الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
البداية والنهاية
«من خلافة معاوية 41 هـ - إلى ترجمة مروان بن الحكم 65 هـ»
تأليف
الإمام الحافظ المؤرخ أبي الفداء إسماعيل بن كثير
[701 هـ - 774 هـ]
حققه وخرج أحاديثه وعلق عليه
أكرم عبد اللطيف البوشي
راجعه
الشيخ عبد القادر الأرناؤوط - الدكتور بشار عواد معروف
الجزء الثامن
ذكر أيام معاوية بن أبي سفيان [رضي الله عنه]
(1)
وملكه
قد تقدَّم في الحديث أنَّ الخلافة بعده عليه السلام ثلاثون سنة، ثم تكون مُلكًا، وقد انقضت الثلاثون سنة بخلافة الحسن بن علي، فأيام معاوية أول المُلْك، فهو أولُ ملوك الإسلام وخيارُهم.
قال الطبراني
(2)
: حدثنا علي
(3)
بن عبد العزيز، حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا الفُضيل بن عِياض، عن ليث، عن عبد الرحمن بن سابِط، عن أبي ثعلبة الخُشَني، عن معاذ بن جبل وأبي عبيدة قالا
(4)
: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ هذا الأمرَ بدأ رحمةً ونبوَّة، ثم يكونُ رحمةً وخِلافَة، ثم كائن مُلكًا عَضُوضًا
(5)
، ثم كائن عُتُوًّا وجَبَريَّةً وفسادًا في الأرض، يستحلُّونَ الحريرَ والفُروج والخمورَ، ويُرْزَقونَ على ذلك ويُنْصَرونَ حتى يَلْقَوا الله عز وجل". إسناده جيد
(6)
.
وقد ذكرنا في "دلائل النبوة" الحديثَ الوارد من طريق إسماعيل بن إبراهيم بن مُهاجر - وفيه ضعف - عن عبد الملك بن عُمَيْر
(7)
قال: قال معاوية: [والله ما حَمَلَني على الخلافة إلَّا قولُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لي: "يا معاويةُ]
(8)
إنْ مَلكْتَ فأَحسِنْ". رواه البيهقي
(9)
عن الحاكم، عن الأصمّ، عن العباس بن محمد، عن محمد بن سابق، عن يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، عن إسماعيل. ثم قال البيهقي: وله شواهد من وجوه أُخر، منها:
حديث عمرو بن يحيى بن سعيد بن العاص، عن جدِّه سعيد: أنَّ معاويةَ أخذ الإداوة
(10)
فتبعَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فنظر إليه، فقال له:"يا مُعاويةُ إنْ وليتَ أمرًا فائقِ اللهَ واعْدِلْ". قال معاوية:
(1)
ما بين حاصرتين من (أ) فقط، وستأتي ترجمة معاوية لاحقًا في سنة 60 هـ.
(2)
الطبراني في الكبير (20/ رقم 91).
(3)
في أ: عمر، خطأ.
(4)
في أ، ط: قالوا: والمثبت من ب وهو الوجه.
(5)
قال ابن الأثير في النهاية: أي يصيب الرعية فيه عسف وظلم، كأنهم يُعضون عضًا.
(6)
هكذا قال، وفي قوله انظر، فإن ليث بن أبي سليم ضعيف، وعبد الرحمن بن سابط. قيل: لم يدرك أبا ثعلبة الخشني كما قال في تهذيب الكمال (17/ 124)(بشار).
(7)
تحرف في ط إلى: عمر.
(8)
ما بين حاصرتين سقط من أ. والخبر والحديث في سير أعلام النبلاء (3/ 131).
(9)
البيهقي في "دلائل النبوة"(6/ 446).
(10)
الإداوة: إناء صغير من جلد يتخذ للماء، وجمعها أداوَى.
فما زلتُ أظنُّ أني مبتلًى بعملٍ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
.
ومنها حديث راشد بن سعد، عن معاوية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّكَ إن اتَّبَعْتَ عوراتِ النّاسِ أَفْسَدْتَهُمْ". قال أبو الدَّرْداء: كلمة سمعها معاويةُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم فنفعَهُ اللهُ بها
(2)
.
ثم روى البيهقي من طريق هُشيم، عن العوّام بن حَوْشب، عن سليمان بن أبي سليمان، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الخِلافةُ بالمدينة، والمُلْكُ بالشَّام". غريب جدًّا.
وروى من طريق أبي إدريس، عن أبي الدَّرْداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بَيْنا أنا نائمٌ رأيتُ [عمودَ]
(3)
الكِتابِ احتُمِلَ من تحتِ رَأسي، فظَننتُ أنَّه مذهوبٌ به، فأَتْبَعْتُهُ بصَري، فعُمِدَ به إلى الشّام، أَلَا وإنَّ الإيمانَ حينَ تقعُ الفِتَنُ بالشّام"
(4)
.
وقد رواه سعيد بن
(5)
عبد العزيز، عن عطيَّة بن قيس، عن يونس
(6)
بن مَيْسَرة. عن عبد الله بن عمرو.
ورواه الوليد بن مسلم، عن عُفَير بن مَعْدان، عن سليمان بن
(7)
عامر، عن أبي أُمامة.
وروى يعقوب بن سفيان
(8)
، عن نصر بن محمد بن سليمان السّلمي الحمصي، عن أبيه، عن عبد الله بن [أبي]
(9)
قيس، سمعت عمر بن الخطّاب يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيتُ عمودًا مِنْ نورٍ خرجَ من تحتِ رَأسي سَاطعًا حتى اسْتقرَّ بالشّام".
وقال عبد الرزاق
(10)
: عن مَعْمر، عن الزُّهري، عن عبد الله بن صفوان قال: قال رجل يوم صفِّين: اللهم العَنْ أهل الشام. فقال له علي: لا تسبَّ أهلَ الشّام [جمًا غفيرًا]
(11)
فإنَّ بها الأبدال [فإن بها الأبدال، فإن بها الأبدال]
(12)
.
(1)
أخرجه أحمد في مسنده (4/ 101) وهو حديث معلول بالإرسال، فإن جد عمرو بن يحيى وهو سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص لم يثبت له سماع من معاوية، ولذلك قال الهيثمي بعد أن أورده في مجمع الزوائد (5/ 186):"رواه أحمد وهو مرسل".
(2)
أخرجه أبو داود (4888) في الأدب، باب في النهي عن التجسس، وهو حديث صحيح.
(3)
سقط من ط.
(4)
أخرجه أحمد في مسنده (5/ 198 - 199) وهو حديث صحيح.
(5)
وقعت في ط عن وهو خطأ.
(6)
في (أ) أبو الحسن بن ميسرة بدل عن يونس بن ميسرة وهو خطأ، ويونس بن ميسرة كنيته أبو حَلْبَس، وهو من رجال التهذيب.
(7)
في ط عن.
(8)
في المعرفة والتاريخ (2/ 311).
(9)
سقطت من ط، وقد تنبه إلى ذلك محقق المعرفة والتاريخ وأشار إليه في حاشيته.
(10)
مصنف عبد الرزاق (20455).
(11)
سقط من ط.
(12)
زيادة من ط.
وقد روي هذا الحديث من وجه آخر مرفوعًا
(1)
.
فضل معاوية [بن أبي سفيان رضي الله عنه]
(2)
هو معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أميَّة بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي، أبو عبد الرحمن القرشيُّ الأمويّ، خال المؤمنين، وكاتب وحي رب العالمين.
أسلم هو وأبوه وأمُّه هند بنت عُتبة بن ربيعة بن عبد شمس يوم الفتح. وقد روي عن معاوية أنه قال: أسلمتُ يومَ عُمرة القضيَّة
(3)
، ولكنِّي كتمتُ إسلامي من أبي إلى يوم الفتح
(4)
.
وقد كان أبوه من سادات قريش في الجاهليّة، وأفضَتْ إليه رئاسة قريش بعد يوم بدر، فكان هو أمير الحروب من ذلك الجانب. وكان رئيسًا مُطاعًا ذا مال جزيل، ولما أسلم قال: يا رسول الله مُرْني حتى أقاتل الكفّارَ كما كنتُ أقاتل المسلمين. قال: "نعم". قال: ومعاوية تجعله كاتبًا بين يديك، قال:"نعم". ثم سأل أن يزوّج رسول الله صلى الله عليه وسلم بابنته [الأُخرى]
(5)
وهي عَزَّة
(6)
بنت أبي سفيان، واستعان على ذلك بأختها أمِّ حَبيبة، فلم يقع ذلك، وبيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّ ذلكَ لا يحلُّ له. وقد تكلمنا على هذا الحديث في غير موضع
(7)
. وأفردنا له مصنَّفًا على حدة ولله الحمدُ والمنَّة. والمقصود أن معاوية كان يكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع غيره من كتّاب الوحي رضي الله عنهم.
ولما فُتحت الشام ولّاه عمر نيابة دمشق بعد أخيه يزيد بن أبي سفيان، وأقرَّه على ذلك عثمان بن عفَّان وزاده بلادًا أخرى. وهو الذي بنى القُبَّة الخضراء بدمشق وسكنها أربعين سنة. قاله الحافظ ابن عساكر.
ولما ولي عليُّ بن أبي طالب الخلافةَ أشار عليه كثير من أمرائه ممَّن باشر قتل عثمان أن يعزل معاوية عن الشام ويولِّي عليها سهل بن حُنَيْف، فعزله، فلم ينتظم له عزله، والتفَّ على معاوية جماعةٌ من أهل الشام، ومانع عليًّا عنها وقال: لا أبايعه حتّى يسلِّم إليَّ قَتَلة عثمان فإنه قُتل مظلومًا، وقد قال الله تعالى:{وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء: 33].
(1)
وحديث الأبدال ضعيف في المرفوع.
(2)
زيادة من ط.
(3)
في ط القضاء وكلاهما صحيح، ويقال لها أيضًا: عمرة القصاص، وعمرة الصلح. وكانت في ذي القعدة من سنة سبع للهجرة. سيرة ابن هشام (3/ 370).
(4)
سير أعلام النبلاء (3/ 122).
(5)
سقطت من ط.
(6)
وقيل: اسمها حَمنة، وقيل: درّة. ترجمتها في أسد الغابة (7/ 71، 102، 196).
(7)
سيورده المؤلف لاحقًا في هذا الجزء ضمن ترجمة معاوية بن أبي سفيان.
وروى الطبراني عن ابن عبّاس أنه قال: ما زلت موقنًا أن معاوية سيلي الملك [والسلطان]
(1)
من هذه الآية. وقد أوردنا سنده ومتنه عند تفسير هذه الآية. فلمَّا امتنع معاوية من بيعة علي كان من صِفِّين ما قدَّمنا ذكره. ثم آل الأمر إلى التحكيم، فكان من أمر عمرو بن العاص وأبي موسى ما أسلفناه من قوَّة جانب أهل الشام في الصورة
(2)
الظاهرة، واستفحل أمر معاوية، ولم يزل أمر علي في اختلاف مع أصحابه حتى قتلَه ابن مُلْجَم كما تقدَّم. فعند ذلك بايع أهل العراق الحسنَ بن علي. وبايع أهل الشام معاوية. ثم ركب الحسن في جنود العراق من غير إرادة منه، وركب معاوية في أهل الشام. فلما تواجه الجيشان وتقابل الفريقان سعى الناس بينهما بالصُّلح. فانتهى الحال إلى أنْ خلع الحسن نفسه من الخلافة، وسلَّم الملك إلى معاوية بن أبي سفيان، وكان ذلك في ربيع الأول من هذه السنة - أعني سنة إحدى وأربعين - ودخل معاوية إلى الكوفة فخطب الناسَ بها خطبة بليغة بعدما بايعه الناس. واستوثقتْ له الممالك شرقًا وغربًا وبُعدًا وقربًا، وسمِّيَ هذا العام عام الجماعة لاجتماع الكلمة فيه على أمير واحد بعد الفُرقة. فولَّى معاوية قضاء الشام لفَضالة بن عُبيد، ثم بعده لأبي إدريس الخَوْلاني. وكان على شرطته قيس بن حمزة. وكان كاتبه وصاحب أمره سَرْجون
(3)
بن منصور الرومي.
ويقال: إنَّ معاوية أولُ من اتَّخذ الحرس، وأول من حزم الكتب وختمها.
وكان أول الأحداث في دولته رضي الله عنه:
خروج طائفة من الخوارج عليه
وكان سبب ذلك أنَّ معاوية لما دخل الكوفة وخرج منها الحسن بن علي وأهلُه قاصدين الحجاز، قالت فرقة من الخوارج - وهم نحو من خمسمئة -: جاء ما لا يُشَكُّ فيه، فسِيروا إلى معاوية فجاهِدوه، فساروا حتى قربُوا من الكوفة وعليهم فروة بن نَوْفل
(4)
، فبعث إليهم معاوية خيلًا من أهل الشام، فطَرد الخوارج الشاميِّين، فقال معاوية [لأهل الكوفة]
(5)
: لا أمانَ لكم عندي حتّى تكفوا بوائقكم. فخرجوا إلى الخوارج، فقالت لهم الخوارج: ويلكم ماذا تبغون؟ أليس معاوية عدوَّكم وعدوَّنا؟ فدعُونا حتى نقاتله، فإنْ أصبناه كنّا قد كفيناكموه، وإن أصابَنا كنتم قد كُفِيتمونا. فقالوا: لا والله حتّى نقاتلكم.
(1)
سقط من ط.
(2)
في ط: الصعدة.
(3)
تحرف في ط إلى: سرحون.
(4)
تحرف في أ إلى: موكل.
(5)
سقط من ط.
فقالت الخوارج: يرحم الله إخواننا من أهل النهر، كانوا أعلم بكم يا أهل الكوفة. فاقتَتَلوا، فهزمهم أهل الكوفة وطردوهم.
ثم إن معاوية أراد أن يستخلف على أهل الكوفة عبد الله بن عمرو بن العاص، فقال له المغيرة بن شُعْبة: أتولِّيه الكوفة وأبوه بمصر، وتبقى أنت بين لَحْيَي
(1)
الأسد؟ فثناه عن ذلك، وولَّى عليها المغيرة بن شُعبة، فاجتمع عمرو بن العاص بمعاوية فقال: أتجعل المغيرة على الخَراج؟ هلّا وليتَ الخراج رجلًا آخر؟ فعزله عن الخراج وولّاه على الصلاة. فقال المغيرة لعمرو في ذلك، فقال له عمرو: ألستَ المشيرَ على أمير المؤمنين في عبد الله بن عمرو؟ قال: بلى! قال: فهذه بتلك.
وفي هذه السنة وثب حُمْران بن أَبان على البصرة، فأخذها وتغلَّب عليها، فبعث معاوية جيشًا ليقتلوه ومَنْ معه. فجاء أبو بَكْرَة الثقفي إلى معاوية، فسأله في الصَّفح والعفو، فعفا عنهم وأطلقهم، وولى على البصرة بُسْر
(2)
بن أبي أَرْطاة، فتسلَّط على أولاد زياد يريد قتلَهم، وذلك أنَّ معاوية كتب إلى أبيهم ليحضُرَ إليه فتلبَّث، فكتب إليه بُسر بن أبي أَرْطاة: لئن لم تسرع إلى أمير المؤمنين وإلَّا قتلت بَنِيكَ، فبعث أبو بَكْرة إلى معاوية في ذلك [فأخذ لهم أمانًا منه]
(3)
. وقد قال معاوية لأبي بَكْرة: هل من عهد تعهدُه إلينا؟ قال: نعم، أعهَدُ إليك - يا أمير المؤمنين - أن تنظرَ لنفسك ورعيَّتك وتعمل صالحًا فإنَّكَ قد تقلَّدتَ عظيمًا، خلافة الله في خلقه، فاتَّقِ الله، فإنَّ لك غايةً لا تعدُوها، ومن ورائك طالبًا حَثيثًا، وأوشك أنْ يبلغَ المدى فيلحق الطالب، فتصير إلى مَنْ يسألُكَ عمّا كنتَ فيه، وهو أعلم به منك، وإنَّما هي محاسبةٌ وتوقيفٌ، فلا تُؤْثرن على رضا الله شيئًا.
ثم ولَّى معاوية - في آخر هذه السنة - البصرة لعبد الله بن عامر، وذلك أن معاوية أراد أن يولِّيها لعُتبة بن أبي سفيان، فقال له ابن عامر: إنَّ لي بها أموالًا وودائع، وإن لم تولِّنيها هلكتُ. فولَّاه إيّاها [وأجابه إلى سؤاله في ذلك]
(4)
.
قال أبو مَعْشَر: وحجَّ بالناس في هذه السنة عتبة بن أبي سفيان. وقال الواقدي: إنَّما حجَّ بهم عَنْبَسَة بن أبي سفيان. فالله أعلم.
ومن أعيان من توفي هذا العام:
رفاعة بن رافع
(5)
: ابن مالك بن العَجْلان. شهد العقبَة وبدرًا وما بعدها.
(1)
اللحيان: جانبا الفم.
(2)
تحرف في أ في أكثر من موضع إلى: بشر.
(3)
سقط من ط.
(4)
زيادة من ط و ب.
(5)
طبقات ابن سعد (3/ 596) طبقات خليفة (100) تاريخ خليفة (205) مسند أحمد (4/ 340) تاريخ البخاري الكبير =
رُكانَة بن عبد يَزيد
(1)
(2)
: ابن هاشم
(3)
بن عبد المطلب القرشي. وهو الذي صارعه النبي صلى الله عليه وسلم. وكان رُكانة من أشدِّ الناس
(4)
. وكان صرع
(5)
رسول الله صلى الله عليه وسلم له من المُعجزات كما قدَّمنا ذلك في دلائل النبوَّة.
أسلم رُكانة عام الفتح - وقيل: قبل ذلك - بمكة [لما صرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم]
(6)
فالله أعلم.
صفْوان بن أميَّة
(7)
: ابن خلف بن وهب بن حُذافة أبو
(8)
وهب القرشي. أحد رؤساء مكّة.
تقدم أنه هرب [من رسول الله صلى الله عليه وسلم]
(9)
عام الفتح، ثم جاء فأسلم وحسُن إسلامه، وكان الذي
= (3/ ت 1089) تاريخ البخاري الصغير (1/ 24) الجرح والتعديل (3/ 492) ثقات ابن حبان (1/ ورقة 132) مشاهير علماء الأمصار (ت 86) المعجم الكبير للطبراني (5/ ت 436) وفيات ابن زبر (ورقة 14) جمهرة ابن حزم (358) الاستيعاب (2/ 497) الإكمال لابن ماكولا. (3/ 363) الجمع لابن القيسراني (1/ 138) أسد الغابة (2/ 225) تهذيب الأسماء واللغات (1/ 190). تهذيب الكمال (9/ 203)(الطبعة المحققة)، أسماء الرجال للطيبي (ورقة 19) تذهيب التهذيب (1/ ورقة 226) الكاشف (1/ 242) تجريد أسماء الصحابة (1/ 184) إكمال مغلطاي (2/ ورقة 25) نهاية السول (ورقة 97) تهذيب التهذيب (3/ 281) الإصابة (1/ 517) خلاصة الخزرجي (1/ 118).
(1)
تحرف عبد يزيد في ط إلى: عبد العزيز.
(2)
طبقات خليفة (9) تاريخ خليفة (205) تاريخ البخاري الكبير (3/ ت 1146) الجرح والتعديل (3/ 519) ثقات ابن حبان (ورقة 133) مشاهير علماء الأمصار (ت 187) المعجم الكبير للطبراني (5/ ت 462) وفيات ابن زبر (ورقة 14) جمهرة ابن حزم (73) الاستيعاب (2/ 507) أسد الغابة (2/ 236) تهذيب الأسماء واللغات (1/ 191) تهذيب الكمال (9/ 221)(الطبعة المحققة)، أسماء الرجال للطيبي (ورقة 19) تذهيب التهذيب (1/ ورقة 228) الكاشف (1/ 243) تجريد أسماء الصحابة (1/ 186) إكمال مغلطاي (2/ ورقة 27) العقد الثمين (400/ 4) نهاية السول (ورقة 98) تهذيب التهذيب (3/ 287) الإصابة (1/ 520) خلاصة الخزرجي (119).
(3)
تحرف في الأصول إلى: هشام.
(4)
في ط و ب: من أشد الرجال.
(5)
في ط و ب: غلب.
(6)
من أ فقط.
(7)
طبقات ابن سعد (5/ 449) طبقات خليفة (24، 278) تاريخ خليفة (75، 111) مسند أحمد (3/ 400) و (6/ 464) تاريخ البخاري الكبير (4/ 304) المعارف (342) المعرفة والتاريخ (1/ 309) الجرح والتعديل (4/ 421) ثقات ابن حبان (3/ 191) معجم الطبراني الكبير (8/ 46) جمهرة ابن حزم (159) الاستيعاب (2/ 718) تاريخ ابن عساكر (8/ 159/ آ) تهذيب الأسماء واللغات (1/ 249) مختصر تاريخ دمشق (11/ 89) تهذيب الكمال (13/ 180) سير أعلام النبلاء (2/ 562) الكاشف (2/ 27) العبر (1/ 50) تذهيب التهذيب (2/ ورقة 93) إكمال مغلطاي (2/ ورقة 193) نهاية السول (ورقة 147) الإصابة (5/ 145) تهذيب التهذيب (4/ 424) خلاصة الخزرجي (174) شذرات الذهب (1/ 229)(الطبعة المحققة)، تهذيب تاريخ دمشق (6/ 429).
(8)
في ط: "بن" وهو تحريف، وما أثبتناه هو الصواب الموافق لمصادر ترجمته.
(9)
زيادة من ط و ب.
استأمن له [رسول الله صلى الله عليه وسلم]
(1)
عُمير بن وهب الجُمَحي وكان صاحبَه وصديقَه في الجاهلية كما تقدَّم، فقدم به في وقت صلاة العصر، فاستأمن له، فأمَّنه رسول الله صلى الله عليه وسلم[أربعة أشهر]
(2)
، وأستعار منه أدرُعًا وسلاحًا ومالًا. وحضر صفوان حُنينًا مشركًا، ثم أسلم [ودخل الإيمان قلبه]
(3)
، فكان من سادات المسلمين كما كان من سادات الجاهلية.
قال الواقدي: لم يزل صفوان مقيمًا بمكّة حتى توفي بها في أول خلافة معاوية.
عثمان بن طلحة
(4)
: ابن أبي طَلْحة بن عبد العُزَّى بن عبد الدّار العَبْدري الحَجَبي.
أسلم هو وخالد بن الوليد وعمرو بن العاص في أول سنة ثمان قبل الفتح. وقد روى الواقدي عنه حديثًا طويلًا في صفة إسلامه.
وهو الذي أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم منه مفتاح الكعبة عام الفتح، ثم ردَّه إليه وهو يتلو قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] وقال له: "خُذْها يا عثمانُ خالدةً تالِدَةً لا يَنْزِعُها منكُمْ إلّا ظالم"
(5)
. وكان عليٌّ قد طلبها [من النبي صلى الله عليه وسلم]
(6)
فمنعه من ذلك.
قال الواقدي: نزل المدينةَ حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلمّا مات نزل مكّة، ثم لم يزل بها حتّى مات في أول خلافة معاوية.
عَمرو بن الأَسْوَد السَّكُوني
(7)
: كان من العُبّاد الزُّهّاد. وكانت له حُلَّة بمئتي درهم يلبسها إذا
(1)
سقط من ط وب.
(2)
زيادة من ط.
(3)
زيادة من ط.
(4)
طبقات ابن سعد (5/ 448) طبقات خليفة (ت 73 و 2503) المعرفة والتاريخ (1/ 272) الجرح والتعديل (6/ 155) مشاهير علماء الأمصار (ت 130) معجم الطبراني الكبير (9/ 53، 55) جمهرة أنساب العرب (127) الاستيعاب (3/ 1034) الجمع بين رجال الصحيحين (1/ 352) تاريخ ابن عساكر (11/ 52/ ب) أسد الغابة (3/ 578) تهذيب الأسماء واللغات: القسم الأول من الجزء الأول (320) مختصر تاريخ دمشق (16/ 95) تهذيب الكمال (ورقة 914) سير أعلام النبلاء (3/ 10) تاريخ الإسلام (1/ 380 و 2/ 232) الكاشف (2/ 219) تذهيب التهذيب (3/ 30/ 1) العقد الثمين (6/ 21) الإصابة (ت 5442) تهذيب التهذيب (7/ 124) خلاصة الخزرجي (260).
(5)
أخذ النبي صلى الله عليه وسلم منه مفتاح الكعبة عام الفتح. أخرجه مسلم في صحيحه (1329) في الحج، باب استحباب دخول الكعبة للحاج وغيره.
وأما قوله: خذها يا عثمان خالدة
…
ظالم. فقد رواه الطبراني في الكبير رقم (11234) والأوسط رقم (492) وفي سنده عبد الله بن المؤمل وهو ضعيف.
(6)
سقط من ط.
(7)
طبقات ابن سعد (7/ 442) تاريخ البخاري الكبير (6/ 315) تاريخ البخاري الصغير (1/ 122) ثقات العجلي (362) المعرفة والتاريخ (2/ 314 و 348) الجرح والتعديل (6/ 220) مشاهير علماء الأمصار (ت 860) تاريخ داريا (ص =
قام إلى صلاة الليل. وكان إذا خرج إلى المسجد وضع يمينه على شماله مخافةَ الخُيَلاء.
روى عن: معاذ، وعبادة بن الضامت، والعِرْباض بن سارية، وغيرهم.
وقال أحمد في "الزهد"
(1)
: حدثنا أبو اليمان، حدثنا أبو
(2)
بكر، عن حَكيم بن عُمير وضَمرة بن حَبيب قالا: قال عمر بن الخطّاب: مَنْ سرَّهُ أنْ ينظرَ إلى هَدْي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلينظُرْ إلى هَدْي عَمْرو بن الأَسْود.
عاتِكَة بنتُ زَيْد
(3)
: ابن عمرو بن نُفيل بن عبد العُزَّى، وهي أخت سعيد بن زيد أحد العشرة.
أسلمتْ وهاجرتْ، وكانت من حسان النِّساء وعبّادهن.
تزوَّجها عبد
(4)
الله بن أبي بكر، فتَتيَّم بها، فلما قُتل عنها في غزوة الطائف آلت ألَّا تتزوَّج بعده، فبعث إليها عمر بن الخطاب - وهو ابن عمها - فتزوَّجها، فلما قُتل عنها تزوَّجها بعده الزبير بن العوام، فقُتل عنها بوادي السِّباع
(5)
، فلما بعث إليها علي بن أبي طالب ليتزوَّجها قالت له: إني أخشى عليك أن تُقتل، فأبت أن تتزوَّجه، ولو تزوجته لقتل عنها أيضًا، فإنها لم تزل [بلا زوج]
(6)
حتى ماتت في أول خلافة معاوية في هذه السنة رحمها الله.
ثم دخلت سنة ثنتين وأربعين
فيها غزا المسلمون اللان والروم، فقتلوا من أمرائهم وبطارقتهم خلقًا كثيرًا، وغنموا وسلموا.
وفيها ولَّى معاويةُ مروانَ بن الحكم نيابة المدينة، وعلى مكة خالد بن العاص بن هشام، وعلى
= 70) حلية الأولياء (5/ 155) الإكمال لابن ماكولا (6/ 353) أنساب السمعاني (9/ 80)(العنسي)، تاريخ ابن عساكر (13/ 196/ أ) أسد الغابة (4/ 192) مختصر تاريخ دمشق (19/ 176) تهذيب الكمال (ورقة 1030) تاريخ الإسلام (3/ 194) سير أعلام النبلاء (4/ 79) الكاشف (2/ 280) الإصابة (ت 6526) تهذيب التهذيب (8/ 4) خلاصة الخزرجي (287).
(1)
ورواه أيضًا أحمد في المسند (1/ 18 - 19) وإسناده ضعيف.
(2)
في ط: بن وهو خطأ.
(3)
طبقات ابن سعد (8/ 265) نسب قريش (365) تاريخ البخاري الصغير (1/ 37) المعارف (246) شرح ديوان الحماسة للمرزوقي (3/ 1102، 1106) الاستيعاب (4/ 1876) أسد الغابة (7/ 183) الإصابة (كتاب النساء/ ت 695) خزانة الأدب (4/ 351) أعلام النساء لكحالة (3/ 201) شاعرات العرب (ص 233).
(4)
تحرفت في ط إلى: عبيد.
(5)
"وادي السباع": بين البصرة ومكة، بينه وبين البصرة خمسة أميال. معجم البلدان (5/ 343).
(6)
سقط من ط.
الكوفة المُغيرة بن شعبة، وعلى قضائها شُريح القاضي، وعلى البصرة عبد الله بن عامر، وعلى خُراسان قيس بن الهيثم من قبل عبد الله بن عامر. [واستقضى مروانُ على المدينة عبدَ الله بن الحارث، وعلى قضاء البصرة عَمِيرة بن يَثْرِبي]
(1)
.
وفيها تحرَّكت الخوارج الذين كانوا قد عَفَا عنهم عليٌّ يوم النَّهروان، وقد عوفي جرحاهم، وثابت إليهم قواهم. فلما بلغهم مقتلُ علي ترحَّموا على قاتله ابن مُلْجم وقال قائلهم: لا يقطع الله يدًا علت قَذَال
(2)
عليٍّ بالسَّيف. وجعلوا يَحْمَدُون الله على قتل علي، ثم عزموا على الخروج على الناس، وتوافقوا على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما يزعمون.
وفي هذه السنة قدم زياد بن أَبيه على معاوية - وكان قد امتنع عليه قريبًا من سنة في قلعة عُرفت به يقال لها: قلعة زياد - فكتب إليه معاوية: ما يحملُكَ على أن تهلك نفسَك؟ أقدم عليَّ فأخبرني بما صار إليك من أموال فارس وما صرفتَ منها وما بقي عندك فائتني به وأنت آمن، فإن شئت أن تقيم عندنا فعلتَ، وإلّا فاذهب حيث ما شئتَ من الأرض فأنت آمِن. فعند ذلك أزمع زياد المسير إلى معاوية، فبلغ المغيرةَ قدومُه، فخشي أن يجتمع بمعاوية قبلَه، فسار نحو دمشق إلى معاوية، فسبقه زياد إلى معاوية بشهر، فقال معاوية للمغيرة: ما هذا وهو أبعد منك وأنت قد خرجت قبله
(3)
وقد سبقك إليّ؟! فقال المغيرة: يا أمير المؤمنين إنه ينتظر الزِّيادة وأنا أنتظر النُّقصان. فأكرمَ معاوية زيادًا، وقبض منه ما كان معه من الأموال، وصدَّقه فيما صرَفَه [وما بقي عنده]
(4)
.
ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين
فيها غزا بُسْر بن أبي أَرْطاة بلاد الروم، فتوغَّل فيها حتى بلغ القُسْطَنْطينية، وشتا ببلادهم فيما زعمه الواقدي، وأنكر ذلك آخرون وقالوا: لم يكن بها مشتى لأحد قط، فالله أعلم.
وفيها كانت وقعة عظيمة بين الخوارج وجند الكوفة، وذلك أنهم صمَّموا - كما قدَّمنا - على الخروج على الناس في هذا الحين، فاجتمعوا في قريب من ثلاثمئة عليهم المستورِد بن عُلَّفَة
(5)
، فجهَّز إليهم
(1)
ما بين حاصرتين من آ فقط، وقد تحرف فيها عميرة إلى: عمير. أخبار القضاة لوكيع (1/ 290) وقد شُكل فيه عميرة - رسمًا - بضم الميم: وهو خطأ.
(2)
"القذال": جماع مؤخر الرأس.
(3)
وردت هذه العبارة في ط: وأنت جئت بعده بشهر.
(4)
سقط من ط.
(5)
كذا قيده ابن ماكولا في إكماله (6/ 258 - 259) وقد تحرف في الأصول - في غير موضع -: إلى: علقمة.
المغيرة بن شُعبة جندًا عليهم مَعْقِل بن قيس في ثلاثة آلاف، فسار إليهم، وقدَّم بين يديه أبا الرُّوَاع في طليعة هي ثلاثمئة على عدة الخوارج، فلقيهم أبو الرُّوَاع بمكان يقال له المَذَار
(1)
، فاقتتلوا معهم، فهزمهم الخوارج، ثم كرُّوا عليهم فهزمتهم الخوارج [ولكنْ لم يُقتل أحد منهم]
(2)
، فلزموا مكانهم في مقابلتهم
(3)
ينتظرون قدوم أمير الجيش معقِل بن قيس عليهم، فما قدم عليهم إلا في آخر نهار بعد أن غربت الشمس، فنزل وصلَّى بأصحابه، ثم شرع في مدح أبي الرُّواع، فقال له أبو الرُّواع: أيها الأمير! إن لهم شدّاتٍ منكرة، فكن أنت رِدْءَ
(4)
الناس، ومُرِ الفرسان فليقاتلوا بين يديك. فقال له معقِل بن قيس: نِعمَ ما رأيت. فما كان إلّا ريثما قال له ذلك حتّى حمل الخوارج على معقِل وأصحابه، فانجفَلْ
(5)
عنه عامة أصحابه، فترجَّل عند ذلك معقِل بن قيس وقال: يا معشر المسلمين الأرضَ الأرضَ، فترجَّل معه جماعة من الفرسان والشجعان قريب من مئتي فارس منهم أبو الرُّواع الشاكِري، فحمل عليهم المستورِد بن عُلَّفَة [أمير الخوارج]
(6)
بأصحابه، فاستقبلوهم بالرماح والسُّيوف، ولحق بقيَّة الجيش بعض الفرسان فذمَّرهم وعيَّرهم وأنَّبهم على الفرار، فرجع الناس إلى معقِل وهو يقاتل الخوارج بمن معه من الأنصار
(7)
قتالًا شديدًا والناس يتراجعون في أثناء الليل، فصفَّهم معقل بن قيس ميمنةً وميسرةً ورتَّبهم وقال: لا تبرحوا على مصافكم حتى نصبح فنحمل عليهم، فما أصبحوا حتى هربت الخوارج، فرجعوا من حيث أَتَوا، فسار معقِل في طلبهم وقدَّم بين يديه أبا الرّواع في ست مئة، فالتقوهم عند طلوع الشمس، فثار إليهم الخوارج، فتبارزوا ساعةً، ثم حملوا حملة رجل واحد، فصبر لهم أبو الرّواع بمن معه، وجعل يذمِّرهم ويعيِّرهم ويؤنِّبهم على الفرار ويحثُّهم على الصبر، فصبروا وصدقوا في الثبات حتى ردوا الخوارج إلى أماكنهم. فلما رأتِ الخوارج ذلك خافوا من هجوم معقل عليهم فما يكون دون قتلهم شيء، فهربوا بين أيديهم حتى قطعوا دجلة ووقعوا في أرض بَهُرَسِير
(8)
، واتبعهم أبو الرّواع ولحقه معقِل بن قيس، ووصلت الخوارج إلى المدينة العتيقة، فركب إليهم شريك بن عبيد - نائب المدائن - ولحقهم أبو الرّواع بمن معه من المقدّمة.
(1)
"المذار": موضع بين واسط والبصرة. معجم البلدان (5/ 88).
(2)
ما بين حاصرتين من ط و ب.
(3)
في ط: مقاتلتهم.
(4)
"الردء": العون والنصير.
(5)
"انجفل القوم": هربوا مسرعين.
(6)
من آ فقط.
(7)
في ب: الأبطال. وقوله من الأنصار ليس في أ.
(8)
كذا قيدها ياقوت في معجمه (1/ 515) وقال: من نواحي سواد بغداد قرب المدائن، وهي معربة من به أردشير أو به أردشير، ومعناه: خير مدينة أردشير. وهي غربي دجلة. وقد تحرفت في أ و ب إلى: نهر سير، وفي ط إلى: نهزشير.
[قال ابن جرير
(1)
: وفيها مات عمرو بن العاص بمصر ومحمد بن مَسْلمة - قلت: وسنذكر ترجمة كل واحد منهما في آخر السنة - فولَّى معاوية بعد عمرو على ديار مصر ولدَه عبد الله بن عمرو. قال الواقدي: فعمل له عليها سنتين]
(2)
.
أما عَمْرو بنُ العاص
(3)
: فهو: عمرو بن العاص بن وائِل بن هاشم بن سُعَيد
(4)
بن سَهْم بن عَمْرو بن هُصَيْص بن كعب بن لُؤَي بن غالب القرشيّ السَّهمي، أبو عبد الله، ويقال: أبو محمد.
أحد رؤساء قريش في الجاهلية. وهو الذي أرسلوه إلى النَّجَاشي ليردَّ عليهم مَنْ هاجر من المسلمين إلى بلاده فلم يُجبهم إلى ذلك لعدله، ووعظ عمرو بن العاص في ذلك، فيقال: إنه أسلم على يديه، والصحيح أنه إنما أسلم قبل الفتح بستة أشهر هو وخالد بن الوليد وعثمان [بن طلحة] بن أبي طلحة العَبْدري.
وكان عمرو أحد أمراء الإسلام، وهو أمير غزوة ذات السَّلاسل
(5)
، وأمدَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم بمدد عليهم أبو عبيدة ومعه الصدِّيق وعمر الفاروق.
وقد قال الترمذي
(6)
: حدثنا قُتيبة [حدثنا ابن لَهِيعَة]
(7)
حدثنا مِشْرَح بن هاعان
(8)
، عن
(1)
تاريخ الطبري (5/ 181).
(2)
ما بين حاصرتين ورد هنا في أ و ب، أما في ط فقد ورد قبل خبر الوقعة المتقدمة.
(3)
طبقات ابن سعد (4/ 254 و 7/ 493) نسب قريش: 409، طبقات خليفة (ت 147، و 970، 2820) مسند أحمد (2/ 204) المحبر (77، 121، 177) تاريخ البخاري الكبير (6/ 303) ثقات العجلي (365) المعارف (285) المستدرك (3/ 452) المعرفة والتاريخ (1/ 323) تاريخ الطبري (4/ 558) الجرح والتعديل (6/ 242) مروج الذهب (3/ 32) مشاهير علماء الأمصار (ت 376) الولاة والقضاة (انظر الفهرس) جمهرة أنساب العرب (163) وغيرها، الاستيعاب (3/ 1184) الجمع بين رجال الصحيحين:(1/ 362) أنساب السمعاني (7/ 204) تاريخ ابن عساكر (13/ 245/ آ) جامع الأصول (9/ 103) أسد الغابة (4/ 244) الكامل في التاريخ (3/ 274) الحلة السيراء (1/ 13) تهذيب الأسماء واللغات: القسم الأول من الجزء الثاني (30) مختصر تاريخ دمشق (19/ 232) تهذيب الكمال (ورقة 1041) تاريخ الإسلام (2/ 235) تذهيب التهذيب (3/ 101/ آ) سير أعلام النبلاء (5413) العبر (5111) الكاشف (2/ 287) مرآة الجنان (1/ 119) العقد الثمين (6/ 398) غاية النهاية (60111) الإصابة: (ت 5884) تهذيب التهذيب (8/ 56) النجوم الزاهرة (1/ 113) حسن المحاضرة (1/ 224) خلاصة الخزرجي (290) شذرات الذهب (1/ 232).
(4)
في الأصل سعد، والتصحيح من كتب الأنساب والإصابة.
(5)
كانت هذه الغزوة في جمادى الآخرة سنة ثمان للهجرة. قال ابن إسحاق: سميت بذلك لأنهم نزلوا على ماء لجذام اسمه السلسل وخبرها في السيرة النبوية (4/ 623) وما بعدها، وطبقات ابن سعد (2/ 131)، ومعجم البلدان (3/ 236).
(6)
الترمذي في جامعه (3844) في المناقب، وقال: هذا حديث غريب (يعني ضعيف) لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة عن مشرح وليس إسناده بالقوي، والحديث محتمل للتحسين وله شاهد عند أحمد (2/ 354) من حديث أبي هريرة بلفظ "ابنا العاص مؤمنان، هشام وعمرو" فهو به حسن.
(7)
سقط من أ.
(8)
تحرفت هاعان في آ، ط إلى: عاهان.
عُقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أسلَمَ النّاسُ وآمنَ عمرو بنُ العاص".
وقال أيضًا
(1)
: حدثنا إسحاق بن منصور، حدثنا أبو أسامة، عن نافع بن
(2)
عمر الجُمحي، عن ابن أبي مُلَيكة قال: قال طلحة بن عبيد الله: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنَّ عَمرو بنَ العاص مِنْ صالحي قُريش".
وفي الحديث الآخر: "ابنا العَاص مُؤْمنان"
(3)
.
وفي الحديث الآخر: "نِعمَ أهلُ البيتِ: عبدُ الله، وأبو عبد الله، وأُمُّ عبد الله"
(4)
. رووه في فضائل عمرو بن العاص.
ثم إن الصدِّيق بعثه في جملة من بعث من أمراء الجيش إلى الشام، فكان ممَّن شهد تلك الحروب، وكانت له بها الآراء السَّديدة، والمواقف الحميدة، والأحوال السَّعيدة.
ثم بعثه عمر إلى مصر، فافتتحها، واستنابه عليها، وأقرَّه فيها عثمان بن عفّان أربع سنين ثم عزله - كما قدمنا - وولّى عليها
(5)
عبد الله بن سعد بن أبي سَرْح، فاعتزل عمرو بفلسطين، وبقي في نفسه من عثمان رضي الله عنهما، فلما قُتل عثمان سار إلى معاوية، فشهد معه مواقفه كلَّها بصفِّين وغيرها، وكان هو أحد الحكمَيْن.
ثم لما أن استرجع معاوية مصر وانتزعها من يد محمد بن أبي بكر استعمل عمرو بن العاص عليها، فلم يزل نائبَها إلى أن مات في هذه السنة على المشهور، وقيل: إنه توفي سنة سبع وأربعين، وقيل: سنة ثمان وأربعين، وقيل: سنة إحدى وخمسين، رحمه الله.
وقد كان معدودًا من دهاة العرب وشجعانهم وذوي آرائهم.
وله أمثال حسنة، وأشعار جيِّدة. وقد روي عنه أنه قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ألف مثل. ومن شعره:
إذا المرءُ لم يَتْرُكْ طَعامًا يُحِبُّهُ
…
ولم يَنْهَ قَلْبًا غاويًا حيثُ يَمَّما
(1)
الترمذي رقم (3845) في المناقب، وقال: هذا حديث إنما نعرفه من حديث نافع بن عمر الجمحي، ونافع ثقة، وليس إسناده بمتصل، وابن أبي مليكة لم يدرك طلحة.
(2)
في ط: عن، وهو خطأ.
(3)
أخرجه أحمد في المسند (2/ 304) والطبراني في الكبير (22/ رقم 461) وهو حديث حسن.
(4)
أخرجه أحمد في مسنده (1/ 161) بسند رجاله ثقات، لكنه منقطع، فهو ضعيف.
(5)
في ط وب: "فيها"، وما أثبتناه من م وهو الأولى.
قَضى وَطَرًا منهُ وغادر سُبَّةً
…
إذا ذُكرَتْ أمثالُها تملأُ الفَمَا
(1)
وقال الإمام أحمد
(2)
: حدثنا علي بن إسحاق، حدثنا عبد الله - يعني ابن المبارك - أخبرنا ابن لَهِيعَة، حدثني يزيد بن أبي حَبيب أن عبد الرحمن بن شُمَاسَة حدثه قال: لما حضرتْ عمرو بن العاص الوفاةُ بكى، فقال له ابنه عبد الله: لمَ تبكي؟ أجزعًا على الموت؟! فقال: لا والله، ولكنْ ممّا بعد الموت. فقال له: قد كنتَ على خير، فجعل يذكِّره صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفتوحَه الشام، فقال عمرو: تركتُ أفضلَ من ذلك كلِّه: شهادةَ أنْ لا إله إلَّا الله، إني كنت على ثلاثة أطباق
(3)
ليس فيها طبقٌ إلّا قد عرفتُ نفسي فيه، كنتُ أول شيء
(4)
كافرًا، وكنتُ أشدَّ الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلو متُّ حينئذ وَجَبَتْ لي النّار، فلمّا بايعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم كنتُ أشدَّ الناس حياءً منه، فما ملأتُ عينيَّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا راجعتُه فيما أُريد حتّى لحِقَ بالله حياءً منه، فلو متُّ يومئذ قال الناس: هنيئًا لعَمرو؛ أسلمَ وكان على خير فمات، نرجو له الجنة. ثم تلبَّستُ بعد ذلك بالسُّلطان وأشياء فلا أدري عليَّ أم لي، فإذا متُّ فلا تبكينَّ عليَّ باكيةٌ، ولا تُتْبِعني مادحًا ولا نارًا، وشُدُّوا عليَّ إزاري فإني مُخاصم، وسُنُّوا عليَّ الترابَ سَنًّا
(5)
فإنَّ جنبيَ الأيمن ليس بأحقَّ بالتراب من جنبيَ الأيسر، ولا تجعلن في قبري خشبةً ولا حَجَرًا، وإذا وارَيْتُموني فاقعُدُوا عندي قدرَ نحر جَزُور [وتقطيعِها]
(6)
أَسْتَأنِس بكم.
وقد روى مسلم هذا الحديث في "صحيحه"
(7)
من حديث يزيد بن أبي حَبيب بإسناده نحوه، وفيه زيادات على هذا السِّياق حسنة، فمنها قوله: كي أَسْتأنسَ بكُم لأنظُرَ ماذا أُراجِعُ رسلَ ربِّي عز وجل.
[وفي رواية: أنه بعد هذا حوَّل وجهه إلى الجدار وجعل يقول: اللهم أَمَرْتنا فعَصَيْنا، ونَهَيْتَنا فما انتهينا، ولا يَسَعُنا إلّا عَفْوُك.
وفي رواية: أنه وضع يده على موضع الغُلِّ من عنقه، ورفع رأسه إلى السماء وقال: اللهمَّ لا قويٌّ فأَنتصِر، ولا بريءٌ فأَعتذر، ولا مُسْتكبرٌ بل مُسْتغفر، لا إله إلّا أنت. فلم يزل يردِّدُها حتّى مات رضي الله عنه]
(8)
.
(1)
البيتان من قصيدة له يذكر فيها عمارة بن الوليد المخزومي، أوردها صاحب الأغاني (9/ 58 - 59) والبيتان أيضًا في الاستيعاب (3/ 1188) وتاريخ ابن عساكر، مختصره (19/ 252) وسير أعلام النبلاء:(3/ 58).
(2)
في مسنده (4/ 199).
(3)
أي: على ثلاث حالات.
(4)
كذا في أ وب وم ومسند أحمد. ووقعت في ط: كنت أول قريش.
(5)
سنَّ التراب وشنَّه - بالشين - يعني: صبَّه.
(6)
زيادة من المسند.
(7)
برقم (121) في الإيمان: باب كون الإسلام يجبُّ ما قبله.
(8)
ما بين حاصرتين من ط وب وم. وقد أخرجه ابن سعد في طبقاته (4/ 260) من حديث طويل بإسناد قوي. وأورده =
وأما محمد بن مَسْلَمة الأَنصاري
(1)
: فإنه أسلمَ على يدي مصعب بن عُمير قبل أُسَيد بن حُضَير وسعد بن معاذ. شهد بدرًا وما بعدها إلا تبوك، فإنه استخلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة في قول، وقيل: استخلفه في قَرْقَرة الكُدْر
(2)
.
وكان فيمن قتلَ كعب بن الأَشْرف اليهودي. وقيل: إنه الذي قتل مَرْحبًا اليهودي يوم خيبر أيضًا.
وقد أمَّره رسول الله صلى الله عليه وسلم على نحو من خمس عشرة سَريَّة.
وكان ممن اعتزل تلك الحروب بالجمل وصِفِّين ونحو ذلك، واتخذ سيفًا من خشب، وقد ورد في حديث قدَّمناه أنه أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، وخرج إلى الرَّبَذَة
(3)
.
وكان من سادات الصحابة.
وكان هو رسول عمر إلى عمَّاله [بسائر البلاد]
(4)
. وهو الذي شاطَرَهم - أي: صادرهم - عن أمر عمر له في ذلك.
وله وقائع عظيمة، وصِيانة وأمانة بليغة رضي الله عنه، واستعمله عمر على صدقات جُهَيْنة.
وقيل: إنه توفي سنة ست - أو سبع - وأربعين، وقيل غير ذلك، وقد جاوز السبعين، وترك بعده عشرة ذكور وست بنات.
وكان أسمرَ شديد السُّمرة طويلًا أصلع، رضي الله عنه.
= الذهبي في سير أعلام النبلاء (3/ 76 - 77).
(1)
طبقات ابن سعد (3/ 443) طبقات خليفة (80، 140) تاريخ خليفة (206) مسند أحمد (3/ 493 و 4/ 225) تاريخ البخاري الكبير (1/ 239) تاريخ البخاري الصغير (80) المعارف (269) المعرفة والتاريخ (1/ 307) الجرح والتعديل (8/ 71) مشاهير علماء الأمصار (ت 93) المستدرك (3/ 433) الاستبصار (241) الاستيعاب (3/ 1377) تاريخ ابن عساكر (15/ 477/ آ) أسد الغابة (5/ 112) مختصر تاريخ دمشق: (23/ 213) تهذيب الكمال (ورقة 1271) تاريخ الإسلام (2/ 245) سير أعلام النبلاء (2/ 369) العبر: (1/ 52) الكاشف (3/ 86) مجمع الزوائد (9/ 319) تهذيب التهذيب (9/ 454) الإصابة (9/ 131) خلاصة الخزرجي (359) شذرات الذهب (1/ 234).
(2)
ويقال: قرارة الكدر، كما في طبقات ابن سعد (2/ 31). وكانت هذه الغزوة في المحرم من سنة ثلاث للهجرة. وهي بناحية معدن بني سليم قريب من الأرحضية وراء سد معونة، وبين المعدن والمدينة ثمانية برد. معجم البلدان (4/ 326 و 441 - 442).
(3)
"الربذة": قرية من قرى المدينة قريبة من ذات عرق على طريق الحجاز. والحديث الذي أشار إليه المؤلف أخرجه أحمد في مسنده (3/ 493) وفي سنده علي بن زيد وهو ضعيف.
(4)
من أ فقط.
وممن توفي فيها:
عبد الله بنُ سَلَام
(1)
: أبو يوسف الإسرائيلي، أحد أَحبار اليهود.
كان حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة في نخل له. قال: فلمّا قدم كنتُ فيمن انجفل إليه، فلمّا رأيتُ وجهه عرفت أنه ليس بوجه كذّاب، فكان أول ما سمعته يقول:"أيُّها الناس أَفْشُوا السَّلام، وأَطْعموا الطَّعام، وصِلُوا الأَرْحام، تَدْخُلوا الجنَّةَ بسَلام"
(2)
.
وقد ذكرنا صفة إسلامه في أول الهجرة، وماذا سأل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم من الأسئلة النافعة الحسنة.
وهو ممن شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة
(3)
، فيقطع له بها.
ثم دخلت سنة أربع وأربعين
فيها غزا عبد الرحمن بن خالد بن الوليد بلاد الروم ومعه المسلمون، وشتوا هنالك.
وفيها غزا بُسْر بن أبي أَرْطاة في البحر.
وفيها عزل معاوية عبد الله بن عامر عن البصرة، وذلك أنه ظهر فيها الفساد بسبب لينِه؛ فإنه كان ليِّن العَريكة سهلًا كريمًا، وكان لا يأخذ على أيدي السُّفهاء، ولا يقطع لصًّا، ويريد أن يتألف الناس. [قال ابن جرير
(4)
: شكا عبد الله بن عامر إلى زياد فساد الناس، فقال: جرِّد فيهم السَّيف. فقال ابن عامر: إني أكرهُ أن أُصلحهم بفساد نفسي. قال: فذهب عبد الله بن الكوّاء إلى معاوية فشكا ابنَ عامر،
(1)
طبقات ابن سعد (2/ 352) تاريخ ابن معين (2/ 311) طبقات خليفة (8) تاريخ خليفة (56، 206) مسند أحمد (5/ 450) تاريخ البخاري الكبير (5/ 18) المعرفة والتاريخ (1/ 264) الجرح والتعديل (5/ 62) مشاهير علماء الأمصار (ت 52) المستدرك (3/ 413) الاستبصار (193) الاستيعاب (3/ 921) جامع الأصول (9/ 81) أسد الغابة (3/ 264) تهذيب الكمال (15/ 74) طبقات علماء الحديث (1/ 86) سير أعلام النبلاء (3/ 413) تذكرة الحفاظ: (1/ 26) تاريخ الإسلام (2/ 230) العبر (1/ 51) الكاشف (2/ 85) تذهيب التهذيب (2/ ورقة 151) إكمال مغلطاي (2/ ورقة 278) مجمع الزوائد (9/ 326) نهاية السول (ورقة 172) تهذيب التهذيب (5/ 249) الإصابة (6/ 108) النجوم الزاهرة (1/ 125) طبقات الحفاظ (7) خلاصة الخزرجي (200) شذرات الذهب (1/ 233).
(2)
أخرجه أحمد في مسنده (5/ 451) والترمذي (2485) وابن ماجه (1334) و (3251) والدارمي (1/ 340) كلهم من طريق عوف بن أبي جميلة، عن زرارة بن أوفى، عن عبد الله بن سلام. وقال الترمذي: هذا حديث صحيح.
وقوله: انجفل إليه، أي: ذهب إليه مسرعًا.
(3)
وردت هذه الأحاديث في سير أعلام النبلاء (2/ 417 - 418) وتخريجها ثمة.
(4)
في تاريخه (5/ 212 - 213).
فاستعمل
(1)
طُفَيل بن عوف اليَشْكري على خراسان، وكان طُفيل هذا عدوَّ ابن الكوّاء. فلما بلغ ابنَ الكوّاء ذلك قال: إنَّ ابن دَجَاجة لقليل العلم فيَّ
(2)
، أظَنَّ أن ولاية طُفيل خراسان تسوءُني؟! لوددتُ أنه لم يبق في الأرض يشكريٌّ إلّا عاداني وإنه ولّاهم]
(3)
. فعزل معاوية ابن عامر عن البصرة، وبعث إليها الحارث بن عبد الله الأزدي.
ويقال: إنَّ معاوية استدعاه إليه ليزوره، فقدم ابن عامر على معاوية دمشق، فأكرمَه وردَّه إلى عمله، فلما ودَّعه قال له معاوية: ثلاث أسألُكهنَّ فقل: هنَّ لك [قال ابن عامر: هن لك]
(4)
وأنا ابن أمِّ حكيم. فقال معاوية: تردّ عليَّ عملي ولا تغضب، قال ابن عامر: قد فعلت. قال معاوية: وتهب لي مالك بعَرَفة، قال: قد فعلت. قال: وتهب لي دُورَك بمكة، قال: قد فعلت. فقال له معاوية: وصلتكَ رَحِم. قال ابن عامر: يا أمير المؤمنين وإني سائلُكَ ثلاثًا فقل: هنَّ لك [فقال: هنَّ لك]
(5)
وأنا ابن هند. قال: تردّ عليَّ مالي بعرفة، قال: قد فعلت. قال: ولا تحاسب لي عاملًا ولا أميرًا، قال: قد فعلت. قال: وتُنْكحني ابنتَك هندًا، قال: قد فعلت. ويقال: إن معاوية خيَّره بين هذه الثلاث وبين الولاية على البصرة، فاختار هذه الثلاث، وانعزل عن البصرة.
قال ابن جرير
(6)
: وفي هذه السنة استلحق معاوية زياد بن أَبيه بن سميَّة بأبيه أبي سفيان. وذلك أن رجلًا [من عبد القيس]
(7)
شهد على إقرار أبي سفيان أنه عاهَرَ بسُمَيَّةَ أمِّ زياد في الجاهليّة، وأنها حملتْ بزياد هذا منه، فلما استلحقه به قيل له: زياد بن أبي سفيان.
وقد كان الحسن البَصْري ينكر هذا الاستلحاق ويقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الولدُ للفِراش، وللعاهِرِ الحَجَر"
(8)
.
(1)
سقطت هذه اللفظة من الأصل، واستدركتها من تاريخ الطبري.
(2)
سقطت هذه اللفظة من الأصل، واستدركتها من تاريخ الطبري.
(3)
ما بين حاصرتين من أ فقط. وورد مكانه في ط وب: فذهب عبد الله بن أبي أوفى المعروف بابن الكوا فشكاه إلى معاوية.
(4)
سقط من ط وب، والمثبت في أ وتاريخ الطبري.
(5)
سقط من ط وب.
(6)
في تاريخه (5/ 214).
(7)
سقط من ط.
(8)
رواه أحمد في المسند (6/ 129) والبخاري رقم (2053) ومسلم رقم (1457) من حديث عائشة ورواه أحمد (2/ 239) ومسلم رقم (1458) والبخاري رقم (6750) من حديث أبي هريرة.
وقوله: "الولد للفراش" معناه: أنه إذا كان للرجل زوجة أو مملوكة صارت فراشًا له، فأتت بولد لمدة الإمكان منه، لحقه الولد وصار ولدًا يجري بينهما التوارث وغيره من أحكام الولادة سواء كان موافقًا له في الشبه أم مخالفًا. ومدة إمكان كونه منه ستة أشهر من حين أمكن اجتماعهما.=
وقال أحمد
(1)
: [حدثنا هُشيم]
(2)
حدثنا خالد، عن أبي عثمان قال: لما ادُّعي زياد لقيتُ أبا بكرة فقلت: ما هذا الذي صنعتم؟! إني سمعت سعد بن أبي وقاص يقول: سمعت أذني رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من ادَّعى أبًا في الإسلام غيرَ أبيهِ - وهو يعلمُ أنَّه غيرُ أبيه - فالجنَّةُ عليه حَرَام" فقال أبو بكرة: وأنا سمعتُه من رسول الله صلى الله عليه وسلم. أخرجاه
(3)
من حديث أبي عثمان عنهما.
قلت: أبو بكرة اسمُه نُفَيْع، واسم أمه سُميَّة أيضًا.
وحج بالناس في هذه السَّنة معاوية.
وفيها عمل معاوية المقصورةَ [بالجامع]
(4)
بالشام، ومروان مثلَها بالمدينة.
وفي هذه السنة توفيت:
أمُّ حَبِيبَة
(5)
: بنت أبي سفيان، أخت معاوية، وأمُّ المؤمنين، واسمها رَمْلة.
أسلمت قديمًا، وهاجرت هي وزوجها عُبَيد الله بن جحش
(6)
إلى أرض الحبشة، فتنصَّر هناك زوجها ومات بالحبشة، وثبتت هي على دينها رضي الله عنها. وبنتُها حَبيبة هي أكبر أولادها من عُبيد الله بن جحش، ولدتها بالحبشة، وقيل: بمكة قبل الهجرة.
ولما تأيَّمت من زوجها بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أميّة الضَّمْري إلى النَّجاشي فتزوَّجها منه، وولي
= وأما قوله: "للعاهر الحجر" فقد قال العلماء: "العاهر": الزاني. ومعنى له الحجر أي: له الخيبة، ولا حقَّ له في الولد.
(1)
في مسنده (1/ 169).
(2)
سقط من أ.
(3)
البخاري رقم (6766)، ومسلم (63) في الإيمان: باب بيان حال إيمان من رغب عن أبيه وهو يعلم.
(4)
هذه اللفظة من أ فقط. وقد قال ابن قتيبة في الأوائل (ص 33) وأول من اتخذ المقصورة في المسجد معاوية، وذلك أنه أبصر على منبره كلبًا. وحول نشأة المقاصير انظر ما كتبه الدكتور حسين مؤنس في كتابه المساجد من سلسلة عالم المعرفة العدد (37) ص 148 - 149.
(5)
طبقات ابن سعد (8/ 96) تاريخ ابن معين (736) طبقات خليفة (332) تاريخ خليفة (79، 86) مسند أحمد (6/ 325 و 425) المعارف (136، 344) المعرفة والتاريخ (3/ 318) الجرح والتعديل: (9/ 461) المستدرك (4/ 20) الاستيعاب (4/ 1843) تاريخ ابن عساكر: تراجم النساء: ص 70، أسد الغابة (7/ 115) تهذيب الكمال (ورقة 1690) سير أعلام النبلاء (2/ 218) تاريخ الإسلام:(2/ 253) العبر (1/ 52) الكاشف (3/ 426) مجمع الزوائد (9/ 249) تهذيب التهذيب (12/ 419) الإصابة (12/ 260) خلاصة الخزرجي (491) شذرات الذهب (1/ 236) أعلام النساء لكحالة (1/ 464).
(6)
في الأصل: عبد الله بن جحش، وهو خطأ، فعبد الله أخوه، صحابي جليل، من شهداء أُحد.
العقد خالد بن سعيد بن العاص، وأصدَقَها عنه النجاشي أربعمئة دينار، وحملها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنة سبع
(1)
.
ولما جاء أبوها عام الفتح ليشدَّ العقد [الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم]
(2)
دخل عليها فثَنَتْ عنه فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: والله يا بنيَّة ما أدري أرغبتِ بهذا الفراش عنِّي أم بي عنه؟! فقالت: بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت رجل مشرك، فقال لها: والله يا بنيَّة لقد لقيتِ بعدي شرًّا
(3)
.
وقد كانت هي من سادات النساء وأمهات المؤمنين، ومن العابدات الورعات.
قال محمد بن عمر الواقدي: حدثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي سَبْرة، عن عبد المجيد بن سُهَيل
(4)
، عن عوف بن الحارث قال: سمعت عائشة تقول: دعتني أمُّ حَبيبة عند موتها فقالت: قد كان يكون بيننا ما يكون بين الضَّرائر. فقلت: يغفرُ اللهُ لي ولكِ ما كان من ذلك كلِّه وتجاوزت عنه وحاللتك، فقالت: سَرَرْتيني سرَّكِ الله. وأرسلت إلى أمِّ سلمة، فقالت لها مثل ذلك
(5)
.
ثم دخلت سنة خمس وأربعين
فيها ولَّى معاوية البصرة للحارث بن عبد الله الأزدي، ثم عزله عنها بعد أربعة أشهر، وولَّى زيادًا [فقدم زياد]
(6)
الكوفة وعليها المغيرة بن شعبة، فأقام بها ليأتيه رسول معاوية بولاية البصرة، فظنَّ المغيرة أنه قد جاء على إمرة الكوفة، فبعث إليه وائل بن حُجْر ليعلم خبره، فاجتمع به فلم يقدر منه على شيء، فجاء البريد من معاوية إلى زياد بأن يسير إلى البصرة واليًا عليها، واستعمله على خراسان وسِجِسْتان، ثم جمع له الهند والبحرين وعمان.
ودخل زياد البصرة في مستهل جمادى الأولى، فقام في أول خطبة خطبها - وقد وجد الفسق ظاهرًا بالبصرة -[فقال فيها: أيها الناس! كأنكم لم تَسْمعوا ما أعدَّ الله من الثواب لأهل الطّاعة، والعذاب لأهل المعصية، أتكونون كمَنْ طَرَقَتْ عينَه الدنيا، وسَدَّتْ مسامعَه الشهوات فاختار الفانية على الباقية
…
]
(7)
.
(1)
طبقات ابن سعد (8/ 97 - 99).
(2)
من (أ) فقط.
(3)
طبقات ابن سعد (8/ 99 - 100).
(4)
في الأصل: سَهْل، وهو خطأ.
(5)
طبقات ابن سعد (8/ 100).
(6)
من (ط) و (ب).
(7)
ما بين حاصرتين من (ط) و (ب) و (م)، وهو جزء من خطبته المعروفة بالبتراء التي أكثرث كتب التاريخ والأدب من تناقلها، انظر مثلًا: تاريخ الطبري (5/ 217 - 221) والبيان والتبيين (2/ 61 - 66) والعقد الفريد (4/ 110 - 112).
ثم ما زال يُقيم أمر السُّلطان ويجرِّد السيف حتى خافه الناسُ خوفًا عظيمًا، وتركوا ما كانوا فيه من المعاصي الظاهرة، واستعانَ على عمله بجماعة من الصَّحابة، وولَّى عمران بن حُصين القضاء بالبصرة، وولى الحكم بن عَمرو نيابة خُراسان، وولَّى سَمُرَة بن جُنْدب وعبد الرحمن بن سَمُرة وأنس بن مالك.
وكان زياد حازم الرأي، ذا هيبة، داهية، وكان مفوَّهًا فصيحًا بليغًا. قال الشعبي: ما سمعت متكلِّمًا قطُّ تكلَّم فأحسن إلَّا أحببتُ أن يسكت خوفًا من أن يُسيء إلّا زيادًا، فإنه كان كلَّما أكثر كان أجودَ كلامًا.
وقد كانت له وَجَاهة عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وفي هذه السنة غزا الحكم بن عمرو الغِفَاري - نائب زياد على خراسان - جبل الأَشَلّ
(1)
عن أمر زياد له في ذلك، فقتل منهم خلقًا كثيرًا، وغَنِمَ أموالًا جمَّة، فكتب إليه زياد: إنَّ أمير المؤمنين قد جاء كتابه أن يُصطفى له كلُّ صفراء وبيضاء - يعني الذهب والفضَّة - من هذه الغنيمة لبيت المال. فكتب الحكم بن عمرو الغِفَاري: إنَّ كتاب الله مقدَّم على كتاب أمير المؤمنين، وإنه - والله - لو كانت السماوات والأرض على عبد
(2)
فاتَّقى الله لجعل له مَخْرجًا. ثم نادى في الناس: أن اغدُوا على قسم غنيمتكم، فقسمَها بينهم وخالف زيادًا فيما كتب إليه عن معاوية، وعزل الخُمس كما أمر الله ورسولُه. ثم قال الحكم: اللهمَّ إنْ كان لي عندك خيرٌ فاقبِضْني، فمات بمرو من خراسان رحمه الله.
قال ابن جرير: وحج بالناس في هذه السنة مروان بن الحكم، وكان أميرًا على المدينة [وكانت الولاة والعمال هم الذين كانوا في السنة الماضية]
(3)
.
وفي هذه السنة توفي:
زيد بن ثابت الأنصاري
(4)
: أحد كُتّاب الوحي، وقد ذكرنا ترجمته فيهم في أواخر السِّيرة، وهو
(1)
في الأصول: الأسل وهو تصحيف. قال ياقوت في معجمه (1/ 200) الأشلّ: جبل في ثغور خراسان، غزاه الحكم بن عمرو الغفاري.
(2)
في ط: عدو.
(3)
ما بين حاصرتين من أ فقط، وشبيهه في تاريخ الطبري (5/ 226).
(4)
طبقات ابن سعد (2/ 358) طبقات خليفة (89) تاريخ خليفة (207) مسند أحمد (5/ 181) تاريخ البخاري الكبير (3/ 380) ثقات العجلي (170) المعارف (260) المعرفة والتاريخ: (1/ 300، 483) فضائل الصحابة للنسائي (164) أخبار القضاة (1/ 107) الجرح والتعديل (3/ 558) ثقات ابن حبان (3/ 135) مشاهير علماء الأمصار (ت 22) معجم الطبراني الكبير (5/ 111) المستدرك (3/ 421) جمهرة ابن حزم (348) الاستيعاب (2/ 537) طبقات الشيرازي (ص 46) الجمع لابن القيسراني: (1/ 142) تاريخ ابن عساكر (6/ ورقة 278/ آ) أسد الغابة (2/ 278) تهذيب الأسماء واللغات (1/ 200) تهذيب الكمال (10/ 24) طبقات علماء الحديث (1/ 89) سير أعلام النبلاء (2/ 426) تاريخ الإسلام (2/ 225) تذكرة الحفاظ (1/ 30) العبر (1/ 53) الكاشف (1/ 264) معرفة القراء=
الذي كتب هذا المصحف الإمام الذي بالشام عن أمر عثمان له في ذلك، وهو خط جيِّد قويٌّ جدًّا فيما رأيتُه.
وقد كان زيد بن ثابت من أشدِّ الناس ذكاءً، تعلَّم لسان يهود وكتابهم في خمسة عشر يومًا. [قال أبو الحسن بن البراء: تعلَّمَ الفارسيَّة من رسول كسرى في ثمانية عشر يومًا]
(1)
وتعلَّمَ الحبشيَّة والروميَّة والقبطيَّة من خدّام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الواقدي: وأول مشاهده الخندقُ وهو ابن خمس عشرة سنة.
وفي الحديث الذي رواه أحمد والنَّسائي
(2)
: "وأعلَمُهُمْ بالفَرائِضِ زيدُ بنُ ثابت".
وقد استعمله عمر بن الخطاب رضي الله عنه على القضاء.
وقال مسروق: كان زيد بنُ ثابت من الراسخين في العلم
(3)
.
وقال محمد بن عمرو
(4)
، عن أبي سلَمة، عن ابن عباس: أنه أَخَذَ لزيد بن ثابت بالرِّكَاب، فقال له: تنحَّ يا بنَ عمِّ رسول الله، فقال: لا، هكذا نفعل بعلمائنا وكبرائنا
(5)
.
وقال الأعمش: عن ثابت بن
(6)
عُبيد قال: كان زيد بن ثابت من أَفكه الناس في بيته، ومن أَزْمَتِه
(7)
إذا خرج إلى الرِّجال.
وقال محمد بن سيرين: خرج زيد بن ثابت إلى الصلاة، فوجد الناس راجعين منها، فتوارى منهم وقال: مَنْ لا يَسْتحيي من الناس لا يَسْتحيي مِنَ الله
(8)
.
= الكبار (1/ 36) تذهيب التهذيب (1/ ورقة 248) إكمال مغلطاي (2/ ورقة 50) مجمع الزوائد (9/ 345) غاية النهاية (1/ 296) نهاية السول (ورقة 105) تهذيب التهذيب (3/ 399) الإصابة (4/ 41) النجوم الزاهرة (1/ 130) طبقات الحفاظ (ص 8) خلاصة الخزرجي (127) كنز العمال (13/ 393) شذرات الذهب (1/ 237) تاريخ التراث العربي (2/ 18).
(1)
ما بين حاصرتين من (ط) و (ب).
(2)
أحمد في مسنده (3/ 184)، والنسائي في الكبرى رقم (8287). وأخرجه أيضًا الترمذي رقم (3791)، وابن ماجه (154) وهو حديث صحيح.
(3)
طبقات ابن سعد: 2/ 360.
(4)
تحرف في (أ) إلى: محمد بن عمر. ومحمد بن عمرو: هو أبو الحسن محمد بن عمرو بن علقمة الليثي المدني، راوية أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف.
(5)
أخرجه ابن سعد في الطبقات (2/ 360) من طريق محمد بن عبد الله الأنصاري بهذا الإسناد، وصححه الحاكم (3/ 423).
(6)
وقعت في ط: عن، وهو خطأ.
(7)
في ط: أذمها تحريف. وقوله: من أزمته، أي: من أرزنهم وأوقرهم.
(8)
سير أعلام النبلاء (2/ 439).
مات في هذه السنة وقيل: في سنة خمس وخمسين، والصحيح الأول، وقد قارب الستِّين، وصلَّى عليه مروان بن الحكم. وقال ابن عباس: لقد مات اليوم علمٌ كثير
(1)
.
وقال أبو هريرة: مات حَبْرُ هذه الأمَّة
(2)
.
وفيها مات:
سَلَمة بن سَلامَة
(3)
: ابن وَقْش
(4)
عن سبعين سنة.
وقد شهد بدرًا وما بعدَها.
ولا عَقِبَ له.
وعاصِمُ بن عَدِيّ
(5)
: وقد استخلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج إلى بدر على قُباء وأهلِ العالية، وشهد أُحدًا وما بعدها، وتوفي عن خمس عشرة
(6)
ومئة سنة.
وقد بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو ومالك بن الدُّخْشُم إلى مسجد الضِّرَار فحرَّقاه
(7)
.
(1)
وقع في (ط): عالم كبير. وقد أخرجه ابن سعد في طبقاته (2/ 361 - 362) والحاكم (3/ 428) والطبراني برقم (4749) والفسوي (1/ 485) من طرق عن حماد ين سلمة، عن عمار بن أبي عمار قال: لما مات زيد بن ثابت جلسنا إلى ابن عباس في ظل، فقال: هكذا ذهاب العلماء، لقد دفن اليوم علم كثير. ورجاله ثقات.
(2)
أخرجه ابن سعد في طبقاته (2/ 262) والطبراني برقم (4750) والحاكم (3/ 427 - 428) من طرق عن حماد بن زيد، عن يحيى بن سعيد قال: قال أبو هريرة حين مات زيد بن ثابت: اليوم مات حبر هذه الأمة، ولعل الله أن يجعل في ابن عباس منه خلفًا. ورجاله ثقات، إلا أن يحيى بن سعيد لم يسمع من أبي هريرة.
(3)
طبقات ابن سعد (3/ 439) طبقات خليفة (77) تاريخ خليفة (207) مسند أحمد (3/ 467) تاريخ البخاري الكبير (4/ 68) المعرفة والتاريخ (1/ 334) الجرح والتعديل (4/ 161) مشاهير علماء الأمصار (ت 74) المستدرك (3/ 417) الاستبصار (222) الاستيعاب (2/ 641) أسد الغابهّ (2/ 428) تاريخ الإسلام (2/ 227) سير أعلام النبلاء (2/ 355) الإصابة (4/ 230).
(4)
تحرف في (ب) إلى: قيس.
(5)
طبقات ابن سعد (3/ 466) مسند أحمد (5/ 450) تاريخ البخاري الكبير (6/ ت 3037) المعارف (326) المعرفة والتاريخ (2/ 215) الجرح والتعديل (6/ 345) ثقات ابن حبان (3/ 286) معجم الطبراني الكبير (17/ 171) الاستيعاب (2/ 781) أسد الغابة (3/ 114) تهذيب الكمال (13/ 507) الكاشف (2/ 46) تجريد أسماء الصحابة (1/ ت 2976) العبر (1/ 53) تذهيب التهذيب (2/ ورقة 111) إكمال مغلطاي (2/ ورقة 218) نهاية السول (ورقة 154) تهذيب التهذيب (5/ 49) الإصابة (2/ ت 4353) خلاصة الخزرجي (182) شذرات الذهب (1/ 238).
(6)
وقع في (ط): خمس وعشرين، وهو خطأ.
(7)
كان ذلك أثناء غزوة تبوك. سيرة ابن هشام (2/ 529) وطبقات ابن سعد (3/ 466).
وفيها توفيت:
حَفْصَة بنتُ عمر
(1)
: ابن الخطاب، أمُّ المؤمنين، وكانت قبلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت خُنَيْس
(2)
بن حُذافة السَّهمي، وهاجرتْ معه إلى المدينة، فتوفي عنها بعد بدر، فلما انقضتْ عدَّتُها عرضها أبوها على عثمان بعد موت زوجته رُقَيَّة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبى أن يتزوَّجها، فعرضها على أبي بكر، فلم يردَّ عليه شيئًا، ثم عن قريب خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتزوَّجها، فعاتب عمر أبا بكر بعد ذلك، فقال له أبو بكر:[ما منعني أن أردَّ عليك إلّا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد ذكرها]
(3)
ولو تركها لتزوَّجْتُها
(4)
.
وقد روينا في الحديث: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلَّق حَفْصَة ثم راجعها"
(5)
.
وفي رواية: "أن جبريل أمره بمراجعتها وقال: إنها صَوَّامة قَوّامة، وهي زوجتُكَ في الجنَّة"
(6)
.
وقد أجمع الجمهور على أنَّها توفيت في شعبان من هذه السنة عن ستّين سنة، وقيل: إنها توفيتْ أيام عثمان، والأول أصح، والله أعلم.
ثم دخلت سنة ست وأربعين
فيها شتا المسلمون ببلاد الرُّوم لأجل الجهاد مع أميرهم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وقيل: كان أميرهم غيره، فالله أعلم.
[وحج بالناس فيها عُتْبة بن أبي سفيان أخو معاوية، والعمال على البلاد هم المتقدم ذكرهم]
(7)
.
(1)
طبقات ابن سعد (8/ 81) طبقات خليفة (334) تاريخ خليفة (66) مسند أحمد (6/ 283) المعارف (135) وغيرها، المستدرك (4/ 14) الاستيعاب (4/ 1811) أسد الغابة (7/ 65) تهذيب الكمال (ورقة 1688) تاريخ الإسلام (2/ 220) سير أعلام النبلاء (2/ 227) الكاشف (3/ 423) العبر (1/ 50) مجمع الزوائد (9/ 244) تهذيب التهذيب (12/ 411) الإصابة (12/ 197) خلاصة الخزرجي (490) كنز العمال (13/ 697) شذرات الذهب (1/ 229) أعلام النساء لكحالة (1/ 274).
(2)
تحرف في أ إلى: حنيش، وفي ط إلى: حنيس.
(3)
مكانه في ط و ب: إن رسول الله كان قد ذكرها، فما كنت لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(4)
أخرجه البخاري (4005) في المغازي و (5122) في النكاح من حديث ابن عمر عن عمر.
(5)
حديث صحيح أخرجه أبو داود (2283) في الطلاق: باب في المراجعة، وابن ماجه (2016) والنسائي (6/ 213) من حديث عمر. وفي المجتبى للنسائي: ابن عمر، محرف.
(6)
رواه الحاكم (4/ 15) وأبو نعيم (2/ 50) وهو حديث حسن بطرقه.
(7)
ما بين حاصرتين من (ط) و (ب) و (م).
وممن توفي في هذه السنة:
سالم بن عمير
(1)
: أحد البَكّائين المذكورين في القرآن
(2)
.
شهد بدرًا وما بعدَها من المشاهد كلها.
سراقة بن كعب
(3)
: شهد بدرًا وما بعدها.
عبد الرحمن بن خالد بن الوليد
(4)
: القرشي المخزومي. وكان من الشُّجعان المعروفين، والأبطال المشهورين كأبيه. وكان قد عظم [أمره، وعلا قدره]
(5)
ببلاد الشام كذلك حتى خاف منه معاوية.
ومات وهو مسمومٌ، رحمه الله وأكرم مثواه.
قال ابن مَنْدة وأبو نعيم الأصبهاني: أدرك النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد روى ابن عساكر من طريق أبي عمر: أن
(6)
عمرو بن قيس روى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحِجَامة بين الكتفَيْن. قال البخاري
(7)
: وهو منقطع. - يعني مرسلًا -.
وقال الزبير بن بَكّار
(8)
: كان عظيم القدر في أهل الشام، شهد صفِّين مع معاوية. وكان كعبُ بن جُعَيل مدَّاحًا له ولأخويه مُهاجر وعبد الله.
وقال ابن سُميع: كان يَلي الصَّوائف زمن معاوية، وقد حفظ عن معاوية.
(1)
سيرة ابن هشام (2/ 635 - 636) طبقات ابن سعد (3/ 480) الاستيعاب (2/ 567) أسد الغابة (2/ 311) الإصابة (ت 3046).
(2)
قال الواحدي في أسباب نزول القرآن (ص 258): قوله تعالى: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} [التوبة: 92] نزلت في البكائين، وكانوا سبعة .... أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا نبي الله إن الله عز وجل قد ندبنا إلى الخروج معك، فاحملنا على الخفاف المرقوعة والنعال المخصوفة نغزوا معك. فقال: لا أجد ما أحملكم عليه. فتولوا وهو يبكون. وذكر الخلاف في أسماء هؤلاء السبعة ابن كثير في تفسيره (2/ 381 - 382) وابن القيم في زاد المعاد (3/ 528) وغيرهما.
(3)
طبقات ابن سعد (3/ 487) الجرح والتعديل (4/ 308) الاستيعاب (2/ 580) أسد الغابة (2/ 330) الإصابة (ت 3114).
(4)
نسب قريش (ص 324) المعرفة والتاريخ (3/ 319) الجرح والتعديل (5/ 229) مشاهير علماء الأمصار (ت 352) الاستيعاب (2/ 829) أسد الغابة (3/ 440) تاريخ دمشق (34/ 324) العبر (1/ 53) الإصابة (ت 6207) شذرات الذهب (1/ 239).
(5)
من (أ) فقط.
(6)
في (ط): من طريق أبي عمران عمرو .. وهو خطأ، فعمرو بن قيس كنيته: أبو ثور .. ترجمته في مختصر تاريخ دمشق (19/ 280) وغيره.
(7)
تاريخه الكبير (5/ 277)، ونقله ابن عساكر في تاريخ دمشق (34/ 326).
(8)
ينظر نسب قريش لمصعب الزبيري (324)، وتاريخ دمشق (34/ 326).
وقد ذكر ابن جرير
(1)
وغيره: أنَّ رجلًا يقال له ابن أُثَال - وكان رئيس الذِّمَّة بأرض حمص - سقاه شَربةً فيها سمٌّ فمات.
وزعم بعضهم أن ذلك عن أمر معاوية له في ذلك، ولا يصح، والله أعلم.
وقد رثاه بعضهم
(2)
فقال:
أَبُوكَ الذي قادَ الجيوشَ مُغَرِّبًا
…
إلى الرُّوم لمَّا أعطَتِ الخَرْجَ فارِسُ
وكمْ مِنْ فَتىً نَبَّهْتَهُ بعدَ هَجْعَةٍ
…
بقَرْع لجام وهو أَكتَعُ ناعِسُ
وما يَسْتَوي الصَّفّانِ صَفٌّ لخالدٍ
…
وصَفٌّ علَيهِ من دِمَشْقَ البَرانِسُ
وقد ذكروا أن خالد بن عبد الرحمن بن خالد قدم المدينة، فقال له عروة بن الزُّبير: ما فعل ابن أُثال؟ فسكت خالد بن عبد الرحمن، ثم رجع إلى حمص فثار على ابن أُثال، فقتلَه، [فحبسه معاوية ثم أطلقه، ثم قدم المدينة، فقال له عروة: ما فعل ابن أُثال]
(3)
؟ فقال: قد كفيتُك إيّاه، ولكن ما فعل ابنُ جرموز؟ فسكت عروة.
وفيها توفي محمد بن مَسْلمة في قول، وقد قدَّمنا وفاته.
هَرِم بن حَيّان
(4)
العَبْدي
(5)
: كان أحد عمّال عمر بن الخطّاب، ولقي أُويسًا القَرَني، وكان من عقلاء الناس وعلمائهم وعبّادهم.
ويقال: إنه لما دُفن جاءتْ سحابة فروَّتْ قبره، ونبتَ العشبُ عليه من وقته، والله أعلم.
ثم دخلت سنة سبع وأربعين
فيها شتا المسلمون ببلاد الروم [لأجل الجهاد]
(6)
.
(1)
تاريخ الطبري (5/ 227).
(2)
هو كعب بن جعيل الذي ورد ذكره قبل أسطر. والأبيات في نسب قريش (ص 326)، وتاريخ دمشق (34/ 332).
(3)
ما بين حاصرتين سقط من (ط). تاريخ الطبري (5/ 229).
(4)
كذا في (ب)، ومثله في مصادر ترجمته اللاحقة، ووقع في (أ) و (ط) والقاموس المحيط: حبان، خطأ.
(5)
طبقات ابن سعد (7/ 131) طبقات خليفة (ت 1581) الزهد لأحمد (331) المعمرون والوصايا (159) تاريخ البخاري الكبير (8/ 243) المعارف (435) الجرح والتعديل (9/ 110) مشاهير علماء الأمصار (ت 1182) حلية الأولياء (2/ 119) الاستيعاب (4/ 1537) أسد الغابة (5/ 391) تاريخ الإسلام (3/ 211) سير أعلام النبلاء (4/ 48) الإصابة (ت 8947) النجوم الزاهرة (1/ 132).
(6)
من (أ) فقط.
وفيها عزل معاويةُ عبدَ الله بن عمرو بن العاص عن مصر، وولَّى عليها معاوية بن حُدَيج
(1)
.
وحج بالناس عتبة - وقيل: أخوه عَنْبسة - بن أبي سفيان، فالله أعلم.
وممن توفي فيها:
قيسُ بنُ عاصِم المِنْقَري
(2)
: كان من سادات الناس في الجاهليّة والإسلام، وكان ممَّن حرَّم الخمر في الجاهليَّة، وذلك أنه سكر يومًا فعبثَ بذات مَحْرَم منه فهربت منه، فلمّا أصبح قيل له في ذلك، فحرَّمها وقال في ذلك:
رأيتُ الخمرَ مَنْقَصَةً وفيها
…
مَقَابحُ تَفْضَحُ الرجُلَ الكَريما
فلا واللهِ أَشْرَبُها حَيَاتي
…
ولا أَشْفي بها أبدًا سَقيما
(3)
وكان إسلامه مع وفد بني تميم
(4)
.
وفي بعض الأحاديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "هذا سَيِّدُ أهلِ الوَبَر"
(5)
.
وكان جوادًا ممدَّحًا كريمًا. وهو الذي يقول فيه الشاعر
(6)
يوم مات:
وما كانَ قيسٌ هُلْكُهُ هُلْكَ واحدٍ
…
ولكنَّهُ بُنْيانُ قومٍ تَهَدَّما
[وقيل: إنما قال هذا البيت الخنساء في أخيها صخر]
(7)
.
وقال الأصمعي: سمعت أبا عمرو بن العلاء وأبا سفيان بن العلاء يقولان: قيل للأحنف بن قيس: ممَّن تعلمتَ الحلم؟ قال: من قيس بن عاصم المِنْقَري، لقد اختلفنا إليه في الحكم كما يُختلف إلى الفقهاء في الفقه، فبينا نحن عنده يومًا، وهو قاعد بِفنائه، محتبٍ بكسائه أتته جماعةٌ فيهم مقتول ومكتوف - المقتول ابنُه، والمكتوف ابنُ أخيه - فقالوا: هذا ابنُك قتلَه ابنُ أخيك، قال: فوالله ما حلَّ
(1)
تصحف في الأصول إلى: خديج.
(2)
طبقات ابن سعد (7/ 36) مسند أحمد (5/ 61) المعمرون والوصايا (135) المعارف (301) المعرفة والتاريخ (1/ 296) مشاهير علماء الأمصار (ت 227) معجم الشعراء للمرزباني (199) الاستيعاب (3/ 1294) أسد الغابة (4/ 432) تهذيب الكمال (ورقة 1138) الكاشف (2/ 349) تهذيب التهذيب (8/ 339) الإصابة (ت 7194) خلاصة الخزرجي (317).
(3)
البيتان مع بيتين آخرين في الاستيعاب (3/ 1295) وأسد الغابة (4/ 433) وتهذيب الكمال (ورقة 1138 - 1139) ورواية الشطر الأول في هذه المصادر: رأيت الخمر صالحة وفيها
…
(4)
وذلك سنة سبع من الهجرة كما في سيرة ابن هشام (2/ 560 - 561).
(5)
رواه الطبراني في الكبير (18/ 339) والبزار رقم (2744) وفي إسناده ضعف، ورواه أيضًا البخاري في "الأدب المفرد" رقم (953) وغيره وهو حسن لغيره.
(6)
هو عبدة بن الطبيب، وسيأتي تخريج البيت بعد أسطر.
(7)
ما بين حاصرتين من (أ) فقط.
حَبْوَته حتى فرغ من كلامه، ثم التفتَ إلى ابن له في المجلس
(1)
فقال: أَطلِقْ عن ابن عمِّك، ووارِ أخاك، واحمل إلى أمِّه مئة من الإبل فإنها غريبة. [ثم نظر إلى ابن أخيه فقال له: لقد نقصتَ عددَك، وقطعتَ رحمَك، وعصَيتَ ربَّك، وأطعتَ شيطانك]
(2)
.
ويقال: إنه لمّا حضرته الوفاةُ جلس حولَه بنوه - وكانوا اثنين وثلاثين ذكرًا - فقال لهم: يا بَنيَّ سَوِّدُوا عليكم أكبرَكم تخلفوا أباكم، ولا تُسَوِّدوا أصغركم فيزدري بكم أكفاؤكم. وعليكم بالمال واصْطِناعه فإنه نعمَ ما يهبه
(3)
الكريم، ويُستغنى به عن اللئيم. وإيّاكم ومسألةَ الناس فإنها من أخَسِّ مكسَبة الرجل. ولا تَنُوحوا عليَّ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يُنَح عليه. ولا تَدْفنوني حيث يشعر بكرُ بن وائل فإني كنتُ أُعاديهم في الجاهليّة
(4)
.
وفيه يقول الشاعر
(5)
:
عليكَ سَلامُ اللهِ قيسَ بنَ عاصِم
…
ورحمتُهُ ما شاءَ أنْ يَتَرحَّما
تحيَّةَ مَنْ أوليتَهُ منكَ مِنَّةً
…
إذا ذكرت أمثالها تملأ الفما
(6)
فما كانَ قيسٌ هُلْكُهُ هُلْكَ واحدٍ
…
ولكنَّهُ بُنْيانُ قومٍ تَهَدَّما
ثم دخلت سنة ثمان وأربعين
فيها شتا أبو عبد الرحمن القَيْني
(7)
بالمسلمين ببلاد أنطاكية [لأجل الجهاد]
(8)
.
وفيها غزا عُقبة بن عامر بأهل مصر البحر.
وفيها حجَّ بالناس مروان بن الحكم نائبُ المدينة.
(1)
في (ط) و (ب): المسجد.
(2)
ما بين حاصرتين من أ فقط، وهو متفق مع ما في الاستيعاب (3/ 1295) وأسد الغابة (4/ 433).
(3)
كذا في الأصول، وفي مراجع التخريج: فإنه نعم منبهة للكريم.
(4)
أورد هذه الوصية أبو حاتم في كتابه المعمرون والوصايا (ص 135) وأيضًا ابن عبد البر في الاستيعاب (3/ 1296) وابن الأثير في أسد الغابة (4/ 434).
(5)
هو عبدة بن الطبيب، والأبيات في الأغاني (21/ 25 - 26) وغيره.
(6)
هكذا ورد هذا البيت في جميع الأصول، وهو خطأ؛ إذ أن الشطر الثاني هو من قصيدة لعمرو بن العاص كما تقدم في ترجمته، وجاء على الصواب في مصادر الترجمة على النحو الآتي:
تحية من أوليته منك منة
…
إذا زارَ عَنْ شَحْطٍ بلادَكَ سَلما
(7)
في ط: "القتبي"، خطأ. ينظر توضيح المشتبه لابن ناصر الدين (7/ 181).
(8)
ما بين حاصرتين من (أ) فقط.
ثم دخلت سنة تسع وأربعين
فيها غزا يزيد بن معاوية بلاد الروم حتى بلغ قُسْطنطينيَّة، وكان معه جماعة من سادات الصحابة منهم: ابن عمر، وابن عباس، وابن الزُّبير، وأبو أيوب الأنصاري. وقد ثبت في "صحيح البخاري"
(1)
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أَوَّلُ جيشٍ [مِنْ أُمتي] يغزونَ مدينةَ قَيْصَر مغفورٌ لهم" فكان هذا الجيش أول من غزاها، وما وصلوا إليها حتى بلغوا الجهد. وبها
(2)
توفي أبو أيوب خالد بن زيد الأنصاري، ولم يَمُتْ في هذه الغزوة، بل بعدها في سنة بضع وخمسين كما سيأتي.
وفيها عزل معاويةُ مروانَ عن المدينة، وولَّى عليها سعيد بن العاص، فاستقضى سعيد عليها أبا سلَمة بن عبد الرحمن بن عوف.
وفيها شتا مالك بن هُبيرة الفَزَاري بأرض الروم.
وفيها كانت غزوة فَضالة بن عُبيد، وشتا هنالك، ففتح البلد، وغنم شيئًا كثيرًا [من الرقيق وغيره]
(3)
.
وفيها كانت صائفة عبد الله بن كُرْز البَجَلي.
وفيها وقع الطاعون بالكوفة، فخرج منها المغيرة بن شُعبة فارًّا، فلمّا ارتفع الطاعون رجع إليها، فأصابه الطاعون فمات. والصحيح أنه مات سنة خمسين كما سيأتي.
[وفيها عزل معاويةُ مروانَ بن الحكم عن المدينة في شهر ربيع الأول منها، وولَّى عليها سعيد بن العاص في شهر ربيع الآخر، فكانت ولاية مروان على المدينة لمعاوية ثمان سنين وشهرين، وكان قاضي مروان على المدينة عبد الله بن الحارث بن نوفل، فلمّا ولي سعيد عزله عن القضاء، واستقضى أبا سلَمة بن عبد الرحمن بن عوف]
(4)
.
وفيها جمع معاويةُ بين ولاية الكوفة والبصرة لزياد، فكان أول مَنْ جُمع له بينهما، فكان يُقيم في هذه ستة أشهر، وفي هذه ستة أشهر، وكان إذا سار من البصرة استخلف عليها سَمُرَة بن جُنْدب.
(1)
البخاري في الجهاد/ 93 برقم (2924) وسيعيده المؤلف ضمن ترجمة يزيد بن معاوية.
(2)
يعني القسطنطينية. ووقعت في ط: وفيها، وهو خطأ، إذ يتوجه الكلام إلى الغزوة.
(3)
ما بين حاصرتين من (أ) فقط.
(4)
ما بين حاصرتين من (أ) فقط، وبعضه في (ب) و (م). أما المطبوع فلا يوجد فيه شيء منه لأنه تقدم مختصرًا في أول أحداث هذه السنة.
وحجَّ بالناس في هذه السنة سعيدُ بن العاص.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأعيان:
الحسنُ بنُ عليِّ بن أبي طالب
(1)
: أبو محمد القرشيُّ الهاشميُّ، سِبطُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن ابنته فاطمة الزَّهراء، ورَيْحانتُه، وأشبهُ خلق الله به في وجهه.
ولد للنصف من رمضان سنة ثلاث من الهجرة، فحنَّكه رسول الله بريقه، وسمَّاه حسنًا. وهو أكبر ولد أبويه.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبُّه حبًّا شديدًا حتى كان يقبِّل زُبيبة
(2)
وهو صغير، وربما مصَّ لسانه واعتنقه وداعبه. وربما جاء ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم ساجدٌ في الصلاة، فيركب على ظهره، فيقرّه على ذلك ويطيل السجود من أجله، وربما صعد معه إلى المنبر.
وقد ثبت في الحديث أنه عليه السلام بينما هو يخطُب إذ رأى الحسن والحسين مقبلَين، فنزل إليهما، فاحتضنهما وصعِد بهما معه إلى المنبر وقال:"صدق الله {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15] إني رأيتُ ابنيَّ هذَين يمشِيَانِ ويَعْثُرانِ فلَم أَملِكْ أَنْ نزلتُ إليهما"
(3)
.
ثم قال: "إنَّكم لَمِنْ روحِ الله، وإنَّكم لتُبَخِّلون وتُجَبِّنون"
(4)
.
وقد ثبت في "صحيح البخاري"
(5)
عن أبي عاصم، عن عمر بن سعيد بن أبي حسين، عن ابن
(1)
نسب قريش (46) طبقات خليفة (ت 8، 822، 1482، 1968) مسند أحمد (1/ 199) المحبر (18، 19، 45، 46، 57، 66، 293، 326) تاريخ البخاري الكبير (2/ 286) تاريخ البخاري الصغير (الفهرس)، ثقات العجلي (116) المعارف (الفهرس)، المعرفة والتاريخ (الفهرس)، تاريخ أبي زرعة الدمشقي (587، 588 وغيرها) تاريخ الطبري (5/ 158) الجرح والتعديل (3/ 19)، مروج الذهب (3/ 4) ثقات ابن حبان (ورقة 90) مشاهير علماء الأمصار (ت 6) معجم الطبراني الكبير (3/ 5) حلية الأولياء (2/ 35) جمهرة أنساب العرب (38، 39) الاستيعاب (1/ 383) تاريخ بغداد (1/ 138) تاريخ ابن عساكر (4/ 244/ ب) جامع الأصول (9/ 27) أسد الغابة (2/ 10) الكامل في التاريخ (3/ 460) تهذيب الأسماء واللغات (1/ 158/1) وفيات الأعيان (2/ 65) مختصر تاريخ دمشق (7/ 5) تهذيب الكمال (6/ 220) تاريخ الإسلام (2/ 216) تذهيب التهذيب (1/ 140/ أ) سير أعلام النبلاء (3/ 245) الكاشف (1/ 164) العبر (1/ 55) الوافي بالوفيات (12/ 107) مرآة الجنان (1/ 122) مجمع الزوائد (9/ 174) العقد الثمين (4/ 157) نهاية السول (ورقة 65) الإصابة (1/ 328) تهذيب التهذيب (2/ 295) تاريخ الخلفاء (298) خلاصة الخزرجي (79) شذرات الذهب (1/ 242) تهذيب ابن عساكر (4/ 202).
(2)
سير أعلام النبلاء (3/ 253).
(3)
أخرجه أحمد في مسنده (5/ 354) وأبو داود (1109) والترمذي (3774) وابن ماجه (3600) والنسائي (3/ 192) وهو حديث حسن، كما قال الإمام الترمذي.
(4)
أخرجه أحمد في مسنده (6/ 409) والترمذي (1910) في البر والصلة: باب ما جاء في حب الولد، وإسناده ضعيف.
(5)
رقم (3542) قي المناقب، باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم.
أبي مُلَيكة، عن عُقبة بن الحارث أن أبا بكر صلَّى بهم العصر بعد وفاة رسول الله بليالٍ ثم خرج هو وعليٌّ يمشِيان، فرأى الحسن يلعبُ مع الغِلْمان، فاحتملَه على عُنُقه وجعل يقول:
بأَبي شِبهُ النَّبي
…
ليسَ شَبيهًا بعَلي
قال: وعليٌّ يضحَك.
وروى سفيان الثَّوري وغير واحد قالوا: حدثنا إسماعيل بن أبي خالد، سمعت أبا جُحَيفة يقول:"رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان الحسنُ بنُ علي يُشْبِهُه".
ورواه البخاري ومسلم
(1)
من حديث إسماعيل بن أبي خالد.
قال وكيع: ولم يسمع إسماعيل من أبي جُحَيْفة إلا هذا الحديث.
وقال الإمام أحمد
(2)
: حدثنا أبو داود الطَّيالسي، حدثنا زَمْعَة، عن ابن أبي مُليكة قال: كانت فاطمة تُنقِّز الحسن بن علي وتقول:
بأَبي شِبهُ النَّبي
…
ليسَ شَبيهًا بعَلي
وقال عبد الرزاق
(3)
وغيره: عن مَعْمر، عن الزُّهري، عن أنس قال:"كان الحسنُ بنُ عليٍّ أشبَهَهُم وَجْهًا برسول الله صلى الله عليه وسلم".
ورواه أحمد
(4)
عن عبد الرزاق بنحوه.
وقال الإمام أحمد
(5)
: حدثنا حجّاج، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن هانئ، عن علي قال:"الحسنُ أَشبَهُ [الناس] برسول الله صلى الله عليه وسلم ما بينَ الصَّدرِ إلى الرَّأس، والحسينُ أَشبَهُ الناسِ برسول الله ما كانَ أسفلَ مِنْ ذلك".
ورواه الترمذي
(6)
من حديث إسرائيل، وقال: حسن غريب.
وقال أبو داود الطيالسي
(7)
: حدثنا قيس، عن أبي إسحاق، عن هانئ بن هانئ، عن علي قال:"كان الحسنُ أشبَهَ الناسِ برسول الله مِنْ وَجْههِ إلى سُرَّته، وكان الحسينُ أشبَهَ الناسِ به ما أسفلَ منْ ذلك".
(1)
البخاري رقم (3543) في المناقب: باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم، ومسلم (2343) في الفضائل.
(2)
في مسنده (6/ 283) وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد"(9/ 176) وإسناده ضعيف.
(3)
في المصنف (20984).
(4)
في مسنده (3/ 164)، وهو حديث صحيح.
(5)
في مسنده (1/ 99) وإسناده ضعيف.
(6)
برقم (3779)، وإسناده ضعيف.
(7)
في مسنده رقم (130) وفي إسناده ضعف.
وقد روي عن ابن عباس وابن الزبير: أن الحسنَ بن علي كان يُشبِهُ النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال الإمام أحمد
(1)
: حدثنا عارِم بن الفَضْل
(2)
، حدثنا مُعتمر، عن أبيه قال: سمعت أبا تَمِيمة يحدِّث عن أبي عثمان النَّهْدي ويحدِّث أبو عثمان عن أسامة بن زيد قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يأخُذُني فيُقعدني على فَخذِهِ ويُقعد الحسنَ على فَخذِهِ الأُخرى ثم يَضُمُّنا ثم يقول: اللهمَّ ارْحَمْهما فإنِّي أَرْحَمهما".
وكذا رواه البخاري
(3)
عن المسندي
(4)
، عن محمد بن الفضل أخي
(5)
عارم به. وعن علي بن المَديني، عن يحيى القطّان، عن سليمان التَّيمي، عن أبي تَمِيمة، عن أبي عثمان، عن أسامة. [وأخرجه أيضًا
(6)
عن موسى بن إسماعيل ومسدَّد، عن معتمر، عن أبيه، عن أبي عثمان، عن أسامة]
(7)
فلم يذكر أبا تَمِيمة، والله أعلم.
وفي رواية: "اللهمَّ إنِّي أُحِبُّهُما فأَحِبَّهُما"
(8)
.
وقال شُعبة: عن عدي بن ثابت، عن البراء بن عازب قال: رأيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم والحسنُ بن علي على عاتقه وهو يقول: "اللهُمَّ إنِّي أُحِبُّه". أخرجاه
(9)
من حديث شعبة. ورواه علي بن الجَعْد، عن فُضيل بن مَرْزوق، عن عدي، عن البراء، فزاد "وأَحِبَّ مَنْ يُحِبُّه". وقال الترمذي: حسن صحيح.
وقال أحمد
(10)
: حدثنا سفيان بن عُيَينة، عن عبيد الله بن أبي يزيد، عن نافع بن جُبير بن مُطعم، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال للحسن بن علي:"اللهُمَّ إنِّي أُحِبُّه فأَحِبَّه وأَحِبَّ مَنْ يُحِبُّه".
ورواه مسلم
(11)
عن أحمد، وأخرجاه من حديث أبي هريرة.
وقال أحمد
(12)
: حدثنا أبو النَّضر، حدثنا وَرْقاء، عن عبيد الله بن أبي يزيد، عن نافع بن جُبَير [عن أبي هريرة قال: كنتُ مع النبي صلى الله عليه وسلم في سوق من أسواق المدينة، فانصرفَ وانصرفتُ معه، فجاء إلى فِناء
(1)
في مسنده (5/ 205).
(2)
تحرف في (ط) إلى: حازم بن الفضيل.
(3)
البخاري رقم (6003) في الأدب.
(4)
تحرف في (ط) إلى: النهدي.
(5)
لفظة "أخي" مقحمة وعارم هو محمد بن الفضل.
(6)
البخاري رقم (3735) و (3747).
(7)
ما بين حاصرتين سقط من (أ).
(8)
أخرجه الترمذي (3782) من حديث البراء وقال: حسن صحيح، وهو كما قال.
(9)
البخاري رقم (3749) ومسلم برقم (2422).
(10)
في مسنده (2/ 249) وأخرجه البخاري رقم (2122).
(11)
برقم (2421).
(12)
في مسنده (2/ 331).
فاطمة، فقال: أَيْ لُكَع
(1)
، أَيْ لُكَع، أَيْ لُكَع، فلم يُجِبْهُ أحد، فانصرفَ وانصرفتُ معه إلى فناء عائشة، فقعَد، قال: فجاء الحسنُ بن علي - قال أبو هريرة: ظننّا أنَّ أُمَّه حَبَسَتْه لتجعلَ في عُنُقه السَّخَاب
(2)
- فلما دخل التَزَمه رسولُ الله والتزم هو رسولَ الله. ثم قال: "اللهمَّ إنِّي أُحِبُّه [فأحِبَّه] وأحِبَّ مَنْ يُحِبُّه" ثلاث مرات.
وأخرجاه
(3)
من حديث سفيان بن عُيينة، عن عُبَيد الله به.
وقال أحمد
(4)
: حدثنا حمّاد الخيّاط، حدثنا هشام بن سعد، عن نُعَيم بن عبد الله المُجْمِر، عن أبي هريرة قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سوق بني قَيْنُقاع مُتّكئًا على يدي، فطاف فيها ثم رجع، فاحتَبى في المسجد وقال:"أينَ لَكَاع؟ ادعُوا لي لَكَاعًا". فجاء الحسن فاشتَدَّ حتى وثَبَ في حَبْوَته، فأدخلَ فمَه في فمِه ثم قال:"اللهمَّ إنِّي أُحِبُّه فأَحِبَّه، وأَحِبَّ مَنْ يُحِبُّه" ثلاثًا. قال أبو هريرة: ما رأيت الحسن إلّا فاضت عيني - أو قال: دمعت عيني، أو بكَت.
وهذا على شرط مسلم ولم يخرجوه.
وقد رواه الثَّوري، عن نُعيم، عن محمد بن سِيرين، عن أبي هريرة، فذكر مثلَه أو نحوه.
ورواه معاوية بن أبي مزرِّد
(5)
، عن أبيه، عن أبي هريرة بنحوه وفيه زيادة.
وروى أبو إسحاق، عن الحارث، عن علي نحوًا من هذا.
ورواه عثمان بن أبي الكنات
(6)
، عن ابن أبي مُلَيْكة، عن عائشة بنحوه وفيه زيادة.
وقال سفيان الثَّوري وغيره، عن سالم بن أبي حَفْصة، عن أبي حازم، عن أبي هريرة]
(7)
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَحَبَّ الحسنَ والحسينَ فقد أَحَبَّني، ومَنْ أَبْغَضَهُما فقد أَبْغَضَني".
غريب من هذا الوجه
(8)
.
(1)
قال ابن الأثير في النهاية (4/ 268): (لكع) قد يطلق على الصغير، فإن أطلق على الكبير أريد به الصغير العلم والعقل.
(2)
"السخاب": قلادة من القرنفل والمسك والعود ونحوها من أخلاط الطيب، يعمل على هيئة السبحة ويجعل قلادة للصبيان والجواري. وقيل: هو خيط فيه خرز، سمي سخابًا لصوت خرزه عند حركته.
(3)
البخاري رقم (5884) ومسلم (2421)(57) في الفضائل.
(4)
في مسنده (2/ 532) وإسناده حسن.
(5)
في ط: "برود" محرف، وهو من رجال التهذيب.
(6)
تحرفت هذه اللفظة في (ط) إلى: اللباب وما أثبته من الجرح والتعديل (6/ 165) وغيره.
(7)
ما بين حاصرتين - وهو قدر صفحة تقريبًا - من (ط) فقط.
(8)
رواه أحمد في المسند (2/ 531) والحاكم في المستدرك (3/ 171) وغيرهما، وهو حديث حسن.
وقال أحمد
(1)
: حدثنا ابن نُمير، حدثنا الحجاج - يعني ابن دينار - عن جعفر بن إياس، عن عبد الرحمن بن مسعود، عن أبي هريرة قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه حسن وحسين، هذا على عاتقه وهذا على عاتقه، وهو يلثُمُ هذا مرَّةَ، وهذا مرَّةً حتى انتهى إلينا، فقال له رجل: يا رسولَ اللهِ إنَّكَ لتُحِبُّهما، فقال:"مَنْ أَحَبَّهُما فقد أَحَبَّني، ومَنْ أَبْغَضَهُما فقد أَبْغَضَني".
تفرد به أحمد.
وقال أبو بكر بن عياش: عن عاصم، عن زر، عن عبد الله قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلِّي، فجاء الحسن والحسين، فجعلا يَثِبَانِ على ظَهره إذا سجد، فأراد الناس زَجْرَهما، فلمّا سلَّم قال للناس:"هذانِ ابنايَ، مَنْ أَحَبَّهُما فقد أَحَبَّني".
ورواه النَّسائي من حديث عُبيد
(2)
الله بن موسى، عن علي بن صالح، عن عاصم به.
وقد ورد عن عائشة وأمِّ سلَمة أُمَّي المؤمنين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتمل على الحسن والحسين وأُمِّهما وأبيهما فقال: "اللَّهُمَّ هؤُلاءِ أهلُ بَيْتي فأَذهِبْ عنهُمُ الرِّجْسَ وطَهِّرْهُمْ تَطْهيرًا"
(3)
.
وقال محمد بن سعد: حدثنا محمد بن عبد الله الأسدي، حدثنا شريك، عن جابر، عن عبد الرحمن بن سابط، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سرَّه أن ينظرَ إلى سيِّد شباب أهل الجنَّة فلينظرْ إلى الحسن بن علي".
وقد رواه وكيع، عن الرّبيع بن سعد، عن عبد الرحمن بن سابط، عن جابر، فذكر مثله. وإسناده لا بأس به، ولم يخرجوه
(4)
.
وجاء من حديث علي وأبي سعيد وبُريدة [وحُذيفة]
(5)
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الحسنُ والحسينُ سَيِّدا شَبابِ أهلِ الجنَّة"
(6)
ومن طريق "وأبوهما خيرٌ منهما"
(7)
.
وقال أبو القاسم البَغَوي: حدثنا داود بن عمرو، حدثنا إسماعيل بن عيّاش، حدثني عبد الله بن
(1)
في مسنده (2/ 440) وهو حديث حسن.
(2)
تحرف في ب إلى: عبد. وهو عند النسائي في الكبرى رقم (8170).
(3)
رواه مسلم رقم (2424) من حديث عائشة، وأحمد في المسند (2/ 292) والترمذي رقم (3205) من حديث أم سلمة.
(4)
رواه أحمد في "فضائل الصحابة" رقم (1372).
(5)
سقط من (ط) و (ب).
(6)
أخرجه الطبراني في الكبير رقم (2599 - 2603) من حديث علي، وأحمد (3/ 3) والترمذي (3768) في مناقب الحسن والحسين من حديث أبي سعيد، وقال: حسن صحيح وأحمد (5/ 391) والترمذي رقم (3781) من حديث حذيفة. وهو حديث صحيح.
(7)
رواه ابن ماجه رقم (118).
عثمان بن خُثَيم
(1)
، عن سعيد بن [أبي] راشد، عن يَعْلى بن مُرَّة قال: جاء الحسن والحسين يسعيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء أحدهما قبل الآخر، فجعل يده تحت رقبته ثم ضمَّه إلى إبطه، ثم جاء الآخر، فجعل يده الأخرى في رقبته ثم ضمَّه إلى صدره، ثم قبَّل هذا، ثم قبَّل هذا، ثم قال:"اللَّهُمَّ إنِّي أُحِبُّهما فأَحِبَّهما"، ثم قال:"أيُّها الناس! إنَّ الولدَ مَبْخَلَةٌ مَجْبَنَةٌ مَجْهَلَة"
(2)
.
وقد رواه عبد الرزّاق، عن مَعْمر، عن ابن خُثيم، عن محمد بن الأسود بن خلف، عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ حسنًا فقبَّله، ثم أقبل عليهم فقال:"إنَّ الولدَ مَبْخَلَةٌ مَجْبَنَة"
(3)
.
وقال ابن خُزيمة: حدّثنا عبدة بن عبد الله الخُزاعي، حدّثنا زيد بن الحُباب ح وقال أبو يَعْلى: حدّثنا أبو خَيْثمة، حدّثنا زيد بن الحُباب، حدّثني حسين بن واقد، حدّثني عبد الله بن بُريدة، عن أبيه قال:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطُب، فجاء الحسن والحسين وعليهما قميصان أحمران يَعْثُران ويقومان، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهما، فأخذهما فوضعهما في حَجْره على المنبر وقال: صدق الله {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15] رأيتُ هذينِ الصَّبِيَّينِ فلم أَصْبِر". ثم أخذ في خُطبته.
وقد رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة
(4)
من حديث الحسين بن واقد به. وقال الترمذي: حسن غريب، لا نعرفه إلّا من حديثه.
وقد رواه محمد الضَّمري، عن زيد بن أرقم، فذكر القصة للحسن وحده.
وفي حديث عبد الله بن شدّاد، عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلَّى بهم إحدى صلاتي العشي، فسجد سجدة أطال فيها السجود، فلمّا سلَّم قال الناس له في ذلك، فقال:"إنَّ ابني هذا - يعني الحسن - ارتَحَلَني فكرهتُ أنْ أُعْجِلَهُ حتى يقضيَ حاجَتَه"
(5)
.
وقال الثوري
(6)
: عن أبي الزُّبير، عن جابر قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حامل الحسن والحسين على ظهره وهو يمشي بهما على أربع، فقلت: نعمَ الجَمَلُ جَمَلُكما، فقال:"ونعمَ العِدْلان هُما".
(1)
تحرف في ط إلى: خيثم.
(2)
أخرجه أحمد في مسنده (4/ 172) وابن ماجه (3666) في الأدب: باب بر الوالد، من طريق عفان، عن وهيب، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم به. وهو حديث صحيح.
وقوله: مبخلة
…
قال ابن الأثير في النهاية (1/ 103): هو مفعلة من البخل ومظنة له، أي يحمل أبويه على البخل ويدعوهما إليه، فيبخلان بالمال لأجله.
(3)
وأخرجه البزار برقم (1891) في باب ما جاء في الأولاد.
(4)
أبو داود (1109)، والترمذي (3774)، وابن ماجه (360)، وتقدم في أول الترجمة أيضًا.
(5)
أخرجه أحمد في مسنده (3/ 493 - 494) والنسائي (2/ 229 - 230) وهو حديث صحيح.
(6)
تحرف في ط إلى: الترمذي.
إسناده على شرط مسلم ولم يخرجوه
(1)
.
وقال أبو يَعْلى: حدّثنا أبو هاشم، حدّثنا أبو عامر، حدّثنا زَمْعَة بن صالح، عن سلَمة بن وَهْرام، عن عكرمة، عن ابن عبّاس قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حامل الحسن على عاتقه، فقال له رجل يا غلام! نعمَ المركبُ ركِبْتَ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ونعمَ الراكبُ هو"
(2)
.
وقال الإمام أحمد
(3)
: حدّثنا تَلِيد بن سليمان، حدّثنا أبو الجَحَّاف
(4)
، عن أبي حازم، عن أبي هريرة قال: نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى علي وحسن وحسين وفاطمة، فقال:"أنا حَرْبٌ لمنْ حارَبْتُم، وسِلْمٌ لمنْ سالَمْتُم".
وقد رواه النسائي من حديث أبي نُعيم، وابنُ ماجه
(5)
من حديث وكيع، كلاهما عن سفيان الثَّوري، عن أبي الجحّاف داود بن أبي عوف - قال وكيع: وكان مرضيًّا
(6)
- عن أبي حازم، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عن الحسن والحسين:"مَنْ أحَبَّهُما فَقَدْ أَحَبَّني، ومَنْ أَبْغَضَهُما فَقَدْ أَبْغَضَني".
وقد رواه أَسْباط عن السُّدِّي، عن صُبَيح مولى أمِّ سلَمة، عن زيد بن أرقم فذكره.
وقال بقيّة: عن بَحِير
(7)
بن سعد، عن خالد بن مَعْدان، عن المِقْدام بن مَعْدي كرِب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الحسنُ منِّي، والحسينُ مِنْ عليّ".
فيه نكارةٌ لفظًا ومعنى
(8)
.
وقال أحمد
(9)
: حدّثنا محمد بن أبي عدي، عن ابن عون
(10)
، عن عُمير بن إسحاق قال: كنت مع
(1)
أخرجه الدولابي في الكنى (2/ 6)، والعقيلي في الضعفاء (4/ 247)، وابن حبان في المجروحين (3/ 19)، والطبراني في الكبير (2661)، وابن الجوزي في العلل المتناهية (412) و (413). وفي قول المصنف:"إسناده على شرط مسلم" نظر شديد فإنه لم يعتبر الراوي عن الثوري وهو مسروح أبو شهاب، فهو ليس من رجال مسلم، وهو متكلم فيه، وقد انتقد على هذا الحديث خاصة فقال العقيلي: لا يتابع على حديثه، وقال أبو حاتم: يحتاج أن يتوب إلى الله عز وجل من حديث باطل رواه عن الثوري (الجرح والتعديل 8/ 424)، والحديث المقصود هو هذا. وقال النسائي: هذا حديث منكر يشبه أن يكون باطلًا (الكنى للدولابي 2/ 6). وينظر ميزان الذهبي (4/ 97)(بشار).
(2)
وأخرجه الترمذي (3784) من طريق محمد بن بشار، عن أبي عامر العقدي، عن زمعة بن صالح بهذا الإسناد، وزمعة ضعيف، وباقي رجاله ثقات، وصححه الحاكم (3/ 170) فتعقبه الذهي بقوله: قلت: لا.
(3)
في مسنده (2/ 442) وإسناده ضعيف.
(4)
تحرف في (ط) إلى: الحجاف.
(5)
أخرجه النسائي في الكبرى رقم (8168) وابن ماجه (143) في المقدمة: باب فضل الحسن والحسين، وهو حديث حسن.
(6)
في (أ) و (ط): وكان مريضًا وهو تحريف.
(7)
تحرف في (أ) و (ط) إلى: بجير، وفي (ب) إلى: يحيى.
(8)
السير (3/ 258).
(9)
في مسنده (2/ 255) وإسناده ضعيف.
(10)
تحرف في (ط) إلى: عوف.
الحسن بن علي، فلقيَنا أبو هريرة فقال: أرني أُقبِّل منك حيث رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبِّل، فقال بقميصه
(1)
، قال: فقبَّل سُرَّتَه.
تفرد به أحمد. ثم رواه عن إسماعيل بن عُلَيَّة، عن ابن عون.
وقال أحمد
(2)
: حدّثنا هاشم بن القاسم، حدّثنا حَرِيز
(3)
، عن عبد الرحمن بن أبي عوف الجُرَشي، عن معاوية قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمصُّ لسانَه - أو قال: شَفَتَه، يعني الحسن بن علي - وإنَّه لنْ يُعَذَّبَ لسانٌ أو شفتانِ مَصَّهُما رسول الله صلى الله عليه وسلم.
تفرد به أحمد.
وقد ثبت في "الصحيح" عن أبي بكرة
(4)
، وروى أحمد عن جابر
(5)
بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ ابني هذا سيِّد، ولعل اللهَ أَنْ يُصْلحَ بهِ بينَ فِئَتينِ عَظيمتَيْنِ منَ المُسْلمين".
وقد تقدم هذا الحديث في "دلائل النبوة" وتقدم قريبًا عند نزول الحسن لمعاوية عن الخلافة. ووقع ذلك كما أخبر صلى الله عليه وسلم
(6)
.
وقد كان الصدِّيق يجلُّه ويعظِّمه ويكرمه ويحبُّه ويتفدّاه.
وكذلك عمر بن الخطاب، فروى الواقدي، عن موسى بن محمد بن إبراهيم بن الحارث التَّيمي، عن أبيه: أن عمر لما عمل الدِّيوان فرض للحسن والحسين مع أهل بدر في خمسة آلاف خمسة آلاف.
وكذلك كان عثمان بن عفّان يكرم الحسن والحسين ويحبُّهما. وقد كان الحسن بن علي يوم الدار - وعثمان بن عفّان محصور - عنده ومعه السيف متقلِّدًا به يحاجف عن عثمان، فخشي عثمان عليه، فأقسم عليه ليرجعن إلى منزلهم تطييبًا لقلب علي، وخوفًا عليه، رضي الله عنهم.
وكان علي يكرم الحسن إكرامًا زائدًا ويعظِّمه ويبجِّلُه. وقد قال له يومًا: يا بني ألا تخطُب حتى
(1)
أي: رفع قميصه وكشف عن بطنه.
(2)
في مسنده (4/ 93) وهو حديث صحيح.
(3)
هو حريز بن عثمان، وقد تحرف في ط ومسند أحمد إلى: جرير.
(4)
حديث أبي بكرة أخرجه البخاري رقم (2704). وأخرجه أحمد في مسنده (5/ 38 و 44 و 49 و 51) والترمذي (3773) والنسائي (3/ 107) وأبو داود (4662).
(5)
هكذا نسب المصنف رواية حديث جابر إلى مسند أحمد، ولا أظنه أصاب في ذلك، فالحديث ليس فيه، وإنما أخرجه البيهقي في دلائل النبوة (6/ 443)، والخطيب في تاريخه (4/ 351)، وينظر تمام تخريجه في تعليقنا على تاريخ الخطيب من طبعتنا المذكورة (بشار).
(6)
قال الخطابي: وقد خرج مصداق هذا القول فيه بما كان من إصلاحه بين أهل العراق وأهل الشام، وتخليه عن الأمر خوفًا من الفتنة وكراهية لإراقة الدم. ويسمى ذلك العام سنة الجماعة.
أسمعك؟ فقال: إني أَستحيي أن أخطُب وأنا أراك، فذهب علي فجلس حيث لا يراه الحسن، ثم قام الحسن في الناس خطيبًا وعليٌّ يسمع، فأدى خطبة بليغة فصيحة، فلما انصرف جعل علي يقول:{ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [آل عمران: 34].
وقد كان ابن عباس يأخذ الرِّكاب للحسن والحسين إذا ركبا، ويرى هذا من نعم الله عليه.
وكانا إذا طافا بالبيت يكاد الناس يحطِمونهما مما يزدحمون عليهما، رضي الله عنهما وأرضاهما.
وكان ابن الزبير يقول: واللهِ ما قامت النساءُ عن مثل الحسن بن علي.
وقال غيره: كان الحسن إذا صلَّى الغداة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس في مصلّاه يذكر الله حتى ترتفع الشمس، ويجلس إليه مَنْ يجلس من سادات الناس يتحدثون عنده، ثم يقوم فيدخل على أمهات المؤمنين فيسلِّم عليهنّ، وربما أتحفنَه، ثم ينصرف إلى منزله.
ولما نزل لمعاوية عن الخلافة من ورعه صيانةً لدماء المسلمين كان له على معاوية في كل عام جائزة، وكان يفد إليه، فربما أجازه بأربعمئة ألف درهم، وراتبُه في كل سنة مئة ألف. فانقطع سنةً عن معاوية، وجاء وقت الجائزة، واحتاج الحسن إليها - وكان من أكرم الناس وأسخاهم - فأراد أن يكتب إلى معاوية ليبعثَ بها إليه، فلما نام تلك الليلة رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام، فقال له: يا بُني! أتكتبُ إلى مخلوق بحاجتك؟! وعلَّمه دعاءً يدعو به، فترك الحسن ما كان همَّ به من كتابة، فذكَره معاوية وافتقده وقال: ابعثوا إليه بجائزته وزيدوا مئة ألف أخرى، فلعلَّ له ضرورة في تركه القدوم علينا. فحُملت إليه من غير سؤال.
[قال صالح بن أحمد: سمعت أبي يقول: الحسن بن علي مدني ثقة. حكاه ابن عساكر في "تاريخه"]
(1)
.
قالوا: وقاسَمَ الحسنُ اللهَ عز وجل مالَه ثلاث مرات، وخرج من ماله مرَّتين. وحجَّ خمسًا وعشرين حجَّة ماشيًا وإن الجنائبَ لتُقَاد بين يديه. روى ذلك البَيْهقي من طريق عبد الله بن عُبيد بن عُمير عن ابن عباس، وقاله علي بن زيد بن جُدْعان
(2)
.
وقد علَّق البخاري في "صحيحه" أنه حجَّ ماشيًا والجنائبُ تُقاد بين يديه.
وروى داود بن رُشيد، عن حفص، عن جعفر بن محمد، عن أبيه قال: حجَّ الحسنُ بن علي ماشيًا ونجائبُه تُقاد إلى جَنْبه.
وقال العباس بن الفضل: عن القاسم، عن محمد بن علي قال: قال الحسن بن علي: إني لأَستحيي من ربِّي عز وجل أن ألقاه ولم أمشِ إلى بيته، فمشى عشرين مرَّة من المدينة على رجليه.
(1)
ما بين حاصرتين من ط فقط.
(2)
تهذيب الكمال (6/ 233).
قالوا: وكان يقرأ في بعض خُطَبه سورة إبراهيم، وكان يقرأ كلَّ ليلة سورة الكهف قبل أن يام، يقرؤها من لوح كان يدور معه حيث كان من بيوت نسائه، فيقرؤها بعدما يدخل في الفِراش قبل أن ينام، رضي الله عنه.
وقد كان من الكرم على جانب عظيم "قال محمد بن سِيرين: ربَّما أجاز الحسن بن علي الرجل الواحد بمئة ألف.
وقال سعيد بن عبد العزيز: سمع الحسن بن علي إلى جانبه رجلًا يدعو الله أن يُملكَه عشرة آلاف درهم، فقام إلى منزله فبعث إليه بها.
وذكروا أن الحسن رأى غلامًا أسود يأكل من رغيف لقمةً ويطعم كلبًا هناك لقمة، فقال له: يا غلام! ما حملك على هذا؟ فقال الغلام: إني أُستحي منه أن آكل ولا أطعمه، فقال له الحسن: لا تبرح من مكانك حتى آتيك، فذهب إلى سيِّده، فاشتراه واشترى الحائط الذي هو فيه، فأعتقه وملَّكه الحائط. فقال الغلام: يا مولاي إنِّي قد وهبت الحائط للذي وهبتَني له.
قالوا: وكان كثير التزوّج، وكان لا يفارقه أربع حرائر، وكان مِطْلاقًا مِصْداقًا، يقال: إنه أحصن سبعين امرأة [وقيل: سبعمئة، وقيل: ألف امرأة، وربما كان يعقِد العَقد على أربعة في المجلس، ويفارق أربعة]
(1)
.
وذكروا أنه طلَّق امرأتين في يوم، واحدة من بني أسَد، وأخرى فَزاريَّة، وبعث إلى كل واحدة منهما بعشرة آلاف وبزِقَاقٍ
(2)
من عسل، وقال للغلام: اسمع ما تقول كلُّ واحدة منهما. فأما الفَزاريَّة فقالت: جزاه الله خيرًا، ودعت له. وأما الأسديَّة فقالت:
مَتَاعٌ قليلٌ مِنْ حَبِيبٍ مُفارقِ
فرجع الغلام إليه بذلك، فارتجع الأسديَّة، وترك الفَزاريَّة
(3)
.
وقد كان علي يقول لأهل الكوفة: لا تزوِّجوه فإنه مِطْلاق، فيقولون: والله - يا أمير المؤمنين - لو خطب إلينا كل يوم لنُزوِّجنَّه ما أراد محبةً في صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وذكروا أنه نام مع امرأته خولة بنت منظور الفَزاري - وقيل: هند بنت سهيل - فوق إجّار
(4)
، فعَمَدَت المرأة فربطت رجله بخمارها إلى خَلْخالها، فلمّا استيقظ ورأى ذلك قال: ما حملك على هذا؟ فقالت:
(1)
ما بين حاصرتين من (أ) فقط.
(2)
"زقاق": جمع زق - وهو السقاء - وهو جمع للكثير، أما جمع القلة فأزقاق (اللسان).
(3)
مختصر تاريخ دمشق (7/ 27 - 28).
(4)
"الإجار": السطح الذي ليس حوله ما يرد الساقط عنه.
خشِيتُ أن تقوم من وَسَن النوم فتسقط فأكون أشأمَ سَخْلة على العرب. فأعجبَه ذلك منها، واستمرَّ بها سبعة أيام بعد ذلك [وأجازها بجائزة]
(1)
.
وقال أبو جعفر الباقر: جاء رجل إلى الحسين بن علي، فاستعان به في حاجه، فوجده معتكفًا، فاعتذر إليه، فذهب إلى الحسن، فاستعان به، فقضى حاجته وقال: لَقضاءُ حاجة أخٍ لي في الله أحبُّ إليَّ من اعتكاف شهر.
وقال هُشيم: عن منصور، عن ابن سِيرين قال: كان الحسن بن علي لا يدعو إلى طعامه أحدًا، يقول: إنَّ الطعام اْهونُ من أن يُدعى إليه أحد [مَنْ أراد أن يأكلَ فليأكلْ لا مِنَّةَ لنا فيه على أحد]
(2)
.
وقال أبو جعفر: قال علي: يا أهل الكوفة لا تزوِّجوا الحسن بن علي فإنه مِطْلاق، فقال رجل من هَمْدان: والله لنُزَوِّجنَّه، فما رضيَ أمسك، وما كره طلَّق.
وقال أبو بكر الخرائطي في كتاب "مكارم الأخلاق": حدّثنا إبراهيم بن الجُنيد
(3)
، حدّثنا القَوَاريري، حدّثنا عبد الأعلى، عن هشام، عن محمد بن سِيرين قال: تزوَّج الحسن بن علي امرأة، فبعث إليها بمئة جارية مع كلِّ جارية ألف درهم.
وقال عبد الرزاق: عن الثَّوري، عن عبد الرحمن بن عبد الله، عن أبيه، عن الحسن بن سعد، عن أبيه قال: متَّع الحسن بن علي امرأتين بعشرين ألفًا وزِقَاق من عسل، فقالت إحداهما - وأراها الحنفيَّة:
مَتَاعٌ قليلٌ مِنْ حَبِيب مُفارق
وقال الواقدي
(4)
: حدثني علي بن عمر، عن أبيه، عن علي بن الحسين قال: كان الحسن بن علي
مِطْلاقًا للنساء، وكان لا يفارق امرأة إلا وهي تحبُّه.
وقال جُوَيْريَةُ بن أسماء: لما مات الحسن بكى عليه مروان بن الحكم في جنازته، فقال له الحسين: أتبكيه وقد كنتَ تجرِّعه ما تجرِّعه؟! فقال: إني كنت أفعل ذلك إلى أحلَم من هذا، وأشار إلى الجبل
(5)
.
(1)
ما بين حاصرتين من (أ) فقط. والخبر في تهذيب الكمال (6/ 236).
(2)
ما بين حاصرتين من (أ) فقط.
(3)
في ط: حدثنا ابن المنذر هو إبراهيم، حدثنا القواريري.
(4)
طبقات ابن سعد (1/ 302) الطبقة الخامسة من الصحابة.
(5)
قوله: إني كنت أفعل
…
الجبل مضطرب في النسخ، وما أثبته هو الأقرب للمعنى. وقد أورد الذهبي هذا الخبر في السير (3/ 276) ولفظه فيه: كنت أفعل ذلك بمن يوازن حلمه الجبال.
وقال محمد بن سعد
(1)
: أخبرنا إسماعيل بن إبراهيم الأَسَدي، عن ابن عون، عن عُمير
(2)
بن إسحاق قال: ما تكلَّم عندي أحدٌ كان أحبَّ إلي إذا تكلَّم ألَّا يسكت من الحسن بن علي، وما سمعت منه كلمة فحش قطُّ إلا مرة، فإنه كان بينه وبين عمرو بن عثمان خصومة، فقال الحسن: ليس له عندنا إلا ما أرغم أنفه، فهذه أشدُّ كلمة فحش سمعتُها منه قطّ.
قال محمد بن سعد
(3)
: وأخبرنا الفضل بن دُكين، أخبرنا مسافر الجصاص، عن رُزَيْق
(4)
بن سَوّار قال: كان بين الحسن وبين مروان خصومة، فجعل مروان يُغلِظ للحسن، وحسن ساكت، فامتخط مروان بيمينه، فقال له الحسن: ويحك! أما علمتَ أن اليُمنى للوجه والشمال للفَرْج؟ أُفٍّ لك! فسكت مروان.
وقال أبو العباس محمد بن يزيد المبرِّد: قيل للحسن بن علي: إن أبا ذَر
(5)
يقول: إن الفقر أحبُّ إليَّ من الغنى، والسُّقم أحب إلي من الصَّحة. فقال: رحم الله أبا ذر، أمّا أنا فأقول: من اتَّكل على حسن اختيار الله له لم يتمنَّ أن يكون في غير الحالة التي اختار اللهُ له. وهذا حدُّ الوقوف على الرِّضى بما تصرَّف
(6)
به القضاء.
وقال أبو بكر محمد بن كَيْسان الأَصَمّ: قال الحسن بن علي ذات يوم لأصحابه: إني أخبركم عن أخٍ لي كان من أعظم الناس في عيني، وكان عظيم ما عظَّمه في عيني صغر الدنيا في عينه، كان خارجًا من سلطان بطنه فلا يشتهي ما لا يجد ولا يكثر إذا وجد، وكان خارجًا من سلطان فَرْجه فلا يستخف له عقله ولا رأيه، وكان خارجًا من سلطان جهله فلا يمدُّ يدًا إلا على ثقة المنفعة، [ولا يخطو خطوة إلا لحسَنَة]
(7)
وكان لا يسخط ولا يتبرَّم، وكان إذا جامع العلماء يكون على أن يسمع أحرصَ منه على أن يتكلَّم، وكان إذا غُلب على الكلام لم يُغلب على الصَّمت، كان أكثر دهره صامتًا فإذا قال بذَّ
(8)
القائلين، كان لا يشارك في دعوى، ولا يدخل في مِرَاءٍ، ولا يُدلي بحُجَّة حتى يرى قاضيًا يقول ما لا يفعل ويفعل ما لا يقول تفضُّلًا وتكرُّمًا، كان لا يغفل عن إخوانه ولا يستخصُّ بشيء دونهم، كان لا يلوم
(9)
أحدًا فيما يقع العُذر بمثله، كان إذا ابتداه أمران لا يدري أيهما أقرب إلى الحقِّ نظر فيما هو أقرب إلى هواه فخالفه.
(1)
الطبقات الكبرى (1/ 279 - 280).
(2)
وقع في ط: محمد وهو خطأ، فعمير بن إسحاق: هو أبو محمد مولى بني هاشم. من رجال التهذيب.
(3)
الطبقات الكبرى (1/ 283 - 284).
(4)
تحرف في (أ) و (ط) إلى: رزين وفي ب إلى: زيد.
(5)
تحرفت لفظة ذر المتكررة في هذا الخبر في ط إلى: زر.
(6)
كذا في (أ) وب ومثله في مختصر تاريخ دمشق (7/ 29). ووقعت في ط: تعرف.
(7)
ما بين حاصرتين ليس في ب ولا في مختصر تاريخ دمشق.
(8)
"بذَّ القائلين": أي: سبقهم وغلبهم.
(9)
تحرفت في النسخ إلى: يكرم والتصويب من مختصر تاريخ دمشق.
رواه ابن عساكر
(1)
والخطيب.
وقال أبو الفرج المُعافى بن زكريا الجَرِيري: حدثنا بدر بن الهيثم الحَضْرمي، حدثنا علي بن المنذر الطَّرِيقي
(2)
، حدّثنا عثمان بن سعيد الدارمي، حدّثنا محمد بن عبد الله أبو رجاء - من أهل تُسْتَر - حدّثنا شعبة بن الحجّاج الواسطي، عن أبي إسحاق الهَمْداني، عن الحارث الأعور أن عليًا سأل ابنه - يعني الحسن - عن أشياء من المروءة فقال:
يا بُنيَّ ما السَّداد؟ قال: يا أبةِ! السَّدادُ دفعُ المنكر بالمعروف.
قال: فما الشَّرف؟ قال: اصطِناع العَشيرة، وحملُ الجَريرة.
قال: فما المروءة؟ قال: العَفاف، وإصلاحُ المرء ماله
(3)
.
قال: فما الدنية
(4)
؟ قال: النَّظرُ في اليَسير، ومنعُ الحَقير.
قال: فما اللؤم؟ قال: إحرازُ المرء نفسه، وبذلُه عِرْسه.
قال: فما السَّماحة؟ قال: البذلُ في العُسْر واليُسْر.
قال: فما الشُّحّ؟ قال: أن ترى ما في يديك شَرَفًا، وما أنفقتَه تَلَفًا.
قال: فما الإخاء؟ قال: الوفاء في الشِّدة والرَّخاء.
قال: فما الجُبْن؟ قال: الجرأة على الصَّديق، والنُّكول عن العدو.
قال: فما الغَنيمة؟ قال: الرَّغبة في التقوى، والزَّهادة في الدنيا [هي الغنيمة الباردة]
(5)
.
قال: فما الحِلْم؟ قال: كَظْم الغَيْظ، ومَلْكُ النفس.
قال: فما الغِنى؟ قال: رضى النفس بما قسمَ اللهُ لها وإن قَلَّ [فإنما الغنى غنى النفس]
(6)
.
قال: فما الفقر؟ قال: شَرَهُ النفس في كل شيء.
قال: فما المَنَعَة؟ قال: شدَّة البأس، ومُقارعة أشدِّ الناس.
قال: فما الذُّل؟ قال: الفَزَع عند المصدُوقية.
(1)
مختصر تاريخ دمشق (7/ 30).
(2)
تحرفت هذه النسبة في (أ) إلى: الطرائفي. قال السمعاني في الأنساب (8/ 239): سألت أستاذي بأصبهان
…
عن علي بن المنذر الطريقي: لأي شيء نسب هذا؟ قال: كان ولد في الطريق فنسب إليها.
(3)
في مختصر تاريخ دمشق وتهذيب الكمال: حاله.
(4)
في مختصر تاريخ دمشق وتهذيب الكمال: الدقه.
(5)
سقط من (ط).
(6)
سقط من (أ).
[قال: فما الجُرأة؟ قال: موافقة الأقران]
(1)
.
قال: فما الكُلْفة؟ قال: كلامُك فيما لا يَعْنيك.
قال: فما المجد؟ قال: أن تُعطيَ في الغُرم، وأن تعفوَ عن الجُرم.
قال: فما العقل؟ قال: حفظُ القلب كلَّ ما استرعَيْتَه.
قال: فما الخُرْق
(2)
؟ قال: معاداتُك لإمامك، ورفعُك عليه كلامَك.
قال: فما السَّناء؟ قال: إتيانُ الجميل، وتَرْك القبيح.
قال: فما الحَزم؟ قال: طول الأَنَاة، والرِّفق بالولاة، والاحتراس من الناس بسوء الظنِّ، هو الحزم.
قال: فما الشَّرف؟ قال: مُوافقة الإخوان، وحِفظ الجيران.
قال: فما السَّفَه؟ قال: اتِّباع الدُّناة، ومُصاحبة الغُواة.
قال: فما الغَفْلة؟ قال: تركُك المسجد، وطاعتُك المُفسد.
قال: فما الحِرْمان؟ قال: تركُك حظَّك وقد عُرض عليك.
قال: فمن السيِّد؟ قال: الأحمقُ في المال، المتهاون بعِرْضه يُشتم فلا يُجيب، المُتحزِّن
(3)
بأمر العَشيرة، هو السيِّد.
قال: ثم قال علي: يا بُنيَّ سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا فَقْرَ أشدّ من الجَهْل، ولا مالَ أفضل من العَقْل، ولا وحدةَ أوحش من العُجْب، ولا مُظاهرة
(4)
أوثق من المُشاورة، ولا عقلَ كالتَّدبير، ولا حَسَب كحُسن الخُلُق، ولا وَرَعَ كالكفِّ، ولا عبادةَ كالتَّفكُّر، ولا إيمانَ كالحَياء، ورأسُ الإيمان الصَّبر، وآفةُ الحديث الكذب، وآفةُ العلم النِّسيان، وآفةُ الحِلْم السَّفَه، وآفةُ العبادة الفَتْرة
(5)
، وآفةُ الظُّرف الصَّلَف، وآفةُ الشَّجاعة البَغْي، وآفةُ السَّماحة المَنّ، وآفةُ الجَمال الخُيَلاء، وآفةُ الحَسَب
(6)
الفخر".
ثم قال علي: يا بُنيَّ لا تستخفنَّ برجل تراه أبدًا، فإن كان أكبر منك فعُدَّهُ أباك، وإن كان مثلك فعدَّهُ أخاك، وإن كان أصغر منك فعُدَّه ابنَك.
(1)
سقط من آ.
(2)
"الخرق": الحمق.
(3)
"المتحزن": المهتم.
(4)
"المظاهرة": المعاونة.
(5)
الفترة: الضعف.
(6)
في ط: الحب.
قال القاضي أبو الفرج: ففي هذا الخبر من الحكمة وجزيل الفائدة ما ينتفع به من راعاه، وحفظه ووعاه، وعمل به وأدَّب نفسه بالعمل عليه، وهذَّبها بالرجوع إليه، وتتوفر فائدتُه بالوقوف عنده. وفيما رواه أمير المؤمنين في أضعافه عن النبي صلى الله عليه وسلم ما لا غِنىً لكل لبيب عليم عن حفظه وتأمُّله، والمسعودُ من هُدي لتلقِّيه، والمجدود
(1)
من وُفِّق لامتثاله وتقبّله
(2)
.
قلت: ولكن إسناد هذا الأثر وما فيه من الحديث المرفوع ضعيف، ومثل هذه الألفاظ في عبارتها ما يدلُّ ما في بعضها من النَّكارة على أنه ليس بمحفوظ، والله أعلم.
وقد ذكر الأصمعي والعتبي والمدائني وغيرهم: أنَّ معاوية سأل الحسن بن علي عن أشياء تُشبه هذا، فأجابه بنحو ما تقدَّم لكن هذا السِّياق أطول بكثير، فالله أعلم.
وقال علي بن العباس الطبراني: كان على خاتم الحسن بن علي مكتوبًا
(3)
:
قَدِّمْ لنفسِكَ ما استطعتَ من التُّقى
…
إنَّ المنيَّة نازل
(4)
بكَ يا فَتَى
أصبحتَ ذا فَرَحٍ كأنَّكَ لا ترى
…
أحبابَ قلبِكَ في المقابر والبِلَى
وقال الإمام أحمد: حدّثنا مطَّلب بن زياد أبو محمد، حدّثنا محمد بن أَبَان قال: قال الحسنُ بن علي لبنيه وبني أخيه
(5)
: "تعلَّموا، فإنكم صغارُ قومٍ اليوم، كبارُهم غدًا، فمن لم يحفظ منكم فليكتب".
رواه البيهقي، عن الحاكم [عن الأصم]
(6)
عن عبد الله بن أحمد عن أبيه. [وفي رواية: "إنكم إنْ تكونوا صِغَارَ قوم، فعسى أن تكونوا كبارَ قومٍ آخرين"]
(7)
.
وقال محمد بن سعد: حدّثنا الحسن بن موسى وأحمد بن يونس قالا: حدّثنا زهير بن معاوية، حدّثنا أبو إسحاق، عن عمرو بن الأصم قال: قلت للحسن بن علي: إن هذه الشِّيعة تزعم أن عليًا مبعوث [قبل يوم القيامة، قال: كذبوا والله، ما هؤلاء بالشِّيعة، لو علمنا أَنَّه مبعوث]
(8)
ما زوَّجنا نساءَه، ولا اقتسمنا مالَه.
(1)
"المجدود": المحظوظ.
(2)
الخبر بطوله في حلية الأولياء (2/ 35 - 36) ومختصر تاريخ دمشق (7/ 30 - 32) وتهذيب الكمال (6/ 238 - 240). وسيحكم عليه المؤلف فيما يلي.
(3)
الأبيات في تاريخ دمشق (13/ 260).
(4)
في ط: نازلة، ولا يستقيم بها الوزن.
(5)
قوله: وبني أخيه كذا ورد في ط، ومثله في مختصر تاريخ دمشق (7/ 37) وتهذيب الكمال (6/ 242) ووقع في (أ) وب: ومن أحبه.
(6)
سقط من ط.
