المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

البداية والنهاية «الخلفاء الراشدون 11 هـ - 40 هـ»   تأليف الإمام الحافظ المؤرخ - البداية والنهاية - ط دار ابن كثير - جـ ٧

[ابن كثير]

فهرس الكتاب

البداية والنهاية

«الخلفاء الراشدون 11 هـ - 40 هـ»

تأليف

الإمام الحافظ المؤرخ أبي الفداء إسماعيل بن كثير

[701 هـ - 774 هـ]

حققه وخرج أحاديثه وعلق عليه

د. رياض عبد الحميد مراد - محمد حسان عبيد

راجعه

الشيخ عبد القادر الأرناؤوط - الدكتور بشار عواد معروف

الجزء السابع

ص: 1

‌كتاب

(1)

تاريخ الإسلام الأوّل من الحوادث الواقعة في الزمان، ووفيات المشاهير والأعيان

‌سنة إحدى عشرة من الهجرة

تقدَّم ما كان في ربيع الأول منها من وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم الإثنين وذلك لثاني عشر منه على المشهور، وقد بسطنا الكلام في ذلك بما فيه كفايةٌ وبالله التوفيق.

‌خلافةُ أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه وما فيها من الحوادث

قد تقدم أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم توفي يوم الإثنين وذلك ضُحى، فاشتغل الناس ببيعة أبي بكر الصّديق في سَقيفة بني ساعدة، ثم في المسجد البيعة العامَّة في بقيّة يوم الإثنين وصبيحة الثلاثاء كما تقدَّم ذلك بطُوله، ثمّ أخذوا في غَسْل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتكفينه، والصلاةِ عليه صلى الله عليه وسلم تسليمًا بقية يوم الثلاثاء، ودفنوه ليلة الأربعاء كما تقدّم ذلك مبرهنًا في موضعه.

وقال محمد بن إسحاق بن يسار

(2)

: حدَّثني الزُّهري، حدَّثني أنس بن مالك قال:

لما بُويع أبو بكر في السَّقيفة وكان الغد، جلس أبو بكر فقام عمر فتكلَّم قبل أبي بكر، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال:

أيها الناس إني قد قلت لكم بالأمس مقالةً ما كانت [إلا عن رأيي]

(3)

وما وجدتُها في كتاب الله ولا كانت عهدًا عَهِدهُ إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكني قد كنت أرى أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم سيدبّر أمرَنا، حتى

(4)

يكون آخرنا، وإن الله قد أبقى فيكم الذي به هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتصمتُم به هداكم الله لما كان هَداهُ الله،

(1)

تم مقابلة هذا الجزء مع مخطوطة الأحمدية (أ) فما وجدناه زيادة على المطبوع (ط) وضعناه بين معقوفين [] وما كان زيادة من (ط) على (أ) وضعناه بين قوسين، وبينّا الفوارق بينهما، فما وجدناه صحيحًا متوافقًا مع المراجع الموثوقة ومصادر الكتاب أثبتناه، وبيَّنَّا خطأ النسختين أو إحداهما إن وُجد.

(2)

السيرة النبوية لابن هشام (4/ 242) وتاريخ الطبري (3/ 210).

(3)

زيادة من الطبري.

(4)

في ط والسيرة: يقول، وما أثبتناه عن (أ) والطبري.

ص: 5

وإنّ الله قد جمع أمركم على خيركم صاحبِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثاني اثنين إذ هما في الغار، فقوموا فبايعوه. فبايع الناس أبا بكر بعد بيعة السَّقيفة، ثم تكلم أبو بكر فحمد الله وأثنى عليه بالذي هو أهله ثم قال:

أما بعدُ، أيُّها الناس فإني قد وُلّيتُ عليكم ولستُ بخيركم فإنْ أحسنتُ فأعينوني وإن أسأتُ فقوِّموني.

الصدقُ أمانةٌ والكذبُ خيانةٌ، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أُرْجعَ عليه حقَّه إن شاء الله، والقويُّ فيكم ضعيفٌ حتى آخذَ الحقَّ منه إن شاء الله، لا يدعُ قومٌ الجهادَ في سبيل الله إلا خذلهم اللهُ بالذلّ، ولا تشيعُ الفاحشةُ في قومٍ إلا عمَّهم اللهُ بالبلاء، أطيعوني ما أطعت اللهَ ورسولَه، فإذا عصيْتُ الله ورسولَه فلا طاعة لي عليكم، قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.

وهذا إسناد صحيح.

وقد اتَّفقَ الصَّحابةُ رضي الله عنهم على بيعة الصّدّيق في ذلك الوقت، حتى عليّ بن أبي طالب والزُّبير بن العَوّام رضي الله عنهما، والدليل على ذلك ما رواه البيهقيُّ

(1)

حيث قال:

أخبرنا أبو الحسن

(2)

عليُّ بن محمدٍ بن علي الحافظ الإسفراييني، حدَّثنا أبو علي الحسين بن علي الحافظ، حدَّثنا أبو بكر بن خُزَيْمَة

(3)

وإبراهيم بن أبي طالب قالا: حدَّثنا بُنْدار بن بشّار

(4)

، حدَّثنا أبو هشام المَخْزومي، حدَّثنا وُهَيْب، حدَّثنا داود بن أبي هِنْد، حدَّثنا أبو نَضْرَة

(5)

، عن أبي سعيد الخُدْري قال:

قُبِضَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم واجتمعَ الناسُ في دارِ سعدِ بن عُبادَةَ، وفيهم أبو بكر وعمرُ قال: فقام خطيبُ الأنصار فقال: أتعلمون أنَّا أنصارُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فنحن أنصار خليفتِه كما كنَّا أنصارَه، قال: فقام عمر بن الخطاب فقال: صدق قائلُكم، ولو قلتم غيرَ هذا لم نبايعْكم، فأخذ بيد أبي بكرٍ وقال: هذا صاحبُكم فبايعوه، فبايعه عمرُ، وبايعه المهاجرونَ والأنصارُ، وقال: فصعد أبو بكر المنبرَ فنظرَ في وجوه القوم فلم يرَ الزبيرَ، قال: فدعا الزبيرَ، فجاءَ، قال: قلتُ: ابنَ عمَّةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أردتَ أن تَشُقَّ عصا المسلمين؟ قال: لا تثريبَ يا خليفةَ رسولِ الله، فقام فبايعه، ثم نظرَ في وجوه القوم فلم يرَ عليًا، فدعا

(1)

السنن الكبرى (8/ 143).

(2)

في ط: أبو الحسين، تحريف، والتصحيح من السنن الكبرى. وترجمة أبي الحسن الإسفراييني في سير أعلام النبلاء (17/ 305).

(3)

هو محمد بن إسحاق بن خزيمة، أبو بكر السلمي النيسابوري الشافعي، ترجمته في سير أعلام النبلاء (14/ 365).

(4)

في ط: بن يسار؛ تحريف، والتصحيح من السنن الكبرى. وترجمة بندار في سير أعلام النبلاء (12/ 144).

(5)

في ط: أبو نصرة، بالصاد؛ تحريف، والتصحيح من السنن الكبرى. وهو المنذر بن مالك بن قُطعة، أبو نضرة العبدي. سير أعلام النبلاء (4/ 529).

ص: 6

بعلي بن أبي طالب، قال: قلت: ابنَ عمِّ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وخَتَنهُ على ابنتهِ، أردتَ أن تَشُقَّ عصا المسلمين؟ قال: لا تثريب يا خليفةَ رسول الله فبايَعَه.

هذا أو معناه. قال الحافظ أبو علي النَّيْسابوري: سمعتُ ابنَ خُزيمة يقول: جاءني مسلمُ بنُ الحجاج فسألني عن هذا الحديثِ فكتبتُه له في رُقْعة وقرأت عليه، فقال: هذا حديث يساوي بَدنةً، فقلتُ: يَسْوى بدَنةً، بل هذا يَسْوى

(1)

بَدْرَة

(2)

.

وقد رواه الإمامُ أحمد عن الثقةِ عن وُهَيْب مختصرًا

(3)

.

وأخرجه الحاكمُ في "مستدركِه"

(4)

من طريقِ عفانَ بن مسلم، عن وهيب مطوَّلًا كنحو ما تقدَّم.

وروينا من طريق المَحَاملي، عن القاسمِ بن سعيد بن المُسيّب، عن علي بن عاصم، عن الجُرَيْري

(5)

، عن أبي نَضْرَة، عن أبي سعيدٍ فَذَكره مثلَه في مبايعةِ علي والزبير رضي الله عنهما يومئذٍ.

وقال موسى بن عقبة

(6)

في "مغازيه" عن سعد بن إبراهيم: حدَّثني أبي أن أباه عبد الرحمن بنَ عوفٍ كانَ معَ عمرَ وأنَّ محمَّد بنَ مَسْلمة كسر سيفَ الزُّبير، ثم خطب أبو بكر واعتذر إلى النَّاس وقال: واللهِ ما كنتُ حريصًا على الإمارةِ يومًا ولا ليلةً، ولا سألتُها اللهَ في سِرٍّ ولا علانيةٍ، فقَبِلَ المهاجرونَ مقالتَه، وقال عليٌّ والزبيرُ: ما [غصَبنا]

(7)

إلا لأنَّنا أُخِّرْنا عن المشورة، وإنا نرى أبا بكرٍ أحقَّ النّاسِ بها، إنَّه لصاحبُ الغارِ، وإنَّا لنعرفُ شرفَه وخَيْره. ولقد أمَرَه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالصلاةِ بالنّاسِ وهو حيٌّ

(8)

. وهذا اللائقُ بعليٍّ رضي الله عنه، والذي يدلُّ عليه الآثارُ من شهودِه معه الصلواتِ، وخُرُوجِه معه إلى ذي القَصَّة

(9)

بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سنورده، وبذلِه له النصيحةَ والمشورة، بين يديه.

(1)

يَسْوى: نادرة، وهي لغة أهل الحجاز. اللسان (سوا).

(2)

البدرة: كيس فيه ألف أو عشرة آلاف. اللسان (بدر).

(3)

هكذا وقع هذا النص، وهو غلط لا شك فيه، لا أدري إن كان من المصنف أو من النساخ، وصوابه فيما أرى أن يكون:"وقد رواه الإمام أحمد عن عفان عن وهيب مختصرًا، ورواه بتمامه ثقة عن عفان"، هكذا وجدته بخط الإمام الذهبي (تاريخ الإسلام، أياصوفيا 3005 ورقة 173)، وهو الذي في المسند (5/ 185 - 186)، إذ لم يروه أحمد عن الثقة البتة (بشار).

(4)

المستدرك على الصحيحين (3/ 76).

(5)

في ط: الحريري؛ تحريف، وهو سعيد بن إياس، أبو مسعود الجُريري البصري. ترجمته في سير أعلام النبلاء (6/ 153).

(6)

موسى بن عقبة، صاحب المغازي، ترجمته في سير أعلام النبلاء (6/ 114) قال الإمام الذهبي: كان بصيرًا بالمغازي النبوية ألّفها في مجلد.

(7)

ساقطة من أ، ط واستدركت من المستدرك.

(8)

الخبر بأطول مما هنا في المستدرك (3/ 66) وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

(9)

ذو القصة: موضع بينه وبين المدينة أربعة وعشرون ميلا، وهو طريق الربذة. معجم البلدان (4/ 366) معجم ما استعجم (1076).

ص: 7

وأما ما يأتي من مبايعته إياه بعد موت فاطمةَ، وقد ماتت بعد أبيها عليه الصلاة والسلام بستة أشهر، فذلك محمولٌ على أنَّها بيعةٌ ثانيةٌ أزالت ما كان قد وقعَ من وحشةٍ بسبب الكلام في الميراث ومنعِه إياهم ذلك بالنص عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: في قوله: "لا نُورث، ما تركنا فهو صدقة"

(1)

. كما تقدم إيراد أسانيده وألفاظه ولله الحمد.

وقد كتبنا هذه الطرقَ مستقصاةً في الكتاب الذي أفردناه في سيرة الصدِّيقِ رضي الله عنه، وما أسنده من الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وما رُوي عنه من الأحكام مُبوَّبةً على أبواب العلم ولله الحمدُ والمنة.

وقال سيف بن عمر التميمي

(2)

: عن أبي ضَمرة، عن أبيه، عن عاصم بن عدي، قال:

نادى منادي أبي بكر من الغد من مُتوفَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتمّم بعثَ أسامةَ: ألا لا يبقين بالمدينة أحدٌ من جيش أسامة إلَّا خرج إلى عسكره بالجُرف

(3)

.

وقام أبو بكر في الناس فحمد الله وأثنى عليه، وقال: "أيها الناسُ إنما أنا مثلكم وإني [لا أدري]

(4)

لعلكم تُكلّفوني ما كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يُطيق، إنَّ الله اصطفى محمدًا على العالمين، وعَصَمهُ من الآفاتِ، وإنما أنا متَّبع ولست بمُبتدعٍ، فإن استقمتُ فبايعوني، وإن زُغْتُ

(5)

فقوِّموني، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قُبض وليس أحدٌ من هذه الأمة يطلبُه بمظلمةٍ ضربة سوط فما دونها، وإنَّ لي شيطانًا يعتريني فإذا أتاني فاجتنبوني لا أؤثرُ في أشعاركم وأبشاركم

(6)

وإنكم تَغْدون وتَروحون في أجَلٍ قد غُيِّب عنكم علمُه، وإن استطعتُم أن لا يمضيَ يوم إلا وأنتم في عمل صالح فافعلوا، ولن تستطيعوا ذلك إلا بالله، وسابقوا في مهلِ آجالكم من قبل أن تُسْلِمكُم آجالُكم إلى انقطاع الأعمال، فإنَّ قومًا نسُوا آجالَهم وجعلوا أعمالَهم بعدهم، فإياكم أن تكونوا أمثالهم، الجدَّ الجَدَّ، النجاةَ النجاةَ، الوحَا الوحا

(7)

فإن وراءكم طالبًا حثيثًا، وأجلًا أمرُه سريعٌ، احذروا الموتَ، واعتبروا بالآباءِ والأبناءِ والإخوان ولا تُطيعوا الأحياءَ إلا بما تطيعوا به الأمواتَ".

قال: وقام أيضًا فحمد اللهَ وأثنى عليه ثم قال: إنّ الله لا يقبل من الأعمال إلا ما أُريد به وجهُه، فأريدوا اللهَ بأعمالكم، فإنّما أخلصتم لحين فقرِكم وحاجتكم، اعتبروا عبادَ الله بمنْ مات منكم، وتفكروا فيمن كان قبلكم، أين كانوا أمس، وأين هم اليومَ، أين الجبّارونَ الذين كان لهم ذكرُ القتالِ

(1)

الحديث رواه البخاري في صحيحه رقم (3093) في فرض الخمس.

(2)

تاريخ الطبري (3/ 223).

(3)

"الجرف": موضع قرب المدينة، كان المسلمون يعسكرون هناك إذا أرادوا الغزو. معجم ما استعجم (376 - 378).

(4)

زيادة من الطبري يقتضيها السياق.

(5)

زاغ عن الطريق زوغًا وزيغًا: عدل؛ والياء أفصح. اللسان (زوغ).

(6)

أشعار جمع شعر. وأبشار جمع بشرة.

(7)

الوحا الوحا في حديث أبي بكر أي: السرعة السرعة. يمدد ويقصر. اللسان (وحى).

ص: 8

والغلبةِ في مواطن الحروبِ، قد تضعضعَ بهم الدهرُ، وصاروا رميمًا، قد تولَّت عليهم العالاتُ

(1)

، الخبيثاتُ للخبيثين، والخبيثونَ للخبيثاتِ، وأينَ الملوكُ الذين أثاروا الأرضَ وعمروها؟ قد بعدُوا ونُسِيَ ذكرُهم، وصاروا كلا شيءَ، ألا إنَّ اللهَ عز وجل قد أبقى عليهم التبعاتِ، وقطَعَ عنهمِ الشهواتِ، ومضوا والأعمالُ أعمالُهم، والدنيا دنيا غيرِهم، وبُعثنا خلَفًا بعدَهم، فإن نحن اعتبرنا بهم نجَوْنا، وإن انحدرنا كنا مثلهم، أين الوضاءةُ الحسنة وجوههم، المعجبونَ بشبابهم؟ صاروا ترابًا، وصار ما فرَّطوا فيه حسرةً عليهم، أين الذين بنوا المدائن وحضَّنوها بالحوائط، وجعلوا فيها الأعاجيبَ؟ قد تركوها لمن خلفَهم، فتلك مساكنُهم خاويةٌ وهم في ظلماتِ القبور، {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} [مريم: 98]؟ أين من تعرفون من آبائكم وإخوانكم، قد انتهت بهم آجالُهم، فرُدُّوا على ما قدموا، فحلُّوا عليه وأقاموا للشقوة أو السعادة بعد الموث، ألا إن الله لا شريكَ له، ليس بينه وبين أحد من خلقه سبب يعطيه به خيرًا، ولا يصرف به عنه سوءًا، إلَّا بطاعته واتباعِ أمره، واعلموا أنَّكَم عبيدٌ مدينون، وأنّ ما عنده لا يُدرك إلا بطاعته، أما آن لأحدكم أن تحسر عنه النار ولا تَبْعُدُ عنه الجنة؟.

‌فصل في تنفيذ جيش أسامةَ بن زيدٍ

الذين كانوا قد أمرَهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمسير إلى تُخُومِ البَلقاء من الشام، حيث قُتل زيدُ بن حارثة، وجعفر، وابن رُواحةَ: فيغتزوا على تلك الأراضي، فخرجوا إلى الجُرف فخيَّموا به، وكان بينهم عمرُ بن الخطاب، ويقال: وأبو بكر الصديق فاستثناه رسول الله منهم للصلاة، فلما ثَقُلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أقاموا هنالك، فلما مات عَظُمَ الخطبُ واشتدَّ الحالُ ونجم النفاقُ بالمدينة، وارتدَّ من ارتدَّ من أحياءِ العرب حولَ المدينة، وامتنع آخرون من أداء الزكاة إلى الصدِّيق، ولم يبقَ للجمعة مُقامٌ في بلدِ سوى مكةَ والمدينة، وكانت جُواثى من البحرين أول قرية أقامت الجمعةَ بعد رجوع الناس إلى الحق، كما في صحيح البخاري

(2)

، عن ابن عباس كما سيأتي.

وقد كانت ثقيفُ بالطائف ثَبَتوا على الإسلام، لم يفرُّوا ولا ارتدّوا، والمقصود أنه لما وقعت هذه الأمور أشار كثيرٌ من الناس على الصديق أن لا يُنفذ جش أسامة لاحتياجه إليه فيما هو أهم، لأنَّ ما جهز بسببه في حال السلامة، وكان من جملة من أشار بذلك عمر بن الخطاب، فامتنع الصدّيق من ذلك، وأبى أشدَّ الإباء، إلا أن يُنفذَ جيشَ أسامةَ، وقال: والله لا أحلُّ عقدةً عقدها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، ولو أنَّ الطير تَخْطفُنا، والسباع من حول المدينة، ولو أنَّ الكلابَ جرت بأرجلِ أمهات المؤمنين لأجَهّزن جيشَ أسامةَ وآمر الحرس يكونون حول المدينة، فكان خروجه في ذلك الوقت من أكبر المصالح والحالةُ تلك،

(1)

في الطبري: القالات.

(2)

خبر ابن عباس في صحيح البخاري رقم (892) في الجمعة، ورقم (4371) في المغازي ونصه: إن أول جمعة جمعت.

ص: 9

فساروا لا يمرُّون بحيٍّ من أحياءِ العرب إلا أرعبوا منهم، وقالوا: ما خرج هؤلاء من قوم إلا وبهم منعَةٌ شديدة، فقاموا أربعين يومًا ويقال سبعين يومًا، ثم أتَوْا سالمين غانمين، ثم رجعوا فجهّزهم حينئذ مع الأحياء الذين أخرجهم لقتال المُرْتدة، ومانعي الزكاة على ما سيأتي تفصيلُه.

قال سيفُ بن عمر

(1)

: عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال:

لما بُويع أبو بكر وجمع الأنصارُ في الأمر الذي افترقوا فيه، قال:

ليتمّ بعثُ أسامة، وقد ارتدت العرب؛ إما عامة وإما خاصة، في كل قبيلة، ونجم

(2)

النّفاق واشرأبَّت اليهوديةُ والنصرانية، والمسلمون كالغنم المَطِيرة

(3)

في الليلة الشاتيةِ، لفقد نبيهم صلى الله عليه وسلم، وقلَّتهم وكثرة عدوّهم، فقال له الناس: إن هؤلاء جلُّ المسلمين والعرب على ما ترى قد انتقضتْ بك، وليس ينبغي لك أن تُفرق عنك جماعةَ المسلمين، فقال: والذي نفس أبي بكر بيده لو ظننت أن السباعَ تَخْطفني لأنفذتُ بعثَ أسامةَ كما أمرَ به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم؛ ولو لم يبقَ في القرى غيري لأنفذته.

وقد روي هذا عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، ومن حديث القاسم وعمرة، عن عائشة قالت: لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدتِ العربُ قاطبةً وأُشْربت النفاق، والله لقد نزل بأبي ما لو نزل بالجبال الراسيات لهاضها

(4)

، وصار أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كأنهم مِعْزًى

(5)

مطيرة في حُشٍّ

(6)

في ليلة مطيرة بأرض مَسْبَعَةٍ

(7)

، فوالله ما اختلفوا في نقطة إلَّا طارَ أبي بِحَظِّها وغنائها وفَضْلها

(8)

، ثم ذكرت عمر فقالت: من رأى عمر علم أنه خلق غنى للإسلام، كان والله أحوذيا

(9)

نسيج وحدِه وقد أعد للأمور أقرانها

(10)

.

وقال الحافظ أبو بكر البَيْهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا أبو العبّاس محمد بن يعقوب،

(1)

تاريخ الطبري (3/ 225).

(2)

نجم الشيء ينجم - بالضم - نجومًا: طلع وظهر. اللسان (نجم).

(3)

العبارة عند الطبري: والمسلمون كالغنم في الليلة المطيرة الشاتية.

(4)

هاضها؛ من الهيض: وهو كسر دون الهدِّ وفوق الرضِّ. اللسان (هضض).

(5)

معزى؛ يجوز تنوينها ومنعها، ورجح سيبويه الأول. اللسان (معز).

(6)

الحشُّ: البستان. اللسان (حشش).

(7)

أرض مَسْبَعة: ذات سباع كثيرة. اللسان (سبع).

(8)

في المطبوع: "بخطلها وعنانها وفصلها" وكله تصحيف لا معنى له، والصواب ما أثبتنا، ويعضده الذي في سنن البيهقي.

(9)

أحوذيًا وأحوزيًا: هو الحسن السبَّاق للأمور، وفيه بعض النِّفار، وقيل: هو الخفيف. النهاية في غريب الحديث (1/ 457 و 459).

(10)

خبر عائشة من طريق القاسم عنها في سنن البيهقي (8/ 200).

ص: 10

حدَّثنا محمد بن علي الميموني، حدَّثنا الفِرْيابي، حدَّثنا عبَّاد بن كَثير عن الأعرج

(1)

عن أبي هريرة قال:

والله الذي لا إله إلَّا هو، لولا أن أبا بكر استُخلف ما عُبد اللهُ، ثم قال الثانية، ثم قال الثالثة، فقيل له: مه يا أبا هريرة؟ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجَّهَ أسامةَ بن زيد في سبعمئة إلى الشام، فلما نزل بذي خُشُب

(2)

قُبضَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وارتدَّتِ العربُ حولَ المدينة، فاجتمعَ إليه أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا بكر ردّ هؤلاء، تُوجه إلى الرّوم وقد ارتدَّتِ العربُ حولَ المدينة؟ فقال: والذي لا إله غيرُه لو جرت الكلاب بأرجل أزواجِ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رددت جيشًا وجَّهه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، ولا حللتُ لواءً عقدَه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فوجَّه أسامة، فجعل لا يمرُّ بقبيل يريدون الارتداد إلَّا قالوا: لولا أن لهؤلاء قوةً ما خرجَ مثلُ هؤلاء من عندهم، ولكن ندعُهم حتى يَلقوا الرومَ، فلقُوا الرومَ فهزموهم وقتلوهم، ورجعوا سالمين، فثبتوا على الإسلام.

عبّاد بن كثير هذا أظنه البرمكيَّ لرواية الفِرْيابي عنه، وهو مقارب الحديث، فأما [عباد بن كثير] البصري الثقفي فمتروك الحديث، والله أعلم.

وروى سيف بن عمر

(3)

، عن أبي ضَمْرَة وأبي عمرو وغيرهما، عن الحسن البصري: أن أبا بكر لما صمَّم على تجهيز جيش أسامة قال بعض الأنصار لعمر: قل له فليُؤَمِّرْ علينا غيرَ أسامة، فذكر له عمرُ ذلك، فيقال: إنه أخذَ بلحيته وقال: ثكلتْكَ أمُّك يا بن الخطاب، أُؤَمِّر غيرَ أميرِ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ثم نهض بنفسه إلى الجُرْفِ فاستعرضَ جيشَ أسامة وأمرهم بالمسير، وسارَ معهم ماشيًا، وأسامةُ راكبًا، وعبدُ الرحمن بن عوف يقود براحلةِ الصِّدِّيق، فقال أسامةُ: يا خليفةَ رسولِ الله: إما أن تركبَ وإما أن أنزلَ، فقال: والله لستَ بنازلٍ ولستُ براكبٍ، ثم استطلقَ الصدِّيقُ من أسامة عمرَ بن الخطاب - وكان مكتتبًا في جيشه - فأطلقهُ له، فلهذا كان عمرُ لا يلقاه بعد ذلك إلا قال: السلام عليكَ أيها الأميرُ.

‌مقتلُ الأسْود العَنْسي، المُتَنبِّئ الكذَّاب

قال أبو جعفر بنُ جَرِير

(4)

: حدَّثني عمر بن شَبَّة

(5)

النُّمَيْري، حدَّثنا عليّ بن محمد - يعني المَدَائني - عن أبي مَعْشر ويزيد بن عياض بن جُعْدُبة

(6)

وغسّان بن عبد الحميد وجُوَيْرية بن أسماء، عن مَشْيختهم قالوا:

(1)

في المطبوع: "عن أبي الأعرج" وهو تحريف، وهو عبد الرحمن بن هرمز، من رجال التهذيب.

(2)

ذو خشب: موضع على مرحلة من المدينة على طريق الشام. معجم ما استعجم (499).

(3)

تاريخ الطبري (3/ 225 - 226).

(4)

في تاريخه (3/ 240).

(5)

في ط: عمرو بن شيبة؛ وهو تحريف. والتصحيح من الطبري، وترجمة ابن شبَّة في سير أعلام النبلاء (12/ 369 - 372).

(6)

في ط: عن جُعدٍ به، خطأ، والتصحيح من الطبري وتقريب التهذيب (604).

ص: 11

أمضى أبو بكر جيشَ أسامةَ بن زيد في آخر ربيع الأول، وأتى مقتل الأسود في آخر ربيع الأول بعد مخرج أسامة، فكان ذلك أولَ فَتْحٍ فَتَحَ أبو بكر وهو بالمدينة.

‌صِفَةُ خُروجِهِ وتَمْليكِهِ ومَقْتَلِهِ

قد أسلفنا فيما تقدَّم أنَّ اليمنَ كانت لِحِمْيَر، وكانت ملوكهم يُسَمَّون التَّبابعة، وتكلَّمنا في أيام الجاهلية على طرفٍ صالح من هذا.

ثم إنّ ملك الحبشة بعث أميرين من قواده، وهما أبرهةُ الأشرمُ، وأرياطُ، فتملّكا له اليمن من حمير، وصار مُلْكُها للحبشة، ثم اختلف هذان الأميران، فقُتِلّ أرياطُ واستقلَّ أبرهةُ بالنيابة. وبنى كنيسةً سماها القُلَّيْس

(1)

، لارتفاعها، وأراد أن يصرفَ حجَّ العربِ إليها دونَ الكعبةِ، فجاء بعضُ قريشٍ فأحدث في هذه الكنيسة، فلما بلغه ذلك حلفَ ليخربنَّ بيتَ مكة، فسار إليه ومعه الجنود والفيلُ محمود، فكان من أمرهم ما قصَّ اللهُ في كتابه.

وقد تقدَّم بسطُ ذلك في موضعه، فرجعَ أبرهةُ ببعض من بقيَ من جيشه في أسوإ حالٍ وشرّ خيبةٍ، وما زال تسقطُ أعضاؤُه أنملة أنملةً، فلمّا وصلَ إلى صنعاء انصدع صدرُه فماتَ، فقام بالملك بعده ولده يكسوم

(2)

بن أبرهة ثم أخوه مسروق بن أبرهة، فيقال: إنه استمرَّ مُلك اليمن بأيدي الحبشة سبعين سنةً.

ثم ثار سيفُ بن ذي يزن الحِمْيريُّ، فذهب إلى فيصرَ ملكِ الرّوم يستنصرُه عليهم، فأبى ذلك عليه - لما بينه وبينهم من الاجتماع في دين النَّصرانية - فسارَ إلى كسرى ملكِ الفرس فاستغاث به، وله معه مواقفُ ومقاماتٌ في الكلام تقدَّم بسط بعضها، ثم اتفق الحالُ على أنْ بَعَثَ معه ممن بالسجونِ طائفةً تقدمهم رجل منهم يقال له: وهرز، فاستنقذ مُلْك اليمن من الحبشة، وكسرَ مَسروق بن أبرهة وقتله، ودخلوا إلى صنعاءَ وقرروا سيفَ بن ذي يزن في المُلك على عادة آبائه، وجاءتِ المحوبُ تُهنِّئهُ من كل جانب، غير أن لكسرى نوايا على البلاد

(3)

؛ فاستمرّ الحالُ على ذلك حتى بُعث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فأقام بمكة ما أقام، ثم هاجر إلى المدينة فلما كتب كتبه إلى الآفاق يدعوهم إلى عبادة الله وحدَهُ لا شريكَ له، فكتب في جملة ذلك إلى كسرى ملكِ الفرس:

بسم الله الرحمن الرحيم، من محمدٍ رسولِ الله إلى كسرى عظيمِ الفرسِ، سلامٌ على منِ اتبعَ الهُدى، أما بعدُ، فأسلمْ تَسْلمْ

إلى آخره.

(1)

في ط: العانس؛ وهو تصحيف وتحريف، والقُلَّيس بالتشديد: بيعة للحبش كانت بصنعاء بناها أبرهة. وفي التهذيب: القُلَّيسة: بيعة كانت بصنعاء للحبشة. اللسان (قلس).

(2)

في ط: بلسيوم، وهو تحريف؛ وما أثبتناه عن الكامل (1/ 433).

(3)

الخبر بأطول مما هنا في الكامل لابن الأثير (1/ 451).

ص: 12

فلما جاءه الكتابُ قال: ما هذا؟ قالوا: هذا كتابٌ جاء من عند رجلٍ بجزيرة العرب يزعُمُ أنه نبيٌّ، فلما فتحَ الكتابَ فوجده قد بدأ باسمه قبل اسمِ كسرى، غضبَ كسرى غضبًا شديدًا، وأخذَ الكتابَ فمزّقه قبل أن يقرأه، وكتب إلى عامله على اليمن - وكان اسمه باذام

(1)

- أما بعد فإذا جاءك كتابي هذا فابعث من قِبَلك أميرين إلى هذا الرجل الذي بجزيرة العرب، الذي يزعم أنه نبيٌّ، فابعثه إليَّ في جامعة

(2)

، فلما جاء الكتاب إلى باذام، بعثَ منْ عنده أميرين عاقلين، وقال: اذهبا إلى هذا الرجل، فانظرا ما هو، فإن كان كاذبًا فخُذاه في جامعةٍ حتى تذهبا به إلى كسرى، وإن كان غير ذلك فارجعا إليَّ فأخبراني ما هو، حتى أنظرَ في أمره، فقدما على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فوجداه على أسَدِّ الأحوالِ وأرشدِها، ورأيا منه أمورًا عجيبةً، يطول ذكرها، ومكَثَا عنده شهرًا حتى بلغا ما جاءا له، ثم تقاضاهُ الجواب بعد ذلك، فقال لهما: ارجعا إلى صاحبِكما فأخبراه أن ربِّي قد قتل الليلةَ ربَّه، فأرَّخا ذلك عندَهما ثم رجعا سريعًا إلى اليمن فأخبرا باذامَ بما قال لهما، فقال: احصوا تلك الليلة، فإن ظهرَ الأمرُ كما قال فهو نبيٌّ، فجاءت الكتبُ من عند ملكهم أنه قد قُتل كسرى في لية كذا وكذا، لتلك الليلة، وكان قد قتله بنوه ولهذا قال بعضُ الشعراء

(3)

: [من الوافر]

وكِسْرى إذ تَقَاسمهُ بَنُوه

بأسيافٍ كما اقْتُسِم اللِّحام

(4)

تمخّضتِ

(5)

المنونُ له بيومٍ

أتى ولكلِّ حاملة تمامُ

وقام بالمُلك بعده ولده شيرويه وكتب إلى باذام أن خُذْ ليَ البيعة من قبلك، واعمد إلى ذلك الرجل فلا تهنه وأكرمْهُ، فدخل الإسلامُ في قلب باذام وذريتِه من أبناء فارسَ ممن باليمن، وبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامه، فبعث إليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بنيابة اليمنِ بكمالها

(6)

، فلم يعزله عنها حتى مات، فلما مات استنابَ ابنه شهر بن باذام على صنعاءَ وبعض مخاليف، وبعث طائفةً من أصحابه نوّابًا على مخاليف أُخر، فبعث أولًا في سنة عشرٍ عليًّا وخالدًا، ثم أرسل معاذًا وأبا موسى الأشعريَّ وفرّق عِمَالَة اليمن بين جماعةٍ من الصحابة، فمنهم شَهْر بن باذام، وعامر بن شَهْر الهَمْداني على همدان، وأبو موسى على مأرب، وخالد بن سعيد بن العاص على عامر نَجْران ورَفْعٍ وزَبيد، ويَعْلى بن أمية على الجَنَد، والطاهر بن

(1)

في الكامل (2/ 336): بأذان بالنون.

(2)

الجامعة: الغُلُّ؛ لأنها تجمع اليدين إلى العنق. اللسان (جمع).

(3)

تقدم ذكر هذين البيتين في الجزء الثالث من هذا الكتاب في باب: ما آل إليه أمر الفرس باليمن، منسوبين إلى خالد الشيباني وببعض الخلاف في الرواية.

(4)

اللِّحام: جمع اللَّحم. اللسان (لحم).

(5)

تمخضت المنون في اللسان: أنتجت. وفي القاموس: تمخض الدهر بالفتنة: أتى بها، والمعنى أن الموت ولد له بيوم أتاه.

(6)

الخبر بكماله في تاريخ الطبري (3/ 227 - 228) والكامل لابن الأثير (2/ 336).

ص: 13

أبي هالة على عَك

(1)

والأشعريين، وعمرو بن حرام على نَجْران، وعلى بلاد حضرموتَ زيادُ بن لبيد، وعلى السكاسك والسكون عكاشة بن ثور

(2)

بن أخضر، وعلى بني معاوية بن كندة عبد الله بن قيس، وبعث معاذ بن جبل معلِّمًا لأهل البلدين - اليمن وحضرموت - يتنقَّلُ من بلدٍ إلى بلدٍ، ذكره سيف بن عمر، وذلك كله في سنة عشر، آخر حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فبينما هم على ذلك إذ نجم

(3)

هذا اللعين الأسود العنسي.

‌خروجُ الأسودِ العنسي

واسمه عَبْهَلَة

(4)

بن كَعْب بن غَوْث - من بلد يقال لها: كهف خُبان

(5)

- في سبعمئة مقاتل، وكتب إلى عُمّال النبي صلى الله عليه وسلم: أيّها المتمرِّدون علينا، أمسكوا علينا ما أخذتم من أرضنا، ووفِّروا ما جمعتم، فنحن أولى به، وأنتم على ما أنتم عليه، ثم ركب فتوجّه إلى نَجْران فأخذها بعد عشرِ ليالٍ من مخرجه ثم قصد إلى صنعاء، فخرج إليه شَهْر بن باذام فتقاتلا، فغلبه الأسودُ وقتله، وكسر جيشه من الأبناء واحتلّ بلدة صنعاء لخمسٍ وعشرين ليلةً من مخرجه، ففرَّ معاذ بن جبل من هنالك واجتاز بأبي موسى الأشعري فذهبا إلى حضرموت، وانحاز عُمّال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطاهر، ورجع عمر بن حرام وخالد بن سعيد بن العاص إلى المدينة، واستوثقت اليمن بكمالها للأسود العَنْسي، وجعل أَمْرُهُ يَسْتطير

(6)

استطارةَ الشرَّارَةِ، وكان جيشُه يومَ لقي شهرًا سبعمئة فارس، وأمراؤه. قيس بن عبد يغوث، ومعاوية بن قيس، ويزيد بن محرم ويزيد بن حصن الحارثي، ويزيد بن الأفكل الأزدي، واشتدّ ملكه، واستغلظ أمره، وارتدّ خلق من أهل اليمن، وعامله المسلمون الذين هناك بالتقية، وكان خليفته على مَذْحِج عمرو بن معدي كرب، وأسند أمر الجند إلى قيس بن عبد يغوث، وأسند أمر الأبناء إلى فيروز الدَّيْلمي وداذويه، وتزوَّج بامرأة شهر بن باذام وهي ابنةُ عمَّ فيروز الدَّيلمي، واسمها زاذ، وكانت امرأةً حسناءَ جميلةً، وهي مع ذلك مؤمنةٌ بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ومن الصالحات.

قال سيف بن عمر التميمي

(7)

: وبعثَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم كتابَه، حين بلغه خبرُ الأسودِ العنسي مع رجلٍ يُقال له: وبر بن يُحَنَّس الديلمي: يأمر المسلمين الذين هناك بمقاتلة الأسود العَنْسي ومصاولته، وقام معاذ بن جَبَل بهذا الكتاب أتمَّ القيام، وكان قد تزوّج امرأة من السَّكون يُقال لها: رَمْلة، فَحَدَبت عليه

(1)

في ط: عل؛ وهو تحريف، والتصحيح من الكامل والاشتقاق لابن دريد (489) والأعلام للزركلي (5/ 42).

(2)

في ط والأصل: مور؛ تحريف، والتصحيح من الطبري وابن الأثير.

(3)

نجم: ظهر وطلع. القاموس (نجم).

(4)

أخباره في تاريخ الطبري (3/ 230) والكامل لابن الأثير (3/ 336).

(5)

في ط: كهف حنان؛ وهو تحريف، والتصحيح من معجم البلدان (2/ 343) والمصادر.

(6)

استطار يستطير استطارة: انتشر. اللسان (طر).

(7)

تاريخ الطبري (3/ 231) والكامل لابن الأثير (2/ 338).

ص: 14

السَّكون لصهره فيهم

(1)

، وقاموا معه في ذلك، وبلغوا هذا الكتاب إلى عُمّال النبي صلى الله عليه وسلم، ومن قدروا عليه من الناس، واتَّفق اجتماعهم بقيس بن عبد يغوث أمير الجُنْد - وكان قد غضبَ على الأسود - واستخفَّ به، وهمَّ بقتله - وكذلك كان أمر فَيْروز الدَّيْلَمي، قد ضعف أيضًا، وكذا داذَوَيْه، فلما أعلم وبر بن يُحنَّس قيس بن عَبْدِ يَغُوث، وهو قيس بن مَكْشُوح، كان كأنّما نزلوا عليه من السَّماء، ووافقهم على الفَتْك بالأسود، وتوافق المسلمون على ذلك، وتعاقدوا عليه، فلما أيقنَ ذلك في الباطن اطَّلَعَ شيطان الأسود للأسود على شيء من ذلك، فدعا قَيْس بن مكشوح، فقال له: يا قَيْسُ ما يقولُ هذا؟ قال: وما يقول؟ قال يقول: عمدت إلى قيس فأكرمته حتى إذا دخل منه كلَّ مدخل، وصار في العزّ مثلَكَ، مال ميلَ عدوّك، وحاول ملكك، وأضمرَ على الغَدْر، إنّه يقول: يا أسودُ يا أسود يا سوءة يا سوءة، فطُفْ به وخُذْ من قيس أعلاه، وإلا سلبكَ وقطفَ قبلك، فقال له قيس وحلف له فكذب: وذي الخمار لأنتَ أعظمُ في نفسي وأجلُّ عندي من أن أحدّث بك نفسي، فقال له الأسودُ: ما إخالك تّكَذِّبُ المَلَك، فقد صدقَ المَلَكُ وعرفَ الآن أنَّك تائبٌ عما اطلع عليه منك، ثم خرج قيسٌ منِ بين يديه فجاء إلى أصحابه فيروز وداذويه، وأخبرهم بما قال له وردَّ عليه: فقالوا: إنّا كلُّنا على حَذرٍ، فما الرأيُ؟ فبينما هم يشتورون إذ جاءهم رسولُه فأحضرهم بين يديه، فقال: ألم أشَرِّفكم على قومكم؟ قالوا: بلى، قال: فماذا يبلغني عنكم؟ فقالوا: أقِلْنا مَرَّتنا هذه، فقال: لا يبلغني عنكم فأقيلكم، قال: فخرجنا من عنده ولم نكد، وهو في ارتيابٍ من أمرنا، ونحنُ على خطرٍ، فبينما نحن في ذلك إذ جاءتنا كتبٌ من عامر بن شَهْر، أمير هَمْدان، وذي ظُلَيْم، وذي كلاع، وغيرهم من أمراء اليمن، يبذلون لنا الطّاعة والنَّصْر، على مخالفة الأسود، وذلك حين جاءهم كتابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يَحُثُّهم على مصاولة الأسودِ العَنْسي، فكتبنا إليهم أن لا يُحْدِثُوا شيئًا حتى نبرم الأمر

(2)

قال قيس: فدخلت على امرأته زاذ، فقلت: يا ابنةَ عمّي قد عرفت بلاءَ هذا الرجل عند قومك، قتلَ زوجَك، وطأطأ

(3)

في قومك القتلَ، وفضحَ النساءَ، فهل عندك ممالأةٌ عليه؟ قالت: على أي أمر، قلتُ إخراجه، قالت: أو قتله، قلت: أو قتله، قالتْ: نعم، واللهِ ما خلقَ اللهُ شخصًا هو أبغضُ إليَّ منه، فما يقومُ لله على حقٍّ ولا ينتهي له عن حرمة، فإذا عزمتمْ أخبروني أعلمكم بما في هذا الأمر، قال فأخرج فإذا فيروز وداذويه، ينتظران يريدون أن يناهضُوه، فما استقرّ اجتماعُه بهما حتى بعثَ إليه الأسود فدخلَ في عشرةٍ من قومه، فقال: ألم أخبرك بالحقّ وتخبرني بالكذابة؟ إنه يقول: يا سوأة يا سوأة، إن لم تقطع من قيس يده يقطع رقبتك العليا، حتى ظنَّ فيسٌ أنّه قاتلُهُ، فقال: إنه ليس من الحقّ، إنّ أهلكَ وأنتَ رسول الله، فقتلي أحبّ إليَّ من موتاتٍ أموتُها كلَّ

(1)

في المطبوع: "فخربت عليه السكون لصبره فيهم" وهو تحريف ولا معنى له، والصواب ما أثبتنا، ويعضده ما في تاريخ الطبري (3/ 230):"فحدبوا لصهره علينا".

(2)

نبرم الأمر: ننفذ، بعد إمعان الرأي فيه.

(3)

طأطأ في قتلهم: اشتد وبالغ. اللسان (طأطأ).

ص: 15

يوم، فرقَّ له وأمره بالانصرافِ، فخرجَ إلى أصحابه فقال: اعملوا عملَكم، فبينما هم وقوف بالباب يشتورون، إذ خرجَ الأسودُ عليهم وقد جمعَ له مئةً ما بين بقرةٍ وبعيرٍ، فقام وخطَّ خطًا وأقيمت من ورائه، وقام دونها، فنحرها، غير مُحْبَسَةٍ ولا مُعقَّلة، ما يقتحم الخطّ منها شيء، فجالت إلى أن زهقت أرواحها، قال قيس: فما رأيتُ أمرًا كانَ أفظعَ منه، ولا يومًا أوحشَ منه، ثم قال الأسود: أحقٌّ ما بلغني عنكَ يا فيروز؟ لقد هممت أن أنحركَ فالحقكَ بهذه البهيمة، وأبدى له الحربةَ، فقال له فيروز: اخترتنا لصهرك، وفضلتنا على الأبناء، فلو لم تكن نبيًا ما بعنا نصيبنا منك بشيء، فكيف وقد اجتمع لنا بك أمرُ الآخرة والدنيا؟ فلا تقبلْ علينا أمثالَ ما يبلغُكَ، فانا بحيث تحبُّ، فرضي عنه وأمره بقسم لحوم تلك الأنْعام، ففرَّقها فيروز في أهل صنعاء، ثم أسرعَ اللحاقَ به، فإذا رجلٌ يحرّضُه على فيروز ويسعى إليه فيه، واستمع له فيروز، فإذا الأسود يقول: أنا قاتلُه غدًا وأصحابه، فاغْدُ عليَّ به، ثم التفت فإذا فيروز، فقال: مه، فأخبره فيروز بما صنعَ من قسم ذلك اللحم، فدخل الأسود داره، ورجع فيروز إلى أصحابه فأعلمهم بما سمعَ وبما قالَ وقيل له، فاجتمعَ رأيُهم على أن عاودوا المرأة في أمره، فدخلَ أحدهم - وهو فيروز - إليها فقالت: إنه ليس من الدار بيت إلا والحرس محيطون به، غير هذا البيت، فإن ظهره إلى مكان كذا وكذا من الطّريق، فإذا أمسيتُم فانقبوا عليه من دون الحرس، وليس من دون قتله شيءٌ، وإني سأضعُ في البيت سراجًا وسلاحًا، فلما خرج من عندها تلقّاهُ الأسودُ فقال له: ما أدخلك على أهلي؟ ووجأ رأسه، وكان الأسود شديدًا، فصاحت المرأةُ فأدهشته عنه، ولولا ذلك لقتله، وقالت: ابنُ عميّ جاءني زائرًا، فقال: اسكتي لا أبا لك، قد وهبتُه لكِ، فخرجَ على أصحابه فقال: النجاءَ النجاءَ، وأخبرهم الخبر، فحاروا ماذا يصنعون؟ فبعثت المرأةُ إليهم تقولُ لهم: لا تَنْثنوا عما كنتم عازمين عليه، فدخلَ عليها فيروزُ الدَّيلمي فاسْتَثْبَتَ منها الخبرَ، ودخلوا إلى ذلك البيت فنقبوا من داخله بطائن ليهونَ عليهم النقبُ من خارج، ثم جلسَ عندهما جهرةً كالزائر، فدخل الأسود فقال: وما هذا؟ فقالت: إنه أخي من الرّضاعة، وهو ابن عمّي، فنهره وأخرجَه، فرجعَ إلى أصحابه، فلما كان الليلُ نقبوا ذلك البيتَ فدخلوا فوجدوا فيه سراجًا تحتَ جفنةٍ فتقدّم إليه فيروز الديلمي والأسود نائمٌ على فراشٍ من حرير، قد غرقَ رأسُه في جسده، وهو سكرانُ يغطُّ، والمرأةُ جالسةٌ عنده، فلما قام فيروزُ على الباب أجلسَه شيطانهُ وتكلَّم على لسانه - وهو مع ذلك يغطُّ - فقال: مالي ومالكَ يا فيروزُ؟ فخشيَ إن رجعَ يهلكُ وتهلكُ المرأةُ، فعاجلَه وخالطه وهو مثلُ الجملِ فأخذَ رأسه فدقّ عنقه ووضع ركبتيه في ظهره حتى قتلَه، ثم قام ليخرجَ إلى أصحابه ليخبرهم، فأخذت المرأة بذيله وقالت: أين تذهبُ عن حرمتك. فظنَّتْ أنها لم تقتله، فقال: أخرج لأعلمهم بقتله، فدخلوا عليه ليحتّزوا رأسه، فحركه شيطانه فاضطرب، فلم يضبطوا أمره حتى جلس اثنان على ظهره، وأخذت المرأةُ بشعره، وجعلَ يبربرُ بلسانه فاحتزَّ الآخرُ رقبتَه، فخار كأشدّ خوارِ ثورٍ سُمع قطُّ، فابتدر الحرسُ إلى المقصورة، فقالوا: ما هذا ما هذا؟ فقالتِ المرأة: النبيّ يُوحى إليهِ، فرجعوا، وجلس قيسٌ وداذويه وفيروزُ يأتمرون كيف يعلمون أشياعَهم، فاتّققوا على أنّه إذا كان الصباحُ ينادون بشعارهم الذي بينهم وبين المسلمين، فلما كان الصباحُ قام

ص: 16

أحدُهم، وهو قيسٌ على سور الحصن فنادى بشعارهم. فاجتمع المسلمون والكافرون حول الحصن، فنادى قيسٌ ويقال: وبر بن يحنس، الأذان: أشهد أن محمدًا رسول الله، وأن عبهلة كذاب، وألقى إليهم رأسه فانهزم أصحابُه وتبعهم الناسُ يأخذونهم ويرصدونهم في كلّ طريقٍ يأسرونهم، وظهر الإسلام وأهلُه، وتراجعَ نواب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أعمالهم وتنازعَ أولئك الثلاثةُ في الإمارة، ثم اتَّفقوا على معاذِ بن جَبَلٍ يصلّي بالناس، وكتبوا بالخبر إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وقد أطلعَه الله على الخبر من ليلتِه، كما قال سيف بن عمر التميمي

(1)

عن أبي القاسم الشنوي، عن إلعلاء بن زياد

(2)

عن ابن عمر: أتى الخبرُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم من السماء الليلةَ التي قُتل فيه العنسي ليبشّرنا، فقال: قُتل العنسيُّ البارحةَ، قتله رجلٌ مباركٌ من أهل بيتٍ مباركين، قيل: ومنْ؟ قال: فيروزُ فيروزُ.

وقد قيل: إنَّ مدةَ مُلكه منذ ظهر إلى أن قتل ثلاثة أشهر، ويقال: أربعة أشهر، فالله أعلم.

وقال سيفُ بن عمر

(3)

: عن المُسْتَنير، عن عروة، عن الضحّاك، عن فيروز، قال:

قتلنا الأسودَ، وعاد أمرُنا في صنعاء كما كان إلا أنّا أرسلنا إلى معاذ بن جبل فتراضَيْنا عليه، فكان يُصلّي بنا في صنعاء، فوالله ما صلّى بنا إلا ثلاثةَ أيام حتى أتانا الخبرُ بوفاةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فانتقضت الأمور، وأنكرنا كثيرًا مما كنا نعرفُ، واضطربتِ الأرض.

وقد قدمنا أن خبرَ العنسي جاء إلى الصّدّيق في أواخر ربيع الأول بعدما جَهَّز جيشَ أسامة، وقيل: بل جاءت البشارةُ إلى المدينة صبيحةَ توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأول أشهر، والله أعلم.

والمقصود أنه لم يجئهم فيما يتعلق بمصالحهم واجتماع كلمتهم وتأليف ما بينهم والتمسّك بدين الإسلام إلا الصديق رضي الله عنه، وسيأتي إرساله إليهم من يمهِّد الأمور التي أضطربت في بلادهم ويقوّي أيدي المسلمين، ويثبّت أركان دعائم الإسلام فيهم، رضي الله عنهم.

‌فصل في تصدّي الصِّدّيق لِقتالِ أهلِ الرِّدة ومانِعي الزَّكاة

قد تقدَّم أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لمّا توفي ارتدَّت أحياءٌ كثيرةٌ من الأعراب، ونجمَ النّفاق بالمدينة، وانحازَ إلى مُسَيْلمَةَ الكَذَّاب بنوـ حَنيفةَ وخلقٌ كثيرٌ باليمامة، والتفَّت على طُلَيحة الأسدي بنو أَسَدٍ وطيِّء، وبشرٌ كثيرٌ أيضًا، وإدَّعى النبوَّة أيضًا، كما إدّعاها مُسَيْلمةُ الكَذَّاب، وعظمَ الخَطْبُ واشتدّتِ الحالُ، ونفذَ الصِّدّيق جيشَ أَسامةَ، فقلَّ الجندُ عند الصّدّيق فطمعت كثيرٌ من الأعراب في المدينة وراموا أن يهجموا

(1)

تاريخ الطبري (3/ 236).

(2)

في ط: زيد؛ تحريف، والتصحيح من الطبري وسير أعلام النبلاء (4/ 202).

(3)

تاريخ الطبري (3/ 236) والخبر أيضًا في الكامل لابن الأثير (2/ 341).

ص: 17

عليها، فجعلَ الصّدّيق على أنقابِ المدينةِ حُرّاسًا يبيتون بالجيوش حولَها، فمن أمراءِ الحرس: عليُّ بن أبي طالب، والزُّبَيْر بن العَوّام، وطَلْحةُ بن عبد الله، وسَعْدُ بن أبي وقاص، وعبدُ الرحمن بن عوف، وعبد الله بن مسعود، وجَعَلَتْ وفودُ العرب تقدم المدينة يقرُّون بالصلاة ويمتنعون من أداء الزكاة، ومنهم من امتنعَ من دفعها إلى الصّدّيق، وذكر أن منهم من احتَجَّ بقوله تعالى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة: 103] قالوا: فلسنا ندفعُ زكاتنا إلَّا إلى منْ صلاتُهُ سكنٌ لنا، وأنشد بعضهم:[من الطويل]

أطعنَا رسولَ اللهِ إذْ كانَ بَيْننا

فواعَجَبًا ما بَالُ مُلْكِ أبي بَكْرِ

وقد تكلَّم الصحابةُ مع الصّديق في أن يتركهم وما هم عليه من منعِ الزكاةِ ويتألَّفهم حتى يمكّنَ الإيمانُ في قلوبهم: ثم هم بعد ذلك يُزَكُّونَ، فامتنعَ الصّديق من ذلك وأباه.

وقد روى الجماعةُ في كتبهم سوى ابن ماجه

(1)

، عن أبي هريرة:

أنَّ عمرَ بن الخطاب قال لأبي بكر: علامَ تقاتلُ الناسَ؟ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتلَ الناسَ حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسولُ الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها". فقال أبو بكر: والله لو مَنَعوني عَناقًا، وفي رواِية: عِقالًا كانو يؤدّونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأقاتِلَنَّهم على منعها، إنَّ الزكاةَ حقُّ المال، واللهِ لأقاتِلَنَّ منْ فرَّقَ بينَ الصلاةِ والزكاةِ، قال عمر: فما هو إلا أن رأيتُ اللهَ قد شرحَ صدرَ أبي بكر للقتال، فعرفتُ أنه الحقُّ.

قلت: وقد قال الله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة:5].

وثبت في الصحيحين

(2)

: بُني الإسلام على خمسٍ: شهادةِ أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقامِ الصلاة، وإيتاءَ الزكاةِ، وحجِّ البيتِ، وصومِ رمضان.

وقد روى الحافظ ابن عساكر من طريقين عن شبَابة بن سوَّار: حدَّثنا عيسى بن يزيد المديني، حدَّثني صالح بن كيسان، قال: لما كانت الرّدّة قام أبو بكرٍ في الناس فحمدَ الله وأثنى عليه ثم قال: الحمدُ الله الذي هَدى فكَفَى، وأعْطى فأغْنَى، إن اللهَ بعثَ محمدًا صلى الله عليه وسلم والعلم شريد، والإسلام غريبٌ طريدٌ، قد رثَّ حبلُه، وخَلقَ عهدُه، وضلَّ أهلُه منه، ومقتَ الله أهل الكتاب فلا يعطيهم خيرًا لخير عندهم، ولا يصرف عنهم شرًا لشر عندهم، قد غيَّروا كتابهم، وألحقوا فيه ما ليس منه، والعربُ الآمنون يحسبون

(1)

رواه البخاري في صحيحه رقم (6924 وه 692) في استتابه المرتدين، ومسلم في صحيحه رقم (20) في الإيمان، وأبو داود في سننه رقم (1556) في الزكاة، والترمذي في جامعه رقم (2607) في الإيمان، والنسائي في سننه (5/ 14) في الزكاة وهو في مسند الإمام أحمد (2/ 528) وغيره. قال ابن حجر في فتح الباري (12/ 278): والعَناق - بفتح المهملة والنون - الأنثى من ولد المعز.

(2)

صحيح البخاري (8) في الإيمان، وصحيح مسلم (16 و 22) في الإيمان.

ص: 18

أنَّهم في مَنَعة من اللهِ لا يعبدونه ولا يدعونه، فأجهدهم عيشًا، وأضلَّهم دينًا، في ظلف

(1)

من الأرض مع ما فيه من السحاب، فختمهم الله بمحمدٍ، وجعلهم الأمة الوسطى، نصرهم بمن اتَّبعهم، ونصرهم على غيرهم، حتى قبض الله صلى الله عليه وسلم فركب منهم الشيطانُ مركبَهُ الذي أنزله عليه، وأخذ بأيديهم، وبغى هلكتهم {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144] إنّ منْ حولكم من العرب منعوا شاتَهم وبعيرَهم، ولم يكونوا في دينهم - وإن رجعوا إليه - أزهد منهم يومهم هذا، ولم تكونوا في دينكم أقوى منكم يومكم هذا، على ما تقدَّم من بركةِ نبيّكم صلى الله عليه وسلم، وقد وكلكم إلى المولى الكافي، الذي وجدَهُ ضالًا فهداه، وعائلًا فأغناه {وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} [آل عمران: 103] الآية، والله لا أدَعُ أن أقاتلَ على أمر الله حتى يُنْجزَ اللهُ وعدَه، ويوفي لنا عهدَه، ويُقْتل من قُتل منّا شهيدًا من أهل الجنة، ويَبْقَى من بَقي منها خليفَتَه، وذريَّته في أرضِهِ، قضاءُ اللهِ الحقُّ، وقولُه الذي لا خلفَ له {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ} [النور: 55] الآية، ثم نزلَ.

وقال الحسن وقتادة وغيرهما في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54] الآية، قالوا: المرادُ بذلك أبو بكر وأصحابُه، في قتالهم المُرْتدِّين، ومانعي الزكاة

(2)

.

وقال محمد بن إسحاق: ارتدَّتِ العربُ عند وفاةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما خلا أهل المسجدين، مكة، والمدينة، وارتدَّت أسد وغطفان وعليهم طُلَيْحة بن خُوَيْلدٍ الأسدي الكاهن، وارتدَّت كندةُ ومن يليها، وعليهم الأشعثُ بن قيس الكِنْدي، وارتدَّتْ مَذْحجٌ ومن يليها، وعليهم الأسود بن كعب العَنْسي الكاهن، وارتدَّتْ ربيعةُ مع المعرور بن النعمان بن المنذر، وكانت حنيفةُ مقيمةً على أمرها مع مُسَيْلمة بن حبيب الكذّاب، وارتدَّت سليم مع الفجاءة، واسمه أنس بن عبد يا ليل، وارتدَّتْ بنو تَميم مع سَجَاحِ الكاهنة.

وقال القاسم بن محمد

(3)

: اجتمعت أسد وغطفان وطيء على طُلَيْحة الأسدي، وبعثوا وفودًا إلى المدينة، فنزلوا على وجوه الناس فأنزلوهم إلا العباس، فحملوا بهم إلى أبي بكر، على أن يقيموا الصلاة ولا يؤتوا الزكاة، فعزم الله لأبي بكر على الحق وقال: لو مَنَعوني عِقالًا لجاهَدْتُهم، فردَّهم فرجَعوا إلى عشائرهم، فأخبروهم بقلَّة أهل المدينة، وطمَّعوهم فيها، فجعلَ أبو بكر الحرسَ على أنقاب

(4)

المدينة، وألزمَ أهلَ المدينة بحضور المسجد وقال: إنّ الأرضَ كافرةٌ، وقد رأى وفدهم منكم قلّةً، وانكم لا تدرون ليلًا يأتون أم نهارًا، وأدناهم منكم على بريدٍ، وقد كان القومُ يُؤَمِّلون أن نقبل منهم

(1)

الظَلَف من الأرض - بفتح الظاء واللام - الغليظ الصلب من الأرض مما لا يبين فيه أثر. اللسان (ظلف).

(2)

تفسير ابن كثير (2/ 595) طبعة دار الأندلس.

(3)

تاريخ الطبري (3/ 244 - 248).

(4)

أنقاب: جمع نَقْب ونُقب: الطريق. اللسان (نقب).

ص: 19

نوادعهم وقد أبَيْنا عليهم، فاستعدّوا وأعدّوا، فما لبثوا إلَّا ثلاثًا حتى طرفُوا المدينة غارةً، وخلَّفوا نصفَهم بذي حُسَى ليكونوا ردءًا لهم، وأرسلَ الحرس إلى أبي بكر يخبرونه بالغارةِ، فبعث إليهم: أن الْزموا مكانَكم. وخرج أبو بكر في أهل المسجد على النَّواضِح

(1)

إليهم، فانفشَّ العدوُّ واتَّبعهم المسلمونَ على إبلهم، حتى بلغوا ذا حُسًى

(2)

، فخرجَ عليهم الرِّدْء فالتقوا مع الجمع، فكان الفتح وقد قال:[من الطويل]

أطعَنْا رسولَ الله ما كانَ وَسطَنا

فَيا لعبادِ الله ما لأبي بكرِ

أيورثنا بَكْرًا إذا ماتَ بعدَه

وتِلكَ لَعمرُ الله قاصِمَةُ الظَّهرِ

فَهَّلا رَدَدتُم وَفْدنا بِزَمانِهِ؟

وَهلَّا خَشِيتُم حِسَّ راغيةِ البكرِ؟

وإنَّ التي سألوكموا فمَنَعْتُموا

لكالتَّمرِ أو أحلى إليَّ منَ التَّمر

وفي جمادى الآخرة ركب الصّدّيقُ في أهل المدينة وأمراءِ الأنقاب، إلى من حول المدينة من الأعراب الذين أغاروا عليها، فلما تواجه هو وأعداؤه من بني عَبْسٍ، وبني مُرَّة، وذبيان، ومنْ ناصب معهم من بني كنانة، وأمدَّهم طُلَيْحة بابنه حبال، فلما تواجه القوم كانوا قد صنعوا مكيدةً وهي أنهم عمدوا إلى أنحاء

(3)

فنفخوها ثم أرسلوها من رؤوس الجبال، فلما رأتها إبلُ أصحاب الصديق نفرت وذهبت كلَّ مذهبٍ، فلم يملكوا من أمرها شيئًا إلى الليل، وحتى رجعت إلى المدينة، فقال في ذلك الخُطَيْل بن أوس:[من الطويل]

فِدىً لِبَني ذبيان رحلي وناقتي

عَشِيَّةَ يَحدي

(4)

بالرِّماحِ أبو بكر

ولكن يُدَهْدى

(5)

بالرِّجَالِ فَهَبنهُ

إلى قدر ما أن تقيمَ ولا تسري

(6)

ولله أجنادٌ تُذاقُ مَذَاقَهُ

لِتُحسبَ فيما عُدَّ من عَجَب الدَّهرِ

أطعنا رسولَ الله ما كان بينَنا

فَيا لعبادِ الله ما لأبي بَكرِ

فلما وقع ما وقع ظنَّ القوم بالمسلمين الوَهن، وبعثوا إلى عشائرهم من نواحي أُخَر، فاجتمعوا، وباتَ أبو بكر رضي الله عنه قائمًا ليله يُعَبِّئُ الناسَ، ثم خرجَ على تعبئة من آخر الليل، وعلى ميمنته النُّعمانُ بن مُقَرِّنٍ، وعلى المَيْسرة أخوه عبد الله بن مُقرِّن، وعلى السَّاقةِ أخوهما سُويد بن مُقرِّن، فما طلعَ الفجرُ إلا وهم والعدوُّ في صعيدٍ واحدٍ، فما سمعوا للمسلمين حسًا ولا همسًا، حتى وضعوا فيهم السيوف، فما طلعتِ الشمسُ حتى ولُّوهم الأدبار، وغلبوهم على عامةِ ظهرهم، وقُتل حبال، واتَّبعهم أبو بكر حتى نزل بذي القصة، وكان أول الفتح، قى ذلّ بها المشركون، وعزّ بها المسلمون، ووثب بنو

(1)

النَّواضح من الإبل: التي يستقى عليها واحدها ناضح. اللسان (نضح).

(2)

ذو حُسى: واد بأرض الشِّرْبّة من ديار عبس وغطفان. معجم البلدان (2/ 258).

(3)

الأنحاء: جمع نحو وهو الظرف. اللسان (نحو).

(4)

في الطبري (3/ 245): يحذى.

(5)

دهده ودهدى يدهدي: دحرج وقلب بعضه على بعض. اللسان (دهده).

(6)

في الطبري: إلى قدرٍ ما إن يزيدُ ولا يَحري.

ص: 20

ذبيان وعَبْس على منْ فيهم من المسلمين فقتلوهم، وفعل منْ وراءهم كفعلهم، فحلفَ أبو بكر ليقتلنَّ من كلِّ قبيلةٍ بمنْ قتلوا من المسلمين وزيادة، ففي ذلك يقول زياد بن حنظلة التميمي:[من الوافر]

غَداةَ سعَى أبو بكر إليهم

كما يَسْعى لموتَتِهِ حَلالُ

أراحَ على نواهِقِها عَلَّيًا

ومَجَّ لَهُنَّ مُهجَتَهُ حبالُ

وقال أيضًا: [من الطويل]

أقمنَا لَهم عُرضَ الشِّمالٍ فَكُبكِبوا

(1)

كَكَبْكبةِ الغُزَّى

(2)

أنَاخُوا على الوفْرِ

فما صَبرُوا لِلْحرْبِ عِنْدَ قيامها

صَبيحةَ يَسْمُوا بالرِّجَالِ أبو بكْرِ

طَرقْنا بني عَبْس بأدنَى نِبَاجِها

(3)

وَذُبيانَ نَهنَهْنَا

(4)

بِقاصِمَة الظَّهرِ

(5)

فكانت هذه الوقعةُ من أكبر العونِ على نَصْرِ الإسلام وأهله، وذلك أنه عزَّ المسلمون في كلّ قبيلةٍ، وذلَّ الكفار في كلّ قبيلة، ورجعَ أبو بكر إلى المدينة مؤيَّدًا مَنْصورًا، سالمًا غانمًا، وطرقتِ المدينة في الليل صدقات عديّ بن حاتم، وصفوان والزّبرقان، إحداها في أول الليل، والثانية في أوسطه، والثالثة في آخره، وقدم بكلّ واحدة منهن بشيرٌ من أمراء الأنقاب، فكان الذي بشّر بصفوان سعد بن أبي وقاص، والذي بشَّر بالزبرقان عبد الرحمن بن عوف، والذي بشَّر بعدي بن حاتم عبد الله بن مسعود، ويقال: أبو قتادة الأنصاري رضي الله عنه

(6)

.

وذلك على رأس ستّين ليلةً من متَوَفَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثم قدم أسامة بن زيد بعد ذلك بليالٍ

(7)

فاستخلفَهُ أبو بكر على المدينة، وأمرهم أن يريحوا ظهرهم، ثم ركب أبو بكر في الذين كانوا معة، في الواقعة المتقدمة، إلى ذي القصة، فقال له المسلمون: لو رجعتَ إلى المدينة وأرسلتَ رجلًا، فقال: والله لا أفعل، ولأواسينَّكم بنفسي، فخرج في تعبئته، إلى ذي حسى وذي القصة، والنعمان وعبد الله وسويد بنو مقرِّن علىما كانوا عليه، حتى نزلَ على أهل الرَّبَذة بالأبرق وهناك جماعةٌ من بني عبس وذبيان، وطائفة من بني كنانة، فاقتتلوا فهزم الله الحارث وعوفًا، وأُخذ الحطيئةُ أسيرًا، فطارت بنو عبس وبنو بكر، وأقام أبو بكر على الأبرق أيامًا وقد غلبَ بني ذبيان على البلادِ، وقال: حرام على بني ذبيان أن يتملّكوا هذه البلاد، إذ غنمناها الله وحمى

(1)

كُبْكبوا: دُحْوِووا وجمعوا، طرح بعضهم على بعض. اللسان (كبب).

(2)

الغُزّى: جمع غاز.

(3)

النباج: شدة الصوت. اللسان (نبج).

(4)

نهنهتُ فلانًا، إذا زجرته فتنهنه أي فكففته فكفَّ. اللسان (نهنه).

(5)

الأبيات في تاريخ الطبري (3/ 247).

(6)

تاريخ الطبري (3/ 247).

(7)

المصدر نفسه.

ص: 21

الأبرق بخيول المسلمين، وأرعى سائر بلاد الرَّبَذة. ولما فرَّت عبس وذبيان صاروا إلى مؤازرة طليحة وهو نازل على بُزاخة، وقد قال في يوم الأبرق زيادُ بن حنظلة:[من الوافر]

وَيَومٌ بالأبارقِ قد شَهِدْنا

على ذبيان يلتهبُ التِهابا

أتيناهم بداهيةٍ نَسُوفٍ

مَعَ الصِّديق إذ تركَ العِتابا

‌خروجُه إلى ذي القصَّة حينَ عقدَ ألويةَ الأمراءِ الأحَدَ عَشَرَ

وذلك بعدما جمَّ جيش أسامة واستراحوا، ركبَ الصّدّيقُ أيضًا في الجيوش الإسلامية شاهرًا سيفه مسلولًا، من المدينة إلى ذي القصة، وهي من المدينة على مرحلةٍ، وعليُّ بن أبي طالب يقودُ براحلةِ الصّدّيق رضي الله عنهما، كما سيأتي، فسأله الصحابةُ، منهم عليٌّ وغيره، وألحّوا عليه أن يرجع إلى المدينة، وأن يبعثَ لقتالِ الأعراب غيره ممن يؤمِّره من الشجعانِ الأبطال، فأجابهم إلى ذلك، وعقدَ لهم الألويةَ لأحدَ عشرَ أميرًا، على ما سنفصِّله قريبًا إن شاء الله.

وقد روى الدارقطني

(1)

من حديث عبد الوهاب بن موسى الزُّهري، عن مالك، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيّب، عن ابن عمرَ قال: لما برزَ أبو بكر إلى القصّة واستوى على راحلته، أخذ عليُّ بن أبي طالب بزمامها وقال: إلى أين يا خليفةَ رسولِ الله؟ أقول لك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحُدٍ: لمّ سيفَكَ ولا تَفْجَعْنا بنفسك، وارجع إلى المدينة، فواللهِ لئن فُجعنا بك لا يكونُ للإسلام نظامٌ أبدًا، فرجع.

هذا حديث غريب من طريق مالك، وقد رواهُ زكريا السّاجي من حديث عبد الوهاب بن موسى بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف، والزهري أيضًا عن أبي الزّناد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: خرجَ أبي شاهرًا سيفَه راكبًا على راحلته إلى وادي القصّة، فجاء عليُّ بن أبي طالب فأخذَ بزمام راحلتِه فقال: إلى أينَ يا خليفةَ رسول الله؟ أقول لك ما قالَ رسولُ الله يومَ أُحُدٍ: "لمَّ سيفَكَ ولا تَفْجَعْنا بنفسِك، فواللهِ لئن أُصبنا بك لا يكونُ للإسلام بعدكَ نظامٌ أبدًا". فرجع وأمضى الجيش.

وقال سيفُ بن عمر

(2)

: عن سهل بن يوسف، عن القاسم بن محمد: لما استراحَ أسامةُ وجندُه، وفد جاءت صدقاتٌ كثيرةٌ تفضل عنهم، قطع أبو بكر البعوث، وعقد الألوية: فعقد أحدَ عَشَرَ لواءً:

عقدَ لخالد بن الوليد وأمره بطُلَيْحة بن خُوَيْلد، فإذا فرغَ سار إلى مالك بن نُوَيْرَةَ بالبطاح إن أقام له.

ولعكرمة بن أبي جهل، وأمره بمُسَيْلمة.

وبعث شرحبيل بن حَسَنة في أثره إلى مُسَيْلمة الكَذّاب، ثم إلى بني قُضاعة.

(1)

لعله روى ذلك في كتاب "غرائب مالك" ولم يصل إلينا.

(2)

تاريخ الطبري (3/ 249).

ص: 22

وللمهاجر بن أبي أمية، وأمره بجنود العَنْسي، ومعونة الأبناء على قيس بن مَكْشوح.

قلت: وذلك لأنه كانَ قد نزع يده من الطاعة، على ما سيأتي.

قال: ولخالد بن سعيد بن العاص إلى مشارف الشام.

ولعمرو بن العاص إلى جماع قضاعة ووديعة والحارث.

ولحذيفة بن محصن الغطفاني وأمره بأهل دبا وبعرفجة وهرثمة وغير ذلك.

ولطرفة بن حاجب، وأمره ببني سليم ومن معهم من هوازن.

ولسويد بن مُقرِّن، وأمره بتهامة اليمن.

وللعلاء بن الحَضْرمي، وأمره بالبحرين، رضي الله عنهم.

وقد كتب لكلِّ أمير كتاب عهده على حدته، ففصل كل أمير بجنده من ذي القصّة.

ورجع الصِّدِّيق إلى المدينة، وقد كتب معهم الصديق كتابًا إلى المُرْتَدَّة

(1)

وهذه نسخته

(2)

:

"بسم الله الرحمن الرحيم من أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منْ بلغه كتابي هذا، من عامةٍ وخاصةٍ، أقامَ على إسلامه أو رجعَ عنه، سلامٌ على من اتَّبع الهُدى، ولم يرجع بعدَ الهُدَى إلى الضلالةِ والهَوى، فإني أحمدُ اللهَ إليكم الذي لا إلهَ إلا هو، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأن محمدًا عبدُهُ ورسولُه، نقرُّ بما جاء به، ونُكَفِّر من أبى ذلك ونجاهده. أما بعدُ فإن الله أرسلَ بالحقّ من عنده، إلى خلقه بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذْنِه وسراجًا منيرًا، لينذرَ منْ كان حيًّا ويحقّ القولُ على الكافرين، فهدى الله بالحق منْ أجابَ إليه، وضربَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم منْ أدبرَ عنه، حتى صار إلى الإسلام طوعًا أو كرهًا، ثم تَوفَّى اللهُ رسولَه، وقد نفَّذَ لأمر الله، ونصحَ لأمته، وقضَى الذي عليه، وكان الله قد بيَّن له ذلك، ولأهل الإسلام في الكتاب الذي أنزل فقال:{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30] وقال: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء: 34] وقال للمؤمنين: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144] فمن كان إنّما يعبدُ محمدًا فإن محمدًا قد ماتَ، ومنْ كانَ إنما يعبدُ اللهَ فإنَّ اللهَ حيٌّ لا يموتُ، ولا تأخذُهُ سنةٌ ولا نومٌ، حافظٌ لأمره، مُنْتقمٌ من عدوِّه. وإني أوصيكُمْ بتَقْوى الله وحظكم ونصيبكم وما جاءكم به نبيكم صلى الله عليه وسلم وأن تهتدوا بهداه، وأن تعتصموا بدينِ الله، فإنَّ كلَّ منْ لم يهدِهِ اللهُ ضالٌّ، وكلّ منْ لم يُعِنْهُ اللهُ مخذولٌ، ومنْ هداهُ غيرُ اللهِ كانَ ضالًّا، قال الله تعالى:{مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [الكهف: 17] ولن يُقْبَلَ له في الدنيا عملٌ حتى يقَّر به، ولن يُقْبَلَ له في الآخرة صرفٌ ولا عدلٌ، وقد بلغني رجوعُ منْ رَجَعَ منكم عن دينه بعد أن أقرَّ

(1)

في المطبوع: "الربذة" وهو تحريف عجيب!

(2)

نص الكتاب في تاريخ الطبري (3/ 250).

ص: 23

بالإسلامِ وعملَ به، اغترارًا بالله وجهلًا بأمره، وإجابة للشيطان، قال الله تعالى:{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف: 50] وقال: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 6] وإني بعثتُ إليكم فلانًا في جيشٍ من المهاجرين والأنصار، والتّابعين بإحسان، وأمرتُه أن لا يقبلَ من أحدٍ إلَّا الإيمان بالله، ولا يقتله حتى يدعوه إلى الله عز وجل، فإن أجابَ وأقرَّ وعملَ صالحًا قُبل منه، وأعانه عليه، وإن أبى حاربَه عليه حتى يفيءَ إلى أمر الله، ثم لا يُبْقي على أحدٍ منهم قدرَ عليه، وأن يحرقهم بالنار وأن يقتلهم كلَّ قتلة، وأن يسبيَ النساءَ والذَّراري ولا يقبل من أحدٍ غير الإسلام، فمن اتَّبعه فهو خيرٌ له، ومن تركَه فلن يعجزَ اللهَ، وقد أمرتُ رسولي أن يقرأ كتابه في كلِّ مَجْمعٍ لكم، والداعية الأذان، فإذا إذَّنَ المسلمون فأذنوا فكُفُّوا عنهم، وإن لم يُؤَذِّنوا فسلوهم ما عليهم، فإن أبوا عاجِلوهم، وإن أقرُّوا حُمِل منهم على ما ينبغي لهم".

رواه سيفُ بن عمر عن عبد الله بن سعيد عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك.

‌فصل في مَسِيرةِ الأُمراءِ من ذي القصة على ما عُوهدوا عليه

وكان سيدَ الأمراءِ ورأس الشُّجعان الصَّناديد أبو سليمان خالد بن الوليد.

روى الإمام أحمد

(1)

من طريق وَحْشي بن حَرْب، أن أبا بكر الصديق لما عقدَ لخالدِ بن الوليدِ على قتالِ أهلِ الرِّدَّة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "نعم عبدُ الله وأخو العشيرة، خالدُ بن الوليد، سيفٌ من سيوف الله سلَّه اللهُ على الكفار والمنافقين".

ولما توجَّهَ خالد

(2)

من ذي القصة وفارقَه الصديقُ، واعده أنَّه سيلقاهُ من ناحيةِ خيبر بمن معه من الأمراء - وأظهروا ذلك ليرعبوا الأعرابَ - وأمره أن يذهبَ أولًا إلى طُلَيْحة الأسدي، ثم يذهب بعده إلى بني تميم، وكان طلَيْحة بن خُوَيْلد في قومه بني أسد، وفي غطفان، وانضمّ إليهم بنو عبس وذبيان، وبعث إلى بني جديلة والغوث وطيِّئ يستدعيهم إليه، فبعثوا أقوامًا منهم بين أيديهم، ليلحقوهم على أثرهم سريعًا، وكان الصديق قد بعثَ عديَّ بن حاتم قبل خالد بن الوليد، وقال له: أدرك قومك لا يلحقوا بطليحة فيكون دمارهم، فذهب عدي إلى قومه بني طيِّئ فأمرهم أن يبايعوا الصديق، وأن يراجعوا أمر الله، فقالو: لا نبايع أبا الفضل أبدًا - يعنون أبا بكر رضي الله عنه فقال: والله ليأتينكم جيش فلا يزالون يقاتلونكم حتى تعلموا أنَّه أبو الفحل الأكبر، ولم يزل عدي يفتل لهم في الذروة والغارب

(1)

مسند الإمام أحمد (1/ 8) رقم (43) وهو حديث صحيح بطرقه وشواهده.

(2)

الخبر في تاريخ الطبري (3/ 253) والكامل لابن الأثير (2/ 347).

ص: 24

حتى لانوا، وجاء خالد في الجنود وعلى مقدمة الأنصار الذين معه ثابت بن قيس بن شمَّاس، وبعث بين يديه ثابتَ بن أقرمَ، وعُكَّاشةَ بن محصن طليعةً، فتلقاهما طُلَيْحةُ وأخوه سلمة فيمن معهما، فلما وجدا ثابتًا وعُكَّاشة تبارزوا فقتل عُكَّاشة حبال

(1)

بن طُلَيْحة، وقيل: بل كان قتل حبالًا قبل ذلك وأخذ ما معه، وحمل عليه طُلَيْحة فقتله وقَتل هو وأخوه سلمة، ثابتَ بن أقرم، وجاء خالد بمن معه فوجدوهما صريعين، فشقّ ذلك على المسلمين. وقد قال طليحة في ذلك

(2)

: [من الطويل]

عَشِيَّةَ غَادَرْتُ ابنَ أقرَمَ ثاويًا

وعُكَّاشةَ الغَنْميَّ تَحتَ مَجَالِ

أقَمْتُ لَهُ صَدْرَ الحمالةٍ

(3)

إنَّها

معوَّدةٌ قبلَ الكُمَاةِ نَزالِ

فيومًا تراها في الجلالِ مَصُونةً

وَيَومًا تَراها في ظِلال عوالي

وإن يَكُ أولادٌ أُصِبْنَ ونسوةٌ

فلمْ يَذهبوا فُرغًا بقتلِ حِبَالِ

ومال خالدٌ إلى بني طيِّئ، فخرج إليه عديُّ بن حاتم فقال: أنْظِرْني ثلاثةَ أيامٍ، فإنَّهم قد استنظروني حتى يبعثوا إلى منْ تعجَّل منهم إلى طُلَيْحةَ حتى يرجعوا إليهم، فإنهم يخشون إن تابعوكَ أن يقتلَ طليحةُ من سار إليه منهم، وهذا أحبُّ إليك من أن يعجلهم إلى النار، فلما كان بعد ثلاثٍ جاءه عديٌّ في خمسمئة مقاتلٍ ممَّن راجعَ الحقَّ، فانضافوا إلى جيش خالدٍ وقصد خالدٌ بني جديلة

(4)

فقال له: يا خالد، أجِّلني أيامًا حتى آتيهم فلعلَّ الله أن ينقذهم كما أنقذَ طَيِّئًا، فأتاهم عديٌّ فلم يزل بهم حتى تابعوه، فجاء خالدًا بإسلامهم، ولحق بالمسلمين منهم ألفُ راكبٍ، فكان عديٌّ خيرَ مولودٍ وأعظمَهُ بركةً على قومه، رضي الله عنهم.

قالوا: ثم سارَ خالدٌ حتى نزلَ بأجأ وسَلْمى، وعَبَّأ جيشَه هنالك والتقى مع طُلَيْحة الأسديِّ بمكانٍ يقال له: بُزاخَة

(5)

، ووقفتْ أحياءٌ كثيرةٌ من الأعراب ينظرون على منْ تكونُ الدائرةُ، وجاء طُلَيْحة فيمن معه من قومه ومن التفَّ معهم وانضافَ إليهم، وقد حضر معه عُيَيْنة بن حصن في سبعمئة من قومه، بني فزارة، واصطفّ الناسُ، وجلس طُلَيْحةُ مُلْتفًا في كساءٍ له يَتَنبّأ لهم ينظر ما يُوحى إليه فيما يزعم، وجعلَ عيينةُ يقاتلُ ما يقاتلُ، حتى إذا ضجرَ من القتال يجيء إلى طُلَيْحةَ وهو مُلْتفٌّ في كسائه فيقول: أجاءك

(1)

في ط: جبال بالجيم. قال ابن الأثير (2/ 349): حبال؛ بكسر الحاء المهملة، وفح الباء الموحدة، وبعد الألف لام.

(2)

البيت الأول في الاشتقاق لابن دريد (551) والأبيات خمسة في السيرة النبوية لابن هشام (1/ 637) برواية وترتيب مختلفين.

(3)

في هامش السيرة؛ أن الحمالة اسم فرس طليحة.

(4)

في المطبوع: أديلة؛ والتصحيح من تاريخ الطبري والكامل لابن الأثير.

(5)

"بُزَاخة": بالضم والخاء المعجمة: ماء لطيِّئ بأرض نجد، وقيل لبني أسد، كانت فيه وقعة عظيمة في أيام أبي بكر الصديق مع طليحة الأسدي. معجم البلدان (1/ 408).

ص: 25

جبريلُ؟ فيقول: لا، فيرجع فيقاتل، ثم يرجع فيقول له مثلَ ذلك ويردّ عليه مثل ذلك، فلما كان في الثالثة قال له: هل جاءك جبريلُ؟ قال: نعم، قال؟ فما قال لك؟ قال: قال لي: إنَّ لكَ رحاءً كرحاه، وحديثًا لا تنساه، قال يقول عيينة: أظنّ أن قد علم الله سيكون لك حديث لا تنساه، ثم قال: يا بني فزارة انصرفوا، وانهزمَ وانهزمَ الناسُ عن طُلَيْحة، فلما جاءه المسلمون ركب على فرس كان قد أعدّها له، وأركبَ امرأتَه النُّوار على بعيرٍ له، ثم انهزمَ بها إلى الشام وتفرَّق جمعُه، وقد قتل الله طائفةً ممن كان معه، فلما أوقعَ الله بطليحةَ وفزارة ما أوقع، قالت بنو عامر وسليم وهوازن: ندخلُ فيما خرجنا منه، ونؤمن بالله ورسوله، ونسلِّم لحكمه في أموالنا وأنفسنا.

قلت: وقد كان طُلَيْحةُ الأسديُّ ارتدَّ في حياةِ النبي صلى الله عليه وسلم فلما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم قام بمؤازرته عُيَيْنة بن حصن من بدر، وارتدَّ عن الإسلام، وقال لقومه: والله لنبيٌّ من بني أسدٍ أحبُّ إليَّ من نبيٍّ من بني هاشم، وقد مات محمدٌ وهذا طُلَيْحةُ فاتَّبعوه، فوافق قومُه بنو فزارة على ذلك، فلما كسرهما خالدٌ هربَ طُلَيْحةُ بامرأته إلى الشام، فنزل على بني كلبٍ، وأسر خالدٌ عيينةَ بن حصن، وبعثَ به إلى المدينة مجموعة يداه إلى عنقه، فدخل المدينةَ وهو كذلك فجعلَ الولدانُ والغلمانُ يطعنونه بأيديهم، ويقولون: أي عدوَّ الله، ارتددتَ عن الإسلام؟ فيقول: والله ما كنتُ آمنتُ قطُّ، فلما وقفَ بين يدي الصّدّيق استتابه وحقنَ دمه، ثم حَسُنَ إسلامُه بعد ذلك، وكذلك منَّ على قرّة بن هبيرة، وكان أحد الأمراء مع طُلَيْحة، فأسره مع عُيَيْنة، وأما طُلَيْحة فإنه راجعَ الإسلام بعد ذلك أيضًا، وذهب إلى مكةَ مُعتمرًا أيامَ الصّدّيق، واستحيى أن يواجهه مدةَ حياتِه، وفد رجعَ فشهدَ القتالَ مع خالدٍ، وكتبَ الصّدّيق إلى خالدٍ، أن استَشِرْهُ في الحرب ولا تُؤَمِّره - يعني معاملته له بنقيض ما كان قصده من الرئاسة في الباطن - وهذا من فقه الصّدّيق رضي الله عنه وأرضاه.

وقد قال خالد بن الوليد لبعض أصحاب طُلَيْحة ممَّنْ أسلمَ وحَسُنَ إسلامُه: أخبرنا عمّا كان يقولُ لكم طُلَيْحةُ من الوحي، فقال: إنه كان يفول: الحمام واليمام، والصُّرد الصَّوَّام، قد صُمن قبلكم بأعوام ليبلغنَّ ملكنا العراقَ والشام، إلى غير ذلك من الخرافات والهذيانات السمجة.

وقد كتب أبو بكر الصديق إلى خالد بن الوليد حين جاءه أنه كسر طليحة ومن كان في صفه وقام بنصره فكتب إليه: ليزدك ما أنعم الله به خيرًا واتقِ الله في أمرك، فإن الله مع الذين اتَّقَوْا والذين هم محسنون، جدّ في أمرك ولا تلنْ ولا تظفر بأحد من المشركين قتل من المسلمين إلا نكَّلْتَ به، ومن أخذت ممن حادَّ الله أو ضادَّه ممن يرى أن في ذلك صلاحًا فاقتله.

فأقام خالد

(1)

ببُزاخةَ شهرًا، يُصعِّدُ فيها ويُصوِّبُ ويرجعُ إليها في طلب الذين وصَّاه بسببهم الصديق، فجعل يتردّد في طلب هؤلاء شهرًا يأخذه بثأر من قتلوا من المسلمين الذين كانوا بين أظهرهم حين ارتدّوا،

(1)

تاريخ الطبري (3/ 262) والكامل لابن الأثير (2/ 350).

ص: 26

فمنهم من حرَّقَهُ بالنار، ومنهم من رَضَخهُ بالحجارة، ومنهم من رَمَى به من شواهقِ الجبال، كلّ هذا ليعتبرَ بهم من يسمعُ بخبرهم من مُرْتدَّةِ العرب، رضي الله عنه.

وقال الثوري عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب قال: لما قدم وفد بُزَاخة - أسد وغطفان - على أبي بكر يسألونه الصلحَ، خَيَّرهم أبو بكر بين حرب مجليَّة أو خطة مخزية، فقالوا: يا خليفة رسول الله أما الحرب المجليَّة فقد عرفناها، فما الخطة المخزية؟ قال: تؤخذ منكم الحلقة والكراع وتتركون أقوامًا يتبعون أذناب الإبل حتى يُرِيَ اللهُ خليفة نبيه والمؤمنين أمرًا يعذرونكم به، وتؤدّون ما أصبتم منا، ولا نؤدي ما أصبنا منكم، وتشهدون أنّ قتلانا في الجنة وأن قتلاكم في النار، وتدون قتلانا ولا ندي قتلاكم، فقال عمر: أما قولك: تدون قتلانا، فإنّ قتلانا قتلوا على أمر الله لا ديات لهم، فامتنع عمر وقال عمر في الثاني: نعم ما رأيت.

ورواه البخاري

(1)

من حديث الثوري بسنده مختصرًا.

‌وقعة أخرى

كان قد اجتمع طائفةٌ كثيرةٌ من الفُلَّال

(2)

يوم بُزاخة من أصحاب طُلَيْحة، من بني غطفان فاجتمعوا إلى امرأةٍ يُقال لها: أم زمل - سلمى بنت مالك بن حذيفة - وكانت من سيِّداتِ العرب، كأمِّها أمّ قِرفة، وكان يُضربُ بأمها المثلُ في الشَّرفِ لكثرةِ أولادها

(3)

وعزَّةِ قَبيلتها وبيتها، فلما اجتمعوا إليها ذمرتْهم لقتال خالد، فهاجوا لذلك، وتأشَّب

(4)

إليهم آخرون من بني سليم وطيِّئ وهوازن وأسد، فصاروا جيشًا كثيفًا وتفحَّل أمرُ هذه المرأة، فلما سمعَ بهم خالد بن الوليد سار إليهم، واقتتلوا قتالًا شديدًا وهي راكبةٌ على جملِ أمِّها الذي كانَ يُقال له: منْ يَمسُّ جَمَلها فله مئةٌ من الإبلِ وذلك لعزِّها، فهزمهم خالدٌ وعقرَ جَمَلها وقتلَها وبعثَ بالفتح إلى الصِّدّيق رضي الله عنه.

‌قصة الفجاءة

(5)

واسمه إياسُ بن عبد الله بن عَبد يا ليل بن عميرة بن خفاف من بني سليم، قاله ابن إسحاق، وقد كان الصّدّيق حرقَ الفجاءةَ بالبقيع في المدينة، وكان سببه أنَّه قدمَ عليه فزعمَ أنه أسلمَ، وسأل منه أن يجهز معه

(1)

صحيح البخاري (7221) في الأحكام.

(2)

هم قوم فُلٌّ: منهزمون، والجمع فُلول وفُلال. اللسان (فلل). والخبر في تاريخ الطبري (3/ 267) والكامل لابن الأثير (2/ 350).

(3)

ذكر الطبري أولادها: قُرَفة وحَكَمة وجُراشة وزِمْلًا وحُصينًا وشَريكًا وعبدًا وزُفَر ومُعاوية وحمَلة وقَيسًا ولأيًا.

(4)

تأشب: التجأ.

(5)

الخبر بأطول مما هنا في تاريخ الطبري (3/ 264) والكامل لابن الأثير (2/ 350).

ص: 27

جيشًا يقاتل به أهل الرِّدَّة، فجهَّز معه جيشًا، فلما سار جعل لا يمرّ بمسلمٍ ولا مُرْتدٍّ إلا قتلَه وأخذَ ماله، فلما سمعَ الصّديقُ بعث وراءه جيشًا فردَّه، فلما أمكنَه بعثَ به إلى البقيع، فجُمعت يداه إلى قفاه وأُلقي في النار فحرقه وهو مقموط.

‌قصة سَجَاحِ وبني تميم

(1)

كانت بنو تميم قد اختلفتْ أراؤُهم أيام الرِّدَّة، فمنهم من ارتدَّ ومنعَ الزكاة، ومنهم منْ بعثَ بأموالِ الصَّدقات إلى الصدِّيق، ومنهم من توقف لينظر في أمره، فبينما هم كذلك إذ أقبلت سجاح بنتُ الحارث بن سويد بن عقفان التغلبية من الجزيرة، وهي من نصارى العرب، وقد ادَّعتِ النبوَّة ومعها جنودٌ من قومها ومن التفَّ بهم، وقد عزموا على غزو أبي بكر الصديق، فلما مرَّتْ ببلاد بني تميم دَعَتْهُمْ إلى أمرها، فاستجابَ لها عامَّتُهم، وكان ممَّن استجابَ لها مالكُ بن نُوَيْرة التميمي، وعُطَاردُ بن حاجبٍ، وجماعةٌ من سادات أمراء بني تميم، وتخلَّفَ آخرون منهم عنها، ثم اصطلحوا على أن لا حربَ بينهم، إلا أن مالكَ بن نُوَيْرة لما وإدعها ثناها عن عودها، وحرَّضها على بني تميم، ثم اتفق الجميعُ على قتال الناس، وقالوا: بمن نبدأ؟ فقالتْ لهم فيما تسجِّعُهُ: أعدّوا الرِّكاب، واستعدّوا للنهاب، ثم أغيروا على الرّباب، فليس دونهم حجاب. ثم إنهم تعاهدوا على نصرها، فقال قائل منهم:[من الوافر]

أتَتْنا أُختُ تغلِبَ في رجالٍ

(2)

جلائِبَ من سُراةِ بني أبينا

وَأرسَتْ دَعْوةً فينا سَفاهًا

وكانتْ من عَمائِرَ آخرينا

فما كنا لنرزيهم زبالًا

وما كانت لتُسلمَ إذ أتينا

ألا سَفهَتْ حلومُكمُ وضَلَّتْ

عَشيَّةَ تَحشدُون لها ثَبينا

وقال عُطاردُ بن حاجبٍ في ذلك

(3)

: [من البسيط]

أمستْ نَبيَّتُنا أُنثَى نُطيفُ بها

وأصبحَتْ أنبياءُ النَّاس ذُكرانا

ثُمَّ إن سَجَاحِ قصدتْ بجنودها اليمامةَ، لتأخذَها من مُسَيْلمة بن حبيبٍ الكَذّاب، فهابه قومُها، وقالوا: إنه قد استفحلَ أمره وعَظُمَ، فقالت لهم فيما تقوله: عليكم باليمامَةْ، دفُّوا

(4)

دَفيف الحَمامة، فإنّها غزوةُ صرامَةْ، لا تلحقكُمْ بعدها ملامَة. قال: فعمدوا لحرب مُسَيلمةَ، فلما سمعَ بمسيرها إليه خافها على بلاده، وذلك أنه مشغولٌ بمقاتلةِ ثُمامة بن أُثالٍ، وقد ساعدَه عكرمةُ بن أبي جَهْلٍ بجنودِ

(1)

تاريخ الطبري (3/ 267) وما بعدها، والكامل لابن الأثير (2/ 353 - 357).

(2)

في تاريخ الطبري: فاستهدَّتْ.

(3)

البيت في أسد الغابة (4/ 43).

(4)

دفَّ: أي حرك جناحيه من الطير كالحمام. القاموس (دف).

ص: 28

المُسْلمين، وهم نازلونَ ببعضِ بلادِه ينتظرون قدومَ خالدٍ كما سيأتي، فبعث

(1)

إليها يستأمنُها ويضمنُ لها أن يعطيها نصفَ الأرضِ الذي كان لقريشٍ لو عدلَتْ، فقد ردَّهُ الله عليك فحباك به، ورأسلها ليجتمعَ بها في طائفةٍ من قومه، فركبَ إليها في أربعينَ من فومِه، وجاء إليها فاجتمعا في خيمةٍ، فلما خلا بها وعرضَ عليها ما عرضَ من نصف الأرضِ، وقبلت ذلك. قال مسيلمة: سمعَ الله لمن سمعْ، وأطمعَهُ بالخير إذا طمعْ، ولا يزالُ أمرُه في كل ما يسر مجتمعْ، رآكم ربكم فحيّاكُمْ، ومن وحشته أخلاكمْ، ويوم دينه أنجاكم فأحياكم، علينا من صلواتِ معشر أبرارْ، لا أشقياء ولا فجَّار، يقومون الليل ويصومون النهار، لربكم الكبار، ربِّ الغيوم والأمطار.

وقال أيضًا: لما رأيتُ وجوههم حسنتْ، وأبشارهم صفتْ، وأيديهم طَفُلَتْ

(2)

، قلت لهم: لا النساءَ تأتونْ، ولا الخمر تشربونْ، ولكنكم معشرٌ أبرارٌ تصومونْ، فسبحان الله إذا جاءتِ الحياةُ كيف تَحْيَون، وإلى ملك السماء كيف تَرْقَوْن. فلو أنها حبةُ خردلةٍ لقام عليها شهيدٌ يعلم ما في الصدور، ولأكثر الناس فيها الثبور

(3)

.

وقد كان مسيلمةُ لعنه الله شرعَ لمن اتبعه أن الأعزب يتزوج فإذا ولد له ذكر فيحرم عليه النساء حينئذ، إلا أن يموت ذلك الولد الذكر، فتحل له النساء حتى يولد له ذكر، هذا مما إقترحه لعنه الله، من تلقاء نفسه.

ويقال: إنه لما خلا بسَجاحِ سألها ماذا يُوحَى إليها؟ فقالت: وهل يكونُ النساءُ يبتدئن؟ بل أنت ماذا أوحيَ إليك؟ فقال: ألم ترَ إلى ربّك كيف فَعَلَ بالحُبْلى؟ أخرج منها نسمةً تَسْعى، من بين صفاقٍ

(4)

وحشًا. قالت: وماذا؟ فقال: إنَّ اللهَ خلقَ للنساء أفراجًا

(5)

، وجعلَ الرجالَ لهن أزواجا، فنولج فيهن قَعْسًا

(6)

إيلاجًا، ثم نخرجها إذا نشاء إخراجًا، فينتجن لنا سخالًا إنتاجًا. فقالت: أشهد أنك نبيٌّ؛ فقال لها: هل لك أن أتزوجك وآكل بقومي وقومك العربَ؟ قالت: نجم، فقال:[من الهزج]

ألا قومي إلى النَّيْكِ

فقدَ هُيِّءْ لَكِ المَضْجَعْ

فَإنْ شِئْتِ فَفِي البَيْتِ

وإنْ

(7)

شِئْت ففي المَخْدَعْ

وإنْ شِئْتِ سَلْقنَاكِ

وَإنْ شِئْتِ عَلَى أرْبَعَ

(1)

في المطبوع: فبعثني؛ خطأ. وما هنا للسياق.

(2)

طَفُل: صار ناعمًا. اللسان (طفل).

(3)

الثبور: الهلاك والويل. القاموس (ثبر).

(4)

الصِّفاق: ككتاب: الجلد تحت الجلد الذي عليه الشعر، وجلد البطن كله. القاموس (صفق).

(5)

الأفراج كما يبدو جمع فرج، قال ابن منظور: الفرج والجمع فروج، لا يُكسَّر على غير ذلك. اللسان (فرج).

(6)

القَعْس في المعاجم العربية: الناتئ، والمعنى المقصود هنا لم يرد فيها لأنه مجاز يفهم من السياق.

(7)

في ط: إن؛ ولا يستقيم الوزن بها، وما هنا للوزن العروضي.

ص: 29

وإنْ شِئْتِ بِثُلْثَيْهِ

وَإنْ شِئْتِ بهِ أجْمَعْ

فقالت: بل به أجمع، فقال: بذلك أوحي إليّ، وأقامت عنده ثلاثة أيام، ثم رجعت إلى قومها فقالوا: ما أصدقَكِ؟ فقالت: لم يصدقني شيئًا، فقالوا: إنه قبيحٌ على مثلك أن تتزوج بغير صَداق فبعثت إليه تسألُه صَداقًا، فقال: أرسلي إليَّ مؤذنك، فبعثته إليه - وهو شَبَت بن رِبعي - فقال: نادِ في قومك: إن مسيلمةَ بن حبيب رسولَ الله قد وضعَ عنكم صلاتين مما أتاكم به محمد - يعني صلاة الفجرِ وصلاة العشاءِ الآخرةِ - فكان هذا صداقها عليه لعنهما الله. ثم انثنت سَجَاح راجعةً إلى بلادها وذلك حين بلغَها دنوُّ خالد من أرض اليمامة فكرَّتْ راجعةً إلى الجزيرة بعدما قبضَتْ من مسيلمة نصفَ خراجِ أرضِهِ، فأقامت في قومها بني تَغْلِب، إلى زمان معاوية، فأجلاهم منها عامَ الجماعة كما سيأتي بيانه في موضعه.

‌فصل في خبرِ مالِكٍ بن نُوَيْرَةَ اليَرْبوعي التَّميمي

(1)

كان قد صانع سَجاحِ حين قدمتْ من أرض الجزيرةِ، فلما اتّصلتْ بمسيلمةَ لعنهما الله، ثم ترحلت إلى بلادها - فلما كان ذلك - ندمَ مالكُ بن نُوَيْرَة على ما كان من أمره، وتلوَّم في شأنه، وهو نازل بمكان يقال له: البطاح، فقصدها خالدٌ بجنوده، وتأخّرت عنه الأنصار، وقالوا: إنّا قد قضينا ما أمرنا به الصدِّيق، فقال لهم خالد: إن هذا أمرٌ لا بدَّ من فعله، وفرصةٌ لابدَّ من انتهازها، وإنه لم يأتني فيها كتابٌ، وأنا الأمير وإليّ تردُ الأخبارُ، ولست بالذي أجبركم على المسير، وأنا قاصدٌ البطاحَ. فسارَ يومين ثم لحقَهُ رسول الأنصار يطلبون منه الانتظار، فلحقوا به، فلما وصلَ البطاحَ وعليها مالك بن نوَيْرة، فبثَّ خالدٌ السرايا في البطاح يدعونَ الناسَ، فاستقبله أمراءُ بني تميم بالسمعِ والطاعةِ، وبذلوا الزكوات، إلَّا ما كانَ من مالك بن نويرة فإنّه متحيرٌ في أمره، مُتَنحٍّ عن الناس، فجاءته السرايا فأسروه وأسروا معه أصحابَه، واختلفت السريةُ فيهم، فشهد أبو قتادة - الحارث بن ربعي الأنصاري - أنهم أقاموا الصلاةَ، وقال آخرون: إنهم لم يُؤَذّنوا ولا صَلّوا، فيقال: إن الأسارى باتوا في كبولهم

(2)

في ليلة شديدةِ البردِ، فنادى منادي خالدٍ: أن أدفئوا أسراكم، فظنَّ القوم أنّه أراد القتلَ، فقتلوهم، وقتل ضرارُ بن الأزور مالكَ بن نُوَيْرة، فلما سمعَ الداعية خرج وقد فرغوا منهم، فقال: إذا أراد الله أمرًا أصابه.

واصطفى خالد امرأةَ مالكِ بن نُوَيْرة وهي أم تميم ابنة المنهال، وكانت جميلةً، فلما حَلَّتْ بنى بها، ويقال: بل استدعى خالدٌ مالكَ بن نويرة، فأنّبه على ما صدر منه من متابعة سَجَاح، وعلى منعِه الزكاة وقال: ألم تعلمْ أنها قرينةُ الصلاة؟ فقال مالكٌ: إن صاحبَكم كان يزعمُ ذلك، فقال: أهو صاحبُنا وليس

(1)

أخبار ابن نويرة اليربوعي في تاريخ الطبري (3/ 276) والكامل لابن الأثير (2/ 357).

(2)

كبول: جمع كبْل وهو القيد - ويكسر. القاموس (كبل).

ص: 30

بصاحبك؟ يا ضرار اضربْ عُنُقه، فضُربت عنقه، وأمر برأسه فجُعل مع حجرين وطبخ على الثلاثة قدرًا، فأكل منها خالد تلك الليلة ليرهب بذلك الأعراب، من المُرْتدَّةِ وغيرهم، ويقال: إن شَعْرَ مالكٍ جعلتِ النارَ تعملُ فيه إلى أن نضجَ لحمُ القِدر ولم تفرغ الشعر لكثرته، وقد تكلّم أبو قتادة مع خالد فيما صنع، وتقاولا في ذلك حتى ذهب أبو قتادة فشكاه إلى الصديق، وتكلَّم عمرُ مع أبي قتادة في خالدٍ، وقال للصدّيق: اعزلْهُ فإنَّ في سيفه رَهَقًا

(1)

، فقال أبو بكر: لا أشيم

(2)

سيفًا سلّه اللهُ على الكفار، وجاء مُتمّم بن نُوَيْرة فجعل يشكو إلى الصديق خالدًا، وعمرُ يساعده وينشد الصديقَ ما قال في أخيه من المراثي، فوداه

(3)

الصديق من عنده.

ومن قول متمم في ذلك: [من الطويل]

وكنّا كنُدْمانَيْ جَذيمةَ بُرهةً

منَ الدَّهْرِ حتَّى قيلَ لن يتصَدَّعا

وَعشْنا بِخَيرٍ ما حَييْنا وقَبلنا

أبادَ المنايَا قومَ كِسْرى وتُبَّعا

فلمّا تَفَرَّقنا كأنِّي ومَالِكًا

لِطولِ اجتماعٍ لم نَبِتْ ليلةً معا

وقال أيضًا: [من الطويل]

لقد لامني عِنْدَ القعورِ على البُكى

رَفيقي لِتذْرافِ الدموعِ السَّوافِكِ

وَقال أتبكي كُلَّ قَبْرٍ رَأيْتَهُ

لِقبرٍ ثوى بينَ اللِّوى فالدَّكادِكِ

(4)

فَقُلْتُ لهُ إنَّ الأسى يبعثُ الأسى

فَدَعني فهذا كُلُّه قَبْر مالِكِ

(5)

والمقصودُ أنه لم يزلْ عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه يُحرِّضُ الصديقَ ويُذَمِّر

(6)

على عزل خالد عن الإمرةِ ويقول: إن في سيفه لرهَقًا، حتى بعثَ الصديقُ إلى خالد بن الوليد فقدم عليه المدينة، وقد لبسَ درعَه التي من حديد، وقد صَدِئ من كثرةِ الدماء، وغرز في عمامته النشاب المُضمَّخ بالدماء، فلما دخل المسجد قام إليه عمرُ بن الخطاب فانتزعَ الأسهم من عمامةِ خالدٍ فحطَّمها، وقال: أرياءً قتلتَ امرأً مسلمًا ثم نزوتَ على امرأته، والله لأرجمنَّك بالجنادلِ. وخالد لا يكلّمُهُ، ولا يظنُّ إلَّا أنّ رأىَ الصديق فيه

(1)

الرَّهقُ: - محركة - السَّفه، والخفة وركوب الشرّ والظلم. القاموس (رهق).

(2)

شام سيفه يشيمُه: غمده واستله ضد. القاموس (شيم) قلت: والمقصود هنا: لا أغمدُ.

(3)

وَدَاهُ (كدعاه): أعطى ديته. القاموس (ودى).

(4)

الدكادك؛ بفتح أوله على لفظ جمع دَكْدك: موضع في بلاد بني أسد. قال متمم بن نويرة: فقال

البيت. ويروى - فالدوانك - وهو أيضًا هناك، مجاور الدكادك، وكان مالك بن نويرة أخو متمم المرثي بهذا الشعر قتل بالملا - وقبره هناك - والملا في بلاد بني أسد. قال الأصمعي: قدم متمم العراق فجعل لا يمرُّ بقبر إلا بكى عليه، فقيل له: يموت أخوك بالملا وتبكي أنت على قبر بالعراق؟ فقال هذه الأبيات. معجم ما استعجم (554 - 555).

(5)

البيتان الثاني والثالث في معجم ما استعجم (554 - 555).

(6)

الذَّمْرُ: الحض. القاموس (ذمر).

ص: 31

كرأي عمر، حتى دخلَ على أبي بكر فاعتذرَ إليه فعذره وتجاوز عنه ما كان منه في ذلك وودى مالك بن نويرة، فخرجَ من عنده وعمرُ جالسٌ في المسجد، فقال خالد: هلمّ إليَّ يا بن أمِّ شملةَ، فلم يردَّ عليه وعرفَ أنَّ الصديقَ قد رضيَ عنه، واستمرَّ أبو بكر بخالدٍ على الإمرة، وإن كان قد اجتهد في قتلِ مالك بن نويرة وأخطأَ في قتله، كما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعثه إلى بني جَذيمة فقتل أولئك الأسارى الذين قالوا: صبأنا صبأنا

(1)

، ولم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا، فوداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ردَّ إليهم ميلغة

(2)

الكلب، ورفع يديه وقال: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد، ومع هذا لم يعزل خالدًا عن الإمرة.

‌مَقْتَلُ مُسَيْلَمَةَ الكَذّاب لعنه الله

(3)

لما رضيَ الصدِّيقُ عن خالد بن الوليد وعذَرَهُ بما اعتذرَ به، بعثَه إلى قتالِ بني حنيفة باليمامة، وأوعب

(4)

معه المسلمون، وعلى الأنصار ثابتُ بن قيس بن شمّاس، فسار لا يمرّ بأحدٍ من المُرْتدّين إلَّا نكَّلَ بهم، وقد اجتازَ بخيولٍ لأصحاب سَجَاح فشرَّدَهُمْ وأمرَ بإخراجهم من جزيرة العرب، وأردفَ الصديق خالدًا بسريةٍ لتكونَ رِدْءًا

(5)

له من ورائهِ وقد كان بعثَ قبله إلى مسيلمةَ عكرمةَ بنَ أبي جهلٍ، وشرحبيلَ بن حسنةَ، فلم يقاوما بني حنيفة، لأنهم نحو أربعين ألفًا من المقاتلةِ، فعجلَ عكرمةُ قبل مجيء صاحبه شرحبيل فناجزَهم فنُكب، فانتظر خالدًا، فلما سمع مسيلمةُ بقدوم خالدٍ عسكر بمكانٍ يقال له:(عقربا) في طرف اليمامة والريفُ وراءَ ظهورهم، وندبَ الناسَ وحثَّهم، فحشدَ له أهلُ اليمامة، وجعل على مَجْنبتي جيشه المحكم بن الطفيل، والرَّجّال بن عُنْفوة بن نهشل.

وكان الرَّجَّال هذا صديقه الذي شهدَ له أنه سمعَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: إنه قد أشركَ معه مسيلمةَ بن حبيب في الأمر، وكان هذا الملعون من أكبر ما أضل أهل اليمامة، حتى اتبعوا مُسيلمة، لعنهما الله.

وقد كان الرَّجالُ هذا قد وفدَ إلي النبي صلى الله عليه وسلم وقرأ البقرةَ، وجاء زمَن الردّة إلى أبي بكر، فبعثه إلى أهل اليمامة يدعوهم إلى الله ويثبتهم على الاسلام، فارتد مع مسيلمة وشهد له بالنبوة.

قال سيف بن عمر

(6)

عن طلحة، عن عكرمة، عن أبي هريرة: كنت يومًا عند النبي صلى الله عليه وسلم في رهطٍ معنا الرَّجَّال

(7)

بن عُنْفوة، فقال:"إنّ فيكم لرجلًا ضرسُه في النار أعظمُ من أُحدٍ" فهلك القومُ وبقيت أنا

(1)

صبأ: خرج من دين إلى دين آخر. وكانت العرب تسمي النبي صلى الله عليه وسلم الصابئ؛ لأنه خرج من دين قريش إلى الإسلام. اللسان (صبأ).

(2)

المِيلغ والمِيلغةُ بكسرهما: الإناء يَلغُ فيه الكَلْبُ في الدَّم. القاموس (ولغ).

(3)

أخبار مسيلمة الكذاب في تاريخ الطبري (3/ 281 - 301) والكامل لابن الأثير (2/ 360 - 366).

(4)

أوعب القوم: إذا خرجوا كلهم إلى الغزو. اللسان (وعب).

(5)

"الرِّدءُ": العون والناصر. اللسان (ردأ).

(6)

تاريخ الطبري (3/ 287).

(7)

في "طبقات ابن سعد"(1/ 316) رجَّال بن عُنْفُوة.

ص: 32

والرَّجَّال وكنت متخوفًا لها، حتى خرجَ الرَّجَّال مع مسيلمة، وشهدَ له بالنبوة، فكانت فتنةُ الرجَّال أَعظمَ من فتنة مسيلمة

(1)

.

رواه ابن إسحاق عن شيخ عن أبي هريرة.

وقرب خالد وقد جعل على المقدمة شرحبيل بن حسنة، وعلى المَجْنبتين زيدًا وأبا حذيفة، وقد مرَّت المقدمة في الليل بنحو من أربعين وقيل ستين فارسًا، عليهم مجاعة بن مرارة، وكان قد ذهب لأخذ ثأرٍ له في بني تميم وبني عامر وهو راجعٌ إلى قومه فأخذوهم، فلما جيء بهم إلى خالد عن آخرهم فاعتذروا إليه فلم يصدِّقهم، وأمر بضربِ أعناقهم كلِّهم، سوى مجاعة فإنه استبقاهُ مقيَّدًا عنده - لعلمه بالحرب والمكيدة - وكان سيِّدًا في بني حنيفة، شريفًا مطاعًا، ويقال: إن خالدًا لما عرضوا عليه قال لهم: ماذا تقولون يا بني حنيفة؟ قالوا: نقول منا نبي ومنكم نبي، فقتلهم إلَّا واحدًا اسمه سارية، فقال له: أيها الرجل إن كنتَ تريد بأهل اليمامة غدًا خيرًا أو شرًا فاستبق هذا الرجل - يعني مجاعة بن مرارة - فاستبقاه خالد مقيدًا، وجعله في الخيمة مع امرأته، وقال: استوصي به خيرًا، فلما تواجه الجيشان قال مسيلمة لقومه: اليوم يوم الغيرة، اليوم إن هُزمتم تُستنكح النساء سَبيّاتٍ، ويُنكحن غيرَ حظيّاتٍ، فقاتلوا عن أحسابكم، وامنعوا نساءكم.

وتقدم المسلمون حتى نزل بهم خالد على كثيب يُشرف على اليمامة، فضرب به عسكره، ورايةُ المهاجرين مع سالم مولى أبي حذيفة، ورايةُ الأنصار مع ثابت بن قيس بن شمّاس، والعرب على راياتها، ومجاعة بن مرارة مقيدٌ في الخيمة مع أم تميم امرأة خالد، فاصطدم المسلمون والكفار فكانت جولة وانهزمتِ الأعرابُ حتى دخلت بنو حنيفة خيمةَ خالد بن الوليد وهمّوا بقتل أم تميم، حتى أجارها مجاعة وقال: نعمتِ الحُرَّةُ هذه، وقد قُتل الرَّجَّالُ بن عنفوة لعنه الله في هذه الجولة، قتله زيدُ بن الخطاب.

ثم تذامر

(2)

الصحابة بينهم. وقال ثابت بن قيس بن شماس: بئس ما عوَّدتم أقرانَكم، ونادَوْا من كل جانب: أخلصنا يا خالد، فخلصت ثلة من المهاجرين والأنصار وحمى البراء بن مالك - وكان إذا رأى الحرب أخذته العُرَوَاء

(3)

فيجلس على ظهره الرجال حتى يبول في سراويله، ثم يثور كما يثور الأسد. وقاتلت بنو حنيفة قتالًا لم يعهد مثله.

وجعلت الصحابة يتواصَون بينهم ويقولون: يا أصحاب سورةِ البقرةِ، بَطلَ السِّحْرُ اليوم، وحفر ثابتُ بن قيس لقدميه في الأرض إلى أنصافِ ساقَيْه، وهو حاملُ لواءِ الأنصارِ بعدما تحنَّطَ وَتكفَّنَ، فلم

(1)

الحديث في تاريخ الطبري (3/ 289) وإتحاف السادة المتقين للزبيدي (7/ 181) وإسناده ضعيف جدًّا.

(2)

تذامروا: تلاوموا على ترك الفرصة، وقد تكون بمعنى تحاضُّوا على القتال. اللسان (ذمر)، وفي المطبوع من تاريخ الطبري (3/ 290):"تداعوا"، ولكنها وردت كما هنا في مكان آخر (3/ 291).

(3)

العرواء: رعدة تصيب الإنسان، وهي في الأصل: برد الحمى.

ص: 33

يزل ثابتًا حتى قُتل هناك، وقال المهاجرون لسالم مولى أبي حذيفة: أتخشى أن نؤتى من قبلك؟ فقال: بئس حامل القرآن أنا إذًا، وقال زيد بن الخطاب: أيها الناس عَضُّوا على أضراسكم، واضربوا في عدوِّكم وامضوا قدمًا، وقال: والله لا أتكلَّمُ حتى يهزمهم اللهُ أو ألقىَ اللهَ فأكلِّمه بحجَّتي، فقُتل شهيدًا رضي الله عنه.

وقال أبو حذيفة: يا أهلَ القرآنِ زيِّنوا القرآنَ بالفِعال، وحملَ فيهم حتى أبعدَهم وأصيب رضي الله عنه، وحملَ خالدُ بن الوليد حتى جاوزَهم، وسار لحيال مسيلمة وجعل يترقَّب أن يصلَ إليه فيقتلَه، ثم رجع ثم وقف بين الصَّفَّيْن ودعا البراز، وقال: أنا ابن الوليد العَوْد

(1)

، أنا ابن عامر وزيد، ثم نادى بشعار المسلمين - وكان شعارهم يومئذ: يا محمداه - وجعل لا يبرز لهم أحدٌ إلا قتله، ولا يدنو منه شيء إلا أكله.

ودارت رحى المسلمين، ثم اقترب من مسيلمة، فعرض عليه النَّصَفَ

(2)

والرجوع إلى الحق، فجعل شيطانُ مسيلمةَ يلوي عنقه، لا يقبلُ منه شيئًا، وكلّما أراد مسيلمةُ يقاربُ من الأمر صرفه عنه شيطانه، فانصرف عنه خالد وقد ميز خالد المهاجرين من الأنصار من الأعراب، وكل بني أبٍ على رايتهم، يقاتلون تحتها، حتى يعرفَ الناسُ من أين يُؤْتون، وصبرت الصحابةُ في هذا الموطن صبرًا لم يُعْهد مثلُه، ولم يزالوا يتقدَّمون إلى نحور عدوهم حتى فتح الله عليهم، وولى الكفارُ الأدبارَ، واتَّبعوهم يقتلون في أقفائهم، ويضعونَ السيوفَ في رقابهم حيث شاؤوا، حتى ألجؤوهم إلى حديقة الموت، وقد أشار عليهم محكَّمُ اليمامة - وهو محكَّم بن الطفيل لعنه الله - بدخولها، فدخلوها وفيها عدوُّ الله مسيلمةُ لعنه الله، وأدرك عبد الرحمن بن أبي بكر محكمَ بن الطفيل فرماه بسهمٍ في عنقه وهو يخطب فقتله، وأغلقتْ بنو حنيفة الحديقةَ عليهم، وأحاط بهم الصحابةُ، وقال البراءُ بن مالك: يا معشرَ المسلمين ألقوني عليهم في الحديقة

(3)

، فاحتملوه فوق الجحف ورفعوها بالرماح حتى ألقوه عليهم من فوق سورها، فلم يزل يقاتلهم دون بابها حتى فتحه، ودخل المسلمون الحديقةَ من حيطانها وأبوابها يقتلون من فيها من المُرْتدَّةِ من أهل اليمامة، حتى خلصوا إلى مسيلمة لعنه الله، وإذا هو واقفٌ في ثُلْمةِ جدارٍ كأنه جملٌ أورقٌ

(4)

، وهو مُزْبدٌ يتساندُ، لا يعقلُ من الغَيْظِ، وكان إذا اعتراه شيطانُه أزبدَ حتى يخرج الزَّبَدُ من شِدْقَيْه، فتقدّم إليه وحشيُّ بن حرب مولى جُبَيْر بن مُطْعِم - قاتل حمزة - فرماه بحربته فأصابه وخرجت من الجانب الآخر، وسارع إليه أبو دُجانة سماك بن خرشة، فضَربه بالسيْف فسقطَ، فنادت امرأةٌ من القصر: وا أمير الوضاءة، قتله العبدُ الأسود.

(1)

"العَوْد": الجمل المسن وفيه بقية وهو المدرَّب. اللسان (عود) والنهاية في غريب الحديث (3/ 317).

(2)

النَّصَفُ والنَّصفةُ والإنصاف: إعطاء الحق. اللسان (نصف).

(3)

في ط: الحديثة؛ تحريف.

(4)

الأورق من الإبل: الذي في لونه بياض إلى سواد. وقال أبو عبيد: الأورق: أطيب الإبل لحمًا وأقلها شدة على العمل والسير وليس بمحمود عندهم في عمله وسيره. اللسان (ورق).

ص: 34

فكان جملة من قُتلوا في الحديقة وفي المعركة قريبًا من عشرة آلاف مقاتل، وقيل: أحد وعشرون ألفًا، وقتل من المسلمين ستمئة، وقيل: خمسمئة، فالله أعلم، وفيهم من سادات الصحابة، وأعيان الناس من يُذكر بعد.

وخرج خالد وتبعه مجاعةُ بن مرارة يرسفُ في قيوده، فجعل يريه القتلى ليعرّفه بمسيلمة، فلما مرّوا بالرَّجَّال بن عُنْفوة قال له خالد: أهذا هو؟ قال لا، والله هذا خيرٌ منه، هذا الرَّجَّال بن عُنْفُوة.

قال سيف بن عمر: ثم مرّوا برجلٍ أصفر أخنس

(1)

، فقال: هذا صاحبكم، فقال خالد: قبَّحكم الله على اتّباعكم هذا.

ثم بعثَ خالدٌ الخيولَ حولَ اليمامة يلتقطونَ ما حول حصونها من مالٍ وسبيٍ. ثم عزمَ على غزو الحُصون ولم يكن بقيَ فيها إلا النساءُ والصبيانُ والشيوخُ الكبار، فخدعه مجاعة فقال: إنها ملأى رجالًا ومقاتلة، فهلمّ فصالحني عنها، فصالحه خالدٌ لما رأى بالمسلمين من الجَهد وقد كَلُّوا من كثرة الحروب والقتال، فقال: دعني حتى أذهبَ إليهم ليوافقوني على الصلح، فقال: اذهب. فسارَ إليهم مجاعة، فأمر النساءَ أن يلبسن الحديد ويبرزن على رؤوس الحصون، فنظر خالدٌ فإذا الشرفاتُ ممتلئةٌ من رؤوس الناس فظنهم كما قال مجاعة فانتظر الصلح، ودعاهم خالد إلى الإسلام فأسلموا عن آخرهم ورجعوا إلى الحق. وردّ عليهم خالدٌ بعضَ ما كان أخذ من السبي، وساق الباقين إلى الصدِّيق.

وقد تسرَّى علي بن أبي طالب بجارية منهم، وهي أم ابنه محمد الذي يقال له: محمد بن الحنفية رضي الله عنه.

وقد قال ضرار بن الأزور في غزوة اليمامة هذه: [من الطويل]

فلو سُئِلتْ عنَّا جَنوبٌ لأخبرَتْ

عَشِيَّةَ سَالَتْ عَقرِباءٌ ومَلهَمُ

وسالَ بفرع الوادِ حتى تَرَفْرَقَتْ

حِجارتُهُ فيه منَ القومِ بالدَّمِ

عَشيَّةَ لا تُغني الرِّماحُ مكانها

وَلا النَّبْلُ إلَّا المشرفيُّ المُصمِّمُ

فَإن تَبتغي الكفارَ غير مُسَيْلمٍ

(2)

جنوبٌ فأني تابعُ الدينِ مسلمُ

أُجاهدُ إذ كانَ الجِهادُ غَنيمةً

وللهُ بالمرءِ المجاهدِ أعلمُ

وقد قال خليفة بن خياط

(3)

، ومحمد بن جرير

(4)

، وخلق من السلف: كانت وقعةُ اليمامة في سنة إحدى عشرةَ. وقال ابن قانع: في آخرها، وقال الواقدي وآخرون: كانت في سنة ثنتي عشرة، والجمع

(1)

الخنس، قريب من الفَطَس وهو لصوق القصبة بالوجنة وضِخمُ الأرنبة، وقيل غير ذلك. اللسان (خنس).

(2)

عند الطبري (3/ 297): مُليحةٍ.

(3)

في تاريخه (ص 107).

(4)

تاريخه (3/ 314).

ص: 35

بينها أن ابتداءها في سنة إحدى عشرة، والفراغ منها في سنة ثنتي عشرة، والله أعلم.

ولما قدمت

(1)

وفود بني حنيفة على الصدّيق قال لهم: أسمعونا شيئًا من قرآن مسيلمة، فقالوا: أو تعفينا يا خليفةَ رسول الله. فقال: لا بدَّ من ذلك، فقالوا: كان يقول: يا ضفدعُ بنتَ الضِّفْدعين نِقِّي لكمْ تَنِقّين، لا الماءَ تكدّرين، ولا الشاربَ تمنعين، رأسُكِ في الماء، وذنبُكِ في الطين، وكان يقول: والمُبْذراتِ زَرْعًا، والحاصِداتِ حَصْدًا، والذاريات قَمْحًا، والطَّاحنات طَحْنًا، والخَابزاتِ خبزًا، والثّارداتِ ثَرْدًا، واللَّاقمات لقمًا، إهالةً

(2)

وسمنًا، لقد فضلتُمْ على أهل الوَبَر، وما سبَقَكُمْ أهل المَدَر، رفيقكم فامنعوه، والمُعْتَرّ

(3)

فآووه، والنّاعي فواسوه.

وذكروا أشياءَ من هذه الخرافات التي يأنف من قولها الصبيان وهم يلعبون، فيقال: إن الصّدّيق قال لهم: ويحكم، أينَ كانَ يذهبُ بقولكم؟ إن هذا الكلام لم يخرج من إلٍّ

(4)

.

وكان يقول: والفيل وما أدراك ما الفيل، له زلوم

(5)

طويل، وكان يقول: والليل الدامسِ، والذئب الهامس، ما قطعت أسد من رطبٍ ولا يابس. وتقدم قوله: لقد أنعمَ اللهُ على الحُبْلى، أخرج منها نَسْمةً تَسْعى، من بين صفاق وحشى، وأشياء من هذا الكلام السخيف الركيك البارد السميج.

وقد أورد أبو بكر بن الباقلاني

(6)

رحمه الله في كتابه إعجاز القرآن أشياء من كلام هؤلاء الجَهَلة المُتَنبئين كمُسيلمة وطُلَيْحة والأسود وسَجاحِ وغيرهم، مما يدل على ضعفِ عقولهم وعقولِ من اتَّبعهم على ضلالهم ومحالهم.

وقد روينا عن عمرو بن العاص أنه وفدَ إلى مُسَيْلمة في أيّام جاهليته، فقال له مُسيلمةُ: ماذا أنزل على صاحبكم في هذا الحين؟ فقال له عمرو: لقد أنزل عليه سورة وجيزة بليغةً، فقال: وما هي؟ قال: أنزل عليه {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1 - 3] قال: ففكَّر مسيلمةُ ساعةً ثم رفعَ رأسه فقال: ولقد أُنزلَ عليَّ مثلها، فقال له عمرو:

(1)

خبر الوفد في تاريخ الطبري (3/ 300).

(2)

"الإهالة": ما أذبت من الشحم، وقيل: الإهالة: الشحم والزيت، وقيل: كل دهن أو تدم به إهالة، والإهالة: الودك. اللسان (أهل).

(3)

"المُعْترّ": الفقير، وقيل المتعرض للمعروف من غير أن يسأل. اللسان (عرر).

(4)

في حديث أبي بكر رضي الله عنه لما عرض عليه سجع مسيلمة - إن هذا لم يخرج من إل: أي من ربوبية. وقيل: الإلّ: الأصل الجيد أي لم يجئ من الأصل الذي جاء منه القرآن. وقيل: الإلّ: النسب والقرابة، فيكون المعنى: هذا كلام غير صادر من مناسبة الحق والإدلاء بسبب بينه وبين الصّديق. النهاية (1/ 61).

واللسان (ألل).

(5)

"زلوم": يقصد خرطوم الفيل، والزلمة تكون للمعزى في حلوقها متعلقة كالقرط. اللسان (زلم).

(6)

إعجاز القرآن (238 - 239) دار المعارف بمصر.

ص: 36

وما هي؟ فقال مسيلمة: يا وَبر

(1)

يا وَبر، إنما أنتَ إيراد وصَدر، وسائرك حَفْرٌ نَقْر

(2)

. ثم قال: كيف ترى يا عمرو؟ فقال له عمرو: والله إنكَ لتعلمُ أني أعلمُ أنكَ تكذبُ.

وذكر علماء التاريخ

(3)

أنه كان يتشبَّهُ بالنبي صلى الله عليه وسلم، بلغه أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بَصَقَ في بئر فغزرَ ماؤُه، فبصقَ في بئبر فغاض ماؤُه بالكلية، وفي أخرى فصارَ ماؤه أُجاجًا

(4)

، وتوضَّأ وسقى بوضوء نخلًا فَيَبستْ وهلَكتْ، وأتى بولدان يُبَرّك

(5)

عليهم فجعلَ يَمْسحُ رؤوسَهمِ فمنهم من قَرَعَ رَأْسُه

(6)

، ومنهم من لَثَغَ لسانُه. ويقال: إنه دعا لرجل أصابه وجعٌ في عينيه فمَسَحَهُما فعَمي.

وقال سيف بن عمر

(7)

، عن خليد بن زفر النَّمري، عن عمير بن طلحة، عن أبيه: أنه جاء إلى اليمامة فقال: أين مُسيلمةُ؟ فقال: مه رسول الله، فقال: لا حتّى أراهُ، فلما جاء قال: أنت مسيلمةُ؟ فقال: نعم. قال: من يأتيكَ؟ قال: رحمن

(8)

، قال: أفي نورٍ أم في ظُلْمةٍ؟ فقال: في ظُلْمةٍ، فقال أشهد أنَّك كذّابٌ وأن محمدًا صادقٌ، ولكن كذّابَ ربيعة أحبُّ إلينا من صادقِ مُضَر، واتبعه هذا الأعرابيُّ الجلفُ لعنه الله حتى قُتل معه يوم عقرباء، لا رحمه الله.

‌ذكرُ ردَّةِ أَهْلِ البَحْرين وعودهم إلي الإسلام

(9)

كان من خبرهم أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان قد بعثَ العلاءَ بن الحَضْرميّ إلى مَلِكِها، المُنْذر بن ساوى العَبْدي، وأسلم على يديه وأقام فيهم الإسلامَ والعدلَ، فلما توفي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم توفي المنذر بعدَه بقليل، وكان قد حضر عنده في مرضه عمرو بن العاص، فقال له: يا عمرو هل كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يجعلُ للمريض شيئًا من ماله؟ قال: نعم، الثلث، قال: ماذا أصنعُ به؟ قال: إن شئتَ تصدقتَ به على أقربائك، وإن شئت على المَحاويج، وإن شئتَ جعلتَه صدقةً من بعدك حبسًا محرمًا، فقال: إني أكرهُ

(1)

"الوَبْر": بسكون الباء: دُوَيّبةٌ على قدر السنَّور غبراء أو بيضاء من دواب الصحراء، حسنة العينين تكون بالغَوْر، والعرب تقول: قالت الأرنب للوَبْر: وَبْرٌ وَبْرٌ، عَجُزٌ وصَدْر، وسائرك حَقْرٌ نقرٌ!! فقال لها الوَبْرُ: أرانِ أرانْ، عجز وكتفانْ، وسائرك أكلتان. اللسان (وبر).

(2)

"الحَقْر" - في كل المعاني - الذلّة، "والنَّقْر": إتباع له وتوكيد. اللسان (حقر ونقر).

(3)

تاريخ الطبري (3/ 284 - 285).

(4)

"ماء أجاج": أي مِلْحٌ، وقيل: مُرٌّ، وقيل: شديد المرارة، وقيل: الأجاج؛ شديد الحرارة. اللسان (أجج).

(5)

"برك عليه": أي: دعا له بالبركة. اللسان (برك).

(6)

"قَرْعُ الرأس": وهو أن يصلع فلا يبقى على رأسه شعر. اللسان (قرع).

(7)

تاريخ الطبري (3/ 286).

(8)

في ط: رجس والتصحيح من الطبري.

(9)

أخبار ردة أهل البحرين في تاريخ الطبري (3/ 301) والكامل لابن الأثير (2/ 368).

ص: 37

أن أجعله كالبَحيرةِ والسّائبة والوَصِيلةِ والحام

(1)

، ولكني أتصدّقُ به، ففعل، وماتَ فكان عمرو بن العاص يتعجّب منه

(2)

.

فلما مات المنذرُ ارتدَّ أهلُ البحرين وملَّكوا عليهم الغرور، وهو المنذر بن النعمان بن المنذر. وقال قائلهم: لو كان محمد نبيًا ما مات، ولم يبق بها بلدةٌ على الثبات سوى قريةٍ يقال لها جُواثا

(3)

، كانت أولَ قريةٍ أقامت الجمعة من أهل الردة كما ثبت ذلك في البخاري عن ابن عباس، وقد حاصرهم المُرْتدون وضيَّقوا عليهم، حتى منعوا من الأقوات وجاعوا جوعًا شديدًا حتى فَرَّجَ اللهُ، وقد قال رجل منهم يقال له عبد الله بن حذف، أحد بني بكر بن كلاب، وقد اشتد عليه الجوع

(4)

: [من الوافر]

ألا أبلغْ أبا بَكْرٍ رَسولًا

وَفتيانَ المَدينةِ أجْمَعينا

فهَلْ لكُمُ إلى قومٍ كرامٍ

قُعود في جُواثا مُحصرينا

كَأنَّ دِماءَهم في كُلِّ فجٍّ

شُعاعُ الشمسِ يَغشى الناظرينا

تَوكلْنا على الرَّحْمنِ إنَّا

وَجَدْنا الصَّبْرَ

(5)

للمُتَوكِّلينا

وقد قام فيهم رجلٌ من أشرافهم، وهو الجارود بن المُعلَّى - وكان ممَّن هاجروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبًا وقد جمعهم فقال: يا معشرَ عبد القيسِ، إنّي سائلُكُم عن أمرٍ فأخبروني إن علمتموه، ولا تُجيبوني إن لم تَعْلموه، فقالوا: سلْ، قال: أتعلمونَ أنَّه كان لله أنبياء قبلَ محمدٍ؟ قالوا: نعم، قال: تعلمونَه أم تَرَوْنهُ؟ قالوا: نعلمُه، قال: فما فعلوا؟ قالوا: ماتوا، قال: فإنَّ محمدًا صلى الله عليه وسلم ماتَ كما ماتوا، وإني أشهدُ أن لا إله إلا الله. وأن محمدًا رسول الله، فقالوا: ونحن أيضًا نشهدُ أن لا إله إلا الله وأن محمدًا

(1)

قال الزمخشري: كان أهل الجاهلية إذا نتجت الناقة خمسة أبطن آخرها ذكر، بحروا أذنها، أي شقوها وحرّموا ركوبها، ولا تطرد عن ماء ومرعى، وإذا لقيها المعي لم يركبها. واسمها البحيرة. وكان يقول الرجل: إذا قدمت من سفري أو برئت من مرضي فناقتي سائبة. وجعلها كالبحيرة في تحريم الانتفاع بها. وقيل: كان الرجل إذا أعتق عبدًا قال: هو سائبة فلا عقل بينهما ولا ميراث. وإذا ولدت شاة أنثى فهي لهم، وإن ولدت ذكرًا فهو لآلهتهم، فإن ولدت ذكرًا وأنثى قالوا: وصلت أخاها، فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم. وإذا نتجت من صلب الفحل عشرة أبطن قالوا: قد حمى ظهره، فلا يركب، ولا يحمل عليه، ولا يمنع من ماء ولا مرعى. الكشاف (1/ 684 - 685).

(2)

تاريخ الطبري (3/ 302).

(3)

جواثاء - بالضم وبين الألفين ثاء مثلثة يمدّ ويقصر - حصن لعبد القيس بالبحرين فتحه العلاء بن الحضرمي في أيام أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه سنة 12 عنوة. وقال ابن الأعرابي: جواثا، مدينة الخط، ورواه بعضهم جؤاثا بالهمزة. وجؤاثا أول موضع جمعت فيه الجمعة بعد المدينة. وقال عياض: وبالبحرين أيضًا موضع يقال له: قصر جواثا، ويقال: ارتدت العرب كلها بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا أهل جواثا. معجم البلدان (2/ 174) ومعجم ما استعجم (401).

(4)

الأبيات في معجم البلدان (1/ 174 - 175).

(5)

في معجم البلدان: وجدنا النصر.

ص: 38

رسول الله، وأنتَ أفضلُنا وسيِّدنا، وثَبَتوا على إسلامهم، وتركُوا بقيةَ الناس فيما هم فيه

(1)

.

وبعث الصديق رضي الله عنه كما قدمنا إليهم العلاءَ بن الحَضْرمي، فلما دَنَا من البحرين جاءَ إليه ثُمامة بن أُثال في مَحْفلٍ كبيرٍ، وجاء كل أمراءَ تلك النواحي فانضافوا إلى جيشِ العلاءَ بن الحَضْرمي، فأكرمهم العلاءُ ورَحَّب

(2)

بهم وأحسنَ إليهم، وقد كان العلاء من ساداتِ الصحابةِ العلماءِ العُبَّادِ مجابي الدعوة، اتَّفَقَ له في هذه الغزوة أنه نزلَ منزلًا فلم يستقر الناسُ على الأرض حتى نَفَرتِ الإبلُ بما عليها من زادِ الجيش وخيامهم وشرابهم، وبقوا على الأرض ليس معهم شيءٌ سوى ثيابهم - وذلك ليلًا - ولم يقدروا منها على بعيرٍ واحدٍ، فركبَ الناسَ من الهمِّ والغم ما لا يُحدُّ ولا يُوصفُ، وجعلَ بعضُهم يوصي إلى بعض، فنادى منادي العلاء، فاجتمعَ الناسُ إليه، فقال: أيها الناسُ ألستم المسلمين؟ ألستُم في سبيل الله؟ ألستُم أنصارَ الله؟ قالوا: بلى، قال: فأبشروا فواللهِ لا يخذل اللهُ منْ كانَ في مثل حالكم، ونُودي بصلاةِ الصبحِ، حين طلعَ الفجرُ فصلَّى بالناس، فلما قضى الصلاةَ جثا على رُكبتيه وجثا الناسُ، ونصبَ في الدعاء ورفع يديه وفعلَ الناسُ مثله حتى طلعتِ الشمسُ، وجعلَ الناسُ ينظرون إلى سراب الشمس يلمعُ مرةً بعد أخرى، وهو يجتهدُ في الدعاء فلما بلغَ الثالثةَ إذا قد خلق الله إلى جانبهم غديرًا عظيمًا من الماءَ القَراح، فمشى ومشى الناسُ إليه فشربوا واغتسلوا، فما تعالى النهارُ حتى أقبلتِ الإبل من كلّ فجٍّ بما عليها، لم يفقدِ الناسُ من أمتعتهم سِلْكًا

(3)

، فَسَقوا الإبلَ عَللًا بعد نَهل. فكان هذا مما عاينَ الناس من آيات الله بهذه السرية.

ثم لما اقترب من جيوش المرتدة - وقد حشدوا وجمعوا خلقًا عظيمًا - نزل ونزلوا، وباتوا مُتجاورين في المنازل، فبينما المسلمون في الليل إذ سمعَ العلاءُ أصواتًا عاليةً في جيشِ المُرْتدين، فقال: منْ رجلٌ يكشفُ لنا خبرَ هؤلاء؟ فقام عبدُ الله بن حذف فدخل فيهم فوجدهم سُكارى لا يعقلون من الشراب، فرجعَ إليه فأخبره، فركبَ العلاءُ من فَوْره والجيشُ معه فكبسوا أولئك فقتلوهم قتلًا عظيمًا، وقل منْ هربَ منهم، واستولى على جميعِ أموالهم وحواصلهم وأثقالهم، فكانت غنيمةً عظيمةً جسيمةً.

وكان الحطم بن ضبيعة أخو بني قيس بن ثعلبة من سادات القوم نائمًا، فقامَ دَهِشًا حين اقتحمَ المسلمون عليهم، فركبَ جوادَهُ فانقطع ركابُه فجعلَ يقولُ: منْ يُصْلح لي ركابي؟ فجاءَ رجلٌ من المسلمين في الليل فقال: أنا أصلحُها لك، ارفع رجلك، فلما رفعها ضربه بالسيف فقطعها مع قدمه، فقال له: أجْهِزْ عليَّ، فقال: لا أفعل، فوقعَ صريعًا كلما مرَّ به أحدٌ يسأله أن يقتلَه فيأبى، حتى مرَّ به قيسُ بن عاصم فقال له: أنا الحطم فاقتلني فقتله، فلما وجدَ رجلَه مقطوعة ندمَ على قتله وقال: واسوأتاه، لو أعلمُ ما به لم أحرِّكْهُ.

(1)

الخبر في تاريخ الطبري (3/ 302).

(2)

في ط: "وترحب" خطأ، فلا وجود لهذا الفعل في العربية.

(3)

"السِّلكة": الخيط الذي يخاط به الثوب، وجمعه سِلْك وسلُوك وأسلاك. اللسان (سلك).

ص: 39

ثم ركبَ المسلمون في آثار المُنْهَزمين، يقتلونَهم بكلِّ مَرْصَدٍ

(1)

وطريق، وذهب مَنْ فرَّ منهم أو

أكثرُهم في البحر إلى دَارِين

(2)

ركبوا إليها السفن.

ثم شرع العلاءُ بن الحضرمي في قسْم الغنيمة ونقل الأثقال وفرغَ من ذلك. وقال للمسلمين: اذهبوا بنا إلى دَارين لنغزو منْ بها من الأعداء، فأجابوا إلى ذلك سَريعًا، فسارَ بهم حتَّى أتى ساحلَ البحر ليركبوا. في السُّفُنِ، فرأى أن الشُّقَّة بعيدةٌ لا يصلونَ إليهم في السفن حتى يذهبَ أعداءُ الله، فاقتحمَ البحرَ بفرسه وهو يقولُ: يا أرحمَ الراحمين، يا حكيمُ يا كريمُ، يا أحدُ يا صمدُ، يا حيُّ يا مُحيي، يا قيّومُ، يا ذا الجلال والإكرام، لا إله إلا أنت يا ربَّنا. وأمر الجيش أن يقولوا ذلك ويقتحموا، ففعلوا ذلك فأجاز بهم الخليجَ بإذن الله يمشون على مثل رملةٍ دمثةٍ فوقها ماء لا يغمر أخفاف الإبل، ولا يصلُ إلى ركبِ الخيلِ، ومسيرتُه للسفنِ يومٌ وليلةٌ، فقطعَه إلى الساحل الآخر فقاتلَ عدوَّه وقهرهم واحتازَ غنائمهم ثم رجعَ فقطَعَهُ الى الجانبِ الآخر، فعاد إلى موضعه الأول، وذلك كلُّه في يومٍ، ولم يتركْ من العدوّ مُخبرًا، واستَاقَ الذَّراري والأنعام والأموالَ، ولم يفقدِ المسلمون في البحر شيئًا سوى عَليقة

(3)

فرس لرجلٍ من المسلمين ومع هذا رجعَ العلاءُ فجاءه بها.

ثم قسَمَ غنائمَ المسلمين فيهم، فأصابَ الفارسُ ألفين والراجل ألفًا، مع كثرةِ الجيش، وكتبَ إلى الصديق فأعلمه بذلك، فبعثَ الصديق يشكرُه على ما صنعَ.

وقد قال رجل من المسلمين في مرورهم في البحر. وهو عفيف بن المنذر

(4)

: [من الطويل]

ألمْ تَرَ أنَّ الله ذَلَّل بَحْرَهُ

وأنزلَ بِالكُفَّارِ إحدى الجلائِلِ

دَعونا إلى شقِّ البحارِ فجاءنا

بِأعجب من فَلقِ البحار الأوائِلِ

وقد ذكر سيفُ بن عمر التميمي

(5)

أنه كان مع المسلمين في هذه المواقف والمشاهد التي رَأوْها من أمر العلاءَ، وما أجرى الله على يديه من الكرامات، رجل من أهل هَجَر راهب فأسلم حينئذ، فقيل له: ما دعاكَ إلى الإسلام؟ فقال: خشيتُ إن لم أفعلْ أن يمسخني الله، لما شاهدتُ من الآياتِ. قال: وقد سمعتُ في الهواء وقتَ السَّحَر دعاءً، قالوا: وما هو؟ قال: اللهم أنت الرحمنُ الرحيمُ، لا إله غيرك والبديع ليس قبلك شيء، والدائم غير الغافل، والذي لا يموت، وخالق ما يُرى وما لا يُرى، وكلَّ يومٍ

(1)

"المَرْصدُ": الطريق. اللسان (رصد).

(2)

دارين: فرضة بالبحرين، بينها وبين الساحل يوم وليلة، فتحت في أيام أبي بكر سنة 12. معجم البلدان (2/ 432).

(3)

"العليقة": البعير والناقة يوجهه الرجل مع القوم إذا خرجوا ممتارين ويدفع إليهم دراهم يمتارون له عليها. اللسان (علق).

(4)

البيتان في تاريخ الطبري (3/ 311) ومعجم البلدان (2/ 432).

(5)

تاربخ الطبري (3/ 312).

ص: 40

أنتَ في شأنٍ، وعلمتَ اللَّهم كل شيء علمًا، قال: فعلمتُ أنَّ القوم لم يعانوا بالملائكة إلَّا وهم على أمر الله، قال: فحسُنَ إسلامه وكان الصحابةُ يسمعون منه.

‌ذكرُ ردَّة أهلِ عُمان ومَهَرَ

(1)

اليَمَنِ

أما أهل عُمان فنبغَ

(2)

فيهم رجلٌ يقالَ له: ذو التاج لَقيطُ بن مالك الأَزدي، وكان يُسَمَّى في الجاهلية الجُلَنْدَى، فادّعى النُّبوَّة أيضًا، وتابعَهُ الجَهَلَةُ من أهل عُمان، فتغلَّب عليها وقهر جيفرًا وعبادًا وألجأهما إلى أطرافها، من نواحي الجبال والبحر، فبعثَ جيفر إلى الصديق فأخبره الخبر واستجاشه، فبعث إليه الصديق بأميرين وهما حذيفة بن محصن الحميري، وعرفجة البارقي من الأزد؛ حذيفة إلى عمان، وعرفجة إلى مهرة، وأمرهما أن يجتمعا ويتّفقا ويبتدئا بعُمان، وحذيفة هو الأمير فإذا ساروا إلى بلاد مهرة فعرفجة الأمير.

وقد قدمنا أن عكرمةَ بن أبي جهل لمّا بعثه الصديقُ إلى مسيلمةَ وإتباعِه بشرحبيل بن حسنة، عجَّل عكرمةُ وناهضَ مسيلمةَ قبلَ مجيءِ شرحبيل ليفوز بالظَّفر وحدَه، فناله من مسيلمة قرحٌ والذين معه، فتقهقر حتى جاء خالدُ بن الوليد، فقهرَ مسيلمة كما تقدّم، وكتب إليه الصديق يلومُه على تسرُّعه، قال: لا أرينَّك ولا أسمعن بك إلا بعد بلاء، وأمره أن يلحقَ بحذيفة وعرفجة إلى عُمان، وكل منكم أميرٌ على جيشه وحذيفة ما دمتم بعمان فهو أمير الناس، فإذا فرغمُم فاذهبوا إلى مهرة، فإذا فرغتُم منها فاذهب إلى اليمن وحضرموت فكن مع المُهاجر بن أبي أمية، ومن لقيته من المرتدة بين عمان إلى حضرموت واليمن فنكِّلْ به، فسار عكرمةُ لما أمره به الصديق، فلحق حذيفة وعرفجة قبل أن يصلا إلى عمان، وقد كتب إليهما الصديق إن ينتهيا إلى رأي عكرمة بعد الفراغِ من السير من عُمان أو المقام بها، فساروا فلما اقتربوا من عمان راسلوا جيفرًا، وبلغَ لقيطَ بن مالك مجيءُ الجيش، فخرجَ في جموعه فعسكر بمكانٍ يقال له: دبا

(3)

، وهي مصر تلك البلاد وسوقُها العُظمى، وجعل الذراري والأموال وراءَ ظهورهم ليكونَ أقوى لحربهم، واجتمع جيفر وعباد بمكانٍ يقال له صُحار

(4)

، فعسكرا به وبعثا إلى أمراء الصديق فقدموا على المسلمين، فتقابل الجيشان هنالك، وتقاتلوا قتالًا شديدًا، وابتُلي المسلمون وكادوا أن يُولُّوا، فمن الله

(1)

خبر ردة أهل عمان ومهرة اليمن في تاريخ الطبري (3/ 313) والكامل لابن الأثير (2/ 372)، وقال ياقوت: ومَهْرة - بالفتح ثم السكون - هكذا يرويه عامة الناس، والصحيح: مَهرة بالتحريك وجدته بخطوط جماعة من أئمة العلم القدماء لا يختلفون فيه. وباليمن لهم مخلات يقال بإسقاط المضاف إليه، وبينه وبين عمان نحو شهر وكذلك بينه وبين حضرموت. معجم البلدان (5/ 234).

(2)

نبغ منه شاعر: خرج، ونبغ الشيء: ظهر اللسان (نبغ).

(3)

دبا بفتح أوله والقصر: سوق من أسواق العرب بعمان وكانت قديمًا قصبة عمان. معجم البلدان (2/ 436).

(4)

"صُحار": قصبة عُمان مما يلي الجبل، وتؤام قصبتها مما يلي الساحل، وقال البكري صحار في بلاد بني تميم باليمامة أو ما يليها. معجم البلدان (3/ 393) ومعجم ما استعجم (825).

ص: 41

بكرمه ولطفه أن بعثَ إليهم مَددًا، في الساعة الراهنة من بني ناجية وعبد القيس، في جماعةٍ من الأمراءِ، فلما وصلوا إليهم كان الفتحُ والنصرُ، فولّى المشركون مُدْبرين، وركب المسلمون ظهورهم فقتلوا منهم عشرة آلاف مقاتل، وسَبَوا الذراري، وأخذوا الأموال والسوق بحذافيرها، وبعثوا بالخُمْس إلى الصديق رضي الله عنه مع أحد الأمراء، وهو عرفجة، ثم رجع إلى أصحابه.

وأما مهرة فإنهم لما فرغوا من عُمان كما ذكرنا، سار عكرمة بالناس إلى بلاد مهرة، بمن معه من الجيوش ومن أضيف إليهم، حتى اقتحم على مَهرة بلادها، فوجدهم جندين؛ على أحدهما - وهم الأكثر - أميرٌ يُقالُ له: المصبح، أحد بني محارب، وعلى الجند الآخر أمير يُقال له: شخريت، وهما مختلفان، وكان هذا الاختلاف رحمة على المؤمنين، فراسل عكرمةُ شخريت فأجابه وانضاف إلى عكرمة فقوي بذلك المسلمون، وضعف جأش المصبح، فبعث إليه عكرمة يدعوه إلى الله وإلى السمع والطاعة، فاغترّ بكثرةِ منْ مَعهُ ومخالفةً لشخريت، فتمادى على طغيانه فسار إليه عكرمةُ بمنْ معه من الجنود فاقتتلوا مع المصبح أشدَّ من قتال دبا المتقدم، ثم فتحَ اللهُ بالظفر والنصر، ففر المشركون وقتِل المصبح، وقتل خلقٌ كثيرٌ من قومه، وغنم المسلمون أموالهم، فكان في جملة ما غنموا ألفا نجيبة، فخمَّسَ عكرمة ذلك كله وبعثَ بخُمْسه إلى الصديق مع شخريت، وأخبره بما فتح الله عليه، والبشارة مع رجل يقال له: السائب، من بني عابد من مخزوم، وقد قال في ذلك رجل يقال له علجوم:[من الطويل]

جَزى اللهُ شخريتًا وأفناء هاشم

(1)

وَفِرضمَ إذ سارَت إلينا الحلائبُ

جَزاءَ مُسيءٍ لم يُراقب لذمَّةٍ

ولم يَرْجُها فيما يُرجّى الأقاربُ

أعِكْرمُ لولا جَمعُ قومي وفِعلُهُم

لضاقَت عليكُم بالفَضاءِ المذاهبُ

وكُنَّا كمَن إقتادَ كَفًّا بأختِها

وَحلَّتْ علينا في الدُّهورِ النوائِبُ

وأما أهل اليمن فقد قَدَّمنا أن الأسود العنسي لعنه الله لما نبغ باليمن، أضلَّ خلقًا كثيرًا من ضعفاء العقول والأديان حتى ارتدَّ كثير منهم أو أكثرهم عن الإسلام، وأنه لما قتله الأمراء الثلاثة قيس بن مكشوح وفيروز الديلمي، وداذويه، وكان ما قدمنا ذكره، ولما بلغهم موت رسول الله صلى الله عليه وسلم ازداد بعضُ أهل اليمن فيما كانوا فيه من الحيرة والشك، أجارنا الله من ذلك، وطمعَ قيس بن مكشوح في الإمرة باليمن، فعمل لذلك، وارتدّ عن الإسلام وتابَعَهُ عوامُّ أهل اليمن، وكتب الصدّيق إلى الأمراء والرؤساء، من أهل اليمن أن يكونوا [عونًا إلى] فيروز والأبناء

(2)

على قيس بن مَكشوح حتى تأتيهم جنوده سريعًا، وحرص قيس على قتل الأميرين الأخيرين، فلم يقدر إلا على داذويه، واحترز منه فيروز الديلمي، وذلك أنه عملَ

(1)

في تاريخ الطبري (3/ 317): هيْشم.

(2)

الأبناء: قوم من أبناء فارس أرسلهم كسرى مع سيف بن ذي يزن لما جاء يستنجدهم على الحبشة فنصروه وملكوا اليمن وتديّروها وتزوجوا من العرب. فقيل لأولادهم الأبناء وغلب عليهم هذا الاسم لأن أمهاتهم من غير جنس آبائهم. اللسان (بنى).

ص: 42

طعامًا وأرسل إلى داذويه أولًا، فلما جاءه عجَّلَ عليه فقتلَهُ، ثم أرسلَ إلى فيروز ليحضرَ عنده فلما كان ببعض الطريق سمع امرأةً تقول لأخرى: وهذا أيضًا والله مقتولٌ كما قُتل صاحبُه، فرجع من الطريق وأخبر أصحابه بقتل داذويه، وخرج إلى أخواله خولان فتحصَّن عندهم وساعدته عقيلٌ، وعكٌّ وخلقٌ.

وعمد قيسٌ إلى ذراري فيروز وداذويه والأبناء فأجلاهم عن اليمن، وأرسل طائفة في البر وطائفة في البحر، فاحتدّ فيروزُ فخرجَ في خلقٍ كثيرٍ، فتصادفَ هو وقيسٌ فاقتتلوا قتالًا شديدًا فهزم قيسًا وجنده من العوام، وبقية جند الأسود العنسي، فهزموا في كل وجه وأسر قيسٌ وعمرو بن معديكرب، وكان عمرو قد ارتدَّ أيضًا، وبايع الأسودَ العنسي، وبعث بهما المُهاجر بن أبي أمية إلى أبي بكر أسيرين، فعنَّفَهما وأنّبهما، فاعتذرا إليه فقبل منهما علانيتهما، ووكل سرائرهما إلى الله عز وجل، وأطلقَ سراحهما وردّهما إلى قومهما.

ورجعت عمَّالُ رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين كانوا باليمن إلى أماكنهم التي كانوا عليها في حياته عليه السلام بعد حروبٍ طويلة، لو استقصينا إيرادها لطال ذكرها، ومُلَخصُها أنه ما من ناحية من جزيرة العرب إلا وحصلَ في أهلها ردَّةٌ لبعض الناس، فبعثَ الصدِّيقُ إليهم جيوشًا وأمراء يكونون عونًا لمن في تلك الناحية من المؤمنين فلا يتواجه المشركون والمؤمنون في موطنٍ من تلك المواطن إلا غلب جيشُ الصدِّيق لمن هناك من المرتدين، ولله الحمد والمنة، وقتلوا منهم مقتلةً عظيمةً، وغنموا مغانم كثيرة، فيتقوون بذلك على منْ هنالك، ويبعثون بأخماسِ ما يغنمون إلى الصديق فينفقه في الناس فيحصل لهم قوةُ أيضًا ويستعدُّون به على قتال من يريدون قتلهم من الأعاجم والروم، على ما سيأتي تفصيله.

ولم يزل الأمر كذلك حتى لم يبق بجزيرة العرب إلَّا أهل طاعة للّه ولرسوله، وأهل ذمة من الصديق، كأهل نجران وما جرى مجراهم ولله الحمد.

وعامة ما وقع من هذه الحروب كان في أواخر سنة إحدى عشرة وأوائل سنة ثنتي عشرة.

ولنذكر بعد إيراد هذه الحوادث منْ توفي في هذه السنة من الأعيان والمشاهير وبالله المستعان.

وفيها رجع معاذ بن جبل من اليمن.

وفيها استبقى أبو بكر الصديق عمر بن الخطاب رضي الله عنهما.

‌ذكر من توفي في هذه السنة

أعني سنة إحدى عشرة من الأعيان والمشاهير، وذكرنا معهم من قتل باليمامة لأنها كانت سنة إحدى عشرة على قول بعضهم، وإن كان المشهور أنها في ربيع سنة ثنتي عشرة.

توفي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد بن عبد الله سيد ولد آدم في الدنيا والآخرة، وذلك في ربيعها الأول يوم الإثنين ثاني عشرِهِ على المشهور، كما قدمنا بيانه.

ص: 43

وبعده بستة أشهر على الأشهر، توفيت ابنته فاطمة

(1)

رضي الله عنها، وتُكْنَى بأم أبيها، وقد كان صلوات الله وسلامه عليه عهد إليها أنها أول أهله لحوقًا به، وقال لها مع ذلك:"أما ترضين أن تكوني سيدةَ نساءِ أهل الجنة؟ "

(2)

وكانت أصغرَ بناتِ النبي صلى الله عليه وسلم على المشهور ولم يبق بعده سواها، فلهذا عَظم أجرها لأنّها أُصيبت به عليه الصلاة والسلام، ويقال: إنها كانت توأمًا لعبد الله ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس له عليه الصلاة والسلام نسلٌ إلَّا من جهتها.

قال الزبير بن بكار: وقد رُوي أنه عليه الصلاة والسلام ليلةَ زفافِ علي عليٍّ فاطمةَ توضَّأ وصبَّ عليه وعلى فاطمةَ ودعا لهما أن يباركَ في نسلهما. وقد تزوجها ابنُ عمها علي بن أبي طالب بعد الهجرة، وذلك بعد بدر. وقيل: بعد أحدٍ، وقيل: بعد تزويجِ رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشةَ بأربعةِ أشهر ونصف، وبنى بها بعد ذلك بسبعةِ أشهرٍ ونصف، فأصدقَها درعَه الحُطَمية

(3)

وقيمتُها أربعمئة درهم، وكان عمرُها إذ ذاك خمسَ عشرةَ سنةً وخمسة أشهر، وكان عليٌّ أسنَّ منها بستِّ سنين.

وقد وردتْ أحاديثُ موضوعةٌ في تزويج عليٍّ بفاطمة لم نذكرها رغبة عنها.

فولدت له حسنًا وحسينًا ومحسنًا وأم كلثوم - التي تزوجَ بها عمرُ بن الخطاب بعد ذلك -.

وقد قال الإمام أحمد

(4)

: حدَّثنا عفان، حذَثنا حماد، أنبأنا عطاء بن السائب، عن أبيه، عن علي: أن رسول الله لما زوَّجهُ فاطمةَ بعَثَ معها بخميلةٍ ووسادةٍ من أدم حشوها ليفٌ، ورحى وسقاء وجرَّتين، فقال علي لفاطمة ذات يوم: والله لقد سنوتُ

(5)

حتى لقد اشتكيتُ صدري، وقد جاء الله أباك بسبي فاذهبي فاستخدميه، فقالت: وأنا واللهِ لقد طحنتُ حتى مجلت

(6)

يداي، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"ما جاء بك أي بنية؟ " قالت: جئتُ لأسلِّم عليك - واستَحْيَتْ أن تسألَه - ورجعتْ، فقال: ما فعلتِ؟ قالت: استحييتُ أن أسأله، فأتياه جميعًا، فقال علي: يا رسولَ الله والله لقد سَنَوْتُ حتى اشتكيتُ صدري، وقالت فاطمة: لقد طَحَنْتُ حتى مَجَلَتْ يداي، وقد جاءكَ الله بسبي وسَعة فأخدمنا، فقال:"والله لا أعطيكما وأدع أهل الصفة تَطْوَى بطونهم لا أجد ما أنفق عليهم"

(7)

فرجعا فأتاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد

(1)

ترجمة فاطمة الزهراء رضي الله عنها في طبقات ابن سعد (8/ 222) والاستيعاب (4/ 1891) وأسد الغابة (7/ 217) وسير أعلام النبلاء (2/ 118 - 134) والإصابة (4/ 377 - 380).

(2)

رواه البخاري رقم (3624) ومسلم رقم (2450)(98) و (99).

(3)

الحُطميَّةُ: دروع كانت تنسب إلى رجل كان يعملها وكان لعلي رضي الله عنه درع يقال لها: الحطميَّة وهي التي تحطم السيوف أي تكسرها، وقيل: هي العريضة الثقيلة، وقيل: هي منسوبة إلى بطن من عبد قيس يقال لهم حُطمة بن محارب كانوا يعملون الدروع. قال: وهذا أشبه الأقوال. اللسان (حطم).

(4)

مسنده (1/ 106 - 107) رقم (838) وإسناده حسن، وهو حديث صحيح.

(5)

سنوت، ونسنو أي نستقي. النهاية (2/ 415) واللسان (سنا).

(6)

مجلت: تقرَّحت من الحمل.

(7)

بعد هذا في المسند: "ولكني أبيعهم وأنفق عليهم أثمانهم".

ص: 44

دخلا في قطيفتهما إذا غطت رؤوسهما تكشفت أقدامهما، واذا غطت أقدامهما تكشفت رؤوسهما، فثارا، فقال: مكانكما، ثم قال: ألا أخبركما بخير مما سألتماني؟ قالا: بلى، قال:"كلمات علمنيهن جبريل، تُسَبِّحانِ اللهَ في دُبُرِ كلِّ صلاةٍ عشرًا، وتحمدانِ عشرًا، وتكبّران عشرًا، واذا آويتما إلى فراشكما فسبِّحا ثلاثًا وثلاثين، واحمدا ثلاثًا وثلاثين، وكبِّرا أربعا وثلاثين" قال: فواللّه ما تركتهن منذ علمنيهن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فقال له ابن الكوا: ولا ليلة صفّين؟ فقال: قاتلكم الله يا أهل العراق، نعم ولا ليلة صفين.

وآخر هذا الحديث ثابتٌ في الصَّحيحين

(1)

من غير هذا الوجه، فقد كانت فاطمةُ صابرةً مع عليٍّ على جَهْدِ العيشِ وضيقِه، ولم يتزوجْ عليها حتى ماتَتْ، ولكنه أرادَ أن يتزوجَ في وقتٍ بدرة

(2)

بنت أبي جهل، فأنف رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك، وخطب الناسَ فقال:"لا أحرِّمُ حلالًا ولا أحلّ حرامًا، وإنّ فاطمةَ بضعةٌ مني، يريبني ما رابها، ويؤذيني ما آذاها، وإني أخشى أن تُفْتن عن دينها، ولكن إني أحبُّ ابنَ أبي طالب أن يطلِّقَها ويتزوجَ بنتَ أبي جهل، فإنّه واللهِ لا تجتمعُ بنتُ نبي الله وبنت عدوِّ اللهِ تحتَ رجُل واحدٍ أبدًا"

(3)

قال: فترك عليٌّ الخطبة.

ولما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم سألت من أبي بكر الميراث فأخبرها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا نورث، ما تركنا فهو صدقةٌ"

(4)

فسألتْ أن يكونَ زوجُها ناظرًا على هذه الصدقة فأبى ذلك، وقال: إني أعول منْ كان رسول الله يعول، واني أخشى إن تركتُ شيئًا مما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله أن أضل، ووالله لقرابةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أحبُّ إليَّ أن أصل من قرابتي، فكأنها وجدت في نفسها من ذلك، فلم تزل تبغضه مدة حياتها، فلما مرضت جاءها الصديقُ فدخلَ عليها فجعلَ يترضّاها وقال: واللهِ ما تركتُ الدارَ والمالَ والأهلَ والعشيرةَ إلَّا ابتغاء مرضاةِ الله ومرضاةِ رسوله ومرضاتكم أهلَ البيت، فرضيتْ رضي الله عنهما.

رواه البيهقي

(5)

من طريق إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي، ثم قال: وهذا مرسل حسن بإسناد صحيح.

ولما حضرتها الوفاة أوصتْ إلى أسماء بنت عُمَيْس - أمرأة الصديق - أن تُغَسِّلَها، فَغَسَّلَتْها هي وعليُّ بن أبي طالب، وسلمى أم رافع، قيل: والعبَّاسُ بنُ عبد المطلب.

(1)

الحديث رواه البخاري في صحيحه - (3705) في فضائل الصحابة، ومسلم في صحيحه - (2727)(80) في الذكر والدعاء.

(2)

في جامع الأصول (13/ 280) هي جويرية، وقيل جميلة.

(3)

الحديث رواه أحمد في مسنده (4/ 326) بألفاظ متقاربة، والبخاري في صحيحه (3110) في فرض الخمس، ومسلم في صحيحه (2449)(95) في فضائل الصحابة.

(4)

حديث صحيح سبق تخريجه في خلافة أبي بكر الصديق من هذا الجزء.

(5)

في السنن الكبرى (6/ 298) ودلائل النبوة (7/ 280).

ص: 45

وما رُوي من أنّها اغتسلتْ قبلَ وفاتها وأوصتْ أن لا تُغسَّلَ بعد ذلك فضعيفٌ لا يُعوَّلُ عليه، والله أعلم.

وكان الذي صلَّى عليها زوجُها عليٌّ، وقيل: عمها العباسُ، وقيل أبو بكر الصديق، فالله أعلم. ودُفنت ليلًا وذلك ليلة الثلاثاء لثلاث خلونَ من رمضان سنة إحدى عشرة وقيل: إنها توفيت بعدَه عليه السلام بشهرين، وقيل: بسبعين يومًا، وقيل: بخمسة وسبعين يومًا، وقيل: بثلاثة أشهر، وقيل: بثمانية أشهر، والصحيح ما ثبت في الصحيح

(1)

من طريق الزُّهري عن عروة عن عائشة: أن فاطمة عاشت بعد النبي صلى الله عليه وسلم ستة أشهر، ودفنت ليلًا، ويقال إنّها لم تَضْحك في مدة بقائها بعده عليه السلام، وأنّها كانت تذوبُ من حُزْنها عليه، وشوقها إليه.

واختلف في مقدار سنّها يومئذ فقيل: سبع، وقيل: ثمانٍ وقيل: تسع وعشرون، وقيل: ثلاثون، وقيل: خمس وثلاثون سنة، وهذا بعيد وما قبله أقرب منه، والله أعلم.

ودفنت بالبقيع، وهي أول من سُتر سريرها.

وقد ثبت في الصحيح

(2)

أن عليًّا كان له وجهٌ من الناس حياة فاطمة، فلما ماتت التمس مبايعة الصدِّيق فبايعه كما هو مروي في البخاري، وهذه البيعة لإزالة ما كان وقع من وحشةٍ حصلت بسبب الميراث، ولا ينفي ما ثبتَ من البيعة المتقدمة عليها كما قررنا، والله أعلم.

وممَّنْ تُوفِّي هذه السنة:

أمّ أيمن بَرَكةٌ

(3)

بنت ثَعْلَبَة بن عَمْرو بن حِصْن

(4)

بن مالك بن سَلَمة بن عَمْرو بن النُّعْمان، مولاةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ورثها من أبيه، وقيل من أمه، وحضنتْهُ وهو صغير، وكذلك بعد ذلك، وقد شربت بولَهُ، فقال لها: لقد احتظرت بحظار

(5)

من النار، وقد أعتقها وزوَّجها عُبيدًا

(6)

فولدت منه ابنها أيمن فعرفت به، ثم تزوجها زيد بن حارثة، مولى رسول الله، فولدت أسامة بن زيد، وقد هاجرت الهجرتين إلى

(1)

صحيح الإمام البخاري (4240) و (4241) في المغازي، وصحيح مسلم (1759)(52) في الجهاد والسير.

(2)

نفس المصادر السابقة وصحيح ابن حبان (4823) في السير.

(3)

ترجمة - أم أيمن - في طبقات ابن سعد (8/ 223 - 227) والاستيعاب (4/ 1793) وأسد الغابة (7/ 37) وجامع الأصول (12/ 177) وسير أعلام النبلاء (2/ 223 - 227) وتهذيب التهذيب (12/ 459) والإصابة (4/ 432 - 434) والشذرات (1/ 135).

(4)

في ط: "حُصين" محرف، وما أثبتناه يعضده ما في تهذيب الكمال (35/ 329) وفروعه، والاستيعاب (4/ 1793) والإصابة وغيرها.

(5)

في ط: احتضرت بحضار؛ خطأ. ومعنى احتظرت بحظار: لقد احتميت بحمى عظيم من النار يقيك حرّها ويؤمنك دخولها. النهاية (1/ 404) واللسان (حظر).

(6)

هو عُبيد بن الحارث الخزرجي.

ص: 46

الحبشة والمدينة، وكانت من الصالحات، وكان عليه السلام يزورها في بيتها ويقول: هي أمي بعد أمي، وكذلك كان أبو بكر وعمر يزورانها في بيتها، كما تقدم ذلك في ذكر الموالي، وقد توفيت بعده عليه الصلاة والسلام بخمسة أشهر وقيل بستة أشهر.

ومنهم:

ثابتٌ

(1)

بن أقْرم بن ثَعْلبة بن عَدِيّ بن العَجْلان البَلَوي، حليف الأنصار، شهدَ بدرًا وما بعدها، وكان ممَّن حَضَرَ مُؤْتةَ فلما قُتِلَ عبدُ الله بن رَوَاحةَ دُفعت الرايةُ إليه فسلَّمها لخالدِ بن الوليد، وقال: أنت أعلمُ بالقتالِ منّي، وقد تقدَّم أن طُليحة الأسدي قَتَله وقتلَ معه عُكَّاشةَ بن مِحْصن وذلك حين يقول طُلَيْحة

(2)

: [من الطويل]

عشِيَّةَ غادرتُ ابن أقرم ثاوِيًا

وعُكَّاشَةَ الغَنميَّ تحتَ مَجالِ

وذلك في سنة إحدى عشرة، وقيل سنة ثِنْتي عشرةَ، وعن عروة أنه قُتل في حياةِ النبي صلى الله عليه وسلم وهذا غريب، والصحيح الأول، والله أعلم.

ومنهم:

ثابتُ بن قيس بن شَمَّاس

(3)

الأنْصاري الخَزْرجي، أبو محمد خطيبُ الأنصار ويقال له أيضًا: خطيب النبي صلى الله عليه وسلم وقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه بشَّره بالشهادة، وقد تقدم الحديث في دلائل النبوة، فقُتل يوم اليمامة شهيدًا، وكانت راية الأنصار يومئذ بيده.

وروى الترمذي

(4)

بإسناد على شرط مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "نعم الرجل ثابتُ بن قيس بن شمّاس".

وقال أبو القاسم الطبراني

(5)

: حدثنا أحمد بن المعلَّى الدمشقي: حدَّثنا سليمان بن عبد الرحمن، حدَّثنا الوليد بن مسلم، حدَّثني عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن عطاء الخراساني قال: قدمتُ المدينةَ فسألتُ عمَّن يحدثني بحديث ثابت بن قيس بن شَمّاس، فأرشدوني إلى ابنته، فسألتها فقالت: سمعت أبي يقول:

(1)

ترجمة - ثابت بن أقرم - في الاستيعاب (1/ 199)، وأسد الغابة (1/ 265) والإصابة (1/ 190).

(2)

مر تخريج الأبيات وخبر قتله ص 17 من هذا الجزء.

(3)

ترجمة - ثابت بن قيس - في طبقات ابن سعد (5/ 206) والاستيعاب (2/ 200) وجامع الأصول (13/ 218 - 219) وأسد الغابة (1/ 275 - 276) وسير أعلام النبلاء (1/ 308 - 314) والإصابة (1/ 195 - 196).

(4)

الجامع (3795) في المناقب. وقال هذا حديث حسن إنما نعرفه من حديث سهيل. قال بشار: وهو كما قال، وإنما اقتصر على تحسينه لغرابة في متنه وللاختلاف في وصله وإرساله، كما هو مبين في تخريجه.

(5)

في المعجم الكبير رقم (1320).

ص: 47

لما أُنزلَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان: 18] اشتدَّتْ على ثابتٍ وغلقَ عليه بابَه، وطفِقَ يبكي، فأُخبر رسول الله، فسأله فأخبره بما كَبُرَ عليه منها، وقال: أنا رجلٌ أحبُّ الجَمال، وأن أَسُودَ قومي، فقال:"إنّك لست منهم، بل تعيش بخير وتموت بخير، ويُدْخلكَ اللهُ الجنةَ". فلما أنزل على رسول الله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ} [الحجرات: 2] فعلَ مثلَ ذلك، فأخبر النبيُّ صلى الله عليه وسلم فأرسلَ إليه فأخبره بما كَبُر عليه منها، وأنه جَهيرُ الضَوت، وأنه يتخوَّفُ أن يكونَ ممَّنْ حَبِطَ عملُه، فقال:"إنك لستَ منهم، بل تعيشُ حميدًا وتُقْتلُ شهيدًا ويُدخلكَ اللهُ الجنة" فلما استنفر أبو بكر المسلمين إلى أهل الردَّةِ واليمامةِ ومُسَيْلمة الكذاب، سار ثابت فيمنْ سارَ، فلما لَقُوا مسيلمة وبني حنيفة هزموا المسلمين ثلاث مرات، فقال ثابتٌ وسالمٌ مولى أبي حذيفة: ما هكذا كنَّا نقاتلُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعلا لأنفسهما حفرة فدخلا فيها فقاتلا حتى قُتلا.

قالت: وأُرِيَ رجلٌ من المسلمين ثابتَ بن قيس في منامه فقال: إني لما قُتلت بالأمس مرَّ بي رجلٌ من المسلمين فانتزعَ منّي درعًا نفيسة ومنزلُه في أقصى العسكر وعند منزله فرسٌ يَسْتن

(1)

في طوله، وقد أكفأ على الدرع بُرْمةً، وجعل فوق البُرْمة رَحْلا، وائت خالد بن الوليد فليبعث إلى درعي فليأخذها، فإذا قدمتَ على خليفة رسول الله فأعلمه أنَّ عليَّ من الدَّين كذا، ولي من المال كذا، وفلان من رقيقي عتيق، وإيّاك أن تقول: هذا حلم فَتُضيِّعه، قال: فاأتى خالدًا فوجَّه إلى الدرع فوجدها كما ذكر، وقدم على أبي بكر فأخْبَرهُ، فأنفذَ أبو بكر وصيَّتهُ بعد موته، فلا نعلم أحدًا جازَتْ وصيَّتهُ بعد موته إلَّا ثابت بن قيس بن شمّاس

(2)

.

ولهذا الحديث وهذه القصة شواهد أخر. والحديث المتعلق بقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} في صحيح مسلم

(3)

عن أنس.

وقال حماد بن سلمة: عن ثابت عن أنس: أن ثابت بن قيس بن شمَّاس، جاء يوم اليمامة وقد تحنّط ونشر أكفانه وقال: اللهم إنّي أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء، وأعتذرُ إليك مما صنعَ هؤلاء، فقُتل وكانت له درعٌ فسُرقت فرآه رجل فيما يرى النائم فقال: إن درعي في قدر تحتَ الكانون في مكان كذا وكذا، وأوصاه بوصايا، فطلبوا الدرع فوجدوها، وأنفذوا الوصايا. رواه الطبراني

(4)

أيضًا.

(1)

في ط: تبن، وهو تحريف. وما هنا عن مصادره، واستنّ الفرسُ يَسْتنُّ استنانًا أي: عَدا لمرحه ونشاطه لطول حبله. النهاية (3/ 410) واللسان (سنن).

(2)

في إسناد هذا الحديث بنت ثابت بن قيس بن شماس مجهولة، ولكن القصة كما قال المصنف لها شواهد.

(3)

صحيح مسلم (119)(188) في الإيمان.

(4)

المعجم الكبير رقم (1307).

ص: 48

ومنهم:

حَزْن

(1)

بن أبي وهب بن عمرو بن عائذ

(2)

بن عمران المَخْزُومي، له هجرةٌ: ويقال: أسلم عامَ الفتح، وهو جدُّ سعيد بن المُسَيّب. أراد رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يسميه سَهْلًا فامتنعَ وقال: لا أغيّرُ اسمًا سمانيه أبواي، فلم تزل الحزونة فينا

(3)

. استُشهد يومَ اليمامة. وقتل معه أيضًا ابناه عبد الرحمن ووهب، وابن ابنه حكيمُ بن وَهْبِ بن حزن.

وممَّنِ استُشهد في هذه السنة داذَويه الفارسي أحدُ أمراءِ اليمنِ الذين قتلوا الأسودَ العَنْسي، قتله غيلةً قيسُ بن مَكْشوح حين ارتدَّ قبل أن يرجعَ إلى الإسلام، فلما عنَّفه الصدِّيقُ على قتله أنكر ذلك، فقبل علانيته وإسلامه. ومنهم: زيد

(4)

بن الخطاب بن نُفَيْل القُرشي العَدوي أيو محمد، وهو أخو عمر بن الخطّاب لأبيه، وكان زيدٌ أكبر من عمر، أسلم قديمًا، وشهدَ بدرًا، وما بعدها، وقد آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين معن بن عديّ الأنصاري وقد قُتلا جميعًا باليمامة، وقد كانت رايةُ المهاجرين يومئذ بيده، فلم يزل يتقدَّم بها حتى قُتل فسقطت، فأخذها سالم مولى أبي حذيفة، وقد قتل زيد يومئذ الرّجّال بن عُنفوة، واسمه نهار، وكان الرَّجَّال هذا قد أسلم وقرأ البقرة ثم ارتدَّ ورجعَ فصدَّق مسيلمةَ وشهد له بالرسالة، فحصل به فتنة عظيمة، فكانت وفاته على يد زيد، رضي الله عن زيد. ثم قتلَ زيدًا رجل يقال له: أبو مريم الحنفي، وقد أسلم بعد ذلك وقال لعمر: يا أميرَ المؤمنين إن الله أكرم زيدًا بيدي ولم يُهنِّي على يده، وقيل: إنما قتله سلمةُ بن صبيح ابن عمِّ

(5)

أبي مريم هذا، ورجَّحه أبو عمر

(6)

وقال: لأن عمر استقضى أبا مريم، وهذا لا يدل على نفي ما تقدم، والله أعلم.

وقد قال عمر لما بلغَهُ مقتلُ زيد بن الخطاب: سبقني إلى الحُسَنيينِ، أسلمَ قبلي، واستشُهد قبلي.

(1)

ترجمة - حزن بن أبي وهب - في الاستيعاب (1/ 401) وجامع الأصول (13/ 313) وأسد الغابة (2/ 4) وتهذيب الكمال (5/ 590) وتهذيب التهذيب (2/ 243) والإصابة (1/ 325).

(2)

في ط: "عامر" محرف، وما أثبتناه يعضده ما في مصادر ترجمته.

(3)

صحيح البخاري (6190) في الأدب.

(4)

ترجمة - زيد بن الخطاب - في طبقات ابن سعد (3/ 274) وحلية الأولياء (1/ 367) والاستيعاب (2/ 550 - 553) وجامع الأصول (14/ 109) وأسد الغابة (2/ 285) وتهذيب الأسماء واللغات (1/ 203 - 204) وسير أعلام النبلاء (1/ 297 - 299) وتهذيب الكمال (10/ 65) وتهذيب التهذيب (3/ 411) والإصابة (1/ 565).

(5)

في ط: ابن عمر؛ تصحيف، وما هنا عن الاستيعاب.

(6)

قال أبو عمر رحمه الله: النفس أميل إلى هذا، لأن أبا مريم لو كان قاتل زيد ما استقضاه عمر، والله أعلم. الاستيعاب (552).

ص: 49

وقال لمُتَمِّم بن نويرة حين جعلَ يرثي أخاه مالكًا بتلك الأبيات المتقدم ذكرها: لو كنتُ أحسنُ الشعرَ لقلتُ كما قلت، فقال له متمِّم: لو أن أخي ذهب على ما ذهبَ عليه أخوك ما حزنتُ عليه، فقال له عمر: ما عزّاني أحد بمثل ما عزَّيْتني به، ومع هذا كان عمرُ يقول: ما هبتِ الصَّبا إلا ذَكَّرَتْني زيدَ بن الخطاب، رضي الله عنه.

ومنهم:

سالم

(1)

بن عبيد ويقال: ابن مَعْقل

(2)

مولى أبي حذيفة بن عُتْبة بن رَبيعة، وإنما كان مُعْتقًا لزوجته ثُبَيْتة بنت يَعَار

(3)

وقد تَبنّاهُ أبو حُذَيْفة

(4)

وزوَّجَهُ بابنةِ أخيه فاطمة بنت الوليد بن عُتْبة، فلما أنزل الله {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب: 5] جاءت امرأة أبي حُذَيْفة سَهْلة بنت سَهْل بن عمرو فقالت: يا رسولَ الله إن سالمًا يدخل عليَّ وأنا غفلٌ، فأمرها أن تُرْضِعهُ فأرْضَعَتْهُ فكانَ يدخلُ عليها بتلك الرضاعة، وكان من سادات المسلمين، أسلمَ قديمًا وهاجرَ إلى المدينة قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يُصلي بمن بها من المُهاجرين، وفيهم عمر بن الخطاب لكثرةِ حفظِهِ القرآن، وشهد بدرًا وما بعدها، وهو أحد الأربعة الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:"استقرئوا القرآنَ من أربعةٍ"

(5)

فذكر منهم سالمًا مولى أبي حذيفة.

وروي عن عمر أنه قال لما احتُضِر: لو كانَ سالمٌ حيًّا لما جعلتها شُورى، قال أبو عمر بن عبد البر

(6)

. معناه أنّه كان يصدرُ عن رأيه فيمن يُولّيه الخلافةَ. ولما أخذ الرايةَ يومَ اليمامةِ بعد مَقْتل زيدٍ بن الخطاب قال له المهاجرون: أتَخْشَى أنْ نُؤْتى من قبلك؟ فقال: بئسَ حاملُ القرآن أنا إذًا. انقطعت يدُه اليمنى فأخذها بيساره، فقُطعت فاحتضنها وهو يقول:{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران: 144]{وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} [آل عمران: 146] فلما صرع قال لأصحابه: ما فعل أبو حُذَيْفة؟ قالوا: قُتل، قال: فما فعلَ فلان؟ قالوا: قُتل، قال: فأضجعوني بينهما. وقد بعثَ عمرُ بميراثه إلى مولاته التي أعْتَقَتْه "بثينة"

(7)

فردَّتْه وقالتْ: إنّما أعْتَقَتْهُ سائبةٌ، فجعله عمر في بيت المال.

(1)

ترجمة - سالم مولى أبي حذيفة - في حلية الأولياء (1/ 176 - 177) والاستيعاب (2/ 567) وجامع الأصول (14/ 154 - 157) وأسد الغابة (2/ 307 - 309) وتهذيب الأسماء واللغات (1/ 206 - 207) وسير أعلام النبلاء (1/ 167 - 170) والإصابة (2/ 6 - 8).

(2)

في ط؛ ابن يعمل؛ تحريف، والتصحيح من مصادره.

(3)

في ط: يعاد؛ تحريف؛ والتصحيح من مصادر الترجمة.

(4)

في ط: حنيفة؛ تحريف.

(5)

تمام الحديث: "استقرؤوا القرآن من أربعة: من ابن مسعود، وسالم مولى أبي حذيفة، وأبيّ بن كعب، ومعاذ بن جبل" أخرجه مسلم في صحيحه (2464)(117) في فضائل الصحابة.

(6)

الاستيعاب (2/ 568).

(7)

تقدم قبل أسطر اسمها: ثُبَيْتة؛ وفي اسمها خلاف بين هذين الاسمين وثالث هو عمرة. الاستيعاب (2/ 568).

ص: 50

ومنهم:

أبو دُجَانة سِماك

(1)

بن خَرَشَة ويقال سِماك بن أوْس بن خَرَشَة بن لَوْذان بن عَبْدِ ودٍّ بن زيد بن ثَعْلَبة بن الخَزْرجِ بن ساعدة بن كَعب بن الخَزْرج الأنْصاري الخَزْرجي. شهدَ بدرًا وأبلى يومَ أُحُدٍ، وقاتلَ شديدًا وأعطاهَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يومئِذٍ سَيْفًا فأعطاهُ حَقَّه وكانَ يَتَبَخْترُ عندَ الحَرْب، فقال عليه السلام: "إنَّ هذه لمشيةٌ يبغضها اللهُ، إلا في هذا الموطن

(2)

. وكان يعصبُ رأسَهُ بعصابةٍ حمراء، شعارًا له بالشجاعة. وشهدَ اليمامةَ ويُقال إنَّه ممَّنِ اقْتَحم على بني حنيفةَ يومئذٍ الحديقةَ فانكسرت رجلُه، فلم يزل يُقاتل حتى قُتل يومئذ. وقد قَتل مُسَيْلمةَ مع وَحْشيِّ بن حَرْب رماه وَحْشيّ بالحربة وعلاهُ أبو دُجانة بالسَّيْف، قال وحشي: فَربُّك أعلمُ أيُّنا قَتَله. وقد قيل إنه عاش حتَّى شَهدَ صِفِّين مع علي، والأول أصح. وأما ما يروى عنه من ذكر الحِرْز

(3)

المنسوب إلى أبي دُجانة فإسناده ضعيف ولا يُلتفت إليه، والله أعلم.

ومنهم:

شجاع

(4)

بن وَهْب بن رَبيعة الأسَدي، حليف بني عبد شمس، أسلمَ قديمًا وهاجرَ وشهدَ بدرًا وما بعدها، وكان رسولَ رسولِ الله إلى الحارث بن أبي شمر الغَسّاني فلم يُسْلم، وأسلم حاجبُه سوي. واستُشهد شُجاعُ بن وهب يومَ اليمامةِ عن بضعٍ وأربعين سنة، وكان رجلًا طوالًا نحيفًا أجنأ

(5)

.

ومنهم:

الطفيل

(6)

بن عَمْرو بن طَريف بن العاص بن ثَعْلبة بن سُلَيْم بن فَهْم

(7)

بن غَنْم بن دَوْس الدَّوْسي، أسلم قديمًا قبل الهجرة، وذهب إلى قومه فدعاهم إلى الله فهداهم الله على يديه، فلمّا هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة جاءه بتسعين أهل بيت من دَوْس مسلمين، وقد خرج عامَ اليمامة مع المسلمين ومعه ابنه عمرو، فرأى الطُّفَيْل في المَنام كأن رأسه قد حُلقَ، وكأنّ امرأةً أدخلته في فرجها، وكأن ابنه يجهتدُ أن يلحقه فلم

(1)

ترجمة - أبي دجانة - في الاستيعاب (2/ 651) وجامع الأصول (14/ 195 - 196) وأسد الغابة (2/ 451 - 452) وتهذيب الأسماء واللغات (2/ 227 - 228) وسير أعلام النبلاء (1/ 243 - 245) والإصابة (2/ 77).

(2)

الحديث رواه أحمد في مسنده (3/ 123) ومسلم في صحيحه (2470) في فضائل الصحابة.

(3)

قال الذهبي في سيره (1/ 245): وحرز أبي دجانة شيء لم يصحّ ما أدري منْ وضعه. وقد أورد المحققان الفاضلان للجزء الأول من سير أعلام النبلاء هذا الحرز كاملا في الهامش.

(4)

ترجمة - شجاع بن وهب - في الاستيعاب (2/ 707) وأسد الغابة (2/ 505) والإصابة (2/ 138).

(5)

في ط: أجنى؛ تحريف وأجنأ: أحدب الظهر. اللسان (جنأ).

(6)

ترجمة - الطفيل بن عمرو - في الاستيعاب (2/ 757) وجامع الأصول (14/ 389) وأسد الغابة (3/ 78 - 81) وسير أعلام النبلاء (1/ 344 - 347) والإصابة (2/ 225 - 226).

(7)

في ط: فهر؛ وهو تحريف، والتصحيح من مصادره.

ص: 51

يصل. فأولها بأنه سيقتل ويدفن، وأن ابنه يحرص على الشهادةِ فلا ينالُها عامَه ذلك. وقد وقع الأمر كما أوّلها، ثم قُتل ابنُه شهيدًا يوم اليرموك كما سيأتي

(1)

.

ومنهم:

عَبَّاد

(2)

بن بشر بن وَقْش الأنصاري: أسلم على يدَيْ مُصْعب بن عُمَيْر قبلَ الهجرة قبلَ إسلام مُعاذ، وأُسَيْد بن الحُضيْر، وشهد بدرًا وما بعدها. وكان ممَّنْ قتل كَعْب بن الأشرف، وكانت عصاهُ تُضيءُ له إذا خرج من عند رسول الله في ظلمةٍ.

قال موسى بن عقبة عن الزهري: قُتل يوم اليمامةِ شَهيدًا عن خمسٍ وأربعين سنة، وكان له بلاءٌ وعناءٌ.

وقال محمد بن إسحاق: عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن عائشة قالت:

تهجَّدَ رسولُ الله فسمع صوتَ عَبَّاد فقال: "اللَّهم اغْفِرْ لَهُ"

(3)

.

ومنهم:

السَّائِب

(4)

بن عُثْمان بن مَظْعون: بَدْريٌّ من الرماة، أصابه يومَ اليمامةِ سَهْمٌ فقتَله وهو شابٌّ، رحمه ومنهم:

السَّائبُ بن العَوَّم

(5)

أخو الزُّبَيْر بن العَوَّام واستُشهدَ يومئذ، رحمه الله.

(1)

ستأتي ترجمته مع وفيات سنة 13 من هذا الجزء.

(2)

ترجمة - عباد بن بشر - في الاستيعاب (801) وجامع الأصول (14/ 429 - 430) وأسد الغابة (3/ 150 - 151) وسير أعلام النبلاء (1/ 337 - 340) والإصابة (2/ 263).

(3)

الحديث رواه البخاري في صحيحه معلقًا (2655) في الشهادات بلفظ: "اللهم ارحم عبادًا"، ووصله أبو يعلى في مسنده رقم (4388) من حديث عباد عن عائشة قالت: تهجد النبي صلى الله عليه وسلم في بيتي وتهجد عباد بن بشر في المسجد، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته، فقال:"اللهم ارحم عبادًا" وفيه عنعنة ابن إسحاق وانظر الفتح (5/ 265).

(ملاحظة: وقع في المطبوع من مسند أبي يعلى: عن يحيى بن عباد، عن عائشة: وهو غلط بين، فإن يحيى بن عباد لم يلق عائشة، وإنما رواه عن أبيه: عباد بن عبد الله بن الزبير، عن عائشة، كما صَرَّح به الحافظ ابن حجر في الفتح. أما كلام محققه ففيه تخبيط عجيب، وآية ذلك أن يحيى بن عباد ولد بلا شك بعد وفاة عائشة)(بشار).

(4)

ترجمة - السائب بن عثمان - في الاستيعاب (575) وأسد الغابة (1/ 318) وسير أعلام النبلاء (1/ 163) والإصابة (2/ 11).

(5)

ترجمة - السائب بن العوام - في الاستيعاب (575) وأسد الغابة (2/ 318 - 319) والإصابة (2/ 11 - 12).

ص: 52

ومنهم:

عبد الله

(1)

بن سهيل بن عمرو بن عبد شمس بن عَبْد ودٍّ القُرَشي العامري، أسلمَ قديمًا وهاجرَ ثم استُضعِفَ بمكة، فلما كان يوم بدر خرج معهم فلما تواجَهوا فرَّ إلى المسلمين فشهدها معهم، وقُتل يومَ اليمامة، فلما حجَّ أبو بكر عَزَّى أباه فيه، فقال سُهيل: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الشهيدَ ليشفعُ لسبعين من أهله"

(2)

فأرجو أن يبدأ بي.

ومنهم:

عبد الله

(3)

بن عبد الله بن أُبيّ بن سَلُول الأنصاري الخزرجي، كان من سادات الصَّحابة وفضلائهم، شهدَ بدرًا وما بعدَها، وكان أبوه رأسَ المنافقين، وكان أشدَّ الناس على أبيه، ولو أذن له رسول الله فيه لضربَ عُنُقه، وكان اسمه الحُباب، فسمّاه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عبدَ الله، وقد استشهد يومَ اليمامة رضي الله عنه.

ومنهم:

عبد الله بن أبي بَكْر الصِّدِّيق

(4)

أسلم قديمًا، ويقال: إنه الذي كانَ يأتي بالطعامِ والشرابِ والأخبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أبي بكر وهما بغارِ ثَوْرٍ، ويبيتُ عندهما ويصبحُ بمكة كبائتٍ، فلا يسمع بأمر يكادان به إلا أخبرهما به. وقد شهد الطائف فرماه رجلٌ يُقال له أبا محجن الثقفي بسهمٍ فَذَوى، فاندمَلَتْ ولكنْ لم يزلْ منها حمتًا

(5)

حتى مات في شوال سنة إحدى عشرة.

ومنهم:

عُكَّاشة بن مِحْصنٍ

(6)

بن حُرْثان بن قيس بن مرة بن كبير

(7)

بن غَنْم بن دُودان بن أَسَد بن خُزيمة الأسدي

(1)

ترجمة - عبد الله بن سهيل - في الاستيعاب (925) وأسد الغابة (3/ 271) والإصابة (2/ 322 - 323).

(2)

الحديث رواه أبو داود في سننه (2522) في الجهاد، وابن حبان في صحيحه رقم (4660) في السير كلاهما عن أبي الدرداء، وهو حديث صحيح.

(3)

ترجمة - عبد الله بن عبد الله بن أبيّ - في طبقات ابن سعد (3/ 89 - 90) والاستيعاب (6/ 273) وجامع الأصول (14/ 470 - 471) وأسد الغابة (3/ 296) وتهذيب الأسماء واللغات (1/ 276) والإصابة (6/ 142 - 143).

(4)

ترجمة - عبد الله بن أبي بكر - في الاستيعاب (874 - 875) وجامع الأصول (14/ 439) وأسد الغابة (3/ 188 و 299 - 300) وتهذيب الأسماء واللغات (1/ 262) والإصابة (2/ 283 - 284).

(5)

حمت - كفرح - تغيَّر وفسد. اللسان والقاموس والتاج (همت).

(6)

ترجمة - عكاشة بن محصن - في حلية الأولياء (2/ 12) والاستيعاب (1080 - 1081) وجامع الأصول (14/ 532 - 533) وأسد الغابة (4/ 67) وتهذيب الأسماء واللغات (1/ 338) وسير أعلام النبلاء ((1/ 307 - 308) والإصابة (2/ 494 - 495).

(7)

في ط والاستيعاب: كثير، وفي الإصابة: بكير؛ وكلاهما تحريف، وما هنا عن جامع الأصول وتوضيح المشتبه (7/ 297).

ص: 53

حليف بني عبد شمس، يكنى أبا مِحْصن، وكان من سادات الصّحابة وفضلائهم، هاجرَ وشهدَ بدرًا، وأبلى يومئذ بلاءً حسنًا، وانكسر سيفُه، فأعطاهُ رسولُ الله يومئذ عرجونًا، فعادَ في يده سيفًا أمضى من الحديد شديد المتن. وكان ذلك السيف يسمى "العون". وشهدَ أُحدًا والخندق وما بعدها.

ولما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنةَ بغير حساب، فقال عُكاشة: يا رسول الله ادعُ اللهَ أن يجعلني منهم. فقال: "اللَّهُمّ اجعلْه منهم"

(1)

ثم قام رجل آخر فقال: يا رسولَ الله ادعُ الله أن يجعلني منهم، فقال:"سَبَقك بها عُكاشَة". والحديث مروي من طرق تفيد القطع.

وقد خرج عكاشة مع خالد يوم إمرةِ الصديق بذي القصة فبعثَه وثابتَ بن أقْرمِ بين يديه طليعة، فتلقاهما طُلَيْحةُ الأسديُّ وأخوه سلمة فقتلاهما، وقد قَتَل عكاشةُ قَبْلَ مَقْتلهِ حِبال بن طُليْحة، ثم أسلم طُلَيْحة بعد ذلك كما ذكرنا، وكان عمر عكاشة يومئذ أربعًا وأربعين سنة، وكان من أجملِ الناس رضي الله عنه.

ومنهم:

مَعْنُ

(2)

بن عَدِيّ بن الجدِّ

(3)

بن عَجْلان بن ضُبَيْعة البَلَوي، حليف بني عمرو بن عوف. وهو أخو عاصم بن عدي، شهد العَقَبة وبدرًا وأُحدًا والخَنْدق وسائرَ المشاهد، وكان قد آخى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين زيد بن الخطاب فقُتلا جميعًا يوم اليمامة رضي الله عنهما.

وقال مالك: عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه قال:

بكى الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مات وقالوا: والله وددنا أن مُتْنا قبلَه ونخشى أن نُفْتتنَ بعده، فقال معن بن عدي: لكني والله ما أحب أن أموتَ قبله لأصدقه ميتًا كما صدقته حيًا.

ومنهم:

الوليد وأبو عُبَيْدة ابنا عُمارة بن الوليد بن المُغيرة

(4)

، قُتلا مع عمِّهما خالد بن الوليد بالبطاح، وأبوهما عمارة بن الوليد، وهو صاحب عمرو بن العاص إلى النجاشي، وقضيته مشهورة.

(1)

الحديث رواه الإمام أحمد في مسنده (2/ 456) والبخاري في صحيحه (5811) في اللباس، ومسلم في صحيحه (216 و 368) في الإيمان من طرق متعددة.

(2)

ترجمة - معن بن عدي - في الاستيعاب (1441) وجامع الأصول (15/ 212 - 213) وتهذيب الأسماء واللغات (2/ 107) وأسد الغابة (5/ 238) والإصابة (3/ 448).

(3)

في ط: الجعد، تحريف. والتصحيح من مصادره.

(4)

ترجمتهما وأخبارهما في الاستيعاب (1557 - 1558) وفيه أن أبا عبيدة أبوه وهو خطأ لا بد من تصحيحه، وأسد الغابة (5/ 453) والإصابة (3/ 638 - 639).

ص: 54

ومنهم:

أبو حذيفه

(1)

بن عُتْبة بن رَبيعة بن عبد شمس القُرشي العَبْشمي: أسلم قديمًا قبل دار الأرقم، وهاجر إلى الحبشة وإلى المدينة وشهد بدرًا وما بعدها، وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين عَبَّاد بن بِشْر وقد قُتلا شَهيدين يومَ اليمامة. وكان عُمْرُ أبي حذيفة يومئذ ثلاثًا أو أربعًا وخمسين سنة، وكان طويلًا حسنَ الوجه، أثْعل، - وهو الذي له سِنٌّ زائدة - وقيل

(2)

اسمه هُشَيْم، وقيل هاشم.

ومنهم

(3)

:

أبو دجانة واسمه سماك بن خرشة تقدم قريبًا.

وبالجملة فقد قتل من المسلمين يوم اليمامة أربعمئة وخمسون من حَملة القرآن ومن الصَّحابة وغيرهم. وإنما أوردنا هؤلاء لشهرتهم وباللّه المستعان.

قلت: وممَّن استُشهدَ يومئذ من المهاجرين:

مالك بن عمرو حليف بني غنم

(4)

، مهاجريٌّ بدري.

ويزيد بن رُقَيْش بن رئاب

(5)

الأسدي، بدري.

والحَكَم بن سَعيد بن العاص بن أمية الأموي

(6)

.

وجبير

(7)

بن مالك بن بُحينة أخو عبد الله بن مالك الأزدي، حليف بني المطلب بن عبد مناف.

وعامر بن البُكَيْر

(8)

اللَّيْثي، حليف بني عدي، بدري.

ومالك بن ربيعة حليف بني عبد شمس.

(1)

ترجمة - أبي حذيفة - في الاستيعاب (1631 - 1632) وفيه: يقال اسمه: مُهشِّم، وقيل هشيم، وقيل هاشم، وجامع الأصول (15/ 497 - 498) وفيه: أبو حذيفة هشام، وقيل إن اسمه هُشَيم، وأسد الغابة (5/ 282) مُهشم و (5/ 403) هشام و (5/ 406) هشيم و (6/ 70 - 72) أبو حذيفة، وشر أعلام النبلاء (1/ 164 - 167) والإصابة (4/ 42 - 43) وفيه: قال معاوية: اسمه مهشم، وقيل: هشيم، وقيل هاشم، وقيل قيس.

(2)

في ط: وكان، وما هنا للسياق.

(3)

تبين لنا من المقابلة أنَّ هذا الفصل نقله المصنف من تاريخ الإسلام لشيخه الذهبي، وقد وصلت هذه القطعة منه بخط الذهبي (مجلد أياصوفيا 3005) ومصورتها عندي، فضبطنا الأعلام عليها (بشار).

(4)

في الاستيعاب (1355): مالك بن عمرو السلمي حليف بني عبد شمس.

(5)

في ط: رباب؛ تحريف، والتصحيح من الاستيعاب (1574) وأسد الغابة (5/ 487).

(6)

الاستيعاب (355 - 356).

(7)

في ط: وحسن؛ وهو تصحيف، وترجمة جبير في تاريخ خليفة (1/ 92) والاستيعاب (234).

(8)

في ط: عامر بن البكر؛ تحريف، وترجمة ابن البكير في تاريخ خليفة (93) والاستيعاب (788).

ص: 55

وأبو أمية صفوان

(1)

بن أمية بن عمرو.

ويزيد بن أوس

(2)

حليف بني عبد الدار.

وحُبَّى

(3)

ويقال: مُعَلَّى

(4)

بن حارثة

(5)

الثقفي.

وحبيب بن أسيد بن جارية الثقفي.

والوليد بن عبد شمس المخزومي.

وعبد الله بن عمرو بن بُجرة العدوي.

وأبو قيس بن الحارث بن قيس السهمي، وهو من مهاجرة الحبشة.

وعبد الله بن الحارث بن قيس.

وعبد الله بن مَخْرمة بن عبد العُزَّى بن أبي قيس بن عَبْد ودّ بن نَصْر العامري، من المهاجرين الأولين، شهد بدرًا وما بعدها، وقتل يومئذ.

وعمرو بن أويس

(6)

بن سعد بن أبي سرح العامري.

وسَليط بن سليط

(7)

بن عمرو العامري.

وربيعة بن أبي خَرشة العامري.

وعبد الله بن الحارث بن رحضة من بني عامر.

ومن الأنصار غير من ذكرنا تراجمهم:

عمارة بن حزم بن زيد بن لوذان النجاري، وهو أخو عمرو بن حزم، كانت معه رايةُ قومه يومَ الفتح، وقد شهد بدرًا وقُتل يومئذ.

وعُقبة بن عامر بن نابئ بن زيد بن حرام السَّلَمِي، شهد العقبة الأولى وشهد بدرًا وما بعدها.

(1)

تاريخ خليفة (91) والاستيعاب (722).

(2)

تاريخ خليفة (92) والاستيعاب (3/ 649) هامش الإصابة.

(3)

بضم الحاء المهملة وتشديد الباء الموحدة الممالة، قيده الحافظ ابن حجر في الإصابة (1/ 310) وقبله الأمير في الإكمال (2/ 583)، وهو كذلك بخط الذهبي في تاريخ الإسلام. ويقال فيه:"حيي" بياءين آخر الحروف، ويقال "حيّ" بالحاء المهملة وياء واحدة، كما في تاريخ خليفة (92) ونص عليه الأمير نقلًا عن الطبري (بشار).

(4)

هكذا بخط الذهبي (الورقة 187 في تاريخ الإسلام) من مجلد آيا صوفيا.

(5)

وقيل: "جارية" كما بينه الأمير في الإكمال (2/ 583 - 584)، ووجدناه مجودًا بخط الذهبي في تاريخ الإسلام.

(6)

هكذا بخط الذهبي أيضًا (الورقة 187 من مجلد آيا صوفيا 3005)، وفي الاستيعاب (3/ 1719): عمرو بن أبي أويس.

(7)

سقط هذا الاسم من ط، وأثبتناه من الاستيعاب (2/ 645)، وخط الذهبي.

ص: 56

وثابت بن هزَّال من بني سالم بن عوف، بدري. في قول.

وأبو عقيل بن عبد الله بن ثعلبة من بني جَحْجَبى، شهد بدرًا وما بعدها، فلما كان يوم اليمامة أصابه فنزعه ثم تحزم وأخذ سيفه فقاتل حتى قتل، وقد أصابته جراحات كثيرة.

وعبد الله بن عتيك.

ورافع بن سهل.

وحاجب بن زيد

(1)

الأشهلي.

وسهل بن عدي.

ومالك بن أوس.

وعمير

(2)

بن أوس.

وطلحة بن عتبة من بني جَحْجبى.

ورَباح مولى الحارث.

ومعن بن عدي.

وجزء بن مالك بن عامر من بني جَحْجَبَى.

وودقة

(3)

بن إياس بن عمرو الخَزْرجي بدري.

وجَرْول

(4)

بن العباس.

وعامر بن ثابت.

وبشر بن عبد الله الخزرجي.

وكليب بن تميم

(5)

.

وعبد الله بن عِتْبان.

(1)

في تاريخ خليفة (94) والاستيعاب (280) وأسد الغابة (1/ 377): حاجب بن يزيد، وفي الإصابة (1/ 273): ابن زيد أو يزيد.

(2)

في ط: عمر؛ وما هنا عن تاريخ خليفة (95) وكلاهما أخوان، وعمير هو المقصود، وأما عمر فقتل يوم جسر أبي عبيد، الاستيعاب (1165 و 1212).

(3)

في اسمه واسم أبيه خلاف كبير. تاريخ خليفة (1/ 94) والاستيعاب (67) وأسد الغابة (5/ 442).

(4)

في ط: مروان، وهو تحريف، والتصحيح من تاريخ خليفة (95) والاستيعاب (262).

(5)

في بعض المصادر: كليب بن بشر بن تميم. وترجمته في تاريخ خليفة (95). والاستيعاب (1328) وفي مصادر أخرى: كليب بن تميم بن نسر. الإصابة (3/ 306).

ص: 57

وإياس بن وَديعة

(1)

.

وأسعد

(2)

بن يربوع.

وسعد بن حارثة

(3)

.

وسعد

(4)

بن حمان.

ومخاشن

(5)

من

(6)

حمير.

وسلمة بن مسعود، وقيل: مسعود بن سنان.

وضمرة بن عياض.

وعبد الله بن أنس

(7)

.

وأبو حَبَّة بن غَزِيّة المازني.

(1)

هكذا في ط وتاريخ الإسلام للذهبي بخطه، وكتب الذهبي في حاشية نسخته "ودفة" أي أنه يقال فيه ذلك أيضًا.

وقد رجح ابن الأثير في أسد الغابة "ودفة" بالفاء.

(2)

هكذا في الأصل والمطبوع، وهو كذلك بخط الذهبي في تاريخ الإسلام (الورقة 187 من مجلد اْيا صوفيا 3005)، وكذا ترجمه ابن عبد البر في الاستيعاب (1/ 95)، وابن حجر في الإصابة (1/ 50) وغيرهم. وذكر ابن عبد البر في الاستيعاب (1/ 82) وابن الأثير في أسد الغابة (1/ 88) وابن حجر في الإصابة (1/ 35)"أسعد بن يربوع الأنصاري الخزرجي الساعدي" وذكروا جميعًا أنه استشهد يوم اليمامة أيضًا. ولم يشيروا إلى هذا الخلف الواقع في الأسماء، فهل هما أخوان استشهدا يوم اليمامة أم هو اختلاف في التسمية بين المؤرخين؟ وأنا أرجح الأخير، فالذي "أسيدًا" هو ابن إسحاق والواقدي والعسكري ووثيمة، وذكره موسى بن عقبة عن الزهري. أما الذي ذكره باسم "أسعد" فهو سيف بن عمر ومن أخذ عنه، فهما واحد، والله أعلم (بشار).

(3)

في تاريخ خليفة (96) والاصابة (1/ 23): سعد بن جارية، وهو كما هنا في الاستيعاب (583) وأسد الغابة (2/ 342) وتاريخ الإسلام (بخط الذهبي).

(4)

في ط: سهل؛ وهو تحريف. وفي اسم أبيه خلاف بين حمار وجَمَّاز. تاريخ خليفة (96) والاستيعاب (585) وأسد الغابة (2/ 341) والإصابة (2/ 23).

(5)

في ط: محاسن؛ تحريف. تاريخ خليفة (96) والاستيعاب (1465).

(6)

في ط: "من" خطأ، وما هنا يعضده ما في تاريخ الإسلام للذهبي (بخطه) وهو الذي ينقل منه المصنف، وقال ابن عبد البر في الاستيعاب:"مخاشن الحميري"(بشار).

(7)

هكذا في خ وط وتاريخ الإسلام للذهبي بخطه، وهي رواية الواقدي فيما ذكره الحافظ ابن حجر في الاصابة (2/ الترجمة 4548). ثم ذكر أنه هو الجهني. وأشار ابن عبد البر في الاستيعاب (2/ 749) أن ضمرة بن عياض الجهني هو ابن عم عبد الله بن أُنيس، وهو بذلك لا يقر بأن عبد الله بن أنيس صحابي استشهد يوم اليمامة - كما ذكره الواقدي - بل كأنه يشير إلى عبد الله بن أنيس الذي عاض إلى سنة 54 هـ كما في الاستيعاب (3/ 869 - 870) وتهذيب الكمال (14/ 316). وإنما ذكر الذهبي رواية الواقدي في أسماء شهداء اليمامة، فتابعه المؤلف ابن كثير (بشار).

ص: 58

وحبيب

(1)

بن زيد.

وحبيب بن عمرو بن محصن.

وثابت بن خالد.

وفروة بن النعمان.

وعائذ بن ماعص.

ويزيد بن ثابت بن الضحاك، أخو زيد بن ثابت.

قال خليفة بن خياط

(2)

:

فجميع من استشهد من المهاجرين والأنصار يوم اليمامة ثمانية وخمسون رجلًا.

يعني وبقية الأربعمئة والخمسين من غيرهم والله أعلم.

وقد قُتل من الكفار فيما سُقْنا من المواطن التي التقى فيها المسلمون والمشركون في هذه وأوائل التي قبلها، ما ينيف على خمسين ألفًا، ولله الحمد والمنة، وبه التوفيق والعصمة.

فمن مشاهيرهم:

الأسود العنسي لعنه الله، واسمه عبهلة بن كعب بن غوث، خرج أول مخرجه من بلدة باليمن يقال لها كهف خبان ومعه سبعمئة مقاتل، فما مضى شهر حتى تَملَّك صنعاء ثم استوسقت

(3)

له اليمن بحذافيرها في أقصر مدة، وكان معه شيطان يحذق له ولكن خانه أحوج ما كان إليه. ثم لم تمض له ثلاثة أشهر أو أربعة أشهر حتى قتله الله على يدي إخوان صدق، وأمراء حق، كما قدمنا ذكره وهم داذَوَيْه الفارسي، وفَيْروز الديلمي، وقيس بن مَكْشوح المُرادي، وذلك في ربيع الأول من سنة إحدى عشرة، قبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بليال، وقيل بليلة، فالله أعلم.

وقد أطلع الله رسوله ليلة قتله على ذلك كما أسلفناه.

ومنهم:

مُسَيْلمة بن حَبيب اليَماميّ الكَذَّاب: قدمَ المدينةَ وافدًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قومه بني حنيفة، وقد وقف عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعه وهو يقول: إن جعلَ لي محمدٌ الأمرَ من بعده اتَّبعته، فقال له: "لو سألتني هذا العود - لعرجون في يده - ما أعطيتكه، ولئن أدبرت ليعقرنَّكَ اللهُ، وإني لأراك الذي أريت فيه

(1)

كتب الذهبي في الحاشية أنه في نسخة: "خباب"، وكذلك جاء في ط.

(2)

في الأصل: حنَّاط، وهو خطأ، والخبر في تاريخه ص (115).

(3)

في ط: "استوثقت" محرفة، واستوسق: اجتمع.

ص: 59

ما أريت" وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رأى في المنام كأن في يده سوارين من ذهب فأهمَّه شأنهما، فأوحى الله إليه في المنام انفخهما، فنفخهما فطارا، فأوَّلهما بكذَّابين يخرجان، وهما صاحب صنعاء، وصاحب اليمامة. وهذا وقع، فإنهما ذهبا وذهب أمرهما، أما الأسودُ فذُبح في داره، وأما مُسيلمةُ فعقره الله على يَدَيْ وَحْشي بن حرب، رماهُ بالحربة فانفذه كما تُعْقرُ الإبلُ، وضربه أبو دُجانة على رأسه ففَلقَهُ وذلك بعُقْرِ داره في الحديقةِ التي يقال لها حديقةُ الموتِ

(1)

.

وقد وقف عليه خالد بن الوليد وهو طريحٌ - أراه إياه من بين القتلى مُجَّاعة بن مُرارة - ويقال: كان أصفر أُخينس، وقيل: كان ضخمًا أسمرَ اللون كأنه جملٌ أورقُ، ويقال: إنه ماتَ وعمرُه مئةٌ وأربعون سنة، فالله أعلم.

وقد قتل قبله وزيراه ومستشاراه لعنهما الله، وهما:

مُحكَّمُ بن الطُّفَيْل الذي يقال له مُحكَّمُ اليمامة، قتله عبد الرحمن بن أبي بكر، رماه بسهم وهو يخطبُ قومه يأمرهم بمصالح حربهم فقتله.

والآخر نَهار بن عُنْفُوة الذي يقال له الرَّجَّالُ بن عُنْفُوة، وكان ممَّن أسلم ثم ارتدَّ وصدَّقَ مسيلمةَ لعنهما الله في هذه الشهادة، وقد رزق الله زيد بن الخطاب قتله قبل أن يُقتل زيد رضي الله عنه.

ومما يدل على كذب الرَّجَّال في هذه الشهادة الضرورة في دين الإسلام، وما رواه البخاري وغيره أن مسيلمةَ كتبَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم، من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله سلام عليك: أما بعدُ فإني قد أُشركت معكَ في الأمر، فلك المدرُ ولي الوبرُ - ويُروى فلكم نصف الأرض ولنا نصفها - ولكنَّ قريشًا قوم يعتدون.

فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب، سلامٌ على من اتَّبعَ الهُدى، أما بعد فإن الأرضَ لله يورثُها من يشاءُ من عباده والعاقبةُ للمتقين".

وقد قدمنا ما كان يتعاطاه مسيلمةُ ويتعاناه لعنه الله من الكلام الذي هو أسخفُ من الهَذَيان، مما كان يزعمُ أنه وحيٌ من الرحمن، تعالى الله عمَّا يقولُه وأمثاله علوًا كبيرًا.

ولما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم زعمَ أنه استقل بالأمر من بعده واستخفَّ قومَهُ فأطاعوه، وكان يقول:[من المتقارب]

خُذي الدُّفَّ يا هذهِ والعبِي

وَبُثِّي محاسِنَ هذا النَّبي

تولَّى نبيٌّ بَني هاشم

وَقَام نَبيُّ بني يَعربِ

فلم يُمهله اللهُ بعد وفاةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلَّا قليلًا حتى سلط اللهُ عليه سيفًا من سيوفه، وحتفًا من حتوفه

(1)

الحديث رواه البخاري في صحيحه (4378) و (4379) في المغازي و (7461) في التوحيد.

ص: 60

فبعج بطنَه، وفلقَ رأسه، وعجّل الله بروحه إلى النار فبئس القرار، قال الله تعالى:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام: 93] فمُسَيْلمةُ والأسودُ وأمثالهما لعنهم الله أحق الناس دخولًا في هذه الآية الكريمة، وأولاهم بهذه العقوبة العظيمة.

‌سنة

(1)

اثنتي عشرة من الهجرة النبوية

استُهلَّت هذه السنة، وجيوشُ الصديق وأُمراؤه الذين بعثهم لقتال أهل الرّدّة جَوّالون في البلاد يمينًا وشمالًا، لتمهيد قواعد الإسلام، وقتال الطُّغاة من الأنام، حتى ردَّ شاردَ الدّين بعد ذهابه، ورجعَ الحقُّ إلى نصابه، وتمهدتْ جزيرةُ العرب، وصار البعيدُ الأقْصى كالقريب الأدْنى [الأقرب]

(2)

.

وفد قال جماعةٌ من علماءَ السِّير والتواريخ: إنّ وقعة اليمامةِ كانت في ربيع الأول من هذه السنة، وقيل إنها كانت في أواخر [السنة] التي قبلها، والجَمْعُ بينَ القولين أنَّ ابتداءها كان في السنة الماضية، وانتهاءَها وقع في هذه السنة الآتية، وعلى هذا القول ينبغي

(3)

أن يُذْكروا في السنة الماضية كما ذكرناه لاحتمال أنهم قُتلوا في الماضية، ومُبادرة إلى استيفاء تراجمهم قبل أن يُذْكروا مع منْ قُتل بالشام

(4)

والعراق في هذه السنة على ما سنذكر

(5)

إن شاء الله وبه الثقة وعليه التكلان.

وقد قيل: إن وقعةَ جُواثا وعُمان ومهرة وما كان من الوقائع التي أشرنا إليها إنما كانت في سنة ثنتي عشرة [من الهجرة].

وفيها كان قتلُ الملوك الأربعة: جَمْدٍ ومِخْوسٍ وأبْضَعة ومِشْرَحٍ

(6)

، وأسروا أختهم العَمرَّدة

(1)

هنا ينتهي خرم النسخة (أ).

(2)

ما بين معقوفين زيادة من النسخة أ، وسنكتفي بهذه الإشارة عن المرات القادمة.

(3)

في أ: فعلى قول الأولين.

(4)

في أ: في الشام.

(5)

في أ: على ما سيذكر.

(6)

في ط: حمد ومحرس وأبضعة ومشرحًا، وفي أ: حميد ومجوس ومشرح وأبضعة؛ وفي كلا الروايتين تصحيف وتحريف. وقال الفيروزأبادي في القاموس (حاس): ومحوس - كمنبر - ومِشْرح وجمْد، وأبضعة: بنو معديكرب الملوك الأربعة الذين لعنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولعن أختهم العَمرَّدة، وفدوا مع الأشعث، فأسلموا ثم ارتدوا، فقتلوا يوم النُّجير فقالت نائحتهم: يا عين بكِّي لي الملوك الأربعة. وفي النهاية في غريب الحديث (1/ 134): أبْضعة بوزن أرْنبة، وقيل: هو بالصاد. تاريخ خليفة (98).

ص: 61

الذين ورد الحديث في مسند أحمد

(1)

بلعنهم، وكان الذي قتلهم زياد بن لبيد الأنصاري.

‌بعْثُ خالدِ بن الوليدِ إلى العراق

(2)

لمَّا فَرَغ خالدُ بن الوليد من اليمامة، بعثَ إليه الصِّدِّيقُ أن يسيرَ إلى العراقِ، وأن يبدأ بفَرْجِ

(3)

الهند، وهي الأُبُلَّة، ويأتي العراقَ من أسافلها، وأن يَتألَّفَ الناسَ ويدعوهم إلى الله عز وجل، فإن أجابوا وإلا أخذ منهم الجزيةَ فإن امتنعوا عن

(4)

ذلك قاتلهم، وأمره أن لا يُكْرِه أحدًا على المسير معه، ولا يستعينُ بمنِ ارتدّ عن الإسلام وإن كان [قد] عاد إليه. وأمره أن يستصحبَ كلَّ امرئ

(5)

مرَّ به من المسلمين.

وشرع أبو بكر في تجهيز السَّرايا والبعوث والجيوش إمدادًا لخالد رضي الله عنه.

قال الواقدي: اختُلف

(6)

في خالدٍ؛ فقائلٌ يقولُ: مَضَى من وجهه ذلك من اليمامة إلى العراق. وقائلٌ يقول: رجعَ من اليمامة إلى المدينة ثم سار إلى العراق من المدينة فمرَّ على طريقِ الكوفة حتى انتهى إلى الحيرة.

قلت: والمشهور الأول.

وقد ذكر المدائني بإسناده أن خالدًا توجّه إلى العراق في المحرم سنة اثنتي عشرة، فجعل طريقه البصرة [فاستخلف]

(7)

فيها قطبة بن قتادة، وعلى الكوفة المثنى بن حارثة

(8)

الشيباني.

وقال محمد بن إسحاق عن صالح بن كيسان. إن أبا بكر كتب إلى خالد أن يسير إلى العراق فمضى خالد يريد العراق حتى نزل بقُريّات من السواد يقال لها بانِقيا

(9)

وبارُوسْما

(10)

(1)

مسند الإمام أحمد (4/ 387) وهو قطعة من حديث طويل، وفيه:"لعن الله الملوك الأربعة جمدًا ومشرحًا ومخوسًا وأبضعة وأختهم العمردة" وهو حديث صحيح من حديث عمرو بن عبسة السلمي، إذ رواه أحمد عن أبي المغيرة عبد القدوس بن الحجاج الخولاني، عن صفوان بن عمرو السكسكي، عن شريح بن عبيدة عن عبد الرحمن بن عائذ الأزدي، عن عمرو، وهؤلاء كلهم ثقات.

(2)

أخبار بعث خالد في تاريخ الطبري (3/ 343) والكامل لابن الأثير (2/ 384).

(3)

من معاني الفرج: الثغر. القاموس: (فرج).

(4)

في أ: من ذلك كله.

(5)

في أ: كل أمير؛ وما أثبتناه أجود.

(6)

في أ: فاختلف.

(7)

في أ: وفيها، والخبر في تاريخ خليفة (101).

(8)

في أ: وعلى نواحي الكوفة خارجة؛ واللفظة الأخيرة محرفة. تاريخ خليفة (102).

(9)

بانقيا - بكسر النون - ناحية من نواحي الكوفة ذكرها في الفتوح. معجم البلدان (1/ 331).

(10)

بارُوسما: الواو والسين ساكنتان: ناحيتان من سواد بغداد يقال لهما: باروسما العليا وباروسما السفلى من كورة الأستان الأوسط. معجم البلدان (1/ 320).

ص: 62

[وأليْس]

(1)

وصاحبها جابان

(2)

، فصالحه أهلها.

قلت: وقد قَتَل منهم المسلمون قبلَ الصلح خلقًا كثيرًا. وكان الصلح على

(3)

ألف درهم، وقيل دينار، في رجب، وكان الذي صالحه بصُبهري بن صلوبا، (ويقال صلوبا بن بصبهري)

(4)

وصاحبها جابان وملوك الأعاجم، فهزمه خالد، وقتل أصحابه، ثم طلبوا الصلح، فقبل منهم خالد وكتب لهم كتابًا

(5)

.

ثم أقبل حتى نزل الحيرة فخرج إليه أشرافها، مع قَبِيصة بن إياس بن حبَّة الطَّائي، وكان أمره عليها كسرى بعد النعمان بن المنذر، فقال لهم خالد: أدعوكم إلى الله وإلى الإسلام، فإن أجبتم إليه فأنتم من المسلمين، لكم ما لهم وعليكم ما عليهم، فإن أبيتم فالجزية فإن أبيتم [الجزية] فقد أتيتكم بأقوام هم أحرصُ على الموتِ منكم على الحياة، جاهدناكم حتى يحكم الله بيننا وبينكم. فقال له قبيصة: ما لنا بحربك من حاجةٍ بل نُقيم على ديننا ونعطيكم الجزية [فقبل منهم خالد]

(6)

فلقيه [منهم] رجلان أحدهما أعجمي والآخر عربي

(7)

فاستبدل بالعجميّ، ثم صالحهم على تسعين ألفًا، (وفي رواية مئتي ألف درهم)، فكانت أول جزيةٍ أخذت من العراق، وحُملت إلى المدينة هي والقريات قبلها التي صالح عليها ابن صلوبا.

قلت: وقد كان مع نائب كسرى على الحيرة ممَّنْ وفدَ إلى خالد عمرو بن عبد المسيح بن حيادن

(8)

بن بُقَيْلة، وكان من نصارى العرب، فقال له خالد: من أين أثرك؟ قال: من ظهر أبي، قال: ومن أين خرجت

(9)

؟ قال: من بطن أمي، قال: ويحك على أي شيء أنت؟ قال: على الأرض، قال: ويحك

(10)

وفي أي شيء أنت؟ قال: في ثيابي، قال: ويحك تعقل؟ قال: نعم وأُقيِّد، قال: إنما

(1)

عن أوحدها. وأُلَّيْس مُصَغّر بوزن فُلَّيس والسين مهملة: الموضع الذي كانت فيه الوقعة بين المسلمين والفرس في أول أرض العراق من ناحية البادية. وفي كتاب الفتوح: أُلَّيْس قرية من قرى الأنبار. معجم البلدان (1/ 248).

(2)

في ط: "حابان" بالحاء المهملة، مصحف. وينظر تاريخ الطبري (3/ 345 و 355 و 356 و 448

إلخ.

(3)

في أ: على ألف ألف درهم؛ والصحيح ما أثبتناه. ونص كتاب الصلح في معجم البلدان (1/ 332).

(4)

ما بين القوسين ساقط من أ، وكل سقط منها سنضعه بين قوسين مماثلين، وسنكتفي بهذه الإشارة عن المرات القادمة.

(5)

نص هذا الكتاب أورده ياقوت في معجم البلدان (بانقيا).

(6)

مكان ما بين المعقوفين في ط: فقال لهم خالد: تبًا لكم إن الكفر فلاة مضلة، فأحمق العرب من سلكها. ويبدو أنها في غير مكانها الطبيعي.

(7)

في أ: أحدها أعجمي والآخر عربي فتركه.

(8)

في أ: حبان، وما أثبتناه موافق لجمهرة أنساب العرب (374).

(9)

في أ: ومن أين جئت.

(10)

في أ: ويلك.

ص: 63

أسألكَ، قال: وأنا أُجيبكَ، قال: أسِلْمٌ أنت أم حربٌ؟ قال: بل سِلمٌ، (قال): فما

(1)

هذه الحصون التي أرى؟ قال: بنيناها للسفيه نحبسه حتى يجيء الحليم فينهاه، ثم دعاهم إلى الإسلام أو الجزية أو القتال، فأجابوا إلى الجزية بتسعين أو

(2)

مئتي ألف كما تقدّم.

ثم بعث خالد بن الوليد كتابًا إلى أمراء كسرى بالمدائن (ومرازبته) ووزرائه.

كما قال هشام بن الكلبي: عن أبي مِخْنف، عن مُجالد، عن الشَّعبي

(3)

قال:

أقرأني بنو بُقيلة كتاب خالد بن الوليد إلى أهل المدائن: من خالد بن الوليد إلى مرازبة أهل فارس: سلامٌ على من اتَّبع الهُدى، أما بعد فالحمد لله الذي فض خدمتكم

(4)

وسلبَ مُلْككم ووهنَ كيدكَم، وإنَّ منْ صلَّى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكلَ ذبيحتنا فذلك

(5)

المسلمُ الذي له ما لنا وعليه ما علينا، أما بعد فإذا جاءكم كتابي فابعثوا إليَّ بالرُّهن واعتقدوا مني الذِّمة

(6)

، و (إلا) فوالذي لا إله غيره لأبعثن إليكم قومًا يحبّون الموتَ كما تحبّون أنتم الحياة، فلما قرؤوا الكتاب أخذوا يتعجبون.

وقال سيف بن عمر

(7)

: عن طلحة بن الأعلم

(8)

، عن المغيرة بن عُتيبة

(9)

- وكان قاضي أهل الكوفة - قال: فرَّقَ خالدٌ - مخرجه من اليمامة إلى العراق - جندَه ثلاثَ فرقٍ، ولم يحملهم على طريق واحدة، فسرح المثنى قبله بيومين ودليله ظفر

(10)

، وسرح عديَّ بن حاتم وعاصم بن عمرو، ودليلاهما

(11)

مالك بن عباد وسالم بن نصر، أحدهما قبل صاحبه بيوم، وخرج خالد - يعني في آخرهم - ودليله رافع، فواعدهم جميعًا الحفير ليجتمعوا به، ويصادموا عدوهم، وكان فرج الهند [ويسمَّى فرجَ الذهب وهو الأبلق

(12)

، وهو] أعظمُ فروجِ فارس بأسًا وأشدها شوكة وكان صاحبه يحارب العربَ في البر والهند في البحر وهو هرمز، فكتب إليه خالدٌ فبعث هرمزُ بكتابِ خالدٍ إلى شيرَى بن كسرى، وأردشير بن شيرَى،

(1)

في أ: بل سلم ما هذه.

(2)

في أ: بتسعين ومئتي ألف.

(3)

الخبر في تاريخ الطبري (3/ 346).

(4)

في أ: حديثكم، وفي ط:"خدمكم"، وما أثبتناه من تاريخ الطبري (3/ 346)، وخدمتكم: جماعتكم.

(5)

في ط: "فذلكم"، وما أثبتناه من أ، وهو الذي في تاريخ الطبري الذي ينقل منه المصنف.

(6)

في أ: يالذمة. وما هنا يعضده ما في الطبري.

(7)

تاريخ الطبري (3/ 348).

(8)

في ط والأصل: طليحة الأعلم، والتصحيح من الطبري وتوضيح المشتبه (2/ 149).

(9)

في ط والأصل: عيينة؛ تحريف، والتصحيح من الطبري وتوضيح المشتبه (6/ 170).

(10)

في أ: ظفرح؛ ويبدو أن الحاء زائدة.

(11)

ودليلهما.

(12)

بعدها في أ: صاحبه يحارب في البر والهند وسترد بعدُ. وما بين الحاصرتين ليس في تاريخ الطبري.

ص: 64

وجمع هرمز، وهو نائب كسرى جموعًا كثيرةً وسار بهم إلى كاظمة

(1)

، وعلى مَجْنَبَتَيْهِ قباذ وأنوشجان - وهما من بيت الملك - وقد تقرن

(2)

الجيش في السلاسل لئلا يفروا [فَتيمَّنَ المسلمون بذلك وقالوا هذا طائر مشؤوم قيدوا نفوسهم بالحديد] وكان هرمز - هذا - من أخْبَثِ النّاسِ طويَّةً وأشدِّهم كُفْرًا، وكان شريفًا في الفرس، وكان الرجل كلما ازداد شرفًا زاد في حليته، فكانت قلنسوة هرمز بمئة ألفٍ، وقدم خالد بمن معه من الجيش وهم ثمانية عشر ألفًا فنزل تجاههم على غير ماءً فشكى [إليه] أصحابُه ذلك فقال: جالدوهم حتى تجلوهم عن الماء، فإن الله جاعل [الماء] لأصبر الطائفتين.

فلما استقرَّ بالمسلمين المنزلُ وهم ركبان على خيولهم، بعث الله سحابةَ فأمطرتهم حتى صار

(3)

لهم غدران من ماءٍ. فقوي المسلمون بذلك، وفرحوا فرحًا شديدًا، فلما تواجه الصفان وتقابل

(4)

الفريقان، ترجَّلَ هرمزُ ودعا إلى البراز، فترجَّل خالدٌ وتقدَّم إلى هرمز، فاختلفا

(5)

ضربتين وأحتضنهُ خالدٌ، وجاءت حاميةُ هرمز فما شغله عن قتله، وحمل القعقاع بن عمرو

(6)

على حامية هرمز فأناموهم

(7)

، وانهزم أهل فارس وركب المسلمون أكتافهم إلى الليل واستحوذ (المسلمون و) خالد على أمتعتهم وسلاحهم فبلغ وقر ألف بعير، وسميت هذه الغزوة ذات السلاسل لكثرة من سلسل بها من فرسان فارس [ومنعتهم السلاسل من الهزيمة وقتل منهم ثلاثين ألفًا سوى من غرق وبعث بالسلاسل إلى الصّدّيق](وأفلت قباذ وأنوشجان).

ولما رجع الطلب نادى منادي خالد بالرحيل، فسار بالناس وتبعته الأثقالُ حتى نزلَ بموضع الجسر الأعظم من البصرة اليوم، وبعث بالفتح والبشارة والخمس، مع زِرّ

(8)

بن كُلَيْب، إلى الصدّيق، وبعث معه بفيل، فلما رآه نسوةُ أهل المدينة جعلن يقلن: أمنْ خَلْقِ الله هذا أم شيءٌ مصنوعٌ؟ فردَّه الصديق مع زرٍّ، وبعث أبو بكر لمّا بلغه الخبرُ إلى خالد، فنفله سلبَ هرمز، وكانت قلنسوته بمئة ألف، (وكانت) مُرَصَّعةً بالجوهر، وبعث خالدٌ الأمراءَ يمينًا وشمالًا يحاصرون حَصُونًا هنالك ففتحوها عنوةً وصلحًا، وأخذوا منها أموالًا جمةً، ولم يكن خالدٌ يتعرَّضُ للفلاحين - من لم يقاتل منهم - ولا لأولادهم

(9)

بل للمقاتلة من أهل فارس.

(1)

قال ياقوت: على سيف البحر طريق البحرين من البصرة، بينها وبين البصرة مرحلتان معجم البلدان (4/ 431) قلت: وهي التي تسمى اليوم الكويت.

(2)

في ط: تفرقد؛ تحريف. وفي نسخة "اقترن".

(3)

في ط: ثار لهم.

(4)

في ط: وتقاتل.

(5)

في ط: النزال فترجل خالد وتقدم إلى هرمز فاختلفوا.

(6)

في ط: القعقاع بن عمر. وهو كما أثبتنا، في الاستيعاب (1283) والإصابة (3/ 239).

(7)

في أ: فأباتوهم؛ وما أثبتنا موافق للطبري (3/ 349).

(8)

في أ: رزين بن كليب، تحريف. والصحيح ما أثبتناه. أسد الغابة (2/ 253).

(9)

في ط: أولادهم.

ص: 65

[وقعة المذار]

ثم كانت وقعة المذار

(1)

في صفر من هذه السنة. ويقال لها: وقعة الثني، وهو النهر، قال ابن جرير

(2)

: ويومئذ (قال الناس): صفر الأصفار، فيه يقتل كل جبار، على مجمع الأنهار. وكان سببها أنّ هرمز

(3)

كان قد كتب إلى أردشير وشيرَى بقدومِ خالدٍ نحوهُ من اليمامة، فبعث إليه كسرى بمدد معِ أمير يقال له: قارن

(4)

بن قريانس، فلم يصل إلى هرمز حتى كان من أمره مع خالد ما تقدم، وفرَّ منْ فرَّ من الفرس، فتلقّاهم قارن، فالتفوا عليه فتذامروا

(5)

واتفقوا على العود إلى خالد، فساروا إلى موضع يقال له: المذار، وعلى مجنبتي قارن قباذ وأنوشجان

(6)

، فلما انتهى الخبر إلى خالد، قسم ما كان معه من أربعة أخماس غنيمة يوم ذات السلاسل، وأرسل إلى الصديق بخبره مع الوليد بن عقبة، وسار خالدٌ بمنْ معه من الجيوش حتى نزَلَ على المَذار، وهو على تعبئته، فاقتتلوا قتال حنتي وحفيظةٍ، وخرج قارن يدعو إلى البراز فبرز إليه خالد وابتدره الشجعان من الأمراء، فقتل معقل بن الأعشى بن النباش

(7)

قارنًا، وقتل عديُّ بن حاتم قباذ، وقتل عاصم أنوشجان، وفرت الفرس وركبهم المسلمون في ظهورهم فقتلوا منهم يومئذ ثلاثين ألفًا وغرق كثير منهم في الأنهار والمياه، وأقام خالد بالمذار وسلّم الأسلابَ إلى من قتل، وكان (قارن) قد انتهى شرفه في أبناء فارس.

وجمع بقية الغنيمة وخَمَّسها، وبعث بالخمس والفتح والبشارة إلى الصّدّيق مع سعيد بن النعمان، أخي بني عدي بن كعب، وأقام خالد هناك حتى قسم أربعة الأخماس وسبَى ذراري مَنْ حضره من المقاتلة، دون الفلاحين فإنّه أقرَّهُمْ بالجزية، وكان في هذا السبي حبيب أبو الحسن البصري، وكان نصرانيًا، ومافنَّة مولى عثمان، وأبو زياد مولى المغيرة بن شعبة.

ثم أمرّ على الجند سعيدَ بن النعمان وعلى الجزية سويدَ بن مُقَرِّن، وأمره أن ينزل الحفير، ليجبي إليه الأموال وأقام خالد يتحسس الأخبار عن الأعداء.

(1)

المذار - بالفتح وآخره راء - ميسان بين واسط والبصرة، وهي قصبة ميسان، بينها وبين البصرة مقدار أربعة أيام. معجم البلدان (5/ 88) وقال البكري: المذار أرض قرب الكوفة. معجم ما استعجم (1203).

(2)

تاريخ الطبري (3/ 351).

(3)

في ط: أن هرمزًا؛ وهو خطأ يخالف السياق النحوي.

(4)

في أ: فازن.

(5)

في أ: فتدابروا؛ وتذامروا: تلاوموا. اللسان (ذمر).

(6)

في أ: وعلى مجنبتي فازن وأبو شجان.

(7)

في أ: معقل بن النباش الأعشى فارن. وما أثبت موافق للطبري.

ص: 66

[ذكر وقعة الولجة]

ثم كان أمر الولجة

(1)

في صفر أيضًا من هذه السنة، فيما ذكره ابن جرير

(2)

وذلك لأنه لما انتهى الخبر بما كان بالمذار

(3)

من قتل قارن وأصحابه إلى أردشير وهو ملك الفرس يومئذ، بعث أميرًا شجاعًا يقال له الأنذر زغر

(4)

، وكان من أبناء السواد، ولد بالمدائن، ونشأ بها وأمده بجيشٍ آخر مع أمير يقال له بهمن جاذَوَيه، فساروا حتى بلغوا مكانًا يقال له: الولجة [وهي مما يلي كَسْكَر عن ناحية البر]، فسمع بهم خالد، فسار بمنْ معه من الجنود ووصَّى من استخلفه هناك بالحَذَر وقلَّة الغفلة، فنازل أنذر زغر ومن ناشب معه، واجتمع عنده بالولجة، فاقتتلوا قتالًا شديدًا، هو أشدّ مما قبله، حتى ظن الفريقان أن الصبر قد فرغ، واستبطأ كمينه الذي كان قد أرصدهم وراءه في موضعين، فما كان إلا يسيرًا حتى خرج الكمينان من هاهنا ومن هاهنا، ففرَّت صفوف الأعاجم فأخذهم خالدٌ من أمامهم والكمينان من ورائهم، فلم يعرف رجل منهم مقتل

(5)

صاحبه، وهرب الأنذر زغر من الوقعة فمات عطشًا [وقتل منهم سبعون ألفًا]، وقام خالدٌ في الناس خطيبًا فرغَّبهم في بلاد الأعاجم وزهَّدَهم في بلاد العرب، وقال: ألا تَرَون ما هاهنا من الأطعمات؟ وتالله

(6)

لو لم يلزمنا الجهاد في سبيل الله والدعاء إلى الإسلام ولم يكن [إلا] المعاش لكان الرأي أن نقاتل على هذا الريف حتى نكون أولى به، ونولي الجوع والإقلال من تولاه ممَّنِ اثّاقَل

(7)

عما أنتم عليه. ثم خمَّس الغنيمة، وقسم أربعة أخماسها بين الغانمين، وبعثَ الخُمس إلى الصديق، وأسر من أسر من ذراري المقاتلة، وأقرَّ الفلاحين بالجزية.

وقال سيف بن عمر

(8)

: عن عمرو، عن الشعبي، قال: بارز خالدٌ يوم الولجة رجلًا من الأعاجم يُعْدَلُ بألف

(9)

رجلٍ فقتله، ثم اتكأ عليه وأُتِيَ بغدائه فأكله وهو مُتَّكئٌ عليه بين الصَّفَّيْن.

(1)

في أ: الوليجة؛ تحريف. والولجة بأرض كسكر موضع فيما يلي البر واقع فيه خالد بن الوليد جيش الفرس فهزمهم سنة 12 هـ.

(2)

تاريخ الطبري (3/ 353).

(3)

في أ: بما كان من المذار من قتل فازن وأصحابه.

(4)

في أ: الأندرز عن.

(5)

في أ: فلم يفلت رجل منهم فقتل صاحبه.

(6)

في ط: وبالله.

(7)

في أ: ممن تناقل.

(8)

تاريخ الطبري (3/ 354).

(9)

في أ: يوم الوليجة رجل من الأعاجم بعد مبارزة ألف رجل.

ص: 67

[وقعة أُلَّيْس]

(1)

ثم كانت وقعة أُلَّيس في صفر أيضًا وذلك أن خالدًا كان قد قتل يوم الولجة طائفةً من بكر بن وائل، من نصارى العرب ممَّنْ كانَ مع الفرس، فاجتمعَ عشائرهم وأشدهم حنقًا عبد الأسود

(2)

العجلي، وكان قد قُتل له ابنٌ بالأمس، فكاتبوا الأعاجمَ فأرسلَ إليهم أردشير جيشًا [مددا]، فاجتمعوا بمكان يقال (له): أُلَّيس، فبينما هم قد نصبوا لهم سماطًا (فيه طعام يريدون أكله)، إذ غافلهم خالد بجيشه فلما رأوه أشار من أشار منهم بأكل الطعام وعدم الاعتناء بخالد، وقال أمير كسرى [واسمه جابان]: بل ننهض إليه، فلم يسمعوا منه. فلما نزل خالد تقدم بين يدي جيشه، ونادى بأعلى صوته لشجعان

(3)

من هنالك من الأعراب: أين فلان، أين فلان؟ فكلهم تلكؤوا عنه إلا رجلًا يقال له مالك بن قيس، من بني جذرة، فإنه برز إليه، فقال (له) خالد: يا بن الخبيثة

(4)

، ما جرَّأك عليَّ من بينهم وليس فيك وفاء؟ فضربه

(5)

فقتله. ونفرت الأعاجمُ عن الطعام، (وقاموا إلى السلاح)، فاقتتلوا قتالًا شديدًا جدًّا، والمشركون يرقبون قدوم بهمن مددًا من جهة الملك إليهم، فهم في قوة وشدة وكلب في القتال. وصبر المسلمون صبرًا بليغًا، وقال خالد: اللهم لك عليَّ إن منحتنا أكتافهم أن لا أستبقي منهم أحدًا (أقدر) عليه حتى أجري نهرهم بدمائهم. ثم إن الله عز وجل منحَ المسلمين أكتافهم فنادى منادي خالد: الأسرَ، الأسرَ، لا تقتلوا إلا من امتنع من الأسر، فأقبلتِ الخيولُ بهم أفواجًا يساقون (سوقًا)، وقد وكل بهم رجالًا يضربون أعناقهم في النهر، ففعل ذلك بهم يومًا وليلة وتطلبهم

(6)

في الغد ومن بعد الغد، وكلَّما حضر منهم أحدٌ ضُربت عنقه في النهر، وقد صرف ماء النهر، إلى موضعٍ آخر فقال له بعض الأمراء: إنّ النهر لا يجري بدمائهم حتى ترسل الماء على الدم فيجري معه فتبرَّ بيمينك، فأرسله فسال النهر دمًا عبيطًا، فلذلك سمي نهر الدم إلى اليوم، فدارت الطواحين بذلك الماء المختلط بالدم العبيط ما كفى العسكر بكماله ثلاثة أيام، وبلغ عدد القتلى سبعين ألفًا، [وقيل مئة وخمسين ألفًا]، ولما هزم خالد الجيش ورجع مَنْ رجع من الناس، عدل خالد إلى الطعام الذي كانوا قد وضعوه ليأكلوه فقال للمسلمين: هذا نفل فانزلوا فكلوا، فنزل الناس فأكلوا عشاءً. وقد جعل الأعاجم على طعامهم مرققًا

(7)

كثيرًا فجعل من يراه من أهل البادية من الأعراب يقولون: ما هذه الرقع؟ يحسبونها ثيابًا، فيقول لهم من يعرف ذلك من

(1)

خبر وقعة ألَّيس في تاريخ الطبري (3/ 354) والكامل لابن الأثير (2/ 388).

(2)

في أ: واشدهم حتفًا عبد بن سود العجلي.

(3)

في أ: يا شجعان.

(4)

في أ: يا بن الحبشية.

(5)

في أ: وضربه.

(6)

في ط: ويطلبهم.

(7)

في أ: جردقًا.

ص: 68

(أهل) الأرياف والمدن: أما سمعتم برقيق

(1)

العيش؟ قالوا: بلى، قالوا: فهذا رقيق العيش، فسموه يومئذ رقاقًا، وإنما كانت (العرب تسميه القرى)

(2)

.

وقد قال سيف بن عمر

(3)

: عن عمرو بن محمد، عن الشعبي، عمن حدث عن خالد:

أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم نفل الناسَ يومَ خيبرَ الخبز والطبيخ

(4)

والشواء وما أكلوا غير ذلك غير متأثليه

(5)

.

وكان كل

(6)

من قُتل بهذه الوقعة يوم ألَّيْس من بلدة يقال لها أمْغيشيا

(7)

، فعدل، إليها خالد وأمر بخرابها، واستولى على ما بها، فوجدوا بها مغنمًا عظيمًا، فقسم بين الغانمين فأصاب الفارس بعد النفل ألفًا وخمسمئة غير ما تهيأ (له) مما قبله.

وبعث خالد إلى الصديق بالبشارة والفتح والخُمس من الأموال والسبي مع رجل يقال له جندل من بني عجل، وكان دليلًا صارمًا، فلما بلغ الصدّيق الرسالة وأدى الأمانة، أثنى عليه وأجازه جارية من السبي، وقال الصدِّيق: يا معشر قريش إن أسدكم قد عدا على الأسد (فغلبه على خراديله)

(8)

، عجزتِ النساءُ أن يلدنَ مثلَ خالد بن الوليد، [وقد صدق الصدِّيق رضي الله عنه].

ثم جرت أمورٌ طويلةٌ لخالد في أماكن متعددة يملُّ سماعها، وهو مع ذلك لا يكلّ ولا يملّ ولا يهن ولا يحزن، بل كلما له في قوةٍ وصرامةٍ وشدةٍ وشهامةٍ، ومثل هذا إنما خلفه الله عزًا للإسلام وأهله، وذلًا للكفر وشتات شمله.

‌فصل

ثم سار خالدٌ فنزل الخَوَرْنق والسَّدير

(9)

بالنجف وبثَّ سراياه هاهنا وهاهنا، يحاصرون الحصون من

(1)

في ط: رقيق.

(2)

مكان القوسين في أ: القرن، وما أثبتناه يوافق ما في تاريخ الطبري (3/ 357).

(3)

تاريخ الطبري (3/ 357).

(4)

في ط: والبطيخ؛ خطأ، وما أثبتناه من الطبري.

(5)

متأثليه: المتأثِّلُ: الجامع. اللسان (أثل).

(6)

في أ: جلّ.

(7)

في أ: أمعيشا، وفيها تحريفان. وأُمغيشيا - بفتح أوله وبضم، وسكون ثانيه، والغين معجمة مكسورة، وياء ساكنة، والشين معجمة وياء وألف - موضع كان بالعراق كانت فيه وقعة بين المسلمين وأميرهم خالد بن الوليد، وبين الفرس، فلما ملكها المسلمون أمر خالد بهدمها، وكانت مصرًا كالحيرة وكان فرات بادَقْلي ينتهي إليها، وكانت أُلَّيْس من مسالحها، فأصاب المسلمون فيها ما لم يصيبوا مثله قبله. معجم البلدان (1/ 254).

(8)

لحم خراديل: إذا كان مقطعًا اللسان (خردل) والخبر في تاريخ الطبري (3/ 359).

(9)

الخَورنق والسَّدير: قصران بالحيرة. معجم البلدان (2/ 401) و (3/ 28).

ص: 69

الحيرة ويسنزلون

(1)

أهلها قسرًا وقهرًا، وصلحًا ويسرًا، وكان في جملة من

(2)

نزل بالصلح قوم من نصارى العرب فيهم ابن بُقَيْلة المتقدم ذكره، وكتب لأهل الحيرة كتابَ أمان، فكان

(3)

الذي راوده عليه عمرو بن عبد المسيح بن بُقيلة

(4)

ووجد خالد معه كيسًا، فقال: ما في هذا؟ - وفتحه خالد فوجد فيه شيئًا - فقال ابن بقيلة: هو سمُّ ساعة، فقال: ولم استصحبته معك؟ فقال حتى إذا رأيت مكروهًا في قومي أكلته فالموت أحب إليَّ من ذلك، فأخذه خالد في يده وقال: إنه لن تموت نفس حتى تأتي على أجلها، ثم قال: بسم الله خير الأسماء، رب الأرض والسماء، الذي ليس يضرُ مع اسمه داء، الرحمن الرحيم، قال: وأهوى إليه الأمراء ليمنعوه منه فبادرهم فابتلعه، فلما رأى ذلك ابن بُقَيْلة قال: والله يا معشر

(5)

العرب لتملكن ما أردتم ما دام منكم أحد، ثم التفت إلى أهل الحيرة فقال: لم أر كاليوم أوضح إقبالًا من هذا، ثم دعاهم وسألوا خالدًا الصلحَ فصالحهم وكتب لهم كتابًا بالصلح، وأخذ منهم أربعمئة (ألف) درهم عاجلة، ولم يكن صالحهم حتى سلموا كرامة بنت عبد المسيح إلى رجل من الصحابة يقال له شويل

(6)

، وذلك أنه لما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قصور الحيرة كأن شُرُفها أنياب الكلاب فقال له: يا رسولَ الله هَبْ لي ابنةَ بُقَيْلة، فقال:"هي لك" فلما فُتحت ادَّعاها شويل وشهد له اثنان من الصحابة، فامتنعوا من تسليمها إليه وقالوا: ما تريدُ إلى امرأةٍ ابنةِ ثمانين سنة؟ فقالت لقومها: ادفعوني إليه فإني سأفتدي منه، وإنه

(7)

قد رآني وأنا شابة، فسُلمت إليه فلما خلا بها قالت: ما تريد إلى امرأة بنت ثمانين سنة؟ وأنا أفتدي منك فاحكم بما أردتَ، فقال: والله لا أفديك بأقلّ من عشر مئة فاستكثرتها خديعة منها، ثم أتت قومها فاحضروا له

(8)

ألف درهم، ولامه الناس وقالوا: لو طلبتَ أكثر من مئة ألف لدفعوها إليك، قال: وهل عددٌ أكثر من عشر مئة؟ وذهب إلى خالد وقال

(9)

: إنما أردتُ أكثرَ العدد، فقال خالد: أردتَ أمرًا وأراد اللهُ غيره، وإنا نحكم بظاهر قولك، ونيتُك عند الله، كاذبًا أنت أم صادقًا

(10)

.

(1)

في أ: يسترقون.

(2)

في أ: ما.

(3)

في أ: وكان.

(4)

في أ: ط: نقيلة؛ وهو تحريف وتقدم التعريف به.

(5)

في أ: يا معاشر العرب.

(6)

في أ: شريك؛ وما هنا موافق لما عند الطبري (3/ 365 - 366).

(7)

في أ: وكأنه.

(8)

في أ: إليه.

(9)

في أ: فقال.

(10)

في أ: كاذب أنت أم صادق. والحديث في تاريخ الطبري (3/ 366) وسنن البيهقي (9/ 136).

ص: 70

وقال سيف بن عمر

(1)

: عن عمرو بن محمد، عن الشعبي: لما افتتح خالدٌ الحيرةَ صلَّى ثماني ركعات بتسليمةٍ واحدةٍ.

وقد قال عمرو بن القعقاع في هذه الأيام ومن قتل من المسلمين بها وأيام الردة

(2)

: [من الطويل]

سقى الله قَتلى بالفُراتِ

(3)

مُقيمةً

وأُخرى بأثَباجِ النِّجافِ الكوانِفِ

وَنحنُ وَطئنا بالكواظِمِ هرمزًا

وَبالثني قَرْني قارنٍ بالجوارفِ

وَيَومَ أحَطنا بالقُصور تَتابعتْ

على الحيرة الروحاءِ إحدى المصارف

حَططناهمُ منْها

(4)

وقد كان عرشُهُم

يميل بهمْ فِعْلَ الجَبانِ

(5)

المُخالفِ

رمينا عليهم بالقبولِ وقد رأوا

غَبوقَ المنايا حولَ تِلكَ المحارِف

(6)

صبيحةَ قالوا نَحْنُ قَوْمٌ تنزَّلوا

إلى الرِّيف من أرض العريبِ المَقانِفَ

وقد قدم جرير بن عبد الله البجلي على خالد بن الوليد

(7)

وهو بالحيرة بعد الوقعات المتعددة، والغنائم المتقدم ذكرها، ولم يحضر شيئًا منها، وذلك لأنه كان قد بعثه الصديق مع خالد بن سعيد بن العاص إلى الشام، فاستأذن خالد بن سعيد في الرجوع إلى الصديق ليجمع له قومه من بجيلة فيكونوا معا

(8)

، فلما قدم على الصديق فسأله (ذلك) غضب الصديق وقال: أتيتني لتشغلني عما هو أرضى لله من الذي تدعوني إليه، ثم سيره (الصديق) إلى خالد بن الوليد بالعراق.

قال سيف بأسانيده:

ثم جاء ابن صلوبا فصالح خالدًا على بانِقْيا وبرسوما

(9)

وما حول ذلك على عشرة آلاف دينار، وجاءه دهاقين تلك البلاد فصالحوه

(10)

على بلدانهم وأهاليهم كما صالح أهل الحيرة

(11)

.

واتفق في تلك الأيام التي كان [خالد] قد تمكن بأطراف العراق واستحوذ على الحيرة وتلك

(1)

تاريخ الطبري (3/ 366).

(2)

تاريخ الطبري (3/ 365).

(3)

في أ: بالعراق.

(4)

في أ: فيها.

(5)

في أ: الجناب.

(6)

ليس البيت في أ.

(7)

في أ: وهم.

(8)

تاريخ الطبري (3/ 367 - 370).

(9)

في ط: وبسما، وقد تقدم التعريف بها.

(10)

في أ: وصالحوه.

(11)

في أ: أهل الحيرة على الحيرة.

ص: 71

البلدان

(1)

وأوقع بأهل أُلَّيس والثني وما بعدها بفارس ومن ناشب معهم ما أوقع من القتل الفظيع في فرسانهم، أن عدت فارس على ملكهم الأكبر أردشير وابنه شيرين فقتلوهما وقتلوا كل من ينسب

(2)

إليهما، ويقيت الفرس حائرين لمن يولُّوه أمرهم، واختلفوا فيما بينهم، غير أنَّهم قد جَهَّزوا جُيوشًا تكونُ حائلةَ بين خالدٍ ويين المدائن التي فيها إيوانُ كسرى وسرير مملكته، فحينئذ كتبَ خالدٌ إلى من هنالك من المرازبة والأمراءِ والدولة يدعوهم إلى اللهِ وإلى الدخولِ إلى دينِ الإسلام ليُثبتَ ملكَهُم عليهم، وإلا فليدفعوا الجزيةَ وإلا فليعلموا وليستعدّوا لقدومه علمهم بقومٍ يُحبُّون الموتَ كما يحبُّونَ [هم] الحياةَ، فجعلوا يُعْجبون من جرأةِ خالدٍ وشجاعته، ويسخرونَ من ذلك لحماقتهم ورعوننهم في أنفسهم، وقد أقامَ خالدٌ هنالك بعد صلحِ الحيرةِ سنةً يتردَّدُ في بلادِ فارس هاهنا وهاهنا، ويوقعُ بأهلها من البأس الشديد، والسطوةِ الباهرةِ، ما يُبْهوُ الأبصارَ لمن ضعاهدَ ذلك ويُشنّفُ أسماعَ منْ بَلغه ذلك ويحيِّر العقولَ لمن تدبَّرهُ.

‌فَتْحُ خالدٍ للأنبار، وتُسمى هذه الغزوة ذات العيون

ركبَ خالدٌ في جيوشه، فسارَ حتى انتهى إلى الأنْبار، وعليها رجلٌ من أعقل الفُرْس وأسودهم في أنفسهم، يقال له شيرزاذ، فأحاط بها خالدٌ وعليها خندق وحولهُ أعرابٌ من قومهم على دينهم، واجتمعَ معهم أهلُ أرضهم، فمانَعوا خالدًا أن يصلَ إلى الخندقِ فضربَ معهم رأسًا، ولما تواجَهَ الفريقانِ أمرَ خالدٌ أصحابَه فرشقوهم بالنبال حتى فقؤوا

(3)

منهم ألف عين، فتصايحَ الناسُ: ذهبت عيونُ أهلِ الأنبارِ، وسُمِّيت هذه الغزوةُ ذات العيون، فراسلَ شيرزاذ خالدًا في الصُّلْح، فاشترطَ خالد

(4)

أمورًا امتنع شيرزاذ من قبولها، فتقدم خالد إلى الخندق فاستدعى برذايا

(5)

الأموال من الإبل فذبحها حتى ردم الخندق بها وجاز هو وأصحابه فوقها، فلما رأى شيرزاذ ذلك أجاب إلى الصلح على الشروط التي اشترطها خالد، وسأله أن لرده إلى مامنه فوفّى له خالد بذلك، وخرج شيرزاذ من الأنبار وتسلمها خالد، فنزلها واطمأن بها، وتعلَّم الصحابة ممن بها من العرب الكتابة العربية، وكان هؤلاء

(6)

العرب قد تعلموها من عرب قبلهم وهم بنو إياد، كانوا بها في زمان بختنصر حين أباح العراق للعرب، وأنشدوا خالدًا قول بعض إياد يمتدح قومه

(7)

: [من المنسرح]

(1)

في أ: البلاد.

(2)

في أ: ينتسب.

(3)

في أ: حتى قلعوا. والخبر في تاريخ الطبري (3/ 374) والكامل لابن الأثير (2/ 394).

(4)

في أ، ط: خالدًا؛ وما هنا للسياق اللغوي.

(5)

في أ: بردي؛ وما هنا عن الطبري، والرذايا: جمع رذية؛ وهي الناقة المهزولة من السير.

(6)

في ط: أولئك.

(7)

البيتان في تاريخ الطبرى (3/ 375) وسيرة ابن هشام (1/ 43) وهما في ديوان أمية بن أبي الصلت ثمانية.

ص: 72

قَوْمي إيادٌ لوْ أنَّهُمْ أُممُ

أو لوْ أقاموا فتُهْزل

(1)

النَّعمُ

قومٌ لهم باحةُ العِراقِ إذا

ساروا جميعًا واللَّوْحُ والقَلَم

(2)

ثم صالح خالدٌ أهلَ البوازيج وكلْوَاذَى، قال

(3)

: ثم نَقض أهلُ الأنبارِ ومنْ حَوْلَهم عهدَهم لمّا اضطربَتْ بعض الأحوال، ولم يبق على عهده سوى البوازيج وبانقْيا.

قال سيف [بن عمر]

(4)

عن عبد العزيز بن شاه، عن حبيب بن أبي ثابت قال:

ليس لأحد من أهل السواد عهدٌ قبلَ الوقعة، إلا بني صلوبا. - وهم أهل الحيرة - وكَلْواذى وقرى من قُرى الفرات، غَدَروا حتى دَعوا إلى الذمة بعدما غادروا.

وقال سيف

(5)

عن محمد بن قيس: قلت للشَّعبي: أُخذ السَّواد عنوة [قال: نعم] وكل أرضٍ إلا بعض القلاع والحصون فإن بعضهم صالح وبعضهم غالب.

قلت: فهل لأهل السَّواد ذمَّةٌ اعتقدوها قبل الحرب

(6)

؟ قال: لا، ولكنهم لما دُعوا ورضوا بالخراج وأُخذ منهم (صاروا ذمَّة).

‌وقعة عين التمر

لما استقرّ

(7)

خالدٌ بالأنبار استنابَ عليها الزّبْرِقانَ بن بَدْرٍ، وقصدَ عينَ التَّمْر وبها يومئذ مِهران بن بهرام (جُوبين) في جمعٍ عظيمٍ من العرب، وحولهم من الأعراب طوائفُ من النَّمر

(8)

وتغلب وإياد ومنْ لاقاهم وعليهم عَقَّة

(9)

بن أبي عقَّة، فلما دنا خالد قال عقة لمهران: إن العربَ أعلمُ بقتالِ العرب، فدعنا وخالدًا، فقال له: دونكم وإياهم، وإن احتجتم إلينا أعَنَّاكُم، فلامتِ العجمُ أميرَهم على هذا، فقال: دعوهم فإن غلبوا خالدًا فهو لكم

(10)

، وإن غُلبوا قاتلنا خالدًا، وفد ضعفوا ونحن أقوياء، فاعترفوا له بفضل الرأي عليهم.

(1)

في أ: قامت النعم؛ ولا يستقيم بها الوزن.

(2)

في تاريخ الطبري (3/ 375): والخط والقلم.

(3)

في أ: قالوا؛ خطأ، والقائل هنا ابن جرير الطبري في تاريخه (3/ 375).

(4)

تاريخ الطبري (3/ 375).

(5)

نفس المصدر.

(6)

في أ: قبل الهرب.

(7)

في ط: استقلّ.

(8)

في ط: التمر؛ وهو تحريف.

(9)

في أ: عقبة والتصحيح من تاريخ الطبري (3/ 376).

(10)

في أ: لهم.

ص: 73

وسار خالد وتلقاه عقّة فلما تواجهوا قال خالد لمَجْنَبَتيْهِ: احفظوا مكانَكم فإني حامل، وأمرَ حماتَه أن يكونوا من ورائه، وحمل على عقّة وهو يسوّي الصفوف فاحتضنه وأسره وانهزم جيش عقّة من غير قتال فأكثروا

(1)

فيهم الأسْرَ، وقصدَ خالدٌ حصنَ عَيْنِ التَّمْرِ، فلما بلغَ مهرانَ هزيمةُ عقة وجيشه، نزلَ من الحصن وهربَ وتركه، ورجعتْ فُلَّالُ

(2)

نصارى الأعراب إلى الحصن فوجدوه مفتوحًا فدخلوه واحتَموْا به، فجاء خالدٌ وأحاط بهم وحاصرهم أشدَّ الحصار، فلما رأوا ذلك سألوه الصلح فأبى إلا أن ينزلوا على حكم خالد، فنزلوا على حكمه فجعلوا في السلاسل وتسلم الحصن ثم أمر فضربت عنق عقة

(3)

ومن كان أُسر معه والذين نزلوا على حكمه أيضًا أجمعين. وغنم جميع ما [كان] في ذلك الحصن، ووجد في الكنيسة التي به أربعين غلامًا يتعلمون الإنجيل وعليهم بابٌ مغلقٌ، فكسره خالد وفرَّقهم في الأمراء وأهل الغناء، وكان [فيهم] حمران صار إلى عثمان بن عفان من الخمس، ومنهم سيرين والد محمد بن سيرين أخذه أنس بن مالك. وجماعة آخرون من الموالي المشاهير، أراد بهم وبذراريهم خيرًا. ولما قدم الوليد بن عقبة على الصدّيق بالخُمس ردَّه الصديق إلى عياض بن غنم مددًا له وهو محاصرٌ دومةَ الجندلِ، فلما قدم عليه وجده في ناحية (من) العراق يُحاصر قومًا، وهم قد أخذوا عليه الطرقَ فهو محصور أيضًا، فقال عياض للوليد: إن بعض الرأي خير من جيش كثيف، ماذا ترى فيما نحن فيه؟ فقال له الوليد: اكتب إلى خالد يمدك بجيش من عنده، فكتب إليه يستمده فقدم كتابه على خالد عقب وقعة عين التمر وهو يستغيث به، فكتب إليه: من خالد [بن الوليد] إلى عياض، (إياك) أريد

(4)

: [من الرجز]

لَبِّثْ قليلًا تأتِكَ الحلائبُ

(5)

يَحملنَ آسادًا عليها القاشب

(6)

كتائب تتبعها كتائب

(1)

في أ: وأكثروا.

(2)

الفلَّ: المنهزمون، وهم قوم فلٌّ منهزمون والجمع فُلُولٌ وفُلالٌ. اللسان (فلل).

(3)

في أ: ثم أمر بضرب عنق عقبة والهذيل.

(4)

كتاب خالد والأشطار الثلاثة في تاريغ الطبري (3/ 377).

(5)

الشطرة الأولى مثل عربي قديم أوردته في معجم الأمثال العربية (1/ 483) ومصادره في المستقصى (2/ 277) واللسان (حلب) والحلائب: الجماعات. وقال الأصمعي: حلائب الرجل: أنصاره من بني عمه خاصة.

(6)

في أ، ط: القشائب، وما هنا هو الأشبه للوزن. والقِشْبُ والقَشَبُ: السُّمُّ. اللسان (قشب).

ص: 74

‌خبرُ دُوْمَة

(1)

الجَنْدَل

لما فرغَ خالدٌ من عَيْنِ التَّمْر قصدَ إلى دومة الجندل، واستخلفَ على عين التمر عويمر (بن) الكاهن

(2)

الأسلمي، فلما سمع أهل دومة الجندل بمسيره إليهم، بعثوا إلى أحزابهم من بهراء وتنوخ وكلب

(3)

وغسان والضجاعم، فأقبلوا إليهم وعلى غسان وتنوخ ابن الأيهم، وعلى الضجاعم اين الحدرجان، وجماعُ الناس بدومة إلى رجلين أُكيدر بن عبد الملك، والجودي بن ربيعة، فاختلفا، فقال أُكيدر: أنا أعلم الناس بخالد، لا أحد أيمن طائرًا منه في حرب، ولا أحدُّ منه، ولا يرى وجه خالد قوم أبدًا، قلوا أم كثروا إلا انهزموا عنه، فأطيعوني وصالحوا القومَ، فأبَوْا عليه، فقال: لن أمالئكم على حرب خالد وفارقهم، فبعث إليه خالد عاصم بن عمرو فعارضه فأخذه، فلما أتى به خالدًا أمر فضربت عنقه وأخذ ما كان معه، ثم تواجه خالد وأهل دومة الجندل وعليهم الجودي بن ربيعة، وكلُّ قبيلةٍ مع أميرها من الأعراب، وجعل خالدٌ دومةَ بينه وبين جيش عياض بن غنم، وافترق جيش الأعراب فرقتين، فرقة نحو خالد، وفرقة نحو عياض، حمل خالد على من قبله، وحمل عياض على أولئك، فأسرَ خالدٌ الجودي، وأسرَ الأقرع (بن حابس) وديعة، وفرت الأعراب إلى الحصن فملؤوه وبقي منهم خلق ضاق عنهم، فعطفت بنو تميم على منْ هو خارج الحصن (فأعطوهم ميرة فنجا بعضُم، وجاءَ خالدٌ فضربَ أعناقَ منْ وجده خارج الحصن)، وأمر بضرب عنقِ الجودي ومنْ كان معه من الأسارى

(4)

، إلا أسارى بني كلب، فإنَّ عاصمَ بن عمرو والأقرع بن حابسٍ، وبني تميم أجاروهم، فقال لهم خالد: ما لي وما لكم أتحفظون أمرَ الجاهلية وتضيِّعونَ أمرَ الإسلام؟ فقال له عاصمُ بن عمرو: أتحسدونهم العافية وتحوذونهم الشيطان

(5)

، ثم أطاف خالد بالباب فلم يزل عنه حتى اقتلعه، واقتحموا الحصن فقتلوا منْ فيه من المُقاتلة، وسَبَوا الذَّراري فبايعوهم بينهم فيمن يزيد، واشترى خالدٌ (يومئذ) ابنةَ الجودي، وكانت موصوفةً بالجمال، وأقام بدومة الجندل وردّ الأقرع إلى الأنبار، ثم رجع خالد إلى الحيرة، فتلقاه أهلها من أهل الأرض بالتقليس

(6)

، فسمع رجلًا منهم يقول لصاحبه: مُرَّ بنا فهذا يومُ فَرَحِ الشَّرِّ

(7)

.

(1)

دومة - بضم أوله وفتحه - وعدّ ابن دريد الفتح من أغلاط المحدثين. وهي على سبع مراحل من دمشق إلى المدينة المنورة من القريات. معجم البلدان (2/ 487).

(2)

في تاريخ الطبري (3/ 378): عويم بن الكاهل الأسلمي.

(3)

في أ: وكعب وغسان.

