيُّ والأقيال رغبة في دين الله، والتزمَ من لم يُؤمن به من عظماء الأرض الجزية، والإيادة عن صَغار، أهلُ نجران، وهجر، وأيلعة، وأكيدر دومة، فذلُّوا له منقادينَ، لما أيده الله به من الرُّعب الذي يسير بين يديه شهرًا،

(1)

رواه البخاري في صحيحه رقم (3231) في بدء الخلق، ومسلم في صحيحه رقم (1795) في الجهاد والسير، و "الأخشبان": هما الجبلان المطيفان بمكة، وهما أبو قبيس والأحمر، وهو جبل مشرف وجهُه على قُعَيْقِعَان. والأخشب: كل جبل خشن غليظ الحجارة.

(2)

تقدم الحديث.

ص: 390

وفتح الفتوح، ودخل الناس في دين الله أفواجًا كما قال الله تعالى:{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} [النصر: 1 - 2].

قلت: ماتَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وقد فتحَ الله له المدينةَ وخيبرَ ومكَةَ وأكثرَ اليمن وحضرموت، وتوفي عن مئة ألف صحابي أو يزيدون، وقد كتبَ في آخر حياته الكريمة إلى سائر ملوك الأرض يدعُوهم إلى الله تعالى، فمنهم من أجابَ، ومنهم من توقَّفَ، ومنهم مَن صانعَ ودَارى عن نفسه، ومنهمِ من تكبَّر فخابَ وخسر، كما فعلَ كسرى بن هرمز حين عتى وبغى وتكبَّر، فمُزق مُلكُه، وتفرَّق جندُه شَذرَ مَذَرَ، ثم فتحَ خلفاؤُه من بعده، أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم عليّ التالي على الأثر، مشارقَ الأرض ومغاربَها، من البحر الغربيّ إلى البحر الشرقيّ، كما قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"زُويت لي الأرضُ فرأيتُ مشارقَها ومغاربَها، وسيبلغُ ملكُ أمتي ما زُوي لي منها"

(1)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: "إذا هلكَ قيصرُ فلا قيصرَ بعدَه، وإذا هلكَ كسرى فلا كسرى بعدَه، والذي نفسي بيده لَتُنْفِقُنَّ كنوزَهما في سبيل الله"

(2)

. وكذا وقعَ سَواءً بسواء، فقد استوسقت الممالكُ الإسلامية على ملك قيصر وحواصله، إلا القسطنطينية، وجميع ممالك كسرى وبلاد المشرق، وإلى أقصى بلاد المغرب، إلى أن قُتل عثمانُ رضي الله عنه في سنة ست وثلاثين. فكما عمَّت جميعَ أهل الأرض النقمة بدعوة نوحُ عليه السلام، لما رأى ما هم عليه من التمادي في الضَّلال والكفر والفُجور، فدعا عليهم غضبًا للّه ولدينه ورسالته، فاستجاب الله له، وغضبَ لغضبه، وانتقمَ منهم بسببه، كذلك عمَّت جميعَ أهل الأرض النّعمةُ ببركة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ودعوته، فآمن من آمن من الناس، وقامت الحجة على من كفر منهم، كما قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] وكما قال صلى الله عليه وسلم: "إنما أنا رحمة مهداة"

(3)

.

(1)

رواه ابن ماجه في الفتن (3952) عن ثوبان رضي الله عنه، وهو حديث صحيح.

(2)

رواه البخاري في صحيحه (3120) في فرض الخمس، ومسلم في الفتن (2918)(75).

(3)

رواه الدارمي (1/ 9) عن إسماعيل بن خليل عن علي بن مُسْهر، وابن أبي شيبة (المصنف 11/ 504) عن وكيع، كلاهما (علي بن مسهر ووكيع) عن الأعمش عن أبي صالح مرسلًا. ورواه الحاكم في المستدرك (1/ 35) والبيهقي في الدلائل (1/ 158) من طريق مالك بن سعير، عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة موصولًا. وصححه الحاكم، ولم يصب في ذلك، فإن الرواية المرسلة هي الصحيحة رواها ثقتان عن الأعمش وهما وكيع وعلي بن مسهر، فتبين أن مالك بن سعير قد تفرد بوصله فأخطأ، وهو صدوق، وقد ضعفه أبو داود، وقال الأزدي: عنده مناكير (كما في تهذيب الكمال 46/ 127 - 147 والتعليق عليه)، فأين هو من الثقتين وكيع وعلي بن مسهر؟ فالمرسل هنا علة للموصول. أما رواية عبد الله بن نصر بن وكيع لهذا الحديث عن وكيع موصولا (كما في كامل ابن عدي 4/ 1546) فهو مما رده ابن عدي وغلَّطه فيه، وذكر أن الحديث المرفوع هو حديث مالك بن سعير، والحمد للّه على مننه (بشار).

ص: 391

وقال هشام بن عمَّار في كتاب "المبعث": حدَّثني عيسى بن عبد الله النعماني، حدَّثنا المسعودي، عن أبي سعيد وعن سعيد بن جُبير، عن ابن عبَّاس في قوله:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] قال: من آمن بالله ورسله تمَّت له الرحمة في الدنيا والآخرة، ومن لم يُؤمن باللّه ورسله عُدَّ فيمن يستحقُّ تعجيلَ ما كان يُصيب الأمم قبل ذلك من العذاب والفتن والقذف والخسف.

وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} [إبراهيم: 28] قال ابن عباس: النعمةُ محمَّد، والذين بَدَّلوا نعمةَ الله كفرًا كفار قريش - يعني: وكذلك كل من كذب به من سائر الناس - كما قال: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} [هود: 17].

قال أبو نُعيم: فإن قيل: فقد سمَّى الله نوحًا عليه السلام باسم من أسمائه الحُسنى، فقال:{إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء: 3]. قلنا: وقد سمَّى الله محمَّدًا صلى الله عليه وسلم باسمين من أسمائه فقال: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128] قال: وقد خاطبَ الله الأنبياءَ بأسمائهم، يا نوحُ! يا إبراهيم! يا موسى! يا داود! يا يحيى! يا عيسى ابن مريم، وقال مخاطبًا لمحمد صلى الله عليه وسلم: يا أيُّها الرسول يا أيها النبي! يا أيها المُزمِّل يا أيها المُدثِّر! وذلك قائم مقام الكنية بصفة الشرف.

ولما نسبَ المشركون أنبياءَهم إلى السَّفَه والجُنون، كلٌّ أجابَ عن نفسه، قال نوحٌ:{قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 67] وكذا قال هود عليه السلام. ولما قال فرعون: {إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَامُوسَى مَسْحُورًا} [الإسراء: 101] قال [موسى]{قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} [الإسراء: 102] إلى أمثال ذلك، وأما محمد صلى الله عليه وسلم فإن الله تعالى هو الذي يتولَّى جوابَهم عنه بنفسه الكريمة، كما قال:{وَقَالُوا يَاأَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الحجر: 6 - 7] قال الله تعالى: {مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ} [الحجر: 8] وقال تعالى: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان: 5 - 6]{أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ} [الطور: 30 - 31] وقال تعالى: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الحاقة: 41 - 43]{وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} [القلم: 51] وقال الله تعالى: {وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} [القلم: 52] وقال تعالى: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 1 - 4] وقال تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: 103].

ص: 392

‌القول فيما أوتي هود عليه السلام

قال أبو نعيم ما معناه: إن الله تعالى أهلكَ قومَه بالريح العقيم، وكانت ريحَ غضبٍ، ونصرَ الله تعالى محمّدًا صلى الله عليه وسلم بالصَّبَا يومَ الأحزاب، كما قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} [الأحزاب: 9]. ثم قال: حدَّثنا إبراهيم بن إسحاق، حدَّثنا محمد بن إسحاق بن خزيمة (ح) وحدَّثنا عثمان بن محمد العثماني، أخبرنا زكريا بن يحيى السَّاجي، قالا: حدَّثنا أبو سعيد الأشج، حدَّثنا حفصُ بن غياث، عن داود بن أبي هند، عن عكرمةَ، عن ابن عباس، قال: لما كان يومُ الأحزاب انطلقت الجَنُوب إلى الشَّمأل فقالت: انطلقي بنا ننصرُ محمَّدًا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقالت الشَّمْال للجَنُوب: إن الحُرَّةَ لا تَسرِي بالليل، فأرسلَ الله عليهم الصَّبا، فذلك قوله:{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا}

(1)

[الأحزاب: 9].

ويشهدُ له الحديثُ المتقدم عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "نصرت بالصَّبَا وأُهلكت عادٌ بالدبور"

(2)

.

‌القول فيما أُوتي صالحٌ عليه السلام

قال أبو نعيم: فإن قيل: فقد أخرجَ الله لصالح ناقةً من الصَّخرة جعلَها الله له آيةً وحُجَّةً على قومه، وجعلَ لها شُربَ يوم، ولهم شُربَ يومٍ معلوم، قلنا: وقد أعطى الله مُحمَدًا صلى الله عليه وسلم مثلَ ذلك، بل أبلغَ، لأن ناقةَ صالح لم تُكَلِّمْه ولم تشهد له بالنبوة والرسالة، ومحمَّدٌ صلى الله عليه وسلم شهدَ له البعيرُ النَّادُّ بالرسالة، وشكا إليه ما يلقَى من أهله، من أنهم يُجيعونه ويُريدون ذبحَه، ثم ساقَ الحديث

(3)

بذلك كما قدَّمنا في دلائل النبوة بطرقه وألفاظه وغُرَرِه بما أغنى عن إعادته هاهنا، وهو في الصَّحاح والحِسان والمسانيد، وقد ذكرنا مع ذلك حديثَ الغزالة

(4)

، وحديثَ الضَّبِّ

(5)

، وشهادتَهما له صلى الله عليه وسلم بالرسالة، كما تقدَّم التنبيه على ذلك والكلام فيه، وثبتَ الحديث في الصحيح

(6)

بتسليم الحجر عليه قبل أن يُبعثَ، وكذلك سلامُ الأشجار والأحجار والمدر عليه قبل أن يُبعثَ صلى الله عليه وسلم.

(1)

رواه الطبري في التفسير (10/ 263) وذكره الحافظ ابن كثير في تفسيره (3/ 581) والسيوطي في الدر المنثور (573).

(2)

رواه أحمد في المسند (1/ 228) والبخاري في الاستسقاء (1035) ومسلم في صلاة الاستسقاء (400)(17).

(3)

سبق تخريجه.

(4)

سبق تخريجه.

(5)

سبق تخريجه.

(6)

سبق تخريجه.

ص: 393

‌القول فيما أُوتي إبراهيمُ الخليلُ عليه السلام

قال شيخنا العلامة أبو المَعالي بن الزَّمَلْكاني رحمه الله وبلَّ بالرحمة ثراه: وأما خمود النار لإبراهيم عليه الصلاة والسلام، فقد خمدت لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم نار فارس ولم تخمد قبل ذلك بألف عام وكان خمود نار فارس لمولده صلى الله عليه وسلم وبينه وبينها مسافة أشهر كذا، وهذا الذي أشار إليه من خمود نار فارس ليلة مولده الكريم، قد ذكرناه بأسانيده وطرقه في أول السير

(1)

، عند ذكر المولد المُطهَّر الكريم

(2)

، بما فيه كفاية ومقنع.

ثم قال شيخنا: مع أنه قد أُلقي بعض هذه الأمة في النَّار فلم تُؤَثِّر فيه ببركة نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم، منهم أبو مسلم الخولاني، قال: بينما الأسود بن قيس العَنْسي باليمن، فارسل إلى أبي مسلم الخولاني فقال: أتشهدُ أنَّ محمَّدًا رسولُ الله؟ قال: نعم، قال: أتشهدُ أني رسولُ الله؟ قال: ما أسمع. فأعاد إليه، فقال: ما أسمع. فأمر بنار عظيمة قد أُجِّجَتْ، فطُرح فيها أبو مسلم فلم تضرَّه، فقيل له: لئن تركتَ هذا في بلادك أفسدها عليكَ، فأمره بالرحيل، فقدم المدينة وقد قُبِضَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم واستُخلفَ أبو بكر، فقام إلى ساريةٍ من سواري المسجد يُصلَي، فبَصُرَ به عمرُ فقال: من أينَ الرَّجلُ؟ فقال: من اليمن. قال: ما فعلَ عدوُّ الله بصاحبنا الذي حرَّقه بالنار فلم تضرُّه؟ قال: ذاك عبد الله بن ثوب

(3)

، قال: نشدتُك بالله أنتَ هو؟ قال: اللهم نعم. قال: فَقبَّلَ ما بين عينيْه ثم جاء به وأجلسَه بينه وبين أبي بكر الصديق، وقال: الحمدُ لله الذي لم يُمتني حتى أراني في أُمَّة محمّد صلى الله عليه وسلم من فُعِلَ به كما فُعِلَ بإبراهيم خليل الرحمن عليه السلام.

وهذا السِّياق الذي أوردَه شيخُنا بهذه الصفة قد رواه الحافظ الكبير، أبو القاسم ابن عساكر رحمه الله في ترجمة أبي مسلم عبد الله بن ثُوَب. في "تاريخه" من غير وجه: عن عبد الوهاب بن الضحَّاك، عن إسماعيل بن عياش الحمصي، حدَّثني شرحبيل بن مسلم الخَوْلاني: أن الأسودَ بن قيس ذا الخمار العَنْسي تنبَّأ باليمن، فأرسلَ إلى أبي مسلم الخَوْلاني فأتي به، فلمَّا جاء به قال: أتشهدُ أني رسولُ الله؟ قال: ما أسمع، قال: أتشهد أن محمدًا رسولُ الله؟ قال: نعم، قال: فردَّ عليه ذلك مرارًا، ثم أمرَ بنار عظيمة فأُجِّجت، فأُلقي فيها فلم تضرَّه، فقيل للأسود: انفهِ عنكَ وإلا أفسدَ عليكَ مَنِ اتَّبعكَ. فأمرَه، فارتحلَ أبو مسلم، فأتى المدينةَ وقد قُبِضَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، واستُخلفَ أبو بكر، فأناخَ أبو مسلم

(1)

سبق تخريجه.

(2)

في نسخة "المشرف المكرم".

(3)

في نسخة "ثوب" وهو صحيح كما تقدم في نسبه.

ص: 394

راحلتَه بباب المسجد، ثم دخلَ المسجدَ وقام يُصلِّي إلى ساريةٍ، فَبَصُرَ به عمرُ بن الخطَّاب، فأتاه فقال: مَن الرَّجلُ؟ فقال: من أهل اليمن. قال: ما فعلَ الرجلُ الذي حرَّقه الكذابُ بالنَّار؟ قال: ذاك عبد الله بن ثُوبَ، قال: فأنشدكَ بالله أنتَ هو؟ قال: اللهم نعم، قال: فاعتنقه ثم بكى، ثم ذهبَ به حتى أجلسَه بينه وبين أبي بكر الصديق، فقال: الحمدُ لله الذي لم يُمِتْني حتى أراني في أمة محمد صلى الله عليه وسلم من فُعِلَ به كما فُعِلَ بإبراهيم خليل الرحمن.

قال إسماعيلُ بن عبَّاس: فأنا أدركتُ رجالًا من الأمداد الذين يَمُدُّونَ إلينا من اليمن مِن خَولان، [من] ربما تمازحوا، فيقولُ الخَوْلانيون للعنسيين: صاحبُكم الكذَّابُ حرَّق صاحبَنا بالنَار فلم تضرَّه

(1)

.

وروى الحافظ ابنُ عساكر أيضًا من غير وجه: عن إبراهيم بن دُحَيْم: حدَّثنا هشام بن عمَّار، حدَّثنا الوليد، أخبرني سعيد بن بشير، عن أبي بشر - جعفر بن أبي وحشية - أن رجلًا من خَولانَ أسلم فأرادَه قومُه على الكفر فألقوه في نار فلم يحترقْ منه إلا أنملة لم يكن فيما مضى يُصيبها الوضوء، فقدمَ على أبي بكر فقال له: استغفر لي، قال: أنتَ أحق، قال أبو بكر: أنت أُلقيت في النار فلم تحترق، فاستغفر له ثم خرج إلى الشام، وكانوا يُشَبِّهونه بإبراهيم عليه السلام، وهذا الرجل هو أبو مسلم الخولاني. وهذه الرواية بهذه الزيادة تُحَقِّقُ أنه إنما نالَ ذلك ببركة متابعته الشريعة المحمَّدية المُطهَّرة المُقدَّسة، كما جاء في حديث الشفاعة:"وحرَّم الله على النَار أن تأكلَ مواضعَ السُّجود"

(2)

.

وقد نزلَ أبو مسلم بداريَّا من غربيّ دمشق، وكان لا يسبقه أحدٌ إلى المسجد الجامع بدمشق وقتَ الصبح، وكان يُغازي ببلاد الروم، وله أحوالٌ وكراماتٌ كثيرة جدًّا، وقبرُه مشهور بداريا، والظاهر أنه مقامُه الذي كان يكون فيه، فإن الحافظ ابن عساكر رجَّح أنه مات ببلاد الروم، في خلافة معاوية، وقيل: في أيام ابنه يزيد، بعد الستين

(3)

، والله أعلم.

وقد وقعَ لأحمد بن أبي الحواري من غير وجه: أنه جاء إلى أستاذه أبي سليمان الدَّاراني يُعلمه بأن التَّنُّور قد سَجَرُوه، وأهلُه ينتظرون ما يأمرُهم به، فوجدَه يُكلِّمُ النَّاسَ وهم حولَه، فأخبره بذلك فاشتغلَ عنه بالناس، ثم أعلمَه فلم يلتفتْ إليه، ثم أعلمه مع أولئك الذين حولَه، فقال: اذهبْ فاجلسْ فيه، فذهبَ أحمدُ بن أبي الحَواري إلى التَّنُّور فجلسَ فيه وهو يتضرَّم نارًا، فكان عليه بردًا وسلامًا، وما زالَ فيه حتَّى استيقظَ أبو سُليمان من كلامه، فقال لمن حولَه: قوموا بنا إلى أحمد بن أبي الحَواري، فإني أظنُّه قد

(1)

ذكره ابن منظور في مختصر تاريخ دمشق (12/ 56 - 57).

(2)

رواه البخاري في صحيحه رقم (806) في الأذان، ومسلم في صحيحه رقم (299) في الإيمان.

(3)

انظر تهذيب تاريخ ابن عساكر؛ لابن منظور (12/ 66).

ص: 395

ذهبَ إلى التَّنوُّر فجلسَ فيه امتثالًا لما أمرته به، فذهبُوا فوَجدُوه جالسًا فيه، فأخذ بيده الشيخُ أبو سليمان وأخرجَه منه، رحمة الله عليهما

(1)

.

ثم قال شيخنا أبو المعالي: وأما إلقاؤه - يعني إبراهيم عليه السلام من المِنْجنيق، فقد وقعَ في حديث البراء بن مالك في وقعة مسيلمة الكذَّاب، أنَّ أصحابَ مسيلمة انتهوا إلى حائط حفير فتحصَّنوا به وأغلقوا البابَ، فقال البراء بن مالك: ضَعُوني على تُرْسٍ واحملوني على رؤوس الرماح، ثم ألقوني من أعلاها داخلَ الباب، ففعلوا ذلك وألقوه عليهم فوقعَ وقامَ وقاتلَ المشركين حتى قتل عشرة أو أكثر، وفتحَ البابَ للمسلمين وكان سببَ هلاك المشركين، وقتلِ مُسيلمة.

قلت: وذكرتُ ذلك مستقصًى في أيام الصّدِّيق حين بعثَ خالدَ بن الوليد لقتال مسيلمة وبني حنيفة، وكانوا في قريبٍ من مئة ألف أو يزيدون، وكان المسلمون بضعة عشر ألفًا، فلما التَقوا جعلَ كثيرٌ من الأعراب يفرُّون، فقال المهاجرون والأنصار: أخلصنا يا خالد! فميَّزَهم عنهم، وكان المهاجرون والأنصار قريبًا من ألفين وخمسمئة، فصمَّموا الحملةَ وجعلوا يتذامرون

(2)

ويقولون: يا أصحابَ سورة البقرة! بطلَ السِّحر اليومَ! فهزموهم بإذن الله وألجؤوهم إلى حديقةٍ هناك، وتُسمَّى حديقة الموت، فتحصَّنوا بها، فحاصروهم فيها، ففعل البراءُ بن مالك، أخو أنس بن مالك - وكان الأكبر - ما ذكرَ من رفعه على الأسنة فوقَ الرِّماح حتى تمكَّنَ من أعلى سُورها، ثم ألقى نفسَه عليهم، ونهضَ سريعًا إليهم، ولم يزلْ يُقاتلُهم وحدَه ويُقاتلونه حتى تَمكَّن من فتح باب الحديقة، ودخلَ المسلمون يُكَبِّرونَ، وانتهوا إلى قصر مُسيلمةَ الكذَّاب وهو واقفٌ خارجَه عند جدار كانه جمل أورق - أي من سمرته - فابتدَره وحشيُّ بن حَرْب الأسود، قاتلُ حمزة، بحربته، وأبو دُجانة سِماكُ بن خرشة الأنصاري - وهو الذي يُنسب إليه شيخنا هذا أبو المعالي بن الزَّمَلْكانيّ - فسبقَه وحشيٌّ فأرسلَ الحربةَ عليه من بُعدٍ فانفذَها منه، وجاء إليه أبو دُجانة فعلاه بسيفه فقتلَه، لكن صرخت جارية من فوق القصر فقالت: وا أميراه! قتلَه العبد الأسود. ويقال: إن عمرَ مسيلمة - لعنه الله - يومَ قُتل مئة وأربعون سنة، فهو ممن طالَ عمرُه وساءَ عمله قبَّحه الله.

هذا ما ذكرَه شيخُنا فيما يتعلَّق بإبراهيمَ الخليل عليه السلام.

وأما الحافظ أبو نُعيم فإنه قال: فإن قيل: فإنَّ إبراهيمَ خُصَّ بالخُلَّة مع النبوة، قيل: فقد اتَّخذَ الله محمَّدًا خليلًا وحبيبًا، والحبيبُ ألطفُ من الخليل. ثم ساق من حديث شعبة: عن أبي إسحاقٍ، عن أبي

(1)

ذكر الحافظُ الذهبي في السير (12/ 93) هذه الحكاية وقال: نقل السُّلمي حكاية منكرة

وفيها أنه كان بين أبي سليمان الداراني وأحمد بن أبي الحواري عقدٌ لا يُخالفه في أمر .. ومثل هذا العقد ربما يؤدي إلى معصية الله عز وجل، وهو مخالفٌ للحديث النبوي الصريح "إنما الطاعة في المعروف".