(7)
ما بين حاصرتين من (أ) فقط.
(8)
سقط من (أ). والخبر في تهذيب الكمال (6/ 242) وسير أعلام النبلاء (3/ 263).
وقال عبد الله بن أحمد: حدّثنا أبو علي سُوَيد الطّحان، حدّثنا علي بن عاصم، أخبرنا أبو رَيْحانة، عن سَفِينَة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"الخِلافةُ منْ بعدي ثلاثونَ سَنَة"
(1)
. فقال رجل كان حاضرًا في المجلس: قد دخلت من هذه الثلاثين ستَّة شهور في خلافة معاوية. فقال: من ها هنا أُتيت، تلك الشهور كانت البيعة للحسن بن علي، بايعه أربعون ألفًا أو اثنان وأربعون ألفًا.
وقال صالح بن أحمد: سمعت أبي يقول: بايع الحسنَ سبعون
(2)
ألفًا، فزهِدَ في الخلافة وصالح معاوية، ولم يُسفك في أيامه محجمةٌ من دم
(3)
.
وقال ابن أبي خَيْثمة: حدّثنا أبي، حدّثنا وَهْب بن جرير قال: قال أبي: لما قُتل علي بايع أهل الكوفة الحسنَ بن علي، وأطاعوه، وأحبُّوه أشدَّ من حبِّهم لأبيه
(4)
.
وقال ابن أبي خَيْثمة: حدّثنا هارون بن معروف، حدّثنا ضَمْرة، عن ابن شَوْذَب قال: لما قُتل علي سار الحسن في أهل العراق، وسار معاوية في أهل الشام، فالتقَوا، فكره الحسنُ القتال وبايع معاويةَ على أن جعل العهد للحسن من بعده. قال: فكان أصحاب الحسن يقولون: يا عار المؤمنين! قال: فكان يقول لهم: العار خيرٌ من النار
(5)
.
وقال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدّثنا العباس بن هشام
(6)
، عن أبيه قال: لما قُتل علي بايع الناسُ الحسنَ بن علي، فوليها سبعةَ أشهر وأحدَ عشرَ يومًا.
وقال غير عباس: بايع الحسنَ أهلُ الكوفة، وبايع أهلُ الشام معاويةَ بإيلِيَاء
(7)
بعد قتل علي، وبُويع بيعة العامة ببيت المقدس يوم الجمعة من آخر سنة أربعين [ثم لقي الحسنُ معاويةَ بمَسْكِن - من سواد الكوفة - في سنة إحدى وأربعين]
(8)
فاصطلحا، وبايع الحسنُ معاوية.
(1)
أخرجه أحمد في مسنده (5/ 220 و 221) من طرق أخرى عن سفينة. وسويد بن سعيد الطحان لين الحديث، وعلي بن عاصم يخطئ ويصر ورمي بالتشيع والرواية التي ذكرها المؤلف عن عبد الله بن أحمد عن سويد الطحان عن علي بن عاصم عن أبي ريحانة عن سفينة لا تضر، لأن الحديث رواه أحمد من طرق عن سعيد بن جمهان (5/ 220 و 221). وأخرجه أبو داود (4646) و (4647) في السنة: باب الخلفاء، والترمذي (2226) في الفتن: باب ما جاء في الخلافة، كلاهما من طريق سعيد بن جُمْهان فهو حديث حسن، كما قال الإمام الترمذي.
(2)
في ط وب: تسعون، وهو خطأ.
(3)
تاريخ الثقات للعجلي (ص 116).
(4)
تهذيب الكمال (6/ 243).
(5)
تهذيب الكمال (6/ 243 - 244).
(6)
يعني ابن الكلبي، والخبر في تهذيب الكمال (6/ 244).
(7)
قال ياقوت في معجم البلدان (1/ 293): إيلياء - بكسر أوله واللام - اسم مدينة بيت المقدس.
(8)
ما بين حاصرتين سقط من (أ)، والخبر في تهذيب الكمال (6/ 244).
وقال غيره: كان صلحهما ودخول معاوية الكوفة في ربيع الأول من سنة إحدى وأربعين. وقد تكلَّمنا على تفصيل ذلك فيما تقدم.
وحاصل ذلك أنه اصطلح مع معاوية على أن يأخذ الحسنُ ما في بيت مال الكوفة، فوفَّى له معاوية بذلك، فأخذه فإذا فيه خمسة آلاف ألف، وقيل: سبعة آلاف ألف، وعلى أن يكون خَراج البصرة - وقيل: دَارَابْجِرْد
(1)
- له في كل عام، فامتنع أهل تلك الناحية عن أداء الخَراج إليه، فعوَّضه معاوية عن ذلك بستة آلاف ألف درهم في كل عام، فلم يزل يتناولها مع ماله في كل عام في وِفادته من الجوائز والتُّحف والهدايا إلى أن توفي في هذا العام.
وقال محمد بن سعد
(2)
: عن هَوْذة بن خليفة، عن عوف، عن محمد بن سِيرين قال: لما دخل معاوية الكوفة وبايعه الحسن بن علي قال أصحاب معاوية لمعاوية: مُرِ الحسنَ بن علي أن يخطُب بذلك فإنه حديث السِّن عَيِيّ، فلعلَّه يتلعثم فيتَّضع في قلوب الناس. فأمره معاوية، فخطب فقال في خطبته: أيُّها الناس! لو ابتغيتم بين جابَلْق وجابَرْس
(3)
رجلًا جدُّه نبي غيري وغير أخي لم تجدوه، وإنا قد أعطينا بيعتنا معاوية، ورأينا أنَّ حقن دماء المسلمين خير من إهراقها، والله ما أَدري لعلَّه فتنةٌ لكم ومتاعٌ إلى حين. وأشار إلى معاوية، فغضب من ذلك وقال: ما أردتَ من هذه؟ قال: أردتُ منها ما أراد الله منها. فصَعِد معاوية وخطب بعده.
وقد رواه غير واحد
(4)
، وقدَّمنا أن معاوية عتَب على أصحابه [لما خطب الحسن بذلك]
(5)
.
وقال محمد بن سعد
(6)
: حدثنا أبو داود الطَّيالسي، حدثنا شعبة، عن يزيد بن خُمير قال: سمعت [عبد الرحمن بن]
(7)
جُبير بن نُفير الحضرمي يحدث عن أبيه قال: قلت للحسن بن علي: إن الناس يزعمون أنك تريد الخلافة. فقال: كانت جماجمُ العرب بيدي، يسالمون من سالمتُ ويحاربون من حاربت، فتركتُها ابتغاء وجه الله، ثم أُثيرها ثانيًا بين أهل الحجاز
(8)
!
(1)
ويقال: دار بجرد - بإسقاط الألف الأولى - بلدة من بلاد فارس. معجم البلدان (2/ 419 و 446) وأنساب السمعاني (5/ 242 و 292).
(2)
طبقاته الكبرى (1/ 327 - 328) الطبقة الخامسة من الصحابة.
(3)
قال ياقوت في معجم البلدان (2/ 90 - 91): "جابرس": مدينة بأقصى الشرق
…
"وجابلق": مدينة بأقصى الغرب ثم أورد هذا الخبر.
(4)
سير أعلام النبلاء (3/ 271 - 272).
(5)
ما بين حاصرتين من (أ) فقط.
(6)
طبقاته الكبرى (1/ 318 - 319).
(7)
سقط من (ط).
(8)
تهذيب الكمال (6/ 250) وسير أعلام النبلاء (3/ 274).
وقال محمد بن سعد
(1)
: أخبرنا علي بن محمد، عن إبراهيم بن محمد، عن زيد بن أَسْلم قال: دخل رجل على الحسن بن علي وهو بالمدينة وفي يده صحيفةٌ، فقال: ما هذه الصحيفة؟ فقال: من
(2)
معاوية يَعِدُ فيها ويتوعَّد، فقال الرجل: قد كنتَ على النّصف منه؟ قال: أجل، ولكن خشِيتُ أن يجيء يومَ القيامة سبعون ألفًا أو ثمانون ألفًا أو أكثر أو أقل كلُّهم تَنْضَح أَوْداجُهم
(3)
دمًا، كلُّهم يَستعدي اللهَ فيمَ هُريق دمُه
(4)
؟.
وقال الأصمعي: عن سلّام بن مِسْكين، عن عمران بن عبد الله قال: رأى الحسنُ بن علي في منامه أنه مكتوب بين عينيه {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ففرح بذلك، فبلغ ذلك سعيد بن المسيِّب فقال: إنْ كان رأى هذه الرؤيا فقلَّ ما بقي من أجَلِه. قال: فلم يلبث الحسن بن علي بعد ذلك إلّا أيامًا حتى مات
(5)
.
وقال أبو بكر بن أبي الدُّنيا: حدّثنا عبد الرحمن بن صالح العَتَكي ومحمد بن عثمان العِجْلي قالا: حدّثنا أبو أسامة، عن ابن عَوْن، عن عُمير بن إسحاق قال: دخلتُ أنا ورجل آخر من قريش على الحسن بن علي، فقام فدخل المَخْرَج ثم خرج فقال: لقد لفظتُ طائفة من كبدي أقلِّبها بهذا العود، ولقد سُقِيتُ السُّم مرارًا وما سُقيت مرة أشدَّ من هذه. قال: وجعل يقول لذلك الرجل: سَلْني قبل ألَّا تسألني، فقال: ما أسألك شيئًا، يعافيك الله. قال: فخرجنا من عنده، ثم عدنا إليه من الغد وقد أخذ في السَّوْق
(6)
، فجاء حسين حتى قعد عند رأسه فقال: أي أخي! مَنْ صاحبك؟ قال: تريد قتلَه؟ قال: نعم، قال: لئن كان صاحبي الذي أظنُّ للهُ أشدُّ نقمة وعقوبة - وفي رواية: للهُ أشدُّ بأسًا وأشدُّ تنكيلًا - وإن لم يكن هو ما أحبُّ أن تَقتل بي بريئًا
(7)
.
ورواه محمد بن سعد
(8)
، عن ابن عُلَيَّة، عن ابن عَوْن.
وقال محمد بن عمر الواقدي
(9)
: حدثني عبد الله بن جعفر، عن أم بكر بنت المِسْور قالت: كان الحسن قد سُقي السُّم مرارًا كل ذلك يُفلِت منه، حتى كانت المرة الأخيرة التي مات فيها، فإنه كان يختلف كبده، فلما مات أقام نساء بني هاشم عليه النَّوح شهرًا
(10)
.
(1)
طبقاته الكبرى (1/ 332).
(2)
في ط: ابن، وهو خطأ.
(3)
"الأوداج": جمع وَدَج، وهو عرق في العنق.
(4)
تهذيب الكمال (6/ 250 - 251).
(5)
تهذيب الكمال (6/ 251).
(6)
"السَّوق والسِّياق": النزع عند الموت.
(7)
حلية الأولياء (2/ 38) ومختصر تاريخ دمشق (7/ 38 - 39) وتهذيب الكمال (6/ 251 - 252).
(8)
طبقاته الكبرى (1/ 335 - 336).
(9)
الطبقات الكبرى (1/ 339).
(10)
تهذيب الكمال (6/ 252).
[وقال الواقدي
(1)
: وحدثتنا عبيدة بنت نابل
(2)
، عن عائشة
(3)
قالت: حَدَّ
(4)
نساءُ بني هاشم على الحسن بن علي سنَة].
قال الواقدي
(5)
: حدّثنا عبد الله بن جعفر، عن عبد الله بن حسن قال: كان الحسن بن علي كثير نكاح النساء، وقلَّ ما يحظَيْنَ عنده، وكان قلَّ امرأة تزوَّجها إلا أحبَّتْه وضنَّت
(6)
به، فيقال: إنه كان سُقي سُمًّا، ثم أفلت، ثم سُقي ثم أفلت، ثم كانت الآخرة توفي فيها، فلمّا حضرته الوفاة قال الطبيب وهو يختلف إليه: هذا رجل قد قطع السُّمُّ أمعاءَه. فقال الحسين: يا أبا محمد! أخبرني مَنْ سقاك؟ قال: ولمَ يا أخي؟ قال: أقتلُه والله قبل أن أدفنَك، أولا أقدر عليه، أو يكون بأرض أتكلَّف الشخوص إليه، فقال: يا أخي! إنما هذه الدنيا ليالٍ فانية، دعه حتى ألتقي أنا وهو عند الله. وأبى أن يسمِّيَه له. وقد سمعت بعض مَنْ يقول: كان معاوية قد تلطَّف لبعض خدم الحسن أن يسقيَه سُمًّا.
قال محمد بن سعد
(7)
: أخبرنا يحيى بن حمّاد
(8)
، أخبرنا أبو عَوَانة، عن المُغيرة، عن أمِّ موسى، أن جَعْدة بنت الأَشعث بن قيس سقت الحسن السُّم، فاشتكى منه شكاته، قال: فكان يوضع تحته طستٌ ويرفع آخر نحوًا من أربعين يومًا.
وروى بعضهم أن يزيد بن معاوية بعث إلى جَعْدة بنت الأشعث: أن سُمِّي الحسن وأنا أتزوَّجُك بعده، ففعلت، فلمّا مات الحسن بعثت إليه في ذلك، فقال: إنا والله لم نرضَكِ للحسن، أفنرضاك لأنفسنا؟!.
وعندي أن هذا ليس بصحيح، وعدم صحته عن أبيه معاوية بطريق الأَولى والأَحرى [والله أعلم، ويومُ الفصل ميقاتُ الخلائق أجمعين]
(9)
.
وقد قال كُثَيِّر عزَّة
(10)
في ذلك:
(1)
الطبقات الكبرى (1/ 353).
(2)
ما بين الحاصرتين من المطبوع فقط، ووقع فيه: وحدثنا عبدة بنت نائل، وهو خطأ، وما أثبته مستفاد من تهذيب التهذيب (12/ 436 و 437) وغيره.
(3)
هي عائشة بنت سعد بن أبي وقاص.
(4)
"حدت المرأة على الميت تحُدُّ وتحِدُّ فهي حادّ": إذا حزنت عليه، ولبست ثياب الحزن، وتركت الزينة.
(5)
الطبقات الكبرى (1/ 334 - 335).
(6)
كذا في الأصول، ومثله في مختصر تاريخ دمشق (7/ 39) ووقعت في الطبقات الكبرى وتهذيب الكمال (6/ 252) والسير (3/ 274) وصبت.
(7)
طبقاته الكبرى (1/ 338).
(8)
تحرف في المطبوع إلى: حمال. والخبر في تهذيب الكمال (6/ 252) والسير (3/ 274 - 275).
(9)
ما بين حاصرتين من (أ) فقط.
(10)
قال ابن عساكر في مختصره (7/ 40) والمزي في تهذيبه (6/ 253): وقد تروى للنجاشي. =
يا جَعْدُ بَكِّيهِ ولا تَسْأمي
…
بكاءَ حقٍّ ليسَ بالباطِل
لنْ تَسْتُري البيتَ على مثلِه
…
في الناسِ من حافٍ ولا ناعِل
أَعني الذي أَسْلَمَهُ أهلُه
…
للزَّمنِ المُسْتخرج الماحِل
كان إذا شُبَّتْ له نارُهُ
…
يرفَعُها بالنَّسَبِ الماثِل
كيْما يراها بائِسٌ مُرْمِلٌ
…
أو فردُ قومٍ ليسَ بالآهِل
يُغْلي بِنِيءِ اللَّحم حتَّى إذا
…
أنضجَ لم يُغْل على آكِل
قال سفيان بن عُيَينة: عن رَقَبَة بن مَصْقَلَة قال: لما حضرت الحسنَ الوفاةُ قال: أخرجوني إلى الصَّحن حتى أنظر في ملكوت السماوات، فأخرجوا فراشه، فرفع رأسه، فنظر فقال: اللَّهمَّ إني أحتسب نفسي عندك فإنها أعزُّ الأنفس علَيّ. قال: فكان مما صنع اللهُ له أن احتسب نفسه عنده.
قال عبد الرحمن بن مَهْدي: لما اشتد بسفيان الثوري المرض جزِع جزعًا شديدًا، فدخل عليه مرحوم بن عبد العزيز فقال: ما هذا الجزع يا أبا عبد الله؟! تقدم على ربٍّ عبدتَه ستين سنة، صمتَ له، صلَّيتَ له، حججتَ له
…
قال: فسُرِّي عن الثوري.
وقال أبو نُعيم: لما اشتدَّ بالحسن بن علي الوجع جَزِع، فدخل عليه رجل فقال له: يا أبا محمد ما هذا الجزَع؟! ما هو إلّا أن تفارقَ روحُك جسدَك فتقدم على أبويك: علي وفاطمة، وعلى جدَّيك: النبي صلى الله عليه وسلم وخديجة، وعلى أعمامك، حمزة وجعفر، وعلى أخوالك: القاسم والطِّيب ومطهّر وإبراهيم، وعلى خالاتك: رُقيَّة وأمِّ كلثوم وزينب. قال: فسُرِّي عنه.
وفي رواية: أن القائل له ذلك أخوه الحسين، وأن الحسن قال له: يا أخي إني أدخل في أمر من أمر الله لم أدخل في مثله، وأرى خلقًا من خلق الله لم أرَ مثلهم قطّ. قال: فبكى الحسين رضي الله عنهما.
رواه عباس الدُّوري، عن ابن مَعِين. ورواه بعضهم عن جعفر بن محمد، عن أبيه فذكر نحوه.
وقال الواقدي
(1)
: حدّثنا إبراهيم بن الفضل، عن أبي عتيق قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: شهدنا حسن بن عليٍّ يوم مات، فكادت الفتنةُ تقعُ بين الحسين بن علي ومروان بن الحكم، لأنَّ الحسن كان قد عهد إلى أخيه أن يُدفن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنْ خاف أن يكون في ذلك قتال أو شرّ فليُدْفن بالبقيع،
= قلت: صرح المسعودي في مروج الذهب (3/ 5) بنسبتها للنجاشي. والنجاشي: هو قيس بن عمرو بن مالك، من بني الحارث بن كعب، من كهلان. شاعر هجاء مخضرم، اشتهر في الجاهلية والإسلام، أصله من نجران، وانتقل إلى الحجاز، ثم استقر بالكوفة وهجا أهلها، وهدده عمر بقطع لسانه، وضربه علي على السكر في رمضان. ترجمته في أعلام الزركلي (5/ 207).
(1)
الطبقات الكبرى (1/ 346 - 347).
فأبى مروان أن يدعه - ومروان يومئذ معزولٌ، وإنما أراد أن يرضي معاوية بذلك - ولم يزل مروان عدوًّا لبني هاشم حتى مات. قال جابر: فكلَّمت يومئذ حسين بن علي فقلت: يا أبا عبد الله! اتَّقِ الله فإنَّ أخاك كان لا يحبُّ ما ترى، فادفنه بالبقيع مع أمِّه، ففعل.
ثم روى الواقدي: حدّثني عبد الله بن نافع، عن أبيه، عن [ابن]
(1)
عمر قال: حضرت موت الحسن بن علي، فقلت للحسين: اتَّقِ الله، ولا تُثِرْ فتنة، ولا تَسفِك الدماء، وادفِنْ أخاك إلى جنب أمِّه، فإنه قد عَهِدَ بذلك إليك. قال: ففعل.
وقد روى الواقدي عن أبي هريرة نحوًا من هذا.
وفي رواية: أن الحسن بعث يستأذن عائشة في ذلك، فأَذنت له، فلمّا مات لبس الحسين السلاح، وتسلَّح بنو أمية وقالوا: لا ندعُه يُدفن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أيُدفن عثمان بالبقيع ويُدفن الحسن بن علي في الحُجْرة؟! فلما خاف الناس وقوع الفتنة أشار سعد بن أبي وقّاص، وأبو هريرة، وجابر، وابن عمر على الحسين ألّا يقاتل، فامتثل، ودفن أخاه قريبًا من قبر أمِّه بالبقيع.
وقال سفيان الثوري: عن سالم بن أبي حَفْصة، عن أبي حازم قال: رأيت الحسين بن علي قدَّم يومئذ سعيد بن العاص فصلَّى على الحسن، وقال: لولا أنها سنَّةٌ ما قدَّمته.
وقال محمد بن إسحاق: حدثني مُساور - مولى بني سعد بن بكر - قال: رأيت أبا هريرة قائمًا على مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم مات الحسنُ بن علي وهو ينادي بأعلى صوته: يا أيها الناس! مات اليوم حِبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فابْكُوا
(2)
.
وقد اجتمع الناس لجنازته حتى ما كان البقيع يسع أحدًا من الزّحام، وقد بكاه الرجال والنساء سبعًا، واستمرَّ نساء بني هاشم [يَنُحْنَ عليه شهرًا، وحدَّت نساء بني هاشم]
(3)
عليه سَنَة.
وقال يعقوب بن سفيان: حدّثنا محمد بن يحيى، حدّثنا سفيان، عن جعفر
(4)
بن محمد، عن أبيه قال: قُتل عليٌّ وهو ابن ثمان وخمسين سنة، ومات لها الحسن، وقُتل لها الحسين.
وقال شعبة: عن أبي بكر بن حفص قال: توفي سعدٌ والحسنُ بن علي في أيام بعدما مضى من إمارة معاوية عشرُ سنين.
(1)
سقط من ط. والخبر في سير أعلام النبلاء (3/ 275).
(2)
تهذيب الكمال (6/ 255).
(3)
سقط من (ب).
(4)
تحرف في (أ)، (ب) إلى: يحيى. والخبر في المعرفة والتاريخ (3/ 316).
وقال [ابن]
(1)
عُلَيَّة: عن جعفر بن محمد، عن أبيه قال: توفي الحسن وهو ابن سبع وأربعين، وكذا قال غير واحد، وهو أصح.
والمشهور أنه مات سنة تسع وأربعين كما ذكرنا. وقال آخرون: مات سنة خمسين. وقيل: سنة إحدى وخمسين، وقيل: ثمان وخمسين. والله أعلم سبحانه.
ثم دخلت سنة خمسين من الهجرة
في هذه السنة توفي أبو موسى الأشعري في قول، والصحيح أنه مات سنة ثنتين وخمسين كما سيأتي.
وفيها حج بالناس معاوية، وقيل: ابنه يزيد. وكان نائبَ المدينة سعيدُ بن العاص، وعلى الكوفة والبصرة والمشرق وسِجِسْتان وفارس والسِّند والهند زياد.
وفي هذه السنة اشتكى بنو نَهْشَل على الفرزدق إلى زياد، فهرب الفرزدق منه إلى المدينة، وكان سبب ذلك أنَّ الفرزدق هجا معاويةَ وعرَّض بذكره في قصيدة له، فتطلَّبه زياد أشدَّ الطلب، ففرَّ منه إلى المدينة، فاستجار بسعيد بن العاص، وقال في ذلك أشعارًا، ولم يزل يتردَّدُ بين مكة والمدينة حتى توفي زياد، فرجع إلى بلاده. وقد طوَّل ابن جرير
(2)
قصته.
وذكر ابن جرير في هذه السنة من الحوادث ما رواه الواقدي: حدّثني يحيى بن سعيد بن دينار، عن أبيه: أن معاوية كان قد عزم على تحويل منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى دمشق، وأن يأخذ العصا [التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُمْسكها في يده إذا خطب]
(3)
فيقف معاوية على المنبر فيمسكها، حتى قال أبو هريرة وجابر بن عبد الله: يا أمير المؤمنين! نذكِّركَ الله أن تفعل هذا، فإن هذا لا يصلح، ولا يحل أن يُحوَّل المنبر عن موضعه الذي وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، وأن تخرج عصاه من المدينة. فترك ذلك معاوية، ولكن زاد في المنبر ستَّ درجات [واعتذر إلى الناس]
(4)
.
ثم روى الواقدي: أنَّ عبد الملك بن مروان في أيام خلافته هَمَّ بذلك وعزَم عليه، فقيل له: إن معاوية كان قد عزَم على هذا ثم تركه، وأنه لما حرّك المنبر وأراد قلعه كُسفت
(5)
الشمس. فترك ذلك.
ثم لما حجَّ الوليد بن عبد الملك أراد ذلك أيضًا، فقيل له: إنَّ معاوية وأباك أرادا ذلك ثم تركاه.
(1)
سقط من (ط).
(2)
تاريخه (5/ 241 - 250).
(3)
سقط من (ب).
(4)
ما بين حاصرتين سقط من ب. والخبر في تاريخ الطبري (5/ 239).
(5)
في (ط) و (ب): خسفت.
وكان السبب في تركه أنَّ سعيد بن المسيِّب كلَّم عمر بن عبد العزيز أن يكلِّمه في ذلك ويَعِظَه، فترك.
ثم لما حجَّ سليمان أخبره عمر بن عبد العزيز بما كان عزم عليه الوليد وأنَّ سعيد بن المسيِّب نهاه عن ذلك، فقال سليمان: ما أحبُّ أن يذكر هذا عن عبد الملك ولا عن الوليد، وما يكون لنا أن نفعل هذا، ما لنا ولهذا، وقد أخذنا الدنيا فهي في أيدينا فنريد أن نعمَدَ إلى علَم من أعلام الإسلام يفدُ إليه الناس فنحمله إلى ما قبلنا؟! هذا ما لا يَصلُح. رحمه الله.
وفي هذه السنة عزل معاويةُ عن مصر معاويةَ بن حُدَيج
(1)
، وولَّى عليه مع إفريقية مَسْلمة بن مخلّد.
وفيها افتتح عُقبة بن نافع - عن أمر معاوية - بلاد إفريقية، واختطَّ القَيْروان، وكان مكانها غيضة تأوي إليها السِّباع والوحوش والحيّات العظام، فدعا الله، فلم يبقَ فيها شيء من ذلك، حتى إن السِّباع جعلت تخرج منها حاملةً أولادها، والحيّات يخرجن من أجحارهنَّ هوارب. فعند ذلك أسلم خلق كثير من البربر، فبنى في مكانها القيروان.
وفيها غزا بُسْر بن أبي أرطاة وسفيان بن عوف أرض الروم.
وفيها غزا فَضَالة بن عُبيد البحر.
وفيها توفي:
مِدْلاج
(2)
بن عَمرو السُّلمي
(3)
: صحابي جليل. شهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولم أر له ذكرًا في الصحابة
(4)
(5)
.
وذكر أبو الفرح بن الجَوْزي في كتابه "المنتظم" أن في هذه السنة توفي: جُبير بن مُطْعِم، وحسان بن ثابت، والحكم بن عمرو الغِفَاري، ودِحْيَة بن خليفة الكلبي، وعَقيل بن أبي طالب، وعمرو بن أمية الضَّمري بدري، وكعب بن مالك، والمغيرة بن شُعبة، وجُويرية بنت الحارث، وصفيَّة بنت حيي، وأمُّ شريك الأنصارية، رضي الله عنهم أجمعين.
(1)
تحرف في الأصول إلى: خديج. ضبطه ابن ماكولا في الإكمال (2/ 396) وغيره.
(2)
ويقال: مُدْلج.
(3)
طبقات ابن سعد (3/ 98) الجرح والتعديل (8/ 428) الاستيعاب (4/ 1468) أسد الغابة: (5/ 132) ميزان الاعتدال (4/ 86) الإصابة (ت 7857).
(4)
بعد هذا اختلف المطبوع عما ورد في (أ)، ب من حيث ترتيب المترجمين في وفيات هذه السنة، وقد أثبتهم حسب ورودهم في (أ)، (ب)، و (م) علمًا بأن مضمون النسخ الأربع المعتمدة واحد.
(5)
هكذا قال، وفي قوله نظر، فهو مذكور في كتب الصحابة كما تقدم في الهامش السابق، فلا وجه لما جزم به.
فأما جُبَير بنُ مُطْعِم
(1)
بن عديّ بن نوفل بن عبد مناف القرشي النَّوْفلي، أبو محمد - وقيل: أبو عدي
(2)
- المدني، فإنه قدم وهو مشرك في فداء أسارى بدر، فلمّا سمع قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم في سورة الطُّور {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور: 35] دخل في قلبه الإسلام، ثم أسلم عام خَيْبر، وقيل: زمن الفتح، والأول أصح.
وكان من سادات قريش وأعلمها بالأنساب، أخذ ذلك عن الصِّدِّيق.
والمشهور أنه توفي سنة ثمان وخمسين، وقيل: سنة تسع وخمسين.
وأما حسان بن ثابت - شاعر الإسلام - فالصحيح أنه توفي سنة أربع وخمسين كما سيأتي.
وأما الحَكَم بن عَمرو بن مُجَدَّع الغِفَاري
(3)
: أخو رافع بن عمرو الغفاري - ويقال له: الحكم بن الأَقرع - فصحابي جليل، له عند البخاري
(4)
حديث واحد في النهي عن لحوم الحمر الإنسيَّة.
وقد استنابه زياد بن أَبيه على غزو جبل الأَشَل
(5)
، فغنم شيئًا كثيرًا من الذهب والفضَّة وغير ذلك، فجاء كتاب زياد إليه على لسان معاوية أن يَصطفي من الغنيمة لمعاوية ما فيها من الذهب والفضة لبيت ماله، فردَّ عليه الحكم: إنَّ كتاب الله قبل كتاب أمير المؤمنين، أولم يسمعْ لقوله عليه السلام: "لا طاعةَ
(1)
نسب قريش (201) طبقات خليفة (ت 43) تاريخ خليفة (68، 154، 177، 266) المحبر (67، 69) العلل لأحمد (1/ 204) تاريخ البخاري الكبير (2/ 223) المعارف (285) المعرفة والتاريخ (1/ 364، 368 و 2/ 206) الجرح والتعديل (2/ 512) ثقات ابن حبان (3/ 50) مشاهير علماء الأمصار (ت 35) معجم الطبراني الكبير (2/ 112) جمهرة أنساب العرب (116) الاستيعاب (1/ 230) أسد الغابة (1/ 323) تهذيب الأسماء واللغات (1/ 146) مختصر تاريخ دمشق (6/ 5) تهذيب الكمال (4/ 506) تاريخ الإسلام (2/ 274) سير أعلام النبلاء (3/ 95) العبر (1/ 59) الكاشف (1/ 125) تذهيب التهذيب (1/ 102/ أ) مرآة الجنان (1/ 127 و 130) العقد الثمين (3/ 408) الإصابة (1/ 225) تهذيب ابن حجر (2/ 63) خلاصة الخزرجي (60) شذرات الذهب (1/ 266).
(2)
تحرف في (أ)، (ب) إلى: عيسى.
(3)
طبقات ابن سعد (7/ 28) تاريخ ابن معين (2/ 126) طبقات خليفة (175، 321) تاريخ خليفة (211) مسند أحمد (4/ 212 و 5/ 66) تاريخ البخاري الكبير (2/ 328) تاريخ البخاري الصغير (140) المعرفة والتاريخ (3/ 25) الجرح والتعديل (3/ 119) ثقات ابن حبان (3/ 84) مشاهير علماء الأمصار (ت 415) معجم الطبراني الكبير (3/ 233) مستدرك الحاكم (3/ 441) جمهرة أنساب العرب (186) الاستيعاب (1/ 356) الإكمال لابن ماكولا (7/ 223) أنساب السمعاني (9/ 165) أسد الغابة (2/ 40) تهذيب الكمال (7/ 124) تاريخ الإسلام (2/ 220) سير أعلام النبلاء (2/ 474) تذهيب التهذيب (1/ ورقة 168) الكاشف (1/ 183) تجريد أسماء الصحابة (1/ 136) مجمع الزوائد (9/ 410) الإصابة (2/ 273) تهذيب التهذيب (2/ 436) خلاصة الخزرجي (89).
(4)
(9/ 564) في الذبائح.
(5)
"الأشل": جبل في ثغور خراسان. معجم البلدان (1/ 200).
لمَخْلوقٍ في مَعْصيَةِ الخالِق"
(1)
. ثم نادى في الناس: أن اغدُوا على غنائمكم، وقسَّمها في الناس، ولم يترك إلّا الخُمس. فيقال: إنه حُبس إلى أن مات بمرو في هذه السَّنة، وقيل في سنة إحدى وخمسين، رحمه الله.
وأما دِحْيَة بن خَليفة الكَلْبي
(2)
: فصحابي جليل، كان جميل الصُّورة، ولهذا كان جبريل يأتي كثيرًا على صورته.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسله إلى قيصر
(3)
.
أسلم قديمًا ولكن لم يشهد بدرًا، وشهد ما بعدها، ثم شهد اليرموك، وأقام بالمزة - غربي دمشق - إلى أن مات في خلافة معاوية.
وفيها توفي:
عبدُ الرحمن بنُ سَمُرة
(4)
بن حبيب بن ربيعة
(5)
بن عبد شمس القرشي، أبو سعيد العَبْشَمي.
أسلم يوم الفتح، وقيل: إنه شهد مؤتة، وغزا خراسان، وافتتح سِجِسْتان وكابُل وغيرهما. وكانت له دار بدمشق، وأقام بالبصرة، وقل: بمرو.
(1)
حديث صحيح، أخرجه أحمد في مسنده (5/ 66).
(2)
طبقات ابن سعد (4/ 249) تاريخ خليفة (79) مسند أحمد (4/ 311) تاريخ البخاري الكبير (3/ 254) المعارف (329) الجرح والتعديل (3/ 249) ثقات ابن حبان (3/ 117) مشاهير علماء الأمصار (ت 380) معجم الطبراني الكبير (4/ 265) جمهرة أنساب العرب (458) الاستيعاب (2/ 461) الإكمال لابن ماكولا: (3/ 314) أنساب السمعاني (10/ 452) تاريخ ابن عساكر (6/ 24/ ب) أسد الغابة (2/ 158) تهذيب الأسماء واللغات (1/ 185) مختصر تاريخ دمشق (8/ 159) تهذيب الكمال (8/ 473) تاريخ الإسلام (2/ 222) سير أعلام النبلاء (2/ 550) تذهيب التهذيب (1/ ورقة 211) الكاشف (1/ 225) تجريد أسماء الصحابة (1/ 165) إكمال مغلطاي (2/ ورقة 5) نهاية السول (ورقة 91) مجمع الزوائد (9/ 378) تهذيب التهذيب (3/ 206) الإصابة (3/ 191) خلاصة الخزرجي (112) إعلام السائلين (67 - 80)(الطبعة الثانية)، تهذيب ابن عساكر (5/ 221).
(3)
تفصيل ذلك في إعلام السائلين عن كتب سيد المرسلين (ص 67 - 80).
(4)
طبقات ابن سعد (7/ 15 و 366) تاريخ ابن معين (349) طبقات خليفة (11، 174) تاريخ خليفة (211) مسند أحمد (5/ 61) تاريخ البخاري الكبير (5/ 242) المعارف (304) المعرفة والتاريخ (1/ 283) الجرح والتعديل (5/ 238) مشاهير علماء الأمصار (ت 278) مستدرك الحاكم (3/ 444) الاستيعاب (2/ 835) تاريخ ابن عساكر (9/ 481/ آ) أسد الغابة (3/ 454) مختصر تاريخ دمشق (14/ 260) تهذيب الكمال (ورقة 795) تاريخ الإسلام (2/ 231) سير أعلام النبلاء (2/ 571) الكاشف (2/ 149) العبر (1/ 55) تهذيب التهذيب (6/ 190) الإصابة (6/ 284) خلاصة الخزرجي (228) شذرات الذهب (1/ 244).
(5)
ليست كلمة ربيعة في المطبوع، وهي موضع خلاف بين النسابين. أسد الغابة (3/ 454 - 455).
قال محمد بن سعد
(1)
وغير واحد: مات بالبصرة سنة خمسين - وقيل: سنة إحدى وخمسين - وصلَّى عليه زياد، وترك عدَّة من الذكور.
وكان اسمه في الجاهلية عبد كُلال، وقيل: عبد كلوب، وقيل: عبد الكعبة، فسمَّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن.
وكان أحد السَّفيرين بين معاوية والحسن.
[وقد قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عبدَ الرحمنِ بنَ سَمُرة، لا تَسْأَلِ الإمَارة، فإنَّكَ إنْ أُعْطيتَها عن مسألةٍ وُكِلْتَ إليها، وإنْ أُعْطِيتَها عن غير مسألةٍ أُعِنْتَ عليها"
(2)
.
وفيها توفي:
عثمان بن أبي العاص الثقفي
(3)
: أبو عبد الله الطائفي. له ولأخيه الحكَم صحبة.
قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد ثقيف، فاستعملَه رسول الله صلى الله عليه وسلم على الطائف، وأقرَّه عليها أبو بكر وعمر، فكان إمامهم وأميرهم مدَّة طويلة حتى مات سنة خمسين - وقيل سنة إحدى وخمسين رضي الله عنه.
وأما عَقِيل بن أبي طالب
(4)
: أخو عليّ. وكان أكبرَ من جعفر بعشر سنين، وجعفر أكبر من
(1)
طبقاته الكبرى (7/ 367)، وتهذيب الكمال (17/ 159).
(2)
ما بين حاصرتين من (أ) فقط. وتمام الحديث: وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرًا منها فائت الذي هو خير وكفَّر عن يمينك.
وقد أخرجه أحمد في مسنده (5/ 62 - 63) والبخاري رقم (7146) في الأحكام: باب من سأل الإمارة وكل إليها، ومسلم (1652) في الأيمان، وأبو داود (3277) والنسائي (7/ 10) في النذور، والترمذي (1529) في النذور والأيمان، وقال: حسن صحيح.
(3)
طبقات ابن سعد (5/ 508) طبقات خليفة (53، 182، 197) تاريخ خليفة (149، 152) مسند أحمد (4/ 21 و 216) تاريخ البخاري الكبير (6/ 212) ثقات العجلي (328) المعارف (268، 555) المعرفة والتاريخ (1/ 273) الجرح والتعديل (6/ 163) مشاهير علماء الأمصار (ت 224) معجم الطبراني الكبير (9/ 30، 53) مستدرك الحاكم (3/ 618) الاستيعاب (3/ 1035) أسد الغابة (3/ 579) تهذيب الكمال (ورقة 915) تاريخ الإسلام (2/ 305) سير أعلام النبلاء (2/ 374) الكاشف (2/ 220) مجمع الزوائد (9/ 370) تهذيب التهذيب (7/ 128) الإصابة (6/ 388) خلاصة الخزرجي (260).
(4)
طبقات ابن سعد (4/ 42) طبقات خليفة (ت 17 و 820 و 1481) مسند أحمد (2/ 201 و 3/ 451) تاريخ البخاري الكبير (7/ 50) تاريخ البخاري الصغير (1/ 145) ثقات العجلي (338) المعارف (الفهرس)، الجرح والتعديل (6/ 218) مشاهير علماء الأمصار (ت 14) مستدرك الحاكم (3/ 575) جمهرة أنساب العرب (69) الاستيعاب (3/ 1078) تاريخ ابن عساكر (11/ 363/ أ) أسد الغابة (4/ 63) تهذيب الأسماء واللغات (1/ 1/ 337) مختصر تاريخ دمشق (17/ 114) تهذيب الكمال (ورقة 951) تاريخ الإسلام (2/ 233) تذهيب التهذيب (3/ 47/ ب) سير أعلام النبلاء (3/ 99) الكاشف (2/ 239) نكت الهميان (200) مجمع الزوائد (9/ 273) العقد الثمين (6/ 113) الإصابة (2/ 494) تهذيب التهذيب (7/ 254) خلاصة الخزرجي (269).
علي بعشر سنين، كما أن طالبًا أكبر من عَقيل بعشر سنين، وكلُّهم أسلم إلّا طالبًا.
أسلم عَقيل قبل الحُدَيبية، وشهد مُؤتة، وكان من أنسب قريش، وكان قد ورث أقرباءه الذين هاجروا وتركوا أموالهم وديارهم بمكَّة، ومات في خلافة معاوية.
وأما عَمرو بن أميَّة الضَّمْري
(1)
: فصحابي جليل. أسلم بعد أُحد، وأول مشاهده بئر مَعُونة.
وكان ساعي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النَّجاشي في تزويج أمِّ حبيبة، وأن يأتي بمَنْ بقي من المسلمين هناك. وله أفعال حسنة وآثار محمودة رضي الله عنه.
توفي في خلافة معاوية.
وفيها كانت وفاة:
عَمرو بن الحَمِق بن الكاهن الخُزاعي
(2)
: أسلم قبل الفتح وهاجر، وقيل: إنما أسلم عام حجَّة الوداع
(3)
.
وقد ورد في حديث "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا له أن يُمْتِعَه اللهُ بشَبابه، فعاش ثمانين سنة لا يُرى في لحيته شعرةٌ بيضاء"
(4)
. ومع هذا كان أحد الأربعة الذين دخلوا على عثمان، ثم صار بعد ذلك من شِيعة علي، فشهد معه الجمل وصفِّين.
وكان من جملة الذين قاموا مع حُجْر بن عدي، فتطلَّبه زياد، فهرب منه إلى المَوْصل، فبعث معاوية
(1)
طبقات ابن سعد (4/ 248) طبقات خليفة (ت 182) مسند أحمد (4/ 139 و 179 و 5/ 287) المحبر (76، 118، 119، 183) تاريخ البخاري الكبير (6/ 307) ثقات العجلي (362) المعرفة والتاريخ (1/ 325) الجرح والتعديل (6/ 220) مستدرك الحاكم (3/ 623) جمهرة أنساب العرب (185) الاستيعاب (3/ 1162) الجمع بين رجال الصحيحين (1/ 362) أنساب السمعاني (8/ 159) تاريخ ابن عساكر (13/ 198/ ب) أسد الغابة (4/ 193) تهذيب الأسماء واللغات (1/ 2/ 24) مختصر تاريخ دمشق (19/ 178) تهذيب الكمال (ورقة 1030) تاريخ الإسلام (2/ 234) تذهيب التهذيب (3/ 94/ آ) سير أعلام النبلاء (3/ 179) الكاشف (2/ 280) العقد الثمين (6/ 365) الإصابة (2/ 524) تهذيب التهذيب (8/ 6) خلاصة الخزرجي (287) إعلام السائلين (49 - 50).
(2)
طبقات ابن سعد (6/ 25) مسند أحمد (5/ 223) تاريخ البخاري الصغير (1/ 105) ثقات العجلي (363) الأوائل لابن قتيبة (41) المعارف (291) المعرفة والتاريخ (1/ 330) الجرح والتعديل (6/ 225) مشاهير علماء الأمصار (ت 379) الأوائل للعسكري (65) الاستيعاب (3/ 1173) أسد الغابة (4/ 217) مختصر تاريخ دمشق (19/ 201) تهذيب الكمال (ورقة 1034) الكاشف (2/ 283) تهذيب التهذيب (8/ 23) الإصابة (ت 5818) حسن المحاضرة (1/ 223) خلاصة الخزرجي (288).
(3)
قال ابن عبد البر: والأول أصح.
(4)
رواه ابن السني في عمل اليوم والليلة برقم (475) وابن الأثير في أسد الغابة (4/ 217) من حديث عمرو بن الحمق. وفي سنده إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة وهو متروك.
إلى نائبها، فطلبوه فوجدوه قد اختفى في غار، فنهشَتْه حيَّة فمات، فقُطع رأسه، فبُعث به إلى معاوية، فطِيف به في الشام وغيرها، فكان أول رأس طيف به. ثم بعث معاوية برأسه إلى زوجته آمنة بنت الشَّريد - وكانت في سجن معاوية - فأُلقي في حِجْرها، فوضعت كفَّها على جبينه ولثمت فمه وقالت: غيَّبْتُموه عنِّي طويلًا، ثم أهديتُموه إليَّ قتيلًا، فأهلًا بها من هديَّة غير قالية ولا مقليَّة
(1)
.
وأما كعبُ بن مالك
(2)
: السَّلَمي الأنصاري، شاعر الإسلام، فإنه أسلم قديمًا، وشهد العَقَبة، ولم يشهد بدرًا كما ثبت في "الصحيحين" في سياق توبة الله عليه، فإنه كان أحد الثلاثة الذين تِيبَ عليهم لمّا تخلَّفوا عن غزوة تبوك كما تقدم ذلك مفصَّلًا [في التفسير، وكما تقدم في غزوة تبوك]
(3)
.
وغلِط ابن الكلبي في قوله: إنه شهد بدرًا، وفي قوله: توفي قبل الأربعين، فإن الواقدي - وهو أعلم - قال: توفي سنة خمسين. وقال الهيثم
(4)
بن عدي: سنة إحدى وخمسين
(5)
.
المُغيرة بنُ شُعبة
(6)
بن أبي عامر بن مسعود، أبو عيسى [ويقال: أبو محمد]
(7)
ويقال:
(1)
تتمة كلامها وما دار بينها وبين معاوية في أعلام النساء لكحالة (1/ 11) نقلًا عن بلاغات النساء لابن أبي طاهر.
(2)
طبقات فحول الشعراء (1/ 220) طبقات خليفة (103) تاريخ خليفة (202) مسند أحمد (3/ 454 و 6/ 38) تاريخ البخاري الكبير (7/ 219) المعارف (343) المعرفة والتاريخ (1/ 318) الجرح والتعديل (7/ 160) مشاهير علماء الأمصار (ت 63) الأغاني (16/ 226) معجم الشعراء للمرزباني (229) مستدرك الحاكم (3/ 440) الاستبصار (160) الاستيعاب (3/ 1323) أنساب السمعاني (7/ 114) تاريخ ابن عساكر (14/ 286/ آ) أسد الغابة (4/ 487) مختصر تاريخ دمشق (21/ 188) تهذيب الكمال (ورقة 1148) تاريخ الإسلام (2/ 243) سير أعلام النبلاء (2/ 523) العبر (1/ 56) الكاشف (3/ 8) نكت الهميان (231) تهذيب التهذيب (8/ 440) الإصابة (8/ 304) خلاصة الخزرجي (321) كنز العمال (13/ 581) شذرات الذهب (1/ 244).
(3)
ما بين حاصرتين ليس في (أ).
(4)
تحرف في الأصول إلى: القاسم.
(5)
وقع في (أ)، (ب): إحدى وأربعين وهو خطأ.
(6)
طبقات ابن سعد (4/ 284 و 6/ 20) طبقات خليفة (361، 884، 1419) مسند أحمد (4/ 244) المحبر (الفهرس)، تاريخ البخاري الكبير (7/ 316) ثقات العجلي (437) المعارف (294) الأوائل لابن قتيبة (20، 60) المعرفة والتاريخ (الفهرس)، تاريخ الطبري (5/ 234) الجرح والتعديل (8/ 224) مشاهير علماء الأمصار (ت 269) الأغاني (16/ 79) جمهرة أنساب العرب (267) الاستيعاب (4/ 1445) تاريخ بغداد (1/ 191) الجمع بين رجال الصحيحين (2/ 499) تاريخ ابن عساكر (17/ 33/ ب) أسد الغابة (5/ 247) الكامل في التاريخ (3/ 461) تهذيب الأسماء واللغات: القسم الأول من الجزء الثاني (109) مختصر تاريخ دمشق (25/ 154) تهذيب الكمال (ورقة 1363) تاريخ الإسلام (2/ 247) تذهيب التهذيب (4/ 60/ أ) سير أعلام النبلاء (3/ 21) الكاشف (3/ 148) العبر (1/ 56) مرآة الجنان (1/ 124) العقد الثمين (7/ 255) الإصابة (ت 8181) تهذيب التهذيب (10/ 262) خلاصة الخزرجي (385) شذرات الذ هب (1/ 245).
(7)
سقط من (ط).
أبو عبد الله الثَّقفي. [وعروة بن مسعود الثقفي]
(1)
عمُّ أبيه.
كان المغيرة من دهاة العرب وذوي آرائها. أسلم عام الخندق بعد ما قَتل ثلاثة عشر رجلًا من ثَقيف مرجعَهم من عند المُقَوْقِس
(2)
، وآخذ أموالهم، فغُرم دياتهم عُروة بن مسعود. وشهد الحُديبية، وكان واقفًا يوم الصُّلح على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف صَلْتًا. وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد إسلام أهل الطائف هو وأبو سفيان بن حرب، فهدما اللَّات، وقد قدَّمنا كيفية ذلك. وبعثه الصدِّيق إلى البحرين، وشهد اليَمامة واليرموك وأُصيبت عينه يومئذ، وقيل: بل نظر إلى الشمس وهي كاسفة فذهب ضوء عينه. وشهد القادسيَّة. وولّاه عمر فتوحًا كثيرة منها: همذان ومَيْسان. وأرسله سعد بن أبي وقاص إلى رُسْتم، فكلَّمه بذلك الكلام الفصيح البليغ. واستنابه عمر على البصرة، فلمّا شُهد عليه بالزِّنى - ولم يثبتْ عليه
(3)
- عزله عنها وولّاه الكوفة، واستمرَّ به عثمان حينًا ثم عزله، فبقي معزولًا حتى كان أمر الحكمَيْن فلحق بمعاوية، فلما قُتل علي وصالح معاوية الحسن ودخل الكوفة ولّاه عليها، فلم يزل أميرَها حتى مات في هذه السنة على المشهور. قاله محمد بن سعد
(4)
وغيره.
وقال الخطيب
(5)
: أجمع الناس على ذلك، وذلك في رمضان منها عن سبعين سنة. وقال أبو عبيد: مات سنة تسع وأربعين. وقال ابن عبد البَرّ
(6)
: سنة إحدى وخمسين، وقيل: سنة ثمان وخمسين. وقيل سنة ست وثلاثين، وهو غلط.
قال محمد بن سعد: كان المغيرة أصهبَ الشَّعر جدًّا، أكشف اللون، مقلَّص الشفتَيْن، أهتم
(7)
، ضخم الهامة، عَبْل الذِّراعين، بعيد ما بينَ المنكبين، وكان يفرق رأسه أربعة قُرون
(8)
.
وقال الشَّعبي: القُضاة أربعة: أبو بكر، وعمر، وابن مسعود، وأبو موسى. والدُّهاة أربعة: معاوية، وعَمرو بن العاص، والمُغيرة، [وزياد.
وقال الزُّهري: الدُّهاة في الفتنة خمسة: معاوية، وعَمرو بن العاص، والمُغيرة]
(9)
بن
(1)
سقط من (أ).
(2)
اسمه جريج بن مينا، والمقوقس لقب له. إعلام السائلين عن كتب سيد المرسلين (ص 81).
(3)
سير أعلام النبلاء (3/ 27 - 28).
(4)
في طبقاته (6/ 20).
(5)
في تاريخه (1/ 191 - 193)، لكن فيه: أنه توفي في شعبان لا في رمضان.
(6)
الاستيعاب (4/ 1446).
(7)
"الأهتم": من انكسرت ثناياه.
(8)
"قرون": جمع قَرْن، وهو الذؤابة. ولم نجد هذا النص في طبقات ابن سعد فلعله في الجزء المخروم من ترجمته فيها، وهو في تاريخ ابن عساكر والسير وغيرهما.
(9)
ما بين حاصرتين سقط من (أ). والقول في مختصر تاريخ دمشق (25/ 147) والسير (3/ 22 - 23).
شُعبة - وكان معتزلًا - وقيس بن سعد بن عُبَادة، وعبد الله بن بُدَيل بن ورقاء، وكانا مع علي.
قلت: والشِّيعة يقولون: الأشياخ
(1)
خمسة: رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي، وفاطمة، والحسن، والحسين. والأضداد خمسة: أبو بكر، وعمر، ومعاوية، وعَمرو بن العاص، والمُغيرة بن شُعبة.
وقال الشعبي: سمعت المغيرة بن شعبة يقول: ما غلبني أحدٌ إلّا فتىً، مرة، أردت أن أتزوَّج امرأة، فاستشرته فيها، فقال: أيها الأمير! لا أرى لك أن تتزوَّجها، فقلت له: لم؟ فقال: إني رأيت رجلًا يقبِّلُها. ثم بلغني عنه أنه تزوَّجها، فقلت له: ألم تزعم أنك رأيتَ رجلًا يقبِّلها؟ فقال: نعم، رأيت أباها يقبِّلها وهي صغيرة
(2)
.
[وقال أيضًا: سمعت قَبيصة بن جابر يقول: صحبتُ المغيرة بن شعبة، فلو أن مدينة لها ثمانيةُ أبواب لا يُخرج من باب منها إلا بمكرٍ لخرج المغيرة من أبوابها كلِّها.
وقال ابن وهب: سمعت مالكًا يقول]
(3)
: كان المغيرة بن شعبة يقول: صاحبُ المرأة الواحدة تَحِيض فيَحيض معها، وتمرض فيمرض معها، وصاحب المرأتين بين نارين تشتعلان، وصاحب الأربعة قرير العين. وكان يتزوَّج أربعًا معًا ويطلِّقهنَّ معًا.
وقال عبد الله بن نافع الصّائغ: أَحصن المغيرةُ ثلاثمئة امرأة. وقال غيره: ألف امرأة. وقال قَتادة: مئة امرأة. وقيل: ثمانين امرأة. فالله أعلم.
وأما جُوَيْريَة بنتُ الحارث
(4)
بن أبي ضِرار الخُزاعيَّة المُصْطلقيَّة، أمّ المؤمنين، فكان سباها رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة المُرَيْسِيع، وهي غزوة بني المُصْطلق، وكان أبوها ملكَهُم، فأسلمت، فأعتقها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتزوَّجها. وكانت قد وقعت في سهم ثابت بن قيس بن شمّاس، فكاتَبَها، فأتتْ رسول الله صلى الله عليه وسلم تستعينُه في كتابتها، فقال:"أو خيرٌ مِنْ ذلك"؟ قالت: وما هو يا رسول الله؟ قال: "أَشتريك، وأُعتقك، وأَتزوَّجك" فأعتقها، فقال الناس: أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقوا ما بأيديهم من سَبْي بني المُصْطلق، وكان نحوًا من مئة أهل بيت. قالت عائشة: فما أعلمُ امرأةً كانت أعظمَ بركةً على أهلها منها
(5)
.
(1)
تحرفت في المطبوع إلى: الأشباح.
(2)
مختصر تاريخ دمشق (25/ 174 - 175).
(3)
ما بين حاصرتين سقط من (أ)، ومكانه بياض في ب. مختصر تاريخ دمشق (25/ 174 و 177).
(4)
طبقات ابن سعد (8/ 116) طبقات خليفة (342) تاريخ خليفة (224) مسند أحمد (6/ 324 و 449) المعارف (138) المعرفة والتاريخ (3/ 322) مستدرك الحاكم (4/ 25) الاستيعاب (4/ 1804) أنساب السمعاني (11/ 345) أسد الغابة (7/ 56) تهذيب الكمال (ورقة 1687) تاريخ الإسلام (2/ 275) سير أعلام النبلاء (2/ 261) الكاشف (3/ 422) العبر (1/ 61) مجمع الزوائد (9/ 250) تهذيب التهذيب (12/ 407) الإصابة (12/ 182) خلاصة الخزرجي (489) كنز العمال (13/ 706) شذرات الذهب (1/ 257) أعلام النساء (1/ 227).
(5)
أخرجه أحمد (6/ 277)، وأبو داود (3931) في العتق من حديث عائشة، وهو حديث حسن.
وكان اسمها بَرَّة، فسمّاها رسول الله صلى الله عليه وسلم جُوَيْريَة
(1)
.
وكانت امرأة مُلَّاحة - أي: حلوة الكلام.
توفيت في هذه السنة كما ذكره ابن الجَوْزي وغيره عن خمس وستين سنة. وقال الواقدي: سنة ست وخمسين، رضي الله عنها وأرضاها.
وأما صَفِيَّة بنتُ حُيَيّ
(2)
بن أَخطَب بن سَعْية
(3)
بن ثعلبة بن عبيد
(4)
بن كعب بن الخزرج بن أبي حبيب بن النَّضير بن النحام بن نحوم، أمّ المؤمنين، النَّضَريَّة، من سلالة هارون أخي موسى عليهما السلام. وكانت مع أبيها وعمها حُدَي بن أخطب بالمدينة، فلما أجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النَّضير ساروا إلى خيبر، وقُتل أبوها حُيَي مع بني قُريظة صَبْرًا كما قدَّمنا، فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر كانت صَفيَّة من جملة السَّبي، فوقعت في سهم دِحْية بن خليفة الكَلْبي، فذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم جمالها وأنها بنت ملكهم، فاصطفاها لنفسه، وعوَّض دِحْية عنها، وأسلمت، فأعتقها وتزوَّجها، فلما حلَّت بالصَّهْباء
(5)
بنى بها، وكانت ماشطتَها أمُّ سُلَيم.
وقد كانت تحت ابن عمِّها كنانة بن أبي الحُقَيْق، فقُتل في المعركة بخيبر، ووجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بخدِّها لطمةً فقال: ما هذه؟ فقالت: إني رأيت كأن القمرَ أقبل من يثرب فسقط في حِجْري، فقصصتُ المنام على ابن عمي، فلطمني وقال: أتتمنَّيْنَ أن يتزوَّجك ملك يثرب؟ فهذه من لطمته.
وكانت من سيِّدات النساء عبادة وورعًا وزهادة وبرًّا وصَدَقة. رضي الله عنها.
قال الواقدي: توفيت سنة خمسين. وقال غيره: سنة ست وثلاثين. والأول أصح، والله أعلم.
وأما أمُّ شَرِيك الأَنصَاريَّة
(6)
: - ويقال: العامريَّة - فهي التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم فقيل: قَبِلَها،
(1)
أخرجه مسلم (2140) في الآداب: باب استحباب تغيير الاسم القبيح إلى حسن
…
(2)
طبقات ابن سعد (8/ 120) تاريخ خليفة (82، 83، 86) مسند أحمد (6/ 336) المعارف (138) المعرفة والتاريخ (الفهرس)، مستدرك الحاكم (4/ 28) الاستيعاب (4/ 1871) جامع الأصول (9/ 143) أسد الغابة (7/ 169) تهذيب الكمال (ورقة 1694) تاريخ الإسلام (2/ 228) العبر (1/ 56) سير أعلام النبلاء (2/ 231) الكاشف (3/ 429) مجمع الزوائد (9/ 250) تهذيب التهذيب (12/ 429) الإصابة (13/ 14) خلاصة الخزرجي (492) كنز العمال (13/ 637، 704) شذرات الذهب (245/ 1) أعلام النساء (2/ 333).
(3)
وردت في المطبوع شعبة وقد اختلفت المصادر في تقييد هذا الاسم على أقوال منها: شعبة، وسعية، وسعنة
…
إلخ وأثبت ما في (أ)، ب وهو أقربها إلى الصحة فيما وصلت إليه، وهو الذي اختاره الأمير ابن ماكولا في الإكمال (5/ 67).
(4)
تحرف في المطبوع إلى: عبد.
(5)
"الصهباء": موضع قرب خيبر.
(6)
تاريخ ابن معين (742) طبقات ابن سعد (8/ 154) طبقات خليفة (335) مسند أحمد (6/ 421، 462) الجرح والتعديل (9/ 464) مستدرك الحاكم (4/ 34) الاستجعاب (4/ 1943) أسد الغابة (7/ 352) تهذيب الكمال (ورقة =
وقيل: لم يقبلْها. ولم تتزوج حتى ماتت
(1)
[ترجو بذلك أن تكون من أزواجه]
(2)
.
وهي التي سُقيتْ بدلو من السماء لمّا منعها المشركون الماء، فأَسلموا عند ذلك.
واسمها غزيَّة - وقيل: غُزَيلة - بنت دودان بن عمرو بن عامر [بن رواحة بن مُنقذ بن عمرو بن مَعِيص بن عامر بن لؤي.
أسلمت قديمًا.
قلت: قد ذكر ابن الجوزي والمؤلِّف في "جامع المسانيد" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل بها لمّا وهبت نفسها له. وروت أحاديث. وقيل: لما رأى كبر سنِّها طلَّقها، والله أعلم.
ماتت في هذه السنة]
(3)
على الصحيح. وقال ابن الجوزي: ماتت سنة خمسين. ولم أره لغيره.
ثم دخلت سنة إحدى وخمسين
فيها كان مقتل حُجْر بن عديّ وأصحابه، وهو:
حُجْر بنُ عَديّ
(4)
بن جَبَلَة بن عديّ بن ربيعة بن معاوية الكرم
(5)
بن الحارث بن معاوية بن ثور بن مُرْتِع بن كندة
(6)
الكوفي، ويقال: حُجر الخير، ويقال له: حُجر بن الأَدْبَر، لأن أباه عَديًّا طُعن مولِّيًا فسمِّي الأَدْبر. [ويُكنى حُجر بأبي عبد الرحمن [
(7)
. وهو من كِنْدة، من رؤساء أهل الكوفة.
= 1711) تاريخ الإسلام (2/ 330) سير أعلام النبلاء (2/ 255) الكاشف (3/ 442) الإصابة (13/ 235) تهذيب التهذيب (12/ 472) خلاصة الخزرجي (498) أعلام النساء (2/ 296).
(1)
مثله في طبقات ابن سعد ووقعت في ط: مات.
(2)
ما بين حاصرتين من (أ) فقط.
(3)
ما بين حاصرتين سقط من (ط)، (ب)، وذكر ابن الأثير الخلاف في اسمها ونسبها في أسد الغابة (7/ 352).
(4)
طبقات ابن سعد (6/ 217) طبقات خليفة (ت 1042) المحبر (292) تاريخ البخاري الكبير (3/ 72) التاريخ الصغير (1/ 95) المعارف (334) المعرفة والتاريخ (3/ 320)، الأخبار الطوال (223)، تاريخ الطبري (5/ 253) الجرح والتعديل (3/ 266) مروج الذهب (3/ 12) مشاهير علماء الأمصار (ت 648) الأغاني (17/ 133) معجم الطبراني الكبير (4/ 39) مستدرك الحاكم (3/ 468) جمهرة أنساب العرب (426) الاستيعاب (1/ 329) تاريخ ابن عساكر (4/ 131/ ب) أسد الغابة (1/ 461) الكامل في التاريخ (3/ 472) مختصر تاريخ دمشق (6/ 235) تاريخ الإسلام (2/ 275) سير أعلام النبلاء (3/ 462) العبر (1/ 57) مرآة الجنان (1/ 125) الإصابة (1/ 314) شذرات الذهب (1/ 247) تهذيب ابن عساكر (4/ 87).
(5)
وقعت في ط: الأكبر. وفي مصادر الترجمة: الأكرمين.
(6)
في الأصل: ابن كندي، والتصحيح من جمهرة الأنساب.
(7)
سقط من ط.
قال ابن عساكر
(1)
: وفد إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وسمع عليًّا، وعمّارًا، وشراحيل بن مرَّة - ويقال: شرحبيل بن مرّة. وروى عنه أبو ليلى مولاه، وعبد الرحمن بن عباس، وأبو البَخْتري الطائي. وغزا الشام في الجيش الذين افتتحوا عَذْراء
(2)
، وشهد صفِّين مع عليّ أميرًا، وقُتل بعَذْراء من قرى دمشق، ومسجد قبره بها معروف. ثم ساق ابن عساكر بأسانيده إلى حُجْر قذكر طرفًا صالحًا من روايته عن علي وغيره.
وقد ذكره محمد بن سعد في الطبقة الرابعة من الصحابة، وذكر له وفادة على النبي صلى الله عليه وسلم ثم ذكره في الأولى من تابعي أهل الكوفة. قال: وكان ثقة معروفًا، ولم يرو عن غير
(3)
علي شيئًا.
قال ابن عساكر: بل قد روى عن عمّار، وشراحيل بن مرَّة.
وقال أبو أحمد العسكري: أكثر المحدثين لا يُصحِّحون له صحبة. شهد القادسية، وافتتح مرج
(4)
عَذْراء، وشهد الجمل وصفِّين، وكان مع علي حُجْر الخير - وهو حُجْر بن عديّ هذا - وحُجْر الشَّر
(5)
- وهو حُجْر بن يزيد بن سلمة بن مُرَّة.
وقال المرزباني: قد روي أن حُجْر بن عديّ وفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أخيه هانئ بن عديّ. وكان هذا الرجل من عُبّاد الناس وزُهّادهم، وكان بارًّا بأمِّه، وكان كثير الصلاة والصيام. قال أبو مَعْشر: ما أحدثَ قطُّ إلّا توضأ، ولا توضأ إلّا صلَّى ركعتين. وهكذا قال غير واحد.
وقال الإمام أحمد: حدّثنا يعلى بن عُبيد، حدّثني الأعمش، عن أبي إسحاق قال: قال سلمان لحُجر: يا بن أمِّ حُجْر، لو تقطَّعت أعضاؤك ما بلغت الإيمان.
وكان ينكر على المغيرة بن شعبة - إذ كان المغيرة على الكوفة - إذا ذكر عليًّا في خطبته فتنقَّصه بعد مدح عثمان وشِيعته فيغضب حُجْر هذا ويظهر الإنكار عليه، ولكن كان المغيرة فيه حِلْم وأناة، فكان يصفح عنه ويَعِظُه فيما بينه وبينه، ويحذِّره غِبَّ
(6)
هذا الصَّنيع، فإنَّ معارضة ذي السلطان شديدٌ وبالُها. فلم يرجع حُجْر عن ذلك. فلمّا كان في آخر أيام المغيرة قام حُجْر يومًا، فأنكر عليه في الخطبة، وصاح به، وذمَّه بتأخيره العطاء عن الناس، وقام معه فِئَام من الناس
(7)
لقيامه، وتبعه قومه فشنَّعوا على المغيرة، فدخل
(1)
تاريخ دمشق (12/ 207 - 208).
(2)
وتلفظ العامة اسمها اليوم عَدْرا وهي من قرى غوطة دمشق، تقع في الشمال الشرقي منها، وتبعد عنها خمسة عشر ميلًا تقريبًا.
(3)
سقطت لفظة غير من آ. طبقات ابن سعد (6/ 220).
(4)
وقعت في ط: برج.
(5)
في الأصول: حجر الشرف. ترجمته في سير أعلام النبلاء (3/ 467).
(6)
"غب الأمر ومغبته": عاقبته.
(7)
"الفئام": الجماعة. ووقعت في ط: فقام الناس.
المغيرة القصر بعد الصلاة، ودخل معه جمهور الناس من الأمراء، فأشاروا على المغيرة أن يردَع حُجْرًا هذا عما يتعاطاه من الجرأة على السلطان وشقِّ العصا والقيام على الأمراء، وذمَّروه وحثُّوه على التنكيل به. فصفَح عنه وحَلُم به.
وذكر يونس بن عبيد: أن معاوية كتب إلى المغيرة يستمدُّه بمال يبعثه من بيت المال، فبعث عِيرًا تحمل مالًا، فاعترض لها حُجْر، فأمسك بزِمام أوَّلها وقال: لا والله حتى تعطيَ كل ذي حقٍّ حقَّه. فقال شباب ثقيف للمغيرة: ألا نأتيك برأسه؟ فقال: ما كنت لأفعل ذلك بحُجْر، فتركه، فلما بلغ معاوية ذلك عزل المغيرة وولَّى زيادًا.
والصحيح أن المغيرة ما زال واليًا حتى مات، فلما مات جمع معاوية الكوفة مع البصرة لزياد، فدخلها وقد التف على حُجْر جماعات من شِيعة عليٍّ يقوُّون أمره، ويشدُّون على يده، ويسبُّون معاوية ويتبرَّؤون منه. فلما كان أول خطبة خطبها زياد بالكوفة ذكر في آخرها فضائل عثمان، وذمَّ مَنْ قتله أو أعان على قتله، فقام حُجْر كما كان يقوم في أيام المغيرة، وتكلَّم بما كان يكلِّم به المغيرة، فلم يعرض له زياد. ثم ركب زياد إلى البصرة، وأراد أن يأخذ حُجْرًا معه إلى البصرة لئلّا يحدث حدثًا، فقال: إني مريض، فقال: والله إنك لمريض الدين والقلب والعقل، والله لئن أحدثتَ شيئًا لأسعينَّ في ذلك إلى معاوية. ثم سار زياد إلى البصرة، فبلغه أن حُجْرًا وأصحابه أنكروا على نائبه بالكوفة - وهو عمرو بن حُريث - وحصبوه وهو على المنبر يوم الجمعة، فركب زياد إلى الكوفة، فنزل القصر، ثم خرج إلى المنبر وعليه قباء سُنْدس ومطرف خزّ أحمر، قد فَرَق شعره، وحُجْر جالس وحوله أصحابه أكثر ما كانوا [يومئذ، وكان مَنْ لبس من أصحابه يومئذ نحو من ثلاثة آلاف، وجلسوا حوله]
(1)
في المسجد في الحديد والسلاح. فخطب زياد، فحمِد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإن غِبَّ البغي والغيِّ وخيم، وإن هؤلاء القوم أَمِنُوني فاجترؤوا علَيّ، وايم الله لئن لم تستقيموا لأُداوينَّكم بدوائكم. ثم قال: ما أنا بشيء إن لم أمنع ساحة الكوفة من حُجْر وأدعه نكالًا لمن بعدَه، ويلُ امِّكَ يا حُجْر، سقط بك العشاءُ على سِرْحان. ثم قال:
أَبْلِغْ نَصِيحَةَ أنَّ راعيَ إبْلِها
…
سَقَطَ العَشَاءُ به على سِرْحان
(2)
وجعل زياد يقول في خطبته: إنَّ من حقِّ أمير المؤمنين [إنَّ من حقِّ أمير المؤمنين، فقال حُجْر: كذبتَ، فسكت زياد ونظر إليه ثم عاد: إن من حق أمير المؤمنين، إن من حق أمير المؤمنين]
(3)
- يعني
(1)
من المطبوع فقط.
(2)
"السرحان": الذئب، وهذا مثل يضرب في طلب الحاجة يؤدي صاحبها إلى التلف. وهو في مجمع الأمثال للميداني (1/ 328).
(3)
سقط من المطبوع.
كذا وكذا - فأخذ حُجْر كفًّا من حصى، فحصبَه بها وقال: كذبتَ، عليك لعنة الله. فانحدر زياد، فصلَّى، ثم دخل القصر، واستحضر حُجْرًا.
ويقال: إن زيادًا لما خطب طوَّل الخطبة وأخَّر الصلاة، فقال له حُجْر: الصلاة، فمضى في خطبته]
(1)
، فلمّا خشي حُجْر فوت الصلاة عمد إلى كفٍّ من حصى، ونادى: الصلاة [بصوت عالٍ وصيحة عظيمة حتى سمعها أهل المسجد ومَنْ هو خارج منه]
(2)
وثار الناس معه، فلما رأى ذلك زياد نزل فصلَّى بالناس، فلمّا انصرف من صلاته كتب إلى معاوية في أمره وكثر عليه، فكتب إليه معاوية: أن شُدَّه في الحديد واحملْه إلي، فبعث إليه زياد والي الشرطة - وهو شدّاد بن الهيثم - ومعه أعوانه فقال له: إن الأمير يطلبك، فامتنع عن الحضور إلى زياد، وقام دونه أصحابه، فرجع الوالي إلى زياد فأعلمه، فاستنهض زيادٌ جماعاتٍ من القبائل، فركبوا مع الوالي إلى حُجْر وأصحابه، فكان بينهم قتال بالحجارة والعِصيّ، فعجزوا عنه، فندب له محمد بن الأشعث، وأمهله ثلاثًا، وجهَّز معه جيشًا، فركبوا في طلبه، ولم يزالوا في طلبه حتى أحضروه إلى زياد، وما أغنى عنه قومه ولا مَنْ كان يظن أنه ينصره، فعند ذلك قيَّده زياد، وسجنه عشرة أيام، ثم بعث به إلى معاوية، وبعث معه جماعة يشهدون عليه أنه سبَّ الخليفة، وأنه حارب الأمير، وأنه يقول: إن هذا الأمر لا يصلُح إلَّا في آل علي بن أبي طالب.
وكان من جملة الشهود عليه أبو بُرْدة بن أبي موسى، ووائل بن حجر، وعمر بن سعد بن أبي وقّاص، وإسحاق وإسماعيل وموسى بنو طلحة بن عبيد الله، والمنذر بن الزُّبير، وكَثِير بن شهاب، وشَبَث
(3)
بن رِبْعي
…
في سبعين رجلًا
(4)
. ويقال: إنه كتبت شهادة شُريح القاضي فيهم، وإنه أنكر ذلك وقال: إنما قلت لزياد: إنه كان صوّامًا قوّامًا.
ثم بعث زياد حُجْرًا وأصحابه مع وائل بن حُجْر وكَثِير بن شهاب إلى الشام.
وكان مع حُجْر بن عديٍّ من أصحابه جماعة، قيل: عشرون، وقيل أربعة عشرة رجلًا، منهم: الأرقم بن عبد اللّه الكندي، وشريك بن شدّاد الحَضْرمي، وصَيْفي بن فَسيل
(5)
، وقَبِيصة بن ضُبيعة بن حرملة العبسي، وكريم بن عفيف الخَثْعمي، وعاصم بن عوف البَجَلي، وورقاء بن سُمَيّ البَجَلي،
(1)
من (أ) فقط.
(2)
من (أ) فقط.
(3)
تحرف في المطبوع إلى: ثابت.
(4)
تفصيل ذلك في تاريخ الطبري (5/ 269 - 270).
(5)
الأغاني (17/ 144).
وكِدَام بن حيان
(1)
وعبد الرحمن بن حسان العَنَزيّان من بني هُمَيم
(2)
، ومحرز بن شهاب التَّميمي، وعبد
(3)
اللّه بن حَوِيَّة السَّعدي التَميمي أيضًا. فهؤلاء أصحاب حُجْر الذين وصلوا معه إلى معاوية. ثم إن زيادًا أتبعهم برجلين آخرين: عتبة بن الأخنس - من بني سعد - وسعيد بن نمران
(4)
الهَمْداني، فكملوا أربعة عشر رجلًا، فساروا بهم إلى الشام.
ويقال: إن حُجرًا لما دخل على معاوية قال: السلام عليك يا أمير المؤمنين. فغضب معاوية غضبًا شديدًا. وأمر بضرب عنقه هو ومن معه. ويقال: إن معاوية ركب فتلقاهم إلى مرج عَذْراء. ويقال: بل بعث إليهم مَن تلقاهم إلى عَذْراء تحت الثنيَّة - ثنيّة العقاب - فقتلوا هنالك. بعث إليهم معاوية من دمشق ثلاثة نفر وهم: هُدْبة بن فيّاض القَضاعي، وحُصين
(5)
بن عبد اللّه الكِلابي، وأبو شريف البدوي
(6)
، فجاؤوا إليهم عشاءً، فبات حُجر وأصحابه يصلُّون طول الليل، فلما صلَّوا الصبح قتلوهم. وهذا هو الأشهر، والله أعلم.
وذكر محمد بن سعد: أنهم دخلوا على معاوية فردَّهم، فقُتلوا بعَذْراء.
وكان معاوية قد استشار الناس فيهم حين وصل بهم إلى مرج عَذْراء -[وقيل: إنهم حُبسوا فيها]
(7)
- فمن مُشير بقتلهم، ومن مُشير بتفريقهم في البلاد، فكتب معاوية إلى زياد كتابًا آخر في أمرهم، فأشار عليه بقتلهم إن كانت له حاجة في ملك العراق. فعند ذلك أمر بقتلهم، فاستوهب منه الأمراء واحدًا بعد واحد حتى استوهبوا منه ستة [وقتل منهم ستة]
(8)
أولهم حُجر بن عدي، ورجع آخر، فعفا عنه معاوية، وبعث بآخر نال من عثمان وزعم أنه أول من جار في الحكم ومدح عليًا، فبعث به معاوية إلى زياد وقال: لم تبعث إليَّ فيهم أردى من هذا. فلما وصل إلى زياد دفنه في الناطف
(9)
حيًّا - وهو عبد الرحمن بن حسان العَنَزي
(10)
.
(1)
تحرف في المطبوع إلى: حبان.
(2)
قوله: العنزيان من بني هميم
…
، ورد بدلًا عنه في (أ): الغنوي. وفي ب: العنزيان من بني هيثم. وفي ط: العريان من بني تميم. وكلها تحريف، والمثبت من تاريخ الطبري (5/ 271) وأيضًا من اللباب لابن الأثير مادة (الهميمي).
(3)
تحرف في المطبوع إلى: عبيد.
(4)
تحرف في المطبوع إلى: عمران.
(5)
تحرف في المطبوع إلى: حضير.
(6)
كذا في الأصول، وورد في تاريخ الطبري والكامل لابن الأئير: أبو شريف البدّي وفي الأغاني: أبو صريف البدري.
(7)
من (أ) فقط.
(8)
سقط من ب.
(9)
في الأغاني (17/ 153) قس الناطف. وقُس الناطف: موضع قريب من الكوفة على شاطئ الفرات الشرقي، كما في معجم البلدان (4/ 349).
(10)
تحرفت هذه النسبة في أ، ب إلى: العنبري. وفي ط إلى: الفري.
وهذه تسمية الذين قُتلوا بعَذْراء: حُجر بن عديّ، وشريك بن شدّاد، وصيفي بن فَسيل الشيباني، وقَبيصة بن ضُبَيعة العبسي، ومُحْرز بن شهاب المِنْقري السَّعدي، وكدام بن حيان
(1)
العَنَزي [وعبد الرحمن بن حسان العَنَزي المبعوث إلى زياد المدفون في الناطف]
(2)
.
ومن الناس من يزعم أنهم مدفونون بمسجد القَصَب في غربيّه
(3)
[ومنهم من يزعم أنهم مدفونون بمسجد السَّبعة خارج باب تُوما - وإنما نسبت السبعة إليهم لأنهم سبعة - في شرقيّه]
(4)
. والصحيح أنهم مدفونون بعَذْراء من غوطة دمشق، رحمهم الله.
ويُذكر أن حُجرًا لما أرادوا قتله قال: دعُوني حتى أتوضأ، فقالوا: توضأ، فقال: دعُوني حتى أصلي ركعتين، فصلّاهما وخفَّف فيهما ثم قال: والله ما صلَّيت صلاة قطُّ أخفَّ منهما، ولولا أن يقولوا أن ما بي جزعٌ من الموت لأطلتُهما، ثم قال: قد تقدم لهما صلوات كثيرة. ثم قدَّموه للقتل - وقد حُفرت قبورهم، ونُشرت أكفانهم - فلما تقدم إليه السَّيّاف ارتعدت فرائصُه، فقيل له: إنك قلت لست بجازع من القتل! فقال: وما لي لا أجزع وأنا أرى قبرًا محفورًا، وكفنًا منشورًا، وسيفًا مشهورًا. فأرسلها مثلًا. ثم تقدَّم إليه السَّيّاف، وهو أبو شريف البدوي، وقيل: تقدم إليه رجل آخر، فلما أراد ضرب عنقه قال له: ارفع عنقك واشدُده، فقال: لا أُعين على قتل نفسي فأُسأل عن ذلك يوم القيامة، فضربه فقتله. وكان قد أوصى أن يُدفن في قيوده، ففُعل به ذلك، وقيل: بل غسَّلوه وصلَّوا عليه.
وروي أن الحسن بن علي لما بلغه قتل حُجر وأصحابه قال: أَصلَّوا عليهم، وغسَّلوهم، واستقبلوا بهم القِبلة، ودفنوهم في قيودهم؟ قالوا: نعم، قال: حَجُّوهم
(5)
وربِّ الكعبة. والظاهر أن قائل هذا هو الحسين بن علي [أو الحسن البَصْري]
(6)
فإن حُجرًا إنما قتل في سنة إحدى وخمسين، وقيل: سنة ثلاث وخمسين، وعلى كل تقدير فالحسن كان قد مات قبلَه، والله أعلم.
وروينا أن معاوية لما دخل على أمِّ المؤمنين عائشة فسلَّم عليها من وراء الحجاب - وذلك بعد مقتل
(1)
تحرف في المطبوع إلى: حبان.
(2)
سقط من ط، ب.
(3)
تحرفت لفظة غربيه في المطبوع إلى: عرفة. وحي مسجد القصب معروف بدمشق، ويقع شرقي حي العمارة.
(4)
ما بين حاصرتين من (أ) فقط.
(5)
حجَّه يحجُّه حجًّا: غلبه بالحُجة.
(6)
ما بين حاصرتين سقط من ط، ب، وهو ما قاله ابن الأثير في الكامل (3/ 486).
حجر وأصحابه - قالت له: أين ذهب عنك حِلْمُك يا معاوية حين قتلتَ حُجرًا وأصحابَه؟ فقال لها: فقدتُه حين غاب عنِّي من قومي مثلُكِ يا أمّاه، ثم قال لها: فكيف برِّي بك يا أمّاه؟ فقالت: إنك بي لبارّ، فقال: يكفيني هذا عند الله، وغدًا لي ولحُجر موقف بين يدي الله عز وجل. وفي رواية: أنه قال لها: إنما قتله الذين شهدوا عليه.
وروى ابن جرير
(1)
أن معاوية لما حضره الموتُ جعل يُغَرْغر بروحه وهو يقول: إنَّ يومي بكَ يا حُجر بن عدي لطويل. قالها ثلاثًا، فالله أعلم.
وقال محمد بن سعد في "الطبقات"
(2)
: ذكر بعض أهل العلم أن حُجرًا وفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أخيه هانئ بن عديّ، وكان من أصحاب علي بن أبي طالب، فلمّا قدم زياد بن أبي سفيان واليًا على الكوفة دعا حُجر بن عديٍّ فقال له: ثعلم أني أعرفك، وقد كنت أنا وإيّاك
(3)
على ما قد علمت - يعني من حبِّ علي - وإنه قد جاء غير ذلك، وإني أنشدك اللّهَ أن تقطر لي من دمك قطرة فأستفرغه كلّه، املِكْ عليك لسانَك وليَسَعْك منزلُك، وهذا سريري فهو مجلسُك، وحوائجك مقضيَّة لديّ، فاكفني نفسَك فإني أعرف عجلتك، فأنشدك اللّه في نفسك، وإياك وهذه السَّفَلَة
(4)
وهؤلاء السُّفهاء أن يَسْتزلُّوك عن رأيك
…
فقال حُجر: قد نصحتَ ونهيت، ثم انصرف إلى منزله، فأتاه الشِّيعة فقالوا: ما قال لك؟ قال: قال لي كذا وكذا [قالوا: ما نصح لك]
(5)
. وسار زياد إلى البصرة، فجعل الشِّيعة يتردَّدون إلى حُجر ويقولون له: أنت شيخنا وذو رأينا. وإذا جاء المسجد مَشَوا معه، فأرسل إليه عمرو بن حُريث - وكان نائب زياد على الكوفة - يقول: ما هذه الجماعة وقد أَعطيتَ الأمير ما قد علمت؟! فقال للرسول: إنهم يُنكرون ما أنتم عليه، إليك وراءك أوسع لك. فكتب عمرو بن حُريث إلى زياد: إن كانت لك حاجة بالكوفة فالعَجَل. فأعجلَ زياد السَّير إلى الكوفة، فلما وصل بعث إلى حُجر بن عديٍّ عديَّ بن حاتم، وجرير بن عبد الله البَجَلي، وخالد بن عُرْفُطَة في جماعة من أشراف أهل الكوفة ليَنْهَوه عن هذه الجماعة، فأتوه فجعلوا يكلِّمونه، وجعل لا يردُّ عليهم شيئًا، وإنما جعل يقول: يا غلام! اعلفِ البِكْر - لبكر مربوط في الدار - فقال له عديُّ بن حاتم: أمجنون أنت؟ نكلِّمك وأنت تقول: يا غلامُ اعلفِ البِكر، ثم قال عديٌّ لأصحابه: ما كنت أظنُّ هذا البائس بلغ به الضعف كلَّ ما أرى. ثم نهضوا فأخبروا زيادًا ببعض الخبر وكتموه بعضًا، وحسَّنوا أمر حُجر عنده، وسألوه الرِّفق به، فلم يقبل، بل
(1)
في تاريخه (5/ 279).
(2)
الطبقات الكبرى (6/ 217 - 220).
(3)
في ط: وأباك، وهو تحريف.
(4)
وقعت في ط: السقطة.
(5)
سقط من ط.
بعث إليه الشُّرَطَ والبخاريّة
(1)
، فأتي به وبأصحابه، فقال له زياد: ويلك مالك؟ فقال: إني على بيعتي لمعاوية. فجمع زياد سبعين من وجوه أهل الكوفة فقال: اكتبوا شهاداتكم على حُجر وأصحابه، ففعلوا، ثم أوفدهم على معاوية. وبلغ الخبر عائشة، فأرسلت عبد الرحمن بن الحارث بن هشام إلى معاوية تسأله أن يخلي سبيلهم، فوجدهم قد قتلوا منهم سبعة وأطلقوا السبعة الباقين، ولكن كان حُجر فيمن قُتل، وكان قد سألهم أن يصلِّي ركعتين قبل أن يقتلوه، فصلَّى ركعتين طوَّلهما وقال: إنها لأخفُّ صلاة صلَّيتها. وجاء رسول عائشة بعد ما فُرغ من شأنهم، فلما حجَّ معاويةُ قالت له عائشة: أين عَزَبَ
(2)
عنك حلمُكَ حين قتلتَ حُجرًا؟ فقال: حين غاب عنِّي مثلُكِ من قومي.
ويروى أن عبد الرحمن بن الحارث قال لمعاوية: أقتلتَ حُجر بن الأَدبر؟ فقال معاوية: قتلُه أحبُّ إليَّ من أن أقتل معه مئة ألف.
وقد ذكر ابن جرير وغيره عن حُجر بن عدي وأصحابه أنهم كانوا ينالون من عثمان، ويطلقون فيه مقالة الجَوْر، وينتقدون على الأمراء، ويسارعون في الإنكار عليهم، ويبالغون في ذلك، ويتولَّون شيعة علي، ويتشدَّدون في الدين.
ويروى أنه لما أُخذ في قيوده سائرًا من الكوفة إلى الشام تلقته بناتُه في الطريق وهن يبكين، فمال نحوهنّ، فسكت ساعة ثم قال: إن الذي يُطعمكنَّ ويَسْقيكنَّ ويكسيكنَّ هو الله، وهو حيٌّ باقٍ لا يموت، وهو لكُنَّ بعدي، فعليكنَّ بتقوى الله وعبادته، والصبر ابتغاء وجهه، والتوكل عليه [وإني لأرجو من ربي عز وجل في وجهي هذا إحدى الحسنَيَيْن: إما الشهادة وهي السعادة الكبرى، وإما الانصراف إليكنَّ في عافية، وإني لأرجو من الله الذي كان يكفيني مؤنتكنَّ ألَّا يضيعَكنَّ، وأن يحفظني فيكنّ. ثم انصرف، فمرَّ بقومه، فجعلوا يدعون اللّه له بالعافية، فأتوا به وبأصحابه مرج عَذْراء، فقُتلوا ودفنوهم مستقبلي القِبلة، رحمهم الله وعفا عنهم]
(3)
.
وقد قالت امرأة من المتشيِّعات تَرثي حُجرًا - وهي هند بنت زيد بن مَخْرمة الأنصارية - ويقال: إنها لهند أخت حُجر، فاللّه أعلم:
ترفَّعْ أَيُّها القمرُ المُنيرُ
…
تَبَصَّرْ هَلْ تَرى حُجْرًا يَسِيرُ
يَسِيرُ إلى معاويةَ بنِ حَرْبٍ
…
ليقتُلَهُ كما زَعَمَ الأَمِيرُ
(1)
هكذا في أ، ب وطبقات ابن سعد. ووقعت في ط: المحاربة.
(2)
"عزب": غاب.
(3)
ما بين حاصرتين لفظُه من النسخة أ، وما جاء في ب، ط في المعنى نفسه، إلا أن فيه تقديمًا وتأخيرًا وتبديلًا في بعض الألفاظ والجمل.
يرى قتلَ الخيارِ عليهِ حقًّا
…
لهُ مِنْ شَرِّ أُمَّتِهِ وزيرُ
أَلَا يا ليتَ حُجْرًا ماتَ مَوْتًا
…
ولَمْ يُنْحَرْ كما نُحِرَ البَعيرُ
تجبَّرَتِ الجبابرُ بعدَ حُجْرٍ
…
وطابَ لها الخَوَرْنَقُ والسَّدِيرُ
(1)
وأَصبحتِ البلادُ لهُ مُحُولًا
…
كأنْ لمْ يُحْيِها مُزْنٌ مَطِيرُ
أَلَا يا حُجْرُ حُجْرَ بني عَدِيٍّ
…
تَلَقَّتْكَ السَّلامَةُ والسُّرورُ
أخافُ عليكَ ما أردى عَديًّا
…
وسَبْعًا في دمشقَ له زَئيرُ
(2)
فإنْ تهلِكْ فكلُّ زعيمِ قَومٍ
…
منَ الدُّنيا إلى هُلكٍ يَصِيرُ
فرضوانُ الإلهِ عليكَ مَيْتًا
…
وجناتٌ بها نِعَمٌ وحُورٌ
(3)
وقد ذكر ابن عساكر له مراثي كثيرة.
وقال يعقوب بن سفيان
(4)
: حدّثني حَرْملة، أخبرنا ابن وهب، أخبرني ابن لَهِيعَة، عن أبي الأسود قال: دخل معاوية على عائشةَ فقالت: ما حملكَ على فتل أهل عَذْراء: حُجرًا وأصحابه؟ فقال: يا أمَّ المؤمنين إني رأيتُ في قتلهم صلاحًا للأمة، وفي بقائهم فسادًا للأمة. فقالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "سَيُقتلُ بعَذْراء ناسٌ يغضبُ اللّهُ لهم وأهلُ السَّماء".
وهذا إسناد ضعيف منقطع.
وقد رواه عبد الله بن المبارك، عن ابن لَهِيعة، عن أبي الأسود: أن عائشة قالت: "بلغني أنه سَيُقتل بعَذْراء أناسٌ سبعة
(5)
يغضبُ اللهُ لهم وأهلُ السماء".
وقال يعقوب بن سفيان: [حدّثني ابن بُكير]
(6)
حدّثني ابن لَهِيعة، حدّثني الحارث بن يزيد، عن عبد اله بن أبي رزين الغافقي قال: سمعت عليَّ بن أبي طالب يقول: يا أهل العراق! سَيُقتل منكم سبعةُ نفر بعَذْراء، مثلُهم كمثل أصحاب الأُخدود. قال: فقتل حُجر وأصحابه.
(1)
"الخورنق والسدير": قصران قرب الحيرة، لهما ذكر كثير في أشعار العرب.
(2)
رواية البيت في الأغاني كما يلي:
أخاف عليك سطوة آل حرب
…
وشيخًا في دمشق له زئير
(3)
الأبيات - ما عدا الأخير منها - في طبقات ابن سعد (6/ 220) والأغاني (17/ 154 - 155) والطبري (5/ 280) وابن الأثير (3/ 488) ومختصر تاريخ دمشق (6/ 240) وسير أعلام النبلاء (3/ 465 - 466) وشاعرات العرب (462 - 463) وغيرها من المصادر.
(4)
المعرفة والتاريخ (3/ 320 - 321).
(5)
سقطت هذه اللفظة من ط.
(6)
سقط من ط، ب. والخبر في المعرفة والتاريخ (3/ 320 - 321).
ابن لهِيعة ضعيف.
وروى الإمام أحمد، عن ابن عُلَيَّة، عن ابن عون، عن نافع قال: كان ابن عمر في السوق، فنُعي له حُجر، فأطلق حبوته وقام، وغلب عليه التَّحيب
(1)
.
وروى الإمام أحمد أيضًا، عن عفان، عن ابن عُلَيَّة، عن أيوب، عن عبد الله بن أبي مُلَيكة - أو غيره - قال: لمّا قدم معاوية المدينة دخل على عائشة، فقالت: أقتلتَ حُجرًا؟ فقال: يا أمَّ المؤمنين [إني وجدتُ قتل حُجر فيه صلاح للأمَّة - أو قال: صلاح الناس. وفي رواية]
(2)
: إني وجدت قتل رجل في صلاح الناس خيرٌ من استحيائه في فسادهم
(3)
.
وقال حمّاد بن سلَمة: عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيِّب، عن مروان بن الحكم قال: دخلت مع معاوية على أمِّ المؤمنين عائشة، فقالت: يا معاوية قتلتَ حُجرًا وأصحابَه وفعلتَ الذي فعلت، أما خشيتَ أن أخبأ لك رجلًا يقتلك؟ فقال: لا، إني في بيت أمان، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الإيمانُ قَيَّدَ
(4)
الفَتْكَ، لا يَفْتِكُ مُؤْمن". يا أمَّ المؤمنين كيف أنا فيما سوى ذلك من حاجاتك وأمرك؟ قالت: صالح. قال: فدعيني وحُجرًا حتى نلتقي عند ربنا عز وجل
(5)
.
[وفي رواية: أنها حجَبتْه وقالت: لا يدخل عليَّ أبدًا، فلم يزل يتلطَّف حتى دخل، فلامَتْه في قتله حُجرًا لومًا عنيفًا، فلم يزل يعتذر حتى عَذَرَتْه]
(6)
.
وفي رواية أخرى: أنها كانت تتوعَّدُه كثيرًا وتقول: لولا يغلبنا سفهاؤنا لكان لي ولمعاوية في قتله حُجرًا شأن. فلما اعتذر إليها عذَرَتْه [على إغماض، والله أعلم]
(7)
(8)
.
(1)
إسناده صحيح. وهو في السير (3/ 466).
(2)
ما بين حاصرتين من (أ) فقط.
(3)
السير (3/ 466 - 467).
(4)
وقعت في أ، ط: ضد وما أثبته من ب ومصادر التخريج.
(5)
أخرجه أحمد في مسنده (4/ 92) وأبو داود (2769) في الجهاد: باب في العدو يؤتى على غرّة، وهو حديث صحيح.
"والفتك": أن يأتي الرجلُ الرجلَ وهو غارّ غافل فيشد عليه فيقتله.
وقوله: "الإيمان قيّد الفتك" يعني: أن الإيمان بمنع القتل كما يمنع القيد عن التصرف.
(6)
ما بين حاصرتين ليس في ب.
(7)
ما بين حاصرتين من (أ) فقط. والإغماض - كما جاء في اللسان - المسامحة والمساهلة.
(8)
هنا تنتهي ترجمة حجر بن عدي، ويتابع المؤلف ذكر أحداث هذه السنة، لكن ما سيأتي مضطرب - من حيث الترتيب - في النسخ، وقد أثبت ما ورد في النسخة (أ) لكونه أقرب إلى الصواب.
قال المؤلف: قال ابن جرير
(1)
: وفي هذه السنة ولَّى زيادٌ على خراسان بعد موت الحكم بن عمرو الربيعَ بن زياد الحارثي، ففتح بلخ صُلحًا، وكانوا قد أغلقوها بعدما صالحهم الأحنف بن قيس، وفتح قوهِسْتان عَنْوة، وكان عندها أتراك، فقتلهم ولم يبقَ منهم إلَّا نَيْزك
(2)
طَرْخان، فقتله قُتيبة بن مسلم بعد ذلك كما سيأتي.
وفيها غزا الربيع - هذا المذكور - ما وراء النهر، فغَنِمَ وسَلم.
وفيها حج بالناس يزيد بن معاوية - فيما قاله أبو مَعْشر والواقدي.
وذكر ابن الجوزي في "المنتظم" أنه توفي في هذه السنة من الأكابر: جرير بن عبد الله البَجَلي، وجعفر بن أبي سفيان بن الحارث، وحارثة بن النعمان، وحُجر بن عدي، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نُفيل، وعبد الله بن أُنيس، وأبو بكرة نُفَيع بن الحارث الثقفي، رضي الله عنهم.
فأما جَرير بنُ عبد الله البَجَلي
(3)
: فأسلم بعد نزول المائدة في رمضان سنة عشر، وكان قدومه ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطُب، وكان قد قال في خطبته:"إنَّه يقدمُ عليكم رجلٌ من هذا الفَجِّ من خير ذي يَمَن، وإنَّ على وجهه مسحةَ مَلَك" فلما دخل جرير رماه الناس بأبصارهم، فكان كما وصف رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فأخبروه بذلك، فحمِدَ اللّه تعالى
(4)
.
ويُروى أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لمّا جالسَهُ بسطَ له رداءه وقال: "إذا جاءَكم كريمُ قومٍ فأكرِمُوه
(5)
.
وبعثه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى ذي الخَلَصَة - وهو بيت كانت تعظّمه دَوْس في الجاهليّة - فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يَثْبُتُ على الخيل، فضرب في صدره وقال:"اللهمَّ ثبّتْهُ واجعلْهُ هاديًا مَهْديًّا"
(6)
فذهب إليه فهدَمه.
(1)
في تاريخه (5/ 285 - 286).
(2)
تحرفت في ط إلى: ترك.
(3)
طبقات ابن سعد (6/ 22) طبقات خليفة (116، 138) تاريخ خليفة (218) مسند أحمد (4/ 357) تاريخ البخاري الكبير (2/ 211) المعارف (292) المعرفة والتاريخ (الفهرس)، الجرح والتعديل (2/ 502) ثقات ابن حبان (3/ 54) مشاهير علماء الأمصار (ت 275) معجم الطبراني الكبير (2/ 326) مستدرك الحاكم (3/ 464) الاستيعاب (1/ 236)، تاريخ بغداد (1/ 187)، جامع الأصول (9/ 85) أسد الغابة (1/ 333) تهذيب الأسماء واللغات (1/ 147) تهذيب الكمال (4/ 533) تاريخ الإسلام (2/ 274) سير أعلام النبلاء (2/ 530) العبر (1/ 57) الكاشف (1/ 126) تذهيب التهذيب (1/ ورقة 104) إكمال مغلطاي (2/ ورقة 72) تهذيب التهذيب (2/ 73) الإصابة (2/ 76) خلاصة الخزرجي (61) شذرات الذهب (1/ 247 و 250).
(4)
أخرجه أحمد في مسنده (4/ 364) وهو صحيح.
(5)
أخرجه البزار برقم (2739). وقال الهيثمي: رواه الطبراني والبزار، وفيه جماعة لم أعرفهم. وللحديث شواهد عن غيره من الصحابة فهو بها حسن.
(6)
أخرجه أحمد في مسنده (4/ 365) والبخاري رقم (3040)، ومسلم (2476) في فضائل الصحابة.
وفي "الصحيحين" عنه أنه قال: "ما حَجَبَني رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلمتُ، ولا رآني إلا تَبَسَّم"
(1)
.
وكان عمر بن الخطاب يقول: جريرٌ يوسفُ هذه الأمَّة.
وقال عبد الملك بن عُمَير: رأيت جريرًا كأنَّ وجهَه شِقَّة قمر.
وقال الشعبي: كان جرير هو وجماعة مع عمر في بيت، فاشتمَّ عمر من بعضهم ريحًا، فقال: عزمتُ على صاحب هذه الرِّيح إلّا قام فتوضَّأ. فقال جرير: أوَ نقوم كلّنا فنتوضَّأ يا أمير المؤمنين؟ فقال عمر: نعمَ السَّيدُ كنتَ في الجاهلية، ونعمَ السيِّدُ أنتَ في الإسلام
(2)
.
وقد كان عاملًا لعثمان على هَمَذان
(3)
وبلادها - ويقال: إنه أُصيبت عينُه هناك - فلما قُتل عثمان اعتزل عليًّا ومعاوية، ولم يزل مقيمًا بالجزيرة حتى توفي بالشَّراة سنة إحدى وخمسين. قاله الواقدي. وقيل: سنة أربع، وقيل: سنة ست وخمسين.
وأما جعفر بن أبي سفيان
(4)
بن الحارث بن عبد المطَّلب، فأسلم مع أبيه حين تلقَّياه بين مكة والمدينة عام الفتح، فلما ردَّهما قال أبو سفيان: والله لئن لم يأذن لي عليه لآخذنَّ بيد بُنيّ هذا فلأذهبنَّ في الأرض فلا يُدرى أين أذهب، فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم رق له، وأَذن له، وقَبل إسلامهما، فأسلما إسلامًا حسنًا بعدما كان أبو سفيان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم أذى كثيرًا.
وشهد حُنينًا، وكان ممَّن ثبت يومئذ.
وأما حارثة بن النُّعمان الأنصاريُّ النجّاري
(5)
: فشهد بدرًا واحدًا والخندق والمشاهد كلَّها، وكان من فضلاء الصحابة، ويُروى أنه رأى جبريل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمقاعد يتحادثان بعد خَيْبر، وأنه رآه يوم بني قُريظة في صورة دِحْية الكلبي
(6)
.
(1)
أخرجه أحمد في مسنده (4/ 365) والبخاري رقم (3822)، ومسلم (2475) في فضائل الصحابة.
(2)
تهذيب الكمال (4/ 539).
(3)
تحرفت في الأصول إلى: همدان. معجم البلدان (5/ 410).
(4)
طبقات ابن سعد (4/ 55) الجرح والتعديل (2/ 480) الاستيعاب (1/ 245) أسد الغابة (1/ 341)، سير أعلام النبلاء (1/ 205) العقد الثمين (3/ 423) الإصابة (2/ 85).
(5)
طبقات ابن سعد (3/ 487) طبقات خليفة (90) مسند أحمد (5/ 433) تاريخ البخاري الكبير (3/ 93) الجرح والتعديل (3/ 253) معجم الطبراني الكبير (3/ 256) مستدرك الحاكم (3/ 208) الاستبصار (59) الاستيعاب (1/ 306) أسد الغابة (1/ 429) تاريخ الإسلام (2/ 215) سير أعلام النبلاء (2/ 378) مجمع الزوائد (9/ 313) الإصابة (2/ 190).
(6)
طبقات ابن سعد (3/ 488).
وفي الصحيح
(1)
: أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم سمع قراءتَه في الجنَّة
(2)
.
قال محمد بن سعد: حَدَّثَنَا عبد الرحمن بن يونس، حدّثنا محمد بن إسماعيل بن أبي فُديك، حدّثنا محمد بن عثمان عن أبيه: أن حارثة بن النعمان كان قد كُفَّ بصرهُ، فجعل خيطًا من مُصَلّاه إلى باب حُجْرته، [وكان يضع عنده مِكْتَلًا فيه تمرٌ وغيره]
(3)
فإذا جاءه المسكين أخذ من ذلك التمر ثم أخذ يُمسك بذلك الخيط حتى يضع ذلك في يد المسكين. وكان أهله يقولون له: نحن نكفيك ذلك، فيقول: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إنَّ مُناولةَ المسكينِ تَقي مِيْتَةَ السُّوء"
(4)
.
وأما حُجر بن عدي فقد تقدَّمت قصته مطولةً مبسوطة.
وأما سعيدُ بنُ زيد
(5)
بن عَمرو بن نُفيل: القرشي [أبو الأعور العدوي]
(6)
فهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنَّة، وهو ابن عمِّ عمر بن الخطّاب، وأختُه عاتكة زوجة عمر، [وأخت عمر فاطمة زوجة سعيد]
(7)
.
أسلم سعيد قبل عمر هو وزوجته فاطمة، وهاجرا، وكان من سادات الصحابة.
قال عروة والزهري وموسى بن عُقبة ومحمد بن إسحاق والواقدي وغير واحد: لم يشهد بدرًا لأنه كان قد بعثَه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم هو وطلحة بن عبيد الله بين يديه يتحسَّسان أخبار قريش فلم يَرْجعا حتى فرغ من بدر، فضرب لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمهما وأجرهما. ولم يذكره عمر في أهل الشُّورى لئلّا يُحابي قرابته
(1)
هكذا قال، وهي عادته في الإشارة إلى صحيح البخاري أو مسلم، وهو ليس فيهما، فلعله أراد: في الحديث الصحيح، وهو بعيد، فإن كان ذلك كذلك، فكلامه صحيح.
(2)
أخرجه عبد الرزاق (20119) وأحمد (6/ 151 و 152 و 166 و 167)، والنسائي في الكبرى (8233)، وابن حبان (7015) من حديث عمرة عن عائشة، وهو حديث صحيح.
(3)
ما بين حاصرتين سقط من المطبوع. و "المكتل": الزبيل - القفة - الذي يحمل فيه التمر أو العنب.
(4)
طبقات ابن سعد (3/ 488) ورواه الطبراني الكبير رقم (3228) قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" وفيه من لم أعرفه، ويغني عنه، حديث "صنائع المعروف تقي مصارع السوء" وهو حديث حسن، رواه الطبراني في الكبير عن أبي أمامة.
(5)
طبقات ابن سعد (3/ 379 و 6/ 13) نسب قريش (433) طبقات خليفة (22، 127) تاريخ خليفة (218) مسند أحمد (1/ 187) تاريخ البخاري الكبير (3/ ت 1509) التاريخ الصغير (1/ 101) المعارف (245) المعرفة والتاريخ (1/ 291) وغيرها، الجرح والتعديل (4/ 21) ثقات ابن حبان (1/ ورقة 157) مشاهير علماء الأمصار (ت 11) حلية الأولياء (1/ 95) جمهرة أنساب العرب (151، 170) الاستيعاب (2/ 614) تاريخ ابن عساكر (7/ 115/ ب) أسد الغابة (2/ 387) تهذيب الأسماء واللغات (1/ 217) مختصر تاريخ دمشق (9/ 298) تهذيب الكمال (10/ 446) تاريخ الإسلام (1/ 285) سير أعلام النبلاء (1/ 124) تذهيب التهذيب (2/ ورقة 19) الكاشف (1/ 286) إكمال مغلطاي (2/ ورقة 84) العقد الثمين (4/ 559) نهاية السول (ورقة 115) تهذيب التهذيب (4/ 34) الإصابة (4/ 188) خلاصة الخزرجي (138) شذرات الذهب (1/ 246) تهذيب ابن عساكر (6/ 129).
(6)
ليس في ط.
(7)
ليس في أ.
من عمر فيولَّى، فتركه لذلك، وإلّا فهو ممَّن شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة في جملة العشرة كما صحت بذلك الأحاديث المتعددة الصحيحة.
ولم يتولَّ بعد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ولاية، وما زال كذلك حتى مات بالكوفة - وقيل: بالمدينة وهو الأصح - قال الفلّاس وغيره: سنة إحدى وخمسين [وقيل: سنة ثنتين وخمسين]
(1)
واللّه أعلم.
وكان رجلًا طُوالًا أشعر، وقد غسَّله سعد بن أبي وقّاص، وحُمل من العَقيق على أعناق الرجال إلى المدينة، وكان عمره يومئذ بضعًا وسبعين سنة.
وأما عبد اللّه بن أُنَيْس الجُهَني
(2)
: أبو يحيى المدني، فصحابي جليل، شهد العقبة، ولم يشهد بدرًا، وشهد ما بعدها، وكان هو ومعاذ يكسِران أصنام الأنصار.
له في الصحيح حديث: أن ليلة القدر ليلة ثلاث وعشرين
(3)
.
وهو الذي بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خالد بن سفيان الهُذَلي، فقتلَه بعُرَنَة
(4)
، وأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم مِخْصرة
(5)
وقال: "هذهِ آيةُ ما بَيْني وبَيْنَكَ يومَ القيامَة" فأَمر بها فدُفنت معه في أكفانه
(6)
.
وقد ذكر ابن الجوزي أنه توفي سنة إحدى وخمسين. وقال غيره: سنة أربع وخمسين [وقيل: سنة ثمان وخمسين]
(7)
وقيل: سنة ثمانين. والله أعلم.
وأما أبو بَكْرة نُفَيْع بن الحارث
(8)
: ابن كَلَدة بن عمرو بن عِلاج بن أبي سلمة الثَّقفي، فصحابيٌّ
(1)
ليس في أ.
(2)
سيرة ابن هشام (2/ 619) طبقات خليفة (118) مسند أحمد (3/ 495) تاريخ البخاري الكبير (5/ ت 26) المعارف (280) المعرفة والتاريخ (1/ 268) الجرح والتعديل (5/ 1) ثقات ابن حبان (3/ 233) مشاهير علماء الأمصار (ت 381) الاستيعاب (3/ 869) الجمع لابن القيسراني (1/ 245) أنساب السمعاني (2/ 165 - 166، البركي)، أسد الغابة (3/ 178) تهذيب الأسماء واللغات (1/ 260) تهذيب الكمال (14/ 313) الكاشف (2/ 65) تجريد أسماء الصحابة (1/ ت 3150) العبر (1/ 59) تاريخ الإسلام (2/ 299) تذهيب التهذيب (2/ ورقة 131) إكمال مغلطاي (2/ ورقة 245) نهاية السول (ورقة 163) توضيح المشتبه (1/ 468) الإصابة (2/ ت 4550) تهذيب التهذيب (5/ 149) خلاصة الخزرجي (191) شذرات الذهب (1/ 255).
(3)
أخرجه مسلم (1168) في الصيام: باب فضل ليلة القدر.
(4)
وقعت في أ: بعرفة. وبطن عرنة - كهمزة - واد بحذاء عرفات.
(5)
"المخصرة": شيء يأخذه الرجل بيده ليتوكأ عليه، مثل العصا ونحوها.
(6)
أخرجه أحمد في المسند مطولًا (3/ 495 - 496) وإسناده ضعيف.
(7)
من (أ) فقط.
(8)
طبقات ابن سعد (7/ 15) طبقات خليفة (ت 367، 982، 1420) مسند أحمد (5/ 35) المحبر (129، 189) تاريخ البخاري الكبير (8/ 112) المعارف (288) الجرح والتعديل (8/ 489) مشاهير علماء الأمصار (ت 220) الاستيعاب (4/ 1530) الجمع بين رجال الصحيحين (2/ 533) تاريخ ابن عساكر (17/ 316/ آ) أسد الغابة =
جليل، كبير القدر، ويقال: كان اسمه مَسْروح، وإنما قيل له أبو بَكْرة لأنه تدلَّى في بَكْرة يوم الطائف فأعتقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل من نزل من مواليهم يومئذ.
وأمه سُميَّة هي أمُّ زياد.
وكان ممَّن شهد على المغيرة بن شعبة بالزنى هو وأخوه زياد، ومعهما شِبْل
(1)
بن مَعْبد ونافع بن الحارث، فلمَّا تلكَّأ زياد في الشهادة جلد عمر الثلاثة الباقين، ثم استتابهم فتابوا إلَّا أبا بَكْرة فإنه صمَّم على الشهادة [وقال المغيرة: يا أمير المؤمنين اشفِني من هذا العبد، فنهرَه عمر وقال له: اسكت! لو كملت الشهادة لرجمتُك بأحجارك]
(2)
. وكان أبو بكرة خير هؤلاء الشهود.
وكان ممَّن اعتزل الفتن، فلم يحضر شيئًا منها.
ومات في هذه السنة - وقيل: قبلها بسنة، وقيل: بعدها بسنة - وصلَّى عليه أبو بَرْزة الأَسْلمي، وكان قد آخى بينهما رسول اللّه صلى الله عليه وسلم.
وفيها توفيت:
أم المؤمنين مَيْمونة بنتُ الحارث الهِلاليَّة
(3)
: تزوَّجها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في عمرة القضاء
(4)
سنة سبع. قال ابن عباس - وكان ابنَ أختها أمِّ الفضل -: تزوَّجها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وهو مُحْرم
(5)
. وثبت في "صحيح مسلم"
(6)
عنها: أنهما كانا حلالَيْن. وقولها مقدَّم عند الأكثرين على قول ابن عباس.
= (5/ 354 و 6/ 38) تهذيب الأسماء واللغات (الجزء الثاني من القسم الأول: 198) مختصر تاريخ دمشق (26/ 180) تهذيب الكمال (ورقة 1426) تاريخ الإسلام (2/ 329) تذهيب التهذيب (4/ 205/ آ) سير أعلام النبلاء (3/ 5) الكاشف (3/ 184) العبر (1/ 58) العقد الثمين (7/ 347 و 8/ 29) تهذيب التهذيب (10/ 469) الإصابة (ت 8795) خلاصة الخزرجي (404) شذرات الذهب (1/ 250).
(1)
تحرف في المطبوع إلى: سهل. ترجمته في أسد الغابة (2/ 503).
(2)
ما بين حاصرتين سقط من ب.
(3)
طبقات ابن سعد (8/ 132) طبقات خليفة (338) تاريخ خليفة (86، 218) مسند أحمد (6/ 329) المعارف مستدرك الحاكم (4/ 30) الاستيعاب (4/ 1914) أسد الغابة (7/ 272) تهذب الكمال (ورقة 1705) تاريخ الإسلام (2/ 324) سير أعلام النبلاء (2/ 238) الكاشف (3/ 435) العبر: (1/ 45، 57) مجمع الزوائد (9/ 249) تهذيب التهذيب (12/ 453) الإصابة (13/ 138) خلاصة الخزرجي (496) كنز العمال (13/ 708) شذرات الذهب (1/ 219، 248) أعلام النساء (5/ 138).
(4)
ويقال لها أيضًا: عمرة القضية. قال السهيلي: سميت عمرة القضاء لأنه قاضى فيها قريشًا. زاد المعاد (2/ 90 - 91).
(5)
رواه البخاري رقم (5114) ومسلم رقم (1410).
(6)
برقم (1411).
وروى الترمذيّ
(1)
عن أبي رافع - وكان السَّفير بينهما - "أنهما كانا حلالَيْن".
ويقال: كان اسمها برَّة، فسمّاها رسول الله صلى الله عليه وسلم مَيْمونة.
وتوفيت بسَرِف بين مكة والمدينة - حيث بنى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم - في هذه السنة، وقيل: في سنة ثلاث وستين، [وقيل: سنة ست وستين]
(2)
والمشهور الأول. وصلَّى عليها ابن أُختها عبد الله بن عباس رضي الله عنهما.
ثم دخلت سنة ثنتين وخمسين
ففيها غزا بلاد الروم وشتا بها سفيان بن عوف الأزدي، فمات هنالك، واستخلف على الجند بعده عبد اللّه بن مَسْعدة الفَزاري. وقيل: إن الذي كان أمير الغزو ببلاد الروم في هذه السنة بُسْر بن أبي أَرْطاة، ومعه سفيان بن عوف.
وحج بالناس في هذه السنة سعيد بن العاص نائب المدينة. قاله أبو مَعْشر والواقدي وغيرهما.
وغزا الصائفة محمد بن عبد الله الثَّقفي.
وعمّال الأمصار في هذه السنة عمالها في السنة الماضية.
ذكر من توفي فيها من الأعيان:
خالد بن زَيْد بن كُلَيب
(3)
: أبو أيوب الأنصاري الخَزرجي. شهد بدرًا والعقبة والمشاهد كلَّها، وشهد مع علي قتال الحروريَّة.
(1)
برقم (841).
(2)
ما بين حاصرتين ليس في أ.
(3)
طبقات ابن سعد (3/ 484) طبقات خليفة (89، 303) تاريخ خليفة (211) مسند أحمد (5/ 113) تاريخ البخاري الكبير (3/ 136) المعارف (274) المعرفة والتاريخ (1/ 312) الجرح والتعديل (3/ 331) ثقات ابن حبان (3/ 102) مشاهير علماء الأمصار (ت 120) معجم الطبراني الكبير (4/ 138) مستدرك الحاكم (3/ 457) حلية الأولياء (1/ 361) جمهرة ابن حزم (438) الاستيعاب (2/ 424) تاريخ بغداد (1/ 153) الجمع لابن القيسراني (1/ 118) تاريخ ابن عساكر (5/ 213/ ب) أسد الغابة (2/ 94) مخصر تاريخ دمشق (7/ 336) تهذيب الكمال (8/ 66) تاريخ الاسلام (2/ 327) العبر (1/ 56) تذهيب التهذيب (1/ ورقة 187) الكاشف (1/ 203) سير أعلام النبلاء (2/ 402) تجريد أسماء الصحابة (1/ 150) إكمال مغلطاي (1/ ورقة 311) نهاية السول (ورقة 82) مجمع الزوائد (9/ 323) تهذيب التهذيب (3/ 90) الإصابة (3/ 56) خلاصة الخزرجي (100) كنز العمال (13/ 614) شذرات الذهب (1/ 246) تهذيب ابن عساكر (5/ 39).
وفي داره كان نزول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حيث قدم المدينة مهاجرًا من مكة، فأقام عنده شهرًا حتى بنى المسجد ومساكنه حوله، ثم تحوَّل إليها، وقد كان أبو أيوب أنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسفل داره، ثم تحرَّج من أن يعلو فوقه، فسأل رسول الله أن يصعد إلى أعلى الدار، وأن يكون هو وأم أيوب في السُّفل، فأجابه إلى ذلك.
وقد روينا عن ابن عباس أنَّ أبا أيوب لما قدم عليه البصرة - وكان ابن عباس نائبها - خرج له عن داره وأنزله بها، فلمّا أراد الانصراف خرج له عن كل شيء بها، وزاده تُحفًا وخدمًا كثيرًا: أعطاه أربعين ألفًا وأربعين عبدًا إكرامًا له ومجازاة له عمّا فعل مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من إنزاله له في داره، وما فعلَه معه هو من أعظم الشرف لأبي أيوب.
وهو القائل لزوجته أمِّ أيوب حين قالت له: أما تسمع ما يقول الناس في عائشة؟ فقال لها: أكنتِ فاعلة ذلك يا أمَّ أيوب؟ فقالت: لا والله، فقال: واللّه لَهي خيرٌ منكِ، فأنزل اللّه {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا} [النور: 12] الآية.
وكانت وفاته ببلاد الروم قريبًا من سور القُسْطنطينية من هذه السنة، وقيل: في التي قبلها، وقيل: في التي بعدها. وكان في جيش يزيد بن معاوية، وإليه أوصى، وهو الذي صلَّى عليه.
وقد قال الإمام أحمد
(1)
: حَدَّثَنَا عفّان
(2)
، حدّثنا همام، حَدَّثَنَا عاصم
(3)
، عن رجل من أهل مكة: أن يزيدَ بن معاوية كان أميرًا على الجيش الذي غزا فيه أبو أيوب، فدخل عليه عند الموت، فقال له: إذا أنا متُّ فاقرؤوا على الناس مني السلام، وأخبروهم أنِّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"مَنْ ماتَ لا يُشْركُ باللّه شيئًا جعلَه اللّهُ في الجنَّة" ولْينطلِقوا بجنازتي ولْيبعدُوا في أرض الروم ما استطاعوا. قال: فحدَّث الناس لما مات أبو أيوب بهذا الحديث، فاستلأم
(4)
الناس وانطلقوا بجنازته.
وقال الإمام أحمد
(5)
: حَدَّثَنَا أسود بن عامر، حدّثنا أبو بكر، عن الأعمش، عن أبي ظَبْيان قال: غزا أبو أيوب مع يزيد بن معاوية، فقال أبو أيوب: إذا متُّ فأدْخلوني في أرض العدو، فادْفِنوني تحتَ أقدامكم حيث تلقَوْن العدو. قال: ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مَنْ ماتَ لا يُشركُ باللّهِ شَيْئًا دخلَ الجنَّة".
(1)
في مسنده (5/ 416) وإسناده ضعيف، لجهالة الرجل من أهل مكة، ولكن له طرق يقوى بها.
(2)
تحرفت في ط إلى: عثمان.
(3)
وقعت في ط: أبو عاصم، وهو خطأ.
(4)
لم ترد هذه اللفظة في أ، وتحرفت في ط إلى: فاسلم. وقوله: استلأم الناس، يعني: لبسوا عدة القتال.
(5)
في مسنده (5/ 423) وهو حديث صحيح.
ورواه أحمد
(1)
أيضًا عن ابن نمير ويعلى بن عبيد، عن الأعمش: سمعت أبا ظَبْيان فذكره، وقال فيه: سأحدِّثكم حديثًا سمعتُه من رسول الله صلى الله عليه وسلم لولا حالي هذا ما حدَّثتكموه، سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول:"مَنْ ماتَ لا يُشْرِكُ بالله شَيْئًا دخلَ الجنَّة".
وقال الإمام أحمد
(2)
: حَدَّثَنَا إسحاق بن عيسى [حدّثني ليث]
(3)
حدّثني محمد بن قيس قاصّ
(4)
عمر بن عبد العزيز، عن أبي صِرْمَة، عن أبي أيوب الأنصاري أنه قال حين حضرته الوفاة: قد كنتُ كتمتُ عنكم شيئًا سمعتُه من رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعته يقول: "لولا أنكم تُذنبونَ لخَلَقَ اللهُ قومًا يُذْنبونَ فيَغْفِر لهُم".
وعندي أن هذا الحديث والذي قبلَه هو الذي حمل يزيد بن معاوية على طرف من الإرجاء [وما كان يتعاطاه من القبائح]
(5)
وركبَ بسببه أفعالًا كثيرة أُنكرت عليه كما سنذكره في ترجمته، والله أعلم.
قال الواقدي: مات أبو أيوب بأرض الروم سنة ثنتين وخمسين، ودُفن عند القُسْطنطينية، وقبره هناك يَسْتَسْقي به الروم إذا قَحَطُوا. وقيل: إنه مدفون في حائط القُسْطنطينية وعلى قبره مزار ومسجد، وهم يعظِّمونه. وقال أبو زُرْعة الدمشقي: توفي سنة خمس وخمسين. والأول أثبت، والله أعلم.
[وقال
(6)
أبو بكر بن خلّاد: حَدَّثَنَا الحارث بن أبي أُسامة، حَدَّثَنَا داود بن المحبَّر، حَدَّثَنَا مَيْسرة بن عبد ربه، عن موسى بن عبيدة، عن الزُّهري، عن عطاء بن يزيد، عن أبي أيوب الأنصاري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إنَّ الرجلَينِ ليتوجَّهانِ إلى المسجد فيصلِّيان، فينصرف أحدُهما وصلاتُه أوزنُ من صلاة الآخر، وينصرف الآخر وما تعدِلُ صلاتُه مثقال ذرَّة، إذا كان أورعهما عن محارم الله، وأحرصهما على المسارعة إلى الخير"
(7)
.
وعن أبي أيوب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل سألَه أن يعلِّمه ويوجز، فقال له:"إذا صلَّيتَ صلاة فَصَلِّ صلاةَ مُوَدِّع، ولا تَكلَّمن بكلامٍ تَعتذرُ منه، وأجمعِ اليأسَ ممّا في أيدي النّاس"
(8)
].
(1)
في مسنده (5/ 419) وهو حديث صحيح.
(2)
في مسنده (5/ 414) ومسلم رقم (2748).
(3)
ما بين حاصرتين سقط من الأصول، واستدركته من المسند.
(4)
كذا في ب ومثله في المسند، ووقعت في (أ) و (ط): قاضي.
(5)
ما بين حاصرتين من (أ) فقط.
(6)
من هنا وحتى آخر ترجمة أبي أيوب سقط من ب.
(7)
إسناده ضعيف؛ أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء (37621).
(8)
أخرجه أحمد (5/ 412)، وابن ماجة (4171) في الزهد، والطبراني في الكبير (3987)، والمزي في تهذيب الكمال (19/ 347)، كلهم من طريق عبد الله بن عثمان بن خُثَيم، عن عثمان بن جبير، عن أبي أيوب، وإسناده ضعيف لجهالة عثمان بن جبير كما في تحرير التقريب (2/ 434)، وكذا ضعفه الحافظ البوصيري في مصباح الزجاجة، ولكن للحديث شواهد يكون حسنًا لغيره بها. =
وفيها توفي:
أبو موسى
(1)
عبدُ الله بنُ قيس بن سُلَيم بن حَضَّار بن حرب بن عامر بن غَنْم
(2)
بن بكر بن عامر بن عدي بن وائل بن ناجية بن جَمَاهر بن الأَشْعر الأَشْعَري اليماني.
أسلم ببلاده، وقدم مع جعفر وأصحابه عام خيبر. وذكر محمد بن إسحاق أنه هاجر أولًا إلى مكّة، ثم هاجر إلى اليمن، وليس هذا بالمشهور.
وقد استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم مع مُعاذ على اليمن، واستنابه عمر على البصرة، وفتح تُسْتَر، وشهد خطبة عمر بالجابية، وولّاه عثمان الكوفة، وكان أحد الحكَمين بين علي ومعاوية، فلمّا اجتمعا خدع عمرو أبا موسى.
وكان من قرّاء الصحابة وفقهائهم، وكان أحسن الصحابة صوتًا بالقرآن
(3)
في زمانه.
قال أبو عثمان النَّهدي: ما سمعتُ صوت صَنْج ولا بَرْبَط
(4)
ولا مِزْمار أطيبَ من صوت أبي موسى
(5)
.
وثبت في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لقد أُوتيَ هذا مِزْمارًا مِنْ مَزاميرِ آلِ داود"
(6)
.
وكان عمر يقول له: ذكِّرنا ربَّنا يا أبا موسى، فيقرأ وهم يسمعون.
وقال الشعبي: كتب عمر في وصيته: أن لا يُقَرَّ لي عامل أكثر من سنة إلآ أبا موسى فلْيقرَّ أربع سنين.
(1)
طبقات ابن سعد (2/ 344 و 4/ 105 و 6/ 16) تاريخ ابن معين (326) طبقات خليفة (68، 132، 182) تاريخ خليفة (178) وغيرها، مسند أحمد (4/ 391) تاريخ البخاري الكبير (5/ 22) ثقات العجلي (272) المعارف (236) المعرفة والتاريخ (1/ 267) أخبار القضاة (1/ 283) الجرح والتعديل (5/ 138) ثقات ابن حبان (3/ 221) مشاهير علماء الأمصار (ت 216) مستدرك الحاكم (3/ 464) حلية الأولياء (1/ 256) الاستيعاب (3/ 979) الجمع لابن القيسراني (1/ 241) أنساب السمعاني (1/ 273 و 8/ 381) تاريخ ابن عساكر (422) جامع الأصول (9/ 79) أسد الغابة (3/ 367) مختصر تاريخ دمشق (13/ 233) تهذيب الكمال (15/ 446) طبقات علماء الحديث (1/ 84) تاريخ الإسلام (2/ 255) العبر (1/ 52) سير أعلام النبلاء (2/ 380) تذكرة الحفاظ (1/ 23) الكاشف (2/ 106) معرفة القراء الكبار (1/ 39) تذهيب التهذيب (2/ ورقة 174) تجريد أسماء الصحابة (1/ ت 3487) مرآة الجنان (1/ 120) مجمع الزوائد (9/ 358) غاية النهاية (1/ 442) الإصابة (6/ 194) تهذيب التهذيب (5/ 362) طبقات الحفاظ (7) خلاصة الخزرجي (210) كنز العمال (13/ 606) شذرات الذهب (1/ 235).
(2)
تحرفت في المطبوع إلى: غز.
(3)
هذه اللفظة من (أ) فقط.
(4)
"البربط": العود، أو ملهاة تشبه العود. أعجمي معرب.
(5)
طبقات ابن سعد (4/ 108).
(6)
أخرجه ابن سعد في طبقاته (4/ 107) وأحمد في مسنده (2/ 450) وابن ماجة (1341) في إقامة الصلاة: باب في حسن الصوت بالقرآن، وهو حديث صحيح.
ذكر ابن الجوزي في "المنتظم" أنه توفي في هذه السنة، وهو قول بعضهم. وقيل: قبلها بسنة، وقيل: في سنة ثنتين وأربعين، وقيل غير ذلك، والله أعلم.
وكانت وفاته بمكة مقيمًا بها معتزلًا للناس بعد التحكيم، وقيل: بمكان يقال له الثَّوِيَّة على ميلين من الكوفة.
وكان قصيرًا، نحيفَ الجسم، أَثَطّ - أي: لا لحية له. رضي الله عنه.
وذكر ابن الجوزي أنه توفي في هذه السنة أيضًا:
عبدُ اللهِ بنُ المُغَفل المُزَني
(1)
: وكان أحد البكَّائين، وأحد العشرة الذين بعثهم عمر إلى البصرة ليفقِّهوا الناس في الدين. وهو أول من دخل تُسْتَر من المسلمين حين فتحها. لكن الصحيح ما حكاه البخاري
(2)
عن مسدَّد أنه توفي سنة سبع
(3)
وخمسين. وقال ابن عبد البَرّ
(4)
: توفي سنة ستين، وقال غيره: سنة إحدى وستين، فاللّه أعلم.
ويُروى عنه أنه رأى في نومه كأنَّ القيامة قد قامت، وكان هناك مكانٌ مَنْ وصل إليه نجا، فجعل يحاول الوصول إليه، فقيل له: أتريد أن تصل إليه وعندك ما عندك من الدنيا؟! فاستيقظ فعَمِدَ إلى عَيْبَة
(5)
عنده فيها ذهب كثير [مما حصل له من الغنائم من نصيبه حلالًا]
(6)
فلم يصبح عليه الصباح إلّا وقد فرَّقها في المساكين والمحاويج والأقارب، رضي الله عنه.
وفيها توفي:
عِمرانُ بن حُصَين
(7)
: ابن عبيد بن خلف، أبو نُجيد الخُزاعي.
(1)
طبقات ابن سعد (7/ 13) تاريخ ابن معين (333) طبقات خليفة (37، 76) تاريخ خليفة (146) مسند أحمد (4/ 85 و 5/ 54، 272) المعارف (297) المعرفة والتاريخ (1/ 256) الجرح والتعديل (5/ 149) مشاهير علماء الأمصار (ت 221) مستدرك الحاكم (3/ 578) الاستيعاب (3/ 996) إكمال ابن ماكولا (7/ 264) أسد الغابة (3/ 398) تهذيب الكمال (ورقة 746) تاريخ الإسلام (2/ 1) سير أعلام النبلاء (2/ 483) الكاشف (2/ 119) تهذيب التهذيب (6/ 42) الإصابة (6/ 223) خلاصة الخزرجي (215) شذرات الذهب (1/ 271).
(2)
تاريخه الكبير (5/ الترجمة 36)، وتهذيب الكمال (16/ 175).
(3)
في المطبوع من التاريخ الكبير: سنة تسع وخمسين.
(4)
الاستيعاب (3/ 996).
(5)
"العيبة": وعاء من أدم يكون فيها المتاع.
(6)
من (أ) فقط.
(7)
طبقات ابن سعد (4/ 287) تاريخ ابن معين (2/ 436) طقات خليفة (106، 187) تاريخ خليفة (218) مسند أحمد (4/ 426) تاريخ البخاري الكبير (6/ 408) ثقات العجلي (373) المعارف (309) أخبار القضاة (1/ 291) الجرح والتعديل (6/ 296) مشاهير علماء الأمصار (ت 218) مستدرك الحاكم (3/ 470) الاستيعاب (3/ 1208) =
أسلم هو وأبو هريرة عام خيبر، وشهد غزوات، وكان من سادات الصحابة. استقضاه عبد اللّه بن عامر على البصرة، فحكم بها مدَّة، ثم استعفاه فأعفاه، ولم يزل بها حتى مات في هذه السنة.
قال الحسن وابن سِيرين: ما قدم البصرة راكب خير منه.
وقد كانت الملائكة تسلِّم عليه، فلمّا اكتوى انقطع عنه سلامُهم، ثم عادوا فسلَّموا عليه قبل موته بقليل، رضي الله عنه وعن أبيه أيضًا.
كعبُ بنُ عُجْرَة الأنصاري
(1)
: أبو محمد المدني، صحابي جليل، وهو الذي نزلت فيه آية الفِدْيَة
(2)
في الحج.
مات في هذه السنة، وقيل: في التي قبلَها بسنة، عن خمس - أو سبع - وسبعين سنة.
معاوية بن حُدَيج
(3)
(4)
: ابن جَفْنة بن قُتَيرة الكِنْدي الخولاني المصري.
صحابي على قول الأكثرين، وذكره ابن حبّان في التابعين من الثقات
(5)
، والصحيح الأول.
= أسد الغابة (4/ 281) تهذيب الكمال: ورقة 1057، طبقات علماء الحديث (1/ 88) سير أعلام النبلاء (2/ 508) تذكرة الحفاظ (1/ 29) تاريخ الإسلام (2/ 306) العبر (1/ 57) الكاشف (2/ 299) مجمع الزوائد (9/ 381) تهذيب التهذيب (8/ 125) الإصابة (7/ 155) النجوم الزاهرة (1/ 143) طبقات الحفاظ (8) خلاصة الخزرجي (295) شذرات الذهب (1/ 249).
(1)
طبقات خليفة (ت 938) مسند أحمد (4/ 241) تاريخ البخاري الكبير (7/ 220) المعرفة والتاريخ (1/ 319) الجرح والتعديل (7/ 160) مشاهير علماء الأمصار (ت 78) جمهرة أنساب العرب (442) الاستيعاب (3/ 1321) الجمع بين رجال الصحيحين (2/ 429) تاريخ ابن عساكر (14/ 277/ ب) أسد الغابة (4/ 481) تهذيب الأسماء واللغات (القسم الأول من الجزء الثاني 68) مختصر تاريخ دمشق (21/ 176) تهذيب الكمال (ورقة 1147) تاريخ الإسلام (2/ 313) سير أعلام النبلاء (3/ 52) العبر (1/ 57) الكاشف (3/ 7) تذهيب التهذيب (3/ 170/ آ) مراة الجنان (1/ 125) تهذيب التهذيب (8/ 435) الإصابة (ت 7421) خلاصة الخزرجي (321) شذرات الذهب (1/ 249).
(2)
هي قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] والحديث رواه البخاري رقم (1816) ومسلم (1201)(85).
(3)
تحرف في الأصول إلى: خديج.
(4)
طبقات ابن سعد (7/ 503) طبقات خليفة (ت 477 و 2723) مسند أحمد (6/ 401) تاريخ البخاري الكبير (7/ 328) المعرفة والتاريخ (2/ 528) الجرح والتعديل (8/ 377) مشاهير علماء الأمصار (ت 384) جمهرة أنساب العرب (429) الاستيعاب (3/ 1413) تاريخ ابن عساكر (16/ 327/ ب) أسد الغابة (5/ 206) تهذيب الأسماء واللغات (القسم الأول من الجزء الثاني 101) مختصر تاريخ دمشق (24/ 392) تهذيب الكمال (ورقة 1344) تاريخ الإسلام (2/ 317) العبر (1/ 57) سير أعلام النبلاء (3/ 37) الكاشف (3/ 138) تذهيب التهذيب (4/ 49/ ب) الإصابة (ت 8064) تهذيب التهذيب (10/ 203) النجوم الزاهرة (1/ 151) حسن المحاضرة (1/ 237) خلاصة الخزرجي (381) شذرات الذهب (1/ 250).
(5)
ثقات ابن حبان (5/ 415).
شهد فتح مصر، وهو الذي وفد إلى عمر بفتح الإسكندريَّة، وشهد مع ابن أبي سَرْح قتال البربر فذهبت عينُه يومئذ، وتولَّى حروبًا كثيرة في بلاد المغرب.
وكان عثمانيًا في أيام علي ببلاد مصر، ولم يبايع عليًا بالكليَّة، فلما أخذ معاوية بن أبي سفيان مصر أكرمه واستنابه بها بعد عبد اللّه بن عمرو بن العاص، وقد تولّاها عبد الله بن عمرو نائبًا بها بعد أبيه سنتين، ثم عزله معاوية وولَّى عليها معاوية بن حُدَيج هذا، فلم يزل بمصر حتى مات بها في هذه السنة.
هانئ بن نِيَار
(1)
: أبو بُرْدة البَلَوي [وهو خال البَرَاء بن عازب]
(2)
.
وهو الذي خصَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم بذبح العَنَاق
(3)
، وأخبره أنها تَجزيهِ عن غيرها من الأضاحي [ولن تَجزيَ عن أحدٍ بعدَه]
(4)
.
وقد شهد العقبة وبدرًا والمشاهد كلَّها، وكانت راية بني حارثة معه يوم الفتح، رضي الله عنه.
ثم دخلت سنة ثلاث وخمسين
فيها غزا عبد الرحمن بن أمِّ الحكم الثقفيّ بلاد الروم وشتا بها.
وفيها افتتح المسلمون وعليهم جُنادة بن أبي أميَّة جزيرة رُودُس، فأقام بها طائفة من المسلمين كانوا شديدين على الكفار، يعترضون لهم في البحر ويقطعون سبيلهم، وكان معاوية يدرُّ عليه الأرزاق والأُعطيات الجزيلة، وكانوا على حذر شديد من الفِرَنج، يبيتون في حِصْن عظيم لهم عنده فيه ذراريهم
(5)
ودوابُّهم وحواصلهم، ولهم نواطير على البحر يُنذرونهم إنْ قدم عدو أوكادهم أحد، وما زالوا كذلك حتى مات معاوية وولي ابنُه يزيد، فحوَّلهم من تلك الجزيرة، وقد كانت للمسلمين بها أموال كثيرة وزروعات غزيرة.
(1)
طبقات ابن سعد (3/ 451) تاريخ ابن معين (694) طبقات خليفة (80) تاريخ خليفة (205) مسند أحمد (3/ 466 و 4/ 44) تاريخ البخاري الكبير (8/ 277) المعارف (326) الجرح والتعديل (9/ 99) مثاهير علماء الأمصار (ت 118) الاستيعاب (4/ 1608) أسد الغابة (5/ 382 و 6/ 30) تهذيب الكمال (ورقة 1583) سير أعلام النبلاء (2/ 35) الكاشف (3/ 273) تهذيب التهذيب (12/ 19) الإصابة (11/ 34) خلاصة الخزرجي (443).
(2)
ما بين حاصرتين سقط من ط.
(3)
"العناق": هي الأنثى من المعز إذا قويت ما لم تستكمل سنة.
(4)
ما بين حاصرتين سقط من ط وب. والحديث أخرجه البخاري رقم (5557) في أول الأضاحي، ومسلم (1961) (9) في الأضاحي: باب في وقتها، من حديث البراء بن عازب.
(5)
في ط: حوائجهم.
وحج بالناس في هذه السنة سعيد بن العاص والي المدينة. قاله أبو مَعْشر والواقدي.
وفي هذه السنة توفي جبلة بن الأيهم الغسّاني كما ستأتي ترجمته في آخر هذه التراجم.
وفيها توفي:
الرَّبيع بن زياد الحارثي
(1)
: مختلَف في صحبته.
وكان نائب زياد على خراسان.
وكان قد ذكر حُجر بن عديّ، فتأسَّف عليه وقال: واللّه لو ثارت العرب له لما قُتل صبرًا، ولكن أقرت العرب فذلت. ثم لما كان يوم الجمعة دعا اللّه على المنبر أن يَقبضه إليه، فما عاش إلى الجمعة الأخرى. واستخلف على عمله ابنه عبد الله بن الربيع، فأقرَّه زياد على ذلك، فمات بعد ذلك بشهرين، واستخلف على عمله خُليد بن عبد الله الحنفي، فأقرَّه زياد.
ورُوَيفع بن ثابت
(2)
: صحابيٌّ جليل، شهد فتح مصر، وله آثار جيِّدة في فتح بلاد المغرب، ومات بِبَرْقة واليًا عليها من جهة مَسْلمة بن مخلَّد نائب مصر.
وفيها توفي:
زياد بن أبي سفيان
(3)
: ويقال له: زياد بن أَبيه، وزياد بن سُميَّة - وهي أمُّه - توفي في رمضان من هذه
(1)
طبقات ابن سعد (6/ 159) تاريخ البخاري الكبير (3/ ت 979) ثقات ابن حبان (1/ ورقة 130) مشاهير علماء الأمصار (ت 984) الاستيعاب (2/ 492) أسد الغابة (2/ 206) تهذيب الكمال (9/ 80) تذهيب التهذيب (1/ ورقة 219) الكاشف (1/ 235) تجريد أسماء الصحابة (1/ 177) إكمال مغلطاي (2/ ورقة 15) العقد الثمين (4/ 389) نهاية السول (ورقة 95) تهذيب التهذيب (3/ 244) الإصابة (1/ 505) خلاصة الخزرجي (115).
(2)
طبقات ابن سعد (4/ 354) طبقات خليفة (ت 724) تاريخ خليفة (208) مسند أحمد (4/ 107) تاريخ البخاري الكبير (3/ 338) الجرح والتعديل (3/ 520) ثقات ابن حبان (1/ ورقة 133) مشاهير علماء الأمصار (ت 389) معجم الطبراني الكبير (5/ ت 434) الاستيعاب (2/ 504) أسد الغابة (2/ 239) تهذيب الأسماء واللغات (1/ 192) تهذيب الكمال (9/ 254) تاريخ الإسلام (2/ 223، 279) سير أعلام النبلاء (3/ 36) الكاشف (1/ 244) تذهيب التهذيب (1/ 229/ ب) تجريد أسماء الصحابة (1/ 187) إكمال مغلطاي (2/ ورقة 29) نهاية السول (ورقة 99) الإصابة (ت 2699) تهذيب التهذيب (3/ 299) حسن المحاضرة (1/ 199) خلاصة الخزرجي (120).
(3)
طبقات ابن سعد (7/ 99) طبقات خليفة (ت 1516) المحبر (184، 303، 479) تاريخ البخاري الكبير (3/ 357) التاريخ الصغير (1/ 115) المعارف (346) تاريخ الطبري (5/ 176) وغيرها، الجرح والتعديل (3/ 539) العقد الفريد (4/ 110 وغيرها) الاستيعاب (2/ 523) تاريخ ابن عساكر (6/ 242/ أ) وفيات الأعيان (6/ 356) أسد الغابة (2/ 271) الكامل لابن الأثير (3/ 493 وغيرها) تهذيب الأسماء واللغات (1/ 98/ 11) مختصر تاريخ دمشق (9/ 72) تاريخ الإسلام (2/ 279) سير أعلام النبلاء (3/ 494) العبر (1/ 58) فوات الوفيات (2/ 31) الوافي بالوفيات (15/ 10) مرآة الجنان (1/ 126) الإصابة (1/ 580) شذرات الذهب (1/ 252) خزانة الأدب (2/ 517) تهذيب ابن عساكر (5/ 409).
السنة مطعونًا [لمْ يُمهله الله بعد حُجر بن عديٍّ إلا نحو سنة وثلثي سنة، فالتقى هو وعبد الله]
(1)
.
وكان سبب هلاكه بالطاعون أنه كتب إلى معاوية يقول له: إني قد ضبطتُ لك العراق بشمالي، ويميني فارغةٌ فارْعَ لي ذلك، وهو يعرّض له أن يستنيبه على بلاد الحجاز أيضًا، فلمّا بلغ أهل الحجاز ذلك جاؤوا إلى عبد الله بن عمر بن الخطاب فشكَوا إليه ذلك، وخافوا أن يليَ عليهم زياد فيَعْسِفهم كما عسَفَ أهل العراق، فقام ابن عمر فاستقبل القِبلة - ودعا على زياد والناس يؤمِّنون، فطُعن زياد بالعراق في يده، فضاق ذرعًا بذلك، واستشار شُريحًا القاضي في قطع يده، فقال له شُريح: إني لا أرى أن تفعل بنفسك ذلك، فإنه إن لم يكن في الأجل فسحة لقيتَ الله أجذم قد قُطعت يدك جزعًا من لقاء الله، وإن كان لك أجل بقيتَ في الناس أجذم فتعيَّر بذلك أنت وولدك. فصرفه عن ذلك، فلما خرج شُريح من عنده عاتبه بعض الناس وقالوا: هلّا تركته يقطع يده؟ فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المُسْتَشارُ مُؤْتَمَن"
(2)
.
ويقال: إن زيادًا جعل يقول: أأنام أنا والطاعون في فراش واحد؟ فعزم على قطع يده، فلما جيء بالمكاوي والحديد خاف من ذلك فترك ذلك.