(4)

في أ: الأسرى إلا أسارى.

(5)

في أ: وتجوزونهم إلى الشيطان.

(6)

في أ: فتلقاه أهل من أهل الأرض بالتعليس. والتقليس: الضرب بالدف والغناء واستقبال الولاة عند قدومهم بأصناف اللهو. اللسان (قلس).

(7)

تحتمل اللفظة في أ: السد والشك. وفي الطبي (3/ 379): فرج الشر.

ص: 75

‌خبر وقعتي الحُصَيْد

(1)

والمُصَبَّخ

(2)

قال سيف

(3)

: عن محمد وطلحة والمهلب قالوا: وكان خالد أقام بدُومة الجَنْدل، فظنَّ الأعاجم به وكاتبوا عرب الجزيرة فاجتمعوا لحربه، وقصدوا الأنبار يريدون انتزاعها من الزِّبرقان، وهو نائب خالدٍ عليها، فلما بلغ ذلك الزِّبرقان كتب إلى القعقاع بن عمرو نائب خالد على الحيرة، فبعث

(4)

القعقاع اْعْبَدَ بن فَدكي

(5)

السَّعديّ، وأمره بالحُصَيْد، وبعث عُروة بن أبي الجعد البارقي وأمره بالخَنافس، ورجع خالد من دومة إلى الحيرة وهو عازم على مصادمة أهل المدائن محلة كسرى، لكنه يكره أن يفعل ذلك بغير إذن أبي بكر الصديق، وشغله ما قد اجتمع من جيوش الأعاجم مع نصارى الأعراب يريدون حربه، فبعث القعقاع بن عمرو أميرًا على الناس، فالتقوا بمكان يقال له الحُصَيْد، وعلى العجم رجل منهم يقال له روزبه، وأمده أمير آخر يقال له زَرْمهر

(6)

، فاقتتلوا قتالًا شديدًا، وهزم المشركون، فقتل منهم المسلمون خلقًا كثيرًا، وقتل القعقاع (بيده) زرمهر، وقتل رجل يقال له عصمة بن عبد الله الضبي روزبه

(7)

. وغنم المسلمون شيئًا كثيرًا، وهرب من هرب من العجم، فلجؤوا إلى مكان يقال له خنافس، فسار إليهم أبو ليلى (بن) فدكي السعدي، فلما أحسوا بذلك ساروا إلى المُصَيَّخ، فلما استقروا بها بمنْ معهم من الأعاجم والأعراب قصدهم خالد بن الوليد بمن معه من الجنود، وقسم الجيش ثلاث فرق، وأغار عليهم ليلًا وهم نائمون فأنامهم

(8)

، ولم يفلت منهم إلا اليسير فما شبهوا إلا بغنم مُصرَّعةٍ.

وقد روى ابن جرير

(9)

عن عدي بن حاتم قال:

انتهينا في هذه الغارة إلى رجل يقال (له) حُرْقُوص بن النعمان النمري، وحوله بنوه وبناته وامرأته، وقد وضع لهم جفنة من خمر وهم يقولون: أحد يشرب هذه الساعة وهذه جيوش خالد قد أقبلت؟ فقال لهم: اشربوا شربَ وداعٍ فما أرى أن تشربوا خمرًا بعدها، فشربوا وجعل يقول

(10)

: [من الطويل]

(1)

معجم ما استعجم (452).

(2)

ط: المضيح؛ وكذا في معجم ما استعجم (1235) وقال ياقوت: المُصيخ بين حوران والقلت وكانت به وقعة هائلة لخالد على بني تغلب. معجم البلدان (5/ 144).

(3)

تاريخ الطبري (3/ 380) والخبر أيضًا في الكامل لابن الأثير (2/ 397).

(4)

في أ: فكتب، تصحيف.

(5)

في أ: عبد بن فزكي السعدي.

(6)

في أ: وزمهر.

(7)

في أ: رويزة.

(8)

أنامهم: هنا بمعنى: قتلهم. اللسان (نوم).

(9)

تاريخ الطبري (3/ 382).

(10)

البيت مع الخبر مختصرًا في معجم البلدان (5/ 144).

ص: 76

ألا يا اسْقِياني

(1)

قبلَ نائِرة

(2)

الفَجرِ

(3)

لعل مَنَايانا قريبٌ ولا نَدْري

القصيدة إلى آخرها، قال: فهجم الناسُ عليه فضربَ رجلٌ رأسه فإذا هو في جفنته، وأخذت بنوه وبناته وامرأته.

وقد قتل في هذه المعركة رجلان كانا قد أسلما ومعهما كتاب من الصدّيق بالأمان ولم يعلمِ بذلك المسلمون، وهما عبد العُزى بن أبي رُهم

(4)

بن قِرْواش، قتله جرير بن عبد الله البجلي، والآخر لبيد بن جرير، قتله بعض المسلمين، فلما بلغ خبرهما الصّديق وداهما، وبعث بالوصاة بأولادهما، وتكلَّم عمر بن الخطاب في خالد بسببهما، كما تكلَّم فيه بسب مالك بن نويرة، فقال له الصدِّيق: كذلك يلقى من يساكن أهل الحرب في ديارهم، أي الذنب لهما في مجاورتهما المشركين، وهذا كما في الحديث "أنا بريٌ من كُلِّ منْ ساكنَ المشركَ في داره"

(5)

وفي الحديث الآخر

(6)

"لا تراءى ناراهما" أي: لا يجتمع المسلمون والمشركون في محلة واحدة.

ثم كانت وقعة الثَّنيّ

(7)

والزُّمَيْل

(8)

وقد بيتوهم فقتلوا منْ كان هنالك من الأعراب والأعاجم فلم يُفلت منهم أحد ولا انبعث بخبر

(9)

، ثم بعث خالد بالخمس من الأموال والسبيِّ إلى الصدِّيق، وقد اشترى عليُّ بن أبي طالب من هذا السبيِّ جاريةً من العرب وهي ابنة ربيعة بن بُجَيْر التغلبي، فاستولدها عمر ورقية رضي الله عنهم (أجمعين).

(1)

في أ: فاسقياني، وفي معجم البلدان: ألا يا اصحباني.

(2)

نأرت نائرة: هاجت هائجة. اللسن (نأر).

(3)

في معجم البلدان: ألا يا اصحباني قبل جيش أبي بكر.

(4)

في أ: هروم؛ وهو تحريف.

(5)

رواه أبو داود في سننه (2645) في الجهاد، والترمذي في جامعه (1604) و (1605) في السير. ونصه:"أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين" قالوا: يا رسول الله؛ لم؟ قال: "لا تراءى ناراهما" وهو حديث ساقه الترمذي موصولًا ومرسلًا والصحيح أنه مرسل، أقول: وهو حديث صحيح بطرقه وشواهد".

(6)

العبارة الآتية في الحديث السابق.

(7)

الثني بالفتح ثم الكسر وياء مشددة: موضع بالجزيرة شرقي الرُّصافة تجمعت فيه بنو تغلب، وبنو بجير لحرب خالد بن الوليد فأوقع بهما وقتلهم شر قتلة سنة 12 في أيام أبي بكر الصديق. معجم البلدان (2/ 86).

(8)

الزُّميل: عند البشر بالجزيرة شرقي الرصافة، أوقع فيه خالد ببني تغلب ونمير وغيرهم سنة 12 أيام أبي بكر الصديق. معجم البلدان (3/ 151).

(9)

في أ: فلم يفلت منهم أحدًا ولا انبعث مخبر.

ص: 77

‌وقْعةُ الفِراض

(1)

ثم سار خالد بمن معه من المسلمين إلى الفِراض وهي تُخومُ الشّام والعراق والجزيرة، فأقام هنالك شهرَ رمضان مُفْطرًا لشُغله بالأعداء، ولما بلغ الرومَ أمرُ خالدٍ ومصيرُه إلى قرب بلادهم، حموا وغضبوا وجمعوا جموعًا كثيرة، واستمدوا تغلب وإياد والنَّمِر، ثم ناهدوا خالدًا فحالت الفرات بينهم فقالت الروم لخالد: اعبر إلينا، وقال خالد للروم: بل اعبروا أنتم، فعبرت الروم إليهم، وذلك للنصف من ذي القعدة سنة ثنتي عشرة، فاقتتلوا هنالك قتالًا عظيمًا بليغًا، ثم هزمَ الله جموعَ الروم وتمكَّن المسلمون من اقتفائهم فقتلَ في هذه المعركة مئة ألف، وأقام خالد بعد ذلك بالفراض عشرةَ أيام، ثم أذن بالقفول إلى الحيرة، لخمس بقين من ذي القعدة، وأمر عاصم بن عمرو أن يسير في المقدمة وأمر شجرة بن الأعز أن يسير في الساقة، (وأظهر خالد أنه يسير في الساقة)، وسار خالد في عدة من أصحابه وقصد شطر المسجد الحرام، وسار إلى مكة في طريقٍ لم يُسْلكْ قبله قطُّ، وتأتَّى له

(2)

في ذلك أمر لم يقعْ لغيره، فجعلَ يسيرُ مُعْتَسِفًا

(3)

على غير جادَّةٍ، حتى انتهى إلى مكة فأدرك الحج هذه السنة، ثم عاد فأدرك أمر الساقة قبل أن يصلوا إلى الحيرة، ولم يعلمْ أحدٌ بحجِّ خالدٍ هذه السنة إلا القليل من الناس ممَّنْ كانَ معه، ولم يعلم أبو بكر الصديق بذلك أيضًا إلا بعدما رجع أهل الحجّ من الموسم، فبعث يعتب عليه في مفارقته الجيش وكانت عقوبته عنده أن صرفه من غزو العراق إلى غزو الشام، وقال له فيما كتب إليه: يقول له: وإن الجموعَ لم تُشْجَ

(4)

بعون الله شجيكَ فليهنئك أبا سليمان النية والحظوة، فأتممْ يُتمِّمِ الله لكَ، ولا يدخلنك عُجْبٌ فتخسر وتخذل، وإياك أن تُدلَّ بعمل فإنَّ اللهَ له المنُّ وهو وليّ الجزاء.

ولما قرأ خالد الكتاب قال

(5)

: هذا من عمل الأعيسر - يعني عمر بن الخطاب - حَسَدني أن يكون فتح العراق على يدي. ولما انفصل خالد عن العراق استخلف عليه المثنى بن حارثة، ومعه من تخلف من الصحابة وغيرهم، فانحاز بهم المثنى نحو البريَّة فيما يلي الأنهار مخافة عليهم من الفرس حتى يأتيه المدد.

(1)

الفراض - بكسر أوله - تخوم الشام والعراق والجزيرة في شرقي الفرات، واجتمعت الروم والعرب والفرس فأوقع بهم وقعة عظيمة. قال سيف: قتل فيها مئة ألف، ثم رجع خالد إلى الحيرة لعشر بقين من ذي الحجة سنة 12. معجم البلدان (4/ 244). وأخبار وقعة الفراض في تاريخ الطبري (3/ 383) والكامل لابن الأثير (2/ 399).

(2)

في ط: ويأتي؛ وما هنا عن أ وهو بالسياق أشبه.

(3)

في أ: متعسفًا، وَعسَف عن الطريق واعتسفه وتعسَّفه: مال وعدل وسار بغير هداية ولا توخّي صوب. القاموس والتاج (عسف).

(4)

في تاريخ الطبري (3/ 385): فإنه لم يشج الجموع من الناس بعون الله شجاك وهي من أشجاه الهم والحزن: بمعنى هجه. اللسان (شجا).

(5)

قول خالد هذا في تاريخ الطبري (3/ 415).

ص: 78

‌فصل فيما كان من الحوادث في هذه السنة

(1)

فيها أمرَ الصديق زيدَ بن ثابتٍ أن يجمعَ القرآن من اللِّخاف

(2)

والعُسُب وصدور الرجال، وذلك بعد ما استَحَرّ

(3)

القتلُ في القُرّاء يوم اليمامة كما ثبت به الحديث في صحيح البخاري

(4)

.

وفيها تزوج علي بن أبي طالب بأُمامة بنت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي من أبي العاص بن الربيع بن عبد شمس الأموي، وقد توفي أبوها في هذا العام، وهذه هي التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحملها في الصلاة فيضعها إذا سجد ويرفعها إذا قام.

وفيها تزوَّجَ عمر بن الخطاب عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نُفَيْل، وهي ابنة عمه، وكان لها محبًا وبها معجبًا، وكان لا يمنعها من الخروج إلى الصلاة ويكره خروجَها، فجلس لها ذات ليلة في الطريق في ظلمة، فلما مرَّتَ ضربَ بيده على عجزها، فرجعتْ إلى منزلها ولم تخرج بعد ذلك، وقد كانت قبله تحت [أخيه] زيد بن الخطاب، فيما قيل، فقتل عنها، وكانت قبل زيد تحت عبد الله بن أبي بكر (فقتل عنها)، ولما مات عمر تزوَّجها بعده الزبير، فلما قُتل خطبها علي بن أبي طالب فقالت: إني أرغب بك عن الموت، وامتنعت عن التزوج

(5)

حتى ماتت.

وفيها اشترى عمر مولاه أسلم، ثم صار منه أن كان أحد سادات التابعين، وابنه زيد بن أسلم أحد الثقات الرفعاء.

وفيها حج بالناس أبو بكر الصديق رضي الله عنه، واستخلف على المدينة عثمان بن عفان. رواه ابن إسحاق

(6)

، عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب مولى الحُرقة، عن رجل من بني سهم، عن ابن ماجد

(7)

، قال: حجَّ بنا أبو بكر في خلافته سنة ثنتي عشرة، فذكر حديثًا في القصاص من قطع الأذن، وأن عمر حكم في ذلك بأمر الصديق. قال ابن إسحاق:(وقال بعض الناس) لم يحجّ أبو بكر في خلافته، وأنه بعث على الموسم سنة ثنتي عشرة عمر بن الخطاب، أو عبد الرحمن بن عوف.

(1)

في أ: ومما كان من الحوادث هذه السنة، فصل كان من الحوادث هذه السنة.

(2)

في ط: اللحاف، تحريف، واللخاف: جمع لَخْفَة وهي حجارة بيض رقاق. النهاية (3/ 244) واللسان (لخف).

(3)

استحرَّ القتل، وحرَّ بمعنى اشتدَّ. اللسان (حرر).

(4)

حديث جمع القرآن في صحيح البخاري (4986) في فضائل القرآن.

(5)

في أ: وامتنعت من التزويج.

(6)

تاريخ الطبري (3/ 386).

(7)

في أ وط: أبي ماجدة، والتصحيح من تاريخ الطبري، واسم ابن ماجدة: علي، وهو من رجال التهذيب.

ص: 79

‌فصل فيمن توفي في هذه السنة

قد قيل إن وقعةَ اليمامة وما بعدها (كانت) في سنة ثنتي عشرة، فليذكر هاهنا من تقدَّم ذكره في سنة إحدى عشرة من قتل باليمامة وما بعدها، ولكن المشهور ما ذكرناه.

[وممن توفي في هذه السنة]:

بشير بن سَعْد بن ثعلبة الخزرجي

(1)

والدُ النعمان بن بشير، شهد العقبةَ الثانيةَ، وبدرًا وما بعدها، ويقال: إنه أولُ من أسلم من الأنصار، وهو أول من بايعَ الصديقَ يومَ السقيفة من الأنصار، وشهدَ مع خالدٍ حروبه إلى أن قُتل بعين التمر رضي الله عنه، وروى له النسائي

(2)

حديث النُّحْل.

والصَّعْبُ بن جَثَّامة اللَّيْثي

(3)

أخو مُحلِّم

(4)

بن جَثَّامة، له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث. قال أبو حاتم

(5)

: هاجر وكان ينزل ودَّان

(6)

ومات في خلافة الصدِّيق.

وأبو مَرْثَد الغَنوي

(7)

واسمه كَنَّار

(8)

بن الحصن

(9)

- ويقال ابن حصين - بن يربوع بن (عمرو بن

(1)

ترجمة - بشير بن سعد - في الاستيعاب (177) وأسد الغابة (1/ 233) وجامع الأصول (13/ 156) والوافي بالوفيات (10/ 166) والإصابة (1/ 168).

(2)

رواه النسائي في المجتبى، رقم (6/ 259 - 261)، وهو في النُّحْل من سننه الكبرى (6502)(6503) و (6505) و (6510). ورواه مسليم (1623) وغيره من حديث النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو المحفوظ.

(3)

ترجمة - الصعب بن جثّامة - في التاريخ الكبير (4/ 322 - 323) والجرح والتعديل (4/ 450) والاستيعاب (739) وجامع الأصول (14/ 347) وأسد الغابة (3/ 20) وتهذيب الأسماء واللغات (1/ 249) وتهذيب التهذيب (4/ 421). والإصابة (2/ 184 - 185).

(4)

في ط: محكم؛ تحريف، وقال ابن الأثير: محلم - بضم الميم وفتح الحاء المهملة وتشديد اللام المكسورة - جامع الأصول (15/ 171).

(5)

الجرح والتعديل (4/ 450).

(6)

ودّان: موضع بين مكة والمدينة ينسب إليها الصعب بن جثامة الليثي الوداني، كان ينزلها فنسب إليها. معجم ما استعجم (1374) ومعجم البلدان (5/ 365).

(7)

ترجمة - أبي مرثد الغنوي - في التاريخ الكبير (7/ 241) والجرح والتعديل (7/ 174) وحلية الأولياء (2/ 19) والاستيعاب (1333) وجامع الأصول (15/ 117 - 118) وأسد الغابة (4/ 500) وتهذيب الكمال (24/ 223) والإصابة (3/ 307) وتهذيب التهذيب (8/ 448) ومرثد - بفتح الميم وسكون الراء، وفتح الثاء المثلثة - جامع الأصول.

(8)

في ط: معاذ؛ تحريف، وكناز بفتح الكاف، وتشديد النون، وبالزاي. جامع الأصول.

(9)

في أ، ط: الحصين ويقال ابن الحصن. وما هنا عن مصادره.

ص: 80

يربوع) بن خَرَشَة

(1)

بن سَعْدِ بن طَريف بن جِلَّان

(2)

بن غَنْم بن غَني بن أعصر

(3)

بن سَعْد بن قَيْس بن غيلان بن مُضَر بن نزار أبو مَرْثد الغَنوي، شهد هو وابنه مَرْثَد بدرًا، ولم يشهدها رجلٌ هو وابنه سواهما، واستُشهد ابنُه مَرْثَد يوم الرَّجيع كما تقدَّم، وابنُ ابنهِ أُنَيس بن مَرْثد بن أبي مَرْثد له صحبة أيضًا، شهد الفتح وحنينًا وكان عينَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أوطاس، فهم ثلاثة نسقا، وقد كان أبو مرثد حليفًا للعباس بن عبد المطلب، ورُوي له عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثٌ واحدٌ أنه قال:"لا تُصلّوا إلى القبور، ولا تَجْلسُوا إليها"[رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي من طريق واثلة بن الأسقع عنه]

(4)

. قال الواقدي: توفي سنة اثنتي عشرة، زاد غيره بالشام، وزاد غيره عن ست وستين سنة، وكان رجلًا طويلًا كثير الشعر.

قلت: وفي قبلي دمشق قبر يعرف بقبر كثيرًا

(5)

، والذي قرأته على قبره: هذا قبر كَنّاز بن الحصين صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأيت على ذلك المكان روحًا وجلالة، والعجب أن الحافظ ابن عساكر لم يذكره في تاريخ الشام، فالله أعلم.

وممن توفي في هذه السنة:

أبو العاص

(6)

بن الرَّبيع بن عَبْدِ العُزَّى بن عَبْدِ شَمْسِ بن عَبْدِ مُنافِ بن قُصيّ القُرشي العَبْشمي: زوج أكبر بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب، وكان مُحْسنًا إليها ومُحبًّا لها، ولما أمره المشركون بطلاقها

(7)

حين بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبى عليهم ذلك، وكان ابنَ أختِ خديجة بنت خويلد، واسم أُمه هالة، ويقال هند بنت خويلد، واختلف في اسمه فقيل

(8)

: (لقيط)، وهو الأشهر، وقيل: مِهْشَم

(9)

، وقيل: هُشَيْم، وقد شهد بدرًا من ناحية الكفار فأسر: فجاء أخوه عمرو بن الربيع ليفاديه وأحضر معه في الفداء قلادةً كانت خديجة أخرجتها مع ابنتها زينب حين تزوج أبو العاص بها، فلما رآها رسولُ الله رقَّ رقةً شديدة وأطلقه بسببها، واشترط عليه أن يبعث له زينب إلى المدينة فوفَّى له بذلك، واستمرّ أبو العاص على كفره بمكةَ إلى قُبيل الفتح بقليل، فخرج في تجارةٍ لقريش فاعترضه زيدُ بن حارثة في سرية فقتلوا جماعة من أصحابه

(1)

خرشة - بفتح الخاء المعجمة، وفتح الراء وبالشين المعجمة - جامع الأصول.

(2)

في ط: خيلان، تحريف، وجلان - بكسر الجيم - وتشديد اللام، وبالنون.

(3)

كذا في الأصلين، وفي الاستيعاب وأسد الغابة: يعصر.

(4)

صحيح مسلم (972) و (97) و (98) في الجنائز، وسنن أبي داود (3229) في الجنائز، وجامع الترمذي (1050) و (1051) في الجنائز، وسنن النسائي (2/ 67) في القبلة.

(5)

في أ: زيادة: وكأنه من تصحيف بعض العامة.

(6)

ترجمة - أبي العاص - في الاستيعاب (4/ 1701) وجامع الأصول (15/ 219) وأسد الغابة (6/ 185) وتهذيب الأسماء واللغات (2/ 248 - 249). والإصابة (4/ 121 - 123).

(7)

في ط: أمره المسلمون بطرقها؛ خطأ. والتصويب من الاستيعاب.

(8)

في أ: وقيل قاسم، وقيل ياسر.

(9)

مهشم: بكسر أوله، وسكون ثانيه، وفتح الشين المعجمة، وقيل بضم أوله وفتح ثانيه وكسر الشين الثقيلة.

ص: 81

وغنموا العير، وفرَّ أبو العاص هاربًا إلى المدينة فاستجار بامرأته زينب فأجارته، فأجاز رسول الله جوارها، ورد عليه ما كانَ معه من أموالِ قريشٍ، فرجع بها أبو العاص إليهم، فرد كلَّ مالٍ إلى صاحبه، ثم تشهد شهادة الحق وهاجر إلى المدينة، ورد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بالنكاح الأول، وكان بين فراقها له وبين اجتماعها

(1)

ست سنين، وذلك بعد سنتين من وقت تحريم المسلمات على المشركين في عمرة الحديبية، وقيل إنما ردَّها عليه بنكاح جديد، فالله أعلم.

وقد ولد من زينب علي بن أبي العاص [وأمامة بنت أبي العاص].

وخرج مع عليٍّ إلى اليمن حين بعثه إليها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يثني عليه خيرًا في صهارته، ويقول:"حدَّثني فصدَقني وواعدني فوَفاني"

(2)

وقد توفي في أيام الصديق سنة ثنتي عشرة.

وفي هذه السنة تزوج عليُّ بن أبي طالب بابنته أمامة بنت أبي العاص، بعد وفاة خالتها فاطمة، وما أدري هل كان ذلك قبل وفاة أبي العاص أو بعده، فالله أعلم

(3)

.

‌سنة ثلاث عشرة من الهجرة

استُهلَّتْ هذه السنة والصدِّيقُ عازم على جمع الجنود ليبعثَهم إلى الشام، وذلك بعد مرجعه من الحج [وذلك] عملًا بقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 123] وبقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} الآية [التوبة: 29]. واقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه جمعَ المسلمين لغزو الشّام - وذلك عام تبوكَ - حتّى وَصلها في حرٍّ شديد وجهد، فرجع عامَهُ ذلك، ثم بعثَ قبل موته أسامةَ بن زيدٍ مولاه ليغزوَ تخوم الشام كما تقدم. ولما فرع

(4)

الصدِّيقُ من أمر جزيرة العرب بسط يمينَه إلى العراق، فبعث إليها خالد بن الوليد ثم أراد أن يبعث إلى الشام كما بعث إلى العراق، فشرع في جمع الأمراء في أماكنَ متفرقةٍ من جزيرة العرب. وكان قد استعمل عمرو بن العاص على صدقات قضاعة معه الوليدُ بن عقبة فيهم، فكتب إليه يستنفره إلى الشام

(5)

: إنّي كنتُ قد رددتكَ على العمل الذي ولَّاكهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مرةً، وسمّاه لك أخرى، وقد أحببت - أبا عبد الله - أن أفرِّغك لما هو خيرٌ لك في حياتك ومعادك منه، إلا أن يكون الذي أنت فيه أحبّ إليك.

(1)

من قوله: فراقها إلى هنا بياض في (أ).

(2)

قطعة من حديث أخرجه أحمد في مسنده (4/ 326) والبخاري في صحيحه (3110) في فرض الخمس، ومسلم في صحيحه (2449)(95) في فضائل الصحابة.

(3)

بعده في ط: تم الجزء السادس من البداية والنهاية، ويليه الجزء السابع، وأوله: سنة ثلاث عشرة من الهجرة النبوية. نسأل الله التوفيق والإعانة. بسم الله الرحمن الرحيم سنة ثلاث عشرة من الهجرة.

(4)

في أ: ولما تفرغ.

(5)

تاريخ الطبري (3/ 389).

ص: 82

فكتب إليه عمرو بن العاص: إنّي سهمٌ من سهام الإسلام، وأنت عبد

(1)

الله الرامي بها، والجامع لها، فانظرْ أشدَّها وأخشاها فارم (بي) فيها. وكتب إلى الوليد بن عقبة بمثل

(2)

ذلك ورد عليه مثله، وأقبلا بعد ما استخلفا في عملهما، إلى المدينة. وقدم خالد بن سعيد بن العاص من اليمن، فدخل المدينةَ وعليه جبَّةُ ديباج، فلما رآها عمرُ عليه أمر من هناك من الناس بتحريقها

(3)

عنه، فغضب خالد بن سعيد وقال لعلي بن أبي طالب: يا أبا الحسن! أغُلبْتُم يا بني عبد مناف عن الإمرة؟ فقال له علي: أمغالبة تراها أو خلافة؟ فقال لا يغالب

(4)

على هذا الأمر أولى منكم، فقال له عمر بن الخطاب: اسكت فضَّ اللهُ فاك، والله لا تزال كاذبًا تخوض فيما قلت ثم لا تضر إلا نفسك. وأبلغها عمر أبا بكر فلم يتأثر لها أبو بكر.

ولما اجتمع عند الصدِّيق من الجيوش ما أراد قام في الناس خطيبًا فأثنى على الله بما هو أهله، ثم حثَّ الناسَ على الجهاد فقال: ألا [إنّ]

(5)

لكلِّ أمرٍ جوامع، فمنْ بلغَها فهي حسبُه، ومن عملَ للّه كفاهُ اللهُ، عليكم بالجدِّ والقصد فإنَّ القصدَ أبلغُ، ألا إنه لا دينَ لأحدٍ لا إيمانَ له، ولا إيمانَ لمنْ لا حسبه

(6)

له، ولا عملَ لمن لا نيَّة له، ألا وإن في كتابِ الله من الثواب على الجهادِ في سبيل الله لما ينبغي للمسلم أن يحبَّ أن يُخصَّ به، هي التجارة

(7)

التي دلَّ اللهُ عليها، إذ نَجَّى بها من الخزي، وألحق بها [من] الكرامة.

ثم شرعَ الصدِّيقُ في توليةِ الأمراءِ وعقدِ الألويةِ والرايات، فيُقال إنَّ (أولَ) لواءٍ عَقَدهُ لخالدِ بن سعيد بن العاص، فجاء عمر (بن الخطاب) فثناه عنه وذكَّره بما قال. فلم يتأثر (به الصديق كما تأثر به عمر، بل عزله عن الشام وولاه أرض "تيماء" يكون بها فيمن) معه من المسلمين حتى يأتيه أمره.

ثم عقدَ لواءَ يزيد بن أبي سفيان ومعه جمهورُ الناس، ومعه سهيلُ بن عمرو، وأشباهُه من أهل مكة، وخرج معه ماشيًا يوصيه (بما اعتمده في حربه ومن معه من المسلمين، وجعل له دمشق. وبعث أبا عبيدة بن الجراح على جند آخر، وخرج معه ماشيًا يوصيه)، وجعل له نيابةَ حمص. وبعثَ عمرو بن العاص ومعه جندٌ أخر وجعله على فلسطين. وأمر كلَّ أميرٍ أن يسلكَ طريقًا غير طريق الآخر، لما لحظ في ذلك من المصالح. وكان الصدِّيقُ اقتدى في ذلك بنبيِّ الله يعقوب حين قال لبنيه: {وَقَالَ يَابَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا

(1)

في أ: فعبد الله، وفي الطبري: بعد الله.

(2)

في أ: قبل ذلك، وفي الطبري: بنحو ذلك.

(3)

في تاريخ الطبري (3/ 388): فصاح عمر بمن يليه مزّقوا عليه جبته.

(4)

في أ: لا يخالف.

(5)

استدراك من الطبري.

(6)

في أ: خشية. وفي نسخة "ولا أجر لمن لا حسبة له".

(7)

في أ، ط: هي النجاة؛ وما هنا عن الطبري (3/ 390).

ص: 83

مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ

الْمُتَوَكِّلُونَ} [يوسف: 67]. فكان سلوكُ يزيد بن أبي سفيان على تبوك.

قال المدائنيّ بإسناده عن شيوخه قالوا: وكان أبو بكر بعث هذه الجيوش في أول سنة ثلاث عشرة.

قال محمد بن إسحاق

(1)

عن صالح بن كيسان: خرج أبو بكر ماشيًا ويزيد بن أبي سفيان راكبًا فجعل

يوصيه، فلما فرغ قال: أقرئك السلام وأستودعك الله، ثم انصرف ومضى يزيد وأجدَّ السيرَ. ثم ثبعه

شرحبيل بن حسنة، ثم أبو عبيدة مددًا لهما. فسلكوا (غير) ذلك الطريق.

وخرج عمرو بن العاص حتى نزل فلسطين من

(2)

الشام. ويقالُ إن يزيدَ بن أبي سفيان نزلَ البلقاء

أولًا. ونزل شرحبيلُ بالأردنّ، ويقال ببُصْرى. ونزلَ أبو عبيدة بالجابية. وجعلَ الصدِّيقُ يمدُّهم

بالجيوش، وأمر كل واحد منهم أن ينضاف إلى من أحبَّ من الأمراص. ويُقال إن أبا عبيدة لما مرَّ بأرض

البلقاءِ قاتلهم حتى صالحوه، وكان أولَ صلحٍ وقعَ بالشامِ.

ويقالُ: إنَّ أولَ حربٍ وقع بالشام أن الرومَ اجتمعوا بمكانٍ يقال له العَرَبة

(3)

من أرض فلسطين،

فوجه

(4)

إليهم أبا أمامة في سرية فقتلهم وغنم منهم، وقتل منهم بطريقًا عظيمًا. ثم كانت بعد هذه وقعة

مَرْجِ الصُّفَّر استُشهد فيها خالد بن سعيد بن العاص وجماعة من المسلمين. ويقال إنَّ الذي استُشهد في

مَرْج الصُّفَّر ابنٌ لخالد بن سعيد [بن العاص، وجماعة من المسلمين، وأما خالد بن سعيد] ففرَّ حتى

انحاز إلى أرضِ الحجاز، فالله أعلم، حكاه ابن جرير

(5)

.

قال ابن جرير

(6)

: ولما انتهى خالد بن سعيد إلى تيماء اجتمع له جنود من الروم في جمع

(7)

كثير من نصارى العرب، من بَهْراء

(8)

، وتنوخ، وبني كَلْب، وسَليح، ولَخْم وجُذام، وغَسّان،

فتقدم إليهم خالد بن سعيد، فلمّا اقتربَ منهم تفرّقوا عنه ودخلَ كثيرٌ منهم في الإسلام، وبعثَ إلى

الصديق يُعلمُه بما وقعَ من الفتح، فأمرَهُ الصديق أن يتقدَّم ولا يُحْجم؛ وأمدَّه بالوليد بن عقبة

(9)

(1)

تاربخ الطبري (3/ 405).

(2)

في ط: العرمات من أرض الشام، وفي تاريخ الطبري (3/ 405): نزل بغمر العَربات.

(3)

الكامل في التاريخ (2/ 405) وفيه: واجتمع للروم جمع بالعَربة من أرض فلسطين. وفي ط: العرية. وعند

ياقوت: الغَزيَّة قرية من أعمال زُرْع من نواحي حوران. معجم البلدان (4/ 27)، والمصنف ينقل من تاريخ

الطبري وفيه كما هنا.

(4)

في أ: فتوجه.

(5)

تاريخ الطبري (3/ 406).

(6)

تاريخه (3/ 389).

(7)

في أ: ومعهم كثير.

(8)

في ط: من غيرا؛ تحريف.

(9)

في ط: الوليد بن عتبة؛ خطأ، والخبر في تاريخ الطبري (3/ 390).

ص: 84

وعكرمة بن أبي جهل وجماعة، فسارَ إلى قريبٍ من إيلياء فالتقى هو وأميرٌ من الروم يقال له باهان

(1)

فكسره، ولجأ

(2)

باهان إلى دمشق، فلحقه خالدُ بن سعيد، وبادرَ الجيش إلى لحوق دمشق وطلب الحظوة، فوصلوا إلى مرج الصُّفَر فانطوت عليه مسالح باهان وأخذوا عليهم الطريق، وزحف باهان ففرَّ خالدُ بن سعيد، فلم يزل إلى ذي المروة. واستحوذَ الرومُ على عسكرهم إلَّا من فرَّ على الخيل، وثبت عكرمة بن أبي جهل، وقد تقهقر عن الشام قريبًا وبقي ردءًا لمن نفر إليه، وأقبلَ شرحبيلُ بن حسنة من العراق من عند خالد بن الوليد إلى الصدِّيق، فأمَّره على جيشه وبعثه إلى الشام، فلما مر بخالد بن سعيد بذي المروة، أخذ جمهورُ أصحابه الذين هربوا معه إلى ذي المروة.

ثم اجتمع عند الصديق طائفةٌ من الناس فأمَّر عليهم معاويةَ بن أبي سفيان وأرسله وراء أخيه يزيد بن أبي سفيان. ولما مرَّ بخالد بن سعيد أخذ منْ كان بقي معه بذي المروة إلى الشام. ثم أذن الصديق لخالد بن سعيد في الدخول إلى المدينة وقال: كان عمر أعلم بخالد.

‌وقعةُ اليَرْموك

على ما ذكره سيف بن عمر في هذه السنة قبل فتح دمشق، وتبعه على ذلك أبو جعفر بن جرير رحمه الله.

وأما الحافظ ابن عساكر رحمه الله فإنه نقل

(3)

عن يزيد بن أبي عبيدة والوليد وابن لهيعة والليث وأبي معشر: أنها كانت في سنة خمس عشرة بعد فتح دمشق.

وقال محمد بن إسحاق: كانت في رجب سنة خمس عشرة.

وقال خليفة بن خياط

(4)

: قال ابن الكلبي: كانت وقعة اليرموك يوم الإثنين لخمسٍ مَضَيْن من رجب سنة خمس عشرة.

قال ابن عساكر: وهذا هو المحفوظ، وما قاله سيف من أنها فبل فتح دمشق سنة ثلاث عشرة فلم يتابع عليه.

قلت: وهذا ذكر سياق سيف وغيره على ما أورده ابن جرير

(5)

وغيره. قال:

ولما توجهت هذه الجيوش نحو الشام أفزع ذلك الروم وخافوا خوفًا شديدًا، وكتبوا إلى هرقل

(1)

في ط: ماهان؛ تحريف وما هنا عن الطبري.

(2)

في أ: ونجا؛ تحريف.

(3)

في تاريخ دمشق (1/ 527 - 529).

(4)

في تاريخه (ص 130).

(5)

في تاريخه (3/ 392).

ص: 85

يعلمونه بما كان من الأمر. فيقال: إنه كان يومئذ بحمص، ويقال:[بل] كان حج عامه ذلك إلى بيت المقدس. فلما انتهى إليه الخبر. قال لهم: ويْحكم إن (هؤلاء) أهلُ دينٍ جديد، وإنهم لا قبلَ لأحدٍ بهم، فأطيعوني وصالحوهم بما تصالحونهم على نصفِ خراج الشام ويبقى لكم جبالُ الروم، وإن أنتم أبيتم ذلك أخذوا منكم الشام وضيقوا عليكم جبال الروم، فنخروا من ذلك نخرةَ حُمُرِ الوَحْش كما هي عاداتهم في قلة

(1)

المعرفة والرأي بالحرب والنصرة في الدّين والدنيا. فعند ذلك سار إلى حمص، (وأمر هرقل بخروج)

(2)

الجيوش الرومية صحبةَ الأمراء، في مقابلة كل أمير من المسلمين جيشٌ كثيفٌ. فبعث إلى عمرو بن العاص أخًا له لأبويه تَذَارق في تسعين ألفًا من المقاتلة. وبعث جرجه بن توذرا إلى ناحية يزيد بن أبي سفيان، فعسكر بإزائه

(3)

في خمسين ألفًا أو ستين ألفًا. وبعث الدُّراقص إلى شُرحبيل بن حَسَنة. وبعث الفيقار

(4)

ويقال القيقلان - قال ابن إسحاق وهو خصيّ هرقل نسطورس - في ستّين ألفًا إلى أبي عبيدة بن الجراح. وقالت الروم: (والله) لنشغلنَّ أبا بكر عن أن يورد الخيول إلى أرضنا. وجميع عساكر المسلمين أحد وعشرون ألفًا سوى الجيش الذي مع عكرمة بن أبي جهل. وكان واقفًا في طرف الشام

(5)

ردءًا للناس - في ستة آلاف - فكتب الأمراء إلى أبي بكر وعمر يعلمونهما بما وقع من الأمر العظيم، فكتب إليهم أن اجتمعوا وكونوا

(6)

جندًا واحدًا والقوا جنود المشركين، فأنتم أنصار الله والله ناصرٌ

(7)

منْ نَصَره، وخاذلٌ من كَفَره، ولن يُؤْتى مثلُكم عن قلة، ولكن من تلقاء الذنوب فاحترسوا منها، وليصل كل رجل منكم بأصحابه.

وقال الصدِّيق: والله لأشغلنَّ النصارى عن وساوس الشيطان بخالد بن الوليد. وبعث إليه وهو بالعراق ليقدم إلى الشام فيكون الأمير على منْ به، فإذا فرغ عاد إلى عمله بالعراق، فكان ما سنذكره.

ولما بلغ هرقل ما أمر به الصدِّيقُ أمراءه من الاجتماع، بعث إلى أُمرائه أن يجتمعوا أيضًا وأن ينزلوا بالجيش (منزلًا) واسع العطن

(8)

، واسع المُطَّرَدِ

(9)

، ضيقَ المَهْرب، وعلى الناس أخوه بذارق، وعلى المقدمة جرجه، وعلى المَجْنبتين باهان والدُّراقص، وعلى البحر القيقلان.

وقال محمد بن عائذ

(10)

: عن عبد الأعلى، عن سعيد بن عبد العزيز: إن المسلمين كانوا أربعةً

(1)

في أ: عاداتهم فرط المعرفة.

(2)

مكان القوسين في أ: في.

(3)

الخبر في تاريخ الطبري (3/ 392).

(4)

في ط: اللقيقار، وما هنا عن الطبري.

(5)

في أ: طرف المدينة.

(6)

في أ: أن يجتمعوا ويكونوا.

(7)

في ط: والله ينصر. وكتاب أبي بكر هذا في تاريخ الطبري (3/ 393).

(8)

العطن للإبل كالوطن للناس، ومعنى واسع العطن: أي واسع الناحية. اللسان (عطن).

(9)

من طراد الخيل، وهو عدوها وتتابعها. اللسان (طرد) ومعنى مطرد: أي يتسع لعدو الخيل وتتابعها.

(10)

الخبر في تاريخ دمشق لابن عساكر (1/ 529).

ص: 86

وعشرين ألفًا، وعليهم أبو عبيدة، والرُّوم كانوا عشرين ومئة ألفٍ عليهم باهان وسقلاب يوم اليرموك.

وكذا ذكر [محمد بن] إسحاق: أن سقلاب الخصي كان على الروم يومئذ في مئة ألف، وعلى المقدّمة جرجه - من أرمينية - في اثني عشر ألفًا، ومن المُسْتعربة اثني عشر ألفًا عليهم جبلة بن الأيهم، والمسلمون في أربعةٍ وعشرين ألفًا، فقاتلوا قتالًا شديدًا حتى قاتلت النساء من ورائهم أشدَّ القتال.

وقال الوليد: عن صفوان، عن عبد الرحمن بن جبير قال: بعث هرقلُ مئتي ألف عليهم باهان الأرمني.

قال سيف

(1)

: فسارت الروم فنزلوا الواقوصة قريبًا من اليرموك، وصار الوادي خندقًا عليهم. وبعث الصحابةُ إلى الصدّيق يستمدُّونه ويعلمونه بما اجتمع من جيش الروم باليرموك، فكتب الصدِّيق عند ذلك إلى خالد بن الوليد أن يستنيب على العراق وأن يقفل بمن معه إلى الشام، فإذا وصل إليهم فهو الأمير عليهم. فاستناب المثنى بن حارثة على العراق، وسار خالد مسرعًا في تسعة آلاف وخمسمئة، ودليله رافع بن عُمَيْرة الطّائي، فأخذ به على السماوة

(2)

حتى انتهى إلى قُراقِر

(3)

، وسلك به أراضي لم يسلكها قبله أحدٌ، فاجتابَ البراري والقفار، وقطعَ الأوديةَ، وتصعَّد على الجبال، وسار في غير مهيع

(4)

، وجعل رافع يدلُّهم في مسيرهم على الطريق، وهو في مفاوز مُعْطشة، وعَطَّشَ النوقَ وسقاها الماء عللًا بعد نهل

(5)

، وقطع مشافرها وكعمها

(6)

حتى لا تجترّ وخلَّى أدبارها، واستاقها معه، فلما فقدوا [ذلك] الماء نحرها، فشربوا ما في أجوافها من الماء، ويقال: بل سقاه الخيل وشربوا ما كانت تحمله من الماء وأكلوا لحومها. ووصل ولله الحمد والمنة في تسعة

(7)

أيام، فخرج على الروم من ناحية تدمر، فصالح أهل تدمر وأركة

(8)

، ولما مر بعذراء

(9)

أباحها وغنم لغسان أموالًا

(10)

عظيمة، وخرج من شرقي دمشق، ثم

(1)

تاريخ الطبري (3/ 393).

(2)

في ط: السماق، تحريف. والسماوة بادية بين الكوفة والشام قفرى. معجم البلدان (3/ 245).

(3)

قراقر: واد لكلب بالسماوة من ناحية العراق نزله خالد بن الوليد عند مقصده الشام. معجم البلدان (4/ 317).

(4)

مَهْيع: طريق مَهيعٌ واضح واسع بيّن، وجمعه مهايع اللسان (هيع).

(5)

العلل: الشربة الثانية، والنهل: الأولى. اللسان (علل ونهل).

(6)

كعم البعير يكعمُه كعْمًا: شدّ فاه. اللسان (كعم).

(7)

في ط: خمسة، وما هنا عن أ والكامل لابن الأثير (2/ 407 - 409).

(8)

كذا في أ، ط وهي في تاريخ الخميس (1/ 232): أوروكة، وفي معجم البلدان (2/ 153): أرك - بفتحتين - وضم ابن دريد همزته: مدينة صغيرة في طرف برية حلب قرب تدْمُر، وهي من فتوح خالد بن الوليد في اجتيازه من العراق إلى الشام.

(9)

عذراء: قرية بغوطة دمشق من إقليم خولان معروفة إليها ينسب مرجها، وإذا انحدرت من ثنية العقاب وأشرفت على الغوطة فتأملت على يسارك رأيتها أول قرية تلي الجبل. معجم البلدان (4/ 91) قلت: ويلفظها أهل دمشق اليوم عدرا.

(10)

في أ: ولما مر بعذراء أغار على عسا وغنم غسان أموالًا عظيمة. وما هنا أوضح.

ص: 87

سار حتى وصل إلى قناة بصرى، فوجد الصحابة تحاربها، فصالحه صاحبها وسلمها إليه، فكانت أول مدينة فتحت من الشام ولله الحمد.

وبعثَ خالدٌ بأخماس ما غنم من غسان مع بلال بن الحارث المزني إلى الصديق (ثم سار وأبو عبيدة ومرثد وشرحبيل إلى عمرو بن العاص - وقد قصده الروم بأرض العربا من المعور - فكانت واقعة أجنادين). وقد قال رجل من المسلمين في مسيرهم هذا مع خالد

(1)

[من الرجز]:

لله عَيْنَا

(2)

رافِعٍ أنَّى اهْتدى

فَوّزَ منْ قُراقِرٍ إلى سُوى

خمسًا إذا ما سارها الجيشُ بكى

ما سارَها قَبلكَ إنسيٌّ أرى

وقد كان بعضُ العرب قال له في هذا المسير: إن أنتَ أصبحتَ عند الشجرة الفلانية نجوتَ أنتَ ومنْ معكَ، وإن لم تدركْها هلكتَ أنتَ ومنْ معك، فسار خالد بمن معه وسَرَوا سروةً عظيمةً فأصبحوا عندها، فقال خالد: عندَ الصَّباح يحمد القوم السُّرى. فأرسلها مثلًا، وهو أول من قالها رضي الله عنه.

(ويقول غير ابن إسحاق، كسيف بن عمر وأبي مِخْنَف وغيرهما في تكميل السياق الأول:

حين اجتمعت الروم مع أمرائها بالواقوصة) وانتقل الصحابة من منزلهم الذي كانوا فيه، فنزلوا قريبًا من الروم في طريقهم الذي ليس لهم طريق غيره، فقال عمرو بن العاص: أبشروا أيها الناس، فقد حصرت (والله) الروم، وفلما جاء محصور بخير.

ويقال: إنّ الصحابة لما اجتمعوا للمشورة في كيفية المسير إلى الروم، جلس الأمراء لذلك فجاء أبو سفيان فقال: ما كنت أظنّ أني أعمَّر حتّى أدرك قومًا يجتمعون لحرب ولا أحضرهم، ثم أشار أن يتجزَّأ الجيشُ ثلاثةَ أجزاء، فيسير ثلثه فينزلون تجاه الروم، ثم تسير الأثقال والذراري في الثلث الآخر، ويتأخر خالد بالثلث الآخر حتى إذا وصلت الأثقال إلى أولئك سار بعدهم ونزلوا في مكان تكون البرية من وراء ظهورهم لتصل (إليهم) البُرُد والمَدد. فامتثلوا ما أشار به ونعم الرأي هو.

وذكر الوليد عن صفوان عن عبد الرحمن بن جبير:

أن الروم نزلوا فيما بين دير أيوب واليرموك، ونزل المسلمون من وراء النهر من الجانب الآخر، وأذرعات خلفهم ليصل إليهم المدد من المدينة. ويقال إن خالدًا إنما قدم عليه بعدما نزل الصحابة تجاه الروم بعد ما صابروهم (وحاصروهم) شهر ربيع الأول بكماله، فلما انسلخ وأمكن القتال لقلة الماء بعثوا

(1)

الأشطار الثلاثة الأولى في معجم ما استعجم (1058) وهي أربعة في معجم البلدان (4/ 318) وهي في تاريخ الطبري (3/ 416) كما هنا.

(2)

في معجم ما استعجم: ضل ضلال رافع، وفي معجم البلدان: لله در رافع.

ص: 88

إلى الصديق يستمدونه فقال: خالد لها، فبعث إلى خالد فقدم عليهم في ربيع الآخر، فعند وصول خالد إليهم أقبل باهان مددًا للروم ومعه القساقسة، والشمامسة والرهبان يحثونهم ويحرضونهم على القتال لنصر دين النصرانية، فتكامل جيش الروم أربعون ومئتا ألف، ثمانون ألف مسلسل بالحديد والحبال، وثمانون ألف فارس، وثمانون ألف راجل.

قال سيف

(1)

: وقيل بل كان الذين تسلسلوا كل عشرة سلسلة لئلا يفروا ثلاثين ألفًا، فالله أعلم.

(قال سيف) وقدم عكرمةُ بمنْ معه من الجيوش فتكاملَ جيشُ الصحابةِ ستةً وثلاثين ألفًا إلى الأربعين ألفًا.

وعند ابن إسحاق والمدائني (أيضًا): أن وقعةَ أجنادين قبل وقعة اليرموك وكانت وقعةُ أجنادين لليلتين بقيتا من جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة، وقتل بها بشر كثير من الصحابة، وهزم الروم وقتل أميرهم القيقلان. وكان قد بعث رجلًا من نصارى العرب يجس له أمر الصحابة، فلما رجع إليه قال: وجدتُ قومًا رهبانًا بالليل فرسانًا بالنهار، والله لو سرقَ فيهم ابنُ ملكهم لقطعوه، أو زنى لرجموه. فقال له القيقلان: والله لئن كنت صادقًا لبَطْنُ الأرض خيرٌ من ظهرها.

(وقال سيف بن عمر في سياقه):

ووجد خالد الجيوش متفرقة فجيش أبي عبيدة وعمرو بن العاص ناحية، وجيش يزيد وشرحبيل ناحية. فقام خالد في الناس خطيبًا.

(وقال سيف بن عمر في وقعة اليرموك) فأمرهم بالاجتماع ونهاهم عن التفرق والاختلاف. فاجتمع الناس وتَصافُّوا مع عدوّهم في أول جمادى الآخره، وقام خالد بن الوليد في الناس فحمد الله وأثنى عليه وقال: إن هذا يوم من أيام الله، لا ينبغي فيه الفخر ولا البغي، أخلصوا جهادكم وأريدوا الله بعملكم، وإن هذا يوم له ما بعده لو رددناهم اليوم إلى خندقهم فلا نزال نردهم، وإن هزمونا لا نفلح بعدها أبدًا، فتعالوا فلنتعاور الإمارة فليكن عليها بعضُنا اليوم والآخر غدًا والآخر بعد غد، حتى يتأمَّر كلكم، ودعوني اليوم أليكم، فأمّروه عليهم وهم يظنون أن الأمرَ يطول جدًّا، فخرجت الروم في تعبئة لم يُر (مثلها) قبلها قط، وخرج خالد في تعبئة لم تعبئها العرب قبل (ذلك). فخرج في ستة وثلاثين كردوسًا (إلى الأربعين) كلُّ كردوسٍ ألفُ رجلٍ عليهم أميرٌ، وجعل أبا عبيدة في القلب، وعلى الميمنة عمرو بن العاص ومعه شرحبيل بن حسنة، وعلى الميسرة يزيد بن أبي سفيان. وأمَّرَ على كل كردوس أميرًا، وعلى الطلائع قُبَاث

(2)

بن أشيم، وعلى الأقباض عبد الله بن مسعود، والقاضي يومئذ أبو الدرداء، وقاصّهم الذي

(1)

قول سيف وخبر وقعة اليرموك في تاريخ الطبري (3/ 394 - 411) والكامل لابن الأثير (2/ 410 - 415).

(2)

في أ، ط: قباب؛ وهو تحريف، وهو قُباث بن أشيم بن عامر بن الملوِّح اللّيثي ويقال التميمي والكناني وهو الأكثر. الاستيعاب (4/ 1303) والإكمال (7/ 97) وجامع الأصول (15/ 55) وأسد الغابة (4/ 379) والإصابة (3/ 221).

ص: 89

يعظُهم ويحثُّهم على القتال أبو سفيان بن حرب، وقارؤهم الذي يدور على الناس فيقرأ سورة الأنفال وآياتِ الجهاد المِقْداد بن الأسود.

وذكر إسحاق بن يسار بإسناده: أنَّ أمراء الأرباع يومئذ كانوا أربعة، أبو عبيدة وعمرو بن العاص وشُرحبيل بن حَسَنة ويزيد بن أبي سفيان، وخرج الناس على راياتهم وعلى الميمنة مُعاذ بن جَبَل، وعلى المَيْسرة نفاثة بن أسامة الكناني، وعلى الرجَّالة هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، وعلى الخيَّالة خالد بن الوليد وهو المشير في الحرب الذي يصدر الناس كلهم عن رأيه، ولما أقبلت الروم في خيلائها وفخرها قد سدت أقطار تلك البقعة سهلها ووعرها كأنهم غمامة سوداء يصيحون

(1)

بأصوات مرتفعة (ورهبانهم) يتلون الإنجيلَ ويحثُّونهم على القتال، وكان خالد في الخيل بين يدي الجيش

(2)

فساق بفرسه إلى أبي عبيدة فقال له: إني مشيرٌ بأمر، فقال: قُلْ ما أمرَكَ الله أسمعُ لك وأطيع. فقال له خالد (إن) هؤلاء (القوم) لا بدَّ لهم من حملة عظيمة لا محيدَ لهم عنها، وإني أخثى على الميمنة والميسرة (وقد رأيت أن أفرق الخيل فرقتين وأجعلها وراء)(الميمنة والميسرة) حتى إذا صدموهم (كانوا لهم ردءًا فنأتيهم من ورائهم

(3)

. فقال له: نِعْمَ ما رأيتَ. فكان خالدٌ في أحد الخيلين من وراء الميمنة، وجعل قَيْسَ بن هُبَيْرة في الخيل الأخرى، وأمر أبا عبيدةَ أن يتأخر عن القلبِ إلى وراءِ الجيش كلِّه لكي إذا رآه المنهزمُ استحيى منه ورجع إلى القتال، فجعل أبو عبيدة مكانَه في القلب سعيدَ بن زيد أحدَ العشرة رضي الله عنهم، وساقَ خالدٌ إلى النساء من وراء الجيش ومعهنَّ عددٌ من السيوف وغيرها، فقال لهن: من رأيتموه مولِّيًا فاقتلنه، ثم رجع إلى موقفه رضي الله عنه.

ولما تراءى الجمعان وتبارزَ الفريقان وعظَ أبو عبيدة المسلمين فقال:

عبادَ الله انصرُوا الله ينصرْكمْ ويُثبِّتْ أقدامكم، يا معشر

(4)

المسلمين اصبروا فإن الصبرَ منجاةٌ من

الكفر ومرضاةٌ للربّ ومدحضةٌ للعار، ولا تبرحوا مصافَّكم، ولا تخطوا إليهم خطوة، ولا تبدؤوهم بالقتال، وشرِّعوا الرماح، واستتروا بالدرق، والزموا الصمت إلا من ذِكْرِ الله (في أنفسكم) حتى آمركم إن شاء الله تعالى.

قالوا: وخرج معاذُ بن جبَل على الناس فجعلَ يُذكِّرُهُم ويقولُ: يا أهلَ القرآن، ومتحفِّظي

(5)

الكتاب وأنصار الهدى والحق، إن رحمة الله لا تُنال وَجنَّتهُ لا تُدْخلُ بالأماني، ولا يؤتي اللّهُ المغفرةَ والرحمةَ

(1)

في أ: يضجّون.

(2)

في أ: بين يدي الميسرة.

(3)

مكان القوسين في أ: رأوا أنفسهم من ورائهم.

(4)

في أ: يا معاشر.

(5)

في أ: ومستحفظي.

ص: 90

الواسعةَ إلا الصادقَ المُصدِّق، ألم تسمعوا لقول الله:{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور: 55] الآية. فاستحيوا رحمكم اللهُ من ربكم أن يراكُمْ فرارًا من عدُوِّكم وأنتم في قَبْضتهِ وليس لكم مُلْتحدٌ من دونه ولا عزّ بغيره.

وقال عمرو بن العاص: يا أيُّها المسلمون غُضّوا الأبصارَ، واجثوا على الرُّكَب، واشرعوا الرماحَ، فإذا حملوا عليكم فأمهلوهم حتى إذا ركبوا أطراف الأسنَّة فثبوا إليهم وَثْبة الأسدِ، فوالذي يرضى الصدق ويُثيبُ عليه ويمقتُ الكذب ويجزي بالإحسان إحسانًا، لقد سمعتُ أن المسلمين سيفتحونها كَفْرًا كَفْرًا وقَصْرًا قَصْرًا، فلا يهولنَّكم

(1)

جموعُهُم ولا عددُهم، فإنكم لو صدقتموهم [في] الشد تطايروا تطاير أولاد الحَجَل.

وقال أبو سفيان: يا معشرَ المسلمين أنتم العربُ، وقد أصبحتُم في دار العَجم منقطعين عن الأهل نائين

(2)

عن أمير المؤمنين وأمداد المسلمين، وقد والله أصبحتُم بإزاء عدو كثير عددُه، شديد عليكم حنقه

(3)

، وقد وترتموهم في أنفسهم وبلادهم ونسائهم، والله لا ينجيكم من هؤلاء القوم، ولا يبلغ بكم رضوان الله غدًا إلا بصدق اللقاء والصبر في المواطن المكروهة، ألا وإنها سنَّة لازمة وأن الأرض وراءكم، بينكم وبين أمير المؤمنين وجماعة المسلمين صحاري وبراري، ليس لأحد فيها معقل ولا معدل إلا الصبر ورجاء ما وعد الله فهو خيرُ معول، فامتنعوا بسيوفكم وتعاونوا ولتكن هي الحصون. ثم ذهب إلى النساء فوصاهنَّ ثم عاد فنادى: يا معاشر أهل الإسلام حضر ما ترون فهذا ما ترون رسول الله والجنة

(4)

أمامكم، والشيطان والنار خلفكم. ثم سار إلى موقفه رحمه الله.

وقد وعظَ الناسَ أبو هريرة أيضًا فجعل يقول: سارعوا إلى الحُور العين وجوار ربكم عز وجل في جنات النعيم، ما أنتم إلى ربكم في موطنٍ بأحبّ إليه منكم في مثل هذا الموطن، ألا وإن للصابرين فضلهم.

قال سيف بن عمر بإسناده عن شيوخه، إنهم قالوا

(5)

:

كان في ذلك الجمع ألف رجل من الصحابة، منهم مئة من أهل بدر. وجعل أبو سفيان يقف على كل كردوس ويقول: اللهَ اللهَ، إنكم دارة العرب وأنصارُ الإسلام، وإنهم دارةُ الرومِ وأنصارُ الشِّرك، اللهم إن هذا يوم من أيامك، اللهم أنزل نصرك على عبادك. قالوا: ولما أقبل خالد من العراق قال رجل من نصارى العرب لخالد بن الوليد: ما أكثر الرومَ وأقلَّ المسلمينَ!! فقال خالد:

(1)

في ط: فلا يهولكم.

(2)

في أ: نائبين.

(3)

في أ: ضيقة.

(4)

في أ: حضر ما ترون فهذا ما ترون والجنة أمامكم.

(5)

تاريخ الطبري (3/ 397) فما بعدها.

ص: 91

ويلك، أتخوّفني بالروم؟ وإنما تكثر الجنود بالنصر، وتقل بالخذلان لا بعدد الرجال، والله لوددت أن الأشقر برأ من توجعه، وأنهم أضعفوا في العدد - وكان فرسه قد حفا واشتكى في مجيئه من العراق - ولما تقارب الناس تقدم أبو عبيدة ويزيد بن أبي سفيان ومعهما ضرار بن الأزور، والحارث بن هشام، وأبو جندل بن سهيل، ونادوا: إنما نريد أميركم لنجتمع به، فأذن لهم في الدخول على تذارق، صبهاذا هو جالسٌ خيمةٍ من حرير. فقال الصحابة: لا نستحلُّ دخولها، فأمرَ لهم بفرشِ بسطٍ من حرير، فقالوا: ولا نجلس على هذه. فجلس معهم حيث أحبُّوا وتراضوا على الصلح، ورجع

(1)

عنهم الصحابة بعد ما دعوهم إلى الله عز وجل فلم يتم ذلك.

وذكر الوليد بن مسلم: أن باهان طلب خالدًا ليبرز إليه فيما بين الصفين فيجتمعا في مصلحةٍ لهم فقال باهان: إنا قد علمنا أن ما أخرجكم من بلادكم الجهدُ والجوعُ، فهلموا إلى أن أعطي كلَّ رجلٍ منكم عشرةَ دنانير وكسوةً وطعامًا وترجعون إلى بلادكم، فإذا كان من العام المقبل

(2)

بعثنا لكم بمثلها، فقال خالد: إنه لم يخرجنا من بلادنا ما ذكرت، غير أنّا قومٌ نشربُ الدماء، وأنه بلغنا أنه لا دمَ أطيبُ من دم الروم، فجئنا لذلك. فقال أصحاب باهان: هذا والله ما كنا نُحدِّثُ به عن العرب قالوا: ثم تقدَّم خالد إلى عكرمة بن أبي جهل والقعقاع بن عمرو - وهما على مَجْنبتي القلب - أن ينشبا القتال، فبدرا يرتجزان ودَعوا إلى البراز، وتنازل الأبطال، وتجاولوا، وحمي الحرب، وقامت على ساقٍ. هذا وخالدٌ مع كردوس من الحماة

(3)

الشجعان الأبطال بين يدي الصفوف، والأبطال يتصاولون من الفريقين بين يديه، وهو ينظر ويبعث إلى كل قوم من أصحابه يما يعتمدونه من الأفاعيل، ويدبر أمر الحرب أتم تدبير.

وقال إسحاق بن بشير

(4)

: عن سعيد بن عبد العزيز، عن قدماء مشايخ دمشق، قالوا:

ثم زحف باهان فخرج أبو عبيدة، وقد جعل على المَيْمنة مُعاذَ بن جَبَلٍ، وعلى المَيْسرة قُباثَ بن أشْيم الكناني، وعلى الرجَّالة هاشم بن عتبة (بن أبي وقاص)، وعلى الخيل خالد بن الوليد، وخرج الناس على راياتهم، وسار أبو عبيدة بالمسلمين، وهو يقول: عبادَ الله انصروا الله ينصرُكم ويُثبِّتْ أقدامَكُم، يا معاشرَ المسلمين أصبْروا فإنَّ الصبرَ منجاةٌ من الكفر، (ومرضاة للرب)، ومدحضةٌ للعار، ولا تبرحوا مصافَّكُم، ولا تخطوا إليهم خطوة، ولا تبدؤوهم بالقتال، وأشرِعوا الرماح، واستتروا بالدرق، والزموا الصمتَ إلا من ذِكْر الله.

وخرج معاذ بن جَبَل فجعل يُذكِّرهم، ويقول: يا أهلَ القرآن، ومستحفظي الكتاب، وأنصار الهدى والحق، إنَّ رحمةَ الله لا تُنال، وجنَّته لا تُدْخلُ بالأماني، ولا يُؤْتي اللهُ المغفرة والرحمة الواسعة إلا

(1)

في أ: ورجعوا؛ على لغة - أكلوني البراغيث - وهي لغة مفضولة.

(2)

في أ: العام القابل.

(3)

في أ: من الجماعة.

(4)

الخبر في تاريخ دمشق - ترجمة عمر - (537).

ص: 92

للصادق المُصدِّق، ألم تسمعوا لقول الله عز وجل:{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [النور: 55] إلى آخر الآية؟ فاسْتَحْيُوا - رحمكم الله - من ربكم أن يراكم فرارًا من عدوكم، وأنتم في قبضته، وليس لكم مُلْتحدٌ من دونه.

وسار عمرو بن العاص في الناس وهو يقول: أيُّها المسلمون غُضّوا الأبصار واجثوا على الركب، وأشرعوا الرماحَ، فإذا حملوا عليكم فأمهلوهم حتى إذا ركبوا أطراف الأسنة فَثِبُوا وثبةَ الأسدِ، فوالذي يرضى الصدق ويُثيب عليه ويَمْقتُ الكذبَ ويجزي بالإحسان إحسانًا، لقد سمعتُ أنَّ المسلمين سيفتحونها كَفْرًا كَفْرًا وقَصْرًا قَصْرًا، فلا يهولنكم جموعُهم ولا عددُهم، فإنكم لو صدقتموهم الشد لتطايروا

(1)

[تطاير] أولاد الحجل.

ثم تكلم أبو سفيان فأحسن وحثَّ على القتال فابلغ في كلام طويل. ثم قال حين تواجه الناس: يا معشرَ أهل الإسلام حضر ما ترون، فهذا رسول الله والجنة أمامكم، والشيطان والنار خلفكم. وحرَّض أبو سفيان النساء فقال: من رأيتنه

(2)

فارًا فاضربنه بهذه الأحجار والعصيّ حتى يرجع.

وأشار خالد أن يقف في القلب سعيد بن زيد، وأن يكون أبو عبيدة من وراء الناس ليردَّ المُنهزمَ. وقسم خالد الخيلَ قسمين فجعل فرقة وراء الميمنة، وفرقة وراء الميسرة، لئلا يفرَّ الناسُ وليكونوا ردءًا لهم من ورائهم. فقال له أصحابه: افعلْ ما أراكَ اللهُ، وامتثلوا ما أشارَ به خالدٌ رضي الله عنه. وأقبلت الرومُ رافعة

(3)

صلبانها ولهم أصواتٌ مزعجةٌ كالرعد، والقساقسة والبطارقة تحرّضُهم على القتال وهم في عَددٍ وعُدَدٍ

(4)

لم يرَ مثله، فاللّه المستعان وعليه التّكلان.

وقد كان فيمن شهد اليرموكَ الزبيرُ بن العوّام، وهو أفضل منْ هُناك من الصحابة، وكان من فرسان الناس وشجعانهم، فاجتمع إليه جماعة من الأبطال يومئذ (فقالوا): ألا تحملُ فنحملُ معك؟ فقال: إنكم لا تَثْبتون. فقالوا: بلى. فحمل وحملوا فلما واجهوا صفوفَ الرُّوم أحجموا وأقدم هو فاخترقَ صفوفَ الروم حتى خرج من الجانب الآخر وعاد إلى أصحابه. ثم جاؤوا إليه مرةً ثانية ففعل كما فعل في الأولى، وجُرح يومئذ جرحان بين كتفيه، وفي روايةٍ جرحٌ. وقد روى البخاري معنى ما ذكرناه في صحيحه

(5)

. وجعل معاذ بن جبل كلما سمع أصوات القسيسين والرهبان يقول: اللهم زلزل

(1)

في أ: لطاروا.

(2)

في أ: من رأيتموني. والمثبت هو الأصح.

(3)

في أ: واقفة.

(4)

في أ: في عدد وعديد.

(5)

صحيح الإمام البخاري (3721) كتاب فضائل الصحابة. والخبر عن عروة عن أبيه: أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: للزبير يوم وقعة اليرموك. ألا تشدُّ فنشدّ معك؟ فحمل عليهم فضربوه ضربتين على عاتقه بينهما ضربة ضربها يوم بدر. قال عروة: فكنت أدخل أصابعي في تلك الضربات ألعب وأنا صغير.

ص: 93

(أقدامهم)، وأرعب قلوبهم، وأنزل علينا السكينة، وألزمنا كلمة التقوى، وحبِّبْ إلينا اللقاء، وأرضنا بالقضاء. وخرج باهان فأمر صاحب الميسرة وهو الديريجان، وكان عدو الله متنسكًا فيهم، فحمل على الميمنة وفيها الأزد ومذحج وحضرموت (وخولان)، فثبتوا حتى صدّوا أعداء الله، ثم ركبهم من الروم أمثال الجبال. فزال المسلمون من الميمنة إلى ناحية القلب، وانكشف طائفة من الناس إلى العسكر، وثبت صور

(1)

من المسلمين عظيم يقاتلون تحت راياتهم، وانكشفت زبيد. ثم تنادوا فتراجعوا وحملوا حتى نهنهوا من أمامهم من الروم وأشغلوهم عن اتباع من انكشف من الناس، واستقبل النساء من انهزم من سرعان الناس يضربنهم

(2)

بالخشب والحجارة وجعلت خولة (بنت ثعلبة) تقول: [من الرجز]:

يا هَارِبًا عن نِسْوَةٍ تَقِيّات

فعَنْ قَليل ما ترى سَبِيّات

ولا حَصِياتٍ ولا رضيّات

قال: فتراجع الناس إلى مواقفهم.

وقال سيف بن عمر

(3)

: عن أبي عثمان الغَسَّاني، عن أبيه. قال قال عكرمة بن أبي جهل يوم اليرموك: قاتلت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواطن وأفرُّ منكم اليوم؟ ثم نادى: من يبايع على الموت؟ فبايعه عمه الحارث بن هشام، وضرار بن الأزور في أربعمئة من وجوه المسلمين وفرسانهم، فقاتلوا قدَّامَ فسطاطِ خالدٍ حتى أثبتوا جميعًا جراحًا، وقتل منهم خلق منهم ضرار بن الأزور رضي الله عنهم.

وقد ذكر الواقدي وغيره:

أنهم لما صرعوا من الجراح استسقوا ماءً فجيء إليهم بشربة ماء فلما قربت إلى أحدهم نظر إليه الآخر فقال: ادفعها إليه، فلما دفعت إليه نظر إليه الآخر فقال: ادفعها إليه، فتدافعوها كلهم من واحد إلى واحد حتى ماتوا جميعًا ولم يشربها أحد منهم. رضي الله عنهم أجمعين.

ويقال: إنَّ أول منْ قُتل من المسلمين يومئذ شهيدًا رجلٌ جاءَ إلى أبي عبيدة فقال: إنّي قد تهيأتُ لأمري فهل لكَ من حاجة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، تُقرئه عني السلام وتقول: يا رسول الله إنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقًا. قال: فتقدَّم هذا الرجلُ حتى قتل، رحمه الله.

قالوا: وثبتَ كلُّ قومٍ على رايتهم حتى صارتِ الرومُ تدورُ كأنها الرحا. فلم تر يوم اليرموك (إلا) مُخًّا ساقطًا، ومعصمًا نادرًا

(4)

، وكفًا طائرة من ذلك الموطن. ثم حملَ خالدٌ بمن معه من الخيالة على المَيْسرة التي حملتْ على مَيْمنة المسلمين فأزالوهم إلى القلب، فقتل من الروم في حملته هذه ستة آلاف

(1)

الصور والسور واحد.

(2)

في أ: يضربونهم؛ وما هنا أقرب للسياق.

(3)

تاريخ الطبري (3/ 401).

(4)

ندر الشيء يندر ندورًا فهو نادر: سقط وشذَّ. اللسان (ندر).

ص: 94

ومنهم، ثم قال: والذي نفسي بيده لم يبقَ عندهم من الصبر والجلد غيرُ ما رأيتُمْ، وإنّي لأرجو أن يمنحَكُم الله أكتافهُمْ. ثم اعترضَهُم فحملَ بمئة فارس معه على نحو من مئة ألف فما وصل إليهم حتى انفضَّ جمعُهم، وحمل المسلمون عليهم حملةَ رجلٍ واحد، فانكشفوا وتبعهم المسلمون لا يمتنعون منهم.

قالوا: وبينما هُمْ في جولةِ الحرب وحومةِ الوَغى والأبطالُ يتصاولون من كلِّ جانبٍ، إذ قدم البريدُ من نحو الحجاز فدُفع إلى خالد بن الوليد فقال له: ما الخبرُ؟ فقال له - فيما بينه وبينه -: إن الصدِّيقَ رضي الله عنه قد توفي واستخلفَ عمرَ، واستنابَ على الجيوش أبا عبيدةَ عامرَ بن الجرّاح. فأسرّها خالدٌ ولم يُبْد ذلك للناس لئلا يحصل ضعفٌ ووهنٌ في تلك الحال، وقال له

(1)

والناسُ يسمعون: أحسنتَ، وأخذ منه الكتابَ فوضعه في كنانته واشتغل بما كان فيه من تدبير الحرب والمقاتلة، وأوقف الرسول الذي جاء بالكتاب - وهو محمية بن زنيم - إلى جانبه. كذا ذكره ابن جرير

(2)

بأسانيده.

قالوا

(3)

: وخرجَ جرجة أحد الأمراء الكبار من الصف واستدعى خالدَ بن الوليد فجاء إليه حتى اختلفت أعناق فرسيهما، فقال جرجة: يا خالد أخبرني فاصدقني ولا تكذبني، فإنَّ الحُرَّ لا يكذب، ولا تخادعني فإنّ الكريمَ لا يُخادع المسترسل بالله، هل أنزل (الله) على نبيكم سيفًا من السماء فأعطاكه فلا تسلّه على أحد إلا هزمتهم؟ قال: لا! قال: فبم سُمِّيت سيفَ الله؟ قال: إن الله بعثَ فينا نبيَّه فدعانا فنفرنا منه ونأينا عنه جميعًا، ثم إن بعضنا صدقه وتابعه

(4)

، وبعضنا كذبه وباعده، فكنت فيمن كذَّبه وباعدَه، ثم إنّ اللهَ أخذَ بقلوبنا ونواصينا فهدانا به وبايعناه، فقال لي: أنت سيفٌ من سيوفِ الله سله (الله) على المشركين. (ودعا لي بالنصر، فَسُمِّيتُ سيف الله بذلك، فأنا من أشد المسلمين على المشركين).

فقال جرجة: يا خالد إلى ما تدعون؟ قال: إلى شهادةِ أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبدُه ورسولُه والإقرار بما جاء به من عند الله عز وجل. قال: فمن لم يجبكم؟ قال: فالجزية ونمنعهم. قال: فإن لم يُعْطها؟ قال: نؤذنه بالحرب ثم نقاتله، قال: فما منزلةُ (من) يُجيبكم ويدخلُ في هذا الأمر اليوم؟ قال منزلتنا واحدة فما افترض الله علينا، شريفنا ووضيعنا وأولنا وآخرنا. قال جرجة: فلمن دخل فيكم اليوم من الأجر مثل ما لكم من الأجر والذخر؟ قال: نعم وأفضل. قال: وكيف يساويكم وقد سبقتموه؟ فقال خالد: إنا قبلنا هذا الأمر عنوة وبايعنا نبينا وهو حيّ بين أظهرنا تأتيه أخبار السماء ويخبرنا بالكتاب ويُرينا الآيات، وحق لمن رأى ما رأينا، وسمع ما سمعنا أن يسلم ويبايع، وإنكم أنتم لم تروا

(5)

ما رأينا، ولم تسمعوا ما سمعنا من العجائب والحجج، فمن دخل في هذا الأمر منكم بحقيقةٍ ونيَّةٍ كان أفضلَ منا؟ فقال

(1)

في أ: وقال له: أحسنت؛ والناس يسمعون.

(2)

تاريخه (3/ 398).

(3)

تاريخ الطبري (3/ 398 - 400).

(4)

في أ: وبايعه.

(5)

في أ: لو رأيتم.

ص: 95

جرجة: بالله لقد صَدَقْتني ولم تُخادعني؟ قال: تالله لقد صَدَقْتُك وإنَّ اللهَ وليُّ ما سألتَ عنه. فعند ذلك قلبَ جرجة الترسَ ومال مع خالد. وقال: علّمْني الإسلامَ، فمال به خالدٌ إلى فسطاطه فسنّ

(1)

عليه قربةً من ماءٍ ثم صلَّى به ركعتين. وحملت الروم مع انقلابه إلى خالد وهم يرون أنها منه حملة فأزالوا المسلمين عن مواقفهم إلا المحامية عليهم عكرمة بن أبي جهل والحارث بن هشام. فركب خالد وجرجة معه والروم خلال المسلمين، فتنادى الناس وثابوا وتراجعت الرومُ إلى مواقفهم وزحف خالدٌ بالمسلمين حتى تصافحوا بالسيوف فضرب فيهم خالد وجرجة من لدن ارتفاع النهار إلى جنوح الشمس للغروب. وصلَّى المسلمون صلاة الظهر وصلاة العصر إيماءً، وأُصيب جرجة رحمه الله ولم يصل لله إلا تلك الركعتين مع خالد رضي الله عنهما. وضعضعت الروم عند ذلك. ثم نهدَ خالد بالقلب حتى صار في وسط خيول الرُّوم، فعند ذلك هربت

(2)

خيالتهم، وأسندتْ

(3)

بهم في تلك الصحراء، وأفرج المسلمون بخيولهم حتى ذهبوا. وأخَّر الناس صلاتي العشاءين حتى استقر الفتح، وعمد خالد إلى رحل الرُّوم وهم الرجالة ففصلوهم عن آخرهم حتى صاروا كأنهم حائطٌ قد هُدِمَ، ثم تبعوا من فرَّ من الخيالة، واقتحم خالد عليهم خندقهم، وجاء الروم في ظلام الليل إلى الواقوصة، فجعل الذين تسلسلوا وقيدوا بعضهم ببعض إذا سقط واحدٌ منهم سقط الذين معه.

قال ابن جرير

(4)

وغيره:

فسقط فيها وقتل عندها، مئة ألف وعشرون ألفًا سوى منْ قُتل في المعركة. وقد قاتل نساءُ المسلمين في هذا اليوم وقتلوا خلقًا كثيرًا من الروم، وكن يضربن من انهزم من المسلمين ويقلن: أين تذهبون وتدعوننا للعلوج؟ فإذا زَجَرْنَهم لا يملك أحد نفسه حتى يرجعَ إلى القتال.

قال: وتجلل القيقلان وأشراف من قومه من الروم ببرانسهم وقالوا: إذا لم نقدر

(5)

على نصر دين النصرانية فلنمتْ على دينهم. فجاء المسلمون فقتلوهم عن آخرهم.

قالوا: وقتل في هذا اليوم من المسلمين ثلاثة آلاف منهم عكرمة وابنه عمرو، وسلمة

(6)

بن هشام،

(1)

سنَّ عليه الماء: صبَّه. اللسان (سنن).

(2)

في أ: ذهبت.

(3)

سندنا في الجبل وأسندنا جبلها فيها: أي صعدنا فيه. اللسان (سند).

(4)

تاريخه (3/ 400).

(5)

في أ: قال وتخلخل القيقلان وأشراف قومه من الروم برأسهم وقالوا: إذا لم يقدر ..

(6)

في أ: ابن سلمة؛ وهو زيادة لا ضرورة لها، فسلمة بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي المخزومي، من خيار الصحابة وفضلائهم، وهو أخو أبي جهل بن هشام. قتل سنة 14 في خلافة عمر وقيل سنة 13 قبل موت أبي بكر رضي الله عنهم جميعًا. ترجمته في الاستيعاب (643) وجامع الأصول (14/ 192) وأسد الغابة (2/ 435 - 436) والإصابة (2/ 68 - 69).

ص: 96

وعمرو بن سعيد، وأبان بن سعيد، وأثبت

(1)

خالد بن سعيد فلا يُدرى أين ذهب، وضرار بن الأزور، وهشام بن العاص، وعمرو بن الطفيل بن عمرو الدوسي، وحقَّقَ اللهُ رؤيا أبيه

(2)

يوم اليمامة. وقد تسلل

(3)

في هذا اليوم جماعة من الناس؛ انهزم عمرو بن العاص في أربعة حتى وصلوا إلى النساء ثم رجعوا حين زجرهم

(4)

النساء، وانكشف شرحبيل بن حسنة وأصحابه ثم تراجعوا حين وعظهم الأمير بقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} [التوبة: 111].

وثبت يومئذ يزيدُ بن أبي سفيان وقاتلَ قتالًا شديدًا، وذلك أن أباه مرَّ به فقال له: يا بني عليك بتقوى الله والصبر فإنه ليس رجل بهذا الوادي من المسلمين إلا محفوفًا بالقتال، فكيف بك وبأشباهك الذين ولّوا أمور المسلمين؟! أولئك أحقّ الناس بالصبر والنصيحة، فاتَّق اللهَ يا بُنيَّ ولا يكوننَّ أحدٌ من أصحابك بأرغب في الأجر والصبر في الحرب ولا أجرأ على عدوِّ الإسلام منك. فقال: أفعل إن شاء الله. فقاتل يومئذ قتالًا شديدًا وكان من ناحية القلب رضي الله عنه.

وقال سعيد بن المسيب عن أبيه قال: هدأتِ الأصواتُ يومَ اليرموك فسمعنا صوتًا يكاد يملأ العسكر يقول: يا نصر الله اقترب، الثباتَ الثباتَ يا معشرَ المسلمين، قال: فنظرنا فإذا هو أبو سفيان (تحت راية ابنه يزيد)، وأكمل خالدٌ ليلته في خيمة تذارق أخي هرقل - وهو أميرُ الروم كلهم يومئذ - هرب فيمن هرب، باتت الخيول تجول نحو خيمةِ خالدٍ يقتلون من مرَّ بهم من الروم حتى أصبحوا وقتل تَذارِق وكان له ثلاثون سرادقًا وثلاثون رواقًا من ديباج بما فيها من الفرش والحرير، فلما كان الصباح حازوا ما كان هنالك من الغنائم. وما فرحوا بما وجدوا بقدر حزنهم على الصدِّيق حين أعلمهم خالد بذلك، ولكن عوضهم الله بالفاروق رضي الله عنه.

وقال خالد حين عزَّى المسلمين في الصدِّيق: الحمد لله الذي قضى على أبي بكر بالموت، وكان أحبَّ إليَّ من عمر، والحمد لله الذي ولى عمر وكان أبغضَ إليَّ من أبي بكر وألزمني حبَّه.

وقد اتبع خالد منِ انهزمَ من الروم حتى وصلَ إلى دمشقَ فخرج إليه أهلها فقالوا: نحن على عهدنا وصلحنا؟ قال: نعم. ثم اتبعهم إلى ثنيَّةِ العقاب فقتلَ منهم خلقًا كثيرًا ثم ساقَ وراءهم إلى حمص فخرج إليه أهلُها فصالحهم كما صالح أهل دمشق.

وبعث أبو عبيدة عياضَ بن غَنْم وراءهم أيضًا فساقَ حتى وصلَ مَلَطْيَة

(5)

فصالحه أهلُها ورجعَ. فلما بلغَ

(1)

في أ: وابنه؛ وهو تحريف. وأثبت أي جرح جرحًا عميقًا وفي تاريخ الطبري (3/ 402) وأثبت خالد بن سعيد فلا يدري أين مات بعد.

(2)

في أ: رؤيا ابنه.

(3)

ف ط: اتلف، ولا معنى لها.

(4)

في أ: زجرنهم؛ على لغة أكلوني البراغيث.

(5)

في أ: مليطة؛ وهو تحريف. ومَلطية بلدة في بلاد الروم مشهورة مذكورة تتاخم الشام. معجم البلدان (5/ 192).

ص: 97

هرقل (ذلك) بعثَ إلى مقاتليها فحضروا بين يديه وأمر بمَلَطْيَه فحُرقت وانتهت الرومُ منهزمةً إلى هرقل وهو بحمص والمسلمون في آثارهم يقتلون ويأسرون ويغنمون. فلما وصل الخبر إلى هرقل ارتحل من حمص وجعلها بينه وبين المسلمين وترس (بها) وقال هرقل: أما الشامُ فلا شام، وويلٌ للرومِ من المولودِ المشؤوم.

ومما قيل من الأشعار في يوم اليرموك قول القعقاع بن عمرو: [من الوافر]

ألمْ ترَنَا عَلَى اليَرْموكِ فُزْنا

كَما فُزْنا بأيّامِ العِراقِ

وعذراءَ المدائنِ قد فَتَحْنا

ومَرْج الصُّفرِ بالجُرْدِ العِتَاقِ

(1)

فتَحْنا قَبْلها بُصْرَى وكَانَتْ

مُحرَّمةَ الجناب لدى النعاقِ

(2)

قَتَلْنَا منْ أقامَ لَنا وفِينا

نَهابُهُمُ بأَسْيافٍ رقاقِ

قَتَلْنا الرُّومَ حتى ما تساوَى

على اليرموكِ معروقُ الوراق

فَضَضْنا جمْعهُم لما استجالوا

على الواقوصِ بالبُتْرِ الرِّقاق

(3)

غداةَ تهافتوا فيهها فَصَاروا

إلى أمرٍ فعُضِّلَ بالذواقِ

وقال الأسود أبو مفزّر

(4)

التميمي: [من الطويل]

وكمْ قَدْ أغَرْنا غارةً بعد غارة

ويوْمًا وَيَومًا قد كَشَفْنا أهاوِلُه

ولولا رجالٌ كانَ عشو

(5)

غنيمةٍ

لدى مأقطٍ

(6)

رَجّتْ علينا أوائله

لقيناهم

(7)

اليَرْموك لمَّا تَضَايَقَتْ

بمنْ حَلَّ باليَرْموكِ منهُ حمائلهُ

فلا يَعْدِمنْ [منَّا] هرقلُ كتَائبًا

إذا رَامَها رامَ الَّذي لا يُحاوِلُهْ

وقال عمرو بن العاص: [من الرجز]

القَوْمُ لخمٌ وجذامٌ في الحربْ

ونحْنُ والرُّومُ بمَرْجٍ نَضْطربْ

فإنْ يَعُودوا بها لا نَصْطحبْ

بل نَعْصِبُ الفُرّارَ بالضَرْبِ الكَربْ

وروى أحمد بن مروان المالكي

(8)

في "المجالسة": حدَّثنا أبو إسماعيل الترمذي حدَّثنا

(1)

في أ: ومرج الصفرين على العتاق.

(2)

نعق ينعق نعقًا ونعاقًا ونعيقًا ونعقانًا: صاح بها. اللسان (نعق).

(3)

أ: على الواقوصة البتر.

(4)

في ط: الأسود بن مقرن، وفي أ: أبو الأسود المقرر؛ وكلاهما خطأ. والأبيات في تاريخ دمشق - ط دار الفكر - (9/ 69) ومختصره لابن منظور (4/ 388).

(5)

أ: عسو، وفي تاريخ ابن عساكر ومختصره: حشو، والشطر غير واضح المعنى.

(6)

المأقط: المضيق في الحرب جمعه مآقط. اللسان (أقط).

(7)

في التاريخ ومختصره: كفيناهم.

(8)

أحمد المالكي الدينوري محدث فقيه، نزل مصر وبها توفي من تآليفه كتاب "المجالسة" الذي يرويه البوصيري =

ص: 98

أبو معاوية، عن عمرو، عن أبي إسحاق قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يثبتُ لهم العدوُّ فُواقَ ناقةٍ

(1)

عند اللقاء، فقال هرقل وهو على أنطاكية لمّا

(2)

قدمت منهزمةُ الروم: ويْلَكُم أخبروني عن هؤلاء القوم الذين يقاتلونكم أليسوا بشرًا مثلكم؟ قالوا: بلى [وقال]: فأنتم أكثر أم هم؟ قالوا: بل نحن أكثرُ منهم أضعافًا في كل موطن. قال: فما بالكم تنهزمون؟ فقال شيخٌ من عظمائهم: من أجل أنهم يقومون الليل ويصومون النهار، ويوفون بالعهد، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويتناصفون بينهم، ومن أجل أنا نشرب الخمر، ونزني، ونركب الحرام، وننقض العهد، ونغْصب ونظلم ونأمر بالسخط وننهى عمَّا يُرضي الله ونفسد في الأرض. فقال: أنت صدقتني.

وقال الوليد بن مسلم: أخبرني من سمع يحيى بن يحيى الغساني يحدث عن رجلين من قومه قالا: لمّا نزل المسلمون بناحية الأردن، تحدثنا بيننا أن دمشق ستحاصر فذهبنا نتسوق (منها) قبل ذلك، فبينا نحن فيها إذ أرسل إلينا بطريقها فجئناه فقال: أنتما من العرب؟ قلنا: نعم! قال: وعلى النصرانية؟ قلنا: نعم. فقال: ليذهب أحدُكما فليتجسس لنا عن هؤلاء القوم ورأيهم، وليثبت الآخر على متاعٍ صاحبه. ففعل ذلك أحدنا، فلبثَ مليًا ثم جاءه فقال: جئتكَ من عند رجال

(3)

دقاق يركبون خيولا عتاقًا، أما الليل فرهبان، وأما النهار ففرسان، يريشون النبل ويبرونها، ويثقفون القنا، لو حدَّثت جليسك حديثًا ما فهمه عنك لما علا من أصواتهم بالقرآن والذكر. قال فالتفت إلى أصحابه وقال: أتاكم منهم ما لا طاقة لكم به.

‌انتقال إمرة الشام من خالد إلى أبي عبيدة [في الدولة العمرية وذلك] بعد وقعة اليرموك وصيرورة الإمرة بالشّام إلى أَبي عبيدة أولَ منْ سُمِّي أميرَ الأُمراء

قد تقدم أن البريد قدم بموت الصديق والمسلمون مصافو الروم يوم اليرموك، وأن خالدًا كتم ذلك عن المسلمين لئلا يقع وهن، فلما أصبحوا أجلى لهم الأمر وقال ما قال، ثم شرع أبو عبيدة في جمع الغنيمة وتخميسها، وبعث بالفتح والخمس مع قُباث

(4)

بن أَشْيم إلى الحجاز، ثم نودي بالرحيل إلى دمشق، فساروا حتى نزلوا مرج الصُّفَّر، وبعث أبو عبيدة بين يديه طليعةً أبا أمامة الباهلي ومعه رجلان من أصحابه.

قال أبو أمامة: فسرتُ فلمّا كان ببعض الطريق أمرتُ الآخر فكَمَنَ هناك وسرتُ أنا وحدي حتى جئتُ بابَ البلد، وهو مغلقٌ في الليل، وليس هناك أحد، فنزلتُ وغرزت رمحي بالأرض، ونزعت لجامَ فرسي،

= وغيره توفي بعد الثلاثين والثلاث مئة. سير أعلام النبلاء (15/ 427) ومعجم المؤلفين (2/ 174).

(1)

فواق ناقة: أي قدر ما بين الحلبتين.

(2)

في ط: كما؛ تحريف، وما هنا أقرب للسياق.

(3)

في أ: قوم.

(4)

في ط: قباب؛ تحريف. وقد تقدمت ترجمته.

ص: 99

وعلقت عليه مخلاتَه ونمتُ، فلما أصبحَ الصباحُ قمتُ فتوضَّأتُ وصَلّيتُ الفَجْرَ، فإذا بابُ المدينة يقعقعُ

(1)

فلما فُتح حملتُ على البواب فطعنتُه بالرمح فقتلته، ثم رجعتُ والطلب ورائي، فلما انتهينا إلى الرجل

الذي في الطريق من أصحابي ظنوا أنه كمينٌ فرجعوا عني، ثم سرنا حتى أخذنا [صاحبنا] الآخر، وجئت إلى أبي عبيدة فأخبرته بما رأيت، فأقام أبو عبيدةَ ينتظرُ كتابَ عمر فيما يعتمده من أمر دمشق، فجاء

(2)

الكتاب يأمره بالمسير إليها، فساروا إليها حتى أحاطوا بها. واستخلف أبو عبيدة على اليرموك بُشَيْر بن كعب في خيلٍ هناك.

‌وقعة جرت بالعراق بعد مجيء خالد إلى الشام

وذلك أنَّ أهلَ فارسٍ اجتمعوا بعدَ مقتلِ ملكهم وابنه على تمليك شهريار

(3)

بن أزدشير بن شهريار واستغنموا غيبةَ خالد عنهم، فبعثوا إلى نائبه المُثَنَّى بن حارثة جيشًا كثيفًا نحوًا من عشرة آلاف عليهم هُرْمز بن جَاذَوَيْه، وكتب شهريار إلى المثنى: إنّي قد بعثت إليك جندًا من وَخْشِ

(4)

أهل فارس إنما هم رعاة الدجاج والخنازير، ولست أقاتلُكَ إلَّا بهم.

فكتب إليه المثنى: من المُثَنّى إلى شهريار إنما أنتَ أحدُ رجلين إما باغٍ فذلك

(5)

شرٌّ لك وخيرٌ لنا، وإما كاذبٌ فأعظمُ الكاذبين عقوبةً وفضيحةً عند الله في الناس الملوكُ، وأما الذي يدلُّنا عليه الرأيُ؛ فأنكم إنما اضطررتم إليهم، فالحمد الله الذي ردَّ كيدَكم إلى رعاة الدجاجِ والخنازير. قال: فجزع

(6)

أهلُ فارس من هذا الكتابِ، ولامُوا شهريارَ على كتابه إليه واستهجنوا رأيه. وسار المثنى من الحيرة

(7)

إلى بابل، ولمَّا التقى المُثَنَّى وجيشهم بمكان عند عدوة الصَّراة

(8)

الأولى، اقتتلوا قتالًا شديدًا جدًّا، وأرسل الفرس فيلًا بين صفوف الخيل ليفرق خيول المسلمين، فحمل عليه أمير المسلمين المثنى بن حارثة فقتله، وأمر المسلمين فحملوا، فلم تكن إلا هزيمة الفرس فقتلوهم قتلًا ذريعًا، وغنموا منهم مالًا عظيمًا، وفرَّت الفرسُ حتى انتهوا إلى المدائن في شرِّ حالةٍ، ووجدوا الملكَ قد ماتَ فملَّكوا عليهم ابنةَ كسرى "بوران

(9)

بنت أبرويز" فأقامتِ العدلَ، وأحسنت السيرةَ، فأقامت سنةً وسبعةَ شهور، ثم ماتَتْ،

(1)

في أ: تقعقع.

(2)

في أ: فجاءه.

(3)

في أ: شهريار بن أدشير بن شهريار. وفي تاريخ الطبري (3/ 411): شَهْرَ برازين أردشير بن شهريار.

(4)

في أ وط: وحش؛ تحريف، والوخش: رذالة الناس وصغارهم وغيرهم، يكون للواحد والاثنين والجمع والمؤنث بلفظ واحد. اللسان (وخش).

(5)

في ط: لذلك.

(6)

في أ: فخرج؛ تحريف.

(7)

في ط: الحرة؛ تحريف.

(8)

في أ: غزوة الصراة. وذكر هذه الغزوة ياقوت في معجمه (2/ 399) والطبري في تاريخه (3/ 412).

(9)

في أ: نوران؛ تحريف.

ص: 100

فملَّكوا عليهم أختها "آزَرْمِيدُخْت زنان" فلم ينتظم لهم أمرٌ، فملَّكوا عليهم "سابور بن شهريار"، وجعلوا أمره إلى الفَرُّخْزاذ بن البِنْدوان فزوَّجه سابور بابنة كسرى "آزرميدخت" (فكرهت ذلك وقالتْ: إنّما هذا عبدٌ من عبيدنا. فلمَّا كان ليلة عُرْسها عليه همُّوا إليه فقتلوه، ثم ساروا إلى سابور فقتلوه أيضًا. وملَّكوا عليهم هذه المرأة وهي "آزرْمِيدُخْت") ابنة كسرى. ولعبت فارس بملكها لعبًا كثيرًا، وآخر ما استقرَّ أمرُهم عليه (في هذه السنة) أن ملَّكوا امرأة وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لن يُفْلح قومٌ ولَّوْا أمرَهم امرأةً"

(1)

. وفي هذه الوقعة التي ذكرنا يقول عبدة بن الطبيب السَّعدي

(2)

، وكان قد هاجر لمهاجرة حليلة (له) حتى شهد وقعةَ بابل هذه، فلما آيسته رجع إلى البادية وقال

(3)

: [من البسيط]

هَلْ حَبْلُ خَوْلة بَعْدَ البَيْن مَوصُولُ

أمْ أنتَ عَنْها بَعيدُ الدَّارِ مَشْغُولُ

وَلِلأحبَّةِ أيَّامٌ تَذَكَّرُها

وللنَّوى قَبْلَ يَوْمِ البَيْن تَأْويلُ

حَلَّتْ خُوَيْلةُ في حيٍّ عَهِدْتُهُمُ

دونَ المدينةِ

(4)

فيها الدِّيكُ والفِيلُ

يُقارعُونَ رُؤوسَ العُجْمْ

(5)

ضَاحيَةً

منه فوارسُ لا عُزْلٌ ولا ميلُ

وقد قال الفرزدق في شعره يذكر قتل المثنى ذلك الفيل

(6)

: [من الطويل]

وبيتُ المُثَنَّى قاتِلِ الفيلِ عَنْوة

ببابلَ إذْ في فَارسٍ مُلْكُ بَابِلِ

ثُمَّ إنَّ المُثَنَّى بن حارثة استبطأ أخبارَ الصدِّيق لتشاغله بأهل الشام، وما فيه من حربِ اليرموك المتقدم ذكره، فسار المثنى بنفسه إلى الصديق، واستناب على العراق بشير بن الخصاصيَّة، وعلى المسالح سعيدَ بن مُرَّة العِجْلي، فلما انتهى المُثنّى إلى المدينة وجد الصدِّيق في آخر مرضِ الموت. وقد عهد إلى عمر بن الخطاب، ولما رأى الصديق المثنى قال لعمر: إذا أنا متُّ فلا تمسين حتى تندب الناسَ لحربِ أهل العراق مع المثنى، وإذا فتح الله على أمرائنا بالشام فارددْ أصحابَ خالد إلى العراق فإنهم أعلم بحربه.

فلما مات الصدِّيقُ ندبَ عمرُ المسلمين إلى الجهاد بأرض العراق لقلة من بقيَ فيه من المُقاتلة بعد خالد بن الوليد، فانتدب خلقًا وأمَّرَ عليهم أبا عبيدة بن مسعود، وكان شابًا شجاعًا، خبيرًا بالحرب والمكيدة.

وهذا آخر ما يتعلق بخبر العراق إلى آخر أيام الصدِّيق وأول دولة الفاروق.

(1)

الحديث رواه البخاري في صحيحه (4425) كتاب المغازي، وأحمد في مسنده (5/ 43 و 47).

(2)

هو عبدة بن يزيد بن عمرو بن علي المعروف بعبدة بن الطبيب، من تميم. شاعر فحل، من مخضرمي الجاهلية والإسلام، كان أسود شجاعًا، شهد الفتوح وقتال الفرس مع المثنى بن حارثة بالمدائن، توفي سنة 25 هـ. الشعر والشعراء (279) والأغاني (18/ 163) والإصابة (3/ 100) ولقب أبيه: الطبيب. ووقع لقب أبيه في بعض المصادر، ومنها الإصابة: الطيِّب، وهو تحريف.

(3)

الأبيات في تاريخ الطبري (3/ 412 - 413) والأول والأخير في الإصابة (3/ 100).

(4)

في تاريخ الطبري: دون المدائن.

(5)

في الإصابة: الفرس.

(6)

البيت في ديوان الفرزدق - دار صادر - (112) برواية: وبيت المثنى عاقر الفيل.

ص: 101

‌خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه

كانت وفاة الصدِّيق رضي الله عنه في يوم الإثنين عشيةً، وقيل بعدَ المغرب ودفن من ليلته، وذلك لثمانٍ بقينَ من جمادى الآخرة سنة ثلاثَ عشرةَ بعد مرض خمسة عشر يومًا، وكان عمر بن الخطاب يصلي عنه فيها بالمسلمين، وفي أثناء هذا المرض عهد بالأمر من بعده إلى عمر بن الخطاب، وكان الذي كتب العهد عثمان بن عفان، وقرئ على المسلمين فأقروا به وسمعوا له وأطاعوا.

فكانت خلافة الصدِّيق سنتين وثلاثة أشهر، وكان عمره يوم توفي ثلاثًا وستين سنة، للسن الذي توفي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد جمع الله بينهما في التوبة، كما جمع بينهما في الحياة، فرضي الله عنه وأرضاه.

وقال محمد بن سعد

(1)

: عن أبي قطن عمرو بن الهيثم، عن ربيع بن حسان

(2)

الصائغ، قال: كان نقش خاتم أبي بكر "نعم القادر الله". وهذا غريب.

وقد ذكرنا ترجمة الصدّيق رضي الله عنه، وسيرته

(3)

وأيامه وما روى من الأحاديث، وما روي عنه من الأحكام في مجلد ولله الحمد والمنة.

فقام بالأمر من بعده أتمَّ القيام الفاروق أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وهو أوَّلُ من سُمِّي بامير المؤمنين، وكان أول من حيّاه بها المغيرةُ بن شعبة، وقيل غيره كما بسطنا ذلك في ترجمة عمر بن الخطاب وسيرته التي أفردناها

(4)

في مجلد، ومسنده والآثار المروية مرتبًا على الأبواب في مجلد آخر ولله الحمد.

وقد كتب بوفاة الصدِّيق إلى أمراء الشام مع شدَّاد بن أوس، ومَحْميَة بن جَزْء

(5)

، فوصلا والناس مصافون جيوش الروم يوم اليرموك كما قدمنا. وقد أمَّر (عمر) على الجيوش أبا عبيدة (حين ولاه) وعزل خالد بن الوليد.

وذكر سلمةُ عن محمد بن إسحاق:

(1)

طبقات ابن سعد (3/ 173).

(2)

في أ: عمرو بن الهيثم بن ربيع بن حبان الصائغ.

(3)

في أ: وخيرته وأيامه.

(4)

في أ: أوردناها.

(5)

في أ: محنة بن جريج، وفي ط: محمد بن جريج؛ وكلاهما خطأ، والصحيح ما أثبتناه عن تاريخ الطبري (3/ 434) وترجمة محمية هذا في الاستيعاب (1343) وجامع الأصول (15/ 180) والإصابة (3/ 388).

ص: 102

أن عمر إنما عزل خالدًا لكلام

(1)

بلغه عنه، ولما كان من أمر مالك بن نُويرة، وما كان يعتمده في حربه. فلما ولي عمر كان أولَ ما تكلّم به أن عزل خالدًا، وقال: لا يلي لي عملًا أبدًا. وكتب عمر إلى أبي عبيدة: إن أكذب خالد نفسه فهو أمير على ما كان عليه، وإن لم يكذب نفسه فهو معزول، فانزع عمامته عن رأسه وقاسمه ماله نصفين. فلما قال أبو عبيدة ذلك لخالد قال له خالد: أمهلني حتى أستشير أختي، فذهب إلى أخته فاطمة - وكانت (تحت) الحارث بن هشام - فاستشارها في ذلك، فقالت له: إن عمر لا يحبك أبدًا، وإنه سيعزلك وإن كذبت نفسك. فقال لها: صدقت والله. فقاسمه أبو عبيدة حتى أخذ [إحدى]

(2)

نعليه وترك له الأخرى

(3)

، وخالد يقول سمعًا وطاعة لأمير المؤمنين.

وقد روى ابن جرير

(4)

عن صالح بن كيسان أنه قال: كان أولَ كتابٍ كتبه عمرُ إلى أبي عبيدة حين ولاه وعزل خالدًا أن قال: "وأوصيك بتقوى الله الذي يَبْقى ويَفْنى ما سواه، الذي هدانا من الضلالة، وأخرجنا من الظلمات إلى النور، وقد استعملتك على جُنْد خالد بن الوليد فقم بأمرهم الذي يحق عليك، لا تقدم المسلمين إلى هلكة رجاء غنيمة، ولا تنزلهم منزلًا قبل أن تَسْتريده

(5)

لهم وتعلم كيف مأتاه، ولا تبعث سرية إلَّا في كَثْفٍ

(6)

من الناس، هاياك وإلقاء المسلمين في الهلكة، وقد أبلاك الله بي وأبلاني بك، فَغُضَّ بصرَكَ عن الدنيا، وألْهِ قلبَكَ عنها، وإياكَ أن تُهْلِكَك

(7)

كما أهلكت منْ كانَ قبلكَ، فقد رأيت مصارعَهم. وأمرهم بالمسير إلى دمشق".

وكان بعدما بلغه الخبر بفتح اليرموك وجاءته به البشارةُ، وحُمل الخُمس إليه.

وقد ذكر ابن إسحاق أن الصحابةَ قاتلوا بعد اليرموك بأجنادين ثم بفِحْل من أرض الغور قريبًا من بيسان بمكانٍ يقال له الرَّدَغة

(8)

سمي بذلك لكثرة ما لقوا من الأوحال فيها، فأغلقوها عليهم، وأحاط بها الصحابةُ.

قال: وحينئذ جاءت الإمارة لأبي عبيدة من جهة عمر وعُزِلَ خالدٌ، وهذا الذي ذكره ابن إسحاق من مجيء الإمارة لأبي عبيدة في حصار دمشق هو المشهور.

(1)

في أ: أن عمر لما عزل خالدًا بكلام.

(2)

كذا في ط: وسقطت اللفظة من أ.

(3)

في ط: الآخرة، وفي تاريخ الطبري (3/ 437) فأخذ نعلًا وأعطاه نعلًا.

(4)

تاريخه (3/ 434).

(5)

في أ: تستزيده؛ تحريف، وراد لهم رودًا وريادًا، وارتاد واستراد، والرود مصدر فعل الرائد وهو الذي يرسل في التمام النجعة وطلب الكلأ. اللسان (رود).

(6)

في أ: كتف، وفي ط: كنف، وما هنا عن الطبري (3/ 434) أي في حشد وجماعة. اللسان (كثف).

(7)

في ط: تهلك وما هنا عن أ ويوافق ما عند الطبري.

(8)

والرَّدَغَةُ والرَّدَغَةُ والرَّدغ: الماء والطين والوحل الكثير الشديد. اللسان (ردغ).

ص: 103

[ذكر فتح دمشق]

قال سيف بن عمر

(1)

:

لما ارتحل أبو عبيدة من اليرموك فنزل بالجنود على مرج الصُّفَّر وهو عازم على حصار دمشق إذ

(2)

أتاهُ الخبرُ بقدوم مددهم من حمص، وجاءه الخبرُ بأنَّه قد اجتمع طائفة كبيرة

(3)

من الروم بفِحْلٍ من أرض فلسطين، وهو لا يدري بأي الأمرين يبدأ. فكتب إلى عمر في ذلك، فجاء الجواب أن ابدأ بدمشق فإنها حصنُ الشام وبيتُ مملكتهم، فانهد لها وأشغلوا عنكم أهل فِحْل بخيولٍ تكون تلقاءهم، فإن فتحَها اللهُ قبلَ دمشق فذلك الذي نحبُّ

(4)

، وإن فُتحت دمشقُ قبلَها فسرْ أنت ومن معكَ واستخلفْ على دمشقَ، فإذا فتح الله عليكم فِحْلَ

(5)

فسر أنت وخالد إلى حمص واترك عمرًا وشرحبيل على الأردن وفلسطين.

قال: فسرّح أبو عبيدة إلى فِحْل عشرةَ أمراء، مع كل أميرٍ خمسة أمراء، وعلى الجميع عمارة بن مخشي الصحابي، فساروا من مرج الصُّفّر إلى فِحْل فوجدوا الروم هنالك قريبًا من ثمانين ألفًا، وقد أرسلوا المياه حولهم حتَّى أرْدَغَتِ الأرض

(6)

فسموا ذلك الموضع الرَّدَغة، وفتحها اللهُ على المسلمين فكانت أولَ حصنٍ فُتح قبل دمشق على ما سيأتي تفصيله.

وبعث أبو عبيدة جيشًا يكون بين دمشق وبين فلسطين، وبعث ذا الكلاع في جيش يكون بين دمشق وبين حمص ليرد من يرد إليهم من المدد من جهة هرقل. ثم سار أبو عبيدة من مرج الصُّفَّر قاصدًا دمشق، وقد جعل خالد بن الوليد في القلب، وركب أبو عبيدة وعمرو بن العاص في المجنبتين، وعلى الخيل عياض بن غَنْم، وعلى الرَّجَّالة شرحبيل بن حسنة، فقدموا دمشق وعليها نِسطاس بن نُسْطُوُرس

(7)

، فنزل خالد بن الوليد على الباب الشرقي وإليه باب كيسان أيضًا، ونزل أبو عبيدة على باب الجابية (الكبير، ونزل يزيد بن أبي سفيان على باب الجابية) الصغير، ونزل عمرو بن العاص، وشرحبيل بن حسنة على بقية أبواب البلد، ونصبوا المجانيق والدَّبابات، وقد أرصد أبو عبيدة أبا الدرداء على جيش ببرزة ردءًا

(1)

تاريخ الطبري (3/ 436).

(2)

في ط: إذا.

(3)

في أ: كثيرة.

(4)

في ط: يحب وهي مهملة النقط في أ، وما هنا عن الطبري (3/ 438).

(5)

قال ياقوت في معجمه (4/ 237): اسم موضع بالشام، كانت فيه وقعة للمسلمين مع الروم، ويوم فحل مذكور في الفتوح، وأظنه عجميًا، لم أره في كلام العرب، قتل فيه ثمانون ألفًا من الروم، وكان بعد فتح دمشق بعام واحد. أما الطبري فقد صرفها في قوله: وزعم أن فحلًا كانت بعد دمشق. تاريخه (3/ 441).

(6)

أرْدَغتِ الأرض: كثر رِداغُها. والرِّداغ جمع رَدغة وهي الماء والطين والوحل الشديد. القاموس (ردغ).

(7)

في أ: قسطاس بن بسطوس، وفي ط: نسطاس بن نُسْطُوس، وما هنا عن تاريخ الطبري (3/ 438) والضبط عنه.

ص: 104

له، وكذا الذي بينه وبين حمص وحاصروها حصارًا شديدًا سبعين ليلة، وقيل أربعة أشهر، وقيل ستة أشهر، وقيل أربعة عشر شهرًا، فالله أعلم.

وأهل دمشق ممتنعون منهم غاية الامتناع، ويرسلون إلى ملكهم هرقل - وهو مقيمٌ بحمص - يطلبون منه المددَ فلا يمكن وصولُ المدد إليهم من ذي الكلاع، الذي قد أرصده أبو عبيدة رضي الله عنه بين دمشق وبين حمص - عن دمشق ليلة - فلما أيقنَ أهلُ دمشق أنه لا يصلُ إليهم مدد أبلسوا

(1)

وفشلوا وضعفوا، وقويَ المسلمون واشتدَّ حصارُهم.

وجاء فصل الشتاء واشتدّ البردُ وعسر الحال وعسر القتال، فقدر الله الكبير المتعال، ذو العزة والجلال، أنْ وُلد لبطريقِ دمشق مولودٌ في تلك الليالي فصنع لهم طعامًا وسقاهم بعده شرابًا. وباتوا عنده في وليمته قد أكلوا وشربوا وتعبوا فناموا عن مواقفهم، واشتغلوا عن أماكنهمٍ، وفطن لذلك أميرُ الحرب خالد بن الوليد، فإنه كان لا ينام ولا يترك أحدًا ينام، بل مراصد لهم ليلا ونهارًا، وله عيون وقُصّاد يرفعون إليه أحوال المقاتلة صباحًا ومساء. فلما رأى جَمْدة تلك الليلة، وأنه لا يقاتل على السُّور أحدٌ كان قد أعدَّ سلالم من حبال، فجاء هو وأصحابه من الصناديد الأبطال، مثل القعقاع بن عمرو، ومذعور بن عدي، وقد أحضر جيشه عند الباب وقال لهم: إذا سمعتُم تكبيرنا فوقَ السّور فارقوا إلنا. ثم نهد هو وأصحابه فقطعوا الخندق سباحة بقِرب في أعناقهم، فنصبوا تلك السلالم وأثبتوا أعاليها بالشرفات، وأكدوا أسافلها خارج الخندق، وصعِدوا فيها، فلما استووا

(2)

على السور رفعوا أصواتهم بالتكبير، وجاء المسلمون فصعدوا في تلك السلالم، وانحدر خالد وأصحابه الشجعان من السّور إلى البوّابين فقتلوهم، وقطع خالد واصحابه أغاليقَ الباب بالسيوف، وفتحوا الباب عنوةً، فدخل الجيشُ الخالديُّ من الباب الشرقي. ولمّا سمع أهلُ البلد التكبير ثاروا، وذهبَ كلُّ فريق إلى أماكنهم من السور، لا يدرون ما الخبر، فجعل كلما قدم أحدٌ من أصحاب الباب الشرقي قتله أصحاب خالد، ودخل خالد البلدة

(3)

عنوةً فقتل منْ وجده. وذهب أهل كل باب فسألوا من أميرهم الذي عند الباب من خارج الصلح - وقد كان المسلمون دعوهم إلى المشاطرة فيأبون عليهم - فلما دعوهم إلى ذلك أجابوهم. ولم يعلم بقيةُ الصحابة ما صنعَ خالدٌ. ودخل المسلمون من كل جانبٍ وبابٍ، فوجدوا خالدًا وهو يقتل من وجده، فقالوا له: إنا قد أمَّناهم، فقال: إني فتحتُها عنوةً. والتقت الأمراء في وسط البلد عند كنيسة المقسلاط بالقرب من درب الريحان اليوم.

هكذا ذكره سيف بن عمر وغيره وهو المشهور أن خالدًا فتح الباب قسرًا.

(1)

أبلس: يئس وتحيّر. القاموس (بلس).

(2)

من قوله: وصعدوا .. إلى هنا. مستدرك في هامش أ.

(3)

في أ: الباب.

ص: 105

وقال آخرون: بل الذي فتحها عنوةً أبو عبيدة. وقيل يزيد بن أبي سفيان، وخالد صالحَ أهلَ البلد فعكسوا المشهور المعروف، والله أعلم.

وقد اختلف الصحابةُ، فقال قائلون هي صلح - يعني على ما صالحهم الأمير (في الأمر وهو أبو عبيدة - وقال آخرون: بل هي عنوة، لأن خالدًا افتتحها بالسيف) أولًا كما ذكرنا، فلما أحسوا بذلك ذهبوا إلى بقية الأمراء ومعهم

(1)

أبو عبيدة فصالحوهم، فاتفقوا فيما بينهم على أن جعلوا نصفَها صلحًا ونصفَها عنوةً، فملك أهلها نصف ما كان بأيديهم وأقروا عليه، واستقرت يدُ الصحابة على النصف. ويُقوِّي هذا ما ذكره سيفُ بن عمر

(2)

من أن الصحابة كانوا يطلبون إليهم أن يصالحوهم على المشاطرة فيأبون، فلما أحسّوا باليأس أنابوا إلى ما كانت الصحابةُ دعوهم إليه فبادروا إلى إجابتهم، ولم تعلم الصحابة بما كان من خالد إليهم، والله أعلم.

[الكنائس التي تركت لأهل دمشق]

ولهذا أخذ الصحابةُ نصفَ الكنيسة العظمى التي كانت بدمشق وتعرف "بكنيسة يوحنا" فاتخذوا الجانب الشرقي منها مسجدًا، وأبْقوا لهم نصفها الغربي كنيسة، وقد أبقوا لهم مع ذلك أربع عشرة كنيسة أخرى مع نصف الكنيسة المعروفة "بيوحنا"، وهي جامع دمشق اليوم. وقد كتب لهم

(3)

بذلك خالد بن الوليد كتابًا، وكتب فيه شهادته أبو عبيدة وعمرو بن العاص ويزيد وشرحبيل:

إحداها كنيسة المقسلاط

(4)

التي اجتمع عندها أمراء الصحابة، وكانت مبنية على ظهر السوق الكبير، وهذه القناطر المشاهدة في سوق الصابونيين من بقية القناطر التي كانت تحتها، ثم بادت فيما بعد وأخذت حجارتها في العمارات.

الثانية: كنيسة كانت في رأس درب القرشيين وكانت صغيرة، قال الحافظ ابن عساكر

(5)

: وبعضها باقٍ إلى اليوم وقد تشعثت.

الثالثة: كانت بدار البطيخ العتيقة

(6)

. قلت: وهي داخل البلد بقرب الكوشك، وأظنها هي المسجد الذي قبل هذا المكان المذكور، فإنها خربت من دهر، فالله أعلم.

(1)

في أ: ومنهم.

(2)

تاريخ الطبري (3/ 440).

(3)

يلاحظ أن الورقتين اللتين تبدأان بهذه اللفظة ورقمهما 167 و 168 غير واضحتين بسبب الحبر الذي طمس كثيرًا من الكلمات أحيانًا والحروف أحيانًا أخرى.

(4)

تاريخ دمشق (2/ 129 و 130).

(5)

تاريخ دمشق (2/ 130).

(6)

في تاريخ دمشق (2/ 129): بحضرة سوق الفاكهة. وفي (2/ 130): وأما التي بسوق الفاكهة فكانت في دار البطيخ فخربت.

ص: 106

الرابعة: كانت بدرب بني نصر بين درب الحبالين ودرب التميمي. قال الحافظ ابن عساكر

(1)

: وقد أدركت بعض بنيانها، وقد خرب أكثرها.

الخامسة: كنيسة بولص، قال ابن عساكر

(2)

: وكانت غربيَّ القيساريةِ الفخرية [خربت] وقد أدركت من بنيانها بعض أساس الحنيّة.

السادسة: كانت في موضع دار الوكالة وتعرف (اليوم) بكنيسة القلانسيين. قلت: والقلانسيين هي الخواصين

(3)

اليوم

(4)

.

السابعة: التي بدرب السقيل اليوم وتعرف بكنيسة حميد بن درة سابقًا، لأن هذا الدرب كان أقطاعًا له وهو حميد بن عمرو بن مساحق القرشي العامري، ودرة أمه، وهي درّة ابنة [أبي] هاشم بن عتبة بن ربيعة، فأبوها خال معاوية. وكان قد أقطع هذا الدرب فنسبت هذه الكنيسة إليه، وكان مسلمًا، ولم يبق لهم اليوم سواها، وقد خرب أكثرها.

ولليعقوبية منهم كنيسة داخل باب توما بين رحبة خالد - وهو خالد بن أسيد بن أبي العاص

(5)

- وبين درب طلحة بن عمرو بن مرة الجهني، وهي الكنيسة الثامنة.

وكانت لليعقوبيين كنيسة أخرى فيما بين درب التنوي وسوق علي. قال ابن عساكر

(6)

: قد بقي من بنائها بعضه، وقد خربت منذ دهر. وهي الكنيسة التاسعة.

وأما العاشرة فهي الكنيسة المصلبة. قال الحافظ ابن عساكر

(7)

: وهي باقية إلى اليوم بين الباب الشرقي وباب توما بقرب النيبطن عند السور. والناس اليوم يقولون النيبطون. قال ابن عساكر: وقد خرب أكثرها، هكذا قال. وقد خربت هذه الكنيسة وهدمت في أيام صلاح الدين فاتح القدس بعد الثمانين وخمسمئة بعد موت الحافظ ابن عساكر رحمه الله.

الحادية عشرة: كنيسة مريم داخل الباب الشرقي. قال ابن عساكر

(8)

: وهي من أكبر ما بقي بأيديهم. قلت: ثم خربث بعد موته بدهر في أيام الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداري على ما سيأتي بيانه.

(1)

تاريخ دمشق (2/ 130 - 131).

(2)

تاريخ دمشق (2/ 131) والاستدراك عنه.

(3)

في ط: الحواحين؛ تحريف، والتصحيح من تاريخ دمشق (2/ 154).

(4)

أضاف بعدها ابن عساكر (2/ 131): فكانت موضع دار الوكالة فخربت.

(5)

في ط: العيص؛ خطأ. تاريخ ابن عساكر (2/ 131).

(6)

تاريخ دمشق (2/ 130).

(7)

تاريخ دمشق (2/ 131 - 132).

(8)

نفس المصدر (2/ 131).

ص: 107

الثانية عشرة: كنيسة اليهود التي بأيديهم اليوم في حارتهم

(1)

، ومحلها معروف بالقرب من الحير وتسميه الناس اليوم بستان القط.

وكانت لهم كنيسة في درب البلاغة لم تكن داخلة في العهد فهدمت فيما بعد، وجعل مكانها المسجد المعروف بمسجد ابن الشهرزوري

(2)

، والناس اليوم يقولون درب الشاذوري.

قلت: وقد أخربت لهم كنيسة كانوا قد أحدثوها لم يذكرها أحد من علماء التاريخ لا ابن عساكر ولا غيره، وكان إخرابها في حدود سنة سبع عشرة وسبعمئة ولم يتعرض الحافظ ابن عساكر لذكر كنيسة السامرة بمرَّة.

ثم قال ابن عساكر

(3)

: ومما أحدث - يعني النصارى - كنيسة بناها أبو جعفر المنصور لبني قطيطا في الفورنق

(4)

، وقد أُخربتْ فيما بعد وجعلت مسجدًا يعرف بمسجد الجينيق

(5)

وهو مسجد أبي اليمن.

قال

(6)

: ومما أحدث كنيستا

(7)

العباد إحداهما عند دار ابن الماشلي

(8)

وقد جعلت مسجدًا. والأخرى التي في رأس درب النقاشين وقد جعلت مسجدًا.

انتهى ما ذكره الحافظ ابن عساكر الدمشقي رحمه الله.

[متى فتحت دمشق]

قلت: وظاهر سياق سيف بن عمر يقتضي أن فتح دمشق وقع في سنة ثلاث عشرة، ولكن نص سيف على ما نص عليه الجمهور من أنها فتحت في نصف رجب سنة أربع عشرة؛ كذا حكاه الحافظ ابن عساكر

(9)

من طريق محمد بن عائذ القرشي الدمشقي، عن الوليد (بن مسلم عن عثمان بن

(1)

في أ: بحارتهم.

(2)

في ط: السهروردي؛ وهو تحريف؛ والتصحيح من الدارس (2/ 317).

(3)

تاريخ دمشق (2/ 130).

(4)

في ط: بناها أبو جعفر المنصور بني قطيطا في الفريق عند قناة صالح قريبًا من دازبها وأرمن اليوم. وما هنا عن أ ويوافق ما في تاريخ دمشق (2/ 130).

وقد حولت هذه الكنيسة إلى مسجد. الأعلاق الخطيرة (114 و 276) والدارس (2/ 326 و 327).

(5)

في ط: الجينق؛ خطأ، التصويب من تاريخ دمشق (2/ 70 و 71). والأعلاق الخطيرة (114 و 115 و 276) والدارس (2/ 326 و 327).

(6)

أي ابن عساكر في تاريخه (2/ 130 و 132).

(7)

في أ: كنيسة؛ وهو مخالف للسياق.

(8)

كذا في الأصلين، وفي تاريخ دمشق (2/ 132) والأعلاق الخطيرة (276): ابن الماشكي.

(9)

في تاريخه (2/ 109) ط دار الفكر.

ص: 108

حصن

(1)

بن عَلَّاق، عن يزيد بن عبيدة قال: فتحت دمشق سنة أربع عشرة. ورواه دحيم عن الوليد). قال: سمعت أشياخًا يقولون: إن دمشق فتحت سنة أربع عشرة.

وهكذا قال سعيد بن عبد العزيز وأبو معشر ومحمد بن إسحاق ومعمر والأموي وحكاه عن مشايخه وابن الكلبي وخليفة بن خياط

(2)

وأبو عبيد القاسم بن سلَّام، إن فتح دمشق كان في سنة أربع عشرة.

وزاد سعيد بن عبد العزيز وأبو معشر والأموي: وكانت اليرموك بعدها بسنة.

وقال بعضهم: (بل) كان فتحها في شوال سنة أربع عشرة.

وقال خليفة: حاصرهم أبو عبيدة في رجب وشعبان ورمضان وشوال وتم الصلح في ذي القعدة.

وقال الأموي في "مغازيه": كانت وقعة أجنادين في جمادى الأولى، ووقعة فِحل في ذي القعدة من سنة ثلاث عشرة - يعني ووقعة دمشق سنة أربع عشرة -.

وقال دحيم عن الوليد: حدَّثني الأموي أن وقعة فِحْل وأجْنادين كانت في خلافة أبي بكر، ثم مضى المسلمون إلى دمشق فنزلوا عليها في رجب سنة ثلاث عشرة، يعني ففتحوها في سنة أربع عشرة. وكانت اليرموك سنة خمس عشرة، وقدم عمر إلى بيت المقدس سنة ست عشرة.

‌فصل: [هل فتحت دمشق صلحًا أو عنوة]

واختلف العلماءُ في دمشقَ هل فُتحت صُلْحًا أو عنوة؟ فأكثرُ العلماء على أنَّه استقرَّ أمرُها على الصلح، لأنهم شكُّوا في المتقدم على الآخر أفتحت عنوةً ثم عدَلَ الرومُ إلى المصالحة، أو فُتحت صلحًا، أو اتّفق الاستيلاءُ من الجانب الآخر قسرًا؟ فلما شكُّوا في ذلك جعلوها صلحًا احتياطًا.

وقيل: بل جُعل نصفُها صلحًا ونصفُها عنوةً، وهذا القول قد يظهر من صنع الصحابة في الكنيسة العظمى التي كانت أكبر معابدهم حين أخذوا نصفها وتركوا لهم نصفها، والله أعلم

(3)

.

ثم قيل: إن أبا عبيدة هو الذي كتب لهم كتابَ الصلح، وهذا هو الأنسبُ والأشهرُ، فإن خالدًا كان قد عزل عن الإمرة، وقيل: بل الذي كتب لهم الصلحَ خالد بن الوليد، ولكن أقرَّهُ على ذلك أبو عبيدة فالله أعلم

(4)

.

وذكر أبو حذيفة إسحاق بن بشر أن الصدِّيقَ توفي قبلَ فتح دمشق، وأنَّ عمرَ كتب إلى أبي عبيدة يُعَزّيه

(1)

في ط: حصين بن غلاق، وفي تاريخ دمشق: خضر عن علاف، وكلاهما تحريف. وحصن بن علَّاق. من رجال التهذيب.

(2)

تاريخ خليفة بن خياط (125 - 126).

(3)

تاريخ الطبري (3/ 440).

(4)

تاريخ خليفة بن خياط (125 - 126).

ص: 109

والمسلمين في الصدِّيق، وأنه قد استنابه على منْ بالشام، وأمره أن يستشير خالدًا في الحرب، فلما وصلَ الكتابُ إلى أبي عبيدة كتمهُ من خالد حتى فُتحت دمشقُ بنحو من عشرين ليلةً، فقال له خالدٌ: يرحمك الله، ما منعك أن تعلمني حين جاءك؟ فقال: إني كرهتُ أن أكسر عليك

(1)

حربكَ، وما سلطان الدنيا أريدُ، ولا للدنيا أعملُ، وما ترى سيصير إلى زوال وانقطاع، وإنما نحن أخَوان، وما يضرُّ الرجل أن يليه أخوه في دينه ودنياه.

[هل كان إمداد خالد زمن أبي بكر أم زمن عمر]

ومن أعجب ما يُذْكرُ هاهنا ما رواه يعقوب بن سفيان الفسوي

(2)

: حدَّثنا هشام بن عمار، حدَّثنا عبد الملك بن محمد، حدَّثنا راشد بن داود الصنعاني (حدَّثني أبو عثمان الصنعاني) شراحيل بن مرثد، قال:

بعث أبو بكر خالدَ بن الوليد إلى أهل اليمامة، وبعثَ يزيدَ بن أبي سفيان إلى الشام، فذكر الراوي قتال

(3)

خالد لأهل اليمامة إلى أن قال: ومات أبو بكر واستُخلف عمر، فبعث أبا عبيدة إلى الشام فقدم دمشق فاستمدَّ أبو عبيدة عمر فكتب عمر إلى خالد بن الوليد أن يسير إلى أبي عبيدة بالشام. فذكر مسير خالد من العراق إلى الشام كما تقدم، وهذا غريب جدًّا، فإنَّ الذي لا يُشكَّ فيه أن الصديقَ هو الذي بعث أبا عبيدة وغيره من الأمراء إلى الشام، وهو الذي كتب إلى خالد بن الوليد أن يقدم من العراق إلى الشام ليكون مددًا لمن به وأميرًا عليهم، ففتح الله تعالى عليه وعلى يديه جميعَ الشام على ما سنذكره إن شاء الله تعالى.

[بعثناه بريدًا فعاد أميرًا]

وقال محمد بن عائذ: قال الوليد بن مسلم: أخبرني صفوان بن عمرو، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير:

أن المسلمين لما افتتحوا مدينة دمشق بعثوا أبا عبيدة (بن الجراح) وافدًا إلى أبي بكر بشيرًا بالفتح، فقدمَ المدينةَ فوجد أبا بكر قد تُوفي واستُخْلفَ عُمرُ بن الخطاب، فأعظم أن يتأمَّر أحد من الصحابة

(4)

عليه فولاه جماعة الناس، فقدم عليهم فقالوا: مرحبًا بمن بعثناه بريدًا فقدم علينا أميرًا.

(1)

في أ: عنك.

(2)

المعرفة والتاريخ (2/ 315 - 316).

(3)

في ط: فقال.

(4)

في أ: أصحابه.

ص: 110

[مسألة فقهية في المسح على الخفين]

وقد روى الليثُ وابنُ لهيعة وحيوة بن شريح ومفضل بن فضالة وعمر بن الحارث وغير واحد عن يزيد بن أبي حبيب عن عبد الله بن الحكم عن عُلَيّ بن رباح عن عقبة بن عامر:

أنه بعثه أبو عبيدة بريدًا بفتح دمشق قال: فقدمت على عمر يوم الجمعة فقال لي: منذ كم لم تنزع خُفَّيك؟ فقلت من يوم الجمعة وهذا يوم الجمعة. فقال: أصبت السُّنَّةَ.

قال الليث: وبه نأخذ، يعني أن المسحَ على الخُفَّيْن للمُسافر لا يتأقَّتُ، بل له أن يمسحَ عليهما ما شاء، وإليه ذهب الشافعي في القديم. وقد روى أحمد وأبو داود عن أُبيّ بن عِمارة مرفوعًا مثل هذا

(1)

.

والجمهور على ما رواه مسلم عن علي في تأقيت المسح للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمُقيم يوم وليلة

(2)

.

ومن الناس من فصَّل بين البريد ومن في معناه وغيره، فقال في الأول لا يتأقَّت، وفيما عداه يتأقت لحديث عقبة

(3)

وحديث علي، والله أعلم.

‌فصل: [فتح البقاع وبيروت وتدمر]

ثم إن أبا عبيدة بعث خالد بن الوليد إلى البقاع ففتحه بالسيف. وبعث سرية فالتقوا مع الروم بعين ميسنون

(4)

، وعلى الروم رجل يقال له "سنان"

(5)

تحدر على المسلمين من عقبة بيروت فقتل من المسلمين يومئذ جماعة من الشهداء فكانوا يسمون "عين ميسنون" عين الشهداء. واستخلف أبو عبيدة

(1)

لم يرو الإمام أحمد لأُبي بن عمارة شيئًا. تهذيب الكمال (2/ 260) بل روى حديثه الطبراني في المعجم الكبير برقم (545) وأبو داود في سننه رقم (158) كتاب الطهارة، ونص الحديث: قلت: يا رسول الله! أمسحِ على الخفين؟ قال: "نعم يومًا" قال: قلت: يا رسول الله يومًا؟ قال: "نعم ويومين

الحديث،" وفي آخره: قال: "نعم وما شئت". ورواه ابن ماجه بمعناه (557) من طريق عبادة بن نسي، عنه.

وقد روى الإمام أحمد في مسنده (5/ 213) حديث خزيمة بن ثابت قال: رخص لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن نمسح ثلاثًا، ولو استزدناه لزادنا.

(2)

حديث علي رواه مسلم في صحيحه رقم (85)(276) كتاب الطهارة. ونصه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن وللمقيم يوم وليلة.

(3)

حديث عقبة الموقوف هو المتقدم.

(4)

في أ: ميستون، ولم نجدها فيما توافر لدينا من كتب البلدان، ولعلها "ميسون" التي ذكرها ياقوت في معجم البلدان.

(5)

في أ: سسان.

ص: 111

على دمشق

(1)

يزيد بن أبي سفيان كما وعده بها الصديق. وبعث يزيد دِحْيَة بن خَليفة إلى تدمر في سرية ليمهِّدوا أمرها. وبعث

(2)

أبا الزهراء القشيري إلى البَثَنِيَّة وحوران فصالح أهلها.

[فتح سائر مدن دمشق صلحًا]

قال أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله

(3)

:

افتتح خالد دمشق صلحًا، وهكذا سائر مدن الشام كانت صلحًا دون أرضيها. فعلى يدي يزيد بن أبي سفيان وشرحبيل بن حسنة وأبي عبيدة. وقال الوليد بن مسلم: أخبرني غير واحد من شيوخ دمشق بينما هم على حصار دمشق إذ أقبلت خيل من عقبة السلمية مخمرة بالحرير، فثار إليهم المسلمون فالتقوا فيما بين بيت لهيا والعقبة

(4)

التي أقبلوا منها، فهزموهم وطردوهم إلى أبواب حمص، فلما رأى أهل حمص ذلك ظنوا أنهم قد فتحوا دمشق، فقال لهم أهل حمص إنا نصالحكم على ما صالحتم عليه أهل دمشق ففعلوا.

وقال خليفة بن خياط

(5)

: حدَّثني عبد الله بن المُغيرة، عن أبيه قال: افتتح شرحبيل بن حسنة الأردن كلها عنوة، ما خلا طبرية فإن أهلها صالحوه. وهكذا قال ابن الكلبي. وقالا: بعث أبو عبيدة خالدًا فغلب على أرض البقاع وصالحه أهل بعلبك وكتب لهم كتابًا.

وقال ابن المغيرة عن أبيه: وصالحهم على أنصاف منازلهم وكنائسهم، ووضع الخراج. وقال ابن إسحاق وغيره: وفي سنة أربع عشرة فُتحت حمص وبعلبك صلحًا على يدي أبي عبيدة في ذي القعدة، قال خليفة: ويقال في سنة خمس عشرة.

‌وقعة فِحْل [بكسر الفاء، وقيل والحاء، والصحيح تسكينها]

وقد ذكرها كثيرٌ من علماء السِّيَر قبل فتحِ دمشق (وإنما ذكرها الإمام أبو جعفر بن جرير

(6)

بعد فتح دمشق) وتبع في ذلك سياق سيف بن عمر فيما رواه عن أبي عثمان يزيد بن أسيد الغساني وأبي حارثة

(1)

في أ: على الشام.

(2)

في أ: وبعث يزيدًا دحية بن خليفة أبا الزهراء.

(3)

الخبر في فتوح البلدان للبلاذري (169).

(4)

في فتوح البلدان (178): والثنيَّة.

(5)

تاريخه (129).

(6)

تاريخ الطبري (3/ 442).

ص: 112

القيسي

(1)

قالا: خلف الناس يزيد بن أبي سفيان في خيله في دمشق وساروا

(2)

نحو فحل، وعلى الناس الذين هم بالغور شرحبيل بن حَسَنة، وقد جعل على المقدمة خالد بن الوليد، وأبو عبيدة على الميمنة، وعمرو بن العاص على الميسرة، وعلى الخيل ضرار بن الأزور، وعلى الرَّجَّالة عياض بن غنم، فوصلوا إلى فِحْل: وهي بلدة بالغور، وقد انحاز الرومُ إلى بَيْسان، وأرسلوا مياه تلك الأراضي على [ما] هنالك من الأراضي، فحال بينهم وبين المسلمين، وأرسل المسلمون إلى عمر يخبرونه بما هم فيه من مصابرة عدوهم وما صنعَهُ الرومُ من تلك المكيدة، إلا أن المسلمين في عيش [رغيد] ومدد كبير، وهم على أُهبة من أمرهم.

وأمير هذا الحرب شرحبيل بن حسنة وهو لا يبيت ولا يصبح إلا على تعبئة. وظن الروم أن المسلمين على غِرة، فركبوا في بعض الليالي ليبيتوهم، وعلى الروم سقلاب

(3)

بن مخراق، فهجموا على المسلمين فنهضوا إليهم

(4)

نهضة رجل واحد لأنهم على أُهبة دائمًا، فقاتلوهم حتى الصباح وذلك اليوم بكماله إلى الليل. فلما أظلمَ الليلُ فرَّ الرومُ وقتل أميرُهم (سقلاب) وركب المسلمون أكتافهم وأسلمتهم هزيمتهم إلى ذلك الوحل

(5)

الذي كانوا قد كادوا به المسلمين فغرَّقهم الله فيه، وقتل منهم المسلمون بأطراف الرماح ما قارب الثمانين ألفًا لم ينجُ منهم إلا الشريد، وغنموا منهم شيئًا كثيرًا ومالًا جزيلًا. وانصرف أبو عبيدة وخالد بمن معهما من الجيوش نحو حمص كما (أمر) أميرُ المؤمنين عمر بن الخطاب. واستخلف أبو عبيدة على الأردن شُرحبيل بن حَسَنة، فسار شرحبيل ومعه عمرو بن العاص فحاصر بَيْسان، فخرجوا إليه، فقتلَ منهم مقتلةً عظيمة، ثم صالحوه على مثل ما صالحتْ عليه دمشقُ، وضرب عليهم الجزيةَ والخراجَ على أراضيهم

(6)

، وكذلك فعل أبو الأعور السّلمي بأهل طبرية سواء.

[فصلٌ فيـ]ــــــما وقع بأرض العراق آنذاك

(7)

من القتال

وقد قدمنا أنَّ المثنى بن حارثة لما سار خالد من العراق بمن صحبه إلى الشام، وقد قيل: إنه سار بتسعة آلاف، وقيل: بثلاثة آلاف، وقيل: بسبعمئة، وقيل: بأقل، إلا أنّهم صناديدُ جيشِ العراق، فأقام المثنى بمن بقي، فاستقلَّ عددهم، وخاف من سطوة الفرس لولا اشتغالهم بتبديل ملوكهم وملكاتهم، واستبطأ المثنى خبرَ الصدِّيق فسارَ إلى المدينة فوجد الصدِّيقَ في السياق، فأخبره بأمر العراق، فأوصى

(1)

في تاريخ الطبري: العبشمي، ولم أجد له ترجمة. وفي نسخة "العتبي".

(2)

في ط: وسار.

(3)

في تاريخ الطبري (3/ 442) والكامل لابن الأثير (2/ 430): سقلار.

(4)

في أ: عليهم.

(5)

في أ: وأسكتتهم هزيمتهم إلى ذلك الرجل.

(6)

في أ: أرضهم.

(7)

في أ: في هذه المدة.

ص: 113

الصدِّيق عمر أن يندبَ الناسَ لقتال أهل العراق. فلما ماتَ الصدِّيقُ ودُفن ليلةَ الثلاثاء أصبح عمر فندب الناسَ وحثَّهمْ على قتالِ أهلِ العراق، وحرضهم ورغَّبهم في الثواب على ذلك، فلم يقم أحدٌ لأن الناس كانوا يكرهون قتال الفرس لقوة سطوتهم، وشدة قتالهم، ثم ندبهم في اليوم الثاني والثالث فلم يقم أحد

(1)

. وتكلَّم المثنى بن حارثة فأحسن، وأخبرهم بما فتحَ اللهُ تعالى على يدي خالد من معظم أرض العراق، وما لهم هنالك من الأموال والأملاك والأمتعة والزاد، فلم يقم أحدٌ في اليوم الثالث.

فلما كان اليوم الرابع كان أول من انتدب من المسلمين أبو عبيد بن مسعود الثقفي ثم تتابعَ الناسُ في الإجابة، وأمر عمر طائفة من أهل المدينة وأمَّر على الجميع أبا عبيد هذا ولم يكن صحابيًا، فقيل لعمر: هلا أمَّرت عليهم رجلًا من الصحابة؟ فقال: إنما أؤَمِّر أولَ من استجابَ، إنكم إنما سبقتم الناس بنصرة هذا الدين، وإن هذا هو الذي استجاب قبلكم

(2)

. ثم دعاه فوضاه في خاصة نفسه بتقوى الله وبمن معه من المسلمين خيرًا، وأمره أن يستشير أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يستشير سَلِيط بن قَيْس فإنه رجلٌ باشرَ الحروب. فسار المسلمون إلى أرض العراق، وهم سبعةُ آلاف رجل، وكتب عمرُ إلى أبي عبيدة أن يرسلَ منْ كانَ بالعراق ممن قدمَ مع خالدٍ إلى العراق، فجهز عشرةَ آلاف عليهم هاشم بن عتبة، وأرسل عمر جريرَ بن عبد الله البجلي في أربعة آلاف إلى العراق فقدم الكوفةَ، ثم خرج منها فواقع هرقران المدار فقتله وانهزم جيشه وغرق أكثرهم في دجلة، فلما وصل الناسُ إلى العراق وجدوا الفرسَ مضطربين في ملكهم، وآخر ما استقرَّ عليه أمرهم أن ملكوا عليهم "بُوران

(3)

بنت كسرى بعد ما قتلوا التي كانت قبلها (آزَرْميدُخت) وفوضت بوران أمر الملك عشر سنين إلى رجل منهم يقال له رستم (بن فَرُّخزاذ على أن يقوم بأمر الحرب، ثم يصير الملك إلى كسرى، فقبل ذلك. وكان رُسْتم) هذا منجمًا يعرف النجوم وعلمها جيدًا، فقيل له: ما حملك على هذا؟ يعنون وأنت تعلم أن هذا (الأمر) لا يتمّ لك، فقال: الطمعُ وحبُّ الشرف.

‌وقعة النَّمَارِق

بعث رستم أميرًا يقال له "جابان" وعلى مَجْنَبَتَيْه رجلان يُقال لأحدهما "حشنس ماه" ويقال للآخر "مردانشاه" وهو خصيُّ أمير حاجب الفرس، فالتقوا مع أبي عُبيد بمكان يقال له النَّمارِق

(4)

- بين الحيرة والقادِسيَّة - وعلى الخيل المُثَنَّى بن حارثة، وعلى المَيْسرة عمرو بن الهيثم، فاقتتلوا هنالك قتالًا شديدًا، وهزمَ اللهُ الفرسَ، وأسر جابان ومردانشاه. فأما مردانشاه فإنَّه قتلهُ الذي أسره، وأما جابان فإنه خدَعَ

(1)

في أ: فلم يقم أحد في اليوم الثالث.

(2)

الخبر في تاريخ الطبري (3/ 446) والكامل لابن الأثير (2/ 432).

(3)

في أ: نوران؛ تحريف، والخبر عند الطبري (3/ 446).

(4)

النَّمارق: موضع قرب الكوفة من أرض العراق، نزله عسكر المسلمين في أول ورودهم العراق. معجم البلدان (5/ 304).

ص: 114

الذي أسره حتى أطلقه فأمسكه المسلمون وأبوا أن يُطلقوه، وقالوا: إن هذا هو الأمير وجاؤوا به إلى أبي عُبيد فقالوا: اقتله فإنه الأمير، فقال وإن كان الأمير فإني لا أقتله، وقد أمَّنه رجلٌ من المسلمين، ثم ركب أبو عُبيد في آثار

(1)

من انهزمَ منهم وقد لجؤوا إلى مدينة كسْكَر

(2)

التي لابن خالة كسرى واسمه نرْسي فوازرهم نرْسي على قتال أبي عبيد، فقهرهم

(3)

أبو عبيد وغنم منهم شيئًا كثيرًا وأطعمات كثيرة جدًّا، ولله الحمد. وبعث بخمس ما غنمَ من المال والطعام إلى عمر بن الخطاب بالمدينة وقد قال في ذلك رجل من المسلمين

(4)

: [من الطويل]

لَعَمْري وما عَمري عَليَّ بَهيِّنٍ

لقد صُبِّحتْ بالخِزْي أهلُ النَّمارقِ

بأيدي رجالٍ هاجَرُوا نَحْو ربّهمْ

يَجُوسونَهُمْ ما بين دُرْتا

(5)

وبارِق

(6)

قَتَلْناهُمُ ما بين مرجٍ مُسَلَّحٍ

(7)

وبين الهَوَافي

(8)

من طريقِ التدارق

(9)

فالتقَوْا بمكان بين كَسْكَر والسَّقَاطيَّة

(10)

وعلى ميمنة نَرْسي ومَيْسرته ابنا خاله بِنْدَويه وَتِيرَوِيْه

(11)

أولاد نظام

(12)

، وكان رستم قد جَهَّز الجيوشَ مع الجالينوس

(13)

، فلما بلغ أبو عُبَيد ذلك أعجل نرْسي بالقتال قبل وصولهم فاقتتلوا قتالًا شديدًا فانهزمتِ الفرسُ وهرب نَرْسي والجالينوس إلى المدائن بعد وقعة جَرَتْ من أبي عبيد مع الجالينوس بمكان يقال له (باروسما) فبعثَ أبو عُبيد المُثَنّى بن حارثة وسرايا أُخر إلى متاخم تلك الناحية كنهر جور

(14)

ونحوها، ففتحها صلحًا وقهرًا، وضربوا الجزيةَ والخراج وغنموا

(1)

في أ: في إثر.

(2)

كَسْكر، بالفتح، ثم السكون، وكاف أخرى، وراء: كورة من آخر سقي النهروان إلى أن تصب دجلة في البحر وكانت قصبتها خسروسابور. معجم البلدان (4/ 461).

(3)

في أ: فهزمهم.

(4)

الأبيات في تاريخ الطبري (3/ 450) ومعجم البلدان (5/ 129) مشوبة إلى عاصم بن عمرو.

(5)

في أ: دريا، وفي ط: درنا؛ وكلاهما تحريف، وما هنا عن الطبري وياقوت.

(6)

بارق: ماء بالعراق، وهو الحد بين القادسية والبصرة من أعمال الكوفة. معجم البلدان (1/ 319).

(7)

مرج مُسَلَّح: بالعراق، ذكره عاصم بن عمرو التميمي في شعر له أيام الفتوح. معجم البلدان (5/ 129).

(8)

في الأصلين: الهواني؛ وما هنا عن الطبري. والهَوافي: موضع بأرض السواد، ذكره عاصم بن عمرو التميمي - وكان فارسًا مع جيش أبي عبيد الثقفي - معجم البلدان (5/ 419).

(9)

كذا في الأصلين. وفي تاريخ الطبري (3/ 451): البذارق، ولم أجدهما في ما لدي من كتب البلدان.

(10)

في الأصلين: السفاطية؛ وما هنا عن معجم البلدان (3/ 226) قال ياقوت: السُّقاطية: ناحية بكسكر من أرض واسط وقع عندها أبو عبيد الثقفي بالنرسيان صاحب جيوش الفرس فهزمه شر هزيمة.

(11)

في ط: بيرويه. وما هنا عن أ والطبري (3/ 451).

(12)

في تاريخ الطبري: بسطام.

(13)

في تاريخ الطبري: الجالنوس.

(14)

في تاريخ الطبري (3/ 451): نهر جوبر، والذي في معجم البلدان (5/ 319): نهر جوبرة بالبصرة. وأما نهر جور فهو بين الأهواز وميسان.

ص: 115

الأموال

(1)

الجزيلةَ ولله الحمد والمنة، وكسروا الجالينوس الذي جاء لنصرة جابان وغنموا جيشه وأمواله، وكرَّ هاربًا إلى قومه حقيرًا ذليلًا.

‌وقعة جسر أبي عُبَيْدٍ ومَقْتلُ أمير المُسلمين وخلق كثير منهم

لما رجع الجالينوس هاربًا مما لقي من المسلمين تذامرت

(2)

الفرس بينهم واجتمعوا إلى رستم فأرسل جيشًا كثيفًا عليهم ذا الحاجب "بَهْمَن

(3)

جاذويه" وأعطاه راية أفريدون وتسمى دِرفْش كابيان، وكانت الفرس تتيمَّن بها. وحملوا معهم راية كسرى وكانت من جلودِ النمور، عرضُها ثمانية أذرع. فوصلوا إلى المسلمين وبينهم النهر وعليه جسر، فأرسلوا: إما (أن) تعبروا إلينا وإما أن نعبر إليكم. فقال المسلمون لأميرهم أبي عبيد: أُؤْمُرْهُمْ فليعبروا هم إلينا. فقال: ما هُم بأجرأ على الموت منّا، ثم اقتحمَ إليهم فاجتمعوا في مكانٍ ضيّقٍ هنالك، فاقتتلوا قتالًا شديدًا لم يعهدْ مُثْله، والمسلمون في نحو من عشرة آلاف، وقد جاءت الفرسُ معهم بأفيلةٍ كثيرةٍ عليها الجلاجلُ، قائمة لتذعر خيولَ المسلمين، فجعلوا كلما حملوا على المسلمين فرَّت خيولُهم من الفيلةِ ومما تَسْمعُ من الجلاجل التي عليها، ولا يثبت منها إلا القليل على قسْر، وإذا حمل المسلمون عليهم لا تقدم خيولُهم على الفيلة، وَرَشَقَتْهُم الفرسُ بالنبل، فنالوا منهم خلقًا كثيرًا وقتلَ المسلمون منهم مع ذلك ستةَ آلاف.

وأمر أبو عُبَيْد المسلمين أن يقتلوا الفيلة أولًا، فاحتوشوها

(4)

فقتلوها عن آخرها، وقد قدَّمتِ الفرسُ بين أيديهم فيلًا عظيمًا أبيض، فتقدَّم إليه أبو عُبيد فضربَهُ بالسيف فقطع ذلومه

(5)

فحمي الفيل، وصاح صيحةً هائلةً وحمل فتخبطه برجليه فقتله ووقفَ فوقه، فحمل على الفيل خليفة أبي عبيد الذي كان أوصى أن يكون أميرًا بعده فقتل، ثم آخر، ثم آخر، حتى قتل سبعة من ثقيف كان قد نصَّ أبو عُبيد عليهم واحدًا بعد واحد، ثم صارت إلى المُثنَّى بن حارثة بمُقْتضى الوصية أيضًا. وقد كانت دَوْمةُ امرأةُ أبي عبيد رأت منامًا

(6)

يدل على ما وقع سواء بسواء. فلما رأى المسلمون ذلك وَهَنوا عند ذلك، ولم يكن

(1)

هذه أول لفظة من الورقة (173 و 174) التي لا تبين فيها الحروف والكلمات بسبب الحبر.

(2)

تذامر المشركون: أي تلاوموا على ترك الفرصة، وقد تكون بمعنى تحاضوا على القتال. اللسان "ذمر".

(3)

في ط: بهمس حادويه. وما هنا عن أو الطبري (3/ 454) وابن الأثير (2/ 438).

(4)

احتوش القوم على فلان: جعلوه وسطهم. اللسان (حوش).

(5)

لم أجدها في كتب اللغة، وفي "تاج العروس": زلم أنفه: إذا قطعه، وازدلم أنفه: استأصله، وازدلم رأسه: قطعه. - ورواية الطبري (3/ 457): مِشفره -.

(6)

رأت دَوْمة - امرأة أبي عبيد - أن رجلًا نزل من السماء بإناءٍ فيه شراب لحرب أبو عبيد وجَبْر في أناس من أهله، فأخبرت بها أبا عيد فقال: هذه الشهادة، وعهد أبو عبيد إلى الناس، فقال: إن قتلت فعلى الناس جبر، فإن قتل فعليكم فلان حتى أمَّر الذين شربوا من الإناء على الولاء من كلامه. ثم قال: إن قتل أبو القاسم فعليكم المثنى. الطبري (3/ 456).

ص: 116

بقيَ إلا الظفر بالفُرْس، وضعف أمرهم، وذهب ريحهم، وولَّوْا مُدْبرين، وسافت الفرسُ خلفهم فقتلوا بشَرًا كثيرًا وانكشف الناس (فكان) أمرًا بليغًا، وجاؤوا إلى الجسر فمر بعض الناس. ثم انكسر الجسر فتحكَّم فيمن وراءه الفرس فقتلوا من المسلمين وغرق في الفرات نحوًا من أربعة آلاف. فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وسار المثنى بن حارثة فوقف عند الجسر الذي جاؤوا منه، وكان الناس لما انهزموا جعل بعضهم يلقي بنفسه في الفرات فيغرق، فنادى المثنى: أيُّها الناسُ على هِينتِكُمْ، فإني واقفٌ على فمِ الجسر لا أجوزُه حتى لا يَبْقى منكم أحدٌ هاهنا، فلما عدَّى الناسَ إلى الناحية الأخرى سارَ المثنى فنزل بهم أولَ منزلٍ، وقام يحرسُهم هو وشجعانُ المسلمين، وقد جُرح أكثرُهم وأُثْخِنوا، ومن الناس منْ ذهب في البرية لا يدرى أين ذهب، ومنهم من رجعَ إلى المدينة النبوية مذعورًا.

وذهب بالخبر عبد الله بن زيد بن عاصم المازني إلى عمر بن الخطاب فوجده على المنبر، فقال له عمر: ما وراءك يا عبد الله بن زيد؟ فقال: أتاك الخبر اليقين يا أمير المؤمنين، ثم صعد إليه المخبر فأخبره الخبر سرًا.

ويقال: كان أول من قدم بخبرِ الناس عبدُ الله بن يزيد

(1)

بن الحُصَيْن الخَطْمي

(2)

، فالله أعلم.

قال سيف بن عمر: وكانت هذه الوقعة في شعبان من سنة ثلاث [عشرة] بعد اليرموك بأربعين يومًا فالله أعلم.

وتراجع المسلمون بعضهم إلى بعض وكان منهم منْ فَرَّ إلى المدينة فلم يُؤَنِّب عمرُ الناسَ بل قالَ: أنا فيئكم.

وأشغل اللهُ المجوسَ بأمر مَلِكهم. (وذلك

(3)

أنَّ أهلَ المدائن عَدَوْا على رُستم فخلعوه ثم وَلَّوه وأضافوا إليه الفَيْرُزان، واختلفوا على فرقتين، فركب الفرس إلى المدائن ولحقهم المُثَنّى بن حارثة في نَفَرٍ من المسلمين، فعارضه أميران من أمرائهم في جيشهم، فأسرهما وأسر معهما بشرًا كثيرًا فضرب أعناقهم. ثم أرسل المُثنى إلى منْ بالعراق من أمراء المسلمين يستمدُّهم، فبعثوا إليه بالأمداد، وبعثَ إليه عمر بن الخطاب بمددٍ كثير فيهم جرير بن عبد الله البَجَلي، في قومه بَجيلة بكمالها، وغيره من سادات المسلمين حتى كثر جيشه.

(1)

في تاريخ الطبري (3/ 458) عبد الله بن زيد؛ وهو خطأ. وترجمة عبد الله بن يزيد في الاستيعاب (1001).

(2)

في ط: الحطمي: تصحيف.

(3)

من هذه اللفظة سقط في أ يستمر ما يقرب من ورقة كاملة إلى آخر الأبيات التي على قافية النون.

ص: 117

‌وقْعةُ البُوَيْبِ التي اقْتَصَّ فيها المسلمون من الفرس

فلما سمعَ بذلك أمراءُ الفرس، وبكثرةِ جيوشِ المُثَنَّى، بعثوا إليه جيشًا آخر مع رجلٍ يقال له مِهْران فتوافَوْا هم وإياهم بمكان يُقال له:"البُوَيْب"

(1)

قريب من مكانِ الكوفةِ اليوم وبينهما الفرات. فقالوا: إما أن تعبروا إلينا، أو نعبر إليكم. فقال المسلمون: بل اعبروا إلينا. فعبرتِ الفرسُ إليهم فتوافقوا، وذلك في شهرِ رمضان. فعزمَ المُثَنَّى على المسلمين في الفطر فأفطروا عن آخرهم ليكون أقوى لهم، وعُبي الجيش، وجعلَ يمرُّ على كلِّ رايةٍ من راياتِ الأمراءَ على القبائلِ ويعظهم ويحثُّهم على الجهاد والصبر والصمت. وفي القوم جرير بن عبد الله البجلي في بَجِيلة وجماعة من سادات المسلمين. وقال المثنى لهم: إني مُكَبِّر ثلاثَ تكبيرات فتهيَّؤوا، فإذا كَبَّرْتُ الرابعةَ فاحملوا. فقابلوا قوله بالسمع والطاعة والقبول. فلما كبَّر أولَ تكبيرة عاجلتهم الفرس فحملوا حتى غالقوهم

(2)

، واقتتلوا قتالًا شديدًا، ورأى المُثَنّى في بعض صفوفه خللًا، فبعث إليهم رجلًا يقول: الأمير يقرأ عليكم السلام ويقول لكم: لا تفضحوا العرب اليوم فاعتدلوا. فلما رأى ذلك منهم - وهم بنو عجل - أعجبه وضحك. وبعث إليهم يقول: يا معشر المُسلمين عاداتكم، انصروا الله ينصركُمْ. وجعلَ المُثَنّى والمسلمون يدعون اللهَ بالظَّفَر والنصر. فلما طالت مدة الحرب جمع المُثَنّى جماعة من أصحابه الأبطال يحمون ظهره، وحمل على مِهران فأزاله عن موضعه حتى دخل الميمنةَ، وحمل غلامٌ من بني تغلب نصراني فقتلَ مِهْران وركب فرسه. كذا ذكره سيف بن عمر

(3)

.

وقال محمد بن إسحاق: بل حمل عليه المُنْذِر بن حسَّان بن ضرار الضّبّي فطعنه واحتزَّ رأسه جرير بن عبد الله البجلي، واختصما في سَلَبِهِ

(4)

، فأخذ جرير السلاح، وأخذ المنذر مِنْطقته.

وهربتِ المجوسُ وركبَ المسلمون أكتافهم يفصلونهم فصلًا. وسبق المثنى بن حارثة إلى الجسر فوقف عليه ليمنعَ الفرسَ من الجواز عليه ليتمكَّن منهم المسلمون. فركبوا أكتافَهم بقيةَ ذلك اليوم وتلك الليلة، ومن أبعد إلى الليل، فيُقال: إنه قتل منهم يومئذ، وغرق قريبٌ من مئة ألفِ، ولله الحمد والمنة. وغنمَ المسلمون مالًا جزيلًا وطعامًا كثيرًا، وبعثوا بالبشارة والأخماس إلى عمر رضي الله عنه. وقد قُتل من سادات المسلمين في هذا اليوم بَشَرٌ كثيرٌ أيضًا. وذلَّتْ لهذه الوقعة رقابُ الفُرْس وتمكن الصحابةُ من الغارات في بلادهم فيما بين الفرات ودجلة، فغنموا شيئًا عظيماَ لا يمكن حصره. وجرت

(1)

في ط: البويث، تحريف. والبويب: نهر كان بالعراق موضع الكوفة، كان عنده وقعة أيام الفتوح بين المسلمين والفرس. معجم البلدان (1/ 512).

(2)

في تاريخ الطبري (3/ 465): خالطوهم.

(3)

تاريخ الطبري (4/ 466).

(4)

في تاريخ الطبري: سلاحه. والسَّلَبُ - بالتحريك - ما يسلب. القاموس (سلب).

ص: 118

أمورٌ يطول ذِكرها بعد يوم البُوَيْب، وكانت هذه الواقعة بالعراق نظير اليرموك بالشام. وفد قال الأعْورُ الشَّنيُّ

(1)

العَبْدِيُّ في ذلك

(2)

: [من البسيط]

هاجَتْ لأعْورَ دارُ الحيِّ أحْزانا

واسْتَبْدَلَتْ بَعْدَ عَبْدِ القَيْسِ حَسَّانا

(3)

وَقَدْ أرانا بها والشَّمْلُ مُجْتمعٌ

إذ بالنُّخَيْلةِ قتْلَى جُنْدِ مِهْرانا

إِذْ كان

(4)

سارَ المُثنَّى بالخيُولِ لهم

فَقتَّلَ الزَّحفَ من فُرْسٍ وجِيلانا

سَما لِمهرانَ والجيشِ الذي مَعهُ

حَتَّى أبادَهُمُ مَثنى وَوُحْدانا)

‌فصل

ثم بعثَ أميرُ المؤمنين عمرُ بن الخطّاب سعدَ بن أبي وقّاص الزهري أحدَ العشرة في ستة آلاف أميرًا على العراق، وكتب إلى جرير بن عبد الله والمُثَنى بن حارثة أن يكونا تبعًا له وأن يسمعا له ويُطيعا، فلما وصل إلى العراق كانا معه، وكان قد تنازعا الإمرةَ، فالمثنى يقول لجرير: إنما بعثكَ أميرُ المؤمنين مَددًا إليَّ. ويقول جرير

(5)

: إنما بعثني أميرًا عليكَ. فلما قدم سعد على إمارة

(6)

العراق انقطع نزاعهما.

قال ابن إسحاق: وتوفي المثنى بن حارثة في هذه السنة

(7)

: كذا قال ابن إسحاق. والصحيح أن بعثَ عمر سعدًا إنّما كان في أول سنة أربع عشرة كما سيأتي.

‌ذكر اجتماع الفرس على يَزْدَجِرْد بعد اختلافهم

كان شيرين قد جمعَ آلَ كسرى في القصر الأبيض، وأمر بقتلِ ذُكرانه كلّهم، وكانت أم يزدجرد فيهم ومعها ابنها وهو صغير، فواعدت أخواله فجاؤوا وأخذوه منها، وذهبوا به إلى بلادهم، فلما وقع ما وقع يوم البُوَيْبِ وقُتل منْ قُتل منهم كما ذكرنا، وركب المسلمون أكتافَهُمْ وانتصروا عليهم وعلى أخذ بلدانهم، ومحالّهم وأقاليمهم. ثم سمعوا (بقدوم سعد بن أبي وقاص من جهة عمر)، اجتمعوا فيما بينهم وأحضروا الأميرين الكبيرين فيهم وهما رُسْتم والفيرزان فتذامروا

(8)

فيما بينهم وتواصَوْا وقالوا لهما:

(1)

الأعور الشني: هو بشر بن منقذ بن عبد القيس، أبو منقذ كان شاعرًا محسنًا وله ابنان شاعران، حبسه علي بن أبي طالب رضي الله عنه ثم خلّى عنه. الشعر والشعراء (425 - 426) ط. دار الكتب العلمية.

(2)

الأبيات في تاريخ الطبري (3/ 471).

(3)

في تاريخ الطبري: خفانا.

(4)

في ط: إذا كان، ولا يستقيم بها الوزن، وفي تاريخ الطبري: أزمان.

(5)

في أ: وجرير يقول.

(6)

في ط: على أمر العراق.

(7)

أرخ خليفة بن خياط وفاة المثنى بن حارثة سنة أربع عشرة. تاريخه (129).

(8)

تذامروا: أي تلاوموا أو تحاضُّوا على القتال. اللسان (ذمر).

ص: 119

لئن لم تقوما بالحرب كما ينبغي لنقتلنكما ونشتفي بكما. ثم رأوا فيما بينهم أن يبعثوا خلف نساء كسرى من كل فج ومن كل بقعة، فمن كان لها ولد من آل كسرى مَلَّكوه عليهم. فجعلوا إذا أتوا بالمرأة عاقبوها

(1)

هل لها ولد وهي تُنكر ذلك خوفًا على ولدها إن كان لها ولد، فلم يزالوا حتى دُلُّوا على أم يَزْدَجِرْدَ، فأحضروها وأحضروا ولدها فملَّكوه عليهم وهو ابن إحدى وعشرين سنة، وهو من ولد

(2)

شهريار بن كسرى وعزلوا بوران، واستوثقت الممالك له، واجتمعوا عليه وفرحوا به، وقاموا بين يديه بالنصر أتمَّ قيام، واستفحلَ أمره فيهم وقويت شوكتُهم به، وبعثوا إلى الأقاليم والرساتيق فخلعوا الطاعةَ للصحابة ونقضوا عهودهم وذممهم، وبعث الصحابة إلى عمر بالخبر، فأمرهم عمر أن يتبرَّزوا من بين ظهرانيهم وليكونوا على أطرافِ البلاد حولهم على المياه، وأن تكون كلُّ قبيلةٍ تنظر إلى الأخرى بحيث إذا حدث

(3)

حدث على قبيلة لا يَخْفى أمرُها على جيرانهم. وتفاقمَ الحالُ جدًّا، وذلك في ذي القعدة من سنة ثلاثَ عشرةَ.

وقد حجَّ بالناس عمرُ في هذه السنة، وقيل: بل حجَّ بهم عبد الرحمن بن عوف

(4)

، ولم يحجَّ عمر هذه السنة، والله أعلم.

[ذكر] ما وقع [في هذه السنة - أعني] سنة ثلات عشرة من الحوادث [إجماعًا ومن توفي من الأعيان]

كانت فيها وقائع تقدم تفصيلها ببلاد (العراق) على يَديْ خالدِ بن الوليد رضي الله عنه، فُتحت فيها الحيرةُ والأنبارُ وغيرُهما من الأمصار.

وفيها سار خالد بن الوليد من العراق إلى الشام على المشهور.

وفيها كانت وقعة اليرموك في قول سيف بن عمر، واختيار ابن جرير، وقتل بها من (قتل من) الأعيان ممَّنْ يطولُ ذكرُهم وتراجمُهم رضي الله عنهم أجمعين.

وفيها توفي أبو بكر الصدِّيق. وقد أفردنا سيرته في مجلد ولله الحمد.

وفيها ولي عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوم الثلاثاء لثمان بقين من جمادى الآخرة منها.

فولَّى قضاءَ المدينة على بن أبي طالب رضي الله عنه.

واستناب على الشام أبا عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح الفهري.

(1)

عاقبوها: يقصد بذلك: عذَّبوها؛ كما يفهم من رواية الطبري (3/ 477).

(2)

الخبر في تاريخ الطبري (3/ 477).

(3)

في أ: إذا أحدث؛ تحريف.

(4)

تاريخ الطبري (3/ 479).

ص: 120

وعَزلَ عنها خالد بن الوليد المخزومي، وأبقاه على شُورى الحربِ.

وفيها فُتحت بصرى صُلْحًا وهي أولُ مدينة فُتحت من الشام.

وفيها فتحت دمشق في قول سيف وغيره - كما قدمنا - واستنيب فيها يزيدُ بن أبي سفيان، فهو أولُ من وليها من أمراء المسلمين رضي الله عنهم.

وفيها (كانت وقعة) فحل من أرض الغور وقتل بها جماعة من الصحابة وغيرهم.

وفيها كانت وقعة جسر أبي عُبَيْد فقتل فيها أربعة آلاف من المسلمين، منهم أميرُهم أبو عُبَيْد بن مسعود الثقفي، وهو والد صفية امرأة عبد الله بن عمر، وكانت امرأةً صالحة رحمهما الله. ووالد المُخْتار بن أبي عُبَيْد كذّاب ثقيف، وقد كان نائبًا على العراق في بعض (وقعات) العراق كما سيأتي.

وفيها توفي المُثَنَّى بن حارثة في قول ابن إسحاق، وقد كان نائبًا على العراق، استخلفه خالدُ بن الوليد حين سار إلى الشام، وقد شهد مواقفَ مشهورة، وله أيامٌ مذكورةٌ ولاسيَّما يوم البُوَيْب

(1)

بعد جسر أبي عُبَيْد، قتل فيه من الفرس وغرق بالفرات قريبٌ من مئة ألف، والذي

(2)

عليه الجمهورُ أنّه بقيَ إلى سنة أربعَ عشرةَ كما سيأتي بيانه.

وفيها حج بالناس عمرُ بن الخطاب في قول بعضهم، وقيل: بل حجَّ عبد الرحمن بن عوف.

وفيها استنفرَ عمرُ قبائلَ العرب لغزو العراق والشام فأقبلوا من كلّ النّواحي فرمى بهم الشامَ والعراق.

(وفيها) كانت وقعة أجْنَادين في قول ابن إسحاق يوم السبت لثلاث من جمادى الأولى منها. وكذا عند الواقدي فيما بين الرملة وبيت جَبْرين

(3)

وعلى الروم القيقلان

(4)

وأمير المسلمين عمرو بن العاص، وهو في عشرين ألفًا في قول، فقتل القيقلان وانهزمت الروم وقتل منهم خلق كثير. واستشهد من المسلمين أيضًا جماعةٌ منهم هشام بن العاص، والفضل بن العباس، وأبان بن سعيد، وأخواه خالد وعمرو، ونعيم بن عبد الله بن النحَّام، والطفيل بن عمرو، وعبد الله بن عمرو الدَّوْسيّان، وضرار بن الأزور، وعكرمة بن أبي جهل، وعمّه سلمة بن هشام، وهبّار بن سفيان

(5)

، وصخر بن نصر، وتميم وسعيد ابنا الحارث بن قيس رضي الله عنهم.

(1)

في ط: البويت؛ تحريف.

(2)

في ط: الذي - بلا واو -.

(3)

في أ وط: وبين جسرين؛ وما هنا عن الطبري (3/ 417).

(4)

كذا في الأصلين، وفي تاريخ الطبري (3/ 417): القُبْقلار.

(5)

في تاريخ الطبري (3/ 418): هبَّار بن الأسود بن عبد الأسد.

ص: 121

وقال محمد بن سعد

(1)

: قتل يومئذ طليب بن عمير

(2)

وأمُّه أروى بنت عبد المطلب عمةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وممن قُتل يومئذ عبدُ الله بن الزبير بن عبد المطلب، وكان عمره يومئذ ثلاثين سنة فيما ذكره الواقدي

(3)

، قال: ولم يكن له روايةٌ، وكان ممن صبر يوم حنين.

قال ابن جرير: وقتل يومئذ عثمان بن طلحة بن أبي طلحة والحارث بن أوس بن عتيك رضي الله عنهم.

وفيها كانت وقعة مرج الصُّفَّر في قول خليفة بن خَيّاط

(4)

وذلك لاثنتي عشرةَ بقيتْ من جمادى الأولى، وأميرُ الناس خالدُ بن سعيد بن العاص فقُتل يومئذ، وقيل: إنَّما قُتل أخوه عمرٌو، وقيل: ابنُه فالله أعلم.

قال ابن إسحاق: وكان أمير الروم فلقط

(5)

، فقتل من الروم مقتلةً عظيمة حتى جرت طاحون هناك من دمائهم. والصحيح أن وقعة مرج الصُّفر في أول سنة أربع عشرة كما سيأتي.

‌ذكر المُتَوفَّين في هذه السنة مُرَتَّبينَ على الحروف كما ذكرهم [شيخنا] الحافظ الذهبي [في تاريخه]

(6)

- أبانُ

(7)

بن سَعيد بن العاص بن أمية الأموي أبو الوليد (المكي) صحابيٌّ جليلٌ، وهو الذي أجار عُثمان بن عفّان يومَ الحُدَيْبية حتى دخل مكةَ لأداءَ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم. أسلم بعد مرجع أخويه من الحبشة خالد، وعمرو، فدعواه إلى الإسلام فأجابهما، وساروا فوجدوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قد فتح خيبر. وقد استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم سنةَ تسع على البحرين وقتل بأجْنادين.

(1)

الطبقات الكبرى (3/ 123).

(2)

في أ، ط: عمر، تحريف، وما هنا عن الطبقات والطبري، وسيرد اسمه صحيحًا في ترجمته بعد صفحات.

(3)

لم أجده في طبقات ابن سعد، إنما ذكر وفاته في هذه السنة ابن الأثير في الكامل (2/ 418) وقال: وكان عمره يوم مات النبي صلى الله عليه وسلم نحو ثلاثين سنة.

(4)

تاريخه (ص 120) والخبر أيضًا في تاريخ الطبري (3/ 406).

(5)

في ط: قلقط. وما هنا عن الأصل وتاريخ خليفة.

(6)

تاريخ الإسلام (2/ 6) ط: مكتبة القدسي - القاهرة.

(7)

ترجمة - أبان بن سعيد - في نسب قريش (174 - 175) وتاريخ خليفة (120) والاستيعاب (1/ 119) وجامع الأصول (13/ 8 - 9) وأسد الغابة (1/ 46 - 48) ومختصر تاريخ دمشق (3/ 333 - 339) وسير أعلام النبلاء (1/ 261) والوافي (5/ 299) والإصابة (1/ 16).

ص: 122

- أنسة

(1)

مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم المشهور أنه قتل ببدر فيما ذكره البخاري وغيره، وزعم الواقدي

(2)

فيما نقله عن أهل العلم أنه شهد أحدًا وأنه بقي بعد ذلك زمانًا. قال: وحدَّثني ابن أبي الزناد عن محمد بن يوسف أن أنسةَ ماتَ في خلافة أبي بكر الصدِّيق، وكان يُكْنَى أبا مسروح

(3)

. وقال الزُّهْري

(4)

: كان يأذن للناس على النبي صلى الله عليه وسلم.

تميم

(5)

بن الحارث بن قيس السهمي وأخوه قيس، صحابيان جليلان هاجرا إلى الحبشة (وقُتلا بأجنادين.

الحارث

(6)

بن أوس بن عتيك من مهاجرة الحبشة. قتل بأجنادين.

خالد

(7)

بن سعيد بن العاص الأموي من السابقين الأولين، ممن هاجر إلى الحبشة) وأقام بها بضعَ عشرة سنةً، ويقال: إنه كان على صنعاء من جهة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمَّره الصدِّيقُ على بعض الفتوحات، كما تقدم. قُتل يوم مَرْج الصُّفَّر في قولٍ، وقيل: بل هرب فلم يُمكّنه الصديقُ من دخول المدينة تعزيرًا

(8)

له، فأقام شهرًا

(9)

في بعض ظواهرها حتى أذن له. ويقال: إن الذي قتله أسلم، وقال (رأيت له) حين قتلته نورًا ساطعًا إلى السماء رضي الله عنه.

سعد

(10)

بن عبادة بن دُلَيْم بن حارثة بن أبي حَزِيمة

(11)

. ويقال حارثة بن حَزِيمة بن ثَعْلَبة بن طَريف بن

(1)

ترجمة - أنسة - في الاستيعاب (1/ 337، 138) وأسد الغابة (1/ 156) والإصابة (1/ 75).

(2)

طبقات ابن سعد (3/ 48).

(3)

في مصادره: أبو مسروح، وقيل: أبو مسرح. قال بشار: قد جَوّد الذهبي تقييده بخطه في تاريخ الإسلام "مُسَرِّح" بضم الميم وفتح السين المهملة وكسر الراء المشددة. وبه قيده ابن نقطة في إكمال الإكمال مستدركًا على الأمير ابن ماكولا، ونقله العلامة ابن ناصر الدين في توضيحه فقال: "كذا قاله ابن نقطة، وذكر أنه نقله من خط أبي بكر ابن الخاضبة، وقيل: كنيته أبو مسروح؛ حكى الوجهين مصعب بن عبد الله الزبيري، وجزم بالثاني إبراهيم الحربي (8/ 166).

(4)

طبقات ابن سعد (3/ 49).

(5)

ترجمة - تميم بن الحارث السهمي - في الاستيعاب (1/ 192 - 193) وأسد الغابة (1/ 257) والإصابة (1/ 184).

(6)

ترجمة - الحارث بن أوس بن عتيك - في الاستيعاب (1/ 281) وأسد الغابة (1/ 379) والإصابة (1/ 274) وفيه: الحارث بن أوس بن عتاب.

(7)

ترجمة - خالد بن سعيد بن العاص - في التاريخ الكبير (3/ 152) والجرح والتعديل (3/ 334) والاستيعاب (2/ 420) وجامع الأصول (13/ 414) ومختصر تاريخ دمشق (7/ 344). وأسد الغابة (2/ 97) والإصابة (3/ 58) وسير أعلام النبلاء (1/ 259) والإصابة (1/ 406 - 407).

(8)

في ط: تعزيزًا؛ تحريف.

(9)

في أ: أشهرًا.

(10)

ترجمة - سعد بن عبادة - في التاريخ الكبير (4/ 44) والجرح والتعديل (4/ 88) والاستيعاب (594) وجامع - الأصول (14/ 168) ومختصر تاريخ دمشق (9/ 235) وتهذيب الأسماء واللغات (6/ 92) وسير أعلام النبلاء (1/ 270) والإصابة (2/ 30).

(11)

في ط: ابن أبي خزيمة، ويقال حارثة بن خزيمة. وفي أ: بن أبي خريمة، ويقال حارثة بن خرم بن خزيمة بن =

ص: 123

الخَزْرج بن ساعدَة بن كَعْب بن الخَزْرج الأنصاري الخزرجي سيِّدهم، أبو ثابت، ويقال: أبو قيس: صحابيٌّ جليلٌ كان أحدَ النقباء ليلة العقبة، وشهد بدرًا في قول عروة وموسى بن عقبة والبخاري

(1)

وابن ماكولا

(2)

. وروى ابن عساكر

(3)

من طريق حجاج بن أرطأة، عن الحكم، عن مِقْسَم، عن ابن عباس: أن راية المهاجرين يوم بدر كانت مع علي، وراية الأنصار مع سعد بن عبادة رضي الله عنهما.

قلت: والمشهور أنَّ هذا كان يوم الفتح، والله أعلم.

وقال الواقدي

(4)

: لم يشهدها لأنه نهشته

(5)

حيةٌ فشغلته عنها بعد أن تجهَّز لها، فضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمه وأجره، وشهد أُحدًا وما بعدها. وكذا قال خليفة بن خياط

(6)

. وكانت له جفنة تدورُ مع النبيّ حيث دار من بيوت نسائه بلحمٍ وثَريدٍ، أو لبن وخبز، أو خبز بسمن، أو بِخلٍّ وزيت، وكان ينادي عند أطمة

(7)

كلّ ليلة لمن أراد القرى. وكان يحسن الكتابةَ بالعربيّ، والرميَ والسباحةَ، وكان يُسمَّى منْ أحسنَ ذلك كاملًا. وقد ذكر أبو عمر بن عبد البر

(8)

ما ذكره غير واحد من علماء التاريخ أنه تخلف عن بيعة الصدّيق حتى خرج إلى الشام فمات بقرية من حوران سنة أربع

(9)

عشرة [وقيل: توفي]

(10)

(في خلافة الصدِّيق. قاله ابن إسحاق والمدائني وخليفة. قال: وقيل في أول خلافة عمر. وقيل سنة أربع عشرة)، وقيل سنة خمس عشرة. وقال الفَلاس وابن بُكَيْر سنة ست عشرة.

قلتُ: أما بيعةُ الصدِّيق، فقد روينا في مسند الإمام أحمد

(11)

أنه سلم للصدِّيق ما قاله من إن الخلفاء من قريش. وأما موته بأرض الشام فمُحقَّقٌ والمشهور أنه بحوران.

قال محمد بن عائذ الدمشقي: عن عبد الأعلى، عن سعيد بن عبد العزيز أنه قال:

أول مدينة فُتحت من الشام بصرى، وبها توفي سعد بن عبادة. وعند كثير من أهل زماننا أنه دفن بقريةٍ

= ثعلبة. وأثبتنا ما في مصادره وتوضيح المشتبه (3/ 222).

(1)

التاريخ الكبير (4/ 44).

(2)

في الإكمال لابن ماكولا (3/ 141) لم يشهد بدرًا.

(3)

تاريخ دمشق (20/ 249) طبعة دار الفكر.

(4)

طبقات ابن سعد (3/ 614).

(5)

نهشه - كمنعه: لسعه. القاموس (نهش).

(6)

تاريخه (ص 135).

(7)

تأطّمُ الليل: ظلمته. اللسان (أطم).

(8)

الاستيعاب (2/ 599).

(9)

في ط: ثلاث؛ وما هنا عن أو الاستيعاب.

(10)

زيادة يقتضيها سياق النص.

(11)

مسند الإمام أحمد (4/ 185) ونص الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "الخلافة في قريش، والحكم في الأنصار

" وإسناده ضعيف، ولكن عبارة "الخلافة في قريش" صحيحة من غير هذا الوجه.

ص: 124

من غوطة دمشق، يقال لها "المنيحة" وبها قبر مشهور به. ولم أر الحافظ ابن عساكر تعرَّض لذكر هذا القبر

(1)

في ترجمته بالكلية، فالله أعلم.

قال ابن عبد البر

(2)

: ولم يختلفوا أنه وجد ميتًا في مغتسله، وقد اخضرَّ جسدُه ولم يشعروا بموته حتى سمعوا قائلًا يقول

(3)

: [من الهزج]

قَتَلْنا سَيِّدَ الخَزْرَ

جِ سَعْدَ بْن عُبَادة

رَمَيْناهُ بسهمين

(4)

فلم يخطئ فؤادَهْ

قال ابن جريج: سمعت عطاءً [يقول] سمعت أن الجنَّ قالوا في سعد بن عبادة هذين البيتين.

له عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديثُ، وكان رضي الله عنه من أشد الناس غيرةً، ما تزوّج امرأةً إلا بكرًا، ولا طلَّق امرأة فتجاسر أحدٌ أن يخطبها بعده.

وقد روي أنّه لما خرج من المدينة قسم ماله بين بنيه، فلما توفي، ولد له ولد، فجاء أبو بكر وعمر إلى ابنه (قيس) بن سعد فأمراه أن يدخل هذا معهم، فقال إني لا أغير ما صنع سعد، ولكن نصيبي لهذا الولد.

سلمة

(5)

بن هشام بن المغيرة، أخو أبي جهل بن هشام، أسلم سلمةُ قديمًا، وهاجر إلى الحبشة، فلما رجع منها حبسه أخوه وأجاعه، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو له في القنوت ولجماعةٍ معه من المستضعفين. ثم انسلّ فلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعد الخندق، وكان معه بها، وقد شهد أجنادين، وقتل بها رضي الله عنه.

ضرار

(6)

بن الأزور الأسدي، كان من الفرسان المشهورين، والأبطال المذكورين، له (مواقف) مشهودة، وأحوال محمودة. ذكر عروة وموسى بن عقبة أنه قتل بأجنادين. له حديث

(7)

في استحباب إبقاء شيء من اللبن في الضرع عند الحلب.

(1)

لقد تعرض ابن عساكر رحمه الله تعالى في أوّل ترجمة سعد بن عبادة من تاريخ دمشق (20/ 237) لذكر هذا القبر وقال: وقيل إن قبره بالمنيحة من إقليم بيت الآبار. وصدق الله تعالى {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76].

(2)

الاستيعاب (2/ 599).

(3)

البيتان في الاستيعاب، وتاريخ دمشق (20/ 266) وأسد الغابة (2/ 258) وسير أعلام النبلاء (1/ 277) وقد أضاف المحقق كلمة (قد) قبل البيت الأول والواو قبل البيت الثاني فتحول وزنه من الهزج إلى مجزوء الرمل - والبيتان - مُخْتلَّي الوزن - في جامع الأصول.

(4)

في الأصلين والاستيعاب: بسهم؛ ولا يستقيم بها الوزن.

(5)

ترجمة - سلمة بن هشام - في الجرح والتعديل (4/ 176) والاستيعاب (643) وجامع الأصول (14/ 192) وأسد الغابة (2/ 435 - 436) والإصابة (2/ 68 - 69).

(6)

ترجمة - ضرار بن الأزور - في الاستيعاب (746) وتاريخ دمشق (24/ 378 - 392) - طبعة دار الفكر - وأسد الغابة (3/ 52) والإصابة (2/ 208 - 209).

(7)

رواه الإمام أحمد في مسنده (4/ 339) والدارمي في سننه (2/ 88) ونصه: عن ضرار بن الأزور رضي الله عنه =

ص: 125

طُلَيْب

(1)

بن عُمَيْر بن وَهْب بن كبير

(2)

بن عبد

(3)

بن قُصَيّ القُرَشي العبدي، أمهُ أروى بنت عبد المطلب عمة النبي صلى الله عليه وسلم. أسلم قديمًا وهاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية، وشهدَ بدرًا، قاله ابن إسحاق والواقدي والزبير بن بكار. ويقال إنه أول من ضرب مشركًا، وذلك أن أبا جهل سبَّ النبي صلى الله عليه وسلم فضربَه طُلَيْب بلَحْي

(4)

جمل فشجَّه. استشهد طليب بأجنادين وقد شاخ رضي الله عنه.

عبد الله

(5)

بن الزبير بن عبد المطلب بن هاشم القرشي (الهاشمي، ابن) عم النبي صلى الله عليه وسلم كان من الأبطال المذكورين، والشجعان المشهورين، قُتل يوم أجنادين بعد ما قتل عشرة من الروم مبارزةً كلهم بطارقةٌ أبطال.

وله من العمر يومئذ بضع وثلاثون سنة.

عبد الله

(6)

بن عمرو الدوسي قتل بأجنادين. (وليس هذا الرجل معروفًا).

عثمان

(7)

بن طلحة العبدري الحجبي، قيل إنه قتل بأجنادين)، والصحيح أنه تأخر إلى ما بعد الأربعين.

= قال: أُهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقحة؛ فأمرني أن أحلبها، فحلبتها فجهدت في حلبها، فقال:"دع داعي اللبن" وإسناده ضعيف.

(1)

ترجمة - طليب بن عمير - في الاستيعاب (772) وتاريخ دمشق (25/ 142) - طبعة دار الفكر - وأسد الغابة (3/ 94) والإصابة (2/ 233) وفيه: طليب بن عمير - بالتصغير - أو عمرو.

(2)

في ط: "وهب بن كثير"، وفي أ:"وهب بن أبي كثير"، وكله تصحيف، والصواب ما أثبتناه من خط الذهبي في تاريخ الإسلام (الورقة 192 من مجلد أيا صوفيا) وهو الذي ينقل منه المصنف، فالمفروض أن يكون ما عند ابن كثير موافقًا لما عند الذهبي. وهذا الذي قاله الذهبي قاله ابن سعد في الطبقات (3/ 123)، وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (4/ 499).

على أنه وقع في سلسلة نسبه خلف بين المصادر، فذكر المصعب الزبيري (نسب قريش 256) وابن حزم في الجمهرة (128)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (25/ 142) وغيرهم أنه:"طليب بن عمير بن وهب بن عبد" ليس فيه "ابن كثير". وذكر يونس بن بكير وغيره عن ابن إسحاق أنه "طليب بن عمير بن وهب بن أبي كبير بن عبد"(تاريخ دمشق 25/ 146)، وكذلك قال ابن عبد البر في الاستيعاب (2/ 772) وابن حجر في الإصابة (2/ 233) وهو في الأصل قول موسى بن عقبة والزهري (كما في أسد الغابة 3/ 94)، وفصّل فيه الفاسي في العقد الثمين (5/ 73)(بشار).

(3)

في ط: "هند" وهو تحريف بَيِّن.

(4)

اللحْي: العظم الذي فيه الأسنان من داخل الفم من الإنسان والحيوان. اللسان (لحا).

(5)

ترجمة - عبد الله بن الزبير - في الاستيعاب (904) وتاريخ دمشق (28/ 137 - 140) وأسد الغابة (3/ 241) والإصابة (2/ 308).

(6)

ترجمة - عبد الله بن عمرو الدوسي - في الاستيعاب (956) وأسد الغابة (3/ 349) والإصابة (2/ 351).

(7)

ترجمة - عثمان بن طلحة - في الاستيعاب (1034) وجامع الأصول (14/ 514) وأسد الغابة (3/ 578) والإصابة (2/ 460).

ص: 126

عتاب

(1)

بن أسيد بن أبي العيص بن أمية الأموي أبو عبد الرحمن أمير مكة نيابةً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمله عليها عامَ الفتح، وله من العمر عشرون سنة، فحجَّ بالناس عامئذٍ، واستنابه عليها أبو بكر بعده عليه السلام. وكانت وفاته بمكة، قيل: يوم توفي أبو بكر رضي الله عنهما. له حديث واحدٌ رواه أهلُ السنن الأربعة

(2)

.

عكرمة

(3)

بن أبي جهل عمرو بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم أبو عثمان القرشي المخزومي، كان من سادات الجاهلية كأبيه، ثم أسلم عام الفتح بعدما فرَّ، ثم رجع إلى الحق. واستعمله الصدِّيقُ على عُمان حين ارتدُّوا، فظفر بهم كما تقدم. ثم قدم الشام وكان أميرًا على بعض الكراديس، ويقال: إنه لا يُعرفُ له ذنبٌ بعد ما أسلم.

وكان يُقبِّلُ المصحفَ ويبكي ويقول، كلامُ ربي، كلام ربي

(4)

. احتجَّ بهذا الإمام أحمد على جواز تقبيل المصحف ومشروعيته. وقال الشافعي: كان عكرمة محمود البلاء في الإسلام. وقال عروة: قتل بأجنادين. وقال غيره: باليرموك بعد ما وجد به بضع وسبعون ما بين ضربةٍ وطعنةٍ رضي الله عنه.

الفضل

(5)

بن العباس بن عبد المطلب، قيل إنه توفي في هذه السنة، والصحيح أنه تأخر إلى سنة ثماني عشرة.

نعيم بن عبد الله النَّحَّام

(6)

أحد بني عدي، أسلمَ قديمًا قبل عمر، ولم يتهيَّأ له هجرةٌ إلى ما بعد الحُدَيْبية، وذلك لأنه كان فيه بِرٌّ بأقاربه، فقالت له قريش: أقم عندنا على أي دينٍ شئتَ، فوالله

(1)

ترجمة - عتاب بن أسيد - في التاريخ الكبير (7/ 54) والجرح والتعديل (7/ 11) والاستيعاب (1023) وجامع الأصول (14/ 507) واْسد الغابة (3/ 566) والإصابة (2/ 451).

(2)

نص الحديث عن عتاب بن أسيد: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث على الناس من يخرص عليهم كرومهم وثمارهم. رواه أبو داود في سننه رقم (1603) كتاب الزكاة، والترمذي في الجامع الصحيح رقم (644) كتاب الزكاة، والنسائي في سننه رقم (2618) كتاب الزكاة وابن ماجه في سننه رقم (1819) كتاب الزكاة، وفي إسناده ضعف.

(3)

ترجمة - عكرمة بن أبي جهل - في التاريخ الكبير (7/ 48) والجرح والتعديل (7/ 706) والاستيعاب (1082) وجامع الأصول (14/ 535) وأسد الغابة (4/ 70) وتهذيب الأسماء واللغات (1/ 338) ومختصر تاريخ دمشق (17/ 131) وسير أعلام النبلاء (1/ 323) والإصابة (2/ 496).

(4)

الخبر رواه الدارمي في سننه (2/ 440) بلفظ "كان يضع المصحف على وجهه، ويقول: كتاب ربي، كتاب ربي".

(5)

ترجمة - الفضل بن العباس - في التاريخ الكبير (3/ 502) والجرح والتعديل (4/ 48) والاستيعاب (621) وجامع الأصول (15/ 30) وأسد الغابة (2/ 391) وتهذيب الأسماء واللغات (1/ 218) وسير أعلام النبلاء (3/ 444) والإصابة (2/ 47).

(6)

ترجمة - نعيم بن عبد الله - في التاريخ الكبير (8/ 92) والجرح والتعديل (8/ 459) والاستيعاب (1507) وجامع الأصول (15/ 412) وأسد الغابة (5/ 346) والإصابة (3/ 567).

ص: 127

لا يتعرضكَ أحدٌ إلا ذهبت أنفسنا دونك. استشهد يوم أجنادين، وقيل: يوم اليرموك رضي الله عنه.

هَبَّار

(1)

بن الأسود بن أسد أبو الأسود القُرشي الأسدي، هذا الرجل كان قد طعن راحلة زينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم يوم خرجتْ من مكةَ حتى أسقطت، ثم أسلم بعدُ فحَسُنَ إسلامُه، وقُتل بأجنادين رضي الله عنه.

هَبَّار

(2)

بن سُفْيان بن عبد الأسد المَخْزومي ابن أخي أم سلمة. أسلمَ قديمًا وهاجرَ إلى الحبشة واستشُهد يوم أجْنَادين على الصحيح، وقيل: قتل يوم مؤتة، والله أعلم.

هشام

(3)

بن العاص بن وائل السَّهْمي أخو عمرو بن العاص. روى الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "ابنا العاص مؤمنان"

(4)

وقد أسلم هشام قبل عمرو، وهاجر إلى الحبشة، فلما رجع منها احتبس بمكة. ثم هاجر بعد الخندق، وقد أرسله الصديق إلى ملك الروم. وكان من الفرسان. وقتل بأجْنادين، وقيل: باليرموك، والأول أصح، والله أعلم.

أبو بكر الصديق رضي الله عنه تقدم، وله ترجمة مفردة ولله الحمد.

* * *

‌سنة أربع عشرة من الهجرة

استُهلَّتْ هذه السنة، والخليفة عمر بن الخطاب يحثُّ الناسَ ويحرِّضُهم على جهادِ أهل العراق، وذلك لِما بلغَه من قتل أبي عُبَيْد يومَ الجِسْر، وانتظامِ شَمْلِ الفرس، واجتماعِ أمرهم على يَزْدَجِرْد الذي أقاموه من بيت الملك، ونقض أهل الذمة

(5)

بالعراق عهودهم، ونبذهم المواثيق التي كانت عليهم، وآذوا المسلمين وأخرجوا العمال من بين أظهرهم. وقد كتب عمر إلى من هنالك من الجيش أن يتبرزوا من بين أظهرهم إلى أطراف البلاد.

قال ابن جرير رحمه الله: وركب عمر رضي الله عنه في أول يوم من المحرم هذه السنة في الجيوش من

(1)

ترجمة - هبار بن الأسود - في الاستيعاب (1536) وأسد الغابة (5/ 384) والإصابة (3/ 597).

(2)

ترجمة - هبار بن سفيان - في الاستيعاب (1536) وأسد الغابة (5/ 385) والإصابة (3/ 599).

(3)

ترجمة - هشام بن العاص - في الاستيعاب (1539) وأسد الغابة (5/ 41) والإصابة (3/ 604).

(4)

لم يخرجه الترمذي بهذا اللفظ. وإنما أخرجه أحمد في مسنده (2/ 304) و (327) و (353)، والنسائي في فضائل الصحابة (195)، وإسناده حسن. أما الترمذي فقد أخرج في جامعه (3844) من حديث عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أسلم الناس وآمن عمرو بن العاص" وقال عقيبه: غريب (يعني ضعيف).

(5)

في ط: أهل المدينة، والخبر في تاريخ الطبري (3/ 482).

ص: 128

المدينة فنزل على ماءٍ يقال له صِرار

(1)

، فعسكر به عازمًا على غزو العراق بنفسه، واستخلفَ على المدينة عليَّ بن أبي طالب، واستصحب معه عثمان بن عفان وساداتِ الصحابة. ثم عقدَ مجلسًا لاستشارة الصحابة فيما عزم عليه، ونودي أنّ الصلاةَ جامعةٌ، وقد أرسل إلى علي

(2)

فقدم من المدينة، ثم استشارهم فكلهم وافقه

(3)

على (الذَّهاب إلى) العراق، إلا عبد الرحمن بن عوف فإنَّه قالَ له: إنِّي أخشى إن كسرتَ أن يضعفَ المسلمون في سائر أقطار الأرض، وإني أرى أن تبعث رجلًا وترجع أنت إلى المدينة. فأرثا

(4)

عمر والناس عند ذلك واستصوبوا رأيَ ابن عوف. فقال عمر: فمن ترى أن نبعثَ إلى العراق؟ فقال: قد وجدتُه. قال: ومن هو؟ قال الأسد (في براثنه)

(5)

سعد بن مالك الزهري.

فاستجادَ قوله وأرسلَ إلى سعدٍ، فأمَّره على العراق وأوصاه، فقال:

"يا سعد بن وهيب لا يغرنَّك من الله أن قيل: خالُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبُه، فإنَّ اللهَ لا يمحو السيِّءَ بالسيِّءَ، ولكن يمحو السيِّءَ بالحسنِ، وإن الله ليس بينه وبين أحدٍ نسبٌ إلا بطاعته، فالناس شريفُهم ووضيعُهم في ذات اللهِ سواء، الله ربهم وهم عبادُه، يتفاضلون بالعافية، ويدركون ما عند الله بالطاعة، فانظر الأمرَ الذي رأيتَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم منذ بُعِثَ إلى أن فارقنا عليه فالزمْهُ، فإنَّه الأمرُ. هذه عِظتي إيّاك، إن تركتَها ورغبتَ عنها حَبِطَ

(6)

عملُك وكنتَ من الخاسرين".

ولما أراد فراقَه قالَ له: "إنَّكَ سَتَقْدِمُ على أمرٍ شديدٍ، فالصبرَ الصبرَ على ما أصابَكَ ونابكَ، تجتمع

(7)

لك خشية الله، وأعلم أن خشية الله تجتمع في أمرين، في طاعته واجتناب معصيته، وإنَّما أطاعه من أطاعه ببغضِ

(8)

الدنيا وحبِّ الآخرة، وإنما عصيان من عصاه بحبِّ الدنيا وبغض الآخرة. وللقلوب حقائقُ يُنْشئها الله إنشاءً، منها السرُّ، ومنها العلانية، فأما العلانيةُ فأن يكون

(9)

حامدهُ وذامُّه في الحقِّ سواء، وأمّا السرُّ فيعرف بظهور الحكمة من قلبه على لسانه، وبمحبة الناس، ومن محبة الناس فلا

(1)

في أ: ضرار، وما هنا عن تاريخ الطبري. وصرار - بكسر أوله وبالراء المهملة أيضًا في آخره - موضع على ثلاثة أميال من المدينة على طريق العراق. معجم البلدان (3/ 398).

(2)

في أ: عدي؛ تحريف، وما هنا موافق لتاريخ الطبري (3/ 480 - 481).

(3)

في ط: وافقوه.

(4)

كذا في أ، ط ولعلها: فأرفأ بمعنى سكن واطمأن. اللسان (رفأ ورمأ).

(5)

برائن الأسد جمع بُرْثُن: وهو مِخْلبه، وقيل: هو للسبع كالإصبع للإنسان. وقيل: البرثن: الكف بكمالها مع الأصابع. اللسان (برثن).

(6)

حبط: بطل ثواب عمله. اللسان (حبط).

(7)

في أ، ط: تجمع؛ وما هنا عن الطبري.

(8)

في ط: ببعض؛ وهو عكس المعنى المقصود.

(9)

في ط: تكون؛ تحريف.

ص: 129

تزهدْ في التحبُّب فإنَّ النبيّين قد سألوا محبتهم، وإنّ الله إذا أحب عبدًا حبّبه، وإذا أبغض عبدًا بغَّضه، فاعتبر منزلتكَ عندَ الله بمنزلتكَ عند الناس".

قالوا: فسارَ سعدٌ نحوَ العراقِ في أربعة آلاف، ثلاثة آلاف من أهل اليمن، وألف من سائر الناس، وقيل في ستة آلاف. وشَيَّعَهُمْ عمر من صِرارٍ إلى الأعوص

(1)

، وقام عمر في الناس خطيبًا هنالك فقال:

"إن الله إنّما ضربَ لكمُ الأمثالَ، وصرَّفَ لكم القول لتحيى [به] القلوب فإنَّ القلوبَ ميتةٌ في صدورها حتى يُحْييها اللهُ. من عَلِم شيئًا فلينتفع

(2)

به، فإنَّ للعدلِ أمارات وتباشير، فأما الأمارات فالحياء والسخاء والهين واللين. وأما التباشير فالرحمة. وقد جعل الله لكل أمر بابًا، ويسر لكل باب مفتاحًا، فباب العدل الاعتبار؛ ومفتاحه الزهد، والاعتبار ذكر الموت والاستعداد بتقديم الأموال. والزهد أخذ الحق من كلّ أحدٍ قِبَلهُ حقٌّ والاكتفاء بما يكفيه من الكفاف، فإنْ لم يكفه الكفاف لم يُغْنه شيءٌ. إني بينكم وبين الله، وليس بيني وبينه أحدٌ، وإنَّ اللهَ قد ألزمني دفعَ الدعاء عنه فانهوا شكاتكم إلينا، فمن لم يستطع فإلى من يُبَلِّغُناها نأخذ

(3)

له الحقَّ غَيْرَ متعتع"

(4)

.

ثم سار سعد إلى العراق، ورجع عمر بمنْ معه من المسلمين إلى المدينة.

ولما انتهى سعد إلى نهر زَرود، ولم يبق بينه وبين أن يجتمع بالمثنى بن حارثة إلا اليسير، وكل منهما مشتاق إلى صاحبه، انتقض جرح المثنى بن حارثة الذي كان جرحه يوم الجسر فمات رحمه الله ورضي الله عنه. واستخلف على الجيش بشير بن الخصاصية، ولما بلغ سعدًا موتُه ترحَّم عليه وتزوج زوجته سلمى. ولما وصل سعد إلى محلة الجيوش انتهت إليه رياستها وإمرتها، ولم يبق بالعراق أمير من سادات العرب إلا تحث أمره، وأمدَّه عمر بامداد أخر حتى اجتمع معه يوم

(5)

القادسية ثلاثون ألفًا، وقيل ستة وثلاثون.

وقال عمر: والله لأرمينَّ ملوكَ العجم بملوك العرب. وكتب إلى سعد أن يجعل الأمراء على القبائل، والعرفاء على كل عشرة

(6)

عريفًا على الجيوش، وأن يواعدهم إلى القادسية، ففعل ذلك سعدٌ، عرَّفَ العُرفاء، وأمَّر على القبائل، وولَّى على الطلائع، والمقامات، والمَجْنبات والسَّاقات، والرّجّالة، والركبان، كما أمرَ أمير المؤمنين عمر.

قال سيف

(7)

بإسناده عن مشايخه قالوا: وجعل عمر على قضاء الناس عبدَ الرحمن بن ربيعة الباهلي

(1)

في أ: الأعرص، وهو تحريف. والأعوص على أميال من المدينة المنورة. معجم البلدان (1/ 223).

(2)

في ط: فلينفع؛ وما هنا الوجه والطبري (3/ 485).

(3)

في أ: جعلناها فيأخذ.

(4)

متعتع: أي من غير أن يصيبه أذى يقلقه ويزعجه. اللسان (تعع).

(5)

في أ: اجتمع له في القادسية.

(6)

في أ: على كل عشيرة. وفي تاريخ الطبري (3/ 488): فَعشِّر الناس، وهذا يوافق ما أثبتناه.

(7)

الطبري (3/ 489).

ص: 130

ذا النون. وجعل إليه الأقباض وقسمة الفَيْء، وجعلَ داعيةَ الناس وقاصَّهُم سلمانَ الفارسيَّ. وجعل الكاتبَ زيادَ بن أبي سفيان.

قالوا: وكان في هذا الجيش كلّه من الصحابة ثلاثمئة وبضعة عشر صحابيًا، منهم بضعة وسبعون بدريًا، وكان فيه سبعمئة من أبناء الصحابة رضي الله عنهم.

وبعث عمر كتابًا إلى سعد يأمره بالمبادرة إلى القادسية، والقادسية باب فارس في الجاهلية، وأن يكون بين الحجر والمدر، وأن يأخذ الطرقَ والمسالكَ على فارس، وأن يبدروهم بالضرب والشدة، ولا يهولنك

(1)

كثرةُ عددهم وعُدَدهم، فإنَّهم قومٌ خَدَعةٌ مَكَرةٌ، وإن أنتم صبرتم واحتسبتم

(2)

ونويتم الأمانة

(3)

رجوتُ أن تُنْصروا عليهم، ثم لم يجتمع لهم شملهم أبدًا إلَّا أن يجتمعوا، وليست معهم قلوبهم. وإن كانت الأخرى فارجعوا إلى ما وراءكم حتى تصلوا (إلى) الحجر فإنكم عليه

(4)

أجرأ، وإنهم عنه أجبن، وبه أجهل، حتى يأتي اللهُ بالفتح عليهم ويردَّ لكم الكرّة. وأمره بمحاسبة نفسه وموعظة جيشه، وأمرهم بالنية الحسنة والصبر فإنَّ النصر يأتي من الله على قدر النية، والأجر على قدر الحسبة، وسلوا الله العافية، وأكثروا من قول لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، واكتب إليّ بجميع أحوالكم وتفاصيلها، وكيف تنزلون وأين يكون منكم عدوكم، واجعلني بكتبك إليَّ كأني أنظر إليكم، واجعلني من أمركم على الجلية، وخفِ الله وارْجُهُ ولا تدل بشيء

(5)

، واعلم أن الله قد توكَّل لهذا الأمر بما لا خُلْفَ له، فاحذر أن يصرفه عنك ويستبدل بكم غيركم.

فكتب إليه سعد يصفُ له كيفيةَ تلك المنازل والأراضي بحيث كأنه يشاهدها، وكتب إليه يخبره بأن الفرس قد جرَّدُوا لحربه رُسْتم وأمثاله، فهم يطلبوننا ونحن نطلبهم، وأمر الله بعدُ ماضٍ، وقضاؤه مسلَّم

(6)

، إلى ما قدِّر لنا وعلينا، فنسأل الله خيرَ القضاء وخيرَ القدر في عافية.

وكتب إليه عمر: قد جاءني كتابك وفهمته، فإذا لقيتَ عدوَّك ومنحكَ الله أدبارهم، فإنه قد أُلْقيَ في رُوعي أنَّكم ستهزمونهم فلا تشكَّنَّ في ذلك، فإذا هزمتهم فلا تنزع عنهم حتى تقتحم عليهم المدائن فإنه خرابُها إن شاء الله. وجعل عمر يدعو لسعدٍ خاصة وله وللمسلمين عامةً.

(1)

في أ: ولا يهولنكم.

(2)

في ط: وأحسنتم، وما هنا عن الطبري.

(3)

في أ: الإنابة.

(4)

في أ: عليهم، وفي تاريخ الطبري: عليها.

(5)

في أ: ولا تذل لشيء. وما هنا موافق للطبري.

(6)

في أ: مسلم لنا إلى.

ص: 131

ولما بلغ سعد العُذَيْب

(1)

اعترضَ للمسلمين جيشٌ للفرس مع شيرزاذ بن آزاذويه

(2)

، فغنموا مما معه شيئًا كثيرًا ووقع منهم موقعًا كبيرًا، فَخَمَّسَها سعد وقسمَ أربعةَ أخماسها في الناس واستبشر الناسُ بذلك وفرحوا، وتفاءلوا، وأفرد سعد سرية تكون حياطة لمن معهم من الحريم، على هذه السرية غالب بن عبد الله الليثي.

[فصل في] غَزْوة القادسيَّة

ثم سار سعدٌ فنزلَ القادسيةَ، وبثَّ سراياه، وأقامَ بها شهرًا لم ير أحدًا من الفرس، فكتب إلى عمر بذلك، والسرايا تأتي بالمِيرة. من كلِّ مكانٍ، فعجَّت رعايا الفُرْس من أطراف بلادهم إلى يَزْدَجِردَ من الذين يلقون (من المسلمين) من النهب والسبي. وقالوا: إن لم تنجدونا وإلا أعطينا (ما) بأيدينا وسلَّمنا إليهم الحصون. واجتمع رأي الفرس على إرسال رُسْتم إليهم، فبعث إليه يَزْدَجزدَ فأمَّره على الجيش فاستعفى رستم من ذلك، وقال: إن هذا ليس برأي في الحرب، إن إرسال الجيوش بعد الجيوش أشدّ على العرب من أن يكسروا جيشًا كثيفًا مرة واحدة. فأبى الملك إلا ذلك. فتجهز رستم للخروج

(3)

. ثم بعث سعد كاشفًا إلى الحيرة (وإلى صلوبا) فأتاه الخبر بأن الملكَ قد أمَّر على الحرب رُسْتم بن الفرخزاذ الأرمني، وأمدَّه بالعساكر. فكتب سعد إلى عمر بذلك فكتب إليه عمر: لا يكربنك ما يأتيك

(4)

عنهم، ولا ما يأتونك به، واستعن بالله وتوكل عليه، وابعث إليه رجالًا من أهل النظر والرأي والجَلَد يدعونه، فإن الله جاعلٌ دعاءهم توهينًا لهم وفَلْجأ

(5)

عليهم، واكتب إليَّ في كل يوم. ولما اقترب رُسْتم بجيوشه وعسكر بساباط

(6)

كتب سعد إلى عمر يقول: إن رستم قد عسكر بساباط وجرَّ الخيول والفيول وزحف علينا بها، وليس شيء أهمَّ عندي، ولا أكثر ذكرًا مني لما أحببت أن أكون عليه من الاستعانة

(7)

والتَّوكُّل. وعبأ رستم فجعل على المقدمة وهي أربعون ألفًا الجالنوس، وعلى الميمنة الهرمزان، وعلى الميسرة مهران بن بهرام وذلك ستون ألفًا، وعلى الساقة البندران في عشرين ألفًا، فالجيش كله ثمانون ألفًا فيما ذكره سيف

(8)

وغيره.

(1)

العذيب: ماء بين القادسية والمغيثة .. وكانت مسلحة للفرس. معجم البلدان (4/ 92).

(2)

في ط: اراذويه. وفي تاريخ الطبري (3/ 492): آزاذ.

(3)

في أ: فعزم رستم على الخروج.

(4)

في أ: ما بلغك.

(5)

في أ: وملجأ. والفلج: الظَّفرُ والفَوْزُ. اللسان (فلج).

(6)

ساباط، يقال ساباط كسرى: بالمدائن موضع معروف. معجم البلدان (3/ 166).

(7)

في أ: الاستغاثة.

(8)

تاريخ الطبري (3/ 505).

ص: 132

وفي رواية كان رستم في مئة ألف وعشرين ألفًا، يتبعها ثمانون ألفًا، وكان معه ثلاثة وثلاثون فيلًا منها فيل أبيض كان لسابور، فهو أعظمها وأقدمها، وكانت الفيلة تألفه. ثم بعث سعدٌ جماعةً من السادات منهم النعمان بن مُقرِّن، وفُرات بن حَيَّان، وحَنْظلة بن الربيع التميمي، وعطارد بن حاجب، والأشعث بن قيس، والمغيرة بن شعبة، وعمرو بن معد يكرب، يدعون رستم إلى الله عز وجل. فقال لهم رستم: ما أقدمكم؟ فقالوا: جئنا لموعود الله إيانا، أخذ بلادكم وسبي نسائكم (وأبنائكم) وأخذ أموالكم، فنحن على يقين من ذلك، وقد رأى رستم في منامه كأنَّ ملكًا نزل من السماء فختم على سلاح الفرس كله ودفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمر.

وذكر سيف بن عمر

(1)

أنَّ رستم طاول سعدًا في اللقاء حتى كان بين خروجه من المدائن وملتقاه سعدًا بالقادسية أربعة أشهر، كل ذلك لعله يضجر سعدًا ومن معه

(2)

ليرجعوا، ولولا أن الملك استعجله ما التقاه، لما يعلم من غلبة المسلمين لهم ونصرهم عليهم، لما رأى في منامه، ولما يتوسَّمه، ولما سمع منهم، ولما عنده من علم النجوم الذي يعتقد صحته في نفسه لما له من الممارسة لهذا الفن.

ولما دنا جيش رستم من سعد أحبَّ سعدٌ أن يطَّلعَ على أخبارهم على الجلية، فبعثَ سرية لتأتيه برجلٍ من الفرس وكان في السرية طُلَيْحة الأسدي الذي كان ادَّعى النبوةَ ثم تاب. وتقدَّمَ الحارثُ مع أصحابه حتى رجعوا. فلما بعث سعدٌ السريةَ اخترقَ طُلَيْحةُ الجيوشَ والصفوفَ، وتَخطَّى الألوفَ، وقتل جماعة من الأبطال حتّى أسرَ أحدَهم وجاء به لا يملكُ من نفسه شيئًا، فسأله سعدٌ عن القوم فجعل يصف شجاعةَ طليحة، فقال: دَعْنا من هذا وأخبرنا عن رستم، فقال: هو في مئة ألف وعشرين ألفًا، ويتبعها مثلها. وأسلم الرجل من فوره رحمه الله.

[رستم والمغيرة بن شعبة]

قال سيف

(3)

عن شيوخه: ولما تواجه الجيشان بعث رستم إلى [سعد] أن يبعثَ إليه برجلٍ عاقلٍ عالمٍ بما أسأله عنه. فبعث إليه المغيرةَ بن شعبة رضي الله عنه. فلما قدم عليه جعل رستم يقول له: إنكم جيراننا وكنا نُحسن

(4)

إليكم ونكفُّ الأذى عنكم، فارجعوا إلى بلادكم، ولا نمنع تجارتكم من الدخول إلى بلادنا. فقال له المغيرة: إنّا ليس طلبنا الدنيا، وإنما همنا

(5)

وطلبنا الآخرة، وقد بعث الله إلينا رسولًا قال له: إني قد سلطت هذه الطائفة على من لم يدنْ بديني (فأنا) منتقم بهم، منهم، وأجعل لهم

(1)

نفس المصدر (3/ 509).

(2)

في أ: ومن تبعه.

(3)

تاريخ الطبري (3/ 521 - 522).

(4)

في أ: ونحن محسنون.

(5)

في أ: وإنما جئنا.

ص: 133

الغلبةَ ما داموا مُقِرِّين به، وهو دين الحق، لا يرغبُ عنه أحدٌ إلا ذلَّ، ولا يعتصم به إلا عزَّ. فقال له رستم: فما هو؟ فقال: أما عموده الذي لا يصلح شيء منه إلا به فشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، والإقرار بما جاء من عند الله، فقال ما أحسن هذا؟! وأي شيء أيضًا. قال وإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله. قال: وحسن أيضًا، وأي شيء أيضًا؟ قال: والناس بنو آدم، فهم إخوة لأب وأم، قال: وحسن أيضًا. ثم قال رستم: أرأيت إن دخلنا في دينكم أترجعون عن بلادنا؟ قال: إي والله ثم لا نقرب بلادكم إلا في تجارة أو حاجة. قال: وحسن أيضًا. (قال): ولما خرج المغيرة من عنده ذاكر رستم رؤساء قومه في الإسلام فأنِفُوا ذلك وأَبَوْا أن يدخلوا فيه، قبَّحهم الله وأخزاهم، وقد فعل.

[رستم وربعي بن عامر]

قالوا

(1)

: ثم بعث إليه سعد رسولًا آخر بطلبه وهو رِبْعي بن عامر، فدخل عليه وقد زيَّنوا مجلسَهُ بالنمارق المذهَّبة"

(2)

والزرابي الحرير

(3)

، وأظهر اليواقيت واللآلئ الثمينة، والزينة العظيمة، وعليه تاجه وغير ذلك من الأمتعة الثمينة. وقد جلس على سرير من ذهب. ودخل رِبْعي بثياب صفيقة

(4)

وسيف وترس وفرس قصيرة، ولم يزل راكبها حتى داس بها على طرف البساط، ثم نزل وربطها ببعض تلك الوسائد، وأقبل وعليه سلاحه ودرعه وبيضته على رأسه. فقالوا له: ضع سلاحك. فقال: إني لم آتكم، وإنما جئتكم حين دعوتموني، فإن تركتموني هكذا وإلَّا رجعت. فقال رستم: ائذنوا له، فأقبل يتوكأ على رمحه فوق النمارق، فخرق عامتها، فقالوا له: ما جاء بكم؟ فقال: الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جَور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قَبِلَ ذلك (قبلنا) منه ورجعنا عنه، ومن أبى قاتلناه أبدًا حتى نفضي إلى موعود

(5)

الله. قالوا: وما موعود الله؟ قال: الجنةُ لمن ماتَ على قتال منْ أبى، والظفرُ لمن بقي. فقال رستم: قد سمعتُ مقالتكم فهل لكم أن تؤخروا هذا الأمر حتى ننظرَ فيه وتنظروا؟ قال: نعم! كم أحبُّ إليكم؟ يومًا أو يومين؟ قال: لا، بل حتى نكاتب أهل رأينا ورؤساء قومنا. فقال: ما سنَّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نؤخّر الأعداء عند اللقاء أكثر من ثلاث، فانظر في أمرك وأمرهم واختر واحدة من ثلاث بعد الأجل، فقال: أسيدهم أنت؟ قال! لا: ولكن المسلمون كالجسد الواحد يجير أدناهم على أعلاهم. فاجتمع رستم برؤساء قومه فقال: هل رأيتم قط أعزَّ وأرجحَ من كلام هذا الرجل؟ فقالوا: معاذَ الله أن تميل إلى شيء من هذا، وتدعَ دينك إلى هذا الكلب، أما ترى إلى ثيابه، فقال: ويلكم لا تنظروا إلى الثياب،

(1)

الخبر في تاريخ الطبري (3/ 518 - 519).

(2)

النمارق: الوسائد. اللسان (نمرق).

(3)

الزرابي: البسط، وقيل كل ما بسط واتكئ عليه. وقيل هي الطنافس وقيل هي النمارق. اللسان (نمرق).

(4)

في أ: ضعيفة. والصفيقة: السخيفة الرثة.

(5)

في أ: موعد.

ص: 134

وانظروا إلى الرأي والكلام والسيرة. إن العربَ يستخفّون بالثياب والمأكل، ويصونون الأحساب.

ثم بعثوا يطلبون في اليوم الثاني رجلًا فبعث إليهم حذيفة بن محصن فتكلم نحو ما قال ربعي.

وفي اليوم الثالث المغيرة بن شعبة فتكلم بكلام حسن طويل. قال فيه رستم للمغيرة: إنما مَثَلكُم في دخولكم أرضنا كمثل الذباب رأى العسل. فقال منْ يوصلني إليه وله درهمان؟ فلما سقط عليه غرق فيه، فجعل يطلب الخلاص فلا يجده، وجعل يقول منْ يُخلِّصني وله أربعة دراهم؟ ومَثَلُكُم كمثل ثعلب ضعيفٍ دخل جحرًا في كَرْمٍ، فلما رآه صاحب الكَرْم ضعيفًا رحمه فتركه، فلما سمنَ أفسدَ شيئًا كثيرًا فجاء بجيشه، واستعانَ عليه بغلمانه فذهبَ ليخرجَ فلم يستطع لسمنه فضربه حتى قتله، فهكذا تخرجون من بلادنا. ثم استشاط غضبًا وأقسم بالشمس لأقتلنكم غدًا (فقال المغيرة: ستعلم. ثم قال رستم للمغيرة: قد أمرتُ لكم بكسوةٍ ولأميركم بألف دينار وكسوة ومركوب وتنصرفون عنا. فقال المغيرة: أبعد أن أوهنَّا ملككم وضعضعنا

(1)

عزَّكم، ولنا مدة نحو بلادكم ونأخذ الجزية منكم عن يدٍ وأنتم صاغرون، وستصيرون لنا عبيدًا على رغمكم؟! فلما قال ذلك استشاط غضبًا).

وقال ابن جرير

(2)

: حدَّثني محمد بن عبد الله بن صفوان الثقفي، حدَّثنا أمية بن خالد، حدَّثنا أبو عوانة، عن حُصَين بن عبد الرحمن. قال قال أبو وائل: جاء سعد حتى نزل القادسية ومعه الناس قال: لا أدري لعلنا لا نزيد على سبعة آلاف (أو ثمانية آلاف) بين ذلك، والمشركون ثلاثون ألفًا، أو نحو ذلك، فقالوا: لا يَدَ لَكُمْ ولا قوةَ ولا سلاح، ما جاء بكم؟ ارجعوا. قال: قلنا ما نحن براجعين،، فكانوا يضحكون من نَبْلِنا

(3)

ويقولون دوك دوك ويشمهونها بالمغازل. فلما أبينا عليهم أن نرجع قالوا: ابعثوا إلينا رجلًا من عقلائكم يبين لنا ما جاء بكم. فقال المغيرة بن شعبة: أنا، فعبر إليهم فقعد مع رستم على السرير، فنخروا

(4)

وصاحوا، فقال: إن هذا لم يزدني رفعةً ولم يُنْقص صاحبكم. فقال رستم: صدق، ما جاء بكم؟ فقال: إنّا كنّا قومًا في شرٍّ وضلالةٍ، فبعث الله إلينا نبيًا فهدانا الله به ورزقنا على يديه، فكان فيما رزقنا حبةٌ تنبتُ في هذا البلد فلما أكلناها وأطعمناها أهلينا قالوا: لا صبرَ لنا عنها، أنزلونا هذه الأرضَ حتى نأكلَ من هذه الحبة. فقال رستم إذًا نقتلكم. قال إن قتلتمونا دخلنا الجنة، وإن قتلناكم دخلتم النار، وأدَّيتم الجزية (قال: فلما قال: وأديتم الجزية) نخزوا

(5)

وصاحوا وقالوا: لا صلحَ بيننا وبينكم. فقال المغيرة: تعبرون إلينا أو نعبر إليكم؟ فقال رستم: بل نعبر إليكم، فاستأخر المسلمون حتى عبروا، فحملوا عليهم فهزموهم.

(1)

في ط: وضعفنا.

(2)

تاريخه (3/ 496).

(3)

في أ: قلتنا.

(4)

نَخَرَ - يَنْخِر ويَنْخُر - نخيرًا: مدّ الصوت والنَّفَس في خياشيمه. اللسان (نخر).

(5)

نخزوا: كخروا.

ص: 135

وذكر سيف

(1)

: أن سعدًا كان به عِرْق النَّسا يومئذ، وأنَّه خطبَ الناسَ وتلا قوله تعالى:{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105]، وصلَّى بالناس الظهرَ ثم كبَّر أربعًا، وحملوا بعد أن أمرهم أن يقولوا

(2)

: لا حول ولا قوة إلا بالله، في طردهم إياهم، وقتلهم لهم. وقعودهم لهم كل مرصد، وحصرهم لبعضهم في بعض الأماكن حتى أكلوا الكلاب والسنانير. وما رد شاردهم حتى وصل إلى نهاوند، ولجأ أكثرهم إلى المدائن، ولحقهم المسلمون إلى أبوابها.

وكان سعد قد بعث طائفةً من أصحابه إلى كسرى يدعونه إلى الله قبل الوقعة فاستأذنوا على كسرى فأذن لهم، وخرجَ أهلُ البلد ينظرون إلى أشكالهم وأرديتهم على عواتقهم وسياطهم بأيديهم، والنعال في أرجلهم، وخيولهم الضعيفة، وخبطها الأرض بأرجلها. وجعلوا يتعجبون منها

(3)

غاية العجب كيف مثل هؤلاء يقهرون جيوشَهم مع كثرة عددها وعُددها.

ولما استأذنوا على الملك يَزْدجردَ أذن لهم وأجلسهم بين يديه، وكان متكبِّرًا قليل الأدب، ثم جعل يسألهم عن ملابسهم هذه ما اسمها؟ عن الأردية، والنعال، والسياط، ثم كلما قالوا له شيئًا من ذلك تفاءل، فردَّ الله فأله على رأسه. ثم قال لهم: ما الذي أقدمكم هذه البلاد؟ أظننتم أنا لما تشاغلنا بأنفسنا اجترأتم علينا؟. فقال له النعمان بن مُقرِّن: إن الله رحمنا فارسل إلينا رسولًا يدلُّنا على الخير ويأمرنا به، ويعرفنا الشر وينهانا عنه، ووعدنا على إجابته خير الدنيا والآخرة. فلم يدع إلى ذلك قبيلة إلَّا صاروا فرقتين فرقة تقاربه وفرقة تباعده، ولا يدخل معه في دينه إلا الخواصّ، فمكث كذلك ما شاء الله أن يمكث، ثم أمر أن ينهد إلى منْ خالفه من العرب ويبدأ بهم، ففعل فدخلوا معه جميعًا على وجهين مكروه عليه فاغتبط، وطائع

(4)

إياه فازداد. فعرفنا جميعًا فضلَ ما جاء به على الذي كنا عليه من العداوة والضيق، وأمرنا أن نبدأ بمن يلينا من الأمم فندعوهم إلى الإنصاف، فنحن ندعوكم إلى ديننا وهو دين الإسلام حَسَّن

(5)

الحسنَ وقبَّح القَبيح كله، فإن أبيتم فأمرٌ من الشرِّ هو أهونُ من آخر شرٍّ منه الجزيةُ، فإن أبيتم فالمناجزة، وإن أجبتم إلى ديننا خلفنا فيكم كتاب الله وأقمناكم عليه على أن تحكموا بأحكامه ونرجع عنكم، وشأنكم وبلادكم، وإن أتيتمونا بالجزية

(6)

قبلنا ومنعناكم وإلا قاتلناكم.

قال: فتكلم يَزْدَجرد فقال: إني لا أعلم في الأرض أمةً كانت أشقى ولا أقل عددًا ولا أسوأ ذات بينٍ منكم، قد كنّا نوكل بكم قرى الضواحي ليكفوناكم، لا تغزوكم فارس ولا تطمعون أن تقوموا لهم. فإن

(1)

تاريخ الطبري (3/ 531).

(2)

في أ: وحملوا بعدها وهم يقولون: لا حول ولا قوة إلا بالله.

(3)

في أ: منهم.

(4)

في أ: وطامع؛ وهو تحريف.

(5)

في أ: فحسَّن.

(6)

في أ: وإن أبقيتمونا فالجزية.

ص: 136

كان عددكم كَثُرَ فلا يغرَّنكم منا، وإن كان الجهْدُ دعاكم فرضنا لكم قوتًا (إلى) خصبكم وأكرمنا وجوهكم وكسوناكم وملَّكنا عليكم ملكًا يرفق بكم. فأسكت القوم.

فقام المغيرة بن شعبة فقال: أيها الملك إن هؤلاء رؤوسُ العرب ووجوهُهم، (وهم) أشراف

(1)

يستحيون من الأشراف، وإنما يكرم الأشراف الأشراف، ويعظم حقوق الأشراف الأشراف، وليس كل ما أرسلوا له جمعوه لك، ولا كل ما تكلمت به أجابوك عليه

(2)

، وقد أحسنوا ولا يحسن بمثلهم إلا ذلك، فجاوبني فأكون (أنا) الذي أبلغك ويشهدون على ذلك. إنك قد وصفتنا صفةً لم تكن بها عالمًا، فأما ما ذكرت من سوء الحال، فما كان أسوأ حالًا منا، وأما جوعنا، فلم يكن يشبه

(3)

الجوع، كنا نأكل الخنافس والجعلان والعقارب والحيات، ونرى ذلك طعامنا، وأما المنازل فإنما هي ظهر الأرض، ولا نلبس إلا ما غزلنا من أوبار الإبل وأشعار الغنم. ديننا أن يقتل بعضنا بعضًا، وأن يبغي

(4)

بعضنا على بعض، وإن كان أحدنا ليدفن ابنته وهي حية كراهية أن تأكل من طعامه، وكانت حالنا قبل اليوم على ما ذكرتُ لك وفي المعاد على ما ذكرتُ لك، فبعث الله إلينا رجلًا معروفًا نعرف نسبَه ونعرفُ وجهَه ومولدَه، فأرضه

(5)

خير أرضنا، وحَسَبُه خيرُ أحسابنا، وبيتُه خيرُ بيوتنا، وقبيلتُه خيرُ قبائنا، وهو نفسه كان خيرَنا في الحال التي كان فيها أصدقنا وأحلمنا، فدعانا إلى أمرٍ فلم يجبْه أحدٌ. أول تربٍ كانَ له الخليفة من بعده، فقال وقلنا، وصدق وكذبنا، وزاد ونقصنا، فلم يقل شيئًا إلا كان، فقذف الله في قلوبنا التصديقَ له واتّباعه، فصار فيما بيننا وبين ربِّ العالمين. فما قالَ لنا فهو قولُ الله، وما أمرنا فهو أمرُ الله، فقال لنا: إن ربَّكم يقول: [إني] أنا اللهُ وحدي لا شريكَ لي، كنتُ إذ لم يكن شيءٌ، وكل شيءٍ هالك إلا وجهي، وأنا خلقتُ كل شيءٍ، وإليَّ يصيرُ كل شيء، وإنَّ رحمتي أدركَتْكُم فبعثتُ إليكم هذا الرجلَ لأدلَّكم على السبيل التي أنجيكم بها بعد الموت من عذابي، ولأحلَّكُمْ داري، دارَ السلام. فنشهد عليه أنه جاءَ بالحق من عند الحق. وقال: منْ تابعكم على هذا فله ما لكم وعليه ما عليكم، ومنْ أبَى فاعْرِضُوا عليه الجزيةَ، ثم امنعوه ممَّا تمنعون منه أنفسَكمِ، ومنْ أبى فقاتلوه فأنا الحكمُ بينكم، فمنْ قُتل منكم أدخلته جنَّتي، ومنْ بقيَ منكم أعقبته النصر على منْ ناوأه. فاخْتَرْ إنْ شئتَ الجزيةَ وأنت صاغرٌ، وإن شئت فالسيفُ، أو تُسْلم فتُنْجي نفسَكَ.

فقال يَزْدَجِرْدُ: استقبلتني بمثل هذا؟ فقال: ما استقبلت إلَّا منْ كلَّمني، ولو كلَّمني غيرُك لم أستقبلك به. فقال: لولا أن الرسل لا تُقْتلُ لقتلتكم، لا شيء لكم عندي. وقال: ائتوني بوقْرٍ من تُراب

(1)

في أ: والأشراف.

(2)

في أ: عنه.

(3)

في أ: شبه.

(4)

في أ: يغير.

(5)

في أ: وارضه.

ص: 137

فاحملوه على أشرف هؤلاء، ثم سوقوه حتى يخرج من أبيات

(1)

المدائن. أرجعوا إلى صاحبكم فأعلموه أني مرسلٌ إليه رستم حتى يدفنه

(2)

وجنده في خندق القادسية وينكِّل به وبكم من بعد، ثم أورده بلادكم حتى أشغلكم في أنفسكم بأشدّ مما نالكم من سابور.

ثم قال: من أشرفُكم؟ فسكتَ القوم، فقال عاصم بن عمرو وافْتأَتَ

(3)

ليأخذ التراب: أنا أشرفهم، أنا سيدُ هؤلاء فحمّلنيه، فقال: أكذلك؟ قالوا: نعم. فحمله على عنقه، فخرج به من الإيوان والدار حتى أتى راحلته فحمله عليها، ثم انجذب في السير فأتوا

(4)

به سعدًا وسبقهم عاصم فمر بباب قُدَيْس

(5)

فطواه فقال

(6)

بَشِّروا الأمير بالظفر، ظفرنا إن شاء الله (تعالى، ثم مضى حتى جعل التراب في الحِجْر، ثم رجع فدخل على سعد، فأخبره الخبر. فقال: أبشروا) فقد واللّه أعطانا الله أقاليد ملكهم.

وتفاءلوا بذلك أخذ بلادهم. ثم لم يزل أمر الصحابة يزداد في كلّ يومٍ عُلوًّا وشَرَفًا ورفعةً، وينحط أمرُ الفرس سُفلًا وذُلًا ووهنًا. ولما رجعَ رستم إلى الملك يسأله

(7)

عن حال من رأى من المسلمين؟ فذكر (له) عقلهم وفصاحتهم وحدَّةَ جوابهم، وأنهم يرومون أمرًا يوشك أن يدركوه. وذكر ما أمر به أشرفهم من حمل التراب وأنه استحمق أشرفهم في حمله التراب على رأسه، ولو شاء اتقى بغيره وأنا لا أشعر. فقال له رستم: إنه ليس أحمق، وليس هو بأشرفهم، إنما أراد أن يفتدي قومه بنفسه، ولكن والله ذهبوا بمفاتيح أرضنا. وكان رستم مُنجِّمًا، ثم أرسل رجلا وراءهم وقال: إن أدرك التراب فردَّه تداركنا أمرنا، وإن ذهبوا به إلى أميرهم غلبونا على أرضنا.

قال: فساق وراءهم فلم يدركهم بل سبقوه إلى سعد بالتراب. وساء ذلك فارس وغضبوا من ذلك أشدَّ الغضب واستهجنوا رأي الملك.

‌فصل

كانت وقعةُ القادسية وقعةً عظيمة لم يكن بالعراق أعجبَ منها، وذلك أنه لما تواجه الصفان كان سعد رضي الله عنه قد أصابه عِرْقُ النَّسا، ودمامل في جسده، فهو لا يستطيع الركوب، وإنما هو في قصر متكئ على (صدره فوق) وسادة وهو ينظر إلى الجيش ويدبّر أمره، وقد جعل أمر الحرب إلى خالد بن

(1)

في تاريخ الطبري: باب.

(2)

في تاريخ الطبري: حتى يدفنكم ويدفنه.

(3)

افتأت: اختلق. اللسان (فأت).

(4)

في ط: ليأتوا.

(5)

قُدَيْس: موضع بناحية القادسية نزله سعد لما قدم القادسية بينما نزل زُهرة حيال قنطرة العتيق وموضع القادسية اليوم. معجم البلدان (4/ 314).

(6)

في ط: وقال.

(7)

في أ: سأله.

ص: 138

عُرْفُطة، وجعل على الميمنة جرير بن عبد الله البجلي، وعلى الميسرة قيس بن مكشوح، وكان قيس والمغيرة بن شعبة قد قدما على سعد مددًا من عند أبي عبيدة من الشام بعدما شهدا وقعة اليرموك.

وزعم ابن إسحاق أن المسلمين كانوا ما بين السبعة آلاف إلى الثمانية آلاف، وأن رستمًا

(1)

كان في ستين ألفًا، فصلَّى سعدٌ بالناس الظهر، ثم خطب الناسَ فوعظهم وحثهم وتلا قوله تعالى:{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105] وقرأ القُرّاءُ آياتِ الجهاد وسُوَرَهُ، ثم كبَّر سعدٌ أربعًا، ثم حملوا بعد الرابعة، فاقتتلوا حتى كان الليل فتحاجزوا، وقد قتل من الفريقين بشرٌ كثيرٌ، ثم أصبحوا إلى مواقفهم فاقتتلوا يومهم ذلك وعامة ليلتهم، ثم أصبحوا (كما أمسوا) على

(2)

مواقفهم، فاقتتلوا حتى أمسوا، ثم اقتتلوا في اليوم الثالث كذلك، وأمست هذه الليلة تسمى ليلة الهَرير، فلما أصبح اليومُ الرابعُ اقتتلوا قتالا شديدًا وقد قاسوا من الفيلة بالنسبة إلى الخيول العربية بسبب نفرتها منها أمرًا بليغًا، وقد أباد الصحابة الفيلةَ ومنْ عليها، وقلعوا عيونها، وأبلى جماعةٌ من الشجعان في هذه الأيام مثل طُلَيْحة الأسدي، وعمرو بن مَعْديكرب، والقَعْقاع بن عمرو، وجَرير بن عبد الله البَجَلي، وضِرار بن الخَطاب، وخالد بن عرفطة، وأشكالهم وأضرابهم، فلما كان وقت الزوال من هذا اليوم ويسمى يوم القادسية، وكان يوم الإثنين من المحرم سنة أربعَ عشرةَ كما قاله سيف بن عمر التميمي، هبت ريحٌ شديدةٌ فرفعت

(3)

خيامَ الفرس عن أماكنها وألقتْ سريرَ رستم الذي هو منصوب له، فبادر فركب بغلته وهرب، فأدركه المسلمون فقتلوه وقتلوا الجالينوس مقدمَ الطلائع القادسية، وانهزمت الفرسُ، وللّه الحمد والمنة عن بكرة أبيهم، ولحقهم المسلمون في أقفائهم فقُتل يومئذ المُسلْسَلون بكمالهم وكانوا ثلاثين ألفًا، وقتل في المعركة عشرة آلاف، وقتلوا قبل ذلك قريبًا من ذلك. وقُتل من المسلمين في هذا اليوم وما قبله من الأيام ألفان وخمسمئة رحمهم الله. وساق المسلمون خلفَ المنهزمين حتى دخلوا وراءهم مدينة

(4)

الملك وهي المدائن التي فيها الإيوان الكسروي، وقد أذن لمن ذكرنا عليه، فكان منهم إليه ما قدمنا.

وقد غنم المسلمون من وقعةِ القادسية هذه من الأموال والسلاح ما لا يُحدُّ ولا يُوصف كثرةً، فحصلت الغنائمُ بعد صرف الأسلاب وخُمِّستْ وبُعث بالخمس والبشارة إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وقد كان عمر رضي الله عنه يستخبرُ عن أمر القادسية كلَّ منْ لقيهُ من الركبان، ويخرج من المدينة إلى ناحية العراق يستنشقُ الخبرَ، فبينما

(5)

(هو ذات) يومٍ من الأيام إذا هو براكبٍ يلوحُ من بُعْدٍ، فاستقبلهُ عمرُ فاستخبره، فقال له: فتحَ الله على المسلمين بالقادسية وغنموا غنائمَ كثيرةً،

(1)

كذا في الأصلين.

(2)

في أ: إلى.

(3)

في أ: وهبت ريح شديدة فوقعت.

(4)

في أ: إلى مدينة.

(5)

في أ: فلما.

ص: 139

وجعل يحدّثُه، وهو لا يعرفُ عمر، وعمر ماشٍ تحت راحلته، فلما اقتربا من المدينة جعلَ الناس يُحيُّونَ عمرَ بالإمارة، فعرفَ الرجلُ عمرَ فقال: يرحمكَ الله يا أمير المؤمنين هلا أعلمتنى أنَّكَ الخليفةُ؟ فقال لا حرج عليك يا أخي.

وقد تقدَّم أنَّ سعدًا رضي الله عنه كان به قروحٌ وعِرقُ النّسا، فمنعَهُ من شهودِ القتال، لكنه جالسٌ في رأس القصر ينظرُ في مصالح الجيش، وكان مع ذلك لا يُغلقُ عليه بابَ القصر (لشجاعته)، ولو فرَّ الناسُ لأخذته الفُرسُ قبضًا باليد، لا يمتنع منهم، وعنده امرأتُه سلمى بنت خصفة التي كانت قبله عند المُثتى بن حارثة، فلما فَرَّ بعضُ الخيل يومئذٍ فزعتْ وقالت: وامُثَنياه ولا مُثنَّى لي اليوم. فغضبَ سعدٌ من ذلك ولطمَ وجهها، فقالت: أغيرةً وجبنًا - يعني أنبها تعيِّره بجلوسه في القصر يوم الحرب - وهذا عناد منها، فإنها أعلم الناس بعذره وما هو فيه من المرض المانع

(1)

من ذلك.

وكان عنده في القصر رجلٌ مسجونٌ على الشراب كان قد حُدَّ فيه مراتٍ متعددةٍ، يقالُ سبعَ مراتٍ، فامر به سعدٌ فَقُيِّدَ واودعَ في القصر، فلما رأى الخيول تجول حول حمى القصر وكان من الشُّجعان الأبطال قال

(2)

: [من الطويل]

كفَى حزنًا أنْ تدحمَ الخيلَ بالفتى

(3)

وأُتْرَك مَشْدُودًا عَليَّ وِثَاقيا

إذا قمتُ غنّاني الحديدُ وغُلّقتْ

(4)

مصاريعُ من دوني تصمُّ المناديا

وقدْ كنتُ ذا مالٍ كثيرٍ وإخوةٍ

وقدْ تركوني مفردًا

(5)

لا أَخا ليا

(6)

ثم سأل من زَبْراء

(7)

أم ولد سعد أن تطلقه وتعيره فرس سعد، وحلف لها أنه يرجع آخر النهار فيضع رجله في القيد فأطلقته، وركب فرس سعد وخرج فقاتل قتالًا شديدًا، وجعل سعد ينظر إلى فرسه فيعرفها وينكرها

(8)

ويشبهه بأبي محجن ولكن يشك لظنه أنه في القصر موثق، فلما كان آخر النهار رجع فوضع رجله في قيدها ونزل سعد فوجد فرسه يعرق فقال: ما هذا؟ فذكروا له قصة أبي محجن فرضي عنه وأطلقه رضي الله عنهما.

(1)

في أ: المتتابع.

(2)

في أ: فقال. والأبيات كما هنا عددًا ورواية في تاريخ الطبري (3/ 575)، وهي أربعة فيه (3/ 548) وسبعة في الأغاني (19/ 5) وهي عشرة في منح المدح ص (289 - 291).

(3)

في تاريخ الطبري والأغاني: أن تردي الخيل بالقنا. وفي منح المدح: أن تلتقي البيض بالقنا.

(4)

في أ: وأطلقت؛ ولا معنى لها. وفي تاريخ الطبري والمنح: وأغلقت.

(5)

في تاريخ الطبري والأغاني والمنح: واحدًا.

(6)

بعده في الطبري بيت، وبعده في الأغاني أربعة، وبعده في المنح: سبعة.

(7)

في تاريخ الطبري (3/ 548) والأغاني (19/ 5): سلمى بنت أبي حفصة.

(8)

في أ: ثم ينكرها وشبهه. وهي كما هنا في تاريخ الطبري (3/ 575).

ص: 140

وقد قال رجل من المسلمين في سعد رضي الله عنه

(1)

: [من الطويل]

نُقاتلُ حَتَّى أنْزَلَ اللّهُ نَصْرهُ

وَسَعْدٌ ببابِ القادِسيَّةِ مُعْصمُ

فأُبْنا وَقَدْ آمَتْ نساءٌ كَثيرةٌ

ونِسْوة سَعْدٍ ليسَ فيهنّ أيّمُ

فيقالُ: إن سعدًا نزل إلى الناس فاعتذر إليهم مما فيه من القروح في فخذيه وأليتيه، فعذره الناسُ. ويذكر أنه دعا على قائل هذين البيتين وقال: اللهم إن كان كاذبًا، أو قال الذي قال رياء وسمعة وكذبًا فاقطع لسانَهُ ويَدهُ. (فجاءه سهم) وهو واقفٌ بين الصَّفَّين فوقعَ في لسانه فبطل شقه فلم يتكلم حتى مات.

رواه سيف

(2)

عن عبد الملك بن عُمَيْر عن قبيصة بن جابر فذكره. وقال سيف عن المقدام بن شريح الحارثي عن أبيه.

قال: قال جرير بن عبد الله البجلي

(3)

: [من الرجز]

أنا جريرُ كنيتي

(4)

أبوعمرو

قدْ فتحَ اللّهُ وسعدٌ في القصْر

فأشرف سعد من قصره وقال

(5)

: [من الوافر]

وما أرْجو بَجِيْلة غيرَ أنّي

أُؤمِّلُ أجْرَها

(6)

يَوْمَ الحِساب

وقدْ لقيتْ خيولُهُم خيولًا

وَقَدْ وَقَعَ الفوارسُ في الضّرابِ

(7)

وقد دلفت

(8)

بعَرْصَتِهمْ خُيول

(9)

كأنّ زهاءَها إبلُ الجِرابِ

(10)

فَلْولا

(11)

جَمْعُ قَعْقاعِ بن عَمْرو

وحمّالٌ للجُّوا في الرِّكاب

(12)

وَلَوْلا ذاك ألْفَيْتمْ رعاعًا

تسيلُ جُموعُكم مِثْل

(13)

الذُّبابِ

(1)

البيتان في تاريخ الطبري (3/ 577 و 580) وتاريخ دمشق لابن عساكر (20/ 344 - 345) وسير أعلام النبلاء (1/ 115) برواية مختلفة.

(2)

تاريخ الطبري (3/ 580).

(3)

البيت في تاريخ الطبري (3/ 577) برواية: قد نصر الله. وتاريخ دمشق لابن عساكر (20/ 353) - طبعة دار الفكر -.

(4)

في أ، ط: وكنيتي. وما هنا عن مصادره وهو الأشبه.

(5)

الأبيات الثلاثة الأولى في تاريخ الطبري (3/ 577) وهي ستة في تاريخ دمشق (20/ 353) - طبعة دار الفكر -.

(6)

في تاريخ الطبري وتاريخ ابن عساكر: أجرهم.

(7)

في تاريخ الطبري: ضراب.

(8)

في أ: وقد دهمت.

(9)

في تاريخ الطبري. فيول، وهو جمع فيل.

(10)

في تاريخ الطبري وتاريخ ابن عساكر: جراب؛ مما أوقع البيت في الإقواء.

(11)

في تاريخ دمشق: ولو جمع؛ وهو خطأ عروضي لابد من تصحيحه.

(12)

في تاريخ دمشق: في الكذاب. وبعده فيه بيت آخر.

(13)

في تاريخ دمشق: سلَّ الذباب.

ص: 141

وقد روى محمد بن إسحاق

(1)

، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم البجلي - وكان ممن شهد القادسية - قال:

كان معنا رجل من ثقيف فلحق بالفُرس مرتدًّا، فأخبرهم أن بأسَ الناس في الجانب الذي فيه بجيلة. قال: وكُنَّا رُبْع الناسِ، قال: فوجَّهوا إلينا ستةَ عشرَ فيلًا، وجعلوا يلقون تحت أرجل خيولنا حسكَ الحديد، ويرشقوننا بالنُّشّاب، فلكأنه المطر، وقرنوا

(2)

خيولهم بعضها إلى بعض لئلا ينفروا.

قال: وكان عمرو بن مَعْدِيكرب الزُّبَيْدي يَمُرُّ بنا فيقول: يا معشر المهاجرين، كونوا أُسودًا فإنما الفارسي تيسٌ.

قال: وكان فيهم أسوارٌ لا تكاد تسقطُ له نُشَّابةٌ، فقلنا له يا أبا ثور اتَّقِ

(3)

ذاك الفارسيّ

(4)

فإنّه لا تسقطُ له نُشَّابةٌ، فوجه إليه الفارسيّ ورماه بنشابة

(5)

فأصاب ترسه، وحمل عليه عمرو فاعتنقه فذبحه فاستلبه سوارين من ذهب، ومِنْطقة من ذهبٍ، ويَلْمقا

(6)

من ديباجٍ.

قال: وكان المسلمون ستةَ آلافٍ أو سبعةَ آلافٍ، فَقَتلَ اللّهُ رستمًا

(7)

، وكان الذي قتله رجلٌ يقال له هلال بن علقمة

(8)

التميمي، رماه رستم بنُشّابة فأصاب قدمه، وحمل عليه هلال فقتله واحتز رأسه، وولت الفرسُ فاتبعهم المسلمون يقتلونهم فأدركوهم في مكانٍ قد نزلوا فيه واطمأنّوا

(9)

، فبينما هم سكارى قد شربوا ولعبوا إذ هجمَ عليهمُ المسلمون فقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وقُتل هنالك الجالينوس، قتله زهرة بن حَوِيَّة

(10)

التميمي. ثم ساروا خلفهم، فكلما تواجه الفريقان نصرَ اللّهُ حزبَ الرحمن، وخذلَ حزبَ الشيطان وعَبَدة النيران. واحتاز المسلمون من الأموال ما يعجزُ عن حَصْرهِ ميزانٌ وقبَّانٌ، حتى إن منهم من يقول من يقايض

(11)

بيضاء بصفراء لكثرةِ ما غنموا من الفرسان. ولم يزالوا يتبعونهم حتى جازوا الفراتَ وراءهم وفتحوا المدائنَ وجلولاءَ على ما سيأتي تفصيلُه في موضعه إن شاء الله تعالى وبه الثقة.

(1)

تاريخ الطبري: (3/ 576).

(2)

في ط: وقرَّبوا.

(3)

في ط: نق.

(4)

في ط: الفارس.

(5)

في أ: فوجه إليه ورماه الفارسي بنشابة.

(6)

اليلمق: القباء. القاموس (يلمق).

(7)

كذا في الأصلين، والذي في الطبري (3/ 576): فقتل الله رستم وهو الأصح لسياق اللغة.

(8)

في تاريخ الطبري: هلال بن علقة التيمي.

(9)

في أ: واطمأنوا فيه سكارى.

(10)

الضبط عن تاريخ الطبري (3/ 565) وتوضيح المشتبه (2/ 509).

(11)

في أ: من يقارص؛ وهو تحريف.

ص: 142

وقال سيفُ بن عمر

(1)

: عن سليمان بن بشير، عن أمّ كثير امرأةِ همام بن الحارث النخعي قالت: شهدنا القادسيةَ مع سعدٍ مع أزواجنا، فلما أتانا أن قد فرغ من الناس، شدَدْنا علينا ثيابنا وأخذنا الهَراوَى ثم أتينا القتلى، فمن كان من المسلمين سقيناه ورفعناه، ومن كانَ من المشركين أجهزنا عليه، ومعنا الصبيانُ فنوليهم ذلك - تعني استلابهم - لئلا يكشفن عن عوراتِ الرجال.

وقال سيفٌ بأسانيده عن شيوخه قالوا

(2)

: وكتب سعد إلى عمر يخبره بالفتح وبعدَّةِ منْ قَتَلوا من المشركين. وبعدَّة منْ قُتل من المسلمين، وبعث

(3)

بالكتاب مع سَعْدِ بن عُمَيْلَة

(4)

الفزاري وصورته:

أما بعدُ فإنَّ الله نَصرنا على أهل فارس ومنحناهم

(5)

سنن منْ كانَ قبلهم من أهل دينهم، بعد قتالٍ طويل، وزَلْزالٍ شديد، وقد لقوا المسلمين بعدَّةٍ لم يَرَ الرّاؤُون مثلَ زُهائها، فلم ينفعهم الله بذلك، بل سلبوه ونقله عنهم إلى المسلمين، واتَّبعهم المسلمون على الأنهار، وصفوف

(6)

الآجام، وفي الفجاج. وأصيب من المسلمين سعد بن عُبيد القاري وفلان وفلان، ورجالٌ من المسلمين لا يعلمهم إلا الله، فإنّه بهم عالمٌ كانوا يُدَوُّون

(7)

بالقرآن إذا جنَّ عليهم الليلُ كدويّ النَّحْل، وهم آساد في النهار لا تشبههم الأسود، ولم يَفْضل منْ مَضَى منهم منْ بقي إلا بفضل الشهادة إذ

(8)

لم تُكْتبْ لهم.

فيقالُ: إنَّ عمر قرأ هذه البشارة على الناس فوق المنبر رضي الله عنهم. ثم قال عمر للناس: إني حريصٌ على أن لا أرى

(9)

حاجةً إلا سددتُها، ما اتسع بعضنا لبعض، فإذا عجزَ ذلك عنّا تآسينا في عيشنا حتى نسْتوي في الكَفاف، ولوددتُ أنَّكم علمتمُ من نفسي مثلَ الذي وقع فيها لكم، ولستُ معلِّمكُم إلا بالعمل، إنّي واللّهِ لستُ بملكٍ فأستعبدكم، ولكنّي عبدُ الله، عَرَضَ عليَّ الأمانة فإن أبيتُها ورددتُها عليكم واتَّبعتكم حتى تشبعوا في بيوتكم، وتَروَوْا سعدتُ بكم، وإنْ أنا حملتُها واستتبعتكم (إلى بيتي) شقيتُ بكم، ففرحتُ قليلًا، وحزنتُ طويلًا، فبقيتُ لا أُقال ولا أُرَدّ فأستعتب.

وقال سيفٌ عن شيوخه قالوا

(10)

: وكانت العربُ من العُذَيْب إلى عَدَنِ أبْين، يتربَّصون وقعةَ القادسية

(1)

تاريخ الطبري (3/ 581).

(2)

المصدر نفسه (3/ 583).

(3)

في ط: بعث، بلا واو.

(4)

الضبط عن تاريخ الطبري.

(5)

في بعض النسخ: ومنحهم.

(6)

في تاريخ الطبري: طفوف، وهي الأشبه، لأن الطفوف جمع طفّ وهو جانب البرّ وطرفه. اللسان (طفف).

(7)

الدَّويّ: صوت ليس بالعالي كصوت النحل ونحوه دَوَّى يُدوّي تَدْوية. اللسان (دوا).

(8)

في أ، ط: إذا؛ وما هنا عن الطبري وهو أقرب للصواب.

(9)

في تاريخ الطبري: أن لا أدع، وهو الأشبه.

(10)

تاريخ الطبري (3/ 581 - 582).

ص: 143

هذه، يَرَونَ أن ثباتَ مُلْكهم وزوالَه بها، وقد بعثَ أهلُ كلّ بلدةٍ قاصدًا يكشفُ ما يكونُ من خبرهم، فلما كان ما كان من الفتح سبقتِ الجنُّ بالبشارةِ إلى أقصى البلادِ قبل رُسُلِ الإنس فسمعت امرأة ليلًا بصنعاء على رأس جبل وهي تقول:[من الطويل]

فحُيِّيتِ عنَّا عِكْرم ابْنَة خالدٍ

وما خيرُ زادٍ بالقَليلِ المُصَرَّدِ

(1)

وَحَيّتكِ عنّي الشمسُ عندَ طلوعها

وحَيّاك عني كلُّ ناجٍ مُفَرَّدِ

(2)

وَحَيَّتْكِ عنّي عُصْبة نَخَعيَّة

حِسانُ الوُجوه آمنوا بمُحمدِ

أقاموا لكسرى يَضْربون جُنودهُ

بكُلِّ رقيقٍ الشَّفْرتينِ مُهنّدِ

إذا ثَوَّبَ

(3)

الدَّاعي أناخوا بكَلْكلٍ

(4)

من الموتِ مسودِّ الغياطل أجردِ

(5)

قالوا: وسمع أهلُ اليمامة مُجْتازًا يُغنّي بهذه الأبيات: [من الوافر]

وجدنا الأكثرين

(6)

بني تَميم

غداةَ الرَّوعٍ أكثرُهم رجالا

هُمُوا ساروا بأرْعَن مُكْفهرٍّ

إلى لَجِبٍ فزَرّتهم

(7)

رعالا

بحورٌ للأكاسرِ من رجالٍ

كاُسدِ الغابِ تَحْسَبُهُم جبالًا

(8)

تَرَكْن لهم بقادسَ عزَّ فَخْرٍ

وبالخيفَيْنِ أيامًا طوالا

مُقَطَّعةً أكُفُّهُمُ وسوقٌ

بمُرْدٍ

(9)

حيث قابلتِ الرجالا

(10)

قالوا: وسُمع ذلك في سائر بلاد العرب، وقد كانت بلاد العراق بكمالها التي فتحها خالد نقضت العهود والذمم والمواثيق التي كانوا أعطوها خالدًا، سوى أهل بانِقْيا وباروسما، وأهل ألَّيس

(11)

الآخرة

(1)

التصريد في العطاء: تقليله. وفي الحديث: (لن يدخل الجنة إلا تصريدًا) وصرّدَ العطاء: قَلَّلَهُ. اللسان (صرد).

(2)

البيت في أ، ط: وحييت

وحييت عني كل ناج وما هنا عن الطبري وهو الأشبه.

(3)

ثوَّب الداعي: إذا دعا مرة بعد أخرى. اللسان (ثَوَّب).

(4)

الكلكل: الصدر. اللسان (كلل).

(5)

في تاريخ الطبري: تسود الغياطل مُجْرَدِ. والغياطل جمع غيطل: الظلمة. اللسان (غطل).

(6)

في ط: الأكرمين.

(7)

في ط: يرونهم. وفي أ: فزرّتْهم وعالا.

(8)

في أ: جمالا.

(9)

في تاريخ الطبري: بمرْدى؛ وكلاهما موضع.

(10)

في أ: الجبالا.

(11)

سبق التعريف بهذه البلدان في ذكر مسير خالد إلى الحراق، وقد دعاهم خالد إلى الإسلام أو الجزية أو المحاربة، فاختاروا الجزية وكتب لهم كتابًا في الصلح.

ص: 144

ثم عاد الجميع بعد هذه الوقعة التي أوردناها، وادَّعَوْا أن الفرس أجبروهم على نقض العهود، وأخذوا منهم الخَراجَ وغير ذلك. فصدقوهم في ذلك تألفًا

(1)

لقلوبهم، وسنذكر حكم أهل

(2)

السواد في كتابنا "الأحكام الكبير" إن شاء الله تعالى. (وقد ذهبَ ابنُ إسحاق وغيرُه إلى أنَّ وَقْعَةَ القادسية كانت في سنة خمس عشرة. وزعمَ الواقديُّ أئها كانت في سنة ست عشرة. وأما سيفُ بن عمر وجماعةٌ فذكروها في سنة أربع عشرة، وفيها ذكرها ابن جرير

(3)

، فاللّه أعلم).

قال ابن جرير

(4)

والواقدي: في سنة أربع عشرة جمع عمرُ بن الخطاب الناسَ على أُبيّ بن كعب في التَّراويح وذلك في شهر رمضان منها، وكتب إلى سائر الأمصار يأمرهم بالاجتماع في قيام شهر رمضان.

قال ابن جرير

(5)

: وفيها (بعث) عمر بن الخطاب عتبةَ بن غزوان إلى البصرة وأمره أن ينزل فيها

(6)

بمن معه من المسلمين، وقطعَ مادة أهل فارس عن الذين بالمدائن ونواحيها منهم في قول المدائني، وروايته.

قال: وزعم سيف أنَّ البصرةَ إنّما مُصِّرتْ في ربغ من سنة ست عشرة، وأن عتبة بن غزوان إنما خرجَ إلى البصرة من المدائن بعد فراغ سعد من جلولاء وتكريت، وجَّههُ إليها سعدٌ بأمرِ عمر رضي الله عنهم.

وقال أبو مخنف

(7)

: عن مجالد، عن الشعبي: إن عمر رضي الله عنه بعثَ عتبةَ بن غزوان إلى أرض البصرة في ثلاثمئة وبضعة عشر رجلًا، وسار

(8)

إليه من الأعراب ما كمل معه خمسمئة، فنزلها في ربيع الأول سنة أربع عشرة، والبصرة يومئذ تُدْعى أرض الهند فيها حجارة بيض خشنة، وجعل يرتاد لهم منزلًا حتى جاؤوا حيال الجسر الصغير فإذا فيه

(9)

حَلْفاء وقَصب نابت، فنزلوا. فركب إليهم صاحبُ الفرات في أربعة آلاف أسوار

(10)

، فالتقاه عتبة بعد ما زالت الشمس، وأمر الصحابة فحملوا عليهم فقتلوا الفُرْسَ عن آخرهم، وأسروا صاحبَ الفرات، وقام عتبة خطيبًا فقال في خطبته: إن الدنيا قد آذنت بصَرْمٍ

(11)

، وولَّت حَذَّاء

(12)

، ولم يبق منها

(1)

في أ: تأليفًا.

(2)

ساقطة من أ.

(3)

في تاريخه (3/ 590) ونقل الأقوال السابقة.

(4)

تاريخ الطبري (3/ 590) نقلًا عن الواقدي.

(5)

في تاريخه (3/ 590).

(6)

في أ: بها. وفي تاريخ الطبري: وأمره بنزولها.

(7)

نقل هذا الخبر بسنده الطبري في تاريخه (3/ 590 - 591).

(8)

في أ: وصار.

(9)

في أ: عند خلفا قصب نابت.

(10)

الأسوار والإسوار: قائد الفرس. اللسان (سور).

(11)

في اللسان: إن الدنيا قد أدبرت بصرم: أي بانقطاع وانقضاء - النهاية واللسان (صرم).

(12)

في هامش الطبري: حذّاء: مسرعة؛ قال في "تاج العروس": الحذَّاء: السريعة الماضية ومنه قول عتبة بن غزوان في خطبته: إن الدنيا قد آذنت بصرم وولَّت حَذّاء.

ص: 145

إلا صُبابَةٌ

(1)

كصبابة الإناءِ، وإنكم منتقلون منها إلى دار القرار، فانتقلوا عما بحضرتكم، فقد ذُكر لي لو أنَّ صخرةً أُلقيتْ من شَفير جهنم هوتْ سبعين خريفًا ولتملأنَّه، أو عجبتم؟ ولقد ذُكر لي أن ما بين مصراعين من مصاريع الجنّة مسيرةَ أربعين عامًا، وليأتينَّ عليه يومٌ وهو كظيظ من الزّحام، ولقد رأيتُني وأنا سابعُ سبعةٍ، وأنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لنا طعام إلا ورق السَّمُّر

(2)

، حتى تقرَّحتْ

(3)

أشداقُنا، والتقطتُ بُردةً فشققتها بيني وبين سعد، فما منا من أولئك السبعة من أحد إلا هو أمير على مِصْر من الأمصارِ، وسيُجَرَّبون الناسَ بعدنا. وهذا الحديث في صحيح مسلم

(4)

بنحو من هذا السياق.

وروى علي بن محمد المدائني: أن عمر كتب إلى عتبة بن غزوان حين وجهه إلى البصرة

(5)

: يا عُتبة إنّي استعملتك على أرضِ الهندِ وهي حَوْمة

(6)

من حومةِ العدوّ، وأرجو أن يكفيك الله ما حولها، وأن يُعينكَ عليها، وقد كتبت إلى العَلاء بن الحضْرمي يمدّكَ بعَرْفجة بن هرثمة. فإذا قدم عليك فاستشره وقرِّبه، وادعُ إلى الله، فمنْ أجابَكَ فاقبلْ منه، ومنْ أبى فالجزية عن صَغارٍ وذلَّةٍ، وإلا فالسيفُ في غير هوادة، واتَّقِ اللهَ فيما وُلَّيت، وإياكَ أن تنازعَكَ نفسُك إلى كِبْرٍ فتفسد عليك آخرتك

(7)

، وقد صحبتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فعززتَ بعد الذلّة، وقويتَ بعد الضعف، حتى صرت أميرًا مُسلَّطًا، وملكًا مُطاعًا، تقول فيُسمع منك، وتأمر فيُطاع أمرك، فيا لها نعمة إذا لم ترق فوق قدرك، وتبطر على من دونك، احتفظ من النعمة احتفاظَكَ من المَعْصية، وهي أخوفُهما عندي عليك أن يستدرج

(8)

ويخدعك فتسقط سقطةً تصير

(9)

بها إلى جهنم، أعيذك باللّه ونفسي من ذلك، إن الناس أسرعوا إلى الله حتى رفعت لهم الدنيا فأرادوها، فأردِ الله ولا تردِ الدنيا، واتَق مصارع الظالمين.

وقد فتح عتبة الأبُلَّة في رجب أو شعبان من هذه السنة. ولما ماتَ عتبةُ بن غزوان في هذه السنة استعمل عمرُ على البصرة المغيرةَ بن شعبة سنتين، فلما رُمي بما رُمي به عزلَه ووثَى عليها أبا موسى الأشعري رضي الله عنهم.

وفي هذه السنة ضرب عمرُ بن الخطاب ابنهُ عُبَيْدَ الله في الشراب (هو وجماعة معه.

(1)

الصُّبَّةُ والصُّبابة - بالضم - بقية الماء واللبن وغيرهما تبقى في الإناء والسقاء. اللسان (صبب).

(2)

السَّمرة من شجر الطلح، والجمع سَمُرٌ وسَمُرات وأسمر، وقيل: ضرب من العضاه، وقيل: من الشجر صغار الورق قصار الشوك. اللسان (سمر).

(3)

تقرَّحت: أي تجرّحت من أكل ذلك الورق. اللسان (قرح).

(4)

صحيح مسلم (2967)(14) في الزهد والرقائق.

(5)

كتاب عمر هذا في تاريخ الطبري (3/ 593).

(6)

حومة كل شيء: معظمه. اللسان (حوم).

(7)

في تاريخ الطبري: إخوتك؛ تحريف لا بد من تصحيحه.

(8)

في تاريخ الطبري (3/ 594): تستدرجك وتخدعك.

(9)

في ط: فتصير. وما هنا عن الطبري.

ص: 146

وفيها ضرب أبا محجن الثقفي في الشراب) أيضًا سبع مرات، وضربَ معه (ربيعة) بن أمية بن خلف.

وفيها نزل سعد بن أبي وقاص بالكوفة.

وحج بالناس في هذه السنة عمر بن الخطاب.

قال: وكان بمكة عتاب بن أسيد، وبالشام أبو عبيدة، وبالبحرين عثمان بن أبي العاص - وقيل: العلاء بن الحضرمي - وعلى العراق سعد، وعلى عُمان حُذَيْفة بن مِحْصَن.

‌ذكرُ منْ تُوفّي في هذا العام من المشاهير [والأعيان]

ففيها توفي:

سعدُ

(1)

بن عبادة في قولٍ، والصحيح في التي قبلها، والله أعلم.

عتبة

(2)

بن غزوان بن جابر بن أهيب المازني، حليف بني عبد شمس صحابي بدري، وأسلم قديمًا بعد سنة وهاجر إلى أرض الحبشة، وهو أول من اختطَّ البصرة عن أمر عمر في إمرته له على ذلك كما تقدم، وله فضائل ومآثر، وتوفي سنة أربع عشرة، وقيل سنة خمس عشرة، وقيل سنة سبع عشرة، وقيل سنة عشرين، فاللّه أعلم

(3)

. وقد جاوزَ الخمسين، وقيل: بلغَ ستّين سنة رضي الله عنه.

عمرو

(4)

بن أمّ مكتوم الأعْمى، ويقال اسمه عبد الله، صحابي مهاجري، هاجر بعد مُصعب بن عُمَيْر، قَبْلَ النبي صلى الله عليه وسلم، فكان يُقْرئ الناسَ القرآنَ، وقد استخلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة غيرَ مرةٍ، فيقال: ثلاث عشرة مرة، وشهد القادسيَّة مع سعد زمنَ عمر، فيقال: إنه قُتل بها شهيدًا ويقال: إنه

(5)

رجع إلى المدينة وتوفي بها، والله أعلم.

(1)

ترجمة - سعد بن عبادة - في الاستيعاب (594) وجامع الأصول (14/ 168) وأسد الغابة (2/ 356 - 358) وتهذيب الأسماء واللغات (1/ 92 - 113) ومختصر تاريخ دمشق (9/ 235 - 279) وسير أعلام النبلاء (1/ 270 - 279) والإصابة (2/ 30) وشذرات الذهب (1/ 162) وتهذيب تاريخ دمشق لبدران (6/ 86 - 93).

(2)

ترجمة - عتبة بن غزوان - في الاستيعاب (1026) وجامع الأصول (14/ 510 - 511) وأسد الغابة (3/ 565 - 567) وسير أعلام النبلاء (1/ 304 - 306) والإصابة (2/ 455).

(3)

في أ: واللّه.

(4)

ترجمة - عمرو بن أم مكتوم - في الاستيعاب (1198) وجامع الأصول (14/ 561 - 562) وتهذيب الأسماء واللغات (2/ 295 - 296) وسير أعلام النبلاء (1/ 360 - 384). وأسد الغابة (4/ 263 - 264) والإصابة (2/ 323 - 324).

(5)

في أ: بل.

ص: 147

المثنى

(1)

بن حارثة بن سلمة بن ضمضم بن سعد بن مُرَّة بن ذُهْل بن شيبان الشيباني، نائب خالد على العراق، وهو الذي صارت إليه الإمرةُ بعد أبي عُبَيْد يومَ الجسر، فدارى بالمسلمين حتى خلَّصَهم من الفُرْس يومئذ، وكان أحد الفرسان الأبطال، وهو الذي ركبَ إلى الصدّيق فحرضه

(2)

على غزو العراق، ولما تُوفي تزوَّج سعدُ بن أبي وقاص بامرأته سلمى بنت حفص رضي الله عنهما وأرضاهما. وقد ذكره ابن الأثير في كتابه "الغابة

(3)

في أسماء الصحابة

(4)

".

أبو زيد الأنصاري النَّجَّاري

(5)

أحدُ القُرّاء الأربعة الذين حفظوا القرآن من الأنصار في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ثبت ذلك في حديث أنس بن مالك، وهم معاذ بن جبل، وأُبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وأبو زيد. قال أنس أحد عمومتي. قال الكلبي واسم أبي زيد هذا: قيس بن السَّكن بن قَيس بن زَعُوراء بن (حَرَام

(6)

بن) جُنْدب بن غَنْم

(7)

بن عَديّ بن النَجَّار شهد بدرًا. قال موسى بن عقبة: واستشُهد يومَ جسرِ أبي عُبَيْد وهي عنده في سنة أربع عشرة، وقال بعض النّاس: أبو زيد الذي يجمع القرآن سعد بن عُبَيْد، وردّوا هذا برواية قتادة عن أنس بن مالك.

قال: افتخرتِ الأوسُ والخزرجُ، فقالت الأوسُ: منّا غسيلُ الملائكة حنظلةُ بن أبي عامر، ومنَّا الذي حمته الدَّبْر

(8)

عاصم بن ثابت بن أبي الأفلح

(9)

، ومنَّا الذي اهتزَّ له عرشُ الرحمن سعد بن معاذ، ومنَّا الذي جعلت شهادته شهادة رجلين خزيمة بن ثابت.

فقالت الخزرجُ: منَّا أربعةٌ جمعوا القرآن (على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) أبيٌّ، وزيد بن ثابت، ومعاذ، وأبو زيد رضي الله عنهم أجمعين.

أبو عُبَيْد بن مسعود

(10)

بن عمرو الثقفي والد المختار بن أبي عُبَيْد أمير العراق، ووالد صَفية امرأة عبد الله بن عمر.

(1)

ترجمة - المثنى بن حارثة - في الاستيعاب (1456 - 1457) وأسد الغابة (5/ 59 - 60) والإصابة (3/ 361 - 362).

(2)

في أ: يحرضه.

(3)

كذا في أ، ط: واسم الكتاب في كل طبعاته: أسد الغابة في معرفة الصحابة.

(4)

أسد الغابة في معرفة الصحابة (5/ 59 - 60).

(5)

ترجمة - أبي زيد الأنصاري - في الاستيعاب (1293) وجامع الأصول (14/ 171 - 172) وأسد الغابة (4/ 427) وسير أعلام النبلاء (1/ 335) والإصابة (3/ 250) وفي اسمه خلاف.

(6)

في ط: حزم؛ وهو تحريف والتصحيح من مصادره، وضبط اللفظة في جامع الأصول بقوله: حرام: ضد حلال.

(7)

في أ: تميم؛ تحريف.

(8)

قال ابن الأثير: الدَّبْر - بسكون الباء - النحل، وهي الزنابير. النهاية (2/ 99).

(9)

في أ، ط: الأقلح؛ تحريف. وقد ضبطه ابن الأثير بالحرف في جامع الأصول (14/ 419).

(10)

ترجمة - أبي عبيد الثقفي - في الاستيعاب (1709 - 1710).

ص: 148

أسلم أبو عبيد

(1)

في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وذكره الشيخ أبو عمر بن عبد البر في الصحابة.

قال شيخنا الحافظ أبو عبد الله الذهبي

(2)

: ولا يبعد أن يكون له رؤية

(3)

، واللّه أعلم.

أبو قُحافة والدُ الصدِّيق

(4)

واسم أبي بكر الصدِّيق عبد الله بن أبي قُحافة عثمان بن عامر بن عمرو

(5)

بن كعب بن سَعْد بن تَيْم بن مُرَّة بن كَعْب بن لُؤَيّ بن غالب، أسلم أبو فحافة عامَ الفتح فجاء به الصدِّيقُ يقودُه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"هلا أقررتم الشيخَ في بيته حتى كُنّا نحن نأتيه" تكرمةً لأبي بكر رضي الله عنه، فقال: بل هو أحق بالسَّعي إليكَ يا رسول الله. فأجلسه رسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه ورأسه كالثغامة

(6)

بياضًا ودعا له، وقال "غيِّروا هذا الشيب بشيء وجنّبوه السوادَ"

(7)

. ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وصارت الخلافة إلى الصدِّيق أخبره المسلمون بذلك وهو بمكة، فقال: أو أقرت بذلك بنو هاشم وبنو مخزوم؟ قالوا: نعم! قال: ذلك فضلُ الله يؤتيه من يشاء. ثم أُصيب بابنه الصدّيق رضي الله عنه. ثم توفي أبو قحافة في محرم وقيل في رجب سنة أربع عشرة بمكة، عن أربع وسبعين سنة رحمه الله وأكرم مثواه.