(2)

"يتذامرون": يحض بعضهم بعضًا.

ص: 396

الأحوص، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو كنتُ مُتَّخِذًا خليلًا لاتَّخذتُ أبا بكرٍ خليلًا، ولكنَّ صاحبَكم خليلُ الله"

(1)

.

وقد رواه مسلم: من طريق شعبة والثوري، عن أبي إسحاق، ومن طريق عبد الله بن مرَّة، وعبد الله بن أبي الهذيل، كلُّهم عن أبي الأحوص عوف بن مالك الجشيمي، قال: سمعت عبد الله بن مسعود يُحدِّثُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو كنتُ مُتَّخِذًا خليلًا لاتَّخذتُ أبا بكر خليلًا، ولكنَّه أخي وصاحبي، وقد اتَّخذَ الله صاحبَكم خليلًا"

(2)

هذا لفظ مسلم.

ورواه مسلم أيضًا منفردًا به: عن جندب بن عبد الله البجلي كما سأذكره

(3)

، وأصلُ الحديث في الصحيحين: عن أبي سعيد

(4)

. وفي أفراد البخاري: عن ابن عباس

(5)

، وابن الزبير

(6)

، كما سقتُ ذلك في فضائل الصِّدِّيق رضي الله عنه. وقد أوردناه هنالك من رواية أنس، والبراء، وجابر، وكعب بن مالك، وأبي الحسين بن المُعلَّى، وأبي هريرة، وأبي واقد اللَّيْثي، وعائشة أم المؤمنين، رضي الله عنهم أجمعين.

ثم إنما رواه أبو نُعيم من حديث عُبيد الله بن زحر، عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أُمامة، عن كعب بن مالك، أنه قال: عهدي بنبيكم صلى الله عليه وسلم قبلَ وفاته بخمسة أيام، فسمعتُه يقول:"لم يكنْ نبيٌّ إلا له خليلٌ من أمته، وإن خليلي أبو بكر، وإن الله اتَّخذَ صاحبَكم خليلًا"

(7)

. وهذا الإسناد ضعيف.

ومن حديث محمد بن عَجْلان، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لكلِّ نبي خليلٌ، وخليلي أبو بكر بن أبي قُحافةَ، وخليلُ صاحبكم الرحمن"

(8)

. وهو غريب من هذا الوجه.

ومن حديث عبد الوهاب بن الضَّحَّاك، عن إسماعيل بن عيَّاش، عن صفوان بن عمرو، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن كثير بن مرة، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الله اتَّخذَنِي خليلًا كما اتَّخذَ إبراهيمَ خليلًا، منزلي ومنزل إبراهيم في الجنة تجاهين،

(1)

ذكره المتقي الهندي في كنز العمال (32599) وعزاه لأبي نُعيم في "فضائل الصحابة" وهو حديث صحيح.

(2)

رواه مسلم في صحيحه رقم (2383)(3) في فضائل الصحابة.

(3)

سيأتي تخريجه في الصفحة التالية.

(4)

رواه البخاري في صحيحه (3654) في فضائل الصحابة، ومسلم في صحيحه (2382)(2) في فضائل الصحابة.

(5)

رواه البخاري في صحيحه (3656) في فضائل الصحابة.

(6)

رواه البخاري في صحيحه (3658) في فضائل الصحابة.

(7)

رواه الطبراني كما في مجمع الزوائد (9/ 45) وقال: في إسناده علي بن يزيد الألهاني وهو ضعيف ولكن له شواهد يقوى بها.

(8)

ذكره المتقي الهندي في كنز العمال (32598) وعزاه لأبي نُعيم، وفي سنده محمد بن عجلان المدني، وهو صدوق إلا أنه اختلطت عليه أحاديث أبي هريرة.

ص: 397

والعباس بيننا مؤمن بين خليلين". غريبٌ، وفي إسناده نظر

(1)

، انتهى ما أورده أبو نُعيم رحمه الله.

وقال مسلمُ بن الحجَّاج في "صحيحه": حدَّثنا أبو بكر بن أبي شيبةَ واسحاقُ بن إبراهيم، قالا: حدَّثنا زكريا بن عديّ، حدَّثنا عُبيد الله بن عمرو، حدَّثنا زيد بن أبي أُنَيْسَةَ، عن عمرِو بن مُرَّةَ، عن عبد الله بن الحارث، حدَّثني جُنْدَبُ بن عبد الله، قال: سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموتَ بخمسٍ وهو يقولُ: "إني أبرأُ إلى الله عز وجل أن يكونَ لي بينكم خليلٌ، فإن الله قد اتَّخذني خليلًا كما اتَّخذَ إبراهيم خليلًا، ولو كنتُ مُتَّخِذًا مِن أُمَّتِي خليلًا لاتَّخذتُ أبا بكر خليلًا، ألا وإنَّ مَن كانَ قبلَكُم يتَّخذون قبورَ أنبيائهِم وصالحِيهم مَساجِدَ، ألا فلا تَتَّخذوا القبورَ مساجدَ، إني أنهاكُم عن ذلك"

(2)

.

وأما اتِّخاذُه حَبيبًا خليلًا، فلم يتعرَّض لإسناده أبو نُعيم، وقد قال هشام بن عمَّار في كتابه "المبعث": حدَّثنا يحيى بن حمزة الحَضْرَميّ وعثمان بن علَّان القُرشي، قالا: حدَّثنا عروة بن رُويم اللَّخْمِي، أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال:"إنَّ الله أدركَ بي الأجلَ المرقومَ، وأخذَني لقُربهِ، واحتضرني احتضارًا، فنحنُ الآخرون، ونحن السَّابقون يومَ القيامة، وأنا قائلٌ قولًا غيرَ فخر: إبراهيمُ خليلُ الله، وموسى صفيُّ الله، وأنا حبيبُ الله، وأنا سيِّدُ ولدِ آدمَ يومَ القيامة، وإن بيدي لواءَ الحمد، وأجارَني الله عليكم من ثلاث: ألا يُهلكَكُم بسَنَة، وألا يستبيحَكُم عدوَّكُم، وألا تجتمعوا على ضلالة"

(3)

.

وأما الفقيه أبو محمد عبدُ الله بن حامد، فتكلَّم على مقام الخُلَّة بكلام طويل إلى أن قال: ويُقال: الخليل: الذي يَعبدُ ربَّه على الرغبة والرهبة، من قوله:{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة: 114] من كثرة ما يقول: أوَّاه. والحبيبُ: الذي يعبدُ ربَّه على الرؤية والمحبَّة. ويُقالُ: الخليل: الذي يكون معه انتظار العَطاء، والحبيبُ: الذي يكون معه انتظار اللِّقاء. ويُقال: الخليل: الذي يصلُ بالواسطة من قوله: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام: 75] والحبيبُ: الذي يصل إليه من غير واسطة، من قوله:{فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم: 9] وقال الخليل: {يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء: 82] وقال الله للحبيب محمد صلى الله عليه وسلم: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] وقال الخليل: {وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ} [الشعراء: 87] وقال الله للنبيِّ: {يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} [التحريم: 8] وقال الخليلُ حين أُلقي في النَّار: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173] وقال الله لمحمد: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنقال: 64] وقال الخليل: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات: 99] وقال الله لمحمد: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى: 7] وقال

(1)

رواه ابن ماجه في سننه (141) في المقدمة، وهو موضوع وآفته شيخ ابن ماجه عبد الوهاب بن الضحاك، فإنه كذاب وضاع. وينظر تعليق الدكتور بثار عليه.

(2)

رواه مسلم (532)(23) في المساجد ومواضع الصلاة.

(3)

عروة بن رويم اللَّخمي ثقة يرسل كثيرًا، كما قال الحافظ في التقريب، وهذا مرسل.

ص: 398

الخليل: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35] وقال الله للحبيب: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33] وقال الخليل: {وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ} [الشعراء: 85] وقال الله لمحمد: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر: 1] وذكرَ أشياءَ أخرَ.

وسيأتي الحديثُ في صحيح مسلم: عن أُبيِّ بن كعب؛ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنِّي سأقومُ مقامًا يومَ القيامة يرغبُ إليَّ الخلقُ كلُّهم حتى أبوهم إبراهيم الخليلُ فدل على أنه أفضلُ منه؛ إذ هو يحتاجُ إليه في ذلك المقام، ودل على أنَّ إبراهيمَ أفضلُ الخلق بعده، ولو كان أحد أفضل من إبراهيم بعدَه لذكرَه".

ثم قال أبو نُعيم: فإن قيل: إنَّ إبراهيمَ عليه السلام حُجِبَ عن نمروذ بحُجُب ثلاثة، قيل: فقد كان كذلك، وحُجِبَ محمّد صلى الله عليه وسلم عمن أرادوه بخمسة حجب، قال الله تعالى في أمره:{وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} [يس: 9] فهذه ثلاث، ثم قال:{وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا} [الإسراء: 45] ثم قال: {فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ} [يس: 8] فهذه خمسُ حُجُب.

وقد ذكرَ مثلَه سواء الفقيه أبو محمد بن حامد، وما أدري أيُّهما أخذَ من الآخر، واللّه أعلم.

وهذا الذي قاله غريبٌ، والحُجُب التي ذكرَها لإبراهيم عليه السلام لا أدري ما هي، كيف وقد ألقاه في النَّار التي نجَّاه الله منها! وأما ما ذكرَه من الحُجُبِ التي استدل عليها بهذه الآيات، فقد قيل: إنها جميعها معنوية لا حِسِّيَّة، بمعنى أنهم مصروفون عن الحق، لا يصلُ إليهم، ولا يخلصُ إلى قلوبهم، كما قال تعالى:{وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} [فصلت: 5] وقد حرَّرنا ذلك في التفسير، وقد ذكرنا في السيرة وفي التفسير أن أمَّ جميل امرأةَ أبي لهبٍ، لما نزلت السورة في ذمِّها وذمِّ زوجها، ودخولهما النَّارَ، وخسارهما، جاءت بفِهْر

(1)

- وهو الحجر المستطيل - لترجُمَ النبي صلى الله عليه وسلم، فانتهت إلى أبي بكر وهو جالس عند النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فلم ترَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت لأبي بكر: أين صاحبُك؟ فقال: وماله؟ فقالت: إنَّه هجاني، فقال: وما هجاكِ؟ فقالت: واللّه لئن رأيته لأضربنَّه بهذا الفهر

(2)

ثم رجعت وهي تقول:

مُذَمّمًا أَتينا

ودِيْنَه قَلَيْنَا

وكذلك حُجِبَ ومُنع من أبي جهل حين همَّ أن يطأ برجلِه رأسَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وهو ساجد، فرأى جدثًا من نار، وهَوْلًا عظيمًا، وأجنحةَ الملائكة دونه، فرجعَ القهقرى وهو يَتَّقِي بيديه، فقالت له قريش:

(1)

"الفِهْر": حجر رقيق، قدر ما يملأ الكفَّ، يُسحق به الطِّيب والأدوية.

(2)

في نسخة "خندقًا" و "الجَدَثُ": القبر.

ص: 399

مالكَ، ويحَك؟ فأخبرَهم بما رأى. وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لو تقدَّمَ لاختطفته الملائكة عضوًا عضوًا".

وكذلك لما خرجَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ليلة الهجرة وقد أرصدوا على مدرجته وطريقه، وأرسلوا إلى بيته رجالًا يحرسونه لئلا يخرجَ، ومتى عاينوه قتلوه، فأمرَ عليًّا فنامَ على فراشه، ثم خرجَ عليهم وهم جلوس، فجعل يذرُّ على رأس كلِّ إنسان منهم ترابًا، ويقول: "شاهتِ الوجود

(1)

" ثم خرجَ ولم يروه، حتَّى صارَ هو وأبو بكر الصِّدِّيق إلى غار ثَورٍ، كما بسطنا ذلك في السيرة.

وكذلك ذكرنا أن العنكبوت سدَّ على باب الغار؛ ليُعَمِّيَ الله عليهم مكانَه، وفي الصحيح: أنَّ أبا بكر قال: يا رسولَ الله! لو نظرَ أحدُهم إلى موضع قدميه لأبصرنَا، فقال:"يا أبا بكر! ما ظنَّك باثنين الله ثالثهما؟ "

(2)

وقد قال بعض الشعراء في ذلك:

نَسجُ داودَ ما حَمَى صاحِبَ الغا

رِ وَكانَ الفَخَارُ لِلعَنْكَبُوتِ

وكذلك حُجبَ ومُنعَ مِن سراقةَ بن مالكِ بن جُعشُم حين اتَّبعَهم، بسقوط قوائم فرسه في الأرض، حتى أخذ منه أمانًا، كما تقدَّم بَسطُه في الهجرة.

وذكر ابنُ حامدٍ في كتابه في مقابلة إضجاع إبراهيم عليه السلام ولدَه للذبح مُستسلمًا لأمر الله تعالى، ببذل رسول الله صلى الله عليه وسلم نَفسَه للقتل يومَ أُحد وغيره حتَّى نالَ منه العدو ما نالوا، من هَشم رأسه، وكَسْر ثنيَّته اليُمنى السُّفلى، كما تقدَّم بسطُ ذلك في السيرة.

ثم قال: قالوا كان إبراهيمُ عليه السلام ألقاه قومُه في النَّار فجعلَها الله بردًا وسلامًا، قلنا: وقد أُوتي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مثلَه، وذلك أته لما نزل بخيبر سمَّته الخيبريةُ، فصيَّر ذلك السُّمَّ في جوفه بردًا وسلامًا إلى مُنتهى أجلهِ، والسُّمُّ يحرقُ إذ يستقرُّ في الجوف - كما تحرقُ النَّارُ. قلت: وقد تقدَّمَ الحديثُ بذلك في فتح خيبرَ، يُؤَيِّدُ ما قالَه أن بِشْرَ بن البَراء بن مَعرور مات سريعًا من تلك الشاة المسمومة، وأخبرَ ذراعُها رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بما أُودعَ فيه من السُّمِّ، وكان قد نَهَشَ منه نَهْشَة، وكان السُّمُّ فيه أكثر، لأنهم كانوا يفهمون أنه صلى الله عليه وسلم يُحبُّ الذراعَ، فلم يَضرَّه السُّمُّ الذي حصلَ في باطنه بإذن الله عز وجل، حتى انقضى أجلُه صلى الله عليه وسلم، فذكرَ أنَّه وجدَ حينئذٍ من ألمِ ذلك السُّمَّ الذي كان في تلك الأكلة صلى الله عليه وسلم.

وقد ذكرنا في ترجمة خالد بن الوليد المَخزوميِّ، فاتحِ بلاد الشَّام، أنه أُتي بسُمٍّ فحثاه بحضرة الأعداء ليرهبَهم بذلك، فلم يرَ بأسًا، رضي الله عنه.

ثم قال أبو نُعيم: فإن قيل: فإن إبراهيمَ خصمَ نمروذَ ببرهان نُبوَّتِه فَبَهَتَه، قال الله تعالى: {فَبُهِتَ

(1)

في السيرة النبوية؛ لابن هشام (1/ 628) أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال ذلك في غزوة بدر.

(2)

رواه أحمد في المسند (1/ 4) والبخاري في صحيحه (3653) في فضائل الصحابة، ومسلم في صحيحه (2381) في فضائل الصحابة.

ص: 400

الَّذِي كَفَرَ} [البقرة: 258] قيل: محمد صلى الله عليه وسلم أتاه الكذَّابُ بالبَعثِ، أبن بن خَلَف، بعظمٍ بالٍ ففرَكَه وقال:{يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: 78] فأنزل الله تعالى البرهان الساطع: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس: 79] فانصرف مبهوتًا ببرهان نبوَّته. قلت: وهذا أقطعُ للحُجَّة، وهو استدلالُه للمَعَاد بالبَداءةِ، فالذي خلقَ الخَلقَ بعد أن لم يكونوا شيئًا مذكورًا، قادرٌ على إعادتِهم، كما قال:{أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} [يس: 81] أي: يُعيدهم كما بدأهم، كما قال في الآية الأخرى:{بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [الأحقاف: 33] وقال: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27] هذا وأمرُ المَعاد نَظَريٌّ لا فِطريّ، ضروريٌّ في قول الأكثرين.

فأما الذي حاجَّ إبراهيمَ في ربه فإنه مُعاندٌ مكابرٌ، فإنَّ وجودَ الصانع مذكورٌ في الفِطَر، وكلُّ واحد مفطورٌ على ذلك، إلا من تغيَّرت فِطْرتُه، فيصيرُ نظريًا عندَه، وبعضُ المُتكلِّمِين يجعلُ وجودَ الصانع من باب النظر لا الضروريات، وعلى كل تقدير فدعواه أنه هو الذي يُحيي الموتى، لا يقبلُه عقل ولا سمعٌ، وكلُّ واحد يُكذِّبه بعقله في ذلك، ولهذا ألزمَه إبراهيمُ بالإتيان بالشمس من المغرب إن كان كما ادَّعى {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} البهقرة: 258].

وكان ينبغي أن يذكر مع هذا؛ أنَّ الله تعالى سقَطَ محمَّدًا على هذا المعاندِ لمَّا بارزَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يوم أُحد، فقتلَه بيده الكريمة، طعنه بحربةٍ فأصابَ ترقوته فتردَّى عن فرسه مِرارًا، فقالوا له: ويحكَ ما لك؟ فقال: واللّه إن بي لَما لو كانَ بأهل ذي المَجَاز لمَاتُوا أجمعين: ألم يقل: "بل أنا أقتلُه

(1)

؟ " واللّه لو بصقَ عليَّ لقتلني - وكان أُبيّ هذا لعنه الله قد أعدَّ فرسًا وحربةً ليقتل بها رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "بل أنا أقتلُه - إن شاء الله

(2)

- " فكان كذلك يوم أُحد.

ثم قال أبو نُعيم: فإن قيل: فإن إبراهيمَ عليه السلام كسَّر أصنامَ قومه غضبًا لله، قيل: فإن محمَّدًا صلى الله عليه وسلم كسَّر ثلاثمئة وستين صنمًا نُصبت حول الكعبة، فأشارَ إليهن فتساقطنَ، ثم روى من طريق عبد الله العمري، عن نافع، عن ابن عمر قال: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة وحولَ البيت ثلاثمئة وستون صنمًا قد ألزمَها الشيطان بالرَّصاصِ والنُّحاس، فكان كلَّما دنا منها بِمخصَرَتِه تَهوي من غير أن يمسَّها، ويقولُ:{جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81] فتساقط لوجوهها، ثم أمرَ بهنَّ فاُخرجنَ إلى المسيل.

(1)

رواه الطبري في تفسيره (9/ 137) وانظره في الدر المنثور (5/ 69).

(2)

تقدم تخريجه في الصفحة السابقة.

ص: 401

وهذا أظهرُ وأجلى من الذي قبلَه، وقد ذكرنا هذا في أوَّل دخول النبيِّ صلى الله عليه وسلم مكة عام الفتح بأسانيده وطرقه من الصحاح وغيرها، بما فيه كفاية.

وقد ذكر غيرُ واحد من علماء السِّيرة، أنَّ الأصنامَ تساقطت أيضًا لمولده الكريم، وهذا أبلغُ وأقوى في المعجزة من مباشرة كسرها. وقد تقدَّم

(1)

أنَّ نارَ فارسَ التي كانوا يعبدُونها خَمَدَت أيضًا ليلتئذ، ولم تَخْمَدْ قبل ذلك بألف عام، وأنَّه سقط من شُرفات قصر كسرى أربعَ عشرة شرفة، مؤذنة بزوال دولتهم بعد هلاك أربعة عشر من ملوكهم في أقصر مدة، وكان لهم في الملك قريب من ثلاثة آلاف سنة.

وأما إحياءُ الطيور الأربعة لأبراهيمَ عليه السلام، فلم يذكره أبو نُعيم ولا ابنُ حامد، وسيأتي في إحياء الموتى على يد عيسى عليه السلام؛ ما وقعَ من المعجزات المحمَّدية من هذا النَمَط، ما هو مثل ذلك وأعلى من ذلك، كما سيأتي التنبيه عليه إذا انتهينا إليه، من إحياء أمواتٍ بدعواتٍ من أُمَّتِه، وحنين الجِذع، وتسليم الحَجَر والشَجَر والمَدَر عليه، وتكليم الذراع له، وغير ذلك.

وأما قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام: 75] والآيات بعدَها، فقد قال الله تعالى:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء: 1] وقد ذكر ذلك ابنُ حامدٍ فيما وقفتُ عليه بعدُ، وقد ذكرنا في أحاديث الإسراء من كتابنا هذا، ومن التفسير ما شاهدهَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ليلة أُسري به من الآيات فيما بينَ مكَّة إلى بيت المقدس، وفيما بين ذلك إلى سماء الدنيا، ثم ما عاينَ من الآيات في السَّماوات السبع وما فوقَ ذلك، وسدرة المُنتَهى، وجنَّة المأوى، والنَار التي هي بئسَ المصير والمَثوى، وقال عليه أفضل الصلاة والسلام في حديث المنام - وقد رواه أحمد والترمذي وصحَّحه، وغيرهما - "فتجلَّى لي كلُّ شيء وعرفتُ"

(2)

.

وذكرَ ابنُ حامد في مقابلة ابتلاءِ الله يعقوبَ عليه السلام بفقدِه ولدَه يوسفَ عليه السلام، وصبرِه واستعانتِه ربَّه عز وجل، موتَ إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصبرَه عليه، وقوله:"تدمع العينُ، ويحزنُ القلبُ، ولا نقول إلا ما يُرضي ربَّنا، وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون"

(3)

. قلتُ: وقد ماتت بناته الثلاثة: رقيَّة، وأُمُّ كلثوم، وزينبُ، وقُتِلَ عمّه حمزةُ، أسدُ الله وأسدُ رسوله يومَ أُحد، فصبرَ واحتسبَ. وذكرَ في مقابلة حُسنِ يوسفَ عليه السلام ما ذُكِرَ من جمال رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ومهابتِه وحلاوتِه شكلًا ونفعًا وهَديًا، ودلًّا، ويُمنًا، كما؛ تقدَّم في ذكر شمائله من الأحاديث الدَّالَّةِ على ذلك، كما قالت الرُّبَيِّعُ بنت مُعَوِّذ:

(1)

تقدم تخريجه.