ويذكر أنه جمع مئة وخمسين طبيبًا عنده ليداووه مما يجد من الحرِّ في باطنه، منهم ثلاثة ممّن كان يَطِبُّ كسرى بن هُرْمز، فعجزوا هم وهو عن رد القدر المحتوم والأمر المحموم، فمات في ثالث شهر رمضان في هذه السنة، وقد أقام في إمرة العراق خمس سنين، ودفن بالثَّويَّة
(3)
خارج الكوفة، وقد كان برز منها قاصدًا إلى الحجاز واليًا عليها [مضافًا إلى ما بيده من العراق وخراسان وغير ذلك]
(4)
، فلما بلغ خبر موته عبد الله بن عمر قال: اذهب إليك يا بن سُميَّة، فلا الدنيا بقيتْ لك، ولا الآخرة أدركت.
قال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدّثني أبي، عن هشام بن محمد، حدّثني يحيى بن ثعلبة أبو المقوَّم
(5)
الأنصاري، عن أمه عائشة، عن أمها
(6)
، عن عبد الرحمن بن السائب الأنصاري قال: جمع زياد أهل
(1)
ما بين حاصرتين من (أ) فقط.
(2)
أخرجه أبو داود (5128) في الأدب: باب في المشورة، والترمذي (2369) في الزهد: باب ما جاء في معيشة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم و (2822) في الأدب: باب المستشار مؤتمن، وابن ماجة (3745) في الأدب: باب المستشار مؤتمن، كلهم من طريق شيبان، عن عبد الملك بن عمير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المستشار مؤتمن". وأخرجه أحمد (5/ 274) وابن ماجة (3746) والدارمي (2/ 219) كلهم من طريق الأعمش، عن أبي عمرو الشيباني، عن أبي مسعود الأنصاري، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو حديث صحيح.
(3)
تحرفت في المطبوع إلى: الثوبة وفي (أ) إلى: السوية.
(4)
ما بين حاصرتين من (أ) فقط.
(5)
تحرف في الأصول إلى: المقدم. وضبطها في مشتبه النسبة (2/ 610).
(6)
في ط: عن أبيها.
الكوفة فملأ منهم المسجد والرحبة والقصر ليعرض عليه البراءة من علي بن أبي طالب. قال عبد الرحمن: فإني لمع نفر من أصحابي من الأنصار والناسُ في أمر عظيم من ذلك وفي حصر، قال: فهوَّمْتُ تَهْويمة - أي: نَعَسْتُ نَعْسَة - فرأيت شيئًا أقبل طويلَ العنق، له عنق مثل عنق البعير، أهدب أهدل، فقلت: ما أنت؟ فقال: أنا النقَّاد ذو الرقبة، بُعثت إلى صاحب هذا القصر، قال: فاستيقظتُ فزعًا، فقلت لأصحابي: هل رأيتم ما رأيت؟ قالوا: لا، فأخبرتهم [فما هو إلا أن أخبرتهم]
(1)
خرج علينا خارج من القصر فقال: إن الأمير يقول لكم: انصرفوا عنِّي فإني عنكم مشغول، وإذا الطاعون قد أصابه
(2)
.
وروى ابن أبي الدنيا: أن زيادًا لما ولي الكوفة سأل عن أعبَد أهلها، فدُلَّ على رجل يقال له: أبو المغيرة الحميَري، فجيء به، فقال له: الزم بيتك ولا تخرج منه وأنا أعطيك من المال ما شئت، فقال: لو أعطيتني ملك الأرض ما تركت خروجي لصلاة الجماعة. فقال: الزم الجماعة ولا تتكلم بشيء، فقال: لا أستطيع ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فامر به فضُربت عنقُه. [ولما احتُضر قال له ابنه: يا أبة قد هيَّأت لك ستين ثوبًا أكفنكَ فيها، فقال: يا بنيَّ قد دنا من أبيك أمرٌ إما لباس خير من لباسه، وإما سلب سريع]
(3)
.
وهذا غريب جدًّا.
صَعْصَعة بنُ ناجِيَة
(4)
: ابن عِقال
(5)
بن محمد بن سفيان بن مُجاشع بن دارم.
كان سيِّدًا في قومه في الجاهلية وفي الإسلام. يقال: إنه أحيا في الجاهلية ثلاثمئة وستين مَوْؤودة، وقيل: أربعمئة، وقيل: ستًّا وتسعين مَوْؤودة، فلمَّا أسلم قال له رسول اللّه صلى الله عليه وسلم "لكَ أجرُ ذلكَ إذ مَنَّ اللّهُ عليكَ بالإسلام"
(6)
.
ويروى عنه: أنه أولَ ما أحيا الموؤودة أنه ذهب في طلب ناقتين شردتا له، قال: فبينا أنا في الليل
(1)
سقط من ط و ب.
(2)
الخبر في مختصر تاريخ دمشق (9/ 88 - 89).
(3)
ما بين حاصرتين سقط من ب. مختصر تاريخ دمشق (9/ 90).
(4)
طبقات ابن سعد (7/ 38) تاريخ البخاري الكبير (4/ ت 2978) الجرح والتعديل (4/ 445) ثقات ابن حبان (3/ 194) مشاهير علماء الأمصار (ت 239) معجم الطبراني الكبير (8/ 76) الاستيعاب (2/ 718) أنساب السمعاني (11/ 134) أسد الغابة (3/ 22) تهذيب الكمال (13/ 175) تجريد أسماء الصحابة (1/ ت 2796) تذهيب التهذيب (2/ ورقة 93) نهاية السول (ورقة 147) تهذيب التهذيب (4/ 423) الإصابة (2/ ت 4068) خلاصة الخزرجي (174).
(5)
تحرف في ط إلى: عفان.
(6)
رواه الطبراني في الكبير (7412) وإسناده ضعيف.
أسيرُ إذ أنا بنار تضيء تارة وتخبو أخرى، فجعلت لا أهتدي إليها، فقلت: اللهم لك عليَّ إن أوصلتني إليها أن أدفع عن أهلها ضيمًا إن وجدته بهم، قال: فوصلتُ إليها وإذا شيخ كبير يوقد نارًا وعنده نسوة مجتمعات، فقلت: ما أنتن؟ فقلن: إنَّ هذه امرأة قد حبستنا منذ ثلاث، تُطْلَق ولم تخلُص، فقال لي الشيخ صاحب المنزل: وما خبرك؟ فقلت: إني في طلب ناقتين ندَّتا لي، فقال: قد وجدتهما، إنهما في إبلنا، قال: فنزلتُ عنده، قال: فما هو إلَّا أن نزلت إذ قلن: وضعتْ، فقال الشيخ: إن كان ذكرًا فارتحلوا، وإن كانت أنثى فلا تُسْمعنني صوتها، فقلت له: علامَ تقتلُ ولدك ورِزقُه على اللّه؟ فقال: لا حاجة لي بها، فقلت: أنا أفتديها منك وأتركها عندك حتى تَبِين
(1)
عنك أو تموت، قال: بكم؟ قلت: بإحدى ناقتَيّ، قال: لا، قلت: فبهما، قال: لا إلَّا أن تزيدني بعيرك هذا، فإني أراه شابًا حسن اللون، قلت: على أن تردَّني إلى أهلي، قال: نعم، فلما خرجتُ من عندهم رأيت أن الذي صنعتُه نعمة من الله منَّ بها عليَّ وهداني إليها، فجعلتُ لله عليَّ ألَّا أجد مَوْؤودة إلَّا افتديتها كما افتديت هذه. قال: فما جاء الإسلام حتى أحييتُ مئة موؤودة إلّا أربعًا، ونزل القرآن بتحريم ذلك على الناس.
وممن توفي في هذه السنة من المشاهير المذكورين:
جَبَلَة بنُ الأَيْهَم الغسَّاني
(2)
: ملك نصارى العرب.
وهو: جبلَة بن الأَيهم بن جبلَة بن الحارث بن أبي شَمِر، واسمُه المنذر بن الحارث، وهو ابن مارية ذات القُرْطَيْن، وهو ابن ثعلَبة بن عمرو بن جَفْنة، واسمه كعب بن عامر بن حارثة بن امرئ القيس، ومارية بنت أرقم بن ثعلبة بن عمرو بن جَفْنة، ويقال غير ذلك في نسبه. وكنيةُ جبلة أبو المنذر الغشَاني الجَفْني.
وكان ملك غسّان، وهم نصارى العرب أيام هِرَقل، وغسّان أولاد عم الأنصار أَوسِها وخَزْرجها.
وكان جبلة آخر ملوك غوإن، فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابًا مع شُجاع بن وهب يدعوه إلى الإسلام، فأسلم وكتب بإسلامه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
(3)
.
قال ابن عساكر: قيل: إنه لم يسلم قطّ. وقد صرح به الواقدي
(4)
وسعيد بن عبد العزيز.
(1)
"تبين": تتزوج.
(2)
المحبر (76، 372) المعارف (644) الاشتقاق (436) العقد الفريد (2/ 56) الأغاني (15/ 157) جمهرة أنساب العرب (372) مختصر تاريخ دمشق (5/ 368) سير أعلام النبلاء (3/ 532) تاريخ الإسلام (2/ 214) خزانة الأدب (2/ 241).
(3)
اختلف المؤرخون فيمن أُرسل إليه شجاع بن وهب: أهو الحارث بن أبي شمر الغساني أم جبلة بن الأيهم؟. والخبر في إعلام السائلين ص 108.
(4)
في ط: الواحدي، محرف.
وقال الواقدي: شهد اليرموك مع الروم أيام عمر بن الخطاب، ثم أسلم بعد ذلك في أيام عمر، فاتفق أنه وَطِئ رداء رجل من مُزينة بدمشق
(1)
، فلطمه ذلك المُزَني، فرفعه أصحاب جبلة إلى أبي عبيدة فقالوا: هذا لطم جبلة، قال أبو عبيدة: فيلطمه جبلَة، فقالوا: أو ما يُقتل؟ قال: لا، قالوا: فما تقطع يده؟ قال: لا، إنما أمر الله بالقَوَد، فقال جبلَة: أترون أني جاعل وجهي بدلًا لوجه مُزَني جاء من ناحية المدينة؟ بئس الدين هذا، ثم ارتدَّ نصرانيًا، وترحَّل بأهله حتى دخل أرض الروم، فبلغ ذلك عمر، فشقَّ عليه وقال لحسان: إن صديقك جبلَة ارتدَّ عن الإسلام، فقال: إنا للّه وإنا إليه راجعون، ثم قال: ولم؟ قال: لطمه رجل من مُزَينة، فقال: وحقَّ له، فقام إليه عمر بالدِّرَّة فضربه بها.
رواه الواقدي عن مَعْمر وغيره، عن الزُّهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، وساق ذلك بأسانيده إلى جماعة من الصحابة. وهذا القول هو أشهر الأقوال.
وقد روى ابن الكلبي وغيرُه: أن عمر لما بلغه إسلام جبلَة فرح بإسلامه، ثم بعث يستدعيه ليراه بالمدينة، وقيل: بل استأذنه جبلَة في القدوم عليه فأذن له، فركب في خلق كثير من قومه - قيل: مئة وخمسين راكبًا، وقيل: خمسمئة - وتلقته هدايا عمر ونزلُه قبل أن يصل إلى المدينة بمراحل، وكان يومُ دخوله إلى المدينة يومًا مشهودًا، دخلها وقد ألبس خيولَه قلائد الذهب والفضة، ولبس هو تاجًا على رأسه مرصَّعًا باللآلئ والجواهر، وفيه قُرْطا مارية جدَّته، وخرج أهل المدينة رجالهم ونساؤهم ينظرون إليه، فلمَّا سلَّم على عمر رحَّب به عمر وأدنى مجلسَه، وشهد الحج مع عمر في هذه السنة، فبينما هو يطوف بالكعبة إذ وَطِئ إزاره رجلٌ من بني فَزَارة، فانحلّ، فرفع جبلة يده فهشم أنف ذلك الرجل الذي وَطئ إزاره - ومن الناس من يقول: إنه قلع عينه - فاستعداه الفَزَاري إلى عمر ومعه خلق كثير من بني فَزَارة، فاستحضره عمر، فاعترف جبلة، فقال له عمر: أَقِدْه، فقال جبلة: كيف وأنا ملك وهو سُوقَة؟ فقال: إنَّ الإسلام جمعك وإياه فلستَ تفضلُه إلَّا بالتقوى، فقال جبلَة: قد كنتِ أظن أن أكون في الإسلام أعزَّ مني في الجاهلية، فقال عمر: دع ذا عنك، فإنك إن لم تُرضِ الرجل أقَدْته منك، فقال: إذًا أتنصَّر، فقال: إن تنصَّرتَ ضربتُ عنقك، فلمّا رأى الجدَّ قال: أمهلني لأنظر في أمري هذه الليلة، فانصرف من عند عمر، فلما ادلهمَّ الليل ركب في قومه ومَنْ أطاعه فسار إلى الشام، ثم دخل بلاد الروم، ودخل على هِرَقل في مدينة القُسْطنطينية، فرحَّب به هِرَقل، وأكرمه، وأقطعه بلادًا كثيرة، وأجرى عليه أرزاقًا جزيلة، وأهدى إليه هدايا جميلة، وجعله من سُمّاره، فمكث عنده دهرًا. ثم إنَّ عمر كتب كتابًا إلى هِرَقل مع رجل يقال له: جَثّامة بن مساحق
(2)
الكناني، فلما بلغ هِرَقل كتابُ عمر بن الخطاب قال له
(1)
ليست هذه اللفظة في أ.
(2)
كذا في ط ومثله في الأغاني. ووقع في أ، ب: مساحي.
هِرَقل: هل لقيتَ ابن عمِّك جبلَة؟ قال: لا، قال: فالقَهُ، فذكر اجتماعه به، وما هو فيه من النّعمة والسُّرور والحُبور الدُّنيوي في لباسه وفرشه ومجلسه وطيبه وجواريه، حواليه الحِسَان من الخدم والقِيَان، ومطعمه وشرابه وسروره وداره التي تعوَّض بها عن دار السلام
(1)
، وذكر أنه دعاه إلى الإسلام والعَوْد إلى الشام، فقال له جبلَة: أبعدَ ما كان مني من الارتداد؟ فقال: نعم، إنَّ الأشعث بن قيس ارتدَّ وقاتلهم بالسيوف، ثم لما رجع إلى الحقِّ قبلوه منه وزوَّجه الصدِّيق بأخته أم فروة، قال: فالتهى عنه بالطعام والشراب، وعرض عليه الخمر فأبى عليه، وشرب جبلة من الخمر شيئًا حتى سكر، ثم أمر جواريه القِيَان فغنَّيْنَه بالعيدان من قول حسّان يمدح بني عمِّه من غسان، والشعر في والد جبلَة هذا الحيوان:
للّهِ دَرُّ عِصَابَةٍ نادَمْتُهُمْ
…
يومًا بجلِّقَ في الزَّمانِ الأوَّلِ
أولادُ جَفْنَةَ حَوْلَ قبرِ أَبيهم
…
قبرِ ابنِ ماريَةَ الكريم المُفْضِلِ
يَسْقُونَ مَنْ وَرَدَ البَريصَ عَلَيهمُ
…
بَرَدَى يُصَفَّقُ بالرحيقِ السَّلْسَلِ
بيضُ الوُجوهِ كريمة أَحسَابُهُمْ
…
شُمُّ الأُنوفِ مِنَ الطِّرازِ الأَوَّلِ
يُغْشَوْنَ حتَّى ما تَهِرُّ كلابُهُمْ
…
لا يَسْأَلونَ عن السَّوادِ المُقْبِلِ
(2)
قال: فأعجبه قولُهنَّ ذلك، ثم قال: هذا شعر حسان بن ثابِت الأنصاري فينا وفي ملكنا، ثم قال لي: كيف حال حسان؟ قلت له: تركته ضريرًا شيخًا كبيرًا. ثم قال لهن: أَطْرِبْنني، فاندفعن يغنِّين لحسان أيضًا:
لِمَنِ الدَّارُ أقفَرتْ بمَعَانِ
…
بينَ أعلى اليَرْموكِ فالصَّمَّانِ
فالقُرَيَّاتِ مِنْ بَلاسَ فدارَيَّـ
…
ـا فسَكاءَ فالقصورِ الدَّواني
فحِمى جاسمٍ إلى مرجِ ذي الصُّـ
…
ـفْرِ مَغْنى قبائل وهِجانِ
تلكَ دارُ العزيزِ بعدَ أَنيسٍ
…
وملوكٍ عظيمةِ الأَرْكانِ
صلواتُ المسيحِ في ذلكَ الدَّيْـ
…
ـر دعاء القسِّيسِ والرُّهْبانِ
ذاكَ مَغْنى لآلِ جَفْنَةَ في الدَّهْـ
…
ـر وحقٌّ تعاقبُ الأزمانِ
قد أراني هناكَ حقَّ مَكينٍ
…
عند ذي التّاجِ مَجْلسي ومَكاني
ثكلتْ أُمُّهُمْ وقَدْ ثكلتْهُمْ
…
يومَ حلُّوا بحارثِ الجَوْلانِ
ودَنا الفصحُ فالوَلائِدُ يَنْظِمْـ
…
ـنَ سِراعًا أَكلَّةَ المَرْجَانِ
(3)
(1)
في ط: دار الإسلام.
(2)
الأبيات في ديوان حسان (ص 364 - 366) مع اختلاف في بعض الألفاظ. أيضًا في العقد الفريد (2/ 59 - 60) والأغاني (15/ 157 - 158) ومختصر تاريخ دمشق (5/ 372).
(3)
الأبيات - عدا الخامس منها - في ديوان حسان (ص 474 - 475). وأيضًا في: العقد الفريد (2/ 60) والأغاني (15/ 166) ومختصر تاريخ دمشق (5/ 372 - 373).
ثم قال: هذا لابن الفُريعة حسان بن ثابت فينا وفي ملكنا وفي منازلنا بأكناف غوطة دمشق، قال: ثم سكت طويلًا ثم قال لهن: بكينني، فوضعن عيدانهنَّ ونكَّسن رؤوسهنَّ وقلن:
تَنَصَّرتِ الأشرافُ من عارِ لَطْمةٍ
…
وما كانَ فيها لو صبرتُ لها ضَرَرْ
تكنَّفَني فيها لجاجٌ ونَخْوَةٌ
…
وبعتُ بها العينَ الصَّحِيحةَ بالعَوَرْ
فيا ليتَ أُمي لم تَلِدْني ولَيْتَني
…
رجعتُ إلى القولِ الذي قالهُ عُمَرْ
ويا ليتَني أَرعى المخاضَ بقفْرَةٍ
…
وكنتُ أسيرًا في ربيعةَ أو مُضَرْ
ويا ليتَ لي بالشّامِ أدنى مَعيشةٍ
…
أُجال قومي ذاهبَ السَّمعِ والبَصَرْ
أَدِينُ بما دانُوا به مِنْ شريعةٍ
…
وقد يَصْبِرُ العَوْدُ الكبيرُ على الدَّبَرْ
(1)
قال: فوضع يده على وجهه فبكى حتى بلَّ لحيته بدموعه، وبكيت معه، ثم استدعى بخمسئة دينار هِرَقلية فقال: خذ هذه فأوصلها إلى حسان بن ثابت، وجاء بأخرى مثلها فقال: خذ هذه لك، فقلت: لا حاجةَ لي فيها ولا أقبل منك شيئًا وقد ارتددتَ عن الإسلام - فيقال: إنه أضافها إلى التي لحسان فبعث بألف دينار هِرَقلية - ثم قال له: أبلغ عمر بن الخطاب مني السلام وسائر المسلمين. فلمَّا قدمت على عمر أخبرته خبره، فقال: ورأيتَه يشرب الخمر؟ قلت: نعم، قال: أبعده اللّه، تعجَّل فانيةً بباقية فما ربحت تجارتُه. ثم قال: وما الذي وجَّه به لحسان؟ قلت: خمسمئة دينار هِرَقلية، فدعا حسانًا فدفعها إليه، فأخذها وولَّى وهو يقول:
إنَّ ابنَ جَفْنَةَ من بقيَّةِ معشرٍ
…
لم يَغْزُهُمْ آباؤُهُمْ باللُّومِ
لم يَنْسَني بالشَّام إذ هو ربُّها
…
كلَّا ولا مُتَنَصِّرًا بالرُّومِ
يُعطي الجزيلَ ولا يراهُ عندَهُ
…
إلَّا كبعضِ عطيَّةِ المَذْمومِ
(2)
وأَتَيْتُهُ يومًا فقرَّبَ مجلسي
…
وسَقى فروّاني من الخُرْطُومِ
(3)
ثم لما كان في هذه السنة من أيام معاوية بعث معاوية عبد اللّه بن مَسْعدة الفَزَاري رسولًا إلى ملك
(1)
الأبيات لجبلة بن الأيهم كما نص عليه صاحب الأغاني (15/ 170) وأيضًا في العقد الفريد (2/ 61) ومختصر تاريخ دمشق (5/ 373).
وقوله: وقد يصبر العود الكبير على الدبر "العود": المسن من الإبل. "والدبر": قرحة الدابة.
(2)
في أصول كتابنا المحروم بدل المذموم. والمثبت من الديوان وغيره من مصادر التخريج.
(3)
"الخرطوم": الخمر السريعة الإسكار. وقيل: هو أول ما يجري من العنب قبل أن يداس.
والأبيات في ديوان حسان (ص 447 - 448) وأيضًا في العقد الفريد (2/ 62) والأغاني: (15/ 167) ومختصر تاريخ دمشق (5/ 374).
الروم، فاجتمع بجبلَة بن الأيهم فرأى ما هو فيه من السعادة الدنيوية والأموال من الخدم والحشم والذهب والخيول، فقال له جبلَة: لو أعلم أن معاوية يُقْطِعُني أرض البَثَنِيَّة
(1)
فإنها منازلنا وعشرين قريةً من غوطة دمشق، ويفرض لجماعتنا، ويحسن جوائزنا لرجعت إلى الشام. فأخبر عبد اللّه بن مَسْعدة معاوية بقوله، فقال معاوية: نعم أنا أعطيه ذلك، وكتب إليه كتابًا مع البريد بذلك، فما أدركه البريد إلّا وقد مات في هذه السنة، قبَّحه الله.
ذكر أكثرَ هذه الأخبار الشيخ أبو الفرج بن الجَوْزي في "المنتظم" وأرَّخ وفاته في هذه السنة - أعني سنة ثلاث وخمسين.
وقد ترجمه ابن عساكر في "تاريخه" فأطال الترجمة وأفاد، ثم قال في آخرها: بلغني أن جبلَة توفي في خلافة معاوية بأرض الروم بعد سنة أربعين من الهجرة، والله أعلم.
ثم دخلت سنة أربع وخمسين
فيها شتا محمد بن مالك بأرض الروم، وغزا الصّائفة معن بن يزيد السُّلمي.
وفيها عزل معاويةُ سعيدَ بن العاص عن إمرة المدينة، وردَّ إليها مروان بن الحكم، وكتب إليه أن يهدم دار سعيد بن العاص ويصفِّي أمواله التي بأرض الحجاز، فجاء مروان بالفَعَلة إلى دار سعيد ليهدمها، فقال سعيد: ما كنتَ لتفعل ذلك، فقال: إنَّ أمير المؤمنين كتب إليَّ بذلك، ولو كتب إليك في داري لفعلتَه. فقام سعيد فأخرج إليه كتاب معاوية إليه حين ولّاه المدينة بأن يهدم دار مروان ويصفِّي ماله، وذكر أنه لم يزل يحاجف معاوية دونه حتى صرف ذلك عنه. فلمَّا رأى مروان الكتاب إلى سعيد بذلك ثناه ذلك عن دار سعيد وعن أخذ أمواله، ولم يزل يدافع عنه حتى تركه معاوية في داره وأقرَّ عليه أمواله.
وفيها عزل معاويةُ سَمُرةَ بن جُنْدب عن البصرة، وكان زياد قد استخلفه عليها، فأقرَّه معاوية ستة أشهر ثم عزله، وولَّى عليها عبد الله بن عمرو بن غَيْلان.
وروى ابن جرير وغيره عن سَمُرة أنه قال لمَّا عزله معاوية: لعن الله معاوية، لو أطعتُ اللّه كما أطعتُ معاوية ما عذَّبني أبدًا. وهذا لا يصح عنه.
وقدم في هذه السنة عبيد الله بن زياد على معاوية [دمشق من العراق]
(2)
فأكرمه وسأله عن نوّاب أبيه
(1)
"البثنية": قرية بين دمشق وأذرعات.
(2)
ما بين حاصرتين من (أ) فقط.
على البلاد، فأخبره عنهم. ثم ولّاه إمرة خراسان وهو ابن خمس وعشرين سنة، فسار إلى مقاطعته وتجهَّز من فوره غاديًا إليها، فقطع النهر إلى جبال بخارى [ففتح رامِيثَن
(1)
ونصف بِيْكَنْد - وهما من معاملة بخارى -]
(2)
والتقى الترك هناك، فقاتلهم قتالًا شديدًا، وهزمهم هزيمة فظيعة بحيث إنَّ المسلمين أعجلوا امرأة الملك أن تلبَس خفَّيها، فلبست واحدة وتركت الأخرى، فأخذها المسلمون فقوَّموا جَوْرَبها
(3)
بمئتي ألف درهم، وغنموا مع ذلك غنائم كثيرة، وأقام عبيد الله بن زياد بخراسان سنتين.
في هذه السنة حجَّ بالناس مروان بن الحكم نائب المدينة. وكان على الكوفة عبد الله بن خالد بن أَسِيد، وقيل: بل كان عليها الضحَّاك بن قيس. وكان على البصرة عبد الله بن غَيْلان.
ذكر من توفي فيها من الأعيان:
أسامة بن زيد بن حارثَه الكَلْبي
(4)
: أبو محمد المدني، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن مولاه، وحِبُّه وابن حِبِّه، وأمُّه بَرَكَة أمُّ أيمن مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحاضنتُه.
ولّاه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الإمرة بعد مقتل أبيه، فطَعن بعض الناس في إمرته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن تَطعَنوا في إمارتَه فقد طَعَنْتم في إمرة أبيهِ من قَبْله، وايمُ اللّهِ إنْ كان لخَليقًا بالإمارة وإن كان لمن أَحبِّ الناسِ إليَّ [وإنَّ هذا لمن أحبِّ الناسِ إليّ]
(5)
بعده
(6)
.
وثبت في "صحيح البخاري"
(7)
عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُجلسُ الحسنَ بن عليٍّ على فخذه ويُجلسُ أسامة على فخذه الأُخرى ويقول: اللهمَّ إنِّي أُحِبُّهما فأَحِبَّهما".
(1)
كذا في ب ومثله في تاريخ الطبري. ووقعت في ط: رامس.
(2)
ما بين حاصرتين سقط من أ.
(3)
في ط: جواهرها.
(4)
طبقات ابن سعد (4/ 61) تاريخ ابن معين (22) طبقات خليفة (6، 297) تاريخ خليفة (100، 226) مسند أحمد (5/ 199) تاريخ البخاري الكبير (2/ 20) ثقات العجلي (59) المعارف (145 وغيرها) المعرفة والتاريخ (1/ 304) الجرح والتعديل (2/ 283) مشاهير علماء الأمصار (ت 24) معجم الطبراني الكبير (1/ 120) مستدرك الحاكم (3/ 596) الاستبصار (34، 87) الاستيعاب (1/ 75) أنساب السمعاني (10/ 451) تاريخ ابن عساكر (2/ 341/ أ) أسد الغابة (1/ 79) مختصر تاريخ دمشق (4/ 248) تهذيب الكمال (2/ 338) سير أعلام النبلاء (2/ 496) تاريخ الإسلام (2/ 270) العبر (1/ 59) تذهيب التهذيب (1/ 50) الكاشف (1/ 57) مجمع الزوائد (9/ 286) تهذيب التهذيب (1/ 208) الإصابة (1/ 54) خلاصة الخزرجي (26) كنز العمال (13/ 270) شذرات الذهب (1/ 253) تهذيب ابن عساكر (2/ 394، 402).
(5)
سقط من ط.
(6)
أخرجه البخاري رقم (3730) ومسلم (2426) من حديث ابن عمر.
(7)
(7/ 70) وقد تقدم الحديث في ترجمة الحسن بن علي.
وفضائله كثيرة جدًّا.
توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمره تسع عشرة سنة.
وكان عمر إذا لقيه يقول: السلام عليك أيُّها الأمير.
وصحح أبو عمر بن عبد البَرّ
(1)
أنه توفي في هذه السنة، وقال غيره: سنة ثمان - أو تسع - وخمسين، وقيل: توفي بعد مقتل عثمان. فالله أعلم.
ثَوْبان بن بُجْدُد
(2)
: مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم تقدمت ترجمته في مواليه ومن كان يخدمه عليه السلام.
أصله من العرب، فأصابه سَبْي، فاشتراه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعتقه، فلزم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم سفرًا وحضرًا، فلمّا مات أقام بالرَّملة، ثم انتقل إلى حمص فابتنى بها دارًا، ولم يزل بها حتى مات في هذه السنة على الصحيح، وقيل: سنة أربعين وهو غلط، ويقال: إنه توفي بمصر، والصحيح بحمص.
جُبير بن مُطْعم
(3)
: تقدم أنه توفي سنة خمسين.
الحارثُ بنُ رِبْعي
(4)
: أبو قَتَادة الأنصاري، [وقال الواقدي: اسمه النعمان بن رِبْعي. وقال غيره: عَمرو بن رِبْعي. وهو أبو قَتادة الأنصاري]
(5)
السَّلمي المدني، فارس الإسلام.
(1)
الاستيعاب (1/ 77).
(2)
طبقات ابن سعد (7/ 400) طبقات خليفة (ت 15 و 2710) تاريخ خليفة (223) مسند أحمد (5/ 275) المحبر (128) تاريخ البخاري الكبير (2/ 181) المعارف (147) المعرفة والتاريخ (2/ 433 وغيرها) الجرح والتعديل (2/ 469) ثقات ابن حبان (3/ 48) مشاهير علماء الأمصار (ت 324) معجم الطبراني الكبير (2/ 85) حلية الأولياء (1/ 180، 350) الاستيعاب (1/ 218) الجمع بين رجال الصحيحين (1/ 68) تاريخ ابن عساكر (3/ 297/ ب) أسد الغابة (1/ 296) تهذيب الأسماء واللغات (1/ 140) مختصر تاريخ دمشق (5/ 346) تهذيب الكمال (4/ 413) تاريخ الإسلام (2/ 273) العبر (1/ 59) سير أعلام النبلاء (3/ 15) الكاشف (1/ 119) تذهيب التهذيب (1/ 98/ ب) إكمال مغلطاي (2/ ورقة 48) تهذيب التهذيب (2/ 31) الإصابة (ت 967) حسن المحاضرة (1/ 180) خلاصة الخزرجي (58) شذرات الذهب (1/ 253) تهذيب ابن عساكر (3/ 381).
(3)
تقدمت ترجمته في وفيات سنة 50.
(4)
طبقات ابن سعد (6/ 15) تاريخ ابن معين (720) تاريخ خليفة (99، 105، 201، 223) مسند أحمد: (4/ 383 و 5/ 295) تاريخ البخاري الكبير (2/ 258) الجرح والتعديل (3/ 74) مشاهير علماء الأمصار (ت 39) معجم الطبراني الكبير (3/ 270) مستدرك الحاكم (3/ 480) الاستبصار (146) الاستيعاب (4/ 1731) تاريخ بغداد (1/ 159) الإكمال لابن ماكولا (4/ 525) أنساب السمعاني (7/ 114) تاريخ ابن عساكر (باريس 218/ 2) جامع الأصول (9/ 77) أسد الغابة (6/ 250) مختصر تاريخ دمشق (29/ 110) تهذيب الكمال (ورقة 1644) تاريخ الإسلام (2/ 188) العبر (1/ 60) سير أعلام النبلاء (2/ 449) الكاشف (3/ 325) الإصابة (11/ 302) خلاصة الخزرجي (457) كنز العمال (13/ 617) شذرات الذهب (1/ 255).
(5)
ما بين حاصرتين سقط من ب.
شهد أُحدًا وما بعدها، وكان له يوم ذي قَرَد سعي مشكور كما قدمنا هناك. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"خيرُ فرسانِنا اليومَ أبو قَتَادة، وخيرُ رَجَّالتِنا سلَمةُ بنُ الأكْوَع"
(1)
.
وزعم أبو أحمد الحاكم أنه شهد بدرًا، وليس بمعروف.
وقال أبو سعيد الخُدري: أخبرني من هو خير مني - أبو قَتَادة الأنصاري - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمّار: "تَقْتُلُكَ الفِئَةُ الباغِيَة"
(2)
.
قال الواقدي وغيره: توفي في هذه السنة - يعني سنة أربع وخمسين - بالمدينة عن سبعين سنة.
وزعم الهيثم بن عديٍّ وغيرُه: أنه توفي بالكوفة سنة ثمان وثلاثين، وصلَّى عليه علي بن أبي طالب، وهذا غريب.
حَكيم بنُ حِزَام
(3)
: ابن خُويلد بن أسَد بن عبد العُزى بن قُصيِّ بن كِلاب القرشيُّ الأسديّ، أبو خالد المكي.
أمه فاختة بنت زهير بن الحارث بن أسد بن عبد العُزى، وعمتُه خديجة بنت خُويلد زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمُّ أولاده سوى إبراهيم.
ولدت حَكيمًا أمُّه في جوف الكعبة قبل الفيل بثلاث عشرة سنة، وذلك أنها دخلت الكعبة تزور، فضربها الطَّلق وهي في الكعبة، فوضعته على نِطع.
وكان شديد المحبَّة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما كان بنو هاشم وبنو المطَّلب في الشِّعب لا يبايعون ولا يناكحون كان حكيم يُقبل بالعير تقدم من الشام فيشتريها بكمالها
(4)
، ثم يذهب بها فيضرب
(1)
قطعة من حديث طويل أخرجه مسلم (1807) في الجهاد والسير: باب غزوة ذي قرد، وأحمد في مسنده (4/ 52 - 54) من حديث سلمة بن الأكوع.
(2)
أخرجه مسلم (2915) في الفتن وأشراط الساعة، وأحمد في مسنده (5/ 306).
(3)
نسب قريش (231) طبقات خليفة (ت 70) مسند أحمد (3/ 401 و 434) المحبر (176، 473) تاريخ البخاري الكبير (3/ 11) التاريخ الصغير (102، 119، 120) جمهرة نسب قريش (1/ 353) ثقات العجلي (128) المعارف (311) الجرح والتعديل (3/ 202) ثقات ابن حبان (3/ 70) مشاهير علماء الأمصار (ت 30) مستدرك الحاكم (3/ 482) جمهرة أنساب العرب (121 وغيرها) الاستيعاب (1/ 362) الجمع بين رجال الصحيحين (1/ 105) أنساب السمعاني (1/ 228) تاريخ ابن عساكر (5/ 123/ آ) أسد الغابة (2/ 45) تهذيب الأسماء واللغات (1/ 166) مختصر تاريخ دمشق (7/ 233) تهذيب الكمال (7/ 170) تاريخ الإسلام (2/ 277) تذهيب التهذيب (1/ 169/ ب) العبر (1/ 60) سير أعلام النبلاء (3/ 44) الكاشف (1/ 185) تجريد أسماء الصحابة (1/ 137) إكمال مغلطاي (1/ ورقة 283) مرآة الجنان (1/ 127) العقد الثمين (4/ 221) نهاية السول (ورقة 74) تهذيب التهذيب (2/ 447) الإصابة (ت 1800) خلاصة الخزرجي (90) شذرات الذهب (1/ 254) تهذيب ابن عساكر (4/ 416).
(4)
في (أ)، ب: مكانها.
أدبارها حتى تلج الشِّعب تحمل الطعام والكسوة تكرمةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولعمته خديجة.
وهو الذي اشترى زيد بن حارثة أولًا، فابتاعته منه عمتُه خديجة، فوهبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقَه.
وهو الذي اشترى حُلَّة ذي يَزَن، فأهداها لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلبسها، قال: فما رأيت شيئًا أحسن منه فيها.
ومع هذا ما أسلم إلَّا يوم الفتح هو وأولاده كلهم.
قال البخاري
(1)
وغيره: عاش حَكيم في الجاهلية ستين سنة، وفي الإسلام ستين سنة.
وكان من سادات قريش وكرمائهم وأعلمهم بالنَّسب، وكان كثير الصدقة والبِرّ والعَتَاقة، فلما أسلم سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال له: "أَسلمتَ على ما أَسْلَفْتَ
(2)
مِنْ خَيْر"
(3)
.
وقد كان حَكيم شهد مع المشركين بدرًا، وتقدَّم إلى الحوض فكاد حمزة أن يقتلَه، فما سُحب إلا سَحبًا من بين يديه، فلهذا كان حَكيم إذا اجتهد في اليمين يقول: لا والذي نجَّاني يوم بدر.
ولما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح بمَرِّ الظَّهران
(4)
ومعه الجنود خرج أبو سفيان وحَكيم يتحسَّسان الأخبار، فلقيهما العباس، فأخذ أبا سفيان فأجاره وأخذ له أمانًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسلم أبو صفيان ليلتئذ كُرْهًا، ومن صبيحة ذلك اليوم أسلم حكيم. وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حُنَينًا، وأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم مئةَ من الإبل، ثم سأله، فأعطاه، ثم سأله، فأعطاه ثم قال له:"يا حَكيم إنَّ هذا المال حُلوةٌ خَضِرة، وإنَّه مَنْ أخذهُ بسَخاوة نَفْسٍ بُوركَ له فيه، ومَنْ أخذَهُ بإشْراف نَفْس لم يُبارَك له فيه، وكان كالذي يأكلُ ولا يَشْبع". فقال حكيم: والذي بعثك بالحقِّ لا أَرْزَأُ
(5)
بعدك أحدًا شيئًا. فلم يَرْزَأْ أحدًا بعده، فكان أبو بكر يعرض عليه العطاء فيأبى، وكذلك عمر فكان يعرض عليه العطاء فيأبى، فيُشهد عليه المسلمين
(6)
. ومع هذا كان من أغنى الناس، مات الزبير يوم مات ولحكيم عليه مئة ألف.
(1)
تاريخه الكبير (3/ الترجمة 42).
(2)
تحرفت في المطبوع إلى: أسلمت.
(3)
أخرجه البخاري رقم (1436) ومسلم (123) في الإيمان، من طريق ابن شهاب، عن عروة، عن حكيم بن حزام أخبره أنه قال لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم: أرأيت أمورًا كنت أتحنث بها في الجاهلية هل لي فيها من شيء؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أسلمت على ما أسلفت من خير".
وللحديث طرق أخرى تنظر في التعليق على السير (3/ 49).
(4)
"مر الظهران": موضع قرب مكة.
(5)
في اللسان: ما رزأ فلانًا شيئًا: أي ما أصاب من ماله شيئًا ولا نقص منه.
(6)
رواه البخاري رقم (3143) ومسلم رقم (1035).
وقد كان بيده حين أسلم الرِّفادة
(1)
ودار الندوة، فباعها بعد من معاوية بمئة ألف - وفي رواية: بأربعين ألف دينار - فقال له ابن الزبير: بعتَ مَكرُمَة قريش؟! فقال له حكيم: يا بن أخي ذهبت المكارم فلا كرمَ إلَّا بالتقوى، يا بن أخي إني اشتريتها في الجاهلية بزِقّ خمر، ولأَشترينَّ بها دارًا في الجنة، أُشهدك أن قد جعلتُها في سبيل اللّه، وهذه الدار كانت لقريش بمنزلة دار العدل، وكانوا لا يُمكنون أحدًا من دخولها إلَّا مَنْ جاوز الأربعين سنة إلَّا حكيم بن حِزام فإنه دخلها وعمره خمس عشرة سنة. ذكره الزبير بن بكّار
(2)
.
وذكر الزبير: أنَّ حكيمًا حجَّ عامًا فأهدى مئة بَدَنَة مجلَّلة، وألف شاة، وأوقف معه بعرفات مئة وَصِيف
(3)
في أعناقهم أَطوقة الفضة قد نُقش فيها: هؤلاء عتقاء الله عن حَكيم بن حِزام، فأعتقهم وأهدى جميع تلك الأنعام
(4)
. رضي الله عنه.
توفي حكيم في هذه السنة على الصحيح، [وقيل: سنة خمسين، وقيل: سنة ستين]
(5)
وقيل غير ذلك، وله من العمر مئة وعشرون سنة.
حُوَيطِب بنُ عبد العزَّى العامري
(6)
: صحابي جليل. أسلم عام الفتح، وكان قد عُمِّر دهرًا طويلًا، ولهذا جعله عمر في النفر الذين جدَّدوا أنصاب الحرم
(7)
.
(1)
الرفادة شيء كانت قريش تترافد به - أي تتعاون - في الجاهلية، وذلك أن يخرج كل إنسان مالًا بقدر طاقته، فيجمعون من ذلك مالًا عظيمًا أيام الموسم، فيشترون للحاج الجُزر والطعام والزبيب للنبيذ، فلا يزالون يطعمون الناس حتى تنقضي أيام موسم الحج. وكانت الرفادة والسقاية لبني هاشم، وكان أول من قام بالرفادة هاشم بن عبد مناف، وسمي هاشمًا لهشمه الثريد (اللسان: رفد).
(2)
جمهرة نسب قريش (ص 354).
(3)
"الوصيف": العبد أو الخادم.
(4)
جمهرة نسب قريش (ص 356).
(5)
ما بين حاصرتين ليس في ط.
(6)
طبقات ابن سعد (5/ 454) تاريخ ابن معين (2/ 140) طبقات خليفة (27) تاريخ خليفة (223) تاريخ البخاري الكبير (3/ 127) المعارف (311) الجرح والتعديل (3/ 314) العقد الفريد (4/ 33، 158) ثقات ابن حبان (3/ 96) مشاهير علماء الأمصار (ت 177) معجم الطبراني الكبير (3/ ت 243) مستدرك الحاكم (3/ 492) جمهرة أنساب العرب (167) الاستيعاب (1/ 399) الجمع لابن القيسراني (1/ 114) تاريخ ابن عساكر (5/ 19) أسد الغابة (2/ 75) مختصر تاريخ دمشق (7/ 287) تهذيب الكمال (7/ 465) تذهيب التهذيب (1/ ورقة 183) تاريخ الإسلام (2/ 278) سير أعلام النبلاء (2/ 540) الكاشف (1/ 197) تجريد أسماء الصحابة (1/ 144) إكمال مغلطاي (1/ ورقة 305) العقد الثمين (4/ 251) نهاية السول (ورقة 80) الإصابة (2/ 304) تهذيب التهذيب (3/ 66) خلاصة الخزرجي (99) تهذيب ابن عساكر (5/ 18).
(7)
"أنصاب الحرم": حدوده. وحد الحرم من طريق الغرب التنعيم ثلاثة أميال، ومن طريق العراق تسعة أميال، ومن طريق اليمن سبعة أميال، ومن طريق الطائف عشرون ميلًا.
وقد شهد بدرًا مع المشركين، ورأى الملائكة يومئذ بين السماء والأرض. وشهد الحُدَيبية وسعى في الصُّلح، فلمّا كان عمرة القضاء كان هو وسهيل هما اللذين أمرا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بالخروج من مكة، فأمر بلالًا ألَّا تغرُبَ الشمس وبمكة أحد من أصحابه. قال: وفي كل هذه المواطن أهمُّ بالإسلام ويأبى الله إلّا ما يريد. فلما كان زمن الفتح خفتُ خوفًا شديدًا وهربت، فلحقني أبو ذرّ - وكان لي خليلًا في الجاهلية - فقال: يا حُوَيطب ما لك؟ فقلت: خائف، فقال: لا تخف فإنه أبرُّ الناس وأَوْصل الناس، وأنا جار لك فأقدم معي، فرجعت معه، فوقف بي على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالبَطحاء ومعه أبو بكر وعمر، وقد علَّمني أبو ذرٍّ أن أقول: السلام عليك أيها النبيُّ ورحمة اللّه وبركاته، فلما قلت ذلك قال:"حُوَيطب"؟! قلت: نعم، أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، فقال:"الحمدُ للّهِ الذي هَداك" وسُرَّ بذلك، واستقرضني مالًا، فأقرضتُه أربعين ألفًا. وشهدت معه حُنَينًا والطائف، وأعطاني من غنائم حُنين مئة بعير.
ثم قدم حويطب بعد ذلك المدينة فنزلها، وله بها دار، ولما ولي عليها مروان بن الحكم جاءه حُوَيطب وحكيم بن حِزام ومَخْرمة بن نوفل، فسلَّموا عليه وجعلوا يتحدَّثون عنده ثم تفرَّقوا. ثم اجتمع حُوَيطب بمروان يومًا آخر، فسأله مروان عن عمره، فأخبره، فقال له: تأخر إسلامُك أيها الشيخ حتى سبقك الأحداث، فقال حُوَيطب: اللهُ المستعان، والله لقد هممت بالإسلام غير مرَّة كل ذلك يَعُوقني أبوك يقول: تضع شرفك وتدع دين آبائك لدين مُحْدَث، وتصير تابعًا؟! قال: فأُسكت مروان واستحيى وندم على ما كان قال لي. ثم قال حُوَيطب: أما كان أخبرك عثمان ما كان لقي من أبيك حين أسلم؟ قال: فازداد مروان غَمًّا.
وكان حُوَيطب فيمن شهد دفن عثمان.
واشترى منه معاوية داره بمكة بأربعين ألف دينار، فاستكثرها الناس، فقال حُوَيطب: وما هي في رجل له خمسة من العيال؟!.
قال الشافعي: كان حُوَيطب حميد الإسلام، وكان أكثر قريش بمكة ريعًا جاهليًا.
وقال الواقدي: عاش حُوَيطب في الجاهلية ستين سنة، وفي الإسلام ستين سنة. ومات حويطب في هذه السنة بالمدينة، وله مئة وعشرون سنة. وقال غيره: توفي بالشام.
له حديث واحد رواه البخاري ومسلم والنَّسائي
(1)
من حديث السائب بن يزيد عنه، عن عبد الله بن
(1)
رواه البخاري رقم (7163) ومسلم رقم (1045) والنسائي (5/ 104) ومن لطائف هذا الإسناد أن الزهري رواه عن أربعة من الصحابة في نسق واحد السائب، وحويطب، وابن السعدي، وعمر.
السعدي، عن عمر في العُمَالة
(1)
بتمامه، وهو من غريب الحديث لأنه اجتمع فيه أربعة من الصحابة، رضي الله عنهم.
سَعيد
(2)
بن يَرْبوع
(3)
: ابن عَنْكَثَة بن عامر بن مخزوم.
أسلم عام الفتح، وشهد حُنينًا، وأعطاه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم خمسين من الإبل.
وكان اسمه صُرْمًا - وفي رواية: أَصْرم - فسمّاه سعيدًا.
وكان في جملة النفر الذين أمرهم عمر بتجديد أنصاب الحرم
(4)
.
وقد أُصيب بصرُه بعد ذلك، فأتاه عمر يعزِّيه فيه. رواه البخاري
(5)
.
قال الواقدي وخليفة
(6)
وغير واحد: مات في هذه السنة بالمدينة - وقيل: بمكة - وهو ابن مئة وعشرين سنة، وقيل: أكثر من ذلك.
مُرَّة بن شَرَاحيل الهَمْداني
(7)
: ويقال له: مُرَّة الطَّيِّب، ومُرَّة الخَيْر.
روى عن أبي بكر، وعمر، وعلي، وابن مسعود، وغيرهم.
كان يصلِّي كل يوم وليلة ألف ركعة، فلما كبر صلَّى أربعمئة ركعة.
(1)
"العمالة": أجرة العامل.
(2)
تحرف في المطبوع إلى: معبد.
(3)
تاريخ ابن معين (2/ 209) طبقات خليفة (278) تاريخ خليفة (223) تاريخ البخاري الكبير (3/ ت 1511) المعارف (313) الجرح والتعديل (4/ 72) ثقات ابن حبان (1/ ورقة 163) مشاهير علماء الأمصار (ت 179) مستدرك الحاكم (3/ 490) جمهرة أنساب العرب (142) الاستيعاب (2/ 626) تاريخ ابن عساكر (7/ 182/ ب) أسد الغابة (2/ 401) مختصر تاريخ دمشق (10/ 16) تهذيب الكمال (11/ 111) العبر (1/ 59) تاريخ الإسلام (2/ 289) تذهيب التهذيب (2/ ورقة 31) سير أعلام النبلاء (2/ 542) الكاشف (1/ 298) تجريد أسماء الصحابة (1/ ت 2347) إكمال مغلطاي (2/ ورقة 100) نكت الهميان (159) العقد الثمين (4/ 588) تهذيب التهذيب (4/ 99) الإصابة (4/ 200) خلاصة الخزرجي (144) شذرات الذهب (1/ 255) تهذيب ابن عساكر (6/ 180).
(4)
"أنصاب الحرم": حدوده.
(5)
في تاريخه الكبير (3/ الترجمة 1511).
(6)
تاريخه (ص 223).
(7)
طبقات ابن سعد (6/ 116) طبقات خليفة (ت 1071) تاريخ البخاري الكبير (8/ 5) ثقات العجلي (424) الجرح والتعديل (8/ 366) مشاهير علماء الأمصار (ت 754) حلية الأولياء (4/ 161) أنساب السمعاني (8/ 287) تهذيب الكمال (ورقة 1316) طبقات علماء الحديث (1/ 134) سير أعلام النبلاء (4/ 74) تاريخ الإسلام (3/ 303) تذكرة الحفاظ (1/ 67) الكاشف (3/ 116) تهذيب التهذيب (10/ 88) طبقات الحفاظ للسيوطي (ص 26) خلاصة الخزرجي (372) طبقات المفسرين (2/ 317).
ويقال: إنه سجد حتى أكل التراب جبهته، فلما مات رُئي في المنام - وقد صار ذلك المكان نورًا - فقيل له: أين منزلك؟ فقال: في دار لا يَظْعَن أهلُها ولا يموتون.
[النُّعَيْمان بن عَمْرو]
(1)
(2)
: ابن رفاعة بن الحارث
(3)
.
شهد بدرًا وما بعدها.
ويقال: إنه هو الذي كان يُؤتى به في الخمر [فيجلده النبي صلى الله عليه وسلم]
(4)
فقال رجل: لعنه اللهُ ما أكثرَ ما يُؤتى به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا تَلْعَنْه، فإنَّه يحبُّ اللهَ ورسولَه"
(5)
.
سَوْدة بنت
(6)
زَمْعَة
(7)
: القرشيَّة العامريَّة، أمُّ المؤمنين.
تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد خديجة، وكانت قبلَه عند السَّكران بن عمرو - أخي سهيل بن عمرو - فلما كبرت همَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بطلاقها، ويقال: إنه طلَّقها، فسألته أن يُبقيها في نسائه وتهب يومها لعائشة، فقبل ذلك منها وأبقاها، وأنزل الله تعالى:{وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} الآية [النساء: 128]
(8)
.
وكانت ذات عبادة وورع وزهادة.
قالت عائشة: ما من امرأة أحبّ أن أكون في مِسْلاخها إلا سَوْدة، إلَّا أن فيها حدَّة تسرعُ منها الفَيْئة
(9)
.
(1)
سقط من أ.
(2)
سيرة ابن هشام (1/ 703) طبقات ابن سعد (3/ 493) المعارف (328، 329) المعرفة والتاريخ (1/ 365، 366) الاشتقاق (450) الجرح والتعديل (8/ 507) الاستيعاب (4/ 1526) أسد الغابة (5/ 351) مختصر تاريخ دمشق (26/ 169) الإصابة (ت 8788) حياة الصحابة للكاندهلوي (3/ 185).
(3)
تحرفت لفظة الحارث في المطبوع إلى: الحر.
(4)
سقط من ط، ب.
(5)
انظر البخاري رقم (6775) من حديث عقبة بن عامر، والبخاري رقم (6780) من حديث عمر.
(6)
في المطبوع: بن وهو خطأ.
(7)
طبقات ابن سعد (8/ 52) طبقات خليفة (335) مسند أحمد (6/ 429) التاريخ الصغير (50، 109) المعارف (133، 284) الاستيعاب (4/ 1867) الإكمال لابن ماكولا (4/ 397) جامع الأصول (9/ 145) أسد الغابة (7/ 157) تهذيب الكمال (ورقة 1693) تاريخ الإسلام (2/ 66) سير أعلام النبلاء (2/ 265) الكاشف (3/ 428) مجمع الزوائد (9/ 246) الإصابة (12/ 323) تهذيب التهذيب (12/ 426) خلاصة الخزرجي (492) شذرات الذهب (1/ 179 و 255) أعلام النساء لكحالة (2/ 267).
(8)
رواه أبو داود رقم (2135) وهو حديث صحيح.
(9)
أخرجه مسلم (1463) في الرضاع: باب جواز هبتها نوبتها لضرتها. "والمسلاخ": الجلد، فكأنها تمنت أن تكون في مثل هديها وطريقتها.
ذكر ابن الجوزي وفاتها في هذه السنة، وقال ابن أبي خَيْثمة: توفيت في آخر خلافة عمر بن الخطاب، فاللّه أعلم.
ثم دخلت سنة خمس وخمسين
فيها عزل معاوية عبد اللّه [بن عمرو]
(1)
بن غَيْلان عن البصرة وولَّى عليها عبيد الله بن زياد، وكان سبب عزله أنه كان يخطُب الناس، فحصَبه رجل من بني ضَبَّة، فأمر بقطع يده، فجاء قومه إليه فقالوا له: إنه متى بلغ أمير المؤمنين أنك قطعتَ يد صاحبنا في هذا الصَّنيع فعل به وبقومه نظير ما فعل بحُجر بن عدي، فاكتب لنا كتابًا أنك قطعت يده في شُبهة، فكتب لهم، فتركوه عندهم حينًا، ثم جاؤوا معاوية فقالوا له: إنَّ نائبك قطع يد صاحبنا في شُبهة فأَقِدْنا منه، قال: لا سبيل إلى القَوَد من نوّابي ولكن الدِّية، فأعطاهم الدية [من بيت المال]
(2)
وعزل عنهم ابن غَيْلان، وقال لهم: اختاروا مَنْ تريدون، فذكروا رجالًا، فقال: لا، ولكن أولِّي عليكم ابنَ أخي عبيد الله بن زياد، فولّاه، فاستخلف ابن زياد على خراسان أسلم بن زرعة، فلم يغزُ ولم يفتح شيئًا من البلاد.
وجاء ابن زياد إلى البصرة فولَّى قضاءها لزُرارة بن أَوْفى، ثم عزله وولَّى ابن أُذينة العبدي، وولَّى شرطتها عبد اللّه بن حصن
(3)
.
وحجَّ بالناس في هذه السنة مروان بن الحكم نائب المدينة.
وفيها عزل معاوية عبد اللّه بن خالد بن أَسِيد عن الكوفة، وولَّى عليها الضحاك بن قيس الفِهْري.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأعيان:
الأَرْقم بنُ أبي الأَرْقم
(4)
: عبد مناف بن أسَد بن عبد الله بن عمر بن مخزوم.
أسلم قديمًا - يقال: سابع سبعة - وكانت داره كهفًا للمسلمين يأوي إليها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ومَنْ أسلم معه
(1)
ليس في ط.
(2)
ليس في ط.
(3)
في ط: الحصين.
(4)
طبقات ابن سعد (3/ 242) طبقات خليفة (21) مسند أحمد (3/ 417) تاريخ البخاري الكبير (2/ 46) الجرح والتعديل (2/ 309) مشاهير علماء الأمصار (ت 162) معجم الطبراني الكبير (1/ 284) مستدرك الحاكم (3/ 502) الاستبصار (117) الاستيعاب (1/ 131) أسد الغابة (1/ 74) سير أعلام النبلاء (2/ 479) تاريخ الإسلام (2/ 213) العبر (1/ 61) الإصابة (1/ 40) كنز العمال (13/ 269) شذرات الذهب (1/ 256).
من قريش، وكانت عند الصَّفا، وقد صارت فيما بعد ذلك للمهدي، فوهبها لامرأته الخَيْزُران أمِّ موسى الهادي وهارون الرشيد، فَبَنَتْها وجدَّدتها فعُرفت بها، ثم صارت لغيرها.
وقد شهد الأَرقم بدرًا وما بعدها من المشاهد.
ومات بالمدينة في هذه السنة، وصلَّى عليه سعد بن أبي وقاص أوصى به رضي الله عنهما، وله بضع وثمانون سنة.
سَحْبان بنُ زُفَر بن إياس
(1)
: ابن عبد شمس بن الأحب
(2)
الباهلي الوائلي، الذي يضرب بفصاحته المثل فيقال: أفصح من سَحْبان وائل. ووائل: هو ابن مَعْن
(3)
بن مالك بن أعصُر بن سعد بن قيس بن عَيْلان
(4)
بن مُضر بن نزار. وباهلة امرأة مالك بن أعصُر، ينسب إليها ولدها، وهي: باهلة بنت صَعب بن سعد العَشيرة.
قال ابن عساكر: سَحْبان المعروف بسَحْبان وائل، بلغني أنه وفد على معاوية فتكلَّم، فقال معاوية: أنت الشيخ؟ فقال: إي واللّه وغير ذلك. ولم يزد ابن عساكر على هذا.
وقد نسبه ابن الجوزي في كتابه "المنتظم" كما ذكرنا، ثم قال: وكان بليغًا يُضرب المثل بفصاحته، دخل يومًا على معاوية وعنده خطباء القبائل، فلمّا رأوه خرجوا لعلمهم بقصورهم عنه، فقال سَحْبان:
لقَدْ علِمَ الحيُّ اليَمانُون أنَّني
…
إذا قلتُ: أمَّا بعدُ، أَنِّي خطيبُها
فقال له معاوية: اخطب، فقال: انظروا لي عَصًا تُقيم من أَوَدي، فقالوا: وما تصنع بها وأنت بحضرة أمير المؤمنين؟ فقال: ما كان يصنع بها موسى وهو يخاطب ربَّه عز وجل، فأخذها وتكلم من الظُّهر إلى أن قاربت العصر، ما تنحنح ولا سعَل ولا توقَّف ولا ابتدأ في معنى فخرج عنه وقد بقيتْ عليه بقيةٌ فيه، فقال معاوية: الصلاة، فقال: الصلاة أمامك، ألسنا في تحميد وتمجيد، وعِظة وتنبيه، وتذكير ووعد ووعيد؟! فقال معاوية: أنت أخطب العرب، قال: العرب وحدَها؟! بل أخطب الجنِّ والإنس، قال: أنت كذلك.
(1)
المعارف (611) الاشتقاق (273) العقد الفريد (2/ 240) مجمع الأمثال (1/ 249) تاريخ ابن عساكر (تهذيبه: 6/ 65)، لسان العرب:(سحب)، بلوغ الأدب (3/ 156) خزانة الأدب (4/ 347) أعلام الزركلي (3/ 79).
(2)
تحرف في المطبوع إلى: الأجب.
(3)
تحرف في المطبوع إلى: معد.
(4)
تحرف في المطبوع إلى: غيلان.
سعد بن أبي وقّاص
(1)
: واسمه
(2)
مالك بن أُهَيب بن عبد مناف بن زُهرة بن كِلاب، أبو إسحاق القرشي الزُّهري. أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الستة أصحاب الشُّورى الذين توفي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض.
أسلم سعد قديمًا، قالوا: وكان عمره يوم أسلم سبع عشرة سنة. وثبت عنه في الصحيح أنه قال: ما أسلمَ أحدٌ في اليوم الذي أسلمتُ فيه، ولقد مكثتُ سبعة أيام وإني لثلُث الإسلام
(3)
سابع سبعة
(4)
.
وهاجر، وشهد بدرًا وما بعدها. وهو أول من رمى بسهم في سبيل اللّه
(5)
. وكان فارسًا شجاعًا، من أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان في أيام الصدِّيق معظَّمًا جليل القدر، وكذلك في أيام عمر، وقد استنابه عمر على الكوفة، وهو الذي كوَّف الكوفة، ونفى عنها الأعاجم. وكان مجاب الدعوة. وهو الذي فتح المدائن، وكانت بين يديه وقعة جَلُولاء
(6)
. وكان سيِّدًا مطاعًا. وعزله عمر عن الكوفة عن غير عجز ولا خيانة، ولكن للمصلحة التي ظهرتْ لعمر في ذلك، وقد ذكره في الستة أصحاب الشُّورى. ثم ولّاه عثمان الكوفة، ثم عزله عنها.
(1)
طبقات ابن سعد (3/ 137 و 6/ 12) نسب قريش (263 وغيرها) طبقات خليفة (15، 126) تاريخ خليفة (223) مسند أحمد (1/ 168) تاريخ البخاري الكبير (4/ ت 1908) التاريخ الصغير (1/ 99 وغيرها) ثقات العجلي (180) المعارف (241) فتوح البلدان (215) الجرح والتعديل (4/ 93) ثقات ابن حبان (1/ ورقة 154) مشاهير علماء الأمصار (ت 10) حلية الأولياء (1/ 92) الاستيعاب (2/ 606) تاريخ بغداد (1/ 144) تاريخ ابن عساكر (7/ 66/ ب) جامع الأصول (9/ 10) أسد الغابة (2/ 366) تهذيب الأسماء واللغات (1/ 213) مختصر تاريخ دمشق (9/ 250) تهذيب الكمال (10/ 309) طبقات علماء الحديث (1/ 84) سير أعلام النبلاء (1/ 92) تذكرة الحفاظ (1/ 22) دول الإسلام (1/ 40) تاريخ الإسلام (2/ 281) تذهيب التهذب (2/ ورقة 11) الكاشف (1/ 280) تجريد أسماء الصحابة (1/ ت 2272) العبر (1/ 60) نكت الهميان (155) مجمع الزوائد (9/ 153) العقد الثمين (4/ 537) غاية النهاية (1/ 304) الإصابة (4/ 160) تهذيب التهذيب (3/ 483) النجوم الزاهرة (1/ 147) طبقات الحفاظ (5) حسن المحاضرة (1/ 205) خلاصة الخزرجي (135) كنز العمال (13/ 212) شذرات الذهب (1/ 256) تهذيب ابن عساكر (6/ 95).
(2)
يعني اسم أبي وقاص.
(3)
رواه البخاري (3727).
(4)
رواه البخاري رقم (5412).
(5)
الأوائل لابن قتيبة (ص 63).
(6)
وتسمى جلولاء الوقيعة، كانت سنة 16 هـ، وكان النصر فيها للمسلمين. وموضع جلولاء اليوم بالعراق. وخبر هذه الوقعة في تاريخ الطبري (4/ 24) وما بعدها. وأيضًا في معجم البلدان (4/ 156) وبلدان الخلافة الشرقية (ص 87).
وقال الحميدي: عن سفيان بن عُيينة، عن عمرو بن دينار قال: شهد سعد بن أبي وقاص وابن عمر دومة الجَنْدل يوم الحكَمَين.
وثبت في "صحيح مسلم"
(1)
أن ابنه عُمر جاء إليه وهو معتزل في إبله فقال: الناسُ يتنازعون الإمارة وأنت هاهنا؟! فقال: يا بني إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنَّ اللهَ يحبُّ العبدَ الغَنيَّ التَّقيَّ الخَفيّ".
قال ابن عساكر: وذكر بعض أهل العلم أن ابن أخيه هاشم بن عتبة بن أبي وقّاص جاءه فقال: يا عم هاهنا مئة ألف سيف يَرَوْنك أحقَّ الناس بهذا الأمر، فقال: أريد من مئة ألف سيف سيفًا واحدًا إذا ضربتُ به المؤمن لم يؤذه ولم يقطع فيه شيئًا، واذا ضربتُ به الكافر قطع. [أو قال: أريد سيفًا يعرف المؤمن من غيره حتى لا أؤذيه]
(2)
.
وقال عبد الرزاق: [عن معمر]
(3)
عن ابن جُريج، حدثني زكريا بن عمرو أنَّ سعد بن أبي وقّاص وفد على معاوية، فأقام عنده شهر رمضان يقصر الصلاة ويفطر
(4)
وقال غيره: فبايعه وما سأله سعد شيئًا إلّا أعطاه إياه.
وقال أبو يعلى
(5)
: حَدَّثَنَا زهير، حدّثنا إسماعيل بن عُلَيَّة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم قال: قال سعد: إني لأولُ رجل رمى بسهم في سبيل الله في المشركين، وما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه لأحدٍ قبلي، ولقد سمعتُه يقول:"ارْمِ فداكَ أبي وأُمي".
وقال أحمد
(6)
: حَدَّثَنَا يزيد بن هارون، حَدَّثَنَا إسماعيل، عن فيس سمعت سعد بن مالك يقول: والله إني لأول العرب رمى بسهمٍ في سبيل اللّه، ولقد كنا نغزو ومالنا طعام نأكله إلّا ورق الحُبْلَة وهذا السَّمُر
(7)
حتى إن أحدنا ليضع كما تضع الشاة ماله خلط، ثم أصبحتْ بنو أسد تعزِّرني على الدِّين، لقد خبتُ إذًا وضلَّ عملي.
رواه شعبة ووكيع وغير واحد عن إسماعيل بن أبي خالد به.
(1)
رقم (2965) في الزهد.
(2)
ما بين حاصرتين من (أ) فقط.
(3)
ليس في (ط) و (ب).
(4)
أخرجه عبد الرزاق برقم (4351).
(5)
في مسنده (2/ رقم 752) وإسناده صحيح.
(6)
في مسند أحمد (1/ 186) والبخاري رقم (5412) ومسلم رقم (2966).
(7)
"ورق الحبلة والسمر": نوعان من شجر البادية.
وقال الإمام أحمد: حَدَّثَنَا [يحيى بن سعيد]
(1)
عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن سعيد بن المسيِّب، عن سعد قال:"جمعَ لي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أبوَيْه يومَ أُحد".
ورواه أحمد [أيضًا عن غُنْدَر]
(2)
، عن شعبة، عن يحيى بن سعيد الأنصاري.
[وقد رواه الليث وغير واحد عن يحيى الأنصاري]
(3)
.
ورواه غير واحد عن سعيد بن المسِّيب، عن سعد.
ورواه الناس من حديث عامر بن سعد، عن أبيه.
وفي بعض الروايات: "فداكَ أبي وأمي". وفي رواية: "فقال: اِرْمِ وأنتَ الغلامُ الحَزَوَّر"
(4)
.
وقال أحمد
(5)
: حدّثنا وكيع، حدّثنا سفيان، عن سعد بن إبراهيم، عن عبد الله بن شدّاد، سمعت عليًا يقول: ما سمعتُ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يفدي أحدًا بأبويه إلَّا سعد بن مالك، فإني سمعتُه يقول له يوم أُحد:"اِرْمِ سعدُ فداكَ أبي وأُمي".
ورواه البخاري
(6)
عن أبي نعيم عن مِسْعَر، عن سعد بن إبراهيم به.
ورواه شعبة، عن سعد بن إبراهيم.
ورواه سفيان بن عُيينة وغير واحد، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن سعيد بن المسيِّب، عن علي بن أبي طالب، فذكره.
وقال الأعمش: عن أبي خالد، عن جابر بن سَمُرة قال: أول الناس رمى بسهمٍ في سبيل الله سعدٌ رضي الله عنه.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا مَعْمر، عن أيوب أنه سمع عائشةَ بنت سعد تقول: أنا ابنةُ المهاجر الذي فدَّاه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بالأبوين.
وقال الواقدي: حدّثتني عبيدة بنت نابل
(7)
، عن عائشة بنت سعد، عن أبيها قال: لقد رأيتني أرمي بالسَّهم يوم أُحد فيردّه عليَّ رجل أبيض حسن الوجه لا أعرفه، حتّى لمّا كان بعد ذلك ظننتُ أنه مَلَك.
(1)
سقط من أ، وهو في مسند أحمد (1/ 180) وإسناده صحيح.
(2)
سقط من أ، وهو في مسند أحمد (1/ 174) وغندر: هو محمد بن جعفر.
(3)
ما بين حاصرتين سقط من ب.
(4)
"الحزوّر": الغلام إذا اشتد وقوي.
(5)
مسند أحمد (1/ 124) وإسناده صحيح.
(6)
البخاري رقم (4058).
(7)
في أ، ط: حدثني عبيدة بن نابل وهو تصحيف. تهذيب التهذيب (12/ 437) وغيره.
وقال الإمام أحمد: حدثنا سليمان بن داود الهاشمي، حَدَّثَنَا إبراهيم بن سعد، عن أبيه [عن أبيه]
(1)
عن سعد بن أبي وقّاص قال: لقد رأيت عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن يساره يوم أُحدٍ رجلَين عليهما ثيابٌ بيض يقاتلان عنه كأشدِّ القتال، ما رأيتُهما قبلُ ولا بعدُ.
ورواه الواقدي: حدّثني [أبو]
(2)
إسحاق بن أبي عبد اللّه، عن عبد الواحد
(3)
- جد ابن أبي عون - عن زياد مولى سعد، عن سعد قال: رأيتُ رجلَين يوم بدرٍ يقاتلان عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أحدُهما عن يمينه، والآخر عن يساره، وإني لأراهُ ينظرُ إلى ذا مرةً وإلى ذا مرةً مسرورًا بما ظفَّره الله عز وجل
(4)
.
وقال الأعمش: عن إبراهيم، عن
(5)
علقمة، عن ابن مسعود قال: لقد رأيتُ سعدَ بن أبي وقاص يقاتل يوم بدرٍ قتالَ الفارس للرّاجل.
وقال سفيان: عن أبي إسحاق، عن أبي عُبيدة بن
(6)
عبد اللّه بن مسعود، عن أبيه قال: اشتركتُ أنا وسعدٌ وعمّار يوم بدر فيما أصبنا من الغنيمة، فجاء سعد بأَسِيرين، ولم أَجئ أنا وعمّار بشيء.
وقال مالك: عن يحيى بن سعيد أنه سمع عبد اللّه بن عامر بن ربيعة يقول: قالت عائشة: بات رسول الله صلى الله عليه وسلم أَرِقًا ذات ليلة ثم قال: "ليتَ رجلًا صالحًا يحرسُني الليلة" قالت: فبينما نحن كذلك إذ سمعنا صوت السِّلاح، فقال رسول اللّه:"مَنْ هذا"؟ قال: أنا سعد بن أبي وقاص جئت أحرسُكَ يا رسول الله، قالت: فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سمعتُ غَطِيطه
(7)
.
أخرجاه
(8)
من حديث يحيى بن سعيد.
وفي رواية: فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نام.
وقال أحمد: حَدَّثَنَا قتيبة، حَدَّثَنَا رِشْدين بن سعد، عن الحجّاج
(9)
بن شدّاد، عن أبي صالح
(1)
سقط من الأصول، وهو في مسند أحمد (1/ 171) وإسناده صحيح، وهو في البخاري رقم (4054) ومسلم رقم (2306).
(2)
سقط من المطبوع.
(3)
تحرف في المطبوع إلى: عبد العزيز.
(4)
مغازي الواقدي (1/ 78).
(5)
في المطبوع بن، وهو خطأ.
(6)
في الأصل: عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود، وهو خطأ.
(7)
"الغطيط": صوت النائم المرتفع.
(8)
البخاري (2885) في الجهاد: باب الحراسة في الغزو، ومسلم (2410) في الفضائل: باب فضائل سعد.
(9)
في المطبوع: يحيى بن الحجاج، خطأ.
الغِفَاري، عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"أولُ مَنْ يدخلُ مِنْ هذا الباب رجلٌ منْ أهلِ الجنَّة" فدخل سعد بن أبي وقّاص
(1)
.
وقال أبو يعلى: حدّثنا محمد بن المثنى [حَدَّثَنَا عبد اللّه]
(2)
بن قيس الرَّقاشي الخرّاز بصري، حدّثنا أيوب، عن نافع، عن ابن عمر قال: كنّا جلوسًا عند رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال: "يدخلُ عليكم مِنْ هذا الباب رجلٌ من أهل الجنَّة"، قال: فليس منا أحد إلا وهو يتمنَّى أن يكون من أهل بيته، فإذا سعدُ بن أبي وقّاص قد طلَع
(3)
.
وقال حَرْملة: عن ابن وَهْب، أخبرني حَيْوة، أخبرني عقيل، عن ابن شِهاب، حدّثني مَنْ لا أتَّهم، عن أنس بن مالك قال: بينا نحن جلوسٌ عند رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال: "يطلُعُ الآنَ عليكُم رجلٌ من أهل الجنَّة" فاطَّلع سعد بن أبي وقّاص، حتى إذا كان الغد قال: رسول اللّه صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، قال: فاطَّلع سعد بن أبي وقّاص على ترتيبه الأول. حتى إذا كان الغد قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، قال: فطلَع على ترتيبه الأول. فلمّا قام رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ثار عبد اللّه بن عمرو بن العاص [إلى سعد]
(4)
فقال: إني غاضبتُ أبي فأقسمتُ ألَّا أدخلَ عليه ثلاث ليال، فإن رأيتَ أن تُؤويني إليكَ حتى تنحلَّ يميني فعلت. قال أنس: فزعم عبد اللّه بن عمرو أنه بات معه ليلة حتى إذا كان مع الفجر فلم يقم تلك الليلة شيئًا، غير أنه كان إذا انقلبَ على فراشه ذكر الله وكبَّره حتى يقوم مع الفجر، فإذا صلَّى المكتوبة أسبغ الوضوء وأتمَّه ثم يصبح مفطرًا. قال عبد اللّه بن عمرو: فرمقتُه ثلاث ليال وأيامَهُنَّ لا يزيد على ذلك، غير أني لم أسمعه يقول إلَّا خيرًا، فلمّا مضت الليالي الثلاث وكدتُ أحتقر عمله، قلتُ: إنه لم يكن بيني وبين أبي غضبٌ ولا هجر، ولكني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك يقول ثلاث مرات في ثلاثة مجالس:"يطلُع عليكم رجلٌ من أهلِ الجنَة" فاطَّلعتَ أنت، فأردتُ أن آوي إليك حتى أنظرَ ما عملك فأَقتدي بكَ لأنال ما نلتَ، فلم أرَ لك كثير عمل، فما الذي بلغ بك ما قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ما هو إلّا ما رأيتَ. قال: فانصرفتُ، فدعاني حين ولَّيت، فقال: ما هو إلَّا ما رأيتَ غيرَ أني لا أجد في نفسي سوءًا لأحد من المسلمين، ولا أنوي له شرًّا، ولا أقوله. قال: قلت: هذه التي بلغتْ بك وهي التي لا أُطيق
(5)
.
(1)
رواه أحمد (2/ 222) وإسناده ضعيف لضعف رشدين بن سعد، وبشارة سعد بن أبي وقاص بالجنة ثابتة في أحاديث صحيحة، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة.
(2)
سقط من (أ) و (ب).
(3)
قال العقيلي في الضعفاء: عبد الله بن قيس الرقاشي، عن أيوب حديثه غير محفوظ، ولا يتابع عليه، ولا يعرف إلا به. ثم أورد حديثه هذا
…
(4)
من (أ) فقط.
(5)
وإسناده ضعيف، وهو في مسند أحمد (3/ 166) من حديث أنس أيضًا، وفيه أن الرجل من الأنصار وسعد ليس أنصاريًّا، بل هو قرشيّ، والحديث صحيح في مسند أحمد، وهو بمعناه.
هكذا رواه صالح المُرِّي، عن عمرو بن دينار - مولى [آل]
(1)
الزبير - عن سالم، عن أبيه، فذكر مثلَه من رواية أنس بن مالك.
وثبت في "صحيح مسلم"
(2)
من طريق سفيان الثَّوري، عن المِقْدام بن شُريح، عن أبيه، عن سعدٍ في قوله تعالى:{وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: 52] نزلت في ستة أنا وابن مسعود منهم.
وفي رواية: أنزل اللّه فيّ: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا} [لقمان: 15] وذلك أنه لما أسلم امتنعتْ أمُّه من الطعام والشراب أيامًا، فقال لها سعد: تعلمين والله لو كانت لك مئة نفس فخرجتْ نفسًا نفسًا ما تركتُ ديني هذا لشيء، إن شئتِ فكُلي واشرَبي، وإن شئتِ فلا تأكُلي ولا تَشْربي [فلمّا رأتْ ذلك أكلتْ]
(3)
فنزلت هذه الآية.
وأما حديث الشهادة للعشرة بالجنَّة فثبت في الصحيح
(4)
من حديث سعيد بن زيد
(5)
.
وجاء من حديث سُهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة في قصة حِرَاء
(6)
ذكرُ سعد بن أبي وقّاص منهم.
وقال هشيم وغير واحد: عن مجالد، عن الشَّعبي، عن جابر قال: كنا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فأقبل سعد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هذا خالي، فَلْيُرِني امرُؤٌ خالَه". رواه الترمذي
(7)
.
وقال الطبراني
(8)
: حدّثنا الحسين بن إسحاق التُّسْتَري، حدّثنا عبد الوهّاب بن الضحّاك، حَدَّثَنَا إسماعيل بن عيّاش، عن صفوان بن عمرو، عن ماعز التَّميمي، عن جابر قال: كنا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذ أقبل سعد، فقال:"هذا خالي".
وثبت في "الصحيحين" من حديث مالك وغيره، عن الزُّهري، عن عامر بن سعد، عن أبيه "أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءه يعودُه عام حجَّة الوداع من وجع اشتدَّ به. فقلت: يا رسول اللّه! إني ذو مال
(1)
سقطت من ط.
(2)
رقم (2413) في الفضائل: باب فضائل سعد.
(3)
ليس في ط.
(4)
كأنه يريد: في الحديث الصحيح، وليس كتابًا بعينه، فهو ليس في الصحيحين، كما سيأتي في تخريجه.
(5)
رواه أحمد (1/ 188) وأبو داود رقم (4649) والترمذي رقم (3757) وهو حديث صحيح.
(6)
أخرجه مسلم (2417) من طريق يحيى بن سعيد، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة: أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان على جبل حراء، فتحرك، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم:"اسكن حراء، فما عليك إلا نبي أو صدّيق أو شهيد" وعليه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص، رضي الله عنهم.
(7)
برقم (3752) في المناقب: باب مناقب سعد. وقوله: "هذا خالي" لأن أم النبي صلى الله عليه وسلم زهرية، وهي آمنة بنت وهب بن عبد مناف، ابنة عم أبي وقاص، وهو حديث صحيح.
(8)
في معجمه الكبير برقم (323).
ولا يَرثني إلا ابنة، أفأتصدَّق بثلُثي مالي؟ قال: لا، قلت: فالشطر يا رسول اللّه؟ قال: لا، قلت: فالثلث؟ قال: الثلث والثلث كثير، إنكَ أن تَذَر ورثتَكَ أغنياء خيرٌ من أن تذرَهم عالةً يتكفَّفون الناس، وإنك لن تُنفق نفقةً تبتغي بها وجه اللّه إلّا أُجرت بها، حتى ما تجعلُ في في امرأتِك - وفي رواية: حتى اللقمة تضعُها في فم امرأتك - قلتُ: يا رسول اللّه أُخلَّف بعد أصحابي؟ فقال: إنك لن تخلَّف فتعملَ عملًا تبتغي به وجهَ الله إلّا ازددتَ به درجةً ورِفعَة، ولعلَّك أن تخلَّف حتى يَنتفِعَ بك أقوام ويُضَرَّ بك آخرون. ثم قال: اللهمَّ أَمضِ لأصحابي هجرتَهم ولا تردَّهم على أعقابهم، لكن البائسُ سعدُ بن خَوْلَة" يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أنْ مات بمكة
(1)
.
ورواه أحمد
(2)
، عن يحيى بن سعيد، عن الجَعْد بن أوس، عن عائشة بنت سعد، عن أبيها فذكر نحوه، وفيه: قال: "فوضعَ يدَهُ على جبهتِه فمسحَ وجهَه وصدرَه وبطنَه وقال: اللهمَّ اشْفِ سعدًا وأتمَّ لهُ هجرتَه". قال سعد: فما زلتُ يخيَّل إليَّ أني أجدُ برد يده على كبدي حتى السّاعة.
وقال ابن وهب: حدّثني موسى بن عُلَيّ بن رباح، عن أبيه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد سعدًا فقال:"اللهمَّ أَذهِبْ عنه الباس، إلهَ الناس مَلِك الناس، أنتَ الشّافي لا شافيَ له إلَّا أنت، بسم الله أَرْقِيكَ من كلِّ شيء يُؤْذيك، من حَسَدٍ وعَيْن، اللهمَّ أَصِحَّ قلبَهُ وجسمَه، واكشِفْ سَقَمَه، وأَجِبْ دَعْوَتَه".
وقال ابن وهب: أخبرني عمرو، عن بكر بن الأَشَجّ قال: سألت عامر بن سعد عن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد: "وعسى أَنْ تبقى ينتفع بكَ أقوام ويُضَرّ بك آخرون" فقال: أُمِّر سعدٌ على العراق، فقتل قومًا على الرِّدَّة فضرَّهم، واستتاب قومًا كانوا سجعُوا
(3)
سجع مُسَيْلمة الكذّاب، فتابوا، فانتفعوا به.
وقال الإمام أحمد
(4)
: حدّثنا أبو المغيرة، حَدَّثَنَا مُعان
(5)
بن رِفاعة، حدّثني علي بن يزيد
(6)
، عن القاسم أبي عبد الرحمن، عن أبي أُمامة قال: جلسنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكَّرنا ورقَّقَنا، فبكى سعد بن أبي وقّاص فأكثر البكاء، وقال: يا ليتني متّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:["يا سعد! أعندي تتمنّى الموت"؟ فردد ذلك ثلاث مرات، ثم قال]
(7)
"يا سعد! إنْ كنتَ للجنَّة خُلقتَ، فما طالَ من عُمركَ أو حسُنَ من عملكَ فهو خيرٌ لك".
(1)
رواه البخاري رقم (1295) ومسلم رقم (1628) وقوله: يرثي له رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن مات بمكة، هو من كلام الزهري كما ذكر الحافظ في الفتح.
(2)
في مسنده (1/ 171) وهو حديث صحيح.
(3)
سجعوا سجع فلان: أشبهوه وساروا على قصده.
(4)
في مسنده (5/ 267) وإسناده ضعيف.
(5)
تحرف في ط إلى: معاذ.
(6)
تحرف في ط إلى: زيد.
(7)
ما بين حاصرتين سقط من الأصول، واستدركته من المسند.
وقال موسى بن عقبة وغيره: عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس عن سعد: أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: "اللهمَّ سَدِّدْ رميتَه، وأَجِبْ دَعْوَتَه".
ورواه سيار بن بشير، عن قيس، عن أبي بكر الصدِّيق قال: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول لسعد: "اللهمَّ سَدِّدْ سهمَه، وأَجِبْ دعوتَه، وحبِّبْهُ إلى عبادك".
وروي من حديث ابن عباس - وفي رواية: محمد بن عائذ الدمشقي - عن الهيثم بن حميد، عن مطعم، عن المقدام وغيره: أن سعدًا قال: يا رسول الله! ادع الله أن يجيب دعوتي، فقال:"إنَّ اللهَ لا يستجيبُ دعوةَ عبدٍ حتى يطيبَ مطعَمَه" فقال: يا رسول الله! ادع الله أن يطيب مطعمي، فدعا له. قالوا: فكان سعد يتورَّع من السنبلة يجدها في زرعه، فيردّها من حيث أخذت.
وقد كان سعد مجاب الدعوة، لا يكاد يدعو بدعاء إلا استجيب له، فمن أشهر ذلك ما ثبت في "الصحيحين" من طريق عبد الملك بن عُمير، عن جابر بن سَمُرة
(1)
: أنَّ أهل الكوفة شكَوا سعدًا إلى عمر في كلِّ شيء حتى قالوا: لا يحسن يصلِّي، فقال سعد: أما إني لا آلو أن أصلِّي بهم صلاة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أُطيل في الأُولَيين وأَحذف [في]
(2)
الأُخْرَيين، فقال عمر: ذاك الظنُّ بكَ يا أبا إسحاق
(3)
.
وكان قد بعث مَنْ يسأل عنه بمحالِّ الكوفة، فجلعوا لا يسألون أهل مسجد إلَّا أثنَوا خيرًا، حتى مرُّوا بمسجد لبني عبس، فقام رجل منهم يقال له أبو سعدة أسامة بن قَتادة فقال: إن سعدًا كان لا يسير في السَّريَّة، ولا يقسم بالسَّويَّة، ولا يعدل في القضيَّة. فبلغ سعدًا قولُه، فقال: اللهمَّ إن كان عبدُك هذا قام مقام رياء وسمعة فأَطلْ عمرَه، وأَدم فقرَه، وأَعم بصرَه، وعرِّضه للفتن. قال: فأنا رأيته بعد ذلك شيخًا كبيرًا قد سقطت حاجباه على عينيه، يقف في الطريق فيغمز الجواري، فيقال له في ذلك، فيقول: شيخ مفتونٌ أصابته دعوةُ سعد، وفي رواية غريبة: أنه أدرك فتنة المختار بن أبي عُبيد، فقتل فيها
(4)
.
وقال الطبراني
(5)
: حَدَّثَنَا يوسف القاضي، حَدَّثَنَا عمرو بن مرزوق، حدّثنا شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن سعيد بن المسيِّب قال: خرجتْ جاريةٌ لسعد يقال لها زبراء، وعليها قميص جديد،
(1)
تحرفت في المطبوع إلى: سلمة.
(2)
سقطت من المطبوع. وقوله: أحذف في الأخريين يعني: أقصرهما عن الأوليين، لا أنه يخل بالقراءة ويحذفها كلها.
(3)
أخرجه أحمد في مسنده (1/ 176، 179، 180) والبخاري (770) باب يطوِّل في الأوليين ويحذف في الأخريين، ومسلم (453) في الصلاة: باب القراءة في الظهر والعصر.
(4)
سير أعلام النبلاء (1/ 113 - 114).
(5)
في الكبير برقم (309).
فكشفها الريح، فشدَّ عليها عمر بالدِّرَّة، وجاء سعد ليمنعَه، فتناوله عمر بالدِّرَّة، فذهب سعد يدعو على عمر، فناوله الدِّرَّة وقال: اقتصَّ مني، فعفا عن عمر.
وروي أيضًا: أنه كان بين سعد وابن مسعود كلام، فهمَّ سعدٌ أن يدعوَ عليه، فخاف ابن مسعود وجعل يشتدُّ في الهرب.
وقال سفيان بن عُيينة: لمّا كان يوم القادسيَّة كان سعد على الناس، وقد أصابته جراح فلم يشهد يوم الفتح - يعني: فتح القادسيَّة - فقال رجل من بَجِيلَة:
أَلمْ تَرَ أنَّ اللهَ أظهرَ دِينَهُ
…
وسعدٌ ببابِ القادسيَّة مُعْصَمُ
فأُبْنا وقد آمَتْ نسَاءٌ كثيرةٌ
…
ونِسْوةُ سعدٍ ليسَ فيهنَّ أَيِّمُ
(1)
فقال سعد: اللهمَّ اكفنا يدَهُ ولسانَه، فجاء سهمُ غَرب
(2)
، فخرسَ ويبستْ يداه جميعًا.
وقد أسند زياد البكّائي وسيف بن عمر، عن عبد الملك بن عُمير، عن قَبيصة بن جابر، عن ابن عمر
(3)
.. فذكر مثله، وفيه: ثم خرج سعد فأرى القوم ما به من القروح في ظهره ليعذر إليهم.
وقال هشيم: عن أبي بلح، عن مصعب بن سعد أن رجلًا نال من علي، فنهاه سعد، فلم ينته، فقال سعد: أدعو عليك، فلم ينته، فدعا اللّه عليه [فما برح]
(4)
حتى جاء بعير نادٌّ
(5)
فتخبَّطه.
وجاء من وجه آخر: عن عامر بن سعد: أنَّ سعدًا رأى جماعة عكوفًا على رجل، فأدخل رأسه من بين اثنين، فإذا هو يسبُّ عليًا وطلحة والزبير، فنهاه عن ذلك، فلم ينته، فقال: أدعو عليك، فقال الرجل: تتهدَّدني كأنك نبيّ؟! فانصرف عنه سعد، فدخل دار آل فلان، فتوضأ وصلَّى ركعتين، ثم رفع يديه فقال: اللهمَّ إن كنتَ تعلم أن هذا الرجل قد سبَّ أقوامًا قد سبقت لهم منك سابقة الحسنى، وأنه قد أسخطك سبُّه إياهم، فاجعلْه اليوم آيةً وعبرة. قال: فخرجتْ بُخْتيَّة
(6)
نادَّة من دار آل فلان لا يردُّها شيء حتى دخلتْ بين أضعاف الناس، فافترق الناس عنها، فأخذته بين قوائمها، فلم تزل تتخبَّطه حتى مات. قال: فلقد رأيت الناس يشتدُّون وراء سعد يقولون: استجاب الله دعاءك يا أبا إسحاق.
(1)
البيتان في العقد الفريد (1/ 44) وتاريخ ابن عساكر، مختصره (9/ 264) والكامل لابن الأثير (2/ 469) وسير أعلام النبلاء (1/ 115).
(2)
"سهم غرب": أي لا يعرف راميه.
(3)
هكذا في الأصول، وكذلك في السير (1/ 115).
(4)
ليس في ط.
(5)
"نادّ": شارد.
(6)
"البختية": الناقة.
ورواه حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيِّب .. فذكر نحوه.
وقال ابن أبي الدنيا: حدّثني الحسن بن داود بن محمد بن المنكدر القرشي، حدّثنا عبد الرزّاق، عن أبيه، عن مِينا
(1)
- مولى عبد الرحمن بن عوف -: أنَّ امرأة كانت تطَّلع على سعد، فنهاها، فلم تنته، فاطَّلعتْ يومًا وهو يتوضأ، فقال: شاهَ وجهُكِ، فعاد وجهُها في قفاها.
وقال كثير النَّوّاء: عن عبد الله بن بديل قال: دخل سعد على معاوية، فقال له: ما لكَ لم تقاتلْ معنا؟ فقال: إني مرَّت بي ريح مظلمة فقلت: إخْ إخْ
(2)
، فأنختُ راحلتي حتى انجلتْ عني، ثم عرفتُ الطريق فسرت، فقال معاوية: إنه ليس في كتاب اللّه إخْ إخْ، ولكن قال تعالى:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] فواللّه ما كنتَ مع الباغية على العادلة، ولا مِع العادلة على الباغية. قال سعد: ما كنت لأقاتل رجلًا قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنتَ منِّي بمنزلةِ هارونَ من موسى غيرَ أنَّهُ لا نبيَّ بعدي". فقال معاوية: مَنْ سمع هذا معك؟ فقال: فلان وفلان وأمُّ سلمة. فقال معاوية: أما إنِّي لو سمعتُه منه صلى الله عليه وسلم لما قاتلتُ عليًا. وفي رواية من وجه آخر: أن هذا الكلام كان بينهما وهما بالمدينة في حجَّة حجَّها معاوية، وأنهما قاما إلى أمِّ سلمة، فسألاها، فحدَّثتهما بما حدَّث به سعد، فقال معاوية: لو سمعتُ هذا قبلَ هذا اليوم لكنتُ خادمًا لعلي حتى يموت أو أموت.
وفي إسناد هذا ضعف
(3)
، واللّه أعلم.
وقد روي عن سعد: أنه سمع رجلًا يتكلَّم في علي وفي خالد، فقال: إنَّه لم يبلغ ما بينَنا إلى ديننا.
وقال محمد بن سِيرين: طاف سعد على تسع جوارٍ في ليلة، فلما انتهى إلى العاشرة أخذه النوم، فاستحيتْ أن توقظه.
ومن كلامه الحسن أنه قال لابنه مصعب: يا بُنيَّ إذا طلبتَ شيئًا فاطلبه بالقناعة، فإنه مَنْ لا قناعةَ له لم يُغنه المال.
وقال حماد بن سلمة: عن سِمَاك بن حرب، عن مصعب بن سعد قال: كان رأس أبي في حَجْري وهو يقضي، فبكيت، فقال: ما يبكيك يا بُنيّ؟ واللّه إنَّ اللّه لا يعذِّبني أبدًا، وإني لمن أهل الجنَّة، إنَّ
(1)
هو مينا بن أبي مينا الزهري، متروك، قال ابن حبان في المجروحين (3/ 22): منكر الحديث
…
وجب التنكب عن روايته. مترجم أيضًا في ميزان الاعتدال للذهبي (4/ 237).
(2)
"إخ": تقال لزجر البعير ليبرك.
(3)
لكن حديث: "أنت مني بمنزلة هارون
…
" حديث صحيح، أخرجه البخاري رقم (4416) في المغازي: باب غزوة تبوك، وفي فضائل الصحابة: باب مناقب علي بن أبي طالب، ومسلم (2404) في فضائل الصحابة أيضًا.
الله يدين للمؤمنين بحسناتهم، فاعملوا للّه خالصًا. وأمّا الكفار فيخفّف عنهم بحسناتهم، فإذا نَفِدَت قال: ليطلُبْ كل عامل ثواب عمله ممّن عمل له
(1)
.
وقال الزهري: لما حضرتْ سعدًا الوفاة دعا بخَلَقِ جُبَّة فقال: كفِّنوني في هذه فإني لقيتُ فيها المشركين يوم بدر، وإنَّما خبَّأتها لهذا اليوم.
[وقال سعد: كنّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة يُصيبنا شدَّة العيش، فخرجتُ ليلةً أبول، فإذا شيء يُقَعْقع تحت بولي، فإذا قطعة جلد بعير، فأخذتُها فغسلتُها ثم أحرقتُها، ثم وضعتُها بين حَجَرين، فسحقتُها ثم استففتُها، وشربتُ عليها من الماء فقويت عليها ثلاثًا]
(2)
.
وكانت وفاة سعد بالعَقيق خارج المدينة، فحمل إلى المدينة على أعناق الرجال، فصلَّى عليه مروان، وصلَّى بصلاته عليه أمهات المؤمنين الباقيات الصالحات، ودُفن بالبقيع، وكان ذلك في هذه السنة - سنة خمس وخمسين - على المشهور الذي عليه الجمهور، وقد جاوز الثمانين على الصحيح. قال علي بن المديني: وهو آخر العشرة وفاة. وقال غيره: كان آخر المهاجرين السابقين الأوَّلين وفاة، رضي الله عنهم أجمعين. وقال الهيثم بن عدي: مات سنة خمسين. وقال أبو معشر وأبو نعيم وقَعْنَب (3) بن المحرَّر: توفي سعد سنة ثمان وخمسين، وزاد قَعْنَب
(3)
: وفيها توفي الحسن بن علي وعائشة وأمُّ سلَمة. والصحيح الأول - سنة خمس وخمسين.
قالوا: وكان سعدٌ قصيرًا، غليظًا، شَثْن
(4)
الكفَّين، أفطس، أشعر الجسد، يخضِبُ بالسَّواد
(5)
. وكان ميراثُه مئتي ألفٍ وخمسين ألفًا.
فَضَالة بن عُبيد الأنصاريُّ الأَوْسي
(6)
: أول مشاهده أُحد، وشهد بيعة الرّضوان، ودخل الشام، وتولَّى القضاء بدمشق في أيام معاوية بعد أبي الدرداء.
(1)
طبقات ابن سعد (3/ 147).
(2)
ما بين حاصرتين من (أ) فقط. وقد أورده أبو نعيم في الحلية.
(3)
تحرف في الأصول إلى: مغيث. والخبر في إكمال ابن ماكولا (7/ 218) وسير أعلام النبلاء (1/ 124) وقد تحرف فيه المحرر إلى المحرز، فيتنبه لذلك.
(4)
"الشثن": الغليظ.
(5)
ورواه الحاكم (3/ 496) وإسناده ضعيف.
(6)
طبقات ابن سعد (7/ 401) طبقات خليفة (ت 546) مسند أحمد (6/ 18) المحبر (294) تاريخ البخاري الكبير (7/ 124) التاريخ الصغير (1/ 119) المعرفة والتاريخ (1/ 341) أخبار القضاة (3/ 200) الجرح والتعديل (7/ 77) مشاهير علماء الأمصار (ت 339) مستدرك الحاكم (3/ 473) حلية الأولياء (2/ 17) الاستيعاب (3/ 1262) تاريخ ابن عساكر (14/ 111/ ب) أسد الغابة (4/ 363) تهذيب الأسماء واللغات (1/ 2/ 50) مختصر تاريخ دمشق (20/ 270) تهذيب الكمال (ورقة 1098) تاريخ الإسلام (2/ 311) العبر (1/ 58) سير أعلام النبلاء (3/ 113) الكاشف (2/ 327) تذهب التهذيب (3/ 136/ ب) الإصابة (3/ 206) تهذيب التهذيب (8/ 267) خلاصة الخزرجي (308) شذرات الذهب (1/ 252).
قال أبو عبيد: مات سنة ثلاث وخمسين. وقال غيره: سنة سبع وستين. وقال ابن الجوزي في "المنتظم": توفي في هذه السنة، واللّه أعلم.
قُثَم بن العبّاس بن عبد المطَّلب
(1)
: كان أشبَهَ الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم.
تولّى نيابة المدينة في أيام علي. وشهد فتح سَمَرْقند [ممّا وراء النهر]
(2)
فاستشُهْد بها، رحمه الله.
كعبُ بنُ عَمْرو
(3)
: أبو اليَسَر الأنصاري السَّلَمي. شهد العقبة وبدرًا، وأَسَرَ يومئذ العباس بن عبد المطَّلب، وشهد ما بعد ذلك من المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال أبو حاتم
(4)
وغيره: مات سنة خمس وخمسين. وزاد غيره: وهو آخر من مات من أهل بدر.
[قال أبو اليَسَر: أشهدُ لسمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا أو وضَعَ له أظلَّه اللهُ يومَ لا ظلَّ إلَّا ظلُّه"]
(5)
.
ثم دخلت سنة ست وخمسين
ففيها شتا جُنادة بن أبي أميّة بأرض الروم. وقيل: عبد الرحمن بن مسعود.
(1)
طبقات ابن سعد (7/ 367) نسب قريش (27) طبقات خليفة (ت 1973) المحبر (17، 46، 107) تاريخ البخاري الكبير (7/ 194) التاريخ الصغير (1/ 142) أنساب الأشراف (3/ 65) الجرح والتعديل (7/ 145) مشاهير علماء الأمصار (19، 417) جمهرة أنساب العرب (19) الاستيعاب (3/ 1304) الجمع بين رجال الصحيحين (2/ 427) أسد الغابة (4/ 392) تهذيب الأسماء واللغات (1/ 2/ 59) تهذيب الكمال (ورقة 1126) تاريخ الإسلام (2/ 311) تذهيب التهذيب (3/ 157/ ب) العبر (1/ 61) سير أعلام النبلاء (3/ 440) مرآة الجنان (1/ 138) العقد الثمين (7/ 67) الإصابة (3/ 226) تهذيب التهذيب (8/ 361) خلاصة الخزرجي (318) شذرات الذهب (1/ 257).
(2)
من (أ) فقط.
(3)
طبقات ابن سعد (3/ 581) طبقات خليفة (102) تاريخ خليفة (223) مسند أحمد (3/ 427) تاريخ البخاري الكبير (7/ 220) المعارف (327) المعرفة والتاريخ (1/ 319) الجرح والتعديل (7/ 160) مشاهير علماء الأمصار (ت 69) مستدرك الحاكم (3/ 505) الاستبصار (163) الاستيعاب (3/ 1322) تاريخ ابن عساكر (14/ 277/ ب) أسد الغابة (4/ 484 و 6/ 332) تهذيب الكمال (ورقة 1147) سير أعلام النبلاء (2/ 537) تاريخ الإسلام (2/ 339) العبر (1/ 61) الكاشف (3/ 8) مجمع الزوائد (9/ 316) تهذيب التهذيب (8/ 437) الإصابة (8/ 301) خلاصة الخزرجي (321) شذرات الذهب (1/ 256).
(4)
الجرح والتعديل (7/ الترجمة 901).
(5)
ما بين الحاصرتين من (أ) فقط. وهو قطعة من حديث طويل أخرجه مسلم (3006) في الزهد: باب حديث جابر الطويل وقصة أبي اليسر.
وقيل: فيها غزا في البحر يزيد بن شجرة
(1)
، وفي البرِّ عِياض بن الحارث.
وفيها اعتمر معاوية في رجب، وحج بالناس الوليد بن عتبة بن أبي سفيان.
وفيها ولَّى معاويةُ سعيدَ بن عثمان بلاد خراسان، وعزل عنها عبيد اللّه بن زياد، فسار سعيد إلى خراسان، والتقى مع الترك عند صُغد سَمَرْقند، فقتل منهم خلقًا كثيرًا واستشهد معه جماعة منهم - فيما قيل - قُثَم بن العبّاس بن عبد المطلب.
[قال ابن جرير: سأل سعيدُ بن عثمان بن عفّان معاوية أن يولِّيه خراسان، فقال: إنَّ بها عبيد اللّه بن زياد، فقال سعيد لمعاوية: أما لقد اصطنعك أبي ورقّاك حتى بلغتَ باصطناعه المدى الذي لا يُجارى ولا يُسامى، فما شكرتَ بلاءه، ولا جازيتَه بآلائه، وقدَّمتَ عليَّ هذا - يعني: يزيد بن معاوية - وبايعتَ له، وواللّه لأنا خير منه أبًا وأمًّا ونفسًا. فقال له معاوية: أمَّا بلاء أبيك عندي فقد يحقُّ عليَّ الجزاء به، وقد كان من شكري لذلك أنِّي طلبتُ بدمه حتى تكشَّفت الأمور، ولستُ بلائم لنفسي في التَّشمير. وأمّا فضل أبيك على أبيه، فأبوكَ خيرٌ مني وأقربُ برسول اللّه صلى الله عليه وسلم. وأمّا فضل أمِّك على أمِّه فما لا يُنكر، فإنَّ امرأةً من قريش خيرٌ من امرأة من كلب. وأمّا فضلك عليه، فوالله ما أحبُّ أنَّ الغوطةَ دُحِسَتْ ليزيد رجالًا مثلك - يعني أنَّ الغوطة لو مُلِئت رجالًا مثل سعيد بن عثمان كان يزيد خيرًا وأحبَّ إليَّ منهم. فقال له يزيد: يا أمير المؤمنين! ابنُ عمِّك وأنت أحقُّ مَنْ نظر في أمره، وقد عَتَب عليك فيَّ فأَعْتبه. فولّاه حرب خراسان، فأتى سَمَرْقند، فخرج إليه أهل الصُّغد من الترك، فقاتلهم وهزمهم وحصرهم في مدينتهم، فصالحوه وأعطَوْه رُهُنًا خمسين غلامًا يكونون في يده من أبناء عظمائهم، فأقام بالتِّرمذ ولم يفِ لهم، وجاء بالغلمان الرُّهُن معه إلى المدينة
(2)
.
وفيها دعا معاويةُ الناس إلى البيعة ليزيدَ ولده أن يكون وليَّ عهده من بعده، وكان قد عزم قبل ذلك على هذا في حياة المغيرة بن شعبة، فروى ابن جرير
(3)
من طريق الشَّعبي: أنَّ المغيرة كان قد قدم على معاوية واستعفاه من إمرة الكوفة، فأعفاه لكبره وضعفه، وعزم على توليتها سعيد بن العاص، فلمّا بلغ ذلك المغيرة كأنه ندم، فجاء إلى يزيد بن معاوية، فأشار عليه أن يسأل من أبيه أن يكون وليَّ العهد من بعده، فسأل يزيدُ ذلك من أبيه، فقال: مَنْ أمرك بهذا؟ قال: المغيرة، فأَعجب ذلك معاويةَ من المغيرة، وردَّه إلى عمل الكوفة، وأمره أن يسعى في ذلك، فعند ذلك سعى المغيرة في توطيد ذلك، وكتب معاوية إلى زياد يَسْتشيره في ذلك، فكره زياد ذلك لما يعلم من لعب يزيد وإقباله على اللعب
(1)
تحرفت في المطبوع إلى: سمرة.
(2)
الخبر بكامله سقط من ب، وهو في تاريخ الطبري (5/ 305 - 306).
(3)
في تاريخه (5/ 301) وما بعدها.
والصَّيد، فبعث إليه من يَثْني رأيه عن ذلك وهو عبيد بن كعب النُّميري -وكان صاحبًا أكيدًا لزياد- فسار إلى دمشق، فاجتمع بيزيد أولًا، فكلَّمه عن زياد، وأشار عليه بألَّا يطلب ذلك [ولا يقبله]
(1)
فإنَّ تركَهُ خير له من السَّعي فيه، فانزجر يزيدُ عما يريد من ذلك، ثم اجتمع بأبيه واتَّفقا على ترك ذلك في هذا الوقت، فلمّا مات زياد وكانت هذه السنة شرَعَ معاوية في نظم ذلك ليزيد والدعاء إليه، وعقد البيعة لولده يزيد، وكتب إلى الآفاق بذلك، فبايع له الناس في سائر الأقاليم إلَّا عبد الرحمن بن أبي بكر، وعبد اللَّه ابن عمر، والحسين بن علي، وعبد اللَّه بن الزبير، وابن عبّاس، فركب معاوية إلى مكة معتمرًا، فلما اجتاز بالمدينة -مرجعه من مكة- استدعى كل واحد من هؤلاء الخمسة فأَوعده وتهدَّده بانفراده، فكان من أشدهم عليه ردًّا وأجلدهم في الكلام عبد الرحمن بن أبي بكر الصدِّيق، وكان ألينَهم كلامًا عبد اللَّه بن عمر بن الخطاب، ثم خطب معاويةُ وهؤلاء الخمسة حضورٌ تحت منبره، وبايع الناس ليزيد وهم قعود، لم يواففوا ولم يُظهروا خلافًا لما تهدَّدهم وتوعَّدهم، فاتَّسَقت البيعة ليزيد في سائر البلاد، وقدمت الوفود من سائر الأقاليم إلى يزيد، فكان فيمن قدم الأحنفُ بن قيس، فأمره معاوية أن يحادث يزيد، فجلسا، ثم خرج الأحنف، فقال له معاوية: ماذا رأيتَ من ابن أخيك؟ فقال: إنا نخاف اللَّهَ إنْ كذَبْنا، ونخافكم إنْ صَدَقنا، وأنت أعلم به في ليله ونهاره، وسرِّه وعلانيته، ومدخله ومخرجه، وأنت أعلم بما أردت، وإنّما علينا أن نسمع ونطيع، وعليك أن تنصح للأمَّة.
وقد كان معاوية لمّا صالح الحسن بن علي عهد للحسن بالأمر من بعده، فلمّا مات الحسن قوي أمر يزيد عند معاوية، ورأى أنه لذلك أهل، وذاك من شدَّة محبة الوالد لولده، ولما كان يتوسَّم فيه من النَّجابة الدنيوية، وسيما أولاد الملوك ومعرفتهم بالحروب وترتيب الملك والقيام بأُبَّهته، وكان يظن أنه لا يقوم أحدٌ من أبناء الصحابة في هذا المعنى مقامَه، ولهذا قال لعبد اللَّه بن عمر فيما خاطبه به: إني خفتُ أن أذرَ الرعيَّة من بعدي كالغنم المطيرة ليس لها راع. فقال له ابن عمر: إذا بايعه الناس كلُّهم بايعتُه ولو كان عبدًا حبشيًّا مجدَّع الأطراف.
وقد عاتب معاويةَ في ولايته يزيدَ سعيدُ بنُ عثمان بن عفّان، وطلب منه أن يولِّيه مكانه -يعني مكان ابنه يزيد- وقال له [سعيد فيما قال: إنَّ أبي لم يزل معتنيًا بك حتى بلغتَ ذروة المجد والشرف، وقد قدَّمتَ ولدك عليَّ وأنا خير منه أبًا وأمًّا ونفسًا. فقال له: أمَّا ما ذكرتَ من إحسان أبيك إليَّ فإنه أمر لا يُنكر، وأمّا كون أبيك خيرًا من أبيه فحقّ، وأمك قرشيّة وأمه كلبيَّة فهي خير منها، وأما كونك خيرًا منه]
(2)
فواللَّه لو مُلئت إلي الغوطة رجالًا مثلك لكان يزيدُ أحبَّ إليَّ منكم كلكم.
(1)
من (أ) فقط.
(2)
ما بين حاصرتين ليس في أ.
وروينا عن معاوية أنه قال يومًا في خطبته: اللهمَّ إن كنتَ تعلم أني ولَّيته لأنه فيما أراه أهل لذلك فأَتِمَّ له ما ولَّيته، وإن كنتَ تعلم أني إنَّما ولَّيتُه لأني أحبُّه فلا تتمَّ له ما ولَّيته.
وذكر الحافظ ابن عساكر
(1)
: أن معاوية كان قد سَمَرَ ليلة، فتكلَّم أصحابه في المرأة التي يكون ولدها نجيبًا، فذكروا صفة المرأة التي يكون ولدها نجيبًا، فقال معاوية: وددتُ لو عرفت بامرأة تكون بهذه المثابة؟! فقال أحد جلسائه: قد وجدت ذلك يا أمير المؤمنين. قال: ومَن؟ قال: ابنتي يا أمير المؤمنين. فتزوَّجها معاوية، فولدت له يزيد بن معاوية، فجاء نجيبًا ذكيًّا حاذقًا. ثم خطب امرأة أخرى فحَظِيت عنده وولدت له غلامًا آخر، وهجر أمَّ يزيد فكانت عنده في جنب داره، فبينما هو في النظارة ومعه امرأته الأُخرى إذ نظر إلى أمِّ يزيد وهي تسرِّحُه، فقالت امرأته: قبَّحها اللَّه وقبَّح ما تسرِّح. فقال: ولمَ؟ فواللَّه إنَّ ولدها لأنجبُ من ولدك، وإن أحببتِ بيَّنتُ لكِ ذلك، ثم استدعى ولدها فقال له: إنَّ أمير المؤمنين قد عنَّ له أن يُطْلِق لك ما تتمنّاه عليه فاطلُب مني ما شئت. فقال: أسأل من أمير المؤمنين أن يُطْلِق لي كلابًا للصَّيد وخيلًا ورجالًا يكونون معي في الصَّيد. فقال معاوية: قد أمرنا لكَ بذلك. ثم استدعى يزيد فقال له كما قال لأخيه، فقال يزيد: أو يعفيني أمير المؤمنين في هذا الوقت عن هذا؟ فقال: لا بدَّ لك أن تسأل حاجتك، فقال: أسأل -وأطال اللَّه عمر أمير المؤمنين- أن أكون وليَّ عهده من بعده، فإنه بلغني أنَّ عدل يومٍ في الرعيَّة كعبادة خمسمئة عام. فقال: قد أجبتك إلى ذلك. ثم قال لامرأته: كيف رأيت؟ فعلمتْ وتحققتْ فضل يزيد على ولدها.
وقد ذكر ابن الجوزي في هذه السنة وفاة أمِّ حرَام بنت مِلْحان الأنصاريَّة امرأة عبادة بن الصامت، والصحيح الذي لم يذكر العلماء غيره أنها توفيت سنة سبع وعشرين [في خلافة عثمان، وكانت هي وزوجها]
(2)
مع معاوية حين دخل قبرص، وَقَصَتْها
(3)
بغلتُها فماتت هناك، وقبرها بقبرص. والعجب أن ابن الجوزي أورد في ترجمتها حديثها المخرَّج في "الصحيحين" في قيلولة النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها ورؤياه في منامه قومًا من أمته يركبون ثَبَج
(4)
البحر مثل الملوك على الأسرَّة غزاة في سبيل اللَّه، وأنها سألته أن يدعو لها أن تكون منهم، فدعا لها، ثم نام فرأى كذلك، فقالت: ادعُ اللَّه أن يجعلَني منهم، فقال:"لا، أنت من الأوَّلين"
(5)
وهم الذين فتحوا قبرص فكانت معهم وذلك في سنة سبع وعشرين، ولم تكن من الآخرين الذين غزوا بلاد الروم سنة إحدى وخمسين مع يزيد بن معاوية [ومعهم أبو أيوب، وقد توفي
(1)
مختصر تاريخ دمشق (28/ 20) ضمن ترجمة يزيد.
(2)
ما بين حاصرتين سقط من ب.
(3)
"وقصتها": أوقعتها وكسرت عنقها.
(4)
"ثبج البحر": وسطه ومعظمه.
(5)
رواه البخاري رقم (2788) ومسلم رقم (1912).
هناك، فقبره قريب من سور القُسْطنطينيَّة. وقد ذكرنا هذا مقررًا في دلائل النبوة]
(1)
.
ثم دخلت سنة سبع وخمسين
فيها كان مَشْتى عبد اللَّه بن قيس بأرض الروم.
قال الواقدي: وفي شوّالها عزل معاويةُ مروانَ بن الحكم عن المدينة، وولَّى عليها الوليد بن عُتبة بن أبي سفيان، وهو الذي حجَّ بالناس في هذه السنة، لأنه صارت إليه إمرة المدينة، وكان على الكوفة الضحّاك بن قيس، وعلى البصرة عبيد اللَّه بن زياد، وعلى خراسان سعيد بن عثمان.
قال ابن الجوزي: وفيها توفي عثمان بن حُنَيف الأنصاريُّ الأوسيّ، وهو أخو عبادة وسهل ابني حُنَيف.
بعثه عمر لمساحة خَرَاج السَّواد بالعراق، واستنابه عمر على الكوفة، فلمّا قدم طلحة والزبير صحبة عائشة، وامتنع من تسليم دار الإمارة نُتِفتْ لحيتُه وحواجبُه وأشفارُ عينيه ومُثِّل به، فلمّا جاء عليٌّ وسلَّمه البلد، قال له: يا أمير المؤمنين فارقتُك ذا لحيةٍ واجتمعتُ بك أمرد، فتبسَّم علي رضي الله عنه وقال: لك أجرُ ذلك عند اللَّه.
وله في "المسند" و"السنن" حديث الأعمى الذي سأل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يدعوَ له ليردَّ اللَّهُ عليه ضوء بصره، فردَّه اللَّه عليه
(2)
. وله حديث آخر عند النَّسائى
(3)
.
ولم أر أحدًا أرَّخ وفاته بهذه السنة سوى ابن الجوزي، واللَّه أعلم.
ثم دخلت سنة ثمان وخمسين
فيها غزا مالك بن عبد اللَّه الخَثْعَمي أرض الروم.
(1)
ما بين حاصرتين ورد بدلًا عنه في أ: وقد تقدم هذا كله. وترجمة أم حرام في سير أعلام النبلاء (2/ 316) والحديث مخرج هناك.
(2)
أخرجه أحمد في مسنده (4/ 138) والترمذي (3578) في الدعوات، والنسائي في الكبرى رقم (10495) وابن ماجه (1385) في إقامة الصلاة. . . كلهم من طريق عثمان بن عمر، عن شعبة، عن أبي جعفر المدني، عن عمارة بن خزيمة بن ثابت، عن عثمان بن حنيف:"أن رجلًا ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ادع اللَّه أن يعافيني، فقال: إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت فهو خير لك. قال: فادعه. قال: فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويدعو بهذا الدعاء: اللهم إني أسألك وأتوجه بنبيك محمد نبي الرحمة. يامحمد إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى. اللهم فشفعه فيّ". وقال الترمذي: حسن صحيح وهو كما قال.
(3)
رواه النسائي في الكبرى رقم (9765) هو في النهي عن التصاوير.
وفيها قُتل يزيد بن شَجَرة في البحر. [وقيل: بل غزا البحر وبلاد الروم جُنادة بن أبي أميَّة. وقيل: إنما شتا بأرض الروم عمرو بن يزيد الجُهَني.
قال أبو معشر والواقدي]
(1)
: وحجَّ بالناس فيها الوليد بن عُتبة بن أبي سفيان.
وفيها ولَّى معاويةُ الكوفة لعبد الرحمن بن عبد اللَّه بن عثمان بن ربيعة الثَّقفي -ابن أمِّ الحكم [وأمُّ الحكم هي أخت معاوية- وعزل عنها الضحّاك بن قيس، فولّى ابنُ أمِّ الحكم]
(2)
على شرطته زائدة بن قدامة. وخرجت الخوارج في أيام ابن أمِّ الحكم، وكان رئيسهم في هذه الوقعة حيان بن ظَبْيان السُّلمي، فبعث إليهم جيشًا فقتلوا الخوارج جميعًا. ثم إن ابن أمِّ الحكم أساء السيرة في أهل الكوفة، فأخرجوه من بين أظهرهم طريدًا، فرجع إلى خاله معاوية، فذكر له ذلك، فقال: لأولينَّك مصرًا خيرًا منها، فولّاه مصر، فلمّا سار إليها تلقّاه معاوية بن حُدَيج
(3)
على مرحلتين من مصر فقال له: ارجع إلى خالك معاوية، فلَعَمري لا ندعُك تدخلها فتسير فيها وفينا سيرتَك في إخواننا من أهل الكوفة، فرجع ابن أمِّ الحكم إلى معاوية، ولحقه معاوية بن حُدَيج وافدًا على معاوية، فلمّا دخل عليه وجد عنده أخته أمَّ الحكم -وهي أم عبد الرحمن الذي طرده أهل الكوفة وأهل مصر- فلمّا رآه معاوية قال: بخٍ بخٍ، هذا معاوية بن حُدَيج، فقالت أمُّ الحكم: لا مَرْحبًا به، تسمع بالمُعَيْديِّ خيرٌ من أنْ تراه
(4)
، فقال معاوية بن حُدَيج: على رِسْلِكِ يا أمَّ الحكم، أما واللَّه لقد تزوَّجتِ فما أكرمتِ، وولدتِ فما أَنجبتِ، أردتِ أن يليَ ابنُك الفاسق علينا فيسير فينا كما سار في إخواننا من أهل الكوفة، فما كان اللَّه ليريَه ذلك، ولو فعل لضربناه ضربًا يطأطِئ منه رأسه، وإن كره ذلك الجالس -يعني معاوية- فالتفت إليها معاوية فقال: كُفِّي.
قصَّة غريبَة
ذكرها ابن الجوزي في كتابه "المنتظم" بسنده. وهو أنَّ شابًا من بني عُذرة جرت له قصَّة مع ابن أتمَ الحكم [وهو والي على الكوفة في هذه السنة]
(5)
وملخَّصُها: أنَّ معاوية بينما هو يومًا على السِّماط
(6)
إذا شاب من بني عُذرة قد مثَل بين يديه، فأنشده شعرًا مضمونه التشؤق إلى زوجته سعاد، فاستدناه معاويةُ واستحكاه عن أمره، فقال: يا أمير المؤمنين! إني كنت مزوَّجًا بابنة عمٍّ لي، وكان لي إبل وغنم،
(1)
ما بين حاصرتين سقط من أ. والخبر في تاريخ الطبري (5/ 309).
(2)
ما بين حاصرتين سقط من ب.
(3)
تصحف في غير موضع من الأصول إلى: خديج.
(4)
قولها: تسمع بالمعيدي. . .، مثل يضرب لمن خبره خير من مرآه. مجمع الأمثال للميداني (1/ 129 - 131).
(5)
ما بين حاصرتين من ب فقط.
(6)
في مختصر تاريخ دمشق: فوقف بين السماطين. وسماط القوم: صفهم.
فأنفقتُ ذلك عليها، فلمّا قلَّ ما بيدي رغب عني أبوها وشكاني إلى عاملك بالكوفة -ابن أمِّ الحكم- وبلغه جمالها، فحبسَني في الحديد، وحملَني على أن طلَّقتُها، فلمّا انقضت عدَّتُها أعطاه عاملك عشرة آلاف درهم فزوَّجه بها، وقد أتيتك يا أمير المؤمنين وأنت غياث المحزون الملهوف المكروب، وسند المسلوب، فهل من فَرَج؟ ثم بكى وأنشأ يقول:
في القلب منِّيَ نارُ
…
والنَّارُ فيها شَرَارُ
والجسمُ منِّي نَحيلٌ
…
واللَّونُ فيه اصْفِرارُ
والعينُ تبكي بشَجْوٍ
…
فدَمْعُها مِدْرارُ
والحبُّ داءٌ عسِيرٌ
…
فيه الطَّبيبُ يَحَارُ
(1)
حُمِّلتُ فيه عَظيمًا
…
فما علَيهِ اصْطبارُ
فليسَ ليلي بلَيلٍ
…
ولا نهاري نهارُ
قال: فرقَّ له معاوية، وكتب إلى ابن أمِّ الحكم يؤنِّبُه على ذلك ويعيبه عليه ويأمره بطلاقها قولًا واحدًا، فلمّا جاءه كتاب معاوية تنفَّس الصُّعَداء وقال: وددتُ أن أمير المؤمنين خلَّى بيني وبينها سنة ثم عرضني على السَّيف، وجعل يؤامر نفسه على طلاقها فلا يقدر على ذلك ولا تُجيبه نفسه. وجعل الرسول الذي ورد عليه بالكتاب يستحثُّه، فطلَّقها وأخرجها عنه، وسيَّرها مع الوفد إلى معاوية. فلمّا وقفت بين يديه رأى منظرًا جميلًا، فلما استنطقها فإذا أفصح الناس، وأحلاهم كلامًا، وأكملهم جمالًا ودلالًا، فقال لابن عقَها: يا أعرابيّ! هل من سُلُوٍّ عنها بأفضل الرَّغبة؟ قال: نعم، إذا فرقتَ بين رأسي وجسدي، ثم أنشأ يقول:
لا تجعلَنِّيَ والأمثالُ تُضربُ بي
…
كالمُستغيثِ من الرَّمضاء بالنَّار
اردُدْ سُعادَ على حَيْرانَ مُكتئبٍ
…
يُمسي ويُصبحُ في همٍّ وتَذْكار
قد شَفَّهُ قلقٌ ما مثلُهُ قلقٌ
…
وأُسعر القلبُ منه أيّ إسْعار
واللَّهِ واللَّهِ لا أَنسى محبَّتَها
…
حتى أُغيَّبَ في رَمْسٍ وأحجار
كيف السُّلوُّ وقد هام الفؤادُ بها
…
وأصبحَ القلبُ عنها غيرَ صَبَّار
فقال معاوية: فإنا نخيِّرها بيني وبينك وبين ابن أمِّ الحكم، فأنشأتْ تقول:
هذا وإنْ أصبحَ في أَطْمار
(2)
…
وكان في نقصٍ من اليَسَار
(1)
ورد الشطر الأول من هذا البيت في النسخ المطبوعة كما يلي: والحب ذا عبر وهذا تحريف فظيع: إذ يختل المعنى ولا يستقيم الوزن.
(2)
تحرفت في المطبوع إلى: إطار. "والأطمار": جمع طمر، وهو الثوب الخلَق.
أَحبُّ عندي من أبي وجاري
…
وصاحبِ الدِّرهم والدِّينار
أخشى إذا غَدَرْتُ حرَّ النَّار
قال: فضحك معاوية وأمر له بعشرة آلاف درهم ومركب ووطاءٍ، ولما انقضت عدَّتها زوَّجه بها وسلَّمها إليه. حذفنا منها أشعارًا كثيرة مطوَّلة
(1)
.
وجرت فى هذه السنة فصول طويلة بين عبيد اللَّه بن زياد والخوارج، فقتل منهم خلقًا كثيرًا وجمًا غفيرًا، وحبسّ منهم آخرين، وكان صارمًا كأبيه مقدامًا في أمرهم.
ذكر من توفي من الأعيان في هذا العام:
سَعيد بن العاص
(2)
: ابن [سعيد بن العاص]
(3)
بن أميَّة بن عبد شمس بن عبد مناف القرشيُّ الأمويّ.
قتل أبوه يوم بدر كافرًا، قتلَه علي بن أبي طالب، ونشأ سعيد في حجر عثمان بن عفّان، وكان عمر سعيد يوم مات رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم تسع سنين. وكان من سادات المسلمين والأجواد المشهورين. وكان جدُّه سعيد بن العاص -ويكنى بابي أُحَيْحة
(4)
- رئيسًا فى قريش، يقال له: ذو التاج، لأنه كان إذا اعتمَّ لا يعتمُّ أحد يومئذ إعظامًا له،
وكان سعيد هذا من عمّال عمر على السَّواد، وجعله عثمان فيمن يكتب المصاحف لفصاحته. قالوا: وكان أشبهَ الناس لهجة
(5)
برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. وكان في جملة الاثني عشر رجلًا [الذين يستخرجون
(1)
مختصر تاريخ دمشق (29/ 250 - 253).
(2)
طبقات ابن سعد (5/ 30) نسب قريش (176) تاريخ خليفة (163، 165، 166، 168، وغيرها) المحبر (55، 150، 174) تاريخ البخاري الكبير (3/ 502) المعارف (296، 614) المعرفة والتاريخ (1/ 292) أنساب الأشراف (4/ 433) تاريخ الطبري (5/ 293) الجرح والتعديل (4/ 48) مشاهير علماء الأمصار (ت 446) الأغاني (17/ 224) معجم الطبراني الكبير (6/ 73) جمهرة أنساب العرب (80) الاستيعاب (2/ 621) الجمع بين رجال الصحيحين (1/ 174) تاريخ ابن عساكر (7/ 127/ آ) أسد الغابة (2/ 391) تهذيب الأسماء واللغات (1/ 1/ 218) مختصر تاريخ دمشق (9/ 305) تهذيب الكمال (10/ 501) تاريخ الإسلام (2/ 286) العبر (1/ 64) سير أعلام النبلاء (3/ 444) الكاشف (1/ 228) تجويد أسماء الصحابة (1/ ت 2324) إكمال مغلطاي (2/ ورقة 87) الوافي بالوفيات (15/ 227) العقد الثمين (4/ 517) نهاية السول (ورقة 117) تهذيب التهذيب (4/ 48) الإصابة (2/ 47) خلاصة الخزرجي (139) شذرات الذهب (1/ 268) تهذيب ابن عساكر (6/ 133).
(3)
سقط من (أ) وط.
(4)
تحرفت فى (أ) وط إلى: أجنحة.
(5)
وقعت في الأصول: لحية وما أثبته من مصادر ترجمته، فقد أخرج ابن أبي داود في المصاحف (ص 24) عن سعيد ابن عبد العزيز أنه قال: إن عربية القرآن أقيمت على لسان سعيد بن العاص لأنه كان أشبههم لهجة برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
القرآن ويعلمونه ويكتبونه]
(1)
منهم أُبيُّ بن كعب، وزيدُ بن ثابت. واستنابه عثمان على الكوفة بعد عزله الوليد بن عُقْبة، فافتتح طَبرستان وجُرجان، ونقض العهد أهل أَذْرَبيجان فغزاهم ففتحها، ولمّا مات عثمان اعتزل الفتنة فلم يشهد الجمل ولا صفِّين، فلمّا استقرَّ الأمر لمعاوية وفد إليه، فعتب عليه، فاعتذر إليه، فعذره. . . في كلام طويل جدًّا، وولّاه المدينة مرتين، وعزله عنها مرتين بمروان بن الحكم. وكان سعيد هذا لا يسبُّ عليًّا، ومروان يسبُّه.
وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن عمر بن الخطاب، وعثمان، وعائشة، وعنه ابناه: عَمرو بن سعيد الأَشْدَق، وأبو سعيد، وسالم بن عبد اللَّه بن عمر، وعروة بن الزبير، وغيرهم. وليس له في "المسند" ولا في الكتب الستة شيء.
وقد كان حسن السِّيرة، جيِّد السَّريرة. وكان كثيرًا ما يجمع أصحابه في كل جمعة فيطعمهم ويكسوهم الحلل، ويرسل إلى بيوتهم بالهدايا والتحف والبز الكثير، وكان يصرُّ الصُّرَر فيضعها بين يدي المصلِّين من ذوي الحاجات في المسجد.
قال ابن عساكر: وقد كانت له دار بدمشق تُعرف بعده بدار نعيم بنواحي الديماس، ثم رجع إلى المدينة فأقام بها إلى أن مات. وكان كريمًا جوادًا ممدَّحًا. ثم أورد شيئًا من حديثه من طريق يعقوب بن سفيان: حدّثنا أبو سعيد الجُعْفي، حدَّثنا عبد اللَّه بن الأَجْلح، حدّثنا هشام بن عروة، عن أبيه أن سعيد بن العاص قال: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "خِيَارُكم في الإسلام خِيَارُكم في الجاهليَّة"
(2)
. ومن طريق الزبير بن بكّار: حدّثني رجل، عن عبد العزيز بن أبان، حدّثني خالد بن سعيد، عن أبيه، عن ابن عمر قال: جاءت امرأة إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ببُرْد فقالت: إني نويت أن أُعطي هذا الثوبَ أكرمَ العرب، فقال:"أعطيه هذا الغلام" يعني سعيد بن العاص، وهو واقف، فلذلك سمِّيت الثياب السَّعيديَّة
(3)
. وأنشد للفرزدق فيه:
تَرَى الغُرَّ الجَحَاجحَ من قُرَيْشٍ
…
إذا ما الخطبُ في الحَدَثانِ عَالا
قِيامًا يَنْظرونَ إلى سَعيدٍ
…
كأنَّهُمُ يَرَوْنَ بِهِ هِلَالا
(4)
وذكر أن عثمان عزل عن الكوفة المغيرةَ وولّاها سعيد بن العاص
(5)
، ثم عزله وولَّى الوليد بن
(1)
ما بين حاصرتين سقط من ب.
(2)
أخرجه يعقوب في المعرفة والتاريخ (1/ 292 - 293) وابن عساكر في تاريخه (9/ 305) مختصره، ومتن الحديث المشهور في هذا هو حديث أبي هريرة الذي أخرجه البخاري (3496) ومسلم (2526)، ولفظ البخاري:"والناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا. . . إلخ".
(3)
مختصر تاريخ دمشق (9/ 306).
(4)
البيتان في ديوان الفرزدق (615، 618) ورواية البيت الأول فيه: إذا ما الأمر ذو الحدثان عالا. وفي سير أعلام النبلاء (3/ 445) تخريج موسع لهما.
(5)
وقع في المطبوع: سعيد بن أبي وقاص.
عُقبة
(1)
، ثم عزله وولَّى سعيد بن العاص، فأقام بها حينًا، ولم تُحمد سيرتُه فيهم ولم يحبُّوه، ثم ركب مالك بن الحارث -وهو الأشتر النَّخعي- في جماعة إلى عثمان وسألوه أن يعزل عنهم سعيدًا، فلم يعزله، وكان عنده بالمدينة، فبعثه إليه، وسبق الأشترُ إلى الكوفة، فخطب النَّاسَ وحثَّهم على منعه من الدخول إليهم، وركب الأشترُ في جيش يمنعوه من الدخول، قيل: تلقَّوه إلى العُذَيب، وقد نزل سعيد بالرعثة
(2)
، فمنعوه من الدخول إليهم، ولم يزالوا به حتى ردُّوه إلى عثمان، وولَّى الأشترُ أبا موسى الأشعري على الصلاة والثغر، وحذيفة بن اليَمَان على الفيء، فأجاز ذلك أهلُ الكوفة وبعثوا إلى عثمان في ذلك، فأمضاه وسرَّه ذلك فيما أظهره، ولكن هذا كان أول وهن دخل على عثمان. وأقام سعيد بن العاص بالمدينة حتى كان زمن حصر عثمان فكان عنده بالدار، ثم لمّا ركب طلحة والزبير مع عائشة من مكة يريدون قتَلَة عثمان ركب معهم، ثم انفرد عنهم هو والمغيرة بن شعبة وغيرهما، فأقام بالطائف حتى انقضت تلك الحروب كلّها، ثم ولّاه معاوية إمرة المدينة سنة تسع وأربعين، وعزل مروان، فأقام حينًا
(3)
ثم ردَّ مروان.
وقال عبد الملك بن عُمير: عن قَبيصة بن جابر قال: بعثني زياد في شغل إلى معاوية، فلمّا فرغتُ من أموري فلت: يا أمير المؤمنين لمن يكون الأمرُ من بعدك؟ فسكت ساعة ثم قال: يكون بين جماعة: أما كريم
(4)
قريش فسعيد بن العاص، وأما فتى قريش حياءً ودهاءً وسخاءً فعبد اللَّه بن عامر، وأما الحسن
(5)
بن علي فرجل سيِّد كريم، وأما القارئ لكتاب اللَّه الفقيهُ في دين اللَّه الشديدُ في حدود اللَّه فمروان بن الحكم، وأما رجل فقيه فعبد اللَّه بن عمر، وأما رجل يرد الشريعة مع دواهي السِّباع ويروغ رَوَغان الثعلب فعبد اللَّه بن الزبير.
وروينا أنه استسقى يومًا في بعض طرق المدينة، فأخرج له رجل من داره ماءً فشرب، ثم بعد حين رأى ذلك الرجل يَعرِض داره للبيع، فسأل عنه لمَ يبيعُ داره؟ فقالوا: عليه دين أربعة آلاف دينار، فبعث إلى غريمه فقال: هي لك عليّ، وأرسل إلى صاحب الدار فقال: استمتع بدارك
(6)
.
وكان رجل من القراء الذين يجالسونه قد افتقر وأصابته فاقة شديدة، فقالت له امرأته: إن أميرنا هذا
(1)
وقع في المطبوع: عتبة.
(2)
كذا في الأصول. والذي في مختصر تاريخ دمشق (9/ 307) وغيره من المصادر التاريخية: الجَرَعة بين الكوفة والحيرة. معجم البلدان (2/ 127 - 128).
(3)
كذا في أ، ووقعت في ط: سبعًا، وفي ب وم: خمسًا.
(4)
في ب: كريمة، وفي تاريخ أبي زرعة الدمشقي: كرمة.
(5)
كذا في الأصول، وهو كذلك في تاريخ أبي زرعة الدمشقي (1/ 593) وقال محققه: المعروف أن الحسن بن علي تنازل عن الخلافة سنة 40 هـ، ولاشك أن المقصود أخوه الحسين.
(6)
مختصر تاريخ دمشق (9/ 313 - 314).
يوصف بكرم، فلو ذكرتَ له حالك فلعلَّه يسمح لك بشيء، فقال: ويحك! لا تُخْلِقي
(1)
وجهي، فألحَّت عليه في ذلك، فجاء فجلس إليه، فلمّا انصرف الناس عنه مكث الرجل جالسًا في مكانه، فقال له سعيد: أظن جلوسك لحاجة، فسكت [الرجل، فقال سعيد لغلمانه: انصرفوا، ثم قال له سعيد: لم يبقَ غيري وغيرك، فسكت]
(2)
فأطفأ المصباح ثم قال له: رحمك اللَّه لست ترى وجهي فاذكر حاجتك، فقال: أصلح اللَّه الأمير! أصابتنا فاقة وحاجة فأحببت ذكرها لك فاستحييت، فقال له: إذا أصبحت فالقَ وكيلي فلانًا، فلمّا أصبح الرجل لقي الوكيل، فقال له الوكيل: إن الأمير قد أمر لك بشيء فأْتِ بمن يحملُه معك، فقال: ما عندي من يحملُه، ثم انصرت الرجل إلى امرأته فلامَها وقال: حملتيني على بذل وجهي للأمير، فقد أمر لي بشيء يحتاج إلى مَنْ يحملُه، وما أراه أمَرَ لي إلَّا بدقيق أو طعام، ولو كان مالًا لما احتاج إلى من يحملُه ولأعطانيه. فقالت له المرأة: فمهما أعطاك فإنه يقوتنا فخذه، فرجع الرجل إلى الوكيل، فقال له الوكيل: إني أخبرت الأمير أنه ليس لك أحد يحملُه، وقد أرسل بهؤلاء الثلاثة السُّودان يحملونه معك، فذهب الرجل أمامهم، فلمّا وصل إلى منزله إذا على رأس كل واحد منهم عشرة آلاف درهم، فقال للغِلْمان: ضَعُوا ما معكم وانصرفوا، فقالوا: إن الأمير قد أطلقَنا لك، فإنه ما بعث مع خادم هدية إلى أحد إلّا كان الخادم الذي يحملها من جملتها. قال: فحسن حال ذلك الرجل.
وذكر ابن عساكر: أن زياد بن أبي سفيان بعث إلى سعيد بن العاص هدايا وأموالًا وكتابًا ذكر فيه أنه يخطُب إليه ابنتَه أمَّ عثمان من آمنة بنت جرير بن عبد اللَّه البَجَلي، فلمّا وصلت الهدايا والأموال والكتاب قرأه، ثم فرَّق الهدايا في جلسائه، ثم كتب إليه كتابًا لطيفًا فيه: بسم اللَّه الرحمن الرحيم، قال اللَّه تعالى:{كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6 - 7] والسلام.
وروينا أن سعيدًا خطب أمَّ كلثوم بنت علي من فاطمة، التي كانت تحت عمر بن الخطاب، فأجابت إلى ذلك، وشاورت أخويها، فكرها ذلك -وفي رواية: إنما كره ذلك الحسين وأجاب الحسن- فهيأت دارها، ونصبت سريرًا، وتواعدوا للكتاب، وأمرت ابنها زيد بن عمر أن يزوِّجها منه، فبعث إليها بمئة ألف -وفي رواية: بمئتي ألف- مَهْرًا، واجتمع الناس عنده ليذهبوا معه، فقال: إني أكره أن أُحرج ابنَيْ
(3)
فاطمة، فترك التزويج، وأطلق جميع ذلك المال لها.
وقال ابن مَعِين وعبد الأعلى بن حمّاد: سأل أعرابيٌّ سعيد بن العاص، فأمر له بخمسمئة، فقال الخادم: خمسمئة درهم أو دينار؟ فقال: إنما أمرتك بخمسمئة درهم، وإذ قد جاش في نفسك أنها
(1)
تحرفت في (أ) و (ط) إلى: تحلقي. وفي اللسان: أخلق الدهر الشيء: أبلاه. وكذلك أخلق السائل وجهه.
(2)
ما بين حاصرتين سقط من أ، وسقط بعضه من ب.
(3)
في بعض النسخ: أمي.
دنانير فادفع إليه خمسمئة دينار. فلمَّا قبضها الأعرابيُّ جلس يبكي، فقال له: مالك، ألم تقبض نوالك؟ قال: بلى واللَّه، ولكن أبكي على الأرض كيف تأكل مثلك
(1)
.
وقال عبد الحميد بن جعفر: جاء رجل في حَمَالة
(2)
أربع دِيَات سأل فيها أهل المدينة، فقيل له: عليك بالحسن بن علي، أو عبد اللَّه بن جعفر، أو سعيد بن العاص، أو عبد اللَّه بن عباس، فانطلق إلى المسجد، فإذا سعيد داخل إليه، فقال: مَنْ هذا؟ فقيل: سعيد بن العاص، فقصده فذكر له ما أقدمه، فتركه حتى انصرف من المسجد إلى المنزل، فقال للأعرابي: ائتِ بمن يحمل معك، فقال: رحمك اللَّه! إنما سألتك مالًا لا تمرًا، فقال: أعرف، ائتِ بمن يحمل معك، فأعطاه أربعين ألفأ، فأخذها الأعرابي وانصرف، ولم يسأل غيره
(3)
.
وقال سعيد بن العاص لابنه: يا بني! أخزى اللَّه
(4)
المعروف إذا لم يكن ابتداءً من غير مسألة، فأمّا إذا أتاك الرجل تكاد ترى دمه في وجهه، أو جاءك مخاطرًا لا يدري أتعطيه أم تمنعه، فواللَّه لو خرجتَ له من جميع مالك ما كافأتَه.
وقال سعيد: لجليسي عليَّ ثلاث: إذا دنا رحَّبتُ به، وإذا جلس أوسعتُ له، وإذا حدَّث أقبلتُ عليه.
وقال أيضًا: يا بني! لا تُمازحِ الشريف فيحقد عليك، ولا الدَّنيء فتهون عليه - وفي رواية: فيجترئ عليك.
وخطب يومًا فقال: مَنْ رزقه اللَّه رزقًا حسنًا فليكن أسعد الناس به، إنما يتركه لأحد رجلين: إمّا مصلح فيسعد بما جمعتَ له وتخيب أنت، والمصلح لا يقلُّ عليه شيء [وإمّا مفسد فلا يبقى له شيء]
(5)
. فقال معاوية: جمع أبو عثمان طرف الكلام.
وروى الأصمعي، عن حكيم بن قيس قال: قال سعيد بن العاص: موطنان لا أَستحيي من رفقي فيهما والتأنِّي عندهما: مخاطبتي جاهلًا أو سفيهًا، وعند مسألتي حاجة لنفسي.
ودخلت عليه امرأة من العابدات -وهو أمير الكوفة- فأكرمها وأحسن إليها، فقالت: لا جعل اللَّه لك حاجة إلى لئيم، ولا زالت المنَّة لك في أعاق الكرام، وإذا أزال عن كريم نعمة جعلك سببًا لردِّها عليه.
(1)
مختصر تاريخ دمشق (9/ 314).
(2)
"الحمالة": الغرامة التي يحملها قوم عن قوم.
(3)
مختصر تاريخ دمشق (9/ 314).
(4)
في المطبوع: أجر للَّه. والخبر بنحوه في العقد الفريد (1/ 238) ولفظه فيه: قبح اللَّه المعروف.
(5)
ما بين حاصرتين سقط من ب.
وقد كان له عشرة من الولد ذكورًا وإناثًا، وكانت إحدى زوجاته أم البنين بنت الحكم بن أبي العاص -أخت مروان بن الحكم- ولمّا حضرت سعيدًا الوفاةُ جمع بنيه وقال لهم: لا يفقدن أصحابي غير وجهي، وصِلُوهم بما كنت أصلهم به، وأجروا عليهم [ما كنت أُجري عليهم]
(1)
واكفوهم مؤنة الطلب، فإن الرجل إذا طلب الحاجة اضطربت أركانه وارتعدت فرائصه مخافة أن يُردّ، فواللَّه لرجل يتململُ على فراشه يراكم موضعًا لحاجته أعظم منة عليكم مما تعطونه. ثم أوصاهم بوصايا كثيرة منها: أن يوفوا ما عليه من الدَّين والوعود، وألا يزوِّجوا أخواتهم إلّا من الأكفاء، وأن يسوِّدوا أكبرهم. فتكفَّل بذلك كله ابنه عمرو بن سعيد الأَشْدق، فلمّا مات دفنه بالبقيع، ثم ركب عمرو إلى معاوية فعزّاه فيه، واسترجع معاوية وحزن عليه وقال: هل ترك من دَين عليه؟ قال: نعم، قال: وكم هو؟ قال: ثلاثمئة ألف درهم -وفي رواية: ثلاثة آلاف ألف درهم- فقال معاوية: هي عليّ، فقال ابنه: يا أمير المؤمنين! إنه أوصاني ألَّا أقضي دينه إلا من ثمن أراضيه، فاشترى منه معاوية أراضي بمبلغ الدَّين، وسأل منه عمرو أن يحملها له إلى المدينة، فحملها له. ثم شرع عمرو يقضي ما على أبيه من الدَّين حتى لم يبق أحد، فكان من جملة من طالبه شاب معه رقعة من أديم فيها عشرون ألفًا، فقال له عمرو: كيف استحققت هذه على أبي؟ فقال الشاب: إنه كان يومًا يمشي وحده، فأحببت أن أكون معه حتى يصل إلى منزله، فقال: ابغني رقعة من أدم، فذهبت إلى بعض الجزّارين فأتيته بهذه، فكتب لي فيها هذا المبلغ، واعتذر بأنه ليس عنده اليوم شيء. فدفع إليه عمرو ذلك المال، وزاده شيئًا كثيرًا.