‌وممن ذكر شيخنا أبو عبد الله الذهبي

(8)

من المستشهدين في هذه السنة مرتبين على الحروف

أوس بن أوس بن عتيك قُتل يوم الجسر.

بشير بن عنبس بن يزيد الظَّفَري، أُحُديٌّ، وهو ابنُ عم قتادة بن النعمان، ويعرف بفارس الحواء اسم فرسه.

ثابت بن عتيك، من بني عمرو بن مبذول، صحابي قتل يوم الجسر.

ثعلبة بن عمرو بن مِحْصن النّجّاري بدري قتل يومئذ.

(الحارث بن عتيك بن النعمان النجاري شهد أحدًا قتل يومئذ.

الحارث بن مسعود بن عبدة صحابي أنصاري قتل يومئذ.

(1)

في ط: أبو عبيدة؛ تحريف.

(2)

تاريخ الإسلام (2/ 8) ط: مكتبة القدسي - القاهرة -.

(3)

في ط: رواية؛ تحريف.

(4)

ترجمة - أبي قحافة والد الصدّيق - في الاستيعاب (1732 - 1733) وأسد الغابة (5/ 375) والإصابة (4/ 222) و (8/ 156).

(5)

تصحف في ط إلى صخر.

(6)

الثغامة: هو نبت أبيض الزَّهر والثمر يسْبَّه به الشيب. النهاية (ثغم).

(7)

الحديث بطوله أخرجه أحمد في مسنده (3/ 160) من حديث أنس، والحاكم في مستدركه (3/ 46) وابن حبان في صحيحه (16/ 187 - 188) رقم (7208) من حديث أسماء، وهو حديث صحيح.

(8)

في تاريخ الإسلام (2/ 6 - 7).

ص: 149

الحارث بن عدي بن مالك أنصاري أحدي قتل يومئذ).

خالد بن سعيد بن العاص، قيل: إنه استشهد يوم مرج الصفر، وكان في سنة أربع عشرة في قولٍ.

خزيمة بن أوس الأشْهَلي قتل يوم الجسر.

ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب أرخ وفاته في هذه السنة ابنُ قانع.

زيد بن سراقة يوم الجسر.

سعد بن سلامة بن وقش الأشْهلي.

سعد بن عبادة في قول.

سلمة بن أسلم بن حَرِيش يوم الجسر.

ضمرة بن غزية يوم الجسر.

عبّاد وعبد الله وعبد الرحمن بنو مِرْبَع بن قيظي قتلوا يومئذ.

عبد الله بن صعصعة بن وهب الأنصاريّ النَّجَّاري، شهد أحدًا وما بعدها. قال ابن الأثير في الغابة

(1)

: وقتل يوم الجسر.

عتبة بن غزوان تقدم.

عقبة وأخوه عبد الله حضرا الجسر مع أبيهما قيظي بن قيس وقتلا يومئذ.

العلاء بن الحضرمي توفي في هذه السنة في قول وقيل بعدها وسيأتي.

عُمر

(2)

بن أبي اليَسَر قتل يوم الجسر.

قيس بن السكن أبو زيد الأنصاري رضي الله عنه تقدم.

المثنى بن حارثة الشيباني، توفي في هذه السنة رحمه الله وقد تقدم.

نافع بن غيلان قتل يومئذ.

نوفل بن الحارث بن عبد المطلب وكان أسنَّ من (عمه) العباس، قيل إنه توفى في هذه السنة والمشهور قبلها كما تقدم.

واقد بن عبد الله قتل يوم [الجسر]

(3)

.

(1)

أسد الغابة (3/ 185).

(2)

في ط: "عمرو"، وما أثبتناه من خط الذهبي في تاريخ الإسلام (الورقة 201 كم مجلد أيا صوفيا 3005) وهو المصدر الذي ينقل منه المصنف.

(3)

بياض في أ. وقد توفي واقد بن عبد الله في خلافة عمر كما في الاستيعاب (1551) وأسد الغابة (5/ 433) =

ص: 150

يزيد بن قيس بن الخَطِيم الأنصاري الظفري

(1)

شهد أحدًا وما بعدها، قتل يوم الجسر، وقد أصابه يوم أُحُدٍ جراحاتٌ كثيرةٌ، وكان أبوه شاعرًا مشهورًا.

أبو عُبَيْد بن مسعود الثقفي أمير يوم الجسر وبه عرف لقتله عنده، تخبّطه الفيل حتى قتله رضي الله عنه بعدما قطع بسيفه خرطومه كما تقدم.

أبو قحافة التَّيْمي والد أبي بكر الصدِّيق، توفي في هذه السنة رضي الله عنه.

هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن أمية الأموية، والدة معاوية بن أبي سفيان، وكانت من سيدات نساء قريش ذات رأي ودهاءً ورياسة في قومها، وقد شهدت يوم أُحُد مع زوجها وكان لها تحريض على قتل المسلمين يومئذ، ولما قُتل حمزة مَثَّلَتْ به وأخذت من كبده فلاكَتْها فلم تستطع إساغتها، لأنه كان قد قتل أباها وأخاها يوم بدر، ثم بعد ذلك كله أسلمت وحَسُنَ إسلامها عام الفتح، بعد زوجها بليلةٍ. ولما أرادت الذهاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لتبايعه استأذنت أبا سفيان فقال لها: قد كنت بالأمس مكذِّبة بهذا الأمر، فقالت واللّه ما رأيت الله عُبد حقَّ عبادته بهذا المسجد قبل هذه الليلة، واللّه لقد باتوا ليلهم

(2)

كلّهم يُصَلّون فيه. فقال لها: إنك قد فعلتِ ما فعلتِ فلا تذهبي وحدك. فذهبت إلى عثمان بن عفان ويقال إلى أخيها أبي حذيفة بن عتبة فذهب معها، فدخلت وهي مُتَنقِّبَة

(3)

، فلما بايعها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مع غيرها من النساء قال:"على أن لا تُشْركْنَ باللّه شيئًا ولا تَسْرُقْنَ ولا تَزْنين" فقالت: أوتزني الحرة؟ "ولا تقتلن أولادكن" قالت: قد ربيناهم صغارًا نقتلهم كبارًا؟! فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، "ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك"

(4)

فبادرت وقالت: في معروف. فقال: في معروف

(5)

. وهذا من فصاحتها وحزمها.

وقد قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: واللّه يا محمد ما كان على ظهر الأرض أهل خباء أحب إليّ من أن يذلوا من أهل خبائك، فقد واللّه أصبح

(6)

اليوم وما على ظهر الأرض من أهل خباء أحب إليّ من أن يعزّوا من أهل خبائك. فقال: وكذلك والذي نفسي بيده. وشَكَتْ من شُحِّ أبي سفيان فأمرها أن تأخذ ما يكفيها ويكفي

= وتاريخ الإسلام (2/ 9) وقال الذهبي قتل يومئذ - يقصد يوم الجسر -. وقال ابن حجر في الإصابة: مات واقد هذا في أول خلافة عمر (3/ 628).

(1)

في أ: الطفوي، وهو تحريف، والتصحيح من الاستيعاب (1578) وتاريخ الإسلام (2/ 9).

(2)

في أ: ليلتهم.

(3)

تنقبت المرأة وانتقبت: وضعت النقاب. اللسان (نقب).

(4)

في أ: يعصين.

(5)

أخرج الحديث ابن سعد في الطبقات (8/ 237) وقال ابن حجر في الإصابة: سنده صحيح.

(6)

في أ: أمسى، وما هنا عن مصادر الحديث.

ص: 151

بنيها بالمعروف

(1)

. وقصتها مع الفاكه بن المغيرة مشهورة، وقد شهدت اليرموك مع زوجها. وماتت يومَ ماتَ أبو قُحافة في سنة أربع عشرة، وهي أم معاوية بن أبي سفيان.

‌ثم دخلت سنة خمس عشرة

قال ابن جرير

(2)

: قال بعضهم فيها مَصَّر سعدُ بن أبي وقاص الكوفةَ، دلَّهم عليها ابن بُقيلة

(3)

، قال لسعد: أدلُّكَ على أرضٍ ارتفعت عن البَقِّ، وانحدرتْ عن الفلاة؟ فدلَّهم على موضع الكوفة اليوم.

[وقعة مرج الروم]

قال: وفيها كانت وقعةُ مرجِ الرُّوم، وذلك لما انصرف أبو عبيدة وخالدٌ من وقعة فِحْل قاصدين إلى حمص حسب ما أمر به أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما تقدم في رواية سيف بن عمر، فسارا حتَّى نزلا على ذي الكَلاع، فبعث هرقل بطريقًا يقال له توذَرا

(4)

في جيش معه، فنزل بمرج دمشق وغربها، وقد هجم الشتاءُ، فبدأ أبو عبيدة بمرجِ الرُّوم، وجاء أمير آخر من الروم يقال له شنس

(5)

وعسكرٌ معه كثيفٌ، فنازله أبو عبيدة فاشتغلوا به عن توذَرا، فسار توذَرا نحو دمشق لينازلها وينتزعها من يزيد بن أبي سفيان، فاتَّبعه خالد بن الوليد وبرز إليه يزيد بن أبي سفيان من دمشق، فاقتتلوا وجاء خالد، وهم في المعركة، فجعل يقتلهم من ورائهم ويزيد يفصل فيهم من أمامهم، حتى أناموهم

(6)

ولم يفلت منهم إلا الشارد، وقتل خالد توذَرا وأخذوا من الروم أموالًا عظيمة فاقتسماها ورجع يزيد إلى دمشق وانصرف خالد إلى أبي عبيدة، فوجده قد واقع شنس بمرج الروم فقاتلهم فيه مقاتلةً عظيمة حتى أنتنت الأرض من زَهَمِهم

(7)

، وقَتَلَ أبو عبيدة شنسَ وركبوا أكتافهم إلى حمص فنزل عليها يحاصرها.

‌وقعة حمص الأولى

لما وصلَ أبو عبيدة في اتّباعه الروم المنهزمين إلى حمص، نزل حولها يحاصرها، ولحقه خالد بن الوليد فحاصروها حصارًا شديدًا، وذلك في زمنِ البردِ الشديدِ، وصابرَ أهلُ البلد رجاء أن يصرفَهم عنهم شدة البرد، وصبرَ الصحابةُ صبرًا عظيمًا بحيث إنه ذكر غيرُ واحدٍ أن من الروم منْ كان يرجع وقد سقطت

(1)

الحديث رواه البخاري في صحيحه (6641) في الأيمان والنذور، ومسلم في صحيحه (1714)(9) في الأقضية.

(2)

في تاريخه (3/ 598).

(3)

في أ: مقيلة؛ وهو تحريف.

(4)

في أ: بوذرا. وما هنا موافق للطبري.

(5)

في أ: سيس. وما هنا موافق للطبري.

(6)

قال الزمخشري: ومن المجاز: نام الرجل مات. أساس البلاغة (نوم).

(7)

الزهم: الريح المنتنة، أراد أن الأرض تنتن من جيفهم. اللسان (زهم).

ص: 152

رجله وهي في الخفّ، والصحابةُ ليس في أرجلهم شيءٌ سوى النِّعال، ومع هذا لم يُصَبْ منهم قدَمٌ ولا أصبعٌ أيضًا، ولم يزالوا كذلك حتى انسلخ فصل الشتاء فاشتدَّ الحصارُ، وأشارَ بعضُ كبار أهل حمص عليهم بالمُصالحة، فأبوا عليه ذلك وقالوا: أنصالحُ والملكُ منا قريبٌ؟ فيقال: إن الصحابةَ كبّروا في بعض الأيام تكبيرة ارتجَّت منها المدينة حتى تَفَطَّرت منها بعض الجدران، ثم تكبيرة أخرى فسقطت بعض الدور، فجاءت عامتُهم إلى خاصَّتهم فقالوا: ألا تنظرون إلى ما نزل بنا، وما نحن فيه؟ ألا تصالحون القومَ عنا؟ قال: فصالحوهم على ما صالحوا عليه أهل دمشق، على نصف المنازل، وضرب الخراج على الأراضي، وأخذ الجزية على الرقاب بحسب الغنى والفقر

(1)

. وبعث أبو عبيدة بالأخماس والبشارة إلى عمر مع عبد الله بن مسعود. وأنزل أبو عبيدة بحمص جيشًا كثيفًا يكون بها مع جماعة من الأمراء، منهم بلال والمقداد

(2)

وكتب أبو عبيدة إلى عمر، يخبره بأن هرقلَ قد قطع الماء إلى الجزيرة وأنه يظهرُ تارةً ويخفى أخرى. فبعث إليه عمر يأمره بالمقام ببلده.

‌وقعة قِنَّسْرين

لما فتح أبو عبيدة حمص بعث خالد بن الوليد إلى قِنَّسْرين، فلما جاءها ثار إليه أهلُها ومنْ عندهم من نصارى العرب، فقاتلهم خالدٌ (فيها) قتالًا شديدًا، وقتل منهم خلقًا كثيرًا، فأما منْ هناك من الروم فأبادهم وقتل أميرهم ميتاس

(3)

. وأما الأعراب فإنهم اعتذروا إليه بأنَّ هذا القتالَ لم يكن عن رأينا فقبل منهم خالدٌ وكفَّ عنهم ثم خلصَ إلى البلدِ فتحصَّنوا فيه

(4)

، فقال لهم خالد: إنكم لو كنتم في السَّحاب لحَمَلنا اللّهُ إليكم أو لأنزلكم إلينا. ولم يزَلْ بهم حتى فَتَحها الله عليه ولله الحمد.

فلما بلغَ عمرُ ما صنعهُ خالدٌ في هذه الوقعة قال: يرحمُ الله أبا بكر، كان أعلمَ بالرجالِ مني، واللّهِ إنِّي لم أعزلْهُ عن ريبةٍ ولكن خشيتُ أن يُوكلَ الناسُ إليه.

وفي هذه السنة تقهقر هرقل بجنوده، وارتحلَ عن بلاد الشام إلى بلاد الروم. هكذا ذكره ابن جرير

(5)

، عن محمد بن إسحاق قال: وقال سيف: كان ذلك في سنة ست عشرة، قالوا: وكان هرقل كلَّما حجَّ إلى بيت المقدس وخرجَ منها يقولُ: عليكِ السلامُ يا سورية، تسليم مُودِّعٍ لم يَقْضِ منك وطره وهو عائدٌ. فلما عزم على الرحيلِ من الشام وبلغَ الرُّها، طلبَ من أهلها أن يصحبوه إلى الروم، فقالوا: إن بقاءَنا هاهنا أنفعُ لكَ من رحيلنا معك، فتركَهم. فلما وصل إلى شمشاط

(6)

وعلا على شرف هنالك

(1)

في أ: بحسب الغني والفقير.

(2)

في أ: بلال بن المقدام، وفيها زيادة وتحريف. والخبر في تاريخ الطبري (3/ 600).

(3)

في أ: سيناس وفي تاريخ الطبري (3/ 601) ورد الاسم مرتين وبشكلين مختلفين فمرة ميناس وأخرى ميتاس.

(4)

في أ: منه.

(5)

في تاريخه (3/ 603).

(6)

في ط؛ شمشان؛ خطأ، وما هنا عن الطبري، وهي مدينة بالروم على شاطئ الفرات. معجم البلدان (3/ 362).

ص: 153

التفت إلى نحو بيت المقدس وقال: عليكِ السلامُ يا سوريةُ سلامًا لا اجتماع بعده إلا أن أسلِّمَ عليكِ تسليمَ المُفارقِ، ولا يعودُ إليكِ روميٌّ أبدًا إلا خائفًا حتى يولدَ المولودُ المشؤومُ، ويا ليتَهُ لم يولدْ. ما أحْلَى فعلَه وأمرَّ عاقبته على الروم!! ثم سار هرقلُ حتى نزلَ القسطنطينيةَ واستقرّ بها ملكه، وقد سأل رجلًا ممَّن اتّبعه كان قد أُسِرَ مع المسلمين، فقال: أخبرني عن هؤلاء القوم، فقال: أخبركَ كأنَّك تنظرُ إليهم، هم فرسان بالنهارِ، رهبانٌ بالليلِ، لا يأكلون في ذمتهم إلَّا بثمنٍ، ولا يدخلون إلَّا بسلام، يقفونَ على منْ حاربوه حتى يأتوا عليه. فقال: لئن كنت صدقتني ليملكن

(1)

موضعَ قدميَّ هاتين

(2)

.

قلتُ: وقد حاصرَ المسلمون قسطنطينية في زمانِ بني أميةَ فلم يملكوها ولكن سيملكها المسلمون في آخر الزمان كما سنبينه في كتاب الملاحم، وذلك قبل خروج الدجال بقليل على ما صحَّتْ به الأحاديث عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم

(3)

وغيره من الأئمة، ولله الحمد والمنة.

وقد حرَّم الله على الروم أن يملكوا بلادَ الشام برُمَّتها إلى آخر الدهر، كما ثبت به الحديث في الصحيحين

(4)

عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا هلكَ كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصرُ فلا قيصرَ بعده، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله عز وجل"

(5)

.

وقد وقع ما أخبر به صلوات الله وسلامه عليه كما رأيت، وسيكون ما أخبر به جزمًا لا يعود ملكُ القياصرة إلى الشام أبدًا لأنّ قيصرَ علَمُ جنسٍ عند العرب يُطلق على كل منْ ملكَ الشَام مع بلاد الروم، فهذا لا يعود لهم أبدًا.

(1)

في تاريخ الطبري: ليرثُنّ.

(2)

في أ: قدمي هذا.

(3)

صحيح مسلم (2897)(34) في الفتن وأشراط الساعة، وأخرجه أيضًا ابن حبان في صحيحه (15/ 224) رقم (6813) في كتاب التاريخ بنفس السند والسياق ونص الحديث عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تقوم الساعة حتى ينزل الرومُ بالأعماق، أو بدابق: فيخرج إليهم جيش من المدينة، من خيار أهل الأرض يومئذ؛ فإذا تصافّوا قالت الروم: خلّوا بيننا وبين الذين سَبَوْا منا نقاتلهم. فيقول المسلمون: لا واللّه! لا نخلِّي بينكم وبين إخواننا فيقاتلونهم فينهزم ثلث لا يتوب الله عليهم أبدًا، ويقتل ثلثهم، أفضل الشهداء عند الله، ويفتتح الثلث. لا يفتنون أبدًا، فيفتتحون قسْطُنْطينية. فبينما هم يقتسمون الغنائم، قد علّقوا سيوفهم بالزيتون؛ إذ صاح فيهم الشيطان: إن المسيح قد خلفكم في أهليكم فيخرجون وذلك باطل، فإذا جاؤوا الشام خرج - يعني الدجال - فبينما هم يُعِدُّون للقتال، يُسوُّون الصفوف، إذ أقيمت الصلاة فينزل عيسى بن مريم عليه السلام؛ فأمَّهم. فإذا رآه عدو الله ذاب كما يذوب الملح في الماء، فلو تركه لانذاب حتّى يهلك. ولكن يقتله الله بيده، فيُريهم دمه في حربته.

وقد فتح الله القسطنطينية للمسلمين على يد السلطان العثماني محمد الفاتح عام 857 للهجرة النبوية.

(4)

البخاري في صحيحه (3618) في المناقب، ومسلم في صحيحه (2918) في الفتن.

(5)

وهو أيضًا عند أحمد في مسنده (2/ 233 و 240، والترمذي (2216)، وابن حبان في صحيحه (15/ 83) رقم (6689).

ص: 154

‌وقعة قَيْساريَّة

(1)

قال ابن جرير

(2)

: وفي هذه السنة أمَّر عمر معاويةَ بن أبي سفيان على قَيْساريَّة وكتب إليه: أما بعدُ فقد ولَّيْتُكَ قَيْسَارِيَّة فسرْ إليها واستَنْصرِ اللّهَ عليهم، وأكْثِرْ منْ قولِ لا حولَ ولا قوة إلا باللّه العليِّ العظيمِ، اللّهُ ربّنا وثقَتنا ورجاؤُنا ومولانا فنعمَ المولى ونعم النَّصير. فسار إليها فحاصرها، وزاحَفَه أهلُها مراتٍ عديدةً، وكان (آخرها) وقعةً أن قاتلوا قتالًا عظيمًا، وصمَّمَ عليهم معاوية، واجتهدَ في القتالِ حتّى فتحَ اللّهُ عليه فما انفصل الحال

(3)

حتى قتلَ منهم نحوًا من ثمانين ألفًا، وكمَّلَ المئة الألف من الذين انهزموا عن المعركة، وبعثَ بالفتح والأخماسِ إلى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه.

قال ابن جرير

(4)

: وفيها كتب عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص بالمسير إلى إيلياء، ومناجزة صاحبها، فاجتاز في طريقه عند الرملة بطائفة من الروم فكانت

(5)

:

‌وقعة أجْنادين

(6)

وذلك أنه

(7)

سار بجيشه وعلى ميمنته ابنُه عبدُ الله بن عمرو، وعلى مَيْسرته جُنادةُ بن تَميم المالكي، من بني مالك بن كنانة، ومعه شُرَحبيلُ بن حَسَنة، واستخلفَ على الأردن أبا الأعور السُّلمي، فلما وصلَ إلى الرَّملة وجدَ عندها جَمْعًا من الرُّوم عليهم الأرْطبون، وكان أدْهى الرُّوم وأبعدها غَوْرًا، وأنكاها فِعْلًا، وقد كان وضعَ بالرملةِ جُنْدًا عظيمًا وبإيلياء جُنْدًا عظيمًا، فكتب عمرو إلى عمر بالخبر. فلما جاءهُ كتابُ عمرو قال: قد رَمَيْنا أرْطَبونَ الرُّومِ بأرْطبون العَرَبِ، فانظروا عما تنفرج

(8)

. وبعثَ عمرُو بن العاص علقمةَ بن حكيم الفراسيّ، ومسروق

(9)

بن بلال العكّي على قتالِ أهلِ إيلياء. وأبا أيوبّ المالكي إلى الرملةِ، وعليها التَّذارق، فكانوا بإزائهم ليشغلوهم عن عمرو بن العاص وجيشه، وجعل عمرو كلما قدم عليه إمداد من جهة عمر يبعث منهم طائفةً إلى هؤلاء وطائفة إلى هؤلاء. وأقام عمرو على أجنادين

(1)

قيسارية: بلد على ساحل بحر الشام تُعد في أعمال فلسطين بينها وبين طبرية ثلاثة أيام. معجم البلدان (4/ 421).

(2)

في تاريخه (3/ 603) والخبر أيضًا في الكامل لابن الأثير (2/ 497).

(3)

في أ: انفصل منهم.

(4)

في تاريخه (3/ 605) والخبر أيضًا في الكامل لابن الأثير (2/ 498).

(5)

في أ: وكانت.

(6)

أجنادين: موضع معروف بالشام من نواحي فلسطين، كانت به وقعة مشهورة بين المسلمين والروم. معجم البلدان (1/ 103).

(7)

في أ: وذلك أنه لما سار.

(8)

في تاريخ الطبري (3/ 605) تتفرّج.

(9)

في أ: الفارسي ومروان بن بلال العلي. وفي تاريخ الطبري (3/ 605) والكامل لابن الأثير (2/ 498) ومسروق ابن فلان العكّي.

ص: 155

لا يقدر من الأرطبون على سقطة ولا تشفيه الرسل فوليه بنفسه، فدخل عليه كأنه رسولٌ، فأبلغه ما يريدُ وسمعَ كلامَه وتأمل حضرته

(1)

حتى عرف ما أراد، وقال الأرطبون في نفسه: واللهِ إنَّ هذا لعمرو أو أنَّه الذي يأخذُ عمرو برأيه، وما كنتُ لأصيبَ القومَ بأمرٍ هو أعظم من قتله. فدعا حَرَسِيَّا فسارَّه فأمره بقتله

(2)

فقال: اذهب فقم في مكان كذا وكذا، فإذا مر بك

(3)

فاقتله، ففطن عمرو بن العاص، فقال للأرطبون: أيها الأميرُ إني قد سمعتُ كلامَكَ وسمعتَ كلامي، وإني واحد من عشرة بعثنا عمرُ بن الخطابِ لنكونَ مع هذا الوالي لنشهدَ أمورَهُ، وقد أحببتُ أن آتيكَ بهم ليسمَعُوا كلامَكَ ويروا ما رأيتَ. فقال الأرطبون: نعم! فاذهبْ فأتني بهم، ودعا رجلًا فسارَّه فقال: اذهب إلى فلانٍ فردَّه. وقام عمرو فذهبَ إلى جيشه ثم تحقَّق الأرطبونُ أنه عمرُو بن العاص، فقال: خَدَعني الرجلُ، هذا والله أدهَى العربِ. وبلغت عمرَ بن الخطاب فقال: لله در عمرو. ثم ناهضه عمرو فاقتتلوا بأجنادين قتالًا عظيمًا، كقتال اليرموك، حتى كثرتِ القتلى بينهم ثم اجتمعت بقيةُ الجيوشِ إلى عمرو بن العاص، وذلك حين أعياهم صاحب إيلياء وتحصَّنَ منهم بالبلدِ، وكثُر جيشُه، فكتب الأرطبون إلى عمرو بأنَّكَ صديقي ونظيري أنت في قومك مثلي في قومي، والله لا تفتحُ من فلسطين شيئًا بعد أجنادين فارجع ولا تغرَّ فتلقى مثلَ ما لقي الذين قبلك من الهزيمة، فدعا عمرو رجلًا يتكلم بالرُّومية، فبعثه إلى أرطبون وقال: اسمع ما يقول لك ثم ارجع فأخبرني. وكتبَ إليه معه: جاءني كتابُكَ وأنتَ نظيري ومثلي في قومك، لو أخطأتْكَ خَصْلَة تجاهلت فضيلتي وقد علمتَ أنّي صاحب فتح هذه البلاد، وأقرأ كتابي هذا بمحضرٍ من أصحابك ووزرائك. فلما وصله الكتاب جمع وزراءه، وقرأ عليهم الكتاب. فقالوا للأرطبون: من أين علمتَ أنه ليس بصاحب فتح هذه البلاد؟ فقال: صاحبُها رجل اسمه على ثلاثة أحرف. فرجع الرسولُ إلى عمرو فأخبره بما قال. فكتب عمرو إلى عمر يستمده ويقول له: إني أعالج حربًا

(4)

كؤودًا صدومًا، وبلادًا ادخرَتْ لكَ، فرأيكَ. فلما وصل الكتاب إلى عُمر علم أن عَمْرًا لم يقل ذلك إلا لأمرٍ علمه، فعزم عمرُ على الدخول إلى الشام لفتح بيتِ المقدسِ كما سنذكر تفصيله.

[دخل عمر الشامَ أربع مرات]

قال سيفُ بن عمر عن شيوخه: وقد دخل عمرُ الشام أربعَ مراتٍ، الأولى كان راكبًا فرسًا حين فتح بيت المقدس، والثانية على بعيبر، والثالثة وصلَ إلى سَرْع

(5)

ثم رجع لأجل ما وقعَ بالشام

(1)

في أ: خصومة. وفي تاريخ الطبري (3/ 605): حصونه. وهي الأشبه.

(2)

في ط: بفتكه.

(3)

في أ: فإذا أمرتك.

(4)

في أ: كربًا.

(5)

في ط: سرع. وسرغ: هو أول الحجاز وآخر الشام بين المغيثة وتبوك من منازل حاج الشام، وهناك لقي عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمراء الأجناد. معجم البلدان (3/ 211 - 212).

ص: 156

من الوباء. والرابعة دخلها على حمار هكذا نقله ابن جرير عنه

(1)

.

‌فَتْحُ بيتِ المَقْدسِ على يَدَيْ عُمرَ بن الخطَّابِ

ذكره أبو جعفر بن جرير

(2)

في هذه السنة عن رواية سيف بن عمر، ومُلَخَّص ما ذكره هو وغيره: أنّ أبا عبيدة لما فرغَ من دمشق كتبَ إلى أهل إيليا

(3)

يدعوهم إلى الله وإلى الإسلام، أو يبذلون الجزيةَ أو يؤذنوا بحربٍ. فأبَوْا أن يجيبوا إلى ما دعاهم إليه. فركبَ إليهم في جنوده واستخلفَ على دمشق سعيدَ بن زَيْد، ثم حاصرَ بيت المَقْدس وضيَّقَ عليهم حتى أجابوا إلى الصلح بشرطِ أن يقدم إليهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب. فكتب إليه أبو عبيدة بذلك، فاستشار عمر الناسَ في ذلك، فأشار عثمان بن عفان بأن لا يركبَ إليهم ليكونَ أحقرَ لهم وأرغمَ لأنوفهم، وأشار علي بن أبي طالب بالمسير إليهم ليكونَ أخفَّ وطأةً على المسلمين في حصارهم بينهم، فهوي ما قالَ عليّ، ولم يهو ما قال عثمان. وسار بالجيوش نحوهم واستخلف على المدينة عليَّ بن أبي طالب، وسار العباس بن عبد المطلب على مقدمته، فلما وصل إلى الشام تَلقّاه أبو عبيدة ورؤوسُ الأمراءَ، كخالد بن الوليد، ويزيد بن أبي سفيان، فترجَّل أبو عبيدة، وترجَّل عمر فأشار أبو عبيدة ليقبّل يد عمر فهم عمرُ بتقبيل رِجلِ أبي عبيدة، فكفَّ عمر. ثم سار حتى صالحَ نصارى بيت المقدس، واشترطَ عليهم إجلاء الروم إلى ثلاث ثم دخلها إذ دخل المسجد من الباب الذي دخل منه رسول الله ليلةَ الإسراء. ويقال إنه لبَّى حينَ دخل بيت المقدس فصلَّى فيه تحية المسجد بمحراب داود، وصلَّى بالمسلمين فيه صلاةَ الغداة من الغد فقرأ في الأولى بسورة ص وسجد فيها والمسلمون معه، وفي الثانية بسورة بني إسرائيل، ثم جاء إلى الصخرة فاستدلّ على مكانها من كعب الأحبار، وأشار عليه كعب أن يجعلَ المسجد من ورائه

(4)

، فقال: ضاهيت اليهودية. ثم جعل المسجد في قِبْلِي بيت المقدس، وهو العُمَريّ اليوم، ثم نقل التراب عن الصخرة في طرف ردائه وقبائه، ونقل المسلمون معه في ذلك، وسخر أهل الأردن في نقل بقيتها، وقد كانت الروم جعلوا الصخرة مزبلةً لأنها قبلة اليهودِ، حتى إنَّ المرأة كانت ترسلُ خرقةَ حيضتها من داخل الحوز لتلْقى في الصخرة، وذلك مكافأة لما كانت اليهودُ عاملتْ به القمامةَ، وهي المكانُ الذي كانت اليهود صلبوا فيه المصلوبَ فجعلوا يُلْقون على قبره القمامة، فلأجل ذلك سُمّي ذلك الموضع القمامة وانسحبَ هذا الاسم على الكنيسة التي بناها النصارى هنالك.

وقد كان هرقل حين جاءه الكتاب النبويّ، وهو بإيلياء، وعظ النصارى فيما كانوا قد بالغوا في إلقاء

(1)

في تاريخه (3/ 607) و (4/ 57).

(2)

في تاريخه (3/ 607).

(3)

إيلياء: اسم مدينة بيت المقدس: قيل معناه: بيت الله.

(4)

في أ: من ورائها.

ص: 157

الكناسة على الصخرة حتى وصلت إلى محراب داود، قال لهم: إنكم لخليقٌ أن تقتلوا على هذه الكناسة مما امتهنتم هذا المسجد، كما قتلت بنو إسرائيل على دم يحيى بن زكريا، ثم أمروا بإزالتها فشرعوا في ذلك فما أزالوا ثلثها حتى فتحها المسلمون، فأزالها عمر بن الخطاب وقد استقصى هذا كله بأسانيده ومتونه الحافظ بهاء الدين بن الحافظ أبي القاسم بن عساكر في كتابه "المستقصى في فضائل المسجد الأقصى".

وذكر سيفٌ

(1)

في سياقه: أن عمر رضي الله عنه ركبَ من المدينة على فرس ليسرع السير بعد ما استخلف عليها علي بن أبي طالب، فسار حتى قدم الجابية فنزل بها وخطبَ بالجابية خطبةً طويلةً بليغةً منها:"أيها الناسُ أصْلحُوا سَرائرَكُم تَصْلُحْ علانيتكُمْ، واعملُوا لآخرتِكُم تُكْفَوا أمرَ دنياكم، واعلموا أن رجلًا ليس بينه وبين آدم أبٌ حيٌّ، ولا بينه وبين الله هوادةٌ، "فمن أراد بُحْبُوحَةَ

(2)

الجنة فليلزمِ الجماعة، فإن الشيطانَ مع الواحدِ وهو مع الاثنين أبعد، ولا يخلون أحدُكم بامرأةٍ فإنَّ الشيطانَ ثالثُهما، ومن سرَّتْهُ حَسَنتُهُ وسَاءَتْهُ سَيِّئتُهُ فهو مؤمن"

(3)

. وهي خطبةٌ طويلةٌ اختصرناها.

ثم صالح عمرُ أهلَ الجابية ورحل إلى بيتِ المَقْدسِ وقد كتب إلى أمراءَ الأجْنادِ أن يوافوه في اليوم الفلاني إلى الجابية فتوافَوْا أجمعون في ذلك اليوم إلى الجابية، فكان أول من تلقاه يزيد بن أبي سفيان، ثم أبو عبيدة، ثم خالد بن الوليد في خيول المسلمين وعليهم يلامقُ

(4)

الدِّيباح، فسار إليهم عمر ليحصبهم

(5)

فاعتذروا إليه بأنَّ عليهم السلاحَ، وأنهم يحتاجون إليه في حروبهم. فسكت عنهم واجتمعَ الأمراءُ كلهم بعد ما استخلفوا على أعمالهم، سوى عمرو بن العاص وشُرَحبيل فإنهما مواقفان

(6)

الأرطبون بأجنادين.

فبينما عمر في الجابية إذا بكُردوس من الروم بأيديهم سيوفٌ مُسلَّلة، فسار إليهم المسلمون بالسلاح فقال عمر: إن هؤلاء قومٌ يستأمنون. فساروا نحوهم فإذا هم جندٌ من بيت المقدس يطلبون الأمانَ والصلحَ من أمير المؤمنين حين سمعوا بقدومه، فأجابهم عمرُ رضي الله عنه إلى ما سألوا، وكتب لهم كتابَ أمانٍ ومصالحة، وضرب عليهم الجزيةَ، واشترطَ عليهم شروطًا ذَكرها ابن جرير

(7)

، وشهد في الكتاب خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاوية بن أبي سفيان، وهو كاتب الكتاب، وذلك في سنة خمسة عشر.

(1)

تاريخ الطبري (3/ 111).

(2)

في الأصل والمطبوع: لحب وجه، وهو تحريف والتصحيح من مسند أحمد وغيره.

(3)

الخطبة: أوردها الإمام أحمد في مسنده (1/ 18 و 26). والترمذي رقم (2165) وابن ماجه رقم (2363).

(4)

يلامق: جمع يَلْمق وهو القَباء نوع من الثياب. اللسان (يلمق - قبا).

(5)

يحصبهم: يرميهم بالحصباء، وهو الحصى الصغار. النهاية (1/ 393 - 394).

(6)

واقفه مواقفة ووقافًا: وقف معه في حرب أو خصومة. اللسان (وقف).

(7)

في تاريخه (3/ 609).

ص: 158

ثم كتب لأهل لُدٍّ

(1)

ومَنْ هنالك من الناس كتابًا آخر وضربَ عليهم الجزيةَ، ودخلوا فيما صالحَ عليه أهل إيلياء، وفرَّ الأرطبون إلى بلاد مصر، فكان بها حتى فتحَها عمرو بن العاص، ثم فرَّ إلى البحر فكان يلي بعض السرايا الذين يقاتلون المسلمين، فظفر به رجل من قيس فقطع يد القيسي وقتله القيسي وقال في ذلك:[من البسيط]

فإنْ يكنْ أرطبونُ الرُّومِ أفْسدها

فإنَّ فيها بحمدِ اللّهِ مُنْتَفعا

وإنْ يكنْ أرطبونُ الرومِ قطَّعها

فقد تركتُ (بها) أوصالَه قِطَعا

ولما صالح أهلُ الرملة وتلك البلاد، أقبلَ عمرو بن العاص وشُرَحْبيل بن حَسَنة حتى قدما الجابيةَ فوجدا أمير المؤمنين عمرَ بن الخطاب راكبًا، فلما اقتربا منه أكبَّا على ركبتيه فقبَّلاها واعتنقهما عمر معًا رضي الله عنهم.

قال سيف

(2)

: ثم سار عمر إلى بيت المقدس من الجابية وقد توحّى

(3)

فرسه فأتوه ببرذون فركبه فجعل يهملج

(4)

به فنزل عنه وضرب وجهه، وقال: لا علّم الله من علَّمك، هذا من الخيلاء، ثم لم يركب برذونًا قبله ولا بعده، ففُتحت إيلياء وأرضُها على يديه ما خلا أجنادين فعلى يدي عمرو. وقيسارية فعلى يدي معاوية.

هذا سياق سيف بن عمر، وقد خالفه غيره من أئمة السير فذهبوا إلى أن فتح بيت المقدس كان في سنة ست عشرة.

قال محمد بن عائذ: عن الوليد بن مسلم، عن عثمان بن حصن بن علان، قال يزيد بن عبيدة: فتحت بيت المَقْدس سنةَ ستَّ عشرةَ، وفيها قدم عمرُ بن الخطاب الجابية. وقال أبو زرعة الدمشقي

(5)

: عن دُحَيم، عن الوليد بن مسلم قال: ثم عاد في سنة سبع عشرة فرجع من سَرْع

(6)

، ثم قدم سنة ثماني عشرة فاجتمع إليه الأمراء وسلّموا إليه ما اجتمع عندهم من الأموال فقسَّمها وجنّد الأجناد ومصَّر الأمصار ثم عاد إلى المدينة.

وقال يعقوب بن سفيان

(7)

: ثم كان فتح الجابية وبيت المقدس سنة ست عشرة. وقال أبو معشر: ثم

(1)

لدٌّ: قرية قرب بيت المقدس من نواحي فلسطين ببابها يدرك عيسى بن مريم الدجال فيقتله. معجم البلدان (5/ 15).

(2)

تاريخ الطبري (3/ 610).

(3)

الوحَى: العجلة، وتوحّى: أسرع. اللسان (وحي) وفي تاريخ الطبري: يتوجّى.

وقال محققه: وجى الفرس وتوجى إذا وجد وجعًا في حافره.

(4)

الهَمْلجة والهِملاج: الحسن السير في سرعة وبخترة. اللسان (هملج).

(5)

تاريخ أبي زرعة الدمشقي (ص 178).

(6)

في أ، ط: سرع؛ خطأ والصحيح ما أثبت، وقد مر التعريف بها قبل صفحات.

(7)

المعرفة والتاريخ (1/ 29) طبعة مؤسسة الرسالة، والخبر من القسم المفقود وهو من استدراكات المحقق.

ص: 159

كان عَمَواس والجابية في سنة ستَ عشرة. ثم كانت سَرْغ في سبع عشرة، ثم كان عام الرمادة في سنة ثماني عشرة، قال: وكان فيها طاعون عَمَواس - يعني فتح البلدة المعروفة بعَمَواس

(1)

- فأما الطاعون المنسوب إليها فكان في سنة ثماني عشرة كما سيأتي قريبًا إن شاء الله تعالى.

قال أبو مخنف

(2)

: لمَّا قدمَ عمرُ الشامَ فرأى غوطةَ دمشق ونظر إلى المدينة والقصور والبساتين تلا قوله تعالى: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ} [الدخان: 25 - 28]. ثم أنشد قول النابغة

(3)

. [من الطويل]

هُما فَتَيا دَهْرٍ يكُرُّ عليهما

نهارٌ وليلٌ يلحقانِ التَّواليا

إذا ما هُما مَرّا بحيٍّ بغبطةٍ

أناخا بهم حتى يُلاقوا الدَّواهيا

وهذا يقتضي بادئ الرأي أنه دخلَ دمشقَ وليس كذلك، فإنّه لم ينقل أحدٌ أنه دخلها في شيء من قدَماته الثلاث إلى الشام، أما الأولى وهي هذه فإنه سارَ من الجابية إلى بيت المقدس، كما ذكر سيف وغيره واللّه أعلم، وقال الواقدي: أما رواية غير أهل الشام فهي أنَّ عمرَ دخلَ الشامَ مرتين ورجع الثالثةَ من سَرْغ سنة سبع عشرة، وهم يقولون دخلَ في الثالثة دمشق وحمص وأنكر الواقديُّ ذلك.

قلت: ولا يعرف أنه دخل دمشق إلا في الجاهلية قبل إسلامه كما بسطنا ذلك في سيرته. وقد روينا أن عمر حين دخلَ بيتَ المقدس سأل كعب الأحبار عن مكان الصخرة فقال: يا أميرَ المؤمنين أذرع (من) وادي جهنَّم كذا وكذا ذراعًا فهي ثمَّ. فذرعوا فوجدوها، وقد اتخذها النَّصارى مَزْبلةً، كما فعلتِ اليهودُ بمكانِ القُمامة، وهو المكانُ الذي صُلب فيه المَصْلوب الذي شُبِّه بعيسى فاعتقدتِ النصارى واليهودُ أنه المسيحُ. وقد كذِّبوا في اعتقادهم هذا كما نصَّ الله تعالى على خطئهم في ذلك. والمقصودُ أنَّ النصارى لما حكموا على بيت المقدس قبلَ البعثة بنحوٍ من ثلاثمئة سنة، طَهروا مكان القُمامة واتخذُوه كنيسةً هائلةً بَنَتْها أمُّ الملك قسطنطين باني المدينة المنسوبة إليه، واسم أمه هيلانة (الحرانية) البندقانية

(4)

. وأمرت ابنها فبنى للنَّصارى بيتَ لحم على موضع الميلاد، وبنت هي على موضع القبر فيما يزعمون. والغرضُ أنَّهم اتخذوا مكانَ قبلة اليهود مزبلةَ أيضًا، في مقابلة ما صنعوا في قديم الزمان وحديثه. فلما فتحَ عمرُ بيت المقدس وتحقق موضع الصخرة، أمر بإزالة ما عليها من الكناسة حتى قيل إنه كنسها بردائه، ثم

(1)

عَمَواس: قرية من قرى الشام، بين الرملة وبين بيت المقدس، وهي التي ينسب إليها الطاعون لأنه منها بدَا. معجم ما استعجم (971).

(2)

الخبر في تاريخ دمشق لابن عساكر - ترجمة عمر - (ص 4) ط: مؤسسة الرسالة.

(3)

البيت الأول في ديوان النابغة الجعدي (169) والبيت الثاني في المنازل والديار لابن منقذ (493) وهما أيضًا في تاريخ دمشق لابن عساكر ترجمة عمر بن الخطاب ص (4).

(4)

في أ: الفندقانية.

ص: 160

استشار كعبًا أين يضعُ المَسْجد؟ فأشار

(1)

عليه بأن يجعله وراءَ الصخرة، فضربَ في صدره وقال. يا ابنَ أمِّ كعب ضارعتَ اليهود

(2)

وأمر ببنائه في مُقَدَّمِ بيت المقدس.

قال (الإمام) أحمد

(3)

: حدَّثنا أسود بن عامر، حدَّثنا حماد بن سلمة، عن أبي سنان، عن عبيد بن آدم وأبي مريم وأبي شعيب أنَّ عمر بن الخطاب كان بالجابية فذكر فتح بيت المقدس، قال قال ابن سلمة؛ فحدثني أبو سنان عن عبيد بن آدم سمعت عمر يقول لكعب: أين ترى أن أصلي؟ قال إن أخذت (عني) صليت خلفَ الصخرة وكانت القدسُ كلُّها بين يديك، فقال عمر: ضاهيتَ اليهوديةَ لا ولكن أصلِّي حيثُ صلَّى رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم، فتقدَّم إلى القبلة فصلَّى، ثم جاء فبسط رداءَهُ وكَنَس الكُناسة في ردائه وكنسَ الناسُ.

وهذا إسناد جيد اختاره الحافظ ضياء الدين المقدسي في كتابه "المُسْتخرج" وقد تكلَّمنا على رجاله في كتابنا الذي أفردناه في "مسند عمر"

(4)

ما رواه من الأحاديث المرفوعة وما روي عنه من الآثار الموقوفة مبوبًا على أبواب الفقه وللّه الحمد والمنة.

وقد رَوى سيفُ بن عمر

(5)

عن شيوخه

(6)

عن سالم قال: لمّا دخلَ عمرُ الشامَ تلقاه رجلٌ من يهود دمشق، فقال السلامُ عليك يا فاروقُ، أنتَ صاحبُ إيلياء؟ لا ها للّه لا ترجع حتى يفتح اللّهُ عليك إيلياء.

وقد روى أحمد بن مروان الدِّينوري

(7)

، عن محمد بن عبد العزيز، عن أبيه، عن الهيثم بن عدي، عن أسامة بن زيد بن أسلم عن أبيه، عن جده أسلم - مولى عمر بن الخطاب - أنّه قدم دمشق في تجار من قريش، فلما خرجوا تخلَّف عمرُ لبعض حاجته، فبينما هو في البلد إذا ببطْريقٍ يأخذُ بعنقه، فذهب ينازعه فلم يقدر، فأدخل دارًا فيها ترابٌ وفأس ومجرفةٌ وزنبيلٌ، وقال له: حوّل هذا من هاهنا إلى هاهنا، وغلق عليه الباب، وانصرف فلم يجئ إلى نصف النهار.

قال: وجلست مفكرًا ولم أفعل مما قال لي شيئًا. فلما جاء قال: ما لك لم تفعل؟ ولكمني في رأسي بيده قال: فأخذت الفأس فضربته بها فقتلته وخرجت على وجهي فجئت ديرًا لراهبٍ فجلستُ عنده من

(1)

في أ: فشار.

(2)

في أ: اليهودية.

(3)

في مسنده (1/ 38) رقم (261) ومن طريقه الضياء في المختارة رقم (241).

(4)

مسند عمر (1/ 160)، وقال هناك: هذا حديث حسن، وهو اجتهاده رحمه الله، وفي إسناده عيسى بن سنان الحنفي القسملي، ضعفه ابن معين وأحمد وأبو زرعة ووثقه بعضهم، وقال أبو حاتم: ليس يقوى في الحديث، وقال الحافظ ابن حجر في التقريب: ليّن الحديث، وهو كما قال، فمثله لا يحتمل التفرد.

(5)

تاريخ الطبري (3/ 608).

(6)

في أ: عن مبشر عن سالم.

(7)

أحمد بن مروان الدِّينوري، محدث، فقيه نزل مصر وبها توفي سنة (298) من تآليفه مناقب مالك، والرد على الشافعي، وكتاب المجالسة. معجم المؤلفين (2/ 174).

ص: 161

العشي، فأشرفَ علي فنزل وأدخلني الدير فأطعمني وسقاني، وأتحفني، وجعل يحقّق النظر فيّ، وسألني عن أمري فقلت: إني أضللت أصحابي. فقال: إنك لتنظر بعينِ خائفٍ، وجعل يتوسّمني ثم قال: لقد علم أهل دين النصرانية أني أعلمهم بكتابهم، وإني لأراك الذي تخرجنا من بلادنا هذه، فهل لكَ أن تكتبَ لي كتابَ أمانٍ على ديري

(1)

هذا؟ فقلت: يا هذا لقد ذهبتَ غير مذهب. فلم يزل بي حتى كتبت له صحيفةً بما طلب مني، فلما كان وقتُ الانصراف أعطاني أتانًا فقال لي: اركبها، فإذا وصلت إلى أصحابك فابعث إليَّ بها وحدَها فإنها لا تمرّ بدير إلا أكرموها. ففعلتُ ما أمرني به، فلما قدم عمر لفتح بيت المقدس أتاه ذلك الراهب وهو بالجابية بتلك الصحيفة فأمضاها له عمر واشترط عليه ضيافة من يمرّ به من المسلمين، وأن يرشدهم إلى الطريق.

رواه ابن عساكر

(2)

وغيره. وقد ساقه ابن عساكر

(3)

من طريق أخرى في ترجمة يحيى بن عبد الله بن أسامة القرشي البَلْقاوي عن زيد بن أسلم، عن أبيه فذكر حديثًا

(4)

طويلًا عجيبًا هذا (بعضه). وقد ذكرنا الشروطَ العمرية على نصارى الشام مَطوّلًا في كتابنا "الأحكام" وأفردنا له مصنفًا على حِدَةٍ وللّه الحمد والمنة.

(وقد) ذكرنا خطبته في الجابية بألفاظها وأسانيدها في الكتاب الذي أفردناه لمسند عمر، وذكرنا تواضعه في دخوله الشام في السيرة التي أفردناها له.

وقال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدَّثني الربيعُ بن ثَعْلب، حدَّثنا أبو إسماعيل المؤدّب، عن عبد الله بن مسلم بن هُرْمز المكّي، عن أبي العالية

(5)

الشامي قال: قدمَ عمرُ بن الخطاب الجابية على طريق إيلياء على جملٍ أوْرَق

(6)

، تلوحُ صلعتُه للشمس، ليس عليه قلنسوةٌ ولا عمامةٌ، تصطفقُ رجلاه بين شعبتي الرَّحل بلا ركاب، وِطاؤُه

(7)

كِساءٌ أنْبِجانيٌّ

(8)

ذو صُوف هو وطاؤُه إذا ركب، وفراشُه إذا نزل، حقيبته نمرة

(9)

أو شملة محشّوة ليفًا، هي حقيبته إذا ركب ووسادته إذا نزل، وعليه قميصٌ من كرابيس

(10)

قد

(1)

في أ: على ديني هذا.

(2)

في تاريخ دمشق - ترجمة عمر بن الخطاب - ص (4 - 5) طبعة مؤسسة الرسالة.

(3)

مختصر تاريِخ دمشق لابن منظور (27/ 269 - 274).

(4)

في أ: خبرًا.

(5)

في ط: أبي الغالية. خطأ.

(6)

الأورق من الإبل: الذي في لونه بياض إلى سواد، الوُرْقة: سواد في غبرة. اللسان (ورق).

(7)

الوِطاء: خلاف الغطاء. اللسان (وطأ).

(8)

أنبجاني: كساء يتخذ من الصوف له خَمْلٌ ولا علم له، منسوب إلى بلد اسمه أنبجان - بكسر الباء - اللسان (نبج).

(9)

النَّمِرَة: بردة من صوف مخطَّطة كأنها أخذت من لون النمر لما فيها من السواد والبياض. اللسان (نمر).

(10)

كَرابيس: جمع كِرْباس وهو القطن. اللسان (كربس).

ص: 162

رسم

(1)

وتَخرَّق جنبه. فقال: ادعوا لي رأسَ القوم، فدعوا له الجلومس، فقال: اغسلوا قميصي وخَيِّطوه وأعيروني ثوبًا أو قميصًا. فأُتي بقميص كتانٍ فقال: ما هذا؟ قالوا: كتان. قال: وما الكتان؟ فأخبروه فنزعَ قميصَه فغُسل ورُقع وأُتي به فنزعَ قميصَهم ولبس قميصَه. فقال له الجلومس: أنتَ ملكُ العرب وهذه بلادٌ لا تصلح بها الإبلُ، فلو لبستَ شيئًا غير هذا وركبتَ برذونًا لكان ذلك أعظم في أعين الروم. فقال: نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فلا نطلب بغير الله بديلًا. فأُتي ببرذون فطرح عليه قطيفة بلا سرج ولا رحلٍ فركبه بها فقال: احبسوا احبسوا، ما كنتُ أرى الناسَ يركبونَ الشيطان قبل هذا فأُتي بجمله فركبه.

وقال إسماعيل بن محمد الصَّفّار

(2)

: حدَّثنا سعدان بن نصر، حدَّثنا سفيان، عن أيوب الطائي، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب قال:

لمّا قدم عمرُ الشامَ عرضتْ له مخاضةٌ فنزل عن بعيره ونزعَ موقية

(3)

فأمسكهما بيدٍ

(4)

وخاض الماء ومعه بعيره، فقال له أبو عبيدة: قد صنعتَ اليوم صنيعًا عظيمًا عند أهل الأرض، صنعت كذا وكذا، قال: فصكَّ في صدره وقال: أوَ لَوْ غيرك يقولُها يا أبا عبيدة، إنكم كنتم أذل الناس وأحقر الناس وأقل الناس، فأعزَّكم الله بالإسلام فمهما تطلبوا العزَّ بغيره يذلكم الله.

قال ابن جرير

(5)

: وفي هذه السنة - أعني سنة خمس عشرة - كانت بين المسلمين وفارس وقعات في قول سيف بن عمر. وقال ابن إسحاق والواقدي: إنما كان ذلك في سنة ست عشرة، ثم ذكر ابن جرير وقعاتٍ كثيرة كانت بينهم، وذلك حين بعث عمرُ بن الخطاب إلى سعدِ بن أبي وقاص يأمره بالمسير إلى المدائن، وأن يخلف النساء والعيال بالعتيق

(6)

في خيل كثيرة كثيفة. فلما تفرَّغَ سعدٌ من القادسيةِ بعثَ على المقدِّمة زُهْرة بن حويَّة، ثم أتبعه بالأمراء واحدًا بعد واحد، ثم سار في الجيوش، وقد جعل هاشم بن عتبة بن أبي وقاص على خلافته مكان خالد بن عُرْفطة. وجعل خالدًا هذا على الساقة، فساروا في خيول عظيمة، وسلاح كثير، وذلك لأيامٍ بقينَ من شوّال من هذه السنة، فنزلوا الكوفة وارتحل زهرة بين أيديهم نحو المدائن، فلقيه بها بُصْبُهرى في جيش من فارس فهزمهم زُهْرة وذهبت الفرس في هزيمتهم

(1)

الرسم: الأثر. اللسان (رسم) أراد أن القميص لم يبق منه إلا أثر.

(2)

تاريخ دمشق لابن عساكر - ترجمة عمر بن الخطاب - ص (3).

(3)

موقيه: خُفَّيْه. اللسان (موق).

(4)

في أ: بيده.

(5)

تاريخه (3/ 618).

(6)

في ط: "بالعقيق" وهو تحريف، وما أثبتناه يعضده ما في تاريخ الطبري، وهو الذي يتفق والسياق الجغرافي والتاريخي، فالعتيق: واد بظاهر البصرة مما يلي سفوان (كما في معجم البلدان 4/ 140) وغيره، فأمِن سعد منه، وهو بالقادسية!

ص: 163

إلى بابل (وبها جمع كثير ممن انهزم يوم القادسية قد جعلوا عليهم الفيرُزان، فبعث زُهرة إلى سعد فأعلمه باجتماع المنهزمين ببابل، فسار سعد بالجيوش إلى بابل)، فتقابل هو والفيرُزان عند بابل فهزمهم كأسرع من لفَّة الرِّداء، وانهزموا (بين يديه) فرقتين ففرفة ذهبت إلى المدائن، وأخرى سارت

(1)

إلى نهاوند، وأقام سعد ببابل أيامًا، ثم سار منها نحو المدائن، فلقوا جمعًا آخر من الفُرس، فاقتتلوا قتالًا شديدًا وبارزوا

(2)

أميرَ الفُرس، وهو شهريار، فبرز إليه رجل من المسلمين يقال له نائل الأعرجي أبو نباتة

(3)

من شجعان بني تميم، فتجاولا ساعةً بالرّماح، ثم ألقياها فانتضيا سيفيهما وتصاولا بهما، ثم تعانقا وسقطا عن فرسَيْهما إلى الأرض، فوقع شهريار على

(4)

صدر أبي نباتة، وأخرج خنجرًا ليذبحه بها، فوقعت أصبعه في فم أبي نباتة فقضمها حتى شغله عن نفسه، وأخذ الخنجر فذبح شهريار بها وأخذ فرسه وسِوَارَيْه وسَلبَه، وانكشف أصحابه فهزموا، فأقسم سعد على نائل ليلبس سِوَاري شهريار وسلاحه، وليركبنَّ فرسه إذا كان حربٌ، فكان يفعل ذلك، قالوا: وكان أول من تسوَّر بالعراق، وذلك بمكانٍ يقال له كوثى

(5)

. وزار المكان الذي حُبس فيه الخَليل وصلَّى عليه وعلى سائر الأنبياء، وقرأ:{وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 140] الآية.

‌بَهُرَسِير

(6)

قالوا: ثم قدّم سعد زهرة بين يديه من كوثى إلى بَهُر سير فمضى إلى المقدمة وقد تلقاه شيرزاذ إلى ساباط بالصلح والجزية فبعثه إلى سعد فأمضاه، ووصل سعد بالجنود إلى مكان يقال له مظلم ساباط، فوجدوا هنالك كتائب كثيرة لكسرى يسمونها بوران

(7)

، وهم يقسمون كل يوم لا يزول ملك فارس ما عشنا، ومعهم أسد كبير لكسرى يقال له المقرَّط، قد أرصدوه في طريق المسلمين، فتقدم إليه ابن أخي سعد، وهو هاشم بن عتبة، فقتل الأسد والناس ينظرون، وسمي يومئذ

(8)

سيفه المتين، وقبّل سعدٌ يومئذ رأسَ هاشم، وقبَّل هاشمٌ قدم سعد. وحملَ هاشمٌ على الفُرس فأزالهم عن أماكنهم وهزمهم وهو

(1)

في أ: صارت.

(2)

في أ: وبارز.

(3)

في أ: نائل الأعرج أبو نباتة. وفي تاريخ الطبري (3/ 621): أبو نباتة نائل بن جعشم الأعرجي.

(4)

في أ: عن.

(5)

كوثى - بالضم ثم السكون، والثاء مثلثة، وألف مقصورة تكتب بالياء لأنها رابعة الاسم - موضع بسواد العراق في أرض بابل سار إليها سعد بعد القادسية. معجم البلدان (4/ 487) وبلدان الخلافة الشرقية (94).

(6)

في أ، ط: نهرشير، وفي تاريخ الطبري (3/ 622): بَهُرَ سير وكذلك في معجم البلدان (1/ 515) وضبطها ياقوت بالفتح، ثم الضم، وفتح الراء، وكسر السين المهملة، وياء ساكنة وراء من نواحى سواد بغداد قرب المدائن، وقيل هي إحدى المدائن السبع التي سميت بها المدائن.

(7)

في أ: نوزان؛ تحريف. وهي كما أثبتنا في تاريخ الطبري (3/ 622).

(8)

في أ: وسمى سيفه يومئذ.

ص: 164

يتلو

(1)

قوله تعالى: {أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ} [إبراهم: 44] فلما كان الليلُ ارتحل المسلمون ونزلوا بَهُرَ سير فجعلوا كُلَّما وقفوا كَبَّروا، وكذلك حتى كان آخرهم مع سعد فأقاموا بها شهرين ودخلوا في الثالث وفرغت السنة.

قال ابن جرير

(2)

: وفيها حجَّ بالنَّاس عُمر، وكان عامله فيها على مكَّة عَتّاب (بن أسيد)، وعلى الشام أبو عُبَيْدة، وعلى الكوفه

(3)

والعراق سعد، وعلى الطائف يعلى بن أمية

(4)

وعلى البحرين واليمامة عثمان بن أبي العاص، وعلى عُمان حُذيْفة بن محصن

(5)

.

قلت: وكانت وقعة اليرموك في سنة خمس عشرة في رجب منها عند الليث بن سعد وابن لهيعة وأبي معشر والوليد بن مسلم ويزيد بن عبيدة وخليفة بن خَيّاط وابن الكلبي ومحمد بن عائذ وابن عساكر وشيخنا أبي عبد الله الذهبي الحافظ

(6)

. وأما سيف بن عمر وأبو جعفر بن جرير فذكروا وقعة اليرموك في سنة ثلاث عشرة. وقد قدمنا ذكرها هنالك تبعًا لابن جرير، وهكذا وقعة القادسية عند بعض الحفاظ أنها كانت في أواخر هذه السنة - سنة خمس عشرة - وتبعهم في ذلك شيخنا الحافظ الذهبي

(7)

. والمشهور أنها كانت في سنة أربع عشرة كما تقدم. ثم ذكر شيخنا الذهبي

(8)

:

‌من توفي في هذه السنة مرتبين على الحروف:

سعد

(9)

بن عبادة الأنصاري الخزرجي: وهو أحد أقوال المؤرخين وقد تقدم.

سعد

(10)

بن عُبَيْد بن النُّعمان أبو زيد الأنصاري الأوْسمي: قُتل بالقادسية، ويقال إنه أبو زيد القارئ أحد الأربعة الذين جَمَعوا القرآنَ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأنكر آخرون ذلك، ويقال إنه والد عُمَيْر بن سَعْد

(1)

في أ: وهو يتلو له.

(2)

في تاريخه (3/ 623).

(3)

في تاريخ الطبري: وعلى قضائها أبو قرة.

(4)

في تاريخ الطبري: منية - وهي أمه - وترجمته في جامع الأصول (15/ 542) وسير أعلام النبلاء (3/ 100).

(5)

بعده في تاريخ الطبري: وعلى البصرة وأرضها المغيرة بن شعبة.

(6)

تاريخ خليفة (ص 130) وتاريخ الإسلام للذهبي (2/ 10) وقال الذهبي: وقيل سنة ثلاث عشرة وأراه وهمًا.

(7)

في تاريخه (2/ 11).

(8)

المصدر نفسه (2/ 13 - 17).

(9)

ترجمة - سعد بن عبادة - في الاستيعاب (594) وجامع الأصول (14/ 168). وأسد الغابة (2/ 356) ومختصر تاريخ دمشق لابن منظور (9/ 235) وسير أعلام النبلاء (1/ 270).

(10)

ترجمة - سعد بن عبيد - في الاستيعاب (600) وجامع الأصول (14/ 170) وأسد الغابة (2/ 359) وسير أعلام النبلاء (5/ 9) والإصابة (2/ 31).

ص: 165

الزاهد أمير حمص. وذكر محمد بن سعد وفاته بالقادسية وقال

(1)

: كانت في سنة ست عشرة والله أعلم.

سهيل بن عمرو

(2)

بن عبد شمس بن عبد ود بن نصر بن حِسْل بن عامر بن لُؤَيّ أبو يزيد العامري: أحد خطباء قريش وأشرافهم، أسلم يوم الفتح وحسن إسلامه وكان سمحًا جوادًا فصيحًا كثيرَ الصلاة والصوم والصدقة وقراءة القرآن والبكاء. ويقال إنه قام وصام حتى شحب لونه. وله سعيٌ مشكورٌ في صلح الحُدَيبية. ولما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناسَ بمكة خطبة عظيمة تُثبّتُ الناسَ على الإسلام، وكانت خطبته بمكة قريبًا من خطبة الصدّيق بالمدينة، ثم خرج في جماعةٍ إلى الشام مجاهدًا فحضر اليرموكَ وكان أميرًا على بعض الكراديس، ويقال إنه استشهد يومئذ. وقال الواقديّ والشافعي: توفي بطاعون عَمَواس.

عامر

(3)

بن مالك بن أُهيب الزُّهري أخو سَعْد بن أبي وقَّاص، هاجر إلى الحبشة، وهو الذي قدم بكتاب عمر إلى أبي عبيدة بولايته على الشام وعزل خالد عنها، استشهد يوم اليرموك.

عبد الله

(4)

بن سُفيان بن عبد الأسَدَ المَخْزومي، صحابي هاجر إلى الحبشة مع عمه أبي سلمة بن عبد الأسد. روى عنه عمرو بن دينار منقطعًا لأنه قتل يوم اليرموك.

(عبد الرحمن

(5)

بن العوام، أخو الزبير بن العوام، حضر بدرًا مشركًا ثم أسلم واستشهد يوم اليرموك في قول).

عُتْبة بن غَزْوان توفي فيها في قول

(6)

.

عكرمة بن أبي جهل استشهد باليرموك في قول

(7)

.

عمرو بن أم مكتوم استشهد يوم القادسية وقد تقدم

(8)

. ويقال بل رجع إلى المدينة.

عمرو بن الطفيل

(9)

بن عمرو تقدم.

(1)

الطبقات الكبرى (3/ 458).

(2)

في أ: سهل بن عمرو؛ تحريف. وترجمة - سهيل بن عمرو - في الاستيعاب (669) وجامع الأصول (14/ 206) وأسد الغابة (2/ 480) والإصابة (2/ 93).

(3)

ترجمة - عامر بن مالك - في الاستيعاب (799) وأسد الغابة (3/ 140) والإصابة (2/ 257).

(4)

ترجمة - عبد الله بن سفيان - في الاستيعاب (921) وأسد الغابة (3/ 263) والإصابة (2/ 319).

(5)

ترجمة - عبد الرحمن بن العوام - في الاستيعاب (844) وأسد الغابة (3/ 479) والإصابة (2/ 415).

(6)

تقدمت ترجمة المصنف له في وفيات سنة 14 هـ وذكر الاختلاف في سنة وفاته، وتنظر مصادر ترجمته هناك.

(7)

تقدمت ترجمته في وفيات سنة 13 هـ. وتنظر مصادر ترجمته هناك.

(8)

تقدم في وفيات سنة 14 هـ. وتنظر مصادر ترجمته هناك.

(9)

ترجمة - عمرو بن الطفيل - في الاستيعاب (1184) وأسد الغابة (4/ 243) والإصابة (2/ 544)، وتقدم ذكره في ترجمة والده في وفيات سنة 11 هـ.

ص: 166

عيَّاش

(1)

بن أبي ربيعة تقدم.

فراس

(2)

بن النضر بن الحارث يقال استشهد يوم اليرموك.

قيس

(3)

بن عدي (بن سهم) من مهاجرة الحبشة) قُتل باليرموك.

قيس

(4)

بن أبي صعصعة عمرو بن زيد بن عوف الأنصاري المازني: شهد العقبة وبدرًا، وكان أحد أمراء الكراديس يوم اليرموك، وقتل يومئذ، وله حديث قال: قلت يا رسول الله في كم أقرأ القرآن؟ قال: "في خمس عشرة

" الحديث

(5)

، قال شيخنا أبو عبد الله الذهبي

(6)

: ففيه دليل على أنه ممن جمع القرآن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

نُضَيْر

(7)

بن الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي القرشي العبدري، أسلم عام الفتح، وكان من علماء قريش، وأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين مئة من الإبل، فتوقف في أخذها وقال: لا أرتشي على الإسلام، ثم قال: واللّه ما طلبتها

(8)

ولا سألتها، وهي عطية من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فأخذها وحسن إسلامه، واسثشهد يوم اليرموك.

نوفل

(9)

بن الحارث بن عبد المطلب (ابن عم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، كان أسن من أسلم من بني عبد المطلب) وكان ممن أسر يوم بدر ففاداه العباسُ، ويُقال إنه هاجر أيام

(10)

الخندق وشهد الحديبية والفتح، وأعان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين بثلاثة آلاف رمح، وثبت يومئذ وتوفي سنة خمس عشرة، وقيل سنة عشرين والله أعلم، توفي بالمدينة وصلَّى عليه عمر ومشى في جنازته ودُفن بالبقيع وخلف عدة أولاد فضلاء وأكابر.

(1)

في ط: "عامر"، وهو تحريف، وما هنا يعضده ما نقله الذهبي، وهو عياش بن أبي ربيعة عمرو بن المغيرة المخزومي.

(2)

ترجمة - فراس بن النضر - في الاستيعاب (1268) وأسد الغابة (4/ 354) والإصابة (3/ 202).

(3)

ترجمة - قيس بن عدي - في الإصابة (3/ 284).

(4)

ترجمة - قيس بن أبي صعصعة - في الاستيعاب (1294) وأسد الغابة (4/ 429) والإصابة (3/ 251).

(5)

رواه الطبراني في المعجم الكبير (18/ 344) رقم (877) وقال الهيثمي في المجمع (2/ 269) وفيه ابن لهيعة وفيه كلام.

(6)

في تاريخ الإسلام (2/ 16).

(7)

ترجمة - نضير بن الحارث - في الاستيعاب (1493) وأسد الغابة (5/ 317) وفيه: النضر. والإصابة (3/ 554).

(8)

في أ: لا طلبتها، وما هنا يعضده ما نقله الذهبي.

(9)

ترجمة - نوفل بن الحارث - في الاستيعاب (1512) وأسد الغابة (5/ 369) والإصابة (3/ 577).

(10)

في أ: يوم.

ص: 167

هشام بن العاص أخو عمرو بن العاص تقدم

(1)

وقال ابن سعد

(2)

: قتل يوم اليرموك.

‌ثم دخلت سنة ست عشرة

استُهِلَّتْ هذه السنة وسعدُ بن أبي وقاص منازل مدينة بَهُرَسِير، وهي إحدى مدينتي كسرى مما يلي دجلةَ من الغرب وكان قدومُ سعدٍ إليها في ذي الحجة من سنة خمس عشرة، واستُهلت هذه السنة وهو نازل عندها. وقد بعثَ السرايا والخيول في كل وجهٍ، فلم يجدوا واحدًا من الجند، بل جمعوا من الفلاحين مئة ألفٍ فحبسوا حتى كتب إلى عمر ما يفعل بهم، فكتب إليه عمر: إنَّ منْ كان من الفلاحين لم يعنْ عليكم وهو مقيمٌ ببلده فهو أمانة، ومنْ هرب فأدركتموه فشأنكم به. فأطلقهم سعد بعد ما دعاهم إلى الإسلام فأبوا إلا الجزية. ولم يبقَ من غربي دجلة إلى أرض العرب

(3)

أحد من الفلاحين إلا تحت الجزية والخراج، وامتنعت بَهُرَسير من سعد أشدَّ الامتناع، وقد بعث إليهم سعد سلمان الفارسي فدعاهم إلى الله عز وجل أو الجزية أو المقاتلة، فأبوا إلا المقاتلةَ والعصيان، ونصبوا المجانيق والدبّابات، وأمر سعد بعمل المجانيق فعُملت عشرون منجنيقًا، ونصبت على بَهُرَسير، واشتدَّ الحصار، وكان أهل

(4)

بَهُرسير يخرجون فيقاتلون قتالًا شديدًا ويحلفون أن لا يفروا

(5)

أبدًا، فأكذبهم الله وهزمهم

(6)

زُهْرة بن حَويَّة بعد ما أصابه سهم وقَتَل بعد مصابه كثيرا

(7)

من الفرس، وفرُّوا بين يديه ولجؤوا إلى بلدهم، فكانوا

(8)

يحاصرون فيه أشدَّ الحصار، وقد انحصر أهل البلد حتى أكلوا الكلابَ والسنانير، وقد أشرف رجل منهم على المسلمين فقال: يقول لكم الملك: هل لكم إلى المصالحة على أنَّ لنا ما يلينا من دجلة إلى (جبلنا، ولكم ما يليكم من دجلة إلى) جبلكم؟ أما شبعتم؟ لا أشبع الله بطونَكُم. قال: فبدر الناس رجل يُقال له أبو مُفَزِّر

(9)

الأسود بن قُطْبة فأنطقه الله بكلامٍ لم يَدْرِ ما قال لهم، قال: فرجع الرجل

(1)

تقدم في وفيات سنة 13 هـ. وتنظر مصادر ترجمته هناك.

(2)

الطبقات الكبرى (4/ 192).

(3)

في أ: المغرب.

(4)

في أ: وكانوا أهل؟ وهي لغة مفضولة.

(5)

في أ: أن لا ينفرون؛ خطأ.

(6)

في أ: أهزمهم.

(7)

في أ: بعد اتصاله به كثير الفرس.

(8)

في أ: وكانوا.

(9)

في أ، ط: مقرن؛ تحريف. والتصحيح من تاريخ الطبري (4/ 7) وتاريخ دمشق لابن عساكر (9/ 68) - ط دار الفكر -. وينظر إكمال ابن ماكولا (7/ 283).

ص: 168

ورأيناهم يقطعون من بَهُرَسير إلى المدائن. فقال الناس لأبي مُفَرِّز: ما قلت لهم؟ فقال: والذي بعث محمدًا بالحق ما أدري ما قلتُ لهم إلا أن عليَّ سكينة وأنا أرجو أن أكون قد أنطقْتُ بالذي هو خير، وجعل الناس ينتابونه يسألونه عن ذلك، وكان فيمن سأله سعد بن أبي وقاص، وجاءه سعد إلى منزله فقال: يا أبا مُفَزِّرٍ ما قلتَ؟ فواللّه إنهم هُرَّابٌ. فحلفَ له أنَّه لا يدري ما قال. فنادى سعد في الناس ونهد بهم إلى البلد والمجانيق تضرب في البلد، فنادى رجل من البلد بالأمان فأمنّاه، فقال والله ما بالبلد أحد، فتسور الناس السورَ فما وجدنا فيها أحدًا إلا قد هربوا إلى المدائن. وذلك في شهر صفر من هذه السنة فسألنا ذلك الرجل وأناسًا من الأسارى فيها لأي شيء هربوا؟ قالوا بعثَ الملك إليكم يعرض عليكم الصلح فأجابه ذلك الرجل بأنه لا يكون بينكم وبينه صلحٌ أبدًا حتى نأكلَ عسل أفريذين بأترج كوثى. فقال الملك: يا ويلاه! إنَّ الملائكةَ لتتكلمُ على ألسنتهم، تردُّ علينا وتُجيبنا عن العرب. ثم أمر الناسَ بالرحيل من هناك إلى المدائن، فجازوا في السفن منها إليها وبينهما دجلة، وهي قريبة منها جدًّا ولما دخل المسلمون بَهُرسير لاح لهم القصر الأبيض من المدائن وهو قصر الملك الذي ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سيفتحه اللّهُ على أمّتهِ، وذلك قريب الصباح، فكان أول من رآه من المسلمين ضرار بن الخَطاب، فقال: الله أكبر أبيضُ كِسْرى، هذا ما وعدنا الله ورسوله. ونظر الناس إليه فتتابعوا التكبير إلى الصبح.

‌ذكر فتح المدائن [التي هي مستقرّ ملك كسرى]

لمّا فتحَ سعدٌ بَهُرَسِير واستقرَّ بها، وذلك في صفة لم يجد فيها أحدًا ولا شيئًا مما يغنم، بل قد تحوَّلوا بكمالهم إلى المدائن، وركبوا السفن (وضمّوا السفنَ إليهم، ولم يجد سعدٌ رضي الله عنه شيئًا من السفن)، وتعذَّرَ عليه تحصيلُ شيء منها بالكُلِّية، وقد زادت دجلةُ زيادةً عظيمةً واسودّ ماؤها، ورمت بالزَّبد من كثرة الماء بها، وأخبر سعدٌ بأنّ كسرى يَزْدَجرد عازمٌ على أخذ الأموال والأمتعة من المدائن إلى حلوان، وأنك إن لم تدركه قبلَ ثلاث فات عليك، وتفارط الأمر. فخطبَ سعدٌ المسلمين على شاطئ دجلة، فحمدَ اللّهَ وأثنى عليه وقال: إن عدوكم قد اعتصم منكم بهذا البحر، فلا تخلصون إليهم معه، وهم يخلصون إليكم إذا شاؤوا

(1)

فَيُناوشونكم في سفنهم، وليس وراءكم شيء تخافون أن تُؤْتوا منه، وقد رأيتُ أن تبادروا جهادَ العدو بنيّاتكم قبل أن تحصركم

(2)

الدنيا، ألا إني قد عزمت على قطع هذا البحر إليهم، فقالوا جميعًا: عزم الله لنا ولك على الرشد فافعل. فعند (ذلك ندب سعد الناس إلى العبور ويقول: من يبدأ فيحمي لنا الفراض - يعني ثغرة) المخاضة من الناحية الأخرى - ليجوز الناس إليهم آمنين، فانتدب عاصم بن عمرو وذو البأس من الناس قريب من ستمئة، فأمّر سعد عليهم عاصم بن عمرو ووقفوا على حافة دجلة فقال عاصم: من ينتدب (معي) لنكون قبل الناس دخولًا في هذا البحر،

(1)

في أ: إذا شاؤوا وفي السفن وليس ورائكم.

(2)

في أ: أن تبادروا جهاد العدو بنسياكم قبل أن تحصدكم الدنيا.

ص: 169

فنحمي الفراض من الجانب الآخر.؟ فانتدب له ستون من الشجعان المذكورين - والأعاجم وقوف

(1)

صفوفًا من الجانب الآخر - فتقدم رجل من المسلمين وقد أحجم الناس عن الخوض في دجلة، فقال: أتخافون من هذه النطفة؟ ثم تلا قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا} [آل عمران: 145] ثم أقحم فرسه فيها واقتحم الناس، وقد افترق الستون فرقتين: أصحاب الخيل الذكور، وأصحاب الخيل الإناث. فلما رآهم الفُرْس يطفون على وجه الماء قالوا: ديوانا ديوانا، يقولون: مجانين (مجانين). ثم قالوا: والله ما تقاتلون إنسًا بل تقاتلون جنًا. ثم أرسلوا فرسانًا منهم في الماء يلتقون أول المسلمين ليمنعوهم من الخروج من الماء، فأمر عاصم بن عمرو أصحابه أن يشرعوا لهم الرماحَ ويتَوَخَّوا الأعين، ففعلوا ذلك بالفُرس فقلعوا عيونَ خيولهم، فرجعوا أمام المسلمين لا يملكون كفَّ خيولهم حتى خرجوا من الماء، واتَّبعهم عاصمٌ وأصحابُه فساقُوا وراءهم حتى طَرَدُوهم عن الجانب الآخر، ووقفوا على حافة الدجلة من الجانب الآخر. ونزل بقيةُ أصحاب عاصم من (الستمئة) في دجلة (فخاضوها) حتى وصلوا إلى أصحابهم من الجانب الآخر فقاتلوا مع أصحابهم حتى نَفَوْا الفرس عن ذلك الجانب، وكانوا يُسمُّون الكتيبةَ الأولى كتيبةَ الأهوال، وأميرها عاصم بن عمرو، والكتيبة الثانية الكتيبة الخرساء، وأميرها القعقاع بن عمرو. وهذا كلُّه وسعدٌ والمسلمون ينظرون إلى ما يصنع

(2)

هؤلاء الفرسان بالفرس، وسعد واقع على شاطئ

(3)

دجلة. ثم نزل سعدٌ ببقية الجيش، وذلك حينَ نظروا إلى الجانب الآخر قد تحصَّنَ بمَنْ حصلَ فيه من الفرسان المسلمين، وقد أمر سعدٌ المسلمين عند دخول الماء أن يقولوا: نستعينُ بالله ونتوكَّلُ عليه، حسبُنا اللّهُ ونعمَ الوكيل، ولا حولَ ولا قوةَ إلا بالله العلي العظيم. ثم اقتحم بفرسه دجلةَ واقتحمَ الناس لم يتخلَّفْ عنه أحدٌ، فساروا فيها كأنّما يسيرون على وجه الأرض حتى ملؤوا ما بين الجانبين، فلا يرى وجه الماء من الفرسان والرجالة، وجعل الناس يتحدّثون على وجه الماء كما يتحدثون على وجه الأرض، وذلك لما حصل لهم من الطمأنينة والأمن، والوثوق بأمر الله ووعده ونصره وتأييده، ولأنَّ أميرهم سعد بن أبي وقاص أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنه راضٍ. ودعا له. فقال:" اللهم أجبْ دعوتَه، وسَدِّدْ رميتَهُ"

(4)

والمقطوع به أن سعدًا دعا لجيشه هذا في هذا اليوم بالسلامة والنصر، وقد رمى بهم في هذا اليَمّ فسدَّدَهُم الله وسلمهم، فلم يُفْقَدْ من المسلمين

(1)

في أ: وقوفًا.

(2)

في أ: ما صنع.

(3)

في أ: شفير.

(4)

روى هذا الحديث الإمام أحمد في فضائل الصحابة (1308)، والترمذي (3751)، وابن أبي عاصم في السنة (1408) وابن حبان (6990)، والحاكم (3/ 499 و 500) من حديث قيس بن أبي حازم عن سعد مرفوعًا. واقتصر بعضهم على الاستجابة لدعوته حسب. وقد أعله الإمامان الترمذي والدارقطني في العلل (4/ 378 سؤال 640) بالإرسال، فذكرا أن المرسل هو المحفوظ، ليس فيه سعد، وهو الذي أخرجه ابن سعد في طبقاته الكبرى (3/ 142)(بشار).

ص: 170

رجلٌ واحدٌ غير أنَّ رجلًا (واحدًا) يقال له غَرْقَدَة

(1)

البارقي. زلّ عن فرس له شقراء، فأخذ القعقاعُ بن عمرو بلجامها، وأخذ بيد الرجل حتى عدَّله على فرسه، وكان من الشجعان، فقال: عجزَ النساءُ أن يلدنَ مثل القعقاع بن عمرو. ولم يعدم للمسلمين شيء من أمتعتهم غير قدح من خشبٍ لرجل يُقال له مالك بن عامر، كانت علاقته رثَّة فأخذه الموج، فدعا صاحبُه اللّهَ عز وجل، وقال: اللهم لا تجعلني من بينهم يذهب متاعي، فردَّه الموج إلى الجانب الذي يقصدونه، فأخذه الناس، ثم ردُّوه على صاحبه بعينه. وكان الفَرَسُ إذا أعيا، وهو في الماء، يُقيِّضُ الله له مثل النشز المرتفع فيقف عليه فيستريحٍ، وحتى إنَّ بعضَ الخيل ليسير وما يصلُ الماءُ إلى حزامها، وكان يومًا عظيمًا وأمرًا هائلًا، وخطبًا جليلا، وخارقًا باهرًا، ومعجزةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، خلقها الله لأصحابه لم يُرَ مثلها في تلك البلاد، ولا في بقعة من البقاع، سوى قضية العلاء بن الحضرمي المتقدمة، بل هذا أجلُّ وأعظمُ، فإن هذا الجيش كان

(2)

أضعافَ ذلك.

قالوا: وكان الذي يساير سعد بن أبي وقاص في الماء سلمان الفارسي، فجعلَ سعدٌ يقول: حَسْبُنا اللّهُ ونعمَ الوكيلُ. واللّه لينصرنَّ الله وليَّه وليظهرنَّ اللّهُ دينَه، وليهزمنَّ اللّهُ عدوَّه، إن لم يكن في الجيش بغيٌ أو ذنوبٌ تغلب الحسنات. فقال له سلمان: إنَّ الإسلام جديد. ذُلِّلَتْ لهم واللّه البحورُ كما ذُلِّل (لهم) البر، أما والذي نفسُ سلمانَ بيده ليخرِجنَّ منه أفواجًا كما دخلوا أفواجًا. فخرجوا منه كما قال سلمان لم يغرق منهم أحدٌ، ولم يفقدوا شيئًا.

ولما استقلَّ المسلمون على وجه الأرض خرجت الخيول تنفض أعرافها صاهلةً، فساقوا وراء الأعاجم حتى دخلوا المدائنَ، فلم يجدوا بها أحدًا، بل قد أخذ كسرى أهله، وما قدروا عليه من الأموال والأمتعة والحواصل، وتركوا ما عجزوا عنه من الأنعام والثّياب والمتاع، والآنية والألطاف والأدْهان ما لا يدرى قيمتُه. وكان في خزانة كسرى ثلاثة آلاف ألف ألف ألف دينار ثلاث مرات فأخذوا من ذلك ما قدروا عليه، وتركوا ما عجزوا عنه، وهو مقدار النصف من ذلك أو ما يقاربه. فكان أول من دخل المدائن كتيبة الأهوال ثم الكتيبة الخرساء، فأخذوا في سككها

(3)

لا يلقون أحدًا ولا يخشونه غير القصر الأبيض ففيه مقاتلةٌ وهو محصَّنٌ.

فلما جاء سعد بالجيش دعا أهل القصر الأبيض ثلاثة أيام على لسان سلمان الفارسي، فلما كانَ اليوم الثالث نزلوا منه وسكنه سعد، واتّخذ الإيوان مُصلَّىً، وحين دخله تلا قوله تعالى:{كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ} [الدخان: 25 - 28] ثم تقدَّم إلى صدره فصلَّى ثمان ركعات صلاةَ الفَتْحِ.

(1)

في أ: عروة؛ تحريف. والخبر في تاريخ الطبري (4/ 12).

(2)

في أ: كانوا.

(3)

في أ: كتيبة الأولى ثم الكتيبة الخرسا. فأخذوا في سلكها. وما هنا موافق للكامل لابن الأثير (2/ 513).

ص: 171

وذكر سيف في روايته أنه صلاها بتسليمةٍ واحدة وأنه جمَّعَ بالإيوان في صفر

(1)

من هذه السنة، فكانت أولَ جمعةٍ جمِّعت بالعراق، وذلك لأنَّ سعدًا نوى الإقامة بها، وبعثَ إلى العيالات فأنزلهم دور

(2)

المدائن واستوطنوها، حتى فتحوا جلولاء وتكريت والموصل، ثم تحوّلوا إلى الكوفة بعد ذلك كما سنذكره.

ثم أرسل السرايا في إثر كسرى يَزْدَجِرْدَ فلحق بهم

(3)

طائفة فقتلوهم وشَرَّدوهم واستَلَبُوا منهم أموالًا عظيمة. وأكثر ما استرجعوا من ملابس كسرى وتاجه وحليه. وشرعَ سعدٌ في تحصيل ما هنالك من الأموال والحواصل والتحف، مما لا يقوَّم ولا يُحدُّ ولا يوصف كثرةً وعظمةً. وقد روينا أنه كان هناك

(4)

تماثيل من جصٍّ فنظر سعد إلى أحدها وإذا هو يشير بأصبعه إلى مكان، فقال سعد: إن هذا لم يوضع هكذا سدى، فأخذوا ما يسامت

(5)

أصبعه فوجدوا قبالتها كنزًا عظيمًا من كنوز الأكاسرة الأوائل، فأخرجوا منه أموالًا عظيمة جزيلة، وحواصل باهرة، وتحفًا فاخرة. واستحوذ المسلمون على ما هنالك أجمع مما لم يَرَ أحدٌ في الدنيا أعجب منه. وكان في جملة ذلك تاج كسرى وهو مُكفَلٌ بالجواهر النفيسة التي تُحيِّر الأبصار، ومنطقته كذلك وسيفه وسواره وقباؤه وبساط إيوانه، وكان مربعًا ستون ذراعًا في مثلها، من كل جانب، والبساط مثله سواء، وهو منسوج بالذهب واللآلئ والجواهر الثمينة، وفيه مصور جميع ممالك كسرى، بلاده بأنهارها وقلاعها، وأقاليمها، وكنوزها، وصفة الزروع والأشجار التي في بلاده. فكان إذا جلس على كرسى مملكته ودخل تحت تاجه، وتاجُه معلَّقٌ بسلاسل الذهب، لأنه كان لا يستطيع أن يقلَّه

(6)

(على رأسه) لثقله، بل كان يجيء فيجلسُ تحته ثم يُدخل رأسه تحت التاج والسلاسل الذهب تحمله عنه، وهو يستره حال لبسه فإذا رفع الحجاب عنه خرَّتْ له الأمراء سجودًا. وعليه المنطقةُ والسواران والسيفُ والقباءُ المُرَضَعُ بالجواهر فينظر في البلدان واحدة واحدة، فيسأل عنها ومن فيها من النواب، وهل حدث فيها شيء من الأحداث؟ فيخبره بذلك ولاة الأمور بين يديه. ثم ينتقل إلى الأخرى، وهكذا حتى يسأل عن أحوال بلاده في كل وقت، لا يهمل أمر المملكة، وقد وضعوا هذا البساط بين يديه تذكارًا له بشأن الممالك، وهو إصلاحٌ جيدٌ منهم في أمر السياسة. فلمّا جاءَ قَدَرُ الله زالت تلك الأيدي عن تلك الممالك (والأراضي) وتسلمها المسلمون من أيديهم قسرًا، وكسروا شوكتَهم عنها وأخذوها بأمر الله صافية (ضافية)، وللّه الحمد والمنة.

(1)

في أ: من صفر.

(2)

في أ: دون.

(3)

في أ: فلحقوا.

(4)

في أ: هنالك.

(5)

يسامت: من السمت، وهو السير على الطريق بالظن، والمراد هنا: أنهم بحثوا قبالة إشارة الإصبع.

(6)

في أ: ينقله.

ص: 172

وقد جعل سعد بن أبي وفاص على الأقباض

(1)

عمرو بن عمرو

(2)

بن مُقرِّن فكان أول ما حصل ما كان في القصر الأبيض ومنازل كسرى، وسائر دور المدائن، وما كان بالإيوان مما ذكرنا، وما يفد من السرايا الذين في صحبة زُهْرة بن حَوية، وكان فيما رَدّ زُهْرة بغلٌ كان قد أدركه وغصبه من الفرس، وكانت تحوطه بالسيوف فاستنقذه منهم، وقال: إنَّ لهذا لشأنًا فردّه إلى الأقباض هاذا عليه سفطان فيهما ثياب كسرى وحليه، ولبسه الذي كان يلبسه على السرير كما ذكرنا، وبغل آخر عليه تاجه الذي ذكرنا في سفطين أيضًا رُدَّا

(3)

من الطريق مما استلبه أصحابُ السرايا، وكان فيما رَدَّتِ السرايا أموالٌ عظيمةٌ وفيها أكثر أثاث كسرى وأمتعته والأشياء النفيسة التي استصحبوها معهم، فلحقهم المسلمون فاستلبوها منهم. ولم تقدر الفَرَس على حمل البساط لثقله عليهم، ولا حمل الأموال لكثرتها. فإنه كان المسلمون يجيئون بعض تلك الدور فيجدون البيت ملآن

(4)

إلى أعلاه من أواني الذهب والفضة، ويجدون من الكافور شيئًا كثيرًا، فيحسبونه ملحًا، وربما استعمله بعضهم في العجين فوجدوه مُرًّا حتى تبيَّنوا

(5)

أمره فتحصل الفيء على أمر عظيم من الأموال، وشرع سعد فخمَّسه وأمر سلمان الفارسي فقسم أربعه

(6)

الأخماس بين الغانمين، فحصل لكلّ واحد من الفرسان اثني عشر ألفًا، وكانوا كلهم فرسانًا، ومع بعضهم جنائب، واستوهب سعد أربعة أخماس البساط ولبس كسرى من المسلمين، ليبعثه إلى عمر والمسلمين بالمدينة لينظروا إليه ويتعجَّبوا منه، فطيبوا له ذلك وأذنوا فيه، فبعثه سعد إلى عمر مع الخُمس مع بشير بن الخصاصية، وكان الذي بشَّر بالفتح قبله خنيس

(7)

بن فلان الأسدي، فروينا أن عمر لما نظر إلى ذلك قال إنَّ قومًا أدَّوْا هذا لأمناءُ، فقال له علي بن أبي طالب: إنك عَفَفْتَ فَعَفَّتْ رَعيتُكَ، ولو رَتَعْتَ لرَتَعتْ. ثم قسم عمر ذلك في المسلمين فأصاب عليًّا

(8)

قطعة من البساط فباعها بعشرين ألفًا.

وقد ذكر سيفُ بن عمر

(9)

أنَّ عمر بن الخطاب ألبسَ ثياب كسرى لخشبة ونصبها أمامه ليرى الناس ما في هذه الزينة من العجب، وما عليها من زهرة الحياة الدنيا الفانية. وقد روينا أنَّ عمرَ ألبس ثياب كسرى لسُراقة بن مالك بن جُعْشُم أمير بني مُدْلج رضي الله عنه.

(1)

الأقباض: جمع قَبَض - بفتحتين - وهو ما جمع من الغنيمة قبل أن يُقسم. اللسان (قبض).

(2)

في أ: عمر بن عمر؛ خطأ. وما هنا موافق لتاريخ الطبري (4/ 16).

(3)

في أ: ردوا.

(4)

في ط: ملآنا؛ وما هنا أقرب للسياق النحوي.

(5)

في أ: ثبتوا.

(6)

في ط: الأربعة الأخماس.

(7)

في أ، ط: حليس؛ خطأ. وما هنا عن تاريخ الطبري (4/ 22).

(8)

في أ: علي.

(9)

تاريخ الطبري (4/ 22 - 23).

ص: 173

قال الحافظ أبو بكر البيهقي في "دلائل النبوة"

(1)

: أخبرنا عبد الله بن يوسف الأصبهاني، أخبرنا أبو سعيد بن الأعرابي، قال: وجدت في كتابي بخطّ يدي عن أبي داود، حدَّثنا محمد بن عُبيد، حدَّثنا حمّاد، حدَّثنا يونس، عن الحسن:

أن عمر بن الخطاب أُتي بفروةِ كسرى فوُضعت بين يديه وفي القوم سُراقة بن مالك بن جُعْشُم، قال فألقى إليه سِوَاري كسرى بن هرمز فجعلهما في يده فبلغا منكبيه، فلما رآهما في يدي سُراقة قال: الحمدُ للّه: سواري [كسرى]

(2)

بن هرمز في يدي سُراقة بن مالك بن جُعْشُم أعرابي من بني مُدْلج. وذكر الحديث. هكذا ساقه البيهقي.

ثم حكى عن الشافعي أنه قال: وإنما ألبسهما سُراقة لأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لسُراقة ونظر إلى ذراعيه: "كأني بك وقد أُلبست سواري كسرى"(قال الشافعي: وقد قال عمر لسراقة حين ألبسه سواري كسرى): قل: الله أكبر. فقال: الله أكبر. ثم قال: قل الحمدُ للّه الذي سلبهما كسرى بن هرمز وألبسهما سراقة بن مالك أعرابي من بني مدلج.

وقال الهيثم بن عدي

(3)

: أخبرنا أسامة بن زيد اللّيثي، حدَّثنا القاسم بن محمد بن أبي بكر. قال: بعث سعد بن أبي وقاص أيام القادسية إلى عمر بقباء كسرى وسيفه ومنطقته وسواريه وسراويله وقميصه وتاجه وخُفيه، قال فنظر عمر في وجوه القوم. وكان أجسمهم وأبدنهم قامة سراقة بن مالك بن جُعْشُم فقال يا سراق: قم فالبس، قال سراقة: فطمعت فيه فقمت فلبست فقال [له]: أدبر فأدبرت، ثم قال أقبل فأقبلت، ثم قال بخٍ بخٍ. أُعيرابيٌّ من بني مُدْلج عليه قَباء كسرى وسراويله وسيفه ومنطقته وتاجه وخفاه. رُبَّ يومٍ يا سُراق بن مالك، لو كان عليك فيه هذا من متاع كسرى وآل كسرى، كان شرفًا لك ولقومك، انزع. فنزعت. فقال: اللهم إنَّكَ منعتَ هذا رسولك ونبيك، وكان أحبّ إليك مني (وأكرم عليك مني). ومنعته أبا بكر وكان أحبَّ إليك مني، وأكرم عليك مني، وأعطيتنيه فأعوذ بك أن تكون أعطيتنيه لتمكر بي. ثم بكى حتى رحمه من كان عنده. ثم قال لعبد الرحمن بن عوف: أقسمت عليك لما بعته ثم قسمته قبل أن تمسي.

وذكر سيف بن عمر التميمي

(4)

: أن عمر حينَ ملك تلك الملابس والجواهر جيء

(5)

بسيف كسرى ومعه عدةُ سيوف منها سيفُ النعمان بن المنذر نائب كسرى على الحيرة، وأن عمر قال: الحمدُ الله

(1)

دلائل النبوة (6/ 325 - 326).

(2)

ساقطة من الأصل واستدركت من الدلائل.

(3)

الهيثم بن عدي بن عبد الرحمن الطائي البحتري الكوفي، أبو عبد الرحمن، مؤرخ - عالم بالأدب والنسب - توفي سنة 207 هـ وله:"بيوتات العرب" و "نزول العرب في خراسان والسواد" و "نسب طيِّئ" و "تاريخ الأشراف" و "التاريخ" وغيرها. الأعلام (8/ 104)، ولكنه كذاب متروك.

(4)

تاريخ الطبري (4/ 23).

(5)

مكان اللفظة في أ: مع ذلك بسيف.

ص: 174

الذي جعلَ سيفَ كسرى فيما يضره ولا ينفعه. ثم قال: إن قومًا أدَّوْا هذا لأُمَناءُ، أو لذووا أمانة. ثم قال: إنَّ كسرى لم يزدْ على أن تشاغلَ بما أوتي عن آخرته فجمع لزوج امرأته، أو زوج ابنته، ولم يقدّم لنفسه، ولو قدَّم لنفسه ووضع الفضول في مواضعها لحصلَ له. وقد قال بعض المسلمين وهو أبو نجيد

(1)

نافع بن الأسود (في ذلك)

(2)

: [من الخفيف]

وأَسَلْنا

(3)

على المدائن

(4)

خيلًا

بحرُها مثلُ بَرِّهنّ أريضا

فانتثلنا

(5)

خزائن المرءِ كسرى

يوم ولّوا وحاصَ منا جريضا

‌وقعة جلولاء

(6)

لما سار كسرى وهو يَزْدَجِرْد بن شهريار من المدائن هاربًا إلى حلوان شرعَ في أثناء الطريق في جمع رجال وأعوان وجنود، من البلدان التي هناك، فاجتمع إليه خلقٌ كثير، وجم غفير من الفرس وأمَّرَ على الجميع مهران، وسار كسرى إلى حلوان

(7)

فاقام

(8)

الجمع الذي جمعه بينه وبين المسلمين في جلولاء، واحتفروا خندقًا عظيمًا حولها، وأقاموا بها في العَدد والعُدد

(9)

وآلات الحصار، فكتب سعد إلى عمر يخبره بذلك. فكتب إليه عمر أن يقيم هو بالمدائن ويبعث ابن أخيه هاشم بن عتبة (أميرًا على الجيش الذي يبعثه إلى كسرى، ويكون على المقدمة القعقاع) بن عمرو، وعلى الميمنة سعد بن مالك وعلى الميسرة أخوه عمر بن مالك، وعلى الساقة عمرو بن مرة الجُهني. ففعل سعد ذلك وبعث مع ابن أخيه جيشًا كثيفًا يقارب اثني عشر ألفًا. من سادات المسلمين ووجوه المهاجرين والأنصار، ورؤوس العرب. وذلك في صفر من هذه السنة بعد فراغهم من أمر المدائن، فساروا حتى انتهوا إلى المجوس وهم بجلولاء قد خندقوا عليهم، فحاصرهم هاشم بن عتبة، وكانوا يخرجون من بلدهم للقتال في كل وقت فيقاتلون قتالًا لم يُسمع بمثله. وجعل كسرى يبعث إليهم الأمداد، وكذلك سعد يبعث المددَ إلى ابن أخيه، مرةً بعد أخرى، وحمي القتالُ، واشتد النزالُ، واضطرمت نار الحرب، وقام في الناس هاشمٌ فخطبهم غيرَ

(1)

في تاريخ الطبري: أبو بجيد - بالباء - وتحتمل الوجهين في أ.

(2)

البيتان في تاريخ الطبري (4/ 10).

(3)

في أ: وأملننا، وفي ط: وأملنا. وما هنا عن تاريخ الطبري والكامل (3/ 514).

(4)

في أ: على الخزائن خيلًا نحرها.

(5)

في ط: فانتشلنا.

(6)

جَلولاء: بالمد: طسوج من طساسيج السواد في طريق خراسان، بينها وبين خانقين سبعة فراسخ، بها كانت الوقعة المشهورة على الفرس للمسلمين سنة 16، فاستباحهم المسلمون، فسميت جلولاء الوقيعة لما أوقع بهم المسلمون معجم البلدان (2/ 156).

(7)

حلوان العراق: موضع في آخر حدود السواد فما يلي الجبال من بغداد. معجم البلدان (2/ 290).

(8)

في أ: وأقام.

(9)

في أ: في العدد والعديد.

ص: 175

مرةٍ، فحرَّضهم على القتال والتوكل على الله. وقد تعاقدت الفرس وتعاهدت، وحلفوا بالنار أن لا يفرّوا أبدًا حتى يفنوا العرب. فلما كان الموقف الأخير، وهو يوم الفيصل والفرقان، تواقفوا من أول النهار، فاقتتلوا قتالًا شديدًا لم يُعْهدْ مثله حتى فني النُّشَّابُ من الطَّرفين، وتَقَصَّفَت الرماحُ من هؤلاء ومن هؤلاء، وصاروا إلى السيوف والطبرزينات

(1)

، وحانت صلاةُ الظهر فصلَّى المسلمون إيماء، وذهبت فرقة المجوس وجاءت مكانها أخرى، فقام القعقاع بن عمرو في المسلمين فقال: أهالكم ما رأيتم أيها المسلمون؟ قالوا: نعم إنا كالّون

(2)

وهم مريحون، فقال: بل إنا حاملون عليهم ومُجدُّون في طلبهم، حتى يحكم الله بيننا، فاحملوا عليهم حملةً رجل واحدٍ حتى نخالطهم، فحمل وحمل الناس، فأما القعقاع فإنه صمَّم الحملة في جماعة من الفرسان والأبطال والشجعان، حتى انتهى إلى باب الخندق، وأقبل الليل بظلامه، وجالت بقية الأبطال بمنْ معهم في الناس وجعلوا يأخذون في التحاجز من أجل إقبال الليل وفي الأبطال

(3)

يومئذ طُلَيْحة الأسَدي، وعمرو بن معديكرب الزبيدي، وقَيْس بن مَكْشوح، وحجر بن عدي. ولم يعلموا بما صنعه القعقاع في ظلمة الليل، ولم يشعروا بذلك، لولا مناديه ينادي: أين أيها المسلمون

(4)

هذا أميركم على باب خندقهم. فلما سمع ذلك المجوس فرّوا وحمل المسلمون نحو القعقاع بن عمرو فإذا هو على باب الخندق قد ملكه عليهم، وهربت الفرس كل مَهْربٍ، وأخذهم المسلمون من كل وجه، وقعدوا لهم كل مرصد، فقتل منهم في ذلك الموقف مئة ألف حتى جللوا وجه الأرض بالقتلى، فلذلك سميت جلولاء. وغنموا من الأموال والسلاح والذهب والفضة قريبًا مما

(5)

غنموا من المدائن قبلها.

وبعث هاشم بن عتبة القعقاع بن عمرو في إثر من انهزمَ منهم وراء كسرى، فساق خلفهم حتى أدرك مِهْران منهزمًا، فقتله القعقاع بن عمرو، وأفلتهم الفيرزان فاستمرَّ منهزمًا، وأسر سبايا كثيرة بعث بها إلى هاشم بن عتبة، وغنموا دوابّ كثيرة جدًّا. ثم بعث هاشم بالغنائم والأموال إلى عمه سعد بن أبي وقاص فنفل سعد ذوي النجدة ثم أمر بقسم ذلك على الغانمين.

قال الشعبي: كان المال المتحصّل من وقعة جلولاء ثلاثين ألف ألف. وكان خمسه ستة آلاف ألف وقال غيره: كان الذي أصاب كل فارس يوم جلولاء نظير ما حصل له يوم المدائن - يعني اثني عشر ألفًا لكل فارس - وقيل أصاب كل فارس تسعة آلاف وتسع

(6)

دواب. وكان الذي ولى قسم ذلك بين المسلمين

(1)

في هامش ط: الطبرزينات: نوع من السلاح يشبه الفأس. وكذا في هامش تاريخ الطبري (4/ 27)، وينظر معجم دوزي (7/ 14) من الترجمة العربية.

(2)

كالّون: جمع كالٍّ وهو من كلَّ يكلُّ إذا أعيا. اللسان (كلل).

(3)

بعدها في أ: إعادة لبعض الكلمات في السطر السابق.

(4)

في أ: أيها الناس.

(5)

في أ: بما.

(6)

حفي أ: سبع.

ص: 176

وتحصيله، سلمان الفارسي رضي الله عنه. ثم بعث سعد بالأخماس من المال والرقيق والدواب مع زياد بن أبي سفيان، وقضاعي بن عمرو، وأبي مفزر

(1)

الأسود. فلما قدموا على عمر (سأل عمر) زياد بن أبي سفيان عن كيفية الوقعة فذكرها له، وكان زياد فصيحًا، فأعجب إيراده لها عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأحبَّ أن يسمعَ المسلمون منه ذلك، فقال له: أتستطيع أن تخطب الناس بما أخبرتني به؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، إنه ليس أحد على وجه الأرض أهيب عندي منك، فكيف لا أقوى على هذا مع غيرك؟ فقام في الناس فقصَّ عليهم (خبر) الوقعة، وكم قتلوا، وكم غنموا، بعبارة عظيمة بليغة فقال عمر: إن هذا لهو الخطيب المِصْقَع

(2)

- يعني الفصيح! فقال زياد: إن جندنا أطلقوا بالفَعال لساننا. ثم حلف عمر بن الخطاب أن لا يجنّ هذا المال الذي جاؤوا به سقف حتى يقسمه، فبات عبد الله بن أرقم وعبد الرحمن بن عوف يحرسانه في المسجد، فلما أصبح جاء عمر في الناس، بعد ما صلى الغداةَ وطلعتِ الشمس، (فأمر) فكشف عنه جلابيبه، فلما نظر إلى ياقوته وزبرجده وذهبه الأصفر وفضته البيضاء، بكى عمر، فقال له عبد الرحمن: ما يبكيك يا أمير المؤمنين؟ فوالله إن هذا لموطن شكر، فقال عمر: والله ما ذاك يبكيني، وتاللّه ما أعطى الله قومًا (إلا تحاسدوا وتباغضوا، ولا تحاسدوا) إلا ألقى بأسهم بينهم، ثم قسمه كما قسم أموال القادسية.

وروى سيف بن عمر

(3)

عن شيوخه أنهم قالوا: وكان فتح جلولاء في ذي القعدة من سنة ست عشرة، وكان بينه وبين فتح المدائن تسعة أشهر. وقد تكلم ابن جرير هاهنا فيما رواه عن سيف على ما يتعلّق بأرض السواد وخراجها، وموضع تحرير ذلك كتاب "الأحكام".

وقد قال هاشم بن عُتبة في يوم جلولاء

(4)

: [من الرجز]

يومُ جَلولاءَ ويومُ رُسْتم

(5)

ويومُ زحفِ الكوفةِ المُقَدّمْ

ويومُ عَرْضِ النَّهر

(6)

المُحزَم

وأيامٌ خَلَتْ من بينهن صُرَّم

(7)

شَيَّبْنَ أصداغي فهُنَّ هُرّمْ

مِثْلُ ثَغام

(8)

البلدِ المُحرّمْ

(1)

في أ: مط: مقرن، تحريف وتقدم الحديث عنه.

(2)

المصقع: البلغ. اللسان (صقع).

(3)

تاريخ الطبري (4/ 32).

(4)

الأبيات في تاريخ الطبري (4/ 33).

(5)

جاءت القافية في أ، ط: مكسورة. وما هنا عن الطبري (4/ 33 - 34).

(6)

في أ، ط: الشهر.

(7)

في تاريخ الطبري: من بين أيام خلون صرّم؛ وهي الأشبه.

(8)

الثغام: نبات أبيض الثمر والزهر يشبّه بياض الشيب به. اللسان (ثغم).

ص: 177

(وقال أبو نجيد

(1)

في ذلك)

(2)

: [من الطويل]

وَيَوْم جَلولاءَ الوَقيعة أصْبحتْ

كتائبُنا تَرْدي بأسدٍ عَوابسِ

فضضتُ

(3)

جموعَ الفُرْسِ ثم أنَمتُهُمْ

فتبًّا لأجْسادِ المَجُوسِ النَّجائس

وأفْلَتَهنَّ الفيرزانُ بجرْعةٍ

ومِهْرانَ أرْدَتْ يومَ حَزِّ القَوانس

أقاموا بدارٍ لِلْمَنيَّةِ مَوْعدٍ

وللتَّرْبِ تَحْثوها خَجُوج

(4)

الروامسِ

(5)

‌ذكر فتح حلوان

(6)

ولما انقضت الوقعة أقام هاشم بن عتبة بجلولاء عن أمر عمر بن الخطاب - في كتابه إلى سعد - وتقدم القعقاع بن عمرو إلى حلوان، عن أمر عمر أيضًا ليكون ردءًا للمسلمين هنالك، ومرابطًا لكسرى حيث هرب. فسار كما قدمنا، وأدرك أمير الوقعة وهو مِهْران الرازي، فقتله وهرب منه الفيرزان، فلما وصل إلى كسرى وأخبره بما كان من أمر جلولاء، وما جرى على الفرس بعده، وكيف قتل منهم مئة ألف، وأدرك مِهْران فقتل، هرب عند ذلك كسرى من حلوان إلى الري، واستناب على حلوان أميرًا يقال له خسروشُنُوم

(7)

، (فتقدم إليه القعقاع بن عمرو، وبرز إليه خسروشنوم) إلى مكان خارج من حلوان، فاقتتلوا هنالك قتالًا شديدًا ثم فتحَ اللّهُ ونصرَ المسلمين وانهزمَ خسروشنوم، وساق القعقاع إلى حلوان فتسلمها

(8)

ودخلها المسلمون فغنموا وسَبَوا، وأقاموا بها، وضربوا الجزيةَ على منْ حولها من الكُور والأقاليم، بعدما دعوا

(9)

إلى الدخول في الإسلام فأبَوْا إلَّا الجزيةَ. فلم يزلِ القعقاعُ بها حتى تحوَّل سعد من المدائن إلى الكوفة، فسار إليها كما سنذكره إن شاء الله تعالى.

‌فتح تكْريت

(10)

والموصِل

لما افتتحَ سعدٌ المدائنَ بلغه أن أهلَ الموصل قد اجتمعوا بتكريت على رجل من الكفرة يقال له

(1)

في تاريخ الطبري: أبو بجيد.

(2)

الأبيات في تاريخ الطبري (4/ 34).

(3)

في تاريخ الطبري: ففضَّتْ.

(4)

الخجوج من الرياح: الشديد المرّ، وقيل هي الشديدة من كل ريح ما لم تثر عجاجًا. اللسان (خجج).

(5)

الروامس: الرياح التي تثير التراب وتدفن الآثار. اللسان (رمس).

(6)

حلوان: بليدة بقوهستان نيسابور، وهي آخر حدود خراسان مما يلي أصبهان. معجم البلدان (2/ 294).

(7)

في أ: حرسيوم، وما هنا موافق لتاريخ الطبري (4/ 34).

(8)

في أ: فتسلموها.

(9)

في أ: دلوا.

(10)

تكريت: بلدة مشهورة بين بغداد والموصل، وهي غربي دجلة. معجم البلدان (2/ 38).

ص: 178

الأنطاق، فكتب إلى عمر بأمر جلولاء واجتماع الفرس بها، وبأمر أهل الموصل، فتقدم ما ذكرناه من كتاب عمر في أهل جلولاء، وما كان من أمرها. وكتب عمر في قضية أهل الموصل الذين قد اجتمعوا بتَكْريت على الأنطاق، أن يعيِّن جيشًا لحربهم، ويؤمّر عليه عبد الله بن المُعْتَم

(1)

، وأن يجعل على مقدمته ربعي بن الأفكل العنزي

(2)

، وعلى الميمنة الحارث بن حسّان الذّهلي، وعلى الميسرة فرات بن حيان العِجْلي، وعلى السَّاقة هانئ بن قيس، وعلى الخيل عَرْفَجة بن هَرْثَمة. ففصل عبد الله بن المُعْتمّ في خمسة آلاف من المدائن! فسار في أربع حتى نزل بتكريت على الأنطاق، وقد اجتمع إليه جماعة من الروم، ومن الشهارجة، ومن نصارى العرب، ومن إياد وتغلب والنمر. وقد أحدقوا بتكريت، فحاصرهم عبد الله بن المعتمّ أربعين يومًا. وزاحفوا

(3)

في هذه المدة أربعًا وعشرين مرة. ما من مرة إلا وينتصر عليهم ويفلّ جموعهم، فضَعُفَ جانبُهم، وعزمت الرومُ على الذهاب في السفن بأموالهم وراسل عبد الله بن المعتم إلى منْ هنالك من الأعراب، فدعاهم إلى الدخول معه في النصرة على أهل البلد، (فجاءت القصاد) إليه عنهم بالإجابة إلى ذلك، فأرسل إليهم: إن كنتم صادقين فيما قلتم فاشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وأقِرُّوا بما جاء من عند الله. فرجعت القصاد إليه بأنهم قد أسلموا، فبعث

(4)

إليهم: إن كنتُم صادقين فإذا كبّرنا وحملنا على البلد الليلةَ فأمسكوا علينا أبواب السفن، وامنعوهم أن يركبوا فيها، واقتلوا منهم منْ قدرتم على قتله. ثم شدّ عبد الله وأصحابه، وكبَّروا تكبيرة رجلٍ واحدٍ، وحملوا على البلد، فكبرت الأعراب من الناحية الأخرى، فحار أهل البلد، وأخذوا في الخروج من الأبواب التي تلي دجلة، فتلقتهم

(5)

إياد والنمر وتغلب، فقتلوهم قتلًا ذريعًا، وجاء عبد الله بن المعتم بأصحابه من الأبواب الأخر فقتل جميعَ أهلِ البلد عن بكرة أبيهم، ولم يسلم إلا منْ أسلم من الأعراب من إياد وتغلب والنمر، وقد كان عمر عهد في كتابه

(6)

إذا نُصروا على تكريت أن يبعثوا ربعي بن الأفكل إلى الحصنين وهي الموصل سريعًا، فسار إليها (كما أمر عمر، ومعه سرية كثيرة، وجماعة من الأبطال، فسار إليها) حتى فجئها قبل وصول الأخبار إليها، فما كان إلا أن واقفها حتى أجابوا إلى الصلح

(7)

فضربت عليهم الذِّلَّة

(8)

(عن يد) وهم صاغرون، ثم قسمت الأموال التي تحصلت من تكريت، فبلغ سهم الفارس

(1)

قيده الأمير ابن ماكولا في الإكمال (7/ 273) وابن ناصر الدين في توضيح المشتبه (8/ 206) بضم أوله وسكون العين المهملة وفتح المثناة تليها ميم مشددة.

(2)

تحرفت في ط إلى: الغزي.

(3)

في أ: وري وراي حفرة!

(4)

في أ: فبعثوا.

(5)

في أ: فلقيهم.

(6)

في أ: أن إذا.

(7)

في أ: المصالحة.

(8)

كذا في (أ) وفي المطبوع: الذمة.

ص: 179

ثلاثة آلاف، وسهم الراجل ألف درهم. وبعثوا بالأخماس مع فرات بن حيان، وبالفتح مع الحارث بن حسان، وولي إمرة حرب الموصل ربعي بن الأفكل، وولي الخراج بها عَرْفَجة بن هَرْثَمة.

‌فتح ماسَبَذان

(1)

من أرض العراق

لما رجع هاشم بن عتبة من جلولاء إلى عمر بالمدائن، بلغ سعدًا أن آذين بن الهرمزان قد جمع طائفة من الفرس، فكتب إلى عمر في ذلك، فكتب إليه أن ابعث جيشًا وأمر عليهم ضرار بن الخطّاب. فخرج ضرار في جيشٍ من المدائن، وعلى مقدمته ابن الهزيل

(2)

الأسدي، فتقدم ابن الهزيل بين يدي الجيش، فالتقى مع آذين وأصحابه قبل وصول ضرار إليه، فكسر ابن الهزيل طائفة الفرس، وأسر آذين بن الهرمزان، وفرَّ عنه أصحابه، وأمر ابن الهزيل فضرب عنق آذين بين يديه، وساق وراء المنهزمين حتى انتهى إلى ماسَبَذان - وهي مدينة كبيرة - فأخذها عنوة، وهرب أهلها في رؤوس الجبال والشعاب، فدعاهم فاستجابوا له، وضرب على منْ لم يسلم الجزيةَ، وأقام نائبًا عليها حتى تحوّل سعد من المدائن إلى الكوفة كما سيأتي.

‌فتح قَرْقِيسياء وهيت

(3)

في هذه السنة

قال ابن جرير

(4)

وغيره: لما رجع هاشم من جلولاء إلى المدائن وكان أهل الجزيرة قد أمدوا هرقل على أهل حمص على قتال أبي عبيدة وخالد - لما كان هرقل بقنسرين - واجتمع أهل الجزيرة في مدينة هيت، كتب سعد إلى عمر في ذلك، فكتب إليه أن يبعث إليهم جيشًا، وأن يؤمِّر عليهم عمر بن مالك بن عتبة بن نوفل بن عبد مناف، فسار فيمن معه من المسلمين إلى هيت، فوجدهم قد خندقوا عليهم، فحاصرهم حينًا فلم يظفر بهم، فسار في طائفة من أصحابه، واستخلف على محاصرة هيت الحارث بن يزيد، فراح عمر بن مالك إلى قرقيسياء فأخذها عنوة، وأنابوا إلى بذل الجزية، وكتب إلى نائبه على هيت: إن لم يصالحوا أن يحفر من وراء خندقهم خندقًا، ويجعل له أبوابًا من ناحيته. فلما بلغهم ذلك أنابوا إلى المصالحة.

قال شيخنا أبو عبد الله الحافظ الذهبي

(5)

: وفي هذه السنة بعث أبو عبيدة عمرو بن العاص بعد فراغه

(1)

ماسَبَذان: إحدى مدن الفرس، وأصلها ماه سبذان مضاف إلى اسم القمر. معجم البلدان (5/ 41).

(2)

كذا في أ، ط وفي تاريخ الطبري (4/ 37): ابن الهذيل.

(3)

قرقيسياء: بلد على نهر الخابور قرب رحبة مالك بن طوق، وكان سعد بن أبي وقاص قد أنفذ جيشًا وهو بالمدائن إلى هيت وقرقيسيا ورئيسهم عمر بن مالك الزهري فنزلوا على حكمه. معجم البلدان (4/ 328).

وهيت: بلدة على الفرات من نواحي بغداد فوق الأنبار ذات نخل كثير وخيرات واسعة، وهي مجاورة للبرية. معجم البلدان (5/ 421).

(4)

في تاريخه (4/ 37 - 38).

(5)

في تاريخ الإسلام (2/ 20) طبعة مكتبة القدسي.

ص: 180

من اليرموك إلى قنسرين فصالح أهل حلب، ومنبج، وأنطاكية، على الجزية. وفتح سائر بلاد قنّسرين عنوة.

قال: وفيها افتتحت سَروج والرُّها

(1)

على يدي عياض بن غنم.

قال: وفيها فيما ذكر ابن الكلبي سار أبو عبيدة وعلى مقدمته خالد بن الوليد، فحاصر إيلياء فسألوا الصلح على أن يقدم عمر فيصالحهم على ذلك، فكتب أبو عبيدة إلى عمر، فقدم حتى صالحهم وأقام أيامًا ثم رجع إلى المدينة.

قلت: قد تقدم هذا فيما قبلَ هذه السنة، واللّه أعلم.

قال الواقدي: وفي هذه السنة حمى عمر الرَّبذة بخيل المسلمين.

وفيها غرَّب عمر أبا محجن الثقفي إلى باضع

(2)

.

وفيها تزوَّج عبد الله بن عمر صفية بنت أبي عُبيد.

قلت: الذي قُتل يوم الجسر، وكان أمير السّرية، وهي أخت المختار بن أبي عُبيد أمير العراق فيما بعد، وكانت امرأةً صالحة، وكان أخوها فاجرًا وكافرًا أيضًا.

قال الواقدي: وفيها حجَّ عمرُ بالناس، واستخلف على المدينة زيدَ بن ثابت. قال: وكان نائبه على مكة عتّاب، وعلى الشام أبو عبيدة، وعلى العراق سعد، وعلى الطائف عثمان بن أبي العاص، وعلى اليمن يعلى بن أمية، وعلى اليمامة والبحرين العلاء بن الحَضْرمي، وعلى عُمان حذيفة بن محصن، وعلى البصرة المغيرة بن شعبة، وعلى الموصل ربعي بن الأفكل، وعلى الجزيرة عِياض بن غَنْم الأشعري.

[وضع عمر رضي الله عنه التأريخ الهجري]

قال الواقدي: وفي ربيع الأول من هذه السنة - أعني سنة ست عشرة - كتب عمر بن الخطاب التاريخ

(3)

، وهو أول من كتبه. قلت: قد ذكرنا سببه في سيرة عمر، وذلك أنه رُفع إلى عمر صك مكتوبٌ لرجل على آخر بدَيْنٍ يحلّ عليه في شعبان، فقال: أي شعبان؟ أمن هذه السنة أم التي قبلها، أم التي بعدها؟ ثم جمع الناس فقال: ضعوا للناس شيئًا يعرفون فيه حلول ديونهم. فيقال إنهم أراد بعضهم

(1)

سَروج: بلدة قريبة من حران من ديار مضر، غلب عياض بن غنم على أرضها ثم فتحها صلحًا على مثل صلح الرّها في سنة 17 في أيام عمر رضي الله عنه. معجم البلدان (3/ 216).

والرُّها: مدينة بالجزيرة بين الموصل والشام، سميت باسم الذي استحدثها. معجم البلدان (3/ 106).

(2)

في أ: ما صنع، تحريف، وباضع: جزيرة في بحر اليمن. معجم البلدان (1/ 324).

(3)

ينظر تاريخ الطبري (4/ 38) والكامل في التاريخ (2/ 526).

ص: 181

أن يؤرخوا كما تؤرخ الفرس بملوكهم، كلما هلك ملك أرَّخوا من تاريخ ولاية الذي بعده، فكرهوا ذلك. ومنهم من قال: أرخوا بتاريخ الروم من زمان إسكندر فكرهوا ذلك، ولطوله أيضًا، وقال قائلون: أرِّخوا من مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم: وقال آخرون من مبعثه عليه السلام. وأشار علي بن أبي طالب وآخرون أن يؤرخ من هجرته من مكة إلى المدينة لظهوره لكلّ أحد فإنه أظهر من المولد والمبعث. فاستحسن ذلك عمر والصحابة، فأمر عمر أن يؤرخ من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرخوا من أول تلك السنة من محرَّمها، وعند مالك رحمه الله فيما حكاه السهيلي

(1)

وغيره أن أول السنة من ربيع الأول لقدومه عليه الصلاة والسلام إلى المدينة. والجمهورُ على أنَّ أول السنة من المحرم، لأنه أضبطُ لئلا تختلف الشهور، فإنَّ المحرمَ أول السنة الهلالية العربية.

وفي هذه السنة - أعني سنة ست عشرة - توفيت مارية أم إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك في المحرم منها فيما ذكره الواقدي وابن جرير

(2)

وغير واحد، وصلَّى عليها عمر بن الخطاب، وكان يجمع الناس لشهود جنازتها، ودُفنت بالبقيع رضي الله عنها وأرضاها، وهي مارية القبطية، أهداها صاحب إسكندرية - وهو جريج بن مينا - في جملة تحفٍ وهدايا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقبل ذلك منه، وكان معها أختُها سيرين

(3)

التي وهبها رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت، فولدت له ابنه عبد الرحمن بن حسان. ويقال أهدى المقوقس معهما جاريتين أُخْرَيين

(4)

، فيُحتمل أنهما كانتا خادمتين لمارية وسيرين. وأهدى معهن غلامًا خَصِيًّا اسمه مأبور، وأهدى مع ذلك بغلةً شهباءَ اسمها الدُّلدُل، وأهدى حلةَ حرير من عمل الإسكندرية. وكان قدوم هذه الهدية في سنة ثمان. فحَملت مارية من رسول الله صلى الله عليه وسلم بإبراهيم عليه السلام، فعاش عشرين شهرًا، ومات قبل أبيه رسول الله صلى الله عليه وسلم (بسنة سواء. وقد حزن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم) وبكى عليه وقال:"تدمع العينُ، ويحزنُ القلبُ، ولا نقول إلا ما يُرْضي ربَّنا، وإنا بك يا إبراهيمُ لمحزونون"

(5)

. وقد تقدم ذلك في سنة عشر. وكانت مارية هذه من الصالحات الخيرات الحسان. وقد حظيت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وأُعجب بها، وكانت جميلة ملَّاحة، أي: حلوة، وهي تشابه هاجر سرية الخليل، فإن كلًّا منهما من ديار مصر وتسرّاها نبيٌّ كريم، وخليل جليل، عليهما السلام.

(1)

في الأصل والمطبوع: حكاه عن السهيلي، و (عن) مقحمة.

(2)

في تاريخه (4/ 38).

(3)

في أ، ط: شيرين، وما أثبتنا عن الاستيعاب (4/ 1868) والإصابة (4/ 339).

(4)

في ط: أخرتين؛ وهو تحريف.

(5)

الحديث عن أنس رضي الله عنه، وهو في مسند أحمد (3/ 194) ومسلم في صحيحه (2315) في الفضائل، وابن حبان في صحيحه (7/ 62) رقم (2902) في الجنائز.

ص: 182

‌ثم دخلت سنة سبع عشرة

في المُحرم منها انتقل سعد بن أبي وقاص من المدائن إلى الكوفة، وذلك أنَّ الصحابةَ استوخموا

(1)

المدائن، وتَغيَّرتْ ألوانُهم، وضعفتْ أبدانُهم، لكثرةِ ذبابها وغبارها، فكتبَ سعد إلى عمر في ذلك، فكتب (عمر): إنَّ العربَ لا تصلحُ إلا حيثُ يوافق إبلَها. فبعث سعد حُذَيْفة وسلمان (بن زياد) يرتادان

(2)

للمسلمين منزلًا مناسبًا يصلحُ لإقامتهم. فمرَّا على أرض الكوفة، وهي حصباء في رملة حمراء، فأعجبتهما ووجدا هنالك ديرات ثلاث

(3)

دير حرقة بنت النعمان، ودير أم عمرو، ودير سلسلة، وبين ذلك خصاص

(4)

خلال هذه الكوفة، فنزلا فصلَّيا هنالك، وقال كل واحد منهما: اللهم ربّ السماء وما أظَلَّتْ، وربّ الأرض وما أقلَّتْ، وربّ الريح وما ذَرَتْ، والنجوم وما هَوَتْ، والبحار وما جَرَتْ، والشياطين وما أضلَّتْ، والخصاص وما أجنَّتْ، باركْ لنا في هذه الكوفة واجعلها منزلَ ثباتٍ، ثم كتبا إلى سعد بالخبر.

فأمر سعد باختطاط الكوفة، وسار إليها في أول هذه السنة في محرمها، فكان أول بنا

(5)

وضع فيها المسجد. وأمر سعد رجلًا راميًا شديد الرمي، فرمى من المسجد إلى الأربع جهات فحيثُ سقطَ سهمُه بنى الناسُ منازلهم، وعَمَّر قصرًا تلقاء

(6)

محراب المسجد للإمارة وبيت المال، فكان أول ما بنوا المنازل بالقصب، فاحترقت

(7)

في أثناء السنة، فبنوها باللَّبِنِ عن أمر عمر، بشرط أن لا يسرفوا ولا يجاوزوا الحدَّ. وبعث سعد إلى الأمراء والقبائل فقدموا عليه، فأنزلهم الكوفةَ، وأمر سعد أبا هَيّاج

(8)

الموكل بإنزال الناس فيها بأن يعمُروا ويدعوا للطريق المنهج وسع أربعين ذراعًا. ولما دون ذلك ثلاثين وعشرين ذراعًا، وللأزقَّة سبعة أذرع. وبُني لسعد قصر قريب من الشُوق، فكانت غوغاء الناس [تمنع] سعدًا من الحديث، فكان يغلق بابه ويقول: سكِّنِ الصويت، فلما بلغت هذه الكلمة عمر بن الخطاب بعث محمد بن مسلمة، فأمره إذا انتهى إلى الكوفة أن يقدح زناده ويجمع حطبًا ويحرق باب القصر ثم يرجع من فوره. فلما انتهى إلى الكوفة فعل ما أمره به عمر، وأمر سعدًا أن لا يغلق بابه عن الناس، ولا يجعل على

(1)

بلدة وَخِمَة ووخيمة إذا لم يوافق سكنُها وقد استوخمتُها. اللسان (وخم).

(2)

في أ: يريدان؛ والمثبت هو الأشبه.

(3)

في أ: ثلاث ديرات حربة ابن النعمان. وما هنا موافق للسان (دير).

(4)

الخصاص: جمع خص وهو البيت من الشجر أو القصب. اللسان (خصص).

(5)

في أ: أول ما وضع.

(6)

في أ: قصرًا أبلقًا.

(7)

في أ: فاحترق.

(8)

في تاريخ الطبري (4/ 44): أبو الهيّاج بن مالك.

ص: 183

بابه أحدًا يمنع الناس عنه، فامتثل ذلك سعد وعرض على محمد بن مسلمة شيئًا من المال فامتنع من قبوله، ورجع إلى المدينة، واستمر سعد بعد ذلك في الكوفة ثلاث سنين ونصفا

(1)

، حتى عزله عنها عمر، من غير عجز ولا خيانة.

‌قصة أبي عبيدة وحصر الروم له بحمص وقدوم عمر إلى الشام [أيضًا لينصره]

وذلك أن جمعًا من الروم عزموا على حصار أبي عبيدة بحمص، واستجاشوا

(2)

بأهل الجزيرة، وخلق ممن هنالك، وقصدوا أبا عبيدة، فبعث أبو عبيدة إلى خالد فقدم عليه من قنّسرين، وكتب إلى عمر بذلك، واستشار أبو عبيدة المسلمين في أن يناجر

(3)

الروم، أو يتحصَّنَ بالبلد حتى يجيء أمرُ عمر؟ فكلّهم أشار بالتَّحصُّنِ، إلا خالدًا فإنه أشار بمناجزتهم، فعصاهُ وأطاعهم. وتحصَّن بحمص وأحاط به الروم، وكلُّ بلدٍ من بلدان الشام مشغولٌ أهله

(4)

عنه بأمرهم، ولو تركوا ما هم فيه وأقبلوا إلى حمص لا نخرم النظام في الشام كله.

وكتب عمر إلى سعد أن يندبَ الناس مع القعقاع بن عمرو، ويسيّرهم إلى حمص من يوم يقدم عليه الكتاب، نجدة لأبي عبيدة فإنه محصورٌ، وكتب إليه أن يُجهِّز جيشًا إلى أهل الجزيرة الذين مالؤوا الروم على حصار أبي عبيدة ويكون أمير الجيش إلى الجزيرة عِياض بن غَنْم. فخرج الجيشان معًا من الكوفة: القعقاع في أربعة آلاف نحو حمص لنجدة أبي عبيدة، وخرج عمر بنفسه من المدينة لينصر أبا عبيدة، فبلغ الجابية، وقيل إنما بلغ سَرْغ. قاله ابن إسحاق، وهو أشبه، والله أعلم.

فلما بلغ أهل الجزيرة الذين مع الروم على حمص أن الجيش قد طرق بلادهم، انشمروا

(5)

إلى بلادهم، وفارقوا الروم، وسمعت الروم بقدوم أمير المؤمنين عمر لينصر نائبه عليهم فضعف جانبهم جدًّا. وأشار خالد على أبي عبيدة بأن يبرز إليهم ليقاتلهم، ففعل ذلك أبو عبيدة، ففتح الله عليه ونصره، وهُزمت الرومُ هزيمة فظيعةً. وذلك قبل ورود عمر عليهم، وقبل وصول الأمداد إليهم بثلاث ليالٍ. فكتب أبو عبيدة إلى عمر، وهو بالجابية، يخبره بالفتح، وأن المدد وصل إليهم بعد ثلاث ليال وسأله

(6)

هل يدخلهم في القَسْم معهم مما أفاء الله عليهم؟ فجاء الجوابُ بأن يدخلهم معهم في الغنيمة، فإنَّ العدوَّ إنما ضعف، وإنما انشمر عنه المدد من خوفهم منهم، فأشركهم أبو عبيدة في

(1)

في أ، ط: ونصف، وما هنا أقرب للسياق. والخبر في تاريخ الطبري (4/ 50).

(2)

استجاشه: أي طلب منه جيشًا. اللسان (جيش).

(3)

في أ: أن يناجزوا.

(4)

في أ: مشغول بأهله.

(5)

انشمروا: عادوا ورجعوا.

(6)

في أ: وسألهم؛ وهو خطأ.

ص: 184

الغنيمة. وقال عمر: جزى الله أهل الكوفة خيرًا يحمون حوزتهم ويمدون أهل الأمصار.

‌فتح الجزيرة

(قال ابن جرير

(1)

: وفي هذه السنة فتحت الجزيرة

(2)

فيما قاله سيف بن عمر). قال ابن جرير: في ذي الحجة من سنة سبعَ عشرةَ. فوافقَ سيف بن عمر في كونها في هذه السنة. وقال ابن إسحاق: كان ذلك في سنة تسع عشرة. سار إليها عياض بن غنم. وفي صحبته أبو موسى الأشعري وعمر بن سعد بن أبي وقاص، وهو غلام صغير السنّ ليس إليه من الأمر شيء، وعثمان بن أبي العاص. فنزل الرُّها فصالحه أهلها على الجزية، وصالحت حَرَّان على ذلك. ثم بعث أبا موسى (الأشعري) إلى نَصيبين، وعمر بن سعد إلى رأس العين، وسار بنفسه إلى دارا، فافتتحت هذه البلدان، وبعث عثمان بن أبي العاص إلى أرمينية، فكان عندها شيء من قتال، قتل فيه صفوان بن المُعطَّل السُّلمي شهيدًا. ثم صالحهم عثمان بن أبي العاص على الجزية، على كل أهل بيت دينار.

وقال سيف في روايته: جاء عبد الله بن عبد الله بن غسان فسلك على رجليه حتى انتهى إلى الموصل فعبر إلى بلد حتى انتهى إلى نَصيبين، فلقوه بالصلح وصنعوا كما صنع أهل الرّقَّة. وبعث إلى عمر برؤوس النصارى من عرب أهل الجزيرة، فقال لهم عمر: أدُّوا الجزيةَ. فقالوا: أبْلِغْنا مأمننَا فَوالله لئن وضعت علينا الجزية لندخلن

(3)

(أرض الروم)، والله لتفضحنا من بين العرب. فقال لهم: أنتم فضحتم أنفسَكم، وخالفتم أُمتكم، ووالله لتؤدُنَّ الجزيةَ وأنت صَغَرَةٌ قَمَأَة

(4)

، ولئن هربتم إلى الروم لأكتبنَّ فيكم، ثم لأسبينَّكم. قالوا: فخذ منا شيئًا ولا تُسمِّه

(5)

جزية. فقال: أما نحن فنسميه جزية، وأما أنتم فسمُّوه ما شئتم. فقال له علي بن أبي طالب: ألم يُضْعف عليهم سعد الصدقة؟ قال: بلى: وأصغى إليه ورضي به منهم.

[قدوم عمر رضي الله عنه إلى الشام]

قال ابن جرير

(6)

: وفي هذه السنة قدم عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الشام فوصل إلى سَرْغ في قول محمد بن إسحاق، وقال سيف: وصل إلى الجابية. قلت: والأشهر أنه وصل سَرْغ، وقد تلقّاه

(1)

في تاريخه (4/ 53).

(2)

في ط: الجزائر. وما هنا عن الطبري.

(3)

في أ: لنرحلن؛ تحريف.

(4)

صَغَرة: من الصَّغَر والصَّغار وهو الذل والهوان. اللسان (صغر). قَمأة: جمع قميء من قمأ الرجل وغيره: ذلَّ وصَغُر وصار قميئًا. اللسان (قمأ).

(5)

في أ، ط: تُسمِّيه، وما هنا للسياق النحوي.

(6)

في تاريخه (4/ 56).

ص: 185

أمراءُ الأجناد، أبو عبيدة، ويزيد بن أبي سفيان، وخالد بن الوليد، إلى سَرْغ فأخبروه بأن الوباء قد وقع بالشام، فاستشار عمر المهاجرين والأنصار فاختلفوا عليه، فمن قائل يقول: أنت قد جئت لأمر فلا ترجع عنه. ومن قائل يقول: لا نرى أن تقدم بوجوه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا الوباء. فيقال إن عمر أمر الناس بالرجوع من الغد

(1)

. فقال أبو عبيدة: أفرارًا من قدر الله؟ قال: نعم! نفرُّ من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو هبطت واديًا ذا عدوتين إحداهما مخصبة والأخرى مجدبة، فإن رعيت الخِصبة رعيتها بقدر الله، وإن أنت رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟ ثم قال: لو غيرك يقولها يا أبا عبيدة.

قال ابن إسحاق في روايته وهو في صحيح البخارب

(2)

: وكان عبد الرحمن بن عوف متغيبًا في بعض شأنه، فلما قدم قال: إن عندي من ذلك علمًا، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إذا سمعتم به بأرض قوم فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا فرارًا منه". فحمد الله عمر - (يعني) لكونه وافق رأيه - ورجع بالناس.

وقال الإمام أحمد

(3)

: حدَّثنا وكيع، حدَّثنا سفيان، عن حبيب

(4)

بن أبي ثابت، عن إبراهيم بن سعد، عن سعد بن مالك بن أبي وقاص وخزيمة بن ثابت وأسامة بن زيد قالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ هذا الطاعون رجزٌ وبقيةُ عذابٍ عُذِّب به قومٌ قبلكم، فإذا وقع بأرض وأنتم بها

(5)

فلا تخرجوا منها فرارًا منه، وإذا سمعتم به بأرضٍ فلا تدخلوا عليه".

ورواه (الإمام) أحمد

(6)

أيضًا من حديث سعيد بن المسيّب ويحيى بن سعد

(7)

، عن سعد بن أبي وقاص به.

قال سيف بن عمر

(8)

: كان الوباء قد وقعَ بالشام في المُحَرَّم من هذه السنة ثم ارتفع، وكأن سيفًا يعتقدُ أنَّ هذا الوباء هو طاعون عَموَاس، الذي هلك فيه خلق من الأمراء ووجوه المسلمين، وليس الأمر كما زعم، بل طاعون عَمَواس، من السنة المستقبلة بعد هذه، كما سنبينه إن شاء الله تعالى.

وذكر سيف بن عمر أن أمير المؤمنين عمر كان قد عزمَ على أن يطوفَ البلدان، ويزورَ الأمراء. وينظر

(1)

في أ: من الغزو.

(2)

صحيح البخاري (5729) في الطب.

(3)

في المسند (1/ 182 و 5/ 213)، وإسناده صحيح.

(4)

في ط: "سفيان بن حسين" خطأ، والصواب ما أثبتناه، وسفيان هو الثوري.

(5)

في ط: فيها، وما هنا عن أ والمسند.

(6)

في المسند (1/ 174 و 180 و 186) من حديث سعيد بن المسيب.

(7)

في ط: "سعيد" وهو خطأ، وهو يحيى بن سعد بن أبي وقاص، وروايته عن أبيه أخرجها أحمد في المسند كما ذكر المصنف في (1/ 173 و 175 و 176).

(8)

تاريخ الطبري (4/ 58).

ص: 186

فيما اعتمدوه وما آثروا من الخير، فاختلف عليه الصحابة فمن قائلٍ يقولُ إبدأ بالعراق، ومن قائل يقول بالشام. فعزم عمر على قدوم الشام لأجل قَسْمِ مواريث منْ مات من المسلمين في طاعون عمواس، فإنه أشكل قَسْمُها على المسلمين بالشام فعزم على ذلك. وهذا يقتضي أن عمر عزمَ على قدوم الشام بعد طاعون عمواس، وقد كان الطاعون في سنة ثماني عشرة كما سيأتي، فهو قدوم آخر غير قدوم سَرْغ. والله أعلم.

قال سيف: عن أبي عثمان وأبي حارثة والربيع بن النعمان قالوا: قال عمر: ضاعت مواريثُ الناس بالشام، أبدأ بها فأقسم المواريث وأقيم لهم ما في نفسي، ثم أرجع فأتقلّب في البلاد وأنبذ إليهم أمري. قالوا: فأتى عمر الشام أربعَ مراتٍ مرتين في سنة ست عشرة، ومرتين في سنة سبع عشرة. (ولم يدخلها في الأولى من الأخريين. وهذا يقتضي ما ذكرناه عن سيف أنه يقول بكون طاعون عمواس في سنة سبع عشرة) وقد خالفه محمد بن إسحاق وأبو معشر وغير واحد، فذهبوا إلى أنه كان في سنة ثماني عشرة. وفيه توفي أبو عبيدة ومعاذ ويزيد بن أبي سفيان، وغيرهم من الأعيان، على ما سيأتي تفصيلا

(1)

إن شاء الله تعالى.

[ذكر] شيءٍ من أخبار طاعون عَمَواس

(2)

الذي توفي فيه أبو عبيدة ومعاذ ويزيد بن أبي سفيان وغيرهم من أشراف الصحابة وغيرهم، أورده ابن جرير

(3)

في هذه السنة.

قال محمد بن إسحاق

(4)

: عن شعبة، عن المخارق

(5)

بن عبد الله البَجَلي عن طارق بن شهاب البَجَلي قال: أتينا أبا موسى، وهو في داره بالكوفة، لنتحدَّث عنده، فلما جلسنا قال: لا تَخفّوا

(6)

فقد أصيب في الدار إنسان بهذا السقم، ولا عليكم أن تتنزهوا عن هذه القرية فتخرجوا في فسيح بلادكم ونزهها، حتى يرتفع

(7)

هذا البلاء، فإني سأخبركم بما يكرَه مما يتقى، من ذلك أن يظنَّ منْ خرج أنه لو

(1)

في أ: تعيينه.

(2)

عَمَواس: - ورواه الزمخشري بكسر أوله، ورواه غيره بفتح أوله وثانيه - وهي كورة من فلسطين بالقرب من فلسطين، ومنها كان ابتداء الطاعون أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ثم فشا في أرض الشام فمات فيه خلق كثير لا يحصى من الصحابة رضي الله عنهم، ومن غيرهم وذلك في سنة 18 للهجرة. معجم البلدان (4/ 157 - 158).

(3)

في تاريخه (4/ 60).

(4)

تاريخ الطبري (4/ 60 - 61).

(5)

في ط: "المختار"، محرف، وهو مخارق بن عبد الله بن جابر، ويقال: مخارق بن خليفة، من رجال التهذيب.

(6)

في أ، ط: تحفوا، وما هنا عن تاريخ الطبري.

(7)

في أ: يرفع هذا الوباء.

ص: 187

قام مات! ويظن منْ أقام فأصابه ذلك أنه لو خرج لم يُصِبْهُ، فإذا لم يظنّ ذلك هذا المرءُ المسلمُ فلا عليه أن يخرجَ وأن يتنزَّه عنه، إني كنت مع أبي عبيدة بن الجراح بالشام عام طاعون عَمَواس، فلما اشتعل

(1)

الوجعُ وبلغ ذلك عمر كتب إلى أبي عبيدة ليستخرجه منه: أن سلامٌ عليكَ، أمّا بعد، فإنّه قد عرضَت لي إليكَ حاجةٌ أريدُ أن أشافِهَكَ بها، فعزمتُ عليك إذا نظرت في كتابي هذا أن لا تضعه من يدك حتى تُقبل إليَّ.

قال: فعرفَ أبو عبيدة أنَّه إنَّما أرادَ أن يستخرجَه من الوباء، فقال: يغفر اللهُ لأميرِ المؤمنين. ثم كتبَ إليه يا أمير المؤمنين إنّي قد عرفت حاجتَكَ إليَّ، وإني في جندٍ من المسلمين لا أجدُ بنفسي رغبةً عنهم، فلستُ أريدُ فراقهم حتى يقضيَ الله فيّ وفيهم أمرَهُ وقضاءَهُ، فخلِّني من عزمتك

(2)

يا أمير المؤمنين، ودعني في جندي

(3)

.

فلما قرأ عمر الكتابَ بكى. فقال الناس: يا أمير المؤمنين أماتَ أبو عبيدة؟ قال: لا، وكأن قد. قال: ثم كتب إليه سلام: عليك (أما بعد فإنك)

(4)

أنزلت الناس أرضًا عميقة فارفعهم إلى أرضٍ مرتفعةٍ نزهةٍ.

قال أبو موسى: فلما أتاه كتابه دعاني فقال: يا أبا موسى، إن كتاب أمير المؤمنين قد جاءني بما ترى، فاخرج فارتد للناس منزلًا حتى أتبعك بهم، فرجعتُ إلى منزلي لأرتحل فوجدت صاحبتي قد أصيبت، فرجعتُ إليه وقلتُ: والله لقد كان في أهلي حدثٌ. فقال: لعلَّ صاحبتَك قد أصيبتْ؟ قلت: نعم، فأمر ببعير فرحِّل له، فلما وضع رجلَه في غرْزِهِ طُعِنَ فقال: والله لقد أُصِبْتُ، ثم سار بالناس حتى نزل الجابيةَ ورفعَ عن الناس الوباءَ.

وقال محمد بن إسحاق

(5)

، عن أبان بن صالح، عن شهر بن حوشب، عن رابِّه - رجلٍ من قومه - وكان قد خلف على أمّه بعد أبيه، وكان قد شهد طاعون عَمَواس. قال: لما اشتعل الوجعُ قام أبو عبيدة في الناس خطيبًا فقال: أيها الناس، إن هذا الوجعَ رحمةُ ربِّكم

(6)

ودعوةُ نبيّكم وموتُ الصالحين قبلكم (وإنَّ أبا عبيدة يسأل الله أن يقسم لأبي عبيدة حظَّه، فطُعِنَ، فماتَ وأستخلف على الناس معاذ بن جبل، فقام خطيبًا بعده. فقال: أيّها الناسُ، إنَّ هذا الوجع رحمة ربِّكم، ودعوة نبيكم، وموت الصالحين قبلكم) وإن معاذًا يسأل الله تعالى اْن يقسم لآل معاذ حظَّهم، فطُعِنَ ابنهُ عبد الرحمن فمات، ثم قام فدعا

(1)

في أ: استقل؛ تحريف.

(2)

في أ: عزيمتك.

(3)

في أ: ودعني وجندي.

(4)

في أ: وإني أنزلت.

(5)

تاريخ الطبري (4/ 61 - 62).

(6)

في ط: رحمة بكم.

ص: 188

لنفسه، فطُعن في راحته فلقد رأيته ينظر إليها، ثم يقلب

(1)

ظهر كفه، ثم يقول: ما أحبُّ أنَّ لي بما (فيك) شيئًا من الدنيا. فلما مات استخلف على الناس عمرو بن العاص، فقام فيهم خطيبًا فقال أيها الناس، إن هذا الوجعَ إذا وقعَ فإنّما يشتعلُ اشتعالَ النار، فتحصَّنوا

(2)

منه في الجبال. فقال أبو واثلة

(3)

الهُذَليّ: (كذبت) والله لقد صحبتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأنت شرٌّ من حماري هذا. فقال: والله ما أردّ عليك ما تقول، وأيم الله لا نقيم عليه. قال: ثم خرج وخرج الناسُ فتفرقوا ودفعه الله عنهم. قال: فبلغ ذلك عمر بن الخطاب من رأي عمرو بن العاص فوالله ما كرهه.

قال ابن إسحاق: ولما انتهى إلى عمر مصاب أبي عبيدة ويزيد بن أبي سفيان، أمَّر معاوية على جند دمشق وخراجها، وأمّر شُرحْبيل بن حَسَنة على جندِ الأردن وخراجها.

(وقال سيف بن عمر عن شيوخه قالوا: لما كان طاعون عَمَواس وقع مرتين لم ير مثلهما وطال مكثه، وفني خلق كثيرٌ من الناس، حتى طمع العدوّ وتخوفتْ قلوبُ المسلمين لذلك.

قلتُ: ولهذا قدم عمر بعد ذلك إلى الشام فقسم مواريث الذين ماتوا لمَّا أشكل أمرها على الأمراء. وطابت قلوب الناس بقدومه، وانقمعت الأعداء من كل جانب لمجيئه إلى الشام ولله الحمد والمنة.

(

(4)

وقال سيف - بعد ذكره قدوم عمر بعد طاعون عمواس في آخر سنة سبع عشرة - قال: فلما أراد القُفول إلى المدينة في ذي الحجة منها خطب الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ألا إني قد ولَّيْتُ عليكم وقضيتُ الذي عليَّ في الذي ولَّاني اللهُ من أمركم إن شاء الله، فبسطنا

(5)

بينكم فيأكم ومنازلكم ومغازيكم، وأبلغناكم ما لدينا، فجنَّدنا لكم الجنود، وهيَّأنا لكم الفُروج

(6)

وبوأنا لكم، ووسعنا عليكم ما بلغَ فَيْؤُكُمْ وما قاتلتم عليه من شامكم، وسمينا لكم أطعماتكم، وأمرنا لكم بأعطياتكم وأرزاقكم ومغانمكم. فمن علم شيئًا ينبغي العمل به فليعلمنا نعمل به إن شاء الله ولا قوة إلا بالله.

قال وحضرت الصلاة فقال الناس: لو أمرتَ بلالًا فأذَّن؟ فأمره فأذَّنَ فلم يبقَ أحدٌ كان أدرك رسولَ الله وبلال يؤذن إلَّا بكى

(7)

حتى بلَّ لحيتَه، وعمرُ أشدُّهم بكاءً، وبكى من لم يدركه لبكائهم ولذكره صلى الله عليه وسلم.

(1)

في تاريخ الطبري (4/ 62): يقبِّل.

(2)

في تاريخ الطبري: فتجبَّلوا، وفي هامشه: تجبل القوم أي دخلوا في الجبل.

(3)

في أ، ط: أبو وائل؛ خطأ، والمثبت من تاريخ الطبري (4/ 62) والإصابة (4/ 215) وأبو واثلة الهذلي: صحابي شهد فتوح الشام وخبره هذا، أخرجه أحمد في مسنده (1/ 196) وابن عساكر في تاريخ دمشق المختصر (29/ 174).

(4)

سيرد ما بين القوسين في أقبل فقرة (كائنة غريبة).

(5)

في تاريخ الطبري: قسطنا.

(6)

في أ: فيأكم وبوأنا، وفي ط: العروج؛ وهو تحريف. والفروج: هي الثغور. النهاية (3/ 423).

(7)

في أ: إلَّا وبكى.

ص: 189

وذكر ابن جرير

(1)

في هذه السنة من طريق سيف بن عمر عن أبي المجالد أن عمر بن الخطاب بعث ينكر على خالد بن الوليد في دخوله إلى الحمام، وتدلكه بعد النُّورة بعصفر معجون بخمر، فقال في كتابه: إن الله قد حرَّم ظاهر الخمر وباطنه، كما حرَّم ظاهر الإثم وباطنه، وقد حرم مسّ الخمر فلا تمسّوها أجسامكم فإنها نجس، فإن فعلتم فلا تعودوا. فكتب إليه خالد: إنا قتلناها فعادت غسولًا غير خمر. فكتب إليه عمر: إني أظنّ أن آل المغيرة قد آبتلوا بالجفاء فلا أماتكم الله عليه فانتهى لذلك)

(2)

.

قال سيف: وأصاب أهلَ البصرة تلك السنة طاعون أيضًا فماتَ بشرٌ كثيرٌ وجمٌّ غفيرٌ، رحمهم الله ورضي الله عنهم أجمعين.

قالوا: وخرج الحارث بن هشام في سبعين من أهله إلى الشام فلم يرجع منهم إلا أربعة. فقال المهاجر بن خالد

(3)

في ذلك: [من السريع]

منْ يسكنِ الشَّام يُعرِّسْ بهِ

والشّامُ إنْ لمْ يُفْننا كاربُ

أفنى بني رَيْطة فُرسانهُمُ

عِشْرون لمْ يُقْصصْ لهم شاربُ

ومنْ بني أعْمامِهمْ مِثْلهمْ

لِمِثْلِ هذا يعجب

(4)

العاجبُ

طَعْنًا وطاعونًا مناياهُمُ

ذلكَ ما خطَّ لنا الكاتبُ

‌كائنةٌ غَريبةٌ فيها عزل خالد عن قِنَّسرين أيضًا

قال ابن جرير

(5)

: وفي هذه السنة أدرب خالد بن الوليد وعياض بن غنم، أي: سلكا درب الروم وأغارا عليهم، فغنموا أموالًا عظيمة وسبيًا كثيرًا. ثم روى من طريق سيف، عن أبي عثمان وأبي حارثة والربيع وأبي المجالد، قالوا: لما رجع خالدٌ ومعه أموالٌ جزيلةٌ من الصائفة انتجعه الناس يبتغون رفده ونائله، فكان ممَّن دخل عليه الأشعث بن قيس فأجازه بعشرة آلاف، فلما بلغ ذلك عمر

(6)

كتب إلى أبي عبيدة يأمره أن يقيم خالدًا ويكشف عمامته وينزع عنه قلنسوته ويقيّده بعمامته ويسأله عن هذه العشرة آلاف، إن كان أجازها الأشعث من ماله فهو سَرَفٌ، وإن كان من مال الصائفة فهي خيانة

(7)

، ثم اعزله عن عمله. فطلب أبو عبيدة خالدًا وصعد أبو عبيدة المنبر، وأقيم خالد بين يدي المنبر، وقام إليه بلال ففعل

(1)

في تاريخه (4/ 66).

(2)

في تاريخ الطبري: إليه ذلك.

(3)

الأبيات في تاريخ الطبري (4/ 65) للمهاجر بن خالد بن الوليد.

(4)

في أ: عجب، وفي تاريخ الطبري: أعجب.

(5)

في تاريخه (4/ 66).

(6)

في أ: فلما بلغ عمر ذلك.

(7)

في أ: جناية.

ص: 190

ما أمر به عمر بن الخطاب هو والبريد

(1)

الذي قدم بالكتاب. هذا وأبو عبيدة ساكتٌ لا يتكلّمُ، ثم نزل أبو عبيدة واعتذر إلى خالد مما كان بغير اختياره وإرادته، فعذره خالد وعرف أنه لا قصد له في ذلك. ثم سار خالد إلى قِنَّسرين فخطب أهل البلد وودَّعهم

(2)

، وسار بأهله إلى حمص فخطبهم أيضًا وودعهم وسار إلى المدينة، فلما دخل (خالد على) عمر أنشد عمر قول الشاعر

(3)

: [من الطويل]

صَنَعْتَ فَلَمْ يَصْنعْ كَصُنعكَ صانعٌ

وما يَصْنع الأقْوامُ فَاللهُ صانِعُ

ثم سأله من أين هذا اليسار الذي تجيز منه بعشرة آلاف، فقال: من الأنفال والسهمان. قال: فما زاد على الستين ألفًا فلك، ثم قوَّم أمواله وعروضه وأخذ منه عثرين ألفًا ثم قال: والله إنك عليّ لكريم، وإنك إلي لحبيب، ولن تعمل لي بعد اليوم على شيء.

وقال سيف

(4)

، عن عبد الله، عن المستورد، عن أبيه، عن عدي بن سهل

(5)

قال: كتب عمر إلى الأمصار: إني لم أعزل خالدًا عن سخطة ولا خيانة، ولكن الناس فتنوا به فأحببت (أن يعلموا) أن الله هو الصانعُ.

ثم رواه سيف، عن مبشِّر، عن سالم، قال: لما قدم خالد على عمر

فذكر مثله. قال الواقدي:

وفي هذه السنة اعتمر عمر في رجب منها، وعمَّر في المسجد الحرام وأمر بتجديد أنصاب الحرم، أمر بذلك لمخرمة بن نوفل، وأزهر بن عبد عوف، وحويطب بن عبد العُزَّى، وسعيد بن يربوع.

قال الواقدي: وحدَّثني كثير بن عبد الله المرّي، عن أبيه، عن جده قال: قدم عمر مكة في عمرة سنة سبع عشرة، فمر في الطريق فكلّمه أهل المياه أن يبنوا منازل بين مكة والمدينة - ولم يكن قبل ذلك بناء - فأذنَ لهم وشرطَ عليهم أنَّ ابن السبيل أحقُّ بالظلِّ والماء.

قال (الواقدي): وفيها تزوَّج عمر بأم كلثوم بنت علي بن أبي طالب، من فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخل بها في ذي القعدة. وقد ذكرنا في سيرة عمر ومسنده صفة تزويجه بها وأنه أمهرها أربعين ألفًا، وقال: إنما تزوجتُها لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "كل سبب ونسب فإنه ينقطعُ يومَ القيامة إلَّا سببي ونسبي"

(6)

.

(1)

في أ: والبريدي.

(2)

في أ: وودهم.

(3)

في أ: فلما دخل عمر أنشده.

(4)

تاريخ الطبري (4/ 68).

(5)

في تاريخ الطبري: ابن سهيل.

(6)

الحديث أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (2635)، الحاكم في المستدرك (3/ 142) وغيرهما وهو حديث حسن.

ص: 191

[ذكر خبر عزل المغيرة بن شعبة عن البصرة وولاية أبي موسى]

قال: وفي هذه السنة ولَّى عمر أبا موسى الأشعري البصرة، وأمره أن يشخصَ إليه المغيرة بن شعبة في ربيع الأول. فشهد عليه فيما حدَّثني معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب: أبو بكرة، وشبل بن معبد البَجَلي، ونافع بن عبيد، وزياد. ثم ذكر الواقدي وسيف

(1)

هذه القصة وملخصها:

أن امرأةً كان يُقال لها أمَّ جميل بنتَ الأفْقَم، من نساء بني عامر بن صعصعة، ويقال من نساء بني هلال. وكان زوجُها من ثقيف قد توفي عنها، وكانت تغشى نساءَ الأمراءِ والأشرافِ، وكانت تدخل على بيت المغيرة بن شُعبة وهو أمير البصرة، وكانت دار المغيرة تجاه دار أبي بكرة، وكان بينهما الطريقُ، وفي دار أبي بكرة كُوَّةٌ تُشرفُ على كُوَّةٍ في دار المغيرة، وكان لا يزال بين المغيرة وبين أبي بكرة شَنآنٌ

(2)

. فبينما أبو بكرة في داره وعنده جماعة يتحدَّثون في العُلِّيَّةِ

(3)

، إذ فَتحتِ الريحُ بابَ الكُوَّة فقام أبو بكرة ليُغلقها، فإذا كوةُ المغيرة مفتوحة، وإذا هو على صدر امرأة وبين رجليها، وهو يُجامعها، فقال أبو بكرة لأصحابه: تعالوا فانظروا إلى أميركم يزني بأمِّ جميل. فقاموا فنظروا إليه وهو يجامع تلك المرأة، فقالوا لأبي بكرة: ومن أين قلتَ إنها أم جميل؟ - وكان رأساهما من الجانب الآخر -. فقال: انتظروا، فلما فرغا قامت المرأة فقال أبو بكرة: هذه أم جميل. فعرفوها فيما يظنون. فلما خرج المغيرة - وقد اغتسل - ليصلّي بالناس منعه أبو بكرة أن يتقدم.

وكتبوا إلى عمر في ذلك، فولى عمر أبا موسى (الأشعري) أميرًا على البصرة. وعزل المغيرة، فسار إلى البصرة فنزل البرد

(4)

. فقال المغيرة: والله ما جاء أبو موسى تاجرًا ولا زائرًا (ولا جاء) إلا أميرًا. ثم قدم أبو موسى على الناس، وناولَ المغيرةَ كتابًا من عمر هو أوجز كتاب فيه: أما بعد فإنه بلغني نبأ عظيم فبعثت أبا موسى أميرًا فسلِّم ما في يديك والعجل. وكتب إلى أهل البصرة: إني قد وليتُ عليكم أبا موسى ليأخذ من قويكم لضعيفكم، وليقاتل بكم عدوكم، وليدفع عن دينكم، وليجبي لكم فيأكم (ثم ليقسمه بينكم) وأهدى المغيرة لأبي موسى جاريةً من مولدات الطائف تُسمَّى عقيلة (وقال: إنّي رضيتُها لك، وكانت فارهة

(5)

. وارتحل المغيرة والذين شهدوا عليه) وهم أبو بكرة، ونافع بن كلدة، وزياد بن أمية، وشبل بن معبد البجلي. فلما قدموا على عمر جمع بينهم وبين المغيرة. فقال المغيرة: سَلْ هَؤلاء الأعبد كيف رأوني؟ مستقبلهم أو مستدبرهم؟ وكيف رأوا المرأة وعرفوها، فإن كانوا مستقبلي فكيف لم

(1)

القصة بكاملها في تاريخ الطبري (4/ 69 - 72).

(2)

يقال: شنئته أشنَؤُه شَنْئًا وشنآنًا: أبغضته. النهاية (2/ 503).

(3)

علِّيَّه - هي بضم العين وكسرها - الغرفة والجمع العلالي. النهاية (3/ 295) والقاموس (علا).

(4)

في أ: فبرد البريد.

(5)

جارية فارهة: إذا كانت حسناء مليحة. اللسان (فره).

ص: 192

يستتروا

(1)

؟ أو مستدبريَّ فكيف استحلّوا النظر في منزلي على

(2)

امرأتي؟ والله ما أتيت إلا امرأتي وكانت تشبهها. فبدأ عمر بأبي بكرة فشهد عليه أنه رآه بين رجلي أم جميل وهو يدخله ويخرجه كالميل في المكحلة، قال: كيف رأيتهما؟ (قال): مستدبرهما. قال: فكيف استبنت

(3)

رأسها

(4)

قال: تحاملتُ. ثم دعا شبل بن معبد فشهد بمثل ذلك، فقال استقبلتهما أم استدبرتهما؟ قال: استقبلتهما. وشهد نافع بمثل شهادة أبي بكرة ولم يشهد زياد بمثل شهادتهم. قال: رأيته جالسًا بين رجلي امرأة فرأيت قدمين مخضوبتين يخفقان وآستين مكشوفتين، وسمعت حفزانًا

(5)

شديدًا. قال: هل رأيت كالميل

(6)

في المكحلة؟ قال: لا. قال: فهل تعرف المرأة؟ قال: لا ولكن أشبهها. قال: فتنحَّ. وروي أن عمر رضي الله عنه كبر عند ذلك ثم أمر بالثلاثة فجُلدوا الحدَّ، وهو يقرأ قوله تعالى:{فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13)} [النور: 13] فقال المغيرة: أشفني من الأعبد. قال: اسكت، أسكتَ اللهُ فاكَ، والله لو تمَّتِ الشهادة لرجمناكَ بأحجاركَ.

‌فتح الأهْواز ومَنَاذِر

(7)

ونهرتِيْرَي

(8)

قال ابن جرير

(9)

: كان في هذه السنة، (وقيل: في سنة) ست عشرة. ثم روى من طريق سيف عن شيوخه أن الهُرْمزان كان قد تغلَّب على هذه الأقاليم (وكان ممَّنْ فَرَّ يوم القادسية من الفرس، فجهَّز أبو موسى من البصرة، وعتبة) بن غزوان من الكوفة جيشين لقتاله، فنصرهم الله عليه، وأخذوا منه ما بين دجلة إلى دجيل، وغنموا من جيشه ما أرادوا، وقتلوا من أرادوا، ثم صانعَهم وطلب مصالحتهم عن بقية بلاده، فشاورا في ذلك عتبة بن غزوان فصالحه، وبعث بالأخماس والبشارة إلى عمر، وبعث وفدًا فيهم الأحنف بن قيس. فأعجب عمر به وحظي عنده. وكتب إلى عتبة يوصيه به ويأمره بمشاورته والاستعانة برأيه. ثم نقض الهُرْمزان العهد والصلح، واستعان بطائفةٍ من الأكراد، وغزَّته نفسه، وحَسَّن له الشيطانُ عملَه في ذلك. فبرز إليه المسلمون فنُصِروا عليه وقتلوا من جيشه جمًا غفيرًا، وخلقًا كثيرًا،

(1)

في تاريخ الطبري: لم أستتر.

(2)

في أ: إلى.

(3)

في تاريخ الطبري: استثبتَّ.

(4)

في أ: رؤوسهما.

(5)

حفزانًا: النفس الشديد المتتابع. اللسان (حفز).

(6)

في أ: كالمرود.

(7)

مناذر: قرية من قرى الأهواز. وهما قريتان. معجم ما استعجم (4/ 1263) ومعجم البلدان (5/ 199).

(8)

تيرى: مقصور: نهر تيرى من نواحي الأهواز. معجم البلدان (2/ 66).

(9)

في تاريخه (4/ 72).

ص: 193

وجمعًا عظيمًا، واستلبوا منه ما بيده من الأقاليم والبلدان إلى تُسْتَر

(1)

، فتحصن بها، وبعثوا إلى عمر بذلك. وقد قال الأسود بن سريع في ذلك - وكان صحابيًا رضي الله عنا

(2)

-[من الوافر]

لَعَمْرُكَ ما أضاعَ بنو أبينا

(3)

ولكنْ حافَظوا فيمنْ يُطِيعُ

(4)

أطاعوا ربَّهُم وعَصاهُ قَوْمٌ

أضاعوا أمْرَهُ فيمَنْ يُضيعُ

مَجوسٌ لا يُنَهْنهُها كِتابٌ

فلاقوا كبَّةً فيها قبوعُ

وولّى الهُرْمزانُ على جَواب

سريعِ الشدِّ يَثْفِنُه

(5)

الجميعُ

وخَلَّى سُرَّة الأهوازِ كَرْهًا

غَداةَ الجِسْرِ إذ نجَم

(6)

الرَّبيعُ

وقال حُرْقوص بن زهير السَّعدي وكان صحابيًا أيضًا: [من الوافر]

غَلَبْنا الهُرْمُزانَ على بلادٍ

لها في كلِّ ناحيةٍ ذخائرْ

سواءٌ بَرُّهمْ والبَحْرُ فيها

إذا صارت نواحيها

(7)

بَواكرْ

لها بَحْرٌ يَعجّ بجانِبَيْهِ

جَعَافِرُ

(8)

لا يزالُ لها زواخِرْ

‌فتح تُسْتَر المرَّة الأولى صلحًا

قال ابن جرير

(9)

: كان ذلك في هذه السنة في قول سيف وروايته. وقال غيره: في سنة ست عشرة وقال غيره: كانت في سنة تسع عشرة. ثم قال ابن جرير: ذكر الخبر عن فتحها، ثم ساق من طريق سيف، عن محمد وطلحة والمهلب وعمرو

(10)

قالوا: ولما افتتح حُرْقُوص بن زُهَيْر سوق الأهواز، وفرَّ الهُرْمزان بين يديه، فبعث في إثره جَزْء بن معاوية - وذلك عن كتاب عمر بذلك - فما زال جَزْء يتبعه حتى انتهى إلى رامَهُرْمُزا

(11)

فتحصن الهُرْمزان في بلادها، وأعجز جَزْءًا تَطلُّبهُ، واستحوذ جَزْء على تلك البلاد

(1)

تُسْتر: - بالضم ثم السكون وفتح التاء الأخرى وراء - أعظم مدينة بخوزستان. معجم البلدان (2/ 29).

(2)

الأبيات في تاريخ الطبري (4/ 76).

(3)

في أ: بنوبنينا؛ تحريف.

(4)

في أ، ط: يطيعوا، وما هنا عن تاريخ الطبري وهو الأشبه.

(5)

في أ: يتبعه، والروايتان بمعنى واحد.

(6)

نجم طلع. اللسان (نجم).

(7)

كذا في أ، ط. وفي تاريخ الطبري: نواجبها.

(8)

الجعافر: جمع جعفر، وهو النهر. اللسان (جعفر).

(9)

في تاريخه (4/ 77).

(10)

في أ: وعمر؛ خطأ.

(11)

رامَهُرْمز: مدينة مشهورة بنواحي خوزستان، وهي من بين مدن خوزستان تجمع النخل والجوز والأترنج. معجم البلدان (3/ 17).

ص: 194

والأقاليم والأراضي، فضرب الجزية على أهلها، وعمر عامرها، وشق الأنهار إلى خرابها ومواتها، فصارت في غاية العمارة والجودة. ولما رأى الهُرْمُزان ضيقَ بلاده عليه لمجاورة المسلمين، طلب من جَزْء بن معاوية المصالحة، فكتب إلى حُرْقوص، فكتب حرقوص إلى عُتبة بن غزوان، وكتب عتبة إلى عمر في ذلك. فجاء الكتاب العمري بالمصالحة على رامهُرْمز، وتُسْتَر، وجُنْدَيْ سابور

(1)

، ومدائن أخر مع ذلك. فوقع الصلحُ على ذلك كما أمر به عمر رضي الله عنه.

‌ذكر غزو (بلاد) فارس من ناحية البحرين (عن)

(2)

ابن جرير عن سيف

وذلك أنَّ العلاء بن الحَضْرمي كان على البحرين في أيام الصدِّيق، فلما كان عمر عزله عنها وولاها لقدامة بن مظعون. ثم أعاد العلاءَ بن الحضْرمي إليها. وكان العلاء بن الحضرمي يباري سعد بن أبي وقاص. فلما افتتح سعد القادسية، وأزاح كسرى عن داره، وأخذ حدود ما يلي السواد، واستعلى وجاء بأعظم مما جاء به العلاء بن الحضرمي من ناحية البحرين. فأحب (العلاء) أن يفعل فعلًا في فارس نظيرَ ما فعله سعدٌ فيهم، فندب الناس إلى حربهم، فاستجاب له (أهل) بلاده، فجزَّأهم أجزاء، فعلى فرقة الجارود بن المُعلَّى، وعلى الأخرى السوّار بن همام، وعلى الأخرى خُلَيْد بن المُنْذر بن ساوَى، وخُليد هو أمير الجماعة. فحملهم في البحر إلى فارس، وذلك بغير إذن عمر له في ذلك - وكان عمر يكره ذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا

(3)

بكر (ما) غزيا فيه المسلمين - فعبرت تلك الجنود من البحرين إلى فارس، فخرجوا من عند إصطخر، فحالت فارس بينهم وبين سفنهم، فقام في الناس خُليد بن المنذر فقال: أيها الناس، إنما أراد هؤلاء القوم بصنيعهم هذا محاربتكم، وأنتم جئتم لمحاربتهم، فاستعينوا بالله وقاتلوهم، فإنما الأرض والسفن لمن غلب، واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين، فأجابوه إلى ذلك فصلوا الظهر ثم ناهدوهم فاقتتلوا قتالًا شديدًا في مكان من الأرض يدعى طاوُس، ثم أمر خُليد المسلمين فترجّلوا وقاتلوا فصبروا، ثم ظفروا فقتلوا فارس مقتلةً لم يُقتلوا قبلها مثلَها. ثم خرجوا يريدون البصرةَ فغرقت بهم سفنهم، ولم يجدوا إلى الرجوع في البحر سبيلًا، ووجدوا شَهْرَك في أهل اصطخر قد أخذوا على المسلمين بالطرق، فعسكروا وامتنعوا من العدو. ولما بلغ عمر ما صنع العلاء بن الحضرمي، اشتد غضبُه عليه، وبعث إليه فعزله وتوعَّده، وأمره بأثقل الأشياء عليه، وأبغض الوجوه إليه. فقال: الحق بسعد بن أبي وقاص (فخرج العلاءُ إلى سعد بن أبي وقاص) مضافًا إليه، وكتب عمر إلى عُتبة بن غزوان: إن العلاء بن الحضرمي خرج بجيش فأقطعهم أهل فارس وعصاني،

(1)

جُنْديسابور: مدينة بخوزستان، خصبة واسعة الخير بها النخل والزروع والمياه.

(2)

في أ: وذلك فيما حكاه. والخبر في تاريخ الطبري (4/ 79).

(3)

في أ: ولى أبا بكر؛ خطأ.

ص: 195

وأظنّه لم يردِ اللهَ بذلك، فخشيتُ عليهم إلَّا يُنْصروا، أن يُغْلبوا ويُنْشَبوا

(1)

، فاندب إليهم الناسَ واضممهم إليك من قبل أن يجتاحوا. فندب

(2)

عتبة المسلمين وأخبرهم بكتاب عمر إليه في ذلك، فانتدب جماعة من الأمراء الأبطال، منهم هاشم بن أبي وقاص، وعاصم بن عمرو، وعرفجة بن هَرْثمة، وحذيفة بن محصن، والأحْنف بن قيس، وغيرهم، في اثني عشر ألفًا. وعلى الجميع (أبو) سَبْرة بن أبي رُهْم. فخرجوا على البغال يجنبون الخيل سراعًا، فساروا على الساحل لا يلقون أحدًا حتى انتهوا إلى (موضع) الوقعة التي كانت بين المسلمين من أصحاب العلاء، وبين أهل فارس بالمكان المسمى بطاوُس، وإذا خُلَيد بن المنذر ومن معه

(3)

من المسلمين محصورون قد أحاط بهم العدو من كل جانب، وقد تداعت عليهم تلك الأمم من كل وجه، وقد تكاملت أمداد المشركين، ولم يبق إلا القتال. فقدم المسلمون إليهم في أحوج ما هم فيه إليهم، فالتقوا مع المشركين رأسًا، فكسر أبو سبرة المشركين كسرةً عظيمةً. وقتل منهم مقتلةً عظيمةً جدًّا. وأخذ منهم أموالًا جزيلةً باهرةً، واستنقذ خُلَيدًا ومنْ معه من المسلمين من أيديهم، وأعزَّ به الإسلام وأهلَه، ودفعَ الشركَ وذلَّه ولله الحمد والمنة ثم عادوا إلى عُتبة بن غزوان إلى البصرة.

ولما استكمل عتبة فتح تلك الناحية، استأذن عمر في الحج فأذن له فسار إلى الحجِّ واستخلف على البصرة أبا سَبْرة بن أبي رُهْم، واجتمع بعمر في الموسم، وسأله أن يقيله فلم يفعل، وأقسم عليه ليرجعن إلى عمله. فدعا عتبة الله عز وجل فمات ببطن نخلة، وهو منصرفٌ من الحج، فتأثر

(4)

عليه عمر وأثنى عليه خيرًا، وولَّى بعده بالبصرة المغيرةَ بن شُعبة، فوليها بقية تلك السنة والتي تليها، لم يقع في زمانه حدثٌ، وكان مرزوق السلامة في عمله. ثم وقع الكلام في تلك المرأة من أبي بكرة، فكان من أمره ما قدمنا. ثم بعث إليها أبا موسى الأشعري واليًا عليها رضي الله عنهم.

‌ذكر فتح تُسْتَر ثانية [عنوةً والسوس

(5)

ورامهرمز] وأسر الهرمزان وبعثه إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه

قال ابن جرير

(6)

: كان ذلك في هذه السنة في رواية سيف بن عمر التميمي. وكان سبب ذلك أن

(1)

ينشبوا من النشاب، أو يقعوا في أمر لا خلاص منه.

(2)

في أ: أن يحتاجوا فانتدب.

(3)

في أ: ومن تبعه.

(4)

في أ: فتأسف.

(5)

السوس: بلدة بخوزستان، فتحت في أيام عمر رضي الله عنه على يد أبي موسى الأشعري، ووجد بها موضعًا فيه جثة دانيال النبي عليه السلام، فسأل عن ذلك فأخبر أن بختنصَّر نقله إليها لما فتح بيت المقدس، وأنه مات هناك فكان أهل تلك البلاد يستسقون بجثته إذا قحطوا، وأمر عمر رضي الله عنه بدفنه، فسَكر نهرًا ثم حفر تحته ودفنه فيها وأجرى الماء عليه فلا يدرى أين قبره إلى الآن. معجم البلدان (3/ 280 - 281).

(6)

في تاريخه (4/ 89).

ص: 196

يَزْدجرد كان يحرّض أهل فارس في كل وقت ويُؤَنّبهم بملك العرب بلادهم وقصدهم إياهم في حصونهم فكتب إلى أهل الأهواز وأهل فارس فتحرّكوا وتعاهدوا وتعاقدوا على حرب المسلمين، وأن يقصدوا البصرةَ. وبلغ الخبر إلى عمر، فكتب إلى سعد - وهو بالكوفة - أن ابعث جيشًا كثيفًا إلى الأهواز مع النُّعمان بن مُقَرِّن وعجّل وليكونوا بإزاء الهُرْمزان، وسمى رجالًا من الشجعان الأعيان الأمراء يكونون في هذا الجيش، منهم جريرُ بن عبد الله البجلي، وجَرير بن عبد الله الحِمْيري، والنُّعمان بن مُقرِّن، وسُوَيْد بن مُقَرِّن: وعبد الله بن ذي السَّهمين. وكتب عمر إلى أبي موسى وهو بالبصرة أن ابعثْ إلى الأهواز جندًا كثيفًا

(1)

وأمّر عليهم سهيل بن عدي، وليكن معه البَراء بن مالك، وعاصم بن عمرو، ومَجْزَأة بن ثَوْر، وكعب بن ثور، وعرفجة بن هَرْثَمة، وحذيفة بن محصن، وعبد الرحمن بن سهل، والحصين بن معبد. وليكن على أهل الكوفة وأهل البصرة جميعًا أبو سَبْرة بن أبي رُهم، وعلى كل منْ أتاه من المدد. قالوا: فسار النُّعمان بن مُقَرّن بجيش الكوفة فسبق البصريين فانتهى إلى رامهرمز وبها الهرمزان، فخرج إليه الهرمزان في جنده ونقض العهد بينه وبين المسلمين، فبادره طمعًا أن يقتطعه قبل مجيء أصحابه من أهل البصرة رجاء أن ينصر أهل فارس، فالتقى معه النعمان بن مُقَرّن بإربل، فاقتتلا قتالًا شديدًا، فهزم الهرمزان وفر إلى تُسْتر، وترك رامهرمز فتسلّمها النعمان عنوةً وأخذ ما فيها من الحواصل والذخائر والسلاح والعدد. فلما وصل الخبر إلى أهل البصرة بما صنع الكوفيون بالهرمزان وأنه [قد] فرّ فلجأ إلى تُسْتَر، ساروا إليها ولحقهم أهلُ الكوفة حتى أحاطوا بها فحاصروها جميعًا، وعلى الجميع أبو سَبْرة فوجدوا الهُرْمزان قد حشد بها خلقًا كثيرًا، وجمًا غفيرًا. وكتبوا إلى عمر في ذلك وسألوه أن يمدَّهم، فكتب إلى أبي موسى أن يسير إليهم. فسار إليهم - وكان أمير أهل البصرة واستمرّ أبو سَبْرة على الإمرة على جميع أهل الكوفة والبصرة، فحاصرهم

(2)

أشهرًا وكثر القتل من الفريقين، وقتل البراء بن مالك أخو أنس بن مالك يومئذ مئة مبارزٍ سوى منْ قتل غير ذلك، وكذلك فعل كعب بن سُور

(3)

، ومَجْزَأة بن ثَوْر، وأبو يمامة وغيرهم من أهل البصرة، وكذلك أهل الكوفة قَتل منهم جماعة مئة مبارزة كحبيب بن قرة، وربعي بن عامر، وعامر بن عبد الأسو

(4)

وقد تزاحفوا أيامًا متعددة، حتى إذا كان في آخر زحف قال المسلمون للبراء بن مالك - وكان مجابَ الدعوة -:(يا براء) أقسم على ربك ليهزمنّهم لنا. فقال: اللهم اهزمهم لنا، واستشهدني قال: فهزمهم المسلمون حتى أدخلوهم خنادقهم واقتحموها عليهم، ولجأ المشركون إلى البلد فتحصنوا به، وقد ضاقت بهم البلد، وطلب رجل من أهل البلد الأمانَ من أبي موسى فأمَّنه، فبعث يدلُّ المسلمين على مكان يدخلون منه إلى البلد، وهو من مدخل

(1)

في أ: كثيرًا.

(2)

في أ: فحاصروهم.

(3)

في ط: ثور؛ تحريف. والتصحيح من تاريخ الطبري.

(4)

في أ: عبد الأسد، والمثبت عن تاريخ الطبري.

ص: 197

الماء إليها، فندب الأمراءُ الناسَ إلى ذلك فانتدب [لذلك] رجال من الشجعان والأبطال، وجاؤوا فدخلوا مع الماء - كالبطّ - إلى البلد، وذلك في الليل، فيُقال كان أول من دخلها عبد اللّه بن مُغَفَّل

(1)

المُزَني، وجاءوا إلى البوابين فأناموهم

(2)

وفتحوا الأبواب، وكبَّر المسلمون فدخلوا البلد، وذلك في وقت الفجر إلى أن تعالى النهار، ولم يصلّوا الصبح يومئذ إلا بعد طلوع الشمس كما حكاهُ البخاريُّ

(3)

عن أنس بن مالك قال: شهدت فتح تُسْتَر، وذلك عند صلاة الفجر، فاشتغل الناس بالفتح فما صلوا الصبح إلا بعد طلوع الشمس فما أحب أن لي بتلك الصلاة حمرَ النعم

(4)

. احتج بذلك البخاري لمكحول والأوزاعي في ذهابهما إلى جواز تأخير الصلاة لعُذْرِ القتال. وجنح إليه البخاري واستدلّ بقصة الخندق في قوله عليه السلام "شغلونا عن الصلاة الوسطى ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارًا"

(5)

وبقوله يوم بني قريظة "لا يصلين أحدٌ منكم العصر إلَّا في بني قريظة"

(6)

فأخَّرها فريقٌ من الناس إلى بعد غروب الشمس، ولم يعنِّفهم، وقد تكلّمنا على ذلك في غزوة الفتح.

والمقصود أن الهُرْمُزان لما فُتحت البلدُ لجأ إلى القلعة، فتبعه جماعةٌ من الأبطال ممن ذكرنا وغيرهم فلما حصروه في مكان من القلعة ولم يبق إلا تلافُه أو تلافُهم، قال لهم بعد ما قتل البراء بن مالك ومَجْزأة بن ثور رحمهما الله: إن معي جعبةً فيها مئة سهم، وإنه لا يتقدَّم إليَّ أحدٌ منكم إلا رميته بسهم قتلته، ولا يسقط لي سهم إلا في رجل منكم، فماذا ينفعكم إن أسرتموني بعدما قتلتُ منكم مئة رجل؟ قالوا: فماذا تريد؟ قال: تؤمّنوني حتى أسلِّمكم يدي فتذهبوا بي إلى عمر بن الخطاب فيحكم فيّ بما يشاء. فأجابوه إلى ذلك فألقى قوسه ونُشّابه وأسروه فشدوه وثاقًا وأرصدوه

(7)

ليبعثوه إلى أمير المؤمنين عمر، ثم تسلموا ما في البلد من الأموال والحواصل فاقتسموا أربعة أخماسه، فنال كلُّ فارسٍ ثلاثةَ آلاف وكل راجلٍ ألفَ درهم.

(1)

في أ: ابن معقل؛ تحريف. والتصحيح من الاستيعاب (996) وجامع الأصول (14/ 285) وأسد الغابة (3/ 368) والإصابة (2/ 372).

(2)

أناموهم: أي قتلوهم. اللسان (نوم).

(3)

صحيح الإمام البخاري (الفتح 2/ 434 عقيب الحديث رقم 944) في صلاة الخوف كتاب الصلاة عند مناهضة الحصون ولقاء العدو.

(4)

لفظ البخاري: وما يسرني بتلك الصلاة الدنيا وما فيها.

(5)

الحديث عن علي كرم الله وجهه رواه البخاري في صحيحه (2931) في الجهاد، ومسلم في صحيحه (627)(205) في الصلاة.

أما الحديث الذي احتج به البخاري لمكحول والأوزاعي فرواية أخرى بسنده إلى جابر بن عبد الله قال: جاء عمر يوم الخندق فجعل يسُبُّ كفّار قريش ويقول: يا رسول الله، ما صليت العصر حتى كادت الشمس أن تغيب. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"وأنا والله ما صلَّيتها بعدُ" قال: فنزل إلى بُطْحان فتوضأ وصلّى العصر بعدما غابت الشمس، ثم صلّى المغرب بعدها. صحيح البخاري رقم (945) في الخوف.

(6)

صحيح البخاري رقم (946) في الخوف.

(7)

أرصده وترصَّده: راقبه. اللسان (رقب).

ص: 198

‌فتح السوس

ثم ركب أبو سَبْرة في طائفة من الجيش ومعه أبو موسى الأشعري والنُّعمان بن مُقَرِّن، واستصحبوا معهم الهُرْمزان، وساروا في طلب المنهزمين من الفرس حتى نزلوا على السوس، فأحاطوا بها. وكتب أبو سَبْرة إلى عمر فجاء الكتاب بأن يرجعَ أبو موسى إلى البصرة، وأمر عمر ززَّ بن عبد الله بن كُلَيب الفُقَيْمي

(1)

- وهو صحابيٌّ - أن يسير إلى جُنْديسابُور. فسار. ثم بعث أبو سَبْرة بالخُمْس والهُرْمُزان

(2)

مع وفدٍ فيهم أنسُ بن مالك والأحنفُ بن قيس، فلما اقتربوا من المدينة هيؤوا

(3)

الهُرْمزان بلبسه الذي كان يَلبسه من الدّيباج والذَّهب المُكلل بالياقوت واللآلئ. ثم دخلوا المدينةَ وهو كذلك فتيمَّموا به منزلَ أمير المؤمنين، فسألوا عنه فقالوا: إنَّه ذهب إلى المسجد بسبب وفد من الكوفة. فجاؤوا المسجد فلم يَرَوْا أحدًا فرجعوا، فإذا غِلْمانٌ يلعبون فسألوهم عنه فقالوا: إنه نائمٌ في المسجد متوسدًا برنسًا له. فرجعوا إلى المسجد فإذا هو متوسد

(4)

برنسًا له كان قد لبسه للوفد، فلما انصرفوا عنه توسَّد البرنس ونام، وليس في المسجد غيره، والدِّرَّة معلقةٌ في يده. فقال الهُرْمُزان: أين عمر؟ فقالوا: هو ذا. وجعل الناس يخفضون أصواتهم لِئَلا ينبهوه، وجعل الهُرْمزان يقول: وأين حُجَّابُهُ؟ أين حَرَسُهُ؟ فقالوا: ليس له حُجّابٌ ولا حَرسٌ، ولا كاتبٌ ولا ديوانٌ. فقال: ينبغي أن يكون نبيًا. فقالوا: بل يعملُ عمل الأنبياء. وكثر

(5)

الناس فاستيقظ عمر بالجلبة فاستوى جالسًا، ثم نظر إلى الهُرْمُزان، فقال: الهُرمُزان؟ قالوا: نعم فتأمَّله وتأمَّلَ ما عليه ثم قال: أعوذُ بالله من النار وأستعين

(6)

بالله. ثم قال: الحمدُ الله الذي أذلَّ بالإسلام هذا وأشياعَه، يا معشرَ المسلمين تمسّكوا بهذا الدين، واهتدوا بهدي نبيكم، ولا تبطرنكم الدنيا فإنها غَرَّارَة

(7)

. فقال له الوفد: هذا ملكُ الأهواز فكلِّمْهُ. فقال: لا حتى لا يبقى عليه من حليته شي ءٌ. ففعلوا ذلك وألبسوه ثوبًا صفيقًا

(8)

، فقال عمر: يا هُرْمُزان كيف رأيت وبال الغدر وعاقبة أمر الله؟ فقال: يا عمرُ: إنا وإيّاكم في الجاهلية كان الله قد خلَّى بيننا وبينكم فغلبناكم، (إذ لم يكن معنا ولا معكم)، فلما كان معكم غلبتمونا. فقال عمر: إنما غلبتمونا في الجاهلية باجتماعكم وتفرّقنا. ثم

(1)

في ط: العقيمي، تحريف.

وما هنا موافق لتاريخ الطبري (4/ 86).

(2)

في أ: وبالهرمزان.

(3)

في أ: بعثوا إلى الهرمزان.

(4)

في أ: يتوسط.

(5)

في أ: وكبر الناس.

(6)

في أ: واستغفر الله، وفي تاريخ الطبري: وأستعين الله.

(7)

في ط: غدارة، وما هنا عن أ وتاريخ الطبري.

(8)

في أ: مفتقًا.

ص: 199

قال: ما عذركَ وما حجتكَ في انتقاضك

(1)

مرةً بعد مرةٍ؟ فقال: أخافُ أن تقتلني قبل أن أخبرك. قال: لا تَخَفْ ذلك. فاستسقى الهرمزان ماءً فأتي به في قدح (غليظ، فقال: لو مت عطشًا لم أستطع أن أشرب في هذا. فأتي به في قدح) آخر يرضاه فلما أخذه جعلت يده ترعد، وقال: إني أخاف أن أُقتل وأنا أشربُ. فقال عمر: لا بأس عليك حتى تشربه فأكفأه، فقال عمر: أعيدوه عليه ولا تجمعوا عليه القتلَ والعطشَ. فقال: لا حاجةَ لي في الماء، إنما [أردت] أن أستأنس

(2)

به. فقال له عمر: إني قاتلُك، فقال: إنك أمَّنتني. قال: كذبتَ، فقال أنس: صدقَ يا أميرَ المؤمنين، فقال عمر: ويحك يا أنس أنا أُؤمن من قتل مَجْزأة والبراء؟ لتأتيني بمخرج وإلا عاقبتك، قال: قلت لا بأس عليك حتى تخبرني. وقلت لا بأس عليك حتى تشربه، وقال له منْ حوله مثل ذلك. فأقبل على الهُرْمزان فقال: خدعتني، والله لا أنخدع إلا أن تُسلم. فأسلم ففرض (له) في ألفين وأنزله المدينة.

وفي روايةٍ أنَّ الترجمان بين عمر وبين الهرمزان كان

(3)

المغيرة بن شعبة، فقال له عمر: قُلْ له من أي أرضٍ أنت؟ قال مهرجاني. قال: تكلّم بحجتك. فقال: أكلام حي أم ميت؟ قال: بل كلام حي. فقال قد أمَّنتني، فقال: خدعتني ولا أقبل ذلك إلا أن تسلم. فأسلم ففرض له في ألفين وأنزله المدينة. ثم جاء زيد فترجم بينهما أيضًا.

قلت: وقد حَسُن إسلام الهرْمزان وكان لا يفارقُ عمر حتى قُتل عمر فاتَّهمه بعضُ الناس بممالأة أبي لؤلؤة هو وجفينة، فقتل عبيد الله بن عمر الهرمزان وجفينة على ما سيأتي تفصيله.

وقد روينا أن الهرمزان لما علاه عبيد الله بالسيف قال: لا إله إلا الله. وأما جفينة فصلب على وجهه.

والمقصود أن عمر كان يحجر على المسلمين أن يتوسَّعوا في بلاد العجم خوفًا عليهم من العجم، حتى أشار عليه الأحنف بن قيس بأن المصلحة تقتضي توسُّعهم في الفتوحات، فإن الملك يَزْدَجِرْد لا يزال يستحثّهم على قتال المسلمين، وإن لم يستأصل شأفة

(4)

العجم وإلا طمعوا في الإسلام وأهله، فاستحسن عمر ذلك منه وصوَّبه. وأذن للمسلمين في التوسع في بلاد العجم، ففتحوا بسبب ذلك شيئًا كثيرًا، ولله الحمد. وأكثر ذلك وقع في سنة ثماني عشرة كما سيأتي بيانه فيها.

ثم نعودُ إلى فتح السوس وجُنْديسابور وفتح نهاوند في قول سيف. كان قد تقدّم أن أبا سبْرة سار بمن معه من علية الأمراء من تُسْتر إلى السُّوس، فنازلها حينًا وقُتل من الفريقين خلقٌ كثيرٌ، فأشرف عليه علماءُ

(1)

في ط: إنقاضك.

(2)

في تاريخ الطبري (4/ 88): أردت أن أستأمن.

(3)

في أ: إن الترجمان كان بين عمر وبين الهرمزان المغيرة.

(4)

في ط: شأو.

ص: 200

أهلها فقالوا: يا معشر المسلمين لا تتعبوا في حصار هذا البلد فإنا نأثر فيما نرويه

(1)

عن قدمائنا من أهل هذا البلد أنه لا يفتحه إلا الدجّال أو قوم معهم الدجال، واتفق أنه كان في جيش أبي موسى الأشعري صاف بن صَيّاد، فأرسله أبو موسى فيمن يحاصره، فجاء إلى الباب فدقه

(2)

برجله فتقطعت السلاسل، وتكسرت الأغلاق، ودخل المسلمون البلد فقتلوا من وجدوا حتى نادوا بالأمان ودعوا إلى الصلح فأجابوهم إلى ذلك، وكان على السوس شهريار أخو الهرمزان، فاستحوذ المسلمون على السوس، وهو بلدٌ قديمُ العمارة في الأرض يقال إنه أول بلد وضع وجه الأرض، والله أعلم.

وذكر ابن جرير

(3)

أنهم وجدوا قبر دانيال بالسوس، وأن أبا موسى لما أقام

(4)

بها بعد مضيّ أبي سَبْرة إلى جُنْدَيْ سابور، كتب إلى عمر في أمره

(5)

فكتب إليه أن يدفنه وأن يُغيِّب عن الناس موضعَ قبره، ففعل. وقد بسطنا ذلك في سيرة عمر ولله الحمد.

قال ابن جرير: وقال بعضهم إنَّ فتحَ السوس ورامهرمز وتسيير الهُرمُزان من تُسْتَر إلى عمر في سنة عشرين والله أعلم، وكان الكتاب العمريّ قد ورد بأن النعمان بن مُقَرِّن يذهب إلى أهل نهاوند فسار إليها فمر بماه - بلدة كبيرة قبلها - فافتتحها ثم ذهب إلى نهاوند ففتحها ولله الحمد.

قلت: المشهور أن فتح نهاوند إنما وقع في سنة إحدى وعشرين كما سيأتي فيها بيان ذلك، وهي وقعةٌ عظيمة وفتحٌ كبيرٌ، وخبرٌ غريبٌ، ونبأٌ عجيبٌ، وفتح زر بن عبد الله الفُقَيْمي مدينة جُنْدَيْ سابور فاستوثقت

(6)

تلك البلاد للمسلمين. هذا وقد تحول يَزْدَجرد من بلد إلى بلد [ومن ذلك البلد إلى غيره] حتى انتهى أمره إلى الإقامة بأصبهان، وقد كان صرف طائفة من أشراف أصحابه قريبًا من ثلاثمئة من العظماء

(7)

عليهم رجل يقال له سياه، فكانوا يفرّون من المسلمين من بلدٍ إلى بلدٍ حتى فتح المسلمون تُسْتر وإصطخرَ، فقال سياه لأصحابه: إنَّ هؤلاء بعد الشقاء والذلّة ملكوا أماكن الملوك الأقدمين، ولا يلقون جندًا إلا كسروه، والله ما هذا عن باطل. ودخل في قلبه الإسلام وعظمته فقالوا له: نحن تبعٌ لك. وبعث عمارُ بن ياسر في غضون ذلك يدعوهم إلى الله، فأرسلوا إلى أبي موسى الأشعري بإسلامهم [وكتب فيهم إلى عمر في ذلك، فأمره أن يفرض لهم في ألفين ألفين، وفرض لستة منهم في ألفين

(1)

في أ: ترونه.

(2)

في أ: فرفسه.

(3)

في تاريخه (4/ 92).

(4)

في ط: قدم.

(5)

في أ: من أمره بهذا.

(6)

في أ: فاستوسقت.

(7)

في أ: العلماء.

ص: 201

وخمسمئة، وحسن إسلامهم]

(1)

وكان لهم نكاية عظيمة في قتال قومهم حتى بلغ من أمرهم أنهم حاصروا حصنًا فامتنع عليهم فجاء أحدهم فرمى بنفسه في الليل على باب الحصن

(2)

وضمَّخَ ثيابه بدمٍ، فلما نظروا إليه حسبوا أنه منهم، ففتحوا إليه باب الحصن ليُؤْووه فثار إلى البوّاب فقتله، وجاء بفية أصحابه ففتحوا ذلك الحصن، وقتلوا منْ فيه من المَجوس، إلى غير ذلك من الأمور العجيبة، والله يهدي منْ يشاء إلى صراط مستقيم.

وذكر ابن جرير

(3)

أنّ عمرَ بن الخطاب عقدَ الألويةَ والرايات الكبيرة في بلاد خراسان والعراق لغزو فارس والتوسع في بلادهم كما أشار عليه بذلك الأحنفُ بن قيس، فحصل بسبب ذلك فتوحات كثيرة في السنة المستقبلة بعدها كما سنبينه وننبه عليه ولله الحمد والمنة.

قال: وحج بالناس في هذه السنة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، ثم ذكر نُوّابه على البلاد، وهم منْ ذكر في السنة قبلها غير المغيرة فإن على البصرة بدله أبو موسى الأشعري.

قلت: وقد توفي في هذه السنة أقوام قيل إنهم توفوا قبلها وقد ذكرناهم، وقيل فيما بعدها وسيأتي ذكرهم في أماكنهم، والله تعالى أعلم.

‌ثم دخلت سنة ثماني عشرة

المشهور الذي عليه الجمهورُ أنَّ طاعونَ عَمَواس كان بها، وقد تبعنا قول سيف بن عمر وابن جرير في إيراده ذلك في السنة التي قبلها، لكنّا نذكرُ وفاةَ منْ ماتَ في الطّاعون في هذه السنة إن شاء الله تعالى.

قال ابن إسحاق وأبو معشر: كان في هذه السنة طاعون عَمَواس وعام الرَّمادة، فتفانى فيهما الناسُ.

قلتُ: كان في عام الرمادة جَدبٌ عمَّ أرضَ الحجاز، وجاع الناسُ جوعًا شديدًا. وقد بسطنا القولَ في ذلك في سيرة عمر. وسُمِّيتْ عام الرمادة لأنّ الأرضَ اسودّت من قلّة المطر حتى عاد لونها شبيهًا بالرماد. وقيل: لأنها تسفي

(4)

الريح ترابًا كالرماد. ويمكن أن تكون (سميت) لكل

(5)

منهما والله أعلم. وقد أجدبت الناس في هذه السنة بأرض الحجاز، وجفلت

(6)

الأحياء إلى المدينة ولم يبق عند أحد منهم زاد، فلجؤوا إلى أمير المؤمنين، فأنفقَ فيهم من حواصل بيت المال ممَّا فيه من الأطعمة والأموال

(1)

وضعت هذه العبارة في ط بين معقوفين وكأنها مضافة على النسخة المعتمدة، وهي واردة في (أ).

(2)

في أ: باب الحبس.

(3)

في تاريخه (4/ 94).

(4)

سفت الريح التراب تسفيه سفيًا: ذرته، وقيل حملته. اللسان (سفا).

(5)

في أ: أن يكون لكل منهما.

(6)

جفل: ذهب وأسرع. اللسان (جفل).

ص: 202

حتى أنفده، وألزمَ نفسه لأن لا يأكل سمنًا ولا سمينًا حتى يكشف ما بالناس، فكان في زمن الخصب يبث

(1)

له الخبز باللبن والسمن، ثم كان عام الرمادة يبث له بالزيت والخل، وكان يستمرئ الزيت. وكان لا يشبع مع ذلك، فاسودّ لون عمر رضي الله عنه وتغيّر جسمه حتى كاد يُخْشى عليه من الضعف. واستمرّ هذا الحال في الناس تسعةَ أشهرٍ، ثم تحوّل الحال إلى الخصب والدعة وانشمر الناس عن المدينة إلى أماكنهم.

قال الشافعي: بلغني أنّ رجلًا من العرب قال لعمر حين ترحلت

(2)

الأحياء عن المدينة: لقد انجلت عنك ولأنّك لابن حرة. أي: واسيت الناس وأنصفتهم وأحسنت إليهم.

وقد روينا أن عمر عس

(3)

المدينة ذات ليلة عامَ الرمادة فلم يجدْ أحدًا يضحك، ولا يتحدّث الناس في منازلهم على العادة، ولم ير

(4)

سائلًا يسأل، فسأل عن سبب ذلك فقيل له: يا أمير المؤمنين إن السُّؤَّال سألوا فلم يُعْطوا فقطعوا السؤال، والناسُ في همٍّ وضيقٍ فهم لا يتحدّثون ولا يضحكون. فكتب عمر إلى أبي موسى بالبصرة أن يا غوثاه لأمة محمد. وكتب إلى عمرو بن العاص بمصر أن يا غوثاه لأمة محمد. فبعث إليه كل واحد منهما بقافلة عظيمة تحمل البُر وسائر الأطعمات، ووصلت ميرة عمرو في البحر إلى جدة ومن جدة إلى مكة. وهذا الأثر جيد الإسناد، لكنَّ ذِكْرَ عمرو بن العاص في عام الرمادة مُشْكل، فإن مصر لم تكن فُتحت في سنة ثماني عشرة، (فإمّا أن يكونَ عامُ الرمادة بعد سنة ثماني عشرة)، أو يكون ذكر عمرو بن العاص في عام الرمادة وهمٌ، والله أعلم.

وذكر سيف عن شيوخه أنّ أبا عبيدة قدم المدينة ومعه أربعة آلاف راحلة تحمل طعامًا، فأمره عمر بتفريقها

(5)

في الأحياء حول المدينة، فلما فرغ من ذلك أمر له بأربعة آلاف درهم فأبى أن يقبلها، فألحَّ عليه عمر حتى قبلها.

(

(6)

وقال سيف بن عمر

(7)

، عن سهل بن يوسف السُّلَمي، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك قال: كان عام الرمادة في آخر سنة سبع عشرة، وأول سنة ثماني عشرة، أصاب أهلَ المدينةِ وما حولها جوعٌ فهلك كثير من الناس، حتى جعلتِ الوحشُ تأوي إلى الإنس، فكان

(8)

الناس بذلك وعمر

(1)

كذا في ط، وفي أ: يبس، ولعل الصح: يفت.

(2)

في أ: ترحل.

(3)

عَسَّ - يَعُسًّ عَسًّا وعُسًّا - أي طاف بالليل. اللسان (عسس).

(4)

في أ: يجد.

(5)

في أ: بتفرقتها.

(6)

هذه الفقرة جاءت في أ بعد الأبيات الرائية.

(7)

تاريخ الطبري (4/ 98).

(8)

في أ: وكان.

ص: 203

كالمحصور عن أهل الأمصار حتى أقبل بلال بن الحارث المزني فاستأذن على عمر فقال: أنا رسولُ رسولِ الله إليك، يقول لك رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لقد عهدتُكَ كيسًا، وما زلتَ على ذلك، فما شأنُكَ"؟ قال: متى رأيتَ هذا؟ قال: البارحةَ. فخرج فنادى في الناس الصلاة جامعة، فصلَّى بهم ركعتين ثم قام فقال: أيها الناس أنشدكم

(1)

الله هل تعلمون مني أمرًا غيره خير

(2)

منه؟ فقالوا: اللهم لا، فقال: إن بلال بن الحارث يزعم ذَيَّة وذَيَّة

(3)

. قالوا: صدق بلال فاستغث بالله ثم المسلمين. فبعث إليهم - وكان عمر عن ذلك محصورًا - فقال عمر: الله أكبر، بلغ البلاء مدته فانكشف. ما أذنَ لقوم في الطلب إلا وقد رُفعَ عنهم الأذى والبلاء. وكتب إلى أُمراء الأمصار أن أغيثوا أهلَ المدينة ومنْ حولها، فإنه قد بلغ جَهْدهم. وأخرج الناس إلى الاستسقاء فخرج وخرج معه

(4)

العباس بن عبد المطلب ماشيًا، فخطب وأوجز وصلى ثم جثا لركبتيه وقال: اللهم إياك نعبد وإياك نستعين، اللهم اغفر لنا وارحمنا وارض عنا. ثم انصرف فما بلغوا المنازل راجعين حتى خاضوا الغُدْران).

ثم روى سيف

(5)

، عن مبشر بن الفضيل، عن جبير بن صخر، عن عاصم بن عمر بن الخطاب: أن رجلًا من مزينة عام الرّمادة سأله أهله أن يذبح لهم شاة فقال: ليس فيهن شيء. فألحوا عليه، فذبح شاة فإذا عظامُها حمرٌ. فقال: يا محمداه

(6)

. فلما أمسى أري في المنام أنَّ رسول الله يقول له: "أبشرْ بالحياة

(7)

، ائت عمر، فأقرئه منّي السلام وقل له: إن عهدي بك وفيُّ العهد شديد العقد، فالكَيْس الكَيْس يا عمر"، فجاء حتى أتى باب عمر فقال لغلامه: استأذن لرسول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم. فأتى عمر فأخبره ففزع ثم صعد عمر المنبر فقال للناس: أنشدكم الله الذي

(8)

هداكم للإسلام هل رأيتم مني شيئًا تكرهونه؟ فقالوا: اللهم لا، وعم ذاك؟ فأخبرهم بقول المزني

(9)

- وهو بلال بن الحارث - ففطنوا ولم يفطن. فقالوا: إنما استبطأك في الاستسقاء فاستسق بنا. فنادى في الناس فخطب فأوجز ثم صلى ركعتين فأوجز ثم قال: اللهم عجزتْ عنا أنصارُنا، وعجزَ عنا حولُنا وقوتنا، وعجزتْ عنا أنفسُنا، ولا حولَ ولا قوةَ إلا بكَ، اللهم اسْقنا وأحْي العبادَ والبلادَ.

(1)

في أ: أنشدتكم.

(2)

فِي أ: خيرًا منه.

(3)

ذيَّة وذيَّة: كيت وكيت. اللسان والقاموس (ذيت).

(4)

في أ: ومعه.

(5)

تاريخ الطبري (4/ 99).

(6)

هذه استغاثة بغير الله تعالى، ولا يجوز ذلك وهي من مرويات سيف.

(7)

في تاريخ الطبري: أبشر بالحيا.

(8)

في أ: أنشدكم بالذي.

(9)

هذا الرجل، لم يثبت أنه بلال بن الحارث، والرواية التي تقول: إنه بلال بن الحارث، من رواية سيف وهو متروك.

ص: 204

وقال الحافظ أبو بكر البيهقي

(1)

: أخبرنا أبو نصر بن قتادة وأبو بكر الفارسي قالا: حدَّثنا أبو عَمْرو

(2)

بن مطر، حدَّثنا إبراهيم بن علي الذُّهلي، حدَّثنا يحيى بن يحيى، حدَّثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن مالك قال:

أصاب الناسَ قحطٌ في زمن عمر بن الخطاب فجاء رجلٌ إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسولَ الله استسقِ اللهَ لأمتك فإنهم قد هلكوا. فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فقال: ائت عمر فأقرئه مني السلامَ وأخبرهم أنهم مُسْقَوْن

(3)

، وقل له عليك بالكيس الكَيْس. فأتى الرجل فأخبر عمر فقال: يا رب ما آلوا إلا ما عجزت عنه. وهذا إسناد صحيح

(4)

.

وقال الطبراني

(5)

: حدَّثنا أبو مسلم الكشّي، حدَّثنا محمد الأنصاري

(6)

، حدَّثنا أبي، عن ثمامة بن عبد الله بن أنس، عن أنس: أن عمر خرج يستسقي وخرج بالعباس معه يستسقي يقول: اللهم إنّا كُنا إذا قُحِطنا على عهد نبيّنا توسَّلنا إليك بنبينا، وإنا نتوسَّل إليك بعمّ نبينا صلى الله عليه وسلم.

وقد رواه البخاري

(7)

عن الحسن بن محمد، عن محمد بن عبد الله [الأنصاري] به ولفظه عن أنس: أنَّ عمرَ كان إذا قُحِطوا يستسقي بالعباس بن عبد المطلب فيقول: اللهم إنّا كُنا نتوسَّلُ إليكَ بنبينا صلى الله عليه وسلم فتسقينا وإنا نتوسَّلُ إليك بعمِّ نبينا فاسْقِنا. قال: فيُسْقَوْنَ.

وقال أبو بكر بن أبي الدنيا - في كتاب المطر وفي كتاب مجابي الدعوة - حدَّثنا أبو بكر النيسابوري، حدَّثنا عطاء بن مسلم، عن العُمري، عن خوَّات بن جبير قال: خرج عمر يستسقي بهم فصلّى ركعتين فقال: اللهم إنا نستغفرك ونستسقيك فما برحَ من مكانه حتى مُطِروا، فقدم أعراب فقالوا: يا أمير المؤمنين بينا نحن في وادينا في ساعة كذا إذ أظلتنا غمامة فسمعنا منها صوتًا: أتاك الغوث أبا حفص، أتاك الغوث أبا حفص.

وقال أبن أبي الدنيا: حدَّثنا إسحاق بن إسماعيل، حدَّثنا سفيان، عن مطرف بن طريف، عن الشَّعبي قال: خرج عمر يستسقي بالناس فما زاد على الاستغفار حتى رجع، فقالوا: يا أمير المؤمنين

(1)

دلائل النبوة (7/ 47) والخبر أيضًا في تاريخ ابن عساكر (ترجمة عمر بن الخطاب/ 249).

(2)

في ط:" أبو عمر" محرف، وهو أبو عمرو محمد بن جعفر بن محمد بن مطر النيسابوري المزكي، ترجمه الذهبي في السير (16/ 162).

(3)

في أ: يسقون.

(4)

أي إلى مالك الدار، ومالك الدار مجهول، فالقصة ضعيفة.

(5)

المعجم الأوسط (3/ 218) رقم (2458).

(6)

في ط: "أبو محمد الأنصاري" خطأ، وهو محمد بن عبد الله بن مثنى الأنصاري، من رجال التهذيب، وجاء على الصواب في السند الذي بعده.

(7)

صحيح البخاري (3710) في فضائل الصحابة.

ص: 205

ما نراك استسقيتَ. فقال: لقد طلبتُ المطرَ بمجاديع

(1)

السماء التي يستنزل بها المطر

(2)

ثم قرأ: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11)} [نوح: 10، 11] ثم قرأ: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا} [هود: 3].

وذكر ابن جرير

(3)

في هذه السنة من طريق سيف بن عمر، عن أبي المجالد والربيع (وأبي) عثمان وأبي حارثة، وعن عبد الله بن شُبرُمة، عن الشَّعبي قالوا: كتب أبو عبيدة إلى عمر بن الخطاب أن نفرًا من المسلمين أصابوا الشراب، منهم ضرار وأبو جندل بن سهل، فسألناهم فقالوا: خُيِّرنا فاخْتَرْنا. قال: فهل أنتم مُنْتهون؟ (ولم يعزم. فجمعَ عمرُ الناسَ فأجمعوا على خلافهم، وأن المعنى: فهل أنتم منتهون) أي: انتهوا. وأجمعوا على جلدهم ثمانين ثمانين. وأن منْ تأوَّل هذا التأويل وأصرَّ عليه يُقْتل. فكتب عمر إلى أبي عبيدة أن ادعُهُم فسلهم عن الخمر، فإن قالوا هي حلال فاقتلهم، وإن قالوا هي حرام فاجلدهم، فاعترف

(4)

القوم بتحريمها، فجُلدوا الحدّ، وندموا على ما كان منهم من اللّجاجة فيما تأولوه

(5)

، حتى وُسْوس أبو جندل في نفسه، فكتب أبو عبيدة إلى عمر في ذلك، وسأله أن يكتب إلى أبي جند

(6)

ويذكره، فكتب إليه عمر بن الخطاب في ذلك: من عمر إلى أبي جندل، إن الله لا يغفر أن يُشْركَ به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، فتُبْ وارفَعْ رأسَكَ وابرز ولا تقنط فإن الله تعالى يقول {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)} [الزمر: 53] وكتب عمر إلى الناس: أن عليكم أنفسكم ومن غيَّر فغيِّروا عليه، ولا تُعيِّروا أحدًا فيفشوا فيكم البلاء، وقد قال أبو الزهراء القشيري في ذلك

(7)

: [من الطويل]

ألمْ تَرَ أنَّ الدَّهْرَ يَعْثُرُ بالفَتَى

وليسَ على صَرْفِ المَنونِ بقَادِرِ

(8)

(1)

في الأصل والمطبوع: محاديج، بتقديم الحاء والجيم في آخره، وهو تحريف، صوابه (مجاديِح) بتقديم الجيم وفي آخره حاء، قال ابن الأثير في "النهاية في غريب الحديث" جدح، المجاديح، واحدها مِجْدح، والمجدح: نجم من النجوم. وهو عند العرب من الأنواء الدالة على المطر، انظر صحيح مسلم رقم (71) و (72) و (73) وابن حبان رقم (6130).

(2)

روى أحمد في مسنده رقم (10983)(3/ 7) من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعًا (لو أمسك الله القطر عن الناس سبع سنين، ثم أرسله، لأصبحت طائفة به كافرين، يقولون: مطرنا بنوء المِجْدَح) والمجدح: كوكب وهو عند ابن حبان في صحيحه رقم (6130) والدارمي في سننه (2/ 314) وأبي يعلى رقم (1312) وهو حديث حسن وفي الباب عن أبي هريرة، انظر مسند أحمد (2/ 362) ومسلم رقم (72) وعن ابن عباس رقم (73).

(3)

في تاريخه (4/ 96 - 97).

(4)

في أ: فاعترفوا القوم؛ وهي لغة مفضولة.

(5)

في أ: قالوه.

(6)

في أ: إليه عمر ويذكره.

(7)

الأبيات في تاريخ الطبري (4/ 97 - 98).

(8)

في أ: لقادر؛ وهي تخرج القافية عن الكسر.

ص: 206

صَبَرْتُ ولمْ أجْزَعْ وقَدْ ماتَ إخْوتي

ولستُ عن الصَّهبا

(1)

يومًا بصابِرِ

رماها أميرُ المُؤْمنينَ بحَتْفها

فخُلَّانُها يَبْكُونَ حولَ المَعاصِرِ

(2)

قال الواقدي

(3)

وغيره: وفي هذه السنة في ذي الحجة منها حَوَّلَ عمرُ المقام - وكان مُلْصقًا بجدار الكعبة - فأخّره إلى حيث هو الآن لئلا يشوِّشَ المصلون عنده على الطّائفين.

قلت: قد ذكرت أسانيد ذلك في سيرة عمر ولله الحمد (والمنة).

قال: وفيها استقضى عمر شريحًا على الكوفة، وكعب بن سور على البصرة.

قال: وفيها حجَّ عمرُ بالناس، وكان نوابه فيها الذين تقدَّم ذكرهم في السنة (الماضية).

وفيها فُتحت الرَّقَّة والرُّها وحَرّان على يدي عياض بن غنم.

قال: وفُتحت رأس عين الوردة

(4)

على يدي عمر بن سعد بن أبي وقاص. وقال غيره خلاف ذلك.

وقال شيخنا الحافظ الذهبي في "تاريخه"

(5)

: وفيها - يعني هذه السنة - افتتح أبو موسى الأشعري الرُّها وسُمَيْساط

(6)

عنوةً، وفي أوائلها وجَّه أبو عبيدة عياض بن غنم إلى الجزيرة فوافق أبا موسى فافتتحا حران ونصيبين وطائفة من الجزيرة عنوة، وقيل: صلحًا. وفيها سار عياض إلى الموصل فافتتحها وما حولها عنوة. وفيها بنى سعد جامع الكوفة.

‌وقال الواقدي: وفيها كان طاعون عَمَواس

فمات فيه خمسة وعشرون ألفًا. قلت: هذا الطاعون منسوب إلى بلدة صغيرة يقال لها عَمَواس - وهي بين القدس والرملة - لأنها كان أول ما نجم الداء بها، ثم انتشر في الشام منها فنسب إليها، فإنّا لله وإنا إليه راجعون.

قال الواقدي: توفي في عام طاعون عَمَواس من المسلمين بالشام خمسة وعشرون ألفًا. وقال غيره: ثلاثون ألفًا.

‌وهذا ذكر طائفة من أعيانهم رضي الله عنهم.

‌الحارث بن هشام

(7)

، أخو أبي جهل، أسلم يوم الفتح، وكان سيدًا شريفًا في الإسلام كما كان

(1)

الصهباء: الخمر. اللسان (صهب).

(2)

في أ، ط: المقاصر؛ وما هنا عن تاريخ الطبري وهو الأشبه.

(3)

جملة هذه الأخبار في تاريخ الطبري (4/ 101) وتاريخ ابن الأثير (2/ 562).

(4)

عين الوردة: مدينة مشهورة بالجزيرة. معجم البلدان (4/ 180).

(5)

تاريخ الإسلام (2/ 26) طبعة القدسي.

(6)

في ط: "شمشاط"، وما أثبتناه من خط الذهبي في تاريخه (مجلد أيا صوفيا 3005 مصورتها عند الدكتور بشار) وهي مدينة على شاطئ الفرات بطرف بلاد الروم على غربي الفرات، وهي غير شمشاط (ينظر معجم البلدان (3/ 258 و 362 - بيروت).

(7)

ترجمة - الحارث بن هشام - في الطبقات الكبرى (5/ 444) والاستيعاب (1/ 301) وجامع الأصول (13/ 300) وأسد الغابة (1/ 420 - 421) ومختصر ابن منظور (6/ 169) وسير أعلام النبلاء (4/ 419) والإصابة =

ص: 207

في الجاهلية، استشهد بالشام في هذه السنة في قول، وتزوج عمر بعده بامرأته فاطمة.

‌شُرَحْبِيل ابن حَسَنَة

(1)

، أحد أمراء الأرباع، وهو أمير فلسطين، وهو شُرَحبيل بن عبد الله بن المُطاع بن قطن الكِنْدي حليف بني زُهْرة، وحَسَنَةُ أمه، نسب إليها وغلب عليه ذلك. أسلم قديمًا وهاجر إلى الحبشة وجهزه الصّدّيق إلى الشام، فكان أميرًا على ربع الجيش، وكذلك في الدولة العمرية، وطعن هو وأبو عبيدة وأبو مالك الأشعري في يوم واحد سنة ثماني عشرة. له حديثان روى ابن ماجه أحدهما في الوضوء وغيره

(2)

.

‌عامر بن عبد الله بن الجرّاح

(3)

بن هِلال بن أُهَيْب (بن ضَبَّة بن الحارث) بن فِهْر القُرَشي أبو عبيدة (بن الجَرّاح) الفِهْري، أمينُ هذه الأمة، وأحدُ العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحدُ الخمسة الذين أسلموا في يوم واحدٍ، وهم عُثمان بن مَظْعون، وعُبَيْدة بن الحارث، وعبد الرحمن بن عَوْف، وأبو سلمهَ بن عبد الأسد، وأبو عُبَيْدة بن الجَرّاح. أسلموا على يدي الصديق. ولما هاجروا آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن معاذ، وقيل بين محمد بن مسلمة. وقد شهدَ بدرًا وما بعدها، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن لكلِّ أمةٍ أمينًا وأمينُ هذه الأمة أبو عُبَيْدة بن الجَرّاح" ثبت ذلك في الصحيحين

(4)

. وثبت في الصحيحين

(5)

أيضًا أن الصدّيق قال يوم الشَّقيفة: وقد رضيتُ لكم أحدَ هذين الرجلين فبايعوه - يعني عمر بن الخطاب وأبا عُبَيْدة. وبعثه الصديق أميرًا على ربع الجيش إلى الشام، ثم لما انتدب خالدًا على العراق كان أميرًا على أبي عبيد وغيره لعلمه بالحروب

(6)

فلما انتهت الخلافةُ إلى عمر عزلَ خالدًا وولَّى أبا عبيدة بن الجراح، وأمره أن يستشير خالدًا، فجمعَ للأمة بين أمانة أبي عُبَيْدة وشجاعة خالد.

قال ابن عساكر: وهو أولُ من سُمِّي أميرَ الأمراء بالشام. قالوا: وكان أبو عبيدة طوالًا نحيفًا أَجْنًا

(7)

= (1/ 293) وشذرات الذهب (1/ 169).

(1)

ترجمة - شرحبيل بن حسنة - في الطبقات الكبرى (4/ 127 - 128) والاستيعاب (2/ 701) وجامع الأصول (14/ 305) وأسد الغابة (2/ 512 - 513) وتهذيب الأسماء واللغات (1/ 242 - 243) والإصابة (2/ 143).

(2)

سنن ابن ماجه (455) في الطهارة. ونص الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتموا الوضوء ويل للأعقاب من النار" وهو حديث صحيح.

(3)

ترجمة - عامر بن عبد الله بن الجراح - في الطبقات الكبرى (3/ 409) والاستيعاب (2/ 792 - 795) وجامع الأصول (12/ 318 - 320) وأسد الغابة (3/ 128 - 130) وتهذب الأسماء واللغات (2/ 259) وسير أعلام النبلاء (1/ 5 - 23) و الإصابة (2/ 252 - 254).

(4)

صحيح البخاري (3744) في فضائل الصحابة، وصحيح مسلم (2419) في فضائل الصحابة.

(5)

صحيح البخاري (6830) في المحاربين. وأما مسلم فأخرج طرفًا من حديث عمر لكن ليس فيه قول أبي بكر الصديق (1691) في الحدود. والحديث في مسند أحمد (1/ 56) من رواية ابن عباس عن عمر.

(6)

في أ: بعلمه الحروب.

(7)

أجنأ: أي أحدب الظهر. اللسان (جنأ)،

ص: 208

معروف الوجه، خفيف اللحية، أهتم

(1)

، وذلك لأنه لما انتزع الحلقتين من وَجْنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد خاف أن يؤلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحامل على ثنيتيه فسقطتا، فما رُئيَ أحسن هتمًا منه. توفي بالطاعون عام عَمَواس كما تقدم سياقه في سنة ست عشرة عن سيف بن عمر. والصحيح أنّ عَمَواس كانت في هذه السنة - سنة ثماني عشرة - بقرية (فِحْل)، وقيل بالجابية. وقد اشتهر في هذه الأعصار قبر بالقرب من عقبة ينسب إليه، والله أعلم. وعمره يوم مات ثمانٍ وخمسون سنة.

‌الفضل بن عباس بن عبد المطلب

(2)

، كان حسنًا وسيمًا جملًا، أردفه رسول الله صلى الله عليه وسلم وراءه يوم النحر من حجة الوداع، وهو شاب حسن، وقد شهد فتح الشام، واسثُشهد بطاعون عَمَواس، في قول محمد بن سعد والزبير بن بكار وأبي حاتم وابن البرقي

(3)

، وهو الصحيح. وقيل يوم مرج الصفر، وقيل بأجنادين. ويقال باليرموك [ويقال] سنة ثمان وعشرين.

‌معاذ بن جَبَل

(4)

بن عمرو بن أوس بن عائذ

(5)

بن عَدي بن كَعْب بن عَمرو بن أُدَيّ بن [سعد بن] علي بن أَسَد بن سارِدَة بن يزيد بن جُشَم بن الخزرج الأنصاري الخَزرجي أبو عبد الرحمن المَدني:

صحابيٌّ جليلٌّ كبيرُ القَدْرِ. قال الواقديُّ: كان طُوالًا حسنَ الشَّعرِ والثَّغْرِ بَرَّاق الثّنايا، لم يولد له. وقال غيره: بل وُلد له ولد وهو عبد الرحمن. شهد معه اليرموك. وقد شهد معاذ العقبة. ولما هاجر الناس آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين ابن مسعود. وحكى الواقديّ الإجماعَ على ذلك. وقد قال محمد بن إسحاق: آخى بينه وبين جعفر بن أبي طالب، وشهد بدرًا وما بعدها. وكان أحدَ الأربعة من الخزرج الذين جمعوا القرآنَ في حياةِ النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهم: أبيّ بن كعبٍ، وزَيْدُ بن ثابتٍ، ومُعاذُ بن جَبَلٍ، وأبو زيد عمّ أنس بن مالك

(6)

. وصحَّ في الحديث الذي رواه أبو داود والنّسائي

(7)

من حديث حَيْوة بن شُرَيْح، عن عقبة بن مسلم، عن أبي عبد الرحمن الحُبُلّي، عن الصُّنابحي، عن مُعاذ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: "يا مُعاذ والله إني لأحبُّكَ، فلا تدعنَّ أن تقولَ في دبُرَ كلِّ صلاةٍ: اللَّهُمّ أعنّي على ذكرك وشُكركَ

(1)

هَتَم فاه يَهْتمُهُ: القى مُقَدَّم أسنانه كأهتمه، وكفرح: انكسرت ثناياه من أصولها فهو أهتم. القاموس (هتم).

(2)

ترجمة - الفضل بن العباس - في الطبقات الكبرى (4/ 54) والاستيعاب (3/ 1269 - 1270) وجامع الأصول (15/ 30 - 31) وأسد الغابة (4/ 366) وسير أعلام النبلاء (3/ 444) مختصر ابن منظور (20/ 277) والإصابة (3/ 208 - 209).

(3)

في أ: السري.

(4)

ترجمة - معاذ بن جبل - في الطبقات الكبرى (2/ 347) والاستيعاب (3/ 1402) وجامع الأصول (15/ 201 - 202) وأسد الغابة (5/ 194) وسير أعلام النبلاء (1/ 443) والإصابة (3/ 426 - 427).

(5)

في ط والإصابة: عابد؛ وهو تحريف لأن ابن الأثير ضبطها بالحرف في جامع الأصول.

(6)

روى هذا الخبر أنس بن مالك وأخرجه أحمد في المسند (3/ 277) والبخاري في صحيحه (3810) في مناقب الأنصار وغيرهما. وأبو زيد هذا قال أنس: هو أحد عمومتي، واختلف في اسمه.

(7)

سنن أبي داود رقم (1522) في الصلاة، وسنن النسائي (3/ 53) رقم (1303) في الصلاة، وهو حديث صحيح.

ص: 209

وحُسنِ عبادتك". وفي المُسند والنَّسائي وابن ماجه

(1)

من طريق أبي قِلابة، عن أنسٍ مرفوعًا:"وأعْلَمهم بالحلالِ والحرامِ مُعاذ بن جبل" وقد بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن وقال له: "بم تحكمُ"؟ فقال: بكتاب الله

الحديث

(2)

. وكذلك أقرَّه الصّديق على ذلك يعلّم الناس الخيرَ باليمن. ثم هاجر إلى الشام فكان بها حتى مات بعد ما استخلفه أبو عبيدة حين طُعن ثم طُعن بعده في هذه السنة. وقد قال عمر بن الخطاب: "إن معاذًا يبعث أمام العلماء برتوة"

(3)

. ورواه محمد بن كعب مُرْسلًا

(4)

. وقال ابن مسعود: كنا نُشبِّهه بإبراهيم الخليل. وقال ابن مسعود: إن معاذًا كان قانتًا لله حنيفًا ولم يك من المشركين

(5)

. وكانت وفاته شرقي غور بَيْسان سنة ثماني عشرة. وقيل سنة تسع عشرة، وقيل (سبع عشرة، عن ثمان وثلاثين سنة على المشهور وقيل) غير ذلك والله أعلم.

‌يزيد بن أبي سفيان

(6)

أبو خالد يزيد بن صَخْر بن حَزب بن أُمية بن عبد شمس بن عبد مناف القُرَشي الأموي، أخو معاوية، وكان يزيد أكبرَ وأفضلَ. وكان يقال له يزيد الخير، أسلم عام الفتح، وحضر حُنَينًا، وأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم مئة (من الإبل) وأربعين أوقية، واستعمله الصّدّيق على ربع الجيش إلى الشام، وهو أول أمير وصل إليها، ومشى الصّدّيق في ركابه يوصيه، وبعث معه أبا عبيدة وعمرو بن العاص وشُرَحْبيل بن حَسَنة، فهؤلاء أمراء الأرباع. ولما افتتحوا دمشق دخلَ هو من باب الجابية الصغير عنوةً كخالد في دخوله من الباب الشرقي عنوةً، وكان الصدِّيق قد وعده بإمرتها، فوليها عن أمر عمر وأنفذ

(1)

مسند الإمام أحمد (3/ 184 و 281) فضائل الصحابة للنسائي (182). وسنن ابن ماجه رقم (154) في المقدمة، وهو حديث صحيح.

(2)

أخرجه أحمد في مسنده (5/ 236 و 242) وأبو داود في سننه (3593) في الأقضية، والترمذي في جامعه (1327) في الأحكام، من طريق ناس من أصحاب معاذ عن معاذ، وقال الترمذي:"هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وليس إسناده عندي بمتصل". وضعَّفه بسبب جهالة من روى عن معاذ جملةٌ من جهابذة أهل العلم، منهم إمام الصنعة: البخاري، والعقيلي، والدارقطني، وابن حزم، والذهبي، وابن حجر فضلًا عن الإمام الترمذي. وقبله بعض العلماء المتأخرين، منهم: الخطيب في كتابه الفقيه والمتفقه (1/ 189 - 190)، وابن القيم في أعلام الموقعين (1/ 202). وينظر تعليق الدكتور بشار على طبعته من جامع الترمذي (3/ 10).

(3)

أخرجه ابن سعد (3/ 590)، وأحمد في مسنده (1/ 18)، وفي الفضائل له (1287)، وعمر بن شبة في تاريخ المدينة (3/ 886)، وأبو نعيم في الحلية (1/ 228 و 229) من طرق مختلفة عن عمر، مرفوعًا، وهو حديث حسن بطرقه وشواهده. والرتوة: رمية سهم، وقيل: مد البصر. وقد تحرفت في ط إلى "ربوة"(بشار).

(4)

أخرجه الطبراني في الكبير (20/ حديث 41)، وأبو نعيم في الحلية (1/ 229) من طريق عمارة بن غزية عن محمد بن عبد الله الأنصاري، عن محمد بن كعب القرظي مرسلا (بشار).

(5)

أخرجه أبو نعيم في الحلية (1/ 230) والحاكم في المستدرك (3/ 271) وصححه وهو أيضًا في سير أعلام النبلاء (1/ 451).

(6)

ترجمة - يزيد بن أبي سفيان - في طبقات ابن سعد (7/ 405) والاستيعاب (4/ 1575) وأسد الغابة (5/ 491) وتهذيب الأسماء واللغات (2/ 162) ومختصر ابن منظور (27/ 362) وسير أعلام النبلاء (1/ 328) والإصابة (6/ 341).

ص: 210

له ما وعده الصّدّيق، وكان أولَ من وليها من المسلمين. المشهور أنه مات في طاعون عَمَواس كما تقدم. وزعم الوليد بن مسلم أنه توفي سنة تسع عشرة بعد ما فتح قيسارية. ولما مات كان قد استخلف أخاه معاوية على دمشق فأمضى عمر بن الخطاب له ذلك رضي الله عنهم. وليس له في الكتب شيء، وقد روى عنه أبو عبد الله الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"مثلُ الذي يُصلِّي ولا يُتمُّ ركوعَهُ ولا سجوده مثلُ الجائعِ الذي لا يأكلُ إلا التمرةَ والتمرتين لا يغنيان عنه شيئًا"

(1)

.

‌أبو جَنْدل بن سُهَيْل

(2)

بن عمرو،

وقيل اسمه العاص: أسلم قديمًا، وقد جاء يوم صلح الحديبية مسلمًا يرسف في قيوده لأنّه كان قد استضعف فردّه أبوه وأبى أن يصالح حتى يُردّ، ثم لحق أبو جندل بأبي بَصير

(3)

إلى سِيف البحر

(4)

، ثم هاجر إلى المدينة وشهد فتح الشام. وقد تقدم أنه تأول آية الخمر ثم رجع

(5)

، ومات بطاعون عَمَواس رحمه الله ورضي عنه.

‌أبو عبيدة بن الجراح

هو عامر بن عبد الله تقدم.

‌أبو مالك الأشعري

(6)

، قيل اسمه كعب بن عاصم، قدم مهاجرًا سنة خيبر مع أصحاب السفينة، وشهد ما بعدها، واستُشهد بالطاعون عام عَمَواس هو وأبو عبيدة ومعاذ في يوم واحد رضي الله عنهم أجمعين.

‌ثم دخلت سنة تسع عشرة

قال الواقدي وغيره: كان فتحُ المدائن وجلولاء فيها. والمشهوِرُ خلافُ ما قال كما تقدَّم. وقال محمد بن إسحاق: كان فتحُ الجزيرة والرُّها وحَرّان ورأس العين ونَصيبين في هذه السنة. وقد خالفه غيره

(7)

. وقال أبو معشر وخليفة

(8)

وابن الكلبي: كان فتح قَيْسَارِيّة في هذه السنة وأميرُها معاويةُ. وقال غيره يزيد بن أبي سفيان. وقد تقدّم أن معاوية افتتحها قبل هذا بسنتين. وقال محمد بن إسحاق: كان

(1)

أخرجه البخاري في تاريخه الكبير (4/ 247 - 248)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (65/ 239)، ورواه الطبراني في الكبير (4/ 3840) وأبو يعلى الموصلي، رقم (7184) وابن خزيمة في صحيحه رقم (665) وغيرهم، فهو حديث حسن.

(2)

ترجمة - أبي جندل - في الطبقات الكبرى (7/ 405) والاستيعاب (4/ 1621) وجامع الأصول (13/ 273) وأسد الغابة (6/ 54 - 56) وسير أعلام النبلاء (1/ 192) والإصابة (4/ 34).

(3)

في أ: نصير، وهو تحريف.

(4)

قصة إسلامه مشهورة ذكرها البخاري في صحيحه رقم (2700) في الصلح، وقد أوردها المصنف رحمه الله مطولة في السيرة.

(5)

تقدم الخبر صفحة 148 من هذا الجزء.

(6)

ترجمة - أبي مالك الأشعري - في الطبقات الكبرى (4/ 358) والاستيعاب (3/ 1321) وجامع الأصول (15/ 111) وأسد الغابة (4/ 470) والإصابة (3/ 293).

(7)

قال الطبري في تاريخه (4/ 102) بعد ذكره الخبرين: وقد ذكرنا قول من خالفهم في ذلك قبل.

(8)

تاريخ خليفة (ص 141).

ص: 211

فتحُ قَيْسارية من فلسطين، وهرب هرقل، وفتح مصر في سنة عشرين. وقال سيف بن عمر: كان فتح قيسارية وفتح مصر في سنة ست عشرة. قال ابن جرير

(1)

: فأما فتحُ قيسارية فقد تقدم، وأما فتح مصر فإني سأذكره في سنة عشرين إن شاء الله تعالى.

قال الواقدي: وفي هذه السنة ظهرت نارٌ من حرْةِ ليلى

(2)

فأراد عمر أن يخرج بالرجال إليها، ثم أمر المسلمين بالصدقة فطفئت ولله الحمد.

ويقال كان فيها وقعة أرمينية وأميرها عثمان بن أبي العاص، وقد أصيب فيها صفوان بن المُعَطَّل بن رَحْضَة

(3)

السُّلَمي ثم الذَّكواني، وكان أحد الأمراء يومئذ. وقد قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما علمت عليه إلا خيرًا"

(4)

وهو الذي ذكره المنافقون في قصة الإفك فبرَّأَ اللهُ ساحتَه، وجنابَ أمّ المؤمنين زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم مما قالوا. وقد كان إلى حين قالوا لم يتزوج، ولهذا قال: والله ما كشفت كنف أنثى قط. ثم تزوج بعد ذلك، وكان كثير النوم ربما غلب عليه عن صلاة الصبح في وقتها، كما جاء في سنن أبي داود

(5)

وغيره. وكان شاعرًا ثم حصلت له شهادةٌ في سبيل الله، قيل بهذا البلد، وقيل بالجزيرة، وقيل بسُمَيْساط

(6)

. وقد تقدَّم بعضُ هذا فيما سلف.

وفيها فُتحت تكريتُ في قولٍ، والصحيح قبل ذلك.

وفيها فيما ذكرنا أسرت الروم عبدَ الله بن حُذافة

(7)

.

وفيها في ذي الحجة منها كانت وقعةٌ بأرض العراقِ قتل فيها أميرُ المجوس

(8)

شهرك، وكان أمير المسلمين يومئذ الحكم بن أبي العاص رضي الله عنه.

قال ابن جرير

(9)

، وفيها (حجَّ) بالناس عمرُ، ونوابه في البلاد وقضاته هم المذكورون قبلها والله أعلم.

(1)

في تاريخه (4/ 102 - 103).

(2)

حرّة ليلى: موضع لبني مرة بن عوف يطؤها الحاج في طريقهم إلى المدينة. معجم البلدان (2/ 248).

(3)

في جامع الأصول: رُبَيْصَة، وفي الاستيعاب: ربيعة، وفي الإصابة: رُبيعة، وما أثبتناه هو الصواب، وهو الذي بخط الذهبي في تاريخ الإسلام، وفي السير (2/ 545).

(4)

قطعة من حديث أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2661) في الشهادات، وأخرجه ابن حبان في صحيحه (16/ 13 - 19) رقم (7099) في مناقب الصحابة.

(5)

سنن أبي داود رقم (2459) في الصوم من حديث أبي سعيد الخدري، وهو حديث صحيح.

(6)

في ط: "بشميشاط": وما هنا بخط الذهبي في تاريخ الإسلام، وهي كذلك في السير (2/ 546).

(7)

ترجمته في الاستيعاب (2/ 888) وتاريخ دمشق - (عبد الله بن جابر - عبد الله بن زيد - 120/ - 135) وجامع الأصول (14/ 448 - 449) وأسد الغابة (3/ 211) والإصابة (2/ 54).

(8)

في أ: أمير الجيوش. والخبر في تاريخ خليفة (ص 141).

(9)

في تاريخه (4/ 103).

ص: 212

(ذكر من توفي فيها من الأعيان)

وممن توفي فيها من الأعيان:

أُبَيُّ بن كعب

(1)

سيد القراء، وهو أُبَيّ بن كعب بن قيس بن عبيد بن زَيْد بن مُعاوية بن عَمْرو بن مالك بن النَّجّار، أبو المُنْذر وأبو الطُّفَيْل، الأنْصاري النَّجَّاري سيِّد القُرّاء: شهد العَقَبَة وبدرًا وما بعدهما، وكان سَيِّدًا جليلَ القدر. وهو أحد القراء الأربعة الخزرجيين الذين جمعوا القرآن في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قال لعمر يومًا: إني تلقيت القرآن ممن تلقاه منه جبريل وهو رطب. وفي المسند والنسائي وابن ماجه

(2)

من طريق أبي قِلابة عن أنس مرفوعًا: "أقرأُ أُمتي أُبي بن كعب" وفي الصحيح

(3)

أنَّ رِسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: "إنَّ اللهَ أمرني أن أقرأَ عليكَ القرآن". قال: وسمّاني لكَ؟ قال: "نعم" فذرفتْ عيناه. وقد تكلّمنا على ذلك في التفسير عند سورةِ {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1)} [البينة: 1].

قال الهَيْثَم بن عَدِيّ: توفي أُبي سنة تسع عشرة.

وقال يحيى بن مَعين: سنة سبع عشرة أو عشرين.

وقال الواقدي عن غير واحد: توفي سنة اثنتين وعشرين. وبه قال أبو عبيد وابن نمير وجماعة.

وقال الفلاس وخليفة

(4)

: توفي في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه.

وفيها مات خَبَّاب

(5)

مولى عُتْبَة بن غَزْوان من المهاجرين شهد بدرًا وما بعدها، وهو صحابيٌّ من السّابقين وصلَّى عليه عمرُ.

ومات فيها صَفْوان بن المُعطَّل

(6)

في قول كما تقدم، والله أعلم.

(1)

ترجمة - أبي بن كعب - في الطبقات الكبرى (3/ 498) والاستيعاب (1/ 126) وجامع الأصول (13/ 10 - 11) وأسد الغابة (1/ 61) وسير أعلام النبلاء (1/ 389 - 402). والإصابة (1/ 26).

(2)

مسند أحمد (3/ 184) وفضائل الصحابة للنسائي (ص 182) وسنن الترمذي رقم (3790). وتمام الحديث: "أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في الله عمر، وأصدقهم حياءً عثمان، وأقرؤهم لكتاب الله أُبي بن كعب، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، ألا وإن لكل أمة أمينًا، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجرّاح"، وهو حديث صحيح بطرقه وشواهده.

(3)

صحيح الإمام البخاري (4959) في المناقب، وصحيح مسلم (799)(121) في فضائل الصحابة.

(4)

تاريخ خليفة (ص 167).

(5)

هو خباب بن الأرت وقد أوردت المصادر نسبه كاملًا، وترجمته في الطبقات الكبرى (3/ 64) والاستيعاب (1/ 437) وجامع الأصول (13/ 419) وأسد الغابة (2/ 114) وسير أعلام النبلاء (2/ 323 - 325) والإصابة (1/ 416).

(6)

ترجمة - صفوان بن المعطل - في الاستيعاب (2/ 725) وجامع الأصول (14/ 351) وأسد الغابة (3/ 30 - 31) =

ص: 213

‌سنة عشرين من الهجرة

قال محمد بن إسحاق: فيها كان فتحُ مصر. وكذا قال الواقدي: إنّها فُتحت هي وإسكندرية في هذه السنة. وقال أبو معشر: فُتحت مصر سنة عشرين، وإسكندرية في سنة خمس وعشرين. وقال سيف: فتحت مصر وإسكندرية في سنة ست عشرة في ربيع الأول منها

(1)

. ورجّح ذلك أبو الحسن بن الأثير في "الكامل"

(2)

لقصة بعث عمرو الميرة من مصر عام الرّمادة، وهو معذور فيما رجحه، والله أعلم.

وفيها كان فتح تُسْتَر في قول طائفةٍ من علماء السير بعد محاصرة سنتين وقيل سنة ونصف، والله أعلم.

‌صفة فتح [بلاد] مصر [مجموعًا من كلام]

(3)

ابن إسحاق وسيف [وغيرهما]

قالوا: لما استكملَ (عمر) والمسلمون فتحَ الشام بعثَ عمرو بن العاص إلى مصرَ. وزعم سيفٌ أنَّه بعثه بعد فتح بيت المقدس، وأردفه بالزُّبير بن العَوَّام وفي صحبته بُسْر بن أرطاة

(4)

، وخارِجَة بن حُذافَة وعُمَيْر بن وَهْب الجُمَحي. فاجتمعا على باب مصر فلقيهم أبو مريم جاثليق مصر، ومعه الأسقفّ

(5)

أبو مريام في أهل الثبات

(6)

، بعثه المُقَوْقِسُ صاحب إسْكَنْدَرِيَّة لمنع بلادهم، فلما تصافُّوا قال عمرو بن العاص لا تعجلوا حتى نُعْذرَ، ليبرز إليَّ أبو مريم وأبو مريام راهبا هذه البلاد، فبرزا إليه، فقال لهما عمرو بن العاص: أنتما راهبا هذه البلاد فاسمعا، إن الله بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم بالحق وأمره به وأمرنا به محمد صلى الله عليه وسلم، وأدَّى إلينا كلّ الذي أُمر به، ثم مضى وتركنا على الواضحة، وكان مما أمرنا به الإعذار إلى الناس، فنحن ندعوكم إلى الإسلام، فمن أجابنا (إليه) فمثلنا، ومن لم يجبنا

(7)

عرضنا عليه الجزية وبذلنا له المنعة، وقد أعلمنا [صلى الله عليه وسلم] أنا مفتتحوكم، وأوصانا بكم حفظًا لرحمنا منكم، وإنَّ لكم إن أجبتمونا بذلك ذمة إلى ذمة. ومما عهد إلينا أميرنا: استوصوا بالقِبْطيِّين خيرًا، فإنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصانا بالقِبْطيِّين

= وسير أعلام النبلاء (2/ 545 - 550) والإصابة (2/ 190 - 191).

(1)

جملة هذه الأقوال في تاريخ الطبري (4/ 104).

(2)

الكامل في التاريخ (2/ 564).

(3)

مكان هاتين المعقوفتين لفظة/ عن/ في ط.

(4)

في ط: بشر بن أرطأة؛ خطأ. والتصحيح من الاستيعاب (1/ 157) وجامع الأصول (13/ 152) وأسد الغابة (1/ 213) وسير أعلام النبلاء (3/ 409) والاصابة (1/ 147 - 148).

(5)

الأسقف: رئيس النصارى في الدين، أعجمي تكلّمت به العرب ولا نظير له إلا أُسْرُبّ، والجمع: أساقف وأساقفة.

(6)

في تاريخ الطبري (4/ 107): النيات.

(7)

في أ: ومن لم يجب.

ص: 214

خيرًا، لأن لهم رحمًا وذمة

(1)

. فقالوا: قرابةٌ بعيدةٌ لا يصل مثلها إلا الأنبياءُ معروفة شريفة، كانت ابنة ملكنا وكانت من أهل مَنْف والملك فيهم، فأديل

(2)

عليهم أهل عين شمس فقتلوهم وسلبوهم ملكهم واغتربوا فلذلك صارت إلى إبراهيم

(3)

عليه السلام مرحبًا به وأهلًا. أمِّنَّا حتى نرجع إليك، فقال عمرو: إن مثلي لا يخدع ولكنّي أؤجلكما ثلاثًا لتنظرا ولتناظرا قومكما وإلا ناجزتكم. قالا: زدنا، فزادهم (يومًا، فقالا: زدنا. فزادهم يومًا) فرجعا إلى المُقَوْقِس فأبى أرطبون أن يجيبهما وأمر بمناهدتهم، فقالا لأهل مصر: أما نحن فسنجتهد أن ندفع عنكم ولا نرجع إليهم. وقد بقيتْ أربعةُ أيامٍ (قاتلوا) وأشار عليهم بأن يبيِّتوا

(4)

للمسلمين، فقال الملأ منهم: ما تقاتلون من قوم قتلوا كسرى وقيصر وغلبوهم على بلادهم، فألحّ الأرطبون في أن يبّيتوا للمسلمين ففعلوا فلم يظفروا بشيء بل قتل منهم طائفة منهم الأرطبون، وحاصر المسلمون عين شمس من مصر في اليوم الرابع. وارتقى الزبير عليهم سورَ البلد، فلما أحسُّوا بذلك خرجوا إلى عمرو من الباب الآخر فصالحوه واخترقَ الزُّبير البلدَ حتى خرجَ من الباب الذي عليه عمرو فأمْضوا الصلحَ وكتب لهم عمرو كتاب أمان:

"بسم الله الرحمن الرحيم: هذا ما أعطى عمرو بن العاص أهلَ مصر من الأمان على أنفسهم وملّتهم وأموالهم وكنائسهم وصُلُبهم وبرّهم وبَحْرهم لا يدخل عليهم شيء من ذلك، ولا يُنتقص ولا يساكنهم النوبة، وعلى أهل مصر أن يُعْطوا الجزية إذا اجتمعوا على هذا الصلح وانتهت زيادةُ نهرهم خمسين ألف ألف وعليهم جَنَى لُصُوتُهم

(5)

، فإن أبى أحدٌ منهم أن يجيبَ رُفع عنهم من الجزاء بقدرهم، وذمّتنا ممن أبى بريئة. وإن نقص نهرهم من غايته [إذا انتهى] رفع عنهم بقدر ذلك ومنْ دخل في صلحهم من الروم والنوبة، فله مثل مالهم وعليه مثل ما عليهم، ومنْ أبى واختار الذهاب فهو آمن حتى يبلغ مأمنه أو يخرج من سلطاننا، عليهم ما عليهم أثلاثًا، (في كل ثلث جباية ثلث ما عليهم). على ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخليفة أمير المؤمنين وذمم المؤمنين، وعلى النوبة الذين استجابوا أن يعينوا بكذا وكذا رأسًا، وكذا وكذا فرسًا على أن لا يغزوا ولا يمنعوا من تجارة

(6)

صادرة ولا واردة، شهد الزُّبير وعبد الله ومحمد ابناه وكتب وردان وحضر" فدخل في ذلك أهل مصر كلهم وقبلوا الصلح واجتمعت الخيولُ بمصر وعَمَروا الفسطاط

(7)

، وظهر أبو مريم وأبو مريام فكلَّما عَمْرًا في السبايا التي أصيبت بعد

(1)

في أ: ذمة ورحمًا، والحديث رواه مسلم رقم (2543).

(2)

في أ: منهم فتغلب.

(3)

في أ: فلهذا صارت لإبراهيم.

(4)

في أ: أن يثبتوا.

(5)

في ط: ما حق لصونهم؛ تحريف، واللُّصوت: جمع لصت هو اللص في لغة طيئ. اللسان (لصت).

(6)

في أ: ولا يمنعونا من غارة.

(7)

"الفسطاط": مجتمع أهل الكورة حَوالي مسجد جماعتهم، ومنه قيل لمدينة مصر التي بناها عمرو بن العاص. معجم البلدان (4/ 263 - 264).

ص: 215

المعركة. فأبى عمرو أن يردّها عليهما، وأمر بطردهما وإخراجهما من بين يديه، فلما بلغ ذلك أميرَ المؤمنين عمر بن الخطاب أمر أنّ كلّ سبي أخذ في الخمسة أيام التي أمَّنوهم فيها أن يرد عليهم، وكلّ سبي أخذ ممن لم يقاتل وكذلك منْ قاتل فلا يردّ عليه سباياه. وقيل إنّه أمره أن يخيِّروا منْ في أيديهم من السبي بين الإسلام وبين أن يرجع إلى أهله، فمنِ اختار الإسلامَ فلا يردّوه إليهم، ومن اختارهم ردّوه عليهم وأخذوا منه الجزيةَ، وأما ما تفرّق من سبيهم في البلاد ووصل إلى الحرمين وغيرهما، فإنه لا يقدر على ردّهم ولا ينبغي أن يصالحهم على ما يتعذر

(1)

الوفاء به. ففعل عمرو ما أمر به أمير المؤمنين، وجمع السبايا وعرضوهم وخيَّروهم، فمنهم من اختار الإسلامَ، ومنهم من عاد إلى دينه، وانعقد الصلحُ بينهم. ثم أرسل عمرو جيشًا إلى إسكندرية - وكان المُقَوْقسُ صاحب الإسكندرية قبل ذلك يؤدي خراج بلده وبلد مصر إلى ملك الروم - فلما حاصره عمرو بن العاص جمع أساقفته وأكابر دولته وقال لهم: إن هؤلاء العرب غلبوا كسرى وقيصر وأزالوهم عن ملكهم ولا طاقة لنا بهم. والرأي عندي أن نؤدي الجزية إليهم. ثم بعث إلى عمرو بن العاص يقول: إني كنت أؤذي الخراج إلى منْ هو أبغضُ إليَّ منكم - فارس والروم - ثم صالحهم على أداء الجزية، وبعث عمرو بالفتح والأخماس إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

وذكر سيف أن عمرو بن العاص لما التقى مع المُقَوْقِس جعل كثير من المسلمين يفرّ من الزحف فجعل عمرو يُذَمِّرهم

(2)

ويحثهم على الثبات: فقال له رجلٌ من أهل اليمن: إنّا لم نخلق من حجارة ولا حديد. فقال له عمرو: اسكت فإنما أنت كلب. فقال له الرجل: فأنت إذًا أمير الكلاب

(3)

. فأعرض عنه عمرو ونادى يطلب أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما اجتمع إليه منْ هناك من الصحابة قال لهم عمرو: تقدّموا فَبِكُم ينصرُ اللهُ المسلمين - فنهدوا إلى القوم ففتحَ اللهُ عليهم وظفروا أتمَّ الظفر.

قال سيف: ففتُحت مصرُ في ربيع الأول من سنة ستّ عشرة، وقام فيها ملك الإسلام ولله الحمد والمنة.

وقال غيره: فُتحت مصر في سنة عشرين، وفتحت إسكندرية في سنة خمس وعشرين بعد محاصرة ثلاثة أشهر عنوةً، وقيل صلحًا على اثني عشر ألف دينار. وقد ذكر أنّ المُقَوْقِس سأل من عمرو أن يهادنه أولًا، فلم يقبل عمرو وقال له: قد علمتم ما فعلنا بملككم الأكبر هرقل. فقال المُقَوْقس لأصحابه: صدقَ فنحن أحقُّ بالإذعان. ثم صالح على ما تقدم.

وذكر غيره أن عَمرًا والزبير سارا إلى عين شمس

(4)

فحاصراها وأن عمرًا بعث إلى الفرما

(5)

أبرهة بن

(1)

في أ: ما لا يعذر.

(2)

يُذمِّرهم، أي يحضُّهم ويُشجِّعهم. وفي بعض النسخ: يزمرهم.

(3)

في أ: إذًا أنت كبير الكلاب.

(4)

عين شمس: اسم مدينة فرعون موسى بينها وبين الفسطاط ثلاثة فراسخ، كانت مدينة كبيرة، وبها آثار قديمة وأعمدة تسميها العامة مسالّ فرعون. معجم البلدان (4/ 178).

(5)

الفرما: مدينة على الساحل من ناحية مصر تشرف على بحر القُلْزم [الأحمر]، فتحها عمرو بن العاص عنوة في =

ص: 216

الصباح، وبعث عوف بن مالك إلى الإسكندرية فقال كل منهما لأهل بلده: إن نزلتم فلكم الأمان. فتربّصوا ماذا يكون من أهل عين شمس، فلما صالحوا صالح الباقون. وقد قال عوف بن مالك لأهل إسكندرية: ما أحسنَ بلدَكُم؟ فقالوا: إنّ إسكندر لمّا بناها قال: لأبنينَّ مدينة فقيرةّ إلى الله غنيةً عن الناس. (فبقيت بهجتها).

وقال أبرهة لأهل الفرما، ما أقبحَ

(1)

مدينتكم؟ فقالوا: إن الفرما - وهو أخو الإسكندر - لمّا بناها قال لأبنينّ مدينة غنيةً عن الله فقيرةً إلى الناس. فهي لا يزال

(2)

ساقطًا بناؤها، فشوهت بذلك.

وذكر سيفٌ أنَّ عبدَ الله بن سعد بن أبي سَرْح لمّا ولي مصر بعد ذلك زاد في الخراج عليهم رؤوسًا من الرقيق يهدونها إلى المسلمين في كلّ سنة، ويعوّضهم المسلمون بطعام مسمى وكسوةٍ. وأقرّ ذلك عثمان بن عفان وولاة الأمور بعده، حتى كان عمر بن عبد العزيز فأمضاه أيضًا نظرًا لهم، وإبقاءٌ لعهدهم

(3)

.

قلت: وإنما سميت ديار

(4)

مصر بالفسطاط نسبة إلى فسطاط عمرو بن العاص، وذلك أنّه نصب خيمتَه وهي الفسطاط موضع مصر اليوم، وبنى الناس حوله، وتركت مصر القديمة من زمان عمرو بن العاص وإلى اليوم، ثم رفع الفسطاط وبنى موضعه جامعًا وهو المنسوب إليه اليوم.

وقد غزا المسلمون بعد فتح مصر النوبة فنالهم جراحات كثيرة، وأصيبت أعين كثيرة، لجودة رمي النوبة فسموهم جند الحدق. ثم فتحها الله بعد ذلك وله الحمد والمنة.

وقد اختلف في بلاد مصر فقيل: فتحت صلحًا إلَّا الإسكندرية، وهو قول يزيد بن أبي حبيب. وقيل: كلّها عنوة، وهي قول ابن عمر وجماعة. وعن عمرو بن العاص أنه خطب الناس فقال: ما قعدت مقعدي هذا ولأحدٍ من القبط عندي عهدٌ إن شئت - قبلت، وإن شئت بعت، وإن شئت خمست، إلا لأهل الطابلس فإنّ لهم عهدًا نُوفي

(5)

به.

‌قصة نيل مصر

روينا من طريق ابن لهيعة، عن قيس بن الحجاج، عمن حدَّثه قال: لما افتتحت مصر أتى أهلها عمرو بن العاص - حين دخل بؤنة من أشهر العجم - فقالوا: أيها الأمير، لنيلنا

(6)

هذا سُنّة لا يجري إلا

= زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنة 18. معجم البلدان (4/ 255 - 256).

(1)

في تاريخ الطبري (4/ 108): ما أخلق.

(2)

في أ: فهي لا تزال.

(3)

الخبر في تاريخ الطبري (4/ 111).

(4)

في أ: بلاد مصر.

(5)

في أ: نفي.

(6)

في أ: إن لنيلنا.

ص: 217

بها. قال: وما ذاك؟ قالوا: إذا كانت ثنتا

(1)

عشرة ليلة خلت من هذا الشهر عمدنا إلى جارية بكر من أبويها، فأرضينا أبويها وجعلنا عليها من الحلي والثياب أفضلَ ما يكون، ثم ألقيناها في هذا النيل. فقال لهم عمرو: إن هذا مما لا يكون في الإسلام، إن الإسلام يهدم ما قبله. قال: فأقاموا بؤنة وأبيب ومسرى والنيل لا يجري قليلًا ولا كثيرًا، حتى همّوا بالجلاء، فكتب عمرو إلى عمر بن الخطاب بذلك، فكتب إليه: إنك قد أصبت بالذي فعلت، وإني قد بعثت إليك بطاقة داخل كتابي

(2)

، فألقها في النيل. فلما قدم كتابه أخذ عمرو البطاقة فإذا فيها "من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى نيل أهل مصر. أما بعد، فإن كنتَ إنما تجري من قِبَلِكَ ومن أمركَ فلا تَجْرِ فلا حاجةَ لنا فيكَ، وإن كنتَ إنّما تجري بأمر الله الواحد القهار، وهو الذي يُجريكَ فنسألُ الله تعالى أن يجريكَ" قال: فألقى البطاقة في النيل فأصبحوا يوم السبت وقد أجرى الله النيل ستة عشر ذراعًا في ليلة واحدة وقطع الله [تلك] السُّنَّةَ عن أهل مصر إلى اليوم.

قال سيف بن عمر

(3)

: وفي ذي القعدة من هذه السنة - وهي عنده سنة ست عشرة - جعل عمر

(4)

المسالح

(5)

على أرجاء مصر، وذلك لأن هرقل أغزا الشام ومصر في البحر.

قال ابن جرير

(6)

: وفي هذه السنة غزا أرض الروم أبو بَحْرِية

(7)

عبد الله بن قيس العبدي - وهو أولُ من دخلها فيما قيل - فسلم وغنم. وقيل: أول من دخلها ميسرة بن مسروق العبسي.

قال الواقدي: وفيها عزل عمر قدامة بن مظعون عن البحرين (وحدّ

(8)

في الشراب، وولَّى على البحرين) واليمامة أبا هريرة الدوسي رضي الله عنه.

قال: وفيها شكا أهل الكوفة سعدًا في كل شيء، حتى قالوا: لا يُحسن يُصلّي، فعزله عنها وولى عليها عبد الله بن عبد الله بن عتبان - وكان نائب سعد - وقيل بل ولاها عمَّار بن ياسر

(9)

.

وقال الإمام أحمد

(10)

: حدَّثنا سفيان، عن عبد الملك، سمعه من جابر بن سَمُرَة. قال: شكا أهل الكوفة سعدًا إلى عمر فقالوا: إنه لا يُحسن يصلِّي، قال الأعاريب؟ والله ما آلو بهم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1)

في ط: اثنتي، خطأ.

(2)

في أ: كتابي هذا.

(3)

تاريخ الطبري (4/ 111).

(4)

في ط: عمرو؛ خطأ.

(5)

المسالح: جمع مَسْلحة وهي الثغر والقوم ذوو السلاح. القاموس (السلاح).

(6)

في تاريخه (4/ 112).

(7)

في أ: أبو بحيرة؛ تحريف. وما هنا موافق لتاريخ الطبري.

(8)

أي أقام عليه الحدّ.

(9)

في الأصل والمطبوع: عمرو. وهو خطأ، وسيأتي على الصواب صفحة (239).

(10)

مسند الإمام أحمد (1/ 179) وهو في الصحيحين: البخاري (755) و (758) في الأذان ومسلم (453)(158) في الصلاة عن طريق عبد الملك بن عمير، به.

ص: 218

في الظهر والعصر، أردّد في الأوليين وأصرف في الأُخريين

(1)

. فسمعتُ عمر يقول: كذا الظنُّ بك يا أبا إسحاق.

وفي صحيح مسلم

(2)

أن عمر بعث من يسأل عنه أهل الكوفة فأثنوا خيرًا إلا رجلًا يقال له: أبو سعدة أسامة بن قتادة

(3)

قام فقال: أما إذ أنشدتنا فإنَّ سعدًا لا يقسم بالسَّوية، ولا يعدل في القضية، ولا يخرج في السَّريَّة. فقال سعد: اللهمّ إن كان عبدكَ هذا قام مقام رياءٍ وسمعةٍ، فأطل عمره وأدم فقرَهُ وعرِّضْهُ للفتن. فأصابته دعوةُ سعد - فكان شيخًا كبيرًا يرفع حاجبيه عن عينيه. ويتعرّض للجواري في الطرق فيغمزهن، فيقال له في ذلك، فيقول: شيخ كبير مفتون أصابته دعوة سعد.

وقد قال عمر في وصيته - وذكره في الستة

(4)

- فإن أصابت الإمرَة سعدًا فذاك، وإلا فليستعنْ به أيّكم ولّي، فإني لم أعزله عن عجز ولا خيانة. قال: وفيها أجلى عمرُ يهودَ خيبر عنها إلى أذرعات وغيرها.

وفيها أجلى عمر يهود نجران منها أيضًا إلى الكوفة، وقسم خيبر، ووادي القرى، ونجران بين المسلمين.

قال وفيها دوّنَ عمر الدواوين، وزعم غيره أنّه دوّنها قبل ذلك، فالله أعلم.

قال: وفيها بعث عمر عَلْقَمة بن مُجَزِّز المُدْلجي

(5)

إلى الحبشة في البحر فأصيبوا، فآلى عمر على نفسه أن لا يبعث جيشًا في البحر بعدها. وقد خالف الواقدي في هذا أبو معشر فزعم أن غزوة الحبشة إنما كانت في سنة إحدى وثلاثين - يعني في خلافة عثمان بن عفان - والله أعلم.

قال الواقدي. وفيها تزوج عمر فاطمة بنت الوليد، التي مات عنها الحارث بن هشام في الطاعون، وهي أخت خالد بن الوليد.

قال: وفيها مات هلال

(6)

بدمشق.

(1)

في ط: الأخيرين؛ خطأ. الذي في مسند أحمد "أركد في الأوليين، وأحذف في الأخريين".

(2)

هكذا نسب المصنف هذه الزيادة لمسلم، ولم أقف عليها في المطبوع منه، وإنما أخرجها البخاري (755). وينظر دلائل النبوة للبيهقي (6/ 189 - 190)(بشار).

(3)

في ط: قتادة بن أسامة؛ خطأ. وما هنا موافق للبخاري ولتاريخ الطبري (4/ 121) والكامل لابن الأثير (3/ 6).

(4)

الستة الذين أوصى عمر رضي الله عنه أن يكون الأمر لأحدهم من بعده وهم عليّ وطلحة، وعثمان والزبير، وعبد الرحمن بن عوف وسعد رضي الله عنهم. ونص هذه الوصية في مسند أحمد (1/ 15) وصحيح البخاري رقم (3700) في فضائل الصحابة، وصحيح مسلم رقم (567) في المساجد: وصحيح ابن حبان - الإحسان - (15/ 350 - 355) رقم (6917) وثمة تخريج واف لهذه الوصية.

(5)

ضبطه عن جامع الأصول (14/ 537) وفي هامشه قائمة بمصادره.

(6)

هو هلال بن مرّة الأشجعي؛ ترجمته في جامع الأصول (15/ 500) وأسد الغابة (5/ 412) والإصابة (3/ 607).

ص: 219

وأُسَيْد بن الحُضَيْر في شعبان.

وزينب بنت جَحْش أم المؤمنين، وهي أول منْ مات من أمهات المؤمنين رضي الله عنها.

قال: وفيها مات هرقل وقام بعده ولده قسطنطين.

قال: وحج بالناس في هذه السنة عمر، ونُوَّابُه وقضاتُه منْ تقدم في التي قبلها، سوى منْ ذكرنا أنه عزله وولى غيره.

‌ذكر المتوفين [في هذه السنة] من الأعيان

أُسَيْد بن الحُضَيْر

(1)

بن سِمَاك الأنْصاري الأشْهلي من الأوس، أبو يحيى: أحد النقباء ليلة العقبة، وكان أبوه رئيس الأوس يوم بعاث، وكان قبل الهجرة بست سنين وكان يقال له حُضَيْر الكتائب. يقال إنه أسلم على يَدَيْ مُصْعب بن عُمَيْر. ولما هاجر الناس آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين زيد بن حارثة، ولم يشهد بدرًا. وفي الحديث الذي صححه الترمذي

(2)

عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "نعم الرجل أبو بكر، نعم الرجل عمر، نعم الرجل أُسَيْد بن الحُضَيْر" وذكر جماعة. وقدم الشام مع عمر، وأثنت عليه عائشة، وعلى سعد بن معاذ، وعبّاد بن بشر، رضي الله عنهم، وذكر ابن بكير أنه توفي بالمدينة سنة عشرين، وأن عمر حمل بين عموديه وصلَّى عليه ودفن بالبقيع، وكذا أرَّخَ وفاته سنة عشرين الواقدي وأبو عبيد وجماعة.

أُنَيْس بن مَرْثَد (بن أبي) مَرْثَد الغَنَوي

(3)

: هو وأبوه وجده صحابة وكان أنيس (هذا) عينًا لرسول الله يوم حُنَيْن، ويقال

(4)

إنه الذي قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "واغْدُ يا أُنَيْس إلى امرأة هذا فإن اعْتَرَفَتْ فارْجُمْها"

(5)

والصحيح أنه غيره، فإن في الحديث: فقال لرجل من أسلم، فقيل: إنه أُنَيْس بن الضَّحاك

(1)

ترجمة - أسيد بن حضير - في الطبقات الكبرى (3/ 603) والاستيعاب (1/ 92 - 94) وجامع الأصول (13/ 20 - 21) وأسد الغابة (1/ 111 - 113) ومختصر تاريخ دمشق لابن منظور (4/ 391 - 398) وسير أعلام النبلاء (1/ 340 - 343) والإصابة (1/ 49).

(2)

هكذا قال إن الترمذي صححه، وهو غلط محض انتقل إليه من شيخه الذهبي في تاريخ الإسلام، وإنما اقتصر الترمذي على تحسينه، فقال:"هذا حديث حسن إنما نعرفه من حديث سهيل". ولعل الإمام الترمذي اقتصر على تحسينه لغرابة متنه ولأنه معلول عنده، وهي عادته عند التحسين، فقد روى موصولًا ومرسلًا، فقد أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 12/ 11 - 12 و 136 - 137 من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيه أبو هريرة (بشار).

(3)

ترجمة - أنيس بن مرثد - في الاستيعاب (1/ 113 - 114) وجامع الأصول (13/ 33). وأسد الغابة (1/ 153 - 154) والإصابة (1/ 73) ويقال في اسمه: أنس.

(4)

في ط: يقال.

(5)

الحديث رواه الإمام أحمد في مسنده (4/ 115) والبخاري في صحيحه (6859 و 6860) في الحدود، ومسلم في =

ص: 220

الأسلمي. وقد مال ابن الأثير إلى ترجيحه، والله أعلم. له حديث في الفتنة

(1)

قال إبراهيم بن المنذر: توفي في ربيع الأول سنة عشرين.

بلال بن رَبَاح الحَبَشي

(2)

المُؤَذّن مولى أبي بَكْر: ويُقال له بلال بن حَمامة. وهي أمه. أسلم قديمًا فعُذِّبَ في الله فصبر فاشتراه الصديق فأعتقه. شهد بدرًا وما بعدها

(3)

. وكان عمر يقول: أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا. رواه البخاري

(4)

. ولما شرع الأذان بالمدينة كان هو الذي يؤذن بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن أم مكتوم يتناوبان. تارة هذا وتارة هذا، وكان بلال نديَّ الصوت حسنهُ، فصيحًا، وما يُروى "أنَّ سين بلال عند الله شينا" فليس له أصل. وقد أذّن يوم الفتح على ظهر الكعبة. ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الأذان، ويقال أذَّن للصدّيق أيام خلافته ولا يصحّ. ثم خرج إلى الشام مجاهدًا. ولمّا قدم عمر إلى الجابية أذّن بين يديه بعد الخطبة لصلاة الظهر، فانتحب الناس بالبكاء. وقيل إنه زار المدينة في غضون ذلك فاذَّن فبكى الناس بكاءً شديدًا ويحق لهم ذلك رضي الله عنهم. وثبت في الصحيح

(5)

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لبلال "إني دخلت الجنة فسمعت خشف

(6)

نعليك أمامي فأخبرني بأرجى عمل عملته". فقال: ما توضأت إلا وصليت ركعتين. فقال: "بذاك". وفي رواية "ما أحدثت إلا توضأت وما توضأت إلا رأيت أن علي أن أصلّي ركعتين" قالوا: وكان بلال آدم

(7)

شديد الأدمة طويلًا نحيفًا كثير الشعر خفيف العارضين. قال ابن بكير: توفي بدمشق في طاعون عَمَواس سنة ثماني عشرة. وقال محمد بن إسحاق وغير واحد: توفي سنة عشرين. قال الواقدي: ودفن بباب الصغير وله بضع وستون سنة. وقال غيره: مات بداريا، ودفن بباب كيسان. وقيل: دفن بداريا، وقيل: إنه مات بحلب. والأول أصح، والله أعلم.

سعيد بن عامر بن حِذْيَم

(8)

: من أشراف بني جُمَح، شهدَ خيبر وكان من الزُّهّاد والعُبّاد، وكان أميرًا

= صحيحه (1697) في الحدود، وابن الأثير في جامع الأصول رقم (1847)(3/ 536 - 537).

(1)

في أ: الفقه؛ تحريف، وما هنا موافق للاستيعاب وتاريخ الإسلام ولم أجد هذا الحديث في المصادر الحديثة المتوفرة لدي والله أعلم.

(2)

ترجمة - بلال مؤذن رسول الله - في الطبقات الكبرى (3/ 232) والاستيعاب (1/ 178) وأسد الغابة (1/ 243) وتهذيب الأسماء واللغات (1/ 136 - 137) وسير أعلام النبلاء (1/ 347 - 360) والإصابة (1/ 273).

(3)

في أ: وما بعدها فأعتقه.

(4)

صحيح البخاري (3754) في المناقب.

(5)

صحيح البخاري (1149) في التهجد، وصحيح مسلم (2458) في الفضائل. والرواية الثانية من حديث أخرجه أحمد في مسنده (5/ 354 و 360) والترمذي في جامعه (3689) في المناقب.