(2)

رواه أحمد في المسند (5/ 243) والترمذي في سننه، في التفسير (3235) وهو صحيح كما قال الترمذي.

(3)

رواه مسلم في الفضائل (2315).

ص: 402

"لو رأيتَه لرأيتَ الشَّمسَ طالعةً"

(1)

. وذكرَ في مقابلةِ ما ابتُلي به يوسفُ عليه السلام من الفُرقة والغُربة، هجرةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم مِن مكَّةَ إلى المدينة، ومفارقته وطنَه وأهلَه وأصحابَه الذين كانوا بها.

‌القول فيما أُوتي موسى عليه السلام من الآيات البيِّنات

وأعظمُهن تسعُ آياتٍ، كما قال تعالى:{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [الإسراء: 101] وقد شرحناها في التفسير

(2)

، وحَكَينا قولَ السَّلف عليها، واختلافهم فيها، وأن الجمهور على أنها: هي العصا في انقلابها حيَّة تسعى، واليدُ إذا أدخلَ يدَه في جَيْبِ درعه ثم أخرجَها تُضيء كقطعة قمر يتلألأُ إضاءَةً، ودعاؤُه على قومِ فرعونَ حين كذَّبوه، فأرسلَ عليهم الطُّوفانَ والجرادَ والقُمَّلَ والضَّفادِعَ والدَّمَ، آياتٍ مُفَصَّلاتٍ، كما بسطنا ذلك في "التفسير"

(3)

وكذلك أخذَهم الله بالسّنين، وهي نقصُ الحُبوب، وبالجَدْب، وهو نقصُ الثِّمار، وبالموت الذريع، وهو نقصُ الأنفس، والطُّوفان في قول. ومنها: فَلْقُ البحر لإنجاءِ بني إسرائيلَ وإغراقِ آل فرعون، ومنها: تظليلُ بني إسرائيل في التيه بالغمام، وإنزال المَنّ والسَّلْوى عليهم، واستسقاؤُه لهم، فجعلَ الله ماءَهم يخرجُ من حَجَرٍ يُحملُ معهم على دَابّه، له أربعةُ وجوه، إذا ضربَه موسى بعصاه يخرجُ مِن كلِّ وجه ثلاثةُ أعين، لكلِّ سِبطٍ عَينٌ، ثم يضربُه فينقلع، إلى غير ذلك من الآياتِ الباهراتِ، كما بسطنا ذلك في التفسير، وفي قصَّة موسى عليه السلام من كتابنا هذا في قصص الأنبياء منه، وللّه الحمدُ والمِنَّة، وقتل كلِّ من عَبَدَ العجْلَ منهم ثم أحياهُم الله تعالى، وقصَّة البقرة.

أما العصا، فقال شيخنا العلَّامة ابنُ الزَّملكانِيّ: وأما حياة عصا موسى، فقد سبَّح الحَصى في كفِّ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وهو جَماد، والحديثُ في ذلك صحيح

(4)

، وهذا الحديثُ مشهورٌ عن الزُّهريّ، عن رجل، عن أبي ذَرٍّ، وقد قدَّمنا ذلك مبسوطًا في دلائل النبوة بما أغنى عن إعادته، وقيل: إنهن سبَّحنَ في كف

(5)

أبي بكر ثم عمرَ ثم عثمان، كما سبَّحنَ في كفِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: هذه خِلافةُ النُّبُوَّة.

وقد روى الحافظ ابن عساكر بسنده إلى بكر بن خنيس، عن رجل سمَّاه قال: كانَ بيد أبي مُسلم الخَوْلاني سُبْحَةٌ يُسَبِّحُ بها، قال: فنامَ والسُّبْحَةُ في يدِه، قال: فاستدارتِ الشُبْحَةُ فالتفَّتْ على ذراعِه

(1)

رواه الدارمي كما ذكر الخطيب التبريزي في مشكاة المصابيح (2793) عن عمار بن ياسر رضي الله عنه، وابن الأثير في أسد الغابة (7/ 108) وهو حديث حسن.

(2)

انظر تفسير القرآن العظيم، لابن كثير (3/ 86).

(3)

انظر تفسير القرآن العظيم، لابن كثير (3/ 86).

(4)

ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 299) وقد تقدم في الدلائل.

(5)

في نسخة "في يد".

ص: 403

وهي تقولُ: سبحانَكَ يا مُنْبِتَ النَبَاتِ ويا دائمَ الثَّبَاتِ. فقال: هلمَّ يا أمِّ مسلم وانظُري إلى أعجبِ الأعاجيبِ. قال: فجاءت أُمُّ مُسلمٍ والسُّبحةُ تدورُ وتُسَبِّحُ، فلما جلستْ سَكنت

(1)

.

وأصحُّ من هذا كُلِّه وأصرحُ حديثُ البخاريِّ عن ابن مسعود قال: كنَّا نسمعُ تسبيحَ الطعام وهو يُؤكلُ

(2)

.

قال شيخنا: وكذلك قد سلَّمت عليه الأحجارُ. قلت: وهذا قد رواه مسلم عن جابر بن سَمُرةَ، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إني لأعرفُ حجرًا كَان يُسلِّم عليّ بمكة قبلَ أن أُبعثَ، إني لأعرفهُ الآن"

(3)

فقال بعضهم: هو الحجرُ الأسودُ.

وقال الترمذيُّ: حدَّثنا عبَّاد بن يعقوب الكُوفيّ، حدَّثنا الوليد بن أبي ثَوْر، عن السُّدي، عن عبَّاد بن يزيدَ، عن عليِّ بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: كنتُ مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم بمكة في بعضِ نواحيها، فما استقبلَه جبلٌ ولا شجرٌ إلا قالَ: السَّلامُ عليكَ يا رسولَ الله

(4)

. ثم قال: غريب.

ورواه أبو نُعيم في "الدلائل" من حديث السُّدَّي، عن أبي عُمارة الحيواني، عن علي قال: خرجتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلَ لا يمرُّ على حَجَرٍ ولا شَجَرٍ ولا مَدَرٍ ولا شَيء إلا سلَّم عليه.

وقدَّمنا في أول المبعث أنه لما أوحى جبريلُ أوَّلَ ما أوحى إليه، فرجعَ لا يمرُّ بحجرٍ ولا مَدَرٍ ولا شيءٍ إلا قال: السَّلامُ عليكَ يا رسولَ الله.

قال: وأقبلتِ الشَّجَرة عليه بدعائِه، وذكرَ اجتماعَ تينك الشجرتين لقضاءِ حاجتِه من ورائهما، ثم رجوعهما إلى منابتهما، وكِلا الحديثين

(5)

في الصحيح، ولكن لا يلزمُ من ذلك حلولُ حياة فيهما، إذ قد يكونان ساقَهما سائقٌ، ولكن في قوله: "انقادي عليَّ بإذن الله

(6)

ما يدلُّ على حصول شعور منهما لمخاطبته، ولا سيما مع امتثالهما ما أمرَهما به.

قال: وأمرَ عِذْقًا من نَخْلةٍ أن ينزلَ، فنزلَ ينقز في الأرض حتى وقفَ بينَ يديْه، فقال:"أتشهدُ أنِّي رسولُ الله"

(7)

فشهدَ بذلك ثلاثًا ثم عادَ إلى مكانه. وهذا أليقُ وأظهرُ في المطابقة من الذي قبلَه، ولكن هذا السِّياق فيه غرابةٌ.

(1)

ذكره ابن منظور في مختصر تاريخ دمشق (12/ 61) وفيه: فلمَّا جلست سكتت وفي إسناده بكر بن خنيس، وهو ضعيف.

(2)

رواه البخاري في صحيحه (3579) في المناقب وفي إسناده ضعيف.

(3)

رواه مسلم في صحيحه (2277) في الفضائل.

(4)

رواه الترمذي في سننه (3626) في المناقب.

(5)

أي: حديث تسليم الحجر، وحديث انقياد الشجرة. وكلاهما في صحيح مسلم.

(6)

رواه مسلم في صحيحه رقم (3011) في الزهد والرقائق (باب حديث جابر الطويل).

(7)

رواه البيهقي في الدلائل (6/ 16).

ص: 404

والذي رواه الإمام أحمد وصحَّحَه التِّرْمِذيُّ

(1)

، ورواه البيهقي والبخاريُّ في التاريخ: من رواية أبي ظبيانَ حُصين بن المُنْذر، عن ابن عبَّاس قال: جاء أعرابيٌّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بم أعرفُ أنَّكَ رسولُ الله؟ قال: "أرأيتَ إن دعوتُ هذا العِذقَ من هذه النَّخْلة أتشهدُ أنِّي رسولُ الله؟ " قال: نعم. قال: فدعا العِذْقَ، فجعلَ العِذْقُ ينزلُ من النَّخْلةِ حتى سقطَ في الأرض، فجعل ينقزُ حتَّى أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال له:"ارجعْ" فرجع حتَّى عاد إلى مكانه، وقالَ: أشهدُ أنَّكَ رسولُ الله، وآمن به

(2)

. هذا لفظ البيهقيِّ، وهو ظاهر في أن الذي شهدَ بالرسالة هو الأعرابيُّ، وكان رجلًا من بني عامرٍ، ولكن في رواية البيهقيِّ: من طريق الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاءَ رسولٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما هذا الذي يقولُ أصحابُكَ؟ قال: وحولَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أعذاقٌ وشجرٌ، فقال:"هل لكَ أنْ أُريكَ آيةً؟ " قال: نعم، فدعا غُصْنًا منها، فأقبلَ يخدُّ الأرضَ حتَّى وقفَ بين يديْه، وجعلَ يسجدُ ويرفعُ رأسَه، ثم أمرَه فرجعَ، قال: فرجعَ العامريُّ وهو يقولُ: يا بني عامر بن صَعْصَعَةَ: واللّه لا أُكَذِّبُه في شيءٍ يقولُه أبدًا

(3)

.

وتقدَّم فيما رواه الحاكم في مستدركه مُتفرِّدًا به: عن ابن عمر؛ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم دعا رجلًا إلى الإسلام، فقال: هل من شاهدٍ على ما تقولُ؟ قال: "هذه الشجرة" فدعاها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وهي على شاطئ الوادي، فأقبلتْ تخدُّ الأرضَ خَدًّا، فقامت بين يديه، فاستشهدَها ثلاثًا، فشهدتْ أنَّه كما قال، ثم إنها رجعت إلى مَنْبتِها، ورجعَ الأعرابي إلى قومه، وقال: إن يَتَّبِعُوني أتيتُكَ بهم، وإلا رجعتُ إليك وكنتُ معك

(4)

.

قال: وأما حنينُ الجِذْعِ الذي كانَ يخطبُ إليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فعُمِلَ له المِنْبَرُ، فلما رَقَى عليه وخطبَ حنَّ الجِذعُ إليه حنينَ العِشار، والنَّاسُ يسمعونَ بمشهدِ الخَلْقِ يومَ الجمعة، ولم يزل يَئِنُّ ويَحِنُّ حتى نزلَ إليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم فاعتنقَه وسَكَّنَه وخيَّره بينَ أن يرجعَ غُصنًا طَرِيًّا أو يُغرسَ في الجنَّةِ يأكلُ منه أولياءُ الله، فاختارَ الغَرْسَ في الجنَّة وسكنَ عند ذلك. فهو حديثٌ

(5)

مشهور معروف، قد رواه من الصحابة عدد كثير متواتر، وكان بحضور الخلائق، وهذا الذي ذكرَه من تواتر حنين الجِذْعِ هو كما قال، فإنه قد روى هذا الحديثَ جماعة من الصحابة، وعنهم أعداد من التابعين، ثم مِنْ بَعدِهم آخرون عنهم لا يُمكن تَواطؤُهم

(1)

هكذا قال، والترمذي لم يخرجه فضلًا عن تصحيحه! فكأنه سبق قلم من المصنف.

(2)

رواه البيهقي في الدلائل (6/ 15 - 16) وهو عند الإمام أحمد في المسند (1/ 223) رقم (1954) والبخاري في التاريخ الكبير (3/ 416). وقد تقدم. وهو حديث حسن.

(3)

رواه اليهقي في الدلائل (6/ 16 - 17) وتقدم.

(4)

رواه الحاكم في المستدرك (2/ 620) وتقدم أيضًا.

(5)

انظر الشفا؛ للقاضي عياض (1/ 427).

ص: 405

على الكذب، فهو مقطوعٌ به في الجملة. وأما تخييرُ الجِذع كما ذكرَه شيخُنا فليس بمتواتر، بل ولا يصحُّ إسناده.

وقد أوردتُه في الدلائل عن أُبن بن كعب، وذُكرَ في مسند أحمد، وسنن ابن ماجه. وعن أنسٍ من خمس طرق إليه، صحَّح الترمذيُّ إحداها، وروى ابنُ ماجه أخرى، وأحمد ثالثةً، والبزارُ رابعةً، وأبو نُعيم خامسة. وعن جابر بن عبد الله في صحيح البخاري من طريقين عنه، والبزار من ثالثة ورابعة، وأحمد من خامسة وسادسة، هذه على شرط مسلم. وعن سهل بن سعد في مصنف ابن أبي شيبةَ على شرط الصحيحين. وعن ابن عبَّاس في مسند أحمد وسنن ابن ماجه بإسناد على شرط مسلم، وعن ابن عمر في صحيح البخاري، ورواه أحمد من وجه آخر عن ابن عمر. وعن أبي سعيد في مسند عبد بن حُميد بإسناد على شرط مسلم، وقد رواه أبو يَعْلى المَوْصلي من وجه آخر عنه. وعن عائشة رواه الحافظ أبو نُعيم من طريق علي بن أحمد الجوربي، عن قبيصة، عن حبَّان بن علي، عن صالح بن حبَّان، عن عبد الله بن بُريدة، عن عائشة، فذكرَ الحديث بطوله، وفيه أنَّه خيَّره بين الدنيا والآخرة، فاختارَ الجِذعُ الآخرةَ، وغارَ حتَّى ذهبَ فلم يُعرف، وهذا غريب إسنادًا ومتنًا. وعن أُمِّ سلمة رواه أبو نُعيم بإسناد جيد.

وقد تقدَّمتِ

(1)

الأحاديث ببسط أسانيدها وتحرير ألفاظها وعزوها، بما فيه كفايةٌ عن إعادته هاهنا، ومَنْ تدبُّرها حصلَ له القطعُ بذلك، ولله الحمدُ والمِنَّة.

قال القاضي عياض بن موسى السبتي المالكي في كتابه "الشفا"

(2)

: وهو حديث مشهور متواتر خرَّجه أهل الصحيح، ورواه من الصحابة بضعة عشر، منهم: أبي، وأنس، وبُريدة، وجابر، وسهل بن سعد، وابن عبَّاس، وابن عمر، والمطلب بن أبي وداعة، وأبو سعيد، وأُمُّ سلمة رضي الله عنهم أجمعين.

قال شيخنا: فهذه جمادات ونباتات، وقد حييت

(3)

وتكلَّمت، وفي ذلك ما يُقابل انقلاب العصا حية.

قلت: وسنُشير إلى هذا عند ذكر معجزات عيسى عليه السلام في إحيائه الموتى بإذن الله تعالى في ذلك، كما رواه البيهقيّ: عن الحاكم، عن أبي أحمد بن أبي الحسين، عن عبد الرحمن بن أبي حاتم، عن أبيه، عن عمرو بن سواد، قال: قال لي الشافعيُّ: ما أَعطى الله نبيًّا ما أَعطى محمَّدًا صلى الله عليه وسلم. فقلت:

(1)

تقدمت الأحاديث بطرقها المتعددة في الدلائل.

(2)

انظر الشفا، للقاضي عياض (1/ 427).

(3)

في نسخة "حَنَّت".

ص: 406

أعطي عيسى إحياءَ الموتى، فقال: أُعطي محمَّدٌ الجِذعَ الذي كان يَخطبُ إلى جنبه حتى هُيِّئَ له المنبرُ، فلما هُيِّئَ له حن الجِذعُ حتى سُمِعَ صوتُه، فهذا أكبرُ من ذلك

(1)

.

وهذا إسنادٌ صحيحٌ إلى الشافعي رحمه الله، وهو مما كنتُ أسمعُ شيخنَا الحافظَ أبا الحجَّاج المِري رحمه الله يذكرُه عن الشافعي رحمه الله وأكرمَ مثواه، وإنما قال: فهذا أكبرُ من ذلك؛ لأن الجِذعَ ليس مَحَلًّا للحياة، ومع هذا حصلَ له شعورٌ، ووَجِدَ لما تحوَّل عنه إلى المِنبر، فأنَّ وحنَّ حنينَ العِشار حتَّى نزلَ إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحتضنَه وسكَّنَه حتى سكنَ. قال الحسن البصري: فهذا الجِذْعُ حَنَّ إليه، فأنتُم أحقُّ أن تحِنُّوا إليه. وأما عودُ الحياة إلى جسد كانت فيه بإذن الله فعظيمٌ، وهذا أعجبُ وأعظمُ من إيجاد حياة وشعور في محلٍّ ليس مألوفًا لذلك، ولم تكن فيه قبلُ بالكُلِّية، فسبحان الله رب العالمين!.

تنبيه: وقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم لواءٌ يُحملُ معه في الحرب، يخفقُ في قلوب أعدائه مسيرةَ شهر بين يديه، وكانت له عَنَزَةٌ تُحمَلُ بين يديه، فإذا أرادَ الصَّلاة إلى غير جدار ولا حائل رُكِّزت بين يديه، وكان له قضيبٌ يتوكَّأ عليه إذا مشى، وهو الذي عَبَّرَ عنه سَطيح في قوله لابن أخته عبد المسيح بن بقيلة: يا عبدَ المسيح! إذا كثرت التلاوة، وظهرَ صاحبُ الهَراوة وغاضتْ بُحيرة ساوة، فليستِ الشامُ لسَطِيح شامًا

(2)

.

ولهذا كان ذكرُ هذه الأشياء عند إحياء عصا موسى وجَعلِها حَيَّةً أليقُ، إذ هي مساويةٌ لذلك، وهذه مُتعدِّدة في مَحالّ متفرقة، بخلاف عصا موسى فإنها وإن تعدَّد جَعلُها حيَّة، فهي ذاتٌ واحدة، واللّه أعلم. ثم نُنَبِّه على ذلك عند ذكر إحياء الموتى على يد عيسى لأنَّ هذه أعجبُ وأكبرُ وأظهر، والله أعلم.

قال شيخنا: وأما أنَّ الله كَلَّمَ موسى تكليمًا، فقد تقدَّمَ حصولُ الكلام للنبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء مع الرؤية، وهو أبلغ. ويشهدُ له:"فنُوديت: أن يا محمَّدُ! كمَّلت فريضتي، وخَفَّفتُ عن عبادي"

(3)

وسياقُ بقية القِصَّة يُرشد إلى ذلك، وقد حكى بعضُ العلماء الإجماعَ على ذلك، لكن رأيتُ في كلام القاضي عياض

(4)

نقل خلافٍ فيه، والله أعلم. وأما الرؤيةُ ففيها خلاف مشهور بين الخَلَف والسَّلَف، ونصرَها من الأئمة أبو بكر محمد بن إسحاق بن خُزيمة المشهور بإمام الأئمة، واختارَ ذلك القاضي

(5)

عياض والشيخ محيي الدين النووي

(6)

.

(1)

رواه البيهقي في الدلائل (6/ 68).

(2)

انظر قصة سطيح مع ابن أخته في دلائل النبوة؛ للبيهقي (1/ 126 - 130) وتقدمت في فصل ما وقع من الآيات ليلة مولده صلى الله عليه وسلم.

(3)

رواه البيهقي (2/ 395) في الدلائل عن أبي سعيد الخدري، وفيه أبو هارون العبدي متروك.

(4)

الشفا، للقاضي عياض (1/ 390).

(5)

المصدر السابق (1/ 386).

(6)

انظر صحيح مسلم بشرح النووي (3/ 5).

ص: 407

وجاء عن ابن عبَّاس تصديق الرؤية، وجاء عنه تفنيدها، وكلاهما في صحيح مسلم

(1)

.

وفي الصحيحين

(2)

عن عائشة إنكار ذلك، وقد ذكرنا في الإسراء: عن ابن مسعود، وأبي هريرة، وأبي ذر، وعائشة رضي الله عنهم، أن المرئيَّ في المرتين المذكورتين في أول سورة النَجْم، إنما هو جبريلُ عليه السلام.

وفي صحيح مسلم عن أبي ذر قال: قلت: يا رسولَ الله! هل رأيتَ رَبَّكَ؟ فقال: "نور أنِّى أراه"

(3)

؟ وفي رواية: "رأيت نورًا"

(4)

.

وقد تقدَّمَ بسطُ ذلك في الإسراء في السيرة، وفي التفسير في أول سورة بني إسرائيل.

وهذا الذي ذكرَه شيخنا فيما يتعلَّق بالمعجزات الموسوية عليه أفضل الصلاة والسلام.

وأيضًا فإن الله تعالى كلَّم موسى وهو بطُور سَيْناء، وسألَ الرؤيةَ فَمُنِعَها، وكلَّم محمدًا صلى الله عليه وسلم ليلةَ الإسراء وهو بالملأ الأعلى حين رُفع لمستوى سمع فيه صريفَ الأقلام، وحصلت له الرؤيةُ في قول طائفة كبيرة من علماء السَّلَفِ والخَلَف، واللّه أعلم. ثم رأيتُ ابنَ حامد قد طرقَ هذا في كتابه وأجادَ وأفادَ، وقال ابنُ حامد: قال الله تعالى لموسى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} [طه: 39] وقال لمحمد: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31] وأما اليد التي جعلَها الله برهانًا وحُجَّة لموسى على فرعون وقومه، كما قال تعالى بعد ذكر صيرورة العَصا حيَّة:{اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ} [القصص: 32]. وقال في سورة طه: {آيَةً أُخْرَى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى} [طه: 22 - 23] فقد أعطى الله محمّدًا انشقاقَ القمر بإشارته إليه فرقتين، فرقة من وراء جبل حِرَاء، وأخرى أمامه، كما تقدَّم بيان ذلك بالأحاديث المتواترة، مع قوله تعالى:{اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [القمر: 1 - 2] ولا شَكَّ أنَّ هذا أجلُّ وأعظم وأبهر في المعجزات وأعتمُ وأظهر وأبلغ من ذلك.