ويروى أن معاوية قال لعمرو بن سعيد: من ترك مثلك لم يَمُت، ثم قال: رحم اللَّه أبا عثمان ثم قال: قد مات من هو أكبر منِّي ومن هو أصغر مني. ثم أنشد قول الشاعر:
إذا سَارَ مَنْ دونَ امرئٍ وأمامَهُ
…
وأُوْحِشَ مِنْ إخوانه فهو سَائر
(2)
وكانت وفاة سعيد بن العاص في هذه السنة، وقيل: في التي قبلها، وقيل: في التي بعدها، وقال بعضهم: كانت وفاته قبل عبد اللَّه بن عامر بجمعة. فاللَّه أعلم.
شَدَّاد بن أَوْس
(3)
: ابن ثابت بن المنذر بن حرام، أبو يعلى الأنصاريُّ الخزرجيّ. صحابي جليل، وهو ابن أخي حسان بن ثابت.
(1)
ما بين حاصرتين سقط من ب.
(2)
البيت في مختصر تاريخ دمشق (9/ 315) وقد خرجه محققه من التعازي والمراثي (ص 52) والكامل للمبرد (4/ 27).
(3)
طبقات ابن سعد (7/ 401) طبقات خليفة (88، 303) تاريخ خليفة (227) مسند أحمد (4/ 122) تاريخ البخاري الكبير (4/ 224) التاريخ الصغير (1/ 89) المعارف (312) المعرفة والتاريخ (1/ 356 و 2/ 320، 719) الجرح والتعديل (4/ 328) ثقات ابن حبان (1/ ورقة 185) مشاهير علماء الأمصار (ت 325) مستدرك الحاكم (3/ 506) الاستبصار (54) حلية الأولياء (1/ 264) الاستيعاب (2/ 694) الجمع لابن القيسراني (1/ 211) أسد الغابة (2/ 507) تهذيب الأسماء واللغات (1/ 242) مختصر تاريخ دمشق (10/ 276) تهذيب الكمال (12/ 389) تاريخ =
وحكى ابن مَنْده، عن موسى بن عقبة أنه قال: شهد بدرًا. قال ابن مَنْده: وهو وَهْم.
وكان من الاجتهاد في العبادة على جانب عظيم، كان إذا أخذ مضجعه يقلَقُ
(1)
على فراشه، ويتلوّى كما تتلوّى الحيَّة ويقول: اللهمَّ إنَّ خوف النار قد أقلَقَني، ثم يقوم إلى صلاته.
قال عُبادة بن الصامت: كان شدّاد من الذين أُوتوا العلم والحلم.
نزل شدّاد فلسطين وبيت المقدس، ومات في هذه السنة عن خمس وسبعين سنة. وقيل: مات سنة أربع وستين. وقيل: سنة إحدى وأربعين. فاللَّه أعلم.
عبدُ اللَّهِ بنُ عامر
(2)
: ابن كُرَيز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مَناف بن قُصيّ القرشيُّ العَبْشَمي، ابن خال عثمان بن عفّان.
ولد في حياة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وتَفَل في فيه، فجعل يبتلع ريق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال
(3)
: "إنه لمُسْقًى". فكان لا يُعالج أرضًا إلّا ظهر له الماء.
وكان كريمًا ممدَّحًا ميمون النَّقيبة.
استنابه عثمان على البصرة بعد أبي موسى، وولّاه فارس بعد عثمان بن أبي العاص -وعمره إذ ذاك خمس وعشرون سنة- ففتح خراسان كلَّها، وأطراف فارس، وسِجِسْتان، وكَرْمان، وبلاد غَزْنة. وقتل كسرى -ملك الملوك في أيامه، وهو يَزْدَجِرْد
(4)
- ثم أحرم عبد اللَّه بن عامر بحجَّة -وقيل: بعمرة- من تلك البلاد شكرًا للَّه عز وجل، وفرَّق في أهل المدينة أموالًا كثيرة جزيلة.
= الإسلام (2/ 291) العبر (1/ 62) الكاشف (2/ 5) سير أعلام النبلاء (2/ 460) تجريد أسماء الصحابة (1/ ت 2668) تذهيب التهذيب (2/ ورقة 71) إكمال مغلطاي (2/ ورقة 158) نهاية السول (ورقة 138) الإصابة (5/ 52) تهذيب التهذيب (4/ 315) خلاصة الخزرجي (164) شذرات الذهب (1/ 266) تهذيب ابن عساكر (6/ 290).
(1)
تحرفت في المطبوع إلى: تعلق.
(2)
طبقات ابن سعد (5/ 44) نسب قريش (147) المحبر (الفهرس)، المعارف (320) فتوح البلدان (396) الأخبار الطوال (139 وغيرها) تاريخ الطبري (5/ 170) مستدرك الحاكم (3/ 639) جمهرة أنساب العرب (75) الاستيعاب (3/ 931) الإكمال لابن ماكولا (7/ 167) تاريخ ابن عساكر (9/ 229/ ب) أسد الغابة (3/ 288) الكامل لابن الأثير (3/ 99) مختصر تاريخ دمشق (12/ 284) تاريخ الإسلام (2/ 266) العبر (1/ 64) سير أعلام النبلاء (3/ 18) العقد الثمين (5/ 185) الإصابة (ت 6181) تهذيب التهذيب (5/ 272) شذرات الذهب (1/ 269).
(3)
يعني النبي صلى الله عليه وسلم. والخبر في نسب قريش (ص 148) والاستيعاب (3/ 931 - 932) ورواه الحاكم في (3/ 639) من طريق مصعب الزبيري، وإسناده ضعيف.
(4)
مقتل يزدجرد بأوسع مما هنا في تاريخ الطبري (4/ 293) وما بعدها.
وهو أول من لبس الخَزَّ بالبصرة. وهو أول من اتخذ الحِيَاض بعرفة وأجرى إليها الماء المَعين
(1)
.
ولم يزل على البصرة حتى قتل عثمان، فأخذ أموال بيت المال وتلقّى بها طلحة والزبير وحضر معهم الجمل، ثم سار إلى دمشق. ولم يُسمع له بذكر في صفِّين، ولكن ولّاه معاوية البصرة بعد. وتوفي في هذه السنة [بأرضه بعرفات]
(2)
وأوصى إلى عبد اللَّه بن الزبير.
له حديث واحد، وليس له في الكتب شيء. روى مصعب الزُّبيري، عن أبيه، عن جدِّه، عن حنظلة بن قيس، عن عبد اللَّه بن الزبير وعبد اللَّه بن عامر: أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ قُتِلَ دونَ مالِهِ فهو شَهيد"
(3)
.
وقد زوَّجه معاوية بابنته هند، وكانت جميلة، فكانت تلي خدمته بنفسها من محبتها له، فنظر يومًا في المرآة فرأى صَباحة وجهها وشيبة في لحيته، فطلَّقها، وبعث إلى أبيها أن يزوِّجها بشاب كأن وجهه ورقة مصحف.
توفي في هذه السنة. وقيل: بعدها بسنة.
عبدُ الرحمن بنُ أبي بكر الصدِّيق
(4)
: وهو أكبر ولد أبي بكر، قاله الزبير بن بكّار. قال: وكانت فيه دُعَابة، وأمُّه أمُّ رومان، وأمُّ عائشة، فهو شقيقها.
بارز يوم بدر وأُحُد مع المشركين [وأراد قتل أبيه أبي بكر]
(5)
فتقدَّم إليه أبوه أبو بكر، فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"أَمْتِعْنا بنفسِك"
(6)
. ثم أسلم عبد الرحمن بعد ذلك في الهُدْنة، وهاجر قبل الفتح، ورزقه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من خيبر كل سنة أربعين وَسْقًا، وكان من سادات المسلمين.
وهو الذي دخل على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوم مات وعائشةُ مسندتُه إلى صدرها، ومع عبد الرحمن سِواكٌ
(1)
الأوائل لابن قتيبة (ص 37).
(2)
ليس في ب.
(3)
أخرجه الحاكم في المستدرك (3/ 639) وإسناده ضعيف، ولكن في الباب ما يقويه. نسب قريش (ص 148) وسير أعلام النبلاء (3/ 18).
(4)
طبقات خليفة (18، 189) تاريخ خليفة (219) مسند أحمد (1/ 197) تاريخ البخاري الكبير (5/ 242) ثقات العجلي (288) المعارف (174) المعرفة والتاريخ (1/ 285) الجرح والتعديل (5/ 247) مشاهير علماء الأمصار (ت 45) مستدرك الحاكم (3/ 473) الاستيعاب (2/ 824) أسد الغابة (3/ 466) مختصر تاريخ دمشق (14/ 279) تهذيب الكمال (ورقة 778) تاريخ الإسلام (2/ 303) العبر (1/ 58) الكاشف (2/ 140) سير أعلام النبلاء (2/ 471) الإصابة (6/ 295) تهذيب التهذيب (6/ 146) خلاصة الخزرجي (224) شذرات الذهب (1/ 251).
(5)
ما بين حاصرتين سقط من ب.
(6)
أخرجه الواقدي في مغازيه (1/ 256 - 257) ومن طريقه الحاكم في المستدرك (3/ 474)، والبيهقي في السنن (8/ 186).
رَطْب، فأمدَّه بصَرَه [فأخذتْ عائشةُ ذاك السِّواك، فقضَمَتْه وطيَّبَتْه، ثم دفعَتْه إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فاستَنَّ به أحسنَ اسْتِنان ثم قال: "اللهمَّ في الرَّفيق الأَعلى". ثم قَضى. قالت: فجمعَ اللَّهُ ريقي وريقه، ومات بين سَحري ونَحري في بيتي ويومي، لم أظلم فيه أحدًا]
(1)
.
وقد شهد عبد الرحمن فتح اليَمَامة، وقَتل يومئذ سبعة، وهو الذي قتل مُحَكَّم بن الطُّفيل
(2)
صديق مُسَيْلمة على باطله، كان محكَّم واقفًا في ثُلْمة حائط، فرماه عبد الرحمن فسقط محكَّم، فدخل المسلمون من الثُّلْمة فخلصوا إلى مُسَيلمة فقتلوه.
وقد شهد فتح الشام، وكان معظَّمًا بين أهل الإسلام. ونُفل ليلى بنت الجُودي ملك عرب الشام، نفلَه إياها خالد بن الوليد عن أمر عمر بن الخطاب كما سنذكره مفصَّلًا.
وقد قال عبد الرزاق: عن مَعْمر، عن الزُّهري، عن سعيد بن المسيِّب قال: حدّثني عبد الرحمن بن أبي بكر -ولم نجرب عليه كذبة قط- ذكر عنه حكاية: أنه لما جاءت بيعة يزيد بن معاوية إلى المدينة قال عبد الرحمن لمروان: جعلتُموها واللَّه هِرَقْليَّة وكِسْرويَّة -يعني: يجعل الملِكُ المُلْك لمن بعده من ولده- فقال له مروان: اسكتْ، فإنك أنت الذي أنزل اللَّه فيك:{وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ} [الأحقاف: 17] فقالت عائشة: ما أنزل اللَّه فينا شيئًا من القرآن إلّا أنَّه أنزل عُذري. ويروى أنها بعثت إلى مروان تؤنِّبه وتخبره بخبر [فيه ذمٌّ له ولأبيه لا يصح عنها.
قال الزبير بن بكّار: حدّثني إبراهيم بن محمد بن]
(3)
عبد العزيز الزّهري، عن أبيه، عن جدّه قال: بعث معاوية إلى عبد الرحمن بن أبي بكر بمئة ألف درهم بعد أن أَبَى البيعة ليزيد بن معاوية، فردَّها عبد الرحمن [وأَبَى أن يأخذها وقال: أَبيعُ ديني بدُنياي؟! وخرج إلى مكة فمات بها]
(4)
.
وقال أبو زرعة الدمشقي
(5)
: حدَّثنا أبو مُسْهر، حدَّثنا مالك قال: توفي عبد الرحمن بن أبي بكر في نومةٍ نامها.
ورواه أبو مصعب عن مالك عن يحيى بن سعيد فذكره وزاد: فأَعتقت عنه عائشة رقابًا.
ورواه الثَّوري عن يحيى بن سعيد عن القاسم فذكره.
(1)
ما بين حاصرتين لم يرد في أ، وفيها مكانه: إلى آخر الحديث. والحديث في البخاري رقم (4450).
(2)
ويعرف بمحكّم اليمامة. كان أحد قادة جيش مسيلمة. والمشهور ماقاله المؤلف من أن الذي قتله هو عبد الرحمن بن أبي بكر كما في تاريخ الطبري (3/ 288) وابن الأثير (3/ 365) وغيرهما. وورد في القاموس المحيط مادة (حكم): محكم اليمامة، قتله خالد بن الوليد.
(3)
ما بين حاصرتين سقط من أ.
(4)
ما بين حاصرتين سقط من أ. والخبر في تاريخ ابن عساكر، مختصره (14/ 284).
(5)
تاريخ أبي زرعة الدمشقي (1/ 228).
ولما توفي كانت وفاته بمكان يقال له الحُبْشِي -على ستة أميال من مكة، وقيل اثني عشر ميلًا- فحملَه الرجال على أعناقهم حتى دُفن بأعلى مكة، فلمّا قدمتْ عائشة مكة زارته وقالت: أما واللَّه لو شهدتُك لم أبكِ عليك، ولو كنت عندك لم أنقلك من موضعك الذي متَّ فيه، ثم تمثَّلت بشعر مُتَمِّم بن نُوَيرة في أخيه مالك:
وكنّا كَنْدمانَيْ جَذِيمةَ بُرْهةً
…
منَ الدَّهر حتّى قيلَ لنْ يتصَدَّعا
فلمّا تفرَّقنا كأنِّي ومالكًا
…
لطُولِ اجتماعٍ لم نَبِتْ ليلةً مَعَا
رواه الترمذي وغيره
(1)
.
وروى ابن سعد: أن ابن عمر رأى فُسْطاطًا مضروبًا على قبر عبد الرحمن -ضربته عائشةُ بعد ما ارتحلت- فأَمر بنزعه وقال: إنَّما يُظِلُّه عملُه.
وكانت وفاته في هذا العام في قول كثير من علماء التاريخ، ويقال: إن عبد الرحمن توفي سنة ثلاث وخمسين، قاله الواقدي وكاتبه محمد بن سعد وأبو عبيد وغير واحد، وقيل: سنة أربع وخمسين. فاللَّه أعلم.
قصَّتُه مع لَيْلى بنت الجُوديِّ ملك عرب الشّام
قال الزبير بن بكّار: حدّثني محمد بن الضحّاك الحزامي عن أبيه: أن عبد الرحمن بن أبي بكر الصدِّيق قدم الشام في تجارة -يعني في زمان جاهليته- فرأى هنالك امرأة يقال لها ليلى ابنة الجُوديّ على طِنْفِسَة
(2)
لها وحولها ولائدها
(3)
، فأعجبته -قال ابن عساكر: رآها بأرض بصرى- فقال فيها:
تذكَّرتُ لَيْلى والسَّماوَةُ دونَها
…
فما
(4)
لابنةِ الجُوديِّ ليلى وماليا
وأنَّى تُعاطِي قلبَه حارثيَّةٌ
…
تَؤُمَّنَّ بُصْرى أو تَحُلُّ الجَوابيا
وأنَّى تُلاقيها بَلى ولعلَّها
…
إنِ الناسُ حَجُّوا قابلًا أنْ تُوافيا
قال: فلمّا بعث عمر بن الخطاب جيشه إلى الشام قال للأمير على الجيش: إنْ ظفرتَ بليلى بنت
(1)
أخرجه الترمذي (1055) في الجنائز: باب زيارة النساء للقبور. وإسناده ضعيف، لأن فيه عنعنة ابن جريج، لكن رواه عبد الرزاق في مصنفه رقم (6535) وفيه تصريح ابن جريج بالسماع، فانتفت العلة وثبت الحديث. وأورده صاحب الأغاني (15/ 309) ضمن ترجمة متمم بن نويرة.
(2)
"الطنفسة": البساط الذي له خمل رقيق.
(3)
"الولائد": الجواري والخدم.
(4)
تحرت رسمها في المطبوع فوقعت فيه: فمالُ ابنة. مما أخل بالمعنى.
الجُودي فادفعها إلى عبد الرحمن بن أبي بكر، فظفر بها، فدفعها إليه، فأُعجب بها وآثرها على نسائه حتى جعلن يشكونَها إلى عائشة، فعاتبته عائشة على ذلك، فقال: واللَّه كأني أَرشِفُ بأنيابها حبَّ الرُّمان، فأصابها وجع سقط له فُوها، فجفاها حتى شكَتْه إلى عائشة، فقالت له عائشة: يا عبد الرحمن! لقد أحببتَ ليلى فأَفرطت، وأبغَضْتَها فأَفرطت، فإمّا أن تُنْصفها وإما أن تُجهِّزها إلى أهلها
(1)
.
قال الزبير: وحدّثني عبد اللَّه بن نافع، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: إنَّ عمر بن الخطاب نفل عبد الرحمن بن أبي بكر ليلى بنت الجُودي حين فتح دمشق، وكانت ابنة ملك دمشق - يعني ابنه ملك العرب الذين حول دمشق.
عُبيد اللَّه بنُ عباس بن عبد المطَّلب
(2)
: القرشيُّ الهاشميّ، ابن عمِّ النبي صلى الله عليه وسلم وكان أصغر من أخيه عبد اللَّه بسنة، وأمُّهما أمُّ الفضل لبابة بنت الحارث الهلاليّة. وكان عُبيد اللَّه كريمًا جميلًا وسيمًا يشبه أباه في الجمال.
روينا أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يَصُفُّ عبد اللَّه وعبيد اللَّه وكَثيرًا صفًّا ويقول: مَنْ سبقَ إليَّ فله كذا وكذا. فيستبقون إليه، فيقعون على ظهره وصدره، فيقبِّلهم ويلتزمهم
(3)
.
وقد استنابه علي بن أبي طالب -في أيام خلافته- على اليمن.
وحج بالناس سنة ست وثلاثين وسنة سبع وثلاثين، فلما كان سنة ثمان وثلاثين اختلف هو ويزيد بن شجرة
(4)
الرّهاوي الذي قدم على الحج من جهة معاوية، ثم اصطلحا على شيبة بن عثمان الحَجَبي، فأقام للناس الحج عامئذ، ثم لما صارت الشوكة لمعاوية تسلَّط على عبيد اللَّه بسر بن أبي أَرْطاة فقتل له ولدين، وجرت أمور باليمن قد ذكرنا بعضها.
(1)
الخبر بطوله في تاريخ دمشق، مختصره (14/ 282 - 283)، ووردت الأبيات أيضًا في نسب قريش (ص 276) والأغاني (17/ 358) وسير أعلام النبلاء (2/ 473).
(2)
نسب قريش (27) طبقات خليفة (ت 1972) مسند أحمد (1/ 214) المحبر (17، 107، 146، 292، 456) تاريخ البخاري الصغير (1/ 142) ثقات العجلي (317) المعارف (121) المعرفة والتاريخ (3/ 322) العقد الفريد (1/ 294) جمهرة أنساب العرب (18) الاستيعاب (3/ 1009) أسد الغابة (3/ 524) تهذيب الأسماء واللغات (1/ 1/ 312) مختصر تاريخ دمشق (15/ 322) تهذيب الكمال (ورقة 883) تاريخ الإسلام (2/ 304 و 3/ 281) العبر (1/ 63) تذهيب التهذيب (2/ 265/ آ) سير أعلام النبلاء (3/ 512) الكاشف (2/ 199) مرآة الجنان (1/ 130) العقد الثمين (5/ 309) الإصابة (2/ 437) تهذيب التهذيب (7/ 19) خلاصة الخزرجي (251) شذرات الذهب (1/ 266) خزانة الأدب (3/ 256، 502).
(3)
أخرجه أحمد في مسنده (1/ 214) وإسناده ضعيف.
(4)
تحرفت في (أ) و (ط) إلى: سمرة.
وكان يقدم هو وأخوه عبد اللَّه المدينة، فيوسعهم عبد اللَّه علْمًا ويوسعهم عبيد اللَّه كَرَمًا.
وقد روي أنه نزل في مسيبر له مع مولى له على خيمة رجل من الأعراب، فلمّا رآه الأعرابيُّ أعظمه وأجلَّه، ورأى حسنه وشكله، فقال لامرأته: ويحكِ ماذا عندك لضيفنا هذا؟! فقالت: ليس عندنا إلّا هذه الشُّويهة
(1)
التي حياةُ ابنتِك من لبنها، فقال: إنه لا بدَّ من ذبحها، فقالت: أتقتلُ ابنتَك؟ فقال: وإن، فأخذ الشفرة والشاة وجعل يذبحُها ويسلخُها وهو يقول مرتجزًا:
يا جَارَتي لا تُوْقِظي البُنَيَّهْ
إنْ تُوْقِظيها تَنْتَحِبْ عَلَيَّهْ
وتَنْزِعِ الشَّفْرَةَ من يَدَيَّهْ
ثم هيَّأها طعامًا، ثم حملَها فوضعها بين يدي عبيد اللَّه ومولاه، فعشّاهما. وكان عبيد اللَّه قد سمع محاورته مع امرأته في الشاة، فلمّا أراد الارتحال قال لمولاه: ويلك ماذا معك من المال؟ فقال: معي خمسمئة دينار فضَلَت من نفقتك، فقال: ادفعها إلى الأعرابي، فقال: سبحان اللَّه! تعطيه خمسمئة دينار وإنما ذبح لك شاةً واحدة تساوي خمسة دراهم؟! فقال: ويحك! واللَّه لهو أسخى منّا وأجود، لأنَّا إنما أعطيناه بعض ما نملك [وجاد علينا بجميع ما يملك]
(2)
وآثَرَنا على مُهْجة نفسه وولده. فبلغ ذلك معاوية فقال: للَّه درُّ عبيد اللَّه من أي بيضة خَرَج [ومن أي عُشٍّ دَرَج]
(3)
.
قال خليفة بن خياط
(4)
: توفي سنة ثمان وخمسين. وقال غيره: توفي في أيام يزيد بن معاوية. قال أبو عبيد القاسم بن سلّام: توفي في سنة سبع وثمانين. وكانت وفاته بالمدينة، وقيل: باليمن.
وله حديث واحد. قال أحمد: حدّثنا هُشيم، حدّثنا يحيى بن [أبي]
(5)
إسحاق، عن سليمان بن يسار، عن عُبيد اللَّه بن عباس قال: جاءت الغُمَيْصاء
(6)
-أو الرُّمَيْصاء- إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم تشكو زوجَها تزعمُ أنَّه لا يصلُ إليها، فما كان إلَّا يسيرًا حتّى جاء زوجُها فزعم أنَّها كاذبة وأنَّها تريد أن ترجعَ إلى زوجها الأوَّل، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"ليسَ لَكِ ذلكَ حتَّى يَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ رجلٌ غيرُه"
(7)
.
(1)
"الشويهة": تصغير شاة، العُنيزة.
(2)
ما بين حاصرتين سقط من ب.
(3)
ما بين حاصرتين سقط من أ. والخبر في الجليس الصالح (1/ 548) وتاريخ ابن عساكر، مختصره (15/ 327 - 329) مع اختلاف ببعض الألفاظ.
(4)
في تاريخه (ص 225).
(5)
سقطت من الأصول، فاستدركناها من المسند وغيره.
(6)
تحرفت في (أ) و (ط) إلى: العميصاء.
(7)
أخرجه أحمد في مسنده (1/ 214) وهو حديث صحيح. وقوله: "حتى يذوق عسيلتك" كناية عن الجِماع.
وأخرجه النَّسائي
(1)
، عن علي بن حُجْر
(2)
، عن هُشيم به.
وممن توفي في هذه السنة:
أمُّ المؤمنين عائشةُ بنتُ أبي بكر الصِّدِّيق
(3)
: [زوجة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأحبُّ أزواجه إليه، المبرَّأة من فوق سبع سماوات رضي الله عنها]
(4)
وأمُّها هي أمُّ رُومان بنت عامر بن عُويمر الكِنَانيّة.
تكنى عائشة بأمِّ عبد اللَّه، قيل: كنّاها بذلك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بابن أُختها عبد اللَّه بن الزبير. وقيل: إنها أَسقطت من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سِقْطًا
(5)
فسمّاه عبد اللَّه.
ولم يتزوَّج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بِكْرًا غيرها، ولم ينزل عليه الوحيُ في لحاف امرأة غيرها، ولم يكن في أزواجه أحبّ إليه منها.
تزوَّجها بمكة بعد وفاة خديجة. "وقد أتاه المَلَك بها في المنام في سَرَقةٍ
(6)
من حرير مرتين أو ثلاثًا فيقول: هذه زوجتُك. قال: فأكشِفُ عنكِ فإذا هي أنت. فأقول: إنْ يكن هذا من عند اللَّه يُمْضِه"
(7)
. فخطبها من أبيها، فقال: يا رسول اللَّه أوَ تحلُّ لك؟ قال: نعم. قال: أولستُ أخاك؟ قال: بلَى في الإسلام، وهي لي حلال
(8)
. فتزوَّجها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فحظِيَتْ عنده. وقد قدمنا ذلك في أول السيرة، وكان ذلك قبل الهجرة بسنتين، وقيل: بسنة ونصف، وقيل: بثلاث سنين. وكان عمرها إذ ذاك ست سنين، ثم دخل بها وهي بنت تسع سنين بعد بدر من شوال من سنة اثنتين من الهجرة، فأحبَّها.
ولما تكلَّم فيها أهل الإفك بالزُّور والبُهْتان غار اللَّه لها فأنزل براءتها في عشر آيات من القرآن تُتلى على
(1)
(6/ 148) في الطلاق: باب إحلال المطلقة ثلاثًا.
(2)
تحرف في (أ) و (ط) إلى: حجرة.
(3)
طبقات ابن سعد (8/ 58) تاريخ ابن معين (2/ 73) مسند أحمد (6/ 29) الزهد لأحمد (240) تاريخ خليفة (225) طبقات خليفة (333) ثقات العجلي (521) المعارف (134) المعرفة والتاريخ (3/ 268) مستدرك الحاكم (4/ 4) حلية الأولياء (2/ 43) الاستيعاب (4/ 1881) طبقات الشيرازي (47) جامع الأصول (9/ 132) أسد الغابة (7/ 188) تهذيب الكمال (ورقة 1688) طبقات علماء الحديث (ص 87) سير أعلام النبلاء (2/ 135) تذكرة الحفاظ (1/ 27) العبر (1/ 62) تاريخ الإسلام (2/ 294) الكاشف (3/ 430) مجمع الزوائد (9/ 225) تهذيب التهذيب (12/ 433) الإصابة (13/ 38) طبقات الحفاظ (ص 8) خلاصة الخزرجي (493) كنز العمال (13/ 693) شذرات الذهب (1/ 258) أعلام النساء لكحالة (3/ 9) وقد استلت ترجمتها من سير أعلام النبلاء وطبعت في كتاب مستقل بدمشق سنة 1945 م.
(4)
ما بين حاصرتين ليس في ب.
(5)
السقط -بالفتح والضم والكسر، والكسر أكثر- الولد الذي يسقط من بطن أمه قبل تمامه.
(6)
"السرقة": قطعة من جيد الحرير.
(7)
أخرجه البخاري (7012)، ومسلم (2438) في الفضائل: باب فضل عائشة.
(8)
رواه البخاري رقم (5081) وانظر الفتح.
تعاقب الأزمان. [وقد ذكرنا ذلك مفصَّلًا فيما سلف، وشرحنا الآياتِ والأحاديثَ الواردة في ذلك في غزوة المُرَيْسِيع، وبسطنا ذلك أيضًا في كتاب التفسير بما فيه كفاية ومَقْنع وللَّه الحمد والمنّة]
(1)
. وقد أجمع العلماء على تكفير مَنْ قذفها بعد براءتها، واختلفوا في بقيَّة أمهات المؤمنين: هل يكفر مَنْ قذفهنَّ أم لا؟ على قولين، وأصحُّهما أنه يكفر لأن المقذوفة زوجة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، واللَّه تعالى إنَّما غضب لها لأنَّها زوجة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فهي وغيرها منهن سواء.
ومن خصائصها رضي الله عنها أنها كان لها في القَسْم يومان يومها ويوم سَوْدة [حين وهبتها ذلك تقرُّبًا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم]
(2)
.
وأنه مات في يومها وفي بيتها وبين سَحرها ونَحرها، وجمع اللَّه بين ريقه وريقها في آخر ساعة من ساعاته من الدنيا وأول ساعة من الآخرة، ودُفن في بيتها
(3)
.
وقد قال الإمام أحمد
(4)
: حدَّثنا وكيع، عن إسماعيل، عن مصعب بن إسحاق بن طلحة، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إنَّه ليُهَوّنُ عليَّ أنِّي رأيتُ بياضَ كف عائشَةَ في الجنَّة". تفرد به أحمد.
[وهذا في غاية ما يكون من المحبَّة العظيمة أن يرتاح لأنه رأى بياض كفِّ عائشة أمامه في الجنَّة]
(5)
.
ومن خصائصها أنها أعلم نساء النبي صلى الله عليه وسلم بل هي أعلم النساء على الإطلاق. قال الزُّهري: لو جُمع علمُ عائشةَ إلى علم جميع أزواجه وعلم جميع النساء لكان علمُ عائشةَ أفضل
(6)
.
وقال عطاء بن أبي رباح: كانت عائشةُ أفقهَ الناس، وأعلمَ الناس، وأحسنَ الناس رأيًا في العامة.
وقال عُروة: ما رأيت أحدًا أعلم بفقهٍ ولا طبٍّ ولا شعرٍ من عائشة، ولم تروِ امرأة ولا رجل -غير أبي هريرة- عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من الأحاديث بقدر روايتها.
وقال أبو موسى الأشعري: ما أشكلَ علينا -أصحابَ محمد- حديثٌ قط فسألنا عائشةَ إلَّا وجدنا عندها منه عِلمًا. رواه الترمذي
(7)
.
وقال أبو الضّحى عن مَسْروق: رأيت مشيخة أصحاب محمد الأكابر يسألونها عن الفرائض.
(1)
ما بين حاصرتين ليس في أ.
(2)
ما بين حاصرتين ليس في أ. وقد تقدم ذلك خلال ترجمة سودة بنت زمعة.
(3)
تقدم ذلك ضمن حديث صحيح خلال ترجمة عبد الرحمن بن أبي بكر.
(4)
في مسنده (6/ 138) وفي إسناده ضعف.
(5)
ما بين حاصرتين ليس في أ.
(6)
أخرجه الحاكم في مستدركه (4/ 11).
(7)
(3883) في المناقب: باب من فضل عائشة، وهو حديث صحيح.
وأما ما يلهَجُ به كثير من الفقهاء وعلماء الأصول من إيراد حديث: "خُذُوا شَطْر دينكم عن هذه الحُمَيْراء" فإنه ليس له أصل، ولا هو مثبت في شيء من أصول الإسلام، وسألت عنه شيخنا أبا الحجّاج المزِّي، فقال: لا أصلَ له
(1)
.
ثم لم يكن من النساء أعلم من تلميذاتها: عَمْرة بنت عبد الرحمن، وحَفْصة بنت سِيرين، وعائشة بنت طَلْحة.
وقد تفرَّدت أمُّ المؤمنين عائشةُ بمسائلَ عن الصحابة لم توجد إلَّا عندها، وانفردت باختيارات "أيضًا وردت أخبارٌ بخلافها بنوع من التأويل. وقد جمع ذلك غير واحد من الأئمة.
وقال الشعبي: كان مسروقٌ إذا حدَّث عن عائشة قال: حدّثتني الصِّدِّيقة بنت الصِّدِّيق، حبيبةُ رسول اللَّه، المبرَّأة من فوق سبع سماوات.
وثبت في "صحيح البخاري" من حديث أبي عثمان النَّهْدي، عن عمرو بن العاص أنه قال:"قلت يا رسول اللَّه، أيُّ الناسِ أحبُّ إليك؟ قال: عائشة، قلت: ومن الرجال؟ قال: أبوها"
(2)
.
وفي "صحيح البخاري" أيضًا عن أبي موسى قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "كَمُلَ من الرَّجالِ كَثير، ولم يكمُلْ من النِّساء إلَّا مريمُ بنتُ عمران، وخديجة بنت خُوَيلد، وآسِيَةُ امرأةُ فرعون، وفضلُ عائشةَ على النّساءِ كفضلِ الثَّرِيد على سائِر الطَّعام"
(3)
.
وقد استدل كثير من العلماء ممَّن ذهب إلى تفضيل عائشة على خديجة بهذا الحديث وقال: فإنه دخل فيه سائر النساء الثلاث المذكورات وغيرهن. ويعضُد ذلك أيضًا الحديث الذي رواه البخاري أيضًا: حدّثنا إسماعيل بن خليل، حدّثنا علي بن مُسْهر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: استأذنتْ هالَةُ بنت خُوَيلد -أخت خديجة- على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فعرف استئذان خديجة، فارتاع لذلك، فقال: اللهمَّ هالَة. قالت عائشة: فغرت وقلت: ما تذكر من عجوز من عجائز قريش حمراء الشِّدقين هلكتْ في الدهر الأول، قد أبدلكَ اللَّهُ خيرًا منها؟! ". هكذا رواه البخاري
(4)
، فأما ما يُروى فيه من الزيادة:"واللَّهِ ما أبدلَني خيرًا منها" فليس يصحُّ سندها. وقد ذكرنا ذلك مطوَّلًا عند وفاة خديجة، وذكرنا حُجَّة من ذهب إلى تفضيلها على عائشة بما أغنى عن إعادته هاهنا.
(1)
ولذلك ساقه أصحاب كتب الموضوعات، فذكره السيوطي في الدرر المنتثرة ص (79)، وعلي القاري في الأسرار المرفوعة ص (190). والشوكاني في الفوائد المجموعة ص (399).
(2)
أخرجه البخاري رقم (4358) ومسلم (2384) في فضائل الصحابة: باب من فضائل أبي بكر.
(3)
أخرجه البخاري رقم (3411) ومسلم (2431) في فضائل الصحابة: باب فضل خديجة.
(4)
هو في البخاري معلقًا رقم (3821) قال الحافظ في الفمْح: كذا فيِ جميع النسخ التي اتصلت إلينا بصيغة التعليق، لكن صنيع المزي -وعنه تلميذه المؤلف- يقتضي أنه أخرجه موصولًا، وصله أبو عوانة، ومسلم رقم (2437).
وروى البخاري عن عائشة: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال يومًا: "يا عائِشُ، هذا جبريلُ يُقرِئُكِ السَّلام، فقال: وعليهِ السَّلام ورحمةُ اللَّهِ وبركاتُه، تَرى ما لا أرى"
(1)
.
وثبت في "صحيح البخارى" أن الناس كانوا يتحرَّون بهداياهم يوم عائشة، فاجتمع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إلى أمِّ سلَمة وقلنَ لها: قُولي له يأمر الناس أن يُهْدوا له حيث كان، فقالت أمُّ سلَمة: فلمَّا دخل عليَّ قلتُ له ذلك، فأعرضي عني، ثم قلنَ لا ذلك، فقالت له، فأعرض عنها. ثم لمَّا دار إليها قالت له، فقال:"يا أمَّ سلَمة لا تُؤْذيني في عائشة، فإنَّه واللَّهِ ما نزلَ عليَّ الوحيُ وأنا في لِحَاف امرأةٍ منكنَّ غيرها". وذكر أنهنَّ بعثنَ فاطمةَ ابنتَه إليه فقالت: إنَّ نساءَك يَنْشُدْنَكَ العدلَ في ابنة أبي بكر بن أبي قُحافة، فقال: يا بُنَيَّة، ألا تُحبِّين مَنْ أحِبُّ؟ قال: قلت: بلَى، قال: فأَحِبِّي هذه". ثم بعثنَ زينب بنت جَحش، فدخلت على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وعنده عائشة، فتكلَّمت زينبُ ونالتْ من عائشة [فانتصرتْ عائشةُ منها وكلَّمتها حتى أَفْحمتها، فجعل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ينظرُ إلى عائشةَ]
(2)
ويقول: "إنَّها ابنةُ أبي بكر"
(3)
.
وذكرنا أن عمّارًا لما جاء يستصرخ النَّاسَ ويستنفرهم إلى قتال طَلْحة والزُّبير أيام الجَمَل، صَعِد هو والحسن بن عليٍّ على منبر الكوفة، فسمع عمّارٌ رجلًا ينال من عائشة، فقال له: اسكُتْ مَقْبوحًا مَنْبوذًا، واللَّه إنَّها لَزوجةُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، ولكن اللَّهَ ابتلاكم ليعلمَ إيّاهُ تطيعونَ أو إيّاها
(4)
.
وقال الإمام أحمد: حدّثنا معاوية بن عمرو، حدَّثنا زائدة، حدَّثنا عبد اللَّه بن خُثيم، حدّثني عبد اللَّه بن أبي مُليكة أنه حدّثه ذكوان -حاجب عائشة- أنه جاء عبد اللَّه بن عباس يستأذن على عائشة، فجئت -وعند رأسها ابن أخيها عبدُ اللَّه بن عبد الرحمن- فقلت: هذا ابنُ عباس يستأذن، فأكبَّ عليها ابن أخيها عبد اللَّه فقال: هذا عبد اللَّه بن عباس يستأذن -وهي تموت- فقالت: دَعْني من ابن عباس، فقال: يا أمّاه إنَّ ابن عباس من صالح بَنيك يسلِّم عليك ويودِّعك، فقالت: ائذنْ له إن شئت، قال: فأدخلته، فلمّا جلس قال: أبشري، فقالت: بماذا؟ فقال: ما بينك وبين أن تلقَي محمدًا والأحبَّة ألَّا أن تخرج الروح من الجسد، وقد كنتِ أحبَّ نساء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إليه، ولم يكن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يحبُّ إلّا طيِّبًا، وسقطتْ قِلادتُك ليلة الأَبْواء فأصبح رسول صلى الله عليه وسلم وأصبح الناس وليس معهم ماء، فأنزل اللَّه آية التيمُّم
(5)
، فكان ذلك في سَببك، وما أنزل اللَّه من الرُّخصة لهذه الأمة. وأنزل اللَّه براءَتَك من فوق سبع سماوات، جاء بها الروح الأمين، فأصبح ليس مسجدٌ من مساجد اللَّه إلَّا تُتْلى فيه آناء الليل وآناء النهار.
(1)
أخرجه البخاري (3768) في فضل عائشة، ومسلم (2447)(91).
(2)
ما بين حاصرتين سقط من أ.
(3)
أخرجه البخاري رقم (2581) في الهبة: باب من أهدى إلى صاحبه وتحرى بعض نسائه دون بعض.
(4)
أخرجه البخاري رقم (3772) في الفضائل: باب فضل عائشة.
(5)
يعني قوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43].
فقالت: دَعْني منك يا بن عباس، والذي نفسي بيده لوددتُ أني كنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا
(1)
.
والأحاديث في فضائلها ومناقبها كثيرة جدًّا.
وقد كانت وفاتها في هذا العام سنة ثمان وخمسين، وقيل: قبلَه بسنة، وقيل: بعده بسنة، والمشهور في رمضان منه وقيل: في شوال، والأشهر ليلة الثلاثاء السابع عشر من رمضان. وأوصت أن تُدفن بالبقيع ليلًا. وصلى عليها أبو هريرة بعد صلاة الوتر. ونزل في قبرها خمسة وهم: عبد اللَّه وعروة ابنا الزبير بن العوّام من أختها أسماء بنت أبي بكر، والقاسم وعبد اللَّه ابنا أخيها محمد بن أبي بكر، و [عبد اللَّه بن]
(2)
عبد الرحمن بن أبي بكر. وكان عمرها يومئذ سبعًا وستين سنة، لأنه توفي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وعمرها ثمان عشرة سنة، وكان عمرها عام الهجرة ثماني سنين أو تسع سنين، فاللَّه أعلم.
ثم دخلت سنة تسع وخمسين
فيها كان مشتى عَمرو بن مرَّة الجُهَني في أرض الروم في البرّ. قال الواقدي: ولم يكن فيها غزوٌ [في البحر، وقال غيره: بل غزا في البحر عامئذ جُنادة بن أبي أميَّة]
(3)
.
وفيها عزل معاويةُ ابنَ أمِّ الحكم عن الكوفة لسوء سيرته فيهم، وولَى عليه النُّعمان بن بَشير.
وفيها ولَّى معاويةُ عبدَ الرحمن بن زياد ولاية خراسان، وعزل عنها سعيد بن عثمان بن عفّان، فصار عبيد اللَّه على البصرة، وعبّاد بن زياد على سِجسْتان، وعبد الرحمن بن زياد على خراسان. ولم يزل عبد الرحمن عليها إلى زمن يزيد، فقدم عليه بعد مقتل الحسين، فقال له: كم قدمتَ به من المال؟ قال: عشرون ألف ألف، فقال له: إن شئتَ حاسبناك، وإن شئتَ سوَّغناكها وعزلناك عنها على أن تعطي عبد اللَّه بن جعفر خمسمئة ألف درهم، قال: بل سَوِّغها، وأما عبد اللَّه بن جعفر فأُعطيه ما قلتَ ومثلَها معها، فعزله وولَّى غيره، وبعث عبد الرحمن إلى عبد اللَّه بن جعفر بالف ألف درهم وقال: خمسمئة ألف من جهة أمير المؤمنين، وخمسمئة ألف من قِبَلي.
وفي هذه السنة وفد عبيد اللَّه بن زياد على معاوية ومعه أشراف أهل البصرة والعراق، فاستأذن لهم عبيد اللَّه
(4)
عليه على منازلهم منه، وكان من آخر مَنْ أدخله على معاوية الأحنفُ بن قيس -ولم يكن عبيد اللَّه يجلُّه- فلما رأى معاوية الأحنف رحَّب به وعظَّمه وأجلَّه وأجلسه معه على السرير، ثم تكلَّم القوم فأثنوا على عبيد اللَّه والأحنفُ ساكت، فقال له معاوية: مالك يا أبا بحر لا تتكلَّم؟ فقال له: إن تكلمتُ خالفتُ
(1)
أخرجه أحمد في مسنده (1/ 276) وهو حديث صحيح.
(2)
سقط من أ. والخبر فى طبقات ابن سعد (8/ 77).
(3)
ما بين حاصرتين سقط من أ. وقد أورده الطبري في تاريخه (5/ 315).
(4)
تحرف في المطبوع إلى: عبد اللَّه.
القوم، فقال معاوية: انهضوا فقد عزلتُه عنكم فاطلبوا واليًا ترضَوْنه، فمكثوا أيامًا يتردَّدون إلى أشراف بني أميَّة يسألون كل واحد منهم أن يتولى عليهم، فلم يقبل أحد منهم ذلك. ثم جمعهم معاوية فقال: من اخترتم؟ فاختلفوا عليه والأحنفُ ساكت، فقال له معاوية: مالك لا تتكلَّم؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إن ولَّيت علينا من أهل بيتك فإنا لا نعدل بعبيد اللَّه بن زياد أحدًا، وإن ولَّيت علينا من غيرهم فانظر لنا في ذلك، فقال معاوية: قد أعدتُه إليكم. ثم إن معاوية أوصى عُبيد اللَّه بن زياد بالأحنف خيرًا، وقبَّح رأيه في مباعدته، فكان الأحنف بعد ذلك من أخص أصحاب عبيد اللَّه، ولمَّا وقعت الفتنة لم يَفِ لعبيد اللَّه غيرُ الأحنف بن قيس.
قصة يَزيد بن رَبيعة بن مُفَرِّغ الحِمْيَري مع ابني زياد: عُبيد اللَّه وعبّاد
ذكر ابن جرير
(1)
عن أبي عبيدة معمر بن المثنّى وغيره: أن هذا الرجل كان شاعرًا وكان مع عبّاد بن زياد بسِجسْتان، فاشتغل عنه بحرب الترك، وضاق على الناس عَلَف الدواب، فقال ابن مفرِّغ شعرًا يهجو به ابن زياد على ما كان منه فقال:
ألَا ليتَ اللِّحَى كانَتْ حَشِيشًا
…
فنَعْلِفَها خيولَ المُسْلمينا
وكان عبَّاد بن زياد عظيم اللحية كبيرها جدًا، فبلغه ذلك، فغضب وتطلَّبه، فهرب منه وقال فيه قصائد يهجوه بها كثيرة، فمن ذلك قوله:
إذا أَوْدى معاويةُ بنُ حَرْبٍ
…
فبَشر شعْبَ قَعْبِكَ بانْصِدَاع
فاَشْهَدُ أنَّ أفَكَ لم تُباشِرْ
…
أبا سُفيانَ واضعَةَ القِنَاع
ولكنْ كانَ أمرًا فيه لَبْسٌ
…
علَى خَوْفٍ شَديدٍ وارْتِيَاع
وقال أيضًا:
ألَا أَبلِغْ مُعاويةَ بنَ حَرْبٍ
…
مُغَلْغَلَةً من الرَّجُل اليَمَاني
أتَغْضَبُ أنْ يُقالَ أبوكَ عَفٌّ
…
وتَرْضى أنْ يُقالَ أبوكَ زاني
فأَشْهَدُ أنَّ رِحْمَكَ من زيادٍ
…
كرِحْمِ الفيلِ من وَلَدِ الأَتان
فكتب عبّاد بن زياد إلى أخيه عبيد اللَّه وهو وافد على معاوية بهذه الأبيات، فقرأها عبيد اللَّه على معاويةَ واستأذنه في قتله، فقال: لا تقتله ولكن أَدِّبه ولا تبلغ به القتل. فلمّا رجع عُبيد اللَّه إلى البصرة استحضره، وكان قد استجار بوالد زوجة عُبيد اللَّه بن زياد وهو المُنْذر بن الجارود، وكانت ابنتُه بَجْريَّة
(1)
في تاريخه (5/ 317 - 321).
عند عُبيد اللَّه، فأجاره وآواه إلى داره. وجاء الجارود مسلِّمًا على عبيد اللَّه، وبعث عبيد اللَّه الشُّرَط إلى دار المنذر، فجاؤوا بابن مفرِّغ فأُوقف بين يديه، فقال المنذر: إني قد أجرتُه، فقال: يمدحك ويمدح أباك فترضى عنه، ويهجوني ويهجو أبي ثم تُجيره عليّ؟! ثم أمر عبيد اللَّه بابن مفزغ فسُقي دواءً مُسْهلًا، وحملوه على حمار عليه إكاف وجعلوا يطوفون به في الأسواق وهو يَسْلَح والناس ينظرون إليه، ثم أمر به فنُفي إلى سِجسْتان إلى عند أخيه عبّاد، فقال ابن مفرِّغ لعبيد اللَّه بن زياد:
يَغْسِلُ الماءُ ما صَنَعْتَ وقَوْلي
…
راسخٌ منكَ في العِظامِ البَوَالي
فلما أَمر عبيد اللَّه بنفي ابن مفرِّغ إلى سِجسْتان كلَّم اليمانيّون معاوية في أمر ابن مفرِّغ: أنَّه إنَّما بعثه إلى أخيه ليقتلَه، فبعث معاوية إلى ابن مفرِّغ وأحضره، فلمَّا وقف بين يديه بكى وشكا إلى معاوية ما فعل به ابن زياد، فقال له معاوية: إنك هجوتَه، ألستَ القائل كذا؟ ألستَ القائل كذا؟ فأنكر أن يكون قال من ذلك شيئًا، وذكر أن القائل ذلك هو عبد الرحمن بن الحكم أخو مروان وأحبَّ أن يُسْندها إليّ، فغضب معاوية على عبد الرحمن بن الحكم ومنَعَه العطاء حتى يرضى عنه عبيد اللَّه بن زياد. وأنشد ابنُ مفرِّغ ما قاله في الطريق في معاوية يخاطب راحلته:
عَدَسْ ما لعبّاد عليكِ إمارةٌ
…
نَجَوْتِ وهذا تحملِينَ طَلِيقٌ
(1)
لَعَمْري لقَدْ نجّاكِ من هُوَّةِ الرَّدى
…
إمامٌ وحَبْلٌ للأنام وَثِيقُ
سأشكُرُ ما أَوْليتَ من حُسْنِ نِعمةٍ
…
ومثلي بشُكْرِ المُنْعِمِينَ حَقِيقُ
فقال له معاوية: أما لو كنّا نحن الذين هَجَوْتنا لم يكن من أذانا شيء يصل إليك ولم نتعرض لذلك، فقال: يا أمير المؤمنين! إنه ارتكب فيَّ ما لم يرتكب مسلمٌ من مسلمٍ على غير حَدَثٍ ولا جُرْم، قال: ألستَ القائل كذا؟ ألستَ القائل كذا؟ فقد عفونا عن جُرْمك، أما إنك لو إيانا تعامل لم يكن مما كان شيء، فانظر الآن من تخاطب ومن تشاكل، فليس كل أحد يحتمل الهجاء، ولا تعامل أحدًا إلّا بالحُسْنى، وانظر لنفسك أي البلاد أحبّ إليك تقيم بها حتى نبعثك إليها، فاختار المَوْصل، فأرسله إليها، ثم استأذن عبيد اللَّه في القدوم إلى البصرة والمقام بها، فاذن له. ثم إن عبد الرحمن ركب إلى عُبيد اللَّه فاسترضاه، فرضي عنه، وأنشده عبد الرحمن:
لأَنتَ زيادةٌ في آلِ حَرْبٍ
…
أحبُّ إليَّ من إحدَى بَناني
أراكَ أخأ وعمّا وابنَ عمٍّ
…
فلا أَدرِي بغَيْبٍ ما تَراني
(1)
"عدس": اسم البغلة، أو: كلمة زجر للبغال. والبيت شاهد مشهور في النحو على أن هذا بمعنى الذي. مغني اللبيب (ص 514) وخزانة الأدب (2/ 514).
فقال له عبيد اللَّه: أراك واللَّهِ شاعر سَوْء، ثم رضي عنه، وأعاد إليه ما كان منعه من العطاء
(1)
.
قال أبو معشر والواقدي: وحجَّ بالناس في هذه السنة عثمان بن محمد بن أبي سفيان. وكان نائب المدينة الوليد بن عُتبة بن أبي سفيان، وعلى الكوفة النُّعمان بن بَشير وقاضيها شُريح، وعلى البصرة عبيد اللَّه بن زياد [وقاضيها هشام بن هُبيرة]
(2)
وعلى سِجسْتان عبّاد بن زياد، وعلى كَرْمان شَريك بن الأعور الحارثي، من قِبَل عبيد اللَّه بن زياد.
ذكر من توفي في هذه السنة من الأعيان:
قال ابن الجوزي: توفي فيها أسامة بن زيد، والصحيح قبلها كما تقدم
(3)
.
الحُطَيئةُ الشاعر
(4)
: واسمه: جَرْول [بن أوس]
(5)
بن مالك بن جُؤَيَّة بن مخزوم بن مالك بن قُطَيعة ابن عَبْس
(6)
، أبو
(7)
مُلَيكة، الشاعر الملقب بالحُطَيئة لقِصَرِه.
أدرك الجاهلية، وأسلم في زمن الصدِّيق.
وكان كثير الهجاء حتى يقال: إنَّه هجا أباه وأمَّه، وخاله وعمَّه، ونفسه وعِرْسه
(8)
. فمما قال في أمِّه:
تَنَحَّيْ فاقعُدي عَنِّي بَعيدًا
…
أَراحَ اللَّهُ منكِ العالَمِينا
أَغِرْبالًا إذا استُودِعْتِ سِرًّا
…
وكانُونًا على المُتحدِّثينا
جَزاكِ اللَّهُ شَرًّا من عَجُوزٍ
…
ولقَّاكِ العُقُوقَ منَ البَنِينا
(9)
وقال في أبيه وعمِّه وخاله:
(1)
الخبر بطوله أيضًا في الكامل لابن الأثير (3/ 522 - 525) وهو أيضًا في: الأغاني (18/ 256) وما بعدها، والشعر والشعراء (1/ 360 - 364) ولسان العرب: مادة (عدس).
(2)
ما بين حاصرتين سقط من ط.
(3)
الترجمة في وفيات سنة 54 هـ.
(4)
مقدمة ديوانه بتحقيق نعمان أمين طه، طبقات ابن سلام (1/ 110) المعمرون والوصايا (134) الشعر والشعراء (1/ 322) المعارف (594) الاشتقاق (279) العقد الفريد (1/ 283) الأغاني (2/ 157) رسالة الغفران (307) أسد الغابة (2/ 32) مختصر تاريخ دمشق (6/ 20) فوات الوفيات (1/ 276) خزانة الأدب (1/ 409).
(5)
ليس في الأصول، واستدركته من مصادر ترجمة الشاعر.
(6)
تحرف في (أ) و (ط) إلى: عيسى.
(7)
في أ وط: بن. وهو خطأ، فكنية الحطيئة: أبو مليكة، نسبة إلى ابنته.
(8)
يعني: امرأته.
(9)
ديوان الحطيئة (ص 277).
لَحَاكَ اللَّهُ ثمَّ لَحَاكَ حقًّا
…
أَبًا ولَحَاكَ منْ عمٍّ وخال
فنعمَ الشَّيخُ أنتَ لدَى المَخَازي
…
وبئسَ الشَّيخُ أنتَ لدَى المَعَالي
(1)
ومما قال في نفسه يذمُّها:
أَبَتْ شَفَتايَ اليومَ إلّا تَكلّما
…
بِشَرٍّ فما أَدري لمَنْ أنا قائِلُهْ
أرى ليَ وجهًا شَوَّهَ اللَّهُ خَلْقَهُ
…
فقُبِّحَ من وجهٍ وقُبِّحَ حامِلُه
(2)
وقد شكاه الناس إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، فأحضره وحبسَه، وكان سبب ذلك الزِّبْرقان بن بدر، شكاه لعمر أنه قال له يهجوه:
دَعِ المكارمَ لا ترحلْ لبُغْيَتها
…
واقعُدْ فإنَّكَ أنتَ الطّاعمُ الكاسي
(3)
فقال له عمر: ما أراه هجاك، أما ترضى أن تكون طاعمًا كَاسيًا؟ فقال: يا أمير المؤمنين! إنه لا يكون هجاء أشدّ من هذا، فبعث عمر إلى حسان بن ثابت فسأله عن ذلك، فقال: يا أمير المؤمنين! ما هجاه ولكنْ سلَح عليه. فعند ذلك حبسه عمر وقال: يا خبيث! لأشغلنَّك عن أعراض المسلمين. ثم شفّع فيه عمرو بن العاص، فأخرجه وأخذ عليه العهد أن لا يهجو الناس واستتابه، ويقال: إنه أراد أن يقطع لسانه، فشفّعوا فيه حتى أطلقه.
وقال الزبير بن بكّار: حدثني محمد بن الضحّاك عن عثمان الحِزَامي
(4)
، عن عبد اللَّه بن مصعب، حدثني عن ربيعة بن عثمان، عن زيد بن أسلم، عن أبيه قال: أمر عمر بإخراج الحُطَيئة من الحبس، وقد كلَّمه فيه عمرو بن العاص وغيره، فأُخرج وأنا حاضر، فأنشأ يقول:
ماذا تقولُ لأَفراخٍ بذي مَرَخٍ
…
زُغْبِ الحواصِلِ لا ماءٌ ولا شَجَرُ
غادرتَ كاسِبَهم في قَعْر مُظْلمةٍ
…
فارحَمْ هداكَ مليكُ الناسِ يا عُمَرُ
أنتَ الإمامُ الذي من بعد صاحِبِه
…
أَلقى إليكَ مقاليدَ النُّهى البَشَرُ
لم يُؤْثروكَ بها إذ قدَّموك لها
…
لكنْ لأنفسِهم كانتْ بكَ الأَثَرُ
فامنُنْ على صِبيةٍ بالرّمل مسْكنُهمْ
…
بينَ الأباطح يَغْشاهُم بها القَدَرُ
نفسي فداؤُكَ كم بيني وبينَهُمُ
…
من عَرضِ داويَّةٍ يعمى بها الخَبَرْ
(5)
(1)
ديوان الحطيئة (ص 276). وقوله: لحاك اللَّه يعني: قبَّحك ولعنك.
(2)
ديوان الحطيئة (ص 282).
(3)
ديوان الحطيئة (ص 283 - 284).
(4)
تحرفت في المطبوع إلى: الحرامي.
(5)
الأبيات في ديوان الحطيئة (ص 208 - 209) مع اختلاف ببعض الألفاظ. "والداويّة": المفازة.
قال: فلما قال الحُطيئة: ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ، بكى عمر، فقال عمرو بن العاص: ما أظلَّت الخضراء ولا أقلَّت الغبراء أعدل من رجل يبكي على تركه الحُطيئة. ثم ذكر أنه أراد قطع لسان الحُطَيئة لئلّا يهجو به الناس، فأجلسه على كرسي وجيء بالموسى، فقال الناس: لا يعود يا أمير المؤمنين، وأشاروا إليه قل: لا أعود، فقال له عمر: النَّجاء، فلمّا ولَى قال له عمر: ارجع يا حُطيئة، فرجع، فقال له: كأني بك عند شاب من قريش قد كسَر لك نُمْرُقَة
(1)
وبسَط لك أخرى وقال: يا حُطيئة غنِّنا، فاندفعتَ تغنِّيه بأعراض الناس. قال أسلم: فرأيت الحُطيئة بعد ذلك عند عبيد اللَّه بن عمر وقد كسَر له نُمْرُقَة وسسط له أخرى وقال: يا حُطيئة غنِّنا، فاندفع حُطيئة يغني، فقلت له: يا حُطيئة! أتذكر يوم عمر حين قال لك ما قال؟ ففزع وقال: رحم اللَّه ذلك المرء، لو كان حيًّا ما فعلنا هذا، فقلت لعبيد اللَّه: إني سمعت أباك يقول كذا وكذا فكنتَ أنت ذلك الرجل.
وقال الزبير: حدَّثني محمد بن الضحّاك عن أبيه قال: قال عمر للحُطيئة: دع قول الشعر، قال: لا أستطيع، قال: لمَ؟ قال: هو مَأْكلة عيالي وعلَّة لساني، قال: فدع المِدْحة المُجْحفة، قال: وما هي يا أمير المؤمنين؟ قال: تقول: بنو فلان أفضل من بني فلان، امدح ولا تفضِّل، فقال: أنت أشعر مني يا أمير المؤمنين.
ومن مديحه الجيِّد المشهور قوله:
أَقِلُّوا علَيهِمْ لا أَبا لأَبيكُمُ
…
من اللَّوْم أو سَدُّوا المكانَ الذي سَدُّوا
أولئِكَ قومٌ إنْ بَنَوا أحسَنُوا البُنا
…
وإنْ عاهَدُوا أَوْفَوْا وإنْ عقَدُوا شَدُّوا
وإنْ كانتِ النَّعماءُ فيهم جَزَوْا بها
…
وإنْ أنعَمُوا لا كَدَّرُوها ولاكَدُّوا
(2)
قالوا: ولما احتُضر الحُطيئة قيل له: أَوصِ، قال: أُوصيكم بالشعر، ثم قال:
الشِّعر صَعْبٌ وطويلٌ سُلَّمُهْ
…
إذا ارتَقى فيهِ الذي لا يَعْلَمُهْ
زَلَّتْ بهِ إلى الحَضِيض قَدَمُهْ
…
والشِّعر لا يَسْطِيعُهُ مَنْ يَظْلِمُهْ
يُريدُ أنْ يُعْرِبَهُ فيُعْجِمُه
(3)
قال أبو الفرج ابن الجوزي في "المنتظم": توفي الحطيئة في هذه السنة. وذكر أيضًا فيها وفاة عبد اللَّه بن عامر بن كُريز، وقد تقدَّم في التي قبلها.
(1)
"النمرقة": الوسادة الصغيرة.
(2)
ديوان الحطيئة (ص 140).
(3)
ديوان الحطيئة (ص 356) ضمن وصية أدبية ظريفة.
عبد اللَّه بن مالك بن القِشْب
(1)
: واسمه جُنْدُب بن نَضْلَة بن عبد اللَّه بن رافع الأَزدي، أبو محمد، حليف بني عبد المطَّلب، المعروف بابن بُحَيْنَة [وهي أمُّه بُحَيْنة]
(2)
بنت الأَرَتّ بن المطَّلب بن عبد مناف.
أسلم قديمًا، وصحب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وكان ناسكًا صوّامًا قوّامًا، وكان ممَّن يسرُد صوم الدهر كله.
قال ابن سعد: كان ينزل بطنَ رِيم على ثلاثين ميلًا من المدينة، ومات في عمل مروان في المرَّة الثانية، ما بين سنة أربع وخمسين إلى ثمان وخمسين.
والعجب أن ابن الجَوْزي نقل من كلام محمد بن سعد، ثم إنه ذكر وفاته في هذه السنة - يعني سنة تسع وخمسين، فاللَّه أعلم.
قيس بن سَعد بن عُبَادة الأنصاريُّ الخَزْرجي
(3)
: صحابي جليل كأبيه. له في "الصحيحين" حديث القيام للجنازة
(4)
، وله في "المسند" حديث في صوم عاشوراء
(5)
، وحديث غسل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في دارهم
(6)
، وغير ذلك
(7)
.
(1)
طبقات ابن سعد (4/ 342) مسند أحمد (5/ 344) تاريخ البخاري الكبير (5/ ت 17) المعارف (325) المعرفة والتاريخ (2/ 213، 214) الجرح والتعديل (5/ 150) ثقات ابن حبان (3/ 216) مشاهير علماء الأمصار (ت 47) الاستيعاب (3/ 982) الجمع لابن القيسراني (1/ 242) أنساب السمعاني (1/ 226) أسد الغابة (3/ 375) تهذيب الأسماء واللغات (1/ 261) تهذيب الكمال (15/ 508) تذهيب التهذيب (2/ ورقة 178) تجريد أسماء الصحابة (1/ ت 3515) الكاشف (2/ 109) إكمال مغلطاي (2/ ورقة 415) نهاية السول (ورقة 185) الإصابة (2/ ت 4928) تهذيب التهذيب (5/ 381) خلاصة الخزرجي (211).
(2)
ليس في ب.
(3)
طبقات ابن سعد (6/ 52) طبقات خليفة (ت 603، 973، 2556، 2722) مسند أحمد (3/ 421 و 6/ 6) المحبر (155، 184، 233، 292، 305) تاريخ البخاري الكبير (7/ 141) المعارف (259، 593) المعرفة والتاريخ (1/ 299) تاريخ الطبري (4/ 546 و 5/ 163) الجرح والتعديل (7/ 99) مروج الذهب (3/ 25) مشاهير علماء الأمصار (ت 418) الولاة والقضاة (20) جمهرة أنساب العرب (365) الاستيعاب (3/ 1289) تاريخ بغداد (1/ 177) الجمع بين رجال الصحيحين (2/ 417) تاريخ ابن عساكر (14/ 224/ ب) جامع الأصول (9/ 101) أسد الغابة (4/ 424) الكامل في التاريخ (3/ 268) تهذيب الأسماء واللغات (1/ 2/ 61) مختصر تاريخ دمشق (21/ 102) تهذيب الكمال (ورقة 1135) تاريخ الإسلام (2/ 311) سير أعلام النبلاء (3/ 102) تذهيب التهذيب (3/ 163/ ب) الكاشف (2/ 348) تهذيب التهذيب (8/ 395) الإصابة (3/ 249) النجوم الزاهرة (1/ 95) حسن المحاضرة (1/ 227) خلاصة الخزرجي (317).
(4)
رواه البخاري رقم (1312) ومسلم رقم (961).
(5)
رواه أحمد (6/ 6) والنسائي (5/ 49) وهو حديث صحيح.
(6)
رواه أحمد (6/ 6) وابن ماجه رقم (466) وهو حديث ضعيف.
(7)
تنظر أحاديثه في تحفة الأشراف للمزي (7/ 526 - 531)، والمسند الجامع (14/ 522 - 532).
وخدم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عشر سنين.
وثبت في "صحيح البخاري"
(1)
عن أنس قال: كان قيس بن سعد من النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم بمنزلة صاحب الشُّرطة من الأمير.
وحمل لواء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في بعض الغزوات، واستعمله على الصَّدَقَة.
ولما بعث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجزاح ومعه ثلاثمئة من المهاجرين والأنصار، فأصابهم ذلك الجهد الكثير، فنحر لهم قيس بن سعد تسع جزائر، حتى وجدوا تلك الدابة على سِيف البحر، فأكلوا منها وأقاموا عليها شهرًا حتى سمنوا.
وكان قيس سيِّدًا مطاعًا كريمًا ممدَّحًا شجاعًا.
ولّاه علي نيابة مصر، وكان يقاوم بدهائه وخديعته وسياسته لمعاوية وعمرو بن العاص، ولم يزل معاوية يعمل عليه حتى عزله [علي]
(2)
عن مصر وولَى عليها محمد بن أبي بكر الصدِّيق، فاستخفَّه معاوية ولم يزل حتى أخذ منه مصر كما قدمنا. وأقام قيس عند عليٍّ فشهد معه صفِّين والنهروان ولزمه حتى قُتل، ثم صار إلى المدينة، فلما اجتمعت الكلمة على معاوية جاءه ليبايعه كما بايعه أصحابه.
قال عبد الرزاق: عن ابن عُيينة قال: قدم قيس بن سعد على معاوية، فقال له معاوية: وأنت يا قيس تُلحِمُ عليَّ مع من أَلحم؟! أما واللَّه لقد كنتُ أحبُّ ألَّا تأتيني هذا اليوم إلّا وقد ظفر بك ظفر من أظفاري مُوجع، فقال له قيس: وأنا واللَّه قد كنت كارهًا أن أقوم في هذا المقام فاحيِّيك بهذه التحيَّة، فقال له معاوية: ولمَ؟ وهل أنت إلَّا حَبرٌ من أحبار يهود؟ فقال له قيس: وأنت يا معاوية كنتَ صنمًا من أصنام الجاهلية، دخلتَ في الإسلام كارهًا وخرجت منه طائعًا، فقال معاوية: اللهم غفرًا، مدَّ يدك، فقال له قيس بن سعد: إن شئت زدت وزدت.
وقال موسى بن عقبة: قالت عجوز لقيس: أشكو إليك قلَّة فأر بيتي، فقال قيس: ما أحسن هذه الكناية! املؤوا بيتها خبرًا ولحمًا وسمنًا وتمرًا
(3)
.
وقال غيره: كانت له صحفة
(4)
يُدار بها حيث دار، وكان ينادي له منادٍ: هلمُّوا إلى اللحم والثَّريد. وكان أبوه وجدُّه من قبله يفعلان كفعله.
(1)
رقم (7155) في الأحكام.
(2)
سقط من أ. والخبر في حسن المحاضرة (1/ 582 - 583).
(3)
العقد الفريد (1/ 256).
(4)
"الصحفة": الجفنة والقصعة.
وقال عروة بن الزبير: باع قيس بن سعد من معاوية أرضًا بتسعين ألفًا، فقدم المدينة فنادى مناديه: من أراد القرض فليأتِ، فأقرض منها خمسين ألفًا، وأطلق الباقي، ثم مرض بعد ذلك فقلَّ عُوّاده، فقال لزوجته قُريبة بنت أبي عتيق أخت أبي بكر الصدِّيق: إني أرى قلَّة عُوّادي في مرضي هذا، وإني لأرى ذلك من أجل مالي على الناس من القرض، فبعث إلى كل رجل ممَّن كان له عليه دَيْن بصكِّه المكتوب عليه، فوهبهم ماله عليهم. [وقيل: إنه أمر مناديَه فنادى: من كان لقيس بن سعد عليه دَيْن فهو منه في حلّ، فما أمسى حتى كُسرت عتبة بابه من كثرة العوّاد]
(1)
. وكان يقول: اللهمَّ ارزقني مالًا وفَعَالًا، فإنه لا تصلح الفَعَال إلّا بالمال
(2)
.
وقال سفيان الثوري: اقترض رجل من قيس بن سعد ثلاثين ألفًا، فلمّا جاء ليوفيَه إياها قال له قيس: إنا قومٌ ما أعطينا أحدًا شيئًا فنرجع فيه.
وقال الهيثم بن عديّ: اختلف ثلاثة عند الكعبة في أكرم أهل زمانهم، فقال أحدهم: عبد اللَّه بن جعفر، وقال الآخر: قيس بن سعد، وقال الآخر: عَرَابة الأوسي. فتمارَوْا في ذلك حتى ارتفع ضجيجهم عند الكعبة، فقال لهم رجل: فليذهب كل رجل منكم إلى صاحبه الذي يزعم أنه أكرم من غيره، فلينظر ما يعطيه، وليحكم على العِيان. فذهب صاحب عبد اللَّه بن جعفر إليه، فوجده قد وضع رجلَه في الغَرْز
(3)
ليذهب إلى ضيعة له، فقال له: يا بن عمِّ رسول اللَّه! ابنُ سبيل ومُنْقطَع به. قال: فأخرج رجلَه من الغَرْز وقال: ضع رجلك واستَوِ عليها فهي لك بما عليها، وخُذْ ما في الحقيبة، ولا تخدعن السَّيف فإنه من سيوف علي. فرجع إلى أصحابه بناقة عظيمة، وإذا في الحقيبة أربعة آلاف دينار، ومطارف وخزّ وغير ذلك، وأجلُّ ذلك سيف علي بن أبي طالب رضي الله عنه. ومضى صاحب قيس بن سعد إليه، فوجده نائمًا، فقالت له الجارية: ما حاجتُك إليه؟ قال: ابنُ سبيل ومنقَطَع به، قالت: فحاجتك أيسرُ من إيقاظه، هذا كيس فيه سبعمئة دينار، ما في دار قيس مال غيره اليوم، واذهب إلى مولانا في مَعَاطن الإبل
(4)
فخذ لك ناقةً وعبدًا واذهب راشدًا. فلمّا استيقظ قيس من نومه أخبرتْه الجارية بما صنعت، فأعتقها [شكرًا على صنيعها ذلك]
(5)
وقال: هلّا أيقظتيني حتى أُعطيَه ما يكفيه، فلعل الذي أعطيتيه لا يقع منه موقع حاجته. وذهب صاحب عَرَابة الأوسي إليه، فوجده وقد خرج من منزله يريد الصلاة وهو يتوكَّأ على عبدَين له -وكان قد كُفَّ بصره- فقال له: يا عَرَابة، فقال: قل، فقال: ابنُ سبيل ومنقَطَعٌ به، قال: فخلَّى عن العبدين، ثم صفَّق بيده اليمنى على اليسرى، ثم قال:
(1)
ما بين حاصرتين سقط من ب.
(2)
تاريخ ابن عساكر (14/ 229/ ب).
(3)
"الغرز": الركاب من الجلد.
(4)
"معاطن الإبل": مبركها حول الحوض.
(5)
سقط من ب.
أوَّه أوه، واللَّه ما أصبحتُ ولا أمسيتُ وقد تركتِ الحقوقُ من مال عَرَابة شيئًا، ولكن خذ هذين العبدَين، قال: ما كنت لأفعل، فقال: إن لم تأخذهما فهما حرّان، فإن شئت فأعتق، وإن شئت فخذ. وأقبل يلتمس الحائط بيده. قال: فأخذهما وجاء بهما إلى صاحبيه. قال: فحكم الناس على أنَّ ابن جعفر قد جاد بمال عظيم، وأنَّ ذلك ليس بمستنكر له، إلَّا أن السَّيف أجلها. وأن قيسًا أحد الأجواد، حكَّم مملوكته في ماله بغير علمه، واستحسن فعلها، وعتقها شكرًا لها على ما فعلت. وأجمعوا على أن أسخى الثلاثة عَرَابة الأوسي [لأنه جاد بجميع ما يملكه، وذلك]
(1)
جهد من مقلّ.
وقال سفيان الثوري: عن عمرو، عن
(2)
أبي صالح قال: قسم سعد بن عبادة ماله بين أولاده، وخرج إلى الشام فمات بها، فوُلد له ولد بعد وفاته، فجاء أبو بكر وعمر إلى قيس بن سعد فقالا: إن أباك قسم ماله ولم يعلم بحال هذا الولد إذ كان حَمْلًا، فاقسِمُوا له معكم. فقال قيس: إنِّي لا أغيِّر ما فعله سعد، ولكن نصيبي له.
ورواه عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن محمد بن سِيرين، فذكره.
ورواه عبد الرزاق عن ابن جُريج: أخبرني عطاء، فذكره.
وقال ابن أبي خَيْثمة: حدَّثنا أبو نعيم، حدَّثنا مِسْعَر، عن مَعْبد بن خالد قال: كان قيس بن سعد لا يزال هكذا رافعًا أصبُعَه المسبحة - يعني يدعو
(3)
.
وقال هشام بن عمّار: حدَّثنا الجرّاح بن مَليح، حدَّثنا أبو رافع، عن قيس بن سعد قال: لولا أني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "المكرُ والخَدِيعَةُ في النار" لكنت من أمكر هذه الأمّةُ
(4)
.
وقال الزهري: دُهاة العرب حين ثارت الفتنة خمسة: معاوية، وعمرو بن العاص، والمُغيرة بن شُعبة، وقيس بن سعد، وعبد اللَّه بن بُدَيل
(5)
وكانا
(6)
مع علي، وكان المغيرة معتزلًا بالطائف حتى حُكِّم الحكمان
(7)
فصار إلى معاوية.
(1)
سقط من ب.
(2)
وقعت في المطبوع بن وهو خطأ. والخبر في سير أعلام النبلاء (3/ 107).
(3)
تاريخ ابن عساكر (14/ 230/ ب).
(4)
أخرجه ابن عدي في الكامل (2/ 584) والبيهقي في "الشعب" رقم (5268) وهو حديث حسن بسند قال فيه الحافظ في الفتح (4/ 298) لا بأس به. وأخرجه الطبراني في الصغير من حديث ابن مسعود، والحاكم في مستدركه من حديث أنس، وإسحاق بن راهويه في مسنده من حديث أبي هريرة. وفي إسناد كل منها مقال، لكن مجموعها يدل على أن للمتن أصلًا، فهو حسن. ومعنى الحديث: أن المكر والخديعة يؤديان بقاصدهما إلى النار.
(5)
تحرف في ب إلى: هذيل. والخبر في تاريخ الطبري (5/ 164). وعبد اللَّه بن بديل هو ابن ورقاء الخزاعي. صحابي جليل، انتهت إليه رئاسة خزاعة، وكان فصيحًا لسنًا، قتل يوم صفين.
(6)
يعني الأخيرين: قيس بن سعد، وعبد اللَّه بن بديل.
(7)
في المطبوع: الخصمان.
وقد تقدم أن محمد بن أبي حذيفة كان قد تغلَّب على مصر وأخرج منها عبد اللَّه بن سعد بن أبي سرح -نائب عثمان بعد عمرو بن العاص- فأقرَّه عليٌّ مدة يسيرة، ثم عزله بقيس بن سعد، فلما دخلها سار فيها سيرة حسنة وضبطها، وذلك سنة ست وثلاثين، فثقل أمره على معاوية وعمرو بن العاص، فكاتباه ليكون معهما على علي، فامتنع وأظهر للناس مُناصحتَه لهما، وفي الباطن هو مع علي، فبلغ ذلك عليًا، فعزله وبعث إلى مصر الأشتر النَّخعي [فمات]
(1)
الأشتر في الرملة قبل أن يصل إليها، فبعث علي محمد بن أبي بكر، فخفَّ أمره على معاوية وعمرو، فلم يزالا حتى أخذا منه الديار المصرية، وقتل محمد بن أبي بكر هذا وأُحرق في جيفة حمار. ثم سار قيس إلى المدينة، ثم صار إلى علي بن أبي طالب بالكوفة، فكان معه في حروبه حتى قُتل علي، ثم كان مع الحسن بن علي حين سار إلى معاوية ليقاتلَه، فكان قيس على مقدمة الجيش، فلما بايع الحسن معاوية ساء قيسًا ذلك وما أحبَّه، وامتنع من طاعته معاوية، ثم ارتحل إلى المدينة، ثم قدم على معاوية في وفد الأنصار، فبايع معاوية بعد معاتبة شديدة وقعت بينهما وكلام فيه غلظة، ثم أكرمه معاوية وقدَّمه، وحظي عنده.
وبينما هو مع الوفود عند معاوية إذ قدم كتاب ملك الروم على معاوية وفيه: أن ابعث إليَّ بسراويل أطول رجل من العرب، فقال معاوية: ما أرانا إلّا قد احتجنا إلى سراويلك -وكان قيس مديد القامة جدًا- فقام قيس فتنحَّى ثم خلع سراويلَه فألقاها إلى معاوية، فقال له معاوية: لو ذهبتَ إلى منزلك ثم أرسلتَ بها إلينا، فأنشأ قيس يقول عند ذلك:
أَردتُ بها كي يعلمَ الناسُ أنَّها
…
سَراويلُ قيسٍ والوفودُ شُهُودُ
وأنْ لا يقولوا غابَ قَيسٌ وهذه
…
سَراويلُ عاديٍّ نَمَتْهُ ثَمُودُ
وإنِّي منَ الحيِّ اليَمَاني لَسَيِّدٌ
…
وما النَّاسُ إلّا سيِّدٌ ومَسُودُ
فكِدْهُمْ بمثلي إنَّ مثلي عَلَيهمُ
…
شديدٌ وخلْقي في الرِّجال مَدِيدُ
وفَضَّلَني في النَّاس أصلٌ ووالدٌ
…
وباعٌ به أَعلُو الرِّجالَ مَدِيدُ
قال: فأمر معاوية أطول رجل في الوفد فوضعها على أنفه، فوقفت بالأرض
(2)
.
وفي رواية: أن ملك الروم بعث إلى معاوية برجلَين من جيشه يزعم أنَّ أحدهما أقوى الروم، والآخر أطول الروم، فانظر هل في قومك من يفوقُهما في قوة هذا وطول هذا؟ فإن كان في قومك من يفوقهما بعثتُ إليك من الأسارى كذا وكذا ومن التحف كذا وكذا، وإن لم يكن في جيشك من هو أقوى وأطول
(1)
سقطت من المطبوع.
(2)
الخبر بطوله في تاريخ ابن عساكر (14/ 232) وأيضًا، مختصره (21/ 113) والسير (3/ 112).
منهما فهادني ثلاث سنين. فلمّا حضرا عند معاوية قال: من لهذا القوي؟ فقالوا: ماله إلّا أحد رجلين: إما محمد ابن الحنفيَّة، أو عبد اللَّه بن الزبير، فجيء بمحمد ابن الحنفيَّة وهو ابن علي بن أبي طالب، فلمّا اجتمع الناس عند معاوية قال له معاوية: أتعلم فيمَ أرسلتُ إليك؟ قال: لا، فذكر له أمر الرومي وشدة بأسه، فقال للرومي: إما أن تجلسَ لي أو أجلس لك، وتناولني يدك أو أُناولُك يدي، فأينا قدر على أن يُقيم الآخر من مكانه غلَبَه، وإلّا فقد غُلب. فقال له: ماذا تريد، تجلس أو أجلس؟ فقال له الرومي: بل اجلس أنت، فجلس محمد ابن الحنفيَّة وأعطى الرومي يدَه، فاجتهد الرومي بكل ما يقدر عليه من القوة أن يزيلَه من مكانه أو يحركه ليقيمه فلم يقدر على ذلك، ولا وجد إليه سبيلًا، فغُلب الرومي عند ذلك، وظهر لمن معه من الوفود من بلاد الروم أنه قد غُلب. ثم قام محمد ابن الحنفيَّة فقال للرومي: اجلس لي، وأعطى محمدًا يده، فما أمهله أن أقامه سريعًا، ورفعه في الهواء ثم ألقاه على الأرض، فسُرَّ بذلك معاوية سرورًا عظيمًا.
ونهض قيس بن سعد، فتنحَّى عن الناس ثم خلع سراويلَه، وأعطاها لذلك الرومي الطويل، فلبسها فبلغت إلى ثَدْيَيْه وأطرافها تخُطُ بالأرض، فاعترف الروم بالغلب. وبعث ملكهم ما كان التزمه لمعاوية. وعاتب الأنصار قيس بن سعد في خلعه سراويله بحضرة الناس، فقال ذلك الشعر المتقدم معتذرًا به إليهم، وليكون ذلك ألزم للحجَّة التي تقوم على الروم وأقطع لما حاولوه
(1)
.
وروى الحميدي، عن سفيان بن عُيينة، عن عمرو بن دينار قال: كان قيس بن سعد رجلًا ضخمًا جسيمًا، صغير الرأس، [ليست]
(2)
له لحية في ذقنه، وكان إذا ركب الحمار العالي خطت رجلاه بالأرض.
وقال الواقدي
(3)
وخليفة بن خياط
(4)
وغير واحد: توفي بالمدينة في آخر خلافة معاوية. وذكر ابن الجوزي وفاته في هذه السنة، فتبعناه في ذلك.
(1)
قال ابن عبد البر في الاستيعاب (3/ 1293): خبره في السراويل مع معاوية كذب وزور مختلق ليس له إسناد، ولا يشبه أخلاق قيس ولا مذهبه في معاوية، ولا سيرته في نفسه ونزاهته، وهي حكاية مفتعلة وشعر مزور، واللَّه أعلم.
(2)
سقطت من النسخ جميعًا، وقد أثبتها من ترجمته في المصادر. قال ابن الأثير في أسد الغابة (4/ 426) وكان ليس في وجهه لحية ولا شعرة، فكانت الأنصار تقول: وددنا أن نشتري لقيس لحية باموالنا. وكان مع ذلك جميلًا.
(3)
طبقات ابن سعد (6/ 53).
(4)
طبقاته (ص 97).
مَعْقِل بن يَسَار المُزَني
(1)
: صحابي جليل، شهد الحُديبية، وكان هو الذي يرفع أغصان الشجرة عن وجه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو يبايع الناس تحتها، وكانت من السَّمُرة، وهي المذكورة في القرآن الكريم في قوله تعالى:{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: 18].
وقد ولاه عمر إمرة البصرة، فحفر بها النهر المنسوب إليه، فيقال: نهر مَعْقل. وله بها دار.
قال الحسن البصري: دخل عُبيد اللَّه بن زياد على مَعْقل بن يَسَار يعوده في مرضه الذي مات فيه، فقال له مَعْقل: إني محدِّثُك حديثًا سمعته من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لو لم أكن على حالي هذه لم أحدثك به، سمعته يقول:"مَن اسْترعاهُ اللَّهُ رعيَّةً فلم يحُطها بنصيحة لم يَجِدْ رائحةَ الجنَّة، وإنَّ ريحَها ليُوجد من مَسِيرة مئة عام"
(2)
.
وممن توفي في هذه السنة:
أبو هُرَيْرَة الدَّوْسي
(3)
رضي الله عنه: وقد اختُلِف في اسمه في الجاهلية والإسلام واسم أبيه على أقوال متعدِّدة، وقد بسطنا أكثرها في كتابنا "التكميل"، وقد بسط ذلك ابن عساكر في "تاريخه". والأشهر أنَّ اسمه عبد الرحمن بن صَخْر، وهو من الأزد ثم من دَوْس. ويقال: كان اسمه في الجاهلية عبد شمس، وقيل: عبد نُهْم، وقيل: عبد غَنْم. ويكنى بأبي الأسود. فسمّاه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عبد اللَّه -وقيل: عبد الرحمن- وكناه بأبي هريرة.
(1)
طبقات ابن سعد (7/ 14) طبقات خليفة (37، 176) تاريخ خليفة (251) مسند أحمد (5/ 25) تاريخ البخاري الكبير (7/ 391) ثقات العجلي (434) المعارف (297) المعرفة والتاريخ (1/ 310) الجرح والتعديل (8/ 285) مشاهير علماء الأمصار (ت 219) مستدرك الحاكم (3/ 577) الاستيعاب (3/ 1432) أنساب السمعاني (11/ 283) معجم البلدان (5/ 323) أسد الغابة (5/ 232) تهذيب الكمال (ورقة 1352) تاريخ الإسلام (2/ 317) سير أعلام النبلاء (2/ 576) الكاشف (3/ 144) مجمع الزوائد (9/ 379) تهذيب التهذيب (10/ 235) الإصابة (9/ 259) خلاصة الخزرجي (383).
(2)
أخرجه أحمد في مسنده (5/ 27) والبخاري رقم (7150) ومسلم (142)(229). .
(3)
طبقات ابن سعد (2/ 362 و 4/ 325) طبقات خليفة (114) تاريخ خليفة (225، 227) مسند أحمد (2/ 228 و 5/ 114) الزهد لأحمد (224) تاريخ البخاري الكبير (6/ 132) ثقات العجلي (513) المعارف (277) المعرفة والتاريخ (1/ 486 و 3/ 160، 161، 162) أخبار القضاة (1/ 111) مشاهير علماء الأمصار (ت 46) مستدرك الحاكم (3/ 506) حلية الأولياء (1/ 376) الاستيعاب (4/ 1768) أنساب السمعاني (5/ 362) تاريخ ابن عساكر (19/ 105/ أ) جامع الأصول (9/ 95) أسد الغابة (6/ 318) مختصر تاريخ دمشق (29/ 179) تهذيب الكمال (ورقة 1654) طبقات علماء الحديث (1/ 91) سير أعلام النبلاء (2/ 578) تذكرة الحفاظ (1/ 32) تاريخ الإسلام (2/ 333) العبر (1/ 63) معرفة القراء الكبار (1/ 43) الكاشف (3/ 341) مجمع الزوائد (9/ 361) غاية النهاية (1/ 371) تهذيب التهذيب (12/ 262) الإصابة (12/ 63) النجوم الزاهرة (1/ 151) حسن المحاضرة (1/ 250) طبقات الحفاظ (9) خلاصة الخزرجي (462) شذرات الذهب (1/ 261) كتاب (أبو هريرة) من سلسلة أعلام العرب للدكتور محمد عجاج الخطيب.
وروي عنه أنه قال: وجدتُ هريرة وحشيَّة، فأخذت أولادها، فقال لي أبي: ما هذه في حجرك؟ فأخبرته، فقال: أنت أبو هريرة.
وثبت في "الصحيح"
(1)
أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال له: "أبا هِرّ". وثبت أنه قال له
(2)
: "يا أبا هُريرة".
قال محمد بن سعد وابن الكلبي والطَّبراني: اسم أمِّه مَيْمونة بنت صُفَيح
(3)
بن الحارث بن أبي صعب بن هبة
(4)
بن سعد بن ثعلبة. أسلمت وماتت مسلمة.
وروى أبو هريرة عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الكثير الطّيب، وكان من حفّاظ الصحابة، وروى عن أبي بكر، وعمر، وأُبيّ بن كعب، وأسامة بن زيد، وبَصْرة بن أبي بَصْرة
(5)
، والفضل بن العباس، وكعب الأحبار، وعائشة أمِّ المؤمنين.
وحدث عنه خلائق من أهل العلم قد ذكرناهم مرتبين على حروف المعجم في "التكميل" كما ذكره شيخنا في "تهذيبه".
قال البخاري: روى عنه نحو من ثمانمئة رجل أو أكثر من أهل العلم، من الصحابة والتابعين وغيرهم.
وقال عمرو بن علي الفلّاس: كان ينزل المدينة، وكان إسلامه سنة خَيْبر.
وقال الواقدي: وكان له بذي الحُلَيفة دار.
وقال غيره: كان آدم اللون، بعيد ما بين المَنْكبين، ذا ضَفيرتين، أفرق
(6)
الثَّنِيَّتين.
وقال أبو داود الطيالسي وغير واحد: عن أبي خَلْدة خالد بن دينار، عن أبي العالية، عن أبي هريرة قال: لمّا أسلمت قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ممَّن أنت؟ " فقلت: من دَوْس، فوضع يده على جبهته وقال:"ما كنتُ أرى أنَّ في دوسٍ رجلًا فيه خَيْر"
(7)
.
وقال الزهري: عن سعيد، عن أبي هريرة قال: شهدت مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خَيْبر.
وروى عبد الرزاق، عن سفيان بن عُيينة، عن إسماعيل، عن قيس قال: قال أبو هريرة: جئت يوم خَيْبر بعدما فَرَغوا من القتال.
(1)
صحيح البخاري (6246) في الاستئذان.
(2)
صحيح مسلم (31)(52) في الإيمان و (1780)(86) في الجهاد والسير.
(3)
في أ: صبيح وهذا صحيح أيضًا. وترجمتها في أسد الغابة (7/ 275).
(4)
في طبقات ابن سعد: هُنيّة.
(5)
تحرف في الأصول إلى: نضرة بن أبي نضرة.
(6)
في المطبوع: أقرن.
(7)
رواه الترمذي رقم (3838) وقال: هذا حديث حسن صحيح، وهو كما قال.
وقال يعقوب بن سفيان: حدَّثنا سعيد بن أبي مريم، حدَّثنا الدَّراوَرْدي قال: حدّثني خُثَيم بن
(1)
عراك بن مالك، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: خرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم واستخلف على المدينة سِبَاع بن عُرْفُطَة، قال أبو هريرة: وقدمت المدينة مُهاجرًا
(2)
فصلَّيت الصبح وراء سِبَاع، فقرأ في السجدة الأولى سورة مريم، وفي الثانية {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} قال أبو هريرة: فقلت في نفسي: ويلٌ لأبي فلان - لرجلٍ كان بأرض الأزد، وكان له مِكْيالان: مكيال يَكيل به لنفسه، ومكيال يَبْخس به الناس
(3)
.
وقد ثبت في "صحيح البخاري" أنه ضلَّ غلام له في الليلة التي اجتمع في صبيحتها برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأنه جعل ينشد:
يا ليلةً مِنْ طُولهَا وعَنَائِهَا
…
علَى أنَّها مِنْ دارَةِ الكُفْرِ نَجَّتِ
فلما قدم على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال له: "هذا غلامُك" فقال: هو حرٌّ لوجه اللَّه عز وجل
(4)
.
وقد لزم أبو هريرة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فلم يفارقْه في حضر ولا سفر، وكان أحرص شيء على سماع الحديث منه وتفهُّمه عنه. وكان يلزمه على شِبَع بطنه.
وقال أبو هريرة - وقد تمخَّط يومًا في قميص عليه من كتان: بَخْ بَخْ
(5)
، أبو هريرة يتمخَّط في الكتان! لقد رأيتُني أَخرُّ فيما بين المنبر والحُجَر من الجوع، فيمرُّ المارُّ فيقول: به جنون، وما بي إلَّا الجوع، واللَّه الذي لا إله إلَّا هو لقد كنتُ أعتمدُ بكبدي على الأرض من الجوع، وأشُدُّ الحجر على بطني من الجوع، ولقد كنتُ أستقرئ أحدهم الآية وأنا أعلم بها منه وما بي إلّا أن يستتبعَني إلى منزله فيطعمَني شيئًا
(6)
. وذكر حديث اللبن مع أهل الصُفَّة كما قدَّمناه في "دلائل النبوّة".
وقال الإمام أحمد
(7)
: حدَّثنا عبد الرحمن، حدَّثنا عكرمة بن عمّار
(8)
، حدّثني أبو كثير -وهو
(1)
في المطبوع: خيثم عن، خطأ.
(2)
في المطبوع: فهاجروا، خطأ.
(3)
وهو حديث حسن. وهو في المعرفة والتاريخ (3/ 160) وسير أعلام النبلاء (2/ 589).
(4)
أخرجه البخاري رقم (2531) في العتق: باب إذا قال لعبده: هو للَّه، ونوى العتق. وأحمد في مسنده (2/ 286).
(5)
"بخْ بخْ، وبخٍ بخٍ": تقال عند تعظيم الإنسان لشيء أو تعجبه منه.
(6)
أخرجه بنحوه مختصرًا، البخاري رقم (7324) والترمذي (2367) في الزهد، وابن سعد في طبقاته (4/ 326 - 327) والذهبي في سير أعلام النبلاء (2/ 590 - 591).
(7)
في مسنده (2/ 319 - 320).
(8)
تحرف في (أ) و (ط) إلى: عامر.
يزيد بن عبد الرحمن بن أذينة السُّحَيمي الأعمى- حدّثني أبو هريرة قال: واللَّه ما خلق اللَّهُ مؤمنًا يسمع بي ولا يراني إلَّا أحبَّني، قلت: وما علمُك بذلك يا أبا هريرة؟ قال: إنَّ أمي كانت امرأة مشركة، وإني كنتُ أدعوها إلى الإسلام وكانت تأبى علَيّ، فدعوتها يومًا، فأسمعتني في رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ما أكره، فأتيتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، فقلت: يا رسول اللَّه إني كنتُ أدعو أمي إلى الإسلام فكانت تأبى علَيّ، وإني دعوتها اليوم فأسمعتني فيكَ ما أكره، فادعُ اللَّهَ أن يهديَ أمَّ أبي هريرة، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"اللهُمَّ اهدِ أمَّ أبي هريرة". فخرجتُ أعدو أُبشِّرها بدعاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لها، فلمّا أتيتُ الباب إذا هو مُجَاف، وسمعتُ خَضْخَضَة الماء، وسمعتْ خشف رجل -يعني وَقْعها- فقالت: يا أبا هريرة كما أنت، ثم فتحتِ الباب وقد لبستْ درعها وعجِلَتْ عن خمارها أن تلبسَه، وقالت: إني أشهد أن لا إله إلَّا اللَّه وأن محمدًا عبدُه ورسولُه. فرجعتُ إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أبكي من الفرح كما بكيتُ من الحزن، فقلت: يا رسول اللَّه أبشِرْ فقد استجاب اللَّه دعاءك، قد هدى اللَّهُ أمَّ أبي هريرة، وقلت: يا رسول اللَّه ادعُ اللَّه أن يحبِّبَني وأمي إلى عباده المؤمنين ويحببهم إلينا، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"اللهُمَّ حبِّب عُبَيْدَك هذا وأُمَّه إلى عبادك المؤمنين، وحبِّبْهم إليهما". قال أبو هريرة: فما خلق اللَّهُ من مؤمن يسمع بي ولا يراني أو يرى أمي إلّا وهو يحبُّني.
وقد رواه مسلم
(1)
من حديث عكرمة بن عمّار بإسناد نحوه.
وهذا الحديث من دلائل النبوة، فإن أبا هريرة محبَّب إلى جميع الناس، وقد شهر اللَّه ذكره بما قدَّره من إيراد هذا الخبر عنه على رؤوس الناس في الجوامع المتعدِّدة في سائر الأقاليم في الإنصات يوم الجمعة بين يدي الخطبة والإمامُ على المنبر، وهذا من تقدير اللَّه العزيز العليم، ومحبة الناس له رضي الله عنه.
وقال هشام بن عمار: حدَّثنا سعيد، حدَّثنا عبد الحميد بن جعفر، عن المَقْبُري، عن سالم مولى النصْريّين
(2)
أنه سمع أبا هريرة يقول: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إنَّما محمدٌ بَشَر، أغضبُ كما يغضبُ البشر، وإنّي قد اتَّخذتُ عندكَ عَهْدًا لن تخلفَنِيه، فأيُّما رجلٍ من المسلمينَ آذيتُه أو شتمتُه أو جلدتُه فاجعلْها له قربة تقربُه بها عندَكَ يومِ القيامة"
(3)
. قال أبو هريرة: لقد رفع عليَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يومًا الدِّرَّة ليضربني بها فلأَنْ يكونَ ضَرَبني بها أَحبُّ إليَّ من حُمر النَّعَم، ذلك بأني أرجو أن أكون مؤمنًا، وأن يستجاب لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم دعوته.
وقال ابن أبي ذئب: عن سعيد المَقْبُري، عن أبي هريرة قال: قلت: يا رسول اللَّه إني أسمع منك
(1)
برقم (2491) في فضائل الصحابة: باب فضائل أبي هريرة.
(2)
قوله: "النصريين" تحرف في ط إلى: "النضريين". انظر تهذيب الكمال (10/ 154).
(3)
أخرجه أحمد في مسنده (2/ 493)، ومسلم (2601)(91) في البر والصلة.
حديثًا كثيرًا فأنساه، فقال:"ابسُطْ رداءَك" فَبسطتُه، ثم قال:"ضُمَّه" فضممتُه، فما نسيتُ حديثًا بعدُ. رواه البخاري
(1)
.
وقال الإمام أحمد: حدَّثنا سفيان، عن الزُّهري، عن عبد الرحمن الأعرج قال: سمعت أبا هريرة يقول: إنكم تزعمون أنَّ أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم واللَّهُ الموعِد، إني كنتُ امرأً مسكينًا أصحب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على ملء بَطني، وكان المهاجرون يشغَلُهم الصَّفقُ في الأسواق، وكانت الأنصار يشغَلُهُم القيام على أموالهم، فحضرت من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يومًا مجلسًا فقال:"من بسطَ رداءَهُ حتى أقضيَ مَقالتي ثم يقبضُه إليه فلن ينسى شيئًا سمعَه منِّي" فبسطتُ بردة عليَّ حتى قضى مقالتَه ثم قبضتُها إليّ، فوالذي نفسي بيده ما نسيتُ شيئًا سمعتُه منه
(2)
.
وقد رواه ابن وهب، عن يونس، عن الزهري، عن سعيد بن المسيِّب، عن أبي هريرة. وله طرق أُخر عنه.
وقد قيل: إن هذا كان خاصًا بتلك المقالة، لم ينس منها شيئًا، بدليل أنه نسي بعض الأحاديث كما هو مصرَّح به في الصحيح، حيث نسي حديث "لا عَدْوَى ولا طِيَرَة" مع حديثه "لا يُورِدُ مُمْرِضٌ على مُصِحٍّ"
(3)
. وقيل: إن هذا كان عامًّا في تلك المقالة وغيرها، واللَّه أعلم.
وقال الدَّراوردي: عن عمرو بن أبي عمرو، عن سعيد المَقْبُري، عن أبي هريرة أنه قال: يا رسول اللَّه مَنْ أسعدُ الناسِ بشفاعتِك يوم القيامة؟ فقال: "لقد ظننتُ -يا أبا هريرة- أنَّ أحدًا لا يسألُني عن هذا الحديث أولَ منك لما رأيتُ منْ حرصِكَ على الحديث. إنَّ أسعدَ الناسِ بشَفاعتي يوم القيامةِ مَنْ قال لا إلهَ إلَّا اللَّه خالصًا من قِبَلِ نفسِه"
(4)
.
ورواه البخاري
(5)
من حديث عمرو بن أبي عمرو به.
وقال ابن أبي ذئب: عن سعيد المَقْبُري، عن أبي هريرة أنه قال: حفظتُ من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وعاءَين: فأمّا أحدُهما فبثَثْتُه في الناس، وأمّا الآخر فلو بثَثْتُه لقُطِعَ هذا البلعوم. رواه البخاري
(6)
من حديث ابن أبي ذئب. ورواه غير واحد عن أبي هريرة.
(1)
رقم (119) في العلم، باب حفظ العلم.
(2)
أخرجه أحمد في مسنده (2/ 240) والبخاري رقم (7354) ومسلم (2492)(159).
(3)
أخرجه البخاري رقم (5771) في الطب: باب لا هامة. . .، ومسلم (2221) فى السلام: باب لا عدوى ولا طيرة. وأورده ابن القيم في زاد المعاد (4/ 149) وفيه كلام مفيد.
(4)
رواه ابن أبي عاصم في السنة رقم (825) وإسناده جيد.
(5)
رقم (99) في العلم: باب الحرص على الحديث ورقم (6570) في الرقاق.
(6)
رقم (120) في العلم: باب حفظ العلم.
وهذا الوعاء الذي كان لا يتظاهر به هو الفتن والملاحم وما وقع بين الناس من الحروب والقتال، وما سيقع، التي لو أخبر بها قبلَ كونِها لبادر كثيرٌ من الناس إلى تكذيبه وردُّوا ما أخبر به من الحق، كما قال: لو أخبرتكم أنكم تقتلون إمامَكم وتقتتلون فيما بينكم بالسيوف لما صدَّقتموني. وقد يتمسَّك بهذا الحديث طوائف من أهل الأهواء والبدع الباطلة، ويسندون ذلك إلى هذا الجراب الذي لم يقله أبو هريرة، ويعتقدون أنَّ ما هم عليه كان في هذا الجراب الذي لم يخبر به أبو هريرة، وما من مُبطل مع تضادّ أقوالهم إلّا وهو يدَّعي هذا، وكلُّهم يكذبون، فإذا لم يكن أبو هريرة قد أخبر به فمن علمه من بعده؟! وإنما الذي فيه شيء من الفتن والملاحم، قد أخبر بها هو وغيره من الصحابة مما ذكرناه ومما سنذكره في كتاب الفتن والملاحم.
وقال حمّاد بن زيد: حدَّثنا عمرو بن عبيد الأنصاري، حدَّثنا أبو الزعيزعة كاتب مروان بن الحكم: أن مروان دعا أبا هريرة، وأقعده
(1)
خلف السَّرير، وجعل مروان يسأل وجعلتُ أكتب، حتى إذا كان رأس الحول دعا به وأقعده من وراء الحجاب، فجعل يسأله عن ذلك الكتاب، فما زاد ولا نقص، ولا قدَّم ولا أخَّر
(2)
.
وروى أبو بكر بن عيّاش وغيره، عن الأعمش، عن أبي صالح قال: كان أبو هريرة من أحفظ أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ولم يكن بأفضلهم
(3)
.
وقال الربيع: قال الشافعي: أبو هريرة أحفظ مَنْ روى الحديث في دهره
(4)
.
وقال أبو القاسم البَغَوي: حدَّثنا أبو خَيْثمة، حدَّثنا الوليد بن مسلم، حدَّثنا سعيد بن عبد العزيز، عن مكحول قال: تواعد الناس ليلة من الليالي إلى قُبَّة من قباب معاوية، فاجتمعوا فيها، فقام فيهم أبو هريرة، فحدَّثهم عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى أصبح
(5)
.
وقال سفيان بن عُيَيْنة: عن عمرو
(6)
، عن وهب بن منبِّه، عن أخيه هَمّام بن منبِّه قال: سمعت أبا هريرة يقول: ما من أحد من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أكثر حديثًا عنه مني، إِلَّا ما كان من عبد اللَّه بن عمرو، فإنه كان يكتبُ ولا أكتب
(7)
.
(1)
يعني أقعد كاتبه أبا الزعيزعة.
(2)
رواه الحاكم في مستدركه (3/ 510).
(3)
تاريخ ابن عساكر مختصره (29/ 190).
(4)
تاريخ ابن عساكر مختصره (29/ 191).
(5)
المصدر السابق.
(6)
تحرف في (أ) و (ط) إلى: معمر، وعمرو: هو ابن دينار المكي.
(7)
أخرجه البخاري رقم (113) في العلم: باب كتابة العلم. وللأستاذ شعيب الأرناؤوط تعليق مفيد عليه في سير أعلام النبلاء (2/ 599).
وقال أبو زرعة الدمشقي: حدّثني محمد بن زرعة الرُّعَيْني، حدَّثنا مروان بن محمد، حدَّثنا سعيد بن عبد العزيز، عن إسماعيل بن عبيد
(1)
اللَّه، عن السّائب بن يزيد قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول لأبي هريرة: لتتركن الحديث عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أو لأُلحقنَّك بأرض [دوس، وقال لكعب الأحبار: لتتركن الحديث أو لأُلحقنَّك بأرض]
(2)
القِرَدة. قال أبو زرعة: وسمعت أبا مُسْهر يذكر عن سعيد بن عبد العزيز نحوًا منه ولم يسند
(3)
.
وهذا محمول من عمر على أنه خشي من الأحاديث التي قد يضعها الناس على غير مواضعها [وأنهم يتكلمون على ما فيها من أحاديث الرُّخص، وأن الرجل إذا أكثر من الحديث ربما وقع في أحاديثه بعض الغلط أو الخطأ فيحملها الناس عنه، أو نحو ذلك]
(4)
.
وقد جاء أن عمر أَذن له بعد ذلك في التحديث، فقال مسدَّد: حدَّثنا خالد الطحّان، حدَّثنا يحيى بن عبيد
(5)
اللَّه، عن أبي هريرة قال: بلغَ عمرَ حديثي، فأرسل إليَّ، فقال: كنتَ معنا يوم كنّا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في بيت فلان؟ قال: قلتُ: نعم، وقد علمتُ لمَ تسألُني عن ذلك؟ قال: ولمَ سألتُك؟ قلتُ: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال يومئذ: "مَنْ كذَبَ [عليَّ متعمِّدًا فَلْيتبوَّأ مَقْعَدَه مِنَ النّار" قال: أما إذًا فاذهب فحدِّث.
وقال]
(6)
الإمام أحمد: حدَّثنا عفّان، حدَّثنا عبد الواحد -يعني ابن زياد- حدَّثنا عاصم بن كُلَيب، حدّثني أبي قال: سمعت أبا هريرة يقول - وكان يبتدِئ حديثه بأن يقول: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الصادقُ المصدوق: "مَنْ كذَبَ عليَّ متعمِّدًا فلْيتبوَّأْ مقعَدَه من النّار"
(7)
.
وروي مثله من وجه آخر عنه.
وقال ابن وهب: حدّثني يحيى بن أيوب، عن محمد بن عَجْلان: أن أبا هريرة كان يقول: إني لأحدِّث أحاديث لو تكلَّمتُ بها في زمان عمر -أو عند عمر- لشجَّ رأسىي
(8)
.
(1)
تحرف في المطبوع إلى: عبد.
(2)
ما بين حاصرتين سقط من أ.
(3)
تاريخ أبي زرعة الدمشقي (1/ 544).
(4)
ما بين حاصرتين سقط من ب.
(5)
تحرف في المطبوع إلى: عبد. ويحيى هو ابن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن موهب التيمي، من الضعفاء المتروكين، وأبوه عبيد اللَّه لم يوثقه غير ابن حبان. والخبر في تاريخ ابن عساكر (19/ 117/ ب).
(6)
ما بين حاصرتين سقط من أ.
(7)
رواه أحمد في مسنده (2/ 413) وإسناده قوي.
(8)
رجاله ثقات، إِلَّا أنه منقطع، لأن ابن عجلان لم يسمع من أبي هريرة.
وقال صالح بن أبي الأخضر: عن الزهري، عن أبي سلمة: سمعت أبا هريرة يقول: ما كنّا نستطيع أن نقول: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، حتى قُبض عمر
(1)
.
وقال محمد بن يحيى الذُّهلي: حدَّثنا عبد الرزاق، عن مَعْمر، عن الزُّهري قال: قال عمر: أَقِلُّوا الرواية عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلّا فيما يُعمل به. قال: ثم يقول أبو هريرة: أفكنتُ محدِّثَكم بهذه الأحاديث وعُمر حيّ؟ أما واللَّه إذًا لأيقنت أن المِخْفَقَة
(2)
ستباشر ظهري. [فإن عمر كان يقول: اشتغلوا بالقرآن فإنَّ القرآن كلام اللَّه، ولهذا لما بعث أبا موسى إلى العراق قال له: إنك تأتي قومًا لهم في مساجدهم دويٌّ بالقرآن كدويِّ النحل، فدعهم على ما هم عليه ولا تَشْغلهم بالأحاديث، وأنا شريكك في ذلك. وهذا معروف عن عمر رضي الله عنه]
(3)
.
وقال الإمام أحمد: حدَّثنا هُشَيم، عن يعلَى بن عطاء، عن الوليد بن عبد الرحمن، عن ابن عمر: أنه مرَّ بأبي هريرة وهو يحدِّث عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مَنْ تَبعَ جنازةً فصلَّى عليها فلَهُ قِيراط، فإنْ شَهِدَ دفنَها فلَهُ قيراطان، القيراطُ أعظمُ مِنْ أُحُد" فقال له ابن عمر: أبا هرّ انظر ما تحدِّث عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقام إليه أبو هريرة حتى انطلق به إلى عائشة فقال لها: يا أمَّ المؤمنين أَنشُدُكِ باللَّه أسمعتِ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "مَنْ تَبعَ جنازة فصلَّى عليها فلَهُ قيراط، فإنْ شَهِدَ دفنَها فلَهُ قيراطان"؟ فقالت: اللهمَّ نعم. فقال أبو هريرة: إنه لم يكن يَشْغَلُني عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم[غرسُ الوَدِيّ
(4)
ولا صَفْقٌ بالأسواق، إني إنما كنت أطلب من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم]
(5)
كلمةً يعلِّمُنيها أو أكلةً يُطعمُنيها. فقال له ابن عمر: يا أبا هرّ كنتَ ألزَمَنا لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأعلَمنا بحديثه
(6)
.
وقال الواقدي: حدّثني عبد اللَّه بن نافع، عن أبيه قال: كنت مع ابن عمر في جنازة أبي هريرة، وهو يمشي أمامَها ويكثر الترحُّم عليه ويقول: كان ممَّن يحفظ حديث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على المسلمين
(7)
.
وقد روي: أن عائشة تأوَّلت أحاديث كثيرة من رواية أبي هريرة، ووهَّمته في بعضها، وفي الصحيح أنها عابت عليه سرد الحديث والإكثار منه في الساعة الواحدة.
(1)
صالح بن أبي الأخضر ضعيف. وأخرجه ابن عساكر في تاريخه (19/ 117/ ب).
(2)
المخفقة: شيء يضرب به نحو سير أو دِرَّة. والخبر في مصنف عبد الرزاق برقم (20496).
(3)
ما بين حاصرتين سقط من ب.
(4)
تحرفت في ط وب إلى: الوادي. "والودي": صغار النخل، واحدتها: ودية.
(5)
ما بين حاصرتين سقط من أ.
(6)
رجاله ثقات. وهو في مسند أحمد (2/ 2 - 3) وهو حديث صحيح، وأخرج المرفوع منه البخاري رقم (47) ومسلم (945).
(7)
في إسنادها الواقدي، وقد اتفقوا على ضعفه وعدم الاعتداد بروايته.
وقال أبو القاسم البغوي: حدَّثنا بشر بن الوليد الكِنْدي، حدَّثنا إسحاق بن سعيد
(1)
، عن سعيد: أن عائشة قالت لأبي هريرة: أكثرتَ الحديث عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يا أبا هريرة، قال: إني واللَّه ما كانت تَشْغَلُني عنه المُكْحُلة والخِضاب، ولكن أرى ذلك شَغَلكِ عما استكثرتِ من حديثي. قالت: لعلَّه
(2)
.
وقال أبو يَعْلى: حدَّثنا إبراهيم الشامي، حدَّثنا حمّاد بن سلمة، عن ثابت، عن أبي رافع، أن رجلًا من قريش أتى أبا هريرة في حُلَّة وهو يتبختر فيها فقال: يا أبا هريرة إنك تكثر الحديث عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فهل سمعتَه يقول في حُلَّتي هذه شيئًا؟ قال: واللَّه إنكم لتُؤْذوننا، ولولا ما أخذ اللَّه على أهل الكتاب {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187] ما حدَّثتكم بشيء، سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول: "إنَّ رجلًا ممَّن كانَ قبلَكُم بينما هو يتبخترُ في حُلَّة إذ خسفَ اللَّهُ بهِ الأرضَ فهو يَتَجَلْجَلُ
(3)
فيها حتّى تقومَ السّاعة" فواللَّه ما أدري لعلَّه كان من قومك -أو من رهطك- شكَّ أبو يَعْلى
(4)
.
وقال محمد بن سعد: حدَّثنا محمد بن عمر، حدّثني كثير بن زيد، عن الوليد بن ربَاح قال: سمعت أبا هريرة يقول لمروان: واللَّه ما أنت بِوالٍ، وإن الوالي لغيرُك، فدعه -يعني حين أرادوا دفن الحسن مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ولكنَّك تدخل فيما لا يعنيك، إنما تريد بهذا إرضاء من هو غائب عنك -يعني معاوية- قال: فأقبل عليه مروان مُغْضَبًا فقال: يا أبا هريرة إن الناس قد قالوا: إنك أكثرتَ على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الحديث، وإنما قَدِمْتَ قبل وفاة النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم بيسير. فقال أبو هريرة: نعم قدمتُ ورسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بخيبر سنة سبع، وأنا يومئذ قد زدتُ على الثلاثين سنة سنوات، وأقمتُ معه حتى توفي، أدور معه في بيوت نسائه وأخدُمُه -وأنا واللَّه يومئذ مُقِلّ- وأصلِّي خلفه، وأحجُّ وأغزو معه، فكنت -واللَّه- أعلمَ الناس بحديثه، قد واللَّه سبقني قوم بصحبته والهجرة إليه من قريش والأنصار، وكانوا يعرفون لزومي له فيسألوني عن حديثه، منهم عمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير، فلا واللَّه ما يخفى عليَّ كلُّ حديث كان بالمدينة، وكل من أحبَّ اللَّه ورسوله، وكل من كانت له عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم منزلة، وكل صاحب له، فكان أبو بكر صاحبَه في الغار وغيره، وقد أخرجه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يساكنه - يعرِّض بأبي مروان الحكم بن العاص. ثم قال أبو هريرة: ليسألني أبو عبد الملك عن هذا وأشباهه فإنَّه يجد عندي منه علمًا جمًّا ومقالًا. قال: فواللَّه ما زال مروان يقصر عن أبي هريرة، ويتَّقيه بعد ذلك، ويخافُه ويخاف جوابَه
(5)
.
[وفي رواية: أن أبا هريرة قال لمروان: إني أسلمتُ وهاجرتُ اختيارًا وطوعًا، وأحببتُ
(1)
تحرف في الأصول إلى: سعد وسعيد الذي يروي عنه هو أبوه.
(2)
أخرجه ابن عساكر في تاريخه (19/ 120/ 1) والذهبي في سير أعلام النبلاء (2/ 604 - 605).
(3)
"يتجلجل": يسوخ ويغوص في الأرض.
(4)
تاريخ ابن عساكر، مختصره (29/ 196) وأخرج المرفوع منه أحمد (2/ 413) ومسلم رقم (2088)(50).
(5)
سير أعلام النبلاء (2/ 605).
رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حبًّا شديدًا، وأنتم -أهل الدار وموضع الدعوة- أخرجتم الداعيَ من أرضه، وآذيتموه وأصحابَه، وتأخَّر إسلامُكم عن إسلامي إلى الوقت المكروه إليكم. فندم مروان على كلامه له، واتَّقاه]
(1)
.
وقال ابن أبي خيثمة: حدَّثنا هارون بن معروف، حدَّثنا محمد بن سلمة، حدَّثنا محمد بن إسحاق، عن عمر -أو عثمان- بن عروة، عن أبيه -يعني عروة بن الزبير بن العوام- قال: قال لي أبي الزبير: أَدْنني من هذا اليماني -يعني أبا هريرة- فإنه يكثر الحديث عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال: فأَدْنَيْتُه منه، فجعل أبو هريرة يحدِّث وجعل الزبير يقول: صدق، كذب، صدق، كذب. قال: قلت: يا أبة ما قولك: صدق، كذب؟ قال: يا بني أمَّا أن يكون سمع هذه الأحاديث من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فلا أشكُّ، ولكن منها ما وضعه على مواضعه، ومنها ما وضعه على غير مواضعه
(2)
.
وقال علي بن المَديني: عن وهب بن جرير، عن أبيه، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم، عن أبي أنس
(3)
بن أبي عامر قال: كنت عند طلحة بن عُبيد اللَّه إذ دخل رجل فقال: يا أبا محمد واللَّه ما ندري هذا اليماني أعلم برسول اللَّه منكم، أم هو يقول على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ما لم يسمع أو ما لم يَقُل؟ فقال طلحة: واللَّه ما نشكُّ أنه قد سمع من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ما لم نسمع، وعلم منه ما لم نعلم. إنا كنّا قومًا أغنياء، لنا بيوتاتٌ وأهلون، وكنّا نأتي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم طرفي النهار ثم نرجع، وكان هو مسكينًا لا مال له ولا أهل، وإنما كانت يده مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وكان يدور معه حيث ما دار، فما نشكُّ أنه قد علم ما لم نعلم، وسمع ما لم نسمع. وقد رواه الترمذي
(4)
بنحوه.
وقال شُعبة: عن أشعث بن سليم، عن أبيه قال: سمعت أبا أيوب يحدّث عن أبي هريرة، فقيل له: أنت صاحب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وتحدِّث عن أبي هريرة؟ فقال: إن أبا هريرة قد سمع ما لم نسمع، وإني أن أحدِّث عنه أحبُّ إليَّ من أن أحدِّث عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يعني ما لم أسمعه منه.
وقال مسلم بن الحجّاج: حدَّثنا عبد اللَّه بن عبد الرحمن الدارمي، حدَّثنا مروان الدمشقي، عن الليث بن سعد، حدّثني بُكَير بن الأشَجّ قال: قال لنا بُسْر
(5)
بن سعيد: اتقوا اللَّه وتحفَّظُوا من الحديث، فواللَّه لقد رأيتنا نجالس أبا هريرة فيحدِّث عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ويحدِّثنا عن كعب الأحبار، ثم يقوم فاسمع بعض من كان معنا يجعل حديث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن كعب، وحديث كعب عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. وفي
(1)
هذه الرواية ليست في ب.
(2)
تاريخ ابن عساكر: مختصره (29/ 197).
(3)
وقع في (أ) و (ط): اليسر وفي ب: البشر وكله تحريف. وأبو أنس: هو مالك بن أبي عامر، جد مالك بن أنس الفقيه.
(4)
في المناقب: باب مناقب أبي هريرة، وإسناده ضعيف.
(5)
تحرف في الأصول إلى: بشر.
رواية: يجعل ما قاله كعبٌ عن رسول اللَّه، وما قاله رسول اللَّه عن كعب. فاتقوا اللَّه وتحفَّظوا في الحديث.
وقال يزيد بن هارون: سمعت شعبة يقول: أبو هريرة كان يدلِّس -[أي يروي ما سمعه من كعب وما سمعه من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ولا يميز هذا من هذا]
(1)
- ذكره ابن عساكر
(2)
.
وكأنَّ شعبة يشير بهذا إلى حديثه "مَنْ أصبح جُنبًا فلا صِيامَ له" فإنه لما حُوقق عليه قال: أخبرنيه مخبر، ولم أسمعه من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم
(3)
.
وقال شَريك: عن مُغيرة، عن إبراهيم قال: كان أصحابنا يَدَعُون من حديث أبي هريرة.
[وروى الأعمش، عن إبراهيم قال: ما كانوا يأخذون بكل حديث أبي هريرة]
(4)
.
وقال الثوري: عن منصور، عن إبراهيم قال: كانوا يَرَوْن في أحاديث أبي هريرة شيئًا، وما كانوا يأخذون من حديثه [إلَّا ما كان من حديث]
(5)
صفة جنَّة أو نار، أو حثٍّ على عمل صالح، أو نهي عن شرٍّ جاء القرآن به.
وقد انتصر ابن عساكر لأبي هريرة، وردَّ هذا الذي قاله إبراهيم النَّخعي. وقد قال ما قاله إبراهيم طائفةٌ من الكوفيِّين، والجمهورُ على خلافهم.
وقد كان أبو هريرة من الصِّدق والحفظ والدِّيانة والعبادة والزَّهادة والعمل الصالح على جانب عظيم.
قال حمّاد بن زيد: عن عباس الجُريري، عن أبي عثمان النَّهدي قال: كان أبو هريرة يقوم ثلث الليل، وامرأتُه ثلثه، وابنثُه ثلثه، يقوم هذا ثم يوقظ هذا، ثم يوقظ هذا هذا
(6)
.
وفي "الصحيحين" عنه أنه قال: أوصاني خَليلي صلى الله عليه وسلم بصيام ثلاثة أيام من كلِّ شهر، وركعَتَي الضُّحى، وأن أُوتِرَ قبلَ أن أنام
(7)
.
(1)
ما بين حاصرتين ليس في ب.
(2)
في تاريخه (19/ 122). وأورده الذهبي في السير (2/ 608) ثم عقب عليه بقوله: تدليس الصحابة كثير، ولا عيب فيه؟ فإن تدليسهم عن صاحب أكبر منهم، والصحابة كلهم عدول.
(3)
في هذا المعنى أخرج مسلم في صحيحه (1109) في الصيام: باب صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب.
(4)
ما بين حاصرتين من المطبوع فقط. سير أعلام النبلاء (2/ 608) حاشية (4).
(5)
ما بين حاصرتين سقط من ب.
(6)
أخرجه أحمد في الزهد ص 259، وإسناده صحيح.
(7)
أخرجه البخاري (1178) في التهجد: باب صلاة الضحى في الحضر، وفي الصوم: باب صيام أيام البيض، ومسلم (721) في صلاة المسافرين: باب استحباب صلاة الضحى وأن أقلها ركعتان، وأبو داود (1432) في الصلاة: باب في الوتر قبل النوم، والترمذي (760) في الصوم: باب ما جاء في صوم ثلاثة أيام من كل شهر، والنسائي (3/ 229) في قيام الليل: باب الحث على الوتر قبل النوم.
وقال ابن جُرَيج عمّن حدثه قال: قال أبو هريرة: إني أجزِّئ الليل ثلاثة أجزاء: فجزءًا لقراءة القرآن، وجزءًا أنام فيه، وجزءًا أتذكَّر فيه حديث رسول اللَّه
(1)
.
وقال محمد بن سعد: حدَّثنا مسلم بن إبراهيم، حدَّثنا إسحاق بن عثمان القرشي، حدَّثنا أبو أيوب قال: كان لأبي هريرة مسجد في مَخْدَعه، ومسجد في بيته، ومسجد في حجرته، ومسجد على باب داره، إذا خرج صلَّى فيها جميعها، وإذا دخل صلَّى فيها جميعها
(2)
.
وقال عكرمة: كان أبو هريرة يسبِّح كل ليلة اثني عشر ألف تسبيحة، ويقول: أسبِّح على قدر ديتي
(3)
.
وقال هُشيم: عن يَعْلى بن عطاء، عن ميمون بن
(4)
مَيْسرة قال: كانت لأبي هريرة صيحتان في كل يوم، أول النهار صيحة يقول: ذهب الليل وجاء النهار وعُرض آل فرعون على النار، وإذا كان العشيُّ يقول: ذهب النهار وجاء الليل وعُرض آل فرعون على النار. فلا يسمع أحدٌ صوته إلَّا استعاذ باللَّه من النار.
وقال عبد اللَّه بن المبارك: حدَّثنا موسى بن عبيدة، عن زياد بن ثوبان، عن أبي هريرة قال: لا تَغْبطَن فاجرًا بنعمة فإنَّ من ورائه طالبًا حثيثًا طلبُه، جهنَّم كلما خَبَتْ زدناهم سعيرًا
(5)
.
وقال ابن لَهِيعة: عن أبي يونس، عن أبي هريرة: أنه صلَّى بالناس يومًا، فلمّا سلَّم رفع صوته فقال: الحمدُ للَّه الذي جعل الدّين قوامًا، وجعل أبا هريرة إمامًا، بعدما كان أجيرًا لابنة غَزْوان على شبع بطنه، وحَمُولة رِجْله
(6)
.
[وقال إبراهيم بن إسحاق الحَرْبي: حدَّثنا عفّان، حدَّثنا سليم بن حيان قال: سمعت أبي يحدِّث عن أبي هريرة قال: نشأت يتيمًا، وهاجرت مسكينًا، وكنت أجيرًا لابنة غزوان بطعام بطني، وعُقْبة رجلي
(7)
، أحدو بهم إذا ركبوا، وأحتطب إذا نزلوا، فالحمدُ للَّه الذي جعل الذين قوامًا، وجعل أبا هريرة
(1)
تاريخ ابن عساكر، مختصره (29/ 199).
(2)
أخرجه أحمد في الزهد (ص 261 - 262)، والمخاع: مكان النوم.
(3)
مثله في تاريخ ابن عساكر، مختصره (29/ 199)، ووقع في أ، ب: ديني.
(4)
في الأصول: ميمون بن أبي ميسرة، وما أثبته من الجرح والتعديل (8/ 235) وغيره. والخبر في تاريخ ابن عساكر، مختصره (29/ 199).
(5)
تاريخ ابن عساكر، مختصره (29/ 200).
(6)
أخرجه أبو نعيم في الحلية (1/ 379).
(7)
يعني: نوبة ركوبه.
إمامًا]
(1)
. ثم يقول: واللَّه يا أهل الإسلام إنْ كانت إجارتي معهم إلَّا على كِسْرة يابسة، وعُقْبة في ليلة غبراء مظلمة، ثم زَوَّجَنِيها اللَّه، فكنت أركب إذا ركبوا، وأخدم إذا خدموا، وأنزل إذا نزلوا.
وقال إبراهيم بن يعقوب الجُوزجاني
(2)
: حدَّثنا الحجّاج بن نُصَير
(3)
، حدَّثنا هلال بن عبد الرحمن الحنفي، عن عطاء بن أبي ميمونة، عن أبي سلمة قال: قال أبو هريرة وأبو ذَرّ: باب من العلم نتعلَّمه أحبُّ إلينا من ألف ركعة تطوُّعًا، وباب نعلّمه -عملنا به أو لم نعمل- أحبُّ إلينا من مئة ركعة تطوُّعًا. وقالا: سمعنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا جاء طالبَ العلمِ الموتُ وهو على هذه الحالِ ماتَ وهو شهيد".
وهذا حديث غريب في هذا الوجه
(4)
.
وروى غير واحد عن أبي هريرة: أنَّه كان يتعوَّذ في سجوده من أن يزني، أو يسرق، أو يكفر، أو يعمل كبيرة. فقيل له: أتخاف ذلك؟ فقال: ما يُؤمنني وإبليس حيّ، ومصرِّف القلوب يصرِّفها كيف يشاء
(5)
.
وقالت له ابنته: يا أبةِ إنَّ البنات يُعَيِّرنني يقلن: لمَ لا يُحلِّيك أبوك بالذهب؟ فقال: يا بنيَّة قولي لهن: إنَّ أبي يخشى عليَّ حرَّ اللهب
(6)
.
[وقال
(7)
أبو هريرة: أتيتُ عمر بن الخطاب، فقمت له وهو يسبِّح بعد الصلاة، فانتظرته، فلمّا انصرف دنوت منه فقلت: أقرئني آياتٍ من كتاب اللَّه، قال: وما أريد إلّا الطعام، قال: فأقرأني آيات من سورة آل عمران، فلمّا بلغ أهلَه دخل وتركني على الباب، فأبطأ، فقلت: ينزع ثيابه ثم يأمر لي بطعام، فلم أَرَ شيئًا، فلمّا طال عليَّ قمتُ فمشيت، فاستقبلني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فكلَّمني فقال: "يا أبا هريرة إنَّ خُلُوفَ
(8)
فمك الليلةَ لشديد"؟! فقلت: أَجَل يا رسول اللَّه، لقد ظللت صائمًا وما أفطرت بعد، وما أجد ما أُفطر عليه، قال: فانطلقَ وانطلقتُ معه حتى أتى بيته، فدعا جاريةً له سوداء فقال: "آتينا بتلك
(1)
ما بين حاصرتين سقط من ب. والخبر في الحلية (1/ 379) وتاريخ ابن عساكر (19/ 123/ 1).
(2)
تحرف في المطبوع إلى: الجورجاني.
(3)
تحرف في الأصول إلى: نصر. والحجاج بن نصير: هو الفساطيطي القيسي، لين الحديث. ترجمته وأقوال العلماء فيه في تهذيب الكمال (5/ 461).
(4)
أخرجه يعقوب في المعرفة والتاريخ (3/ 397 - 398) وفيه هلال بن عبد الرحمن الحنفي وهو متروك. وأيضًا في كشف الأستار عن زوائد البزار (1/ 84) وهو ضعيف.
(5)
تاريخ ابن عساكر، مختصره (29/ 202).
(6)
المصدر السابق.
(7)
من هنا يبدأ سقط طويل في النسخة ب، سنشير إليه في نهايته.
(8)
"الخلوف": تغير رائحة الفم.
القَصْعة" فأتتنا بقَصْعة فيها وَضَر
(1)
من طعام أراه شعيرًا قد أُكل وبقي في جوانبها بعضُه وهو يسير، فسَمَّيت وجعلت أتتبَّعُه، فأكلت حتى شبعت
(2)
.
وقال الطبراني: حدَّثنا إسحاق بن إبراهيم، حدَّثنا عبد الرزاق، عن مَعْمر، عن أيوب، عن محمد بن سِيرين أنَّ أبا هريرة قال لابنته: لا تَلبسي الذهب، فإني أخشى عليك حرَّ اللهب
(3)
.
وقد روي هذا عن أبي هريرة من طرق.
وقال الإمام أحمد: حدَّثنا حجاج، حدَّثنا شُعبة، عن سِمَاك بن حرب، عن أبي الربيع، عن أبي هريرة أنه قال: إنَّ هذه الكناسة مهلكة دنياكم وآخرتكم - يعني الشَّهوات وما يأكلونه.
وروى الطبراني، عن ابن سِيرين، عن أبي هريرة: أن عمر بن الخطاب دعاه ليستعملَه، فأبى أن يعمل له، فقال: أتكره العمل وقد عمل مَنْ هو خير منك؟ -أو قال: قد طلبه من هو خير منك-؟ قال: مَنْ؟ قال: يوسف عليه السلام، فقال أبو هريرة: يوسف نبيٌّ ابن نبيّ، وأنا أبو هريرة بن أُمَيْمة، فأخشى ثلاثًا واثنتين، فقال عمر: أفلا قلت خمسًا؟ قال: أخشى أن أقول بغير علم، وأقضيَ بغير حلم، وأن يُضْرب ظهري، ويُنْتزع مالي، ويُشْتَم عرضي
(4)
.
وقال سعيد بن أبي هند: عن أبي هريرة أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال له: "ألا
(5)
تسألُني من هذه الغنائم التي يَسألُني أصحابُك"؟ فقلت: أسألك أن تعلِّمني مما علَّمك اللَّه، قال: فنزع نَمِرَة
(6)
على ظهري، فبسطها بيني وبينه، حتى كأني [أنظر]
(7)
إلى القمل يدبُّ عليها، فحدثني، حتى إذا استوعب حديثه قال:"اجمعْها إليك فصرَّها" فأصبحتُ لا أُسقط حرفًا مما حدَّثني
(8)
.
وقال أبو عثمان النَّهدي: قلت لأبي هريرة: كيف تصوم؟ قال: أصوم أوَّل الشهر ثلاثًا، فإنْ حدَثَ بي حدث كان لي أجرُ شهري
(9)
.
وقال حمّاد بن سلمة: عن ثابت، عن أبي عثمان النَّهدي: أنَّ أبا هريرة كان في سفر ومعه قوم،
(1)
"الوضر": الدسم وأثر الطعام.
(2)
أخرجه أبو نعيم في الحلية (1/ 378).
(3)
أخرجه أبو نعيم في الحلية (1/ 380) والذهبي في السير (2/ 622) وفي التعليق عليه كلام مفيد.
(4)
سيعيده المؤلف بعد قليل، وهو في سير أعلام النبلاء (2/ 612 - 613).
(5)
تحرفت في المطبوع إلى: لا.
(6)
"النمرة": شملة فيها خطوط بيض وسود.
(7)
سقطت من المطبوع.
(8)
أخرجه أبو نعيم في الحلية (1/ 381).
(9)
تاريخ ابن عساكر، مختصره (29/ 199).
فلمّا نزلوا وضعوا السُّفرة وبعثوا إليه ليأكل معهم، فقال: إني صائم، فلمّا كادوا أن يفرغوا من أكلهم جاء فجعل يأكل، فجعل القوم ينظرون إلى رسولهم الذي أرسلوه إليه، فقال لهم: أراكم تنظرون إليّ، قد -واللَّه- أخبرني أنَّه صائم، فقال أبو هريرة: صَدَق، إني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول:"صومُ شهرِ الصَّبْر، وصومُ ثلاثةِ أيامٍ من كلِّ شهرٍ، صومُ الدَّهر". وقد صمت ثلاثة أيام من أول الشهر، فأنا مفطر في تخفيف اللَّه، صائم في تضعيف اللَّه عز وجل
(1)
.
وروى الإمام أحمد: حدَّثنا عبد الملك بن عمرو، حدَّثنا إسماعيل، عن أبي المتوكل، عن أبي هريرة: أنه كان هو وأصحاب له إذا صاموا يجلسون في المسجد وقالوا: نطهِّر صيامنا
(2)
.
وقال الإمام أحمد: حدَّثنا أبو عبيدة الحدّاد، حدَّثنا عثمان الشحام أبو سلمة، حدَّثنا فرقد السَّبَخي قال: كان أبو هريرة يطوف بالبيت وهو يقول: ويلٌ لي من بطني: إن أشبعتُه كظَّني
(3)
، وإن أجعتُه أضعفني
(4)
.
وروى الإمام أحمد: عن عكرمة قال: قال أبو هريرة: إني لأستغفر اللَّه عز وجل وأتوبُ إليه كلَّ يوم اثني عشر ألف مرّة، وذلك على قدر ديتي
(5)
.
وروى عبد اللَّه بن أحمد، عن أبي هريرة: أنه كان له خيطٌ فيه اثنا عشر ألف عقدة يسبِّح به قبل أن ينام. وفي رواية: ألفا عقدة فلا ينام حتى يسبِّح به. وهو أصح من الذي قبله.
ولما حضره الموت بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: ما أبكي على دنياكم هذه، ولكن أبكي على بُعد سفري، وقلَّة زادي، وأني أصبحت في صعود ومهبط على جنة ونار، لا أدري إلى أيهما يُؤخذ بي
(6)
.
وروى قتيبة بن سعيد، حدَّثنا الفرج بن فَضَالة، عن أبي هريرة قال: إذا زوَّقتم مساجدكم، وحلَّيتم مصاحفكم، فالدَّمار عليكم
(7)
.
وروى الطبراني، عن مَعْمر قال: بلغني عن أبي هريرة أنه كان إذا مرّ به جنازةٌ قال: رُوحوا فإنّا
(1)
وأخرجه أحمد في مسنده (2/ 384، 513) وهو حديث صحيح، وشهر الصبر: هو شهر رمضان.
(2)
أخرجه أحمد في الزهد (ص 260).
(3)
"كظني": أتخمني.
(4)
أخرجه أحمد في الزهد (ص 260) وقد تحرف فيه السبخي إلى السبحي. وفرقد السبخي هذا لين الحديث كثير الخطأ، كما قال الحافظ في التقريب.
(5)
تقدم الخبر قبل قليل.
(6)
طبقات ابن سعد (4/ 339).
(7)
الفرج بن فضالة ضعيف.
غادُون، أو اغدُوا فإنّا رائحون. موعظة بليغة، وغفلة
(1)
سريعة، يذهب الأول ويبقى الآخر لا عقل له.
وقال الحافظ أبو بكر بن مالك: حدَّثنا عبد اللَّه بن أحمد بن حنبل، حدّثني أبو بكر ليث بن خالد البجلي
(2)
، حدَّثنا عبد المؤمن بن عبيد
(3)
اللَّه السَّدوسي قال: سمعت أبا يزيد المديني يقول: قام أبو هريرة على منبر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم دون مقام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعَتَبة فقال: ويلٌ للعرب من شرٍّ قد اقترب، ويلٌ لهم من إمارة الصِّبيان، يحكمون فيهم بالهوى، ويقتلون بالغضب.
وقال الإمام أحمد: حدَّثنا علي بن ثابت، عن أسامة بن زيد، عن أبي زياد -مولى ابن عباس- عن أبي هريرة قال: كانت لي خمس عشرة تَمْرة، فأفطرتُ على خمس، وتسخَرتُ بخمس، وأبقيتُ خمسًا لفطري
(4)
.
وقال أحمد: حدَّثنا عبد الملك بن عمرو، حدَّثنا إسماعيل -يعني العبدي- عن أبي المتوكل: أن أبا هريرة كانت لهم زنجيَّة قد غمتهم بعملها، فرفع عليها يومًا السَّوط ثم قال: لولا القصاصُ يوم القيامة لأغشينَّكِ به، ولكن سأبيعكِ ممَّن يوفيني ثمنك أحوج ما أكون إليه، اذهبي فأنتِ حرةٌ لوجه اللَّه عز وجل
(5)
.
وروى حماد بن سلمة، عن أيوب، عن يحمى بن أبي كثير، عن أبي سلمة: أن أبا هريرة مرض، فدخلتُ عليه أعوده فقلت: اللهمَّ اشفِ أبا هريرة، فقال: اللهمَّ لا تَرْجعها. ثم قال: يا أبا سلمة يوشكُ أن يأتيَ على الناس زمان يكون الموتُ أحبَّ إلى أحدهم من الذهب الأحمر
(6)
.
وروى عطاء عن أبي هريرة قال: إذا رأيتم ستًّا فإنْ كانت نفس أحدكم في يده فليُرْسلها، فلذلك أتمنى الموت أخاف أن تدركني: إذا أُقَرت السُّفهاء، وبيع الحكم، وتهون الدم، وقُطعت الأرحام، وكثرت الجلاوزة
(7)
، ونشأَ نَشَء
(8)
يتخذون القرآن مزامير
(9)
.
(1)
مثله في مختصر تاريخ دمشق (29/ 205) ووقعت في ط: عقلة.
(2)
كذا في أ، ط -لم أذكر النسخة ب لأن هذه الصفحات ساقطة منها كما أشرنا- وأراه محرفًا عن البلخي وقد ترجمه الخطيب في تاريخ بغداد (13/ 15).
(3)
تحرف في أ، ط إلى: عبد، والتصويب من الجرح والتعديل (6/ 65) وتهذيب التهذيب (6/ 433) وغيرهما.
(4)
حلية الأولياء (1/ 384).
(5)
أخرجه أحمد في الزهد (ص 259 - 260).
(6)
طبقات ابن سعد (4/ 338).
(7)
"الجلاوزة": جمع جلواز، وهو الشرطي.
(8)
قال ابن الأثير في النهاية (5/ 51 - 52): يروى بفتح الشين، جمع ناشئ، كخادم وخدَم. يريد جماعة أحداثًا. قال أبو موسى: والمحفوظ بسكون الشين، كأنه تسمية المصدر.
(9)
أورده ابن سعد في طبقاته (4/ 337) بنحوه من طريق روح بن عبادة، حدَّثنا الربيع بن صبيح قال: أخبرنا حبيب بن أبي فضالة أن أبا هريرة قال. . . وأخرجه أحمد في مسنده (6/ 22) من كلام عوف بن مالك الأشجعي.
وقال ابن وهب: حدَّثنا عمرو بن الحارث، عن يزيد بن زياد القُرَظي، أن ثَعْلبة بن أبي مالك القُرَظي حدثه: أن أبا هريرة أقبل في السُّوق يحمل حُزْمة حطب -وهو يومئذ أمير لمروان بن الحكم- فقال: أَوسع الطريق للأمير يا بن أبي مالك، فقلت: يرحمك اللَّه يكفي هذا، فقال: أَوسعِ الطريق للأمير والحُزمةُ عليه
(1)
]
(2)
.
وله فضائل ومناقب كثيرة، وكلام حسن، ومواعظ جمَّة. أسلم -كما قدمنا- عام خيبر، فلزم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ولم يفارقه إلّا حين بعثه مع العلاء بن الحَضْرمي إلى البحرين، ووصّاه به، فجعله العلاء مؤذِّنًا بين يديه، وقال له أبو هريرة: لا تسبقني بآمين أيُّها الأمير. وقد استعمله عمر بن الخطاب عليها في أيام إمارته، وقاسمه مع جملة العمّال.
قال عبد الرزاق: حدَّثنا مَعْمر، عن أيوب، عن ابن سِيرين: أن عمر استعمل أبا هريرة على البحرين، فقدم بعشرة آلاف، فقال له عمر: استأثرتَ بهذه الأموال أي عدوَّ اللَّه وعدوَّ كتابه؟! فقال أبو هريرة: لستُ بعدوِّ اللَّه ولا عدوِّ كتابه، ولكني عدوُّ مَنْ عاداهما، فقال: فمن أين هي لك؟ قال: خيل نُتِجَت، وغَلَّة ورقيق لي، وأُعطية تتابعت عليّ. فنظروا فوجدوه كما قال. فلما كان بعد ذلك دعاه عمر ليستعملَه، فأبى أن يعمل له، فقال له: تكره العمل وقد طلبه مَنْ كان خيرًا منك؟! طلبه يوسف عليه السلام، فمّال: إنَّ يوسف نبيٌّ ابن نبيٍّ ابن نبيٍّ ابن نبيّ، وأنا أبو هريرة بن أُمَيْمة
(3)
، وأخشى ثلاثًا واثنتين، قال عمر: فهلًا قلت خمسًا؟ قال: أخشى أن أقولَ بغير علم، وأقضيَ بغير حلم، أو يُضرب ظهري، ويُنتزع ما لي، ويُشتَم عرضى
(4)
.
وذكر غيره: أنَّ عمر غرَّمه في العُمالة الأولى اثني عشر ألفًا، فلهذا امتنع في الثانية.
وقال عبد الرزاق: عن مَعْمر، عن محمد بن زياد قال: كان معاوية يبعث أبا هريرة على المدينة، فإذا غضب عليه عزلَه وولَّى مروان بن الحكم، فإذا جاء أبو هريرة إلى مروان حجبه عنه، فعزل مروان ورجع أبو هريرة، فقال لمولاه: مَنْ جاءك فلا تردَّه واحجبْ مروان، فلمّا جاء مروان دفع الغلام في صدره، فما دخل إلّا بعد جهد، فلمَّا دخل قال: إن الغلام حجبَنا عنك، فقال له أبو هريرة: إنك أحقُّ الناس ألَّا تغضب من ذلك. والمعروف أن مروان هو الذي كان يستنيب أبا هريرة في إمرة المدينة، ولكن كان يكون عن إذن معاوية في ذلك، واللَّه أعلم.
(1)
أخرجه أبو نعيم في الحلية (1/ 385) ورجاله ثقات.
(2)
هنا ينتهي نقص النسخة (ب) الذي أشرنا إليه قبل صفحات.
(3)
تحرفت في المطبوع إلى: أمية.
(4)
تقدم قبل صفحات. وهو في طبقات ابن سعد (4/ 335) وحلية الأولياء (1/ 380، 381) من طرق أخرى.
وقال حمّاد بن سلمة: عن ثابت، عن أبي رافع: كان مروان ربما استخلف أبا هريرة على المدينة، فيركب الحمار ويلقى الرجل فيقول: قد جاء الأمير -يعني نفسه- وكان يمرُّ بالصِّبيان وهم يلعبون بالليل لعبة الأعراب -وهو أمير- فلا يشعرون إلَّا وقد ألقى نفسه بينهم ويضرب برجليه كأنه مجنون [يريد بذلك أن يضحكهم]
(1)
فيفزع الصِّبيان منه ويفرون عنه هاهنا وهاهنا يتضاحكون
(2)
.