(6)

الخشف: الصوت ليس بالشديد.

(7)

آدم: الأدمة: السمرة.

(8)

في ط: خذيم، تحريف، وترجمة - سعيد بن عامر - في الاستيعاب (2/ 624 - 625) وأسد الغابة (2/ 393 - 394) والإصابة (2/ 48 - 49) وفيه: حديم.

ص: 221

لعمر على حمص بعد أبي عبيدة، بلغ عمر أنه قد أصابته حاجه

(1)

شديدة، فأرسل إليه بألف دينار فتصدَّق بها جميعها، وقال لزوجته: أعطيناها لمن يتجر لنا فيها رضي الله عنه. قال خليفة

(2)

: فتح هو ومعاوية قَيْسارية كل منهما أمير على من معه.

عِيَاضُ بن غَنْمٍ

(3)

أبو سعد الفِهْري من المهاجرين الأولين، شهد بدرًا وما بعدها، وكان سمحًا جوادًا، شجاعًا، وهو الذي افتتح الجزيرة، وهو أول من جاز درب الروم غازيًا، واستنابه أبو عبيدة بعده على الشام فأقره عمر عليها إلى أن مات سنة عشرين عن ستين سنة.

أبو سفيان بن الحارث

(4)

بن عبد المطلب ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل: اسمه المغيرة. أسلم عام الفتح فحسُنَ إسلامُه جدًّا، وكان قبل ذلك من أشد الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى دينه ومن تبعه، وكان شاعرًا مطبقًا، يهجو الإسلام وأهله، وهو الذي ردَّ عليه حسان بن ثابت رضي الله عنه في قوله

(5)

: [من الوافر]

الا أبْلِغْ أبَا سُفيانَ عَنّي

مُغَلْغلةٌ فَقَدْ بَرح الخَفاءْ

(6)

هَجَوْتَ مُحمَّدًا وأجَبْتُ

(7)

عنه

وعندَ اللهِ في ذاكَ الجَزاءُ

أتَهْجوهُ ولَسْتَ لهُ بكُفْءٍ

فشَرُّكما لخَيْرِكُما الفِداءُ

ولما جاء هو وعبد الله بن أبي أمية ليسلما لم يأذن لهما عليه السلام حتى شفعتْ أمُّ سلمة لأخيها فأذن له، وبلغه أنّ أبا سفيان هذا قال: والله لئن لم يأذن لي لآخذن بيد بنيَّ هذا - لولد معه صغير - فلأذهبن فلا يدرى أين أذهب، فرقَّ حينئذ له رسول الله صلى الله عليه وسلم وأذن له، ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين

(8)

وكان آخذًا بلجام بغلته يومئذ، وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحبه وشهد له بالجنة، وقال:"أرجو أن تكون خلفًا من حمزة"

(9)

(1)

في ط: جراحة؛ تحريف.

(2)

تاريخ خليفة بن خياط (ص 141).

(3)

ترجمة - عياض بن غنم - في الطبقات الكبرى (7/ 398) والاستيعاب (3/ 1234) وأسد الغابة (4/ 327 - 329) وسير أعلام النبلاء (2/ 354 - 355) الإصابة (7/ 189).

(4)

ترجمة - أبي سفيان بن الحارث - في الطبقات الكبرى (4/ 49) والاستيعاب (4/ 1673 - 1677) وجامع الأصول (14/ 279) وأسد الغابة (6/ 144) وسير أعلام النبلاء (1/ 202 - 205) والإصابة (4/ 90 - 91).

(5)

الأبيات في ديوان حسان (ص 18).

(6)

في الديوان: فأنت مجوّف نخب هواء.

(7)

في الديوان: فأجبت.

(8)

في أ: يوم خيبر. تحريف.

(9)

أورده ابن عبد البر في الاستيعاب (4/ 1675)، والذهبي في تاريخ الإسلام (وفيات سنة 20) من غير إسناد، وإنما نقله المصنف من الذهبي.

ص: 222

وقد رَثَى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفي بقصيدةٍ ذكرناها فيما سلف

(1)

وهي التي يقول فيها

(2)

: [من الواض]

أرقْتُ فَبَاتَ لَيْلي لايَزُولُ

وَلَيْلُ أخِ المُصيبةِ فيهِ طُولُ

وَأسْعدني البُكاءُ وذاكَ فيما

أُصيبَ المسلمونَ بهِ قَليلُ

فقدْ عَظُمتْ مُصيبتنا وجَلّت

عَشِيَّةَ قيلَ قد قُبضَ الرَّسُولُ

فَقَدْنا الوَحْي والتَّنزيلَ فينا

يَروحُ به ويَغْدو جِبْرئيلُ

ذكروا أنَّ أبا سفيان حجَّ فلما حلق رأسَه قطع الحالق ثؤلولًا (له) في رأسه فتمرض منه فلم يزل كذلك حتى مات بعد

(3)

مرجعه إلى المدينة، وصلَّى عليه عمر بن الخطاب. وقد قيل إن أخاه نوفلًا توفي قبله بأربعة أشهر، والله أعلم.

أبو الهَيْثَم بن التَّيِّهان

(4)

هو مالك بن مالك بن عسل بن عمرو بن عبد الأعلم بن عامر بن زَعور بن جُشَم بن الحارث بن الخَزْرج بن عمرو بن مالك بن الأوس الأنْصاري الأوْسي، شهد العقبة نقيبًا، وشهد بدرًا وما بعدها، ومات سنة عشرين، وقيل إحدى وعشرين، وقيل إنه شهد صفين مع علي، قال ابن الأثير وهو الأكثر. وقد ذكره شيخنا

(5)

هنا، فالله أعلم.

زينب بنت جَحْش

(6)

بن رياب الأسدية من أسد خزيمة، أول أمهات المؤمنين وفاةً، أمها أميمة بنت عبد المطلب، وكان اسمها بَرَّة، فسمّاها رسول الله زينب، وتكنى أم الحكم، وهي التي زوَّجه الله بها، وكانت تفتخر

(7)

بذلك على سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فتقول: زوَّجَكُنَّ أهلوكن وزوَّجني اللهُ من السماء

(8)

. قال الله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب: 37] الآية. وكانت قبله عند مولاه زيد بن حارثة. فلما طلقها تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم. قيل كان ذلك في سنة ثلاث وقيل أربع وهو الأشهر. وقيل

(1)

تقدم ذكر هذه القصيدة في حوادث سنة 11 وهذه الأبيات منها: 1، 2، 3، 5.

(2)

الأبيات في الاستيعاب (4/ 1676) وعددها عشرة، وسير أعلام النبلاء (1/ 204 - 205) وعددها اثنا عشر.

(3)

في أ: من بعد.

(4)

ترجمة - ابن التيهان - في الطبقات الكبرى (3/ 447) والاستيعاب (3/ 1348) وجامع الأصول (15/ 157) وأسد الغابة (5/ 14) وتهذيب الأسماء واللغات (2/ 79 - 80) وتاريخ الإسلام (2/ 38) وسير أعلام النبلاء (1/ 189) والإصابة (3/ 341) و (4/ 212 - 213) وفي هذه المصادر خلاف كبير في اسمه واسم آبائه وأجداده.

(5)

يقصد الإمام الذهبي في تاريخ الإسلام.

(6)

ترجمة - زينب بنت جحش رضي الله عنها في الطبقات الكبرى (8/ 101) والاستيعاب (4/ 1849 - 1852) وجامع الأصول (12/ 253 - 254) وأسد الغابة (7/ 125 - 127) وتاريخ الإسلام (2/ 34 - 35) وسير أعلام النبلاء (2/ 211 - 218). والإصابة (4/ 313).

(7)

في أ: تفخر.

(8)

رواه البخاري في صحيحه رقم (7420) والترمذي رقم (3213) من حديث أنس رضي الله عنه.

ص: 223

سنة خمس، وفي دخوله عليه السلام بها نزل الحجاب كما ثبت في الصحيحين

(1)

عن أنس وهي التي كانت تسامي عائشة بنت الصديق في الجمال والحُظْوة، وكانت ديّنةً ورعةً عابدةً كثيرةَ الصّدقة. وذاك الذي أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله " أسْرَعُكُنَّ لحاقًا بي أطولُكُنَّ يدًا

(2)

أي: بالصدقة. وكانت امرأةّ صناعًا تعمل بيديها وتتصدق على الفقراء، قالت عائشة

(3)

: ما رأيتُ امرأةً قطُّ خيرًا في الدّين وأتْقَى لله وأصدقَ حديثًا وأوصلَ للرحم وأعظمَ أمانةً وصدقةً من زينب بنت جحش. ولم تحجّ بعد حجة الوداع لا هي ولا سودة، لقوله عليه السلام لأزواجه:" هذه ثم ظهور الحصر"

(4)

وأما بقية أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فكنّ يخرجن إلى الحجّ، وقالت

(5)

زينب وسودة: والله لا تحركنا بعده دابة. قالوا: وبعث عمر إليها فرضها اثني عشر ألفًا فتصدقت به في أقاربها. ثم قالت: اللهمَّ لا يدركني عطاءُ عمر بعدَ هذا. فماتَتْ في سنة عشرين وصلى عليها عمر. وهي أول من صُنع

(6)

لها النعشُ

(7)

، ودفنت بالبقيع.

صَفِيَّة بنت عبد المُطَّلب

(8)

عمَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم: وهي أمّ الزبير بن العوام، وهي شقيقةُ حَمْزَةَ والمُقَوَّمِ وحَجْل، أُمُّهم هالةُ بنت وهيب بن عبد مَنافِ بن زهرة. لا خلافَ في إسلامها وقد حضرت يوم أحد ووجدتْ على أخيها حمزةَ وَجْدًا كثيرًا، وقَتَلَتْ يومَ الخندقِ رجلًا من اليهود جاء فجعل يطوف

(9)

بالحصنِ التي هي فيه وهو فارع حصن حسَّان فقالت لحسان: انزل فاقتله، فأبى، فنزلت إليه فقتلته ثم قالت انزل فاسلبه فلولا أنه رجل لاستلبته

(10)

. فقال: لا حاجةَ لي فيه. وكانت أولَ امرأةٍ قتلتْ رجلًا من المشركين.

وقد اختُلِف في إسلام من عداها من عَمّاتِ النبي صلى الله عليه وسلم فقيل: أسلمتْ أرْوَى وعاتكةُ. قال ابن الأثير وشيخنا أبو عبد الله الذهبي الحافظ: والصحيح أنه لم يسلم منهن غيرُها. وقد تزوجتْ أولًا بالحارث بن

(1)

صحيح الإمام البخاري (6238) في الاستئذان، وصحيح مسلم (1428)(89) في النكاح.

(2)

الحديث في صحيح مسلم (2452)(101) في فضائل الصحابة.

(3)

الاستيعاب (4/ 1851).

(4)

الحديث في مسند أحمد (2/ 446 و 5/ 218) وسنن أبي داود (1722) في المناسك، وهو حديث حسن.

(5)

في ط: وقالتا وهي لغة مفضولة.

(6)

في أ: وضع.

(7)

ذكر الذهبي في السير (2/ 212) أنه لما ماتت زينب بنت جحش أمر عمر مناديًا: ألا يخرج معها إلا ذو محرم. فقالت بنتُ عُميس: يا أمير المؤمنين؛ ألا أريك شيئًا رأيت الحبشة تصنعُه بنسائهم؟ فجعلتْ نعشًا وغشته ثوبًا. فقال: ما أحسن هذا وأستره! فأمر مناديًا، فنادى: أن اخرجوا على أمِّكم. وهو في الطبقات الكبرى (8/ 111).

(8)

ترجمة - صفيّة بنت عبد المطلب - في الطبقات الكبرى (8/ 41) والاستيعاب (4/ 1873) وجامع الأصول (14/ 364) وأسد الغابة (7/ 173) وتاريخ الإسلام (2/ 38) وسير أعلام النبلاء (2/ 269 - 271) والإصابة (4/ 348 - 349).

(9)

في أ: يطيف.

(10)

في أ: استلبته.

ص: 224

حرب بن أمية. ثم خلف عليها العوام بن خُوَيلد فولدتْ له الزبيرَ وعبدَ الكعبةِ. وقيل تزوَّج بها العوامُ بكرًا، والصحيحُ الأولُ. توفيتْ بالمدينة سنةَ عشرين عن ثلاثٍ وسبعين سنةً. ودفنتْ بالبقيعِ رضي الله عنها. وقد ذكر ابن إسحاق من توفي غيرها.

عُوَيْم بن ساعِدَة الأَنْصاري

(1)

: شهد العَقَبَتينِ والمشاهدَ كلَّها. وهو أولُ من استنجى بالماء، وفيه نزل قوله تعالى:{فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)} [التوبة: 108] وله رواياتٌ. توفي هذه السنة بالمدينة.

بشْر بن عَمرو بن حَنَش يُلَقَّبُ بالجَارُود

(2)

، أسلم في السنة العاشرة، وكان شريفًا مُطاعًا في عبد القيس، وهو الذي شهد على قُدامة بن مَظْعون أنه شربَ الخمرَ، فعزله عمر عن البحرين وحدَّهُ. قُتِلَ الجارودُ شهيدًا.

أبو خِراش

(3)

خُوَيْلد بن مُرَّة الهُذَلي، كان شاعرًا مجيدًا مُخضرمًا أدرك الجاهلية والإسلام وكان إذا جرى سبَقَ الخَيْل

(4)

. نهشته حية فمات بالمدينة.

‌ثم دخلت سنه إحدى وعشرين

‌وكانت وقعة نَهاوَند

(5)

[وفتحها على المشهور]

وهي وقعة عظيمةٌ جدًّا لها شأن رفيع ونبأ عجيب، وكان المسلمون يسمونها فتح الفتوح

قال ابن إسحاق والواقدي: كانت وقعة نَهاوندَ في سنة إحدى وعشرين. وقال سيف: كانت في سنة سبع عشرة. وقيل في سنة تسع عشرة والله أعلم. وإنما ساق أبو جعفر بن جرير

(6)

قصَّتَها في هذه السنة فتبعناه في ذلك وجمعنا كلامَ هؤلاء الأئمة في هذا الشأن سياقًا واحدًا، حتى دخل سياقُ بعضهم في بعض.

(1)

ترجمة - عويم عن ساعدة - في الطبقات الكبرى (3/ 459) والاستيعاب (3/ 1248) وجامع الأصول (14/ 568) وأسد الغابة (4/ 312) وتهذيب الأسماء واللغات (2/ 40) والإصابة (3/ 44).

(2)

ترجمة - بشر بن عمرو - في الطبقات الكبرى (5/ 559) والاستيعاب (1/ 262) وجامع الأصول (13/ 154 و 239) وأسد الغابة (1/ 311) والوافي بالوفيات (10/ 151) والإصابة (1/ 216).

(3)

في ط: أبو خراشة، وترجمة - أبو خراش - هذا في الطبقات الكبرى (7/ 500) وساق له حديثًا، والاستيعاب (4/ 1636 - 1639) وجامع الأصول (13/ 450) وضبط خِرَاش بالحرف. والإصابة (4/ 51).

(4)

في أ: وكان إذا جرى مع الخيل سبقهم.

(5)

نهاوَنْد: بفتح النون وتكسر، والواو مفتوحة، ونون ساكنة، ودال مهملة: هي مدينة عظيمة في قبلة همذان بينهما ثلاثة أيام، كانت فيها وقعة المسلمين والفرس سنة 21 أيام عمر. معجم البلدان (5/ 313 - 314).

(6)

في تاريخه (4/ 114).

ص: 225

قال سيف وغيره: وكان الذي هاجَ هذه الوقعةَ أنَّ المسلمين لما افتتحوا الأهوازَ ومنعوا جيشَ العلاء من أيديهم واستولَوْا على دار الملك القديم من إصطخر مع ما حازوا من دار مملكتهم حديثًا، وهي المدائن، وأخذوا

(1)

تلك المدائن والأقاليم والكور والبلدان الكثيرة، فحموا عند ذلك واستجاشهم يَزْدَجِرْدُ الذي تقهقر من بلدٍ إلى بلدٍ حتى صار إلى أصبهان مُبْعَدًا طَريدًا، لكنّه في أسرة من قومه وأهله وماله، وكتب إلى ناحية نهاوَنْد وما والاها من الجبال والبلدان، فتجمَّعُوا وتراسلُوا حتى كمل لهم من الجنود ما لم يجتمع لهم قبل ذلك.

فبعثَ سعدٌ إلى عمر يعلمه بذلك، وثار أهلُ الكوفة على سعد في غضون هذا الحال. فشَكَوْهُ في كلِّ شيءٍ حتى قالوا: لا يُحسنُ يُصلِّي. وكان الذي نهضَ بهذه الشكوى رجلٌ يقال له: الجَرَّاح بن سنان الأسَديّ في نفر معه، فلمَّا ذهبوا إلى عمر فشكَوْه قال لهم عمر: إنَّ الدليل على (ما عندكم من الشر)

(2)

نهوضكم في هذا الحال عليه، وهو مستعدٌّ لقتال أعداء الله، وقد جمعوا لكم، ومع هذا لا يمنعني أن أنظرَ في أمركم.

ثم بعث محمد بن مسلمة - وكان رسولَ العُمّال - فلما قدم محمد بن مسلمةَ الكوفة طافَ على القبائل والعشائر والمساجد بالكوفة. فكلٌّ يُثْني على سعدٍ خيرًا إلا ناحية الجَرَّاح بن سنان فإنّهم سكتوا فلم يذمُّوا ولم يشكروا، حتى انتهى إلى بني عبس، فقام رجك يُقال له أبو سعدة أسامة بن قتادة، فقال: أما إذ ناشدتنا

(3)

فإنَّ سعدًا لا يقسم بالسوية، ولا يعدل في الرعية، ولا يغزو في السريّة. فدعا عليه سعدٌ فقال: اللهمّ إنْ كانَ قالها كذبًا ورياءً وسمعةً فأعم بصرَهُ، وكَثِّرْ عيالَهُ، وعَرِّضْة لمُضِلَّاتِ الفِتن. فَعَميَ واجتمعَ عنده عشرُ بناتٍ، وكانَ يسمعُ بالمرأة فلا يزال حتى يأتيها فيجسها فإذا عُثر عليه قال: دعوةُ سعدٍ الرجلِ المباركِ. ثم دعا سعد على الجَرّاحِ وأصحابه فكلٌّ أصابته قارعةٌ في جسده، ومصيبةٌ في ماله بعد ذلك. واستنفر محمد بن مسلمة أهلَ الكوفة لغزو أهل نَهاوند في غضون ذلك عن أمر عمر بن الخطاب.

ثم سار سعد ومحمد بن مسلمة والجَرّاح وأصحابه حتى جاؤوا عمر فسأله عمر: كيف يُصلي؟ فأخبره أنه يطوّلُ في الأوليين ويُخففُ في الأُخريين وما آلو ما اقتديتُ به من صلاةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال له عمر: ذاك الظنُّ بك يا أبا إسحاق.

وقال سعدٌ في هذه القصة: لقد أسلمتُ خامسَ خمسةٍ، ولقد كنا وما لنا طعام إلا ورق الحُبْلَةِ

(4)

حتى تَقَرَّحتْ أشداقُنا، وإنّي لأولُ رجلٍ رمى بسهمٍ في سبيل الله، ولقد جمع لي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أبويه

(1)

في ط: وأخذ.

(2)

في أ: من الدليل على شركم. والخبر عند الطبري (4/ 121) وقد مرّ أيضًا قي حوادث سنة عشرين صفحة (157) من هذا الجزء.

(3)

في أ: أنشدتنا.

(4)

الحُبْلَة: بالضم وسكون الباء: ثمر السَّمُر يشبه اللُّوبياء، وقيل: هو ثمر العضاه. النهاية (1/ 334).

ص: 226

وما جمعهما لأحد قبلي، ثم أصبحت بنو أسد يقولون: لا يحسن يُصلّي - وفي رواية يغرر بي على الإسلام - لقد خبتُ إذًا وضلَّ عملي

(1)

.

ثم قال عمر لسعد: منِ استخلفتَ على الكوفة؟ فقال: عبد الله بن عبد الله بن عِتْبان

(2)

، فأقرَّهُ عمر على نيابته

(3)

الكوفة - وكان شيخًا كبيرًا من أشراف الصحابة حليفًا لبني الحُبلي من الأنصار - واستمرّ سعدٌ معزولًا من غير عجْزٍ ولا خيانةٍ ويهدّد أولئك النفرّ، وكادَ يوقعُ بهم بأسًا. ثم تركَ ذلك خوفًا من أن لا يشكوَ أحد

(4)

أميرًا.

والمقصودُ أنَّ أهلَ فارس اجتمعوا من كل فج عميق بأرض نهاوند، حتى اجتمع منهم مئة ألف وخمسون ألف مقاتل، وعليهم الفيرزان ويقال: بندار، ويقال ذو الحاجب. وتذامروا فيما بينهم، وقالوا: إنَّ محمدًا الذي جاء العربَ بالدين لم يتعرَّضْ لبلادنا، ولا أبو بكر الذي قام بعده تعرَّض لنا في دار مُلكنا، وإن عمر بن الخطاب هذا لمّا طال ملكه انتهكَ حرمَتنا وأخذ بلادنا، ولم يكفه ذلك حتى أغزانا في عُقْر دارنا، وأخذ بيتَ المملكة وليس بمُنْتهِ حتى يخرجكم من بلادكم. فتعاهدوا وتعاقدوا على أن يقصدوا البصرةَ والكوفةَ ثم يشغلوا عمر عن باده، وتواثقوا من أنفسهم وكتبوا بذلك عليهم كتابًا.

فلما كتب سعد بذلك إلى عمر - وكان قد عزل سعدًا في غضون ذلك - شافه

(5)

سعد عمر بما تمالؤوا عليه وقصدوا إليه، وأنه قد اجتمع منهم مئة وخمسون ألفًا. وجاء كتاب عبد الله بن عبد الله بن عِتْبان من الكوفة إلى عمر مع قريب ظَفَر العَبْدي بأنَّهم قد اجتمعوا وهم منحرفون متذامرون على الإسلام وأهله، وأن المصلحة يا أمير المؤمنين أن نقصدهم فنعاجلهم عما هَمُّوا به وعزموا عليه من المسير إلى بلادنا. فقال عمر لحامل الكتاب: ما اسمُكَ؟ قال: قريبٌ. قال: ابنُ منْ؟ قال: ابن ظَفَر. فتفاءل عمر بذلك وقال: ظَفَرٌ قريبٌ. ثم أمر فنُودي: الصلاةُ جامعةٌ، فاجتمع الناسُ وكان أول من دخل المسجد لذلك سعد بن أبي وقاص، فتفاءل عمر أيضًا بسعد، فصعد عصر المنبر حتى اجتمع الناس فقال: إن هذا يومٌ له

(1)

خبر سعد هذا أخرجه البخاري في صحيحه (3727) و (3728) في فضائل الصحابة، ومسلم في صحيحه (2966) (12) في أول كتاب الزهد. ولكن دون ذكر: ولقد جمع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه وما جمعهما لأحد قبلي. فهذا خبر آخر أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3725) في فضائل الصحابة، ومسلم في صحيحه (2412) في فضائل الصحابة وينظر تفاصيل تخريجه في مسند سعد من كتاب "المسند الجامع" للدكتور بشار وزملائه (6/ 134 - 138)، الأحاديث (4128) و (4129) و (4130) و (4131) و (4132) و (4133) و (4134) و (4135).

(2)

ترجمته وخبر نيابته في تاريخ الطبري (4/ 122) والكامل (3/ 6 - 7) وأسد الغابة (3/ 299) والإصابة (2/ 336 - 337).

(3)

في أ: نيابة.

(4)

في أ، ط: أحدًا؛ وما أثبته للسياق اللّغوي.

(5)

في أ: شاور.

ص: 227

ما بعده من الأيام، ألا وإني قد هممت بأمر

(1)

فاسمعوا وأجيبوا وأوجزوا ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحُكم، إني قد رأيتُ أن أسيرَ بمن قِبَلي حتى أنزل منزلًا وسطًا بين هذين المِصْرين فأستنفر الناس، ثم أكون لهم رِدْءًا حتى يفتح اللهُ عليهم. فقام عثمانُ وعليٌّ وطلحةُ والزبيرُ وعبد الرحمن بن عوف في رجالٍ من أهل الرأي، فتكلَّم كلٌّ منهم بانفراده فأحسنَ وأجادَ، واتّفق رأيُهم على أن لا يسير من المدينة، ولكن يبعث البعوثَ ويحصرهم برأيه ودعائه.

وكان من كلام عليٍّ رضي الله عنه أن قال: يا أمير المؤمنين، إنَّ هذا الأمرَ لم يكن نصرُهُ ولا خذلانُهُ بكثرةٍ ولا قلةٍ، هو دينُهُ الذي أظْهَرَ، وجندُهُ الذي أعزَّه وأمدَّه بالملائكة حتى بلغَ ما بلغَ. فنحن على موعودٍ من الله، واللهُ منْجِزٌ وعده، وناصرٌ جنده، ومكانكَ منهم يا أمير المؤمنين مكان النظام من الخَرز يجمعه ويمسكه، فإذا انحلَّ تفرَّق وما فيه وذهب، ثم لم يجتمعْ بحذافيره أبدًا. والعرب اليوم وإن كانوا قليلًا فهم كثيرٌ عزيزٌ بالإسلام، فأقم مكانَكَ واكتبْ إلى أهل الكوفةِ فهم أعلامُ العرب ورؤساؤهم، فليذهبْ منهم الثُلثان ويقيم الثُّلث، واكتب إلى أهلِ البصرة يمدُّوه

(2)

أيضًا.

وكان عثمان قد أشار في كلامه أن يمدَّهم في جيوش

(3)

من أهل اليمن والشام. ووافق عمرُ على الذهابِ إلى ما بين البصرة والكوفة - فرد عليّ على عثمان في موافقته على الذهاب إلى ما بين البصرة والكوفة كما تقدم، وردَّ رأيَ عثمان فيما أشار به من استمداد أهل الشام خوفًا على بلادهم إذا قلَّ جيوشها من الروم. ومن أهل اليمن خوفًا على بلادهم من الحبشة. فأعجبَ عمرَ قولُ علي وسُرَّ به.

وكان عمرُ إذا استشار أحدًا لا يبرم أمرًا حتى يشاور العباسَ - فلما أعجبه كلام الصحابة في هذا المقام عرضه على العباس فقال: يا أمير المؤمنين خَفِّضْ عليكَ، فإنما اجتمعَ هؤلاء الفرس لنقمة تنزل عليهم.

ثم قال عمر: أشيروا عليَّ بمن أولّيه أمرَ الحربِ وليكن عراقيًا. فقالوا: أنت أبصرُ بجندك يا أميرَ المؤمنين. فقال: أما والله لأوليَنَّ رجلًا يكون أولَ الأسنّةِ إذا لقيها غدًا. قالوا: من يا أميرَ المؤمنين؟ قال: النُّعمان بن مُقَرِّنٍ. فقالوا

(4)

: هو لها - وكان النعمانُ قد كتبَ إلى عمر وهو على كَسْكَر

(5)

وسأله أن يعزلَه عنها ويوليه قتالَ أهل نَهاوَنْد - فلهذا أجابه إلى ذلك وَعَيَّنَه له، ثم كتب عمر إلى حذيفة أن يسير من الكوفة بجنود منها، وكتب إلى أبي موسى أن يسير بجنود البصرة.

وكتب إلى النعمان - وكان بالبصرة - أن يسير بمن هناك من الجنود إلى نَهاوند، وإذا اجتمع الناسُ فكلُّ أميرٍ على جيشه والأميرُ على الناس كلِّهم النُّعمانُ بن مُقَرِّنٍ. فإذا قُتل فحذيفةُ بن اليَمَان، فإن قُتل

(1)

في أ: عزمت على أمر.

(2)

في ط: يمدونهم؛ خطأ.

(3)

في أ: بجيوش.

(4)

في أ: قالوا.

(5)

كسكر: كورة واسعة قصبتها واسط التي بين الكوفة والبصرة. معجم البلدان (4/ 461).

ص: 228

فجَرير بن عبد الله، فإن قتل فقَيْس بن مَكْشوح، فإن قتل قيس ففلان ثم فلان، حتى عَدَّ سبعةً أحدهم المُغيرة بن شعبة، وقيل: لم يُسمَّ فيهم، والله أعلم.

وصورة الكتاب

(1)

: "بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عمر أمير المؤمنين، إلى النُّعمان بن مُقَرّن سلامٌ عليكَ، فإني أحمدُ إليك اللهَ الذي لا إله إلا هو، أمّا بعدُ فإنّه قد بلَغني أنَّ جموعًا من الأعاجم كثيرةً قد جمعوا لكم بمدينة نَهاوند، فإذا أتاكَ كتابي هذا فَسِرْ بأمرِ الله، وبعونِ الله، وبنصر الله، بمن معك من المسلمين، ولا توطئهم وعرًا فتؤذيَهم، ولا تمنعْهم حقَّهمِ فتكفِّرَهم، ولا تدخلهم غَيْضَةً، فإن رجلًا من المسلمين أحبُّ إليَّ من مئة ألف دينار، والسلام عليك. فسِرْ في وجهك ذلك حتى تأتي ماه

(2)

؛ فإنّي قد كتبت إلى أهل الكوفة أن يوافوكَ بها، فإذا اجتمعَ إليكَ جنودكَ فَسِرْ إلى الفيرُزان ومن جمعَ معه من الأعاجم من أهل فارس وغيرهم، واستنصروا وأكثروا مِنْ لا حولَ ولا قوةَ إلا بالله. وكتب عمر إلى نائب الكوفة - عبد الله بن عبد الله - أن يعينَ جيشا ويبعثهم

(3)

إلى نِهاوند، وليكُنِ الأميرُ عليهم حذيفةَ بن اليَمَان حتّى ينتهيَ إلى النُّعمان بن مُقَرِّنٍ، فإن قُتل النعمانُ فحذيفة فإن قُتل فنُعيم بن مقرّن. وولَّى السائب بن الأقرع قَسْمَ الغنائم. فسار حذيفةُ في جيشٍ كثيفٍ نحو النعمان بن مُقَرِّن ليوافوه بماه، وسار مع حذيفة خلقٌ كثيرٌ من أمراء العراق، وقد أرصدَ في كلِّ كورةٍ ما يكفيها من المقاتلة، وجعل الحرس في كلِّ ناحية، واحتاطوا احتياطًا عظيمًا، ثم انتهوا إلى النُّعمان بن مُقَرِّن حيث اتَّعدوا، فدفع حُذيفة بن اليمان إلى النُّعمان كتاب عمر وفيه الأمرُ له بما يعتمده في هذه الوقعة، فكمل جيش المسلمين في ثلاثين ألفًا من المقاتلة فيما رواه سيف عن الشَّعبي، فمنهم من سادات الصحابة ورؤوس العرب خلقٌ كثيرٌ وجمٌّ غفيرٌ، منهم عبد الله بن عمر أمير المؤمنين، وجَرير بن عبد الله البَجَلي، وحُذَيْفَة بن اليمان، والمُغيرة بن شُعبة، وعمرو بن معدي كرب الزُّبيدي، وطُلَيْحة بن خُوَيْلد الأسدي، وقَيْس بن مَكْشوح المُرادي. فسار الناسُ نحو نِهاوند وبعثَ النعمان بن مُقَرّن الأمير بين يديه طليعةً ثلاثة وهم طُلَيْحة، وعمرو بن معدي كرب الزبيدي، وعمرو بن أبي سلمى

(4)

ويقال له عمرو بنُ ثبيّ أيضًا، ليكشفوا له خبرَ القوم وما هم عليه. فسارتِ الطليعةُ يومًا وليلةً فرجع عمرو بن ثُبيٍّ فقيل له: ما رجعكَ؟ فقال: كنتُ في أرض العجم وقَتَلَتْ أرضٌ جاهلَها وقَتَلَ أرضًا عالمُها. ثم رجع بعده عمرو بن معدي كرب وقال: لم نر

(5)

أحدًا وخفتُ أن يؤخذَ علينا الطريق، ونفذ طليحة ولم يحفِل برجوعهما فسار بعد ذلك نحوًا من بضعة

(1)

بعض هذا الكتاب في تاريخ الطبري (4/ 114 - 115) والكامل لابن الأثير (3/ 9).

(2)

ماه: بالهاء خالصة: قصبة البلد، ومنه قيل ماه البصرة وماه الكوفة وماه فارس ويقال لنهاوند وهمذان وقمّ ماه البصرة. معجم البلدان (5/ 48).

(3)

في أ: ويتبعهم.

(4)

في ط: عمرو بن أبي سلمة؛ خطأ. وما هنا موافق لتاريخ الطبري.

(5)

في أ: لم أر.

ص: 229

عشر فرسخًا حتى انتهى إلى نِهاوند، ودخل في العجم وعلم من أخبارهم ما أحبَّ - ثم رجع إلى النعمان فأخبره بذلك، وأنه

(1)

ليس بينه وبين نِهاوند شيءٌ يكرهُهُ. فسار النّعمانُ على تعبئته، وعلى المقدمة نُعيم بن مقرن، وعلى المَجْنَبَتَيْنِ حذيفة وسُويد بن مُقَرّن، وعلى المجرَّدة القعقاع بن عمرو، وعلى الساقة مجاشع بن مسعود، حتى انتهوا إلى الفُرس وعليهم الفيرُزان، ومعه من الجيش كلّ من غاب عن القادسية في تلك الأيام المتقدمة، وهو في مئة وخمسين ألفًا، فلما تراءى الجمعان كبَّر النعمانُ وكبَّر المسلمون ثلاثَ تكبيراتٍ، فزلزلت الأعاجم، ورعبوا من ذلك رعبًا شديدًا.

ثم أمر النعمانُ بحطّ الأثقالِ وهو واقفٌ، فحطَّ الناسُ أثقالَهم، وتركوا رحالَهم، وضربوا خيامَهم وقبابَهم، وضُربت خيمةٌ للنعمان عظيمةٌ، وكان الذين ضربوا أربعة عشر سن أشرافِ الجيش، وهم حذَيْفة بن اليمان، وعُتبة بن عمرو، والمُغيرة بن شعبة، وبَشير بن الخصاصية، وحَنظلة الكاتب، وابن الهَوْبَر، ورِبعيّ بن عامر، وعامر بن مَطَر، (وجرير بن عبد الله الحِمْيريّ)

(2)

، وجرير بن عبد الله البَجَلي، والأقرع بن عبد الله الحِمْيري، والأشعث بن قَيْس الكِنْدي، وسعيد بن قيس الهَمْداني، ووائل بن حُجْر، فلم يُرَ بالعراق خيمة عظيمة أعظم من بناء هذه الخيمة، وحين حَطّوا الأثقال أمرَ النعمانُ بالقتال وكان يوم الأربعاء، فاقتتلوا ذلك اليوم والذيَ بعده والحرب سجالٌ، فلما كان يوم الجمعة انحجزوا في حصنهم، وحاصرهم المسلمون فأقاموا عليهم ما شاء الله، والأعاجم (يخرجون) إذا أرادوا ويرجعون إلى حصونهم إذا أرادوا.

وقد بعث أمير الفرس يطلب رجلًا من المسلمين ليكلّمه، فذهب إليه المغيرةُ بن شعبة، فذكر من عظم

(3)

ما رأى عليه من لبسه ومجلسه، وفيما خاطبه به من الكلام في احتقار العرب واستهانته بهم، وأنهم كانوا أطولَ الناس جوعًا، وأقلَّهم دارًا وقدرًا، وقال: ما يمنعُ هؤلاء الأساورة حولي أن ينتظموكم بالنُّشاب إلا تنجُّسًا

(4)

من جيفكم، فإن تذهبوا نخلِّ عنكم، وإن تأبَوا؟ نُزِرْكم

(5)

مصارِعَكُم.

قال: فتشهدتُ وحمدتُ الله وقلت: لقد كنا أسوأ حالًا مما

(6)

ذكرتَ، حتى بعث الله رسولَه فوعدنا النصرَ في الدنيا والخيرَ في الآخرة، وما زلنا نتعرَّف من ربنا النصرَ منذ بعث الله رسولَه إلينا، وقد جئناكم في بلادكم وإنا لن نرجعَ إلى ذلك الشقاء أبدًا حتى نغلبكم على بلادكم وما في أيديكم أو نُقْتل بأرضكم. فقال: أما والله إن الأعور لقد صدقكم ما في نفسه.

(1)

في أ: وأن.

(2)

بين قوسين ساقط من أ وما هنا موافق لتاريخ الطبري (4/ 129).

(3)

في أ: عظمة.

(4)

ط: محًا؛ خطأ، وما هنا موافق لتاريخ الطبري (4/ 118).

(5)

في تاريخ الطبري: نركم.

(6)

في أ: كما.

ص: 230

فلما طال على المسلمين هذا الحالُ واستمرَّ، جمع النعمان بن مُقَرّن أهل الرأي من الجيش، وتشاوروا في ذلك، وكيف يكون من أمرهم حتى يتواجهوا هم والمشركون في صعيدٍ واحدٍ.

فتكلّم عمرو بن أبي سلمى أولًا - وهو أسنُّ من كان هناك - فقال: إن بقاءَهم على ما هم عليه أضرّ عليهم من الذي يطلبه منهم وأبقى على المسلمين. فردَّ الجميع عليه وقالوا: إنّا لعلى يقين من إظهار ديننا، وإنجاز موعود الله لنا.

وتكلّم عمرو عليه معدي كرب فقال: ناهِدْهُم وكاثِرْهم ولا تَخَفْهم.

فردّوا جميعًا عليه وقالوا: إنما تناطح بنا الجدران، والجدرانُ أعوانٌ لهم علينا.

وتكلم طُلَيْحَةُ الأسديُّ فقال: إنهما لم يصيبا، وإني أرى أن تبعثَ سريةً فتحدق بهم ويناوشوهم بالقتال ويحمشوهم

(1)

فإذا برزوا إليهم فليفروا إلينا هرابًا، فإذا استطردوا وراءهم وانتهوا

(2)

إلينا عزمنا أيضًا على الفرار كلّنا، فإنهم حينئذ لا يشكّون في الهزيمة فيخرجون من حصونهم عن بكرةِ أبيهم، فإذا تكاملَ خروجُهم رجعنا إليهم فجالدناهم حتى يقضيَ اللهُ بيننا. فاستجادَ الناس هذا الرأيَ، وأمَّر النعمان على المجرَّدة القعقاع بن عمرو، وأمرهم أن يذهبوا إلى البلد فيحاصروهم وحدهم ويهربوا بين أيديهم إذا برزوا إليهم. ففعل القعقاعُ ذلك، فلما برزوا من حصونهم نكص القعقاعُ بمنْ معه ثم نكص ثم نكص فاغتنمها الأعاجمُ، ففعلوا ما ظنَّ طُلَيْحةُ، وقالوا: هي هي، فخرجوا بأجمعهم ولم يبقَ بالبلد من المُقاتلة إلا من يحفظُ لهم الأبوابَ، حتى انتهَوْا إلى الجيش، والنعمانُ بن مقرِّن على تعبئته. وذلك في صدر نهار جمعة، فعزم الناس على مصادمتهم، فنهاهم النعمان وأمرهم أن لا يقاتلوا حتى تزول الشمس، وتهب الأرواح، وينزل النصرُ كما كان رسول الله يفعل. وألحَّ الناس على النعمان في الحملة فلم يفعل - وكان رجلًا ثابتًا - فلما حانَ الزوال صلَّى بالمسلمين ثم ركبَ بِرْذَوْنًا له أحْوَى

(3)

قريبًا من الأرض، فجعل يقف على كل راية ويحثهم على الصبر ويأمرهم بالثبات، ويقدم على المسلمين أنه يُكبِّر الأولى فيتأهبُ الناسُ للحملة، ويُكبِّر الثانية فلا يبقى لأحد أُهبة، ثم الثالثة ومعها الحملة الصادقة. ثم رجع إلى موقفه. وتعبَّئتِ الفرس تعبئةً عظيمةً واصطلفّوا صفوفًا هائلة، في عدد وعُدد لم ير مثله، وقد تغلغل

(4)

كثيرٌ منهم بعضهم في بعض وألقوا حَسَكَ الحديد وراء ظهورهم حتى لا يمكنهم الهربُ ولا الفرارُ، ولا التحيّز.

ثم إن النعمانَ بن مُقَرّن رضي الله عنه كبَّر الأولى وهزّ الرايةَ فتأهب الناسُ للحملة، ثم كبَّر الثانيةَ وهزَّ

(1)

حَمَشَ الرجلَ؛ أحمشه: أغضبه. اللسان (حمش).

(2)

في ط: وانتموا.

(3)

الحُوَّة: سواد إلى الخضرة، قيل: حمرة تضرب إلى السواد، وهو أحوى اللسان (حوا).

(4)

في أ: ويغلغل.

ص: 231

الرايةَ فتأهّبوا أيضًا، ثم كبَّر الثالثةَ (وحمل) وحمل

(1)

الناس على المشركين وجعلت راية النعمان تنقض على

(2)

الفرس كانقضاضِ العقاب على الفريسة، حتى تصافحوا بالسيوف فاقتتلوا قتالًا لم يُعْهَدْ مثله في موقفٍ من المواقف المتقدمة، ولا سمعَ السامعون بوقعة

(3)

مثلها، قُتل من المشركين ما بين الزوال إلى الظلام من القتلى ما طبَّقَ وجهَ الأرض دمًا، بحيث إن الدواب كانت تطبع فيه، حتى قيل: إن الأمير النعمانَ بن مُقَرِّن زلق به حصانُه في ذلك الدم فوقع وجاءه سهمٌ في خاصرته (فقتله)، ولم يشعر به أحدٌ سوى أخيه سُوَيْد، وقيل نُعَيْم، وقيل غَطّاهُ بثوبه، وأخفى موتَه، ودفع الرايةَ إلى حُذيفة بن اليمان، فأقام حذيفة أخاه نُعيمًا مكانَه، وأمر بكتم موته حتى ينفصلَ الحالُ لئلا ينهزم الناس.

فلما أظلم الليلُ انهزم المشركون مدبرين وتبعهم المسلمون وكان الكُفّار قد قرنوا منهم ثلاثين ألفًا بالسلاسل وحفروا حولهم خندقًا، فلما انهزموا وقعوا في الخندق وفي تلك الأودية نحو مئة ألف وجعلوا يتساقطون في أودية بلادهم فهلك منهم بشرٌ كثيرٌ نحو مئة ألف أو يزيدون، سوى منْ قُتل في المعركة، ولم يُفلت منهم إلا الشَّريد. وكان الفيرزان أميرهم قد صرع في المعركة فانفلت وانهزم واتبعه نُعيم بن مُقَرّن، وقدم القعقاع بين يديه وقصد الفيرزان هَمَذان فلحقه القَعْقاعُ وأدركه عند ثنية هَمَذان، وقد أقبل منها بغالٌ كثيرٌ وحُمُر تحمل عسلًا، فلم يستطع الفيرزان صعودها منهم، وذلك لحينه فترجَّلَ وتعلَّق في الجبل فاتبعه القعقاعُ حتى قتله، وقال المسلمون يومئذ: إنَّ لله جنودًا من عسل، ثم غنموا ذلك العسل وما خالطه من الأحمال وسُمِّيتْ تلك الثَّنيةُ ثَنيَّةَ العسل. ثم لحق القعقاعُ بقيةَ المنهزمين منهم إلى هَمَذان وحاصرها وحوى ما حولها، فنزل إليه صاحبُها - وهو خُسْرَ شَنُوم - فصالحه عليها. ثم رجع القعقاع إلى حُذيفة ومنْ معه من المسلمين، وقد دخلوا بعد الواقعةِ نهاوند عنوةً، وقد جمعوا الأسلابَ والمغانمَ إلى صاحب الأقباض

(4)

، وهو السائبُ بن الأقرع. ولما سمع أهلُ ماه بخبر أهل هَمَذان بعثوا إلى حُذَيْفة وأخذوا لهم منه

(5)

الأمان، وجاء رجل يقال له الهِرْبذ

(6)

- وهو صاحب نارهم - فسأل من حذيفة الأمان ويدفع إليهم وديعةً لكسرى، ادخرها لنوائب الزمان، فأمَّنه حُذيفة وجاء ذلك الرجل بسفطين مملوءين

(7)

جوهرًا ثمينًا لا يُقَوَّم، غير أنّ المسلمين لم يَعْبَؤُوا به، واتَّفق رأيهم على بعثه

(8)

لعمر خاصة، وأرسلوه

(1)

في هامش أ: قال: إني داعٍ فأمنوا على دعائي ثم قال: اللهم ارزقني الشهادة بنصر المسلمين وافتح عليهم؛ فأمن القوم على دعائه، ثم إن النعمان بن مقرن رضي الله عنه

(2)

في أ: نحو.

(3)

في أ: بموقعة.

(4)

الأقباض جمع قَبَضَ وهو ما جُمع من الغنائم قبل أن تُقسم. اللسان (قبض).

(5)

في أ: بقية.

(6)

في أ، ط: الهرند وما هنا عن تاريخ الطبري (4/ 133).

(7)

في ط: مملوءتين. وما هنا أقرب للسياق اللغوي.

(8)

في أ: يعثهم.

ص: 232

صحبةَ الأخماس والسبي صحبةَ السائب بن الأقْرع، وأرسل قبله بالفتح مع طريف بن سهم، ثم قسم حُذَيْفة بقيةَ الغنيمة في الغانمين، ورضخ ونفل لذوي النجدات، وقسم لمن كان قد أرصد من الجيوش لحفظ ظهور المسلمين من ورائهم، ومن كان ردءًا لهم، ومنسوبًا إليهم، وأما أمير المؤمنين فإنّه

(1)

كان يدعو اللهَ ليلًا ونهارًا لهم، دعاءَ الحوامل المقربات، وابتهال ذوي الضرورات، قد استبطأ الخبر عنهم فبينا رجل (من المسلمين) ظاهرَ المدينة إذا هو براكبٍ فسأله من أين أقبل؟ فقال: من نِهاوند. فقال: ما فعلَ الناسُ؟ قال: فتحَ الله عليهم وقُتل الأميرُ، وغنم المسلمون غنيمة عظيمةً أصاب الفارسَ ستةُ آلافٍ، والراجلَ ألفان. ثم فاته وقدم ذلك الرجل المدينةَ فأخبر الناسَ وشاعَ الخبرُ حتى بلغ أمير المؤمنين فطلبه فسأله عمَّن أخبره، فقال: راكب. فقال: إنه لم يجئني، وإنما هو رجل من الجنّ وهو يريدُهم واسمه عُثَيْم، ثم قدم طَريف بالفتح بعد ذلك بأيام، وليس معه سوى الفتح، فسأله عمَّنْ قتل

(2)

النعمانَ، فلم يكن معه علم حتى قدم الذين معهم الأخماسُ، فأخبروا بالأمر على جليته، فإذا ذلك الجني قد شهدَ الوقعةَ ورجع سريعًا إلى قومه نذيرًا. ولما أُخبر عمر بمقتل النعمان بكى وسأل السائب عمَّنْ قُتل من المسلمين فقال: فلان وفلان وفلان، لأعيان الناس وأشرافهم.

ثم قال وآخرون من أفناد

(3)

الناس ممَّن لا يعرفهم أمير المؤمنين فجعل يبكي ويقول: وما ضرهم أن لا يعرفهم أمير المؤمنين؟ لكنَّ الله يعرفهم وقد أكرمهم الله بالشهادة، وما يصنعون بمعرفة عمر. ثم أمر بقسمة الخُمْسِ على عادته، وحُملت ذانك السفطان إلى منزل عمر، ورجعت الرسلُ، فلما أصبح عمر طلبهم فلم يجدهم، فأرسل في إثرهم البُرُدَ فما لحقهم البريدُ إلا بالكوفة.

قال السائب بن الأقرع: فلما أنختُ بعيري بالكوفة، أناخَ البريدُ على عرقوب بعيري، وقال: أجبْ أميرَ المؤمنين، فقلت: لماذا؟ فقال: لا أدري. فرجعنا على إثرنا، حتى انتهيتُ إليه. قال: مالي ولك يا ابنَ أمّ السائب، بل ما لابن أمّ السائب ومالي، قال: فقلتُ: وما ذاك يا أميرَ المؤمنين؟ فقال: ويحكَ! والله إن هو إلا أن نمتُ في الليلة التي خرجتَ فيها فباتت ملائكةُ الله تسحبني إلى ذينك

(4)

السفطين وهما يشتعلان نارًا، يقولون لنَكْوِيَنَّكَ بهما. فأقول: إني سأقسمهما بين المسلمين. فاذهبْ بهما لا أبالكَ فبعْهُما فاقسمهما في أعطية المسلمين وأرزاقهم، فإنهم لا يدرون ما وهبوا ولم تَدْرِ أنتَ معهم.

قال السائب: فأخذتُهما حتى جئتُ بهما مسجدَ الكوفة وغشيتْني التجارُ فابتاعهما مني عمرو بن حُرَيْث المَخْزومي بألفَيْ ألفٍ. ثم خرج بهما إلى أرضِ الأعاجم فباعَهما بأربعةِ آلافٍ ألفٍ. فما زال أكثرَ أهلِ الكوفة مالًا بعد ذلك.

(1)

في أ: وكان.

(2)

في أ: فسأله عمر عن قتال النعمان.

(3)

أفناد: جماعات متفرقين. اللسان (فند).

(4)

في أ: تستحثني إلى ذلك. والخبر في تاريخ الطبري (4/ 117).

ص: 233

قال سيف: ثم قسم ثمنَهما بين الغانمين فنالَ كل فارس أربعة آلاف درهم من ثمن السفطين.

قال الشعبي: وحصل للفارس من أصل الغنيمة ستة آلاف وللراجل ألفان وكان المسلمون ثلاثين ألفًا.

قالى: وافتُتحتْ نهاوندُ في أول سنة تسعَ عشرةَ لسبع سنين من إمارة عمر.

ورواه سيفٌ عن عمرو بن محمد عنه. وبه عن الشعبي قال: لما قدم سبي

(1)

نِهاوند إلى المدينة جعل أبو لؤلؤة -فيروز غلام المغيرة بن شعبة- لا يلقى منهم صغيرًا إلا مسح رأسه وبكى وقال: آكل عُمر كبدي -وكان أصل أبي لؤلؤة من نهاوند، فأسرته الروم أيامَ فارس وأسرته المسلمون بعد، فنسب إلى حيث سُبي

(2)

- قالوا: ولم تقم للأعاجم بعد هذه الوقعة قائمة، وأتحف عمر الذين أبلوا فيها بألفين

(3)

تشريفًا لهم وإظهارًا لشأنهم.

‌[فتح أصبهان

(4)

]

وفي هذه السنة افتتح المسلمون أيضًا بعد نِهاوند مدينة جيّ -وهي مدينة أصبهان- بعد قتال كثير وأمور طويلة، فصالحوا المسلمين وكتب لهم عبد الله بن عبد الله كتاب أمان وصلح، وفرَّ منهم ثلاثون نفرًا إلى كرمان لن يصالحوا المسلمين. وقيل: إن الذي فتح

(5)

أصبهان هو النعمان بن مُقرّن وأنه قتل بها، ووقع أمير المجوس وهو ذو الحاجبين عن فرسه فانشقّ بطنه ومات وانهزم أصحابه.

والصحيح أن الذي فتح أصبهان عبد الله بن عبد الله بن عِتْبان -الذي كان نائب الكوفة.

وفيها افتتح أبو موسى قُمّ وقاشان

(6)

، وافتتح سهيل بن عدي مدينة كرمان

(7)

.

وذكر ابن جرير

(8)

عن الواقدي: أن عمرو بن العاص سار في جيش معه إلى طرابلس قال: وفي برقة فافتتحها صلحًا على ثلاثة عشر ألف دينار في كل سنة.

(1)

في أ: لما قدم بشي.

(2)

تاريخ الطبري (4/ 136).

(3)

في أ: وألحق عمر الذين أبلو في ألفين.

(4)

أصبهان: مدينة عظيمة مشهورة في بلاد فارس. معجم البلدان (1/ 206 - 210).

(5)

في أ: افتتح.

(6)

قم بالضم، وتشديد الميم، وهي كلمة فارسية: مدينة تذكر مع قاشان، وهي مدينة مستحدثة إسلامية لا أثر للأعاجم فيها. معجم البلدان (4/ 397 - 398). وقاشان: مدينة قرب أصبهان، بينهما ثلاث مراحل. معجم البلدان (4/ 296 - 297).

(7)

كرمان: هي ولاية مشهورة وناحية كبيرة معمورة ذات بلاد وقرى ومدن واسعة بين فارس ومكران وسجستان وخراسان.

(8)

في تاريخه (4/ 144).

ص: 234

قال: وفيها بعث عمرو بن العاص عقبة بن نافع الفهري إلى زويلة ففتحها بصلح، وصار ما بين برقة إلى زويلة سلمًا للمسلمين.

قال: وفيها ولَّى عمرُ عمار ين ياسر على الكوفة بدل زياد بن حنظلة الذي ولاه بعد عبد الله بن عبد الله بن عِتبان، وجعك عبد الله بن مسعود على بيت المال، فاشتكى أهل الكوفة من عمار فاستعفى عمار من عمله، فعزله وولَّى جُبَيْر بن مُطعم، وأمره أن لا يُعلم أحدًا، وبعث المُغيرة بن شعبة امرأته إلى امرأة جبير يعرض عليها طعامًا للسفر فقالت: اذهبي فأتيني به. فذهب المغيرة إلى عمر فقال: بارك الله يا أمير المؤمنين فيمن وليت على الكوفة. فقال: وما ذاك؟ وبعث إلى جُبير بن مطعم فعزله وولى المُغيرة بن شعبة ثانية، فلم يزل عليها حتى مات عمر رضي الله عنهم.

قال: وفيها حجَّ عمر واستخلف على المدينة زيدَ بن ثابت، وكان عُمَّالُه على البلدان المتقدمون في السنة التي قبلها سوى الكوفة.

قال الواقدي: وفيها توفي خالد بن الوليد بحمص وأوصى إلى عمر بن الخطاب. وقال غيره توفى سنة ثلاث وعشرين، وقيل بالمدينة. والأول أصح.

وقال غيره: وفيها توفي العلاء بن الحضرميّ فولَّى عمرُ مكانَه أبا هريرة. وقد قيل إن العلاء توفي قبل هذا كما تقدم، والله أعلم.

وقال ابن جرير فيما حكاه عن الواقدي: وكان أمير دمشق في هذه السنة عمير بن سعيد، وهو أيضًا على حمص وحوران وقنَّسرين والجزيرة، وكان معاوية على البقاء والأردن، وفلسطين والسواحل وأنطاكية، وغير ذلك.

‌ذكر من توفي [في هذه السنة -أعني] سنة إحدى وعشرين

-

خالد بن الوليد

(1)

بن المغيرة بن عبد الله بن غمر بن مَخْزوم القرشي أبو سُليمان المَخْزومي، سيفُ الله، أحد الشجعان المشهورين، لم يُقهر في جاحليةٍ ولا إسلامٍ. وأمُّه، عَصْماء بنت الحارث، أخت لبابة

(2)

بنت الحارث، وأخت ميمونة بنت الحارث أم المؤمنين.

(1)

ترجمة -خالد بن الوليد- في الطبقات الكبرى (4/ 252 و 7/ 394) والاستيعاب (1/ 427 - 431) وتاريخ دمشق -ط دار الفكر- (16/ 216 - 282) ومختصره لابن منظور (8/ 5 - 27) وجامع الأصول (13/ 417 - 419) وأسد الغابة (2/ 109 - 112) وتهذيب الأسماء واللغات (1/ 172 - 174) وسير أعلام النبلاء (1/ 366 - 384) والإصابة (3/ 70) وبدران (5/ 95 - 117).

(2)

قال ابن الأثير: وأمه لبابة الصغرى وقيل الكبرى، والأكثر الأول بنت الحارث أخت ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم. جامع الأصول (13/ 418) وقال ابن عساكر (16/ 222) وأمه لبابة الكبرى ويقال لها: عصماء بنت الحارث

ص: 235

قال الواقدي: أسلم أول يوم من صفر سنة ثمان، وشهد مؤتة وانتهت إليه الإمارة يومئذ عن غير إمرة، فقاتل يومئذ قتالًا شديدًا لم يُرَ مثله، اندقّت في يده تسعةُ أسيافٍ، ولم تثبت في يده إلا صفيحة يمانية. وقد قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم:"أخذ الراية زيدٌ فأصيب، ثم أخذها جعفر فأصيب، ثم أخذها عبد الله بن رواحة فأصيب، ثم أخذها سيف من سيوف الله ففتح الله على يديه"

(1)

.

وقد رُويَ أن خالدًا سقطت قلنسوته يوم اليرموك وهو في الحرب فجعل يستحثّ في طلبها فعوتب في ذلك، فقال: إن فيها شيئًا من شعر ناصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنها ما كانت معي في موقف إلا نُصرتُ بها

(2)

.

وقد روينا في مسند أحمد

(3)

من طريق الوليد بن مسلم، عن وَحْشي بن حرب، عن أبيه، عن جدّه وَحْشي بن حرب، عن أبي بكر الصديق أنه لما أمَّر خالدًا على حرب أهل الردة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "نعم عبدُ الله وأخو العشيرة خالدُ بن الوليد، خالد بن الوليد سيفٌ من سيوف الله سلَّه الله على الكفار والمنافقين". وقال أحمد

(4)

: حدَّثنا حسين الجعفي عن زائدة عن عبد الملك بن عمير قال: استعمل عمر بن الخطاب أبا عبيدة على الشام وعزل خالد بن الوليد، فقال خالد: بعث إليكم أمين هذه الأمة، سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"أمينُ هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح" فقال أبو عبيدة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "خالدٌ سيفٌ من سيوف الله نِعْمَ فَتى العشيرة".

وقد أورده ابن عساكر

(5)

من حديث عبد الله بن أبي أوفى، وأبي هريرة، ومن طرق مرسلة يقوي بعضها بعضًا.

وفي الصحيح

(6)

: "وأما خالدٌ فإنكم تظلمون خالدًا وقد احتبس أدراعه وأعبده في سبيل الله".

وشهد الفتح وشهد حنينًا وغزا بني جذيمة أميرًا في حياته عليه السلام. واختلف في شهوده خيبر (وقد دخل مكةَ أميرًا على طائفة من الجيش وقتل خلقًا كثيرًا من قريش، كما قدمنا ذلك مبسوطًا في موضعه ولله الحمد والمنة. وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العزى -وكانت لهوازن- فكسر قمَّتها أولًا ثم

(1)

الحديث أخرجه أحمد في مسنده (1/ 204) والبخاري في صحيحه (3757) في فضائل الصحابة و (4262) في المغازي.

(2)

هذا الخبر أخرجه الحاكم في المستدرك (3/ 299)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (16/ 246) من طريق هشيم عن عبد الحميد بن جعفر، عن أبيه، عن خالد بن الوليد. وذكره البوصيري في مختصر إتحاف السادة المهرة (7668) وقال:"رواه أبو يعلى بسند صحيح".

(3)

مسند الإمام أحمد (1/ 8) وهو حديث حسن، وهذا إسناد ضعيف لجهالة حرب بن وحشي.

(4)

مسنده (4/ 90) وهو حديث حسن.

(5)

في تاريخ دمشق (16/ 239 - 245).

(6)

صحيح البخاري (1468) في الزكاة، وصحيح مسلم (983)(11) في الزكاة.

ص: 236

دعثرها

(1)

وجعل يقول: يا عُزَّى كفرانك لا سبحانك. إني رأيت الله قد أهانك. ثم حرقها) وقد استعمله الصدّيق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتال أهل الردة ومانعي الزكاة، فشفى واشتفى، ثم وجهه إلى العراق ثم أتى الشام فكانت له من المقامات ما ذكرناها مما تقرُّ بِهَا القلوب والعيون، وتَتَشَنَّفُ بها الأسماع. ثم عزله عمر عنها وولَّى أبا عبيدة وأبقاه مستشارًا في الحرب، ولم يزل بالشام حتى مات على فراشه رضي الله عنه.

وقد روى الواقدي عن عبد الرحمن بن أبي الزّناد عن أبيه قال: لما حضرت خالدًا الوفاةُ بكى ثم قال: لقد حضرتُ كذا وكذا زحفًا، وما في جسدي شبرٌ إلا وفيه ضربةُ سيفٍ، أو طعنةٌ برمحٍ، أو رميةٌ بسهمٍ، وها أنا أموت على فراشي حتفَ أنفي كما يموت البعيرُ، فلا نامت

(2)

أعينُ الجبناء،

وقال أبو يعلى

(3)

: حدَّثنا سرَيج

(4)

بن يونس، حدَّثنا يحيى بن زكريا، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس. قال: قال خالد بن الوليد: ما ليلة يُهدى إليَّ فيها عروس، أو أُبَشَرُ فيها بغلامٍ بأحبّ إليَّ من ليلةٍ شديدةِ الجليد في سَريّة من المهاجرين أُصَبِّح بهم العدو

(5)

.

وقال أبو بكر بن عَيَّاش، عن الأعمش، عن خَيْثَمة قال: أُتِيَ خالدٌ برجلٍ معه زقُّ خمرٍ فقال: اللهمّ اجعله عسلًا، فصارَ عسلًا. وله طرق، وفي بعضها مرَّ عليه رجلٌ معه زقُّ خَمرٍ فقال له خالد: ما هذا؟ فقال: عَسَلٌ فقال: اللهم اجعله خلًا، فلما رجع إلى أصحابه قال: جئتكم بخمرٍ لم يشربِ العربُ مثلَه، ثم فتحه فإذا هو خلٌّ، فقال أصابته والله دعوة خالدٍ رضي الله عنه.

وقال حماد بن سلمة، عن ثمامة، عن أنس. قال: لقي

(6)

خالد عدوًا له فولَّى عنه المسلمون منهزمين وثبتَ هو وأخو البراء بن مالك، وكنت بينهما واقفًا، قال: فنكسَ خالدٌ رأسه ساعةً إلى الأرض ثم رفع رأسه إلى السماء ساعةً- قال: وكذلك كان يفعل إذا أصابه مثل هذا-، ثم قال لأخي البراء: قم، فركبا، واختطب خالد منْ معه من المسلمين وقال: ما هو إلا الجنة وما إلى المدينة سبيل. ثم حمل بهم فهزم المشركين.

وقد حكى مالك عن عمر بن الخطاب أنه قال لأبي بكر: اكتب إلى خالد أن لا يعطي شاةً ولا بعيرًا إلا بأمرك. فكتب أبو بكر إلى خالد بذلك، فكتب إليه خالد: إما أن تدعني وعملي، وإلا فشأنك بعملك. فأشار عليه عمر بعزله، فقال أبو بكر: فمن يجزي عني جزاء خالد؟ قال عمر: أنا. قال: فأنت،

(1)

دعثر: هدم وصرع وكسر. اللسان (دعثر).

(2)

في أ: فلا عاشت.

(3)

مسند أبي يعلى الموصلي (13/ 141) رقم (7185) وإسناده صحيح.

(4)

في ط: شريح، تحريف.

(5)

في مسند أبي يعلى: بها.

(6)

في أ: التقى.

ص: 237

فتجهز عمر حتى أنيخ الظهر في الدار

(1)

، ثم جاء الصحابة فأشاروا على الصديق بإبقاء عمر بالمدينة وإبقاء خالد بالشام. فلما ولي عمر كتب إلى خالد بذلك فكتب إليه خالد بمثل ذلك فعزله، وقال: ما كان (الله) ليراني آمر أبا بكر بشيء لا، أنفذه أنا.

وقد روى البخاري في "التاريخ"

(2)

وغيره من طريق عُلَي بن رباح عن ناشرة بن سُمي اليَزَني

(3)

، قال: سمعتُ عمر يعتذر إلى الناس بالجابية من عزل خالد، فقال: أمرتُه أن يحبسَ هذا المال على ضعَفَةِ المهاجرين، فأعطاه ذا البأس، وذا الشرف واللسان، وأمَّرْتُ أبا عبيدة. فقال أبو عمرو بن حفص بن المغيرة: ما اعتذرت يا عمر، لقد نزعتَ عاملًا استعمله رسول الله-صلى الله عليه وسلم، ووضعتَ لواء رفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأغمدت سيفًا سلَّه الله، ولقد قطعتَ الرحم، وحسدتَ ابنَ العمّ. فقال عمر: إنك قريبُ القرابة، حديثُ السن مغضبٌ في ابن عمك.

قال الواقدي رحمه الله، ومحمد بن سعد وغيرُ واحد: مات سنة إحدى وعشرين بقريةٍ على ميلٍ من حمص، وأوصى إلى عمر بن الخطاب. وقال دُحيم وغيره: مات بالمدينة. والصحيحُ الأولُ. وقدمنا (فيما سلف) تعزير عمر له حين أعطى الأشعث بن قيس عشرة آلاف، وأخذه من ماله عشرين ألفًا أيضًا. وقدمنا عتبهُ عليه لدخوله الحمّام وتدلكه بعد النورة بدقيقِ عصفرٍ معجونٍ بخمر، واعتذار خالد إليه بأنه صار غسولًا.

وروينا عن خالد أنه طلَق امرأةً من نسائه وقال: إني لم أطلقها عن ريبة، ولكنها لم تمرض عندي ولم يصبها شيء في بدنها ولا رأسها ولا في شيء من جسدها.

وروى سيف وغيره: أن عمر قال حين عزل خالدًا عن الشام، والمثنى بن حارثة عن العراق: إنما عزلتهما ليعلم الناسُ أنَّ اللهَ نصرَ الدِّين لا بنصرهما وأن القوةَ لله جميعًا.

وروى سيفٌ أيضًا أن عمر قال حين عزل خالدًا عن قِنَّسرين وأخذ مه ما أخذ: إنك عليَّ لكريمٌ، وإنك عندي لعزيزٌ، ولن يصل إليك مني أمرٌ تكرهه بعد ذلك.

وقد قال الأصمعي: عن سَلَمة، عن بلال، عن مُجالد، عن الشَّعبي قال: اصطرع عمر وخالد وهما غلامان -وكان خالد ابنَ خالِ عمر- فكسر خالدٌ ساقَ عمر، فعُولجت وجُبرت، وكان ذلك سببَ العداوة بينهما

(4)

.

وقال الأصمعي، عن ابن عون عن محمد بن سيرين قال: دخل خالد على عمر وعليه قميص حرير

(1)

في أ: فعزم به حتى أنيخت الركائب في الدار.

(2)

التاريخ الأوسط المطبوع باسم التاريخ الصغير (1/ 57) والخبر أيضًا أخرجه أحمد في مسنده (3/ 475).

(3)

في ط: "ياسر بن سمي البرني"، والصواب ما أثبتنا، وهو من رجال التهذيب.

(4)

في إسناد هذه القصة مجالد بن سعيد، وهو ضعيف.

ص: 238

فقال عمر: ما هذا يا خالد؟ فقال: وما بأسٌ يا أميرَ المؤمنين، أليس قد لبسه عبد الرحمن بن عوف؟ فقال: وأنت مثل ابن عوف؟ ولك مثل ما لابن عوف؟ عزمتُ على منْ بالبيت إلا أخذَ كلُّ واحد منهم بطائفة مما يليه. قاد: فمزَّقوه حتى دم يبق منه شيء

(1)

.

وقال عبد الله بن المبارك: عن حماد بن زيد، حدَّثنا عبد الله بن المختار، عن عاصم بن بهدلة عن أبي وائل -ثم شك حماد في أبي وائل- قال: ولما حضرت خالدَ بن الوليد الوفاةُ قاك

(2)

: لقد طلبتُ القتلَ في مظانّه فلم يُقَدَّر لي إلا أن أموتَ على فراشي. وما من عملي شيءٌ أرْجَى عندي بعد لا إله إلا الله من ليلة بتُّها وأنا مُتَترّسٌ والسماء تهلّني ننتظر الصبح

(3)

، حتى نُغير على الكفار. ثم قال: إذا أنا متُّ فانظروا إنى سلاحي وفرسي

(4)

فاجعلوه عدّة في سبيل الله. فلما توفي خرج عمر على جنازته فذكر قوله: ما على آل نساء الوليد أن يَسْفَحْن على خالدٍ من دموعِهِنَّ ما لم يكن نَقْعًا أو لقْلَقَةً.

قال ابن المختار: النقع: التراب على الرأس، واللقلقة: الصوت.

وقد علّق البخاري في صحيحه

(5)

بعض هذا فقال: وقال عمر: دعهن يبكين على أبي سليمان ما لم يكن نقعٌ أو لقلقةٌ.

وقال محمد بن سعد

(6)

: حدَّثنا وكيع وأبو معاوية وعبد الله بن نمير قالوا: حدَّثنا الأعمش، عن شقيق بن سلمة قال: لما مات خالد بن الوليد اجتمع نسوة بني المغيرة في دار خالد يبكين عليه فقيل لعمر: إنهنَّ قد اجتمعن في دار خالد يبكين عليه، وهنّ خلقاء أن يسمعنك بعض ما تكره. فأرسلْ إليهنَّ فانههنَّ. فقال عمر: وما عليهنَّ أن ينزفن من دموعهنّ على أبي سليمان، ما لم يكن نقعًا أو لقلقة. ورواه البخاري في "التاريخ"

(7)

من حديث الأعمش بنحوه.

وقال إسحاق بن بشر وقال محمد: مات خالد بن الوليد بالمدينة فخرج عمر في جنازته وإذا أمه تندبه وتقول

(8)

: [من الخفيف]

(1)

رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن عوف لبس الحرير لحكة كانت في جسده والخبر في ذلك أخرجه أحمد في مسنده (3/ 122 و 127) والبخاري في صحيحه (2919 - 2922). في الجهاد ورقم (5839) في اللباس، ومسلم في صحيحه (2076) في اللباس. وغيرهم.

(2)

الخبر في سير أعلام النبلاء (1/ 381) والإصابة (3/ 74).

(3)

في ص: تهلني تمطر إلى الصبح.

(4)

في أ. وقوسي.

(5)

صحيح الإمام البخاري معلقًا -فتح الباري- (3/ 160 عقيب الحديث 1290).

(6)

انطبقات الكبرى (4/ 253).

(7)

التاريخ الأوسط المنشور باسم الصغير (1/ 46 - 47).

(8)

الخبر في سير أعلام النبلاء (1/ 381) وقال الذهبي: ويروى بإسناد ساقط أن عمر خرج في جنازة خالد بالمدينة.

ص: 239

أنتَ خيرٌ من ألفِ ألفٍ

(1)

من القو

مِ إذا ما كُبَّتْ وُجوهُ الرِّجالِ

فقال: صدقتِ (واللهِ) إن كان لكذلك.

وقال سيف بن عمر عن شيوخه عن سالم

(2)

. قال: فأقام خالدٌ في المدينة حتى إذا ظن عمر أنه قد زال ما كان يخشاه من افتتان الناس به. وقد عزم على توليته بعد أن يرجع من الحج، واشتكى

(3)

خالد بعد

(4)

، وهو خارج من المدينة زائرًا لأمه فقال لها: احدُروني إلى مهاجري، فقدمت به المدينة ومرَّضته فلما ثقل وأظل

(5)

قدوم عمر (لقيه لاقٍ على مسيرة) ثلاث صادرًا عن حجه فقال له عمر: مَهْيَم

(6)

. فقال: خالدُ بن الوليد ثقيلٌ لما به. فطوى عمر ثلاثًا في ليلة فأدركه حين قَضَى، فرقَّ عليه واسترجع وجلس ببابه حتى جُهّز، وبكَتْهُ البواكي، فقيل لعمر: ألا تسمعُ؟ ألا تَنْهاهن؟ فقال: وما على نساءِ قريشٍ أن يبكينَ أبا سليمان؟ ما لم يكن نَقْعٌ ولا لَقْلَقةٌ. فلما خرج لجنازته رأى عمر امرأة محترفة تبكيه وتقول: [من الخفيف]

أنتَ خيرٌ منْ ألف ألفٍ منَ النا

سِ إذا ما كُبَّتْ وجُوهُ

(7)

الرَّجالِ

أشُجَاعٌ فأنتَ أشجعُ منْ ليـ

ـثِ عَرينٍ جهم

(8)

أبي أشبالِ

أجَوادٌ فأنتَ أجْودُ منْ سَيْلِ

رئاسٍ

(9)

يَسيلُ

(10)

بين الجبال

فقال عمر: مَنْ هذه؟ فقيل له: أمّه. فقال أمُّه والإله- ثلاثًا. وهل قامت النساء عن مثل خالد. قال: فكان عمر يَتَمثَّل في طيه تلك الثلاث في ليلة وفي قدومه: [من الوافي]

أتبكي ما وصلْتَ بهِ الندامى

ولا تبكي فوارسَ كالجبالِ

أولئكَ إنْ بكيتَ أشدُّ فقدًا

من الإذهابِ والعكرِ

(11)

الجلالِ

(12)

(1)

في أ: ألفِ ألفِ ألفٍ، ولا يستقيم الوزن بها.

(2)

الخبر في تاريخ دمشق (16/ 270).

(3)

في أ: ظن عمر أن قد سبله ونصر الناس حج وقد عزم على توليته واشتكى خالد.

(4)

في ط: بعده. وما هنا موافق لتاريخ دمشق.

(5)

في أ: وأطال.

(6)

في أ، ط: تهم؛ تحريف وما هنا عن تاريخ دمشق. ومهيم: كلمة استفهام أي ما حالك؟ وما شأنك؟ أو ما وراءك؟ القاموس (مهيم).

(7)

في أ: إذا ما كنت من وجوه.

(8)

في ط: ضمر بن جهم، وفي تاريخ دمشق: عرين حميم.

(9)

في ط وتاريخ دمشق: دياس؛ وما هنا عن مختصر ابن منظور، وفي اللسان: رأس السيل الغثاء جمعه واحتمله.

(10)

في أ: من سيل قد سال من الجبال؛ ولا يستقيم الوزن بها.

(11)

العكر: ما بين الخمسين والمئة من الإبل.

(12)

البيت في أ: كثير التحريف.

ص: 240

تَمَنّى بعدهم قومٌ مداهم

فلمْ يدنوا لأسبابِ الكمالِ

وفي رواية أنَّ عمر قال لأمِّ خالد: أخالدًا أو أجره تُرزئين؟ عزمت عليك أن لا تبيني حتى تسودَّ يداك من الخضاب. وهذا كله

(1)

يقتضي موته بالمدينة النبوية، وإليه ذهب دُحيم عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقي.

ولكنّ المشهور عن الجمهور وهم الواقدي، وكاتبه محمد بن سعد، وأبو عبيد القاسم بن سلام، وإبراهيم بن المنذر، ومحمد بن عبد الله بن نمير، وأبو عبد الله العصفري، وموسى بن أيوب، وأبو سليمان بن أبي محمد وغيرهم: أنه مات بحمص سنة إحدى وعشرين. زاد الواقدي: وأوصى إلى عمر بن الخطاب. وقد روى محمد بن سعد عن الواقدي عن عبد الرحمن بن أبي الزناد وغيره قالوا: قدم خالد المدينة بعدما عزله عمر فاعتمر ثم رجع إلى الشام، فلم يزل بها حتى مات في سنة إحدى وعشرين. وروى الواقدي أنَّ عمر رأى [بالمدينة قومًا] حجاجًا يصلّون

(2)

بمسجد قباء فقال: أين نزلتم بالشام؟ قالوا: بحمص، قال: فهل من معرفة خبر؟ قالوا: نعم مات خالد بن الوليد، قال: فاسترجع عمر وقال: كان والله سدادًا لنحور العدو، ميمون النقيبة. فقال له علي: فلم عزلته؟ قال: لبذله المال لذوي الشرف واللسان.

وفي رواية أنَّ عمر قال لعلي: ندمت على ما كانَ منّي. وقال محمد بن سعد

(3)

: أخبرنا عبد الله بن الزُّبير الحميدي، حدَّثنا سفيان بن عيينة، حدَّثنا إسماعيل بن أبي خالد، سمعت قيس بن أبي حازم يقول: لما مات خالد بن الوليد قال عمر: رحم الله أبا سليمان، لقد كنا نظن به أمورًا ما كانت.

وقال جويرية، عن نافع قال: لما مات خالد لم يوجد له إلا فرسه وغلامه وسلاحه.

وقال القاضي المعافى بن زكريا الجريري: حدَّثنا أحمد بن العباس العسكري، حدَّثنا عبد الله بن أبي سعد، حدَّثني عبد الرحمن بن حمزة اللّخمي، حدَّثنا أبو علي الحرْمازي

(4)

قال: دخل هشام بن البَخْتري في ناس من بني مخزومٍ على عمر بن الخطاب فقال له: يا هشام أنشدني شعرَكَ في خالدٍ. فأنشده فقال: قصَّرتَ في الثناء على أبي سليمان رحمه الله، إنه كان ليحب أن يُذِلَّ الشرك

(5)

وأهلَه، وإن كان الشامتُ به لمتعرضًا لمقت الله. ثم قال عمر قاتل الله أخا بني تميم ما أشعره؛ [من الطويل]

وَقُلْ للَّذي يبقَى خِلافَ الذي مضى

تَهَيَّأ لأُخرى مثلَها فكأنْ قَدِ

(1)

في أ: وهذا كله مما يقتضي.

(2)

في أ: يقيلون.

(3)

الطبقات الكبرى (7/ 397).

(4)

في ط: الحرنازي؛ تحريف. والتصويب من تاريخ دمشق (16/ 279).

(5)

في أ: الشر.

ص: 241

فما عيشُ منْ قد عاش بعدي بنافعي

ولا موت من قد ماتَ يومًا بمخلدي

(1)

ثم قال عمر: رحم الله أبا سليمان، ما عند الله خيرٌ له ممّا كان فيه. ولقد مات فقيدًا

(2)

وعاش حميدًا، ولكن رأيت الدهر ليس بقائل

(3)

.

طُلَيْحَة بن خُوَيْلدِ

(4)

بنِ نَوْفَل بن نَضْلَة بن الأشْتَر بن حَجوان بن فَقْعس بن طَريف بن عَمرو

(5)

بنِ قُعَيْن

ابن الحارث بن ثَعْلبة بن دُودَان

(6)

بن أسَد بن خُزيمة الأسَدي الفَقْعسي. كان ممن شهد الخندقَ، من

ناحية المشركين. ثم أسلم سنة تسعٍ، ووفدَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. ثم ارتدَّ بعد وفاة

رسوك الله صلى الله عليه وسلم في أيام الصديق، وادَّعى النبوةَ كما تقدم -وررى ابن عساكر

(7)

أنه ادعى النبوة في حياة

رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنّ ابنه خيال

(8)

قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله: "لقد اسمُ الذيَ يأتي إلى أبيك؟ " فقال:

ذو النون الذي لا يكذب ولا يخون، ولا يكون كما يكون. فقال:"لقد سمَّى مَلَكًا عظيمَ الشأن". ثم قال لابنه: "قتلكَ الله وحرمك الشهادة". ورده كما جاء.

فقتل خيال في الرّدة في بعض الوقائع، قتله عُكاشَة بن مِحْصَن ثم قتَلَ طُلَيحة عُكَّاشة وله مع المسلمين وقائع. ثم خذله الله على يدي خالد بن الوليد، وتفرق جنده فهرب حتى دخل الشام فنزل على آل جفنة، فأقام عندهم حتى مات الصديق حياءً منه.

ثم رجع إلى الإسلام واعتمر، ثم جاء يسلَّم

(9)

على عمر فقال له: اغرب عني فإنك قاتلُ الرجلين الصالحين، عُكَّاشة بن مِحْصن، وثابت بن أقْرَم، فقال: يا أمير المؤمنين هما رجلان أكرمهما الله على يدي ولم يهني بأيديهما. فأعجبَ عمرَ كلامه ورضي عنه. وكتب له بالوصاة إلى الأمراء أن يشاوَرَ رلا يُولَّى شيئًا من الأمر، ثم عاد إلى الشام مجاهدًا فشهدَ اليرموك وبعضَ حروبٍ كالقادسية ونهاوند الفرس، وكان من الشجعان المذكورين، والأبطال المشهورين، وقد حَسُن إسلامه بعد هذا كله.

(1)

في تاريخ دمشق: من قد مات بعدي بمخلد. ويروىَ: ولا موت من قد مات قبلي.

(2)

في ط: سعيدًا. وما هنا عن تاريخ دمشق.

(3)

في تاريخ دمشق: ليس بقابل؛ وفي هامشه إشارة إلى رواية الجليس الصالح: ليس بقاتل.

(4)

ترجمة -طليحة بن خويلد- في تاريخ خليفة (102 - 104) والاستيعاب (2/ 773) وتاريخ دمشق -ط دار الفكر- (25/ 149 - 172) وأسد الغابة (3/ 95) وتهذيب الأسماء واللغات (1/ 254 - 255) وسير أعلام النبلاء (1/ 316 - 317) والإصابة (5/ 243) وبدران (7/ 93 - 106).

(5)

في الأصل والمطبوع: عمر، والتصحيح من كتب الأنساب.

(6)

في أ: بن فضيلة بن الأشتر بن حمران بن بقعس بن طريف بن عمر بن قعين بن الحارث بن ثعبلة بن داود. وفي ط: بن جحوان بن فقعس بن طريف بن عمر بن قعير بن الحارث بن ثعلبة بن داود. وما هنا عن مصادره.

(7)

تاريخ دمشق -دار الفكر- (25/ 154).

(8)

في تاريخ دمشق: حبال. وقد ورد مثل هذا الخلاف في اسمه في حروب الردة من هذا الجزء.

(9)

في أ: فسلّم.

ص: 242

وذكره محمد بن سعد

(1)

في الطبقة الرابعة من الصحابة وقال: كان يعد بألف فارس لشدّته وشجاعته وبصره بالحرب

(2)

.

وقال أبو نصر بن ماكولا: أسلم ثم ارتدّ أسلم وَحَسُنَ إسلامُهُ، وكان يعدل بألفِ فارسٍ.

ومن شعره أيام ردته وادِّعائه النبوة في قتل المسلمين أصحاب

(3)

: [من الطويل]

فما ظنُّكم بالقوم إذْ تَقْتُلُونَهُمْ

ألَيْسُوا وإنْ لَم يُسْلِموا برجالِ

فإنْ تك أذواد أصبَن

(4)

ونسوةً

فلم يذهبوا فزعًا بقتلِ خيالِ

نَصَبْتْ لهم صَدْرَ الحمالةِ إنَّها

معاودةٌ قِيلَ الكُماةِ نَزالِ

فيومًا تراها في الجلال مَصُونةً

(ويومًا تراها غَيْرَ ذاتِ جلالِ)

(ويَوْمًا تَراها تُضيء المَشْرَفيَّة نَحْوها)

ويومًا تراها في ظلالِ عوالي

عَشِيَّة غادَرت ابْنَ أقْرَم ثاويًا

وعُكَّاشَةَ الغَنْميّ

(5)

عندَ مجالِ

وقال سيف بن عمر

(6)

، عن مبشر بن الفضيل، عن جابر بن عبد الله. قال: باللهِ الذي لا إله إلا هو ما اطَّلعنا على أحدٍ من أهل القادسية يريد الدنيا مع الآخرة، ولقد اتهمنا ثلاثةَ نفرٍ، فما رأينا كما هجمنا عليهم من أمانتهم وزهدهم: طُلَيْحة بن خوَيْلد الأسدي، وعَمْرو بن معدي كرب، وقيس بن المكشوح.

قال ابن عساكر: ذكر أبو الحسين

(7)

محمد بن أحمد بن القواس

(8)

الورَّاق أنّ طليحة استشهد بنهاوند سنة إحدى وعشرين مع النُّعمان بن مُقَرِّن، وعمرو بن معديكرب رضي الله عنهم.

عَمْرو بن معْدي كَرِب

(9)

بن عبد الله بن عَمْرو بن عاصم

(10)

بن عمرو بن زُبَيْد الأصغر [وهو مُنبِّه] بن

(1)

لم أجد لطليحة ترجمة في الطبقات وربما كان ضمن الجزء المفقود من الكتاب. والخبر في تاريخ دمشق (16/ 149).

(2)

في تاريخ دمشق: وصبره بالحرب.

(3)

الأبيات في تاريخ دمشق (25/ 166 و 177) بثلاث روايات، الأوليان في خمسة أبيات والأخيرة في ستة أبيات ترتيبها مختلف عما هنا.

(4)

في أ، ط: فإن يكن أزواد أصبن. وما هنا عن تاريخ دمشق.

(5)

في ط: العمي؛ تحريف.

(6)

تاريخ دمشق -ط دار الفكر- (26/ 172).

(7)

كذا في أ، ط وفي تاريخ دمشق: أبو الحسن.

(8)

في ط: الفراس؛ تحريف.

(9)

ترجمة -عمرو بن معديكرب- في الاستيعاب (3/ 1201 - 1205) وتاريخ دمشق (46/ 363) وأسد الغابة (4/ 273 - 275) والإصابة (3/ 18 - 21).

(10)

كذا في ط، والاستيعاب وتاريخ دمشق والإصابة. ش هي:(خصم) في أ وأسد الغابة، رهي:(عصم) في مقدمة ديوانه.

ص: 243

ربيعة بن سلمة بن مازن بن ربيعة بن مُنبِّه

(1)

-وهو

(2)

زُبَيْد الأكبر- بن الحارث بن صَعْب

(3)

بن سَعْد العشيرة بن مَذْحج الزُّبيدي المَذْحجي أبو ثَوْر: أحد الفرسان المشاهير الأبطال، والشجعان المذاكير. قدمَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة تسع

(4)

، وقيل عشر مع وفد مُراد، وقيل في وفد زُبَيْدٍ قومه. وقد ارتدَّ مع الأسود العَنْسي، فسار إليه خالد بن سعيد بن العاص، فقاتله فضربه خالد بن سعيد بالسيف على عاتقه فهرب وقومه، وقد استلب خالد سيفَه الصمصامةَ، ثم أُسر ودُفع إلى أبي بكر فأنَّبه وعاتبه واستتابه، (فتاب) وحسُنَ إسلامُه بعد ذلك. فسيَّره إلى الشام، فشهد اليرموكَ، ثم أمره عمر بالمسير إلى سعدٍ، وكتب بالوصاة به، وأن يشاوَرَ ولا يُولَّى شيئًا، فنفعَ اللهُ به الإسلامَ وأهلهُ؛ وأبلى بلاءً حسنًا يوم القادسية. وقيل إنه قُتل بها، وقيل بنِهاوند، وقيل ماتَ عَطَشًا في بعض القُرى يُقال لها روذة

(5)

، فالله أعلم. وذلك كله في [سنة] إحدى وعشرين، فقال بعض من رثاه من قومه

(6)

[من الطويل]

لَقَدْ غادرَ الرُّكبانَ يومَ تَحَمَّلوا

برُوذةَ شَخْصًا لا جَبانًا ولا غَمْرا

فَقُلْ لزُبَيْدٍ بل لمَذْحِجَ كُلِّها

رُزِئْتُمْ أبا ثورٍ قَريعَ الوَغى

(7)

عَمْرا

وكان عمرو بن معديكرب رضي الله عنه من الشعراء المجيدين، فمن شعره

(8)

: [من الوافر]

أعاذلَ عُدَّتي بَدني ورُمْحي

وَكُلّ مُقَلَّصٍ سَلِسِ القيَادِ

أعاذلَ إنَّما أُفْني شَبابي

إجابتيَ الصَّريخَ إلى المُنادي

معَ الأبْطالِ حتَّى سُلَّ جسمي

وأقرعَ عاتقي حملُ النِّجادِ

وَيَبْقى بَعْدَ حِلْمِ القَوْمِ حِلْمي

(9)

وَيَفْني قَبْلَ زادِ القَوْمِ زادي

تَمَنَّى أن يلاقيني قييسٌ

وَددتُ وأيْنَما منّي وِدادي

(1)

في ط والإصابة: ابن شيبة.

(2)

في أ والاستيعاب: بن زبيد.

(3)

في ط والإصابة: ضعف.

(4)

في أ: سبع؛ تحريف.

(5)

روذة: قرية بالرّي، قال ياقوت:"قالوا: وبها مات عمرو بن معديكرب منصرفًا عن الري ودفن في موضع يقال له كرمانشاه". معجم البلدان (3/ 78).

(6)

الأبيات في الاستيعاب وتاريخ دمشق وتاريخ دمشق وأسد الغابة والإصابة، وأوردهما محقق ديوانه ثلاثة في مقدمته (ص 31).

(7)

في أ، والاستيعاب وتاريخ دمشق وتاريخ دمشق وأسد الغابة: قريعكم. وفي مقدمة ديوانه: سنانكم.

(8)

الأبيات في ديوانه (ص 106 - 107) وقد أورد المحقق حفظه الله روايات مختلفة من مصادر مختلفة، ولم أجد ضرورة لإثبات هذه الخلافات لسهولة العودة إلى ديوانه.

(9)

في أ: حكم القوم حكمي.

ص: 244

فَمنْ ذا عاذري من ذي سَفَاهٍ

يرودُ بنفسهِ شرَّ المَرَادِ

(1)

أُريدُ حياتَهُ ويُريدُ قتلي

عَذِيرك منْ خليلكَ منْ مُراد

له حديث واحد في التلبية رواه شراحيل بن القعقاع عنه، قال: كُنَّا نقولُ في الجاهلية إذا لَبَّيْنا

(2)

: [من الرجز]

لَبَّيْكَ تعظيمًا إليكَ عُذْرا

هذي زُبيدٌ قدْ أتَتْكَ قَسْرا

يعدو بها مُضمَّراتٌ شُزرًا

تَقْطعن خَبْنًا وجبالًا وَعْرا

قد تركوا الأوثان خِلْوًا صِفرا

قال عمرو: فنحنُ نقولُ الآن، ولله الحمد، كما علَّمنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: لبّيك اللهم لبّيك، لبّيك لا شريك لك لبّيك، إنَّ الحمدَ والنعمةَ لكَ والملك، لا شريك لك.

العلاء بن الحَضْرميّ

(3)

أميرُ البحرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقرَّه عليها أبو بكر ثم عمر. تقدّم أنه تُوفي سنة أربع عشرة. ومنهم منْ يقول: إنّه تأخَّر إلى سنة إحدى وعشرين، وِعزله عمر عن البَحْرين وولَّى مكانه أبا هريرة. وأمره عمر على الكوفة، فمات قبل أن يصل إليها منصرفهُ من الحجِّ. كما قدَّمنا ذلك والله أعلم. وقد ذكرنا في دلائل النبوة قصته في سيره بجيشه على وجه الماء وما جرى له من خرق العادات ولله الحمد.

النُّعْمان بن مُقَرِّن بن عائد المُزَني

(4)

أمير وقعة نهاوند، صحابيّ جليل. قدم مع قومه من مُزَيْنة في أربعمئة راكب، ثم سكن البصرة، وبعثه الفاروقُ أميرًا على الجنود إلى نِهاوند، ففتحَ اللهُ على يديه فتحًا عظيمًا. ومكّن الله له في تلك البلاد، ومكَّنه من رقاب أولئك العباد، ومكَّن به للمسلمين هنالك إلى يوم التَّناد، ومنحه النصر في الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، وأتاح

(5)

له بعدما أراه ما أحبَّ شهادةً عظيمةً وذلك غايةُ المراد، فكان ممَّن قال الله تعالى في حقّه في كتابه المبين وهو صراطه المستقيم: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا

(1)

في ط: مني المرادي.

(2)

الأبيات في الاستيعاب (3/ 1203) وأسد الغابة (4/ 274) والإصابة (3/ 19).

(3)

ترجمة -العلاء بن الحضرمي- في الاستيعاب (2/ 1085) وجامع الأصول (14/ 536) وأسد الغابة (4/ 74 - 75) وتهذيب الأسماء واللغات (1/ 341 - 342) والإصابة (2/ 497).

(4)

ترجمة -النعمان بن مقرِّن- في تاريخ خليفة (ص 149) والاستيعاب (3/ 1505) وجامع الأصول (1/ 411) وأسد الغابة (5/ 342) وسير أعلام النبلاء (2/ 356)، وفي جامع الأصول: مُقَرن: بضم الميم، وفتح القاف، وتشديد الراء المكسورة وبالنون. وفي أ: النعمان بن مقرن المزني، بحذف لفظة: عائذ. وفي تقريب التهذيب (564): ووهم من زعم أنه النعمان بن عمرو بن مقرن؛ فذاك آخر وهو ابن أخي هذا وهو تابعي.

(5)

في أ: وأباح.

ص: 245

فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 11]

‌ثم دخلت سنة اثنتين

(1)

وعشرين

وفيها كانت فتوحات كثيرة منها

(2)

: فتح هَمَذان ثانية ثم الرَّيَ وما بعدها ثم أذْرَبِيجان

قال الواقدي وأبو معشر: كانت في سنة اثنتين وعشرين. وقال سيف: كانت في سنة ثماني عشرة بعد فتح هَمَذان والرَّيّ وجُرْجان. وأبو معشر يقول بأنّ أذْرَبيجان كانت بعد هذه البلدان، ولكن عنده أنّ الجميع كان في هذه السنة

(3)

. وعند الواقدي أنَّ فتحَ هَمَذان والرَّي في سنة ثلاث وعشرين، فَهَمذان افتتحها المُغيرة بعد مقتل عُمر بستةِ أشهر، قال: ويقال كان فتح الرَّيّ قبلَ وفاة عمر بسنتين، إلا أنَّ الوقديَّ وأبا معشر متفقان على أن أذْرَبيجانَ في هذه السنة، وتبعهما ابن جرير

(4)

وغيره.

وكان السبب في ذلك أنّ المسلمين لما فرغوا من نهاوند وما وقع من الحرب المتقدم، فتحوا

(5)

حُلوان وهَمَذَان بعد ثم ذلك. ثم إنَّ أهلَ هَمَذان نقضوا عهدهم

(6)

الذي صالحهم عليه القعقاعُ بن عمرو، فكتب عمر إلى نُعَيم بن مُقَرِّن أن يسير إلى هَمَذان، وأن يجعل على مقدِّمته أخاه سوَيْد بن مقَرِّن، وعلى مجْنَبَتَيْه رِبْعي بن عامر الطّائي، ومُهلهل بن زيد التَّميمي. فسار حتى نزل على ثَنيَّة العَسَل، ثم تحدَّر على هَمَذان، واستولى على بلادها؛ وحاصرها، فسألوه الصلحَ فصالحهم ودخلها، فبينما هو فيها ومعه اثنا

(7)

عشر ألفًا من المسلمين إذ تكاتب

(8)

الروم والديلم وأهل الرَّي وأهل أذْرَبيجان، واجتمعوا على حرب نُعَيْم بن مقَرِّن في جمعٍ كثير، فعلى الديلم ملكهم واسمه موتا

(9)

، وعلى أهل الري أبو الفَرُّخان وعلى أذربيجان إسْفَنْدياذ أخو رستم، فخرج إليهم بمن مَعهُ من المسلمين، حتى التَقوْا بمكانٍ يقال له واج

(1)

في أ: ثنين.

(2)

مكان اللفظة في أ: فيما ذكره ابن جرير وغيره في هذا الشأن.

(3)

بعدها في أ: وتبعهما.

(4)

جملة هذه الأقوال في تاريخ الطبري (4/ 146).

(5)

في أ: فتح.

(6)

في أ: عهودهم.

(7)

في أ، ط: اثني. وما هنا موافق للسياق.

(8)

في ط: تكاتف. وما هنا عن الطبري.

(9)

في أ: موتى.

ص: 246

الرُّوذ، فاقتتلوا قتالًا شديدًا، وكانت وقعة عظيمة تعدل نهاوند ولم تكُ دونها، فاقتلوا من المشركين جمعًا كثيرًا، وجمَاً غفيرًا لا يُحْصَون كَثْرَةً، وقتل ملك الديلم موتا وتمزَّق شملُهم، وانهزموا بأجمعهم، بعد من قتل بالمعركة منهم. فكان نُعَيْم بن مُقَرِّن أولَ من قاتل الديلم من المسلمين.

وقد كان نُعيم كتب إلى عمر يعلمه باجتماعهم فهمَّه ذلك واغتمَّ له. فلم يفجأه إلَّا البريد بالبشارة فحمد الله وأثنى عليه، وأمر بالكتاب فقُرِئء على الناس، ففرحوا وحمدوا الله عز وجل. ثم قدم عليه بالأخماس ثلاثةٌ من الأمراء وهم سِمَاك بن خَرَشَة، ويعرف بأبي دُجانة، وسماك بن عُبَيد، وسِماك بن مَخرَمة. فلما استسماهم عمر قال

(1)

: اللهم اسمكْ بهم الإسلام، وأمدَّ بهم الإسلام، ثم كتب إلى نُعيم بن مُقَرِّن بأن يستخلف على همذان ويسير إلى الري فامتثل نُعيم. وقد قال نعيم في هذه الوقعة

(2)

: [من الطويل]

ولَمّا أتاني أنَّ موتا وَرَهْطَهُ

بَني باسلٍ جَرُّوا جُنود الأعاجمِ

نَهَضْتُ إلَيْهمْ بالجُنودِ مُساميًا

لأمْنَع منْهُمْ ذِمَّتي بالقواصمِ

(3)

فَجِئْنا إلَيْهمْ بالحَديدِ كَأنَّنا

جِبالٌ تَراءَى منْ فروعِ القَلاسمِ

فَلَمَا لَقينَاهُم بها مُسْتَفيضةَ

وقَدْ جَعَلُوا يَسْمُونَ فعل المُسَاهِمِ

صَدَمْناهُم في واجِ رُوذ بِجَمْعنا

غَدَاةَ رَمَيْناهُمْ بإحدَى العَظائمِ

فَمَا صبَرُوا في حَوْمةِ المَوْتِ سَاعة

لِحَدِّ

(4)

الرِّماحِ والسُّيوف الصَّوارِمِ

كأنَّهمُ عِندَ انْبَثاثِ

(5)

جُمُوعِهِمْ

جِدَارٌ تَشَظَّى لَبْنهُ للهوادمِ

أصَبْنا بها موتا

(6)

ومنْ لَفَّ جَمْعَهُ

وفيها نهابٌ قَسْمُهُ

(7)

غَيْرُ عَاتِمِ

تَبعْناهُمُ حَتّى أوَوْا في شِعَابِهِمْ

فَنَقتُلُهمْ

(8)

قتْلَ الكِلابِ الجَوَاحِم

(9)

(1)

في أ: قال عمر.

(2)

الأبيات في تاريخ الطبري (4/ 149) وأورد ياقوت خمسة منها هي: 1، 5، 6، 8، 10 في معجم البلدان (واج، روذ).

(3)

القواصم: جمع قاصمة، وقاصمة الظهر: البلية والمصيبة. أساس البلاغة (قصم).

(4)

في معجيم البلدان بحد الِرماح.

(5)

بثّه فانبثّ: فرَّقه فَتَفرَّق ونَشَره، وكذلك بَثَّ الخيلَ في الغارة يبثُّها بثًّا فانبثت. اللسان (بثث).

(6)

في معجم البلدان: أصبنابها موئا ومن لفَّ لفَّه.

(7)

في معجم البلدن: قسمها غير غانم.

(8)

في تاريخ الطبري: نُقَتِّلهم.

(9)

الجواحم جمع جاحم: وهو المصاب بداء يكون منه بين عينيه. اللسان (جحم).

ص: 247

كَأنَّهُمُ في واج رُوذَ وَجَوِّهِ

ضَئين

(1)

أصَابَتْها

(2)

فُروجُ المَخَارمِ

(3)

‌فتح الرَّيّ

استخلف نُعَيْم بن مُقَرِّن على هَمَذان يزيدَ بن قَيْس الهَمْدَاني وسار بالجيوش حتى لحق بالرَّيّ، فلقي هناك جمعًا كثيرًا من المشركين

(4)

، فاقتتلوا عند سفح جبل الرَّيّ فصبروا صبرًا عظيمًا ثم انهزموا، فَقَتلَ منهم نُعيم

(5)

بن مُقَرّن مقتلةً عظيمةً بحيث عُدُّوا بالقصب فيها، وغنموا منهم غنيمة عظيمة قريبًا مما غنم المسلمون

(6)

من المدائن. وصالح أبو الفَرُّخان على الرَّيّ، وكتب له أمانا

(7)

بذلك، ثم كتب نُعَيْم إلى عمر بالفتح ثم بالأخماس، ولله الحمد والمنة.

‌فتح قُومِس

ولما ورد البشيرُ بفتح الرَّي وأخماسها كتب عمر إلى نُعيم بن مقرن أن يبعث أخاه سُوَيد بن مُقَرّن إلى قُومِس. فسار إليها سُوَيْد، فلم يقم له شيء حتى أخذها سلمًا وعسكر بها وكتب لأهلها كتاب أمان

(8)

(وصلح).

‌فتح جُرْجان

لما عسكر سُوَيْد بقُومس بعث إليه أهلُ بلدانٍ شتَّى منها جُرجان وطبرستان وغيرُها يسألونه الصلحَ على الجزية، فصالحَ الجميعَ وكتبَ لأهل كلِّ بلدةٍ كتابَ أمانٍ وصلحٍ. وحكى المدائني أن جُرجان فُتحت في سنة ثلاثين أيّام عثمان، فالله أعلم.

‌وهذا فتح أَذْرَبيجان

لما افتتح نُعَيْم بن مُقَرِّن همذان ثم الرَّيَّ، وكان قد بعث بين يديه بُكَيْر بن عبد الله من هَمَذان إلى

(1)

الضَّئين والضِّئين اسمان لجمع الضأن. اللسان (ضأن).

(2)

في معجم البلدان: وجره * ضئين أغانتها.

(3)

البيت الأخير ساقط من أ.

(4)

في أ: جمعًا من المشركين عظيمًا.

(5)

في ط: النعمان؛ وهو تحريف.

(6)

في أ: مقتلة عظيمة قريبًا مما غنموا المسلمون من المدائن.

(7)

كتاب الأمان هذا في تاريخ الطبري (4/ 151).

(8)

نص الكتاب في تاريخ الطبري (4/ 152).

ص: 248

أذْرَبيجان وأردفه بسِماك بن خَرَشَة، فلقي إسفَنْدياذ بن الفرخزاذ بُكَيْرًا وأصحابه، قبل أن يقدم عليهم سِماك، فاقتتلوا فهزم الله المشركين، وأسر بُكَيْر إسفَنْدِياذ، فقال له إسْفَندياذ: الصلحُ أحبُّ إليكَ أمِ الحربُ؟ فقال: بل الصلحُ. قال: فأمسكني عندك. فأمسكه ثم جعل يفتحُ بلدًا بلدًا وعتبة بن فَرْقَد أيضًا يفتحُ معه بلدًا بلدًا في مقابلته من الجانب الآخر. ثم جاء كتاب عمر بأن يتقدَّم بُكَيْر إلى الباب وجعل سِماك [بن خَرَشَة] موضعه نائبًا لعُتبة بن فرقد، وجمع عمر أذربيجان كلها لعُتبة بن فرقد، وسلَّم إليه بُكَير إسْفَنْدياذ، وسار كما أمره عمر إلى الباب. قالوا: وقد كان اعترض بهرام بن فرخزاذ لعتبة بن فرقد، فهزمه عتبة وهرب بهرام فلما بلغ ذلك إسفندياذ وهو في الأسر عند بُكير قال: الآن تمَّ الصلح (وطفئت الحرب. فصالحه فأجاب إلى ذلك كلهم). وعادت أذربيجان سلمًا، وكتب بذلك عُتبة وبُكير إلى عمر. وبعثوا بالأخماس إليه، وكتب عتبة حين انتهت إمرة أذربيجان لأهلها كتابَ أمانٍ وصلحٍ

(1)

.

‌فتح الباب

(2)

قال ابن جرير

(3)

: وزعم سيف أنه كان في هذه السنة كتب عمر بن الخطاب كتابًا بالإمرة على هذه الغزوة لسُراقة بن عمرو -المُلقَّب بذي النور

(4)

-وجعل على مقدمته عبد الرحمن بن ربيعة، ويقال له-ذو النور أيضًا- وجعل على إحدى المَجْنَبتين حُذيْفَة بن أَسِيد، وعلى الأخرى بُكَيْر بن عبد الله اللّيثي- وكان قد تقدمهم إلى الباب- وعلى المقاسم سلمان بن ربيعة. فساروا كما أمرهم عمر، وعلى تعبئته، فلمَّا انتهى مقدِّم العساكر -وهو عبد الرحمن بن ربيعة- إلى الملك الذي هناك عند الباب وهو شهربراز ملك أرْمينية وهو من بيت الملك الذي قتل بني إسرائيل وغزا الشام في قديم الزمان. فكتب شهربراز لعبد الرحمن واستأمنه فأمَّنه عبد الرحمن بن ربيعة، فقدم عليه الملك، فأنهى إليه أنّ صَغْوَه

(5)

إلى المسلمين، وأنه مناصحٌ للمسلمين. فقال له: إنَّ فوقي رجلًا فاذهب إليه. فبعثه إلى سُراقة بن عمرو أمير الجيش، فسأل من سراقة الأمانَ، فكتب إلى عمر فأجاز ما أعطاه من الأمان، واستحسنه، فكتب له سراقة كتابًا بذلك. ثم بعث سُراقة بُكيرًا. وحبيب بن مسلمة، وحُذَيْفة بن أُسيد، وسلمان بن ربيعة، إلى أهل تلك الجبال المحيطة بأرْمينية جبال اللان وتَفْليس وموقان، فافتتح بُكير موقان، وكتب لهم كتاب أمان ومات في غضون ذلك أميرُ المسلمين هنالك، وهو سُراقة بن عمرو، واستُخلف بعده عبد الرحمن ابن ربيعة، فلما بلغ عمر ذلك أقره على ذلك وأمره بغزو الترك.

(1)

الخبر في تاريخ الطبري (4/ 155).

(2)

المقصود به باب الأبواب: وهو الدَّربند دربند شروان؛ مدينة كبيرة على ساحق بحر طبرستان -الخزر- ربما أصاب ماء البحر حائطها، وفي وسطها مرسى السفن. معجم البلدان (1/ 303 - 306).

(3)

في تاريخه (4/ 155).

(4)

في أ: ومعجم البلدان: النون -وما هنا موافق لتاريخ الطبري (4/ 155) والكامل لابن الأثير (3/ 28).

(5)

صغوه: ميله. اللسان (صغو).

ص: 249

‌أول غزو الترك

وهو تصديق الحديث المُتقدم الثابت في الصحيح

(1)

عن أبي هريرة وعمرو بن تغلب

(2)

، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقومُ الساعة حتى تقاتلوا قومًا عِرَاض الوجوه، ذُلْفَ

(3)

الأنوف، حمرَ الوجوه، كأنه وجوهَهم المَجانُ:

(4)

المُطَرَّقَةُ"، وفي رواية "يَنْتَعِلون

(5)

الشَّعَر".

لما جاء كتابُ عمر إلى عبد الرحمن بن ربيعة يأمره بأن يغزو التركَ

(6)

، سار حتى قطع البابَ قاصدًا لما أمره عمر، فقال له شهربراز: أين تريدُ؟ قال: أريدُ ملك الترك بلنجر، فتمال له شهربراز: إنّا لنرضى منهم بالموادعة، ونحن من وراء الباب. فقال له عبد الرحمن: إن الله بعث إلينا رسولًا، ووعدنا على لسانه بالنصر والظفر، ونحن لا نزال منصورين، فقاتل الترك وسار في بلاد بنجر مئتي فرسخ، وغزا مرات متعددة. ثم كانت له وقائع هائلة في زمن عثمان كما سنورده (في موضعه) إن شاء الله تعالى.

وقال سيف بن عمر، عن الغصن بن القاسم، عن رجل، عن سلمان بن ربيعة

(7)

. قال: لمَّا دخل عليهم عبد الرحمن بن ربيعة بلادَهما حال الله بين الترك والخروج عليه، وقالوا: ما اجترأ علينا هذا الرجلُ إلا ومعهم الملائكة تمنعُهم من الموت. فَتَحصَّنوا منه وهربوا بالغنْم (والظَّفر). ثم إنّه غزاهم غزواتٍ في زمن عثمان فظفر بهم، كما كان يظفر بغيرهم. فلمّا ولّى عثمان على الكوفة بعضَ من كان ارتدّ غزاهم، فتذامرت التركُ وقال بعضهم لبعض: إنّهم لا يموتون، (قال: انظروا، وفعلوا) فاختفوا لهم في الغياض فرمى رجل منهم رجلًا من المسلمين على غِرَّةٍ فقتله وهرب عنه (أصحابه)، فخرجوا على المسلمين بعد ذلك حتى عرفوا أنّ المسلمين يموتون، فاقتتلوا قتالًا شديدًا، ونادى مناب من الجو: صبرًا آل

(8)

عبد الرحمن وموعدكم الجنَّة، فقاتل عبدُ الرحمن حتى قُتل، وانكشف الناس، وأخذ الرايةَ

(1)

صحيح البخاري رقم (2928) في الجهاد عن أبي هريرة. ورقم (2927) في الجهاد عن عمرو بن تغلب.

(2)

في أ: ثعلب؛ تحريف.

(3)

ذُلف الأنوف: أي صغارها -فتح الباري (6/ 104) - وقال ابن الأثير في النهاية (2/ 165): الذَّلَفُ -بالتحريك- قصر الأنف وانبطاحه وقيل ارتفاع طرفه مع صغر أرنبته، والذُّلْف -بسكون اللام- جمع أذلف كأحمر وحمر.

(4)

المجانّ: جمع مجنّ وهو الترس والمُطرَّقَة التي ألبست الأطرقة من الجلود وهي الأغشية. فتح الباري (6/ 104).

(5)

في أ، ط: يبتلعون؛ تحريف.

(6)

في أ: بأن يقطع النهر بأن يغزو الترك.

(7)

في أ: قال سيف بن عمر عن القبض بن القاسم عن حرحان قال؛ خطأ. وما هنا موافق لتاريخ الطبري (4/ 158 - 159).

(8)

في أ: صبرًا لله عبد الرحمن. وما هنا موافق للطبري.

ص: 250

سلمانُ بن ربيعة، فقاتل بها، ونادى المنادي من الجو: صبرًا آل سلمان بن ربيعة، فقاتل قتالًا شديدًا ثم تحيّز سلمان وأبو هريرة بالمسلمين، وفروا من كثرة الترك ورميهم الشديد السديد على جِيلان فقطعوها إلى جُرْجان، واجترأت الترك بعدها، ومع هذا أخذت التركُ عبد الرحمن بن ربيعة فدفنوه شي بلادهم، فهم يستسقون بقبره إلى اليوم. سيأتي تفصيل ذلك كله.

‌قصة السدّ

ذكر ابن جرير

(1)

بسنده أنَّ شهربراز قال لعبد الرحمن بن ربيعة لمّا قدا عليه حين وصل إلى الباب، وأراه رجلًا، فقال شهربراز: أيّها الأميرُ إنّ هذا الرجلُ كنتُ بعثته نحو السدّ، وزودته مالًا جزيلًا وكتبتُ له إلى الملوك الذين يلوني

(2)

، وبعثتُ لهم هدايا، وسألت منهم أن يكتبوا له إلى منْ يليهم من الملوك حتى ينتهي إلى سدِّ ذى القرنين، فينظر إليه ويأتينا بخبره. فسار حتى انتهى إلى الملك الذي السَّد في أرضه، فبعثه إلى عامله مما يلي السدّ، فبعث معه بازياه

(3)

ومعه عقابه، فلما انتهَوا إلى السدّ إذا جبلان بينهما سدٌّ مسدودٌ، حتى ارتفع على الجبلين، وإذا دون السدّ خندقٌ أشدُّ سوادًا من الليل لبعده، فنظر إلى ذلك كله وتفرَّس فيه، ثم لمّا همّ بالانصراف قال له البازيارُ على رِسْلكَ، ثم شرح بضعة لحم معه فألقاها شي ذلك الهواء

(4)

، وانقضَّ عليها العقاب. فقال: إن أدركتها قبل أن تقع فلا شيء

(5)

، وإن لم تدركها حتى تتمع فذلك شيء. قال: فلم تدركها حتى وقعت في أسفله وأتبعها العقاب فأخرجها فإذا فيها ياقوتة (وهي هذه). ثم ناولها الملك شهربراز لعبد الرحمن بن ربيعة، فنظر إليها عبد الرحمن ثم ردَّها إليه، فلمّا ردّها إليه فرح وقال: واللهِ لهذه خيرٌ من مملكة هذه المدينة -يعني مدينة باب الأبواب التي هو فيها -ووالله لأنتم أحبُّ إليَّ اليومَ من مملكة آل كسرى، ولو كنت في سلطانهم وبلغهم

(6)

خبرها لانتزعوها (مني)، وايم الله لا يقوم لكم شيءٌ ما وفيتم ووفى ملككم الأكبر، ثم أقبل عبد الرحمن بن ربيعة على الرسول الذي ذهب على السدّ فقال: ما حالُ هذا الردم؟ -يعني ما صفته- فأشار إلى ثوب في زرقةٍ وحمرةٍ فقال: مثل هذا. فقال رجل لعبد الرحمن: صدق والله لقد نفذ ورأى. (فقال: أجل) وصف صافة الحديد والصُّفْر: قال الله تعالى: {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} [الكهف: 96].

(1)

في تاريخه (4/ 159).

(2)

في ط: الملوك يولوني. وما هنا عن أ وهو قريب مما عند الطبري.

(3)

البَيْزار الذي يحمل البازي، ويقال له البازيار، وكلاهما ديخل والبيازرة جمعه. اللسان (بزر).

(4)

في أ: الوادي.

(5)

في أ: إن أدركها في الهوي فلا شيء وإن لم تدركها تقع فذاك قال.

(6)

في أ: ثم بلغهم.

ص: 251

وقد ذكرت صفة السدّ في التفسير، وفي أوائل هذا الكتاب.

وقد ذكر البخاري في صحيحه

(1)

تعليقًا أنّ رجلًا قال للنبي صلى الله عليه وسلم رأيت السدَّ. فقال: "كيف رأيته"؟ قال: مثل البُرْدِ المُحَبرِ. ["قال: قد]

(2)

رأيته".

قالوا: ثم قال عبد الرحمن بن ربيعة لشهربراز: كم كانت هديتك؟ قال: قيمة مئة ألف في بلادي وثلاثة آلاف ألف في تلك البلدان.

‌بقية من خبر السد

أوردَ شيخُنا أبو عبد الله الذَّهبي

(3)

الحافظ في هذه السنة ما ذكره صاحبُ كتاب "مسالك الممالك" عما أملاه عليه سلامٌ الترجمان، حين بعثه الواثق بأمر الله بن المعتصم -وكان قد رأى في النوم كأنَّ السدَّ قد فُتح -فأرسل سلامًا هذا

(4)

وكتب له إلى الملوك بالوصاة به، وبعث معه ألفَيْ بغل تحملُ طعامًا فساروا بين سامراء إلى إسحاق بتَفْليس، فكتب لهم إلى صاحب السرير، وكتب لهم صاحب السرير إلى ملك اللان، فكتب لهم إلى قبلان شاه، فكتب لهم إلى ملك الخزر، فوجّه معه خمسة أَدلَّاء

(5)

فساروا ستة وعشرين يومًا. انتهوا إلى أرضٍ سوداءَ منتنةٍ حتى جعلوا يَشمُّون

(6)

الخَلَّ، فساروا فيها عشرةَ أيامٍ، فانتهوا إلى مدائن خرابٍ مدة سبعة وعشرين يومًا، وهي التي كانت يأجوج ومأجوج تطرقها فخربت من ذلك الحين، وإلى الآن، ثم انتهوا إلى حصنٍ

(7)

قريب من السَّدّ فوجدوا قومًا يعرفون بالعربية وبالفارسية ويحفظون القرآن، ولهم مكاتب ومساجد، فجعلوا يعجبون منهم ويسألونهم من أين أقبلوا، فذكروا لهم أنَّهم من جهة أمير المؤمنين (الواثق) فلم يعرفوه بالكلّية. ثم انتهوا إلى جبلٍ أملسَ ليس عليه خضراء

(8)

وإذا السدُّ هنالكَ من لِبْنِ حديد مغيب في نحاس، وهو مرتفعٌ جدًا لا يكادُ البصرُ ينتهي إليه، وله شرفاتٌ من حديدٍ، وفي وسطه بابٌ عظيمٌ بمصراعين مغلقين، عرضُهما مئة ذراع، في طول مئة ذراع في ثخانة خمسة أذرع، وعليه قفل طوله سبعة أذرع في غلظ باع -وذكر أشياء كثيرة- وعند ذلك المكان حرسٌ

(1)

صحيح الإمام البخاري معلقًا -فتح الباري- (6/ 381 عقيب 3345) قال الحافظ: وصله ابن أبي عمر، والطبراني.

(2)

ما بين معقوفين ساقط من أ، ط.

(3)

في تاريخ الإسلام (2/ 47 - 49). ط المقدسي.

(4)

في أ: فأرسل غلامًا.

(5)

في ط: أولاد؛ تحريف. وفي أ: أدلاء فساروا من سامراء إلى إسحاق فساروا في ستة وعشرين.

(6)

في أ: يشتمون.

(7)

في أ: حصون.

(8)

في أ: ليس عليه خضرًا.

ص: 252

يضربون عند القُفل في كلّ يومٍ فيسمعون بعد ذلك صوتًا عظيمًا مزعجًا [فيعلمون] أنَّ وراءَ هذا الباب حرسًا

(1)

وحفظة، وقريب من هذا الباب حصنان عظيمان بينهما عين ماءً عذبة، وفي إحداهما بقايا العمارة من مغارف ولِبْنٍ من حديد وغير ذلك، وإذا طول اللبنة ذراع ونصف في مثله. في سمك شبر. وذكروا أنهم سألوا أهل تلك البلاد هل رأوا أحدًا من يأجوج ومأجوج فأخبروهم أنهم رأوا منهم يومًا أشخاصًا فوق الشرفات، فهبت الريح فألقتهم إليهم، فإذا طول الرجل منهم شبرٌ أو نصفُ شبر والله أعلم.

قال الواقدي

(2)

: وفي هذه السنة غزا معاوية الصائفةَ، من بلاد الروم، وكان معه حمادٌ والصحابة فسار وغنمَ ورجعَ سالمًا.

وفيها ولد يزيد بن معاوية، وعبد الملك بن مروان.

وفيها حج بالناس عمر بن الخطاب وكان عماله فيها على البلاد، هم الذين كانوا في السنة (قبلها). وذكر أنّ عمر عزل عمارًا في هذه السنة عن الكوفة اشتكاه أهلها وقالوا: لا يحسن السياسة، فعزله وولّى أبا موسى الأشعري، فقال أهل الكوفة: لا نريده، وشكوا في غلامه فقال: دعوني حتى أنظر في أمري، وذهب إلى طائفة من المسجد ليفكّر من يولّي. فنام من الهمّ فجاءه المغيرة فجعل يحرسه حتى استيقظ فقال (له): إنّ هذا الأمر عظيم يا أمير المؤمنين، الذي بلغ بك هذا. قال: وكيف [لا] وأهل الكوفة مئة ألف لا يرضون عن أميرٍ، ولا يرضى عنهم أمير. ثم جمع الصحابة واستشارهم، هل يولّي عليهم قويًا مشدّدًا أو ضعيفًا مسلمًا؟ فقال له المغيرة بن شعبة:(يا أمير المؤمنين)، إنّ القويَّ قوته لك وللمسلمين وتشديده لنفسه، وأما الضعيف المسلم فضعفه عليك وعلى المسلمين وإسلامه لنفسه. فقال عمر للمغيرة -واستحسن ما قال (له) -: اذهب فقد وليّتك الكوفة. فردَّه إليها بعد ما كان عزله عنها بسبب ما كان شهد عليه الذين تقدّم حدهم بسبب قذفه، والعلم عند الله عز وجل. وبعث أبا موسى الأشعري إلى البصرة (فقيل لعمار: أساءك العزل؟ فقال: والله ما سرتني الولاية، ولقد ساءني العزل. وفي رواية أنّ الذي سأله عن ذلك عمر رضي الله عنه ثم أراد عمر أن يبعثَ سعدَ بن أبي وقاص على الكوفة بدلَ المُغيرة فعاجلته المنيةُ في سنة ثلاثٍ وعشرين على ما سيأتي بيانه، ولهذا أوصى لسعدٍ به.

قال الواقدي: وفي هذه السنة غزا الأحنفُ بن قيس بلادَ خراسان، وقصد البلد الذي فيه يَزْدجردُ ملكُ الفرس. قال ابن جرير

(3)

: وزعم سيفٌ أنّ هذا كان في سنة ثماني عشرة. قلت: والأول هو المشهور، والله أعلم.

(1)

في أ، ط: حرس. وما هنا للسياق.

(2)

الخبر في تاريخ الطبري (4/ 160) والكامل لابن الأثير (3/ 38).

(3)

في تاريخه (4/ 166).

ص: 253

‌قصة يزدجرد بن شهريار بن كسرى [الذي كان ملك الفُرس]

لما استلب سعدٌ من يديه مدينة سلكِهِ، ودارَ مقرّه، وإيوانَ سلطانِه، وبساطَ مشورتِه وحواصله، تحوَل من هناك إلى حُلوان، ثم جاء المسلمون ليحاصروا حلوان فتحوّل إلى الري، وأخذ المسلمون حلوان ثمَّ أُخذت الريّ، فتحوّل منها إلى أصبهان، فأخذت أصبهان فسار إلى كِرمان فقصد المسلمون كِرمان فافتتحوها: فانتقل إلى خراسان فنزلها، هذا كلُّه والنارُ التي يعبدُها من دون الله يسير بها معه من بلد إلى بلد، ويبني لها في كل بيت توقد فيهم على عادتهم، وهو يُحمل في اللَّيل في مسيره إلى هذه البلدان على بعيبرِ عليه هودجٌ ينامُ فيه. فبينما هو ذاتَ ليلةٍ في هودجه وهو نائمٌ فيه، إذ مرّوا به على مخاضة فأرادوا أن ينبّهوه قبلها لئلا ينزعجَ إذا استيقظ في المخاضة، فلما أيقظوه تغضّب عليهم شديدًا وشتَمهم، وقال: حرمتموني أن أعلم مدةَ بقاء هؤلاء في هذه البلاد وغيرها، إني رأيتُ في منامي هذا أنَّي ومحمدًا [تناجينا] عند الله، فقال له: ملككم مئة سنة، فقال: زدني. فقال: عشرًا ومئة، فقال: زدني فقال: عشرين ومئة سنة. فقال: زدني فقال: لك. وأنبهتموني، فلو تركتموني لعلمت مدة هذه الأمة.

[غزو المسلمين بلاد] خراسان مع الأحنف بن قيس

وذلك أنّ الأحنفَ بن قيسٍ هو الذي أشار على عمر بأن يتوسَّع المسلمون

(1)

بالفتوحات في بلاد العجم، ويضيِّقوا على كسرى يزدجرد، فإنّه هو الذي يستحثّ الفرسَ والجنودَ على قتال المسلمين. فأذنَ عمرُ بن الخطاب في ذلك عن رأيه، وأمَّرَ الأحنفَ، وأمَرَهُ بغزو بلاد خراسان. فركب الأحنف في جيش كثيف إلى خراسان قاصدًا حرب يَزْدجردَ. فدخل خراسان فافتتح هراةَ عنوةً واستخلف عليها صُحار بن فُلان العَبْدي، ثم سار إلى مرو الشَّاهْجان وفيها يَزْدجردُ، وبعث الأحنفُ بين يديه مطرّف بن عبد الله بن الشخِّير إلى نيسابور، والحارث بن حسان إلى سرخس. ولما

(2)

اقترب الأحنف من مرو الشاهجان، ترحل منها يزدجرد إلى مرو الرَّوْذ (فافتتح الأحنف مرو الشاهجان فنزلها. وكتب يزدجرد حين نزل مرو الروذ) إلى خاقان ملك الترك يستمده وكتب إلى (ملك) الصُّغد [يستمده، وكتب إلى ملك الصين]

(3)

يستعينه. وقصده الأحنف بن قيس إلى مَرْو الرَّوْذِ وقد استخلف على مَرْو الشاهْجَان

(1)

في أ: المسلمين؛ خطأ.

(2)

في أ: فلما.

(3)

ما بين المعقوفين ساقط من أ، ط واستدرك من تاريخ الطبري (4/ 167).

ص: 254

حارثة

(1)

بن النُّعمان، وقد وفدت إلى الأحنف أمدادٌ من أهل الكوفة مع أربعة أمراء، فلمّا بلغ مسيره إلى يزدجرد (ترحل إلى بلخ، فالتقى معه ببلخ يزدجرد) فهزمه الله عز وجل وهرب هو ومنْ بقي معه من جيشه فعبر النهر واستوثق ملكَ خراسان على يدي الأحنف قيس، واستخلف في كل بلدة أميرًا، ورجع الأحنف فنزل مرو الروذ، وكتب إلى عمر بما فتح الله عليه من بلاد خراسات. بكمالها. فقال عمر: وددتُ أنّه كان بيننا وبين خراسان بحرٌ من نارٌ. فقال له علي: ولم يا أمير المؤمنين؟ فقال: إنّ أهلها سينقضون عهدهم ثلاث مرات فيُجتاحون في الثالثة، فقال: يا أمير المؤمنين (لأن يكون ذلك بأهلها، أحب إليّ من) أن يكون ذلك بالمسلمين، وكتب عمر إلى الأحنف ينهاه عن العبور

(2)

إدى ما وراء النهر وقال: احفظ ما بيدك من بلاد خراسان. ولمّا وصل رسول يزدجرد إلى اللذين استنجد بهما لم يحتفلا بأمره، فلمّا عبر يزدجرد النهر ودخل في بلادهما تعيّن عليهما إنجاده في شرع الملوك، فسار معه خاقانُ الأعظمُ ملكُ الترك، ورجع يزدجرد بجنود عظيمة فيهم ملكُ التتار خاقان، فوصل إلى بلخ واسترجعها

(3)

، وفرَّ عمالُ الأحنف إليه (إلى مرو الروذ، وخرج المشركون من بلخ حتى نزلوا على الأحنف) بمرو الروذ، فتبرّز

(4)

الأحنف بمنْ معه من أهل البصرة وأهل الكوفة والجميع عشرون ألفًا فسمع رجالًا يقول لآخر: إن كان الأمير ذا رأي فإنّه يقف دون هذا الجبل فيجعله وراء ظهره ويبقى هذا النهر خندقًا حوله فلا يأتيه العدو إلا من جهة واحدة. فلما أصبح الأحنف أمرَ المسلمين فوقفوا في ذلك الموقف بعينه، وكان أمارةَ النصر والرّشد، وجاءت الأتراك والفرس في جمع عظيم هائل مزعج، فقام الأحنفُ في الناس خطيبًا فقال: إنكم قليلٌ وعدُّوكم كثيرٌ، فلا يُهولَنَّكمْ، {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249] فكانتِ التركُ يُقاتلون بالنهار ولا يدري الأحنف أين يذهبون في الليل. فسار ليلة مع طليعة من أصحابه نحو جيش خاقان، فلمّا كان قريبَ الصُّبح خرج فارسٌ من الترك طليعة وعليه طوق وضرب بطبله فتقدم إليه الأحنف، فاختلفا طعنتين فطعنه الأحنفُ فقتله وهو يرتجز

(5)

: [من الرجز]

إنَّ عَلَى كُلِّ رَئيسٍ حَقًّا

أنْ يَخْضِبَ الصَّعْدَة أو تَنْدَقًّا

(6)

إنّ لها شَيْخًا بها مُلَقى

سَيْف

(7)

أبي حَفْصِ الَّذي تَبَقَّى

(1)

في تاريخ الطبري (4/ 167): حاتم بن النعمان الباهلي. وما هنا موافق للكامل لابن الأثير (3/ 34).

(2)

في أ: الغزوة.

(3)

في أ- فاسترجعها.

(4)

في أ: فينزل.

(5)

البيان في تاريخ الطبري (4/ 169).

(6)

في أ، ط: يندقاه. وما هنا عن تاريخ الطبري.

(7)

في أ، ط: بسيف. وما هنا عن تاريخ الطبري.

ص: 255

قال: ثم استلب التركيَّ طوقَه ووقف موضعه، فخرج آخرُ عليه طوقٌ ومعه طبلٌ فجعل يضرب بطبله. فتقدم إليه الأحنف فقتله أيضًا واستلبه طوقه، ووقف موضعه فخرج ثالث فقتله وأخذ طوقه، ثم أسرع الأحنف الرجوع إلى جيشه ولا يعلم بذلك أحدٌ من الترك بالكلية. وكان من عادتهم أنهم لا يخرجون من مبيتهم حتى تخرج ثلاثةٌ من كهولهم بين أيديهم يضرب الأول بطبله، ثم الثاني ثم الثالث. ثم يخرجون بعد الثالث. فلما خرجت الترك (ليلتئذ) بعد

(1)

الثالث، فأتَوْا على فرسانهم مُقَتَّلين، تشاءم بذلك الملك خاقان وتَطيَّر، وقال لعسكره: قد طال مقامنا وقد أصيب

(2)

هؤلاء القوم بمكانٍ لم نصب بمثله، ما لنا في قتال هؤلاء القوم من خير، فانصرفوا بنا. فرجعوا إلى بلادهم وانتظرهم المسلمون يومهم ذلك ليخرجوا إليهم من شُعَبهم فلم يَرَوْا أحدًا منهم، ثمّ بلغهم انصرافُهم إلى بلادهم راجعين عنهم (وقد كان يَزْدَجرد -وخاقان في مقابلة الأحنف بن قيس ومقاتلته- ذهب) إلى مرو الشاهجان فحاصرها وحارثة

(3)

بن النعمان بها، واستخرج منها خزانته التي كان دفنها بها، ثم رجع وانتظره خاقان ببلخ حتى رجع إليه.

وقد قال المسلمون للأحنف: ما ترى في اتباعهم؟ فقال: أقيموا بمكانكم ودعوهم. وقد أصاب الأحنف في ذلك، فقد جاء في الحديث "اتركوا الترك ما تركوكم"

(4)

وقد {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} [الأحزاب: 25]. ورجع كسرى خاسرًا الصفقةَ لم يُشْفَ له غَليلٌ، ولا حصلَ على خيرٍ، ولا انتصرَ كما كان في زعمه، بل تخلى عنه من كان يرجو النصرَ منه، وتنحَّى عنه وتبرَّأ منه أحوجَ ما كانَ إليه، وبقي مذبذبًا لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} [النساء: 88] وتحيَّر في أمره ماذا يصنع؟ وإلى أين يذهب؟ وقد أشار عليه بعض أولي النُّهى من قومه حين قال: قد عزمت أن أذهب إلى بلاد الصِّين أو أكون مع خاقان في بلاده. فقالوا: إنا نرى أن نصانع هؤلاء القوم فإنَّ لهم ذمَّة ودينًا يرجعون إليه، فنكون في بعض هذه البلاد وهم مجاورينا

(5)

، فهم خيرٌ لنا من غيرهم. فأبى عليهم كسرى ذلك. ثم بعث إلى ملك الضين يستغيث به ويستنجده فجعلَ ملكُ الصين يسأل الرسولَ عن صفةِ هؤلاء القوم الذين قد فتحوا البلادَ وقهروا رقابَ العباد، فجعل يخبره عن صفتهم، وكيف يركبون الخيلَ والإبل، وماذا يصنعون؟ وكيف يُصلُّون. فكتب معه إلى يزدجرد: إنه لم يمنعني أن أبعثَ إليكَ بجيش أوّلهُ بمرو وآخره بالصّين، الجهالةُ بما يحقُّ عليُّ

(6)

، ولكنَّ هؤلاء

(1)

في ط: سعد؛ تحريف.

(2)

في أ: أصيبت.

(3)

فحاصر حارثة بن النعمان بها.

(4)

رواه أبو داود مختصرًا رقم (4302) والنسائي (6/ 43) بلفظ "دعوا الحبشة ما ودعوكم، واتركوا الترك ما تركوكم" وهو حديث حسن.

(5)

كذا في الأصل والمطبوع: وهو مجاورينا، والصواب: وهم مجاورونا.

(6)

في أ: بما نحن عليه.

ص: 256

القوم الذين وصفَ لي رسولُك (صفتَهم لو يحاولون الجبال لهدُّوها، ولو جئتُ لنصركَ أزالوني ما داموا على ما وصف لي رسولك) فسالِمْهُم وارضَ منهم بالمسالمة.

فأقام كسرى وآل كسرى في بعض البلاد مقهورين. ولم يزل ذلك دأبه حتى قُتل بعد سنتين من إمارة عثمان كما سنورده في موضعه.

ولما بعث الأحنف بكتاب الفتح، وما أفاءَ اللهُ عليهم من أموال الترك ومنْ كانَ معهم، وأنَّهم قتلوا منهم مع ذلك مقتلةً عظيمةً. ثم ردّهم اللهُ بغيظهم لم ينالوا خيرًا. فقام عمرُ على المنبر وقُرئ الكتابُ بين يديه، ثم قال عمر: إن اللهَ بعثَ محمدًا بالهدى ووعد على اتباعه من عاجل الثواب وآجله خير الدنيا والآخرة، فقال:{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33] فالحمدُ لله الذي أنجز وعدَه! ونصرَ جندَه. ألا وإنّ اللهَ قد أهلكَ ملكَ المجوسية، وفرَّق شملَهم، فليسوا يملكون من بلادهم شِبْرًا يُضير بمسلمٍ، ألا وإنَّ الله قد أورثكم أرضَهم وديارَهم وأموالَهم وأبناءَهم، لينظرَ كيف تعملون!! فقوموا في أمره، على وَجَلٍ، يُوفّ لكم بعهده، ويُؤْتِكم وعدَه، ولا تغيِّروا يستبدل قومًا غيركم، فإني لا أخاف على هذه الأمة أن تُؤْتى إلا من قبلكُم.

وقال شيخنا أبو عبد الله الذهبي الحافظ

(1)

في تاريخ هذه السنة -أعني سنة اثنتين

(2)

وعشرين-: وفيها فتحت أَذْرَبيجان على يَدَي المُغيرة بن شُعبة. قاله ابن إسحاق: فيقال: إنه صالحهم على ثمانمئة ألف درهم. وقال أبو عبيدة: فتحها حبيب بن مَسْلَمة

(3)

الفِهْري بأهل الشام عنوةً، ومعه أهلُ الكوفة فيهم حُذَيْفة فافتتحها بعد قتال شديد، والله أعلم. وفيها افتتح حذيفة الدينور عنوة- بعد ما كان سعد افتتحها فانتقضوا

(4)

عهدهم-.

وفيها افتتح حذيفة ماه سندان عنوةً -وكانوا نَقَضُوا أيضًا عهدَ سعد- وكان مع حذيفة أهل البصر

(5)

(فلحقهم أهل الكوفة) فاختصموا في الغنيمة، فكتب عمر: إنَّ الغنيمةَ لمنْ شهدَ الوقعة. قال أبو عبيدة: ثم غزا حذيفة هَمَذان فافتتحها عنوةً، ولم تكن فُتحت قبل ذلك، وإليها انتهى فتوح حذيفة. قال: ويقال: افتتحها جريرُ بن عبد الله بأمر المغيرة ويقال: افتتحها المغيرة سنة أربع وعشرين.

وفيها افتُتحت جُرجان.

(1)

في تاريخ الإسلام (2/ 45).

(2)

في أ: ثنتين.

(3)

في ط: سلمة؛ تحريف.

(4)

في أ: فانتقض.

(5)

في أ: الشام.

ص: 257

قال خليفة

(1)

: وفيها افتتح عمرو بن العاص طرابلس المغرب، ويقال في السنة التي بعدها.

قلت: وفي هذا كلّه غرابة لنسبته

(2)

إلى ما سلف، والله أعلم.

قال شيخنا: وفيها توفي أُبيّ بن كعب في قول الواقدي وابن نمير والذهلي والترمذي، وقد تقدم في سنة تسع عشرة.

ومعضد بن يزيد الشيباني استشهد بأذربيجان ولا صحبة له.

‌ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين

وفيها وفاة عمر بن الخطاب رضي الله عنه

قال الواقدي وأبو معشر

(3)

: فيها كان فتح إصطخر وهَمَذان. وقال سيف: كان فتحها بعد فتح تَوَّج

(4)

الآخرة. ثم ذكر أنَّ الذي افتتح تَوّج مجاشعُ بن مسعود، بعد ما قَتَلَ من الفرس مقتلةً عظيمة وغنِمَ منهم غنائمَ جمةً، ثم ضربَ الجزية على أهلها، وعقدَ لهم الذمةَ، ثم بعث بالفتح وخُمْسِ الغنائم إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه. ثم ذكر أنَّ عثمان بن أبي العاص افتتح جُور

(5)

بعد قتالٍ شديدٍ كان عندها، ثم افتتح المسلمون إصطخر -وهذه المرة الثانية-، وكان أهلها قد نقضوا (العهد) بعد ما كان جند العلاء بن الحضرمي افتتحوها حين جاز في البحر -من أرض البحرين- والتقوا هم والفرس في مكان يقال له طاوس، كما تقدَّم بسط ذلك في موضعه. ثم صالحه الهِرْبذُ على الجزية، وأن يضرب لهم الذمة. ثم بعث بالأخماس والبشارة إلى عمر.

قال ابن جرير

(6)

: وكانت الرسل لها جوائز، وتُقْضى لهم حوائج، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعاملهم بذلك.

ثم إنَّ شهرك خلع العهد، ونقضَ الذمَّة، ونشَّط الفرسَ، فنقضوا، فبعث إليهم عثمان بن أبي العاص ابنَه وأخاه الحكم، فاقتتلوا مع الفرس فهزم الله جيوش المشركين، وقتلَ الحكمُ بن أبي العاص شهرك، وقتلَ ابنَه معه أيضًا. وقال أبو معشر: كانت فارس الأولى وإصْطَخر الآخرة سنة ثماني وعشرين في إمارة عثمان، وكانت فارس الآخرة و (وقعة) جُور في سنة تسعٍ وعشرين.

(1)

تاريخ خليفة (ص 152).

(2)

في أ: بالنسبة.

(3)

تاريخ الطبري (4/ 174) والكامل لابن الأثير (3/ 39 - 40).

(4)

توَّج: مدينة بفارس قريبة من كازرون شديدة الحرّ لأنها في غور من الأرض ذات نخل - معجم البلدان (2/ 56).

(5)

جور: مدينة بفارس بينها وبين شيراز عشرون فرسخًا، وهي مدينة نزهة طيبة. معجم البلدان (2/ 181 - 182).

(6)

في تاريخه (4/ 175).

ص: 258

‌فتح فَسَا ودَارَابجَرْد وقصة سارية بن زُنَيْم

ذكر سيفُ

(1)

عن مشايخه أنَّ سارية بن زُنَيْم قصدَ فَسَا ودارابجَرْد، فاجتمع

(2)

له جموعٌ - من الفرس والأكراد- عظيمة، ودهمَ المسلمين منهم أمرٌ عظيمٌ وجمعٌ كثيرٌ، فرأى

(3)

عمر في تلك الليلة فيما يرى النائمُ معركتَهم وعددَهم في وقتٍ من النهار، وأنهم في صحراء وهناك جبلٌ إن أسندوا إليه لم يؤتوا إلا من وجه واحد، فنادى من الغد الصلاة جامعة، حتى إذا كانت الساعة التي رأى أنهم اجتمعوا فيها، خرج إلى الناس وصعد المنبر، فخطب الناس وأخبرهم بصفة ما رأى، ثم قال: يا ساريةُ الجبلَ الجبلَ، ثم (أقبل عليهم) وقال: إن لله جنوداً ولعلَّ بعضَها أن يبلغهم. قال: ففعلوا ما قال عمر، فنصرهم اللهُ على عدوهم، وفتحوا البلد.

وذكر سيف

(4)

في رواية أخرى عن شيوخه أنَّ عمر (بينما هو يخطب يوم الجمعة إذ) قال: يا سارية بن زُنَيْم الجبلَ الجبلَ. فلجأ المسلمون إلى جبل هناك فلم يقدر العدو عليهم إلا من جهةٍ واحدةٍ فأظفرهم الله بهم، وفتحوا البلد. وغنموا شيئًا كثيرًا، فكان من جملة ذلك سفط من جوهر فاستوهبه ساريةُ من المسلمين لعمر، فلما وصل إليه مع الأخماس قدم الرسول بالخمس فوجد عمر قائمًا في يده عصا وهو يطعم المسلمين سماطهم، فلما رآه عمر قال له: اجلس -ولم يعرفه-، فجلس الرجل فأكل مع الناس، فلمَّا فرغوا انطلق عمر إلى منزله واتبعه الرجل، فاستأذن فأذن له، وإذا هو قد وُضع له خبزٌ وزيتٌ وملحٌ، فقال: ادنُ فكُلْ. قال: فجلستُ فجعل يقول لامرأته: ألا تخرجين يا هذه فتأكلين؟ فقالت: إني أسمع حسَّ رجلٍ عندك. فقال: أجل، فقالت: لو أردتَ أن أبرزَ للرجال اشتريتَ لي غيرَ هذه الكسوة. فقال: أو ما ترضَيْنَ أن يُقال أم كلثوم بنت علي وامرأة عمر. فقالت: ما أقلَّ غَناء ذلك (عني). ثم قال للرجل: ادنُ فكُل فلو كانت راضية لكانَ أطيبَ مما ترى [قال] فأكلا فلما فرغا قال: أنا رسول ساريةَ بن زُنَيْمٍ يا أمير المؤمنين. فقال: مرحبًا وأهلًا. ثم أدناه حتى مست ركبتُه ركبتَه، ثم سأله عن المسلمين، ثم سأله عن سارية (بن زُنَيْم)، فأخبره ثم ذكر له شأنَ السفط من الجوهر، فأبى أن يقبله، وأمر بردِّه إلى الجند. وقد سأل أهل المدينة رسولَ ساريةَ عن الفتح فأخبرهم، فسألوه: هل سمعوا صوتًا يوم الوقعة؟ قال: نعم، سمعنا قائلًا يقول: يا ساريةُ الجبلَ، وقد كدنا

(5)

نهلك فلجأنا إليه، ففتح الله علينا.

(1)

تاريخ الطبري (4/ 178).

(2)

في أ: واجتمع.

(3)

في أ: ورأى.

(4)

الخبر في تاريخ الطبري (4/ 178) والكامل لابن الأثير (3/ 42 - 43) وتاريخ الإسلام (2/ 49).

(5)

في أ: كنا. وما عنا موافق لتاريخ الطبري.

ص: 259

ثم رواه سيفٌ، عن مجالد، عن الشعبيّ بنحو هذا.

وقال عبد الله بن وهب، عن يحيى بن أيوب، عن ابن عجلان، عن نافع، عن ابن عمر أنَّ عمرَ وجَّه جيشًا ورأَّسَ عليهم رجلًا (يقال له سارية) قال: فبينما عمرُ يخطب (فجعل ينادي): يا ساري الجبل (يا ساري الجبل ثلاثًا) ثم قدم رسولُ الجيش فسأله عمر: فقال: يا أميرَ المؤمنين هُزمنا، فبينما نحن كذلك إذ سمعنا مناديًا: يا سارية الجبلَ، ثلاثًا -فأسندنا ظهورنا بالجبل، فهزمهم الله. قال: فقيل لعمر: إنك كنتَ تصيحُ بذلك. وهذا إسناد جيد حسن.

وقال الواقدي: حدَّثني نافعُ بن أبي نُعيم، عن نافع مولى ابن عمر. أنَّ عمر قال على المنبر: يا سارية بن زُنَيْم الجبلَ. فلم يدرِ الناسَ ما يقولُ حتى قدم ساريةُ بن زُنَيْم المدينةَ على عمر، فقال: يا أمير المؤمنين، كنّا محاصري العدوّ فكنَّا نُقيم الأيامَ لا يخرج علينا منهم أحدٌ، نحن في خفضٍ من الأرض وهم في حصنٍ عالٍ، فسمعتُ صائحًا يُنادي بكذا وكذا يا سارية بن زُنَيْم الجبلَ، فعلوتُ بأصحابي الجبلَ، فما كان إلا ساعةً حتى فتحَ اللهُ علينا.

وقد رواه الحافظ أبو القاسم اللالكائي من طريق مالك، عن نافع، عن ابن عمر بنحوه، وفي صحته من حديث مالك نظر.

وقال الواقدي: حدَّثني أسامةُ بن زيد عن أسلم عن أبيه، وأبو سليمان عن يعقوب بن زيد قالا: خرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوم الجمعة إلى الصلاة، فصعدَ المنبر، ثم صاح: يا سارية بن زُنَيْم الجبلَ (يا سارية بن زُنَيْم الجبلَ)، ظُلِمَ منِ اسْتَرْعى الذئبَ الغنمَ. ثم خطب حتى فرغ، فجاء كتابُ سارية إلى عمر: إنَّ الله قد فتح علينا يوم الجمعة ساعة كذا وكذا -لتلك الساعة التي خرج فيها عمر فتكلم

(1)

على المنبر- قال: سارية فسمعت صوتًا يا سارية بن زُنَيْمِ الجبلَ، يا سارية بن زنيم الجبل، ظلم من استرعى الذئب الغنم، فعلوت بأصحابي الجبل، ونحن قبل ذلك في بطن وادٍ، ونحن محاصرو العدو. ففتحَ الله علينا. فقيل لعمر بن الخطاب: ما ذلك الكلام؟ فقال: والله ما ألقيت له إلَّا بشيء ألْقِيَ على لساني. فهذه طرقٌ يشدُّ

(2)

بعضُها بعضًا.

[فتح كَرْمان وسِجْسِتان ومُكران]

ثم ذكر ابنُ جرير

(3)

من طريق سيفٍ عن شيوخه فتحَ كَرْمان على يديْ سُهَيْل بن عدي وأمدَّه عبد الله بن عبد الله بن عِتْبان، وقيل على يَدَيْ عبد الله بن بُدَيْل بن ورقاء الخُزاعي، وذكر فتح سِجْسِتان

(4)

على

(1)

في أ: ليتكلم.

(2)

في أ: تشدّ.

(3)

في تاريخه (4/ 180 - 181).

(4)

سجستان: ناحية كبيرة وولاية واسعة، تقع جنوبي هراه وبينهما عشرة أيام ثمانون فرسخًا، وأرضها كلّها رملية=

ص: 260

يَدَيْ

(1)

عاصم بن عمرو، بعد قتالٍ شديدٍ، وكانت ثغورها متسعةً، وبلادها متنائية

(2)

، ما بين السند إلى نهر بلخ، وكانوا يقاتلون القُنْدَهار والترك من ثغورها وفروجها. وذكر فتح مُكران على يَدَي الحَكم بن عمرو، وأمدّه بشهاب بن المخارق ين شهاب، وسُهَيْل بن عدي، وعبد الله بن عبد الله واقتتلوا

(3)

مع ملك السند فهزمَ اللهُ جموعَ السِّند، وغنم المسلمون منهم غنيمةً كثيرةً، وكتب الحكم بن عمرو بالفتح وبعث بالأخماس مع صُحار العَبْديّ، فلمّا قدم على عمر سأله عن أرض مُكران فقال: يا أمير المؤمنين، أرضٌ سهلُها جبلٌ، وماؤُها وَشَلُ

(4)

، وتَمْرُها

(5)

دَقَلُ

(6)

، وعدوُّها بطلٌ، وخيرُها قليلٌ، وشرُّها طويلٌ، والكثيرُ بها قليلٌ، والقليلُ بها ضائعٌ، وما وراءها شرٌّ منها. فقال عمر: أسجَّاعٌ أنتَ أم مُخْبِر؟ (فقال: لا، بل مُخْبِرٌ)، فكتب عمر إلى الحكم بن عمرو أن لا يغزو بعد ذلك مُكران، وليقتصروا على ما دون النهر.

وقد قال الحكم بن عمرو في ذلك

(7)

: [من الوافر]

لَقَدْ شَبِعَ الأراملُ غيرَ فَخْرٍ

بِفَيْءٍ جاءَهم من مُكُّرانِ

أتَاهُمْ بَعْدَ مَسْغَبَةٍ وجَهْدٍ

وقدْ صَفِرَ الشِّتاءُ منَ الدُّخانِ

فَإنّي لا يَذُمُّ الجَيْشُ فِعْلي

ولا سَيْفي يُذَمُّ ولا لساني

(8)

غَدَاة أُدافِعٌ

(9)

الأوْباش دَفْعًا

إلى السِّنْدِ العَريضة والمَداني

ومِهْرانٌ لنا فيما أرَدْنا

مُطِيعٌ غير مُسْترخي العِنان

(10)

فَلَوْلا ما نَهَى عنه أميري

قَطعْناهُ إلى البُدُدِ الزَّوَاني

‌غزة الأكراد

ثم ذكر ابن جرير

(11)

بسنده، عن سيفٍ، عن شيوخه: أن جماعةً من الأكراد والتفَّ إليهم طائفةٌ من

= سبخة. معجم البلدان (3/ 190 - 192).

(1)

في أ: على يد.

(2)

في أ: متباينة.

(3)

في أ: فاقتتلوا.

(4)

الوشل: الماء القليل. اللسان (وشل).

(5)

في أ، ط: ثمرها. وما هنا عن الطبري.

(6)

الدَّقَلُ من التمر: هو أردأ أنواعه.

(7)

الأبيات في تاريخ الطبري (4/ 182 - 183) ومعجم البلدان (5/ 179) دون الأخير.

(8)

في تاريخ الطبري والمعجم: ولا سناني.

(9)

في تاريخ الطبري: أدَفِّعُ. وفي معجم البلدان: أُرَفِّعُ.

(10)

في معجم البلدان: الهوان.

(11)

في تاريخه (4/ 183).

ص: 261

الفرس اجتمعوا، فلقيهم أبو موسى بمكانٍ من أرض بَيْرُوذ قريب من نهر تيرَى، ثم سار عنهم أبو موسى إلى أصبهان وقد استخلف على حربهم الربيع بن زياد بعد مقتل أخيه المهاجر بن زياد، فتسلَّم الحرب وحنق

(1)

عليهم، فهزم اللهُ العدوَّ وله الحمدُ والمنةُ، كما هي عادته المستمرة وسنته المستقرَّة، في عباده المؤمنين، وحزبه المفلحين، من أتباع سيد المرسلين. ثم خُمست الغنيمة وبعث بالفتح والخمس إلى عمر رضي الله عنه، وقد سار ضَبَّة بن مِحْصن العَنَزيّ، فاشتكى أبا موسى إلى عمر، وذكر عنه أمورًا لا ينقم عليه بسببها، فاستدعاه عمر فسأله عنها، فاعتذر منها بوجوهٍ مقبولةٍ فسمعها عمر وقبلها، وردّه إلى عمله وعذر ضَبَّةَ فيما تأوّله، ومات عمر، وأبو موسى على صلاة البصرة.

‌خبر سلمة بن قيس الأشْجَعي والأكراد

بعثه عمر على سرية ووصاه بوصايا كثيرة بمضمون حديث بُرَيْدة في صحيح مسلم

(2)

"اغزوا بسم الله قاتلوا من كفر بالله

" الحديث إلى آخره، فساروا فلقوا جمعًا من المشركين فدعوهم إلى إحدى ثلاث خلال، فأبوا أن يقبلوا واحدة منها، فقاتلوهم فقتلوا مقاتلتهم، وسبوا ذراريهم، وغنموا أموالهم.

ثم بعث سلمة بن قيس رسولًا إلى عمر بالفتح وبالغنائم، فذكروا وروده على عمر وهو يطعم الناس، وذهابه معه إلى منزله، كنحو ما تقدَّم من قصة أمَّ كلثوم بنت علي، وطلبها الكسوة كما يكسي طلحة وغيره أزواجهم، فقال: ألا يكفيك أن يقال بنت علي وامرأة أمير المؤمنين؟ ثم ذكر طعامه الخشن، وشرابه من سُلْت

(3)

، ثم شرع يستعلمه عن أخبار المهاجرين، وكيف طعامهم وأشعارهم، وهل يأكلون اللحم الذي هو شجرتهم، ولا بقاء للعرب دون شجرتهم؟ وذكر عرضه عليه ذلك السفط من الجوهر، فأبى أن يأخذه وأقسم على ذلك، وأمره بأن يردَّه فيقسم بين الغانمين. وقد أورده ابن جرير

(4)

مطولًا جدًا.

وقال ابن جرير

(5)

: وفي هذه السنة حجَّ عمرُ بأزواجِ النبي صلى الله عليه وسلم، وهي آخر حجَّةٍ حجَّها رضي الله عنه.

قال: وفي هذه السنة كانت

(6)

وفاته. ثم ذكر صفة قتله مطولًا أيضا

(7)

، وقد ذكرت ذلك مستقصى في آخر سيرة عمر، فليكتب من هناك إلى هنا.

(1)

في أ: وهو حتف.

(2)

صحيح مسلم (1731)(3) في الجهاد والسير.

(3)

السُّلْتُ: سويق الحنطة أو الشعير. اللسان (سلت).

(4)

في تاريخه (4/ 186 - 190).

(5)

في تاريخه (4/ 190).

(6)

في أ: كانت سنة وفاته.

(7)

تاريخ الطبري (4/ 190 - 241).

ص: 262

[وفاة عمر بن الخطاب رضي الله عنه]

وهو عُمر بن الخَطّاب

(1)

بن نُفَيْل بن عبد العُزَّى بن رياح بن عبد الله بن قُرْط بن رَزاح بن عديّ بن كَعْب بن لُؤَيّ (بن غالب) بن فِهْر بن مالكْ بن النَّضْر بن كنانة بن خُزيمة بن مُدْركة بن إلياس بن مُضَر بن نزار بن مَعَدّ بن عدنان القرَشي، أبو حَفْص العَدوي، المُلَقب بالفاروق، قيل: لقَّبه بذلك أهلُ الكتاب.

[وأمه حَنْتَمة بنت هشام أخت أبي جهل بن هشام

(2)

. أسلم عمر وعمره سبعُ وعشرون سنة، وشهد بدرًا وأحدًا والمشاهدَ كلَّها مع النبي-صلى الله عليه وسلم، وخرج في عدة سرايا، وكان أميرًا على بعضها، وهو أولُ من دُعي أميرَ المؤمنين، وأولُ من كتب التاريخ، وجمع الناس على التّراويح، وأولُ من عَسَّ بالمدينة، وحمل الدِّرَّة وأدَّب بها، وجلد في الخمر ثمانين، وفتح الفتوح، ومصَّر الأمصار، وجنَّد الأجناد. ووضع الخَراج، ودوَّنَ الدواوين، وفرض الأعطية، واستقضى القضاة، وكوَّر الكُورَ، مثل السَّواد والأهْواز والجبال وفارس وغيرها، وفتح الشام كلّه، والجزيرةَ والموصلَ، ومَيّا فارقين، وآمد، وأرْمينية، ومصر وإسكندرية. ومات وعساكرُه على بلاد الرّيّ. فتح من الشام اليَرْموك وبُصرى ودمشق والأرْدُن، وبَيْسان، وطَبَريَّة، والجابية، وفلسطين، والرَّمْلة، وعَسْقَلان، وَغَزة، والسواحل، والقُدْس. و (فتح) مصر وإسكندرية وطرابلس الغرب وبرقة، ومن مدن الشام: بعلبك، وحمص، وقنّسرين، وحلب، وأنطاكية و (فتح) الجزيرةَ وحرّان والرُّها والرَّقة ونَصيبين ورأس عين وسُمَيْساط

(1)

لا يخلو كتاب من كتب التراجم من ترجمة عمر رضي الله عنه، ونكتفي هنا بذكر أهم هذه المصادر وهي: تاريخ الطبري (4/ 190 - 241) والاستيعاب (3/ 1144 - 1159) وتاريخ دمشق (مجلد بكامله) وأسد الغابة (4/ 145 - 186) وتهذيب الكمال (21/ 316) وتاريخ الإسلام للذهبي (2/ 50 - 60) والإصابة (3/ 518 - 519) وتاريخ الخلفاء - بتحقيق الأستاذ إبراهيم الصالح - (133 - 177).

(2)

اختلفت المصادر في أم عمر رضي الله عنه، هل هي بنت هشام فتكون أخت أبي جهل أم بنت هاشم فتكون بنت عمه. والذي قال بالرأي الأول غير ابن كثير الطبري في تاريخه (4/ 195) وابن الأثير في جامع الأصول (12/ 305) والذهبي في تاريخ الإسلام (2/ 50)، وقال بالرأي الآخر ابن حجر في الإصابة (2/ 518) وابن عبد البر في الاستيعاب (3/ 1144) وابن الأثير في أسد الغابة (4/ 145) والمزي في تهذيب الكمال (21/ 317) وقال: بنت هاشم أصح؛ بل إن ابن عبد البر خطَّأ من قال بالرأي الأول وهو أنها أخت أبي جهل، وقد لخّص ابن الأثير المشكلة فيما يلي وقال: وأمه حنتمة بنت هاشم بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وقيل: حنتمة بنت هشام بن المغيرة، فعلى هذا تكون أخت أبي جهل، وعلى الأول تكون ابنة عمه. قال أبو عمر: ومن قال ذلك -يعني بنت هشام- فقد أخطأ، ولو كانت كذلك لكانت أخت أبي جهل والحارث ابني هشام، وليس كذلك وإنما هي ابنة عمهما؛ لأن هشامًا وهاشمًا ابني المغيرة أخوان، فهاشم والدحنتمة، وهشام والد الحارث وأبي جهل، وكان يقال لهاشم جدّ عمر ذو الرمحين. وقال ابن مندة: أم عمر أخت أبي جهل. وقال أبو نعيم: هي بنت هشام أخت أبي جهل، وأبو جهل خاله، ورواه عن ابن إسحاق. وقال الزُّبير: حنتمة بنت هاشم فهي ابنة عم أبي جهل -كما قال أبو عمر- وكان لهاشم أولاد فلم يعقبوا.

ص: 263

وعين وردة وديار بكر وديار ربيعة وبلاد المَوْصل وأرْمينية جميعها، وبالعراق: القادسية والحيرة ونهر شير وساباط ومدائن كسرى وكورة الفرات ودجلة والأُبُلَّة والبصرة والأَهْواز وفارس ونَهاوند وهَمَذان والزَفي وقُومس وخراسان وإصْطخر وأصبهان والسّوس ومرو ونَيْسابور وجُرجان وأذْرَبيجان وغير ذلك، وقطعت جيوشه النهر مرارًا.

وكان متواضعًا في الله، خشن العيش، خشن المطعم، شديدًا في ذات الله، يرقع الثوب بالأديم، ويحمل القربة على كتفيه، مع عظم هيبته، ويركب الحمار عريًا، والبعير مخطومًا بالليف، وكان قليل الضحك، لا يمازح أحدًا، وكان نقش خاتمه: كَفَى بالموتِ واعظًا يا عُمَر

(1)

.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أشد أمتي في دين الله عمر"

(2)

. وعن ابن عباس أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ لي وزيرين من أهل السماء ووزيرين من أهل الأرض، فوزيراي من أهل السماء جبريل وميكائيل، ووزيراي من أهل الأرض أبو بكر وعمر، وإنَّهما السمع والبصر"

(3)

.

وعن عائشة أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ الشيطان يَفْرَق من عمر"

(4)

.

وقال: " أرحمُ أمتي أبو بكر، وأشدُّها في دين الله عمر"

(5)

.

وفيل لعمر: إنك قضاء. فقال: الحمدُ الله الذي ملأ قلبي لهم رُحمًا، وملأ قلوبهم لي رعبًا.

وقال عمر: لا يحلُّ لي من مال الله إلا حلَّتان حلَّة للشتاء وحلَّة للصيف، وقوت أهلي كرجل من قريش ليس بأغناهم، ثم أنا رجل من المسلمين.

وكان عمر إذا استعمل عاملًا كتب له عهدًا وأشهد عليه رهطًا من المهاجرين واشترط عليه أن لا يركب برذونًا، ولا يأكل نقيًا، ولا يلبس رقيقًا، ولا يغلق بابهَ دون ذوي الحاجات. فإن فعل شيئًا من ذلك حَلَّتْ عليه العقوبةُ.

وقيل إنَّه كان إذا حدَّثه الرجل بالحديث فيكذب فيه الكلمة والكلمتين فيقول عمر: احبس هذه احبس هذه، فيقول الرجل: والله كلُّ ما حدَّثتك به حقٌّ غير ما أمرتني أن أحبسه.

وقال معاوية بن أبي سفيان: أمَّا أبو بكر فلم يُرد الدنيا ولم تُرده، وأما عمر فارادته فلم يردها، وأما

(1)

الخبر في تاريخ ابن عساكر -مجلد عمر بن الخطاب- (ص 221).

(2)

سيأتي تخريجه بعد قليل.

(3)

الحديث أخرجه الترمذيّ [في جامعه (3680) في المناقب] وإسناده ضعيف، والجملة الأخيرة منه "هذان السمع والبصر" رواه الترمذيّ رقم (3671) من حديث عبد الله بن حنطب، وهو حديث حسن.

(4)

رواه أحمد (5/ 353) والترمذي رقم (3690) من حديث بريدة، وهو حديث صحيح.

(5)

قطعة من حديث عن أنس رضي الله عنه أخرجه أحمد في مسنده (3/ 184) والترمذي (3791) والنسائي في فضائل الصحابة رقم (182) وابن حبان في صحيحه -الإحسان- (16/ 74 و 85) رقم (7131 و 7137)، وهو حديث صحيح بطرقه وشواهده.

ص: 264

نحن فتمرَّغنا فيها ظَهْرًا لبطنٍ. وعُوتب عمر فقيل له: لو أكلتَ طعامًا طيبًا كان أقوىَ لك على الحقِّ؟ فقال: إنّي تركتُ صاحبيَّ على جادةٍ، فإن أدركتُ جادَّتهما فلم أدركهما في المنزل. وكان يلبسُ، وهو خليفةٌ، جبةَ صوفٍ مرقوعة بعضها بأدم، ويطوفُ بالأسواق على عاتفه الدِّرَّةُ يُؤدِّبُ بها الناسَ، وإذا مرَّ بالنوى وغيره يلتقطه ويرمي به في منازل الناس ينتفعون به.

وقال أنس: كان بين كَتفَيْ عمر أربعُ رقاعٍ، وإزارُه مرقوعُ بأدمٍ، وخطبَ على المنبر، وعليه إزارٌ فيه اثنتا عشرة رقعةً، وأنفقَ في حجته ستة عشر دينارًا، وقال لابنه: قد أسرفنا.

وكان لا يستظلُّ بشيء غيرَ أنَّه كان يُلقي كساءَه على الشجر ويستظلُّ تحتَهُ، وليس له خيمةٌ ولا فُسطاط

(1)

. ولما قدمَ الشامَ لفتح بيتِ المقدس كان على جملٍ أورق

(2)

، تلوحُ صلعته للشمس، وليس عليه قلنسوةٌ ولا عمامةٌ قد طبق رجليه بين شعبي الرَّحل بلا ركاب، ووطاؤه كبشٌ

(3)

من صوف، وهو فراشُه إذا نزل، وحقيبته

(4)

محشوةٌ ليفًا، وهي وسادتُه إذا نام، وعليه قميصٌ من كرابيس

(5)

قد رُسِّم

(6)

وتخرَّق جيبه، فلمَّا نزل قال: ادعوا لي رأسَ القرية، فَدَعَوْهُ فقال: اغسلوا قميصي وخَيَّطُوه وأَعيروني قميصًا، فأُتي بقميصِ كتانٍ، فقال: ما هذا؟ فقيل كَتَّانٌ. فقال: فما الكَتَّان؟ فأخبروه. فنزعَ قميصَه فغسلوه وخاطوه

(7)

ثم لبسه، فقال له: أنت ملكُ العرب، وهذه بلاد لا يصلح فيها ركوبُ الإبل. فأُتي ببِرْذَونٍ فطُرح عليه قطيفةٌ بلا سَرْج ولا رَحْلٍ، فلمَّا سار جعل [البرذون]

(8)

يهملج

(9)

به فقال لمن معه: احبسوا، ما كنتُ أظنُ الناسَ يركبون الشياطينَ، هاتُوا جَمَلي. ثم نزل وركب الجملَ.

وعن أنس قال: كنتُ مع عمر فدخل حائطًا لحاجته، فسمعتُه يقول -وبيني وبينه جدارُ الحائط- عمر بن الخطاب أمير المؤمنين بَخٍ بَخٍ، والله لَتَتَّقينَّ اللهَ بنيّ الخطاب أو ليُعَذبنَّكَ. وقيل: إنه حملَ قربةً على عاتقه، فقيل له في ذلك فقال: إنَّ نفسي أعجبتني، فأردتُ أن أذلَّها؟ وكان يصلِّي بالناس العشاء

(10)

ثم يدخل بيتَه، فلا يزالُ يصلِّي إلى الفجر

(11)

. وما مات حتى سَرَد الصومَ، وكان في عام

(1)

الفُسطاط: بيت من شَعرٍ، وفيه لغات: فُسْطاط، وفسْتاط، وفسّاط، وكسر الفاء لغة فيهن. اللسان (فسط).

(2)

الأورق من الإبل؛ الذي في لونه بياض إلى سواد. اللسان (ورق).

(3)

ثوب أكباش من برود اليمن. اللسان (كبش).

(4)

الحقيبة تكون على عجز البعير، وهي وعاء يجعل الرجل فيه زاده. اللسان (حقب).

(5)

كرابيس: جمع كرباس: وهو القطن. اللسان (كربس).

(6)

ثوب مُرَسَّم -بالتشديد- مخطط. اللسان (رسم).

(7)

في أ: وخيَّطوه.

(8)

كذا في ط وليس اللفظ في أ.

(9)

الهَمْلجة والهملاج: الحسن السير في سرعة وبخترة. اللسان (هملج).

(10)

في أ: العشيّ.

(11)

في هذا الكلام مبالغة.

ص: 265

الرَّمادة لا يأكلُ إلا الخبزَ والزيتَ حتى اسودَّ جلدُه ويقول: بئسَ الوالي أنا إن شبعتُ والناسُ جياعٌ. وكان في وجهه خطَّان أسودان من البكاء، وكان يسمعُ الآيةَ من القرآن فيغشى عليه فيُحمل صريعًا إلى منزله فيعاد أيامأ ليس به مرض إلَّا الخوف

(1)

.

وقال طلحة بن عبيد الله

(2)

: خرج عمر ليلةً في سواد الليل فدخل بيتًا فلما أصبحتُ ذهبتُ إلى ذلك البيت فإذا عجوزٌ عمياء مقعدةٌ فقلت لها: ما بالُ هذا الرجل يأتيك؟ فقالت: إنَّه يتعاهدني مدةَ كذا وكذا يأتيني بما يُصلحني ويُخرجُ عنّي الأذى. فقلت لنفسي: ثكلتكَ أمُّك يا طلحة، أعثراتِ عمر تتبع؟.

وقال أسلم مولى عمر: قدم المدينةَ رفقةٌ من تجارٍ، فنزلوا المُصلَّى فقال عمر لعبد الرحمن بن عوف: هل لكَ أن تحرسهم الليلة؟ قال نعم! فباتا يحرسانهم ويُصليان، فسمع عمر بكاءَ صبيٍّ فتوجَّه نحوه فقال لأمِّه: اتقي الله تعالى وأحسني إلى صبيِّكِ. ثم عاد إلى مكانه، فسمع بكاءه فعاد إلى أمه فقال لها مثل ذلك، ثم عاد إلى مكانه، فلمَّا كان آخرَ الليل سمع بكاء الصبيّ فأتى إلى أمِّه فقال لها: ويحك، إنك أم سوء، ما لي أرى ابنَك لا يقر منذ الليلة من البكاء؟! فقالت: يا عبدَ الله إني أشغلُه عن الطعام فيابى ذلك، قال: ولم؟ قالت: لأنَّ عمر لا يفرض إلا للمفطوم. قال: وكم عمر ابنك هذا؟ قالت: كذا وكذا شهرًا، فقال: ويحك لا تعجليه عن الفطام. فلمَّا صلَّى الصبحَ وهو لا يستبين للناس قراءته من البكاء. قال: بُؤسًا لعمر. كم قتلَ من أولاد المسلمين. ثم أمر مناديه فنادى، لا تعجلوا صبيانكم عن الفطام، فإنا نفرض لكل مولود في الإسلام. وكتب بذلك إلى الآفاق.

وقال أسلم: خرجتُ ليلةً مع عمر إلى ظاهر المدينة، فلاحَ لنا بيتُ شعر، فقصدناهُ، فإذا فيه امرأةٌ تمخض وتبكي، فسألها عمر عن حالها فقالت: أنا امرأة غَرِيبَهٌ

(3)

وليس عندي شيء. فبكى عمر، وعاد يُهَرْولُ إلى بيته، فقال لامرأته أمّ كلثوم بنت علي بن أبي طالب: هل لكِ في أجر ساقَهُ اللهُ إليكِ؟ وأخبرها الخبر، فقالت: نعم، فحمل على ظهره دقيقًا وشحمًا، وحملت أم كلثوم ما يصلحُ للولادة وجاءا، فدخلت أم كلثوم على المرأة، وجلس عمر مع زوجها -وهو لا يعرفه- يتحدث، فوضعتِ المرأةُ غلامًا، فقالت أم كلثوم: يا أمير المؤمنين بَشِّرْ صاحبَكَ بغلامٍ. فلما سمعَ الرجلُ قولَها استعظمَ ذلك، وأخذ يعتذرُ إلى عمر. فقال عمر: لا بأس عليك، ثم أوصلهم بنفقةٍ وما يصلحهم وانصرف.

وقال أسلم: خرجتُ ليلةً مع عمر إلى حرة واقم

(4)

، حتى إذا كنا بصرار

(5)

إذا بنار فقال: يا أسلم

(1)

في هذا الكلام مبالغة.

(2)

في الأصل والمطبوع: عبد الله.

(3)

في ط: عربية.

(4)

في أ: إلى الحرّة فإذا بنار فقال

وحرة واقم: إحدى حرَّتي المدينة، وهي الشرقية، سميت برجل من العماليق اسمه واقم، وكان قد نزلها في الدهر الأول. معجم البلدان (2/ 249).

(5)

صرار: موضع على ثلاثة أميال من المدينة على طريق العراق. معجم البلدان (3/ 398).

ص: 266

هاهنا ركبٌ قد قَصَّر بهم الليلُ، انطلقْ بنا إليهم، فأتيناهم فإذا امرأةٌ معها صبيانٌ لها وقِدْرٌ منصوبةٌ على النار وصبيانها يتضاغَوْن، فقال عمر: السلام عليكم يا أصحاب الضَّوْء، قالث: وعليكَ السلامُ. قال: أأدنو؟ قالت: ادن [بخيرٍ] أو دَعْ. فدنا فقال: ما بالُكم؟ قالت: قصَّرَ بنا الليلُ والبردُ. قال: فما بال هؤلاء الصبية يَتَضَاغَوْن؟)

(1)

قالت: من الجوع. فقال: وأي شيءٍ على النار؟ قالت: ماء أعللهم به حتى يناموا، الله بيننا وبين عمر. فبكى عمر، ورجع يُهرول إلى دار الدّقيق، فأخرج عِدْلًا من دقيقٍ وجرابَ شحمٍ، وقال: يا أسلم احمله على ظهري، فقلتُ: أنا أحملُه عنك. فقال: أنتَ تحملُ وزري يومَ القيامة؟ فحملته

(2)

على ظهره وانطلقنا إلى المرأة

(3)

فألقى عن ظهره وأخرجَ من الدقيق في القدر، وألقى عليه من الشَّحم، وجعل ينفخُ تحت القدر والدخان يَتَخَلَّل لحيتَه ساعةً، ثم أنزلها عن النار وقال: إيتيني بصَحْفة. فأُتي بها فغرفها

(4)

ثم تركها بين يدي الصِّبيان وقال: كُلُوا، فأكلوا حتى شبعوا -والمرأةُ تدعو له وهي لا تعرفُه- فلم يزل عندهم حتى نام الصغار

(5)

، ثم أوصلهم بنفقةٍ وانصرفَ، (ثم أقبلَ عَلَيَّ) فقال: يا أسلم، الجوعُ الذي أسهرهم وأبكاهم.

وقيل: إنَّ عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه رأى عمر وهو يعدو إلى ظاهر المدينة فقال له: إلى أين يا أميرَ المؤمنين؟ فقال: قد ندَّ بعيرٌ من إبل الصَّدَقة فأنا أطلبه. فقال: قد أتعبتَ الخلفاءَ من بعدك.

وقيل: إنَّه رأى جارية تتمايل من الجوع فقال: مَنْ هذه؟ فقالت ابنة عبد الله: هذه ابنتي. قال: فما بالُها؟ فقالت إنك تحبس عنَّا ما في يدك فيصيبنا ما ترى. فقال: يا عبدَ الله، بيني وبينكم كتابُ الله، والله ما أعطيكم إلَّا ما فرضَ الله لكم، أتريدون مني أن أُعطيَكم ما ليس لكم؟ فأعود خائنًا؟ رُوي ذلك عن الزهري.

[تسمية عمر أمير المؤمنين]

وقال الواقدي

(6)

: حدَّثنا أبو حَزْرَة

(7)

يعقوب بن مجاهد، عن محمد بن إبراهيم، عن أبي عمرو قال: قلت لعائشة: من سمَّى عمرَ الفاروقَ (أميرَ المؤمنين) قالت: النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أمير المؤمنين هو"

(8)

.

(1)

ما بين قوسين ساقط من أ.

(2)

في أ: فحمله.

(3)

في أ: الامرأة.

(4)

في أ: ثم غرفها.

(5)

في أ: حتى ناموا الصغار وهي لغة مفضولة.

(6)

الخبر في طبقات ابن سعد (3/ 372).

(7)

في ط: أبو حمزة؛ خطأ. ترجمته في تقريب التهذيب رقم (608) ونزهة الألباب في الألقاب رقم (2982).

(8)

في سنده الواقدي، وهو متروك عند المحدثين.

ص: 267

وأوَّلُ من حَيَّاهُ بها المغيرةُ بن شعبة، وقيل غيره، فالله أعلم.

وقال ابن جرير

(1)

: حدَّثني أحمد بن عبد الصمد الأنصاري، حدَّثتني أم عمرو بنت حسان الكوفية -وكان قد أتى عليها مئة وثلاثون سنة- عن أبيها قال: لما ولي عمر قالوا: يا خليفةَ خليفةِ رسولِ الله. فقال عمر: هذا أمرٌ يطولُ، بل أنتم المؤمنون وأنا أميركم. فسمي أمير المؤمنين.

وملخص ذلك

(2)

أنّ عمر رضي الله عنه لمَّا فرغَ من الحجِّ سنةَ ثلاثٍ وعشرين ونزل بالأبطح دعا اللهَ عز وجل وشكا إليه أنَّه قد كبرت

(3)

سنُّه وضعفت قوّتُه، وانتشرت رعيتُه، وخاف من التقصير، وسأل الله أن يقبضَه إليه، وأن يمن عليه بالشهادة في بلدِ النبي صلى الله عليه وسلم، كما ثبت عنه في الصحيح

(4)

أنَّه كان يقول: اللهم إني أسألك شهادة في سبيلك، وموتًا في بلد رسولك، فاستجاب له الله

(5)

هذا الدعاءَ، وجمعَ له بين هذين الأمرين الشهادةَ في المدينة النبوية وهذا عزيز جدًا، ولكن الله لطيفٌ بما يشاء تبارك وتعالى، فاتَّفق له أن ضربه أبو لؤلؤة فيروز المجوسي الأصل، الرومي الدار، وهو قائمٌ يصلِّي في المحراب، صلاةَ الصبح من يوم الأربعاء، لأربع بقين من ذي الحجة من هذه السنة بخنجر ذات طرفين، فضربه ثلاث ضربات، وقيل ستّ ضربات، إحداهن تحت سُرَّتِهِ قطعت السفاق فخرَّ من قامته، واستخلف عبد الرحمن بن عوف، ورجع العِلْجُ بخنجره لا يمرُّ بأحدٍ إلَّا ضربَهُ، حتى ضربَ ثلاثةَ عشرَ رجلًا مات منهم ستة، فألقى عليه عبد الله بن عوف بُرْنُسًا فانتحر

(6)

نفسه -لعنه الله-، وحُمل عمر إلى منزله والدَّمُ يسيل من جرحه -وذلك قبل طلوع الشمس- فجعل يفيق ثم يُغْمَى عليه، ثم يذكِّرونه بالصلاة فيفيق ويقول: نعم، ولا حظَّ في الإسلام لمن تركها. ثم صلَّى في الوقت، ثم سأل عمَّن قتله مَنْ هو؟ فقالوا له: هو أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة. فقال الحمد لله الذي لم يجعل منيَّتي على يَدَيْ رجل يَدَّعي الإيمانَ ولم يسجد لله سجدة. ثم قال: قبَّحه الله، لقد كنَّا أمرنا به معروفًا -وكان المغيرةُ قد ضرب عليه في كل يوم درهمين، ثم سأل من عمر أن يزيد في خراجه فإنه نجَّار نقَّاش حدَّاد، فزاد في خراجه إلى مئة في كل شهر- وقال له: لقد بلغني أنك تُحسن أن تعمل رحا تدور بالهواء فقال أبو لؤلؤة: أما والله لأعملنَّ لك رحا يتحدث عنها الناس في المشارق والمغارب -وكان هذا يوم الثلاثاء عشية- وطعنه صبيحةَ الأربعاء لأربعٍ بقينَ من ذي الحجة. وأوصى عمر أن يكون الأمر شورى بعده في ستةٍ ممن تُوفي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راضٍ، وهم عثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص،

(1)

في تاريخه (4/ 208).

(2)

الخبر في طبقات ابن سعد (3/ 334).

(3)

في أ: كبر سنه؛ وهو خطأ لأن السنّ أنثى كما في اللسان (سنن).

(4)

صحيح البخاري رقم (1791) في فضائل المدينة.

(5)

في أ: فاستجاب الله له.

(6)

كذا في أ، ط والذي في اللسان: انتحر الرجل أي نحر نفسه.

ص: 268

ولم يذكر سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل العَدَوي فيهم، لكونه من قبيلته، خشيةَ أن يُراعَى في الإمارةِ بسببه، وأوصى مَنْ يستخلفُ بعده بالناس خيرًا على طبقاتهم ومراتبهم، ومات رضي الله عنه بعد ثلاثٍ، ودُفن في يوم الأحد مستهلّ المحرم من سنة أربعٍ وعشرين، بالحجرة النبوية، إلى جانب الصدّيق، عن إذن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في ذلك، وفي ذلك اليوم حكم أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه.

قال الواقدي

(1)

رحمه الله: حدَّثني أبو بكر بن إسماعيل بن محمد بن سعد عن أبيه قال: طُعِنَ عمر يوم الأربعاء لأربعِ ليالٍ بقينَ من ذي الحجة سنة ثلاثٍ وعشرين، ودُفن يوم الأحد صباح هلال المحرم سنة أربعٍ وعشرين، فكانت ولايته عشرَ سنين وخمسةَ أشهرٍ وأحدًا وعشرين يومًا، وبويع لعثمان يوم الإثنين لثلاثٍ مضينَ من [شهر] المحرم.

قال: فذكرتُ ذلك لعثمان الأخنسي

(2)

فقال: ما أراكَ إلا وهلت

(3)

. توفي عمر لأربعِ ليالٍ بقين من ذي الحجة، وبويع لعثمان لليلةٍ بقيتْ من ذي الحجة فاستقبل بخلافته المحرم سنة أربعٍ وعشرين.

وقال أبو معشر: قُتل عمر لأربع بقين من ذي الحجة تمام سنة ثلاثٍ وعشرين وكانت خلافته عشرَ سنين وستة أشهر وأربعة أيام، وبويع عثمان بن عفان

(4)

.

وقال ابن جرير

(5)

: حدثث عن هشام بن محمد قال: قُتل عمر لثلاثٍ بقينَ من ذي الحجة سنة ثلاثٍ وعشرين، فكانت خلافته عشرَ سنين وستةَ أشهرٍ وأربعةَ أيامٍ.

وقال سيف: عن خليد بن ذَفْرَة

(6)

ومجالد قالا استخلف عثمان [لثلاث]

(7)

من المحرم فخرج فصلَّى بالناس صلاة العصر.

وقال علي بن محمد المدائني، عن شريك، عن الأعمش -أو جابر الجعفي- عن عوف بن مالك الأشجعي وعامر بن أبي محمد، عن أشياخٍ من قومه، وعثمان بن عبد الرحمن، عن الزُّهري قال: طُعن عمر يوم الأربعاء لسبعٍ بقينَ من ذي الحجة. والقول الأول هو الأشهر والله سبحانه وتعالى أعلم.

(1)

طبقات ابن سعد (3/ 365).

(2)

في ط: الأخنس، وما هنا عن أ والطبقات، وهو عثمان بن محمد الأخنسي وهو من رجال التهذيب.

(3)

وَهِلَ وَهَلًا: ضعف. اللسان (وهل).

(4)

في هامش أ: وبويع لعثمان يوم الإثنين لثلاث مضين من شهر محرم سنة 24.

(5)

في تاريخه (4/ 194).

(6)

في ط: وفرة؛ خطأ، والتصحيح من تاريخ الطبري (4/ 194) وتوضيح المشتبه (14/ 39).

(7)

سقطت من ط.

ص: 269

‌صفته رضي الله عنه

كان رجلًا طوالًا أصلعَ أعسرَ أيسرَ أحورَ العينين، آدم

(1)

اللون، وقيل كان أبيضَ شديد البياض تعلوه حمرةٌ، أشنب

(2)

الأسنان، وكان يصفّر لحيته، ويرجل رأسه بالحنّاء.

واختلف في مقدار سنّه يوم مات رضي الله عنه على أقوال عدتها عشرة:

فقال ابن جرير: حدَّثنا زيد بن أخزم

(3)

، حدَّثنا أبو قتيبة، عن جرير بن حازم، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر قال: قُتل عمر بن الخطاب وهو ابنُ خمس وخمسين سنة.

ورواه الدراوَرْدي عن عبيد الله

(4)

، عن نافع، عن ابن عمر. وقاله عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن الزُّهري، ورواه أحمد، عن هُشَيْم، عن علي بن زيد، عن سالم بن عبد الله بن عمر.

وعن نافع رواية أخرى ستّ وخمسون (سنة).

قال ابن جرير وقال آخرون: كان عمره ثلاثًا وخمسين سنة، حدثت بذلك عن هشام بن محمد.

ثم روى عن عامر الشَّعبي أنَّه توفي وله ثلاث وستون سنة.

قلتُ: وقد تقدَّم في عُمْر الصدِّيق مثله.

وروي عن قتادة أنه قال: توفي عمر وهو ابن إحدى وستين سنة.

وعن ابن عمر والزُّهري خمس وستون.

وعن ابن عباس ست وستون.

وروى ابن جرير، عن أسلم مولى عمر أنَّه قال: توفي وهو ابن ستين سنة. قال الواقدي

(5)

: وهذا أثبت الأقاويل عندنا.

وقال المدائني: توفي عمر وهو ابن سبع وخمسين سنة.

‌ذكر زوجاته وأبنائه وبناته

قال الواقدي وابن الكلبي وغيرهما:

(1)

الآدم من الناس: الأسمر. اللسان (أدم)، وقد ساق ابن سعد في الطبقات (3/ 325) خبرًا عن عبد الله بن عمر يقول فيه: كان أبي أبيض لا يتزوج النساء لشهوة إلا لطلب الولد .. إنما جاءتنا الأدمة من قبل أخوالي.

(2)

الشنب: البياض والبريق والتحديد في الأسنان. اللسان (أشنب).

(3)

في ط: أحزم؛ تحريف، والتصحيح من تاريخ الطبري (4/ 197) وتقريب التهذيب.

(4)

في ط: عبد الله؛ خطأ والتصحيح من أ وتاريخ الطبري (4/ 197).

(5)

طبقات ابن سعد (3/ 278) وتاريخ الطبري (4/ 198).

ص: 270

تزوج عمر في الجاهلية زينب بنت مَظْعُون

(1)

أخت عثمان بن مَظْعُون فولدت له عبد الله، وعبد الرحمن الأكبر، وحفصة رضي الله عنهم.

وتزوج مليكة بنت جَرْول. فولدت له عُبيد الله، فطلقها في الهُدْنة، فخلف عليها أبو الجَهْم بن حُذَيْفة

(2)

، قاله المدائني.

وقال الواقدي: هي أمُّ كلثوم بنت جَرْول. فولدت له عُبيد الله وزيدًا الأصغر. قال المدائني وتزوَّج قريبة

(3)

بنت أبي أمية المخزومي ففارقها في الهُدْنة، فتزوّجها بعده عبد الرحمن بن أبي بكر.

قالوا: وتزوج أمَّ حكيم

(4)

بنت الحارث بن هشام بعد زوجها -حين قتل في الشام- فولدت له فاطمة ثمَّ طلَّقها. قال المدائني وقيل لم يطلِّقها.

قالوا: وتزوَّج جميلة بنت عاصم بن ثابت بن أبي الأقْلَح من الأوس.

وتزوَّج عاتكة

(5)

بنت زيد بن عمرو بن نُفيل، وكانت قبله عند عبد الله بن أبي بكر

(6)

ولما قُتل عمر تزوجها بعده الزُّبير بن العوَّام رضي الله عنهم، ويُقال هي أم ابنه عياض فالله أعلم.

قال المدائني: وكان قد خطب أمّ كلثوم

(7)

ابنة أبي بكر الصديق وهي صغيرة وراسل فيها عائشة فقالت أم كلثوم: لا حاجةَ لي فيه، فقالت عائشة: أترغبين عن أمير المؤمنين؟ قالت: نعم، إنه خشنُ العيش، فأرسلت عائشة إلى عمرو بن العاص فصدَّه عنها. ودلّه على أم كلثوم

(8)

بنت علي بن أبي طالب، ومن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: تعلَّقْ منها بسبب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخطبها من علي فزوَّجه إياها، فأصدقها عمر رضي الله عنه أربعين ألفًا، فولدت له زيدًا، ورقية.

قالوا: وتزوَّج لُهَيَّة

(9)

-امرأة من اليمن- فولدت له عبد الرحمن الأصغر، وقيل الأوسط. وقال الواقدي هي أمّ ولد وليست زوجة.

قالوا وكانت عنده فُكَيْهة

(10)

أم ولد فولدت له زينب. قال الواقدي وهي أصغر ولده.

(1)

ترجمتها في الاستيعاب (4/ 1857).

(2)

الاستيعاب (4/ 1623).

(3)

في أ: بدينة؛ وهو تحريف، وترجمتها في تاريخ الطبري (4/ 199) والإصابة (4/ 390).

(4)

ترجمتها في الاستيعاب (4/ 1932) والإصابة (4/ 423).

(5)

ترجمتها في الاستيعاب (4/ 1876).

(6)

في ط: مليكة؛ خطأ والتصحيح من أ والاستيعاب (4/ 1877) وتاريخ الطبري (4/ 199).

(7)

تاريخ الطبري (4/ 199).

(8)

الاستيعاب (4/ 1954) وتاريخ الطبري (4/ 200).

(9)

في أ: لهبة؛ تحريف، والتصحيح من تاريخ الطبري (4/ 199) والإصابة (4/ 399).

(10)

تاريخ الطبري (4/ 199).

ص: 271

قال الواقدي: وخطب أم أبان

(1)

بنت عتبة بن شيبة فكرهته وقالت: يغلق بابه ويمنع خيره ويدخل عابسًا ويخرج عابسًا.

قلت: فجملة أولاده رضي الله عنه وأرضاه ثلاثة عشر ولدًا، وهم زيد الأكبر، وزيد الأصغر، وعاصم، وعبد الله، وعبد الرحمن الأكبر، وعبد الرحمن الأوسط، قال الزبير بن بكار وهو أبو شحمة، وعبد الرحمن الأصغر، وعبيد الله، وعياض، وحفصة، ورقية، وزينب، وفاطمة، رضي الله عنهم.

ومجموع نسائه اللاتي تزوَّجهنَّ في الجاهلية والإسلام ممن طلقهن أو مات عنهن سبع، وهي جميلة بنت عاصم بن ثابت بن [أبي] الأقلح، وزينب بنت مَظْعون، وعاتكة بنت زيد بن عمرو بن نُفَيْل، وقُرَيْبة

(2)

بنت أبي أمية، ومُليكة بنت جَرْول، وأم حكيم بنت الحارث بن هشام، وأم كلثوم بنت علي بن أبي طالب، وأم كلثوم أخرى وهي مُلَيْكة بنت جَرْول. وكانت له أمتان له منهما أولاد، هما فكيهة ولُهَيَّة، وقد اختلف في لُهَيَّة هذه فقال بعضهم: كانت أم ولد، وقال بعضهم: كان أصلها من اليمن وتزوجها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فالله أعلم.

‌ذكر بعض ما رُثي به

قال علي بن محمد المدائني: عن ابن دأب وسعيد بن خالد، عن صالح بن كيسان، عن المُغيرة بن شعبة، قال: لما مات عمر بكته ابنةُ أبي حَثْمة

(3)

فقالت: واعمراه، أقام الأوَد، وأبرَّ العَهْد؛ أمات الفِتَن، وأحيا السُّنَن؛ خرج نقيَّ الثوب، بريئًا من العَيْب.

قال: فقال عليُّ بن أبي طالب: والله لقد صدقتِ، ذهب بخيرها، ونجا من شرِّها، أما والله ما قالت ولكن قُوِّلت.

قال: وقالت عاتكةُ بنت زيد بن عمرو بن نُفَيْل في زوجها عمر

(4)

: [من الطويل]

فَجَّعَني فَيْروز لا دَرَّ دَرُّه

(5)

بِأبْيَض تَالٍ لِلْكتابِ مُنيبِ

رؤوفٍ على الأدنى غليظٍ على العدى

أَخي

(6)

ثِقَةٍ في النّائباتِ نَجيبِ

(1)

تاريخ الطبري (4/ 200) والاستيعاب (4/ 1924).

(2)

في أ: قرينة؛ تحريف، وترجمتها في الإصابة (4/ 390).

(3)

في ط: خيثمة؛ تحريف، والتصحيح من الطبري (4/ 218).

(4)

الأبيات في تاريخ الطبري (4/ 219).

(5)

في أ: فجعني في روح الادر دره: وما هنا موافق لرواية الطبري.

(6)

في أ: أخا ثقة.

ص: 272

مَتَى ما يَقُلْ لا يُكْذِبِ القَوْلَ فِعْلهُ

سَريعٍ إلى الخَيْراتِ غَيْرِ قَطوبِ

وقالت أيضًا

(1)

: [من الخفيف]

عينُ جُودي بعَبْرَةٍ وَنحيبِ

لا تَمَلِّي على الإمامِ النَّجيبِ

فَجَّعَتْنا

(2)

المَنُونُ بالفارسِ المُعْـ

ـلمِ يومَ الهِياجِ والتَّلبيبِ

(3)

عِصْمةِ النّاسِ والمعينِ على الدَّهُـ

ـرِ وغيث المُنْتابِ والمَحْروبِ

(4)

قل لأهل السّراءِ

(5)

والبؤسِ موتوا

قد سَقَتْهُ المَنُونُ كَأْسَ شَعُوبِ

(6)

[وقالت امرأة من المسلمين تبكيه

(7)

: [من الهزج]

سَيبكيكَ نِساءُ الحَيْ

يِ

(8)

يبكينَ شجياتِ

وَيَخْمشْنَ وُجوهًا كالد

دنانيرِ نَقيّاتِ

وَيَلْبَسْنَ ثِيابَ الحُزْ

نِ

(9)

بَعْدَ القُصبِياتِ]

وقد ذكر ابن جرير

(10)

ترجمة طويلة لعمر بن الخطاب، وكذلك أطال ابن الجوزي

(11)

في سيرته، وشيخنا الحافظ أبو عبد الله الذهبي في "تاريخه"

(12)

وقد جمعنا متفرقات كلام الناس في مجلد مفرد، وأفردنا لما أسنده وروي عنه من الأحكام مجلدًا آخر كبيرًا مرتبًا على أبواب الفقه ولله الحمد.

قال ابن جرير

(13)

: وفي هذه السنة توفي قتادة بن النُّعمان، وفيها غزا معاويةُ الصائفةَ حتى بلغ

(1)

الأبيات في تاريخ الطبري (4/ 219) وتاريخ دمشق -مجلد عمر- 412، وأسد الغابة (4/ 181) وتاريخ الخلفاء (177).

(2)

في المصادر السابقة: فجعتني.

(3)

في تاريخ الخلفاء: والتأنيب. ولبَّب الرجل: جعل ثيابه في عنقه في الخصومة ثم قبضه وجره. اللسان (لبب).

(4)

المحروب: حُرِبَ ماله أي سُلِبَهُ فهو محروب وحريب. اللسان (حرب).

(5)

في أ وتاريخ الخلفاء: الضراء، وفي تاريخ دمشق السرور.

(6)

في أ، ط: سغوب، وما هنا عن مصادره، ولم يرد البيت في أسد الغابة.

(7)

الأبيات في تاريخ الطبري (4/ 219) وتاريخ دمشق -مجلد عمر- (412) وليست الأبيات في أ، ووضع في ط بين معقوفين، وفي الهامش: زيادة عن المصرية.

(8)

في تاريخ دمشق: تبكيك نساء الجن؛ وعلى هذه الرواية فالبيت مخروم كما أشارت إلى ذلك المحققة في الهامش.

(9)

في تاريخ دمشق: ثياب السود.

(10)

في تاريخه (4/ 190 - 241).

(11)

لابن الجوزي كتاب منفرد في سيرة عمر رضي الله عنه سماه "مناقب عمر بن الخطاب".

(12)

تاريخ الإسلام (2/ 50 - 65) طبعة القدسي.

(13)

في تاريخه (4/ 241).

ص: 273

عموريةَ ومعه من الصحابة عُبادة بن الصّامت، وأبو أيوب، وأبو ذر، وشدّاد بن أوس. وفيها فتح معاوية عسقلان صلحًا.

قال: وفيها كان على قضاء الكوفة شريح، وعلى قضاء البصرة كعب بن سُور

(1)

.

قال: وأما مصعب الزبيري فإنه ذكر أن مالكًا روى عن الزهري أن أبا بكر وعمر لم يكن لهما قاض.

وقال شيخنا أبو عبد الله الذهبي في "تاريخه"

(2)

في سنة ثلاث وعشرين. فيها كانت قصة سارية بن زنيم.

وفيها فتحت

(3)

كرمان وأميرها سهيل بن عدي.

وفيها فتحت سجستان، وأميرُها عاصمُ بن عمرو.

وفيها فُتحت مكران، وأميرُها الحكمُ بن أبي العاص، أخو عثمان، وهي من بلاد الجبل.

وفيها رجع أبو موسى الأشعري من بلاد أصبهان وقد افتتح بلادها.

وفيها غزا معاوية الصائفة حتى بلغ عمورية.

[قتادة بن النعمان الأنصاري الأوسي]

(4)

ثم ذكر وفاة من مات فيها. فمنهم قَتَادة بن النُّعْمان الأنْصاري الأوْسي الظفري أخو أبي سعيد الخُدري لأمه، وقتادة أكبر منه، شهد بدرًا وأصيبتْ عينُه في يوم أُحد حتى وقعت على خدّه فردَّها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فصارت أحسنَ عينيه، وكان من الرُّماة المذكورين، وكان على مُقَدّمة عمر حين قدم إلى الشام. توفي في هذه السنة على المشهور عن خمس وستين سنة، ونزل عمر في قبره، وقيل إنه توفي في التي قبلها.

ثم ذكر ترجمة عمر بن الخطاب فأطال فيها وأكثر وأطنب، وأتى بمقاصد كثيرة مهمة، وفوائد جمة، وأشياء حسنة، فأثابه الله الجنة.

ثم قال: ذكر من توفي في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه:

الأَقْرَعُ بن حابِس

(5)

بن عِقَال بن محمد بن سُفيان بن مُجاشِع بن دارِم بن مالك بن حَنْظلة بن مالك بن

(1)

في الأصل والمطبوع: سوار، والتصحيح من كتب الرجال، وقد مرَّ على الصواب صفحة (210).

(2)

تاريخ الإسلام (2/ 49).

(3)

في أ: فتح.

(4)

ترجمة -قتادة بن النعمان- في جامع الأصول (15/ 59) والاستيعاب (3/ 1274) وتاريخ ابن عساكر -المختصر- (21/ 67) وأسد الغابة (4/ 389) وسير أعلام النبلاء (2/ 331 - 333) والإصابة (8/ 138).

(5)

ترجمة -الأقرع بن حابس- في الاستيعاب (1/ 103 - 104) وجامع الأصول (13/ 27 - 28) وأسد الغابة (1/ 128 - 130) وتهذيب الأسماء واللغات (1/ 124) ومختصر تاريخ دمشق لابن منظور (5/ 13 - 19) والإصابة (1/ 58 - 59).

ص: 274

زيد مَناة بن تَميم التَّميمي المُجَاشعي. قال ابن دريد

(1)

: واسمه فراس بن حابس ولُقّب بالأقْرع لقَرَعٍ في رأسه. وكان أحدَ الرؤساء، قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع وفد بني تميم، وهو الذي نادى من وراء الحجرات: يا محمد إنَّ مدحي زين، وذمي شين، وهو القائل -وقد رأى الله يقبل الحسن- أتقبِّله؟ والله إنَّ لي عشرةً من الولد ما قبَّلت واحدًا منهم. فقال "منْ لا يَرْحم لا يُرحم"

(2)

. وفي رواية "ما أملك إن نزعَ اللهُ الرحمةَ من قلبك" وكان مَّمنْ تألَّفه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه يوم حُنين مئة من الإبل، وكذلك لعيينة بن حصن الفزاري، وأعطى عباس بن مرداس خمسين من الإبل فقال

(3)

: [من المتقارب]

أتجعل نهبي ونهبَ العبيـ

ـدِ بينَ عُيينة والأقرعِ

فما كانَ حصنٌ ولا حابسٌ

يفوقانِ مرداسَ في مجمعِ

وما كنتُ دونَ امرئٍ منهما

ومنْ يُخْفضِ اليومَ لا يُرْفَعِ

فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أنت القائل:

أتجعلُ نهبي ونهبَ العبيـ

دِ بينَ الأقرعِ وعيينةَ

رواه البخاري

(4)

قال السهيلي

(5)

: إنما قدَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الأقرع قبل عيينة، لأنَّ الأقرع كان خيرًا من عيينة، ولهذا لم يرتدَّ بعد النبي صلى الله عليه وسلم كما ارتد عيينة، فبايع طليحة وصدَّقه ثمَّ عاد.

والمقصود أن الأقرعَ كان سيدًا مطاعًا، وشهد مع خالد وقائعه بأرض العراق، وكان على مقدمته يوم الأنبار.

ذكره شيخنا فيمن توفي في خلافة عمر بن الخطاب.

والذي ذكره ابن الأثير في الغابة

(6)

أنه استعمله عبد الله بن عامر على جيش وسيَّره إلى الجُوْزجان فقتل وقتلوا جميعًا، وذلك في خلافة عثمان كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

(1)

الاشتقاق (239).

(2)

الحديث رواه أبو هريرة رضي الله عنه وأخرجه البخاري في صحيحه (5997) في الأدب ومسلم في صحيحه (2318) في الفضائل. والرواية الثانية عند البخاري (5998) عن عائشة رضي الله عنها.

(3)

الأبيات هي الأولى من سبعة وردت في الاستيعاب (2/ 818).

(4)

الحديث من أفراد مسلم رقم (1060) وليس عنده قول النبي صلى الله عليه وسلم: أنت القائل

وانظر "الجمع بين الصحيحين" للحميدي رقم (772). ومرَّ على الصواب في قسمة غنائم هوازن فيما تقدم.

(5)

الروض الأنف (4/ 222). وفيه تقديم الأقرع على عيينة، وفي الأصول والمطبوع: عيينة والأقرع والسياق ينفيه وقد تقدم ذلك على الصواب في قسمة غنائم هوازن.

(6)

أسد الغابة (1/ 130).

ص: 275

حُباب بن المُنْذِر

(1)

بن الجَموح بن زيد بن حَرَام بن كَعْب بن غَنْم بن كَعْب بن سلمة أبو عمر ويقال أبو عمرو الأنْصاري الخَزْرجي السلمي، ويقال له ذو الرأي لأنه أشار يوم بدر أن ينزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أدنى ماءً يكون إلى القوم، وأن يغور ما وراءهم منِ القُلب فأصاب في هذا الرأي، ونزل الملَك بتصديقه وأما قوله يوم السقيفة: أنا جُذَيْلُها المُحكَّكُ، وعُذيقها المُرَجَّب

(2)

، منا أمير ومنكم أمير. فقد رده عليه الصديق والصحابة.

ربيعة بن الحارث

(3)

بن عبد المطلب [الهاشمي ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم].

عتبة بن مسعود

(4)

الهذلي، هاجر مع أخيه لأبويه، عبد الله إلى الحبشة شهد أحدًا وما بعدها. قال الزهري

(5)

: ما كان عبدُ الله بأفقه منه، ولكن مات عتبةُ قبله، وتوفي زمن عمر على الصحيح، ويقال في زمن معاوية سنة أربع وأربعين.

عَلْقَمة بن عُلَاثَة

(6)

بن عَوْف بن الأحوص بن جَعْفر بن كلاب بن رَبيعة بن عامر بن صَعْصَعة العامري الكلابي، أسلم عام الفتح وشهد حُنينًا، واُعطي يومئذ مئة من الإبل تأليفًا لقلبه، وكان يكون بتهامة، وكان شريفًا مطاعًا في قومه، وقد ارتدَّ أيامَ الصدّيق، فبعث إليه سريةً فانهزم، ثم أسلم وحَسُنَ إسلامُه، ووفد على عمر في خلافته، وقدم دمشق في طلب ميراثٍ له ثمَّ، ويقال استعمله عمرُ على حوران فمات بها، وقد كان الحطيئة قصدَه ليمتدحه

(7)

فمات قبل مقدمه بليالٍ فقال

(8)

: [من الطويل]

فما كانَ بيني لو لَقيتُك سالمًا

وبين الغِنَى

(9)

إلا ليالٍ قلائلُ

(1)

ترجمة -حباب بن المنذر- في أسد الغابة (1/ 436 - 437) والإصابة (1/ 302 - 303).

(2)

مثل عربي قديم أوردته في معجم الأمثال العربية (1/ 317) وفيه ذكر مصادره القديمة. وفي اللسان (عذق ورجب وجذل): عنى بالجُذيل هنا الأصل من الشجرة تحتك به الإبل فتشتفي به، والعذيق -تصغير عذق النخلة -وهو غصنها وهو تصغير تعظيم، وأراد من هذا المثل: أنه قد جربتني الأمور. وقد جاءت اللفظة في ط: ومزيجها؛ وهو تحريف.

(3)

ترجمة -ربيعة بن الحارث- في الاستيعاب (1/ 495 - 491) وجامع الأصول (14/ 50) وأسد الغابة (2/ 209) والإصابة (1/ 506).

(4)

ترجمة -عتبة بن مسعود الهذلي- في الطبقات لابن سعد (4/ 93) والاستيعاب (3/ 1030) وأسد الغابة (3/ 569) وسير أعلام النبلاء (1/ 500) والإصابة (2/ 456).

(5)

في أ: الترمذيّ؛ خطأ.

(6)

ترجمة -علقمة بن علاثة- في الاستيعاب (3/ 1088) وجامع الأصول (14/ 536 - 537) وأسد الغابة (4/ 86) وتهذيب الأسماء واللغات (1/ 342) والإصابة (2/ 503 - 505).

(7)

القصيدة في ديوانه (213 - 215).

(8)

البيت مطلع قصيدة أخرى جاءت في ديوانه بعد الأولى (216 - 217).

(9)

في أ: العلى.

ص: 276

علقمة بن مُجَزِّز

(1)

بن الأعْور بن جَعْدَة بن مُعاذ بن عُتْوارَة بن عمرو بن مُدْلج الكِناني المُدْلجي، أحد أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم، على بعض السرايا، وكانت فيه دُعابةٌ، فأجَّج نارًا وأمر أصحابه أن يدخلوا فيها فامتنعوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لو دخلوا فيها ما خرجوا منها"

(2)

وقال "إنما الطاعة في المعروف". وقد كان علقمة جوادًا ممدحًا رثاه جواس العذري

(3)

فقال: [من الكامل]

إنَّ السَّلامَ وحُسْنَ كلِّ تَحيَّةٍ

تَغْدو على ابنِ مُجَزِّزٍ وتَروحُ

عُوَيم بن ساعِدَة

(4)

بن عَابس

(5)

أبو عبد الرحمن الأنْصاري الأوْسي، أحد بني عمرو بن عوف، شهد العقبة وبدرًا وما بعدها، له حديث عند أحمد

(6)

وابن ماجه

(7)

في الاستنجاء بالماء. قال ابن عبد البر

(8)

: توفي في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وقيل في خلافة عمر. وقال وهو واقف على قبره: لا يستطيع أحد أن يقول أنا خيرٌ من صاحب هذا القبر ما نُصبت رايةٌ للنبي صلى الله عليه وسلم (إلا وهو واقف تحتها. وقد روى هذا الأثر ابن أبي عاصم كما أورده ابن الأثير من طريقه.

غيْلان بن سَلَمة الثَّقفي

(9)

أسلم عام الفتح على عشر نسوة فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم) أن يختار منهنَّ أربعًا،

(1)

ترجمة -علقمة بن مجزز- في أسد الغابة (4/ 87) والإصابة (2/ 505 - 506).

(2)

الحديث بشقيه رواه علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وأخرجه أحمد في مسنده (1/ 94) والبخاري في صحيحه (7257) في أخبار الآحاد، ومسلم في صحيحه (1840) في الإمارة.

(3)

هو جَوَّاس بن قُطْبَة العذري أحد بني الأحبّ رهط بثينة، وكان وأخوه عبد الله يهاجيان جميلًا، وكان عمر رضي الله عنه قد بعثه في جيش إلى الحبشة فماتوا جميعًا من ماء مسموم شربوه، فرثاه جواس بأبيات أوردها الأغاني (22/ 150 و 154 - 155).

(4)

ترجمة -عويم بن ساعدة- في الاستيعاب (3/ 1248) وجامع الأصول (14/ 568) وأسد الغابة (4/ 315 - 316) وتهذيب الأسماء واللغات (2/ 41) وتهذيب الكمال (22/ 466) والإصابة (3/ 44).

(5)

عابس: بالباء الموحدة ومهملتين، قيده الحافظ ابن حجر في "التقريب"، وكذلك هو بخط الذهبي في تاريخ الإسلام (الورقة 233 من مجلد أيا صوفيا 3005) والمصنف إنما ينقل منه هنا. ومثله في تهذيب الكمال (22/ 466) والإصابة (3/ 44). ووقع في بعض المصادر كطبقات ابن سعد (3/ 459) والاستيعاب (3/ 1248)، وأسد الغابة (4/ 315):"عائش"، والمختار ما أثبتناه (بشار).

(6)

مسند أحمد (3/ 422) وهو حديث حسن.

(7)

هكذا قال المصنف، وإنما أخرج ابن ماجه في سننه (1861) حديث:"عليكم بالأبكار فإنهن أعذب أفواهًا، وأنتق أرحامًا وأرضى باليسير"، واسمه فيه: عتبة بن عويم بن ساعدة الأنصاري. وقد ذكر المزي هذا الحديث في مسند عتبة بن عويم من تحفة الأشراف (6/ حديث 9756) ثم أفرد مسندًا لعويم بن ساعدة وأحال على مسند عتبة بن عويم، والصواب أنه من مسند عويم بن ساعدة، كما في معجم الطبراني الكبير (17/ حديث 350) والأوسط (458)، وتهذيب الكمال (10/ 164).

(8)

في الاستيعاب (3/ 1248).

(9)

ترجمة -غيلان بن سَلَمة الثقفي- في الاستيعاب (3/ 1256) وتاريخ دمشق -ط دار الفكر- (48/ 133 - 142) =

ص: 277

وقد وفد قبل الإسلام على كسرى فأمره أن يبني له قصرًا بالطائف، وقد سأله كسرى: أيُّ ولدك أحبُّ إليكَ؟ قال الصغير حتى يكبر، والمريضُ حتى يبرأ، والغائبُ حتى يقدم، فقال له كسرى أنَّى لكَ هذا؟ هذا كلام الحكماء. قال: فما غذاؤك؟ قال: البُرّ. قال: نعم هذا من البُرّ لا من التمر واللبن.

معمر بن الحارث

(1)

بن معمر بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح القرشي الجمحي أخو حاطب وحطاب، أمهم قَيْلة

(2)

بنت مظعون، أخت عثمان بن مظعون، أسلم معمر قبل دخول النبي صلى الله عليه وسلم دار الأرقم، وشهد بدرًا وما بعدها، وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين معاذ بن عفراء.

ميسرة بن مسروق العبسي

(3)

: شيخٌ صالحٌ. قيل إنه صحابي. شهدَ اليرموك، ودخل الرومَ أميرًا على جيش ستة آلاف، وكانت له همة عالية فقتل وسبى وغنم وذلك في سنة عشرين، وروى عن أبي عبيدة وعنه أسلم (مولى عمر، لم يذكره ابن الأثير في "الغابة").

واقد بن عبد الله

(4)

بن عبد مناف بن عَزيز

(5)

الحَنْظلي اليَرْبوعي، حليف بني عَدِيّ بن كَعْب، أسلم قبل دخول النبي صلى الله عليه وسلم دار الأرْقَم، وشهد بدرًا وما بعدها، وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين بِشْر بن البَرَاء بن مَعْرور، وهو أول من قتل في سبيل الله عز وجل ببطن نخلة، مع عبد الله بن جحش حين قتل عمرو بن الحَضْرمي، توفي في خلافة عمر رضي الله عنه.

أبو خِرَاش الهُذَليلي

(6)

الشاعر

(7)

واسمه خُوَيْلد بن مُرَّة، كان يسبق الخيلَ على قدميه، وكان فَتَّاكًا في الجاهلية، ثم أسلم وحَسُنَ إسلامه، وتوفي في زمن عمر. أتاه حُجاج فذهب يأتيهم بماء فنهشته حيةٌ فرجع إليهم بالماء وأعطاهم شاة وقدرًا، ولم يعلمهم بما جرى له، فاصبح فمات فدفنوه. ذكره ابن عبد البر وابن الأثير في أسماء الصحابة، والظاهر أنه ليست له وفادة، وإنما أسلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فهو مخضرم، والله أعلم.

= وجامع الأصول (15/ 8) وأسد الغابة (4/ 343) ومختصر تاريخ دمشق (20/ 222) والإصابة (3/ 189).

(1)

ترجمة -معمر بن الحارث- في الطبقات (3/ 402) والاستيعاب (3/ 1433)، وأسد الغابة (5/ 234) والإصابة (3/ 448).

(2)

هكذا في أ وط، وهو الموافق لما جاء في تاريخ الإسلام (الورقة 235 من مجلد أياصوفيا 3005 بخطه) والمصنف ينقل منه. واسمها في مصادر الترجمة "قتيلة".

(3)

ترجمة -ميسرة بن مسروق العبسي- في الإصابة (3/ 469 - 470).

(4)

ترجمة -واقد بن عبد الله- في الطبقات (3/ 390) وأسد الغابة (5/ 432 - 433) والإصابة (3/ 628).

(5)

في ط: "عرين"، محرف.

(6)

ترجمة -أبي خراش الهذلي- في الاستيعاب (4/ 1636) وأسد الغابة (1/ 387) والإصابة (1/ 465).

(7)

في هامش أ: ترجمة أبو خراش الهذلي الشاعر.

ص: 278

أبو ليلى عبد الرحمن بن كعب

(1)

بن عمرو الأنصاري شهد أُحدًا وما بعدها، إلَّا تبوك فإنه تخلف لعذر الفقر

(2)

، وهو أحد البكائين المذكورين.

سَوْدَة بنت زَمْعَة

(3)

القرشية العامرية أم المؤمنين، أول من دخل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد خديجة رضي الله عنها، وكانت صَوَّامةً قَوَّامةً، ويقال: كان اي خلقها حدّةٌ، وقد كبرت فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفارقها - ويقال: بل فارقها- فقالت: يا رسول الله لا تفارقني، وأنا أجعل يومي لعائشة؛ فتركها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصالحها على ذلك. وفي ذلك أنزل الله عز وجل:{وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128] الآية. قالت عائشة: نزلت في سودة بنت زمعة، توفيت في خلافة عمر بن الخطاب.

هند بنت عتبةُ

(4)

يقال: ماتت في خلافة عمر وقيل توفيت قبل ذلك كما تقدم فالله أعلم

(5)

.

* * *

(1)

ترجمة -عبد الرحمن بن كعب- في الاستيعاب (3/ 852) وجامع الأصول (14/ 499) وأسد الغابة (1/ 490 - 491) والإصابة (2/ 42).

(2)

في أ: فإنه تعذر بالفقر.

(3)

ترجمة -أم المؤمنين سودة- في الاستيعاب (4/ 1867) وجامع الأصول (14/ 3/ 21) وأسد الغابة (7/ 157) وتهذيب الأسماء واللغات (12/ 348). وسير أعلام النبلاء (2/ 265 - 269) والإصابة (4/ 338 - 339).

(4)

ترجمة -هند بن عتبة- في الاستيعاب (4/ 1922) وتاريخ دمشق - ط دار الفكر/ تراجم النساء - (437 - 459) وأسد الغابة (7/ 292). والإصابة (4/ 425).

(5)

بعدها في أ: والحمد لله وحده وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم- مما يدخل في باب تجزئة الكتاب، ولذلك فقد جاء في بداية الورقة التالية: يتلوه خلافة عثمان رضي الله عنه سنة 24 من الهجرة النبوية.

ص: 279

خلافة أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه ثي استهلت‌

‌ سنة أربع وعشرين

[من الهجرة النبوية]

ففي أوّل يومٍ منها دُفن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وذلك يوم الأحد في قولٍ، وبعد ثلاثة

(1)

أيام بُويع أميرُ المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه.

كان عمر رضي الله عنه قد جعل الأمر بعده شورى بين ستّة نفرٍ، وهم: عثمان بن عَفّان، وعليُّ بن أبي طالب، وطلحة بن عُبيد الله، والزبير بن العَوّام، وسعد بن أبي وَقّاص، وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم. وتحرَّج أن يجعلها لواحدٍ من هؤلاء على التعيين، وقال: لا أتحمّل أمرهم حيًا وميتًا، ون يرد الله بكم خيرًا يجمعكم على خير هؤلاء، كما جمعكم على خيركم بعد نبيكم صلى الله عليه وسلم، ومن تمام

(2)

ورعه لم يذكر في الشورى سعيدَ بن زيد بن عمرو بن نُفَيْل لأنه ابنُ عمه، خشي أن يراعَى فيُولَّى لكونه ابن عمه، فلذلك تركه. وهو أحدُ العشرة المشهود لهم بالجنة، بل جاء في رواية المدائني عن شيوخه أنه استثناه من بينهم، وقال لَسْتُ مدخله فيهم، وقال لأهل الشورى: يحضركم عبد الله -يعني ابنه- وليس إليه من الأمر شيء -يعني بل يحضر الشورى ويشير بالنصح ولا يُولَّي شيئًا- وأوصى أن يصلِّي بالناس صُهَيْب بن سنان الرومي ثلاثة أيام حتى تنقضي الشورى، وأن يجتمع أهل الشورى ويوكل بهم أناس حتى ينبرم الأمر، ووكل بهم خمسين رجلًا من المسلمين وجعل عليهم مُستحثًّا أبا طلحة الأنصاري والمقداد بن الأسود الكندي.

وقد قال عمر بن الخطاب: ما أظن الناس يعدلون بعثمان وعلي أحدًا، إنهما كانا يكتبان الوحي بين يَدَيْ رسول الله صلى الله عليه وسلم بما ينزل به جبريل عليه.

قالوا: فلما مات عمر رضي الله عنه وأُحضرت جنازتُه تبادر إليها عليُّ وعثمانُ أيهما يصلِّي عليه، فقال لهما عبد الرحمن بن عوف: لستُما من هذا في شيء، إنَّما هذا إلى صُهيب الذي أمره عمر أن يصلِّي بالناس. فتقدَّم صهيبٌ وصلَّى عليه، ونزل في قبره مع ابنه عبد الله أهل الشورى سوى طلحة فإنَّه كان غائبًا، فلمَّا فرغ من شأن عمر جمعهم المقداد بن الأسود في بيت المسور بن مخرمة، وقيل في حجرة عائشة، وقيل في بيت المال، وقيل في بيت فاطمة بنت قيس أخت الضحاك بن قيس، والأول أشبه والله أعلم.

(1)

أ، ط: ثلاث؛ وما هنا للسياق النحوي.

(2)

في أ: وحسبي أنه من ..

ص: 280

فجلسوا في البيت وقام أبو طلحة يحجبهم، وجاء عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة فجلسا من وراء الباب فحصبهما

(1)

سعد بن أبي وقاص وطردهما وقال جئتما لتقولا: حضرنا أمر الشورى؟ رواه المدائني عن مشايخه والله أعلم بصحته.

والمقصود أن القوم خلصوا من الناس في بيت يتشاورون في أمرهم، فكثر القول، وعلتِ الأصواتُ وقال أبو طلحة: إني كنت أظن أن تدافعوها ولم أكن أظنُّ أن تنافسوها، ثم صار الأمر بعد حضور طلحة إلى أن فوّض ثلاثةٌ منهم ما لهم في ذلك إلى ثلاثة، ففوض الزُّبير ما يستحقه من الإمارة إلى علي، وفوض سعد ماله في ذلك إلى عبد الرحمن بن عوف، وترك طلحة حقَّه إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه، فقال عبد الرحمن لعلي وعثمان: أيكما يبرأ من هذا الأمر فنفوضُ الأمر إليه والله عليه والإسلام ليولينَّ أفضلَ الرجلين الباقيين فأسكت الشيخان علي وعثمان، فقال عبد الرحمن: إني أترك حقي من ذلك والله علي والإسلام أن أجتهد فأولّي أَوْلاكما بالحقِّ، فقالا نعم! ثم خاطب كلَّ واحدٍ منهما بما فيه من الفضل، وأخذ عليه العهدَ والميثاقَ لئن ولاه ليعدلنَّ ولئن ولِّي عليه ليسمعنَّ وليطيعنَّ، فقال كل منهما نعم! ثم تفرقوا، ويروى أنَّ أهل الشورى جعلوا الأمر إلى عبد الرحمن ليجتهد للمسلمين في أفضلهم ليولِّيه، فيذكر أنه سأل [كل] من يمكنه سؤاله من أهل الشورى وغيرهم فلا يشير إلَّا بعثمان بن عفان، حتى أنَّه قال لعلي: أرأيت إن لم أولّكَ بمن تشير به (علي؟ قال: بعثمان. وقال لعثمان: أرأيت إن لم أولِّكَ بمن تشير به؟) قال: بعلي بن أبي طالب.

والظاهر أنَّ هذا كان قبل أن ينحصر الأمر في ثلاثة، وينخلع عبد الرحمن منها لينظر الأفضل والله عليه والإسلام ليجتهدن في أفضل الرجلين فيولِّيه.

ثم نهض عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه يستشير الناس فيهما ويجمع رأي المسلمين برأي رؤوس

(2)

الناس وأقيادهم جميعًا وأشتاتًا، مثنىً وفرادى، ومجتمعين، سرًا وجهرًا، حتى خلص إلى النساء المخدرات في حجابهنَّ وحتى سأل الولدان في المكاتب، وحتى سأل من يرد من الركبان والأعراب إلى المدينة، في مدة ثلاثة أيام بلياليها، فلم يجد اثنين يختلفان في تقدُّم عثمان بن عفان، إلا ما ينقل عن عِمار والمقداد أنهما أشارا بعلي بن أبي طالب، ثم بايعا مع الناس على ما سنذكره.

فسعى في ذلك عبد الرحمن ثلاثة أيام بلياليها لا يغتمض بكثير نوم إلا صلاة ودعاءً واستخارة، وسؤالًا من ذوي الرأي عنهم، فلم يجد أحدًا يعدل بعثمان بن عفان رضي الله عنه.

فلمَّا كانت الليلة يسفر صباحُها عن اليوم الرابع من موت عمر بن الخطاب جاء إلى منزل ابن أخته

(3)

(1)

في ط: فحصبهم.

(2)

في أ: المسلمين برؤوس ..

(3)

في أ: منزل أخيه، خطأ. ينظر تهذيب الكمال (27/ 582)، وما يأتي من الكلام.

ص: 281

المسور بن مخرمة فقال: أنائم يا مسور؟ والله لم أغتمض بكثير نوم منذ ثلاث، اذهب فادع لي

(1)

عليًا وعثمان. قال المسور: فقلت بأيهما أبدًا؟ فقال بأيهما شئت، قال فذهبت إلى علي فقلت أجب خالي، فقال: أمركَ أن تدعوَ معي أحدًا؟ قلتُ: نعم! قال: من؟ قلتُ: عثمان بن عفان، قال: بأينا بدأ؟ قلت: لم يأمرني بذلك، بل قال ادعُ لي أيهما شئت أولًا، فجئت إليك قال فخرج معي، فلمَّا مررنا بدار عثمان بن عفان جلس عليٌّ حتى دخلت فوجدته يُوتر مع الفجر، فقال لي كما قال لي علي سواء، ثم خرج فدخلت بهما على خالي وهو قائم يصلِّي، فلمَّا انصرف

(2)

أقبل على علي وعثمان فقال: إنّي قد سألتُ الناس عنكما فلم أجد أحدًا يعدل بكما أحدًا، ثم أخذَ العهدَ على كلِّ منهما أيضًا لئن ولاه ليعدلنّ، ولئن ولِّي عليه ليسمعن وليطيعن

(3)

.

ثم خرج بهما إلى المسجد وقد لبس عبد الرحمن العمامة التي عمَّمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقلَّد سيفًا، وبعث إلى وجوه (الناس) من المهاجرين والأنصار، ونُودي في الناس عامة: الصلاة جامعة، فامتلأ المسجد حتى غصَّ بالناس، وتراصن الناس وتراصوا حتى لم يبق لعثمان موضع يجلسُ إلا في أُخريات الناس -وكان رجلًا حييًا رضي الله عنه ثم صعد عبد الرحمن بن عوف منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوقف وقوفًا طويلًا، ودعا دعاءً طويلًا، لم يسمعه الناس ثم تكلم فقال: أيها الناس إني [قد] سألتكم سرًا وجهرًا بأمانيكم فلم أجدكم تعدلون بأحد هذين الرجلين إما علي وإما عثمان، فقم إلي يا علي

(4)

، فقام إليه فوقف تحت المنبر فأخذ عبد الرحمن بيده فقال: هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وفعل أبي بكر وعمر؟ قال: اللهم لا ولكن على جهدي من ذلك وطاقتي، قال فأرسل يده وقال: قم (إلي) يا عثمان، فأخذ بيده فقال: هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وفعل أبي بكر وعمر؟ قال: اللهم نعم! فقال: فرفع رأسه إلى سقف المسجد ويده في يد عثمان فقال: اللهمَّ اسمع واشهد، اللهم اسمع واشهد، اللهم اسمع واشهد، اللهم إني قد جعلت

(5)

ما في رقبتي من ذلك في رقبة عثمان.

قال وازدحم الناس يبايعون عثمان حتى غشوه تحت المنبر، قال: فقعد عبد الرحمن مقعد النبي صلى الله عليه وسلم وأجلس عثمان تحته على الدرجة الثانية، وجاء إليه الناس يبايعونه، وبايعه علي بن أبي طالب أولًا، ويقال آخرًا.

وما يذكره كثير من المؤرخين كابن جرير

(6)

وغيره عن رجال لا يعرفون أن عليًا قال لعبد الرحمن:

(1)

في ط: إلي.

(2)

في ط: انصرفت؛ خطأ: إذ المقصود انصرافه من الصلاة.

(3)

في أ: ويطيعن.

(4)

في أ: يا عثمان؛ خطأ.

(5)

في ط: خلعت.

(6)

في تاريخه (4/ 238 - 239).

ص: 282

خدعتني، وإنك إنما ولّيته لأئه صهرك وليشاورك كل يوم في شأنه، وأنه تلكأ حتى قال له عبد الرحمن:{فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 10] إلى غير ذلك من الأخبار المخالفة لما ثبت في الصحاح فهي مردودة على قائليها وناقليها، والله أعلم.

والمظنون بالصحابة خلاف ما يَتَوَهَّمُ كثيرٌ من الرافضة وأغبياء القصَّاص الذين لا تمييز عندهم بين صحيح الأخبار وضعيفها، ومستقيمها وسقيمها، ومُنْآدها

(1)

وقويمها، والله الموفق للصواب.

وقد اختلف علماء السير في اليوم الذي بويع فيه لعثمان بن عفان رضي الله عنه، فروى الواقدي عن شيوخه أنه بويع يوم الإثنين لليلة بقيت من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين، واستقبل بخلافته المحرم سنة أربع وعشرين، وهذا غريب جدًا.

وقد روى الواقدي أيضًا عن ابن جريج

(2)

عن ابن أبي مليكة قال: بويع لعثمان بن عفان لعشرٍ خلونَ من المحرم بعد مقتل عمر بثلاث ليالٍ، وهذا أغرب من الذي قبله.

وكذا روى

(3)

سيف بن عمر عن عامر الشَّعبي أنه قال: اجتمع أهل الشورى على عثمان لثلاثٍ خلونَ من المحرم سنة أربع وعشرين، وقد دخل وقت العصر وقد أذن مؤذن صهيب، واجتمع الناس بين الأذان والإقامة فخرج فصلَّى بهم العصر.

وقال سيف عن خُلَيد بن زفر

(4)

ومجالد قالا: استُخلف عثمان لثلاث خلونَ من المحرم سنة ثلاث وعشرين فخرج فصلَّى بالناس العصر، وزاد الناسَ -يعني في أعطياتهم- مئة، ووفد أهل الأمصار، وهو أولُ من صنع ذلك

(5)

.

قلت: ظاهر ما ذكرناه من سياق بيعته يقتضي أنَّ ذلك كان قبل الزوال، لكنَّه لمَّا بايعه الناس في المسجد ذهب به إلى دار الشورى على ما تقدم فيها من الخلاف، فبايعه بقية الناس، وكأنه لم يتم البيعة إلا بعد الظهر، وصلَّى صهيب يومئذ الظهر في المسجد النبوي، وكان أول صلاة صلاها الخليفة أمير المؤمنين عثمان بن عفان بالمسلمين صلاة العصر، كما ذكره الشعبي وغيره.

وأما أول خطبة خطبها بالمسلمين فروى سيف بن عمر عن بدر بن عثمان عن عمه قال: لما بايع أهلُ الشورى عثمان خرج وهو أشدّهم كآبةً فأتى منبر النبي صلى الله عليه وسلم فخطبَ الناس، فحمد الله وأثنى عليه وصلَّى على النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: إنكم في دار قلعة وفي بقية أعمار، فبادروا آجالكم بخير ما تقدرون عليه، (فلقد

(1)

في ط: مبادها، ومنآدها: أي معوجها. القاموس (أود).

(2)

في أ، ط: ابن جرير؛ خطأ والتصحيح من تاريخ الطبري (4/ 242).

(3)

في أ: روي عن.

(4)

في الأصل والمطبوع: خليفة بن زفر، والتصحيح من كتب الرجال.

(5)

جملة هذه الأخبار في تاريخ الطبري (4/ 242).

ص: 283

أتيتم صُبِّحتم أو مسِّيتم، ألا وإنَّ الدنيا طويت على الغرور) فلا تغرَّنكم (الحياة) الدنيا ولا يغرَّنكم بالله الغرور، واعتبروا بمن مضى ثم جدُّوا ولا تغفلوا. أين أبناء الدنيا وإخوانها الذين أثاروها وعمروها ومُتِّعوا بها طويلًا؟ ألم تلفظهم؟ ارموا بالدنيا حيث رمى الله بها، واطلبوا الآخرة فإن اللهَ قد ضربَ لها مثلًا، بالذي هو خير فقال تعالى:{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45) الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [الكهف: 45 - 46] قال: وأقبل الناس يبايعونه.

قلت: وهذه الخطبة: إمَّا بعد صلاة العصر يومئذ، أو قبل الزوال (وعبد الرحمن بن عوف جالس في رأس المنبر) وهو الأشبه، والله أعلم. وما يذكره بعض الناس (من أن عثمان لمَّا خطب أول خطبة أُرتجَ عليه فلم يدرِ ما يقول حتى قال: أيها الناس،) إنَّ أول مركب صعب، وإن أعش فستأتيكم الخطبة على وجهها، فهو شيء يذكره صاحب العقد

(1)

وغيره، ممن يذكر طرف الفوائد، ولكن لم أر هذا بإسناد تسكن النفس إليه، والله أعلم.

وأمَّا قول الشعبي إنه زاد الناس مئة (مئة) -يعني في عطاء كل واحد من جند المسلمين- زاده على ما فرض له عمر مئة درهم من بيت المال وكان عمر قد جعل لكل نفس من المسلمين في كل ليلة من رمضان درهمًا من بيت المال يفطر عليه، ولأمهات المؤمنين درهمين (درهمين) فلما ولِّي عثمان أقر ذلك وزاده. واتخذ سماطًا في المسجد أيضًا للمتعبدين، والمعتكفين، وأبناء السبيل، والفقراء، والمساكين رضي الله عنه.

وقد كان أبو بكر إذا خطب يقوم على الدرجة التي تحت الدرجة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقف عليها، فلما ولِّي عمر نزل درجة أخرى عن درجة أبي بكر رضي الله عنهما، فلمَّا ولِّي عثمان قال إنَّ هذا يطول فصعد إلى الدرجة التي كان يخطب عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وزاد الأذان الأول يوم الجمعة، قبل الأذان الذي كان يُؤَذّن به بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس على المنبر.

وأما أول حكومة حكم فيها فقضية عبيد الله بن عمر، وذلك أنه غدا على ابنة أبي لؤلؤة قاتل عمر فقتلها، وضرب (رجلًا) نصرانيًا يقال له جفينة بالسيف فقتله، وضرب الهرمزان الذي كان صاحب تُسْتر فقتله، وكان قد قيل إنهما مالأا أبا لؤلؤة على قتل عمر، فالله أعلم.

و (قد) كان عمر قد أمر بسجنه ليحكم فيه الخليفة من بعده، فلما ولِّي عثمان وجلس للناس كان أول ما تحوكم إليه في شأن عبيد الله، فقال علي: ما من العدل تركه، وأمر بقتله، وقال بعض المهاجرين: أيقتل أبوه بالأمس ويقتل هو اليوم؟ فقال عمرو بن العاص: يا أمير المؤمنين قد برأك الله من ذلك، قضية لم تكن في أيامك فدعها عنك، فودى عثمان رضي الله عنه أولئك القتلى من ماله، لأن أمرهم إليه، إذ

(1)

العقد الفريد لابن عبد ربه (4/ 66).

ص: 284

لا وارث لهم إلا بيت المال، والإمام يرى الأصلح في ذلك، وخلَّى سبيل عبيد الله. قالوا: فكان زياد بن لبيد البياضي إذا رأى عبيد الله بن عمر يقول

(1)

: [من الطويل]

ألا يا عُبَيْدَ اللهِ مالكَ مهربٌ

(2)

ولا ملجأٌ من ابن أروى ولا خَفَرْ

أصَبْتَ دمًا واللهِ في غيرِ حِلّهِ

حرامًا وقتلُ الهُرْمزانِ لهُ خَطَرْ

على غيرِ شيءٍ غيرَ أنْ قالَ قائلٌ

أتَتَّهمُونَ الهُرْمُزانَ على عُمَرْ

فقالَ سفيهٌ والحَوادثُ جَمَّةٌ

نَعمْ أتَّهمهُ قد أشارَ وَقَدْ أمَرْ

وكان

(3)

سلاحُ العَبْدِ في جَوْفِ بيتهِ

يُقَلّبها والأمرُ بالأمْرِ يُعتبرْ

قال: فشكا عبيد الله بن عمر زيادًا إلى عثمان فاستدعى عثمان زياد بن لبيد فأنشأ زياد يقول في عثمان: [من الوافر]

أبا عمرو عُبَيْدُ اللهِ رهنٌ

فلا تَشْكُكْ بقَتْلِ الهُرْمزانِ

فإنَّكَ إنْ غَفَرْتَ الجُرْمَ عنهُ

وأسبابُ الخطا فَرَسا رِهان

(4)

أتعفُو إذْ عفوتَ بغيرِ حقٍّ

فمالكَ بالذي تحكي

(5)

يدان

قال: فنهاه عثمان عن ذلك وزبره فسكت زياد بن لَبيد عمَّا يقول.

ثم كتب عثمان بن عفان إلى عماله على الأمصار أمراء الحرب، والأئمة على الصلوات، والأمناء على بيوت المال يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحثّهم على طاعة الله وطاعة رسوله، ويحرضهم على الاتِّباع وترك الابتداع.

قال ابن جرير

(6)

: وفي هذه السنة عزل عثمان المغيرةَ بن شعبة عن الكوفة وولَّى عليها سعد بن أبي وقاص فكان أول عامل ولاه، لأن عمر قال: فإن أصابت الإمرة سعدًا فذاك، وإلا فليستعن به أيكم ولِّي، فإني لم أعزله عن عجزٍ ولا خيانة، فاستعمل سعدًا عليها سنة وبعض أخرى.

ثم رواه ابن جرير من طريق سيف، عن مجالد، عن الشَّعبي، وقال الواقدي فيما ذكره عن زيد بن أسلم عن أبيه أنَّ عمر أوصى أن تقر عماله سنة، فلما ولِّي عثمان أقر المغيرة بن شعبة على الكوفة سنة [ثم عزله، واستعمل سعدًا ثم عزله وولَّى الوليد بن عقبة بن أبي مُعَيْط.

(1)

الأبيات في تاريخ الطبري (4/ 239 - 240).

(2)

أ: هارب؛ وما هنا هو الأشبه.

(3)

أ: بأنّ.

(4)

البيت ليس في أ.

(5)

في ط: تخلي؛ وما أثبتنا هو الأشبه وهي رواية الطبري.

(6)

في تاريخه (4/ 244).

ص: 285

قال ابن جرير: فعلى ما ذكره الواقدي تكون ولاية سعد على الكوفة سنة]

(1)

خمس وعشرين.

قال ابن جرير

(2)

: وفي هذه السنة -أعني سنة أربع وعشرين- غزا الوليد بن عقبة أذربيجان وأرمينية حين منع أهلها ما كانوا صالحوا عليه أهل الإسلام في أيام

(3)

عمر بن الخطاب، وهذا في رواية أبي مخنف، وأما في رواية غيره فإن ذلك كان في سنة ست وعشرين، ثم ذكر ابن جرير ها هنا هذه الوقعة وملخصها أنَّ الوليد بن عقبة سار بجيش الكوفة نحو أذربيجان وأرمينية، حين نقضوا العهدَ فوطئ بلادهم وأغار بأراضي تلك الناحية فغنم وسبى وأخذ أموالًا جزيلة فلمَّا أيقنوا بالهلكة صالحهم أهلها على ما كانوا صالحوا عليه حُذيفة بن اليمان ثمانمئة ألف درهم في كل سنة، فقبض منهم جزية سنة ثم رجع سالمًا غانمًا إلى الكوفة، فمرَّ بالموصل. وجاءه كتاب عثمان وهو بها يأمره أن يمدَّ أهل الشام على حرب أهل الروم.

قال ابن جرير: وفي هذه السنة جاشت الروم حتى خاف أهل الشام وبعثوا إلى عثمان رضي الله عنه يستمدّونه فكتب إلى الوليد بن عقبة: أن إذا جاءك كتابي هذا فابعث رجلًا أمينًا كريمًا شجاعًا في ثمانية آلاف أو تسعة آلاف أو عشرة آلاف إلى إخوانكم بالشام. فقام الوليد بن عقبة في الناس خطيبًا حينَ وصلَ إليه كتابُ عثمان فأخبرهم بما أمره به أمير المؤمنين وندب الناسَ وحثَّهم على الجهاد ومعاونة معاوية وأهل الشام، وأمَّر سلمان بن ربيعة على الناس الذين يخرجون إلى الشام فانتدب في ثلاثة أيام ثمانيةَ آلافٍ، فبعثهم إلى الشام وعلى جند المسلمين حبيبُ بن مَسْلَمَة

(4)

الفهري، فلمَّا اجتمع الجيشان شَنُّوا الغاراتِ على بلاد الروم فغنموا وسَبوْا شيئًا كثيرًا وفتحوا حصونًا كثيرةً ولله الحمد.

وزعم الواقدي أنَّ الذي أمدَّ أهل الشام بسلمان بن ربيعة إنّما هو سعيد بن العاص عن كتاب عثمان رضي الله عنه فبعث سعيد بن العاص سلمان بن ربيعة بستة آلاف فارس حتى انتهى إلى حبيب بن مسلمة وقد أقبل إليه المَوْريان

(5)

الرومي في ثمانين ألفًا من الروم والترك، وكان حبيب بن مسلمة شجاعًا شهمًا، فعزم على أن يبيّت جيش الروم فسمعته امرأته يقول للأمراء ذلك فقالت له: فأين موعدي

(6)

معك -تعني أين أجتمع بك غدًا- فقال لها: موعدك سرادق المَوْريان أو الجنة، ثم نهض إليهم في ذلك الليل بمن معه من المسلمين، فقتل من أشرف له وسبقته امرأته إلى سرادق المَوْريان فكانت أول امرأة من العرب ضُرب عليها سرادق. وقد مات عنها حبيب بن مسلمة بعد ذلك، فخلف عليها بعده الضحّاكُ بن قيس الفهري، فهي أم ولده.

(1)

زيادة من أ.

(2)

في تاريخه (4/ 246).

(3)

في أ: ما كانوا صولحوا عليه في أيام عمر.

(4)

في أ، ط: مسلم، وما هنا عن الطبري.

(5)

في أ: المرزبان، وما هنا عن الطبري والضبط عنه.

(6)

في أ: بوعدي.

ص: 286

قال ابن جرير

(1)

: واختلف فيمن حجَّ بالناس في هذه السنة فقال الواقدي وأبو معشر: حجَّ بهم عبد الرحمن بن عوف بأمر عثمان. وقال آخرون: حجَّ بالناس عثمان بن عفَّان رضي الله عنه. والأول هو الأشهر فإنَّ عثمان لم يتمكن من الحجِّ في هذه السنة لأجل رعاف أصابه مع الناس في هذه السنة حتى خشي عليه، وكان يقال لهذه السنة سنة الرعاف.

وفيها افتتح أبو موسى الأشعري الرّيَّ بعدما نقضوا العهد الذي كان واثقَهُمْ عليه حُذَيْفة بن اليمان رضي الله عنه.

وفيها توفي:

سُراقة بن مالك بن جُعْشُم المُدْلِجي

(2)

. ويكنى بأبي سفيان، وكان ينزل قديدًاً، وهو الذي اتَّبع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعامر بن فهيرة وعبد الله بن أُرَيْقط الدّيلي حين خرجوا من غار ثور قاصدين المدينة فأراد أنْ يردَّهم على أهل مكة لمَّا جعلوا في كل واحد من النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر مئة من الإبل، فطمع أن يفوز بهذا الجعل، فلم يسلّطه الله عليهم، بل لمَّا اقترب منهم وسمع قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم ساخت قوائم فرسه في الأرض حتى ناداهم بالأمان، فأعطوه الأمان، وكتب له أبو بكر كتاب أمان عن إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم (ثم قدم به بعد غزوة الطائف فأسلم وأكرمه النبي صلى الله عليه وسلم) وهو القائل: يا رسول الله أعُمْرَتُنا هذه لعامنا هذا أم للأبد؟ فقال له: "بل لأبد الأبد - دخلت العمرة في الحجِّ إلى يوم القيامة"

(3)

.

‌ثم دخلت سنة خمس وعشرين

وفيها

(4)

نقض أهل الإسكندرية العهدَ، وذلك أن ملكَ الروم بعث إليهم منويل الخصي

(5)

في مراكب من البحر فطمعوا في النُّصْرة ونقضوا ذمتهم، فغزاهم عمرو بن العاص في ربيع الأول، فافتتح الأرض عنوةً وافتتح المدينة صلحًا.

وفيها حج بالناس عثمان بن عفان رضي الله عنه.

وفيها في قول سيف عَزل عثمانُ سعدًا عن الكوفة وولى الوليد بن عُقْبة بن أبي مُعيط مكانه، فكان هذا مما نقم على عثمان.

(1)

في تاريخه (4/ 249).

(2)

ترجمة -سراقة بن مالك- في الاستيعاب (1/ 581) وجامع الأصول (14/ 163) وأسد الغابة (2/ 331 - 333) والإصابة (2/ 19) وشذرات الذهب (1/ 181 - 183).

(3)

الحديث أخرجه أحمد في مسنده (3/ 320) والبخاري في صحيحه (1785) في العمرة، ومسلم في صحيحه (1218) في الحج. وهو حديث طويل يرويه جابر بن عبد الله.

(4)

في أ: فيها.

(5)

في أ: الحمصي، وفي ط:"معويل"، وكلاهما خطأ، وما أثبتناه يعضده ما نقله الذهبي في تاريخ الإسلام.

ص: 287

وفيها وجه عمرو بن العاص عبدَ الله بن سعد بن أبي سَرْح لغزو بلاد المغرب، واستأذنه ابن أبي سَرْح في غزو إفريقية فأذن له.

ويقال فيها أيضًا عزلَ عثمانُ عمرو بن العاص عن مصر وولَّى عليها عبد الله بن سعد بن أبي سَرْح، وقيل بل كان هذا في سنة سبع وعشرين كما سيأتي، والله أعلم.

وفيها فتح معاوية الحصون.

وفيها ولد ابنه يزيد بن معاوية.

‌ثم دخلت سنة ستٍّ وعشرين

قال الواقدي: فيها أمر عثمان بتجديد أنصاب الحرم.

وفيها وُسِّعَ المسجد الحرام. وفيها عَزَلَ سعدًا عن الكوفة وولّاها

(1)

الوليد بن عُقْبة، وكان سبب عزل سعدٍ أنَّه اقترض من ابن مسعود مالًا من بيت المال، فلما تقاضاه به ابن مسعود ولم يتيَّسر قضاؤُه تقاولا، وجرت بينهما خصومةٌ شديدةٌ، فغضب عليهما

(2)

عثمان فعزل سعدًا واستعمل الوليد بن عُقْبة

(3)

. وكان عاملًا لعمر على عرب الجزيرة - فلما قدمها أقبل عليه أهلها، فأقام بها خمس سنين، وليس على داره باب، وكان فيه رفقٌ برعيّته.

قال الواقدي: وفيها حجَّ بالناس عثمانُ بن عفان رضي الله عنه.

وقال غيره. وفيها افتتح عثمانُ بن أبي العاص سابور صلحًا على ثلاثة آلاف ألف وثلاثمئة ألف.

‌ثم دخلت سنة سبع وعشرين

قال الواقدي وأبو معشر: وفيها

(4)

عزل عثمان عمرو بن العاص عن مصر وولَّى عليها عبد الله بن سعد بن أبي سَرْح -وكان أخا عثمان من الرّضاع- وهو الذي شفع له يوم الفتح حين كان أهدر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم دمَه.

(1)

في أ: وولّى.

(2)

في أ: عليه.

(3)

الخبر في تاريخ الطبري (4/ 251).

(4)

في أ: فلما.

ص: 288

‌غزوة إفريقية

أمر عثمانُ عبد الله بن سعد بن أبي سَرْح أن يغزوَ بلاد إفريقية، فإذا فتحها

(1)

الله عليه فله خُمس الخُمس من الغنيمة نفلًا، فسار إليها في عشرة آلاف فافتتحها سهلَها وجبلَها، وقتل خلقًا كثيرًا من أهلها، ثم اجتمعوا

(2)

على الطاعة والإسلام، وحسن إسلامهم، وأخذ عبد الله بن سعد خُمسَ الخُمس من الغنيمة، وبعث بأربعة أخماسه إلى عثمان، وقسم أربعة أخماس الغنيمة بين الجيش، فأصاب الفارس ثلاثة آلاف دينار والراجل ألف دينار.

قال الواقدي: وصالحه بطريقها على ألفي ألف دينار [وخمسمئة ألف دينار] وعشرين ألف دينار، فأطلقها كلها (عثمان) في يوم واحد لآل الحَكم، ويقال لآل مروان

(3)

.

‌غزوة الأندلس

لما افتتحت إفريقية بعث عثمان إلى عبد الله بن نافع بن عبد قيس وعبد الله بن نافع بن الحصين الفهريين

(4)

من فورهما إلى الأندلس، فأتياها من قِبلِ البَحْر، وكتب عثمان إلى الذين خرجوا إليها يقول: إن القسطنطينية إنّما تُفتح من قِبلِ البحر، وأنتم إذا فتحتم الأندلسَ فأنتم شركاء لمن يفتتح قسطنطينية في الأجر آخر الزمان والسلام، قال فساروا إليها فافتتحوها ولله الحمد والمنة.

‌وقعة جرجير والبربر مع المسلمين

لما قصد المسلمون وهم عشرون ألفًا إفريقية، وعليهم عبد الله بن سعد بن أبي سَرْح، وفي جيشه عبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، صمدَ إليهم ملك البربر جرجير في عشرين ومئة ألف، وقيل في مئتي ألف؛ فلما تراءى الجمعان أمر جيشه فأحاطوا بالمسلمين هالةً، فوقف المسلمون في موقف لم يُرَ أشنعَ منه ولا أخوف عليهم منه.

قال عبد الله بن الزبير: فنظرتُ إلى الملك جرجير من وراء الصفوف وهو راكب على برذون، وجاريتان تظلانه بريش الطواويس، فذهبت إلى عبد الله بن سعد بن أبي سَرْح فسألته أن يبعث معي من يحمي ظهري وأقصد الملك، فجهّز معي جماعةً من الشجعان، قال: فأمر بهم فحموا ظهري، وذهبت حتى خرقت الصفوف إليه -وهم يظنّون أنّي في رسالة إلى الملك- فلما اقتربتُ منه أحسّ مني الشرّ ففر على

(1)

في ط: افتتحها.

(2)

في أ: أجمعوا.

(3)

الخبر في تاريخ الطبري (4/ 256).

(4)

في أ: بعث عثمان إلى عبد الله بن نافع بن الحصين وعبد قيس من فورهما.

ص: 289

برذونه، فلحقته فطعنته برمحي، وذففت

(1)

عليه بسيفي، وأخذت رأسه فنصبته على رأس الرمح وكبَّرت، فلما رأى ذلك البربر فرقوا وفروا كفرار القطا، واتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون فغنموا غنائم جمة وأموالًا كثيرة، وسبيًا عظيمًا، وذلك ببلد يقال له سُبَيْطِلَة

(2)

-على يومين من القيروان- فكان هذا أول موقف اشتهر فيه أمر عبد الله بن الزبير رضي الله عنه وعن أبيه وأصحابهما أجمعين.

قال الواقدي: وفي هذه السنة افتتحت إصطخر ثانية على يديْ عثمان بن أبي العاص.

وفيها غزا معاوية قنَّسرين

(3)

.

وفيها حج بالناس عثمان بن عفان.

قال ابن جرير: قال بعضهم: وفي هذه السنة غزا معاوية قبرص

(4)

. وقال الواقدي: كان ذلك في سنة ثمان وعشرين. وقال أبو معشر: غزاها معاوية سنة ثلاث وثلاثين، فالله أعلم.

‌ثم دخلت سنة ثمانٍ وعشرين

‌فتح قبرص

ففيها ذكر ابن جرير

(5)

فتحَ قبرص تبعًا للواقدي، وهي جزيرةٌ غربي بلاد الشام في البحر، مخلصة وحدها، ولها ذَنَبٌ مستطيلٌ إلى نحو الساحل مما يلي دمشق، وغربيها أعرضها

(6)

، وفيها فواكه كثيرة، ومعادن، وهي بلدٌ جيدٌ، وكان فتحها على يدي معاوية بن أبي سفيان، ركب إليها في جيش كثيف من المسلمين ومعه عُبادة بن الصّامت وزوجته

(7)

أم حرام بنت ملحان التي تقدَّم حديثها في ذلك حين نام رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتها ثم استيقظ يضحكُ فقالت: ما أضحككَ يا رسولَ الله فقال: "ناسٌ من أمتي عرضوا عليَّ يركبون ثبج

(8)

هذا البحر مثل الملوك على الأسِرَّةِ". فقالت: يا رسول الله ادعُ اللهَ أن يجعلني منهم. فقال: "أنت منهم" ثم نام فاستيقظ وهو يضحك فقال مثل ذلك فقالت: ادعُ الله أن

(1)

ذففت: أجهزت عليه. اللسان (ذفف).

(2)

قال ياقوت: سُبَيطلة: بضم أوله وفتح ثانيه .. مدينة من مدن إفريقية بينها وبين القيروان سبعون ميلًا. معجم البلدان (3/ 187).

(3)

في تاريخ الطبري: قنسرين.

(4)

في أ: غزا.

(5)

في تاريخه (4/ 258).

(6)

في أ: أعرض.

(7)

في أ: في زوجته.

(8)

ثَبَجَ كلِّ شيء: معظمه ووسطه وأعلاه والجمع أثباج وثبوج. اللسان (ثبج).

ص: 290

يجعلني منهم فقال: "أنتِ من الأولين"

(1)

فكانت في هذه الغزوة وماتتْ بها، وكانت الثانية عبارة عن غزوة قسطنطينية بعد هذا كما سنذكره.

والمقصود أن معاوية ركب البحر في مراكب فقصد الجزيرة المعروفة بقبرص، ومعه جيش عظيم من المسلمين، وذلك بأمر عثمان بن عفان رضي الله عنه له في ذلك بعد سؤاله إياه، وقد كان سأل في ذلك عمر بن الخطاب فأبى أن يُمكِّنه من حمل المسلمين على هذا الخلق العظيم الذي لو اضطرب لهلكوا عن آخرهم، فلما كان عثمان لحَّ معاوية عليه في ذلك، فأذنَ له فركبَ في المراكب فانتهى إليها، ووافاه عبد الله بن سعد بن أبي سَرْح إليها من الجانب الآخر. فالتقيا على أهلها فقتلوا خلقًا كثيرًا، وسبَوْا سبايا كثيرة، وغنموا مالًا جزيلًا جيدًا، ولما جيء بالأسارى جعل أبو الدرداء يبكي، فقال له جُبَيْر بن نُفَيْر: أتبكي وهذا يوم أعزَّ الله فيه الإسلام وأهله؟ فقال: ويحك إن هذه كانت أمة قاهرة لهم ملك، فلما ضيَّعوا أمر الله صيَّرهم إلى ما ترى، سلّط الله عليهم السبي، وإذا سلِّط على قوم السبي فليس لله فيهم حاجة، وقال ما أهون العباد على الله تعالى إذا تركوا أمره؟! ثم صالحهم معاويةُ على سبعة آلاف دينار في كل سنة، وهادنهم، فلما أرادوا الخروج منها قُدمِّتْ لأم حرام بغلةٌ لتركبها فسقطت عنها فاندقت عنقها، فماتت هناك، فقبرها هنالك يُعظِّمونه ويستسقون به ويقولون قبر المرأة الصالحة.

قال الواقدي: وفي هذه السنة غزا حبيب بن مَسْلمة سوريةَ من أرض الروم. وتزوّج عثمان نائلة بنت الفُرافصة الكَلبية - وكانت نصرانية فأسلمت قبل أن يدخل

(2)

بها.

وفيها بنى عثمان داره بالمدينة الزَّوراء.

وفيها حج بالناس أميرُ المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه.

‌ثم دخلت سنة تسعٍ وعشرين

ففيها

(3)

عزلَ عثمان بن عفان أبا موسى الأشعري عن البصرة، بعد عمله ستَّ سنين، وقيل ثلاث، وأمَّر عليها عبد الله بن عامر بن كُرَيْز بن ربيعة بن حَبيب بن عَبْد شَمْسٍ، وهو ابن خال عثمان بن عفان، وجمع له بين جند أبي موسى وجند عثمان بن أبي العاص، وله من العمر خمس وعشرون سنة، فأقام بها ستَّ سنين. وفي هذه السنة افتتح عبد الله بن عامر فارسَ في قول الواقدي وأبي معشر. وزعم سيف أنه كان قبل هذه السنة، فالله أعلم.

(1)

الحديث أخرجه أحمد (6/ 361) والبخاري في صحيحه (2799) في الجهاد، ومسلم في صحيحه (1912)(161) في الإمارة.

(2)

في أ: قبل الدخول بها.

(3)

في أ: فيها.

ص: 291

وفيها وسَّع عثمانُ بن عفان مسجدَ النبي صلى الله عليه وسلم، وبناه بالقَصَّة

(1)

-وهي الكلس- كان يؤتى به من بطن نخل

(2)

، والحجارة المنقوشة، وجعل عمده حجارةً مرصعةً، وسقفه بالساج، وجعل طوله ستين ومئة ذراع، وعرضه خمسين ومئة ذراع، وجعل أبوابه ستة، على ما كانت (عليه) في زمان عمر بن الخطاب، ابتدأ بناءه في ربيع الأول منها.

وفيها حج بالناس عثمان بن عفان، وضرب له بمنى فسطاطًا، فكان أول فسطاط ضربه عثمان بمنى، وأتمَّ الصلاة عامه هذا، فأنكر ذلك عليه غيرُ واحد من الصحابة، كعلي وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن مسعود، حتى قال ابن مسعود ليتَ حظّي من أربع ركعات ركعتان متقبلتان، وقد ناظره عبد الرحمن بن عوف فيما فعله، فروى ابن جرير

(3)

أنه قال: تأهلت بمكة؟ فقال له: ولك أهل بالمدينة وإنك تقوم حيث أهلك بالمدينة. قال: وإن لي مالًا بالطائف أريد أن أطلعه بعد الصدر، قال: إن بينك وبين الطائف مسيرة ثلاث، فقال: وإن طائفة من أهل اليمن قالوا: إن الصلاة بالحضر ركعتان فربما رأوني أصلي ركعتين فيحتجون بي، فقال له: قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل عليه الوحي (والناس يومئذ الإسلام فيهم قليل)، وكان يصلّي ها هنا ركعتين، وكان أبو بكر يصلّي ها هنا ركعتين، وكذلك عمر بن الخطاب، وصليتَ أنتَ ركعتين صدرًا من إمارتك، قال فسكت عثمان ثم قال: إنما هو رأي رأيته.

‌سنة ثلاثين من الهجرة النبوية

فيها افتتح سعيدُ بن العاص طبرستان في قول الواقدي وأبي معشر والمدائني، وقال: هو أول من غزاها. وزعم سيف أنهم كانوا صالحوا سويد بن مُقَرّن قبل ذلك على ألا يغزوها، على مالٍ بذله له أصبهبذها، فالله أعلم. فذكر المدائني أن سعيد بن العاص ركب في جيش فيه الحسن والحسين، والعبادلة الأربعة، وحذيفة بن اليمان، في خلق من الصحابة فسار بهم فمرَّ على بلدانٍ شتَّى يصالحونه على أموال جزيلة، حتى انتهى إلى بلد معاملة جُرْجان، فقاتلوه حتى احتاجوا إلى صلاة الخوف، فسأل حذيفة: كيف صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأخبره فصلَّى كما أخبره، ثم سأله أهل ذلك الحصن الأمانَ، فأعطاهم على ألا يقتل منهم رجلًا واحدًا، ففتحوا الحصن فقتلهم إلا رجلًا واحدًا، وحوى ما كان في الحصن

(4)

. فأصاب رجل من بني نهد سفطًا مقفولًا فاستدعى به سعيد؟ ففتحوه فإذا فيه خرقة سوداء

(1)

القَصَّة والقصَّة والقَصّ: الجص. اللسان (قصص).

(2)

في أ: نخلة. وبطن نخل: قرية قريبة من المدينة على طريق البصرة، بينهما الطرفُ على الطريق، وهو بعد أبرق العَزَّاف للقاصد إلى مكة. معجم البلدان (1/ 449).

(3)

في تاريخه (4/ 268).

(4)

في أ: ما كان فيه.

ص: 292

مدرجة فنشروها، فإذا فيها خرقة حمراء (فنشروها)، وإذا داخلها خرقة صفراء، وفيها أيْران كُميت وورد (فقال شاعر) يهجو بهما بني نهد

(1)

: [من الطويل]

آبَ الكِرامُ بالسَّبايا غَنيمةً

وفازَ بنو نَهْدٍ بأيْرين في سَفَطْ

كُمَيْتٍ وورْدٍ وافِرَيْنِ كِلاهُما

فظَنُّوهُما غُنْمًا فناهِيكَ

(2)

من غَلَطْ

قالوا: ثم نقضَ أهلُ جُرجان ما كان صالَحَهُمْ عليه سعيدُ بن العاص، وامتنعوا عن أداء المال الذي ضربه عليهم -وكان مئة ألفِ دينار وقيل مئتي ألف دينار وقيل ثلاثمئة ألف دينار- ثم وجه إليهم

(3)

يزيد بن المهلب، بعد ذلك كما سنذكره إن شاء الله تعالى.

وفي هذه السنة عزل عثمانُ بن عفان الوليدَ بن عُقبة عن الكوفة، وولَّى عليها سعيد بن العاص وكان سببُ عزله أنَّه صلَّى بأهل الكوفة الصبحَ أربعًا ثم التفتَ فقال أزيدُكُمْ؟ فقال قائل: ما زلنا منكَ منذ اليوم في زيادة. ثم إنّه تصدَّى له جماعةٌ يقال كان بينهم وبينه شنآن، فشَكَوْه إلى عثمان، وشهد بعضُهم عليه أنه شربَ الخمر، وشهد آخرُ أنَّه رآه يتقيَّؤها، فأمر عثمان بإحضاره وأمر بجلده، فيقال إن عليًا نزعَ عنه حلته، وأن سعيد بن العاص جلده، بين يدي عثمان بن عفان، وعزله وأمَّر مكانَه على الكوفة سعيد بن العاص

(4)

.

وفي هذه السنة سقطَ خاتمُ النبيّ صلى الله عليه وسلم من يد عثمان في بئر أَرِيس

(5)

، وهي على ميلين من المدينة، وهي من أقل الآبار ماءً، فلم يدرك خبره بعد بذل مال جزيل، والاجتهاد في طلبه حتى الساعة، فاستخلف عثمان بعده خاتمًا من فضةٍ، ونقشَ عليه "محمدٌ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم"، فلما قُتل عثمان ذهب الخاتم فلم يُدْرَ

(6)

من أخذه.

وقد روى ابن جرير

(7)

ها هنا حديثًا طويلًا في اتخاذ النبي صلى الله عليه وسلم خاتمًا من ذهب، ثم من فضة، وبعثه عمر بن الخطاب إلى كسرى، ثم دحية إلى قيصر، وإن الخاتم (الذي) كان في يد النبي، ثم في يد أبي بكر، ثم في يد عمر، ثم في يد عثمان ست سنين، ثم إنه وقع في بئر أريس، وقد تقدم بعض هذا في الصحيح

(8)

.

(1)

البيتان في تاريخ الطبري (4/ 270).

(2)

في أ: فناهيك.

(3)

في أ: عليهم.

(4)

خبر عزل الوليد بن عقبة في تاريخ الطبري (4/ 271 - 278) مطولًا.

(5)

قال ياقوت -نقلًا عن أحمد بن يحيى بن جابر-: نسبت إلى أريس رجل من المدينة من اليهود. معجم البلدان (1/ 298).

(6)

في أ: فلا يدري.

(7)

في تاريخه (4/ 281 - 283).

(8)

يذكر ابن جرير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتمًا من حديد، فأتاه جبريل عليه السلام وقال له: انبذه من أصبعك، وأمر =

ص: 293

وفي هذه السنة وقع بين معاوية وأبي ذرٍّ بالشام، وذلك أن أبا ذرٍّ أنكر على معاوية بعض الأمور، وكان ينكر على من يقتني مالًا من الأغنياء. ويمنع أن يدَّخر فوقَ القُوت، ويوجب أن يُتصدّقَ بالفضل، ويتأوّلَ قول الله سبحانه وتعالى:{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34] فينهاه معاوية عن إشاعة ذلك فلا يمتنع، فبعث يشكو

(1)

إلى عثمان، فكتب عثمان إلى أبي ذرِّ أن يقدمَ عليه المدينةَ، فقدمها فلامه عثمانُ على بعض ما صدر منه، واسترجعه فلم يرجع فأمره بالمقام بالرَّبَذَةِ -وهي شرقي المدينة- ويقال إنه سأل عثمان أن يقيم (بها) وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (لي): "إذا بلغ البناء سلعا

(2)

فاخرج منها"

(3)

وقد بلغ البناء سلعًا، فأذن له عثمان بالمقام بالرَّبَذَة، وأمره أن يتعاهد المدينة في بعض الأحيان، حتى لا يرتدّ أعرابيًا بعد هِجْرتهِ، ففعل فلم يزل مقيمًا بها حتى مات على ما سنذكره رضي الله عنه.

وفي هذه السنة زاد عثمان النداء الثالث يوم الجمعة على الزَّوْراء

(4)

.

‌فصل

وممن ذكر شيخنا أبو عبد الله الذهبي

(5)

أنه توفي في هذه السنة - أعني سنة ثلاثين:

أُبيّ بن كعب

(6)

فيما صححه الواقدي

(7)

.

(جَبّار) بن صَخْر

(8)

بن أُميَّة بن خَنْساء، أبو عبد الرحمن الأنصاري، عقبيٌّ بدريٌّ، وقد بعثه

= بخاتم أخر من نحاس، فقال له جبريل عليه السلام: انبذه من أصبعك، فنبذه رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصبعه، وأمر بخاتم من ورق، فجعله في أصبعه قأقره جبريل، وأمر أن ينقش عليه:"محمد رسول الله". ولم يذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتمًا من ذهب، وكذلك في الصحيح فقد وصف خاتم رسول الله البخاري في صحيحه رقم (5870) في اللباس وابن حبان في صحيحه -كما في الإحسان- (14/ 303) رقم (6392) وغيرهما.

(1)

في أ: فبعث شكواه.

(2)

سَلْع: موضع بقرب المدينة. معجم البلدان (3/ 236).

(3)

الحديث أخرجه البيهقي في دلائل النبوة (6/ 401).

(4)

الزَّوْراء: موضع عند سوق المدينة قرب المسجد. معجم البلدان (3/ 156) والخبر في تاريخ الطبري (4/ 287).

(5)

في تاريخ الإسلام (2/ 84 - 85).

(6)

ترجمة -أبي بن كعب- في الاستيعاب (1/ 126) وجامع الأصول (13/ 10) وأسد الغابة (1/ 61) وتهذيب الأسماء واللغات (1/ 108) ومختصر تاريخ دمشق (4/ 197) وسير أعلام النبلاء (1/ 389 - 402) والإصابة (1/ 26).

(7)

قيل إنه مات سنة 19، وقيل سنة 20، وقيل سنة 22، وقيل سنة 32.

(8)

ترجمة -جبار بن صخر- في الاستيعاب (1/ 228) وجامع الأصول (13/ 240) وأسد الغابة (1/ 316) وتهذيب الأسماء واللغات (1/ 143) والإصابة (10/ 220).

ص: 294

رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خَيْبَر خارصًا

(1)

، وقد توفي عن ستين سنة.

حَاطِب بن [أبي] بَلْتَعَة

(2)

عَمْرو

(3)

بن عُمَيْر اللَّخمي حليف بني أسد بن عبد العُزَّى، شهد بدرًا وما بعدها، وهو الذي كان كتب إلى المشركين يُعْلِمُهم بعَزْمِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم (على فتح مكة، فعذره رسول الله صلى الله عليه وسلم) بما اعتذر به، ثم بعثه بعد ذلك برسالةٍ إلى المقوقس ملك الإسْكندريَّة.

الطُّفيل بن الحارث

(4)

بن المُطَّلِب أخو عبيدة، وحصين، شهد بدرًا. قال سعيد بن عُفَيْر

(5)

: توفي في هذه السنة:

عبد الله بن كعب

(6)

بن عمرو المازني أبو الحارث، وقيل أبو يحيى الأنصاري، شهد بدرًا وكان على الخمس يومئذ.

عبد الله بن مَظْعُون

(7)

أخو عثمان بن مَظْعون هاجر إلى الحبشة وشهد بدرًا.

عِياض بن زُهَيْر

(8)

بن أبي شَدّاد بن ربيعة بن هِلال أبو سعد

(9)

القرشي الفِهْري، شهد بدرًا وما بعدها.

مسعود بن ربيعة

(10)

وقيل ابن الربيع أبو عُمَيْر القاريّ

(11)

شهد بدرًا وما بعدها. توفي عن نيف وستين سنة.

(1)

خرصت النخل والكرم أخرُصه خَرْصًا إذا حزرت ما عليها من الرطب تمرًا، ومن العنب زبيبًا وهو من الظن، وفاعل ذلك الخارص، والجمع الخُرّاص. اللسان (خرص).

(2)

ترجمة -حاطب بن أبي بلتعة- في الاستيعاب (1/ 312) وجامع الأصول (13/ 302) وأسد الغابة (1/ 431) وسير أعلام النبلاء (2/ 43) والإصابة (1/ 300).

(3)

في أ وط: "ابن عمرو" وهو خطأ، والذي أثبتناه هو الذي نص عليه الذهبي في تاريخ الإسلام، واتفقت عليه مصادر ترجمته.

(4)

ترجمة -الطفيل بن الحارث- في الاستيعاب (2/ 756) وأسد الغابة (3/ 76) والإصابة (2/ 224).

(5)

في ط: "عمير" خطأ، وما أثبتناه هو الصواب، وهو الذي بخط الذهبي في تاريخ الإسلام.

(6)

ترجمة -عبد الله بن كعب- في الاستيعاب (2/ 981) وأسد الغابة (3/ 375) والإصابة (2/ 362 - 363).

(7)

ترجمة -عبد الله بن مظعون- في الاستيعاب (2/ 995) وأسد الغابة (3/ 394 - 395) والإصابة (2/ 371).

(8)

ترجمة -عياض بن زهير- في الاستيعاب (3/ 1232) وأسد الغابة (4/ 323 - 324) والإصابة (3/ 410).

(9)

في ط: "سعيد" محرف، والتصويب من مصادر ترجمته.

(10)

ترجمة -مسعود بن ربيعة- في الاستيعاب (3/ 1392) وأسد الغابة (5/ 160) والإصابة (3/ 410).

(11)

في ط: "أبو عمرو القارئ"، وهو تصحيف، وما أثبتناه من أ وهو الموافق لما في تاريخ الإسلام للذهبي. ولما قاله ابن عبد البر في الاستيعاب (3/ 1392).

ص: 295

معْمَر بن أبي سَرْح

(1)

بن ربيعة بن هلال القُرشي أبو سعد

(2)

الفِهْري]

(3)

، وقيل اسمه عمرو، بدري قديم الصحبة.

أبو أسيد

(4)

مالك بن ربيعة. قال الفَلَّاس: مات في هذه السنة، والأصح أنه مات سنة أربعين، وقيل سنة ستين فالله أعلم.

‌ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين

ففيها كانت غزوة الصَّواري، وغزوة الأساودة في البحر فيما ذكره الواقدي (وقال أبو معشر: كانت غزوة الصواري سنة أربع وثلاثين. وملخص ذلك فيما ذكره الواقدي) وسيف وغيرهما: أن الشامَ كان قد جمعها

(5)

لمعاوية بن أبي سفيان لسنتين مضتا من خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه، وقد أحرزه غايةَ الحفظ وحمى حَوْزته، ومع هذا له في كلّ سنة غزوة في بلاد الروم في زمن الصيف، -ولهذا يسمُّون هذه الغزوة الصائفة- فيقتلون خلقًا، ويأسرون آخرين، ويفتحون حصونًا ويغنمون أموالًا ويُرْعبون الأعداء، فلما أصاب عبد الله بن سعد بن أبي سَرْح منْ أصاب من الفرنج والبربر، ببلاد إفريقية والأندلس، حميت الروم واجتمعت على قسطنطين بن هرقل، وساروا إلى المسلمين في جمع لم يُر مثله منذ كان الإسلام، خرجوا في خمسمئة مركب، وقصدوا عبد الله بن أبي سَرْح في أصحابه من المسلمين الذين ببلاد المغرب، فلما تراءى الجمعان بات الروم يقسقسون

(6)

ويُصلِّبون، وبات المسلمون يقرؤون ويُصلُّون، فلما أصبحوا صفَّ عبد الله بن سعد أصحابه صفوفًا في المراكب، وأمرهم بذكر الله وتلاوة القرآن.

قال بعض من حضر ذلك: فأقبلوا إلينا في أمر لم يُرَ مثله من كثرة المراكب، وعقدوا

(7)

صواريها، وكانت الريح لهم وعلينا، فأرسينا ثم سكنت الريحُ عنّا، فقلنا لهم: إنْ شئتم خرجنا نحن وأنتم إلى البر فمات الأعجل

(8)

منّا ومنكم، قال فنخروا نخرةَ رجلٍ واحدٍ وقالوا: الماء الماء، قال: فدنونا منهم،

(1)

ترجمة -معمر بن أبي سرح- في الاستيعاب (3/ 1433) وأسد الغابة (4/ 235) والإصابة (4/ 448).