وقد قال كعبُ بن مالك في حديثه الطويل في قصة توبته: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سُرَّ استنارَ وجهُه كأنَّه فلقة قمر، وذلك في صحيح البخاري

(5)

. وقال ابنُ حامد: قالوا: فإن موسى أعطي اليدَ البيضاءَ،

(1)

روى مسلم تفنيد الرؤية عن ابن عباس (284) و (285) في الإيمان. أما إثبات الرؤية عن ابن عباس فهي عند الترمذي (3280) في التفسير، باب تفسير سورة النجم. وانظر تفصيل هذا الموضوع في زاد المعاد (3/ 36 - 37).

(2)

رواه البخاري (4855) في التفسير، ومسلم (177) في الإيمان.

(3)

رواهما مسلم (178)(291) و (292) في الإيمان.

(4)

رواهما مسلم (178)(291) و (292) في الإيمان.

(5)

رواه البخاري (4418) في المغازي، باب حديث كعب بن مالك.

ص: 408

قلنا لهم: فقد أُعطي مُحمَّدٌ صلى الله عليه وسلم ما هو أفضلُ من ذلك؛ نورًا كان يُضيءُ عن يمينه حيث ما جلسَ، وعن يساره حيث ما جلس وقامَ، يراه النَّاسُ كلُّهم، وقد بقي ذلك النُّورُ إلى قيام الساعة، ألا ترى أنه يُرى النُّورُ السَّاطع من قبره صلى الله عليه وسلم من مسيرةِ يوم وليلة؟ هذا لفظه.

وهذا الذي ذكرَه من هذا النور غريب جدًّا.

وقد ذكرنا في السيرة عند إسلام الطُّفَيْل بن عمرو الدَّوسي؛ أنه طلبَ من النبيِّ صلى الله عليه وسلم آيةً تكون له عَوْنًا على إسلام قومه فدعا له، وذهبَ إلى قومِه، فلما أشرفَ على قومِه من بيتِه هناكَ؛ سطعَ نورٌ بينَ عينَيه كالمصبَاح، فقال: اللَّهُم في غير هذا الموضع فإنهم يَظنُّونَه مُثلَةً، فتحوَّلَ النُّور إلى طرف سوطه، فجعلوا ينظرون إليه كالمصباح، فهداهم الله على يديه ببركة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبدعائه لهم في قوله:"اللهم اهدِ دَوسًا، وائتِ بهم"

(1)

وكان يُقال للطُّفَيْل: ذو النور، لذلك.

وذكرَ أيضًا حديثَ أُسَيْد بن حُضَيْر وعبَّاد بن بِشْر في خروجهما من عند النبيِّ صلى الله عليه وسلم في ليلة مُظْلِمَةٍ، فأضاءَ لهما طرفُ عصا أحدهما، فلما افترقا أضاء كل واحد منهما طرف عصاه، وذلك في صحيح البخاري

(2)

وغيره.

وقال أبو زُرعةَ الرازيُّ في كتاب دلائل النبيِّ: حدَّثنا سُليمان بن حرب، حدَّثنا حمَّاد بن سلمةَ، عن ثابت بن أنس بن مالك، أنَّ عبَّاد بن بِشْر وأُسيْد بن حُضَيْر خرجا من عند النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة ظلماءَ حِندس

(3)

، فأضاءت عصا أحدهما مثل السِّراج، وجعلا يمشيان بضوئها، فلما تفرَّقا إلى منزلهما أضاءت عصا ذا وعصا ذا.

ثم روى عن إبراهيم بن حمزة بن محمد بن حمزة بن مصعب بن الزبير بن العوَّام، وعن يعقوب بن حُميد المدني، كلاهما عن سفيان بن حمزة، عن كثير بن زيد، عن محمد بن حمزة بن عمرو الأسلميّ، عن أبيه، قال: سرنا في سفير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلةٍ ظلماءَ دِحْمِسَة، فأضاءت أصابعي، حتَّى جَمَعُوا عليها ظهرَهم، وما هلكَ منهم، وإنَّ أصابعي لتستنيرُ

(4)

.

وروى هشام بن عمَّار في "المبعث": حدَّثَنا عبدُ الأعلى بن محمد البَكْري، حدَّثنا جعفرُ بن سُليمان البصري، حدَّثنا أبو التَّيَّاح الضَّبْعي، قال: كان مُطَرِّف بن عبد الله يبدو، فيدخل كلَّ جمعة، فرُبما نُوِّرَ

(1)

رواه البخاري (4392) في المغازي، ومسلم (2524) في الفضائل.

(2)

رواه البخاري (3805) في مناقب الأنصار، باب منقبة أسيد بن حضير وعبَّاد بن بشر رضي الله عنهما.

(3)

"حِنْدس": مظلمة حالكة.

(4)

رواه البخاري في تاريخه (3/ 46) والبيهقي في دلائله (6/ 79) وأبو نُعيم في الحلية (494) والسيوطي في الخصائص (2/ 81) وفيها: وإن أصابعي لتُنير. واستنار: أضاء.

ص: 409

له في سوطه، فأدلجَ ذاتَ ليلةٍ وهو على فرسه، حتَّى إذا كان عند المقابر هوَّم به، قال: فرأيتُ صاحبَ كل قبرٍ جالسًا على قبره، فقال: هذا مُطَرِّفٌ يأتي الجمعةَ، فقلتُ لهم: وتعلمونَ عندَكم يومَ الجمعة؟ قالوا: نعم، ونعلم ما تقولُ فيه الطَّيرُ، قلتُ: وما تقول فيه الطير؟ قالوا: تقول: ربِّ سَلِّم سَلِّم، يومٌ صالح

(1)

.

وأما دعاؤه عليه السلام عليهم بالطُّوفان، وهو الموت الذريع في قول، وما بعدَه من الآيات، والقحْط والجَدْب، فإنما كان ذلك لعلَّهم يرجعون إلى متابعته ويُقلعون عن مخالفته، فما زادهم إلا طُغيانًا كبيرًا، قال الله تعالى:{وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقَالُوا يَاأَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ} [الزخرف: 48 - 49]{وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَامُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 132 - 136] وقد دعا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على قريش حين تمادوا في مخالفته بسبعٍ كَسَبْعِ يوسفَ، فقُحطوا حتَّى أكلوا كلَّ شيء، وكان أحدُهم يرى بينَه وبين السماء مثل الدُّخَان من الجوع. وقد فسَّرَ ابن مسعود قوله تعالى:{فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان: 10] بذلك، كما رواه البخاري

(2)

عنه في غير ما موضع من صحيحه. ثم توَسَّلوا إليه، صلوات الله وسلامه عليه، بقرابتِهم منه مع أنه بُعث بالرحمة والرأفة، فدعا لهم، فأقلعَ عنهم، ورُفع عنهم العذاب، وأحيوا بعدما كانوا أَشرفوا على الهلكة.

وأما فَلْقُ البحر لمُوسى عليه السلام حينَ أمرَه الله تعالى - حين تَراءى الجمعان - أن يضربَ البحرَ بعصاه فانفلقَ فكان كلُّ فِرْقٍ كالطَودِ العظيم، فإنه معجزةٌ عظيمة باهرة، وحُجَّةٌ قاطعة قاهرة، وقد بسطنا ذلك في التفسير وفي قصص الأنبياء من كتابنا

(3)

هذا.

وفي إشارته صلى الله عليه وسلم بيده الكريمة إلى قمرِ السَّماء فانشقَّ القمرُ فِلْقَتَين وَفقَ ما سألَه قريش، وهم معه جلوسٌ في ليلة البدر، أعظمُ آية، وأيمنُ دلالة، وأوضحُ حجَّة، وأبهرُ بُرهانٍ على نبوته وجاهه عند الله

(1)

رواه أحمد في الزهد (246) وأبو نُعيم في الحلية (2/ 205) وذكره الذهبي في السِّير (4/ 193) وفيه: تقول: سلام سلام من يوم صالح. ومعنى "يبدو": يخرج إلى البادية، و "هوَّمَ به": هزَّ رأسه من النعاس، أو نام نومًا خفيفًا.

(2)

رواه البخاري (4544) في التفسير، باب تفسير سورة حم (الدخان) و (962) و (974) في الاستسقاء.

(3)

انظر كتاب قصص الأنبياء للمؤلف.

ص: 410

تعالى، ولم يُنقل معجزةٌ عن نبيٍّ من الأنبياء من الآيات الحِسِّيَّات أعظمُ من هذا، كما قرَّرنا ذلك بأدلته من الكتاب والسُّنة، في التفسير وفي أول البعثة

(1)

واللّه أعلمُ.

وهذا أعظمُ من حَبس الشَّمس قليلًا ليُوشعَ بن نون حتَّى تَمَكَّن من الفتح ليلة السبت، كما سيأتي تقريرُ ذلك مع ما يُناسب ذكره عنده.

وقد تقدَّم من سيرة العَلاء الحَضرميِّ، وأبي عُبيد الثَّقَفِيِّ وأبي مُسلم الخَولانيّ، وسَيرِ الجُيوش التي كانت معهم على تيَّار الماء، ومنها دجلة، وهي جاريةٌ عجَّاجة

(2)

، تقذفُ بالخشب من شِدَّة جريها، وتقدَّم تقريرُ أنَّ هذا أعجبُ من فَلقِ البحر لموسى من عدة وجوه، واللّه أعلم.

وقال ابن حامد: فإن قالوا: فإنَّ موسى عليه السلام ضربَ بعصاه البحرَ فانفلقَ، فكان ذلك آيةً لموسى عليه السلام. قلنا: فقد أُوتي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مثلَها. قال علي رضي الله عنه: لمَّا خرجنا إلى خيبرَ فإذا نحن بواد سُحتٍ، وقدَّرنَاه فإذا هو أربع عشرة قامة، فقالوا: يا رسول الله! العدوُّ من ورائِنا والوادي من أمامنا، كما قال أصحاب موسى:{إِنَّا لَمُدرَكُونَ} [الشعراء: 61] فنزلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: اللهم إنَّكَ جعلتَ لكل مرسلٍ دلالةً، فأرني قدرتكَ، فركبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فعبرتِ الخيلُ لا تُبدي حوافرَها، والإبلُ لا تُبدي أخفافَها، فكان ذلك فتحًا.

وهذا الذي ذكرَه بلا إسناد، ولا أعرفُه في شيء من الكتب المُعتمدة بإسناد صحيح ولا حسن، بل ولا ضعيف، فاللّه أعلم.

وأما تظليلُه بالغَمام في التِّيه، فقد تقدَّم ذكرُ حديث الغَمامة

(3)

التي رآها بحيرا تُظِلُّه من بين أصحابه، وهو ابنُ اثنتي عشرة سنة، صُحْبةَ عمِّه أبي طالب وهو قادم إلى الشام في تجارة، وهذا أبهرُ من جهةِ أنَّه كان وهو قبل أن يُوحى إليه، وكانت الغَمامة تُظِلُّه وحدَه من بين أصحابه، فهذا أشدُّ في الاعتناء، وأظهرُ من غَمام بني إسرائيل وغيرهم، وأيضًا فإن المقصود من تظليل الغَمام إنَّما كان لاحتياجهم إليه من شِدَّة الحَرِّ.

وقد ذكرنا في الدلائل حين سُئل النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يدعوَ لهم ليُسقَوا، لما هم عليه من الجُوع والجَهد والقَحط، فرفَعَ يديه وقال:"اللَّهُمَّ اسقِنا، اللَّهُمَّ اسقِنا، اللَهُمَّ اسقِنا" قال أنس: ولا واللّه ما نرى في السَّماء من سَحابٍ ولا قَزَعة

(4)

، وما بيننا وبين سَلع من بيتٍ ولا دار، فأنشأت من ورائه سحابة مثل التُّرس، فلما تَوسَّطتِ السماءَ انتشرت ثم أمطرت، قال أنس: فلا واللّه ما رأينا الشَّمسَ سبتنا. ولمَّا

(1)

تقدم من هذا الجزء.

(2)

"عجَّاجة": صوت تدفق الماء في النهر.

(3)

تقدم الحديث، وفيه كلام فراجعه.

(4)

"قزعة": قطعة من السحاب المتفرِّق.

ص: 411

سألوه أن يستصحيَ لهم رفعَ يدَه وقال: "اللَّهُمَّ حَوَالَينا ولا علينا"، فما جعلَ يُشيرُ بيديه إلى ناحيةٍ إلا انحازَ السَّحابُ إليها

(1)

حتى صارت المدينةُ في مثلِ الإكليل يُمطرُ ما حولَها ولا تُمطر

(2)

. فهذا تظليلُ غَمام محتاج إليه، آكدُ من الحاجة إلى ذلك، وهو أنفعُ منه، والتصرُّف فيه، وهو يشير، أبلغُ في المعجز وأظهرُ في الاعتناء، واللّه أعلم.

وأما إنزالُ المَنِّ والسَّلوى عليهم فقد كثَّر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الطعامَ والشَّرابَ في غير ما موطن، كما تقدَّم بيانُه في دلائل النبوة من إطعام الجَمِّ الغفير من الشيء اليسير، كما أطعمَ يومَ الخندق من شويهة

(3)

جابر بن عبد الله وصاعِه الشعير، أزيدَ من ألف نفسٍ جائعة، صلواتُ الله وسلامه عليه دائمًا إلى يوم الدين.

وأطعمَ من حفنة قومًا من الناس، وكانت تُمَدُّ من السماء، إلى غير ذلك من هذا القَبيل مما يطولُ ذكره.

وقد ذكرَ أبو نُعيم وابنُ حامد أيضًا هاهنا: أن المرادَ بالمَنّ والسَّلوى إنما هو رزقٌ رُزقُوه من غير كَدٍّ منهم ولا تعب، ثم أوردَ في مقابلتِه حديثَ تحليل المغنم ولا يحل لأحد قبلنا، وحديث جابر في سرية أبي عُبيدة، وجوعهم حتى أكلوا الخَبَطَ فحسرَ البحرُ لهم عن دَابَّة، تُسمَّى العنبرَ، فأكلوا منها ثلاثين من يوم وليلة حتى سَمِنُوا وتكرَّست عُكَنُ بطونهم، والحديث في الصحيح كما تقدَّم

(4)

، وسيأتي عند ذكر المائدة في معجزات المسيح ابن مريم.

‌قصة أبي مسلم الخَوْلاني

أنه خرجَ هو وجماعة من أصحابه إلى الحج وأمرَهم ألا يَحملوا زادًا ولا مَزادًا، فكانوا إذا نزلوا منزلًا صلَّى ركعتين، فيُؤتون بطعامٍ وشرابٍ وعَلَفٍ يَكفيهم ويَكفي دَوائهم غدَاءً وعَشاء مُدَّة ذهابهم وإيابهم

(5)

.

وأما قوله تعالى: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} [البقرة: 60]. فقد ذكرنا بسطَ ذلك في قِصَّة موسى عليه السلام وفي التفسير.

وقد ذكرنا الأحاديث

(6)

الواردةَ في وَضع النبيِّ صلى الله عليه وسلم يدَه في ذلك الإناء الصغير الذي لم يتسع لبسطها

(1)

"الإكليل": العصابة، وتُطلق على كل محيط بالشيء.

(2)

رواه بمعناه البخاري (1017) في الاستسقاء، ومسلم (897) باب الدعاء في الاستسقاء.

(3)

"الشويهة": الشاة الصغيرة.

(4)

تقدم الحديث.

(5)

تقدمت قصة أبي مسلم.

(6)

تقدمت الأحاديث.

ص: 412

فيه، فجعلَ الماءُ ينبعُ من بَينِ أصابِعه أمثالَ العُيون، وكذلك كَثَّرَ الماءَ في غير ما موطن؛ كمَزادَتَي تلكَ المرأة، ويومَ الحُدَيبية، وغير ذلك، وقد استسقى اللّهَ لأصحابه في المدينة وغيرها فأُجيب طِبقَ السُّؤالِ وَفقَ الحاجةِ لا أزيدَ ولا أنقصَ، وهذا أبلغُ في المُعجز.

ونبعُ الماء من بين أصابِعه من نفس يده، على قول طائفة كثيرة من العلماء، أعظمُ من نبع الماء من الحَجَرِ فإنَّه محلٌّ لذلك.

قال أبو نُعيم الحافظ: فإن قيل: إن موسى كان يضربُ بعصاه الحجرَ فينفجرُ منه اثنتا عشرة عينًا في التيه، قد علمَ كلُّ أُناسٍ مَشربَهم. قيل: كان لمحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مثلُه أو أعجبُ، فإنَّ نبعَ الماء من الحَجَر مشهورٌ من المعلوم والمتعارف، وأعجبُ من ذلك نبعُ الماء من بين اللَّحم والدَّم والعَظم، فكان يُفرِجُ بينَ أصابعه في مخضب، فينبع من بين أصابعه الماء، فيشربون ويَستقون ماءً جاريًا عذبًا، روى العددَ الكثير من الناس والخيل والإبل

(1)

.

ثم روى من طريق المُطَّلب بن عبد الله بن حَنطَبَ: حدَّثني عبد الرحمن بن أبي عمرة الأنصاري، حدَّثني أبي. قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها، فباتَ النَّاسُ في مَخمَصَة، فدعا بِركوَةٍ فوُضِعت بينَ يديه، ثم دعا بماءٍ فصبَّه فيها، ثم مجَّ فيها وتكلَّم ما شاء الله أن يتكلَّم، ثم أدخلَ إصبعه فيها، فأقسمَ باللّه لقد رأيتُ أصابعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم تَتفجَّر منها ينابيعُ الماء، ثم أمرَ النَّاسَ فسُقوا وشَربوا وملؤوا قِرَبَهم وإداواتِهم

(2)

.

وأما قِصَّةُ إحياء الذين قُتلوا بسبب عبادة العجل وقصة البقرة، فسيأتي ما يُشابههما من إحياء حيواناتٍ وأُناس، عند ذكر إحياء الموتى على يد عيسى ابن مريم، واللّه أعلم.

وقد ذكر أبو نُعيم ها هنا أشياءَ أُخرَ تركناها اختصارًا واقتصارًا.

وقال هشام بن عمَّار في كتابه "المبعث":

‌باب فيما أُعطي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وما أُعطي الأنبياء قبله

حدَّثنا محمد بن شعيب، حدَّثنا رَوحُ بن مدرك، أخبرني عمرُ بن حسَّان التميمي؛ أن موسى عليه السلام أُعطي آيةً من كُنوز العرش: "ربّ لا تُولج الشيطان في قلبي، وأعذني منه ومن كل سوء، فإنَّ لك

(1)

انظر دلائل النبوة؛ لأبي نعيم (1/ 752).

(2)

رواه أبو نعيم كما في حجة الله على العالمين؛ للبهاني (6/ 626) ولم أجده في الحلية ولا في الدلائل.

ص: 413

اليدَ والسُّلطانَ والمُلكَ والمَلكوت، ودهرَ الدَّاهرين، وأبدَ الآبدين، آمين آمين"

(1)

. قال: وأُعطي محمَّد صلى الله عليه وسلم آيتان من كُنوز العرش

(2)

، آخر سورة البقرة: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ

} إلى آخرها [البقرة: 285 - 286].

‌قِصَّة حَبس الشمس

على يُوشَع بن نون بن أفرايم بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن، عليهم السلام، وقد كان نبيَّ بني إسرائيل بعد موسى عليه السلام، وهو الذي خرجَ ببني إسرائيل من التِّيه، ودخلَ بهم بيتَ المقدس بعد حصار ومقاتلة، وكان الفتحُ قد ينجزُ بعدَ العصر يومَ الجمعة، وكادتِ الشَّمسُ تغربُ، ويدخلُ عليهم السَّبتُ، فلا يَتمكَّنونَ معه من القتال، فنظرَ إلى الشَمس فقال: إنَّكِ مأمورةٌ وأنا مأمورٌ، ثم قال: اللَّهُمَّ احبِسها عليَّ، فحبسَها الله عليه حتَّى فتحَ البلدَ، ثم غَرَبَت.

وقد قدَّمنا في قِصَّة من قِصَص الأنبياء الحديثَ الواردَ في صحيح مسلم: من طريق عبد الرزاق، عن مَعْمَرَ بن هَمَّام، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"غزا نبيٌّ من الأنبياء، فدنا من القرية حينَ صَلَّى العصرَ أو قريبًا من ذلك، فقال للشمس: أنت مأمور وأنا مأمورٌ، اللَّهُمَّ أمسكْها عليّ شيئًا"

(3)

فحُبستْ عليه حتَّى فتحَ الله عليه .. الحديث بطوله.

وهذا النبيُّ هو يُوشَعُ بن نون، بدليل ما رواه الإمام أحمد: حدَّثنا أسود بن عامر، حدَّثنا أبو بكر بن هشام، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الشَّمسَ لم تُحبس لبشرٍ إلا ليُوشعَ عليه السلام لياليَ سارَ إلى بيتِ المقدس"

(4)

تفرَّدَ به أحمدُ وإسناده على شرط البُخاري.

إذا عُلمَ هذا، فانشقاقُ القمر فِلْقَتَيْنِ حتَّى صارت فلقة من وراء الجبل - أعني حراء - وأخرى من دونه، أعظمُ في المعجزة من حبس الشمس قليلًا.

وقد قدَّمنا في الدلائل حديثَ رَدَّ الشَمْس بعد غُروبها، وذكرنا ما قيل فيه من المقالات، فاللّه أعلم.

قال شيخنا العَلَّامة أبو المعالي بن الزملكاني: وأما حبسُ الشَّمس ليُوشعَ في قتال الجبَّارين، فقد انشقَّ القمرُ لنَبيِّنا صلى الله عليه وسلم، وانشقاق القمر فِلْقَتَينِ أبلغُ من حَبْسِ الشَّمس عن مسيرها.

(1)

لم أجده، وكتاب المبعث لهشام بن عمار لم أره مطبوعًا.

(2)

رواه أحمد في المسند (5/ 383) والنسائي في الكبرى (8022) والبيهقي في السنن الكبرى (1/ 213) وفي الشعب (238).

(3)

رواه مسلم في صحيحه (1747) في الجهاد، وتقدم.

(4)

رواه الإمام أحمد في المسند (2/ 325) رقم (8298) وهو حديث تقدم.