قال أبو رافع: وبما دعاني أبو هريرة إلى عشائه بالليل فيقول: دع العُراق للأمير -يعني قطع اللحم- قال: فأنظر فإذا هو ثريد بالزيت
(3)
.
وقال ابن وهب: حدّثني عمرو بن الحارث، عن يزيد بن زياد القُرَظي، أن ثَعْلبة بن أبي مالك حدّثه: أن أبا هريرة أقبل في السُّوق يحمل حُزْمة حطب وهو يومئذ خليفة مروان [فقال: أَوسعِ الطريق للأمير يا بن أبي مالك، فقلت: أصلحك اللَّه يكفي هذا، فقال: أَوسِع الطريق للأمير والحُزْمة عليه]
(4)
. وقد تقدم هذا. وروي نحوه من غير وجه.
وقال أبو الزعيزعة - كاتب مروان: بعث مروان إلى أبي هريرة بمئة دينار، فلمّا كان الغد بعث إليه: إني غلطتُ ولم أردك بها، وإني إنما أردتُ غيرك. فقال أبو هريرة: قد أخرجتُها، فإذا خرج عطائي فخذها منه، وكان قد تصدَّق بها. وإنما أراد مروان اختباره
(5)
.
وقال الإمام أحمد: حدَّثنا العلاء
(6)
بن عبد الجبّار، حدّثنا حمّاد بن سلمة، عن يحيى بن سعيد [عن سعيد]
(7)
بن المسيِّب قال: كان معاوية إذا أعطى أبا هريرة سكت، وإذا أمسك عنه تكلَّم
(8)
.
وروى غير واحد، عن أبي هريرة: أنه جاءه شاب فقال: يا أبا هريرة إني أصبحتُ صائمًا، فدخلت على أبي، فجاءني بخبز ولحم، فأكلت ناسيًا. فقال: طعمةٌ أطعمكَها اللَّه، لا عليك. قال: ثم دخلتُ دارًا لأهلي، فجيء بلبن لِقْحَة، فشربتُه ناسيًا. قال: لا عليك. قال: ثم نمتُ فاستيقظت، فشربتُ ماءً - وفي رواية: وجامعتُ ناسيًا. قال أبو هريرة: إنك يا بن أخي لم تَعتَدِ الصيام
(9)
.
(1)
ما بين حاصرتين ليس في ب.
(2)
طبقات ابن سعد (4/ 336).
(3)
المصدر السابق.
(4)
ما بين حاصرتين ليس في أ.
(5)
أبو الزعيزعة لا يعرف. والخبر في تاريخ ابن عساكر، مختصره (29/ 203).
(6)
في أ، ط: عبد الأعلى وما أثبته من ب.
(7)
سقط من المطبوع.
(8)
تاريخ ابن عساكر (19/ 125/ ب).
(9)
تاريخ ابن عساكر مختصره (29/ 205).
[وقال غير واحد: كان أبو هريرة إذا رأى الجنازة قال: رُوحوا فإنا غادُون، أو اغدُوا فإنا رائحون.
وروى غير واحد: أنه لما حضرته الوفاة بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: على قلَّة الزاد، وشدَّة المفازة، وأنا على عقبة هبوط إمّا إلى جنَّة أو إلى النار، فما أدري إلى أيِّهما أصير]
(1)
.
وقال مالك: عن سعيد بن أبي سعيد المَقْبري قال: دخل مروان على أبي هريرة في مرضه الذي مات فيه فقال: شفاك اللَّه يا أبا هريرة، فقال أبو هريرة: اللهمَّ إني أحبُّ لقاءك فأحبَّ لقائي. قال: فما بلغ مروان أصحاب القطا حتى مات أبو هريرة
(2)
.
وقال يعقوب بن سفيان: عن دحيم، عن الوليد [عن]
(3)
ابن جابر، عن عمير بن هانئ قال: قال أبو هريرة: اللهمَّ لا تدركني سنة ستين. قال: فتوفي فيها أو قبلها بسنة. وهكذا قال الواقدي: إنه توفي سنة تسع وخمسين عن ثمان وسبعين سنة.
قال الواقدي: وهو الذي صلَّى على عائشة في رمضان، وعلى أمِّ سلمة في شوال سنة تسع وخمسين، ثم توفي أبو هريرة بعدهما فيها، كذا قال، والصواب أن أُمَّ سلمة تأخَّرت بعد أبي هريرة.
وقد قال غير واحد: إنه توفي سنة تسع وخمسين، وقيل: ثمان، وقيل: سبع وخمسين، والمشهور: تسع وخمسين.
قالوا: وصلَّى عليه الوليد بن عتبة بن أبي سفيان نائب المدينة، وفي القوم ابنُ عمر، وأبو سعيد، وخلق من الصحابة وغيرهم. وكان ذلك عند صلاة العصر، وكانت وفاته في داره بالعَقيق، فحمل إلى المدينة، فصلِّي عليه ثم دفن بالبقيع، رحمه الله ورضي عنه.
وكتب الوليد بن عتبة إلى معاوية بوفاة أبي هريرة، فكتب إليه معاوية: أن انظُر ورثته فأحسنْ إليهم، واصرفْ إليهم عشرة آلاف درهم، وأَحسن جوارهم، واعمل إليهم معروفًا، فإنه كان ممَّن نصر عثمان، وكان معه في الدار، رحمهما اللَّه تعالى.
* * *
(1)
ما بين حاصرتين ليس في أ، وهو مما تقدم ذكره. والزهد لأحمد (ص 261).
(2)
طبقات ابن سعد (4/ 339).
(3)
سقطت من أ، ط، والمثبت من ب وهو الصحيح، فالوليد: هو ابن مسلم. وابن جابر: هو عبد الرحمن بن يزيد الداراني، وتهذيب التهذيب (6/ 297).
سنة ستين من الهجرة النبوية
فيها كانت غزوة مالك بن عبد اللَّه مدينة سورية
(1)
.
قال الواقدي: وفيها دخل جُنادة بن أبي أميّة جزيرة رُودس.
وفيها أخذ معاوية البَيْعة ليزيد من الوفد الذين قدموا صحبة عُبيد اللَّه بن زياد إلى دمشق.
وفيها مرض معاوية مرضه الذي توفي فيه في رجب منها كما سنبيِّنه.
روى ابن جرير من طريق أبي مِخْنَف: حدّثني عبد الملك بن نوفل بن مساحق بن عبد اللَّه بن مَخْرمة أن معاوية لمّا مرض مرضته التي هلك فيها دعا ابنَه يزيد فقال: يا بنيَّ إني قد كفيتك الرحلة والرجال، ووطَّأت لك الأشياء، وذلَّلت لك الأعداء
(2)
، وأخضعت لك أعناق العرب. وإني لا أتخوَّف أن ينازعك هذا الأمر الذي استتبَّ لك إلَّا أربعة نفر: الحسين بن علي، وعبد اللَّه بن عمر، وعبد اللَّه بن الزبير، وعبد الرحمن بن أبي بكر -كذا قال، والصحيح أن عبد الرحمن كان قد توفي قبل موت معاوية بسنتين كما قدمنا- فأما ابن عمر فهو رجل قد وَقَذَته
(3)
العبادة، وإذا لم يبقَ أحد غيره بايعك. وأما الحسين فإن أهل العراق خلفَه لا يدعونه حتى يخرجوه عليك، فإن خرج عليك فظفرتَ به فاصفح عنه، فإن له رحمًا ماسَّة وحقًا عظيمًا. وأما ابن أبي بكر فهو رجل إن رأى أصحابه صنعوا شيئًا صنع مثله، ليست له همَّة إلّا في النساء واللهو. وأما الذي يَجْثِمُ لك جثوم الأسد، ويراوغك روغان الثعلب، وإذا أمكنته فرصة وثب، فذاك ابن الزبير، فإن هو فعلها بك فقدرتَ عليه فقطِّعه إرْبًا إرْبًا
(4)
.
قال غير واحد: فحين حضرت معاوية الوفاة كان يزيد في الصَّيد، فاستدعى معاويةُ الضحّاك بن قيس الفِهْري -وكان على شرطة دمشق- ومسلم بن عُقبة، فاوصى إليهما أن يبلغا يزيد السلام، ويقولا له يتوصّى بأهل الحجاز، وإن سأله أهل العراق في كل يوم أن يعزل عنهم عاملًا ويولِّي عليهم عاملًا فليفعل، فعزلُ واحد أحبُّ إليك من أن يسلَّ عليك مئة ألف سيف، وأن يتوصّى بأهل الشام خيرًا، وأن يجعلهم أنصاره، وأن يعرف لهم حقَّهم. ولستُ أخاف عليه من قريش سوى ثلاثة: الحسين، وابن عمر، وابن الزبير -ولم يذكر عبد الرحمن بن أبي بكر، وهذا أصح- فأما ابن عمر فقد وَقَذَته العبادة. وأما الحسين فرجل خفيف، وأرجو أن يكفيَكَهُ اللهم قتل أباه وخذل أخاه، وإن له رحمًا ماسَّة، وحقًّا عظيمًا،
(1)
قال في "معجم البلدان" سورية: بلدة بالشام بين خناصرة وسلمية.
(2)
في (أ) و (ط): الأعزاء.
(3)
في الأصول: وقدته بالدال، والمثبت من تاريخ الطبري. ورجل وقذته العبادة: أي سكّنته.
(4)
الخبر في تاريخ الطبري (5/ 322 - 323). وقوله: "إربًا إربًا": يعني عضوًا عضوًا.
وقرابة من محمد صلى الله عليه وسلم، ولا أظن أهل العراق تاركيه حتى يخرجوه، فإن قدرتَ عليه فاصفح عنه فإني لو أني صاحبته عفوتُ عنه. وأما ابن الزبير فإنه خَبٌّ ضَبٌّ، فإن شَخَصَ لك فالبُدْ له
(1)
إِلَّا أن يلتمس منك صلحًا، فإن فعل فاقبل منه. واصفح عن دماء قومك ما استطعت.
وكان موت معاوية لاستهلال رجب من هذه السنة، قاله هشام بن الكلبي. وقيل: للنصف منه، قاله الواقدي، وقيل: يوم الخميس لثمان بقين منه، قاله المدائني. قال ابن جرير
(2)
: وأجمعوا على أنه هلك في رجب منها. وكان مدة ملكه استقلالًا من جمادى سنة إحدى وأربعين حين بايعه الحسن بن علي بأَذْرُح
(3)
فذلك تسع عشرة سنة وثلاثة أشهر. وكان نائبًا في الشام عشرين سنة تقريبًا، وقيل غير ذلك. وكان عمره ثلاثًا وسبعين سنة، وقيل: خمسًا وسبعين سنة، وقيل: ثمانيًا وسبعين سنة، وقيل: خمسًا وثمانين سنة. وسيأتي بقية الكلام في ذلك في آخر ترجمته.
وقال أبو السُّكين
(4)
زكريا بن يحيى: حدّثني عم أبي زَحْر بن حِصْن
(5)
، عن جده حُمَيد بن مُنْهب قال: كانت هند بنت عُتبة عند الفاكِه بن المُغيرة المخزومي، وكان الفاكِهُ من فتيان قريش، وكان له بيت للضيافة يغشاه الناس من غير إذن، فخلا ذلك البيت يومًا، فاضطجع الفاكِهُ وهند فيه في وقت القائلة
(6)
، ثم خرج الفاكِهُ لبعض شأنه، وأقبل رجل ممَّن كان يغشاه، فولج البيت، فلمّا رأى المرأة فيه ولَّى هاربًا، ورآه الفاكِه وهو خارج من البيت، فأقبل إلى هند وهي مضطجعة فضربها برجله وقال: مَنْ هذا الذي كان عندك؟ فقالت: ما رأيت أحدًا ولا انتبهت حتى أنبهتني أنت، فقال لها: الحقي بأبيك. وتكلَّم فيها الناس، فقال لها أبوها: يا بنيَّة إن الناس قد أكثروا فيك القالة، فأنبئيني نبأك، فإن يكن الرجل عليك صادقًا دسست إليه من يقتله فتنقطع عنك القالة، وإنْ يكُ كاذبًا حاكمته إلى بعض كُهّان اليمن، فحلفتْ هند لأبيها بما كانوا يحلفون في الجاهلية إنه لكاذب عليها، فقال عتبة بن ربيعة للفاكِه: يا هذا إنك قد رميتَ ابنتي بأمر عظيم [وعار كبير لا يغسله الماء، وقد جعلتنا في العرب بمكان ذلَّة ومَنْقصة، ولولا أنك مني ذو قرابة لقتلتك، ولكن سأحاكمك إلى كاهن اليمن]
(7)
فحاكمني إلى بعض كهّان اليمن. فخرج الفاكِه في بعض جماعة من بني مخزوم -أقاربه-
(1)
مثله في تاريخ الطبري (5/ 323). ووردت في ط: فانبذ إليه.
(2)
في تاريخه (5/ 323 - 324).
(3)
تحرفت في ط، ب إلى: أدرح. وأذرح: بلدة في أطراف بلاد الشام من نواحي البلقاء. معجم البلدان (1/ 129).
(4)
تحرف في الأصول إلى: السكن والتصحيح من ترجمته في تهذيب الكمال (9/ 384) وغيره.
(5)
تحرف في أ، ط إلى: حصين. وابن حصن هنا مترجم في ميزان الاعتدال (2/ 69) وغيره.
(6)
"القائلة": الظهيرة، وفعله: قال يَقيل.
(7)
ما بين حاصرتين سقط من ب.
وخرج عتبة في جماعة من بني عبد مَناف، وخرجوا بهند ونسوة معها من أقاربهم، وساروا قاصدين بلاد اليمن. فلمّا شارفوا بلاد الكاهن قالوا: غدًا نأتي الكاهن، فلمّا سمعت هند ذلك تنكرت حالها وتغيَّر وجهها وأخذت في البكاء، فقال لها أبوها: يا بنيَّة قد أرى ما بكِ من تنكُّر الحال وكثرة البكاء، وما ذاك أراه عندك إِلَّا لمكروه أحدثتيه وعمل اقترفتيه، فهلّا كان هذا قبل أن يشيع في الناس ويشتهر مسيرنا؟ فقالت: واللَّه يا أبتاه ما هذا الذي تراه مني لمكروه وقع مني، وإني لبريئة، ولكن هذا الذي تراه من الحزن وتغيُّر الحال هو أني أعلم أنكم تأتون هذا الكاهن وهو بشر يخطئ ويصيب [وأخاف أن يخطئ في أمري بشيء، يكون عارُه عليَّ إلى آخر الدهر]
(1)
ولا آمَنُه أن يَسِمَني بسِيما
(2)
تكون عليَّ سبَّة في العرب. فقال لها أبوها: لا تخافي فإني سوف أختبره وأمتحنُه قبل أن يتكلَّم في شأنك وأمرك [فإن أخطأ فيما أَمتحنه به لم أدعه يتكلَّم في أمرك. ثم انفرد عن القوم -وكان راكبًا مُهْرًا- حتى توارى عنهم خلف رابية، فنزل عن فرسه]
(3)
ثم صفَّر له حتى أَدلى، ثم أخذ حبّاتٍ من حنطة فأدخلها في إحليل المُهْر، وأَوكى عليها بسير حتى أحكم ربطها [ثم صفَّر له حتى اجتمع إحليلُه، ثم أتى القوم فظنُّوا أنه ذهب ليقضي حاجة]
(4)
ثم أتى الكاهن، فلمّا قدموا عليه أكرمهم ونحر لهم. فقال له عُتبة: إنا قد جئناك في أمر، ولكن لا أدعك تتكلَّم فيه حتى تبيِّن لنا ما خبَّأتُ لك، فإني قد خبَّأت لك خَبيئًا فانظر ما هو فأخبرنا به. قال الكاهن: ثَمَرَة في كَمَرَة
(5)
، قال: أريد أَبْيَن من هذا، قال: حبات بُرٍّ في إحليل مُهْر، قال: صدقت، فخذ لما جئناك له، انظر في أمر هؤلاء النسوة. [فأجلس النساء خلفه وهند معهم لا يعرفها]
(6)
ثم جعل يدنو من إحداهنَّ فيضرب كتفها ويُبرِّيها ويقول: انهضي. حتى دنا من هند، فضرب كتفها وقال: انهضي حَصَان رَزان، غير رَسْحاء
(7)
ولا زانية، ولتلدنَّ مَلِكًا يقال له معاوية. فوثب الفاكِهُ فأخذ بيدها، فنثرت يدها في يده وقالت له: إليك عني، واللَّه لا يجمع رأسي ورأسَك وسادة، واللَّه لأحرصنَّ أن يكون هذا الولد من غيرك. فتزوَّجها أبو سفيان بن حرب، فجاءت منه بمعاوية هذا. وفي رواية: أن أباها هو الذي قال للفاكِه ذلك. واللَّه أعلم
(8)
.
(1)
سقط من ب.
(2)
في ط: ميسمًا.
(3)
سقط من ب.
(4)
سقط من ب.
(5)
"الكمرة": رأس الذكر.
(6)
سقط من ب.
(7)
"الرسحاء": القبيحة من النساء.
(8)
الخبر بطوله في تاريخ الخلفاء للسيوطي (ص 313 - 314).
وهذه ترجمة معاوية
(1)
وذكر شيء من أيامه وما ورد في مناقبه وفضائله
هو معاوية بن أبي سُفيان صَخر بن حَرب بن أميَّة بن عبد شمس بن عبد مَناف بن قُصي، القرشيّ الأموي، أبو عبد الرحمن، خال المؤمنين، وكاتب وحي رسول رب العالمين. وأمُّه هند بنت عُتبة بن ربيعة بن عبد شمس.
أسلم معاوية عام الفتح، وروي عنه أنه قال: أسلمتُ يوم القضيَّة ولكن كتمت إسلامي من أبي، ثم علم بذلك فقال لي: هذا أخوك يزيد -وهو خير منك- على دين قومه، فقلت له: لم آلُ نفسي جهدًا. قال معاوية: ولقد دخل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مكة في عمرة القضاء وإني لمصدق به، ثم لمّا دخل عام الفتح أظهرتُ إسلامي، فجئته فرحَّب بي وكتبتُ بين يديه.
قال الواقدي: وشهد معه حُنينًا، وأعطاه مئة من الإبل وأربعين أوقية من ذهب، وزنها له بلال، وشهد اليمامة.
وزعم بعضهم أنه هو الذي قَتل مسيلمة، حكاه ابن عساكر. وقد يكون شَرِكَ في قتله، وإنما الذي طعنه وَحْشي، وجلَّله
(2)
أبو دُجَانة سِماك بن خَرَشَة بالسَّيف.
وكان أبوه من سادات قريش [في الجاهلية]
(3)
وتفرَّد بالسُّؤدَد بعد يوم بدر، ثم لما أسلم حسُن بعد ذلك إسلامُه، وكان له مواقف شريفة وآثار محمودة في يوم اليرموك وما قبله وبعده.
وصحب معاوية رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وكتب الوحي بين يديه مع الكتّاب، وروى عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم
(1)
طبقات ابن سعد (3/ 32 و 7/ 406) نسب قريش (124) طبقات خليفة (ت 51، 969، 2809) مسند أحمد (4/ 91) المحبر (الفهرس) المعمرون والوصايا (155) تاريخ البخاري الكبير (7/ 326) المعارف (344) المعرفة والتاريخ (1/ 305) أنساب الأشراف (4/ 5، 136) تاريخ أبي زرعة الدمشقي: (الفهرس) الأخبار الطوال (218، 225) تاريخ الطبري (5/ 323) وما بعدها، الجرح والتعديل (8/ 377) العقد الفريد (4/ 362) مروج الذهب (3/ 11) وما بعدها، مشاهير علماء الأمصار (ت 326) معجم المرزباني (313) جمهرة أنساب العرب (112، 113) وغيرها، الاستيعاب (3/ 1416) تاريخ بغداد (1/ 207) الجمع بين رجال الصحيحين (2/ 489) تاريخ ابن عساكر (16/ 336/ ب) طبقات فقهاء اليمن (47) جامع الأصول (9/ 107) أسد الغابة (5/ 209) الكامل في التاريخ (4/ 5) تهذيب الأسماء واللغات (1/ 2/ 102) مختصر تاريخ دمشق (24/ 399 و 5/ 25) تهذيب الكمال (ورقة 1343) تاريخ الإسلام (2/ 318) العبر (1/ 64) تذهيب التهذيب (4/ 50/ أ) سير أعلام النبلاء (3/ 119) الكاشف (3/ 138) مرآة الجنان (1/ 131) مجمع الزوائد (9/ 354) العقد الثمين (7/ 227) غاية النهاية (2/ 303) تهذيب التهذيب (10/ 207) الإصابة (3/ 433) المطالب العالية (4/ 108) تاريخ الخلفاء (308) خلاصة الخزرجي (381) شذرات الذهب (1/ 270).
(2)
"جلله بالسيف": علاه وطعنه به.
(3)
سقط من ط.
أحاديث كثيرة في الصحيحين وغيرهما من السنن والمسانيد، وروى عنه جماعة من الصحابة والتابعين.
قال أبو بكر بن أبي الدنيا: كان معاوية طويلًا أبيض جميلًا، إذا ضحك انقلبت شفتُه العليا، وكان يخضِب. حدثني محمد بن يزيد الأزدي، حدَّثنا أبو مُسْهر، عن سعيد بن عبد العزيز، عن أبي عبد رب قال: رأيت معاوية يصفِّر لحيتَه كأنها الذهب.
وقال غيره: كان أبيض، طويلًا، أجلح
(1)
، أبيض الرأس واللحية يخضبهما بالحِنَّاء والكَتَم.
وقد أصابته لَقْوَة
(2)
في آخر عمره، فكان يستُر وجهه ويقول: رحم اللَّه عبدًا دعا لي بالعافية، فقد رُميت في أحسني وما يبدو مني، ولولا هواي في يزيد لأبصرت رشدي.
وكان حليمًا وقورًا، رئيسًا سيِّدًا في الناس، كريمًا عادلًا شَهمًا.
وقال المدائني: عن صالح بن كَيْسان قال: رأى بعضُ متفرِّسي العرب معاويةَ وهو صغير فقال: إني لأظنُّ هذا الغلام سيسود قومَه، فقالت هند: ثكِلتُه إن كان لا يسود إلَّا قومه.
وقال الشافعي: قال أبو هريرة: رأيت هندًا بمكة كأنَّ وجهها فِلْقة قمر، وخلفها من عَجِيزتها
(3)
مثل الرجل الجالس، ومعها صبيٌّ يلعب، فمرَّ رجل فنظر إليه فقال: إني لأرى غلامًا إن عاش ليسودنَّ قومه، فقالت هند: إن لم يَسُد إلَّا قومه فأماته اللَّه. وهو معاوية بن أبي سفيان.
وقال محمد بن سعد: أنبأنا علي بن محمد بن عبد اللَّه بن أبي سَيْف قال: نظر أبو سفيان يومًا إلى معاوية وهو غلام فقال لهند: إن ابني هذا لعظيم الرأس، وإنه لخَليقٌ أن يسود قومه. فقالت هند: قومه فقط؟! ثكلتُه إن لم يَسُدِ العرب قاطبة. وكانت هند تحمله وهو صغير وتقول:
إنَّ بُنيَّ مُعْرِقٌ كريمْ
…
محبَّبٌ في أهلِه حَليمْ
ليس بفحَّاشٍ ولا لئيمْ
…
ولا بطُخْرُورٍ
(4)
ولا سَؤومْ
صخر بني فِهْرٍ به زعيمْ
…
لا يُخلِفُ الظنَّ ولا يَخِيم
(5)
قال: فلما ولَّى عمر يزيد بن أبي سفيان ما ولّاه من الشام خرج إليه معاوية فقال أبو سفيان لهند: كيف رأيتِ صار ابنك تابعًا لابني؟! فقالت: إن اضطربتْ خيل العرب فستعلم أين يقع ابنُك مما يكون فيه ابني.
(1)
"الجلح": ذهاب الشعر من مقدم الرأس. وفعله جَلِحَ - بالكسر. والنعت أجلح وجلحاء (اللسان).
(2)
اللقوة: مرض يعرض للوجه فيميله إلى أحد جانبيه (اللسان).
(3)
"العجيزة": المؤخرة.
(4)
"الطخرور": الرجل لا يكون جلدًا ولا كثيفًا (اللسان). وقد تحرفت هذه اللفظة في (أ) و (ط) إلى: "ضجور" وبهذا لا يستقيم وزن البيت.
(5)
الأبيات في تاريخ ابن عساكر مختصره (24/ 402 - 403) وشاعرات العرب (ص 465).
فلمّا مات يزيد بن أبي سفيان سنة بضع عشرة، وجاء البريد إلى عمر بموته، ردَّ عمر البريد إلى الشام بولاية معاوية مكان أخيه يزيد، ثم عزَّى أبا سفيان في ابنه يزيد، فقال: يا أمير المؤمنين مَنْ ولَّيتَ مكانه؟ قال: أخوه معاوية، قال: وصلتَ رحمًا يا أمير المؤمنين.
وقالت هند لمعاوية فيما كتبتْ به إليه: واللَّه يا بنيَّ إنه قلَّ أن تلد حرَّة مثلك، وإن هذا الرجل قد استنهضك في هذا الأمر فاعمل بطاعته فيما أحببتَ وكرهت.
وقال له أبوه: يا بنيَّ إن هؤلاء الرهط من المهاجرين سبقونا وتأخَّرنا، فرفعهم سبقُهم [وقدَّمهم عند اللَّه وعند رسوله]
(1)
وقصَّر بنا تأخُّرنا، فصاروا قادة وسادة، وصرنا أتباعًا، وقد ولَّوك جسيمًا من أمورهم فلا تخالفهم، فإنك تجري إلى أمد فنافإ، فإن بلغتَه أورثته عَقِبك. فلم يزل معاوية نائبًا على الشام في الدولة العمريَّة والعثمانية مدة خلافة عثمان.
وافتتح في سنة سبع وعشرين جزيرة قُبرص، وسكنها المسلمون قريبًا من ستين سنة في أيامه ومن بعده. ولم تزل الفتوحات والجهاد قائمًا على ساقه في أيامه في بلاد الروم والفِرنج وغيرها، فلمّا كان من أمره وأمر أمير المؤمنين عليٍّ ما كان، لم يقع في تلك الأيام فتح بالكليَّة، لا على يديه ولا على يدي علي، وطمع في معاوية ملك الروم بعد أن كان قد أخسأه وأذلَّه، وقهر جنده ودحرهم. فلمّا رأى ملك الروم اشتغال معاوية بحرب عليٍّ تدانى إلى بعض البلاد في جنود عظيمة وطمع فيه، فكتب إليه معاوية: واللَّه لئن لم تنته وترجع إلى بلادك يا لعينُ لأصطلحنَّ أنا وابن عمي عليك، ولأُخرجنَّك من جميع بلادك، ولأُضيقنَّ عليك الأرض بما رحبت. فعند ذلك خاف ملك الروم وانكف، وبعث يطلب الهُدْنة. ثم كان من أمر التحكيم ما كان، وكذلك ما بعده إلى وقت اصطلاحه مع الحسن بن علي كما تقدم، فانعقدت الكلمة على معاوية، وأجمعت الرعايا على بيعته في سنة إحدى وأربعين كما قدمنا، فلم يزل مستقلًا بالأمر في هذه المدة إلى هذه السنة التي كانت فيها وفاته [والجهادُ في بلاد العدو قائم، وكلمةُ اللَّه عالية، والغنائم ترد إليه من أطراف الأرض، والمسلمون معه في راحة وعدل وصفح وعفو]
(2)
.
وقد ثبت في "صحيح مسلم" من طريق عِكْرمة بن عمّار، عن أبي زُمَيل سِمَاك بن الوليد، عن ابن عباس قال: قال أبو سفيان: يا رسول اللَّه ثلاثٌ أَعطنِيهنَّ، قال:"نَعَم"، قال: تُؤَمِّرُني حتى أُقاتلَ الكفَّار كما كنتُ أقاتلُ المسلمين، قال:"نَعَم". قال: ومعاويةُ تجعلُهُ كاتبًا بين يدَيْك، قال:"نَعَم". وذكر الثالثة وهي أنه أراد أن يزوِّج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بابنته الأخرى عَزَّة بنت أبي سفيان، واستعان
(1)
ما بين حاصرتين ليس في ب.
(2)
ما بين حاصرتين ليس في ب.
على ذلك بأختها أمِّ حَبيبة، فقال:"إنَّ ذلكَ لا يحلُّ لي"
(1)
. وقد تكلَّمنا على ذلك في جزء مفرد، وذكرنا أقوال الأئمة واعتذارهم عنه وللَّه الحمد. والمقصود منه أنَّ معاوية كان من جملة الكتّاب بين يدي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الذين يكتبون الوحي.
وروى الإمام أحمد ومسلم والحاكم في "مستدركه"
(2)
من طريق أبي عَوَانة الوضّاح بن عبد اللَّه اليَشْكري عن أبي حَمْزة عمران بن أبي عطاء عن ابن عباس قال: كنت ألعب مع الغِلمان فإذا رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم قد جاء، فقلت: ما جاء إلَّا إليَّ، فاختبأت على باب، فجاءني فحَطَأَني
(3)
حطأةً أو حطأتين ثم قال: "اذهبْ فادعُ لي معاوية" -وكان يكتب الوحي- قال: فذهبت فدعوتُه له، فقيل: إنه يأكل، فأتيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقلت: إنه يأكل، فقال:"اذهبْ فادعُه"، فأتيتُه الثانية، فقيل: إنه يأكل، فأخبرته، فقال في الثالثة:"لا أَشْبعَ اللَّهُ بطنَه". قال: فما شبع بعدها.
وقد انتفع معاويةُ بهذه الدعوة في دنياه وأُخراه: أمّا في دنياه فإنه لمّا صار في الشام أميرًا كان يأكل في اليوم سبع مرات، يُجاء بقصعة فيها لحم كثير ويصل فيأكل منها، ويأكل في اليوم سبع أكلات، ومن الحلوى والفاكهة شيئًا كثيرًا ويقول: واللَّه ما أشبع وإنما أعيا. وهذه نعمة ومَعِدة يرغب فيها كل الملوك. وأمّا في أُخراه فقد أتبع مسلم هذا الحديث بالحديث الذي رواه [هو و]
(4)
البخاري وغيرهما من غير وجه عن جماعة من الصحابة: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "اللهمَّ إنَّما أنا بَشَرٌ فأيُّما عبدٍ سَببتُهُ، أو جلَدتُهُ، أو دعوتُ عليهِ وليسَ لذلك أهلًا، فاجعلْ ذلك كفَّارةً وقُرْبةً تُقَرِّبُه بها عندَكَ يومَ القيامَة"
(5)
. فركَّب مسلم من الحديث الأول وهذا الحديث فضيلة لمعاوية، ولم يورد له غير ذلك.
وقال المسيِّب بن واضح: عن أبي إسحاق الفَزَاري، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء بن
(1)
تقدم هذا الحديث في بداية هذا الجزء في فضل معاوية. وقد أخرجه مسلم (2501) في فضائل الصحابة: باب من فضائل أبي سفيان. وفي زاد المعاد (1/ 109) وما بعدها كلام مفيد حول هذا الحديث.
(2)
هكذا جمعها المصنف في رواية واحدة، وفيه وهم من وجهين؛ الأول: أن مسلمًا لم يخرجه من رواية أبي عوانة الوضاح، وإنما أخرجه (2604) في البر والصلة من طريق شعبة عن أبي حمزة عمران، به. وتنظر تحفة الأشراف (4/ 653) حديث (6324) والمسند الجامع (9/ 567) حديث (7037). الثاني: أن رواية أبي عوانة الوضاح التي أخرجها أحمد في مسنده (1/ 291) و (335) ليس فيها عبارة "لا أشبع اللَّه بطنه" فكأن أحمد أو بعض شيوخه اختصرها أو حذفها مع ثبوتها من رواية أبي عوانة إذ أخرجها أبو داود الطيالسي في مسنده (2746). ولم أقف على هذا الحديث في مستدرك الحاكم، فاللَّه أعلم (بشار).
(3)
حطأني: أي قفدني، والقفد: هو الضرب باليد مبسوطة بين الكتفين. وقد تصحفت في أ، ط إلى: فخطاني خطاة أو خطاتين.
(4)
سقط من المطبوع.
(5)
أخرجه مسلم في البر والصلة برقم (2600) من حديث عائشة، و (2601) من حديث أبي هريرة، و (2602) من حديث جابر بن عبد اللَّه ورواه البخاري رقم (6361) من حديث أبي هريرة.
أبي رَباح، عن ابن عباس قال:"أتى جبريل إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمّد أَقرئ معاوية السَّلام واستوصِ به خيرًا فإنَّه أمينُ اللَّهِ على كتابه ووَحْيه ونِعْمَ الأمين". ثم أورده ابن عساكر من وجه آخر عن عبد الملك بن أبي سليمان. ثم أورده أَيضًا من رواية علي وجابر بن عبد اللَّه "أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم استشار جبريل في استكتابه معاوية، فقال: اسْتكْتِبْه فإنَّه أمين" ولكن في الأسانيد إليهما غرابة. ثم أورد عن عليٍّ في ذلك غرائب كثيرة [وكذا]
(1)
عن غيره أيضًا
(2)
.
وقال أبو عَوَانة: عن سليمان، عن عمرو بن مُرَّة، عن عبد اللَّه بن الحارث، عن زهير بن الأقمر الزُّبيدي، عن عبد اللَّه بن عمرو قال: كان معاوية يكتب للنبيِّ صلى الله عليه وسلم
(3)
.
وقال أبو القاسم الطبراني: حدَّثنا أحمد بن محمد الصَّيدلاني، حدَّثنا السَّري بن
(4)
عاصم، حدَّثنا عبد اللَّه بن يحيى بن أبي كَثير، عن أبيه، [عن]
(5)
هشام بن عروة، [عن أبيه]
(6)
، عن عائشة قالت: لمّا كان يوم أمِّ حَبيبة من النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم دقَّ البابَ داق، فقال النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: انظُروا مَنْ هذا؟ قالوا: معاوية، قال: ائذَنُوا له، فدخل وعلى أُذنه قلمٌ يخطّ
(7)
به، فقال: ما هذا القلمُ على أُذنك يا معاوية؟ قال: قلمٌ أعددتُه للَّه ولرسوله، فقال: جزاك اللَّه عن نبيِّكَ خيرًا، واللَّهِ ما استكتبتُك إلَّا بوحيٍ من اللَّه، وما أفعلُ من صغيرة ولا كبيرة إلَّا بوحيٍ من اللَّه، كيفَ بكَ لو قَمَّصَك اللَّه قميصًا -يعني الخلافة-؟ فقامت أمُّ حَبيبة، فجلستْ بين يديه وقالت: يا رسول اللَّه وإن اللَّهَ مقمِّصٌ أخي قميصًا؟ قال: نعم، ولكنْ فيه هَناتٌ وهَنات. فقالت: يا رسول اللَّه فادعُ اللَّهَ له، فقال: اللهمَّ اهدِهِ بالهُدى، وجنِّبْه الرَّدى، واغفِرْ له في الآخرة والأُولى". قال الطبراني: تفرد به السَّري بن عاصم، عن عبد اللَّه بن يحيى بن أبي كثير، عن هشام.
وقد أورد ابن عساكر بعد هذا أحاديثَ كثيرة موضوعة، والعجبُ منه مع حفظه واطِّلاعه كيف لا ينبِّه عليها وعلى نكارتها وضعف رجالها، واللَّهُ الموفق للصواب. وقد أورد
(8)
من طريق أبي هريرة وأنس وواثلة بن الأسقع مرفوعًا: "الأُمناء ثلاثة: جبريل، وأنا، ومعاوية". ولا يصحُّ من جميع وجوهه. ومن رواية ابن عباس: "الأُمناء سبعة: القلَم، واللَّوح، وإسرافيل، وميكائيل،
(1)
سقط من ط.
(2)
قلت: وذكر بعضها الذهبي في السير (3/ 128 - 131) واعتبرها من الأباطيل الظاهرة الوضع. وهي أيضًا في الفوائد المجموعة للشوكاني (ص 403 - 407).
(3)
رجاله ثقات. وهو في السير (3/ 123).
(4)
في ط، ب: عن.
(5)
سقط من ط.
(6)
سقط من ط.
(7)
في مختصر تاريخ دمشق (24/ 404) لم يخط.
(8)
في المطبوع: أوردنا، وهو خطأ.
وجبريل، وأنا، ومعاوية". وهذا أنكر من الأحاديث التي قبلَه وأضعف إسنادًا.
وقال الإمامَ أحمد: حدّثنا عبد الرحمن بن مَهْدي، عن معاوية -يعني ابن صالح- عن يونس بن سيف، عن الحارث بن زياد، عن أبي رُهْم، عن العِرْباض بن سارية السّلمي قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يدعونا إلى السّحور في شهر رمضان: هلُمَّ إلى الغَداء المبارك، ثم سمعته يقول: اللهمَّ علِّمْ معاويةَ الكتابَ والحسَاب، وقِهِ العَذاب". تفرد به أحمد
(1)
.
ورواه ابن جرير من حديث ابن مَهْدي، وكذلك رواه أسد بن موسى، وبشر بن السَّري، وعبد اللَّه بن صالح [عن معاوية بن صالح]
(2)
بإسناده مثله. وفي رواية بشر بن السَّري: "وأَدخِلْه الجنَّة".
ورواه ابن عديّ وغيرُه من حديث عثمان بن عبد الرحمن الجُمَحي، عن عطاء، عن ابن عباس قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "اللهمَّ علِّمْ معاويةَ الكتابَ والحسابَ وقِهِ العذاب"
(3)
.
وقال محمد بن سعد: حدَّثنا سليمان بن حرب، والحسن
(4)
بن موسى الأَشْيَب قالا: حدَّثنا أبو هلال محمد بن سُليم، حدَّثنا جبَلة بن عطيَّة، عن مَسْلمة بن مخلَّد. قال الأَشْيَب
(5)
: قال أبو هلال أو عن رجل عن مَسْلمة بن مخلَّد، وقال سليمان بن حرب أو حدَّثه مَسْلمة عن رجل: أنه رأى معاوية يأكل، فقال لعمرو بن العاص: إنَّ ابن عمِّك هذا لمِخْضَد
(6)
، قال: أما إنِّي أقول لك هذا، وقد سمعتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول:"اللهمَّ علِّمْه الكتاب، ومكِّنْ له في البلاد، وقِهِ العذاب"
(7)
.
وقد أرسلَه غيرُ واحد من التابعين منهم: الزهري، وعروة بن رُوَيم، وحَرِيز
(8)
بن عثمان الرَّحَبي الحمصي، ويونس بن ميسرة بن حَلْبَس.
وقال الطبراني: حدَّثنا أبو زرعة وأحمد بن يحيى بن حمزة الدمشقيان قالا: حدَّثنا أبو مُسْهر، حدَّثنا سعيد بن عبد العزيز، عن ربيعة بن يزيد، عن عبد الرحمن بن أبي عَميرة المزني -وكان من أصحاب النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال لمعاوية:"اللهمَّ علِّمْه الكتابَ والحساب، وقِهِ العذاب"
(9)
. قال ابن عساكر: وهذا غريب، والمحفوظ بهذا الإسناد حديث العِرْباض الذي تقدم. ثم روى من طريق
(1)
وهو في مسنده (4/ 127) وإسناده ضعيف، وقد صح منه حديث السحور.
(2)
مكانه بياض في ب.
(3)
أخرجه ابن عدي في الكامل (5/ 1810) ضمن ترجمة عثمان بن عبد الرحمن الجمحي.
(4)
تحرف في المطبوع إلى: الحسين.
(5)
تحرف في المطبوع إلى: الأشهب، وهو من رجال التهذيب.
(6)
الخضد: شدة الأكل. ومخضد: مِفْعل منه، كأنه آلة للأكل. والمراد: إنه يأكل بجفاء وسرعة.
(7)
فيه رجل مجهول. وهو في تاريخ ابن عساكر (16/ 343/ أ).
(8)
تحرف في الأصول إلى: جرير، وهو من رجال التهذيب.
(9)
رجاله ثقات، إِلَّا أن سعيد بن عبد العزيز قد اختلط. وأورده الحافظ في الإصابة ضمن ترجمة عبد اللَّه بن أبي عميرة.
الطبراني، عن أبي زرعة، عن أبي مُسْهر، عن سعيد، عن ربيعة، عن عبد الرحمن بن أبي عَميرة المزني قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول لمعاوية: "اللهمَّ اجعَلْه هاديًا مهديًّا، واهْدِه، واهْدِ به"
(1)
.
وقال الإمام أحمد: حدَّثنا علي بن بحر، حدَّثنا الوليد بن مسلم، حدَّثنا سعيد بن عبد العزيز، عن ربيعة بن
(2)
يزيد، عن عبد الرحمن بن أبي عَميرة الأزدي، عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أنه ذكر معاوية فقال:"اللَّهمَّ اجعلْه هاديًا مَهْديًّا، واهدِ به"
(3)
.
وهكذا رواه الترمذي
(4)
عن محمد بن يحيى، عن أبي مُسْهر، عن سعيد بن عبد العزيز به، وقال: حسن غريب.
وقد رواه عمر بن عبد الواحد ومحمد بن سعليمان الحرّاني، كما رواه الوليد بن مسلم وأبو مُسْهر عن سعيد، عن ربيعة بن يزيد، عن عبد الرحمن بن أبي عَميرة.
ورواه محمد بن المصفَّى، عن مروان بن محمد الطّاطَري، عن سعيد بن عبد العزيز، عن ربيعة بن يزيد، عن أبي إدريس، عن ابن أبي عَميرة: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم دعا لمعاوية فقال: "اللهمَّ علِّمه العلم، واجعله هاديًا مَهْديًا، واهدِه، واهدِ به".
وقد رواه سلمة بن شَبيب، وصفوان بن صالح، وعيسى بن هلال، وأبو الأزهر عن مروان الطّاطَري، ولم يذكروا أبا إدريس في إسناده.
ورواه الطبراني، عن عبدان بن أحمد، عن علي بن سهل الرّملي، عن الوليد بن مسلم، عن سعيد بن عبد العزيز، عن يونس بن ميسرة بن حَلْبَس، عن عبد الرحمن بن أبي عَميرة المزني: أنه سمع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وذكر معاوية فقال: "اللهمَّ اجعلْه هاديًا مَهْديًّا، واهدِه".
قال ابن عساكر: وقول الجماعة هو الصواب.
وقد اعتنى ابن عساكر بهذا الحديث، وأطنب فيه وأطرب، وأفاد وأجاد، وأحسن الانتقاد، فرحمه اللَّه، كم له من موطن يبرِّز فيه على غيره من الحفّاظ والنقّاد.
وقال الترمذي: حدَّثنا محمد بن يحيى، حدَّثنا عبد اللَّه بن محمد النُّفيلي، حدَّثنا عمرو بن واقد، عن يونس بن حَلْبَس، عن أبي إدريس الخولاني قال: لما عزل عمر بن الخطاب عُمير بن سعد عن حِمْص ولَّى معاوية فقال الناس
(5)
: عزل عُمر عُميرًا وولَّى معاوية، فقال عُمير
(6)
: لا تذكروا معاوية إلَّا
(1)
تاريخ ابن عساكر، مختصره (7/ 25).
(2)
في أ: عن خطأ.
(3)
مسند أحمد (4/ 216).
(4)
برقم (3842) في المناقب.
(5)
في ط: "عن الشام وولى معاوية قال الناس" وما أثبتناه من م وجامع الترمذي.
(6)
في (أ) و (ط): عمر.
بخير، فإني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول:"اللهمَّ اهدِ به". تفرد به الترمذي
(1)
وقال: غريب. وعمرو بن واقد ضعيف.
هكذا ذكره أصحاب الأطراف في مسند عمير بن سعد الأنصاري. وعندي أنه ينبغي أن يكون من رواية عمر بن الخطاب، ويكون الصواب فقال عمر: لا تذكروا معاوية إلَّا بخير، ليكون عذرًا له في توليته له.
ومما يقوِّي هذا أن هشام بن عمّار قال: حدَّثنا ابن أبي السائب -هو عبد العزيز بن الوليد بن سليمان- قال: وسمعت أبي يذكر أن عمر بن الخطاب ولَّى معاوية بن أبي سفيان، فقالوا: ولَّى حدث السِّنّ، فقال: تلومونني في ولايته، وأنا سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول:"اللهمَّ اجعلْه هاديًا مَهْديًا، واهدِ به".
وهذا منقطع
(2)
يقوِّيه ما قبله.
قال الطبراني: حدَّثنا يحيى بن عثمان بن صالح، حدَّثنا نُعيم بن حمَّاد، حدَّثنا محمد بن شُعيب بن شابور، حدَّثنا مروان بن جَناح، عن يونس بن ميسرة بن حَلْبَس، عن عبد اللَّه بن بُسر أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم استشار أبا بكر وعمر في أمر، فقال:"أشيروا علَيّ" فقالا: اللَّه ورسوله أعلم، فقال:"ادعوا معاوية" فقال أبو بكر وعمر: أما في رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ورجلين من رجال قريش [ما يتقنون أمرهم حتى يبعث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى غلام من غلمان قريش]
(3)
؟! فقال: "ادعوا لي معاوية" فدُعي له، فلمّا وقف بين يديه قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"أَحضِروه أمركم، وأَشهِدوه أمركم، فإنه قوي أمين"
(4)
.
ورواه بعضهم عن نُعيم، وزاد "وحمِّلوه أمركم".
ثم ساق ابن عساكر أحاديث كثيرة موضوعة -بلا شك- في فضل معاوية، أضربنا عنها صفحًا، واكتفينا بما أوردناه من الأحاديث الصِّحاح والحِسان والمستجادات عمّا سواها من الموضوعات والمنكرات.
قال ابن عساكر: وأصح ما روي في فضل معاوية حديث أبي حمزة عن ابن عباس: "أنه كان كاتب النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم منذ أسلم". أخرجه مسلم في "صحيحه"
(5)
.
وبعده حديث العِرْباض: "اللهم علِّم معاوية الكتاب"
(6)
.
(1)
وأخرجه برقم (3843).
(2)
لأن الوليد بن سليمان لم يدرك عمر.
(3)
ما بين حاصرتين سقط من ب.
(4)
تاريخ ابن عساكر (16/ 344 - 345).
(5)
هكذا قال، وحديث أبي حمزة عن ابن عباس الذي في صحيح مسلم برقم (2604) ليس فيه أنه كان كاتب النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم منذ أسلم، والوهم فيه من الحافظ ابن عساكر، كما يظهر.
(6)
وقد تقدم.
وبعده حديث ابن أبي عَميرة: "اللهم اجعله هاديًا مهديًا"
(1)
.
قلت: وقد قال البخاري في كتاب المناقب
(2)
: ذكر معاوية بن أبي سفيان: حدَّثنا الحسن بن بشر، حدَّثنا المعافى، عن عثمان بن الأسود، عن ابن أبي مُليكة قال: أوترَ معاوية بعد العشاء بركعة وعنده مولى لابن عباس، فأتى ابن عباس فقال
(3)
: دعه، فإنه قد صحب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. حدَّثنا ابن أبي مريم، حدَّثنا نافع بن عمر، حدَّثنا ابن أبي مُليكة قال: قيل لا بن عباس: هل لك في أمير المؤمنين معاوية؟ ما أوتر إِلَّا بواحدة! قال: أصاب، إنه فقيه. حدَّثنا عمرو بن عباس، حدَّثنا [محمد بن] جعفر، حدَّثنا شعبة، عن أبي التيّاح قال: سمعت حُمْران
(4)
بن
(5)
أبان، عن معاوية قال: إنكم لتصلُّون صلاة، لقد صحبنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فما رأيناه يصلِّيهما، ولقد نهى عنهما - يعني الركعتين بعد العصر.
ثم قال البخاري بعد ذلك: ذكر هند بنت عتبة بنت ربيعة: حدَّثنا عبدان
(6)
، حدَّثنا عبد اللَّه، حدَّثنا يونس، عن الزهري، حدّثني عروة: أن عائشة قالت: "جاءت هند بنت عتبة
(7)
فقالت: يا رسول اللَّه! ما كان على ظهر الأرض من أهل خِبَاء أحبُّ إليَّ من أن يَذِلُّوا من أهل خِبَائك، [ثم ما أصبح اليوم على ظهر الأرض أهلُ خِبَاء أحبُّ إليَّ أن يعزُّوا من أهل خِبائك]
(8)
فقال: "وأيضًا والذي نفسي بيده". قالت
(9)
: يا رسول اللَّه! إن أبا سفيان رجل مِسِّيك، فهل عليَّ حرج
(10)
أن أُطعم من الذي له عيالَنا؟ قال: "لا [أُراه]، إِلَّا بالمعروف"
(11)
.
فالمدحة في قوله: "وأيضًا والذي نفسي بيده" وهو أنه كان يود أن هندًا وأهلها وكل كافر يذلُّوا في حال كفرهم، فلما أسلموا كان يحب أن يَعِزُّوا، فأعزَّهم اللَّه - يعني أهل خبائها.
(1)
وقد تقدم.
(2)
رواه البخاري رقم (3764 - 3766).
(3)
بعد هذا في ط: "أوتر معاوية بركعة بعد العشاء فقال"، وليست في ب وم ولا في صحيح البخاري الذي ينقل منه المصنف، لذلك حذفناها.
(4)
تحرف في المطبوع إلى: حمدان.
(5)
تحرفت في الأصول إلى: عن.
(6)
قال الحافظ ابن حجر في الفتح: هو للجميع، وقال عبدان أي بصيغة التعليق، وكلام أبي نعيم في المستخرج يقتضي أن البخاري أخرجه موصولًا عن عبدان. وقد وصله أيضًا البيهقي.
(7)
بعد هذا في ط: "امرأة أبي سفيان إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم" وليست في م ولا في صحيح البخاري الذي ينقل منه المصنف، لذلك حذفناها.
(8)
ما بين حاصرتين سقط من أ، ط.
(9)
في ط: "فقالت" وما هنا من أ وصحيح البخاري.
(10)
في ط: "من حرج" ولفظة "من" ليست في م ولا في صحيح البخاري.
(11)
أخرجه البخاري رقم (3825). "والمسّيك": الشحيح والبخيل.
وقال الإمام أحمد: حدَّثنا رَوْح، حدَّثنا أبو أميَّة عمرو بن يحيى بن سعيد قال: سمعت جدِّي يحدث: أن معاوية أخذ الإداوة
(1)
بعد أبي هريرة فتبع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بها -وكان أبو هريرة قد اشتكى- فبينما هو يُوضئ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذ رفع رأسه إليه مرةً أو مرتين وهو يتوضأ فقال: "يا معاوية! إنْ وليتَ أمرًا فاتَّقِ اللَّهَ واعدِل". قال معاوية: فما زلت أظن أني سأُبتلى بعمل لقول النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم حتى ابتُليت. تفرد به أحمد
(2)
.
ورواه أبو بكر بن أبي الدنيا، عن أبي إسحاق الهمداني سعيد بن زُنْبور بن ثابت، عن عمرو بن يحيى بن سعيد.
ورواه ابن مَنْدة من حديث بشر بن الحكم، عن عمرو بن يحيى به.
وقال أبو يعلى
(3)
: حدَّثنا سويد بن سعيد، حدَّثنا عمرو بن يحيى بن سعيد، عن جدِّه، عن معاوية قال:"اتبعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بوضوء، فلما توضأ نظر إلي فقال: "يا معاوية! إنْ وليتَ أمرًا فاتَّقِ اللَّهَ واعدِل". فما زلت أظن أني مبتلًى بعمل حتى وليت.
ورواه غالب القطّان عن الحسن قال: سمعت معاوية يخطُب وهو يقول: صببت يومًا على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وضوءه، فرفع رأسه إلي فقال:"أما إنَّك ستَلي أمرَ أقَتي بعدي، فإذا كانَ ذلك فاقبَلْ من مُحسنِهم وتجاوَزْ عن مُسِيئهم". قال: فما زلت أرجو حتى قمت مقامي هذا.
وروى البيهقيّ عن الحاكم بسنده إلى إسماعيل بن إبراهيم بن مُهاجر، عن عبد الملك بن عُمير قال: قال معاوية: واللَّه ما حَملني على الخلافة إلّا قول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إنْ ملكتَ فأَحسِنْ". قال البيهقيّ: إسماعيل بن إبراهيم هذا ضعيف، إلّا أن للحديث شواهد
(4)
.
وروى ابن عساكر بإسناده عن نُعيم بن حمّاد: حدَّثنا محمد بن حرب، عن أبي بكر بن أبي مريم، حدَّثنا محمد بن زياد، عن عوف بن مالك الأَشْجعي قال: بينما أنا راقد في كنيسة يوحنا -وهي يومئذ مسجد يصلَّى فيها- إذ انتبهت من نومي فإذا أنا بأسد يمشي بين يديّ، فوثبت إلى سلاحي، فقال الأسد: مَهْ، إنما أُرسلت إليك برسألة لتبلّغها. قلت: ومن أرسلك؟ قال: اللَّهُ أرسلني إليك لتبلِّغ معاوية السلام، وتعلمه أنه من أهل الجنة، فقلت له: ومن معاوية؟ قال: معاوية بن أبي سفيان.
ورواه الطبراني، عن أبي يزيد القراطيسي، عن المعلّى بن الوليد القعقاعي، عن محمد بن حبيب الخَولاني، عن أبي بكر بن عبد اللَّه بن أبي مريم الغسّاني، وفيه ضعف. وهذا غريب جدًا، ولعل الجميع منامًا، ويكون قوله:"إذ انتبهت من نومي" مدرجًا لم يضبطه ابن أبي مريم، واللَّه أعلم.
(1)
"الإداوة": إناء صغير من جلد يتخذ للماء.
(2)
وهو في مسنده (4/ 101) وهو حديث معلول، وقد تقدم في أول المجلد الكلام عليه (ص 6) فراجعه.
(3)
مسند أبي يعلى (7380) وإسناده ضعيف.
(4)
ما تقدم في أول هذا الجزء.
وقال محمد بن عائذ: عن الوليد، عن ابن لَهِيعة، عن يونس، عن الزهري قال: قدم عمر الجابية، فنزع شُرَحبيل، وأمر عمرو بن العاص بالمسير إلى مصر، وبقَّى الشام على أميرين أبي عبيدة ويزيد، ثم توفي أبو عبيدة، فاستخلف عياض بن غَنْم، ثم توفي يزيد فأمّر معاوية مكانه، ثم نعاه عمر لأبي سفيان، فقال: يا أبا سفيان احتسِبْ يزيد بن أبي سفيان، قال: من أمَّرت مكانه؟ قال: معاوية، فقال: وصلتَ رحمًا يا أمير المؤمنين. فكان على الشام معاوية [وعمير بن سعد حتى قتل عمر]
(1)
.
وقال محمد بن إسحاق: مات أبو عبيدة في طاعون عَمَواس
(2)
واستخلف معاذًا، فمات معاذ واستخلف يزيد بن أبي سفيان، فمات واستخلف أخاه معاوية، فأقرَّه عمر، وولَّى عمرو بن العاص فلسطين والأردن، ومعاوية دمشق وبعلبكّ والبَلقاء، وولَّى سعيد بن عامر بن حِذْيَم
(3)
حمص، ثم جمع الشام كلّها لمعاوية بن أبي سفيان، ثم استمرَّ به عثمان بن عفان.
وقال إسماعيل بن أميَّة: أفرد عمر معاويةَ بإمرة الشام، وجعل له في كل شهر ثمانين دينارًا. والصواب أن الذي جمع لمعاوية الشام كلَّها عثمان بن عفان، وأما عمرُ فإنه إنما ولّاه بعض أعمالها. وقال بعضهم: لما عُزِّيت هند في يزيد بن أبي سفيان -ولم يكن منها- قيل لها: إنه قد جعل معاوية أميرًا مكانه، فقالت: أو مثل معاوية يُجعل خلفًا من أحد؟! فواللَّه لو أنَّ العرب اجتمعت متوافرةً ثم رُمي به فيها لخرج من أي أعراضها (نواحيها)
(4)
شاء.
وقال آخرون: ذُكر معاوية عند عمر، فقال: دعوا فتى قريش وابنَ سيِّدها، إنه لمن يضحك في الغضب، ولا ينال منه إلّا على الرضا، ومن لا يأخذ من فوق رأسه إلّا من تحت قدميه.
وقال ابن أبي الدنيا: حدّثني محمد بن قدامة الجوهري، حدّثني عبد العزيز بن يحيى، عن شيخ له قال: لمّا قدم عمر بن الخطاب الشام تلقّاه معاويةُ في موكب عظيم، فلمّا دنا من عمر قال له: أنت صاحب الموكب؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين. قال: هذا حالك مع ما بلغني من طول وقوف ذوي الحاجات ببابك؟ قال: هو ما بلغك من ذلك. قال: ولمَ تفعلُ هذا؟ لقد هممت أن آمرك بالمشي حافيًا إلى بلاد الحجاز. قال: يا أمير المؤمنين! إنا بأرضٍ جواسيسُ العدوِّ فيها كثيرة، فيجب أن نُظهر من عزِّ السلطان ما يكون فيه عزٌّ للإسلام وأهله ويرهبهم به، فإنْ أمرتَني فعلت، وإن نهيتني انتهيت. فقال له عمر: يا معاوية! ما سألتك عن شيء إلّا تركتني في مثل رواجب الضَّرِس، لئن كان ما قلت حقًّا إنه لرأي
(1)
ما بين حاصرتين سقط من أ، وتحرف عمير بن سعد في ب إلى: يحيى بن سعيد. تاريخ أبي زرعة الدمشقي (1/ 218).
(2)
"عمواس": بفتح أوله وثانيه، أو بكسر أوله وسكون ثانيه: كورة من فلسطين بالقرب من بيت المقدس معجم البلدان (4/ 157). وطاعون عمواس كان في سنة 18 هـ.
(3)
تحرف اسمه في المطبوع إلى: سعد بن عامر بن جذيم.
(4)
كذا وقعت في المطبوع فقط، وكأنها مقحمة، وهي شرح للأعراض.
أريب، وإن كان باطلًا إنه لخديعة أديب. قال: فمُرْني يا أمير المؤمنين بما شئت. قال: لا آمرك ولا أنهاك. فقال رجل: يا أمير المؤمنين! ما أحسن ما صَدَر عما أوردتَه فيه! فقال عمر: لحُسْن موارده ومصادره جشَّمناه ما جشَّمناه
(1)
.
وفي رواية: أن معاوية تلقَّى عمر حين قدم الشام، ومعاويةُ في موكب كثيف، فاجتاز بعمر وهو وعبد الرحمن بن عوف راكبان على حمار، ولم يشعر بهما، فقيل له: إنك جاوزتَ أمير المؤمنين، فرجع، فلمّا رأى عمرَ ترجَّل وجعل [يمشي وعمرُ يحدِّثه حتى انهال عرقه وكثر اصفرار لونه وجعل]
(2)
يقول له ما ذكرنا، فقال عبد الرحمن بن عوف: ما أحسن ما صَدَر عمّا أوردتَه فيه يا أمير المؤمنين! فقال: من أجل ذلك جشَّمناه ما جشَّمناه.
وقال عبد اللَّه بن المبارك في كتاب "الزهد"
(3)
: أخبرنا محمد بن [أبي]
(4)
ذئب، عن مسلم بن جُنْدب، عن أسلم -مولى عمر- قال: قدم علينا معاوية وهو أبيضُ بضٌّ وباضٌّ، أبضُّ الناس وأجملُهم، فخرج إلى الحج مع عمر، فكان عمر ينظر إليه فيعجب منه، ثم يضع أصبعَه على متن معاوية، ثم يرفعها عن مثل الشِّراك فيقول: بخٍ بخٍ، نحن إذًا خيرُ الناس أن جُمع لنا خير الدنيا والآخرة. فقال معاوية: يا أمير المؤمنين! سأحدِّثك؟ إنا بأرض الحمّامات والريف والشهوات، فقال عمر: سأحدِّثك، ما بك إلَّا إلطافك نفسك بأطيب الطعام وتصبُّحك حتى تضرب الشمسُ متنيك وذوو الحاجات وراء الباب. [فقال: يا أمير المؤمنين علِّمْني أمتثل]
(5)
. قال: فلمّا جئنا ذا طُوى أخرج معاوية حُلَّة فلبسها، فوجد عمر منها ريحًا كأنه ريح طيب، فقال: يعمد أحدكم يخرُج حاجًّا تَفِلًا
(6)
، حتى إذا جاء أعظم بلدان اللَّه حرمةً أخرج ثوبيه كأنهما كأنا في الطِّيب فلبسهما! فقال معاوية: إنما لبستُهما لأدخل فيهما على عشيرتي وقومي. واللَّه لقد بلغني أذاك هاهنا وبالشام، فاللَّهُ يعلم أني لقد عرفت الحياء فيه. ثم نزع ثوبيه ولبس ثوبيه اللذين أحرم فيهما
(7)
.
وقال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثني أبي، عن هشام بن محمد، عن أبي عبد الرحمن المدني قال: كان عمر بن الخطاب إذا رأى معاوية قال: هذا كسرى العرب
(8)
.
(1)
تاريخ ابن عساكر مختصره (25/ 18)، وسير أعلام النبلاء (3/ 133).
(2)
ما بين حاصرتين سقط من المطبوع.
(3)
كتاب الزهد (رقم 576).
(4)
سقطت من المطبوع.
(5)
ما بين حاصرتين ليس في ب.
(6)
"التفل": الذي ترك استعمال الطيب. وقد وقعت في المطبوع: مقلًا، خطأ.
(7)
تاريخ ابن عساكر، مختصره (25/ 19)، وسير أعلام النبلاء (3/ 134).
(8)
المصدر السابق.
وهكذا حكى المدائني عن عمر أنه قال ذلك.
وقال عمرو بن يحيى بن سعيد الأموي: عن جدِّه قال: دخل معاويةُ على عمرَ وعليه حُلَّة خضراء، فنظر إليها الصحابة، فلما رأى ذلك عمر وثب إليه بالدَّرَّة، وجعل يضربه بها، وجعل معاوية يقول: يا أمير المؤمنين اللَّهَ اللَّهَ فيّ. فرجع عمر إلء مجلسه، فقال له القوم: لمَ ضربتَه يا أمير المؤمنين وما في قومك مثله؟ فقال: واللَه ما رأيت إلّا خيرًا، وما بلغني إلّا خير [ولو بلغني غير ذلك لكان مني إليه غير ما رأيتم]
(1)
ولكن رأيته -وأشار بيده- فأحببتُ أن أضع منه ما شمخ.
وقد قال أبو داود: حدَّثنا سليمان بن عبد الرحمن الدّمشقي، حدَّثنا يحيى بن حمزة، حدَّثنا ابن أبي مريم، أن القاسم بن مُخَيمرة أخبره، أن أبا مريم الأزدي أخبره قال: دخلت على معاوية فقال: ما أنعَمَنا بك
(2)
أبا فلان -وهي كلمة تقولها العرب- فقلت: حديث سمعتُه أخبرك به، سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "مَنْ ولّاه اللَّهُ شيئًا من أمر المسلمين فاحتجَبَ دونَ حاجتِهم وخَلَّتِهم
(3)
وفَقْرهم احتجَب اللَّهُ دونَ حاجتِه وخَلَّتِه وفَقْره". قال: فجعل معاوية -حين سمع هذا الحديث- رجلًا على حوائج الناس
(4)
.
ورواه الترمذي
(5)
وغيره.
وقال الإمام أحمد: حدَّثنا مروان
(6)
بن معاوية الفَزَاري، حدَّثنا حبيب بن الشّهيد، عن أبي مِجْلَز قال: خرج معاوية على الناس، فقاموا له، فقال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "مَنْ أحبَّ أن يمثُلَ له الرجالُ قِيامًا فليتبوَّأ مقعَدَهُ من النّار"
(7)
.
وفي رواية: قال: خرج معاوية على ابن عامر وابن الزبير، فقام له ابن عامر ولم يقم ابن الزبير، فقال معاوية لابن عامر: اجلس، فإني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول:"مَنْ أحبَّ أن يمثُلَ له العباد قيامًا فليتبوَّأ مقعَدَهُ من النّار"
(8)
.
(1)
ما بين حاصرتين ليس في ب، ولا مختصر تاريخ دمشق وسير أعلام النبلاء.
(2)
ما أنعمنا بك: أي ما جاءنا بك، أو ما أعملك إلينا.
(3)
"الخَلَّة": بفتح الخاء - الحاجة.
(4)
أخرجه أبو داود (2948) في الخراج والإمارة والفيء: باب فيما يلزم الإمام من أمر الرعية، وهو حديث صحيح.
(5)
برقم (1333) في الأحكام: باب ما جاء في إمام الرعية.
(6)
تحرف في أ إلى: هارون.
(7)
في المسند (4/ 100) وهو حديث صحيح. وقد قال المناوي في فيض القدير (6/ 31): أن يُلزمهم بالقيام صفوفًا على طريق الكبر والتوجُّه، أو أن يقام على رأسه وهو جالس. وقال ابن الأثير في جامع الأصول (6/ 536): مثَل الناس للأمير قيامًا: إذا قاموا بين يديه وعن جانبيه وهو جالس، نهي عنه، لأن الباعث عليه الكبر وإذلال الناس.
(8)
مسند أحمد (4/ 91) وهو حديث صحيح.
ورواه أبو داود
(1)
والترمذي
(2)
من حديث حبيب بن الشهيد، وقال الترمذي: حديث حسن
(3)
.
وروى أبو داود
(4)
من حديث الثَّوري، عن ثور بن يزيد، عن راشد بن سعد المَقْرائي الحمصي، عن معاوية قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إنَّكَ إنْ تتبَّعْتَ عَوْراتِ الناسِ أفسَدْتَهُمْ أو كدتَ أنْ تُفسِدَهم" قال [أبو الدرداء]: كلمة سمعها معاوية نفعه اللَّه بها. تفرد به أحمد
(5)
. يعني أنه كان جيِّد السِّيرة، حسن التجاوز، جميل العفو، كثير السّتر، رحمه اللَّه تعالى.
وثبت في "الصحيحين" من حديث الزُّهري، عن حُميد بن عبد الرحمن، عن معاوية أنه قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بهِ خيرًا يفقِّهْهُ في الدِّين، وإنَّما أنا قاسمٌ واللَّهُ يُعْطي، ولا تزالُ طائفةٌ من أمَّتي ظاهرينَ على الحقِّ لا يَضُرُّهم مَنْ خَذَلَهم ولامَنْ خالَفَهم حتى يأتي أمرُ اللَّهِ وهم ظاهرون" وفي رواية: "وهم على ذلك"
(6)
.
وقد خطب معاوية بهذا الحديث مرة ثم قال: وهذا مالك بن يُخامِر يخبر عن معاذ أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "وهم بالشام"
(7)
يحثُّ بهذا أهل الشام على مناجزة أهل العراق، وأن أهل الشام هم الطائفة المنصورة على من خالفها. وهذا مما كان يحتج به معاوية لأهل الشام في قتالهم أهل العراق.
وقال الليث بن سعد: فتح معاوية قيساريَّة سنة تسمع عشرة في دولة عمر بن الخطاب.
وقال غيره: وفتح قُبرص سنة خمس -وقيل: سبع، وقيل: ثمان- وعشرين في أيام عثمان.
قالوا: وكان عام غزوة المضيق -يعني مضيق القُسْطنطينية- في سنة اثنتين وثلاثين في أيامه، وكان هو الأمير على الناس عامئذ.
وجمع عثمان لمعاوية جميع الشام [وقيل: إن عمر هو الذي جمعها له. والصحيح عثمان]
(8)
. واستقضى معاويةُ فَضَالة بن عبيد بعد أبي الدرداء. ثم كان ما كان بينه وبين عليٍّ بعد قتل عثمان على سبيل الاجتهاد والرأي، فجرى بينهما قتال عظيم كما قدَّمنا، وكان الحقُّ والصواب مع عليّ، ومعاوية معذور
(1)
برقم (5229) في الأدب: باب في قيام الرجل للرجل.
(2)
برقم (2755) في الأدب: باب ما جاء في كراهية قيام الرجل للرجل.
(3)
وإنما اقتصر الإمام الترمذي على تحسينه لما في لفظه من اختلاف، فانظر علل ابن أبي حاتم (2531)(بشار).
(4)
أبو داود (4888) في الأدب: باب في النهي عن التجسس وهو حديث صحيح. وما ورد ضمن حاصرتين مستدرك منه.
(5)
هكذا قال وهو وهم بين من المصنف أو سبق قلم منه رحمه الله صوابه: "تفرد به أبو داود"، إذ لا علاقة لأحمد هنا (بشار).
(6)
رواه البخاري رقم (71) وأخرجه مسلم رقم (1037)(100) بقسمه الأول، وأخرجه بتمامه رقم (1037) الذي بعد (1923) من طريق يزيد بن الأصم عن معاوية والرواية الأخرى أخرجها البخاري رقم (3641) و (7460) من طريق عمير بن هانئ عن معاوية.
(7)
رواه البخاري رقم (3641) و (7460).
(8)
ما بين حاصرتين ليس في أ.
عند جمهور العلماء سلَفًا وخلَفًا، وقد شهدتِ الأحاديثُ الصحيحة بالإسلام للفريقين من الطرفين -أهل العراق وأهل الشام- كما ثبت في الحديث الصحيح "تمرُقُ مارقَةٌ على خير فُرْقةٍ من المسلمين، فيقتلُها أَدنى الطائفتينِ إلى الحقّ"
(1)
فكانت المارقة الخوارج، وقتلَهم عليٌّ وأصحابه.
ثم قُتل علي، فاستقلَّ معاوية بالأمر سنة إحدى وأربعين، وكان يغزو الروم في كل سنة مرتين مرة في الصيف ومرة في الشتاء، ويأمر رجلًا من قومه فيحج بالناس، وحج هو سنة خمسين، وحج ابنه يزيد سنة إحدى وخمسين، وفيها -أو في التي بعدها- أغزاه بلاد الروم [فسار معه خلقٌ كثير من كبراء الصحابة حتى حاصر القُسْطنطينية. وقد ثبت في الصحيح:"أوَّلُ جيشٍ يغزو القُسْطنطينيةَ مغمْورٌ لهُم"]
(2)
.
وقال وكيع: عن الأعمش، عن أبي صالح قال: كان الحادي يحدو بعثمان فيقول:
إنَّ الأميرَ بعدَهُ عليُّ
…
وفي الزُّبير خلفٌ مَرْضيُّ
فقال كعب: بل هو صاحب البغلة الشَّهباء - يعني معاوية [فأتاه معاوية]
(3)
فقال: يا أبا إسحاق! تقول هذا وهاهُنا عليٌّ والزبيرُ وأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أنت صاحبُها.
ورواه سيف، عن بدر بن الخليل، عن عثمان بن عطيَّة
(4)
الأسدي، عن رجل من بني أسد قال: ما زال معاوية يطمع فيها منذ سمع الحادي في أيام عثمان يقول:
إنَّ الأميرَ بعدَهُ عليُّ
…
وفي الزبير خلفٌ مَرْضيُّ
فقال كعب: كذبتَ، بل صاحب البغلة الشَّهباء بعده -يعني معاوية- فقال له معاوية في ذلك، فقال: نعم، أنت الأمير بعده، ولكنها واللَّه لا تصل إليك حتى تكذِّب بحديثي هذا. فوقعت في نفس معاوية
(5)
.
وقال ابن أبي الدنيا: حدَّثنا محمد بن عبّاد المكي، حدَّثنا سفيان بن عُيينة، عن أبي هارون قال: قال عمر: إياكم والفُرقة بعدي، فإن فعلتم فإنَّ معاوية بالشام، وستعلمون إذا وُكلتم إلى رأيكم كيف يستبزها دونكم
(6)
.
(1)
أخرجه أحمد في مسنده (3/ 32 و 48) ومسلم (1065)(150) في الزكاة: باب ذكر الخوارج وصفاتهم، وأبو داود (4667) في السنة: باب ما يدل على ترك الكلام في الفتنة. كلهم من حديث أبي سعيد الخدري.
(2)
ما بين حاصرتين من ط، ب، ومكانه في أ: وقد تقدم هذا كله. وخرجنا الحديث في أحداث سنة تسع وأربعين من هذا الجزء.
(3)
سقط من المطبوع.
(4)
في تاريخ الطبري: قطبة.
(5)
الخبر والشعر في تاريخ الطبري (4/ 343) وتاريخ ابن عساكر، مختصره (25/ 25).
(6)
تاريخ ابن عساكر، مختصره (25/ 25).
ورواه الواقدي من وجه آخر عن عمر رضي الله عنه.
وقد روى ابن عساكر عن عامر الشَّعبي: أن عليًّا حين بعث جرير بن عبد اللَّه البَجَلي إلى معاوية قبل وقعة صفِّين -وذلك حين عزم عليٌّ على قصد الشام، وجمع الجيوش لذلك- وكتب معه كتابًا إلى معاوية يذكر له فيه أنه قد لزمته بيعتُه لأنه قد بايعه المهاجرون والأنصار، فإن لم تبايع استعنتُ باللَّه عليك وقاتلتُك، وقد أكثرت القول في قتلة عثمان، فادخل فيما دخل فيه الناس، ثم حاكم القوم إلي أحملك وإياهم على كتاب اللَّه. . . في كلام طويل، وقد قدَّمنا أكثره. فقرأه معاوية على الناس، وقام جرير فخطب الناس، وأمر في خطبته معاوية بالسمع والطاعة، وحذَّره من المخالفة والمعاندة، ونهاه عن إيقاع الفتنة بين الناس، وأن يضرب بعضهم بعضًا بالسيوف. فقال له معاوية: انتظر حتى آخذ رأي أهل الشام. فلمَّا كان بعد ذلك أمر معاوية مناديًا فنادى في الناس: الصلاة جامعة، فلمَّا اجتمع الناس صعد المنبر فخطب فقال: "الحمدُ للَّه الذي جعلَ الدَّعائم للإسلام أركانا، والشرائع للإيمان بُرْهانا، يتوقَّد مصباحُه بالسنَّة في الأرض المقدَّسة التي جعلها اللَّه محلَّ الأنبياء والصالحين من عباده، فأحلَّها أهل الشام، ورضيهم لها ورضيها لهم، لما سبق في مكنون علمه من طاعتهم ومناصحتهم أولياءه فيها، والقوام بأمره، الذابِّين عن دينه وحُرماته، ثم جعلهم لهذه الأمة نظامًا، وفي أعلام الخير عظامًا، يردع اللَّه بهم الناكثين، ويجمع بهم الألفة بين المؤمنين، واللَّه نستعين على إصلاح ما تشعَّث من أمور المسلمين، وتباعد بينهم بعد القرب والألفة. اللهم انصرنا على قوم يوقظون نائمًا، ويريدون هراقة دمائنا، وإخافة سبيلنا، وقد يعلم اللَّه أنّا لا نريد لهم عقابًا، ولا نَهتِك لهم حجابًا، غير أن اللَّه الحميد كسانا من الكرامة ثوبًا لن ننتزعَه طوعًا ما جاوب الصَّدى، وسقط النَّدى، وعرف الهدى. وقد علمنا أنَّ الذي حملهم على خلافنا البغيُ والحسدُ لنا، فاللَّهَ نستعين عليهم. أيُّها الناس قد علمتم أني خليفةُ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وأني خليفةُ أمير المؤمنين عثمان عليكم، وأني لم أُقم رجلًا منكم على خزاية قطّ، وإني وليُّ عثمان وابن عمِّه. قال اللَّه تعالى في كتابه:{وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء: 33] وقد علمتم أنه قُتل مظلومًا، وأنا أحبُّ أن تعلموني ذات أنفسكم في قتل عثمان.
فقال أهل الشام بأجمعهم: بل نطلبُ بدمه، فأجابوه إلى ذلك وبايعوه، ووثَّقوا له أن يبذلوا في ذلك أنفسَهم وأموالَهم، أو يدركوا بثأره، أو يفني اللَّهُ أرواحَهم قبل ذلك. فلمّا رأى جرير من طاعة أهل الشام لمعاوية ما رأى أفزعه ذلك وعجب منه.
وقال معاوية لجرير: إنْ ولّاني على الشام ومصر بايعتُه على ألا يكون لأحد بعده عليَّ بَيْعة. فقال: اكتب إلى عليٍّ بما شئتَ وأنا أكتب معك. فلما بلغ عليًّا الكتاب قال: هذه خديعة، وقد سألني المغيرةُ بن شعبة أن أولي معاوية الشام وأنا بالمدينة، فأبيتُ ذلك {وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} [الكهف: 51]. ثم كتب إلى جرير بالقدوم عليه، فما قدم إلّا وقد اجتمعت العساكر إلى عليّ.
وكتب معاوية إلى عمرو بن الغاص -وكان معتزلًا بفلسطين حين قُتل عثمان، وكان عثمان قد عزله عن مصر فاعتزل بفلسطين- فكتب معاوية يستدعيه ليستشيرَه في أموره، فركب إليه، فاجتمعا على حرب علي.
وقد قال [الوليد بن]
(1)
عُقبة بن أبي مُعَيط في كتاب معاوية إلى عليٍّ حين سأله نيابة الشام ومصر، فكتب إلى معاوية يؤنِّبه ويلومُه على ذلك ويعرِّض بأشياء فيه:
مُعاويَ إنَّ الشَّامَ شامُكَ فاعتصِمْ
…
بشامِكَ لا تُدخِلْ عليكَ الأَفاعِيَا
فإنَّ عليًّا ناظرٌ ما تُجِيبُهُ
…
فأَهْدِ لهُ حربًا تُشِيبُ النَّواصِيَا
وحَامِ علَيها بالقِتال وبالقَنَا
…
ولا تَكُ مَخْشُوشَ الذِّراعَيْن وانِيَا
وإلَّا فسلِّم إنَّ في الأمن راحةً
…
لمنْ لا يريدُ الحربَ فاخترْ معاويَا
وإنَّ كتابًا يا بنَ حربٍ كتبتَهُ
…
على طمعٍ جانٍ عليكَ الدَّواهِيَا
سألتَ عليًّا فيه ما لا تَنالُهُ
…
ولو نلتَهُ لم يبقَ إلَّا لياليَا
إلى أنْ ترى منهُ التي ليس بعدَها
…
بقاءٌ فلا تكثِرْ عليكَ الأَمانيَا
ومثلُ عليٍّ تغتررْهُ بخدعَةٍ
…
وقد كانَ ما خرَّبتَ من قبلُ بانيَا
ولو نَشِبَتْ أظفارُهُ فيكَ مرَّةً
…
فَراكَ ابنَ هندٍ بعد ما كنتَ فاريَا
(2)
وقد ورد من غير وجه: أنَّ أبا مسلم الخولاني وجماعةً معه دخلوا على معاوية فقالوا له: أنت تنازع عليًّا أم أنت مثله؟ فقال: واللَّه إني لأعلم أنه خيرٌ مني وأفضل، وأحقُّ بالأمر مني، ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قُتل مظلومًا، وأنا ابن عمِّه، وأنا أطلب بدمه وأمره إلي؟ فقولوا له: فليسلِّم إليَّ قَتَلةَ عثمان وأنا أسلِّم له أمره. فأتوا عليًا فكلموه في ذلك، فلم يدفع إليهم أحدًا. فعند ذلك صمَّم أهل الشام على القتال مع معاوية
(3)
.
وعن عمرو بن شمر، عن جابر الجعفي، عن عامر الشَّعبي وأبي جعفر الباقر قال: بعث عليٌّ رجلًا إلى دمشق يُنذرهم أن عليًا قد نَهَد
(4)
في العراق إليكم ليستعلم طاعتكم لمعاوية، فلمّا قدم أمر معاوية فنُودي في الناس: الصلاة جامعة، فملؤوا المسجد، ثم صعد المنبر فقال في خطبته: إن عليًّا قد نَهَد إليكم في أهل العراق فما الرأي؟ فضرب كلٌّ منهم على صدره، ولم يتكلَّم أحدٌ منهم، ولا رفعوا إليه
(1)
سقط من (أ) و (ط).
(2)
الأبيات في وقعة صفين للجعفي (ص 59) وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد (3/ 84 - 85) وتاريخ ابن عساكر، مختصره (25/ 31 - 32) مع اختلاف ببعض الألفاظ.
(3)
تاريخ ابن عساكر، مختصره (25/ 32).
(4)
"نهد": نهض.
أبصارهم، وقام ذو الكَلَاع فقال: يا أمير المؤمنين! عليك الرأي وعلينا الفعال. ثم نادى معاوية في الناس: أن اخرجوا إلى معسكركم في ثلاثٍ، فمن تخلَّف بعدها فقد أحل بنفسه. فاجتمعوا كلهم، فركب ذلك الرجل إلى عليٍّ فأخبره، فأمر عليٌّ مناديًا فنادى: الصلاة جامعة، فاجتمعوا، فصعد المنبر فقال: إن معاوية قد جمع الناس لحربكم فما الرأي؟ فقال كلُّ فريق منهم مقالة، واختلط كلام بعضهم في بعض، فلم يدرِ عليٌّ مما قالوا شيئًا، فنزل عن المنبر وهو يقول: إنّا للَّه وإنّا إليه راجعون، ذهب واللَّهِ بها ابنُ آكلةِ الأكباد
(1)
. ثم كان من أمر الفريقين ما كان، كما ذكرناه مبسوطًا في سنة ست وثلاثين.
وقد قال أبو بكر بن دُريد: أنبأنا أبو حاتم، عن أبي عُبيدة قال: قال معاوية: لقد وضعتُ رجلي في الرِّكاب وهممتُ يوم صفِّين بالهزيمة، فما منعني إِلَّا قولُ ابن الإطنابة حيث يقول:
أبَتْ لي عفَّتي وأَبى بَلآئي
…
وأخذي الحمدَ بالثمنِ الرَّبيح
وإكراهي على المكروهِ نَفْسي
…
وضَرْبي هامةَ البطلِ المُشِيح
وقولي كلَّما جَشَأتْ وجاشَتْ
…
مكانَكِ تُحمَدي أو تَسْتريحي
(2)
وروى البيهقيّ عن الإمام أحمد أنه قال: الخلفاء: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي. فقيل له: فمعاوية؟ قال: لم يكن أحدٌ أحق بالخلافة في زمان عليٍّ من عليّ، ورحم اللَّه معاوية.
وقال علي بن المَديني: سمعت سفيان بن عُيينة يقول: ما كانت في علي خصلةٌ تقصِّر به عن الخلافة، ولم يكن في معاوية خصلةٌ ينازع بها عليًّا.
وقيل لشَريك القاضي: كان معاوية حليمًا؟ فقال: ليس بحليم مَنْ سفه الحقَّ وقاتل عليًا. رواه ابن عساكر
(3)
.
وقال سفيان الثوري: عن حبيب، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس، أنه ذكر معاوية وأنه لبَّى عثية عرفة، فقال فيه قولًا شديدًا. ثم بلغه أن عليًا لبَّى عشية عرفة، فتركه.
وقال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدّثني عبّاد بن موسى، حدَّثنا علي بن ثابت الجزري، عن سعيد بن أبي عَرُوبة، عن عمر بن عبد العزيز قال: رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في المنام وأبو بكر وعمر جالسان عنده،
(1)
تاريخ ابن عساكر، مختصره (25/ 36).
(2)
الخبر مع الشعر في تاريخ ابن عساكر، مختصره (25/ 37) وسير أعلام النبلاء (3/ 142). والأبيات في الاختيارين (ص 159 - 160) وعيون الأخبار (1/ 126) والعقد الفريد (1/ 104 - 105) وغيرها من كتب الأدب. وابن الإطنابة: هو عمرو بن عامر بن زيد مناة الكعبي الخزرجي، شاعر جاهلي فارس، اشتهر بنسبته إلى أمه الإطنابة بنت شهاب.
(3)
في تاريخه، مختصره (25/ 38).
فسلَّمت وجلست، فبينما أنا جالسٌ إذ أتي بعلي ومعاوية، فأُدخلا بيتًا وأُجيف
(1)
الباب وأنا أنظر، فما كان بأسرع من أن خرج علي وهو يقول: قُضي لي وربِّ الكعبة. ثم ما كان بأسرع من أن خرج معاوية وهو يقول: غُفر لي وربِّ الكعبة.
وروى ابن عساكر عن أبي زرعة الرازي أنه قال له رجل: إني أُبغِض معاوية، فقال له: ولمَ؟ قال: لأنه قاتًل عليًا، فقال له أبو زرعة: ويحك! إن ربَّ معاوية ربٌّ رحيم، وخصم معاوية خصم كريم، فأيش دخولك أنت بينهما؟ رضي الله عنهما
(2)
.
وسئل الإمام أحمد عمّا جرى بين علي ومعاوية، فقرأ:{تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 134]. وكذا قال غير واحد من السلف.
وقال الأوزاعي: سُئل الحسن عمّا جرى بين علي وعثمان، فقال: كانت لهذا سابقةٌ ولهذا سابقة، ولهذا قرابةٌ ولهذا قرابة، فابتُلي هذا وعُوفي هذا. وسُئل عمّا جرى بين علي ومعاوية، فقال: كانت لهذا قرابة ولهذا قرابة، ولهذا سابقةٌ ولم يكن لهذا سابقة، فابتُليا جميعًا.
وقال كلثوم بن جَوْشن: سأل النضر أبو عمر الحسَن البصري فقال: أبو بكر أفضل أَمْ علي؟ فقال: سبحان اللَّه! ولا سواء، سبقت لعلي سوابق يشركه فيها أبو بكر، وأحدث علي حوادثَ لم يشركه فيها أبو بكر، أبو بكر أفضل. قال: فعمر أفضل أم علي؟ فقال مثل قوله في أبي بكر، ثم قال: عمر أفضل. ثم قال: عثمان أفضل أم علي؟ فقال مثل قوله الأول، ثم قال: عثمان أفضل. قال: فعلي أفضل أم معاوية؟ قال: سبحان اللَّه! ولا سواء، سبقت لعلي سوابقُ لم يشركه فيها معاوية، وأحدث علي أحداثًا شركه فيها معاوية، علي أفضل من معاوية.
وقد روى عن الحسن البصري: أنه كان ينقم على معاوية أربعة أشياء: قتالَه عليًّا، وقتلَه حُجر بن عدي، واستلحاقَه زياد بن أبيه، ومبايعتَه ليزيد ابنه.
وقال جرير بن عبد الحميد: عن مغيرة قال: لما جاء خبر قتل علي إلى معاوية جعل يبكي، فقالت له امرأته: أتبكيه وقد قاتلتَه؟ فقال: ويحكِ! إنك لا تدرينَ ما فقد الناس من الفضل والفقه والعلم. [وفي رواية: أنها قالت له: بالأمس تقاتله واليوم تبكيه]
(3)
؟!
قلت: وقد كان مقتل علي في رمضان سنة أربعين، ولهذا قال الليث بن سعد: إنَّ معاوية بُويع له بإيلياء بيعة الجماعة، ودخل الكوفة سنة أربعين. والصحيح الذي قاله ابن إسحاق والجمهور أنه بُويع له
(1)
أجيف الباب: رُدَّ وأغلق.
(2)
تاريخ ابن عساكر، مختصره (25/ 39).
(3)
سقطت هذه الرواية في ب.
بإيلياء في رمضان سنة أربعين حين بلغ أهل الشام مقتل علي، ولكنَّه إنما دخل الكوفة بعد مصالحة الحسن له في شهر ربيع الأول سنة إحدى وأربعين، وهو عام الجماعة، وذلك بمكان يقال له أَذْرُح
(1)
، وقيل بمسكن من أرض سواد العرالتى من ناحية الأَنْبار، فاستقل معاوية بالأمر إلى أن مات سنة ستين.
قال بعضهم: كان نقش خاتم معاوية: لكل عمل ثواب. وقيل: بل كان: لا قوَّة إلّا باللَّه.
وقال يعقوب بن سفيان: حدَّثنا أبو بكر بن أبي شَيبة وسعيد بن منصور قالا: حدَّثنا أبو معاوية، حدَّثنا الأعمش، عن عمرو بن مرَّة، عن سعيد بن سويد قال: صلَّى بنا معاوية بالنُّخيلة -يعني خارج الكوفة- الجمعة في الضحى ثم خطبنا فقال: ما قاتلتكم لتصوموا ولا لتصلوا ولا لتحجوا ولا لتزكوا، قد عرفتُ أنكم تفعلون ذلك، ولكن إنما قاتلتكم لأتأمَّر عليكم، فقد أعطاني اللَّه ذلك وأنتم كارهون
(2)
.
ورواه محمد بن سعد، عن يعلَى بن عبيد، عن الأعمش به.
وقال محمد بن سعد: حدَّثنا عارم، حدَّثنا حمّاد بن زيد
(3)
، عن مَعْمر، عن الزهري: أن معاوية عمل سنتين عمل عمر ما يخرم فيه، ثم إنه بَعُدَ عن ذلك.
وقال نعيم بن حمّاد: حدَّثنا ابن فُضيل، عن السَّري بن إسماعيل، عن الشعبي، حدّثني سفيان بن الليل قال: قلت للحسن بن علي لمّا قدم من الكوفة إلى المدينة: يا مُذِلَّ المؤمنين. قال: لا تقل ذلك، فإني سمعت [أبي]
(4)
يقول: "لا تذهبُ الأيام والليالي حتى يملكَ معاوية" فعلمت أنَّ أمر اللَّه واقع، فكرهتُ أن تُهراقَ بيني وبينه دماء المسلمين.
وقال مُجالد: عن الشعبي، عن الحارث الأعور قال: قال عليٌّ بعدما رجع من صفِّين: أيها الناسُ! لا تكرهوا إمارة معاوية، فإنكم لو فقدتموه رأيتم الرؤوس تَنْدُر
(5)
عن كواهلها كأنها الحنظل.
وقال ابن عساكر بإسناده عن أبي داود الطيالسي: حدَّثنا أيوب بن جابر، عن أبي إسحاق، عن الأسود ابن يزيد قال: قلت لعائشة: ألا تعجبينَ لرجل من الطلقاء ينازع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في الخلافة؟ فقالت: وما تعجب من ذلك؟ هو سلطان اللَّه يؤتيه البَرَّ والفاجر، وقد ملك فرعون أهل مصر أربعمئة سنة
(6)
.
(1)
وقعت في أ: أدرح وفي ط، ب: أدرج وكله تصحيف، فقد نص ياقوت في معجمه (1/ 129 - 130) على أنها بالحاء المهملة وقال: وقد وهم فيه قوم فرووه بالجيم. وهي بلدة في أطراف الشام من نواحي البلقاء وعمان مجاورة لأرض الحجاز.
(2)
الخبر في المعرفة والتاريخ (3/ 318) وفيه سعيد بن سويد وهو مجهول.
(3)
تحرف في ط إلى: يزيد.
(4)
ما بين حاصرتين من ب، وم وكذلك في مختصر تاريخ دمشق (25/ 43) وسير أعلام النبلاء (3/ 147)، ووقع في أ، ط:"رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم".
(5)
"تندر": تسقط.
(6)
بعد هذا في ط العبارة الآتية: "وكذلك غيره من الكفار" وليست في ب، م ولا في مختصر تاريخ دمشق (25/ 42).
وقال الزهري: حدّثني القاسم بن محمد: أن معاوية حين قدم المدينة يريد الحج دخل على عائشة فكلَّمها خاليَيْن لم يشهد كلامهما أحد إلّا ذكوان أبو عمرو مولى عائشة، فقالت: أمنتَ أن أخبَأ لك رجلًا يقتلك بقتلك أخي محمدًا؟ فقال: صدقت، فلمّا قضى معاوية كلامه معها تشهَّدت عائشة ثم ذكرت ما بعث اللَّه به نبيَّه صلى الله عليه وسلم من الهدى ودين الحق، والذي سنَّ الخلفاءُ بعده، وحضَّتْ معاوية على العدل واتباع أثرهم، فقالت في ذلك فلم تترك له عذرًا. فلمّا قضت مقالتها قال لها معاوية: أنت -واللَّه- العالمةُ العاملة بأمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الناصحة المشفقة البليغة الموعظة، حضضتِ على الخير، وأمرتِ به، ولم تأمرينا إلّا بالذي هو لنا مصلحة، وأنتِ أهل أن تُطاعي. وتكلمتْ هي ومعاوية كلامًا كثيرًا. فلمّا قام معاوية اتَّكأ على ذكوان وقال: واللَّه ما سمعتُ خطيبًا -ليس رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أبلغَ من عائشة
(1)
.
وقال محمد بن سعد: حدَّثنا خالد بن مَخْلد البجلي، حدَّثنا سليمان بن بلال، حدّثني علقمة بن أبي علقمة، عن أمِّه قالت: قدم معاوية بن أبي سفيان المدينة، فأرسل إلى عائشة: أن أرسلي إلي بأَنْبِجانيَّة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وشعره، فأرسلتْ به معي أحمله، حتى دخلتُ به عليه، فأخذ الأَنْبِجانيَّة فلبسها، وأخذ شعره فدعا بماء فغسله وشربه وأفاض على جلده
(2)
.
وقال الأصمعي: عن الهُذَلي [عن الشعبي]
(3)
قال: لما قدم معاويةُ المدينة عام الجماعة تلقَّته رجال من وجوه قريش، فقالوا: الحمد للَّه الذي أعزَّ نصرك، وأعلى أمرك. فما ردَّ عليهم جوابًا حتى دخل المدينة، فقصد المسجد، وعلا المنبر، فحمد اللَّه وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فإني -واللَّه- ما وليتُ أمركم حين وليتُه وأنا أعلم أنكم لا تُسَرُّون بولايتي ولا تحبُّونها، وإني لعالم بما في نفوسكم من ذلك، ولكني خالستكم بسيفي هذا مخالسة، ولقد رمتُ نفسي على عمل ابن أبي قحافة، فلم أجدها تقوم بذلك ولا تقدر عليه، وأردتُها على عمل ابن الخطاب، فكانت أشدَّ نفورًا وأعظم هربًا من ذلك، وحاولتُها على مثل سنّيات عثمان، فأبتْ عليَّ، وأين مثلُ هؤلاء؟! ومَنْ يقدر على أعمالهم؟ هيهات أن يدرك فضلَهم أحدٌ ممن بعدهم، رحمة اللَّه ورضوانه عليهم، غير أني سلكتُ بها طريقًا لي فيه منفعةٌ ولكم فيه مثل ذلك، ولكل فيه مواكلةٌ حسنة، ومشاربةٌ جميلة، ما استقامت السيرة وحسنت الطاعة، فإن لم تجدوني خيركم فأنا خيرٌ لكم، واللَّهِ لا أحملُ السيف على مَنْ لا سيفَ معه، ومهما تقدَّم ما قد علمتموه
(1)
تاريخ ابن عساكر، مختصره (25/ 44).
(2)
تاريخ ابن عساكر، مختصره (25/ 44 - 45). "والأنبجانية": كساء من صوف منسوب إلى أنبجان.
(3)
سقط من ب، والخبر في مختصر تاريخ دمشق (25/ 45) وسير أعلام النبلاء (3/ 148).
فقد جعلته دُبر أذني، وإن لم تجدوني أقومُ بحقكم كلِّه فارضَوا مني ببعضه، فإنها [ليست]
(1)
بقاببة قُوبها، وإنَّ السيل إذا جاء تترى -وإن قلَّ- أغنى. وإياكم والفتنةَ فلا تهمُّوا بها، فإنها تفسد المعيشة، وتكدِّر النعمة، وتورث الاستئصال. أستغفر اللَّه لي ولكم، أستغفر اللَّه. ثم نزل.
قال أهل اللغة: القاببة: البيضة، والقوب: الفرخ. قابت البيضة تقوب: إذا انفلقت عن الفرخ.
والظاهر أن هذه الخطبة كانت عام حجَّ في سنة أربع وأربعين، أو في سنة خمسين، لا في عام الجماعة.
وقال الليث: حدّثني علوان بن صالح بن كيسان: أن معاوية قدِم المدينة أول حجَّة حجها بعد اجتماع الناس عليه، فلقيه الحسن والحسين ورجال من قريش، فتوجَّه إلى دار عثمان بن عفان، فلمّا دنا إلى باب الدار صاحت عائشة بنت عثمان وندبت أباها، فقال معاوية لمن معه: انصرفوا إلى منازلكم فإنَّ لي حاجةً في هذه الدار، فانصرفوا، ودخل معاوية فسكَّن عائشة بنت عثمان، وأمرها بالكف، وقال لها: يا بنت أخي! إن الناس أعطونا سلطانًا فأظهرنا لهم حِلمًا تحته غضب، وأظهروا لنا طاعة تحتها حِقد، فبعناهم هذا بهذا، فإن أعطيناهم غير ما اشتروا منا شحُّوا عليها بحقنا وغمطناهم بحقهم، ومع كل إنسان منهم شيعته، وهو يرى مكان شيعته، فإن نكثناهم نكثوا بنا، ثم لا ندري أتكون لنا الدائرةُ أم علينا؟ وأن تكوني ابنة عثمان أمير المؤمنين خيرٌ من أن تكوني أمَةً من إماء المسلمين، ونعم الخلف أنا لك بعد أبيك
(2)
.
وقد روى ابن عدي من طريق علي بن زيد -وهو ضعيف- عن أبي نَضْرة، عن أبي سعيد. [ومن حديث مجالد -وهو ضعيف أيضًا- عن أبي الوَدّاك، عن أبي سعيد]
(3)
أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا رأَيتم معاويةَ على مِنْبري فاقتُلوه".
وأسنده أيضًا من طريق الحكم بن ظُهَير -وهو متروك- عن عاصم، عن زِرّ، عن ابن مسعود مرفوعًا.
وهذا الحديث كذب بلا شك، ولو كان صحيحًا لبادر الصحابة إلى فعل ذلك لأنهم كانوا لا تأخذهم في اللَّه لومة لائم.
وأرسله عمرو بن عبيد عن الحسن البصري. قال أيوب: هو كذب.
(1)
سقطت من أ، ط.
(2)
تاريخ ابن عساكر، مختصره (25/ 46).
(3)
ما بين حاصرتين سقط من أ.
ورواه الخطيب البغدادي
(1)
بإسناد مجهول، عن أبي الزُّبَير، عن جابر مرفوعًا: "إذا رأيتُم معاويةَ يخطُب على مِنْبري فاقبَلوه
(2)
، فإنَّه أمينٌ مأمون".
وقال أبو زرعة الدمشقي: عن دحيم، عن الوليد، عن الأوزاعي قال: أدركتْ خلافة معاوية عدَّة من الصحابة منهم: أسامة، وسعد، وجابر، وابن عمر، وزيد بن ثابت [ومسلمة
(3)
بن مخلَّد، وأبو سعيد، ورافع بن خديج، وأبو أمامة]
(4)
وأنس بن مالك، ورجال أكثر ممَّن سمَّينا بأضعاف مضاعفة، كانوا مصابيح الهدى، وأوعية العلم، حضروا من الكتاب تنزيلَه
(5)
، وأخذوا عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم تأويلَه. ومن التابعين لهم بإحسان ما شاء اللَّه، منهم: المِسْور بن مَخْرمة، وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث، وسعيد بن المسيِّب [وعروة بن الزُّبَير]
(6)
وعبد اللَّه بن مُحَيريز. . . في أشباه لهم، لم ينزعوا يدًا من جماعة في أُمَّة محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال أبو زرعة: عن دُحيم، عن الوليد، عن سعيد بن عبد العزيز قال: لمَّا قُتل عثمان لم يكن للناس غازية تغزو، حتى كان عام الجماعة، فأغزا معاوية أرض الروم ست عشرة غزوة، تذهب سريَّة في الصيف وتشتو بأرض الروم، ثم تقفُل وتعقُبها الأخرى. وكان في جملة من أغزى ابنُه يزيد ومعه خلقٌ من الصحابة، فجاز بهم الخليج، وقاتلوا أهل القُسْطنطينية على بابها، ثم قفل بهم راجعًا إلى الشام
(7)
. وكان آخر ما أوصى به معاوية أن قال: شُدَّ خناق الروم.
وقال ابن وهب: عن يونس، عن الزُّهري قال: حجَّ معاوية بالناس في أيام خلافته مرَّتين، وكانت أيامه عشرين سنة إلّا شهرًا.
وقال أبو بكر بن عياش: حجَّ بالناس معاوية سنة أربع وأربعين، وسنة خمسين.
وقال غيره: سنة إحدى وخمسين. فاللَّه أعلم.
وقال الليث بن سعد: حدَّثنا بُكير، عن بُسْر
(8)
بن سعيد: أن سعد بن أبي وقّاص قال: ما رأيت أحدًا بعد عثمان أقضى بحقٍّ من صاحب هذا الباب - يعني معاوية.
(1)
في تاريخه (1/ 259).
(2)
تحرفت في أ، ط إلى: فاقتلوه.
(3)
تحرف في المطبوع إلى: سلمة.
(4)
ما بين حاصرتين سقط من أ.
(5)
في أ، ط بعد هذا: ومن الدين جديده، وعرفوا من الإسلام ما لم يعرفه غيرهم. وما أثبتناه من ب وهو مطابق لما في تاريخ أبي زرعة الدمشقي (1/ 189 - 190).
(6)
سقط من المطبوع.
(7)
تاريخ أبي زرعة الدمشقي (1/ 188).
(8)
تحرفت هذه اللفظة في ط إلى: بشر وفي أ إلى: يزيد. والخبر في السير (3/ 150).
وقال عبد الرزاق: حدَّثنا مَعْمر، عن الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن، حدَّثنا المِسْور بن مَخْرمة: أنه وفد على معاوية، قال: فلمّا دخلت عليه -حسبت أنه قال: سلَّمت عليه- فقال: ما فعل طعنُك على الأئمَّة يا مِسْور؟ قال: قلت: أرفضنا
(1)
من هذا وأحسِنْ فيما قدمنا له، فقال: لتكلِّمنِّي بذات نفسك، قال: فلم أدع شيئًا أعيبُه عليه إلّا أخبرته به، فقال: لا تبرأ من الذنوب، فهل لك من ذنوب تخاف أن تهلكك إن لم يغفرها اللَّه لك؟ قال: قلت: نعم [إن لي ذنوبًا إن لم يغفرها هلكت بسببها]
(2)
قال: فما الذي يجعلك أحقَّ بان ترجو أنت المغفرة مني؛ فواللَّه لما إلي من إصلاح الرعايا، وإقامة الحدود، والإصلاح بين الناس، والجهاد في سبيل اللَّه، والأمور العظام التي لا يحصيها إلّا اللَّه ولا نحصيها أكثرُ مما تذكر من العيوب والذنوب، وإني لعلى دين يقبل اللَّهُ فيه الحسناتِ ويعفو عن السيِّئات، واللَّه على ذلك ما كنت لأخيَّر بين اللَّه وغيره إلَّا اخترت اللَّه على غيره مما سواه. قال: ففكَّرت حين قال لي ما قال، فعرفت أنه قد خصمني. قال: فكان المِسْور إذا ذكره بعد ذلك دعا له بخير
(3)
.
وقد رواه شعيب، عن الزهري، عن عروة، عن المِسْور بنحوه.
وقال ابن دُريد: عن أبي حاتم، عن العُتْبي قال: قال معاوية: يا أيها الناس! ما أنا بخيركم، وإن منكم لمَنْ هو خير مني: عبد اللَّه بن عمر، وعبد اللَّه بن عمرو، وغيرهما من الأفاضل. ولكنْ عسى أن أكون أنفعَكُم ولاية، وأنكاكم في عدوِّكم، وأدرَّكم حلبًا.
وقد رواه محمد بن سعد، عن محمد بن مصعب، عن أبي بكر بن أبي مريم، عن ثابت مولى معاوية: أنه سمع معاوية يقول نحو ذلك
(4)
.
وقال هشام بن عمار خطيب دمشق: حدَّثنا عمرو بن واقد، حدَّثنا يونس بن حَلْبَس قال: سمعت معاوية على منبر دمشق يوم جمعة يقول: أيها الناس! اعقلوا قولي فلن تجدوا أعلم بأمور الدنيا والآخرة مني، أقيموا وجوهكم وصفوفكم في الصلاة أو ليخالفنَّ اللَّهُ بين قلوبكم. خذوا على أيدي سفهائكم أو ليسلطن اللَّه عليكم عدوكم فليسومنَّكم سوء العذاب. تصدَّقوا، ولا يقولنَّ الرجل: إني مُقِلّ [فإن صدقة المُقِل أفضلُ من صدقة الغني. إياكم وقذفَ المحصَنات، وأن يقول]
(5)
الرجل: سمعت وبلغني، فلو قذف أحدكم امرأةً على عهد نوح لسُئِل عنها يوم القيامة.
(1)
"أرفضنا": دعنا.
(2)
ما بين حاصرتين سقط من ب.
(3)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف برقم (20717) ورجاله ثقات.
(4)
الخبر في مختصر تاريخ دمشق (25/ 48).
(5)
ما بين حاصرتين سقط من أ. والخبر في تاريخ ابن عساكر، مختصره (25/ 48 - 49).
وقال أبو داود الطيالسي: حدَّثنا يزيد بن طَهْمان
(1)
الرَّقاشي، حدَّثنا محمد بن سِيرين قال: كان معاوية [إذا حدَّث عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لم يُتَّهم
(2)
.
وروى أبو القاسم البغوي: عن سُويد بن سعيد، عن همام بن إسماعيل، عن أبي قَبيل قال: كان معاوية]
(3)
يبعث رجلًا يقال له أبو الجيش في كل يوم، فيدور على المجالس يسأل: هل وُلدَ لأحد مولود؟ أو قدم أحدٌ من الوفود؟ فإذا أُخبر بذلك أثبتَ في الديوان - يعني ليجري عليه الرزق.
وقال غيره: كان معاوية متواضعًا، ليس له مَجالد إلّا كمجالد الصِّبيان التي يسمُّونها المَخَاريق، فيضرب بها الناس.
وقال هشام بن عمّار: عن عمرو بن واقد، عن يونس بن مَيْسرة بن حَلْبَس قال: رأيت معاوية في سوق دمشق وهو مردَف وراءه وَصِيفٌ عليه قميص مرقوع الجيب، وهو يسير في أسواق دمشق.
وقال الأعمش: عن مجاهد أنه قال: لو رأيتُم معاوية لقبتُم: هذا المَهْدي.
وقال هشيم: عن العوّام، عن جبلة بن سُحيم، عن ابن عمر قال: ما رأيت أحدًا أسودَ من معاوية، قال: قلت: ولا عمر؛ قال: كان عمر خيرًا منه، وكان معاوية أسودَ منه
(4)
.
ورواه أبو سفيان الحِيري، عن العوّام بن حَوْشب به، وقال: ما رأيت أحدًا بعد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أسودَ من معاوية، قيل: ولا أبو بكر؛ قال: كان أبو بكر وعمر وعثمان خيرًا منه، وهو أسود منهم.
وروي من طرق عن ابن عمر مثله.
وقال عبد الرزاق: عن مَعْمر، عن همام، سمعت ابن عباس يقول: ما رأيتُ رجلًا كان أخلقَ بالملك من معاوية.
وقال حنبل بن إسحاق: حدَّثنا أبو نُعيم، حدَّثنا ابن أبي عتيبة، عن شيخ من أهل المدينة قال: قال معاوية: أنا أوَّل الملوك.
وقال ابن أبي خيثمة: حدَّثنا هارون بن معروف، حدَّثنا ضَمْرة
(5)
، عن ابن شَوْذب قال: كان معاوية يقول: أنا أولُ الملوك وآخرُ خليفة.
(1)
تحرف في أ إلى: دهمان.
(2)
تاريخ ابن عساكر، مختصره (25/ 50).
(3)
ما بين حاصرتين سقط من أ. والخبر في تاريخ ابن عساكر، مختصره (25/ 52).
(4)
مختصر تاريخ دمشق (25/ 53) وأورد ابن الأثير في النهاية (2/ 418) وقال: قيل: أراد أسخى وأعطى للمال. وقيل: أحلم منه.
(5)
تحرف في المطبوع إلى: حمزة.
قلت: والسنة أن يُقال لمعاوية: ملك، ولا يقال له: خليفة، لحديث سَفِينة "الخِلافةُ بعدي ثلاثونَ سنَة، ثم تكون مُلْكًا عَضُوضًا"
(1)
.
وقال عبد الملك بن مروان يومًا وذكر معاوية فقال: ما رأيت مثلَه في حِلْمه [واحتماله وكرمه]
(2)
.
وقال قَبيصة بن جابر: ما رأيت أحدًا أعظم حلمًا، ولا أكثر سُؤددًا، ولا أبعد أناة، ولا ألين مخرجًا، ولا أرحب باعًا بالمعروف من معاوية.
وقال بعضهم: أسمع رجل معاوية كلامًا سيئًا شديدًا، فقيل له: لو سطوتَ عليه؛ فقال: إني لأستحي من اللَّه أن يضيقَ حلمي عن ذنب أحد من رعيَّتي. وفي رواية: قال له رجل: يا أمير المؤمنين ما أحلمك؟! فقال: إني لأستحيي أن يكون جرم أحدٍ أعظمَ من حلمي.
وقال الأصمعي: عن الثوري قال: قال معاوية: إني لأستحي أن يكون ذنبٌ أعظمَ من عفوي، أو جهلٌ أكبرَ من حلمي، أو تكون عورةٌ لا أُواريها بستري.
وقال الشعبي والأصمعي عن أبيه قالا: جرى بين رجل -يقال له: أبو الجَهْم- وبين معاوية كلام، فتكلَّم أبو الجَهْم بكلام فيه غمٌّ لمعاوية، فأطرق معاوية ثم رفع رأسه فقال: يا أبا الجَهْم! إياك والسُّلطان، فإنه يغضبُ غضبَ الصِّبيان، ويأخذُ أخذَ الأسد، وإنَّ قليلَه يغلب أكثر الناس. ثم أمر معاوية لأبي الجَهْم بمال، فقال أبو الجَهْم في ذلك يمدح معاوية:
نَمِيلُ على جوانِبهِ كأنَّا
…
إذا مِلْنا نَمِيلُ على أَبينا
نُقَلِّبُهُ لِنَخْبُرَ حالتَيْهِ
…
فنَخْبُر منهُما كرَمًا ولِينا
(3)
وقال الأعمش: طاف الحسن بن عليٍّ مع معاوية، فكان معاوية يمشي بين يديه، فقال الحسن:
(1)
أخرجه أحمد في مسنده (5/ 220، 221) وأبو داود (4646) في السنة: باب في الخلفاء، والترمذي (2226) في الفتن: باب ما جاء في الخلافة، من طرق عن سعيد بن جُمْهان (تحرفت هذه اللفظة في سنن أبي داود إلى: جهمان) عن سفينة مولى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "الخلافة في أمتي ثلاثون سنة، ثم تكون ملكًا". قال سعيد: قال لي سفينة: أمسك خلافة أبي بكر سنتين، وخلافة عمر عشر سنين، وخلافة عثمان اثنتي عشرة سنة، وخلافة علي ست سنين. قال سعيد: قلت لسفينة: إن هؤلاء يزعمون أن عليًّا عليه السلام لم يكن بخليفة. قال: كذبت أَستاهُ بني الزرقاء - يعني بني مروان.
قال الترمذي: وهذا حديث حسن وقد تقدم.
"والملك العضوض": ملك فيه عسف وظلم.
(2)
ما بين حاصرتين سقط من ب. والخبر مطولًا في مختصر تاريخ دمشق (25/ 55).
(3)
ينسب هذان البيتان لعبد المسيح بن دارس، وأن أبا الجهم قالهما متمثلًا، كما في أمالي القالي (1/ 234). أما في البيان والتبيين (3/ 233) وعيون الأخبار (1/ 284) فقد عزيا إلى أبي الجهم وأنه قالهما في معاوية. والخبر في مختصر تاريخ دمشق (16/ 25 و 25/ 59). وأبو الجهم: هو عبيد -أو عامر- بن حذيفة، من مسلمة الفتح.
ما أشبهَ أَليتيه بأَليتي هند؟! فالتفت إليه معاوية فقال: أما إنَّ ذلك كان يُعجب أبا سفيان.
وقال ابن أخته عبد الرحمن بن أُمَّ الحكم لمعاوية: إنَّ فلانًا يشتمني، فقال له: طأطِئ لها، فتمرَّ، فتجاوزك.
وقال ابن الأعرابي: قال رجل لمعاوية: ما رأيتُ أندلَ منك، فقال معاوية: بلى، مَنْ واجه الرجال بمثل هذا.
وقال أبو عمرو بن العلاء: قال معاوية: ما يسرُّني بذل الكرم حمرُ النَّعم.
[وقال: ما يسرُّني بذل الحلم عزُّ النصر]
(1)
.
وقال بعضهم: قال معاوية: يا بني أميَّة قاربوا
(2)
قريشًا بالحِلْم، فواللَّه لقد كنتُ ألقى الرجل في الجاهلية فيوسعني شتمًا وأُوسعه حِلْمًا [فارجع وهو لي صديق، إن استنجدتُه أنجدني، وأثور به فيثور معي. وما وضع الحِلم]
(3)
عن شريف شرفَه، ولا زاده إلّا كرمًا.
وقال: آفةُ الحِلْم الذلّ.
وقال أيضًا: لا يبلغ الرجل مبلغ الرأي حثى يغلبَ حِلمُه جهلَه، وصبرُه شهوتَه، ولا يبلغ الرجل ذلك إلّا بقوة الحِلْم.
وقال عبد اللَّه بن الزُّبَير: للَّه درُّ ابن هند! إنْ كنّا لنفرِّقه
(4)
وما الليثُ على براثنه بأجرأَ منه، فيتفارق لنا، وإنْ كنا لنخدِّعه وما ابنُ ليلةٍ من أهل الأرض بأدهى منه، فيتخادع لنا. واللَّه لوددتُ أنّا مُتِّعنا به ما دام في هذا الجبل حجر - وأشار إلى أبي قُبيس.
وقال رجل لمعاوية: مَنْ أسودُ الناس؟ فقال: أسخاهم نفسًا حين يُسْأل، وأحسنُهم في المجالس خلُقًا، وأحلمُهم حين يُسْتجهل.
وقال أبو عبيدة معمر بن المثنَّى: كان معاوية يتمثَّل بهذه الأبيات كثيرًا:
فما قَتَلَ السَّفاهَةَ مثلُ حِلْم
…
يعودُ به على الجَهْل الحَليمُ
فلا تَسْفَهْ وإنْ مُلِّئتَ غَيْظًا
…
على أحدٍ فإنَّ الفحشَ لُومُ
ولا تَقْطَعْ أخًا لكَ عندَ ذنبٍ
…
فإنَّ الذنبَ يَغْفِرُهُ الكريمُ
(5)
(1)
ما بين حاصرتين سقط من ب.
(2)
كذا وردت في ب، ومثله في مختصر تاريخ دمشق (25/ 59). ووقعت في أ، ط: فارقوا.
(3)
ما بين حاصرتين سقط من ب.
(4)
"نفرِّقه": نخوِّفه، وهو من الفرَق: الخوف والجزع.
(5)
الأبيات في مختصر تاريخ دمشق (25/ 61).
وقال القاضي الماوردي في "الأحكام السُّلطانية": وحُكي أن معاوية أُتي بلصوص، فقطعهم حتى بقي واحد من بينهم فقال:
يَميني أميرَ المؤمنينَ أُعيذُها
…
بعَفْوكَ أنْ تلقَى نَكالًا يُبِينُها
يدي كانتِ الحسناءَ لو تمَّ سترُها
…
ولا تَعدَمُ الحسناءُ عَيْبًا يَشِينُها
فلا خيرَ في الدُّنيا وكانتْ حبيبةً
…
إذا ما شِمالي فارَقَتْها يَمِينُها
فقال معاوية: كيف أصنع بك؟ قد قطعنا أصحابك. فقالت أمُّ السارق: يا أمير المؤمنين! اجعلها في ذنوبك التي تتوب منها. فخلَّى سبيلَه، فكان أول حدٍّ تُرك في الإسلام
(1)
.
وعن ابن عباس أنه قال: قد علمت بما غلبَ معاوية الناس: كانوا إذا طاروا وقع، وإذا وقعوا طار.
وقال غيره: كتب معاوية إلى نائبه زياد: إنه لا ينبغي أن تَسُوس الناس سياسةً واحدة باللِّين فيمرحوا، ولا بالشدَّة فتحمل الناس على المهالك. ولكن كن أنت للشدة والفظاظة والغِلْظة، وأنا للِّين والأُلفة والرحمة، حتى إذا خاف خائف وجد بابًا يدخل منه.
وقال أبو مُسْهر: عن سعيد بن عبد العزيز قال: قضى معاويةُ عن عائشةَ أمِّ المؤمنين ثمانية عشر ألف دينار، وما كان عليها من الدِّين الذي كانت تعطيه الناس.
وقال هشام بن عروة: عن أبيه قال: بعث معاوية إلى أمِّ المؤمنين عائشةَ بمئة ألف، ففرَّقتها من يومها فلم يبق منها درهم، فقالت لها خادمتها: هلّا أبقيتِ لنا درهمًا نشتري به [لحمًا تفطري عليه]
(2)
؟ فقالت: لو ذكرتيني لفعلت.
وقال عطاء: بعث معاوية إلى عائشة -وهي بمكة- بطوقٍ قيمتُه مئة ألف، فقبلته.
وقال زيد بن الحُباب: عن الحسين بن واقد، عن عبد اللَّه بن بُرَيدة قال: قدم الحسن بن علي على معاوية، فقال له: لأجيزنَّك بجائزة لم يُجزها أحد كان قبلي. فأعطاه أربعمئة ألف ألف.
ووفد إليه مرة الحسن والحسين، فأجازهما على الفور بمئتي ألف، وقال لهما: ما أجاز بهما أحد قبلي، فقال له الحسين: ولم تعطِ أحدًا أفضل منّا.
وقال ابن أبي الدنيا: حدَّثنا يوسف بن موسى، حدَّثنا جرير، عن مغيرة قال: أرسل الحسنُ بن علي وعبدُ اللَّه بن جعفر إلى معاويةَ يسألانه المال، فبعث إليهما -أو إلى كلٍّ منهما- بمئة ألف، فبلغ ذلك عليًّا
(1)
الأحكام السلطانية (ص 257) ومختصر تاريخ دمشق (29/ 286).
(2)
ما بين حاصرتين سقط من ب. والخبر في مختصر تاريخ دمشق (25/ 63).
فقال لهما: ألا تستحيان؟! رجل نطعن في عينه غدوةً وعشيةً تسألانه المال؟ فقالا: بل حرمتنَا أنت وجاد هو لنا.
وروى الأصمعي قال: وفد الحسن وعبد اللَّه بن الزُّبَير على معاوية، فقال للحسن: مرحبًا وأهلًا بابن رسول اللَّه، وأمر له بثلاثمئة ألف. وقال لابن الزُّبَير: مرحبًا وأهلًا بابن عمة رسول اللَّه، وأمر له بمئة ألف.
[وقال أبو مروان المرواني: بعث معاوية إلى الحسين بن علي بمئة ألف]
(1)
فقسَّمها على جلسائه وكانوا عشرة، فأصاب كل واحد عشرة آلاف. وبعث إلى عبد اللَّه بن جعفر بمئة ألف، فاستوهبتها منه امرأته فاطمة، فأطلقها لها. وبعث إلى مروان بن الحكم بمئة ألف، فقسم منها خمسين ألفًا وحبس خمسين ألفًا. وبعث إلى ابن عمر بمئة ألف، ففرَّق منها تسعين واستبقى عشرة آلاف، فقال معاوية:[إنه لمقتصد يحب الاقتصاد. وبعث إلى عبد اللَّه بن الزُّبَير بمئة ألف، فقال للرسول: لم جئتَ بها بالنهار؟ هلا جئتَ بها بالليل؟! ثم حبسها عنده ولم يعط منها أحدًا شيئًا، فقال معاوية]
(2)
: إنه لخَبٌّ ضَبّ
(3)
، كأنك به قد رفع ذنبه وقطع حبله
(4)
.
وقال ابن دأب: كان لعبد اللَّه بن جعفر على معاوية في كل سنة ألف ألف ويقضي له معها مئة حاجة، فقدم عليه عامًا، فأعطاه المال وقضى له الحاجات وبقيت منها واحدة، فبينما هو عنده إذ قدم أَصْبَهْبَذ
(5)
سِجِسْتان يطلب من معاوية أن يملكه على تلك البلاد، ووعد مَنْ قضى له هذه الحاجة من ماله بألف ألف، فطاف على رؤوس الأمراء من أهل الشام وأمراء العراق ممن قدم مع الأحنف بن قيس، فكلُّهم يقولون: عليك بعبد اللَّه بن جعفر، فقصده الدّهقان، فكلَّم فيه ابنُ جعفر معاوية، فقضى حاجته تكملة المئة حاجة، وأمر الكاتب فكتب له عهده، وخرج به ابن جعفر إلى الدهقان، فسجد له وحمل إليه ألف ألف درهم، فقال له ابن جعفر: اسجُد للَّه واحمل مالك إلى منزلك، فإنا أهل بيت لا نبيع المعروف بالثمن. فبلغ ذلك معاوية، فقال: لأن يكونَ يزيد قالها أحبُّ إليَّ من خراج العراق، أبت بنو هاشم إلّا كرمًا
(6)
.
وقال غيره: كان لعبد اللَّه بن جعفر على معاوية في كل سنة ألف ألف، فاجتمع عليه في بعض
(1)
ما بين حاصرتين سقط من أ، وبهذا السقط يصبح الخبر تابعًا لما قبله.
(2)
ما بين حاصرتين سقط من أ.
(3)
رجل خبّ ضبّ: خداع مفسد.
(4)
الخبر في مختصر تاريخ دمشق (25/ 64) وفي أوله: أنه أمر للحسن بن علي أيضًا بمئة ألف درهم.
(5)
اضطربت هذه اللفظة في الأصول، وهي فارسية معربة. والأصبهبذ عند الديلم كالأمير عند العرب. المعرَّب للجواليقي (ص 218) وتاج العروس مادة (صبهبذ).
(6)
الخبر في مقطوعة شعرية لطيفة في مختصر تاريخ دمشق (25/ 65 - 66).
الأوقات دين خمسمئة ألف، فألحَّ عليه غرماؤه، فاستنظرهم حتى يقدم على معاويةَ فيسأله أن يُسْلفه شيئًا من العطاء، فركب إليه، فقال له: ما أقدمك يا بن جعفر؟ قال: دين ألحَّ عليَّ غرماؤه، فقال: وكم هو؟ قال: خمسمئة ألف، فقضاها عنه وقال له: إن الألف ألف ستأتيك في وقتها.
وقال ابن سعد
(1)
: حدَّثنا موسى بن إسماعيل، حدَّثنا أبو هلال، عن قَتادة قال: قال معاوية: يا عجبًا للحسن بن علي! شرب شربةَ عسل يمانيّة بماء رُومه
(2)
، فقضى نحبَه. ثم قال لا بن عباس: لا يسوءُك اللَّه ولا يُحزنك من الحسن بن علي. فقال ابن عباس لمعاوية: لا يُحزنني اللَّه ولا يسوءُني ما أبقى اللَّه أمير المؤمنين. قال: فأعطاه ألف ألف درهم وعروضًا وأشياء وقال: خذها فاقسمها في أهلك.
وقال أبو الحسن المدائني: عن سلمة بن مُحارب قال: قيل لمعاوية: أيُّكم كان أشرف: أنتم أو بنو هاشم؟ قال: كنّا أكثر أشرافًا وكانوا هم أشرف، فيهم واحد لم يكن في بني عبد مناف مثل هاشم، فلمَّا هلك كنّا أكثر عددًا وأكثر أشرافًا، وكان فيهم عبد المطلب لم يكن فينا مثله، فلما مات صرنا أكثر عددًا وأكثر أشرافًا، ولم يكن فيهم واحد كواحدنا، فلم يكن إِلَّا كقَرار العين حين قالوا: منّا نبيّ، فجاء نبيٌّ لم يسمع الأولون والآخرون بمثله، محمد صلى الله عليه وسلم، فمن يدركُ هذه الفضيلة وهذا الشرف؟
وروى ابن أبي خَيْثمة، عن موسى بن إسماعيل، عن حمَّاد بن سلمة، عن علي بن يزيد، عن يوسف بن مِهْران، عن ابن عباس: أن عمرو بن العاص قصَّ على معاوية منامًا رأى فيها أبا بكر وعمر وعثمان وهم يحاسَبون على ما ولوه في أيامهم، ورأى معاوية وهو مُوكل به رجلان يحاسِبانه على ما عمل في أيامه. فقال له معاوية: وما رأيتَ ثَمَّ دنانير مصر
(3)
؟
وقال ابن دريد: عن أبي حاتم، عن العُتْبي قال: دخل عمرو على معاويةَ وقد ورد عليه كتاب فيه تعزيةٌ له في بعض الصحابة، فاسترجع معاوية، فقال عمرو بن العاص:
يموتُ الصّالحونَ وأنتَ حيٌّ
…
تَخطّاكَ المنايا لا تموتُ
فقال له معاوية:
أَترجو أنْ أموتَ وأنتَ حيٌّ
…
فلستُ بميِّتٍ حتى تموت
(4)
(1)
تحرفت في المطبوع إلى: سعيد.
(2)
يعني: بماء بئر رومة، وكان ماؤها عذبًا، وهي في عقيق المدينة. كانت لرجل من غفار يقال له رومة، فابتاعها منه عثمان بن عفان رضي الله عنه، وتصدق بها. معجم البلدان (1/ 299 و 3/ 104).
(3)
الخبر مطولًا في مختصر تاريخ دمشق (25/ 69).
(4)
أورد الخبر مع البيتين ابن دريد في المجتنى (ص 49) وابن عساكر في تاريخه، مختصره (25/ 69) والمسعودي في مروج الذهب (3/ 30) لكن الذي عند المسعودي أن الذي بدأ هو معاوية، والذي أجاب هو عمرو.
وقال ابن السمَّاك: قال معاوية: كل الناس أستطيع أن أُرضيَه إلّا حاسد نعمةٍ فإنَّه لا يُرضيه إلّا زوالُها.
وقال الزُّهري: عن عبد الملك، عن أبي بحريّة قال: قال معاوية: المروءة في أربع: العَفاف في الإسلام، واستصلاح المال، وحفظ الإخوان، وحفظ الجار.
وقال أبو بكر الهُذَلي: كان معاوية يقول الشعر، فلما ولي الخلافةَ قال له أهلُه: قد بلغتَ الغاية فماذا تصنع بالشعر؟ فارتاح يومًا فقال:
صرمتُ سَفاهتي وأَرحتُ حِلْمي
…
وفيَّ على تحمُّليَ اعتِراضُ
على أَني أُجيبُ إذا دَعَتْني
…
إلى حاجاتِها الحَدَقُ المِراضُ
(1)
وقال مغيرة: عن الشعبي: أول من خطب جالسًا معاوية حين كثر شحمُه وعظُم بطنُه. وكذا روي عن مغيرة، عن إبراهيم أنه قال: أول من خطب جالسًا يوم الجمعة معاوية.
وقال أبو المليح: عن ميمون: أول من جلس على المنبر معاوية، واستأذن النَّاسَ في الجلوس.
وقال قَتادة: عن سعيد بن المسيب: أول من أذَّن وأقام يوم الفطر والنحر معاوية.
وقال أبو جعفر الباقر: كانت أبواب مكة لا أغلاقَ لها، وأول من اتَّخذ لها الأبواب معاوية.
وقال أبو اليمان: عن شعيب، عن الزُّهري: مضت السنَّة ألا يرثَ الكافرُ المسلم، ولا المسلمُ الكافر، وأول من ورَّث المسلمَ من الكافر معاوية، وقضى بذلك بنو أميَّة بعده، حتى كان عمر بن عبد العزيز، فراجع السنَّة، وأعاد هشام ما قضى به معاويةُ وبنو أميَّة من بعده. وبه قال الزُّهري
(2)
.
ومضت السنَّة أنَّ دِيَة المعاهَد كدِيَة المسلم، وكان معاوية أول من قَصَرها إلى النصف وأخذ النصف لنفسه.
وقال ابن وهب: عن مالك، عن الزُّهري قال: سألت سعيد بن المسيِّب عن أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال لي: اسمع يا زهري! من مات محبًّا لأبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وشهد للعشرة بالجنة، وترحَّم على معاوية كان حقًّا على اللَّه ألا يُناقشَه الحساب.
وقال سعيد بن يعقوب الطَّالْقاني: سمعت عبد اللَّه بن المبارك يقول: ترابٌ في أنف معاويةَ أفضل من عمر بن عبد العزيز.
(1)
كذا رواية البيتين في أ، ط. ورواية البيت الأول في ب، م ومختصر تاريخ دمشق (25/ 70) كما يلي:
سرحت سفاهتي وأرحت حلمي
…
وفيّ على تحلُّمي اعتراض
(2)
الخبر بأوضح مما هنا في مختصر تاريخ دمشق (25/ 71 - 72).
وقال محمد بن يحيى بن سعيد: سئل ابن المبارك عن معاوية، فقال: ما أقول في رجل قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: سمع اللَّهُ لمن حَمِدَه، فقال خلفَه: ربَّنا ولكَ الحمد. فقيل له: أيهما أفضل هو أو عمر بن عبد العزيز؟ فقال: لترابٌ في مَنْخِري معاويةَ مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خيرٌ وأفضل من عمر بن عبد العزيز
(1)
.
وقال غيره: عن ابن المبارك قال: معاوية عندنا محنة، فمن رأيناه ينظر إليه شَزْرًا اتَّهمناه على القوم
(2)
- يعني الصحابة.
وقال محمد بن عبد اللَّه بن عمّار المَوْصلي وغيره: سئل المعافى بن عمران: أيُّهما أفضل معاوية أو عمر بن عبد العزيز؟ فغضب وقال للسائل: أتجعل رجلًا من الصحابة مثل رجل من التابعينِ؟! معاوية صاحبُه وصهرُه وكاتبُه وأمينُه على وحي اللَّه، وقد قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"دَعُوا لي أَصْحابي وأصْهاري"
(3)
فمن سبَّهم فعليهِ لعنةُ اللَّهِ والملائكةِ والناسِ أجمعين.
وكذا قال الفضل بن عَنْبَسة
(4)
.
وقال أبو تَوْبة الربيع بن نافع الحلبي
(5)
: معاوية سِتْر لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فإذا كشف الرجلُ السِّتر اجترأ على ما وراءه.
وقال الميموني: قال لي أحمد بن حنبل: يا أبا الحسن! إذا رأيتَ رجلًا يذكر أحدًا من الصحابة بسوء فاتهِمْه على الإسلام.
وقال الفضل بن زياد: سمعت أبا عبد اللَّه يُسأل عن رجل تنقَّص معاوية وعمرو بن العاص أيقال له: رافضي؟ فقال: إنه لم يجترئ عليهما إلّا وله خبيئةُ سوء. ما انتقص أحد أحدًا من الصحابة إلّا وله داخلةُ سوء.
وقال ابن المبارك: عن محمد بن مسلم، عن إبراهيم بن مَيْسرة قال: ما رأيت عمر بن عبد العزيز ضرب إنسانًا قطُّ إلَّا إنسانًا شتم معاوية، فإنه ضربه أسواطًا.
(1)
مختصر تاريخ دمشق (25/ 74).
(2)
وقعت في ط: القول. والخبر في مختصر تاريخ دمشق (25/ 74).
(3)
الخبر في تاريخ دمشق (59/ 208)، وقول النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم:"دعوا لي أصحابي" صحيح من حديث أنس؛ أخرجه أحمد (3/ 266) وغيره. وهو عند مسلم (2541) في فضائل الصحابة من حديث أبي سعيد الخدري بلفظ: "لا تسبوا أحدًا من أصحابي". أما لفظة "وأصهاري" فهي غير محفوظة، كما بيناها في موضع آخر (بشار).
(4)
تحرف في أ، ط إلى: عتيبة والمثبت في ب. وخبر الفضل بن عنبسة في مختصر تاريخ دمشق (25/ 74) ونصه: أنه سئل: معاوية أفضل أم عمر بن عبد العزيز؟ فعجب من ذلك وقال: سبحان اللَّه! أأجعل مَن رأى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كمن لم يره؟! قالها ثلاثًا.
(5)
تحرف في ب إلى: الحلي. وأبو توبة الحلبي من رجال التهذيب.
وقال بعض السلف
(1)
: بينما أنا على جبل بالشام إذ سمعت هاتفًا يقول: من أبغض الصدِّيق فذاك زِنْديق، ومن أبغض عمر فإلى جهنَّم زُمَرا، ومن أبغض عثمان فذاك خصمُه الرحمن، ومن أبغض عليًا فذاك خصمُه النبي، ومن أبغض معاوية سحَبَته الزبانية إلى جهنَّم الحامية، يُرمى به في الهاوية.
وقال بعضهم
(2)
: رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في المنام، وعنده أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاوية، إذ جاء رجل، فقال عمر: يا رسول اللَّه! هذا ينتقصُنا، فكأنه انتهَره رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول اللَّه! إني لا أنتقصُ هؤلاء ولكن هذا -يعني معاوية- فقال: "ويلك! أوليس هو من أصحابي"؟ قالها ثلاثًا، ثم أخذ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حَرْبة، فناولها معاوية فقال: "جَأْ بها في لَبَّتِه
(3)
" فضربه بها. وانتبهتُ فبكَّرت إلى منزلي، فإذا ذلك الرجل قد أصابته الذَّبحة من الليل ومات، وهو راشد الكندي.
وروى ابن عساكر عن الفُضيل بن عِيَاض أنه كان يقول: معاوية من الصحابة، من العلماء الكبار، ولكن ابتُلي بحبِّ الدنيا.
وقال العُتْبي: قيل لمعاوية: أسرع إليك الشيب! فقال: كيف لا، ولا أزال أرى رجلًا من العرب قائمًا على رأسي يُلْقح لي كلامًا يلزمني جوابه، فإن أصبتُ لم أُحمَد، وإن أخطأتُ سارت بها البُرُد.
وقال الشعبي وغيره: أصابت معاوية في آخر عمره لَقْوَة.
وروى ابن عساكر في ترجمة حُدَيج
(4)
الخَصِي مولى معاوية قال: اشترى معاوية جارية بيضاء جميلة، فأدخلتُها عليه مجرَّدة، وبيده قضيب، فجعل يهوي به إلى متاعها -يعني فرجها- ويقول: هذا المتاع لو كان لي متاع، اذهب بها إلى يزيد بن معاوية، ثم قال: لا، ادعُ لي ربيعة بن عمرو الجُرَشي -وكان فقيهًا- فلمَّا دخل عليه قال: إن هذه أُتيت بها مجرَّدة فرأيتُ منها ذاك وذاك، وإني أردتُ أن أبعث بها إلى يزيد، قال: لا تفعل يا أمير المؤمنين، فإنها لا تصلح له، فقال: نِعْم ما رأيت. قال: ثم وهبها لعبد اللَّه بن مَسْعدة الفَزَاري مولى فاطمة بنت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وكان أسود، فقال له: بيِّض بها ولدَك.
وهذا من فقه معاوية وتحرِّيه، حيث كان نظر إليها بشهوة، ولكنَّه استضعف نفسه عنها، فتحرَّج أن يَهَبَها من ولده يزيد لقوله تعالى:{وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 22] وقد وافقه على ذلك الفقيهُ ربيعة بن عمرو الجُرَشي الدمشقي.
(1)
هو محمد بن الحسن، كما في مختصر تاريخ دمشق (25/ 76).
(2)
هو محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، كما في مختصر تاريخ دمشق (25/ 76 - 77).
(3)
"الوجء": اللكز، ووجأه باليد والسكين: ضربه. "واللبة": موضع الذبح وموضع القلادة من الصدر. اللسان والقاموس (وجأ، لبب).
(4)
تحرف في أ، ط إلى: خديج. والخبر أورده ابن عساكر، مختصره (6/ 243) ضمن ترجمة حديج هذا.
[وذكر
(1)
ابن جرير: أن عمرو بن العاص قدمَ في وفد أهل مصر إلى معاوية، فقال لهم في الطريق: إذا دخلتُم على معاويةَ فلا تسلِّموا عليه بالخلافة فإنه لا يحب ذلك، فلمّا دخل عليه عمرو قبلَهم، قال معاوية لحاجبه: أدخلهم، وأوعزَ إليه أن يخوِّفهم في الدخول ويُرْعبهم، وقال: إني لأظن عمرًا قد تقدم إليهم في شيء. فلمَّا أدخلوهم عليه -وقد أهانوهم- جعل أحدهم إذا دخل يقول: السلام عليك يا رسول اللَّه، فلمَّا نهض عمرو من عنده قال: قبَّحكم اللَّه! نهيتكم عن أن تسلموا عليه بالخلافة فسلَّمتم عليه بالنبوَّة
(2)
!
وذكر: أن رجلًا سأل من معاوية أن يساعدَه في بناء داره باثني عشر ألف جِذْع من الخشب، فقال له معاوية: أين دارك؟ قال: بالبصرة، قال: وكم اتِّساعُها؟ قال: فرسخان في فرسخَين، قال: لا تقل: داري بالبصرة، ولكن قل: البصرة في داري
(3)
.
وذكر: أن رجلًا دخل بابنٍ معه، فجلسا على سِمَاط معاوية، فجعل ولده يأكل أكلًا ذريعًا، فجعل معاوية يلاحظه، وجعل أبوه يريد أن ينهاه عن ذلك فلا يفطن، فلمَّا خرجا لامَهُ أبوه وقطعه عن الدخول، فقال له معاوية: أين ابنُك التِّلْقامة
(4)
؟ قال: اشتكى. قال: قد علمتُ أن أكلَه سيورِّثه داءً.
قال: ونظر معاوية إلى رجل وقف بين يديه يخاطبه وعليه عَباءة، فجعل يَزْدريه، فقال: يا أمير المؤمنين! إنك لا تخاطب العَباءة، إنَّما يخاطبك مَنْ بها
(5)
.
وقال معاوية: أفضل الناس مَنْ إذا أُعطي شكر، وإذا ابتُلي صبر، وإذا غضب كظم، وإذا قَدَر غفر، وإذا وعد أَنجز، وإذا أساء استغفر
(6)
.
وكتب رجل من أهل المدينة إلى معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه:
إذا الرِّجالُ ولَدَتْ أولادُها
…
واضطربَتْ من كِبَرٍ أعضادُها
وجعَلتْ أسقامُها تَعْتادُها
…
فهيَ زُرُوعٌ قد دَنَا حصادُها
(1)
من هنا يبدأ سقط في النسخ أ، ب، م والمثبت من المطبوع فقط، وسنشير إلى انتهاء السقط بعد صفحة تقريبًا.
(2)
تاريخ الطبري (5/ 330 - 331).
(3)
تاريخ الطبري (5/ 333).
(4)
رجل تلقام وتلقامة: كبير اللُّقم. والخبر في تاريخ الطبري (5/ 332).
(5)
تاريخ الطبري (5/ 336).
(6)
المصدر السابق.
فقال معاوية: نعى إليَّ نفسي
(1)
]
(2)
.
وقال ابن أبي الدنيا: حدّثني هارون بن سفيان، عن عبد اللَّه السَّهمي، حدّثني ثمامة بن كُلْثوم: أن آخر خطبة خطبها معاوية أن قال: أيُّها الناس! إنَّ من زرع قد استَحْصَد، وإني قد وليتكم ولن يَليَكم أحد بعدي خير مني، وإنما يليكم من هو شرٌّ مني، كما كان مَنْ وليكم قبلي خيرًا مني. ويا يزيد! إذا دنا أجلي فولِّ غَسْلي رجلًا لبيبًا، فإن اللبيب من اللَّه بمكان، فليُنْعم الغسل، وليَجْهر بالتكبير، ثم اعمد إلى منديل في الخزانة فيه ثوبٌ من ثياب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وقُرَاضة من شعره وأظفاره، فاستودعِ القُراضة أنفي وفمي وأذنيّ وعينيّ، واجعل ذلك الثوب مما يلي جلدي دون أكفاني. ويا يزيد! احفظْ وصيَّة اللَّه في الوالدين، فإذا أدرجتموني في جَريدتي، ووضعتموني في حُفْرتي، فخلُّوا معاوية وأرحم الراحمين
(3)
.
وقال بعضهم: لما احتُضِرَ معاوية جعل يقول:
لَعمري لقد عمِّرتُ في الدَّهر بُرْهةً
…
ودانَتْ ليَ الدُّنيا بوقع البَوَاتر
وأُعطيتُ حمرَ المال والحُكمَ والنُّهى
…
ولي سَلَّمتْ كلُّ الملوكِ الجبابر
فأضحى الذي قَدْ كانَ ممَّا يَسُرُّني
…
كحكم مَضَى في المُزْمناتِ الغوابر
فيالَيتني لم أُعْنَ في الملكِ ساعةً
…
ولم أَسْعَ في لذَّاتِ عيشٍ نواضر
وكنتُ كذي طِمْرَين عاشَ ببُلْغةٍ
…
من العيشِ حتّى زارَ ضِيقَ المَقابر
(4)
وقال محمد بن سعد: أنبأنا علي بن محمد، عن محمد بن الحكم، عمَّن حدثه: أن معاوية لما احتُضِر أوصى بنصف ماله أن يُرَدَّ إلى بيت المال -كأنه أراد أن يطيب له- لأن عمر بن الخطاب قاسم عمّاله.
وذكروا أنه في آخر عمره اشتدَّ به البرد، فكان إذا لبس أو تغطَّى بشيء ثقيل يغمُّه، فاتخذ له ثوبًا من حواصل الطير، ثم ثقل عليه بعد ذلك، فقال: تبًّا لكِ من دار! ملكتُك أربعين سنة: عشرين أميرًا وعشرين خليفة، ثم هذا حالي فيكِ ومصيري منكِ! تبًّا للدنيا ولمحبِّيها.
وقال محمد بن سعد: أنبأنا أبو عبيدة، عن أبي يعقوب الثَّقَفي، عن عبد الملك بن عُمير قال: لما
(1)
الخبر في تاريخ الطبري (5/ 335 - 336) والشعر الذي ورد فيه صُفَّ في مطبوع ابن كثير نثرًا. والرجل الذي كتبه لمعاوية هو زر بن حُبيش أو أيمن بن خُريم كما ورد عند الطبري.
(2)
هنا ينتهي السقط من النسختين أ، ب والذي أشرنا إليه قبل صفحة تقريبًا.
(3)
مختصر تاريخ دمشق (25/ 79).
(4)
مختصر تاريخ دمشق (25/ 79 - 80) مع اختلاف ببعض الألفاظ، وقد أورد صاحب البدء والتاريخ (6/ 16) البيتين الأخيرين، وكذا المسعودي في مروج الذهب (3/ 58).