(2)

في الاستيعاب لابن عبد البر (3/ 1176) وأسد الغابة (4/ 228): "أبو سعيد". نقلًا عن الواقدي. أما المؤلف فينقل من تاريخ الإسلام للذهبي، والذي ينقل بدوره من طبقات ابن سعد (3/ 417) وكنيته فيهما "أبو سعد" كما أثبتناه وهذا القسم من تاريخ الذهبي بخطه.

(3)

ما بين معقوفين ساقط من أ.

(4)

ترجمة -أبي أسيد- في الطبقات (3/ 557 - 558) والاستيعاب (3/ 1351) وأسد الغابة (5/ 23) والإصابة (3/ 344).

(5)

في أ: جمع بناته.

(6)

في أ: يفسفسون.

(7)

في أ: وتعداد صواريها.

(8)

في أ: الأعجز.

ص: 296

وربطنا سفننا بسفنهم، ثم اجتلدنا وإياهم بالسيوف يثبُ الرجالُ بالسيوف والخناجر، وضَربتِ الأمواجُ في عيونِ تلك السفن حتى ألجأتها إلى الساحل، وألقتِ الأمواجُ جثثَ الرجال إلى الساحل، حتى صارت مثل الجبل العظيم، وغلب الدم على لون الماء، وصبر المسلمون يومئذ صبرًا لم يُعْهد مثلُه قطُّ، وقُتل منهم بشرٌ كثيرٌ، ومن الروم أضعاف ذلك، ثم أنزلَ الله نصرَهُ على المسلمين فهربَ قسطنطيينُ وجيشُه -وقد قلُّوا جدًا- وبه جراحات شديدة مكينة

(1)

مكث حينًا يداوى منها بعد ذلك، وأقام عبد الله بن سعد بذات الصواري أيامًاَ، ثم رجع مُؤَيَّدًا منصورًا مُظَفَّرًا.

قال الواقدي: فحدثني معمر عن الزُّهري قال: كان في هذه الغزوة محمد بن أبي حذيفة، ومحمد ابن أبي بكر، فأظهرا

(2)

عيبَ عثمان وما غيَّر وما خالفَ أبا بكرٍ وعمر، ويقولان دمُه حلالٌ لأنّه استعملَ عبد الله بن سعد - وكان قد ارتدّ وكفر بالقرآن العظيم، وأباحَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم دَمَه، وأخرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أقوامًا واستعملهم عثمان، ونزع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم واستعمل

(3)

سعيد بن العاص وعبد الله بن عامر، فبلغ ذلك عبد الله بن سعد فقال: لا تركبا معنا، فركبا في مركب ما فيه أحد من المسلمين، ولقوا العدو فكانا أنكل

(4)

المسلمين قتالًا، فقيل لهما في ذلك فقالا: كيف نُقاتل مع رجلٍ لا ينبغي لنا أن نُحكِّمهُ؟ فأرسل إليهما عبد الله بن سعد فنهاهما أشدَّ النهي وقال: والله لولا لا أدري ما يوافق أمير المؤمنين لعاقبتكما وحبستكما.

قال الواقدي: وفي هذه السنة فُتحتْ أرمينية على يَدَيْ حَبيب بن مَسْلمة.

وفي هذه السنة قتل كسرى ملك الفرس.

‌كيفية قتل كسرى ملك الفرس

(5)

وهو يَزْدَجِرْدُ

قال ابن إسحاق: هرب يَزْدَجِرْد من كرمان في جماعة يسيرة إلى مَرْو، فسأل من بعض أهلها مالًا فمنعوه وخافوه على أنفسهم، فبعثوا إلى التُّرك يَسْتَفِزُّونهم عليه، فأتَوْه فقتلوا أصحابه، وهربَ -هو- حتى أتى منزل رجل ينقر الأرحيه

(6)

على شط، فأوى إليه ليلًا، فلما نام قتله.

وقال المدائني: لما هربَ بعد قتل أصحابه انطلقَ ماشيًا عليه تاجُه ومِنْطَقتُهُ وسيفُه، فانتهى إلى منزل

(1)

في أ: كثيرة.

(2)

في أ: فأظهروا. وهي رواية الطبري في تاريخه (4/ 290).

(3)

في أ: ونزع الصحابة واستعمل.

(4)

في تاريخ الطبري (4/ 292): أكلَّ؛ ولعل ما أثبتنا هو الأشبه.

(5)

في أ: حبيب بن مسلمة كيف مقتل ملك الفرس.

(6)

ينقر الأرحية: النقر: ضرب الرحى والحجر وغيره بالمنقار -وهو حديدة كالفأس يقطع به- والأرحية: جمع رحى وهي الطاحون. اللسان (نقر - رحى).

ص: 297

هذا الرجل الذي يَنْقر الأرْحية، فجلس عنده فاستغفله وقتله وأخذ ما كان عليه وجاءتِ الترك في طلبه فوجدوه قد قتله وأخذ حاصله، فقتلوا ذلك الرجل وأهلَ بيته، وأخذوا ما كان مع كسرى، ووضعوا كسرى في تابوتٍ، وحملوه إلى إصطخر، وقد كان يَزْدَجِرْد وطئ امرأةً من أهل مرو قبل أن يُقْتل، فحملت منه، ووضعت بعد قتله غلامًا ذاهب الشق، وسُمِّي ذلك الغلامُ (المُخْدَج)

(1)

وكان له نسل وعقب في خراسان، وقد سَبى قتيبةُ بن مسلمٍ في بعض غزواته بتلك البلاد جاريتين من نسله. فبعث بإحداهما إلى الحَجّاج، فبعث بها إلى الوليد بن عبد الملك فولدت له ابنَه يزيدَ بن الوليد المُلقب بالنّاقِص.

وقال المدائني في رواية عن بعض شيوخه: إن يَزْدَجرد لمّا انهزم عنه أصحابُه عقرَ جوادَه وذهب ماشيًا حتى دخل رحى على شطِّ نهر يقال له المَرْغاب

(2)

فمكث فيه ليلتين، والعدوُّ في طلبه لم يدرِ أين هو، ثم جاء صاحبُ الرحى، فرأى كسرى وعليه أُبَّهتُهُ، فقال له: ما أنت؟ إنسيٌّ أم جنيٌّ؟ قال: إنسيٌّ، فهل عندك طعامٌ؟ قال نعم! فأتاه بطعام. فقال: إني مزمزم فأتني بما أزمزم به، قال: فذهب الطحّانُ إلى أسوار من الأساورة فطلب منه ما يزمزم به، قال: وما تصنع به؟ قال: عندي رجلٌ لم أر مثله قطُّ، وقد طلب مني هذا، فذهب به الأسوار إلى ملك البلد -مرو، واسمه ماهويه بن باباه- فأخبره خبره فقال: هذا

(3)

يزدجرد، اذهبوا فجيئوني برأسه، فذهبوا مع الطحّان (فلما دنوا من دار الرحى هابوا أن يقتلوه وتدافعوا وقالوا للطحان) ادخلْ أنت فاقتلْه، فدخل فوجده نائمًا، فأخذ حجرًا فشدخَ به رأسَه ثم احتزَّه فدفعه إليهم وألقى جسده في النهر، فخرجت العامةُ إلى الطحان فقتلوه، وخرج أسقف، فأخذ جسده من النهر، وجعله في تابوتٍ، وحمله إلى إصطخر فوضعه في ناووس.

ويروى أنه مكث في منزل ذلك الطحان ثلاثة أيامٍ لا يأكلُ حتى رقَّ له وقال له: ويحك يا مسكين ألا تأكل؟ وأتاه بطعام، فقال: إنّي لا أستطيعُ أن آكل إلا بزمزمة فقال له: كُلْ وأنا أزمزم لك، فسأل أن يأتيه بمزمزم، فلما ذهب يطلب له من بعض الأساورة شمّوا رائحة المسك من ذلك الرجل، فأنكروا رائحة المسك

(4)

منه فسألوه فأخبرهم فقال: إنَّ عندي رجلًا من صفته كيت وكيت، فعرفوه وقصدوه مع الطّحّان، وتقدم الطحانُ فدخل عليه، وهمَّ بالقبض عليه، فعرف يزدجرد ذلك فقال له: ويحك خُذْ خاتمي وسواري ومنْطقتي ودعني أذهب من ها هنا، فقال لا، أعطني أربعة دراهم وأنا أطلقك، فزاده إحدى قرطيه

(5)

من أذنه، فلم يقبل حتى يعطيه أربعة دراهم (أخرى). فهم في ذلك إذ دهمهم الجند.

(1)

مُخْدج: أي ناقص الخلق. اللسان (خدج).

(2)

المرغاب: نهر في مرو الشاهجان. معجم البلدان (5/ 108).

(3)

في ط: هو.

(4)

في أ: فأنكروا ريحه.

(5)

في أ: قرطه.

ص: 298

فلما أحاطوا به وأرادوا قتله قال: ويحكم لا تقتلوني، فإنّا نجدُ في كتبنا أنّ من اجترأ على قتل الملوك عاقبه الله بالحريق

(1)

في الدنيا مع ما هو قادم عليه، فلا تقتلوني واذهبوا بي إلى الملك أو إلى العرب، فإنهم يستحيون من قتل الملوك، فأبَوْا عليه ذلك، فسَلَبوه ما كان عليه من الحلي، فجعلوه في جراب، وخنقوه بوتر، وألقوه في النهر، فتعلّق بعود فخذه أسقف -واسمه إيليا- فحنَّ عليه مما كان من أسلافه من الإحسان إلى النصارى الذين كانوا ببلادهم، فوضعه في تابوت، ودفنه في ناووس، ثم حمل ما كان عليه من الحلي إلى أمير المؤمنين عثمان بن عفان، ففُقِدَ قرطٌ من حليه

(2)

فبعث إلى دهقان تلك البلاد فأغرمه ذلك.

وكان مُلْكُ يزدجرد عشرين سنة، منها أربع سنين في دعة، وباقي ذلك هاربًا

(3)

من بلد إلى بلد، خوفًا من الإسلام وأهله. وهو آخر ملوك الفرس في الدنيا على الإطلاق، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، وإذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله" رواه البخاري

(4)

. وثبت في الحديث (الصحيح)

(5)

أنّه لما جاء كتاب النبي صلى الله عليه وسلم مَزَّقَه، فدعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يمزّق كل مُمزَّق، فوقع الأمر كذلك.

وفي هذه السنة فتح ابن عامر فتوحات كثيرة كان قد نقض أهلها ما كان لهم من الصلح، فمن ذلك ما فتح عنوة، ومن ذلك ما فتح صلحًا، فكان في جملة ما صالح عليه بعض المدائن وهي مرو على ألفي ألف ومئتي ألف، وقيل على ستة آلاف ومئتي ألف.

وفي هذه السنة حج بالناس عثمان بن عفان رضي الله عنه.

‌ثم دخلت سنة ثنتين وثلاثين

وفيها غزا معاوية بلادَ الروم حتى بلغَ المضيق -مضيق القسطنطينية- ومعه زوجتُه عاتكةُ، ويقالُ: فاطمة بن قرطة بنت عبد (عمرو بن) نوفل بن عبد مناف. قاله أبو معشر والواقدي.

وفيها استعمل سعيد بن العاص سلمانَ بن ربيعة على جيشٍ وأمره أن يغزو الباب، وكتب إلى عبد الرحمن بن ربيعة نائب تلك الناحية بمساعدته، فسار حتى بلغ بَلَنْجَر فحصروها. ونُصبت عليها

(1)

في أ: بالخرس. وما أثبت موافق لتاريخ الطبري (4/ 298).

(2)

في أ: من حليته.

(3)

في أ: هاويًا.

(4)

صحيح البخاري (3618) في المناقب برواية أبي هريرة، و (3619) في المناقب برواية جابر بن سمُرة، وللحديث أطراف متعددة.

(5)

الحديث في صحيح البخاري (64) في العلم.

ص: 299

المجانيقُ والعَرّادات. ثم إن أهل بَلَنْجر خرجوا إليهم، وعاونهم الترك فاقتتلوا قتالًا شديدًا -وكانت الترك تهابُ قتالَ المسلمين، ويظنّون أنهم لا يموتون- حتى اجترؤوا عليهم بعد ذلك، فلما كان هذا اليوم التقَوا معهم فاقتتلوا، فقُتل يومئذ عبد الرحمن بن ربيعة -وكان يقال له ذو النون- وانهزم المسلمون فافترقوا فرقتين، ففرقة ذهبت إلى بلاد الخزَر. وفرقة سلكوا ناحية بلاد جيلان وجرجان، وفي هؤلاء أبو هريرة وسلمان الفارسي. وأخذت الترك جسد عبد الرحمن بن ربيعة -وكان من سادات المسلمين وشجعانهم- فدفنوه في بلادهم فهم يستسقون عنده إلى اليوم، ولما قُتل عبد الرحمن بن ربيعة استعمل سعيد بن العاص على ذلك الفرع سلمان بن ربيعة، وأمدّهم عثمان بأهل الشام عليهم حبيب بن مسلمة، فتنازع حبيب وسلمان في الإمرة حتى اختلفا، فكان أولَ اختلافٍ وقعَ بين أهل الكوفة وأهل الشام، حتى قال في ذلك رجل من أهل الكوفة وهو أوس

(1)

: [من الطويل]

فإن

(2)

تضربوا سلمانَ نضْربْ حَبيبكمْ

وَإنْ تَرْحَلوا نَحْو ابن عَفّان نَرْحلُ

وإنْ تُقْسِطُوا فالثَّغرُ ثغرُ أميرنا

(3)

وهذا أميرٌ في الكتائبِ مُقبلُ

ونَحْنُ ولاةُ الثَّغْرِ كُنّا حُمَاتهُ

لَيَاليَ نَرْمي كُلَّ ثَغْرٍ ونُنْكِلُ

(4)

وفيها فتح ابن عامر مروَ الرَّوْذ والطالقان والفارياب والجُوْزجان وطُخارستان. فأما مرو الرَّوْذ فبعث إليهم

(5)

ابن عامر الأحنفَ بن قَيْس فحصَرَها فخرجوا إليه فقاتلهم حتى كسرهم فاضطرَّهم إلى حصنهم، ثم صالحوه على مالٍ جزيلٍ وعلى أن يضرب على أراضي الرعية الخراجَ، ويدعَ الأرض التي كان اقتطعها

(6)

كسرى لوالد المرزبان، صاحب مرو، حين قتل الحيةَ التي كانت تقطع الطريق على الناس وتأكلهم، فصالحهم الأحنف على ذلك، وكتب لهم كتاب صلح بذلك، ثم بعث الأحنف الأقرعَ بن حابسٍ إلى الجُوْزجان ففتحها بعد قتال وقع بينهم، قتل فيه خلقٌ من شُجعان المسلمين، ثم نُصروا فقال في ذلك أبو كثير النَّهْشلي قصيدة طويلة فيها

(7)

: [من الوافر]

سَقَى مُزُنُ السَّحَاب إذا اسْتَهلَّتْ

مَصَارعَ فِتْيَةٍ بالجُوزَجَان

إلى القَصْرينِ منْ رُسْتاقِ خُوطٍ

(8)

أبادَهُمُ هُناك الأقْرَعانِ

(1)

الأبيات في تاريخ الطبري (4/ 220) والقائل: أوس بن مغراء.

(2)

في تاريخ الطبري: إن.

(3)

في أ: أميرها.

(4)

في أ: موكل.

(5)

في أ: إليها.

(6)

في أ: أقطعها.

(7)

البيتان في تاريخ الطبري (4/ 313) ومعجم البلدان (2/ 182) وفيه منسوبان إلى: كثير بن العزيزة النَّهشلي.

(8)

في أ، ط: حوط؛ وما هنا عن مصدريهما.

ص: 300

ثم سار الأحنف من مرو الرّوذ إلى بلخ فحاصرهم حتى صالحوه على أربعئمة ألف واستناب

(1)

ابن عمه أسيد بن المُتَشمِّس

(2)

على قبض المال، ثم ارتحل يُريد الجهادَ، وداهمه الشتاء فقال لأصحابه: ما تشاؤون؟ فقالوا: قد قال عمرو بن معدي كرب

(3)

: [من الوافر]

إذا لم تَسْتَطعْ شَيْئًا فَدَعْهُ

وجَاوِزْهُ إلى ما تستَطيعُ

فأمر الأحنف بالرَّحيل إلى بلخ فأقام بها مدة الشتاء، ثم عاد إلى [ابن] عامر فقيل لابن عامر: ما فتح على أحد ما فتح عليك، فارس وكرمان وسجستان وعامة خراسان، فقال: لا جرمَ، لأجعلنَّ شُكْري لله على ذلك أن أحرم بعمرةٍ من موقفي هذا مُشمِّرًا فأحرمَ بعمرة من نيسابور، فلما قدم على عثمان لامه على إحرامه من خراسان.

وفيها أقبل قارن في أربعين ألفًا فالتقاه عبد الله بن حازم في أربعة آلاف، وجعل لهم مقدمة ستمئة رجل، وأمر كلًا منهم أن يحمل على رأس رمحه نارًا، وأقبلوا إليهم في وسط الليل فبيتوهم فثاروا إليهم فناوشتهم المقدمة فاشتغلوا بهم، وأقبل عبد الله بن حازم بمن معه من المسلمين فاتفقوا هم وإياهم، فولى المشركون مدبرين، واتبعهم المسلمون يقتلون من شاؤوا وكيف شاؤوا، وغنموا شيئًا كثيرًا وأموالًا جزيلة، ثم بعث عبد الله بن حازم [بالفتح إلى ابن عامر، فرضي عنه وأقره على خراسان -وكان قد عزله عنها- فاستمر بها عبد الله بن حازم]

(4)

إلى ما بعد ذلك.

‌ذكر من توفي من الأعيان في هذه السنة

العباس بن عبد المطلب

(5)

بن هاشم بن عبد مناف القرشي الهاشمي أبو الفضل المكي عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووالد الخلفاء العباسيين، وكان أسنَّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنتين أو ثلاث، أسر يوم بدر فافتدى نفسه بمالٍ، وافتدى ابني أخويه عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث. وقد ذكرنا أنه لما أُسر وشُدَّ في الوثاق وأمسى الناس، أرقَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل يا رسول الله مالك؟ فقال "إني أسمع أنين العباس في وثاقه فلا

(1)

في أ: واستشار.

(2)

في ط: "المشمس" خطأ، وما أثبتناه يعضده ما في تاريخ البخاري الكبير (2/ 12)، وثقات ابن حبان (4/ 42)، وتوضيح المشتبه لابن ناصر الدين (1/ 212).

(3)

البيت في تاريخ الطبري (4/ 313) وديوان عمرو بن معد يكرب.

(4)

ما بين الحاصرتين ساقط من أ ومستدرك عن الطبعة المصرية.

(5)

ترجمة -العباس بن عبد المطلب- في الطبقات (4/ 5 - 33) والاستيعاب (2/ 810) وجامع الأصول (14/ 432) وتاريخ دمشق -عبادة، عبد الله- (104 - 208) وأسد الغابة (3/ 164 - 167) وتاريخ الإسلام (2/ 98) وسير أعلام النبلاء (2/ 78 - 103) والإصابة (2/ 271 - 272).

ص: 301

أنام"

(1)

فقام رجل من المسلمين فحلَّ من وثاق العباس حتى سكن أنينه فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أسلم عام الفتح، وتلقَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الجحفة فرجع معه، وشهد الفتح، ويقال إنه أسلم قبل ذلك ولكنه أقام بمكة بإذن النبي صلى الله عليه وسلم له في ذلك، كما ورد به الحديث

(2)

، فالله أعلم.

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُجلُّه ويُعظِّمُه ويُنْزله منزلةَ الوالدِ من الولد، ويقول:"هذا بقيةُ آبائي"

(3)

وكان من أوصل الناس لقريش وأشفقهم عليهم، وكان ذا رأي وعقل تام وافٍ

(4)

، وكان طويلًا جميلًا أبيض بضًّا

(5)

ذا ضفيرتين، وكان له من الولد عشرةُ ذكور سوى الإناث، وهم تمام -وكان أصغرهم- والحارث، وعبد الله، وعبيد الله، وعبد الرحمن، وعون، والفضل، وقثم، وكثير، ومعبد. وأعتق سبعين مملوكًا من غلمانه.

وقال الإمام أحمد

(6)

: حدَّثنا علي بن عبد الله قال: حدَّثني محمد بن طلحة التيمي

(7)

من أهل المدينة، حدَّثني أبو سهيل نافع بن مالك، عن سعيد بن المسيب، عن سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس: "هذا العباس بن عبد المطلب أجودُ قريش كَفًّا وأوصلُها" تفرَّد به

(8)

.

وثبت في الصحيحين

(9)

: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمر حين بعثه على الصدقة فقيل منع ابن جميل وخالد بن الوليد والعباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما ينقم ابن جميل إلا أن كان فقيرًا فأغناه، وأما خالد فإنكم تظلمون خالدًا وقد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله، وأما العباس فهي عليَّ ومثلُها" ثم قال "يا عمر أما شعرت أن عمَّ الرجل صنو أبيه"

(10)

؟.

وثبت في صحيح البخاري

(11)

عن أنس: أن عمر خرج يستسقي وخرج بالعباس معه يستسقي به، وقال: اللهم إنّا كنّا إذا قحطنا توسّلنا إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعمِّ نبينا، قال: فيسقون.

(1)

أخرجه ابن سعد في الطبقات (4/ 12، 13) وابن عساكر (119).

(2)

أورد الذهبي هذا الحديث وهو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اطمئن يا عمُّ، فإنك خاتم المهاجرين، كما أنا خاتم النبيين". واذن له بالرجوع إلى مكة. إسناده ضعيف

وأورده الهيثمي في المجمع (9/ 269) وهو حديث ضعيف.

(3)

الحديث أورده ابن عساكر في تاريخه -عبادة، عبد الله- (ص 141).

(4)

في أ: تام وافر.

(5)

الرجل البضُّ: الناصع البياض في سمن. اللسان (بضض).

(6)

مسند الإمام أحمد (1/ 185)، وإسناده حسن.

(7)

في ط: التميمي، تحريف، والتصحيح من مسند أحمد وتقريب التهذيب.

(8)

هكذا قال، وهو وهم منه رحمه الله، فقد أخرجه النسائي في الكبرى (8174) عن حميد بن مخلد عن علي بن عبد الله، به، وحميد بن مخلد ثقة ثبت، وهو من رجال التهذيب (بشار).

(9)

صحيح البخاري (1468) في الزكاة، ومسلم (983) في الزكاة.

(10)

الصنو: المِثْل، يريد أن أصل العباس وأصل أبي واحد، وهو مثل أبي أو مثلي وجمعه صنوان. النهاية لابن الأثير (3/ 57).

(11)

صحيح الإمام البخاري (1010) في الاستسقاء.

ص: 302

ويقال: إن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان كانا إذا مرا بالعباس وهما راكبان ترجّلا إكرامًا له.

قال الواقدي وغير واحد: توفي العباس في يوم الجمعة لاثنتي

(1)

عشرة ليلة خلت من رجب، وقيل من رمضان سنة ثنتين وثلاثين، عن ثمان وثمانين سنة، وصلى عليه عثمان بن عفان، ودفن بالبقيع وقيل توفي سنة ثلاث وثلاثين، وقيل سنة أربع وثلاثين، وفضائله ومناقبه كثيرة جدًا.

عبد الله بن مَسْعُود

(2)

بن غَافلِ بن حبيب بن شَمْخ بن فار

(3)

بن مَخْزُوم بن صاهِلَة بن كاهِل بن الحارث بن تميم

(4)

بن سعد بن هُذَيْل بن مُدْركة بن إلياس بن مُضر الهُذَلي، أبو عبد الرحمن

(5)

حليف بني زهرة، أسلم قديمًا قبل عمر، وكان سبب إسلامه حين مرَّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه، وهو يرعى غنمًا فسألاه لبنًا فقال: إني مؤتمن، قال فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم عناقًا

(6)

لم ينز

(7)

عليها الفحل، فاعتقلها ثمَّ حلب وشرب وسقى أبا بكر، ثم قال للضرع:"أقلص"

(8)

فقلص، فقلت: علّمني من هذا الدعاء فقال: "إنك غلام

(9)

معلَّم" الحديث

(10)

.

وروى محمد بن إسحاق

(11)

، عن يحيى بن عروة [عن عروة]

(12)

، عن أبيه: أنَّ ابن مسعود كان أول من جهر بالقرآن بمكة، بعد النبي صلى الله عليه وسلم عند البيت، وقريش في أنديتها قرأ سورة {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ} [الرحمن: 1 - 2] فقاموا إليه فضربوه، ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أسلم، وكان يحمل نعليه وسواكه، وقال له:"إذنك عليَّ أن تسمعَ سوادي"

(13)

ولهذا كان يقال له صاحب السواك والسِّواد

(14)

،

(1)

في أ: لثنتي.

(2)

ترجمة -عبد الله بن مسعود- في الطبقات (2/ 342 - 344) والاستيعاب (2/ 987) وتاريخ بغداد (1/ 147) وجامع الأصول (14/ 482) وأسد الغابة (3/ 384) وسير أعلام النبلاء (1/ 461 - 500) وتاريخ الإسلام (2/ 100) والإصابة (2/ 368 - 370).

(3)

في جامع الأصول (14/ 484): قار؛ بالقاف وقيل بالفاء والراء.

(4)

في ط والإصابة: تيم؛ تحريف لا بدَّ من تصحيحه.

(5)

في أ: أبو عبد الرحمن الهذلي.

(6)

العناق: الأنثى من أولاد المعز له سنة. النهاية (3/ 311).

(7)

لم ينز عليها الفحل: لم يثب عليها للنسل. النهاية (5/ 44).

(8)

قال للضرع: اقلص فقلص: أي اجتمع. النهاية (4/ 100).

(9)

في أ: غليم.

(10)

أخرجه الإمام أحمد في مسنده (1/ 379) والبيهقي في الدلائل (2/ 172) وإسناده حسن.

(11)

الخبر في السيرة النبوية لابن هشام (1/ 336).

(12)

ساقط من أ.

(13)

الحديث أخرجه مسلم في صحيحه (2169) في السلام، وابن ماجه في سننه (139) في المقدمة.

(14)

في ط: والوساد؛ خطأ. والسِّواد بالكسر: السّرار. النهاية (2/ 419).

ص: 303

وهاجر إلى الحبشة ثم عاد إلى مكة ثم هاجر إلى المدينة، وشهد بدرًا، وهو الذي قتل أبا جهل بعد ما أثبته ابنا عفراء

(1)

، وشهد بقية المشاهد.

وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا: "اقرأ علي" فقلت أقرأ عليك وعليك أنزل؟ فقال: "إني أحب أن أسمعه من غيري" فقرأ عليه من أول سورة النساء إلى قوله: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} [النساء: 41] فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "حسبك"

(2)

.

وقال أبو موسى: قدمت أنا وأخي من اليمن وما كنا نظن إلا أن ابن مسعود وأمه من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، لكثرة دخولهم بيت النبي صلى الله عليه وسلم.

وقال حذيفة: ما رأيت أحدًا أشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم في هَدْيهِ ودَلِّه وسَمْتهِ من ابن مسعود.

ولقد علم المحفوظون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن ابن أم عبد أقربهم إلى الله زلفى، وفي الحديث "وتمسكوا بعهد ابن أم عبد"

(3)

.

وفي الحديث الآخر الذي رواه أحمد

(4)

، عن محمد بن فضيل، عن مغيرة، عن أمِّ موسى

(5)

، عن علي: أن ابن مسعود صعد شجرة يجتني الكَبَاث

(6)

فجعل الناس يعجبون من دِقة ساقيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"والذي نفسي بيده لهما في الميزان أثقل من أُحُد".

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه -وقد نظر إلى قصره وكان يوازي بقامته الجلوس- فجعل يتبعه ثمَّ قال: هو كُنَيف

(7)

مليء علمًا.

وقد شهد ابن مسعود بعد النبي صلى الله عليه وسلم مواقف كثيرة، منها اليرموك وغيرها، وكان قدم من العراق حاجًا فمر بالرَّبذة فشهد وفاة أبي ذر ودفنه، ثم قدم إلى المدينة فمرض بها فجاءه عثمان بن عفان عائدًا، فيروى

(1)

الخبر في تاريخ الإسلام (2/ 102).

(2)

الحديث أخرجه البخاري في صحيحه (4049) في فضائل القرآن، ومسلم في صحيحه (800) في المسافرين، والترمذي في جامعه رقم (3025) في التفسير.

(3)

الحديث رواه بهذا اللفظ الترمذي رقم (3805) واستغربه والحاكم في المستدرك (3/ 75) وإسناده ضعيف جدًا، فإنه من رواته إبراهيم بن إسماعيل بن يحيى بن سلمة بن كهيل عن أبيه عن جده، وإبراهيم ضعيف وأبوه وجده متروكان. أما ما ورد في بعض نسخ الترمذي أنه قال:"حسن غريب" فلا يصح، كما بيناه في طبعتنا من الترمذي وأخرجه الترمذي بلفظ:"وما حدثكم ابن مسعود فصدقوه"(3799) من حديث حذيفة، وحسنه، وهو حديث لا يتحسن إلا بالطرق المتعددة والشواهد (بشار).

(4)

مسند الإمام أحمد (1/ 114) ومستدرك الحاكم (3/ 317) وهو حديث صحيح.

(5)

تحرفت في ط، أ: إلى: حرسي؛ والتصحيح من مسند أحمد وسير أعلام النبلاء (1/ 477).

(6)

الكَبَاث: هو النضيج من ثمر الأراك. النهاية (4/ 139).

(7)

كنيف: هو تصغير تعظيم للكنف وهو الوعاء. النهاية (4/ 205) والخبر في طبقات ابن سعد (2/ 344).

ص: 304

أنه قال له: ما تشتكي؟ قال ذنوبي، قال فما تشتهي؟ قال رحمة ربي، قال ألا آمر لك بطبيب؟ فقال: الطبيب أمرضني، قال: ألا آمر لك بعطائك؟ -وكان قد تركه سنتين- فقال: لا حاجة لي فيه. فقال: يكون لبناتك من بعدك. فقال: أتخشى على بناتي الفقر؟ إني أمرتُ بناتي أن يقرأْنَ كلَّ ليلةٍ سورةَ الواقعة، وإني سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول:"منْ قرأ الواقعةَ كلَّ ليلةٍ لم تُصِبْهُ فاقةٌ أبدًا"

(1)

. وأوصى عبد الله بن مسعود إلى الزّبير بن العوّام، فيقال إنه هو الذي صلى عليه ليلًا، ثمّ عاتب عثمانُ الزبير على ذلك، وقيل بل صلَّى عليه عثمان، وقيل عمَّار، فالله أعلم. ودفن بالبقيع عن بضع وستين سنة.

عبد الرحمن بن عوف

(2)

بن عبد عوف بن عبد الحارث بن زهرة بن كلاب بن مرة، أبو محمد القرشي، الزُّهري، أسلم قديمًا على يديْ أبي بكر، وهاجر إلى الحبشة وإلى المدينة، وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع، وشهد بدرًا وما بعدها، وأمَّره رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثه إلى بني كلب وأرخى له عذبة

(3)

بين كتفيه، ليكون أمارة عليه للإمارة، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الثمانية السابقين إلى الإسلام، وأحد الستة أصحاب الشورى، ثمَّ أحد الثلاثة الذين انتهت إليهم منهم، كما ذكرنا، ثمّ كان هو الذي اجتهد في تقديم عثمان رضي الله عنه، وقد تقاول هو وخالد بن الوليد في بعض الغزوات فأغلظ له خالد في المقال، فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أُحُدٍ ذهبًا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه" وهو في الصحيح

(4)

.

وقال معمر، عن الزُّهري: تصدق عبد الرحمن بن عوف على عهد النبي صلى الله عليه وسلم بشطر ماله أربعة آلاف، ثم تصدَّق بأربعين ألفًا، ثمّ تصدّق بأربعين ألف دينار، ثمّ حمل على خمسمئة فرس في سبيل الله، ثمّ حمل على خمسمئة راحلة في سبيل الله

(5)

. وكان عامة ماله من التجارة، فأمّا الحديث الذي قال عبْدُ بن حُميد في "مسنده"

(6)

حدَّثنا يحيى بن إسحاق، حدَّثنا عمارة بن زاذان، عن ثابت البُناني، عن أنس بن مالك، أن عبد الرحمن بن عوف لمّا هاجر آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين عثمان بن عفان فقال له: إن لي حائطين فاختر أيهما شئت، فقال: بارك الله لك في حائطيك، ما لهذا أسلمت، دلَّني على السوق، قال

(1)

أخرجه ابن السني رقم (680) والبيهقي في شعب الإيمان برقم (2498) و (2499) وإسناده ضعيف.

(2)

ترجمة -عبد الله بن عوف- في الطبقات (3/ 124) والاستيعاب (844 - 850) وجامع الأصول (12/ 317) وأسد الغابة (3/ 480 - 485) وسير أعلام النبلاء (1/ 68 - 92) وتاريخ الإسلام (2/ 105 - 107) والإصابة (2/ 416 - 417).

(3)

العذبة: طرف الشيء. النهاية (3/ 195).

(4)

صحيح الإمام البخاري (3673) في فضائل الصحابة، وصحيح مسلم (2540) في فضائل الصحابة.

(5)

الخبر في معجم الطبراني رقم (265) والحلية لأبي نعيم (1/ 99).

(6)

مسند عبد بن حميد (407) رقم (1383).

ص: 305

فدلّه فكان يشتري السمنة

(1)

والأُقَيْطة

(2)

والإهاب

(3)

، فجمع فتزوج فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"بارك الله لك أولمْ ولو بشاة" قال فكثر ماله حتى قدمت له سبعمئة راحلة تحمل البرّ وتحمل الدقيق والطعام، قال: فلما دخلت المدينة سمع لأهل المدينة رجّة، فقالت عائشة: ما هذه الرجّةُ؟ فقيل لها عير قدمت لعبد الرحمن بن عوف سبعمئة تحمل البُرَّ والدقيقَ والطعامَ. فقالت عائشة: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "يدخلُ عبد الرحمن بن عوف الجنة حَبْوًا"

(4)

فلما بلغ عبد الرحمن ذلك قال: أُشهدكِ يا أمه أنَّها بأحمالها وأحلاسها

(5)

وأقتابها في سبيل الله.

وقال الإمام أحمد

(6)

: حدَّثنا عبد الصمد بن حسان، حدَّثنا عمارة -هو ابن زاذان- عن ثابت، عن أنس قال: بينما عائشة في بيتها إذ سمعتْ صوتًا في المدينة قالت: ما هذا؟ قالوا عير لعبد الرحمن بن عوف قدمتْ من الشّام تحملُ كلَّ شيء -قال وكانت سبعمئة بعير- قال فارتجَّتِ المدينةُ من الصوت، فقالت عائشة: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قد رأيتُ عبد الرحمن بن عوف يدخل الجنة حَبْوًا" فبلغ ذلك عبد الرحمن فقال: لئن استطعتُ لأدخلنَّها قائمًا، فجعلها بأقتابها وأحمالها في سبيل الله. فقد تفرّد به عمارة بن زاذان الصيدلاني وهو ضعيف.

وأما قوله

(7)

في سياق عبد بن حميد: إنه آخى بينه وبين عثمان بن عفان، فغلط

(8)

محض مخالف لما في صحيح البخاري

(9)

من أن الذي آخى بينه وبينه إنما هو سعد بن الربيع الأنصاري رضي الله عنهما.

وثبت في الصحيح

(10)

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى وراءه الركعة الثانية من صلاة الفجر في بعض الأسفار، وهذه منقبةٌ عظيمةٌ لا تُبارى.

ولما حضرته الوفاة أوصى لكل رجل ممن بقي من أهل بدر بأربعمئة دينار -وكانوا مئة- فأخذوها حتى عثمان وعلي، وقال علي: اذهب يا بن عوف فقد أدركت صفوها، وسبقت زيفها، وأوصى لكلّ امرأةٍ من أمُّهات المؤمنين بمبلغٍ كثيرٍ حتَّى كانت عائشةُ تقولُ: سقاهُ اللهُ من السَّلْسَبيل. وأعتقَ خلقًا من مماليكه.

(1)

في أ: السميذ، وفي مسند ابن حميد: السمينة.

(2)

الأقيطة: تصغير الأقط، وهو لبن مجفف يابس مستحجر يطبخ به. النهاية (1/ 57).

(3)

الإهاب: الجلد. النهاية (1/ 83).

(4)

الحديث في مسند أحمد (6/ 115) ومعجم الطبراني (264) وطبقات ابن سعد (3/ 93) وإسناده ضعيف كما سيأتي.

(5)

الحلس: كساء على ظهر البعير، أو كل شيء وليَ ظَهْرَ البعير والدابة تحت الرحل. اللسان (حلس).

(6)

مسند الإمام أحمد (6/ 115).

(7)

في أ: وقوله.

(8)

في أ: غلط محظى.

(9)

صحيح البخاري رقم (3780) في مناقب الأنصار.

(10)

صحيح البخاري رقم (182) في الوضوء.

ص: 306

ثمّ تركَ بعد ذلك كلِّه مالًا جزيلًا، من ذلك ذهبٌ قُطِّعَ بالفُؤوس حتى مجلت

(1)

أيدي الرجال، وتركَ ألفَ بعيرٍ ومئةَ فرسٍ، وثلاثةَ آلافِ شاةٍ تَرْعى بالبقيع.

وكان نساؤُهُ أربعًا فصُولحت إحداهن من ربع الثمن بثمانين ألفًا

(2)

.

ولما مات صلى عليه عثمان بن عفان، وحَمَلَ في جنازته سعدُ بن أبي وقاص، ودفن بالبقيع عن خمس وسبعين سنة.

وكان أبيضَ مُشْرَبًا (حمرةً)، حسنَ الوجه، دقيقَ البشرة، أعين

(3)

، أهدبَ الأشفار

(4)

، أقنى

(5)

، له جمةٌ، ضخم الكفّين، غليظ الأصابع، لا يغيِّر شيبه رضي الله عنه.

أبو ذَرٍّ الغِفَارِي

(6)

واسمه جُنْدُبُ بنُ جُنَادَة على المشهور، أسلم قديمًا بمكة فكان رابع أربعة أو خامس خمسة. وقصة إسلامه تقدمت قبل الهجرة، وهو أول من حيَّا رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحية الإسلام، ثم رجع إلى بلاده وقومه، فكان هناك حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فهاجر بعد الخندق ثم لزمَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم حضرًا وسفرًا، وروى عنه أحاديث كثيرة.

وجاء في فضله أحاديث كثيرة من أشهرها: ما رواه الأعمشُ، عن أبي اليقظانِ عثمان بن عُمَيْر، عن أبي حَرْب بن أبي الأسود، عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "ما أظلَّتِ الخَضْراء، ولا أقلَّت الغَبْراء أصدقَ لهجةً من أبي ذر"

(7)

وفيه ضعف.

ثمَّ لما

(8)

مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومات أبو بكر خرج إلى الشام فكان فيه حتى وقع بينه وبين معاوية فاستقدمه عثمانُ إلى المدينة، ثمَّ نزل الرَّبَذَة فأقامَ بها حتى مات في ذي الحجة من هذه السنة، وليس عنده سوى امرأتِه وأولادِه، فبينما هم كذلك لا يقدرون على دفنه إذ قدم عبد الله بن مسعود من العراق في جماعة من أصحابه، فحضروا موته، وأوصاهم كيف يفعلون به، وقيل قدموا بعد وفاته فولوا غسله

(1)

في أ: دكلت. ومجلت يده تمجُلُ ومَجَلت تمْجَلُ مَجَلًا إذا ثخن جلدها وتعجَّر وظهر فيها ما يشبه البثر من العمل بالأشياء الصلبة الخشنة. النهاية (4/ 300).

(2)

الخبر في طبقات ابن سعد (3/ 136).

(3)

الأعين: واسع العين. النهاية (3/ 333).

(4)

أهدب الأشفار: أي طويل شعر الأجفان. النهاية (5/ 249).

(5)

أقنى: القنا في الأنف طوله ورقة أرنبته مع حَدَب في وسطه. النهاية (4/ 116).

(6)

ترجمة -أبي ذر الغفاري- في طبقات ابن سعد (4/ 219 - 237) وحلية الأولياء (1/ 156 - 170) والاستيعاب (1/ 169 - 177) وأسد الغابة (1/ 257) و (6/ 99 - 101) والإصابة (4/ 62).

(7)

الحديث أخرجه الترمذي (3801) في فضائل الصحابة، وابن سعد في الطبقات (4/ 228) والحاكم في المستدرك (3/ 342).

(8)

في أ: ومات.

ص: 307

ودفنه، وكان قد أمر أهله أن يطبخوا لهم شاةً من غنمه ليأكلوه بعد الموت، وقد أرسلَ عثمانُ بن عفان إلى أهله فضمهم إلى

(1)

أهله.

‌ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين

فيها كانَ فتحُ قبرص في قولِ أبي معشرٍ، وخالفه الجمهورُ فذكروها قبل ذلك كما تقدم.

وفيها غزا عبد الله بن سعد بن أبي سرح إفريقية ثانيةً، حين نقض أهلها العهد.

وفيها سيَّر أميرُ المؤمنين جماعةً من قُرَّاءِ أهلِ الكوفة إلى الشام، وكان سببُ ذلك أنَّهم تكلَّموا بكلامٍ قبيحٍ في مجلسِ سعيد بن العاص، فكتب إلى عثمان في أمرهم، فكتب إليه عثمان أن يُجْليَهم عن بلده إلى الشام، وكتب عثمان إلى معاوية أمير الشّام أنه قد أخرج

(2)

إليك قراء من أهل الكوفة فأنزلهم وأكرمهم وتألفهم. فلما قدموا أنزلهم معاوية وأكرمهم واجتمع بهم ووعظهم ونصحهم فيما يعتمدونه من اتباع الجماعة وترك الانفراد والابتعاد

(3)

، فأجابه متكلمهم والمترجم عنهم بكلامٍ فيه بشاعةٌ وشناعةٌ، فاحتملهم معاوية لحلمه، وأخذ في مدح قريش -وكانوا قد نالوا منهم- وأخذ في المدح لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والثناء عليه، والصلاة والتسليم. وافتخر معاوية بوالده وشرفه في قومه، وقال فيما قال:(وأظن) أبا سفيان لو ولد الناس كلهم لم يلد إلا حازمًا، فقال له صَعْصَعةُ بن صُوحان: كذبت، قد ولد الناس كلُّهم لمن هو خير من أبي سفيان من خلقه الله بيده، ونفخَ فيه من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا له، فكان فيهم البرُّ والفاجرُ، والأحمقُ والكيّسُ. ثمَّ بذل لهم النصح مرةً أخرى فإذا هم يتمادون

(4)

في غيّهم، ويستمرّون على جهالتهم وحماقتهم، فعند ذلك أخرجهم من بلده ونفاهم عن الشام، لئلا يُشَوِّشوا عقولَ الطغام

(5)

، وذلك أنه كان يشتمل مطاوي كلامهم على القدح في قريشٍ كونهم فرَّطوا وضيَّعوا ما يجب عليهم من القيام فيه، من نُصْرَة الدين وقمع المفسدين. وإنما يريدون بهذا التنقيصَ والعيبَ ورجمَ الغيب، وكانوا يشتمون عثمانَ وسعيدَ بن العاص، وكانوا عشرةً، وقيل تسعة وهو الأشبه، منهم كُمَيْل بن زياد، والأشتر النَّخعي -واسمه مالك بن [الحارث، وصَعْصَعة بن صوحان وأخوه زيد بن صوحان، وكعب بن مالك الأرحبي، والأسود بن]

(6)

يزيد- وعلقمة بن قيس النَّخعيّان، وثابت بن

(1)

في ط: مع أهله.

(2)

في أ: خرج.

(3)

في أ: والانتفاء.

(4)

في أ: متمادون.

(5)

في أ: الطغاة، تحريف. والطغام من لا عقل معه ولا معرفة، وقيل هم أوغاد الناس وأراذلهم. النهاية (3/ 128).

(6)

ما بين الحاصرتين عن أ وحدها، وهي موافقة لما في تاريخ الطبري (4/ 326).

ص: 308

قيس النَّخَعي، وجندب بن زهير العامري، وجندب بن كعب الأزدي، وعُروة بن الجَعْد وعمرو بن الحَمِق الخُزاعي. فلما خرجوا من دمشق أووا إلى الجزيرة فاجتمع بهم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد -وكان نائبًا على الجزيرة. ثمَّ ولي حمص بعد ذلك- فهددهم وتوعدهم. فاعتذروا إليه وأنابوا إلى الإقلاع عمّا كانوا عليه، فدعا لهم وسيَّر مالكاً الأشتر النَّخعي إلى عثمان بن عفان ليعتذر إليه عن أصحابه بين يديه، فقبل ذلك منهم وكف عنهم وخيّرهم أن يقيموا حيث أحبّوا، فاختاروا أن يكونوا في معاملة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، فقدموا عليه حمص، فأمرهم بالمقام بالسّاحل، وأجرى عليهم الرزق. ويقال بل لما مقتهم معاوية كتب فيهم إلى عثمان فجاءه كتاب عثمان أن يردهم إلى سعيد بن العاص بالكوفة، فردّهم إليه، فلما رجعوا كانوا أَذْلَق

(1)

ألسنة، وأكثرَ شرًّا، فضج منهم سعيد بن العاص إلى عثمان، فأمره أن يسيّرهم إلى عبد الرحمن بن خالد بن الوليد بحمص، وأن يلزموا الدروب

(2)

.

وفي هذه السنة سَيَّر عثمان بعض أهل البصرة منها إلى الشام، وإلى مصر بأسباب مسِّوغة لما فعله رضي الله عنه، فكان هؤلاء ممن يؤلِّب عليه ويمالئ الأعداء في الحط والكلام فيه، وهم الظالمون في ذلك، وهو البارّ الراشد رضي الله عنه.

وفي هذه السنة حج بالناس أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه وتَقَبَّل الله منه.

‌ثم دخلت سنة أربع وثلاثين

قال أبو معشر: فيها كانت وقعة الصواري، والصحيح في قول غيره أنها كانت قبل ذلك

(3)

كما تقدم. وفي هذه السنة تكاتب المنحرفون عن (طاعة) عثمان وكان جمهورهم من أهل الكوفة - وهم في معاملة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد بحمص منفيون عن الكوفة، وثاروا على سعيد بن العاص أمير الكوفة، وتألَّبوا عليه، ونالوا منه ومن عثمان، وبعثوا إلى عثمان منْ يناظره فيما فعل وفيما اعتمد من عزل كثيرٍ من الصحابة وتولية جماعة من بني أمية من أقربائه، وأغلظوا له في القول، وطلبوا منه أن يعزل عمّاله ويستبدل أئمة غيرهم (من السابقين ومن الصحابة)، حتى شقَّ ذلك عليه جدًا، وبعث إلى أمراء الأجناد فأحضرهم عنده ليستشيرهم، فاجتمع إليه معاوية بن أبي سفيان أمير الشام، وعمرو بن العاص (أمير مصر)، وعبد الله بن سعد بن أبي سَرْح أمير المغرب، وسعيد بن العاص أمير الكوفة، وعبد الله ابن عامر أمير البصرة، فاستشارهم فيما حدث من الأمر (وافتراق الكلمة)؛ فأشار عبد الله بن عامر

(1)

أذلق: أفصح وأبلغ. النهاية (2/ 165).

(2)

في أ: بالدروب.

(3)

في أ: أنها قبل كما تقدم.

ص: 309

أن يشغلهم بالغزو عمّا هم فيه من الشرّ، فلا يكون همّ أحدهم إلا نفسه، وما هو فيه من دبر دابته وقمل

(1)

فروته (فإنّ غوغاء الناس إذا تفرغوا وبطلوا اشتغلوا بما لا يُغْني وتكلّموا بما لا يُرضي وإذا تفرَّقوا نفعوا أنفسهم وغيرهم).

وأشار سعيد بن العاص بأن يستأصل

(2)

شأفة المفسدين، ويقطع دابرهم

(3)

، وأشار معاوية بأن يردّ عمَّالَه إلى أقاليمهم وأن لا يلتفت إلى هؤلاء وما تألبوا عليه من الشرّ، فإنَّهم أقلُّ وأضعفُ جندًا.

وأشار عبد الله بن سعد بن أبي سَرْح بأن يتألَّفهم بالمال فيعطيهم منه ما يكفّ به شرَّهم، ويأمن غائلتهم

(4)

، ويعطف به قلوبهم إليه.

وأما عمرو بن العاص فقام فقال: أما بعدُ يا عثمانُ فإنَّك قد ركبت الناس ما يكرهون، فإما أن تعزلَ عنهم ما يكرهون، وإما أن تقدم فتنزل عمالك على ما هم عليه، وقال له كلامًا فيه غلظةٌ، ثم اعتذر إليه في السر بأنه إنما قال هذا ليبلغ عنه من كان حاضرًا من الناس إليهم ليرضوا من عثمان بهذا، فعند ذلك قرَّر عثمانُ عمالَه على ما كانوا عليه، وتألَّف قلوبَ أولئك بالمال، وأمر بأن يُبعثوا إلى الغزو إلى الثغور، فجمع بين المصالح كلها، ولما رجعت العمال إلى أقاليمها امتنع أهل الكوفة من أن يدخل عليهم سعيد بن العاص، ولبسوا السلاح وحلفوا أن لا يمكنوه من الدخول فيها حتى يعزله عثمان ويولّي عليهم أبا موسى الأشعري، وكان اجتماعهم بمكانٍ يقال له الجرعة، (وقد قال يومئذ الأشتر النخعي: والله لا يدخلها علينا ما حملنا سيوفنا، وتواقف الناس بالجرعة) وأحجم سعيدٌ عن قتالهم وصمَّموا على منعه، وقد اجتمع في مسجد الكوفة في هذا اليوم حذيفة وأبو مسعود عقبة بن عمرو، فجعل أبو مسعود يقول:[والله لا يرجع سعيد بن العاص حتى يكون دماء. فجعل حذيفة يقول]

(5)

: والله ليرجعن ولا يكون فيها محجمة من دم، وما أعلم اليوم شيئًا إلا وقد علمته ومحمد صلى الله عليه وسلم حي. والمقصود أن سعيد بن العاص كر راجعًا إلى المدينة وكسر الفتنة، فأعجب ذلك أهل الكوفة، وكتبوا إلى عثمان (أن يولي عليهم أبا موسى الأشعري) بذلك، فأجابهم عثمان إلى ما سألوا إزاحة لعذرهم، وإزالة لشبههم، وقطعًا لعللهم.

وذكر سيف بن عمر

(6)

أن سببَ تألُّبِ الأحزاب على عثمان أن رجلًا يقال له عبد الله بن سبأ كان يهوديًا فأظهر الإسلام وصار إلى مصر، فأوحى إلى طائفة من الناس كلامًا اخترعه من عند نفسه، مضمونه أنه يقول للرجل: أليس قد ثبت أن عيسى ابن مريم سيعود إلى هذه الدنيا؟ فيقول الرجل: نعم! فيقول له

(1)

في أ: وحمل فروته، وأشار سعيد.

(2)

في أ: تستأصل. والشأفة الأصل. اللسان (شأف) والتعبير بمعنى أن يُقضي عليهم.

(3)

دابر القوم: آخر من بقي منهم، وقطع دابرهم: أي جميعهم حتى لا يبقى منهم أحد. النهاية (2/ 98).

(4)

الغائلة: أمر منكر داهٍ. اللسان (غول).

(5)

ما بين الحاصرتين ساقط من ط.

(6)

الخبر في تاريخ الطبري (4/ 340).

ص: 310

فرسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل منه فما تنكر أن يعود إلى هذه الدنيا، وهو أشرف من عيسى ابن مريم عليه السلام، ثم يقول: وقد كان أوصى إلى علي بن أبي طالب، فمحمد خاتم الأنبياء، وعليّ خاتم الأوصياء، ثُمَّ يقول: فهو أحق بالإمرة من عثمان، وعثمان معتدٍ في ولايته ما ليس له. فأنكروا عليه وأظهروا الأمرَ بالمعروفِ والنهيَ عن المنكر. فافُتتن به بشرٌ كثيرٌ من أهل مصر، وكتبوا إلى جماعات من عوام أهل الكوفة والبصرة، فتمالؤوا على ذلك، وتكاتبوا فيه، وتواعدوا أن يجتمعوا في الإنكار على عثمان، وأرسلوا إليه من يناظره ويذكر له ما ينقمون عليه من توليته أقرباءه وذوي رحمه وعزله كبار الصحابة. فدخل هذا في قلوب كثير من الناس، فجمع عثمان بن عفان نوّابه من الأمصار فاستشارهم فأشاروا عليه بما تقدم ذكرنا له، فالله أعلم.

وقال الواقدي

(1)

فيما رواه عن عبد الله بن محمد، عن أبيه قال: لما كانت سنة أربع وثلاثين أكثر الناس (بالمقالة) على عثمان بن عفان ونالوا منه

(2)

أقبح ما نيل من أحد، فكلَّم الناس علي (بن أبي طالب) أن يدخلَ على عثمان، فدخل عليه فقال له: إنَّ الناس (ورائي و) قد كلَّموني فيك، ووالله ما أدري ما أقول لك، وما أعرف شيئًا تجهله، ولا أدلُّكَ على أمرٍ لا تعرفه، إنك لتعلم ما نعلم، ما سبقناك إلى شيء فنخبرك عنه، ولا خلونا بشيء فنبلغكه، وما خُصصنا بأمورٍ خَفيَ عنك إدراكُها، وقد رأيت وسمعت وصحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ونلت صهره، (وما ابن أبي قحافة بأولى بعملِ الحقِّ منك، ولا ابن الخطاب بأولى بشيءٍ من الخيرِ منك، وإنك أقربُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رحمًا، ولقد نلت من صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم ينالا، ولا سبقاك إلى شيء)، فاللهَ اللهَ في نفسك، فإنَّك واللهِ ما تُبصرُ من عَمىً، ولا تعلمُ من جَهْلٍ. وإنَّ الطريقَ لواضحٌ بيّنٌ، وإن أعلام الدين لقائمةٌ، تعلَّم يا عثمان أن أفضلَ عباد الله عند الله إمامٌ عادلٌ، هُديَ وهَدَى، فأقام سُنّة معلومةً، وأماتَ بدعةً معلومةً، فوالله إن كُلًّا لبيّنٌ، وإن السنن لقائمةٌ لها أعلامٌ، وإن البدعَ لقائمةٌ لها أعلامٌ، وإن شرَّ الناس عندَ الله إمام جائر ضل وأضل به فأمات سنةً معلومة وأحيا بدعةً متروكةً، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يُؤْتى يومَ القيامة بالإمام الجائر، وليس معه نصير ولا عاذر

(3)

، فيُلْقى في جهنم، فيدورُ فيها كما تدورُ الرَّحا، ثمَّ يرتطم في غمرة جهنَّم"

(4)

وإنِّي أحذرك الله وأحذرك سطوته ونقمته، فإن عذابه أليم شديد، واحذر أن تكون إمام هذه الأمة المقتول، فإنه كان يُقال يقتل في هذه الأمة إمام فيفتح عليها القتل والقتال إلى يوم القيامة، وتلبس أمورها عليها، ويتركون شيعًا لا يبصرون الحق من الباطل، يموجون فيها موجًا، ويمرحون فيها مرحًا. فقال عثمان: قد والله علمتُ لتقولن الذي قلت، (أما والله) لو كنت مكاني ما عنفتك

(1)

تاريخ الطبري (4/ 336).

(2)

في أ: لما كان سنة أربع وثلاثين كثر الناس على عثمان ونالوا منه.

(3)

مكان اللفظة بياض في أ بقدر ثلاث كلمات.

(4)

هو من رواية الواقدي، وهو متروك عند المحدثين.

ص: 311

(ولا أسلمتك)، ولا عبت

(1)

عليك، ولا جئت منكرًا، إني وصلتُ رحمًا، وسددتُ خلة، وآويتُ ضائعًا، ووليت شبيهًا بمنْ كان عمرُ يُولِّي، أنشدك الله يا علي هل تعلم أنَّ المغيرةَ بن شعبة ليس هناك؟ قال: نعم! قال: فتعلمُ أن عمرَ ولاه؟ قال: نعم! قال: فلم تلوموني

(2)

أن وليت ابن عامر في رحمه وقرابته

(3)

؟ فقال علي: سأخبرك أنَّ عمر كان كلما ولى أميرًا

(4)

فإنما يطأ على صماخيه

(5)

، وأنه (إن) بلغه حرف جاء به، ثمَّ بلغ به أقصى الغاية في (العقوبة)، وأنت لا تفعل، ضعفت ورفقت

(6)

على أقربائك. فقال عثمان: هم أقرباؤك أيضًا، فقال علي: لعمري

(7)

إنَّ رحمَهم مني لقريبةٌ، ولكنَّ الفضلَ في غيرهم. قال عثمان: هل تعلمُ أنَّ عمرَ ولَّى معاويةَ خلافته كلَّها، فقد وليتُه، فقال عليٌّ: أنشدك (الله) هل تعلم أن معاوية كان أخوفَ من عمر من يَرْفأ غلام عمرَ منه؟ قال: نعم! قال علي: فإنَّ معاويةَ يقطعُ الأمورَ دونك (وأنت تعلمها) ويقول للناس: هذا أمر عثمان، فليبلغك

(8)

(فلا تنكر) ولا تغير على معاوية ثم خرج عليّ من عنده وخرج عثمان على إثره فصعد المنبر [فخطب الناس]

(9)

فوعظ وحذَّر وأنذرَ، وتهدَّد وتوعد، وأبرقَ وأرعدَ، فكان فيما قال: ألا فقد (والله) عبتُم عليَّ بما أقررتُمْ به لابن الخطّاب، ولكنه وطئكم برجله، وضربكم بيده، وقمعكم

(10)

بلسانه، فدنتم له على ما أحببتم أو كرهتم، ولنت لكم، وأوطأت لكم كتفي، وكففتُ يدي ولساني عنكم، فاجترأتم عليَّ، أما واللهِ لأنا أعزُّ نفرًا وأقربُ ناصرًا وأكثرُ عددًا وأقْمن، إن قلت: هلمّ إليّ إليّ، ولقد أعددت لكم أقرانكم، وأفضلتُ عليكم فضولًا، وكشرت لكم عن نابي، فأخرجتم مني خُلُقًا لم أكن أُحسنه، ومنطقًا لم أنطق به، فكفّوا ألسنتكم وطعنكم وعيبكم على ولاتكم، فإنّي قد كففتُ عنكم منْ لو كان هو الذي يليكم لرضيتم منه بدون منطقي هذا، ألا فما تفقدون من حقكم؟ فوالله ما قصرت في بلوغ ما كان يبلغ من كان قبلي، ثمّ اعتذر عما كان يعطي أقرباءه

(11)

بأنه من فضل ماله. فقام مروان بن الحكم فقال: إن شئتم والله حكَّمنا بيننا وبينكم السيف، نحن والله وأنتم كما قال الشاعر:[من الطويل]

(1)

في أ: ولا بحثت عليك.

(2)

في أ: قال يلومونني أن.

(3)

مكان اللفظة بياض في أ بقدر كلمة أو كلمتين.

(4)

في أ: أن عمر كان كل من ولى فإنما يطأ.

(5)

الصماخ هنا بمعنى الأذن. اللسان (صمخ).

(6)

في أ: وزققت.

(7)

في أ: فقال علي: أجل إن رحمهم.

(8)

الأصوب أن يقال: فيبلغك.

(9)

ما بين الحاصرتين ساقط من ط.

(10)

في أ: وقهركم، وكذلك في تاريخ الطبري (4/ 338).

(11)

في أ: أقاربه.

ص: 312

فرشنا لكم أعراضنا فَنَبَتْ بكمْ

مغارسُكُم

(1)

تبنونَ في دِمنِ الثرى

فقال عثمان: اسكت لا سكتَّ، دعني وأصحابي، ما منطقك في هذا

(2)

، ألم أتقدَّمْ إليكَ أن لا تنطق. فسكتَ مروان ونزل عثمان رضي الله عنه.

وذكر سيف بن عمر

(3)

وغيره: أن معاوية لما ودّعه عثمان حين عزم على الخروج إلى الشام عرض عليه أن يرحل معه إلى الشام فإنهم قوم كثيرة طاعتهم للأمراء. فقال: لا أختار بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم سواه. فقال: أجَهّز لك جيشًا من الشام يكونون

(4)

عندك ينصرونك؟ فقال: إني أخشى أن أضيِّق بهم بلد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه من المهاجرين والأنصار. قال معاوية: فوالله يا أمير المؤمنين لتُغْتالن -أو قال: لتُغْزَين- فقال عثمان: حسبي الله ونعم الوكيل.

ثم خرج معاوية من عنده وهو مُتقِّلدٌ السيفَ وقوسُه في يده، فمرّ على ملأ من المهاجرين (والأنصار)، فيهم علي بن أبي طالب، وطلحة، والزبير، فوقف عليهم واتكأ على قوسه وتكلَّم بكلام بليغ يشتمل

(5)

على الوصاة بعثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه، والتحذير من إسلامه إلى أعدائه، ثُمَّ انصرف ذاهبًا. فقال الزبير: ما رأيتُه أهيبَ في عيني من يومه هذا.

وذكر ابنُ جرير

(6)

أن معاوية استشعر الأمر لنفسه من قدمته هذه إلى المدينة، وذلك أنه سمع حاديًا يرتجز في أيام الموسم في هذا العام وهو يقول:[من الرجز]

قَدْ علمتْ ضَوامرُ المَطيِّ

وضمَّراتُ عَوَجِ القِسيِّ

أنَّ الأميرَ بَعْدهُ عليُّ

وفي الزُّبَيْرِ خَلَفٌ رَضِيُّ

وطلحةُ الحافي لها وليُّ

[فقال كعب الأحبار وهو يسير خلف عثمان: والله إن الأمير بعده صاحب البغلة الشهباء. وأشار إلى معاوية]

(7)

فلما سمعها معاوية لم يزل ذلك في نفسه، حتى كان ما كان على ما سنذكره في موضعه إن شاء الله تعالى وبه الثقة.

(1)

في أ: وتاريخ الطبري (4/ 339): معارسكم.

(2)

في أ: وما منطقك وبعدها بياض بقدر كلمة واحدة.

(3)

تاريخ الطبري (4/ 344 - 345).

(4)

في أ: يكون.

(5)

في أ: مشتمل.

(6)

في تاريخه (4/ 343).

(7)

ما بين الحاصرتين زيادة من أ، وهي موافقة لما عند الطبري.

ص: 313

قال ابن جرير

(1)

: وفي هذه السنة مات:

أبو عبس بن جبير

(2)

بالمدينة وهو بدري.

ومات أيضًا مسطح بن أثاثة

(3)

.

وعاقل بن البكير

(4)

.

وحج بالناس في هذه السنة عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه.

‌ثم دخلت سنة خمس وثلاثين

ففيها مقتل عثمان [بن عفان رضي الله عنه]

(5)

وكان السبب في ذلك أن عمرو بن العاص حين عزله عثمان عن مصر ولَّى عليها عبد الله بن سعد بن أبي سَرْح. وكان سبب ذلك أن الخوارج من المصريين كانوا محصورين من عمرو بن العاص، (مقهورين معه لا يستطيعون أن يتكلَّموا بسوء في خليفة ولا أمير).

فما زالوا حتى شكوه

(6)

إلى عثمان لينزعه عنهم ويُوَلِّي عليهم من هو ألينُ منه. فلم يزل ذلك دأبُهم حتى عزل عَمرًا

(7)

عن الحرب وتركه على الصلاة، وولَّى على الحرب والخراج عبد الله بن سعد بن أبي سَرْح. ثمَّ سَعَوْا فيما بينهما بالنميمة فوقع بينهما، حتى كان بينهما كلامٌ قبيحٌ. فأرسل عثمان فجمع لابن أبي سرح جميع عمالة مصر، خراجها (وحربها) وصلاتها، وبعث إلى عمرو يقول له: لا خير لك في المقام

(8)

عند من يكرهك، فاقدم إليَّ، فانتقل عمرو بن العاص إلى المدينة وفي نفسه من عثمان أمر عظيم وشر كبير، فكلَّمه فيما كان من أمره بنفس، وتقاولا في ذلك، وافتخر عمرو بن العاص بأبيه على

(1)

في تاريخه (4/ 339).

(2)

تحرفت في ط إلى: جبير، وهو عبد الرحمن بن جبر بن عمرو. ترجمته في سير أعلام النبلاء (1/ 188).

(3)

ترجمة -مسطح بن أثاثة- في طبقات ابن سعد (3/ 36) وأسد الغابة (5/ 56) وسير أعلام النبلاء (1/ 187) والإصابة (3/ 408).

(4)

تحرف في ط إلى غافل، وترجمة -عاقل بن البكير- في الطبقات (3/ 282) وسير أعلام النبلاء (1/ 185) والإصابة (2/ 247).

(5)

زيادة من أ.

(6)

في أ: فجعلوا يعملون عليه حتى شكوه.

(7)

في أ: عمرو بن العاص.

(8)

في أ: يقول إنه لا خير لك في الإقامة.

ص: 314

عثمان

(1)

، وأنه كان أعز منه. فقال له عثمان: دَعْ هذا فإنّه من أمر الجاهلية. وجعل عمرو بن العاص يؤلِّبُ الناسَ على عثمان. وكان بمصر جماعة يبغضون

(2)

عثمان ويتكلَّمون فيه بكلام قبيحٍ على ما قدمنا، وينقمون عليه (في عزله جماعة من عليّة) الصحابة وتوليته من دونهم، أو منْ لا يصلح عندهم للولاية. وكره أهل مصر عبد الله بن سعد بن أبي سرح، بعد عمرو بن العاص، واشتغل عبد الله بن سعد عنهم بقتال أهل المغرب، وفتحه بلاد البربر والأندلس وإفريقية. ونشأ بمصر طائفة من أبناء الصحابة يؤلِّبون الناس على حربه والإنكار عليه، وكان عظم ذلك مسندًا إلى محمد بن أبي بكر، ومحمد بن أبي حذيفة، حتى استنفرا

(3)

نحوًا من ستمئة راكب يذهبون إلى المدينة في صفة معتمرين في شهر رجب، لينكروا على عثمان، فساروا إليها تحت أربع رفاق

(4)

، وأمرُ الجميع إلى عمرو بن بُدَيْل بن وَرْقاء الخُزاعي، وعبد الرحمن بن عُدَيْس (البلوي، وكنانة بن بشر) التُّجيبي، (وسُودان بن حُمْران السَّكُوني). وأقبل معهم محمد بن أبي بكر، وأقام بمصر محمد بن أبي حُذَيْفة يُؤَلِّبُ الناسَ ويدافع عن هؤلاء (وكتب عبد الله بن سعد بن أبي سرح إلى عثمان يعلمه بقدوم هؤلاء) القوم إلى المدينة مُنْكرين عليه في صفة مُعْتمرين.

فلما اقتربوا من المدينة أمر عثمان علي

(5)

بن أبي طالب أن يخرجَ إليهم ليردهم إلى بلادهم قبل أن يدخلوا المدينة. ويقال: بل ندب الناس إليهم، فانتدب علي لذلك فبعثه، وخرج معه جماعة الأشراف وأمره أن يأخذ معه عمار بن ياسر. فقال علي لعمار فأبى عمار أن يخرج معه، فبعث عثمان سعد بن أبي وقاص أن يذهب إلى عمار ليحرِّضه على الخروج مع علي إليه، فأبى عمار كلَّ الإباء، وامتنع أشدَّ الامتناع، وكان متعصبًا على عثمان بسبب (تأديبه له فيما تقدم على أمر وضربه إياه في ذلك، وذلك بسبب) شتمه عباس بن عتبة بن أبي لهب، فأدبهما عثمان، فتآمر عمّارٌ عليه لذلك، وجعل يحرِّضُ الناسَ عليه، فنهاه سعد بن أبي وقاص عن ذلك ولامه عليه، فلم يُقْلِعْ عنه ولم يرجع ولم ينزع، فانطلق علي بن أبي طالب إليهم وهم بالجحفة، وكانوا يعظمونه ويبالغون

(6)

في أمره، فردَّهم وأنَّبهم وشَتَمهم، فرجعوا على أنفسهم بالملامة، وقالوا: هذا الذي تحاربون الأمير بسببه، وتحتجون عليه

(7)

به. ويقال إنه ناظرهم في عثمان، وسألهم ماذا ينقمون

(8)

عليه، فذكروا أشياء منها أنه حمى

(1)

في أ: على أبي عثمان.

(2)

في أ: ينقصون.

(3)

في أ: استنفروا.

(4)

في أ: أربع رايات. وفي تاريخ الطبري (4/ 348): أربع رفاق في أربعة أمراء.

(5)

في أ: عليًا رضي الله عنه.

(6)

في أ: ويتغالون.

(7)

في أ: عليهم.

(8)

في أ: ينقمون.

ص: 315

الحمى

(1)

، وأنَّه حرقَ المصاحف وأنّه أتم الصلاة، وأنه ولَّى الأحداث (الولايات وترك الصحابة الأكابر) وأعطى

(2)

بني أمية أكثر من الناس.

فأجاب علي

(3)

عن ذلك: أما الحمى فإنما حماه لإبل الصدقة لتسمن، ولم يَحْمِهِ لإبله ولا لغنمه، وقد حماه عمر من قبله. وأما المصاحفُ فإنّما حرق ما وقع فيه اختلاف، وأبقى لهم المتفق عليه، كما ثبت في العرضة الأخيرة، وأما إتمامه الصلاة بمكة، فإنه كان قد تأهَّلَ بها ونوى الإقامة فأتمها، أما توليته الأحداث فلم يولِّ إلا رجلًا سويًا عدلًا، وقد ولَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم عتاب بن أسيد (على مكة) وهو ابن عشرين (سنة)، وولَّى أسامةَ بن زيد بن حارثة، وطعن

(4)

الناس في إمارته فقال: "إنه لخليقٌ بالإمارة"

(5)

وأما إيثارُهُ قومَه بني أمية فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُؤْثِر قريشًا على الناس، وواللهِ لو أن مفتاحَ الجنة بيدي لأدخلتُ بني أمية إليها. ويقال: إنهم عتبوا عليه في عمّارٍ ومحمد بن أبي بكر، فذكر عثمان عذره في ذلك، وأنه أقام فيهما

(6)

ما كان يجب عليهما.

وعتبوا عليه في إيوائه الحَكم بن أبي العاص، وقد نفاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، فذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد نفاه إلى الطائف ثمَّ ردَّه، ثمَّ نفاه إليها، فال: فقد نفاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم رَدَّه.

وروي أنَّ عثمان خطب الناس بهذا كلِّه بمحضرٍ من الصحابة، وجعل يستشهد بهم فيشهدون له فيما فيه شهادة له، ويروى أنهم بعثوا طائفة منهم فشهدوا خطبة عثمان هذه، فلما تمهدت

(7)

الأعذار، وانزاحت عللهم، ولم يبق لهم شبهة، أشار جماعة من الصحابة على عثمان بتأديبهم فصفح عنهم [وتركهم]، رضي الله عنه. وردَّهم إلى قومهم، فرجعوا خائبين من حيث أتوا، ولم ينالوا شيئًا مما كانوا أمَّلوا وراموا، ورجع عليٌّ إلى عثمان، فأخبره برجوعهم عنه، وسماعهم منه، وأشار على عثمان أن يخطب الناس خطبةً يعتذر إليهم فيها مما كان وقع من الأثرة لبعض أقاربه، ويشهدهم عليه بأنه قد تاب من ذلك، وأناب إلى الاستمرار على ما كان عليه من سيرة الشيخين قبله

(8)

، وأنه لا يحيد عنها، كما كان الأمر أولًا في مدة ست سنين الأُول، فاستمع عثمان هذه النصيحة، وقابلها بالسمع والطاعة.

ولما كان يوم الجمعة وخطب الناس، رفع يديه في أثناء الخطبة، وقال: اللهم إني أستغفرك وأتوب

(1)

في ط: أنه في الحمى.

(2)

في أ: وأنه أعطى.

(3)

في أ: عثمان.

(4)

في أ: فطعن.

(5)

أخرجه أحمد في مسنده (2/ 20) والبخاري في صحيحه (3730) في الفضائل، ومسلم في صحيحه (2426)(63) في المناقب.

(6)

في أ: فإنه أقام فيها.

(7)

تمهيد العذر: بسطه وقبوله.

(8)

في أ: سيرة الشيخين فيه.

ص: 316

إليك، اللهم إني أول تائب مما كان مني، وأرسل عينيه بالبكاء فبكى المسلمون أجمعون، وحصل للناس رقة شديدة على إمامهم، وأشهد عثمان الناس على نفسه بذلك، وأنه قد لزم ما كان عليه الشيخان، أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، وأنه قد سبل

(1)

بابه لمن أراد الدخول عليه، لا يمنع أحد من ذلك، ونزل فصلّى بالناس ثمَّ دخل منزله، وجعل من أراد الدخول على أمير المؤمنين لحاجة أو مسألة أو سؤال، لا يمنع أحد من ذلك مدة.

قال الواقدي: فحدَّثني علي بن عمر، عن أبيه قال: ثمَّ إن عليًا جاء عثمان بعد انصراف المصريين فقال له: تكلم كلامًا يسمعه

(2)

الناس منك ويشهدون عليك، ويشهد الله على ما في قلبك من النزوع والإنابة، فإن البلاد قد تمخضت عليك، ولا آمن ركبًا آخرين

(3)

يقدمون من قبل الكوفة، فتقول: يا علي اركب إليهم، ويقدم آخرون من البصرة فتقول: يا علي اركب إليهم، فإن لم أفعل قطعت رحمك واستخففت بحقك. قال: فخرج عثمان فخطب الخطبة التي نزع فيها، وأعلم الناس من نفسه التوبة، فقام فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: أما بعد، أيها الناس، فوالله ما عاب من عاب شيئًا أجهله، وما جئتُ شيئًا إلا وأنا أعرفه، ولكن ضلَّ رشدي، ولقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"من زلَّ فليتبْ، ومن أخطأ فليتب، ولا يتمادى في الهلكة، إن من تمادى في الجور كان أبعد عن الطريق"

(4)

فأنا

(5)

أولُ من اتَّعظَ، أستغفر الله مما فعلتُ وأتوبُ، فمثلي نزع وتاب، فإذا نزلت فليأتني أشرافكم، فوالله لأكوننَّ كالمرقوق إن مُلِكَ صبر، وإن عُتِقَ شكر، وما عن الله مذهبٌ إلا إليه.

قال: فرقَّ الناسُ له [يومئذٍ]

(6)

وبكى منْ بكى، وقام إليه سعيد بن زيد فقال: يا أمير المؤمنين! الله الله في نفسك! فأتمم على ما قلت. فلما انصرف عثمان إلى منزله وجد به جماعةً من أكابر الناس، وجاءه مروان بن الحكم فقال: أتكلم يا أمير المؤمنين أم أصمت؟ فقالت امرأة عثمان -نائلة بنت الفرافصة الكلبية- من وراء الحجاب: بل اصمت، فوالله إنهم لقاتلوه، ولقد قال مقالة لا ينبغي النزوع عنها. فقال لها: وما أنت وذاك؟ فوالله لقد مات أبوك وما يحسن (أن) يتوضَّأ. فقالت له: دع (ذكر) الآباء، ونالت من أبيه الحكم، فأعرض عنها مروان. وقال لعثمان: يا أمير المؤمنين أتكلَّم أم أصمت؟ فقال له عثمان: بل تكلّم؛ فقال مروان: بأبي أنت وأمي، لوددتُ أنَّ مقالتك هذه كانت وأنت ممتنعٌ

(7)

(1)

سَبَّلْتُ الشيء إذا أبحته كأنك جعلت إليه طريقًا مطروقة. اللسان (سبل).

(2)

في ط: تسمعه.

(3)

في أ: آخر.

(4)

هو من رواية الواقدي، وهو متروك عند المحدِّثين.

(5)

في أ: وأنا.

(6)

زيادة عن تاريخ الطبري (4/ 361).

(7)

في ط: ممنع، وها هنا عن أ وتاريخ الطبري (4/ 362).

ص: 317

منيعٌ، فكنت أول من رضي بها وأعان عليها، ولكنك قلت ما قلت حين جاوز

(1)

الحزام الطُّبْيَيْنِ، وبلغ

(2)

السيلُ الزُّبَى، وحين أعطى الخطة الذليلة الذليل، والله لإقامةٌ على خطيئةٍ يُسْتَغفَرُ منها، خيرٌ من توبة خُوِّفَ عليها، وإنك لو شئت لعزمت

(3)

التوبة ولم تقرر لنا بالخطيئة، وقد اجتمع إليك على الباب مثل الجبال من الناس. فقال عثمان:(قم) فاخرج إليهم فكلّمهم، فإني أستحيي أن أكلمهم.

قال: فخرج مروان إلى الباب، والناسُ يركب بعضهم بعضًا، فقال: ما شأنكم كأنكم قد جئتم لنهب، شاهت

(4)

الوجوه (كل إنسان آخذ بأُذن صاحبه) إلا من أريدَ، جئتم تريدون أن تنزعوا ملكنا من أيدينا، اخرجوا عنا، (أما والله لئن رمتمونا)

(5)

ليمرَّن عليكم أمرٌ يسوؤكم ولا تحمدوا غبّه، ارجعوا إلى منازلكم، فوالله ما نحن مغلوبين على ما بأيدينا.

قال: فرجع الناس، وخرج بعضهم حتى أتى عليًا فأخبره الخبر، فجاء علي مغضبًا حتى دخل على عثمان، فقال: أما رضيتَ من مروان ولا رضي منك إلا بتحويلك عن دينك وعقلك؟! وإن مثلك مثل جمل الظعينة

(6)

سار حيث يسار به، والله ما مروان بذي رأي في دينه ولا نفسه، وايم الله إني لأراه سيوردك ثم لا يصدرك

(7)

، وما أنا بعائد بعد مقامي هذا لمعاتبتك، أذهبتَ سوقك

(8)

، وغُلبت على أمرك.

فلما خرج عليٌّ دخلت نائلةُ على عثمان فقالت: أتكلَّم أو أسكت؟ فقال: تكلَّمي، فقالت:[قد] سمعتُ قولَ عليٍّ أنه ليس يعاودك، وقد أطعتَ مروان [يقودك]

(9)

حيث شاء، قال: فما أصنع؟ قالت: تَتَّقي اللهَ وحده لا شريك له، وتتَّبع سُنَّةَ صاحِبَيْكَ من قبلك، فإنك متى أطعت مروان قَتَلَك ومروان ليس له عند أحد

(10)

قدرٌ ولا هَيْبَةٌ ولا محبةٌ، فأرسلْ إلى علي فاستصلحه فإن له قرابةً منك وهو

(1)

في أ: بلغ، والروايتان واردتان للمثل: انظر معجم الأمثال العربية لرياض عبد الحميد مراد (1/ 201 و 377 و 442) وفيه ذكر لمصادر المثل، ويضرب هذا المثل للأمر يبلغ غايته في الشدّة والصعوبة، وهو أيضًا في جمهرة الأمثال للعسكري (1/ 220).

(2)

في أ: وخلف، والمثل في معجم الأمثال العربية (1/ 22) وفيه ذكر لمصادره: ويضرب أيضًا للأمر يبلغ غايته في الصعوبة والشدة.

(3)

في أ: تقريب التوبة، وما هنا موافق للطبري (4/ 362).

(4)

شاهت الوجوه: قبحت. اللسان (شوه).

(5)

مكان القوسين بياض في أ بقدر ثلاث كلمات.

(6)

الظعينة: الهودج تكون فيه المرأة أو لا تكون. اللسان (ظعن).

(7)

الصَّدَر نقيض الوَرْد ومعناه الرجوع، ويقال للذي يبتدئ أمرًا ثم لا يتمّه يورد ولا يُصْدر. اللسان (صدر).

(8)

كذا في أ، ط وفي تاريخ الطبري (4/ 362): شرفك؛ ولعلها هي الأشبه.

(9)

الزيادة عن تاريخ الطبري (4/ 362).

(10)

في ط: عند الله، وفي تاريخ الطبري: عند الناس.

ص: 318

لا يُعصى. قال فأرسل عثمان إلى علي فأبى أن يأتيه، وقال: قد أعلمته أني لست بعائد.

قال: وبلغ مروان قول نائلة (فيه فجاء إلى عثمان فقال: أتكلَّم أو أسكت؟ فقال: تكلَّم، فقال: إن نائلة) بنت الفرافصة. - فقال

(1)

عثمان لا تذكرها بحرف فأسوِّئ

(2)

لك وجهك، فهي والله أنصح لي منك. (قال: فكف مروان).

‌ذِكْرُ مجيء الأحزابِ إلى عثمان للمرَّةِ الثانية من مصر [وغيرها في شوال من هذه السنة]

وذلك أن أهل الأمصار لما بلغهم خبر مروان، وغضب علي على عثمان بسببه، ووجدوا الأمر على ما كان عليه لم يتغير (ولم يسلك سيرة صاحبيه) فكاتب أهل مصر وأهل الكوفة و (أهل) البصرة وتراسلوا، وزُوِّرتْ كتبٌ على لسان الصحابة الذين بالمدينة، وعلى لسان عليٍّ وطلحة والزبير، يدعون الناس إلى قتال عثمان ونُصرة الدين، وأنه أكبر الجهاد اليوم.

وذكر

(3)

سيف بن عمر التميمي عن محمد وطلحة وأبي حارثة وأبي عثمان، وقاله غيرهم أيضًا، قالوا: لما كان في شوال سنة خمس وثلاثين، خرج أهل مصر في أربع رِفاق على أربعة أمراء، المُقَلِّلُ لهم يقول ستمئة، والمُكْثِرُ يقول: ألف. على الرفاق عبد الرحمن بن عُدَيْس البَلَوي. وكنانة بن بشر اللَّيثي

(4)

، وسُودان بن حُمْران السَّكوني، وقُتَيْرة

(5)

السَّكوني، وعلى القوم جميعًا الغافقي بن حرب العَكّي، وخرجوا فيما يظهرون للناس حجاجًا، ومعهم ابن السوداء -وكان أصله ذميًا فأظهر الإسلام وأحدث بدعًا قوليةً وفعليةً، قبحه الله- وخرج أهل الكوفة في عدتهم في أربع رفاق (أيضًا)، وأمراؤهم: زيد بن صُوحان، والأشتر النَّخعي، وزياد بن النَّضْر الحارثي، وعبد الله بن الأصمّ، وعلى الجميع عمرو بن الأصَمّ. وخرج أهل البصرة في عدتهم أيضًا في أربع رايات مع حُكَيْم بن جَبَلَة العَبْدي، وبشر بن شُرَيْح بن ضُبَيْعة القيسي، وذَريح بن عباد العبدي، وعليهم كلّهم حرقوص بن زهير السعدي، وأهل مصر مصرون على ولاية علي بن أبي طالب، وأهل الكوفة عازمون على تأمير الزُّبير، وأهل البصرة مصممون على تولية طلحة. لا تشكّ كلّ فرقةٍ أن أمرها سيتمّ، فسار كل طائفة من بلدهم حتى توافوا حول المدينة، كما تواعدوا في كتبهم، في شهر شوال فنزل طائفة منهم بذي خُشُبٍ، وطائفة بالأعْوَص، والجمهور بذي المروَة، وهم على وجل من أهل المدينة، فبعثوا قصَّادًا وعيونًا بين أيديهم ليخبروا الناس

(1)

في أ: فقال له.

(2)

في ط: فأسوء إلى وجهك.

(3)

في أ: وأنه أكبر الجهاد البر، وقال سيف .. والخبر في تاريخ الطبري (4/ 348).

(4)

في تاريخ الطبري: التجيبي. وقد تقدم.

(5)

في تاريخ الطبري: قتيرة بن فلان السَّكوني.

ص: 319

أنهم [إنما] جاؤوا للحجّ لا لغيره، وليستعفوا هذا الوالي من بعض عماله، ما جئنا إلا لذلك، واستأذنوا للدخول

(1)

، فكُلُّ الناس أبى دخولهم ونهى عنه، فتجاسروا واقتربوا من المدينة، وجاءت طائفة من المصريين إلى علي وهو في

(2)

عسكر عند أحجار الزيت

(3)

، عليه حلّة أفواف

(4)

، معتم بشُقَيْقَةٍ

(5)

حمراء يمانية، متقلدًا السيف وليس عليه قميص.

وقد سَرَّحَ

(6)

ابنَه الحسنَ إلى عثمان فيمن اجتمع إليه، فسلّم عليه المصريون فصاح بهم وطردهم، وقال: لقد علم الصالحون أن جيش ذي المروة وذي خُشُبٍ ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم، فارجعوا لا صبَّحكم الله، قالوا: نعم! وانصرفوا من عنده على ذلك، وأتى البصريون طلحة وهو في جماعة أخرى إلى جنب -وقد أرسل ابنيه إلى عثمان- فسلّموا عليه فصاح بهم واطَّردهم وقال لهم كما قال عليّ لأهل مصر، وكذلك كان ردّ الزُّبير على أهل الكوفة، فرجع كل فريق (منهم) إلى قومهم، وأظهروا للناس أنهم راجعون إلى بلدانهم، وساروا أيامًا راجعين، ثم كرّوا عائدين إلى المدينة، فما كان غير قليل حتى سمع أهل المدينة التكبير، وإذا القوم قد زحفوا على المدينة وأحاطوا بها، وجمهورهم عند دار عثمان بن عفان وقالوا للناس: منْ كفَّ يده فهو آمنٌ، فكفَّ الناسُ ولزموا بيوتَهم، وأقام الناسُ على ذلك أيامًا. هذا كلُّه ولا يدري (الناس) ما القوم صانعون، ولا على ما هم عازمون، وفي كل ذلك أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه يخرج من داره فيصلّي بالناس، فيصلّي وراءه أهلُ المدينة وأولئك الآخرون، وذهب الصحابة إلى هؤلاء يؤنبونهم ويعذلونهم على رجوعهم، حتى قال علي لأهل مصر: ما رَدَّكُم بعد ذهابكم ورجوعكم عن رأيكم؟ فقالوا: وجدنا مع بريد كتابًا بقتلنا - وكذلك قال البصريون لطلحة، والكوفيون للزبير. وقال أهل كل مصر: إنما جئنا

(7)

لننصر أصحابنا. فقال لهم الصحابة: كيف علمتم بذلك من أصحابكم، وقد افترقتم وصار بينكم مراحل؟ إنما هذا أمر اتفقتم عليه، فقالوا: ضعوه على ما أردتم، لا حاجة لنا في هذا الرجل، ليعتزلنا ونحن نعتزله -يعنون (أنه) إن نزل عن الخلافة تركوه آمنًا- وكان المصريون فيما ذ كر، لما رجعوا إلى بلادهم

(8)

وجدوا في الطريق بريدًا يسير،

(1)

في أ: واستأذنوا في الدخول.

(2)

في أ: وهو على عسكر.

(3)

أحجار الزيت: موضع بالمدينة قريب من الزوراء، وهو موضع صلاة الاستسقاء. معجم البلدان (1/ 109).

(4)

في أ: حلّة أثواب، والفوف: ضرب من برود اليمن. وفي حديث عثمان: خرج وعليه حلة أفواف. الأفواف فوف وهو القطن، وواحدة الفوف: فوفة، يقال برد أفواف وحلةٍ أفواف. اللسان (فوف).

(5)

الشُّقة: جنس من الثياب، وتصغيرها شُقَيقة، وقيل هي نصف ثوب. اللسان (شقق).

(6)

في ط: أرسل، وهما بمعنى. والخبر في تاريخ الطبري (4/ 350).

(7)

في أ: رجعنا.

(8)

في أ: بلدتهم.

ص: 320

فأخذوه ففتشوه، فإذا معه في إداوة كتابًا

(1)

على لسان عثمان فيه الأمر بقتل طائفة (منهم)، وبصلب آخرين، وبقطع أيدي آخرين منهم وأرجلهم، وكان على الكتاب طابع بخاتم عثمان، والبريد أحد غلمان عثمان وعلى جَمَله، فلما رجعوا جاؤوا بالكتاب وداروا به على الناس، فكلَّم الناسُ أميرَ المؤمنين في ذلك، فقال بيِّنةٌ عليَّ بذلك وإلا فوالله لا كتبت

(2)

ولا أمليت، ولا دريت بشيء من ذلك، والخاتم قد يزوّر على الخاتم، فصدَّقه الصادقون في ذلك، وكذَّبه الكاذبون.

ويقال: إن أهل مصر كانوا قد سألوا من عثمان أن يعزل عنهم ابن أبي سَرْح، ويُولِّي محمد بن أبي بكر، فأجابهم إلى ذلك، فلما وجدوا

(3)

ذلك البريد ومعه الكتاب بقتل محمد بن أبي بكر [وآخرين معه] فرجعوا

(4)

وقد حنقوا عليه حنقًا شديدًا، وطافوا بالكتاب على الناس، فدخل ذلك في أذهان كثير من الناس.

وروى ابن جرير

(5)

من طريق محمد بن إسحاق، عن عمه عبد الرحمن بن يسار، أن الذي كان معه هذه الرسالة من جهة عثمان إلى مصر أبو الأعور السُّلمي، على جَمَلٍ لعثمان.

وذكر ابن جرير

(6)

من هذه الطريق أن الصحابة كتبوا إلى الآفاق من المدينة يأمرون الناس بالقدوم على عثمان ليقاتلوه، وهذا كذب على الصحابة، وإنما كُتبت كتبٌ مزورةٌ عليهم، كم كتبوا من جهة علي وطلحة والزبير إلى الخوارج كتبًا مزورة عليهم أنكروها، وهكذا زور هذا الكتاب على عثمان أيضًا، فإنه لم يأمر به ولم يعلم به أيضًا. واستمرّ عثمان يصلّي بالناس في تلك الأيام كلها، وهم أحقر في عينه من التراب، فلمّا كان في بعض الجمعات وقام على المنبر، وفي يده العصا التي كان يعتمد عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته، وكذلك أبو بكر وعمر رضي الله عنهما من بعده، فقام إليه رجل من أولئك فسبَّه ونال منه، وأنزله عن المنبر، فطمع الناس فيه من يومئذ، كما قال الواقدي

(7)

: حدَّثني أسامة بن زيد، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، عن أبيه، قال: بينا أنا أنظر إلى عثمان [يخطب] على عصا النبي صلى الله عليه وسلم التي كان يخطب عليها وأبو بكر وعمر، فقال له جهجاه: قم يا نعثل

(8)

فانزل عن هذا المنبر، وأخذ العصا فكسرها على ركبته اليمنى فدخلت شظية منها (فيها) فبقي الجرح حتى أصابته الأكَلَة، فرأيتها تدوِّد،

(1)

الصواب أن يقال: كتاب.

(2)

في أ: ما كتبت.

(3)

في أ: فلما رجعوا وجدوا.

(4)

في الأصل: فأجابهم إلى ذلك، وهي مكررة.

(5)

تاريخه (4/ 363).

(6)

المصدر نفسه (4/ 369).

(7)

الخبر في تاريخ الطبري (4/ 366 - 367).

(8)

"نعثل": رجل من أهل مصر، كان طويل اللحية، قيل إنه كان يشبه عثمان رضي الله عنه، وكان عثمان إذا نيل منه وعيب شُبِّه بهذا الرجل المصري لطول لحيته، ولم يكونوا يجدون فيه عيبًا غير هذا. اللسان (نعثل).

ص: 321

فنزل عثمان (وحملوه) وأمر بالعصا فشدوها، فكانت مضببة، فما خرج بعد ذلك اليوم إلا خَرْجَة أو خرجتين، حتى حُصِر فقتل.

قال ابن جرير: وحدَّثنا أحمد بن إبراهيم، حدَّثنا عبد الله بن إدريس، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع: أنَّ الجهجاه الغِفاري أخذ عصًا كانت في يد عثمان فكسرها على ركبته، فرُمي في ذلك المكان بأكَلَةٍ.

وقال الواقدي

(1)

: وحدَّثني ابن أبي الزناد، عن موسى بن عُقْبة، عن أبي حَبيبة قال: خطب عثمان الناسِ في بعض أيامه فقال عمرو بن العاص: يا أمير المؤمنين إنك قد ركبت نهابير

(2)

وركبناها معك، فتُبْ نَتُبْ (معك). فاستقبلَ عثمانُ القبلةَ وشهرَ يديه.

قال أبو حبيبة: فلم أرَ يومًا أكثر باكيًا ولا باكيةً من يومئذ. ثم لما كان بعد ذلك خطب الناس فقام إليه جهجاه الغفاري فصاح (إليه): يا عثمانُ ألا إن هذه شارف

(3)

قد جئنا بها عليها عباءة وجامعة

(4)

، فانزل فلندرجك في العباءة ولنَطْرَحكَ في الجامِعَةِ ولنَحْملْكَ على الشَّارِفِ ثم نَطْرحكَ في جبل الدخان. فقال عثمان: قبَّحكَ اللهُ وقبَّح ما جئتَ به، ثمّ نزل عثمان. قال أبو حبيبة: وكان آخر يومٍ رأيتُه فيه.

وقال الواقدي: حدَّثني أبو بكر بن إسماعيل، عن أبيه، عن عامر بن سعد. قال: كان أول من اجترأ على عثمان بالنُّطْقِ السيِّء جَبَلة بن عمرو الساعدي؛ مرَّ به عثمان وهو في نادي قومه، وفي يد جبلة جامعة، فلما مرَّ عثمان سلَّم فردَّ القومُ، فقال جبلة: لم تردُّون عليه؟ رجل قال كذا وكذا، ثمّ أقبل على عثمان فقال: والله لأطرحنَّ هذه الجامعة في عنقكَ أو لتتركنَّ بطانتك هذه، فقال عثمان: أيّ بطانة؟ فوالله [إني] لأتخيَّر الناسَ، فقال: مروان تخيرته، ومعاوية تخيرته، وعبد الله بن عامر بن كُرَيْز تخيرته، وعبد الله بن سعد بن أبي سَرْحٍ تخيرته، منهم من نزل القرآن بذمّه، وأباح رسول الله صلى الله عليه وسلم دمه، قال فانصرف عثمان فما زال الناس مجترئين عليه إلى هذا اليوم.

قال الواقدي: وحدَّثني محمد بن صالح، عن عبيد الله بن رافع بن نقاخة، عن عثمان بن الشَّريد. قال: مرّ عثمان على جبلة بن عمرو الساعديّ وهو بفناء داره، ومعه جامعة، فقال يا نَعْثَلُ! والله لأقتلنَّك ولأحملنَّك على قَلوصٍ جَرْباء، ولأخرجنَّك إلى حرَّةِ النارِ. ثمّ جاءه مرةً أخرى، وعثمانُ على المنبر فأنزله عنه.

وذكر سيف بن عمر أن عثمان بعد أن صلَّى بالناس يوم الجمعة صعد المنبر فخطبهم أيضًا فقال في خطبته: يا هؤلاء الغرباء! الله الله، فوالله إن أهل الفدينة ليعلمون أنكم ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم،

(1)

الخبر في تاريخ الطبري (4/ 366).

(2)

النهابر والنهاير: المهالك. القاموس.

(3)

الشارف من الإبل: المسنّ أو المسنّة. اللسان (شرف).

(4)

الجامعة: القيد.

ص: 322

فامحوا الخطأ

(1)

بالصواب، فإنَّ الله لا يمحو السيِّء إلا بالحسن، فقام محمد بن مسلمة فقال: أنا أشهد بذلك، فأخذه حكيم بن جبلة فأقعده، فقام زيد بن ثابت فقال: إنه في الكتاب. فثار إليه من ناحية أخرى محمد بن أبي مريرة

(2)

فأقعده وقال: يا نطع، وثار القوم بأجمعهم فحصبوا الناس حتى أخرجوهم من المسجد، وحصبوا عثمان حتى صرع من المنبر مغشيًا عليه، فاحتمل وأدخل داره، وكان المصريون لا يطمعون في أحد من الناس أن يساعدهم إلا محمد بن أبي بكر، ومحمد بن جعفر، وعمار بن ياسر.

وأقبل علي وطلحة والزبير إلى عثمان في أناس يعودونه ويشكون إليه بثَّهم وما حلَّ بالناس، ثمّ رجعوا إلى منازلهم، واستقبل جماعة من الصحابة، منهم أبو هريرة، وابن عمر، وزيد بن ثابت في المحاربة عن عثمان، فبعث إليهم يقسم عليهم لما كفوا أيديهم وسكنوا حتى يقضي الله ما يشاء.

‌ذكر

(3)

حصر أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه

لما وقع ما وقع يومَ الجمعة، وشُجَّ أميرُ المؤمنين عثمانُ، وهو في رأس المنبر، وسقط مغشيًا عليه، واحتملَ إلى داره وتفاقم الأمرُ، وطمع فيه أولئك الأجلافُ الأخلاطُ من الناس، وألجؤوه إلى داره وضيَّقوا عليه، وأحاطوا بها محاصرين له، ولزم كثيرٌ من الصحابة بيوتهم، وسار إليه جماعة من أبناء الصحابة، عن أمر آبائهم، منهم الحسن والحسين، وعبد الله بن الزبير -وكان أمير الدار- وعبد الله بن عمرو، وصاروا يحاجّون عنه، ويناضلون دونه أن يصل إليه أحد منهم، وأسلمه بعض الناس رجاء أن يجيب أولئك إلى واحدة مما سألوا، فإنهم كانوا قد طلبوا منه إما أن يعزل نفسه، أو يسلِّم إليهم مروانَ بن الحكم، ولم يقع في خلد أحد أن القتل كان في نفس الخارجين

(4)

، وانقطع عثمان عن المسجد فكان لا يخرج إلا قليلا في أوائل الأمر، ثم انقطع بالكلية في آخره، وكان يصلي (بالناس) في هذه الأيام الغافقي بن حرب. وقد استمر الحصر

(5)

أكثر من شهر. وقيل أربعين يومًا. حتى كان آخر ذلك أنْ قُتلَ شهيدًا رضي الله عنه، على ما سنبينه إن شاء الله تعالى.

والذي ذكره ابن جرير أنَّ الذي كان يصلِّي بالناس في هذه المدة وعثمان محصور، طلحة بن عبيد الله

(6)

.

وروى الواقديّ أن عليًا صلى أيضًا، وصلى أبو أيوب، وصلى بهم سهل بن حُنَيْف، وكان يجمع

(1)

في أ: الخطايا.

(2)

في أ: مرة.

(3)

في أ: صفة حصر أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه.

(4)

في أ: أن يقتل كما كان في أنفس أولئك الخارجين عليه.

(5)

في أ: الحصار.

(6)

بعدها في ط: "وفي صحيح البخاري عن". وفي هامشه إشارة إلى هذا الانقطاع.

ص: 323

بهم علي، وهو الذي صلّى بهم بعد

(1)

، وقد خاطب الناس في غبوب ذلك بأشياء، وجرت أمور سنورد منها ما تيسر وبالله المستعان.

قال الإمام أحمد

(2)

: حدَّثنا بهز، حدَّثنا أبو عوانة، حدَّثنا حصين، عن عمرو بن جاوان قال: قال الأحنف: انطلقنا حجاجًا فمررنا بالمدينة، فبينا نحن في منزلنا إذ جاءنا آتٍ فقال: الناس [من فزع](في المسجد)، فانطلقتُ أنا وصاحبي، فإذا الناسُ مجتمعون على نفرٍ في المسجد، قال: فتخللتهم حتى قمت عليهم، فإذا علي بن أبي طالب والزبير وطلحة وسعد بن أبي وقاص، قال: فلم يكن ذلك بأسرع من أن جاء عثمان يمشي، فقال: ها هنا علي؟ قالوا: نعم! قال: ها هنا الزبير؟ قالوا نعم! قال: ها هنا طلحة؟ قالوا: نعم! قال: ها هنا سعد (بن أبي وقاص)؟ قالوا: نعم! قال: أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو، أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من يبتاع مربد بني فلان غفر الله له" فابتعته فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إني قد ابتعته، فقال:"اجعله في مسجدنا وأجره لك" قالوا: نعم! قال: أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو أتعلمون أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من يبتاع بئر رومة" فابتعتها بكذا وكذا، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت إني (قد) ابتعتُها -يعني بئر رومة- قال:"اجعلها سقاية للمسلمين وأجرها لك"

(3)

قالوا: نعم! قال: أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر في وجوه القوم يوم جيش العُسْرة فقال: "من يجهز هؤلاء غفر الله له" فجهزتهم حتى ما يفقدون خطامًا ولا عقالًا؟ قالوا: اللهم نعم! قال

(4)

: اللهم اشهد، اللهم اشهد، اللهم اشهد، ثم انصرف.

ورواه النسائي

(5)

من حديث حصين وعنده: إذ جاء عثمان

(6)

وعليه ملاءة صفراء.

‌طريق أخرى

قال عبد الله بن أحمد

(7)

: حدَّثني عبيد الله

(8)

بن عمر القواريري، حدَّثني القاسم بن الحكم بن أوس الأنصاري، حدَّثني أبو عبادة الزُّرقي الأنصاري، من أهل المدينة، عن زيد بن أسلم عن أبيه. قال: شهدت عثمان يوم حصر في موضع الجنائز، ولو أُلْقي حجرٌ لم يقع إلا على رأس رجل، فرأيتُ عثمان أشرف من الخوخة التي تلي مقام جبريل، فقال: أيها الناس! أفيكم طلحة؟ فسكتوا، ثم قال: أيها

(1)

في أ: صلّى بهم العيد.

(2)

مسند أحمد (1/ 70 - 71) وهو حديث صحيح بطرقه.

(3)

في ط: "ولك أجرها"، وما هنا من أ ومسند أحمد.

(4)

في ط: "فقال" وما هنا من أ ومسند أحمد.

(5)

السنن الكبرى (6/ 141) في وقف المساجد رقم (6433).

(6)

في ط: "رجل" وما هنا من أ وسنن النسائي.

(7)

مسند أحمد (1/ 75) وإسناده ضعيف.

(8)

في المطبوع: عبد الله، والتصحيح من كتب الرجال.

ص: 324

الناس: أفيكم طلحة؟ فسكتوا، ثم قال: أيها الناس! أفيكم طلحة

(1)

؟ فقام طلحة بن عبيد الله، فقال له عثمان: ألا أراك ها هنا؟ ما كنت أرى أنك تكون في جماعة قوم تسمع ندائي إلى آخر ثلاث مرات، ثم لا تجيبني؟ أنشدك الله يا طلحة تذكر يوم كنت أنا وأنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في موضع كذا وكذا، ليس معه أحد من أصحابه غيري وغيرك؟ فقال: نعم! قال: فقال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا طلحة إنه ليس من نبي إلا ومعه من أصحابه رفيق من أمته معه في الجنة، وإن عثمان بن عفان هذا (يعنيني) رفيقي معي في الجنة" فقال طلحة: اللهم نعم! ثم انصرف، لم يخرجوه.

‌طريق أخرى

قال عبد الله بن أحمد

(2)

: حدَّثنا محمد بن أبي بكر المقدمي، حدَّثنا محمد بن عبد الله الأنصاري، حدَّثنا هلال بن حِقٍّ

(3)

، عن الجريري، عن ثمامة بن حَزْن

(4)

القشيري. قال: شهدت الدار يوم أصيب عثمان، فأطلع عليهم اطلاعة، فقال ادعوا لي صاحبيكم اللذين ألبّاكم عليَّ، فدعيا له؛ فقال: أنشدكما الله أتعلمان

(5)

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة ضاق المسجد بأهله، فقال: مَنْ يشتري هذه البقعة من خالص ماله فيكون فيها كالمسلمين، وله خير منها في الجنة"؟ فاشتريتُها من خالص مالي، فجعلتُها بين المسلمين، وأنتم تمنعوني أن أصلي فيه ركعتين. ثم قال: أنشدكم الله أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة لم يكن فيها بئر يستعذب منه إلا (بئر) رومة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "منْ يشتريها من خالص ماله فيكون دلوه فيها كدلاء المسلمين، وله خير منها في الجنة"؟ فاشتريتُها من (خالص) مالي، وأنتم تمنعوني أن أشرب منها. ثم قال: هل تعلمون أني صاحب جيش العُسْرة؟ قالوا: اللهم نعم!.

وقد رواه الترمذي

(6)

: عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي

(7)

وعباس الدُّوري وغير واحد.

وأخرجه النسائي

(8)

: عن زياد بن أيوب كلهم عن سعيد بن عامر، عن يحيى بن أبي الحجاج المنقري

(9)

، عن أبي مسعود الجُرَيري به، وقال الترمذي: حسن صحيح

(10)

.

(1)

في أ: طلحة بن عبيد الله.

(2)

مسند أحمد (1/ 74 - 75) وإسناده حسن.

(3)

في الأصل والمطبوع: هلال بن إسحاق، والتصحيح من كتب الرجال.

(4)

في ط: جزء؛ خطأ.

(5)

في أ: أتعلمون.

(6)

جامع الترمذي (3703) في المناقب.

(7)

في أ: الرازي.

(8)

السنن الكبرى (6/ 143) رقم (6435) في وقف المساجد، وفي المجتبى للنسائي رقم (3608).

(9)

في أ: البصري، وهو منقري بصري. ينظر تهذيب الكمال (31/ 263).

(10)

هكذا نقل عن الترمذي ولا يصح، فإن الإمام الترمذي اقتصر على تحسينه حسب، كما في المطبوع منه، وكما نص =

ص: 325

‌طريق أخرى

قال الإمام أحمد

(1)

: حدَّثنا عبد الصمد

(2)

، حدَّثنا القاسم -يعني ابن الفضل

(3)

- حدَّثنا عمرو بن مرة، عن سالم بن أبي الجعد، قال: دعا عثمان رجالًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيهم عمار بن ياسر، فقال: إني سائلكم وإني أحب أن تصدقوني، نشدتكم

(4)

الله أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُؤْثر قريشًا على الناس، ويُؤْثر بني هاشم على سائر قريش؟ فسكت القوم. فقال: لو أن بيدي مفاتيح الجنة لأعطيتها بني أمية حتى يدخلوا من عند آخرهم. فبعث (إلى) طلحة والزبير فقال عثمان: ألا أحدثكما عنه -يعني (عمارًا) - أقبلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. أخذ بيدي نتمشَّى في البطحاء حتى أتى على أبيه وأمه وهم يعذبون، فقال أبو عمار: يا رسول الله، الدهر هكذا؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"اصبر" ثم قال: "اللهم اغفر لآل ياسر وقد فعلت". تفرَّد به أحمد ولم يخرجه أحدٌ من أصحاب الكتب.

‌طريق أخرى

قال الإمام أحمد

(5)

: حدَّثنا إسحاق بن سليمان، سمعت مغيرة بن مسلم أبا سلمة

(6)

يذكر عن مطرٍ، عن نافع، عن ابن عمر: أن عثمان أشرف على أصحابه وهو محصور، فقال: علام تقتلونني؟ فإني سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث، رجل زنى بعد إحصانه فعليه الرَّجْمُ، أو قتل عمدًا فعليه القود

(7)

، أو ارتدَّ بعد إسلامه فعليه القتل". فوالله ما زنيتُ في جاهليةٍ ولا إسلامٍ، ولا قتلتُ أحدًا فأُقيد نفسي

(8)

منه، ولا ارتددتُ منذ أسلمتُ، إني أشهدُ أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله.

رواه النسائي

(9)

عن أحمد بن الأزهر، عن إسحاق بن سليمان (به).

= عليه المزي في تحفة الأشراف (6/ 536 من طبعة الدكتور بشار). وفي إسناد الترمذي يحيى بن أبي الحجاج لين الحديث، لكن تابعه هلال بن حق، وهو صدوق، فتحسن الحديث (بشار).

(1)

مسند أحمد (1/ 62) وإسناده ضعيف لانقطاعه.

(2)

في أ: عبد الله؛ خطأ.

(3)

في ط: المفضل؛ وهو خطأ، والتصحيح من كتب الرجال.

(4)

في أ: أنشدكم.

(5)

مسند أحمد (1/ 63) وهو حديث حسن.

(6)

في ط: معاوية بن سلم أن سلمة، خطأ، والتصحيح من كتب الرجال.

(7)

في ط: القتل، وما هنا موافق للمسند.

(8)

القَوَد: القصاص، وأقاد الأمير القاتل بالقتيل: قتله به قودًا. المصباح المنير (قود).

(9)

سنن النسائي (7/ 103) رقم (4057).

ص: 326

‌طريق أخرى

قال الإمام أحمد

(1)

: حدَّثنا عفان، حدَّثنا حماد بن زيد، حدَّثنا يحيى بن سعيد، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، قال: كنت مع عثمان في الدار، وهو محصورٌ، قال: وكُنَّا ندخل مدخلًا إذا دخلناه سمعنا كلامَ منْ على البلاط، قال: فدخل عثمان يومًا لحاجته فخرج إلينا منتقعًا لونه، فقال، إنهم ليتواعدوني بالقتل آنفًا. قال: فقلنا يكفيكهم الله يا أمير المؤمنين، قال: وبم يقتلونني؟ فإنّي سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يحلُّ دمُ امرئٍ مسلم إلا بإحدى ثلاث، رجل كفر بعد إسلامه، أو زنى بعد إحصانه، أو قتل نفسًا بغير نفس" فوالله ما زنيتُ في جاهليةٍ ولا إسلام قطُّ، ولا تمنيتُ بدلًا بديني منذ هداني الله له، ولا قتلتُ نفسًا، فبم يقتلونني؟.

وقد رواه أهل السنن الأربعة

(2)

من حديث حماد بن زيد، عن يحيى بن سعيد، حدَّثني أبو أمامة

(3)

. زاد النسائي: وعبد الله بن عامر بن ربيعة قالا: كنّا مع عثمان، فذكره. (وقال الترمذي: حسن. وقد رواه حماد بن سلمة عن يحيى بن سعيد فرفعه).

‌طريق أخرى

قال الإمام أحمد

(4)

: حدَّثنا [أبو قطن]، حدَّثنا يونس -يعني ابن أبي إسحاق- عن أبيه، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، قال: أشرف عثمان (من القصر) وهو محصور، فقال: أنشد بالله من شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حِراء إذ اهتزَّ الجبل فركله

(5)

بقدمه ثم قال: "اسكن حراءُ، ليس عليكَ إلا نبيٌّ أو صديقٌ أو شهيدٌ" وأنا معه، فانتشد له رجال. ثم قال: أنشد بالله من شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم[يوم] بيعة الرضوان إذ بعثني إلى المشركين إلى أهل مكة فقال: "هذه يدي وهذه يد عثمان"

(6)

. فبايع لي؟ فانتشد له رجالٌ. ثم أنشد بالله من شهدَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "من يوسِّع

(7)

لنا بهذا البيت في المسجد ببيت

(8)

له

(1)

مسند أحمد (1/ 65) وهو حديث صحيح.

(2)

وسنن الترمذي (2158) في الفتن، وسنن أبي داود (4502) في الديات، وسنن ابن ماجه (2533) في الحدود. سنن النسائي (7/ 91 - 92) رقم (4019).

(3)

في ط: عن يحيى بن سعيد عن أبي أسامة.

(4)

مسند أحمد (1/ 59)، وهو حديث صحيح.

(5)

في أ: فوكزه. وما هنا موافق للمسند وتاريخ ابن عساكر -ترجمة عثمان- (342) والاستدراك عنه.

(6)

في ط بعد هذا: "ووضع يديه إحداهما على الأخرى" وليست في مسند أحمد ولا في (أ) ولم ترد في تاريخ دمشق (342) الذي ينقل من مسند أحمد.

(7)

في أ: من وسَّع.

(8)

في ط: بنيت له بيتًا في الجنة.

ص: 327

في الجنة" فابتعتُه من مالي فوسعتُ به المسجد. فانتشد له رجالٌ. ثم قال: وأنشد

(1)

بالله من شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم جيش العُسْرَة قال: "من ينفق اليوم نفقة متقبَّلة"؟ فجهزتُ نصفَ الجيش من مالي، فانتشد له رجال. (ثم) قال: وأنشد الله من شهد رومة يباع ماؤها ابنَ السبيل، فابتعتها من مالي فأبحتُها ابن السبيل قال: فانتشد له رجال.

ورواه النسائي

(2)

عن عمران بن بكار، عن خطاب بن عثمان، عن عيسى بن يونس بن أبي إسحاق، عن أبيه، عن جده أبي إسحاق السبيعي به.

وقد ذكر ابنُ جرير

(3)

أن عثمان رضي الله عنه لمّا رأى ما فعل هؤلاء الخوارج من أهل الأمصار، من محاصرته في داره، ومنعه الخروج إلى المسجد، كتب إلى معاوية بالشام وإلى ابن عامر بالبصرة وإلى أهل الكوفة، يستنجدهم في بعث جيش يطردون هؤلاء من المدينة، فبعث معاويةُ مسلمةَ بن حبيب، وانتدب يزيد بن أسد القشيري في جيش، وبعث أهل الكوفة جيشًا، وأهل البصرة جيشًا، فلما سمع أولئك بخروج الجيوش إليهم صمَّمُوا في الحصار، فما اقترب الجيوش إلى المدينة حتى جاءهم قتلُ عثمان رضي الله عنه كما سنذكره.

وذكر ابن جرير

(4)

أن عثمان استدعى الأشتر النخعي ووضعت لعثمان وسادة في كُوَّة من داره، فأشرف على الناس، فقال له عثمان: يا أشتر ماذا يريدون

(5)

؟ فقال: إنهم يريدون منك إما أن تعزل (نفسك) عن الإمرة، وإما أن تُقيدَ من نفسك منْ قد ضربتَه؛ أو جلدتَه، أو حبستَه، وإما أن يقتلوك. وفي رواية أنهم طلبوا منه أن يعزل نوابَه عن الأمصار ويولّي عليها منْ يريدون هم، وإن لم يعزل نفسه أن يسلم لهم

(6)

مروان بن الحكم فيعاقبوه كما زوّر على عثمان كتابه إلى مصر، فخشي عثمان إن سلمه إليهم أن يقتلوه، فيكون سببًا في قتل امرئ مسلم، وما فعل من الأمر ما يستحقّ بسببه القتل، واعتذر عن الاقتصاص مما قالوا بأنه رجل ضعيف البدن كبير السن. وأما ما سألوه من خلعه

(7)

نفسه فأنه لا يفعل [ذلك] ولا ينزع قميصًا قمصه الله إياه، ويترك أمة محمد يعدو بعضها على بعض (ويولي السفهاء من الناس من يختاروه هم فيقع الهرج ويفسد الأمر بسبب ذلك، ووقع الأمر كما ظنه فسدت الأمة ووقع الهرج)، وقال لهم فيما قال. وأي شيء إليَّ من الأمر إنْ كنتُ كلمّا كرهتم أميرًا عزلتُه، وكلما رضيتُم

(1)

في ط: أنشد.

(2)

سنن النسائي (6/ 236).

(3)

تاريخه (4/ 368 - 369).

(4)

تاريخه (4/ 371).

(5)

في أ: ماذا تريدون.

(6)

في أ: إليهم.

(7)

في أ: من خلع نفسه.

ص: 328

عنه ولَّيته؟ وقال لهم فيما قال: واللهِ لئن قتلتموني لا تتحابُّوا بعدي، ولا تصلّوا جميعًا أبدًا، ولا تقاتلوا بعدي عدوًا جميعًا أبدًا، وقد صدق رضي الله عنه فيما قال.

وقال الإمام أحمد

(1)

: حدَّثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدَّثنا معاوية بن صالح، عن ربيعة بن يزيد، عن عبد الله بن أبي قيس، حدَّثني النعمان بن بشير قال: كتب معي معاوية إلى عائشة كتابًا فدفعت إليها كتابه، فحدثتني أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعثمان:"إن الله لعله يقمّصك قميصًا، فإن أرادك أحدٌ على خلعه فلا تخلعه" ثلاث مرات، قال النعمان: فقلت يا أمَّ المؤمنين! فأين كنت عن هذا الحديث؟ فقالت: يا بني والله أُنسيتُه.

وقد رواه الترمذي

(2)

من حديث اللَّيث، عن معاوية بن صالح

(3)

، عن ربيعة بن يزيد، عن عبد الله بن عامر

(4)

، عن النعمان، عن عائشة به. ثم قال: هذا حديث حسن غريب.

ورواه ابن ماجه

(5)

من حديث الفرج بن فضالة عن ربيعة بن يزيد، عن النعمان، فأسقط عبد الله

(6)

ابن عامر.

[قال الإمام أحمد

(7)

: حدّثنا يحيى، عن إسماعيل

(8)

، حدَّثنا قيس، عن أبي سهلة، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ادعوا لي بعض أصحابي" قلت: أبو بكر؟ قال: "لا" قلت: عمر؟ قال: "لا" قلت: ابن عمك عليّ؟ قال: "لا" قالت: قلت: عثمان؟ قال: "نعم" فلما جاء قال: "تَنَحّيْ" فجعل يسارُّه، ولون عثمان يتغيَّر، فلما كان يوم الدار وحُصِرَ فيها، قلنا: يا أمير المؤمنين ألا تقاتل؟ قال: لا! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إليَّ عهدًا وإني

(9)

صابر نفسي عليه. تفرد به أحمد.

وقال الإمام أحمد

(10)

: حدَّثنا علي بن عياش، حدَّثنا الوليد بن مسلم، أخبرنا الأوزاعي، عن

(1)

مسند أحمد (6/ 149) والحديث أيضًا في تاريخ دمشق (278) وهو حديث صحيح.

(2)

جامع الترمذي (3705) في المناقب.

(3)

في أ: معاوية بن أبي صالح؛ خطأ، وأثبتنا الصحيح كما في تقريب التهذيب (538).

(4)

في أ: "عبد الملك بن عامر" وهو خطأ، وجاء على الصواب في طبعة الدكتور بشار من جامع الترمذي (6/ 73) وتحفة الأشراف للمزي (11/ 753 حديث 17675 من طبعة الدكتور بشار)، وعبد الله بن عامر هو اليحصبي القارئ من رجال التهذيب.

(5)

سنن ابن ماجه (112) في المقدمة وفيه الفرج بن فضالة وهو ضعيف، ولكن يشهد له حديث أحمد والترمذي الذي قبله، فهو حسن.

(6)

في أ: "عبد الملك" خطأ، كما بيناه قبل قليل.

(7)

مسند أحمد (6/ 52) وهو حديث صحيح.

(8)

في ط: يحيى بن إسماعيل؛ تحريف. وما هنا عن المسند وأ.

(9)

في أ: وأنا.

(10)

مسند أحمد (1/ 67) وإسناده ضعيف لانقطاعه.

ص: 329

محمد بن عبد الملك بن مروان أنَّه حدَّثه، عن المغيرة بن شعبة أنه دخل على عثمان وهو محصور فقال: إنَّك إمام العامَّة، وقد نزل بك ما ترى، وإنّي أعرضُ عليك خصالًا ثلاثًا، اختر إحداهن: إمَّا أن تخرج فتقاتلهم، فإن معك عددًا وقوة، وأنت على الحق، وهم على الباطل، وإمَّا أن نخرق لك بابًا سوى الباب الذي هم عليه فتقعد على رواحلك فتلحق بمكة، فإنَّهم لن يستحلوك وأنت بها، وإمّا أن تلحق بالشام، فإنَّهم أهل الشام، وفيهم معاوية. فقال رضي الله عنه: أما أن أخرج فأقاتل فلن أكون أولَ من خَلَفَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمته بسفك الدماء؛ وأما أن أخرج إلى مكة وإنهم لن يستحلوني بها، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"يُلْحدُ رَجُلٌ من قُرَيشٍ بمكَّةَ يكون عليه نصفُ عذابِ العالم" ولن أكون أنا [إيَّاه]؛ وأما أن ألحق بالشام فإنَّهم أهل الشام وفيهم معاوية؛ فلن أفارق دار هجرتي ومجاورة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقال أحمد

(1)

: حدَّثنا إسماعيل بن أبان الوراق، حدَّثنا يعقوب، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن ابن أبْزَى، عن عثمان قال: قال له [عبد الله بن] الزبير حين حُصِرَ: إن عندي رواحل قد أعددتها لك فهل لك أن تَحوَّلَ إلى مكة فيأتيك من أراد أن يأتيك. قال: لا، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"يُلْحدُ بمكة كَبْشٌ من قريش اسمه عبد الله عليه مثل [نصف] أوزار الناس". تفرَّد به، وهذا غريب جدًا وإسناد رجاله ثقات إلا يعقوب فإنه القمي -فيما يغلب على الظن- وهو شيعي فلعل الآفة منه]

(2)

.

وقال محمد بن عائذ الدمشقي. حدَّثنا الوليد بن مسلم، حدَّثنا عبد الله بن لهيعة، عن يزيد بن عمرو أنه سمع أبا ثور الفَهْمي

(3)

يقول: قدمت على عثمان، فبينا أنا عنده فخرجتُ، فإذا بوفد أهل مصر قد رجعوا، فدخلتُ على عثمان فأعلمته، قال: فكيف

(4)

رأيتهم؟ فقلت: رأيت في وجوههم الشر، وعليهم ابن عُدَيْس البَلَوي، فصعِد ابن عُدَيْس منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلّى بهم الجمعة، وتنقَّص عثمان في خطبته، فدخلتُ على عثمان، فأخبرته بما قال فيهم، فقال: كذب والله ابن عُدَيْس، ولولا ما ذكر ما ذكرت

(5)

، إني رابع أربعة في الإسلام، ولقد أنكحني رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنته ثمَّ توفيت، فأنكحني ابنته الأخرى، ولا زنيت ولا سَرقت في جاهلية ولا إسلام، ولا تعنَّيت ولا تمنّيت منذ أسلمت، ولا مسست فرجي بيميني منذ بايعت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولقد جمعت القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أتت عليّ جمعة إلا وأنا أعتق فيها رقبة منذ أسلمت، إلا أن لا أجدها في تلك الجمعة فأجمعها في الجمعة الثانية. ورواه يعقوب بن سفيان، عن عبد الله بن أبي بكر عن ابن لهيعة، قال: لقد اختبأت عند ربي عشرًا، فذكرهن

(6)

.

(1)

مسند أحمد (1/ 64).

(2)

وهذان الأثران ليسا في المطبوع.

(3)

في ط: الفقيمي: وهو تحريف.

(4)

في أ: فقال: وكيف.

(5)

في أ: ولولا ذكر ما ذكره إني رابع.

(6)

وفي إسناده ضعف.

ص: 330

‌فصل

كان الحصار مستمرًا من أواخر ذي القعدة إلى يوم الجمعة الثامن عشر من ذي الحجة، فلما كان قبل ذلك بيوم، قال عثمان للذين عنده في الدار من المهاجرين والأنصار - وكانوا قريبًا من سبعمئة، فيهم عبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير

(1)

والحسن والحسين ومروان وأبو هريرة وخلق من مواليه، ولو تركهم لمنعوه فقال لهم: أقسم على من لي عليه حق أن يكفّ يده وأن ينطلق إلى منزله، وعده من أعيان الصحابة وأبنائهم جمٌّ (غفير) وقال لرفيقه: من أغمد سيفه فهو حرٌّ. فبرد القتالُ من داخلٍ، وحمي من خارجٍ، واشتدَّ الأمرُ، وكان سببُ ذلك أن عثمان رأى في المنام رؤيا دلّت على اقتراب أجله فاستسلم لأمر الله رجاء موعوده، وشوقًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وليكن كخير ابني آدم حيث قال حين أراد أخوه قتله

(2)

: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 29] وروي أنّ آخرَ من خرجَ من عند عثمان من الدار، بعد أن عزم عليهم في الخروج، الحسنُ بن عليّ وقد خرج، وكان أمير الحرب على أهل الدار عبد الله بن الزبير رضي الله عنهم.

وروى موسى بن عقبة عن سالم أو نافع أن ابن (عمر) لم يلبس سلاحه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا يوم (الدار) ويوم نجدة الحروري.

قال أبو جعفر الرازي

(3)

، عن أيوب السّختياني، عن نافع، عن ابن عمر: أن عثمان رضي الله عنه أصبح يحدّث الناس، قال: رأيت النبيَّ في المنام فقال: "يا عثمانُ أفطر عندنا" فأصبح صائمًا وقُتل من يومه.

وقال سيف بن عمر، عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعُم، عن رجل قال: دخل عليه كثير بن الصلت فقال: يا أمير المؤمنين أخرجْ فاجلسْ بالفِناء فيرى (الناس) وجهَكَ فإنَّك إن فعلت ارتدعوا. فضحك وقال: يا كثير رأيت البارحة وكأنّي دخلتُ على نبي الله صلى الله عليه وسلم وعنده أبو بكر وعمر، فقال:"ارجع فإنَّك مُفْطرٌ عندي غدًا" ثم قال عثمان: ولن تغيب (الشمس) والله غدًا أو كذا وكذا إلا وأنا من أهل الآخرة قال: فوضع سعدٌ وأبو هريرة السلاحَ وأقبلا حتى دخلا على عثمان

(4)

.

وقال موسى بن عقبة: حدَّثني أبو علقمة -مولى لعبد الرحمن بن عوف- حدَّثني ابن الصَّلت قال: أغفى عثمانُ بن عفان في اليوم الذي قُتل فيه فاستيقظَ فقال: لولا أن يقول الناس تمنّى عثمان أمنيةً

(1)

في أ: فيهم ابن عمر وابن الزبير.

(2)

في أ: قال له حيث أراد قتله.

(3)

في ط: الداري؛ تحريف، والتصويب من سير أعلام النبلاء (7/ 346).

(4)

في أ: عمار؛ خطأ.

ص: 331

لحدَّثتكم. قال: قلنا أصلحك الله، حدِّثنا فلسنا نقول ما يقول الناس، فقال: إنّي رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في منامي هذا، "فقال: إنكَ شاهدٌ معنا الجمعةَ".

وقال ابن أبي الدنيا

(1)

: حدَّثنا أبو عبد الرحمن القرشي: حدَّثنا خلف بن تميم، حدَّثنا إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر البَجَلي، حدَّثنا عبد الملك بن عُمَيْر، حدَّثني كثير بن الصَّلْت قال: دخلت على عثمان وهو محصورٌ، فقال لي: يا كثير ما أراني إلا مقتولًا يومي هذا. قال: قلتُ ينصركَ الله على عدوكَ يا أمير المؤمنين، قال: ثم أعاد عليَّ فقلتُ وقّت لك في هذا اليوم (شيء)؟ أو قيل لك شيء؟ قال: لا! ولكنّي سهرتُ في ليلتي هذه الماضية، فلما كان عند

(2)

السحر أغفيتُ إغفاءةً فرأيت فيما يرى النائم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وأبا بكر وعمر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لي: يا عثمان الحقنا لا تحبسنا، فإنا ننتظرك" قال: فقتل من يومه ذلك.

وقال ابن أبي الدنيا

(3)

: حدَّثنا إسحاق بن إسماعيل، حدَّثنا يزيد بن هارون، عن فرج بن فَضَالة، عن مروان بن أبي أمية، عن عبد الله بن سَلَام. قال

(4)

:

أتيت عثمان لأُسلِّم عليه وهو محصورٌ، فدخلتُ عليه فقال: مرحبًا بأخي

(5)

، رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم الليلةَ في هذه الخَوْخَة -قال: وخوخة في البيت- فقال: "يا عثمان حصروك؟ " قلتُ: نعم! قال: "عطَّشوك؟ " قلت: نعم! فأدلى دلوًا فيه ماءٌ فشربت حتى رويت حتى إني لأجد برده بين ثَدْيَىَّ و (بين) كتفي، وقال لي: "إن شئت نُصِرْتَ

(6)

عليهم، وإن شئت أفطرت عندنا" فاخترتُ أن أفطر عنده؛ فقُتل ذلك اليوم.

وقال محمد بن سعد

(7)

: أخبرنا عفان بن مسلم، حدَّثنا وُهَيْب، حدَّثنا داود، عن زياد بن عبد الله، عن أم هلال بنت وكيع، عن امرأة عثمان -قال: وأحسبها بنت الفرافصة- قالت:

أغفى عثمان فلمّا استيقظ قال: إن القومَ يقتلونني، قلت: كلا يا أمير المؤمنين. قال: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر، فقالوا: أفطرْ عندنا الليلةَ، أو إنّك مفطرٌ عندنا الليلة.

وقال الهيثم بن كليب: حدَّثنا عيسى بن أحمد العَسْقَلاني، حدَّثنا شَبابة، حدَّثنا يحيى بن أبي راشد

(1)

الخبر في كتاب المنامات لابن أبي الدنيا (123)، وتاريخ دمشق (391).

(2)

في ط: وقت السحر.

(3)

المنامات لابن أبي الدنيا (66).

(4)

الخبر في تاريخ دمشق (391 - 392).

(5)

في أ: يا أخي.

(6)

في أ: صبرت.

(7)

طبقات ابن سعد (3/ 75)، وبعدها في أ: حدَّثنا محمد بن عمر؛ زيادة.

ص: 332

مولى عمرو بن حُرَيْث، عن محمد بن عبد الرحمن الجرشي، وعقبة بن أسيد

(1)

، عن النعمان بن بشير، عن نائلة بنت الفرافصة الكلبية -امرأة عثمان- قالت:

لما حُصِرَ عثمانُ ظَلَّ اليوم الذي كان فيه قتله

(2)

صائمًا، فلما كان عند إفطاره سألهم الماءَ العذبَ فأبَوْا عليه، وقالوا: دونَكَ ذلك الرُّكِيَّ

(3)

. ورُكِيٌّ في الدّار الذي يُلْقى فيه النتنُ - قالت: فلم يُفْطِرْ فأتيت جارات لنا على أجاجير

(4)

متواصلة -وذلك في السحر- فسألتهم الماءَ العذب، فأعطوني كوزًا من ماءٍ، فأتيته فقلت: هذا ماء عذب أتيتك به، قالت: فنظر فإذا الفجر قد طلع فقال: إني أصبحت صائمًا، قالت: فقلتُ: ومن أين أكلت؟ ولم أر أحدًا أتاك بطعام ولا شراب؟ فقال: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم اطلع عليّ من هذا السقف ومعه دلو من ماءٍ فقال: "اشربْ يا عثمانُ" فشربتُ حتى رويتُ، ثم قال:"ازدد" فشربتُ حتى نهلت

(5)

، ثم قال: "أما إنَّ القوم سينكرون

(6)

عليك، فإن قاتلتهم ظفرت، وإن تركتهم أفطرت عندنا" قالت: فدخلوا عليه من يومه فقتلوه.

وقال أبو يعلى الموصلي وعبد الله بن الإمام أحمد

(7)

: حدَّثني عثمان بن أبي شيبة، حدَّثنا يونس بن أبي يَعْفُور

(8)

العَبْدي، عن أبيه، عن مسلم أبي

(9)

سعيد مولى عثمان بن عفان

(10)

:

أن عثمان أعتق عشرين مملوكًا ودعا بسراويل فشدّها ولم يلبسها في جاهلية ولا إسلام، وقال: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام، وأبا بكر وعمر، وإنّهم قالوا لي: اصبر فإنك تفطر عندنا القابلة، ثُمّ دعا بمصحف فنشره بين يديه فقتل وهو بين يديه.

قلت: إنما لبس السراويلَ رضي الله عنه في هذا اليوم لئلا تبدو عورتُه إذا قُتل فإنّه كانَ شديدَ الحياء، كانت تستحيي منه ملائكة

(11)

السماء، كما نطق بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، ووضع بين يديه المصحفَ يتلو فيه،

(1)

في ط: "أسد" خطأ. وتنظر ترجمته في الجرح والتعديل (6/ 308) وثقات ابن حبان (8/ 499).

(2)

في أ: الذي كان قبله بيوم صائمًا.

(3)

الرُّكيُّ: جمع رَكِيَّةٍ وهو البئر. القاموس (ركو).

(4)

أجاجير: جمع إجار وهو السطح. القاموس (أجر).

(5)

في أ: نهدت.

(6)

في أ: مستنكرون.

(7)

مسند الإمام أحمد (1/ 72) ولم أجده في مسند أبي يعلى، وهو في الكبير كما قال الهيثمي في المجمع (7/ 332)، وإسناده ضعيف.

(8)

في أ: يعقوب؛ تحريف. ويَعْفُور -بفتح التحتانية، وسكون المهملة، وضم الفاء- واسم أبي يعفور: وقدان بالقاف. تقريب التهذيب (614).

(9)

في أ: مسلم بن سعيد.

(10)

الخبر في تاريخ دمشق (405).

(11)

في أ: تسحتي منه الملائكة كما نطق.

ص: 333

واستسلم لقضاء اللّه عز وجل، وكفَّ

(1)

يده عن القتال، وأمر الناس وعزم عليهم أن لا يقاتلوا دونه، ولولا عزيمته عليهم لنصروه من أعدائه، ولكن كان أمرُ اللّه قدرًا مقدورًا.

وقال هشام بن عروة، عن أبيه:

إن عثمان رضي الله عنه أوصى إلى الزبير.

وقال الأصمعي: عن العلاء بن الفضل، عن أبيه. قال

(2)

:

لما قتل عثمان فتَّشوا خزانته فوجدوا فيها صندوقًا مقفلًا ففتحوه فوجدوا فيه حُقَّةً فيها ورقةٌ مكتوب فيها: هذه وصيةُ عثمان. بسم اللّه الرحمن الرحيم، عثمانُ بن عفّان يشهدُ أن لا إله إلا اللّه وحدَه لا شريكَ له، وأنّ محمدًا عبدُه ورسولُه، وأن الجنةَ حقٌّ، وأن النارَ حقٌّ، وأن الله يبعثُ مَنْ في القبور، ليوم لا ريبَ فيه، إن اللّه لا يُخلفُ الميعاد، عليها يحيا

(3)

وعليها يموت، وعليها يبعث إن شاء اللّه تعالى.

وروى ابن عساكر

(4)

أن عثمان رضي الله عنه قال يوم دخلوا عليه فقتلوه: [من الطويل]

أرى المَوْتَ لا يُبقي عَزيزًا ولم يَدَعْ. . . لعادٍ ملاذًا في البلادِ ومرتقى

(5)

وقال أيضًا: [من الطويل]

يُبَيِّتُ

(6)

أهل الحصنِ والحصنُ مغلقٌ. . . ويأتي الجبالَ الموتُ في شماريخها العلا

(7)

‌صفة قتله رضي الله عنه

-

وقال خليفة بن خياط

(8)

: حدَّثنا ابن عُلَيَّة، حدَّثنا ابن عون، عن الحسن قال: أنبأني وثّابٌ. قال:

بعثني عثمان فدعوت له الأشترَ فقال: ما يريد الناس؟ قال: ثلاث ليس من إحداهن بدٌّ، قال: ما هن؟ قال: يخيّرونك بينَ أن تخلعَ لهم أمرهم، فتقول: هذا أمركم فاختاروا منْ شئتم، وبين أن تقتصَّ

(9)

من نفسك، فإن أبَيْتَ فإنَّ القومَ قاتِلوكَ. فقال: أما أن أخلعَ لهم أمرهم فما كنتُ لأخلعَ سِرْبالًا

(1)

في أ: فكف.

(2)

الخبر في تاريخ دمشق (406).

(3)

في أ: عليها نحيى.

(4)

تاريخ دمشق (407).

(5)

في أ: ومرتعا.

(6)

بيَّتَ القوم والعدو أوقع بهم ليلًا وأتاهم وهم غارُّون. اللسان (بيت).

(7)

في أ: ويأتي الجبال في شماريخها العلاه.

(8)

تاريخ خليفة (170) والخبر أيضًا في تاريخ دمشق (408) بخلاف في الرواية.

(9)

في الأصل: تقص يقال أقصّه الحاكم إذا مكنه من أخذ القصاص وهو أن يفعل مثل فعله من قتل أو قطع أو ضرب أو جرح. اللسان (قصص).

ص: 334

سَرْبَلَنيه اللّهُ، وأما أن أقتصَّ لهم من نفسي فواللّه لقد علمت أن صاحبيّ بين يدي وقد كانا يعاقبان وما يقوم بدني بالقصاص، وأما أن تقتلوني

(1)

فواللّه لئن قتلتموني لا تَحابُّون بعدي، ولا تُصلّون بعدي جميعًا، ولا تقاتلون بعدي جميعًا عدوًا أبدا

(2)

. قال: وجاء رويجل كأنه ذئب، فاطَّلع من باب ورجع، وجاء محمد بن أبي بكر في ثلاثة عشر رجلًا، فأخذ بلحيته فقال بها حتَّى سمعتُ وقعَ أضراسه، فقال: ما أغنى عنكَ معاوية، وما أغنى عنك ابنُ عامر، وما أغنت عنك كتبك، قال: أرْسلْ لحيتي يا بن أخي، قال: فأنا رأيته استعدى رجلًا من القوم بعينه -يعني أشار إليه- فقام إليه بمِشْقَص

(3)

فوجأ به رأسه. قلت: ثم مَه

(4)

؟ قال: ثم تعاوروا

(5)

عليه حتى قتلوه.

قال سيف بن عمر التميمي رحمه الله: عن الغُصْن

(6)

بن القاسم، عن رجل، عن خنساء مولاة أسامة بن زيد -وكانت تكون مع نائلة بنت الفرافصة امرأة عثمان-:

أنها كانت في الدّار [يومئذ]

(7)

ودخل محمد بن أبي بكر فأخذ بلحيته وأهوى بمشاقص معه فوجأ بها في حلقه، فقال: مهلًا يا بن أخي، فواللّهِ لقد أخذتَ مأخذًا ما كان أبوكَ ليأخذَ به، فتركه وانصرف مُستحييًا نادمًا، فاستقبله القوم على باب الصفة فردّهم طويلًا حتى غلبوه، فدخلوا وخرجَ محمدُ راجعًا، فأتاه رجلٌ بيده جريدة يقدمهم حتَّى قام على عثمان فضرب بها رأسه فشجَّه، فقطر دمُه على المصحف حتى لطخه، ثم تعاوروا

(8)

عليه فأتاه رجل فضربه على الثدي بالسيف [فسقط] ووثبت نائلة بنت الفرافصة (الكلبية فصاحت) وألقت نفسَها عليه، وقالت: يا بنتَ شيبة أيقتل أميرُ المؤمنين؟ وأخذتِ السيفَ، فقطعَ الرجل يدها، وانتهبوا متاع الدار

(9)

ومرّ رجل على عثمان ورأسه مع المصحف فضرب رأسه برجله ونحاه عن المصحف وقال: ما رأيتُ كاليوم وجهَ كافرٍ أحسنَ ولا مضجعَ كافرٍ أكرم

(10)

. قال: فلا واللّه ما تركوا في داره شيئًا حتى الأقداح إلا ذهبوا به

(11)

.

(1)

من قوله: فواللّه لقد علمت. . . إلى هنا ساقط من ط.

(2)

في أ: أبدًا، ولا تقاتلون عدوًا جميعًا، وفي تاريخ دمشق: ولا تقاتلون بعدي عدوًا جميعًا أبدًا.

(3)

مشقص - كمنبر: نصل عريض. القاموس (شقص).

(4)

مه: أصلها ما الاستفهامية، والهاء للسكت بدل الألف. اللسان (مهه).

(5)

في أ: ثم تعاونوا.

(6)

في أ: الحصين. وفي ط: العيص وما هنا عن تاريخ دمشق (410)، وهو الصواب.

(7)

الاستدراك من تاريخ دمشق.

(8)

في أ: تعاونوا، وفي تاريخ دمشق: تغاووا.

(9)

في أ: وانتهبوا المتاع ومر.

(10)

في أ: أكره.

(11)

وإسناده ضعيف.

ص: 335

وروى (الحافظ) ابنُ عساكر

(1)

: أن عثمان لما عزم على أهل الدار في الانصراف ولم يبق عنده سوى أهله تسوّروا عليه الدار وأحرقوا الباب ودخلوا عليه، وليس فيهم أحدٌ من الصحابة ولا أبنائهم إلا محمد بن أبىِ بكر، وسبقه بعضهم، فضربوه حتى غشي عليه، وصاح النسوة فانذعروا وخرجوا، ودخل محمد بن أبي بكر، وهو يظن أنّه قد قُتل، فلما رآه قد أفاق قال: على أي دين

(2)

أنت يا نعثل؟ قال: على دين الإسلام، ولست بنعثل ولكني أمير المؤمنين، فقال: غَيَّرتَ كتابَ الله، فقال: كتاب الله بيني وبينكم، فتقدّم إليه وأخذ بلحيته وقال: إنا لا يقبل منا يوم القيامة أن نقول: {رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} [الأحزاب: 67] وشحطه بيده من البيت إلى باب الدار، وهو يقول: يا بن أخي ما كان أبوك ليأخذ بلحيتي. وجاء رجلٌ من كِندة من أهل مصر، يُلقب حمارًا، ويكنى بأبي رومان. وقال قتادة: اسمه رومان، وقال غيره: كان أزرقَ أشقرَ، وقيل: كان اسمه سُودان بن رومان المرادي.

وعن ابن عمر قال: كان اسم الذي قتل عثمان أسود بن حُمران ضربه بحربة وبيده السيف صلتًا قال: ثم جاء فضربه به في صدره حتى أقعصه

(3)

، ثم وضع ذُباب السيف في بطنه واتكى عليه وتحامل حتى قتله، وقامت نائلة دونه فقطع السيف أصابعها رضي الله عنها، ويروى أن محمد بن أبي بكر طعنه بمشاقص في أذنه حتى دخلت في حلقه. والصحيح أن الذي فعل ذلك غيره، وأنه استحيا ورجع حين قال له عثمان: لقد أخذت بلحيةٍ كان أبوك يكرمها. فتذمم

(4)

من ذلك وغطَّى وجهه ورجع وحاجز دونه فلم يفد، وكان أمر الله قدرًا مقدورًا، وكان ذلك في الكتاب مسطورًا.

وروى ابن عساكر

(5)

، عن ابن عون: أن كنانة بن بشر ضرب جبينَه ومقدَّم رأسه بعمودِ حديدٍ فخر لجنبه، وضربه سُودان بن حُمران المرادي بعدما خر لجنبه فقتله، وأما عمرو بن الحمق فوثب على عثمان فجلس على صدره، وبه رمق، فطعنه تسع طعنات، وقال: أما ثلاث منهن فلله، وست لما كان في صدري عليه.

وقال الطبرانى

(6)

: حدَّثنا أحمد بن محمد بن صدقة البغدادي، وإسحاق بن داود الصواف التُّسْتَري قالا: حدَّثنا محمد بن خالد بن خِداش، حدَّثنا سلم

(7)

بن قتيبة حدَّثنا مبارك عن الحسن. قال: حدَّثني سياف عثمان:

(1)

تاريخ دمشق (408).

(2)

في أ: على أي ذنب أنت غيرت كتاب اللّه.

(3)

مكان اللفظة بياض في أ. وقعصه -كمنعه- قتله في مكانه، كأقعصه. القاموس (قعص).

(4)

في أ: فتندم. وتذمَّم: استنكف. القاموس (ذمم).

(5)

تاريخ دمشق (414).

(6)

المعجم الكبير (1/ 39 رقم 118).

(7)

في أ، ط: مسلم؛ خطأ، والتصحيح من تهذيب الكمال (11/ 232).

ص: 336

أن رجلًا من الأنصار دخل على عثمان فقال: ارجع يا بن أخي فلست بقاتلي، قال: وكيف علمت ذلك

(1)

؟ قال: لأنه أتى بك النبيُّ صلى الله عليه وسلم يومَ سابِعك فَحنَّكَكَ ودعا لك بالبركة، ثم دخل عليه رجل (آخر) من الأنصار فقال له مثل ذلك سواء. ثم دخل محمد بن أبي بكر فقال: أنت قاتلي. قال: وما يدريك يا نَعْثَلُ؟ قال: لأنّه أُتي بك رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم يومَ سابِعَك ليُحَنِّككَ ويدعو لك بالبركة، فخريتَ. . .، قال: فوثب على صدره وقبض على لحيته، ووجأه بمشاقص كانت في يده. هذا حديث غريب جدًا وفيه نكارة.

(وثبت) من غير وجه أنَّ أولَ قطرةٍ من دمه سقطت على قوله تعالى: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 137] ويروى أنه كان قد وصل إليها في التلاوة أيضًا حين دخلوا عليه، وليس ببعيد، فإنه كان قد وضع المصحف يقرأ فيه القرآن.

وروى ابن عساكر

(2)

أنَّه لما طُعن قال: بسم اللّه توكَلْتُ على الله، فلما قطر

(3)

الدم قال: سبحان اللّه العظيم.

وقد ذكر ابن جرير في "تاريخه"

(4)

بأسانيده أن المصريين لما وجدوا ذلك الكتاب مع البريد إلى أمير مصر، فيه الأمر بقتل بعضهم، وصلب بعضهم، وبقطع أيدي بعضهم وأرجلهم، وكان قد كتبه مروان بن الحكم على لسان عثمان، متأولًا قوله تعالى:{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 32، 33] وعنده أن هؤلاء الذين خرجوا على أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه من جملة المُفْسدين في الأرض، ولا شكَّ أنَّهم كذلك، ولكن لم يكن له أن يفتئت على عثمان ويكتب على لسانه بغير علمه، ويزوّر على خطّه وخاتمه، ويبعث غلامه على بعيره، بعدما وقعَ الصلحُ بين عثمان وبين المصريين، على تأمير محمد بن أبي بكر على مصر، بخلاف ذلك كله، ولهذا لمّا وجدوا هذا الكتاب على خلاف ما وقع الاتفاق عليه، وظنّوا أنه من عثمان، أعظموا ذلك، مع ما هم مشتملون عليه من الشر فرجعوا إلى المدينة فطافوا به على رؤوس الصحابة، وأعانهم على ذلك قومٌ آخرون، حتى ظنَّ بعضُ الصحابة أن هذا عن أمر عثمان رضي الله عنه، فلما قيل لعثمان رضي الله عنه في أمر هذا الكتاب بحضرة جماعة من أعيان الصحابة وجمهور المصريين، حلفَ باللّهِ العظيم، وهو الصادقُ البارُّ الراشدُ، أنَّه لم يكتبْ هذا الكتاب ولا أملاه على منْ كتبه، ولا علم به، فقالوا له: فإن عليه خاتمك. فقال: إن الرجل قد يزور على خطه (وخاتمه) قالوا: فإنه مع غلامك

(1)

في أ: ذاك.

(2)

تاريخ دمشق (418 - 419).

(3)

في أ: نظر، وما هنا موافق لتاريخ دمشق.

(4)

تاريخ الطبري (4/ 369) وما بعدها.

ص: 337

وعلى جملك. فقال: واللّهِ لم أشعرْ بشيءٍ من ذلك. فقالوا له -بعد كلِّ مقالة- إن كنتَ قد كتبتَه فقد خنتَ، وإن لم تكن قد كتبته بل كُتبَ على لسانك وأنتَ لا تعلم فقد عجزتَ، ومثلُكَ لا يصلُحُ للخلافةِ، إما لخيانتك، وإما لعجزك، وهذا الذي قالوا باطلٌ على كلّ تقدير فإنه لو فرض أنه كتب الكتاب، وهو لم يكتبه في نفس الأمر، لا يضرّه ذلك لأنه قد يكون رأى ذلك مصلحة للأمة في إزالة شوكة هؤلاء البغاة الخارجين على الإمام، وأما إذا لم يكن قد علم به فأي عجزٍ ينسب إليه إذا لم يكن قد اطَّلع عليه وزُوّر على لسانه؟ وليس هو بمعصوم بل الخطأ

(1)

والغفلةُ جائزان عليه رضي الله عنه. وإنما هؤلاء الجهلةُ البغاةُ مُتَعنتون خَونةٌ، ظَلَمةٌ مُفْترون، ولهذا صمَّموا بعد هذا على حصره والتضييق عليه، حتى منعوه الميرة والماء والخروج إلى المسجد، وتهددوه بالقتل، ولهذا خاطبهم بما خاطبهم به من توسعة المسجد وهو أول من منع منه، ومن وقفه بئر رومة على المسلمين وهو أول من منع ماءها، ومن أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أنه لا إله إلا اللّه إلا بإحدى ثلاث، النفس بالنفس، والثيب (الزاني)، والتارك لدينه المفارق للجماعة" وذكر أنه لم يقتل نفسًا، ولا ارتدَّ بعد إيمانه، ولا زنى في جاهلية ولا إسلام، بل ولا مسَّ فرجَه بيمينه بعد أن بايع بها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وفي رواية بعد أن كتب بها المُفصَّل. ثمَّ ذكر لهم من فضائله ومناقبه ما لعله ينجع فيهم بالكف عنه والرجوع إلى الطاعة للّه

(2)

ولرسوله ولأولي الأمر منهم، فَأبَوْا إلا الاستمرارَ على ما هم عليه من البغي والعدوان، ومنعوا الناس من الدخول إليه والخروج من عنده، حتى اشتدَّ عليه الحالُ، وضاق المجالُ، ونفد ما عنده من الماء، فاستغاث بالمسلمين في ذلك، فركب علي بنفسه وحمل معه قُرَبًا من الماء، فبالجهد حتى أوصلها إليه بعدما ناله من جهلة أولئك كلام غليظ، وتنفير لدابته، وإخراق عظيم بليغ، وكان قد زجرهم أتم الزجر، حتى قال

(3)

لهم فيما قال: واللّه إن فارسَ والرومَ لا يفعلون كفعلكم هذا لهذا

(4)

الرجل، واللّه إنهم ليأسرون فيطعمون ويسقون، فأبوا أن يقبلوا منه حتى رمى بعمامته في وسط الدار. وجاءت أم حبيبة راكبة بغلة وحولها حشمها وخدمها فقالوا: ما جاء بك؟ فقالت: إن عنده وصايا

(5)

بني أمية، لأيتامٍ وأرامل، فأحببتُ أن أذَكِّره بها، فكذّبوها في ذلك ونالها منهم شدة عظيمة، وقطعوا حزام البغلة (وندّت بها) وكادت أو سقطت عنها، وكادت تُقتل لولا تلاحق بها الناس فأمسكوا بدابتها، ووقع أمر كبير

(6)

جدًا، ولم يبق يحصل لعثمان وأهله من الماء إلا ما يوصله إليهم آل عمرو بن حزم في الخفية ليلًا، فإنا للّه وإنا إليه راجعون.

(1)

: في أ: بل الغفلة والخطأ.

(2)

: في أ: بالكف عنه بالرجوع إلى طاعة اللّه ورسوله ولأولي الأمر منهم.

(3)

: في أ: وقال لهم.

(4)

: في أ: بهذا الرجل.

(5)

: في أ: قضايا.

(6)

: في أ: كثير.

ص: 338

ولمّا وقعَ هذا أعظمه الناس جدًا، ولزم أكثر الناس بيوتَهم، وجاء وقت الحج فخرجت أم المؤمنين عائشة في هذه السنة إلى الحج، فقيل لها: إنك لو أقمت كان أصلح، لعل هؤلاء القوم يهابونك، فقالت: إني (أخشى أن) أشيرَ عليهم برأي فينالني منهم من الأذية ما نال أم حبيبة، فعزمت على الخروج

(1)

. واستخلف عثمان رضي الله عنه في هذه (السنة) على الحج عبد اللّه بن عباس، فقال له عبد اللّه بن عباس: إن مقامي على بابك أحاجف

(2)

عنك أفضلُ من الحج. فعزم عليه، فخرج بالناس إلى الحج، واستمرّ الحصارُ بالدّار حتى مضت أيامُ التَّشْريق ورجع البشير من الحجّ، فأخبر بسلامة الناس، وأخبر أولئك بأن أهلَ الموسم عازمون على الرجوع إلى المدينة ليكفوكم عن أمير المؤمنين. وبلغهم أيضًا أن معاوية قد بعث جيشًا مع حبيب بن مسلمة، وأن عبد اللّه بن سعد بن أبي سَرْح قد نفذ آخر مع معاوية بن خديج، وأن أهل الكوفة قد بعثوا القعقاعَ بن عمرو (في جيش)، وأنَّ أهلَ البصرة بعثوا مجاشعًا (في جيش)، فعند ذلك صمَّموا على أمرهم وبالغوا فيه، وانتهزوا الفرصة بقلَّة الناس وغيبتهم في الحجّ، وأحاطوا بالدار، وجدّوا في الحصار، وأحرقوا الباب، وتسوروا من الدار المتاخمة للدار، كدار

(3)

عمرو بن حزم وغيرها، وحاجفَ الناس عن عثمان أشدَّ المحاجفة، واقتتلوا على الباب قتالًا شديدًا، وتبارزوا وتراجزوا بالشعر في مبارزتهم، وجعل أبو هريرة (يقول): هذا يوم طاب في الضراب فيه. وقُتل طائفة من أهل الدار وآخرون من أولئك الفجار، وجُرح عبد اللّه بن الزبير جراحات كثيرة، وكذلك جرح الحسن بن علي ومروانُ بن الحكم فقطع إحدى علباويه

(4)

فعاش أو قص

(5)

حتى مات. (ومن أعيان من قتل من أصحاب عثمان، زياد بن نعيم الفهري)، والمغيرة بن الأخنس بن شريق، ونيار بن عبد اللّه الأسلمي، في أناس وقت المعركة، ويقال إنه انهزم أصحابُ عثمان ثم رجعوا

(6)

. ولما رأى عثمان ذلك عزم على الناس لينصرفوا إلى بيوتهم، فانصرفوا كما تقدم، فلم يبق عنده أحد سوى أهله، فدخلوا عليه من الباب، ومن الجدران، وفزع عثمان إلى الصلاة وافتتح سورة طه، وكان سريع القراءة -فقرأها والناس في غلبة عظيمة، قد احترق الباب والسقيفة (التي) عنده، وخافوا أن يصل

(7)

الحريق إلى بيت المال، ثمَّ فرغ عثمان من صلاته وجلس وبين يديه المصحف، وجعل يتلو هذه الآية:{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173] فكان أول من

(1)

في أ: الحج.

(2)

المحاجف: المقاتل. القاموس واللسان (حجف).

(3)

في أ: الدور المتلاحمة كدار عمرو.

(4)

علباويه -العِلْباء ممدود: عَصَب العنق وهما علباوان يمينًا وشمالًا بينهما منبت العنق، وإن شئت قلت علباءان. اللسان (علب).

(5)

أوقص: قصير العنق. القاموس (وقص).

(6)

في أ: ثم تراجعوا.

(7)

في أ: أن يميل.

ص: 339

دخل عليه رجل يقال له الموت الأسود فخنقه خنقًا شديدًا حتى غشي عليه، وجعلت نفسه تتردد في حلقه، فتركه وهو يظن أنه قد قتله، ودخل

(1)

ابن أبي بكر فمسك بلحيته ثم ندم

(2)

وخرج، ثمّ دخل عليه ومعه سيف فضربه به فاتقاه بيده فقطعها، فقيل: إنه أبانها: وقيل: بل قطعها ولم يبنها، إلا أن عثمان قال: واللّه إنها لأول

(3)

يد كتبت المُفَصَّلَ، فكان أول قطرة دم منها سقطت على هذه الآية {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 137]، ثم جاء آخر شاهرًا سيفه فاستقبلته نائلةُ بنت الفرافصة لتمنعَه منه، وأخذت السيف فانتزعه منها فقطع أصابعها. ثمّ إنّه تقدّم إليه فوضع السيف في بطنه فتحامل عليه [حتى قتله]، رضي الله عن عثمان. وفي رواية أن الغافقيَّ بن حرب تقدم إليه بعد محمد بن أبي بكر فضربه بحديدة في يده

(4)

، ورفس المصحف الذي بين يديه برجله فاستدار المصحف ثم استقر بين يدي عثمان رضي الله عنه. وسالت عليه الدماء، ثم تقدم سُودان بن حُمران بالسيف فمانعته نائلة فقطع أصابعها فولت فضرب عجيزتها بيده وقال: إنها لكبيرة العجيزة. وضرب عثمان فقتله (غضب اللّه ولعنته على قاتله)، (فجاء كلام عثمان فضرب سودان فقتله)، فضرب الغلام رجل يقال له قترة

(5)

فقتله.

وذكر

(6)

ابن جرير

(7)

أنهم أرادوا حزَّ رأسه بعد قتله، فصاح النساء

(8)

وضربن وجوههن، فيهن امرأتاه نائلة وأم البنين

(9)

، وبناته، فقال ابن عديس: اتركوه، فتركوه. ثم مال هؤلاء الفَجَرَةُ على ما في البيت

(10)

فنهبوه، وذلك أنه نادى مناد منهم

(11)

: أيحل لنا دمُه ولا يحلّ لنا ماله، فانتهبوه ثم خرجوا فأغلقوا

(12)

الباب على عثمان وقتيلين معه، فلما خرجوا إلى صحن الدار وثب غلام لعثمان على قترة فقتله، وجعلوا لا يمرّون على شيء إلا أخذوه حتى استلب رجل يقال له كلثوم التجيبي، ملاءةَ نائلة، فضربه غلام لعثمان فقتله، وقُتل الغلامُ أيضًا، ثمَّ تنادى القوم: أن أدركوا بيت المال لا تستبقوا إليه، فسمعهم حفظة بيت المال (فقالوا: يا قوم النجاء النجاء، فإن هؤلاء القوم لم يصدقوا فيما قالوا من أن قصدهم قيام الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك مما ادعوا أنهم إنما قاموا لأجله

(1)

أ: ثم دخل.

(2)

في ط: ثم ند وخرج.

(3)

في ط: أول يد.

(4)

في ط: في فيه.

(5)

في أ: قتيرة، وكذا في تاريخ الطبري (1/ 391).

(6)

في أ: وروى.

(7)

في تاريخه (4/ 414).

(8)

في أ: فصاح الناس.

(9)

في أ: أم اليدين.

(10)

في أ: بيت المال.

(11)

في أ: مناديهم.

(12)

في أ: وأغلقوا.

ص: 340

وكذبوا إنما قصدهم الدنيا، فانهزموا وجاء الخوارج فأخذوا مال بيت المال) وكان فيه شيء كثير جدًا

(1)

.

وقد ذكر الحافظ ابن عساكر

(2)

في ترجمة سهم بن خنبش أبو خنبش أو [أبو] خنيس

(3)

الأزدي -وكان قد شهد الدار- ورواه محمد بن عائذ عن إسماعيل بن عياش عن محمد بن يزيد الرحبي عنه، وكان قد استدعاه عمر بن عبد العزيز إلى دير سمعان فسأله عن مقتل عثمان فذكر ما ملخصه:

أنَّ وفدَ الأشقياء -وهم وفد مصر- كانوا قدموا على عثمان رضي الله عنه فأجازهم وأرضاهم فانصرفوا راجعين ثمَّ كروا إلى المدينة فوافوا عثمان قد خرج لصلاة الغداة أو الظهر فحصبوه بالحصباء والنعال والخفاف فانصرف إلى الدار ومعه أبو هريرة والزبير وابنه عبد الله وطلحة ومروان والمغيرة بن الأخنس في أناس، وأطاف وفد مصر بداره، فاستشار الناس فقال عبد الله بن الزبير: يا أمير المؤمنين؛ إني أشير بإحدى ثلاث خصال، إما أن نُحرمَ بعمرة فتحرم عليهم دماؤنا، وإما أن نركبَ معك إلى مأمننا بالشام، وإما أن نخرج فنضرب بالسيف حتى يحكم الله بيننا فإنا على الحق وهم على الباطل. فقال عثمان: أما ما ذكرت من الإحرام بعمرة ليحرموا دماءنا فإنهم يرونا حلالًا الآن وحال الإحرام وبعد الإحرام، وأما الذهاب إلى الشام، فإني أستحيي [أن آتي أهل الشام هاربًا]

(4)

من بلدي خائفًا ليؤمنني أهل الشام، وأما القتال فإني أرجو أن ألقى الله وليس يهراق بسببي محجمة

(5)

دم.

قال: ثم صلينا معه صلاةَ الصبح ذات يوم فلما فرغ أقبل على الناس فقال: إني رأيتُ أبا بكرٍ وعمرَ الليلةَ فقالا: صم يا عثمان إنك تفطر عندنا، وأنا أشهدكم أني قد أصبحت صائمًا، وإني أعزم على منْ كان يؤمن باللّه واليوم الآخر أن يخرج من الدار سالمًا مسلومًا منه. فقلنا: يا أمير المؤمنين إن خرجنا لم نأمنهم علينا، فأذن لنا أن نكون في بيت من الدار يكون لنا فيه جماعةٌ ومنعةٌ، فأذن لهم وأمر بباب الدار ففتح ودعا بالمصحف فأكبَّ عليه وعنده امرأتاه بنت الفرافصة الكلبية وبنت شيبة؛ فكان أول من دخل عليه محمد بن أبي بكر فأخذ بلحيته فقال: دَعْها يا بن أخي، فوالله لقد كان أبوك ليتلطف بها بأدنى من هذا؛ فاستحيا فخرج فقال: قد أشعرته لكم. وأخذ عثمان ما أُسْقِطَ

(6)

من لحيته فأعطاه إحدى امرأتيه، ثم دخل رومان بن سودان رجل أزرق قصير مخدد

(7)

عدادُه من مرادٍ، ومعه جرز

(8)

من حديد فاستقبله فقال

(1)

بعد هذه اللفظة سقط في ط بقدر ورقة وأخر إلى ما قبل (بعض الأحاديث الواردة في فضائل عثمان).

(2)

الخبر في مختصر تاريخ دمشق لابن منظور (10/ 227 - 229) بخلاف في الرواية.

(3)

في الأصول: سهم بن حنيش أو حنش أو جنيش الأزدي، والتصحيح من مختصر ابن عساكر لابن منظور.

(4)

الاستدراك عن مختصر ابن منظور.

(5)

"المحجم والمحجمة": قارورة الدم. اللسان (حجم).

(6)

في مختصر ابن عساكر: ما امتعط.

(7)

مخدد من خدد لحمه وتخدد: هزل ونقص. اللسان (خدد).

(8)

الجُرْزُ: العمود من الحديد. اللسان (جرز).

ص: 341

على أي ملة يا نَعْثَلُ. فقال: لست بنعثل ولكني عثمان بن عفان، وأنا على ملة إبراهيم حنيفًا مسلمًا وما كنت من المشركين. فقال: كذبت فضربه بالجرز على صدغه الأيسر فقتله فخر.

وأدخلته بنت الفرافصة بينها وبين ثيابها -وكانت امرأةً جسيمةً ضليعةً

(1)

- وألقت بنت شيبة نفسَها على ما بقي من جسده ودخل رجل من [أهل]

(2)

مصر بالسيف مصلتًا فقال: واللّه لأقطعن أنفه فعالج المرأة عنه فغلبته، فكشف عنها درعها من خلفها حتى نظر إلى متنها؛ فلما لم يصل إليه أدخل السيف بين درعها ومنكبها فقبضت على السيف فقطع أناملها. فقالت: يا رباح -لغلام لعثمان أسود- يا غلام اغن عني

(3)

هذا الرجل، فمشى إليه الغلام فقتله وخرج أهل البيت فقاتلوا عن أنفسهم فقُتل المغيرةُ بن الأخنس وجُرح مروان. قال: فلما أمسينا قلنا: إن تركتم صاحبكم حتى يصبح مَثَّلوا به، فاحتملناه إلى بقيع الغَرْقَد في جوف الليل، وغشينا سواد من خلفنا حتى هبناهم، وكدنا أن نتفرق عنه، فنادى منادٍ منهم ألَّا رَوْعَ عليكم، اثبتوا وإنما جئنا لنشهده معكم، فكان أبو خنيس يقول: هم ملائكة اللّه؛ فدفناه ثم هربنا إلى الشام من ليلتنا [فلقينا أهل الشام]

(4)

بوادي القرى عليهم حبيب بن مسلمة

(5)

قد أتوا في نُصرة عثمان، فأخبرناهم بقتله ودفنه.

‌فصل

ولما وقع هذا الأمر العظيم، الفظيع الشنيع، أسقط في أيدي الناس، فأعظموه

(6)

جدًا، وندم أكثرُ هؤلاء الجهلة الخوارج بما

(7)

صنعوا، وأشبهوا من تقدمهم ممن قصّ اللّه علينا خبرهم في كتابه العزيز، من الذين عبدوا العجل. في قوله تعالى:{وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 149].

ولما بلغ الزبيرَ مقتلُ عثمان -وكان قد خرج من المدينة- قال: إنا للّه وإنا إليه راجعون، ثم ترحَّم على عثمان، وبلغه أن الذين قتلوه ندموا فقال: تبًّا لهم، ثم تلا قوله تعالى:{مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} [يس: 49، 50] وبلغ عليًا قتلهُ فترحَّم عليه. وسمع بندم الذين قتلوه فتلا قوله تعالى: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الحشر: 16] ولما بلغَ سعدَ بن أبي وقاصٍ قتلُ عثمان استغفر له

(1)

"الضليع": العظيم الخلق الشديد. اللسان (ضلع).

(2)

عن المختصر.

(3)

في المختصر: أعن على هذا فمشى.

(4)

الاستدراك من المختصر.

(5)

هنا نهاية السقط.

(6)

في أ: وعظموه.

(7)

في أ: وندم أكثر هؤلاء الجهلة على ما صنعوا.

ص: 342

وترحّم عليه، وتلا في حق الذين قتلوه:{قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 103، 104] ثم قال سعد: اللهم أنْدِمْهم ثمّ خُذْهم. وقد أقسم بعض السلف باللّه إنه ما مات أحد من قتله

(1)

عثمان إلا مقتولًا. رواه ابن جرير

(2)

.

وهكذا ينبغي أن يكون لوجوهٍ: (منها) دعوةُ سعد المستجابة كما ثبت في (الحديث) الصحيح. وقال بعضهم: ما مات أحد منهم حتى جن.

وقال الواقدي: حدَّثني عبد الرحمن بن أبي الزّناد، عن عبد الرحمن بن الحارث قال: الذي قتل عثمان كنانة بن بشر بن عتّاب

(3)

التجيبي، وكانت امرأة منظور بن سيار الفزاري تقول: خرجنا إلى الحج وما علمنا لعثمان بقتل، حتى إذا كنا بالمَرْج سمعنا رجلًا يُغني تحت الليل

(4)

: [من الطويل]

ألا إنَّ خيرَ النّاس بعد ثلاثةٍ

قتيلُ التُّجَيْبي الذي جاء من مِصْر

ولما رجع الحج وجدوا عثمان رضي الله عنه قد قُتل، وبايع الناسُ عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه. ولما بلغ أمهات المؤمنين في أثناء الطريق أنَّ عثمان قد قُتل، رجعن إلى مكة فأقمن بها نحوًا من أربعة أشهر كما سيأتي.

‌فصل

كانت مدة حصار

(5)

عثمان رضي الله عنه في داره أربعين يومًا على المشهور، وقيل كانت بضعةً وأربعين يومًا. وقال الشعبي: كانت ثنتين وعشرين ليلةً. ثم كان قتله رضي الله عنه في يوم الجمعة بلا خلاف. قال سيف بن عمر عن مشايخه: في آخر ساعة منها، ونص عليه مصعب

(6)

بن الزبير وآخرون. وقال آخرون ضحوة (نهارها)، وهذا أشبه، وكان ذلك لثماني عشرة ليلة خلت من ذي الحجة على المشهور، وقيل في أيام التشريق، رواه ابن جرير

(7)

: حدَّثني أحمد بن زهير، حدَّثنا أبو خيثمة، حدَّثنا وهب بن جرير، سمعت يونس بن يزيد، عن الزُّهري. قال: قُتل عثمان، فزعم بعضُ الناس أنه قُتل في أيام التشريق [ورواه عبد اللّه بن أحمد بن عبيد اللِّه بن معاذ، عن معتمر بن سليمان، عن أبيه، عن

(1)

في أ: ممن قتل.

(2)

في تاريخه (4/ 392).

(3)

في أ: غياث؛ تحريف، والخبر في تاريخ الطبري (4/ 394).

(4)

البيت في تاريخ الطبري (4/ 394).

(5)

في أ: كان مدة حصار.

(6)

في أ: مصعب الزبيري.

(7)

في تاريخه (4/ 417).

ص: 343

أبي عثمان قال: قتل عثمان في أوسط أيام التشريق]، وقال بعضهم قتل يوم الجمعة لثلاث خلت من ذي الحجة. وقيل قتل يوم النحر، حكاه ابن عساكر ويستشهد له بقول الشاعر:

ضَحّوا بأشمط عنوان السجودِ بهِ

يقطّعُ الليلَ تسبيحًا وقرآنًا

قال: والأول هو الأشهر، وقيل

(1)

إنه قتل يوم الجمعة لثماني عشرة خلت من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين على الصحيح المشهور، وقيل سنة ست وثلاثين، قال مصعب بن الزبير

(2)

وطائفة: وهو غريب. فكانت خلافته ثنتي عشرة سنة إلا اثني عشر يومًا، لأنه بويع له في مستهلّ المحرم سنة أربع وعشرين.

فأما

(3)

عُمره رضي الله عنه فإنه جاوز ثنتين وثمانين سنة، وقال صالح بن كيسان: توفي عن اثنتين وثمانين سنة وأشهر، وقيل: أربع وثمانون سنه

(4)

، وقال أحمد

(5)

عن حسن بن موسى (حدثنا أبو هلال

(6)

عن قتادة: توفي عن ثمانٍ وثمانين أو تسعين سنة. وفي رواية عنه توفي عن ثنتين

(7)

وثمانين سنة. وعن هشام بن الكلبي [أنه] توفي عن خمس وسبعين سنة، وهذا غريب جدًا، وأغرب منه ما رواه (سيف) بن عمر عن مشايخه، وهم محمد وطلحة وأبو عثمان وأبو حارثة أنهم قالوا: قتل عثمان رضي الله عنه عن ثلاث وستين سنة

(8)

.

وأما موضع قبره فلا خلاف أنه (دفن) بحشّ كوكب -شرقي البقيع- وقد بني عليه في زمن

(9)

بني أمية قبة عظيمة وهي باقية إلى اليوم. قال الإمام مالك رضي الله عنه: بلغني أن عثمان رضي الله عنه كان يمرّ بمكان قبره من حشّ كوكب فيقول: إنه سيدفن هاهنا رجل صالح.

وقد ذكر ابن جرير

(10)

أن عثمان رضي الله عنه بقي بعد أن قتل ثلاثة أيام لا يدفن.

قلت: وكأنه اشتغل الناس عنه بمبايعة علي رضي الله عنه حتى تَمَّتْ، وقيل إنه مكث ليلتين، وقيل بل دفن من ليلته، ثم كان دفنه [في، ما بين المغرب والعشاء خيفة

(11)

من الخوارج، وقيل: بل استؤذن

(1)

في أ: وهو أنه قتل.

(2)

في أ: مصعب الزبيري.

(3)

في أ: وأما.

(4)

اضطرب النص في أ وط اضطرابًا شديدًا، فتكررت العبارات وتداخلت، والصواب ما أثبتناه إن شاء اللّه تعالى.

(5)

مسند أحمد (1/ 74)، وإسناده منقطع.

(6)

إضافة من مسند أحمد لا بد منها، وهو محمد بن سليم الراسبي.

(7)

في أ: عن ست.

(8)

الخبر في تاريخ الطبري (4/ 418).

(9)

في ط: زمان.

(10)

في تاريخه (4/ 412).

(11)

في أ: خفية.

ص: 344

في ذلك بعض رؤسائهم، فخرجوا به في نفر قليل من الصحابة، فيهم

(1)

حكيم بن حزام، وحُوَيْطب بن عبد العُزّى، وأبو الجهم بن حذيفة، ونيار

(2)

بن مكرم الأسلمي، وجُبَيْر بن مُطْعم، وزيد بن ثابت، وكعب بن مالك، وطلحة والزبير، وعلي بن أبي طالب وجماعة من أصحابه ونسائه، منهن امرأتاه نائلة وأم البنين بنت عتبة بن حصين، وصبيان. - وهذا مجموع من كلام الواقدي وسيف بن عمر التميمي [وقال أحمد

(3)

: حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة قال: صلى الزبير على عثمان ودفنه وكان أوصى إليه].

وروى عبد اللّه

(4)

من طريق إبراهيم بن عبد اللّه بن فروخ (عن أبيه قال:)

(5)

: شهدت عثمان دفن في ثيابه بدمائه ولم يغسل] [وقيل: إن] جماعة من خدمه حملوه على باب بعدما غسَّلوه وكفَّنوه. وزعم بعضهم أنه لم يغسل ولم يكفن، والصحيح الأول. وصلى عليه جُبَيْر بن مطعم، وقيل الزبير بن العوام، وقيل حكيم بن حزام، وقيل مروان بن الحكم، وقيل المسور بن مَخْرَمة، وقد عارضه بعض الخوارج وأرادوا رجمه، وإلقاءه عن سريره، وعزموا على أن يدفن بمقبرة اليهود بدير سلع، حتى بعث علي رضي الله عنه إليهم من نهاهم عن ذلك.

وحمل جنازته حكيم بن حزام، (وقيل مروان بن الحكم، وقيل المسور بن مخرمة)، وأبو جهم بن حذيفة ونيار بن مكرم، وجبير بن مطعم.

وذكر الواقدي

(6)

أنه لما وضع ليُصَلَّى عليه -عند مصلَّى الجنائز- أراد بعض الأنصار أن يمنعهم من ذلك، فقال أبو جهم بن حذيفة: ادفنوه فقد صلَّى الله عليه وملائكته ثم قالوا: لا يدفن في البقيع، ولكن ادفنوه وراء الحائط، فدفنوه شرقي البقيع تحت نخلات هناك.

وذكر الواقدي

(7)

أن عمير بن ضابئ نزا على سريره وهو موضوع للصلاة عليه فكسر ضلعًا من أضلاعه وقال: أحبست ضابئًا حتى مات في السجن. وقد قتل الحجاج فيما بعد عمير بن ضابئ هذا وقال البخاري في "التاريخ

(8)

: حدَّثنا موسى بن إسماعيل، عن عيسى بن منهال، حدَّثنا غالب، عن محمد بن سيرين قال: كنتُ أطوفُ بالكعبة وإذا رجلٌ يقول: اللهم اغفر لي، وما أظن أن تغفر لي،

(1)

في أ: منهم.

(2)

في أ: بيان، خطأ.

(3)

مسند أحمد (1/ 74) وإسناده منقطع.

(4)

مسند أحمد (1/ 72).

(5)

إضافة من مسند أحمد لا بد منها.

(6)

الخير في تاريخ الطبري (4/ 413).

(7)

المصدر نفسه.

(8)

لم أجده في تاريخ البخاري.

ص: 345

فقلت: يا عبد اللّه ما سمعت أحدًا يقول ما تقول، قال: كنتُ أعطيتُ للّه عهدًا إن قدرتُ أن ألطم وجهَ عثمان إلا لطمته، فلما قُتل ووضع على سريره في البيت والناس يجيئون فيصلون عليه، فدخلتُ كأنّي أصلّي عليه، فوجدت خلوة فرفعتُ الثوب عن وجهه ولحيته ولطمته وقد يبست يميني. قال ابن سيرين: فرأيتها يابسة كأنها عود.

ثم خرجوا

(1)

بعَبْدَي عثمان اللذين قتلا في الدار، وهما صبيح ونجيح، رضي الله عنهما، فدفنا إلى جانبه بحشّ كَوْكَب، وقيل إن الخوارج لم يمكنوا من دفنهما، بل جرُّوهما بأرجلهما حتى ألقوهما بالبلاط فأكلتهما

(2)

الكلاب، وقد اعتنى معاوية في أيام إمارته بقبر عثمان، ورفع الجدار بينه وبين البقيع، وأمر الناس أن يدفنوا موتاهم حوله (حتى اتصلت بمقابر المسلمين).

‌ذكر صفته رضي الله عنه

كان رضي الله عنه حسنَ الوجه دقيقَ البشرة، كبيرَ

(3)

اللحية، معتدلَ القامة، عظيم الكراديس، بعيد ما بين المنكبين، كثيرَ شعر الرأس، حسنَ الثغر، فيه سمرة

(4)

، وقيل كان في وجهه شيء من آثار الجدري، رضي الله عنه. وعن الزهري: كان حسنَ الوجه والثغر، مربوعًا، أصلع، أزوح

(5)

الرجلين (يخضب بالصفرة، وكان قد شد أسنانه بالذهب وقد كسى ذراعيه الشعر).

وقال الإمام أحمد

(6)

: حدَّثنا عبد الصمد، حدَّثنا سالم أبو جُمَيع، حدَّثنا الحسن -وذكر عثمان وشدة حيائه- فقال: إن كان ليكون بالبيت والباب عليه مغلق فما يضع عنه الثوب ليفيض عليه الماء، يمنعه الحياء أن يقيم صلبه.

وقال عبد الله

(7)

: حدَّثنا زياد بن أيوب، حدَّثنا هُشَيْم، قال: زعم أبو المقدام، عن الحسن بن أبي الحسن، قال: دخلت المسجد فإذا بعثمان بن عفان متوكئ على ردائه؛ فأتاه سقاءان يختصمان فقضى بينهما ثم أتيته فنظرت إليه؛ فإذا رجل حسن الوجه، بوجنتيه نكتات جدريّ، وإذا شعره قد كسا ذراعيه.

وقال واقد بن عبد اللّه

(8)

: حدَّثني من رأى عثمان بن عفان أنه ضبب أسنانه بالذهب.

(1)

في ط: ثم أخرجوا.

(2)

في أ: فأكلتهم.

(3)

في أ: رقيق البشرة كثير اللحية.

(4)

في أ: سمرة وقيل بيان.

(5)

أزوح من زاح: إذا تباعد. اللسان (زاح).

(6)

مسند الإمام أحمد (1/ 73 - 74).

(7)

مسند أحمد (1/ 73) وإسناده ضعيف.

(8)

مسند أحمد (1/ 73) وهو من رواية عبد اللّه.

ص: 346

وقال الواقدي

(1)

: حدَّثنا ابن أبي سبرة، عن سعيد بن أبي زيد، عن الزهريّ، عن عبيد اللّه بن عبد اللّه بن عتبة قال: كان لعثمان عند خازنه يوم قتل، ثلاثون ألف ألف درهم وخمسمئة ألف درهم، [وخمسون] ومئة ألف دينار، فانْتُهبتْ وذهبت، وترك ألف بعير بالرَّبَذَة، وترك صدقات كان تصدق بها، بئر أريس، وخيبر، ووادي القرى، فيه مئتا ألف دينار. (وبئر رومة كان اشتراها في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وسبَّلها).

وقال الإمام أحمد

(2)

: حدَّثنا أبو المغيرة، حدَّثنا أرطاة بن المنذر، حدَّثنا أبو عون الأنصاري: أن عثمان قال لابن مسعود: هل أنت مُنتهٍ عما بلغني عنك؛ فاعتذر بعض العذر؛ فقال عثمان: إني قد سمعت وحفظت وليس كما سمعت، سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: إنه سيقتل أمير، وينتزي منتز

(3)

وإني أنا المقتول وليس عمر، إن عمر قتله واحد، وإنه سيجتمع عليَّ.

وقال أحمد

(4)

: حدَّثنا وكيع، عن إسماعيل، عن قيس قال: حدَّثني أبو سهلة أن عثمان قال يوم الدار: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد لي عهدًا فأنا صابر عليه. قال قيس: فكانوا يرونه ذلك اليوم.

ورواه الترمذي

(5)

من حديث وكيع ويحيى بن سعيد، عن إسماعيل بن أبي خالد به. وفي مسند أبي يعلى من طريق أبي سهلة قال: قال لي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: ستبتلى بعدي فلا تقاتل.

‌فصل

قال الأعمش عن زيد بن وهب، عن حذيفة أنه قال: أول الفتن قتل عثمان، وآخر الفتن الدجال. وروى (الحافظ) ابن عساكر

(6)

من طريق شبابة، عن حفص بن مورِّق الباهلي، عن حَجّاج بن أبي عثمان

(7)

الصوَّاف عن زيد بن وهب عن حذيفة. قال:

أول الفتن قتل عثمان، وآخر الفتن خروج الدجال، والذي نفسي بيده لا يموت رجل وفي قلبه مثقال حبة من حُبِّ قتل عثمان إلا تبع الدجال إن أدركه، وإن لم يدركه آمن به في قبره.

وقال أبو بكر بن أبي الدنيا وغيره: (أخبرنا محمد بن سعد)، أخبرنا عمرو بن عاصم الكلابي، حدَّثنا أبو الأشهب، حدَّثني عوف، عن محمد بن سيرين أن حذيفة بن اليمان قال:

(1)

طبقات ابن سعد (3/ 76).

(2)

مسند الإمام أحمد (1/ 66) وإسناده ضعيف.

(3)

في الأصول: إنه سيقتل امرؤ، ويتبرأ متبرئ، وهو خطأ، والصحيح من مسند أحمد.

(4)

مسند الإمام أحمد (1/ 58).

(5)

سنن الترمذي (3711) في الفضائل، وقال الترمذي: حسن صحيح.

(6)

تاريخ دمشق -ترجمة عثمان- (266).

(7)

في ط: بن أبي عمار، وهو تحريف، والتصحيح من تقريب التهذيب (153).

ص: 347

اللهمَّ إن كان قتل عثمان بن عفان خيرًا، فليس لي فيه نصيب؛ وإن كان قتله شرًا فأنا منه بريء، واللّه لئن كان قتله خيرًا ليحلبنه لبنًا، وإن كان قتله شرًا ليمتصن

(1)

به دمًا. وقد ذكره البخاري في "صحيحه"

(2)

.

‌طريق أخرى عنه

قال محمد بن عائذ: ذكر يحيى

(3)

بن حمزة، حدَّثني أبو عبد الله النَّجْراني

(4)

، أن حذيفة بن اليمان في مرضه الذي هلك فيه، كان عنده رجلٌ من إخوانه، وهو يناجي امرأته، ففتح عينيه فسألهما فقالا خيرًا، فقال: شيئًا تسرانه دوني ما هو بخير، قال: قتل الرجلُ -يعني عثمانَ- قال: فاسترجع ثم قال: اللهم إني كنت من هذا الأمر بمعزلٍ، فإن كان خيرًا فهو لمن حضره، وأنا منه بريء، وإن كان شرًا فهو لمنْ حضره وأنا منه بريء، اليوم تغيرت القلوب يا عثمان، الحمد للّه الذي سبق بي الفتن قادتها وعلوجها، الحَظيُّ من تردّى بعيره فشبع شحمًا وقلَّ عمله.

وقال الحسن بن عرفة: حدَّثنا إسماعيل بن إبراهيم بن عُلَية، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أبي موسى الأشعري، قال:

لو كان قتل عثمان هُدًى لاحتلبت به الأُمَّةُ لبنًا، ولكنّه كان ضلالًا فاحتلبت به الأُمَّةُ دمًا. وهذا منقطع. وقال محمد بن سعد

(5)

: أخبرنا عارم

(6)

بن الفضل، أخبرنا الصَّعق بن حَزْن، حدَّثنا قتادة، عن زَهْدم الجَرْمي. قال: خطب ابن عبّاس فقال: لو لم يطلب الناس بدم عثمان لرموا بالحجارة من السماء. وقد رُوي من غير هذا الوجه عنه.

وقال الأعمش وغيره عن ثابت بن عبيد بن أبي جعفر

(7)

الأنصاري.

قال: لما قُتل عثمان جئت عليًا وهو جالس في المسجد، وعليه عمامةٌ سوداءُ، فقلت له: قُتل عثمان، فقال: تبًا لهم آخر الدهر

(8)

- وفي رواية: خيبة لهم-.

(1)

في أ: لتحتلبنه لبنًا ولئن كان قتله شرًا لنمتصن به دمًا.

(2)

هكذا قال، وما أظنه صوابًا، فإننا لم نقف عليه في صحيح البخاري.

(3)

في ط: "محمد" محرف، وهو من رجال التهذيب.

(4)

في أ: البحراني، وفي ط: الحرّاني، وما هنا عن تاريخ دمشق (488) وهو يزيد بن عبد الله النجراني.

(5)

الطبقات (3/ 80).

(6)

في ط: حازم؛ تحريف وهو محمد بن الفضل أبو النعمان السدوسي، البصري، المعروف بعارم. سير أعلام النبلاء (10/ 265).

(7)

في أ: ثابت بن عبد عن أبي جعفر؛ خطأ. وانظر تقريب التهذيب (132).

(8)

الخبر في تاريخ دمشق (460).

ص: 348

وقال أبو القاسم البغوي: أنبأنا علي بن الجعد، أخبرنا شريك، عن عبد الله بن عيسى، عن ابن أبي ليلى. قال:

سمعت عليًا وهو بباب المسجد، أو عند أحجار الزَّيت، رافعًا صوته يقول: اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان.

وقال أبو هلال: عن قتادة، عن الحسن. قال:

قُتل عثمان وعليٌّ غائب في أرض له، فلما بلغه قال: اللهم إني لم أرض ولم أمالئ

(1)

.

وروى الربغ بن بدر، عن سيّار بن سلامة عن أبي العالية:

أن عليًا دخل على عثمان فوقع عليه وجعل يبكي حتى ظنّوا أنه سيلحق به.

وقال الثوري وغيره عن ليث، عن طاووس، عن ابن عباس قال: قال علي يوم قتل عثمان:

والله ما قتلت ولا أمرتُ ولكني غُلبت. ورواه غير ليث، عن طاووس، عن ابن عباس، عن علي نحوه

(2)

.

وقال حبيب بن أبي العالية، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: قال علي: إن شاء الناس حلفت لهم عند مقام إبراهيم باللّه ما قتلتُ عثمان ولا أمرت بقتله، ولقد نهيتهم فعصوني، وقد رُوي من غير وجه عن علي بنحوه.

وقال محمد بن يونس الكُدَيْمي

(3)

: حدَّثنا هارون بن إسماعيل، حدَّثنا قرَّة بن خالد، عن الحسن، عن قيس بن عباد. قال: سمعت عليًا يوم الجمل يقول:

(اللهم) إني أبرأ إليك من دم عثمان، ولقد طاش عقلي يوم قُتل عثمان، وأنكرت نفسي، وجاؤوني للبيعة فقلت: واللّه إني لأستحيي من اللّه أن أبايع قومًا قتلوا رجلًا قال فيه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "إني لأستحيي ممن تستحي منه الملائكة" وإني لأستحيي من الله أن أُبايع وعثمان قتيل (في) الأرض لم يُدْفَن بعد، فانصرفوا، فلما دُفن رجع الناس يسألوني

(4)

البيعة فقلت: اللهم إني أشفق

(5)

مما أقدم عليه، ثم جاءت عزمة فبايعت. فلما قالوا: أمير المؤمنين كان صدع قلبي وأسكت نفرة من ذلك.

وقد اعتنى الحافظ الكبير أبو القاسم بن عساكر

(6)

بجمع الطرق الواردة عن علي أنه تبرأ من دم

(1)

جملة هذه الأخبار في تاريخ دمشق (461) ترجمة عثمان.

(2)

في أ: بنحوه.

(3)

في أ: المكرمي؛ تحريف. انظر تقريب التهذيب (515).

(4)

في أ: فسألوني.

(5)

في أ: لمشفق.

(6)

تاريخ دمشق (461 - 462) - ترجمة عثمان-.

ص: 349

عثمان، وكان يقسم على ذلك في خطبه وغيرها أنه لم يقتله ولا أمر بقتله لا مالأ ولا رضي به، ولقد نهى عنه فلم يسمعوا منه. ثبت ذلك عنه من طرق تفيد القطع عند كثير من أئمة الحديث وللّه الحمد والمنة.

وثبت عنه أيضًا من غير وجه أنه قال: إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان ممن قال الله تعالى فيهم: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر: 47] وثبت عنه

(1)

أيضًا من غير وجه أنه قال: {إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا} [المائدة: 93] وفي رواية أنه قال: كان عثمان رضي الله عنه خيرنا وأوصلنا للرحم، وأشدنا حياء، وأحسننا طهورًا، وأتقانا للرب عز وجل.

وروى يعقوب بن سفيان

(2)

، عن سليمان بن حرب، عن حماد بن زيد، عن مجالد، عن عمير بن زوذي

(3)

أبي كثير. قال:

خطب علي فقطع الخوارج عليه خطبته فنزل فقال: إنَّ مَثَلي ومَثَل عثمان كمثل أثوارٍ ثلاثةٍ، أحمر وأبيض وأسود، ومعهم في أجَمةٍ أسدٌ، فكان كلما أراد قتلَ أحدهم منعَه الآخران، فقال للأسود والأحمر: إنّ هذا الأبيضَ قد فضحنا في هذه الأجمة فخلِّيا عنه حتى آكله، (فخلَّيا عنه فأكله)، ثم كان كُلَّما أرادَ أحدَهما منعَه الآخرُ فقال للأحمر: إن هذا الأسود قد فضحنا (في هذه الأجَمة)، وإنَّ لوني على لونك، فلو خَلَّيْتَ عنه أكلته، فَخَلَّى عنه الأحمر فأكله، ثم قال للأحمر

(4)

: إنّي آكلُكَ، فقال: دَعْنيِ حتى أصيحَ ثلاثَ صيحاتٍ، فقال دونك، فقال: ألا إني إنما أُكلتُ يومَ أُكلَ الأبيض

(5)

ثلاثًا (فلو أنّي نصَرْتُه لما أكِلْتُ) ثم قال علي: وإنما أنت وهنت يوم قُتِلَ عثمان، (ولو أني نصرته لما وهنت) قالها ثلاثًا.

وروى ابنُ عساكر

(6)

من طريق محمد بن هارون الحَضْرمي، عن سَوّار بن عبد الله العَنْبَري

(7)

القاضي، عن (ابن) مهدي، عن حمّاد بن زيد، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المُسَيّب. قال:

وكانت

(8)

المرأةُ تجيءُ في زمان عثمان إلى بيتِ المال فتحملُ وَقرَها وتقول: اللهم بدِّلْ، اللهم غَيِّر. فقال حسان بن ثابت حين قتل عثمان رضي الله عنه

(9)

: [من الرمل]

(1)

في أ: وثبت أيضًا عنه أنه سُئل عن عثمان فقال: كان من الذين آمنوا وعملوا. .

(2)

المعرفة والتاريخ (3/ 118)، وهو في تاريخ دمشق أيضًا.

(3)

في ط: "رودي" بالراء المهملة، مصحف. ينظر الجرح والتعديل (6/ الترجمة 2078).

(4)

في أ: الآخر فأكله ثم قال للآخر.

(5)

في ط: البيض.

(6)

تاريخ دمشق (483) -ترجمة عثمان-.

(7)

في أ، ط: سويد، وفي ط: القشيري، وكلاهما تحريف. وانظر تقريب التهذيب (259).

(8)

في أ، ط: كانت، والواو عن تاريخ دمشق.

(9)

البيتان أربعة في ديوان حسان (1/ 122).

ص: 350

قُلْتُمُ بَدِّلْ فبُدّلتمْ به

(1)

سَنةً حَرَّى وحَرْبًا كاللَّهبْ

ما نقَمْتُمْ من ثيابٍ خِلْفَةٍ

وعَبيدٍ وإماءٍ وذَهَبْ

قال: وقال أبو حميد أخو بني ساعدة -وكان ممن شهد بدرًا، وكان ممن جانب عثمان- فلما قتل قال: واللّه ما أردنا قَتْلَه، ولا كُنّا نرى أن يبلغ منه القتلُ، اللَّهُمّ إنَّ لكَ عليّ أن لا أفعل كذا وكذا

(2)

ولا أضحك حتى ألقاك.

وقال محمد بن سعد

(3)

: أخبرنا عبد اللّه بن إدريس، أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن سعيد بن زيد بن عمرو بن نُفَيْل. قال:

لقد رأيتُني وإنَّ عمرَ مُوثقي وأختَه على الإسلام، ولو ارْفضَّ أحَدٌ فيما صنعتم بابن عفّان لكان حقيقًا. وهكذا رواه البخاري في "صحيحه"

(4)

.

وروى محمد بن عائذ

(5)

، عن إسماعيل بن عياش، عن صفوان بن عمرو، عن عبد الرحمن بن جُبَيْر. قال: سمع عبد اللّه بن سلام رجلًا يقول لآخر: قتل عثمان بن عفان فلم ينتطح فيه عنزان. فقال ابن سلام أجل! إن البقر والمعز لا تنتطح في قتل الخليفة، ولكن ينتطح فيه الرجال بالسلاح، واللّه ليُقْتلنَّ به أقوامٌ إنهم لفي أصلابِ آبائهم ما ولدوا بعدُ.

وقال ليث

(6)

: عن طاووس. قال: قال ابن سلام:

يحكَّم عثمان يوم القيامة في القاتل والخاذل.

وقال أبو عبد اللّه المحاملي: حدَّثنا أبو الأشعث، حدَّثنا حزم بن أبي حزمٍ، سمعت أبا الأسود يقول: سمعت أبا بكرة يقول

(7)

: لأن أخرَّ من السماء إلى الأرض أحبُّ إليَّ من أن أشْرَكَ في قتل عثمان.

وقال أبو يعلى

(8)

: حدَّثنا إبراهيم بن محمد بن عَرْعَرة، حدَّثنا محمد بن عباد الهنائي، حدَّثنا البراء بن أبي فضالة، حدَّثنا الحضرمي، عن أبي مريم رضيع الجارود. قال:

كنت بالكوفة فقام الحسن بن علي خطيبًا فقال: أيها الناس! رأيتُ البارحةَ في منامي عجبًا، رأيتُ

(1)

في ط والديوان: فقد بد لكم.

(2)

ليست اللفظة في أولا في تاريخ دمشق.

(3)

الطبقات الكبرى (3/ 79) والخبر أيضًا في تاريخ دمشق (485) -ترجمة عثمان-.

(4)

صحيح البخاري (3862) في مناقب الأنصار، وقال ابن حجر رحمه الله: ارفضَّ أي زال عن مكانه، وفي رواية: انقض بالنون والقاف بدل الراء والفاء أي سقط.

(5)

الخبر في تاريخ دمشق (490).

(6)

المصدر السابق (491).

(7)

تاريخ دمشق (492).

(8)

مسند أبي يعلى الموصلي (12/ 6767) والخبر في تاريخ دمشق (495) -ترجمة عثمان- وإسناده ضعيف.

ص: 351

الربَّ تبارك وتعالى فوقَ عرشه فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قام عند قائمةٍ من قوائم العرش، فجاء أبو بكر فوضع يده على منكب النبي صلى الله عليه وسلم ثم جاء عمر فوضع يده على منكب أبي بكر، ثم جاء عثمان فكان بيده

(1)

- يعني رأسه- فقال: ربِّ سلْ عبادَكَ فيم قتلوني؟ فانبعثَ من السماء ميزابان من دمٍ في الأرض. قال: فقيل لعلي ألا ترى ما يحدِّثُ به الحسن؟! فقال: حدَّثَ بما رأى.

ورواه أبو يعلى

(2)

أيضًا: عن سفيان بن وكيع، عن جُميع بن عُمَير

(3)

بن عبد الرحمن: عن مجالد، عن طُحْرُب

(4)

العِجْلي: سمعت الحسن بن علي يقول:

ما كنت لأقاتل بعد رؤيا رأيتها، رأيت العرش ورأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم متعلقًا بالعرش، ورأيت أبا بكر واضعًا يده على (منكب رسول الله، وكان عمر واضعًا يده على منكب أبي بكر، ورأيت عثمان واضعًا يده على) منكب عمر، ورأيت دمًا دونهم، فقلت: ما هذا؟ فقيل: دم عثمان يطلب الله به.

وقال مسلم بن إبراهيم: حدَّثنا سلام بن مسكين، عن وهب بن شبيب، عن زيد بن صوحان أنه قال: يوم قتل عثمان نفرت القلوب منافرها، والذي نفسي بيده لا تتألف إلى يوم القيامة.

وقال محمد بن سيرين

(5)

: قالت عائشة: مُصتموه مَوْصَ

(6)

الإناء ثم قتلتموه؟

وقال خليفة بن خياط

(7)

: حدَّثنا أبو قتيبة، حدَّثنا يونس بن أبي إسحاق، عن عون بن عبد اللّه بن عتبة. قال: قالت عائشة: غضبت لكم من السوط ولا أغضب لعثمان من السيف؟! استَعْتبتُموه حتى إذا تركتموه كالقُلْب

(8)

المُصَفَّى قتلتموه.

وقال أبو معاوية

(9)

: عن الأعمش، عن خَيْثمة، عن مسروق، قال: قالت عائشة رضي الله عنها حين قتل عثمان:

تركتموه كالثوب النقيِّ من الدَّنسِ ثمَّ قتلتموه. وفي رواية: ثم قربتموه فذبحتموه كما يُذْبحَ الكَبْشُ؟ فقال لها مسروقٌ: هذا عملكِ، أنتِ كتبتِ إلى الناس تأمرينهم أن يخرجوا إليه، فقالتْ:

(1)

في تاريخ دمشق (495): فكان نَبْذَةً -وفي حديث ابن حمدان: فكان بيده- يعني رأسه، وهو وهم- ثم اتفقا- فقال

(2)

مسند أبي يعلى الموصلي (12/ 6768) والخبر في تاريخ دمشق (494) -ترجمة عثمان- وإسناده ضعيف.

(3)

في أ، ط: عمير عن عبد الرحمن، خطأ.

(4)

في ط: "حربا" محرف، وتنظر ترجمته في ميزان الذهبي (2/ 335).

(5)

تاريخ دمشق (495).

(6)

المَوْص والغسل واحد. تاريخ دمشق (498).

(7)

تاريخ خليفة بن خياط (175) والخبر في تاريخ دمشق (495).

(8)

القُلب: السِّوار من الفضة. اللسان (قلب) والنهاية (4/ 98).

(9)

تاريخ دمشق (496).

ص: 352

لا والذي آمن به المؤمنون وكفر به الكافرون، ما كتبتُ لهم سوداءَ في بيضاءَ حتى جلست مجلسي هذا.

قال الأعمش: فكانوا يرون أنه كتب على لسانها. وهذا إسنادٌ صحيحٌ إليها. وفي هذا وأمثاله دلالة ظاهرة على أن هؤلاء الخوارج قبحهم اللّه، زوَّروا كتبًا على لسان الصحابة إلى الآفاق يحرضونهم على قتال عثمان، كما قدمنا بيانه وللّه الحمد والمنة.

وقال أبو داود الطيالسي

(1)

: حدَّثنا حزم القُطَعي، حدَّثنا أبو الأسود [والد] سوادة

(2)

أخبرني طلق بن خشاف

(3)

قال:

قال قتل عثمان فتفرَّقنا في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم نسألهم عن قتله، فسمعت عائشة تقول: قُتل مظلومًا لعن اللّه قَتَلَتَهُ.

وروى محمد بن عبد اللّه الأنصاري

(4)

: عن أبيه، عن ثُمامة، عن أنس. قال: قالت أم سليم لما سمعت بقتل عثمان رحمه الله، أما إنه لم يحلبوا بعده إلَّا دمًا.

وأما كلام أئمة التابعين في هذا الفصل فكثير جدًا يطول ذكرنا له، فمن ذلك قول أبي مسلم الخولاني حين رأى الوفد الذين قدموا من قتله

(5)

: إنكم مثلهم أو أعظم جرمًا، أما مررتم ببلاد ثمود قالوا: نعم! قال: فأشهد أنكم مثلهم، لخليفة اللّه أكرم عليه من ناقته.

وقال ابن علية: عن يونس بن عبيد، عن الحسن. قال

(6)

:

لو كان قتلُ عثمان هدى لاحتلبتْ به الأمةُ لبنًا، ولكنه كان ضلالًا فاحتلبت به الأمة دمًا.

وقال أبو جعفر الباقر

(7)

:

كان قتل عثمان [بن عفان] على غير وجه الحق.

‌وهذا ذكر بعض ما رُثي به رضي الله عنه

قال مجالد: عن الشعبي: ما سمعت من مراثي عثمان أحسن من قول كعب بن مالك

(8)

: [من الطويل]

(1)

الخبر في تاريخ دمشق (497) -ترجمة عثمان- من طريق الطيالسي.

(2)

في ط: أبو الأسود بن سوادة، خطأ.

(3)

في ط: حسان، خطأ.

(4)

تاريخ دمشق لابن عساكر مجلد عثمان (499).

(5)

المصدر السابق.

(6)

تاريخ دمشق لابن عساكر (500).

(7)

المصدر السابق.

(8)

الأبيات في تاريخ دمشق لابن عساكر (547 - 548) وديوان كعب بن مالك (91 - 92).

ص: 353

فَكَفَّ يَدَيْهِ ثُمَّ أغْلَق بابَهُ

وأيْقَن أنَّ اللهَ ليسَ بغافِلِ

وقالَ لأهلِ الدّارِ لا تقتلوهُم

(1)

عفا اللّهُ عن كُلِّ امرِئٍ لم يُقاتلِ

فكيفَ رأيتَ اللّهَ صبَّ عليهمُ الـ

ـــــعداوةَ والبَغْضاءَ بَعْدَ التَّواصلِ

وكيفَ رأيتَ الخَيْرَ أدبرَ بعدهُ

عنِ الناسِ إدبارَ

(2)

النَّعامِ الجَوافِلِ

وقد نسب هذه الأبيات سيف بن عمر إلى المغيرة [بن] الأخنس

(3)

بن شريق.

وقال سيف بن عمر: وقال حسان بن ثابت

(4)

: [من الطويل]

ماذا أرَدْتُمْ منْ أخي الدِّين باركتْ

يدُ اللّهِ في ذاكَ الأديمِ المُقَدَّدِ

قَتَلْتُمْ وليَّ اللّه في جَوْفِ دارِهِ

وجئتُمْ بأمْرٍ جائرٍ غَيْرِ مُهْتدِ

فَهلا رَعَيْتُمْ ذمَّةَ اللّهِ بينكم

(5)

وَأوْفَيْتُمُ بالعَهْدِ عَهْدِ مُحمَّدِ

ألَمْ يَكُ فيكمْ ذا بَلاءٍ ومَصْدَقٍ

وأوْفاكُمُ عهدًا

(6)

لدى كُلِّ مَشْهدِ

فَلا ظَفِرَتْ أيْمانُ قَوْمٍ تَبايَعُوا

(7)

على قَتْل عُثْمانَ الرَّشيدِ المُسدَّدِ

وقال ابن جرير

(8)

: وقال حسان بن ثابت رضي الله عنه

(9)

: [من البسيط]

منْ سرَّهُ الموتُ صِرْفًا لا مِزَاجِ لهُ

فَلْيَأتِ مَأْسَدَةً

(10)

في دارِ عُثْمانا

مُسْتَحْقِبي حَلَق الماذيّ قد شَفعَتْ

فَوْقَ المَخَاطِم بيض

(11)

زان أبدانا

ضَحُّوا بأشْمَط عُنوانُ السُّجودِ بهِ

يُقَطِّعُ اللَّيْلَ تَسْبيحًا وقُرآنا

صَبْرًا

(12)

فِدىً لَكُمُ أمّي وما وَلَدتْ

قد يَنْفعُ الصَّبْرُ في المَكْروهِ أحْيانًا

فقد رضينا

(13)

بأرض الشَّامِ نافرةً

وبالأمير وبالإخوانِ إخوانا

(1)

في ديوان كعب بن مالك: (وقال لمن في داره لا تقاتلوا

).

(2)

في أ: أدبر عنهم وولى كإدبار. .

(3)

في ط: إلى أبي المغيرة الأخنس، وما هنا عن أ وتاريخ دمشق وهو الصواب.

(4)

الأبيات في تاريخ دمشق (545) وديوان حسان بن ثابت (1/ 320).

(5)

في ديوان حسان: سطكم.

(6)

في تاريخ دمشق: وأوفاكم قدمًا.

(7)

في الديوان: تظاهرت.

(8)

في تاريخه (4/ 425).

(9)

ديوان حسان (1/ 96).

(10)

في أ: مأدبة.

(11)

في الديوان: بيضًا.

(12)

في الديوان: ويهًا.

(13)

في الديوان: وقد رضيت بأهل الشام زافرة.

ص: 354

إنّي لَمِنْهُمْ وإنْ غابوا وإنْ شَهِدوا

مادمتُ حيًّا

(1)

وما سُمّيت حسانا

لتسمعنَّ وشيكًا في ديارهمُ

اللّه أكبر يا ثاراتِ عثمانا

يا ليتَ

(2)

شِعْري وَلَيْتَ الطَّيْرَ تُخْبرني

ما كانَ شَأْنُ عليٍّ وابنِ عَفّانا

(وهو القائل أيضًا

(3)

: [من البسيط]

إنّ تُمْسِ دارُ ابن أروى

(4)

منهُ خاويةً

نابٌ صريعٌ وبابٌ مُحْرَقٌ خَرِبُ

فقدْ يُصادفُ باغي العرفِ

(5)

حاجَتهُ

فيها ويأوي إليها المَجْدُ

(6)

والحَسَبُ

يا مَعْشَرَ النّاسِ

(7)

أبْدوا ذات أنْفسكُم

لا يستوي الصِّدْقُ عندَ اللّهِ والكَذِبُ

وقال الفرزدق

(8)

: [من البسيط]

إنَّ الخِلافةَ لما أظْعنتْ ظَعَنَتْ

عنْ أهلِ يثربَ إذْ غيرَ الهُدى سَلكوا

صارتْ إلى أهلها منهمْ ووارثها

لما رأى اللّه في عثمانَ ما انتهكوا

السّافكي دَمهُ ظُلْمًا ومَعْصيةً

أيُّ دمٍ - لا هُدوا- من غَيّهم سفكوا

وقال راعي الإبل النميري في ذلك

(9)

: [من الوافر]

عَشِيَّةَ يَدْخلون بغَيرِ إذنٍ

على مُتوكّلٍ أوفى وطابا

خليلُ محمّدٍ ووزيرُ صدقٍ

ورابعُ خيرِ مَنْ وطئ التُّرابا

‌فصل

إن قالَ قائلٌ: كيفَ وقعَ قتلُ عثمان رضي الله عنه بالمدينة، وفيها جماعةٌ من كبار الصحابة رضي الله عنهم؟ فجوابه من وجوه:

أحدها: أن كثيرًا منهم بل أكثرهم أو كلّهم لم يكن يظنّ أنه يبلغ الأمر إلى قتله، فإن أولئك الأحزاب لم يكونوا يحاولون قتلَه عينًا، بل طلبوا منه أحدَ أمورٍ ثلاثةٍ، إما أن يَعْزلَ نَفْسَه، أو يُسْلمَ إليهم مروانَ بن

(1)

في الديوان: حتى الممات وما.

(2)

في الديوان: بل ليت شعري.

(3)

الأبيات خمسة في ديوان حسان (206).

(4)

في الديوان: بني عفان.

(5)

في الديوان: باغي الخير.

(6)

في الديوان: الذكر والحسب.

(7)

في الديوان: يا أيها الناس.

(8)

لم أجد الشعر في ديوانه ولا في تاريخ دمشق.

(9)

البيتان في تاريخ دمشق (555) مجلد عثمان.

ص: 355

الحكم، أو يقتلوه، فكانوا يرجون أن يسلِّم إلى الناس مروان، أو أن يعزل (نفسه) ويستريح من هذه الضائقة الشديدة. وأما القتل فما كان يظن أحد

(1)

أنه يقع، ولا أنَّ هؤلاء يجترئون عليه إلى ما هذا حدّه، حتى وقع ما وقع، والله أعلم.

الثاني: أنَّ الصحابةَ مانعوا دونه أشدَّ المُمانعة، ولكن لمّا وقعَ التَّضييق الشديد، عزم عثمانُ على الناس أن يكفّوا أيديهم ويغمدوا أسلحتَهم ففعلوا، فتمكَّنَ أولئك مما أرادوا، ومع هذا ما ظن (أحد من) الناس أنه يقتل بالكلية.

الثالث: أنَّ هؤلاء الخوارجَ لمّا اغتنموا غيبة كثير من أهل المدينة [أو أكثرهم] في أيّام الحجّ، ولم تقدم الجيوش من الآفاق للنصرة، بل لمَّا اقترب مجيئهم، انتهزوا فرصتهم، قبحهم الله، وصنعوا ما صنعوا من الأمر العظيم.

الرابع: أنَّ هؤلاء الخوارج كانوا قريبًا من ألفي مقاتل من الأبطال، وربما لم يكن في أهل المدينة هذه العدَّة من المقاتلة، لأنَّ الناسَ كانوا في الثُّغور وفي الأقاليم في كل جهة [وفي الحج]، ومع هذا كان كثير من الصحابة [قد] اعتزل هذه الفتنة ولزموا بيوتَهم، ومنْ كان يحضرُ منهم المسجدَ لا يجيء إلا ومعه السيف، يضعه على حبوته إذا احتبى، والخوارجُ محدقون بدار عثمان رضي الله عنه، وربما لو أرادوا صرفهم عن الدار لما أمكنهم ذلك، ولكن [كان] كبار الصحابة قد بعثوا أولادَهم إلى الدار يحاجفون

(2)

عن عثمان رضي الله عنه، لكي تقدم الجيوش من الأمصار لنصرته، فما فوجئ الناس إلا وقد ظفر أولئك بالدار من خارجها، وأحرقوا بابها، وتسوَّروا عليه حتى قتلوه، وأما ما يذكره بعضُ الناس من أنَّ بعضَ الصحابة أسلمه ورضي بقتله، فهذا لا يصحّ عن

(3)

أحد من الصحابة أنه رضي بقتل عثمان رضي الله عنه، بل كلهم كرهه، ومقته وسب من فعله، ولكن (بعضهم) كان يودّ لو خلع نفسه من الأمر، كعمّار بن ياسر، ومحمد بن أبي بكر، و (عمرو) بن الحمق وغيرهم

(4)

.

قال أبو عمر بن عبد البر

(5)

: دفنوا عثمان رضي الله عنه. بحش كوكب -وكان قد اشتراه وزاده في البقيع.

ولقد أحسن بعض السلف إذ يقول

(6)

وقد سئل عن عثمان: هو أمير البررة، وقتيل الفجرة، مخذول من خذله، منصور من نصره.

(1)

في أ: ما كان أحد يظن أنه يقع.

(2)

حاجفت فلانًا إذا عارضته ودافعته. اللسان (حجف).

(3)

في أ: من.

(4)

بعد هذه اللفظة يرد حديث سهم بن حنش أبي خنيس عن يوم الدار رواه ابن عساكر وقد تقدم.

(5)

الاستيعاب (3/ 1048) واللفظ مختلف. وكوكب: رجل من الأنصار، وحش: البستان.

(6)

في أ: حيت يقول.

ص: 356

وقال (شيخنا) أبو عبد الله الذهبي في آخر ترجمة عثمان وفضائله

(1)

- بعد حكايته هذا الكلام: الذين قتلوه أو ألَّبوا عليه قتلوا إلى عفو الله ورحمته، والذين خَذلوه خُذلوا وتنَغَّصَ عيشهم، وكان الملك بعده في نائبه معاوية وبنيه

(2)

، ثم في وزيره مروان وثمانية من ذريته، استطالوا حياته وملُّوه مع فضله وسوابقه، فتملك عليهم من هو من بني عمه بضعًا وثمانين سنة، فالحكم لله العلي الكبير. وهذا لفظه بحروفه.

‌بعض

(3)

الأحاديث الواردة في فضائل [أمير المؤمنين] عثمان بن عفان

هو عثمان

(4)

بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مُرَّة بن كَعْب بن لُؤَيّ بن غالب بن فِهْر بن مالك بن النَّضْر بن كنانة بن خُزَيْمة بن مُدْرِكة بن إلياس بن مُضَر بن نزار بن مَعَد بن عدنان، أبو عمرو وأبو عبد الله، القرشي، الأموي؛ أمير المؤمنين، ذو النورين، وصاحب الهجرتين، وزوج الابنتين، وأمُّه أروى بنت كُرَيْز بن ربيعة بن عبد شمس. وأنُّها أمُّ حكيم وهي البَيْضاء بنت عبد المطلب عمةُ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وهو أحدُ العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الستة أصحاب الشورى، وأحدُ الثلاثة الذين خلصت لهم الخلافة من الستّة، ثم تعينت فيه بإجماع المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم، فكان

(5)

ثالثَ الخلفاء الرّاشدين، والأئمة المَهْديين، المأمور

(6)

باتباعهم والاقتداء بهم.

أسلم عثمانُ رضي الله عنه قديمًا على يدي أبي بكر الصّدّيق، وكان سبب إسلامه عجيبًا

(7)

فيما ذكره الحافظ ابن عساكر

(8)

، وملخص ذلك أن لما بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوج ابنته رقية -وكانت ذات جمال- من ابن عمها عتبة بن أبي لهب، تأسف إذ لم يكن هو تزوجها، فدخل على أهله مهمومًا فوجد عندهم خالته سعدى بنت كريز -وكانت كاهنة- فقالت له

(9)

: [من الرجز]

(1)

تاريخ الإسلام (478) -عهد الخلفاء الراشدين- ط: دار الكتاب العربي.

(2)

في أ: وكان الملك بعده نائبه معاوية واستديم في وزيره.

(3)

في أ: فصل في الإشارة إلى شيء من فضائل عثمان

(4)

ترجمة -عثمان رضي الله عنه في طبقات ابن سعد (3/ 53) ونسب قريش (236) حلية الأولياء (1/ 55) والاستيعاب (3/ 1048) وأسد الغابة (3/ 276) وتاريخ دمشق لابن عساكر (مجلد كامل) والإصابة (2/ 462) وتهذيب التهذيب (7/ 129) والعقد الثمين (6/ 32) والرياض النضرة (1/ 192).

(5)

في أ: فصار.

(6)

في ط: والمأمور.

(7)

في أ: عجبًا.

(8)

تاريخ دمشق (20) مجلد عثمان.

(9)

الأبيات في تاريخ دمشق (20) وقد جاءت في ط وكأنها نثر لا شعر.

ص: 357

أبْشِرْ وحييّتَ ثلاثًا تترى

ثم ثلاثًا وثلاثًا أخرى

ثم بأخرى كي تتم عشرًا

أتاك خيرٌ ووقيتَ شرّا

أُنكحتَ والله حصانًا زَهْرا

وأنت بكر ولقيت بكرا

وافيتها بنتَ عظيم قدرا

بنيتَ أمرًا

(1)

قد أشاد ذكرا

قال عثمان: فعجبت من أمرها حيث تبشرني بامرأة قد تزوجت غيري فقلت: يا خالة ما تقولين؟ فقالت: عثمانُ [من الرجز]

لك الجمال ولك اللسان

هذا نبي

(2)

معه البرهانُ

أرسله بحقّه الديانُ

وجاءه التنزيل والفرقان

فاتْبعه لا تغتالك الأوثان

قال: فقلت إنك لتذكرين أمرًا ما وقع ببلدنا. فقالت: محمد بن عبد الله، رسول من عند الله، جاء بتنزيل الله، يدعو به إلى الله، ثم قالت:[جزوء الرجز]

مصباحُهُ مصباحُ

ودينُهُ فلاحُ

وأمرُه نجاحُ

وقرنُه نطّاحُ

ذلَّتْ له البطاحُ

ما ينفع الصيّاح

(3)

لو وقع الذّباح

وسُلَّتِ الصفاح

ومُدَّتِ الرّماحُ

قال عثمان: فانطلقت مفكرًا فلقيني أبو بكر فأخبرته، فقال: ويحكَ يا عثمانُ إنَّك لرجلٌ حازمٌ، ما يخفى عليك الحقُّ من الباطل، ما هذه الأصنام التي يعبدها قومنا؟ أليست من حجارة صم لا تسمع ولا تبصر ولا تضرُّ ولا تنفع؟ قال: قلت بلى! واللّه إنها لكذلك، فقال: والله لقد صدقتك خالتك، هذا رسول الله محمد بن عبد اللّه، قد بعثه اللّه إلى خلقه برسالته، هل

(4)

لك أن تأتيه؟ فاجتمعنا برسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال: "يا عثمان أجب اللّه إلى جنته

(5)

فإنّي رسول الله إليك وإلى خلقه". قال: فوالله ما تمالكتُ حين سمعت

(6)

قوله أن أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ثم لم ألبث أن

(1)

في أ: بنت امرئ قد أسْار ذكرًا.

(2)

في ط: هذا النبي.

(3)

في أ: المصباح.

(4)

في أ: فهل لك.

(5)

في ط: إلى حقه.

(6)

في ط: ما تمالكت نفسي منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وما هنا عن أ وتاريخ دمشق.

ص: 358

تزوجت رقية بنت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فكان يقال: [أحسن زوج رقية وعثمان. قال عمارة بن زيد وكان يقال]

(1)

: [من الرجز]

أحسنُ زوجٍ رآهُ إنسانُ

رقيّةٌ وزوجُها عثمانُ

فقالت في ذلك سعدى بنت كريز

(2)

: [من الطويل]

هَدَى اللهُ عُثمانًا بقَوْلي إلى الهُدى

وأرْشَدَهُ واللّهُ يَهْدي إلى الحقِّ

فتَابعَ بالرَّأيِ السَّديدِ مُحمَّدًا

وكان برأيٍ لا يَصُد

(3)

عن الصِّدْقِ

وأنْكحَهُ المَبْعوثُ بالحقِّ بنتَهُ

فكانا كبدْرٍ مازَجَ الشَّمْسَ في الأُفْقِ

فِداؤكَ يا بنَ الهاشِميِّينَ مُهْجتي

وأنتَ أمينُ اللهِ أُرسِلْتَ للخَلْق

قال: ثم جاء أبو بكر من الغد بعثمان بن مَظْعون، وبأبي عبيدة، وعبد الرحمن بن عوف، وأبي سلمة بن عبد الأسد، والأرقم بن أبي الأرقم، فأسلموا، وكانوا مع من اجتمع مع رسول الله ثمانية وثلاثون رجلًا.

وهاجر إلى الحبشة أوّلَ الناس ومعه زَوْجتهُ رقية بنت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ثم عاد إلى مكة وهاجر إلى المدينة، فلما كانت وقعةُ بدرٍ اشتغلَ بتمريض ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقام بسببها في المدينة، فضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمه منها وأجره فيها، فهو معدودٌ فيمن شهدها. فلما تُوفِّيت زوَّجهُ رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم بأُخْتها أمِّ كلثوم فتوفيت أيضًا في صحبته، وقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم:"لو كان عندنا أخرى لزوجناها لعثمان"

(4)

.

وشهد أُحدًا وفر يومئذ فيمن تولَّى، وقد نصَّ اللَّهُ على العفو عنهم، وشهد الخندق والحديبية، وبايع عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ بإحدى يديه، وشهد خيبر وعمرة القضاء، وحضر الفتح وهوازن والطائف وغزوة تبوك، وجهز جيش

(5)

العسرة.

وتقدّم عن عبد الرحمن بن خباب أنه جهزهم يومئذ بثلاثمئة بعير باقتابها وأحلاسها، وعن عبد الرحمن بن سمرة أنه جاء يومئذ بألف دينار فصبَّها في حجر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم (فقال:"ما ضرَّ عثمانَ ما فعلَ بعد هذا اليوم"

(6)

مرتين).

وحجَّ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجةَ الوداع، وتوفي وهو عنه راضٍ، وصحب أبا بكرٍ فأحسنَ صُحْبته،

(1)

الاستدراك عن تاريخ دمشق (21).

(2)

الأبيات في تاريخ دمشق (21).

(3)

في أ: وكان برأي لا بعيد عن الصدق.

(4)

الحديث رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق (38).

(5)

في أ: وجهز فيها جيش العسرة.

(6)

الحديث أخرجه الإمام أحمد في مسنده (5/ 63) والترمذي رقم (3701) وهو حديث حسن.

ص: 359

وتوفي وهو عنه راضٍ، وصحب عمر فأحسنَ صحبتَهُ وتوفي وهو عنه راضٍ. ونصَّ عليه في أهل الشورى الستة، فكان خيرَهم كما سيأتي.

فولي الخلافة بعده ففتح اللّه على يديه كثيرًا من الأقاليم والأمصار، وتوسعت المملكة الإسلامية، وامتدت الدولة المحمدية، وبلغت الرسالة المصطفوية في مشارق الأرض ومغاربها، وظهر للناس مصداق قوله تعالى:{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور: 55] وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33] وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله زوى لي مشارق الأرض ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها"

(1)

وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا هلكَ قيصرٌ فلا قيصرَ بعده، وإذا هلكَ كسرى فلا كسرى بعده، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله"

(2)

وهذا كله تحقَّق وقوعه وتأكَّدَ وتوطَّد في زمان عثمان رضي الله عنه.

وقد كان رضي الله عنه حسنَ الشكل، مليحَ الوجه، كريمَ الأخلاق، ذا حياءٍ كثير، وكرمٍ غزيرٍ، يُؤْثرُ أهلَه وأقاربَه

(3)

في الله، تأليفًا لقلوبهم من مَتاعِ الحياةِ الدُّنيا الفاني، لعله يرغِّبهم في إيثار ما يبقى على ما يفنى، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يُعطي أقوامًا ويدعُ آخرين، يعطي أقوامًا خشيةَ أن يَكبَّهُمْ اللّهُ على وجوههم في النار، وَيَكلُ آخرين إلى ما جَعلَ اللهُ في قلوبهم من الهُدى والإيمان، وقد تَعنَّتَ عليه بسب هذه الخصلة أقوامٌ، كما تَعنَّتَ بعضُ الخوارج على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإيثار. وقد قدمنا ذلك في غزوة حُنين حيث قسم غنائمها. وقد وردت أحاديثُ كثيرةٌ في فضل عثمان رضي الله عنه نذكر ما تيسر منها إن شاء الله وبه الثقة وهي قسمان:

‌الأول: فيما ورد في فضائله مع غيره

فمن ذلك الحديثُ الذي رواه البخاريّ في صحيحه

(4)

: حدَّثنا مُسدد، حدَّثنا يحيى بن سعيد، عن سعيد، عن قتادة أن أنسًا

(5)

حدَّثهم قال:

"صعدَ النبيُّ أُحدًا ومعه أبو بكر وعمر وعثمان، فرجفَ فقال: اسكن أحد -أظنُّه ضربَه برجله- فليس عليك إلَّا نبيٌّ وصدِّيقٌ وشهيدان" تفرد

(6)

به دون مسلم.

(1)

قطعة من حديث رواه ثوبان، أخرجه مسلم في صحيحه رقم (2889) في الفتن، وابن حبان في صحيحه رقم (6714) في التاريخ.

(2)

الحديث عن أبي هريرة أخرجه أحمد في مسنده (2/ 240) ومسلم في صحيحه (2918)(75) في الفتن.

(3)

في أ: يؤثر أقاربه وأهله.

(4)

صحيح البخاري (3699) في فضائل الصحابة.

(5)

في ط: إنسانًا؛ خطأ.

(6)

في أ: انفرد.

ص: 360

وقال الترمذي

(1)

: حدَّثنا قتيبة، حدَّثنا عبد العزيز بن محمد، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة:

أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان على حراء هو وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي بن أبي طالب وطلحة والزبير، فتحركت الصخرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"اهدئي فما عليك إلا نبي أو صدِّيق أو شهيد".

ثم قال في الباب: عن عثمان وسعيد بن زيد وابن عباس، وسهل بن سعد، وأنس بن مالك، وبُرَيْدة الأسلمي، وهذا حديث صحيح. قلت: ورواه أبو الدرداء، ورواه الترمذي عن عثمان في خطبته يوم الدار، وقال: على ثبير.

‌حديث آخر

وهو [ما ثبت في الصحيحين

(2)

من حديث] أبي عثمان النَّهدي، عن أبي موسى الأشعري قال: كنتُ مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في حائط، فأمرني بحفظ الباب، فجاء رجلٌ يستأذن فقلت: من هذا؟ قال: أبو بكر، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم:"ائذنْ له وبشّره بالجنَّة". ثمَّ جاء عمر فقال: "ائْذنْ له وبشره بالجنَّة" ثمَّ جاء عثمان فقال: "ائذن له وبشّره بالجنة على بلوى تصيبُه". فدخل وهو يقول: اللهمَّ صبرًا وفي رواية -اللّه المستعان، رواه عنه قتادة وأيوب السختياني.

وقال البخاري

(3)

: وقال حماد بن زيد: حدَّثنا عاصم الأحول وعليّ بن الحكم، سمعا أبا عثمان يحدِّث عن أبي موسى الأشعري بنحوه، وزاد عاصم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قاعدًا في مكان فيه ماء قد انكشف

(4)

عن ركبتيه، أو ركبته، فلما دخل عثمان غطاها.

وهو في الصحيحين

(5)

أيضًا من حديث سعيد بن المسيِّب، عن أبي موسى، وفيه: أن أبا بكر وعمر دلَّيا أرجلهما مع رسول اللّه في باب القفّ وهو في البئر، وجاء عثمان فلم يجد له موضعًا [فجلس ناحيةً] " قال سعيد [بن المسيب]: فأولت ذلك قبورهم اجتمعت وانفرد عثمان.

وقال

(6)

الإمام أحمد

(7)

: حدَّثنا يزيد بن هارون

(8)

، حدَّثنا محمد بن عمرو، عن أبي سَلمة. قال: قال نافع بن عبد الحارث:

(1)

سنن الترمذي (3696) في المناقب، والرواية الثانية -خطبة عثمان- (3703).

(2)

صحيح البخاري (3695) في فضائل الصحابة، وصحيح مسلم (2403)(28) في فضائل الصحابة.

(3)

في صحيحه (7/ 53) -فتح الباري- رقم (3695).

(4)

في ط: في مكان قد انكشف .. ، وما هنا عن أ وصحيح البخاري.

(5)

صحيح البخاري (7097) في فضائل الصحابة، وصحيح مسلم (2403)(29) في فضائل الصحابة.

(6)

في أ: وقد قال.

(7)

مسند الإمام أحمد (3/ 408).

(8)

في ط: يزيد بن مروان؛ تحريف وما هنا عن مسند أحمد وتاريخ دمشق (122).

ص: 361

خرجت مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حتى دخل حائطًا فقال: "أمسك عليَّ البابَ"، فجاء حتى جلس على القُفِّ

(1)

ودلَّى رجليه، فضرب الباب فقلتُ: منْ هذا؟ فقال: أبو بكر، فقلت يا رسول الله هذا أبو بكر، قال:"ائذن له وبشِّره بالجنَّة". فدخل فجلس مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على القُفَّ ودلَّى رجليه في البئر، ثم ضُرِبَ البابُ: فقلت: منْ هذا؟ قال: عمر: قلت: يا رسول اللّه هذا عمر، قال:"ائذن له وبشِّره بالجنة"(ففعلت)، فجاء فجلس مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على القُفِّ ودلّى رجليه في البئر ثم ضُربَ البابُ فقلت: منْ هذا؟ قال: عثمان، قلت: يا رسول اللّه هذا عثمان، قال:"ائذن له وبشِّره بالجنة معها بلاء" فأذنت له وبشرته بالجنة، فجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على القُفِّ ودلَّى رجليه في البئر.

هكذا وقع في هذه الرواية، وقد أخرجه أبو داود والنسائي

(2)

من حديث أبي سلمة، فيحتمل أن أبا موسى ونافع بن عبد الحارث كانا مُوكَّلين بالباب، أو أنها قصة أخرى.

وقد رواه الإمام أحمد

(3)

: عن عفَّان، عن وهيب، عن موسى بن عقبة سمعت أبا سلمة ولا أعلمه إلا عن نافع بن عبد الحارث.

"أنَّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم دخل حائطًا فجلس على قُفِّ البئر، فجاء أبو بكر فاستأذن فقال لأبي موسى: ائذن له وبشِّره بالجنة. ثم جاء عمر فقال: ائذن له وبشِّره بالجنة" ثمَّ جاء عثمان فقال: "ائذن له وبشره بالجنة وسيلقى بلاءً".

وهذا السياق أشبه من الأول، على أنه قد رواه النسائي

(4)

من حديث صالح بن كيسان، عن أبي الزناد، عن أبي سلمة، عن عبد الرحمن بن نافع بن عبد الحارث، عن أبي موسى الأشعري فالله أعلم.

وقال الأمام أحمد

(5)

: حدَّثنا يزيد، أخبرنا همام، عن قتادة، عن ابن سيرين ومحمد بن عبيد، عن عبد

(6)

اللّه بن عمرو قال: كنت مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فجاء أبو بكر فاستأذن فقال: "ائذن له وبشره بالجنة" ثم جاء عمر فقال: "ائذن له وبشره بالجنة" ثم جاء عثمان فاستأذن فقال: "ائذن له وبشره بالجنة". قال: قلت فأين أنا؟ قال: أنت مع أبيك. تفرّد به أحمد. وقد رواه البزار وأبو يعلى من حديث أنس بن مالك بنحو ما تقدم.

(1)

القف: هو الدكة التي تجعل حول البئر. اللسان (قفف).

(2)

سنن أبي داود (5188) في الأدب، والنسائي في الكبرى (8132).

(3)

مسند الإمام أحمد (3/ 408).

(4)

في الكبرى (8131).

(5)

مسند الإمام أحمد (2/ 165) وهو حديث صحيح.

(6)

في أ: عبيد الله؛ تحريف.

ص: 362

‌حديث آخر

قال الإمام أحمد

(1)

: حدَّثنا حجاج، حدَّثنا ليث، حدَّثني عقيل، عن ابن شهاب، عن يحيى بن سعيد بن العاص، أن سعيد بن العاص أخبره، أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وعثمان حدَّثاه: أن أبا بكر استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم وهو مضطجعٌ على فراشه لابسٌ مرطَ

(2)

عائشة، فأذن لأبي بكر وهو كذلك فقضى إليه حاجته ثم انصرف، فاستأذن عمر فأذن له وهو على تلك الحالة فقضى إليه حاجته ثم انصرف، قال عثمان: ثم استأذنت عليه فجلس وقال: "اجمعي عليك ثيابك" فقضيت إليه حاجتي ثم انصرف، فقالت عائشة: يا رسول الله! ما لي لم أرك فزعت لأبي بكر وعمر كما فزعت لعثمان؟ فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "إن عثمان رجل حييٌّ، وإني خشيتُ إن أذنتُ له على تلك الحالة ألا يبلغ إليَّ حاجته" قال (الليث): وقال جماعة الناس: إنَّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: "ألا أستحي ممن تستحي منه [ملائكة الرحمن". ورواه مسلم

(3)

من حديث الليث بن سعد به، ومن حديث صالح بن كيسان، عن الزهري به]؟. ورواه مسلم

(4)

من حديث محمد بن أبي حرملة، عن عطاء وسليمان بن يسار (عن) أبي سلمة، عن عائشة. ورواه أبو يعلى الموصلي من حديث سهيل، عن أبيه، عن عائشة. ورواه جبير بن نفير وعائشة بنت طلحة عنها.

وقال الإمام أحمد (4): حدَّثنا مروان، حدَّثنا عبد اللّهْ

(5)

بن سيَّار

(6)

: سمعت عائشة بنت طلحة تذكر، عن عائشة أم المؤمنين: أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان جالسًا كاشفًا عن فخذه فاستأذن أبو بكر فأذن له وهو على حاله، ثم استأذن عمر فأذن له وهو على حاله، ثم استأذن عثمان فأرخى عليه ثيابه، فلما قاموا قلتُ: يا رسولَ الله استأذنَ عليكَ أبو بكرٍ وعمرُ فأذنتَ لهما وأنتَ على حالك، فلما استأذن عليك عثمان أرخيتَ عليكَ ثيابكَ. فقال:"يا عائشةُ ألا أستحي من رجل -واللّه- إن الملائكة لتستحي منه؟ ". تفرد به أحمد من هذا الوجه.

‌طريق أخرى عن حفصةَ

رواه الحسن بن عرفة، وأحمد بن حنبل

(7)

، عن روح بن عبادة (عن ابن جريج)؛ أخبرني أبو خالد

(1)

مسند الإمام أحمد (1/ 71) وهو حديث صحيح.

(2)

"المرط": الثوب من الصوف أو الخز. اللسان (مرط).

(3)

صحيح مسلم (2402) في فضائل الصحابة، وبالطريق الثانية (2402) في فضائل الصحابة.

(4)

مسند الإمام أحمد (6/ 62) وبهذا السند أيضًا في تاريخ دمشق (81 - 82) مجلد عثمان.

(5)

في تاريخ دمشق: "عبيد اللّه" خطأ، وتنظر ترجمته في التاريخ الكبير للبخاري (5/ 110)، والجرح والتعديل (5/ 76)، وثقات ابن حبان (7/ 17).

(6)

في أ: سيار؛ تحريف.

(7)

مسند الإمام أحمد (6/ 288) ولهذه الرواية طرق متعددة في تاريخ دمشق (83 - 84).

ص: 363

عثمان بن خالد، عن عبد اللّه بن أبي سعيد المدني: حدَّثتني حفصة، فذكر مثل حديث عائشة، وفيه: فقال: "ألا أستحي

(1)

ممن تستحي منه الملائكة".

‌طريق أخرى عن ابن عبّاس

قال الحافظ أبو بكر البزار: حدَّثنا أبو كريب، حدَّثنا يونس بن بكير، حدَّثنا النضر -هو ابن عبد الرحمن أبو عمر الخزاز الكوفي- عن عكرمة، عن ابن عباس. قال قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم "ألا أستحي ممن تستحي منه الملائكة عثمان بن عفان؟ " ثم قال البزار: لا نعلمه يُروى عن ابن عباس إلا بهذا الإسناد. قلت وهو على شرط الترمذي ولم يخرجوه

(2)

.

‌طريق أخرى عن ابن عمر

قال الطبراني

(3)

: حدَّثنا عبد اللّه بن أحمد بن حنبل، حدَّثنا محمد بن أبي بكر المقدَّمي، حدَّثنا أبو معشر، حدَّثني إبراهيم بن عمر بن أبان، حدَّثني أبي: عمر بن أبان، عن أبيه. قال سمعت عبد الله بن عمر يقول: بينما رسول اللّه صلى الله عليه وسلم جالسٌ، وعائشةُ وراءه، إذ استأذن أبو بكر فدخل، ثم استأذن عمر فدخل، ثم استأذن سعد بن مالك فدخل، ثم استأذن عثمان بن عفان فدخل، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتحدث كاشفًا عن ركبته، فردَّ ثوبَه على ركبته حين استأذن عثمان، وقال لامرأته:"استأخري" فتحدثوا ساعةً ثم خرجوا، فقالت عائشة: يا نبيَّ الله! دخل أبي وأصحابه فلم تُصلح ثوبَكَ على ركبتك، ولم تؤخرني عنك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"يا عائشة ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة؟ والذي نفسي بيده إن الملائكة لتستحي من عثمان كما تستحي من الله ورسوله، ولو دخل، وأنت قريب مني، لم يتحدث ولم يرفع رأسه حتى يخرج".

هذا حديث غريب من هذا الوجه، وفيه زيادةٌ على ما قبله، وفي سنده ضعف.

قلت: وفي الباب عن علي وعبد الله بن أبي أوفى، وزيد بن ثابت. وروى أبو مروان القرشي، عن أبيه، عن مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"عثمان حيى تستحي منه الملائكة"

(4)

.

(1)

في ط: ألا نستحي.

(2)

النضر بن عبد الرحمن الخزاز متروك، فإسناد الحديث ضعيف جدًا، ولم أفهم قوله:"على شرط الترمذي"!! (بشار)، أقول: الحديث حسن بطرقه وشواهده الكثيرة، وقد تقدم بعضها.

(3)

المعجم الكبير (12/ 327) رقم (13253) وهو أيضًا في تاريخ دمشق (85 - 86).

(4)

تاريخ دمشق (86) بهذا السند.

ص: 364

‌حديث آخر

قال الإمام أحمد

(1)

: حدَّثنا وكيع، عن سفيان، عن خالد الحذّاء، عن أبي قلابة، عن أنس. قال قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم:"أرحمُ أمَّتي أبو بكر، وأشدُّها في دين اللّه عمرُ، وأشدُّها حياءً عثمانُ، وأعلمُها بالحلال والحرام معاذُ بن جبل، وأقرؤُها لكتاب اللّه أبيٌّ، وأعلمُها بالفرائض زيدُ بن ثابت، ألا وإن لكلِّ أمةٍ أمينٌ، وأمينُ هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح" (وهكذا رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه

(2)

من حديث خالد الحذاء، وقال الترمذي: حسن صحيح. وفي صحيح البخاري ومسلم

(3)

آخره "ولكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح") وقد روى هشيم، عن كوثر

(4)

بن حكيم، عن نافع، عن ابن عمر مثل حديث أبي قِلابة عن أنس أو نحوه.

‌حديث آخر

قال الإمام أحمد

(5)

: حدَّثنا يزيدُ بن عبد ربه، حدَّثنا محمد بن حرب، حدَّثني الزُّبيدي، عن ابن شهاب، عن عمرو بن أبان بن عثمان، عن جابر بن عبد اللّه، أنه كان يحدّث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"أري الليلةَ رجلٌ صالحٌ أن أبا بكر نيط برسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ونيط عمر بأبي بكر، ونيط عثمان بعمر" فلما قمنا من عند رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قلنا: أما الرجل الصالح فرسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وأما ما ذكره

(6)

رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من نوط بعضهم ببعض، فهؤلاء ولاةُ هذا الأمر الذي بعث الله به نبيه صلى الله عليه وسلم.

ورواه أبو داود

(7)

عن عمرو بن عثمان عن محمد بن حرب، ثم قال: ورواه يونس وشعيب عن الزهري فلم يذكرا عَمرًا.

‌حديث آخر

قال الإمام أحمد

(8)

: حدَّثنا أبو داود -عمر بن سعد- حدَّثنا بدر بن عثمان، عن عُبيد اللّه بن

(1)

مسند الإمام أحمد (3/ 184).

(2)

جامع الترمذي رقم (3791) في المناقب، فضائل الصحابة للنسائي (182) سنن ابن ماجه (154) و (155) في المقدمة.

(3)

صحيح البخاري رقم (4382) في المغازي، وصحيح مسلم رقم (2419)(53) في فضائل الصحابة.

(4)

في أ: كريب، وفي ط: كريز؛ كلاهما تحريف، وما هنا عن مصادر الحديث.

(5)

مسند أحمد (3/ 355) وفي إسناده ضعيف.

(6)

في أ: وأما ما ذكر وفي مسند أحمد: وأما ذكر.

(7)

سنن أبي داود (4636) في السنة وفي إسناده ضعف. ونيط: تعلق. هامش السنن (5/ 31).

(8)

في مسنده (2/ 76) وبهذا السند أيضًا في تاريخ دمشق (106) وإسناده ضعيف.

ص: 365

مروان

(1)

، عن أبي عائشة، عن ابن عمر قال: خرج علينا رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم ذاتَ غداةٍ بعد طلوعِ الشمس فقال:

"رأيتُ قبلَ الفجرِ كأنّي أعطيتُ المقاليدَ والموازينَ، فأما المقاليدُ، فهذه المفاتيحُ، وأما الموازين فهي التي يوزن بها، فوضعتُ في كفة، ووضعت أمتي في كفة، فوزنت بهم فرجحت، ثم جيء بأبي بكر فوزن فوزن بهم، ثم جيء بعمر فوزن فوزن بهم، ثم جيء بعثمان فوزن فوزن بهم، ثم رفعت".

تفرد به أحمد.

وقال يعقوب بن سفيان: حدَّثنا هشام بن عمار، حدَّثنا عمرو بن واقد، حدَّثنا يونس بن ميسرة، عن أبي إدريس، عن معاذ بن جبل، قال قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم:

"إني رأيت أني وُضعت في كفَّةٍ وأمتي في كفة فعدلتها، ثم وضع أبو بكر في كفة وأمتي في كفة فعدلها، ثم وضع عمر في كفة وأمتي في كفة فعدلها، ثم وضع عثمان في كفة وأمتي في كفة فعدلها"

(2)

.

‌حديث آخر

قال أبو يعلى

(3)

: حدَّثنا عبد الله بن مطيع، حدَّثنا هشيم، عن العَوَّام، عمن حدَّثه، عن عائشة، قالت: لما أسَّس رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجدَ المدينة جاء بحجر فوضعه، وجاء أبو بكر بحجر فوضعه، وجاء عمر بحجر فوضعه، وجاء عثمان بحجر فوضعه، قالت: فسئل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: "هم أمراء الخلافة من بعدي".

وقد تقدم هذا الحديث في بناء المسجد، أولَ مقدمِهِ المدينةَ عليه الصلاة والسلام.

وكذلك تقدم في دلائل النبوة من حديث الزُّهري: عن رجل، عن أبي ذر في تسبيح الحصا في يده عليه السلام، ثمَّ في كفِّ أبي بكر، ثمَّ في كفِّ عمر، ثُمَّ في كفِّ عثمان، رضي الله عنهم.

وفي بعض الروايات: فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "هذه خلافة النبوة"

(4)

.

وسيأتي حديث سفينة أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: "الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكًا"

(5)

فكانت

(1)

في الأصول والمطبوع: عبد الله، وهو خطأ، والتصحيح من كتب الرجال.

(2)

تاريخ دمشق لابن عساكر (105) بهذا السند، وإسناده ضعيف جدًا، فإن عمرو بن واقد القرشي متروك.

(3)

مسند أبي يعلى الموصلي (8/ 295) رقم (4884) ونص الحديث: "هذا أمر الخلافة من بعدي" وإسناده ضعيف.

(4)

تقدم تخريجه في الجزء الخامس دلائل النبوة.

(5)

الحديث رواه أحمد في مسنده (5/ 220 و 221) والبغوي في شرح السنة رقم (3865) وابن حبان في صحيحه كما في الإحسان (15/ 392) رقم (6943) وهو حديث حسن.

ص: 366

ولاية عثمان ومدتها اثنتي عشرة سنة، من جملة هذه الثلاثين بلا خلاف بين العلماء العاملين، كما أخبر به سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم وصحبه أجمعين.

‌حديث آخر

وهو ما روي من طرق متعدِّدةٍ عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنه شهدَ للعشرة بالجنة، (وهو أحدهم بِنصِّ النبي صلى الله عليه وسلم.

‌حديث آخر

قال البخاري

(1)

: حدَّثنا محمد بن حاتم

(2)

بن بزيع، حدَّثنا شاذان، حدَّثنا عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون، عن عبيد اللّه، عن نافع، عن ابن عمر. قال: كنا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لا نعدلُ بأبي بكر أحدًا، ثم عمر، ثم عثمان، ثم نذر

(3)

أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا نفاضلُ بينهم.

تابعه عبد الله بن صالح عن عبد العزيز، تفرَّد به البخاري، ورواه إسماعيل بن عياش، والفرج بن فضالة، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن نافع، عن ابن عمر.

ورواه أبو يعلى

(4)

عن أبي معمر، عن يزيد بن هارون، عن اللَّيث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن ابن عمر به.

‌طريق أخرى عن ابن عمر رضي الله عنهما

قال الإمام أحمد

(5)

: حدَّثنا أبو معاوية، حدَّثنا سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن ابن عمر. قال: كنا نعُدُّ، ورسولُ

(6)

الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه متوافرون أبو بكر وعمر وعثمان ثم نسكت.

‌طريق أخرى عن ابن عمر بلفظ آخر

قال الحافظ أبو بكر البزّار

(7)

: حدَّثنا عمرو بن علي وعقبة بن مكرم قالا: حدَّثنا أبو عاصم، عن

(1)

صحيح البخاري (3698) في فضائل الصحابة.

(2)

في ط: محمد بن حازم؛ تحريف.

(3)

في أ: ثم نزل، تحريف.

(4)

مسند أبي يعلى الموصلي (9/ 456) رقم (5604).

(5)

مسند الإمام أحمد (2/ 14)، وإسناده صحيح.

(6)

في ط: "كنا نعد رسول الله" خطأ، وما أثبتناه يعضده ما في المسند.

(7)

كشف الأستار (2/ 224) رقم (1569).

ص: 367

عمر بن محمد، عن سالم، عن أبيه. قال: كنا نقول في عهد النبي صلى الله عليه وسلم: أبو بكر وعمر وعثمان -يعني في الخلافة- وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجوه، لكن قال البزار: وهذا الحديث قد روي عن ابن عمر من وجوه: كنا نقول أبو بكر وعمر وعثمان، ثم لا نفاضل بعد. وعمر بن محمد لم يكن بالحافظ، وذلك -يتبين في حديثه

(1)

إذا روى عن غير سالم فلم يقل شيئًا.

وقد رواه غير واحد من الضعفاء عن الزُّهري، عن سالم، عن أبيه به.

وقد اعتنى الحافظ ابن عساكر

(2)

بجمع طرقه عن ابن عمر فأفاد وأجاد.

فأما الحديث الذي قال الطبراني

(3)

: حدَّثنا سعيد بن عبد ربه الصَّفار البغدادي، حدَّثنا علي بن جميل

(4)

الرَّقي، أخبرنا جرير، عن ليث، عن مجاهد، عن ابن عباس. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

"في الجنة شجرة -أو ما في الجنة شجرة- شك علي بن جميل، ما عليها ورقة إلا مكتوب عليها لا إله إلا الله محمد رسول الله، أبو بكر الصديق، عمر الفاروق، عثمان ذو النورين" فإنه حديث ضعيف، في إسناده من تكلم فيه ولا يخلو من نكاره، واللّه أعلم.

‌القسم الثاني فيما ورد من

(5)

فضائله وحده

قال البخاري

(6)

: حدَّثنا موسى بن إسماعيل، حدَّثنا أبو عوانة، حدَّثنا عثمان بن موْهَب، قال: جاء رجلٌ من أهل مصر حجَّ البيتَ، فرأى قومًا جلوسًا فقال: من هؤلاء القوم؟ قالوا: قريشٌ، قال: فمن

(7)

الشيخِ فيهم؟ قالوا: عبد الله بن عمر. قال: يا بن عمر! إني سائلُكَ عن شيء فحدِّثني، هل تعلم أن عثمانَ فرّ يومَ أحد؟ قال: نعم! قال: تعلم أنه تغيَّب يوم بدر ولم يشهدها؟ قال: نعم! قال: تعلم أنه تغيَّب عن بيعةِ الرضوان ولم يشهدها؟ قال: نعم! قال: الله أكبر، قال ابن عمر: تعال أبيِّن لك، أما فراره يوم أحد فأشهد أن الله عفا عنه وغفر له، وأما تغيبه عن بدر فإنه كانت تحته بنت رسول اللّه وكانت مريضة، فقال له رسول الله:"إن لك أجرَ رجلٍ ممن شهد بدرًا وسهمه". وأما تغيبة

(8)

عن بيعة الرضوان فلو كان أحدٌ أعزَّ ببطن مكة من عثمان لبعثه مكانه، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان وكانت بيعة

(1)

في أ: وذلك في حديثه متبين.

(2)

تاريخ دمشق -ترجمة عثمان- (151 - 161).

(3)

في المعجم الكبير (11093).

(4)

في أ: علي بن حنبل، وهو تصحيف.

(5)

في أ: في.

(6)

صحيح البخاري (3699) في فضائل الصحابة.

(7)

في أ: من بلا فاء، وما هنا موافق لرواية البخاري.

(8)

في أ: وأما تخلفه.

ص: 368

الرضوان بعد ما ذهب عثمان إلى مكة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم بيده اليمنى:"هذه يد عثمان" فضرب بها على يده فقال: "هذه لعثمان" فقال له ابن عمر: اذهب بها الآن معك. تفرد به دون مسلم.

‌طريق أخرى

وقال الإمام أحمد

(1)

: حدَّثنا معاوية بن عمرو، حدَّثنا زائدة، عن عاصم، عن شقيق

(2)

. قال: لقي عبد الرحمن بن عوف الوليدَ بن عقبة، فقال له الوليد

(3)

: ما لي أراك جفوتَ أمير المؤمنين عثمان؟ فقال له عبد الرحمن: أبْلِغْهُ أني لم أفرَّ يوم عَيْنَيْنِ، قال عاصم: يقول يوم أُحُد- ولم أتخلَّف يوم بدر، ولم أترك سُنَّة عمر، قال: فانطلق فخبَّر بذلك عثمان فقال: أما قوله: إني لم أفرّ يوم عَيْنين؛ فكيف يعيرني بذنبٍ وقد عفا الله عني فقال: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ} [آل عمران: 155] وأما قوله: إني تخلفت يوم بدر، فإنّي كنتُ أمرّضُ رقيةَ بنتَ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وقد ضربَ لي رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمي، ومن ضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمه فقد شهد، وأما قوله: ولم أترك سُنّة عمر، فإنّي لا أطيقها ولا هو، فائْتِهِ فحدِّثْهُ بذلك.

‌حديث آخر

قال البخاري

(4)

: حدَّثنا أحمد بن شبيب بن سعيد

(5)

، حدَّثنا أبي، عن يونس، قال ابن شهاب: أخبرني عروة أن عبيد اللّه بن عدي بن الخيار أخبره: أن المِسْور بن مَخْرَمة وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث قالا: ما يمنعكَ أن تكلم عثمان لأخيه الوليد فقد أكثر الناس فيه؟ فقصدت لعثمان حين خرج إلى الصلاة. فقلت: إنَّ لي إليك حاجةً، وهي نصيحة لك، فقال: يا أيها المرء منك. قال أبو عبد اللّه قال معمر: أعوذ باللّه منك -فانصرفتُ فرجعتُ إليهما إذ جاء رسول عثمان فأتيته فقال ما نصيحتك؟ فقلت: إن الله بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم بالحقّ وأنزلَ عليه الكتابَ، وكنتَ ممن استجاب للّه ولرسوله، وهاجرتَ الهجرتين، وصحبتَ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ورأيتَ هديه، وقد أكثرَ النَّاسُ في شأن الوليد. فقال: أدركتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلتُ

(6)

: لا! ولكن خلص إليّ من علمه ما يخلصُ إلى العذراءِ في سِترها، قال: أما بعد! فإن اللّه بعث محمدًا بالحق، وكنتُ ممن استجاب للّه ولرسوله، فآمنت بما بعث به، وهاجرت الهجرتين كما قلتَ، وصحبتُ رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم وبايعتُهُ، فوالله ما عصيتُهُ ولا غششتُهُ حتى توفاه اللّه

(1)

مسند الإمام أحمد (1/ 68) وإسناده حسن.

(2)

في ط: عن عاصم عن سفيان؛ تحريف.

(3)

في أ: الوليد بن عقبة.

(4)

صحيح البخاري (3696) في فضائل الصحابة.

(5)

في ط: بن سعد؛ تحريف. وهو من رجال التهذيب.

(6)

في ط: فقلت: وما هنا عن أ والبخاري.

ص: 369

عز وجل، ثم أبو بكر مثله، ثم عمر مثله، ثم استخلفتُ، أفليس لي من الحق مثلُ الذي لهم؟ قلت: بلى! قال: فما هذه الأحاديث التي تبلغُني عنكم؟ أمّا ما ذكرت من شأن الوليد فسآخذ

(1)

فيه بالحق إن شاء اللّه. ثم دعا عليًا فأمره أن يجلده فجلده ثمانين.

‌حديث آخر

قال الإمام أحمد

(2)

: حدَّثنا أبو المغيرة، حدَّثنا الوليد بن سليمان

(3)

، حدَّثني ربيعة بن يزيد، عن عبد الله بن عامر، عن النعمان بن بشير، عن عائشة رضي الله عنها قالت: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عثمان بن عفان فجاء فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأينا إقبالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم على عثمان أقبلت إحدانا على الأخرى فكان من آخر [كلام]

(4)

كلَّمه أن ضرب منكبه وقال: "يا عثمان إن الله عسى أن يلبسك قميصًا، فإن أرادك المنافقون على خلعه فلا تخلعه حتى تلقاني" ثلاثًا. فقلت لها: يا أم المؤمنين؟ فأين كان هذا عنك؟ قالت: نسيتُه والله ما ذكرته، قال: فأخبرته معاوية بن أبي سفيان فلم يرضَ بالذي أخبرته حتى كتب إلى أم المؤمنين: أن اكتبي إليّ به، فكتبت إليه به كتابًا.

وقد رواه أبو عبد اللّه الجَسْري

(5)

: عن عائشة وحفصة بنحو ما تقدم.

ورواه قيس بن أبي حازم وأبو سلمة

(6)

عنها.

ورواه أبو سهلة: عن عثمان: إن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عهد إليَّ عهدًا فأهنا صابر نفسىِ عليه. ورواه فرج بن فضالة: عن محمد بن الوليد الزبيدي، عن الزُّهري، عن عروة، عن عائشة فذكره

(7)

، (قال الدارقطني: تفرد به الفرج بن فضالة).

ورواه أبو مروان محمد بن

(8)

عثمان بن خالد العُثماني

(9)

، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة.

(1)

في البخاري: فسنأخذ.

(2)

مسند الإمام أحمد (6/ 86 - 87) وهو حديث صحيح.

(3)

في الأصول والمطبوع: الوليد بن مسلم، والتصحيح من كتب الرجال.

(4)

زيادة من المسند.

(5)

في ط: "الجيري" محرف، واسمه حميري بن بشير، من رجال التهذيب.

(6)

في ط: سلمة، تحريف.

(7)

في أ: بنحوه.

(8)

في ط: "عن" محرفة.

(9)

في ط: "العماني" محرف، وهو من رجال التهذيب.

ص: 370

ورواه ابن عساكر

(1)

من طريق المنهال بن بحر

(2)

، عن حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة عن أبيه عنها. ورواه ابن أسامة عن الجريري حدَّثني أبو بكر العدوي قال: سألت عائشة، وذكر عنها نحو ما تقدم، تفرّد به الفرج بن فضالة. ورواه خصيف: عن مجاهد، عن عائشة بنحوه.

وقال الإمام أحمد

(3)

: حدَّثنا محمد بن كناسة

(4)

الأسدي أبو يحيى، حدَّثنا إسحاق

(5)

بن سعيد عن أبيه، قال: بلغني أن عائشة قالت: ما استمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلَّا مرة، فإن عثمان جاءه في نحر

(6)

الظهيرة، فظننت أنه جاءه في أمر النساء، فحملتني الغيرة على أن أصغيت إليه فسمعته يقول:"إن اللّه ملبسك قميصًا تريدك أمتي على خلعه فلا تخلعه". فلما رأيت عثمان يبذل لهم ما سألوه إلَّا خلعه علمت أنه عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي عهد إليه.

‌طريق أخرى

قال الطَّبراني: حدَّثنا مطلب بن سعيد الأزْدي، حدَّثنا عبد اللّه بن صالح، حدَّثنا الليث، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن ربيعة بن سيف، قال: كنا عند شُفي

(7)

الأصبحي فقال: حدَّثنا عبد اللّه بن عمر قال:

"التفت رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم فقال: يا عثمان كساك اللّه

(8)

قميصًا فأرادكَ الناسُ على خلعِه فلا تَخْلعه، فواللّه لئن خلعتَه لا ترى الجنةَ حتى يلجَ الجملُ في سمّ الخِياط".

وقد رواه أبو يعلى

(9)

من طريق عبد اللّه بن عمر عن أخته حفصة أم المؤمنين. وفي سياق متنه غرابة واللّه أعلم.

(1)

تاريخ دمشق (282) مجلد عثمان.

(2)

تحرفت في ط إلى عمر.

(3)

مسند الإمام أحمد (6/ 114) وهو حديث ضعيف بهذه السياقة، وقد تقدم بنحوه، وهو حديث صحيح بطرقه وشواهده.

(4)

في أ: محمد بن خالد وفي ط: محمد بن كنانة، كلاهما تحريف. وما هنا عن مسند أحمد وتاريخ دمشق (281).

(5)

في أ: أبو إسحاق؛ خطأ.

(6)

في ط: بحر؛ تحريف. وما هنا عن أ ومصادره.

(7)

مكان اللفظة بياض في أ.

(8)

في ط: إن اللّه كساك، وما هنا عن أ وهو موافق لرواية ابن عساكر.

(9)

في مسنده (7045).

ص: 371

‌حديث آخر

قال الإمام أحمد

(1)

: حدَّثنا عبد الصمد، حدَّثتني فاطمة بنت عبد الرحمن قالت: حدَّثتني أمي أنها سألت عائشة وأرسلها عمُّها فقال: قولي إن أحد بنيك يفرئك السلام ويسألك عن عثمان بن عفان فإنّ الناسَ قد شتموه، فقالت:

لعنَ اللّهُ من لعنهُ، فواللّه لقد كان قاعدًا عند رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وإن رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم لمسندٌ ظهره إليَّ، وإن جبريلَ ليوحي إليه القرآن، وإنه ليقول له:"أكتب يا عُثيْم" قالت عائشة: فما كان اللّه لينزلَ تلك المنزلة إلَّا كريمًا على اللّه ورسوله.

ثم رواه الإمام أحمد: عن يونس، عن عمر بن إبراهيم

(2)

اليشكري، عن أمه، أنها سألت عائشة عند الكعبة عن عثمان فذكرت مثله.

‌حديث آخر

قال البزَّار

(3)

: حدَّثنا عمر بن الخطاب قال: ذكر أبو المغيرة، عن صفوان بن عمرو، عن ماعز التميمي، عن جابر:

أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ذكرَ فتنةً فقال أبو بكر: أنا أدركها؟ فقال: "لا"! فقال عمر: أنا يا رسول اللّه أدركها؟ قال: "لا"! فقال عثمان: يا رسول الله فأنا أدركها؟ قال: "بك يُبْتَلَوْنَ".

قال البزار: وهذا لا نعلمه يروى إلا من هذا الوجه.

‌حديث آخر

قال الإمام أحمد

(4)

: حدَّثنا أسود بن عامرْ

(5)

، حدَّثنا سنان بن هارون، حدَّثنا كليب بن وائل، عن ابن عمر. قال:

(1)

مسند الإمام أحمد (6/ 250) والرواية الثانية (6/ 261) والخبر أيضًا بالسندين في تاريخ دمشق (92 - 93) مجلد عثمان، وإسناده ضعيف.

(2)

في أ: يونس عن عبد اللّه بن إبراهيم.

(3)

كشف الأستار (4/ 89) رقم (3264).

(4)

مسند الإمام أحمد (2/ 115) وهو حديث حسن.

(5)

في ط: عمر؛ خطأ والتصحيح من أ والمسند.

ص: 372

"ذكر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فتنةً [فمر رجل]

(1)

فقال: "يقتل فيها هذا المُقنَّع يومئذٍ مظلومًا" فنظرت فإذا هو عثمان بن عفان.

ورواه الترمذي

(2)

عن إبراهيم بن سعيد، عن شاذان به وقال: حسن غريب.

‌حديث آخر

قال الإمام أحمد

(3)

: حدَّثنا عفَّان، حدَّثنا وُهيب

(4)

، حدَّثنا موسى بن عقبة، حدَّثني أبو أمي أبو حبيبة

(5)

أنه دخل الدار وعثمانُ محصورٌ فيها، وأنّه سمع أبا هريرة يستأذنُ عثمانَ في الكلام فأذن له، فقام فحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال: إني سمعتُ رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إنكم تلقون بعدي فتنةً واختلافًا" -أو قال: اختلافًا وفتنةً- فقال له قائل من الناس: فمنْ لنا يا رسول الله؟ قال: "عليكم بالأمين

(6)

وأصحابه" وهو يشير إلى عثمان بذلك. تفرَّد به أحمد وإسناده جيد حسن ولم يخرجوه من هذا الوجه.

وقال الإمام أحمد

(7)

: حدَّثنا أبو أسامة حماد

(8)

بن أسامة، حدَّثنا كَهْمَس بن الحسن، عن عبد الله بن شَقيق، حدَّثني هرمي

(9)

بن الحارث وأسامة بن خُرَيم -وكانا يغازيان فحدثاني حديثًا ولم يشعر كل واحد منهما أن صاحبه حدَّثنيه عن مرّة البَهزي قال: "بينما نحن مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في طريق من طرق المدينة فقال: كيف تصنعون في فتنة تثور في أقطار الأرض كأنها صياصي بقر" قالوا: نصنع ماذا يا رسول اللّه؟ قال: "عليكم هذا وأصحابه -أو اتبعوا هذا وأصحابه-" قال: فأسرعتُ حتى عييتُ فأدركتُ الرجلَ فقلتُ: هذا يا رسول اللّه؟ قال: "هذا" فإذا هو عثمانُ بن عفان. فقال: هذا وأصحابه فذكره.

‌طريق أخرى

وقال الترمذي

(10)

في "جامعه": حدَّثنا محمد بن بشار، حدَّثنا عبد الوهَّاب الثقفي، حدَّثنا

(1)

ما بينهما ساقط من أ، ط.

(2)

جامع الترمذي (3708) في المناقب.

(3)

مسند الإمام أحمد (2/ 345).

(4)

في أ: ابن وهيب، خطأ.

(5)

في ط: أبو حنيفة؛ تحريف.

(6)

في أ: عليكم بالأمير؛ تحريف.

(7)

مسند الإمام أحمد (5/ 35) وبهذا السند أيضًا في تاريخ دمشق (268) مجلد عثمان.

(8)

في ط: أبو أسامة حدَّثنا حماد .. ؛ خطأ.

(9)

في أ: جرير بن الحارث؛ تحريف. وفي ط: هرم؛ وما هنا عن المسند.

(10)

سنن الترمذي (3704) في الفضائل.

ص: 373

أيوب، عن أبي قِلابة، عن أبي الأشعث الصَّنْعاني أن خُطَباء قامت بالشام وفيهم رجالٌ من أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم رجل يقال له مُرَّة بن كعب، فقال: لولا حديث سمعته من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ما تكلمت، وذكر الفتن فقرَّبها فمر رجل مُقَنَّع

(1)

في ثوب، فقال:"هذا يومئذ على الهدى" فقمت إليه. فإذا هو عثمان بن عفان، فأقبلت عليه بوجهه فقلت: هذا؟ قال: "نعم"! ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وفي الباب عن ابن عمر وعبد الله بن حوالة وكعب بن عُجْرة

(2)

.

قلت: وقد رواه أسد بن موسى، عن معاوية بن صالح، حدَّثني سليم بن عامر، عن جبير بن نفير، عن مرة بن كعب البَهْزي فذكر نحوه.

وقد رواه الإمام أحمد

(3)

عن عبد الرحمن بن مهدي، عن معاوية بن صالح، عن سليم بن عامر، عن جبير بن نفير، عن كعب بن مرة البَهْزي، الصحيح مرة بن كعب كما تقدم

(4)

.

وأما حديث ابن حوالة، فقال حماد بن سلمة عن سعيد الجريري، عن عبد اللّه بن شقيق

(5)

، عن عبد اللّه بن حوالة. قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "كيف أنت وفتنة تكون في أقطار الأرض؟ " قلت: ما خار الله لي ورسوله، قال:، اتبع هذا الرجل، فإنه يومئذ ومن اتبعه على الحق" قال: فاتبعته فأخذت بمنكبه ففتلته فقلت: هذا يا رسول الله؟ فقال: "نعم"! فإذا هو عثمان بن عفان.

وقال حرملة: عن ابن وهب، عن ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن ربيعة بن لقيط، عن ابن حوالة. قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من نجا منهن فقد نجا: موتي، وخروج الدجال، وقتل خليفة مصطبر

(6)

قوَّام بالحقّ يعطيه".

وأما حديث كعب بن عجرة.

فقال الإمام أحمد

(7)

: حدَّثنا إسحاق بن سليمان الرازي، أخبرني مغيرة بن مسلم

(8)

، عن مطر الوراق، عن ابن سيرين، عن كعب بن عجرة قال: ذكر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فتنة فقرَّبها وعظَّمها، قال: ثم مرَّ رجلٌ مُقَنَّعٌ في ملحفة فقال: "هذا يومئذٍ على الحق". قال: فانطلقتُ مُسرعًا أو محضرًا

(1)

في ط: متقنع؛ وما هنا عن أ وهي موافقة لسنن الترمذي.

(2)

جملة هذه الروايات وغيرها في تاريخ دمشق (267 - 272) مجلد عثمان.

(3)

مسند الإمام أحمد (4/ 236).

(4)

قال الذهبي في التذهيب (321): كعب بن مرة أو عكسه

نزيل البصرة ثم الأردن، صحابي.

(5)

في ط: بزيادة عن عبد اللّه بن سفيان عن عبد الله بن شقيق، وما هنا عن المسند أحمد (4/ 109) وتاريخ دمشق (270).

(6)

في أ: أو مصطبر.

(7)

مسند الإمام أحمد (4/ 242) والحديث أيضًا بهذا السند في تاريخ دمشق (273) وهو حديث صحيح.

(8)

في ط: معاوية بن سلم؛ تحريف.

ص: 374

فأخذت بضبعيه

(1)

فقلت: هذا يا رسول اللّه؟ قال: "هذا" فإذا هو عثمان بن عفان.

ثم رواه أحمد

(2)

: عن يزيد بن هارون، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن كعب بن عُجْرة فذكر مثله.

ورواه أبو يعلى: عن هُدْبَة، عن هَمّام، عن قتادة، عن محمد بن سيرين، عن كعب بن عُجْرة.

وكذا رواه أبو عون: عن ابن سيرين، عن كعب.

وقد تقدم

(3)

حديث أبي ثور الفَهْمي عنه في قوله في الخطبة التي خاطب بها الناس من داره: واللّه ما تَعنَّيتُ ولا تمنَّيتُ ولا زَنيتُ في جاهلية ولا إسلام ولا مسست فرجي بيميني منذ بايعت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه كان يعتق كل يوم جمعة عتيقًا، فإن تعذّر عليه أعتق في الجمعة الأخرى عتيقين. وقال مولاه حمران: كان عثمان يغتسل كل يوم منذ أسلم. رضي الله عنه.

‌حديث آخر

قال الإمام أحمد

(4)

: حدَّثنا علي بن عيَّاش، حدَّثنا الوليد بن مسلم، أنبأنا الأوزاعي، عن محمد بن عبد الملك بن مروان أنه حدَّثَه عن المغيرة بن شعبة أنه دخل على عثمان وهو محصورٌ فقال: إنك إمامُ العامة، وقد نزلَ بك ما تَرى، وإني أعرضُ عليكَ خصالًا ثلاثًا اختر إحداهن: إمّا أن تخرجَ فتقاتلهم فإن معك عددًا وقوةً وأنت على الحق وهم على الباطل، وإما أن نخرق لك بابًا سوى الباب الذي هم عليه فتقعد على رواحلك فتلحق مكة، فإنهم لن يستحلّوك وأنت بها، وإما أن تلحق بالشام فإنهم أهل الشام وفيهم معاوية. فقال عثمان: أما أن أخرج فأقاتل فلن أكون أولَ من خلفَ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في أمته بسفك الدماء، وأما أن أخرجَ إلى مكة فإنَّهم لن يستحلّوني بها، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"يُلْحِدُ رجُلٌ من قريشٍ بمكَّة يكون عليه نصفُ عذابِ العالم"

(5)

ولن أكون أنا، وأما أن ألحق بالشام فإنهم أهل الشام وفيهم معاوية فلن أفارق دار هجرتي ومجاورة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم.

وقال الإمام أحمد

(6)

: حدَّثنا أبو المغيرة، حدَّثنا أرطاة -يعني ابن المنذر- حدَّثني أبو عون الأنصاري، أن عثمان قال لابن مسعود: هل أنتَ مُنتهٍ عمَّا بلغني عنْكَ؟ فاعتذر بعضَ العذر، فقال عثمان: ويحك! إني قد سمعتُ وحفظتُ -وليس كما سمعتَ-، أنَّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: "سيقتل

(1)

ضبعيه: العضد أو الإبط. حاشية ط.

(2)

مسند الإمام أحمد (4/ 243).

(3)

تقدم صفحة (330) من هذا الجزء، وإسناده ضعيف.

(4)

مسند أحمد (1/ 67) وقد تقدم ص (329 و 330) وإسناده ضعيف.

(5)

في أ: أهل الدنيا. مضروبًا عليها.

(6)

مسند الإمام أحمد (1/ 66).

ص: 375

أميرٌ، ويَنْتَزي مُنْتَزٍ

(1)

وإني أنا المقتول، وليس عمر، إنما قتل عمر واحد، إنه يُجْتمعُ عليَّ. وهذا الذي قاله لابن مسعود قبل مقتله بنحو من أربع سنين فإنه ماتَ قبلَه بنحو ذلك.

‌حديث آخر

قال عبد اللّه بن أحمد

(2)

: حدَّثنا عُبَيْد اللّه بن عمر القَواريري

(3)

، حدَّثنا القاسم بن الحكم بن أوس الأنصاري، حدَّثني أبو عبادة الزُّرقي الأنصاري -من أهل المدينة- عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: شهدتُ عثمان يوم حُصِرَ في موضع الجنائز، ولو أُلْقي حجرٌ لم يقع إلا على رأس رجل، فرأيت عثمان أشرف من الخوخة التي تلي باب مقام جبريل، فقال: أيها الناسّ أفيكم طلحة؟ فسكتوا، ثم قال: أيها الناس! أفيكم طلحة بن عبيد اللّه؟ فسكتوا، ثم قال: أيها الناس! أفيكم طلحة؟ فقام طلحة بن عبيد اللّه فقال له عثمان: ألا أراك هاهنا؟ ما كنت أرى أنك تكون في جماعة قوم تسمع ندائي آخر ثلاث مرات، ثم لا تجيبني

(4)

؟ أنشدك اللّه يا طلحة تذكر يوم كنتُ أنا وأنتَ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في موضع كذا وكذا ليس معه أحدٌ من أصحابه غيري وغيرك؟ فقال: نعم! قال: فقال لكَ رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم "إنه ما من نبي إلا ومعه من أصحابه رفيق في الجنة، وإن عثمان بن عفان هذا -يعني نفسه- رفيقي في الجنة؟ " فقال طلحة: اللهم نعم!. تفرَّدَ به أحمد.