ص: 414

وصَحَّتِ الأحاديث

(1)

وتواترت بانشقاق القمر، وأنه كان فرقة خلف الجبل وفرقة أمامه، وأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"اشهدوا"

(2)

، وأنَّ قريشًا قالوا: هذا سحرَ أبصارَنا، فوردَ المسافرون وأخبروا أنهم رأوه مفرَّقًا، قال الله تعالى:{اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [القمر: 1 - 2] قال: وقد حُبست الشَّمسُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّتين، إحداهُما ما رواه الطحاوي وقال: رواته ثقات، وسمَّاهم وعدَّهم واحدًا واحدًا؛ وهو أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يُوحى إليه ورأسه في حِجر علي رضي الله عنه، فلم يرفع رأسَه حتَّى غَرَبَت الشَمسُ، ولم يكن عليّ صلَّى العصرَ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ إنه كان في طاعتِك وطاعةِ رسولك

(3)

، فَارْدُد عليه الشَّمسَ"

(4)

فردَّ الله عليه الشَّمسَ حتى رُئيَتْ، فقامَ عليٌّ فصَلَّى العصرَ، ثم غَرَبَتْ.

والثانيةُ صبيحة الإسراء، فإنَّه صلى الله عليه وسلم أخبرَ قريشًا عن مَسْراه من مكَّة إلى بيت المقدس، فسألوه عن أشياءَ من بيت المقدس، فجلَّاه الله له حتَّى نظرَ إليه ووصفَه لهم، وسألوه عن عِيْر كانت لهم في الطريق فقال:"إنَّها تصلُ إليكم مع شروق الشمس" فتأخَّرتْ، فحبسَ الله الشمسَ عن الطُّلوع حتى جاءتِ العيرُ.

روى ذلك ابن بُكير

(5)

في زياداته على السيرة.

أما حديث ردِّ الشمس بسبب عليّ رضي الله عنه، فقد تقدَّم ذكرنا له من طريق أسماء بنت عميس وهو أشهرها، وأبي سعيد، وأبي هريرة، وعلي نفسه، وهو مُستنكرٌ من جميع الوجوه، وقد مال إلى القول بتقويته أحمد بن صالح المصري الحافظ، وأبو جعفر الطحاوي، والقاضي عِياض، وكذا صحَّحه جماعة من العلماء الرافضة، كابن المُطَهِّر

(6)

وذويه. وردَّه وحكمَ بضعفه آخرون من كبار حفَّاظ الحديث ونُقَّادهم، كعلي بن المَديني، وإبراهيم بن يعقوب الجوزجاني، وحكاه عن شيخه محمد ويعلى ابني عبيد الطنافسيين، وكأبي بكر محمد بن حاتم البخاري المعروف بابن زنجويه أحد الحفَّاظ، والحافظ الكبير أبي القاسم بن عساكر، وذكره الشيخ جمالُ الدين أبو الفرج بن الجوزي في كتاب الموضوعات، وكذلك صرَّحَ بوضعه شيخاي الحافظان الكبيران أبو الحجَّاج المِري، وأبو عبد الله الذهبي. وأما ما ذكرَه يُونس بن بُكير في زياداته على السيرة من تأخر طلوع الشمس عن إبَّان طُلوعها، فلم ير لغيره من علماء

(1)

انظر الأحاديث في معجزة انشقاق القمر (ص 77 - 80).

(2)

تقدم الحديث.

(3)

في نسخة: "وطاعة نبيِّك".

(4)

تقدم الحديث.

(5)

هو يونس بن بكير المتوفى سنة (199 هـ) وهو راوي السيرة عن ابن إسحاق، وله عليها زيادات.

(6)

هو ابن المطهر الحلي صاحب كتاب "منهاج الكرامة" والذي ألف الإمام ابن تيمية كتابه "منهاج السنة" في الرد عليه.

ص: 415

السِّير. على أن هذا ليس من الأمور الشاهدة، وأكثر ما في الباب أن الراوي رأى تأخيرَ طلوعها، ولم يُشاهد حبسها عن وقتها.

وأغرب من هذا ما ذكرَهُ ابنُ المُطَهَّر في كتابه "المنهاج"، أنَّها رُدَّت لعليٍّ مرتين، فذكرَ الحديث المُتقدِّم، كما ذكر، ثم قال: وأما الثانية فلمَّا أراد أن يعبرَ الفراتَ ببابلَ، اشتغلَ كثيرٌ من أصحابه بسبب دَوابِّهم، وصلَّى لنفسه في طائفة من أصحابه العصرَ، وفاتت كثيرًا منهم، فتكلَّموا في ذلك، فسألَ الله ردَّ الشمس فرُدَّت. وقد نظمه الحميريُّ، فقال:

رُدَّت عليه الشمس لمَّا فاتَه

وقت الصلاة وقد دنتْ للمغربِ

حتى تسلَّخ نورها في وقتها

للعصر ثم هوت هويَّ الكوكبِ

عليه قد رُدَّت ببابل مرَّة

أخرى وما ردت لخلق مقرب

قال: وذكر أبو نُعيم بعدَ موسى إدريس عليه السلام، وهو عند كثير من المفسرين من أنبياء بني إسرائيل، وعند محمَّد بن إسحاق بن يَسار وآخرين من علماء النسب قبلَ نوح عليه السلام، في عمود نسبه إلى آدم عليه السلام، كما تقدَّم التنبيه على ذلك. فقال:

‌القول فيما أُعطي إدريس عليه السلام من الرفعة التي نَوَّهَ الله بذكرها، فقال:{وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم: 57]

قال: والقول فيه أن نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم أُعطي أفضلَ وأكملَ من ذلك، لأن الله تعالى رفعَ ذكرَه في الدنيا والآخرة فقال:{وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: 4] فليس خطيبٌ ولا شفيعٌ ولا صاحبُ صلاة إلا يُنادي بها: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فقرنَ الله اسمَه باسمِه، في مشارق الأرض ومغاربها، وذلك مفتاحًا للصلاة المفروضة.

ثم أوردَ حديثَ ابن لهيعة: عن درَّاج، عن أبي الهيثم

(1)

، عن أبي سعيد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله:{وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} قال: قال لي جبريلُ: قال الله: "إذا ذُكِرْتُ ذُكِرْتَ"

(2)

. ورواه ابن جرير وابن أبي عاصم من طريق دَرَّاج.

ثم قال: حدَّثنا أبو أحمد محمد بن أحمد الغطريفي، حدَّثنا موسى بن سهل الجوني، حدَّثنا أحمد بن القاسم بن بهرام الهيتي، حدَّثنا نصرُ بن حمَّاد، عن عثمان بن عطاء، عن الزهري، عن

(1)

في المطبوع: "الهشيم" محرف، وهو أبو الهيثم العُتْواري، وهذا إسناد ضعيف.

(2)

رواه أبو يعلى في المسند (1380) وابن جرير الطبري في تفسيره (30/ 235) وابن حبان في صحيحه (1772) موارد، وإسناده ضعيف.

ص: 416

أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما فرغتُ مما أمرني الله تعالى به من أمر السمواتِ والأرض قلت: يا ربِّ إنه لم يكن نبيٌّ قبلي إلا قد كرَّمته، جعلتَ إبراهيمَ خليلًا، وموسى كليمًا، وسخَّرت لداودَ الجبالَ، ولسليمانَ الريح والشياطين، وأحييت لعيسى الموتى، فما جعلتَ لي؟ قال: أوليس قد أعطيتُك أفضلَ من ذلك كله، أنِّي لا أُذْكَرُ إلا ذُكِرْتَ معي، وجعلتُ صدورَ أمتك أناجيلَ يقرؤون القرآن ظاهرًا، ولم أُعْطِها أُمَّةَ، وأنزلتُ عليك كلمة من كنوز عرشي: لا حول ولا قوة إلا باللّه"

(1)

. وهذا إسناد فيه غرابة، ولكن أورد له شاهدًا من طريق أبي القاسم بن بنت منيع البغوي، عن سليمان بن داود المهراني، عن حمَّاد بن زيد، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مرفوعًا بنحوه.

وقد رواه أبو زُرعة الرازي في كتاب "دلائل النبوة" بسياق آخر، وفيه انقطاع، فقال: حدَّثنا هشام بن عمَّار الدمشقي، حدَّثنا الوليد بن مسلم، حدَّثنا شعيب بن زريق أنه سمع عطاءً الخراساني، يُحدِّث عن أبي هريرة وأنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ليلة أُسري به. قال:"فأراني الله من آياتِه، فوجدتُ ريحًا طيبة، فقلت: ما هذا يا جبريلُ؟! قال: هذه الجنَّةُ، تقولُ: يا ربِّ ائتني بأهلي، قال الله تعالى: لك ما وعدتُكَ، كل مؤمن ومؤمنة لم يتخذ من دوني أندادًا، من أقرضني قرَّبته، ومن توكَّل عليَّ كفيتُه، ومن سألني أعطيتُه، ولا ينقص نفقته، ولا ينقص ما يتمنى، لك ما وعدتُكَ، فنعم دار المتقين أنت، قلت: رضيت، فلما انتهينا إلى سدرة المنتهى خررت ساجدًا فرفعتُ رأسي فقلت: يا رب! اتخذت إبراهيم خليلًا، وكلمت موسى تكليمًا، وآتيت داود زبورًا، وآتيتَ سليمان ملكًا عظيمًا، قال: فإني قد رفعتُ لك ذكركَ، ولا تجوز لأمتك خطبة حتى يشهدوا أنك رسولي، وجعلتُ قلوبَ أمتك أناجيل، وآتيتك خواتيم سورة البقرة من تحت عرشي"

(2)

.

ثم روى من طريق الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي هريرة، حديث الإسراء بطوله، كما سقناه من طريق ابن جرير في التفسير، وقال أبو زُرعة في سياقه: ثم لقيَ أرواحَ الأنبياء عليهم السلام، فأثنوا على ربهم عز وجل.

فقال إبراهيمُ عليه السلام: الحمدُ لله الذي اتخذني خليلًا، وأعطاني مُلكًا عظيمًا، وجعلني أمَّة قانتًا للّه محياي ومماتي، وأنقذني من النار، وجعلَها على بردًا وسلامًا.

ثم إنَّ موسى عليه السلام أثنى على ربه، فقال: الحمد لله الذي كلَّمني تكليمًا، واصطفاني برسالته وبكلامه، وقرَّبني نجيًا، وأنزل عليَّ التوراة، وجعلَ هلاك فرعون على يديَّ ونجاة بني إسرائيل على يديَّ.

(1)

رواه أبو نُعيم في الدلائل كما في تفسير ابن كثير (4/ 94) وفي إسناده ضعف.

(2)

رواه أبو زرعة الرازي في دلائله، كما في تفسير ابن كثير (3/ 25) و (3/ 29).

ص: 417

ثم إن داود عليه السلام أثنى على ربه فقال: الحمدُ للّه الذي جعلني ملكًا، وأنزل علي الزبور، وألان لي الحديد، وسخَّر لي الجبال يُسبِّحنَ معي والطَّيرَ، وآتاني الحكمة وفصل الخطاب.

ثم إن سليمان عليه السلام أثنى على ربِّه فقال: الحمدُ للّه الذي سخَّر لي الرياح والجِن والإنس، وسخر لي الشياطين يعملون لي ما شئتُ من محاريبَ وتماثيلَ وجِفَانٍ كالجَواب وقدور راسيات، وعلَّمني منطقَ الطير، وأسالَ لي عَينَ القِطْر، وأعطاني ملكًا لا ينبغي لأحد من بعدي.

ثم إن عيسى عليه السلام أثنى على الله عز وجل فقال: الحمدُ لله الذي علَّمني التوراة والإنجيل، وجعلني أُبرئُ الأكمَه والأبرصَ وأُحيي الموتى بإذن الله، وطهَّرني ورفعَني من الذين كفروا، وأعاذني من الشيطان الرجيم، فلم يكن للشيطان علينا سبيل.

ثم إنَّ محمدًا صلى الله عليه وسلم أثنى على ربه فقال: كلُّكُم أثنى على ربِّه، وأنا مُثنٍ على ربِّي، الحمدُ لله الذي أرسلني رحمةً للعالمين، وكافة للناس بشيرًا ونذيرًا، وأنزلَ عليَّ الفُرقان فيه بيان لكل شيء، وجعلَ أمتي خير أمة أُخرجت للناس، وجعل أمتي أُمَّةً وسطًا، وجعل أُمَّتي هم الأوَّلون وهم الآخرون، وشرحَ لي صدري، ووضعَ عنِّي وزري، ورفعَ لي ذِكري، وجعلني فاتحًا وخاتمًا.

فقال إبراهيم عليه السلام: بهذا فَضَلَكم محمد صلى الله عليه وسلم"

(1)

.

ثم أورد الحديثَ المتقدم، فيما رواه الحاكم والبيهقي، من طريق عبد الرحمن بن يزيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر بن الخطَّاب، مرفوعًا في قول آدم:"يا ربِّ أسألُكَ بحقِّ محمَّد إلا غفرتَ لي، فقال الله: وما أدراكَ ولم أَخلُقه بعدُ؟ فقال: لأني رأيتُ مكتوبًا مع اسمك على ساقِ العرش: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعرفتُ أنَّكَ لم تُضفْ إلى اسمِكَ إلا أحبَّ الخلق إليكَ، فقال الله: صدقتَ يا آدمُ، ولولا محمد ما خلقتُكَ"

(2)

.

وقال بعضُ الأئمة: رفعَ الله ذكرَه، وقرَنه باسمه في الأوَّلين والآخرين، وكذلكَ يرفعُ قدرَه، ويقيمُه مقامًا مَحمُودًا يومَ القيامة، يغبطُه به الأوَّلُون والآخِرون، ويرغبُ إليه الخلق كلُّهم حتى إبراهيم الخليل، كما وردَ في صحيح مسلم

(3)

فيما سلفَ، وسيأتي أيضًا.

فأما التنويه بذكره في الأمم الخالية، والقرون السابقة، ففي صحيح البخاري

(4)

: عن ابن عباس

(1)

رواه ابن جرير في تفسيره (8/ 7 - 11) وذكره ابن كثير في تفسير مطلع سورة الإسراء (3/ 25 - 26).

(2)

رواه البيهقي في الدلائل (2/ 397 - 402) والحاكم في المستدرك (2/ 615) وصححه الحاكم، وتعقبه الذهبي فقال: بل موضوع، وعبد الرحمن واهٍ.

(3)

رواه مسلم في صحيحه (194)(327) في الإيمان.

(4)

ذكره المؤلف في التفسير (1/ 463) عن علي بن أبي طالب وابن عمه عبد الله بن عباس رضي الله عنهم، ولم يعزه، ولم أجده في البخاري في صحيحه، ولعله في التاريخ.

ص: 418

قال: ما بعثَ الله نبيًّا إلا أخذَ عليه الميثاق لئن بُعِثَ محمَّدٌ وهو حي ليُؤمِنَنَّ به وليتبعنه ولينصرنَّه، وأمرَه أن يأخذَ على أمته العهدَ والميثاق لئن بُعثَ محمَّد وهم أحياء ليؤمننَّ به وليتبعنَّه.

وقد بشَّرت بوجوده الأنبياء حتى كان آخر من بشَّر به عيسى ابن مريم خاتم أنبياء بني إسرائيل، وكذلك بشَّرت به الأحبارُ والرهبان والكهَّان، كما قدَّمنا ذلك مبسوطًا.

ولما كانت ليلة الإسراء رُفِعَ من سماء إلى سماء حتَّى سلَّم على إدريس عليه السلام، وهو في السماء الرابعة، ثم جاوزَه إلى الخامسة ثم إلى السادسة، فسلَّم على موسى بها، ثم جاوزَه إلى السابعة فسلَّم على إبراهيم الخليل بها عند البيت المعمور، ثم جاوز ذلك المقام، فرُفِعَ لمستوى سمعَ فيه صريفَ الأقلام، وجاء سدرة المنتهى، ورأى الجنَّة والنَّار، وغير ذلك من الآيات الكبرى، وصلَّى بالأنبياء، وشيَّعه من كل سماءً مقرَّبُوها، وسلَّم عليه رضوانُ خازنُ الجِنان، ومالك خازن النار. فهذا هو الشرف، وهذه هي الرِّفعة، وهذا هو التكريم والتنويه والإشهار والتقديم والعلوّ والعظمة، صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر أنبياء الله أجمعين.

وأما رفع ذكره في الآخرين، فإنَّ دينَه باقٍ ناسخٌ لكلِّ دين، ولا يُنسخُ هو أبدَ الآبدين ودَهرَ الدَّاهرين إلى يوم الدين، ولا تزالُ طائفة من أمته ظاهرين على الحق لا يضرُّهم من خذلَهم ولا من خالفَهم حتى تقومَ الساعة. والنِّداءُ في كل يوم خمس مرَّات على كل مكان مرتفع من الأرض: أشهدُ أن لا إله إلا الله وأشهد أنَّ محمدًا رسول الله. وهكذا كلُّ خطيبٍ يخطبُ لا بُدَّ أن يذكرَه في خطبته، وما أحسنَ قول حسان:

أَغرُّ عَليهِ للنبوّةِ خَاتَمٌ

مِنَ الله مَشهود يَلوحُ ويَشهَدُ

وضَمَّ الإله اسمَ النبيِّ إلى اسمِهِ

إذَا قَالَ في الخَمسِ المؤَذِّن أشهدُ

وشَقَّ لَهُ من اسمهِ ليُجِلَّهُ

فَذُو العرشِ مَحمود وهذا مُحمَّدُ

وقال الصرصريُّ

(1)

:

لا يصحُّ الأذانُ في الفرض

إلا باسمه العذب في الفم المرضي

وقال أيضًا:

أَلم ترَ أنَّا لا يَصحُ أَذانُنا

وَلَا فرضنَا إن لم نكَرِّرْهُ فيهِما

(1)

هو يحيى بن يوسف الصرصري، الشاعر، المتوفى سنة (656 هـ).

ص: 419

‌القول فيما أوتي داود عليه السلام

قال الله تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} [ص: 17 - 19] وقال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [سبأ: 10 - 11] وقد ذكرنا في قصته عليه السلام وفي التفسير، طيب صوته عليه السلام، وأن الله تعالى كان قد سخر له الطير تُسبِّحُ معه، وكانت الجبالُ أيضًا تُجيبه وتُسبِّح معه، وكان سريع القراءة، يأمر بدوائه فتسرج فيقرأ الزبور بمقدار ما يفرغ من شأنها ثم يركب، وكان لا يأكل إلا من كسب يده، صلوات الله وسلامه عليه، وقد كان نبينا محمّد صلى الله عليه وسلم حسنَ الصوت، طَيِّبَه بتلاوة القرآن، قال جُبير بن مطعم: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في المغرب بالتين والزيتون، فما سمعتُ صوتًا أطيبَ من صوته صلى الله عليه وسلم

(1)

. وكان يقرأ ترتيلًا كما أمره الله عز وجل بذلك. وأما تسبيحُ الطير مع داودَ، فتسبيحُ الجبال الصُّمَ أعجبُ من ذلك، وقد تقدَّم في الحديث أن الحصى سبَّحَ في كفِّ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، قال ابن حامد: وهذا حديث معروف مشهور، وكانت الأحجارُ والأشجارُ والمَدَرُ تُسلِّم عليه صلى الله عليه وسلم.

وفي صحيح البخاري

(2)

: عن ابن مسعود قال: لقد كنَّا نسمعُ تسبيحَ الطَّعام وهو يُؤكل - يعني بين يدي النبيِّ صلى الله عليه وسلم.

وكلَّمه ذراع الشاة المسمومة، وأعلمَه بما فيه من السُّمِّ، وشهدت بنبوته الحيواناتُ الإنسية والوحشية، والجماداتُ أيضًا، كما تقدَّم بسط ذلك كله، ولا شكَّ أن صدورَ التسبيح من الحصى الصِّغار الصُّمِّ التي لا تجاويفَ فيها، أعجبُ من صدور ذلك من الجبال، لما فيها من التجاويف والكهوف، فإنها وما شاكلَها تُردِّدُ صدَى الأصواتِ العالية غالبًا، كما كان عبد الله بن الزبير إذا خطبَ - وهو أميرُ المؤمنين بالحرم الشريف - تُجاوبُه الجبال، أبو قبيس وزرود

(3)

، ولكن من غير تسبيح، فإن ذلك من معجزات داود عليه السلام. ومع هذا فتسبيح الحصى في كفّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان، أعجب. وأما أكلُ داود من كسب يده، فقد كانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، يأكلُ من كسبه أيضًا، كما كان يرعى غنمًا لأهل مكة على قراريط. وقال:"ما من نبي إلا وقد رعى الغنمَ"

(4)

. وخرجَ إلى الشام في تجارة لخديجة مضاربةً، وقال الله تعالى: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ

(1)

رواه البخاري في الصلاة (769) باب الجهر في العشاء، ومسلم (465)(177) في الصلاة، باب القراءة في العشاء، عن البراء بن عازب رضي الله عنه، وصوابه: قرأ في العشاء.

(2)

رواه البخاري في المناقب (3579) باب علامات النبوة في الإسلام.

(3)

لم أجد في جبال مكة جبلًا بهذا الاسم.

(4)

رواه البخاري في الإجارة (2262).

ص: 420

فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} [الفرقان: 7 - 9] إلى قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} [الفرقان: 20] أي: للتكسب والتجارة طلبًا للربح الحلال، ثم لما شرعَ الله له الجهادَ بالمدينة، كان يأكلُ مما أباحَ له من المغانم التي لم تُبَحْ لنبيٍّ قبلَه، ومما أفاءَ عليه من أموال الكفَّار التي أُبيحت، له دون غيره، كما جاء في المسند والترمذي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بُعثت بالسيف بين يدي السَّاعة حتى يُعبَد الله وحدَه لا شريكَ له، وجُعِلَ رزقي تحتَ ظِلِّ رُمحِي، وجُعِلَ الذلَّة والصَّغار على من خالف أمري، ومن تشبَّه بقوم فهو منهم"

(1)

. وأما إلانة الحديد له عليه السلام، فكان من المعجزات الباهرات، كان الحديدُ يلين بين يديه من غير نار كما يلينُ العجينُ في يده، فكانَ يصنعُ هذه الدروعَ الداودية، وهي الزَّرَدِيَّات السَّابغات، وأمره الله تعالى بكيفية عملها:{وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} [سبأ: 11] أي: ألا يدقَّ المسمار فيسلس، ولا يعظمه فيفصم، كما جاء في البخاري

(2)

. وقال تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} [الأنبياء: 80] وقد قال بعض الشعراء في معجزات النبوة:

نَسْجُ داودَ ما حَمَى صَاحِبَ الغَا

رِ وَكَانَ الفَخَارُ لِلعَنكَبوتِ

والمقصود المعجز في إلانة الحديد، وقد تقدَّم في السيرة عند ذكر حفر الخندق عام الأحزاب، وفي سنة أربع، وقيل: خمس، أنهم عَرَضَت لهم كُدْيةٌ - وهي الصَّخرة في الأرض - فلم يقدروا على كسرها ولا شيءَ منها، فقامَ إليها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم - وقد ربطَ حَجرًا على بطنه من شدة الجوع - فضربَها ثلاثَ ضَرباتٍ، لمعتِ الأولى حتَّى أضاءت له منها قصورُ الشام، وبالثانية قصورُ فارسَ، وثالثة، ثم انسالت الصَّخرة كأنها كثيبٌ من الرَّمل، ولا شك أن انسيالَ الصخرة التي لا تنفعلُ ولا بالنار، أعجبُ من لين الحديد الذي إن أحمي لانَ، كما قال بعضهم:

فَلَو أَنَّ ما عَالجتَ لِينَ فُؤادِها

بِنَفسي لَلَان الجَندَلُ الصَّلدُ

والجَندل: الصخر، فلو كان شيء أشدَّ قسوة من الصخر لذكَره هذا الشاعر المُبَالِغ، وقال الله تعالى:{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة: 74] الآية. وأما قوله تعالى:

(1)

رواه أحمد في المسند (2/ 50) و (92) وابن أبي شيبة في مصنفه (5/ 313) وأخرج الجملة الأخيرة منه أبو داود رقم (4031) وليس الحديث عند الترمذي، وحسنه الحافظ في الفتح، وعلق البخاري طرفًا منه في صحيحه، ورواه الطحاوي في "شكل الآثار"(1/ 88) وابن أبي شيبة في مصنفه (5/ 322) من طريق آخر فالحديث حسن.