ثقل معاوية، وتحدَّث الناس بموته، قال لأهله: احشُوا عينيَّ إِثْمِدًا، وأوسِعوا رأسي دهنًا. ففعلوا وغرَّقوا وجهه بالدهن، ثم مُهِّد له، فجلس وقال: أسندوني، ثم قال: ائذنوا للناس فليسلِّموا عليَّ قيامًا ولا يجلس أحد. فجعل الرجل يدخل فيسلِّم قائمًا، فيراه مكتحلًا متدهنا فيقول: يقول الناس: إن أمير المؤمنين لمآبه، وهو أصح الناس. فلما خرجوا من عنده قال معاوية:
وتجلُّدي للشَّامتينَ أُريهِمُ
…
أَنِّي لرَيْبِ الدَّهر لا أَتَضَعْضَعُ
وإذا المنيَّةُ أنشَبَتْ أظفارَها
…
ألفَيْتَ كلَّ تميمةٍ لا تَنْفَعُ
قال: وكان به النقابة -يعني لوقة- فمات من يومه ذلك، رحمه الله
(1)
.
وقال محمد
(2)
بن عقبة: لمَّا نزل بمعاويةَ الموتُ قال: يا ليتني كنتُ رجلًا من قريش بذي طَوَى
(3)
، ولم أَلِ من هذا الأمر شيئًا.
وقال أبو السائب المخزومي: لما حضرتْ معاويةَ الوفاةُ تمثَّل بقول الشاعر:
إنْ تُناقشْ يكنْ نقاشُكَ يا ربّ
…
عذابًا لا طَوْقَ لي بالعَذابِ
أو تُجاوزْ تجاوز العَفْو فاصفَحْ
…
عن مُسِيءٍ ذنوبُهُ كالتُّراب
(4)
وقال بعضهم: لما احتُضر معاوية جعل أهلُه يقلِّبونه، فقال لهم: أي شيخٍ تقلِّبون إنْ نجَّاه اللَّه من عذاب النار غدًا!
وقال محمد بن سيرين: جعل معاوية -لما احتُضر- يضع خدًّا على الأرض ثم يقلِّب وجهه، ويضع الخدَّ الآخر ويبكي ويقول: اللهمَّ إنك قد قلت في كتابك: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]، اللَّهمَّ فاجعلني فيمن تشاء أن تغفر له.
وقال العُتبي عن أبيه: تمثَّل معاوية عند موته بقول بعضهم وهو في السِّياق
(5)
:
هو الموتُ لا مَنْجَى منَ الموتِ والذي
…
نُحاذرُ بعدَ الموتِ أَدهى وأَفظعُ
(1)
الخبر في تاريخ الطبري (5/ 327) وتاريخ ابن عساكر مختصره (25/ 82 - 83) والكامل لابن الأثير (4/ 7) وسير أعلام النبلاء (3/ 160 - 161) والبيتان لأبي ذؤب خويلد بن خالد الهذلي أشعر شعراء هذيل، من قصيدته السائرة التي رثى بها بنيه الخمسة الذين هلكوا بالطاعون في عام واحد، ومطلعها:
أمن المنون وريبها تتوجع
…
والدهر ليس بمعتب من يجزع
وهي في ديوان الهذليين (18 - 21) والمفضليات (421 - 429).
(2)
في أ، ط:"موسى" بدلًا "محمد" محرف. والخبر في تاريخ دمشق، مختصره (25/ 83).
(3)
ذو طوى: واد بمكة معجم البلدان (4/ 45).
(4)
البيتان في أنساب الأشراف (4/ 150) وتاريخ ابن عساكر مختصره (25/ 83) والكامل لابن الأثير (4/ 8).
(5)
يقال: فلان في السياق أو في السوق: أي في النزع، كأن روحه تساق لتخرج عن بدنه.
ثم قال: اللهم أَقلِ العَثْرة، واعفُ عن الزَّلَّة، وتجاوز بحلمك عن جهل مَنْ لم يرجُ غيرك، فإنك واسع المغفرة، ليس لذي خطيئة من خطيئته مهربٌ إِلَّا إليك
(1)
.
ورواه ابن دريد، عن أبي حاتم، عن أبي عبيدة، عن أبي عمرو بن العلاء فذكر مثله وزاد: ثم مات.
وقال غيره: أُغمي عليه، ثم أفاق فقال لأهله: اتقوا اللَّه فإنَّ اللَّه تعالى يَقي من اتقاه، ولا يَقي من لا يتَّقي. ثم مات، رحمه الله.
وقد روى أبو مِخْنف، عن عبد الملك بن نوفل قال: لما مات معاوية صَعِدَ الضحاك بن قيس المنبر، فخطب الناس -وأكفانُ معاوية على يديه- فقال بعد حمد اللَّه والثناء عليه: إن معاوية الذي كان سور العرب وعونَهم وحدَّهم، قطع اللَّه به الفتنة، وملَّكه على العباد، وفتح به البلاد، ألا إنه قد مات، وهذه أكفانه، فنحن مُدْرجوه فيها، ومُدْخلوه قبره، ومُخَلُّون بينه وبين عمله، ثم هو البرزخ إلى يوم القيامة، فمن كان منكم يريد أن يشهده فليحضُر عند الأولى. ثم نزل وبعث البريد إلى يزيد بن معاوية يُعْلمه ويستحثُّه على المجيء.
ولا خلافَ أنه توفي بدمشق في رجب سنة ستين، فقال جماعة: ليلة الخميس للنصف من رجب سنة ستين، وقيل: ليلة الخميس لثمان بقين من رجب سنة ستين، قاله ابن إسحاق وغير واحد. وقيل: لأربع خلتْ من رجب، قاله الليث. وقال سعد بن إبراهيم: لمستهلِّ رجب.
قال محمد بن إسحاق والشافعي: صلَّى عليه ابنه يزيد. وقد ورد من غير وجه أنه أوصى إليه أن يكفَّن في ثوب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الذي كساه إياه وكان مدَّخرًا عنده لهذا اليوم، وأن يجعل ما عنده من شعره وقلامة أظفاره في فمه وأنفه وعينيه وأذنيه.
وقال آخرون: بل كان ابنه يزيد غائبًا فصلَّى عليه الضحاك بن قيس بعد صلاة الظهر بمسجد دمشق، ثم دفن، فقيل: بدار الإمارة وهي الخضراء، وقيل: بمقابر باب الصغير وعليه الجمهور، واللَّه أعلم. وكان عمره إذ ذاك ثمانيًا وسبعين سنة، وقيل: جاوز الثمانين.
ثم ركب الضحاك بن قيس في جيش وخرج لتلقي يزيد بن معاوية -وكان يزيد بحُوَّارين
(2)
- فلما وصلوا إلى ثنيَّة العُقاب
(3)
تلقَّتهم أثقال يزيد، وإذا يزيد راكب على بُخْتي وعليه الحزن ظاهر، فسلَّم عليه
(1)
الخبر والبيت في العقد الفريد (3/ 180) وتاريخ ابن عساكر، مختصره (25/ 85) وسير أعلام النبلاء (3/ 160).
(2)
"حوّارين": حصن من ناحية حمص قرب من تدمر معجم البلدان (2/ 315 - 316).
(3)
"ثنية العقاب": فرجة في الجبل الذي يطل على غوطة دمشق من ناحية حمص تقطعه القوافل المغربة إلى دمشق من الشرق معجم البلدان (4/ 133). ويعرف اليوم موقعها بطلوع الثنايا.
الناس بالإمارة وعزَّوه في أبيه، وهو يخفض صوته في رده عليهم، والناس صامتون لا يتكلَّم معه إِلَّا الضحاك بن قيس. فانتهى إلى باب تُوما
(1)
، فظن الناس أنه يدخل منه إلى المدينة، فأجازه مع السُّور حتى انتهى إلى الباب الشرقي، فقيل: يدخل منه لأنه باب خالد، فجازه حتى أتى الباب الصغير، فعرف الناس أنه قاصد قبر أبيه، فلمّا وصل إلى باب الصغير ترجَّل عند القبر ثم دخل فصلَّى على أبيه بعد ما دُفن، ثم انفتل، فلمّا خرج من المقبرة أُتي بمراكب الخلافة فركب. ثم دخل البلد، وأمر فنُودي في الناس: أنَّ الصلاة جامعة. ودخل الخضراء فاغتسل، ولبس ثيابًا حسنة، ثم خرج فخطب الناس [أول خطبة خطبها وهو أمير المؤمنين]
(2)
فقال بعد حمد اللَّه والثناء عليه: أيُّها الناس! إنَّ معاوية كان عبدًا من عبيد اللَّه، أنعم اللَّه عليه ثم قبضه إليه، وهو خير ممِّن بعده، ودون من قبلَه، ولا أزكِّيه على اللَّه عز وجل فإنه أعلم به، إنْ عفا عنه فبرحمته، وإنْ عاقبه فبذنبه، وقد وليتُ الأمر من بعده، ولست آسي على طلب، ولا أعتذر من تفريط، وإذا أراد اللَّه شيئًا كان. وقال لهم في خطبته هذه: وإنَّ معاوية كان يُغزيكم في البر والبحر، وإني لست حاملًا أحدًا من المسلمين في البحر. وإنَّ معاوية كان يُشتيكم بأرض الروم، ولست مُشتيًا أحدًا بأرض الروم. وإن معاوية كان يُخرج لكم العطاء أثلاثًا، وأنا أجمعه لكم كلَّه. قال: فافترق الناس عنه وهم لا يفضِّلون عليه أحدًا.
وقال محمد بن عبد اللَّه بن عبد الحكم: سمعت الشافعي يقول: بعث معاوية -وهو مريض- إلى ابنه يزيد، فلمّا جاءه البريد ركب وهو يقول:
جاءَ البريدُ بقرطاسٍ يخُبُّ به
…
فأوجسَ القلبُ من قرطاسِهِ فَزَعا
قلنا: لكَ الويلُ ماذا في صَحيفتِكم؟
…
قال: الخليفةُ أمسى مُثْقَلًا وَجِعا
فمادتِ الأرضُ أو كادتْ تَميدُ بنا
…
كانَ أغبرَ من أركانها انْقَلعا
ثم انبَعَثْنا إلى خُوصٍ مضمَّرةٍ
…
نرمي الفِجاجَ بها ما نَأْتلي سَرَعا
فما نُبالي إذا بلَّغن أرحُلَنا
…
ما ماتَ منهنَّ بالمرمات أو ظَلَعا
[لما انْتَهَيْنا وبابُ الدارِ مُنصفقٌ
…
بصوتِ رَمْلَةَ رِيعَ القلبُ فانصَدَعا
مَنْ لا تزلْ نفسُهُ تُوفّي على شَرفٍ
…
توشِكْ مقاليدُ تلكَ النفسِ أن تَقَعا]
(3)
أودَى ابنُ هندٍ وأودَى المجدُ يَتْبَعُهُ
…
كانا جميعًا خليطًا سالمَيْن مَعَا
أغرُّ أبلجُ يُسْتَسْقى الغمامُ بهِ
…
لو قارَعَ النَّاسَ عن أحلامِهِم قَرَعا
(1)
"باب توما": أحد أبواب مدينة دمشق، وهو الآن علم لحي شهير فيها.
(2)
ما بين حاصرتين ليس في أ.
(3)
هذان البيتان من المطبوع فقط.
لا يرقعُ الناسُ ما أوهى وإنْ جَهَدوا
…
أن يَرْقعوهُ ولا يُوهُونَ ما رَقَعَا
(1)
وقال الشافعي: سرق يزيد هذين البيتين
(2)
من الأعشى. ثم ذكر أنه دخل قبل موت أبيه دمشق، وأنه أوصى إليه. وهذا ما قاله ابن إسحاق وغير واحد، ولكن الجمهور على أن يزيد لم يدخل دمشق إلّا بعد موت أبيه، وأنه صلَّى على قبره بالناس كما قدمناه، واللَّه أعلم.
وقال أبو الورد العَنْبري يرثي معاوية رضي الله عنه:
ألَا أَنْعى معاويةَ بنَ حَرْبٍ
…
نعاةَ الحلِّ للشَّهرِ الحَرَام
نعاهُ النَّاعياتُ بكلِّ فجٍّ
…
خواضع في الأَزمَّةِ كالسِّهام
فهاتيكَ النُّجومُ وهنَّ خُرْسٌ
…
يَنُحْنَ على معاويةَ الشَّآم
(3)
وقال أيمن بن خُرَيم
(4)
يرثيه أيضًا:
رمَى الحَدَثانُ نِسوةَ آلِ حربٍ
…
بمقدارٍ سَمَدْنَ لهُ سُمُودا
(5)
فردَّ شُعورَهُنَّ السُّودَ بيضًا
…
وردَّ وجوهَهُنَّ البيضَ سُودا
فإنَّكَ لو شَهِدتَ بكاءَ هندٍ
…
ورَمْلَةَ إذ يُصَفِّقْنَ الخُدودا
بكيتَ بكاءَ مُعْوِلَةٍ قَريحٍ
…
أصابَ الدَّهرُ واحدَها الفَريدا
ذكر من تزوج من النساء ومن ولد له
كان له عبد الرحمن -وبه كان يُكنى- وعبد اللَّه، وكان ضعيف العقل. وأمُّهما فاختة بنت قَرَظَة بن [عبد]
(6)
(1)
الأبيات في مختصر تاريخ دمشق (25/ 87 - 88) وتخريجها فيه.
(2)
يعني البيتين الأخيرين، وهما في ديوان الأعشى الكبير (ص 157، 161) من قصيدة يمدح بها هوذة بن علي الحنفي، ومطلعها:
بانت سعاد وأمسى حبلها انقطعا
…
واحتلت الغمر فالجدين فالفرعا
(3)
تحرفت لفظة الشآم في أ، ط إلى: الهمام. والبيت من شواهد اللسان والتاج: مادة (شأم). والأبيات في مختصر تاريخ دمشق (25/ 88) وتخريجها فيه.
(4)
اختلف الرواة في عزو هذه الأبيات، فقد نسبت في الحماسة (2/ 941) وزهر الآداب (2/ 7) إلى عبد اللَّه بن الزَّبير -بفتح الزاي وكسر الباء الموحدة- الأسدي. وفي عيون الأخبار (3/ 67) ومختصر تاريخ دمشق (20/ 268) إلى فضالة بن شريك. وفي ذيل الأمالي (ص 115) إلى الكميت بن معروف الأسدي. مختصر تاريخ دمشق (25/ 89).
(5)
قوله: سمدن له سمودا تحرف في أ، ط إلى: سجدن له سجودا والبيت من شواهد اللسان والتاج: مادة (سمد). "والسمود": الغفلة واللهو عن الشيء.
(6)
سقطت لفظه عبد من الأصول، واستدركها من نسب قريش: ص 198، 204 ومن ترجمتها في تاريخ دمشق (6/ 70).
عَمرو بن نوفل بن عبد مناف، وقد تزوَّج بأختها منفردة عنها بعدها [وهي كَنُود بنت قرَظَة]
(1)
وهي التي كانت معه حين افتتح قُبرص.
وتزوَّج نائلة بنت عُمارة الكلبيَّة، فأعجبته، وقال لميسون بنت بَحْدَل: ادخلي فانظري إلى ابنة عمِّك، فدخلت، فسألها عنها، فقالت: إنها لكاملة الجمال، ولكنْ رأيت تحت سُرَّتها خالًا، وإِنِّي لأرى هذه يُقتل زوجها ويوضع رأسُه في حِجْرها. فطلَّقها معاوية، فتزوَّجها بعده حبيب بن مَسْلَمة
(2)
الفِهْري، ثم خلف عليها بعده النعمانُ بن بشير، فقُتل ووضع رأسُه في حِجْرها.
ومن أشهر أولاده يزيد، وأُمُّه مَيْسون بنت بَحْدَل بن أُنيف بن دُلجة بن قُنافة الكلبي، وهي التي دخلت على نائلة فأخبرتْ معاوية عنها بما أخبرته، وكانت حازمة عظيمة الشأن جمالًا ورياسة وعقلًا ودينًا. دخل عليها معاوية يومًا ومعه خادم خَصي، فاستترتْ منه وقالت: من هذا الرجل معك؟ فقال: إنه خَصِي فاظهري عليه، فقالت: ما كانت المُثْلة لتُحِلَّ له ما حرَّم اللَّه عليه، وحجبته عنها. وفي رواية أنها قالت له: إن مجرد مُثْلتك له لن تُحِلَّ ما حرَّمه اللَّه عليه
(3)
. فلهذا أولى اللَّه ابنها يزيد الخلافة بعد أبيه.
وذكر ابن جرير: أن ميسونَ هذه ولدتْ لمعاوية بنتًا أخرى يقال لها: أمة ربِّ المشارق، ماتت صغيرة
(4)
.
ورَمْلة تزوَّجها عمرو بن عثمان بن عفان، كانت دارها بدمشق عند عقبة السمك تُجاه زقاق الرمّان. قاله ابن عساكر. قال: ولها طاحون معروفة إلى الآن
(5)
.
وهند بنت معاوية تزوَّجها عبد اللَّه بن عامر، فلما أُدخلت عليه بالخضراء جوار الجامع أرادها على نفسها فتمنَّعت عليه وأبت أشد الإباء، فضربها، فصرخت، فلما سمع الجواري صوتها صرخن وعلَت أصواتهن، فسمع معاوية فنهض إليهن فاستعلمهنَّ ما الخبر؟ فقلن: سمعنا صوت سيِّدتنا فصحنا، فدخل فإذا بها تبكي من ضربه، فقال لا بن عامر: ويحك! مثل هذه تضرب في مثل هذه الليلة؟ ثم قال له: اخرج من هاهنا، فخرج ابن عامر، وخلا بها معاوية فقال لها: يا بنيَّة! إنه زوجك الذي أحلَّه اللَّه لك، أو ما سمعتِ قول الشاعر:
من الخَفِراتِ البِيض أمَّا حرامُها
…
فصعبٌ، وأما حلُّها فَذَلول؟
(1)
ما بين حاصرتين سقط من أ. وتحرفت كنود في ط، ب إلى كنوة، وفي تاريخ الطبري (5/ 329) إلى كتوة، وما أثبتناه من ترجمتها في تاريخ ابن عساكر، تراجم النساء (ص 318) ونسب قريش (ص 204) وغيرهما.
(2)
تحرف في المطبوع إلى: سلمة، وفي ب إلى: مسلم.
(3)
تاريخ ابن عساكر، تراجم النساء (ص 397).
(4)
تاريخ الطبري (5/ 329).
(5)
تاريخ ابن عساكر، تراجم النساء (ص 95).
ثم خرج معاوية من عندها وقال لزوجها: ادخل فقد مهَّدتُ لك خلقها ووطأته. فدخل ابن عامر، فوجدها قد طابت أخلاقها، فقضى حاجته منها
(1)
. رحمهم اللَّه تعالى.
فصل
وكان على قضاء معاوية أبو الدرداء بولاية عمر بن الخطاب، فلمّا حضره الموت أشار على معاوية بتولية فَضَالة بن عُبيد، ثم مات فَضَالة فولَّى أبا إدريس الخَوْلاني.
وكان على حَرَسه رجل من الموالي يقال له: المختار، وقيل: مالك، ويُكنى أبا المُخَارق -مولى لحِميَر- وكان معاوية أول من اتّخذ الحرس.
وعلى حجابته سعدٌ مولاه.
وعلى الشرطة قيس بن حمزة، ثم زُميل بن عمرو العُذْري، ثم الضحاك بن قيس الفِهْري.
وكان صاحب أمره سَرْجون بن منصور الرومي.
وكان معاوية أول من اتَّخذ ديوان الخاتم وختم الكتب.
فصل
وممن ذكر أنه توفي في هذه السنة - أعني سنة ستين:
صَفوان بنُ المُعَطَّل
(2)
: ابن رَحْضة
(3)
بن المؤمَّل بن خُزاعِي، أبو عمرو. أول مشاهده المُرَيْسِع
(4)
، وكان في السَّاقة
(5)
يومئذ.
(1)
تاريخ ابن عساكر، تراجم النساء (460).
(2)
طبقات خليفة (51، 181، 318) تاريخ خليفة (226) مسند أحمد (5/ 312) تاريخ البخاري الكبير (4/ 305) التاريخ الصغير (43) المعرفة والتاريخ (1/ 309) الجرح والتعديل (4/ 420) مشاهير علماء الأمصار (ت 171) معجم الطبراني الكبير (8/ 61، 63) مستدرك الحاكم (3/ 518) الاستيعاب (2/ 725) تاريخ ابن عساكر (8/ 174/ آ) أسد الغابة (3/ 30) اللباب في تهذيب الأنساب (1/ 531، الذكواني)، مختصر تاريخ دمشق (11/ 101) تاريخ الإسلام (2/ 27) سير أعلام النبلاء (2/ 545) معجم الزوائد (9/ 363) الإصابة (5/ 152) كنز العمال (13/ 436) تهذيب ابن عساكر (6/ 440).
(3)
تحرف في ط إلى: رخصة.
(4)
"المريسيع": ماء لبني خزاعة، كانت به غزوة بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين بني المصطلق سنة خمس -وقيل في وقتها غير ذلك- وتسمى غزوة بني المصطلق. وخبر هذه الغزوة في سيرة ابن هشام (2/ 289) وغيره من كتب السيرة.
(5)
"ساقة الجيش": مؤخره. "والساقة": جمع سائق، وهم الذين يسوقون جيش الغزاة ويكونون من ورائه يحفظونه. اللسان (سوق).
وهو الذي رماه أهل الإفك بأمِّ المؤمنين، فبرَّأه اللَّه وإياها مما قالوا.
وكان من سادات المسلمين.
وكان ينام نومًا شديدًا حتى كان ربما طلعت عليه الشمس وهو نائم لا يستيقظ، فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"إذا اسْتيقظتَ فصَلِّ"
(1)
.
وقد قُتل صفوان شهيدًا.
وأبو مسلم الخَوْلاني
(2)
: عبد اللَّه بن ثُوَب الخَوْلاني، من خولان ببلاد اليمن.
دعاه الأسود العَنْسي
(3)
إلى أن يشهد أنه رسول اللَّه، فقال له: أتشهد أني رسول اللَّه؟ فقال: لا أسمع، أشهد أنَّ محمدًا رسول اللَّه. فأجَّج له نارًا وألقاه فيها، فلم تضرَّه، وأَنجاه اللَّه منها، فكان يشبَّه بإبراهيم الخليل. ثم هاجر فوجد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قد مات، فقدم على الصدِّيق، فأجلسه بينه وبين عمر، وقال له عمر: الحمد للَّه الذي لم يُمتني حتى أراني في أُمَّة محمد من فُعل به كما فُعل بإبراهيم الخليل، وقبَّله بين عينيه
(4)
.
وكانت له أحوال ومكاشفات.
ويقال: إنه توفي فيها النعمان بن بشير. والأظهر أنه مات بعد ذلك، كما سيأتي إن شاء اللَّه تعالى.
إمارة يزيد بن معاوية وما جرى في أيامه
بويع له بالخلافة بعد أبيه في رجب سنة ستين، وكان مولده سنة ست وعشرين، فكان يوم بويع
(1)
قطعة من حديث طويل أخرجه أحمد في مسنده (3/ 80، 84 - 85) وأبو داود رقم (2459) وهو حديث صحيح.
(2)
طبقات ابن سعد (7/ 448) طبقات خليفة (ت 2888) تاريخ البخاري الكبير (5/ 58) ثقات العجلي (511) المعرفة والتاريخ (2/ 308، 382) تاريخ أبي زرعة الدمشقي (266، 227، 386، 690) الجرح والتعديل (5/ 20) مشاهير علماء الأمصار (ت 856) تاريخ داريا (59) حلية الأولياء (2/ 22) الاستيعاب (3/ 876) الإكمال لابن ماكولا (1/ 568) أنساب السمعاني (5/ 212) تاريخ ابن عساكر: جزء عبادة - عبد اللَّه بن ثوب (483) أسد الغابة (3/ 192 و 6/ 288) مختصر تاريخ دمشق (12/ 55) تهذيب الكمال (ورقة 1653) طبقات علماء الحديث (1/ 101) سير أعلام النبلاء (4/ 7) الكاشف (3/ 333) تذكرة الحفاظ (1/ 49) تاريخ الإسلام (3/ 102) العبر (1/ 67) فوات الوفيات (2/ 169) الوافي بالوفيات (15/ 37) الإصابة (ت 6302) تهذيب التهذيب (12/ 235) طبقات الحفاظ (13) خلاصة الخزرجي (460) شذرات الذهب (1/ 281) تهذيب ابن عساكر (7/ 314).
(3)
هو عيهلة -وقيل: عبهلة- بن كعب بن عوف المذحجي، متنبئ مشعوذ من أهل اليمن، أسلم لما أسلمت اليمن، وارتد في أيام النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فكان أول مرتد في الإسلام. ضل به كثيرون من مذحج حتى اتسع سلطانه. قتل سنة 11 هـ. مترجم في أعلام الزركلي (5/ 111).
(4)
الخبر مطولًا في تاريخ ابن عساكر: جزء (عبادة - عبد اللَّه)(ص 493) وما بعدها.
ابن أربع وثلاثين سنة. فأقرَّ نوابَ أبيه على الأقاليم، ولم يعزل أحدًا منهم. وهذا من ذكائه
(1)
.
قال هشام بن محمد الكلبي
(2)
: عن أبي مِخْنف لوط بن يحيى الكوفي الأخباري: ولي يزيد في هلال رجب سنة ستين، وأميرُ المدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، وأميرُ الكوفة النعمان بن بشير، وأميرُ البصرة عبيد
(3)
اللَّه بن زياد، وأميرُ مكة عمرو بن سعيد بن العاص. ولم يكن ليزيد همَّة حين ولي إلَّا بيعة النفر الذين أَبَوْا على معاوية البيعة ليزيد، فكتب إلى نائب المدينة الوليد بن عتبة:"بسم اللَّه الرحمن الرحيم. من يزيدَ أمير المؤمنين إلى الوليد بن عتبة، أما بعد، فإنَّ معاوية كان عبدًا من عباد اللَّه، أكرمه اللَّه واسثخلفه، وخوَّله ومكَّن له، فعاش بقدر، ومات بأجل، فرحمه اللَّه، فقد عاش محمودًا، ومات بَرًّا تقيًّا، والسلام".
وكتب إليه بصحيفة كأنها أُذن الفأرة: "أمَّا بعد، فخذ حسينًا، وعبد اللَّه بن عمر، وعبد اللَّه بن الزُّبَير بالبَيْعة أخذًا شديدًا ليس فيه رخصة حتى يبايعوا، والسلام".
فلما أتاه نَعْيُ معاوية فَظُعَ
(4)
به وكبُرَ عليه، فبعث إلى مروان، فقرأ عليه الكتاب واستشاره في أمر هؤلاء النفر، فقال: أرى أن تدعوَهم قبل أن يعلموا بموت معاوية إلى البيعة، فإن أبَوْا ضربتَ أعناقهم. فأرسل من فوره عبد اللَّه بن عمرو بن عثمان بن عفان إلى الحسين وابن الزُّبَير -وهما في المسجد- فقال لهما: أَجيبا الأمير، فقالا: انصرف، الآن نأتيه، فلمّا انصرف عنهما قال الحسين لابن الزُّبَير: إني أرى طاغيتهم قد هلك، فقال ابن الزُّبَير: وأنا ما أظن غيره. قال: ثم نهض حسين، فأخذ معه مواليَه وجاء باب الأمير، فاستأذن، فأذن له، فدخل وحده وأجلس مواليَه على الباب وقال: إنْ سمعتم أمرًا يريبكم فادخلوا. فسلَّم وجلس ومروانُ عنده، فناوله الوليد بن عتبة الكتاب، ونعى إليه معاوية، فاسترجع وقال: رحم اللَّه معاوية، وعظم لك الأجر. فدعاه الأمير إلى البَيْعة، فقال له الحسين: إن مثلي لا يُبايع سرًّا، وما أراك تجتزئ مني بهذا، ولكنْ إذا اجتمع الناس دعوتَنا معهم فكان أمرًا واحدًا. فقال له الوليد - وكان يحب العافية: فانصرف على اسم اللَّه حتى تأتيَنا في جماعة الناس. فقال مروان للوليد: واللَّه لئن فارقك ولم يبايع الساعة ليكثرنَّ القتل بينكم وبينه، فاحبِسْه ولا تُخرجه حتى يبايع وإِلَّا ضربت عنقه، فنهض الحسين وقال: يا بن الزرقاء أنت تقتلني؟! كذبتَ واللَّه وأثمت. ثم انصرف إلى داره، فقال مروان للوليد: واللَّه ما تراه بعدها أبدًا، فقال الوليد: واللَّه -يا مروان- ما أُحبُّ أنَّ لي الدنيا وما فيها وأني قتلت الحسين، سبحان اللَّه! أقتل
(1)
قوله: "وهذا من ذكائه" ليس في م ولا في تاريخ الطبري (5/ 338).
(2)
تاريخ الطبري (5/ 338).
(3)
تحرف في المطبوع إلى: عبد.
(4)
فظع الأمر من باب ظرف، فهو فظيع، أي: شديد.
حسينًا أن قال: لا أبايع؟ واللَّه إني لأظن أن مَن يقتل الحسين يكون خفيف الميزان يوم القيامة
(1)
.
وبعث الوليد إلى عبد اللَّه بن الزُّبَير، فامتنع عليه وماطله يومًا وليلة، ثم إن ابن الزُّبَير ركب في مواليه واستصحب معه أخاه جعفرًا وسارا إلى مكة على طريق الفُرْع
(2)
، وبعث الوليد خلف ابن الزُّبَير الرجال والفرسان فلم يقدروا على ردِّه. وقد قال جعفر لأخيه عبد اللَّه -وهما سائران- متمثلًا بقول صَبرة الحنظلي:
وكلُّ بني أُمٍّ سَيُمْسونَ ليلةً
…
ولم يَبْقَ مِنْ أعقابهم غيرُ واحِدِ
فقال: سبحان اللَّه! ما أردتَ إلى هذا؟ فقال: واللَّه ما أردتُ به شيئًا يسوءك، فقال: إن كان إنما جرى على لسانك فهو أكره إليّ. قالوا: وتطيَّر به
(3)
.
وأما الحسين بن علي فإنَّ الوليد تشاغل عنه بابن الزُّبَير
(4)
، وجعل كلَّما بعث إليه يقول: حتى تنظر وننظر، ثم جمع أهله وبنيه، وركب ليلة الأحد لليلتين بقيتا من رجب من هذه السنة، بعد خروج ابن الزُّبَير بليلة، ولم يتخلف عنه أحد من أهله سوى محمد بن الحنفيَّة، فإنه قال له: يا أخي! واللَّه لأنت أعزُّ أهل الأرض عليّ، وإني ناصح لك: لا تدخلن مصرًا من هذه الأمصار، ولكن اسكن البوادي والرمال، وابعث إلى الناس، فإذا بايعوك واجتمعوا عليك فادخل فيهم
(5)
، وإن أبيتَ إِلَّا سُكنى الأمصار فاذهب إلى مكة، فإن رأيت ما تحب وإِلَّا ترفعتَ إلى الجبال والرمال. فقال له: جزاك اللَّه خيرًا، فقد نصحتَ وأشفقت. وسار الحسين إلى مكة، فاجتمع هو وابن الزُّبَير بها.
وبعث الوليد إلى عبد اللَّه بن عمر فقال: بايعْ ليزيد، فقال: إذا بايع الناس بايعت، فقال رجل: إنما تريد أن يختلف الناس ويقتتلوا حتى يتفانَوا، فإذا لم يبق غيرك بايعوك؟ فقال ابن عمر: لا أحبُّ شيئًا مما قلت، ولكن إذا بايع الناس فلم يبق غيري بايعت. قال: فتركوه وكانوا يتخوَّفونه
(6)
.
وقال الواقدي
(7)
: لم يكن ابن عمر في المدينة حين قدم نَعْيُ معاوية، وإنما كان هو وابن عباس بمكة، فلقيهما -وهما مقبلان منها- الحسين وابن الزُّبَير، فقالا: ما وراءكما؟ قالا: موت معاوية والبيعة ليزيد، فقال لهما ابن عمر: اتَّقيا اللَّه، ولا تفرِّقا بين جماعة المسلمين. وقدم ابن عمر وابن
(1)
ينظر تاريخ الطبري (5/ 340).
(2)
"الفرع": قرية من نواحي المدينة على طريق مكة، بينها وبين المدينة ثمانية برد. (معجم البلدان).
(3)
الخبر في تاريخ الطبري (5/ 341).
(4)
في م: "فإنه تشاغل الوليد عنه بعبد اللَّه بن الزُّبَير".
(5)
في ط: "المصر"، وما هنا من م.
(6)
كذا في جميع النسخ، والذي في تاريخ الطبري (5/ 342) والكامل لابن الأثير (4/ 17). وكانوا لا يتخوفونه.
(7)
تاريخ الطبري (5/ 343).
عباس إلى المدينة، فلما جاءت البيعة من الأمصار بايع ابن عمر
(1)
مع الناس، وأما الحسين وابن الزُّبَير فإنهما قدما مكة، فوجدا بها عمرو بن سعيد بن العاص، فخافاه وقالا: إنا جئنا عُوّاذًا بهذا البيت
(2)
.
وفي هذه السنة -في رمضان منها- عزل يزيدُ بنُ معاوية الوليدَ بنَ عتبة عن إمرة المدينة لتفريطه، وأضافها إلى عمرو بن سعيد بن العاص نائب مكة، فقدم المدينة في رمضان، وقيل: في ذي القعدة، وكان متواها
(3)
متكبِّرًا. وسلَّط عمرو بن الزُّبَير -وكان عدوًا لأخيه عبد اللَّه- على حربه، وجرَّده له، وجعل عمرو بن سعيد يبعث البعوث إلى مكة لحرب ابن الزُّبَير.
وقد ثبت في "الصحيحين" أن أبا شُريح الخزاعي قال لعمرو بن سعيد وهو يبعث البعوث إلى مكة: ائذن لي -أيُّها الأمير- أُحدِّثْك قولًا
(4)
قام به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الغَدَ من يوم الفتح، سمعَتْهُ أذناي، ووعاه قلبي [وأَبْصرتْهُ عيناي]
(5)
حين تكلَّم به. أنه حَمِدَ اللَّه وأثنى عليه ثم قال: "إنَّ مكَّةَ حرَّمها اللَّهُ ولم يحرِّمْها الناس، وإنه لم يحلّ القتالُ فيها لأحدٍ كان قَبْلي، ولن تحل لأحدٍ بَعْدي، ولم تحل لي إلَّا ساعةً من نهار، ثم قد عادَتْ حرمتُها اليومَ كحرمتها بالأَمس، فليبلغ الشاهدُ الغائب". وفي رواية: "فإنْ أحدٌ ترخَّص بقتال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فيها فقولوا: إنَّ اللَّه أَذِنَ لرسوله ولم يأذَنْ لكم". فقيل لأبي شُريح: ما قال لك؟ فقال: قال لي: نحن أعلم بذلك منك. يا أبا شُريح! إنَّ الحرمَ لا يُعِيذ عاصيًا، ولا فارًّا بدم، ولا فارًا بخَرْبة
(6)
.
وقال الواقدي: ولَّى عمرو بن سعيد شرطة المدينة عمرَو بن الزُّبَير، فتتبَّع أصحاب أخيه ومن يهوى هواه، فضربهم ضربًا شديدًا حتى ضرب من جملة من ضرب أخاه المنذر بن الزُّبَير
(7)
[وابنه محمد بن المنذر، وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث، وعثمان بن عبد اللَّه بن حَكيم بن حِزام، وخُبيب بن
(1)
في ب: بايعا.
(2)
في م: "نحن عُوَّاذ بهذا البيت".
(3)
في ط: "متألهًا"، ولا معنى لها، ولا هي من صفة الوليد بن عتبة، وما أثبتناه من م، وهو بمعنى التكبر.
(4)
في ط: "حديثًا"، وما هنا من م، وهو الموافق لما في صحيح البخاري.
(5)
سقط من أ، ط، وهو الذي في الصحيحين.
(6)
أخرجه البخاري رقم (104) في العلم: باب ليبلغ العلم الشاهد الغائب ورقم (1832) في جزاء الصيد: باب لا يعضد شجر الحرم، ورقم (4295) في الغزوات: باب غزوة الفتح. ومسلم (1354) في الحج: باب تحريم مكة وصيدها وخلاها. . . .
والخربة: بفتح الخاء وإسكان الراء -هذا هو المشهور، ويقال: بضم الخاء أيضًا- أصلها سرقة الإبل، وتطلق على كل خيانة. قال الخليل: هي الفساد في الدين، من الخارب: وهو اللص المفسد في الأرض.
وقد توسع ابن القيم في شرح هذه الخطبة في زاد المعاد (3/ 442) وما بعدها.
(7)
بعد هذا في ط: "وأنه لا بد أن يأخذ أخاه عبد اللَّه في جامعة من فضَّة حتى يقدم به على الخليفة، فضرب المنذر بن الزُّبَير" وليست في أ، ب، م، ولا في تاريخ الطبري (5/ 344).
عبد اللَّه بن الزُّبَير، ومحمد بن عمار بن ياسر وغيرهم، ضربهم من الأربعين إلى الخمسين إلى الستين جَلْدة، وفرَّ منه عبد الرحمن بن عثمان التيمي، وعبد الرحمن بن عمر
(1)
بن سهل. . في أناس من مكة] ثم جاء العزم من يزيد إلى عمرو بن سعيد في تطلُّب ابن الزُّبَير، وأنه لا يقبل منه -وإن بايع- حتى يُؤتى به إليَّ في جامعة من ذهب أو فضة تحت بُرْنُسه، فلا تُرى إِلَّا أنه يسمع صوتها. وكان ابن الزُّبَير قد منع الحارث بن خالد المخزومي من أن يصلي بأهل مكة، وكان نائب عمرو بن سعيد عليها، فحينئذ صمَّم عمرو على تجهيز سريَّة إلى مكة بسبب ابن الزُّبَير، فاستشار عمرُو بنُ سعيد عمرَو بنَ الزُّبَير: من يصلح أن نبعثه إلى مكة لأجل قتاله؟ فقال له عمرو بن الزُّبَير: إنك لا تبعث إليه مَنْ هو أنكى له منِّي، فعيَّنه على تلك السريَّة، وجعل على مقدمته أُنيس بن عمرو الأسلمي في سبعمئة مقاتل. -وقال الواقدي: إنما عيَّنهما يزيد بن معاوية نفسُه، وبعث بذلك إلى عمرو بن سعيد- فعسكر أُنيس بالجُرْف. وأشار مروان بن الحكم على عمرو بن سعيد أن لا يغزوَ مكة، وأن يتركَ ابن الزُّبَير بها فإنه عما قليل إن لم يُقتل يمت. فقال أخوه عمرو بن الزُّبَير: واللَّه لنغزونَّه ولو في جوف الكعبة على رغم أنف من رَغِم. فقال مروان: واللَّه إن ذلك ليَسُوءني
(2)
. فسار أُنيس، واتبعه عمرو بن الزُّبَير في بقية الجيش -وكانوا ألفين- حتى نزل بالأَبطَح، وقيل: بداره عند الصفا، ونزل أُنيس بذي طوَى. فكان عمرو بن الزُّبَير يصلِّي بالناس، ويصلي وراءه أخوه عبد اللَّه بن الزُّبَير، وأرسل عمرو إلى أخيه يقول له: برَّ يمينَ الخليفة، وأْتِهِ وفي عنقك جامعةٌ من ذهب أو فضة، ولا تدع الناس يضرب بعضهم بعضًا، واتَقِ اللَّه فإنك في بلد حرام. فأرسل عبد اللَّه يقول لأخيه: موعدك المسجد. وبعث عبدُ اللَّه بن الزُّبَير عبدَ اللَّه بن صفوان بن أمية في سريَّة، فاقتتلوا مع أُنيس بن عمرو
(3)
الأسلمي، فهزموا أُنيسًا هزيمة قبيحة، وتفرَّق عن عمرو بن الزُّبَير أصحابه، ودخل
(4)
عمرو إلى دار ابن علقمة، فأجاره أخوه عبيدة بن الزُّبَير، فلأمه أخوه عبد اللَّه بن الزُّبَير وقال: تجير مِن حقوق الناس
(5)
؟! ثم ضربه بكل من ضرب بالمدينة إلَّا المنذر بن الزُّبَير وابنه فإنهما أبيا أن يَسْتقيدا من عمرو، وسجنه ومعه عارم، فسمِّي سجن عارم. وقد قيل: إن عمرو بن الزُّبَير مات تحت السِّياط، واللَّه أعلم.
(1)
تحرف في أ إلى: عمير. والخبر في تاريخ الطبري (5/ 344) وما بين الحاصرتين ليس في ب وفيها بدلًا عنه: وجماعة من الأعيان.
(2)
كذا في أ وب وم، ومثله في تاريخ الطبري. ووقعت في المطبوع: ليسرني.
(3)
في ط: "عمرو بن أنيس" مقلوب.
(4)
في ط: "وهرب"، وما هنا من م وهو الموافق لما في تاريخ الطبري (5/ 345).
(5)
في ط: "تجير مَن في عنقه حقوق الناس" وما هنا من م وهو الأصح لموافقته تاريخ الطبري (5/ 345).
قصة الحسين بن علي
(1)
وسبب خروجه [بأهله]
(2)
من مكَّة [إلى العراق]
(3)
في طلب الإمارة وكيفيَّة مقتله
ولنبدأ قبل ذلك بشيء من ترجمته، ثم نُتبع الجميع بذكر مناقبه وفضائله:
هو الحسين بن علي بن أبي طالب بن عبد المطَّلب بن هاشم، أبو عبد اللَّه، القرشيُّ الهاشمي، السِّبط الشهيد بكربلاء، ابن بنت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فاطمة الزهراء رضي الله عنها وريحانتُه من الدنيا.
ولد بعد أخيه الحسن، وكان مولد الحسن (كما قدمنا) (3) في سنة ثلاث من الهجرة. وقال بعضهم: إنما كان بينهما طهر واحد ومدة الحمل، وولد لخمس ليال خلون من شعبان سنة أربع. وقال قَتَادة: ولد الحسين لست سنين وخمسة أشهر ونصف من التاريخ، وقُتل يوم الجمعة يوم عاشوراء من المحرم سنة إحدى وستين وله أربع وخمسون سنة وستة أشهر ونصف، رضي الله عنه.
وروي عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أنه حنَّكَه وتَفَل في فِيه، ودعا له، وسمّاه حسينًا، وقد كان سمَّاه أبوه قبل ذلك حَرْبًا وقيل: جعفرًا، وقيل: إنما سمّاه يوم سابعه، وعَقَّ عنه.
وقال جماعة: عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن هانئ بن هانئ، عن علي رضي الله عنه قال: الحسنُ أشبهُ برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ما بين الصَّدر إلى الرأس، والحسينُ أشبهُ به ما بين أسفل من ذلك
(4)
.
وقال الزُّبَير بن بكّار: حدّثني محمد بن الضحاك الحِزَامي قال: كان وجهُ الحسن يشبهُ وجهَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وكان جسدُ الحسين يشبهُ جسدَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم
(5)
.
(1)
نسب قريش (57) طبقات خليفة (ت 9، 1483، 1969) مسند أحمد (1/ 201) المحبر (66، 293، 396، 448، 480، 400) تاريخ البخاري الكبير (2/ 381) ثقات العجلي (119) الأخبار الطوال (243) تاريخ الطبري (5/ 347، 381، 400) الجرح والتعديل (3/ 55) مروج الذهب (3/ 64) ثقات ابن حبان (3/ 68) مشاهير علماء الأمصار (ت 7) الأغاني (16/ 137) مقاتل الطالبيين (51) مستدرك الحاكم (3/ 176) حلية الأولياء (2/ 39) جمهرة أنساب العرب (52) الاستيعاب (1/ 392) تاريخ بغداد (1/ 141) تاريخ ابن عساكر (5/ 6/ آ) أسد الغابة (2/ 18) الكامل في التاريخ (4/ 46) تهذيب الأسماء واللغات (1/ 1/ 162) مختصر تاريخ دمشق (7/ 115) تهذيب الكمال (6/ 396) تاريخ الإسلام (2/ 340 و 3/ 5، 13) تذهيب التهذيب (1/ 149) العبر (1/ 65) سير أعلام النبلاء (3/ 280) الكاشف (1/ 171) الوافي بالوفيات (12/ 423) مرآة الجنان (1/ 131) العقد الثمين (4/ 202) غاية النهاية (1/ 244) تهذيب التهذيب (2/ 345) خلاصة الخزرجي (83) شذرات الذهب (1/ 273) تهذيب ابن عساكر (4/ 314) الحسين أبو الشهداء: عباس محمود العقاد.
(2)
ما بين الحاصرتين ليس في المطبوع.
(3)
ما بين الحاصرتين من م.
(4)
أخرجه الترمذي (3779) في المناقب: باب مناقب الحسن والحسين، وإسناده ضعيف.
(5)
أخرجه ابن عساكر، مختصره (7/ 117)، وهو في المعجم الكبير للطبراني (2845).
وروى محمد بن سِيرين وأختُه حفصة عن أنس قال: كنت عند ابن زياد، فجيء برأس الحسين، فجعل يقول بقضيب في أنفه ويقول: ما رأيتُ مثلَ هذا حُسْنًا، فقلت له: إنه كان من أشبههم برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم
(1)
.
وقال سفيان: قلت لعبيد اللَّه بن أبي يزيد
(2)
: رأيتَ الحسين؟ قال: نعم، أسود الرأس واللحية إلَّا شعرات هاهنا في مقدَّم لحيته، فلا أدري أَخَضَب وترك ذلك المكان تشبُّهًا برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أو لم يكن شابَ منه غير ذلك.
وقال ابن جُريج: سمعت عمر بن عطاء قال: رأيتُ الحسين بن علي يصبُغُ بالوَسْمة
(3)
، أما هو فكان ابن ستين سنة، وكان رأسُه ولحيتُه شديدَي السَّواد.
فأما الحديث الذي رُوي من طريقين ضعيفين، أنَّ فاطمة سألت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في مرض الموت أن ينحل ولَدَيها شيئًا فقال:"أمّا الحسنُ فلَه هَيْبَتي وسُؤْددي، وأمَّا الحسينُ فلَهُ جُرْأتي وجُودي" فليس بصحيح، ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب المعتبرة.
وقد أدرك الحسين من حياة النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم خمس سنين أو نحوها، وروى عنه أحاديث. وقال مسلم بن الحجّاج
(4)
: له رؤية من النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد روى صالح بن أحمد بن حنبل عن أبيه أنه قال في الحسن بن علي: تابعي ثقة. وهذا غريب، فلأن يقول في الحسين: إنه تابعي، بطريق الأَولى.
وسنذكر ما كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يكرمهما به، وما كان يُظهر من محبَّتهما والحنوِّ عليهما [في فضائل الحسين إذا فرغنا من ذكر مقتله]
(5)
، والمقصودُ: أن الحسين عاصر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وصحبه إلى أن توفي وهو عنه راض، ولكنه كان صغيرًا. ثم كان الصدِّيق يكرمه ويعظِّمه، وكذلك عمر وعثمان. وصحب أباه وروى عنه، وكان معه في مغازيه كلِّها، في الجمل وصفِّين، وكان معظَّمًا موقَّرًا، ولم يزل في طاعة
(1)
أخرجه البخاري رقم (3748) في الفضائل، من طريق جرير بن حازم، عن محمد بن سيرين. وأخرجه الترمذي (3778) في المناقب: باب مناقب الحسن والحسين، من طريق النضر بن شميل، أخبرنا هشام بن حسان، عن حفصة بنت سيرين.
(2)
تحرف يزيد في الأصول إلى: زياد. والخبر في مختصر تاريخ دمشق (7/ 117) وسير أعلام النبلاء (3/ 281).
(3)
الوسمة -بالسين المهملة- نبت يختضب به. وقد وقعت في أ، ط: بالوشمة.
(4)
الكنى والأسماء (465).
(5)
ما بين الحاصرتين من م.
أبيه حتى قُتل. فلمّا آلت الخلافة إلى أخيه الحسن وأراد أن يصالح معاوية شقَّ ذلك عليه ولم يسدِّد رأي أخيه في ذلك، بل حثَّه على قتال أهل الشام، فقال له أخوه: واللَّه لقد هممتُ أن أسجنَكَ في بيت وأُطبق عليك بابه حتى أفرغ من هذا الشأن ثم أخرجك. فلمّا رأى الحسين ذلك سكت وسلم. فلمَّا استقرَّت الخلافة لمعاوية كان الحسين يتردَّد إليه مع أخيه الحسن فيكرمهما معاوية إكرامًا زائدًا ويقول لهما: مرحبًا وأهلًا، ويعطيهما عطاءً جزيلًا، وقد أطلق لهما في يوم واحد مئتي ألف وقال: خذاها وأنا ابن هند، واللَّه لا يُعطيكُماها أحد قبلي ولا بعدي. فقال الحسين: واللَّه لن تُعطيَ أنت ولا أحد قبلك ولا بعدك رجلًا أفضل منا. ولما توفي الحسن كان الحسين يفد إلى معاوية في كل عام فيعطيه ويكرمه.
وقد كان في الجيش الذين غزوا القُسْطنطينيّة مع يزيد بن معاوية في سنة إحدى وخمسين، ولما أُخذت البيعة ليزيد في حياة معاوية كان الحسين ممِّن امتنع من مبايعته هو وابن الزُّبَير وعبد الرحمن بن أبي بكر وابن عمر وابن عباس، ثم مات ابن أبي بكر وهو مصمِّم على ذلك، فلمّا مات معاوية سنة ستين، ودُعي الناس إلى البيعة
(1)
ليزيد بايع ابن عمر وابن عباس، وصمَّم على المخالفة الحسينُ وابنُ الزُّبَير، وخرجا من المدينة فارَّين إلى مكة، فأقاما بها، فعكف الناس على الحسين يغدون إليه ويقدمون عليه ويجلسون حواليه ويسمعون كلامه حين سمعوا بموت معاوية وخلافة يزيد.
وأما ابن الزُّبَير فإنه لزم مصلّاه عند الكعبة، وجعل يتردَّد في غبون ذلك إلى الحسين في جملة الناس، ولا يمكنه أن يتحرَّك بشيء ممَّا في نفسه مع وجود الحسين لما يعلم من تعظيم الناس له وتقديمهم إياه عليه، غير أنه قد تعيَّنت السرايا والبعوث إلى مكة بسببه، ولكن أظفره اللَّه بهم كما تقدم ذلك آنفًا، فانقشعت السرايا عن مكة مغلولين، وانتصر عبد اللَّه بن الزُّبَير على من أراد هلاكه من اليزيديِّين، وضرب أخاه عَمْرًا وسجنه واقتصَّ منه وأهانه. وعظُم شأن ابن الزُّبَير عند ذلك ببلاد الحجاز، واشتَهَر أمرُه، وبعُد صِيتُه، ومع هذا كلِّه ليس هو عند الناس مثل الحسين، بل الناس إنما ميلُهم إلى الحسين لأنه السيد الكبير، وابن بنت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فليس على وجه الأرض يومئذ أحد يساميه ولا يساويه، ولكن الدولة اليزيدية كانت كلها تناوئه.
وقد كثر ورود الكتب عليه من بلاد العراق يدعونه إليهم -وذلك حين بلغهم موت معاوية، وولاية يزيد، ومصير الحسين إلى مكة فرارًا من بيعة يزيد- فكان أول من قدم عليه عبد اللَّه بن سبع الهَمْداني، وعبد اللَّه بن وال، ومعهما كتاب فيه السلام والتهنئة بموت معاوية، فقَدِما على الحسين لعشر مضَيْن من رمضان من هذه السنة، ثم بعثوا بعدهما نفرًا منهم قيس بن مُسْهر الصّدائي، وعبد الرحمن بن عبد اللَّه بن الكوا الأَرْحبي، وعمارة بن عبد اللَّه السَّلولي، ومعهم نحو من مئة وخمسين كتابًا إلى الحسين، ثم بعثوا
(1)
في ط: وبويع ليزيد.
هانئ بن هانئ السَّبيعي، وسعيد بن عبد اللَّه الحنفي، ومعهما كتاب فيه الاستعجال في السَّيْر إليهم.
وكتب إليه شَبَث بن رِبْعي، وحَجّار بن أَبْجَر، ويزيد بن الحارث بن رُوَيم، وعمرو بن الحجاج الزبيدي، ومحمد بن عمر بن يحيى التميمي:"أما بعد، فقد اخضرَّت الجِنان، وأَينعت الثِّمار، ولطمت الجِمام، فإذا شئت فاقدَم على جندٍ لك مجنَّدة، والسلام عليك".
فاجتمعت الرسل كلُّها بكتبها عند الحسين، وجعلوا يستحثُّونه ويستقدمونه عليهم ليبايعوه عوضًا عن يزيد بن معاوية، ويذكرون في كتبهم أنهم قد فرحوا بموت معاوية، وينالون منه، ويتكلَّمون في دولته، وأنهم لمّا يبايعوا أحدًا إلى الآن، وأنهم ينتظرون قدومك إليهم ليقدموك عليهم. فعند ذلك. بعث ابنَ عمِّه مسلم بن عَقيل بن أبي طالب إلى العراق ليكشف له حقيقة هذا الأمر والاتفاق، فإن كان متحتمًا وأمرًا حازمًا محكمًا بعث إليه ليركب في أهله وذويه، ويأتي الكوفة ليظفر بمن يعاديه، وكتب معه كتابًا إلى أهل العراق بذلك. فلمّا سار مسلم من مكة اجتاز بالمدينة فأخذ منها دليلَين، فسارا به على براري مهجورة المسألك، فكان أحد الدليلَين منهما أول هالك، وذلك من شدَّة العطش، وقد أضلُّوا الطريق فهلك الدليل الواحد بمكان يقال له: المَضيق من بطن خُبيت، فتطيَّر به مسلم بن عَقيل، فتلبَّث مسلم على ماء هنالك، ومات الدليل الآخر، فكتب إلى الحسين يستشيره في أمره، فكتب إليه الحسين يعزم عليه أن يدخل العراق، وأن يجتمع بأهل الكوفة ليستعلم أمرهم، ويستخبر خبرهم.
فلما دخل الكوفة نزل على رجل يقال له مسلم بن عَوْسجة الأسدي - وقيل: نزل في دار المختار بن أبي عُبيد الثقفي، فاللَّه أعلم. فتسامع أهل الكوفة بقدومه، فجاؤوا إليه فبايعوه على إمرة الحسين، وحلفوا له لينصرنَّه بأنفسهم وأموالهم، فاجتمع على بيعته من أهلها اثنا عشر ألفًا، ثم تكاثروا حتى بلغوا ثمانية عشر ألفًا، فكتب مسلم إلى الحسين ليقدم عليها فقد تمهدت له البيعة والأمور، فتجهَّز الحسين من مكة قاصدًا الكوفة كما سنذكره.
وانتشر خبرهم حتى بلغ أمير الكوفة النعمان بن بشير، خبَّره رجل بذلك، فجعل يضرب عن ذلك صفحًا ولا يعبأ به، ولكنه خطب الناس ونهاهم عن الاختلاف والفتنة، وأمرهم بالائتلاف والسُّنة وقال: إني لا أقاتل من لا يقاتلُني، ولا أثب على مَنْ لا يثب علي، ولا آخذكم بالظِّنَّة، ولكن -واللَّه الذي لا إله إِلَّا هو- لئن فارقتُم إمامكم ونكثتُم بيعته لأقاتلنَّكم ما دام في يدي من سيفي قائمتُه
(1)
. فقام إليه رجل يقال له عبد اللَّه بن مسلم بن شعبة الحَضْرمي فقال له: إنَّ هذا الأمر لا يصلُح إلّا بالغَشْم
(2)
، وإن الذي سلكتَه -
(1)
"قائم السيف وقائمته": مقبضه.
(2)
"الغشم": الظلم.
أيها الأمير- مسلك المستضعَفين. فقال له النعمان: لأن أكون من المستضعَفين في طاعة اللَّه أحبُّ إليَّ من أن أكون من الأقوياء الأَعزِّين في معصية اللَّه. ثم نزل.
فكتب ذلك الرجل إلى يزيد يُعلمه بذلك، وكتب إلى يزيد عمارة بن عقبة، وعمر بن سعد بن أبي وقاص. فبعث يزيد فعزل النعمالق عن الكوفة وضمَّها إلى عبيد اللَّه بن زياد مع البصرة، وذلك بإشارة سَرْجون مولى معاوية [وكان يزيد يستشيرُه، فقال سَرْجون: أكنت قابلًا من معاوية ما أشار به لو كان حيًّا؟ قال: نعم، قال: فاقبل منىِ فإنه ليس للكوفة إلّا عبيد اللَّه بن زياد فولِّه إياها. وكان يزيد يبغض عبيد اللَّه بن زياد، وكان يريد أن يعزله عن البصرة، فولّاه البصرة والكوفة معًا لما يريده اللَّه به وبغيره]
(1)
.
ثم كتب يزيد إلى ابن زياد: إذا قدمتَ الكوفة فاطلُب مسلم بن عَقيل، فإنْ قدرتَ عليه فاقتلْه أو انفِه. وبعث الكتاب مع العهد مع مسلم بن عمرو الباهلي، فسار ابن زياد من البصرة إلى الكوفة، فلمّا دخلها دخلها متلثِّمًا بعِمامة سوداء، فجعل لا يمرُّ بملأ من الناس إلَّا قال: سلام عليكم. فيقولون: وعليك السلام، مرحبًا بابن رسول اللَّه - يظنون أنه الحسين وقد كانوا ينتظرون قدومه. وتكاثر الناس عليه، ودخلها في سبعة عشر راكبًا، فقال لهم مسلم بن عمرو الذي من جهة يزيد: تأخروا، هذا الأمير عبيد اللَّه بن زياد. فلمّا علموا ذلك عَلَيْهم كآبة وحزن شديد، فتحقَّق عبيد اللَّه الخبر، ونزل قصر الإمارة من الكوفة، فلما استقرَّ أمره أرسل مولى أبي رهم -وقيل: كان مولى له يقال له مَعْقل- ومعه ثلاثة آلاف درهم في صورة قاصد من بلاد حمص، وأنه إنما جاء لهذه البيعة، فذهب ذلك المولى، فلم يزل يتلطَّف ويستدلُّ على الدار التي يبايعون بها مسلم بن عَقيل حتى دخلها، وهي دار هانئ بن عروة التي تحوَّل إليها من الدار الأولى، فبايع، وأدخلوه على مسلم بن عَقيل، فلزمهم أيامًا حتى اطَّلع على جلية أمرهم، فدفع المال إلى أبي ثُمامة العائذي
(2)
بأمر مسلم بن عَقيل -وكان هو الذي يقبض ما يُؤتى به من الأموال ويشتري السلاح، وكان من فرسان العرب- فرجع ذلك المولى، وأعلم عبيد اللَّه بالدار وصاحبها. وقد تحوَّل مسلم بن عَقيل إلى دار هانئ بن عروة المُرادي، ثم إلى دار شَريك بن الأعور - وكان من الأمراء الأكابر، وبلغه أن عبيد اللَّه يريد عيادته، فبعث إلى هانئ يقول له: ابعث مسلم بن عَقيل حتى يكون في داري ليقتل عبيد اللَّه [إذا جاء يعودني، فبعثه إليه، فقال له شَريك: كن أنت في الخباء، فإذ جلس عبيد اللَّه]
(3)
فإني أطلب الماء -وهي إشارتي إليك- فاخرج فاقتُله. فلمَّا جاء عبيد اللَّه جلس على فراش شَريك وعنده هانئ بن عروة، وقام بين يديه غلام له يقال له مِهْران، فتحدَّث عنده ساعة ثم قال شَريك:
(1)
ما بين حاصرتين ليس في ب، وفيها بدلًا عنه: ولم يكن يزيد يحب عبيد اللَّه قبل ذلك.
(2)
في ط: العامري.
(3)
ما بين حاصرتين سقط من أ.
اسقُوني. فتجبَّن مسلم عن قتله، وخرجت جارية بكوز من ماءٍ، فوجدت مسلمًا في الخباء، فاستحيت ورجعت بالماء ثلاثًا. ثم قال: اسقُوني ولو كان فيه ذهاب نفسي. ففهم مِهْران الغدر، فغمز مولاه، فنهض سريعًا وخرج. فقال شريك: أيها الأمير! إني أريد أن أُوصي إليك، فقال: سأعود. فخرج به مولاه، فأركبه وطرد به -أي ساق به- وجعل يقول له مولاه: إن القوم أرادوا قتلك، فقال: ويحك إني بهم لرفيق فما بالهم؟! وقال شَريك لمسلم: ما منعك أن تخرج فتقتله؟ قال: حديث بلغني عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الإِيمانُ قَيَّد
(1)
الفَتْك، لا يَفْتِكُ مُؤْمِن"
(2)
وكرهتُ أن أقتلَه في بيتك، فقال: أما لو قتلتَه فجلست في القصر لم يستعد منه أحد، ولتكفينَّ أمر القصر
(3)
-أو قال: لأكفينَّك أمر القصر- ولو قتلتَه لقتلتَ ظالمًا فاجرًا. ومات شَريك بعد ثلاث.
ولمَّا انتهى ابن زياد إلى باب القصر وهو متلثِّم ظنَّه النعمانُ بن بشير الحسينَ قد قدم، فأغلق باب القصر وقال: ما أنا بمسلم إليك أمانتي، فقال له عبيد اللَّه: افتح لا فتحتَه، ففتح وهو يظنُّه الحسين، فلمّا تحقَّق أنه عبيد اللَّه أُسقط في يده. فدخل عبيد اللَّه إلى قصر الإمارة، وأمر مناديًا فنادى في الناس: إن الصلاة جامعة. فاجتمع الناس، فخرج إليهم، فحمِدَ اللَّه وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فإن أمير المؤمنين قد ولّاني أمركم وثغركم وفيئكم، وأمرني بإنصاف مظلومكم، وإعطاء محرومكم، والإحسان إلى سامعكم ومطيعكم، والشدَّة على مريبكم وعاصيكم، وإنما أنا ممتثل فيكم أمرَه ومنفِّذ عهدَه. ثم نزل.
وأمر العرفاء أن يكتبوا مَن عندهم من الزّورية
(4)
وأهل الرّيب والخِلاف والشِّقاق، وأيما عريف لم يُطلعنا على ذلك صُلب أو نُفي وأُسقطت عرافته من الديوان.
وكان هانئ أحد الأمراء الكبار، ولم يسلِّم على عبيد اللَّه منذ قدم وتمارض، فذكره عبيد اللَّه وقال: ما بال هانئ لم يأتني مع الأمراء؟ فقالوا: أيها الأمير! إنه يشتكي، فقال: إنه بلغني أنه يجلس على باب داره. وزعم بعضهم أنه عاده قبل شَريك بن الأعور ومسلم بن عَقيل عنده، وقد همُّوا بقتله فلم يمكنهم هانئ لكونه في داره، فجاء الأمراء إلى هانئ بن عروة، فلم يزالوا به حتى أدخلوه على عبيد اللَّه بن زياد، فالتفت إلى القاضي شُريح فقال متمثِّلًا بقول الشاعر:
(1)
في الأصول: ضد.
(2)
أخرجه أحمد في مسنده (1/ 166) من حديث الزُّبَير، وأبو داود (2769) في الجهاد: باب العدو يؤتى على غرَّة، من حديث أبي هريرة، وهو حديث صحيح.
قال المنذري: الفتك أن يأتي الرجلُ الرجلَ وهو غارّ غافل فيشد عليه فيقتله. وقوله: "الإيمان قيد الفتك" أي أن الإيمان يمنع القتل كما يمنع القيدُ عن التصرف، فكأنه جعل الفتك مقيدًا.
(3)
في ط: البصرة. والمثبت من أ، ب.
(4)
في تاريخ الطبري: الحرورية.
أُريدُ حياتَهُ ويُريدُ قَتْلي
…
عَذيرَك مِنْ خَليلكَ مِنْ مُراد
(1)
فلما سلَّم هانئ على عبيد اللَّه قال: يا هانئ! أين مسلم بن عَقيل؟ قال: لا أدري، فقام ذلك المولى التميمي الذي دخل دار هانئ في صورة قاصد من حمص فبايع ودفع الدراهم بحضرة هانئ إلى مسلم، فقال: أتعرف هذا؟ قال: نعم. فلما رآه هانئ قُطع وأسقط في يده، فقال: أصلح اللَّه الأمير، واللَّه ما دعوتُه إلى منزلي، ولكنه جاء فطرح نفسه عليِّ. فقال عبيد اللَّه: فائتني به، فقال: واللَّه لو كان تحت قدمي ما رفعتها عنه. فقال: أَدنُوه منِّي، فاَدنوْه، فضربه بحربة على وجهه فشجَّه على حاجبه وكسر أنفه. وتناول هانئ سيف شرطي ليسلَّه، فدُفع عن ذلك، وقال عبيد اللَّه: قد أحلَّ اللَّه لي دمك لأنك حَرُوري، ثم أمر به فحبسه في جانب الدار، وجاء قومه من بني مَذْحج مع عمرو بن الحجاج، فوقفوا على باب القصر يظنُّون أنه قد قُتل، فسمع عبيد اللَّه جلَبة، فقال لشُريح القاضي وهو عنده: اخرُج إليهم فقل لهم: إن الأمير لم يحبسه إلّا ليسأله عن مسلم بن عَقيل. فقال لهم: إنَّ صاحبكم حيّ، وقد ضربه سلطاننا ضربًا لم يبلغ نفسه، فانصرِفوا ولا تُحلُّوا بانفسكم ولا بصاحبكم. فتفرَّقوا إلى منازلهم. وسمع مسلم بن عَقيل الخبر، فركب ونادى بشعاره:"يا منصور أمت" فاجتمع إليه أربعة آلاف من أهل الكوفة، وكان معه المختار بن أبي عُبيد ومعه راية خضراء، وعبد اللَّه بن نوفل بن الحارث براية حمراء، فرتَّبهم مَيْمنة ومَيْسرة، وسار هو في القلب إلى عبيد اللَّه وهو يخطب الناس في أمر هانئ ويحذِّرهم من الاختلاف، وأشرافُ الناس وأمراؤهم تحت منبره، فبينما هو كذلك إذ جاءت النَّظَّارة يقولون: جاء مسلم بن عَقيل، فبادر عبيد اللَّه فدخل القصر ومَنْ معه، وأغلقوا عليهم البالب، فلمّا انتهى مسلم إلى باب القصر وقف بجيشه هناك، فأشرف أمراء القبائل الذين عند عبيد اللَّه في القصر، فأشاروا إلى قومهم الذين مع مسلم بالانصراف، وتهدَّدوهم وتوعَّدوهم. وأخرج عبيد اللَّه بعض الأمراء، وأمرهم أن يركبوا في الكوفة يخذِّلون الناس عن مسلم بن عقيل، ففعلوا ذلك، فجعلت المرأة تجيء إلى ابنها وأخيها وتقول له: ارجع إلى البيت، الناس يكفونك. ويقول الرجل لابنه وأخيه: كأنك غدًا بجنود الشام قد أقبلت فماذا تصنع معهم؟. فتخاذل الناس وقصروا وتصرَّموا وانصرفوا عن مسلم بن عَقيل حتى لم يبق إلّا في خمسمئة نفس، ثم تقالُّوا حتى بقي في ثلاثمئة، ثم تقالُّوا حتى بقي معه ثلاثون رجلًا، فصلَّى بهم المغرب وقصد أبواب كِنْدة، فخرج منها في عشرة، ثم انصرفوا عنه، فبقي وحده ليس معه من يدلُّه على الطريق، ولا من يواسيه بنفسه، ولا من يؤويه إلى منزله، فذهب على وجهه، واختلط الظلام وهو وحده يتردَّد في الطريق لا يدري أين يذهب، فأتى بابًا، فنزل عنده وطرقه، فخرجت منه امرأة يقال لها طَوْعة، كانت أمَّ ولد للأشعث بن قيس، وقد كان لها ابن من غيره يقال له: بلال بن أَسِيد، خرج مع الناس وأمُّه قائمة
(1)
البيت لعمرو بن معديكرب الزبيدي، وهو في ديوانه (ص 92) وروايته فيه: أريد حِباءه. والحباء -بكسر الحاء- العطية. والخبر في تاريخ الطبري (5/ 365) وابن الأثير (4/ 27 - 28).
بالباب تنتظره، فقال لها مسلم بن عَقيل: اسقيني ماءً، فسقَته، ثم دخلت وخرجت فوجدته، فقالت: ألم تشرب؟ قال: بلى. قالت: فاذهب إلى أهلك عافاك اللَّه، فإنه لا يصلح لك الجلوس على بابي ولا أُجمله لك. فقام فقال: يا أمة اللَّه! ليس لي في هذا البلد منزل ولا عشيرة، فهل لك إلى أجر ومعروف وفعل نكافئك به بعد اليوم؟ فقالت: يا عبد اللَّه وما هو؟ قال: أنا مسلم بن عَقيل، كَذَبني هؤلاء القوم وغرُّوني. فقالت: أنت مسلم؟ قال: نعم. قالت: ادخل. فأدخلته بيتًا من دارها غير البيت الذي تكون فيه، وفرشت له، وعرضت عليه العَشاء فلم يتعشَّ، فلم يكن بأسرعَ من أن جاء ابنها، فرآها تكثر الدخول والخروج، فسألها عن شأنها، فقالت: يا بنيَّ الْهُ عن هذا، فألحَّ عليها، فأخذت عليه أن لا يحدِّث أحدًا، فأخبرَتْه خبر مسلم، فاضطجع إلى الصباح ساكتًا لا يتكلَّم.
وأما عبيد اللَّه بن زياد، فإنه نزل من القصر بمن معه من الأمراء والأشراف بعد عِشَاء الآخرة، فصلَّى بهم العِشاء في المسجد الجامع، ثم خطبهم وطلب منهم مسلم بن عَقيل وحثَّ على طلبه، ومَنْ وُجد عنده ولم يعلم به فدمُه هَدَر، ومَنْ جاء به فله دِيَتُه، وطلب الشُّرَط وحثَّهم على ذلك وتهدَّدهم.
فلمّا أصبح ابن تلك العجوز ذهب إلى عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث فاعلمه بأنَّ مسلم بن عَقيل في دارهم، فجاء عبد الرحمن فسارَّ أباه بذلك وهو عند ابن زياد، فقال ابن زياد: ما الذي سارَّك به؟ فأخبره الخبر، فنَخَس
(1)
بقضيب في جَنْبه وقال: قم فائتني به الساعة.
وبعث ابن زياد عمرو
(2)
بن حُريث المخزومي -وكان صاحب شُرطته- ومعه عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث في سبعين أو ثمانين فارسًا، فلم يشعر مسلم إلّا وقد أُحيط بالدار التي هو فيها، فدخلوا عليه، فقام إليهم بالسيف فأخرجهم من الدار ثلاث مرات، وأُصيبت شفته العليا والسُّفلى، ثم جعلوا يرمونه بالحجارة، ويُلهبون النار في أطناب القصب ويلقونها عليها، فضاف بهم ذرعًا، فخرج إليهم بسيفه فقاتلهم، فأعطاه عبد الرحمن الأمان، فأمكنه من يده، وجاؤوا ببغلة فأركبوه عليها، وسلبوا عنه سيفه، فلم يبق يملك من نفسه شيئًا، فبكى عند ذلك وعرف أنه مقتول، فيئس من نفسه وقال: إنا للَّه وإنا إليه راجعون. فقال بعض مَنْ حوله: إنَّ من يطلب مثل الذي تطلُب لا يبكي إذا نزل به هذا. فقال: أما واللَّهِ لست أبكي على نفسي، ولكن أبكي على الحسين وآل الحسين، إنه قد خرج إليكم اليوم أو أمسِ من مكّة. ثم التفت إلى محمد بن الأشعث فقال: إن استطعتَ أن تبعث إلى الحسين على لساني تأمره بالرجوع فافعل، فبعث محمد بن الأشعث إلى الحسين يأمره بالرجوع فلم يصدِّق الرسولَ في ذلك، وقال: كل ما حمَّ
(3)
الإله واقع.
(1)
"نخس": غرز.
(2)
تحرف في المطبوع إلى: عمر.
(3)
"حمَّ": قدَّر وقضى.
قالوا: ولمّا انتهى مسلم بن عَقيل إلى باب القصر إذا على بابه جماعةٌ من الأمراء من أبناء الصحابة ممن يعرفهم ويعرفونه، ينتظرون أن يُؤذن لهم على ابن زياد، ومسلم مخضَّب بالدماء في وجهه وثيابه، وهو مُثْخَن بالجراح، وهو في غاية العطش، وإذا قُلَّة
(1)
من ماءٍ بارد هنالك، فأراد أن يتناولها ليشرب منها، فقال له رجل من أولئك: واللَّه لا تشرب منها حتى تشرب من الحميم، فقال له: ويلك يا بن باهلة
(2)
، أنت أَولى بالحميم والخلود في نار الجحيم مني. ثم جلس فتساند إلى الحائط من التعب والكَلال والعطش، فبعث عُمارة بن عُقبة بن أبي مُعَيط مولى له إلى داره، فجاء بقُلَّة عليها منديل ومعه قَدَح، فجعل يُفرغ له في القَدَح ويعطيه، فيشرب فلا يستطيع أن يستسيغَه من كثرة الدماء التي تعلو على الماء مرتين أو ثلاثًا، فلمّا شرب سَقطت ثناياه مع الماء فقال: الحمدُ للَّه لقد كان بقي لي من الرزق المقسوم شربة ماءٍ. ثم أُدخل على ابن زياد، فلمّا وقف بين يديه لم يسلم عليه، فقال له الحرس: ألا تسلم على الأمير؟ فقال: لا، إن كان يريد قتلي فلا حاجة لي بالسلام عليه، وإن لم يرد قتلي فسأسلِّم عليه كثيرًا. فأقبل ابن زياد عليه فقال: إيه يا بن عَقيل، أتيتَ الناس وأمرُهم جميعٌ وكلمتُهم واحدة لتشتِّثَهم وتفرِّقَ كلمتهم وتحملَ بعضهم على قتل بعض؟! قال: كلّا لست لذلك أتيت، ولكنَّ أهل المصر زعموا أنَّ أباك قتل خيارهم، وسفك دماءهم، وعمل فيهم أعمال كسرى وقيصر، فأتيناهم لنأمر بالعدل وندعو إلى حكم الكتاب. قال: وما أنت وذاك يا فاسق؟! لِمَ لا كنت تعمل بذلك فيهم إذ أنت بالمدينة تشرب الخمر؟ فقال: أنا أشرب الخمر؟! واللَّهِ إنَّ اللَّه ليعلم أنك غير صادق، وأنك قلت بغير علم، وأنت أحقُّ بذلك مني [فإني لست كما ذكرتَ، وإنَّ أَولى بها مني من يَلَغُ في دماء المسلمين وَلغًا، ويقتل النفس التي حرَّم اللَّه بغير نفس، ويقتل على الغضب والظنّ، وهو يلهو ويلعب كأنه لم يصنع شيئًا. فقال له ابن زياد: يا فاسق إنَّ نفسك تمنِّيك ما حال اللَّه دونك ودونه، ولم يُرك أهلَه. قال: فمن أهلُه يا بن زياد؟ قال: أميرُ المؤمنين يزيد. قال: الحمد للَّه على كل حال، رَضِينا باللَّه حكمًا بيننا وبينكم. قال: كأنك تظن أنَّ لكم في الأمر شيئًا؟ قال: لا واللَّه ما هو بالظن ولكنَّه اليقين. قال له: قتلني اللَّهُ إنْ لم أقتلْكَ قتلة لم يقتلها أحد في الإسلام من الناس. قال: أما إنك أحقُّ مَنْ أحدث في الإسلام ما لم يكن فيه، أما إنك لا تدع سوء القِتْلة وقُبح المُثْلة وخُبْث السيرة المكتسبة عن كباركم
(3)
وجُهّالكم]
(4)
. وأقبل ابن زياد يشتِمُه ويشتِمُ حسينًا وعليًّا ومسلمٌ ساكت لا يكلِّمه -رواه ابن جرير عن
(1)
"القُلة": الجرَّة. وجمعها قُلَل وقِلال.
(2)
تحرفت في أ، ط إلى: ناهلة. والمقصود هو مسلم بن عمرو الباهلي كما في تاريخ الطبري (5/ 376) وابن الأثير (4/ 34).
(3)
في ط: كتابكم.
(4)
ما بين حاصرتين ليس في ب، وفيها بدلًا عنه: قال أبو مخنف وغيره من رواة الشيعة.
أبي مِخْنف وغيره من رواة الشيعة- ثم قال له ابن زياد: إني قاتلُك. قال: كذلك؟ قال: نعم. قال: فدعني أُوصي إلى بعض قومي، قال: أَوصِ، فنظر في جلسائه وفيهم عمر بن سعد بن أبي وقاص، فقال: يا عمر! إنَّ بيني وبينك قرابة، ولي إليك حاجة، وهي سرٌّ فقم معي إلى ناحية القصر حتى أقولها لك، فأبى أن يقوم معه حتى أَذن له ابن زياد. فقام فتنحَّى قريبًا من ابن زياد، فقال له مسلم: إنَّ علي دينًا في الكوفة سبعمئة درهم فاقضِها عني، واستوهبْ جثَّتي من ابن زياد فوارها، وابعث إلى الحسين فإني كنت فد كتبت له أن الناس معه، ولا أراه إلّا مقبلًا. فقام عمر، فعرض على ابن زياد ما قال له، فأجاز ذلك له كلّه وقال: أما الحسين فإنه إن لم يردنا لا نرده، وإن أرادنا لم نكفّ عنه. ثم أمر ابنُ زياد بمسلم بن عَقيل، فأُصعد إلى أعلى القصر وهو يكبِّر ويهلِّل ويسبِّح ويسغفر ويصلِّي على ملائكة اللَّه ويقول: اللهم احكم بيننا وبين قوم غزُّونا وخذلونا. ثم ضرب عنقه رجل يقال له بُكير بن حُمْران، ثم ألقى رأسه إلى أسفل القصر، وأتبع رأسه بجسده. ثم أمر بهانئ بن عروة المَذْحجي، فضربت عنقه بسوق الغنم، وصلب بمكان من الكوفة يقال له الكُنَاسة، فقال رجل شاعر في ذلك قصيدة:
فإنْ كنتِ لا تَدْرينَ ما الموتُ فانظُري
…
إلى هانئٍ في السُّوق وابنِ عَقيل
أصابَهُما أمرُ الإمام فأصبَحا
…
أحاديثَ مَنْ يغشى بكلِّ سَبيل
[إلى بطلٍ فد هَشَّم السيفُ وجهَهُ
…
وآخر يَهْوي من
(1)
طَمَارَ قَتيل
تَرَيْ جسَدًا قد غيَّر الموتُ لونَه
…
ونَضْحَ دمٍ قَدْ سال كلَّ مسيل
فإنْ أنتمُ لم تَثْأروا بأخيكمُ
…
فكُونوا بَغِيًّا أُرْضِيتْ بقليل
(2)
ثم إن ابن زياد قَتل معهما أناسًا آخرين]
(3)
ثم بعث برؤوسهما إلى يزيد بن معاوية إلى الشام، وكتب إليه كتابًا صورة ما وقع من أمرهما.
وقد كان عبيد اللَّه قبل أن يخرج من البصرة بيوم خطب أهلَها خطبة بليغة ووعظهم فيها وحذَّرهم وأنذرهم من الاختلاف والفتنة والتفرُّق. كما رواه هشام بن الكلبي وأبو مِخْنف، عن الصَّقْعب بن زهير،
(1)
في الأصول ومروج الذهب (3/ 69) في، والتصويب من تاريخ الطبري (5/ 380) ولسان العرب (طمر). "والطمار": اسم المكان العالي. ويُنشَد البيت بفتح الراء وكسرها.
(2)
اختلف الرواة في قائل هذه الأبيات، فقد نسبها الدينوري في الأخبار الطوال (ص 242) لعبد الرحمن بن الزُّبَير الأسدي، وهي في تاريخ الطبري (5/ 379 - 380) والكامل لابن الأثير (4/ 36) لعبد اللَّه بن الزّبير أو للفرزدق. والبيتان الأول والثالث منها من شواهد اللسان: مادة (طمر) ونسبقما فيه لسليم بن سلام الحنفي. والأبيات أيضًا في مروج الذهب (3/ 69) ومختصر تاريخ دمشق (12/ 211) وسير أعلام النبلاء (3/ 308).
(3)
ما بين حاصرتين سقط من ب.
عن أبي عثمان النَّهدي قال: بعث الحسين مع مولى له يقال له سلمان كتابًا إلى أشراف أهل البصرة، فيه: أما بعد، فإنَّ اللَّه اصطفى محمدًا على خلقه، وأكرمه بنبوَّته، واختاره لرسالته، ثم قبضه إليه وقد نصح لعباده وبلَّغ ما أُرسل به، وكنّا أهله وأولياءه وأوصياءه وأحقَّ الناس به وبمقامه في الناس، فاستأثر علينا قومنا بذلك، فرضينا وكرهنا الفرقة وأحببنا العافية، ونحن نعلم أنّا أحقُّ بذلك الحق المستحق علينا ممن تولاه، وقد أحسنوا وأصلحوا، وتحرَّوا الحق، فرحمهم اللَّه وغفر لنا ولهم. وقد بعثت إليكم بهذا الكتاب وأنا أدعوكم إلى كتاب اللَّه وسنَّة نبيِّه، فإن السنَّة قد أُميتت، وإنَّ البدعة فد أُحييت، فتسمعوا قولي وتطيعوا أمري، فإن فعلتم أهدِكم سبيل الرشاد، والسلام عليكم ورحمة اللَّه.
وعندي في صحة هذا عن الحسين نظر، والظاهر أنه مطرَّز بكلام مَزيد من بعض رواة الشيعة.
قال: فكل من قرأ ذلك من الأشراف كتمه إلّا المنذر بن الجارود، فإنه ظنَّ أنه دسيسة من ابن زياد، فجاء به إليه، فبعث خلف الرسول الذي جاء به من حسين، فضرب عنقه، وصعد عبيد اللَّه بن زياد المنبر، فحمد اللَّه وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فواللَّه ما بي تُقرن الصَّعبة، وما يُقعقع لي بالشِّنان
(1)
، وإني لنَكَال لمن عاداني، وسِهَام لمن حاربني، أنصف القارة مَنْ رماها. يا أهل البصرة إنَّ أمير المؤمنين ولَّاني الكوفة وأنا غادٍ إليها الغداة، وقد استخلفتُ عليكم عثمان بن زياد بن أبي سفيان، فإياكم والخلافَ والإرجاف، فوالذي لا إله غيره لئن بلغني عن رجل منكم خلافٌ لأقتلنَّه وعريفَه ووليَّه، ولآخذنَّ الأدنى بالأقصى حتى يستقيم لي الأمر ولا يكون فيكم مخالفٌ ولا مشاقق. أنا ابن زياد، أشبهته من بين مَنْ وطئ الحصى، ولم ينتزعني شبه خال ولا عم
(2)
. ثم خرج من البصرة ومعه مسلم بن عمرو الباهلي، فكان من أمره ما تقدم.
قال أبو مخنف: عن الصَّقْعب بن زهير، عن عون بن [أبي]
(3)
جُحَيفة قال: كان مخرج مسلم بن عَقيل بالكوفة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجَّة، وقيل
(4)
يوم الأربعاء لتسع مضين من ذي الحجة، وذلك يوم عرفة سنة ستين، وكان ذلك مخرج الحسيق من مكَّة قاصدًا أرض العراق بيوم واحد. وكان خروج الحسين من المدينة إلى مكَّة يوم الأحد لليلتين بقيتا من رجب سنة ستين، ودخل مكَّة ليلة الجمعة لثلاث مضين من شعبان. فأقام بمكَّة بقيَّة شعبان ورمضان وشوال وذا القعدة، وخرج من مكَّة لثمان مضين من ذي الحجَّة يوم الثلاثاء يوم التَّرويَة.
(1)
قال صاحب اللسان في مادة (قع): وفي المثل: فلان لا يقعقع له بالشنان، أي: لا يُخدع ولا يُروَّع.
(2)
هذه الخطبة في تاريخ الطبري (5/ 358).
(3)
سقطت من المطبوع.
(4)
وقعت في المطبوع: قتل. والخبر تاريخ الطبري (5/ 381) وابن الأثير (4/ 36).
وفي رواية ذكرها ابن جرير
(1)
: أن مسلم بن عَقيل لمَّا بكى قال له [عمرو بن]
(2)
عبيد اللَّه بن عباس السُّلمي: إنَّ من يطلب مثلَ ما تطلب لا يبكي إذا نزل به مثلُ الذي نزل بك. قال: إني واللَّهِ ما لنفسي أبكي، ومالها من القتل أَرثي، وإن كنتُ لم أحبَّ لها طرفة عين تلَفًا، ولكنني أبكي لأهلي المقبلين إلى الكوفة، أبكي للحسين وآل الحسين. ثم أقبل على محمد بن الأشعث فقال: يا عبد اللَّه! إني واللَّه أراك ستعجز عن أماني، فهل عندك خير؟ تستطيع أن تبعث رجلًا على لساني يبلِّغ حسينًا عني رسالة، فإني لا أراه إلَّا قد خرج إليكم اليوم أو غدًا هو وأهل بيته، وإن ما تراه من جَزَعي لذلك، فتقول له: إنَّ ابن عَقيل بعثني إليك وهو في أيدي القوم أسيرٌ لا يدري أيصبح أم يمسي حتى يُقتل، وهو يقول لك: ارجع باهلك ولا يغرنَّك أهل الكوفة فإنهم أصحاب أبيك الذي كان يتمنَى فراقهم بالموت أو القتل. إنَّ أهل الكوفة قد كذَبُوك وكذَبُوني، وليس لكاذب رأي. فقال ابن الأشعث: واللَّه لأفعلنَّ ولأُعلمنَّ ابن زياد أني قد أمَّنتُك.
قال أبو مخنف: فدعا محمد بن الأشعث إياس بن العباس الطائي من بني مالك [بن عمرو]
(3)
بن ثمامة -وكان شاعرًا- فقال له: اذهب فالْقَ حسينًا فأبلغه هذا الكتاب -وكتب فيه الذي أمره به ابن عَقيل- ثم أعطاه راحلة وتكفل له بالقيام باهله وداره. فخرج حتى لقي الحسين بزُبالةَ لأربع ليال من الكوفة، فأخبره الخبر، وأبلغه الرسالة. فقال الحسين: كلُّ ما حُمَّ نازل، عند اللَّه نحتسب أنفسنا وفساد أئمتنا.
ولما انتهى مسلم إلى باب القصر، وأراد شرب الماء، قال له مسلم بن عمرو الباهلي: أتراها ما أبردَها! واللَّه لا تذوقها أبدًا حتى تذوق الحميم في نار الجحيم. فقال له ابن عَقيل: ويحك من أنت؟ قال: أنا من عرف الحقَّ إذ أنكرته، ونصح لإمامه إذ غششتَه، وسمع وأطاع إذ عصَيْت، أنا مسلم بن عمرو الباهلي. فقال له مسلم: لأُمِّك الويل! ما أجفاك وأفظَّك، وأقساك وأغلظَك يا بن باهلة!! أنت واللَّه أَوْلى بالحميم ونار الجحيم.
صفة مخرج الحسين إلى العراق
"لما تواترت الكتب إلى الحسين من جهة أهل العراق، وتكرَّرت الرسل بينهم وبينه [وجاءه كتاب مسلم بن عقيل بالقدوم عليه بأهله]
(4)
ثم وقع في غضون ذلك ما وقع من قتل مسلم بن عَقيل، والحسينُ
(1)
في تاريخه (5/ 374 - 375).
(2)
سقط من الأصول، واستدركته من تاريخ الطبري (5/ 374) وابن الأثير (4/ 33).
(3)
سقط من ط. والخبر في تاريخ الطبري (5/ 375).
(4)
سقط من ب.
لا يعلم بشيء من ذلك، بل قد عزم على المسير إليهم والقدوم عليهم، فاتَّفق خروجه من مكة يوم التَّرويَة قبل مقتل مسلم بيوم واحد - فإن مسلمًا قُتل يوم عرفة. ولما استشعر الناس خروجه أشفقوا عليه من ذلك، وحذَّروه منه [وذكروه ما جرى لأبيه وأخيه معهم]
(1)
.
قال سفيان بن عُيينة، عن إبراهيم بن مَيْسرة، عن طاوُوس، عن ابن عباس قال: استشارني الحسين بن علي في الخروج، فقلت: لولا أن يُزري بي وبك الناس لنشَبْت يدي في رأسك فلم أتركك تذهب. فكان الذي ردَّ عليَّ أن قال: لأن أُقتل في مكان كذا وكذا أحبُّ إليَّ من أن أُقتل بمكة. قال: فكان هذا الذي سلَّى نفسي عنه.
وروى أبو مِخْنف، عن الحارث بن كعب الوالبي، عن عُقبة بن سِمْعان: أن حسينًا لما أجمع المسير إلى الكوفة أتاه ابن عباس فقال: يا بن عمّ! إنه قد أَرجف الناس أنك سائر إلى العراق، فبيَّن لنا ما أنت صانع؟ فقال: إني قد أجمعت المسير في أحد يوميَّ هذين إن شاء اللَّه تعالى، فقال له ابن عباس: أخبرني، إن كانوا قد دعوك بعدما قتلوا أميرهم، ونفَوْا عدوهم، وضبطوا بلادهم فسِرْ إليهم، وإن كان أميرهم حيًّا، وهو مقيم عليهم، قاهر لهم، وعمّالُه تَجْبي بلادهم، فإنهم إنما دعوك للفتنة والقتال، ولا آمَنُ عليك أن يستنفروا إليك الناس ويقلِّبوا قلوبهم عليك، فيكون الذين دعوك أشدَّ الناس عليك. فقال الحسين: إني أَستخير اللَّه وأنظر ما يكون.
فخرج ابن عباس من عنده، ودخل ابن الزُّبَير فقال له: ما أدري ما تركنا لهؤلاء القوم ونحن أبناء المهاجرين وولاة هذا الأمر دونهم! أخبرني ما تريد أن تصنع؟ فقال الحسين: واللَّه لقد حدَّثت نفسي بإتيان الكوفة، ولقد كتب إليَّ شيعتي بها وأشرافها بالقدوم عليهم، وأستخير اللَّه. فقال ابن الزُّبَير: أما لو كان [لي]
(2)
بها مثلُ شيعتك ما عدلتُ عنها. فلمّا خرج من عنده قال الحسين: قد علم ابن الزُّبَير أنه ليس له من الأمر معي شيء، وأن الناس لم يَعْدِلوه بي، فودَّ أني خرجتُ منها لتخلوَ له.
فلمَّا كان من العشيِّ أو من الغد جاء ابن عباس إلى الحسين فقال له: يابن عمّ! إني أتصبَّر ولا أصبر، إني أتخوَّف عليك في هذا الوجه الهلاك، إن أهل العراق قوم غُدر فلا تغترنَّ بهم، أقم في هذا البلد حتى ينفي أهل العراق عدوهم ثم اقدَم عليهم، وإلَّا فسِرْ إلى اليمن فإنَّ به حصونًا وشعابًا، ولأبيك به شيعة، وكن عن الناس في معزل، واكتب إليهم، وبُثَّ دعاتك فيهم، فإني أرجو -إذا فعلت ذلك- أن يكون ما تحب. فقال الحسين: يا بن عمّ! واللَّه إني لأعلم أنك ناصح شفيق، ولكني قد أزمعت المسير. فقال له: فإن كنت ولا بد سائرًا فلا تَسِرْ بأولادك ونسائك، فواللَّه إني لخائف أن تُقتل كما قُتل
(1)
سقط من ب.
(2)
زيادة من تاريخ الطبري (5/ 383).
عثمان ونساؤه وولدُه ينظرون إليه. ثم قال ابن عباس: أقررتَ عين ابن الزُّبَير بتخليتك إياه بالحجاز، فواللَّه الذي لا إله إلّا هو لو أعلم أنك إذا أخذت بشعرك وناصيتك حتى يجتمع عليَّ وعليك الناسُ أطعتني وأقمتَ لفعلتُ ذلك. قال: ثم خرج من عنده، فلقي ابن الزُّبَير فقال: قرَّت عينك يا بن الزُّبَير؟! ثم قال:
يالكِ مِنْ قُبَّرةٍ بمَعْمَرِ
…
خَلا لكِ الجوُّ فبِيضي واصْفِري
ونَقِّرِي ما شِئْتِ أنْ تُنَقِّرِي
…
صيَّادُكِ اليومَ قتيلٌ فابشِري
ثم قال ابن عباس: هذا الحُسين
(1)
يخرج إلى العراق ويخليك والحجاز
(2)
.
وقال غير واحد
(3)
: عن شَبَابة بن سَوَّار قال: حدَّثنا يحيى بن إسماعيل بن سالم الأسدي قال: سمعت الشعبي يحدِّث عن ابن عمر: أنه كان بمكة، فبلغه أنَّ الحسين بن علي قد توجَّه إلى العراق، فلحقه على مسيرة ثلاث ليال، فقال: أين تريد؟ قال: العراق، وإذا معه طوامير
(4)
وكتب، فقال: هذه كتبهم وبَيْعتهم، فقال: لا تأتهم، فأبى، فقال ابن عمر: إني محدِّثك حديثًا: إن جبريل أتى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فخيَّره بين الدنيا والآخرة، فاختار الآخرة ولم يُرِد الدنيا. وإنك بضعة من رسول اللَّه، واللَّه لا يليها أحدٌ منكم أبدًا، وما صرفها اللَّه عنكم إلّا للذي هو خير لكم. فأبى أن يرجع. قال: فاعتنقه ابن عمر وبكى وقال: أستودعك اللَّه من قَتيل.
وقال يحيى بن معين
(5)
: حدَّثنا أبو عبيدة، حدَّثنا سَلِيم بن حَيّان، عن سعيد بن مِينا قال: سمعت عبد اللَّه بن عَمْرو يقول: عجل حسين قدره، واللَّه لو أدركتُه ما تركته يخرج إلّا أن يغلبَني، ببني هاشم فُتح هذا الأمر، وببني هاشم يُختم، فإذا رأيت الهاشميَّ قد ملك فقد ذهب الزمان.
قلت: وهذا مع حديث ابن عمر يدلُّ على أنَّ الفاطميِّين أدعياء كَذَبة، لم يكونوا من سلالة فاطمة، كما نص عليه غير واحد من الأئمة، على ما سنذكره في موضعه إن شاء اللَّه.
(1)
في ط: "حسين"، وما هنا من م وهو الموافق لما في الكامل لابن الأثير (4/ 39).
(2)
الخبر مع الرجز في الأخبار الطوال (ص 244) وتاريخ الطبري (5/ 383 - 384) وابن الأثير (4/ 38 - 39) ومختصر تاريخ دمشق (7/ 142 - 143) وسير أعلام النبلاء (3/ 397) وتاريخ الخلفاء (ص 327) والقبَّرة -ويروى: قنبرة- واحد القبَّر: وهو ضرب من الطير. وينسب هذا الرجز لطرفة بن العبد. ملحق ديوانه (ص 193) وهناك تخريجٌ مفصلٌ له في مختصر تاريخ دمشق.
(3)
ينظر الخبر في تاريخ دمشق (14/ 202)، وسير أعلام النبلاء (3/ 292).
(4)
"الطوامير": الصحائف.
(5)
الخبر في تاريخ دمشق (14/ 203) وغير ناشره "عبد اللَّه بن عمرو" إلى "عبد اللَّه بن عمر"، فأخطأ، فانظر إلى قول المصنف بعد:"فهذا -يعني هذا الحديث- مع حديث ابن عمر" وقد تقدم حديث ابن عمر قبله.
وقال يعقوب بن سفيان
(1)
: حدَّثنا أبو بكر الحميدي، حدَّثنا سفيان، حدَّثنا عبد اللَّه بن شَريك، عن بشر بن غالب قال: قال ابن الزُّبَير للحسين: أين تذهب، إلى قوم قتلوا أباك وطعنوا أخاك؟! فقال: لأَن أُقتل بمكان كذا وكذا أحبُّ إليَّ من أن تُستحل بي - يعني مكة.
وقال الزُّبَير بن بكّار: حدّثني عمي مصعب بن عبد اللَّه، أخبرني مَنْ سمع هشام بن يوسف يقول: عن مَعْمر قال: سمعت رجلًا يحدِّث عن الحسين أنه قال لعبد اللَّه بن الزُّبَير: أتتني بيعة أربعين ألفًا يحلفون بالطَّلاق والعَتاق إنَّهم معي. فقال له ابن الزُّبَير: أتخرج إلى قوم قتلوا أباك وأخرجوا أخاك؟! قال هشام: فسألت مَعْمرًا عن الرجل، فقال: هو ثقة. قال الزُّبَير: وقال عمي: وزعم بعض الناس أنَّ ابن عباس هو الذي قال هذا
(2)
.
وقد ساق محمد بن سعد
(3)
-كاتب الواقدي- هذا سياقًا حسنًا مبسوطًا فقال: أخبرنا علي بن محمد، عن يحيى بن إسماعيل بن أبي المُهاجر، عن أبيه. وعن لوط بن يحيى الغامدي
(4)
، عن محمد بن بشير الهمداني وغيره. وعن محمد بن الحجاج، عن عبد الملك بن عُمير. وعن هارون بن عيسى، عن يونس بن [أبي]
(5)
إسحاق، عن أبيه. وعن يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، عن مُجالد، عن الشعبي. قال محمد بن سعد: وغير هؤلاء قد حدثني أيضًا في هذا الحديث بطائفة، فكتبت جوامع حديثهم في مقتل الحسين رضي الله عنه وأرضاه.
قالوا: لما بايع الناس معاويةَ ليزيدَ كان حسين ممن لم يبايع له، وكان أهل الكوفة يكتبون إليه يدعونه إلى الخروج إليهم في خلافة معاوية، كل ذلك يأبى عليهم، فقدم منهم قوم إلى محمد بن الحنفيَّة يطلبون إليه أن يخرج معهم، فأبى. وجاء إلى الحسين يعرض عليه أمرهم، فقال له الحسين: إن القوم إنما يريدون أن يأكلوا بنا، ويستطيلوا بنا، ويشيطوا
(6)
دماء الناس ودماءنا. فأقام حسين على ما هو عليه من الهموم، مرة يريد أن يسير إليهم، ومرة يُجمع الإقامة عنهم. فجاءه أبو سعيد الخدري فقال: يا أبا عبد اللَّه! إني لكم ناصح، هاني عليكم مُشفِق، وقد بلغني أنه قد كاتبك قوم من شيعتكم بالكوفة يدعونك إلى الخروج إليهم، فلا تخرج إليهم، فإني سمعت أباك يقول بالكوفة: واللَّه لقد مللتُهم
(1)
المعرفة والتاريخ (2/ 753).
(2)
الخبر في أخبار مكة للأزرقي (2/ 260)، وتاريخ دمشق (14/ 203).
(3)
الطبقات الكبرى (قسم صغار الصحابة) بتحقيق السلمي (1/ 437) فما بعدها.
(4)
في ط: "العامري"، محرف، وهو منسوب إلى "غامد" جدٍّ له، فانظر معجم الأدباء (5/ 2252)(ط. إحسان عباس).
(5)
سقطت من المطبوع.
(6)
قال الزمخشري: "شاط دمه": إذا بطَل. وأشاط السلطان دمه: أهدره.
وأبغضتُهم، وملُّوني وأبغضوني، وما يكون منهم وفاء قطّ، ومن فاز بهم فاز بالسهم الأَخْيَب، واللَّه مالهم نيّات ولا عَزْم على أمر، ولا صَبْر على السيف.
قال: وقدم [المسيّب بن نَجَبَة
(1)
الفَزَاري في عدة معه إلى الحسين بعد وفاة الحسن، فدَعَوه إلى خلع]
(2)
معاوية وقالوا: قد علمنا رأيك ورأي أخيك، فقال: إني لأرجو أن يعطي اللَّه أخي على نيَّته في حبِّه الكف، وأن يعطيني على نيَّتي في حبي جهاد الظالمين.
وكتب مروان إلى معاوية: إني لست آمَنُ أن يكون حسين مرصدًا للفتنة، وأظن يومكم من حسين طويلًا.
فكتب معاوية إلى الحسين: إنَّ من أعطى اللَّه صفقةَ يمينه وعهده لجديرٌ بالوفاء، وقد أنبئت أنَّ قومًا من أهل الكوفة قد دعوك إلى الشقاق، وأهلُ العراق مَنْ قد جرَّبت، قد أفسدوا على أبيك وأخيك، فاتَّقِ اللَّه واذكر الميثاق، فإنك متى يمِدْني أكِدْك. فكتب إليه الحسين: أتاني كتابك وأنا بغير الذي بلغك عنِّي جدير، والحسنات لا يَهدي لها إلّا اللَّه، وما أردتُ لك محاربة ولا عليك خلافًا، وما أظن لي عند اللَّه عذرًا في ترك جهادك، وما أعلم فتنة أعظم من ولايتك أمر هذه الأمة. فقال معاوية: إن أَثَرنا بأبي عبد اللَّه إلَّا أسدًا
(3)
.
وكتب إليه معاوية أيضًا في بعض ما بلغه عنه: إني لأظنُّ أن في رأسك نزوة فوددت أني أدركها فأغفرها لك.
قالوا: فلمّا احتُضر معاوية دعا يزيد فأوصاه بما أوصاه به، وقال له: انظُر حسين بن علي بن فاطمة بنت رسول اللَّه، فإنه أحبُّ الناس إلى الناس، فصِلْ رحمه، وارفقْ به يصلحْ لك أمرُه، فإن يكن منه شيء فإني أرجو أن يكفيَكَهُ اللَّه بمن قتل أباه وخذل أخاه. وتوفي معاوية ليلة النصف من رجب سنة ستين، وبايع الناس ليزيد
(4)
، فكتب يزيد مع عبد اللَّه بن عمرو بن أُوَيس العامري -عامر بن لؤي- إلى الوليد بن عتبة بن أبي سفيان وهو على المدينة: أن ادعُ الناس فبايعهم، وابدأ بوجوه قريش، وليكن أولَ من تبدأ به الحسين بن علي، فإن أمير المؤمنين عهد إليَّ في أمره الرفقَ به واستصلاحَه. فبعث الوليد من ساعته نصف الليل إلى الحسين بن علي وعبد اللَّه بن الزُّبَير، فأخبرهما بوفاة معاوية، ودعاهما إلى البَيْعة ليزيد بن معاوية، فقالا: إلى أن نصبح وننظر ما يصنع الناس. ووثب الحسين فخرج وخرج معه ابن
(1)
تحرف في الأصول إلى: عقبة، والتصويب من طبقات ابن سعد. والمال لابن ماكولا (1/ 501) ومشتبه الذهبي (1/ 113).
(2)
ما بين حاصرتين سقط من ب.
(3)
وقعت لفظة أسدًا في أ، ط: شرًا. وهو خطأ، فهو كذلك في طبقات ابن سعد الذي ينقل منه (1/ 440).
(4)
في ط: "يزيد"، وما أثبتناه من م وتاريخ دمشق (14/ 206).
الزُّبَير وقالا: هو يزيد الذي نعرف، واللَّه ما حدث له عزم ولا مروءة. وقد كان الوليد أغلظ للحسين، فشتمه الحسين وأخذ بعِمَامته فنزعها من رأسه، فقال الوليد: إنْ هِجْنا بأبي عبد اللَّه إلّا أسدًا
(1)
. فقال له مروان - أو بعض جلسائه: اقتُلْه، فقال: إنَّ ذلك لدمٌ مضنونٌ به مَصُونٌ في بني عبد مناف
(2)
.
قالوا: وخرج الحسين وابن الزُّبَير من ليلتهما إلى مكة، وأصبح الناس، فغَدَوا على البيعة ليزيد، وطُلِب الحسينُ وابن الزُّبَير فلم يوجدا، فقال المِسْور بن مَخْرمة: عجل الحسين، وابنُ الزُّبَير يلفتُه ويرجِّيه ليخلوَ بمكة. فقدِمَا مكة، فنزل الحسين دار العباس، ولزم ابن الزُّبَير الحِجر، ولبس المعافريّ
(3)
وجعل يحرِّض الناس على بني أمية، وكان يغدو ويروح إلى الحسين، ويشير عليه أن يقدَم العراق، ويقول: هم شيعتك وشيعة أبيك. وكان ابن عباس ينهاه عن ذلك. وقال له عبد اللَّه بن مطيع: إني فداؤك وأبي وأمي، فأَمتِعْنا بنفسك ولا تَسِرْ إلى العراق، فواللَّه لئن قتلك هؤلاء القوم ليتخذُنّا عبيدًا وخَوَلًا.
قالوا: ولقيهما عبد اللَّه بن عمر وعبد اللَّه بن عياش
(4)
بن أبي ربيعة بالأَبْواء
(5)
منصرفَيْن من العمرة، فقال لهما ابن عمر: أذكِّركما اللَّهَ إلَّا رجعتُما فدخلتُما في صالح ما يدخل فيه الناس، وتنظرا، فإن اجتمع الناس عليه فلم تشذّا، وإن افترق
(6)
عليه كان الذي تريدان. وقال له: لا تخرج، فإن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خيَّره اللَّه بين الدنيا والآخرة فاختار الآخرة، وإنك بضعة منه ولا تنالها -يعني الدنيا- واعتنقه وبكى وودَّعه. فكان ابن عمر يقول: غلبنا حسين بن عليٍّ بالخروج، ولَعَمري لقد رأى في أبيه وأخيه عبرة، فرأى من الفتنة وخِذْلان الناس لهم
(7)
ما كان ينبغي له أن لا يتحركَ ما عاش، وأن يدخل في صالح ما دخل فيه الناس، فإن الجماعة خير.
وقال له ابن عباس: وأين تريد يا بن فاطمة؟ فقال: العراق وشيعثي، فقال: إني لكارهٌ لوجهك هذا، تخرج إلى قوم قتلوا أباك وطعنوا أخاك حتى تركهم سخطةً وملالةً لهم؟! أذكِّرك اللَّهَ أن تغرِّر بنفسك.
(1)
في أ، ط:"شرًا"، خطأ.
(2)
والخبر في مختصر تاريخ دمشق (7/ 138) وسير أعلام النبلاء (3/ 295) أيضًا نقلًا من ابن سعد.
(3)
"المعافري": ثياب تنسب إلى قبيلة معافر اليمن.
(4)
في أ، ط: عبد اللَّه بن عباس وابن أبي ربيعة. وفي مختصر تاريخ دمشق (7/ 139) عبد اللَّه بن عباس بن أبي ربيعة وكلاهما تصحيف. والصواب ما أثبتناه من ب وسير أعلام النبلاء (3/ 296).
(5)
"الأبواء": جبل على يمين الطريق للمصعد إلى مكة من المدينة، وهناك بلدة تنسب إلى هذا الجبل معجم البلدان (1/ 79).
(6)
في ط: "افترقوا"، وما أثبتناه من م وطبقات ابن سعد (1/ 444) وهو الذي في تاريخ دمشق (14/ 208) وسير أعلام النبلاء (3/ 296).
(7)
في ط: "لهما"، وما أثبتناه كما في المصادر التي تقدمت.
وقال أبو سعيد الخدري: غلبني الحسين على الخروج، وقلت له: اتَّقِ اللَّهَ في نفسك، والزَم بيتك، ولا تخرج على إمامك.
وقال أبو واقد الليثي: بلغني خروج الحسين بن علي، فأدركته بمَلَل
(1)
، فناشدتُه اللَّهَ أن لا يخرج، فإنه يخرج في غير وجه خروج، إنما خرج يقتل نفسه. فقال: لا أَرجع.
وقال جابر بن عبد اللَّه: كلَّمت حسينًا فقلت: اتَّقِ اللَّه، ولا تضرب الناس بعضهم ببعض، فواللَّه ما حمدتم ما صنعتم. فعصاني.
وقال سعيد بن المسيِّب: لو أنَّ حسينًا لم يخرج لكان خيرًا له.
وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن: قد كان ينبغي لحسين أن يعرف أهل العراق ولا يخرج إليهم، ولكن شجَّعه على ذلك ابن الزُّبَير.
وكتب إليه المِسْور بن مَخْرمة: إياك أن تغترَّ بكتب أهل العراق وبقول ابن الزُّبَير: الْحَقْ بهم فإنهم ناصروك
(2)
، إياك تبرح الحرم، فإنهم إن كانت بهم إليك حاجةٌ فسيضربون إليك آباط الإبل حتى يوافوك فتخرج في قوَّة وعدَّة. فجزاه خيرًا وقال: أَستخير اللَّه في ذلك.
وكتبت إليه عَمْرة بنت عبد الرحمن تعظِّم عليه ما يريد أن يصنع، وتأمره بالطاعة ولزوم الجماعة، وتخبره أنه إن لم يفعل إنما يُساق إلى مصرعه وتقول: أشهد لسمعت عائشة تقول: إنها سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "يُقتلُ الحسينُ بأرضِ بابل". فلمَّا قرأ كتابها قال: فلا بدَّ لي إذًا من مَصْرعي. ومضى
(3)
.
وأتاه أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فقال له: يا بن عمّ! قد رأيتَ ما صنع أهل العراق بأبيك وأخيك، وأنت تريد أن تسير إليهم، وهم عبيد الدنيا، فيقاتلك مَنْ قد وعدك أن ينصرك، ويخذلك مَنْ أنت أحبُّ إليه ممن ينصره، فأذكِّرك اللَّهَ في نفسك. فقال: جزاك اللَّه -يا بن عم- خيرًا، مهما يقضِ اللَّه من أمر يكُن. فقال أبو بكر: إنا للَّه وإنَّا إليه راجعون، نحتسب أبا عبد اللَّه عند اللَّه.
وكتب إليه عبد اللَّه بن جعفر كتابًا يحذِّره أهل الكوفة
(4)
، ويناشدُه اللَّهَ أن يشخص إليهم. فكتب إليه الحسين: إني رأيت رؤيا، ورأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أمرني بأمر وأنا ماضٍ له، ولست بمُخبر بها أحدًا حتى أُلاقيَ عملي.
(1)
"ملل": موضع بين مكة والمدينة.
(2)
بعد هذا في ط: "وقال له ابن عباس"، وليست في ب، م ولا في طبقات ابن سعد وتاريخ دمشق (14/ 209) وتهذيب الكمال (6/ 417)، لذلك لم نثبتها.
(3)
أخرجه ابن عساكر، مختصره (7/ 140).
(4)
في ط: "العراق"، وما هنا من م وطبقات ابن سعد (1/ 447) الذي ينقل منه، وتهذيب الكمال (6/ 418).
وكتب إليه عمرو بن سعيد بن العاص نائب الحرمين: إني أسأل اللَّه أن يُلهمَك رشدَك، وأن يصرفك عمّا يُرديك، بلغني أنك قد عزمتَ على الشخوص إلى العراق، وإني أعيذك باللَّه من الشقاق، فإنك إنْ كنت خائفًا فأقبل إليّ، فلك عندي الأمان والبرُّ والصِّلَة. فكتب إليه الحسين: إنْ كنتَ أردتَ بكتابك برّي وصلتي فجُزيت خيرًا في الدنيا والآخرة، وإنا لم نشاقق مَنْ دعا إلى اللَّه وعمل صالحًا وقال إنني من المسلمين، وخير الأمان أمان اللَّه، ولم يؤمن باللَّه مَنْ لم يخفه في الدنيا، فنسأل اللَّه مخافة في الدنيا توجب لنا أمانًا يوم القيامة عنده.
قالوا: وكتب يزيد بن معاوية إلى ابن عباس يخبره بخروج الحسين إلى مكة، وأحسبُه قد جاءه رجال من أهل المشرق فمنَّوه الخلافة، وعندك منهم خبر وتجرِبة، فإن كان قد فعل فقد قطع راسخ القرابة، وأنت كبير أهل بيتك والمنظور إليه، فاكفُفْه عن السَّعي في الفُرقة. وكتب بهذه الأبيات إليه وإلى من بمكة والمدينة من قريش:
يا أيُّها الراكبُ الغادي لطِيَّتِهِ
…
على عُذافرةٍ في سَيْرها قُحَمُ
(1)
أبلغْ قريشًا على نَأْي المَزارِ بها
…
بيني وبينَ حسينِ اللَّهُ والرَّحِمُ
وموقفٌ بفِناءِ البيتِ أَنْشُدُهُ
…
عهدَ الإلهِ وما تُوفى بهِ الذِّمم
عَنَّيْتُمُ قومَكم فخرًا بأُمِّكُمُ
…
أمّ لعَمْري حَصَانٌ بَرَّةٌ كرمُ
هي التي لا يُداني فَضْلَها أحدٌ
…
بنتُ الرسولِ وخير الناسِ قد علموا
وفضلُها لكُمُ فضلٌ وغيرُكُمُ
…
من قومكمْ لهمُ في فضلِها قِسَمُ
إنِّي لأعلمُ أو ظنًّا كعالمِهِ .. والظَّنُّ يصدُقُ أحيانًا فينتظِمُ
أنْ سوفَ يتركُكُمْ ما تَدَّعونَ بها
…
قَتْلى تَهَاداكُمُ العِقْبانُ والرَّخَم
(2)
يا قومَنا لا تَشُبُّوا الحربَ إذ سَكَنَتْ
…
ومَسِّكُوا بحبال السّلم واعتصِمُوا
قد جَرَّبَ الحربَ مَنْ قد كان قبلكُمُ
…
من القُرون وقد بادتْ بها الأُمَمُ
فأَنْصِفُوا قومَكُمْ لا تَهْلِكوا بَذَخًا
(3)
…
فربَّ ذي بَذَخٍ زلَّتْ به القَدَمُ
(4)
قال: فكتب إليه ابن عباس: إني لأرجو أن لا يكون خروج الحسين لأمر تكرهُه، ولست أدع النصيحة له في كل ما تجتمع به الأُلفة وتُطفأ به الثائرة. ودخل ابن عباس على الحسين فكلَّمه طويلًا وقال
(1)
"الطية": الجهة أو النية. "العذافرة": الناقة الصلبة القوية. "قحم": إقدام وجرأة وتقحم.
(2)
"الرخم": جمع رخمة: طائر أبقع على شكل النسر خلقة.
(3)
"البذخ": الكِبر، وتبذخ فلان: تطاول وتكبر وفخر.
(4)
الخبر والأبيات في مختصر تاريخ دمشق (7/ 141 - 142) وقد أورد الطبري الأبيات في تاريخه (8/ 202) في حوادث سنة 169 هـ.
له: أَنشُدك اللَّهَ أن تهلك غدًا بحال مضيعة، لا تأت العراق، وإن كنت لا بدَّ فاعلًا فأقم حتى ينقضي الموسم وتلقى الناس وتعلم ما يصدرون ثم ترى رأيك، وذلك في عشر ذي الحجة. فأبى الحسين إلَّا أن يمضي إلى العراق، فقال له ابن عباس: واللَّه إني [لأظنك ستُقتل غدًا بين نسائك وبناتك كما قُتل عثمان بين نسائه وبناته، واللَّه إني]
(1)
لأخاف أن تكون أنت الذي يُقاد به عثمان، فإنا للَّه وإنا إليه راجعون. فقال له الحسين: أبا العباس! إنك شيخ قد كبرت. فقال له ابن عباس: لولا أن يُزري ذلك بي وبك لنشبتُ يدي في رأسك، ولو أعلم أنا إذا تناصَينا
(2)
أقمتَ لفعلتُ، ولكن لا إخال ذلك مانعك. فقال الحسين: لأن أُقتل بمكان كذا وكذا أحبُّ إليَّ من أن تُستحل بي -يعني مكة-
(3)
. قال: فبكى ابن عباس وقال: أقررتَ عينَ ابن الزُّبَير بذلك، وذلك الذي سلَّى نفسي عنه.
قال: ثم خرج ابن عباس عنه وهو مغضبٌ وابنُ الزُّبَير على الباب، فلمّا رآه قال: يا بن الزُّبَير قد أتى ما أحببت، قرَّت عينك، هذا أبو عبد اللَّه خارج ويتركك والحجاز، ثم قال:
يا لَكِ مِنْ قُنْبَرَةٍ بمَعْمَر
…
خَلَا لَكِ الجوُّ فبِيضِي واصْفِري
ونقِّرِي ما شِئْتِ أَنْ تنقِّري
(4)
قال: وبعث الحسين إلى المدينة يقدّم عليه من خفَّ معه من بني عبد المطلب، وهم تسعة عشر رجلًا ونساءً وصِبيان من إخوانه وبناته ونسائه، وتبعهم محمد بن الحنفيَّة، فأدرك حسينًا بمكة، فأعلمه أن الخروج ليس له برأي يومه هذا، فأبى الحسين أن يقبل، فحبس محمدُ بن الحنفيَّة ولده فلم يبعث أحدًا منهم حتى وجد
(5)
الحسينُ في نفسه على محمد وقال: ترغب بولدك عن موضع أُصاب فيه؟! فقال محمد: وما حاجتي إلى أن تُصاب ويُصابوا معك؟ وإن كانت مصيبتك أعظم عندنا منهم.
قالوا: وبعث أهل العراق إلى الحسين الرسل والكتب يدعونه إليهم، فخرج متوجِّهًا إليهم في أهل بيته وستين شيخًا
(6)
من أهل الكوفة
(7)
، وذلك يوم الإثنين في عشر ذي الحجة [سنة ستين]
(8)
فكتب مروان إلى ابن زياد: أما بعد: فإن الحسين بن علي قد توجَّه إليك، وهو الحسين بن فاطمة، وفاطمة
(1)
ما بين حاصرتين ليس في ب.
(2)
"تناصينا": أخذ كل منا بناصية الآخر. ووقعت في ط: تباصينا.
(3)
في ط: "أن أقتل بمكة وتستحل بي" وما هنا من م وطبقات ابن سعد (1/ 450) الذي ينقل منه المصنف، وتهذيب الكمال (6/ 421).
(4)
تقدم تخريجه قبل صفحات.
(5)
"وجد": غضب وحزن.
(6)
في ط: "شخصًا"، خطأ وما هنا من م وطبقات ابن سعد (1/ 451) وتهذيب الكمال (6/ 422).
(7)
بعد هذا في ط: "صحبته" وليست في م ولا في طبقات ابن سعد وتهذيب الكمال (6/ 422).
(8)
ليس في ط.
بنت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وتاللَّه ما أحد يسلِّمه اللَّه أحبّ إلينا من الحسين، فإياك أن تُهيج على نفسك ما لا يسدُّه شيء، ولا تنساه العامة، ولا تدع ذكره آخر الدهر. والسلام. وكتب إليه عمرو بن سعيد بن العاص: أما بعد: فقد توجَّه إليك الحسين، وفي مثلها تُعتق أو تكون عبدًا تُسترقُّ كما يُسترقُّ العبيد.
وقال الزُّبَير بن بكّار: حدّثني محمد بن الضحّاك، عن أبيه قال: كتب يزيد إلى ابن زياد: إنه قد بلغني أن حسينًا قد سار إلى الكوفة، وقد ابتُلي به زمانك من بين الأزمان، وبلدك من بين البلدان، وابتُليت أنت به من بين العمّال، وعندها تُعتق أو تعود عبدًا كما ترقُّ العبيد وتعبُّد. فقتله ابن زياد، وبعث برأسه إليه.
قلت: والصحيح أنه لم يبعث برأس الحسين إلى الشام، كما سيأتي.
[وفي رواية: أن يزيد كتب إلى ابن زياد: قد بلغني أن الحسين قد توجَّه نحو العراق، فضع المناظر والمسالح، واحترِس، واحبس على الظنَّة، وخذ على التُّهمة، غير أن لا تقاتل إلّا مَنْ قاتلك، واكتب إليَّ في كل ما يحدُث من خبر. والسلام]
(1)
.
قال الزُّبَير بن بكّار: وحدّثني محمد بن الضحّاك قال: لما أراد الحسين الخروج من مكة إلى الكوفة مرَّ بباب المسجد الحرام وقال:
لا ذَعَرْتُ السَّوَام في فَلَقِ الصُّبـ
…
ــح مُغيرًا ولا دُعِيتُ يَزيدا
يومَ أُعطي مخافةَ الموتِ ضَيْمًا
…
والمنايا يَرْصُدْنني أنْ أَحِيدا
(2)
وقال أبو مِخْنف: قال أبو جَنَاب يحيى بن أبي حيَّة
(3)
: عن عدي بن حَرْملة الأسدي، عن عبد اللَّه بن سُليم والمذري
(4)
بن المشْمَعِلّ الأسديَّين قالا: خرجنا حاجَّيْن من الكوفة، فقدمنا مكة، فدخلنا يوم التَّرويَة، فإذا نحن بالحسين وابن الزُّبَير قائمَيْن عند ارتفاع الضحى فيما بين الحِجْر والباب، فسمعنا ابن الزُّبَير وهو يقول للحسين: إن شئتَ أن تقيم أقمت فولِّيتَ هذا الأمر، فآزرناك وساعدناك ونصحنا لك وبايعناك. فقال الحسين: إنَّ أبي حدّثني أنَّ لها كبشًا يستحل حرمتها، فما أحِبُّ أن أكون أنا ذلك الكبش. فقال له ابن الزُّبَير: فأقم إن شئتَ وولِّني أنا الأمر فتُطاع ولا تُعصى. فقال: وما أريد هذا أيضًا. ثم إنهما أخفَيا كلامهما دوننا، فما زالا يتناجيان حتى سمعنا دعاء الناس رائحين
(5)
متوجِّهين إلى
(1)
هذه الرواية ليست في ب.
(2)
البيتان ليزيد بن مفرغ الحميري، وقد قالهما الحسين متمثلًا. وهما في تاريخ الطبري (5/ 342) والأغاني (18/ 287 - 288) ومختصر تاريخ دمشق (7/ 136).
(3)
تحرفت في ط إلى: خيثمة.
(4)
في ط: المنذر.
(5)
سقطت من ط، وهي في م وعند الطبري (5/ 385).
مِنًى عند الظهيرة. قالا: فطاف الحسين بالبيت وبين الصَّفا والمروة، وقصَّر من شعره، وحلَّ من عُمرته، ثم توجَّه نحو الكوفة، وتوجَّهنا نحن مع الناس إلى مِنًى
(1)
.
وقال أبو مِخْنف: حدّثني الحارث بن كعب الوالبي، عن عُقبة بن سِمْعان قال: لما خرج الحسين من مكة اعترضه رسل عمرو بن سعيد -يعني نائب مكة- عليهم أخوه يحيى بن سعيد، فقالوا له: انصرِف، أين تريد؟! فابى عليه ومضى، وتدافع الفريقان، وتضاربوا بالسِّياط والعصيّ. ثم إن حسينًا وأصحابه امتنعوا منهم امتناعًا قويًا، ومضى الحسين على وجهه ذلك، فنادَوْه: يا حسين! ألا تتقي اللَّه، أتخرج من الجماعة وتفرِّق بين الأمة بعد اجتماع الكلمة؟! فتأَوَّل الحسين قول اللَّه تعالى
(2)
: {لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} [يونس: 41].
قال: ثم إن الحسين مرَّ بالتَّنعيم
(3)
، فلقي بها عِيرًا قد بعث بها بَحِير بن رَيْسَان
(4)
الحِمْيري نائب اليمن إلى يزيد بن معاوية، عليها [ورسٌ وحُلَلٌ كثيرة، فأخذها الحسين وانطلق بها، واستأجر أصحاب الجمال عليها]
(5)
إلى الكوفة، ودفع إليهم أجرتهم.
ثم ساق أبو مِخْنف بإسناده الأول: أن الفَرَزدق
(6)
لقي الحسين في الطريق، فسلَّم عليه وقال له: أعطاك اللَّه سؤلك وأمَّلك فيما تحب. فسأله الحسين عن أمر الناس
(7)
وراءه، فقال له: قلوبُ الناس معك، وسيوفهم مع بني أمية، والقضاء ينزل من السماء، واللَّه يفعل ما يشاء. فقال له: صدقتَ، للَّه الأمرُ من قبلُ ومن بعدُ، يفعل ما يشاء، وكل يوم ربّنا في شأن، إن نزل القضاء بما نحبُّ فنحمَد اللَّه على نَعمائه، وهو المستعان على أداء الشكر، وإن حال القضاء دون الرجاء فلم يعتد
(8)
من كان الحق نيَّته والتقوى سريرته. ثم حرَّك الحسين راحلته وقال: السلام عليكم. ثم افترقا
(9)
.
(1)
تاريخ الطبري (5/ 384 - 385).
(2)
في ط: "هذه الآية" بدل "قول اللَّه تعالى"، وما أثبتناه من م وهو الموافق لما في تاريخ الطبري (5/ 385).
(3)
"التنعيم": موضع بمكة في الحل، فيه مساجد حول مسجد عائشة وسقايا على طريق المدينة، يحرم منه المكيون بالعمرة. معجم البلدان (2/ 49).
(4)
في أ، ط: بجير بن زياد، وفي ب: بحير بن ريان وكلاهما تصحيف، وما أثبتناه هو الصواب، وهو مطابق لما في تاريخ الطبري (5/ 385) ومشتبه النسبة للذهبي (1/ 47) وغيره.
(5)
ما بين حاصرتين سقط من ب.
(6)
هو ابن غالب، الشاعر المشهور.
(7)
بعد هذا في ط: "وما"، وما أثبتناه من م، وهو الموافق لسياق الطبري.
(8)
في ط: "يتعد" وما أثبتناه من م وتاريخ الطبري.
(9)
تاريخ الطبري (5/ 386).
وقال هشام بن الكلبي: عن عَوانة بن الحكم، عن لَبَطَة
(1)
بن الفَرَزدق، عن أبيه قال: حججتُ بأمي، فبينما أنا أسوق بها بعيرها حين دخلت الحرم في أيام الحج -وذلك سنة ستين- إذ لقيتُ الحسين خارجًا من مكة معه أسيافُه وأتراسُه، فقلت له: بأبي وأمي يا بنَ رسول اللَّه! ما أعجلك عن الحج؟ فقال: لو لم أعجل لأُخِذت. ثم سألني: ممن أنت؟ فقلت: امرؤ من العراق، فسألني عن الناس، فقلت له: القلوب معك، والسيوف مع بني أمية. وذكر نحو ما تقدم.
قال الفرزدق: وسألت الحسين عن أشياء وعن المناسك، فأخبرني بها. قال: وإذا هو ثقيل اللسان من بِرْسام
(2)
كان أصابه بالعراق. قال: ثم مضيت فإذا فُسْطاط
(3)
مضروب في الحرم، وهيئة حسنة، فإذا هو لعبد اللَّه بن عمرو بن العاص، فسألني، فأخبرته أني لقيت الحسين، فقال: فهلّا اتَّبعته؟ فإن الحسين لا يَحِيكُ
(4)
فيه السِّلاح، ولا يجوز فيه ولا في أصحابه. فندم الفرزدق وهمَّ أن يلحق به، ووقع في قلبه مقالة ابن عمرو، ثم ذكرت الأنبياء وقتلهم فصدَّني ذلك عن اللحاق به. فلمَّا بلغه أنه قُتل لَعَن ابن عمرو، وكان ابن عمرو يقول: واللَّه لا تبلغ الشجرةُ ولا النخلةُ ولا الصغيرُ حتى يبلغ هذا الأمر ويظهر. وإنما أراد ابن عمرو بقوله: لا يَحيك فيه السِّلاح، أي: السِّلاح الذي لم يقدَّر أن يقتل به. وقيل غير ذلك، وقيل: أراد الهَزْل بالفرزدق
(5)
.
قالوا: ثم سار الحسين لا يَلوي على شيء، حتى نزل ذات عِرْق.
قال أبو مِخْنف: فحدّثني الحارث بن كعب الوالبي، عن علي بن الحسين بن علي قال: لمّا خرجنا من مكة كتب عبد اللَّه بن جعفر إلى الحسين مع ابنيه
(6)
: عون ومحمد: أما بعد، فإني أسألك باللَّه لما انصرفتَ حتى تنظر في كتابي هذا، فإني مشفِق عليك من الوجه الذي توجَّهت له أن يكون فيه هلاكك واستئصال أهل بيتك، إن هلكت اليوم طُفئ نور الإسلام، فإنك علَم المهتدين، ورجاء المؤمنين، فلا تعجَل بالسير فإني في أثر كتابي، والسلام.
ثم نهض عبد اللَّه بن جعفر إلى عمرو بن سعيد -نائب مكة- فقال له: اكتب إلى الحسين كتابًا تجعل له فيه الأمان، وتمنِّيه فيه البِرَّ والصلة، وتوثق له في كتابك، وتسأله الرجوع لعلَّه يطمئنُّ إلى ذلك فيرجع. فقال له عمرو: اكتب عني ما شئتَ وائتني به حتى أختمه. فكتب ابن جعفر على لسان عمرو بن سعيد
(1)
تحرف في ط إلى: ليطة، وفي ب إلى: لبيطة.
(2)
"البرسام": ذات الجنب، وهو التهابٌ في الغشاء المحيط بالرئة.
(3)
"الفسطاط": بيت كبير من الشعر.
(4)
"يحيك": يؤثر.
(5)
الخبر في تاريخ الطبري (5/ 386 - 387) وأيضًا في المعرفة والتاريخ (2/ 673) ومختصر تاريخ دمشق (7/ 144).
(6)
في ط: ابنه، خطأ.
ما أراد عبد اللَّه، ثم جاء بالكتاب إلى عمرو فختمه بخاتمه، وقال عبد اللَّه لعمرو بن سعيد: ابعث معي أخاك، فبعث معه أخاه يحيى، فانصرفا حتى لحقا الحسين، فقرأا عليه الكتاب، فأبى أن يرجع وقال: إني رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في المنام وقد أمرني بأمر وأنا ماضٍ له، فقالا: وما تلك الرؤيا؟ فقال: لا أحدِّث بها أحدًا حتى ألقى ربي عز وجل
(1)
.
قال أبو مِخْنف: وحَدَّثَنِي محمد بن قيس: أنَّ الحسين أقبل حتى إذا بلغ الحاجر من بطن الرُّمَّة
(2)
، بعث قيس بن مُسْهِر الصَّيداوي إلى أهل الكوفة، وكتب معه إليهم: بسم اللَّه الرحمن الرحيم، من الحسين بن عليٍّ إلى إخوانه من المؤمنين والمسلمين، سلام عليكم، فإني أحمَد إليكم اللَّهَ الذي لا إله إلّا هو، أما بعد، فإن كتاب مسلم بن عَقيل جاءني يخبرني فيه بحسن رأيكم، واجتماع ملئكم على نصرنا والطلب بحقنا، فنسأل اللَّه أن يحسن لنا الصنيع، وأن يُثيبكم على ذلك أعظم الأجر، وقد شخصتُ إليكم من مكة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجة يوم التَّرويَة، فإذا قدم عليكم رسولي فأكيسُوا
(3)
أمركم وجدُّوا، فإني قادم عليكم في أيامي هذه إن شاء اللَّه تعالى، والسلام عليكم ورحمة اللَّه وبركاته.
قال: وكان كتاب مسلم قد وصل إليه قبل أن يُقتل بسبع وعشرين ليلة، ومضمونه: أما بعد، فإن الرائد لا يَكذِبُ أهلَه، وإن جميع أهل الكوفة معك، فأَقبِل حين تقرأ كتابي هذا، والسلام عليك.
قال: وأقبل قيس بن مُسهِر الصَّيداوي بكتاب الحسين إلى الكوفة، حتى إذا انتهى إلى القادسيَّة أخذه الحُصَين بن نمير، فبعث به إلى عبيد اللَّه بن زياد، فقال له ابن زياد: اصعَد إلى أعلى القصر فسُبَّ الكذّاب ابن الكذّاب. فصعِدَ، فحمد اللَّه وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس! إنَّ هذا الحسين بن علي خير خلق اللَّه، وهو ابن فاطمة بنت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأنا رسوله إليكم، وقد فارقتُه بالحاجر من بطن الرُّمَّة، فأَجيبوه واسمعوا له وأطيعوا. ثم لعن عبيد اللَّه بن زياد وأباه، واستغفر لعليٍّ والحسين. فأمر به ابن زياد، فأُلقي من رأس القصر فتقطَّع، ويقال: بل تكسَّرت عظامه وبقي فيه بقية رَمَق. فقام إليه عبد الملك بن عُمير البَجلي فذبحه وقال: إنما أردتُ إراحته من الألم - وقيل: إنه رجل يشبه عبد الملك بن عُمير وليس به. وفي رواية: أن الذي قدم بكتاب الحسين إنما هو عبد اللَّه بن بُقطر أخو الحسين من الرَّضاعة، فأُلقي من أعلى القصر. واللَّه أعلم
(4)
.
ثم أقبل الحسين يسير نحو الكوفة ولا يعلم بشيء من أخبار ما وقع.
(1)
تاريخ الطبري (5/ 387 - 388).
(2)
وقع في ط: بطن ذي الرمة وهو خطأ. والرمة -بتشديد الميم ويخفف- واد بنجد.
(3)
كذا في أ، ب، م، ووقعت في ط: فاكتموا وفي تاريخ الطبري: فاكمشوا.
(4)
تاريخ الطبري (5/ 394 - 395).
قال أبو مِخْنف: عن أبي علي الأنصاري، عن بكر بن مصعب المُزَني قال: وكان الحسين لا يمرُّ بماءٍ من مياه العرب إِلَّا اتَّبعوه.
قال أبو مِخْنف: عن أبي جَنَاب، عن عدي بن حَرْملَة، عن عبد اللَّه بن سُليم والمذري
(1)
بن المشْمَعِلّ الأسديَّين قالا: لما قضينا حجَّنا لم يكن لنا همة إلّا اللحاق بالحسين، فأدركناه وقد مرَّ برجل من بني أسد، فهمَّ الحسين أن يكلِّمه ويسأله ثم ترك، فجئنا ذلك الرجل، فسألناه عن أخبار الناس، فقال: واللَّه لم أخرج من الكوفة حتى قُتل مسلم بن عَقيل وهانئ بن عروة، ورأيتهما يُجرّان بأرجلهما في السوق. قالا: فلحقنا الحسين فأخبرناه، فجعل يقول: إنا للَّه وإنا إليه راجعون، مرارًا. فقلنا له: اللَّهَ اللَّهَ في نفسك. فقال: لا خير في العيش بعدهما. قلنا: خارَ اللَّهُ لك. وقال له بعض أصحابه: واللَّه ما أنت مثل مسلم بن عَقيل، ولو قدمتَ الكوفة لكان الناس إليك أسرع
(2)
.
وقال غيرهما: لما سمع أصحاب الحسين بمقتل مسلم بن عَقيل وثب عند ذلك بنو عَقيل بن أبي طالب وقالوا: لا واللَّه لا نرجع حنى ندركَ ثأرنا أو نذوقَ ما ذاق أخونا.
فسار الحسين، حتى إذا كان بزَرُود
(3)
بلغَه أيضًا مقتل الذي بعثه بكتابه إلى أهل الكوفة بعد أن خرج من مكة ووصل إلى حاجر، فقال: قد خذلتنا شيعتُنا، فمن أحبَّ منكم الانصراف فلينصرف من غير حرج عليه، وليس عليه منا ذِمام. قال: فتفرَّق الناس عنه أيادِي سَبَا
(4)
يمينًا وشمالًا حتى بقي في أصحابه الذين جاؤوا معه [من مكة. وإنَّما فعل ذلك لأنه ظنَّ أن مَن اتَّبعه من الأعراب إنما اتَّبعوه لأنه يأتي بلدًا قد استقامت له طاعةُ أهلها، فكرِهَ أن يسيروا معه إلَّا وهم يعلمون على ما يقدمون، وقد علم أنه إذا بيَّن لهم الأمر لم يصحبْه إلَّا مَنْ يريد مواساته في الموت معه]
(5)
.
قال: فلمّا كان السَّحَر أمر فتيانه أن يستقُوا من الماء ويُكثروا منه. ثم سار حتى مرَّ ببطن العَقَبة، فنزل بها.
وقال محمد بن سعد: حدَّثنا موسى بن إسماعيل، حدَّثنا جعفر بن سليمان، عن يزيد الرِّشْك قال: حدّثني من شافَهَ الحسين قال: [رأيت أخبية مضروبة بفلاة من الأرض، فقلت: لمن هذه؟ قالوا: هذه
(1)
في ط: المنذر.
(2)
تاريخ الطبري (5/ 398).
(3)
زرود: منطقة رملية بين الثعلبية والخزيمية بطريق الحاج من الكوفة. معجم البلدان (3/ 139).
(4)
"تفرقوا أيادي سبا": مثل ضربته العرب في الفرقة: أي فرقتهم طرقهم التي سلكوها كما تفرق أهل سبأ في مذاهب شتى. والعرب لا تهمز سبا في هذا الموضع لأنه كثر في كلامهم فاستثقلوا فيه الهمز، وإن كان أصله مهموزًا. اللسان: مادة (سبأ).
(5)
ما بين حاصرتين سقط من ب. والخبر في تاريخ الطبري (5/ 398 - 399).
لحسين، قال]
(1)
: فأتيتُه، فإذا شيخٌ يقرأ القرآن والدموعُ تسيل على خدَّيه ولحيته، قال: قلت بأبي وأمي يا بن رسول اللَّه، ما أنزلك هذه البلاد والفلاة التي ليس بها أحد؟! فقال: هذه كتب أهل الكوفة إليَّ، ولا أراهم إلّا قاتليّ، فإذا فعلوا ذلك لم يَدَعوا للَّه حرمة إلّا انتهكوها، فيسلِّط اللَّه عليهم مَنْ يذِلُّهم حتى يكونوا أذلَّ مِن فَرَمِ الأَمَة - يعني: مِقْنَعَتها
(2)
. وأخبرنا علي بن محمد، عن الحسن بن دينار، عن معاوية بن قُرَّة قال: قال الحسين: واللَّه لتَعْتدنَ عليَّ كما اعتدت بنو إسرائيل في السبت. وحدّثنا علي بن محمد، عن جعفر بن سليمان الضُّبعي قال: قال الحسين: واللَّه لا يَدَعوني حتى يستخرجوا هذه العَلَقة من جوفي، فإذا فعلوا ذلك سلَّط اللَّه عليهم من يُذلُّهم حتى يكونوا أذل مِن فَرَم الأَمَة. فقُتل بِنيْنَوى
(3)
يوم عاشوراء سنة إحدى وستين.
وقال يعقوب بن سفيان: حدَّثنا أبو بكر الحميدي، حدَّثنا سفيان، حدَّثنا شهاب بن خِرَاش
(4)
، عن رجل من قومه قال: كنت في الجيش الذين بعثهم ابن زياد إلى الحسين [وكانوا أربعة آلاف يريدون قتال الدَّيلم، فعيَّنهم ابن زياد، وصرفهم إلى قتال الحسين]
(5)
فلقيتُ حسينًا، فرأيته أسود الرأس واللحية، فقلت له: السلام عليك أبا عبد اللَّه. فقال: وعليك السلام -وكانت فيه غُنَّة- فقال: لقد باتت فيكم سللة منذ الليلة - يعني سُرّاقًا
(6)
. قال شهاب: فحدثت به زيد بن علي فأعجبه: وكانت فيه غُنَّة. قال سفيان بن عيينة: وهي في الحسينيِّين
(7)
.
قال أبو مِخْنف: عن أبي خالد الكاهلي قال: لما صبَّحت الخيلُ الحسينَ بن علي رفع يديه فقال: اللهم أنت ثقتي في كل كرب، ورجائي في كل شدَّة، وأنت لي من كل أمر نزل بي ثقةٌ وعدَّة، فكم من همٍّ يضعف فيه الفؤاد، وتقلُّ فيه الحيلة، ويخذُل فيه الصديق، ويشمَت فيه العدو، فأنزلتُه بك وشكوتُه إليك، رغبةً فيه إليك عمن سواك، ففرَّجتَه وكشفتَه وكفيتَنيه، فأنت
(8)
وليُّ كل نعمة، وصاحب كل حسنة، ومنتهى كل غاية
(9)
.
(1)
ما بين حاصرتين سقط من أ، ب.
(2)
"المقنعة": ما تغطي به المرأة رأسها. وفي النهاية لابن الأثير (3/ 441): (حتى تكونوا أذل من فرم الأمة) هو ما تعالج به المرأة فرجها ليضيق. وقيل: هو خرقة الحيض.
(3)
"نينوى": ناحية بسواد الكوفة، منها كربلاء.
(4)
تحرف في ط والمعرفة والتاريخ إلى: حراش وفي أ إلى: حرشان.
(5)
ما بين حاصرتين سقط من ب، كما سقطت لفظة آلاف من المعرفة والتاريخ.
(6)
في ط: سرافًا تحريف.
(7)
المعرفة والتاريخ (3/ 325).
(8)
بعد هذا في ط: "لي" وليست في م ولا في تاريخ الطبري (5/ 423)، ولا في تاريخ دمشق.
(9)
مختصر تاريخ دمشق (7/ 146).
وقال أبو عبيد القاسم بن سلّام: حدّثني حجّاج بن محمد، عن أبي مَعْشر
(1)
، عن بعض مشيخته قال: قال الحسين حين نزلوا كَرْبلاء: ما اسم هذه الأرض؟ قالوا: كَرْبلاء. قال: كربٌ وبلاء.
وبعث عبيدُ اللَّه بن زياد عمرَ بن سعد لقتالهم، فقال له الحسين: يا عمر! اختَرْ لي إحدى ثلاث خصال: إما أن تتركني أرجع كما جئت، فإن أبيتَ هذه فسيِّرْني إلى يزيد [فأضع يدي في يده فيحكم فيَّ ما رأى، فإن أبيتَ هذه فسيِّرْني إلى الترك فأقاتلهم حتى أموت. فأرسل إلى ابن زياد بذلك، فهمَّ أن يسيِّره إلى يزيد]
(2)
فقال شَمِرُ بن ذي الجَوْشَن: لا، إلَّا أن ينزل على حُكمك. فأرسل إلى الحسين بذلك، فقال الحسين: واللَّه لا أفعل. وأبطأ عمر عن قتاله، فأرسل ابن زياد شَمِرَ بن ذي الجَوْشَن وقال له: إنْ تقدَّم عمرُ فقاتلَ وإلَّا فاقتله وكن مكانه، فقد ولَّيتك الإمرة. وكان مع عمر قريب من ثلاثين رجلًا من أعيان أهل الكوفة، فقالوا له: يعرض عليكم ابن بنت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ثلاث خصال فلا تقبلوا منها شيئًا؟! فتحوَّلوا مع الحسين يقاتلون معه
(3)
.
وقال أبو زرعة: حدَّثنا سعيد بن سليمان، حدَّثنا عبّاد بن العوّام، عن حُصين قال: أدركتُ ذاك -يعني مقتل الحسين- قال: فحدّثني سعد بن عبيدة قال: فرأيت الحسين وعليه جبَّة برود، ورماه رجل يقال له عمرو بن خالد الطُّهَوي بسهم، فنظرتُ إلى السهم معلَّقًا بجبَّته
(4)
.