‌حديث آخر عن طلحة

قال الترمذي

(5)

: حدَّثنا أبو هشام الرِّفاعي، حدَّثنا يحيى بن اليمان، عن شيخ من بني زهرة، عن الحارث بن عبد الرحمن بن أبي ذباب

(6)

، عن طلحة بن عبيد اللّه قال قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم:"لكلِّ نبىّ رفيقٌ ورفيقي في الجنة عثمانُ" ثم قال: هذا حديث غريب وليس إسناده بالقوي، وإسناده منقطعٌ.

ورواه أبو مروان

(7)

محمد بن عثمان عن أبيه عن أبي الزناد عن أبيه عن الأعرج عن أبي هريرة.

وقال الترمذي

(8)

: حدَّثنا الفضل بن أبي طالب البغدادي وغير واحد قالوا: حدَّثنا عثمان بن زُفَر، حدَّثنا محمد بن زياد، عن محمد بن عجلان، عن أبي الزبير، عن جابر قال: أتي النبيُّ صلى الله عليه وسلم بجنازة رجل

(1)

في ط: ويتبرئ متبرّئ؛ تحريف. والانتزاء: الوثوب وتسرع الإنسان إلى الشر. اللسان (نزا).

(2)

مسند الإمام أحمد (1/ 74) وإسناده ضعيف.

(3)

تحرفت في ط إلى: الفربري، وترجمة القواريري في سير أعلام النبلاء (11/ 442).

(4)

في ط: ثم لا تجيئني.

(5)

سنن الترمذي (3698) في الفضائل.

(6)

في الأصول والمطبوع: وثاب، والتصحيح من كتب الرجال.

(7)

في ط: أبو عثمان؛ خطأ وما هنا عن أ وتاريخ دمشق -ترجمة عثمان- (98). وهو من رجال التهذيب.

(8)

سنن الترمذي (3709) في الفضائل، وهو أيضًا في تاريخ دمشق -ترجمة عثمان- (119).

ص: 376

ليُصلِّي عليه فلم يُصلِّ عليه، فقيل: يا رسول اللّه، ما رأيناك تركت الصلاة على أحدٍ قبل هذا؟ فقال:"إنه كان يبغض عثمان فأبغضه اللّه عز وجل" ئم قال الترمذي: هذا حديث غريب، ومحمد بن زياد هذا صاحب ميمون بن مهران ضعيف الحديث جدًا، ومحمد بن زياد صاحب أبي هريرة بصري ثقة، يكنى أبا الحارث، ومحمد بن زياد الألهاني

(1)

صاحب أبي أمامة ثقة شامي يكنى أبا سفيان.

‌حديث آخر

روى الحافظ ابن عساكر

(2)

من حديث أبي مروان العثماني

(3)

: حدَّثنا أبي عثمانُ بن خالد، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، عن الأعرج، عن أبي هريرة: أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لقي عثمان بن عفان على باب المسجد فقال: "يا عثمان! هذا جبريل يخبرني أن اللّه قد زوَّجك أم كلثوم بمثل صداق رقية، وعلى مثل مصاحبتها" وقد روى ابن عساكر

(4)

أيضًا من حديث ابن عباس وعائشة وعمارة بن رُوَيْبة وعصمة بن مالك الخطمي وأنس بن مالك وابن عمر وغيرهم، وهو غريب ومنكر

(5)

من جميع طرفه.

وروي بإسناد ضعيف عن علي

(6)

أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال "لو كان لي أربعون ابنة لزوجتهن بعثمان واحدة بعد واحدة، حتى لا يبقى منهن واحدة".

وقال محمد بن سعيد الأموي: عن يونس بن أبي إسحاق، عن أبيه، عن المهلب بن أبي صفرة قال: سألتُ أصحابَ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لم قلتم في عثمان: أعلاها

(7)

فُوقًا؟ قالوا: لأنه لم يتزوج رجل من الأولين والآخرين ابنَتَيْ نبي غيره. رواه ابن عساكر

(8)

.

وقال إسماعيل بن عبد الملك

(9)

، عن عبد الله بن أبي مليكة، عن عائشة قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رافعًا يديه حتى يبدو ضَبْعَيْه

(10)

إلا لعثمان بن عفان، إذا دعا له.

(1)

في أ: الإهابي، تحريف، وما هنا عن الترمذي، وترجمة محمد بن زياد الألهاني في تهذيب الكمال (25/ 219) وفي السير (6/ 188).

(2)

تاريخ دمشق (34) -مجلد عثمان-.

(3)

في أ: النعماني؛ تحريف.

(4)

جمع ابن عساكر هذه الروايات في ترجمة عثمان 33، 34، 35).

(5)

في أ: وينكر.

(6)

تاريخ دمشق (36 و 37).

(7)

في ط: أعلانا فوقًا؛ وما هنا عن ابن عساكر. وأعلاها فوقًا: أي خيرنا وأكملنا، تامًا في الإسلام والسابقة والفضل. اللسان (فوق).

(8)

تاريخ دمشق (46).

(9)

المصدر السابق.

(10)

الضبْع -بسكون الباء- العضد. اللسان (ضبع).

ص: 377

وقال مسعر

(1)

: عن عطية، عن أبي سعيد قال: رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من أول الليل إلى أن طلع الفجر رافعًا يديه يدعو لعثمان يقول: "اللهم عثمان رضيت عنه فارض عنه".

وفي رواية يقول لعثمان

(2)

: "غفر الله لك ما قدمتَ وما أخرتَ، وما أسررتَ وما أعلنتَ وما كان منك وما هو كائنٌ إلى يوم القيامة".

ورواه الحسن بن عرفة: عن محمد بن القاسم الأسدي، عن الأوزاعي، عن حسان بن عطية، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا.

وقال ابن عدي

(3)

: عن أبي يعلى عن عمار أبي ياسر المستملي، عن إسحاق بن إبراهيم المستملي، عن أبي إسحاق، عن أبي وائل، عن حذيفة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى عثمان يستعينه في غزاةٍ غزاها، فبعث إليه عثمانُ بعشرةِ آلافِ دينارٍ، فوضعها بين يديه، فجعل يقلّبها بين يديه ويدعو له:"غفر الله لكَ يا عثمان ما أسررتَ وما أعلنتَ وما أخفيتَ وما هو كائنٌ إلى يوم القيامة، ما يبالي عثمان ما فعل بعدها".

‌حديث آخر

وقال ليث بن أبي سليم

(4)

: أول من خَبَّص الخبيصَ عثمان، خلطَ بين العسلِ والنَّقِيّ

(5)

ثم بعث به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منزل أمّ سلمة، فلم يصادفه، فلما جاء وضعوه بين يديه، فقال؛ من بعث هذا؟ قالوا: عثمان: قالت: فرفع يديه إلى السماء فقال: "اللَّهم إنَّ عثمان يترضاك فارض عنه".

‌حديث آخر

روى أبو يعلى

(6)

عن شيبان بن فروخ، عن طلحة بن زيد، عن عبيدة

(7)

بن حسان، عن عطاء الكَيْخاراني، عن جابر أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم اعتنق عثمان وقال:"أنت وليّ في الدنيا ووليي فى الآخرة"

(8)

.

(1)

تاريخ دمشق (48).

(2)

المصدر نفسه.

(3)

الكامل في الضعفاء لابن عدي (1/ 333 - 334) وإسناده ضعيف.

(4)

تاريخ دمشق (49) رواه ابن عساكر عن ليث بن أبي سليم مرسلًا، وهو ضعيف.

(5)

النقيّ: الحُوّارى، وهو الدقيق الأبيض. اللسان (نقا).

(6)

مسند أبي يعلى (4/ 44) والحديث أيضًا في تاريخ دمشق -ترجمة عثمان- (94).

(7)

في أ: عبيد: خطأ.

(8)

وإسناده ضعيف.

ص: 378

‌حديث آخر

قال أبو داود الطَّيالسي

(1)

: حدَّثنا حمّاد بن سلمة وحمّاد بن زيد، عن الجُرَيْري، عن عبد اللّه بن شَقيق

(2)

، عن عبد اللّه بن حوالة. قال قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "تهجمون على رجل مُعْتَجر

(3)

ببردةٍ من أهل الجنة، يبايع الناس" قال فهجمنا على عثمان بن عفان فرأيناه مُعْتجرًا يبايع الناس.

[فصل في] ذكر شيء من سيرته وهي دالّة على فضيلته

قال ابن مسعود

(4)

: لما توفّي عمر بايعنا خيرنا ولم نأل، وفي رواية بايعوا خيرهم ولم يألوا.

وقال الأصمعي

(5)

: عن أبي الزناد، عن أبيه، عن عمرو بن عثمان بن عفان قال: كان نقش خاتم عثمان آمنت بالذي خلق فسوى.

وقال محمد بن المبارك

(6)

بلغني أنه كان نقش خاتم عثمان آمن عثمان بالله العظيم.

وقال البخاري في "التاريخ"

(7)

: حدَّثنا موسى بن إسماعيل، حدَّثنا مبارك بن فضالة، قال: سمعت الحسن يقول: أدركت عثمان على ما نقموا عليه. قلَّما يأتي على الناس يومٌ إلا وهم يقتسمون فيه خيرًا، يقال لهم: يا معشر المسلمين اغدوا على أعطياتكم، فيأخذونها وافرة، ثم يقال لهم: اغدوا على أرزاقكم فيأخذونها وافرة، ثم يقال لهم: اغدوا على السمن والعسل، الأعطيات جارية، والأرزاق دارَّةٌ، والعدو منفيٌّ

(8)

، وذات البين حسن، والخيرُ كثيرٌ، وما من مؤمن يخاف مؤمنًا، من

(9)

لقيه فهو أخوه من كان أُلفَتُه ونصيحتُه ومودتُه، قد عُهد إليهم أنها ستكون أثره

(10)

، فإذا كانت فاصبروا. قال الحسن: فلو أنهم صبروا حين رأوها لوسعهم ما كانوا فيه من العطاء والرزق والخير الكثير، قالوا لا واللّه

(1)

مسند أبي داود الطيالسي رقم (2250).

(2)

سقط عبد الله بن شقيق من المطبوع من مسند الطيالسي، والصواب ما في البداية والنهاية.

(3)

الاعتجار: لف العمامة دون التلحي. اللسان (عجر).

(4)

تاريخ دمشق (207).

(5)

المصدر نفسه (203).

(6)

المصدر نفسه (204).

(7)

وهو في تاريخ دمشق لابن عساكر -ترجمة عثمان- (220).

(8)

في ط: متقي؛ وما هنا عن أ ومصادره.

(9)

في ط: ومن.

(10)

أثرة: الاستئثار: الانفراد بالشيء أراد أنه يستأثر عليكم فيفضل غيركم في نصيبه من الفيء. اللسان (أثر).

ص: 379

ما

(1)

نصابرها: فواللّه ما وردوا وما سلموا، والأخرى كان السيف مغمدًا عن أهل الإسلام فسلّوه على أنفسهم، فوالله ما زال مسلولًا إلى يوم الناس هذا، وأيم الله إنّي لأراه سيفًا مسلولًا إلى يوم القيامة.

وقال غيرُ واحد: عن الحسن البصري

(2)

قال: سمعت عثمان يأمر في خطبته بذبح الحمام وقتل الكلاب.

وروى سيف بن عمر

(3)

: أن أهل المدينة اتخذ بعضهم الحمام ورمى بعضهم بالجلاهقات (فوكل عثمان رجلًا من بني ليث يتبع ذلك، فيقص الحمام ويكسر الجلاهقات) - وهي قسى البندق-.

وقال محمد بن سعد

(4)

: أنبأنا القعنبي وخالد بن مخلد، حدَّثنا محمد بن هلال عن جدته -وكانت تدخل على عثمان وهو محصور- فولدت هلالًا، ففقدها يومًا فقيل له: إنها قد ولدت هذه الليلة غلامًا، قالت: فأرسل إليّ بخمسين درهمًا وشُقَيْقَة سنبلانية

(5)

، وقال: هذا عطاء ابنك وكسوته، فإذا مرت به سنة رفعناه إلى مئة.

وروى الزبير بن أبي بكر

(6)

: عن محمد بن سلام، عن ابن دأبٍ

(7)

قال: قال ابن سعيد بن يربوع بن عَنْكثة

(8)

المخزومي: انطلقت وأنا غلام في الظهيرة ومعي طير أرسله في المسجد، والمسجد يُبْنى

(9)

، فإذا شيخ جميل حسن الوجه نائم، تحت رأسه لبنة أو بعض لَبنة، فقمت أنظر إليه أتعجب من جماله، ففتح عينيه فقال: من أنت يا غلام؟ فأخبرته، فإذا غلام نائم قريبًا منه فدعاه فلم يُجْبه، فقال لي: ادعه! فدعوته فأمره بشيء، وقال لي: اقعد! فذهب الغلامُ، فجاء بحلَّةٍ وجاء بألف درهم، ونزع ثوبي وألبسني الحلَّة؟ وجعل الألف درهم فيها، فرجعت إلى أبي فأخبرته؟ فقال: يا بُنيَّ منْ فعلَ هذا بك؟ فقلت: لا أدري إلا أنه رجل في المسجد نائم لم أر قطُّ أحسنَ منه، قال: ذاك أميرُ المؤمنين عثمانُ بن عفان.

وقال عبد الرزاق

(10)

: عن ابن جريج، أخبرني يزيد

(11)

بن خصيفة، عن أبي السائب بن يزيد، أن

(1)

في أ: لا نصابرها.

(2)

تاريخ دمشق (222).

(3)

تاريخ الطبري (4/ 398) وتاريخ دمشق (221).

(4)

الطبقات الكبرى (5/ 23) والخبر أيضًا في تاريخ دمشق (221).

(5)

الشُّقَهُ: جنس من الثياب وتصغيرها: شُقَيْقة، وقيل هي نصف ثوب. والسنبلانية: سابغة الطول. اللسان (سنبل وشقق).

(6)

تاريخ دمشق (222) -ترجمة عثمان-.

(7)

في ط: ابن بكار؛ تحريف. وما هنا عن أ ومصادره.

(8)

في ط: عتكة؛ تحريف والتصحيح عن تاريخ دمشق (222) والاستيعاب (626).

(9)

في ط: بيننا؛ تحريف. وفي أ: يبنا بالألف الممدودة.

(10)

مصنف عبد الرزاق (3/ 24) والخبر أيضًا في تاريخ دمشق (225 - 226).

(11)

في أ: زيد؛ تحريف.

ص: 380

رجلًا سأل عبد الرحمن بن عثمان التيمي

(1)

عن

(2)

صلاة طلحة بن عبيد الله [قال: إن شئت] أخبرتك عن صلاة عثمان قال: نعم! قال: قلت: لأغلبنَّ الليلةَ النفرَ على الحجر -يعني المقام- فلما قمتُ فإذا رجلٌ يزحمني مُفنَّعًا قال: فالتفت فإذا بعثمان

(3)

، فتأخرت

(4)

عنه فصلَّى فإذا هو يسجد بسجود القرآن، حتى إذا قلت هذا هو أذان الفجر أوتر بركعة لم يصلّ غيرها ثم انطلق.

وفد روي هذا

(5)

من غير وجه أنه صلى بالقرآن العظيم في ركعة واحدة عند الحجر الأسود، أيام الحج، وقد كان هذا من دأبه رضي الله عنه.

ولهذا روينا عن ابن عمر

(6)

أنه قال في قوله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر: 9] قال: هو عثمان بن عفان. وقال ابن عباس

(7)

في قوله تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل: 76] قال: هو عثمان.

وقال حسان

(8)

: [من البسيط]

ضَحُّوا بأشْمط عُنْوانُ السُّجودِ به

يُقَطِّعُ اللَّيْلَ تَسْبيحًا وقُرْآنا

وقال سفيان بن عيينة: حدَّثنا إسرائيل بن موسى، سمعت الحسن يقول قال عثمان: لو أن قلوبنا طهرت ما شبعنا من كلام ربنا، وإني لأكره أن يأتي عليّ يوم لا أنظر في المصحف. وما مات عثمان حتى خرق مصحفه من كثرة ما يديم النظر فيه.

وقال أنس ومحمد بن سيرين

(9)

: قالت امرأة عثمان يوم الدار: اقتلوه أو دعوه، فوالله لقد كان يحيي الليل بالقرآن في ركعة.

وقال غير واحد

(10)

: إنه رضي الله عنه كان لا يوقظ أحدًا من أهله إذا قام من الليل ليعينه على وضوئه، إلا أن يجده يقظانًا

(11)

، وكان يصوم الدهر، وكان يعاتب فيقال: لو أيقظت بعض الخدم؟

(1)

في ط: التميمي؛ تحريف.

(2)

في ط: أهي صلاة طلحة

، وليست اللفظة لا التي تليها في أ.

(3)

في ط: فإذا بعثمان يزحمني ولم ترد اللفظة في أ.

(4)

في تاريخ دمشق (226) فأخرت؛ وما هنا موافق لراوية عبد الرزاق في مصنفه.

(5)

تاريخ دمشق (226).

(6)

الخبر في تاريخ دمشق (224).

(7)

المصدر نفسه (210).

(8)

ديوان حسان (1/ 96).

(9)

تاريخ دمشق (228).

(10)

المصدر نفسه (229).

(11)

كذا في الأصلين، وفي لغتنا اليوم ممنوعة من الصرف.

ص: 381

فيقول: لا! الليل لهم يستريحون فيه. وكان

(1)

إذا اغتسل لا يرفع المئزر عنه، وهو في بيت مغلق عليه، ولا يرفع صلبه جيدًا من شدة حيائه رضي الله عنه.

[فصل في ذكر] شيء من خطبه

قال الواقدي

(2)

: حدَّثني إسماعيل بن إبراهيم

(3)

بن عبد الرحمن بن عبد اللّه بن أبي ربيعة المخزومي، عن أبيه.

أن عثمانَ لمّا بويع خرجَ إلى الناس فخطبهم، فحمدَ اللهَ وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس أولُ كلِّ مركبٍ صعبٌ، وإنَّ بعد اليوم أيامًا، وإن أعشْ تأتِكُم الخطبة على وجهها، وما كنا خطباء وسيُعلمُنا الله.

وقال الحسن: خطبَ عثمان فحمدَ اللّه وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس! اتَّقوا الله فإنَّ تقوى اللّه غُنْمٌ، وإن أكيسَ الناس من دانَ نفسَهُ، وعملَ لما بعدَ الموتِ، واكتسب من نورِ اللهِ نورًا لظلْمةِ القَبْرِ، وليَخْشَ عبدٌ أن يحشرَه الله أعمى، وقد كان بصيرًا، وقد يلقي الحكيم جوامع الكلم، والأصمُّ ينادى من مكانٍ بعيدٍ، واعلموا أنَّ منْ كانَ الله له لم يَخَفْ شيئًا، ومنْ كانَ الله عليه فمنْ يرجو بعدَه؟.

وقال مجاهد: خطب عثمان فقال: ابنَ آدمَ!، اعلم أن ملكَ الموتِ الذي وكل بك لم [يزل]

(4)

يُخْلفكَ ويَتَخطَّى إلى غيركَ منذ أنتَ في الدنيا، وكأنه قد تَخطَّى غيرَك إليكَ، وَقَصَدكَ، فخُذْ حِذْركَ، واستعدّ له، ولا تَغْفُلْ فإنّه لا يَغْفُلُ عنكَ، واعلم ابنَ آدم إنْ غفلتَ عن نفسكَ ولم تستعدّ لها لم يستعدّ لها غيرُكَ، ولا بدّ من لقاء اللّه، فخُذْ لنفسك ولا تَكِلْها إلى غيركَ والسلام.

وقال سيف بن عمر: عن بدر بن عثمان، عن عمه، قال: آخر خطبةٍ خطبها عثمانُ في جماعة: إن الله إنما أعطاكم الدنيا لتطلبوا بها الآخرةَ، ولم يعطكموها لتركنوا إليها، إن الدنيا تَفْنى وإن الآخرة تَبْقى، لا تُبْطرنكم الفانية، ولا تشغلنَّكم عن الباقية، فآثروا ما يَبْقى على ما يَفْنى، فإنَّ الدنيا منقطعةٌ وإن المصيرَ إلى الله، اتَّقوا اللهَ فإنَّ تقواه جُنَةٌ من بأسه، ووسيلةٌ عنده واحذروا من اللّه الغِيَرَ، والزموا جماعتكم لا تصيروا أحزابًا:{وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103] إلى آخر الآيتين.

(1)

تاريخ دمشق (230).

(2)

طبقات ابن سعد (3/ 62) والخبر أيضًا في تاريخ دمشق (230).

(3)

في ط: إبراهيم بن إسماعيل؛ خطأ. وما هنا عن أ ومصادره. وهو من رجال التهذيب.

(4)

زيادة من تاريخ دمشق (231) والمطبوع.

ص: 382

‌فصل

قال الإمام أحمد

(1)

: حدَّثنا هُشيم، حدَّثنا محمد بن قيس الأسدي، عن موسى بن طلحة. قال: سمعت عثمان بن عفان وهو على المنبر والمؤذن يقيم الصلاة وهو يستخبر الناس يسألهم عن أخبارهم، وأسعارهم

(2)

.

وقال أحمد

(3)

: حدَّثنا إسماعيل بن إبراهيم، حدَّثنا يونس -يعني بن عُبَيْد- حدَّثني عطاء بن فروخ مولى القرشيين:

أن عثمان اشترى من رجلٍ أرضًا فأبطأ عليه فلقيه فقال: ما منعكَ من قبض مالكَ؟ قال: إنك غَبْنتني، فما ألقى من الناس أحدًا إلا وهو يلومني، قال: أذلك يمنعك؟ قال: نعم! قال: فاختر بين أرضكَ ومالكَ، ثم قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "أدخل اللّه الجنةَ رجلًا كان سهلًا مشتريًا وبائعًا، وقاضيًا مقتضيًا".

وروى ابنُ جرير

(4)

أنَّ طلحة لقيَ عثمانَ وهو خارجٌ إلى المسجد فقال له طلحة: إن الخمسين ألفًا التي لك عندي قد حصلت فأرسل من يقبضها

(5)

، فقال له عثمان: إنا قد وهبناكها لمروءتك.

وقال الأصمعي

(6)

: استعمل ابنُ عامر قَطَنَ بن عوف الهلالي على كرمان، فأقبل جيشٌ من المسلمين -أربعة آلاف- وجرى الوادي فقطعهم عن طريقهم، وخشي قَطَنٌ الفوتَ فقال: من جاز الوادي فله ألفُ درهم، فحملوا أنفسهم على العوم

(7)

، فكان إذا جاز الرجل منهم قال قَطنٌ: أعطوه جائزَتَهُ، حتى جازوا جميعًا وأعطاهم أربعةَ آلافِ ألفِ درهم، فأبى ابنُ عامر أن يَحْسِبَها له، فكتب بذلك إلى عثمان بن عفان، فكتب عثمان: أن احْسِبْها له، فإنه إنَّما أعانَ المسلمين في سبيل اللّه. فمن ذلك اليوم سُمِّيتِ الجوائزَ لإجازةِ الوادي، فقال الكناني في ذلك:[من الوافر]

فِدَىً للأكْرَمين بني هِلالٍ

على عِلاتِهمْ أهلي ومالِي

هُمُوا سَنّوا الجَوائِزَ في مَعَدٍّ

فَعادَتْ سُنّةً أخرى اللَّيالي

رماحُهُمُ تَزيدُ على ثَمانٍ

وعَشْرٍ قَبْلَ تَرْكيبِ النِّصالِ

(1)

مسند الإمام أحمد (1/ 73) وهو حديث صحيح.

(2)

في ط: وأسفارهم؛ وما هنا عن المسند.

(3)

مسند الإمام أحمد (1/ 58) وهو حديث حسن.

(4)

تاريخ الطبري (4/ 404 - 405).

(5)

في أ: يقتضيها، وما هنا عن الطبري.

(6)

الخبر في تاريخ دمشق (222 - 223) والكامل لابن الأثير (3/ 184) مع بعض الخلاف في الرواية.

(7)

في أ: على العُظْم، وما هنا عن مصادره.

ص: 383

‌فصل: [من مناقبه]

ومن مناقبه الكبار وحسناته العظيمة أنَّه جمعَ الناسَ على قراءة واحدةٍ، وكتب المصحفَ على العرضة الأخيرة، التي درسَها جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر سنيِّ حياته، وكان سبب ذلك أن حُذَيْفَة بن اليَمان كان في بعض الغزوات، وقد اجتمع فيها خلقٌ من أهل الشام، ممَّنْ يقرأُ على قراءةِ المِقْدادِ بن الأسْود، وأبي الدَّرْداء، وجماعة من أهل العراق، ممَّنْ يَقْرأُ على قراءة عبد الله بن مسعود، وأبي موسى، وجعل من لا يعلم بَسَوغان القراءة على سبعة أحرف، يفضل قراءته على قراءة غيره، وربما خَطَّأ الآخر أو كَفَّره، فأدى ذلك إلى اختلاف شديد، وانتشار في الكلام السيء بين الناس، فركبَ حُذَيْفَة إلى عثمان فقال: يا أمير المؤمنين أدْرِكْ هذه الأمةَ قبلَ أن تختلف في كتابها كاختلافِ اليهود والنصارى في كتبهم. وذكر له مشاهدَ من اختلاف الناس في القراءة، فعند ذلك جمعَ عثمانُ الصحابةَ وشاورهم في ذلك، ورأى أن يكتب المصحف على حرف واحد، وأن يجمعَ الناسَ في سائر الأقاليم على القراءة به، دون ما سواه، لما رأى في ذلك من مصلحةِ كفِّ المنازعةِ، ودفعِ الاختلافِ، فاستدعى بالصُّحف التي كان الصّديقُ أمر زيدَ بن ثابت بجمعها، فكانت عند الصديق أيام حياته، ثم كانت عند عمر، فلما توفي صارت إلى حفصة أم المؤمنين، فاستدعى بها عثمان وأمر زيد بن ثابت الأنصاري أن يكتبَ وأن يمليَ عليه سعيدُ بن العاص الأموي، بحضرة عبد الله بن الزبير الأسدي وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي، وأمرهم إذا اختلفوا في شيء أن يكتبوه بلغةِ قريشٍ، فكتبَ لأهل الشام مصحفاً، ولأهل مصر آخر، وبعث إلى البصرة مصحفاً وإلى الكوفة بآخر، وأرسل إلى مكة مصحفاً وإلى اليمن مثله، وأقر بالمدينة مصحفاً. ويقال لهذه

(1)

المصاحف الأئمة، وليست كلها بخطّ عثمان، بل ولا واحد منها، وإنما هي بخطّ زيد بن ثابت، وإنما يقال لها المصاحف العثمانية نسبةً إلى أمره وزمانه، وإمارته، كما يقال دينار هرقلي، أي ضُرب في زمانه ودولته.

قال الواقدي

(2)

: حدَّثنا ابن أبي سبرة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة. ورواه غيره من وجه آخر عن أبي هريرة قال:

لما نسخ عثمان المصاحف دخل عليه أبو هريرة فقال: أصَبْتَ ووُفِّقْتَ، أشهد لسمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إنَّ أشدَّ أمتي حُبًّا لي قومٌ يأتون من بعدي يؤمنون بي ولم يروني، يعملون بما في الورق المُعلَّق"

(3)

فقلت: أيّ ورق؟ حتى رأيت المصاحف، قال: فأعجب ذلك عثمان، وأمر لأبى هريرة بعشرة آلاف، وقال: والله ما علمتُ أنّك لتحبس علينا حديث نبينا صلى الله عليه وسلم.

(1)

في أ: ويقال لها.

(2)

تاريخ دمشق (237).

(3)

رواه ابن عساكر في ترجمة عثمان صفحة (237) من طريق الواقدي، وهو ضعيف جداً.

ص: 384

ثم عمد إلى بقية المصاحف التي بأيدي الناس مما يخالف ما كتبه فحرقه، لئلا يقع بسببه اختلاف.

فقال أبو بكر بن أبي داود -في كتاب "المصاحف"

(1)

- حدَّثنا محمد بن بشار، حدَّثنا محمد بن جعفر وعبد الرحمن قالا: حدَّثنا شعبة، عن علقمة بن مَرْثِد

(2)

عن رجل عن سُوَيْد بن غَفَلة قال: قال لي عليٌّ حين حرق عثمان المصاحف: لو لم يصنعْه هو لصنعته.

وهكذا رواه أبو داود الطَّيالسي

(3)

وعمرو بن مرزوق، عن شُعبة مثله.

وقد رواه البَيْهقي

(4)

وغيره من حديث محمد بن أبان -زوجِ أختِ حسين- عن علقمة بن مرثد قال: سمعتُ العَيْزار بن جرول سمعت سُويد بن غَفَلة قال: قال عليٌّ: أيها الناس! إياكم والغُلُوَّ في عثمان تقولون حرّق المصاحف، والله ما حرّقها إلا عن ملأ من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ولو وليت مثل ما ولي لفعلتُ (مثل) الذي فعل.

وقد روي عن ابن مسعود

(5)

أنه تعتّب لما أخذ منه مصحفه فحرِّق، وتكلَّم في تقدم إسلامه على زيد بن ثابت الذي كتب المصاحف، وأمر أصحابه أن يغلُّوا

(6)

مصاحفهم، وتلا قوله تعالى:{وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 161] فكتب إليه عثمان رضي الله عنه يدعوه إلى اتباع الصحابة فيما أجمعوا عليه من المصلحة في ذلك، وجمع الكلمة، وعدم الاختلاف، فأناب وأجاب إلى المتابعة وترك المخالفة رضي الله عنهم أجمعين.

وقد قال أبو إسحاق: عن عبد الرحمن بن يزيد:

أن عبد الله بن مسعود دخل مسجد منى فقال كم صلَّى أميرُ المؤمنين الظهرَ؟ قالوا: أربعاً، فصلَّى ابنُ مسعود أربعاً، فقالوا: ألم تُحدِّثنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر صلّوا ركعتين؟ فقال: نعم! وأنا أحدثكموه الآن، ولكني أكره الاختلاف. وفي الصحيح

(7)

أن ابن مسعود قال: ليت حظي من أربع ركعات ركعتين متقبلتين.

وقال الأعمش

(8)

: حدَّثني معاوية بن قرة -بواسط- عن أشياخه قالوا:

(1)

المصاحف (12) والخبر أيضاً في تاريخ دمشق (241).

(2)

في أ: يزيد؛ تحريف وما هنا عن مصادره.

(3)

مسند أبي داود الطيالسي (ص 19).

(4)

سنن البيهقي (9/ 119) والخبر أيضاً بهذا السند في تاريخ دمشق (238).

(5)

خبره في تاريخ دمشق (239).

(6)

في أ: أن تعلق.

(7)

صحيح البخاري (1084) تقصير الصلاة، ومسلم (695)(19) في صلاة المسافرين.

(8)

الخبر والذي قبله في تاريخ دمشق (248 - 249).

ص: 385

صلى عثمان الظهر بمنى أربعاً فبلغ ذلك ابن مسعود فعاب عليه، ثم صلى بأصحابه العصرَ في رَحْلِهِ أربعاً، فقيل له: عَتبتَ على عثمان وصليتَ أربعاً؟ فقال: إني أكره الخلاف -وفي رواية: الخلاف شر- فإذا كان هذا متابعة من ابن مسعود إلى عثمان في هذا الفرع فكيف بمتابعته إياه في أصل القرآن؟ والاقتداء به في التلاوة التي عزم على الناس أن يقرؤوا بها لا بغيرها؟

وقد حكى الزُّهري

(1)

وغيره: أن عثمان إنما (أتم) خشية على الأعراب أن يعتقدوا أن فرض الصلاة ركعتان، وقيل: بل قد تأهل بمكة.

فروى أبو يعلى

(2)

، وغيره من حديث عكرمة بن إبراهيم، حدَّثني عبد الله بن عبد الرحمن بن الحارث بن أبي ذباب

(3)

، عن أبيه:

أنَّ عثمانَ صلَّى بهم بمنى أربع ركعات، ثم أقبل عليهم فقال: إني سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا تزوَّجَ الرجلُ ببلد فهو من أهله" وإني أتمت لأني تزوجتُ بها منذ قدمتها. وهذا الحديث لا يصح، وقد تزوَّجَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة القضاء بميمونة بنت الحارث ولم يتمّ الصلاة، وقد قيل إن عثمان تأول أنه أمير المؤمنين حيث كان، وهكذا تأولت عائشة فأتمت، وفي هذا التأويل نظر، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو رسول الله حيث كان، ومع هذا ما أتمَّ الصلاةَ في الأسفار. ومما كان يعتمده عثمان بن عفان أنه كان يُلْزمُ عُمَّاله بحضور الموسم كلَّ عام، ويكتب إلى الرعايا: منْ كانتْ له عند أحدٍ منهم مَظْلمةٌ فليوافِ إلى الموسم فإني آخذُ له حقَّه من عامله، وكان عثمانُ قد سمحَ لكثير من (كبار) الصحابة في المسير حيث شاؤوا من البلاد، وكان عمر يحجر عليهم في ذلك، حتى ولا في الغزو، ويقول: إني أخاف أن تروا الدنيا وأن يراكم

(4)

أبناؤها، فلما خرجوا في زمان عثمان اجتمع عليهم الناس، وصار لكل واحد أصحاب، وطمع كل قوم في تولية صاحبهم الإمارةَ العامةَ بعد عثمان، فاستعجلوا موته، واستطالوا حياته، حتى وقعَ ما وقعَ من بعض أهلِ الأمصار، كما تقدَّم، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله العزيز الحكيم، العلي العظيم.

‌ذكر زوجاته وبنيه وبناته رضي الله عنهم

تزوج برُقيّة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فولد له منها عبد الله، وبه كان يُكنى، بعدما كان يُكنى في الجاهلية بأبي عمرو.

(1)

تاريخ دمشق (249).

(2)

لم أجده في مسند أبي يعلى، ولعله في الكبير، والخبر بتمامه في تاريخ دمشق -ترجمة عثمان- (250).

(3)

في أ: ذياب؛ تحريف، وضبطه في تقريب التهذيب (310).

(4)

في أ: أن تزول الدنيا أو تراكم.

ص: 386

ثمَّ لما توفيت تزوَّج بأختها أم كلثوم.

ثمَّ توفيت فتزوج بفاختة بنت غزوان بن جابر، فولد له منها عبيد الله الأصغر.

وتزوج بأم عمرو بنت جندب بن عمرو الأزدية، فولدت له عَمراً، وخالداً، وأبانا، وعمر، ومريم.

وتزوج بفاطمة بنت الوليد بن عبد شمس المخزومية. فولدت له الوليد وسعيداً.

وتزوج أم البنين بنت عيينة بن حصن الفزارية، فولدت له عبد الملك، ويقال: وعتبة.

وتزوج رملة بنت شيبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي فولدت له عائشة وأم أبان وأم عمرو، بنات عثمان.

وتزوج نائلة بنت الفرافصة بن الأحوص بن عمرو بن ثعلبة بن حصن بن ضَمْضَم بن عدي بن حيان بن كليب

(1)

، فولدت له مريم، ويقال: وعنبسة. وقتل رضي الله عنه وعنده أربع: نائلة، ورملة، وأم البنين، وفاختة. ويقال: إنه طلق أم البنين وهو محصور.

‌فصل

تقدم في دلائل النبوة الحديث الذي رواه الإمام أحمد

(2)

وأبو داود

(3)

من حديث سفيان الثَّوري عن منصور عن ربعي بن ناجية الكاهلي، عن عبد الله بن مسعود، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن رحا الإسلام ستدور لخمس وثلاثين، أو ست وثلاثين، أو سبع وثلاثين، فإن تهلك

(4)

فسبيل ما هلك وإن يقم لهم دينهم يقم لهم سعبين عاماً" قال: فقال عمر يا رسول الله أبما مضى أم بما بقي؟ قال: "بل بما بقي" وفي لفظ له ولأبي داود " تدور رحا الإسلام لخمس وثلاثين، أو ست وثلاثين " الحديث. وكأن هذا الشك من الراوي، والمحفوظ في نفس الأمر خمس وثلاثون، فإن فيها قتل أمير المؤمنين عثمان على الصحيح، وقيل ست وثلاثين، والصحيح الأول وكانت أمور شنيعة ولكن الله سلَّم ووقى بحوله وقوّته فلم يكن بأسرع من أن بايع الناس علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وانتظم الأمر، واجتمع الشمل، ولكن جرت

(5)

بعد ذلك أمورٌ في يوم الجمل وأيام صفين على ما سنبينه إن شاء الله تعالى.

(1)

في أ: بن خباب بن كلب.

(2)

مسند الإمام أحمد (1/ 393) وهو حديث صحيح.

(3)

سنن أبي داود (4254) في الفتن والملاحم.

(4)

في أ: يهلك، وفي المسند: يهلكوا.

(5)

في أ: حدث.

ص: 387

‌فصل في ذكر من توفي في زمان دولة

(1)

عثمان ممن لا يعرف وقت وفاته على التعيين [على ما ذكره شيخنا أبو عبد الله الذهبي

(2)

]

أنس بن معاذ

(3)

بن أنس بن قيس الأنصاري النجاري، ويقال له أُنَيْس أيضاً، شهد المشاهد كلها رضي الله عنه.

أوس بن الصّامت

(4)

، أخو عُبادة بن الصّامت الأنصاريان

(5)

شهدا بدراً، وأوس هو زوج المجادلة المذكور في قوله تعالى:{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة: 1](وامرأته) خوله

(6)

بنت ثعلبة.

أوس بن خَوَليّ

(7)

الأَنْصاري من بني الحُبْلى، شهد بدراً، وهو المنفرد من بين الأنصار بحضور غسل النبي صلى الله عليه وسلم، والنزول مع أهله في قبره، عليه الصلاة والسلام.

الجدُّ

(8)

بن قيس

(9)

، كان سيداً في الأنصار، ولكن كان بخيلاً ومتهماً بالنفاق، يقال إنه شهد بيعة الرضوان فلم يبايع، واستتر ببعير له، وهو الذي نزل فيه قوله تعالى:{وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} [التوبة: 94] الآية. وقد قيل إنه تاب وأقلع، فالله أعلم.

الحُطَيْئَةُ

(10)

الشاعر المشهور. قيل اسمه جَرْول ويكنى بأبي مُلَيْكَة، من بني عبس، أدرك أيام الجاهلية، وأدرك صدراً من الإسلام، وكان يطوف في الآفاق يمتدح الرؤساء من الناس، ويستجديهم ويقال كان بخيلاً مع ذلك، سافر مرة فودع امرأته فقال لها:[من الكامل]

(1)

في ط: توفي زمان عثمان

(2)

تاريخ الإسلام (337 - 362) -عهد الخلفاء الراشدين- ط: دار الكتاب العربي.

(3)

ترجمة -أنس بن معاذ- في الاستيعاب (1/ 108) وأسد الغابة (1/ 154) والإصابة (1/ 74).

(4)

ترجمة -أوس بن الصامت- في الاستيعاب (1/ 218) وجامع الأصول (13/ 37) وأسد الغابة (1/ 172) وتهذيب الأسماء واللغات (1/ 129 - 130) والوافي (9/ 447 - 448) وتهذيب التهذيب (1/ 383).

(5)

في أ: الأنصاري.

(6)

في أ: خويلة؛ تحريف. وترجمتها في الاستيعاب (1830) وجامع الأصول (13/ 448).

(7)

ترجمة -أوس بن خَوَليّ- في الاستيعاب (1/ 117) وأسد الغابة (1/ 170) والإصابة (1/ 84) وخوليّ: محركة وقد تسكن (القاموس خول).

(8)

في ط: "الحر" وهو تحريف قبيح، فهو صحابي معروف.

(9)

ترجمة -الجدّ بن قيس- في الاستيعاب (1/ 266 - 267) وأسد الغابة (1/ 327) والإصابة (1/ 228).

(10)

ترجمة -الحطيئة- في الشعر والشعراء (322) والاشتقاق لابن دريد (170) والأغاني (2/ 41 - 59) و (19/ 38 - 40) و الإصابة (2/ 63 - 64).

ص: 388

عدّي السنينَ إذا خرجتُ لغيبةٍ

(1)

ودَعي الشهورَ فإنهنَّ قصارُ

(وكان مدّاحاً هجّاء، وله شعر جيد، ومن شعره ما قاله بين يَدَيْ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، فاستجاد منه قوله

(2)

: [من البسيط]

من يَفْعلِ الخيرَ لم يَعْدَمْ جَوائِزَهُ

(3)

لا يَذْهبُ العُرْفُ بينَ اللهِ والنّاسِ)

خُبَيْب بن يساف

(4)

بن عتبة الأنصاري أحد من شهد بدراً.

سلمان بن ربيعة الباهلي

(5)

، يقال له صحبةٌ، كان من الشجعان الأبطال (المذكورين)، والفرسان المشهورين، ولّاه عمر فضاء الكوفة، ثم ولي في زمن عثمان إمرة على قتال الترك، فقتل ببَلَنْجرَ

(6)

، فقبره هناك في تابوت يستسقي به الترك إذا قحطوا.

عبد الله بن حُذافة بن قيس القُرشي السَّهْمي

(7)

، هاجر هو وأخوه قيس إلى الحبشة، وكان من سادات الصحابة، وهو القائل: يا رسول الله من أبي

(8)

؟ -وكان إذا لاحى الرجالُ دعي لغير أبيه- فقال: "أبوك حذافة":

(9)

.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسله إلى كسرى فدفع كتابه إلى عظيم بصرى فبعث معه من يوصله إلى هرقل

(10)

كما تقدَّم، وقد أسرته الرومُ في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، في جملة ثمانين من المسلمين، فأرادوه على الكفر فأبى عليهم، فقال له الملك: قبِّل رأسي وأنا أطلقك ومن معك من المسلمين، فقبَّل رأسه (فأطلقهم، فلما قدم على عمر فال له: حقٌّ على كل مسلم أن يقبِّل رأسك، ثم قام عمر فقبَّل رأسه) قبل الناس رضي الله عنه.

عبد الله بن سراقة

(11)

بن المعتمر، العدوي صحابي أُحُديٌّ، وزعم الزهريُّ أنه شهد بدراً، فالله أعلم.

(1)

في أ: إذا حضرت أفيته.

(2)

البيت في ديوانه -رواية ابن حبيب- (109).

(3)

في الديوان: لا يقدم جوازيه ..

(4)

ترجمة -خبيب بن يساف- في حلية الأولياء (1/ 364) والاستيعاب (3/ 188) وأسد الغابة (2/ 118) وسير أعلام النبلاء (1/ 501 - 502) والإصابة (3/ 79).

(5)

ترجمة -سليمان بن ربيعة- في الاستيعاب (632) وأسد الغابة (2/ 415 - 416) والإصابة (2/ 61).

(6)

بلنجر: مدينة ببلاد الخزر خلف باب الأبواب. معجم البلدان (1/ 489).

(7)

ترجمة -عبد الله بن حذافة- في الاستيعاب (888) وأسد الغابة (2/ 211) وسير أعلام النبلاء (2/ 11 - 16) والإصابة (2/ 296).

(8)

في أ: من لي يا رسول الله.

(9)

الحديث رواه البخاري في صحيحه (92) في العلم، ومسلم في صحيحه (2359) في الفضائل.

(10)

في أ: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى هرقل.

(11)

ترجمة -عبد الله بن سراقة بن المعتمر- في الاستيعاب (916) وأسد الغابة (3/ 255) والإصابة (2/ 315).

ص: 389

عبد الله بن قيس

(1)

بن خالد الأنصاري، شهد بدراً.

عبد الرحمن بن سهل

(2)

بن زيد الأنصاري الحارثي، شهد أحداً وما بعدها.

وقال ابن عبد البر: شهد بدراً. استعمله عمر على البصرة بعد موت عتبة بن غزوان، وقد نهشته حية فرقاه عمارة بن حزم، وهو القائل لأبي بكر -وقد جاءته جدتان فأعطى السدس أم الأم وترك الأخرى وهي أم الأب- فقال له: أعطيت التي لو ماتت لم ترثها، (وتركت التي لو ماتت لورثتها)، فشرَّك بينهما.

عمرو بن سراقة

(3)

بن المعتمر العدوي أخو عبد الله بن سراقة، وهو بدري كبير، روي أنه جاع مرة فربط حجراً على بطنه من شدة الجوع، ومشى يومه ذلك إلى الليل، فأضافه قوم من العرب ومن معه، فلما شبع قال لأصحابه: كنت أحسب الرِّجْلَيْن يحملان البطن، فإذا البطن يحمل الرِّجْلَيْن.

عمير بن سعد الأنصاري

(4)

الأوسي، صحابي جليل القدر، كبير المحل، كان يقال له نسيجَ وحدِهِ، لكثرة زهادته وعبادته، شهد فتحَ الشام مع أبي عُبيدة، ونابَ بحمص وبدمشق أيضاً في زمان عمر، فلما كانت خلافةُ عثمان عزله وولّى معاويةَ الشامَ بكماله، وله أخبار يطول ذكرها.

عروة بن حزام

(5)

أبو سعيد العُذري كان شاعراً مُغْرَماً في ابنةِ عمٍ له، وهي عفراء بنت مهاجر، يقول فيها الشعر واشتهر بحبها. فارتحل أهلها من الحجاز إلى الشام، فتبعهم عروة فخطبها إلى عمه فامتنع من تزويجه لفقره، وزوجها بابن عمها الآخر، فهلك عروة هذا في محبتها، وهو مذكور في كتاب "مصارع العشاق"

(6)

، ومن شعره فيها قوله

(7)

: [من الطويل]

وما هو

(8)

إلا أنْ أراها فُجاءةً

فأبهتُ حتَّى ما أكادُ أجيبُ

وأُصْرَفُ عن رَأْيي الذي كنت أرتئي

وأنْسَى الَّذي أعْددتُ حينَ تَغيبُ

قطبة بن عامر

(9)

أبو زيد الأنصاري عَقَبيٌّ بَدْري.

(1)

ترجمة -عبد الله بن قيس- في الإصابة (2/ 359).

(2)

ترجمة -عبد الرحمن بن سهل- في الاستيعاب (2/ 836) وأسد الغابة (3/ 457) والإصابة (2/ 401 - 402).

(3)

ترجمة - عمرو بن سراقة- في الاستيعاب (3/ 1176) وأسد الغابة (4/ 227) والإصابة (3/ 174).

(4)

ترجمة -عمير بن سعد- في الاستيعاب (3/ 1215) وجامع الأصول (14/ 566) وأسد الغابة (4/ 292 - 293) و الإصابة (3/ 32).

(5)

ترجمة -عروة بن حزام- في الشعر والشعراء (622) والأغاني (20/ 152 - 158).

(6)

كتاب مصارع العشاق لأبي محمد السَّرَّاج.

(7)

البيتان في الشعر والشعراء (622 - 623).

(8)

في ط: هي.

(9)

ترجمة -قطبة بن عامر- في الاستيعاب (2/ 1282) وأسد الغابة (4/ 406) والإصابة (3/ 237).

ص: 390

قيس بن قهد

(1)

بن قيس بن ثعلبة الأنصاري النجاري، له حديث في الركعتين قبل الفجر، وزعم ابن ماكولا أنه شهد بدراً، قال مصعب الزبيري: هو جد يحيى بن سعيد الأنصاري، وقال الأكثرون: بل هو جد أبي مريم عبد الغفار بن القاسم الكوفي، فالله أعلم.

لبيد بن ربيعة

(2)

أبو عقيل العامري الشاعر المشهور. صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال

(3)

: "أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد"[من الطويل]

ألا كلُّ شيءٍ ما خلا اللهَ باطلُ

وتمام البيت: وكلُّ نعيمٍ لا محالةَ زائلُ

فقال عثمان بن مظعون: إلا نعيم الجنة، وقد قيل إنه توفي سنة إحدى وأربعين، فالله أعلم.

المسيب بن حزن

(4)

بن أبي وهب المخزومي، شهد بيعة الرضوان وهو والد سعيد بن المسيب سيد التابعين.

معاذ بن عمرو بن الجموح

(5)

الأنصاري شهد بدراً، وضرب يومئذ أبا جهل بسيفه فقطع رجله، وحمل عكرمة بن أبي جهل على معاذ هذا فضربه بالسيف فحل يده من كتفه، فقاتل بقية يومه وهي معلقة يسحبها خلفه، قال معاذ: فلما انتهيت وضعت قدمي عليها ثم تمطيت عليها حتى طرحتها رضي الله عنه. (وعاش بعد ذلك إلى هذه السنة سنة خمس وثلاثين).

محمد بن جعفر

(6)

بن أبي طالب، القرشي الهاشمي، ولد لأبيه وهو بالحبشة، فلما هاجر إلى المدينة سنة خيبر، وتوفي يوم مؤتة شهيداً، جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منزلهم فقال لأمهم أسماء بنت عميس:" إيتيني ببني أخي " فجيء بهم كأنهم أفرخ فجعل يقبِّلهم، ويشمهم ويبكي، فبكت أمهم فقال:" أتخافين عليهم العيلة وأنا وليهم في الدنيا والآخرة؟ " ثم أمر الحلاق فحلق رؤوسهم

(7)

. وقد

(1)

في ط: بن مهدي؛ تحريف. وترجمة -قيس بن قهد- في الإكمال (7/ 77) والاستيعاب (1298) وأسد الغابة (4/ 440 - 441) والإصابة (3/ 257 - 258).

(2)

ترجمة -لبيد بن ربيعة- في طبقات فحول الشعراء (123) والشعر والشعراء (274) والأغاني (15/ 361) والاستيعاب (1335) وجامع الأصول (15/ 144) وأسد الغابة (4/ 514) وتهذيب الأسماء واللغات (2/ 71) والإصابة (3/ 326 - 327).

(3)

الحديث أخرجه الإمام أحمد في مسنده (2/ 248 و 444) والبخاري في صحيحه (3841) في مناقب الأنصار، ومسلم (2256) في الشعر من حديث أبي هريرة.

(4)

ترجمة -المسيب بن حزن- في الاستيعاب (1400) وأسد الغابة (5/ 177) وجامع الأصول (15/ 196) والإصابة (3/ 420).

(5)

ترجمة -معاذ بن عمرو- في الاستيعاب (1413) وجامع الأصول (15/ 204) وأسد الغابة (5/ 205) والإصابة (3/ 431).

(6)

ترجمة -محمد بن جعفر- في الاستيعاب (1367) وأسد الغابة (5/ 83 - 84) والإصابة (3/ 372).

(7)

الحديث أخرجه أحمد في مسنده (1/ 204) والنسائي في سننه (8/ 182) في الزينة.

ص: 391

مات محمد وهو شاب في أيام عثمان كما ذكرنا، وزعم ابن عبد البر

(1)

أنه توفي في تستر، فالله أعلم.

معبد بن العباس

(2)

بن عبد المطلب ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قتل شاباً بإفريقية من بلاد المغرب.

مُعَيْقيب بن أبي فاطمة الدَّوْسي

(3)

، صاحب خاتم النبي صلى الله عليه وسلم، قيل توفي في أيام عثمان، وقيل قبل ذلك، وقيل سنة أربعين، والله أعلم.

منقذ بن عمرو الأنصاري

(4)

، أحد بني مازن بن النجار، كان قد أصابته آمَّة

(5)

في رأسه فكسرت لسانه، وضعف عقله، وكان يكثر من البيع والشراء، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم

(6)

: " من بايعت فقل لا خِلابة، ثم أنت بالخيار في كل ما تشتريه ثلاثة أيام" قال الشافعي: كان مخصصاً بإثبات الخيار ثلاثة في كل بيع، سواء اشترط الخيار أم لا.

نعيم بن مسعود

(7)

، أبو سلمة الغطفاني، وهو الذي خذَّل بين الأحزاب وبين بني قريظة كما قدمناه، فله بذلك اليد البيضاء، والراية العليا.

أبو ذؤيب خويلد بن خالد الهذلي

(8)

، الشاعر، أدرك الجاهلية، وأسلم بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، وشهد يوم السقيفة وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أشعر هذيل، وهذيل أشعر العرب، وهو القائل

(9)

: [من الكامل]

وإذا المَنيَّةُ أنشَبَتْ أظْفَارها

ألْفَيْتَ كُلَّ تَميمةٍ لا تَنْفعُ

وتَجلُّدي للشّامتينَ أريهمُ

أنّي لِرَيْب الدَّهْرِ لا أتَضَعْضَعُ

توفي غازياً بإفريقية في خلافة عثمان.

أبو رهم سبرة بن عبد العزى القرشي الشاعر ذكره في هذا الفصل محمد بن سعد وحده

(10)

.

(1)

الاستيعاب (1368).

(2)

ترجمة -معبد بن العباس- في الاستيعاب (1427) وأسد الغابة (5/ 220) والإصابة (3/ 475).

(3)

ترجمة -ميعقيب بن أبي فاطمة- في الاستيعاب (1478) وجامع الأصول (15/ 214) وأسد الغابة (5/ 240) وسير أعلام النبلاء (2/ 492) والإصابة (3/ 451).

(4)

ترجمة -منقذ بن عمرو- في الاستيعاب (1451) وأسد الغابة (5/ 273) والإصابة (3/ 464).

(5)

وفي (أ): آفة، وفي الاستيعاب وأسد الغابة: ضربة، والأمّة -بتشديد الميم- الضربة التي تبلغ أم الرأس.

(6)

الحديث في مسند الإمام أحمد (2/ 72) عن ابن عمر ورواه البخاري رقم (2117) ومسلم رقم (1533).

(7)

ترجمة -نعيم بن مسعود- في الاستيعاب (1508) وأسد الغابة (5/ 348) والإصابة (3/ 568).

(8)

ترجمة أبي ذؤيب -في الشعر والشعراء (653) والأغاني (6/ 56 - 61) والاستيعاب (1448) والإصابة (4/ 65).

(9)

أشعار الهذليين (3).

(10)

لم نقف عليه في المطبوع من طبقاته.

ص: 392

أبو زبيد الطائي

(1)

، الشاعر، اسمه حرملة بن المنذر (كان نصرانياً) وكان يجالس الوليد بن عقبة فأدخله على عثمان فاستنشده شيئاً من شعره، فأنشده قصيدة له في الأسد بديعة، فقال له عثمان: تفتأ تذكر الأسد ما حييت؟ إني لأحسبك جباناً نصرانياً.

أبو سبرة بن أبي رهم العامري

(2)

، أخو أبي سلمة بن عبد الأسد، أمهما برة بنت عبد المطلب، هاجر إلى الحبشة وشهد بدراً وما بعدها، قال الزبير: لا نعلم بدرياً سكن مكة بعد النبي صلى الله عليه وسلم سواه، قال: وأهله ببدر في ذلك.

أبو لبابة

(3)

بن عبد المنذر أحد نقباء ليلة العقبة، وقيل إنه توفي في خلافة علي، والله أعلم.

أبو هاشم بن عتبة تقدم وفاته في سنة إحدى وعشرين، وقيل في خلافة عثمان، والله أعلم

(4)

.

* * *

(1)

ترجمة -أبي زبيد- في الشعر والشعراء (301 - 304) والأغاني (11/ 23 - 30) والاشتقاق (231) والإصابة (2/ 60).

(2)

ترجمة - أبي سبرة- في الاستيعاب (1666) وأسد الغابة (6/ 130) والإصابة (4/ 84).

(3)

ترجمة - أبي لبابة- في الاستيعاب (1740) واسد الغابة (6/ 260) والإصابة (4/ 168).

(4)

بهذه اللفظة ينتهي الجزء الخامس من الكتاب، ويبدأ الجزء السادس، وعلى صفحة غلافه جملة التمليكات والتحبيسات، وعليه ختم المدرسة الأحمدية بحلب، وعلى الصفحة الأولى وقف عليها. والنسخة مختلفة عن سابقتها بالترقيم، وبالخط، وبالتعليقات التي تمتلئ بها الهوامش وسنثبت في الحواشي ما نجده ذا فائدة منها إن شاء الله تعالى.

ص: 393

‌خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب

(1)

رضي الله عنه

ولنذكر شيئاً

(2)

من ترجمته على سبيل الاختصار قبل ذلك.

هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - واسمه عبد مناف -بن عبد المطلب - واسمه شيبة - بن هاشم - واسمه عمرو - بن عبد مناف - واسمه المغيرة - بن قصي - واسمه زيد بن كلاب بن مُرَّة بن كعب بن لُؤَيّ بن غالب بن فِهْر بن مالك بن النَّضر بن كِنانة بن خزيمة بن مُدْركة بن إلياس بن مُضر بن نِزار بن مَعدّ بن عدنان، أبو الحسن والحسين، ويكنى بأبي تراب، وأبي القاسم

(3)

الهاشمي، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وختنه

(4)

على ابنته فاطمة الزهراء. وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف بن قُصي، ويقال: إنَّها أولُ هاشميةٍ ولدت هاشمياً

(5)

. وكان له من الأخوة: طالبٌ، وعقيلٌ، وجعفرٌ

(6)

، وكانوا أكبرَ منه، بين كل واحد منهم وبين الآخر عشر سنين، له أختان؛ أم هانئ وجمانة، وكلهم من فاطمة بنت أسد، وقد أسلمت وهاجرت. وكان عليٌّ أحدَ العشرةِ المشهود لهم بالجنة وأحد الستة أصحاب الشورى، وكان ممن توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم[وهو] راضٍ عنهم. وكان رابعَ الخلفاء الراشدين وكان رجلاً آدمَ شديد الأدمة أشكل العينين عظيمهما، ذو بطن، أصلع، وهو إلى القصر أقرب، وكان عظيم اللحية، قد ملأت صدره ومنكبيه، أبيضها، وكان كثيرَ شعر الصَّدْرِ والكتفين، حسنَ الوجه، ضحوكَ السّنِّ، خفيف المشي على الأرض. أسلم عليٌّ قديماً، وهو ابن سبع، وقيل (ابن) ثمان، وقيل تسع، وقيل عشر، وقي ل إحدى عشرة، وقيل اثنتي عشرة، وقيل ثلاث عشرة،

(1)

ترجمة - الإمام علي كرم الله وجهه - في نسب قريش (39) وحلية الأولياء (1/ 61) والاستيعاب (1089) وجامع الأصول (12/ 9) وفيه قائمة بمصادره، وأسد الغابة (4/ 91) وتاريخ دمشق لابن عساكر (مجلد منفرد) ومختصر تاريخ دمشق (17/ 297) و (18/ 5 - 99) وتاريخ الإسلام (مجلد الخلفاء الراشدين) والإصابة (2/ 507 - 510).

(2)

في أ: شيء، وما هنا للسياق النحوي.

(3)

في أ: وأبي القضم.

(4)

في هامش أ: يعني زوج بنته.

(5)

في أ: هاشمي؛ وما هنا للسياق.

(6)

بعدها في أ: وحرث.

ص: 394

وقيل أربع عشرة، وقيل (ابن) خمس عشرة، أو ست عشرة سنة قاله عبد الرزاق

(1)

عن معمر، عن قتادة، عن الحسن.

ويقال إنه أول من أسلم

(2)

من الغلمان، كما أن خديجة أول من أسلمت

(3)

من النساء، وزيد بن حارثة أول من أسلم من الموالي، وأبو بكر الصديق أول من أسلم من الرجال الأحرار

(4)

.

وكان سبب إسلام عليّ صغيراً أنه كان في كفالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه كان قد أصابتهم سنةُ مجاعةٍ، فأخذه من أبيه، فكان عنده

(5)

، فلما بعثه الله بالحقّ آمنت خديجة وأهل البيت ومن جملتهم علي، وكان الإيمان النافع المتعدي نفعه إلى الناس إيمان الصّدّيق رضي الله عنه.

وقد ورد عن علي أنه قال: أنا أولُ من أسلم. ولا يصحّ إسناده إليه. وقد رُوي في هذا المعنى أحاديث أوردها ابن عساكر

(6)

[وهي] كثيرة منكرة لا يصحّ شيٌ منها، والله أعلم.

وقد روى الإمام أحمد

(7)

من حديث شعبة، عن عمرو بن مُرَّة، سمعت أبا حمزة -رجلاً من موالي الأنصار- قال: سمعت زيد بن أرقم يقول:

أول من أسلم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عليٌّ. وفي رواية أول من صلَّى. قال عمرو: فذكرت ذلك للنَّخعي فأنكره، وقال: أبو بكر أول من أسلم

(8)

.

وقال محمد بن كعب القرظي: أول من آمن من النساء خديجة وأول رجلين آمنا أبو بكر وعلي، ولكن كان أبو بكر يظهر إيمانه وعلي يكتم إيمانه.

قلت: يعني خوفاً من أبيه، ثم أمره أبوه بمتابعة ابن عمه ونصرَته، وهاجر عليٌّ بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة وكان قد أمره بقضاء ديونه وردّ ودائعه، ثم يلحق به، فامتثل ما أمره به، ثم هاجر، وآخى النبي صلى الله عليه وسلم. بينه وبين سهل بن حنيف.

وذكر ابن إسحاق وغيره من أهل السير والمغازي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بينه وبين نفسه

(9)

، وقد

(1)

مصنف عبد الرزاق (5/ 325).

(2)

زيدت بعدها في ط: والصحيح أنه أول من أسلم.

(3)

في أ: أسلم.

(4)

في هامش أ: وقف مدرسة الأحمدية بحلب المحمية.

(5)

في أ: فكان فى كفالته لما بعثه الله.

(6)

تاريخ دمشق (4/ 42) وما بعدها.

(7)

مسند الإمام أحمد (4/ 368) فقد صححه الإمام الترمذي (3735) في المناقب.

(8)

في هامش أ: يمكن التوفيق بين هذين القولين مما سبق آنفاً في بيان أول من آمن. قلت: يقصد أن أبا بكر أول من آمن من الرجال، وعلياً أول من آمن من الغلمان.

(9)

في أ: ولا يصح.

ص: 395

ورد في ذلك أحاديث كثيرة لا يصح شيء منها لضعف أسانيدها، ورِكَّة بعض متونها.

فإنَّ في بعضها: " أنت أخي ووارثي وخليفتي وخير من أُمِّر بعدي" وهذا الحديث موضوع مخالف لما ثبت في الصحيحين

(1)

وغيرهما، والله أعلم

(2)

.

وقد شهد علي بدراً وكانت له اليدُ البيضاء فيها، بارز يومئذ فغلب وظهر وفيه، وفي عمه حمزة وابن عمه عبيدة بن الحارث وخصومهم الثلاثة -عتبة وشيبة والوليد بن عتبة- نزل قوله تعالى:{هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج: 19] الآية. وقال الحكم وغيره عن مِقْسَم عن ابن عباس قال

(3)

: دفعَ النبيُّ الرايةَ يوم بدرٍ إلى عليّ وهو ابن عشرين سنة.

وقال الحسن بن عرفة: (حدَّثني) عمار بن محمد، عن سعيد بن محمد الحنظلي، عن أبي جعفر محمد بن علي قال:

نادى منادٍ في السماء يومَ بدر يُقال له رضوان: لا سيفَ إلا ذو الفقار ولا فتىً إلا علي.

قال ابن عساكر

(4)

: وهذا مرسل وإنما تنفل رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفه ذا الفقار يوم بدر ثم وهبه من علي بعد ذلك.

وقال يونس بن بُكَيْر: عن مسعر

(5)

، عن أبي عوف عن أبي صالح عن علي قال: قيل لي يوم بدر ولأبي بكر قيل لأحدنا معك

(6)

جبريل ومع الآخر ميكائيل قال وإسرافيل ملك عظيم يشهد القتال ولا يقاتل ويكون في الصف. وشهد عليٌّ أُحُداً وكان على الميمنة ومعه الراية بعد مصعب بن عمير، وعلى الميسرة المنذر بن عمرو الأنصاري، وحمزة بن عبد المطلب على القلب، وعلى الرَّجَّالة الزبير بن العوام وقيل المقداد بن الأسود، وقد قاتل علي يوم أحد

(7)

قتالاً شديداً، وقتل خلقاً كثيراً من المشركين، وغسل عن وجه النبي صلى الله عليه وسلم الدم الذي كان أصابه من الجراح حين شُجَّ في وجهه

(8)

وكُسرتْ

(9)

رباعيتُه، وشهدَ يوم الخندق فَقَتلَ يومئذ فارسَ العرب، وأحدَ شجعانهم المشاهير، عمرو بن عَبْد ودٍّ العامري، كما قدّمنا ذلك في غزوة الخندق، وشهدَ الحُدَيْبية وبيعةَ الرِّضْوان، وشهدَ خيبرَ وكانت له بها مواقفُ هائلةٌ،

(1)

في أ: في الصحيح وغيرها.

(2)

في هامش أ: مطلب الأحاديث الواقعة في حق علي وأنها موضوعة.

(3)

المعجم الكبير للطبراني (11/ 311).

(4)

تاريخ دمشق -ترجمة علي- (1/ 158).

(5)

في أ: مسعود.

(6)

في أ: مع أحدكما جبريل.

(7)

في هامش أ: بيان يوم أحد.

(8)

في أ: الدم حين شج يومئذ في رأسه.

(9)

في هامش أ: معطوف على قوله: وشهد علي بدراً.

ص: 396

ومشاهد طائلة، منها أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال

(1)

: "لأعطينَّ الرايةَ غداً رجلاً يحبُّ الله ورسولَه، ويحبُّه الله ورسولُه" فباتَ الناس [ليلتهم] يدوكون أيّهم يعطاها، فدعا علياً -وكان أرمدَ- فدعا له، وبصقَ في عينه فلم يرمد بعدها، فبرأ وأعطاه الرايةَ، ففتح الله على يديه، وقتل مرحباً

(2)

اليهودي.

وذكر محمد بن إسحاق

(3)

: عن عبد الله بن حسن عن بعض أهله عن أبي رافع أن يهودياً ضرب علياً فطرح ترسه، فتناول باباً عند الحصن فتترس به، فلم يزل في يده حتى فتح الله على يديه ثم ألقاه من يده، قال أبو رافع: فلقد رأيتني أنا وسبعة (معي) نجتهد أن نقلب ذلك الباب على ظهره يوم خيبر فلم نستطع.

وقال ليث: عن أبي جعفر عن جابر أن علياً حمل الباب على ظهره يوم خيبر حتى صعد المسلمون عليه ففتحوها، فلم يحمله إلا أربعون رجلاً.

ومنها أنه قتل مرحباً فارس يهود وشجعانهم.

وشهد عليٌّ عمرة القضاء وفيها قال له النبي صلى الله عليه وسلم

(4)

: " أنت مني، وأنا منك" وأما [ما] يذكره كثير من القصاص في مقاتلة عليّ

(5)

الجن في بئر ذات العلم -وهو بئر قريب من الجحفة- فلا أصل له، وهو من وضع الجهلة من الأخباريين فلا يغتر به

(6)

.

وشهد الفتح وحنيناً والطائف، وقاتل في هذه المشاهد قتالًا كثيراً، واعتمر من الجعرانة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك واستخلفه على المدينة، قال له: يا رسول الله أتخلفني مع النساء والصبيان؟ فقال

(7)

: " ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي".

وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم أميراً وحاكماً على اليمن، ومعه خالد بن الوليد، ثم وافى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام [حجة] الوداع، إلى مكة، وساق معه هدياً، وأهلَّ كإهلال النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأشركه في هَدْيِهِ، واستمرَّ على

(1)

الحديث رواه سهل بن سعد وغيره من الصحابة، وأخرجه البخاري في صحيحه (3701) في فضائل الصحابة، ومسلم في صحيحه (2406) في فضائل الصحابة، وأحمد في مسنده (5/ 333).

(2)

في هامش أ: المرحب: ملك اليهود.

(3)

السيرة النبوية لابن هشام (3/ 245).

(4)

الحديث رواه البراء بن عازب وأخرجه الإمام أحمد في مسنده (4/ 298) والبخاري في صحيحه (1844) في جزاء الصيد.

(5)

في ط: وما يذكره كثير من القصاص في مقاتلة الجن. .

(6)

في أ: فلا يعتبر به.

(7)

الحديث عن ابن عباس وغيره أخرجه أحمد في مسنده (1/ 331) والبخاري في صحيحه (3706) في فضائل الصحابة.

ص: 397

إحرامه، (ونحرا هديهما بعد فراغ نسكهما كما تقدم) ولما مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له العباس: سلْ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فيمن الأمر بعده؟ فقال: والله لا أسأله فإنه إن منعناها لا يعطيناها الناس بعده أبداً، والأحاديث الصحيحة الصريحة دالة على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يوص إليه ولا إلى غيره بالخلافة، بل لوَّح بذكرِ الصدِّيقِ؛ وأشار [إشارة] مفهمة ظاهرة جداً إليه، كما قدمنا ذلك ولله الحمد.

وأما ما يفتريه كثيرٌ من جَهَلةِ الشِّيعة والقصاص (الأغبياء)، من أنه أوصى إلى عليٍّ بالخلافة، فكذبٌ وبهتٌ وافتراءٌ عظيمٌ يلزمُ منه خطأٌ كبيرٌ، من تخوين

(1)

الصحابة وممالأتهم بعده على ترك إنفاذ وصيته وإيصالها إلى منْ أوصى إليه، وصرفهم إياها إلى غيره، لا لمعنى ولا لسبب، وكلُّ مؤمنٍ بالله ورسوله متحقق

(2)

أن دينَ الإسلام هو الحق، يعلم بطلان هذا الافتراء، لأنّ الصحابةَ كانوا خيرَ الخلقِ بعد الأنبياء، وهم خيرُ قرون هذه الأمة، التي هي أشرفُ الأمم بنصّ القرآن؛ وإجماع السلف والخلف، في الدنيا والآخرة، (ولله الحمد).

وما قد يقصُّه بعضُ القُصّاص من العوام وغيرهم في الأسواق وغيرها من الوصية لعليّ في الآداب والأخلاق

(3)

في المأكل والمشرب والملبس مثل ما يقولون: يا علي لا تعتمّ وأنت قاعد، يا علي لا تلبس سراويلك وأنت قائم، يا علي لا تمسك عضادتي الباب، ولا تجلس على أُسْكُفَّة الباب، ولا تُخيّطْ ثوبك وهو عليك، ونحو ذلك، كل ذلك من الهذيانات، فلا أصل لشيء منه

(4)

، بل هو اختلاق

(5)

(بعض السَّفلة الجَهلة، ولا يعوِّل على ذلك ويغتر به إلا غبي عيي).

ثم لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عليٌّ من جملة من غسله وكفنه وولي دفنه كما تقدم ذلك (مفصلاً ولله الحمد والمنة). وسيأتي في باب فضائله ذكر تزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم له من فاطمة بعد وقعة بدر فولد له منها حسن وحسين ومحسن (كما قدّمنا). وقد وردت أحاديثُ في ذلك لا يصحّ شيء منها بل أكثرها من وضع الروافض والقصاص.

ولما بويع الصديقُ يومَ السقيفة كان علي من جملة من بايعَ بالمسجد (كما قدّمنا). وكان بين يدي الصديق كغيره من أمراء الصحابة يرى طاعته فرضاً عليه، وأحب الأشياء إليه.

ولما توفيت فاطمة بعد ستة أشهر -وكانت قد تغضبت بعض الشيء

(6)

على أبي بكر بسبب الميراث الذي فاتها من أبيها عليه السلام، ولم تكن اطلعت على النص المختص بالأنبياء وأنهم لا يورثون، فلما

(1)

في أ: جور الصحابة وتماليهم.

(2)

في ط: يتحقق.

(3)

في أ: بآداب وأخلاق.

(4)

في أ: فلا أصل له.

(5)

في أ: اختلاق وكذب وزور.

(6)

في أ: بعض التغضب.

ص: 398

بلغها سألت أبا بكر أن يكون زوجها ناظراً على هذه

(1)

الصدقة، فأبى ذلك عليها، فبقي في نفسها شيء كما قدّمنا، واحتاج علي أن يداريها بعض المداراة، فلما توفيت جدد البيعةَ مع الصديق رضي الله عنهما، فلما توفي أبو بكر وقام عمر في الخلافة بوصية أبي بكر إليه بذلك: كان علي من جملة من بايعه، وكان معه يشاوره في الأمور، ويقال إنه استقضاه في أيام خلافته، وقدم معه من جملة سادات أمراء الصحابة إلى الشام؛ وشهد خطبته بالجابية، فلما طعن عمر وجعل الأمر شورى في ستةٍ أحدُهم عليٌّ، (ثم خلص منهم بعثمان وعلي كما قدمنا)، فقدم عثمان على عليٍّ، فسمع وأطاع.

فلما قُتل عثمان يوم الجمعة لثمان عشرةَ خلت من ذي الحجة سنة خمسٍ

(2)

وثلاثين على المشهور، عدل الناس إلى علي فبايعوه، قبل أن يدفن عثمان. وقيل بعد دفنه كما تقدم، وقد امتنع علي من إجابتهم

(3)

إلى قبول الأمارة حتى تكرر قولهم له وفر منهم إلى حائط بني عمرو بن مبذول، وأغلق بابه فجاء الناس فطرقوا الباب وولجوا عليه، وجاءوا معهم بطلحة والزبير، فقالوا له: إن هذا الأمر لا يمكن بقاؤه بلا أمير، ولم يزالوا به حتى أجاب.

‌ذكر بيعة علي رضي الله عنه بالخلافة

يقال: إنَّ أولَ من بايعه طلحةُ بيده اليُمنى وكانت شَلاَّء

(4)

من يوم أُحدٍ - لما وقى بها رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال بعضُ القوم: والله إن هذا الأمر لا يتمّ، وخرج عليٌّ إلى المسجد فصعد المنبر وعليه إزارٌ وعمامةُ خزٍّ ونعلاه في يده، يتوكَّأ على قوسه، فبايَعه عامَّةُ الناس، وذلك يوم السَّبت التاسع عشر من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين، ويقال: إن طلحة والزبير إنما بايعاه بعد أن طلبهما وسألاه أن يؤمِّرهما على البصرة والكوفة، فقال لهما: بل تكونان عندي أستأنسُ بكما.

ومن الناس من يزعم أنه لم يبايعه طائفة من الأنصار، منهم حَسَّان بن ثابتٍ، وكعبُ بن مالكٍ، ومسلمة بن مخلدٍ، وأبو سعيد، ومحمد بن مسلمة، والنُّعمان بن بَشير، وزيدُ بن ثابتٍ، ورافع بن خديجٍ، وفضالةُ بن عبيد، وكعب بن عُجْرة.

ذكره ابن جرير

(5)

من طريق المدائني، عن شيخ من بني هاشم، عن عبد الله بن الحسن.

قال المدائني: حدَّثني منْ سمع الزهري يقول: هرب قوم من المدينة إلى الشام ولم يبايعوا

(1)

في هامش أ: وصرّح في "رحمة الأمة في اختلاف الأئمة" حيث قال: إن الأنبياء لا يورثون وإن ما تركوه صدقة في مصالح المسلمين، ولم يخالف في ذلك إلا الشيعة. لمحرره.

(2)

في أ: خمسة، تحريف.

(3)

في أ: مبايعتهم وفرّ منهم إلى بني عمرو بن مبذول وأغلق بابه، وامتنع من قبول الإمارة حتى تقرر قولهم في الناس.

(4)

في هامش أ: تعليق لا يتضح منها إلا بعض كلمات.

(5)

تاريخ الطبري (4/ 429 - 430).

ص: 399

علياً، ولم يبايعه قدامة بن مظعون، وعبد الله بن سلام، والمغيرة بن شعبة.

قلت: وهرب مروان بن الحكم والوليد بن عقبة وآخرون إلى الشام.

وقال الواقدى

(1)

: بايع الناسُ علياً بالمدينة، وتربص سبعة نفر لم يبايعوا، منهم ابن عمر، وسعد بن أبي وقاص، وصهيب، وزيد بن ثابت، ومحمد بن أبي مسلمة، وسلمة بن سلامة بن وقش، وأسامة بن زيد، ولم يتخلَّف أحدٌ من الأنصار إلَّا بايع فيما نعلم.

وذكر سيف بن عمر

(2)

عن جماعة من شيوخه قالوا: بقيتِ المدينةُ خمسةَ أيامٍ بعد مقتل عثمان وأميرُها الغافقيُّ بن حرب، يلتمسون منْ يُجيبهم إلى القيام بالأمر. والمصريون يلحُّون على عليّ وهو يهربُ منهم إلى الحيطان، ويطلب الكوفيون الزُّبير فلا يجدونه، والبصريون يطلبون طلحة فلا يجيبهم، فقالوا فيما بينهم لا نولي أحداً من هؤلاء الثلاثة، فمضوا إلى سعد بن أبي وقاص فقالوا: إنك من أهل الشورى فلم يقبل منهم، ثم راحوا

(3)

إلى ابن عمر فأبى عليهم، فحاروا في أمرهم، ثم قالوا: إن نحن رجعنا إلى أمصارنا بقتل عثمان من غير إمرة اختلف الناسُ في أمرهم ولم نسلم، فرجعوا إلى عليٍّ فألحوا عليه، وأخذ الأشترُ بيده فبايعه وبايعه الناسُ.

وأهل الكوفةِ يقولون: أولُ من بايعه الأشترُ النَّخعي وذلك يوم الخميس الرابعُ والعشرون من ذي الحجة، وذلك بعد مراجعة الناس له في ذلك، وكلهم يقول: لا يصلح لها إلا عليّ، فلما كان يوم الجمعة وصعد (عليٌّ) المنبر بايعه من لم يبايعه بالأمس، وكان أول من بايعه طلحة بيده الشلاء، فقال قائل: إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم الزبير، ثم قال الزبير: إنما بايعت علياً واللج على عنقي والسلام

(4)

، ثم راح إلى مكة فأقام أربعة أشهر، وكانت هذه البيعة يوم الجمعة لخمسٍ

(5)

بقين من ذي الحجة.

وكان أول خطبةٍ

(6)

خطبها أنه حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن الله تعالى أنزل كتاباً هادياً بيَّن فيه الخير والشر، فخذوا بالخير ودعوا الشرَّ، إن الله حَرَّم حُرَماً [غير] مجهولة، وفَضَّلَ حُرْمةَ المُسلم على الحُرَم كلِّها، وشدَّ بالإخلاصِ والتوحيدِ حقوقَ المسلمين، والمسلمُ من سلم المسلمون

(7)

من لسانه ويده إلَّا بالحق، لا يحل لمسلم أذى مسلم إلا بما يجبُ، بادروا أمر العامة، وخاصَّة أحدكم الموت

(8)

، فإنّ

(1)

المصدر نفسه (4/ 431).

(2)

المصدر نفسه (4/ 432).

(3)

في أ: جاؤوا.

(4)

في أ: بايعت والسلاح عليّ ثم راح.

(5)

في ط: لخمسة.

(6)

الخطبة في تاريخ الطبري (4/ 436).

(7)

في تاريخ الطبري: الناس.

(8)

في أ: بالموت.

ص: 400

الناسَ أمامكم، وإنما خلفَكم الساعة تحدو كم فتخففوا تلحقوا، فإنما ينتظر بالناس أخراهم، اتقوا الله عباده في عباده وبلاده، فإنكم مسؤولون (حتى) عن البقاع والبهائم، (ثم) أطيعوا الله ولا تعصوه، هاذا رأيتم الخير فخذوا به (هاذا رأيتم الشرّ فدعوه) {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ} [الأنفال: 26] الآية.

فلما فرغ من خطبته قال المصريون

(1)

: [من الرجز]

خُذْها إلَيْكَ واحْذَرَنْ أبا الحَسَنْ

إنّا نُمِرُّ الأمْرَ إمْرارَ الرَّسَنْ

صَوْلةُ آساد كآسادِ السُّفُنْ

بمَشْرفياتٍ كغُدْرانِ اللَّبَنْ

ونَطْعنُ المُلْكَ بلَيْنٍ كالشَّطَنْ

حَتَّى يُمرَّنَّ على غَيْرِ عَننْ

فقال علي مجيباً لهم

(2)

:

إنّي عجزتُ عَجْزةً لا أعْتَذِرْ

سوفَ أكيسُ بَعْدها وأسْتمِرْ

أرْفَعُ منْ ذَيْليَ ما كُنتُ أجُرْ

وأجْمَعُ الأمْرَ

(3)

الشَّتيتَ المُنْتشرْ

إن لمْ يُشاغِبْني (العَجول) المُنْتَصِرْ

أن يَتْرُكُوني

(4)

والسِّلاحُ يُبْتدرْ

وكان على الكوفة أبو موسى الأشعري على الصلاة، و (على) الحرب القعقاع بن عمرو، وعلى الخراج جابر بن فلان المزني، وعلى البصرة عبد الله بن عامر، وعلى مصر عبد الله بن سعد بن أبي سَرْح، وقد تغلب عليه محمد بن أبي حذيفة، وعلى الشام معاوية بن أبي سفيان، ونوابه على حمص عبدُ الرحمن بن خالد بن الوليد، وعلى قِنَّسرين حبيبُ بن مَسْلَمَه، وعلى الأردنّ أبو الأعور، وعلى فلسطين حكيم بن علقمة، وعلى أذْرَبيجان الأشعثُ بن قيس، وعلى قَرْقيسيا جريرُ بن عبد الله البجلي، وعلى حُلْوان عُتَيْبة

(5)

بن النَّهّاس، وعلى قيسارية

(6)

مالك بن حبيب، وعلى همذان حبيش

(7)

، هذا ما ذكره ابن جرير من نواب عثمان الذين توفي وهم نواب الأمصار، وكان على بيت المال عقبة بن عمرو، وعلى قضاء المدينة زيد بن ثابت.

ولما قتل عثمان بن عفان خرج النعمان بن بشير ومعه قميص عثمان مُضَمَّخٌ بدمه، ومعه أصابع نائلة

(1)

الأبيات في تاريخ الطبري (4/ 437) وقد جاءت الأشعار مضطربة في أ.

(2)

ديوان الإمام علي (99).

(3)

في أ: وأجمع السهل.

(4)

في الديوان: إن لم يباغتني

أو تتركوني.

(5)

في أ: عبد الله بن النهاس؛ خطأ. وما هنا موافق للطبري (4/ 422).

(6)

في تاريخ الطبري: ماه.

(7)

في أ: حبيش بن .. وفي الطبري النّسير.

ص: 401

التي أُصيبتْ حين حاجَفَتْ

(1)

عنه بيدها، فقُطعتْ مع بعض الكفّ فورد به على معاوية بالشام، فوضعه معاوية على المنبر ليراه الناس، وعلق الأصابع في كم القميص، وندب الناس إلى الأخذ بهذا الثأر والدم وصاحبه، فتباكى الناس حول المنبر، وجعل القميص يرفع تارة ويوضع تارة، والناس يتباكون حوله سنة، وحث

(2)

بعضهم بعضاً على الأخذ بثأره، واعتزل أكثر الناس النساء في هذا العام، وقام في الناس معاوية وجماعة من الصحابة معه يحرِّضون الناسَ على المطالبة بدم عثمان، ممَّن قتله من أولئك الخوارج: منهم عُبادة بن الصّامِت، وأبو الدَّرداء، وأبو أمامة، وعمرو بن عَبَسَة

(3)

وغيرهم من الصحابة، ومن التابعين: شريك بن حباشة، وأبو مسلم الخولاني، وعبد الرحمن بن غَنْم، وغيرهم من التابعين. ولما استقرَّ أمرُ بيعة عليٍّ دخل عليه طلحة والزبير ورؤوس الصحابة رضي الله عنهم، وطلبوا (منه) إقامة الحدود، والأخذ بدم عثمان. فاعتذر إليهم بأنَّ هؤلاء لهم مدد وأعوان، وأنه لا يمكنه ذلك يومه هذا، فطلب منه الزبير أن يوليه إمرةَ الكوفة ليأتيه بالجنود، وطلب منه طلحة أن يوليه إمرةَ البصرة، ليأتيه منها بالجنود ليقوى بهم على شوكة هؤلاء الخوارج، وجهلة الأعراب الذين كانوا معهم في قتل عثمان رضي الله عنه، فقال لهما: مهلاً

(4)

عليَّ، حتى أنظر في هذا الأمر. ودخل عليه المغيرة بن شعبة على إثر ذلك فقال له: إني أرى أن تُقرَّ عمالكَ على البلاد، فإذا أتتكَ طاعتُهم استبدلتَ بعد ذلك بمن شئت وتركتَ منْ شئت، ثم جاءه من الغد، فقال له: إني أرى أن تعزلهم لتعلمَ من يُطيعكَ (ممن يعصيك)، فعرضَ ذلك عليّ على ابن عباس فقال: لقد نصحك بالأمس وغشَّك اليومَ، فبلغ ذلك المغيرةَ فقال: نعم نصحتُه فلما لم يقبل غششتُه ثم خرج المغيرة فلحق بمكة، ولحقه جماعة منهم طلحة والزبير: وكانوا قد استأذنوا عليّاً في الاعتمار فأذن لهم، ثم إنّ ابن عباس أشار على علي باستمرار نوابه في البلاد، إلى أن

(5)

يتمكن الأمر، وأن يقر معاوية خصوصاً على الشام وقال له: إني أخشى إن عزلته عنها أن يطلبك

(6)

بدم عثمان ولا آمن طلحة والزبير أن يتكلما

(7)

عليك بسبب ذلك، فقال علي: إني لا أرى هذا ولكن اذهب أنت إلى الشام فقد ولَّيتُكَها، فقال ابن عباس لعلي: إنّي أخشى من معاوية أن يقتلني بعثمان، أو يحبسني لقرابتي منك، ولكن اكتب (معي) إلى معاوية فمنِّه وعِدْهُ، فقال علي: والله

(1)

حاجفت: أي دافعت. اللسان (حجف).

(2)

في أ: يحث.

(3)

في ط: عنبسة؛ تحريف، وترجمة ابن عَبَسة في الاستيعاب (1192) وجامع الأصول (14/ 55) وأسد الغابة (4/ 251) والإصابة (3/ 5 - 6).

(4)

في أ: امهلا.

(5)

في أ: إلى حين.

(6)

في أ: يطالبك.

(7)

في أ: أن ينكرا.

ص: 402

إنَّ هذا ما لا يكون أبداً، فقال ابن عباس: يا أمير المؤمنين: " الحرب خدعة "

(1)

كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوالله لئن أطعتني لأوردنهم بعد صدرهم

(2)

ونهى ابن عباس علياً فيما أشار عليه أن يقبل من هؤلاء الذين يحسِّنون إليه الرحيل

(3)

إلى العراق، ومفارقة المدينة، فأبى عليه ذلك كله، وطاوع أمر أولئك الأمراء من أولئك الخوارج من أهل الأمصار.

قال ابن جرير

(4)

: وفي هذه السنة قصد قسطنطين بن هرقل بلاد المسلمين في ألف مركب، فأرسل اللّه عليه قاصفاً من الريح فغَرَّقه الله بحوله وقوته، ومن معه، ولم ينج منهم أحد إلا الملك في شرذمة قليلة من قومه، فلما دخل صقلية عملوا له حماماً (فدخله) فقتلوه فيه، وقالوا: أنت قتلت رجالنا.

‌ثُمَّ دخلت سنة ست وثلاثين من الهجرة

استهلت هذه السنة وقد توَلَّى أميرُ المؤمنين عليُّ بن أبي طالب الخلافةَ، وولَّى على الأمصار نواباً، فولى عبيد الله

(5)

بن عباس على اليمن، وولى سمرة بن جندب

(6)

على البصرة، وعمارة بن شهاب على الكوفة، وقيس بن سعد بن عباد

(7)

على مصر، وعلى الشام سهل بن حُنَيْف بدل معاوية، فسار حتى بلغ تبوك فتلقَّتْهُ خيلُ معاوية، فقالوا: منْ أنْتَ؟ فقال: أميرٌ، قالوا: على أيِّ شيءٍ؟ قال: على الشام، فقالوا: إن كان عثمانُ بعثَكَ فحيَّهلا بك، وإن كانَ غيرُه فارجعْ. فقال: أوما سمعتُم الذي كان؟ قالوا: بلى، فرجع إلى عليٍّ.

وأما قيس بن سعد فاختلف عليه أهلُ مصر فبايع له الجمهور، وقالت طائفةٌ: لا نبايعُ حتى نقتُلَ قتلةَ عثمان، وكذلك أهل البصرة.

وأما عمارة بن شهاب المبعوثُ أميراً على الكوفة فصدَّه عنها طلحةُ بن خُوَيْلد غضباً لعثمان، فرجعَ إلى عليٍّ فأخبره.

(1)

حديث " الحرب خدعة " من رواية ابن عباس أخرجه ابن ماجه (2834) وأبو يعلى (2504) وإسناده ضعيف جداً فيه مطر بن ميمون متروك. لكن متن الحديث صحيح عن عدد من الصحابة، ومنهم جابر بن عبد الله الأنصاري، فهو في الصحيحين؛ البخاري (3030)، ومسلم (1739)(بشار).

(2)

في أ: صدورهم.

(3)

في أ: الدخول.

(4)

تاريخ الطبري (4/ 441).

(5)

في ط: عبد الله، تحريف، والتصحيح من أ والطبري.

(6)

هكذا قال، وهو وهم بين فإن سمرة لم يتول لعلي رضي الله عنه، وإنما استخلفه عليها زياد بن أبيه، وفي تاريخ الطبري: عثمان بن حنيف، وهو الصواب وهو كذلك في السير للذهبي (2/ 322) وغيره، وسيأتي في أثناء الكلام أنه عثمان بن حنيف.

(7)

في أ: عباد.

ص: 403

وانتشرت الفتنة وتفاقمَ الأمرُ، واختلفت الكلمةُ، وكتب أبو موسى إلى علي بطاعة أهل الكوفة ومبايعتهم إلا القليل منهم.

وبعث عليٌّ إلى معاوية كتباً كثيرة فلم يرد عليه جوابها

(1)

، وتكرر ذلك مراراً إلى الشهر الثالث من مقتل عثمان في صفر، ثم بعث معاوية طوماراً

(2)

مع رجلٍ فدخل به على عليٍّ فقال: ما وراءك؟ قال جئتك من عند قوم لا يريدون إلا القود

(3)

كلهم موتور

(4)

، تركت ستين ألف

(5)

شيخ يبكون تحت قميص عثمان، وهو على منبر دمشق، فقال عليٌّ: اللهم إنّي أبرأ إليك من دم عثمان، ثم خرج رسول معاوية من بين يدي عليٍّ فهمّ به أولئك الخوارج الذين قتلوا عثمان يريدون قتله، فما أفلتَ إلا بعدَ جهدٍ.

وعزم عليٌّ رضي الله عنه على قتالِ أهلِ الشامِ، وكتب إلى قيس بن سعد بمصر يستنفر الناسَ لقتالهم، وإلى أبي موسى بالكوفة، وبعث إلى عثمان بن حنيف بذلك، وخطبَ الناسَ فحثَّهم على ذلك. وعزم على التّجهُّزِ، وخرج من المدينة، واستخلف عليها قُثَمَ بن العباس، وهو عازم أن يقاتل بمن أطاعه منْ عصاه، وخرج عن أمره (ولم يبايعه مع الناس)، وجاء إليه ابنهُ الحسنُ بن علي فقال: يا أبتِ دَعْ هذا فإنّ فيه سفكَ دماءِ المسلمين، ووقوع الاختلاف بينهم، فلم يقبل منه ذلك، بل صمم على القتال، ورتب الجيش، فدفع اللواء إلى محمد بن الحنفية، وجعل ابن العباس على الميمنة، وعمر

(6)

بن أبي سلمة على الميسرة، وقيل:(جعل على الميسرة) عمرو بن سفيان بن عبد الأسد، وجعل على مقدمته أبا ليلى بن عمر

(7)

بن الجراح، ابن أخي أبي عبيدة، واستخلف (على المدينة) قُثَمَ بن العباس، ولم يبقَ شيء إلا أن يخرج (من المدينة) قاصداً (إلى) الشام، حتى جاءه

(8)

ما شغله عن ذلك كله وهو ما سنورده.

‌ابتداء وقعة الجمل

ولما وقع قتل عثمان بعد أيام التشريق، وكان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم (أمهات المؤمنين) قد خرجْنَ إلى الحج في هذا العام فراراً من الفتنة، فلما بلغ الناسَ أنَّ عثمانَ قد قُتل، أقمنَ بمكةَ بعد ما خرجوا منها،

(1)

في أ: لها جوابها.

(2)

الطامور والطومار: الصحيفة. القاموس (طمر).

(3)

القود -محركة- القصاص. القاموس (قود).

(4)

الموتور: من قتل له قتيل فلم يدرك يومه. القاموس (وتر).

(5)

في ط: سبعين، والخبر في تاريخ الطبري (4/ 444).

(6)

في ط: وعمرو؛ خطأ وما هنا عن الطبري (4/ 445).

(7)

في ط: عمرو؛ خطأ.

(8)

في أ: من.

ص: 404

(ورجعوا إليها وأقاموا بها) وجعلوا ينتظرون ما يصنع (الناس ويتحسسون الأخبار) فلما بُويع لعلي وصار حظ الناس عنده -بحكم الحال وغلبة الرأي، لا عن اختيار منه لذلك- رؤوس أولئك الخوارج الذين قتلوا عثمان، مع أن علياً في نفس الأمر يكرههم، ولكنه تربص بهم الدوائر، ويود لو تمكن منهم ليأخذ حق الله منهم، ولكن لما وقع الأمر هكذا واستحوذوا عليه، وحجبوا عنه (عِلْيَةَ) الصحابة فرّ جماعةٌ من بني أمية وغيرهم إلى مكة، واستأذنه طلحةُ والزبيرُ في الاعتمار، فأذن لهما فخرجا إلى مكة وتبعهم خلقٌ كثيرٌ، وجمٌّ غفيرٌ، وكان علي لما عزم على قتال أهل الشام قد ندب أهل المدينة إلى الخروج معه فأبَوْا عليه، فطلب عبد الله بن عمر بن الخطاب وحرَّضَه على الخروج معه، فقال: إنما أنا رجلٌ من أهل المدينة، إن خرجوا خرجت على السمع والطاعة، ولكن لا أخرج للقتال في هذا العام، ثم تجهَّز ابنُ عمر وخرج إلى مكة.

وقدم إلى مكة (أيضاً في) هذا العام يَعْلى بن أمية من اليمن، -وكان عاملاً عليها لعثمان- ومعه ستمئة بعير وستمئة ألف (درهم)، وقدم إليها عبد الله بن عامر من البصرة، وكان نائبها لعثمان، فاجتمع فيها

(1)

خلق من سادات الصحابة وأمهات المؤمنين، فقامت عائشة رضي الله عنها في الناس تخطبهم وتحثهم على القيام بطلب دم عثمان، وذكرتْ ما افْتأتَ به أولئك من قتله في بلد حرام وشهر حرام

(2)

، ولم يراقبوا جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سفكوا الدماء، وأخذوا الأموال. فاستجاب الناس لها، وطاوعوها على ما تراه من الأمر (بالمصلحة)، وقالوا لها: حيثما سرتِ سرنا معك، فقال قائل: نذهب إلى الشام، فقال بعضهم: إن معاوية قد كفاكم أمرها، ولو قدموها لغلبوا، واجتمع الأمر كله لهم، لأن أكابر الصحابة معهم. وقال آخرون: نذهب إلى المدينة فنطلب من علي أن يسلم إلينا قتلة عثمان فيقتلوا، وقال آخرون: بل نذهب إلى البصرة فنتقوى (من هنالك) بالخيل والرجال، ونبدأ بمن هناك من قتلة عثمان. فاتفق الرأي على ذلك، وكان بقية أمهات المؤمنين قد وافقن عائشة على المسير إلى المدينة

(3)

، فلما اتفق الناس على المسير إلى البصرة رجعن عن ذلك وقلن: لا نسير إلى غير المدينة، وجهز الناس يعلى بن أمية فأنفق فيهم ستمئة بعير وستمئة ألف درهم

(4)

، وجهزهم ابن عامر أيضاً بمال كثير، وكانت حفصة بنت عمر أم المؤمنين قد وافقت عائشة على المسير إلى البصرة، فمنعها أخوها عبد الله من ذلك، وأبى هو أن يسير معهم إلى غير المدينة، وسار الناسُ صحبةَ عائشةَ في ألفِ فارسٍ، وقيل تسعمئة (فارس) من أهل المدينة ومكة، وتلاحق بهم آخرون، فصاروا في ثلاثة آلاف، وأم المؤمنين

(5)

عائشة تُحْملُ في

(1)

في أ: فاجتمع بها.

(2)

في أ: في بلد نبي الله في الشهر الحرام.

(3)

في أ: إلى البصرة.

(4)

في أ: ستمئة ألف وستمئة بعير.

(5)

في أ: وأم المؤمنين تحمل -وتحت السطر-: أي عائشة رضي الله عنها.

ص: 405

هَوْدجٍ على جمل اسمه عسكر، اشتراه يعلى بن أمية من رجل من عرينة بمئتي دينار، وقيل بثمانين ديناراً، وقيل غير ذلك، وسار معها أمهات المؤمنين إلى ذات عرق ففارقنها هنالك وبكين للوداع، وتباكى الناس، وكان ذلك اليوم يسمى يوم النحيب، وسار الناس قاصدين البصرة، وكان الذي يُصلِّي بالناس عن أمر عائشة ابن أختها عبد الله بن الزبير، ومروان بن الحكم يؤذن للناس في أوقات الصلوات

(1)

، وقد مروا في مسيرهم ليلاً بماء يقال له الحَوْأَب

(2)

، فنبحتهم كلابٌ عنده، فلما سمعتْ ذلك عائشة قالت: ما اسم هذا المكان قالوا الحَوْأب، فضربتْ بإحدى يديها على الأخرى وقالت: إنا لله وإنا إليه راجعون، ما أظنني إلا راجعة، قالوا: ولم؟ قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (لنسائه): "ليت شعري أيتكن التي تنبحها كلاب الحَوْأَب"

(3)

، ثم ضربت عضدَ بعيرها فأناخته، وقالت: ردّوني ردّوني، وأنا والله صاحبة ماء الحَوْأب.

وقد أوردنا هذا الحديث بطرقه وألفاظه في دلائل النبوة. كما سبق، فأناخ الناس حولها يوماً وليلة، وقال لها عبد الله بن الزبير: إن الذي أخبرك أن هذا ماء الحَوْأَب قد كذب، ثم قال الناس: النجا النجا، هذا جيش علي بن أبي طالب، قد أقبل؛ فارتحلوا نحو البصرة، فلما اقتربت من البصرة كتبت إلى الأحنف بن قيس وغيره من رؤوس الناس، أنها قد قدمت، فبعث عثمانُ بن حُنَيْف عمران بن حصين وأبا الأسود الدؤلي

(4)

إليها ليعلما ما جاءت له، فلما قدما عليها سلَّما عليها واستعلما منها ما جاءت له، فذكرت لهما ما الذي جاءت له من القيام بطلب دم عثمان، لأنه قُتل مظلوماً فيِ شهر حرام وبلدٍ حرامٍ. وتلت قوله تعالى:{لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114] فخرجا من عندها فجاءا إلى طلحة فقالا له: ما أقدمكَ؟ فقال: الطلبُ بدم عثمان، فقالا: ما بايعت علياً؟ قال: بلى والسيف على عنقي، ولا أستقيله إن هو لم يُخلِ بيننا وبين قتلةِ عثمان. فذهبا إلى الزبير فقال مثل ذلك، قال: فرجع عمران وأبو الأسود إلى عثمان بن حُنَيْف، فقال أبو الأسود

(5)

: [من الرجز]

يا بنَ حُنَيْفٍ

(6)

قد أُتيتَ فانْفرِ

وطاعنِ القَوْمَ وجالِدْ واصْبِرِ

وَاخرجْ لَهُمْ مُسْتَلْئِماً وَشَمِّرِ

(7)

(1)

في هامش: مطلب إما عسكر عائشة عبد الله بن الزبير ومروان مؤذنهم.

(2)

في أ: الحوب. وفي معجم ما استعجم (2/ 472): الحؤب، وتخفف الهمزة فيقال: الحوب؛ وهو ماء قريب من البصرة على طريق مكة إليها.

(3)

الحديث رواه أحمد في مسنده (6/ 52 - 97) وأبو يعلى (4868) وابن حبان في صحيحه كما في الإحسان (15/ 126) رقم (6732) والبيهقي في دلائل النبوة (6/ 410) وهو حديث صحيح.

(4)

في أ: الديلي.

(5)

الأشطر في تاريخ الطبري (4/ 463).

(6)

في ط: يا ابن الأحنف، ولا يستقيم بها الوزن.

(7)

لم يرد هذا الشطر في أ، وروايته في تاريخ الطبري: وابرز لهم مستلئماً وشمّر.

ص: 406

فقال عثمان بن حُنَيْف: إنا لله وإنا إليه راجعون، دارت رحا الإسلام ورب الكعبة، فانظروا بأي زَيَفانٍ نزيف

(1)

، فقال عمران: إي والله لنَعْرُكَنَّكُمْ عركاً طويلاً. يشير

(2)

عثمان بن حنيف إلى حديث ابن مسعود مرفوعاً " تدور رحا الإسلام لخمس وثلاثين" الحديث كما تقدم، ثم قال عثمان بن حنيف لعمران بن حصين: أشِرْ عَلَيَّ، ففال: اعتزل فإني قاعدٌ في منزلي، أو قال: قاعد على بعيري، فذهب. فقال عثمان: بل أمنعهم حتى يأتيَ أميرُ المؤمنين، فنادى في الناس يأمرهم بلبس السلاح والاجتماع في المسجد، فاجتمعوا فأمرهم بالتجهُّز.

فقام رجل

(3)

(وعثمان على المنبر) فقال: أيها الناس إن كان هؤلاء القوم جاؤوا خائفين فقد جاؤوا من بلد يأمنُ فيه الطيرُ، وإن كانوا جاؤوا يطلبون بدم عثمان فما نحن بقتلته، فأطيعوني وردُّوهم من حيث جاؤوا.

فقام الأسود بن سريع السعدي

(4)

فقال: إنَّما جاؤوا يستعينون بنا على قتلة عثمان منّا ومن غيرنا، فحصبه الناس، فعلم عثمان بن حُنَيْف أن لقتلة عثمان بالبصرة أنصاراً، فكره ذلك.

وقدمت أم المؤمنين بمن معها من الناس، فنزلوا المِرْبد من أعلاه قريباً من البصرة، وخرج إليها من أهل البصرة منْ أرادَ أن يكونَ معها

(5)

، وخرج عثمان بن حُنَيْف بالجيش، فاجتمعوا بالمِرْبَد، فتكلَّم طلحة -وكان على الميمنة- فندب إلى الأخذ بثأر عثمان، والطَّلب بدمه، وتابعه الزُّبَيْر فتكلَّم بمثل مقالته، فردَّ عليهما ناسٌ من جيش عثمان بن حُنَيْف

(6)

، وتكلَّمت أم المؤمنين فحرَّضَتْ وحثّتْ على القتال، فتناور طوائف من أطراف الجيش فترامَوْا بالحجارة، ثم تحاجزَ الناسُ، ورجعَ كلُّ فريقٍ إلى حَوْزتهِ، وقد صارت طائفةٌ من جيش عثمان بن حُنَيْف إلى جيش عائشة، فكثروا.

وجاء حارثة بن قدامة السعدي فقال: يا أم المؤمنين! والله لقتلُ عثمان أهونُ من خروجكِ من بيتكِ على هذا الجمل عرضةً للسلاح، إن كنتِ أتيتنا طائعةً فارجعي من حيثُ جئتِ إلى منزلك، وإن كنتِ أتيتنا مكرهةً فاستعيني بالناس في الرجوع.

وأقبل حكيم بن جبلة -وكان على خيل عثمان بن حُنَيف- فأنشب القتال وجعل أصحابُ أمِّ المؤمنين يكفُّون أيديهم ويمتنعون من القتال، وجعل حكيمٌ يقتحمُ عليهم فاقتتلوا على فم السّكّةِ، وأمرت عائشةُ أصحابها فتيامنوا حتى انتهَوْا إلى مقبرة بني مازن، وحجزَ الليلُ بينهم.

(1)

في أ: بأي زيفان زيف أنتم فقال عمران ..

(2)

هذا التعليق من ابن كثير رحمه الله.

(3)

هو قيس بن العَقَديّة الحُميسي كما في الطبري (4/ 463).

(4)

في أ: الأسود بن سريع، والخبر في تاريخ الطبري (4/ 463).

(5)

في أ: وخرج إليها من أراد من أهل البصرة فكان منها.

(6)

في أ: حبيش بن حنيف.

ص: 407

فلما كان اليوم الثاني قَصَدوا للقتال، فاقتتلوا قتالًا شديداً، إلى اْن زالَ النهارُ، وقُتل خلقٌ كثيرٌ من اْصحاب ابن حُنَيْف، وكثرت الجراح في الفريقين، فلما عضتهم الحرب تداعَوْا إلى الصلح على أن يكتبوا بينهم كتاباً ويبعثوا رسولاً إلى أهل المدينة يسأل أهلها، إن كان طلحة والزبير أُكرها على البيعة، خرج عثمان بن حنيف عن البصرة وأخلاها، وإن لم يكونا أكرها على البيعة خرج طلحة والزبير عنها وأخلوها لهم، وبعثوا بذلك كعبَ بن سُور القاضي، فقدمَ المدينة يومَ الجمعة، فقام في الناس، فسألهم: هل بايعَ طلحةُ والزبيرُ طائعين أو مُكْرهين؟ فسكت الناس فلم يتكلم إلا أسامة بن زيد، فقال: بل كانا مُكْرهين، فثار إليه بعض الناس فأرادوا ضربه، فحاجف

(1)

دونه صهيبٌ، وأبو أيوب، وجماعة حتى خلصوه؛ وقالوا له: ما وسعك ما وسعنا من السكوت

(2)

؟ فقال: لا والله ما كنت أرى أن الأمر ينتهي إلى هذا.

وكتب عليٌّ إلى عثمان بن حُنَيْف يقول له: إنهما لم يكرها على فرقة، ولقد أكرها على جماعة وفضل فإن كانا يريدان الخلعَ فلا عذرَ لهما، وإن كانا يريدان غيرَ ذلك نظرا ونظرنا، وقدم كعب بن سُور على عثمان بكتاب عليٍّ، فقال عثمان: هذا أمرآخر غير ما كنا فيه، وبعث طلحة والزبير إلى عثمان بن حُنَيْف أن يخرج إليهما فأبى، فجمعا الرجالَ في ليلةٍ مظلمةٍ وشهدا بهم صلاةَ العشاء في المسجد الجامع، ولم يخرج عثمان بن حنيف

(3)

تلك الليلة، فصلى بالناس عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد، ووقع من رعاع الناس من أهل البصرة كلام وضرب، فقتل منهم نحواً [من] أربعين رجلاً، ودخل الناسُ على عثمان بن حنيف قصرَهُ فأخرجوه إلى طلحة والزبير، ولم يبقَ في وجهه شعرة إلا نتفوها، فاستعظما ذلك وبعثا إلى عائشة فأعلماها الخبرَ، فأمرت أن يُخْلى سبيله، فأطلقوه وولَّوْا على بيتِ المال عبد الرحمن بن أبي بكر، وقسم طلحة والزبير أموالَ بيتِ المال في الناس وفضَّلوا أهلَ الطاعة، وأكبَّ عليهم الناسُ يأخذون أرزاقهم، وأخذوا الحرسَ، واستَبَدُّوا في الأمر بالبصرة، فحمي لذلك جماعةٌ من قومِ قتلةِ عثمانَ وأنصارهم، فركبوا في جيشٍ قريبٍ من ثلاثمئة، ومقدّمُهُم حكيم بن جبلة، وهو أحدُ من باشر قتلَ عثمان، فبارزوا وقاتلوا، فضربَ رجلٌ رِجلَ حكيم بن جبلة فقطعها، فزحف حتى أخذها وضربَ بها ضاربه فقتله ثم اتَّكَأ عليه وجعل يقول

(4)

: [من مجزوء الرجز]

يا ساق

(5)

لن تُراعي

إنّ لكِ ذراعي

أحمي بها كُراعي

(6)

(1)

حاجفت فلاناً إذا عارضته ودافعته. اللسان (حجف).

(2)

في أ: ما وسعك ما وسعنا فقال: ما كنت أرى الأمر.

(3)

في أ: ولم يخرج ابن حنيف.

(4)

الأشطر في الطبري (4/ 471).

(5)

في الطبري: يا فخذ.

(6)

في أ: ذراعي.

ص: 408

وقال أيضاً

(1)

: [من الرجز]

فليسَ عليَّ أنْ أموتَ عارُ

والعارُ في النّاسِ هو الفِرارُ

والمَجْدُ لا يَفْضحُهُ الدَّمارُ

فمر عليه رجل وهو مُتكَئٌ برأسه على ذلك الرجل، فقال له: منْ قتلكَ؟ فقال له: وسادتي. ثم مات حكيم قتيلاً هو ونحوٌ من سبعين من قَتلةِ عثمانَ وأنصارهم (أهل المدينة)، فضعف جأشُ منْ خالفَ طلحةَ والزبير من أهل البصرة.

ويقال: إنَّ أهل البصرة بايعوا طلحةَ والزبيرَ، وندب الزبيرُ ألفَ فارسٍ يأخذها معه، ويلتقي بها علياً قبل أن يجيء فلم يجبه أحد، وكتبوا بذلك إلى أهل الشام يبشّرونهم بذلك، وقد كانت هذه الوقعهُ لخمسِ ليالٍ بقينَ من ربيع الآخر سنة ست وثلاثين.

وقد كتبت عائشة إلى زيد بن صُوحان تدعوه إلى نصرتها والقيام معها فإنْ لم يَجئْ فليكفّ يده وليلزم منزله، أي: لا يكون عليها ولا لها، فقال: أنا في نصرتك ما دمت في منزلك، وأبى أن يطيعها في ذلك، وقال: رحمَ اللهُ أمَّ المؤمنين، أمرَها اللهُ أن تلزمَ بيتَها وأمرنا أن نقاتل، فخرجت من منزلها وأمرتنا بلزوم بيوتنا التي كانت هي أحقّ بذلك منا، وكتبت (عائشة) إلى أهل اليمامة والكوفة بمثل ذلك.

[ذكر] مسير [أمير المؤمنين] علي بن أبي طالب من المدينة إلى البصرة بدلًا

(2)

من [مسيره إلى] الشام

بعد أن كان قد تجهَّز قاصداً الشام كما ذكرنا، فلما بلغه قَصْدُ طلحة والزبير البصرةَ، خطبَ الناسَ وحثَّهم على المسير إلى البصرة ليمنعَ أولئك من دخولها، إن أمكن، أو يطردَهم عنها إن كانوا قد دخلوها، فتثاقل عنه أكثرُ أهل المدينة، واستجابَ له بعضُهم.

قال الشعبي: ما نهض معه في هذا الأمر غيرُ ستة نفرٍ من البَدْريّين ليس لهم سابع. وقال غيره: أربعة.

وذكر ابن جرير

(3)

وغيره قال: كان ممن استجاب له من كبار الصحابة أبو الهيثم بن التّيهان، وَأبو قتادة الأنصاري، وزياد بن حنظلة، وخزيمة بن ثابت. قالوا: وليس بذي الشهادتين، ذاك مات في زمن عثمان رضي الله عنه.

وسار علي من المدينة نحو البصرة على تعبئته المتقدم ذكرها، غير أنه استخلف على المدينة تمام بن عباس (وعلى) مكة قُثَم بن عبّاس وذلك في آخر شهر ربيع الآخر سنة ست وثلاثين.

(1)

الأشطر في الطبري (4/ 471).

(2)

في أ: عن مسيره.

(3)

تاريخ الطبري (4/ 477).

ص: 409

وخرجِ (علي من المدينة) في نحو من تسعمئة مقاتل، وقد لقي عبد الله بن سلام رضي الله عنه علياً وهو بالزَّبَذَةِ

(1)

، فأخذ بعنان فرسه وقال: يا أمير المؤمنين! لا تخرج (منها) فوالله لئن خرجت منها لا يعود إليها سلطان المسلمين أبداً، فسبَّه بعض الناس، فقال علي: دعوه فنعمَ الرجلُ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

وجاء الحسن بن علي إلى أبيه في الطريق فقال: لقد نهيتُكَ فعَصَيْتني تُقْتلُ غداً بمضيعةٍ لا ناصر لك. فقال له علي: إنك لا تزال تحنّ عليَّ حنينَ الجارية، وما الذي نهيتَني عنه فعَصْيتُكَ؟ فقال: ألم آمرك قبل مَقْتل عثمان أن تخرج منها لئلا يقتل وأنت بها، فيقول قائل أو يتحدث متحدث؟ ألم آمرك أن لا تبايع الناس بعد قتل عثمان حتى يبعث إليك أهل كل مصر ببيعتهم؟ وأمرتك حين خرجت هذه المرأة وهذان الرجلان أن تجلس في بيتك حتى يصطلحوا فعصيتني في ذلك (كله)؟ فقال له علي: أما قولك أني خرجت

(2)

قبل مقتل عثمان فلقد أُحيط بنا كما أُحيط به، وأما مبايعتي قبل مجيء بيعة الأمصار فكرهتُ أن يضيعَ هذا الأمر، وأما أن أجلس وقد ذهب هؤلاء إلى ما ذهبوا إليه. فتريد مني

(3)

أن أكونَ كالضَّبع التي يحاط بها، ويقال ليست هاهنا، حتى يشق عرقوبها فتخرج، فإذا لم أنظر فيما يلزمني في هذا الأمر ويعنيني، فمن ينظر فيه؟ فكُفَّ عنّي يا بنيّ، ولمّا انتهى إليه خبر ما صنع القوم بالبصرة (من الأمر الذي قدمنا) كتب إلى أهل الكوفة مع محمد بن أبي بكر، ومحمد بن جعفر، إني قد اخترتكم على (أهل) الأمصار، فرغبت إليكم وفزعت لما حدث، فكونوا لدين الله أعواناً وأنصاراً، وانهضوا إلينا فالإصلاح نريد لتعود

(4)

هذه الأمة إخواناً، فمضيا، وأرسل إلى المدينة فأخذ ما أراد من سلاح ودواب، وقام في الناس خطيباً فقال: إنَّ الله أعزَّنا بالإسلام، ورفعنا به، وجعلنا به إخواناً، بعد ذلّةٍ وقلةٍ وتباغضٍ وتباعدٍ، فجرى الناس على ذلك ما شاء الله، الإسلامُ دينُهم، والحقُّ قائمٌ بينهم، والكتاب إمامُهم، حتى أصيبَ هذا الرجل بأيدي هؤلاء القوم الذين نزغهم

(5)

الشيطان لينزغَ بين هذه الأمة، ألا وإنَّ هذه الأمة لا (بد) مفترقة كما افترقتِ الأممُ قبلها، فنعوذ بالله من شرّ ما هو كائن. ثم عاد ثانية فقال:(إنه) لا بدَّ مما هو كائن أن يكون، ألا وإنّ هذه الأمة ستفترق على ثلاثٍ وسبعين فرقةً، شرُّها فرقة تحبّني ولا تعمل بعملي، وقد أدركتم ورأيتم، فالزموا دينكم، واهتدوا بهدْيي فإنَّه هدي نبيِّكم، واتبعوا سُنَّته، وأعرضوا

(1)

في هامش أ: اسم موضع. وهي من قرى المدينة على بعد ثلاثة أيام منها على طريق مكة. معجم البلدان (3/ 24).

(2)

في ط: أن أخرج.

(3)

في أ: فتريدني.

(4)

في أ: وانهضوا إلينا بالإصلاح لتعود.

(5)

في أ: أذلهم. ونزع: أغرى وأفسد. اللسان (نزع).

ص: 410

عمّا أشكلَ عليكم، حتى تعرضوه على الكتاب، فما عرفه القرآن فالزموه

(1)

، وما أنكره فردُّوه، وارضوا باللّه ربًّا، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً، وبالقرآن حكماً وإماماً.

قال: فلما

(2)

عزم على المسير من الرَّبَذَة قام إليه ابن أبي رفاعة بن رافع، فقال: يا أمير المؤمنين أي شيء تريد؟ وأين تذهب بنا؟ فقال: أما الذي نريد وننوي فالإصلاح، إن قبلوا منا وأجابوا إليه، قال: فإن لم يجيبوا إليه؟ قال: ندعهم بغدرهم ونعطيهم الحق ونصبر. قال: فإن لم يرضوا؟ قال: ندعهم ما تركونا، قال: فإن لم يتركونا؟ قال: امتنعنا منهم، قال: فنعم إذاً.

فقام إليه الحجاج بن غزية الأنصاري فقال: لأرضينك بالفعل كما أرضيتني بالقول، والله لينصرني الله كما سمَّانا أنصاراً.

قال: وأتت جماعة من طىِّءٍ وعليٌّ بالربذة، فقيل له: هؤلاء جماعة جاؤوا من طىِّءٍ منهم منْ يريد الخروج معك، ومنهم من يريد السلام عليك، فقال: جزى الله كلاًّ خيراً {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 95] قالوا: فسار علي

(3)

من الربذة على تعبئته وهو راكبٌ ناقةً حمراءَ يقودُ فرساً كميتاً فلما كان بفَيْد

(4)

جاءه جماعة من أسد وطيء، فعرضوا أنفسهم عليه فقال: فيمن معي كفاية، وجاء رجل من أهل الكوفة يقال له عامر بن مطر الشيباني، فقال له عليٌّ: ما وراءك؟ فأخبره الخبر، فسأله عن أبي موسى فقال: إن أردت الصلح فأبو موسى صاحبه، وإن أردت القتالَ فليس بصاحبه، فقال علي: والله ما أريد إلا الصلح ممن تمرد علينا، وسار، فلما اقترب من الكوفة وجاءه الخبر بما وقع من الأمر على جليَّته، من قتل ومن إخراج عثمان بن حُنَيْف من البصرة، وأخذهم أموال بيت المال، جعل يقول: اللهم عافني مما ابتليت به طلحة والزبير، فلما انتهى إلى ذي قار أتاه عثمان بن حنيف مهشماً، وليس في وجهه شرة فقال: يا أمير المؤمنين بعثتني إلى البصرة وأنا ذو لحية، وقد جئتك أمرداً

(5)

، فقال: أصبت خيراً وأجراً. وقال عن طلحة والزبير: اللهم احْلل ما عَقَدا

(6)

، ولا تُبرم ما أحْكما في أنفسهما، وأرهما المَسَاءة فيما قد عَمِلا -يعني في هذا الأمر- وأقام عليٌّ بذي قار ينتظر جواب ما كتب به مع محمد بن أبي بكر وصاحبه محمد بن جعفر -وكانا قد قدما بكتابه على أبي موسى وقاما في الناس بأمره- فلم يجابا في شيء، فلما أمسوا دخل أناس من ذوي الحجى على أبي موسى يعرضون عليه الطاعة لعلي، فقال: كان هذا بالأمس فغضب محمد ومحمد فقالا له قولًا غليظاً: فقال لهما: والله إن بيعة عثمان لفي

(1)

في أ: فما عرفه فاعرفوه.

(2)

في هامش أ: مطلب الفرق.

(3)

في أ: ثم سار من الربذة.

(4)

فيد: بليدة في نصف طريق مكة من الكوفة. معجم البلدان (4/ 282).

(5)

كذا في الأصول والأصح: أمردَ.

(6)

في أ: ما عقدوا.

ص: 411

عنقي وعنق صاحبكما، فإن لم يكن بد من قتال فلا نقاتل أحداً حتى نفرغ من قتلة عثمان حيث كانوا ومن كانوا، فانطلقا إلى عليٍّ فأخبراه الخبرَ، وهو بذي قار، فقال للأشتر: أنت صاحبنا في أبي موسى والمعترض

(1)

في كل شيء فاذهب أنت وابن عباس فأصْلحْ ما أفسَدْتَ، فخرجا فقدما الكوفةَ وكلَّما أبا موسى واستعانا عليه بنفرٍ من الكوفة فقام في الناس فقال: أيها الناس، إن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الذين صحبوه أعلمُ بالله ورسوله ممن لم يصحبه، وإن لكم علينا حقاً وأنا مؤدٍّ إليكم نصيحةً، كان الرأي أن لا تستخفُّوا بسلطان الله وألا تجترئوا على أمره، وهذه فتنةٌ النائمُ فيها خيرٌ من اليقظان، واليقظانُ خيرٌ من القاعد، والقاعدُ خير من القائم والقائم خير من (الراكب، والراكب خير) من الساعي فأغمدوا السيوفَ وأنصلوا الأسنةَ، واقطعوا الأوتار، وآووا المضطَهَدَ والمظلومَ حتى يلتئم هذا الأمر، وتنجلي هذه الفتنة، فرجع ابنُ عباس والأشتر إلى علي فأخبراه الخبر، فأرسل الحسنَ وعمّار بن ياسر، وقال لعمار: انطلق فأصلحْ ما أفسدتَ، فانطلقا حتى دخلا المسجدَ فكان أول من سلم عليهما مسروق بن الأجدع، فقال لعمار: علام قتلتم عثمان؟ فقال: على شتم أعراضنا وضرب أبشارنا

(2)

، فقال: والله ما عاقبتم بمثل ما عوقبتم به، ولو صبرتم لكان

(3)

خيراً للصابرين.

قال: وخرج أبو موسى فلقي الحسن بن علي فضمَّه إليه، وقال لعمار: يا أبا اليقظان أعدوت على أمير المؤمنين عثمان قتلته؟ فقال: لم أفعل، ولم يسؤني ذلك، فقطع عليهما الحسن بن علي فقال لأبي موسى: لمَ تثبط الناس عنا؟ فوالله ما أردنا إلا الإصلاح، ولا مثل أمير المؤمنين يخاف على شيء، فقال: صدقتَ بأبي وأمي، ولكنَّ المستشارَ مؤتمنٌ، سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم يقول

(4)

: "إنها ستكون فتنةٌ القاعدُ فيها خيرٌ من القائم، والقائمُ خيرٌ من الماشي، والماشي خيرٌ من الراكب" وقد جعلنا الله إخواناً، وحرّم علينا دماءنا وأموالنا، فغضب عمار وسبَّه، وقال: يا أيها الناس، إنما قال له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وحدَه أنت فيها قاعداً خير منك قائماً، فغضب رجلٌ من بني تميم لأبي موسى ونال من عمارٍ، وثار آخرون، وجعل أبو موسى يكفكف الناس، وكثر اللَّغط، وارتفعت الأصوات.

وقال أبو موسى: أيها الناس، أطيعوني وكونوا خيرَ قومٍ من خيرِ أمم العرب، يأوي إليهم المظلوم، ويأمن فيهم الخائف، وإن الفتنة إذا أقبلت شبِّهت، وإذا أدبرت بيّنَتْ

(5)

ثم أمر الناس بكفّ أيديهم ولزوم بيوتهم.

(1)

في ط: أنت صاحب أبي موسى والمعرض، وفي أ: والغرض في كل شيء، والخبر في تاريخ الطبري (4/ 482).

(2)

أبشارنا: جلودنا، القاموس (بشر).

(3)

في أ: ولا صرتم فكان ..

(4)

قطعة من حديث أخرجه أحمد في مسنده (4/ 416) والترمذي في جامعه (2204) في الفتن، وأبو داود في سننه (4259) في الفتن، وابن حبان في صحيحه كما في الإحسان (13/ 297) رقم (5962) وهو حديث صحيح.

(5)

في ط: تبينت والخبر في تاريخ الطبري (4/ 484).

ص: 412

فقام زيد بن صُوحان فقال: أيها الناس سيروا إلى أمير المؤمنين، وسيّد المسلمين، سيروا إليه أجمعون.

فقام القعقاع بن عمرو فقال: إن الحقَّ ما قاله الأميرُ، ولكن لابدَّ للناس من أمير يردع الظالم ويُعْدِي

(1)

المظلومَ، وينتظم به شملُ الناس، وأمير المؤمنين عليٌّ ملي بما ولي، وقد أُنصف في الدعاء

(2)

، وإنما يريدُ الإصلاح، فانفروا إليه.

وقام عبد خير

(3)

فقال: الناس أربع فرق، علىٌّ بمَنْ مَعَهُ في ظاهر الكوفة، وطلحةُ والزبيرُ بالبصرة، ومعاويةُ بالشام، وفرقةٌ بالحجاز لا تقاتلُ ولا عناء بها، فقال أبو موسى: أولئك خير الفرق، وهذه فتنةٌ. ثم تراسل الناسُ في الكلام، ثم قام عمّارٌ والحسنُ بن علي في الناس على المنبر يدعوان

(4)

الناسَ إلى النَّفير إلى أمير المؤمنين، فإنه إنما يريد الإصلاحَ بين الناس، وسمع عمارٌ رجلاً يسبُّ عائشة فقال: اسكت مقبوحاً منبوحاً، والله إنها لزوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، ولكنَّ الله ابتلاكُمْ بها ليعلم أتطيعوه أو إياها، رواه البخاري

(5)

.

وقام حجر بن عدي فقال: أيها الناس، سيروا إلى أمير المؤمنين، {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [التوبة: 41] وجعل الناس كلَّما قام رجل فحرَّض

(6)

الناس على النفير يُثَبِّطُهم أبو موسى من فوق المنبر، (وعمار والحسن معه على المنبر) حتى قال له الحسن بن علي: ويحك! اعتزْلنا لا أمَّ لكَ، ودع منبرنا.

ويقال إن علياً بعث الأشتر فعزل أبا موسى عن الكوفة وأخرجه من قصر الإمارة من تلك الليلة، واستجاب الناس للنفير فخرج مع الحسن تسعة آلاف في البرّ وفي دجلة، ويقال: سار معه اثنا عشر ألف رجل ورجل واحد، وقدموا

(7)

على أمير المؤمنين فتلقّاهم بذي قار إلى أثناء الطريق في جماعةٍ، منهم ابن عباس فرحَّبَ بهم وقال: يا أهل الكوفة! أنتم لقيتُم ملوكَ العجم ففَضَضْتمُ جموعَهم، وقد دعوتكم لتشهدوا معنا إخواننا من أهل البصرة، فإن يرجعوا فذاك الذي نُريده، وإن أبَوْا داويناهم بالرِّفْقِ حتى يَبْدؤونا بالظلم، ولم ندع أمراً فيه صلاح إلا آثرناه على ما فيه الفساد إن شاء الله تعالى.

فاجتمعوا عنده بذي قار، وكان (من) المشهورين من رؤساء من انضاف إلى عليٍّ: القعقاع بن

(1)

في تاريخ الطبري (4/ 484): إنه لابد من إمارة تنظم الناس وتنزع الظالم وتعز المظلوم.

(2)

في ط: بالدعاء.

(3)

هو الخَيْوانيّ صاحب علي رضي الله عنه.

(4)

في أ: يدعون.

(5)

صحيح البخاري (3772) في فضائل الصحابة.

(6)

في أ: يحرض.

(7)

في أ: فقدموا.

ص: 413

عمرو، سِعْر

(1)

بن مالك، وهند بن عمرو، والهيثم بن شهاب، وزيد بن صوحان، والأشتر، وعديُّ بن حاتم، والمسيّب بن نَجبة، ويزيد بن قيس، وحُجْر بن عَدي وأمثالهم.

وكانت عبد القيس بكمالها بين علي وبين البصرة ينتظرونه وهم ألوفٌ، فبعث عليٌّ القعقاع رسولًا إلى طلحة والزبير بالبصرة يدعوهما إلى الألْفةِ والجماعة، ويُعظم عليهما الفرقةَ والاختلافَ.

فذهب القعقاعُ إلى البصرة فبدأ بعائشة أمِّ المؤمنين، فقال: أي أماه! ما أقدمكِ هذا البلدَ؟ فقالت: أي بنيّ! الإصلاحُ بين الناس، فسألها أن تبعث إلى طلحة والزبير ليحضرا عندها، فحضرا، فقال القعقاع: إني سألتُ أمَّ المؤمنين ما أقدمها؟ فقالت إنما جئت للإصلاح

(2)

بين الناس، فقالا: ونحن كذلك.

قال: فأخبراني ما وجه هذا الإصلاح؟ وعلى أي شيء يكون؟ فوالله لئن عرفناه لنصطلحن، ولئن أنكرناه لا نصطلحن، قالا: قتلة عثمان، فإن هذا إن ترك

(3)

كان تركاً للقرآن، فقال قتلتما قتلته

(4)

من أهل البصرة، وأنتما قبل قتلهم أقرب منكم إلى الاستقامة منكم اليوم، قتلتم ستمئة رجل، فغضب لهم ستة آلاف فاعتزلوكم، وخرجوا من بين أظهركم، وطلبتم حرقوص بن زهير فمنعه ستة آلاف، فإن تركتموهم وقعتم فيما تقولون، وإن قاتلتموهم فأديلوا عليكم كان الذي حذرثم وفرقتم من هذا الأمر أعظم مما أراكم تدفعون وتجمعون منه -يعني أن الذي تريدونه من قتل قتلة عثمان مصلحة، ولكنه يترتب عليه مفسدة هي أربى منها- وكما أنكم عجزتم عن الأخذ بثأر عثمان من حرقوص بن زهير، لقيام ستة آلاف في منعه ممن يريد قتله، فَعَليٌّ أعذرُ في تركه الآن قتل قتلة عثمان، وإنما أخَّرَ قتل قتلة عثمان إلى أن يتمكن منهم، فإنَّ الكلمة في جميع الأمصار مختلفة

(5)

، ثم أعلمهم أن خلقاً من ربيعة ومضر قد اجتمعوا

(6)

لحربهم بسبب هذا الأمر الذي وقع.

فقالت له عائشة (أم المؤمنين): فماذا تقول أنت؟ قال: أقول إن هذا الأمر الذي وقع دواؤه التسكين، فإذا سكن اختلجوا، فإن أنتم بايعتمونا فعلامةُ خيرٍ وتباشيرُ رحمةٍ، وإدراكُ الثأر، وإن أنتم أبيتم إلا مكابرةَ هذا الأمر وائتنافه كانت علامةَ شرٍّ وذهابَ هذا الملك، فآثروا العافية ترزقوها، وكونوا مفاتيحَ خيرٍ كما كنتم أولًا، ولا تعرِّضونا للبلاء فتتعرضوا له، فيصرعنا الله وإياكم، وايم الله إني لأقول قولي هذا وأدعوكم إليه، وإني لخائف أن لا يتم حتى يأخذ الله حاجته من هذه الأمة التي قل متاعها، ونزل بها ما نزل، فإن هذا الأمر

(1)

في ط: "سعد"، محرف، وما أثبتناه هو الصواب، وهو الذي في تاريخ الطبري (4/ 24 و 488) وقد قيده الأمير في الإكمال (4/ 298 - 299) فلا مجال بعد ذلك إلى الاجتهاد.

(2)

في أ: فقالت الإصلاح.

(3)

في أ: إن يترك.

(4)

في أ: قتلة عثمان.

(5)

في أ: مختلفة عليه.

(6)

في أ: قد أجمعوا.

ص: 414

الذي قد حدث أمرٌ عظيمٌ، وليس كقتل الرجل الرجلَ، (ولا النفر الرجل)، ولا القبيلة القبيلة.

فقالوا: قد أصبتَ وأحسنتَ فارجع، فإن قدم علي وهو على مثل رأيك صلح الأمر، قال: فرجع إلى علي فأخبره فأعجبه ذلك، وأشرف القوم على الصلح، كره ذلك من كرهه ورضيه من رضيه.

وأرسلت عائشة إلى علي تعلمه أنها إنما جاءت للإصلاح

(1)

، ففرح هؤلاء وهؤلاء.

وقام عليٌّ في الناس خطيباً فذكر الجاهلية وشقاءها وأعمالها، وذكر الإسلام وسعادة أهل بالأُلفة والجماعة، وأن الله جمعهم بعد نبيه صلى الله عليه وسلم على الخليفة أبي بكر الصديق، ثم بعده على عمر بن الخطاب، ثم على عثمان ثم حدث هذا الحدث الذي جرَّه على الأمة أقوامٌ طلبوا الدنيا وحسدوا من أنعم الله عليه بها، وعلى الفضيلة التي منّ الله بها، وأرادوا ردَّ الإسلام والأشياء على أدبارها، واللهُ بالغُ أمْرِهِ. ثم قال: ألا إني مرتحلٌ غداً فارتحلوا، ولا يرتحل معي أحدٌ أعانَ على قتل عثمان بشيء من أمور الناس.

فلما قال هذا اجتمع من رؤوسهم جماعة كالأشتر النَّخعي، وشُريح بن أوفى، وعبد الله بن سبأ المعروف بابن السوداء، وسالم بن ثعلبة، وعِلباء

(2)

بن الهيثم، وغيرهم في ألفين وخمسمئة، وليس فيهم صحابي ولله الحمد، فقالوا: ما هذا الرأي، وعلي -والله- أعلم

(3)

بكتاب الله [وهو] ممن يطلب قتلة عثمان، وأقرب إلى العمل بذلك، وقد قال ما سمعتم، وغداً يجمع عليكم الناس، وإنما يريد القوم كلهم أنتم، فكيف بكم وعددكم قليل في كثرتهم، فقال الأشتر: قد عرفنا رأي طلحة والزبير فينا، وأما رأي علي فلم نعرفه إلى اليوم، فإن كان قد اصطلح معهم فإنهم اصطلحوا على دمائنا، فإن كان الأمر هكذا ألحقنا علياً بعثمان، فرضي القوم منا بالسكوت، فقال ابن السوداء: بئس ما رأيت، لو قتلناه قتلنا

(4)

، فإنا يا معشر قتلة عثمان في ألفين وخمسمئة، وطلحة والزبير (وأصحابهما) في خمسة آلاف، لا طاقة لكم بهم، وهم إنما يريدونكم، فقال عِلباء بن الهيثم: دعوهم وارجعوا بنا حتى نتعلق ببعض البلاد فنمتنع بها، فقال ابن السوداء:(بئس ما قلتَ، إذاً والله كان يتخطفكم الناس، ثم قال ابن السوداء) قبحه الله: يا قوم إن عِزَّكم في خُلْطة الناس

(5)

[فصانعوهم]

(6)

فإذا التقى الناس فانشبوا الحرب والقتال بين الناس ولا تدعوهم يجتمعون فمن أنتم معه لا يجد بداً من أن يمتنع، ويشغل الله طلحة والزبير ومنْ معهما عمّا يُحبّون، ويأتيهم ما يكرهون، فأبصروا الرأي وتفرقوا عليه.

وأصبح عليٌّ مرتحلاً ومرَّ بعبد القيس فساروا معه حتى نزلوا بالزاوية، وسار منها يريد البصرة، وسار

(1)

في ط: "للصلح".

(2)

في ط: غلاب؛ وما هنا عن أ والطبري (4/ 493).

(3)

في أ: وعلي أبصر بكتاب الله.

(4)

في أ: ما رأيت قلنا لها قتلنا.

(5)

في ط: إن عيركم، وفي ا: إن عزكم في خلطتكم بالناس.

(6)

زيادة عن تاريخ الطبري (4/ 494).

ص: 415

طلحة والزبير ومن معهما للقائه، فاجتمعوا عند قصر عبيد الله بن زياد، ونزل الناس كلٌّ في ناحية. وقد سبق علي جيشه وهم يتلاحقون به، فمكثوا ثلاثة أيام والرسل بينهم، فكان ذلك للنصف من جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين، فأشار

(1)

بعض الناس على طلحة والزبير بانتهاز الفرصة، من قتلة عثمان فقالا: إن علياً أشار بتسكين هذا الأمر، وقد بعثنا إليه بالمصالحة على ذلك، وقام علىٌّ في الناس خطيباً.

فقام إليه الأعور بن بُنان

(2)

المِنْقُري، فسأله عن إقدامه على أهل البصرة، فقال: الإصلاح، وإطفاء الثائرة ليجتمع الناسُ على الخير، ويلتئم شملُ هذه الأمة، قال: فإن لم يجيبونا؟ قال: تركناهم ما تركونا، قال: فإن لم يتركونا؟ قال: دفعناهم عن أنفسنا، قال: فهل لهم في هذا الأمر مثل الذي لنا، قال: نعم!

وقام إليه أبو سلام

(3)

الدَّالاني، فقال: هل لهؤلاء القوم حجةٌ فيما طلبوا من هذا الدم، إن كانوا أرادوا اللهَ في ذلك؟ قال: نعم! قال: فهل لك من حجة في تأخيرك ذلك؟ قال: نعم! قال؟ فما حالنا وحالهم إن ابتلينا غداً؟ قال: إني لأرجو أن لا يقتل منا ومنهم أحدٌ نقَّى قلبه لله إلا أدخله اللهُ الجنةَ.

وقال في خطبته: أيها الناس أمسكوا عن هؤلاء القوم أيديَكم وألسنتَكم، وإياكم أن يسبقونا غداً، فإن المخصوم غداً مخصوم اليوم.

وجاء في غبون ذلك الأحنفُ بن قيس في جماعةٍ فانضافَ إلى عليٍّ.

وكان قد منع حرقوص بن زهير من طلحة والزبير وكان قد بايع علياً بالمدينة وذلك أنه قدم المدينة وعثمان محصور فسأل عائشة وطلحة والزبير: إن قتل عثمان من أبايع؟ فقالوا بايع علياً فلما قتل عثمان بايع علياً قال: ثم رجعت إلى قومي فجاءني بعد ذلك ما هو أفظع، حتى قال الناس: هذه عائشة جاءت لتأخذ بدم عثمان، فحرتُ في أمري لمن أتبع، فمنعني الله بحديث سمعتُه من أبي بكر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد بلغه أنَّ الفرس قد ملَّكوا عليهم ابنةَ كسرى فقال: "لن يفلح قومٌ ولَّوا أمرهم امرأة" وأصل هذا الحديث في صحيح البخاري

(4)

.

والمقصود أن الأحنف لما انحاز إلى علي ومعه ستة آلاف [قوس، فقال لعلي: إن شئت قاتلت معك، وإن شئت كففت عنك عشرة آلاف سيف، فقال: اكفف عنا]

(5)

عشرة آلاف سيف، ثم بعث علي إلى طلحة والزبير يقول: إن كنتم على ما فارقتم عليه القعقاع بن عمرو فكفوا حتى ننزل فننظر في هذا

(1)

في أ: وقد أشار.

(2)

في ط: نيار، وفي أ: بيان، وما هنا عن تاريخ الطبري (4/ 495).

(3)

كذا في الأصلين، وفي الطبري: أبو سلامة.

(4)

صحيح البخاري (4425) في المغازي.

(5)

ما بينهما ساقط من أ ومستدرك من هامشها.

ص: 416

الأمر، فأرسلا إليه في جواب رسالته: إنا على ما فارقنا القعقاع بن عمرو من الصلح بين الناس، فاطمأنت النفوس وسكنت، واجتمع كل فريق بأصحابه

(1)

من الجيشين، فلما أمسوا بعث علي عبد الله بن عباس إليهم، وبعثوا إليه محمد بن طليحة السجَّاد وبات الناس بخير ليلة، وبات قتلةُ عثمان بشرِّ ليلةٍ، وباتوا يتشاورون وأجمعوا على أن يثيروا الحرب من الغلس، فنهضوا من قبل طلوع الفجر وهم قريبٌ من ألفي رجل فانصرفَ كلُّ فريق إلى قراباتهم فهجموا عليهم بالسيوف، فثارت

(2)

كلُّ طائفة إلى قومهم ليمنعوهم، وقام الناسُ من منامهم إلى السلاح، فقالوا: طرقتنا أهلُ الكوفة ليلاً، وبيتونا وغدروا بنا، وظنوا أن هذا عن ملأ من أصحاب علي فبلغ الأمر علياً فقال: ما للناس؟ فقالوا، بيتنا أهل البصرة، فثار كل فريق إلى سلاحه

(3)

ولبسوا اللأْمة

(4)

وركبوا الخيولَ، ولا يشعر أحدٌ منهم بما وقع الأمرُ عليه في نفس الأمر، وكان أمرُ الله قدراً مقدوراً، وقامت الحربُ على ساقٍ وقدمٍ، وتبارز الفرسان، وجالت الشجعان

(5)

، فنشبت الحرب، وتوافف الفريقان، وقد اجتمع مع علي عشرون ألفاً، والتفَّ

(6)

على عائشة ومن معها نحو من ثلاثين ألفاً، فإنا لله وإنا إليه راجعون، والسابئة أصحاب ابن السوداء قبَّحه الله لا يفترون عن القتل، ومنادي عليٍّ ينادي: ألا كُفوا، ألا كُفّوا، فلا يسمع أحد.

وجاء كعب بن سُور قاضي البصرة فقال: يا أم المؤمنين أدركي الناس لعل الله أن يصلح بك بين الناس، فجلست في هودجها فوق بعيرها وستروا الهودج بالدروع، وجاءت فوقفت بحيث تنظر إلى الناس عند حركاتهم

(7)

، فتصاولوا وتجاولوا

(8)

.

وكان في جملة من تبارز الزبير وعمار، فجعل عمار ينخزه بالرمح والزبير كافٌّ عنه، ويقول له، أتقتلني يا أبا اليقظان؟ فيقول: لا يا أبا عبد الله، وإنما تركه الزبير لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"تقتلكَ الفئةُ الباغيةُ" وإلا فالزبير أقدر عليه منه عليه، فلهذا كفَّ عنه.

وقد كان من سنَّتهم في هذا اليوم أنه لا يُذَفَّف على جريح، ولا يتبع مدبر، وقد قتل مع هذا خلق كثير جداً، حتى جعل علي يقول لابنه الحسن: يا بني ليت أباك مات قبل هذا اليوم بعشرين عاماً فقال له: يا أبتِ قد كنتُ أنهاكَ عن هذا.

(1)

في أ: بأصحابهم.

(2)

في أ: فثار.

(3)

في أ: سلاحهم.

(4)

لبس اللأمة: الدرع. القاموس (لأم).

(5)

حاءت هذه العبارة بعد سطر في أ قبل: إنا لله وإنا إليه راجعون.

(6)

في أ: مع علي عشرين ألفاً والتقت على عائشة. وفي ط: والتف على عائشة نحواً.

(7)

في أ: عند معركتهم.

(8)

في هامش أ: مطلب عدد عسكر علي وعدد عسكر أم المؤمنين عائشة.

ص: 417

قال سعيد بن أبي عروبة

(1)

: عن قتادة، عن الحسن، عن قيس بن عبادة قال:

قال عليٌّ يوم الجمل: يا حسنُ ليتَ أباك مات منذ عشرين سنة، فقال له: يا أبهْ قد كنت أنهاك عن هذا، قال: يا بني إني لم [أكن] أرى أن الأمر يبلغ هذا.

وقال مبارك بن فضالة، عن الحسن بن أبي بكرة: لما اشثدَّ القتالُ يومَ الجمل، ورأى عليٌّ (الرؤوس) تُنْدر

(2)

أخذ عليٌّ ابنَه الحسنَ فضمَّه إلى صدره، ثم قال: إنا لله يا حسن! أيُّ خيرٍ يُرْجَى بعد هذا؟ فلما ركبَ الجيشان وتراءى

(3)

الجمعان، طلبَ عليٌّ طلحةَ والزبيرَ ليُكَلِّمَهُما، فاجتمعوا حتَّى التفَّتْ أعناقُ خيولهم، فيُقال إنه قال لهما: إني أراكما قد جمعتما خيلاً ورجالًا وعدداً، فهل أعددتما

(4)

عذراً يوم القيامة كذلك؟ فاتَّقيا اللهَ ولا تكونا كالتي نَقَضَتْ غَزْلَها من بعد قوة أنكاثاً، ألم أكن أخاكما في دينكما تحرمان دمي وأحرم دمكما، فهل من حديث أحلَّ لكما دم أخيكما

(5)

فقال طلحة: [أنت] ألَّبتَ على عثمان. فقال علي: {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ} [النور: 25]. ثم قال: لعن الله قتلة عثمان، ثم قال: يا طلحة! أجئت بِعِرْسِ رسول الله صلى الله عليه وسلم تقاتل بها، وخبأت عِرْسكَ في البيت؟ أما بايعتني؟ فقال: بايعتك والسيفُ على عنقي. وقال للزُّبير: ما أخرجكَ؟ قال: أنت، ولا أراك بهذا الأمر أولى به مني. فقال له علي: أما تذكرُ يومَ مررتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني غَنْم فنظر إليَّ وضحكَ وضحكت إليه، فقلت: لا يَدع

(6)

ابن أبي طالب زَهوهُ، فقال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنه ليس بمزْهُوٍّ

(7)

لتقاتلنَّه وأنت ظالمٌ له؟ " فقال الزبير: اللهم نعم! ولو ذكرت [ذلك] ما سرت مَسيري هذا، ووالله لا أقاتلكَ، وفي هذا السياق كله نظر.

والمحفوظ منه الحديث، كما رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي

(8)

فقال: حدَّثنا أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم الدَّورقي

(9)

، حدَّثنا أبو عاصم، عن عبد الله بن محمد بن عبد الملك بن مسلم الرَّقاشيّ، عن جده عبد الملك، عن أبي جرو المازني قال:

شهدت علياً والزبير حين تواقفا -[يعني يوم الجمل]- فقال له عليٌّ: يا زُبير! أنشدكَ الله أسمعتَ

(1)

في ط: عجرة؛ خطأ. والتصحيح من أ وتقريب التهذيب (239) وسير أعلام النبلاء (6/ 413).

(2)

ندر: سقط. القاموس (ندر).

(3)

في أ: وترايا.

(4)

في أ: فهل اعتدتا؛ وما هنا أقرب للسياق.

(5)

في ط: دمي.

(6)

في ط: لا يدين.

(7)

في ط: بمتمرد.

(8)

مسند أبي يعلى الموصلي (2/ 666): وإسناده ضعيف.

(9)

في ط: الدوري، وما هنا عن سير أعلام النبلاء (2/ 141).

ص: 418

رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنك تقاتلني وأنت ظالم [لي] "؟ قال: نعم! ولم

(1)

أذكره إلا في موقفي هذا، ثم انصرف.

وقد رواه البيهقي

(2)

: عن الحاكم، عن أبي الوليد، لفقيه، عن الحسن بن سفيان، عن قَطن بن بشير، عن جعفر بن سليمان، عن عبد الله بن محمد بن عبد الملك بن مسلم الرَّقَّاشي، عن جدِّه، عن أبي جرو

(3)

المازني، عن علي والزبير به.

وقال عبد الرزاق

(4)

: أخبرنا معمر، عن قتادة قال:

لما ولَّى الزبير يوم الجمل، بلغ علياً فقال: لو كان ابن صفيَّة يعلم أنه على حق [وخير] ما ولَّى، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقينا

(5)

في سقيفة بني ساعدة فقال: "أتحبه يا زبير"؟ فقال: وما يمنعني [أن أحبه]؟ قال: "فكيف بك إذا قاتلته وأنت ظالم له؟ " قال: فيرون أنَّه إنَّما ولَّى لذلك.

قال البيهقي

(6)

: وهذا مرسل.

وقد روي موصولًا من وجه آخر:

أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسن

(7)

القاضي، أخبرنا أبو عامر

(8)

بن مطر، أخبرنا أبو العباس عبد الله بن محمد بن سوَّار الهاشمي الكوفي، أخبرنا منجاب بن الحارث، حدَّثنا عبد الله بن الأجلح، حدَّثنا أبي، عن يزيد الفقير

(9)

، عن أبيه. قال: وسمعت المُفَضَّل بن فضالة يُحدِّثُ عن حرب بن أبي الأسود الدُّئلي، عن أبيه

(10)

-دخل حديث أحدهما في حديث صاحبه- قال:

لما دنا عليُّ وأصحابه من طلحة والزُّبير، ودنت الصفوف بعضها من بعض، خرجَ عليُّ وهو على بغلةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فنادى: ادعوا لي الزبيرَ بن العوّام فإني عليُّ، فدُعي له الزبير فأقبل حتى اختلفت أعناق دوابِّهما، فقال عليٌّ: يا زبيرُ! نشدتكَ بالله، أتذكرُ يومَ مرّ بك رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحنُ في مكانِ كذا وكذا،

(1)

في ط: لم؛ بدون الواو.

(2)

دلائل النبوة (6/ 415).

(3)

في أ: عن أبي حسن المازني؛ خطأ، وإنما هو أبو جرو المازني. ميزان الاعتدال (4/ 510).

(4)

مصنف عبد الرزاق (11/ 241).

(5)

في ط: لقيهما.

(6)

دلائل النبوة (6/ 414 - 415).

(7)

في أ: أبو بكر بن الحسن القاضي، وفي هامشه: بن أحمد بن.

(8)

في أ: أبو عمرو.

(9)

في ط: مرثد الفقيه، وما هنا عن تقريب التهذيب (602) وسير أعلام النبلاء (2/ 27) ولقب بالفقير لأنه كان يشكو فقار ظهره.

(10)

في ط: عن حرب بن الأسود الدؤلي دخل.

ص: 419

فقال: "يا زبير أتحب

(1)

علياً"؟ فقلت: ألا أحبُّ ابنَ خالي وابنَ عمّي وعلى ديني؟ فقال: "يا زبير أما والله لتقاتلنه وأنت ظالم له؟ " فقال الزبير: بلى! والله لقد نسيتُه منذ سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ذكرتُه الآن، والله لا أقاتلك. فرجع الزبير على دابته يشق الصفوف، فعرض

(2)

له ابنه عبد الله بن الزبير، فقال: ذكّرني عليٌّ حديثاً سمعتُه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمعته يقول " لتقاتلنه وأنت ظالم له " فقال: أو للقتال جئت؟ إنما جئت لتصلحَ بين الناس ويصلح الله بك هذا الأمر، قال: قد حلفت أن لا أقاتله، قال: أعتق غلامكَ سرجس

(3)

وقف حتى تصلح بين الناس. فأعتق غلامه ووقف، فلما اختلف أمر الناس

(4)

ذهب على فرسه [وروى البراء، عن أحمد بن عبدة

(5)

، عن الحسين بن الحسن، عن رفاعة بن إياس بن أبي إياس، عن أبيه، عن جده قال (سمعت علياً رحمه الله يقول يوم الجمل لطلحة: أنشدك الله يا طلحة أما"

(6)

: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " اللهم وال من والاه وعاد من عاداه " قال: بلى، وانصرف. وقد استغربه البزار

(7)

وهو جدير بذلك]

(8)

.

قالوا: فرجع الزبير إلى عائشة فذكر لها أنه قد آلى ألا يقاتلَ علياً، فقال له ابنه عبد الله: إنك [قد] جمعت الناس، فلما تراءى بعضهم لبعض خرجت من بينهم، كفِّر عن يمينك واحضر. فأعتق غلاماً، له اسمه مكحول، وقيل غلامه سرجس. وقد قيل إنه إنما رجع عن القتال لمّا رأى عماراً مع علي وقد سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعمار:" تقتلك الفئة الباغية " فخشي أن يُقْتل عمارٌ في هذا اليوم.

وعندي أن الحديث الذي أوردناه

(9)

إن كان صحيحاً عنه فما رجعه سواه، ويبعد أن يكفِّر عن يمينه ثم يحضر بعد ذلك لقتال على

(10)

، والله أعلم.

والمقصود أن الزبيرَ لمّا رجعَ يومَ الجمل سار فنزل

(11)

وادياً يُقال له وادي السباع

(12)

، فاتبعه (رجل

(1)

في أ: ألا تحب.

(2)

في أ: من الصفوف فتعرض.

(3)

في أ: جرجس.

(4)

في أ: فلما رأى اختلاف الأمر من الناس.

(5)

في أ: عبلة؛ تحريف، والتصحيح من مسند البزار.

(6)

ما بين الحاصرتين إضافة من مسند البزار لا يصح النص إلا بها.

(7)

ما بينهما زيادة من أ.

(8)

البحر الزخار -المعروف بمسند البزار- (3/ 171) طبعة مؤسسة علوم القرآن.

(9)

في أ: رويناه.

(10)

في أ: ويقاتل علياً.

(11)

في أ: حتى نزل.

(12)

وادي السباع الذي قتل فيه الزبير بن العوام بين البصرة ومكة، بينه وبين البصرة خمسة أميال. معجم البلدان (5/ 343).

ص: 420

يقال له) عمرو

(1)

بن جرموز، فجاءه وهو نائم ففتله غيلةً كما سنذكر تفصيله

(2)

. وأما طلحة فجاءه في المعركة سهم غرب

(3)

يقال رماه به مروان بن الحكم، فالله أعلم، فانتظم رجله مع فرسه فجمحت به الفرس فجعل يقول: إلي عباد الله، (إليّ عباد الله)، فاتبعه مولى له فامسكها، فقال له: ويحك! اعدل

(4)

بي إلى البيوت، وامتلأ خفه دماً، فقال لغلامه [انزعه وأردفني]، وذلك أنه نزفه الدم وضعف، فركب [الغلام] وراءه وجاء به إلى بيت في البصرة فمات فيه، رضي الله عنه.

وتقدمت عائشة رضي الله عنها (في هودجها) وناولت كعبَ بن سُور قاضي البصرة مصحفاً وقالت: ادعهم إليه -وذلك أنه حين اشتدّ الحربُ وحميَ القتالُ، ورجع الزبير، وقُتل طلحة رضي الله عنهما فلما تقدم كعب بن سُور بالمصحف يدعو إليه استقبله مقدمة

(5)

جيش الكوفيين، وكان

(6)

عبد الله بن سبأ -وهو ابن السوداء- وأتباعه بين

(7)

يدي الجيش، يقتلون من قدروا عليه من أهل البصرة، لا يتوقفون في أحد، فلما رأوا كعب بن سُور رافعاً المصحف رشقوه بنبالهم رشقة رجل واحد فقتلوه، ووصلت النبال إلى هودج (أم المؤمنين) عائشة رضي الله عنها، فجعلت تنادي: الله الله! يا بني اذكروا يوم الحساب، ورفعت يديها تدعو على أولئك النفر من قتلة عثمان، فضجَّ الناسُ معها بالدعاء حتى وصلت

(8)

الضجة إلى علي فقال: ما هذا! فقالوا: أم المؤمنين تدعو على قتلة عثمان وأشياعهم. فقال: اللهم العن قتلة عثمان، وجعل أولئك النفر لا يقلعون عن رشق هودجها بالنبال حتى بقي مثل القنفذ، وجعلت تحرض الناس على منعهم وكفهم، فحملت معه الحفيظة فطردوهم حتى وصلت الحملة إلى الموضع الذي فيه علي بن أبي طالب، فقال لابنه محمد بن الحنفية: ويحك! تقدم بالراية، فلم يستطع، فأخذها علي من يده فتقدّم بها، وجعلت الحرب تأخذ وتعطي، فتارة لأهل البصرة، وتارة لأهل الكوفة، وقُتل

(9)

خلقٌ كثيرٌ، وجمٌّ غفيرٌ، ولم تُر وقعة أكثر من قطع الأيدي والأرجل فيها من هذه الوقعة، وجعلت عائشة تحرّض الناس على أولئك النفر من قتلة عثمان، ونظرت عن يمينها فقالت: من هؤلاء القوم؟ فقالوا: نحن بكر بن وائل، فقالت: لكم يقول القائل

(10)

: [من الطويل]

(1)

في تاريخ الطبري (4/ 499): عمير بن جرموز.

(2)

في أ: كما سنذكره مفصلاً.

(3)

يقال: أصابه سهم غَرْبٍ، ويحرّك، وسَهْمٌ غربٌ، نعتاً: أي لا يُدْري راميه. القاموس (غرب).

(4)

في أ: اعتزل بي البيوت.

(5)

في أ: مقدم.

(6)

في أ: وهو.

(7)

في أ: وهم بين.

(8)

في ط: بلغت.

(9)

في أ: حتى قتل.

(10)

البيت في تاريخ الطبري (4/ 516).

ص: 421

وجاؤوا إلينا بالحديدِ كأنّهمْ

منَ العزَّةِ القعساءِ بكرُ بنُ وائلِ

ثم لجأ

(1)

إليها بنو ناجية ثم بنو ضبة فقتل عندها

(2)

منهم خلق كثير، ويقال إنه قطعت يد سبعين رجلاً وهي آخذة بخطام الجمل فلما أثخنوا تقدم بنو عدي بن عبد مناف فقاتلوا قتالًا شديداً، ورفعوا رأس الجمل، وجعل أولئك يقصدون الجمل وقالوا: لا يزال الحرب قائماً ما دام هذا الجمل واقفاً، ورأس الجمل في يد عمرة

(3)

بن يثربي، وقيل أخوه عمرو بن يثربي (ثم صمد عليه علباء بن الهيثم) وكان من الشجعان المذكورين [والفرسان المشهورين]، فتقدم إليه [نفيل بن] عمرو الجملي فقتله ابن يثربي [ثم عمد إليه علباء بعد الهيثم فقتله ابن يثربي أيضاً] وقتل زيد

(4)

بن صوحان، وأرتث صعصعة بن صوحان فدعاه عمار إلى البراز فبرز له، فتجاولا بين الصفين -وعمار [يومئذ] ابن تسعين سنة عليه فروة قد ربط وسطه بحبل ليف- فقال الناس: إنا لله وإنا إليه راجعون الآن يُلحق عماراً بأصحابه، فضربه ابن يثربي بالسيف فاتقاه عمار بدرقته فغاص فيها السيف ونشب، وضربه عمار فقطعَ رجليه وأخذ أسيراً

(5)

إلى بين يَدَيْ علي فقال: استبقني يا أمير المؤمنين، فقال: أبعد ثلاثة تقتلهم؟ ثم أمر به فقتل واستمر زمام الجمل بعده بيد رجل

(6)

كان قد استنابه فيه من بني عدي فبرز إليه ربيعة العقيلي فتجاولا حتى قتل كل واحد [منهما] صاحبه واخذ الزمام الحارث الضبي فما رؤي أشدَّ منه وجعل يقول

(7)

: [من الرجز]

نحن بني

(8)

ضبّةَ أصحابُ الجَملْ

نُبارزُ القرْنَ إذا القرنُ نَزل

نَنْعَى ابنَ عفَّان بأطْرافِ الأسَلْ

(9)

الموْتُ أحْلَى عِنْدنا من العَسَلْ

ردوا علينا شيخنا ثم بجل

[وقد] قيل: إنَّ هذه الأبياتَ لوسيم بن عمرو الضبي. فكلما قُتل واحدٌ ممن يمسك الجملَ يقوم

(10)

غيره حتى قُتل منهم أربعون رجلاً، قالت عائشة: ما زال جملي معتدلا حتى فقدتُ أصواتَ بني ضبة ثم أخذ الخطامَ سبعون رجلاً من قريش وكل واحدٍ يُقتلُ بعد صاحبه، فكان منهم محمد بن طلحة المعروف بالسّجّاد فقال لعائشة مريني بأمرك يا أمه. فقالت: آمرك أن تكون كخير ابني آدم، فامتنع أن

(1)

في أ: ثم جاء.

(2)

في ط: "عنده".

(3)

في أ: عمير.

(4)

في أ: سيحان بن صوحان وأثبت صعصعة.

(5)

في أ: فاتقاه عمار بدرقته فغضب السيف فيها فضربه فقطع يده وأخذه أسيراً.

(6)

في أ: زمام الجمل بيد رجل بعده كان.

(7)

أشطر الرجز في تاريخ الطبري (4/ 518).

(8)

في الأصول: بنو، وما هنا عن الطبري وقد نصب بني على الاختصاص.

(9)

في أ: ننصر عثمان بن عفان بأطراف الأسل.

(10)

في أ: وكلما قتل واحد ممن يمسك الجمل تقدم.

ص: 422

ينصرف وثبت في مكانه وجعل يقول: حم لا ينصرون، فتقدَّم إليه نفرٌ فحملوا عليه فقتلوه وصار كل واحد منهم بعد ذلك يدَّعي قتله، وقد طعنه بعضهم بحربة فأنفذه وقال

(1)

: [من الطويل]

وَأشْعَثَ قوّامٍ بآياتِ رَبِّهِ

قَليلِ الأذى فيما ترى العَيْنُ مُسْلمِ

هتكتُ له بالرُّمْح جَيْبَ قَميصهِ

فَخرَّ صَريعاً لليَدينِ وللْفَمِ

يُناشدُني

(2)

حاميمُ

(3)

والرُّمْحُ شاجرٌ

فهلا تَلا حاميمَ قبلَ التَّقَدُّمِ

على غَيْرِ شيءٍ غيرَ أن ليسَ تابعاً

عَليّاً ومنْ لا يتْبَعِ الحَقَّ يَنْدمِ

وأخذ الخطام عمرو بن الأشرف فجعل لا يدنو منه أحدٌ إلا خبطه

(4)

بالسيف فأقبل إليه الحارث بن زهير الأزدي وهو يقول

(5)

: [من الرجز]

يا أمنا يا خيرَ أمٍّ نعلمُ

(6)

أما ترين كمْ شجاعٍ يُكْلمُ

وتُجتلى هامتُهُ والمعصم

فاختلفا

(7)

ضربتين فقتل كل واحد صاحبه، وأحدق أهل النجدات [والمروءات] والشجاعة بعائشة، فكان لا يأخذ الراية ولا بخطام الجمل

(8)

إلا شجاع معروف، فيقتل من قصده ثم يقتل بعد ذلك، وقد فقأ بعضهم عين عدي بن حاتم ذلك اليوم، ثم تقدم عبد الله بن الزبير فأخذ بخطام الجمل وهو لا يتكلم فقيل لعائشة إنه ابنك وابن أختك فقالت: واثكل أسماء! وجاء مالك بن الحارث الأشتر النخعي فاقتتلا فضربه الأشتر على رأسه فجرحه جرحاً شديداً وضربه عبد الله [بن الزبير] ضربةً خفيفة

(9)

ثم اعتنقا وسقطا إلى الأرض يعتركان فجعل عبد الله بن الزبير يقول: [من جزوء الخفيف]

اقتلوني ومالكاً

واقتلوا مالكاً معي

[فأرسلها مثلاً] وجعل

(10)

الناس لا يعرفون مالكاً من هو وإنما هو معروف

(11)

بالأشتر، فحمل أصحابُ عليّ وعائشة فخلَّصوهما وقد جُرح عبدُ الله بن الزبير يومَ الجمل بهذه الجراحة سبعاً وثلاثين

(1)

الأبيات في تاريخ الطبري (4/ 526).

(2)

في تاريخ الطبري: يذكرني.

(3)

في الأصول: حم؛ وما هنا للسياق.

(4)

في ط: حطه.

(5)

الأشطر في تاريخ الطبري (4/ 521).

(6)

في أ: تعلم.

(7)

في ط: واختلفا.

(8)

في أ: فكان لا يأخذ الراية والخطام إلا شجاع معروف فيقتل من قتله ثم يقتل.

(9)

في أ: ضربة ضعيفة.

(10)

في ط: فجعل.

(11)

في أ: يعرف.

ص: 423

جراحةً، وجُرح مروان بن الحكم أيضاً، ثم جاء رجل فضرب الجملَ على قوائمه فعقره وسقط إلى الأرض، فسُمع له عجيج ما سُمع أشد ولا أنفذ منه، وآخر من كان الزمام بيده زُفَر بن الحارث، فعُقر الجمل وهو في يده، ويقال إنه اتفق هو وبجير بن دلجة على عقره، ويقال إنَّ الذي أشار بعقر الجمل علي، وقيل القعقاع بن عمرو لئلا تصاب أم المؤمنين، فإنها صارت

(1)

غرضاً للرماة، ومن يمسك بالزمام بُرْجاساً

(2)

للرِّماح، ولينفصل هذا الموقفُ الذي قد تَفَانى فيه الناس ولما سقط الجمل

(3)

إلى الأرض انهزم من حوله من الناسِ، وحُمل هودجُ عائشة وإنه لكالقنفذ من السهام

(4)

، ونادى منادي عليٍّ في الناس: إنه لا يتبع مدبر ولا يُذفَّفُ على جريحٍ، ولا تُدخل

(5)

الدور، وأمر علي نفراً أن يحملوا الهودجَ من بين القتلى، وأمر محمد بن أبي بكر وعماراً أن يضربا عليه قبة، وجاء إليها أخوها محمد فسألها هل وصل إليك شيء من الجراح؟ فقالت:(لا)! وما أنت ذاك يا بن الخثعمية. وسلَّم عليها عمار فقال: كيف أنت يا أمُّ

(6)

؟ فقالت: لست لك بأمٍّ. قال: بلى! وإن كرهتِ، وجاء إليها عليُّ بن أبي طالب (أمير المؤمنين) مسلِّماً فقال: كيف أنت (يا أمَّهْ؟) قالت: بخير فقال: يغفر الله لك. وجاء وجوهُ الناس [إليها] من الأمراء والأعيان يسلمون على أم المؤمنين

(7)

رضي الله عنها، ويقال إن أَعْيَن

(8)

بن ضُبيعة المُجاشعي اطلع في الهودج فقالت: إليك لعنك الله، فقال: والله ما أرى إلا حُمَيْراء، فقالت: هتكَ الله ستركَ وقطعَ يدكَ وأبدى عورتكَ. فقُتل بالبصرة، وسُلب، وقُطعت يده، ورمي عرياناً في خربة من خَرابات الأزد. فلمَّا كان الليل دخلت أم المؤمنين البصرةَ -ومعها أخوها محمد بن أبي بكر- فنزلت في دار عبد الله بن خلف الخزاعي- وهي أعظم دار بالبصرة- على صفية بنت الحارث بن أبي طلحة بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار

(9)

، وهي أم طلحة الطلحات [بن] عبد الله بن خلف، وتسلل الجرحى من بين القتلى فدخلوا البصرة

(10)

، وقد طاف علي بين القتلى فجعل كلما مر برجل يعرفه ترحّم

(11)

عليه ويقول: يعز عليَّ أن أرى قريشاً صرعى. وقد مر علي فيما ذكر على طلحة بن عبيد الله وهو مقتولٌ فقال: لهفي عليك

(1)

في ط: بقيت.

(2)

البُرْجاس: غرض في الهواء يُرمى به. اللسان (برجس).

(3)

في ط: البعير.

(4)

في أ: من كثرة النشاب.

(5)

في ط: يدخلوا.

(6)

في أ: يا أم المؤمنين.

(7)

في أ: يسلمون عليها.

(8)

في أ: أيمن، وما هنا موافق لتاريخ الطبري (4/ 532 - 533).

(9)

في أ: في دار أم عبد الله بن خليل الخزاعية. والخبر في تاريخ الطبري (4/ 534).

(10)

بعدها في أ: وأقام علي بظاهر البصرة ثلاثاً. وسترد بعد.

(11)

في أ: يترحم.

ص: 424

يا أبا محمد، إنا لله وإنا إليه راجعون والله لقد كنت كما قال الشاعر:[من الطويل]

فتىً كانَ يدنيهِ الغنى منْ صديقهِ

إذا ماهو استغنى ويبعدهُ الفقرُ

وأقام علي بظاهر البصرة ثلاثاً ثمَّ صلَّى على القتلى من الفريقين، وخَصَّ قريشاً بصلاة من بينهم، ثم جمع ما وجد لأصحاب عائشة في المعسكر وأمر به أن يحمل إلى مسجد البصرة، فمن عرف شيئاً هو لأهلهم فليأخذه، إلا [أن يكون] سلاحاً كان في الخزائن عليه سمة السلطان.

وكان مجموع من قتل يوم الجمل من الفريقين عشرة آلاف: خمسة من هؤلاء، وخمسة من هؤلاء، رحمهم الله ورضي عن الصحابة منهم

(1)

. وقد سأل بعض أصحاب علي علياً أن يقسِّم فيهم [أموالهم يعني] أموال أصحاب طلحة والزبير (فأبى عليهم) فطعن فيه السبئية وقالوا: كيف تحل

(2)

لنا دماؤهم ولا تحل لنا أموالهم؟ فبلغ ذلك علياً فقال: أيكم يحب أن تصير أم المؤمنين في سهمه؟ فسكت القومُ، ولهذا لما دخل البصرةَ فضَّ في أصحابه أموالَ بيت المال، فنال كل رجلٍ منهم خمسمئة، وقال: لكم مثلها من الشام [في أعطياتكم]، فتكلم فيه السبئية أيضاً ونالوا منه من وراء وراء.

‌فصل

ولما فرغ علي من أمر الجمل أتاه وجوهُ الناس يسلّمون عليه، فكان ممن جاءه الأحنف بن قيس في بني سعد -وكانوا قد اعتزلوا القتال- فقال له علي: تربصت

(3)

- (يعني) بنا- فقال: ما كنتُ أراني إلا قد

(4)

أحسنت، وبأمرك كان ما كان يا أمير المؤمنين، فارفق فإن طريقك الذي سلكت بعيد، وأنت إليَّ غداً أحوج منك أمس، فاعرف إحساني، واستبق مودتي لغد، ولا تقل (لي) مثل هذا فإني لم أزل لك ناصحاً.

قالوا: ثم دخل عليٌّ البصرة يوم الإثنين فبايعه أهلُها على راياتهم، حتى الجرحى والمستأمنة

(5)

. وجاءه عبد الرحمن بن أبي بكرة الثقفي فبايعه فقال له علي: أين المتربص

(6)

؟ -يعني أباه- فقال: إنه والله مريض يا أمير المؤمنين، وإنه

(7)

على مسرتك لحريص. فقال: امش أمامي، فمضى إليه فعاده، واعتذر إليه أبو بكرة فعذره، وعرض عليه البصرة (فامتنع وقال: رجل من أهلك يسكن إليه الناس،

(1)

مكان للفظة في أ: أجمعين.

(2)

في ط: يحل.

(3)

في ط: تربعت؛ تحريف.

(4)

في أ: قد كنت أحسنت.

(5)

في أ: والمستأنية. وما هنا موافق لتاريخ الطبري (4/ 541).

(6)

في ط: المريض. وما هنا موافق للطبري (4/ 543).

(7)

في ط "وإن"، ولا معنى لها، وما أثبتناه موافق لما في تاريخ الطبري (4/ 543).

ص: 425

وأشار إليه بابن عباس فولاه على البصرة)، وجعل معه زياد بن أبيه على الخراج وبيت المال، وأمر ابن عباس أن يسمع من زياد -وكان زياد معتزلًا- ثم جاء علي إلى الدار التي فيها أم المؤمنين عائشة، فاستأذن ودخل فسلَّم عليها ورحبَّتْ به، وإذا النساء في دار بني خلف يبكين على منْ قتل، منهم عبد الله وعثمان ابنا خلف، فعبد الله قُتل مع عائشة، وعثمان قُتل مع علي، فلما دخل عليٌّ قالت له صفية امرأة عبد الله، أم طلحة الطلحات: أيتم الله منك أولادكَ كما أيتمتَ أولادي، فلم يردّ عليها عليٌّ شيئاً، فلما خرج أعادت عليه المقالةَ أيضاً فسكت، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين أتسكت عن هذه المرأة وهي تقول ما تسمع؟ فقال: ويحك! إنا أُمرنا أن نكف عن النساء وهن مشركات، أفلا نكف عنهن وهن مسلمات

(1)

؟

فقال له رجل: يا أمير المؤمنين إن على الباب رجلين ينالان من عائشة، فأمر عليٌّ القعقاعَ بن عمرو أن يجلدَ كلَّ واحدٍ منهما مئة وأن يخرجَهما من ثيابهما.

وقد سألت عائشة عمن قتل معها من المسلمين

(2)

ومن قتل من عسكر عليٍّ فجعلت كلما ذكر لها واحدٌ منهم تَرَحَّمتْ عليه ودَعَتْ له.

ولما أرادات (أم المؤمنين) عائشة الخروجَ من البصرة بعثَ إليها علي رضي الله عنه بكلّ ما ينبغي من مركبٍ وزادٍ ومتاعٍ وغير ذلك، وأذنَ لمن نجا ممَّنْ جاء في الجيش معها أن يرجع

(3)

إلا أن يحبَّ المقامَ، واختارَ لها أربعين امرأةً من نساء أهل البصرة المعروفات، وسير

(4)

معها أخاها محمد (بن أبي بكر). فلما كان اليوم الذي ارتحلت فيه جاء عليٌّ فوقفَ على الباب وحضرَ الناسُ، وخرجت من الدار في الهودج فودَّعتِ الناس ودعتْ لهم، وقالت: يا بنيَّ لا يعتب بعضنا على بعض

(5)

، إنه والله ما كان بيني وبين علي في القدم إلا ما يكون بين المرأة وأحمائها، وإنه على معتبتي [له] لمن الأخيار. فقال علي: صدقتِ والله ما كان بيني وبينها إلا ذاك، وإنها لزوجةُ نبيكم صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة. وسار عليٌّ معها مودَّعاً ومشيعاً أميالًا، وسرّح بنيه معها بقية ذلك اليوم -وكان يوم السبت مستهل رجب سنة ست وثلاثين- وقصدت في مسيرها ذلك إلى مكة فأقامت بها إلى أن حجت عامها ذلك ثم رجعت إلى المدينة رضي الله عنها.

وأما مروان بن الحكم فإنه لما فرَّ استجار بمالك بن مسمع فأجاره، ووفى له، ولهذا كان بنو مروان يكرمون مالكاً ويشرفونه، ويقال إنه نزل دار بني خلف فلما خرجت عائشة خرج معها، فلما سارت هي إلى مكة سار [هو] إلى المدينة.

(1)

في أ: أن نكف عن النساء المشركات أفلا نكف عن المؤمنات.

(2)

في أ: سكتت عائشة عمن قتل معها ومع علي من المسلمين.

(3)

في أ: سلم ممن جاء في جيشها أن يرجع معها.

(4)

في أ: وبعث.

(5)

في أ: أن يعتب بعضنا بعضاً.

ص: 426

قالوا: وقد علم منْ بين مكة والمدينة والبصرة بالوقعة (يوم الوقعة)، وذلك مما كانت النسور تخطفه من الأيدي والأقدام فيسقط

(1)

منها هنالك، حتى إنَّ أهل المدينة علموا بذلك يوم الجمل قبل أن تغرب الشمس، وذلك أن نسراً مرَّ بهم ومعه شيء فسقط [منه] فإذا هو كفٌّ فيه خاتم نقشه عبد الرحمن بن عتاب.

هذا ملخص ما ذكره (أبو جعفر) بن جرير رحمه الله عن أئمة هذا الشأن، وليس فيما ذكر

(2)

أهل الأهواء من الشيعة وغيرهم من الأحاديث المختلقة على الصحابة والأخبار الموضوعة التي ينقلونها بما فيها، واذا دُعوا [إلى الله وإلى] الحق الواضح أعرضوا عنه وقالوا: لنا أخبارنا ولكم أخباركم، (فنحن حينئذ) نقول لهم: سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين.

‌فصل

في ذكر أعيان من قُتل يومَ الجَمَل من السّادة النُّجباء من الصَّحابة وغيرهم من الفريقين رضي الله عنهم أجمعين، وقد قدَّمنا أن عدَّة القَتْلى نحو من عشرة آلافٍ، وأمّا الجَرْحى فلا يُحْصون كثرةً، ولم يكن في الفريقين من الصحابة إلا القليل.

وقال الإمام أحمد: حدَّثنا إسماعيل، حدَّثنا أيوب، عن محمد بن سيرين قال: هاجت الفتنة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرات ألوف فلم يحضرها منهم مئة، بل لم يبلغوا ثلاثين.

وقال الإمام أحمد أيضاً: حدَّثنا إسماعيل -هو ابن عليّة- حدَّثنا منصور بن عبد الرحمن قال: قال الشعبي: لم يشهد الجمل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم غير علي وعمّار وطلحة والزبير؛ فإن جاؤوا بخامس فأنا كذاب. قلت: قد حضرتها عائشة وابن الزبير والحسن والحسين ومحمد بن أبي بكر وسهل بن حنيف وآخرون.

قلت: قد يكون الشعبي أراد أنه لم يحضرها من المهاجرين غير من ذكر والله أعلم. فممن قتل يوم الجمل

(3)

في المعركة:

طلْحةُ بن عُبَيْد الله

(4)

بن عُثمان بن عَمْرو بن كعب بن سَعْد

(5)

بن تَيْم بن مُرَّة بن كَعْب بن لُؤَيّ بن

(1)

في أ: وذلك أن النسور والطيور كانت تخطف من الأيدي والأقدام فسقطت. والخبر في تاريخ الطبري (4/ 535).

(2)

في أ: يذكره.

(3)

في أ: يومئذ.

(4)

ترجمة -طلحة بن عبيد الله- في الاستيعاب (764 - 770) وأسد الغابة (3/ 85 - 86) وسير أعلام النبلاء (1/ 23 - 40) والإصابة (5/ 232 - 235).

(5)

في أ: سعيد؛ تحريف.

ص: 427

غالب بن فِهْر بن مالك بن النَّضْر بن كِنانةَ أبو محمد القُرشىِ التَّيمي، ويعرف بطَلْحة الخَيْر، وطلحة الفَيّاض لكرمه ولكثرة جوده.

أسلم قديماً على يَديْ أبي بكر الصّديق، فكان

(1)

نوفل بن خُوَيْلد بن العدوية يشدُّهما في حبل واحد، ولا تستطيع بنو تَيْم أن تمنعهما منه، فلذلك كان يقال لطلحة وأبي بكر القرينان.

وقد هاجر وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين أبي أيوب الأنصاري، وشهد المشاهد كلَّها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بدراً -فإنَّه كان بالشام لتجارة- وقيل في رسالة، ولهذا ضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمه وأجره من بدر. وكانت له يوم أحد اليدُ البيضاءُ وشَلت يده يومئذ لأنه وقى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم واستمرت كذلك إلى أن مات. وكان الصديق إذا حدث عن يوم أحد يقول: ذاك يوم [كان] كله لطلحة، وقد قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ:" أوجب طلحة"

(2)

وذلك أنه كان على رسول الله صلى الله عليه وسلم درعان فأراد أن ينهض وهما عليه ليصعد صخرة هنالك فما استطاع، فطأطأ له طلحة فصعد على ظهره حتى استوى عليها، وقال

(3)

: " أوْجَبَ طلحة".

وهو أحدُ العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحدُ الستة أصحاب الشورى، وقد صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسن صحبته حتى توفي وهو عنه راض، وكذلك أبو بكر وعمر، فلما كانت قضية عثمان اعتزل عنه فنسبه بعض الناس إلى تحامل عليه

(4)

، فلهذا لمّا حضر يوم الجمل واجتمع به عليٌّ فوعظه تأخّر فوقف في بعض الصفوف، فجاءه سهمٌ غَرْبٌ فوقع في ركبته وقيل في رقبته، والأول أشهر، وانتظم السهمُ مع ساقه خاصرة الفرس فجمح به حتى كاد يلقيه، وجعل يقول: إليّ عباد الله، فأدركه مولى له فركب وراءه وأدخله البصرة فمات بدار فيها، ويقال إنه مات بالمعركة، وأنَّ علياً لما دار بين القتلى رآه فجعل

(5)

يمسحُ عن وجهه التُّرابَ وقال: رحمة الله عليك أبا محمد، يعز عليَّ أن أراك مُجَدَّلاً

(6)

تحت نجوم السماء، ثم قال: إلى الله أشكو عُجَري وبُجَري

(7)

، والله لوددتُ أني كنتُ متُّ قبل هذا اليوم بعشرين سنة. ويقال إن الذي رماه بهذا السهم مروان بن الحكم، وقال لأبان بن عثمان: قد كفيتك رجالاً

(8)

من قتلة عثمان، وقد قيل إن الذي رماه غيره، وهذا عندي أقرب، وإن كان الأول مشهوراً والله أعلم.

(1)

في أ: وكان.

(2)

الحديث رواه الإمام أحمد في مسنده (1/ 165) والترمذي في جامعه (1692) و (3821) في الجهاد، وهو حديث حسن.

(3)

في أ: فقال.

(4)

في ط: فيه.

(5)

في أ: وأن علياً رآه بين القتلى فجعل.

(6)

في ط: مجدولاً.

(7)

قال الأصمعي: معناه سرائري وأحزاني التي تموج في جوفي. سير أعلام النبلاء (1/ 36).

(8)

في أ: رجلاً. وفي أسد الغابة: قد كفيتك بعض قتلة أبيك.

ص: 428

وكان يوم الخميس لعشر خلون من جمادى الآخر سنة ست وثلاثين، ودفن طلحة إلى جانب الكلأ

(1)

وكان عمره ستين سنة، وقيل: بضعاً وستين سنة، وكان آدم، وقيل أبيض، حسن الوجه كثير الشعر إلى القصر أقرب، وكانت غلته في كل يوم ألف درهم.

وروى حماد بن سلمة، عن علي بن زيد بن جدعان، عن أبيه: أن رجلاً رأى طلحة في منامه، وهو يقول: حوِّلوني عن قبري فقد آذاني الماء، ثلاث ليالٍ، فأتى ابن عباس -وكان نائباً على البصرة- فأخبره

(2)

فاشتروا له داراً بالبصرة بعشرة آلاف درهم فحوّلوه من قبره إليها، فإذا قد اخضّر من جسده ما يلي الماء، وإذا هو كهيئته يوم أصيب.

وقد وردت له فضائل كثيرة. فمن ذلك ما رواه أبو بكر بن أبي عاصم: حدَّثنا الحسن بن علي، حدثنا سليمان [بن أيوب] بن عيسى بن موسى بن طلحة بن عبيد الله، حدَّثني أبي، عن جده، عن موسى بن طلحة عن أبيه قال: سمّاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يومَ أحدٍ طلحةَ الخير، ويوم العسرة طلحة الفياض. ويوم حنين طلحة الجود

(3)

.

وقال أبو يعلى الموصلي

(4)

: حدَّثنا أبو كُريب، حدَّثنا يونس بن بُكَيْر، عن طلحة بن يحيى، عن موسى وعيسى ابني طلحة، عن أبيهما أن ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا لأعرابي جاء يسأل عمَّن قَضَى نَحْبهُ فقالوا: سلْ رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله في المسجد، فأعرض عنه، ثمّ سأله، فأعرض عنه، ثُمّ اطَّلعتُ من باب المسجد، وعليَّ ثيابٌ خضرُ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أين السائل؟ " قال ها أنا ذا فقال: " هذا ممَّن قضى نحبهُ ".

وقال أبو القاسم البغوي: حدَّثنا داود بن رُشَيْد، حدَّثنا مسلم بن إبراهيم

(5)

، حدَّثنا الصلت بن دينار، عن أبي نَضْرة، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أراد أن ينظر إلى شهيد يمشي على رجليه فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله"

(6)

.

وقال الترمذي

(7)

: حدَّثنا أبو سعيد الأشج، حدَّثنا أبو عبد الرحمن بن منصور العنزي

(8)

- اسمه

(1)

قال الذهبي في السير (1/ 40): وقبره بظاهر البصرة.

(2)

في أ: فأتى ابن عباس فأخبره.

(3)

رواه ابن أبي عاصم في "السنة" رقم (1403) والحاكم (3/ 374) وإسناده ضعيف.

(4)

مسند أبي يعلى الموصلي (663)، وإسناده حسن.

(5)

في ط: حدَّثنا مكي حدَّثنا علي بن إبراهيم. .، وفي أ: حدَّثنا علي بن إبراهيم

(6)

رواه الترمذي رقم (3739) وأبو محمد البغوي في شرح السنة (14/ 120) وإسناده ضعيف جداً، فإن الصلت بن دينار متروك، ولذلك استغربه الترمذي، وحق له.

(7)

جامع الترمذي (3741) في المناقب، وإسناده ضعيف، كما قال الترمذي.

(8)

في أ: العنبري؛ تحريف.

ص: 429

النضر- حدَّثنا عقبة بن علقمة اليَشكُري سمعت علي بن أبي طالب يقول: سمعت أذناي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "طلحة والزبير جاراي في الجنة" وقد روي من غير وجه عن علي أنه قال

(1)

: إني أرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير وعثمان ممن قال الله: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47].

وقال حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب أن رجلاً كان يقع في طلحة والزبير وعثمان وعلي رضي الله عنهم، فجعل سعدٌ ينهاه ويقول: لا تقع في إخواني فأبى فقام

(2)

فصلَّى ركعتين ثم قال: اللهم إن كان [هذا] سخطاً لك فيما يقول، فأرني فيه اليوم آية واجعله للناس عبرةً. فخرج الرجل فإذا ببختي

(3)

يشقُّ الناسَ فأخذه بالبلاط فوضعه بين كركرته

(4)

والبلاط فسحقه حتى قتله. قال سعيد بن المسيب: فأنا رأيت الناس يتبعون سعداً ويقولون: هنيئاً لك أبا إسحاق أُجيبت دعوتُك.

والزُّبير بن العَوّام بن خُوَيْلد

(5)

بن أَسَد بن عبد العزّى بن قُصَيّ بن كِلاب بن مُرَّة بن كعب بن لُؤَيّ بن غالب بن فِهْر بن مالك بن النَّضْر بن كنانة أبو عبد الله القرشي الأسدي، وأمه صفيَّة بنت عبد المطلب عمةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلم قديماً وعمره خمس عشرة سنة، وقيل أقل وقيل أكثر. هاجر إلى الحبشة ثم إلى المدينة فآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين سلمة بن سلامة بن وقش

(6)

، وقد شهد المشاهد كلَّها.

وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب " من يأتينا بخبر القوم؟ " فقال: أنا، ثم ندب الناس فانتدب الزبير، ثم ندبهم فانتدب الزبير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنَّ لكل نبيٍّ حوارياً وحواريَّ الزبير"

(7)

ثبت ذلك من رواية زِزًّ عن على

(8)

.

وثبت عن الزُّبير أنه قال: جمع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه يوم بني قريظة.

وروي أنه أولُ من سلَّ سيفاً في سبيل الله، وذلك بمكة حين بلغ الصحابة أنَّ رسول الله قد قُتل فجاء

(1)

الخبر أخرجه ابن سعد (3/ 160) والطبري في تفسيره (14/ 36) وهو في السير (1/ 39)، وإسناده ضعيف لضعف علي بن زيد بن جدعان.

(2)

في أ: فقام سعد.

(3)

البُخْتُ: الإبل الخراسانية كالبختية (القاموس).

(4)

الكِركرة -بالكسر- رحى زور البعير أو صدر كل ذي خف. القاموس.

(5)

ترجمة -الزبير بن العوام- في الاستيعاب (510) وأسد الغابة (2/ 249 - 252) وسير أعلام النبلاء (1/ 41 - 67) والإصابة (5/ 7 - 9).

(6)

في ط: سلمة بن وقش؛ وما هنا موافق للسير.

(7)

قال مصعب الزبيري: الحواريّ: الخالص من كل شيء. وقال الكلبي: الحوراي: الخليل. سير أعلام النبلاء (1/ 49).

(8)

الحديث أخرجه أحمد في مسنده (1/ 89 و 102 و 103) والترمذي في جامعه (3744) والطبراني في الكبير رقم (243) في المناقب، وهو حديث صحيح.

ص: 430

[الزبير] شاهراً سيفه حتى رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فشام

(1)

سيفه، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الستة الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راضٍ، وصحب الصدّيق فأحسنَ صحبتَه، وكان خَتنه على ابنته أسماء

(2)

وابنه عبد الله منها أول مولود ولد للمسلمين بعد الهجرة، وخرج مع الناس إلى الشام مجاهداً فشهد

(3)

اليرموك فتشرفوا بحضوره، وكانت له بها اليد البيضاء والهمة العلياء، اخترق عساكر

(4)

الروم وصفوفهم [من بين الناس] مرتين من أولهم إلى آخرهم، وكان من جملة من دافع عن عثمان (وحاجف عنه)، فلما كان يوم الجمل ذكَّره علي بما ذكّره به [كما تقدم] فرجع عن القتال وكرَّ راجعاً إلى المدينة، فمر بقوم الأحنف بن قيس -وكانوا قد اعتزلوا

(5)

عن الفريقين- فقال قائل [منهم] يقال له الأحنف: ما بال هذا جمع بين الناس حتى إذا التقوا كرَّ راجعاً إلى بيته؟ من رجل يكشف لنا خبره؟ فاتبعه عمرو بن جرموز وفضالة بن حابس ونفيع في طائفة من غواة بني تميم فيقال إنهم لما أدركوه تعاوروا عليه حتى قتلوه ويقال بل أدركه عمرو بن جرموز فقال له عمرو: إن لي إليك حاجة فقال: ادن! فقال مولى الزبير، واسمه عطية- إن

(6)

معه سلاحاً فقال: وإن [كان]، فتقدَّم إليه فجعل يحدثه

(7)

وحان

(8)

وقت الصلاة فقال له الزبير: الصلاة فقال: الصلاة فتقدم الزبير ليصلي بهما فطعنه عمرو بن جرموز فقتله.

ويقال: بل أدركه (عمرو) بواد يقال له وادي السباع وهو نائم (في القائلة) فهجم عليه فقتله وهذا القول هو الأشهر، ويشهد له شعر امرأته عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل وهي

(9)

آخر من تزوجها وكانت قبله تحت عمر بن الخطاب فقتل عنها [أيضاً] وكانت قبلة

(10)

تحت عبد الله بن أبي بكر الصديق فقتل عنها فلما قتل الزبير رثته بقصيدة [جيدة الشعر] محكمة المعنى فقالت

(11)

: [من الكامل]

غَدَرَ ابنُ جُرْموزٍ بفارسِ بُهمةٍ

(12)

يَوْمَ اللّقاءِ وكان غَيْرَ مُعَرِّدِ

(13)

يا عَمْرو لَوْ نَبَّهْتهُ لوَجدْتَهُ

لا طائشاً رَعْشَ الجنان ولا اليد

(1)

شام: غمد.

(2)

في ط: أسماء بنت الصديق.

(3)

في أ: فجاهد وشهد.

(4)

في ط: جيوش.

(5)

في ط: انعزلوا عن الفريقين.

(6)

في أ: إن أرى معه.

(7)

في أ: يحادثه.

(8)

في ط: وكان.

(9)

في ط: وكانت.

(10)

في أ: قبل عمر.

(11)

الأبيات في سير أعلام النبلاء (1/ 67) وفي هامشه مصادرها.

(12)

البهمة: الشجاع وقيل هو الفارس الذي لا يُدرى من أين يؤتى له من شدة بأسه.

(13)

المعرِّد: اسم فاعل من عرد تعريداً بمهملات: إذا فرَّ وهرب.

ص: 431

ثَكِلَتْك أمُّكَ إنْ ظَفِرْتَ بِمِثْلِه

ممنْ بقي ممنْ يَروحُ ويَغْتدي

(1)

كمْ غَمْرَةٍ قَدْ خاضَها لم يَثْنِهِ

عَنْها طِرادُك

(2)

يابنَ فَقْع

(3)

الفَدفَدِ

(4)

واللّهِ رَبّي

(5)

إن قتلتَ لمُسْلماً

حلّتْ عَلَيْكَ عُقوبةُ المُتعَمِّدِ

(6)

ولما قتله عمرو (بن جرموز) احتزَّ رأسَه وذهب به إلى عليٍّ ورأى أن ذلك يحصل له به حظوة عنده، فاستأذنَ فقال علىّ: لا تأذنوا له وبشِّروه بالنار، وفي رواية أن علياً قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " بشر قاتلَ ابن صفية بالنار"

(7)

(ودخل ابن جرموز ومعه سيف الزبير فقال علي: إن هذا السيف طالما فرج الكرب عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فيقال إن عمرو بن جرموز لما سمع ذلك قتل نفسه، وقيل بل عاش إلى أن تأمر مصعب بن الزبير، على العراق فاختفى منه، فقيل لمصعب: إن عمرو بن جرموز هاهنا وهو مختفٍ، فهل لك فيه؟ فقال: مروه فليظهر فهو آمن، والله ما كنت لأقيد

(8)

للزبير منه فهو أحقر من أن

(9)

أجعله عدلاً للزبير.

وقد كان الزُّبير ذا مال جزيل وصدقات كثيرة جداً، ولمّا كان يوم الجمل أوصى إلى ابنه عبد الله، فلما قُتل وجدوا عليه من الدين ألفي ألف ومئتا ألف فوفوها عنه، وأخرجوا بعد ذلك ثُلْثَ ماله الذي [كان] أوصى به، ثم قُسمت التَّركة بعد ذلك فأصاب كل واحدة من زوجاته وكنّ أربعاً

(10)

من ربع الثُّمن ألف ألف ومئتا ألف درهم، فعلى هذا يكون (مجموع) ما قُسم بين الورثة ثمانيةً وثلاثين ألف ألف وأربعمئة ألف (والثلث الموصى به تسعة عشر ألف ألف ومئتا ألف فتلك الجملة سبعة) وخمسون ألف ألف وستمئة ألف، والدَّين (المخرج) قبل ذلك ألفا ألف ومئتا ألف

(11)

فعلى هذا يكون جميع ما تركه من

(1)

في السير: فيما مضى مما تروح وتغتدي.

(2)

في أ: نظيرك.

(3)

الفقع: نوع أبيض من رديء الكمأة. والفدفد: الأرض المستوية؛ وفقع الفدفد مَثَلٌ للذليل.

(4)

في ط: العردد.

(5)

في السير: ربك.

(6)

في هامش السير: أشارت بقولها: عقوبة المتعمد

؛ إلى قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93]. وقال غيره: عقوبة المتعمد أن يقتل قصاصاً.

(7)

رواه أحمد في المسند (1/ 89) عن علي رضي الله عنه موقوفاً عليه، وإسناده حسن.

(8)

في أ: لأفتد.

(9)

في أ: من ذلك أن أجعله.

(10)

في ط: من الزوجات الأربع.

(11)

في هامش أ: والدين قبل ذلك ألف ألف فالجملة سبعة وخمسون ألف ألف وستمئة.

ص: 432

لدين والوصية والميراث تسعة وخمسين ألف ألف وثمانمئة ألف، وإنما نبَّهنا على هذا لأنه وقع في صحيح البخاري

(1)

ما فيه نظر ينبغي أن ينتبه

(2)

له، والله أعلم.

وقد جمع ماله هذا بعد الصدقات الكثيرة والمآثر الغزيرة

(3)

مما أفاء الله عليه من الجهاد ومن خمس الخمس ما يخص

(4)

أمه منه، ومن التجارة المبرورة (وقد) قيل إنه كان له ألف مملوك يؤدون إليه الخراج، فربما تصدَّقَ في بعض الأيام بخراجهم كلَّهم رضي الله عنه وأرضاه.

وكان قتله يوم الخميس لعشر خلون من جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين وقد نيف على الستين

(5)

بست أو سبع.

وكان أسمر ربعةً من الرجال، معتدلَ اللحم، خفيفَ اللحية، رضي الله عنه.

‌وفي هذه السنة أعني سنة ست وثلاثين

ولَّى عليُّ بن أبي طالب [أمير المؤمنين] نيابةَ الدّيار المصرية لقيس

(6)

بن سعد بن عبادة، وكان على نيابتها في أيام عثمان عبد الله بن سعد بن أبي سرح، فلمّا توجّه أولئك الأحزاب من خوارج المصريين إلى عثمان [ليقتلوه]؛ وكانَ الذي جَهَّزهم إليه مع عبد الله بن سبأ المعروف بابن السوداء محمد بن أبي حذيفة بن عتبة، وكان لما قتل أبوه باليمامة، [قد] أوصى به إلى عثمان، فكفله [عثمان] ورباه في حجره ومنزله وأحسن إليه إحساناً كثيراً ونشأ في عبادة وزهادة، وسأل من عثمان أن يوليه عملاً فقال له: متى ما صرت أهلاً لذلك وليتك، فتعتب

(7)

في نفسه على عثمان فسأل من عثمان أن يخرج إلى الغزو فأذن له، فقصد الديارَ المصريةَ وحَضَرَ مع أميرها عبد الله بن سعد بن أبي سرح غزوةَ الصَّواري كما قدمنا، وجعل

(8)

ينتقص عثمان رضي الله عنه وساعد

(9)

على ذلك محمد بن أبي بكر [الصديق]، فكتب بذلك ابن أبي سَرْح إلى عثمان يشكوهما (إليه) فلم يعبأ بهما عثمان، ولم يزل ذلك دأب محمد بن أبي حذيفة حتى استنفرَ أولئك إلى عثمان فلما بلغه أنهم قد حصروا عثمان تغلب على الديار المصرية وأخرج منها

(1)

صحيح (3129) في فرض الخمس.

(2)

في ط: "ينبه" ولا تصح، لأنها لو كانت كذلك لقال "ينبه عليه".

(3)

في أ: والمآثر الوثيرة من الحلال.

(4)

في أ: مما يختص به منه.

(5)

في أ: الستين سنة بست.

(6)

في أ: لبشر بن سعد؛ خطأ. وما هنا موافق للطبري (4/ 547).

(7)

في أ: فبقيت.

(8)

في أ: وشرع.

(9)

في أ: وساعده أولئك.

ص: 433

(عبد الله) بن سعد بن أبي سرح، وصلى بالناس فيها، فلما كان ابن أبي سرح ببعض الطريق جاءه الخبر بقتل (أمير المؤمنين) عثمان فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون.

وبلغه أن عليًا قد بعث على إمرة مصر قيس بن سعد بن عبادة، فشمت بمحمد بن أبي حذيفة، إذ لم يمتَّع بملك الديار المصرية سنة، وسار عبد الله بن سعد

(1)

إلى الشام إلى معاوية فأخبره بما كان من أمره بديار مصر، وأن محمد بن أبي حذيفة قد استحوذ عليها، فسار معاوية وعمرو بن العاص [إليه] ليخرجاه منها لأنه من أكبر الأعوان على قتل عثمان، مع أنه كان قد رباه (وكفله) وأحسن إليه، فعالجا دخول مصر فلم يقدرا فلم يزالا يخدعانه حتى خرج إلى العريش في ألف رجل فتحصَّن بها، وجاء عمرو بن العاص فنصب عليه المنجنيق حتى نزل في ثلاثين من أصحابه فقتلوا، ذكره محمد بن جرير

(2)

، ثم سار إلى مصر قيس بن سعد بن عبادة بولاية من علي

(3)

، فدخل مصر في سبعة نفر، فرقي المنبر وقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب

(4)

.

بسم الله الرحمن الرحيم! من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى من بلغه كتابي هذا من المؤمنين والمسلمين، سلام عليكم فإني أحمد الله [إليكم] كثيرًا الذي لا إله إلا هو، أما بعد، فإن الله بحسن صنيعه وتقديره وتدبيره اختار الإسلام دينًا لنفسه وملائكته ورسله، وبعث به الرسل إلى عباده وخصَّ به من انتخب

(5)

من خلقه، فكان مما أكرم الله به هذه الأمة، وخصَّهم به من الفضيلة أن بعث محمدًا يعلمهم الكتاب والحكمة والفرائض والسنة

(6)

، لكيما يهتدوا، وجمعهم لكيما يتفرقوا، وزكاهم لكي يتطهَّروا، ووفَّقهم لكيلا يجوروا. فلمّا قضى من ذلك ما عليه قبضه الله إليه، صلوات الله وسلامه عليه وبركاته ورحمته، ثم إن المسلمين استخلفوا بعده أميرين صالحين، عَمِلا بالكتاب و [السنة] وأحسنا السيرةَ ولم يعدُوا السنَّة ثم توفاهما الله فرحمهما الله، ثم ولي بعدهما والٍ أحدث أحداثًا، فوجدت الأمة عليه مقالًا فقالوا، ثم نقموا عليه فغيّروا، ثم جاؤوني فبايعوني فاستهدي الله بهداه وأستعينه على تقواه

(7)

، ألا وإن لكم علينا العمل بكتاب الله وسنة رسول الله، والقيام عليكم بحقه

(8)

والنصح لكم بالغيب واللهُ المستعانُ وحسبنا الله ونعم الوكيل، وقد بعثت إليكم قيسَ بن سعد بن عبادة فوازروه وكانفوه وأعينوه على

(1)

في أ: وسار ابن أبي سرح إلى الشام.

(2)

تاريخ الطبري (4/ 547) وما بعدها.

(3)

في أ: فسار إلى مصر قيس بن سعد بولاية علي فدخلها في سبعة نفر.

(4)

نص الكتاب في تاريخ الطبري (4/ 548).

(5)

في أ: من انتخبه.

(6)

في أ: والسنن لكي يهتدوا، وجمعهم لكيلا يتفرقوا.

(7)

في ط: "التقوى"، وما أثبتناه من أ وهو أليق.

(8)

في أ: بالحق.

ص: 434

الحق، وقد أمرته بالإحسان إلى محسنكم والشدة على مريبكم

(1)

والرفق بعوامكم وخواصّكم، وهو ممن أرضى هديه، وأرجو صلاحه ونصيحته، أسأل الله لنا ولكم عملًا زاكيًا وثوابًا جزيلًا ورحمة واسعة والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وكتب عبد الله

(2)

بن أبي رافع في صفر سنة ست وثلاثين.

قال: ثم قام قيس بن سعد فخطب

(3)

الناس ودعاهم إلى البيعة لعلي، فقام الناس فبايعوه، واستقامت له طاعة بلاد مصر سوى قرية منها يقال لها خِرْبتا

(4)

، فيها ناس قد أعظموا قتل عثمان - وكانوا سادة الناس ووجوههم وكانوا في نحو من عشرة آلاف [منهم بشر بن أبي أرطأة ومسلمة بم مخلَّد ومعاوية بن خديج وجماعة من الأكابر] وعليهم رجل يقال له يزيد بن الحارث المُدْلجي - وبعثوا إلى قيس بن سعد فوادعهم، وكذلك مسلمة بن مُدْلج الأنصاري تأخَّر عن البيعة فتركه قيس (بن سعد) ووادعه.

ثم كتب معاوية بن أبي سفيان - وقد استوسق

(5)

له أمر الشام بحذافيره - إلى أقصى بلاد الروم والسواحل وجزيرة قبرص أيضًا تحت حكمه

(6)

وبعض بلاد الجزيرة كالرها وحران وقرقيسيا وغيرها، وقد ضوى إليها

(7)

الذين هربوا يوم الجمل من العثمانية، وقد أراد الأشتر انتزاع هذه البلاد من نوّاب معاوية، فبعث إليه عبد الرحمن بن خالد بن الوليد ففر منه الأشتر

(8)

، واستقرّ أمرُ معاوية على تلك البلاد [فلما استوسقت له البلاد كما ذكرنا] كتب إلى قيس بن سعد يدعوه إلى القيام بطلب دم عثمان وأن يكون مؤازرًا له على ما هو بصدده من القيام في ذلك، ووعده أن يكون نائبه على العراقين إذا تمّ له الأمر ما دام سلطانًا فلمّا بلغه الكتاب - وكان قيس رجلا حازمًا - لم يخالفه، ولم يوافقه بل بعث يلاطف معه الأمر وذلك لبعده عن علي وقربه من بلاد الشام وما مع معاوية من الجنود، فسالمه قيس وتاركه ولم يواقعه على ما دعا إليه ولا وافقه

(9)

عليه: فكتب إليه معاوية

(10)

: إنه لا يسعك معي تسويفك بي وخديعتك لي ولا بد أن أعلم أنك سلم

(11)

أو عدو - وكان معاوية حازمًا أيضًا -

(1)

في أ: مريبكم ومسيئكم.

(2)

في تاريخ الطبري (4/ 54): عبيد الله.

(3)

خطبة قيس في تاريخ الطبري (4/ 549).

(4)

في أ: جربيا؛ تحريف. وخربتا: قال القضاعي: يُعد كُورَ مصر. وهو حوالي الإسكندرية. معجم البلدان (2/ 355).

(5)

في أ: بعد أن استوثق.

(6)

في أ: تحت حكمه يأتيه حملها.

(7)

في أ: وقد أتاه الذين.

(8)

في أ: ففر منه الأشتر وهرب.

(9)

في أ: ولا خالفه.

(10)

في أ: معاوية إليه.

(11)

في أ: معي تسويفك لي فلابد أن أعلم أنك سلم لي.

ص: 435

فكتب إليه [قيس] لما صمم عليه: إني مع علي إذ هو أحق بالأمر منك، فلما بلغ ذلك معاوية يئس منه ورجع ثم أشاع بعض أهل الشام أن قيس بن سعد

(1)

يكاتبهم في الباطن ويمالثهم على أهل العراق.

وروى ابن جرير

(2)

أنه جاء من جهته كتاب مزور بمبايعته معاوية والله أعلم بصحته. ولما بلغ ذلك عليا فاتهمه وكتب له أن يغزو أهل خِرِبْتا

(3)

الذين تخلفوا عن البيعة، فبعث إليه يعتذر إليه بأنَّهم عدد كثير، وهم وجوه الناس.

وكتب إليه: إن كنت إنما أمرتني بهذا لتختبرني لأنك اتَّهمتني [في طاعتك]، فابعث على عملك بمصر غيري، فبعث علي على إمرة مصر الأشتر النحعي، فسار إليها فلما بلغ القلزم شرب شربة من عسل فكان فيها حتفه، فبلغ ذلك أهل الشام فقالوا: إن لله جندًا من عسل، فلما بلغ عليًا مهلك الأشتر بعث محمد بن أبي بكر على إمرة مصر، وقد قيل وهو الأصح إن عليًا ولى محمد بن أبي بكر

(4)

بعد قيس بن سعد، فارتحل قيس إلى المدينة، ثم ركب هو وسهل بن حنيف إلى علي فاعتذر إليه قيس بن سعد فعذره علي، وشهدا معه صفين كما سنذكره، فلم يزل محمد بن أبي بكر بمصر قائم الأمر مهيبًا بالديار المصرية، حتى (كانت) وقعة صفين، وبلغ أهل مصر خبر معاوية ومن معه من أهل الشام على قتال أهل العراق، وصاروا إلى التحكيم فطمع أهل مصر في محمد بن أبي بكر واجترأوا عليه وبارزوه بالعداوة، فكان من أمره ما سنذكره. وكان عمرو بن العاص قد بايع معاوية على القيام بطلب دم عثمان، وكان قد خرج من المدينة حين أرادوا حصره لئلا يشهد مهلكه، مع أنه كان متعتبًا عليه

(5)

بسب عزله له عن ديار مصر وتوليته عليها

(6)

عبد الله بن سعد بن أبي سرح، فتسرح عن المدينة على تغضب

(7)

فنزل قريبًا من الأردن، فلما قتل عثمان رضي الله عنه صار إلى معاوية فبايعه على ما ذكرنا [من القيام بدم عثمان].

‌فصل في [ذكر وقعة صفّين] بين أهل العراق [من أصحاب عليّ] وبين أهل الشام [من أصحاب معاوية]

قد تقدم ما رواه (الإمام) أحمد، عن إسماعيل بن علية، عن أيوب، عن محمد بن سيرين، أنه

(1)

في أ: أن قيسًا يكاتبهم.

(2)

تاريخ الطبري (4/ 553).

(3)

في أ: فلما جاء الكتاب إلى علي اتهمه وكتب إليه أن يغزوا جربيا.

(4)

في أ: أنه إنما ولاه مصر.

(5)

في أ: متعتبًا على عثمان.

(6)

في أ: وهو الذي فتحها وتوليته بدلها.

(7)

في أ: فخرج من المدينة على تغضب وغيظ فنزل.

ص: 436

قال: هاجت الفتنة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرات الألوف فلم يحضرها منهم مئة، بل لم يبلغوا ثلاثين.

وقال الإمام أحمد: حدَّثنا أمية بن خالد قال لشعبة إن أبا شيبة روى عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال:

شهد صفين من أهل بدر سبعون رجلًا، فقال: كذب أبو شيبة، والله لقد ذاكرنا الحكم في ذلك فما وجدناه شهد صفين من أهل بدر غير خُزَيْمة بن ثابت؟ وقد قيل إنه شهدها من أهل بدر سهل بن حُنَيْف، وكذا أبو أيوب الأنصاري؟ قاله شيخنا العلامةُ ابنُ تَيْمية في كتاب الرَّد على الرافضة.

وروى ابن بطة بإسناده عن بكير

(1)

بن الأشج أنه قال أما إن رجالًا من أهل بدر لزموا بيوتهم بعد قتل عثمان فلم يخرجوا إلَّا إلى قبورهم.

وأما علي بن أبي طالب رضي الله عنه فإنه لما فرغ من وقعة الجمل ودخل البصرة وشيع أم المؤمنين عائشة لما أرادت الرجوع إلى مكة، سار من البصرة إلى الكوفة

(2)

.

قال أبو الكنُود عبد الرحمن بن عبيد فدخلها علي يوم الإثنين لثنتي عشرة ليلةً خَلَتْ من رجب سنةَ ستٍّ وثلاثين فقيل له: انزل بالقصر الأبيض، فقال: لا! إن عمر (بن الخطاب) كان يكره نزوله فأنا أكرهه كذلك، فنزل في الرحبة وصلَّى في الجامع الأعظم ركعتين، ثم خطب الناس فحثَّهم على الخيْر ونهاهم عن الشر، ومدح أهل الكوفة في خطبته هذه، ثم بعث إلى جرير بن عبد الله - وكان على همذان من زمان عثمان - وإلى الأشعث بن قيس - وهو على نيابة أذربيجان من زمان

(3)

عثمان -[يأمرهما] أن يأخذا البيعة [له] على من هنالك (من الرعايا) ثم يقبلا إليه، ففعلا ذلك. فلما أراد علي رضي الله عنه أن يبعث إلى معاوية رضي الله عنه يدعوه إلى بيعته. قال جرير بن عبد الله: أنا أذهب إليه (يا أمير المؤمنين) فإن بيني وبينه ودًا، فآخذ لك منه البيعة

(4)

، فقال الأشتر: لا تبعثه يا أمير المؤمنين فإني أخشى أن يكون هواه معه. فقال علي: دعه، وبعثه

(5)

وكتب معه كتابًا إلى معاوية يعلمه باجتماع المهاجرين والأنصار على بيعته، ويخبره بما كان في وقعة الجمل، ويدعوه إلى الدخول فيما دخل فيه الناس. فلما انتهى إليه جرير بن عبد الله أعطاه الكتاب فطلب

(6)

معاوية عمرو بن العاص ورؤوس أهل الشام فاستشارهم فأبوا أن يبايعوا حتى يقتل قتلة عثمان، أو أن يسلم إليهم قتلة عثمان، وإن لم يفعل قاتلوه ولم يبايعوه حتى يقتل

(1)

في أ: بكر؛ تحريف وبكير هذا من رجال التهذيب.

(2)

في أ: لما فرغ من وقعة الجمل سار إلى الكوفة.

(3)

في أ: من أيام.

(4)

في أ: البيعة منه.

(5)

في أ: فبعثه.

(6)

في أ: وطلب.

ص: 437

قتلة عثمان بن عفان رضي الله عنه. فرجع

(1)

جرير إلى علي فأخبره بما قالوا، فقال الأشتر: يا أمير المؤمنين ألم أنهك

(2)

أن تبعث جريرًا؟ فلو كنت بعثتني لما فتح معاوية بابًا إلا أغلقته. فقال له جرير: لو كنت ثمَّ لقتلوكَ بدم عثمان. فقال الأشتر: والله لو بعثني لم يعنني جواب معاوية ولأعجلنه عن الفكرة، ولو أطاعني قبل لحبسك وأمثالك حتى يستقيم أمر هذه الأمة، فقام جرير مغضبًا وأقام بقرقيسيا، وكتب إلى معاوية يخبره بما قال وما قيل له، فكتب إليه معاوية يأمره بالقدوم عليه.

وخرج

(3)

أمير المؤمنين علي (بن أبي طالب) من الكوفة عازمًا على الدخول إلى الشام فعسكر بالنخيلة واستخلف على الكوفة أبا مسعود عقبة بن عمرو

(4)

البدري الأنصاري وكان قد أشار عليه جماعة بأن يقيم بالكوفة ويبعث الجنود. وأشار آخرون

(5)

أن يخرج فيهم بنفسه، وبلغ معاوية أن عليًا قد خرج [إليه] بنفسه فاستشار عمرو بن العاص فقال له: اخرج أنت أيضًا بنفسك، وقام عمرو بن العاص في الناس فقال إن صناديد أهل الكوفة والبصرة قد تفانوا [يوم الجمل، ولم يبق مع علي إلَّا شرذمة قليلة (من الناس)، ممن قتل، (وقد قتل) الخليفة أمير المؤمنين عثمان]

(6)

(بن عفان)، فالله الله في حقّكم أن تضيعوه، وفي دم عثمان خليفة الله فلا تطلبوه

(7)

.

وكتب إلى أجناد الشام فحضروا، وعقدت الألوية والرايات للأمراء، وتهيَّأ أهلُ الشام وتأهّبوا، وخرجوا أيضًا إلى نحو الفرات من ناحية صفين - حيث يكون مقدم علي (بن أبي طالب رضي الله عنه - وسار علي رضي الله عنه بمنْ معه من الجنود من النخيلة قاصدًا أرض الشام.

قال أبو إسرائيل، عن الحكم بن عتيبة

(8)

: وكان في جيشه ثمانون بدريًا ومئة وخمسون ممن بايع تحت الشجرة.

رواه ابن ديزيل. وقد اجتاز في طريقه براهب فكان من أمره ما ذكره [إبراهيم بن] الحسين بن ديزيل

(9)

في كتابه فيما رواه عن يحيى بن عبد الله الكرابيسي، عن نصر بن مزاحم

(10)

، عن عمر بن سعد، حدَّثني مسلم الأعور، عن حبَّة العُرني قال:

(1)

في أ: عثمان وإن لم يفعل قاتلوه ولم يبايعوه حتى يقتلهم عن آخرهم فرجع

(2)

في أ: ألم أنهك يا أمير المؤمنين.

(3)

في هامش أ: مطلب خروج علي رضي الله عنه بنية القتال مع معاوية.

(4)

في ط: عامر؛ تحريف. وعقبة بن عمرو هذا من رجال التهذيب.

(5)

في أ: آخرون عليه بالخروج بنفسه فخرج.

(6)

ما بين الحاصرتين في هامش أ.

(7)

في ط: وفي دمكم أن تطلوه.

(8)

في ط: عيينة؛ تحريف، وهو من رجال التهذب.

(9)

في ط: الحسين بن ديزيل؛ خطأ وترجمة ابن ديزيل في سير أعلام النبلاء (13/ 184).

(10)

نصر بن مزاحم هذا كذاب، كما في الميزان (4/ 254)، فلا يشك عاقل بأن هذا الخبر كذت محض.

ص: 438

لما أتى علي الرّقَّة نزل بمكانٍ يقال له البليخ

(1)

على جانب الفرات فنزل إليه راهب من صومعته فقال لعلي: إن عندنا كتابًا توارثناه عن آبائنا كتبه أصحاب عيسى ابن مريم عليهما السلام، أعرضه عليك؟ فقال (علي): نعم! فقرأ الراهب (الكتاب):

"بسم الله الرحمن الرحيم الذي قضى فيما قضى وسطر فيما سطر، وكتب فيما كتب أنه باعث في الأميين رسولًا منهم يعلمهم الكتابَ والحكمةَ ويزكّيهم ويدلّهم على سبيل الله، لا فظّ ولا غليظ ولا صخاب

(2)

في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، أمته الحمَّادون

(3)

الذين يحمدون اللهَ على كل شرف، وفي كل صعود وهبوط، وتذل ألسنتهم بالتهليل والتكبير، وينصره الله على كل منْ ناوأه فإذا توفّاه الله اختلفت (أمته) ثم اجتمعت فلبثت بذلك ما شاء الله ثم اختلفت

(4)

ثم يمر رجل من أمته بشاطئ هذا الفرات يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويقضي بالحق ولا ينكس الحكم، الدنيا أهون (عليه من الرماد) أو قال التراب - في يوم عصفت فيه الريح - والموت أهون عليه من شرب الماء، يخاف الله في السر، وينصح

(5)

في العلانية، ولا يخاف في الله لومة لائم، فمن أدرك ذلك النبي من أهل البلاد فآمن به كان ثوابه رضواني والجنة، ومن أدرك ذلك العبد الصالح فلينصره فإن القتل معه شهادة.

ثم قال لعلي: فأنا أصاحبك فلا أفارقك حتى يصيبني ما (أصابك) فبكى عليُّ ثم قال: الحمد لله الذي لم يجعلني عنده نسيًا منسيًا، والحمد لله الذي ذكرني عنده في كتب الأبرار. فمضى الراهب معه وأسلم فكان مع عليّ حتى أصيب يوم صفين. فلما

(6)

خرج الناس يطلبون

(7)

فتلاهم قال علي: اطلبوا الراهب، فوجدوه قتيلًا، (فلما وجدوه) صلَّى عليه ودفنه واستغفرَ له.

وقد بعث علي بين يديه زياد بن النضر الحارثي طليعةً في ثمانية آلاف، ومعه شريح بن هانئ، في أربعة آلاف، فساروا في طريق بين يديه غير طريقه.

وجاء علي [كرم الله وجهه] ففطع دجلة من جسر منبج وسارت المقدمتان، فبلغهم أنَّ معاويةَ قد ركب في أهل الشام ليلتقي

(8)

أمير المؤمنين عليًا فهمّوا بلقياه فخافوا من قلة عددهم بالنسبة إليه، فعدلوا عن طريقهم وجاءوا ليعبروا من عانات فمنعهم أهل عانات فساروا فعبروا من هيت ثم لحقوا عليًا - وقد

(1)

في: اليلبج: تحريف. والبليخ اسم نهر بالرقة. معجم البلدان (1/ 493).

(2)

في: ولا سخاب.

(3)

في: الحامدون.

(4)

في: فتلبث في ذلك ما شاء الله ثم تختلف.

(5)

في أ: ويصفح.

(6)

في: حتى انقضت وقعة فلما.

(7)

في أ: يدفنون.

(8)

في أ: ليلقا عليًا فهمّوا بلقائه.

ص: 439

سبقهم - فقال علي: مقدمتي تأتي من ورائي؟ فاعتذروا إليه بما جرى لهم، فعذرهم ثم قدمهم أمامه إلى معاوية بعد أن عبروا

(1)

الفرات فتلقاهم أبو الأعور عمرو بن سفيان السلمي في مقدمة أهل الشام فتواقفوا، ودعاهم

(2)

زياد بن النضر أمير مقدمة أهل العراق، إلى البيعة فلم يجيبوه بشيء فكتب إلى علي بذلك فبعث إليهم عليُّ الأشتر النخعي أميرًا، وعلى ميمنته زياد [بن النضر]، وعلى ميسرته شريح، وأمره أن لا يتقدم إليهم بقتال حتى يبدؤوه [أولًا] بالقتال، ولكن ليدعهم إلى البيعة مرة بعد مرةٍ، فإن امتنعوا فلا يقاتلهم حتى يقاتلوه ولا يقرب منهم قرب من يريد الحرب، ولا يبتعد منهم ابتعاد منْ يهاب الرجال، ولكن صابرهم حتى آتيك فأنا حثيث السير وراءك إن شاء الله (فتحاجزوا يومهم ذلك، فلما كان آخر النهار حمل عليهم أبو الأعور السلمي) وبعث معه بكتاب الإمارة على المقدمة مع الحارث بن جهمان الجعفي، فلما قدم الأشتر على [أمير] المقدمة امتثل ما أمره به علي، فتواقف هو ومقدمة معاوية وعليها أبو الأعور [فتخاصموا يومهم ذلك من كان آخر النهار حمل عليهم أبو الأعور] السلمي، فثبتوا له واصطبروا لهم ساعة

(3)

ثم انصرف أهل الشام عند المساء، فلما كان الغد تواقفوا أيضًا وتصابروا فحمل الأشتر، فقُتِلَ عبد الله بن المنذر التنوخي - وكان من فرسان أهل الشام - قتلة

(4)

رجل من أهل العراق يقال له ظبيان بن عمارة التميمي، فعند ذلك حمل عليهم أبو الأعور بمن معه، فتقدموا إليهم وطلب الأشتر من أبي الأعور أن يبارزه فلم يجبه أبو الأعور إلى ذلك، وكأنه رآه غير كفء له في ذلك والله أعلم. ثم تحاجز القوم عن القتال عند إقبال الليل من اليوم الثاني

(5)

.

فلما كان صباح اليوم الثالث أقبل علي رضي الله عنه في جيوشه، وجاء معاوية رضي الله عنه في جنوده، فتواجه الفريقان وتقاتل الجمعان وبالله المستعان، فتوافقوا طويلًا. وذلك بمكان يقال له: صفين

(6)

(وذلك) في أوائل ذي الحجة، ثم عدل علي رضي الله عنه فارتاد لجيشه منزلًا، وقد كان معاوية سبق بجيشه (فنزلوا) على مشرعة الماء في أسهل موضع وأفيحه

(7)

، فلما جاء علي نزل

(8)

بعيدًا من الماء، وجاء سرعان أهل العراق ليردوا من الماء فمنعهم أهل الشام، فوقع بينهم مقاتلة بسبب ذلك، وقد كان معاوية وكل

(9)

على الشريعة أبا الأعور الشُلمي، وليس هناك مشرعة سواها، فعطشَ أصحابُ

(1)

في ط: عبر.

(2)

في أ: فدعاهم.

(3)

في أ: وصبروا ساعة.

(4)

في أ: فقتله.

(5)

ينظر تاريخ الطبري (4/ 567).

(6)

في هامش أ: مطلب اسم معركة علي ومعاوية.

(7)

في ط: وأفسحه.

(8)

في ط: فلما جاء عليًا؛ وهو خطأ.

(9)

في أ: وكان معاوية قد وكل.

ص: 440

عليٍّ عطشًا شديدًا فبعث عليٌّ الأشعثَ بن قيس الكندي (في جماعة) ليصلوا إلى الماء فمنعهم أولئك وقال: موتوا عطشًا كما منعتم عثمان الماء، فترامَوْا بالنبل ساعة، ثم تطاعنوا بالرماح أخرى، ثم تقاتلوا بالسيوف بعد ذلك كله، وأمدَّ كل طائفة أصحابها

(1)

، حتَّى جاء الأشترُ النخعي من ناحية العراقيين وعمرو بن العاص من ناحية الشاميين، واشتدت الحرب بينهم أكثر مما كانت، وقد قال رجل من أهل العراق - وهو عبد الله بن عوف بن الأحمر الأزدي - وهو يقاتل

(2)

: [من الرجز]

خَلُّوا لنا ماءَ الفُراتِ الجاري

أو اثبتوا لِجَحْفَلٍ جَرّارِ

لِكُلِّ قَرْمٍ مَستميت شاري

(3)

مُطاعنٍ برُمْحِهِ كَرّار

ضَرّابِ هاماتِ العِدا مِغْوارِ

ثم ما زال أهلُ العراق يكشفون الشاميين عن الماء حتى أزاحوهم عنه وخلوا بينهم وبينه، ثم اصطلحوا على الورود حتى صاروا يزدحمون في تلك الشريعة لا يكلم أحدٌ أحدًا، ولا يؤذي إنسانٌ

(4)

إنسانًا.

وفي رواية أن معاوية لما أمر أبا الأعور بحفظ الشريعة وقف دونها برماحٍ مشرعةٍ، وسيوفٍ مسللةٍ، وسهامٍ مفوقةٍ، وقسيٍّ موترة

(5)

، فجاء أصحابُ عليٍّ عليًا فَشَكوا إليه ذلك فبعث صعصعة بن صوحان إلى معاوية يقول له: إنا جئنا كافين عن قتالكم حتى نقيم عليكم الحجة، فبعثت إلينا مقدمتك فقاتلتنا قبل أن نبدأكم [بالفتال] ثم هذه أخرى قد منعونا

(6)

الماء، (فلما بلغه ذلك) قال معاوية للقوم: ماذا ترون

(7)

؟ فقال عمرو

(8)

: خل بينهم وبينه، فليس من النصف أن نكون ريَّانين وهم عطاش، فقال الوليد [بن عقبة]: دعهم يذوقوا

(9)

من العطش ما أذاقوا أمير المؤمنين عثمان حين حصروه (في داره)، ومنعوه طيب الماء والطعام أربعين صباحًا

(10)

، وقال عبد الله بن سعد بن أبي سَرْح: امنعهم الماء إلى الليل فلعلَّهم يرجعون إلى بلادهم. فسكت معاوية فقال له صعصعة بن صوحان: ماذا جوابك؟ فقال: سيأتيكم رأي بعد هذا، فلمّا رجع صعصعة فأخبر الخبر ركب

(11)

الخيل والرجال، فما زالوا حتى

(1)

في ط: أهلها.

(2)

الأبيات في تاريخ الطبري (4/ 570).

(3)

في أ، ط: مشرب تيار .. ؛ وما هنا عن الطبري.

(4)

في أ: إنسان منهم إنسانًا. والخبر في تاريخ الطبري (4/ 571).

(5)

في أ: موتورة.

(6)

في أ: منعتمونا.

(7)

في ط: تريدون.

(8)

في أ: عمرو بن العاص.

(9)

في أ: دعهم حتى يذوقوا.

(10)

في أ: يومًا.

(11)

في أ: ركبت.

ص: 441

أزاحوهم عن الماء ووردوه قهرًا، ثم اصطلحوا فيما بينهم على ورود الماء

(1)

، لا يمنع أحد أحدًا منه، وأقام عليٌّ يومين لا يكاتب معاويةَ ولا يكاتبه معاويةُ، ثم دعا عليُّ بشير بن عمرو الأنصاري وسعيد بن قيس الهمداني وشَبَث بن ربعي السَّهمي فقال: إيتوا هذا الرجل فادعوه إلى الطاعة والجماعة واسمعوا ما يقول (لكم)، فلما دخلوا على معاوية

(2)

قال له بشير بن عمرو: يا معاوية! إن الدنيا عنك زائلة، وإنك راجع إلى الآخرة، والله محاسبك بعملك، ومجازيك بما قدمت يداك، وإني أنشدك الله أن تفرق جماعة هذه الأمة، وأن

(3)

تسفك (دماءها) بينها. فقال له معاوية: هلا أوصيت

(4)

بذلك صاحبكم؟ فقال له: (إنَّ) صاحبي أحقُّ هذه البرية بالأمر في فضله ودينه وسابقته وقرابته، وإنه يدعوك إلى مبايعته فإنه أسلمُ لك في دنياك، وخيرٌ لك في آخرتك

(5)

. فقال معاوية: ويُطلُّ دمُ عثمان؟ لا والله لا أفعل ذلك أبدًا، ثم أراد سعيد بن قيس الهمداني أن يتكلم فبدره شبَث بن ربعي فتكلم قبله بكلام فيه غلظة وجفاء في حق معاوية، فزجره معاوية وزبره في افتئاته على من هو [أكبر منه و] أشرف وكلامه

(6)

بما لا علم له به، ثم أمر بهم فأخرجوا من بين يديه، وصمَّم على القيام

(7)

بطلب دم عثمان (الذي قتل مظلومًا)، [فلما أخبروا عليًا بما قالوا له وما رد عليهم؛] فعند ذلك نشبت الحرب بينهم، وأمر علي بالطلائع والاْمراء أن يتقدموا

(8)

للحرب، وجعل عليُّ يُؤمر على كل قوم من الحرب أميرًا، فمن أمرائه على الحرب: الأشتر النخعي - وهو أكبر من كان يخرج للحرب - وحجر بن عدي، وشَبَث بن رِبْعي، وخالد بن المعمر

(9)

وزياد بن النَّضْر، وزياد بن خَصَفة

(10)

، وسعيد بن قيس

(11)

، ومعقل بن قيس، وقيس بن سعد، وكذلك كان معاوية يبعث على الحرب كل يوم أميرًا

(12)

، فمن أمرائه عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وأبو الأعور السلمي، وحبيب بن مسلم، وذو الكلاع الحميري، وعبيد الله بن عمر بن الخطاب، وشرحبيل بن السمط، وحمزة بن مالك الهمداني، وربما اقتتل الناس في اليوم مرتين، وذلك في شهر ذي الحجة بكماله.

(1)

في والرجال فأزاحوهم عن الماء ووردوه قهرًا، ثم اصطلحوا على وروده وألا يمنع أحد أحدًا منه.

(2)

في أ: عليه.

(3)

في أ: وأن لا.

(4)

في أ: وصيت بذلك صاحبك.

(5)

في أ: أخراك.

(6)

في أ: وأشرف وفي كلامه.

(7)

في أ: على القتال.

(8)

في أ: تتقدم.

(9)

في ط: المعتمر؛ تحريف. والتصحيح عن أ والطبري (4/ 574) ومصادر ترجمته.

(10)

في أ ط: حفصة؛ وما هنا عن الطبري ومصادر ترجمته.

(11)

في ط: أيس، تحريف.

(12)

ط: أ وكذلك فعل معاوية كان كل يوم يبعث على الحرب أمير.

ص: 442

وحج بالناس في هذه السنة عبد الله بن عباس عن أمر علي له بذلك.

فلما انسلخ ذو الحجة ودخل المحرم تداعى الناس للمتاركة، لعل الله أن يصلح بينهم على أمر يكون فيه حقن دمائهم، فكان ما سنذكره، إن شاء الله تعالى.

‌ثم دخلت سنة سبع وثلاثين

استُهِلَّت هذه السنة وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه متواقف هو ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، كل منهما في جنوده بمكانٍ يقال له صفّين بالقرب من الفرات شرقي بلاد الشام، وقد اقتتلوا في مدة شهر ذي الحجة [بكماله] كل يوم، وفي بعض الأيام ربما اقتتلوا مرتين، وجرت (بينهم) حروبٌ يطولُ ذكرها.

والمقصود أنه لما دخل شهرُ المحرّم تحاجزَ القومُ رجاءَ أن يقع بيهم مهادنة وموادعة يؤول أمرها إلى الصلح بين الناس وحقن دمائهم.

فذكر ابن جرير

(1)

من طريق (هشام عن) أبي مخنف قال: حدَّثني سعد أبو المجاهد

(2)

الطائي عن مُحِلّ بن خليفة أن عليًا بعث عدي بن حاتم ويزيد بن قيس الأرحبي، وشَبَث بن رِبْعي وزياد بن خَصَفة إلى معاوية، فلما دخلوا عليه - وعمرو بن العاص إلى جانبه - قال عدي بعد حمد الله والثناء عليه: أما بعد يا معاوية فإنا جئناك ندعوك إلى أمر يجمع الله به كلمتنا وأمتنا

(3)

وتحقن به الدماء

(4)

، ويؤمَّن

(5)

به السبل، ويصلح ذات البين، إن ابن عمك سيد المسلمين أفضلها سابقة، وأحسنها في الإسلام أثرًا، وقد استجمع له الناس، وقد أرشدهم الله بالذي رَأوْا، فلم يبق أحدٌ غيرك وغير من معك من شيعتك، فانتَهِ يا معاويةُ لا يصبْكَ الله وأصحابه مثل [ما أصاب الناس] يوم الجمل.

فقال له معاوية: كأنك إنما جئت متهددًا

(6)

ولم تأت مصلحًا، هيهات والله

(7)

يا عدي، كلا والله إني لابن حرب، لا يقعقع

(8)

لي بالشِّنان

(9)

، أما والله إنك لمن المجلبين على ابن عفان، وإنك لمن قَتَلَتِهِ،

(1)

تاريخ الطبري (5/ 5).

(2)

في ط: سعيد بن المجاهد؛ تحريف.

(3)

في ط: وأمرنا.

(4)

في أ: وتحقن دماءنا.

(5)

في أ: ونأمن.

(6)

في ط: مهددًا. واللقظة موافقة لما في الطبري.

(7)

ليست لفظة الجلالة في أولا في الطبري.

(8)

في أ: وأنا من لا يقعقع بالشنان له.

(9)

مثل عربي قديم ورد في معجم الأمثال العربية (قعقع - شنن) ومصادره فيه مجمع الأمثال (2/ 261) وأمثال القاسم بن سلام (96) وجمهرة الأمثال (2/ 412) والمستقصى (2/ 274).

ص: 443

وإني لأرجو أن تكونَ ممَّن يقتله الله به، وتكلّم شَبَث بن رِبعي وزياد بن خَصَفَة فذكرا من فضل علي وقالا: إتق الله يا معاوية ولا تخالفه فإنا واللهِ ما رأيا رجلًا قط أعملَ بالتقوى، ولا أزهدَ في الدنيا، ولا أجمعَ لخصال الخير كلّها منه.

فتكلم معاوية فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فإنكم دعوتموني إلى الجماعة والطاعة، فأما الجماعة فمعنا هي، وأما الطاعة فكيف أطيع رجلًا أعان على قتل عثمان وهو يزعم أنه لم يقتله؟ ونحن لا نردّ ذلك عليه ولا نتهمه به، ولكنه آوى قتلت

(1)

، فيدفعهم إلينا حتى نقتلهم، ثم نحن نجيبكم إلى الطاعة والجماعة. فقال له شَبَث بن ربعي: أنشدك الله يا معاوية، لو تمكنت من عمار أكنت قاتله بعثمان؟ قال معاوية:[والله] لو تمكنت من ابن سُمَيَّة ما قتلته بعثمان، ولكني كنت قتلته بغلام عثمان. فقال له شَبَث بن ربعي: وإله الأرض والسماء لا تصل إلى قتل عمار حتى تندر الرؤوس عن كواهلها، ويضيق فضاء الأرض ورحبها عليك. فقال معاوية ولو قد كان ذلك كانت عليك أضيق.

وخرج القوم من بين يديه فذهبوا إلى علي فأخبروه بما قال

(2)

.

وبعث معاوية حبيب بن مسلمة الفهري. وشُرَحبيل بن السِّمْط، ومعن بن يزيد بن الأخْنَس إلى عليُّ، فدخلوا عليه فبدأ حبيب فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد فإن عثمان بن عفان كان خليفةً مهديًا عمل بكتاب الله وثبت

(3)

لأمر الله، فاستثقلتم حياته، واستبطاتئم

(4)

وفاته، فعدوتم عليه فقتلتموه فادفع إلينا قتلته إن زعمت أنك لم تقتله، ثم اعتزل أمر الناس فيكون أمرهم شورى بينهم، فيولي الناس أمرهم منْ جمع عليه رأيهم. فقال له علي: وما أنت لا أم لك، وهذا الأمر وهذا العزل، فاسكت فإنكَ لستَ هناك ولا بأهل لذاك. فقال له حبيب: أما والله لتريني

(5)

حيث تكره، فقال له على: وما أنتَ ولو أجلبتَ بخيلك ورَجِلِكَ لا أبقى الله عليك إن أبقيت، اذهب فصعِّدْ وصوَّب ما بدا لك.

ثم ذكر أهل السير كلامًا طويلًا جرى بينهم وبين علي، وفي صحة ذلك عنهم وعنه نظر فإن في مطاوي ذلك الكلام من [كلام] عليٍّ ما ينتقص فيه معاويه وأباه، وأنهم إنما دخلوا في الإسلام [كرهًا] ولم يزالا في تردد فيه وغير ذلك وأنه قال في غبون ذلك: لا أقول إن عثمان قُتل مظلومًا ولا ظالمًا. فقالوا: نحن نبرأ ممن لم يقل إن عثمان قُتل مظلومًا، وخرجوا من عنده، فقال عليٌّ:{إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ} [النمل: 80 - 81]

(1)

في أ: قتلة عثمان.

(2)

في أ: فأخبروه الخبر.

(3)

في تاريخ الطبري (5/ 7): وينيب.

(4)

في أ: واستطلتم.

(5)

في أ: لترين مني.

ص: 444

ثم قال لأصحابه: لا يكن هؤلاء أولى بالجد في ضلالتهم منكم بالجد في حقكم وطاعة نبيكم، وهذا عندي لا يصح عن علي رضي الله عنه.

وقد روى ابن ديزيل من طريق عمرو بن سعد بإسناده: أن قراء أهل العراق (وقراء أهل الشام عسكروا ناحية وكانوا قريبًا من ثلاثين ألفًا، وإن جماعة من قراء العراق) منهم عبيدة السلماني

(1)

، وعلقمة بن قيس، وعامر بن عبد قيس، وعبد الله بن عتبة بن مسعود، وغيرهم جاؤوا معاوية

(2)

فقالوا له: ما تطلب؟ قال: أطلب بدم عثمان قالوا: فمن تطلب به؟ قال: عليًا، قالوا: أهو قتله؟ قال: نعم! وآوى قتلته، فانصرفوا إلى علي فذكروا له ما قال فقال: كذب! لم أقتله وأنتم تعلمون أني لم أقتله. فرجعوا إلى معاوية فقال: إن لم يكن قتله بيده فقد أمر بقتله ومالأ عليه

(3)

فرجعوا إلى علي [فأخبروه] فقال: والله لا قتلت ولا أمرت ولا ماليت. فرجعوا [إلى معاوية] فقال معاوية فإن كان صادقًا فليقدنا من قتلة عثمان، فإنهم في عسكره وجنده، فرجعوا [إلى علي] فقال: علي: تأول القوم عليه القرآن في فتنة ووقعت الفرقة لأجلها وقتلوه في سلطانه وليس لي عليهم سبيل. فرجعوا إلى معاوية فأخبروه فقال: إن كان الأمر على ما يقول فماله أنفذ

(4)

الأمر دوننا من غير مشورة منا ولا ممن هاهنا؟ فرجعوا إلى علي فقال علي: إنما الناس مع

(5)

المهاجرين والأنصار، فهم شهود الناس على ولايتهم وأمر دينهم، ورضوا

(6)

وبايعوني، ولست أستحل أن أدع مثل معاوية يحكم على الأمة ويشق عصاها، فرجعوا إلى معاوية فقال: ما بال من هاهنا من المهاجرين والأنصار لم يدخلوا في هذا الأمر؟ فرجعوا فقال علي: إنما هذا للبدريين دون غيرهم، وليس على وجه الأرض بدري إلا وهو معي، وقد [تابعني و] بايعني وقد رضي [بي]، فلا يغرنكم من دينكم وأنفسكم، قال: فأقاموا يتراسلون في ذلك شهر ربيع الآخر وجماديين ويقرعون في غبون ذلك القرعة بعد القرعة ويزحف بعضهم على بعض، ويحجز بينهم القراء، فلا يكون [في ذلك] قتال قال: فقرعوا في ثلاثة أشهر خمسة وثمانين قرعة. قال: وخرج أبو الدرداء وأبو أمامة فدخلا على معاوية فقالا له: يا معاوية على م تقاتل هذا الرجل؟ فوالله إنه أقدم

(7)

منك ومن أبيك إسلامًا، وأقرب منك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحق بهذا الأمر منك. فقال: أقاتله على دم عثمان لأنه آوى قتلته، فاذهبا إليه فقولا له فليقدنا من قتلة عثمان ثم أنا أول من يبايعه من أهل الشام، فذهبا إلى علي فقالا له ذلك فقال: هؤلاء الذين تريان فخرج خلق كثير فقالوا: كلنا فتلة عثمان

(1)

في أ السماني؛ تحريف.

(2)

في أ: إلى معاوية.

(3)

في ط: أمر رجالًا.

(4)

في أ: انتهز.

(5)

في أ: إنما الناس تبع للمهاجرين.

(6)

في أ: وقد رضوا بي.

(7)

في أ: لأقدم.

ص: 445

فمن شاء فليرمنا [ويكدنا]. قال: فرجع أبو الدرداء وأبو أمامة فلم يشهدا لهم قتالًا بل لزما بيوتهما.

وقال عمرو بن سعد بإسناده: حتى إذا كان رجب وخشي معاوية أن يبايع القراء كلهم عليًا كتب في سهم من عبد الله الناصح: يا معشر أهل العراق! إن معاوية يريد أن يفجِّر عليكم الفرات ليغرقكم فخذوا حذركم، ورمى به في جيش أهل العراق. فأخذه الناس فقرؤوه وتحدثوا به، وذكروه لعلي فقال: إن هذا ما لا يكون ولا يقع، وشاع ذلك [فيهم] وبعث معاوية مئتي فاعل يحفرون في جنب الفرات وبلغ الناس ذلك فتشوش

(1)

أهل العراق من ذلك وفزعوا إلى علي فقال: ويحكم! إنه يريد أن يخدعكم ويوهن كيدكم ليزيلكم

(2)

عن مكانكم هذا وينزل فيه لأنه خير من مكانه. فقالوا: لابد من أن نخلي

(3)

عن هذا الموضع فارتحلوا منه، وجاء معاوية فنزل بجيشه - وكان علي آخر من ارتحل - فنزل بهم وهو يقول:

فَلَوْ أنِّي أطعْتُ عَصَمْتُ قَوْمي

إلى رُكْنِ اليَمامةِ أو شَآمِ

(4)

ولكني إذا أبْرَمْتُ أمْرًا

يخالفه

(5)

الطغامُ بنو الطّغامِ

قال: فأقاموا إلى شهر ذي الحجة ثم شرعوا في المقاتلة فجعل علي يؤمِّر على الحرب كل يوم رجلًا وأكثر من كان يؤمَّر الأشتر. وكذلك معاوية يُؤمّر كلَّ يوم أميرًا فاقتتلوا شهر ذي الحجة بكماله؛ (وربما اقتتلوا في بعض الأيام مرتين).

قال ابن جرير رحمه الله

(6)

: (ثم) لم تزل الرسل تتردَّد بين علي ومعاوية والناس كافّون عن القتال حتى انسلخ المحرمُ من هذه السنة ولم يقع بينهم صلحٌ، فأمر علي بن أبي طالب يزيدَ بن الحارث الجشمي فنادى أهل الشام عند غروب الشمس: ألا إنّ أمير المؤمنين يقول لكم: إني قد استأنيتكم لتراجعوا

(7)

الحق، وأقمت عليكم الحجة فلم تجيبوا، وإني قد نبذت

(8)

إليكم على سواء إن الله لا يحب الخائنين. ففزع أهل الشام إلى أمرائهم فأعلموهم بما سمعوا المنادي ينادي فنهض عند ذلك معاوية وعمرو فَعَبَّأا الجيش ميمنة وميسرة، وبات علي يعبِّئ جيشه من ليلته، فجعل على خيل أهل الكوفة الأشتر النخعي، وعلى رجَّالتهم عمار بن ياسر، وعلى خيل أهل البصرة سهل بن حنيف، وعلى رجَّالتهم قيس بن سعد وهاشم بن عتبة، وعلى قرائهم سعد بن فدكي التميمي، وتقدم علي إلى الناس أن لا يبدؤوا

(1)

في أ: فخاف.

(2)

في ط: إنه يريد خديعتكم ليزيلكم.

(3)

في أ: لابد أن نرتحل عن هذا.

(4)

في أ: شمام.

(5)

في أ: يخالفني.

(6)

تاريخ الطبري (5/ 10).

(7)

في أ: لترجعوا إلى الحق.

(8)

في أ: وإني قد أعددت إليكم ونبذت.

ص: 446

أحدًا

(1)

بالقتال حتى يبدأ أهل الشام، وأنه لا يُذَفَّفُ على جريحٍ ولا يتبع مدبرٌ ولا يُكْشفُ سترُ امرأةٍ ولا تُهان، وإن شتمت أمراء الناس وصلحاءهم، وبرز معاوية صبح تلك الليلة، وقد جعل على الميمنة ابن ذي الكلاع الحميري، وعلى الميسرة حبيب بن مسلمة الفهري، وعلى المقدمة أبا الأعور السلمي، وعلى خيل دمشق عمرو بن العاص، وعلى رجالتهم الضحاك بن قيس. ذكره ابن جرير.

وروى (ابن) ديزيل

(2)

: من طريق جابر الجعفي، عن أبي جعفر الباقر زيد

(3)

بن الحسن بن علي وغيرهما. قالوا: لما بلغ معاوية سير علي، سار معاوية نحو عليّ، واستعمل على مقدمته سفيان بن عمرو أبا الأعور السلمي وعلى الساقة بسر بن أبي أرطاة حتى توافوا جميعًا سائرين إلى جانب صفين

(4)

. وزاد ابن الكلبي فقال: جعل على المقدمة أبا الأعور السلمي، وعلى الساقة بسرًا، وعلى الخيل عبيد الله بن عمر، ودفع اللواء إلى عبد الرحمن بن خالد بن الوليد وجعل على الميمنة حبيب بن مسلمة، وعلى رجَّالتها يزيد بن زحر العنسي

(5)

، وعلى الميسرة عبد الله بن عمرو بن العاص، وعلى رجالتها حابس بن سعد الطائي، وعلى خيل دمشق الضحاك بن قيس وعلى رجالتهم يزيد بن لبيد بن كرز البجلي، وجعل على

(6)

أهل حمص ذا الكلاع وعلى أهل فلسطين مسلمة بن مُخَلَّد، وقام معاوية في الناس خطيبًا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال

(7)

: أيها الناس! والله ما أصبت الشام إلا بالطاعة ولا أضبط حرب أهل العراق إلا بالصبر ولا أكابد أهل الحجاز إلا باللطف، وقد تهيأتم وسرتم لتمنعوا الشام وتأخذوا العراق، وسار القوم ليمنعوا العراق ويأخذوا الشام ولعمري ما للشام رجاء

(8)

في العراق ولا أموالها، ولا للعراق خبرة أهل الشام ولا بصائرها، مع أن القوم وبعدهم أعدادهم، وليس بعدكم غيركم فإن غلبتموهم لم تغلبوا

(9)

إلا مِن أناتكم وصبركم وإن غلبوكم غلبوا من بعدكم والقوم لاقوكم بكيد أهل العراق، ورقة أهل اليمن وبصائر أهل الحجاز، وقسوة أهل مصر، وأنما ينصر غدًا من ينصر اليوم {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا

(10)

بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا} [الأعراف: 128] وقد بلغ عليًا خطبة معاوية فقام

(11)

في أصحابه فحرضهم على الجهاد ومدحهم بالصبر وشجعهم بكثرتهم بالنسبة إلى أهل الشام.

(1)

في أ: لا يبدؤوا واحدًا.

(2)

هو إبراهيم بن الحسين بن علي الهمذاني، أبو إسحاق، إمام، حافظ، ثقة، - والنقل من كتابه صفين وهو مفقود - ترجمته في سير أعلام النبلاء (13/ 184).

(3)

في ط: "يزيد" خطأ، وترجمته في طبقات ابن سعد (5/ 318).

(4)

في أ: حتى توافقوا جميعًا بفنا صرير إلى جانب صفين.

(5)

في أ: العبسي.

(6)

في أ: وعلى أهل حمص.

(7)

في أ: خطيبًا فقال.

(8)

في ط: رجال العراق.

(9)

في أ: فليس تغلبوهم.

(10)

تبدأ الآية في أ عند هذه الكلمة، وفي آخرها: إن الله مع الصابرين.

(11)

في أ: فلما بلغ .. قام في أصحابه أيضًا خطيبًا وحضَّهم على الجهاد.

ص: 447

قال جابر الجعفي: عن أبي جعفر الباقر وزيد بن حسن

(1)

وغيرهما قالوا: سار علي [إلى الشام] في مئة وخمسين ألفًا من أهل العراق وأقبل معاوية في نحو منهم من أهل الشام. وقال غيرهم: أقبل علي في مئة ألف أو يزيدون، وأقبل معاوية في مئة ألف وثلاثين ألفًا - رواها

(2)

ابن ديزيل في كتابه - وقد تعاقد جماعة من أهل الشام على أن لا يفروا فعقلوا أنفسهم بالعمائم، وكان هؤلاء خمسة صفوف

(3)

ومعهم ستة صفوف آخرين وكذلك أهل العراق كانوا أحد عشر صفًا أيضًا فتواقفوا على هذه الصفة أول يوم من صفر وكان ذلك يوم الأربعاء، وكان أمير الحرب يومئذ (للعراقيين) الأشتر (النخعي)، وأمير الحرب يومئذ للشاميين

(4)

حبيب بن مسلمة، فاقتتلوا ذلك اليوم قتالًا شديدًا ثم تراجعوا من آخر يومهم وقد انتصف بعضهم من بعض وتكافؤوا في القتال، ثم أصبحوا من الغد يوم الخميس وأمير حرب أهل العراق

(5)

هاشم بن عتبة، وأمير الشاميين يومئذ أبا الأعور السلمي فاقتتلوا قتالًا شديدًا تحمل الخيل على الخيل والرجال على الرجال ثم تراجعوا من آخر يومهم وقد صبر كل من الفريقين للآخر وتكافؤوا ثم خرج في اليوم الثالث - وهو يوم الجمعة - عمّار بن ياسر من ناحية أهل العراق وخرج

(6)

إليه عمرو بن العاص في الشاميين فاقتتل الناس قتالًا شديدًا وحمل عمار على عمرو بن العاص فأزاله عن موقفه وبارز زياد بن النضر الحارثي وكان على الخيالة رجلًا فلما توافقا تعارفا فإذا هما أخوان من أم، فانصرف كل واحد منهما إلى قومه وترك صاحبه، وتراجع الناس من العشي وقد صبر كل فريق لصاحبه، وخرج في اليوم الرابع - وهو يوم السبت - محمد بن علي - وهو ابن الحنفي

(7)

- ومعه جمع عظيم فخرج إليه في كثير من جهة الشاميين عبيد الله بن عمر، فاقتتل الناس قتالًا شديدًا، وبرز عبيد الله بن عمر فطلب

(8)

من ابن الحنفية أن يبرز إليه فبرز إليه؟ فلما كادا أن يقتربا قال علي: من المبارز؟ قالوا محمد ابنك وعبيد الله [بن عمر]، فيقال إن عليًا حرك دابته وأمر ابنه أن يتوقف وتقدم إلى عبيد الله

(9)

[بن عمر] فقال له تقدم إلي قال [عبيد الله] له: لا حاجة لي في مبارزتك، فقال: بلى، فقال: لا! فرجع عنه علي وتحاجز الناس يومهم ذلك.

ثم خرج في اليوم الخامس - وهو يوم الأحد - في العراقيين عبد الله بن عباس وفي الشاميين الوليد بن

(1)

في ط: "زيد بن أنس" خطأ.

(2)

في أ: وذكر ذلك.

(3)

في أ: وكانوا خمس صفوف.

(4)

في أ: يومئذ الأشتر من جهة علي وأمير الشاميين.

(5)

في أ: وأمير حرب العراقيين.

(6)

في أ: ياسر من جهة علي وخرج

(7)

في أ: محمد بن علي بن الحنفية؛ خطأ.

(8)

في أ: فخرج إليه من جهة الشاميين عبيد الله بن عمر بن الخطاب في جحفل كثير من الشاميين فطلب.

(9)

في أ: وأمر ابنه أن يكف عنه وتقدم علي إلى عبيد الله.

ص: 448

عقبة، واقتتل الناس قتالًا شديدًا، وجعل الوليد ينال من ابن عباس فيما ذكره أبو مخنف ويقول: قتلتم خليفتكم ولم تنالوا ما طلبتم؟ ووالله إن الله ناصرنا عليكم. فقال له ابن عباس: فابرز إلي فأبى عليه، ويقال إن ابن عباس قاتل يومئذ قتالًا شديدًا بنفسه رضي الله عنه.

ثم خرج في اليوم السادس - وهو يوم الإثنين - وعلى الناس من جهة العراقيين

(1)

قيس بن سعد [بن عبادة]، ومن جهة أهل الشام ابن ذي الكلاع فاقتتلوا قتالًا شديدًا أيضًا وتصابروا ثم تراجعوا.

ثم خرج الأشتر النخعي في اليوم السابع - وهو يوم الثلاثاء [من جهة علي]- وخرج إليه قِرْنه [من جهة معاوية] حبيب بن مسلمة فاقتتلوا قتالًا شديدًا أيضًا ولم يغلب أحد أحدًا في هذه الأيام كلها.

قال أبو مخنف: حدَّثني مالك بن أعين الجُهَني، عن زيد بن وهب: أن عليًا قال: حتى متى لا نناهض هؤلاء القوم بأجمعنا؟ ثم قام في الناس عشية الأربعاء

(2)

بعد العصر فقال: الحمد لله الذي لا يبرم

(3)

ما نقض وما أبرم لم ينقضه الناقضون، لو شاء ما اختلف اثنان من خلقه، ولا تنازعت الأمة في شيء من أمره، ولا جحد المفضول ذا الفضل فضلَه، وقد ساقتنا وهؤلاء القوم الأقدار وجمعت

(4)

بيننا في هذا المكان، فنحن من ربنا بمرأى ومسمع فلو شاء لعجل النقمة وكان منه التغيير

(5)

حتى يكذب الله الظلم، ويعلم الحقُ أين مصيرُه، ولكنه جعل الدنيا دار الأعمال، وجعل الآخرة عنده هي دار القرار {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [النجم: 31] ألا وإنكم لاقوا القومِ غدًا فأطيلوا الليلةَ القيامَ، وأكثروا تلاوةَ القرآن، واسألوا الله النصر والصبر والقَوْهم

(6)

بالجدّ والحزم وكونوا صادقين. قال: فوثب الناس إلى سيوفهم ورماحهم ونبالهم يصلحونها.

قال: ومر بالناس وهم كذلك كعب بن جُعَيْل

(7)

التغلبي فرأى ما يصنعون

(8)

فجعل يقول: [من الرجز]

أَصْبَحَتِ الأمَّةُ في أمْرٍ عَجَبْ

والمُلْكُ مَجْموعٌ غدًا لمنْ غَلَبْ

فَقُلتُ قَوْلًا صادقًا غيرَ كَذِبْ

إن غدًا تهلك أعْلامُ العَرَبْ

قال: ثم أصبح علي في جنوده قد عبَّأهم كما أراد، وركب معاوية في جيشه قد عبَّاهم كما أراد، وقد

(1)

في أ: الإثنين من جهة علي على العراقيين.

(2)

في تاريخ الطبري (5/ 13) عشية الثلاثاء ليلة الأربعاء بعد العصر.

(3)

في أ: لا يبرم أحد ما نقض.

(4)

في ط: وألقت، وفي تاريخ الطبري (5/ 13): فلقت.

(5)

في ط: التعسير.

(6)

في ط: والقوة.

(7)

في ط: جعل؛ وما هنا موافق للطبري (5/ 14).

(8)

في ط: يصفون.

ص: 449

أمر عليٌّ كل قبيلة من أهل العراق أن تكفيه أختها من أهل الشام [ثم زحف الناس بعضهم إلى بعض] فتقاتل

(1)

الناس قتالًا عظيمًا لا يفرُّ أحدٌ من أحد ولا يغلب أحد أحدًا، ثم تحاجزوا عند العشي، وأصبح عليّ فصلى الفجر بغلس وباكر القتال، ثم استقبل أهل الشام فاستقبلوه بوجوههم، فقال علي فيما رواه أبو مخنف عن مالك بن أعين، عن زيد بن وهب: اللهم رب السقف المحفوظ المكفوف الذي جعلته سقفًا لليل والنهار، وجعلت فيه مجرى الشمس والقمر ومنازل النجوم، وجعلت فيه سبطًا من الملائكة لا يسامون العبادة، ورب [هذه] الأرض التي جعلتها قرارًا للأنام والهوام والأنعام

(2)

، وما لا يحصى مما نرى وما لا نرى

(3)

من خلقك العظيم، ورب الفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس، ورب السحاب المسخر بين السماء والأرض، ورب البحر المسجور المحيط بالعالم، ورب الجبال الرواسي التي جعلتها للأرض أوتادًا وللخلق [منافع و] متاعًا، إن أظهرتنا على عدونا فجنبنا البغي والفساد وسددنا للحق، وإن أظهرتهم علينا فارزقني

(4)

الشهادة وجنب بقية أصحابي من الفتنة. ثم تقدم علي وهو في القلب في أهل المدينة وعلى ميمنته يومئذ عبد الله بن بُديل، وعلى الميسرة عبد الله بن عباس، وعلى القراء عمار - بن ياسر وقيس بن سعد، والناس على راياتهم فزحف بهم نحو

(5)

القوم، وأقبل معاوية - وقد بايعه أهل الشام على الموت - فتواقف الناس في موطن مهول وأمر عظيم، وحمل عبد الله بن بديل أمير ميمنة علي على ميسرة أهل الشام وعليها حبيب بن مسلمة، فاضطره [ابن بُديل] حتى ألجأه إلى القلب، وفيه معاوية، وقام عبد الله بن بُديل خطيبًا في الناس يحرّضهم على القتال ويحثهم على الصبر والجهاد، وحرض أمير المؤمنين عليُّ الناس على الصبر والثبات والجهاد، وحثهم على قتال أهل الشام، وقام كل أمير في أصحابه يحرضهم، وتلا عليهم آيات القتال من أماكن متفرقة من القرآن، فمن ذلك قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف: 4] ثم

(6)

قال: قدموا المدارع وأخروا الحاسر وعضوا على الأضراس، فإنه أنكأ للسيوت عن الهام، وألبوا إلى أطراف الرماح فإنه أفوق للأسنة، وغضوا الأبصار فإنه أربط للجأش وأثبت

(7)

للقلب، وأميتوا الأصوات فإنه أطرد للفشل وأولى

(8)

بالوقار، راياتكم لا تميلوها ولا تزيلوها ولا تجعلوها إلا بأيدي

(9)

شجعانكم.

(1)

في أ: فتقاتلوا قتلًا.

(2)

في أ: قرارًا للأنام والأنعام والهوام.

(3)

في أ: مما يرى ومما لا يرى.

(4)

في أ: فارزقنا.

(5)

في ط: إلى القوم.

(6)

العبارة مختلفة عما هنا في أ.

(7)

في ط: واسكن.

(8)

في أ: وأمسكوا.

(9)

في أ: إلا بيدي.

ص: 450

وقد ذكر علماء التاريخ وغيرهم أن عليًا رضي الله عنه بارز في أيام صفين وقاتل وقتل خلقًا حتى ذكر بعضهم أنه قتل خمسمئة، فمن ذلك أن كريب بن الصباح قتل أربعة من أهل العراق [مبارزة] ثم وضعهم تحت قدميه ثم نادى: هل من مبارز؟ فبرز إليه عليٌّ فتجاولا ساعة ثم ضربه عليٌّ فقتله ثم قال علي: هل من مبارز؟ فبرز إليه الحارث بن وداعة الحميري فقتله، ثم برز إليه رواد بن الحارث الكلاعي فقتله، ثم برز إليه المطاع بن المطلب القيسي فقتله. فتلا

(1)

علي قوله تعالى: {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} [البقرة: 194] ثم نادى ويحك يا معاوية! ابرز إلي ولا تفني العرب بيني وبينك، فقال له عمرو بن العاص:[يا معاوية] اغتنمه فإنه قد أثخن بقتل هؤلاء الأربعة، فقال له معاوية: والله لقد علمت أن عليًا لم يقهر قط، وإنما أردت قتلي لتصيب الخلافة من بعدي، اذهب إليك! فليس مثلي يخدع.

وذكروا أن عليًا حمل على عمرو بن العاص يومًا فضربه بالرمح فألقاه إلى الأرض فبدت سوءته فرجع عنه [علي] فقال له أصحابه: ما لك يا أمير المؤمنين رجعت عنه؟ فقال: أتدرون ما هو؟ قالوا: لا! قال: هذا

(2)

عمرو بن العاص تلقاني بسوءته فذكرني بالرحم فرجعت عنه، فلما رجع عمرو إلى معاوية قال له: احمد الله واحمد استك.

وقال إبراهيم بن الحسين بن ديزيل: حدّثنا يحيى، حدَّثنا

(3)

نصر

(4)

، حدَّثنا عمرو بن شمر، عن جابر الجعفي، عن نمير الأنصاري قال: والله لكأني أسمع عليًا وهو يقول لأصحابه يوم صفين أما تخافون مقت الله حتى متى، ثم انفتل إلى القبلة يدعو ثم قال: والله ما سمعنا برئيس أصاب بيده [من القتل] ما أصاب علي يومئذ إنه قتل فيما ذكر العادُّون زيادة على خمسمئة رجل، يخرج فيضرب بالسيف حتى ينحني ثم يجيء فيقول: معذرةً إلى الله وإليكم، والله لقد هممتُ أن أقلعَه ولكن يحجزني عنه أنّي سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"لا سيفَ إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي"

(5)

قال: فيأخذه فيصفحه ثم يرجع به.

وهذا إسناد ضعيف وحديث منكر.

وحدَّثنا يحيى (حدَّثنا) ابن وهب، أخبرني اللَّيث، عن يزيد بن حبيب أنه أخبره من حضر صفّين مع علي ومعاوية.

قال ابن وهب: وأخبرني ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن ربيعة بن لقيط قال: شهدنا صفين مع علي ومعاوية قال فمطرت السماء علينا دمًا عبيطًا.

(1)

في أ: ثم تلا.

(2)

في أ: أتدرون من هو؟ قالوا: قال: هو عمرو.

(3)

في أ: ثنا يحيى بن نصر.

(4)

هو نصر بن مزاحم المنقري الكذاب صاحب كتاب "صفين".

(5)

وهو حديث موضوع آفته عمرو بن شمر، كذاب، وجابر بن يزيد الجعفي، ضعيف، فعلي ما قال هذا أبدًا.

ص: 451

قال الليث في حديثه: حتى إن كانوا ليأخذونه بالصحاف والآنية قال ابن لهيعة: فتمتلئ ونهريقها.

وقد ذكرنا أن عبد الله بن بدير كسر

(1)

الميسرة التي فيها حبيب بن مسلمة حتى أضافها إلى القلب

(2)

فأمر معاوية الشجعان أن يعاونوا حبيبًا على الكرَّة وبعث إليه معاوية يأمره بالحملة (والكرَّة) على ابن بُديل، فحمل حبيب بمن معه من الشجعان على ميمنة أهل العراق (فأزالوهم عن أماكنهم وانكشفوا عن أميرهم حتى لم يبق معه إلا زهاء ثلاثمئة وانجفل بقية أهل العراق)، ولم يبق مع علي من تلك القبائل إلا أهل مكه

(3)

وعليهم سهل بن حنيف، وثبت ربيعة مع علي رضي الله عنه واقترب أهل الشام منه حتى جعلت نبالهم تصل إليه، وتقدم إليه مولى لبني أمية فاعترضه مولى لعلي فقتله الأموي وأقبل يريد عليًا وحوله بنوه الحسن والحسين ومحمد بن حنفية، فلما وصل إلى علي أخذه علي بيده فرفعه ثم ألقاه على الأرض فكسر عضده ومنكبه وابتدره الحسين ومحمد (بأسيافهما) فقتلاه فقال علي للحسن ابنه (وهو واقف معه): ما منعك أن تصنع كما صنعا فقال: كفياني أمره (يا أمير المؤمنين) وأسرع إلى عليٍّ أهل الشام فجعل علي لا يزيد قربهم منه سرعة في مشيته، بل هو سائر على هينته، فقال له ابنه الحسن: يا أبتِ لو سعيتَ أكثرَ من مشيتك هذا

(4)

فقال: يا بني إن لأبيك يومًا لن يعدوه ولا يبطئ به عنه

(5)

السعي ولا يعجل به إليه المشي إن أباك والله ما يبالي وقع على الموت أو وقع عليه [الموت] ثم إن عليًا أمر الأشتر النخعي أن يلحق المنهزمين فيردهم فسار فأسرع

(6)

حتى استقبل المنهزمين من العراق

(7)

فجعل يؤنبهم ويوبخهم ويحرض القبائل والشجعان منهم على الكرة فجعل طائفة تتابعه

(8)

وآخرون يستمرون في هزيمتهم فلم يزل ذلك دأبه حتى اجتمع عليه خلق عظيم من الناس فجعل

(9)

لا يلقى قبيلة [من الشاميين] إلا كشفها ولا طائفة إلّا ردها حتى انتهى إلى أمير الميمنة وهو عبد الله بن بُديل ومعه نحو من ثلاثمئة قد ثبتوا في مكانهم فسألوا عن أمير المؤمنين فقالوا

(10)

حي صالح فالتفوا عليه، فتقدم بهم حتى تراجع كثير من الناس وذلك ما بين صلاة العصر إلى الغروب

(11)

، وأراد ابن بُديل أن يتقدم إلى أهل الشام فأمره الأشتر أن يثبت مكانه

(1)

في أ: وتهراق وقد ذكر ابن بديل كسر.

(2)

في أ: حتى أدخلها في القلب.

(3)

في أ: المدينة.

(4)

في أ: أكثر من هذا.

(5)

في ط: عند.

(6)

في أ: فيردهم فساق بأسرع سوق.

(7)

بعدها في أ: من بين أيديهم.

(8)

في أ: فتابعه طائفة واستمر آخرون في هزيمتهم.

(9)

في أ: عليه منهم جمع عظيم فرجع بهم إلى أهل الشام فجعل.

(10)

فسألوه عن أمير المؤمنين فقال.

(11)

في أ: المغرب.

ص: 452

فإنه خير له فأبى عليه (ابن بُديل)، وحمل نحو معاوية، فلما انتهى إليه وجده واقفًا أمام أصحابه وفي يده سيفان وحوله كتائب أمثال الجبال، فلما اقترب ابن بُديل حمل عليا

(1)

جماعة منهم فقتلوه وألقوه إلى الأرض قتيلًا، وَفَرّ أصحابه منهزمين وأكثرهم مجروح، فلما انهزلم

(2)

أصحابه قال معاوية لأصحابه: انظروا إلى أميرهم، فجاؤوا إليه فلم يعرفوه فتقدم معاوية إليه فإذا هو عبد الله بن بُديل، فقال معاوية: هذا والله

(3)

كما قال الشاعر، وهو حاتم الطّائي

(4)

: [من الطويل]

أخُو الحَرْبِ إنْ عضَّتْ به الحَرْبُ عَضَّها

وإنْ شَمَّرَتْ يَوْمًا به الحَرْبُ شَمَّرا

ويَحْمي إذا ما الموتُ حان

(5)

لقاؤُهُ

كذلك ذو الأشْبالِ يَحْمي إدْا ما تأمَّرا

(6)

كَلَيْثٍ هِزَبْرٍ كان يَحْمي ذِمارَهُ

رَمَتهُ المَنايا لسَهْمَها فَتَقَطَّرا

ثم حمل الأشتر النخعي بمن رجع معه من المنهزمين، فصدق الحملةَ حتى خالط الصفوف الخمسة الذين تعاقدوا [وتعاهدوا على الموت و] أن لا يفروا وهم حول معاوية، فخرق منهم أربعة وبقي بينه وبين معاوية صفٌّ، قال الأشتر فرأيت هولًا عظيمًا، وكدت أن أفرّ فما ثبتني إلا قول ابن الإطنابة وهي أمه من بلْقين وكان هو معه من الأنصار وهو جاهلي

(7)

: [من الوافر]

أبَتْ لي عِفَّتي وأبَى بَلائي

وإقْدامي على البَطَل المُشيحِ

وإعْطائي على المَكْروهِ مالي

وضَرْبي هامةَ الرجلِ

(8)

السميحِ

وَقَوْلي كُلَّما جَشَأتْ وَجاشَتْ

مكانَكِ تُحمَدي أو تَسْتريحي

قال: فهذا الذي ثَبَّتني في ذلك الموقف.

والعجب أن ابن ديزيل روى في كتابه أن أهل العراق حملوا حملةً واحدةً، فلم يبق لأهل الشام صفٌّ إلا أزالوه حتى أفْضَوْا إلى معاوية فدعا بفرسه لينجو عليه، قال معاوية: فلما وضعتُ رِجْلي في الرِّكاب تمثلتُ بأبيات عَمْرو بن الإطنابة:

أبَتْ لي عِفَّتي وأبَى بَلائي

وأخْذي الحَمْدَ بالثَّمَن الرَّبيحِ

وإعْطائي على المَكْروهِ مالي

وَضَرْبي هامَةَ البَطَل المُشيحِ

(1)

في ط: تقدم إليه.

(2)

في أ: فلما انهزموا قال معاوية لأصحابه: انظروا من أميرهم.

(3)

في أ: فتقدم إليه معاوية فعرفه، قال: هذا عبد الله بن بديل، وهذا والله.

(4)

ديوان حاتم (132) والبيت الأول في تاريخ الطبري (5/ 24).

(5)

في ط: كان لقاؤه.

(6)

في أ: إذا ما فرا.

(7)

الأبيات في تاريخ الطبري (5/ 24).

(8)

في أ: هامة البطل.

ص: 453

وَقَوْلي كُلَّما جَشَأتْ وجَاشَتْ

مكانَكِ تُحمدي أو تَسْتَريحي

قال: فثبت.

ونظر معاوية إلى عمرو بن العاص [يوم صفين] فقال: اليوم صبر وغدًا فخر، فقال له عمرو: صدقت. قال معاوية: فاصبت خير الدنيا وأنا أرجو أن أصيب خير الآخرة.

ورواه محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عبد الرحمن بن حاطب، عن معاوية، وبعث معاوية إلى خالد بن المعتمر وهو أمير الخيالة لعلي فقال له: اتبعني على ما أنت عليه ولك إمرةُ العراق، فطمع فيها، فلما ولي معاويه

(1)

(ولاه العراق فلم يصل إليها خالد رحمه الله، ثم إن عليًا لما رأى الميمنة قد اجتمعت رجع إلى الناس فأنّب بعضَهم وعذر بعضهم وحرّض الناس وثبَّتهم ثم تراجع أهلُ العراق فاجتمع شملُهم ودارت رحى الحرب بينهم، وجالوا في الشاميين وصالوا، وتبارز الشجعان فقُتل خلقٌ كثيرٌ من الأعيان من الفريقين فإنا لله وإنا إليه راجعون. [وقيل ممن قتل في هذا اليوم]

(2)

عبيد الله بن عمر بن الخطاب من الشاميين، واختلفوا فيمن قتله من العراقيين

(3)

، وقد ذكر إبراهيم بن الحسين (بن) ديزيل أن عبيد الله لما خرج يومئذ أميرًا على الحرب [من جهة معاوية] أحضر امرأتيه

(4)

أسماء بنت عطارد بن حاجب التميمي وبحرية بنت هانئ بن قبيصة الشيباني - فوقفتا وراءه في راحلتين لينظرا إلى قتاله وشجاعته وقوته، فواجهته من

(5)

جيش العراقيين ربيعة الكوفة وعليهم زياد بن خَصَفَة التيمي، فشدوا عليه شدة رجل واحد

(6)

فقتلوه بعدما انهزم عنه أصحابه، ونزلت ربيعة فضربوا لأميرهم خيمة فبقي طنب

(7)

منها لم يجدوا له وتدًا فشدوه برجل عبيد الله [بن عمر]، وجاءت امرأتاه تولولان حتى وقفتا عليه وبكتا عنده، وشفعت امرأته بحرية إلى الأمير فأطلقه

(8)

لهما فاحتملتاه معهما في هودجهما وقتل معه أيضًا ذو الكلاع [الحميري]، وقال الشعبي: ففي مقتل عبيد الله بن عمر [بن الخطاب] يقول كعب بن جُعَيْل

(9)

التغلبي

(10)

: [من الطويل]

أَلا إنَّما تَبْكي العُيونُ لفارِسٍ

بصِفِّين وَلَّتْ خَيْلُهُ وَهُو واقِفُ

(1)

في أ: فلما ولي معاوية لم يعطه شيئًا، ثم إن عليًا.