(2)

رواه البخاري في الأنبياء من صحيحه، باب قول الله تعالى:{وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا} (4/ 194) قبل حديث (3417) تعليقًا، وفيه:"ولا يدقَّ المسمار فيتسلسل، ولا تعظم فيفصم". ومعنى: يتسلسل: يسلت. وتعظم: تجعله عظيمًا كبيرًا، فيفصم: يكسر الحلقة.

ص: 421

{قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ} [الإسراء: 50 - 51] الآية، فذلك لمعنى آخر في التفسير، وحاصلُه أنَّ الحديدَ أشدُّ امتناعًا في الساعة الراهنة من الحجر ما لم يُعالج، فإذا عُولجَ انفعلَ الحديدُ ولا ينفعلُ الحجر، واللّه أعلم.

وقال أبو نُعيم: فإن قيل: فقد ليَّن الله لداود عليه السلام الحديدَ حتى سردَ منه الدروعَ السوابغَ، قيل: لُيِّنَتْ لمحمد صلى الله عليه وسلم الحجارةُ وصُمّ الضُخور، فعادت له غارًا استتر به من المشركين، يوم أحد مال صلى الله عليه وسلم برأسه إلى الجبل ليخفيَ شخصَه عنهم فليَّنَ الله له الجبلَ حتى أدخلَ رأسَه فيه، وهذا أعجبُ لأن الحديدَ تُلَيِّنُه النَّارُ، ولم تُر النَّارُ تُلَيِّنُ الحجرَ، قال: وذلك بعد ظاهر باق يراه الناس. وقال: وكذلك في بعض شِعاب مكة حجرٌ من جبل أصمُّ استروحَ في صلاته إليه، فلانَ الحجرُ حتى أثَّرَ فيه بذراعيهِ وساعديه، وذلك مشهورٌ يقصدُه الحجَّاجُ ويزورونه. وعادتِ الصخرةُ ببيت المقدس ليلةَ أسري به كهيئة العجين، فربطَ بها دابَّته - البُراق - وموضعه يلمسُه الناس إلى يومنا هذا

(1)

.

وهذا الذي أشارَ إليه، من يوم أحد، وبعض شعاب مكة غريب جدًّا، ولعلَّه قد أسندَه هو فيما سلفَ، وليس ذلك بمعروف في السيرة المشهورة.

وأما ربطُ الدابة في الحجر فصحيحٌ، والذي ربطَها جبريل كما هو في صحيح

(2)

مسلم رحمه الله.

وأما قوله: {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} [ص: 20] فقد كانت الحكمةُ التي أوتيها محمد صلى الله عليه وسلم والشِّرْعة التي شرعت له أكملَ من كلّ حكمة وشِرْعة كانت لمن قبلَه من الأنبياء صلوات الله عليه وعليهم أجمعين، فإن الله جمعَ له محاسنَ مَن كان قبلَه، وفضلَه، وأكملَ له ما لم يُؤتِ أحدًا قبلَه، وقد قال صلى الله عليه وسلم:" أوتيتُ جوامعَ الكَلمِ، واختُصِرَت ليَ الحكمةُ اختصارًا"

(3)

ولا شكَّ أن العربَ أفصحُ الأمم، وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم أفصحَهم نطقًا، وأجمعُ لكلِّ خلقٍ جميلٍ مطلقًا.

‌القول فيما أُوتي سليمان بن داود عليه السلام

قال الله تعالى: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} [ص: 36 - 40] وقال الله تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ

(1)

دلائل النبوة؛ لأبي نعيم (2/ 759) ولا وجه للمقارنة بين ما هو قطعي الثبوت في كتاب الله تعالى، وبين ما يفتقر إلى السند الصحيح والثبوت.

(2)

رواه مسلم في صحيحه (162)(259) وفيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي ربط البراق بحلقة باب المسجد الأقصى.

(3)

رواه الدارقطني في سننه (4/ 145) عن ابن عباس، والبيهقي في الشعب (1436) عن عمر، ولفظه:"أعطيت جوامع الكلم، واختُصر لي الحديث اختصارًا". وذكره السيوطي في الجامع الصغير، وقال: إسناده حسن.

ص: 422

لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ} [الأنبياء: 81 - 82] وقال تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 12 - 13] وقد بسطنا ذلك في قصته، وفي التفسير أيضًا، وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد

(1)

وصحَّحه الترمذي

(2)

، وابن ماجه

(3)

وابن حبان

(4)

، والحاكم في مستدركه

(5)

: عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"أن سليمانَ عليه السلام لما فرغَ من بناء بيت المقدس سألَ الله خلالًا ثلاثًا، سألَ الله حكمًا يُوافق حكمَه، ومُلكًا لا ينبغي لأحدٍ من بعده، وأنه لا يأتي هذا المسجد أحدٌ إلا خرجَ من ذنوبه كيومَ ولدته أُمُّه".

أما تسخيرُ الريح لسليمان، فقد قال الله تعالى في شأن الأحزاب:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} [الأحزاب: 9].

وقد تقدَّم في الحديث الذي رواه مسلم: من طريق شعبة، عن الحَكَم، عن مجاهد، عن ابن عباس؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"نُصرتُ بالصبا وأُهلكت عاد بالدبور"

(6)

.

ورواه مسلم: من طريق الأعمش، عن مسعود بن مالك، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله

(7)

.

وثبتَ في الصحيحين: "نُصرتُ بالرُّعبِ مسيرةَ شهر"

(8)

.

ومعنى ذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا قصدَ قتالَ قوم من الكفار ألقى الله الرعبَ في قلوبهم منه قبلَ وصوله إليهم بشهر، ولو كان مسيرُه شهرًا، فهذا في مقابلة {غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} [سبأ:12] بل هذا أبلغ في التمكين والنصر والتأييد والظفر، وسُخِّرَتْ له الرياحُ تسوقُ السَّحابَ لإنزال المطر الذي امتنَ الله تعالى به حين استسقى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه في غير ما موطن كما تقدَّمَ. وقال أبو نُعيم: فإن قيل: فإن سليمانَ سُخِّرَت له الريحُ فسارت به في بلاد الله، وكان غدوُّها شهرًا ورواحُها شهرًا. قيل: ما أعطي محمّدٌ صلى الله عليه وسلم

(1)

في مسنده (2/ 176) وإسناده صحيح.

(2)

كذا قال، ولا يصح، فإن الترمذي لم يخرجه أصلًا.

(3)

في سننه (1408).

(4)

في صحيحه (1633) و (6420).

(5)

مستدرك الحاكم (2/ 434).

(6)

رواه مسلم في صلاة الاستسقاء (900)(17) باب في ريح الصبا والدبور.

(7)

رواه مسلم في الاستسقاء (900)(18).

(8)

رواه البخاري في التيمم (335) ومسلم في المساجد (523).

ص: 423

أعظمُ وأكبرُ، لأنه سارَ في ليلةٍ واحدةٍ من مكَّة إلى بيت المقدس مسيرةَ شهرٍ، وعُرج به في ملكوتِ السموات مسيرة خمسينَ ألف سنة، في أقل من ثلث ليلة، فدخلَ السمواتِ سماءً سماءً، ورأى عجائبها، ووقفَ على الجنَّة والنَّار، وعُرِضتْ عليه أعمالُ اْمته، وصلَّى بالأنبياء وبملائكةِ السموات، واخترقَ الحُجُبَ، وهذا كلُّه في ليلة واحدة، أكبر وأعجب.

وأما تسخيرُ الشياطين بين يديه، تعملُ ما يشاء من محاريبَ وتماثيلَ وجِفانٍ كالجواب وقدور راسيات، فقد أنزلَ الله الملائكةَ المقرَّبين لنصرة عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم في غير ما موطن، يوم أحد وبدر، ويوم الأحزاب، ويوم حنين، كما تقدَّم ذكرنا ذلك مفصلًا في مواضعه. وذلك أعظم وأبهر، وأجلُّ وأعلى من تسخير الشياطين. وقد ذكر ذلك أبو حامد في كتابه.

وفي الصحيحين: من حديث شعبة، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن عفريتًا من الجِنِّ تفلَّت عليَّ البارحة - أو كلمةً نحوَها - ليقطعَ عليَّ الصلاة، فأمكنني الله منه، فأردتُ أن أربطَه إلى ساريةٍ من سواري المسجد حتى تُصبحوا وتنظروا إليه كلكم، فذكرتُ دعوةَ أخي سليمان: رب اغفر لي وهب لي ملكًا لا ينبغي لأحد من بعدي"

(1)

. قال روح: فردَّه الله خاسئًا. لفظ البخاري. ولمسلم: عن أبي الدرداء نحوه، قال:"ثم أردتُ أخذَه، والله لولا دعوةُ أخينا سليمان لأصبح مُوثَقًا يلعبُ به. وِلدانُ أهل المدينة"

(2)

.

وقد روى الإمام أحمد بسند جيد

(3)

: عن أبي سعيد، أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قامَ يُصلِّي صلاةَ الصبح، وهو خلفه، فقرأ فالتبست عليه القراءةُ، فلما فرغَ من صلاته قال:"لو رأيتموني وإبليس فأهويتُ بيدي فما زلتُ أختنقه حتى وجدتُ بردَ لُعابه بين أُصبعيَّ هاتين، الإبهام والتي تليها، ولولا دعوة أخي سليمان لأصبحَ مربوطًا بسارية من سواري المسجد يتلاعبُ به صِبْيان أهل المدينة".

وقد ثبت في الصِّحاح والحِسان والمسانيد؛ أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دخلَ شهرُ رمضانَ فتحت أبواب الجنان وغُلِّقَتْ أبوابُ النيران وصُفِّدت الشياطين"

(4)

وفي رواية: "مردة الجن". وهذا من بركة ما شرَعه الله له من صيام شهر رمضان وقيامه، وسيأتي عند ذكر إبراء الأكمه والأبرص من معجزات المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام، دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لغير ما واحد ممن أسلم، من الجِنِّ

(5)

،

(1)

رواه البخاري (449) في المساجد، باب الأسير يُربط في المسجد، ومسلم في المساجد (541) باب جواز لعن الشيطان في أثناء الصلاة.

(2)

رواه مسلم في المساجد (542).

(3)

رواه أحمد في المسند (3/ 82 - 83) وهو كما قال المؤلف.

(4)

رواه البخاري (1899) في الصوم، باب هل يقال رمضان، ومسلم (1079) في الصوم، باب فضل شهر رمضان.

(5)

أي: من مسِّ الجن.

ص: 424

فشُفِي، وفارقَهم خوفًا منه ومهابة له، وامتثالًا لأمره، صلوات الله وسلامه عليه. وقد بعث الله إليه نفرًا من الجِنِّ يسمعونَ القرآنَ، فآمنوا به وصدَّقوه، ورجعوا إلى قومهم فدَعَوهم إلى دين محمّد صلى الله عليه وسلم، وحذَّرُوهم مخالفَته، لأنه كان مبعوثًا إلى الإنس والجِنِّ، فآمنت طوائفُ من الجِنِّ كثيرة كما ذكرنا، ووفدت إليه منهم وفودٌ كثيرة وقرأ عليهم سورةَ الرحمن، وخبَّرهم بما لِمَن آمنَ منهم من الجِنان، وما لِمَن كفرَ من النيران، وشرعَ لهم ما يأكلون وما يُطعمون دوابَّهم، فدلَّ على أنه بيَّنَ لهم ما هو أهمُّ من ذلك وأكبر.

وقد ذكر أبو نُعيم

(1)

هاهنا حديثَ الغول التي كانت تسرقُ التمرَ من جماعةٍ من أصحابه صلى الله عليه وسلم، ويُريدون إحضارَها إليه، فتمتنعُ كل الامتناع خوفًا من المثول بين يديه، ثم افتدت منهم بتعليمهم قراءة آية الكرسيّ التي لا يقربُ قارئَها الشيطانُ، وقد سقنا ذلك بطرقه وألفاظه عند تفسير آية الكرسي من كتابنا التفسير

(2)

ولله الحمد. والغولُ: هي الجِنُّ المتبدّي بالليل في صورة مرعبة.

وذكر أبو نُعيم هاهنا حمايةَ جبريل له عليه السلام غير ما مرة من أبي جهل كما ذكرنا في السِّيرة، وذكر مقاتلة جبريل وميكائيل عن يمينه وشماله يومَ أُحد.

وأما ما جمعَ الله تعالى لسليمانَ من النبوة والمُلك كما كان أبوه من قبله، فقد خيَّر الله عبدَه محمّدًا صلى الله عليه وسلم بين أن يكونَ مَلِكًا نبيًّا أو عَبدًا رسولًا، فاستشارَ جبريلَ في ذلك فأشارَ إليه وعليه أن يتواضعَ، فاختارَ أن يكونَ عبدًا رسولًا، وقد روي ذلك من حديث عائشة وابن عباس، ولا شكَّ أن منصبَ الرسالة أعلى. وقد عُرِضَت على نبيِّنا صلى الله عليه وسلم كنوز الأرض فأباها. قال:"ولو شئتُ لأجرى الله معي جبالَ الأرض ذهبًا، لكن أجوعُ يومًا وأشبعُ يومًا" وقد ذكرنا ذلك كلَّه بأدلته وأسانيده في التفسير وفي السيرة أيضًا، ولله الحمد والمنة.

وقد أوردَ الحافظُ أبو نُعيم هاهنا طرفًا منها، من حديث عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن سعيد وأبي سلمةَ، عن أبي هريرة، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "بينا أنا نائمٌ جِيءَ بمفاتيح خزائنِ الأرض فجُعِلتْ في يدي"

(3)

.

ومن حديث الحسين بن واقد، عن أبي الزبير، عن جابر، مرفوعًا:"أوتيتُ بمفاتيح خزائن الدنيا على فرس أبلق، جاءني به جبريل عليه قطيفة من سندس"

(4)

. ومن حديث القاسم، عن أبي أمامة،

(1)

دلائل النبوة؛ لأبي نعيم (2/ 766).

(2)

انظر تفسير ابن كثير (1/ 378 - 382).

(3)

ورواه البخاري (2977) بنحوه في الجهاد، ومسلم (523)(6) في المساجد، من حديث سعيد بن المسيب عن أبي هريرة.

(4)

رواه أحمد في المسند (3/ 328) وإسناده ضعيف فإن أبا الزبير مدلس وقد عنعنه.

ص: 425

مرفوعًا: "عرضَ عليَّ ربِّي ليجعلَ لي بطحاءَ مكَّة ذهبًا، فقال: لا يا ربّ، ولكن أشبعُ يومًا وأجوعُ يومًا، فإذا جعتُ تضرَّعتُ إليك وذكرتُكَ، وإذا شبعتُ حمدتُك وشكرتُك"

(1)

.

قال أبو نعيم: فإن قيل: فإنَّ سليمان عليه السلام كان يفهمُ الطَّير والنَّملة كما قال الله تعالى: {وَقَالَ يَاأَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ} [النمل: 16] الآية وقال: {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَاأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا} الآية [النمل: 18 - 19]. قيل: قد أعطي محمّد صلى الله عليه وسلم مثل ذلك وأكثر منه، فقد تقدَّم ذكرنا لكلام البهائم والسِّباع، وحنين الجذع، ورُغاء البعير، وكلام الشَّجَرِ، وتسبيح الحصى والحجر، ودعائه إياه واستجابته لأمره، وإقرار الذئب بنبوَّته، وتسخير الطير لطاعته، وكلام الظبية وشكواها إليه، وكلام الضَّبِّ وإقراره بنبوَّته، وما في معناه، كلُّ ذلك قد تقدَّم في الفصول بما يُغني عن إعادته. انتهى كلامه.

قلت: وكذلك أخبره ذراع الشاة بما فيه من السُّمّ، وكان ذلك بإقرار من وضعه فيه من اليهود.

وقال: "إن هذه السَّحابةَ لتستهِلُّ بنصرك يا عمرو بن سالم - يعني الخزاعي

(2)

-" حين أنشدَه تلك القصيدةَ يستعديه فيها على بني بكر الذين نَقَضُوا صُلحَ الحديبية، وكان ذلك سببَ فتح مكَّة كما تقدَّم.

وقال صلى الله عليه وسلم: "إني لأعرفُ حَجَرًا كان يُسلِّمُ عليَّ بمكة قبلَ أَن أُبعثَ، إنِّي لأعرفُه الآن

(3)

" فهذا إن كان كلامًا كما يليق بحاله ففهم عنه الرسول ذلك، فهو من هذا القبيل وأبلغ، لأنه جماد بالنسبة إلى الطير والنمل، لأنهم من الحيوانات ذوات الأرواح، وإن كان سلامًا نطقيًا وهو الأظهر، فهو أعجب من هذا الوجه أيضًا، كما قال عليّ: خرجتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض شعاب مكة، فما مرَّ بحجر ولا شجر ولا مدر إلا قال: السلام عليك يا رسولَ الله

(4)

! فهذا نطقٌ سمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليّ رضي الله عنه.

ثم قال أبو نُعيم: حدَّثنا أحمدُ بن محمد بن الحارث العنبري، حدَّثنا أحمد بن يوسف بن سفيان، حدَّثنا إبراهيمُ بن سُويد النخعي، حدَّثنا عبد الله بن أذينة الطائي، عن ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن معاذ بن جبل قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم - وهو بخيبر - حمار أسود فوقف بين يديه فقال: "من أنت؟! فقال: أنا عمرو بن فهران، كنا سبعة إخوة وكلنا رَكِبَنا الأنبياءُ وأنا أصغرُهم، وكنتُ لك فملكني

(1)

رواه الترمذي في سننه (2347) مكرر في الزهد وإسناده ضعيف.

(2)

السيرة النبوية؛ لابن هشام (2/ 395)، وانظر فتح الباري (7/ 520) والبيهقي في السنن (9/ 233) وهو حديث حسن.

(3)

رواه مسلم في صحيحه (2277) في الفضائل.

(4)

ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 260)، وقال: رواه الطبراني في الأوسط، والتابعي أبو عمارة الحيواني لم أعرفه، وبقية رجاله ثقات وفي إسناده ضعف.

ص: 426

رجل من اليهود، وكنت إذا ذكركَ عثرتُ به، فيُوجعني ضربًا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"فأنتَ يعفورُ"

(1)

.

وهذا الحديث فيه نكارةٌ شديدة ولا يُحتاج إلى ذكره مع ما تقدَّم من الأحاديث الصحيحة التي فيها غُنيَةٌ عنه، وقد رُوي على غير هذه الصِّفة، وقد نصَّ على نكارته ابن أبي حاتم عن أبيه، والله أعلم.

‌القول فيما أُوتي عيسى ابن مريم عليه السلام

ويُسمَّى المسيح

(2)

، فقيل: لمسحه الأرض، وقيل: لمسح قدمه، وقيل: لخروجه من بطن أمه ممسوحًا بالدهان، وقيل: لمسح جبريل بالبركة، وقيل: لمسح الله الذنوب عنه، وقيل: لأنه كان لا يمسحُ أحدًا إلا برأ. حكاها كلَّها الحافظُ أبو نعيم رحمه الله.

ومن خصائصه أنه عليه السلام مخلوق بالكلمة من أُنثى بلا ذكر، كما خُلقت حواء من ذكر بلا أُنثى، وكما خُلقَ آدم عليه السلام لا من ذكر ولا من أنثى، وإنما خلقه الله تعالى من تراب، ثم قال له:{كُنْ فَيَكُونُ} [ال عمران: 59]. وكذلك يكون عيسى بالكلمة وبنفخ جبريل مريم فخلق الله منها عيسى.

ومن خصائصه وأمه أن إبليس لعنه الله حين وُلد، ذهبَ يطعن فطعنَ في الحجاب كما جاء في الصحيح

(3)

.

ومن خصائصه أنه حيٌّ لم يمت، وهو الآن بجسده في السماء الدنيا، وسينزل قبلَ يوم القيامة على المنارة البيضاء الشرقية بدمشق، فيملأ الأرض قسطًا وعدلًا، كما مُلئت جورًا وظلمًا، ويحكمُ بهذه الشريعة المحمَّدية، ثم يموتُ ويُدفن بالحجرة النبوية، كما رواه الترمذي

(4)

. وقد بسطنا ذلك في قصته من كتابنا هذا. وقال شيخنا العلامة ابن الزملكاني رحمه الله تعالى: وأما معجزات عيسى عليه السلام، فمنها إحياء الموتى، وللنبيّ صلى الله عليه وسلم من ذلك كثير، وإحياء الجماد أبلغ من إحياء الميت، وقد كلَّم النبيَّ صلى الله عليه وسلم الذراعُ المسمومةُ، وهذا الإحياء أبلغ من إحياء الإنسان المَيِّت من وجوه، أحدُها: إنَّه إحياءُ جزءٍ من الحيوان دون بقيَّة بدنه، وهذا معجز لو كان متصلًا بالبدن. الثاني: أنه أحياه وحدَه منفصلًا عن بقية أجزاء ذلك الحيوان مع موت البقية. الثالث: أنه أعاد عليه الحياة مع الإدراك والعقل، ولم يكن هذا الحيوانُ يعقل في حياته فصار جزؤه حيًّا يعقل. الرابع: أنه أقدره الله على النطق والكلام ولم يكن

(1)

ذكره القاضي عياض في "الشفا"(1/ 314) والسهيلي في "الروض الأنف" وفي "الفصول في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم"(ص 259) قال الحافظ ابن كثير: سألت شيخنا: أبا الحجاج المزي عن هذا الخبر، فقال: ليس له أصل وهو ضحكة.