وقال ابن جرير: حدَّثنا محمد بن عمّار الرازي، حدَّثنا سعيد بن سليمان، حدَّثنا عبّاد بن العوّام، حدَّثنا حُصين: أن الحسين بعث إليه أهل الكوفة: إنَّ معك مئة ألف. فبعث إليهم مسلم به عَقيل. . . فذكر قصة مقتل مسلم كما تقدم.
قال حُصين: فحدّثني هلال بن يِسَاف: أن ابن زياد أمر الناس أن يأخذوا ما بين واقصةَ إلى طريق الشام إلى طريق البصرة، فلا يَدَعون أحدًا يلج ولا أحدًا يخرج، وأقبل الحسين ولا يشعر بشيء، حتى أتى الأعراب، فسألهم عن الناس، فقالوا: واللَّه لا ندري، غير أنك لا تستطيع أن تلج ولا تخرج. قال: فانطلق يسير نحو يزيد بن معاوية، فتلقَّته الخيول بكربلاء، فنزل يناشدهم اللَّه والإسلام. قال: وكان بعث إليه ابنُ زياد عمرَ بن سعد وشَمِرَ بن ذي الجَوْشَن وحُصين بن نُمير، فناشدهم اللَّهَ والإسلام أن يسيِّروه إلى أمير المؤمنين يزيد، فيضع يده في يده، فقالوا له: لا، إلَّا أن تنزل على حُكم ابن زياد. وكان في جملة من معهم الحرُّ بن يزيد الحَنْظلي ثم النَّهْشلي على خيل، فلمّا سمع ما يقول الحسين قال
(1)
تحرفت لفظة معشر في أ إلى: مسعر وفي ب إلى: مسعود. والخبر في سير أعلام النبلاء (3/ 311).
(2)
ما بين حاصرتين سقط من أ.
(3)
مختصر تاريخ دمشق (7/ 147).
(4)
تاريخ أبي زرعة الدمشقي (1/ 626).
لهم: ألا تقبلون من هؤلاء ما يَعرضون عليكم؟! واللَّه لو سألتْكم هذا الترك والدَّيلم ما حلَّ لكم أن تردُّوهم. فأبَوْا إلّا حكم ابن زياد، فضرب الحرُّ وجه فرسه وانطلق إلى الحسين وأصحابه، فظنُّوا أنه جاء ليقاتلهم، فلمّا دنا منهم قلب ترسه وسلَّم عليهم، ثم كرَّ على أصحاب ابن زياد فقتل منهم رجلين، ثم قُتل رحمه الله
(1)
.
وذكر أن زهير بن القَيْن البَجَلي لقي الحسين وكان حاجًّا، فأقبل معه، وخرج إليه ابن أبي مخرمة
(2)
المرادي ورجلان آخران -وهما عمرو بن الحجَّاج ومعن السُّلمي-[قال الحُصين: وقد رأيتهما. قال:]
(3)
وأقبل الحسين يكلّم من بعث إليه ابن زياد [وإني لأنظر إليه]
(4)
وعليه جبَّة من برود، فلمّا كلَّمهم انصرف، فرماه رجل من بني تميم يقال له عَمْرو الطُّهَوي بسهم بين كتفيه، فإني لأنظر إلى السهم بين كتفيه متعلِّقًا بجبَّته، فلما أبَوْا عليه رجع إلى مصافِّه، وإني لأنظر إليهم وهم قريب من مئة رجل، فيهم لصُلب علي خمسة، ومن بني هاشم ستة عشر، ورجل من بني سُليم حليف لهم، ورجل من بني كنانة حليف لهم، وابن عم ابن زياد.
وقال حُصين: وحدّثني سعد بن عبيدة قال: إنا لمستنقعون في الماء مع عمر بن سعد، إذ أتاه رجل فسارَّه فقال له: قد بعث إليك ابن زياد جُوَيرية بن بدر التميمي، وأمره إن لم تقاتل القوم أن يضرب عنقك. قال: فوثب إلى فرسه فركبها، ثم دعا بسلاحه فلبسه، وإنه لعلى فرسه، ونهض بالناس إليهم فقاتَلوهم، فجيء برأس الحسين إلى ابن زياد، فوضع بين يديه، فجعل يقول بقضيبه في أنفه ويقول: إن أبا عبد اللَّه كان قد شَمِط
(5)
. قال: وجيء بنسائه وبناته وأهله، وكان أحسن شيء صنَعَه أن أمر لهم بمنزل في مكان معتزل، وأجرى عليهم رزقًا، وأمر لهم بنفقة وكسوة. قال: وانطلق غلامان منهم من أولاد عبد اللَّه بن جعفر -أو ابن أبي جعفر- فأتيا رجلًا من طيئٍ، فلجأ إليه يستجيران به، فضرب أعناقهما وجاء برأسَيْهما حتى وضعهما بين يدي ابن زياد. قال: فهمَّ ابن زياد بضرب عنقه، وأمر بداره فهُدمت
(6)
.
قال: وحدّثني مولى لمعاوية بن أبي سفيان قال: لما أُتي يزيدُ برأس الحسين فوضع بين يديه، رأيته يبكي ويقول: لو كان بينه وبينه رحِمٌ ما فعل هذا - يعني ابن زياد
(7)
.
(1)
تاريخ الطبري (5/ 392).
(2)
في تاريخ الطبري (5/ 392) بحرية.
(3)
ما بين الحاصرتين ليس في ط، واستدركناه من م، وهو في تاريخ الطبري أيضًا (5/ 392).
(4)
ما بين الحاصرتين من م، وهو أيضًا في تاريخ الطبري.
(5)
"شمط": شاخ وكبر.
(6)
تاريخ الطبري (5/ 393).
(7)
المصدر السابق.
قال الحصين: ولما قُتل الحسين لبثوا شهرين أو ثلاثة كأنما تلطَّخ الحوائط بالدماء ساعة تطلع الشمس حتى ترتفع
(1)
.
[قال أبو مخنف: حدّثني لَوْذان -أحد بني
(2)
عكرمة- أن أحد عمومته سأل الحسين: أين تريد؟ فحدَّثه، فقال له: أنشُدُك اللَّه لما انصرفت راجعًا، فواللَّه ما بين يديك من القوم أحد يذبُّ عنك ولا يقاتل معك، وإنما -واللَّه- أنت قادم على الأسنَّة والسيوف، فإنَّ هؤلاء الذين بعثوا إليك لو كانوا كفَوْك مؤنة القتال ووطؤوا لك الأشياء ثم قدمتَ عليهم بعد ذلك كان ذلك رأيًا، فأمّا على هذه الصفة فإني لا أرى لك أن تفعل. فقال له الحسين: إنه ليس يخفى عليَّ ما قلتَ وما رأيت، ولكنَّ اللَّه لا يُغلب على أمره. ثم ارتحل قاصدًا الكوفة.
وقال خالد بن العاص:
رُبَّ مستَنْصَحٍ يَغُشُّ ويُرْدِي
…
وظَنِينٍ بالغَيْب يُلفَى نَصِيحا]
(3)
وقد حج بالناس في هذه السنة عمرو بن سعيد بن العاص، وكان عامل المدينة ومكة ليزيد. وقد عَزل يزيدُ عن إمرة المدينة الوليد بن عُتبة وولّاها عمرو بن سعيد بن العاص في شهر رمضان منها [وكان عُبيد اللَّه بن زياد على البصرة والكوفة]
(4)
.
ثم دخلت سنة إحدى وستين
استهلّت هذه السنة والحسين بن علي سائر إلى الكوفة فيما بين مكة والعراق ومعه أصحابه وقراباته، فقُتل في يوم عاشوراء من شهر المحرّم من هذه السنة على المشهور الذي صحَّحه الواقدي وغير واحد، وزعم بعضهم أنه قُتل في صفر منها، والأول أصح.
وهذه صفة مَقْتله مأخوذة من كلام أئمَّة هذا الشأن لا كما يزعمُه أهل التشيُّع من الكذب الصَّريح والبُهتان
قال أبو مِخْنف: عن أبي جَنَاب، عن عدي بن حَرْملة، عن عبد اللَّه بن سُليم
(5)
والمذري بن
(1)
المصدر السابق.
(2)
قوله: أحد بني تحرف في ط إلى: حدثني. والخبر في تاريخ الطبري (5/ 399).
(3)
ما بين حاصرتين سقط من ب. والبيت في تاريخ الطبري (5/ 382) وهو لإبراهيم بن العباس الصولى كما في فهرسه.
(4)
ما بين الحاصرتين من م.
(5)
اضطربت النسخ في هذا السند: فوقع في أ، ط. . . عن عدي بن حرملة، عن عبد اللَّه بن حرملة، عن عبد اللَّه بن =
المشمعِلّ الأسديّين قالا: أقبل الحسين، فلمّا نزل شَرَاف
(1)
قال لغِلمانه وقت السحر: استقُوا من الماء فأكثِروا، ثم ساروا إلى صدر النهار، فسمع الحسين رجلًا يكبِّر، فقال له: ممَّ كبَّرت؟ فقال: رأيت النخل، فقال له الأسديّان: إن هذا المكان لم يرَ أحد منه نخلة، فقال الحسين: فماذا تريانه رأى؟ فقالا: هذه الخيل قد أقبلت، فقال الحسين: أما لنا ملجأ نجعله في ظهورنا ونستقبل القوم من وجه واحد؟ فقالا: بلى، ذو حُسم، فأخذ ذات اليسار إليها فنزل، وأمر بأبنيته فضُربت، وجاء القوم -وهم ألف فارس مع الحرِّ بن يزيد التميمي، وهم مقدمة الجيش الذين بعثهم ابن زياد- حتى وقفوا في مقابلته في نَحْر
(2)
الظَّهيرة، والحسين وأصحابه معتمُّون متقلِّدو سيوفهم، فأمر الحسين أصحابه أن يتروَّوا من الماء، ويَسقُوا خيولهم، وأن يسقُوا خيول أعدائهم أيضًا.
وروى هو وغيره قالوا: لمّا دخل وقتُ الظهر أمر الحسين الحجَّاج بن مَسْروق الجُعْفي فأذَّن، ثم خرج الحسين في إزار ورداءٍ ونعلَين، فخطب الناس من أصحابه وأعدائه، واعتذر إليهم في مجيئه هذا إلى هاهنا: بأنه قد كتب إليه أهل الكوفة: أن ليس لهم إمام، وإن أنتَ قدمتَ علينا بايعناك وقاتلنا معك. ثم أُقيمت الصلاة، فقال الحسين للحرّ: تريد أن تصلي بأصحابك؟ قال: لا، ولكن صلِّ أنت ونصلِّي نحن وراءك. فصلَّى بهم الحسين، ثم دخل خيمته واجتمع به أصحابه، وانصرف الحرُّ إلى جيشه وكلٌّ على أُهبته، فلما كان وقتُ العصر صلَّى بهم الحسين، ثم انصرف، فخطبهم وحثَّ على السمع والطاعة له وخلع من عاداهم من الأدعياء السائرين بالجَوْر. فقال له الحرّ: إنا لا ندري ما هذه الكتب ولا مَنْ كتبها، فأحضر الحسين خُرجَيْن مملوءين كتبًا، فنثرها بين يديه وقرأ منها طائفة، فقال الحرّ: لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك
(3)
وقد أُمرنا -إذا نحن لقيناك- أن لا نفارقك حتى نُقدمك على عبيد اللَّه بن زياد. فقال الحسين: الموت أدنى إليك من ذلك، ثم قال الحسين لأصحابه: اركبوا، فركبوا وركب النساء، فلمَّا أراد الانصراف حال القوم بينه وبين الانصراف، فقال الحسين للحرّ: ثكلتك أمُّك! ماذا تريد؟ فقال له الحرّ: أما واللَّه لو غيرك يقولها لي [من العرب وهو على مثل الحال التي أنت عليها]
(4)
لأقتصنَّ منه ولما تركت ذكر أمِّه، ولكن لا سبيل إلى ذكر أمك إلّا بأحسن ما نقدر عليه. وتقاول القوم
= سليم. وتحرف سليم في ب إلى: سليمان. وما أثبتنا من تاريخ الطبري (5/ 400) علمًا بأن هذا السند كثير الورود عند ابن جرير.
(1)
تحرفت في ط إلى: شرف. وشراف: على ثمانية أميال من الأحساء التي لبني وهب، ومن شراف إلى واقصة ميلان. معجم البلدان (3/ 331).
(2)
تحرفت في ط إلى: نحو. "ونحر الظهيرة": هو حين تبلغ الشمس منتهاها من الارتفاع، كأنها وصلت إلى النحر وهو أعلى الصدر. اللسان: مادة (نحر).
(3)
بعد هذا في ط: "في شيء" وليست في م ولا في تاريخ الطبري ولا في الكامل لابن الأثير، لذلك حذفناها.
(4)
ما بين حاصرتين سقط من ب.
وتراجعوا، فقال له الحرّ: إني لم أؤمر بقتالك، وإنما أُمرت أن لا أفارقك حتى أُقدمك الكوفة على ابن زياد، فإن أبيتَ فخذ طريقًا لا تقدمك الكوفة ولا تردّك إلى المدينة، واكتب أنت إلى يزيد، وأكتب أنا إلى ابن زياد إن شئت، فلعل اللَّه أن يأتيَ بأمر يرزقني فيه العافية من أن أُبتلى بشيء من أمرك. قال: فأخذ الحسين يسارًا عن طريق العُذَيب
(1)
والقادسيّة، والحرُّ بن يزيد يسايره وهو يقول له: يا حسين! إني أذكِّرك اللَّهَ في نفسك، فإني أشهد لئن قاتلتَ لتُقتلنّ، ولئن قوتلت لتَهلكنَّ فيما أرى. فقال له الحسين: أفبالموت تخوِّفني؟ ولكن أقول كما قال أخو الأوس لابن عمِّه وقد لقيه وهو يريد نصرة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: أين تذهب فإنك مقتول؟ فقال:
سَأمضي وما بالموتِ عارٌ على الفَتَى
…
إذا ما نوى حقًّا وجاهَدَ مُسْلِما
وآسَى الرجالَ الصَّالحينَ بنفسِهِ
…
وفارقَ خَوْفًا أنْ يعيشَ ويُرْغَما
ويروى على صفة أخرى:
سَأمضي وما بالموتِ عارٌ على امرئٍ
…
إذا ما نوى حقًّا ولم يُلفَ مُجْرِما
فإنْ متُّ لم أَندمْ وإنْ عشتُ لم أُلَمْ
…
كفى بكَ موتًا أن تَذِلَّ وتُرْغَما
(2)
فلما سمع ذلك الحرُّ منه تنحَّى عنه وجعل يسير بأصحابه ناحية عنه، فانتهَوْا إلى عُذيب الهِجانات [كان بها هجائن النعمان ترعى هنالك]
(3)
فإذا هم بأربعة نفر قد أقبلوا من الكوفة على رواحلهم يخبُّون ويجنِّبون
(4)
فرسًا لنافع بن هلال يقال له الكامل، يقصدون الحسين، ودليلُهم رجل يقال له الطِّرِمَاح بن عديّ راكب على فرس وهو يقول:
يا ناقتي لا تُذْعَري من زَجْري
…
وشمِّري قبلَ طلوعِ الفَجْر
بخيرِ رُكبانٍ وخيرِ سَفْر
…
حتى تحلِّي بكريم النَّجْر
(5)
الماجدِ الحرِّ رَحيبِ الصَّدر
…
أَتى بهِ اللَّهُ لخير أَمْر
ثُمَّتَ أَبقاهُ بقاءَ الدَّهر
فأراد الحرُّ أن يحُول بينهم وبين الحسين، فمنعه الحسين من ذلك، فلمّا خلَصوا إليه قال لهم: أخبروني عن الناس وراءكم، فقال له مجمع بن عبد اللَّه العائذي
(6)
-أحد النفر الأربعة: أما أشراف الناس
(1)
"العذيب": ما بين القادسية والمجثة، بينه وبين القادسية أربعة أميال. معجم البلدان (4/ 92).
(2)
الخبر مع الشعر في تاريخ الطبري (5/ 404) وابن الأثير (4/ 49).
(3)
من أ فقط، ومثله في تاريخ الطبري (5/ 404).
(4)
"الخبب والتجنيب": صفتان تستحبان في عَدْو الفرس.
(5)
"النجر": الأصل والحسب.
(6)
في أ، ط: العامري. والخبر في تاريخ الطبري (5/ 405) واللباب لابن الأثير (2/ 308).
فهم إلْب [عليك، لأنهم قد عظمت رشوتهم، وملئت غرائرهم، يُستمال بذلك ودُّهم، ويُستخلص به نصيحتهم، فهم إلْبٌ]
(1)
واحد عليك، وأما سائر الناس فأفئدتهم تَهوي إليك، وسيوفهم غدًا مشهورة عليك. قال لهم: فهل لكم برسولي علم؟ قالوا: ومن رسولك؟ قال: قيس بن مُسْهر الصَّيداوي، قالوا: نعم، أخذه الحُصين بن نُمير فبعث به إلى ابن زياد، فأمره ابن زياد أن يلعنك ويلعن أباك، فصلَّى عليك وعلى أبيك ولعن ابنَ زياد وأباه، ودعا الناس إلى نصرتك، وأخبرهم بقدومك، فأمر به فأُلقي من رأس القصر فمات. فترقرقت عينا الحسين وقرأ قوله تعالى:{فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} الآية. . . . [الأحزاب: 23]، ثم قال: اللهمَّ اجعل منازلهم الجنَّة، واجمع بيننا وبينهم في مستقرٍّ من رحمتك، ورغائب مذخور ثوابك.
ثم إن الطِّرِمَاح بن عديّ قال للحسين: أنظرُ فما أرى معك أحدًا إلَّا هذه الشِّرْذمة اليسيرة، وإني لا أرى هؤلاء القوم الذين يسايرونك أكفاء لمن معك، فكيف وظاهر الكوفة مملوء بالخيول والجيوش يعرضون ليقصدوك! فأنشُدُك اللَّهَ إن قدرتَ أن لا تتقدم إليهم شبرًا فافعل، فإن أردتَ أن تنزل بلدًا يمنعك اللَّهُ به [حتى ترى رأيك فسِرْ معي حتى أنزلك مَنَاع جبلنا، وهو أَجَأ، منعنا اللَّه به]
(2)
من ملوك غسان وحِمْير، ومن النعمان بن المنذر، ومن الأسود والأحمر، واللَّه إن دخلنا ذلٌّ قطُ فأسير معك حتى أنزلك القُريَّة ثم تبعث إلى الرجال ممن بأَجَأ وسَلمى من طيِّئ، ثم أقم فينا ما بدا لك، فأنا زعيم بعشرة آلاف طائي يضربون بين يديك بأسيافهم، واللَّه لا يوصل إليك أبدًا ومنهم عين تَطرف. فقال له الحسين: جزاك اللَّه خيرًا. ولم يرجع عمَّا هو بصدده، فودَّعه الطِّرِمّاح.
ومضى الحسين، فلمّا كان من الليل أمر فتيانه أن يستقُوا من الماء كفايتهم، ثم سرى فنَعَس في مسيره حتى خفق برأسه، واستيقظ وهو يقول: إنا للَّه وإنا إليه راجعون، والحمد للَّه ربِّ العالمين. ثم قال: رأيت فارسًا على فرس وهو يقول: القوم يسيرون والمنايا تسري إليهم، فعلمتُ أنها أنفسنا نُعيت إلينا. فلمّا طلع الفجر صلَّى بأصحابه، وعجل الركوب، ثم تياسر في مسيره حتى انتهى إلى نِيْنَوى، فإذا راكب متنكِّب قوسًا قد قدم من الكوفة، فسلَّم على الحرِّ بن يزيد ولم يسلِّم على الحسين، ودفع إلى الحرِّ كتابًا من ابن زياد، ومضمونُه: أن يَعْدِلَ بالحسين في السير إلى العراء
(3)
في غير قرية ولا حِصْن حتى تأتيه رسلُه وجنوده، وذلك يوم الخميس الثاني من المحرَّم سنة إحدى وستين. فلمَّا كان من الغد قدم عمر بن سعد بن أبي وقاص في أربعة آلاف، وكان قد جهَّزه ابن زياد في هؤلاء إلى الدَّيلم، وخيَّم بظاهر الكوفة، فلمّا قدم عليهم أمر الحسين قال له: سِرْ إليه، فإذا فرغتَ منه فسِرْ إلى الدَّيلم. فاستعفاه عمر بن سعد من
(1)
ما بين حاصرتين سقط من ب. وقوله: فهم إلب واحد أي: مجتمعون عليه بالعداوة.
(2)
ما بين حاصرتين سقط من المطبوع، والمثبت في أ، ب وتاريخ الطبري (5/ 406).
(3)
كذا في (ب) وتاريخ الطبري (5/ 408) ووقعت في أ، ط: العراق.
ذلك، فقال له ابن زياد: إن شئت عفيتُك وعزلتُك عن ولاية هذه البلاد التي قد استنبتُك عليها، فقال: حتى أنظر في أمري، فجعل لا يستشير أحدًا إلّا نهاه عن المسير إلى الحسين، حتى قال له ابن أخته حمزة بن المغيرة بن شعبة: إياك أن تسير إلى الحسين فتعصي ربَّك وتقطع رحمَك، فواللَّه لأن تخرج من سلطان الأرض كلِّها أحبُّ إليك من أن تلقى اللَّه بدم الحسين، فقال: إني أفعل إن شاء اللَّه تعالى. ثم إن عبيد اللَّه بن زياد تهدَّده وتوعَّده بالعزل والقتل، فسار إلى الحسين، فنازله في المكان الذي ذكرنا، ثم بعث إلى الحسين الرسل: ما الذي أقدمك؟ فقال: كتب إليَّ أهل الكوفة أن أقدم عليهم، فإذ قد كرهوني فأنا راجع إلى مكة وأذركم. فلمّا بلغ عمر بن سعد هذا قال: أرجو أن يعافيَني اللَّهُ من حربه. وكتب إلى ابن زياد بذلك، فردَّ عليه ابن زياد: أن حُلْ بينهم وبين الماء كما فُعل بالتقيِّ الزكيِّ المظلوم أمير المؤمنين عثمان بن عفان، واعرِضْ على الحسين أن يبايع هو ومن معه لأمير المؤمنين يزيد بن معاوية، فإذا فعلوا ذلك رأَيْنا رأْيَنا. وجعل أصحاب عمر بن سعد يمنعون أصحاب الحسين من ورود الماء، وعلى سرية منهم عمرو بن الحجّاج، فدعا عليهم [الحسين]
(1)
بالعطش، فمات هذا الرجل من شدَّة العطش.
ثم إن الحسين طلب من عمر بن سعد أن يجتمع به بين العسكرين، فجاء كل واحد منهما في نحو من عشرين فارسًا، فتكلَّما طويلًا حتى ذهب هَزِيع
(2)
من الليل، ولم يدر أحد ما قالا، ولكن ظنَّ بعض الناس أنه سأله أن يذهب معه إلى يزيد بن معاوية إلى الشام ويتركا العسكرين متواقفين، فقال عمر: إذًا يهدم ابن زياد داري، فقال الحسين: أنا أبنيها لك أحسن مما كانت. قال: إذًا يأخذ ضِيَاعي، قال: أنا أعطيك خيرًا منها من مالي بالحجاز. قال: فتكرَّه عمر بن سعد من ذلك. وقال بعضهم: بل سأل منه إما أن يذهبا إلى يزيد، أو يتركه يرجع إلى الحجاز، أو يذهب إلى بعض الثغور فيقاتل الترك. فكتب عمر إلى عبيد اللَّه بذلك، فقال: نعم، قد قبلت. فقام الشَّمِر بن ذي الجَوْشن فقال: لا واللَّه حتى ينزل على حُكمك هو وأصحابه. ثم قال: واللَّه لقد بلغني أن حسينًا وعمر بن سعد يجلسان بين العسكرين فيتحدَّثان عامة الليل. فقال له ابن زياد: فنِعم ما رأيت.
وقد روى أبو مِخْنف: حدّثني عبد الرحمن بن جندَب، عن عقبة بن سِمْعان قال: لقد صحبتُ الحسين من مكة إلى حين قُتل، واللَّه ما من كلمة قالها في موطن إلَّا وقد سمعتها، وإنه لم يسأل أن يذهب إلى يزيد فيضع يده في يده، ولا أن يذهب إلى ثغر من الثغور، ولكن طلب منهم أحد أمرين: إما أن يرجع من حيث جاء، وإما أن يَدَعوه يذهب في الأرض العريضة حتى ينظر ما يصير أمر الناس إليه
(3)
.
(1)
من ب فقط. تاريخ الطبري (5/ 412).
(2)
"الهزيع من الليل": طائفة منه نحو ثلثه أو ربعه.
(3)
تاريخ الطبري (5/ 413 - 414).
ثم إن عبيد اللَّه بعث شَمِر بن ذي الجَوْشن فقال: اذهب فإن جاء حسين وأصحابه على حُكمي وإلّا فمُرْ عمر بن سعد أن يقاتلهم، فإن تباطأ عن ذلك فاضرب عنقه ثم أنت الأمير على الناس. وكتب إلى عمر بن سعد يتهدَّده على توانيه في قتال الحسين. وأمره إن لم يجئ الحسين إليه أن يقاتله ومن معه فإنهم مشاقُّون. فاستأمن عبيد
(1)
اللَّه بن أبي المحلّ لبني عمته أمِّ البنين بنت حِزام
(2)
من علي، وهم العباس وعبد اللَّه وجعفر وعثمان. فكتب لهم ابن زياد كتاب أمان وبعثه عبيد اللَّه بن أبي المحلّ مع مولى له يقال له: كرمان
(3)
، فلمّا بلغهم ذلك قالوا: أما أمان ابن سُمَيَّة فلا نريده، وإنا لنرجو أمانًا خيرًا من أمان ابن سُمَيَّة.
ولما قدم شَمِر بن ذي الجَوْشن على عمر بن سعد بكتاب عبيد اللَّه بن زياد، قال عمر: أبعدَ اللَّهُ دارك، وقبَّح ما جئت به، واللَّه إني لأظنك الذي صرفتَه عن الذي عرضتُ عليه من الأمور الثلاثة التي طلبها الحسين، فقال له شَمر: فأخبرني ما أنت صانع، أمقاتلهم أنت أو تاركي إياهم؟ فقال له عمر: لا، ولا كرامة لك! أنا أتولَّى ذلك، وجعله على الرَّجَّالة. ونهضوا إليهم عشية يوم الخميس التاسع من المحرّم، فقام شَمِر بن ذي الجَوْشن فقال: أين بنو أختنا؟ فقام إليه العباس وعبد اللَّه وجعفر وعثمان بنو علي بن أبي طالب، فقال: أنتم آمنون. فقالوا: إن أمَّنْتنا وابن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وإلَّا فلا حاجة لنا بأمانك.
قال: ثم نادى عمر بن سعد في الجيش: يا خيل اللَّه اركبي وأبشري، فركبوا وزحفوا إليهم بعد صلاة العصر من يومئذ، هذا والحسين أمام خيمته محتبيًا بسيفه، نَعَس فخفق برأسه، وسمعت أخته الضجَّة، فدنت منه فأيقظته، فرجع برأسه كما هو وقال: إني رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في المنام، فقال لي:"إنَّكَ تروحُ إلينا"، فلطمتْ وجهها وقالت: يا ويلتا. فقال: ليس لك الويل يا أختاه، اسكُني رحمك الرحمن. وقال له أخوه العباس بن علي: يا أخي جاءك القوم، فقال: اذهب إليهم فسَلْهم: ما بدا لهم؟ فذهب إليهم في نحو من عشرين فارسًا فقال: ما لكم؟ فقالوا: جاء أمر الأمير إما أن تأتوا على حُكمه، وإما أن نقاتلكم. فقال: مكانَكم حتى أذهب إلى أبي عبد اللَّه فأعلمه. فرجع ووقف أصحابه، فجعلوا يتراجعون القول ويؤنِّب بعضهم بعضًا، يقول أصحاب الحسين: بئس القوم أنتم، تريدون قتل ذريَّة نبيِّكم وخيار الناس في زمانهم؟! ثم رجع العباس بن علي من عند الحسين إليهم فقال لهم: يقول لكم أبو عبد اللَّه: انصرفوا عشيَّتكم هذه حتى ينظر في أمره الليلة. فقال عمر بن سعد لشَمِر بن ذي الجَوْشن: ما تقول؟ فقال: أنت الأمير والرأيُ رأيك، فقال عمرو بن الحجَّاج بن سلمة الزُّبيدي:
(1)
في تاريخ الطبري (5/ 415) وابن الأثير (4/ 56) عبد.
(2)
في ط: "حرام"، مصحف.
(3)
في تاريخ الطبري (5/ 415): كزمان.
سبحان اللَّه! واللَّه لو سألكم ذلك رجل من الدَّيلم لكان ينبغي إجابته. [وقال قيس بن الأشعث: أجِبْهم إلى ما سألوك، فلعَمْري]
(1)
ليصبحنَّك بالقتال غُدْوة. وهكذا جرى الأمر، فإن الحسين لما رجع العباس قال له: ارجع فاردُدْهم هذه العشيَّة لعلَّنا نصلي لربنا هذه الليلة وندعوه ونستغفره، فقد علم اللَّه مني أني أُحب الصلاة له، وتلاوة كتابه، والاستغفار والدعاء.
وأوصى الحسين في هذه الليلة إلى أهله، وخطب أصحابه في أول الليل، فحمد اللَّه تعالى وأثنى عليه، وصلَّى على رسوله بعبارة فصيحة بليغة، وقال لأصحابه: من أحبَّ منكم أن ينصرف إلى أهله في ليلته هذه فقد أذنتُ له، فإن القوم إنما يريدونني. [فقال مالك بن النضر: عليَّ دينٌ ولي عيال، فقال: هذا الليل قد غشيَكم فاتَّخِذوه جَمَلًا
(2)
، ثم ليأخذ كلُّ رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي ثم اذهبوا في بسيط الأرض في سواد هذا الليل إلى بلادكم ومدائنكم، فإن القوم إنما يريدونني، فلو قد أصابوني لهَوْا عن طلب غيري، فاذهبوا حتى يفرِّج اللَّه عز وجل. فقال له إخوته وأبناؤه وبنو أخيه: لا بقاء لنا بعدك، ولا أرانا اللَّه فيك ما نكره. فقال الحسين: يا بني عَقيل! حسبُكم بمسلم أخيكم، اذهبوا فقد أذنت لكم، قالوا: فما يقول الناس، إنا تركنا شيخنا وسيدنا وبني عمومتنا خير الأعمام، لم نرمِ معهم بسهم، ولم نطعنْ معهم برمح، ولم نضرب معهم بسيف، رغبة في الحياة الدنيا؟ لا واللَّه لا نفعل، ولكن نفديك بأنفسنا وأموالنا وأهلينا، ونقاتل معك حتى نرِدَ موردك، فقبَّح اللَّه العيش بعدك. وقال نحو ذلك مسلم بن عَوْسجة الأسدي، وكذلك قال سعيد بن عبد اللَّه الحنفي: واللَّه لا نخليك حتى يعلم اللَّه أنا قد حفظنا غيبة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فيك، واللَّه لو علمتُ أني أُقتل دونك ألف قَتْلة، وأنَّ اللَّه يدفع بذلك القتل عنك وعن أنفس هؤلاء الفتية من أهل بيتك، لأحببتُ ذلك، فكيف وإنما هي قَتْلة واحدة؟! وتكلَّم جماعة أصحابه بكلام يشبه بعضه بعضًا من وجه واحد فقالوا: واللَّه لا نفارقك، وأنفسُنا الفداء لك، نقيك بنحورنا وجباهنا وأيدينا وأبداننا، فإذا نحن قُتلنا وفَّينا وقضينا ما علينا]
(3)
. وقال أخوه العباس: لا أرانا اللَّه يوم فقدك، ولا حاجة لنا في الحياة بعدك. وتتابع أصحابه على ذلك.
وقال أبو مِخْنف: حدّثني الحارث بن كعب وأبو الضحّاك، عن علي بن الحسين زين العابدين قال: إني لجالس تلك العشيَّة التي قُتل أبي في صبيحتها، وعمتي زينب تمرِّضني، إذ اعتزل أبي في خبائه ومعه أصحابه، وعنده حُوَيّ مولى أبي ذر الغفاري، وهو يعالج سيفه ويصلحه، وأبي يقول:
(1)
سقط من ب.
(2)
في المطبوع: حجلًا، وهو تحريف. وقد شرحه محققو طبعة دار الكتب العلمية بقولهم:"الحجل": القيد. والصواب ما أثبتناه من النسخة أ. وقوله: فاتخذوه جملًا من أمثال العرب، يقال للرجل إذا سرى ليلته جمعاء أو أحياها بصلاة أو غيرها من العبادات، كأنه ركبه ولم ينم فيه. اللسان: مادة (جمل).
(3)
ما بين حاصرتين سقط من ب. والخبر في تاريخ الطبري (5/ 419 - 420).
يا دهرُ أفٍّ لكَ مِنْ خليل
…
كم لكَ بالإشْراقِ والأَصِيل
من صاحبٍ أو طالبٍ قَتيل
…
والدهرُ لا يَقْنعُ بالبَدِيل
وإنَّما الأمرُ إلى الجَليل
…
وكلُّ حيٍّ سألكُ السَّبيل
فأعادها مرتين أو ثلاثًا حتى حفظتُها وفهمتُ ما أراد، فخنقَتْني العَبْرة [فرددتها، ولزمت السكوت، وعلمت أن البلاء نازل]
(1)
. وأما عمتي فقامت حاسرةً حتى انتهتْ إليه فقال: واثُكلاه! ليت الموت أعدمني الحياة اليوم، ماتت أمي فاطمة، وعليّ أبي، وحسن أخي، يا خليفة الماضي، وثِمال الباقي، فنظر إليها وقال: يا أُخيَّة! [لا يُذهبنَّ حِلمَك الشيطان. فقالت: بأبي أنت وأمي يا أبا عبد اللَّه! أستقتَلْت؟ ولطمَتْ وجهها، وشقَّت جيبها، وخرَّت مغشيًّا عليها. فقام إليها، وصبَّ على وجهها الماء، وقال: يا أخيَّة]
(2)
اتقي اللَّه واصبري وتعزَّيْ بعزاء اللَّه، واعلمي أن أهل الأرض يموتون، وأن أهل السماء لا يبقون، وأن كل شي هالك إلَّا وجه اللَّه الذي خلق الخلق بقدرته، ويميتهم بقهره وعزته، ويعيدهم فيعبدونه
(3)
وحده، وهو فرد وحده، واعلمي أنَّ أبي خير مني، وأمي خير مني، وأخي خير مني، ولي ولهم ولكل مسلم برسول اللَّه أسوة حسنة. ثم حرَّج عليها أن لا تفعل شيئًا من هذا بعد مَهْلكه. ثم أخذ بيدها فردَّها إلى عندي. ثم خرج إلى أصحابه فأمرهم أن يُدنوا بيوتهم بعضها من بعض حتى تدخل الأطناب بعضها في بعض، وأن لا يجعلوا للعدو مخلصًا إليهم إلَّا من جهة واحدة، وتكون البيوت عن أيمانهم وعن شمائلهم ومن ورائهم
(4)
.
وبات الحسين وأصحابه طول ليلهم يصلُّون ويستغفرون ويدعون ويتضرَّعون، وخيل حرس عدوهم تدور من ورائهم عليها عَزْرة بن قيس الأَحْمسي [والحسين يقرأ:{وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178) مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} الآية [آل عمران: 178 - 179] فسمعها رجل من تلك الخيل التي كانت تحرس من أصحاب ابن زياد فقال: نحن -ورب الكعبة- الطيبون ميَّزنا اللَّه منكم. قال: فعرفته، فقلت لبُرَير بن خُضير
(5)
: أتدري من هذا؟ قال: لا، فقلت: هذا أبو حَرْب السَّبيعي عبيد اللَّه بن شمير -وكان مِضْحاكًا بطالًا،
(1)
ما بين حاصرتين سقط من ب.
(2)
ما بين حاصرتين سقط من أ.
(3)
في بعض النسخ: فيعودون.
(4)
الخبر بطوله مع الشعر في تاريخ الطبري (5/ 420 - 421) وابن الأثير (4/ 58 - 59) ومقاتل الطالبيين (ص 75).
(5)
ورد هذا الاسم في أ: زيد بن حسين، وفي ط: زيد بن حضير، وفي تاريخ الطبري: برير بن حضير، وفي ذلك كله تحريف. والتصويب من الإكمال لابن ماكولا (1/ 257 و 2/ 484).
وكان شريفًا شجاعًا فاتكًا، وكان سعيد بن قيس ربما حبسَه في خبائه- فقال له بُرير بن خُضير
(1)
: يا فاسق، متى كنت من الطيِّبين؟! فقال له: من أنت ويلك؟ قال: أنا بُرير بن خُضير (1). قال: إنا للَّه! هلكت واللَّه، عز -واللَّه- عليَّ يا بُرير قتلك. قال: فقلت له: يا أبا حرب! هل لك أن تتوب من ذنوبك العظام؟ فواللَّه لنحن الطيِّبون وإنكم لأنتم الخبيثون. قال: نعم، وأنا على ذلك من الشاهدين. قال: ويحك أفلا ينفعك معرفتك؟! قال: فانتهره عَزْرة بن قيس -أمير السرية التي تحرسنا- فانصرف عنا]
(2)
.
قالوا: فلما صلَّى عمر بن سعد الصبح بأصحابه يوم الجمعة، وقيل يوم السبت -وكان يوم عاشوراء- انتصب للقتال، وصلَّى الحسين أيضًا بأصحابه وهم اثنان وثلاثون فارسًا وأربعون راجلًا، ثم انصرف فصفَّهم، فجعل على ميمنته زهير بن القَيْن، وعلى الميسرة حبيب بن المُظهِر
(3)
، وأعطى رايته العباس بن علي أخاه، وجعلوا البيوت بما فيها من الحرم وراء ظهورهم، وقد أمر الحسين من الليل فحفروا وراء بيوتهم خندقًا، وقذفوا فيه حطبًا وخشبًا وقصبًا، ثم أُضرمت فيه النار لئلّا يخلُص أحد إلى بيوتهم من ورائها. وجعل عمر بن سعد على ميمنته عمرو بن الحجاج الزُّبيدي، وعلى الميسرة شَمِر بن ذي الجَوْشن -واسم ذي الجوشن شرحبيل بن الأعور بن عمرو بن معاوية من بني الضباب بن كلاب- وعلى الخيل عَزْرة بن قيس الأَحْمسي؛ وعلى الرَّجَّالة شَبَث
(4)
بن رِبْعي، وأعطى الراية دريدًا
(5)
مولاه. وتواقف الناس في ذلك الموضع، فعدل الحسين إلى خيمة قد نُصبت، فاغتسل فيها، واطَّلى بالنورة، وتطيَّب بمسك كثير، ودخل بعده بعض الأمراء ففعلوا كما فعل، فقال بعضهم لبعض: ما هذا في هذه الساعة؟ فقال بعضهم: [دعنا منك، واللَّه ما هذه بساعة باطل، فقال يزيد بن حصين: واللَّه لقد علم قومي أني ما أحببت الباطل شابًا ولا كهلًا، ولكن -واللَّه- إني لمستبشر بما نحن لاقون]
(6)
واللَّه ما بيننا وبين الحور العين إلّا أن يميل علينا هؤلاء القوم فيقتلوننا.
ثم ركب الحسين على فرسه، وأخذ مصحفًا فوضعه بين يديه، ثم استقبل القوم رافعًا يديه يدعو بما
(1)
تحرف في أ، ط إلى: يزيد بن حصين.
(2)
ما بين حاصرتين سقط من ب.
(3)
كذا قيده ابن حجر في التبصير والزبيدي في التاج بالظاء المعجمة الساكنة وكسر الهاء. وقيده ابن ماكولا في إكماله بظاء معجمة وهاء مشددة مكسورة. وقد تحرف في غير موضع من الأصول وتاريخ ابن الأثير إلى: مطهر، وفي تاريخ الطبري إلى: مظاهر.
(4)
تحرف في ط إلى: شبيث.
(5)
في ط، أ: وردان، وفي ب: دويدًا، وفي تاريخ الطبري: ذويدًا، وما أثبتناه يعضده ما نقله ابن الأثير في الكامل (4/ 60) وسيأتي مرة أخرى بعد صفحتين من هذا المجلد.
(6)
ما بين حاصرتين سقط من ب.
تقدم ذكره: اللهم أنت ثقتي في كل كرب، ورجائي في كل شدة. . . إلى آخره. وركب ابنه علي بن الحسين -وكان ضعيفًا مريضًا- فرسًا يقال له: لاحق
(1)
، ونادى الحسين: أيها الناس! اسمعوا مني نصيحة أقولها لكم، فأنصت الناس كلهم، فقال بعد حمد اللَّه والثناء عليه: أيها الناس! إنْ قبلتم مني وأنصفتموني كنتم بذلك أسعد، ولم يكن لكم عليَّ سبيل، وإن لم تقبلوا مني {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ} [يونس: 71]. {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} [الأعراف: 196].
فلما سمع ذلك أخواته وبناته ارتفعت أصواتهن بالبكاء، فقال عند ذلك: لا يُبعد اللَّه ابن عباس -يعني حين أشار عنيه أن لا يخرج بالنساء معه ويدعهن بمكة إلى أن ينتظم الأمر- ثم بعث أخاه العباس فسكَّنهن. ثم شرع يذكر للناس فضلَه وعظمة نسبه وعلوَّ قدره وشرفه، ويقول: راجعوا أنفسكم وحاسبوها، هل يصلح لكم قتال مثلي وأنا ابن بنت نبيِّكم، وليس على وجه الأرض ابنُ بنت نبيٍّ غيري؟ وعليٌّ أبي، وجعفر ذو الجناحين عمي، وحمزة سيد الشهداء عمُّ أبي، وقال لي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ولأخي:"هذان سيِّدا شبابِ أهلِ الجنَّة"
(2)
. فإن صدَّقتموني بما أقول وهو الحق، فواللَّه ما تعمَّدت كذبة منذ علمت أن اللَّه يمقت على الكذب، وإلّا فاسألوا أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن ذلك: جابر بن عبد اللَّه، وأبا سعيد، وسهل بن سعد، وزيد بن أرقم، وأنس بن مالك، يُخبروكم بذلك. [ويحكم! أما تتَّقون اللَّه؟ أما في هذا حاجزٌ لكم عن سفك دمي]
(3)
؟ فقال عند ذلك شَمِر بن ذي الجَوْشن: هو يعبد اللَّه على حَرْف، إنْ كنت أدري ما يقول. فقال له حبيب بن مُظْهِر: واللَّه يا شَمِر إنك لتعبد اللَّه على سبعين حَرْفًا، وأما نحن فواللَّه إنا لندري ما يقول، وإنه قد طُبع على قلبك. ثم قال: أيها الناس! ذَرُوني أرجع إلى مأمني من الأرض. فقالوا: وما يمنعك أن تنزل على حُكم بني عمك؟ فقال: معاذ اللَّه [أن أُعطيهم بيدي إعطاء الذليل، أو أُقر إقرار العبيد، عبادَ اللَّه]
(4)
{إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ} [غافر: 27]. ثم أناخ راحلته، وأمر عُقبة بن سِمْعان فعقلها، ثم قال: [أخبروني: أتطلبوني بقتيل لكم قتلتُه؟ أو مال لكم أكلتُه؟ أو بقصاصة من جراحة؟ فأخذوا لا يكلِّمونه. قال: فنادى: يا شَبَث
(5)
بن رِبْعي، يا حجّار بن أبجر، يا قيس بن الأشعث، يا زيد بن الحارث، ألم تكتبوا
(1)
تحرف في المطبوع إلى: الأحمق.
(2)
رواه أحمد في المسند (3/ 3) والترمذي رقم (3767) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه بلفظ "الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة" وهو حديث صحيح.
(3)
ما بين حاصرتين سقط من ب.
(4)
ما بين حاصرتين سقط من المطبوع، وهو في أ، ب، م وتاريخ الطبري (5/ 425).
(5)
تحرف في ط إلى: شبيث.
إليَّ أن قد أينعت الثمار واخضرَّ الجناب، فاقدَم علينا فإنك إنما تقدَم على جند مجنَّدة؟ فقالوا له: لم نفعل. فقال: سبحان اللَّه! واللَّه لقد فعلتم. ثم قال: يا أيها الناس! إذ قد كرهتموني فدَعُوني أنصرف عنكم، فقال له قيس بن الأشعث: ألا تنزل على حُكم بني عمك فإنهم لن يؤذوك، ولا ترى منهم إِلَّا ما تحب؟ فقال له الحسين: أنت أخو أخيك، أتريد أن تطلبك بنو هاشم بأكثر من دم مسلم بن عَقيل؟ لا واللَّه لا أُعطيهم بيدي إعطاء الذليل، ولا أُقر لهم إقرار العبيد]
(1)
.
قال: وأقبلوا يزحفون نحوه وقد تحيَّز إلى جيش الحسين من أولئك طائفة قريب من ثلاثين فارسًا فيما قيل، منهم الحرُّ بن يزيد أمير مقدمة جيش ابن زياد، فاعتذر إلى الحسين مما كان منه، قال: ولو أعلم أنهم على هذه النيَّة لسِرتُ معك إلى يزيد، فقبل منه الحسين، ثم تقدم بين يدي أصحاب الحسين، فخاطب عمر بن سعد فقال: ويحكم! ألا تقبَلون من ابن بنت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ما يعرض عليكم من الخصال الثلاث؟ فقال: لو كان ذلك إليَّ قبلت.
[قال: وخرج من أصحاب الحسين زهير بن القَيْن على فرس له شاك في السلاح فقال: يا أهل الكوفة! نَذارِ لكم من عذاب اللَّه نَذار، إن حقًّا على المسلم نصيحة أخيه المسلم، ونحن حتى الآن أخوة، وعلى دين واحد ومِلَّة واحدة ما لم يقع بيننا وبينكم السيف، فإذا وقع السيف انقطعت العِصمة وكنا أمة وأنتم أمة، إن اللَّه قد ابتلانا وإياكم بذريَّة نبيِّه لينظر ما نحن وأنتم عاملون، إنا ندعوكم إلى نصرهم، وخِذْلان الطاغية ابن الطاغية عبيد اللَّه بن زياد، فإنكم لم تدركوا منهما إِلَّا سوءًا عموم سلطانهما، يَسْمُلان أعينكم، ويقطعان أيديكم وأرجلكم، ويمثِّلان بكم، ويقتلان أماثلكم وقراءكم، أمثال حُجْر بن عدي وأصحابه، وهانئ بن عروة وأشباهه. قال: فسبُّوه، وأثنَوْا على ابن زياد ودَعَوا له، وقالوا: لا ننزِعُ حتى نقتل صاحبك ومن معه. فقال لهم: إن ولد فاطمة أحقُّ بالود والنصر من ابن سميَّة، فإن أنتم لم تنصروهم فأُعيذكم باللَّه أن تقتلوهم، خلُّوا بين هذا الرجل وبين ابن عمه يزيد بن معاوية، يذهب حيث شاء، فلَعَمْري إن يزيد ليرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين. قال: فرماه شَمِر بن ذي الجَوْشن بسهم وقال له: اسكُتْ، أَسكَتَ اللَّهُ نَأْمتَك
(2)
، أبْرَمْتنا
(3)
بكثرة كلامك. فقال له زهير: يا بنَ البوَّال على عقبَيْه، إياك أخاطب
(4)
؟! إنما أنت بهيمة، واللَّه ما أظنك تُحكِم من كتاب اللَّه آيتين، فأبشِرْ بالخزي يوم القيامة والعذاب الأليم. فقال له شَمِر: إن اللَّه قاتلُك وصاحبَك بعد ساعة، فقال له زهير: أبالموت
(1)
ما بين حاصرتين سقط من ب، وهو في أ، ط وتاريخ الطبري (5/ 425).
(2)
قال صاحب اللسان: يقال: أسكت اللَّه نأمته -مهموزة مخففة الميم- وهو من النئيم: الصوت الضعيف، أي نغمته وصوته. ويقال: نامَّته - بتشديد الميم. يدعى بذلك على الإنسان.
(3)
"أبرمتنا": أضجرتنا.
(4)
في تاريخ الطبري (5/ 426) ما إياك أخاطب.
تخوِّفني؟ فواللَّه لَلْموت معه أحبُّ إليَّ من الخلد معكم. ثم إن زهيرًا أقبل على الناس رافعًا صوته يقول: عباد اللَّه! لا يغرنَّكم عن دينكم هذا الجِلْف الجافي وأشباهه، فواللَّه لا ينال شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم قوم أهرقوا دماء ذريَّته، وقتلوا مَنْ نصرهم وذبَّ عن حريمهم.
وقال الحرُّ بن يزيد لعمر بن سعد: أصلحك اللَّه! أمقاتل أنت هذا الرجل؟ قال: إي واللَّه قتالًا أيسرُه أن تسقط الرؤوس وتَطيح الأيدي. وكان الحرُّ من أشجع أهل الكوفة، فلامَهُ بعض أصحابه على الذهاب إلى الحسين، فقال له: واللَّه إني أخيِّر نفسي بين الجنة والنار، وواللَّه لا أختار على الجنة غيرها ولو قُطعت وحُرِّقت. ثم ضرب فرسه، فلحق بالحسين، فاعتذر إليه بما تقدم ثم قال: يا أهل الكوفة! لأمِّكم الهَبَل
(1)
، أدعوتم الحسين إليكم حتى إذا ما أتاكم أسلمتموه، وزعمتم أنكم قاتلو أنفسكم دونه ثم عدوتم عليه لتقتلوه، ومنعتموه التوجُّه في بلاد اللَّه العريضة الوسيعة التي لا يمنع منها الكلب والخنزير، وحلتم بينه وبين الماء الفرات الجاري الذي يشرب منه الكلب والخنزير وفد صرعهم العطش؟! بئس ما خلفتم محمدًا في ذريَّته، لا سقاكم اللَّه يوم الظمأ الأكبر إن لم تتوبوا وترجعوا عما أنتم عليه من يومكم هذا في ساعتكم هذه. فحملت عليه رجّالة لهم ترميه بالنبل، فأقبل حتى وقف أمام الحسين. وقال لهم عمر بن سعد: لو كان الأمر لي لأجبتُ الحسين إلى ما طلب]
(2)
ولكنْ أبى عليَّ عبيد اللَّه بن زياد، وقد خاطب أهل الكوفة وأنَّبهم ووبَّخهم وسبَّهم. فقال لهم الحرُّ بن يزيد: ويحكم! منعتم الحسين ونساءه وبناته الماء الفرات الذي يشرب منه اليهود والنصارى ويتمرَّغ فيه خنازير السواد وكلابه، فهو كالأسير في أيديكم لا يملك لنفسه ضرًا ولا نفعًا.
قال: فتقدم عمر بن سعد وقال لمولاه: يا دريد أَدْنِ رايتَك، فأدناها، ثم شمَّر عمر عن ساعده ورمى بسهم وقال: اشهدوا أني أول من رمى القوم. قال: فترامى الناس بالنبال، وخرج يسار مولى زياد وسالم مولى عبيد اللَّه فقالا: من يبارز؟ فبرز لهما عبد اللَّه
(3)
بن عمير الكلبي بعد استئذانه الحسين، فقتل يسارًا أولًا ثم قتل سالمًا بعده، وقد ضربه سالم ضربة أطار أصابع يده اليسرى.
وحمل رجل يقال له عبد اللَّه بن حَوْزة حتى وقف بين يدي الحسين فقال له: يا حسين! أبشر بالنار. فقال له الحسين: كلّا ويحك! إني أقدم على رب رحيم وشفيع مطاع، بل أنت أَولى بالنار. قالوا: فانصرف، فوقَصَتْه فرسه فسقط وتعلَّقت قدمه بالركاب [وكان الحسين قد سأل عنه، فقال: أنا ابن حَوْزة، فرفع الحسين يده وقال: اللهم حُزْه إلى النار. فغضب ابن حَوْزة، وأراد أن يقحم عليه الفرس
(1)
"الهبل": الثُّكل.
(2)
ما بين حاصرتين -قدر صفحة ونصف الصفحة- سقط من ب.
(3)
في ط: "عبيد اللَّه" محرف. وينظر تاريخ الطبري (5/ 429) والكامل (4/ 65). وسيأتي مرة أخرى في الرواية الآتية.
وبينه وبينه نهر، فحالت به الفرس، فانقطعت قدمه وساقه وفخذه، وبقي جانبه الآخر متعلقًا بالركاب]
(1)
وشدَّ عليه مسلم بن عَوْسجة فضربه فأطار رجله اليمنى، وغارت به فرسه فلم يبقَ حجرٌ يمر به إلّا ضربه في رأسه حتى مات.
[وروى أبو مخنف، عن أبي جَناب قال: كان منّا رجل يُدعى عبد اللَّه بن عُمَير
(2)
من بني عُلَيم، كان قد نزل الكوفة واتخذ دارًا عند بئر الجَعْد من هَمْدان، وكانت معه امرأة له عن النَّمِر بن قاسط، فرأى النَّاسَ يتهيؤون للخروج إلى قتال الحسين، فقال: واللَّه لقد كنت على قتال أهل الشرك حريصًا، وإني لأرجو أن يكون جهادي مع ابن بنت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لهؤلاء أفضل من جهاد المشركين، وأيسر ثوابًا عند اللَّه. فدخل إلى امرأته، فأخبرها بما هو عازم عليه، فقالت: أصبت، أصاب اللَّه بك أرشد أمورك، افعل وأَخرجني معك. قال: فخرج بها ليلًا حتى أتى الحسين، ثم ذكر قصة رمي عمر بن سعد بالسَّهم، وقصة قتلة يسار مولى زياد، وسالم مولى ابن زياد، وأن عبد اللَّه بن عُمير استأذن الحسين في الخروج إليهما، فنظر إليه الحسين، فرأى رجلًا آدم طويلًا شديد الساعدين بعيد ما بين المنكبين، فقال الحسين: إني لأحسبه للأقران قتَّالًا. اخرج إن شئت، فخرج، فقالا له: من أنت؟ فانتسب لهما، فقالا: لا نعرفك (فقال لهما: يا أولاد الزانية! أو بكم رغبة عن مبارزة أحد من الناس، وهل يخرج إليكما أحد)
(3)
إِلَّا وهو خير منكما؟! ثم شدَّ على يسار فكان كأمسِ الذاهب، فإنه لمشتغل به إذ حمل عليه سالم مولى ابن زياد، فصاح به صائح: قد رَهَقك العبد. قال: فلم ينتبه حتى غشيه فضربه على يده اليسرى فأطار أصابعه، ثم مال عليه
(4)
الكلبي حتّى قتله، وأقبل يرتجز ويقول:
إِنْ تُنْكراني فأنا ابنُ كَلْبِ
…
حَسْبيَ بَيْتي في عُلَيمٍ حَسْبي
إنِّي إمرؤٌ ذو مِرَّةٍ
(5)
وعَصْبِ
…
ولستُ بالخوَّار عندَ الكَرْب
إنِّي زعيمٌ لكِ أُمَّ وهبِ
…
بالطَّعنِ فيهمْ مُقدِمًا والضَّرْب
ضَرْب غلامٍ مُؤْمنٍ بالرَّبِّ
فأخذت أمُّ وهب عمودًا ثم أقبلت نحو زوجها تقول له: فدأك أبي وأمي، قاتِل دون الطيِّبين ذريَّة
(1)
ما بين حاصرتين سقط من ب. وكذلك الكامل لابن الأثير (4/ 66).
(2)
تحرف في المطبوع إلى: نمير.
(3)
ما بين قوسين سقط من المطبوع، وهو في أ وقريب منه في تاريخ الطبري.
(4)
في أ، ط: على ولا يصح بها المعنى. والتصويب من تاريخ الطبري وابن الأثير، فالكلبي: هو عبد اللَّه بن عمير نفسه.
(5)
فى المطبوع: ذو مروءة ولا يستقيم به الوزن. والمثبت من أ وتاريخ الطبري. والمِرّة: القوة، ومنه قوله تعالى {ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى} .
محمد عليه السلام. فأقبل إليها يردُّها نحو النساء، فأقبلت تجاذبه ثوبه وقالت: دعني أكن معك. فناداها الحسين: انصرفي إلى النساء فاجلسي معهن، فإنه ليس على النساء قتال. فانصرفت إليهن]
(1)
.
قال: وكثرت المبارزة يومئذ بين الفريقين والنصرُ في ذلك لأصحاب الحسين لقوَّة بأسهم، وأنهم مستميتون لا عاصمَ لهم إلّا سيوفهم، فأشار بعض الأمراء على عمر بن سعد بعدم المبارزة، وحمل عمرو بن الحجّاج -أمير ميمنة جيش ابن زياد- وجعل يقول: قاتلوا مَنْ مَرَق من الدين وفارق الجماعة. فقال له الحسين: ويحك بابن حجّاج! أعليَّ تحرض الناس؟ أنحن مرقنا من الدين وأنت تقيم عليه؟ ستعلمون إذا فارقتْ أرواحنا أجسادنا من أَولى بصليِّ النار.
وقد قُتل في هذه الحملة مسلم بن عَوْسجة، وكان أول من قُتل من أصحاب الحسين، فمشى إليه الحسين وترحَّم عليه وهو على آخر رمق، وقال له حبيب بن مُظْهر: أبشر بالجنة. فقال له بصوت ضعيف: بشَرك اللَّه بالخير. ثم قال له حبيب: لولا أني أعلم أني على أثرك لاحقك لكنت أقضي ما توصي به، فقال له مسلم بن عَوْسجة: أوصيك بهذا -وأشار إلى الحسين- إلى أن تموت دونه.
قالوا: ثم حمل شَمِر بن ذي الجَوْشن بالميسرة وقصدوا نحو الحسين، فدافعت عنه الفرسان، من أصحابه دفاعًا عظيمًا، وكافحوا دونه مكافحة بليغة، فأرسلوا يطلبون من عمر بن سعد طائفة من الرُّماة الرَّجَّالة، فبعث إليه نحوًا من خمسمئة، فجعلوا يرمون خيول أصحاب الحسين فعقروها كلها حتى بقي جميعهم رجَّالة، ولما عقروا جواد الحرِّ بن يزيد نزل عنه وفي يده السيف كأنه ليث وهو يقول:
إنْ تَعْقِروا بي فأنا ابنُ الحرِّ
…
أشجعُ مِنْ ذي لِبَدٍ هِزَبْر
(2)
ويقال: إن عمر بن سعد أمر بتقويض تلك الأبنية التي تمنع من القتال مَنْ أتى ناحيتها، فجعل أصحاب الحسين يقتلون من يتعاطى ذلك، فأمر بتحريقها، فقال الحسين: دعوهم يحرقونها فإنهم لا يستطيعون أن يجوزوا منها وقد أُحرقت.
وجاء شمِر بن ذي الجَوْشن -قبَّحه اللَّه- إلى فُسْطاط الحسين، فطعنه برمحه -يعني الفِسْطاط- وقال: إيتوني بالنار لأحرقه على من فيه، فصاحت النسوة وخرجْنَ منه، فقال له الحسين: أحرقك اللَّه بالنار. وجاء شَبَث بن رِبْعي إلى شَمِر -قبحه اللَّه- فقال له! ما رأيت أقبح من قولك ولا من فعلك وموقفك هذا، أتريد أن ترعب النساء؟ فاستحيى وهَمَّ بالرجوع. [وقال حُميد بن مسلم: قلت لشَمِر: سبحان اللَّه! إنَّ هذا لا يصلح لك، أتريد أن تجمع على نفسك خصلتين: تعذِّب بعذاب اللَّه، وتقتل الولدان والنساء؟!
(1)
القصة بكاملها سقطت من النسخة ب. وهي في تاريخ الطبري (5/ 429 ت 430) وأوردها ابن الأثير في كامله (4/ 65 - 66) دون ما فيها من الرجز.
(2)
البيت في تاريخ الطبري (5/ 436) وذو لبد وهزبر: من أسماء الأسد.
واللَّه إنَّ في قتلك الرجال لما ترضي به أميرك. قال: فقال لي: من أنت؟ قلت: لا أخبرك من أنا - وخشيت أني إن أخبرته فعرفني أن يسوءني عند السلطان]
(1)
.
وشدَّ زهير بن القين -في رجال من أصحاب الحسين- على شَمِر بن ذي الجَوْشن، فأزالوه عن موقفه [وقتلوا أبا عزَّة الضبابي -وكان من أصحاب شَمر- وكان الرجل من أصحاب الحسين إذا قُتل بان فيهم الخلل، وإذا قُتل من أصحاب ابن زياد الجماعة الكثيرة لم يتبيّن ذلك فيهم لكثرتهم]
(2)
.
ودخل عليهم وقتُ الظهر، فقال الحسين: مُرُوهم فليكفُّوا عن القتال حتى نصلي، فقال رجل من أهل الكوفة: إنها لا تُقبل منكم. فقال له حبيب بن مُظْهِر: ويحك! أتُقبل منكم ولا تُقبل من آل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ وقاتل حبيب قتالًا شديدًا [حتى قتل رجلًا يقال له بُديل بن صُرَيم من بني عُقْفان
(3)
وجعل يقول:
أنا حبيبٌ وأبي مُظْهِرُ
…
فارسُ هَيْجاء وحَرْب مِسْعَرُ
أنتمْ أوفرُ عدَّةً وأكثرُ
…
ونحنُ أوفى منكمُ وأَصْبَرُ
ونحنُ أعلى حُجَّةً وأظهرُ
…
حقًّا وأنقى منكمُ وأَطْهَرُ
(4)
ثم حمل على حبيب هذا رجلٌ من بني تميم، فطعنه فوقع، ثم ذهب ليقوم، فضربه الحُصين بن نُمير على رأسه بالسيف فوقع، ونزل إليه التميمي فاحتزَّ رأسه وحمله إلى ابن زياد، فرأى ابن حبيب رأس أبيه فعرفه، فقال لحامله: أعطني رأس أبي حتى أدفنه، ثم بكى (وقال لقاتله: أما واللَّه لقد قتلته وهو خير منك)
(5)
. قال: فمكث الغلام إلى أن بلغ أشُدَّه ثم لم تكن له همة إلّا قتل قاتل أبيه. قال: فلما كان زمن مصعب بن الزُّبَير
(6)
دخل الغلام عسكر مصعب، فإذا قاتلُ أبيه في فِسْطاطه، فدخل عليه وهو قائل
(7)
، فضربه بسيفه حتى برد.
وقال أبو مِخْنف: حدّثني محمد بن قيس قال: لما قُتل حبيب بن مُظْهِر هدَّ ذلك الحسين، وقال عند ذلك: أحتسب نفسي، وأخذ الحرُّ يرتجز ويقول للحسين:
آليتُ لا تُقْتَل حتّى أُقتَلا
…
ولنْ أُصابَ اليوم إلَّا مُقْبِلا
(1)
ما بين حاصرتين سقط من ب. والخبر في تاريخ الطبري (5/ 438).
(2)
مكانه في ب: وقتلوا بعض أصحابه.
(3)
عقفان: حي في خزاعة.
(4)
الأبيات في تاريخ الطبري (5/ 439).
(5)
ما بين قوسين سقط من المطبوع، وهو في أ وتاريخ الطبري.
(6)
تحرف في ط إلى: عمير.
(7)
قائل: من القيلولة: وهي النوم في الظهيرة.
أَضرِبُهمْ بالسَّيف ضَرْبًا مِقْصَلا
…
لا ناكلًا عنهُمْ ولا مُهَلِّلا
(1)
ثم قاتل هو وزهير بن القَيْن قتالًا شديدًا، فكان إذا شدَّ أحدهما حتى استلحم شدَّ الآخر حتى يخلصَه، فعلا ذلك ساعة، ثم إن رجالًا شدُّوا على الحرِّ بن يزيد فقتلوه، وقتل أبو ثمامة الصائدي ابنَ عمٍّ له كان عدوًا له]
(2)
.
ثم صلَّى الحسين باصحابه الظهر صلاة الخوف، ثم اقتتلوا بعدها قتالًا شديدًا [
(3)
ودافع عن الحسين صناديد أصحابه. وقاتل زهير بن القَيْن بين يدي الحسين قتالًا شديدًا، ورمي بعض أصحابه بالنبل حتى سقط بين يدي الحسين، وجعل زهير يرتجز ويقول:
أنا زهيرٌ وأنا ابنُ القَيْنِ
…
أَذودُكمْ بالسَّيف عن حُسَين
(4)
قال: وأخذ يضرب على منكب الحسين ويقول:
أَقدِمْ هُدِيتَ هاديًا مَهْدِيَّا
…
فاليومَ تلْقي جدَّكَ النَّبيَّا
وحَسَنًا والمُرْتضى عليَّا
…
وذا الجَنَاحَيْنِ الفَتَى الكَمِيَّا
وأسَدَ اللَّهِ الشَّهيدَ الحَيَّا
قال: فشدَّ عليه كثير بن عبد اللَّه الشَّعبي ومُهاجر بن أوس فقتلاه.
قال: وكان من أصحاب الحسين نافع بن هلال الجمَلي، وكان قد كتب اسمه
(5)
على فُوق
(6)
نبله، فجعل يرمي بها مسمومة وهو يقول:
أَرمي بها مُعَلِّمًا أَفْواقها
…
والنفسُ لا ينفعُها شِقَاقُها
أنا الجَملي، أنا على دين علي.
فقَتل اثني عشر من أصحاب عمر بن سعد سوى من جَرح، ثم ضرب حتى كُسرت عضداه، ثم أسروه فأتوا به عمر بن سعد، فقال له: ويحك يا نافع! ما حملك على ما صنعتَ بنفسك؟ فقال: إن ربي يعلم ما أردت -والدماء تسيل عليه وعلى لحيته- ثم قال: واللَّه لقد قتلتُ من جندكم اثني عشر سوى من
(1)
"المقصل": القاطع. "النكول": النكوص والجبن. التهليل -هنا- الفرار. وقد صُف هذا البيت في طبعة دار الكتب العلمية صفًا خاطئًا مما أخل بوزنه ومعناه. وانظر الخبر مع الشعر في تاريخ الطبري (5/ 440 - 441).
(2)
ما بين حاصرتين لم يرد في النسخة ب، وفيها بدلًا عنه: حتى قتل رحمه الله، وحمل رأسه إلى ابن زياد، والضمير في ذلك يرجع إلى حبيب بن مظهر.
(3)
من هنا يبدأ سقط كبير في النسخة ب سنشير إليه عند نهايته.
(4)
في المطبوع: عن الحسين. ولا يستقيم به الوزن. والمثبت من أ وتاريخ الطبري (5/ 441).
(5)
سقطت هذه اللفظة من الأصول، واستدركتها من تاريخ الطبري (5/ 441) وابن الأثير (4/ 71).
(6)
الفُوق من السهم: موضع الوتر، والجمع: أفواق وفُوَق.
جَرحت، وما ألوم نفسي على الجهد، ولو بقيتْ لي عضد وساعد ما أسرتموني. فقال شَمِر لعمر: اقتله، قال: أنت جئت به، فإن شئت فاقتله. فقام شَمِر فأنضى سيفه، فقال له نافع: أما واللَّه يا شَمِر لو كنتَ من المسلمين لعظم عليك أن تلقى اللَّه بدمائنا، فالحمد للَّه الذي جعل منايانا على يدي شرار خلقه. ثم قتله.
ثم أقبل شَمِر فحمل على أصحاب الحسين، وتكاثر معه الناس حتى كادوا أن يصلوا إلى الحسين، فلما رأى أصحاب الحسين أنهم قد كثروا عليهم، وأنهم لا يقدرون على أن يمنعوا الحسين ولا أنفسهم، تنافسوا أن يُقتلوا بين يديه، فجاءه عبد الرحمن وعبد اللَّه ابنا عَزْرة الغفاري، فقالا: أبا عبد اللَّه عليك السلام، حازَنَا العدو إليك فاحببنا أن نُقتل بين يديك وندفع عنك. فقال: مرحبًا بكما، ادنُوَا مني، فدنَوَا منه، فجعلا يقاتلان قريبًا منه وهما يقولان:
قد علِمتْ حقًّا بنو غِفَار
…
وخِنْدِفٌ بعدَ بني نِزَار
لنَضْرِبنَّ معشرَ الفُجَّار
…
بكلِّ عَضْبٍ قاطعٍ بَتَّارٍ
يا قومُ ذُودُوا عن بني الأَخْيار
…
بالمشْرَفيِّ والقَنَا الخَطَّار
(1)
ثم أتاه أصحابه مَثْنى وفرادى يقاتلون بين يديه وهو يدعو لهم ويقول: جزاكم اللَّه أحسن جزاء المتَّقين. فجعلوا يسلِّمون على الحسين ويقاتلون حتى يقتلوا.
ثم جاءه عابس بن أبي شَبيب فقال: يا أبا عبد اللَّه! أما واللَّه ما أمسى على ظهر الأرض قريب ولا بعيد أعز عليَّ منك، ولو قدرتُ أن أدفع عنك الضَّيم أو القتل بشيء أعز عليَّ من نفسي ودمي لفعلتُه، السلام عليك يا أبا عبد اللَّه، اشهد لي أني على هَدْيك. ثم مشى بسيفه
(2)
صَلْتًا وبه ضربة على جبينه -وكان أشجع الناس- فنادى: ألا رجل لرجل؟ ألا ابرزوا لي. فعرفوه فنكلوا عنه، ثم قال عمر بن سعد: ارضَخُوه بالحجارة، فرُمي بالحجارة من كل جانب. فلما رأى ذلك ألقى درعه ومغْفره ثم شدَّ على الناس، واللَّه لقد رأيته يَكْرُد
(3)
أكثر من مئتين من الناس بين يديه، ثم إنهم عطفوا عليه من كل جانب فقُتل رحمه الله، فرأيت رأسه في أيدي رجال ذوي عدد كلّ يدَّعي قتله، فأتوا به عمر بن سعد فقال لهم: لا تختصموا فيه فإنه لم يقتلْه إنسان واحد. ففرَّق بينهم بهذا القول]
(4)
.
(1)
الأبيات في تاريخ الطبري (5/ 442).
(2)
سقطت هذه اللفظة من المطبوع.
(3)
"يكرد": يسوق.
(4)
هنا ينتهي نقص في النسخة ب ضم عددًا من الأخبار مع أشعارها، وقد ورد فيها بدلًا عنه: "ووصل إلى الحسين رضي الله عنه، ودافع عنه صناديد أصحابه، فقُتل زهير بن القين بين يديه، وقاتل دونه نافع بن هلال الجملي حتى قَتل من أصحاب ابن زياد اثني عشر سوى من جرح، ثم كسرت عضداه، ومع هذا ضرب عنقه بين يدي عمر بن سعد =
ثم قاتل أصحاب الحسين بين يديه حتى تفانَوا، ولم يبق أحد إلّا سويد بن عمرو بن أبي المطاع الخَثْعمي.
وكان أولَ قتيل قُتل من أهل الحسين من بني أبي طالب عليٌّ الأكبر ابن الحسين بن علي، وأمُّه ليلى بنت أبي مُرَّة بن عروة بن مسعود الثقفي، طعنه مُرَّة بن مُنْقِذ بن النعمان العَبْدي فقتله، لأنه جعل يَقي أباه، وجعل يقصد أباه، فقال علي بن الحسين:
أنا عليُّ بنُ الحسينِ بنِ علي
…
نحنُ -وبيتِ اللَّه- أولى بالنَّبي
تاللَّه لا يحكُمُ فينا ابنُ الدَّعي
…
كيفَ تَرَوْنَ اليومَ ستري عَنْ أَبي
فلمّا طعنه مُرَّة احتوشته الرجال فقطَّعوه بأسيافهم، فقال الحسين: قتل اللَّه قومًا قتلوك يا بُنيّ، ما أجرأهم على اللَّه وعلى انتهاك محارمه؟! فعلى الدنيا بعدك العَفَاء. قال: وخرجت جارية كأنها الشمس حُسْنًا فقالت: يا أخيّاه ويابن أخيّاه! فإذا هي زينب بنت علي من فاطمة، فأكبَّت عليه وهو صريع. قال: فجاء الحسين فأخذ بيدها فأدخلها الفسطاط، وأمر به الحسين فحوِّل من هناك إلى بين يديه عند فُسطاطة
(1)
.
ثم قُتل عبد اللَّه بن مسلم بن عَقيل، ثم قُتل عون ومحمد ابنا عبد اللَّه بن جعفر. ثم قُتل عبد الرحمن وجعفر ابنا عَقيل بن أبي طالب. ثم قُتل القاسم بن الحسن بن علي بن أبي طالب.
[قال أبو مِخْنف: وحدّئني فُضيل بن خَدِيج الكندي: أن يزيد بن زياد -وكان راميًا، وهو أبو الشَّعثاء الكناني من بني بَهْدَلة- جثا على ركبتيه بين يدي الحسين، فرمى بمئة سهم ما سقط منها على الأرض خمسة أسهم. فلمّا فرغ من الرمي قال: قد تبيَّن لي أني قتلت خمسة نفر:
أنا يزيدُ وأنا المُهَاجرْ
…
أشجعُ من ليثٍ قويٍّ حادرْ
يا ربِّ
(2)
إنِّي للحسين ناصرْ
…
ولابنِ سعدٍ تاركٌ وهاجرْ]
(3)
قالوا: ومكث الحسين نهارًا طويلًا وحده لا يأتي أحد إليه إلّا رجع عنه، لا يحب أن يلي قتله، حتى
= شمر بن ذي الجوشن، ثم حمل شمر على أصحاب الحسين وهو يقول:
خلوا عداة اللَّه خلوا عن شمر
…
يضربهم بسيفه ولا يفر
(1)
الخبر في تاريخ الطبري (5/ 446) ومقاتل الطالبيين (ص 76 - 77) وابن الأثير (4/ 74) وعلي هذا غير زين العابدين.
(2)
وقعت في المطبوع: برب.
(3)
الخبر برمته سقط من ب. وقد أورده الطبري في تاريخه (5/ 445) مع اختلاف ببعض ألفاظ الشعر.
جاءه رجل من بني بَدّا
(1)
يقال له مالك بن البشير
(2)
، فضرب الحسين على رأسه بالسيف، فأدمى رأسه، وكان على الحسين برنس، فقطعه وجرح رأسه، فامتلأ البُرْنس دمًا، فقال له الحسين: لا أكلتَ بها ولا شربت، وحشركَ اللَّه مع الظالمين. ثم ألقى الحسين ذلك البُرْنس ودعا بعمامة فلبسها.
[وقال أبو مخنف: حدّثني سليمان بن أبي راشد، عن حُميد قال: خرج إلينا غلام كأنَّ وجهه فِلْقة قمر، في يده السيف، وعليه قميص وإزار ونعلان قد انقطع شِسْع أحدهما، ما أنسى أنها اليسرى، فقال لنا عمر بن سعد بن نُفيل الأزدي: واللَّه لأشدَّنَّ عليه. قال: فقلت له: سبحان اللَّه! وما تريد إلى ذلك؟ يكفيك قتل هؤلاء الذين تراهم قد احتولوهم. فقال: واللَّه لأشدَّنَّ عليه. فشدَّ عليه عمر بن سعد أمير الجيش فضربه، وصاح الغلام: يا عمّاه! قال: فشدَّ الحسين على عمر بن سعد شدَّة ليث أعضب، فضرب عمرَ بالسيف، فاتقاه بالساعد، فأطنَّها من لَدُن المِرْفق، فصاح ثم تنحَّى عنه. وحملت خيل أهل الكوفة ليستنقذوا عمر من الحسين، فاستقبلت عمر بصدورها وحرَّكت حوافرها، وجالت بفرسانها عليه، ثم انجلت الغبرة فإذا الحسينُ قائم على رأس الغلام، والغلام يفحص برجله، والحسين يقول: بُعْدًا لقوم قتلوك، ومَنْ خصمُهم يوم القيامة فيك جدُّك. ثم قال: عزَّ -واللَّه- على عمك أن تدعوَه فلا يُجيبك، أو يُجيبك ثم لا ينفعك، صوت -واللَّه- كثر واترُه وقلَّ ناصرُه. ثم احتمله فكأني أنظر إلى رجلي الغلام يخطّان في الأرض، وقد وضع الحسين صدره على صدره، ثم جاء به حتى ألقاه مع ابنه عليٍّ الأكبر ومع مَنْ قُتل من أهل بيته، فسألتُ عن الغلام، فقيل لي: هو القاسم بن الحسن بن علي بن أبي طالب
(3)
.
وقال هانئ بن ثُبيت الحضرمي: إني لواقف يوم مقتل الحسين عاشرَ عشرة ليس منا رجل إلّا على فرس، إذ خرج غلام من آل الحسين وهو ممسك بعود من تلك الأبنية، وعليه إزار وقميص، وهو مذعور يلتفت يمينًا وشمالًا، فكاني أنظر إلى دُرَّتين في أُذنيه تذبذبان كلَّما التفت، إذ أقبل رجل يركض على فرسه، حتى إذا دنا من الغلام مال عن فرسه، ثم أخذ الغلام فقطعه بالسيف. قال هشام السَّكوني: هانئ بن ثُبيت هو الذي قتل الغلام، خاف أن يُعاب ذلك عليه فكنَّى عن نفسه]
(4)
.
قال: ثم إن الحسين أعيا، فقعد على باب فُسْطاطه وأُتي بصبي صغير من أولاده اسمه عبد اللَّه، فأجلسه في حِجْره، ثم جعل يقبِّله ويشمُّه ويودِّعه ويوصي أهلَه، فرماه رجل من بني أسد -يقال له: ابن
(5)
موقد النار- بسهم، فذبح ذلك الغلام، فتلقَّى حسين دمه في يده وألقاه نحو السماء وقال:
(1)
"بدًّا": بطن من كندة.
(2)
في تاريخ الطبري (5/ 448) وابن الأثير (4/ 75) النسير.
(3)
الخبر في تاريخ الطبري (5/ 447 - 448) ومقاتل الطالبيين (ص 58) وابن الأثير (4/ 75).
(4)
ما بين حاصرتين سقط من ب وتاريخ الطبري (5/ 449).
(5)
لفظة ابن من ط فقط.
ربٍّ إن تك قد حبستَ عنا النصر من السماء فاجعله لما هو خير، وانتقم لنا من الظالمين.
ورمى عبدُ اللَّه بن عقبة الغَنَوي أبا بكر بن الحسين بسهم فقتله أيضًا.
ثم قُتل عبد اللَّه والعباس وعثمان وجعفر ومحمد بنو علي بن أبي طالب - إخوة الحسين.
وقد اشتدَّ عطش الحسين، فحاول أن يصل إلى أن يشرب من ماء الفرات فما قدر، بل مانعوه عنه، فخلص إلى شَرْبة منه، فرماه رجل -يقال له حصين بن تميم- بسهم في حنكه فأثبته، فانتزعه الحسين من حنكه، ففار الدم، فتلقَّاه بيديه، ثم رفعهما إلى السماء وهما مملوءتان دمًا، ثم رمى به إلى السماء وقال: اللهم أَحصِهم عددًا، واقتُلْهم بددًا، ولا تذر على الأرض منهم أحدًا. ودعا عليهم دعاءً بليغًا.
[قال: فواللَّه إنْ مكث الرجل الرامي له إلَّا يسيرًا حتى صب اللَّه عليه الظمأ، فجعل لا يَرْوَى ويُسقى الماء مبرَّدًا، وتارة يبرَّد له اللبن والماء جميعًا، ويُسقى فلا يَرْوَى بل يقول: ويلكم اسقوني قتلَني الظمأ. قال: فواللَّه ما لبث إلَّا يسيرًا حتى انقدَّ بطنُه انفداد بطن البعير.
ثم إن شَمِر بن ذي الجَوْشن أقبل في نحو من عشرة من رَجّالة الكوفة قِبَل منزل الحسين الذي فيه ثقلُه وعيالُه، فمشى نحوهم، فحالوا بينه وبين رَحْله، فقال لهم الحسين: ويلكم! إن لم يكن لكم دِين وكنتم لا تخافون يوم المعاد فكونوا في دنياكم أحرارًا وذوي أحساب، امنعوا رَحْلي وأهلي من طغاتكم وجهّالكم. فقال ابن ذي الجَوْشن: ذلك لك يابن فاطمة. ثم أحاطوا به، فجعل شَمر يحرِّضهم على قتله، فقال له أبو الجَنوب: وما يمنعك أنست من قتله؟ فقال له شَمِر: ألي تقول هذا؟! فقال أبو الجنوب: وأنت لى تقول هذا؟! فاستبّا ساعة، فقال له أبو الجَنوب - وكان شجاعًا: واللَّه لقد هممتُ أن أخضخض هذا السِّنان في عينك. فانصرف عنه شَمِر]
(1)
.
ثم جاء شَمِر ومعه جماعة من الشُّجعان حتى أحاطوا بالحسين وهو عند فُسْطاطه ولم يبق معه أحد يحول بينهم وبينه، فجاء غلام يشتدُّ من الخيام كأنه البدر، في أذنيه دُرَّتان، فخرجت زينب بنت عليٍّ لتردَّه، فامتنع عليها، وجاء يحاجف عن عمِّه، فضربه رجل منهم بالسيف، فاتقاه بيده، فأطنَّها سوى جلده، فقال: يا أبتاه! فقال له الحسين: يا بنيَّ احتسبت أجرك عند اللَّه، فإنك تلحق بآبائك الصالحين
(2)
.
ثم حمل على الحسين الرجالُ من كل جانب، وهو يجول فيهم بالسيف يمينًا وشمالًا، فيتنافرون عنه كتنافر المِعْزى عن السَّبُع. وخرجت أخته زينب بنت فاطمة إليه فجعلت تقول: ليت السماء تقع على الأرض. وجاءت عمر بن سعد فقالت: يا عمر! أرضيتَ أن يُقتل أبو عبد اللَّه وأنت تنظر؟! فتحادرت
(1)
ما بين حاصرتين سقط من ب.
(2)
تاريخ الطبري (5/ 451).
الدموع على لحيته، وصرف وجهه عنها. ثم جعل لا يُقدم أحد على قتله حتى نادى شَمِر بن ذي الجَوْشن: ويحكم! ماذا تنتظرون بالرجل؟ فاقتُلوه ثكلتْكم أمهاتكم. فحملت الرجال من كل جانب على الحسين، وضربه زُرْعة بن شَريك التميمي على كتفه اليسرى، وضُرب على عاتقه، ثم انصرفوا عنه وهو ينوء ويكبو. ثم جاء إليه سنان بن أنس
(1)
النَّخَعي، فطعنه بالرمح فوقع، ثم نزل فذبحه وحزَّ رأسه، ثم دفع رأسه إلى خَولي بن يزيد.
وقيل: إن الذي قتله شَمِر بن ذي الجَوْشن. وقيل: رجل من مَذْحج. وقيل: عمر بن سعد بن أبي وقاص، وليس بشيء، وإنما كان عمر أمير السريَّة التي قتلت الحسين فقط. والأول أشهر.
[وقال عبد اللَّه بن عمّار: رأيت الحسين حين اجتمعوا عليه يحمل على مَن عن يمينه حتى ابذعرُّوا
(2)
عنه (وعلى مَن عن شماله حتى ابذعرُّوا عنه)
(3)
، فواللَّه ما رأيت مكثورًا
(4)
قطُّ قد قُتل أولاده وأصحابه أربط جأشًا منه ولا أمضى جَنانًا منه. واللَّه ما رأيت قبلَه ولا بعدَه مثلَه. قال: ودنا عمر بن سعد من الحسين، فقالت له زينب: يا عمر! أيُقتل أيو عبد اللَّه وأنت تنظر؟ فبكى وصرف وجهه عنها.
وقال أبو مِخْنف: حدّثني الصَّقْعب بن زهير، عن حُميد بن مسلم قال: جعل الحسين يشدُّ على الرجال وهو يقول: أعلى قتلي تَحاثُّون
(5)
؟ أما واللَّه لا تقتلون بعدي عبدًا من عباد اللَّهِ اللَّهُ أسخط عليكم بقتله مني، وايمُ اللَّهِ إني لأرجو أن يكرمني اللَّه بهوانكم ثم ينتقم اللَّه لي منكم من حيث لا تشعرون، أما واللَّه لو قد قتلتموني لقد ألقى اللَّه بأسَكم بينكم، وسفك دماءكم، ثم لا يرضى لكم بذلك حتى يضاعف لكم العذاب الأليم.
قال: ولقد مكث طويلًا من النهار ولو شاء الناس أن يقتلوه (لفعلوا، ولكن كان يتقي بعضهم ببعض دمه، ويحب هؤلاء أن يكفيهم هؤلاء مؤنة قتله)
(6)
حتى نادى شَمِر بن ذي الجَوْشن: ماذا تنتظرون بقتله؟ فتقدَّم إليه زُرْعة بن شَريك التميمي، فضربه بالسيف على عاتقه، ثم طعنه سنان بن أنس بن عمرو النخعي بالرمح، ثم نزل فاحتزَّ رأسه ودفعه إلى خَولي]
(7)
.
(1)
اضطربت النسخ في سنان بن أنس وأثبته كما في تاريخ الطبري (5/ 453) ومقاتل الطالبيين (ص 79) وابن الأثير (4/ 78).
(2)
"ابذعروا": تفرقوا. وقعت في المطبوع: أنذعروا.
(3)
ما بين قوسين ليس في ط.
(4)
"المكثور": مَن كثر عليه أعداءه.
(5)
وردت هذه اللفظة في أ: تحاربون، وفي ط: تحابون، وما أثبته من تاريخ الطبري (5/ 452).
(6)
ما بين قوسين سقط من أ.
(7)
ما بين حاصرتين سقط من ب.
وقد روى ابن عساكر في ترجمة شَمِر بن ذي الجَوْشن -وذو الجَوْشن: صحابي جليل، قيل اسمه شرحبيل، وقيل عثمان بن نَوْفل، ويقال ابن أوس بن الأعور العامري الضِّبابي، بطن من كلاب ويكنى شَمِر بأبي السَّابغة- ثم من طريق عمر بن شبَّة: حدثنا أبو أحمد، حدّثني عمي فُضيل بن الزبير، عن عبد الرحيم بن مَيْمون، عن محمد بن عمرو بن حسن قال: كنا مع الحسين بنهري كربلاء، فنظر إلى شَمِر بن ذي الجَوْشن فقال: صدق اللَّه ورسوله، قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"كأنِّي أنظرُ إلى كلبٍ أَبْقع يَلَغُ في دماء أَهلِ بَيْتي". وكان شَمِر -قبحه اللَّه- أبرص
(1)
.
وأخذ سنان وغيرُه سَلَبه، وتقاسم الناس ما كان من أمواله وحواصله، وما في خِبائه حتى ما على النساء من الثياب الطاهرة.
وقال أبو مِخْنف: عن جعفر بن محمد قال: وجدنا بالحسين حين قُتل ثلاثًا وثلاثين طعنة، وأربعًا وثلاثين ضربة. وهمَّ شَمِر بن ذي الجَوْشن بقتل علي بن الحسين الأصغر -زين العابدين- وهو صغير مريض، حتى صرفه عن ذلك حُميد بن مسلم أحد أصحابه، وجاء عمر بن سعد فقال: ألا لا يَدخلن على هؤلاء النسوة أحد، ولا يَقتل هذا الغلام أحد، ومن أخذ من متاعهم شيئًا فليردّه عليهم. قال: فواللَّه ما ردَّ أحد شيئًا. فقال له علي بن الحسين: جُزيت خيرًا فقد دفع اللَّه عني بمقالتك شرًا
(2)
.
قالوا: ثم جاء سنان بن أنس إلى باب فسطاط عمر بن سعد فنادى بأعلى صوته:
أَوْقِرْ ركابي فضَّة وَذَهَبا
…
أنا قَتلتُ المَلِكَ المَحَجَّبا
قَتلتُ خيرَ النَّاسِ أمًّا وأَبَا
…
وخيرَهُمْ إذ يُنسَبُونَ نَسَبَا
(3)
فقال عمر بن سعد: أدخلوه عليّ. فلمّا دخل رماه بالسوط وقال: ويحك أنت مجنون؟! واللَّه لو سمعك ابن زياد تقول هذا لضرب عنقك.
ومنَّ عمر بن سعد على عُقبة بن سِمْعان حين أخبره أنه مولى، فلم ينج منهم غيره. والمرفع بن يمانة
(4)
أُسر، فمنَّ عليه ابن زياد. وقُتل من أصحاب الحسين اثنان وسبعون نفسًا
(5)
، فدفنهم أهل الغاضريَّة
(6)
من بني أسد بعدما قُتلوا بيوم واحد.
(1)
تاريخ ابن عساكر، مختصره (10/ 332)، وهو حديث غريب.
(2)
تاريخ الطبري (5/ 454).
(3)
الأبيات في تاريخ الطبري (5/ 454) ومقاتل الطالبيين (ص 80) ومروج الذهب (3/ 70) وابن الأثير (4/ 79) ومختصر تاريخ دمشق (7/ 156) وسير أعلام النبلاء (3/ 309).
(4)
كذا اسمه في الأصول، والذي في تاريخ الطبري (5/ 454) وابن الأثير (4/ 80) المرقّع بن ثمامة.
(5)
أسماؤهم مفصلة في تاريخ الطبري (5/ 468) وابن الأثير (4/ 92).
(6)
"الغاضرية": قرية قريبة من كربلاء.
[قال: ثم أمر عمر بن سعد أن يُوطأ الحسين بالخيل، ولا يصح ذلك، واللَّه أعلم.
وقُتل من أصحاب عمر بن سعد ثمانية وثمانون رجلًا]
(1)
.
وروي عن محمد بن الحنفيَّة أنه قال: قُتل مع الحسين سبعةَ عشرَ رجلًا كلُّهم من أولاد فاطمة.
وعن الحسن البصري أنه قال: قُتل مع الحسين ستةَ عشرَ رجلًا كلُّهم من أهل بيته، ما على وجه الأرض يومئذ لهم شبه.
وقال غيره: قُتل معه من ولده وإخوته وأهل بيته ثلاثةٌ وعشرون رجلًا، فمن أولاد علي رضي الله عنه: جعفر، والحسين، والعباس، ومحمد، وعثمان، وأبو بكر. ومن أولاد الحسين: علي الأكبر، وعبد اللَّه. ومن أولاد أخيه الحسن ثلاثة: عبد اللَّه، والقاسم، وأبو بكر بنو الحسن بن علي بن أبي طالب. ومن أولاد عبد اللَّه بن جعفر اثنان: عون، ومحمد. ومن أولاد عَقيل: جعفر، وعبد اللَّه، وعبد الرحمن، ومسلم قُتل قبل ذلك كما قدمنا، فهؤلاء أربعة لصُلبه، واثنان آخران هما: عبد اللَّه بن مسلم بن عَقيل، ومحمد بن أبي سعيد بن عَقيل، فكملوا ستة من ولد عَقيل، وفيهم يقول الشاعر
(2)
:
واندُبي تسعةً لصُلبِ عليٍّ
…
قد أُصِيبُوا وستَّةً لعَقِيل
وسميّ النبيِّ غُودِرَ فيهم
…
قد عَلَوْهُ بصَارمٍ مَصْقول
وممن قُتل مع الحسين بكربلاء أخوه من الرَّضاعة عبد اللَّه بن بُقْطُر، وقد قيل: إنه قُتل قبل ذلك، حيث بعث معه كتابًا إلى أهل الكوفة، فحُمل إلى ابن زياد فقتله.
وقُتل من أهل الكوفة من أصحاب عمر بن سعد ثمانية وثمانون رجلًا سوى الجرحى، فصلَّى عليهم عمر بن سعد ودفنهم.
ويقال: إنَّ عمر بن سعد أمر عشرة فرسان فداسوا الحسين بحوافر خيولهم حتى ألصقوه بالأرض يوم المعركة، وأمر برأسه أن يُحمل من يومه إلى ابن زياد مع خَولي بن يزيد الأصبحي، فلمّا انتهى به إلى القصر وجده مغلقًا، فرجع به إلى منزله فوضعه تحت إجّانة
(3)
، وقال لامرأته نَوار بنت مالك: جئتك بعزِّ الدهر، فقالت: وما هو؟ فقال: برأس الحسين، فقالت: جاء الناس بالذهب والفضة وجئتَ أنت برأس ابن بنت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؟! واللَّه لا يجمعني وإياك فراشٌ أبدًا، ثم نهضتْ عنه من الفراش، واستدعى بامرأة له أخرى من بني أسد، فنامت عنده. قالت المرأة الثانية الأسديَّة: واللَّه ما زلتُ أرى النور ساطعًا
(1)
ما بين حاصرتين سقط من ب.
(2)
هو مسلم بن قتيبة مولى بني هاشم، كما في مروج الذهب (3/ 71 - 73).
(3)
"الإجانة": المِرْكن الذي تغسل فيه الثياب.
من تلك الإجّانة إلى السماء، وطيورًا بيضًا ترفرف حولها. فلمّا أصبح غدا به إلى ابن زياد فأحضره بين يديه. ويقال: إنه كان معه رؤوس بقية أصحابه -وهو المشهور- ومجموعها اثنان وسبعون رأسًا، وذلك أنه ما قُتل قتيل إلّا احتزُّوا رأسه وحملوه إلى ابن زياد، ثم بعث بها ابن زياد إلى يزيد بن معاوية بالشام.
قال الإمام أحمد: حدَّثنا حسين، حدَّثنا جرير، عن محمد، عن أنس قال: أُتي عبيد اللَّه بن زياد برأس الحسين، فجُعل في طَسْت، فجَعل ينكت عليه، وقال في حسنه شيئًا. فقال أنس: إنه كان أشبهَهُم برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وكان مخضوبًا بالوَسْمَة
(1)
.
ورواه البخاري في المناقب عن محمد بن الحسين
(2)
بن إبراهيم -هو ابن إشْكاب- عن حسين بن محمد، عن جرير بن حازم، عن محمد بن سِيرين، عن أنس. . . فذكره
(3)
.
وقد رواه الترمذي
(4)
من حديث حَفْصة بنت سِيرين، عن أنس. وقال: حسن صحيح. وفيه: "فجعل ينكتُ بقضيب في أنفه ويقول: ما رأيتُ مثل هذا حُسْنًا".
وقال البزّار: حدَّثنا مفرج بن شُجاع بن عبيد اللَّه المَوْصلي، حدَّثنا غسان بن الربيع، حدَّثنا يوسف بن عَبدة
(5)
، عن ثابت وحُميد، عن أنس قال: لما أُتي عبيد اللَّه بن زياد برأس الحسين جعل ينكت بالقضيب ثناياه ويقول: لقد كان -أحسبُه قال- جميلًا، فقلت: واللَّه لأَسوءَنَّك، إني رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يلثُم حيث يقع قضيبُك. قال: فانقبض. تفرد به البزار من هذا الوجه وقال: لا نعلم رواه عن حُميد غير يوسف بن عَبدة، وهو رجل من أهل البصرة مشهور، وليس به بأس
(6)
.
ورواه أبو يعلى الموصلي
(7)
: عن إبراهيم بن الحجاج، عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن أنس. . . فذكره.
ورواه قرَّة بن خالد، عن الحسن، عن أنس. . . فذكره.
وقال أبو مِخنف: عن سليمان بن أبي راشد، عن حُميد بن مسلم قال: دعاني عمر بن سعد، فسرَّحني إلى أهله لأبشِّرهم بما فتح اللَّه عليه وبعافيته، فأجد ابن زياد قد جلس للناس، وقد دخل عليه الوفد الذين قدموا عليه، فدخلتُ فيمن دخل، فإذا رأسُ الحسين موضوع بين يديه، وإذا هو ينكت فيه
(1)
"الوسمة": نبت يختضب بورقه الشعر. ووقعت في الأصول: بالوشمة. والخبر في مسند أحمد (3/ 261).
(2)
تحرف في المطبوع إلى: الحسن.
(3)
رواه البخاري رقم (3748).
(4)
برقم (3778) في المناقب: باب مناقب الحسن والحسين.
(5)
تصحف فى أ، ط: يونس بن عبيدة، والمثبت من ب وزوائد البزار وتهذيب التهذيب (11/ 417).
(6)
كشف الأسّتار عن زوائد البزار (3/ 234) رقم (2649).
(7)
في مسنده (3981) وفيه علي بن زيد بن جدعان ضعيف.
بقضيب بين ثناياه ساعة، فقال له زيد بن أرقم: ارفع هذا القضيب عن هاتين الثنيَّتين، فواللَّه الذي لا إله إلّا هو لقد رأيتُ شَفَتَيْ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على هاتين الثنيَّتين يقبِّلُهما. ثم انفضخ الشيخ يبكي، فقال له ابن زياد: أبكى اللَّه عينَك، فواللَّه لولا أنك شيخ قد خرفتَ وذهب عقلك لضربتُ عنقك. قال: فنهض فخرج [فلما خرج قال الناس: واللَّه لقد قال زيد بن أرقم كلامًا لو سمعه ابن زياد لقتلَه، قال: فقلت: ما قال؟ قالوا: مرَّ بنا وهو يقول: ملك عبدٌ عبيدًا، فاتخذَهم تليدًا
(1)
، أنتم -يا معشر العرب- العبيد بعد اليوم، قتلتم ابن فاطمة، وأمَّرتم ابن مُرْجانة
(2)
، فهو يقتل خياركم، ويستعبد شراركم، فبُعدًا لمن رضي بالذُّل]
(3)
.
وقد رُوي من طريق أبي داود بإسناده عن زيد بن أرقم. . . بنحوه.
ورواه الطبراني من طريق ثابت، عن زيد.
وقد قال الترمذي
(4)
: حدّثنا واصل بن عبد الأعلى، حدّثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن عُمارة بن عُمَيْر قال: لما جيء برأس عبيد اللَّه بن زياد وأصحابه، فنُصبت في المسجد في الرَّحبة، فانتهيتُ إليه وهم يقولون: قد جاءت قد جاءت، فإذا حيَّة قد جاءت تتخلَّل الرؤوس حتى دخلت في مَنْخِري عبيد اللَّه بن زياد، فمكثتْ هنيهةً ثم خرجتْ، فذهبتْ حتى تغيَّبتْ، ثم قالوا: قد جاءت قد جاءت. ففعلتْ ذلك مرتين أو ثلاثًا. ثم قال الترمذي: حسن صحيح.
وأمر ابن زياد فنُودي: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس، فصَعِد المنبر، فذكر ما فتح اللَّه عليه من قتل الحسين الذي أراد أن يسلبهم الملك ويفرِّق الكلمة عليهم. فقام إليه عبد اللَّه بن عفيف الأزدي فقال: ويحك يا بن زياد! تقتلون أولاد النبيِّين وتتكلَّمون بكلام الصدِّيقين؟! فأمر به ابن زياد، فقُتل وصُلب. ثم أمر برأس الحسين، فنُصب بالكوفة وطيف به في أزقَّتها، ثم سيَّره مع زَحْر بن قيس ومعه رؤوس أصحابه إلى يزيد بن معاوية [بالشام، وكان مع زَحْر جماعة من الفرسان، منهم أبو بُرْدة بن عوف الأزدي، وطارق بن أبي ظَبيان الأزدي، فخرجوا حتى قدموا بالرؤوس كلِّها على يزيد بن معاوية]
(5)
.
قال هشام: فحدّثني عبد اللَّه بن يزيد بن رَوْح بن زِنْباع الجُذامي، عن أبيه، عن الغاز بن ربيعة الجُرشي -من حمير- قال: واللَّه إني لعند يزيدَ بن معاوية بدمشق، إذ أقبل زَحْر بن قيس فدخل على يزيد، فقال له يزيد: ويحك ما وراءك؟! [فقال: أَبشِر يا أمير المؤمنين بفتح اللَّه عليك ونصره، ورد
(1)
"التليد": أولاد الأعاجم.
(2)
"ابن مرجانة": هو عبيد اللَّه بن زياد، حيث كانت أمه مرجانة من بنات ملوك الفرس.
(3)
ما بين حاصرتين سقط من ب. والخبر في تاريخ الطبري (5/ 456).
(4)
سنن الترمذي برقم (3780). وأورده الذهبي في سير أعلام النبلاء (3/ 549) ضمن ترجمة عبيد اللَّه بن زياد.
(5)
ما بين حاصرتين سقط من ب. تاريخ الطبري (5/ 459) ومختصر تاريخ دمشق (9/ 33 - 34).
علينا الحسينُ بن علي بن أبي طالب وثمانيةَ عشرَ من أهل بيته وستون من شِيعته، فسِرْنا إليهم، فسألناهم أن يستسلموا وينزلوا على حكم الأمير عبيد اللَّه بن زياد أو القتال، فاختاروا القتال، فغدونا إليهم مع شروق الشمس، فأحطنا بهم من كل ناحية، حتى أخذت السيوف مأخذَها من هام القوم، فجعلوا يهربون إلى غير مهرب ولا وَزَر، ويلوذون منا بالآكام والحفر لواذًا كما لاذ الحمام من صقر، فواللَّه ما كانوا إلا جزر جَزُور أو نومة قائل حتى أتينا على آخرهم، فهاتيك أجسادهم مجرَّدة، وثيابهم مزمَّلة، وخدودهم معفَّرة، تصهرهم الشمس، وتَسْفي عليهم الريح، زوّاهم العِقْبان والرَّخَم]
(1)
.
قال: فدمعتْ عينا يزيد بن معاوية وقال: كنت أرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين، لعن اللَّه ابن سميَّة، أما واللَّه لو أني صاحبُه لعفوتُ عنه، ورحم اللَّه الحسين. ولم يصل الذي جاء برأسه بشيء. ولما وضع رأس الحسين بين يدي يزيد قال: أما واللَّه لو أني صاحبُك ما قتلتُك. ثم أنشد قول الحُصَين
(2)
بن الحُمَام المرِّي الشاعر:
نُفَلِّقُ هامًا منْ رجالٍ أعزَّةٍ
…
عَلَينا وهمْ كانوا أَعَقَّ وأَظْلَما
قال أبو مخنف: فحدثني أبو جعفر العبسي [عن أبي عمارة العبسي]
(3)
قال: وقام يحيى بن الحكم -أخو مروان بن الحكم- فقال:
لَهَامٌ يجنبِ الطَّفِّ أدنى قرابة
…
من ابنِ زيادِ العبد ذي الحسَبِ الوَغْل
سُميَّةُ أضحى نسلُها عدَدَ الحَصى
…
وليسَ لآلِ المُصْطفى اليومَ من نَسْل
قال: فضرب يزيد في صدر يحيى بن الحكم وقال له: اسكُت
(4)
.
وقال محمد بن حميد الرازي - وهو شِيعيّ: حدثنا محمد بن يحيى الأحمري، حدّثنا ليث، عن مجاهد قال: لما جيء برأس الحسين، فوضع بين يدي يزيد، تمثَّل بهذه الأبيات:
ليتَ أَشْياخي ببَدْرٍ شَهِدُوا
…
جَزَعَ الخزرجِ في وَقْع الأَسَلْ
فأهلُّوا واسْتَهَلُّوا فَرَحًا
…
ثمَّ قالوا لي هنيًّا لا تَسَلْ
(1)
ما بين حاصرتين مكانه في ب: فذكر له أمر الحسين وما كان من أمره بكربلاء. والخبر بطوله في تاريخ الطبري (5/ 459 - 460)
(2)
تحرف في الأصول إلى: الحسين. والحصين بن الحمام: شاعر جاهلي مقل. والبيت في ديوان الحماسة (1/ 391) وغيره من كتب الأدب. تاريخ الطبري (5/ 460) ومروج الذهب (3/ 70).
(3)
ما بين حاصرتين سقط من الأصول، واستدركته من تاريخ الطبري.
(4)
الخبر والشعر في تاريخ الطبري (5/ 460 - 461) وابن الأثير (4/ 89 - 90).
حينَ حكَّتْ بقُبَاءٍ
(1)
بَرْكَها
…
واسْتحرَّ القتلُ في عبد الأَشَلْ
(2)
قد قَتَلْنا الضِّعفَ من أشرافكم
…
وعَدَلْنا مَيْلَ بَدْرٍ فاعْتَدَلْ
(3)
قال مجاهد: نافق فيها واللَّه، ما بقي في جيشه أحد إلّا تركه؛ أي: ذمَّه وعابه.
وقد اختلف العلماء بعدها في رأس الحسين: هل سيَّره ابن زياد إلى الشام إلى يزيد أم لا؟ على قولين: الأظهر منهما أنه سيَّره إليه، وقد ورد في ذلك آثار كثيرة، فاللَّه أعلم.
وقال أبو مِخْنف: عن أبي حمزة الثُّمالي، عن عبد اللَّه الثُّمالي، عن القاسم بن بُخَيت قال: لما وضِع رأس الحسين بين يدي يزيد بن معاوية جعل ينكتُ بقضيب كان في يده في ثغره، ثم قال: إنَّ هذا وإيانا كما قال الحُصَين بن الحُمام المري:
نُفَلِّقُ هامًا منْ رجالٍ أعزَّةٍ
…
عَلَينا وهمْ كانوا أَعَقَّ وأَظْلَما
فقال أبو بَرْزة الأسلمي: أما واللَّه لقد أخذ قضيبُك هذا مأخذًا، لقد رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يَرْشُفُه، ثم قال: ألا إنَّ هذا سيجيء يوم القيامة وشفيعُه محمد، وتجيء وشفيعُك ابن زياد. ثم قام فولَّى
(4)
.
وقد رواه ابن أبي الدنيا، عن أبي الوليد، عن خالد بن يزيد بن أسد، عن عمّار الدهني، عن جعفر قال: لما وضع رأس الحسين بين يدي يزيد وعنده أبو بَرْزة وجعل ينكت بالقضيب، فقال له:"ارفع قضيبَك، فلقد رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يلثمُه".
قال ابن أبي الدنيا: وحدّثني سلَمة
(5)
بن شَبِيب، عن الحميدي، عن سفيان: سمعت سالم بن أبي حَفْصة قال: قال الحسن: لما جيء برأس الحسين جعل يزيد يطعن بالقضيب. قال سفيان: وأُخبرت أن الحسن
(6)
كان ينشد على إثر هذا:
سُميَّةُ أمسى نَسْلُها عدَدَ الحَصى
…
وبنتُ رسولِ اللَّهِ ليس لها نَسْلُ
وأما بقية أهله ونساؤه وحرمه فإن عمر بن سعد وكَّلَ بهم من يحرسهم ويكلؤهم، ثم أركبوهم على الرواحل في الهوادج، فلما مروا بمكان المعركة ورأوا الحسين وأصحابه مطَّرحين هنالك بكت النساء
(1)
في ط: بفناء.
(2)
تحرفت الأشل في الأصول إلى: الأسل. "وعبد الأشل": بنو عبد الأشهل، من الأوس.
(3)
الأبيات لعبد اللَّه بن الزبعرى، وهي مخرجة ومشروحة في ديوانه (ص 42) من قصيدة قالها يوم أحد معرضًا بحسان ابن ثابت والخزرج.
(4)
تاريخ الطبري (5/ 465).
(5)
تحرف في ط، ب إلى: مسلمة.
(6)
تحرف في ط إلى: الحصين.
وصرخن، وندبت زينب أخاها الحسين وأهلَها فقالت وهي تبكي: يا محمداه! يا محمداه! صلى عليك اللَّه وملك السماء، هذا حسين بالعراء، مزمَّل بالدماء، مقطَّع الأعضاء، يا محمداه! وبناتك سبايا، وذريتك مقتَّلة، تَسْفي عليها الصَّبا! قال: فأبكت -واللَّه- كلَّ عدو وصديق
(1)
.
قال قرَّة بن قيس: لما مرَّت النسوة بالقتلى صحنَ ولطمنَ خدودهنّ. قال: فما رأيت من منظر من نسو قطُّ أحسن من منظر رأيته منهن ذلك اليوم، واللَّه إنهنَّ لأحسن من مَهَا يَبْرين. وذكر الحديث كما تقدم.
قال: ثم ساروا بهم من كربلاء حتى دخلوا الكوفة، فأكرمهم ابن زياد وأجرى عليهم النفقات والكساوى وغيرها.
[قال: ودخلت زينب ابنة فاطمة في أرذل ثيابها قد تنكَّرت وحفَّت بها إماؤها، فلما دخلت على عبيد اللَّه بن زياد قال: من هذه؟ فلم تكلِّمه، فقال بعض إمائها: هذه زينب بنت فاطمة، فقال: الحمد للَّه الذي فضحكم وقتلكم وكذَّب أُحدوثتكم. فقالت: بل الحمد للَّه الذي اكرمنا بمحمد وطهَّرنا تطهيرًا، لا كما تقول، وإنما يفتضح الفاسق ويكذَّب الفاجر. قال: كيف رأيتِ صنع اللَّه بأهل بيتكم؟ فقالت: كُتب عليهم القتل، فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع اللَّه بينك وبينهم فيحاجُّونك إلى اللَّه. فغضب ابن زياد واستشاط، فقال له عمرو بن حُريث: أصلح اللَّه الأمير! إنما هي امرأة، وهل تؤاخذ المرأة بشيء من منطقها؟ إنها لا تؤاخذ بما تقول، ولا تُلام على خَطَل.
وقال أبو مِخْنف: عن المجالد بن سعيد: إن ابن زياد لمّا نظر إلى علي بن الحسين (زين العابدين) قال لشرطي: انظر أأدرك هذا الغلام؟ فإن كان أدرك فانطلِقوا به فاضرِبوا عنقَه. فكشف إزاره عنه، فقال: نعم! فقال: اذهب به فاضرِب عنقه. فقال له علي بن الحسين: إن كان بينك وبين هؤلاء النسوة قرابة فابعث معهنَّ رجلًا يحافظ عليهن. فقال له ابن زياد: تعال أنت، فبعثه معهنّ.
قال أبو مِخْنف: وأما سليمان بن أبي راشد، فحدّثني عن حُميد بن مسلم قال: إني لقائم عند ابن زياد حين عُرض عليه علي بن الحسين، فقال له: ما اسمُك؟ قال: أنا علي بن الحسين، قال: أولم يقتل اللَّهُ عليَّ بن الحسين؟ فسكت، فقال له ابن زياد: مالك لا تتكلَّم؟ قال: كان لي أخ يقال له عليٌّ أيضًا، قتله الناس. قال: إن اللَّه قتله، فسكت، فقال: مالك لا تتكلَّم؟ فقال: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر: 42]{وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران: 145] قال: أنت واللَّه منهم، ويحك! انظروا هذا أَدرك؟ واللَّه إني لأحسبُه رجلًا، فكشف عنه مُري بن معاذ الأحمريّ، فقال: نعم قد أدرك، فقال: اقتُلْه، فقال علي بن الحسين: من يوكَّل بهذه النسوة؟ وتعلقتْ به زينب
(1)
تاريخ الطبري (5/ 456).
عمتُه فقالت: يا بن زياد! حسبُك منا ما فعلتَ بنا، أما رَوِيتَ من دمائنا؟ وهل أبقيتَ منا أحدًا؟ قال: واعتنقتْه وقالت: أسألك باللَّه إن كنتَ مؤمنًا إنْ قتَلتَه لما قتلتَني معه. وناداه عليٌّ فقال: يا بن زياد! إن كان بينك وبينهنَّ قرابة فابعث معهنَّ رجلًا تقيًّا يصحبهنَّ بصحبة الإسلام قال: فنظر إليهنَّ ساعة ثم نظر إلى القوم فقال: عجبًا للرّحم! واللَّه إني لأظنُّ أنها ودَّت لو أني قتلتُه أن أقتلَها معه. دعوا الغلام. انطلِق مع نسائك]
(1)
.
قال: ثم إن ابن زياد أمر بنساء الحسين وصبيانه وبناته فجهَّزوا إلى يزيد، وأمر بعلي بن الحسين فغُلَّ بغُلٍّ إلى عنقه، وأرسلهم مع محفِّز
(2)
بن ثعلبة العائذي -من عائذة قريش- ومع شَمِر بن ذي الجَوْشن قبَّحه اللَّه، فلما بلغوا باب يزيد بن معاوية رفع محفِّز بن ثعلية صوته فقال: هذا محفِّز بن ثعلبة، أتى أمير المؤمنين باللئام الفجرة. فأجابه يزيد بن معاوية: ما ولدتْ أمُّ محفِّز شرٌّ وأَلأَم.
فلما دخلت الرؤوس والنساء على يزيد دعا أشراف الشام فأجلسهم حولَه، ثم دعا بعليِّ بن الحسين وصبيان الحسين ونسائه، فأُدخلوا عليه والناسُ ينظرون، فقال لعلي بن الحسين: يا عليّ! أبوك قطع رحمي، وجهل حقّي، ونازَعَني سُلطاني، فصنعَ اللَّهُ به ما قد رأيت. فقال علي:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد: 32] فقال يزيد لابنه خالد: أَجِبْه. قال: فما درى خالد ما يردُّ عليه، فقال له يزيد: قُلْ: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30] فسكت عنه ساعة، ثم دعا بالنساء والصبيان فرأى هيئةً قبيحة، فقال: قبَّح اللَّهُ ابن مَرْجانة! لو كانت بينهم وبينه قرابةٌ ورحمٌ ما فعل هذا بهم، ولا بعث بكم هكذا.
وروى أبو مِخْنف، عن الحارث بن كعب، عن فاطمة بنت علي قالت: لما أُجلسنا بين يدي يزيد رقَّ لنا وأمر لنا بشيء وألطَفَنا. ثم إن رجلًا من أهل الشام أحمر قام إلى يزيد فقال: يا أمير المؤمنين! هب لي هذه -يعنيني- وكنتُ جارية وضيئة، فارتعدتُ فزِعةً من قوله، وظننت أن ذلك جائز لهم، فأخذتُ بثياب أختي زينب -وكانت أكبر مني وأعقل، وكانت تعلم أن ذلك لا يجوز- فقالت لذلك الرجل: كذبتَ -واللَّه- ولؤُمت، ما ذلك لك وله. فغضب يزيد فقال لها: كذبتِ، واللَّه إن ذلك لي، ولو شئتُ أن أفعله لفعلت. قالت: كلا، واللَّه ما جعل اللَّهُ ذلك لك إلّا أن تخرج من ملَّتنا وتَدين بغير ديننا. قالت: فغضب يزيد واستطار ثم قال: إياي تستقبلين بهذا؟ إنما خرح من الدِّين أبوك وأخوك، فقالت زينب: بدين اللَّه ودين أبي ودين أخي وجدِّي اهتديتَ أنت وأبوك وجدّك. قال: كذبتِ يا عدوَّة اللَّه. قالت: أنت أمير
(1)
ما بين حاصرتين سقط من ب. وهو في تاريخ الطبري (5/ 457 - 458).
(2)
كذا قيده ابن ماكولا والذهبي وغيرهما - بالفاء المشددة والزاي. وقد تحرف في المطبوع في غير موضع إلى: محقر.
المؤمنين [مسلَّط، تشتم ظالمًا، وتقهر بسلطانك. قالت: فواللَّه لكأنه استحيى فسكت. ثم قام ذلك الرجل فقال: يا أمير المؤمنين]
(1)
! هب لي هذه، فقال له يزيد: اعزُب، وهبَ اللَّهُ لك حَتْفًا قاضيًا.
ثم أمر يزيدُ النعمان بن بَشير أن يبعث معهم إلى المدينة رجلًا أمينًا معه رجال وخيل، ويكون علي بن الحسين معهنّ. ثم أنزل النساء عند حريمه في دار الخلافة، فاستقبلهنَّ نساء آل معاوية يبكين ويَنُحْنَ على الحسين، ثم أقمنَ المناحة ثلاثة أيام. وكان يزيد لا يتغدَّى ولا يتعشَى إلا ومعه علي بن الحسين وأخوه عمر بن الحسين، فقال يزيد يومًا لعمر بن الحسين -وكان صغيرًا جدًا- أتقاتل هذا؟ يعني ابنه خالد بن يزيد - يريد بذلك ممازحته وملاعبته، فقال: أعطني سكَينًا وأعطه سكينًا حتى نتقاتل. فأخذه يزيد فضمَّه إليه وقال: شِنْشِنَةٌ أعرفُها من أَخْزَم
(2)
، هل تلد الحية إلَّا حية؟.
ولما ودَّعهم يزيد قال لعلي بن الحسين: قبح اللَّه ابن سميَّة، أما واللَّه لو أني صاحب أبيك ما سألني خصلة إلَّا أعطيتُه إياها، ولدفعت الحتف عنه بكل ما استطعتُ ولو بهلاك بعض ولدي، ولكن اللَّه قضى ما رأيت. ثم جهَّزه وأعطاه مالًا كثيرًا، وكساهم وأوصى بهم ذلك الرسول، وقال له: كاتِبْني بكل حاجة تكون لك. فكان ذلك الرسول الذي أرسله معهم يسير عنهم بمعزل من الطريق، ويبعد عنهم بحيث يدركهم طرفه، وهو في خدمتهم حتى وصلوا المدينة. فقالت فاطمة بنت علي: قلت لأختي زينب: إن هذا الرجل الذي أُرسل معنا قد أحسن صحبتنا فهل لك أن نصلَه؟ فقالت: واللَّه ما معنا شيء نصلُه به إلا حليّنا، قالت لها: نعطيه حليَّنا. قالت: فأخذت سواري ودُمْلَجي
(3)
، وأخذت سوارها ودُمْلَجها، وبعثنا به إليه واعتذرنا إليه وقلنا: هذا جزاؤك بحسن صحبتك لنا، فقال: لو كان الذي صنعتُ معكم إنما هو للدنيا كان في هذا الذي أرسلتموه ما يُرضيني وزيادة، ولكن -واللَّه- ما فعلتُ ذلك إلّا للَّه تعالى ولقرابتكم من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم
(4)
.
[وقيل: إن يزيد لما رأى رأس الحسين قال: أتدرون من أين أُتي ابن فاطمة، وما الحامل له على ما فعل، وما الذي أوقعه فيما وقع فيه؟ قالوا: لا، قال: يزعم أن أباه خيرٌ من أبي، وأمه فاطمة بنت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خيرٌ من أمي، وجده رسول اللَّه خيرٌ من جدي، وأنه خير مني وأحقُّ بهذا الأمر مني! فأما قوله: أبوه خير من أبي، فقد حاجَّ أبي أباه إلى اللَّه عز وجل، وعلم الناس أيهما حُكم له. وأما قوله: أمُّه خير من أمي، فلعَمْري إن فاطمة بنت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خير من أمي. وأما قوله: جدُّه رسول اللَّه خير من
(1)
ما بين حاصرتين سقط من ب.
(2)
قوله: شنشنة أعرفها من أخزم. مثل عربي. "والشنشنة": الطبيعة والسجية، كأنه أراد: إني أعرف منك مَشابِهَ من أبيك في رأيه وعقله وذكائه. اللسان: مادة (شنن).
(3)
الدملج - بفتح اللام وضمها: ما يوضع على العضد من الحلي.
(4)
تاريخ الطبري (5/ 462 - 463).
جدي، فلعَمْري ما أحد يؤمن باللَّه واليوم الآخر يرى أن لرسول اللَّه فينا عِدْلًا ولا نِدًّا. ولكنه إنما أُتي من قلة فقهه، لم يقرأ:{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ} الآية [26 من سورة آل عمران] وقوله تعالى: {وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 247].
فلما دخلت النساء على يزيد قالت فاطمة بنت الحسين -وكانت أكبر من سُكَينة: يا يزيد! بنات رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سبايا، فقال يزيد: يا بنت أخي! أنا لهذا كنت أكره. قالت: قلت: واللَّه ما تركوا لنا خُرْصًا
(1)
، فقال: ابنة أخي! ما أتى إليك أعظم مما ذهب لك. ثم أدخلهنَّ داره، ثم أرسل إلى كل امرأة منهن: ماذا أُخذ لك؟ فليس منهن امرأة تدَّعي شيئًا بالغًا ما بلغ إلا أضعفه لها.
وقال هشام: عن أبي مِخْنف، حدّثني أبو حمزة الثُّمالي، عن عبد اللَّه الثُّمالي، عن القاسم بن بُخَيت
(2)
قال: لما أقبل وفد الكوفة برأس الحسين دخلوا به مسجد دمشق، فقال لهم مروان بن الحكم: كيف صنعتم؟ قالوا: ورد علينا منهم ثمانية عشر رجلًا، فأتينا -واللَّه- على آخرهم، وهذه الرؤوس والسبايا. فوثب مروان وانصرف. وأتاهم أخوه يحيى بن الحكم فقال: ما صنعتم؟ فقالوا له مثل ما قالوا لأخيه، فقال لهم: حُجِبتم عن محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، لن أُجامعكم على أمر أبدًا، ثم قام فانصرف. قال: ولما بلغ أهل المدينة مقتل الحسين بكى عليه نساء بني هاشم ونُحْنَ عليه]
(3)
.
وروي أن يزيد استشار الناس في أمرهم، فقال رجال ممن قبَّحهم اللَّه: يا أمير المؤمنين! لا تتخذن من كلب سوءٍ جروًا، اقتُل علي بن الحسين حتى لا يبقى من ذرية الحسين أحد، فسكت يزيد، فقال النعمان بن بشير: يا أمير المؤمنين! اعمل معهم كما كان يعمل معهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لو رآهم على هذه الحال. فرقَّ عليهم يزيد، وبعث بهم إلى الحمَّام، وأجرى عليهم الكساوى والعطايا والأطعمة، وأنزلهم في داره.
وهذا يردُّ قول الرافضة: إنهم حُملوا على جنائب الإبل سبايا عرايا، حتى كذب مَنْ زعم منهم أن الإبل البَخاتي إنما نبتتْ لها الأسنمة من ذلك اليوم لتستر عوراتِهنّ من قُبُلهنَّ ودُبُرهنّ.
ثم كتب ابن زياد إلى عمرو بن سعيد -أمير الحرمين- يبشِّره بمقتل الحسين، فأمر مناديًا فنادى بذلك، فلما سمع نساء بني هاشم ارتفعت أصواتهنَّ بالبكاء والنَّوح، فجعل عمرو بن سعيد يقول: هذا ببكاء نساء عثمان بن عفان.
وقال عبد الملك بن عُمير: دخلتُ على عبيد اللَّه بن زياد وإذا رأسُ الحسين بن علي بين يديه على
(1)
الخرص - بضم الخاء وكسرها: حلقة القُرط.
(2)
تحرف في المطبوع إلى: نجيب.
(3)
ما بين حاصرتين سقط من ب، وما ورد خلاله من أخبار في تاريخ الطبري (5/ 464 - 465).
تُرس، فواللَّه ما لبثتُ إلَّا قليلًا حتى دخلت على المختار بن أبي عُبيد وإذا رأسُ عبيد اللَّه بن زياد بين يدي المختار على تُرس [وواللَّه ما لبثتُ إلَّا قليلًا حتى دخلت على مصعب بن الزبير وإذا رأسُ المختار بين يديه على تُرس]
(1)
وواللَّه ما لبثتُ إلَّا قليلًا حتى دخلت على عبد الملك بن مروان وإذا رأسُ مصعب بن الزبير على تُرس بين يديه.
وقال أبو جعفر بن جرير الطبري في "تاريخه": حدّثني زكريا بن يحيى الضَّرير، حدَّثنا أحمد بن جناب
(2)
المصِّيصي، حدَّثنا خالد بن يزيد بن
(3)
عبد اللَّه القَسْري، حدَّثنا عمّار الدُّهني قال: قلت لأبي جعفر: حدِّثني عن مقتل الحسين كأني حضرته، فقال: أقبلَ الحسين بكتاب مسلم بن عَقيل الذي كان قد كتبه إليه يأمره فيه بالقدوم عليه، حتى إذا كان بينه وبين القادسيَّة ثلاثة أميال لقيَه الحرُّ بن يزيد التميمي فقال له: أين تريد؟ فقال: أريد هذا المِصْر، فقال له: ارجع فإني لم أدعْ لك خلفي خيرًا أرجوه، فهمَّ الحسين أن يرجع، وكان معه إخوة مسلم بن عَقيل، فقالوا: واللَّه لا نرجع حتى نأخذ بثأرنا ممن قَتل أخانا أو نُقتل، فقال: لا خير في الحياة بعدكم. فسار، فلقيه أوائل خيل ابن زياد، فلما رأى ذلك عدل
(4)
إلى كربلاء، فاسند ظهره إلى قصباء
(5)
وخلًا ليقاتل من جهة واحدة، فنزل وضرب أبنيته. وكان أصحابه خمسة وأربعين فارسًا ومئة راجل. وكان عمر بن سعد بن أبي وقاص قد ولّاه ابن زياد الري وعهد إليه عهده، فقال: اكفني هذا الرجل واذهب إلى عملك، فقال: اعفني، فأبى أن يعفيه، فقال: أنظرني الليلة، فأخَّره، فنظر في أمره، فلما أصبح غدا عليه راضيًا بما أمره به. فتوجَّه إليه عمر بن سعد، فلما أتاه قال له الحسين: اختر
(6)
واحدة من ثلاث: إما أن تَدَعوني فأنصرف من حيث جئت، وإما أن تَدَعوني فأذهب إلى يزيد، وإما أن تَدَعوني فألحق بالثغور. فقبل ذلك عمر، فكتب إليه عبيد اللَّه بن زياد: لا، ولا كرامة حتى يضع يده في يدي، فقال الحسين: لا واللَّه لا يكون ذلك أبدًا. فقاتله، فقُتل أصحاب الحسين كلُّهم وفيهم بضعة عشر شابًا من أهل بيته، وجاءه سهم فأصاب ابنًا له في حِجْره، فجعل يمسح الدم ويقول: اللهم احكُم بيننا وبين قوم دَعَونا لينصرونا فقتلونا. ثم أمر بحبَرَة
(7)
فشقَّها ثم لبسها وخرج بسيفه، فقاتل حتى قُتل، قتله رجل من مَذْحج، وحزَّ رأسه فانطلق به إلى ابن زياد وقال في ذلك:
أَوْقِوْ ركابي فضَّةً وذَهَبَا
…
فقد قَتَلْتُ المَلِكَ المُحَجَّبَا
(1)
ما بين حاصرتين سقط من المطبوع. والخبر في تاريخ الخلفاء (ص 328 - 329).
(2)
في المطبوع: خباب، تحريف.
(3)
في المطبوع: عن، خطأ.
(4)
في المطبوع: عاد.
(5)
كذا في ب وتاريخ الطبري. ووقعت في أ، ط: قصيتا.
(6)
في المطبوع: اختبر، خطأ.
(7)
الحبرة - بكسر الحاء وفتحها: ضرب من البرود اليمانية.
قتلتُ خيرَ النَّاسِ أُمًّا وأَبَا
…
وخيرَهُمْ إذ يُنْسَبونَ نَسَبَا
قال: فأوفده إلى يزيد بن معاوية، فوضع رأسه بين يديه، وعنده أبو بَرْزة الأسلمي، فجعل يزيد ينكت بالقضيب على فيه ويقول:
نُفلِّقُ هامًا منْ رجالٍ أعزَّةٍ
…
عَلَينا وهمْ كانُوا أَعَقَّ وأَظْلَما
فقال له أبو بَرْزة: ارفع قضيبك، فواللَّه لربما رأيتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم واضعًا فيه على فيه يلثُمه.
قال: وأرسل عمر بن سعد بحرمه وعياله إلى ابن زياد، ولم يكن بقي من آل الحسين إلّا غلام، وكان مريضًا مع النساء، فأمر به ابن زياد ليُقتل، فطرحت زينب نفسها عليه وقالت: واللَّه لا يقتل حتى تقتلوني، فرقَّ لها وكفَّ عنه.
قال: فأرسلهم إلى يزيد، فجمع يزيد من كان بحضرته من أهل الشام، ثم دخلوا عليه فهنَّؤوه بالفتح، فقام رجل منهم أحمر أزرق -ونظر إلى وصيفة من بناته- فقال: يا أمير المؤمنين! هب لي هذه، فقالت زينب: لا، ولا كرامة لك ولا له إلا أن تخرجا من دين اللَّه. قال: فأعادها الأزرق، فقال له يزيد: كفَّ عن هذا. ثم أدخلهم على عياله، ثم حملهم إلى المدينة، فلما دخلوها خرجت امرأة من بني عبد المطلب ناشرةً شعرها، واضعة كمَّها على رأسها، تتلقاهم وهي تبكي وتقول:
ماذا تقولونَ إنْ قالَ النَّبيُّ لكُمْ
…
ماذا فَعَلْتمْ وأنتمْ آخرُ الأُمَم
بعِتْرَتي وبأَهْلي بعدَ مُفْتَقَدِي
…
منهمْ أُسَارى وقَتْلى ضُرِّجُوا بدم
ما كانَ هذا جَزَائي إذْ نَصَحْتُ لكمْ
…
أَنْ تخلفُوني بسُوءٍ في ذوي رَحِمي
(1)
وقد روى أبو مِخْنف، عن سليمان بن أبي راشد، عن عبد الرحمن بن عبيد أبي الكنود: أن بنت عَقيل هي التي قالت هذا الشعر.
وهكذا حكى الزبير بن بكّار أن زينب الصغرى بنت عَقيل بن أبي طالب هي التي قالت ذلك حين دخل آل الحسين المدينة النبويَّة.
وروى أبو بكر بن الأنباري بإسناده أن زينب بنت علي بن أبي طالب من فاطمة -وهي زوج عبد اللَّه بن جعفر أمّ بنيه- رفعت سجف
(2)
خبائها يوم كربلاء يوم قُتل الحسين وقالت هذه الأبيات
(3)
. فاللَّه أعلم.
(1)
الخبر بطوله في تاريخ الطبري (5/ 389 - 390).
(2)
"السجف": الشر.
(3)
الخبر في شاعرات العرب (ص 257) وأعلام النساء (3/ 324) وفيهما أن هذه الأبيات لعقيلة بنت عقيل بن أبي طالب.
وقال هشام بن الكلبي: حدّثني بعض أصحابنا، عن عمرو بن [أبي]
(1)
المقدام قال: حدّثني عمر بن عكرمة قال: أصبحنا صبيحة قتل الحسين بالمدينة، فإذا مولاة لنا تحدِّثنا قالت: سمعت البارحة مناديًا ينادي وهو يقول:
أيُّها القاتلونَ ظُلْمًا حُسَينًا
…
ابشِرُوا بالعَذَابِ والتَّنْكيل
كلُّ أهلِ السَّماءِ يدعُو عَلَيكم
…
مِنْ نبيٍّ ومالكٍ وقَبِيل
قَدْ لُعِنْتم على لسَانِ ابنِ داو
…
ودَ وموسى وحاملِ الإِنْجِيل
(2)
قال هشام
(3)
: حدّثني عمرو بن حيزوم الكلبي، عن أمِّه قالت: سمعت هذا الصوت. وقال الليث وأبو نعيم: يوم السبت.
ومما أنشده الحاكم أبو عبد اللَّه النَّيْسابوري وغيره لبعض المتقدِّمين في مقتل الحسين:
جاؤوا برأسِكَ يا بنَ بنتِ محمَّدٍ
…
متزمِّلًا بدِمائِهِ تَزْمِيلا
وكأنَّما بكَ يا بنَ بنتِ محمَّدٍ
…
قَتَلوا جهَارًا عامِدينَ رَسُولا
قَتَلوكَ عطشانًا ولمْ يَتَدَبَّرُوا
…
في قَتْلكَ القرآنَ والتَّنْزِيلا
ويُكَبِّرونَ بأنْ قُتِلْتَ وإنَّما
…
قَتَلوا بكَ التَّكبيرَ والتَّهْليلا
فصل
وكان مقتل الحسين رضي الله عنه يوم الجمعة، يوم عاشوراء من المحرَّم، سنة إحدى وستين. وقال هشام بن الكلبي: سنة اثنتين وستين، وبه قال علي بن المديني. وقال ابن لَهِيعة: سنة اثنتين أو ثلاث وستين. وقال غيره: سنة ستين. والصحيح الأول بمكان من الطَّفِّ يقال له: كربلاء من أرض العراق، وله من العمر ثمان وخمسون سنة أو نحوها، وأخطأ أبو نعيم في قوله: إنه قُتل وله من العمر خمس أو ست وستون سنة.
قال الإمام أحمد
(4)
: حدَّثنا عبد الصَّمد بن حسان، حدَّثنا عُمارة -يعني ابن زاذان- عن ثابت، عن
(1)
سقطت من المطبوع. وعمرو بن أبي المقدام: هو عمرو بن ثابت الكوفي. قال فيه ابن حجر: ضعيف، رمي بالرفض.
(2)
تنسب هذه الأبيات للجن، وهي في تاريخ الطبري (5/ 467) وابن الأثير (4/ 90) ومختصر تاريخ دمشق (7/ 154).
(3)
في المطبوع: قال ابن هشام، خطأ.
(4)
مسند أحمد (3/ 265) وفيه عمارة بن زاذان وهو كثير الخطأ، فإسناد الحديث ضعيف.
أنس قال: "استأذن ملَك القَطْر أن يأتيَ النبي صلى الله عليه وسلم فأذن له، فقال لأمِّ سلمة: احفَظِي علينا البابَ لا يدخل علينا أحد، فجاء الحسينُ بن علي، فوثب حتى دخل، فجعلَ يصعَدُ على مَنْكب النبي صلى الله عليه وسلم فقال المَلك: أتحبُّه؟ قال النبيُّ
(1)
صلى الله عليه وسلم: نعم، فقال: إنَّ أمَّتَك تقتلُه، وإنْ شئتَ أَريتُك المكان الذي يُقتل فيه. قال: فضرب بيده فأَراهُ ترابًا أحمر، فأخذتْ أمُّ سلمة ذلك التراب فصرَّتْه في طرف ثوبها. قال: فكنّا نسمع أنه يُقتل بكربلاء".
وقال الإمام أحمد: حدّثنا وكيع، حدّثني عبد اللَّه بن سعيد، عن أبيه، عن عائشة -أو أمِّ سلمة-: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "لقد دخلَ عليَّ البيتَ ملَكٌ لم يدخلْ قبلَها [فقال لي: إنَّ ابنَكَ هذا حسين مقتول، وإنْ شئتَ أَريتُكَ مِنْ تُربة الأرضِ التي يُقتل بها]
(2)
قال: فأَخرجَ تربة حمراء"
(3)
.
وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن أمِّ سلمة. ورواه الطبراني
(4)
عن أبي أُمامة وفيه قصة أمِّ سلمة. ورواه محمد بن سعد
(5)
عن عائشة بنحو رواية أمِّ سلمة، فاللَّه أعلم. وروي ذلك من حديث زينب بنت جَحْش، ولُبَابة أمِّ الفضل امرأة العباس. وأرسله غير واحد من التابعين.
وقال أبو القاسم البَغَوي: حدّثنا محمد بن هارون أبو بكر، حدّثنا إبراهيم بن محمد الرَّقي وعليُّ بن الحسن الرازي قالا: حدّثنا سعيد بن عبد الملك أبو واقد الحرّاني، حدّثنا عطاء بن مسلم، حدّثنا أشعث بن سُحيم
(6)
، عن أبيه قال: سمعت أنس بن الحارث يقول: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إن ابني -يعني الحسين- يُقتل بأرضٍ يُقال لها كَرْبلاء، فمَن شهِدَ منكُم ذلكَ فَلْيَنْصُره". قال: فخرج أنس بن الحارث إلى كربلاء، فقُتل مع الحسين. قال: ولا أعلم رواه غيره.
وقال الإمام أحمد: حدّثنا محمد بن عبيد، حدّثنا شُرَحبيل
(7)
بن مُدرك، عن عبد اللَّه بن نُجي
(8)
، عن أبيه أنه سار مع علي -وكان صاحب مِطْهَرته- فلما حاذى
(9)
نِينَوَى وهو منطلق إلى صفِّين، فنادى
(1)
لفظة: "النبي صلى الله عليه وسلم" سقطت من ط.
(2)
ما بين حاصرتين سقط من أ.
(3)
مسند أحمد (6/ 294).
(4)
المعجم الكبير (8096).
(5)
الطبقات الكبرى (1/ 425 - 426) الطبقة الخامسة من الصحابة.
(6)
في الاستيعاب (1/ 112): "سليم"، ولم أقف له على ترجمة، لكن ما أثبتناه اتفقت عليه النسخ، وكذلك ذكره البخاري في ترجمة أنس بن الحارث من تاريخه الكبير (2/ 30) وابن الأثير في أسد الغابة (1/ 146) وابن حجر في الإصابة (1/ 68).
(7)
تحرف في أ، ط إلى: شراحيل، وهو من رجال التهذيب.
(8)
تحرف في ط إلى: يحيى، وهو من رجال التهذيب.
(9)
في الأصل: جاؤوا وما أثبته من المسند وزوائد البزار والسير.
علي: اصبِر أبا عبد اللَّه! اصبِر أبا عبد اللَّه بشطِّ الفُرات! قلت: وماذا تريد؟ قال: دخلتُ على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ذاتَ يومٍ وعيناه تَفيضان فقلت: ما أبكاك يا رسول اللَّه؟ قال: بلَى، قام من عندي جبريلُ قبلُ، فحدّثني أن الحسينَ يُقتل بشطِّ الفُرات، قال: فقال: هل لكَ أن أُشِمَّك من تُربته؟ قال: فمدَّ يده فقبضَ قبضة من تراب فأعطانِيها، فلم أملِكْ عيني أنْ فاضَتا". تفرد به أحمد
(1)
.
وروى محمد بن سعد
(2)
، عن علي بن محمد، عن يحيى بن زكريا، عن رجل، عن عامر الشَّعبي، عن علي مثله.
وقد روى محمد بن سعد وغيره -من غير وجه- عن علي بن أبي طالب: أنه مرَّ بكربلاء عند أشجار الحَنْظل وهو ذاهب إلى صفِّين، فسأل عن اسمها، فقيل: كربلاء، فقال: كربٌ وبلاء. فنزل وصلَّى عند شجرة هناك ثم قال: يُقتل هاهنا شهداء هم خير الشهداء غير الصحابة، يدخلون الجنَّة بغير حساب. وأشار إلى مكان هناك، فعلَّموه بشيء، فقُتل فيه الحسين.
وقد روي عن كعب الأحبار آثارٌ في كربلاء.
وقد حكى أبو الجَنَاب الكلبي وغيره: أن أهل كربلاء لا يزالون يسمعون نَوْح نساء الجنِّ على الحسين وهنَّ يقلنَ:
مَسَحَ الرسُولُ جَبينَهُ
…
فَلَهُ بَرِيقٌ في الخُدُود
أَبَواهُ مِنْ عُلْيَا قُرَيْـ
…
ــشٍ جدُّهُ خيرُ الجُدُود
(3)
وقد أجابهم بعض الناس فقال:
خَرَجُوا بِهِ وفدًا إليـ
…
ــهِ فهمْ لهُ شَرُّ الوُفود
قَتَلوا ابنَ بنتِ نبيِّهمْ
…
سَكنُوا بِهِ ذاتَ الخُدود
وروى ابن عساكر: أن طائفة من الناس ذهبوا في غزوة إلى بلاد الروم، فوجدوا في كنيسة مكتوبًا:
أَتَرْجو أمَّة قَتَلَتْ حُسَينًا
…
شَفَاعَةَ جدِّهِ يومَ الحِسَاب
فسألوهم: من كتب هذا؟ فقالوا: إن هذا مكتوب هاهنا من قبل مبعث نبيكم بثلاث مئة سنة!
(1)
وهو في مسنده (1/ 85) وإسناده ضعيف.
(2)
طبقاته الكبرى (الطبقة الخامسة من صغار الصحابة)(1/ 429).
(3)
مجالس ثعلب (ص 339) ومختصر تاريخ دمشق (7/ 154) وسير أعلام النبلاء (3/ 317) وتاريخ الخلفاء (ص 330).
وروي أنَّ الذين قتلوه رجعوا فباتوا وهو يشربون الخمر والرأس معهم، فبرز لهم قلم من حديد فرسم لهم في الحائط بدمٍ هذا البيت:
أَتَرْجو أمَّةٌ قَتَلَتْ حُسَينًا
…
شَفَاعَةَ جدِّهِ يومَ الحِسَاب
(1)
وقال الإمام أحمد: حدَّثنا عبد الرحمن وعفان، حدّثنا حمّاد بن سلمة، عن عمّار بن أبي عمّار، عن ابن عباس قال: "رأيتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في المنام بنصف
(2)
النهار أشعثَ أغبَر، معه قارورةٌ فيها دم، فقلت: بأبي وأمي يا رسول اللَّه ما هذا؟! قال: هذا دمُ الحسينِ وأصحابِه لم أزل ألتقِطُه منذ اليوم". قال عمار: فأَحصينا ذلك فوجدناه قد قُتل في ذلك اليوم.
تفرد به أحمد
(3)
، وإسناده قوي.
وقال ابن أبي الدنيا: حدّثنا عبد اللَّه بن محمد بن هانئ أبو عبد الرحمن النحوي، حدَّثنا مَعْدي
(4)
بن سليمان، حدَّثنا على بن زيد بن جُدْعان قال: استيقظ ابن عباس من نومه، فاسترجع وقال: قُتل الحسين واللَّه، فقال له أصحابه: لم يا بن عباس؟! فقال: "رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ومعه زجاجة من دم، فقال: أتعلم ما صنعتْ أُمَّتي من بعدي؟ قتلوا بنيَّ الحسين، وهذا دمُه ودم أصحابه أرفعُهما إلى اللَّه". فكتب ذلك اليوم الذي قال فيه وتلك الساعة، فما لبثوا إلَّا أربعة وعشرين يومًا حتى جاءهم الخبر بالمدينة: أنه قُتل في ذلك اليوم وتلك الساعة.
وروى الترمذي
(5)
، عن أبي سعيد الأشجّ، عن أبي خالد الأحمر، عن رَزِين، عن سلمى قالت: دخلت على أمِّ سلمة وهي تبكي، فقلت: ما يُبكيك؟ فقالت: رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في المنام وعلى رأسِه ولحيته التراب، فقلت: مالكَ يا رسول اللَّه؟! قال: "شهدتُ قتلَ الحسين آنفًا".
وقال محمد بن سعد
(6)
: أخبرنا محمد بن عبد اللَّه الأنصاري، أنبأنا قرَّة بن خالد، أخبرني عامر بن عبد الواحد، عن شَهْر بن حَوْشب قال: إنا لعندَ أمِّ سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فسمعنا صارخة، فأقبلتْ حتى انتهتْ إلى أمِّ سلمة فقالت: قُتل الحسين، فقالت: قد فعلوها؟! ملأ اللَّهُ قبورهم -أو بيوتهم- عليهم نِارًا، ووقعتْ مغشيًّا عليها، وقمنا.
(1)
مختصر تاريخ دمشق (7/ 155).
(2)
فى ط: "نصف"، وما أثبتناه من م وهو الموافق لما في المسند.
(3)
وهو في مسنده (1/ 242 و 283).
(4)
تحرف في المطبوع إلى: مهدي وهو من رجال التهذيب، وقد قال فيه أبو زرعة: واهي الحديث، وقال النسائي: ضعيف. وقال ابن حبان: لا يجوز أن يحتج به - ميزان الاعتدال (4/ 142 - 143).
(5)
الترمذى (3771) فى المناقب. وإسناده ضعيف.