(2)

بدل ما بين الحاصرتين في أ: منهم.

(3)

في أ: من قاتله من أهل العراق من هو.

(4)

في أ: امرأته.

(5)

في أ: فواجهه جيش.

(6)

في أ: شدة واحدة.

(7)

في أ: بقي فيها طنب لم يجدوا له.

(8)

في أ: إلى الأمير أن يطلقه.

(9)

في ط: جعل، تحريف.

(10)

الأبيات الثلاثة الأولى في تاريخ الطبري (5/ 37).

ص: 454

تبدّل من أسماءَ أسْيافُ وائلٍ

وكانَ فتىً لو أخَطَأتْهُ المَتالِفُ

تركنَ عُبَيْدَ الله بالقاعِ ثاويًا

تسيلُ دماهُ والعروق نوازفُ

(1)

يَنوءُ ويَغْشاهُ شَآبيبُ من دمٍ

كمَا لاحَ من جَيْبِ القَميصِ الكَفائفُ

وقدْ صَبَرَتْ حولَ ابن عمِّ محمدٍ

لَدى الموت أربابُ المَناقبِ شارفُ

فما برحوا حتى رأى اللهُ صَبْرهمْ

وحتى رقتْ فَوْقَ الأكُفِّ المَصاحِفُ

وزاد غيره فيها:

مَعاوي لا تَنْهَضْ بغيرِ وثيقةٍ

فإنكَ بَعْدَ اليَومِ بالذُّلِّ عارِفُ

وقد أجابه أبو جهم الأسدي بقصيدة فيها أنواع من الهجاء تركناها قصدًا.

‌مقتل عمار بن ياسر رضي الله عنه

وهذا مقتل عمار بن ياسر رضي الله عنه مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب قتله أهل الشام. وبان وظهر بذلك سرُّ ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم من أنه تقتله الفئة الباغية، وبان بذلك أن عليًا محق وأن معاوية باغ، وما في ذلك من دلائل

(2)

النبوة.

ذكر ابن جرير

(3)

من طريق أبي مخنف، حدَّثني مالك بن أعين الجُهني، عن زيد بن وهب الجُهني، أن عمارًا قال يومئذ:[أين] من يبتغي رضوان الله ولا يلوي

(4)

إلى مال ولا ولد، قال: فأتته عصابةٌ من الناس فقال: أيها الناس اقصدوا بنا نحو هؤلاء القوم الذين يبتغون دم عثمان ويزعمون أنه قُتل مظلومًا، والله ما قصدُهم الأخذُ بدمه ولا الأخذ بثأره، ولكن القوم ذاقوا الدنيا واستحلوها واستمرؤوا الآخرة فَقَلوْها، وعلموا أن الحق إذا لزمهم حال بينهم وبين ما يتمرّغون فيه من دنياهم وشهواتهم، ولم يكن للقوم سابقةٌ في الإسلام يستحقُّون بها طاعةَ الناس لهم ولا الولاية عليهم، ولا تمكَّنتْ من قلوبهم خشيةُ الله التي تمنعُ منْ تمكنتْ من قلبه عن نيل الشهوات، وتعقله عن إرادة الدنيا وطلب العلو فيها، وتحمله على اتّباع الحقّ والميل إلى أهله، فخدعوا أتباعَهم بقولهم إمامُنا قُتل مظلومًا، ليكونوا بذلك جبابرةً ملوكًا، وتلك مكيدةٌ بلغوا بها ما تَرَون، ولولا ذلك ما تبعهم من الناس رجلان ولكانوا أذلَّ وأخسَّ وأقلَّ، ولكنَّ قولَ الباطل له حلاوةٌ في أسماعِ الغافلين، فسيروا إلى الله سيرًا جميلًا، واذكروه ذكرًا كثيرًا.

(1)

في أ: من عروق ذوارفِ، وفي هذه الرواية إقواء، ورواية الطبري: تمجّ دم الخرق العروقُ الذوارف.

(2)

في أ: وظهر بذلك دلائل النبوة.

(3)

تاريخ الطبري (5/ 38).

(4)

في ط: من يبتغي رضوان ربه ولا يلوي. وفي تاريخ الطبري (5/ 39). ولا يئوب إلى مال.

ص: 455

ثم تقدم فلقيه عمرو بن العاص وعبيد الله بن عمر فلامهما وأنبهما

(1)

ووعظهما، وذكروا من كلامه لهما ما فيه غلظة، فالله أعلم.

وقال الإمام أحمد

(2)

: حدَّثنا محمد بن جعفر، حدَّثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، سمعت عبد الله بن سلمة يقول: رأيت عمارًا يوم صفين شيخًا كبيرًا آدم طوالا آخذًا الحربة

(3)

بيده ويده ترعد، فقال: والذي نفسي بيده لقد قاتلت بهذه الراية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مرات وهذه الرابعة، والذي نفسي بيده لو ضربونا حتى يبلغوا بنا سعفات

(4)

هجر لعرفت أن مُصْلِحينا على الحق، وأنهم على الضلالة.

وقال (الإمام) أحمد

(5)

: حدَّثنا (محمد بن) جعفر، حدَّثنا شعبة. وحجاج، قال: حدَّثني شعبة، قال: سمعت قتادة يحدث عن أبي نضرة. قال حجاج: سمعت أبا نضرة، عن قيس بن عُبَاد قال: قلت لعمار بن ياسر: أرأيت قتالكم مع علي رأيا

(6)

رأيتموه، فإن الرأي يخطئ ويصيب، أو عهد عهده إليكم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ما عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا لم يعهده إلى الناس كافة.

وقد رواه مسلم

(7)

: من حديث شعبة. وله تمام عن عمار عن حذيفة في المنافقين.

وهذا كما ثبت في الصحيحين وغيرهما

(8)

عن جماعة من التابعين، منهم الحارث بن سويد،

(1)

في أ: وانتهرهما.

(2)

مسند الإمام أحمد (4/ 319) وإسناده ضعيف، فإن عبد الله بن مسلمة المرادي قد اختلط، وسماع عمرو بن مرة منه بعد الاختلاط، ولذلك قال البخاري: لا يتابع في حديثه.

(3)

في أ: الراية.

(4)

في المسند: شعفات. وسعفات: جمع سَعفة - بالتحريك - أغصان النخيل.

(5)

مسند الإمام أحمد (4/ 320) وهو حديث صحيح.

(6)

في أ: رأي.

(7)

صحيح مسلم (2779)(16) في صفات المنافقين.

(8)

أخرجه الحميدي (40) وأحمد في مسنده (1/ 79) والبخاري (111) في العلم، و (3047) في الجهاد، و (6915) في الديات، ومسلم رقم (1370) والترمذي (1412) في الديات، والنسائي (8/ 24) في القسامة، وابن ماجه (2658) في الديات، من طرق عن مطرف، عن الشعبي، عن أبي جحيفة، عن علي

وأخرجه أحمد في مسنده (1/ 122) وأبو داود (4530) في الديات من طريق يحيى بن سعيد، أخبرنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن عن قيس بن عباد ..

وأخرجه أحمد في مسنده (1/ 119) وابنه في زوائده على المسند (1/ 122) والنسائي (8/ 23) في القسامة، من طريق قتادة عن أبي حسان الأعرج، عن علي.

وأخرجه أحمد (1/ 100 - 126) من طريقين عن الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه يزيد بن شريك، عن علي ..

وأخرجه أحمد (1/ 151) عن محمد بن جعفر، حدَّثنا شعبة، عن سليمان، عن إبراهيم التيمي، عن الحارث بن سويد.

ص: 456

وقيس بن عبادة، وأبو جحيفة وهب بن عبد الله السّوائي، ويزيد بن شريك، وأبو حسان الأعرج وغيرهم أن كلًّا منهم قال: قلت لعلي: هل عندكم شيء عهده إليكم رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعهده إلى الناس؟ فقال: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، إلا فهمًا يؤتيه الله عبدًا في القرآن، وما في هذه الصحيفة، قلت: وما في هذه الصحيفة؟ فإذا فيها العقل وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر، وأن المدينة حرم ما بين ثبير إلى ثور.

وثبت في الصحيحين

(1)

أيضًا من حديث الأعمش، عن أبي وائل، عن سفيان بن مسلم، عن سهل بن حنيف أنه قال يوم صفين: يا أيها الناس! اتهموا الرأي على الدين، فلقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أقدر لرددتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره، ووالله ما حملنا سيوفنا على عواتفنا منذ أسلمنا لأمر يقطعنا إلا أسهل بنا إلى أمر نعرفه، غير أمرنا هذا، فإنا لا نسدّ منه خُصْمًا إلا انفتح لنا غيره لا ندري كيف نبالي له.

وقال أحمد

(2)

: حدَّثنا وكيع، حدَّثنا سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي البختري، قال: قام عمار يوم صفين فقال: إئتوني بشربة لبن، فإن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال:"آخر شربة تشربها من الدنيا (شربة لبن".

وقال الإمام أحمد

(3)

: حدَّثنا عبد الرحمن، عن سفيان، عن حبيب، عن أبي البختري أن عمارًا أتي) بشربة لبن فضحك وقال: إن رسول الله قال لي: "آخر شراب أشربه (لبن) حين

(4)

أموت".

وقال إبراهيم بن الحسين بن ديزيل: حدَّثنا يحيى، حدثنا نصر

(5)

، حدَّثنا عمرو بن شمر، عن جابر الجعفي قال: سمعت الشعبي عن الأحنف بن قيس: قال: ثم حمل عمار بن ياسر عليهم فحمل عليه ابن حوى السكسكي وأبو الغادية الفزاري، فأما أبو الغادية فطعنه، وأما ابن حوى فاحتز رأسه. وقد كان ذو الكلاع سمع قول عمرو بن العاص يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمار بن ياسر: "تقتلك الفئة الباغية، وآخر شربة تشربها صاع لبن" فكان ذو الكلاع يقول لعمرو: ويحك

(6)

! ما هذا يا عمرو؟! فيقول له عمرو: إنه سيرجع إلينا. قال: فلما أصيب عمار بعد ذي الكلاع قال عمرو لمعاوية: ما أدري بقتل أيهما أنا أشد فرحًا، بقتل عمار أو ذي الكلاع، والله لو بقي ذو الكلاع بعد قتل عمار لمال بعامة أهل الشام [إلى علي] ولأفسد علينا جندنا. قال: وكان لا يزال يجيء رجل فيقول لمعاوية وعمرو: أنا قتلت

(1)

صحيح البخاري (4189) في المغازي، وصحيح مسلم (1785)(94) في الجهاد والسير.

(2)

مسند الإمام أحمد (4/ 319)، وهو حديث صحيح.

(3)

مسند الإمام أحمد (4/ 319).

(4)

في المسند: حتى.

(5)

في ط: "يحيى بن نصر" خطأ، فيحيى هو ابن عبد الله الكرابيسي، ونصر هو ابن مزاحم المنقري الكذاب صاحب كتاب "صفين"، وقد تقدم هذا الإسناد غير مرة.

(6)

في أ: يقول لعمرو ماهذا ويحك يا عمرو.

ص: 457

عمارًا فيقول له عمرو: فما سمعته يقول؟ فيخلطون حتى جاء [ابن] حوى فقال أنا سمعته يقول:

اليوم ألْقَى الأحبَّه

مُحمَّدًا وحِزْبَه

فقال له عمرو: صدقت أنت إنك لصاحبه

(1)

، ثم قال له

(2)

: رويدًا، أما والله ما ظفرت يداك ولقد أسخطت ربك.

وقد روى ابن ديزيل من طريق أبي يوسف، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عبد الرحمن الكندي، عن أبيه، عن عمرو بن العاص: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمار: "تقتلك الفئة الباغية".

ورواه أيضًا من حديث جماعة من التابعين أرسلوه منهم عبد الله بن أبي الهذيل ومجاهد وحبيب بن أبي ثابت وحَبّة العُرْني.

وساقه من طريق أبان عن أنس مرفوعًا، ومن حديث عمرو بن شمر عن جابر الجُعْفي عن أبي الزُّبير عن حذيفة مرفوعًا:"ما خُيِّر عمار بين شيئين إلا اختار أرشدهما".

وبه عن عمرو بن شمر عن السريِّ عن يعقوب بن راقط

(3)

قال: اختصم رجلان في سلب عمار وفي قتله، فأتيا عبد الله بن عمرو بن العاص ليتحاكما

(4)

إليه، فقال لهما: ويحكما اخرجا عني، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ولعبت قريش بعمار -: "ما لهم ولعمار؟ عمار يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار، قاتله وسالبه في النار" قال: فبلغني أن معاوية قال: إنما قتله من أخرجه، يخدع بذلك أهل الشام.

وقال إبراهيم بن الحسين: حدَّثنا يحيى، حدَّثنا عدي

(5)

بن عمر، حدَّثنا هشيم، حدَّثنا العوام بن حوشب عن

(6)

الأسود بن مسعود، عن حنظلة بن خويلد - وكان يأتي من عند علي ومعاوية - قال: بينا هو عند معاوية إذ جاءه رجلان يختصمان في قتل عمار، فقال لهما عبد الله بن عمرو: ليطب

(7)

كل واحد منكما نفسًا لصاحبه بقتل عمار، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"تقتله الفئة الباغية" فقال معاوية لعمرو: ألا تنهى عنا مجنونك هذا؟!. ثم أقبل معاوية على عبد الله فقال له: فلم تقاتل معنا؟ فقال له إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني بطاعة والدي ما كان حيًا وأنا معكم ولست أقاتل.

(1)

في أ: صدقت أنت صاحبه.

(2)

في أ: ثم قال لابن حوى.

(3)

في أ: ابن أوسط.

(4)

في أ: فتحاكما.

(5)

في أ: عيسى.

(6)

في ط: "بن" وهو تحريف بين، فالعوام بن حوشب هو ابن يزيد الشباني أبو عيسى الواسطي، من رجال التهذيب، والأسود بن مسعود هو العنبري البصري، من رجال التهذيب أيضًا، وكلاهما ثقة.

(7)

في أ: لتطيب نفس كل.

ص: 458

وحدَّثنا يحيى حدثنا

(1)

نصر، حدَّثنا حفص بن عمران البرجمي [قال:] حدَّثني نافع بن عمر الجمحي، عن ابن أبي مليكة أن عبد الله بن عمرو قال لأبيه: لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني بطاعتك ما سرت معك هذا المسير، أما سمعت رسول الله يقول لعمار:"تقتلك الفئة الباغية".

وحدَّثنا يحيى، حدَّثنا عبد الرحمن بن زياد، حدَّثنا هشيم، عن مجالد، عن الشعبي قال: جاء قاتل عمار يستأذن على معاوية وعنده عمرو [بن العاص] فقال: إئذن له وبشره بالنار. فقال الرجل: أوما تسمع ما يقول عمرو. فقال معاوية

(2)

: صدق؟ إنما قتله الذين جاؤوا به.

وقال ابن جرير

(3)

: وحدَّثنا أحمد بن محمد، حدَّثنا الوليد بن صالح، حدَّثنا عطاء بن مسلم، عن الأعمش قال: قال أبو عبد الرحمن السلمي: كنّا مع علي بصفين وكنا قد وكَّلنا بفرسه نفسين يحفظانه ويمنعانه أن يحمل [بنفسه على القوم خوفًا عليه] فكان إذا حانت منهما غفلة حمل فلا يرجع حتى يخضب سيفه، وإنه حمل ذات يوم فلم يرجع حتى انثنى سيفه، فألقاه إليهم وقال: لولا أنه انثنى ما رجعت، قال: ورأيت عمارًا لا يأخذ واديًا من أودية صفين إلا اتبعه من كان هناك من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأيته جاء إلى هاشم بن عتبة وهو صاحب راية علي فقال: يا هاشم تقدم

(4)

! الجنة تحت ظلال السيوف، والموت في أطراف الأسنة، وفد فتحت أبواب الجنة

(5)

وتزينت الحور العين.

اليوم ألْقَى الأحبَّة

مُحمَّدًا وحِزْبه

ثم حملا هو وهاشم فقتلا رحمهما الله تعالى، قال: وحمل حينئذ علي وأصحابه على أهل الشام حملة رجل واحد كأنهما: كان - يعني عمارًا وهاشمًا - علَمًا لهم قال: فلما كان الليل قلت لأدخلن الليلة إلى العسكر الشاميين حتى أعلم هل بلغ منهم قتل عمار ما بلغ منا؟ - وكنا إذا توادعنا من القتال تحدثوا إلينا وتحدثنا إليهم - فركبت فرسي وقد هدأت الرّجل، ثم دخلت عسكرهم فإذا أنا بأربعة يتسامرون

(6)

، معاوية وأبو الأعور السلمي، وعمرو بن العاص، وابنه عبد الله بن عمرو وهو خير الأربعة. قال: فأدخلت فرسي بينهم مخافةَ أن يفوتني ما يقول بعضهم لبعض، فقال عبد الله لأيبه: يا أبة قتلتم هذا الرجل في يومكم هذا وقد قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال، قال: وما قال؟ قال

(7)

: ألم يكن معنا ونحن نبني المسجد والناس ينقلون حجرًا حجرًا، ولبنة لبنة، وعمار ينقل حجرين حجرين ولبنتين لبنتين؟ فأتاه

(1)

في ط: "بن" محرف، كما بيناه قبل قيل.

(2)

في ط: قال.

(3)

تاريخ الطبري (5/ 40).

(4)

في أ: تقدم إلى الجنة.

(5)

في أ: السماء.

(6)

هذه اللفظة غير واضحة في أ.

(7)

في أ: فقال وما قال فقال.

ص: 459

رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يمسح التراب عن وجهه ويقول: "ويحك يا بن سمية الناس ينقلون حجرًا حجرًا ولبنة لبنة، وأنت تنقل حجرين حجرين ولبنتين لبنتين رغبة منك في الأجر (وكنت مع ذلك) ويحك تقتلك الفئة الباغية" قال فرجع عمرو صدر فرسه ثم جذب معاوية إليه فقال: يا معاوية أما تسمع ما يقول عبد الله؟ قال: وما يقول؟ قال: يقول وأخبره

(1)

الخبر فقال معاوية إنك شيخ أخرق ولا تزال تحدث بالحديث وأنت تدحض في بولك، أو نحن قتلنا عمارًا؟ إنما قتل عمارًا من جاء به؟ قال: فخرج الناس من عند فساطيطهم وأخبيتهم وهم يقولون: إنما قتل عمارًا من جاء به، فلا أدري من كان أعجب هو أو هم.

وقال الإمام أحمد

(2)

: حدَّثنا أبو معاوية، حدَّثنا الأعمش، عن عبد الرحمن بن أبي زياد قال: إني لأسير مع معاوية منصرفه من صفّين بينه وبين عمرو بن العاص فقال عبد الله بن عمرو: يا أبه أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعمار: "ويحك يا بن سُمية تقتلك الفئة الباغية قال فقال عمرو لمعاوية: ألا تسمع ما يقول عبد الله هذا؟! فقال معاوية لا يزال يأتينا بهنة بعد هنة، أنحن قتلناه؟ إنما قتله الذين جاؤوا به.

ثم رواه أحمد

(3)

عن أبي نعيم، عن سفيان الثوري، عن الأعمش به نحوه، تفرد به أحمد بهذا السياق من هذا الوجه، وهذا التأويل الذي سلكه معاوية رضي الله عنه بعيد، ثم لم ينفرد عبد الله بن عمرو بهذا الحديث بل قد روي من وجوه أخر.

قال الإمام أحمد

(4)

: حدَّثنا محمد بن جعفر، حدَّثنا شعبة، عن خالد، عن عكرمة، عن أبي سعيد الخُدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمار:"تقتلك الفئة الباغية".

وقد روى البخاري في صحيحه

(5)

من حديث عبد العزيز بن المختار وعبد الوهاب الثقفي، عن خالد الحذاء، عن عكرمة، عن أبي سعيد في قصة بناء المسجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمار:"يا ويح عمار يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار" قال يقول عمار: أعوذ بالله من الفتن، وفي بعض نسخ البخاري:"يا ويح عمار تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار".

وقال أحمد

(6)

: حدَّثنا سليمان بن داود، حدَّثنا شعبة، حدَّثنا

(7)

عمرو بن دينار، عن

(1)

في أ: قال وما يقول فأخبره الخبر.

(2)

مسند الإمام أحمد (2/ 161) وهو حديت صحيح.

(3)

المصدر السابق.

(4)

مسند الإمام أحمد (3/ 22) وهو حديث صحيح.

(5)

صحيح البخاري (447) في الصلاة، وهي الرواية الثانية التي أشار إليها المصنف رحمه الله. قال بشار: الصحيح عندنا أن البخاري لم يورد هذه الجملة في صحيحه، وقد أخطأ الناشرون في إثباتها، كما بيناه مفصلًا في غير هذا الموضع.

(6)

مسند الإمام أحمد (3/ 28) وهو حديث صحيح.

(7)

في المسند: حدَّثنا شعبة بن عمرو بن دينار؛ خطأ إنما هو شعبة بن الحجاج بن الورد وعمرو بن دينار يروي عنه.

ص: 460

أبي هشام

(1)

، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله قال لعمار:"تقتلك الفئة الباغية".

وروى مسلم

(2)

من حديث شعبة، عن [أبي مسلمة، عن]

(3)

أبي نضرة، عن أبي سعيد قال: حدَّثني من هو خير مني - يعني أبا قتادة - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمار: "تقتلك الفئة الباغية".

(وروى مسلم

(4)

أيضًا: من حديث شعبة، عن خالد الحذاء، عن الحسن وسعيد بن أبي الحسن عن أمهما خيرة عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمار:"تقتلك الفئة الباغية".

ورواه

(5)

عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن ابن علية، عن ابن عون، عن الحسن، عن أمه عن أم سلمة به) وفي رواية: وقاتله في النار.

وروى البيهقي

(6)

عن الحاكم، وغيره، عن الأصم، عن أبي بكر محمد بن إسحاق الصغاني، عن أبي الجوَّاب، عن عمار بن رزيق، عن عمّار الدُّهني، عن سالم بن أبي الجعد، عن ابن مسعود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (لعمار): "إذا اختلف الناس كان ابن سُمية مع الحق".

وقال إبراهيم بن الحسين بن ديزيل في "سيرة علي": حدَّثنا يحيى بن عبيد

(7)

الله الكرابيسي، حدَّثنا أبو كريب، حدَّثنا أبو معاوية، عن عمّار بن رزيق، عن عمّار الدُّهني، عن سالم بن أبي الجعد قال: جاء رجل إلى ابن مسعود فقال: إن الله قد أَمَّننا أن يظلمنا ولم يؤمنا أن يفتننا، أرأيت إذا نزلت فتنة كيف أصنع؟ قال: عليك بكتاب الله، قلت: أرأيت إن جاء قوم كلهم يدعون إلى كتاب الله؟ فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا اختلف

(8)

الناس كان ابن سُمية مع الحق".

وروى ابن ديزيل عن عمرو بن العاص نفسه حديثًا في ذكر عمار وأنه مع الحق، وإسناده غريب.

وروى البيهقي

(9)

: أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان، أخبرنا أحمد بن عبيد الأسفاطي، حدَّثنا أبو مصعب، حدَّثنا

(10)

يوسف بن الماجشون، عن أبيه، عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر،

(1)

في المسند: عن هشام.

(2)

صحيح مسلم (2915)(70) في الفتن وأشراط الساعة.

(3)

ما بينهما ساقط من أ، ط.

(4)

صحيح مسلم (2916)(72) في الفتن وأشراط الساعة وتحرفت (خيرة) في أ، ط إلى (حرة) وهي خيرة مولاة أم سلمة. تقريب التهذيب.

(5)

صحيح مسلم (2916)(73) في الفتن وأشراط الساعة وهو في مصنف ابن أبي شيبة (15/ 302).

(6)

دلائل النبوة للبيهقي (6/ 422).

(7)

في أ: عبد الله.

(8)

في أ: اختلفت.

(9)

دلائل النبوة للبيهقي (6/ 421).

(10)

مكان السند في أ: من طريق يوسف بن الماجشون.

ص: 461

عن مَوْلاةٍ لعمّار قالت: "اشتكى عمار شكوى أرق منها فغُشي عليه، فأفاق ونحنُ نبكي حوله، فقال: ما تبكون؟ أتخشون أن أموت على فراشي؟ أخبرني حبيبي صلى الله عليه وسلم أنه تقتلني الفئة الباغية، وأن آخر أدمي من الدنيا مذقة من لبن".

وقال أحمد

(1)

: حدَّثنا ابن أبي عدي، عن داود، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المسجد فجعلنا ننقل لبنة لبنة، وكان عمار ينقل لبنتين لبنتين، فتترب رأسه قال: فحدثني أصحابي ولم أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه جعل ينفض رأسه ويقول: "ويحك يابن سمية تقتلك الفئة الباغية". تفرد به أحمد، وما زاده الروافض

(2)

في هذا الحديث بعد قوله "الباغية": لا أنالها والله شفاعتي يوم القيامة، فهو كذب وبهت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه قد ثبتت الأحاديث عنه صلوات الله عليه وسلامه بتسمية الفريقين مسلمين، كما سنورده قريبًا إن شاء الله.

قال ابن جرير

(3)

وقد ذكر أن عمارًا لما قُتل قال علي لربيعة وهمدان: أنتم درعي ورمحي، فانتدب له نحو من اثني عشر ألفًا، وتقدمهم علي ببغلته فحمل وحملوا معه حملة رجل واحد، فلم يبق لأهل الشام صف إلا انتقض وقتلوا كل من انتهوا إليه حتى بلغوا معاوية وعلي يقاتل ويقول

(4)

: [من الرجز]

أَضْرِبُهم ولا أرى مُعاويهْ

الجاحظَ العَيْنِ عَظيم الحاويهْ

قال: ثم دعى عليٌّ معاوية إلى أن يبارزه فأشار عليه عمرو بن العاص [أن يبرز إليه] فقال له معاوية: إنك لتعلم أنه لم يبارزه رجل (قط) إلا قتله، ولكنك طمعت فيها بعدي، ثم قدم علي ابنه محمدًا في عصابة كثيرة (من الناس)، فقاتلوه قتالًا شديدًا ثم تبعه علي في عصابة أخرى، فحمل بهم فقُتِلَ في هذا الموطن خلقٌ كثير من الفريقين (لا يعلمهم إلا الله) وقتل من العراقيين خلق كثير أيضًا، وطارت أكفٌّ ومعاصمُ ورؤوسٌ عن كواهلها، رحمهم الله. ثم حانت صلاة المغرب فما صلَّى بالناس إلَّا إيماءً صلاتي العشاءَ واستمرّ القتال في هذه الليلة كلها وهي من أعظم الليالي شرًا بين المسلمين، وتسمى (هذه الليلة) ليلة الهرير، وكانت ليلة الجمعة تقصفت [فيها] الرماح ونفدت النبال، وصار الناس إلى السيوف، وعليٌّ رضي الله عنه يحرّضُ القبائل، ويتقدَّم إليهم يأمر بالصَّبْر والثبات

(5)

وهو أمام الناس في قلب الجيش، وعلى الميمنة الأشتر [النخعي]، تولاها بعد قتل

(6)

عبد الله بن بُدَيْل عشية الخميس ليلة الجمعة - وعلى الميسرة ابن عباس، والناس يقتتلون من كل جانب [وذلك لما قتل عمار عرف أهل العراق

(1)

مسند الإمام أحمد (3/ 5) وهو حديث صحيح.

(2)

في أ: وما رواه بعض الرواة في هذا الحديث، وهو قوله: لا أنا لها الله.

(3)

تاريخ الطبري (5/ 41).

(4)

الأبيات في الطبري (5/ 42) وهو مع ثلاثة أشطر أخرى في هامشه منسوبًا للأشتر عن كتاب صفين (454).

(5)

في أ: ويتقدم إليهم بالأمر بالثبات والصبر.

(6)

في أ: مقتل.

ص: 462

أن أهل الشام بغاة ليس معهم حق] فذكر غير واحد من علماء السير - أنهم اقتتلوا بالرماح حتى تقصفت

(1)

، وبالنبال حتى فنيت، وبالسيوف حتى تحطمت ثم صاروا إلى أن تقاتلوا بالأيدي والرمي بالحجارة والتراب في الوجوه، وتعاضُّوا بالأسنان يقتتل الرجلان حتى يثخنا

(2)

ثم يجلسان يستريحان، وكل واحد منهما يهمر على الآخر ويهمر عليه ثم يقومان فيقتتلان كما كانا [ولا يتمكن أحدهما الفرار من الآخر] فإنا لله وإنا إليه راجعون. ولم يزل ذلك دأبهم حتى أصبح الناس من يوم الجمعة وهم كذلك وصلى الناس الصبح إيماءً وهم

(3)

في القتال حتى تضاحى النهار وتوجه النصر لأهل العراق

(4)

على أهل الشام، وذلك أن الأشتر النخعي صارت إليه إمرة الميمنة [وكان من الشجعان الأبطال الذين يعرفون الحروب ولا يهابون القتل]، فحمل بمن معه على أهل الشام وتبعه علي فتنقضت غالب صفوفهم وكادوا ينهزمون

(5)

، فعند ذلك رفع أهل الشام المصاحف فوق الرماح: وقالوا: هذا بيننا وبينكم قد فني الناس فمن للثغور؟ ومن لجهاد المشركين والكفار

(6)

.

وذكر ابن جرير

(7)

وغيره من أهل التاريخ أن الذي أشار برفع المصاحف

(8)

عمرو بن العاص، وذلك لما رأى أن أهل العراق قد ظهروا وانتصروا

(9)

في ذلك الموقف، أحب أن ينفصل الحال وأن يتأخر الأمر فإن كلًّا من الفريقين صابر للآخر، والناس يتفانون. فقال لمعاوية: إني قد رأيت أمرًا لا يزيدنا هذه الساعة إلا اجتماعًا ولا يزيدهم

(10)

إلا فرقة، أرى أن نرفع المصاحف وندعوهم إليها، فإن أجابوا كلهم إلى ذلك برد القتال [هذه الساعة] وإن اختلفوا فيما بينهم بأن يقول بعضهم نجيبهم وبعضهم

(11)

لا نجيبهم، فشلوا وذهب ريحهم.

وقال الإمام أحمد

(12)

، حدَّثنا يعلى بن عبيد، عن عبد العزيز بن سياه، عن حبيب بن أبي ثابت قال:

(1)

في أ: تكسَّرت.

(2)

في أ: فكان يقتتل الرجلان حتى يثخنان ثم يجلسان.

(3)

في أ: واستمروا في القتال.

(4)

في أ: وتوجه لأهل العراق على الشام.

(5)

في أ: فانقضت غالب صفوف أهل الشام ولم يبق إلا الهزيمة والكسر والفرار

مكرًا منهم بأهل العراق وخديعة.

(6)

في أ: والكافرين.

(7)

تاريخ الطبري (5/ 48).

(8)

في ط: بهذا هو.

(9)

في ط: استظهروا.

(10)

في أ: ولا يزيد أهل الشام إلا فرقة واختلافًا.

(11)

في ط: فمن قائل نجيبهم وقائل.

(12)

مسند الإمام أحمد (3/ 485) وهو حديث صحيح.

ص: 463

أتيت أبا وائل في مسجد أهله أسأله عن هؤلاء القوم الذين قتلهم عليٌّ بالنهروان فيما استجابوا له وفيما فارقوه، وفيما استحلَّ قتالهم فقال: كنا بصفّين فلما استحرّ القتال بأهل الشام اعتصموا بتل فقال عمرو بن العاص لمعاوية: أرسل إلى علي بمصحف فادعُهُ إلى كتاب الله فإنه لن يأبى عليك [الإجابة إلى كتاب الله] فجاء به رجل [منهم] فقال: بيننا وبينكم كتاب الله {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [آل عمران: 23] فقال علي: نعم! أنا أولى بذلك بيننا وبينكم كتاب الله، قال: فجاءته الخوارجُ ونحن ندعوهم يومئذ القُرّاء وسيوفهم على عواتقهم، فقالوا: يا أمير المؤمنين، ما ينتظر هؤلاء القوم الذين على التل ألا نمشي إليهم بسيوفنا حتى يحكم الله بيننا وبينهم؟ فتكلم سهل بن حُنيف فقال: يا أيها الناس اتهموا أنفسكم فلقد رأيتنا يوم الحديبية - يعنى

(1)

الصلح الذي كان بين رسول الله وبين المشركين - ولو نرى قتالًا لقاتلنا، فجاء عمر إلى رسول الله، فقال:(يا رسول الله) ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ [قال: "بلى"، وذكر تمام الحديث كما تقدم في موضعه.

[ذكر] رفع أهل الشام المصاحف

(2)

فلما رُفعت المصاحفُ قال أهل العراق: نُجيب إلى كتاب الله ونُنيب إليه.

قال أبو مخنف

(3)

: حدَّثني عبد الرحمن بن جندب الأزدي عن أبيه أن عليًا قال:

عباد الله أمضوا إلى حقّكم وصدقكم وقتال عدوكم، فإنَّ معاويةَ وعمرو بن العاص وابنَ أبي مُعَيْط وحبيب بن مسلمة وابن أبي سَرْح والضّحّاك بن قيس ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، أنا أعرف بهم منكم، صحبتهم أطفالًا، وصحبتهم رجالًا، فكانوا شرَّ أطفالٍ وشرَّ رجالٍ، ويحكم والله إنهم ما رفعوها أنهم يقرؤونها ولا يعملون بما فيها وما رفعوها إلا خديعة ودهاءً ومكيدة. [ومكرًا وتخذيلًا لكم وكسرًا لحدتكم وقتالكم، ولم يبق إلا هزيمتهم وفرارهم ونصركم عليهم] فقالوا له: ما يسعنا أن نُدعى إلى كتاب الله فنأبى أن نقبله، فقال لهم:(إني) إنما أقاتلهم ليدينوا بحكم الكتاب فإنهم قد عَصَوا الله فيما أمرهم به، وتركوا عهده، ونبذوا [أمره] وكتابه. فقال له مسعر بن فدكي التميمي وزيد بن حصين الطائي ثم السبائي في عصابة معهما من القُرّاء الذين صاروا بعد ذلك خوارج: يا علي أجب إلى كتاب الله إذ دعيتَ إليه وإلا دفعناك برمتك إلى القوم أو نفعل بك ما فعلنا بابن عفان، إنه غلبنا أن يعمل بكتاب الله فقتلناه، والله لتفعلنها أو لنفعلنها بك. قال: فاحفظوا عني نهيي إياكم واحفظوا مقالتكم لي، أما أنا فإن تطيعوني فقاتلوا، وإن تعصوني فاصنعوا ما بدا لكم، قالوا: فابعث إلى الأشتر فليأتك ويكفّ عن القتال، فبعث إليه علي ليكفَّ عن القتال.

(1)

في أ: يوم.

(2)

جاء هذا العنوان في هامش أ بخط مغاير.

(3)

تاريخ الطبري (5/ 48).

ص: 464

وقد ذكر الهيثم بن عدي

(1)

في كتابه الذي صنَّفه في الخوارج فقال: قال ابن عباس: فحدَّثني

(2)

محمد بن المنتشر الهمداني، عمن شهد صفين وعن ناس من رؤوس الخوارج ممن لا يتهم

(3)

على كذب:

أن عمار بن ياسر كره ذلك وأبى، وقال في علي بعض ما أكره ذكره، ثم قال: من رائح إلى الله قبل أن يبتغي غير الله حكمًا؟ فحمل فقاتل حتى قتل رحمة الله عليه. وكان ممن دعا إلى ذلك [في ذلك اليوم من] سادات الشاميين عبد الله بن عمرو بن العاص قام في أهل العراق فدعاهم إلى الموادعة والكف وترك القتال والائتمار بما في القرآن، وذلك عن أمر معاوية له بذلك

(4)

رضي الله عنهما، وكان ممن أشار على علي بالقبول والدخول في ذلك الأشعث بن قيس الكندي رضي الله عنه.

فروى أبو مخنف

(5)

من وجه آخر أن عليًا لما بعث إلى الأشتر قال: قل له إنه (ليس) هذه ساعة ينبغي أن (لا) تزيلني عن موقفي فيها، إني قد رجوت أن يفتح الله علي، فلا تعجلني، فرجع الرسول - وهو يزيد بن هانئ - إلى علي فأخبره عن الأشتر بما قال

(6)

، وصمم الأشتر على القتال لينتهز الفرصة، فارتفع الهرج وعلت الأصوات فقال أولئك القوم لعلي: والله ما نراك إلا أمرته أن يقاتل، فقال: أرأيتموني ساررت الرسول

(7)

؟ ألم أبعثْ إليه جهرةً وأنتم تسمعون؟ فقالوا: فابعث إليه فليأتك وإلا والله اعتزلناك، فقال: عليٌّ لزيد بن هانئ: ويحك! قل له أقبل إلي، فإن الفتنة قد وقعت، فلما رجع إليه يزيد بن هانئ فأبلغه عن أمير المؤمنين أنه (ينصرف عن القتال و) يقبل إليه، جعل [الأشتر] يتململ

(8)

ويقول: ويحك ألا ترى إلى ما نحن فيه من النصر ولم يبق إلا القليل؟ فقلت له: أيهما أحب إليك أن تقبل أو يقتل أمير المؤمنين كما قتل عثمان؟ ثم ماذا يغني عنك نصرتك هاهنا؟ قال: فأقبل الأشتر إلى علي وترك القتال فقال:

يا أهل العراق! يا أهل الذل والوهن

(9)

أحين علوتم القوم وظنوا أنكم لهم قاهرون رفعوا المصاحف

(1)

هو الهيثم بن عدي بن عبد الرحمن، البحتري، الكوفي، مختص بمجالس الخلفاء - وكتابه الخوارج مفقود - ترجمته في كشف الظنون (6/ 511).

(2)

في أ: وحدّثني. وفي النص خلافات كثيرة لا تخرج عن المعنى المراد ضربنا عنها صفحًا لكثرتها.

(3)

في أ: لم يتهم.

(4)

في أ: في ذلك.

(5)

تاريخ الطبري (5/ 49).

(6)

في أ: فأخبره بما قال الأشتر.

(7)

في ط: ساررته.

(8)

في أ: يتمثل.

(9)

في أ: والدهب.

ص: 465

يدعونكم إلى ما فيها، وقد والله تركوا ما أمر الله به فيها، وسنة من أنزل عليه [القرآن]

(1)

، فلا تجيبوهم، (أمهلوني) فإني قد أحسست بالفتح، قالوا: لا! قال: أمهلوني عدوَ الفَرَسِ فإني قد طمعت في النصر، قالوا إذًا ندخل معك في خطيئتك، ثم أخذ الأشتر يناظر أولئك القراء الداعين إلى إجابة أهل الشام بما حاصله: إن كان أول قتالكم هؤلاء حقًا فاستمروا عليه، وإن كان باطلًا فاشهدوا لقتلاكم بالنار، فقالوا: دعنا منك فإنا لا نطيعك ولا صاحبك أبدًا، ونحن قاتلنا هؤلاء في الله، وتركنا قتالهم لله، فقال لهم الأشتر: خُدعتم والله فانخدعتم، ودُعيتم إلى وضع الحرب فأجبتم، يا أصحاب السوء كنا نظن صلاتكم زهادة في الدنيا وشوقًا إلى لقاء الله، فلا أرى فراركم إلا إلى الدنيا من الموت، يا أشباه النيب الجَلالة ما أنتم بربانيين بعدها. فابعدوا كما بعد القوم الظالمون. فسبّوه وسبَّهم فضربوا وجه دابته بسياطهم، وجرت بينهم أمور طويلة، ورغب أكثر الناس من العراقيين وأهل الشام بكمالهم إلى المصالحة والمسالمة مدة لعله يتفق أمر يكون فيه حقن لدماء المسلمين، فإن الناس تفانوا في هذه المدة، ولا سيما في هذه الثلاثة أيام المتأخرة التي آخر أمرها ليلة الجمعة وهي ليلة الهرير. كل من الجيشين فيه من الشجاعة والصبر ما ليس يوجد في الدنيا مثله، ولهذا

(2)

لم يفرَّ أحدٌ عن أحد، بل صبروا حتى قتل من الفريقين فيما ذكره غير واحد سبعون ألفًا: خمسة وأربعون ألفًا من أهل الشام، وخمسة وعشرون ألفًا من أهل العراق.

قاله غير واحد منهم [محمد] بن سيرين وسيف وغيره. وزاد أبو الحسن بن البراء - وكان في أهل العراق - خمسة وعشرون بدريًا، قال: وكان بينهم في هذه المدة تسعون زحفًا واختلفوا

(3)

في مدة المقام بصفين، فقال سيف: سبعة أشهر أو تسعة أشهر. وقال أبو الحسن بن البراء مئة [يوم] وعشرة أيام.

قلت: ومقتضى كلام أبي مخنف أنه كان من مستهلّ ذي الحجة في يوم الجمعة لثلاث عشرة خلت من صفر وذلك سبعة وسبعون يومًا، فالله سبحانه أعلم.

وقال الزُّهري: بلغني أنه كان يدفن في القبر الواحد خمسون نفسًا. هذا كله ملخص من كلام ابن جرير وابن الجوزي في المنتظم

(4)

.

وقد روى البيهقي

(5)

: من طريق يعقوب بن سفيان، عن أبي اليمان، عن صفوان بن عمرو: كان أهل الشام ستين ألفًا فقتل منهم عثرون ألفًا، وكان أهل العراق مئة وعشرين ألفًا فقتل منهم أربعون ألفًا.

(1)

في أ: وسنة من أنزلت عليه.

(2)

في أ: التي كان آخرها ليلة الجمعة وهي ليلة الهزيز، وقد صبر كل من الجيشين للآخر صبرًا لم ير مثله لما كان فيهم من الشجعان والأبطال مما ليس يوجد مثلهم في الدنيا ولهذا ..

(3)

في ط: واختلفا.

(4)

المنتظم لابن الجوزي (5/ 117 - 123) طبعة دار الكتب العلمية - بيروت -.

(5)

دلائل النبوة للبيهقي (6/ 419).

ص: 466

وحمل البيهقيّ هذه الوقعة على الحديث الذي أخرجاه في الصحيحين

(1)

(من طريق عبد الرزاق، عن مَعْمر، عن هَمّام بن منبِّه) عن أبي هريرة.

ورواه البخاريُّ

(2)

(من حديث شعيب، عن الزهري، عن أبي سلمة) عن أبي هريرة، (ومن حديث شعيب، عن أبي الزناد، عن الأعرج عن أبي هريرة) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:

"لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان يقتل بينهما مقتلة عظيمة ودعواهما واحدة".

ورواه مجالد عن أبي الحواري عن أبي سعيد مرفوعًا مثله

(3)

.

ورواه الثوري عن ابن جدعان عن أبي نضرة عن أبي سعيد. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة حشى تقتتل فئتان عظيمتان دعوتهما

(4)

واحدة فبينما هم كذلك مرق منهما مارقة تقتلهم أولى الطائفتين بالحق".

وقد تقدم ما رواه الإمام أحمد

(5)

عن مهدي وإسحاق عن سفيان عن منصور عن ربعي بن حِراش عن البراء بن ناجية الكاهلي عن ابن مسعود. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

"إن رحى الإسلام ستزول لخمس وثلاثين أو ست وثلاثين، فإن يهلكوا فسبيل

(6)

من هلك، وإن يقم لهم دينهم يقم لهم سبعين عامًا" فقال عمر: يا رسول الله أممّا مضى أم مما بقي؟ قال: "بلى مما بقي".

وقد رواه إبراهيم بن الحسين بن ديزيل في كتاب جمعه في "سيرة علي"[رواه عن إبراهيم] عن أبي نعيم الفضل بن دكين عن شريك عن منصور به مثله.

وقال أيضًا: حدَّثنا أبو نعيم، حدَّثنا شريك بن عبد الله النخعي، عن مجالد، عن عامر الشعبي، عن مسروق، عن عبد الله. قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:

"إن رحى الإسلام ستزول بعد خمسٍ وثلاثين سنة فإن يصطلحوا فيما بينهم يأكلوا (الدنيا) سبعين عامًا رغدًا، وإن يقتتلوا يركبوا سنن منْ كان قبلهم؟ ".

(1)

صحيح البخاري (3609) في المناقب، وصحيح مسلم (2214)(17) في الفتن.

(2)

صحيح البخاري (3608) في المناقب ومن الطريق التي تليها (7121) في الفتن.

(3)

مسند الإمام أحمد (3/ 32 و 48) وصحيح مسلم (1064)(150) في الزكاة.

(4)

في أ: دعواهما.

(5)

مسند الإمام أحمد (1/ 395).

(6)

في المسند: فكسبيل.

ص: 467

وقال ابن ديزيل: حدَّثنا عبد الله بن عمر، حدثنا عبد الله بن خراش الشيباني، عن العَوّام بن حَوْشَب، عن إبراهيم التيمي

(1)

. قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

"تدور رحى الإسلام عند قتل رجل من بني أمية، - يعني عثمان رضي الله عنه.

وقال أيضًا: حدَّثنا الحكم عن نافع عن صفوان بن عمرو عن الأشياخ:

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعي إلى جنازة رجل من الأنصار فقال - وهو قاعد ينتظرها - "كيف أنتم إذا رأيتم خليفتين

(2)

في الإسلام؟ " قال أبو بكر

(3)

: أو يكون ذلك في أمة إلَهها واحد ونبيها واحد؟ قال: "نعم"! قال: أفأدرك ذلك يا رسول الله؟ قال: "لا! " قال عمر: أفأدرك ذلك يا رسول الله؟ قال: "لا! " قال عثمان: أفأدرك ذلك يا رسول الله؟ قال: "نعم! بك ينشبون الحرب"

(4)

وقال أيضًا عمر [بن الخطاب] لابن عباس: كيف يختلفون وإلَههم واحد وكتابهم واحد وملتهم

(5)

واحدة؟ فقال: إنه سيجيء قوم لا يفهمون القرآن كما نفهما

(6)

، فيختلفون فيه فإذا اختلفوا فيه اقتتلوا. فأقرّ عمر بن الخطاب بذلك.

وقال أيضًا: حدثنا أبو نعيم، حدثنا سعيد بن عبد الرحمن - أخو أبي حمزة - حدَّثنا محمد بن سيرين قال:

لما قتل عثمان قال عدي بن حاتم: لا ينتطح في قتله عنزان

(7)

فلما كان يوم صفين فقئت عينه فقيل: لا ينتطح في قتله عنزان

(8)

، فقال: بلى وتُفقأ عيون كثيرة.

وروي عن كعب الأحبار أنه مر بصفين فرأى حجارتها فقال: لقد اقتتل في هذا الموضع بنو إسرائيل تسع مرات، وإن العرب ستقتتل فيها العاشرة، حتى يتفاذفوا بالحجارة التي تقاذف بها

(9)

بنو إسرائيل ويتفانوا كما تفانوا.

(1)

في الأصل والمطبوع: التميمي، وهو خطأ، صوابه: التيمي.

(2)

في ط: إذا راعيتم جيلين.

(3)

في أ: قالوا.

(4)

في ط: يفتنون وقال.

(5)

في أ: وقبلتهم.

(6)

في أ: نفهم.

(7)

هذا المثل في معجم الأمثال العربية لرياض مراد (نطح - عنز) وفيه المصادر القديمة التالية: الفاخر (312) ومجمع الأمثال (2/ 225) وجمهرة الأمثال (2/ 376 و 403) والمستقصى (2/ 277).

(8)

في أ: فقيل له ينتطح في قتله عنزان قال.

(9)

في ط: فيها.

ص: 468

وقد ثبت في الحديث

(1)

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "سألت ربي أن لا يهلك أمتي بسنة عامة فأعطانيها، وسألته أن لا يسلط عليهم عدوًا من غيرهم

(2)

فيستبيح بيضتهم فأعطانيها، وسألته أن لا يسلط بعضهم على بعض فمنعنيها".

ذكرنا ذلك

(3)

عند تفسير قوله تعالى: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام: 65] قال رسول الله: هذا أهون.

‌قصة التحكيم

(4)

ثم تراوض الفريقان بعد مكاتبات ومراجعات يطول ذكرها على التحكيم، وهو أن يحكم كل واحد من الأميرين - علي ومعاوية - رجلًا من جهته. ثم يتفق الحكمان على ما فيه المصلحة للمسلمين. فوكّل معاوية عمرو بن العاص، وأراد عليّ أن يوكل عبد الله بن عباس - وليته فعل - ولكنه منعه القُرّاء [الخوارج] ممن ذكرنا وقالوا: لا نرضى إلا بأبي موسى الأشعري.

وذكر الهيثم بن عدي

(5)

في كتاب "الخوارج": أنَّ أولَ من أشار بأبي موسى الأشعري الأشعث بن قيس، وتابعه أهل اليمن، ووصفوه أنه كان ينهى الناس عن الفتنة والقتال، وكان أبو موسى قد اعتزل في بعض أرض الحجار. قال علي: فإني أجعل الأشتر حكمًا، فقالوا: وهل سعر الحرب وسعر الأرض إلا الأشتر؟ قال: فاصنعوا ما شئتم، فقال الأحنف لعلي: والله لقد رميت بحجر، إنه لا يصلح لهؤلاء القوم إلا رجل منهم، يدنو منهم حتى يصير في أكفهم، ويبتعد حتى

(6)

يصير بمنزلة النجم، فإن أبيت أن تجعلني حكمًا فاجعلني ثانيًا أو ثالثًا، فإنه لن يعقد عقدة إلا أحلها

(7)

، ولا يحل عقدة عقدتها إلا عقدت لك أخرى مثلها أو أحكم منها. قال: فأبوا إلا أبا موسى الأشعري فذهبت الرسل إلى أبي موسى الأشعري - وكان قد اعتزل - فلما قيل له إن الناس قد اصطلحوا قال: الحمد لله، قيل له: وقد جُعلت حكمًا، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم أخذوه حتى أحضروه إلى علي رضي الله عنه وكتبوا بينهم كتابًا هذه صورتا

(8)

.

(1)

الحديث رواه سعد بن أبي وقاص وأخرجه أحمد في المسند (1/ 181 - 182) ومسلم في صحيحه (2890)(20) في الفتن.

(2)

في ط: من سواهم.

(3)

تفسير ابن كثير (2/ 141).

(4)

العنوان ساقط من أ ومكانه فيها: قال.

(5)

في أ: الهيثم بن علي؛ خطأ.

(6)

في أ: رجل يدنو منهم حتى يصير في أكفهم ويبعد عنهم حتى.

(7)

في أ: إلا حللتها.

(8)

صورة الكتاب في تاريخ الطبري (5/ 53 - 54).

ص: 469

بسم الله الرحمن الرحيم: هذا ما قاضى

(1)

عليه علي بن أبي طالب أمير المؤمنين، فقال عمرو بن العاص: اكتب اسمه واسم أبيه، هو أميركم وليس بأميرنا، فقال الأحنف: لا تكتب إلا أمير المؤمنين، فقال علي: امح أمير المؤمنين

(2)

واكتب هذا ما قاضى عليه علي بن أبي طالب ثم استشهد علي بقصة

(3)

الحديبية حين امتنع أهل مكة [من قوله]"هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله" فامتنع المشركون من ذلك وقالوا: اكتب هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله، فكتب الكاتب: هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان، فاضى عليّ على أهل العراق ومنْ معهم من شيعتهم والمسلمين، وقاضى معاوية على أهل الشام ومنْ كان معه من المؤمنين والمسلمين، إنا ننزل عند حكم الله وكتابه ونحيي ما أحيى الله عز وجل، ونميت ما أمات الله، فما وجد الحكمان في كتاب الله - وهما أبو موسى الأشعري وعمرو بن العاص - عملا به، وما لم يجدا في كتاب الله فالسنة العادلة الجامعة غير المتفرقة

(4)

.

ثم أخذ الحكمان من علي ومعاوية ومن الجندين العهود والمواثيق أنهما

(5)

آمنان على أنفسهما وأهلهما، والأمة لهما أنصار على الذي يتقاضيان عليا

(6)

، وعلى المؤمنين والمسلمين من الطائفتين كليهما عهد الله وميثاقه أنهما على ما في هذه الصحيفة، وأجَّلا القضاء إلى رمضان، وإن أحبّا أن يؤخِّرا ذلك على تراضٍ منهما، وكتب في يوم الأربعاء لثلاث عشرة خلت من صفر سنة سبع وثلاثين، على أن يوافي علي ومعاوية موضع الحكمين بدومة الجندل في رمضان، ومع كل واحد من الحكمين أربعمئة من أصحابه، فإن لم يجتمعا لذلك اجتمعا من العام المقبل بأذرح، وقد ذكر الهيثم [بن عدي] في كتابه في الخوارج أنَّ الأشعث بن قيس لما ذهب إلى معاوية بالكتاب وفيه: هذا ما قاضى عبد الله علي أمير المؤمنين ومعاوية بن أبي سفيان.

قال معاوية: لو كان أمير المؤمنين لم أقاتله، ولكن ليكتب اسمه، وليبدأ به قبل اسمي لفضله وسابقته، فرجع إلى علي فكتب كما قال معاوية.

وذكر الهيثم: أن أهل الشام أبوا أن يبدؤوا

(7)

باسم علي قبل معاوية، وباسم أهل العراق قبلهم، حتى كُتب كتابان، كتاب لهؤلاء فيه تقديم معاوية على علي، وكتاب (آخر لأهل العراق بتقديم اسم علي

(1)

في أ: تقاضي.

(2)

في أ: امحه واكتب.

(3)

في أ: بقضية.

(4)

في أ: المفرقة.

(5)

في أ: ومن الجندين العهود والمواثيق على أنهما.

(6)

في أ: لهما أنصارًا على الذي يتقاضيان عليه ويتفقان.

(7)

في ط: يبدأ.

ص: 470

وأهل العراق على معاوية وأهل الشام)

(1)

وهذه تسمية من شهد على هذا التحكيم

(2)

من جيش علي: عبد الله بن عباس، والأشعث بن قيس الكندي، وسعيد

(3)

بن قيس الهمداني، وعبد الله بن الطفيل (المعافري)، وحجر بن عدي

(4)

الكندي، وورقاء بن سمي العجلي، وعبد الله بن بلال العجلي، وعقبة بن زياد الأنصاري، ويزيد بن جحفة التميمي، ومالك بن كعب الهمداني، فهؤلاء عشرة.

وأما من الشاميين فعشرة آخرون، وهم: أبو الأعور السُّلمي، وحبيب بن مسلمة، وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد، ومخارق بن الحارث الزبيدي، ووائل بن علقمة

(5)

العدوي، وعلقمة بن يزيد الحضرمي، وحمزة بن مالك الهمداني، وسُبيع

(6)

بن يزيد الحضرمي، وعتبة بن أبي سفيان أخو معاوية، ويزيد بن الحُرّ العبسي.

وخرج الأشعث بن قيس بذلك الكتاب يقرؤه على الناس ويعرضه على الطائفتين. ثم شرع الناس في دفن قتلاهم.

قال الزُّهري: بلغني أنه كان يدفن

(7)

في كل قبر خمسون نفسًا، وكان علي قد أسر جماعة من أهل الشام، فلما أراد الانصراف [عن صفين] أطلقهم، وكان مثلهم أو قريبًا منهم [قد أسرهم أهل الشام] وكان معاوية قد عزم

(8)

على قتلهم لظنه أنه

(9)

قد قتل أسراهم، فلما جاءه أولئك الذين أطلقهم

(10)

أطلق معاوية الذين في يده، ويقال إن رجلًا يقال له عمرو بن أوس - من الأزد - كان من الأسارى فأراد معاوية قتله فقال: امنن علي فإنك خالي، فقال له: ويحك! من أين أنا خالك؟ فقال: إن أم حبيبة زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي أم المؤمنين وأنا ابنها وأنت أخوها فأنت خالي، فأعجب ذلك معاوية وأطلقه.

وقال عبد الرحمن بن زياد بن أنعم - وذكر أهل صفين - فقال: كانوا عربًا يعرف بعضهم بعضًا في الجاهلية فالتقوا في الإسلام معهم على

(11)

الحمية وسنة الإسلام، فتصابروا واستحيوا من الفرار، وكانوا إذا احتجزوا دخل هؤلاء في عسكر هؤلاء، (وهؤلاء في عسكر هؤلاء) فيستخرجون قتلاهم فيدفنوهم وقال الشعبي: هم أهل الجنة، لقي بعضهم بعضًا فلم يفر أحد من أحد.

(1)

مكان القوسين في أ: لهؤلاء بما أرادوا.

(2)

في أ: الكتاب والتحكيم.

(3)

في أ: وسعد؛ وما هنا موافق للطبري.

(4)

في ط: يزيد؛ خطأ.

(5)

في أ: بن عمر؛ وهذا الاسم غير موجود في الطبري.

(6)

في أ: وشبيبة؛ خطأ وما هنا موافق للطبري.

(7)

في ط: أنه دفن في.

(8)

في ط: قريب منهم في يد معاية وكان قد عزم على قتلهم.

(9)

في أ: لظنه أن عليًا.

(10)

في أ: أطلقهم علي.

(11)

في أ: بتلك الحمية ونهية الإسلام.

ص: 471

[ذكر] خروج الخوارج

وذلك أن الأشعث بن قيس مرَّ على ملأ من بني تميم فقرأ عليهم الكتاب فقام إليه عروة بن أذينة وهي أمه وهو عروة بن جرير من بني ربيعة بن حنظلة وهو أخو أبي بلال (بن) مرداس بن جرير فقال: أتحكمون في دين الله الرجال؟ ثم ضرب بسيفه عجزَ دابة الأشعث بن قيس، فغضب الأشعث وقومه، وجاء الأحنف بن قيس وجماعة من رؤسائهم

(1)

يعتذرون إلى الأشعث (بن قيس) من ذلك، قال الهيثم بن عدي: والخوارج يزعمون أن أول من حكم عبد الله بن وهب الراسبي.

(قلت): والصحيح الأول وقد أخذ هذه الكلمة من هذا الرجل

(2)

طوائف من أصحاب علي من القراء وقالوا: لا حكم إلا لله، فسُمُّوا المُحكَّمية. وتفرَّق الناسُ إلى بلادهم من صفين. وخرج معاوية إلى دمشق بأصحابه، ورجع علي إلى الكوفة على طريق هيت فلما دخل الكوفه

(3)

سمع رجلًا يقول: ذهب علي ورجع في غير شيء. فقال علي: لَلَّذين فارقناهم [آنفًا] خيرٌ من هؤلاء، وأنشأ يقول

(4)

: [من الطويل]

أخوك الذي إنْ أحْرَجَتْك

(5)

مُلِمَّةٌ

منَ الدَّهْرِ لم يَبْرح لبثِّك راحما

(6)

وليس أخوك بالذي إن تَشَعَّبَتْ

عليك أمورٌ

(7)

ظلَّ يلحاكَ لائما

ثم مضى فجعل يذكر الله حتى دخل قصر الإمارة من الكوفة، ولما كان قد قارب دخول الكوفة اعتزل

(8)

من جيشه قريبٌ من - اثني عشر ألفًا - وهم الخوارج، وأبوا أن يساكنوه في بلده، ونزلوا

(9)

بمكان يقال له حروراء وأنكروا عليه أشياء فيما يزعمون (أنه) ارتكبها، فبعث إليهم عليُّ رضي الله عنه عبدَ الله بن عباس فناظرهم فرجع أكثرُهم وبقي بقيتهم، فقاتلهم عليُّ بن أبي طالب وأصحابه كما سيأتي بيانه (وتفصيله) قريبًا إن شاء الله تعالى.

والمقصود أن هؤلاء الخوارج (هم) المشار إليهم في الحديث المتفق على صحته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(1)

في أ: من رؤساء بني تميم.

(2)

في أ: عن الرجل.

(3)

في أ: من صفين فرجع علي إلى الكوفة على طريق هيت ورجع معاوية إلى الشام بأصحابه فلما دخل علي الكوفة ..

(4)

البيتان في تاريخ الطبري (5/ 63).

(5)

في أ: أجر ستك.

(6)

في الطبري: واجمًا.

(7)

في أ: وليس أخًا لك بالذي قد تشعبت عليك الأمور.

(8)

في أ: انخزل.

(9)

في أ: فنزلوا.

ص: 472

"قال تمرقُ مارقةٌ على حين فرقة من الناس - وفي رواية من المسلمين، وفي رواية من أمتي - فيقتلها أولى الطائفتين"

(1)

. وهذا الحديث له طرق متعددة وألفاظ كثيرة.

قال الإمام أحمد

(2)

: حدَّثنا وكيع وعفان

(3)

حدَّثنا القاسم بن الفضل، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تمرق مارقة عند فرقة من المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين بالحق" ورواه مسلم

(4)

عن شيبان بن فَرُّوخ، عن القاسم بن الفضل

(5)

، به.

وقال أحمد

(6)

: حدَّثنا أبو عوانة، عن قتادة، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:

"تكون أمتي فرقتين تخرج بينهما مارقة تلي قتلها أولاهما".

ورواه مسلم

(7)

من حديث قتادة وداود

(8)

بن أبي هند عن أبي نضرة به.

وقال أحمد

(9)

: حدَّثنا ابن أبي عدي، عن سليمان، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر قومًا يكونون في أمته يخرجون في فرقة من الناس، سيماهم التحليق:"هم شر الخلق - أو من شر الخلق - يقتلهم أدنى الطائفتين من الحق". قال أبو سعيد: فأنتم قتلتموهم يا أهل العراق.

وقال أحمد

(10)

: حدَّثنا محمد بن جعفر، حدَّثنا عوف

(11)

، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد (الخدري). قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

"تفترق أمتي فرقتين فتمرق بينهما مارقة فيقتلها

(12)

أولى الطائفتين بالحق" ورواه [أيضًا] عن يحيى القطان عن عوف

(13)

الأعرابي به مثله.

(1)

في أ: وفي رواية: أولى طائفتين بالحق.

(2)

مسند الإمام أحمد (3/ 32 و 97).

(3)

في ط: وعفان بن القاسم بن الفضل؛ خطأ. وما هنا عن (أ) والمسند.

(4)

صحيح مسلم (1065)(150) في الزكاة.

(5)

في ط: "محمد" خطأ، وما هنا يعضده ما في صحيح مسلم، ولا نعرف ليبان بن فروخ رواية عن رجل اسمه القاسم بن محمد، وروايته عن القاسم بن الفضل الحداني ثابتة في تهذيب الكمال (12/ 599).

(6)

مسند الإمام أحمد (3/ 45) وفي سنده: حدَّثنا بهز، حدَّثنا أبو عوانة. وفي متنه: أولاهما بالحق.

(7)

صحيح مسلم (1065)(151 و 152) في الزكاة.

(8)

في أ: عن قتادة عن داود بن أبي هند؛ خطأ، بل هما طريقان عند مسلم ذكرناهما آنفًا.

(9)

مسند الإمام أحمد (3/ 5) وأخرجه مسلم رقم (1065).

(10)

مسند الإمام أحمد (3/ 79) وهو حديت صحيح.

(11)

في أ: عون؛ تحريف.

(12)

في أ: فتقتلها، وما هنا كالمسند.

(13)

في أ: عون، تحريف، وإنما هو عوف بن أبي جميلة العبدي، المعروف بالأعرابي. من رجال التهذيب.

ص: 473

فهذه طرق متعددة عن أبي نضرة المنذر بن مالك بن قُطَعَة العبدي، وهو أحد الثقات الرفعاء.

ورواه مسلم

(1)

أيضًا من حديث سفيان الثوري، عن حبيب بن أبي ثابت، عن الضحاك المشرقي، عن أبي سعيد بنحوه.

فهذا الحديث من دلائل النبوة، إذ قد وقع الأمر طبق ما أخبر به عليه الصلاة والسلام، وفيه الحُكْمُ بإسلام الطائفتين أهل الشام وأهل العراق، لا كما تزعما

(2)

فرقة الرافضة والجهلة الطغام

(3)

، من تكفيرهم أهل الشام، وفيه أن أصحاب علي أدنى الطائفتين إلى الحق، وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة أن عليًا هو المصيب وإن كان معاوية مجتهدًا [في قتاله له وقد أخطأ فهو] مأجور إن شاء الله، ولكن علي هو الإمام [المصيب] فله أجران [إن شاء الله تعالى] كما ثبت في صحيح البخاري

(4)

(من حديث عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:)"إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر" وسيأتي بيان كيفية قتال (علي رضي الله عنه للخوارج، وصفة المخدج الذي أخبر عنه عليه السلام فوجد كما أخبر ففرح بذلك علي رضي الله عنه وسجد شكرًا لله عز وجل

(5)

.

‌فصل

قد تقدم أن عليًا رضي الله عنه لما رجع من الشام بعد وقعة صفين، ذهب إلى الكوفة، فلما دخلها انعزل

(6)

عنه طائفة من جيشه، قيل ستة عشر ألفًا وقيل اثني عشر ألفًا، وقيل أقل من ذلك، فباينوه وخرجوا عليه وأنكروا [عليه] أشياء، فبعث إليهم (عبد الله) بن عباس فناظرهم فيها ورد عليهم ما توهموه شبهة، ولم يكن له حقيقة (في نفس الأمر)، فرجع بعضهم واستمر بعضهم على ضلالهم

(7)

حتى كان منهم ما سنورده قريبًا [إن شاء الله]، ويقال إن عليًا رضي الله عنه ذهب إليهم فناظرهم (فيما نقموا عليه) حتى استرجعهم عما كانوا عليه، ودخلوا معه الكوفة، ثم إنهم عاهدوا فنكثوا ما عاهدوا عليه وتعاهدوا

(8)

فيما بينهم على القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والقيام على الناس في ذلك ثم تحيزوا إلى موضع يقال له النهروان، وهناك قاتلهم

(9)

علي كما سيأتي.

(1)

صحيح مسلم (1065)(153) في الزكاة.

(2)

في أ: تزعمه.

(3)

في أ: أهل الجهل والجور.

(4)

صحيح البخاري (7352) في الاعتصام، وأوله: إذا حكم الحاكم فاجتهد ..

(5)

في ط: للشكر.

(6)

في أ: اعتزله.

(7)

في أ: على ضلالة.

(8)

في أ: عادوا فنكثوا ما عاهدوه عليه وتعاقدوا.

(9)

في أ: ثم تحيزوا لناحية إلى مكان يقال له النهروان وفيه قاتلهم.

ص: 474

قال الإمام أحمد

(1)

: حدَّثنا إسحاق بن عيسى الطّباع، حدَّثني يحيى بن سليم، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن عبيد الله

(2)

بن عياض بن عمرو القارئ قال: جاء عبد الله بن شدَّاد فدخل على عائشة ونحن عندها مرجعه من العراق ليالي قُتل

(3)

علي، فقالت: له يا عبد الله بن شداد هل أنت صادقي عما أسألك عنه؟ حدِّثني

(4)

عن هؤلاء القوم الذي قتلهم علي، فقال: وما لي لا أصدقك؟ قالت: فحدثني عن قصتهم، قال: فإن عليًا لما كاتب معاوية وحكَّم الحكمين خرج عليه ثمانية آلاف من قُراء الناس فنزلوا بأرضٍ يقال لها حروراء من جانب الكوفة، وأنهم عتبوا عليه فقالوا: انسلخت من قميصٍ ألبَسَكهُ اللهُ، واسمٍ سمّاك له اللهُ ثم انطلقت فحكمت في دين الله ولا حكم إلا لله، فلما أن بلغ عليًا ما عتبوا عليه وفارقوه عليه، أمر فأذن مؤذن أن لا يدخل على أمير المؤمنين (رجل) إلا رجلًا قد حمل القرآن، فلما (أن) امتلأت الدار من قراء الناس دعا بمصحف إمام عظيم فوضعه بين يديه فجعل يصكه بيده ويقول: أيها المصحفّ حدث الناس فناداه الناس (فقالوا) يا أمير المؤمنين ما تسأل عنه إنما هو مداد في ورق، ونحن نتكلم بما روينا منه، فماذا تريد؟ قال: أصحابكم هؤلاء الذين خرجوا بيني وبينهم كتاب الله، يقول الله تعالى في كتابه في امرأة ورجل:{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35] فأمة محمد صلى الله عليه وسلم أعظم دمًا وحرمة من امرأة ورجل، ونقموا عليَّ أن كاتبت معاوية كثبت علي بن أبي طالب، و (قد) جاءنا سهيل بن عمرو ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية حين صالح قومه قريشًا فَكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم بسم الله الرحمن الرحيم، فقال سهيل: لا أكتب بسم الله الرحمن الرحيم، قال: كيف تكتب؟ قال: أكتب باسمك اللهم! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اكتب" فكتب، فقال:"اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله" فقال: لو أعلم أنك رسول الله لم أخالفك، فكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله قريشًا، يقول الله تعالى في كتابه:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} [الأحزاب: 21] فبعث إليهم عبد الله بن عباس فخرجت معه حتى إذا توسطت عسكرهم فقام ابن الكوا فخطب الناس فقال يا حملة القرآن هذا عبد الله بن عباس فمن لم يكن يعرفه فأنا أعرفه ممن يخاصم في كتاب الله بما لا يعرفه، هذا ممن نزل فيه وفي قومه {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف: 58] فردوه إلى صاحبه ولا تواضعوه كتاب الله، فقال بعضهم: والله لنواضعنه فإن جاء بحق نعرفه لنتبعنه وإن جاء بباطل لنكبتنه بباطله، فواضعوا عبد الله الكتاب ثلاثة أيام، فرجع منهم أربعة آلاف كلهم تائب، منهم ابن الكوا، حتى أدخلهم على علي

(1)

مسند أحمد (1/ 86).

(2)

في أ، ط: عبد: خطأ.

(3)

في أ، ط: قبل، تحريف.

(4)

في ط: فحدثني.

ص: 475

الكوفة، فبعث علي إلى بقيتهم فقال: قد كان من أمرنا وأمر الناس ما قد رأيتم، فقفوا حيث شئتم حتى تجتمع أمة محمد صلى الله عليه وسلم بيننا وبينكم أن لا تسفكوا دمًا حرامًا أو تقطعوا سبيلًا أو تظلموا

(1)

ذمة فإنكم إن فعلتم فقد نبذنا إليكم الحرب على سواء: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال: 58] فقالت له عائشة: يا بن شداد فقتلهم فقالوا والله ما بعثت إليهم حتى قطعوا السبيل وسفكوا الدماء واستحلوا أهل الذمة، فقالت آلله، قال: الله الذي لا إله إلا هو قد كان ذلك، قالت: فما شيء بلغني

(2)

عن أهل العراق يقولون ذو الثدي وذو الثدية؟ قال: قد رأيته وكنت مع علي في القتلى

(3)

فدعا الناس فقال: أتعرفون هذا؟ فما أكثر من جاء يقول: قد رأيته في مسجد بني فلان [يصلي ويقرأ] ورأيته في مسجد بني فلان يصلي ولم يأتوا فيه بثبت يعرف إلا ذلك. قالت: فما قول علي حين قام عليه كما يزعم أهل العراق؟ قال سمعته يقول صدق الله ورسوله قالت: هل سمعت منه أنه قال غير ذلك؟ قال: اللهم لا! قالت أجل! صدق الله ورسوله، يرحم الله عليا إنه كان لا يرى شيئًا يعجبه إلا قال صدق الله ورسوله، فيذهب أهل العراق يكذبون عليه ويزيدون عليه في الحديث.

تفرد به أحمد وإسناده صحيح، واختاره الضياء، ففي هذا السياق ما يقتضي أن عدتهم كانت

(4)

ثمانية آلاف، لكن من القُرَّاء، وقد يكون واطأهم على مذهبهم آخرون من غيرهم حتى بلغوا اثني عشر ألفا، أو ستة عشر ألفًا. ولمّا ناظرهم ابن عباس رجع منهم أربعة آلاف وبقي بقيتهم على ما هم عليه.

وقد رواه يعقوب بن سفيان، عن موسى بن مسعود، عن عكرمة بن عمار، عن سماك أبي

(5)

زميل، عن ابن عباس فذكر القصة وأنهم عتبوا عليه في كونه حكَّم الرجال، وأنه محا اسمه من الإمرة، وأنه غزا يوم الجمل فقتل الأنفس الحرام ولم يقسم الأموال والسبي، فأجاب عن الأولين بما تقدم، وعن الثالث بأن قال: قد كان في السبي أم المؤمنين [عائشة] فإن قلتم ليست لكم بأم فقد كفرتم، وإن استحللتم سبي أمكم

(6)

فقد كفرتم. قال: فرجع منهم ألفان وخرج سائرهم فتقاتلوا. وذكر غيره أن ابن عباس لبس حلة لما دخل

(7)

عليهبم، فناظروه في لبسه إياها، فاحتج بقوله تعالى:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32] الآية

(1)

في أ: ولا تظلموا.

(2)

في أ: فإنني بلغني.

(3)

في مسند أحمد: وقمت مع علي عليه في القتلى.

(4)

في ط: كانوا.

(5)

في أ: "سماك بن زميل". خطأ، فهو أبو زميل سماك بن الوليد الحنفي، من رجال التهذيب.

(6)

في ط: أمهاتكم.

(7)

في أ: لما خرج إليهم.

ص: 476

وذكر ابن جرير

(1)

: أن عليًا خرج بنفسه إلى بقيتهم فلم يزل يناظرهم حتى رجعوا معه إلى الكوفة وذلك يوم عيد الفطر أو الأضحى شك الراوي في ذلك، ثم جعلوا يعرضون

(2)

له في الكلام ويسمعونه شتمًا ويتأولون بتأويل في أقواله

(3)

.

قال الشافعي رحمه الله: قال رجل من الخوارج لعلي وهو في الصلاة: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65] فقرأ علي: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} [الروم: 60].

وقد ذكر ابن جرير

(4)

أن هذا [الكلام إنما قاله] وعلي في الخطبة [لا في الصلاة]. وذكر ابن جرير أيضًا أن عليًا بينما هو يخطب يومًا إذ قام إليه رجل من الخوارج فقال: يا علي أشركت في دين الله الرجال ولا حكم إلَّا لله، فتنادوا من كل جانب لا حكم إلَّا لله، لا حكم إلَّا لله، فجعل علي يقول: هذه كلمة حق يراد

(5)

بها باطل، ثم قال: إن لكم علينا أن لا نمنعكم فيئًا ما دامت أيديكم معنا، وأن لا نمنعكم مساجد الله، وأن لا نبدأكم بالقتال حتى تبدؤونا ثم إنهم خرجوا بالكلية عن الكوفة وتحيزوا إلى النهروان على ما سنذكره بعد حكم الحكمين.

‌اجتماع الحكمين أبي موسى

(6)

وعمرو بن العاص بدومة الجندل

و [كان] ذلك في شهر رمضان كما تشارطوا عليه وقت التحكيم بصفين، وقال الواقدي

(7)

: اجتمعوا في شعبان. وذلك أن عليًا رضي الله عنه لما كان مجيء رمضان بعث أربعمئة فارس مع شريح بن هانئ، ومعهم أبو موسى، وعبد الله بن عباس، وإليه الصلاة، وبعث معاوية عمرو بن العاص في أربعمئة فارس من أهل الشام ومنهم عبد الله بن عمرو

(8)

، فتوافوا بدومة الجندل بأذرح - وهي نصف [المسافة] بين الكوفة والشام، بينها وبين كل من البلدين تسع مراحل - وشهد [ذلك] معهم جماعة من رؤوس الناس، كعبد الله بن عمر [بن الخطاب]، وعبد الله بن الزُّبير، والمغيرة بن شعبة،

(1)

تاريخ الطبري (5/ 72).

(2)

في أ: ثم جعلوا بعد ذلك يعرضون له.

(3)

في ط: قوله.

(4)

تاريخ الطبري (5/ 73).

(5)

في أ أريد، وفي تاريخ الطبري: يلتمس.

(6)

في أ صفة اجتماع الحكمين وهما أبو موسى الأشعري.

(7)

تاريخ الطبري (71/ 5).

(8)

في ط: بن عمر؛ خطأ.

ص: 477

وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي، وعبد الرحمن بن عبد يغوث الزهري وأبي جهم بن حذيفة. وزعم بعض الناس أن سعد بن أبي وقاص شهدهم (أيضًا)، وأنكر حضوره آخرون.

وقد ذكر ابن جرير

(1)

: أن عمر بن سعد خرج إلى أبيه وهو على ماء لبني سليم بالبادية معتزل؛ فقال يا أبة: قد بلغك ما كان من الناس بصفين، وقد حكم الناس أبا موسى الأشعري وعمرو بن العاص، وقد شهدهم نفر من قريش، فاشهدهم فإنك صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحد أصحاب الشورى ولم تدخل في شيء كرهته هذه الأمة فاحضر إنك أحق الناس بالخلافة. فقال: لا أفعل! إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنه ستكون فتنة خير الناس فيها الخفي التقي" والله لا أشهد شيئًا من هذا الأمر أبدًا.

وقد قال الإمام أحمد

(2)

: حدَّثنا أبو بكر الحنفي عبد الكبير بن عبد المجيد، حدَّثنا بكير

(3)

بن مسمار، عن عامر بن سعد أن أخاه عمر انطلق إلى سعد في غنم له خارجًا [من المدينة فلما رآه سعد قال: أعوذ بالله من شر هذا الراكب، فلما أتاه حدَّثنا: يا أبة أرضيت أن تكون أعرابيًا في غنمك والناس يتنازعون في الملك بالمدينة؟ فضرب سعد صدر عمر وقال: اسكت فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي".

وهكذا رواه مسلم في صحيحه

(4)

.

وقال أحمد

(5)

(أيضًا): حدَّثنا عبد الملك بن عمرو، حدَّثنا كثير بن زيد الأسلمي، عن المطلب، عن عمر بن سعد، عن أبيه أنه جاءه ابنه عامر فقال: يا أبة: الناس يتقاتلون

(6)

على الدنيا وأنت هاهنا

(7)

؟ فقال: يا بني أفي الفتنة تأمرني أن أكون رأسًا؟ لا والله حتى أعطى سيفًا إن ضربت به مؤمنًا نبا عنه وإن ضربت به كافرًا قتله، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إن الله يحب الغني الخفي التقي". وهذا السياق كان عكس الأول، والظاهر أن عمر بن سعد استعان بأخيه عامر على أبيه ليشير عليه أن يحضر أمر التحكيم لعلهم يعدلون عن معاوية وعلي ويولونه؛ فامتنع سعد من ذلك وأباه أشد الإباء، وقنع بما هو فيه من الكفاية والخفاء، كما ثبت في صحيح مسلم

(8)

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قد أفلح من أسلم ورزق كفافا وقنعه الله بما آتاه" وكان عمر بن سعد هذا يحب [الدنيا و] الإمارة، فلم يزل ذلك دأبه حتى كان هو أمير

(1)

تاريخ الطبري (5/ 67).

(2)

مسند الإمام أحمد (1/ 168).

(3)

في الأصل والمطبوع: بكر، والتصحيح من مسند أحمد.

(4)

صحيح مسلم (2965)(11) في الزهد والرقائق.

(5)

مسند الإمام أحمد (1/ 177).

(6)

في ط: يقاتلون.

(7)

قوله: "يا أبة: الناس يتقاتلون على الدنيا وأنت هاهنا" ليست في مسند الإمام أحمد.

(8)

صحيح مسلم (1054)(125) في الزكاة.

ص: 478

السرية

(1)

التي قتلت الحسين بن علي رضي الله عنه كما سيأتي بيانه في موضعه، ولو قنع بما كان أبوه عليه لم يكن شيء من ذلك، والله أعلم.

والمقصود أن سعدًا رضي الله عنه لم يحضر أمر التحكيم ولا أراد ذلك ولا همَّ به، وإنما حضره من ذكرنا. فلما اجتمع الحكمان تراوضا على المصلحة للمسلمين، ونظرا في تقدير أمور ثم اتفقا على أن يعزلا عليًا ومعاوية ثم يجعلا الأمر شورى بين الناس ليتفقوا على الأصلح لهم منهما أو من غيرهما، وقد أشار أبو موسى بتولية عبد الله بن عمر بن الخطاب، فقال له عمرو: فولِّ ابني عبد الله فإنه يقاربه في العلم والعمل والزهد. فقال له أبو موسى: إنك قد غمست ابنك في الفتن [والدنيا] معك، وهو مع ذلك رجل صدق.

قال أبو مخنف

(2)

: فحدَّثني محمد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال عمرو بن العاص: إن هذا الأمر لا يصلحه إلا رجل له ضرس يأكل ويطعم. وكان ابن عمر فيه غفلة، فقال له ابن الزُّبير: افطن وانتبه، فقال ابن عمر: لا والله لا أرشو عليها شيئًا أبدًا، ثم قال: يا ابن العاص إن العرب قد أسندت إليكَ أمرَها بعدما تقارعت بالسيوف، وتشاكت

(3)

بالرماح، فلا تردنهم في فتنة مثلها أو أشدّ منها، ثم إن عمرو بن العاص حاول أبا موسى على أن يقر معاوية وحده على الناس فأبى عليه، ثم حاوله ليكون ابنه عبد الله (بن عمرو) هوالخليفة، فأبى أيضًا، وطلب أبو موسى من عمرو أن يوليا عبد الله بن عمر [بن الخطاب] فامتنع

(4)

عمرو أيضًا، ثم اصطلحا على أن يخلعا معاوية وعليًا ويتركا الأمر شورى بين الناس ليتفقوا على منْ يختاروه

(5)

لأنفسهم، ثم جاءا إلى المجمع الذي فيه الناس - وكان عمرو لا يتقدم بين يدي أبي موسى، بل يقدمه في كل الأمور أدبًا وإجلالًا - فقال له: يا أبا موسى قم فأعلم الناس بما اتفقنا عليه، فخطب أبو موسى الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم صلَّى على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: أيها الناس إنا قد نظرنا في أمر هذه الأمة فلم نر أمرًا أصلحَ لها ولا ألمَّ لشعثها من رأي [قد] اتفقت أنا وعمرو عليه، وهو أنّا نخلعُ عليًا ومعاوية ونتركُ الأمر شورى، وتستقبلُ الأمةُ هذا الأمر فيولوا عليهم من أحبوه [واختاروه] وإني قد خلعت عليًا ومعاوية. ثم تنحَّى، وجاء عمرو فقام مقامه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن هذا [قد] قال ما [قد] سمعتم، وإنه قد خلعَ صاحبه، وإني قد خلعته [أيضًا] كما خلعه ؤأثبتُّ صاحبي معاويةَ فإنَّه وليّ عثمان بن عفان، والطالب بدمه، وهو أحق الناس بمقامه - وكان عمرو (بن العاص) رأى [من المصلحة] أن ترك الناس بلا إمام والحالة هذه يؤدي إلى مفسدة طويلة

(1)

في أ: كان من السرية.

(2)

تاريخ الطبري (5/ 69).

(3)

في تاريخ الطبري: وتناجزت الرماح.

(4)

في أ: فأبى.

(5)

كذا في أ، ط وفيها مخالفة للسياق النحوي.

ص: 479

عريضة أربى

(1)

مما الناس فيه من الاختلاف، فأقرَّ معاوية لما رأى [في] ذلك من المصلحة، [فاجتهد] والاجتهاد يخطئ ويصيب. ويقال إن أبا موسى تكلّم معه

(2)

بكلام فيه غلظة ورد عليه عمرو بن العاص مثله.

وذكر (ابن جرير)

(3)

: أن شريح بن هانئ - مقدم جيش علي - وثب على عمرو بن العاص فضربه بالسوط وقام إليه ابنٌ لعمرو فضربه (بالسوط)، وتفرق الناس في كل وجه إلى بلادهم، فأما عمرو وأصحابه فدخلوا على معاوية فسلموا عليه بتحية الخلافة، وأما أبو موسى فاستحى من علي فذهب إلى مكة، ورجع ابن عباس وشريح بن هانئ إلى علي فأخبراه بما فعل أبو موسى وعمرو، فاستضعفوا رأي أبي موسى وعرفوا أنه لا يوازن عمرو بن العاص.

فذكر أبو مخنف

(4)

، عن أبي جناب

(5)

الكلبي أن عليًا لما بلغه ما فعل عمرو كان يلعن في قنوته معاوية، وعمرو (بن العاص)

(6)

، وأبا الأعور السلمي، وحبيب بن مسلمة، والضحاك بن قيس، وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد، والوليد بن عقبة

(7)

، فلما بلغ ذلك معاوية كان يلعن في قنوته عليًا وحسنًا وحسينًا وابن عباس والأشتر (النخعي)، ولا يصح هذا [عنهم رضي الله عنهم] والله أعلم.

فأما الحديث الذي قال البيهقي في "الدلائل"

(8)

: أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان، أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار، حدَّثنا إسماعيل بن الفضل، حدَّثنا قتيبة بن سعيد، عن جرير، عن زكريا بن يحيى، عن عبد الله بن يزيد، وحبيب بن يسار، عن سويد بن غفلة قال:

إني لأمشي مع علي بشط

(9)

الفرات فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن بني إسرائيل اختلفوا فلم يزل اختلافهم بينهم حتى بعثوا

(10)

حكمَيْن فَضَلَّا وأضَلا، وإن هذه الأمة ستختلف؛ فلا يزال اختلافهم بينهم حتى يبعثوا حكمين فيَضلان ويُضِلان من اتبعهما" فإنه حديث منكر ورفعه موضوع، والله أعلم. إذ لو كان هذا معلومًا عند علي لم يوافق على تحكيم الحكمين حتى لا يكون سببًا لإضلال الناس، كما نطق به

(1)

في أ: أعظم.

(2)

في أ: مع عمرو.

(3)

تاريخ الطبري (5/ 71).

(4)

تاريخ الطبري (5/ 71).

(5)

في الأصل والمطبوع: عن أبي حباب، والتصحيح من كتب الرجال.

(6)

في أ: وعمرًا.

(7)

في ط: عتبة؛ تحريف.

(8)

دلائل النبوة (6/ 423).

(9)

في أ: على شط.

(10)

في أ: فلم يزل اختلافهم حتى يبعثوا حكمين فيَضلان ويُضلان.

ص: 480

هذا

(1)

الحديث. وآفة هذا الحديث هو زكريا بن يحيى وهو الكندي الحميري الأعمى قال ابن معين: ليس بشيء.

[ذكر] خروج الخوارج من الكوفة ومبارزتهم عليًا [بالعداوة والمخالفة وقتال علي إياهم وما روي في ذلك من الأحاديث]

لما بعث علي أبا موسى ومن معه من الجيش إلى دومة الجندل اشتد أمر الخوارج وبالغوا في النكير على عليّ وصرحوا بكفره، فجاء إليه رجلان منهم، وهما زرعة بن البرج (الطائي)

(2)

وحُرْقوص بن زُهير السَّعدي فقالا: لا حكم إلَّا لله، فقال علي:[نعم] لا حكم إلا لله، فقال له حرقوص: تب [إلى الله] من خطيئتك [وارجع عن قضيتك] واذهب بنا إلى عدونا حتى نقاتلهم حتى نلقى ربنا. فقال علي: قد أردتكم على ذلك فأبيتم، وقد كتبنا بيننا وبين القوم [كتابًا و] عهودًا وقد قال الله تعالى:{وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} [النحل: 91] الآية. فقال له حرقوص: ذلك ذنب ينبغي أن تتوب منه، فقال علي: ما هو بذنب ولكنه عجز من الرأي، وقد تقدمت إليكم فيما كان منه، ونهيتكم عنه، فقال له زُرْعة بن البُرْج: أما والله يا علي لئن لم تدع تحكيم الرجال في كتاب الله لأقاتلنك أطلب بذلك رحمة الله ورضوانه

(3)

، فقال علي: تبًا لك ما أشقاك! كأني بك قتيلًا تسفي عليك الريح، فقال: وددت أن قد كان ذلك، فقال له علي: إنك لو كنت محقًا كان في الموت تعزية عن الدنيا، ولكن الشيطان قد استهواكم. فخرجا من عنده يحكمان [أمرهما] وفشى فيهم ذلك، وجاهروا به الناس، وتعرضوا لعلي في خطبتة

(4)

وأسمعوه السبَّ والشتمَ والتعريضَ بآيات من القرآن، وذلك أن عليًا قام خطيبًا في بعض الجمع، فذكر أمر الخوارج فذمه وعابه. فقام جماعة منهم كل يقول لا حكم إلا لله، وقام رجل منهم وهو واضع إصبعه في أذنيه يقول:{وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65] فجعل علي يقلب يديه هكذا وهكذا وهو على المنبر ويقول: حكم الله ننتظر فيكم. ثم قال: إن لكم علينا أن لا نمنعكم [مساجدنا ما لم تخرجوا علينا، ولا نمنعنكم نصيبكم من هذا الفيء ما دامت أيديكم مع أيدينا ولا نقاتلكم] حتى تقاتلونا.

وقال أبو مخنف

(5)

عن عبد الملك بن أبي حرّة

(6)

أن عليًا لما بعث أبا موسى لإنفاذ الحكومة اجتمع

(1)

في أ: كما في هذا الحديث.

(2)

ساقطة من أ وما هنا موافق لتاريخ الطبري (5/ 72).

(3)

في أ: وجه الله ورضوانه فقال له.

(4)

في ط: خطبه.

(5)

تاريخ الطبري (5/ 74).

(6)

في ط: عن أبي حرّة.

ص: 481

الخوارج في منزل عبد الله بن وهب الرّاسبيّ فخطبهم خطبة بليغة زهدهم في هذه الدنيا ورغبهم في الآخرة والجنة، وحثهم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم قال: فأخرجوا بنا إخواننا من هذه القرية الظالم أهلها، إلى جانب هذا السواد إلى بعض كور الجبال، أو بعض هذه المدائن، منكرين لهذه الأحكام الجائرة.

ثم قام حرقوص بن زهير فقال بعد حمد الله والثناء عليه: إن المتاع بهذه الدنيا قليل، وإن الفراق لها وشيك، فلا تَدْعونَّكم زينتُها أو بهجتها إلى المقام بها، ولا تلتفت بكم

(1)

عن طلب الحق وإنكار الظلم: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 128].

فقال سنان بن حمزة الأسدي: يا قوم إن الرأيَ ما رأيتُم، وان الحق ما ذكرتم، فولوا أمركم رجلًا منكم، فإنه لابد لكم من عماد وسناد، ومن راية تحفون بها وترجعون إليها، فبعثوا إلى زيد بن حصين

(2)

الطائي - وكان من رؤوسهم - فعرضوا عليه الإمارة [عليهم] فأبى، ثم عرضوها على حرقوص (ابن زهير) فأبى، (وعرضوها على حمزة بن سنان فأبى، وعرضوها على شريح بن أبي أوفى العبسي فأبى) وعرضوها

(3)

على عبد الله بن وهب (الراسبي) فقبلها وقال: أما والله لا أقبلها رغبة في الدنيا ولا أدعها فرقًا من الموت. واجتمعوا أيضًا في بيت زيد بن حصين الطائي السنبسي فخطبهم وحثهم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتلا عليهم آيات من القرآن منها قوله تعالى:{يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26] الآية، وقوله تعالى:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] و (كذا) التي بعدها وبعدها {الظَّالِمُونَ} إلى قوله: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} ثم قال: فأشهد على أهل دعوتنا من أهل قبلتنا أنهم قد اتبعوا الهوى، ونبذوا حكم الكتاب، وجاروا في القول والأعمال، وأن جهادهم حق على المؤمنين.

فبكى

(4)

رجل منهم يقال له عبد الله بن سخبرة السُّلمي، ثم حرض أولئك على الخروج على الناس، وقال في كلامه: اضربوا وجوههم وجباههم بالسيوف حتى يطاع الرحمن الرحيم، فإن أنتم ظفرتم وأطيع الله كما أردتم أثابكم ثواب المطيعين له العاملين بأمره، وإن قتلتم فأي شيء أفضل من المصير إلى رضوان الله وجنته

(5)

.

قلت: وهذا الضرب من الناس من أغرب أشكال بني آدم، فسبحان من نوَّع خلقه كما أراد، وسبق

(1)

في أ: ولا يلفتنكم عن طلب الحق وإنكار الظلم أمير مسلط ولا سلطان غشوم.

(2)

في ط: حصن؛ خطأ.

(3)

في أ: فأبى ثم عرضوها.

(4)

في أ: قال فبكى.

(5)

في أ: أفضل من الصبر والمصير إلى الله ورضوانه وجنته.

ص: 482

في قدره العظيم

(1)

. وما أحسن ما قال بعض السلف في الخوارج إنهم المذكورون في قوله تعالى {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف: 103 - 105] والمقصود أن هؤلاء الجهلة الضلال، (والأشقياء) في الأقوال والأفعال، اجتمع رأيهم على الخروج من بين أظهر المسلمين، وتواطؤوا على المسير إلى المدائن ليملكوها (على الناس) ويتحصنوا بها ويبعثوا

(2)

إلى إخوانهم وأضرابهم - ممن هو على رأيهم ومذهبهم

(3)

، من أهل البصرة وغيرها - فيوافوهم إليها. ويكون اجتماعهم عليها. فقال لهم زيد بن حصن الطائي: إن المدائن لا تقدرون عليها، فإن بها جيشًا لا تطيقونه وسيمنعونها

(4)

منكم، ولكن واعدوا إخوانكم إلى جسر نهر جوخى

(5)

، ولا تخرجوا من الكوفة جماعات، ولكن اخرجوا وحدانًا لئلا يفطن بكم

(6)

، فكتبوا كتابًا عامًا إلى منْ هو على مذهبهم (ومسلكهم) من أهل البصرة وغيرها وبعثوا به إليهم ليوافوهم إلى [ذلك] النهر ليكونوا يدًا واحدة على الناس، ثم خرجوا يتسللون وحدانًا لئلا يعلم أحد بهم فيمنعوهم

(7)

من الخروج فخرجوا من بين الآباء والأمهات والأخوال والخالات

(8)

وفارقوا سائر القرابات، يعتقدون بجهلهم وقلة علمهم (وعقلهم) أن هذا الأمر يرضي رب الأرض والسموات، ولم يعلموا أنه من أكبر الكبائر [والذنوب] الموبقات، (والعظائم والخطيئات)، وأنه مما زينه

(9)

لهم إبليس (الشيطان الرجيم المطرود عن السموات، الذي نصب العداوة لأبينا آدم ثم لذريته ما دامت أرواحهم في أجسادهم مترددات، والله المسؤول أن يعصمنا منه بحوله وقوته إنه مجيب الدعوات)، وقد تدارك جماعة من الناس

(10)

بعض أولادهم وإخوانهم فردوهم وأنبوهم ووبخوهم

(11)

، فمنهم من استمرّ على الاستقامة، ومنهم منْ فرَّ بعد ذلك (فلحق بالخوارج فخسر إلى يوم القيامة)، وذهب الباقون إلى ذلك الموضع ووافى إليهم منْ كانوا كتبوا

(12)

إليه من أهل البصرة وغيرها، واجتمع الجميع بالنهروان وصارت

(1)

في أ: وسبق في قدره ذلك وما أحسن.

(2)

في أ: ثم يبعثوها.

(3)

في أ: ممن هو على ما هم عليه من أهل البصرة.

(4)

في أ: وسيمنعوها، وفيها مخالفة للسياق النحوي.

(5)

نهر جوخى: نهر عليه كورة واسعة في سواد بغداد، قالوا: ولم يكن ببغداد مثل كورة جوخى .. معجم البلدان (2/ 179).

(6)

في أ: لئلا يشعر.

(7)

في أ: فيمنعونهم.

(8)

في أ: والأعمام والعمات.

(9)

في أ: بزينة.

(10)

في أ: جماعة منهم.

(11)

في أ: أولادهم وقراباتهم وإخوانهم فردوهم ووبخوهم.

(12)

في أ: من كاتبوه.

ص: 483

لهم شوكة ومنعة، وهم جند مستقلون وفيهم شجاعة [وثبات وصبر] وعندهم أنهم متقربون بذلك [إلى الله عز وجل] فهم لا يُصطلى لهم بنار، ولا يطمع (في) أن يؤخذ منهم بثأر، وباللّه المستعان.

قال أبو مخنف

(1)

: عن أبي رَوْق، عن الشَّعبيّ: أن عليًّا لما خرجت الخوارج إلى النهروان وهرب أبو موسى [الأشعري] إلى مكة، ورد ابن عباس إلى البصرة، قام في الناس (بالكوفة) خطيبًا فقال: الحمد للّه وإن أتى الدهر بالخطب الفادح، والحدثان الجليل الكادح

(2)

، وأشهد أن لا إله غيره وأن محمدًا رسول اللّه، أما بعد فإن المعصية تشين وتسوء وتورث الحسرة، وتعقب الندم، وقد كنت أمرتكم في هذين الرجلين وفي هذه الحكومة بأمري، ونحلتكم رأي، فأبيتم إِلَّا ما أردتم، فكنت أنا وأنتم كما قال أخو هوازن فأجاز

(3)

: [من الطويل]

بذلتُ لهم نُصْحي بمُنْعرج اللِّوى

فلم يستبينوا الرُّشْدَ إِلَّا ضُحى الغدِ

ثم تكلم فيما فعله الحكمان فرد عليهما ما حكما به وأنَّبَهما، وقال ما فيه حط عليهما

(4)

، ثم ندب الناس إلى الخروج إلى الجهاد في أهل الشّام

(5)

، وعيَّن لهم يوم الإثنين يخرجون فيه، وكتب

(6)

إلى ابن عباس والي البصرة يستنفر له الناس إلى الخروج إلى (أهل) الشام، وكتب إلى الخوارج يعلمهم أن الذي حكم به (الحكمان مرود عليهما، وأنه قد عزم على الذهاب إلى الشام، فهلموا حتى نجتمع) على قتالهم. فكتبوا إليه: أما بعد فإنك لم تغضب لربك، وإنما غضبت لنفسك وإن (شهدت على نفسك بالكفر واستقبلت التوبة نظرنا فيما بيننا وبينك، وإلا فقد) نابذناك على سواء {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال: 38]، فلما قرأ عليٌّ كتابهم يئس منهم وعزم على الذهاب إلى الشام ليناجزهم، وخرج من الكوفة إلى النُّخيلة

(7)

في عسكر كثيف - خمسة وستين ألفًا - وبعث إليه ابن عباس بثلاثة آلاف ومئتي فارس من أهل البصرة مع جارية

(8)

بن قدامة ألف وخمسمئة، ومع أبي الأسود الدؤلي ألف وسبعمئة، فكمل جيش علي في ثمانية وستين ألف فارس ومئتي فارس وقام عليٌّ أمير المؤمنين خطيبًا

(9)

فحثهم على الجهاد والصبر عند لقاء (العدو)، وهو عازم على [غزو أهل] الشام، (فبينما هو كذلك) إذ بلغه أن الخوارج

(1)

تاريخ الطبري (5/ 77).

(2)

في هامش أ: القادح.

(3)

البيت لدريد بن الصمة في ديوانه - محمد خير بقاعي - ص (47).

(4)

في أ: فرد عليهما فيما حكما به وأنبهما، وبيّن ما في ذلك من هوى وزور ومحبة للدنيا وقلة نصح ونظر للأمة، وحط عليهما.

(5)

في أ: الخروج إلى أهل الشام والجهاد فيهم.

(6)

في ط: وندب.

(7)

النُّخيلة: موضع قرب الكوفة على سمت الشام. معجم البلدان (5/ 278).

(8)

في أ: حارثة، تحريف، وجارية بن قدامة ترجمته في الاستيعاب (1/ 226).

(9)

في أ: علي في الناس خطيبًا.

ص: 484

قد عاثوا في الأرض فسادًا وسفكوا الدماء وقطعوا السبل واستحلوا المحارم، وكان من جملة من قتلوه عبد الله بن خباب

(1)

(صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم)، أسروه وامرأته معه وهي حامل فقالوا: من أنت؟ قال: أنا عبد اللّه بن خباب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنكم قد روعتموني فقالوا: لا بأس عليك، حدِّثنا ما سمعت من أبيك فقال: سمعت أبي يقول: (سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول): "ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الساعي"

(2)

فاقتادوه

(3)

بيده، فبينما هو يسير معهم إذ لقي بعضهم خنزيرًا لبعض أهل الذمة فضربه بعضهم [بسيف] فشق جلده فقال له آخر: لم فعلت هذا وهو لذمي؟ فذهب إلى ذلك الذمي فاستحله [مما فعل] وأرضاه، وبينا هو معهم إذ سقطت تمرة من نخلة فأخذها أحدهم فألقاها في فمه، فقال له آخر: بغير إذن ولا ثمن؟ فألقاها ذاك من فمه، ومع هذا قدموا عبد اللّه بن خباب فذبحوه، وجاؤوا إلى امرأته فقالت: إني امرأة حبلى، ألا تتقون اللّه، فذبحوها وبقروا بطنها عن ولدها، فلما بلغ الناس هذا من صنيعهم خافوا إن هم ذهبوا إلى الشام واشتغلوا بقتال أهله أن يخلفهم هؤلاء في ذراريهم وديارهم بهذا الصنع، فخافوا غائلتهم

(4)

، وأشاروا على على بأن يبدأ بهؤلاء، ثم إذا فرغ منهم ذهب إلى أهل الشام"

(5)

بعد ذلك والناس آمنون من شر هؤلاء فاجتمع الرأي على هذا وفيه خيرة عظيمة لهم ولأهل الشام أيضًا [إذ لو قوي هؤلاء لأفسدوا الأرض كلها عراقًا وشامًا، ولم يتركوا طفلًا ولا طفلة ولا رجلًا ولا امرأة، لأن الناس عندهم قد فسدوا فسادًا لا يصلحهم إِلَّا القتل جملة].

فأرسل علي إلى الخوارج رسولًا من جهته وهو الحارث

(6)

بن مرة العبدي، فقال: اخبر لي خبرهم، واعلم لي أمرهم واكتب إلي به على الجلية، فلما قدم عليهم قتلوه ولم ينظروه، فلما بلغ ذلك عليًا عزم على الذهاب إليهم

(7)

أولًا قبل أهل الشام.

[ذكر] مسير أمير المؤمنين علي إلى الخوارج

(لما عزم عليٌّ ومن معه من الجيش على البداءة بالخوارج) نادى مناديه في الناس بالرحيل [إليهم] فعبر الجسر فصلى ركعتين عنده ثم سلك علي دير عبد الرحمن، ثم دير أبي موسى، ثم على شاطئ

(1)

في أ: بن حباب، تحريف، وعبد اللّه بن خباب ترجمته في الاستيعاب (2/ 894).

(2)

رواه أحمد في المسند (5/ 110) وهو حديث حسن بشواهده، دون سياق القصة فهي ضعيفة.

(3)

في أ: فقادوه.

(4)

في أ: وديارهم ويفعلوا هذا الصنيع وخافوا غائلتهم.

(5)

في أ: بأن يبدأ بهم ثم إذا فرغ منهم ساروا معه إلى الشام.

(6)

في ط: الحرب؛ تحريف.

(7)

في أ: عليًا سار إليهم وترك أهل الشام.

ص: 485

الفرات، فلقيه هنالك منجم فأشار عليه بوقت من النهار يسير فيه ولا يسير في غيره فإنه [إن سار في غيره] يخشى عليه فخالفه علي فسار على خلاف ما قال [المنجم وقال: نسير ثقة باللّه وتوكلًا عليه وتكذيبًا لقول المنجم] فأظفره اللّه عز وجل وقال علي: إنما أردت أن أبين للناس خطأه وخشيت أن يقول (جاهل

(1)

، إنما ظفر لكونه وافقه، وسلك عليٌّ ناحية الأنبار وبعث) بين يديه قيس بن سعد، وأمره أن يأتي المدائن وأن يتلقاه بنائبها سعد بن مسعود، وهو أخو عبد اللّه بن مسعود الثقفي - في جيش المدائن فاجتمع الناس هنالك على علي، وبعث إلى الخوارج: أن ادفعوا

(2)

إلينا قتلة إخواننا منكم حتى أقتلهم ثم أنا تارككم وذاهب إلى العرب - يعني أهل الشام

(3)

- ثم لعل الله أن يقبل بقلوبكم ويردكم إلى خير مما أنتم عليه. فبعثوا إلى علي يقولون: كلنا قتل إخوانكم ونحن مستحلون دماءهم ودماءكم

(4)

، فتقدم إليهم قيس بن سعد بن عبادة فوعظهم فيما ارتكبوه من الأمر العظيم، (والخطب الجسيم)، فلم ينفع، وكذلك أبو أيوب الأنصاري أنبهم ووبخهم فلم ينجع

(5)

، وتقدم (أمير المؤمنين) علي (بن أبي طالب) إليهم فوعظهم وخوَّفهم وحذرهم وأنذرهم

(6)

وتوعدهم وقال: إنكم أنكرتم علي أمرًا أنتم دعوتموني إليه [وأبيتم إِلَّا إياه] فنهيتكم عنه فلم تقبلوا وها أنا وأنتم فارجعوا إلى ما خرجتم منه ولا ترتكبوا محارم اللّه فإنكم

(7)

قد سوَّلت لكم أنفسكم أمرًا تقتلون عليه المسلمين، واللّه لو قتلتم عليه دجاجة لكان عظيمًا عند الله، فكيف بدماء المسلمين؛ فلم يكن لهم جواب إِلَّا أن تنادوا فيما بينهم أن لا تخاطبوهم ولا تكلموهم وتهيؤوا للقاء الرب عز وجل، الرواح الرواح إلى الجنة. وتقدموا فاصطفوا للقتال وتأهبوا للنزال فجعلوا على ميمنتهم زيد بن حصين الطائي السنبسي، وعلى الميسرة شريح بن أوفى، وعلى خيالتهم حمزة بن سنان، وعلى الرجَّالة حُرقوص بن زُهير السَّعدي. ووقفوا مقاتلين لعليٍّ وأصحابه. وجعل عليٌّ على ميمنته: حجر بن عدي، وعلى الميسرة شبث بن ربعي ومعقل بن قيس الرياحي، وعلى الخيل

(8)

أبا أيوب الأنصاري، وعلى الرجَّالة أبا قتادة الأنصاري، وعلى أهل المدينة - وكانوا (في) سبعمئة - قيس بن سعد بن عبادة، وأمر عليٌّ أبا أيوب الأنصاري أن يرفع راية أمان

(9)

للخوارج ويقول لهم: من جاء إلى هذه الراية فهو آمن، ومن انصرف إلى الكوفة والمدائن فهو آمن، إنه لا حاجة لنا

(1)

في أ: الناس.

(2)

في أ: أن ابعثوا.

(3)

في أ: منكم لنقتلهم ثم أنا تارككم وذاهبون عنكم إلى الشام.

(4)

في أ: وأموالكم.

(5)

في أ: فلم ينفع ذلك فيهم وكذلك فعل أبو أيوب الأنصاري أتاهم ووبخهم فلم ينجع فيهم.

(6)

في أ: وتهددهم.

(7)

في أ: فإنه.

(8)

في أ: خيالته.

(9)

في أ: الأنصاري يرفع رايته أمانًا ويقول.

ص: 486

فيكم

(1)

إِلَّا فيمن قتل إخواننا، فانصرف منهم طوائف كثيرون - وكانوا في أربعة آلاف - فلم يبق منهم إِلَّا ألف أو أقل مع عبد الله بن وهب الراسبي

(2)

، فزحفوا إلى عليّ فقدّم علي بين يديه الخيل وقدم منهم الرماة وصفَّ الرجالة وراء الخيالة، وقال لأصحابه: كُفّوا عنهم حتى يبدؤوكم، وأقبلت الخوارج يقولون: لا حكم إِلَّا لله، الرواح الرواح إلى الجنة، فحملوا على الخيالة الذين قدمهم عليّ، ففرقوهم حتى أخذت طائفة من الخيالة إلى الميمنة، وأخرى إلى الميسرة، فاستقبلهم

(3)

الرماة بالنبل، فرموا وجوههم، وعطفت عليهم الخيالة من الميمنة والميسرة ونهض إليهم الرجال بالرماح والسيوف فأناموا الخوارج فصاروا صرعى تحت سنابك الخيول، وقتل أمراؤهم: عبد الله بن وهب، وحُرقوص (بن زهير)، وشريح (بن أوفى)، وعبد الله بن سخبرة (السلمي، قبحهم الله).

قال أبو أيوب: وطعنت رجلًا من الخوارج بالرمح فأنفذته من ظهره وقلت له: أبشر يا عدو الله بالنار، فقال: ستعلم أينا أولى بها صليًا.

قالوا: ولم يقتل من أصحاب علي إِلَّا سبعة نفر، وجعل علي يمشي بين القتلى منهم ويقول: بؤسًا لكم! لقد ضرَّكم من غرَّكم، فقالوا:(يا أمير المؤمنين) ومن غرَّهم؟ قال: الشيطان

(4)

وأنفس بالسوء أمارة، غرتهم بالأماني وزينت لهم المعاصي، ونبأتهم أنهم ظاهرون.

ثم أمر بالجرحى من بينهم فإذا هم أربعمئة، فسلمهم إلى قبائلهم ليداووهم، وقسم ما وجد من سلاح ومتاع لهم.

وقال الهيثم بن عدي في كتاب "الخوارج": وحَدَّثَنَا محمد بن قيس الأسدي ومنصور بن دينار، عن عبد الملك بن ميسرة، عن النزال بن سبرة: أن عليًا لم يخمس ما أصاب من الخوارج يوم النهروان ولكن رده إلى أهله

(5)

كله حتى كان آخر ذلك مرجل أتي به فرده.

وقال أبو مخنف

(6)

: حدَّثني عبد الملك بن أبي حرة: أن عليًا خرج في طلب ذي الثدية ومعه سليمان بن ثمامة الحنفي أبو حرة، والريان بن صبرة بن هوذة فوجده الريان في حفرة على جانب النهر في أربعين أو خمسين قتيلًا، قال: فلما استخرج نظر إلى عضده فإذا لحم مجتمع على منكبه كثدي المرأة له حلمة [كحلمة الثدي] عليها شعرات سود، فإذا مدت امتدت حتى تحاذي يده الأخرى ثم تنزل

(7)

فتعود

(1)

في أ: في دمائكم.

(2)

في تاريخ الطبري (5/ 86): فكان الذين بقوا مع عبد اللّه بن وهب منهم ألفين وثمانمئة.

(3)

في أ: واستقبلتهم.

(4)

في أ: إبليس.

(5)

في أ: إلى أهليهم.

(6)

تاريخ الطبري (5/ 88).

(7)

في أ: ثم تترك.

ص: 487

إلى منكبه كثدي المرأة، فلما رآه علي قال: أما واللّه ما كذبت لولا أن تتكلوا على العمل

(1)

لأخبرتكم بما قضى الله في قتالهم عارفًا للحق.

وقال الهيثم بن عدي في كتابه في "الخوارج": وحدَّثني محمد بن ربيعة الأخنسي

(2)

، عن نافع بن مسلمة الأخنسي، قال:

كان ذو الثدية رجلًا من عرنة من بجيلة

(3)

، وكان أسودَ شديدَ السَّواد، له ريح منتنة معروف في العسكر، (وكان) يرافقنا قبل ذلك وينازلنا وننازله.

وحدَّثني أبو إسماعيل الحنفي عن الريّان بن صبرة الحنفي. قال: شهدنا النهروان مع علي، فلما وجد المخدج سجد سجدة طويلة.

وحدَّثني سفيان الثوري، عن محمد بن قيس الهمداني، عن رجل من قومه يكنى أبا موسى: أن عليًا لما وجد المخدج سجد (سجدة طويلة).

وحدَّثني يونس بن أبي إسحاق، حدَّثني إسماعيل

(4)

عن حبة العرني، قال: لما أقبل أهل النهروان

(5)

جعل الناس يقولون: الحمد للّه يا أمير المؤمنين الذي قطع دابرهم. فقال علي: كلا واللّه إنهم لفي أصلاب الرجال وأرحام النساء، فإذا خرجوا من بين الشرايين فقلما يلقون أحدًا إِلَّا ألفوا

(6)

أن يظهروا عليه.

قال: وكان عبد اللّه بن وهب الراسبي قد قحلت مواضع السجود منه من شدة اجتهاده وكثرة السجود، وكان يقال له: ذو الثَّفِنات

(7)

.

وروى الهيثم عن بعض الخوارج أنه قال: ما كان عبد الله بن وهب من بغضه عليًا يسميه إِلَّا الجاحد.

وقال الهيثم (بن عدي): حَدَّثَنَا إسماعيل، عن خالد، عن علقمة بن عامر قال: سئل علي عن أهل

(1)

في أ: تتكلوا على غير العمل.

(2)

في أ: الأحمسي.

(3)

في أ: من عرينة من بني بجيلة.

(4)

في أ: إسماعيل بن سعيد بن عروة.

(5)

في أ: لما قتل أهل النهروان.

(6)

في أ: ألبوا.

(7)

في أ: في أ: ذو المنقبات، وفي ط:"ذو البينات" وكله تصحيف، والصواب ما أثبتنا، والثفنة: الركبة من البعير، ونص على ذلك الفيروزآبادي في القاموس المحيط، قال في "ثفن":"وعبد اللّه بن وهب رئيس الخوارج، لأن طول السجود أثر في ثفناته".

ص: 488

النهروان أمشركون هم؟ فقال: من الشرك فروا، قيل: أفمنافقون؟ قال: إن المنافقين لا يذكرون الله إِلَّا قليلًا. فقيل: فما هم يا أمير المؤمنين؟ قال: إخواننا بَغَوا علينا فقاتلناهم ببغيهم علينا. هذا ما أورده ابن جرير وغيره في هذا المقام.

‌ما ورد فيهم من الأحاديث الشريفة

(1)

الحديث الأول: عن علي رضي الله عنه، ورواه

(2)

عنه: زيد بن وهب، وسويد بن غفلة، وطارق بن زياد، وعبد اللّه بن شداد، وعبيد اللّه بن أبي رافع، وعَبِيدة بن عَمْرو السلماني، وكليب أبو عاصم، وأبو كثير وأبو مريم، وأبو موسى، وأبو وائل، [وأبو] الوضيء

(3)

فهذه اثنتا عشرة طريقًا إليه سرَاها بأسانيدها وألفاظها، ومثل هذا يبلغ حد التواتر

(4)

.

‌الطريق الأولى

قال مسلم

(5)

: حَدَّثَنَا عَبْدُ بن حُميد، حَدَّثَنَا عبد الرزَّاق بن همام

(6)

، حَدَّثَنَا عبد الملك بن أبي سُليمان، حَدَّثَنَا سَلمة بن كُهيل، حدَّثني زيدُ بن وهب الجُهنيُّ أنه كان في الجيش الذين كانوا مع علي الذين ساروا إلى الخوارج فقال علي: يا أيها الناس إني سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: "يخرج قوم من أمتي يقرؤون القرآن ليس قراءتكم إلى قراءتهم بشيء، ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشيء، ولا صيامكم إلى صيامهم بشيء، يقرؤون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم". لو يعلمُ الجيش الذين يصيبونهم، ما قُضي لهم على لسان نبيهم صلى الله عليه وسلم، لا تكَلوا عن العمل، وآية ذلك أن فيهم رجلًا له عَضُد ليس له ذراع، على رأس عضده [مثل] حلمة الثَّدي، عليه شعرات بيضى، فتذهبون إلى معاوية وأهل الشام، وتتركون هؤلاء يخلفونكم في ذراريِّكم وأموالكم، و [اللّه] إني لأرجو أن يكونوا هؤلاء القومَ، فإنَّهم قد سفكوا الدَّم الحرام وأغاروا في سرح الناس، فسيروا على اسم اللّه.

قال سلمة: فنزلني

(7)

زيد بن وهب منزلًا، حتى مرُّوا على قنطرة فلما التقينا - وعلى الخوارج يومئذ

(1)

في أ: ولنذكر الأحاديث الواردة فيهم الآن المرفوعة إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم.

(2)

في أ: رواه - بلا واو -.

(3)

في أ: أبو الرضى فهذه اثنا عشر طريقًا وزاد: طريق أبي جحيفة، وأبي مؤمن.

(4)

بعده في أ: حديث الثدي الذي تقدم قبل صفحات. قال بشار: في قوله: ومثل هذا يبلغ حد التواتر، فيه مبالغة ظاهرة، ذلك أن أكثر هذه الطرق ضعيفة، كما سيأتي!

(5)

صحيح مسلم (1066)(156) في الزكاة.

(6)

في الأصل والمطبوع: عن همام، وهو خطأ، والتصحيح من صحيح مسلم.

(7)

في ط: "فذكر"، وما هنا من أ وهو الذي في صحيح مسلم الذي ينقل منه المصنف.

ص: 489

عبد الله بن وهب الراسبي - فقال لهم: ألقوا الرماح وسُلّوا سيوفكم واكسروا جفونَها

(1)

فإني أخاف أن يناشدوكم كما ناشدوكم يوم حروراء، فرجعوا فوحشوا برماحهم وسلّوا السيوف فشجرهم الناس برماحهم.

قال: وقتل بعضهم على بعض وما أصيب من الناس يومئذ إِلَّا رجلان، فقال

(2)

علي: التمسوا فيهم المُخْدَج

(3)

، فالتمسوه فلم يجدوه، فقام على بنفسه حتى أتى ناسًا [قد قتل] بعضهم على بعض، فقال: أخروهم فوجدوه مما يلي الأرض

(4)

فكبر [علي] ثم قال: صدق الله وبلغ رسوله.

قال: فقام إليه عَبيدة السلماني فقال: يا أمير المؤمنين والله الذي لا إله (إلَّا هو لسمعت هذا من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: إي واللّه الذي لا إله إِلَّا هو)، فاستحلفه ثلاثًا وهو يحلف له أنه سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا لفظ مسلم. وقد رواه أبو داود

(5)

عن الحسن بن علي الخلال، عن عبد الرزاق

(6)

بنحوه.

‌طريق أخرى عن علي

(7)

قال الإمام أحمد

(8)

: حَدَّثَنَا وكيع، حَدَّثَنَا الأعمش وعبد الرحمن، عن سفيان، عن الأعمش، عن خيثمة، عن سويد بن غَفَلة، قال قال علي: إذا حدَّثتكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأن أخرَّ من السماء أحبُّ إليَّ من أن أكذب عليه، وإذا حدثتكم فيما بيني وبينكم فإنّ الحربَ خدعةٌ، سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "يخرجُ قومٌ في آخر الزمان أحداث الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من قول خير البريَّة (يقرؤون القرآنَ لا يجاوز حناجرهم - قال عبد الرحمن لا يجاوز إيمانهم حناجرهم -) يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرَّميَّة

(9)

، فإذا لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرًا لمن قتلهم عند اللّه يوم القيامة" وأخرجاه في الصحيحين

(10)

من طرق عن الأعمش به.

(1)

في مسلم: "وسلُّوا سيوفكم من حفونها".

(2)

في ط: قال.

(3)

المخدج: الناقص. اللسان (خدج).

(4)

في ط: تكرار للجملة، فقال أخروهم فوجدوهم مما يلي الأرض.

(5)

سنن أبي داود (4768) في السنة.

(6)

مصنف عبد الرزاق (1/ 147 - 149).

(7)

مكان العنوان في أ بياض، ولفظه: عنه.

(8)

مسند الإمام أحمد (1/ 131).

(9)

الرّميّة: الصيد الذي ترميه فتقصده وينفذ فيه سهمك، وقيل: هي كل دابة مرمية. النهاية (2/ 268).

(10)

صحيح البخاري (6930) في استتابة المرتدين، ومسلم (1066)(154) في الزكاة.

ص: 490

‌طريق أخرى

قال (الإمام) أحمد

(1)

: حَدَّثَنَا أبو نعيم، وحَدَّثَنَا

(2)

الوليد بن القاسم الهمداني، قالا: حَدَّثَنَا إسرائيل، عن إبراهيم بن عبد الأعلى، عن طارق بن زياد قال:

سار علي إلى النهروان قال الوليد في روايته: وخرجنا معه فقتل

(3)

الخوارج فقال اطلبوا المُخْدَج فإن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: "سيجيء قومٌ يتكلمون بكلمة الحق لا تجاوز حلوقهم، يمرقون من الإسلام كما يمرقُ السهمُ من الرمية، سيماهم أو فيهم رجلٌ أسود مخدج اليد في يده شعرات سودٌ، إن كان فيهم [فقد] قتلتم شر الناس، وإن لم يكن فيهم فقد قتلتم خير الناس" قال الوليد في روايته: فبكينا قال: [ثم] إنا وجدنا المُخْدَجَ فخررنا سجودًا وخرَّ عليٌّ (ساجدًا) معنا. تفرَّد به أحمد من هذا الوجه.

‌طريق أخرى

رواه عبد اللّه بن شداد عن عليّ كما تقدّم قريبًا (إيراده) بطوله

(4)

.

‌طريق أخرى عن علي

قال مسلم

(5)

: حدَّثني أبو الطَّاهر ويونس بن عبد الأعلى قالا: أخبرنا عبدُ اللّه بن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن بُكير بن الأشَجّ، عن بُسْر بن سعيد، عن عُبيد اللّه بن أبي رافع مولى رسول الله: أن الحرورية لما خرجت - وهو مع علي بن أبي طالب - قالوا: لا حكمَ إِلَّا للّه، قال علي: كلمةُ حقّ أريدَ بها باطل، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف ناسًا إني لأعرف صفتهم في هؤلاء "يقولون الحقَّ بألسنتهم لا يجاوز هذا منهم - وأشار إلى حلقه - من أبغض خلق اللّه، منهم أسود. إحدى يديه طُبْيُ

(6)

شاة أو حلمة ثدي" فلما قتلهم علي بن أبي طالب قال: انظروا فنظروا فلم يجدوا شيئًا فقال: ارجعوا فانظروا فواللّه ما كذَبْتُ ولا كُذبْتُ - مرتين أو ثلاثًا - فوجدو

(7)

في خَرِبَة، فأتوا به عليًّا حتى وضعوه بين يديه، قال عبيد اللّه: وأنا حاضر ذلك من أمرهم، وقول علي فيهم. زاد يونس في روايته: قال بُكير: وحدَّثني رجل عن ابن حنين أنه قال: رأيت ذلك الأسود. تفرد به مسلم.

(1)

مسند الإمام أحمد (1/ 147 و 107) وهو حديث حسن، وإسناده ضعيف لجهالة طارق بن زياد الكوفي.

(2)

في ط: حَدَّثَنَا؛ والصحيح ما أثبت وهي طريق أخرى عن إسرائيل.

(3)

في ط: قتل.

(4)

تقدم صفحة 472. وفيه أن عائشة رضي الله عنها سألت عبد اللّه بن شداد عن هؤلاء القوم الذين قتلهم علي بالنهروان.

(5)

صحيح مسلم (1066)(157) في الزكاة.

(6)

الطُّبْيُ والطِّبْي: حلمات الضرع. اللسان (طبي).

(7)

في أ: ثم وجدوه.

ص: 491

‌طريق أخرى

(1)

قال أحمد

(2)

: حَدَّثَنَا إسماعيل، حَدَّثَنَا أيوب، عن محمد، عن عَبِيدة، عن علي قال: ذكرت الخوارج عند علي فقال: فيهم مُخْدجُ اليد (أو مَثْدون

(3)

اليد)؟ - أو قال مودن

(4)

اليد - ولولا أن تبطروا لحدَّثتُكم بما وعدَ اللهُ الذين يقتلونهم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم، قال: قلت: أنتَ سمعتَه من محمد صلى الله عليه وسلم؟ قال: إي وربِّ الكعبة: إي وربِّ الكعبة، إي وربِّ الكعبة.

وقال أحمد

(5)

: حَدَّثَنَا وكيع، حَدَّثَنَا جرير بن حازم وأبو عمرو بن العلاء، عن ابن سيرين سمعاه، عن عَبيدة، عن علي قال قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم:

"يخرج قوم فيهم رجل مودن اليد أو مثدون اليد أو مخدج اليد، ولولا أن تبطروا لأنبأتكم بما وعد اللّه الذين يقتلونهم على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم" قال عَبيدة قلت لعلي: أنت سمعته من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم؟ قال: إي ورب الكعبة، إي ورب الكعبة [إي ورب الكعبة].

وقال أحمد

(6)

: حَدَّثَنَا يزيد، حَدَّثَنَا هشام، عن محمد، عن عبيدة قال: قال علي لأهل النهروان: فيهم رجل مثدون اليد أو مخدج

(7)

اليد، لولا أن تبطروا لأخبرتكم بما قضى اللّه على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم لمن قتلهم، (قال عبيدة:) فقلت لعلي: أنت سمعته

(8)

؛ قال: إي ورب الكعبة، يحلف عليه ثلاثًا.

وقال أحمد

(9)

: حَدَّثَنَا ابن أبي عدي، عن ابن عون

(10)

عن محمد قال قال عبيدة: لا أحدثك إِلَّا ما سمعت منه، قال محمد: فحلف لنا عبيدة ثلاث مرات

(11)

، وحلف له علي قال: لولا أن تبطروا

(1)

مكان العنوان بياض في أ.

(2)

مسند الإمام أحمد (1/ 83) وهو حديث صحيح.

(3)

مثدون اليد: أي صغير اليد مجتمعها، ويُروى: مُثَدَّن اليد، أي: تشبه يده ثدي المرأة، ويُروى: مُثْدن اليد، ومعناه مخدج اليد، وقيل المثدن مقلوب ثند يريد أنه يشبه ثندوة الثَّدْي، وهي رأسه. اللسان (ثدن).

(4)

المودَن والمَوْدون: القصير العنق الضيّق المنكبين، الناقص الخلق قال بعضهم: مع قصر ألواح اليدين، وفي حديث ذي الثدية أنه كان مودون اليد، وفي رواية: مودن اليد، وفي أخرى: إنه لمودن اليد، أي ناقص اليد صغيرها. قال الكسائي وغيره: المودن اليد: القصير اليد. اللسان (ودن).

(5)

مسند الإمام أحمد (1/ 95).

(6)

مسند الإمام أحمد (1/ 144).

(7)

في ط: مخدوج.

(8)

في أ: سمعته من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم.

(9)

مسند الإمام أحمد (1/ 155).

(10)

في ط: أبي بن عون، وهو خطأ.

(11)

في المسند: مرار.

ص: 492

لأنبأتكم

(1)

ما وعد اللّه الذين يقتلونهم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم قال: قلت أنت سمعته؟ قال: إي ورب الكعبة، (إي ورب الكعبة، إي ورب الكعبة)، فيهم رجل مُخْدَج اليد، أو مَثْدُون اليد، أحسبه قال: أو مُودَن اليد.

وقد رواه مسلم

(2)

من حديث إسماعيل بن عُلَيّة وحمَّاد بن زيد كلاهما، عن أيوب، عن محمد بن المثنى، عن ابن أبي عدي، عن ابن عون كلاهما: عن محمد بن سيرين، عن عَبيدة، عن علي.

وقد ذكرناه من طرق متعددة تفيد القطع عند كثيرين عن محمد بن سيرين، وقد حلف (على) أنه سمعه من عبيدة، وحلف عبيدة أنه سمعه من علي [وحلف عليٌّ] أنه سمعه

(3)

من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، (وقد) قال (علي): لأنْ أخرَّ من السماء إلى الأرض أحبُّ إليَّ من أن أكذب على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم.

‌طريق أخرى

قال عبد الله ابن (الإمام) أحمد (بن حنبل)

(4)

: حدَّثني إسماعيل أبو معمر، حَدَّثَنَا عبد اللّه بن إدريس، حَدَّثَنَا عاصم بن كليب، عن أبيه قال:

كنت جالسًا عند علي، إذ دخل رجل عليه ثياب السفر، فاستأذن على عليٍّ، وهو يكلّم الناسَ، فشُغل عنه، فقال علي: إني دخلت على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وعنده عائشة فقال [لي]: "كيف أنت وقوم

(5)

كذا وكذا؟ "فقلت: اللّه ورسوله أعلم. قال: فقال: "قوم يخرجون من قبل المشرق، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدِّين كما يمرقُ السهمُ من الرميَّةِ، فيهم رجل مُخْدجُ اليد كأن يديه ثدْيُ حَبَشيَّةٍ" أنشدكم باللّه هل أخبرتكم أنه فيهم؛ فذكر الحديث بطوله. ثم رواه عبد اللّه بن أحمد

(6)

عن أبي خيثمة زهير بن حرب، عن القاسم بن مالك، عن عاصم بن كليب، عن أبيه، عن علي، فذكر نحوه وإسناده جيد [ولم يخرجوه].

‌طريق أخرى

(7)

قال الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي

(8)

: أخبرنا أبو القاسم الأزهري، أخبرنا علي بن عبد الرحمن

(1)

في المسند: لنبأتكم.

(2)

صحيح مسلم (1066)(154) في الزكاة.

(3)

في أ: سمع ذلك.

(4)

مسند الإمام أحمد (1/ 160).

(5)

في ط: ويوم.

(6)

مسند الإمام أحمد (1/ 160).

(7)

مكان اللفظة بياض في أ.

(8)

تاريخ مدينة السلام (1/ 561)(بتحقيق الدكتور بشار).

ص: 493

البَكَّائي

(1)

أخبرنا محمد بن عبد اللّه بن سليمان الحضرمي

(2)

أخبرنا يحيى بن عبد الحميد الحماني

(3)

أخبرنا خالد بن عبيد الله، عن عطاء بن السائب عن ميسرة قال قال أبو جحيفة: قال علي:

حين فرغنا من الحرورية

(4)

إن فيهم رجلًا ليس في عضده عظم ثَمَّ، عضده كحلمة الثدي عليها شعرات طوال عقف، فالتمسوه فلم يجدوه قال: فما رأيت عليًّا جزع جزعًا أشد من جزعه يومئذ، فقالوا: ما نجده يا أمير المؤمنين، فقال: ويلكم ما اسم هذا المكان؟ قالوا: النهروان، قال: كذبتم إنه لفيهم فثورنا

(5)

القتلى فلم نجده فعدنا إليه فقلنا: يا أمير المؤمنين ما نجد

(6)

، قال: ما اسم هذا المكان؟ قلنا: النهروان، قال: صدق اللّه ورسوله وكذبتم، إنه لفيهم فالتمسوه، فالتمسناه فوجدناه في ساقية فجئنا به فنظرت إلى عضده ليس فيها عظم وعليها كحلمة ثدي المرأة عليها شعرات طوال عقف

(7)

.

‌طريق أخرى

قال الإمام أحمد

(8)

: حَدَّثَنَا أبو سعيد مولى بني هاشم، حَدَّثَنَا إسماعيل بن مسلمِ العبدي، حَدَّثَنَا أبو كثير مولى الأنصار قال: كنتُ مع سيدي مع علي (بن أبي طالب) حيث قَتَلَ أهل النهروان، فكانَ الناسَ وجدوا في أنفسهم من قتلهم، فقال عليٌّ: يا أيّها الناسُ إنَّ رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم، قد حَدَّثَنَا بأقوام يمرقون من الدِّين كما يمرق السهم من الرمية ثم لا يرجعون فيه أبدًا حتى يرجع السهم على فُوقه، وإن آيةَ ذلك أن فيهم رجلًا أسود مُخْدجَ اليدِ، إحدى يديه كَثَدْي المرأة، لها حلمة كحلمة ثدي المرأة، حوله سبع هلبات فالتمسوه فإني أُراه فيهم" فالتمسوه فوجدوه إلى شفير النهر تحت القتلى فأخرجوه فكبَّر عليٌّ، فقال: الله أكبر! صدق الله ورسوله، وإنه لمُتقلِّدٌ قوسًا له عربية، فأخذها بيده فجعل يطعنُ بها في مُخْدَجته

(9)

ويقول: صدق الله ورسوله. وكبّر الناسُ حين رأوه واستبشروا، وذهب عنهم ما كانوا يجدون" تفرد به أحمد.

(1)

في ط: الكناني، تحريف، وترجمته في سير أعلام النبلاء (16/ 309).

(2)

في ط: "محمد بن عبد الله بن عطاء عن سليمان الحضرمي"، وهو تحريف قبيح، والتصحيح من تاريخ الخطيب (1/ 561) و (9/ 198)، وهو المعروف بمطيَّن، وترجمته في سير أعلام النبلاء (14/ 41).

(3)

في أ: الحمامي؛ تحريف، والتصحيح من تاريخ بغداد وتوضيح المشتبه (2/ 417).

(4)

في ط: الحرب.

(5)

ثورنا: بحثنا.

(6)

في أ: ما وحدناه.

(7)

إسناده ضعيف، عطاء بن السائب ثقة اختلط، ورواية خالد بن عبد الله عنه بعد الاختلاط، وانظر بيان ذلك في ترجمة عطاء بن السائب من "تحرير التقريب"، ولكن متن الحديث صحيح، كما هو معروف.

(8)

مسند الإمام أحمد (1/ 88) وهو حديث حسن، وهذا إسناد ضعيف، لجهالة أبي كثير مولى الأنصار.

(9)

في أ: إلى مخدجته.

ص: 494

‌طريق أخرى

قال عبد الله بن أحمد

(1)

: حَدَّثَنَا أبو خيثمة، حَدَّثَنَا شبابة بن سوّار، حدَّثني نعيم بن حكيم، حدَّثني أبو مريم، حَدَّثَنَا علي بن أبي طالب أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: "إن قومًا يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، طوبى لمن قتلهم وقتلوه، علامتهم رجل مُخْدَج [اليد]

(2)

".

وقال أبو داود في "سننه"

(3)

: حَدَّثَنَا بِشْرُ بن خالد، حَدَّثَنَا شَبَابة بن سَوّار، عن نُعَيم بن حكيم، عن أبي مريم

(4)

قال: إن كان ذاك المُخْدج لمعنا يومئذ في المسجد نجالسه بالليل

(5)

والنهار، وكان فقيرًا، ورأيته مع المساكين يشهد طعامَ عليٍّ مع الناس، وقد كسوتُه برنسًا لي. قال أبو مريم: وكان المُخْدج يسمى نافعًا ذا الثُّدية، وكان في يده مثل ثدي المرأة، على رأسه حَلَمةُ مثل حَلَمة الثَّدي عليه شعرات مثل سبالة السِّنَّور.

‌طريق أخرى

قال الحافظ أبو بكر البيهقيّ في "الدلائل"

(6)

: أخبرنا أبو علي الروذباري، أخبرنا أبو محمد عبد اللّه بن عمرو بن شوذب المقرئ الواسطي بها، حَدَّثَنَا شعيب بن أيوب، حَدَّثَنَا أبو نعيمَ

(7)

الفضل بن دكين، عن سفيان - هو الثوري - عن محمد بن قيس، عن أبي موسى رجلٍ من قومه قال: كنتُ مع علي فجعل يقول: التمسوا المُخْدج فالتمسوه فلم يجدوه. قال: فأخذ يَعْرق ويقول: واللّه ما كذبت ولا كُذبت. فوجدوه في نهر أو دالية، فسجد.

‌طريق أخرى

قال أبو بكر البزار

(8)

: حدَّثني محمد بن مثنى ومحمد بن معمر

(9)

، حَدَّثَنَا عبد الصمد، حَدَّثَنَا

(1)

مسند الإمام أحمد (1/ 151) وهو حديث حسن، وإسناده ضعيف لجهالة أبي مريم.

(2)

ساقطة من أ، ط.

(3)

سنن أبي داود (4770) في السنة، وإسناده ضعيف.

(4)

في أ: أبو تميم.

(5)

في: الليل.

(6)

دلائل النبوة (6/ 433) وفيه: أخبرنا أبو الحسين بن محمد الروذباري، وهو خطأ، والصواب: أبو علي الحسين، وإسناده ضعيف لجهالة الراوي عن علي.

(7)

سقط من ط، فصار اسمه كنيةً له!

(8)

البحر الزخار (3/ 113 - 114)، وإسناده ضعيف لجهالة أبي المؤمن، فقد تفرد سويد بن عبيد العجلي بالرواية عنه ولم يوثقه أحد وقال الذهبي في الميزان: لا يعرف.

(9)

في أ: معتمر؛ خطأ.

ص: 495

سُوَيد بن عبيد العجلي، حَدَّثَنَا أبو مُؤَمِّن، قال: شهدت علي بن أبي طالب يوم قتل الحرورية، وأنا مع مولاي فقال: انظروا فإن فيهم رجلًا إحدى يديه مثل ثدي المرأة، وأخبرني النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أني صاحبه، فقلبوا القتلى فلم يجدوه، وقالوا: سبعة نفر تحت النخلة لم نقلبهم بعد فقال: ويلكم انظروا، قال أبو مؤمن: فرأيت في رجليه حبلين يجرونه بهما حتى ألقوه بين يديه، فخرَّ عليٌّ ساجدًا وقال: أبشروا قتلاكم في الجنة وقتلاهم في النار. ثم قال البزار: لا نعلم روى أبو مؤمن

(1)

عن علي غير هذا الحديث.

‌طريق أخرى

قال البزار

(2)

: حَدَّثَنَا يوسف بن موسى، حَدَّثَنَا إسحاق بن سليمان الرازي، سمعت أبا سنان، عن حبيب بن أبي ثابت قال: قلت لشقيق بن سلمة - يعني أبا وائل - حدَّثني عن ذي الثدية، قال: لما قاتلناهم قال علي: اطلبوا رجلًا علامته كذا وكذا، فطلبناه فلم نجده، فبكى [علي] وقال: اطلبوه، فوالله ما كَذَبْتُ ولا كُذِبْتُ، قال: (فطلبناه فلم نجده فبكى وقال: اطلبوه فواللّه ما كَذَبْتُ ولا كُذِبْتُ، قال: فطلبناه فلم نجده قال: فركب بغلته الشهباء فطلبناه فوجدناه تحت بردي. فلما رآه سجد.

ثم قال البزار: لا نعلم روى حبيب عن شقيق عن علي إلَّا هذا الحديث

(3)

.

‌طريق أخرى

قال عبد اللّه بن أحمد

(4)

: حدَّثني عبيد اللّه بن عمرو القواريري، حدَّثَنَا حماد بن زيد، حَدَّثَنَا جميل

(5)

بن مرة، عن أبي الوَضِيء، قال: شهدت عليًا حيث قتل أهل النهروان، قال: التمسوا المُخدج: فطلبوه في القتلى فقالوا ليس نجده فقال: ارجعوا فالتمسوه فواللّه ما كَذبت ولا كُذبت، فرجعوا فطلبوه فردّد ذلك مرارًا، كل (ذلك) يحلفُ بالله ما كذبت ولا كُذبت، فانطلقوا فوجدوه تحت القتلى في طين، فاستخرجوه، فجيء به، قال أبو الوَضِيء: فكأني أنظر إليه حبشي عليه ثَدْي قد طبق إحدى يديه مثل ثدي المرأة، عليها

(6)

شعرات مثل شعرات تكون على ذنب اليربوع.

وقد رواه أبو داود

(7)

عن محمد بن عبيد بن حساب

(8)

عن حماد بن زيد حَدَّثَنَا جميل بن مرة حَدَّثَنَا أبو الوضيء - واسمه عباد بن نسيب - ولكن اختصره.

(1)

في ط: أبو موسى؛ تحريف.

(2)

البحر الزخار (2/ 186).

(3)

الأصح أنه مرسل، فإن في رواية أبي وائل عن علي نظر، كما أشار أبو حاتم الرازي (العلل 88 - 89).

(4)

مسند الإمام أحمد (1/ 139) وهو حديث صحيح.

(5)

في أ: حميد؛ تحريف.

(6)

في أ: له حلمة عليها، وهي زيادة عن المسند.

(7)

سنن أبي داود رقم (4769).

(8)

في أ: حسان.

ص: 496

قال عبد اللّه بن أحمد أيضًا

(1)

: حَدَّثَنَا حجاج بن يوسف الشاعر، حدَّثني عبد الصمد بن عبد الوراث، حَدَّثَنَا يزيدُ بن أبي صالح أن أبا الوضيء عبادًا حدّثه أنه قال: كنَّا عائدين

(2)

إلى الكوفة مع علي بن أبي طالب، فلما بلغنا مسيرة ليلتين أو ثلاثًا من حروراء شذَّ منا ناسٌ كثيرون، فذكرنا ذلك لعلي فقال: لا يهولنكم أمرهم فإنهم سيرجعون، فذكر الحديث (بطوله) قال: فحمد اللّهَ علي (بن أبي طالب) وقال: إنَّ خليلي أخبرني "أن قائد هؤلاء مُخْدَج اليد على حلمة ثديه شعراتٌ كأنهن ذنب اليربوع" فالتمسوه (فلم يجدوه) فأتيناه فقلنا: (إنا لم نجده)[فقال: التمسوه، فواللّه ما كذبت ولا كُذبت، ثلاثًا فقلنا: لم نجده فجاء علي بنفسه]

(3)

فجعل يقول: اقلبوا ذا، اقلبوا ذا؟ حتى جاء رجل من أهل الكوفة فقال: هو ذا؛ فقال علي: اللّه أكبر، لا يأتيكم أحد يخبركم من أبوه، فجعل الناس يقولون: هذا مالك، هذا مالك

(4)

، فقال علي: ابن مَنْ؟

وقال عبد اللّه بن أحمد أيضًا

(5)

: حدَّثني حجاج بن الشاعر، حدَّثني عبد الصمد بن عبد الوارث، حَدَّثَنَا يزيد بن أبي صالح أنَّ أبا الوضيء عبادًا حدثه قال: كنّا عائدين

(6)

إلى الكوفة مع علي، فذكر حديث المُخْدَج قال علي: فواللّه ما كَذَبتُ ولا كُذِبتُ ثلاثًا، ثم قال علي: أما أن خليلي أخبرني بثلاثة إخوة من الجن، هذا أكبرهم، والثاني له جمع كثير، والثالث فيه ضعف.

وهذا السياق فيه غرابة [شديدة] جدًّا. وقد يمكن أن يكون ذو الثدية من الجن؟ بل هو من الشياطين إما شياطين الإنس أو شياطين الجن، إن صح هذا السياق، واللّه تعالى أعلم.

والمقصود أن هذه طرق متواترة عن علي؛ إذ قد روي من طرق متعددة عن جماعة متباينة لا يمكن تواطؤهم على الكذب، فأصل القصة محفوظ

(7)

وإن كان بعض الألفاظ وقع فيها اختلاف بين الرواة ولكن معناها وأصلها الذي تواطأت الروايات عليه صحيح لا يُشك فيه عن علي أنه رواه عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنه أخبر

(8)

عن صفة الخوارج و [صفة] ذي الثدية الذي هو علامة عليهم.

وقد روي ذلك من طريق جماعة من الصحابة (غير علي كما تراها بأسانيدها وألفاظها وباللّه

(1)

مسند الإمام أحمد (1/ 140) وإسناده حسن.

(2)

في المسند: عامدين.

(3)

زيادة من المسند.

(4)

في أ: ملك، والصحيح من المسند والمطبوع.

(5)

مسند الإمام أحمد (1/ 141).

(6)

في المسند: عامدين.

(7)

في أ: وأصل القصة محفوظة.

(8)

في أ: أخبره.

ص: 497

المستعان) منهم أنس بن مالك، وجابر بن عبد الله، ورافع بن عمرو الغفاري، وسعد بن أبي وقاص،

(وأبو سعيد سعد بن مالك بن سنان الأنصاري، وسهل بن حُنيف، وعبد اللّه بن عباس، وعبد اللّه بن عمر، وعبد اللّه بن عَمرو)، وعبد اللّه بن مسعود، وأبو ذَرّ، وعائشة (أم المؤمنين رضي الله عنهم أجمعين)

(1)

.

وقد قدمنا حديث علي بطرقه لأنه أحد الخلفاء الأربعة وأحد العشرة وصاحب القصة. ولنذكر بعده حديث ابن مسعود لتقدم وفاته على وقعة الخوارج.

‌الحديث الثاني (عن ابن مسعود رضي الله عنه

قال الإمام أحمد

(2)

: حَدَّثَنَا يحيى بن أبي بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا أبو بكر بن عياش، عن عاصم، عن زرّ، عن عبد الله قال قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم:"يخرج قوم في آخر الزمان سفهاء الأحلام، أحداث - أو قال حُدَثاء - الأسنان، يقولون من خيرِ قولِ الناس يقرؤون القرآن بألسنتهم لا يعدو تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، فمن أدركهم فليقتُلهم، فإن في قتلهم أجرًا عظيمًا عند الله لمن قتلهم".

وقد رواه الترمذي

(3)

عن أبي غريب وأخرجه ابن ماجة

(4)

عن أبي بكر بن أبي شيبة وعبد اللّه بن عامر بن زرارة ثلاثتهم عن أبي بكر بن عيَّاش به، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

ابن مسعود مات قبل ظهور الخوارج بنحو من خمس سنين، فخبره في ذلك من أقوى الأسانيد

(5)

.

‌الحديث الثالث عن أنس بن مالك

قال الإمام أحمد

(6)

: حَدَّثَنَا إسماعيل، حَدَّثَنَا سليمان التيمي، حَدَّثَنَا أنس قال: ذُكِرَ لي أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال - ولم أسمعه منه -: "إنَّ فيكم قومًا

(7)

يعبدون ويدأبوان

(8)

حتى يعجبوا الناس وتعجبهم أنفسُهم، يمرقون من الدِّين كما يمرق السهم من الرمية".

(1)

سيأتي بعد ذلك أن منهم سلمان الفارسي، ولم يرد ذكره هنا!

(2)

مسند الإمام أحمد (1/ 404) وهو حديث صحيح.

(3)

سنن الترمذي (2188) في الفتن.

(4)

سنن ابن ماجة (168) المقدمة.

(5)

في أ: الاعتضاد. قال بشار: هكذا قال، وهذا لا يدل على أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أراد بهم الخوارج الذين خرجوا على سيدنا علي. ثم تدبر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يخرج قوم في آخر الزمان"، فهل كان زمان سيدنا علي هو آخر الزمان! ومتن هذا الحديث لا يشك أهل المعرفة بالحديث في صحته.

(6)

مسند الإمام أحمد (3/ 189)، وهو صحيح.

(7)

في ط: فرقة، والتصحيح من المسند و (أ).

(8)

في الأصول والمطبوع: يدينون، والتصحيح من مسند أحمد.

ص: 498

‌طريق أخرى

قال الإمام أحمد

(1)

: حَدَّثَنَا أبو المغيرة، حَدَّثَنَا الأوزاعي، حدَّثني قتادة، عن أنس بن مالك وأبي سعيد، قال أحمد: وقد حَدَّثَنَا أبو المغيرة عن أنس، عن أبي سعيد (ثم رجع أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال): "سيكون في أمتي اختلاف وفُرقة، قومٌ يحسنون القيل ويُسيئون الفعل، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرَّمِيَّة، لا يرجعون حتى يرتد السهم على فُوقه

(2)

، هم شر الخلق والخليقة طوبى لمن قتلهم وقتلوه

(3)

، يدعون إلى كتاب الله وليسوا منه في شيء، مَنْ قاتلهم كان أولى بالله منهم" قالوا: يا رسول اللّه ما سيماهم؟ قال: "التحليق".

وقد رواه أبو داود في "سننه"

(4)

عن نصر بن عاصم الأنطاكي، عن الوليد بن مسلم ومبشِّر بن إسماعيل الحلبي كلاهما عن الأوزاعي، عن قتادة، عن أبي سعيد وأنس به. وأخرجه أبو داود وابن ماجة

(5)

من حديث عبد الرزاق

(6)

، عن معمر، عن قتادة، عن أنس وحده. وقد روى البزار

(7)

من طريق أبي سفيان، وأبو يعلى

(8)

من طريق يزيد الرقاشي كلاهما عن أنس بن مالك حديثًا في الخوارج قريبًا من حديث أبي سعيد كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

(الحديث الرابع عن جابر بن عبد اللّه)

قال الإمام أحمد

(9)

: حَدَّثَنَا حسن بن موسى، حَدَّثَنَا أبو

(10)

شهاب، عن يحيى بن سعيد، عن أبي الزبير عن جابر بن عبد اللّه قال:

(1)

مسند الإمام أحمد (3/ 224) وهو حديث صحيح.

(2)

في المسند: لا يرجعون حتى يرتدوا على فوقه.

(3)

في ط: أو قتلوه.

(4)

سنن أبي داود (4765) في السنة.

(5)

سنن أبي داود (4766) في السنة، وسنن ابن ماجة (175) في المقدمة.

(6)

مصنف عبد الرزاق (18669).

(7)

لم أجده في المطبوع من البحر الزخار، وربما كان من الجزء المفقود.

(8)

مسند أبي يعلى الموصلي (5/ 337 - 338).

(9)

مسند الإمام أحمد (3/ 353) وهو حديث صحيح.

(10)

في أ، ط: ابن شهاب، وما هنا عن المسند.

ص: 499

كنت

(1)

مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عام الجِعِرّانَة وهو يقسم فضة في ثوب بلال للناس فقال رجل: يا رسول الله، اعْدِلْ، فقال:"وَيْلَكَ ومَنْ يَعْدِلُ إذا لم أَعْدل؟ لقد خِبت إن لم أكن أعدل" فقال عمر: يا رسول اللّه دعني أقتل هذا المنافق، فقال: "معاذ اللّه أن يتحدَّثَ الناس أني أقتل أصحابي، إن هذا وأصحابه يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، أو تراقيهم، يمرقون من الدين مروق

(2)

السهم من الرمية".

وقال أحمد

(3)

: حَدَّثَنَا علي بن عياش، حَدَّثَنَا إسماعيل بن عياش، حدَّثني يحيى بن سعيد، أخبرني أبو الزبير (قال): سمعت جابرًا يقول: بصر عيني وسمع أذني رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجِعِرانَة وفي ثوب بلال فضة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقبضها للناس يعطيهم، فقال رجل: اعدل فقال: "وَيْلكَ مَنْ يَعدلُ إذا لم أكن أَعْدِلُ؟ " فقال عمر (بن الخطاب): دعني أقتلْ هذا المنافقَ الخبيثَ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"معاذ اللّه أن يتحدثَ الناسُ أني أقتلُ أصحابي، هذا وأصحابه يقرؤون القرآن لا يجاوزُ تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية".

ثم رواه أحمد

(4)

عن أبي المغيرة، عن معاذ بن رفاعة، حَدَّثَنَا أبو الزبير، عن جابر (بن عبد اللّه) قال: لما قسم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم غنائم هوازن بالجِعرّانة قام رجل من بني تميم فقال: اعدلْ يا محمد فقال: "ويلك ومَنْ يعدلُ إن لم أعدل؛ لقد خبتُ وخسرتُ إن لم أعْدِلْ". قال: فقال عمر: يا رسول الله ألا أقوم فأقتلُ هذا المنافق؟ قال: "معاذ الله أن تتسامع الأمم أن محمدًا يقتل أصحابه، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن هذا وأصحابه له يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق المرماة

(5)

من الرمية" قال معاذ: فقال لي أبو الزبير: فعرضت هذا الحديث على الزهري فما خالفني فيه إِلَّا أنه قال النضي

(6)

قلت القدح قال: ألست رجلًا عربيًا

(7)

؟.

وقد رواه مسلم

(8)

عن محمد بن رُمْح، عن اللَّيث. وعن محمد بن المُثَنَّى، عن عبد الوهاب الثقفي.

وأخرجه النسائي من حديث الليث ومالك بن أنس كلهم عن يحيى بن سعيد الأنصاري به بنحوه.

(1)

في المسند: جئت.

(2)

في أ: كما يمرق، وما هنا كالمسند.

(3)

مسند الإمام أحمد (3/ 354)، وإسناده حسن من أجل إسماعيل بن عياش، والحديث صحيح.

(4)

مسند الإمام أحمد (3/ 355).

(5)

في ط: كما يمرق السهم، وما هنا كالمسند.

(6)

في الأصول والمطبوع: النضو، وقلت، وهو خطأ، والتصحيح من المسند.

(7)

في أ: فقال ألست رجلًا غريبًا. وفي المسند: ألست برجل عربي.

(8)

صحيح مسلم (1063)(142) في الزكاة.

ص: 500

‌حديث (رافع)

(1)

بن عمرو الأنصاري مع حديث أبي ذر رضي الله عنهما الحديث الخامس عن سعد بن أبي وقاص

قال يعقوب بن سفيان

(2)

: حَدَّثَنَا الحميدي

(3)

، حَدَّثَنَا سفيان - هو ابن عيينة - حدَّثَنِي العلاء بن أبي العباس أنه سمعَ أبا الطفيل يحدِّثُ عن بكر بن قرواش، عن سعد بن أبي وقاص قال: ذكر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ذا الثديَّة

(4)

فقال: "شيطان الردهة كراعي الجَبَل يحتدره

(5)

رجل من بجيلة يقال له الأشهب أو ابن الأشهب علامة في قوم ظَلَمةٍ" قال سفيان: فأخبرني عمار الدُّهني أنه جاء

(6)

به رجل يقال له: الأشهب [أو ابن الأشهب].

وقد روى هذا الحديث الإمام أحمد

(7)

عن (سفيان) بن عيينة به مختصرًا ولفظه "شيطان الرَّدْهة يحتدره"[يعني] رجلًا من بجيلة. تفرد به أحمد. وحكى البخاري

(8)

: عن علي بن المديني قال: لم أسمع بذكر بكر بن قرواش إِلَّا في هذا الحديث

(9)

.

وروى يعقوب بن سفيان: عن عبد اللّه بن معاذ، عن أبيه، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن حامد الهمداني قال: سمعت سعد بن أبي وقاص يقول: "قتل عليٌّ شيطان الرَّدهة" قال (الحافظ أبو بكر) البيهقي

(10)

: يريد واللّه أعلم قتله أصحاب علي بأمره.

وقال الهيثم بن عدي

(11)

: حَدَّثَنَا إسرائيل بن يونس، عن جده أبي إسحاق السبيعي، عن رجل قال: بلغ سعد بن أبي وقاص أن عليَّ بن أبي طالب قتل الخوارج فقال: قتل علي بن أبي طالب شيطان الردهة.

(1)

ما بين الحاصرتين إضافة منا للتوضيح.

(2)

هذا في القسم الضائع من "المعرفة" ليعقوب، وقد نقله محققة الفاضل في مستدركه الذي عمل في آخر الكتاب (3/ 315 - 316) من البداية والنهاية.

(3)

مسند الحميدي (1/ 190) رقم (74).

(4)

الثُّديّة: تصغير الثدي، وإنما أدخل فيه الهاء وإن كان الثدي مذكرًا، كأنه أراد قطعة من ثدي، ويُروى ذو اليُدية بالياء بدل الثاء تصغير اليد وهي مؤنثة. النهاية (1/ 208).

(5)

يحتدره، بالدال المهملة: أي يسقطه.

(6)

في ط: جاء رجل.

(7)

مسند الإمام أحمد (1/ 179).

(8)

التاريخ الكبير للبخاري (2/ 94).

(9)

ولذلك فإسناده ضعيف.

(10)

دلائل النبوة لليهقي (3/ 433 - 434).

(11)

في أ: علي، تحريف، والهيثم بن عدي كذاب.

ص: 501

‌الحديث السادس عن أبي سعيد سعد بن مالك بن سنان الأنصاري وله طرق (عنه) الأولى منها

قال الإمام أحمد

(1)

: حَدَّثَنَا بكر بن عيسى، حَدَّثَنَا جامع بن مطر

(2)

الحبطي، حَدَّثَنَا أبو رؤبة شداد بن عمران القيسي

(3)

عن أبي سعيد الخُدري أن أبا بكر جاء إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني مررت بوادي كذا وكذا فإذا رجل مُتخشّعٌ حسن الهيئة يصلي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اذهب إليه فاقتله [قال] فذهب إليه (أبو بكر) فلما رآه على تلك الحال

(4)

كره أن يقتله". فرجع

(5)

إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لعمر:"اذهب إليه فاقتله" قال: فذهب عمر فرآه على تلك الحال التي رآه أبو بكر فكره أن يقتله فرجع فقال: يا رسول اللّه إني رأيته متخشعًا فكرهت أن أقتله. قال: لا يا علي اذهب فاقتله" فذهب علي فلم يره فرجع، فقال: يا رسول الله إني لم أره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا وأصحابه يقرؤون القرآن لا يُجاوز تَراقيهم يمرقون من الدين كما يمرُقُ السَّهم من الرمية [ثم] لا يعودون فيه حتى يعود السهم في فوقه، فاقتلوهم هم شرّ البريَّة".

تفرد به أحمد

(6)

. وقد روى البزار في "مسنده"

(7)

: من طريق الأعمش، عن أبي سفيان، عن أنس بن مالك، وأبو يعلى

(8)

: عن أبي خيثمة، عن عمر بن يونس، عن عكرمة بن عمار، عن يزيد الرَّقاشي، عن أنس من هذه القصة

(9)

وأطول منها وفيها زيادات أخرى.

‌الطريق الثاني

قال (الإمام) أحمد

(10)

: حَدَّثَنَا أبو أحمد، حَدَّثَنَا سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن الضحاك المِشْرقيِّ، عن أبي سعيد الخُدري عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم في حديث "ذكر قومًا يخرجون على فرقة من الناس

(1)

مسند الإمام أحمد (3/ 15).

(2)

في الأصول والمطبوع: جامع بن قطر، وهو خطأ، والتصحيح من المسند.

(3)

في ط: شداد بن عمر العنسي؛ وما هنا كالمسند.

(4)

في ط: الحالة.

(5)

في ط: فجاء.

(6)

وإسناده ضعيف، فإن أبا رؤبة شداد بن عمران مجهول الحال، وفي ألفاظ الحديث نكارة ظاهرة إذ كيف يكره أبو بكر وعمر قتل من أمر النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم في قتله.

(7)

كشف الأستار (1851).

(8)

مسند أبي يعلى الموصلي (7/ 154 - 156).

(9)

في أ: عن عكرمة بن عمر، عن يزيد الرقاشي عن أنس نحوًا من هذا أو أطول.

(10)

مسند الإمام أحمد (3/ 82).

ص: 502

مختلفة يقتلهم أقرب الطائفتين إلى الحق". أخرجاه في الصحيحين

(1)

كما سيأتي في ترجمة أبي سلمة عن أبي سعيد.

‌الطريق الثالث

قال (الإمام) أحمد

(2)

: حَدَّثَنَا وكيع، حَدَّثَنَا عكرمة بن عمار، حَدَّثَنَا عاصم بن شُميخ، عن أبي سعيد الخُدري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حلف فاجتهد في اليمين قال: "لا والذي نفس أبي القاسم بيده

(3)

ليخرجن قوم من أمتي تحقرون أعمالكم عند أعمالهم يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهمُ من الرمية" قالوا: فهل من علامة يُعرفون بها؟ قال: "فيهم رجل ذو يُدَيَّة

(4)

أو ثُدَيَّة مُحَلِّقي رُؤُوسِهم". قال أبو سعيد: فحدَّثني عشرون أو بضع

(5)

وعشرون من أصحاب النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أن عليًا ولي قتلهم. قال: فرأيت أبا سعيد بعدما كبر ويديه ترتعش ويقول: قتالهم عندي أحل من قتال عدتهم من الترك. وقد رواه أبو داود

(6)

عن أحمد بن حنبل به.

‌الطريق الرابع

قال الإمام أحمد

(7)

حَدَّثَنَا عبد الرزاق، أخبرنا سفيان، عن أبيه، عن (ابن) أبي نُعْم، عن أبي سعيد (الخدري) قال: بعث علي وهو باليمن إلى النبي

(8)

صلى الله عليه وسلم بذُهَيبةٍ في تربتها فقسمها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بين الأقرع بن حابس الحنظلي ثم أحد بني مجاشع وبين عُيَينة بن بدر الفزاري وبين علقمة بن علاثة

(9)

أحد بني كلاب، وبين زيد الخير

(10)

الطائي، ثم أحد بني نبهان. قال فغضبت قريش والأنصار. قالوا: يعطي صناديد أهل نجد ويدعنا؟ قال: "إنما أتألفهم". قال: فأقبل رجل غائر العينين، ناتئ الجبين، كثُّ اللحية مشرف الوجنتين محلوق الرأس فقال: يا محمد اتق الله فقال: "من يطع اللّه إذا عصيته؟ يأمنني على أهل الأرض ولا تأمنوني" قال: فسأل رجل من القوم قتله النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أراه خالد بن

(1)

صحيح البخاري (4004) في المغازي، وصحيح مسلم (1063)(143) في الزكاة.

(2)

مسند الإمام أحمد (3/ 33).

(3)

في أ: نفس محمد بيده، وما هنا كالمسند.

(4)

تقدم أنه يجوز يُدية تصغير يد كما يجوز ثُدية.

(5)

في ط: بضعة.

(6)

سنن أبي داود (3264) في الأيمان والنذور، وإسناده ضعيف، لجهالة عاصم بن شميخ.

(7)

مسند الإمام أحمد (3/ 68 و 73).

(8)

في ط: رسول اللّه.

(9)

في الأصل والمطبوع: إقحام (أو عامر بن الطفيل) أحد.

(10)

في ط: الخيل.

ص: 503

الوليد - فمنعه، فلما ولَّى قال: "إن من ضئضئ

(1)

هذا قومًا يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم،

يمرقون من الإسلام مروق السَّهم من الرميَّة يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، لئن أنا أدركتهم

لأقتلنهم قتل عاد".

رواه البخاري

(2)

من حديث عبد الرزاق به، ثم رواه أحمد

(3)

، عن محمد بن فضيل، عن عمارة بن القعقاع، عن عبد الرحمن بن أبي نعم

(4)

، عن أبي سعيد، وفيه الجزم بأن خالدًا سأل أن يقتل ذلك الرجل، ولا ينافي سؤال عمر بن الخطاب.

وهو في الصحيحين

(5)

من حديث عمارة بن القعقاع بن شبْرمة

(6)

: وقال فيه "إنه سيخرج من [ضئضئ هذا قوم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم" وليس المراد بهم أنه يخرج من] صلبه ونسله، لأن الخوارج الذين ذكرنا

(7)

لم يكونوا من سلالة هذا، بل ولا أعلم أحدًا منهم من نسله، وإنما أراد من ضئضئ هذا، أي: من شكله وشبهه وصفته فعلًا وقولًا، فاللّه أعلم. [وهذا الشكل وهذه الصفة كثيرة في الناس جدًّا في كل زمان وكل مكان في قرّاء القرآن وغيرهم لمن تأملها، واللّه أعلم]. وهذا الرجل [المذكور] هو ذو الخُويصرَة التميمي وسماه بعضهم حرقوصًا، فاللّه أعلم.

‌الطريق الخامس

قال الإمام أحمد

(8)

: حَدَّثَنَا (عفّان، حَدَّثَنَا) مهدي بن ميمون، حَدَّثَنَا محمد بن سيرين، عن معبد بن سيرين، عن أبي سعيد، عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال:"يخرجُ أناسٌ من قِبَلِ المشرقِ يقرؤون القرآن لا يجاوز تَرَاقيهم يمرقون من الدين كما يمرقُ السهم من الرَّميَّة، ثم لا يعودون فيه حتى يعود السَّهم على فُوقه" قيل: ما سيماهم؟ قال: "سيماهم التحليق أو التسبيد"

(9)

ورواه البخاري

(10)

عن أبي النعمان محمد بن الفضل

(11)

عن مهدي بن ميمون به.

(1)

الضئضئ: الأصل، يريد أنه يخرج من نسله وعقبه. الهاية (3/ 69).

(2)

صحيح البخاري (7432).

(3)

مسند الامام أحمد (3/ 4).

(4)

في أ: نعيم؛ خطأ.

(5)

صحيح البخاري (4351) في المغازي، ومسلم (1064)(144) في الزكاة.

(6)

في ط: من سيرته؛ تحريف.

(7)

في أ: المذكورين.

(8)

مسند الإمام أحمد (3/ 64).

(9)

في أ: التسبيل، تحريف، وفي المسند: التسبيت - بالتاء - والتسبيد: هو الحلق واستئصال الشعر، وقيل: هو ترك التدهّن وغسل الرأس. الهاية (2/ 333).

(10)

صحيح البخاري (7562) في الوحيد.

(11)

في أ: محمد بن أبي الفضل، خطأ.

ص: 504

‌الطريق السادس

قال الإمام أحمد

(1)

: حَدَّثَنَا محمد بن عبيد، حَدَّثَنَا سويد بن نجيح، عن يزيد الفقير قال: قلت لأبي سعيد: إنَّ منَّا رجالًا هم أقرؤنا للقرآن، وأكثرنا صلاة، وأوصلنا للرَّحم، وأكثرنا صومًا، خرجوا علينا بأسيافهم. فقال أبو سعيد: سمعت النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم يقول: "يخرج قوم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرَّمِيَّة" تفرّد به أحمد ولم يخرجوه في الكتب الستة، وإسناده لا بأس به رجال كلهم ثقات وسويد (بن نجيح هذا) مستور

(2)

.

‌الطريق السابع

قال الإمام أحمد

(3)

: حَدَّثَنَا عبد الرزاق، حَدَّثَنَا معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي سعيد قال بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم قسمًا إذ جاءه ابن ذي الخويصرة

(4)

التميمي فقال: اعدل يا رسول اللّه. فقال: "ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل؟ " فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله أتأذن لي فيه فأضرب عنقه؟ فقال "دعه فإن له أصحابًا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرَّمِيَّة فينظر في قُذَذِهِ

(5)

فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر في نضيَّتِهِ

(6)

فلا يوجد فيه شيء"، ثم ينظر في رضافه

(7)

فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر في نصله فلا يوجد فيه شيء، قد سبق الفرث والدم، آيتهم

(8)

رجل أسود إحدى يديه [أو قال: إحدى ثدييه]

(9)

مثل ثدي المرأة، أو مثل البَضْعَة تَدَرْدَرٌ

(10)

، يخرجون على حين فتر

(11)

من الناس" فنزلت فيه {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} [التوبة: 58] الآية. قال أبو سعيد: (فأشهد) أني سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1)

مسند الإمام أحمد (3/ 52) وهو حديث حسن.

(2)

قال الحافظ في "تعجيل المنفعة"(172): قال أحمد: ما أرى به بأسًا، ووثقه ابن معين. وقال أبو حاتم: شيخ يكتب حديثه.

(3)

مسند الإمام أحمد (3/ 56).

(4)

في أ: فقال ذو الخويصرة، وما هنا كالمسند.

(5)

القُذذ: ريش السهم واحدتها قذَّة. النهاية (4/ 28).

(6)

النضيُّ: نصل السهم، وقيل هو السهم. النهاية (5/ 73).

(7)

رضف الركبة ورضافها: جلدها وقيل عظمها. اللسان (رضف).

(8)

في المسند: منهم رجل أسود.

(9)

ما بنيهما ساقط من ط.

(10)

تدَرْدَر: أي ترجرج تجيء وتذهب. النهاية (2/ 112).

(11)

في أ: فرقة.

ص: 505

وأشهد أن عليًا حين قتلهم وأنا معه جيء بالرجل على النعت الذي نعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم. ورواه البخاري

(1)

عن أبي بكر بن أبي شيبة عن هشام بن يوسف عن معمر [به].

ورواه البخاريّ

(2)

[أيضًا] من حديث شعبة. ومسلم

(3)

من حديث يونس بن بكير

(4)

، عن الزهري به، لكن في رواية مسلم: عن حرملة وأحمد بن عبد الرحمن كلاهما، عن ابن وهب

(5)

، عن يونس، عن الزُّهري، عن أبي سلمة، والضحاك الهمداني [المِشْرقي] عن أبى سعيد به.

ثم رواه أحمد

(6)

: عن محمد بن مصعب، عن الأوزاعي، عن الزهري، عن أبي سلمة والضحاك المشرقي، عن أبي سعيد، فذكر نحو ما تقدم من هذا السياق، وفيه أنه عمر هو [الذي] استأذن [رسول اللّه صلى الله عليه وسلم] في قتله، وفيه "يخرجون على (حين) فرقة من الناس يقتلُهُمْ أوْلَى الطائفتين باللّه" قال أبو سعيد: فأشهد أني سمعت هذا من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وأني شهدت عليًا حين قتلهم، فالتمس في القتلى فوجد على النعت الذي نعته رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ورواه البخاريّ

(7)

: عن دُحيم، عن الوليد، عن الأوزاعي كذلك.

وقال أحمد

(8)

: قرأت على عبد الرحمن: مالك

(9)

، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي سعيد أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

"يخرج فيكم قومٌ تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم، وأعمالكم مع أعمالهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدِّين كما يمرق السَّهم من الرّمية، ينظر في النصل فلا يرى شيئًا، ثم ينظر في القدح فلا يرى شيئًا، ثم ينظر في الريش

(10)

فلا يرى شيئًا ويتمارى في الفُوق".

قال عبد الرحمن: حَدَّثَنَا به مالك - يعني هذا الحديث -

(1)

صحيح البخاري (6933) في استتابة المرتدين.

(2)

صحيح البخاري (3610) في المناقب.

(3)

صحيح مسلم (1064)(148) في الزكاة.

(4)

في ط: يزيد، خطأ.

(5)

في أ: وهيب، خطأ.

(6)

مسند الإمام أحمد (3/ 65).

(7)

صحيح البخاري (6163) في الأدب.

(8)

مسند الإمام أحمد (3/ 60).

(9)

في الأصول والمطبوع: عبد الرحمن بن مالك، وهو إقحام.

(10)

في أ: ثم ينظر في الريش فلا يرى شيء ثم ينظر في القدح فلا يرى شيء، وما هنا كالمسند.

ص: 506

ورواه البخاري

(1)

عن عبد الله بن يوسف، عن مالك به.

ورواه البخاري ومسلم

(2)

: عن محمد بن المثنى، عن عبد الوهاب، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن إبراهيم، عن أبي سلمة وعطاء بن يسار، عن أبي سعيد به.

وقال أحمد

(3)

: حَدَّثَنَا يزيد، حَدَّثَنَا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة قال: جاء رجل إلى أبي سعيد فقال: هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر في الحرورية شيئًا؟ فقال: سمعته يذكر قوما يتعمَّقون

(4)

في الدين يحقر أحدكم صلاته عند صلاتهم، وصومه عند صومهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرَّميَّة، أخذ سهمه فنظر في نصله فلم ير شيئًا ثم نظر في رضافه فلم ير شيئًا، [ثم نظر في قدحته فلم ير شيئًا]

(5)

ثم نظر في القذذ فتمارى هل يرى شيئًا أم لا" ورواه ابن ماجة

(6)

عن أبي بكر بن أبي شيبة عن يزيد بن هارون به.

‌الطريق الثامن

قال (الإمام) أحمد

(7)

: حَدَّثَنَا ابن أبي عدي، عن سليمان، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر قومًا يكونون في أمته يخرجون في فرقة من الناس سيماهم التحليق "هم شر الخلق، أو من شر الخلق تقتلهم أولى الطائفتين بالحق" قال: فضرب النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لهم مثلًا - أو قال قولًا - الرجل يرمي الرمية - أو قال الغرض - فينظر في النصل فلا يرى بصيرة، وينظر في النّضي فلا يرى بصيرة، وينظر في الفوق فلا يرى بصيرة" فقال أبو سعيد: وأنتم قتلتموهم يا أهل العراق.

وقد رواه [مسلم]

(8)

عن محمد بن المثنى، عن محمد بن أبي عديِّ، عن سُليمان - وهو ابن طرخان التيمي - عن أبي نَضْرة واسمه المنذر بن مالك بن قطعة، عن أبي سعيد الخدري بنحوه.

‌الحديث الثامن

(9)

عن سلمان الفارسي

قال الهيثم بن عدي: حَدَّثَنَا سليمان بن المغيرة، عن حميد بن هلال قال: جاء رجل إلى قوم فقال:

(1)

صحيح البخاري (5058) في فضائل القرآن.

(2)

صحيح البخاري (6931) في استتابة المرتدين، ومسلم (1064)(147) في الزكاة.

(3)

مسند الإمام أحمد (3/ 33 - 34).

(4)

في أ: قومًا متعمقين.

(5)

زيادة من المسند.

(6)

سنن ابن ماجة (169) في المقدمة.

(7)

مسند الإمام أحمد (3/ 5).

(8)

صحيح مسلم (1064)(149) في الزكاة.

(9)

لعل المؤلف قد تجاوز السابع، لأنه عدَّ حديث رافع [الذي سيأتي مع حديث أبي ذر] سابعًا.

ص: 507

لمن هذه الخباء؟ قالوا: لسَلْمان الفارسي، قال أفلا تنطلقون معي فيحدِّثنا ونسمع منه

(1)

، فانطلق معه بعض القوم فقال: يا أبا عبد اللّه لو أدنيت خباءك [إلينا] وكنتَ منا قريبًا فحدَّثتنا وسمعنا منك؟ فقال: ومن أنت؟ قال: فلان بن فلان. قال سَلْمان: قد بلغني عنك معروف. بلغني أنك تخفُّ في سبيل اللّه، وتقاتل العدو، وتخدم أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فإن أخطأتك واحدة أن تكون من هؤلاء القوم الذين ذكرهم لنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قالوا: فوجد ذلك الرجل قتيلًا في أصحاب النهروان

(2)

.

‌الحديث التاسع عن سهل بن حنيف الأنصاري

قال الإمام أحمد

(3)

: حَدَّثَنَا أبو النضر، حَدَّثَنَا حزام بن إسماعيل العامري، عن أبي إسحاق الشيباني، عن يُسَيْر

(4)

بن عمرو قال: دخلت على سهل بن حُنيف [الأنصاري] فقلت حدّثني ما سمعت من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال في الحرورية، قال: أحدثك ما سمعت من النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لا أزيدك عليه شيئًا، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم "يذكر قومًا يخرجون من هاهنا - وأشار بيده نحو العراق - يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرَّميَّة" قال: قلت هل ذكر لهم علامة؟ قال: هذا ما سمعت لا أزيد عليه [شيئًا].

وقد أخرجاه في الصحيحين

(5)

من حديث عبد الواحد بن زياد.

ومسلم

(6)

من حديث علي بن مسهر، والعوام بن حوشب.

والنسائي

(7)

من حديث محمد بن فضيل كلّهم عن أبي إسحاق الشيباني به.

وقد رواه مسلم

(8)

، حَدَّثَنَا أبو بكر بن أبي شيبة، حَدَّثَنَا علي بن مسهر، عن الشيباني عن يُسَيْر بن عمرو قال: سألت سهل بن حُنيف سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يذكر الخوارج؟ فقال: سمعته - وأشار بيده نحو المشرق - "قوم يقرؤون القرآن بألسنتهم لا يعدو تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرَّميَّة".

(1)

في أ: فتسمع منه.

(2)

في سنده الهيثم بن عدي، وهو كذاب، ومتروك.

(3)

مسند الإمام أحمد (3/ 486).

(4)

في ط: بسر؛ تحريف.

(5)

صحيح البخاري (6934) في استتابة المرتدين، وصحيح مسلم (1068)(159) في الزكاة.

(6)

صحيح مسلم (1068)(160) في الزكاة.

(7)

السنن الكبرى (5/ 32).

(8)

صحيح مسلم (1068)(159).

ص: 508

حدَّثَنَا أبو كامل، حَدَّثَنَا عبد الواحد، حَدَّثَنَا سليمان الشيباني بهذا الإسناد وقال:"يخرج منه أقوام".

حَدَّثَنَا أبو بكر بن أبي شيبة وإسحاق جميعًا عن يزيد قال أبو بكر: حَدَّثَنَا يزيد بن هارون عن العوام بن حوشب، حَدَّثَنَا أبو إسحاق الشيباني، عن يُسَيْر بن عمرو، عن سهل بن حنيف، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "يتيهُ

(1)

قومٌ قبل المشرق مُحَلَّقةٌ رُؤُوسُهُم".

‌الحديث العاشر عن ابن عباس

قال (الحافظ أبو بكر) البزار: حَدَّثَنَا يوسف بن موسى، حَدَّثَنَا الحسن بن الربيع، حَدَّثَنَا أبو الأحوص، عن سِماك، عن عكرمة، عن ابن عباس قال قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "يقرأ

(2)

القرآن أقوام من أمتي يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية".

ورواه ابن ماجة

(3)

عن أبي بكر بن أبي شيبة، وسويد بن سعيد كلاهما عن أبي الأحوص بإسناده مثله.

‌الحديث الحادي عشر عن ابن عمر

قال الإمام أحمد

(4)

: حَدَّثَنَا يزيد، حَدَّثَنَا أبو جناب

(5)

يحيى بن أبي حَيَّة

(6)

، عن شهر بن حَوْشب قال: سمعت عبد الله بن عمر يقول: لقد سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: "يخرج من أمتي قوم يسيؤون الأعمال يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم" قال يزيد: لا أعلمه إِلَّا قال: "يحقر أحدكم عمله مع عملهم يقتلون أهل الإسلام، فإذا خرجوا فاقتلوهم فطوبى لمن قتلهم، وطوبى لمن قتلوه، كلما طلع منهم قرن قطعه اللّه، كلما طلع منهم قرن قطعه اللّه" فردد ذلك رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عشرين مرة أو أكثر وأنا أسمع. تفرد به أحمد من هذا الوجه. وقد ثبت من حديث سالم ونافع عن ابن عمر أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال

(7)

: "الفتنة من هاهنا من حيث يطلع قرن الشيطان! وأشار بيده نحو المشرق".

(1)

في أ، ط: فتنة قوم من قبل

؛ وما هنا عن صحيح مسلم (2/ 750).

(2)

في أ: ليقرأن، وهي موافقة لرواية ابن ماجة.

(3)

سنن ابن ماجة (171) في المقدمة، وهو حديث حسن يشهد له الحديث الذي بعده عند ابن ماجة رقم (172).

(4)

مسند الإمام أحمد (2/ 84)، وقد أخرجه ابن ماجة من وجه آخر رقم (172) بإسناد حسن.

(5)

في ط: حساب، وفي أ: حباب، كلاهما تحريف.

(6)

في ط: حبة - بالباء - تحريف.

(7)

الحديث أخرجه الإمام أحمد في مسنده (2/ 121) والبخاري في صحيحه (3511) في المناقب، ومسلم في صحيحه (2905)(50) في الفتن.

ص: 509

‌الحديث الثاني عشر عن عبد اللّه بن عمرو

قال الإمام أحمد

(1)

: حَدَّثَنَا عبد الرزَّاق، أنا مَعْمر، عن قتادة عن شَهْر بن حَوْشب قال: لما جاءتنا بيعة يزيد بن معاوية، قدمت الشام، فأخبرت بمقام يقومه نَوْف البكالي، فجئته فجاء رجل فانتبذ

(2)

الناس، عليه خميصة، فإذا هو عبد اللّه بن عمرو بن العاص، فلما رآه نوف أمسك عن الحديث، فقال عبد اللّه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنها ستكون هجرة بعد هجرة، ينحاز الناس إلى مهاجَر إبراهيم، لا يبقى في الأرض إِلَّا شرار أهلها، تلفظهم أرضهم، تقذرهم نفس الرحمن

(3)

، تحشرهم النار مع القردة والخنازير، تبيت معهم إذا باتوا، وتقيل معهم إذا قالوا، وتأكل من تخلَّف" قال: وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "سيخرج ناس من أمتي [من] قبل المشرق يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، كلَّما خرج منهم قرن قُطِع حتى عدها زيادة على عَشر مرَّات، كُلَّما خرج منهم قرن قُطع حتى يخرج الدجال في بقيَّتهم].

وقد روى أبو داود

(4)

أوله في كتاب الجهاد من "سننه" عن القواريري، عن معاذ بن هشام، عن أبيه، عن قتادة [به] وقد تقدم حديث عبد الله بن مسعود وحديث أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنهما.

‌الحديث الثالث عشر عن أبي ذر

قال مسلم بن الحجاج

(5)

: حَدَّثَنَا شيبان بن فرّوخ، حَدَّثَنَا سليمان بن المغيرة، حَدَّثَنَا حُميد

(6)

بن هلال، عن عبد اللّه بن الصامت، عن أبي ذر. قال قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم:"إن بعدي من أمتي - أو سيكون بعدي من أمتي - قوم يقرؤون القرآن لا يجاوز حلاقيمهم يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرَّميَّة لا يعودون فيه [هم] شر الخلق والخليقة".

قال ابن الصامت: فلقيت رافع بن عمرو الغفاري أخا الحَكم

(7)

الغفاري. قلت: ما حديث سمعته من أبي ذرٍّ كذا وكذا؟ فقال: وأنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. لم يروه البخاري.

(1)

مسند الإمام أحمد (2/ 199) وإسناده ضعيف، ولبعضه شواهد.

(2)

في المسند: بمقام يقومه نوف فجئته فجاء رجل فاشتد الناس.

(3)

في المسند: الله.

(4)

سنن أبي داود (2482) في الجهاد.

(5)

صحيح مسلم (1067)(158) في الزكاة.

(6)

في ط: حبيب؛ خطأ.

(7)

في ط: الحكم؛ خطأ.

ص: 510

‌الحديث الرابع عشر عن (أم المؤمنين) عائشة

قال (الحافظ) البَيْهقي

(1)

: أخبرنا أبو عبد اللّه الحافظ وأبو سعيد بن أبي عمرو، قالا: حَدَّثَنَا أبو العباس الأصمّ، حَدَّثَنَا السري بن يحيى، حَدَّثَنَا أحمد بن يونس، حَدَّثَنَا علي بن عياش، عن حبيب، عن سَلَمة. قال قال علي: لقد علمت عائشة أن جيش المَرَدةِ وأهل النهروان ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم. قال ابن عياش: جيش المَرَدة قتلة عثمان رضي الله عنه.

وقال الهيثم بن عدي

(2)

: حدَّثني إسرائيل، عن يونس، عن جده أبي إسحاق السبيعي، عن رجل عن عائشة قال: بلغها [قتل] علي الخوارج فقالت: قتل علي بن أبي طالب شيطان الردهة - تعني المُخْدج.

وقال الحافظ أبو بكر البزار: حَدَّثَنَا محمد بن عمارة بن صبيح، حَدَّثَنَا سهل

(3)

بن عامر البَجلي، حَدَّثَنَا أبو خالد، عن مجالد، عن الشعبيّ، عن مسروق، عن عائشة فالت: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الخوارج فقال: "شِرارُ أمتي يقتلهم خيار أمتي"

(4)

.

قال

(5)

: وحدَّثناه إبراهيم بن سعيد، حَدَّثَنَا حسين بن محمد، حَدَّثَنَا سليمان بن قرم، حَدَّثَنَا عطاء بن السائب، عن أبي الضحى، عن مسروق

(6)

؛ عن عائشة، عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فذكر نحوه قال: فرأيت عليًّا قتلهم وهم أصحاب النهروان: ثم قال البزار: لا نعلم روى (عن) عطاء، عن أبي الضحى، عن مسروق إلَّا هذا الحديث، ولا نعلم رواه عن عطاء إِلَّا سليمان بن قرم.

[قلت:] وسليمان بن قرم قد تكلَّموا فيه لكن الإسناد الأول يشهد لهذا كما أن هذا يشهد للأول

(7)

فهما متعاضدان، وهو غريب من حديث أم المؤمنين

(8)

، وقد تقدم في حديث عبد اللّه بن شداد

(9)

، عن

(1)

دلائل النبوة (6/ 434)، وإسناده ضعيف، سلمة هو ابن أبي الطفيل فيما أظن أو لا نعرف راويًا عن علي بهذا الاسم غيره، وهو مجهول الحال، وقد جهله ابن خراش، ولم يصنع الحافظ ابن حجر شيئًا حين رد جهالته في التعجيل (160) اللهم إِلَّا إذا أراد أنه ليس بمجهول العين، وهذا إسناد غريب، فنحن لا نعرف رواية لعلي بن عياش عن حبيب، ولا نعرف رواية لحبيب عن سلمة!! (بشار).

(2)

الهيثم كذاب.

(3)

في أ: سهيل.

(4)

إسناده ضعيف لضعف مجالد.

(5)

في أ: وقال البزار.

(6)

في أ: عن مشرف؛ خطأ.

(7)

في أ: يشهد له كما أن هذا يثسهد كذلك ..

(8)

في أ: عائشة.

(9)

في ط: شيبة؛ خطأ.

ص: 511

علي ما يدل على أن عائشة استغربت حديث الخوارج ولاسيما خبر ذي الثدية كما تقدم، د انما أوردنا هذه الطرق كلّها ليعلم الواقف عليها أن ذلك حق وصدق وهو من أكبر دلالات النبوة، كما ذكره غير واحد من الأئمة فيها، واللّه تعالى أعلم.

وقال: سألت عائشة رضي الله عنها بعد ذلك عن خبر ذي الثدية فتيقنته من طرق متعددة.

وقال الحافظ أبو بكر البيهقيّ في "الدلائل"

(1)

: أنا أبو عبد اللّه [الحافظ] أنا الحسين بن الحسن بن عامر الكندي بالكوفة من أصل سماعه، حَدَّثَنَا [أحمد بن] محمد بن صدقة الكاتب، حدَّثني محمد

(2)

بن أبان فقرأت فيه: حدثني الحسن بن الحر، قال: حَدَّثَنَا الحكم بن عتيبة وعبد اللّه بن أبي السفر، عن عامر الشعبي، عن مسروق، قالت عائشة: عندك علم عن ذي الثدية الذي أصابه علي في الحرورية؟ قلت: لا. قالت: فاكتب لي بشهادة من شهدهم، فرجعت إلى الكوفة وبها يومئذ أسباع فكتبت شهادة عشرة من كل سُبع، ثم أتيتها بشهادتهم فقرأتها عليها، قالت: أكل هؤلاء عاينوه؛ قلت: لقد سألتهم فأخبروني بأن كلهم قد عاينه فقالت: لعن الله فلانًا فإنه كتب إلي أنه أصابهم بنيل

(3)

مصر ثم أرخت

(4)

عينيها فبكت فلما سكنت عبرتها قالت: رحم اللّه عليًّا لقد كان على حق، وما كان بيني وبينه إِلَّا كما يكون بين المرأة وأحمائها.

‌حديث آخر عن رجلين من الصحابة

(5)

قال الهيثم بن عدي في كتاب "الخوارج": حدَّثني سليمان بن المغيرة، عن حميد

(6)

بن هلال قال: أقبل رجلان من أهل الحجاز حتى قدما العراق فقيل لهما: ما أقدمكما العراق؟ قالا: رجونا أن ندرك هؤلاء القوم الذين ذكرهم لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجدنا علي بن أبي طالب قد سبقنا إليهم - يعنيان أهل النهروان

(7)

-.

(1)

دلائل النبوة (6/ 434 - 435).

(2)

في ط: أحمد، وفي الدلائل: حَدَّثَنَا عمر بن عبد الله بن عمر بن محمد بن إبان بن صالح، قال: هذا كتاب جدي، محمد بن أبان فقرأت فيه.

(3)

في ط: بليل.

(4)

في أ: ثم رجعت.

(5)

في أ: عن رجلين مؤمنين من أصحابه.

(6)

في ط: حبيب؛ تحريف.

(7)

الهيثم بن عدي: كذاب متروك.

ص: 512

‌حديث [آخر] في مدح علي رضي الله عنه على قتاله

(1)

الخوارج

قال الإمام أحمد

(2)

: حَدَّثَنَا حسين بن محمد، حَدَّثَنَا فِطْر

(3)

، عن إسماعيل بن رجاء بن ربيعة الزبيدي، عن أبيه قال: سمعت أبا سعيد يقول: كنّا جلوسًا ننتظر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم؛ فخرج علينا من بيوت بعض نسائه، قال: فقمنا معه، فانقطت

(4)

نعله، فتخلف عليها علي يخصفها، فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومضينا معه، ثم قام ينتظره وقمنا معه، فقال:"إن منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله" فاستشرفنا لها وفينا

(5)

أبو بكر، وعمر فقال:"لا، ولكنه خاصفُ النعل" قال: فجئنا نبشّره قال: فكأنه قد سمعه.

ورواه أحمد

(6)

عن وكيع وأبي أسامة، عن فطر بن خليفة.

فأما الحديث الذي قال الحافظ أبو يعلي

(7)

: حَدَّثَنَا إسماعيل بن موسى، حَدَّثَنَا الربيع بن سهل، عن سعيد بن عبيد، عن علي بن ربيعة قال: سمعت عليًا على مِنْبركم هذا يقول: عَهدَ إليّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أن أقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين.

وقد رواه أبو بكر بن المقرئ، عن الجد بن عبادة البصري، عن يعقوب بن عباد

(8)

، عن الربيع بن سهل الفزاري به، فإنه حديث غريبٌ ومنكرٌ، على أنه قد روي من طرقٍ عن علي وعن غيره، ولا تخلو واحدة منها عن ضعف.

والمراد بالناكثين: يعني: أهل الجمل، وبالقاسطين: أهل الشام [والقاسط هو الجائر الظالم] وأما المارقون: فالخوارج لأنهم مرقوا من الدين.

وقد رواه الحافظ أبو أحمد بن عدي في "كامله"

(9)

عن أحمد بن جعفر البغدادي، عن سليمان بن

(1)

في ط: قتال الخوارج.

(2)

مسند الإمام أحمد (3/ 82) وهو حديث صحيح، وهذا إسناد حسن.

(3)

في ط، أ: مطر، تحريف، وهو فطر بن خليفة المخزومي، من رجال التهذيب.

(4)

في أ: فانقطع، والنعل مؤنثة كما في المذكر والمؤنث لابن الأنباري.

(5)

في ط: وفيهم، وما هنا الجادة، وهو الذي في المسند.

(6)

مسند الإمام أحمد (3/ 33).

(7)

مسند أبي يعلى الموصلي (1/ 397) رقم (519) وهو ضعيف، كما قال المصنف.

(8)

في أ: "عبادة"، خطأ، وهو الرواجني الشيعي، من رجال التهذيب.

(9)

الكامل لابن عدي (2/ 636) والسند في ط: عن أحمد بن حفص البغدادي، عن سليمان بن يوسف .. وما هنا عن أ والكامل.

ص: 513

سيف، عن عبيد اللّه

(1)

بن موسى، عن فطر، عن حكيم بن جبير، عن إبراهيم، عن علقمة، عن علي قال: أمرت بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين.

وقال الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي

(2)

: أخبرني الأزهري، حَدَّثَنَا محمد بن المظفر، حَدَّثَنَا محمد بن أحمد بن ثابت قال: وجدت في كتابي جدّي محمد بن ثابت، حَدَّثَنَا أشعث

(3)

بن الحسن السُّلمي، عن جعفر الأحمر، عن يونس بن الأرْقَم، عن أبان، عن خُلَيد العَصَري

(4)

، قال: سمعت عليًا أمير المؤمنين يقول يوم النَّهروان: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتال الناكثين والمارقين والقاسطين

(5)

.

وقد رواه الحافظ أبو القاسم بن عساكر من حديث محمد بن نوح الجنديسابوري، أخبرنا هارون بن إسحاق، حَدَّثَنَا أبو غسان، عن جعفر - أحسبه الأحمر - عن عبد الجبار الهمداني، عن أنس بن عمرو، عن أبيه، عن علي قال: أمرت بقتال ثلاثة: المارقين والقاسطين والناكثين.

وقال الحاكم أبو عبد اللّه: أخبرنا أبو الحسين محمد بن أحمد بن غنم الحنظلي بقنطرة بَرَدان، حَدَّثَنَا محمد بن الحسن بن عطية بن سعد العوفي، حدَّثني أبي، حدَّثني عَمِّي عمرو بن

(6)

عطية بن سعد، عن أخيه الحسن بن عطية، حَدَّثَنَا جدي، سعد بن جنادة، عن علي رضي الله عنه قال: أمرت بقتال ثلاثة؛ القاسطين، والناكثين، والمارقين، فأما القاسطون فأهل الشام، وأما الناكثون فذكرهم، وأما المارقون فأهل النهروان - يعني الحرورية

(7)

-.

وقال الحافظ ابن عساكر

(8)

: أخبرنا أبو القسم زاهر

(9)

بن طاهر، أخبرنا أبو سعد الأديب، أخبرنا السيد أبو الحسن محمد بن علي بن الحسين، حَدَّثَنَا محمد بن أحمد الصوفي، حَدَّثَنَا محمد بن عمرو الباهلي، حَدَّثَنَا كثير بن يحيى، حَدَّثَنَا أبو عوانة، عن أبي الجارود، عن زيد بن علي بن الحسين بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي قال: أمرني رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بقتال الناكثين والمارقين والقاسطين.

(1)

في أ: عبد الله؛ خطأ.

(2)

تاريخ بغداد (9/ 300)(ط. د. بشار) في ترجمة خليد بن عبد اللّه العَصَري.

(3)

في ط: "شعيب" محرف، وما أثبتناه يعضده ما في تاريخ الخطيب.

(4)

في ط: المصري، تحريف وما هنا عن أ وتاريخ بغداد.

(5)

إسناده ضعيف جدًّا، أبان هو ابن أبي عياش متروك الحديث، ولم نقف عليه من هذا الوجه عند غير الخطيب.

(6)

في ط: حدَّثني عمي عن عمرو عن عطية؛ خطأ وما هنا عن أ وتاريخ دمشق.

(7)

إسناده ضعيف.

(8)

تاريخ دمشق - ترجمة علي - (3/ 200).

(9)

في أ: أنا القاسم بن زاهر بن الطاهر أبو سعيد الأديب.

ص: 514

‌حديث ابن مسعود في ذلك

قال الحافظ: حَدَّثَنَا الإمام أبو بكر أحمد بن الفقيه

(1)

، أنا الحسن بن علي، حَدَّثَنَا زكريا بن يحيى الخراز المقرئ، حَدَّثَنَا إسماعيل بن عباد المقرئ، حَدَّثَنَا شريك، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد اللّه قال: خرج [علينا] رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى منزل أم سلمة فجاء عليّ فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "يا أم سلمة هذا والله قاتل الناكثين والقاسطين والمارقين من بعدي"

(2)

.

‌حديث [آخر عن] أبي سعيد في ذلك

قال الحاكم: حَدَّثَنَا أبو جعفر محمد بن علي بن دُحَيم الشيباني، حَدَّثَنَا الحسين بن الحكم الحيري، حَدَّثَنَا إسماعيل بن أبان، حَدَّثَنَا إسحاق بن إبراهيم الأزدي، عن أبي هارون العبدي، عن أبي سعيد الخدري قال: أمرنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين فقلت: يا رسول اللّه! أمرتنا بقتال هؤلاء فمع من؟ فقال: "مع علي بن أبي طالب، معه يُقتل عمار بن ياسر"

(3)

.

‌حديث أبي أيوب في ذلك

قال الحاكم

(4)

: أخبرنا أبو الحسن

(5)

علي بن حمشاد

(6)

المعدل، حَدَّثَنَا إبراهيم بن الحسين بن ديزيل، حَدَّثَنَا عبد العزيز بن الخطاب، حَدَّثَنَا محمد بن كثير، عن الحارث بن حصيرة، عن أبي صادق، عن مخنف بن سُليم: قال: أتينا أبا أيوب فقلنا: قاتلت بسيفك المشركين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جئت تقاتل المسلمين؟ فقال: أمرني رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بقتال الناكثين والمارقين والقاسطين.

قال الحاكم

(7)

: وحدَّثنا أبو بكر محمد بن أحمد بن بالويه، حَدَّثَنَا الحسن بن علي بن شبيب المَعْمَري

(8)

، حَدَّثَنَا محمد بن حميد، حَدَّثَنَا سلمة بن الفضل، حدَّثني أبو زيد الأحول، عن عتاب بن ثعلبة [حدَّثني أبو أيوب الأنصاري] في خلافة عمر بن الخطاب قال: أمرني رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين مع علي بن أبي طالب.

(1)

في ط: أحمد بن الحسين؛ خطأ وما هنا موافق لتاريخ دمشق.

(2)

إسناده ضعيف، لضعف شريك.

(3)

إسناده ضعيف جدًّا، فإن أبا هارون العبدي متروك.

(4)

في تاريخ دمشق - ترجمة علي - (3/ 213).

(5)

في أ: أبو الحسين، خطأ.

(6)

في ط: "حماد" محرف، وهو شيخ الحاكم، مترجم في سير أعلام النبلاء (15/ 398).

(7)

الحديث بتمامه في تاريخ دمشق - ترجمة علي - (3/ 213).

(8)

في الأصول والمطبوع: العمري، والتصحيح من كتب الرجال.

ص: 515

وقال الخطيب البغدادي

(1)

: حَدَّثَنَا الحسن بن علي بن عبد اللّه المقرئ، حَدَّثَنَا أحمد بن محمد بن يوسف، حَدَّثَنَا محمد بن جعفر المطيري، حَدَّثَنَا أحمد بن عبد اللّه المؤدب بسرَّ منْ رأى، حَدَّثَنَا المُعَلَّى بن عبد الرحمن ببغداد، حَدَّثَنَا شريك، عن سليمان بن مِهران الأعمش

(2)

، [قال: حَدَّثَنَا إبراهيم]

(3)

عن علقمة والأسود قالا: أتينا أبا أيوب الأنصاري عند منصرفه من صفِّين فقلنا له: يا أبا أيوب! إن اللّه أكرمك بنزول محمد صلى الله عليه وسلم وبمجيء ناقته تفضلًا من اللّه وإكرامًا لك حين أناخت ببابك دون الناس، ثم جئت بسيفك على عاتقك تضرب به أهل لا إله إِلَّا الله؟ فقال: يا هذا إن الرائد لا يكذب أهله، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا بقتال ثلاثة مع علي، بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين. فأما الناكثون فقد قاتلناهم وهم أهل الجمل، طلحة والزبير، وأما القاسطون فهذا منصرفنا من عندهم - يعني معاوية وعَمْرًا - وأما المارقون فهم أهل الطرفاوات

(4)

وأهل السعيفات وأهل النخيلات وأهل النهروانات

(5)

، والله ما أدري أين هم، ولكن لا بد من قتالهم إن شاء الله.

قال: وسمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول لعمار: "يا عمار تقتلك الفئة الباغية وأنت مذ ذاك مع الحق

(6)

والحق معك، يا عمار بن ياسر إن رأيت عليًا قد سلك واديًا وسلك (الناس) غيره فاسلك مع علي فإنه لن يدليك في ردى ولن يخرجك من هدى، يا عمار من تقلَّدَ سيفًا أعان به عليًّا على عدوه قلَّدهُ الله يوم القيامة وشاحين (من در، ومن تقلَّد سيفًا أعان به عدو على عليه قلده الله يوم القيامة وشاحين) من نار. فقلنا: يا هذا! حسبك رحمكَ اللّهُ (حسبك رحمك الله) ".

هذا السياق الظاهر أنه موضوع وآفته من جهة المعلى بن عبد الرحمن فإنه متروك الحديث، والله أعلم

(7)

.

‌فصل

(8)

قال الهيثم بن عدي في كتابه الذي جمعه في الخوارج وهو من أحسن ما صنف في ذلك قال

(9)

: وذكر

(1)

تاريخ بغداد (15/ 244 - 245)(ط. د. بشار) في ترجمة المعلَّى بن عبد الرحمن الواسطي.

(2)

في ط: مهران عن الأعمش. خطأ.

(3)

زيادة من تاريخ بغداد.

(4)

في ط: "الطرقات"، وما هنا من أ وهو الذي في تاريخ الخطيب.

(5)

في ط: "النهروان"، وما هنا من أ وهو الذي في تاريخ الخطيب الذي ينقل منه المؤلف.

(6)

في أ: منذ إذ ذاك مع الخوف والحق معك.

(7)

بل هو كذاب يسرق الحديث، وقد أخرجه ابن الجوزي في الموضوعات (2/ 11) وانظر تعليق الدكتور بشار عليه.

(8)

ذهب التصوير بهذه اللفظة في أ ومكانها بياض.

(9)

لكنه كذاب متروك!

ص: 516

عيسى بن داب قال: لما انصرف عليٌّ رضي الله عنه من النهروان قام في الناس خطيبًا فقال: بعد حمد الله والثناء عليه والصلاة على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: أما بعد فإن الله قد أعزَّ نصركم فتوجّهوا من فوركم هذا إلى عدوّكم من أهل الشام. فقاموا إليه فقالوا: يا أمير المؤمنين نفِدتْ نبالنا وكلَّتْ سيوفُنا ونصلت أسنتنا، فانصرف بنا إلى مصرنا حتى نستعدَّ بأحسن عدتنا، ولعل أمير المؤمنين يزيد في عدتنا عدة من فارقنا وهلك منا فإنه أقوى لنا على عدونا - وكان الذي تكلَّم بهذا الأشعث بن قيس الكندي، فتابعهم

(1)

وأقبل بالناس حتى نزل بالنخيلة وأمرهم أن يلزموا معسكرهم ويوطنوا أنفسهم على جهاد عدوهم ويُقلوا زيارةَ نسائهم وأبنائهم، فأقاموا معه أيامًا متمسكين

(2)

برأيه وقوله، ثم تسلَّلوا حتى لم يبق منهم أحد إِلَّا رؤوس

(3)

أصحابه، فقام عليٌّ فيهم خطيبًا فقال: الحمد للّه فاطر الخلق، وفالق الإصباح، وناشر الموتى، وباعث من في القبور، وأشهد أن لا إله إِلَّا اللّه وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وأوصيكم بتقوى الله فإنَّ أفضل ما توسل به العبدُ الإيمانُ والجهادُ في سبيله وكلمة الإخلاص فإنها الفطرة، وإقام الصلاة فإنها الملة، وإيتاء الزكاة فإنها من فرائض الله

(4)

، وصوم شهر رمضان فإنه جُنة من عذابه

(5)

، وحج البيت فإنه منفاة للفقر مدحضة للذنب، وصلة الرحم فإنها مثراة في المال، منسأة في الأجل، محبة في الأهل، وصدقة السرّ فإنها تكفر الخطيئةَ وتُطفئُ غضبَ الربّ، وصنع المعروف فإنه يدفع ميتةَ السّوء ويقي مصارع الهول، أفيضوا في ذكر اللّه فإنه أحسن الذكر، وارغبوا فيما وُعدَ المتقون فإن وعد اللّه أصدقُ الوعد، واقتدوا بهدى نبيكم صلى الله عليه وسلم فإنه أفضل الهدى، واستنُوا بِسنَّته فإنها أفضل السنن، وتعلَّموا كتابَ الله فإنه أفضل الحديث، وتفقهوا في الدين فإنه ربيع القلوب، واستشفوا بنوره فإنه شفاءٌ لما في الصدور، وأحسنوا تلاوته فإنه أحسن القصص، وإذا قرئ عليكم فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم تُرْحَمون، وإذا هُديتم لعلمه فاعملوا بما علمتم به لعلكم تهتدون، فإن (العالم) العامل بغير علمه كالجاهل الحائر الذي لا يستقيم عن جهله

(6)

، بل قد رأيت أن الحجة أعظم، والحسرة أدوم على هذا العالم المنسلخ من علمه على هذا الجاهل المتحيّر في جهله، وكلاهما مضلل مثبور، لا ترتابوا فتشكوا، ولا تشكوا فتكفروا

(7)

، ولا ترخصوا لأنفسكم فتذهلوا، ولا تذهلوا

(8)

في الحق فتخسروا، ألا وإن من الحزم أن تثقوا، ومن الثقة أن لا تغتروا، وإنَّ أنصحكم لنفسه أطوعكم لربه وإنَّ أغشَّكم لنفسه أعصاكم لربّه، من يطع الله يأمنْ

(1)

في ط: فبايعهم؛ تحريف.

(2)

في أ: مستمسكون؛ خطأ.

(3)

في ط: راسل، تحريف.

(4)

في ط: فريضته.

(5)

في أ: من عذاب اللّه.

(6)

في أ: فإن العامل بغير علم كالجاهل الحاير الذي لا يستقيم من جهله.

(7)

في أ: وكلاهما حائر مضلل مبتور لا يرتاب فتشك ولا لك فتكفر.

(8)

في أ: ولا تدهنون.

ص: 517

ويستبشر، ومن يعصِ الله يَخَفْ ويندم، (ثم) سلوا اللهَ اليقينَ وارغبوا إليه في العافية، وخير ما دام في القلب اليقين، إن عوازم الأمور أفضلها، وإن محدثاتها شرارها

(1)

وكل مُحْدثةٍ بدعةٌ وكل مُحْدثٍ مُبْتدعٌ، ومن ابتدع فقد ضيَّع، وما أحدث محدثٌ بدعةً إِلَّا ترك بها سنةً، المغبون من غبن دينه، والمغبون من خسر نفسه، وإن الرياء من الشرك، وإن الإخلاص من العمل

(2)

والإيمان، ومجالس اللهو تنسى القرآن ويحضرها الشيطان، وتدعو إلى كل غي، ومجالسة

(3)

النساء تزيغ القلوب وتطمح إليه الأبصار، وهي مصايد الشيطان، فأصدقوا الله فإن الله مع من صدقَ وجانبوا الكذبَ فإن الكذب مجانب للإيمان، ألا إنَّ الصدقَ على شرف منجاة وكرامة، وإن الكذب على شرف رديء وهلكة [وإهانة] ألا وقولوا الحق تعرفوا به، واعملوا به تكونوا من أهله، وأدُّوا الأمانةَ إلى من ائتمنكم، وصلوا أرحام من قطعكم، وعودوا بالفضل على من حرمكم، وإذا عاهدتم فأوفوا، وإذا حكمتم فاعدلوا، ولا تفاخروا بالآباء، ولا تنابزوا بالألقاب، ولا تمازحوا، ولا يغضب بعضكم بعضًا، وأعينوا الضعيف والمظلوم والغارمين وفي سبيل الله (وابن السبيل) والسائلين وفي الرقاب، وارحموا الأرملة واليتيم، وأفشوا السلام وردوا التحية على أهلها بمثلها أو بأحسن منها {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة: 2] وأكرموا الضيف، وأحسنوا إلى الجار، وعودوا المرضى، وشيعوا الجنائز، وكونوا عباد الله إخوانًا، أما بعد فإن الدنيا قد أدبرت وآذنت بوداع، وإن الآخرة قد أقبلت

(4)

وأشرفت باطلاع، وإن المضمار اليوم وغدًا السباق، وإن السبقة الجنة والغاية النار

(5)

، ألا وإنكم في أيام مهل من ورائها أجل يحثه عجل، فمن أخلص له عمله في أيام مهله

(6)

قبل حضور أجله فقد أحسن عمله ونال أمله، ومن قصر عن ذلك فقد خسر عمله وخاب أمله، وضره أمله، فاعملوا في الرغبة والرهبة فإن نزلت بكم رغبة فاشكروا الله واجمعوا معها رهبة، وإن نزلت بكم رهبة فاذكروا الله واجمعوا معها رغبة، فإن الله قد تأذن المسلمين بالحسنى، ولمن شكر بالزيادة، وإني لم أر مثل الجنة نام طالبها، ولا كالنار نام هاربها، ولا أكثر متكسبًا من شيء كسبه ليوم تدخر فيه الذخائر، وتبلى فيه السرائر، وتجتمع فيه الكبائر، [ألا] وإنه من لا ينفعه الحقُّ يضره الباطلُ، ومن لا يستقيم على

(7)

الهدى يجرُّ به الضلال، ومن لا ينفعه اليقين يضره الشك، ومن لا ينفعه حاضر لبِّه

(8)

فعازبه عنه

(1)

في أ: وإن محدثاها شرّها.

(2)

في أ: من العلم.

(3)

في أ: ومحادثة.

(4)

في ط: قد أظلت.

(5)

في أ: وإن السيقة والغاية الجنة والنار.

(6)

في ط: مهلته.

(7)

في ط: به.

(8)

في ط: حاضره.

ص: 518

أعور

(1)

، وغائبه عنه أعجز. [ألا] وإنكم قد أمرتم بالظعن ودللتم على الزاد [فاعملوا على المراد] ألا وإن أخوف ما أخاف عليكم اثنان طول الأمل واتباع الهوى، فأما طول الأمل فيُنْسِي الآخرة، وأما اتباع الهوى فيبعد عن الحق

(2)

، ألا وإن الدنيا قد ترحلت مدبرة، وإن الآخرة قد ترحلت مقبلة، ولهما بنون فكونوا من أبناء الآخرة إن استطعتم، ولا تكونوا من بني الدنيا فإن اليوم عمل ولا حساب وغدًا حساب ولا عمل.

وهذه الخطبة [عظيمة] بليغة نافعة جامعة للخير ناهية عن الشر. وقد روي لها شواهد من وجوه أخرى متصلة وللّه الحمد والمنة.

وقد ذكر ابن جرير

(3)

: أن عليًّا رضي الله عنه لما نكل أهل العراق عن الذهاب معه إلى الشام خطبهم فوبخهم وأنبهم وتوعدهم وهددهم وتلا عليهم آيات في الجهاد من سور متفرقة، وحث على المسير إلى عدوهم فأبوا من ذلك وخالفوه ولم يوافقوه، واستمروا في بلادهم، وتفرقوا عنه هاهنا وهاهنا. [قيل إن ذلك بسبب قتله الخوارج لأنهم كانوا قراباتهم وإخوانهم ويرونهم أفضلهم وخيرهم لعبادتهم وقراءتهم فتثاقلوا عنه وهجروه، فدخل عند ذلك إلى الكوفة في حالة اللّه بها عليم].

‌فصل

وقد ذكر الهيثم بن عدي أنه خرج على علي رضي الله عنه بعد [قتله أهل] النهروان رجل يقال له: الخِرِّيت

(4)

بن راشد الناجي، قدم مع أهل البصرة، فقال لعلي: إنك قد قاتلت من أهل النهروان في كونهم أنكروا عليك قصة

(5)

التحكيم وتزعم أنك (قد) أعطيت أهل الشام عهودك ومواثيقك، وإنك

(6)

لست بناقضها، وهذان الحكمان قد اتفقا على (خلعك) ثم اختلفا في ولاية معاوية، فولاه عمرو [بن العاص] وامتنع أبو موسى من ذلك

(7)

، فأنت مخلوع باتفاقهما، وأنا قد خلعتك وخلعت معاوية معك، وتبع الحارث هذا بشر كثير من قومه - بني ناجية وغيرهم - وتحيزوا ناحية، فبعث إليهم علي معقل بن قيس الرماحي في جيش كثيف فقتلهم معقل قتلًا ذريعًا وسبى من بني ناجية خمسمئة أهل بيت فقدم بهم على عليٍّ فتلقّاه رجل يقال له: مصقلة بن هبيرة أبو المغلّس - وكان عاملًا لعلي على بعض الأقاليم - فتضرروا إليه

(1)

في أ: أخون.

(2)

في أ: فطول الأمل ينسي الآخرة واتباع الهوى يبعد عن الحق.

(3)

تاريخ الطبري (5/ 113).

(4)

في الأصل والمطبوع: الحارث، وما هنا عن الطبري، وما سيأتي بعد قليل.

(5)

في أ: قضية.

(6)

في أ: فإنك.

(7)

في أ: من ولايته.

ص: 519

وشكوا ما هم فيه من السبي

(1)

، فاشتراهم مصقلة من معقل بخمسمئة ألف (درهم) وأعتقهم، فطالبه بالثمن فهرب منه إلى ابن عبّاس بالبصرة، فكتب معقل إلى ابن عباس [في ذلك] فقال له مصقلة: إني إنما جئت لأدفع ثمنهم إليك، ثم هرب منه

(2)

إلى علي فكتب ابن عباس ومعقل إلى علي فطالبه علي فدفع من الثمن مئتي ألف ثم انشمر هاربًا

(3)

فلحق بمعاوية (بن أبي سفيان) بالشام، فأمضى علي عتقهم وقال: ما بقى من المال في ذمة مصقلة؟ وأمر بداره في الكوفة فهدمت.

وقد روى الهيثم، عن سفيان الثوري وإسرائيل، عن عمّار الدُّهني، عن أبي الطفيل، أن بني ناجية ارتدوا فبعث إليهم معقل بن قيس فسباهم فاشتراهم مصقلة من علي بثلائمئة ألف فأعتقهم ثم هرب إلى معاوية. قال الهيثم: وهذا قول الشيعة ولم يسمع بحيٍّ من العرب ارتدوا [عن الإسلام] بعد الردة التى كانت في أيام الصديق.

وقال الهيثم: حدَّثني عبد

(4)

الله بن تميم بن طرفة الطائي، حدَّثني أبي أن عدي بن حاتم قال مرة لعلي بن أبي طالب وهو يخطب: قتلت أهل النهروان على إنكار الحكومة، وقتلت الخريت

(5)

بن راشد على مسألته إياك (أيضًا الحكومة)، والله ما بينهما موضع قدم، فقال له علي: أسكت إنما كنت أعرابيًا تأكل الضبع بجبل طيء بالأمس، فقال له عدي: وأنت والله قد رأيناك بالأمس تأكل البلح بالمدينة.

قال الهيثم: ثم خرج

(6)

على علي (رجل) من أهل البصرة فقتل فأمَّر أصحابه عليهم الأشرس بن عوف الشيباني، فقتل هو وأصحابه، قال: ثم خرج على علي الأشهب بن بشر البجلي، ثم أخذ عرينة من أهل الكوفة فقتل هو وأصحابه، قال: ثم خرج (على علي) سعيد بن نغد التميمي

(7)

ثم (من بني) ثعلبة من أهل الكوفة فقتل بقنطرة درربجان فوق المدائن. قال الهيثم أخبرني بذلك عبد الله بن عياش عن مشيخته

(8)

.

‌فصل

ذكر ابن جرير

(9)

عن أبي مخنف لوط بن يحيى - وهو أحد أئمة هذا الشأن - أن قتال علي للخوارج

(1)

في أ: فتضرع السبي إليه وشكوا ما هم فيه فاشتراهم.

(2)

في أ: من ابن عباس.

(3)

في أ: ثم هرب فلحق.

(4)

في أ: عبيد.

(5)

في ط: الحريث.

(6)

في أ: ثم خرج رجل على علي.

(7)

في أ: سعيد بن فعل التيمي.

(8)

مكانا اللفظة بياض في أ.

(9)

تاريخ الطبري (5/ 92).

ص: 520

(يوم النهروان، كان في هذه السنة - أعني سنة سبع وثلاثين - قال ابن جرير: وأكثر أهل السير على أن ذلك) كان في سنة ثمان وثلاثين وصححه ابن جرير، قلت: وهو الأشبه كما سننبه عليه في السنة الآتية إن شاء اللّه تعالى.

قال ابن جرير: وحج بالناس في هذه السنة - يعني سنة سبع وثلاثين - عبيد اللّه بن عباس نائب علي على اليمن ومخاليفها. وكان نائب مكة قثم بن العباس، وعلى المدينة تمام بن عباس، وقيل سهل بن حنيف، وعلى البصرة عبد الله بن عباس، وعلى قضائها أبو الأسود الدؤلي، وعلى مصر محمد بن أبي بكر، و (علي بن أبي طالب) أمير المؤمنين (مقيم) بالكوفة، ومعاوية بن أبي سفيان مستحوذ على الشام. قلت: ومن نيته أن يأخذ مصر من محمد بن أبي بكر [الصديق].

‌ذكر من توفي [في هذه السنة] من الأعيان

(1)

خَبَّاب بن الأرتِّ

(2)

بن جَنْدَلَة بن سعد بن خزيمة. كان قد أصابه سبي في الجاهلية فاشترته أم سباع بنت أنْمار الخُزاعية التي كانت تختن النساء، وهي أم سباع بن عبد العُزّى الذي قتله حمزة يوم أحد وحالف

(3)

بني زهرة، أسلم خباب قديمًا قبل دار الأرقم، وكان ممن يؤذى في اللّه فيصبر

(4)

ويحتسب، وهاجر وشهد بدرًا وما بعدها من المشاهد.

قال الشعبي: دخل [خباب] يومًا على عمر فأكرم مجلسه وقال: ما أحد أحق بهذا المجلس منك إِلَّا بلال، فقال: يا أمير المؤمنين إن بلالًا كان يؤذى وكان له من يمنعه، وإني كنت لا ناصر لي، واللّه لقد سلقوني يومًا في نار أججوها ووضع رجل رجله على صدري فما اتقيت الأرض إِلَّا بظهري، ثم كشف عن ظهره فإذا هو برص رضي الله عنه، ولما مرض دخل عليه أناس من الصحابة يعودونه فقالوا: أبشر

غدًا تلقى الأحبة

محمدًا وحزبه

فقال: واللّه إن إخواني مضوا ولم يأكلوا من دنياهم

(5)

شيئًا، وإنا قد أينعت لنا ثمرتها فتحن نهدبها

(6)

،

(1)

هذا الفصل نقله المصنف من تاريخ الإسلام للذهبي.

(2)

ترجمة - خباب بن الأرت - في طبقات ابن سعد (3/ 164) والتاريخ الكبير (3/ 215) والجرح والتعديل (3/ 395) والاستيعاب (2/ 437) وأسد الغابة (2/ 114) والإصابة (1/ 416) وتهذيب التهذيب (3/ 133).

(3)

في أ: حالف خباب.

(4)

في الله عز وجل ويصبر.

(5)

في أ: من أجرهم.

(6)

هدَبَهُ يهدبه: قطعه. القاموس (هدب).

ص: 521

فهذا الذي يهمني. قال: وتوفي بالكوفة في هذه السنة عن ثلاث وستين سنة، وهو أول من دفن بظاهر الكوفة.

خُزَيْمة بن ثابت

(1)

بن الفاكِه بن ثَعْلبة بن ساعِدة الأنماري، ذو الشهادتين وكانت راية بني خَطْمة معه يوم الفتح، وشهد صفين مع علي، وقتل يومئذ رضي الله عنه.

سفينة

(2)

مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قد قدمنا ترجمته في الموالي المنسوبين إليه صلوات اللّه وسلامه عليه.

عبد الله بن الأرقم بن أبي الأرقم

(3)

أسلم عام الفتح وكتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تقدم مع كتاب الوحي.

عبد الله بن بديل

(4)

بن ورقاء الخزاعي، وقتل يوم صفين وكان أمير الميمنة لعلي فصارت أمرتها للأشتر النخعي

(5)

.

عبد الله بن خباب بن الأرت

(6)

. ولد في حياة

(7)

النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وكان موصوفًا بالخير، قتله

(8)

الخوارج كما قدمنا (بالنهروان) في هذه السنة، (فلما جاء علي قال لهم: أعطونا قتلته ثم أنتم آمنون فقالوا: كلنا قتله فقاتلهم).

عبد الله بن سعد بن أبي سرح

(9)

: أحد كتَّاب الوحي أيضًا، أسلم قديمًا (وكتب الوحي) ثم ارتدّ ثم عاد إلى الإسلام عام الفتح واستأمن له عثمان [بن عفان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم] وكان أخاه لأمه - وحسن إسلامه وقد ولاه عثمان نيابة مصر بعد عمرو بن العاص، فغزا إفريقية وبلاد النوبة، وغزا

(10)

ذات الصواري مع

(1)

ترجمة - خزيمة بن ثابت - في طبقات ابن سعد (4/ 378) والاستيعاب (2/ 448) وأسد الغابة (2/ 133) وسير أعلام النبلاء (2/ 485) والإصابة (3/ 93).

(2)

ترجمة - سفينة - في الاستيعاب (2/ 129) وأسد الغابة (2/ 90) والوافي بالوفيات (15/ 405) والإصابة (2/ 85).

(3)

ترجمة - عبد الله بن الأرقم بن أبي الأرقم - في الاستيعاب (2/ 865) وأسد الغابة (3/ 172) وسير أعلام النبلاء (2/ 482) والإصابة (2/ 58).

(4)

ترجمة - عبد الله بن بديل - في الاستيعاب (3/ 872) وأسد الغابة (3/ 184) والإصابة (2/ 280).

(5)

في أ: وكان أمير ميمنة علي فأخذها بعده الأشتر.

(6)

ترجمة - عبد اللّه بن خباب - في الاستيعاب (2/ 894) وأسد الغابة (3/ 223) والإصابة (2/ 302).

(7)

في أ: ولد في زمن.

(8)

في أ: قتلته.

(9)

ترجمة - عبد اللّه بن سعد - في طبقات ابن سعد (7/ 496) والاستيعاب (3/ 918) وتاريخ دمشق (34/ 16) وجامع الأصول (14/ 458) وأسد الغابة (3/ 173) وسير أعلام النبلاء (3/ 33) والإصابة (2/ 316) والشذرات (1/ 283).

(10)

قبلها في أ، ط: وفتح الأندلس؛ خطأ إذ أن فتح الأندلس كان سنة اثنتين وتسعين هجرية في عهد الوليد بن عبد الملك.

ص: 522

الروم في البحر فقتل منهم ما صبغ وجه

(1)

الماء من الدماء

(2)

، ثم لمّا حُصر عثمان تغلّب عليه محمد بن أبي حذيفة وأخرجه من مصر فمات في هذه السنة وهو معتزل عليًا ومعاوية، في صلاة الفجر بين التسليمتين رضي الله عنه.

عَمَّار بن ياسر

(3)

أبو اليَقْظان العَنْسي من عنس اليمن، وهو حليف بني مخزوم، أسلم قديمًا وكان ممن يُعذَّبُ في الله هو وأبوه وأمه سُميَّة، ويُقال إنه أولُ من اتَّخذَ مسجدًا في بيته يتعبَّدُ فيه

(4)

، وقد شهد بدرًا وما بعدها وقد قدمنا كيفية مقتله يوم صفين وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"تقتلك الفئة الباغية"

(5)

وروى الترمذي

(6)

من حديث الحسن، عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن الجنة تشتاق إلى ثلاثة، إلى علي وعمار وسلمان".

وفي الحديث الآخر الذي رواه الثوري وقيس بن الربيع وشريك القاضي وغيرهم عن أبي إسحاق عن هانئ بن هانئ عن علي أن عمارًا استأذن على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال: "مرحبًا بالطيب المطيب"

(7)

.

وقال إبراهيم بن الحسين: حَدَّثَنَا يحيى، حاثني نصر، حَدَّثَنَا سفيان الثوري، عن الأعمش

(8)

، عن أبي عمار، عن عمرو بن شرحبيل

(9)

، عن رجل من أصحاب رسول اللّه أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: "لقد ملئ عمار إيمانًا من قدمه

(10)

إلى مُشاشِه

(11)

".

وحدَّثنا يحيى بن معلّى، عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق، عن عائشة أنها قالت: ما من أحدٍ من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أشاء أن أقول فيه إِلَّا عمار بن ياسر فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

(1)

مكان اللفظة بياض في أ.

(2)

في أ: من الدنيا؛ خطأ.

(3)

ترجمة - عمار بن ياسر - في طبقات ابن سعد (3/ 246 و 6/ 14) والاستيعاب (3/ 1135) وتاريخ بغداد (1/ 150) وأسد الغابة (4/ 129 - 135) وجامع الأصول (14/ 540 - 541) وسير أعلام النبلاء (1/ 406 - 428) والإصابة (2/ 512 - 513) وشذرات الذهب (1/ 213).

(4)

في هامش أ: مطلب أول من اتخذ مسجدًا في بيته عمار بن ثابت!

(5)

في أ: وقد قدمنا كيفية مقتله بصفين، وكان مع علي وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تقتله الفئة الباغية. والحديث في جامع الترمذي (3800) في المناقب.

(6)

جامع الترمذي (3797) في المناقب وإسناده ضعيف.

(7)

الحديث بهذا السند رواه الإمام أحمد في مسنده (1/ 126) ورواه الترمذي (3799) وابن ماجة رقم (146) وهو حديث صحيح.

(8)

في الأصول والمطبوع: عن أبي الأعمش، وهو خطأ، والتصحيح من كتب الرجال.

(9)

في أ: عن عمرو بن سفيان.

(10)

في أ: قرنه.

(11)

مُشاش: جمع مُشاشه - بالضم - رأس العظم الممكن المضغ. القاموس (مشش) والحديث رواه النسائي رقم (8/ 111)(5007) وابن ماجة رقم (147) وهو حديث صحيح.

ص: 523

"إن عمار بن ياسر حُشِي

(1)

ما بين أخمص قدميه إلى شحمة أذنه إيمانًا"

(2)

.

وحَدَّثَنَا يحيى، حَدَّثَنَا عمرو بن عون

(3)

أنا هشيم، عن العوام بن حوشب، عن سلمة بن كهيل، عن علقمة قال: أتيت أهل الشام فلقيت خالد بن الوليد فحدَّثني قال: كان بيني وبين عمار بن ياسر كلام في شيء فشكاني إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال: "يا خالد! لا تؤذ عمارًا فإنه من يبغض عمارًا يبغضه اللّه، ومن يعادِ عمارًا يعاده اللّه"

(4)

قال: فعرضت له بعد ذلك فسللت ما في نفسه.

وله أحاديث كثيرة في فضائله رضي الله عنه. قتل بصفين عن إحدى

(5)

وقيل ثلاث وقيل أربع وتسعين سنة، طعنه أبو الغادية فسقط ثم أكب عليه رجل فاحتز رأسه، ثم اختصما إلى معاوية أيهما قتله فقال لهما عمرو بن العاص: اندرا فواللّه إنكما لتختصمان في النار، فسمعها منه معاوية فلامه على تسميعه إياهما ذلك، فقال له عمرو: واللّه إنك لتعلم ذلك، ولوددت أني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة.

قال الواقدي

(6)

: حدَّثني الحسن بن الحسين بن عمارة، عن أبي إسحاق، عن عاصم، أن عليًّا صلَّى عليه ولم يُغَسّله وصلى (معه) على هاشم بن عتبة، فكان عمار مما يلي عليًا، وهاشم إلى نحو القبلة. قالوا: وقبره هنالك.

وكان آدمَ اللونِ، طويلًا، بعيد ما بين المنكبين: أشهل العينين، رجلًا لا يغير شيبه رضي الله عنه.

الرُّبَيِّع بنت مُعَوِّد

(7)

بن عَفْراء

(8)

أسلمت قديمًا وكانت تخرج مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى الغزوات فتداوي الجرحى، وتسقي الماء للكَلْمى [وغيرهم]، وروت أحاديثَ كثيرةً.

وقد قتل في هذه السنة في أيام صفين خلقٌ كثيرٌ وجمٌّ غفير، فقيل: قتل من أهل الشام خمسةٌ وأربعون ألفًا، ومن أهل العراق خمسة وعشرون ألفًا. وقيل: قتل من أهل العراق أربعون ألفًا - من مئة وعشرين

(1)

في أ: إِلَّا عمارًا فإنه حُشي. وفي هامشه التعليقة التالية: يعني مملوء، يقال ثوب محشي يعني بالقطن، وفراش محشي يعني بالصوت.

(2)

الحديث في طبقات ابن سعد (3/ 163).

(3)

في أ: حَدَّثَنَا يحيى بن عمرو بن عوف.

(4)

الحديث أخرجه الحاكم في المستدرك (3/ 390) وصححه بهذا الإسناد، وهو إسناد معلول فقد اختلف فيه على سلمة بن كهيل، وأعل الحافظان أبو حاتم وأبو زرعة الرازيان طريق العوام من حوشب، إذ ذكرا أنه أسقط عدة منه، فهو منقطع (العلل لابن أبي حاتم 2/ 356 - 357).

(5)

في أ: في فضائله - يعني علقمة - قتل عمار يوم صفين بها عن إحدى.

(6)

طبقات ابن سعد (3/ 198 - 199).

(7)

مكان اللفظة بياض في أ.

(8)

ترجمة - الرُّبيع بنت معوذ - في طبقات ابن سعد (8/ 447) والاستيعاب (4/ 1837) وأسد الغابة (5/ 451) وتهذيب الأسماء واللغات (2/ 343) وسير أعلام النبلاء (3/ 198 - 200) والإصابة (4/ 300).

ص: 524

ألفًا - وقتل من أهل الشام عشرون ألفًا من ستين ألفًا، وبالجملة فقد كان فيهم أعيانٌ ومشاهيرُ يطولُ استقصاؤهم وفيما ذكرناه كفايةٌ، واللّه تعالى أعلم.

‌ثم دخلت سنة ثمان وثلاثون

فيها بعث معاوية عمرو بن العاص إلى ديار مصر فأخذها من محمد بن أبي بكر واستناب معاوية عَمْرًا عليها، وذكر كما سنبينه، وقد كان علي رضي الله عنه استناب عليها قيس بن سعد بن عبادة وانتزعها من يد محمد بن أبي حذيفة [حين كان استحوذ عليها ومنع عبد اللّه]

(1)

بن (سعد) بن أبي سَرْح من التصرّف فيها، حين حُصر عثمان - وقد كان عثمان استخلفه عليها وعزل عنها عمرو بن العاص - وعمرو كان هو الذي افتتحها كما قدمنا ذكر ذلك. ثم إن عليًا عزل

(2)

قيس بن سعد عنها وولى عليها محمد بن أبي بكر وقد ندم علي على عزل قيس بن سعد عنها، وذلك أنه كان كفؤًا لمعاوية

(3)

وعمرو، ولما ولي محمد بن أبي بكر لم يكن فيه قوةٌ تعادلُ معاوية وعَمرًا، وحين عُزل قيسُ بن سعد عنها رجع إلى علي بالعراق فكان معه، وكان معاوية يقول:(واللّه) لقيس بن سعد عند علي أبغض إلي من مئة ألف مقاتل بدله عنده، فشهد معه صفين

(4)

فلما فرغ علي من صفين وبلغه أن أهل مصر قد استخفُّوا بمحمد بن أبي بكر لكونه شابًا ابن ست وعشرين سنة أو نحو ذلك عزم على رد مصر إلى قيس بن سعد، وكان

(5)

قد جعله على شرطته أو إلى الأشتر النخعي وقد كان نائبه على الموصل ونصيبين، فكتب إليه بعد صفين فاستقدمه عليه ثم ولاه مصر

(6)

، [وقيل إنه استمر بقيس عنده وولى الأشتر النخعي مصر]

(7)

فلما بلغ معاوية تولية (علي) للأشتر (النخعي ديار) مصر بدل محمد بن أبي بكر (عظم ذلك عليه، وذلك أنه كان قد طمع في مصر واستنزاعها من يد محمد بن أبي بكر)، وعلم أن الأشتر سيمنعها منه لحزمه

(8)

وشجاعته، فلما سار الأشتر إليها وانتهى إلى القلزم

(9)

استقبله الخانسار

(10)

وهو مُقدَّم [عليٍّ] على

(1)

مكان ما بين الحاصرتين في أ: وقد كان أخذها من.

(2)

في أ: ابن أبي سرح نائب عثمان عليها وكان عثمان قد عزل عنها عمرو بن العاص، وكان عمرو هو الذي افتتحها كما تقدم ذلك ثم إن عليًا عزل.

(3)

في أ: محمد بن أبي بكر وكان قيس كفوًا لمعاوية.

(4)

في أ: مقاتل تكون معه بدله فلما فرغ.

(5)

في أ: عزم علي على رد قيس بن سعد إليها، وكان علي قد جعله على شرطته، وكان نائبه.

(6)

في أ: فكتب إليه فاستقدمه عليه وولاه مصر.

(7)

زيادة عن أ.

(8)

في أ: لجرأته.

(9)

في أ: فسار الأشتر فلما بلغ القلزم استقبله الخانسار.

(10)

هكذا في ط وأ، وفي تاريخ الطبري (5/ 95 و 96):"الجايستار".

ص: 525

الخراج فقدم إليه طعامًا وسقاه شرابًا من عسل فمات منه، فلما بلغ ذلك معاوية وعمرًا وأهل الشام قالوا: إن لله جنودًا من عسل.

وقد ذكر ابن جرير في "تاريخه"

(1)

أن معاوية كان قد تقدم إلى هذا الرجل في أن يحتال على الأشتر ليقتله

(2)

ووعده على ذلك بأمور ففعل ذلك، وفي هذا نظر، وبتقدير صحته فمعاوية يستجيز قتل الأشتر لأنه من قتلة عثمان رضي الله عنه. والمقصود أن معاوية وأهل الشام فرحوا فرحًا شديدًا بموت الأشتر النخعي

(3)

، ولما بلغ ذلك عليًا: تأسف على شجاعته وغَنَائه، وكتب إلى محمد بن أبي بكر باستقراره واستمراره بديار مصر، غير أنه ضعف جأشه مع ما كان فيه من الخلاف عليه من العثمانية الذين ببلد خربت

(4)

، وقد كانوا استفحل أمرهم حين انصرف علي من صفين، (وحين) كان من أمر التحكيم ما كان، وحين نكل أهل العراق عن قتال أهل الشام، وقد كان أهل الشام حين انقضت

(5)

الحكومة بدومة الجندل سلَّموا على معاوية بالخلافة وقوي أمرهم جدًّا، فعند ذلك جمع معاوية أمراءه: عمرو بن العاص، وشرحبيل بن السمط، [وحبيب بن مسلمة] وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد، والضحاك بن قيس، وبسر بن أبي أرطاة، وأبا الأعور السلمي، وحمزة بن سنان الهمداني وغيرهم، فاستشارهم في المسير إلى مصر فاستجابوا له وقالوا: سر حيث شئت فنحن معك، وعين معاوية نيابتها لعمرو بن العاص إذا

(6)

فتحها ففرح بذلك عمرو، ثم قال لمعاوية: أرى أن تبعث إليهم رجالًا مع رجل مأمون عارف بالحرب

(7)

، فإن بها جماعة ممن يوالي عثمان فيساعدونه على حرب من خالفهم، فقال معاوية: لكن أرى أن أبعث إلى شيعتنا ممن هنالك كتابًا يعلمهم بقدومهم عليهم

(8)

، ونبعث إلى مخالفينا كتابًا ندعوهم فيه إلى الصلح. وقال

(9)

معاوية [لعمرو بن العاص]: إنك يا عمرو رجل بورك لك في العجلة وإني امرؤ بورك لي في التؤدة، فقال عمرو: افعل ما أراك اللّه، (فوالله) ما أمرك وأمرهم إِلَّا سيصير إلى الحرب العوان، فكتب عند ذلك معاوية إلى مسلمة بن مخلد الأنصاري، وإلى معاوية بن خديج السكوني - وهما رئيسا العثمانية ببلاد مصر ممن لم يبايع عليًا ولم يأتمر بأمر نوابه بمصر في نحو من عشرة آلاف - يخبرهم بقدوم الجيش عليهم سريعًا، وبعث به مع مولى له يقال له سبيع، فلما وصل الكتاب إلى مسلمة

(1)

تاريخ الطبري (5/ 95 - 96).

(2)

في أ: فيقتله.

(3)

في أ: بموته.

(4)

عدة قرى حول الإسكندرية. قال القضاعي: وهو يعدُّ كوَرَ مصر. معجم البلدان (2/ 406).

(5)

في أ: لما انقضت.

(6)

في أ: الذي فتحها.

(7)

في أ: إليهم رجلًا معه جند مأمون عارفًا بالحرب.

(8)

في أ: نعلمهم بقدومنا عليهم.

(9)

في أ: من الجيش فعند ذلك.

ص: 526

ومعاوية بن خديج فرحا به وردَّا جوابه بالاستبشار والمعاونة والمناصرة له ولمن يبعثه من الجيوش والجند والمدد إن شاء اللّه تعالى، فعند ذلك جهز معاوية عمرو بن العاص في ستة آلاف، وخرج معاوية

(1)

مودعًا وأوصاه بتقوى اللّه والرفق والمهل (والتؤدة)، وأن يقتل من قاتل ويعفو عمن أدبر، وأن يدعو الناس إلى الصلح والجماعة، فإذا أنت ظهرت فليكن أنصارك آثر

(2)

الناس عندك، فسار عمرو بن العاص إلى مصر، فلما قدمها

(3)

اجتمعت عليه العثمانية فقادهم، وكتب عمرو إلى محمد بن أبي بكر: أما بعد فتنح فإني لا أحب أن يصيبك مني ظفر، فإن الناس قد اجتمعوا بهذه البلاد على خلافك ورفض أمرك، وندموا على اتباعك، فهم مسلموك لو قد التقت حلقتا البطان

(4)

، فاخرج منها فإني لك لمن الناصحين والسلام. وبعث إليه عمرو أيضًا بكتاب معاوية إليه: أما بعد

(5)

فإن غب البغي والظلم عظيم الوبال، وإن سفك الدم الحرام لا يسلم صاحبه

(6)

من النقمة في الدنيا، والتبعة الموبقة في الآخرة. وإنّا لا نعلمُ أحدًا كان أشدَّ خلافًا على عثمان منك حين تطعن بمشاقصك بين حشاشته وأوداجه

(7)

، ثم إنك تظن أني عنك نائم أو ناس ذلك لك

(8)

، حتى تأتي فتأمَّر على بلاد أنت بها جاري وجلُّ أهلها أنصاري، وقد بعثت إليك بجيوش يتقربون إلى الله بجهادك ولن يسلمك الله من القصاص أينما كنت والسلام. قال: فطوى محمد بن أبي بكر الكتابين وبعث بهما إلى علي وأعلمه بقدوم عمرو إلى مصر في جيش من قبل معاوية، فإن كانت لك بأرض مصر حاجة فابعث إلي بأموال ورجال والسلام. فكتب إليه [علي] يأمره بالصبر وبمجاهدة العدو، وأنه سيبعث إليه الرجال والأموال، ويمده بما أمكنه من الجيوش.

وكتب محمد بن أبي بكر كتابًا (إلى معاوية في جواب ما قال) وفيه غلظة

(9)

، (وكذلك كتب إلى عمرو بن العاص وفيه كلام غليظ) وقام محمد بن أبي بكر في الناس فخطبهم وحثَّهم على الجهاد ومناجزة من قصدهم من أهل الشام، وتقدم عمرو (بن العاص) إلى مصر في جيوشه، ومن لحق به من العثمانية (المصريين)، والجميع في قريب من ستة عشر ألفًا، وركب محمد بن أبي بكر في [قريب من] ألفي

(1)

في أ: وخرج معه مودعًا.

(2)

في أ: أبر.

(3)

في أ: فلما دخل مصر اجتمعت عليه.

(4)

مثل عربي قديم، ورد في كتاب معجم الأمثال العربية (بطن، حلق، لقي) ومصادره فيه: مجمع الأمثال (2/ 186) وجمهرة الأمثال (1/ 188) والمستقصى (1/ 306) وأبو عبيد (343) واللسان (بطن) ويضرب المثل للأمر يبلغ الغاية في الشدة والصعوبة.

(5)

لفظتا: أما بعد؛ مكانهما بياض في أ، ونص الكتاب في تاريخ الطبري (5/ 101).

(6)

في أ: فاعله.

(7)

في أ: وأرواحه، تحريف.

(8)

في أ: أو لفعلك ناس حتى تأتي فتتآمر.

(9)

في أ: وفيه كلام غليظ.

ص: 527

فارس الذين انتدبوا معه من المصريين وقدَّم على جيشه بين يديه

(1)

كنانة بن بشر فجعل لا يلقاه أحد

(2)

من الشاميين إِلَّا قاتلهم حتى يلحقهم مغلوبين إلى عمرو

(3)

بن العاص، فبعث عمرو بن العاص إليه معاوية بن حُدَيْج فجاءه من ورائه وأقبل إليه الشاميون حتى أحاطوا به من كل جانب، فترجل عند ذلك كنانة وهو يتلو {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا} الآية [آل عمران: 145]، ثم قاتل حتى قتل.

وتفرق أصحاب محمد بن أبي بكر عنه ورجع يمشي فرأى خربة فأوى إليها ودخل عمرو بن العاص فسطاط مصر وذهب معاوية بن حُدَيْج في طلب محمد بن أبي بكر فمر بعلوج في الطريق فقال لهم: هل مر بكم أحد تستنكرونه؟ قالوا: لا! فقال رجل منهم: إني رأيت رجلًا جالسًا في هذه الخربة، فقال:(هو) هو ورب الكعبة: فدخلوا عليه فاستخرجوه منها - وقد كاد يموت عطشًا - فانطلق أخوه عبد الرحمن بن أبي بكر إلى عمرو بن العاص - وكان قد قدم معه إلى مصر - فقال: أيقتل أخي صبرًا؟ فبعث عمرو بن العاص إلى معاوية بن حُدَيْج أن يأتيه بمحمد بن أبي بكر ولا يقتله، فقال معاوية: كلا والله، أيقتلون كنانة بن بشر وأترك محمد بن أبي بكر، وقد كان ممن قتل عثمان وقد سألهم عثمان الماء، وقد سألهم

(4)

محمد بن أبي بكر أن يسقوه شربة من الماء فقال معاوية: لا سقاني الله إن سقيتك قطرة من الماء أبدًا، إنكم منعتم عثمان أن يشرب الماء حتى قتلتموه صائمًا محرمًا فتلقاه الله بالرحيق المختوم.

وقد ذكر ابن جرير

(5)

وغيره أن محمد (بن أبي بكر) نال من معاوية بن حُدَيْج هذا [وشتمه] ومن عمرو بن العاص ومن معاوية [بن أبي سفيان] ومن عثمان (بن عفان أيضًا)، فعند ذلك غضب معاوية بن حُدَيْج فقدمه فقتله ثم جعله في جيفة حمار فأحرقه بالنار، فلما بلغ ذلك عائشة جزعت عليه جزعًا شديدًا وضمت عياله إليها، وكان فيهم ابنه القاسم وجعلت تدعو على معاوية وعمرو بن العاص دبر الصلاة

(6)

.

وذكر الواقديّ

(7)

أن عمرو (بن العاص) قدم مصر في أربعة آلاف فيهم أبو الأعور السلمي فالتقوا مع المصريين بالمُسَنَّاة

(8)

فاقتتلوا قتالًا شديدًا حتى قتل كنانة بن بشر بن عتاب التجيبي، فهرب عند ذلك محمد بن أبي بكر فاختبأ عند رجل يقال له جبلة بن مسروق، فدلّ عليه فجاء معاوية بن خديج وأصحابه فأحاطوا به فخرج إليهم (محمد) بن أبي بكر فقاتل حتى قُتل.

(1)

في أ: من أهل مصر وقدم بين يدي جيشه.

(2)

في أ: فجعل لا يلقى أحدًا.

(3)

في أ: بعمرو.

(4)

في أ: عثمان الماء فلم يسقوا وسألهم.

(5)

تاريخ الطبري (5/ 104).

(6)

في ط: "الصلوات"، وما هنا من أ، وهو الذي في تاريخ الطبري الذي ينقل منه المصنف (5/ 105).

(7)

تاريخ الطبري (5/ 105).

(8)

انظر معجم ما استعجم (1229) ومعجم البلدان (5/ 129).

ص: 528

قال (الواقدي): وكان ذلك في صفر من هذه السنة.

قال الواقدي: ولما قتل محمد (بن أبي بكر) بعث علي الأشتر النخعي إلى مصر فمات في الطريق فاللّه أعلم.

قال: وكانت أذرُح في شعبان في هذه السنة أيضًا.

وكتب عمرو بن العاص إلى معاوية يخبره بما كان من الأمر وأن اللّه قد فتح عليه بلاد مصر ورجعوا إلى السمع والطاعة (واجتماع الجماعة، وبما عهد لهم من الأمر).

وقد زعم هشام بن (محمد) الكلبي أن محمد بن أبي حذيفة بن عتبة مسك [في هذه السنة] بعد مقتل محمد (بن أبي بكر) - وكان من جملة المحرضين على قتل عثمان - فبعثه عمرو (بن العاص) إلى معاوية ولم يبادر إلى قتله لأنه ابن خال معاوية، فحبسه (معاوية) بفلسطين فهرب من السجن [وكان معاوية يجانبه فيما يروون]، فلحقه رجل [من خثعم] يقال له (عبد اللّه بن) عمرو بن ظلام بأرض البلقاء، فاختفى محمد بغار فجاءت حمر وحش لتأوي إليه فلما رأته فيه نفرت فتعجب من نفرتها جماعة من الحصادين هنالك، فذهبوا إلى الغار فوجدوه فيه، فجاء أولئك فخشي عبد الله بن عمرو بن ظلام

(1)

أن يرده إلى معاوية فيعفو عنه، فضرب عنقه [هنالك]، (هكذا) ذكر ذلك ابن الكلبي

(2)

. وقد ذكر الواقدي وغيره أن (محمد) بن أبي حذيفة قتل في سنة ست وثلاثين كما قدمنا [ذلك] فالله أعلم.

وقال إبراهيم بن الحسين بن ديزيل في كتابه: حَدَّثَنَا عبد اللّه بن صالح، حدَّثني ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب أن عمرو بن العاص استحل مال قبطي من قبط مصر لأنه استقر عنده أنه كان يظهر الروم على عورات المسلمين - (يكتب إليهم بذلك) - فاستخرج منه بضعة

(3)

وخمسين إرْدَبًا

(4)

دنانير، قال أبو صالح: والإردبّ ست ويبات والويبة مثل القفيز واعتبرنا الويبة فوجدناها تسعة وثلاثين ألف دينار، قلت: فعلى هذا يكون مَبْلَغ ما كان أخذ من

(5)

القبطي ما يقارب ثلاثة عشر ألف ألف دينار.

قال أبو مخنف بإسناده

(6)

: لما بلغ عليم بن أبي طالب مقتل محمد بن أبي بكر وما كان (بمصر) من الأمر، وتملك عمرو لها، واجتماع الناس

(7)

عليه وعلى معاوية قام في الناس خطيبًا فحثهم على الجهاد والصبر والمسير إلى أعدائهم (من الشاميين والمصريين)، وواعدهم الجرعة بين الكوفة والحيرة. فلما

(1)

في أ: فوجدوا محمد بن أبي حذيفة فخشي عبد الله بن ظلام.

(2)

الخبر في تاريخ الطبري (5/ 106) برواية الكلبي.

(3)

في أ: واستخرج من ماله بضعًا وخمسين.

(4)

الإرْدَبُ: مكيال ضخم بمصر. القاموس (ردب).

(5)

في أ: فعلى هذا يكون مبلغ ما أخذ منه

؛ ثم بياض إلى آخر الجملة.

(6)

تاريخ الطبري (5/ 107).

(7)

في أ: وما كان من الأمر وتملك عمر ومصر واجتمع الناس.

ص: 529

كان الغد خرج يمشي إليها حتى نزلها فلم يخرج إليه أحد من الجيش، فلما كان العشي بعث إلى أشراف الناس فدخلوا

(1)

عليه وهو حزين كئيب فقام فيهم خطيبًا فقال: الحمد له على ما قضى من أمر وقدر من فعل وابتلاني

(2)

بكم وبمن لا يطيع إذا أمرت، ولا يجيب إذا دعوت، أو ليس عجبًا أن معاوية يدعو الجفاة الطغام

(3)

فيتبعونه بغير عطاء ولا معونة، ويجيبونه في السنة مرتين والثلاث إلى أي وجه شاء؟ وأنا أدعوكم - وأنتم أولو النُّهَى وبقية الناس - على المعونة و (طائفة منكم على) العطاء فتفرقون عني وتعصونني وتختلفون علي؟ فقام إليه مالك بن كعب الأرحبي

(4)

فندب الناس إلى امتثال أمر علي والسمع والطاعة له فانتدب ألفان فأمر عليهم مالك بن كعب هذا فسار بهم خمسًا، ثم قدم على على جماعة ممن كان مع محمد بن أبي بكر بمصر فأخبروه [كيف وقع الأمر وكيف قتل محمد بن أبي بكر وكيف استقر أمر عمرو بها]

(5)

، فبعث إلى مالك (بن كعب) فردَّه (من الطريق) وذلك أنه خشي عليهم من أهل الشام قبل وصولهم إلى مصر واستقرّ أمر العراقيين على مخالفة علي فيما يأمرهم به وينهاهم

(6)

(عنه) والخروج عليه والبعد عن أحكامه وأقواله وأفعاله، لجهلهم

(7)

وقلة عقلهم وجفائهم وغلظتهم وفجور كثير منهم

(8)

، فكتب علي عند ذلك إلى ابن عباس - وهو نائبه على البصرة - يشكو إليه ما يلقاه من الناس من المخالفة (والمعاندة)، فردّ عليه ابنُ عباس يسليه في ذلك، ويعزيه في محمد بن أبي بكر ويحثه على ملاطفة

(9)

الناس والصبر على مسيئهم، فإن ثواب الله خير من الدنيا، ثم ركب ابن عباس من البصرة إلى علي وهو بالكوفة واستخلف (ابن عباس) على البصرة زيادًا.

وفي هذا الحين

(10)

بعث معاوية بن أبي سفيان كتابًا مع عبد الله بن عمرو الحضرمي إلى (أهل) البصرة يدعوهم إلى الإقرار بما حكم له عمرو بن العاص، فلما قدمها نزل على بني تميم فأجاروه فنهض إليه زياد وبعث إليه أعين

(11)

بن ضبيعة في جماعة (من الناس) فساروا إليهم فاقتتلوا فقتل أعين بن ضبيعة، فكتب زياد إلى علي يعلمه بما وقع بالبصرة [من المخالفة] بعد خروج ابن عباس منها، فبعث

(1)

في أ: يخرج إليه منهم أحد فلما كان العشي بعث إلى أشرافهم فدخلوا.

(2)

في أ: من فعل هو الذي ابتلاني.

(3)

الطغام - كسحاب - أوغاد الناس. القاموس (طغم).

(4)

في أ: على المعونة والعطاء فتتفرقون وتنفرون عني وتعصوني، فقام مالك بن كعب الهمداني ثم الأرحبي.

(5)

مكان ما بين الحاصرتين في أ: فأخبروه الخبر.

(6)

بعدها في أ: لا يطيعون له أمرًا ولا يسمعون له قولًا ولا يجيبون له دعوة بل كلما لهم في نأي عنه وبعد عنه.

(7)

في أ: والخروج عليه وانتقاد أحكامه ورد أقواله وحل إبرامه لجهلهم وقلة عقلهم وحيائهم وغلظتهم.

(8)

بعدها في أ: عدة أسطر زيدت هنا وقد تقدم شيء منها.

(9)

في ط: تلافي.

(10)

في أ: العام.

(11)

في أ: وبعثه علي بن أبي طالب أعين.

ص: 530

(عند ذلك) علي جارية بن قدامة التميمي في خمسين رجلًا إلى قومه بني تميم، وكتب معه كتابًا إليهم فرجع أكثرهم عن ابن الحضرمي وقصده جارية فحصره في دار هو وجماعة معه، قيل: كان عددهم أربعين

(1)

، وقيل سبعين، فحرقهم بالنار بعد أن أعذر إليهم وأنذرهم فلم يقبلوا ولم يرجعوا عما جاؤوا له [من جهة معاوية].

‌فصل

وقد صحح ابن جرير

(2)

أن قتال علي لأهل النهروان كان في هذه السنة، وكذلك خروج الخرِّيت بن راشد الناجي كان في هذه السنة أيضًا، وكان مع الخريت ثلاثمئة رجل من قومه بني ناجية - وكان مع علي بالكوفة - فجاء إلى علي فقام بين يديه وقال: والله يا علي لا أطيع أمرك ولا أصلي خلفك، إني لك غدًا لمفارق. فقال له علي: ثكلتك أمك إذًا تعصي ربك وتنقض عهدك ولا تضر إلَّا نفسك، ولمَ تفعلُ ذلك؟ قال: لأنك حكمت في كتاب وضعفت عن قيام الحق إذ جد الجد، وركنت إلى القوم الظالمين، فأنا عليك زاري

(3)

وعليك ناقم، وإنا لكم جميعًا مباينون. ثم رجع إلى أصحابه فسار بهم نحو بلاد البصرة فبعث إليهم معقل بن قيس ثم أردفه بخالد بن معدان الطائي - وكان من أهل الصلاح والدين والبأس والنجدة - وأمره أن يسمع له ويطيع، فلما اجتمعوا صاروا جيشًا واحدًا، ثم خرجوا في آثار الخِرِّيت وأصحابه فلحقوهم - وقد أخذوا في جبال رامهرمز، قال: فصففنا لهم ثم أقبلنا إليهم فجعل معقل على ميمنته يزيد بن معقل، وعلى ميسرته منجاب بن راشد الضبي، ووقف الخِرِّيت فيمن معه من العرب فكانوا ميمنة، وجعل من اتبعه من الأكراد والعلوج ميسرة.

قال: وسار فينا معقل بن قيس فقال: عباد اللّه! لا تبدؤوا القوم وغضوا أبصاركم، وأقلّوا الكلام، ووطنوا أنفسكم على الطعن والضرب، وأبشروا في قتالكم بالأجر إنما تقاتلون مارقة مرقت من الدين، وعلوجًا كسروا الخراج، ولصوصًا وأكرادًا، فإذا حملتُ فشدوا شدةَ رجلٍ واحد. ثم تقدم فحرك دابته

(4)

تحريكتين ثم حمل عليهم في الثالثة، وحملنا معه جميعنا، فواللّه ما صبروا لنا ساعة واحدة حتى ولوا منهزمين، وقتلنا من العلوج والأكراد نحوًا من ثلاثمئة، وفرّ الخرِّيت منهزمًا حتى لحق بأساف - وبهما جماعة من قومه (كثيرة) - فاتبعوه فقتلوه مع جماعة من أصحابه بسيف البحر، قتله النعمان بن صهبان، وقتل معه في المعركة مئة وسبعون رجلًا.

ثم ذكر ابن جرير وقعات كثيرة كانت بين أصحاب علي والخوارج (فيها أيضًا).

(1)

في أ: كانوا أربعين رجلًا.

(2)

تاريخ الطبري (5/ 113).

(3)

زرى عليه: عابه وعاتبه. القاموس (زرو).

(4)

في أ: رايته.

ص: 531

ثم قال

(1)

: حدَّثني عمر بن شَبَّة، حَدَّثَنَا أبو الحسن - يعني المدائني - علي بن محمد، عن علي بن مجاهد قال قال الشعبي: لما قتل علي أهل النهروان خالفه قوم كثير، وانتقضت أطرافه، وخالفه بنو ناجية، وقدم ابن الحضرمي إلى البصرة، وانتقض أهل الجبال

(2)

، وطمع أهل الخراج في كسره وأخرجوا سهل بن حنيف من فارس - وكان عاملًا عليها [لعلي]- فأشار (عليه) ابن عباس بزياد بن أبيه أن يوليه إياها (فولاه إياها) فسار إليها في السنة الآتية في جمع كثير، فوطئهم حتى أدوا الخراج.

قال ابن جرير

(3)

وغيره: وحج بالناس في هذه السنة قثم بن العباس، نائب علي على مكة، وأخوه عبيد الله بن عباس نائب

(4)

اليمن، وأخوهما عبد اللّه [بن عباس] نائب البصرة، وأخوهم تمام بن عباس نائب المدينة، وعلى خراسان خالد بن قرة اليربوعي وقيل ابن أبزى، (وأما مصر) فقد استقرت

(5)

بيد معاوية فاستناب عليها عمرو بن العاص، واللّه أعلم.

‌ذكر من توفي في هذه السنة من الأعيان

سهل بن حنيف

(6)

بن واهب بن العُكَيْم

(7)

بن ثعلبة الأنصاري الأوسي، شهد بدرًا، وثبت يوم أحد، وحضر بقية المشاهد، وكان صاحبًا لعلي بن أبي طالب، وقد شهد معه مشاهده كلها أيضًا غير الجمل فإنه كان قد استخلفه على المدينة، ومات سهل بن حنيف في سنة ثمان وثلاثين بالكوفة

(8)

، وصلى عليه علي فكبر

(9)

خمسًا وقيل ستًا، وقال: إنه من أهل بدر رضي الله عنه.

صَفْوان بن بيضاء

(10)

أخو سهل بن بيضاء شهد (المشاهد) كلها [مع رسول الله صلى الله عليه وسلم]، وتوفي في هذه السنة في رمضانها

(11)

وليس له عقب.

(1)

تاريخ الطبري (5/ 122).

(2)

في تاريخ الطبري: أهل الأهواز.

(3)

تاريخ الطبري (5/ 132).

(4)

في أ: وكان أخوه عبيد الله نائب اليمن.

(5)

في أ: واستقرت مصر بيد معاوية.

(6)

ترجمة - سهل بن حنيف - في الاستيعاب (2/ 662) وجامع الأصول (14/ 203) وأسد الغابة (2/ 470) وتهذيب الكمال (12/ 184) وسير أعلام النبلاء (2/ 325 - 329).

(7)

في ط: "وهب بن العلِم" محرف.

(8)

في أ: في هذه السنة بالكوفة.

(9)

فكبر عليه خمسًا وقيل.

(10)

ترجمة - صفوان بن بيضاء - في حلية الأولياء (1/ 373) والاستيعاب (2/ 723) وأسد الغابة (3/ 31) والإصابة (5/ 147).

(11)

في أ: في رمضان منها.

ص: 532

صهيب بن سنان

(1)

بن مالك أبو يحيى الرومي وأصله من النَّمر بن قاسط

(2)

وكان أبوه أو عمه عاملًا لكسرى على الأُبُلَّة

(3)

، وكانت منازلهم على دجلة عند الموصل، وقيل على الفرات، فأغارت على بلادهم الروم فأسرته وهو صغير، فأقام عندهم حينًا ثم اشترته بنو كلب فحملوه إلى مكة فابتاعه عبد اللّه بن جدعان فأعتقه وأقام بمكة حينًا، فلما بُعث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم آمن به، (وكان ممن أسلم) قديمًا هو وعمار [بن ياسر] في يوم واحد بعد بضعة وثلاثين رجلًا، وكان من المستضعفين الذين يعذبون في اللّه عز وجل، ولما هاجر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم هاجر صهيب بعده بأيام فلحقه قوم من المشركين يريدون أن يصدوه عن الهجرة، فلما أحس بهم نثل كنانته (فوضعها بين يديه) وقال: واللّه لقد علمتم أني من أرماكم، وواللّه لا تصلون إلي حتى أقتل بكل سهم من هذه رجلًا منكم، ثم أقاتلكم بسيفي حتى أقتل. وإن كنتم تريدون المال فأنا أدلكم على مالي وهو مدفون في مكان كذا وكذا، فانصرفوا عنه فأخذوا ماله، فلما قدم [على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم] قال له رسول اللّه صلى الله عليه وسلم:"ربح البيع أبا يحيى" وأنزل اللّه تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة: 207]

(4)

.

ورواه حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب. وشهد [صهيب] بدرًا (وأحُدًا) وما بعدهما، ولما جعل عمر الأمر شورى كان هو الذي يصلي بالناس حتى تعيَّن عثمان، وهو الذي ولي الصلاة على عمر - وكان له صاحبًا [وصديقًا]- وكان أحمر شديد الحمرة ليس بالطويل ولا بالقصير أقرن الحاجبين كثير الشعر وكان لسانه فيه عجمة

(5)

شديدة، وكان مع فضله ودينه فيه دعابة وفكاهة وانشراح.

روي أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم رآه يأكل (بقثاء) رطبًا وهو أرمد إحدى العينين، فقال [له]:"أتأكل رطبًا وأنت أرمد"؟ فقال: إنما آكل من ناحية عيني الصحيحة، فضحك رسول اللّه

(6)

صلى الله عليه وسلم.

(وكانت وفاته بالمدينة سنة ثمان وثلاثين، وقيل سنة تسع وثلاثين، وقد نيف على السبعين).

محمد بن أبي بكر الصّدّيق

(7)

ولد في حياة النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع تحت الشجرة عند الحرم وأمه

(1)

ترجمة - صهيب بن سنان - في الاستيعاب (2/ 726) وجامع الأصول (14/ 352) وأسد الغابة (3/ 36 - 39) وتهذيب الكمال (13/ 237). وسير أعلام النبلاء (2/ 17 - 26) والإصابة (2/ 195 - 196).

(2)

في ط: "صهيب بن سنان بن مالك الرومي وأصله من اليمن أبو يحيى بن قاسط" وهو من أقبح التحريف، وما أثبتناه من أ، وهو الموافق لما في مصادر ترجمته.

(3)

في الأصول والمطبوع: الأيلة، وهو خطأ.

(4)

أخرجه ابن سعد في طبقاته (3/ 227 - 228) والحاكم (3/ 398) وابن عبد البر في الاستيعاب (2/ 731 - 732)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (23/ 228) من طرق متعددة، لا يخلو أي منها من ضعف.

(5)

في أ: وكان في لسانه عجمة شديدة.

(6)

رواه أحمد (4/ 61) وابن ماجة رقم (3443) والحاكم (3/ 399) وهو حديث حسن.

(7)

ترجمة - محمد بن أبي بكر الصديق - في جامع الأصول (15/ 172) وسير أعلام النبلاء (3/ 48) وشذرات الذهب (1/ 218).

ص: 533

أسماء بنت عميس، ولما احتضر الصديق أوصى أن تغسله فغسلته، ثم لما انقضت عدتها تزوجها علي فنشأ [محمد] في حجره، فلما صارت إليه الخلافة استنابه على بلاد مصر بعد قيس بن سعد بن عبادة كما قدمنا، فلما كانت هذه السنة بعث معاوية عمرو بن العاص فاستلب منه بلاد مصر وقتل محمد بن أبي بكر كما تقدم، وله من العمر دون الثلاثين [سنة وحزنت عليه عائشة وعلي وغيرهما]، رحمه الله ورضي عنه.

أسماء بنت عميس

(1)

بن معبد

(2)

بن الحارث الخثعمية [وهي أم محمد المذكور] أسلمت [قديمًا]، بمكة وهاجرت مع زوجها جعفر بن أبي طالب إلى الحبشة وقدمت معه إلى خيبر، ولها منه عبد الله، ومحمد، وعون. ولما قتل جعفر بمؤتة تزوجها بعده أبو بكر الصديق فولدت منه محمد بن أبي بكر أمير مصر

(3)

، ثم لما مات الصديق تزوجها بعده علي بن أبي طالب فولدت له يحيى وعونًا، وهي أخت ميمونة بنت الحارث أم المؤمنين لأمها. وكذلك هي أخت أم الفضل امرأة العباس لأمها، وكان لها من الأخوات لأمها تسع أخوات، وهي أخت سلمى بنت عميس امرأة العباس التي له منها بنت اسمها عمارة.

‌ثم دخلت سنة تسع وثلاثين

فيها جهز معاوية بن أبي سفيان جيوشًا كثيرة ففرقها في أطراف معاملات علي بن أبي طالب، وذلك أن معاوية رأى بعد أن ولاه عمرو بن العاص بعد اتفاقه مع أبي موسى على عزل علي، أن ولايته وقعت الموقع

(4)

، فهو الذي يجب طاعته فيما يعتقده، ولأن جيوش علي من أهل العراق لا تطيعه في كثير من الأمر ولا يأتمرون بأمره، فلا يحصل بمباشرته المقصود من الإمارة

(5)

والحالة هذه، [فهو يزعم أنه أولى منه إذ كان الأمر كذلك]

(6)

. وكان ممن بعث في هذه السنة النعمان بن بشير في ألفي فارس إلى عين

(1)

ترجمة - أسماء بنت عميس - في الاستيعاب (4/ 1784) وجامع الأصول (13/ 108) وأسد الغابة (7/ 14 - 15) وسير أعلام النبلاء (2/ 282 - 287) والوافي بالوفيات (9/ 53 - 54)، والإصابة (4/ 231).

(2)

هكذا في ط وأ وأسد الغابة والسير، لكن الحافظ ابن حجر قيده فقال:"معد بوزن سعد، أوله ميم"(الإصابة 4/ 231) فلا ريب أن ما وقع هنا والمصادر المذكورة تحريف. وقد جاء على الصواب في تهذيب الكمال وفروعه وتاريخ الإسلام وغيره.

(3)

في أ: ولها من جعفر عبد الله وعون فلما قتل تزوجها أبو بكر فولدت له محمد.

(4)

في أ: عمرو بن العاص الخلافة بعد اتفاقه هو وأبو موسى على خلع علي وعزله عن الأمر أن ولايته صحيحة قد وقعت.

(5)

في أ: فلا يحصل بمباشرته مقصود الولاية والإمارة.

(6)

مكانهما في أ: فأنا أولى منه إذا كانت كلمة أهل الشام ومصر مجموعة عليَّ وهم طائعون لي يتأمرون بأمري وكلمتي نافذة فيهم فعند ذلك جهز الجيوش إلى أطراف مملكة علي.

ص: 534

التمر، وعليها مالك بن كعب الأرحبي في ألف فارس مسلحة لعلي، فلما سمعوا بقدوم الشاميين ارفضوا

(1)

عنه فلم يبق مع مالك بن كعب إلا مئة رجل فكتب عند ذلك إلى علي يعلمه بما كان من الأمر، فندب علي الناس إلى مالك بن كعب فتثاقلوا [عليه] ونكلوا عنه ولم يجيبوا إلى الخروج، فخطبهم علي عند ذلك فقال في خطبته: يا أهل الكوفة! كلما سمعتم بمنسر

(2)

من مناسر أهل الشام انجحر كل [امرئ] منكم في بيته، وغلق عليه بابه. انجحار الضب في جحره، والضبع في وجاره، المغرور والله من غررتموه، ولَمن فارقكم فاز بالسهم الأخيب

(3)

، لا أحرار عند النداء، ولا إخوان ثقة عند النجاة، إنا لله وإنا إليه راجعون، ماذا منيت به منكم، عُميٌ لا تبصرون، وبُكْمٌ لا تنطقون، وصم لا تسمعون، إنا لله وإنا إليه راجعون.

ودهمهم النعمان بن بشير فاقتتلوا قتالًا شديدًا وليس مع مالك بن كعب إلَّا مئة رجل قد كسروا جفون

(4)

سيوفهم واستقتلوا، فبينا هم كذلك إذ جاءهم نجدة من جهة مخنف بن سليم مع ابنه عبد الرحمن بن مخنف في خمسين رجلًا، فلما رآهم الشاميون ظنوا أنهم مدد عظيم ففروا هربًا [على وجوهه] فاتبعهم مالك بن كعب فقتل منهم ثلاثة أنفس وذهب الباقون على وجوههم ولم يتم لهم أمر من هذا الوجه

(5)

.

وفيها بعث معاوية سفيان بن عوف في ستة آلاف وأمره بأن يأتي هيت فيغير عليها، ثم يأتي الأنبار والمدائن. فسار حتى انتهى إلى هيت فلم يجد فيها أحدًا، ثم إلى الأنبار وفيها مسلحة لعلي نحو من خمسمئة، فتفرقوا ولم يبق منهم إلا مئة رجل، فقاتلوا مع قلته وصبروا حتى قُتل أميرهم - وهو أشْرَسُ بن حَسَّان البلوي

(6)

- في ثلاثين رجلًا من أصحابه، واحتملوا

(7)

ما كان بالأنبار من الأموال وكرّوا راجعين إلى الشام، فلما بلغ الخبر عليًا رضي الله عنه [وما جرى لأهل الأنبار] ركب بنفسه فنزل بالنخيلة فقال له الناس: نحن نكفيك ذلك يا أمير المؤمنين. فقال: والله ما تكفونني ولا أنفسكم، وسرح سعيد

(8)

(بن قيس) في أثر القوم فسار وراءهم حتى بلغ هيت فلم يلحقهم فرجع.

وفيها بعث معاوية عبدَ الله بن مَسْعَدة الفَزاري

(9)

في ألف وسبعمئة إلى تيماء وأمره أن يصدق

(10)

أهل

(1)

ارفضوا: ذهبوا وتفرقوا. القاموس.

(2)

منسر - كمجلس ومنبر -: قطعة من الجيش. القاموس (نسر).

(3)

في ط: الأصيب. والخبر في تاريخ الطبري (5/ 134).

(4)

جفون: جمع جفن وهو غمد السيف. القاموس (جفن).

(5)

في أ: وذهب الباقون لا يلوون على أحد حتى قدموا الشام ولم يبق لهم ما رجوا من هذا الوجه.

(6)

في تاريخ الطبري (5/ 134): البكري.

(7)

في أ: واحتمل الشاميون.

(8)

في ط: سعد؛ تحريف. والخبر في تاريخ الطبري (5/ 134).

(9)

تاريخ الطبري (5/ 135).

(10)

يأخذ الصدقات. القاموس.

ص: 535

البوادي ومن امتنع من إعطائه فليقتله ثم يأتي المدينة ومكة والحجاز. فسار إلى تيماء واجتمع عليه بشر كثير، فلما بلغ عليًا بعث المسيب بن نَجَبة الفزاري في ألفي رجل فالتقوا بتيماء فاقتتلوا قتالًا شديدًا عند زوال الشمس، وحمل المُسيَّب بن نَجبة على ابن مسعدة فضربه ثلاث ضربات وهو لا يريد قتله بل يقول له: النجا النجا، فانحاز ابن مسعدة في طائفة من قومه إلى حصن هناك فتحصنوا به وهرب بقيتهم إلى الشام، وانتهبت الأعراب ما كان جمعه ابن مسعدة من إبل الصدقة، وحاصرهم المسيّب بن نَجبة ثلاثة أيام ثم ألقى الحطب على الباب وألهب فيه النار، فلما أحسوا بالهلاك أشرفوا من الحصن، ومتوا

(1)

إليه بأنهم من قومهم فرقَّ لهم وأطفأ النار، فلما كان الليل فتح باب الحصن وخرجوا [منه] هربًا إلى الشام، فقال عبد الرحمن بن شبيب

(2)

للمسيب بن نَجَبَة: سر حتى ألحقهم! فقال: لا! فقال: غششت أمير المؤمنين وداهنت في أمرهم.