(2)

الصواب أن المسيح لَقَبٌ، وأصله في العبرانية مشيحا، ومعناه في العربية: الصديق.

(3)

رواه البخاري في صحيحه (3286) في بدء الخلق.

(4)

رواه الترمذي في سننه في المناقب رقم (3617)، وقال: هذا حديث حسن غريب، وفي إسناده ضعف.

ص: 427

الحيوان الذي هو جزؤه مما يتكلَّم، وفي هذا ما هو أبلغُ من حياة الطيور التي أحياها الله لإبراهيم صلى الله عليه وسلم.

قلت: وفي حلول الحياة والإدراك والعقل في الحَجَر الذي كان يُخاطبُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم بالسلام عليه، كما قد روي في صحيح مسلم

(1)

، من المُعجز ما هو أبلغُ من إحياء الحيوان في الجملة، لأنه كان محلًا للحياة في وقت، بخلاف هذا حيث لا حياة له بالكلية قبل ذلك، وكذلك تسليمُ الأحجار والمَدَر عليه، وكذلك الأشجار والأغصان وشهادتها له بالرسالة، وحنين الجذع إليه صلوات الله وسلامه عليه.

قال شيخنا رحمه الله تعالى: وقد جمع ابن أبي الدنيا كتابًا فيمن عاش بعدَ الموت، وذكرَ منها كثيرًا، وقد ثبتَ عن أنس رضي الله عنه أنه قال: دخلنا على رجل من الأنصار وهو مريضٌ يعقل، فلم نبرح حتى قُبِض

(2)

، فبسطنا عليه ثوبه وسجَّينَاه، وله أُمٌّ عجوز كبيرة عند رأسه، فالتفت إليها بعضُنا وقال: يا هذه احتسبي مصيبَتك عندَ الله! فقالت: وما ذاك! أماتَ ابني؟ قلنا: نعم. قالت: أحقٌّ ما تقولونَ؟ قلنا: نعم، فمدَّت يدها إلى الله تعالى، فقالت: اللهم إنَّكَ تعلمُ أنِّي أسلمتُ وهاجرتُ إلى رسولك رجاءَ أن تُعينني عند كل شِدَّة ورخاء، فلا تُحَمِّلني هذه المصيبة اليوم. قال: فكشفَ الرجلُ عن وجهه وقعدَ، وما بَرِحْنا حتى أكلنَا معه

(3)

. وهذه القصة قد تقدَّم التنبيه عليها في دلائل النبوة، وفي ذكر معجزة الطُّوفان مع قصَّة العَلاء بن الحضرمي.

وهذا السياق الذي أوردَه شيخنا ذكرَ بعضه بالمعنى، وقد رواه أبو بكر بن أبي الدنيا، والحافظ أبو بكر البيهقي

(4)

من غير وجه: عن صالح بن بشير المُرِّي - أحد زهاد البصرة وعبادها - وفي حديثه لين، عن ثابت، عن أنس فذكره.

وفي رواية البيهقي: أنَّ أمَّه كانت عجوزًا عمياءَ، ثم ساقَه البيهقيُّ

(5)

من طريق عيسى بن يُونس، عن عبد الله بن عَون، عن أنسٍ كما تقدَّم، وسياقُه أتمُّ، وفيه: أن ذلك كان بحضرة رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وهذا إسناد رجاله ثقات، ولكن فيه انقطاع بين عبد الله بن عون وأنس، والله أعلم.

(1)

رواه مسلم في صحيحه (2277) في الفضائل، باب فضل نسب النبي صلى الله عليه وسلم، وتسليم الحجر عليه قبل النبوة.

(2)

في نسخة "قضى".

(3)

رواه البيهقي في دلائله (6/ 51)، وفي إسناده صالح بن بشير المري، قال عنه البيهقي: من صالحي أهل البصرة، وقصَّاصهم، تفرد بأحاديث مناكير عن ثابت وغيره. وقال عنه النسائي:"متروك" انظر ميزان الاعتدال (2/ 289).

(4)

انظر الدلائل؛ للبيهقي (6/ 50) وإسناده ضعيف.

(5)

المصدر السابق (6/ 51).

ص: 428

‌قصة أخرى

قال الحسن بن عرفة: حدَّثنا عبد الله بن إدريس، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي سبرة النخعي قال: أقبلَ رجلٌ من اليمن، فلما كان ببعض الطريق نَفَقَ حمارُه، فقامَ وتوضَّأ، ثم صلَّى ركعتين، ثم قال: اللهم إني جئتُ من الدَّثينَة

(1)

مجاهدًا في سبيلك وابتغاءِ مرضاتك، وأنا أشهدُ أنك تُحيي الموتى وتبعثُ من في القبور، لا تجعل لأحد عليَّ اليوم مِنَّة، أطلبُ إليك اليومَ أن تبعثَ حماري، فقامَ الحِمارُ ينفضُ أذنيه

(2)

.

قال البيهقي: هذا إسناد صحيح، ومثلُ هذا يكون كرامة لصاحب الشريعة.

قال البيهقي

(3)

: وكذلك رواه محمد بن يحيى الذهلي وغيره، عن محمد بن عُبيد، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، وكأنه عند إسماعيل من الوجهين، والله أعلم.

قلت: كذلك رواه ابن أبي الدنيا من طريق إسماعيل، عن الشعبي، فذكره. قال الشعبيُّ: فأنا رأيتُ الحِمارَ بيعَ - أو يُباعُ - في الكُناسَة - يعني الكوفة - وقد أوردَها ابن أبي الدنيا من وجه آخر، وأن ذلك كان في زمن عمر بن الخطاب، وقد قال بعضُ قومه في ذلك:

ومِنَّا الَّذي أَحيَا الإلهُ حمارَهُ

وَقَد ماتَ مِنهُ كُلُّ عُضوٍ ومَفصِل

(4)

وأما قصة زيد بن خارجة وكلامه بعد الموت وشهادته للنبي صلى الله عليه وسلم ولأبي بكر وعمر وعثمان بالصدق فمشهورة مروية من وجوه كثيرة صحيحة.

قال البخاري في التاريخ الكبير: زيد بن خارجة الخزرجي الأنصاري، شهد بدرًا، وتوفي في زمن عثمان، وهو الذي تكلَّم بعد الموت

(5)

.

وروى الحاكمُ في مستدركه، والبيهقي في دلائله، وصحَّحه كما تقدَّم من طريق القعنبي، عن سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن سعيد بن المسيب؛ أن زيدَ بن خارجةَ الأنصاري ثم من بني الحارث بن الخزرج، توفي زمنَ عثمان بن عفَّان، فسُجِّي في ثوبه، ثم إنهم سمعوا جَلجَلَة في صدره، ثم تكلَّم فقال: أحمد أحمد في الكتاب الأول، صدقَ صدقَ. أبو بكر الضعيف في نفسه، القوي في أمر الله، في الكتاب الأول صدقَ صدقَ، عمر بن الخطاب القويُّ في الكتاب الأول، صدقَ

(1)

"الدَّثينة": ناحية بين الجَنَد وعَدَن. معجم البلدان (2/ 440).

(2)

رواه البيهقي في الدلائل (6/ 48).

(3)

انظر دلائل النبوة؛ للبيهقي (6/ 49).

(4)

دلائل النبوة (6/ 49).

(5)

انظر التاريخ الكبير؛ للبخاري (2/ 1/ 388).

ص: 429

صدقَ. عثمان بن عفَّان على منهاجهم، مضت أربع وبقيت ثنتان. أتتِ الفتنُ وأكلَ الشديدُ الضعيفَ، وقامتِ السَّاعةُ، وسيأتيكم عن جيشكم خبرٌ

(1)

، بئر أريسَ وما بئر أريس.

قال يحيى بن سعيد: قال سعيد بن المُسيب: ثم هلكَ رجلٌ من بني خطمةَ فسُجِّي بثوبه، فسُمعَ جَلْجَلَةٌ في صدره، ثم تكلَّم فقال: إن أخا بني الحارث بن الخزرج صدقَ صدقَ

(2)

.

ورواه ابن أبي الدنيا والبيهقيُّ أيضًا من وجه آخر بأبسطَ من هذا وأطول، وصحَّحه البيهقيُّ. قال: وقد روي في التكلُّم بعد الموت عن جماعة بأسانيدَ صحيحة

(3)

، والله أعلم.

قلت: وقد ذكرتُ في قصة سخلة جابر يومَ الخندق، وأكل الألف منها ومن قليلِ شعيرٍ ما تقدَّم

(4)

. وقد أورد الحافظُ محمد بن المنذر المعروف بـ شَكَّر

(5)

، في كتابه الغرائب والعجائب بسنده كما سبقَ؛ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم جمعَ عظامَها ثم دعا الله تعالى فعادت كما كانت، فتركَها في منزله، والله أعلم.

قال شيخُنا: ومن معجزات عيسى الإبراء من الجُنون، وقد أبرأَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم - يعني من ذلك - هذا آخر ما وجدته فيما حكيناه عنه.

فأما إبراء عيسى من الجنون، فما أعرف فيه نقلًا خاصًا، وإنما كان يُبرئ الأكمهَ والأبرصَ، والظاهر: ومن جميع العاهات والأمراض المزمنة.

وأما إبراءُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم من الجنون، فقد روى الإمام أحمد والحافظ البيهقي، من غير وجه: عن يَعلَى بن مرة، أن امرأةً أتت بابن لها صغير به لَمَمٌ ما رأيتُ لَمَمًا أشدَّ منه، فقالت: يا رسول الله! ابني هذا كما ترى أصابَه بَلاءٌ، وأصابنا منه بَلاءٌ، يُوجد منه في اليوم ما يُؤذي، ثم قالت: مره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ناولينيه" فجعلَه بينَه وبين واسطة الرحل، ثم فغر فاه ونفثَ فيه ثلاثًا وقال:"باسم الله، أنا عبدُ الله، اخسأ عدوَّ الله" ثم ناولَها إياه، فذكرت أنه برئ من ساعته، وما رابهم شيء بعد ذلك

(6)

.

(1)

رواه البيهقي في الدلائل (6/ 55). قال ابن الأثير في "أسد الغابة"(2/ 284): وأما كلام زيد فإنه أُغمي عليه قبل موته، فظنوه ميتًا، فسجَّوا عليه ثوبه، ثم راجعته نفسه، فتكلم بكلام حُفظ في أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، ولم أجد الخبر في المستدرك.

(2)

دلائل النبوة (6/ 55).

(3)

المصدر السابق (6/ 58).

(4)

تقدمت القصة.

(5)

هو أبو عبد الرحمن وأبو جعفر الحافظ المتقن، توفي سنة (303 هـ) انظر السير (4/ 221) وتذكرة الحفَّاظ (2/ 748).

(6)

رواه أحمد في المسند (4/ 171) رقم (17549) والبيهقي في الدلائل (6/ 21)، وإسناده ضعيف لانقطاعه.

ص: 430

وقال أحمد: حدَّثنا يزيد، حدَثنا حمَّاد بن سلمة، عن فرقد السَّبخيّ عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، أن امرأةً جاءت بولدها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إن به لَمَمًا، وإنَّه يأخذه عند طعامنا فيُفسد علينا طعامَنا، قال: فمسحَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم صدرَه ودعا له، فثعَّ ثعَّة، فخرجَ منه مثلُ الجرو الأسود فشُفي

(1)

.

غريب من هذا الوجه، وفرقد فيه كلام، وإن كان من زهَّاد البصرة، لكن ما تقدَّم له شاهد، وإن كانت القِصَّة واحدة، والله أعلم.

وروى البزَّار من طريق فرقد أيضًا: عن سعيد بن جبير، عن ابن عبَّاس قال: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فجاءته امرأةٌ من الأنصار، فقالت: يا رسولَ الله! إن هذا الخبيث قد غلَبني، فقال لها:"تصبَّري على ما أنتِ عليه وتجيئي يوم القيامة ليس عليك ذنوبٌ ولا حساب؟ " فقالت: والذي بعثكَ بالحقِّ لأصبرنَّ حتى ألقى الله. ثم قالت: إني أخاف الخبيث أن يُجرِّدَني، فدعا لها، وكانت إذا أحسَّت أن يأتيها تأتي أستارَ الكعبة فتتعلَّق بها وتقولُ له: اخسأ، فيذهبُ عنها

(2)

.

وهذا دليل على أن فرقدَ قد حفظ، فإنَّ هذا له شاهد في صحيح البخاري ومسلم من حديث عطاء بن أبي رباح قال: قال لي ابن عباس: ألا أُريك امرأةً من أهلِ الجنَّة؟ قلت: بلى، قال: هذه السوداء، أتت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إني أُصرعُ وأتكشَّفُ فادعُ الله لي، قال:"إن شئتِ صبرتِ ولكِ الجنَّة، وإن شئتِ دعوتُ الله أن يُعافيَكِ" قالت: لا، بل أصبرُ، فادعُ الله ألا أتكشفَ، قال: فدعا لها، فكانت لا تتكشف

(3)

.

ثم قال البخاريُّ: حدَّثنا محمد، حدثنا مخلد عن ابن جريج، قال: أخبرني عطاء أنه رأى أم زفر - امرأة طويلة سوداء - على ستر الكعبة

(4)

.

وذكر الحافظُ ابن الأثير في كتاب "أسد الغابة" في أسماء الصحابة، أنَّ أُمَّ زفر هذه كانت ماشطة لخديجةَ بنت خُويلد، وأنها عمِّرت حتى رآها عطاءُ بن أبي رباح

(5)

.

وأما إبراء عيسى الأكمه، وهو الذي يُولد أعمى، وقيل: هو الذي لا يُبصر في النهار ويُبصر في الليل،

(1)

رواه أحمد في المسند (1/ 254) رقم (2288) وإسناده ضعيف.

(2)

ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (2/ 307) وقال: رواه البزار، وفيه فرقد السبخي، وهو ضعيف.

(3)

رواه أحمد في المسند (1/ 347) والبخاري في صحيحه (5652) في المرضى، ومسلم في صحيحه (2576) في البر والصلة.

(4)

رواه البخاري في المرضى (5652).

(5)

أسد الغابة؛ لابن الأثير (7/ 333).

ص: 431

وقيل: غير ذلك، كما بسطنا ذلك في التفسير

(1)

. والأبرص: الذي به بَهَقٌ، فقد ردَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يومَ أُحد عينَ قتادة بن النعمان إلى موضعها بعدما سالت على خدِّه، فأخذها في كفِّه الكريم وأعادَها إلى مقرِّها، فاستمرت بحالها وبصرها، وكانت أحسن عينيه رضي الله عنه، كما ذكر محمد بن إسحاق بن يسار في السيرة

(2)

وغيره، وكذلك بسطناه ثمَّ، ولله الحمد والمنة.

وقد دخلَ بعضُ ولده وهو عاصم بن عمر بن قتادة على عمر بن عبد العزيز فسأل عنه فأنشأ يقول:

أنا ابنُ الَّذي سَالَت على الخَدِّ عَينُهُ

فَرُدَّت بِكَفِّ المُصطفى أَحسَنَ الرَّدِّ

فَعَادَت كَما كانت لأوَّلِ أَمرِها

فَيا حُسنَ ما عَينٍ ويا حُسنَ ما خَدِّ

فقال عمر بن عبد العزيز:

تِلك المَكارِمُ لا قَعبَان مِن لَبَنٍ

شِيبا بماءٍ فَعادا بَعدُ أَبوالَا

(3)

ثم أجازه فأحسن جائزته

(4)

.

وقد روى الدارقطنيُّ أنَّ عينيه أُصيبتا معًا حتى سالتا على خدَّيْه، فردَّهما رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى مكانهما.

والمشهورُ الأول كما ذكر ابن إسحاق.

‌قصة الأعمى الذي ردَّ الله عليه بصرَه بدعاء الرسول صلى الله عليه وسلم

-

قال الإمام أحمد: حدَّثنا رَوح وعثمان بن عمر، قالا: حدَّثنا شعبة، عن أبي جعفر المديني، سمعتُ عمارة بن خزيمة بن ثابت يُحدث عن عثمان بن حنيف، أن رجلًا ضريرًا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ادعُ الله لي أن يعافيني، فقال:"إن شئتَ أخَّرتُ ذلك فهو أفضلُ لآخرتِك، وإن شئتَ دعوتُ" قال: لا، بل ادعُ الله لي، قال: فأمرَه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يتوضَّأ ويُصلِّيَ ركعتين، وأن يدعو بهذا الدعاء:"اللَّهُمَّ إني أسألُك وأتوجَّه إليكَ بنبيِّكَ محمد نبي الرحمة، يا محمد! إني أتوجَّه بك إلى ربِّي في حاجتي هذه فتقضى".

وقال في رواية عثمان بن عمر

(5)

: "فشَفِّعه فيَّ" قال: ففعل الرجلُ فبرأ

(6)

.

(1)

تفسير ابن كثير (1/ 448) طبعة دار ابن كثير.

(2)

السيرة النبوية؛ لابن هشام (2/ 82) والدلائل للبيهقي (2/ 65) والدلائل لأبي نُعيم (2/ 621 - 622).

(3)

"قَعْبَان": مثنى قَعْب، وهو القدح الضخم الغليظ. وشيب: مُزج.

(4)

أسد الغابة (4/ 390) والاستيعاب؛ لابن عبد البر (3/ 1275).

(5)

هو شيخ الإمام أحمد.

(6)

رواه الإمام أحمد في المسند (4/ 138) رقم (17175) من حديث عثمان بن حنيف رضي الله عنه، وهو حديث صحيح.

ص: 432

ورواه الترمذيُّ

(1)

وقال: حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث أبي جعفر الخَطْمِيِّ.

وقد رواه البيهقي

(2)

: عن الحاكم بسنده إلى أبي جعفر الخَطمِيِّ، عن أبي أُمامة بن سَهل بن حُنيف، عن عمِّه عثمان بن حنيف، فذكرَ نحوَه، قال عثمان: فوالله ما تفرَّقنا ولا طالَ الحديث بنا حتى دخلَ الرجل كأن لم يكن به ضُرٌّ قطُّ.

‌قصة أخرى

قال أبو بكر بن أبي شيبة: حدَّثنا محمدُ بن بشر، حدَّثنا عبد العزيز بن عمر، حدَّثني رجل من بني سَلامَان بن سعد، عن أُمِّه، عن خاله - أو أنَّ خالَه أو خالها - حبيب بن فويك حدَّثها أن أباه خرجَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعيناه مبيضَّتان لا يُبصر بهما شيئًا، فقال له:"ما أصابَكَ؟ " قال: كنت أرعى جملًا لي فوقعت رجلي على بيض حيَّة فأُصيب بصري. فنفثَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في عينيه فأبصر، فرأيتُه وإنه ليُدخلُ الخيطَ في الإبرة، وإنَّه لابن ثمانينَ سنة، وإن عينيه لمُبيضَّتان

(3)

.

قال البيهقيُّ: وغيرُه يقول: حبيب بن مدرك

(4)

.

وثبت في الصحيح

(5)

أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نفث في عيني عليٍّ يومَ خيبر وهو أرمد فبَرَأ من ساعته، ثم لم يرمد بعدها أبدًا.

ومسحَ رجلَ عبد الله بن عتيك، وقد انكسرت رجلُه ليلة قتل أبا رافع - تاجر أهل الحجاز الخيبري - فبرأ من ساعته أيضًا

(6)

.

وروى البيهقيُّ أنه صلى الله عليه وسلم مسحَ يد محمد بن حاطب، وكانت قد احترقت بالنار فبرأ من ساعته

(7)

.

ومسحَ رجلَ سلمة بن الأكوع وقد أُصيبت يوم خيبر فبرأت من ساعتها

(8)

. ودعا لسعد بن أبي وقاص أن يُشفى من مرضه ذلك، فشُفي

(9)

.

(1)

رواه الترمذي (3578) في الدعوات، وهو حديث صحيح كما قال الترمذي.

(2)

رواه البيهقي في دلائل النبوة (6/ 167).

(3)

ذكره الحافظ ابن حجر في الإصابة (1/ 308) وابن عبد البر في الاستيعاب (1/ 330) بهامش الإصابة. وفيهما: حبيب بن فديك، وأمرِّن جملًا - وأروِّض جملًا، بدل: أرعى.

(4)

انظر البيهقي في الدلائل (6/ 173).

(5)

رواه البخاري في صحيحه (4210) في المغازي، ومسلم في صحيحه (2406) في فضائل الصحابة.

(6)

رواه البخاري في صحيحه (4039) في المغازي.

(7)

رواه البيهقي في الدلائل (6/ 174) وأحمد في المسند (4/ 259) وابن حبان رقم (1415) موارد، وهو حديث حسن.

(8)

رواه البخاري في صحيحه (4206) في المغازي.

(9)

رواه مسلم في صحيحه (1628)(8) في الوصية.

ص: 433

وروى البيهقي أنَّ عمَّه أبا طالب مرض، فسأل منه صلى الله عليه وسلم أن يدعوَ له ربَّه، فدعا له، فشُفي من مرضه ذلك

(1)

.

وكم له من مثلها وعلى مسلكها، من إبراء آلام، وإزالة أسقام، مما يطول شرحه وبسطه.

وقد وقع في كرامات الأولياء إبراء الأعمى بعد الدعاء عليه بالعمَى أيضًا، كما رواه الحافظ ابن عساكر من طريق سعيد أبي سعيد بن الأعرابي، عن أبي داود: حدَّثنا عمر بن عثمان، حدَّثنا بقية، عن محمد بن زياد، عن أبي مسلم: أن امرأة خبثت عليه امرأتَه، فدعا عليها فذهبَ بصرُها، فأتتهُ فقالت: يا أبا مسلم! إني كنتُ فعلت وفعلتُ، وإني لا أعودُ لمثلها، فقال: اللَّهُمَّ إن كانت صادقةً فاردُدْ عليها بصرَها، فأبصرت

(2)

.

ورواه أيضًا من طريق أبي بكر بن أبي الدنيا: حدَّثنا عبد الرحمن بن واقد، حدَّثنا ضمرة، حدَّثنا عاصم، حدَّثنا عثمان بن عطاء، قال: كان أبو مسلم الخولاني إذا دخل منزله كبَّر، فماذا بلغَ وسطَ الدار كبَّر وكبَّرت امرأته، فإذا بلغ البيتَ كبَّر وكبَّرت امرأته، فيدخل فينزع رداءَه وحذاءَه، وتأتيه بطعام فيأكل، فجاءَ ذاتَ ليلة فكبَّر فلم تُجبه، ثم جاء إلى باب البيت فكبَّر وسلَّم فلم تُجبه، وإذا البيتُ ليس فيه سراج، وإذا هي جالسة بيدها عود تنكتُ في الأرض به، فقال لها: ما لكِ؟ فقالت: الناس بخير، وأنت أبو مسلم، لو أتيتَ معاوية فيأمر لنا بخادم ويُعطيك شيئًا نعيشُ به، فقال: اللهم من أفسدَ عليَّ أهلي فأعمِ بصرَه. قال: وكانت أتتها امرأةٌ فقالت لامرأة أبي مسلم: لو كلَّمتِ زوجكِ ليُكلِّم معاوية فيُخدمكم ويُعطيكم؟ قال: فبينما هذه المرأة في منزلها والسراج يُزهر، إذ أنكرتْ بصرَها، فقالت: سراجُكم طفئ؟ قالوا: لا، قالت: أنا! ذهبَ بصري، فأقبلت كما هي إلى أبي مُسلم، فلم تزلْ تُناشده وتتلطَّف إليه، فدعا الله فردَّ بصرَها. ورجعت امرأته إلى حالها التي كانت عليها

(3)

.

وأما قصة المائدة التي قال الله تعالى: {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 112 - 115] وقد ذكرنا في التفسير

(4)

بسط ذلك واختلاف المفسرين فيها، هل

(1)

رواه البيهقي في الدلائل (6/ 184) وفي إسناده هيثم البكَّاء، ضعيف.

(2)

ذكره الحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق، كما في المختصر؛ لابن منظور (12 - 60).

(3)

انظر تفسير ابن كثير (2/ 150/ 154) طبعة دار ابن كثير.

(4)

انظر تفسير ابن كثير (2/ 150/ 154) طبعة دار ابن كثير.

ص: 434

نزلت أم لا؟! على قولين، والمشهور عن الجمهور أنها نزلت، واختلفوا فيما كان عليها من الطعام على أقوال. وذكرَ أهل التاريخ أنَّ موسى بن نصير، الذي فتحَ البلاد المغربية أيام بني أمية وجدَ المائدة، ولكن قيل: إنها مائدة سليمان بن داود مرصَّعة بالجواهر، وهي من ذهب، فأرسل بها إلى الوليد بن عبد الملك، فكانت عنده حتى مات، فتسلَّمها أخوه سليمان، وقيل: إنها مائدة عيسى، لكن يبعد هذا أن النصارى لا يعرفون أمر المائدة كما قاله غير واحد من العلماء

(1)

، والله أعلم.

والمقصود أن المائدة سواء كانت قد نزلت أم لم تنزل، فقد كانت موائدُ رسول الله صلى الله عليه وسلم تُمدُّ من السماء، وكانوا يسمعون تسبيحَ الطعام وهو يُؤكل بين يديه، وكم قد أشبعَ من طعام يسير ألوفًا ومئات وعشرات بعد عشرات، صلوات الله وسلامه عليه ما تعاقبت الأوقات، وما دامت الأرض والسموات.

وهذا أبو مسلم الخولاني، قد ذكرَ الحافظ ابن عساكر في ترجمته من تاريخه أمرًا عجيبًا وشأنًا غريبًا، حيث روى من طريق إسحاق بن يحيى الملطي، عن الأوزاعي، قال: أتى أبا مسلم الخولاني نفرٌ من قومه فقالوا: يا أبا مسلم! أما تشتاقُ إلى الحج؟ قال: بلى لو أصبتُ لي أصحابًا، فقالوا: نحن أصحابُك، قال: لستم لي بأصحاب، إنما أصحابي قوم لا يُريدون الزاد ولا المزاد، فقالوا: سبحان الله! وكيف يسافر قوم بلا زاد ولا مزاد؟ قال لهم: ألا ترون إلى الطير تغدو وتروح بلا زاد ولا مزاد، والله يرزقها؟ وهي لا تبيع ولا تشتري، ولا تحرث ولا تزرع والله يرزقها؟ قال: فقالوا: فإنا نسافر معك، قال: تهيؤوا على بركة الله تعالى، قال: فغَدوا من غوطة دمشق ليس معهم زاد ولا مزاد، فلما انتهوا إلى المنزل قالوا: يا أبا مسلم! طعام لنا وعلف لدوابنا، قال: فقال لهم: نعم، فتنحَّى غير بعيد فتسنَّم مسجدَ أحجار، فصلَّى فيه ركعتين، ثم جثا على ركبتيه فقال: إلهي قد تعلمُ ما أخرجني من منزلي، وإنما خرجتُ آمرًا لك، وقد رأيتُ البخيل من ولد آدم تنزل به العِصابة من الناس فيُوسعهم قِرىً، وإنا أضيافُك وزوَّارك، فأطعمنا، واسقنا، واعلف دوابَّنا، قال: فأتي بسفرة فمدَّت بين أيديهم، وجيء بجفنة من ثريد يبخرُ، وجيء بقلَّتين من ماء، وجيء بالعلف لا يدرون من يأتي به، فلم تزل تلك حالهم منذ خرجوا من عند أهاليهم حتى رجعوا، لا يتكلَّفون زادًا ولا مزادًا

(2)

. فهذه حال وليٍّ من هذه الأمة، نزل عليه وعلى أصحابه مائدة كل يوم مرتين مع ما يُضاف إليها من الماء والعلوفة لدواب أصحابه، وهذا اعتناء عظيم، وإنما نال ذلك كلَّه ببركة متابعته لهذا النبيِّ الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم.

وأما قوله تعالى عن عيسى ابن مريم عليه السلام: إنه قال لبني إسرائيل: {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} الآية [آل عمران: 49] فهذا شيء

(3)

يسير على الأنبياء، بل وعلى كثير من

(1)

المصدر السابق (2/ 155).

(2)

أخرجه الحافظ ابن عساكر في دمشق، وذكره ابن منظور في التهذيب (12/ 61).

(3)

في نسخة "سهل يسير".

ص: 435

الأولياء، وقد قال يوسُف الصدِّيق عليه السلام لذينك الفتيين المحبوسين معه:{لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي} الآية [يوسف: 37].

وقد أخبرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالأخبار الماضية طبقَ ما وقعَ، وعن الأخبار الحاضرة سواء بسواء، كما أخبرَ عن أكل الأرَضة لتلك الصحيفة الظالمة التي كانت بطونُ قريش قديمًا كتبتها على مقاطعة بني هاشم وبني المطلب حتى يُسلموا إليهم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وكتبوا بذلك صحيفةً وعلَّقوها في سقف الكعبة، فأرسلَ الله الأَرَضة فأكلتها إلا مواضع اسم الله تعالى

(1)

. وفي رواية: فأكلت اسمَ الله منها تنزيهًا لها أن تكون مع الذي فيها من الظلم والعدوان، فأخبرَ بذلك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عمَّه أبا طالب وهم بالشِّعب، فخرجَ إليهم أبو طالب وقال لهم عمَّا أخبرَهم به، فقالوا: إن كان كما قال وإلا فسلِّموه إلينا، فقالوا: نعم، فأنزلوا الصحيفة فوجدوها كما أخبرَ عنها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سواء بسواء، فأقلعت بطونُ قريش عما كانوا تمالؤوا عليه لبني هاشم وبني المطلب، وهدى الله بذلك خلقًا كثيرًا

(2)

. وكم له مثلها كما تقدَّم بسطه وبيانه في مواضع من السير

(3)

وغيرها، ولله الحمد والمِنَّة.

وفي يوم بدر لما طلب من العباس عمه فداء ادعى أنه لا مالَ له، فقال له:"فأينَ المال الذي دفنته أنت وأم الفضل تحت أسكفَّة الباب، وقلت لها: إن قتلت فهو للصبية؟ " فقال: والله يا رسول الله إنَّ هذا شيء لم يطلع عليه غيري وغير أم الفضل إلا الله عز وجل

(4)

.

وأخبرَ بموت النجاشيّ يوم مات وهو بالحبشة، وصلَّى عليه

(5)

.

وأخبرَ عن قتل الأمراء يوم مؤتة واحدًا بعد واحد، وهو على المِنبر وعيناه تذرفان

(6)

.

وأخبرَ عن الكتاب الذي أرسلَ به حاطبُ بن أبي بلتعة مع سارة مولاة بني عبد المطلب، وأرسل في طلبها عليًا والزبير والمقداد، فوجدوها قد جعلته في عقاصها، وفي رواية: في حجزتها، وقد تقدَّم ذلك في غزوة الفتح

(7)

.

وقال لأميري كسرى اللَّذين بعثَ بهما نائب اليمن لكسرى، ليستعلما أمرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ ربِّي

(1)

السيرة النبوية؛ لابن هشام (1/ 377).

(2)

السيرة النبوية؛ لابن هشام (1/ 377).

(3)

تقدم هذا في السيرة النبوية.

(4)

أخرجه ابن إسحاق في السيرة (1/ 634) وأبو نعيم في الدلائل (2/ 614).

(5)

تقدم الحديث.

(6)

تقدم الحديث.

(7)

تقدم الحديث.

ص: 436

قد قتلَ الليلة ربَّكما" فأرَّخا تلكَ الليلة، فإذا كسرى قد سلَّط الله عليه ولدَه فقتلَه، فأسلما وأسلمَ نائبُ اليمن، وكان سبب ملك اليمن لرسول الله صلى الله عليه وسلم

(1)

.

وأما إخباره صلى الله عليه وسلم عن الغيوب المستقبلة فكثيرة جدًّا كما تقدَّم بسط ذلك، وسيأتي في أنباء التواريخ ليقع ذلك طبق ما كان سواء.

وذكرَ ابن حامد في مقابلة جهاد عيسى عليه الصلاة والسلام جهادَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي مقابلة زهد عيسى عليه الصلاة والسلام زهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كنوز الأرض حين عُرضت عليه فأباها، وقال:"أجوع يومًا وأشبعُ يومًا"

(2)

وأنه كان له ثلاث عشرة زوجة يمضي عليهن الشهر والشهران لا تُوقد عندهن نار ولا مصباح، إنما هو الأسودان التمر والماء، وربَّما ربطَ على بطنه الحجرَ من الجوع، وما شبعوا من خبز بر ثلاثَ ليالٍ تباعًا، وكان فراشُه من أدم وحشوه ليف، وربما اعتقلَ الشاة فيحلبَها، ورقعَ ثوبَه، وخصفَ نعلَه بيده الكريمة صلى الله عليه وسلم، وماتَ صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهوديٍّ على طعام اشتراه لأهله، هذا وكم آثر بالألوف المؤلفة والإبل والشاء والغنائم والهدايا على نفسه وأهله، للفقراء والمحاويج والأرامل والأيتام والأسرى والمساكين.

وذكرَ أبو نُعيم في مقابلة تبشير الملائكة لمريم الصِّدِّيقة بوضع عيسى ما بشَّرت به آمنة أمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حملتْ به في منامها، وما قيل لها: إنَّك قد حملتِ بسيِّد هذه الأمة فسمِّيه محمدًا. وقد بسطنا ذلك في المولد كما تقدَّم. وقد أوردَ الحافظُ أبو نُعيم هاهنا حديثًا غريبًا مطوَّلًا بالمولد أحببنا أن نسوقَه، ليكون الختام، نظيرَ الافتتاح، وبالله المستعان، وعليه التكلان، ولله الحمد.

فقال: حدَّثنا سليمان بن أحمد، حدَّثنا حفص بن عمر بن الصباح، حدَّثنا يحيى بن عبد الله البابلي، أخبرنا أبو بكر بن أبي مريم، عن سعيد بن عمرو الأنصاري، عن أبيه، قال: قال ابن عباس: فكان من دلالات حمل محمد صلى الله عليه وسلم أن كلَّ دابة كانت لقريش نطقت تلك الليلة وقالت: قد حُمِلَ برسول الله صلى الله عليه وسلم وربّ الكعبة، وهو أمانُ الدنيا وسراجُ أهلها، ولم يبق كاهنةٌ في قريشٍ ولا قبيلة من قبائل العرب إلا حُجبت عن صاحبتها، انتُزع علمُ الكهنة منها، ولم يبق سريرُ مَلكٍ من مُلوك الدنيا إلا أصبحَ منكوسًا، والمَلِكُ مُخرَسًا لا ينطقُ يومَه ذلكَ، وفرَّت وحوشُ المشرق إلى وحوش المغرب بالبشارات، وكذلك أهلُ البحار بشَّر بعضُهم بعضًا، وفي كل شهر من شهور نداء في الأرض ونداء في السموات:

أن أبشروا فقد آن لأبي القاسم أن يخرجَ إلى الأرض ميمونًا مباركًا قال: وبقي في بطن أمه تسعة أشهر كمَّلًا، لا تشكو وجعًا ولا ريحًا ولا مغصًا، ولا ما يعرض للنساء ذواتِ الحمل، وهلكَ أبوه عبدُ الله وهو

(1)

تقدم الحديث.

(2)

تقدم الحديث.

ص: 437

في بطن أُمِّه، فقالت الملائكة: إلهنا، وسيدنا، بقيَ نبيُّك هذا يتيمًا، فقال الله تعالى للملائكة: أنا له وليٌّ وحافظ ونصير، فتبرَّكوا بمولده ميمونًا مباركًا. وفتح الله لمولده أبواب السماء وجنَّاته، وكانت آمنة تُحدِّث عن نفسها وتقول: أتاني آتٍ حتى مرَّ لي من حمله ستة أشهر فوكَزني برجله في المنام وقال: يا آمنة! إنَّكِ حملتِ بخير العالمين طُرًّا، فإذا ولدتيه فسمِّيه محمَّدًا، واكتمي شأنَك. قال: فكانت تُحدِّث عن نفسها وتقول: لقد أخذني ما يأخذ النساء ولم يعلم بي أحد من القوم، ذكر ولا أنثى، وإنِّي لوحيدةٌ في المنزل، وعبدُ المطلب في طوافه، قالت: فسمعتُ وجبةً شديدةً، وأمرًا عظيمًا، فهالني ذلك، وذلك يوم الإثنين، ورأيتُ كأن جناح طير أبيض قد مسحَ على فؤادي فذهبَ كلّ رعب وكل فزع ووجع كنتُ أجد، ثم التفتُّ فإذا أنا بشربةٍ بيضاءَ ظننتُها لبنًا، وكنت عطشى، فتناولتُها فشربتُها فأضاء فيَّ نورٌ عالٍ، ثم رأيتُ نسوةً كالنخل الطِّوال، كانهنَّ من بنات عبد المطلب يُحدِّقنَ بي، فبينا أن أعجبُ وأقول: واغوثاه، من أينَ علمنَ بي؟ واشتدَّ بي الأمر وأنا أسمعُ الوجبةَ في كل ساعة أعظم وأهول، وإذا أنا بديباج أبيض قد مُدَّ بين السماء والأرض، وإذا قائل يقول: خذوه عن أعين النَّاس، قالت: ورأيت رجالًا قد وقفوا في الهواء بأيديهم أباريقُ فِضَّة، وأنا يرشحُ مني عرقٌ كالجُمان، أطيبُ ريحًا من المسك الأذفر، وأنا أقولُ: يا ليتَ عبد المطلب قد دخل عليَّ، قالت: ورأيت قطعةً من الطير قد أقبلت من حيث لا أشعرُ حتى غطَّت حجرتي، مناقيرُها من الزمرّد، وأجنحتُها من اليواقيت، فكشفَ الله لي عن بصري: فأبصرتُ من ساعتي مشارقَ الأرض ومغاربَها، ورأيتُ ثلاثَ أعلامٍ مضروباب، علمٌ بالمشرق، وعلمٌ بالمغرب، وعلمٌ على ظهر الكعبة، فأخذني المَخاضُ واشتدَّ بي الطَّلق جدًّا، فكنتُ كأنِّي مستندة إلى أركان النساء، وكثرنَ عليَّ حتى كأنَّ الأيدي معي في البيت وأنا لا أرى شيئًا فولدت محمدًا، فلما خرج من بطني درتُ فنظرتُ إليه فإذا هو ساجد وقد رفعَ أصبعيه كالمُتضرِّع المبتهل، ثم رأيت سحابةً بيضاءَ قد أقبلت من السماء تنزل حتى غشيتُه، فغُيِّبَ عن عيني، فسمعتُ مناديًا يُنادي يقول: طُوفوا بمحمد صلى الله عليه وسلم شرقَ الأرض وغربَها، وأدخلوه البحارَ كلَّها، ليعرفوه باسمه ونعته وصورته، ويعلموا أنه سُمِّي الماحي، لا يبقى شيءٌ من الشرك إلا مُحي به. قالت: ثم تَخَلَّوا عنه في أسرع وقت، فإذا أنا به مدرجٌ في ثوب صوف أبيض، أشدُّ بياضًا من اللَّبَن، وتحته حريرةٌ خضراء، وقد قبضَ محمَّد ثلاثة مفاتيح من اللؤلؤ الرَّطب الأبيض، وإذا قائل يقول: قبضَ محمَّدٌ مفاتيح النصر، ومفاتيح الريح، ومفاتيح النبوة

(1)

.

(1)

ذكره السيوطي في الخصائص (1/ 118) وقال: أخرجه أبو نعيم في الدلائل (2/ 780) ثم قال بعد أربع صفحات بعد أن ذكر أثرًا آخر عن ابن عباس، وهذا الأثر والأثران قبله فيها نكارة شديدة. وقال: لم أورد في كتابي هذا أشد نكارة منها، ولم تكن نفسي لتطيبَ بإيرادها، لكني تبعت الحافظ أبا نُعيم في ذلك. ورحم الله الحافظ ابن كثير كيف طابت نفسه أن يختم بهذا الأثر، وهو كما يقول: غريب جدًّا!.

ص: 438

هكذا أوردَه وسكت عليه، وهو غريب جدًّا.

وقال الشيخ جمال الدين أبو زكريا، يحيى بن يوسف بن منصور بن عمر الأنصاري الصَّرصَري

(1)

، المادح الماهر، الحافظ للأحاديث واللغة، ذو المحبَّة الصادقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلذلك يُشبَّه في عصره بحسَّان بن ثابت رضي الله عنه، في ديوانه المكتوب عنه في مديح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان ضريرَ البصر، بصيرَ البصيرة، وكانت وفاتُه ببغداد في سنة ست وخمسين وستمئة، قتله التتار في كائنة بغداد، كما سيأتي ذلك في موضعه، في كتابنا هذا إن شاء الله تعالى، وبه الثقة، وعليه التكلان، قال في قصيدته، من حرف الحاء المهملة، من ديوانه:

مُحمَّدٌ المبعُوثُ لِلنَّاسِ رَحمَةً

يُشيِّدُ مَا أَوهَى الضلالُ ويصلحُ

لَئِنْ سَبَّحَتْ صُمُّ الجِبالِ مجيبَةً

لِداودَ أَو لَانَ الحديدُ المصَفَّحُ

فَإنَّ الصُّخُور الصُّمَّ لَانَت بِكَفِّه

وَإنَّ الحَصى في كَفِّهِ ليُسَبِّحُ

وَإِن كانَ مُوسَى أَنبَعَ الماءَ بالعَصَا

فَمِن كَفِّهِ قد أصبَحَ الماءُ يَطفَحُ

وَإن كانَت الريحُ الرُّخاءُ مُطيعةً

سُليمان لا تَألو تَروحُ وتسرَحُ

فإنَّ الصَّبا كَانَت لِنصرِ نَبِيِّنا

بِرعبٍ عَلى شَهرٍ به الخصمُ يُكلَحُ

(2)

وَإن أُوتيَ الملكَ العظيمَ وسُخِّرت

لَهُ الجِنُّ تشفى مارِضيهِ وتَلدَحُ

(3)

فَإنَّ مَفاتيح الكُنُوزِ بِأَسرِهَا

أَتَتْهُ فَرَدَّ الزَّاهِدُ المترَجّحُ

وَإن كان إبراهيمُ أُعطي خِلَّةً

ومُوسى بتكليم على الطُّور يُمنحُ

فَهذَا حَبيبٌ بَل خَليلٌ مُكَلَّم

وخُصِّصَ بالرؤيا وبالحقِّ أشرَحُ

وَخُصِّصَ بالحوضِ العظيمِ وباللوا

ويَشفَعُ لِلعَاصِينَ والنَّار تَلفحُ

وبالمقعَدِ الأعلى المُقَرَّبِ عِندَهُ

عَطاءٌ بِبُشراهُ أَقَرُّ وأَفرَحُ

وبالرتبةِ العُليا الأسِيلةِ دونها

مَراتبُ أربابِ المواهِبِ تُلمَحُ

(4)

وَفي جَنَّةِ الفِردَوس أوَّلُ دَاخِلٍ

لَه سائِرُ الأبواب بالخار تُفتَحُ

(5)

(1)

انظر ترجمته في فوات الوفيات (4/ 298 - 319) وذيل طبقات الحنابلة (2/ 262) وشذرات الذهب (7/ 493).

والصَّرصَري: نسبة إلى صرصر، وهي قرية من قرى بغداد.

(2)

"يُكْلحُ": يزداد عبوسًا وتجهمًا، بسبب هزيمته.

(3)

"تَلْدَحُ": اللَّدْح: الضرب باليد.

(4)

"الأسيلة": الناعمة الرقيقة.

(5)

"الخار": الغلبة الخَيِّرة.

ص: 439

وهذا آخر ما يسَّرَ الله جمعَه من الأخبار بالمغيَّبات التي وقعت إلى زماننا، مما يدخل في دلائل النبوة، والله الهادي. وإذا فرغنا إن شاء الله من إيراد الحادثات من بعد موته عليه الصلاة والسلام إلى زماننا، نتبع ذلك بذكر الفتن والملاحم الواقعة في آخر الزمان، ثم نسوقُ بعد ذلك أشراط الساعة، ثم نذكرُ البعثَ والنشورَ، ثم ما يقعُ يوم القيامة من الأهوال وما فيه من العظمة، ونذكر الحوضَ والميزانَ والصراطَ، ثم نذكرُ صفةَ النَّار ثم صفة الجنَّة.

ص: 440