وفيها وجه معاوية الضحاك بن قيس في ثلاثة آلاف وأمره أن يغير على أطواف جيش علي، فجهز علي حجر بن عدي في أربعة آلاف وأنفق فيهم أكل رجل، خمسين درهمًا خمسين درهمًا، فالتقوا بتدمر فقتل [حجر] من أصحاب الضحاك تسعة عشر رجلًا، وقُتل من أصحاب حجر بن عدي رجلان، وغشيهم الليل فتفرقوا، وانشمر

(3)

الضحاك بأصحابه فارًّا إلى الشام. وفيها سار معاوية بنفسه في جيش كثيف حتى بلغ دجلة ثم كرَّ راجعًا. ذكره محمد بن سعد عن الواقدي بإسناده وأبو معشر [معه] أيضًا.

وفي هذه السنة ولَّى عليّ بن أبي طالب زياد بن أبيه على أرض فارس. وكانوا قد منعوا الخراج والطاعة، وسبب ذلك حين قتل ابن الحضرمي وأصحابه بالنار حين حرقهم جارية بن قدامة في تلك الدار كما قدمنا، فلما

(4)

اشتهر هذا الصنيع في البلاد شَوَّش ذلك

(5)

قلوب كثير من الناس على علي

(6)

، واختلفوا على علي، ومنع أكثر أهل تلك النواحي خراجهم، ولاسيما أهل فارس فإنهم تمردوا وأخرجوا عاملهم سهل بن حنيف [عنهم]- كما تقدم في العام الماضي - من بين أظهرهم، فاستشار علي الناس فيمن يوليه عليهم، فأشار ابن عباس وجارية بن قدامة أن يولي عليهم زياد بن أبيه، فإنه صليب الرأي، عالم بالسياسة. فقال علي: هو لها، فولاه فارس وكرمان وجهزه إليهما في أربعة آلاف فارس، فسار إليها في هذه السنة فدوخ أهلها وقهرهم حتى استقاموا وأدوا الخراج وما كان عليهم من الحقوق، ورجعوا إلى السمع والطاعة، وسار فيهم بالمعدلة والأمانة، حتى كان أهل تلك البلاد يقولون: ما رأينا سيرة أشبه

(1)

المتّ: التوسّل بقرابة. القاموس.

(2)

في أ: ضيب؛ وما هنا كالطبري.

(3)

في ط: واستمر.

(4)

في أ: جارية بن قدامة كما تقدم فلما اشتهر هذا.

(5)

في أ: تشوش.

(6)

في أ: من الناس وأنكروه جدًّا.

ص: 536

بسيرة كسرى أنوشروان عن سيرة هذا العربي في اللّين والمداراة والعلم بما يأتي

(1)

، وصفت له تلك البلاد بعدله وعلمه وصرامته

(2)

، واتخذ للمال قلعة حصينة، فكانت تعرف بقلعة زياد، ثم لما تحصن فيها منصور البكري

(3)

فيما بعد ذلك عرفت به فكان يقال لها قلعة منصور.

قال الواقدي

(4)

: وفي هذه السنة بعث علي بن أبي طالب عبد الله بن عباس على الموسم وبعث معاوية يزيد بن سخبرة الرُّهاوى ليقيم للناس الحج فلما اجتمعها بمكة تنازعا وأبى كل واحد منهما أن يسلم لصاحبه فاصطلحا على شيبة بن عثمان بن أبي طلحة الحَجَبي فحج بالناس وصلّى بهم في أيام الموسم.

قال أبو الحسن المدائني

(5)

: لم يشهد عبد الله بن عباس الموسم في أيام علي حتى قتل، والذي نازعه يزيد بن سخبرة إنما هو قثم بن العباس [حتى اصطلحا على شيبة بن عثمان، قال ابن جرير: وكما قال أبو الحسن المدائني قال أبو مصعب]

(6)

.

قال ابن جرير:

(7)

: وأما عمال علي على الأمصار فهم الذين ذكرنا في السنة الماضية غير أن ابن عباس كان قد سار من البصرة إلى الكوفة واستخلف على البصرة زياد بن أبيه، ثم سار زياد في هذه السنة إلى فارس وكرمان كما ذكرنا.

‌ذكر من توفي في هذه السنة من الأعيان

(8)

سعد القَرَظ

(9)

، مؤذن مسجد قبا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما ولى عمر الخلافة ولاه أذان المسجد النبوي، وكان أصله مولى لعمار بن ياسر، وهو الذي كان يحمل العنَزَة بين يدي أبي بكر وعمر [وعثمان] وعلي إلى المصلى ليوم العيد وبقي الأذان في ذريته مدة طويلة.

عقبة بن عمرو بن ثعلبة

(10)

، أبو مسعود البدري سكن ماء بدر [فنسب إليه] ولم يشهد الوقعة بها على

(1)

بعدها في أ: وما يذر.

(2)

في أ: وضراسته.

(3)

في ط: اليشكري؛ تحريف.

(4)

تاريخ الطبري (5/ 136).

(5)

المصدر نفسه.

(6)

ليس ما بينهما في أ.

(7)

تاريخ الطبري (5/ 136).

(8)

في أ: فيها من الأعيان.

(9)

في ط: القرظي؛ تحريف، وهو سعد بن عائذ المؤذن مولى عمار بن ياسر المعروف بسعد القرظ، ترجمته في الاستيعاب (2/ 591) وأسد الغابة (2/ 440) والإصابة (2/ 29).

(10)

ترجمة - عقبة بن عمرو - في طبقات ابن سعد (6/ 16) والاستيعاب (3/ 1074) وجامع الأصول (14/ 531) وأسد الغابة (4/ 57) والإصابة (2/ 490).

ص: 537

الصحيح، وقد شهد العقبة، وهو من سادات الصحابة وكان ينوب لعلي بالكوفة إذا خرج منها إلى القتال

(1)

.

‌سنة أربعين من الهجرة [النبوية]

[فيها كان مقتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب على ما سنذكره مفصلًا إن شاء الله تعالى]

قال ابن جرير

(2)

: فمما كان في هذه السنة من الأمور الجليلة توجيه معاوية بسر بن أبي أرطاة في ثلاثة آلاف من المقاتلة إلى الحجاز، فذكر عن زياد بن عبد الله البكائي، عن عوانة قال: أرسل معاوية بعد تحكيم الحكمين بسر بن أبي أرطاة - وهو رجل من بني عامر بن لؤي - في جيش فساروا من الشام حتى قدموا المدينة - وعامل علي عليها يومئذ أبو أيوب - ففر منهم أبو أيوب فأتى عليًا بالكوفة، ودخل بسر المدينة ولم يقاتله أحد، فصعد منبرها فنادي على المنبر: يا دينار ويا نجار ويا رزيق شيخي شيخي عهدي به هاهنا بالأمس فأين هو؟ - يعني عثمان بن عفان - ثم قال: يا أهل المدينة والله لولا ما عهد إليّ معاوية ما تركت بهما محتلمًا إلَّا قتلته، ثم بايع أهل المدينة وأرسل إلى بني سلمة فقال: والله ما لكم عندي من أمان ولا مبايعة حتى تأتوني بجابر بن عبد الله - يعني حتى يبايعه - فانطلق جابر حتى دخل على أم سلمة فقال لها: ماذا ترين إني خشيت أن أُقتل وهذه بيعة ضلالة؟ فقالت [له]: أرى أن تبايع فإني قد أمرتُ ابني عمر وختني عبد الله بن زمعة - وهو زوج ابنتها زينب - أن يبايعا فأتاه جابر فبايعه. قال: وهدم بسر دورًا بالمدينة ثم مضى حتى أتى مكة فخافه أبو موسى الأشعري أن يقتله فقال له بسر: ما كنت لأفعل بصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، فخلّى عنه، وكتب أبو موسى قبل ذلك إلى أهل اليمن أن خيلًا مبعوثة من عند معاوية تقتل من أبى أن يقر بالحكومة، ثم مضى بسر إلى اليمن وعليها عبيد الله بن عباس ففر إلى الكوفة حتى لحق بعلي، واستخلف على اليمن عبد الله بن عبد الله بن المدان الحارثي

(3)

، فلما دخل بسر اليمن قتله وقتل ابنه، ولقي بسر ثقل عبيد الله بن عباس وفيه ابنان صغيران له فقتلهما وهما عبد الرحمن وقثم، [وقيل إنه ذبحهما بين يدي أمهما فزاغ عقلها، ووسوست مما رأت فكانت بعد ذلك تقف في المواسم مبهوتة زائغة العقل تندب ولديها] ويقال إن بسرًا قتل خلقًا من شيعة علي في ميسره هذا، وهذا الخبر مشهور عند أصحاب المغازي والسير، وفي صحته عندي نظر والله تعالى أعلم. ولما بلغ عليًا خبر بسر وجَّه جارية بن قدامة في ألفين، ووهب بن مسعود في ألفين، فسار جارية حتى بلغ نجران فحَرَّق بها

(4)

وقتل ناسًا من شيعة عثمان، وهرب بسر وأصحابه فاتبعهم حتى بلغ مكة، فقال لهم جارية: بايعوا. فقالوا: لمن نبايع وقد هلك أمير المؤمنين فلمن نبايع؟ فقال: بايعوا لمن بايع

(1)

في ط: إذا خرج إلى صفين وغيرها.

(2)

تاريخ الطبري (5/ 139).

(3)

في ط: الحاوي؛ تحريف. وما هنا كالطبري والكامل لابن الأثير (3/ 384).

(4)

في أ: حتى أتى نجران فحرق بابها.

ص: 538

له أصحاب علي، فتثاقلوا ثم بايعوا من خوف، ثم سار حتى أتى المدينة وأبو هريرة يصلي بهم فهرب منه فقال جارية: والله لو أخذت أبا سنَّور لضربت عنقه، ثم قال لأهل المدينة: بايعوا للحسن بن علي، فبايعوا وأقام عندهم [يومًا] ثم خرج منصرفًا إلى الكوفة وعاد أبو هريرة يصلي بهم.

قال ابن جرير

(1)

: وفي هذه السنة جرت بين علي ومعاوية المهادنة بعد مكاتبات يطول ذكرها على وضع الحرب بينهما، وأن يكون ملك العراق لعلي ولمعاوية [ملك] الشام، ولا يدخل أحدهما على صاحبه في عمله بجيش ولا غارة ولا غزوة.

ثم ذكر عن زياد عن ابن إسحاق ما هذا مضمونه أن معاوية كتب إلى علي:

أما بعد فإن الأمة قد قتل بعضها بعضًا فلك العراق ولي الشام فأقر بذلك علي رضي الله عنه. وأمسك كل واحد منهما عن قتال الآخر، وبعث الجيوش إلى بلاده، واستقر الأمر على ذلك.

قال ابن جرير

(2)

: وفي هذه السنة خرج ابن عباس من البصرة إلى مكة وترك العمل في قول عامة أهل السير، وقد أنكر ذلك بعضهم وزعم أنه لم يزل عاملًا على البصرة حتى صالح [الحسن بن] علي معاوية، وأنه كان شاهدًا للصلح، كما

(3)

نص على ذلك أبو عبيدة كما سيأتي.

ثم ذكر ابن جرير سبب خروج ابن عباس عن البصرة وذلك أنه كلم أبا الأسود الدؤلي القاضي بكلام فيه غض وحط على أبي الأسود، فكتب أبو الأسود إلى علي يشكو إليه ابن عباس وينال من عرضه بأنه تناول شيئًا من أموال [الناس من] بيت المال فبعث علي إلى ابن عباس فعاتبه في ذلك وحرَّر عليه القضية

(4)

فغضب ابن عباس من ذلك وكتب إلى علي أن ابعث إلى عملك من أحببت فإني ظاعن عنه والسلام. [ثم ترك ذلك ابن عباس] إلى مكة مع أخواله بني هلال وتبعهم قيس كلها، وقد أخذ شيئًا من بيت المال مما كان اجتمع له من العمالة والفيء، ولما سار تبعته أقوام أخر فلحقهم بنو غنم وأرادوا منعهم من المسير فكان بينهم بعض قتال، ثم تحاجزوا ودخل ابن عباس مكة.

‌ذكر مقتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وما ورد [في ذلك] من الأحاديث النبوية [وما في ذلك من دلائل النبوة] من الأخبار بمقتله وكيفيته

كان أمير المؤمنين رضي الله عنه قد انتقضت

(5)

عليه الأمور، واضطرب عليه جيشه، وخالفه أهل

(1)

تاريخ الطبري (5/ 140).

(2)

تاريخ الطبري (5/ 141).

(3)

في ط: ممن.

(4)

في ط: التبعة.

(5)

في ط: تنغصت.

ص: 539

العراق [وغيرهم]، ونكلوا عن القيام معه، واستفحل أمر أهل الشام، وصالوا وجالوا [في البلاد] يمينًا وشمالًا، زاعمين أن الإمرة لمعاوية بمقتضى حكم الحكمين في خلعهما عليًا وتولية عمرو بن العاص معاوية عند خلو الإمرة عن أحد، وقد كان أهل الشام بعد التحكيم

(1)

يسمون معاوية الأمير، وكلما ازداد أهل الشام قوة ضعف جأش أهل العراق [ووهنوا]، هذا وأميرهم علي بن أبي طالب خير أهل الأرض في ذلك الزمان، أعبدهم وأزهدهم، وأعلمهم وأخشاهم لله عز وجل، ومع هذا كله خذلوه وتخلوا عنه [وقد كان يعطيهم العطاء الكثير والمال الجزيل فلا زال هذا ذهابهم معه] حتى كره الحياة وتمنى الموت، وذلك لكثرة الفتن وظهور المحن [والظلم والفساد] فكان يكثر أن يقول: ما يحبس أشقاها، أي ما ينتظر؟ ما له لا يقتل؟ ثم يقول: والله لتخضبن هذه - ويشير إلى لحيته - من هذه - ويشير إلى هامته -[كما روى ذلك عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم من طرق: الطريق الأولى: رواها]

(2)

البيهقي

(3)

: عن الحاكم، عن الأصم، عن محمد بن إسحاق الصَّغَاني، حدَّثنا أبو الجوَّاب الأحوص بن جوَّاب

(4)

، حدَّثنا عمار بن زريق، عن الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن ثعلبة بن يزيد قال قال علي: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لتخضبن هذه من هذه للحيته من رأسه فما يحبس أشقاها"؟ فقال عبد الله بن سَبُع

(5)

: والله يا أمير المؤمنين لو أن رجلًا فعل ذلك لأبدنا عترته: فقال أنشدكم بالله أن يُقتل بي غير قاتلي. فقالوا: يا أمير المؤمنين ألا تستخلف؟ فقال: لا ولكن أترككم كما ترككم رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالوا: فما تقول لربك إذا لقيته وقد تركتنا هملًا؟ قال: أقول: اللهم استخلفتني فيهم ما بدا لك، ثم قبضتني، وتركتك فيهم، فإن شئت أصلحتهم، وإن شئت أفسدتهم [فيه ضعف في بعض ألفاظه].

‌طريق أخرى

قال أبو داود الطيالسي في "مسنده"

(6)

: حدَّثنا شريك، عن عثمان بن المغيرة، عن زيد بن وهب، قال: جاءت الخوارج إلى علي فقالوا: اتق الله أ يا علي، فإنك ميت. قال: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، ولكن مقتول من ضربة على هذه تخضب هذه - وأشار بيده إلى لحيته - عهد معهود وقَضاء مقضي، وقد خاب من افترى.

(1)

في أ: بعد تحكيم الحكمين.

(2)

مكان ما بين الحاصرتين في ط: كما قال.

(3)

دلائل النبوة (6/ 439).

(4)

تحرفت في ط إلى: حراب.

(5)

في أ: منيع؛ تحريف، وما هنا موافق للطبقات الكبرى (3/ 34).

(6)

مسند أبي داود الطيالسي (ص 19)، وهو موقوف على عليٍّ رضي الله عنه.

ص: 540

‌طريق أخرى عنه

قال الحافظ أبو يعلى

(1)

: حدَّثنا سويد بن سعيد، حدَّثنا رشدين بن سعد، عن يزيد بن عبد الله بن أسامة، عن عثمان بن صهيب، عن أبيه. قال قال علي: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أشقى الأولين؟ " قلت: عاقر النَّاقة، قال:"صدقتَ فمن أشقى الآخرين؟ " قلت: لا علم لي يا رسول الله، قال:"الذي يضربك [على هذه وأشار بيده على يافوخه فيخضب هذه من هذه، يعني لحيته من دون رأسه قال: فكان يقول: وددت أنه قد انبعث أشقاكم] "

(2)

.

‌طريق أخرى

قال الإمام أحد

(3)

: حدَّثنا وكيع، حدّثنا الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن عبد الله بن سبُع قال: سمعت عليًا يقول: لتُخْضبنَّ هذه من هذه. فما ينتظر [بي] الأشقى؟ [فقالوا: يا أمير المؤمنين، أخبرنا به نبير عترته، قال: إذن تالله تقتلون بي غير قاتلي] قالوا: فاستخلف علينا. قال: لا، ولكن أترككم كما ترككم إلى ربه رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالوا: فما تقول لربك إذا لقيته؟ قال: أقول: اللهم، تركتني فيهم ما بدا لك. ثم قبضتني إليك وأنت فيهم، إن شئت أصلحتهم، وإن شئت أفسدتهم.

قال أحد

(4)

: حدَّثنا أسود بن عامر، أنبأنا أبو بكر، عن الأعمش عن سلمة بن كهيل، عن عبد الله بن سبُع قال:

خطبنا علي فقال: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لتُخْضبنَّ هذه من هذه. قال: فقال الناس: فأعلمنا منْ هو؟ والله لنبيدنه ولنبيدن عترته

(5)

. فقال: أنشدكم بالله: أن يُقتل غير قاتلي، قالوا: إن كنت علمتَ ذلك فاستخلف، قال: لا ولكن أكلكم إلى من وكلكم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

تفرد به أحمد.

‌طريق أخري عن علي

قال الإمام أحمد

(6)

: حدَّثنا هاشم بن القاسم، حدَّثنا محمد يعني ابن راشد، عن عبد الله بن

(1)

مسند أبي يعلى الموصلي (1/ 485) وإسناده ضعيف.

(2)

من قوله: طريق أخرى عنه إلى هنا ساقط من أ. وقد أقحمت في ط. بعد هذا الخبر بخبرين منقولين عن ابن جرير الطبري بين عبد الملك بن مروان والحجاج فحذفناهما وذلك لأن موضعهما ليس هنا.

(3)

مسند الإمام أحمد (1/ 130) وهو حديث حسن لغيره.

(4)

مسند الإمام أحمد (1/ 156) وإسناده ضعيف.

(5)

في المسند: والله لنُبيرنه أو لنبيرن عترته.

(6)

مسند الإمام أحمد (1/ 102) وإسناده ضعيف.

ص: 541

محمد بن عقيل، عن فَضَالة بن أبي فَضَالة الأنصاري - وكان أبو فَضَالة

(1)

من أهل بدر قال: خرجت مع أبي عائدًا لعليٍّ من مرض أصابه ثَقُلَ منه. فقال له أبي: ما يقيمك بمنزلك هذا لو أصابك أجلك لم يَلِكَ إلا أعراب جُهينة أو غيرهم، تُحملُ إلى المدينة، فإن أصابك أجلك وليكَ أصحابك وصلّوا عليك. فقال علي: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إليَّ أني لا أموت حتى أؤمَّر، ثم تخضبُ هذه - يعني لحيته - من هذه - يعني هامته - قال: فقتل، وقتل أبو فضالة مع علي يوم صفين.

تفرد به أحمد.

ورواه البيهقي في "الدلائل"

(2)

عن الحاكم، عن الأصم، عن الحسن بن مكرم، عن أبي النضر هاشم بن القاسم به.

‌طريق أخرى عنه

قال البزار

(3)

: حدَّثنا أحمد بن أبان القرشي، حدَّثنا سفيان بن عيينة، حدَّثنا كوفي [لنا] يقال له عبد الملك بن أعين عن أبي حرب بن أبي الأسود، أبيه قال: سمعت علي بن أبي طالب يقول: قال عن لي عبد الله بن سلام وقد وضعت رجلي في غرز الركاب السيف فقال: وايم الله لقد قالها ولقد قالها النبي صلى الله عليه وسلم محاربًا يحدث بهذا غيرك.

ثم قال البزار: لا نعلم رواه بهذا الإسناد إلا علي بن أبي طالب، ولا نعلم رواه إلا عبد الملك بن أعين عن أبي حرب ولا رواه عنه إلا ابن عيينة.

هكذا قال. وقد رأيت من الطرق المتعددة خلاف ذلك. قال البيهقي

(4)

: بعد ذكر طرق من هذه الطرق: وقد روينا في كتاب السنن بإسناد صحيح زيد بن أسلم عن أبي سنان الدؤلي عن علي في عن إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بقتله.

‌حديث آخر في ذلك

قال الخطيب البغدادي

(5)

: أخبرني علي بن القاسم البصري، حدَّثنا علي بن إسحاق المادَرائي [قال]: أنبأنا محمد بن إسحاق الصَّغَاني، حدَّثنا إسماعيل بن أبان الورَّاق، حدَّثنا أبو عبد الله

(1)

في الأصول والمطبوع: ابن فضالة، والتصحيح من المسند.

(2)

دلائل النبوة (6/ 438) وهو بمعنى الذي قبله.

(3)

البحر الزخار (2/ 295 - 296).

(4)

دلائل النبوة للبيهقي (6/ 439 - 440).

(5)

تاريخ بغداد (1/ 135) في ترجمة علي بن أبي طالب.

ص: 542

المُحلميّ، عن سِماك، عن جابر بن سمرَة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: "من أشقى الأولين؟ " قال: عاقر الناقة، قال:"فمن أشقى الآخرين؟ " قال الله ورسوله أعلم، قال:"قاتلك".

‌حديث آخر في معنى ذلك

وروى البيهقي

(1)

من طريق فطر بن خليفة وعبد العزيز بن سياه كلاهما عن حبيب بن أبي ثابت، عن ثَعْلبة الحمَّاني قال سمعت عليًا على المنبر وهو يقول:"والله إنه لعهد النبي الأمي إلي أن الأمة ستغدر بك بعدي".

قال البخاري

(2)

: ثعلبة بن يزيد الحمَّاني في حديثه هذا نظر.

قال البيهقي

(3)

: وقد رويناه بإسناد آخر عن علي إن كان محفوظًا.

أخبرنا أبو علي الروذباري، أنا أبو محمد بن شَوْذَب الواسطي، بها، حدَّثنا شعيب بن أيوب، حدَّثنا عمرو بن عون، عن هشيم، عن إسماعيل بن سالم، عن أبي إدريس الأزدي، عن علي. قال: إن مما عهد إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الأمة ستغدر بك بعدي.

قال البيهقي: فإن صح فيحتمل أن يكون المراد به والله أعلم في خروج من خرج عليه ثم في قتله.

وقال الأعمش: عن عمرو بن مرة، عن

(4)

عبد الله بن الحارث، عن زهير بن الأرقم. قال: خطبنا علي يوم جمعة فقال: نبئت أن بسرًا قد طلع اليمن، وإني والله لأحسب أن هؤلاء القوم سيظهرون عليكم، وما يظهرون عليكم إلا بعصيانكم إمامكم وطاعتهم إمامهم، وخيانتكم وأمانتهم، وإفسادكم في أرضكم وإصلاحهم، قد بعثت فلانًا فخان وغدر، وبعثت فلانًا فخان وغدر، وبعث المال إلى معاوية لو ائتمنت أحدكم على قدح لأخذ علاقته، اللهم سئمتهم وسئموني، وكرهتهم وكرهوني، اللهم فأرحهم مني وأرحني منهم. قال: فما صلى الجمعة الأخرى حتى قتل رضي الله عنه وأرضاه.

‌صفة مقتله رضي الله عنه

ذكر ابن جرير

(5)

وغير واحد من علماء التاريخ والسير وأيام الناس: أن ثلاثة من الخوارج وهم عبد الرحمن بن عمرو المعروف بابن ملجم الحميري ثم الكندي حليف بني حنيفة

(6)

من كندة المصري

(1)

دلائل النبوة (1/ 440).

(2)

تاريخ البخاري (2/ 74) وقد تحرفت يزيد في ط إلى زيد.

(3)

دلائل النبوة (6/ 440).

(4)

في ط: عمرو بن مرة بن عبد الله بن الحارث؛ خطأ. وعمرو بن مرة بن عبد الله بن طارق؛ من رجال التهذيب.

(5)

تاريخ الطبري (5/ 143).

(6)

في الطبقات الكبرى (3/ 35): حليف بن جبلة.

ص: 543

وكان أسمر حسن الوجه أبلح، شعره مع شحمة أذنيه، وفي جبهته أثر السجود. والبُرك بن عبد الله التميمي. وعمرو بن بكر التميمي أيضًا - اجتمعوا فتذاكروا قتل علي إخوانهم من أهل النهروان فترحموا عليهم وقالوا: ماذا نصنع بالبقاء بعدهم؟ كانوا [من خير الناس وأكثرهم صلاة وكانوا دعاة الناس إلى ربهم] لا يخافون في الله لومة لائم، فلو شرينا أنفسنا فأتينا أئمة الضلال فقتلناهم فأرحنا منهم [العباد و] البلاد، وأخذنا منهم ثأر إخواننا؟ فقال ابن ملجم: أمّا أنا فأكفيكم علي بن أبي طالب. وقال البرك: وأنا أكفيكم معاوية. وقال عمرو بن بكر: وأنا أكفيكم عمرو بن العاص. فتعاهدوا وتواثقوا أن لا ينكص رجل منهم عن صاحبه حتى يقتله أو يموت دونه، فأخذو أسيافهم فسمُّوها واتعدوا [أن يكون هذا الأمر] لسبع عشرة من رمضان

(1)

أن يبيِّت كل واحد منهم صاحبه في بلده الذي هو فيه. فأما ابن ملجَم فسار إلى الكوفة فدخلها وكتم أمره حتى عن [قومه و] أصحابه [بها] من الخوارج الذين هم بها، فبينما هو جالس في قوم من بني [تيم] الرباب [وهم] يتذاكرون قتلاهم يوم النهروان إذ أقبلت امرأة منهم يقال لها قطام بنت الشجنة، قد قتل علي يوم النهروان أباها وأخاها، وكانت فائقة الجمال مشهورة [بالحسن]، وكانت قد انقطعت في المسجد الجامع تتعبد فيه، فلما رآها ابن ملجَم سلبت عقله ونسي حاجته التي جاء لها، وخطبها إلى نفسها فاشترطت عليه ثلاثة آلاف درهم وخادمًا وقينة. وأن يقتل لها علي بن أبي طالب، [فأجابها إلى ما شرطت عليه] قال: فهو لك ووالله ما جاء بي إلى هذه البلدة إلا قتل علي [بن أبي طالب]، فتزوجها ودخل بها ثم شرعت تحرّضه على ذلك، وندبت له رجلًا من قومها، من تيم الرَّباب يقال له وردان، ليكون معه ردءًا، واستمال عبد الرحمن بن ملجم رجلًا آخر يقال له شبيب بن نجدة الأشجعي الحروري. قال ابن ملجم: هل لك في شرف الدنيا والآخرة؟ فقال: وما ذاك: قال؟ قتل علي، فقال: ثكلتك أمك، لقد جئت شيئًا إذا

(2)

كيف تقدر عليه؟ قال أكمن له في المسجد فإذا خرج لصلاة الغداة شددنا عليه فقتلناه، فإن نجونا شفينا أنفسنا وأدركنا ثأرنا

(3)

، وإن قتلنا فما عند الله خير [وأبقى] من الدنيا. فقال: ويحك لو غير علي كان أهون علي؟ قد عرفت سابقته في الإسلام وقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فما أجدني أنشرح صدرًا لقتله. فقال: أما تعلم أنه قتل أهل النهروان؟ فقال: بلى قال: فنقتله بمن قتل من إخواننا. فأجابه إلى ذلك بعد لأي، ودخل شهر رمضان فواعدهم ابن ملجم ليلة الجمعة لسبع عشرة ليلة خلت، وقال: هذه الليلة التي واعدت [فيها] أصحابي [أن يقتل كل واحد منا فيها صاحبه الذي ذهب إليه، ثم جاؤوا إلى قطام فدعت لهم بعصب الحرير فعصبتهم بها وكانت في المسجد]

(4)

فجاء هؤلاء الثلاثة - وهم ابن ملجم، ووردان، وشبيب - وهم مشتملون على سيوفهم

(1)

في أ: من رمضان في تلك الليلة بيت كل واحد منهم على صاحبه الذي توجه إليه في بلده الذي هو فيه فيقتله.

(2)

الإدّ: الأمر الفظيع والداهية والمنكر، القاموس (أرد).

(3)

في أ: فأدركنا ثأر إخواننا.

(4)

مكان ما بين الحاصرتين في ط: فيها أن يثأروا بمعاوية وعمرو بن العاص.

ص: 544

[فدخلوا المسجد الجامع] فجلسوا مقابل السدة التي يخرج منها علي، فلما خرج جعل يُنهض الناس من النوم إلى الصلاة [على عادته] ويقول: الصلاة الصلاة [عباد الله] فثار إليه شبيب بالسيف فضربه فوقع [سيفه] في الطاق، فضربه ابن ملجم بالسيف على قرنه فسال دمه على لحيته رضي الله عنه، ولما ضربه ابن ملجم قال: لا حكم إلا لله ليس لك يا علي ولا لأصحابك، وجعل يتلو قوله تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة: 207] ونادى عدي: عديكم به، وهرب وردان فأدركه رجل من حضرموت فقتله، وذهب شبيب فنجا بنفسه وفات الناس، ومُسك ابن ملجَم، وقدّم عليّ جعدة بن هبيرة بن أبي وهب فصلَّى بالناس صلاة الفجر، وحُمل علي إلى منزله، وحُمل إليه عبد الرحمن بن ملجم فأوقف بين يديه وهو مكتوف - قبحه الله - فقال له: أي عدو الله ألم أحسن إليك؟ قال: بلى: قال. فما حملك على هذا؟ قال: شحذته [يعني سيفه] أربعين صباحًا وسألت الله أن يقتل به شر خلقه، فقال له علي: لا أراك إلا مقتولًا به، ولا أراك إلا من شر خلق الله، ثم قال: إن مت فأقتلوه وإن عشت فأنا أعلم كيف أصنع به

(1)

. وقال جندب بن عبد الله: يا أمير المؤمنين إن مت نبايع الحسن؟ فقال: لا آمركم ولا أنهاكم، أنتم أبصر.

ولما احتضر علي جعل يكثر من قول لا إله إلا الله، لا يتلفظ

(2)

بغيرها. وقد قيل إن آخر ما تكلم به: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7، 8] وقد أوصى ولديه الحسن والحسين بتقوى الله والصلاة والزكاة [وغفر الذنب] وكظم الغيظ وصلة الرحم والحلم عن الجاهل والتفقه في الدين والتثبت في الأمر، والتعاهد للقرآن، وحسن الجوار، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واجتناب الفواحش، ووصاهما بأخيهما محمد بن الحنفية ووصاه بما وصاهما به، وأن يعظمهما ولا يقطع أمرًا دونهما وكتب ذلك كله في كتاب وصيته رضي الله عنه وأرضاه.

وصورة الوصية: بسم الله الرحمن الرحيم! هذا ما أوصى به علي بن أبي طالب أنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من

(3)

المسلمين، أوصيك يا حسن وجميع ولدي [وأهلي] ومن بلغه كتابي بتقوى الله ربكم ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا فإني سمعت أبا القاسم

(4)

صلى الله عليه وسلم يقول: "إن صلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام" انظروا إلى ذوي أرحامكم فصلوهم ليهوّن الله عليكم الحساب، الله

(1)

في أ: تقديم لخبر أورده الإمام أحمد وسيرد بعد صفحة من هنا.

(2)

في أ: لا ينطق.

(3)

في ط: "أول"، وما هنا من أ، وهو الموافق لما في تاريخ الطبري (5/ 147).

(4)

في أ: رسول الله.

ص: 545

الله في الأيتام فلا تُعنوا

(1)

أفواههم، ولا يضيعُنّ بحضرتكم، الله الله في جيرانكم فإنهم وصية نبيكم، ما زال يوصي بهم حتى ظننا أنه سيورثهم، الله الله في القرآن فلا يسبقنكم إلى العمل به غيركم. الله الله في الصلاة فإنها عمود دينكم. الله الله في بيت ربكم فلا يخلون منكم ما بقيتم فإنه إن ترك لم تناظروا

(2)

. الله الله في شهر رمضان فإن صيامه جُنَّة من النار. الله الله في الجهاد في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم. الله الله في الزكاة فإنها تطفئ غضب الرب. الله الله في ذمة نبيكم ولا يُظْلمنَّ بين أظهركم

(3)

. الله الله في أصحاب نبيكم فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى بهم. الله الله في الفقراء والمساكين فأشركوهم في معاشكم. الله الله فيما ملكت أيمانكم فإن آخر ما تكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال: "أوصيكم بالضعيفين نسائكم وما ملكت أيمانكم" الصلاة الصلاة، لا تخافن في الله لومة لائم يكفكم من أرادكم وبغى عليكم، وقولوا للناس حسنًا كما أمركم الله، ولا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيولى الأمر شراركم ثم تدعون فلا يستجاب لكم، وعليكم بالتواصل والتبادل، وإياكم والتدابر والتقاطع والتفرق، وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب، حفظكم الله من أهل بيت، وحفظ عليكم نبيكم، أستودعكم الله وأقرأ عليكم السلام ورحمة الله

(4)

.

ثم لم ينطق إلَّا بلا إله إلا الله حتى قبض في شهر رمضان سنة أربعين.

وقد غسله ابناه الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر وصلّى عليه الحسن فكبّر عليه تسع تكبيرات.

وقال الإمام أحمد

(5)

: حدَّثنا أبو أحمد الزَّبيري، حدَّثنا شريك، عن عمران بن ظبيان، عن أبي تِحيى

(6)

قال: لما ضرب ابن ملجَم عليًا قال لهم: افعلوا به كما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل برجل أراد قتله فقال: "اقتلوه ثم حرقوه".

وقد روي أن أم كلثوم قالت لابن ملجم وهو واقف: ويحك! لمَ ضربت أمير المؤمنين؟ قال: إنما ضربت أباك، فقالت: إنه لا بأس عليه، فقال: لمَ تبكين؟ والله لقد ضربته ضربة لو أصابت أهل المصر لماتوا أجمعين، والله لقد سممت هذا السيف شهرًا ولقد اشتريته بألف وسممته بألف.

قال الهيثم بن عدي: حدَّثني رجل من بجيلة، عن مشيخة قومه أن عبد الرحمن بن ملجم رأى امرأة من [بني] تيم الرَّباب يقال لها قطام كانت من أجمل النساء ترى رأي الخوارج، قد قتل عليٌّ قومها على هذا الرأي، فلما أبصرها عشقها فخطبها فقالت: لا أتزوجك إلا على ثلاثة آلاف [درهم] وعبد وقينة

(1)

في ط: "تعفو" وما هنا يعضده ما في تاريخ الطبري.

(2)

في أ: فإنه يترك بكم لن تناظروا.

(3)

في ط: "ظهرانيكم"، وما هنا من أ وتاريخ الطبري.

(4)

وإسناد هذه الوصية ضعيف معضل، وانظر معجم الطبراني الكبير (1/ 97) رقم (168).

(5)

مسند الإمام أحمد (1/ 92) وإسناده ضعيف.

(6)

في أ، ط: يحيى؛ تحريف.

ص: 546

[وقتل علي بن أبي طالب]، فتزوجها على ذلك فلما بنى بها قالت له: يا هذا قد فرغت [من حاجتك] فافرغ [من حاجتي] فخرج ملبسًا سلاحه، وخرجت معه، فضربت له قبة في المسجد وخرج عليٌّ يقول: الصلاة الصلاة، فاتبعه عبد الرحمن فضربه بالسيف على قرن رأسه فقال الشاعر - قال ابن جرير: هو ابن مياس المرادي

(1)

: [من الطويل]

فَلَمْ أرَ مَهْرًا ساقَهُ ذو سَماحةٍ

كَمهْرِ قَطام بَيِّنًا غيرَ مُعْجَمِ

(2)

ثَلاثةُ آلافٍ وعبدٌ وقينةٌ

وقتلُ عليٍّ بالحسام المُصَمَّمِ

(3)

فلا مَهْرَ أغْلَى من عليٍّ وإنْ غَلا

ولا فتكَ إلا دون فتكِ

(4)

ابن ملجم

وقد عزا ابن جرير هذه الأبيات إلى ابن ميّاس المرادي وأنشد له ابن جرير

(5)

في قتلهم عليًا: [من الطويل]

ونحنُ ضربنا

(6)

مالكَ الخيرِ حيدرًا

(7)

أبا حسنٍ مأمومةً

(8)

فتفطَّرا

ونحن خلعنا ملكهُ من نظامه

بضربةِ سيفٍ إذ علا وتجبَّرا

ونحنُ كرامٌ في الهياج

(9)

أعزةٌ

إذا الموتُ بالموتِ ارتدَى وتأزَّرا

وقد امتدح ابن ملجم بعض الخوارج المتأخرين في زمن التابعين وهو عمران بن حطان وكان أحد العبَّاد ممن يروي

(10)

عن عائشة في صحيح البخاري

(11)

فقال [يمدح ابن ملجم على قتله عليًا]

(12)

: [من البسيط]

يا ضربةً من تقيٍّ ما أرادَ بها

إلَّا ليبلغَ من ذي العرشِ رضوانا

إني لأذكرُهُ يومًا فأحسبهُ

أوفى البريةِ عندَ اللهِ ميزانا

(1)

تاريخ الطبري (5/ 150) وفيه اسم الشاعر: ابن أبي مياس.

(2)

في تاريخ الطبري من فصيح وأعجم.

(3)

في أ: المضهم.

(4)

في أ: والطبري: ولا قتل إلا دون قتل.

(5)

تاريخ الطبري (5/ 150).

(6)

في أ: ونحن قتلنا.

(7)

في تاريخ الطبري: يا لك الخير حيدرا.

(8)

الأمومة: الشجة التي تبلغ أم الرأس.

(9)

في تاريخ الطبري: في الصباح.

(10)

في أ: وقد روى.

(11)

في اللباس الحديث (5952) عن عمران بن حطان: أن عائشة رضي الله عنها حدّثته أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يترك في بيته شيئًا فيه تصاليب إلا نقضه.

(12)

بدل ما بين الحاصرتين في ط: فيه. والبيتان في الكامل للمبرد منسوبين لعمران بن حطان (3/ 1085).

ص: 547

وأما صاحب معاوية - وهو البرك

(1)

- فإنه حمل عليه وهو خارج إلى صلاة الفجر في هذا

(2)

اليوم فضربه بالسيف، وقيل بخنجر مسموم، فجاءت الضربة في وركه فجرحت أليته، ومسك الخارجي فقتل، وقد قال لمعاوية: اتركني فإني أبشرك ببشارة، فقال: وما هي؟ فقال: إن أخي قد قتل في هذا اليوم علي بن أبي طالب، قال: فلعله لم يقدر عليه، قال: بلى إنه، لا حرس معه، فأمر به فقتل، وجاء الطبيب فقال لمعاوية: إن جرحك مسموم فإما أن أكويك واما أن أسقيك شربةً فيذهب السم ولكن ينقطع نسلك

(3)

. فقال معاوية: أما النار فلا طاقة لي بها وأما النسل ففي يزيد وعبد الله ما تقر به عيني. فسقاه شربة فبرأ من ألمه وجراحه واستقل

(4)

وسَلِمَ رضي الله عنه. ومن حينئذ عملت المقصورة في المسجد الجامع وجعل الحرس حولها

(5)

في حال السجود، فكان أول من اتخذها معاوية لهذه الحادثة

(6)

.

وأما صاحب عمرو بن العاص - وهو عمرو بن بكر [الخارجي]- فإنه كمن له ليخرج إلى الصلاة فاتفق أن عرض لعمرو بن العاص مغص شديد في تلك الليلة فلم يخرج إلا نائبه إلى الصلاة - وهو خارجة بن أبي حبيبة من بني عامر بن لؤي وكان على شرطة عمرو بن العاص [فحمل عليه الخارجي فقتله وهو يعتقده عمرو بن العاص، فلما أخذ الخارجي]

(7)

قال: أردتُ عمرًا وأراد الله خارجة، فأرسلها مثلًا، وقتل [من وقته] قبحه الله.

وقد قيل إن الذي قالها عمرو بن العاص، وذلك حين جيء بالخارجي فقال: ما هذا؟ قالوا قتل نائبك خارجة [فقال الخارجي والله ما أردت إلا إياك فقال عمرو: أردتني وأراد الله خارجة] ثم أمر به فضربت عنقه.

والمقصود أن عليًا رضي الله عنه لما مات صلى عليه ابنه الحسن فكبر عليه تسع تكبيرات ودفن بدار الإمارة بالكوفة خوفًا عليه من الخوارج أن ينبشوا عن جثته، هذا هو المشهور، ومن قال إنه حمل على راحلته فذهبت به فلا يدرى أين ذهب فقد أخطًا وتكلف ما لا علم له به ولا يسيغه عقل ولاشرع، وما يعتقده كثير من جهلة الروافض من أن قبره بمشهد النجف فلا دليل على ذلك ولا أصل له، ويقال إنما ذاك قبر المغيرة بن شعبة، حكاه الخطيب البغدادي

(8)

عن أبي نعيم الحافظ، عن أبي بكر الطلحي، عن

(1)

في أ: والذي ذهب إلى معاوية بن أبي سفيان وهو البرك.

(2)

في أ: في يوم الجمعة أيضًا.

(3)

في أ: وينقطع النسل.

(4)

في أ: من ألمه وجراحه وانقطع نسله وسلم من ذلك، ومن يومئذ أمر بعمل المقصورة.

(5)

في أ: وجعل الحرس حولها في حال السجود من الصلاة.

(6)

في أ: لأجل هذه الحالة.

(7)

ما بين الحاصرتين في أ: ومسك الخارجي فلما أخذوه.

(8)

تاريخ بغداد (1/ 138).

ص: 548

محمد بن عبد الله الحضرمي الحافظ - مطين

(1)

- أنه قال: لو علمت الشيعة قبر هذا الذي يعظمونه بالنجف لرجموه بالحجارة، هذا قبر المغيرة بن شعبة.

قال الواقدي

(2)

: حدَّثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، قال: سألت أبا جعفر محمد بن علي الباقر كم كان سن علي يوم قتل؟ قال: ثلاثًا وستين سنة. قلت: أين دفن؟ قال: دفن بالكوفة ليلًا وقد غُبي

(3)

عنّي دفنه.

وفي رواية عن جعفر الصادق أنه كان عمره ثمانيًا وخمسين سنة، وفد قيل إن عليًا دفن قبلي المسجد الجامع من الكوفة. قاله الواقدي

(4)

. والمشهور [أنه دفن] بدار الإمارة [وقيل بحائط جامع الكوفة]. وقد حكى الخطيب البغدادي

(5)

: عن أبي نعيم الفضل بن دكين: أن الحسن والحسين حوَّلاه فنقلاه إلى المدينة فدفناه بالبقيع عند قبر [زوجته، فاطمة][أمهما]. وقيل إنهم لما حملوه على البعير ضل منهم فاخذته طيِّئ يظنونه مالًا فلما رأوا

(6)

أن الذي في الصندوق ميت ولم يعرفوا [من هو] دفنوا الصندوق بما فيه فلا يعلم أحد أين قبره، حكاه الخطيب أيضًا.

وروى الحافظ ابن عساكر

(7)

عن الحسن قال: دفنت عليًا في حجرة من دور آل جعدة. وعن عبد الملك بن عمير قال: لما حفر خالد بن عبد الله [القسري] أساس دار ابنه يزيد استخرجوا شيخًا مدفونًا أبيض الرأس واللحية كأنما دفن بالأمس فهم بإحراقه ثم صرفه الله عن ذلك [إلى غيره] فاستدعى بقباطي فلفه فيها وطيبه وتركه مكانه. قالوا وذلك المكان بحذاء باب الوراقين مما يلي قبلة المسجد في بيت إسكاف وما يكاد يقر في ذلك الموضع أحد إلا انتقل منه.

وعن جعفر بن محمد الصادق قال: صُلِّي على عليٍّ ليلًا ودفن بالكوفة وعُمِّي موضع قبره ولكنه عند قصر الإمارة.

وقال ابن الكلبي: شهد دفنه في الليل الحسن والحسين وابن الحنفية وعبد الله بن جعفر وغيرهم من أهل بيتهم فدفنوه في ظاهر الكوفة وعمَّوا قبره خيفة عليه من الخوارج وغيرهم.

وحاصل الأمر أن عليًا قتل يوم الجمعة سحرًا وذلك لسبع عشرة خلت من رمضان من سنة أربعين وقيل إنه قتل في ربيع الأول والأول هو الأصح الأشهر والله أعلم. ودفن بالكوفة عن ثلاث وستين سنة وصححه

(1)

في أ: خطير، وفي ط: مطر، وما هنا عن تاريخ بغداد.

(2)

طبقات ابن سعد (6/ 91).

(3)

التغبية: الستر. القاموس (غبب).

(4)

طبقات ابن سعد (6/ 91).

(5)

تاريخ بغداد (1/ 137 - 138).

(6)

في أ: عرفوا.

(7)

تاريخ دمشق - ترجمة علي - (3/ 375).

ص: 549

الواقدي وابن جرير

(1)

وغير واحدٍ، وقيل عن خمس وستين وقيل عن ثمان وستين سنة رضي الله عنه. وكانت خلافته أربع سنين وتسعة أشهر. فلما مات علي رضي الله عنه استدعى الحسن بابن ملجم فقال له ابن ملجم

(2)

: إني أعرض عليك خصلة قال: وما هي؟ قال: إني كنت عاهدت الله عند الحطيم أن أقتل عليًا ومعاوية أو أموت دونهما، فإن خليتني ذهبت إلى معاوية على أني إن لم أقتله أو قتلته وبقيت فلله عليَّ أن أرجع إليك حتى أضع يدي في يدك [إن أردت أن تقتل وإن أردت أن تعفو] فقال له الحسن: كلا والله حتى تعاين النار، ثم قدمه فقتله ثم أخذه الناس فأدرجوه في بواري ثم أحرقوه بالنار

(3)

.

وقد قيل إن عبد الله بن جعفر قطع يديه ورجليه وكحلت عيناه وهو مع ذلك يقرأ سورة: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} إلى آخرها ثم جاؤوا ليقطعوا لسانه فجزع وقال: إني أخشى أن تمر عليَّ ساعة لا أذكر الله فيها ثم قطعوا لسانه ثم قتلوه ثم حرقوه في قوصرة

(4)

والله أعلم.

وروى ابن جرير قال: حدَّثني الحارث حدَّثنا ابن سعد عن محمد بن عمر قال: ضرب علي يوم الجمعة فمكث يوم الجمعة، وليلة السبت وتوفي ليلة الأحد لإحدى عشرة ليلة بقيت من رمضان سنة اْربعين عن ثلاث وستين سنة.

قال الواقدي

(5)

: وهو الثبت عندنا والله أعلم بالصواب.

[فصل في] ذكر زوجاته وبنيه وبناته رضي الله عنهم

قال الإمام أحمد

(6)

: حدَّثنا حجاج، حدَّثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن هانئ بن هانئ، عن علي قال: لما ولد الحسن جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أروني ابني، ما سمَّيتموه؟ " فقلت: سميته حربًا، فقال:"بل هو حسن" فلما ولد الحسين قال: "أروني ابني، ما سمَّيتموه؟ " فقلت: سميته حربًا قال: "بل هو حسين" فلما ولد الثالث جاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أروني ابني ما سميتموه؟ " فقلت حربًا فقال: "بل هو مُحسِّن" ثم قال: "إني سميتهم باسم ولد هارون شبَّر وشبير ومُشبِّر".

وقد رواه محمد بن سعد

(7)

عن يحيى بن عيسى التميمي

(8)

، عن الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد

(1)

تاريخ الطبري (5/ 151).

(2)

في أ: فلما مات علي استدعى الحسن بن علي بابن ملجم، فلما وقف بين يديه قال.

(3)

في هامش أ: مطلب قتل الحسن بن أمير المؤمنين علي قاتل أبيه ابن ملجم.

(4)

القَوْصرة والقَوْصَرَّة: مخفف ومُثَقل؛ وعاء من قصب يرفع فيه التمر من البواري. اللسان (قصر).

(5)

الطبقات الكبرى (3/ 38) وتاريخ الطبري (5/ 152).

(6)

مسند الإمام أحمد (1/ 118) وإسناده ضعيف، لجهالة هانئ بن هانئ، كما في "تحرير التقريب".

(7)

لم أجده في الطبقات وهو بتمامه في سير أعلام النبلاء (3/ 247).

(8)

في ط: التيمي؛ خطأ.

ص: 550

قال قال علي: كنت رجلًا أحب الحرب فلما ولد الحسن هممت أن أسميه حربًا، فذكر الحديث بنحو ما تقدم لكن لم يذكر الثالث. وقد ورد في بعض الأحاديث أن عليًا سمى الحسن أولًا بحمزة وحسينًا بجعفر فغير اسميهما رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فأول زوجة تزوجها علي رضي الله عنه فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بنى بها بعد وقعة بدر فولدت له الحسن وحسينًا ويقال ومحسنًا ومات [محسن] وهو صغير، وولدت له زينب الكبرى وأم كلثوم [الكبرى] وهذه تزوج بها عمر بن الخطاب كما تقدم. ولم يتزوج علي على فاطمة حتى توفيت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بستة أشهر، فلما ماتت تزوج بعدها بزوجات كثيرة، منهن من توفيت في حياته ومنهن من طلقها، وتوفي عن أربع كما سيأتي.

فمن زوجاته أم البنين بنت حزام وهو أبو المجل

(1)

بن خالد بن ربيعة بن كعب بن عامر بن كلاب فولدت له العباس وجعفرًا وعبد الله وعثمان. وقد قتل هؤلاء مع أخيهم الحسين بكر بلاء ولا عقب لهم سوى العباس.

ومنهن ليلى بنت مسعود بن خالد بن مالك من بني تميم فولدت له عبيد الله وأبا بكر، وقال هشام بن الكلبي: وقد قتلا بكر بلاء أيضًا. وزعم الواقدي: أن عبيد الله قتله المختار بن أبي عبيد يوم الدار.

ومنهن أسماء بنت عميس الخثعمية فولدت له يحيى ومحمدًا الأصغر قاله الكلبي. وقال الواقدي: ولدت له يحيى وعونًا؛ قال الواقدي: فأما محمد الأصغر فمن أم ولد.

ومنهن أم حبيبة بنت ربيعة بن بجير

(2)

بن العبد بن علقمة وهي أم ولد من السبي الذين سباهم خالد [بن الوليد] من بني تغلب حين أغار على عين التمر فولدت له عمر - وقد عمر خمسًا وثمانين

(3)

سنة - ورقية.

ومنهن أم سعيد بنت عروة بن مسعود بن معتِّب

(4)

بن مالك الثقفي فولدت له أم الحسن ورملة الكبرى.

ومنهن ابنة امرئ القيس بن عدي بن أوس بن جابر بن كعب بن عليم بن كلب الكلبية فولدت له جارية، فكانت تخرج مع علي إلى المسجد وهي صغيرة فيقال لها: من أخوالك؟ فتقول: وه وه تعني بني كلب.

(1)

في ط: "بنت حرام، وهو المحل"، وما أثبتناه موافق لما في تاريخ الطبري (5/ 154).

(2)

في ط: "زمعة بن بحر" وما أثبتناه موافق لما في تاريخ الطبري.

(3)

في ط: وثلاثين؛ وما هنا عن المصدرين السابقين.

(4)

في ط: "مغيث"، محرف، وانظر ترجمة عروة بن مسعود في الاستيعاب (3/ 1066)، والإصابة (2/ 477) وقال:"معتب بالمهملة والمثناة المشددة".

ص: 551

ومنهن أمامة بنت أبي العاص بن الربيع بن عبد شمس

(1)

بن عبد مناف بن قصي وأمها زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي التى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحملها وهو في الصلاة إذا قام حملها وإذا سجد وضعها - فولدت له محمدًا الأوسط، وأما ابنه محمد الأكبر فهو ابن الحنفية وهي خولة بنت جعفر بن قيس بن مسلمة بن عبيد بن ثعلبة بن يربوع بن ثعلبة بن الدؤل بن حنيفة بن لجيم بن صعب بن علي بن بكر بن وائل، سباها خالد أيام الصديق أيام الردة من بني حنيفة فصارت لعلي بن أبي طالب فولدت له محمدًا هذا، ومن الشيعة من يدَّعي به الإمامة والعصمة، وقد كان من سادات المسلمين ولكن ليس بمعصوم ولا أبوه معصوم بل ولا من هو أفضل من أبيه من الخلفاء الراشدين قبله ليسوا بواجبي العصمة كما هو مقرر في موضعه، والله أعلم.

وقد كان لعلي أولاد كثيرة آخرون من أمهات أولاد شتى فإنه مات عن أربع نسوة وتسع عشرة سرية رضي الله عنه.

فمن أولاده رضي الله عنهم ممن لا يعرف أسماء أمهاتهم: أم هانئ، وميمونة، وزينب الصغرى، ورملة الكبرى، وأم كلثوم الصغرى، وفاطمة، وأمامة، وخديجة، وأم الكرام، وأم جعفر، وأم سلمة، وجمانة.

قال ابن جرير

(2)

: فجميع ولد علي أربعة عشر ذكرًا وسبع عشرة أنثى.

قال الواقدي

(3)

: وإنما كان النسل من خمسة وهم الحسن والحسين، ومحمد بن الحنفية، والعباس بن الكلابية، وعمر بن التغلبية رضي الله عنهم أجمعين.

وقد قال ابن جرير

(4)

: حدَّثني ابن سنان القزَّاز، حدَّثنا أبو عاصم

(5)

، حدثنا سُكين بن عبد العزيز، أخبرنا جعفر

(6)

بن خالد، حدَّثني أبي خالد بن جابر قال: سمعت الحسن لما قتل علي قام خطيبًا،

(1)

في الطبري: الربيع بن عبد العُزّى بن عبد شمس.

(2)

تاريخ الطبري (5/ 155).

(3)

الطبقات الكبرى (6/ 14).

(4)

تاريخ الطبري (5/ 157).

(5)

قوله: "حدثنا أبو عاصم" سقط من ط، هو الضحاك بن مخلد، وابن سنان هو محمد بن سنان.

(6)

في ط: "حفص" بدل جعفر، وما أثبتناه من أ وهو الموافق لما في مسند أبي يعلى (6757) وسيشير المصنف إليه لاحقًا، وهو بلا شك اختيار المصنف، وان كان مخالفًا لما في كتب الرجال وللصواب، فقد ترجم ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (3/ الترجمة 1454) لخالد بن جابر فقال:"روى عن الحسن بن علي، روى عنه ابنه حفص بن خالد بن جابرًا، وترجم في حرف الحاء المهملة لحفص (3/ الترجمة 738) فقال: "حفص بن خالد بن جابر، روى عن أبيه، روى عنه سكين بن عبد العزيز". وكذلك هو في تاريخ البخاري الكبير، وثقات ابن حبان. وحين ترجم المزي لسكين بن عبد العزيز في تهذيب الكمال (11/ 209) ذكر في الرواة عنه حفص بن خالد بن جابر، ولم يذكر جعفرًا، فتبين أن المواب فيه أنه "حفص" وليس جعفر، وإنما انتقّل الوهم إلى المصنف من أبي يعلى. (بشار).

ص: 552

فقال: لقد قتلتم الليلة رجلًا في ليلة نزل فيها القرآن، ورفع فيها عيسى ابن مريم، وفيها قتل يوشع بن نون فتى موسى، والله ما سبقه أحد كان قبله ولا يدركه أحد يكون بعده، والله إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبعثه في السرية وجبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره، والله ما ترك صفراء ولا بيضاء إلا ثمانمئة أو سبعمئة أرصدها لخادم

(1)

. وهذا غريب جدًّا وفيه نكارة، والله أعلم.

وهكذا رواه أبو يعلى

(2)

: عن إبراهيم بن الحجاج، عن سكين به.

وقال الإمام أحمد

(3)

: حدَّثنا وكيع، عن شريك، عن أبي إسحاق، عن هُبيرة قال: خَطَبنا الحسن بن علي قال: لقد فارقكم رجل بالأمس لم يسبقه الأولون بعلم، ولا يدركه الآخرون، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعثه بالراية، جبريلُ عن يمينه وميكائيل عن شماله لا ينصرف حتى يُفتح له. ورواه زيد العمِّي وشعيب

(4)

بن خالد عن أبي إسحاق به وقال: ما ترك إلا سبعمئة كان أرصدها ليشتري بها خادمًا. وقال الإمام أحمد

(5)

: حدَّثنا حجاج، حدَّثنا شريك، عن عاصم بن كليب

(6)

، عن محمد بن كعب القرظي، أن عليًا قال: لقد رأيتني مع رسول الله وإني لأربط الحجر على بطني من الجوع، وإن صدقتي اليوم لتبلغ أربعين ألفًا. ورواه

(7)

عن أسود، عن شريك به وقال: إن صدقتي لتبلغ أربعين ألف دينار.

[باب ذكر] شيء من فضائل (أمير المؤمنين) علي بن أبي طالب رضي الله عنه

من ذلك أنه أقرب العشرة المشهود لهم بالجنة نسبًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه علي بن أبي طالب [وأبو طالب اسمه عبد مناف] بن عبد المطلب - واسمه شيبة - بن هاشم - واسمه عمرو - بن عبد مناف - واسمه المغيرة - بن قصي - واسمه زيد - بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، أبو الحسن القرشي الهاشمي فهو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم[أبوه أخو أبيه] وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف.

(1)

في الطبري: أو سبعمئة أرصدها لخادمه، وفي ط: لحادثة.

(2)

مسند أبي يعلى (6758)، وإسناده ضعيف.

(3)

في مسنده (1/ 199) وهو حديث حسن.

(4)

في أ: عن شعيب.

(5)

مسند الإمام أحمد (1/ 159) وإسناده ضعيف.

(6)

تحرفت في ط إلى: كريب.

(7)

مسند أحمد (1/ 159)، وإسناده ضعيف.

ص: 553

قال الزبير بن بكار

(1)

: وهي أول هاشمية ولدت هاشميًا. وقد أسلمت وهاجرت.

وأبوه هو العم الشقيق الرفيق أبو طالب واسمه عبد مناف كذا نص

(2)

على ذلك الإمام أحمد بن حنبل هو وغير واحد من علماء النسب وأيام الناس. وزعمت الروافض أن اسم أبي طالب عمران وأنه المراد من قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 33]، وقد أخطؤوا في ذلك خطًا كثيرًا ولم يتأملوا القرآن قبل أن يقولوا هذا البهتان من القول في تفسيرهم له على غير مراد الله تعالى، فإنه قد ذكر بعد هذه قوله تعالى:{إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} [آل عمران: 35]، فذكر ميلاد مريم بنت عمران عليها السلام وهذا ظاهر ولله الحمد.

وقد كان أبو طالب كثير المحبة الطبيعية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يؤمن به إلى أن مات على دينه كما ثبت ذلك في صحيح البخاري

(3)

من رواية سعيد بن المسيب، عن أبيه في عرضه عليه الصلاة والسلام على عمه أبي طالب وهو في السياق أن يقول: لا إله إلا الله فقال له أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فقال كان آخر ما قال هو على ملة عبد المطلب وأبى أن يقول لا إله إلا الله، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول:"أما لأستغفرن لك ما لم أنْهَ عنك" فنزل في ذلك قوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص: 56] ثم نزل بالمدينة قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة: 113، 114]، وقد قررنا ذلك في أوائل المبعث ونبهنا على خطأ الرافضة في دعواهم أنه أسلم، وافترائهم ذلك بلا دليل على مخالفة النصوص الصريحه

(4)

.

وأما علي رضي الله عنه فأنه أسلم قديمًا وهو دون البلوغ على المشهور، ويقال: إنه أول من أسلم من الغلمان، كما أن خديجة أول من أسلم من النساء، وأبو بكر الصديق أول من أسلم من الرجال الأحرار، وزيد بن حارثة أول من أسلم من الموالي.

وقد روى الترمذي وأبو يعلى

(5)

: عن إسماعيل بن السدّي، عن علي بن عابس

(6)

، عن مسلم

(1)

نسب قريش (ص 40).

(2)

في هامش أ: مطلب الاختلاف في اسم أبي طالب الذي ابنه علي هل هو عبد مناف على ما نصه الإمام أحمد أم عمران كما ذهب إليه الروافض.

(3)

صحيح البخاري (1360) في الجنائز.

(4)

في أ: الصحيحة.

(5)

جامع الترمذي (3728) في المناقب، عن مسلم الملائي، عن أنس، ومسند أبي يعلى الموصلي (4208) وقال الترمذي: هذا حديث غريب (يعني: ضعيف).

(6)

في ط: "عياش" محرف، وهو من رجال التهذيب.

ص: 554

الملائي

(1)

، عن أنس بن مالك قال: بُعث رسول الله يوم الإثنين، وصلَّى وعليٌّ يوم الثلاثاء. ورواه بعضهم عن مسلم الملائي، عن حبَّة بن جُوين، عن علي - وحِبَّة لا يساوي حَبَّة -.

وقد روى سلمة بن كهيل، عن حِبَّة، عن علي قال: عبدت الله مع رسول الله سبع سنين قبل أن يعبده أحد.

وهذا لا يصح أبدًا وهو كذب.

وروى سفيان الثوري وشعبة، عن سلمة، عن حبَّة عن علي قال: أنا أول من أسلم، وهذا لا يصح أيضًا وحبة ضعيف.

وقال سويد بن سعيد: حدَّثنا نوح بن قيس عن

(2)

سليمان بن عبد الله، عن معاذة العدوية قالت: سمعت علي بن أبي طالب على منبر البصرة يقول: أخبرنا الصديق الأكبر آمنت قبل أن يؤمن أبو بكر، وأسلمت قبل أن يسلم.

وهذا لا يصح، قاله البخاري

(3)

.

وقد ثبت عنه بالتواتر أنه قال على منبر الكوفة: أيها الناس: إن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر، ولو شئت أن أسمي الثالث لسميت

(4)

. وقد تقدم ذلك في فضائل الشيخين رضي الله عنهما وأرضاهما.

قال الإمام أحمد

(5)

: حدَّثنا سليمان بن داود، حدَّثنا أبو عَوَانة، عن أبي بَلج، عن عمرو بن ميمون، عن ابن عباس قال: أول من صلى - وفي رواية أسلم - مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد خديجة علي بن أبي طالب.

ورواه الترمذي

(6)

من حديث شعبة، عن أبي بلْجٍ به.

وقد روي عن زيد بن أرقم وأبي أيوب الأنصاري أنه صلى قبل الناس بسبع سنين وهذا لا يصح من أي وجه كان روي عنه. وقد ورد في أنه أول من أسلم من هذه الأمة أحاديث كثيرة لا يصح منها شيء، وأجود ما في ذلك ما ذكرناه على أنه قد خولف فيه، وقد اعتنى الحافظ الكبير أبو القاسم بن عساكر في

(1)

في ط بعد هذا: "عن حبة بن جُوين، عن علي، وحبه لا يساوي حبة" ولا مكان لها هنا، فهي مكررة لما يأتي.

(2)

في ط: "بن"، وهو تحريف ظاهر.

(3)

في تاريخه الكبير (4/ الترجمة 1835) في ترجمة سليمان بن عبد الله.

(4)

في أ: ولو شئت أن أقول الثالث لقلت.

(5)

مسند الإمام أحمد (1/ 373) وإسناده ضعيف.

(6)

سنن الترمذي (3734) في المناقب وقال الترمذي: حديث غريب، يعني ضعيف.

ص: 555

"تاريخه"

(1)

بتطريق هذه الروايات، فمن أراد كشف ذلك فعليه بكتابه التاريخ والله الموفق للصواب.

وقد روى الترمذي والنسائي [من حديث شعبة]

(2)

عن عمرو بن مُرَّة، عن طَلْحة بن يزيد

(3)

، عن زيد بن أرقم قال: أوَّلُ من أسلم عليٌّ. قال الترمذي: حسن صحيح.

وصحبَ عليٌّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مدة مقامه بمكة، وكان عنده في المنزل

(4)

وفي كفالته في حياة أبيه [أبي طالب] لفقر حصل لأبيه في بعض السنين مع كثرة العيال، ثم استمر في نفقة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إلى زمن الهجرة، وقد خلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليؤدي ما كان عنده عليه السلام من ودائع الناس، فإنه كان يُعرف في قومه بالأمين، فكانوا يودعونه (الأموالَ و) الأشياءَ النفيسةَ ثم هاجرعليٌّ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحب

(5)

رسولَ الله صلى الله عليه وسلم إلى أن توفي وهو راضٍ عنه وحضر معه مشاهده كلها وجرت له مواقف شريفة بين يديه في مواطن الحرب (كما بينَّا ذلك في السيرة بما أغنى عن إعادته هاهنا، كيوم بدر وأحد والأحزاب وغيرها وخيبر، ولما) استخلفه عامَ تبوكِ على أهله بالمدينة قال (له)"أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي"

(6)

وقد ذكرنا تزويجة فاطمة بنت رسول الله ودخوله بها بعد وقعة بدر بما أغنى عن إعادته.

ولما رجع عليه السلام من حجة الوداع فكان بين مكة والمدينة بمكان يقال له غدير خم خطب الناس هنالك في اليوم الثاني عشر من ذي الحجة فقال في خطبته: "من كنت مولاه فعلي مولاه"

(7)

وفي بعض الروايات: "اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، وانصر من نصره واخذل من خذله" والمحفوظ الأول، وإنما كان سبب هذه الخطبة والتنبيه على فضله ما ذكره ابن إسحاق من أن عليًا (لما) بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن أميرًا هو وخالد بن الوليد ورجع علي فوافى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة في حجة الوداع وقد كثرت فيه المقاله

(8)

وتكلم فيه بعض من كان معه بسبب استرجاعه منهم خلعًا كان خلعها نائبه عليهم لما تعجل السير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما تفرغ رسول الله من حجة الوداع أحب أن يبرئ ساحة علي مما نسب إليه من القول الذي لا أصل له، وقد اتخذت الروافض هذا اليوم عيدًا، فكانت تضرب فيه الطبولَ

(1)

تاريخ دمشق - ترجمة علي - (1/ 41 وما بعدها).

(2)

سنن الترمذي (3735) في المناقب، والنسائي في فضائل الصحابة (34)، وتقدم ذكره في ص (392) من رواية أحمد.

(3)

في الأصول والمطبوع: طلحة بن زيد، وهو خطأ.

(4)

في أ: منزله.

(5)

في أ: ثم هاجر علي بعده وصحب.

(6)

الحديث أخرجه الإمام أحمد في مسنده (1/ 182) والبخاري في صحيحه (4416) في المغازي، ومسلم في صحيحه (2404) في فضائل الصحابة.

(7)

للحديث طرق متعددة وزيادات، وأخرجه أحمد في مسنده (1/ 84 و 118 و 119) وهو حديث صحيح بطرقه.

(8)

في أ: فرجع علي فوافى حجة الوداع مع النبي صلى الله عليه وسلم وقد كثرت فيه القالة.

ص: 556

ببغداد في أيام بني بويه في حدود الأربعمئة (كما سننبه عليه إذا انتهينا إليه إن شاء الله).

ثم بعد ذلك بنحو من عشرين يومًا تعلق المسوح على أبواب الدكاكين ويذَرُّ التبن والرماد، وتدور الذراري والنساء في سكك البلد تنوح على الحسين بن علي يوم عاشوراء صبيحة قراءتهم المصرع المكذوب في قتله

(1)

، وسنبين الحق في صفة قتله كيف وقع الأمر على الجلية إن شاء الله تعالى.

وقد كان بعض بني أمية يعيب عليًا بتسميته

(2)

أبا تراب، وهذا الاسم إنما سماه به رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ثبث في الصحيحين

(3)

عن سهل بن سعد أن عليًا غاضبَ فاطمةَ فراحَ إلى المسجد، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجده نائمًا وقد لصق التراب بجلده فجعل ينفض عنه التراب ويقول: "اجلس أبا تراب

(4)

".

‌حديث المؤاخاة

قال الحاكم: حدَّثنا أبو بكر محمد بن عبد الله الحفيد، حدَّثنا الحسين

(5)

بن جعفر القرشي، حدَّثنا العلاء بن عمرو الحنفي، حدَّثنا أيوب بن مدرك، عن مكحول، عن أبي أمامة قال: لما آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الناس آخى بينه وبين علي. ثم قال الحاكم: لم نكتبه من حديث مكحول إلا من هذا الوجه، وكان المشايخ يعجبهم هذا الحديث لكونه من رواية أهل الشام.

قلت: وفي صحة هذا الحديث نظر.

وورد من حديث

(6)

أنس وعمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أنت أخي في الدنيا والآخرة".

وكذلك من طريق زيد بن أبي أوفى، وابن عباس، ومخدوج بن زيد الذهلي، وجابر بن عبد الله، وعامر بن ربيعة، وأبي ذر، وعلي نفسه نحو ذلك، وأسانيدها كلها ضعيفة لا يقوم بشيء منها حجة والله أعلم.

وقد جاء من غير وجه أنه قال: أنا عبد الله وأخو رسوله لا يقولها بعدي إلا كذاب

(7)

.

(1)

في أ: المسوح السود على أبواب الدكاكين، وتذر التبن والرماد في الطريق وتدور النساء في سكك البلد ينحن على الحسين بن علي يوم عاشوراء صبح قراءتهم المصرع المكذوب في مقتل الحسين.

(2)

في أ: يعيب على عليّ في تسميته.

(3)

رواه البخاري في صحيحه (441) في الصلاة و (3703) في فضائل الصحابة، ومسلم في صحيحه (2409)(38) في فضائل الصحابة.

(4)

في هامش أ التعليقة التالية بخط مغاير: فيه إشارة إلى الفرق بن القعود والجلوس؛ فإن القعود إنما يكون بعد القيام، والجلوس بعد الرقود على هذا قال هكذا!

(5)

في أ: حدَّثنا أبو بكر بن محمد حدَّثنا الحسين.

(6)

في ط: من طريق.

(7)

في أ: لا يقول بعدي إلا كاذب قال ..

ص: 557

وقال الترمذي

(1)

؛ حدَّثنا يوسف بن موسى القَطّان البغدادي، حدَّثنا عليُّ بن قادم، حدَّثنا عليُّ بن صالح بن حَيٍّ، عن حَكيم بن جُبير

(2)

، عن جميع بن عُمير التَّيمي، عن ابن عمر قال: آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه فجاء علي تدمع عيناه فقال يا رسول الله آخيت بين أصحابك ولم تؤاخ بيني وبين أحد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أنت أخي في الدنيا والآخرة" ثم قال: هذا حديث حسن غريب [وفي الباب] عن زيد بن أبي أوْفى.

وقد شهد [علي] بدرًا. وقد قال رسول الله لعمر: "وما يدريك لعلَّ الله قد اطلعَ على أهل بدر فقال اعملوا ما شتئم فقد غفرت لكم"

(3)

؟ وبارز يومئذ كما تقدم وكانت له اليد البيضاء ودفع إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الراية يومئذ وهو ابن عشرين سنة قاله الحكم، عن مقسم، عن أبن عباس. قال: وكانت تكون معه راية المهاجرين في المواقف كلها، وكذلك قال سعيد بن المسيب وقتادة.

وقال خيثمة بن سليمان الاطرابلسي الحافظ: حدَّثنا أحمد بن حازم، عن ابن أبي غرزة، حدَّثنا إسماعيل بن أبان، حدَّثنا ناصح بن عبد الله المحلمي

(4)

، عن سماك بن حرب، عن جابر بن سمرة قال: قالوا: يا رسول الله من يحمل رايتك يوم القيامة؟ قال: "ومن عسى أن يحملها يوم القيامة إلَّا من كان يحملها في الدنيا علي بن أبي طالب"؟ وهذا إسناد ضعيف.

ورواه ابن عساكر

(5)

عن أنس بن مالك، ولا يصح أيضًا.

وقال الحسن بن عرفة: حدَّثني عمار بن محمد، عن سعيد بن محمد الحنظلي، عن أبي جعفر محمد بن علي قال نادى مناد في السماء يوم بدر: لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي. قال الحافظ ابن عساكر

(6)

: وهذا مرسل وإنما تنفل رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفه ذا الفقار

(7)

يوم بدر ثم وهبه لعلي بعد ذلك.

(1)

سنن الترمذي (3720) في المناقب، وإسناده ضعيف.

(2)

في أ: حكيم بن حسين.

(3)

قطعة من حديث أخرجه الإمام أحمد في مسنده (1/ 105) والبخاري في صحيحه (3081) في الجهاد، ومسلم (2492) في فضائل الصحابة.

(4)

في أ: المحلي؛ خطأ.

(5)

تاريخ دمشق - ترجمة علي - (1/ 164 - 165).

(6)

تاريخ دمشق - ترجمة علي - (1/ 158).

(7)

في هامش أ التعليقة التالية بخط مغاير: اعلم أن من يقول إن ذا الفقار لعلي يوم بدر وهو يجتهد به في القتال بأن يستدل بعطف الفقرة الثانية على الأولى لا بيد رسول الله في ذلك اليوم. ويقول ابن عساكر: فإنه لرسول الله يوم بدر وهو بيده يباشر القتال بنفسه ثم وهبه من علي بعد ذلك فتحقق التنافي بينهما. لكني أقول: يمكن التطبيق بالمطابقة الأخرى بل هي أولى مما قيل بأن يقال: ليس لذي الفقار نظير في السيوف لا سيما بيد رسول الله كما لا نظير لعلي في القوة والشجاعة، لا سيما شابًا ولا موجب لاتحادهما في ذات وزمان بل يكفي حصول علمهما عند القائل فلا منافاة بينهما فليتأمل. لمحرره.

ص: 558

وقال الزبير بن بكار: حدَّثني علي بن المغيرة، عن معمر بن المثنى قال: كان لواء المشركين يومَ بدرٍ مع طلحة بن أبي طلحة فقتله عليٌّ بن أبي طالب ففي ذلك يقول الحجاج بن علاط السلمي: [من الكامل]

للهِ أيّ مذنب عن حَرْبهِ

أعني ابنَ فاطمةَ المعمّ المخولا

جادتْ يداكَ لهُ بعاجلِ طعنةٍ

تركتْ طليحةَ للحبينِ مجندلا

وشددتَ شدَّة باسلٍ فكشفتهُمْ

بالحقِّ إذ يهوونَ أخولَ أخولا

وعللتَ سيفكَ بالدماءَ ولم تكنْ

لتردّهُ حرَّانَ حتى ينهلا

(1)

وشهد بيعة الرضوان وقد قال الله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: 18]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لن يدخل أحدٌ بايعَ تحتَ الشجرة النار". وقد ثبت في الصحاح وغيرها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: "لأعطينَّ الرايةَ غدًا رجلًا يحبُّ اللهَ ورسوله ويحبه اللهُ ورسولُه، ليس بفرّار يفتح الله على يديه" فبات الناس يدوكون

(2)

أيهم يعطاها حتى قال عمر: ما أحببت الإمارة إلا يومئذ، فلما أصبح أعطاها عليًا ففتح الله على يديه.

ورواه جماعة منهم مالك، والحسن، ويعقوب بن عبد الرحمن، وجرير بن عبد الحميد، وحمّاد بن سلَمة، وعبد العزيز بن المختار، وخالد بن عبد الله بن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة، أخرجه مسلم

(3)

.

ورواه ابن أبي حازم [عن أبي حازم] عن سهل بن سعد، أخرجاه في الصحيحين

(4)

وقال في حديثه: فدعا به رسول الله وهو أرمد فبصق في عينيه فبرأ.

ورواه إياس بن سَلَمة بن الأكوع، عن أبيه، ويزيد بن أبي عبيد، عن مولاه سلمة أيضًا وحديثه عنه في الصحيحين

(5)

.

وقال محمد بن إسحاق: حدَّثني بريدة، عن سفيان، عن أبي فَرْوة الأسلمي، عن أبيه، عن سلمة بن عمرو بن الأكوع قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر الصديق برايته إلى بعض حصون خيبر، فقاتل ثم رجع ولم يكن فتح وقد جهد، ثم بعث عمر بن الخطاب فقاتل ثم رجع ولم يكن فتح وقد جهد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأعطين الراية غدًا رجلًا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يفتح الله على يديه

(1)

البيت في الإصابة (1/ 313) وشطره الثاني: لترده في جرابه حتى ينهلا.

(2)

يدوكون: أي يخوضون ويموجون فيمن يدفعها إليه. النهاية (2/ 140).

(3)

صحيح مسلم (2405) في فضائل الصحابة.

(4)

صحيح البخاري (3701) في فضائل الصحابة، وصحيح مسلم (2406)(34) في فضائل الصحابة.

(5)

صحيح البخاري (2975) في الجهاد والسير، وصحيح مسلم (2407)(35) في فضائل الصحابة.

ص: 559

ليس بفرَّار" قال سَلَمة: فدعا رسول الله عليًا وهو أرمد فتفل في عينيه ثم قال: خذ هذه الراية فامض بها حتى يفتح الله عليك، قال سلمة: فخرج والله بها يهرول هرولة وإنا لخلفه نتبع أثره حتى ركز رايته في رجم من حجارة تحت الحصن فاطلع إليه يهودي من رأس الحصن فقال: من أنت؟ قال: علي بن أبي طالب، قال اليهودي: غلبتم ومن أنزل التوراة على موسى قال: فما رجع حتى فتح الله على يديه.

وقد رواه عكرمة بن عمار، عن عطاء مولى السائب، عن سَلَمة بن الأكوع وفيه أنه هو الذي جاء به يقوده وهو أرمد حتى بصق رسول الله في عينيه فبرأ.

‌رواية بريدة بن الحصيب:

وقال الإمام أحمد

(1)

: حدَّثنا زيد بن الحباب، حدَّثنا الحسين بن واقد، حدَّثني عبد الله بن بريدة حدَّثني بريدة بن الحصيب قال: حاصرنا خيبر فأخذ اللواء أبو بكر فانصرف ولم يفتح له، ثم أخذه من الغد عمر

(2)

فخرج فرجع ولم يفتح له؛ وأصاب الناس يومئذ شدة وجهد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني دافع اللواء

(3)

غدًا إلى رجل يحبه الله ورسوله لا يرجع حتى يفتح له" وبتنا طيبة أنفسنا أن الفتح غدًا قال: فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الغداة، ثم قام قائمًا فدعا باللواء والناس على مصافهم فدعا عليًا وهو أرمد فتفل في عينيه ودفع إليه اللواء ففتح له، قال بريدة: وأنا فيمن تطاول لها. ورواه النسائي

(4)

من حديث الحسين بن واقد به أطول منه، ثم رواه أحمد

(5)

: عن محمد بن جعفر وروح كلاهما، عن عوف، عن ميمون أبي عبد الله الكردي، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه به نحوه، وأخرجه النسائي

(6)

عن بندار وغندر به، وفيه الشعر.

‌رواية عبد الله بن عمر:

ورواه هشيم: عن العوام بن حَوْشب، عن حَبيب بن أبي ثابت، عن ابن عمر فذكر سياق حديث بريدة.

ورواه كثير النَّواء: عن جُمَيْع بن عمي

(7)

، عن ابن عمر نحوه وفيه: قال علي: فما رمدت بعد يومئذ. ورواه أحمد: عن وكيع، عن هشام بن سعد، عن عمر بن أسيد، عن ابن عمر كما سيأتي.

(1)

مسند الإمام أحمد (5/ 353).

(2)

في أ: عمر بن الخطاب فخرج ثم رجع.

(3)

في أ: الراية.

(4)

السنن الكبرى (5/ 109) رقم (8402).

(5)

مسند الإمام أحمد (5/ 358).

(6)

السنن الكبرى (5/ 109) رقم (8403) في الخصائص.

(7)

في أ: عمر، خطأ. وجميع بن عمير من رجال التهذيب.

ص: 560

‌رواية ابن عباس:

وقال أبو يعلى: حدَّثنا يحيى بن عبد الحميد، حدَّثنا أبو عوانة، عن أبي بَلْج، عن عمرو بن ميمون، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأعطين الراية غدًا رجلًا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله" فقال: "أين علي؟ " قالوا: يطحن، قال:"وما أحد منهم يرضى أن يطحن" فأتى به فدفع إليه الراية فجاء بصفية بنت حيي بن أخطب. وهذا غريب من هذا الوجه وهو مختصر من حديث طويل.

ورواه الإمام أحمد

(1)

: عن يحيى بن حماد، عن أبي عوانة، عن أبي بَلْج، عن عمرو بن ميمون، عن ابن عباس فذكره بتمامه.

فقال الإمام أحمد: عن يحيى بن حماد، حدَّثنا أبو عوانة، حدَّثنا أبو بَلْج، حدَّثنا عمرو بن ميمون قال: إني لجالس إلى ابن عباس إذ أتاه تسعة رهط فقالوا: يا بن عباس إما أن تقوم معنا وإما أن تخلونا هؤلاء؟ فقال: بل أقوم معكم - وهو يومئذ صحيح قبل أن يعمى - قال: وابتدؤوا فتحدثوا فلا ندري ما قالوا قال فجاء ينفض ثوبه ويقول: أف وتف، وقعوا في رجل له عشر وقعوا في رجل قال له النبي صلى الله عليه وسلم:"لأبعثن رجلًا لا يخزيه الله أبدًا يحبُّ اللهَ ورسوله" قال: فاستشرف لها منِ استشرف قال: "أين عليٌّ؟ قالوا: هو في الرحا يطحن، قال: وما كان أحدكم ليطحن" قال: فجاء وهو أرمد لا يكاد أن يبصر فنفث في عينيه ثم هز الراية ثلاثًا فأعطاها إياه فجاء بصفية بنت حيي (بن أخطب) قال. ثم بعث فلانًا بسورة التوبة فبعث عليًا خلفه فأخذها منه قال: "لا يذهب بها إلا رجل منّي وأنا منه". قال وقال لبني عمه: "أيكم يواليني في الدنيا والآخرة؟ " فأبوا (قال: وعلي معه جالس) فقال علي: أنا أواليك في الدنيا والآخرة قال فتركه ثم أقبل على رجال منهم فقال: "أيكم يواليني في الدنيا والآخرة؟ " فأبوا فقال علي: أنا أواليك في الدنيا والآخرة فقال: "أنت وليِّي في الدنيا والآخرة" قال: وكان أول من أسلم من الناس بعد خديجة، قال: وأخذ رسول الله ثوبه فوضعه على على وفاطمة وحسن وحسين فقال: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33]، قال: وشرى عليٌّ نَفْسَه، لبس ثوب النبي صلى الله عليه وسلم ثم نام مكانه، وقال وكان المشركون يرومون رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء أبو بكر وعلي نائم وأبو بكر يحسب أنه نبي الله فقال: يا نبي الله! فقال له علي: إن نبي الله قد انطلق نحو بئر ميمونة فأدْرِكْهُ، قال: فانطلقَ أبو بكر فدخلَ معه الغارَ قال: وجعل عليٌّ يُرْمى بالحجارة كما كان يُرْمي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتضرر وقد لفَّ رأسَه في الثوب لا يخرجه حتى أصبح ثم كشف عن رأسه فقالوا: إنك للئيم

(2)

كان صاحبك نرميه فلا يتضوّر

(3)

وأنت تتضوّر وقد استنكرنا ذلك، قال: وخرج - يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك - فقال

(1)

مسند الإمام أحمد (1/ 331) رواه الحاكم بطوله (3/ 132) وصححه، وفي إسناده ضعف بهذا السياق، ولبعض فقراته شواهد.

(2)

في ط: إنك لئيم، وما هنا عن المسند.

(3)

في ط: يتضرر، وما هنا عن أ والمسند.

ص: 561

له علي: أخرج معك؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "لا"! فبكى علي فقال: "أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون بن موسى إلا أنك لست بنبي؟ إنه لاينبغي أن أذهب إلا وأنت خليفتي" قال: وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنت ولي [في] كل مؤمن بعدي" قال: وسدَّ أبواب المسجد غيرَ باب علي قال فيدخل المسجد جنبًا وهو طريقه ليس له طريق غيره، قال: وقال: "من كنت مولاه فإنَّ عليًا مولاه" قال: وأخبرنا الله في القرآن أنه قد رضي عن أصحاب الشجرة فعلم ما في قلوبهم، فهل حُدِّثنا أنه سخط عليهم بعد. قال: وقال نبي الله صلى الله عليه وسلم لعمر حين قال: ائذن لي أن أضرب عنق هذا المنافق - يعني حاطب بن أبي بلتعة - قال

(1)

: "وما يدريك لعل الله قد اطلع [على] أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم".

وقد روى الترمذي

(2)

بعضه من طريق شعبة، عن أبي بَلْج يحيى بن أبي سليم واستغربه.

وأخرج النسائي

(3)

بعضه أيضًا عن محمد بن المثنى، عن يحيى بن حماد به.

‌وفي رواية عمران:

قال البخاري في التاريخ: حدَّثنا عمر بن عبد الوهاب الرياحي، حدَّثنا معتمر بن سليمان، عن أبيه، عن منصور، عن ربعي، عن عمران بن حصين. قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لأدفعنَّ الرايةَ إلى رجل يحبُّ اللهَ ورسولهُ ويحبه اللهُ ورسولهُ" فبعث إلى علي وهو أرمد فتفلَ في عينيه وأعطاه الرايةَ فما ردَّ وجهه وما اشتكاهما بعد.

ورواه أبو القاسم البغوي: عن إسحاق بن إبراهيم، (عن) أبي موسى الهروي، عن علي بن هاشم، عن محمد بن علي، عن منصور، عن ربعي، عن عمران فذكره.

وأخرجه النسائي

(4)

عن عباس العنبري، عن عمر بن عبد الوهاب به.

‌رواية أبي سعيد في ذلك:

قال الإمام أحمد

(5)

: حدَّثنا مصعب بن المقدام، وحجين بن المثنى قالا: حدَّثنا إسرائيل، حدَّثنا عبد الله بن عصمة قال سمعت أبا سعيد الخُدْري يقول: إنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أخذ الراية فهزّها ثم قال: "من يأخذها بحقها" فجاء فلان فقال: أنا، فقال:"امض"

(6)

ثم جاء رجل آخر فقال أنا، فقال:"امض"

(1)

في أ: والمسند زيادة: "أو كنت فاعلًا؟ ".

(2)

سنن الترمذي (3734) في المناقب.

(3)

السنن الكبرى (5/ 112 - 113) رقم (8409) في الخصاثص.

(4)

فضائل الصحابة (ص 16) طبعة دار الكتب العلمية.

(5)

مسند الإمام أحمد (3/ 16)، وإسناده ضعيف.

(6)

في المسند: أمط.

ص: 562

ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: "والذي أكرم

(1)

وجه محمد لأعطينَّها رجلًا لا يفرّ، فجاء

(2)

عليُّ فانطلق حتى فتح الله عليه خيبر وفدك وجاء بعجوتهما وقديدهما.

ورواه أبو يعلى

(3)

عن حسين بن محمد، عن إسرائيل وقال في سياقه: فجاء الزبير فقال أنا فقال: "امض" ثم جاءآخر فقال: "أمض" وذكره، تفرد به أحمد.

‌رواية علي بن أبي طالب رضي الله عنه في ذلك:

وقال الإمام أحمد

(4)

: حدَّثنا وكيع، عن ابن أبي ليلى، عن المنهال، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: كان أبي يَسْمُر

(5)

مع علي [وكان عليّ]

(6)

يلبس ثياب الصيف في الشتاء وثياب الشتاء في الصيف فقيل له لو سألته؛ فسأله فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إليَّ وأنا أرمد العين يومَ خيبر فقلت يا رسول الله، إني أرمدُ العين فتفل في عيني فقال:"اللهم أذهب عنه الحر والبرد "فما وجدت حرًا ولا بردًا منذ يومئذ، وقال:"لأعطين الراية رجلًا يحب اللهَ ورسولَه ويحبه اللهُ ورسولُه، ليس بفرَّار" فتشرف لها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فأعطانيها. تفرد به أحمد.

وقد رواه غيرُ واحد عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبيه عن علي به مطولًا. وقال أبو يعلى

(7)

: حدَّثنا زهير، حدَّثنا جرير، عن مغيرة، عن أم موسى قالت سمعت عليًا يقول: ما رَمِدْتُ ولا صُدِعْتُ منذ مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهي وتَفَل في عيني يوم خيبر وأعطاني الراية.

‌رواية سعد بن أبي وقاص في ذلك:

ثبت في الصحيحين

(8)

من حديث شعبة، عن سعد بن إبراهيم بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه، عن سعد بن أبي وقاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي:"أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي؟ ".

قال [الإمام] أحمد ومسلم والترمذي

(9)

: حدَّثنا قتيبة بن سعيد، حدَّثنا حاتم بن إسماعيل، عن

(1)

في المسند: كرم.

(2)

في المسند: هاك يا علي.

(3)

مسند أبي يعلى الموصلي (2/ 500) رقم (1346) اللفظة فيه: أمط، بدل: امض.

(4)

مسند الإمام أحمد (1/ 99 و 133) وإسناده ضعيف ولبعضه شواهد.

(5)

في ط: يسير؛ خطأ.

(6)

زيادة ضرورية من المسند.

(7)

مسند أبي يعلى الموصلي (1/ 445) رقم (593) وإسناده حسن.

(8)

صحيح البخاري (3706) في فضائل الصحابة، وصحيح مسلم (2404)(32) في فضائل الصحابة.

(9)

مسند الإمام أحمد (1/ 185) وليس فيه ذكر لمعاوية. صحيح مسلم (2404)(32) في فضائل الصحابة، والترمذي رقم (3724) في المناقب.

ص: 563

بُكير بن مسمار، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه قال: أمر معاوية بن أبي سفيان سعدًا فقال ما يمنعك أن تسب أبا تراب؟ فقال: أما ما ذكرت ثلاثًا قالهن له رسول الله صلى الله عليه وسلم[فلن أسبَّه] لأن تكون لي واحدة منهن أحب إلي من حمر النعم (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول - و) خَلَّفه في بعض مغازيه - فقال (له علي): يا رسول الله أتخلفني مع النساء والصبيان؟ فقال (رسول الله صلى الله عليه وسلم): "أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي؟ "وسمعته يقول يوم خيبر: "لأعطين الراية رجلًا يحب الله ورسوله ويحبُّه اللهُ ورسولهُ" قال: فتطاولتُ لها. قال: "ادعوا لي عليًا" فأتي به أرمد فبصق في عينيه ودفع الراية إليه ففتح الله عليه. ولما نزلت هذه الآية: {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ} [آل عمران: 61] دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليًا وفاطمة وحسنًا وحسينًا ثم قال: "اللهم هؤلاء أهلي": [ثم قال الترمذي: حسن صحيح].

وقد رواه مسلم والترمذي والنسائي

(1)

من حديث سعيد بن المسيب عن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لِعلي: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى"(وقال الترمذي: ويستغرب من رواية سعيد عن سعد).

وقال (الإمام) أحمد

(2)

: حدَّثنا [أبو] أحمد الزبيري، حدَّثنا عبد الله بن حبيب بن أبي ثابت، عن حمزة بن عبد الله، عن أبيه - يعني عبد الله بن عمر - عن سعد قال:

لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك خلَّف عليًا فقال: أتخلِّفني؟ قال: "أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبيَّ بعدي".

وهذا إسناد جيد ولم يخرجوه. وقال الحسن بن عرفة العبدي

(3)

: حدَّثنا محمد بن خازم أبو معاوية الضرير، عن موسى بن مسلم الشيباني، عن عبد الرحمن بن سابط، عن سعد بن أبي وقاص (قال: قدم معاوية في بعض حجاته فاتاه سعد بن أبي وقاص) فذكروا عليًا فقال سعد: له ثلاث خصال لأن تكون لي واحدة منهن أحب إليَّ من الدنيا [وما] فيها. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "منْ كنتُ مولاه فعلي [مولاه] ".

وسمعته يقول: "لأعطين الرايةَ غدًا رجلًا يحب الله ورسوله (ويحبه الله ورسوله) ".

وسمعته يقول: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبيَّ بعدي"(لم يخرجوه) وإسناده حسن.

(1)

صحيح مسلم (2404)(30) في فضائل الصحابة، وسنن الترمذي (3731) في المناقب، والسنن الكبرى للنسائي (5/ 44) رقم (8138).

(2)

مسند الإمام أحمد (1/ 184).

(3)

في أ: العقدي.

ص: 564

وقال أبو زرعة الدمشقي

(1)

: حدَّثنا أحمد بن خالد الوهبي أبو سعيد، حدَّثنا محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن نجيح، عن أبيه قال: لما حج معاوية أخذ بيد سعد بن أبي وقاص فقال: يا أبا إسحاق إنا قوم قد أجفانا هذا الغزو عن الحج حتى كدنا أن ننسى بعض سننه فطف نطف بطوافك، قال: فلما فرغ أدخله دار الندوة فأجلسه معه على سريره ثم ذكر [له] علي بن أبي طالب فوقع فيه فقال: أدخلتني دارك وأجلستني على سريرك ثم وقعت في علي تشتمه؟ والله لأن يكون فيّ إحدى خلاله الثلاث أحب إلي من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس، ولأن يكون لي ما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم حين غزا تبوكًا: "أما

(2)

ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلَّا أنه لا نبي بعدي"؟ لأحبّ

(3)

إلي مما طلعت عليه الشمس، ولأن يكون لي ما قال له يوم خيبر:"لأعطين الراية رجلًا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يفتح الله على يديه ليس بفرَّار" أحبُّ إليَّ مما طلعت عليه الشمس. ولأن أكون صهره على ابنته ولي منها من الولد ماله أحب إليَّ من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس، لا أدخل عليك دارًا بعد هذا اليوم، ثمّ نفض رداءه ثم خرج.

وقال أحمد

(4)

: حدَّثنا محمد بن جعفر، حدَّثنا شعبة، عن الحكم، عن مصعب بن سعد، عن سعد بن أبي وقاص قال: خلَّف رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب فقال: يا رسول الله تخلَّفني في النساء والصبيان؟ قال: "أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي"؟ إسناده على شرطهما ولم يخرجا

(5)

.

وهكذا رواه أبو عوانة: عن الأعمش، عن الحكم، عن مصعب، عن أبيه.

ورواه أبو داود الطيالسي

(6)

: عن شعبة، عن عاصم، عن مصعب، عن أبيه، فالله أعلم.

وقال أحمد

(7)

: حدَّثنا أبو سعيد مولى بني هاشم، حدَّثنا سليمان بن بلال، حدَّثنا الجُعَيْد

(8)

بن عبد الرحمن الجعفي، عن عائشة بنت سعد، عن أبيها: أن عليًا خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاء ثنية الوداع وعلي يبكي يقول: تخلِّفني مع الخوالف؟ فقال: "أوما

(9)

ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من

(1)

لم أجد حديثه في تاريخ أبي زرعة طبع مجمع اللغة العربية.

(2)

في ط: ألا.

(3)

في أ: أحب.

(4)

مسند الإمام أحمد (1/ 182).

(5)

في أ: ولم يخرجوه.

(6)

مسند أبي داود الطيالسي (ص 29) وفيه: حدَّثنا شعبة، عن الحكم، عن مصعب بن سعد.

(7)

مسند الإمام أحمد (1/ 170).

(8)

في ط: "الجعد"، وما أثبتناه من أ والمسند، وهما واحد، وهو من رجال التهذيب.

(9)

في أ: أما. وهذه لفظة المسند.

ص: 565

موسى إلا النبوة؟ " وهذا إسناد صحيح أيضًا ولم يخرجوه. وقد رواه غير واحد عن عائشة بنت سعد عن أبيها. قال الحافظ بن عساكر

(1)

: وقد روى هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من الصحابة منهم عمر وعلي وابن عباس وعبد الله بن جعفر ومعاوية وجابر بن عبد الله وجابر بن سمرة وأبو سعيد والباء بن عازب وزيد بن أرقم وزيد بن أبي أوفى ونبيط بن شريط وحبشي بن جنادة ومالك بن الحويرث وأنس بن مالك وأبو الفضل، وأم سلمة وأسماء بنت عميس، وفاطمة بنت حمزة. وقد تقصى الحافظ ابن عساكر هذه الأحاديث في ترجمة علي في تاريخه فأجاد وأفاد وبرز على النظراء والأشباه والأنداد. رحمة

(2)

رب العباد يوم التناد.

‌رواية عمر رضي الله عنه في ذلك:

قال أبو يعلى: حدَّثنا عبد الله بن عمر، حدَّثنا عبد الله بن جعفر، أخبرني سهل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال قال عمر: لقد أعطي علي بن أبي طالب ثلاث خصال لأن تكون لي خصلة منها أحب إلي من حمر النعم، قيل: وما هن يا أمير المؤمنين؟ قال: تزويجه فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسكناه المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يحل له فيه ما يحل له، والراية يوم خيبر. وقد روي عن عمر من غير وجه.

‌رواية ابن عمر رضي الله عنهما:

وقد رواه الإمام أحمد

(3)

: عن وكيع، عن هشام بن سعد، عن عمر بن أسيد، عن ابن عمر قال: كنا نقول في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم خير الناس أبو بكر ثم عمر ولقد أوتي ابن أبي طالب ثلاثًا لأن أكون أعطيتهن أحبُّ إليَّ من حمر النعم. فذكر هذه الثلاث.

وقد روى أحمد والترمذي

(4)

: من حديث عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي:"أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي؟ " ورواه أحمد

(5)

من حديث عطية، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي". ورواه الطبراني

(6)

من طريق عبد العزيز بن حكيم عن ابن عمر مرفوعًا.

ورواه سلمة بن كهيل: عن عامر بن سعد، عن أبيه، عن أم سلمة أن رسول الله قال لعلي:"أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي" قال سلمة: وسمعت مولى لبني موهب يقول: سمعت ابن عباس يقول قال النبي صلى الله عليه وسلم مثله.

(1)

تاريخ دمشق - ترجمة علي - (1/ 306) وما بعدها.

(2)

في أ: فرحمه الله رب العباد.

(3)

مسند الإمام أحمد (2/ 26).

(4)

مسند الإمام أحمد (3/ 338) وسنن الترمذي (3730) في المناقب، وهو حديث حسن.

(5)

مسند الإمام أحمد (3/ 38) وهو حديث حسن.

(6)

المعجم الكبير للطبراني (23/ 377) برواية أم سلمة.

ص: 566

‌تزويجه فاطمة الزهراء رضي الله عنها

قال سفيان الثوري: عن ابن أبي نجيح، عن أبيه سمع رجل عليًا على منبر الكوفة يقول: أردت أن أخطب إلى رسول الله ابنته

(1)

ثم ذكرت أن لا شيء لي ثم ذكرت عائدته وصلته فخطبتها، فقال:"هل عندك شيء؟ " قلت: لا! قال: "فأين درعك الحطمية

(2)

التي أعطيتك يوم كذا وكذا؟ "قلت: عندي، قال: "فأعطها" فأعطيتها؛ فزوجني فلما كان ليلة دخلت عليها قال: "لا تحدثا شيئًا حتى آتيكما" قال: فأتانا وعلينا قطيفة أو كساء فتحثثنا فقال: "مكانكما" ثم دعا بقدح من ماء فدعا فيه ثم رشه عليَّ وعليها

(3)

، فقلت: يا رسول الله أنا أحب إليك أم هي؟ قال: "هي أحب إلي وأنت أعز علي منها". وقد روى النسائي

(4)

من طريق عبد الكريم بن سليط، عن ابن بريدة، عن أبيه فذكره بأبسط من هذا السياق، وفيه أنه أولم عليها بكبش من عند سعد وآصع من الذرة من عند جماعة من الأنصار، وأنه دعا لهما بعدما صب عليهما الماء، فقال:"اللهم بارك لهما في شملهما" - يعني الجماع -.

وقال

(5)

محمد بن كثير، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: لما خطب علي فاطمة دخل عليها رسول الله فقال لها: "أي بنية! إن ابن عمك قد خطبك فماذا تقولين؟ " فبكت ثم قالت: كأنك (يا أبت) إنما ادخرتني لفقير قريش؟ فقال: "والذي بعثني بالحق ما تكلمت فيه حتى أذن الله لي فيه من السموات" فقالت فاطمة: رضيت

(6)

بما رضي الله [لي] ورسوله. فخرج من عندها واجتمع المسلمون إليه ثم قال: "يا علي أخطب لنفسك" فقال علي: الحمد لله الذي لا يموت وهذا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم زوّجني ابنتَه على صداقٍ مبلغُه أربعمئة درهم فاسمعوا ما يقول واشهدوا. قالوا: ما تقول يا رسول الله؟ قال: "أشهدكم أني قد زوجته". رواه ابن عساكر

(7)

وهو [حديث] منكر.

وقد ورد في هذا الفصل أحاديث كثيرة منكرة وموضوعة أضربنا عنها لئلا يطول الكتاب بها. وقد أورد منها طرفًا جيدًا الحافظ ابن عساكر في "تاريخه"

(8)

.

(1)

في أ: أن أخطب فاطمة ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه.

(2)

في أ: الخطمية - بالخاء - والخبر في مختصر تاريخ دمشق لابن منظور (17/ 336).

(3)

في أ: علينا.

(4)

سنن النسائي (6/ 129) في الجهاد.

(5)

في أ: وروى.

(6)

في أ: ما تكلمت في هذا حتى أذن الله فيه من السماء" فقالت: رضيت ..

(7)

تاريخ دمشق - ترجمة علي - (2/ 451) تحقيق المحمودي.

(8)

في أ: وقد أورد منها ابن عساكر طرفًا جيدًا في تاريخه.

ص: 567

وقال وكيع، عن أبي خالد، عن الشعبي، قال: قال علي: ما كان لنا إلا إهاب كبش ننام على ناحيته وتعجن فاطمة على ناحيته. وفي رواية مجالد عن الشعبي: ونعلف عليه الناضح بالنهار وما لي خادم

(1)

عليها غيرها.

‌حديث آخر:

قال أحد

(2)

: حدَّثنا محمد بن جعفر، حدَّثنا عوف، عن ميمون أبي عبد الله، عن زيد بن أرقم قال: كان لنفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبواب شارعة في المسجد قال ققال يومًا: "سُدُّوا هذه الأبواب إلا بابَ علي"

(3)

قال فتكلم في ذلك الناس؛ فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأثنى عليه ثم قال: "أما بعد فإني أمرت بسدَّ هذه الأبواب غير باب علي فقال فيه قائلكم وإني والله ما سددت شيئًا ولا فتحته، ولكن أمِرْتُ بشيء فاتَّبعتُهُ".

وقد رواه أبو الأشهب: عن عوف

(4)

، عن ميمون، عن البراء بن عازب فذكره. وقد تقدم ما رواه أحمد والنسائي من حديث أبي عوانة عن أبي بلج عن عمرو بن ميمون عن ابن عباس الحديث الطويل وفيه سد الأبواب غير باب علي

(5)

. وكذا رواه شعبة عن أبي بلج.

‌ورواه سعد بن أبي وقاص:

قال أحمد

(6)

: حدَّثنا حجاج، حدَّثنا فِطْر، عن عبد الله بن شريك، عن عبد الله بن الرُّقيم الكناني، قال: خرجنا إلى المدينة زمن الجمل فلقينا سعد بن مالك بها، فقال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بسد الأبواب الشارعة في المسجد وترك باب علي رضي الله عنه. تفرد به أحمد.

‌طريق أخرى عن سعد

(7)

:

قال أبو يعلى

(8)

: حدَّثنا موسى بن محمد بن حيان

(9)

، حدَّثنا محمد بن إسماعيل بن جعفر الطحان،

(1)

في ط: فأدم؛ تحريف.

(2)

مسند الإمام أحمد (4/ 369)، وإسناده ضعيف ومتنه منكر.

(3)

في أ: غير باب علي، وما هنا مطابق للمسند.

(4)

في أ: عون، تحريف.

(5)

تقدم ص 404 - 405 من هذا الجزء.

(6)

مسند الإمام أحمد (1/ 175) وإسناده ضعيف.

(7)

من قوله: قال أحمد

إلى هنا زيادة من أ.

(8)

مسند أبي يعلى الموصلي (2/ 61) رقم (703) وإسناده ضعيف.

(9)

في ط: حسان؛ تحريف. وما هنا عن أ ومسند أبي يعلى.

ص: 568

حدَّثنا غسان بن بشر الكاهلي، عن مسلم عن خيثمة عن سعد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سد أبواب [الناس في] المسجد وفتح باب علي فقال الناس في ذلك فقال: "ما أنا فتحته ولكن الله فتحه".

وهذا لا ينافي ما ثبت في صحيح البخاري

(1)

من أمره عليه السلام في مرض الموت بسد الأبواب الشارعة إلى المسجد إلا باب أبي بكر الصديق لأن نفي هذا في حق علي كان في حال حياته لاحتياج فاطمة إلى المرور من بيتها إلى بيت أبيها، فجعل هذا رفقًا بها، وأما بعد وفاته فزالت هذه العلة فاحتيج إلى فتح باب الصديق لأجل خروجه إلى المسجد ليصلي بالناس إذ كان الخليفة عليهم بعد موته عليه الصلاة والسلام، وفيه إشارة إلى خلافته.

وقال الترمذي

(2)

: حدَّثنا علي بن المنذر، حدَّثنا ابن فُضيل، عن سالم بن أبي حفصة، عن عطيَّة، عن أبي سعيد. قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي:"يا علي لا يحلّ لأحدٍ يجنب في المسجد غيري وغيرك" قال علي بن المنذر: قلت لضرار بن صرد: ما معنى هذا الحديث؟ قال: لا يحل لأحد يستطرقه جنبًا غيري وغيرك. ثم قال الترمذي: وهذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وقد سمع محمد بن إسماعيل هذا الحديث (واستغربه)

(3)

.

وقد رواه ابن عساكر

(4)

من طريق كثير النواء، عن عطية، عن أبي سعيد به، ثم أورده من طريق أبي نعيم، حدَّثنا عبد الملك بن أبي غنية، عن أبي الخطاب عمر الهجري، عن محدوج، عن جسرة بنت دجاجة، أخبرتني أم سلمة قالت: خرج النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه حتى انتهى إلى صرحة المسجد فنادى بأعلى صوته: "إنه لا يحل المسجد لجُنُبٍ ولا لحائضٍ إلا لمحمد وأزواجه وعلي وفاطمة بنت محمد ألا هل بينت لكم ألا ساء أن تضلوا" وهذا إسناد غريب وفيه ضعف، ثم ساقه من حديث أبي رافع بنحوه وفي إسناده غرابة أيضًا.

‌حديث آخر:

قال الحاكم

(5)

وغير واحد: عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن بريدة بِن الحصيب: قال غزوت مع علي إلى اليمن، فرأيت منه جفوة، فقدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت عليًا فتَنقَّصْتُهُ فرأيت وجه

(1)

صحيح البخاري (466) في الصلاة، و (3654) في فضائل الصحابة، و (904) في مناقب الأنصار. ومن هنا انقطاع في أ عن ط بمقدار عشر صفحات.

(2)

سنن الترمذي (3727) في المناقب.

(3)

ما يبن الحاصرتين من جامع الترمذي، وحُق للبخاري أن يضعفه فعطية، وهو العوفي، ضعيف، وسالم بن أبي حفصة ضعيف أيضًا.

(4)

تاريخ دمشق - ترجمة علي - (1/ 292) والرواية الثانية (1/ 293 - 294).

(5)

المستدرك على الصحيحين (3/ 110).

ص: 569

رسول الله صلى الله عليه وسلم يتغيَّر فقال: "يا بريدة ألستُ أولى بالمؤمنين من أنفسهم"؟ فقلتُ: بلى يا رسول الله. فقال: "من كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه".

وقال الإمام أحمد

(1)

: حدَّثنا ابن نمير، حدَّثنا الأجلح الكندي، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه بريده قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثتين إلى اليمن على إحداهما علي بن أبي طالب وعلى الأخرى خالد بن الوليد وقال: "إذا التقيتما فعلي على الناس وإذا افترقتما فكل واحد منكما على جنده" قال: فلقينا بني زيد من أهل اليمن فاقتتلنا فظهر المسلمون على المشركين؛ [فقتلتا المقاتلة، وسبينا الذرية، فاصطفى عليّ امرأة من السبي لنفسه. قال بريدة: فكتب معي خالد بن الوليد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره بذلك، فلما أتيت رسول الله دفعت إليه الكتاب فقُرئ عليه فرأيت الغضبَ في وجه رسول الله فقلت: يا رسول الله هذا مكان العائذ بعثتني مع رجل وأمرتني أن أطيعه فبلَّغت ما أرسلت به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا تقع في علي فإنه مني وأنا منه، وهو وليكم بعدي" هذه اللفظة منكرة والأجلح شيعي ومثله لا يقبل إذا تفرد بمثلها. وقد تابعه فيها من هو أضعف منه والله أعلم. والمحفوظ في هذا رواية أحمد

(2)

: عن وكيع، عن الأعمش، عن سعد بن عبيدة، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كنت مولاه فعليّ وليُّه".

ورواه أحمد

(3)

أيضًا والحسن بن عرفة عن الأعمش به.

ورواه النسائي

(4)

: عن أبي كريب، عن أبي معاوية به.

وقال أحمد

(5)

: حدَّثنا روح، حدَّثنا علي بن سويد بن منْجُوف، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليًا إلى خالد بن الوليد ليقبض الخمس قال فأصبح ورأسه تقطر، فقال خالد لبريدة: ألا ترى ما يصنع هذا؟ قال: فلما رجعت إلى رسول الله أخبرته ما صنع علي، قال: - وكنت أبغض عليًا - فقال: "يا بريدة أتبغض عليًا؟ " فقلت: نعم! قال: "لا تبغضه وأحبَّه فإن له في الخمس أكثر من ذلك". وقد رواه البخاري في "الصحيح"

(6)

عن بندار، عن روح به مطولًا.

وقال أحمد

(7)

: حدَّثنا يحيى بن سعيد، حدَّثنا عبد الجليل، قال: انتهيت إلى حلقة فيها أبو مجْلَز وابنا بريدة فقال عبد الله بن بريدة: حدَّثني أبي بريدة قال: أبغضت عليًا بغضًا لم أبغضه أحدًا، قال

(1)

مسند الإمام أحمد (5/ 356) وإسناده ضعيف.

(2)

مسند الإمام أحمد (5/ 358).

(3)

مسند الإمام أحمد (5/ 361).

(4)

السنن الكبرى (5/ 45) رقم (8145) في المناقب.

(5)

مسند الإمام أحمد (5/ 359).

(6)

صحيح البخاري (4350) في المغازي.

(7)

مسند الإمام أحمد (5/ 350).

ص: 570

وأحببت رجلًا من قريش لم أحبه إلا على بغضه عليًا، قال فبعث ذلك الرجل على خيل قال فصحبته ما أصحبه إلا على بغضه عليًا، فأصبنا سبيًا، فكتبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ابعث إلينا من يخمِّسه، فبعث إلينا عليًا، قال: وفي السبي وصيفة هي من أفضل السبي - فخمَّس وقَسَم -، فخرج ورأسه يقطر، فقلنا: يا أبا الحسن ما هذا؟ قال: ألم تروا إلى الوصيفة التي كانت في السبي؟ فإني قَسَمْتُ وخمَّستُ فصارت في الخمس، ثم صارت في أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، ثم صارت في آل علي فوقعت بها. قال: وكتب الرجل إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فقلت: ابعثني، فبعثني مصدقًا، قال: فجعلت أقرأ الكتاب وأقول: صدَقَ، قال: فأمسك النبي صلى الله عليه وسلم بيدي والكتاب قال: "أتبغض عليًا؟ " قال: قلت: نعم! قال: "فلا تبغضهُ وإن كنت تحبه فازدد له حبًا، فوالذي نفسي بيده لنصيب آل علي في الخمس أفضل من وصيفة" قال: فما كان في الناس أحد بعد قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إليَّ من علي.

قال عبد الله: فوالذي لا إله غيره ما بيني وبين النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث غير أبي بريدة. تفرد به أحمد، وقد روى غير واحد هذا الحديث عن أبي الجوَّاب، عن يونس بن أبي إسحاق، عن أبيه، عن البراء بن عازب، نحو رواية بريدة بن الحصيب وهذا غريب. وقد رواه الترمذي

(1)

: عن عبد الله بن أبي زياد، عن أبي الجوَّاب الأحوص بن جوَّاب به، وقال: حسن غريب لا نعرفه إلا من حديثه.

وقال الإمام أحمد

(2)

: حدَّثنا عبد الرزاق، حدَّثنا جعفر بن سليمان، حدَّثني يزيد الرشك، عن مُطَرِّف بن عبد الله، عن عمران بن حصين قال: بعث رسول الله سرية وأمَّر عليها علي بن أبي طالب، فأحدث شيئًا في سفره، فتعاقد أربعة من أصحاب محمد أن يذكروا أمره إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عمران: وكنا إذا قدمنا من سفر بدأنا برسول الله، فسلمنا عليه، قال: فدخلوا عليه فقام رجل منهم فقال: يا رسول الله إن عليًا فعل كذا وكذا؟ فأعرض عنه، ثم قام الثاني، فقال يا رسول الله إن عليًا فعل كذا وكذا، فأعرض عنه، ثم قام الثالث فقال: يا رسول الله إن عليًا فعل كذا وكذا، ثم قام الرابع فقال: يا رسول الله إن عليًا فعل كذا وكذا، قال: فأقبل رسول الله على الرابع وقد تغيّر وجهه وقال: "دعوا عليًا، دعوا عليًا، دعوا عليًا، إن عليًا مني وأنا منه، وهو وليُّ كلِّ مؤمن بعدي".

وقد رواه الترمذي والنسائي

(3)

عن قتيبة، عن جعفر بن سليمان، وسياق الترمذي مطوَّل وفيه: أنه أصاب جارية من السبي. ثم قال: حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث جعفر بن سليمان

(4)

.

(1)

سنن الترمذي (3725) في المناقب.

(2)

مسند الإمام أحمد (4/ 437 - 438).

(3)

سنن الترمذي (3712) في المناقب، وسنن النسائي (5/ 132) رقم (8474) في الخصائص.

(4)

جعفر بن سليمان صدوق ولكنه شيعي معروف، وقد عد الحافظ ابن عدي هذا الحديث من منكرات أحاديث جعفر هذا (الكامل 2/ 568)، ولعل هذا هو السبب الذي حدا بالترمذي أن يقتصر على تحسينه ويستغربه.

ص: 571

ورواه أبو يعلى الموصلي

(1)

عن عبيد الله بن عمر القواريري والحسن بن عمر بن شقيق الجَرْمي والمعلى بن مهدي كلهم، عن جعفر بن سليمان به.

وقال خيثمة بن سليمان: حدَّثنا أحمد بن حازم، أخبرنا عبيد الله بن موسى بن يوسف بن صهيب، عن دُكين، عن وهب بن حمزة قال: سافرت مع علي بن أبي طالب من المدينة إلى مكة، فرأيت منه جفوة فقلت: لئنْ رجعتُ فلقيتُ رسول الله لأنالنَّ منه، قال: فرجعت فلقيت رسول الله فذكرت عليًا فنلت منه، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا تقولن هذا لعلي فإن عليًا وليكم بعدي": وقال أبو داود الطيالسي

(2)

: عن شعبة، عن أبي بلج، عن عمرو بن ميمون، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي:"أنت وليُّ كلِّ مؤمن بعدي".

وقال الإمام أحمد

(3)

: حدَّثنا يعقوب بن إبراهيم، حدَّثنا أبي، عن أبي إسحاق، حدَّثني عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر بن حزم، عن سليمان بن محمد بن كعب بن عجرة، عن عمته زينت بنت كعب - وكانت عند أبي سعيد الخدري - عن أبي سعيد قال: اشتكى عليًا الناسُ فقام رسول الله فينا خطيبًا فسمعته يقول: "أيها الناس لا تشكوا عليًا فوالله إنه لأُخَشْيِنّ في ذات الله" أو"في سبيل الله". تفرّد به أحمد.

وقال الحافظ البيهقي

(4)

: أخبرنا أبو الحسين بن الفضل القطّان، أخبرنا أبو سهل بن زياد القطان، حدَّثنا أبو إسحاق القاضي، حدَّثنا إسماعيل بن أبي أويس، حدَّثني أخي، عن سليمان بن بلال، عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة، عن عمته زينب بنت كعب بن عجرة، عن أبي سعيد قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب إلى اليمن، قال أبو سعيد: فكنت فيمن خرج معه فلما أحضر إبل الصدقة سالناه أن نركب منها ونريح إبلنا - وكنا قد رأينا في إبلنا خللًا - فأبى علينا وقال: إنما لكم منها سهم كما للمسلمين، قال: فلما فرغ عليٌّ وانصرف من اليمن راجعًا، أمَرَّ علينا إنسانا فأسرع هو فأدرك الحج، فلما قضى حجته قال له النبي صلى الله عليه وسلم:"ارجع إلى أصحابك حتى تقدم عليهم". قال أبو سعيد: وقد كنا سألنا الذي استخلفه ما كان علي منعنا إياه ففعل، فلما جاء على عرف في إبل الصدقة أنها قد رُكبت - رأى أثر المراكب - فذمَّ الذي أمَّره ولامه، فقلت: أما إن لله عليَّ إن قدمت المدينة وغدوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأذكرن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأخبرنه ما لقينا من الغلظة والتضييق، قال: فلما قدمنا المدينة غدوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد أن أذكر له ما كنت حلفت عليه فلقيت أبا بكر خارجًا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رآني وقف معي، ورحب بي، وساءلني وساءلته وقال: متى قدمت؟ قلت: قدمت البارحة،

(1)

مسند أبي يعلى الموصلي (1/ 293) رقم (355).

(2)

مسند أبي داود الطيالسي (ص 360).

(3)

مسند الإمام أحمد (3/ 86). وفي تاريخ دمشق - ترجمة علي - (1/ 418) الأخيشن.

(4)

دلائل النبوة (5/ 398 - 399) وإسناده ضعيف بطوله.

ص: 572

فرجع معي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: هذا سعد بن مالك بن الشهيد، قال:"ائذن له" فدخلت فحئيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحيَّاني، وسلَّمت عليه، وسألني عن نفسي، وعن أهلي فأخفى المسألة فقلت: يا رسول الله لقينا من علي من الغِلْظةِ وسوءِ الصحبة والتضييق، فابتدر رسول الله وجعلت أنا أعدد ما لقينا منه حتى إذا كنت في وسط كلامي ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي - وكنت منه قريبًا - وقال:"سعد بن مالك بن الشهيد بعض قولك لأخيك علي، فوالله لقد علمت أنه جيش في سبيل الله" قال فقلت في نفسي: ثكلتك أمك سعد بن مالك ألا أراني كنت فيما يكره منذ اليوم وما أدري، لا جرم، والله لا أذكره بسوء أبدًا سرًا ولا علانية.

وقال يونس بن بكير. عن محمد بن إسحاق، حدَّثني أبان بن صالح، عن عبد الله بن دينار الأسلمي، عن خاله عمرو بن شاش الأسلمي - وكان من أصحاب الحديبية - قال: كنت مع علي في خيله التي بعثه فيها رسول الله إلى اليمن، فجفاني علي بعض الجفاء فوجدت عليه في نفسي، فلما قدمتُ المدينة اشتكيته في مجالس المدينة، وعند من لقيته، فأقبلت يومًا ورسوله الله جالس في المسجد، فلما رآني أنظر إلى عينيه، نظر إليَّ حتى جلست إليه، فلما جلست إليه قال:"أما إنه والله يا عمرو لقد آذيتني" فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون أعوذ بالله والإسلام أن أؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"من آذى عليًا فقد آذاني". وقد رواه الإمام أحمد

(1)

: عن يعقوب، عن أبيه إبراهيم بن سعد، عن محمد بن إسحاق، عن أبان بن صالح، عن الفضل بن معقل، عن عبد الله بن نياز

(2)

، عن خاله عمرو بن شاش فذكره. وكذا رواه غير واحد عن محمد بن إسحاق، عن أبان بن الفضل. وكذلك رواه سيف بن عمر، عن عبد الله بن سعيد، عن أبان بن صالح به ولفظه: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من آذى مسلمًا فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله".

وروى عباد بن يعقوب الرواجني، عن موسى بن عمير، عن عقيل بن نجدة بن هبيرة، عن عمرو بن شاش قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يا عمرو إن من آذى عليًا فقد آذاني".

وقال أبو يعلى

(3)

: حدَّثنا محمود بن خداش، حدَّثنا مروان بن معاوية، حدَّثنا قَنان بن عبد الله النَّهْمي، حدَّثنا مصعب بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه قال: كنت جالسًا في المسجد أنا ورجلان معي فنلنا من علي، فأقبل رسول الله يُعرف في وجهه الغضب، فتعوذت باللّه من غضبه فقال:"ما لكم ومالي؟ من آذى عليًا فقد آذاني".

(1)

مسند الإمام أحمد (3/ 483) وإسناده ضعيف.

(2)

في ط: دينار، خطأ، وعبد الله بن نيار الأسلمي من رجال التهذيب.

(3)

مسند أبي يعلى الموصلي (2/ 109) رقم (770)، وإسناده ضعيف.

ص: 573

‌حديث غدير خم

قال الإمام أحمد

(1)

: حدَّثنا حسين بن محمد وأبو نعيم المعني قالا: حدَّثنا فطر، عن أبي الطفيل قال: جمع عليٌّ الناس في الرحبة ثم قال لهم: أنشد الله كلَّ امرئ مسلم سمع رسول الله يقول يوم غدير خم ما سمع لما قام، فقام كثير من الناس قال أبو نعيم! - فقام ناس كثير - فشهدوا حين أخذ بيده فقال للناس:"أتعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ " قالوا نعم يا رسول الله قال: "من كنت مولاه فهذا مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه". قال فخرجت كأن في نفسي شيئًا فلقيت زيد بن أرقم فقلت له: إني سمعت عليًا يقول كذا وكذا: قال. فما تنكر؟ قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك له. ورواه النسائي

(2)

من حديث حبيب بن أبي ثابت، عن أبي الطفيل عنه أتم من ذلك.

وقال أبو بكر الشافعي

(3)

: حدَّثنا محمد بن سليمان بن الحارث، حدَّثنا عبيد الله بن موسى، حدَّثنا أبو إسرائيل الملائي، عن الحكم، عن أبي سليمان المؤذن، عن زيد بن أرقم أن عليًا انتشد الناس: من سمع رسول الله يقول: "من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه" فقام ستة عشر رجلًا فشهدوا بذلك وكنت فيهم. وقال أبو يعلى وعبد الله بن أحمد في "مسند"

(4)

أبيه: حدَّثنا القواريري، حدَّثنا يونس بن أرقم، حدَّثنا يزيد بن أبي زياد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: شهدت عليًا في الرحبة يناشد الناس: أنشد باللّه من سمع رسول الله يقول يوم غدير خم: "من كنت مولاه فعليٌّ مولاه" لما قام فشهد. قال عبد الرحمن: فقام اثنا عشر بدريًا كأني أنظر إلى أحدهم عليه سراويل فقالوا: نشهد أنا سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم غدير خم: "ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجي أمهاتهم؟ " قلنا: بلى يا رسول الله، قال:"فمن كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه".

ثم رواه عبد الله بن أحمد

(5)

، عن أحمد بن عمر الوكيعي، عن زيد بن الحباب، عن الوليد بن عقبة بن نزار

(6)

، عن سماك بن عبيد بن الوليد العبسي، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى فذكره، قال: فقام اثنا عشر رجلًا فقالوا: قد رأيناه وسمعناه حين أخذ بيدك يقول: "اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله". وهكذا رواه أبو داود الطَّهَوي - واسمه عيسى بن مسلم - عن

(1)

مسند الإمام أحمد (4/ 370) وهو حديث صحيح.

(2)

السنن الكبرى (5/ 130) رقم (8464) في الخصائص.

(3)

هو محمد بن عبد الله بن إبراهيم، المحدث، مسند العراق. ترجمته في سير أعلام النبلاء (16/ 39). والخبر في كتاب الغيلانيات (126).

(4)

مسند أبي يعلى الموصلي (1/ 428 - 429) ومسند الإمام أحمد (1/ 119) وهو حديث حسن.

(5)

مسند الإمام أحمد (1/ 119) وهو حديث حسن، دون قوله:(وانصر من نصره، واخذل من خذله).

(6)

في ط: نيار، تحريف، وعقبة بن الوليد بن نزار العَنْسي؛ من رجال التهذيب.

ص: 574

عمرو بن عبد الله بن هند الجملي، وعبد الأعلى بن عامر التغلبي كلاهما، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، فذكره بنحوه، قال الدارقطني: غريب تفرد به عنهما أبو داود الطهوي.

وقال الطبراني

(1)

: حدَّثنا أحمد بن إبراهيم بن عبد الله بن كيسان المديني سنة تسعين ومئتين، حدَّثنا إسماعيل بن عمرو البَجليّ، حدَّثنا مِسْعرٌ، عن طلحةَ بن مُصرِّفٍ، عن عَميرَةَ بن سعد قال: شهدت عليًا على المنبر يناشد أصحاب رسول الله من سمع رسول الله يوم غدير خم يقول ما قال؟ فقام اثنا عشر رجلًا منهم أبو هريرة وأبو سعيد وأنس بن مالك فشهدوا أنهم سمعوا رسول الله يقول: "من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه".

ورواه أبو العباس بن عقدة الحافظ الشيعي، عن الحسن بن علي بن عفان العامري، عن عبد الله بن موسى، عن قَطن، عن عمرو بن مرة، وسعيد بن وهب، وعن زيد بن يُثَيْع قالوا: سمعنا عليًا يقول في الرحبة فذكر نحوه فقام ثلاثة عشر رجلًا فشهدوا أن رسول الله قال: "من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، وأحب من أحبه وأبغض من أبغضه، وانصر من نصره واخذل من خذله". قال أبو إسحاق حين فرغ من هذا الحديث: يا أبا بكر أي أشياخ هم؟.

وكذلك رواه عبد الله بن أحمد

(2)

، عن علي بن حكيم الأودي، عن شريك، عن أبي إسحاق فذكر نحوه.

وقال عبد الرزاق

(3)

: عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن وهب وعبد خير قالا: سمعنا عليًا برحبة الكوفة يقول: أنشد الله رجلًا سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من كنت مولاه فعلي مولاه" فقام عدة من أصحاب رسول الله فشهدوا أنهم سمعوا رسول يقول الله ذلك.

وقال الإمام أحمد

(4)

: حدَّثنا محمد بن جعفر، حدَّثنا شعبة، عن أبي إسحاق، سمعت سعيد بن وهب قال: نشد علي الناس فقام خمسة أو ستة من أصحاب رسول الله فشهدوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من كنت مولاه فعلي مولاه".

وقال أحمد

(5)

: حدَّثنا يحيى بن آدم، حدَّثنا حسين بن الحارث بن لقيط الأشجعي، عن رِياح بن الحارث قال: جاء رهط إلى علي بالرحبة فقالوا: السلام عليك يا مولانا: فقال: كيف أكون مولاكم

(1)

المعجم الأوسط (3/ 133 - 134) رقم (2275) وهو حديث حسن، دون قوله:(وانصر من نصره، واخذل من خذله).

(2)

مسند الإمام أحمد (1/ 118) هو من زوائد (عبد الله بن الإمام أحمد) وهو حديث حسن، دون قوله:(وانصر من نصره، واخذل من خذله).

(3)

مصنف عبد الرزاق (11/ 225).

(4)

مسند الإمام أحمد (5/ 366).

(5)

مسند الإمام أحمد (5/ 419).

ص: 575

وأنتم قوم عرب؟ قالوا: سمعنا رسول الله يوم غدير خم يقول: "من كنت مولاه فإن هذا مولاه" قال رِياح، فلما مضوا اتبعتهم فسألت من هؤلاء؟ قالوا: نفر من الأنصار فيهم أبو أيوب الأنصاري.

وقال أبو بكر بن أبي شيبة

(1)

: حدَّثنا شريك، عن حنش، عن رباح بن الحارث قال: بينا نحن جلوس في الرحبة مع علي إذ جاء رجل عليه أثر السفر فقال: السلام عليك يا مولاي قالوا: من هذا؟ فقال أبو أيوب: سمعت رسول الله يقول: "من كنت مولاه فعلي مولاه".

وقال أحمد

(2)

: حدَّثنا محمد بن عبد الله، حدَّثنا الربيع - يعني ابن أبي صالح الأسلمي - حدَّثني زياد بن أبي زياد الأسلمي، سمعت علي بن أبي طالب ينشد الناس فقال أنشد الله رجلًا مسلمًا سمع رسول الله يقول يوم غدير خم ما قال، فقام اثنا عشر رجلًا بدريًا فشهدوا.

وقال أحمد

(3)

: حدَّثنا ابن نمير، حدَّثنا عبد الملك، عن أبي عبد الرحيم الكندي، عن زاذان أن ابن عمر قال: سمعت عليًا في الرحبة وهو ينشد الناس: من شهد رسول الله يوم غدير خم وهو يقول ما قال؟ فقام ثلاثة عشر رجلًا فشهدوا أنهم سمعوا رسول الله يقول: "من كنت مولاه فعلي مولاه".

وقال أحمد

(4)

: حدَّثنا حجاج بن الشاعر، حدَّثنا شَبَابة، حدَّثنا نُعيم بن حكيم، حدَّثني أبو مريم، ورجل من جلساء علي، عن علي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم غدير خم: "من كنت مولاه فعلي مولاه" قال فزاد الناس بعد، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه".

وقد روي هذا من طرق متعددة عن علي رضي الله عنه، وله طرق متعددة عن زيد بن أرقم.

وقال غندر عن شعبة، عن سلمة بن كهيل، سمعت أبا الطفيل يحدث عن أبي مريم أو زيد بن أرقم - شعبة الشاك - قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من كنت مولاه فعلي مولاه" قال سعيد بن جبير: وأنا قد سمعته قبل هذا من ابن عباس. رواه الترمذي

(5)

، عن بندار، عن غندر وقال: حسن غريب.

وقال الإمام أحمد

(6)

: حدَّثنا سفيان، حدَّثنا أبو عوانة، عن المغيرة، عن أبي عبيد، عن ميمون أبي عبد الله قال قال زيد بن أرقم وأنا أسمع: نزلنا مع رسول الله بوادٍ يقال له واد خم فأمر بالصلاة فصلاها بهجير قال: فخطبنا وظلل لرسول الله صلى الله عليه وسلم بثوب على شجرة سمر من الشمس فقال: "ألستم تعلمون - أو ألستم تشهدون - أني أولى بكل مؤمن من نفسه؟ " قالوا:"بلى! " قال: "فمن كنت مولاه فإن عليًا

(1)

مصنف ابن أبي شيبة (12/ 60).

(2)

مسند الإمام أحمد (1/ 88).

(3)

مسند الإمام أحمد (1/ 84) وفي ط: عن أبي عبد الرحمن .. وما هنا عن المسند.

(4)

مسند الإمام أحمد (1/ 152)، وهو من رواية عبد الله بن الإمام أحمد عن حجاج فهو من زيادات المسند.

(5)

سنن الترمذي (3713) في المناقب.

(6)

مسند الإمام أحمد (4/ 372).

ص: 576

مولاه، اللهم عاد من عاداه ووال من والاه". وكذا رواه أحمد

(1)

: عن غندر، عن شعبة، عن ميمون أبي عبد الله، عن زيد بن أرقم. وقد رواه عن زيد بن أرقم جماعة منهم: أبو إسحاق السبيعي وحبيب الإساف وعطية العوفي وأبو عبد الله الشامي وأبو الطفيل عامر بن واثلة.

وقد رواه معروف بن خرَّبوذ، عن أبي الطفيل، عن حذيفة بن أسيد قال: لما قفل رسول الله من حجة الوداع نهى أصحابه عن شجرات بالبطحاء متقاربات أن ينزلوا حولهن، ثم بعث إليهن فصلى تحتهن ثم قام فقال:"أيها الناس قد نبأني اللطيف الخبير أنه لم يعمر نبي إلَّا مثل نصف عمر الذي قبله، وإني لأظن أن يوشك أن أدعى فأجيب، وإني مسؤول وأنتم مسؤولون، فماذا أنتم قائلون؟ " قالوا: نشهد أنك قد بلغت ونصحت وجهدت فجزاك الله خيرًا، قال:"ألستم تشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن جنته حق، وأن ناره حق، وأن الموت حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور؟ " قالوا: بلى نشهد بذلك، قال:"اللهم اشهد". ثم قال: "يا أيها الناس إن الله مولاي وأنا مولى المؤمنين وأنا أولى بهم من أنفسهم من كنت مولاه فهذا مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه" ثم قال: "أيها الناس إني فرطكم

(2)

وإنكم واردون على الحوض حوض أعرض مما بين بصرى وصنعاء فيه آنية عدد النجوم قدحان من فضة، وإني سائلكم حين تردون عليه من الثقلين فانظروا كيف تخلفوني فيهما؟ الثقل الأكبر كتاب الله سبب طرفه بيد الله وطرف بأيديكم فاستمسكوا به لا تضلوا ولا تبدلوا، وعترتي

(3)

أهل بيتي فإنه قد نبأني اللطيف الخبير أنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض". رواه ابن عساكر

(4)

بطوله من طريق معروف كما ذكرنا.

وقال عبد الرزاق

(5)

: أنا معمر، عن علي بن زيد بن جدعان، عن عدي بن ثابت، عن البراء بن عازب قال: خرجنا مع رسول الله حتى نزلنا غدير خم بعث مناديًا ينادي، فلما اجتمعنا قال:"ألست أولى بكم من أنفسكم؟ " قلنا: بلى يا رسول الله! قال: "ألست أولى بكم من أمهاتكم؟ " قلنا: بلى يا رسول الله: قال: "ألست أولى بكم من آبائكم؟ " قلنا بلى يا رسول الله! قال: "ألست ألست ألست"؟ قلنا: بلى يا رسول الله قال: "من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه" فقال عمر بن الخطاب: هنيئًا لك يا بن أبي طالب أصبحت اليوم ولي كل مؤمن. وكذا رواه ابن ماجه

(6)

(1)

مسند الإمام أحمد (4/ 372).

(2)

فرطكم: أي متقدمكم. النهاية (3/ 434).

(3)

عترة الرجل أخصّ أقاربه، وعترة النبي صلى الله عليه وسلم بنو عبد المطلب وقيل أهل بيته الأقربون وهم أولاده وعلي وأولاده. النهاية (3/ 177).

(4)

تاريخ دمشق - ترجمة علي - (2/ 45).

(5)

لم أجده في مصنف عبد الرزاق. وهو في تاريخ دمشق - ترجمة علي - (2/ 47 - 48).

(6)

سنن ابن ماجه (116) في السنة.

ص: 577

من حديث حماد بن سَلَمة، عن علي بن زيد وأبي هارون العبدي، عن عديَّ بن ثابت، عن البراء به.

وهكذا رواه موسى بن عثمان الحضرمي، عن أبي إسحاق، عن البراء به.

وقد روي هذا الحديث عن سعد، وطلحة بن عبيد الله، وجابر بن عبد الله، وله طرق عنه، وأبي سعيد الخدري، وحبشي بن جنادة، وجرير بن عبد الله، وعمر بن الخطاب، وأبي هريرة، وله عنه طرق منها - وهي أغربها - الطريق الذي قال الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي

(1)

: حدَّثنا عبد الله بن علي بن محمد بن بِشْران، أنا عليُّ بن عمر الحافظ، أنا أبو نصر حَبْشُون بن موسى بن أيوب الخَلال، حدَّثنا علي بن سعيد الرَّملي، حدَّثنا ضمرة بن ربيعة القرشي، عن ابن شوذب، عن مطر الورَّاق، عن شهر بن حوشب، عن أبي هريرة قال: من صام يوم ثماني عشرة من ذي الحجة كتب له صيام ستين شهرًا وهو يوم غدير خم لما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيد علي بن أبي طالب فقال: "ألست ولي المؤمنين"؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: "من كنت مولاه فعلي مولاه" فقال عمر بن الخطاب: بخ بخ لك يا بن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كل مسلم. فأنزل الله عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] ومن صام يوم سبعة وعشرين من رجب كتب له صيام ستين شهرًا وهو أول يوم نزل جبريل بالرسالة. قال الخطيب: اشتهر هذا الحديث برواية حبشون وكان يقال إنه تفرد به، وقد تابعه عليه أحمد بن عبيد الله بن العباس بن سالم بن مهران المعروف بابن التبري، عن علي بن سعيد الشامي.

قلت: وفيه نكارة من وجوه. منها قوله نزل فيه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} وقد ورد مثله من طريق ابن هارون العبدي، عن أبي سعيد الخدري ولا يصح أيضًا، وإنما نزل ذلك يوم عرفة كما ثبت في الصحيحين

(2)

عن عمر بن الخطاب وقد تقدم.

وقد روي عن جماعة من الصحابة غير من ذكرنا في قوله عليه السلام "من كنت مولاه" والأسانيد إليهم ضعيفة.

‌حديث الطير

وهذا الحديث قد صنف الناس فيه وله طرق متعددة وفي كل منها نظر ونحن نشير إلى شيء من ذلك: قال الترمذي

(3)

: حدَّثنا سُفيان بن وكيع، حدَّثنا عُبيد الله بن موسى، عن عيسى بن عُمر، عن السُّدِّي،

(1)

تاريخ بغداد (8/ 290) في ترجمة حبشون بن موسى الخلال.

(2)

صحيح البخاري (45) في الإيمان، ومسلم (3017)(3، 5) في التفسير. ونص الحديث: أن رجلًا من اليهود قال لعمر: يا أمير المؤمنين؛ آية في كتابكم تقرؤونها لو نزلت علينا معشر اليهود لاتخذنا ذلك اليوم عيدًا. قال: أي آية؟ قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} قال عمر: قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم: وهو قائم بعرفة يوم الجمعة.

(3)

سنن الترمذي (3721) في المناقب.

ص: 578

عن أنس قال: كان عند النبي صلى الله عليه وسلم طير فقال: "اللهمَّ ائتني بأحبِّ خلقكَ إليكَ يأكل معي من هذا الطير" فجاء علي فأكل معه. ثم قال الترمذي: غريب لا نعرفه من حديث السُّدِّي إلا من هذا الوجه، قال: وقد روي من غير وجه عن أنس.

وقد رواه أبو يعلى

(1)

: عن الحسن بن حماد، عن مسهر بن عبد الملك، عن عيسى بن عمر به. وقال أبو يعلى: حدَّثنا قَطَن بن بشير، حدَّثنا جعفر بن سليمان الضُّبَعي، حدَّثنا عبد الله بن مثنى، حدَّثنا عبد الله بن أنس، عن أنس بن مالك قال: أهدي لرسول الله حجل مشوي بخبزه وضيافه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي من هذا الطعام" فقالت عائشة: اللهم اجعله أبي، وقالت حفصة: اللهم اجعله أبي، وقال أنس: وقلت: اللهم اجعله سعد بن عبادة، قال أنس: فسمعت حركة بالباب فقلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم على حاجة فانصرف ثم سمعت حركة بالباب فخرجت فإذا علي بالباب، فقلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم على حاجة فأنصرف ثم سمعت حركة بالباب فسلّم علي فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته فقال: انظر من هذا؟ فخرجت فإذا هو علي فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال: "ائذن له يدخل عليَّ فأذنت له فدخل"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اللهم وال من والاه".

ورواه الحاكم في "مستدركه"

(2)

: عن أبي علي الحافظ، عن محمد بن أحمد الصفار وحميد بن يونس الزيات كلاهما، عن محمد بن أحمد بن عياض بن أبي طيبة، ثنا عن يحيى بن حسان، عن سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد، عن أنس فذكره، وهذا إسناد غريب. ثم قال الحاكم: هذا الحديث على شرط البخاري ومسلم. وهذا فيه نظر: فإن أبا علاثة محمد بن أحمد بن عياض هذا غير معروف لكن روى هذا الحديث عنه جماعة عن أبيه، وممن رواه عنه أبو القاسم الطبراني

(3)

ثم قال: تفرد به عن أبيه، والله أعلم.

قال الحاكم: وقد رواه عن أنس أكثر من ثلاثين نفسًا. قال شيخنا الحافظ الكبير أبو عبد الله الذهبي: فصلهم بثقة يصح الإسناد إليه.

ثم قال الحاكم: وصحَّت الرواية عن علي وأبي سعيد وسفينة. قال شيخنا أبو عبد الله: لا والله ما صح شيء من ذلك.

ورواه الحاكم

(4)

من طريق إبراهيم بن ثابت القصار - وهو مجهول - عن ثابت البناني، عن أنس قال: دخل محمد بن الحجاج فجعل يسب عليًا. فقال أنس: اسكت عن سب علي، فذكر

(1)

مسند أبي يعلى الموصلي (7/ 105) رقم (4052).

(2)

المستدرك على الصحيحين (3/ 130 - 131).

(3)

المعجم الكبير (1/ 253 - 254) والمعجم الأوسط (2/ 442 - 443).

(4)

المستدرك على الصحيحين (3/ 131).

ص: 579

الحديث مطولًا وهو منكر سندًا ومتنًا. لم يورد الحاكم في "مستدركه" غير هذين الحديثين.

وقد رواه ابن أبي حاتم: عن عمار بن خالد الواسطي، عن إسحاق الأزرق، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن أنس. وهذا أجود من إسناد الحاكم.

ورواه عبد الله بن زياد أبو العلاء، عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب، عن أنس بن مالك. فقال: أهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم طير مشوي فقال: "اللهم ائتني باحب خلقك إليك يأكل معي من هذا الطير" فذكر نحوه.

ورواه محمد بن مصفى: عن حفص بن عمر، عن موسى بن سعد، عن الحسن، عن أنس، فذكره.

ورواه علي بن الحسن الشامي، عن خليل بن دعلج، عن قتادة، عن أنس بنحوه.

ورواه أحمد بن يزيد الورتنيس، عن زهير، عن عثمان الطويل، عن أنس فذكره.

ورواه عبيد الله بن موسى، عن سكين بن عبد العزيز، عن ميمون أبي خلف، حدَّثني أنس بن مالك فذكره، قال الدارقطني: من حديث ميمون أبي خلف تفرد به سكين بن عبد العزيز.

ورواه الحجاج بن يوسف بن قتيبة، عن بشر بن الحسين، عن الزبير بن عدي، عن أنس.

ورواه ابن يعقوب إسحاق بن الفيض، حدَّثنا المضاء بن الجارود، عن عبد العزيز بن زياد، أن الحجاج بن يوسف دعا أنس بن مالك من البصرة فسأله عن علي بن أبي طالب فقال: أهدي للنبي صلى الله عليه وسلم طائر فأمر به فطبخ وصنع فقال: "اللهم ائتني بأحب الخلق إليك يأكل معي". فذكره.

وقال الخطيب البغدادي

(1)

: أنا الحسن بن أبي بكر، أنا أبو بكر محمد بن العبَّاس بن نجيح، حدَّثنا محمد بن القاسم النَّحوي أبو عبد الله، حدَّثنا أبو عاصم، عن أبي الهندي، عن أنس فذكره.

ورواه الحاكم: عن محمد بن سليم، عن أنس بن مالك فذكره.

وقال أبو يعلى

(2)

: حدَّثنا الحسن بن حماد الورَّاق، حدَّثنا مسهر بن عبد الملك بن سلع ثقة، حدَّثنا عيسى بن عمر، عن إسماعيل السدي [عن أنس بن مالك] أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عنده طائر فقال:"اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي من هذا الطير" فجاء أبو بكر فرده، ثم جاء عمر فرده. ثم جاء عثمان فرده، ثم جاء علي فأذن له.

وقال أبو القاسم بن عقدة: حدَّثنا محمد بن أحمد بن الحسن، حدَّثنا يوسف بن عدي، حدَّثنا حمَّاد بن المختار الكوفي، حدَّثنا عبد الملك بن عمير، عن أنس بن مالك قال: أهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم

(1)

تاريخ بغداد (3/ 171) في ترجمة محمد بن القاسم بن خلاد الضرير.

(2)

مسند أبي يعلى الموصلي (7/ 105 - 106) وعند هذه اللفظة ينتهي انقطاع النسخة (أ) وتعود لتلتقي مع (ط).

ص: 580

طائر فوضع بين يديه فقال:"اللهم ائتني بأحبِّ خلقك إليكَ يأكل معي". قال: فجاء عليٌّ فدقَّ البابَ فقلت من ذا؟ فقال: أنا عليّ، فقلت إن رسول الله على حاجة حتى فعل ذلك ثلاثًا، فجاء الرابعة فضرب الباب برجله فدخل فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"ما حَبَسَكَ؟ " فقال: قد جئتُ ثلاث مرات فيحبسني أنس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"ما حملك على ذلك [يا أنس]؟ " قال قلت: كنتُ أحبُّ أن يكون رجلًا من قومي.

وقد رواه الحاكم النيسابوري

(1)

، عن عبدان بن يزيد، عن يعقوب الدقّاق، عن إبراهيم بن الحسين الشامي، عن أبي توبة الربيع بن نافع، عن حمسين بن سليمان بن عبد الملك بن عُمَيْر، عن أنس فذكره، ثم قال الحاكم: لم نكلتبه إلا بهذا الإسناد.

وساقه ابن عساكر

(2)

من حديث الحارث بن نبهان، عن إسماعيل - رجل من هل الكوفة - عن أنس بن مالك فذكره.

ومن حديث حفص بن عمر المهرقاني، عن الحكم بن بشير

(3)

بن إسماعيل أبي سليمان أخي إسحاق بن سليمان الرازي، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن أنس فذكره" ومن حديث سليمان بن قرم، عن محمد بن علي السلمي، عن أبي حذيفة العقيلي، عن أنس فذكره. وقال أبو يعلى: حدَّثنا أبو هشام، حدَّثنا ابن فضيل، حدَّثنا مسلم الملائي، عن أنس قال: أهدت أم أيمن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم طيرًا مشويًا فقال."اللهم ائتني بمن تحبه يأكل معي من هذا الطي" قال أنس فجاء علي فاستأذن، فقلت: هو على حاجته

(4)

، فرجع ثم عاد فاستأذن فقلت: هو على حاجته فرجع، ثم عاد فاستأذن فقلت: هو على حاجته فرجع، ثم عاد فاستأذن فسمع النبي صلى الله عليه وسلم صوته فقال:"إئذن له" فدخل وهو موضوع بين يديه فأكل منه وحمد الله، فهذه طرق متعددة عن أنس بن مالك، وكل منها فيه ضعف ومقال. وقال شيخنا أبو عبد الله الذهبي

(5)

- في جزء جمعه في هذا الحديث بعد ما أورد طرقًا متعددة نحوًا مما ذكرنا - ويروى هذا الحديث من وجوه باطلة أو مظلمة عن حجاج بن يوسف، وأبي عصام خالد بن عبيد، ودينار أبي كيسان

(6)

، وزياد بن محمد الثقفي، وزياد العبسي، وزياد بن المنذر، وسعد بن ميسرة البكري، وسليمان التيمي، وسليمان بن علي الأمير، وسلمة بن وردان، وصباح بن محارب، وطلحة بن مصرف، وأبي الزناد، وعبد الأعلى بن عامر، وعمر بن راشد، وعمر بن أبي حفص الثقفي الضرير،

(1)

لم أجده بهذا السند في المستدرك.

(2)

تاريخ دمشق - ترجمة علي - (2/ 130).

(3)

في ط: شبير؛ تحريف. وبشير بن إسماعيل من رجال التهذيب.

(4)

في أ: هو في حاجة.

(5)

ذكر محقق كتاب السير للذهبي هذا الجزء "الكلام على حديث الطير" ضمن قائمة كتبه في المقدمة ويبدو أن لا أثر له.

(6)

في أ: نكيس.

ص: 581

وعمرو بن سليم البجلي، وعمر بن يحيى الثقفي، وعثمان الطويل، وعلي بن أبي رافع، وعيسى بن طهمان، وعطية العوفي، وعباد بن عبد الصمد، وعمَّار الدُّهني، وعباس بن علي، وفضيل بن غزوان، وقاسم بن جندب، وكلثوم بن جبر، ومحمد بن علي الباقر، والزهري، ومحمد بن عمرو بن علقمة، ومحمد بن مالك الثقفي، ومحمد بن جحادة، وميمون بن مهران، وموسى الطويل، وميمون بن جابر السلمي، ومنصور بن عبد الحميد، ومعلّى بن أنس، وميمون أبي خلف الجراف

(1)

، وقيل أبو خالد ومطر بن خالد، ومعاوية بن عبد الله بن جعفر، وموسى بن عبد الله الجهني، ونافع مولى ابن عمر، والنضر بن أنس بن مالك، ويوسف بن إبراهيم، ويونس بن حيان، ويزيد بن سفيان، ويزيد بن أبي حبيب، وأبي المليح، وأبي الحكم، وأبي داود السبيعي، وأبي حمزة الواسطي، وأبي حذيفة العقيلي، وإبراهيم بن هُدْبة، ثم قال بعد أن ذكر الجميع: الجميع بضعة وتسعون

(2)

نفسًا أقربها غرائب ضعيفة، وأردؤها طرق مختلقة مفتعلة، وغالبها طرق واهية.

وقد روي من حديث سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو القاسم البغوي وأبو يعلى الموصلي قالا: حدَّثنا القواريري، حدَّثنا يونس بن أرقم، حدَّثنا مطير بن أبي خالد، عن ثابت البجلي، عن سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أهدت امرأة من الأنصار طائرين بين رغيفين [إلى النبي صلى الله عليه وسلم] ولم يكن في البيت غيري وغير أنس - فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا بغدائه. فقلت: يا رسول الله قد أهدت لك امرأة من الأنصار هدية، فقدمت الطائرين إليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اللهم ائتني بأحب خلقك إليك وإلى رسولك" فجاء علي بن أبي طالب فضرب الباب [ضربًا] خفيا فقلت: من هذا؟ قال أبو الحسن، ثم ضرب الباب ورفع صوته فقال رسول الله:"من هذا" قلت: علي بن أبي طالب. قال: "افتح له" ففتحت له فأكل معه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطيرين حتى فنيا

(3)

.

وروي عن ابن عباس؛ فقال أبو محمد يحيى بن محمد بن صاعد: حدَّثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري، حدَّثنا حسين بن محمد، حدَّثنا سليمان بن قرم، عن محمد بن شعيب، عن داود بن [علي بن]

(4)

عبد الله بن عباس، عن أبيه، عن جده ابن عباس قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بطائر فقال: اللهم ائتني برجل يحبه الله ورسوله" فجاء علي فقال: "اللهم وإليَّ".

وروي عن علي نفسه فقال عباد بن يعقوب

(5)

: حدَّثنا عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي، حدَّثني أبي، عن أبيه، عن جدّه، عن علي قال: أهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم طير يقال له الحباري، فوضعت

(1)

في أ: وميمون أبو خلف الحراني.

(2)

في أ: وسبعون.

(3)

في أ: تكرار لسند أبي يعلى والبغوي، حذفناه.

(4)

داود بن علي بن عبد الله؛ من رجال التهذيب.

(5)

تاريخ دمشق - ترجمة علي - (2/ 106 - 107).

ص: 582

بين يديه - وكان أنس بن مالك يحجبه - فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يده إلى الله ثم قال: "اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي هذا الطير". قال فجاء علي فاستأذن فقال له أنس: إن رسول الله على حاجته

(1)

فرجع ثم أعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم الدعاء، فرجع، ثم دعا الثالثة فجاء علي، فأدخله، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اللهم وإليَّ". فأكل معه، فلما أكل رسول الله. وخرج علي قال أنس: سمعت عليًا فقلت: يا أبا الحسن استغفر لي، فإن لي إليك ذنبًا وإن عندي بشارة، فأخبرته بما كان من النبي صلى الله عليه وسلم فحمد الله واستغفر لي ورضي عني، أذهب ذنبي عنده بشارتي إياه.

ومن حديث جابر بن عبد الله الأنصاري أورده ابن عساكر

(2)

: من طريق عبد الله بن صالح كاتب اللّيث، عن ابن لهيعة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر فذكره بطوله.

وقد روي أيضًا من حديث أبي سعيد الخدري، وصححه الحاكم

(3)

[من حديث أبي سعيد الخدري] ولكن إسناده مظلم وفيه ضعفاء.

وروى من حديث حبشي بن جنادة ولا يصح أيضًا، ومن حديث يعلى بن مرة والإسناد إليه مظلم، ومن حديث أبي رافع نحوه وليس بصحيح [بل طريقه مظلم]. وقد جمع الناس في هذا الحديث مصنفات مفردة منهم أبو بكر بن مردويه، والحافظ أبو طاهر محمد بن أحمد بن حمدان فيما رواه شيخنا أبو عبد الله الذهبي، ورأيت فيه مجلدًا في جميع طرقه وألفاظه لأبي جعفر بن جرير الطبري المفسر صاحب التاريخ، ثم وقفت على مجلد كبير في رده وتضعيفه سندًا ومتنًا للقاضي أبي بكر الباقلاني المتكلّم. وبالجملة

(4)

ففي القلب من صحة هذا الحديث نظر وإن كثرت طرقه، والله أعلم.

‌حديث آخر في فضل علي

(5)

:

قال أبو بكر الشافعي: حدَّثنا بشر بن موسى الأسدي، حدَّثنا زكريا بن عدي، حدَّثنا عبد الله بن عمرو، عن عبد الله بن محمد بن عقيل

(6)

، عن جابر بن عبد الله قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى امرأة من الأنصار في نخل لها. يقال له الإسراف

(7)

ففرشت لرسول الله صلى الله عليه وسلم تحت صور لها مرشوش فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الآن يأتيكم رجل من أهل الجنة" فجاء أبو بكر، ثُمّ قال:"الآن يأتيكم رجل من أهل الجنة" فجاء عمر، ثم قال:"الآن يأتيكم رجل من أهل الجنة" قال: فلقد رأيته مطأطئًا رأسه [من]

(1)

في أ: حاجة.

(2)

تاريخ دمشق - ترجمة علي - (2/ 105 - 106).

(3)

المستدرك على الصحيحين (3/ 131).

(4)

في أ: وفي الجملة.

(5)

مكان السطر بياض في أ.

(6)

في أ: عبد الله بن محمد وعقيل بن جابر بن عبد الله عن جابر.

(7)

في أ: الأسواف.

ص: 583

رأسه تحت الصور ثم يقول: "اللهم إن شئت جعلته عليًا" فجاء علي، ثم إن الأنصارية ذبحت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة وصنعتها فأكل وأكلنا فلما حضرت الظهر قام يصلي وصلينا ما توضأ ولا توضأنا، فلما حضرت العصر صلى وما توضأ ولا توضأنا.

‌حديث آخر:

قال أبو يعلى

(1)

: حدثنا الحسن بن حمّاد الكوفي، حدَّثنا ابن أبي غنية، عن أبيه، عن الشيباني، عن جُميع بن عمير

(2)

قال: دخلت مع أبي على عائشة فسألتها عن علي فقالت: ما رأيت رجلًا كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه، ولا امرأة كانت أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من امرأته. وقد رواه غير واحد من الشيعة عن جميع بن عمير به.

‌حديث آخر:

قال الإمام أحمد

(3)

: حدَّثنا يحيى بن أبي بكير، حدَّثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي عبد الله الجَدلي

(4)

قال: دخلت على أم سلمة فقالت لي: أيسب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكم؟ قلت: معاذ الله - أو سبحان الله أو كلمة نحوها - قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من سبَّ عليًا فقد سبَّني".

وقد رواه أبو يعلى

(5)

: عن عبيد الله بن موسى، عن عيسى بن عبد الرحمن البَجلي - من بجيلة من سليم - عن السدّي، عن أبي عبد الله الجَدلي (4) قال: قالت لي أم سلمة: "أيسب رسول الله فيكم على المنابر؟ " قال: قلت: وأنى ذلك؟ قالت: أليس يُسبُّ علي ومن أحبه؟ فأشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحبه.

وقد روي من غير هذا الوجه عن أم سلمة. وقد ورد من حديثها وحديث جابر وأبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي: "كذب من زعم أنه يحبني ويبغضك" ولكن أسانيدها كلها ضعيفة لا يحتج بها.

‌حديث آخر:

قال عبد الرزاق

(6)

: أخبرنا الثوري، عن الأعمش، عن عدي بن ثابت، عن زر بن حبيش قال:

(1)

مسند أبي يعلى الموصلي (8/ 270) رقم (4857)، وإسناده ضعيف.

(2)

في أ: جُميع عن عمير؛ خطأ. وما هنا موافق لمسند أبي يعلى.

(3)

مسند الإمام أحمد (6/ 323).

(4)

في ط: "البجلي"، محرف، وما هنا من أو مسند أبي يعلى.

(5)

مسند أبي يعلى الموصلي (12/ 444 - 445) رقم (7013).

(6)

لم أجده في مصنف عبد الرزاق، وهو بهذا السند والمتن في مسند أبي يعلى الموصلي (1/ 250) رقم (291).

ص: 584

سمعت عليًا يقول: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهد النبي صلى الله عليه وسلم إليَّ أنَّه لا يُحبُّك إلا مؤمنٌ ولا يبغضكَ إلا منافقٌ. ورواه أحمد

(1)

، عن ابن عمير ووكيع، عن الأعمش.

وكذلك رواه أبو معاوية ومحمد بن فضيل وعبد الله بن داود الخُريبي

(2)

وعبيد الله بن موسى ومحاضر بن المُورِّع

(3)

ويحيى بن عيسى الرملي [وغيرهم] عن الأعمش به.

وأخرجه مسلم في "صحيحه"

(4)

عن

(5)

.

ورواه غسان بن حسان، عن شعبة، عن عدي بن ثابت، عن علي فذكره.

وقد روي من غير وجه عن علي.

وهذا الذي أوردناه هو الصحيح من ذلك، والله أعلم.

وقال الإمام أحمد

(6)

: حدَّثنا عثمان بن أبي شيبة، حدَّثنا محمد بن فضيل، عن عبد الله

(7)

بن عبد الرحمن بن أبي نصر، حدَّثني مُساور الحِمْيري، عن أمه، قالت

(8)

: سمعت أم سلمة تقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعلي: "لا يبغضك مؤمن ولا يحبك منافق".

وقد روي من غير هذا الوجه عن أم سلمة بلفظ آخر ولا يصح.

وروى ابن عقدة، عن الحسن بن علي بن بزيغ، حدَّثنا عمر بن إبراهيم، حدَّثنا سوار بن مصعب، عن الحكم، عن يحيى الخراز، عن عبد الله بن مسعود سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"من زعم أنه آمن بي وبما جئت به وهو يبغض عليًا فهو كاذب ليس بمؤمن" وهذا بهذا الإسناد مختلق لا يثبت، والله أعلم.

وقال الحسن بن عرفة: حدَّثني سعيد بن محمد الوراق، عن علي بن الخراز، سمعت أبا مريم الثقفي [يقول] سمعت عمار بن ياسر يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لعلي: "طوبى لمن أحبك وصدّق فيك، وويل لمن أبغضك وكذَّب فيك".

(1)

مسند الإمام أحمد (1/ 128).

(2)

في أ: الحوني، وفي ط: الحربي، وكلاهما تحريف، وترجمة الخُريبي في سير أعلام النبلاء (9/ 346).

(3)

الضبط عن تقريب التهذيب (521).

(4)

صحيح مسلم (78)(131) في الإيمان.

(5)

بياض في الأصل: وإنما رواه مسلم عن ابن أبي شيبة عن وكيع وأبي معاوية عن الأعمش. ورواه أيضًا عن يحيى بن يحيى عن الأعمش به.

(6)

مسند الإمام أحمد (6/ 292).

(7)

في ط: عبيد الله، وهو خطأ.

(8)

في أ، ط: عن أبيه قال؛ وما هنا عن المسند.

ص: 585

وقد روي

(1)

في هذا المعنى أحاديث كثيرة موضوعة لا أصل لها.

وقال غير واحد، عن أبي الأزهر أحمد بن الأزهر: حدَّثنا عبد الرزاق، أنا معمر، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله

(2)

، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انظر إلى علي فقال: "أنت سيد في الدنيا وسيد في الآخرة، من أحبك فقد أحبني وحبيبك حبيب الله، ومن أبغضك فقد أبغضني وبغيضك بغيض الله، والويل

(3)

لمن أبغضك من بعدي"

(4)

.

وروى غير واحد أيضًا عن الحارث بن حَصِيرة، عن أبي صادق، عن ربيعة بن ناجذ، عن علي قال: دعاني رسول الله فقال: "إن فيك من عيسى بن مريم مثلًا أبغضته يهود حتى بهتوا أمه، وأحبته

(5)

النصارى حتى أنزلوه بالمنزل الذي ليس هو له" قال علي: ألا وإنه يهلك فيَّ اثنان محب مُطْرٍ مفرط يُقَرِّظُني بما ليس فيَّ. ومبغض يحمله شنآني على أن يبهتني، ألا وإني لست بنبي ولا يوحى إلي، ولكني أعمل بكتاب الله وسنة نبيه ما استطعت، فما أمرتكم من طاعة الله فحقُّ

(6)

عليكم طاعتي فيما أحببتم

(7)

وكرهتم، لفظ عبد الله بن أحمد

(8)

.

[حديث آخر]:

قال يعقوب بن سفيان. حدَّثنا يحيى بن عبد الحميد، حدَّثنا علي بن مسهر، عن الأعمش، عن موسى بن طريف، عن عباية، عن علي قال: أنا قسيم النار، إذا كان يوم القيامة قلت هذا لك وهذا لي. قال يعقوب: وموسى بن طريف ضعيف يحتاج إلى من يعدله [وليس بثقة] وعباية أقل منه ليس حديثه بشيء

(9)

. وذكر أن أبا معاوية لام الأعمش على تحديثه بهذا [الحديث] فقال له الأعمش: إذا نسيت فذكروني، ويقال: إن الأعمش إنما رواه على سبيل الاستهزاء بالروافض والتنقيص لهم في تصديقهم ذلك.

قلت: وما يتوهمه بعض العوام بل هو مشهور بين كثير منهم، أن عليًا هو الساقي على الحوض فليس له أصل ولم يجئ من طريق مرضي يعتمد عليه، والذي ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يسقي الناس.

(1)

في أ: ورد.

(2)

في ط: "عبد الله بن عبيد الله" خطأ.

(3)

في ط: "وويل" وما هنا من أ وهو الموافق لمصادر تخريج الحديث.

(4)

أخرجه الطبراني في الأوسط (4751)، والحاكم (3/ 127) وقال: هو منكر، ليس ببعيد من الوضع، وانظر تمام تخريجه في تعليق الدكتور بشار عواد معروف على تاريخ الخطيب (5/ 68).

(5)

في ط: وأحبوه على لغة أكلوه البراغيث، وما هنا موافق لما في مسند أحمد.

(6)

في ط: "حق"، وما أثبتناه من أ ومسند أحمد.

(7)

في أ: اختلفتم، وما هنا موافق لما في مسند أحمد.

(8)

مسند أحمد (1/ 160).

(9)

في ط: ليس بشيء حديثه.

ص: 586

وهكذا الحديث الوارد في أنه ليس أحد يأتي يوم القيامة راكبًا إلا أربعة، رسول الله على البراق، وصالح على ناقته، وحمزة على العضباء، وعلي على ناقة من نوق الجنة رافعًا صوته بالتهليل.

وكذلك ما في أفواه الناس من اليمين بعلي يقول أحدهم: خذ بعلي، أعطني

(1)

بعلي، ونحو ذلك كل ذلك لا أصل له، بل ذلك من نزعات الروافض ومقالاتهم ولا يصح من شيء من الوجوه

(2)

، وهو من وضع الرافضة ويخشى على من اعتاد ذلك سلب الإيمان عند الموت، ومن حلف بغير الله فقد أشرك.

‌حديث آخر:

قال الإمام أحمد

(3)

: حدَّثني يحيى، عن شعبة، حدَّثنا عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، عن علي قال: مرَّ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا وجع وأنا أقول: اللهم إن كان أجلي قد حضر فأرحني، وإن كان آجلًا فارفع عني، وإن كان بلاءً فصبِّرني. قال:"ما قلت؟ " فأعدت عليه، فضربني برجله وقال:"ما قلت؟ " فأعدت عليه فقال: "اللهم عافه أو اشفه" فما اشتكيت ذلك الوجع بعد.

‌حديث آخر:

قال محمد بن مسلم بن وارة

(4)

: حدَّثنا عبيد الله بن موسى، حدَّثنا أبو عمر الأزدي، عن أبي راشد الحرَّاني، عن أبي الحمراء قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه، وإلى نوح في فَهمه، وإلى إبراهيم في حلمه

(5)

، وإلى يحيى بن زكريا في زهده، وإلى موسى في بطشه

(6)

فلينظر إلى علي بن أبي طالب" وهذا [حديث] منكر جدًّا ولا يصح إسناده.

‌حديث آخر في ردِّ الشمس

(7)

:

قد ذكرناه في دلائل النبوة بأسانيده وألفاظه فأغنى له عن إعادته.

‌حديث آخر:

قال أبو عيسى الترمذي

(8)

: حدَّثنا علي بن المنذر الكوفي، حدَّثنا محمد بن فَضيل، عن الأجلح،

(1)

في أ: أعط.

(2)

ولا يصح شيء من هذه الوجوه البتة، بل ذلك من وضع الرافضة.

(3)

مسند الإمام أحمد (1/ 83)، وإسناده حسن.

(4)

في الأصل والمطبوع: مسلم بن دارة، وهو خطأ، والتصحيح من كتب الرجال.

(5)

في أ: في حكمه.

(6)

في أ: بطشته.

(7)

في أ: حديث في الشمس حتى صلى ضعيف جدًّا ذكرناه.

(8)

سنن الترمذي (3726) في المناقب.

ص: 587

عن أبي الزبير، عن جابر قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليًا يوم الطائف فانتجاه

(1)

فقال الناس: لقد طال بنجواه مع ابن عمه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما انتجيته ولكن الله انتجاه" ثم قال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه

(2)

إلا من حديث الأجلح وقد رواه [عنه] غير ابن فضيل عن الأجلح.

ومعنى قوله: "ولكن الله انتجاه" أن الله أمرني أن أنتجي معه. [قلت: وقد يكون أراد أن الله أمرني بمناجاته

(3)

. والله أعلم].

‌حديث آخر:

قال الترمذي

(4)

: حدَّثنا محمد بن بشار ويعقوب بن إبراهيم وغير واحد، حدَّثنا أبو عاصم، عن أبي الجَرَّاح، عن جابر بن صُبْح

(5)

، حدَّثتني أمُ شراحيل

(6)

، حدَّثتني أمُّ عطية قالت: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشًا فيهم عليّ قالت: فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم رافعًا يديه

(7)

يقول: "اللهم لا تمتني حتى تُريني عليًا" ثم قال: هذا حديث حسن [غريب إنما نعرفه من هذا الوجه].

‌حديث آخر:

قال الإمام أحمد

(8)

: حدَّثنا علي بن عاصم، قال: حصين أخبرنا عن هلال بن يساف، عن عبد الله بن ظالم المازني قال: لما خرج معاوية من الكوفة استعمل المغيرة بن شعبة، قال: فأقام خطباء يقعون في علي، قال وأنا إلى جنب سعيد بن زيد بن عمرو

(9)

بن نُفيل قال: فغضب فقام وأخذ بيدي فتبعته

(10)

فقال: ألا ترى إلى هذا الرجل الظالم لنفسه، الذي يأمر بلعن رجل من أهل الجنة

(11)

فأشهد على التسعة أنهم من أهل الجنة، ولو شهدت على العاشر لم آثم، قال: قلت: وما ذاك؟ قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اثبت حراء فليس عليك إلا نبي أو صدِّيق أو شهيد" قال قلت: من هم؟ فقال: رسول الله، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، والزبير، وطلحة، وعبد الرحمن بن عوف،

(1)

الانتجاء: هو المناجاة. النهاية (5/ 25).

(2)

في أ: لا يعرف.

(3)

وهو ما رجّحه ابن الأثير في نهايته.

(4)

سنن الترمذي (3737) في المناقب.

(5)

في ط: "صبيح" محرف.

(6)

في ط: "أمي أم شرحبيل" ولفظة أمي ليست في أ ولا جامع الترمذي.

(7)

في أ: فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول مع يديه.

(8)

مسند الإمام أحمد (1/ 189)، وإسناده حسن.

(9)

في ط: عمر؛ خطأ، وترجمة سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل في سير أعلام النبلاء (1/ 124).

(10)

في ط: وتبعته؛ وما هنا كالمسند.

(11)

في ط: الكوفة؛ خطأ.

ص: 588

وسعد بن مالك. [قال: ثم سكت] قلت: ومن العاصر؟ قال: قال: أنا.

وينبغي أن يكتب هاهنا حديث أم سلمة المتقدم قريبًا أنها قالت لأبي عبد الله الجدلي: "أيسب رسول الله فيكم على المنابر "؟ الحديث. رواه أحمد [أيضًا]

(1)

.

‌حديث آخر:

قال الإمام أحمد

(2)

: حدَّثنا يحيى بن آدم وابن أبي بكير قالا: حدَّثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن حبشي بن جنادة السلولي - وكان قد شهد حجة الوداع - قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"عليٌّ منِّي وأنا منه ولا يؤدّى عنِّي إلا أنا أو عليّ" ثم رواه أحمد عن أبي أحمد الزبيري عن إسرائيل.

‌حديث آخر:

قال أحمد

(3)

: حدَّثنا وكيع، حدَّثنا: حدَّثنا إسرائيل: قال أبو إسحاق: عن زيد بن يُثَيْع

(4)

، عن أبي بكر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه ببراءة لأهل مكة: "لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عُريان، ولا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة

(5)

، من كان بينه وبين رسول الله مدة فأجله إلى مدته، والله بريء من المشركين ورسوله". قال: فسار بها ثلاثًا، ثم قال لعلي:"الحقه وردَّ عليَّ أبا بكر وبلِّغها أنت"[قال: ففعل] قال: فلما قدم أبو بكر على رسول الله بكى، وقال يا رسول الله: حدث فيّ شيء؟ قال: "ما حدث فيك إلا خيرٌ، ولكن أمرتُ أن لا يبلِّغه إلا أنا أو رجل مني"

(6)

.

‌حديث آخر:

وقال عبد الله بن أحمد

(7)

: حدَّثني محمد بن سليمان لوين، حدَّثنا محمد بن جابر، عن سماك، عن حنش

(8)

، عن علي قال: لما نزلت عشر آيات من براءة دعا رسول الله أبا بكر فبعثه بها ليقرأها على أهل مكة، ثم دعاني فقال لي: "أدرك أبا بكر فحيث لحقته فخذ الكتاب منه فاذهب به إلى أهل مكة فاقرأه

(1)

تقدم الحديث قبل ثلاث صفحات وهو في المسند (6/ 323).

(2)

مسند الإمام أحمد (4/ 164 - 165) بسندين.

(3)

مسند الإمام أحمد (1/ 3).

(4)

اللفظة مهملة النقط في أ، وهي في ط: بثيغ، وهو تحريف، ويرسم اسمه على شكلين أثيع مصغرًا، ويثيع بضم التحتانية بعدها مثلثة ثم تحتانية ساكنة ثم مهملة. وزيد بن يثيعٍ من رجال التهذيب.

(5)

في ط: مؤمنة؛ وما هنا كالمسند.

(6)

في ط: من أهل بيتي. وما هنا كالمسند.

(7)

مسند الإمام أحمد (1/ 151).

(8)

في ط: حبشي؛ تحريف.

ص: 589

عليهم" فلحقته بالجحفة فأخذت الكتاب منه ورجع أبو بكر فقال: يا رسول الله نزل في شيء؟ قال: "لا ولكن جبريل جاءني فقال لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك

(1)

".

وقد رواه كثيرٌ النَّوَّاء، عن جُميع بن عُمير، عن ابن عمر، بنحوه، وفيه نكارة من جهة أمره بردِّ الصدِّيق فإن الصدِّيق لم يرجع بل كان هو أمير الحج في سنة تسع، وكان علي هو وجماعة معه بعثهم الصدّيق يطوفون برحاب منى في يوم النحر وأيام التشريق ينادون ببراءة؟ وقد قررنا ذلك في حجّة الصديق وفي أول تفسير سورة براءة.

‌حديث آخر:

[روي من حديث]

(2)

أبي بكر الصديق وعمر وعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود ومعاذ بن جبل وعمران بن حصين وأنس [بن مالك] وثوبان وعائشة وأبي ذر وجابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "النظر إلى وجه عليّ عبادة"

(3)

. وفي حديث عن عائشة "ذكرُ عليّ عبادةٌ" ولكن لا يصحُّ شيءٌ منها فإنه لا يخلو كل سند منها

(4)

عن كذاب أو مجهول لا يعرف حاله وهو شيعي.

‌حديث الصدقة بالخاتم وهو راكع:

قال الطبراني: حدَّثنا عبد الرحمن بن سَلْم

(5)

الرازي، حدَّثنا محمد بن يحيى، عن ضريس العبدي، حدَّثنا عيسى بن عبد الله بن عبيد الله بن عمر بن علي بن أبي طالب، حدَّثني أبي، عن أبيه، عن جده، عن علي قال: نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة: 55] فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل المسجد، والناس يصلون بين راكع وقائم وإذا سائل فقال:"يا سائل هل أعطاك أحد شيئًا" فقال: لا! إلا هاذاك الراكع - لعلي - أعطاني خاتمه.

وقال الحافظ ابن عساكر

(6)

: أخبرنا خالي أبو المعالي القاضي، أخبرنا أبو الحسن الخلعي، أخبرنا أبو العباس أحمد بن محمد الشاهد، حدَّثنا أبو الفضل محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن الحارث الرملي، حدَّثنا القاضي جملة بن محمد، حدَّثنا أبو سعيد الأشج، حدَّثنا أبو نعيم الأحول، عن

(1)

في ط: من بيتك، وما هنا كالمسند.

(2)

مكانهما في أ: عن.

(3)

في هامش أ: ولعل في قوله: النظر إلى وجه علي عبادة انظر، أما سمعتم يقال: النظر إلى وجه العالم عبادة: فكيف وجه علي.

(4)

في أ: كل إسناد منها.

(5)

في ط: "مسلم"، محرف.

(6)

تاريخ دمشق - ترجمة علي - (2/ 409 - 410).

ص: 590

موسى بن قيس

(1)

، عن سلمة قال: تصدق عليّ بخاتمه وهو راكع فنزلت {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة: 55] وهذا لا يصح بوجه من الوجوه لضعف أسانيده ولم ينزل في عليّ شيء من القرآن بخصوصيته، وكل ما يوردونه في مثل قوله تعالى:{إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد: 7] وقوله: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8] وقوله: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة: 19] وغير ذلك من الآيات والأحاديث الواردة في أنها نزلت في عليٍّ لا يصح شيء منها، وأما قوله تعالى:{هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج: 19] فثبت في الصحيح

(2)

أنه نزل

(3)

في علي وحمزة وعبيدة من المؤمنين، وفي عتبة وشيبة والوليد بن عتبة من الكافرين.

وما روي عن ابن عباس أنه قال: ما نزل

(4)

في أحد من الناس ما نزل في عليٍّ. وفي رواية عنه أنه قال: نزل فيه ثلاثمئة آية فلا يصح ذلك عنه لا هذا ولا هذا. [ولا يصح أيضًا ما قالوا فيه أنه قال: ما نزلت آية فيها يا أيها الذين آمنوا إلا وعلي بن أبي طالب رأسها

(5)

، كل ذلك لا يصح وإنما هذا من غلو الرافضة].

‌حديث آخر:

قال أبو سعيد بن الأعرابي: حدَّثنا محمد بن زكريا الغلابي، حدَّثنا العباس بن بكار أبو الوليد، حدَّثنا عبد الله بن المثنى الأنصاري، عن عمه ثمامة بن عبد الله بن أنس، عن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسًا بالمسجد وقد أطاف به أصحابه إذ أقبل علي فسلم ثم وقف فنظر

(6)

مكانًا يجلس فيه فنظر [إليه] رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى وجوه أصحابه أيهم يوسِّع له - وكان أبو بكر عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسًا - فتزحزح أبو بكر عن مجلسه وقال: هاهنا يا أبا الحسن، فجلس بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أبي بكر، فرأينا السرور في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أقبل على أبي بكر فقال:"يا أبا بكر إنما يعرف الفضل لأهل الفضل [ذوو الفضل] ".

فأما الحديث الوارد عن علي وحذيفة مرفوعًا: "علي خير البشر، من أبى فقد كفر، ومن رضي فقد شكر" فهو موضوع من الطريقين معًا، قبح الله من وضعه واختلقه

(7)

.

(1)

في أ: موسى بن عقبة، وفي سند تاريخ دمشق: حملة بن محمر، وما أثبتناه هو الصواب.

(2)

صحيح البخاري (3965 و 3966 و 3968) في المغازي.

(3)

في أ: أنها نزلت، والضمير يعود إلى قوله تعالى.

(4)

في أ: نزلت في أحد من الناس ما نزل.

(5)

تاريخ دمشق - ترجمة علي - (2/ 428).

(6)

في أ: ينظر.

(7)

في أ: قبح الله واضعه ومختلقه.

ص: 591

‌حديث آخر:

قال أبو عيسى الترمذي

(1)

: حدَّثنا إسماعيل بن موسى، [حدَّثنا محمد بن عمر بن] الرُّومي، حدَّثنا شُريك، عن [سَلَمة بن] كهيل، عن سُوَيد بن غَفَلة، عن الصُّنابحيِّ، عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا دار الحكمة وعلي بابها" ثم قال: هذا الحديث غريب [منكر]. قال: وروى بعضهم هذا الحديث عن ابن عباس قلت: رواه سويد بن سعيد، عن شريك، عن سلمة، عن الصنابحي، عن علي مرفوعًا:"أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد العلم فليأت باب المدينة"

(2)

.

وأما حديث ابن عباس فرواه ابن عدي

(3)

من طريق أحمد بن سلمة أبي عمرو الجرجاني، حدَّثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد العلم فليأتها من قبل بابها" ثم قال ابن عدي: وهذا الحديث يعرف بأبي الصلت الهروي، عن أبي معاوية، سرقه منه أحمد بن سلمة هذا ومعه جماعة من الضعفاء، هكذا قال رحمه الله.

وقد روى أحمد بن محمد بن القاسم بن محرز، عن ابن معين أنه قال: أخبرني ابن أيمن أن أبا معاوية حدّث بهذا الحديث قديمًا ثم كفَّ عنه، قال: وكان أبو الصلت رجلًا موسرًا يكرم

(4)

المشايخ ويحدثونه بهذه الأحاديث، وساقه ابن عساكر بإسناد مظلم عن جعفر الصادق، عن أبيه، عن جده، عن جابر بن عبد الله فذكره مرفوعًا، ومن طريق أخرى عن جابر: قال ابن عدي وهو موضوع أيضًا. وقال أبو الفتح الأزدي

(5)

: لا يصح في هذا الباب شيء.

‌حديث آخر

(6)

:

يقرب مما قبله، قال ابن عدي

(7)

: حدَّثنا أحمد بن حمدون النيسابوري، حدَّثنا ابن بنت أبي أسامة - هو جعفر بن هذيل - حدَّثنا ضرار بن صُرد، حدَّثنا يحيى بن عيسى الرملي، عن الأعمش، عن ابن عباية، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"عليٌّ عيبة علمي".

(1)

سنن الترمذي (3723) في المناقب، وما بين معقوفين زيادة وتصحيح منه.

(2)

الحديث بهذا السند في المعجم الكبير للطبراني (11/ 65 و 66) رقم (11061) والمستدرك (3/ 126 - 127) وصححه، وتعقبه الذهبي بقوله: بل موضوع، وأبو الصلت والله لا ثقة، ولا مأمون.

(3)

الكامل في الضعفاء (3/ 1247).

(4)

في أ: يلزم، وما هنا يوافقه ما في سؤالات ابن محرز لابن معين (241).

(5)

في أ: "اليزدي" خطأ.

(6)

في أ: طريق أخرى عن جابر.

(7)

(2/ 1421) والحديث بتمامه في تاريخ دمشق - ترجمة علي - (2/ 482) وفي سنده: حدَّثنا ابن بنت أسامة وفي أ، ط: على عيينة علي .. ؛ تحريف.

ص: 592

‌حديث آخر:

في معنى ما تقدم. قال ابن عدي: حدَّثنا أبو يعلى، حدَّثنا كامل بن طلحة، حدَّثنا ابن لهيعة، حدَّثنا يحيى بن عبد الله، عن أبي عبد الرحمن الحبلي، عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مرضه:"ادعوا لي أخي" فدعوا له أبا بكر فأعرض عنه ثم قال: "ادعوا لي أخي" فدعوا له عمر فاعرض عنه ثم قال: "ادعوا لي أخي" فدعوا له عئمان فأعرض عنه، ثم قال:"ادعوا لي أخي" فدعي له علي بن أبي طالب فستره بثوب وأكب عليه فلما خرج من عنده قيل له: ما قال [لك رسول الله صلى الله عليه وسلم]؟ قال: علّمني ألف باب يفتح كل باب إلى ألف باب. قال ابن عدي: هذا حديث منكر، ولعل البلاء فيه من ابن لهيعة، فإنه شديد الإفراط في التشيع وقد تكلّم فيه الأئمة ونسبوه إلى الضعف، والله أعلم.

‌حديث آخر:

قال ابن عساكر

(1)

: أنبأنا أبو علي المقرئ

(2)

، أخبرنا أبو نعيم الحافظ، أخبرنا أبو أحمد الغطريفي، حدَّثنا أبو الحسين بن أبي مقاتل، حدَّثنا محمد بن عبيد بن عتبة، حدَّثنا محمد بن علي الوهبي الكوفي، حدَّثنا أحمد بن عمران بن سلمة - وكان ثقة عدلًا مرضيًا - حدَّثنا سفيان الثوري، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فسئل عن علي فقال: "قسمت الحكمة عشرة أجزاء أعطي

(3)

علي تسعة والناس جزءًا واحدًا" وسكت الحافظ ابن عساكر على هذا الحديث ولم ينبه على أمره وهو منكر بل موضوع مركب على سفيان الثوري بإسناده، قبح الله واضعه ومن افتراه واختلقه.

‌حديث آخر:

قال أبو يعلى

(4)

: حدَّثنا عبيد الله بن عمر القواريري، حدَّثنا يحيى بن سعيد، عن الأعمش، عن عمرو

(5)

بن مرة، عن أبي البَخْتريِّ، عن علي. قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن وأنا حديث السن ليس لي علم بالقضاء قال: فضرب في صدري وقال: "إن الله سيهدي قلبك ويثبت لسانك" قال: فما شككتُ في قضاء بين اثنين بعد. وقد ثبت عن عمر أنه كان يقول: علي أقضانا وأبيٌّ أقرؤنا للقرآن. وكان عمر يقول: أعوذ بالله من معضلة ولا أبو حسن لها.

(1)

تاريخ دمشق - ترجمة علي - (2/ 481).

(2)

في ط: "أنبأنا أبو يعلى، ثنا المقري" وهو غلط محض، وما أثبتناه هو الصواب الموافق لما في تاريخ دمشق، وأبو علي هذا هو الحسن بن أحمد الأصبهاني الحداد المتوفى سنة 515 هـ وهو شيخ مشهور للحافظ ابن عساكر، وأكثر هو عن أبي نعيم، وله معجم شيوخ معروف (بشار).

(3)

في أ: فأعطي.

(4)

مسند أبي يعلى الموصلي (1/ 323) رقم (401).

(5)

في أ: عمر. خطأ.

ص: 593

‌حديث آخر:

قال الإمام أحمد

(1)

: حدَّثنا عبد الله بن محمد، حدَّثنا جرير بن عبد الحميد، عن مغيرة، عن أم موسى، عن أم سلمة قالت: والذي أحلف به إن كان علي بن أبي طالب لأقرب الناس عهدًا برسول الله صلى الله عليه وسلم عدنا رسول الله غداة بعد غداة يقول: "جاء علي؟ " مرارًا - وأظنه كان بعثه في حاجة - قالت: فجاء بعدُ فظننت أن له إليه حاجة، فخرجنا من البيت، فقعدنا عند الباب، فكنت من أدناهم إلى الباب فأكب عليه عليٌّ، فجعل يسارُّه ويناجيه، ثم قبض من يومه ذلك، فكان أقرب الناس به عهدًا. وهكذا رواه عبد الله بن أحمد وأبو يعلى

(2)

عن أبي بكر بن أبي شيبة به

(3)

.

‌حديث آخر في معناه:

قال أبو يعلى

(4)

: حدَّثنا عبد الرحمن بن صالح، حدَّثنا أبو بكر بن عياش، عن صدقة، عن جُميع بن عمير، أن أمه وخالته دخلتا على عائشة فقالتا: يا أم المؤمنين أخبرينا عن علي، قال: أيُّ شيء [تسألان عنه] تسألن عن رجل وضع يده من رسول الله موضعًا فسالت نفسه في يده فمسح بها وجهه ثم اختلفوا في دفنه فقال: إن أحب الأماكن إلى الله مكان قبض فيه نبيه صلى الله عليه وسلم؟ قالتا: فَلِمَ خرجت عليه؟ قالت أمر قضي لوددت أني أفديه بما على الأرض

(5)

. وقذا منكر جدًّا وفي الصحيح ما يرد هذا، والله أعلم.

‌حديث آخر:

قال الإمام أحمد

(6)

: حدَّثنا أسود بن عامر، حدَّثني عبد الحميد بن أبي جعفر - يعني الفراء - عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن زيد بن يُثَيْع، عن علي قال: قيل يا رسول الله من نُؤمِّر بعدك؟ قال: "إن تُؤَمِّروا أبا بكر تجدوه أمينًا زاهدًا في الدنيا راغبًا في الآخرة، وإن تُؤَمِّروا عمر تجدوه قويًا أمينًا لا يخاف

(7)

في الله لومة لائم، وإن تُؤَمِّروا عليًا - ولا أراكم فاعلين - تجدوه هاديًا مهديًا يأخذ بكم الطريق المستقيم".

وقد روي هذا الحديث من طريق عبد الرزاق، عن النعمان بن أبي شيبة، وعن يحيى بن العلاء، عن الثوري، عن أبي إسحاق، عن زيد بن يُثَيْع، عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه.

(1)

مسند الإمام أحمد (6/ 300).

(2)

مسند أبي يعلى الموصلي (12/ 364) رقم (6934).

(3)

وهو في مصنف ابن أبي شيبة (12/ 56 - 57).

(4)

مسند أبي يعلى (4865).

(5)

في أ: أني افتديت بما على الأرض من شيء.

(6)

مسند الإمام أحمد (1/ 109) وإسناده ضعيف.

(7)

في أ: لا تأخذه؛ وما هنا عن المسند.

ص: 594

ورواه أبو الصلت الهروي عبد السلام بن صالح، عن ابن نمير، عن الثوري، عن شريك، عن أبي إسحاق، عن زيد بن يُثيْع، عن حذيفة به.

وقال الحاكم أبو عبد الله النيسابوري

(1)

: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن علي الآدمي بمكة، حدَّثنا إسحاق بن إبراهيم الصنعاني، أنا عبد الرزاق بن همام، عن أبيه، عن ابن مينا

(2)

، عن عبد الله بن مسعود قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة وفد الجن قال: فتنفس فقلت: ما شأنك يا رسول الله؟ قال: "نُعيت إليّ نفسي "قلت: فاستخلف. قال: "من؟ " قلت: أبا بكر. قال: فسكت، ثم مضى، ثم تنفس، قلت: ما شأنك يا رسول الله؟ قال نعيت إلي نفسي يا بن مسعود، قلت: فاستخلف قال: من؟ قلت: عمر. قال: فسكت، ثم مضى ساعةً، ثم تنفس قال: فقلت: ما شأنك يا رسول الله؟ قال: "نعيت إليّ نفسي يا ابن مسعود" قلت: فاستخلف، قال:"من؟ " قلت: علي بن أبي طالب قال: "أما والذي نفسي بيده لئن أطاعوه ليدخُلنَّ الجنة أجمعون أكتعون"

(3)

قال ابن عساكر: همام وابن ميناء مجهولان.

‌حديث آخر:

قال أبو يعلى

(4)

: حدَّثنا أبو موسى - يعني محمد بن المثنى - حدَّثنا سهيل بن حماد أبو عتاب الدلال، حدَّثنا مختار بن نافع التميمي، حدَّثنا أبو حيان التيمي، عن أبيه، عن علي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رحم الله أبا بكر زوجني ابنته وحَمَلني إلى دار الهجرة وأعتق بلالًا من ماله، رحم الله عمر يقول الحق وإن كان مرًّا تركه الحق وماله من صديق، رحم الله عثمان تستحييه الملائكة، رحم الله عليًا اللهم أدر الحق

(5)

معه حيث دار "وقد ورد عن أبي سعيد وأم سلمة أن الحق مع علي رضي الله عنه وفي كلٍّ منهما انظر والله أعلم.

‌حديث آخر:

قال أبو يعلى

(6)

: حدَّثنا عثمان، [حدَّثنا] جرير، عن الأعمش، عن إسماعيل بن رجاء، عن أبيه، عن أبي سعيد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله" فقال أبو بكر: أنا هو يا رسول الله، قال:"لا! " فقال عمر: أنا هو

(1)

لم أجده في المستدرك وهو في مصنف عبد الرزاق (11/ 317 - 318) بهذا السند.

(2)

في المصنف: عن ميناء.

(3)

في الأصل و ط والمصنف: أجمعين أكتعين، وهو مخالف للسياق النحوي.

(4)

مسند أبي يعلى الموصلي (1/ 418 - 419) رقم (550) وإسناده ضعيف.

(5)

في ط: "رحم الله عليًا دار الحق"، وما هنا من أوهو الموافق لما في مسند أبي يعلى الذي ينقل منه المصنف.

(6)

مسند أبي يعلى الموصلي (2/ 341 - 342) رقم (1086).

ص: 595

يا رسول الله، قال:"لا! ولكنه خاصف النعل" - وكان قد أعطى عليًا نعله يخصفه -.

ورواه الإمام البيهقي

(1)

، عن الحاكم، عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن أبي معاوية، عن الأعمش به.

ورواه الإمام أحمد

(2)

: عن وكيع وحسين بن محمد، عن فطر بن خليفة، عن إسماعيل بن رجاء به.

ورواه البيهقي أيضًا من حديث أبي نعيم، عن فطر بن خليفة، عن إسماعيل بن رجاء، عن أبيه، عن أبي سعيد به. ورواه فضيل بن مرزوق، عن عطية، عن أبي سعيد. وروى من حديث علي نفسه.

وقد قدّمنا

(3)

هذا الحديث في موضعه في قتال علي أهل البغي والخوارج ولله الحمد، وقدّمنا أيضًا حديث علي للزبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لك: إنك تقاتلني وأنت ظالم. فرجع الزبير وذلك يوم الجمل، ثم قتل بعد مرجعه في وادي السباع. وقدمنا صبره وصرامته وشجاعته في يومي الجمل وصفين، وبسالته وفضله في يوم النهروان، وما ورد في فضل طائفته الذين قتلوا الخوارج من الأحاديث، وذكرنا الحديث الوارد من غير طريق عن علي وأبي سعيد وأبي أيوب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره بقتال المارقين والقاسطين والناكثين، وفسروا الناكثين بأصحاب الجمل والقاسطين بأهل الشام والمارقين بالخوارج، والحديث ضعيف.

‌فصل في ذكر شيء من سيرته [العادلة وطريقته] الفاضلة ومواعظه وقضاياه الفاصلة وخطبه [الكاملة] وحكمه التي هي إلى القلوب واصلة

قال عبد الوارث: عن أبي عمرو بن العلاء، عن أبيه فالا: خطب عليٌّ الناس فقال: أيها الناس! والله الذي لا إله إلا هو ما رزأتُ

(4)

من مالكم [لا] قليلًا ولا كثيرًا إلَّا هذه - وأخرج قارورة من كُمِّ قميصه فيها طيب -. فقال: أهداها إليَّ الدهقان، - وفي رواية بضم الدال - وقالا: ثم أتى بيت المال فقال: خذوا وأنشأ يقول

(5)

: [من الرجز]

أفلحَ منْ كانتْ له قوصرهْ

يأكلُ منها كلَّ يوم تمرهْ

وفي رواية: مرة. وفي رواية طوبى لمن كانت له قوصرة.

(1)

دلائل النبوة (6/ 436) وثمة إشارة إلى الرواية الثانية والتي سترد بعد قليل.

(2)

مسند الإمام أحمد (3/ 33).

(3)

في هذا المقطع خلاف كبير بين أ و ط يكاد يكون في كل لفظ من ألفاظه ولذا آثرنا أن نشير إلى ذلك بهذه الإشارة دون ذكر ذلك الخلاف بالتفصيل لقلة فائدته.

(4)

رزأته وأرزؤه: أخذت منه ونقصت. النهاية (2/ 218).

(5)

البيت في ديوان الإمام علي.

ص: 596

وقال حرملة: عن ابن وهب، عن ابن لهيعة، عن ابن هبيرة، عن عبد الله بن زُرَيْر

(1)

الغافقي قال: دخلنا مع علي يوم الأضحى فقرب إلينا خَزِيرَة

(2)

. فقلنا: أصلحك الله لو قدمت إلينا هذا البط والإوز، فإن الله قد أكثر الخير فقال: يا بن زُرَير إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يحل للخليفة من مال الله إلا قصعتان، قصعة يأكلها هو وأهله، وقصعة يطعمها بين الناس

(3)

".

وقال الإمام أحمد

(4)

: حدَّثنا حسن وأبو سعيد مولى بني هاشم قالا: حدَّثنا ابن لهيعة، حدَّثنا عبد

(5)

الله بن هبيرة، عن عبد الله بن زُرَيْر أنه قال: دخلت على علي بن أبي طالب، قال حسن: يوم الأضحى، فقرب إلينا خزيرة، فقلنا: أصلحك الله لو أطعمتنا هذا البط؟ - يعني الإوز - فإن الله قد أكثر الخير، قال: يا بن زُرَيْر إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يحل للخليفة من مال الله إلا قصعتان، قصعة يأكلها هو وأهله، وقصعة يضعها بين يدي الناس".

وقال أبو عبيد: حدَّثنا عباد بن العوام، عن مروان بن عنترة، عن أبيه قال: دخلت على علي بن أبي طالب بالخورنق وعليه قطيفة وهو يرعد من البرد فقلت: يا أمير المؤمنين إن الله قد جعل لك ولأهل بيتك نصيبًا في هذا المال وأنت ترعد من البرد؟ فقال: إني والله لا أرزأ من مالكم شيئًا، وهذه القطيفة هي التي خرجت بها من بيتي - أو قال من المدينة - وقال أبو نعيم. سمعت سفيان الثوري يقول: ما بنى علي لبنة ولا قصبة على لبنة

(6)

، وإن كان ليؤتى بحبوبة من المدينة في جراب.

وقال يعقوب بن سفيان

(7)

: حدَّثنا أبو بكر الحميدي، حدَّثنا سفيان، حدثنا أبو حسان

(8)

، عن مجمع بن سمعان

(9)

التيمي، قال: خرج علي بن أبي طالب بسيفه إلى السوق فقال: منْ يَشْتري مني سيفي هذا؟ فلو كان عندي أربعة دراهم أشتري بها إزارًا ما بعته.

وقال الزبير بن بكار: حدَّثني سفيان، عن جعفر، قال - أظنه عن أبيه - إن عليًا كان إذا لبس قميصًا مدَّ يده في كمه فما فضل من الكم عن أصابعه قطعه وقال: ليس للكم فضل عن الأصابع.

وقال أبو بكر بن عياش: عن يزيد بن أبي زياد، عن مقسم، عن ابن عباس قال: اشترى علي

(1)

في الأصل والمطبوع: عبد الله بن أبي رزين، وفي المواضع رزين، وهو خطأ، والتصحيح من كتب الرجال.

(2)

الخزيرة: لحم يقطع صغارًا ويصب عليه ماء كثير، فإذا نضج ذر عليه الدقيق. النهاية (2/ 28).

(3)

في أ: قصعة يأكل هو وأهله وقصعة يطعمها للناس.

(4)

مسند الإمام أحمد (1/ 78)، وإسناده ضعيف لضعف ابن لهيعة.

(5)

في أ: عبيد الله، تحريف، وعبد الله بن هبيرة من رجال التهذيب.

(6)

في أ: ما بنى علي لبنة على لبنة ولا قصبة على قصبة.

(7)

في المعرفة والتاريخ (2/ 683).

(8)

في ط: "سفيان أبو حسان" وهو خطأ، وأبو حسان هذا هو أفلت بن خليفة العامري من رجال التهذيب.

(9)

في أ: صرفان، خطأ.

ص: 597

قميصًا بثلاثة دراهم وهو خليفة وقطع كمه من موضع الرسغين، وقال: الحمد لله الذي هذا من رياشه.

وروى الإمام أحمد: في "الزهد" عن عبّاد بن العوَّام، عن هلال بن خَبَّاب

(1)

، عن مولى لأبي غصين

(2)

قال: رأيت عليًا [خرج] فأتى رجلًا من أصحاب الكرابيس فقال له: عندك قميص سنبلاني؟ قال: فأخرج إليه قميصًا فلبسه فإذا هو إلى نصف ساقيه، فنظر عن يمينه وعن شماله فقال: ما أرى إلا قدرًا حسنًا، بكم هذا؟ قال: بأربعة دراهم يا أمير المؤمنين، قال: فحلَّها من إزاره فدفعها إليه ثم انطلق.

وقال محمد بن سعد

(3)

: أنا الفضل بن دكين، أنا الحسن بن جرموز، عن أبيه قال: رأيت عليًا وهو يخرج من القصر وعليه قبطيتان

(4)

إزار إلى نصف الساق ورداء مشمر قريب منه، ومعه درة له يمشي بها في الأسواق ويأمر الناس بتقوى الله وحسن البيع ويقول: أوفوا الكيل والميزان. ويقول: لا تنفخوا اللحم.

وقال عبد الله بن المبارك في "الزهد"

(5)

: أنا رجل، حدَّثني صالح بن ميثم، حدَّثنا زيد

(6)

بن وهب الجهني قال: خرج علينا علي بن أبي طالب ذات يوم وعليه بردان مُتزر بأحدهما مُرْتد بالآخر قد أرخى جانب إزاره ورفع جانبًا، قد رفع إزاره بخرقة، فمر به أعرابي فقال: أيها الإنسان البس من هذه الثياب فإنك ميت أو مقتول. فقال: أيها الأعرابي إنما ألبس هذين الثوبين ليكونا أبعد لي من الزهو، وخيرًا لي في صلاتي، وسنة للمؤمن.

وقال عبد بن حميد

(7)

: حدَّثنا محمد بن عبيد، حدَّثنا المختار بن نافع، عن أبي مطر قال: خرجت من المسجد فإذا رجل ينادي من خلفي: ارفع إزارك فإنه أنقى لثوبك وأتقى لك، وخذ من رأسك إن كنت مسلمًا، (فمشيت) خلفه، وهو [بين يدي متزر] بإزار ومرتدٍ برداء ومعه الدرة كأنه أعرابي بدوي [فمشيت] فقلت: من هذا؟ فقال لي رجل: أراك غريبًا بهذا البلد. فقلت: أجل أنا رجل من أهل البصرة. فقال: هذا علي بن أبي طالب أمير المؤمنين حتى انتهى إلى دار بني أبي معيط وهو يسوق الإبل، فقال: بيعوا ولا تحلفوا فإن اليمين تنفق السلعة وتمحق البركة، ثم أتى أصحاب التمر فإذا خادم تبكي

(8)

فقال: ما يبكيك؟ فقالت: باعني هذا الرجل تمرًا بدرهم فرده موالي فأبى أن يقبله، فقال له

(1)

في ط: "حبان"، محرف وهو من رجال التهذيب.

(2)

في أ: عصفين.

(3)

الطبقات الكبرى (3/ 28) وأول سنده: الحر بن جرموز.

(4)

القبطية: ثياب كتان بيض رقاق تعمل بمصر وهي منسوبة إلى القبط على غير قياس. اللسان (قبط).

(5)

الزهد لابن المبارك ص (261).

(6)

في ط: يزيد، وزيد بن وهب الجهني من رجال التهذيب.

(7)

الخبر في تاريخ دمشق (ص 485. ط. دار الفكر).

(8)

في أ: يبكي.

ص: 598

علي: خذ تمرك وأعطها درهمًا فإنها ليس لها أمر، فدفعه، فقلت: أتدري من هذا؟ فقال: لا، فقلت: هذا علي بن أبي طالب أمير المؤمنين، فصبت تمره وأعطاها درهمها

(1)

. ثم قال الرجل: أحب أن ترضى عني يا أمير المؤمنين، قال: ما أرضاني عنك إذا أوفيت الناس حقوقهم، ثم مرَّ مجتازًا بأصحاب التمر فقال: يا أصحاب التمر أطعموا المساكين يرب

(2)

كسبكم. ثم مرَّ مجتازًا ومعه المسلمون حتى انتهى إلى أصحاب السمك فقال: لا يباع في سوقنا طافي. ثم أتى دار فرات - وهي سوق الكرابيس - فأتى شيخًا فقال: يا شيخ أحسن بيعي في قميص بثلاثة دراهم، فلما عرفه لم يشتر منه شيئًا، ثم آخر فلما عرفه لم يشتر منه شيئًا، فأتى غلامًا حَدَثًا فاشترى منه قميصًا بثلاثة دراهم ولبسه

(3)

ما بين الرسغين إلى الكعبين. يقول في لبسه: الحمد لله الذي رزقني من الرياش ما أتجمل به في

(4)

الناس، وأواري به عورتي. ففيل له: يا أمير المؤمنين هذا شيء ترويه عن نفسك أو شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: لا! بل شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله عند الكسوة. فجاء أبو الغلام صاحب الثوب فقيل له: يا فلان قد باع ابنك اليوم من أمير المؤمنين قميصًا بثلاثة دراهم، قال: أفلا أخذت منه درهمين؟ فأخذ منه أبوه درهمًا ثم جاء به إلى أمير المؤمنين وهو جالس مع المسلمين على باب الرحبة فقال: أمسك هذا الدرهم. فقال: ما شأن هذا الدرهم؟ فقال إنما ثمن القميص درهمين، فقال: باعني رضاي وأخذ رضاه.

وقال عمرو بن شمر

(5)

، عن جابر الجعفي، عن الشعبي قال: وجد علي بن أبي طالب درعه عند رجل نصراني فأقبل به إلى شريح يخاصمه، قال: فجاء علي حتى جلس جنب شريح وقال: يا شريح لو كان خصمي مسلمًا ما جلست إلَّا معه، ولكنه نصراني وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إذا كنتم وإياهم في طريق فاضطروهم إلى مضايقه، وصغِّروا بهم كما صغَّر الله بهم من غير أن تطغوا" ثم قال عليّ: هذا الدرع درعي ولم أبع ولم أهب، فقال شريح للنصراني: ما تقول فيما يقول أمير المؤمنين؟ فقال النصراني: ما الدرع إلا درعي وما أمير المؤمنين عندي بكاذب، فالتفت شريح إلى علي فقال: يا أمير المؤمنين هل من بيِّنة؟ فضحك علي وقال أصاب شريح، ما لي بينة، فقضى بها شريح للنصراني، قال فأخذه النصراني ومشى خطًا ثم رجع فقال: أما أنا فأشهد أن هذه أحكام الأنبياء، أمير المؤمنين يدنيني إلى قاضيه [وقاضيه] يقضي عليه، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، الدرع والله درعك يا أمير المؤمنين، اتبعت الجيش وأنت منطلق إلى صفين فخرجت من بعيرك الأورق. فقال: أما

(1)

في ط: "درهمًا"، وما هنا من أ، وهو الموافق لما في تاريخ دمشق.

(2)

في أ: يربو.

(3)

في ط: "وكمه"، وما هنا من أ، وهو الموافق لما في تاريخ دمشق.

(4)

في ط: "بين الناس" وما هنا من أ، وهو الموافق لما في تاريخ دمشق.

(5)

الخبر في تاريخ دمشق (ص 487. ط. دار الفكر).

ص: 599

إذا أسلمتَ فهي لك، وحمله على فرس. قال الشعبي: فأخبرني من رآه يقاتل الخوارج [مع علي] يوم النهروان.

وقال سعيد بن عبيد، عن علي بن ربيعة: جاء جعدة بن هبيرة إلى علي فقال: يا أمير المؤمنين يأتيك الرجلان أنت أحب إلى أحدهما من أهله وماله، والآخر لو يستطيع أن يذبحك لذبحك، فتقضي لهذا على هذا؟ قال: فلهزه علي وقال: إن هذا شيء لو كان لي فعلت، ولكن إنما ذا شيء لله.

وقال أبو القاسم البغوي: حدَّثني جدي، حدَّثنا علي بن هاشم، عن صالح بياع الأكسية

(1)

عن جدته قالت: رأيت عليًا اشترى تمرًا بدرهم فحمله في ملحفته فقال رجل: يا أمير المؤمنين ألا نحمله

(2)

عنك؟ فقال: أبو العيال أحق بحمله.

وعن أبي هاشم. عن زاذان قال: كان علي يمشي في الأسواق وحده وهو خليفة، يرشد الضال، ويعين الضعيف، ويمر بالبياع والبقال فيفتح عليه القرآن ويقرأ:{تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا} [القصص: 83]، ثم يقول: نزلت هذه الآية في أهل العدل والتواضع من الولاة وأهل القدرة [من أهل الأموال] من سائر الناس.

وعن عبادة بن زياد، عن صالح بن أبي الأسود، عمن حدَّثه: أنه رأى عليًا قد ركب حمارًا ودلّى رجليه إلى موضع واحد [وناحية واحدة] ثم قال: أنا الذي أهنت الدنيا.

وقال يحيى بن معين: عن علي بن الجَعْد، عن الحسن بن صالح قال: تذاكروا الزهّاد عند عمر بن عبد العزيز فقال قائلون: فلان، وقال قائلون: فلان، فقال عمر بن عبد العزيز: أزهد الناس في الدنيا علي بن أبي طالب.

وقال هشام بن حسان: بينا

(3)

نحن عند الحسن البصري إذ أقبل رجل من الأزارقة فقال: يا أبا سعيد ما تقول في علي بن أبي طالب؟ قال: فاحمرت وجنتا الحسن وقال: رحم الله عليًا، إن عليًا كان سهمًا لله صائبًا في أعدائه، وكان في محلة العلم أشرفها وأقربها إلى

(4)

رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رهباني هذه الأمة، لم يكن لمال الله بالسروقة، ولا في أمر الله بالنومة، أعطى القرآن عزائمه وعمله وعلمه، فكان منه في رياض مونقة، وأعلام بينة، ذاك علي بن أبي طالب يالكع.

وقال هشيم: عن يسار

(5)

، عن عمار. قال: حدَّث رجل علي بن أبي طالب بحديث فكذبه فما قام حتى عمي.

(1)

في أ: الأكيسة.

(2)

في أ: ألا أحمله عنك.

(3)

في أ: بينما.

(4)

في أ: من رسول الله.

(5)

في أ: سيار؛ تحريف.

ص: 600

وقال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدَّثني شريح بن يونس، حدَّثنا هشيم، عن إسماعيل بن

(1)

سالم، عن عمار الحضرمي، عن زاذان أبي عمر أن رجلًا حدّث عليًا بحديث فقال [له علي]: ما أراك إلا قد كذبتني، قال: لم أفعل قال: أدعو عليك إن كنت كذبت، قال: ادع! فدعا، فما برح حتى عمي.

وقال ابن أبي الدنيا: حدَّثنا خلف بن سالم، حدَّثنا محمد بن بشر، عن أبي مكين قال: مررت أنا وخالي أبو أمية على دار في محل حي من مراد، قال: ترى هذه الدار؟ قلت: نعم! قال: فإن عليًا مرّ عليها وهم يبنونها فسقطت عليه قطعة فشجته فدعا الله أن لا يكمل بناؤها، قال: فما وضعت [فيها بعد ذلك، لبنة] قال: فكنت فيمن يمر عليها لا تشبه الدور. وقال ابن أبي الدنيا: حدَّثني عبد الله بن يونس بن بكير الشيباني، عن أبيه، عن عبد الغفار بن القاسم الأنصاري، عن أبي بشير الشيباني. قال: شهدت الجمل مع مولاي فما رأيت يومًا قط أكثر ساعدًا نادرًا

(2)

، وقدمًا نادرة من يومئذ، ولا مررت بدار الوليد قط إلا ذكرت يوم الجمل قال: فحدَّثني الحكم بن عتيبة أن عليًا دعا يوم الجمل فقال: اللهم خذ أيديهم وأقدامهم.

‌ومن كلامه الحسنِ رضي الله عنه

(3)

قال ابن أبي الدنيا: حدَّثنا علي بن الجعد، أنا عمرو بن شمر، حدَّثني إسماعيل السدّي سمعت أبا أراكة يقول: صليت مع علي صلاة الفجر فلما انفتل عن يمينه مكث كان عليه كآبة حتى إذا كانت الشمس على حائط المسجد قيد رمح صلى ركعتين ثم قلب يده فقال: والله لقد رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فما أرى اليوم شيئًا يشبههم، لقد كانوا يصبحون صفرًا شعثًا غبرًا بين أعينهم كأمثال رُكبِ المِعْزى، قد باتوا لله سجدًا وقيامًا يتلون كتاب الله يتراوحون بين جباههم وأقدامهم، فإذا أصبحوا فذكروا مادوا كما يميد

(4)

الشجر في يوم الريح، وهملت أعينهم حتى تبلّ ثيابهم، والله لكان القوم باتوا غافلين. ثم نهض فما رؤي بعد ذلك مفترًّا يضحك حتى قتله ابن ملجَم عدو الله الفاسق.

وقال وكيع: عن عمرو بن منبه، عن أوفى بن دلهم، عن علي بن أبي طالب أنه قال: تَعلَّموا العلم تُعْرفوا به، واعملوا تكونوا من أهله، فإنَّه يأتي من بعدكم زمان ينكر فيه من الحق تسعة أعشاره، وإنه لا ينجو منه إلا كل أواب منيب، أولئك أئمة الهدى ومصابيح العلم ليسوا بالعجل المَذاييعِ

(5)

البُذْرِ

(6)

.

(1)

في أ: عن، تحريف وإسماعيل بن سالم من رجال التهذيب.

(2)

نَدَر الشيء: سقط. اللسان (ندر).

(3)

ليس هذا العنوان في أ ومكانه بياض في المصورة.

(4)

في أ: كما يميل الشجر في يوم ريح، ومهلت أعينهم حتى تبل.

(5)

المذاييع: جمع مذياع من أذاع الشيء إذا أفشاه. وقيل: أراد الذين يشيعون الفواحش وهو بناء مبالغة. اللسان (ذيع).

(6)

البُذْرُ: جمع بذور يقال: بذرت الكلام بين الناس كما تبذر الحبوب، اي: أفشيته وفرقته. النهاية (1/ 110).

ص: 601

ثم قال: ألا وإنّ الدنيا قد ارتحلت مدبرة وإن الآخرة قد أتت

(1)

مقبلة، ولكل واحدة بنون فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، ألا وإن الزاهدين في الدنيا اتخذوا الأرض بساطًا، والتراب فراشًا، والماء طيبًا، ألا من اشتاق إلى الآخرة سلا عن الشهوات، ومن أشفق من النار رجع عن المحرمات، ومن طلب الجنة سارع إلى الطاعات، ومن زهد في الدنيا هانت عليه المصيبات

(2)

، ألا وإن لله عبادًا كم رأى أهل الجنة في الجنة مخلدين

(3)

، وأهل النار في النّار معذَّبين، شرورهم مأمونة، وقلوبهم محزونة، وأنفسهم عفيفة، وحوائجهم خفيفة، صبروا أيامًا قليلة لعقبى راحة طويلة، أما الليل فصافُّون أقدامهم، تجري دموعهم على خدودهم، يجأرون إلى الله في فكاك رقابهم

(4)

. وأما النهار فظماء حكماء بررة أتقياء، كأنَّهم القداح ينظر إليهم الناظر فيقول مرضى وما بالقوم من مرض، وخولطوا ولقد خالط القوم أمر عظيم.

وعن الأصبغ بن نباتة قال: صعد علي ذات يوم المنبر فحمد الله وأثنى عليه وذكر الموت فقال: عبد الله الموت ليس منه فوت، إن أقمتم له أخذكم، وإن فررتم منه أدرككم، فالنجا النجا، والوحا الوحا

(5)

، إن وراءكم طالب حثيث، القبر، فاحذروا ضغطته وظلمته ووحشته

(6)

، ألا وإن القبر حفرة من حفر النار أو روضة من رياض الجنة، ألا وإنه يتكلم في كل يوم ثلاث مرات فيقول: أنا بيت الظلمة، أنا بيت الدود، أنا بيت الوحشة، ألا وإن وراء ذلك يوم يشيب فيه الصغير ويسكر فيه الكبير، {وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج: 2] ألا وإن وراء ذلك ما هو أشد منه، نار حرها شديد، وقعرها بعيد، وحليها ومقامعها حديد، وماؤها صديد، وخازنها مالك ليس لله فيها رحمة. قال: ثم بكى وبكى المسلمون حوله، ثم قال: ألا وإن وراء ذلك جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين، جعلنا الله وإياكم من المتقين، وأجارنا وإياكم من العذاب الأليم.

ورواه ليث بن أبي سليم: عن مجاهد، حدَّثني منْ سمع عليًا فذكر نحوه.

وقال وكيع: عن عمر بن منبه، عن أوفى بن دلهم، قال: خطب علي فقال: أما بعد فإن الدنيا قد أدبرت وآذنت بوداع، وإن الآخرة قد أقبلت وأشرفت باطلاع، وإن المضمار اليوم وغدًا السباق، ألا وإنكم في أيام [أمل] من ورائه أجل، فمن قصر في أيام أمله قبل حضور أجله فقد خاب عمله

(7)

، ألا

(1)

في أ: أقبلت.

(2)

في ط: المصائب، وما أثبتناه يوافق السجعة.

(3)

في أ: عبادًا لم رأى أهل الجنة في الجنة خالدين منعمين.

(4)

في أ: فكاك رقابهم ربنا ربنا يطلبون منه.

(5)

الوحا الوحا: أي: السرعة السرعة ويمد ويقصر، وهو منصوب على الإغراء بفعل مضمر. النهاية (5/ 163).

(6)

في ط: "ضغطته ووحشته"، وما هنا من أ، وهو الصواب.

(7)

في أ: عمله فأجله.

ص: 602

فاعملوا لله في الرغبة كما تعملون له في الرهبة، ألا وإنه لم أر كالجنة نام طالبها، ولم أر كالنار نام هاربها، وإنه من لم ينفعه الحق ضره الباطل، ومن لم يستقم به الهدى حاد به الضلال، ألا وإنكم قد أمرتم بالظعن، ودُللتم على الزاد، ألا أيها الناس إنما الدنيا عرض حاضر يأكل منها البر والفاجر، وإن الآخرة وعد صادق، يحكم فيها ملك قادر، ألا إن الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم الفحشاء، والله يعدكم مغفرة منه وفضلًا والله واسع عليم. أيها الناس: أحسنوا في أعماركم تحفظوا في أعقابكم، فإن الله قد وعد جنته من أطاعه، وأوعد ناره منْ عصاه. إنها نار لا يهدأ زفيرها، ولا يفكّ أسيرها، ولا يجبر كسيرها

(1)

، حرها شديد، وقعرها بعيد، وماؤها صديد، وإن أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى وطول الأمل. وفي رواية: فإن اتباع الهوى يصد عن الحق، وإن طول الأمل يُنسي الآخرة.

وعن عاصم بن ضمرة قال: ذم رجل الدنيا عند علي فقال علي: الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار نجاة لمن فهم عنها، ودار غناء وزاد لمن تزود منها، ومهبط وحي الله، ومصلى ملائكته، ومسجد أنبيائه، ومتجر أوليائه، ربحوا فيها الرحمة، واكتسبوا فيها الجنة، فمن ذا يذمها وقد آذنت بفنائها

(2)

ونادت بفراقها، وشابت بشرورها السرور، وببلائها الرغبة فيها والحرص عليها ترغيبًا وترهيبًا، فيا أيها الذام للدنيا المعلل نفسه بالأمالي

(3)

متى خدعتك الدنيا أو متى استدمت إليك؟ أبمصارع آبائك في البلا؟ أم بمضاجع أمهاتك تحت الثرى؟ كم مرضت بيديك، وعللت بكفيك، ممن تطلب له الشفاء، وتستوصف له الأطباء، لا يغني عنه دواؤك، ولا ينفعه بكاؤك.

وقال سفيان الثوري والأعمش: عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري، قال: جاء رجل إلى علي فأطراه - وكان يبغض عليًا - فقال له

(4)

: لست كما تقول، وأنا فوق ما في نفسك.

وروى ابن عساكر

(5)

أن رجلًا قال لعلي: ثبتك الله قال: على صدرك.

وقال ابن أبي الدنيا: حدَّثنا إسحاق بن إسماعيل، حدَّثنا سفيان بن عيينة، عن أبي حمزة، عن يحيى بن عقيل، عن يحيى بن يعمر قال قال علي: إن الأمر ينزل إلى

(6)

السماء كقطر المطر لكل نفس ما كتب الله لها من زيادة أو نفصان في نفس أو أهل أو مال، فمن رأى نقصًا في نفسه أو أهله أو ماله، ورأى لغيره عشرة فلا يكونن ذلك له فتنتة

(7)

، فإن المسلم ما لم يعش دُناه يظهر تخشعًا لها إذا ذكرت،

(1)

في أ: ولا يحتار سعيرها.

(2)

في ط: بغيلها.

(3)

في أ: بأماني.

(4)

في أ: فقال له علي.

(5)

تاريخ دمشق (ص 519. ط. دار الفكر).

(6)

في أ: من.

(7)

في أ: ورأى بغيره عثرة أو ثروة فلا يكونن ذلك فتنة له.

ص: 603

ويغرى به لئام الناس، كالبائس العالم ينتظر

(1)

أول فورة من قداحه توجب له المغنم، وتدفع عنه المغرم فكذلك المسلم البريء من الخيانة بين إحدى الحسنيين، إذا ما دعا الله، فما عند الله خير له، وإما أن يرزقه الله مالًا فإذا هو ذو أهل ومال معه حسبه ودينه، وإما أن يعطيه

(2)

الله في الآخرة فالآخرة خير وأبقى، الحرث حرثان فحرث الدنيا المال والتقوى

(3)

، وحرث الآخرة الباقيات الصالحات، وقد يجمعهما الله تعالى لأقوام.

قال سفيان الثوري: ومن يحسن أن يتكلم بهذا الكلام إلا علي رضي الله عنه؟

وقال: عن زبيد

(4)

اليامي، عن مهاجر العامري

(5)

، قال: كتب علي بن أبي طالب عهدًا لبعض أصحابه على بلد فيه: أما بعد فلا يطولن حجابك على رعيتك، فإن احتجاب الولاة عن الرعية شعبة الضيق، وقلة علم بالأمور، والاحتجاب يقطع عنهم

(6)

علم ما احتجبوا دونه، فيضعف عندهم الكبير، ويعظم الصغير، ويقبح الحسن، ويحسن القبيح، ويشاب الحق بالباطل، وإنما الوالي بشر لا يعرف ما يواري عنه الناس به من الأمور، وليس على القوم سمات

(7)

يعرف بها ضروب الصدق من الكذب، فتحصن من الإدخال في الحقوق بلين الحجاب، فإنما أنت أحد الرجلين، إما امرؤ شحت نفسك بالبذل في الحق ففيم احتجابك من حق واجب عليك أن تعطيه؟ أو خلق كريم تسد

(8)

به؟ وإما مبتلى بالمنع والشح فما أسرع زوال نعمتك

(9)

، وما أسرع كف الناس عن مسألتك إذا يئسوا من ذلك، مع أن أكثر حاجات

(10)

الناس إليك ما لا مؤنة فيه عليه من شكاية مظلمة أو طلب إنصاف، فانتفع بما وصفت لك واقتصر على حظك ورشدك إن شاء الله.

وقال المدائني: كتب علي إلى بعض عماله: رويدًا فكان قد بلغت المدى، وعرضت عليك أعمالك بالمحل الذي ينادي المغتر بالحسرة، ويتمنى المضيع التوبة، والظالم الرجعة.

وقال هشيم: أنا عمر بن أبي زائدة، عن الشعبي قال: كان أبو بكر يقول الشعر، وكان عمر يقول الشعر، وكان علي يقول الشعر، كان علي أشهر الثلاثة.

(1)

في أ: ذا البائس ينظر أول.

(2)

في أ: يعصمه.

(3)

في أ: فإن الحرث

المال والعافية.

(4)

في أ: يزيد؛ تحريف، وزبيد اليامي من رجال التهذيب.

(5)

في أ: العمري.

(6)

في أ: عن الولاة.

(7)

في أ: سمات.

(8)

في أ: تسدد.

(9)

في أ: دولتك.

(10)

في أ: من خيرك ومع ذلك في أكثر حاجات.

ص: 604

ورواه هشام بن عمار، عن إبراهيم بن أعين، عن عمر بن أبي زائدة، عن عبد الله بن أبي السفر، عن الشعبي فذكره.

وقال أبو بكر بن دريد: قال: وأخبرنا عن دماد، عن أبي عبيدة، قال: كتب معاوية إلى علي: يا أبا الحسن إن لي فضائل كثيرة، وكان أبي سيدًا في الجاهلية، وصرت ملكًا في الإسلام، وأنا صهر

(1)

رسول الله، وخال المؤمنين، وكاتب الوحي. فقال علي: يا أبا الفضائل يفخرُ عليَّ ابن آكلة الأكباد؟

ثم قال: اكتب يا غلام

(2)

. [من الوافر]

محمدٌ النبيُّ أخي وصهري

وحمزةُ سيدُ الشُّهداءِ عَمِّي

وجعفرٌ الذي يُمْسي ويُضْحي

(3)

يَطيرُ مع المَلائكةِ ابنُ أمِّي

وبنتُ مُحمَّدِ سَكَني وعِرْسي

مَسُوطٌ

(4)

لحمُها بدمي ولَحْمي

وسبطا أحمدِ ولداي منها

فأيّكم

(5)

لهُ سهمٌ كسهمي

سَبَقْتُكُمُ إلى الإسلامِ طُرًّا

صغيرًا ما بلغتُ أوانَ حلمي

(6)

قال: فقال معاوية: أخفوا هذا الكتاب لا يقرؤه أهل الشام فيميلون إلى ابن أبي طالب. وهذا منقطع بين أبي عبيدة وزمان علي ومعاوية.

وقال الزبير بن بكار وغيره: حدَّثني بكر بن حارثة، عن الزُّهري، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن جابر بن عبد الله قال: سمعت عليًا ينشد ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع

(7)

: [من البسيط]

أنا أخو المصطفى لا شكَّ في نَسَبي

معهُ ربيتُ وسبطاهُ هما ولدي

جدَّي وجدُّ رسولِ اللهِ منفردٌ

(8)

وفاطمٌ زوجتي لا قولَ ذي فندِ

صدقتُه وجميعُ الناسِ في بُهُمٍ

(9)

من الضلالةِ والإشراكِ والنكدِ

فالحمدُ للهِ شكرًا لا شريك لهُ

البرُّ بالعبدِ والباقي بلا أمدِ

قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "صدقت يا علي".

(1)

في أ: وصرت أنا ملكًا في الإسلام صهر، وما هنا يعضده ما في تاريخ دمشق (ص 521. ط. دار الفكر).

(2)

الأبيات في ديوان الإمام علي (188)، وتاريخ دمشق.

(3)

في الديوان: يضحي ويمسي.

(4)

مسوط: أي ممزوج ومخلوط. النهاية (2/ 421) وفي الديوان مشوب.

(5)

في الديوان: فمن منكم.

(6)

في الديوان بعد هذا البيت خمسة أبيات.

(7)

الأبيات في الديوان - طبعة دار الكتب العلمية - (59) - وطبعة إيران - (81)، وتاريخ دمشق.

(8)

في الديوان: متحد.

(9)

في أ: في ظلم.

ص: 605

وهذا بهذا الإسناد منكر والشعر فيه ركاكة. وبكر هذا لا يُقبل منه تفردُّه بهذا السند والمتن والله أعلم.

وروى الحافظ ابن عساكر

(1)

، من طريق أبي زكريا الرملي: حدَّثنا يزيد بن هارون، عن نوح بن قيس، عن سلامة الكندي، عن الأصبغ بن نباتة، عن علي أنه جاءه رجل فقال: يا أمير المؤمنين إن لي إليك حاجة فرفعتها إلى الله قبل أن أرفعها إليك، فإن أنت قضيتها حمدت الله وشكرتك، وإن أنت لم تقضها حمدت الله وعذرتك. فقال علي: اكتب حاجتك على الأرض فإني أكره أن أرى ذل السؤال في وجهك، فكتب: إني محتاج، فقال عليٌّ: عليَّ بحلَّة، فأُتي بها فأخذها الرجل فلبسها، ثم أنشأ يقول:[من البسيط]

كَسَوْتني حلةً تَبْلى مَحاسِنُها

فسوفَ أكسوكَ من حسْن الثَّنا حُلَلا

إنْ نلتَ حسنَ ثنائي نلتَ مكرمةً

ولستُ أبغي بما قدْ قلتهُ بدلا

إنَّ الثناء ليحيي ذكرَ صاحبهِ

كالغيثِ يحيي نداهُ السهلَ والجبلا

لا تزهدِ الدهرَ في خيبر تواقعُهُ

فكلُّ عبدٍ سيجزى بالذي عملا

فقال علي: عليَّ بالدنانير فأتي بمئة دينار فدفعها إليه، قال الأصبغ: فقلت يا أمير المؤمنين حلة ومئة دينار؟ قال: نعم! سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أنزلوا الناس منازلهم" وهذه منزلة هذا الرجل عندي.

وروى الخطيب البغدادي من طريق أبي جعفر أحمد بن إسحاق بن إبراهيم بن نبيط بن شريط، عن أبيه، عن جده قال: قال علي بن أبي طالب

(2)

: [من الوافر]

إذا اشتملتْ على الناسِ القلوبُ

وضافَ بما

(3)

به الصدرُ الرحيبُ

وأوطنتِ المكارهُ واطمأنتْ

وأرستْ في أماكنها الخطوبُ

ولم ترَ لانكشافِ الضرِ وجهًا

ولا أغنى بحيلتهِ الأريبُ

أتاكَ على قُنوطٍ منكَ غوثٌ

يمنُّ

(4)

به القريبُ المستجيبُ

وكلُّ الحادثاتِ إذا تناهت

فموصولٌ بها الفرجُ القريبُ

ومما أنشده أبو بكر محمد بن يحيى الصولي لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب [قوله]

(5)

: [من الوافر]

ألا فاصبرْ على الحدثِ الجليلِ

وداوِ جواكَ بالصبرِ الجميلِ

(1)

تاريخ دمشق (ص 523. ط. دار الفكر).

(2)

الأبيات في ديوان علي (15 - 16) ط دار الكتب، و (ص 46) ط إيران. وهي أيضًا في تاريخ دمشق - ترجمة علي - (3/ 302).

(3)

في الديوان: لما به.

(4)

في أ: فضل

يمن به اللطيف.

(5)

الأبيات في ديوان الإمام علي - ط دار الكتب العلمية - (150 - 151).

ص: 606

ولا تجزعْ وإن

(1)

أعسرتَ يومًا

فقدْ أيسرتَ في الزمن

(2)

الطويلِ

ولا تظنن بربكَ ظنَّ سوءً

(3)

فإنَّ الله أولى بالجميلِ

فإنّ

(4)

العسر يتبعُه يسارٌ

وقولُ اللهِ أصدقُ كل قيلِ

فلو أنَّ العقول تجر رزقًا

لكانَ الرزقُ عند ذوي العقولِ

فكمْ من مؤمنٍ قد جاعَ يومًا

سَيُروى

(5)

من رحيقِ السلسبيل

من هوان الدنيا على الله أنه سبحانه يجيع المؤمن مع نفاسته، ويشبع الكلب مع خساسته، والكافر يأكل ويشرب، ويلبس ويتمتع، والمؤمن يجوع ويعرى، وذلك لحكمة اقتضتها حكمة أحكم الحاكمين.

ومما أنشده علي بن جعفر الورَّاق لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب

(6)

: [من الكامل]

أجدُ الثيابَ إذا اكتسيتُ فإنها

زينُ الرجالِ بها تُعزُّ وتكرمُ

وِدعِ التواضعَ في الثيابِ تخشعًا

فالله يعلمُ ما تجنُّ وتكتم

فرَثاثُ ثوبكَ لا يزيدك زلفةً

عندَ الإلهِ وأنتَ عبدٌ مجرمُ

وبهاءُ ثوبكَ لا يضركَ بعد أنْ

تخشى الإلَه وتتقي ما يحرمُ

وهذا كما جاء في الحديث: "إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى ثيابكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم"

(7)

وقال الثوري: ليس الزهد في الدنيا بلبس العبا ولا بأكل الخشن، إنما الزهد في الدنيا فصر الأمل.

وقال أبو العباس محمد بن يزيد بن عبد الأكبر المبرد: كان مكتوبًا على سيف علي

(8)

رضي الله عنه: [من البسيط]

للناسِ حرصٌ على الدنيا وتدبيرُ

وفي مرادِ الهوى عقلٌ وتشميرُ

وإنْ أتوا طاعةً للهِ ربهمُ

فالعقلُ منهمْ عنِ الطاعاتِ ماسورُ

لأجلِ هذا وذاك الحرصِ قد مزجت

صفاءُ عيشاتها همٌ وتكديرُ

(1)

في ط: فإن عن أ ويوافق ما في ديوانه.

(2)

في ط: في الدهر؛ وما هنا عن أ ويوافق ما في الديوان.

(3)

في الديوان: غير خير.

(4)

في الديوان: وإن.

(5)

في أ: جاع دهرًا سيسقى ..

(6)

الأبيات في ديوانه - ط دار الكتب العلمية - (189).

(7)

الحديث يرويه أبو هريرة وأخرجه أحمد في مسنده (2/ 539) ومسلم في صحيحه (2534)(34) في البر والصلة. وغيرهما.

(8)

الأبيات في تاريخ دمشق - ترجمة علي - (3/ 303).

ص: 607

لم يرزقوها بعقل عندَ ما قسمت

لكنهم رزقوها بالمقادير

(1)

كمْ من أديبِ لبيبٍ لا تساعدُهُ

ومائقٍ نالَ دنياهُ بتقصيرِ

لو كانَ عن قوةٍ أو عنْ مغالبةٍ

طارَ البزاةُ بأرزاقِ العصافيرِ

وقال الأصمعي: حدثنا سلمة بن بلال، عن مجالد، عن الشعبي، قال: قال علي بن أبي طالب لرجل كره له صحبة رجل

(2)

: [من الهزج]

فلا تصحبْ أخا الجهلِ

وإياكَ وإياهُ

فكم من جاهلٍ أردى

حليمًا حينَ آخاهُ

يُقاسُ المرءُ بالمرءِ

إذا ما المرءُ ما شاهُ

وللشيءِ على الشيء

مقاييسٌ وأشباهُ

وللقلب على القلبِ

دليلٌ حين يلقاهُ

وعن أبي عمرو بن العلاء، عن أبيه قال: وقف علي على قبر فاطمة فأنشأ يقول

(3)

: [من الطويل]

ذَكرتُ أبا أرْوى فبتُّ كأنَّني

بردِّ الهُمومِ الماضياتِ وكيلٌ

(4)

لكُلِّ اجتماعٍ من خليلينِ فرقةٌ

وكلُّ الذي قبلَ المماتِ قليلُ

وإن افتقادي واحدًا بعد واحدٍ

(5)

دليل على أنْ لا يدومُ خليلُ

سَيُعرضُ عن ذكري وتُنسى مَوَدَّتي

ويحدث

(6)

بعدي للخليل خليلٌ

(7)

إذا انقطعتْ يومًا من العيشِ مدتي

فإنَّ غناء

(8)

الباكياتِ قليلُ

وأنشد بعضهم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنا

(9)

: [من الوافر]

حقيقٌ بالتواضعِ من يموتُ

ويكفي المرءَ منْ دنياهُ قوتُ

فما للمرءِ يصبحُ ذا همومٍ

وحرصٍ ليسَ تدركهُ النعوت

(1)

في أ: لكن ما رزقوا قسم وتقدير.

(2)

الأبيات في ديوانه - ط دار الكتب العلمية - (205).

(3)

الأبيات في ديوانه (149 - 150) وفي ط إيران (129 - 130).

(4)

البيتان الأول والثانن لم يردا في طبعة إيران.

(5)

في الديوان - ط إيران -: وإن افتقادي فاطمًا بعد أحمد.

(6)

في الديوان - ط إيران -: وبظهر.

(7)

جاء هذا البيت في الديوان بعد الذي يليه.

(8)

في الديوان - ط إيران -: بكاء.

(9)

الأبيات في ديوانه - ط دار الكتب العلمية - (51).

ص: 608

صنيعُ مليكنا حسنٌ جميلٌ

وما أرزاقهُ

(1)

عنا تفوتُ

فيا هذا سترحلُ عن قريب

(2)

إلى قومٍ كلامُهُمُ السكوتُ

وهذا الفصل يطول استقصاؤه وقد ذكرنا منه ما فيه مقنع لمن أراده ولله الحمد والمنة.

وقال حماد بن سلمة: عن أيوب السختياني أنه قال: من أحبَّ أبا بكر فقد أقام الدين، ومن أحبَّ عمر فقد أوضح السبيل، ومن أحب عثمان فقد استنار بنور الله، ومن أحب عليًا فقد استمسك بالعروة الوثقى، ومن قال الحسنى في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد برئ من النفاق.

‌غريبة من الغرائب وآبدة

(3)

من الأوابد

قال ابن أبي خيثمة: حدَّثنا أحمد بن منصور بن يسار، حدَّثنا عبد الرزاق قال: قال معمر مرة وأنا مستقبله وتبسم وليس معنا أحد فقلت له: ما شأنك؟ قال: عجبت من أهل الكوفة، كأن الكوفة إنما بنيت على حُبِّ علي، ما كلَّمت أحدًا منهم إلا وجدت المُقْتَصِد منهم الذي يفضل عليًا على أبي بكر وعمر، منهم سفيان الثوري، قال: فقلت لمعمر ورأيته؟ - كأني أعظمت ذاك - فقال معمر: وما ذاك؟ لو أن رجلًا قال علي أفضل عندي منهما ما عبته

(4)

، إذا ذكر فضلهما، ولو أن رجلًا قال: عمر عندي أفضل من علي وأبي بكر ما عنفته. قال عبد الرزاق: فذكرت ذلك لوكيع بن الجراح ونحن خاليان

(5)

فاستهالها من سفيان وضحك وقال: لم يكن سفيان يبلغ بنا هذا الحد، ولكنه أفضى إلى معمر بما لم يفض إلينا، وكنت أقول لسفيان: يا أبا عبد الله أرأيت إن فضلنا عليًا على أبي بكر وعمر ما تقول في ذلك؟ فسكت

(6)

ساعةً ثم قال: أخشى أن يكون ذلك طعنًا على أبي بكر وعمر ولكننا نقف. قال عبد الرزاق: وأما ابن التيمي - يعني معتمرًا - فقال: سمعت أبي يقول: فَضَلَ عليُّ بن أبي طالب [أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم] بمئة منقبة وشاركهم في مناقبهم، وعثمان أحبُّ إليَّ منه.

هكذا رواه ابن عساكر في "تاريخه"

(7)

بسنده عن ابن أبي خيثمة به. وهذا الكلام فيه تخبيط كثير ولعله اشتبه على معمر فإن المشهور عن بعض الكوفيين تقديم عليّ على عثمان، فأمّا على الشيخين فلا، ولا يخفى فضل الشيخين على سائر الصحابة إلَّا على غبيّ، فكيف يخفى على هؤلاء الأئمة؟ بل قد قال

(1)

في الديوان: أرزاقنا.

(2)

في ط: قليل؛ وما هنا عن أوهو يوافق ما في الديوان.

(3)

الآبدة: الباقية على الأبد. اللسان (أبد).

(4)

في أ: ما عنفته إذا ذكر فظلهما إذ قال عندي ..

(5)

في ط: خاليين؛ وهو مخالف للسياق النحوي.

(6)

في ط: فيسكت ثم يقول.

(7)

تاريخ دمشق - ترجمة علي - (3/ 312).

ص: 609

غير واحد من علماء (الأمصار) - كأيوب والدارقطني [وغير واحد]- من قدَّم عليًا على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار. وهذا الكلام حق وصدق وصحيح ومليح.

وقال يعقوب بن سفيان: حدَّثنا عبد العزيز بن عبد الله الأويسي

(1)

، حدَّثنا إبراهيم بن سعيد

(2)

، عن شعبة، عن أبي عون - محمد بن عبد الله الثقفي - عن أبي صالح الحنفي قال: رأيت عليَّ بن أبي طالب أخذ المصحف فوضعه على رأسه حتى إني لأرى ورقه يتقعقع ثم قال: اللهم إنهم منعوني أن أقوم في الأمة بما فيه فأعطني ثواب ما فيه، ثم قال: اللهم إني قد مللتهم وملوني وأبغضتهم وأبغضوني، وحملوني على غير طبيعتي

(3)

وخلقي، وأخلاق لم تكن تعرف لي، اللهم فأبدلني بهم خيرًا منهم، وأبدلهم بي شرًا مني، اللهم أمت قلوبهم موت الملح في الماء. قال إبراهيم: - يعني أهل الكوفة -.

وقال ابن أبي الدنيا: حدَّثني عبد الرحمن بن صالح، حدَّثنا عمرو بن هشام الخبي أبو الحُباب، عن أبي عود

(4)

الثقفي، عن أبي عبد الرحمن السلمي. قال: قال لي الحسن بن علي قال لي علي: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سنح لي الليلة في منامي فقلت: يا رسول الله ما لقيت من أمتك من الأود واللدد؟ قال: أدع عليهم فقلت: اللهم أبدلني بهم من هو خير لي منهم، وأبدلهم بي من هو شر [لهم] مني، [قال] فخرج فضربه الرجل.

الأود: العوج

(5)

واللدد: الخصومة.

وقد قدمنا الحديث الوارد بالأخبار بقتله

(6)

وأنه يخضب لحيته من فرن رأسه، فوقع كما أخبر صلوات الله وسلامه على رسوله.

وروى أبو داود في كتاب القدر أنه لما كان أيام الخوارج كان أصحاب علي يحرسونه كل ليلة عشرة - يبيتون في المسجد بالسلاح - فرآهم علي فقال: ما يجلسكم

(7)

؟ فقالوا: نحرسك، فقال: من أهل السماء؟ ثم قال: إنه لا يكون في الأرض شيء حتى يقضى في السماء، وإن علي من الله جنة حصينة. وفي رواية: وإن الرجل جنة محصونة

(8)

، وإنه ليس من الناس أحد إلا وقد وكل به ملك فلا تريده دابة ولا شيء إلا قال: اتقه اتقه. فإذا جاء القدر خلا عنه. وفي رواية: ملكان يدفعان عنه فإذا جاء القدر خليا

(1)

في ط: الأريسي؛ تحريف وعبد العزيز بن عبد الله الأويسي؛ من رجال التهذيب.

(2)

في أ: سعد؛ وإبراهيم بن سعيد من رجال التهذيب.

(3)

في أ: طبيعتي وفطرتي وخلقي.

(4)

في أ: عن أبي حباب عن أبي عون، خطأ وانظر تقريب التهذيب 494، 631، 662.

(5)

في أ: المعوج.

(6)

في أ: بمقتله وأنه تخضب.

(7)

في أ: ما أجلسكم.

(8)

في أ: حصينة.

ص: 610

عنه، وإنه لا يجد عبد حلاوة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه [وفي رواية أنه قال: حارس كل امرئ أجله].

وكان علي يدخل المسجد كل ليلة فيصلي فيه، فلما كانت الليلة التي قتل في صبيحتها قلق تلك الليلة، وجمع أهله، فلما خرج إلى المسجد صرخ الإوزُّ في وجهه فسكتوهن

(1)

عنه فقال: ذروهن فإنهن نوائح، فلما خرج إلى المسجد ضربه ابن ملجم فكان ما ذكرنا

(2)

قبل. فقال الناس: يا أمير المؤمنين ألا نقتل مرادًا كلها؟ فقال: لا ولكن احبسوه وأحسنوا إساره

(3)

، فإن مت فاقتلوه وإن عشت فالجروح قصاص. وجعلت أم كلثوم بنت علي تقول: ما لي ولصلاة الغداة، قتل زوجي عمر أمير المؤمنين [في] صلاة الغداة، وقتل أبي [علي] أمير المؤمنين [في] صلاة الغداة، رضي الله عنها. وقيل لعلي: ألا تستخلف؟ فقال: لا ولكن أترككم

(4)

كما ترككم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن يرد الله بكم خيرًا يجمعكم على خيركم كما جمعكم على خيركم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا اعتراف منه في آخر وقت الدنيا بفضل الصديق.

وقد ثبت عنه بالتواتر

(5)

أنه خطب بالكوفة في أيام خلافته ودار إمارته، فقال: أيها الناس إن خير هذه الأمة بعد نبيّها أبو بكر، ثم عمر، ولو شئت أن أسمي الثالث لسميت. وعنه أنه قال وهو نازل من المنبر: ثم عثمان ثم عثمان. ولما مات علي ولي غسله ودفنه أهله، وصلَّى عليه ابنه الحسن وكبّر أربعًا

(6)

، وقيل أكثر من ذلك. ودفن علي بدار الخلافة وقيل تجاه الجامع من القبلة في حجرة من دور آل جعدة بن هبيرة، بحذاء باب الوراقين وقيل بظاهر البهوفة، وقيل بالكناسة، وقيل دفن بالبرية [وقيل بحائط جامع الكوفة].

وقال شريك القاضي وأبو نعيم الفضل بن دكين: نقله [ابنه] الحسن بن علي بعد صلحه مع معاوية من الكوفة فدفنه بالمدينة

(7)

بالبقيع إلى جانب [زوجته] فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقال عيسى بن دأب: بل لما تحملوا به حملوه في صندوق

(8)

على بعير، فلما مروا به ببلاد طيِّئ أضلوا ذلك البعير فأخذته طيِّء تحسب فيه مالًا، فلما وجدوا بالصندوق

(9)

ميتًا دفنوه في بلادهم فلا يعرف قبره إلى الآن، والمشهور أن قبره إلى الآن بالكوفة كما ذكر عبد الملك بن عمران أن خالد بن

(1)

في أ: فسكنوهن.

(2)

في أ: ما تقدم.

(3)

في أ: أسره.

(4)

في أ: بل أترككم.

(5)

في أ: بالتوتر عنه.

(6)

في أ: فكبر عليه أربعًا.

(7)

في أ: إلى المدينة.

(8)

في أ: دأب عنه عمه: بل لما أرادوا أن يحملونه إلى المدينة ليدفنوه بها جعلوه في صندوق.

(9)

في أ: طيء ذلك البعير بما عليه يحسبونه مالًا فلما وجدوا بذلك ميتًا دفنوه بالصندوق.

ص: 611

عبد الله القسري - نائب بني أمية في زمان هشام - لما هدم دورًا لبنيها وجد

(1)

قبرًا فيه شيخ أبيض الرأس واللحية فإذا هو علي [بن أبي طالب]، فأراد أن يحرقه بالنار فقيل له: أيها الأمير إن بني أمية لا يريدون منك هذا كله [أي هذه المبالغة في طاعتهم قال] فلفه في قباطي ودفنه هناك.

قالوا: فلا يقدر أحد أن يسكن تلك الدار التي هو فيها إلا ارتحل منها. رواه

(2)

ابن عساكر. ثم إن الحسن بن علي استحضر عبد الرحمن بن ملجم من السجن، فأحضر الناس النفط والبواري ليحرقوه

(3)

، فقال لهم أولاد علي: دعونا نشتفي منه، فقطعت يداه ورجلاه فلم يجزع ولا فتر عن الذكر، ثم كحلت عيناه وهو في ذلك يذكر الله وقرأ سورة اقرأ باسم ربك [الذي خلق خلق الإنسان من علق] إلى آخرها، وإن عينيه لتسيلان على خديه، ثم حاولوا لسانه ليقطعوه فجزع من ذلك جزعًا شديدًا، فقيل له في ذلك فقال: إني أخاف أن أمكث في الدنيا فواقا

(4)

لا أذكر الله فيه. فقتل عند ذلك وحرق بالنار، قبّحه الله. قال محمد بن سعد

(5)

: كان ابن ملجم رجلًا أسمر حسن الوجه أبلج

(6)

شعره مع شحمة أذنه، في جبهته أثر السجود. قال العلماء: ولم ينتظر بقتله بلوغ العباس بن علي فإنه كان صغيرًا يوم قتل أبوه، قالوا: لأنه كان قتل محاربة لا قصاصًا، والله أعلم.

وكان طعن علي رضي الله عنه يوم الجمعة السابع عشر من رمضان سنة أربعين بلا خلاف فقيل مات من يومه قيل يوم الأحد التاسع عشر منه.

قال الفلاس: وقيل ضرب

(7)

ليلة إحدى وعشرين ومات ليلة أربع وعشرين [منه] عن بضع أو ثمان وخمسين سنة، وقيل عن ثلاث وستين سنة وهوالمشهور، قاله محمد بن الحنفية [ابنه]، وأبو جعفر الباقر، وأبو إسحاق السبيعي، وأبو بكر بن عياش. وقال بعضهم: عن ثلاث أو أربع وستين سنة، وعن أبي جعفر الباقر خمس وستين سنة.

وكانت خلافته خمس سنين إلَّا ثلاثة أشهر، وقيل أربع سنين [وتسعة أشهر وثلاثة أيام وقيل: وستة أيام، وقيل: وأربعة عشر يومًا، وقيل أربع سنين] وثمانية أشهر وثلاثة وعشرين يومًا، رضي الله عنه [وأرضاه]. وقال جرير: عن مغيرة قال: لما جاء نعي علي بن أبي طالب إلى معاوية وهو نائم

(8)

مع

(1)

في أ: في زمن هشام بن عبد الملك لما كان أميرًا على العراق هدم دورًا ليبنيها فوجد.

(2)

في أ: كذا ذكره ابن عساكر. والخبر في تاريخ دمشق - ترجمة علي - (2/ 376).

(3)

في أ: أحضر عبد الرحمن بن ملجم المرادي من الحبس ثم أحضر النفط والبواري.

(4)

فواق: ما بين الحلبتين من الوقت. القاموس (فوق).

(5)

الطبقات الكبرى (3/ 40).

(6)

في الطبقات: أفلج.

(7)

في أ: ضربه.

(8)

في أ: وكان ذلك في وقت القائلة وكان نائمًا.

ص: 612

امرأته فاختة بنت فرظة في يوم صائف، جلس وهو يقول: إنا لله وانا إليه راجعون، وجعل يبكي فقالت له فاختة: أنت بالأمس تطعن عليه واليوم تبكي عليه، فقال: ويحك إنما أبكي لما فقد الناس من حلمه وعلمه وفضله وسوابقه وخيره.

وذكر ابن أبي الدنيا - في كتاب مكايد الشيطان

(1)

- أن رجلًا من أهل الشام

(2)

من أمراء معاوية [وجلسائه] غضب ذات ليلة على ابنه فأخرجه من منزله، فخرج الغلام لا يدري أين يذهب، فجلس وراءالباب من خارج فنام ساعةً ثم استيقظ وبابه يخمشه هر أسود بري، فخرج إليه الهر الذي في منزلهم فقال له البري: ويحك! افتح فقال: لا أستطيع، فقال: ويحك ائتني بشيء أتبلغ به فإني جائع وأنا تعبان، هذا أوان مجيئي من الكوفة، وقد حدث الليلة حدث عظيم، قتل علي بن أبي طالب، قال فقال له الهر الأهلي: والله إنه ليس هاهنا شيء إلا وقد ذكروا اسم الله عليه، غير سفود كانوا يشوون عليه اللحم، فقال: ائتني به، فجاء به فجعل يلحسه حتى أخذ حاجته وانصرف، وذلك بمرأى من الغلام ومسمع، فقام إلى الباب فطرقه فخرج إليه أبوه فقال: من؟ فقال له: افتح، فقال: ويحك ما لك؟ فقال: افتح، ففتح فقص عليه خبر ما رأى، فقال له: ويحك أمنام هذا؟ قال: لا والله، قال: ويحك! أفاصابك جنون بعدي؟ قال: والله، ولكن الأمر كما وصفت لك، فاذهب إلى معاوية الآن فاتخذ عنده بما قلت لك، فذهب الرجل فاستأذن على معاوية فأخبره خبر ما ذكر له ولده. فأرّخوا ذلك عندهم قبل مجيء البُرُد، ولما جاءت البُرُد وجدوا ما أخبروهم به مطابقًا لما كان أخبر به أبو الغلام، هذا ملخص ما ذكره.

وقال أبو القاسم: حدَّثنا علي بن الجعد، حدَّثنا زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن الأصم قال: قلت للحسين بن علي: إن هذه الشيعة يزعمون أن عليًا مبعوث قبل يوم القيامة، فقال: كذبوا والله ما هؤلاء بالشيعة، لو علمنا أنه مبعوث ما زوجنا نساءه ولا قسمنا ماله. ورواه أسباط بن محمد عن مطرف عن إسحاق، عن عمرو بن الأصم، عن الحسن بن علي بنحوه. والله سبحانه أعلم

(3)

.

(1)

لم أجد هذا الخبر في كتاب مكائد الشيطان لابن أبي الدنيا - طبعة القاهرة مكتبة القرآن.

(2)

في أ: من أهل دمشق؛ وثمة خلافات كثيرة في هذا الخبر بين أ و ط لم نجد في إثباتها أي فائدة. لم أجده في كتب الطبراني وهو في تاريخ دمشق - ترجمة علي - (3/ 210).

(3)

بعد هذه اللفظة في أ الزيادات التالية من كلام الإمام علي: فصل نذكر فيه كلمات زيادة على ما نص عليه المؤلف: عن سَلَمة بن كُهَيْل، عن مجاهد قال: إنما شيعة علي العلماء الحكماء الذُّبل الشفاه الأبرار الأخيار الزهاد الذين يُعرّفوك بأثر العبادة.

وقال علي بن الحسين: شيعتنا الذُّبل الشفاه والامام منا من دعى إلى طاعة الله.

وقال الطبراني: حدَّثنا محمد بن زكريا الغُلابي، حدَّثنا العباس بن بكار الضَّبي، حدَّثنا عبد الواحد بن أبي عمير الأسدي، عن محمد بن السائب الكلبي، عن أبي صالح قال: دخل ضرار بن ضمرة الكناني على معاوية، فقال له: صف لي عليًا. قال: أو تعفيني يا أمير المؤمنين؟ قال: لا أعفيك. قال: أما إذ لا بد من وصفي له، كان=

ص: 613

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= والله بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلًا، ويحكم عدلًا، يتفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنس بالليل وظلمته، كان والله غزير العبرة، طويل الفكر، يقلب كفه، ويخاطب نفسه، يعجبه من اللباس ما قصر ومن الطعام ما خثن، كان والله كأحدنا يدنينا إذا أتيناه، ويجيبنا إذا سألناه، وكنا مع قُرْبنا لا نكلمه هيبة له فإن تبسم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم، يعظم أهل الدين، ويحب المساكين، لا يطمع القوي في باطله ولا يُيْئس الضعيف من عدله؛ فأشهد بالله لقد رأيته في بعض مواقفه، وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه، يتمثل في محرابه قابضًا على لحيته يتململ تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين فكأني أسمعه الآن وهو يقول: يا ربنا يا ربنا، يتضرع إليه، ثم يقول للدنيا إليَّ تعرضت أم ليّ تشوَّقت هيهات هيهات غرّي غيري، قد بتتك ثلاثًا، فعمرك قصير، ومجلسك حقير، وخطرك كبير آه آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق.

قال: فوكفت دموع معاوية على لحيته ما يملكها وجعل ينشفها بكمه؛ وقد اختنق القوم بالبكاء، فقال: كذلك كان أبو الحسن رحمه الله فكيف وجدك عليه يا ضرار؟ قال: وَجْدُ من ذبح أَوْحَدُها من حجرها لا ترقأ دمعتها ولا يسكن حزنها ثم قام فخرج [الخبر في مختصر تاريخ دمشق 11/ 158].

وقال علي: أشد الأعمال ثلاثة؛ إعطاء الحق من نفسك، وذكر الله على كل حال، ومواساة الأخ في المال.

وقال علي: إن الله لم يرض من أهل القرآن بالأذعان والسكوت والله يُعصى.

وروى الثوري: عن عمرو بن قيس قال: قيل لعلي: يا أمير المؤمنين؛ لم ترقع قميصك! قال: يخشع القلب، ويقتدي بي المؤمن.

وعن زياد بن ميلح: أن عليًا أتى بشيء من خبيص فوضعه بين أيديهم فجعلوا يأكلون ولا يأكل. فقال: إن الإسلام ليس ببكر ضال، ولكن قريش رأت هذا العيش هَذًّا فتناحرت عليه.

وقد كان لعلي رضي الله عنه ظبية - أي جراب جلد غزال - يكلون فيه سويق ليشربه بالماء وقت القائلة هو طعامه لا يزيد عليه، وكان يختم عليه لئلا يختلط بغيره. وعاتبه رجل في لبوسه. فقال له: مالك وللبوسي إن لبوسي أبعد من الكبر وأجدر أن يقتدي بي المسلم.

وعن عبد الله بن شريك عن جده عن علي أنه أتي بفالوذج؛ فوضع بين يديه فقال: إنك طيب الريح، حسن اللون، طيب الطعم، ولكن أكره أن أعوِّد نفسي، ما لم تعتد.

وعن مجمع التيمي قال: كان علي يقسم مال بيت المال ويكنسه ويصلي فيه يتخذه مسجدًا رجاء أن يشهد له يوم القيامة.

وقال الإمام

حدَّثنا وهب بن سعيد، حدَّثنا محمد بن قيس عن علي بن ربيعة الوالبي عن علي بن أبي طالب أنه جاءه ابن النّبَّاج فقال: يا أمير المؤمنين امتلأ بيت المال من صفراء وبيضاء؛ فقال: الله أكبر فقام متوكئًا على ابن النّبّاج حتى قام على بيت المال فقال:

هذا جناي وخياره فيه

ووكل جان يده إلى فيه

يا ابن النباج عليَّ بأشياع الكوفة فنودي في الناس فأعطاه جميع ما في بيت المال وهو يقول: يا صفراء ويا بيضاء غرّي غيرها وها حتى ما بقي منه دينار ولا درهم، ثم أمر بنضحه وصلى فيه ركعتين.

وقال الطبراني: حدَّثنا أبو مسلم الكشي، حدَّثنا عبد العزيز بن الخطاب، حدَّثنا سهل بن شعيب، عن أبي علي

ص: 614

‌خلافة الحسن بن علي رضي الله عنه [وعن أبيه وعن أمه]

قد ذكرنا أن عليًا رضي الله عنه لما ضربه ابن ملجم قالوا له: استخلف يا أمير المؤمنين. فقال: لا ولكن أدعكم كما ترككم رسول الله صلى الله عليه وسلم - يعني بغير استخلاف - فإن يرد الله بكم خيرًا يجمعكم

(1)

على خيركم كما جمعكم على خيركم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما توفي

(2)

وصلى عليه ابنه الحسن - لأنه [كان]

= الصيقل، عن عبد الأعلى عن نوف البكالي قال: رأيت علي بن أبي طالب خرج ليلة فنظر إلى النجوم فقال: يا نوف أراقد أنت أم رامق؟ قلت: بل رامق يا أمير المؤمنين. فقال: يا نوف طوبى للزاهدين في الدنيا الراغبين في الآخرة أولئك قوم اتخذوا الأرض بساطًا وترابها فراشًا وماءها طيبًا والقرآن والدعاء دثارًا وشعارًا فرضوا الدنيا على منهاج المسيح عليه السلام، يا نوف؛ إن الله عز وجل أوحى إلى عيسى أن مر بني إسرائيل أن لا يدخلوا بيتًا من بيوتي إلا بقلوب طاهرة وأبصار خاشعة وأيد من الآثام نقية فإني لا أستجيب لأحد منهم ولأحد من خلقي عنده مظلمة. يا نوف لا تكن شاعرًا ولا عريفًا ولا شرطيًا ولا جابيًا ولا عشارًا شطر حيًا فإن داود عليه السلام قام في ساعة من الليل فقال: يا لها [من] ساعةً لا يدعو فيها عبد ربَّه إلا استجاب له فيها إلا أن يكون عريفًا أو شرطيًا أو جابيًا أو عشارًا أو صاحب عربطة - وهو الطنبور - أو صاحب كوبة - وهو الطبل - أو صاحب الشاه - وهو الشطرنج - ..

وروى عمرو بن قيس: عن عمر بن مرة، عن علي قال: كونوا ينابغ العلم معادن الحكمة، مصابيح الليل، خلقان الثياب، جدد القلوب، تعرفون في أهل السماء وتخفون في أهل الأرض وتذكرون عند ربكم. وروى نحو ذلك عن ابن مسعود.

وقال عاصم بن ضمرة: عن علي قال: ألا إن الفقيه كل الفقيه الذي لا يُقنط الناس من رحمة الله، ولا يؤمنهم من عذاب الله، ولا يرخص لهم في معاصي الله، ولا يدع القرآن رغبة عنه إلى غيره، ولا خير في عبادة لا علم فيها، ولا خير في علم لا فهم فيه، ولا خير في قراءة لا تدبر فيها.

وقال أبو بكر بن خزيمة: حدَّثنا علي بن حجر، حدَّثنا يوسف بن زياد، عن يوسف بن أبي المتيد، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم قال: قال علي: كونوا لقول العمل أشد اهتمامًا منكم بالعمل؛ فإنه لن يقل عمل مع التقوى، وكيف يقل عمل يُقبل.

وعن عبد خير، عن علي قال: ليس الخير أن يكثر مالك وولدك ولكن الخير أن يكثر علمك ويعظم حلمك، وأن تباهي الناس بعبادة ربك؛ فإن أحسنت حمدت الله وإن أسأت استغفرت الله ولا خير في الدنيا إلا لأحد رجلين رجل أذنب ذنوبًا فهو يتدارك ذلك بتوبة؛ ورجل يسارع في الخيرات، ويعمل في الدرجات، ولا يقل عمل مع التقوى وكيف يقل ما يُقب. وروي نحو هذا عن أبي الدرداء.

وروى ثابت بن أبي صفية، عن أبي الزاهر قال: قال علي: احفظوا عني خمسًا لو ركبتم الإبل في طلبهن لما أصبتموهن ولأضنيتم الإبل قبل أن تدركوهن: لا يرجو عبد إلا ربه، ولا يخاف إلا ذنبه، ولا يستحي جاهل أن يسأل عما لا يعلم، ولا يستحيي عالم إذا سئل عما لا يعلم أن يقول: الله أعلم، والصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ولا إيمان لمن لا صبر له.

(1)

في أ: فسيجمعكم.

(2)

في أ: مات.

ص: 615

أكبر بنيه رضي الله عنهم ودفن كما ذكرنا بدار الإمارة [بالكوفة] على الصحيح من أقوال الناس، فلما فرع

(1)

من شأنه كان أول من تقدم إلى الحسن بن علي رضي الله عنه قيس بن سعد بن عبادة فقال له: ابسط يدك أبايعك على كاب الله وسنة نبيه، فسكت الحسن فبايعه ثم بايعه الناس بعده، وكان ذلك يوم مات علي، وكان موته يوم ضرب على قول وهو يوم الجمعة السابع عشر من رمضان سنة أربعين، وقيل إنما مات بعد الطعنة

(2)

بيومين، وقيل مات في العشر الأخير من رمضان، ومن يومئذ ولي الحسن بن علي، وكان

(3)

قيس بن سعد على إمرة أذربيجان، تحت يده أربعون ألف مقاتل، قد بايعوا عليًا على الموت، فلما مات علي ألح قيس بن سعد على الحسن في النفير

(4)

لقتال أهل الشام، فعزل قيسًا عن إمرة أذربيجان، وولَّى

(5)

عبيد الله بن عباس عليها، ولم يكن في نية الحسن أن يقاتل أحدًا، ولكن غلبوه على رأيه، فاجتمعوا اجتماعًا عظيمًا لم يسمع بمثله [لأن الناس مالوا إلى الحسن ميلًا عظيمًا محبة وطاعة إذ هو ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وريحانته] فأمر الحسن بن علي قيس بن سعد بن عبادة على المقدمة في اثني عشر ألفًا بين يديه، وسار هو بالجيوش في أثره قاصدًا بلاد الشام، ليقاتل معاوية وأهل الشام

(6)

فلما اجتاز بالمدائن نزلها وقدم المقدمة بين يديه، فبينما هو في المدائن معسكرًا بظاهرها، إذ صرخ في الناس

(7)

صارخ: ألا إن قيس بن سعد بن عبادة قد قتل، فثار الناس فانتهبوا أمتعة بعضهم

(8)

بعضًا حتى انتهبوا سرادق الحسن، حتى نازعوه بساطًا كان جالسًا عليه، وطعنه بعضهم حين ركب طعنة أثبتوه وأشوته فكرههم الحسن كراهية شديدة، وركب

(9)

فدخل القصر الأبيض من المدائن فنزله وهو جريح، وكان عامله على المدائن سعد بن مسعود الثقفي - أخو أبي عبيد صاحب يوم الجسر

(10)

- فلما استقر الحسن بالقصر قال المختار بن أبي عبيد قبَّحه الله لعمه سعد بن مسعود: هل لك في الشرف والغنى؟ قال: ماذا؟ قال: تأخذ الحسن بن علي فتقيده وتبعثه

(11)

إلى معاوية، فقال له عمه: قبحك

(12)

الله وقبح ما جئت به، أغدر بابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ولما رأى الحسن بن علي تفرق جيشه

(1)

في أ: فرغوا.

(2)

في أ: أن طعن.

(3)

في أ: ويوم دفن ولي الحسن ابنه مكانه.

(4)

في أ: التجهيز.

(5)

في أ: ولى عليها.

(6)

في أ: الحرب معاوية بن أبي سفيان.

(7)

في أ: بالناس.

(8)

في أ: فانتهب بعضهم.

(9)

في أ: ثم ركب.

(10)

في أ: عم المختار.

(11)

في أ: وتبعث به.

(12)

في أ: قبحكم.

ص: 616

عنه

(1)

مقتهم مقتًا شديدًا وكتب عند ذلك إلى معاوية بن أبي سفيان - وكان قد ركب في أهل الشام [لقتال أهل العراق] فنزل مسكن [وجعل]- يراوضه على الصلح بينهما، فبعث إليه معاوية عبد الله بن عامر وعبد الرحمن بن سمُرة، فقدما عليه الكوفة فبذلا له ما أراد من الأموال، فاشترط أن يأخذ من مال بيت مال الكوفة خمسة آلاف ألف درهم، وأن يكون خراج دار أبجرد له [في أشياء ذكرها] وأن لا يُسبَّ عليٌّ وهو يسمع، فإذا فعل ذلك نزل عن الإمرة لمعاوية، ويحقن الدماء بين المسلمين. فاصطلحوا على ذلك واجتمعت الكلمة على معاوية على ما سيأتي بيانه وتفصيله، وقد لام الحسين أخا

(2)

الحسن على هذا الرأي فلم يقبل منه، والصواب مع الحسن رضي الله عنه كما سنذكر دليله قريبًا. وبعث الحسن بن علي إلى أمير المقدمة

(3)

قيس بن سعد أن يسمع ويطيع [لمعاوية]، فأبى قيس بن سعد من قبول ذلك، وخرج عن طاعتهما جميعًا، واعتزل بمن أطاعه ثم راجع الأمر فبايع معاوية بعد قريب كما سنذكره.

ثم المشهور أن مبايعة الحسن لمعاوية كانت في سنة أربعين، ولهذا يقال له عام الجماعة، لاجتماع الكلمة فيه على معاوية، والمشهود عند ابن جرير

(4)

وغيره من علماء السير أن ذلك كان في أوائل سنة إحدى وأربعين كما

(5)

سنذكره إن شاء الله.

وحج بالناس

(6)

في هذه السنة - أعني سنة أربعين - المغيرة بن شعبة، وزعم ابن جرير

(7)

فيما رواه عن إسماعيل بن راشد: أن المغيرة بن شعبة افتعل كتابًا على لسان معاوية ليلي إمرة الحج عامئذ، وبادر إلى ذلك عتبة بن أبي سفيان، وكان معه كتاب من أخيه بإمرة الحج، فتعجل المغيرة فوقف بالناس يوم الثامن ليسبق عتبة إلى الإمرة. وهذا الذي نقله ابن جرير لا يقبل، ولا يظن بالمغيرة رضي الله عنه ذلك، وإنما نبهنا على ذلك ليعلم أنه باطل، فإن الصحابة أجل قدرًا من هذا، ولكن هذه نزغة شيعية.

قال ابن جرير

(8)

: وفي هذه السنة بويع لمعاوية بإيلياء - يعني لما مات علي - قام أهل الشام فبايعوا معاوية على إمرة المؤمنين لأنه لم يبق له عندهم منازع، فعند ذلك أقام أهل العراق الحسن بن علي رضي الله عنه ليمانعوا به أهل الشام فلم يتم لهم ما أرادوه وما حاوله، وإنما كان خذلانهم من قبل تدبيرهم وآرائهم المختلفة المخالفة لأمرائهم، ولو كانوا يعلمون لعظموا ما أنعم الله به عليهم من مبايعتهم

(9)

ابن

(1)

في ط: عليه.

(2)

في ط: لأخيه.

(3)

في أ: مقدمة جيشه.

(4)

تاريخ الطبري (5/ 162).

(5)

في أ: على ما سنذكره إن شاء الله تعالى.

(6)

ثمة خلافات كثيرة في هذا الخبر بين أ، ط لم أجد فائدة من إثباتها.

(7)

تاريخ الطبري (5/ 160).

(8)

المصدر نفسه (5/ 161).

(9)

في أ: متابعتهم.

ص: 617

بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيد المسلمين، وأحد علماء الصحابة وحلمائهم وذوي آرائهم. والدليل على أنه أحد الخلفاء الراشدين الحديث الذي أوردناه في دلائل النبوة من طريق سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكًا"

(1)

وإنما كملت الثلاثون بخلافة الحسن بن علي رضي الله عنه، فإنه نزل عن الخلافة لمعاوية في ربيع الأول من سنة إحدى وأربعين، وذلك كمال ثلاثين سنة من موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه توفي في ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة، وهذا من [أكبر] دلائل النبوّة صلوات الله وسلامه عليه وسلم تسليمًا. وقد مدحه رسول الله صلى الله عليه وسلم على صنيعه هذا وهو تركه الدنيا الفانية، ورغبته في الآخرة الباقية

(2)

، وحقنه دماء هذه الأمة، فنزل عن الخلافة وجعل الملك بيد معاوية حتى تجتمع

(3)

الكلمة على أمير واحد. وهذا المدح قد ذكرناه [فيما تقدم، وسنورده في حديث أبي بكرة الثقفي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صعد المنبر يومًا وجلس الحسن بن علي إلى جانبه، فجعل ينظر إلى الناس مرة وإليه أخرى ثم قال:"أيها الناس إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين" رواه البخاري

(4)

.

[بعونه تعالى وتوفيقه تم الجزء السابع من كتاب البداية والنهاية، ويليه الجزء الثامن وأوله: ثم دخلت سنة إحدى وأربعين من الهجرة النبوية

والحمد لله رب العالمين].

(1)

الحديث أخرجه الإمام أحمد في مسنده (5/ 221) وأبو داود في سننه (4646) في السنة، والترمذي في جامعه (2226) في الفتن، وغيرهم وهو أيضًا في صحيح ابن حبان (6657) الإحسان، وهو حديث حسن.

(2)

في أ: الباقية الفائقة.

(3)

في أ: لأجل اجتماع الكلمة على أمير واحد وحقن دماء المسلمين.

(4)

صحيح البخاري (2754) في الصلح، و (3629) في المناقب، و (3746) في فضائل الصحابة، و (7109) في الفتن.

ص: 618