(6)
طبقاته الكبرى (1/ 495 - 496) الطبقة الخامسة من الصحابة. ونقله ابن عساكر في تاريخ دمشق مختصره (7/ 153).
وقال الإمام أحمد: حدَّثنا عبد الرحمن بن مَهْدي، حدّثنا ابن سلمة
(1)
، عن عمّار قال: سمعث أمَّ سلمة قالت: سمعتُ الجنَّ يبكين على الحسين، وسمعت الجنَّ تنوح على الحسين.
ورواه الحسين بن إدريس، عن هاشم بن هاشم، عن أمَّه، عن أمِّ سلمة قالت: سمعتُ نساء الجنِّ ينحنَ على الحسين وهنَّ يقلن:
أيُّها القاتلونَ جَهْلًا حُسَينًا
…
أَبشِرُوا بالعذابِ والتَّنْكيل
كل أهلِ السَّماءِ يدعو عَليكُم
…
من نبيٍّ ومُرْسَلٍ وقَبِيل
قَدْ لُعِنتمْ على لسَانِ ابنِ داو
…
ودَ وموسى وصاحبِ الإِنجيل
(2)
وقد روي من طريق أخرى عن أمِّ سلمة بشعر آخر غير هذا، فاللَّه أعلم.
وقال الخطيب: أخبرنا أحمد بن عثمان بن مَيّاح
(3)
السُّكري، حدّثنا محمد بن عبد اللَّه بن إبراهيم الشافعي، حدَّثنا محمد بن شدّاد المِسْمعي، حدّثنا أبو نعيم، حدَّثنا عبد اللَّه
(4)
بن حبيب بن أبي ثابت، عن أبيه، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس قال:"أوحى اللَّهُ تعالى إلى محمد صلى الله عليه وسلم: أني قتلتُ بيحى بن زكريّا سبعين ألفًا، وأنا قاتلٌ بابن بنتِك سبعين ألفًا وسبعين ألفًا"
(5)
.
هذا حديث غريب جدًا، وقد رواه الحاكم في "مستدركه"
(6)
.
وقد ذكر الطبراني هاهنا آثارًا غريبة جدًا.
ولقد بالغ الشِّيعة في يوم عاشوراء، فوضعوا أحاديث كثيرة كذبًا فاحشًا: من كون الشمس كسفت يومئذٍ حتى بدت النجوم. وما رُفع يومئذ حجرٌ إلا وُجد تحته دم. وأنَّ أرجاء السماء احمرَّت. وأنَّ الشمس كانت تطلع وشعاعُها كأنه الدم. وصارت السماء كأنها عَلَقة
(7)
. وأن الكواكب ضرب بعضها بعضًا. وأمطرت السماء دمًا أحمر. وأنَّ الحمرة لم تكن في السماء قبل يومئذ. . . ونحو ذلك.
(1)
تحرفت. في أ، ط إلى: مسلم. وابن سلمة هو حماد. والخبر في معجم الطبراني (2867) كما في التعليق على السير (3/ 316).
(2)
تقدمت هذه الأبيات قبل صفحات.
(3)
تحرف في المطبوع إلى: ساج، وهو مترجم في تاريخ الخطيب (4/ 300) وأيضًا في الإكمال لابن ماكولا (5/ 307).
(4)
تحرف في أ، ط إلى: عبيد اللَّه.
(5)
تاريخ بغداد (1/ 141 - 142).
(6)
مستدرك الحاكم (2/ 290 و 592) و (3/ 187)، وهو حديث موضوع كما بيناه في تعليقنا على تاريخ الخطيب (1/ 472)(بشار).
(7)
"العلقة": القطعة من الدم الجامد.
وروى ابن لَهِيعَة، عن أبي قَبيل المَعَافِري: أنَّ الشمس كسفت يومئذ حتى بدت النجوم وقت الظهر. وأنَّ رأس الحسين لما دخلوا به قصر الإمارة جَعلت الحيطان تسيل دمًا. وأنَّ الأرض أظلمت ثلاثة أيام. ولم يمسَّ زعفران ولا وَرْس بما كان معه يومئذ إلا احترق من مسِّه. ولم يُرفع حجر من حجارة بيت المقدس إلا ظهر تحته دم عبيط
(1)
. وأنَّ الإبل التي عقروها من إبل الحسين حين طبخوها صار لحمها مثل العَلْقم. إلى غير ذلك من الأكاذيب والأحاديث الموضوعة التي لا يصح منها شيء.
وأما ما روي من الأحاديث والفتن التي أصابت مَنْ قَتَلَه فأكثرها صحيح، فإنه قلَّ مَن نجا مِن أولئك الذي قتلوه من آفةٍ وعاهة في الدنيا، فلم يخرج منها حتى أُصيب بمرض، وأكثرهم أصابهم الجنون.
ولهم في صفة مصرع الحسين كذبٌ كثير وأخبار باطلة، وفيما ذكرنا كفاية، وفي بعض ما أوردناه نظر، ولولا أن ابن جرير وغيره من الحفّاظ والأئمة ذكروه ما سقتُه، وأكثره من رواية أبي مِخْنف لوط بن يحيى، وقد كان شيعيًّا، وهو ضعيف الحديث عند الأئمة
(2)
، ولكنه أخباري حافظ، عنده من هذه الأشياء ما ليس عند غيره، ولهذا يترامى عليه كثير من المصنِّفين في هذا الشأن ممن بعده. واللَّه أعلم.
وقد أسرف الرافضة في دولة بني بُويه -في حدود الأربعمئة وما حولها- فكانت الدبادب
(3)
تضرب ببغداد ونحوها من البلاد في يوم عاشوراء، ويذرُّ الرماد والتبن في الطرقات والأسواق، وتعلَّق المسوح
(4)
على الدكاكين، ويُظهر الناس الحزن والبكاء، وكثير منهم لا يشرب الماء ليلَتئذٍ موافقة للحسين لأنه قتل عطشانًا. ثم تخرج النساء حاسراتٍ عن وجوههنَّ ينحنَ ويلطمنَ وجوههنَّ وصدورهن، حافيات في الأسواق. . . إلى غير ذلك من البدع الشنيعة، والأهواء الفظيعة، والهتائك المختَرَعة، وإنما يريدون بهذا وأشباهه أن يشنِّعوا على دولة بني أمية لأنه قُتل في دولتهم.
[وقد عاكس الرافضةَ والشيعةَ يوم عاشوراء النواصبُ من أهل الشام، فكانوا إلى يوم عاشوراء يطبخون الحبوب، ويغتسلون ويتطيَّبون، ويلبسون أفخر ثيابهم، ويتَّخذون ذلك اليوم عيدًا، يصنعون فيه أنواع الأطعمة، ويُظهرون السرور والفرح، يريدون بذلك عناد الروافض ومعاكستهم]
(5)
.
وقد تأوَّل عليه مَنْ قتلَه أنه جاء ليفوِّق كلمة المسلمين بعد اجتماعها، وليخلع مَنْ بايعه الناس واجتمعوا عليه، وقد ورد في "صحيح مسلم" الحديث بالزجر عن ذلك، والتحذير منه، والتوعُّد
(1)
"دم عبيط": دم طري.
(2)
نقل الذهبي أقوال العلماء فيه في ميزان الاعتدال (3/ 419 - 420).
(3)
"الدبادب": الطبول.
(4)
"المسوح": المناديل.
(5)
ما بين حاصرتين ليس في ب.
عليه. وبتقدير أن تكون طائفة من الجهلة قد تأوَّلوا عليه وقتلوه، ولم يكن لهم قتلُه، بل كان يجب عليهم إجابتُه إلى ما سأل من تلك الخصال الثلاث المتقدم ذكرُها. فإذا ذمت طائفة من الجبارين لم تذم الأمة بكمالها وتتهم على نبيها صلى الله عليه وسلم، فليس الأمر كما ذهبوا إليه، ولا كما سلكوه، بل أكثر الأئمة -قديمًا وحديثًا- كارهٌ لما وقع من قتله وقتل أصحابه، سوى شرذمةٍ قليلة من أهل الكوفة قبَّحهم اللَّه، وأكثرُهم كانوا قد كاتَبُوه ليتوصَّلوا به إلى أغراضهم ومقاصدهم الفاسدة. [فلما علم ابن زياد منهم بلَّغهم ما يريدون من الدنيا، وأخذهم على ذلك وحملَهم عليه بالرغبة والرهبة، فانكفوا عن الحسين وخذلوه ثم قتلوه]
(1)
. وليس كل ذلك الجيش كان راضيًا بما وقع من قتله، بل ولا يزيد بن معاوية رضي بذلك -واللَّه أعلم- ولا كرهه، والذي يكاد يغلب على الظن أنَّ يزيد لو قَدر عليه قبل أن يُقتل لعفا عنه كما أوصاه بذلك أبوه، وكما صرَّح هو به مُخبرًا عن نفسه بذلك. [وقد لَعَن ابن زياد على فعله ذلك وشتَمَه فيما يظهر ويبدو، ولكن لم يعزله على ذلك، ولا عاقبَه، ولا أرسل يَعيب عليه ذلك، واللَّه أعلم]
(2)
.
فكل مسلم ينبغي له أن يُحزنه قتلُه رضي الله عنه، فإنه من سادات المسلمين وعلماء الصحابة، وابن بنت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم التي هي أفضل بناته، وقد كان عابدًا وشجاعًا وسخيًا. ولكن لا يحسن ما يفعلُه هؤلاء من إظهار الجزع والحزن الذي لعل أكثره تصنُّع ورياء، وقد كان أبوه أفضل منه فقُتل، وهم لا يتَّخذون مقتلَه مأتمًا كيوم مقتل الحسين، فإنَّ أباه قُتل يوم الجمعة وهو خارج إلى صلاة الفجر في السابع عشر من رمضان سنة أربعين. وكذلك عثمان كان أفضل من علي عند أهل السُّنة والجماعة، وقد قُتل وهو محصور في داره في أيام التشريق من شهر ذي الحجة سنة ست وثلاثين، وقد ذُبح من الوريد إلى الوريد، ولم يتخذ الناس يوم قتله مأتمًا. وكذلك عمر بن الخطاب وهو أفضل من عثمان وعلي، قُتل وهو قائم يصلِّي في المحراب صلاة الفجر ويقرأ القرآن، ولم يتَّخذ الناس يوم قتله مأتمًا، وكذلك الصدِّيق كان أفضل منهم، ولم يتَّخذ الناس يوم وفاته مأتمًا. ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سيِّد ولد آدم في الدنيا والآخرة، وقد قبضه اللَّه إليه كما مات الأنبياء قبلَه، ولم يتَّخذ أحد يوم موتهم مأتمًا يفعلون فيه ما يفعله هؤلاء الجهلة من الرافضة يوم مصرع الحسين. ولا ذكر أحدٌ أنه ظهر يوم موتهم وقبلهم شيء مما ادعاه هؤلاء يوم مقتل الحسين من الأمور المتقدمة مثل: كسوف الشمس، والحمرة التي تطلع في السماء، وغير ذلك.
وأحسن ما يقال عند ذكر هذه المصائب وأمثالها ما رواه الحسين بن علي
(3)
عن جدِّه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما مِنْ مسلمٍ يُصابُ بمصيبةٍ فيتذكَّرُها -وإن تقادم عهدُها- فيُحْدث لها استرجاعًا إلَّا
(1)
ما بين حاصرتين ليس في ب.
(2)
ما بين حاصرتين ليس في ب.
(3)
في أ، ط: علي بن الحسين وهو خطأ.
أعطاهُ اللَّهُ من الأجر مثلَ يوم أُصِيب بها". رواه الإمام أحمد، وابن ماجه
(1)
.
وأما قبر الحسين رضي الله عنه
فقد اشتهر عند كثير من المتأخِّرين أنه في مشهد علي، بمكان من الطَّفِّ عند نهر كربلاء، فيقال: إن ذلك المشهد بُني على قبره، فاللَّه أعلم.
وقد ذكر ابن جرير وغيره: أن موضع قتله عفي أثرُه حتى لم يطَّلع أحد لتعيينه على خبر. وقد كان أبو نعيم -الفضل بن دُكين- ينكر على من يزعم أنه يعرف قبر الحسين.
وذكر هشام بن الكلبي: أن الماء لمَّا أُجري على قبر الحسين ليمحى أثره نضب الماء بعد أربعين يومًا، فجاء أعرابي من بني أسد، فجعل يأخذ قبضة قبضة ويشمُّها حتى وقع على قبر الحسين، فبكى وقال: بأبي أنت وأمي، ما كان أطيبَك وأطيب تربتك! ثم أنشأ يقول:
أَرادُوا ليُخْفُوا قبرَهُ عن عَدُوِّه
…
فَطِيبُ تُرابِ القبرِ دَلَّ على القَبْر
(2)
وأما رأس الحسين رضي الله عنه
فالمشهور عند أهل التاريخ وأهل السيَر: أنه بعث به ابن زياد إلى يزيد بن معاوية، ومن الناس من أنكر ذلك. وعندي أن الأول أشهر، فاللَّه أعلم.
ثم اختلفوا بعد ذلك في المكان الذي دُفن فيه الرأس. فروى محمد بن سعد: أن يزيد بعث برأس الحسين إلى عمرو بن سعيد -نائب المدينة- فدفنه عند أمِّه بالبقيع.
وذكر ابن أبي الدنيا، من طريق عثمان بن عبد الرحمن، عن محمد بن عمر بن صالح -وهما ضعيفان-: أن الرأس لم يزل في خزانة يزيد بن معاوية حتى توفي، فأُخذ من خزانته، فكُفِّن، ودُفن داخل باب الفراديس من مدينة دمشق.
قلت: ويعرف مكانه بمسجد الرأس داخل باب الفراديس الثاني.
(1)
أخرجه أحمد في مسنده (1/ 201) وابن ماجه (1600) في الجنائز: باب ما جاء في الصبر على المصيبة، وفي سنده هشام بن زياد وهو متروك، وقد ترجم له ابن حبان في المجروحين (3/ 88) وأورد هذا الحديث ضمن ترجمته فالحديث ضعيف جدًا.
وقوله: يحدث لها استرجاعًا أي يقول: إنا للَّه وإنا إليه راجعون.
(2)
الخبر في مختصر تاريخ دمشق (7/ 155) وسير أعلام النبلاء (3/ 317). والبيت لمسلم بن الوليد وهو في ملحق ديوانه (320).
وذكر ابن عساكر في "تاريخه" في ترجمة ريا حاضنة يزيد بن معاوية: أن يزيد حين وضع رأس الحسين بين يديه تمثل بشعر ابن الزبعرى - يعني قوله:
ليتَ أَشْياخي ببدرٍ شَهِدُوا
…
جَزَعَ الخَزْرَجِ منْ وَقْعِ الأَسَلْ
قال: ثم نصبه بدمشق ثلاثة أيام، ثم وضع في خزائن السلاح، حتى كان زمن سليمان بن عبد الملك جيء به إليه وقد بقي عظمًا أبيض، فكفَّنه وطيَّبه وصلَّى عليه ودفنه في مقبرة المسلمين. فلما جاءت المسوِّدة -يعني بني العباس- نبشوه وأخذوه معهم. وذكر ابن عساكر: أن هذه المرأة بقيت بعد دولة بني أمية وقد جاوزت المئة سنة
(1)
، فاللَّه أعلم.
وادَّعت الطائفة المسمَّون بالفاطميِّين الذين ملكوا الديار المصرية قبل سنة أربعمئة إلى ما بعد سنة ستين وستمئة: أن رأس الحسين وصل إلى الديار المصرية ودفنوه بها وبنَوا عليه المشهد المشهور به بمصر -الذي يقال له: تاج الحسين- بعد سنة خمسمئة. وقد نص غير واحد من أئمة أهل العلم على أنه لا أصل لذلك، وإنما أرادوا أن يروِّجوا بذلك بطلان ما ادَّعوه من النسب الشريف، وهم في ذلك كذبة خونة، وقد نص على ذلك القاضي الباقلّاني وغير واحد من أئمة العلماء في دولتهم في حدود سنة أربعمئة، كما سنبيِّن ذلك كله إذا انتهينا إليه في مواضعه إن شاء اللَّه تعالى.
[قلت: والناس أكثرهم يروج عليهم مثل هذا، فإنهم جاؤوا برأس، فوضعوه في مكان هذا المسجد المذكور وقالوا: هذا رأس الحسين، فراج ذلك عليهم واعتقدوا ذلك، واللَّه أعلم]
(2)
.
فصل في ذكر شيء من فضائله
روى البخاري من حديث شعبة ومَهْدي بن ميمون، عن محمد بن أبي يعقوب، سمعت ابن أبي نُعْم
(3)
قال: سمعت عبد اللَّه بن عمر -وسأله رجل من أهل العراق عن المحرِم يقتل الذباب- فقال: أهلُ العراق يَسْألون عن قتل الذباب وقد قتلوا ابنَ بنت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وقد قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "هما رَيْحانتايَ منَ الدُّنيا"
(4)
.
(1)
تاريخ ابن عساكر: جزء تراجم النساء (ص 101 - 104).
(2)
ما بين حاصرتين ليس في ب.
(3)
تحرف في الأصول إلى: نعيم.
(4)
أخرجه البخاري (3753) في فضائل أصحاب النبي، و (5994) في الأدب.
ورواه الترمذي
(1)
، عن عقبة بن مُكْرم، عن وهب بن جرير، عن أبيه، عن محمد بن أبي يعقوب به نحوه: أنَّ رجلًا من أهل العراق سأل ابن عمر عن دم البعوض يُصيب الثوب، فقال ابن عمر: انظروا إلى أهل العراق يَسْألون عن دم البعوض وقد قتلوا ابن بنت محمد صلى الله عليه وسلم. وذكر تمام الحديث، ثم قال: حسن صحيح.
وقال الإمام أحمد: حدّثنا أبو أحمد، حدّثنا سفيان، عن أبي الجَحّاف
(2)
، عن أبي حازم، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أحبَّهما فقد أحبَّني، ومن أَبغَضَهما فقد أَبْغَضَني" - يعني حسنًا وحسينًا
(3)
.
وقال الإمام أحمد: حدّثنا تَلِيد بن سليمان -كوفي- حدثنا أبو الجَحّاف، عن أبي حازم، عن أبي هريرة قال: نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى علي والحسن والحسين وفاطمة فقال: "أنا حربٌ لمنْ حارَبَكم، سِلْم لمنْ سالمكُم"
(4)
. تفرد بهما الإمام أحمد
(5)
.
وقال الإمام أحمد: حدَّثنا ابن نُمير
(6)
، حدَّثنا حجاج -يعني: ابن دينار- عن جعفر بن إياس، عن عبد الرحمن بن مسعود، عن أبي هريرة قال: خرج علينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ومعه حسن وحسين، هذا على عاتقه وهذا على عاتفه، وهو يلثُم هذا مرَّة وهذا مرَّة حتى انتهى إلينا، فقال له رجل: يا رسول اللَّه واللَّه إنَّك لتُحبُّهما! فقال: "مَنْ أَحبَّهما فقد أَحبَّني، ومَنْ أَبْغَضَهما فقد أَبْغَضَني" تفرد به أحمد
(7)
.
وقال أبو يعلى الموصلي: حدّثنا أبو سعيد الأشجّ، حدّثني عُقبة بن خالد، حدّثني يوسف بن إبراهيم التميمي: أنه سمع أنس بن مالك يقول: سئل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: أيُّ أهلِ بيتكَ أحبُّ إليك؟ قال: "الحسن والحسين". قال: وكان يقول [لفاطمة]
(8)
: "ادعي ابنيَّ، فيشمّهُما ويضمّهُما إليه"
(9)
.
(1)
(3770) في المناقب.
(2)
تحرف في المطبوع في أكثر من موضع إلى: الحجاف. وأبو الجحاف: هو داود بن أبي عوف البرجمي الكوفي. تكلموا فيه. ميزان الاعتدال (2/ 18).
(3)
مسند أحمد (2/ 288) وإسناده قوي.
(4)
مسند أحمد (2/ 442) وإسناده ضعيف.
(5)
هكذا قال المصنف، وفي قوله نظر حين أطلق تفرد الإمام أحمد بالحديثين، وإنما تفرد الإمام أحمد بالحديث الثاني حسب. أما الأول فقد أخرجه أيضًا: ابن ماجه (143) في فضائل الصحابة، والنسائي في فضائل الصحابة من سننه الكبرى (8168)، كلاهما من طريق سفيان الثوري، به (ثار).
(6)
تحرف في ط إلى: عمير.
(7)
وهو في مسنده (2/ 440) وهو حديث حسن.
(8)
سقطت من الأصول، واستدركتها من مسند أبي يعلى.
(9)
أخرجه أبو يعلى في مسنده 7/ رقم (4294) وإسناده ضعيف، لضعف يوسف بن إبراهيم التميمي.
وكذا رواه الترمذي
(1)
عن أبي سعيد الأشجّ به، وقال: حسن غريب من حديث أنس.
وقال الإمام أحمد
(2)
: حدّثنا أسود بن عامر وعفان، عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد بن جدعان، عن أنس: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يمر ببيت فاطمة ستة أشهر إذا خرج إلى صلاهّ الفجر فيقول: الصلاة يا أهل البيت {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33].
ورواه الترمذيّ
(3)
، عن عبد بن حميد، عن عفان به، وقال: غريب لا نعرفه إلا من حديث حماد بن سلمة.
وقال الترمذيّ
(4)
: حدَّثنا محمود بن غَيْلان، حدَّثنا أبو أُسامة، عن فُضيل بن مرزوق، عن عدي بن
(5)
ثابت، عن البراء:"أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أبصرَ حسنًا وحسينًا فقال: اللهمَّ إنِّي أُحبُّهما فأحِبَّهما". ثم قال: حسن صحح.
وقد روى الإمام أحمد، عن زيد بن الحُباب، عن الحسين بن واقد، وأهلُ السنن الأربعة، من حديث الحسين بن واقد، عن عبد اللَّه بن بُريدة، عن أبيه قال: "كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يخطبُنا إذ جاء الحسن والحسين وعليهما قميصان أحمران، يمشيان ويعثُران، فنزل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من
(6)
المنبر، فحملَهما فوضَعَهما بين يديه ثم قال: صدق اللَّه: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15] نظرتُ إلى هذين الصبيَّين يمشيان ويعثُران فلم أَصبِرْ حتى قطعتُ حديثي ورفعتُهُما"
(7)
. وهذا لفظ الترمذي، وقال: غريب
(8)
لا نعرفه إلا من حديث الحسين بن واقد.
ثم قال
(9)
: حدَّثنا الحسن
(10)
بن عرفة، حدَّثنا إسماعيل بن عياش، عن عبد اللَّه بن عثمان بن
(1)
برقم (3772) في المناقب.
(2)
مسند أحمد (3/ 259) مع 285) وإسناده ضعيف.
(3)
رقم (3206).
(4)
رقم (3782) في المناقب.
(5)
في ط: عن، خطًا.
(6)
في ط: "عن"، وما هنا من ب وهو الموافق لما في جامع الترمذي وهذا لفظه كما سيذكر المصنف.
(7)
أخرجه أحمد في مسنده (5/ 354) والترمذي (3774)، وأبو داود (1109)، وابن ماجه (3655)، والنسائي (3/ 192) وهو حديث صحيح.
(8)
هكذا في الأصول، وفي المطبوع من جامع الترمذي: حسن غريب، وهو الذي نقله المزي في تحفة الأشراف (2/ 95) حديث (1958)، وهو الأوفق لحال الحديث، فإن الحديث صحيح فقد روي من طرق عدة، وإنما حسنه الترمذي واللَّه أعلم من أجل علي بن الحسين بن واقد، فإنه ضعيف عند التفرد.
(9)
يعني الترمذي. والحديث في سننه برقم (3775).
(10)
تحرف في ط إلى: الحسين.
خُثيم
(1)
، عن سعيد بن راشد، عن يعلى بن مُرَّة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "حسينٌ منِّي وأنا من حسين، أحبَّ اللَّهُ مَنْ أحبَّ حسينًا، حسينٌ سِبطٌ من الأَسْباط". ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن
(2)
.
ورواه أحمد
(3)
، عن عفان، عن وهيب
(4)
، عن عبد اللَّه بن عثمان بن خُثيم به.
ورواه الطبراني، عن بكر بن سهل، عن عبد اللَّه بن صالح، عن معاوية بن صالح، عن
(5)
راشد بن سعد، عن يعلى بن مُرَّة: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "الحسنُ والحسينُ سِبْطان من الأَسْباط"
(6)
.
وقال الإمام أحمد: حدّثنا أبو نعيم، حدّثنا سفيان، عن يزيد بن أبي زياد [عن ابن أبي نُعْم]
(7)
عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "الحسنُ والحسينُ سَيِّدا شَبابِ أَهلِ الجَنَّة".
ورواه الترمذي
(8)
، من حديث سفيان الثوري وغيره، عن يزيد بن أبي زياد، وقال: حسن صحيح.
وقد رواه أبو القاسم البغوي، عن داود بن رُشَيْد
(9)
، عن مروان الفَزَاري، عن الحكم بن عبد الرحمن بن أبي نُعْم، عن أبيه، عن أبي سعيد قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "الحسنُ والحسينُ سَيّدا شَبابِ أهلِ الجنَّةِ إلَّا ابنيّ الخالة: يحيى وعيسى عليهما السلام".
وأخرجه النسائي
(10)
، من حديث مروان بن معاوية الفَزاري به.
ورواه سويد بن سعيد، عن محمد بن خازم، عن الأعمش، عن عطيّة، عن أبي سعيد.
وقال الإمام أحمد: حدَّثنا وكيع، عن ربيع بن سعد، عن ابن
(11)
سابط قال: دخل حسين بن علي
(1)
تحرف في ط إلى: خيثم.
(2)
في إسناده سعيد بن راشد، أو ابن أبي راشد، مجهول، ولكن للحديث شاهد من حديث أبي رمثة عند ابن عساكر فهو به حسن.
(3)
في مسنده (4/ 172).
(4)
تحرف في أ، ط إلى: وهب.
(5)
في ط: بن، خطأ.
(6)
أخرجه الطبراني في الكبير (22/ 701)، وفي إسناده عبد اللَّه بن صالح كاتب الليث، وجماع ترجمته تدل على ضعفه عند التفرد، فهو حسن الحديث عند المتابعة.
(7)
ما بين حاصرتين سقط من أ، وتصحف في ط، ب إلى أبي نعيم. وابن أبي نعم: هو عبد الرحمن بن أبي نُعم البجلي، أبو الحكم الكوفي. من رجال التهذيب، وله ترجمة في سير أعلام النبلاء (5/ 62 - 63) وفيها ذكر لهذا الحديث وتخريج موسع له. وأيضًا مخرج في سير أعلام النبلاء (3/ 215) ومسند أحمد (3/ 62 و 82).
(8)
رقم (3768).
(9)
تحرف في أ، ب إلى: سعيد.
(10)
في الكبرى رقم (8528) وهو حديث حسن.
(11)
في ط أبي، خطأ.
المسجد، فقال جابر بن عبد اللَّه:"من أحبَّ أنْ ينظرَ إلى سيِّد شَبابِ أهلِ الجنَّة فلْينظُرْ إلى هذا". سمعتُه من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. تفرد به أحمد
(1)
.
وروى الترمذي والنسائي، من حديث إسرائيل، عن مَيْسرة بن حَبيب، عن المِنْهال بن عمرو، عن زز بن حُبَيْش، عن حُذيفة: أن أمَّه بعثته ليستغفر له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ولها، قال: فأتيتُه فصلَّيت معه المغرب، ثم صلَّى حتى صلَّى العشاء، ثم انفتل، فتبعتُه، فسمع صوتي، فقال: مَنْ هذا حُذيفة؟ قلت نعم، قال: ما حاجتُك غفرَ اللَّهُ لك ولأمِّك؟ إنَّ هذا ملَكٌ لم يَنْزل إلى الأرض قبل هذه الليلة، استأذن ربَّه أنْ يسلِّم عليَّ ويبشرَني بأن فاطمةَ سيدةُ نساء أهل الجنة، وأن الحسن والحسين سيِّدا شبابِ أهلِ الجنة". ثم قال الترمذي
(2)
: هذا حديث حسن غريب، ولا يعرف إلَّا من حديث إسرائيل.
وقد روي مثل هذا من حديث علي بن أبي طالب، ومن حديث الحسين نفسه، وعمر، وابنه عبد اللَّه، وابن عباس، وابن مسعود، وغيرهم. وفي أسانيده كلِّها ضعف، واللَّه أعلم.
وقال أبو داود الطيالسي: حدَّثنا موسى بن مُطَير
(3)
، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول في الحسن والحسين: "مَنْ أَحبَّني فَلْيحبَّ هذَيْن"
(4)
.
وقال الإمام أحمد: حدّثنا سليمان بن داود، حدّثنا إسماعيل -يعني ابن جعفر- أخبرني محمد -يعني ابن [أبي]
(5)
حرملة- عن عطاء: أن رجلًا أخبره أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يضمُّ إليه حسنًا وحسينًا ويقول: "اللهمَّ: إنِّي أُحِبُّهُما فأحِبَّهُما"
(6)
.
وقد روي عن أسامةَ بن زيد وسلمان الفارسي شيء يشبه هذا، وفيه ضعف وسقم، واللَّه أعلم.
وقد قال الإمام أحمد: حدَّثنا أسود بن عامر، حدّثنا كامل، وأبو المنذر أخبرنا كامل، قال أسود: أخبرنا المَعْنيُّ، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال:"كنّا نصلِّي مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم العشاء، فإذا سجد وثب الحسن والحسين على ظهره، فإذا رفع رأسه أخذهما أخذًا رفيقًا فيضعهما على الأرض، فإذا عاد عادا، حتى قضى صلاتَه أقعدهما على فخذيه. قال: فقمتُ إليه فقلت: يا رسول اللَّه أردُّهما؟ فبرقتْ برقةٌ، فقال لهما: الحقا بأمِّكما. قال: فمكث ضوءُها حتى دخلا"
(7)
.
(1)
رواه أحمد في فضائل الصحابة (2/ 775).
(2)
في المناقب برقم (3781) ورواه النسائي في الكبرى (8365) وهو حديث حسن كما قال الإمام الترمذي.
(3)
تحرف في الأصول إلى: عطية. وموسى بن مطير واهٍ، كما قال الذهبي في ميزانه (4/ 223).
(4)
أخرجه الطيالسي في مسنده برقم (2502).
(5)
سقطت من الأصول. وترجمته في تهذيب التهذيب (9/ 110) وغيره.
(6)
مسند أحمد (5/ 369) وهو حديث صحيح.
(7)
مسند أحمد (2/ 513) وإسناده حسن.
وقد روى موسى بن عثمان الحضرمي، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة نحوه.
وقد روي عن أبي سعيد وابن عمر قريب من هذا.
وقال الإمام أحمد: حدّثنا عفّان، حدَّثنا معاذ بن معاذ، حدّثنا قيس بن الربيع، عن أبي المقدام [عن]
(1)
عبد الرحمن الأزرق، عن علي قال: "دخل عليَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأنا نائم [على المنامة]
(2)
فاسْتَسْقى الحسنُ أو الحسين، فقام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى شاةٍ لنا بَكيءٍ
(3)
يحلبها، فدرَّتْ، فجاءه الآخر، فَنَحّاه النبيُّ صلى الله عليه وسلم
(4)
، فقالت فاطمة: يا رسول اللَّه كاله أحبُّهما إليك!؟ قال: لا، ولكنَّه اسْتَسْقى قبلَه. ثم قال: إنِّي وإيّاكِ وهذين وهذا الراقِد في مكان واحدٍ يومَ القيامة". تفرد به أحمد
(5)
.
ورواه أبو داود الطيالسي، عن عمرو بن ثابت، عن أبيه، عن أبي فاختة، عن علي. . فذكر نحوه [وقد روي عن أبي سعيد الخدري وعن ميمونة وأم سلمة أمي المؤمنين مثله أو نحوه]
(6)
.
وقد ثبت: أن عمر بن الخطاب كان يكرمُهما ويحملُهما ويعطيهما كما يعطي أباهما. وجيء مرة بحُلَل من اليمن، فقسمَها بين أبناء الصحابة ولم يُعطِهما منها شيئًا، وقال: ليس فيها شيء يصلح لهما. ثم بعث إلي نائب اليمن فاستعمل لهما حُلَّتين تناسبهما.
وقال محمد بن سعد: أخبرنا قَبيصة بن عقبة، حدّثنا يونس بن أبي إسحاق، عن العَيْزار بن حُريث قال: بينما عمرو بن العاص جالس في ظل الكعبة إذ رأى الحسين مقبلًا فقال: هذا أحبُّ أهل الأرض إلى أهل السماء.
وقال الزبير بن بكّار: حدّثني سليمان، عن
(7)
الدَّراوردي، عن جعفر بن محمد، عن أبيه:"أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بايع الحسنَ والحسينَ [وعبد اللَّه بن عباس] وعبدَ اللَّه بن جعفر وهم صغار لم يبلُغوا، ولم يبايع صغيرًا إلَّا منا". وهذا مرسل غريب.
وقال محمد بن سعد: أنبأنا يعلى بن عبيد، حدّثنا عبيد اللَّه بن الوليد الوَصّافي
(8)
، عن عبد اللَّه بن
(1)
سقطت من أ، ط.
(2)
سقط من أ، ط.
(3)
في ط: "كي"، وما هنا من م، وهو الموافق لما في المسند. والبكيء: هي الناقة والشاة التي قل لبنها فهي بكيئة.
(4)
لفظ "النبي صلى الله عليه وسلم" سقط من ط.
(5)
وهو في مسنده (1/ 101) وإسناده ضعيف جدًا.
(6)
ما بين الحاصرتين من م. وينظر تاريخ دمشق (14/ 164).
(7)
وقعت في ط: بن وفي الكلام سقط، والذي في تاريخ دمشق (4/ 180)"عن الزبير عن أحمد بن سليمان عن عبد العزيز الدراوردي عن جعفر، به" وهو الصواب.
(8)
الوصافي: بفتح الواو وتشديد الصاد المهملة وفي آخرها الفاء. هذه النسبة إلى الوصاف العجلي كما نص على ذلك السمعاني. وقد تحرفت في ط، ب إلى: الرصافي وفي أ إلى: الرماني. وعبيد اللَّه بن الوليد الوصافي منكر الحديث جدًا. مترجم في المجروحين (2/ 63 - 64).
عبيد بن عُمير
(1)
قال: "حجَّ الحسينُ بن عليٍّ خمسًا وعشرين حجَّة ماشيًا ونجائبُهُ تُقادُ بين يَدَيْه".
وحدّثنا أبو نعيم الفضل بن دُكين، حدَّثنا حفص بن غياث، عن جعفر بن محمد، عن أبيه:"أنَّ الحسين بن عليٍّ حجَّ ماشيًا وإنَّ نجائبَهُ لتُقَادُ وراءَه". والصواب: أن ذلك إنما هو الحسن أخوه، كما حكاه البخاريّ
(2)
.
وقال المدائني: جرى بين الحسن والحسين كلام، فتهاجرا، فلمَّا كان بعد ذلك أقبل الحسن إلى الحسين فأكبَّ على رأسه يقبِّلُه، فقام الحسين فقتلَه أيضًا وقال: إن الذي منعني من ابتدائك بهذا أني رأيتُ أنك أحقُّ بالفضل منِّي، فكرهت أن أنازعَك ما أنت أحقُّ به منِّي.
وحكى الأصمعي عن ابن عون: أن الحسن كتب إلى الحسين يعيبُ عليه إعطاءَ الشعراء، فقال الحسين: إن أحسن المال ما وقى العِرْض.
وقد روى الطبراني: حدَّثنا أبو حَنيفة محمد بن حَنيفة الواسطي، حدَّثنا يزيد بن البراء بن عمرو بن البراء الغَنَوي، حدّثنا سليمان بن الهيثم قال: كان الحسين بن علي يطوف بالبيت، فأراد أن يستلم [الحجر]
(3)
فأوسع له الناس، فقال رجل: يا أبا فراس من هذا؟ فقال الفرزدق:
هذا الذي تعرفُ البطحاءُ وطأَتَهُ
…
والبيتُ يعرِفُهُ والحِلُّ والحَرَمُ
هذا ابنُ خيرِ عبادِ اللَّهِ كلِّهمُ
…
هذا التَّقيُّ النَّقيُّ الطّاهرُ العَلَمُ
يكادُ يُمْسِكُهُ عرفانُ راحَتِه
…
رُكن الحَطِيم إذا ما جاءَ يَسْتلمُ
إذا رأَتْهُ قريشٌ قال قائلُها
…
إلى مَكارمِ هذا يَنتهي الكَرَمُ
يُغْضِي حياءً ويُغْضى من مَهابتِه
…
فما يُكلَّمُ إلّا حينَ يَبْتَسِمُ
في كفِّه خيزرانٌ ريحُهُ عَبقٌ
…
بكفِّ أروعَ في عِرْنينِه شَمَمُ
مشتقَّةٌ من رسولِ اللَّه نِسْبتُهُ
…
طابَتْ عناصرُهُ والخِيمُ والشِّيَمُ
لا يستطيعُ جوادٌ بُعْدَ غايتِه
…
ولا يُدانيهِ قومٌ إنْ هُمُ كرُمُوا
مَنْ يعرفِ اللَّهَ يعرفْ أوَّليةَ ذا
…
فالدِّينُ من بيتِ هذا نالَهُ أُمَمُ
أيُّ العشائر هُمْ ليستْ رقابهمُ
…
لأوَّلية هذا أو لَهُ نَعَمُ
(1)
تحرف اسمه في ط إلى: عبد اللَّه بن عبيد اللَّه بن عميرة.
(2)
سير أعلام النبلاء (3/ 288).
(3)
زيادة من الطبراني يقتضيها السياق.
هكذا أوردها الطبراني في ترجمة الحسين في "معجمه الكبير"
(1)
وهو غريب، فإن المشهور أنها من قيل الفرزدق في علي بن الحسين لا في أبيه، وهو أشبه، فإن الفرزدق لم يرَ الحسين إلا وهو مقبل إلى الحج والحسينُ ذاهب إلى العراق، فسأل الحسينُ الفرزدقَ عن الناس، فذكر له ما تقدم، ثم إن الحسين قُتل بعد مفارقته له بأيام يسيرة، فمتى رآه يطوف بالبيت؟! واللَّه أعلم.
وروى هشام، عن عوانة قال: قال عبيد اللَّه بن زياد لعمر بن سعد: أين الكتابُ الذي كتبتُه إليك في قتل الحسين؟ فقال: مضيتُ لأمرك وضاع الكتاب، فقال له ابن زياد: لتجيئنَّ به، قال: ضاع، قال: واللَّه لتجيئنَّ به، قال: تُرك واللَّه يُقرأ على عجائز قريش أعتذر إليهم بالمدينة، أما واللَّهِ لقد نصحتُك في حسين نصيحة لو نصحتُها إلى سعد بن أبي وقاص لكنت قد أدَّيت حقَّه. فقال عثمان بن زياد - أخو عبيد اللَّه: صدق عمرُ واللَّه، ولوددت واللَّهِ أنه ليس من بني زياد رجل إلّا وفي أنفه خِزَامة
(2)
إلى يوم القيامة وأن حسينًا لم يُقتل. قال: فواللَّه ما أنكر [ذلك] عليه عبيد اللَّه بن زياد
(3)
.
فصل في شيء من أشعاره التي رويت عنه
فمن ذلك ما أنشده أبو بكر بن كامل عن عبد اللَّه بن إبراهيم وذكر أنه للحسين بن علي بن أبي طالب:
اغْنَ عنِ المخلوقِ بالخالقِ
…
تَسُدْ على الكاذبِ والصّادقِ
واسْتَرْزِقِ الرحمنَ منْ فَضْلِهِ
…
فليسَ غير اللَّهِ من رازقِ
مَنْ ظنَّ أن النَّاسَ يُغْنُونَهُ
…
فليسَ بالرحمنِ بالواثقِ
أو ظنَّ أنَّ المالَ من كسْبِهِ
…
زلَّتْ بهِ النَّعلانِ منْ حالقِ
(4)
وعن الأعمش: أن الحسين بن علي قال:
كلَّما زِيدَ صاحبُ المالِ مالًا
…
زِيدَ في همِّهِ وفي الاشْتِغالِ
قد عَرَفْناكِ يا مُنَغِّصَةَ العَيْـ
…
ــشِ ويا دارَ كلِّ فانٍ وبالِ
ليس يَصْفو لزاهدٍ طلبُ الزُّهـ
…
ــدِ إذا كانَ مُثْقَلًا بالعيالِ
(5)
(1)
(3/ 101 - 102) برقم (2800).
(2)
"الخزامة": حلقة توضع في أنف البعير.
(3)
ينظر الخبر في تاريخ الطبري (5/ 467).
(4)
الأبيات في مختصر تاريخ دمشق (7/ 132).
(5)
الأبيات في مختصر تاريخ دمشق (7/ 132).
وعن إسحاق بن إبراهيم قال: بلغني أن الحسين زار مقابر الشهداء بالبقيع فقال:
نادَيتُ سكانَ القبورِ فأُسْكِتوا
…
وأَجابني عَنْ صَمْتِهِمْ ندبُ الجُثى
قالتْ أَتدري ما فعلتُ بسَاكني
…
مزَّقتُ لحمَهُمُ وخرَّقتُ الكُسَا
وحَشَوْتُ أعينَهُيم ترابًا بعدَما
…
كانتْ تأَذّى باليسيرِ من القَذَى
أما العِظامُ فإنَّني مزَّقْتُها
…
حتّى تباينتِ المفاصِلُ والشَّوى
قطَّعتُ ذا مِنْ ذا ومن هذا كذا
…
فتركْتُها رِمَمًا يطوفُ بها البِلي
(1)
وأنشد بعضهم للحسين رضي الله عنه أيضًا:
لئِنْ كانتِ الدُّنيا تُعَدُّ نفيسةً
…
فدارُ ثوابِ اللَّهِ أَعلى وأَنبلُ
وإنْ كانتِ الأبدانُ للموتِ أُنْشِئَتْ
…
فقتلُ امرئٍ بالسَّيف في اللَّهِ أَفضلُ
وإنْ كانتِ الأرزاقُ شيئًا مقدَّرًا
…
فقِلَّةُ سَعْيِ المرءِ في الكسبِ أَجملُ
وإنْ كانتِ الأموالُ للتَّركِ جمعُها
…
فما بالُ متروكٍ بهِ المرءُ يَبْخَلُ
(2)
ومما أنشد الزبير بن بكار من شعره في امرأته الرباب بنت أنيف -ويقال: بنت امرئ القيس بن عديْ بن أوس الكلبي- أمّ ابنته سُكينة:
لعَمرُكَ إنَّني لأُحِبُّ دارًا
…
تحلُّ بها سُكَينةُ والرَّبابُ
أُحبُّهما وأبذُلُ جلَّ مالي
…
وليسَ للائِمي فيها عِتابُ
ولسْتُ لهمْ وإنْ عَتبوا مُطيعًا
…
حياتي أو يُغَيِّبَني التُراب
(3)
وقد أسلم أبوها على يدي عمر بن الخطاب، وأمَّره عمر على قومه، فلما خرج من عنده خطب إليه علي بن أبي طالب أن يزوِّج ابنيه الحسن والحسين من بناته، فزوَّج الحسن ابنته سلمى، والحسين ابنته الرباب، وزوَّج عليًا ابنته الثالثة -وهي المحياة بنت امرئ القيس- في ساعة واحدة. فأحبَّ الحسين زوجته الرباب حبًّا شديدًا، وكان بها معجبًا، ويقول
(4)
فيها الشعر. ولما قُتل بكربلاء كانت معه، فوجدتْ عليه وجدًا شديدًا، وذكر أنها أقامت على قبره سنة ثم انصرفت وهي تقول:
إلى الحَوْلِ ثمَّ اسمُ السَّلام عَلَيْكما
…
ومَنْ يَبْكِ حَوْلًا كاملًا فقدِ اعْتَذَرْ
(5)
(1)
المصدر السابق.
(2)
الأبيات في مختصر تاريخ دمشق (7/ 133).
(3)
الأبيات في نسب قريش (59) والأغاني (16/ 139 - 140).
(4)
سقطت الواو من ط.
(5)
البيت للبيد، وهو في ديوانه طبعة صادر (ص 79) من قصيدة قالها في مخاطبة ابنتيه لما حضرته الوفاة، ومطلعها: =
وقد خطبها بعده خلق كثير من أشراف قريش، فقالت: ما كنت لأتَّخذ حموًا بعد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وواللَّه لا يؤويني ورجلًا بعد الحسين سقفٌ أبدًا. ولم تزل كمِدةً حتى ماتت. ويقال: إنها إنما عاشت بعده أيامًا يسيرة، فاللَّه أعلم [وابنتها سُكينة بنت الحسين كانت من أجمل النساء حتى إنه لم يكن في زمانها أحسن منها، فاللَّه أعلم]
(1)
.
وروى أبو مخنف، عن عبد الرحمن بن جندب: أن ابن زياد -بعد مقتل الحسين- تفقد أشراف أهل الكوفة، فلم ير عبيد اللَّه بن الحرّ بن يزيد، فتطلَّبه حتى جاءه [بعد أيام، فقال: أين كنت يا بن الحرّ؟ قال: كنت مريضًا، قال: مريض القلب أم مريض البدن؟ قال: أمّا قلبي فلم يمرض، وأمّا بدني فقد منَّ اللَّه عليه بالعافية. فقال له ابن زياد: كذبتَ، ولكنَّك كنت مع عدوِّنا، قال: لو كنتُ مع عدوك لم يخفَ مكانُ مثلي ولكان الناس شاهدوا ذلك. قال: وغفل عنه ابن زياد غفلة
(2)
، فخرج ابن الحرِّ فقعد على فرسه، ثم قال: أبلغوه أني لا آتيه -واللَّه- طائعًا. فقال ابن زياد: أين ابن الحرّ؟ قالوا: خرج، فقال: عليَّ به، فخرج الشُّرط في طلبه، فأسمعهم غليظ ما يكرهون، وترضَّى عن الحسين وأخيه وأبيه، ثم أسمعهم في ابن زياد غليظًا من القول]
(3)
ثم امتنع منهم وقال في الحسين وفي أصحابه شعرًا:
يقولُ أميرٌ غادرٌ حقّ غادرٍ
…
ألا كنتَ قاتلتَ الشَّهيدَ ابنَ فاطِمَهْ
[ونَفْسي على خذْلانِهِ واعْتِزالِهِ
…
وبَيْعَةِ هذا الناكثِ العَهْدِ لائمَهْ]
(4)
فيا نَدَمي أنْ لا أكونَ نصرتُهُ
…
ألا كلُّ نفسٍ لا تُسَدَّدُ نادمَهْ
(5)
سَقَى اللَّهُ أرواحَ الذينَ تآزرُوا
…
على نَصْرِهِ سُقْيا من الغيثِ دائمَهْ
وقفتُ على أَجْداثِهِمْ ومَجَالهِمْ
…
فكادَ الحشي يَنْقَضُّ والعينُ ساجمَهْ
لَعَمْري لقد كانُوا مَصَاليتَ في الوغى
…
سِراعًا إلى الهَيْجا حُماةً خضارمَهْ
تآسَوْا علَى نصرِ ابنِ بنتِ نبيِّهِمْ
…
بأسْيافِهِمْ آسَاد غِيْلٍ ضراغمَهْ
فإنْ تقتلُوا تلكَ النفوسَ تقيَّةً
…
علَى الأرضِ قَدْ أضحتْ لذلكَ واجمَهْ
= تمنى ابنتاي أن يعيش أبوهما
…
وهل أنا إلا من ربيعة أو مضر
(1)
ما بين حاصرتين ليس في ب.
(2)
كذا في أ وتاريخ الطبري. ووقعت في ط: وعقل عن ابن زياد عقلة.
(3)
ما بين حاصرتين اختصر في ب إلى: فأسمع ابن الحر لابن زياد غليظ ما يكره، ثم خرج من عنده.
(4)
هذا البيت في النسخة ب فقط. وقد أورده ابن عساكر وابن الأثير.
(5)
اضطرب هذا البيت في المطبوع، حيث ورد الشطر الثاني فيه: لذو حسرة ما إن تفارق لازمة، وهذا شطر من بيت ذكره الطبري وابن عساكر ولم يرد في نسخ كتابنا، ولفظه:
وإني لأني لم أكن من حماته
…
لذو حسرة ما إن تفارق لازمة
فما إنْ رأى الرّاؤونَ أفضلَ منهُمُ
…
لدَى الموتِ سَاداتٌ وزهرٌ قماقمَهْ
أتقتلُهمْ ظلمًا وترجُو وِدَادَنا
…
فَذِي خطَّةٌ ليسَتْ لنا بملائمَهْ
لَعَمري لقد راغَمْتُونا بقَتلِهمْ
…
فكمْ ناقمٍ منّا عليكُمْ وناقمَهْ
أَهُمُّ مِرارًا أن أسِيرَ بجَحْفلٍ
…
إلى فِئَةٍ زاغَتْ عن الحقِّ ظالمَهْ
فيابنَ زيادِ إسْتَعِدَّ لحَرْبِنا
…
وموقفِ ضَنْكٍ تقصِمُ الظَّهرَ قاصمَهْ
(1)
وقال الزبير بن بكار: قال سليمان بن قَتَّة
(2)
يرثي الحسين رضي الله عنه:
وإنَّ قتيلَ الطَّفِّ منْ آلِ هاشِمٍ
…
أذلَّ رقابًا منْ قريشٍ فذَلَّتِ
فإنْ تُتْبعوهُ عائذَ البيتِ تُصْبحوا
…
كعادٍ تعمَّتْ عن هُداها فضَلَّتِ
مررتُ علَى أبياتِ آلِ محمَّدِ
…
فأَلفيتُها أمثالَها حيثُ حلَّتِ
وكانُوا لنا غُنْمًا فعادُوا رزيَّةَ
…
لقد عظُمَتْ تلكَ الرَّزايا وجَلَّتِ
فلا يُبْعِدِ اللَّهُ الدِّيارَ وأهلَها
…
وإنْ أصبحتْ منهُمْ برَغْمي تخَلَّتِ
إذا افتقرَتْ قيسٌ جَبَرْنا فقيرَها
…
وتقتُلُنا قيسٌ إذا النَّعلُ زَلَّتِ
وعندَ يزيدِ قطرةٌ منْ دمائِنا
…
سنَجْزيهمُ يومًا بها حيثُ حلَّتِ
أَلَمْ ترَ أن الأرضَ أضحتْ مريضةً
…
لقتلِ حسَينِ والبلاد اقشَعَرَّتِ
ومما وقع من الحوادث في هذه السنة -أعني سنة إحدى وستين- بعد مقتل الحسين
ففيها ولَّى يزيد بن معاوية سَلْمَ بن زياد سجستان وخراسان حين وفد عليه، وله من العمر أربع وعشرون سنة، وعزل عنها أخويه عبّادًا وعبد الرحمن. وسار سَلْم إلى عمله، فجعل ينتخب الوجوه والفرسان، ويحرِّض الناس على الجهاد، ثم خرج في جحفل عظيم ليغزوَ بلاد الترك، ومعه امرأته أمُّ محمد بنت عبد اللَّه بن عثمان بن أبي العاص، فكانت أول امرأة من العرب قُطع بها النهر،
(1)
الخبر بطوله في تاريخ الطبري (5/ 469 - 470) وأيضًا في ابن الأثير (4/ 288 - 289) ومختصر تاريخ دمشق: (15/ 308). والبيت الأخير سقط من ب ولم أجده في المصادر المشار إليها، لكن ورد في تلك المصادر:
فكفوا وإلا ذدتكم في كتائب
…
أشد عليكم من زحوف الديالمه
(2)
كذا ضبطه ابن حجر وغيره - بفتح القاف والتاء المشددة. وقد تحرف في أ، ط إلى: قتيبة. والأبيات -أو بعضها- في شرح ديوان الحماسة (2/ 961) والاستيعاب (1/ 394) والكامل لابن الأثير (4/ 91) ومختصر تاريخ دمشق (7/ 158) وسير أعلام النبلاء (3/ 318) ومعجم البلدان (الطف)(4/ 36) وقد نسبها فيه ياقوت لأبي دهبل، ولم يتابع على ذلك.
وولدت هنالك ولدًا أسموه صُغْدي
(1)
، وبعثت إليها امرأة صاحب الصُّغْد بتاجها من ذهب ولآل.
وكان المسلمون قبل ذلك لا يشتون في تلك البلاد، فشتى بها سَلْم بن زياد [وبعث المهلَّب بن أبي صُفْرة إلى تلك المدينة التي هي للترك -وهي خوارزم- فحاصرهم حتى صالحوه على نيِّف وعشرين ألف ألف، وكان يأخذ منهم عُروضًا عوضًا، فيأخذ الشيء بنصف قيمته، فبلغت قيمة ما أخذ منهم خمسين ألف ألف، فحظي بذلك المهلَّب عند سَلْم بن زياد]
(2)
. ثم بعث من ذلك ما اصطفاه ليزيد بن معاوية مع مرزبان ومعه وفد. وصالح سَلْم أهل سَمَرْقند في هذه الغزوة على مال جزيل.
وفي هذه السنة عزل يزيدُ عن إمرة الحرمين عمرو بن سعيد وأعاد إليها الوليد بن عُتبة بن أبي سفيان، فولّاه المدينة، وذلك أن عبد اللَّه بن الزبير لمّا بلغه مقتل الحسين شرع يخطب الناس، ويعظِّم قتل الحسين وأصحابه جدًا، ويعيب على أهل الكوفة وأهل العراق ما صنعوه من خذلانهم الحسين، ويترحَّم على الحسين ويلعن من قتله، ويقول: أما واللَّه قتلوه طويلًا بالليل قيامُه، كثيرًا فى النهار صيامُه، أما واللَّه ما كان يستبدل بالقرآن الغناء والملاهي، ولا بالبكاء من خشية اللَّه اللغو والحّداء، ولا بالصيام شرب المدام وأكل الحرام، ولا بالجلوس في حِلَق الذكر طلب الصيد -يعرض في ذلك بيزيد بن معاوية- فسوف يلقَوْن غيّا، ويؤلِّب الناس على بني أمية، ويحثُّهم على مخالفتهم وخلع يزيد. فبايعه خلق كثير في الباطن، وسألوه أن يُظهرها فلم يمكنه ذلك مع وجود عمرو بن سعيد، وكان شديدًا عليه ولكن فيه رفق. وقد كان كاتَبَه أهل المدينة وغيرهم، وقال الناس: أما إذ قُتل الحسين فليس أحد ينازع ابن الزبير. فلمّا بلغ ذلك يزيد شقَّ ذلك عليه، وقيل له: إن عمرو بن سعيد لو شاء لبعث إليك برأس ابن الزبير، أو يحاصره حتى يخرجه من الحرم. فبعث فعزله وولَّى الوليد بن عتبة في هذه السنة -وقيل: فى مستهلِّ ذي الحجة- فأقام للناس الحج فيها.
وحلف يزيد: ليأتينِّي ابن الزبير في سلسلة من فضة، وبعث بها مع البريد ومعه بُرنس من خزٍّ ليبرَّ يمينه، فلما مرَّ البريد على مروان وهو بالمدينة وأخبره بما هو قاصد له وما معه من الغل أنشأ مروان يقول
(3)
:
فَخُذْها فما هيَ للعزيزِ بخطَّةٍ
…
وفيها مَقالٌ لامرئٍ متذلِّلِ
أعامرُ إنَّ القومَ سامُوكَ خطَّةً
…
وذلكَ في الجيرانِ غزلٌ بمِغزَلِ
أراكَ إذا ما كنتَ في القوم ناصحًا
…
يُقالُ له بالدَّلْوِ أَدِبرْ وأَقبِلِ
(1)
تحرف في المطبوع إلى: صفدي.
(2)
ما بين حاصرتين سقط من أ.
(3)
والأبيات للعباس بن مرداس. كما في الأغاني (14/ 311).
فلمّا انتهت الرسل إلى عبد اللَّه بن الزبير بعث مروان ابنيه عبد الملك وعبد العزيز ليَحْضرا مراجعته في ذلك وقال: أسمعاه قولي في ذلك. قال عبد العزيز: فلمَّا جلس الرسل بين يديه جعلتُ أُنشده ذلك وهو يسمع ولا أُشعره، فالتفت إليَّ فقال: أخبرا أباكما أني أقول:
[إنِّي لمنْ نَبْعَةٍ صُمٍّ مكاسِرُها
…
إذا تَنَاوَحَتِ القَصْباءُ والعُشَرُ]
(1)
ولا أَلِينُ لغيرِ الحقِّ أَسْألُهُ
…
حتَّى يَلين لضِرسِ الماضِغِ الحجَرُ
قال عبد العزيز: فما أدري أيهما كان أعجب
(2)
!
قال أبو مَعْشر: لا خلاف بين أهل السِّير أن الوليد بن عتبة حجَّ بالناس في هذه السنة وهو أمير الحرمين، وعلى البصرة والكوفة عبيد اللَّه بن زياد، وعلى خراسان وسجستان سَلْم بن زياد - أخو عبيد اللَّه بن زياد، وعلى قضاء الكوفة شُريح، وعلى قضاء البصرة هشام بن هُبَيرة.
ذكر من توفي فيها من الأعيان:
الحسين بن علي رضي الله عنهما: ومعه بضعة عشر من أهل بيته قُتلوا جميعًا بكربلاء، وقيل: بضعة وعشرون، كما تقدم. وقُتل معهم جماعة من الأبطال والفرسان.
جابر
(3)
بن عَتِيك بن قَيْس
(4)
: أبو عبد اللَّه الأنصاري السَّلَمي. شهد بدرًا وما بعدها، وكان حامل راية الأنصار
(5)
يوم الفتح. كذا قال ابن الجوزي. قال: وتوفي في هذه السنة عن إحدى وسبعين سنة.
حمزةُ بنُ عَمرو الأسْلَمي
(6)
: صحابي جليل. ثبت في "الصحيحين" عن عائشة أنها قالت: سأل
(1)
سقط هذا البيت من أ.
(2)
الخبر مع الشعر في تاريخ الطبري (5/ 476) وابن الأثير (4/ 99 - 100).
(3)
كذا في أ، ط، ووقع في ب: جبر، وكلاهما صحيح. وللدكتور بشار عواد تعليق موسع على تهذيب الكمال (4/ 454 - 455).
(4)
طبقات ابن سعد (3/ 469) مسند أحمد (5/ 445) تاريخ البخاري الكبير (2/ 1/ 208) الجرح والتعديل (2/ 493، 532) مشاهير علماء الأمصار (ت 89) معجم الطبراني الكبير (2/ 205) الاستيعاب (1/ 222) إكمال ابن ماكولا (2/ 13 - 14) أنساب السمعاني (11/ 386) أسد الغابة (1/ 309، 317) تهذيب الكمال (4/ 454) سير أعلام النبلاء (2/ 36) الكاشف (1/ 122) تهذيب التهذيب (1/ ورقة 100) تاريخ الإسلام (3/ 2) إكمال مغلطاي (2/ ورقة 55) تهذيب التهذيب (2/ 43) الإصابة (2/ 58) خلاصة الخزرجي (59، 60).
(5)
كذا في أ، ط، وفي ب: كان حامل راية بني أمية. وفي طبقات ابن سعد وغيره من المصادر: كان حامل راية بني معاوية بن مالك.
(6)
طبقات ابن سعد (4/ 315) طبقات خليفة (111) تاريخ خليفة (235) مسند أحمد (3/ 494) تاريخ البخاري الكبير (3/ ت 173) الجرح والعديل (3/ 212) ثقات ابن حبان: (3/ 70) مشاهير علماء الأمصار (ت 51)، معجم الطبراني الكبير (3/ ت 238) الاستيعاب (1/ 375) الجمع لابن القيسراني (1/ 106) أنساب السمعاني (1/ 249) =
حمزة بن عمرو رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: إني كثير الصيام، أفأصوم في السَّفر؟ فقال له:"إنْ شئتَ فصُم، وإنْ شئتَ فأَفطِر"
(1)
.
وقد شهد فتح الشام، وكان هو البشير للصدِّيق يوم أَجنادين.
قال الواقدي: وهو الذي بشَّر كعب بن مالك بتوبة اللَّه عليه، فأعطاه ثوبيه.
وروى البخاري في "التاريخ"
(2)
بإسناد جيد عنه أنه قال: "كنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة، فأضاءتْ لي أصابعي حتى جمعتُ عليها كل متاع كان للقوم".
اتفقوا على أنه توفي في هذه السنة - أعني إحدى وستين.
شَيْبةُ بن عثمان بن أبي طَلْحة
(3)
: العَبْدَري الحَجَبي، صاحب مفتاح الكعبة.
كان أبوه ممَّن قتله علي بن أبي طالب يوم أُحد كافرًا. وأظهر شيبة الإسلام يوم الفتح، وشهد حُنينًا وفي قلبه شيء من الشك، وقد همَّ بالفتك برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأطلع اللَّه على ذلك رسوله، فأخبره بما همَّ به، فأسلم باطنًا وجاد إسلامه، وقاتل يومئذ وصبر فيمن صبر.
قال الواقدي عن أشياخه: إنَّ شيبة قال: كنت أقول: واللَّه لو آمنَ بمحمد جميعُ الناس ما آمنت به، فلما فتح مكة وخرج إلى هوازن خرجتُ معه رجاء أن أجد فرصة آخذ بثأر قريش كلِّها منه. قال: فاختلط الناس ذات يوم، ونزل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن بغلته، فدنوتُ منه وانتضيتُ سيفي لأضربه به، فرُجع لي
= الكامل لابن الاثير (4/ 101) أسد الغابة (2/ 55) تهذيب الأسماء واللغات (1/ 169) مختصر تاريخ دمشق (7/ 264) تهذيب الكمال (7/ 333) تاريخ الإسلام (3/ 14) العبر (1/ 65) الكاشف (1/ 190) تذهيب التهذيب (1/ ورقة 178) تجريد أسماء الصحابة (1/ 139) إكمال مغلطاي (ورقة 294) نهاية السول (ورقة 77) تهذيب التهذيب (3/ 31) خلاصة الخزرجي (93) شذرات الذهب (1/ 280) تهذيب ابن عساكر (4/ 450).
(1)
أخرجه البخاري في الصوم (33/ برقم 1943) ومسلم (1121) في الصيام: باب التخيير في الصوم والفطر في السفر.
(2)
3/ ترجمة (173).
(3)
طبقات ابن سعد (5/ 448) نسب قريش (252) طبقات خليفة (ت 74، 2504) تاريخ خليفة (198، 226، 251) مسند أحمد (3/ 409) المحبر (17) تاريخ البخاري الكبير (4/ 241) الجرح والتعديل (4/ 335) مشاهير علماء الأمصار (ت 158) جمهرة أنساب العرب (114) الاستيعاب (2/ 712) الجمع بين رجال الصحيحين (1/ 219) أنساب السمعاني (4/ 64 و 7/ 440) تاريخ ابن عساكر (8/ 77/ آ) أسد الغابة (2/ 534) مختصر تاريخ دمشق (11/ 8) تهذيب الكمال (12/ 604) تاريخ الإسلام (2/ 293) تذهيب التهذيب (2/ 84/ ب) سير أعلام النبلاء (3/ 12) تجِريد أسماء الصحابة (1/ ت 2753) العبر (1/ 64) الكاشف (2/ 15) إكمال مغلطاي (2/ ورقة 176) مرآة الجنان (1/ 131) العقد الثمين (/ 19) نهاية السول (ورقة 143) تهذيب التهذيب (4/ 376) الإصابة (ت 3945) خلاصة الخزرجي (168) شذرات الذهب (1/ 268) تهذيب ابن عساكر (6/ 349).
شُواظ
(1)
من نار كاد يَمْحشني
(2)
، فالتفتَ اليَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وقال: يا شيبة ادنُ مني، فدنوت منه، فوضع يده على صدري وقال: اللهمَّ أَعذهُ من الشيطان. قال: فواللَّه ما رفع يده حتى لهو يومئذ أحبُّ إليَّ من سمعي وبصري، ثم قال: اذهبْ فقاتل. قال: فتقدمت إلى العدو، وواللَّه لو لقيتُ أبي لقتلتُه لو كان حيًّا، فلما تراجع الناس قال لي: يا شيبة! الذي أراد اللَّه بك خير مما أردتَ لنفسك، ثم حدَّثني بكل ما كان في نفسي مما لم يطَّلع عليه أحد إلَّا اللَّه عز وجل، فتشهدت وقلت: أستغفر اللَّه، فقال: غفر اللَّه لك
(3)
.
وليَ الحجابة بعد عثمان بن طلحة، واستقرَّت الحجابة في بنيه وبيته إلى اليوم، وإليه يُنسب بنو شيبة، وهم حجبة الكعبة.
قال خليفة بن خياط
(4)
وغير واحد: توفي سنة تسع وخمسين. وقال محمد بن سعد
(5)
: بقي إلى أيام يزيد بن معاوية. وقال ابن الجوزي في "المنتظم": مات في هذه السنة.
عبدُ المطَّلب بن رَبيعَة
(6)
بن الحارث: بن عبد المطَّلب بن هاشم.
صحابي، انتقل إلى دمشق وله بها دار، ولما مات أوصى إلى يزيد بن معاوية - وهو أمير المؤمنين.
الوليدُ بنُ عُقبة
(7)
: بن أبي مُعَيط أبان
(8)
بن أبي عمرو ذكوان بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصيّ، أبو وهب، القرشي العَبْشمي.
(1)
"الشواظ": اللهب.
(2)
"يمحشني": يحرقني.
(3)
مختصر تاريخ دمشق (11/ 10).
(4)
تاريخه (226). وينظر تهذيب الكمال (12/ 606).
(5)
طبقاته الكبرى (5/ 448).
(6)
طبقات ابن سعد (4/ 57) نسب قريق (87) طبقات خليفة (ت 14، 2808) مسند أحمد (4/ 165) تاريخ البخاري (6/ 131) الجرح والتعديل (6/ 68) جمهرة أنساب العرب (71) الاستيعاب (3/ 1006) الجمع بين رجال الصحيحين (1/ 329) أسد الغابة (3/ 508) تهذيب الأسماء واللغات (1/ 1/ 208) مختصر تاريخ دمشق (15/ 293) تهذيب الكمال (18/ 278) تاريخ الإسلام (3/ 46) العبر (1/ 66) سير أعلام النبلاء (3/ 112) الكاشف (2/ 182) تذهيب التهذيب (2/ 248/ آ) مرآة الجنان (1/ 137) العقد الثمين (5/ 494) تهذيب التهذيب (6/ 383) الإصابة (2/ 430) خلاصة الخزرجي (379) شذرات الذهب (1/ 282).
(7)
طبقات ابن سعد (6/ 24 و 7/ 476) نسب قريق (138) طبقات خليفة (ت 57، 825، 974، 1487، 3064) مسند أحمد (4/ 32)، المحبر (الفهرس) المعارف (318) المعرفة والتاريخ (3/ 309، 329) الجرح والتعديل (9/ 8) مشاهير علماء الأمصار (ت 284) الأغاني (5/ 122) جمهرة أنساب العرب (115) الاستيعاب (4/ 1552) تاريخ ابن عساكر (17/ 434/ ب) أسد الغابة (5/ 451) تهذيب الأسماء واللغات (1/ 2/ 145) مختصر تاريخ دمشق (26/ 335) تهذيب الكمال (31/ 53) سير أعلام النبلاء (3/ 412) الكاشف (3/ 211) تذهيب التهذيب (4/ 138/ آ) العقد الثمين (7/ 398) الإصابة (3/ 637) تهذيب التهذيب (11/ 142) خلاصة الخزرجي (417).
(8)
في ط: "بن أبان" خطأ.
وهو أخو عثمان بن عفان لأمِّه أروى بنت كُريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس، وأمُّها أمُّ حكيم البيضاء بنت عبد المطَّلب.
وللوليد من الإخوة: خالد، وعمارة، وأمُّ كلثوم.
وقد قتل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أباه بعد وقعة بدر من بين الأسرى صَبْرًا [بين يديه، فقال: يا محمد! من للصِّبية؟ فقال: لهم النار]
(1)
. وكذلك فعل بالنضر بن الحارث.
وأسلم الوليد هذا يوم الفتح، وقد بعثه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على صدقات بني المُصْطلق، فخرجوا يتلقونه، فظن أنهم إنما خرجوا لقتاله فرجع، فأخبر بذلك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فأراد أن يجهِّز إليهم جيشًا، فبلغهم ذلك، فجاء مَنْ جاء منهم ليعتذروا إليه ويخبروه بصورة ما وقع، فأنزل اللَّه تعالى في الوليد:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6]. ذكر ذلك غير واحد من المفسِّرين
(2)
. واللَّه أعلم بصحة ذلك. وقد حكى أبو عمر
(3)
بن عبد البَرّ على ذلك الإجماع.
وقد ولّاه عمر صدقاتِ بني تَغْلب، وولّاه عثمان نيابة الكوفة بعد سعد بن أبي وقاص سنة خمس وعشرين، ثم شرب الخمر وصلَّى بأصحابه ثم التفتَ إليهم فقال: أزيدكم؟ ووقع منه تخبيط، ثم إن عثمان جلدَه وعزلَه عن الكوفة بعد أربع سنين، فأقام بها، فلما جاء علي إلى العراق سار إلى الرقَّة واشترى له عندها ضيعة وأقام بها معتزلًا جميع الحروب التي كانت أيام علي ومعاوية وما بعدها إلى أن توفي بضيعته في هذه السنة، ودفن بضيعته - وهي على خمسة عشر ميلًا من الرقَّة. ويقال: إنه توفي في أيام معاوية، فاللَّه أعلم.
روى له الإمام أحمد وأبو داود
(4)
حديثًا واحدًا في فتح مكة.
وقد ذكر ابن الجوزي وفاته في هذه السنة. وذكر أيضًا وفاة أمِّ المؤمنين ميمونة بنت الحارث الهلاليَّة، وقد تقدم ذكر وفاتها في سنة إحدى وخمسين، وقيل: إنها توفيت سنة ثلاث وستين. وقيل: سنة ست وستين. والصواب ما ذكرناه.
(1)
ما بين حاصرتين سقط من ب. والخبر في سيرة ابن هشام (1/ 644).
(2)
أسباب نزول القرآن للواحدي (ص 412).
(3)
تحرف في المطبوع إلى: عمرو. وينظر كلامه في الاستيعاب (4/ 1553).
(4)
أخرجه أحمد في مسنده (4/ 32)، وأبو داود (4181) في الترجل، وإسناده ضعيف.
أمُّ سَلَمة أمُّ المؤمنين
(1)
: هند بنت أبي أميَّة حذيفة -وقيل: سُهَيْل
(2)
- بن المغيرة بن عبد اللَّه بن عمر بن مخزوم، القرشية المخزومية.
كانت أولًا تحت ابن عمِّها أبي سلَمة بن عبد الأسد، فمات عنها، فتزوَّجها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ودخل بها في شوال سنة اثنتين بعد وقعة بدر
(3)
. وقد كانت سمعتْ من زوجها أبي سَلَمة حديثًا عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما مِنْ مسلمٍ يُصابُ بمُصِيبةٍ فيقول: إنا للَّهِ وإنَّا إليهِ راجعُون، اللهمَّ أجُرني في مُصِيبتي، واخلفْ لي خيرًا منها، إلَّا أَبدلَه اللَّهُ خيرًا منها". قالت: فلما مات أبو سلَمة قلت ذلك ثم قلت: ومن هو خيرٌ من أبي سلَمة أول رجلٍ هاجر؟ ثم عزم اللَّه لي فقلتها، فأبدلني اللَّهُ خيرًا منه - رسول اللَّه
(4)
.
وكانت من حِسَان النساء وعابداتهن.
قال الواقدي: توفيت سنة تسع وخمسين، وصلَّى عليها أبو هريرة. وقال ابن أبي خَيْثمة: توفيت أيام يزيد بن معاوية. قلت: والأحاديث المتقدمة في مقتل الحسين تدلُّ على أنها عاشت إلى ما بعد مقتله، واللَّه أعلم. ورضي اللَّه عنها.
ثم دخلت سنة اثنتين وستين
يقال: فيها قدم وفد المدينة النبوية على يزيد بن معاوية، فأكرمهم وأجازهم بجوائز سنيّة، ثم عادوا من عنده بالجوائز فخلعوه وولَّوا عليهم عبد اللَّه بن حنظلة الغَسِيل، فبعث إليهم يزيد جندًا في السنة الآتية [إلى المدينة، فكانت وقعة الحرَّة على ما سنبيِّنه في التي بعدها إن شاء اللَّه تعالى.
(1)
طبقات ابن سعد (8/ 86) تاريخ ابن معين (742) نسب قريش (337) طبقات خليفة (334) مسند أحمد (6/ 288) المعارف (136) الجرح والتعديل (9/ 464) مستدرك الحاكم (4/ 16) الاستيعاب (4/ 1920) أسد الغابة (7/ 340) تهذيب الكمال (35/ 317) سير أعلام النبلاء (2/ 201) الكاشف (3/ 436) العبر (1/ 65) مجمع الزوائد (9/ 245) تهذيب التهذيب (12/ 455) الإصابة (13/ 221) خلاصة الخزرجي (496) كنز العمال (13/ 699) شذرات الذهب (1/ 280) أعلام النساء (5/ 221).
(2)
في ط وم: "سهل"، وما هنا يعضده ما في طبقات ابن سعد (8/ 86) وتهذيب الكمال (35/ 317)، وغيرهما.
(3)
هذا كلام شيخه أبي الحجاج المزي في تهذيب الكمال (35/ 317)، لكن تعقبه الحافظ ابن حجر في هذا فقال: "إنما تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم سنة أربع على الصحيح، ويقال: سنة ثلاث، فإن أبا سلمة بن عبد الأسد شهد أحدًا ورُمي بسهم فعاش خمسة أشهر أو سبعة، وحلت أم سلمة في شوال سنة أربع، وقد نص على ذلك خليفة والواقدي. وقال ابن عبد البر: مات في جمادى الآخرة سنة ثلاث (تهذيب التهذيب 12/ 456)، وتعليق الدكتور بشار على تهذيب الكمال.
(4)
أخرجه أحمد في مسنده (4/ 27 - 28) وابن ماجه (1598) في الجنائز: باب ما جاء في الصبر على المصيبة وأخرجه مسلم مختصرًا رقم (918)(3).
وقد كان يزيد عزل عن الحجاز عمرو بن سعيد بن العاص، وولَّى عليهم الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، فلما دخل المدينة]
(1)
احتاط على الأموال والحواصل والأملاك، وأخذ العبيد الذين لعمرو بن سعيد فحبسهم -وكانوا نحوًا من ثلاثمئة عبد- فتجهَّز عمرو بن سعيد إلى يزيد، وبعث إلى عبيده أن يخرجوا من السجن ويلحقوا به، وأعدَّ لهم إبلًا يركبونها، ففعلوا ذلك، فما لحقوه حتى وصل إلى يزيد، فأكرمه واحترمه ورحَّب به وأدنى مجلسه، ثم إنه عاتبه في تقصيره في شأن ابن الزبير، فقال له: يا أمير المؤمنين! الشاهد يرى ما لا يرى الغائب، وإن جلَّ أهل مكة والحجاز مالؤوه علينا وأحبُّوه، ولم يكن لي جند أقوى بهم عليه لو ناهضتُه، وقد كان يحذرني ويحترس مني، وكنت أرفق به كثيرًا وأداريه لأستمكن منه فأثب عليه، مع أني قد ضيَّقت عليه ومنعته من أشياء كثيرة، وجعلت على مكة وطرقها وشعابها رجالًا لا يَدعون أحدًا يدخلها حتى يكتبوا اسمه واسم أبيه، ومن أي بلاد هو، وما جاء له، وماذا يريد، فإن كان من أصحابه أو ممن أرى أنه يريده رددته صاغرًا، وإلا خلَّيت سبيله. وقد ولَّيتَ الوليد، وسيأتيك من عمله وأمره مالعلك تعرف به فضل مسارعتي واجتهادي في أمرك ومناصحتي لك إن شاء اللَّه، واللَّه يصنع لك ويكبِت عدوَّك. فقال له يزيد: أنت أصدق ممن رماك وحملني عليك، وأنت ممن أثق به، وأرجو معونته، وأدَّخره لذات الصدع وكفاية المهم، وكشف نوازل الأمور العظام. . . في كلام طويل.
وأما الوليد بن عتبة فإنه أقام بالحجاز، وقد همَّ مرارًا أن يبطش بعبد اللَّه بن الزبير، فيجده متحذرًا ممتنعًا قد أعدَّ للأمور أقرانها.
وثار باليمامة رجل آخر يقال له: نَجْدة بن عامر الحنفي حين قتل الحسين، وخالف يزيد بن معاوية، ولم يخالف ابن الزبير، بل بقي على حدة، له أصحاب يتبعونه. فإذا كان ليلة عرفة دفع الوليد بن عتبة بالجمهور، وتخلَّف عنه أصحاب ابن الزبير وأصحاب نَجْدة، ثم يدفع كل فريق وحدهم. ثم كتب نَجْدة إلى يزيد: إنك بعثت إلينا رجلًا أخرق لا يتَّجه لأمر رشد ولا يرعوي لعظة الحكيم، فلو بعثت إلينا رجلًا سهل الخلق ليِّن الكنف، رجوت أن يسهل به من الأمور ما استوعر منها وأن يجتمع ما تفرق، فانظر في ذلك فإن فيه صلاح خواصنا وعوامنا إن شاء اللَّه تعالى. قالوا: فعزل يزيد الوليد، وولَّى عثمان [بن]
(2)
محمد بن أبي سفيان، فسار إلى الحجاز، وإذا هو فتى غِرّ حدث غمر لم يمارس الأمور، فطمعوا فيه، ولما دخل المدينة بعث إلى يزيد منها وفدًا فيهم عبد اللَّه بن حنظلة الغَسِيل الأنصاري، وعبد اللَّه بن أبي عمرو بن حفص بن المغيرة الحضرمي، والمنذر بن الزبير، ورجال كثير من أشراف أهل المدينة،
(1)
ما بين حاصرتين سقط من أ.
(2)
سقطت من المطبوع.
فقدموا على يزيد، فأكرمهم، وأحسن إليهم، وعظَم جوائزهم، ثم انصرفوا راجعين إلى المدينة إلا المنذر بن الزبير فإنه سار إلى صاحبه عبيد اللَّه بن زياد بالبصرة، وكان يزيد قد أجازه بمئة ألف نظير أصحابه من أولئك الوفد، ولما رجع وفد المدينة إليها أظهروا شتم يزيد وعيبه وقالوا: قدمنا من عند رجل ليس له دين، يشرب الخمر، وتعزف عنده القيان بالمعازف، وإنا نشهدكم أنا قد خلعناه. فتابعهم الناس على خلعه، وبايعوا عبد اللَّه بن الغَسِيل على الموت، وأنكر عليهم عبد اللَّه بن عمر بن الخطاب، ورجع المنذر بن الزبير من البصرة إلى المدينة، فوافق أولئك على خلع يزيد، وأخبرهم أنه يشرب الخمر ويسكر حتى يترك الصلاة، وعابه أكثر مما عابه أولئك. فلما بلغ ذلك يزيد قال: اللهم إني آثرته وأكرمته ففعل ما قد رأيت، فأدركه وانتقم منه.
ثم إن يزيد بعث إلى أهل المدينة النعمان بن بشير ينهاهم عما صنعوا ويحذِّرهم غبَّ ذلك، ويأمرهم بالرجوع إلى السمع والطاعة ولزوم الجماعة، فسار إليهم ففعل ما أمره يزيد، وخوَّفهم الفتنة، وقال لهم: إن الفتنة وخيمة، وقال: لا طاقة لكم بأهل الشام. فقال له عبد اللَّه بن مطيع: ما يحملك -يا نعمان- على تفريق جماعتنا وفساد ما أصلح اللَّه من أمرنا؟ فقال له النعمان: أما واللَّه لكأني بك وقد تركت
(1)
تلك الأمور التي تدعو إليها، وقامت الرجال على الركب تضرب مفارق القوم وجباههم بالسيوف، ودارت رحى الموت بين الفريقين، قد ضربتَ بغلتك إليَّ وخلَّفتَ هؤلاء المساكين -يعني الأنصار- يُقتلون في سِكَكِهم ومساجدهم وعلى أبواب دورهم. فعصاه الناس فلم يسمعوا منه، فانصرف وكان واللَّه كما قال سواء.
قال ابن جرير
(2)
: وحج بالناس في هذه السنة الوليد بن عتبة.
كذا قال، وفيه نظر، فإنه إن كان وفد في وفد أهل المدينة وقد رجعوا من عند يزيد فإنما وفد عثمان بن محمد بن أبي سفيان، وإن كان قد حج بالناس فيها الوليد فما قدم وفد المدينة إلى يزيد إلا في أول سنة ثلاث وستين، وهو أشبه، واللَّه أعلم.
وممن توفي في هذه السنة من الأعيان:
بُرَيدة بن الحُصَيب الأَسْلَمي
(3)
: كان إسلامه حين اجتاز به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو مهاجر إلى المدينة عند
(1)
في تاريخ الطبري (5/ 481) نزلت.
(2)
في تاريخه (5/ 481).
(3)
طبقات ابن سعد (4/ 241 و 7/ 8، 365) طبقات خليفة (109، 187، 322) تاريخ خليفة (251) مسند أحمد (5/ 346) تاريخ البخاري الكبير (2/ 141) ثقات العجلي (79) المعارف (300) الجرح والتعديل (2/ 424) ثقات ابن حبان (3/ 29) مشاهير علماء الأمصار (ت 414) معجم الطبراني الكبير (2/ 3) الاستيعاب (1/ 185) الجمع لابن =
كُراع الغَمِيم
(1)
، فلما كان هناك تلقّاه بُريدة في ثمانين نفسًا من أهله فأسلموا، وصلى بهم صلاة العشاء، وعلَّمه ليلتئذ صدرًا من سورة مريم.
ثم قدم على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المدينة بعد أُحُد، فشهد معه المشاهد كلها، وأقام بالمدينة، فلما فتحت البصرة نزلها واختط بها دارًا، ثم خرج إلى غزو خراسان فمات بمرو في خلافة يزيد بن معاوية.
ذكر موته غير واحد في هذه السنة.
الرّبيعُ بنُ خُثَيْم
(2)
: أبو يزيد الثوري الكوفي، أحد أصحاب ابن مسعود.
[قال له عبد اللَّه بن مسعود]
(3)
: ما رأيتك قطُ إلا ذكرت المُخْبتين، ولو رآك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لأحبَّك
(4)
.
وكان ابن مسعود يجلُّه كثيرًا.
وقال الشعبي: كان الربيع من معادن الصدق، وكان أورع أصحاب ابن مسعود.
وقال ابن معين: لا يُسأل عن مثله.
وله مناقب كثيرة جدًّا.
أرخ ابن الجوزي وفاته في هذه السنة.
عَلْقَمَةُ بنُ قَيْس
(5)
: أبو شِبل النَّخعي الكوفي.
= القيسراني (1/ 61) أسد الغابة (1/ 209) تهذيب الكمال (4/ 53) تذهيب التهذيب (1/ 81) سير أعلام النبلاء (2/ 469) تاريخ الإسلام (2/ 386) العبر (1/ 66) الكاشف (1/ 99) مجمع الزوائد (9/ 398) الإصابة (1/ 241) تهذيب التهذيب (1/ 432) خلاصة الخزرجي (47) شذرات الذهب (1/ 281).
(1)
"كراع الغميم": موضع بناحية الحجاز بين مكة والمدينة، وهو واد أمام عُسفان بثمانية أميال. معجم البلدان (4/ 443).
(2)
طبقات ابن سعد (6/ 182) طبقات خليفة (141) تاريخ البخاري الكبير (3/ 269) ثقات العجلي (154) المعارف (497) المعرفة والتاريخ (2/ 563) الجرح والتعديل (3/ 459) العقد الفريد (1/ 275) و 2/ 424 و 3/ 150، 171، 179) ثقات ابن حبان (1/ ورقة 128) مشاهير علماء الأمصار (ت 737) حلية الأولياء (2/ 105) جمهرة أنساب العرب (201) الجمع لابن القيسراني (1/ 134) أنساب السمعاني (3/ 146، 147) تهذيب الكمال (9/ 70) تذهيب التهذيب (1/ 217) تذكرة الحفاظ (1/ 57) تاريخ الإسلام (3/ 15، 247، 365) سير أعلام النبلاء (4/ 258) الكاشف (1/ 235) معرفة التابعين (ورقة 11) إكمال مغلطاي (2/ ورقة 15) غاية النهاية (1/ 283) نهاية السول (ورقة 95) تهذيب التهذيب (3/ 242) خلاصة الخزرجي (115).
(3)
ما بين حاصرتين سقط من أ.
(4)
حلية الأولياء (2/ 106). و"المخبتون": المطمئنون، وقيل: هم المتواضعون الخاشعون لربهم.
(5)
طبقات ابن سعد (6/ 86) طبقات خليفة (ت 1054) تاريخ خليفة (196، 236) تاريخ البخاري الكبير (7/ 41) =
كان من أكابر أصحاب ابن مسعود وعلمائهم، وكان يُشَبَّه بابن مسعود.
وقد روى علقمة عن جماعة من الصحابة، وعنه خلق من التابعين.
عُقْبَةُ بنُ نافع الفِهْري
(1)
: بعثه معاوية إلى إفريقية في عشرة آلاف، فافتتحها، واختط القَيْرَوان، وكان موضعها غيضة لا تُرام من السباع والحيّات والحشرات، فدعا اللَّه تعالى، فجعلنَ يخرجنَ منها بأولادهن من الأوكار والجحار، فبناها ولم يزل بها حتى هذه السنة.
غزا أقوامًا من البربر والروم، فقُتل شهيدًا رضي الله عنه.
عَمْرو بنُ حَزْم
(2)
: صحابي جليل. استعمله رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على نجران وعمرُه سبع عشرة سنة، وأقام بها مدة، وأدرك أيام يزيد بن معاوية.
مَسْلَمَةُ
(3)
بنُ مُخَلَّد الأَنصاريُّ الزُّرَقي
(4)
: ولد عام الهجرة، وسمع من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وشهد
= التاريخ الصغير (1/ 123) ثقات العجلي (339) المعارف (431) المعرفة والتاريخ (2/ 552) الجرح والتعديل (6/ 404) مشاهير علماء الأمصار (ت 741) حلية الأولياء (2/ 98) تاريخ بغداد (12/ 296) طبقات الشيرازي (79) أنساب السمعاني (12/ 61) تاريخ ابن عساكر (11/ 404/ ب) تهذيب الأسماء واللغات (1/ 1/ 342) مختصر تاريخ دمشق (17/ 166) تهذيب الكمال (20/ 300) طبقات علماء الحديث (1/ 100) سير أعلام النبلاء (4/ 53) العبر (1/ 66) تاريخ الإسلام (3/ 50) تذكرة الحفاظ (1/ 48) الكاشف (2/ 242) معرفة القراء الكبار (1/ 51) مرآة الجنان (1/ 137) غاية النهاية (1/ 516) تهذيب التهذيب (7/ 276) الإصابة (ت 6454) النجوم الزاهرة (1/ 157) طبقات الحفاظ (12) خلاصة الخزرجي (271) شذرات الذهب (1/ 281).
(1)
تاريخ البخاري الكبير (6/ 435) فتوح مصر (194، 197) تاريخ الطبري (5/ 240) رياض النفوس (1/ 62) جمهرة أنساب العرب (163، 178) الاستيعاب (3/ 1075) تاريخ ابن عساكر (11/ 358/ ب) معجم البلدان (4/ 420) أسد الغابة (4/ 59) الكامل في التاريخ (4/ 105) معالم الإيمان (1/ 164، 167) مختصر تاريخ دمشق (17/ 106) تاريخ الإسلام (3/ 49) سير أعلام النبلاء (3/ 532) العقد الثمين (6/ 111) الإصابة (2/ 492) حسن المحاضرة (2/ 220).
(2)
طبقات خليفة (89) تاريخ خليفة (67، 258) التاريخ الصغير (1/ 81) الجرح والتعديل (6/ 224) مشاهير علماء الأمصار (ت 96) الاستيعاب (3/ 1172) جمهرة أنساب العرب (348) إكمال ابن ماكولا (2/ 449) أسد الغابة (4/ 214) مختصر تاريخ دمشق (19/ 195) تهذيب الكمال (21/ 585) الكاشف (2/ 282) تهذيب التهذيب (8/ 20) الإصابة (4/ 293) خلاصة الخزرجي (288).
(3)
تحرف في الأصول إلى: مسلم.
(4)
طبقات ابن سعد (7/ 504) طبقات خليفة (98، 292) مسند أحمد (4/ 104) تاريخ البخاري الكبير (7/ 387) المعرفة والتاريخ (2/ 494، 506، 510، 529) الجرح والتعديل (8/ 265) مشاهير علماء الأمصار (ت 394) الولاة والقضاة (38) مستدرك الحاكم (3/ 495) جمهرة أنساب العرب (366) الاستيعاب (3/ 1397) إكمال ابن ماكولا (7/ 223 و 438) تاريخ ابن عساكر (16/ 228/ آ) أسد الغابة (5/ 174) مختصر تاريخ دمشق (24/ 271) تهذيب الكمال (27/ 574) تاريخ الإسلام (3/ 78) العبر (1/ 66) سير أعلام النبلاء (3/ 424) الكاشف (3/ 128) =
فتح مصر، وولي الجند بها لمعاوية ويزيد، ومات في ذي القعدة من هذه السنة.
نَوْفل بنُ معاوية الدِّيلي
(1)
(2)
: صحابي جليل، شهد بدرًا وأُحدًا والخندق مع المشركين، وكانت له في المسلمين نِكاية، ثم أسلم وحسن إسلاعه، وشهد فتح مكة وحُنينًا، وحج مع أبي بكر سنة تسع، وشهد حجة الوداع، وعمر ستين سنة في الجاهلية ومثلها في الإسلام. قاله الواقدي. قال: وأدرك أيام يزيد بن معاوية.
وقال ابن الجوزي: مات في هذه السنة.
وفيها توفيت:
الرَّباب بنت أنيف
(3)
: امرأة الحسين بن علي التي كانت حاضرة أهل العراق إذ هم يعدُون في السبت -أو في الجمعة- على زوجها الحسين بن علي ابن بنت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
ثم دخلت سنة ثلاث وستين
ففيها كانت:
وَقْعَةُ الحَرَّة
وكان سببها: أن أهل المدينة لما خلعوا يزيد بن معاوية وولَّوا على قريش عبد اللَّه بن مطيع وعلى الأنصار عبد اللَّه بن حنظلة بن أبي عامر، فلما كان في أول هذه السنة أظهروا ذلك وأجتمعوا عند المنبر، فجعل الرجل منهم يقول: قد خلعت يزيد كما خلعت عمامتي هذه، ويلقيها عن رأسه، ويقول الآخر: قد خلعته كما خلعت نعلي هذه، حتى اجتمع شيء كثير من العمائم والنعال هناك. ثم اجتمعوا على إخراج عامل يزيد من بين أظهرهم -وهو عثمان بن محمد بن أبي سفيان ابن عم يزيد- وعلى إجلاء بني أمية
= تذهيب التهذيب (4/ 40/ آ) الإصابة (3/ 418) تهذيب التهذيب (10/ 148) حسن المحاضرة (1/ 235) خلاصة الخزرجي (377) شذرات الذهب (1/ 282).
(1)
تحرف اسمه في المطبوع إلى: مسلم بن معاوية الديلمي.
(2)
مسند أحمد (5/ 429) المعارف (314) تاريخ الطبري (3/ 44، 84، 241) الاشتقاق (174) الجرح والتعديل (8/ 487) مشاهير علماء الأمصار (ت 191) الاستيعاب (4/ 1513) أنساب السمعاني (5/ 402 و 12/ 122) أسد الغابة (5/ 317) تهذيب الكمال (30/ 70) الكاشف (3/ 187) تهذيب التهذيب (10/ 492) الإصابة (ت 8831) خلاصة الخزرجي (405).
(3)
المحبر (396) الكامل في التاريخ (4/ 88) أعلام الزركلي (3/ 13) شاعرات العرب (128) أعلام النساء لكحالة (1/ 438).
من المدينة، فاجتمعت بنو أمية -[وهم قريب من ألف رجل]
(1)
- في دار مروان بن الحكم، وأحاط بهم أهل المدينة يحاصرونهم.
واعتزل النَّاسَ عليُّ بن الحسين زينُ العابدين، وكذلك عبد اللَّه بن عمر بن الخطّاب، لم يخلعا يزيد، ولا أحد من بيت ابن عمر، وقد قال ابن عمر لأهله: لا يخلعن أحد منكم يزيد فيكون الفيصل -ويروى: الصيلم- بيني وبينه. وسيأتي هذا الحديث بلفظه وإسناده في ترجمة يزيد. وأنكر على أهل المدينة في مبايعتهم لابن مطيع وابن حنظلة على الموت، وقال: إنّما كنّا نبايع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على ألَّا نفرّ. وكذلك لم يخلع يزيدَ أحدٌ من بني عبد المطلب. وقد سئل محمد ابن الحنفيَّة في ذلك، فامتنع أشدَّ الامتناع، وناظرهم وجادلهم في يزيد، ورد عليهم ما اتهموا يزيد به من شربه الخمر وتركه بعض الصلوات، كما سيأتي مبسوطًا في ترجمة يزيد قريبًا إن شاء اللَّه.
وكتب بنو أمية إلى يزيد بما هم فيه [من الحصر والإهانة والجوع والعطش، وأنه إن لم يبعث إليهم من ينقذهم مما هم فيه]
(2)
وإلا استؤصلوا عن آخرهم، وبعثوا ذلك مع البريد، فلما قدم بذلك على يزيد وجده جالسًا على سريره ورجلاه في ماء يتبرَّد به مما به من النِّقرس
(3)
في رجليه. فلما قرأ الكتاب انزعج لذلك وقال: ويلك! أما فيهم ألف رجل؟ قال: بلى، قال: فهلّا قاتلوا ولو ساعة من نهار؟! ثم بعث إلى عمرو بن سعيد بن العاص، فقرأ عليه الكتاب واستشاره فيمن يبعثه إليهم، وعرض عليه أن يبعثه إليهم، فأبى عليه ذلك، وقال: إن أمير المؤمنين عزلني عنها وهي مضبوطة وأمورها محكمة، فأما الآن فإنما دماء قريش تراق بالصعيد، فلا أحب أن أتولى ذلك منهم، ليتول ذلك من هم أبعد منهم مني. قال: فبعث البريد إلى مسلم بن عقبة المرّي وهو شيخ كبير ضعيف، فانتدب لذلك، وأرسل معه يزيد عشرة آلاف فارس -وقيل: اثني عشر ألفًا- وخمسة عشر ألف راجل، وأعطى كل واحد منهم مئة دينار -وقيل: أربعة دنانير- ثم استعرضهم يزيد وهو على فرس له.
قال المدائني: وجعل على أهل دمشق عبد اللَّه بن مَسْعدة الفزاري، وعلى أهل حمص حصين بن نمير السَّكوني، وعلى أهل الأردن حُبيش بن دُلْجة القيني، وعلى أهل فلسطين روح بن زنباع الجُذامي، وشريك الكناني، وعلى أهل قِنَّسرين طريف بن الحسحاس الهلالي، وعليهم جميعًا مسلم بن عقبة المرّي من غطفان، وإنما يسميِّه السلَف مسرف بن عقبة. فقال النعمان بن بشير: يا أمير المؤمنين! ولِّني عليهم أكفك -وكان النعمان أخا عبد اللَّه بن حنظلة لأمه عمرة بنت رواحة- فقال يزيد: لا، ليس لهم إلا
(1)
سقط من المطبوع.
(2)
سقط من أ.
(3)
"النقرس": داء ووجع يأخذ في الرجل والمفاصل.
هذا الغشمة
(1)
، واللَّه لأقتلنَّهم بعد إحساني إليهم وعفوي عنهم مرة بعد مرة، فقال النعمان: يا أمير المؤمنين! أنشدك اللَّه في عشيرتك وأنصار رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. وقال له عبد اللَّه بن جعفر: أرأيت إن رجعوا إلى طاعتك أتقبل منهم؟ قال: إن فعلوا فلا سبيل عليهم.
وقال يزيد لمسلم بن عقبة: ادع القوم ثلاثًا، فإن رجعوا إلى الطاعة فاقبل منهم، وكفَّ عنهم، وإلا فاستعن باللَّه وقاتلهم، وإذا ظهرتَ عليهم فأَبحِ المدينة ثلاثًا ثم اكفف عن الناس، وانظر إلى علي بن الحسين فاكفف عنه، واستوص به خيرًا، وأَدنِ مجلسه، فإنه لم يدخل في شيء مما دخلوا فيه. وأمره إذا فرغ من المدينة أن يذهب إلى مكة لحصار ابن الزبير
(2)
. وقال له: إن حدث بك أمر فعلى الناس حصين بن نمير السَّكوني.
وقد كان يزيد كتب إلى عبيد اللَّه بن زياد أن يسير إلى [ابن]
(3)
الزبير فيحاصره بمكة، فأبى عليه وقال: واللَّه لا أجمعهما للفاسق أبدًا، أقتل ابن بنت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأغزو البيت الحرام؟! وقد كانت أمُّه مَرجانة قالت له حين قتل الحسين: ويحك ماذا صنعت وماذا ركبت؟! وعنَّفته تعنيفًا شديدًا.
قالوا: وقد بلغ يزيد أن ابن الزبير يقول في خطبته: يزيد القرود، شارب الخمور، تارك الصلوات، متعكف على القينات. فلما جهَّز مسلم بن عقبة واستعرض الجيش بدمشق جعل يقول:
أَبْلِغْ أبا بكرٍ إذا الجيشُ سَرى
…
وأَشرفَ الجيشُ على وادي القُرى
أَجَمْعَ سكرانَ من القومِ تَرى
…
يا عَجبًا من مُلحدٍ في أمِّ القُرى
مخادعٍ للدَّين يَقْضي بالفِرى
(4)
وفي رواية:
أَبْلِغْ أبا بكرٍ إذا الأمرُ انْبَرى
…
ونَزَلَ الجيشُ على وادي القُرى
عشرونَ ألفًا بينَ كهلٍ وفتى
…
أَجَمْعَ سكرانَ من القوم تَرى
(5)
قالوا: وسار مسلم بمن معه من الجيوش إلى المدينة، فلما اقترب مها اجتهد أهل المدينة في حصار بني أمية وقالوا لهم: واللَّه لنقتلنَّكم عن آخركم أو تعطونا مَوْثقًا ألا تدلُّوا علينا أحدًا من هؤلاء الشاميِّين، ولا تمالئوهم علينا، فأعطَوهم العهود بذلك، فلما وصل الجيش تلقاهم بنو أمية، فجعل مسلم يسألهم
(1)
"الغثمة": الظالم.
(2)
تحرف في المطبوع إلى: نمير.
(3)
سقطت من المطبوع.
(4)
"الفِرى": جمع فرية، وهي الكذبة.
(5)
الأبيات في تاريخ الطبري (5/ 484) وابن الأثير (4/ 112) ومختصر تاريخ دمشق (24/ 293).
عن الأخبار فلا يخبره أحد، فانحصر لذلك. وجاءه عبد الملك بن مروان فقال له: إن كنت تريد النصر فأنزل شرقيَّ المدينة في الحرَّة، فإذا خرجوا إليك كانت الشمس في أقفيتكم وفي وجوههم، فادعهم إلى الطاعة، فإن أجابوك وإلا فاستعن باللَّه وقاتلهم فإن اللَّه ناصرك عليهم إذ خالفوا الإمام وخرجوا عن الطاعة. فشكره مسلم بن عقبة على ذلك، وامتثل ما أشار به، فنزل شرقيَّ المدينة في الحرَّة، ودعا أهلها ثلاثة أيام، كل ذلك يأبون إلا المحاربة والمقاتلة، فلما مضت الثلاثة قال لهم في اليوم الرابع -وهو يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من ذي الحجة سنة ثلاث وستين- قال لهم: يا أهل المدينة! مضت الثلاثة، وإن أمير المؤمنين قال لي: إنكم أصلُه وعشيرته، وإنه يكره إراقة دمائكم، وإنه أمرني أن أؤجلكم ثلاثًا فقد مضت، فماذا أنتم صانعون؟ أتسالمون أم تحاربون؟ فقالوا: بل نحارب. فقال: لا تفعلوا، بل سالموا ونجعل حدنا وقوتنا على هذا الملحد -يعني ابن الزبير- فقالوا: يا عدو اللَّه! واللَّه لو أردت ذلك لما مكنّاك منه، أنحن نذركم تذهبون فتلحدوا في بيت اللَّه الحرام؟ ثم تهيؤوا للقتال، وقد كانوا اتخذوا خندقًا بينهم وبين ابن عقبة، وجعلوا جيشهم أربعة أرباع على كل ربع أمير، وجعلوا أجل الأرباع الربع الذي فيه عبد اللَّه بن حنظلة الغسِيل، ثم اقتتلوا قتالًا شديدًا، ثم انهزم أهل المدينة إليها. وقد قُتل من الفريقين خلق من السادات والأعيان منهم: عبد اللَّه بن مطيع وبنون له سبعة بين يديه، وعبد اللَّه بن حنظلة الغسيل، وأخوه لأمه محمد بن ثابت بن شمّاس، ومحمد بن عمرو بن حزم، وقد مرَّ به مروان وهو مجندل
(1)
فقال: رحمك اللَّه، فكم من سارية قد رأيتك تطيل عندها القيام والسجود!
ثم أباح مسلم بن عقبة -الذي يقول فيه السلف: مسرف بن عقبة، قبحه اللَّه من شيخ سوء ما أجهله- المدينة ثلاثة أيام كما أمره يزيد لا جزاه اللَّه خيرًا، وقَتل خلقًا من أشرافها وقرّائها، وانتهب أموالًا كثيرة منها، ووقع شر عظيم وفساد عريض على ما ذكره غير واحد، فكان ممن قُتل بين يديه صبرًا معقل بن سنان، وقد كان صديقه قبل ذلك، ولكن أسمعه في يزيد كلامًا غليظًا، فنقم عليه بسببه.
واستدعى بعلي بن الحسين، فجاء يمشي بين مروان بن الحكم وابنه عبد الملك، ليأخذ له بهما عنده أمانًا، ولم يشعر أن يزيد أوصاه به، فلما جلس بين يديه استدعى مروان بشراب -وقد كان مسلم بن عقبة حمل معه من الشام ثلجًا إلى المدينة، فكان يُشاب
(2)
له بشرابه- فلما جيء بالشراب شرب مروان قليلًا، ثم أعطى الباقي لعلي بن الحسين ليأخذ له بذلك أمانًا، وكان مروان موادًّا لعلي بن الحسين، فلما نظر إليه مسلم بن عقبة قد أخذ الإناء في يده قال له: لا تشرب من شرابنا، ثم قال له: إنما جئتَ مع هذين لتأمن بهما؟ فارتعدت يد علي بن الحسين، وجعل لا يضع الإناء من يده ولا يشربه، ثم قال له: لولا أن أمير
(1)
"مجندل": صريع.
(2)
"يشاب": يخلط.
المؤمنين أوصاني بك لضربت عنقك، ثم قال له: إن شئت أن تشرب فاشرب، وإن شئت دعونا لك بغيرها، فقال: هذه الذي في كفي أريد، فشرب. ثم قال له مسلم بن عقبة: قم إلى هاهنا فاجلس، فأجلسه معه على السرير وقال له: إن أمير المؤمنين أوصاني بك، وإن هؤلاء شغلوني عنك، ثم قال: لعل أهلك فزعوا؟ فقال: إي واللَّه! فأمر بدابته فأُسرجت، ثم حمله عليها حتى رده إلى منزله مكرَّمًا.
ثم استدعى بعمرو بن عثمان بن عفان -ولم يكن خرج مع بني أمية- فقال له: إنك إنْ ظهر أهلُ المدينة قلتَ: أنا معكم. وإن ظهر أهلُ الشام قلتَ: أنا ابن أمير المؤمنين. ثم أمر به فنُتفتْ لحيتُه بين يديه، وكان ذا لحية كبيرة.
قال المدائني: وأباح مسلم بن عقبة المدينة ثلاثة أيام، يقتلون من وجدوا من الناس، ويأخذون الأموال. فأرسلت سعدى بنت عوف المرِّيَّة إلى مسلم بن عقبة تقول له: أنا بنت عمك، فمر أصحابك ألا يتعرضوا لإبلنا بمكان كذا وكذا، فقال لأصحابه: لا تبدؤوا إلا بأخذ إبلها أولًا.
وجاءته امرأة فقالت: أنا مولاتك وابني في الأسارى، فقال: عجَّلوه لها، فضُربت عنقه، وقال: أعطوها رأسه، أما ترضين ألا يقتل حتى تتكلمي في ابنك؟!
ووقعوا على النساء حتى قيل: إنه حبلت ألف امرأة في تلك الأيام من غير زوج، فاللَّه أعلم.
قال المدائني: عن أبي قرَّة قال: قال هشام بن حسان: ولدت ألف امرأة من أهل المدينة بعد وقعة الحرَّة من غير زوج.
وقد اختفى جماعة من سادات الصحابة منهم جابر بن عبد اللَّه. وخرج أبو سعيد الخُدْري فلجأ إلى غار في جبل، فلحقه رجل من أهل الشام، قال: فلما رأيته انتضيت سيفي، فقصدني، فلما رآني صمَّم على قتلي، فشمت سيفي ثم قلت:{إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 29] فلما رأى ذلك قال: من أنت؟ قلت: أنا أبو سعيد الخُدري، قال: صاحب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ قلت: نعم، فمضى وتركني.
قال المدائني: وجيء إلى مسلم بسعيد بن المسيِّب، فقال له: بايع، فقال: أبايع على سيرة أبي بكر وعمر. فأمر بضرب عنقه، فشهد رجل أنه مجنون، فخلّى سبيله.
وقال المدائني: عن عبد اللَّه القرشي وأبي إسحاق التميمي قالا: لما انهزم أهل المدينة يوم الحرَّة صاح النساء والصِّبيان، فقال ابن عمر: بعثمان وربِّ الكعبة.
قال المدائني: عن شيخ من أهل المدينة قال: سألت الزُّهري: كم كانت القتلى يوم الحرَّة؟ قال: سبعمئة من وجوه الناس من المهاجرين والأنصار ووجوه الموالي، وممن لا أعرف من حُر وعبد وغيرهم
عشرة آلاف. قال: وكانت الوقعة لثلاث بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وستين، وأنتهبوا المدينة ثلاثة أيام.
قال الواقدي وأبو مَعْشر: كانت وقعة الحرَّة يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من ذي الحجة سنة ثلاث وستين.
قال الواقدي: عن عبد اللَّه بن جعفر، عن ابن عون قال: وحج بالناس في هذه السنة عبد اللَّه بن الزبير، وكانوا يسمونه العائذ -يعني العائذ بالبيت- ويرون الأمر شورى. وجاء خبر الحرَّة إلى أهل مكة ليلة مستهل المحرم مع سعيد مولى المِسْور بن مَخْرمة، فحزنوا حزنًا شديدًا، وتأهبوا لقتال أهل الشام.
قال ابن جرير
(1)
: وقد رويت قصة الحرَّة على غير ما رواه أبو مِخْنف، فحدّثني أحمد بن زهير، حدّثنا أبي، سمعت وهب بن جرير، حدّثنا جُويرية ابن أسماء قال: سمعت أشياخ أهل المدينة يتحدثون أن معاوية لما حضرته الوفاة دعا ابنه يزيد فقال له: إن لك من أهل المدينة يومًا، فإن فعلوا فارمهم بمسلم بن عقبة فإنه رجل قد عرفت نصيحته لنا. فلما هلك معاوية وفد إلى يزيد وفد من أهل المدينة، وكان ممن وفد إليه عبد اللَّه بن حنظلة بن أبي عامر -وكان شريفًا فاضلًا سيِّدًا عابدًا- ومعه ثمانية بنين له، فأعطاه يزيد مئة ألف درهم، وأعطى بنيه كل واحد منهم عشرة آلاف سوى كسوتهم وحملانهم، ثم رجعوا إلى المدينة، فلما قدمها أتاه الناس فقالوا له: ما وراءك؟ فقال: جئتكم من عند رجل واللَّه لو لم أجد إلا بني هؤلاء لجاهدته بهم. قالوا: قد بلغنا أنه أعطاك وأحذاك وأكرمك! قال: قد فعل، وما قبلت منه إلا لأتقوى به على قتاله. ثم حضَّ الناس فبايعوه، فبلغ ذلك يزيد، فبعث إليهم مسلم بن عقبة. وقد بعث أهل المدينة إلى كل ماء بينهم وبين الشام فصبُّوا فيه زقًّا من قطران وغوَّروه، فأرسل اللَّه على جيش الشام السماء مدرارًا، فلم يستقوا حتى وردوا المدينة، فخرج أهل المدينة بجموع كثيرة وهيئة لم يُر مثلُها، فلما رآهم أهل الشام هابوهم وكرهوا قتالهم، وكان أميرهم مسلم شديد الوجع، فبينما الناس في قتالهم إذ سمعوا التكبير
(2)
من خلفهم في جوف المدينة، قد أقحم عليهم بنو حارثة من أهل الشام وهم على الجدر، فانهزم الناس، فكان من أُصيب في الخندق أعظم ممن قتل، فدخلوا المدينة وعبد اللَّه بن حنظلة مستند إلى الجدار يغطُّ نومًا، فنبَّهه ابنه، فلما فتح عينيه ورأى ما صنع الناس أمر أكبر بنيه، فتقدم فقاتل حتى قتل، فدخل مسلم بن عقبة المدينة، فدعا الناس للبيعة على أنهم خول
(3)
ليزيد بن معاوية، ويحكم في دمائهم وأموالهم وأهليهم ما شاء.
(1)
في تاريخه (5/ 495).
(2)
كذا في ط، ومثله في تاريخ الطبري، ووقع في أ، ب: النكبة.
(3)
"الخول": الخدم والعبيد.
وقد روى ابن عساكر في ترجمة أحمد بن عبد الصمد "من تاريخه" من كتاب المجالسة لأحمد بن مروان المالكي: حدّثنا الحسين بن الحسن اليشكري، حدّثنا الزِّيادي، عن الأصمعي ح وحدّثني محمد بن الحارث، عن المدائني قال: لما قتل أهل الحرَّة هتف هاتف بمكة على أبي قُبيس مساء تلك الليلة وابن الزبير جالس يسمع:
قُتِلَ الخِيارُ بَنُو الخِيا
…
رِ ذَوُو المَهَابَةِ والسَّماح
والصَّائمونَ القَائمو
…
نَ أُولُو العِبادَةِ والصَّلاح
المُهْتَدُونَ المُحْسِنُو
…
نَ السَّابقونَ إلى الفَلاح
ماذا بواقِمَ والبَقيـ
…
ــعِ من الجَحَاجِحَةِ الصِّباح
وبقاعُ يثربَ ويحهُنَّ
…
من النَّوادبِ والصِّياح
فقال ابن الزبير لأصحابه: يا هؤلاء! قتل أصحابكم، فإنا للَّه وإنا إليه راجعون
(1)
.
وقد أخطأ يزيد خطأ فاحشًا في قوله لمسلم بن عقبة أن يبيح المدينة ثلاثة أيام [مع ما انضم إلى ذلك من قتل خلق من الصحابة وأبنائهم. وقد تقدم أنه قتل الحسين وأصحابه على يدي عبيد اللَّه بن زياد]
(2)
. وقد وقع في هذه الثلاثة أيام من المفاسد العظيمة في المدينة النبوية ما لا يحد ولا يوصف مما لا يعلمه إلا اللَّه عز وجل، وقد أراد بإرسال مسلم بن عقبة توطيد سلطانه وملكه، ودوام أيامه من غير منازع، فعاقبه اللَّه بنقيض قصده، وحال بينه وبين ما يشتهيه، فقصمه اللَّه قاصم الجبابرة، وأخذه أخذ عزيز مقتدر {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102].
قال البخاري في "صحيحه"
(3)
: حدّثنا الحسين بن الحُرَيث
(4)
، حدّثنا الفضل بن موسى، حدّثنا الجُعَيد، عن عائشة بنت سعد بن أبي وقاص، عن أبيها قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يَكيدُ أهلَ المدينةِ أَحدٌ إلَّا انْماعَ كما يَنْماعُ المِلحُ في الماءِ".
وقد رواه مسلم من حديث أبي عبد اللَّه القَرّاظ المديني -واسمه: دينار- عن سعد بن أبي وقاص: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "لا يُريدُ أحدٌ المدينةَ بسُوءٍ إلّا أَذابَهُ اللَّهُ في النَّار ذوبَ الرَّصاص - أو ذوبَ المِلحِ في الماءِ". وفي رواية لمسلم من طريق أبي عبد اللَّه القرّاظ، عن سعد وأبي هريرة: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ أرادَ أهلَ المدينةِ بسُوءٍ أذابَهُ اللَّهُ كما يَذوبُ المِلحُ في الماءِ"
(5)
.
(1)
الخبر والشعر في تاريخ ابن عساكر مختصره (3/ 156).
(2)
ما بين حاصرتين ليس في ب.
(3)
كتاب: فضائل المدينة (1877).
(4)
تحرف في أ، ط إلى: الحارث. وترجمته في تهذيب الكمال (6/ 358 - 359).
(5)
أخرجه مسلم (1386) و (1387) في الحج: باب من أراد أهل المدينة بسوء أذابه اللَّه.
وقال الإمام أحمد: حدّثنا أنس بن عياض، حدّثنا يزيد بن خُصَيفة [عن عبد اللَّه بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة]
(1)
عن عطاء بن يسار، عن السائب بن خلّاد: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ أخافَ أهلَ المدينةِ ظلمًا أخافَهُ اللَّهُ، وعليهِ لعنةُ اللَّهِ والملائكةِ والناس أجمعين، لا يقبلُ اللَّهُ منهُ يومَ القيامةِ صرْفًا ولا عَدْلًا"
(2)
.
ورواه النسائي
(3)
من غير وجه، عن علي بن حجر، عن إسماعيل بن جعفر، عن يزيد بن خُصَيفة، عن عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة، عن عطاء بن يسار، عن [ابن]
(4)
خلاد ابن منجوف بن الخزرج. . . أخبره، فذكره.
وكذلك رواه الحميدي، عن عبد العزيز بن أبي حازم، عن يزيد بن خصيفة.
ورواه النسائي أيضًا
(5)
، عن يحيى بن حبيب بن عربي، عن حماد، عن يحيى بن سعيد، عن مسلم بن أبي مريم، عن عطاء بن يسار، عن ابن خلّاد -وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فذكره.
وقال ابن وهب: أخبرني حَيْوة بن شُريح، عن ابن الهاد، عن أبي بكر، عن عطاء بن يسار، عن السائب بن خلّاد قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "مَنْ أخافَ أهلَ المدينةِ أَخافَهُ اللَّه، وعليهِ لعنةُ اللَّهِ والملائكةِ والنّاسِ أجمعين"
(6)
.
وقال الدارقطني: حدَّثنا علي بن أحمد بن القاسم، حدَّثنا أبي، حدّثنا سعيد بن عبد الحميد بن جعفر، حدَّثنا أبو زكريا يحيى بن عبد اللَّه بن يزيد بن عبد اللَّه بن أنيس الأنصاري، عن محمد وعبد الرحمن ابني جابر بن عبد اللَّه قالا: خرجنا مع أبينا يوم الحرَّة وقد كُف بصره فقال: تعس من أخاف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقلنا: يا أبة وهل أحد يخيف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ فقال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "مَنْ أخافَ أهلَ هذا الحي مِنَ الأنصارِ فَقَدْ أخافَ ما بينَ هذين - ووضَع يدَهُ على جنبيه"
(7)
. قال الدارقطني: تفرد به سعيد بن عبد الحميد
(8)
لفظًا وإسنادًا.
(1)
سقط من الأصول، واستدركته من المسند.
(2)
رواه أحمد في مسنده (4/ 55) وهو حديث صحيح.
(3)
في الكبرى رقم (4266).
(4)
سقطت من المطبوع.
(5)
في الكبرى رقم (4265).
(6)
هو بمعنى حديث أحمد في المسند (4/ 55) الذي تقدم.
(7)
أخرجه لدارقطني في الأفراد كما نص عليه صاحب كنز العمال (3375). وأخرجه أيضًا الطبراني في الأوسط برقم (1093).
(8)
في المطبوع: سعد بن عبد العزيز، خطأ.
وقد استدل بهذا الحديث وأمثاله من ذهب إلى الترخّص في لعنة يزيد بن معاوية، وهو رواية عن أحمد بن حنبل اختارها الخلّال وأبو بكر عبد العزيز والقاضي أبو يعلى وابنه القاضي أبو الحسين، وانتصر لذلك أبو الفرج بن الجوزي في مصنف مفرد. ومنع من ذلك آخرون، وصنفوا فيه أيضًا لئلّا يجعل لعنه وسيلة إلى أبيه أو أحد من الصحابة، وحملوا ما صدر عنه من سوء التصرفات على أنه تأول وأخطأ، وقالوا: إنه كان مع ذلك إمامًا فاسقًا، والإمام إذا فسق لا يُعزل بمجرد فسقه على أصح قولي العلماء، بل ولا يجوز الخروج عليه لما في ذلك من إثارة الفتنة، ووقوع الهَرج [وسفك الدماء الحرام، ونهب الأموال، وفعل الفواحش مع النساء وغيرهن، وغير ذلك مما كل واحدة فيها من الفساد أضعاف فسقه]
(1)
كما جرى مما تقدم إلى يومنا هذا.
وأما ما يذكره بعض الناس من أن يزيد لما بلغه خبر أهل المدينة وما جرى عليهم عند الحرَّة من مسلم بن عقبة وجيشه، فرح بذلك فرحًا شديدًا، فإنه كان يرى أنه الإمام وقد خرجوا عن طاعته وأمَّروا عليهم غيره، فله قتالهم حتى يرجعوا إلى الطاعة ولزوم الجماعة، كما أنذرهم بذلك على لسان النعمان بن بشير ومسلم بن عقبة كما تقدم. وقد جاء في الصحيح:"مَنْ جاءَكُمْ وأَمْرُكُمْ جميعٌ يُريدُ أنْ يُفرِّقَ بينَكُمْ فاقْتُلوهُ كائنًا مَنْ كان"
(2)
.
وأما ما يوردونه عنه من الشعر في ذلك واستشهاده بشعر ابن الزِّبَعْرى في وقعة أُحد التي يقول فيها:
ليتَ أَشْياخي بِبَدْرٍ شَهِدُوا
…
جَزَعَ الخَزْرجِ مِنْ وَقْعِ الأَسَلْ
حينَ حلَّتْ بقُياهم بَرْكَها
…
واسْتَحَرَّ القتلُ في عَبْدِ الأَشَلْ
قَدْ قَتَلْنا الضِّعْفَ من أَشْرافهم
…
وعَدَلْنا مَيْلَ بَدْرٍ فاعْتَدَل
(3)
وقد زاد بعض الروافض فيها فقال:
لَعِبَتْ هاشِمُ بالمُلْكِ فَلَا
…
مَلَكٌ جاءَ ولا وَحْيٌ نَزَلْ
فهذا إن كان قاله يزيد بن معاوية فلعنة اللَّه عليه ولعنة اللاعنين، وإن لم يكن قاله فلعنة اللَّه على من وضعه عليه ليشنِّع به عليه. وسنذكر ترجمة يزيد بن معاوية قريبًا، وما ذكر عنه، وما قيل فيه، وما كان يعانيه من الأفعال والقبائح والأقوال في السنة الآتية [فإنه لم يمهل بعد وقعة الحرَّة وقتل الحسين
(1)
ما بين حاصرتين سقط من ب.
(2)
أخرجه مسلم (1852)(60) فى الإمارة: باب حكم من فرق أمر المسلمين وهو مجتمع، وأحمد في مسنده (5/ 23 - 24) من حديث عرفجة بن أسعد قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "ستكون هَنات وهَنات، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهم جميع فاضربوه بالسيف كائنًا من كان".
(3)
تقدم تخريج هذه الأبيات. وهي في ديوان ابن الزبعرى (ص 42).
إلا يسيرًا حتى قصمه اللَّه الذي قصم الجبابرة قبله وبعده، إنه كان عليمًا قديرًا]
(1)
.
وقد توفي في هذه السنة خلق من المشاهير والأعيان من الصحابة وغيرهم في وقعة الحرَّة مما يطول ذكرهم، فمن مشاهيرهم من الصحابة:
عبدُ اللَّه بن حَنْظَلة
(2)
أمير المدينة في وقعة الحَرَّة.
ومَعْقِلُ بن سِنَان
(3)
.
وعبدُ اللَّه
(4)
بن زيد بن عاصم رضي الله عنهم.
وفيها:
مَسْرُوقُ بنُ الأَجْدَع
(5)
: [كان أبوه الأجدع -واسمه عبد الرحمن بن مالك- أفرس مَنْ باليمن.
وقيل: إن مسروقًا كان عاملًا على بعض البلاد، فلما قدم على أهله نظروا في خُرْجه فلم يجدوا فيه سوى فأس بلا عود، فقالوا له: غبتَ سنتين ثم جئت بفاس بلا عود؟! فقال: إنا للَّه وانا إليه راجعون، تلك فأس استعرناها فنسينا أن نردَّها.
وأهدى عامل البصرة إلى مسروق ثلاثين ألفًا، فأبى أن يقبلها وكان أحوج الناس إليها. ولما ولي القضاء كان لا يأخذ عليه ورقًا.
وكان شُريح يستشيره، وهو لا يستشير شُريحًا.
وقام مسروق حتى انتفخت قدماه.
وقد حضر أبا بكر وعمر وعثمان. وروى عن جماعة من الصحابة. وشهد الحكمين.
قال: بحسب امرئ من الجهل أن يُعجب بعمله، وبحسب المرء من العلم أن يخشى اللَّه.
(1)
ما بين حاصرتين ليس في ب.
(2)
سير أعلام النبلاء (3/ 321) وفيه ثبت بأهم مصادر ترجمته.
(3)
سير أعلام النبلاء (2/ 576) وفيه ثبت بأهم مصادر ترجمته.
(4)
تحرف في أ، ط إلى: عبيد اللَّه، وهو مترجم في السير (2/ 377) وفيه ثبت بأهم مصادر ترجمته.
(5)
طبقات ابن سعد (6/ 76) طبقات خليفة (ت 1066) تاريخ خليفة (251) تاريخ البخاري الكبير (8/ 35) ثقات العجلي (426) المعارف (432) المعرفة والتاريخ (2/ 560) الجرح والتعديل (8/ 396) مشاهير علماء الأمصار (ت 746) حلية الأولياء (2/ 95) تاريخ بغد اد (13/ 232) طبقات الشيرازي (79) أنساب السمعاني (12/ 345) تاريخ ابن عساكر (16/ 207/ ب) أسد الغابة (5/ 156) تهذيب الأسماء واللغات (1/ 2/ 88) مختصر تاريخ دمشق (24/ 243) تهذيب الكمال (ورقة 1321) طبقات علماء الحديث (1/ 102) سير أعلام النبلاء (4/ 63) تاريخ الإسلام (3/ 75) تذكرة الحفاظ (1/ 49) العبر (1/ 68) الكاشف (3/ 120) غاية النهاية (2/ 294) الإصابة (10/ 25) تهذيب التهذيب (10/ 109) النجوم الزاهرة (1/ 161) طبقات الحفاظ (14) خلاصة الخزرجي (374) شذرات الذهب (1/ 285).
وقال: إذا بلغ أحدُكم أربعين سنة فليأخذ حِذره من اللَّه.
وقال: لو أتاني آتٍ من ربي عز وجل فأخبرني أنه يعذبني لاجتهدت في العبادة لئلّا ألوم نفسي إن دخلت جهنم، أما بلغك من قوله تعالى:{وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة: 2]، إنما لاموا أنفسهم حين صاروا إلى جهنم واعتنقتهم الزبانية، وحِيل بينهم وبين ما يشتهون، وانقطعت عنهم الأماني، ورُفعت عنهم الرحمة، وأقبل كل امرئٍ منهم يلوم نفسه.
قال الإمام أحمد: حج مسروق فلم ينم إلّا ساجدًا على وجهه حتى رجع. وكان يصلِّي حتى تورَّم قدماه.
وقال: إنّ أحسن ما أكون ظنًا بربي حين يقول الخادم: ليس في البيت قَفيز ولا درهم.
وقال: إن المرء لحقيق أن يكون له مجالس يخلو فيها يتذكر ذنوبه، فيستغفر اللَّه منها.
قال ابن مرثد: انتهى الزهد إلى ثمانية من التابعين منهم مسروق.
وقد قالت امرأة مسروق: ما كان يوجد إلّا وساقاه قد انتفختا من طول الصلاة.
ولما احتُضر بكى، فقيل له: ما هذا الجزع؟ فقال: ومالي لا أبكي وإنما هي هَدَّة ثم لا أدري أين يُسلك بي بين يدي طريقين لا أدري إلى الجنة أو إلى النار.
وكان صائمًا في يوم حار، فغُشي عليه، فقالت له ابنته: أفطِر، فقال لها: ما أردت بي؟ قالت: الرفق، قال: إنما أطلب الرفق لنفسي في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة]
(1)
.
ثم دخلت سنة أربع وستين
ففيها -في أول المحرم منها- سار مسلم بن عقبة إلى مكة قاصدًا قتال ابن الزبير ومن التف عليه من الأعراب على مخالفة يزيد بن معاوية، واستخلف على المدينة رَوْح بن زنباع، فلما بلغ ثنيَّة هَرْشى
(2)
بعث إلى رؤوس الأجناد فجمعهم فقال: إن أمير المؤمنين عهد إليَّ إن حدث بي حادث الموت أن أستخلف عليكم حُصين بن نمير السَّكوني، وواللَّه لو كان الأمر إليَّ ما فعلت. ثم دعا به فقال: انظر يا بن بردعة
(3)
الحمار فاحفظ ما أوصيك به، ثم أمره إذا وصل مكة أن يناجز ابن الزبير قبل ثلاث. ثم قال: اللهم إني لم أعمل عملًا قط -بعد شهادة أن لا إله إلا اللَّه وأن محمدًا رسول اللَّه- أحب إليَّ من قتل أهل
(1)
انفردت النسخة (أ) بهذه الترجمة، ولم يرد في ط، ب إلا اسم مسروق على أنه توفي في هذه السنة.
(2)
رسمت هذه اللفظة في الأصول وتاريخ الطبري (5/ 496): بالمد (هرشا). وقد قيدها ياقوت في معجمه (5/ 397) بالقصر (هرشى) وقال: هي ثنية في طريق مكة قريبة من الجُحْفة، يرى منها البحر.
(3)
البردعة -بالدال والذال- الحلس.
المدينة وأجزى عندي في الآخرة، وإن دخلت النار بعد ذلك إني لشقي. ثم مات -قبحه اللَّه- ودفن بالمُشَلَّل
(1)
(2)
.
وسار حُصين بن نمير بالجيش نحو مكة، فانتهى إليها لأربع بقين من المحرم -فيما قاله الواقدي- وقيل: لسبع مضين منه. وقد تلاحق بابن الزبير جماعات ممن بقي من أشراف المدينة، وانضاف إليه أيضًا نَجْدة بن عامر الحنفي -من أهل اليمامة- في طائفة من أهلها ليمنعوا البيت من أهل الشام. فنزل حُصين بن نمير ظاهر مكة، وخرج إليه ابن الزبير في أهل مكة ومن التف معه، فاقتتلوا ذلك اليوم قتالًا شديدًا، وتبارز المنذر بن الزبير ورجل من أهل الشام، فقتل كل واحد منهما صاحبه، وحمل أهل الشام على أهل مكة حملة صادقة، فانكشف أهل مكة، وعثرت بغلة عبد اللَّه بن الزبير به، فكرَّ عليه المِسْور بن مَخْرمة ومصعب بن عبد الرحمن بن عوف وطائفة، فقاتلوا دونه حتى قُتلوا جميعًا، وصابرهم ابن الزبير حتى الليل، فانصرفوا عنه، ثم اقتتلوا في بقية شهر المحرم وصفرًا بكماله، فلما كان يوم السبت ثالث ربيع الأول سنة أربع وستين نصبوا المجانيق على الكعبة ورمَوها بالنار، فاحترق جدار الكعبة في يوم السبت -هذا قول الواقدي- وهم يقولون:
خطّارة مثل الفَنِيق
(3)
المُزْبِدِ
…
تُرْمى بها جُدْران هذا المَسْجِدِ
وجعل عمرو بن حوطة السدوسي يقول:
كيفَ ترى صَنِيعَ أمِّ فَرْوَهْ
…
تأخُذُهمْ بينَ الصَّفا والمَرْوَه
(4)
وأمُ فروة: اسم المنجنيق.
وقيل: إنما احترقت لأن [أهل المسجد جعلوا يوقدون النار وهم حول الكعبة، فعلقت النار في بعض أستار الكعبة، فسرَت إلى أخشابها وسقوفها فاحترقت. وقيل: إنما احترقت لأن]
(5)
ابن الزبير سمع التكبير على بعض جبال مكة في ليلة ظلماء، فظن أنهم أهل الشام، فرُفعت نار على رمح لينظروا من هؤلاء الذين على الجبل، فأطارت الريح شَرَرَةً من رأس الرمح إلى ما بين الركن اليماني والأسود من
(1)
تحرفت في المطبوع إلى: المسلك. والمشلل كما في معجم ياقوت (5/ 136): جبل يهبط منه إلى قديد من ناحية البحر.
(2)
وجاء بعد هذا في ط: "ثم أتبعه اللَّه بيزيد بن معاوية فمات بعده في ربيع الأول لأربع عشرة ليلة خلت منه، فما متَّعهما اللَّه بشيء مما رجوه وأمَّلوه، بل قهرهم القاهر فوق عباده، وسلبهم الملك، ونزعه منهم من ينزع الملك ممن يشاء" وهو ليس في النسخ المعتمدة ومنها ب وم، وهو كلام مقحم.
(3)
تحرفت في أ، ط إلى: الفتيق وشرحها على ذلك محققو طبعة دار الكتب العلمية. "والفنيق": هو الفحل المكرَم من الإبل. اللسان (خطر، فنق).
(4)
الخبر والرجز في تاريخ الطبري (5/ 497 - 498) وأيضًا في ابن الأثير (4/ 123 - 124).
(5)
ما بين حاصرتين ليس في ب.
الكعبة، فعلقت في أستارها وأخشابها فاحترقت، واسودَّ الركنُ وانصدعَ في ثلاثة أمكنة منه.
واستمر الحصار إلى مستهل ربيع الآخر، وجاء النَّاسَ نعيُ يزيد بن معاوية، وأنه قد مات لأربع عشرة ليلة خلت من ربيع الأول سنة أربع وستين، وهو ابن خمس -أو ثمان أو تسع- وثلاثين سنة، فكانت ولايته ثلاث سنين وستة -أو ثمانية- أشهر، فغُلب أهل الشام هنالك وانقلبوا صاغرين، فحينئذ خمدت الحرب وطفئت نار الفتنة. ويقال: إنهم مكثوا يحاصرون ابن الزبير بعد موت يزيد نحو أربعين ليلة. ويذكر أن ابن الزبير علم بموت يزيد قبل أهل الشام، فنادى فيهم: يا أهل الشام! قد أهلك اللَّه طاغيتكم، فمن أحبَّ منكم أن يدخل فيما دخل فيه الناس فليفعل، ومن أحب أن يرجع إلى شامه فليرجع. فلم يصدِّق الشاميون أهل مكة فيما أخبروهم به، حتى جاء ثابت بن قيس بن القيقع
(1)
بالخبر اليقين.
ويذكر أن حُصين بن نمير دعاه ابن الزبير ليحدِّثه بين الصفَّين، فاجتمعا حتى اختلفت رؤوس فرسيهما، وجعلت فرس حصين تنفر ويكفُّها، فقال له ابن الزبير: مالك؟ فقال: إن الحمام تحت رجلي فرسي تأكل الروث فأكره أن أطأ حمام الحرم. فقال له: تفعل هذا وأنت تقتل المسلمين؟! فقال له حصين: فائذن لنا فلنطف بالكعبة ثم نرجع إلى بلادنا، فأذن لهم، فطافوا.
وذكر ابن جرير
(2)
: أن حصينًا وابن الزبير اتَّعدا ليلة أن يجتمعا، فاجتمعا بظاهر مكة، فقال له حصين: إن كان هذا الرجل قد هلك فأنت أحق الناس بهذا الأمر بعده، فهلمَّ فارحل معي إلى الشام، فواللَّه لا يختلف عليك اثنان. فيقال: إن ابن الزبير لم يثق منه بذلك، وأغلظ له في المقال، فنفر منه ابن نمير وقال: أنا أدعوه إلى الخلافة وهو يغلظ لي في المقال؟! ثم كرَّ بالجيش راجعًا إلى الشام، وقال: أعده بالملك ويتوعدني بالقتل؟! ثم ندم ابن الزبير على ما كان منه إليه من الغلظة، فبعث إليه يقول له: أما الشام فلستُ آتيه، ولكن خذ لي البيعة على من هنالك، فإني أؤمنكم، وأعدل فيكم. فبعث إليه يقول له: إن من يبتغينا من أهل هذا البيت بالشام لكثير. ورجع فاجتاز بالمدينة، فطمع فيه أهلها، وأهانوهم إهانة بالغة، وأكرمهم علي بن الحسين (زين العابدين) وأهدى لحصين بن نمير قَتًا
(3)
وعلفًا. وارتحلت بنو أمية مع الجيش إلى الشام، فوجدوا معاوية بن يزيد بن معاوية قد استُخلف مكان أبيه بدمشق عن وصية من أبيه له بذلك، واللَّه سبحانه أعلم.
(1)
كذا في الأصول. وفي تاريخ الطبري (5/ 501): المنقَع.
(2)
في تاريخه (5/ 502 - 503) مع اختلاف ببعض الألفاظ.
(3)
"القت": الفصفصة، وهي الرطبة من علف الدواب.
وهذه ترجمة يَزِيد بن مُعَاويَة
(1)
هو يزيد بن معاوية بن أبي سفيان صخر
(2)
بن حَرْب بن أميَّة بن عبد شمس، أمير المؤمنين، أبو خالد الأموي. ولد سنة خمس -أو ست، أو سبع- وعشرين، وبويع له بالخلافة في حياة أبيه أن يكون وليَّ العهد من بعده، ثم أكد ذلك بعد موت أبيه في النصف من رجب سنة ستين، فاستمرَّ متوليًا إلى أن توفي في الرابع عشر من ربيع الأول سنة أربع وستين. وأمه: مَيْسون بنت بَحْدَل
(3)
بن أُنيف بن دُلْجة بن قُنافة
(4)
بن عديّ بن زهير بن حارثة الكَلْبي.
روى عن أبيه معاوية: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بهِ خيرًا يُفقِّهْهُ في الدِّين"
(5)
. وحديثًا آخر في الوضوء.
وعنه ابنه خالد، وعبد الملك بن مروان.
وقد ذكره أبو زرعة الدمشقي في الطبقة التي تلي الصحابة -وهي العليا- وقال: له أحاديث.
وكان كثير اللحم، عظيم الجسم، كثير الشعر، جميلًا، طويلًا، ضخم الهامة، محدد الأصابع غليظها، مجدّرًا.
وكان أبوه قد طلَّق أمَّه وهي حامل به، فرأت في المنام أنه خرج منها قمر من قُبُلها، فقصَّت رؤياها على أمها، فقالت: إن صدقتْ رؤياك لتلدن من يُبايَع له بالخلافة.
وجلست أمُّه ميسون يومًا تمشطُه وهو صبيّ صغير، وأبوه مع زوجته الحظية عنده في المنظرة -وهي فاختة بنت قَرَظة- فلما فرغت من مَشْطه نظرت أمه إليه فأعجبها، فقبَّلت بين عينيه، فقال معاوية عند ذلك:
(1)
نسب قريش (127) المعارف (351) تاريخ اليعقوبي (2/ 215) الأخبار الطوال: (الفهرس) تاريخ الطبري (5/ 499) العقد الفريد: (الفهرس) مروج الذهب (3/ 63، 75) الأغاني (17/ 209) جمهرة الأنساب (103) تاريخ ابن عساكر (18/ 195/ آ) الكامل في التاريخ (4/ 125) منهاج السنة (2/ 237) مختصر تاريخ دمشق (28/ 18) تاريخ الإسلام (3/ 91) العبر (1/ 69) سير أعلام النبلاء (4/ 35) ميزان الاعتدال (4/ 440) فوات الوفيات (4/ 327) تهذيب التهذيب (11/ 360) لسان الميزان (6/ 293) تاريخ الخلفاء (325) القلائد الجوهرية (262) تاريخ الخميس (2/ 300) شذرات الذهب (1/ 286) رغبة الأمل (4/ 83 و 5/ 129).
(2)
في ط: "بن صخر"، خطأ.
(3)
تحرفت في المطبوع إلى: مخول.
(4)
في ط: "نفاثة"، وهو تحريف. ينظر نسب قريش (ص 127) وترجمة ميسون من تاريخ دمشق (70/ 130).
(5)
رواه ابن عساكر من طريق يزيد، وهو في مختصره (28/ 18) وهو في الصحيحين من غير طريقه، في البخاري رقم (71) ومسلم رقم (1037) ومن طرق أخرى عندهما.
إذا ماتَ لمْ تُفْلحْ مُزَيْنَةُ بعدَهُ
…
فَنُوطِي عليهِ يا مُزَينُ التَّمائِمَا
(1)
وانطلق يزيد يمشي وفاختة تُتبعه بصرها ثم قالت: لعن اللَّه سواد ساقي أمِّك. فقال معاوية: أما واللَّه إنه لخير من ابنك عبد اللَّه -وهو ولده منها، وكان أحمق- فقالت فاختة: لا واللَّه، ولكنك تؤثر هذا عليه، فقال: سوف أبيِّن لك ذلك حتى تعرفيه قبل أن تقومي من مجلسك هذا، ثم استدعى بابنها عبد اللَّه فقال له: إنه قد بدا لي أن أعطيَك كل ما تسألني في مجلسي هذا، فقال: حاجتي أن تشتري لي كلبًا فارهًا وحمارًا، فقال: يا بني! أنت حمار ويُشترى لك حمار؟! قم فاخرج. ثم قال لأمه: كيف رأيت؟! ثم استدعى بيزيد فقال: إني قد بدا لي أن أعطيَك كل ما تسألني في مجلسي هذا، فسلني ما بدا لك. فخرَّ يزيد ساجدًا ثم قال حين رفع رأسه: الحمد للَّه الذي بلغ أمير المؤمنين هذه المدة وأراه فيَّ هذا الرأي، حاجتي أن تعقد لي العهد من بعدك، وتولِّيني العام صائفة المسلمين، وتأذن لي في الحج إذا رجعت، وتولِّيني الموسم، وتزيد أهل الشام عشرة دنانير لكل رجل في عطائه، وتجعل ذلك بشفاعتي، وتفرض لأيتام بني جُمح، وأيتام بني سهم، وأيتام بني عدي. فقال: مالك ولأيتام بني عدي؟ فقال: لأنهم حالفوني وانتقلوا إلى داري. فقال معاوية: قد فعلتُ ذلك كلَّه. وقبَّل وجهه ثم قال لفاختة بنت قَرَظة: كيف رأيت؟! فقالت: يا أمير المؤمنين! أوصِه بي فأنت أعلم به مني. ففعل.
وفي رواية: أن يزيد لما قال له أبوه: سلني حاجتك، قال له يزيد: اعتقني من النار أعتق اللَّه رقبتك منها، قال: وكيف؟ قال: إني وجدت في الأثر أنه "مَنْ تقلَّد أمرَ هذهِ الأمَّة ثلاثةَ أيام حرَّمهُ اللَّهُ على النار" فاعهد إليَّ من بعدك. ففعل
(2)
.
وقال العتبي: رأى معاوية ابنه يزيد يضرب غلامًا له، فقال له: اعلم أنَّ اللَّه أقدرُ عليك منك عليه، سوءة لك! أتضرب من لا يستطيع أن يمتنع عليك؟ واللَّه لقد منعَتْني القدرة من الانتقام من ذوي الإحَن، وإنَّ أحق من عفا لمن قدر.
قلت: وقد ثبت في الصحيح: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رأى أبا مسعود يضرب غلامًا له، فقال:"اعلمْ أبا مَسْعودٍ للَّهُ أَقدرُ عليكَ منكَ علَيه"
(3)
.
قال العتبي: وقدم زياد بأموال كثيرة وبسفط مملوءٍ جواهر على معاوية، فسُرَّ بذلك معاوية، فقام
(1)
البيت في نسب قريش (127) والأغاني (17/ 211) ومختصر تاريخ دمشق (28/ 19) واللسان مادة (تمم).
(2)
الخبر بطوله في تاريخ ابن عساكر مختصره (28/ 20 - 21).
(3)
أخرجه أحمد في مسنده (4/ 120) ومسلم (1659) في الأيمان: باب صحبة المماليك وكفارة من لطم عبده، وأبو داود (5160) في الأدب: باب في حق المملوك، والترمذي (1948) في البر والصلة: باب النهي عن ضرب الخدم وشتمهم.
زياد فصعد المنبر ثم افتخر بما يفعله بأرض العراق من تمهيد الممالك لمعاوية، فقام يزيد فقال: إن تفعل ذلك -يا زياد- فنحن نقلناك من ولاء ثقيف إلى قريش، ومن القلم إلى المنابر، ومن زياد بن عُبيد إلى حرب بن أميَّة. فقال له معاوية: اجلس فداك أبي وأمي.
وعن عطاء بن السائب قال: غضب معاوية على ابنه يزيد، فهجره، فقال له الأحنف بن قيس: يا أمير المؤمنين! إنما هم أولادنا، ثمارُ قلوبنا، وعمادُ ظهورنا، ونحن لهم سماء ظليلة، وأرض ذليلة، إن غضبوا فأرضِهم، وإن طلبوا فأعطهِم، ولا تكن عليهم ثقلًا فيملُّوا حياتك ويتمنَّوا موتك. فقال معاوية: للَّه درُّك يا أبا بحر! يا غلام ائت يزيد فأقره مني السلام وقل له: إن أمير المؤمنين قد أمر لك بمئة ألف درهم ومئة ثوب. فقال يزيد: من عند أمير المؤمنين؟ فقال: الأحنف، فقال يزيد: لا جرم لأُقاسمنَّه! فبعث إلى الأحنف بخمسين ألفًا وخمسين ثوبًا
(1)
.
وقال الطبراني: حدّثنا محمد بن زكريّا الغَلَابي، حدّثنا ابنُ عائشة، عن أبيه قال: كان يزيدُ في حداثته صاحبَ شراب، يأخذ مأخذ الأحداث، فأحسَّ معاويةُ بذلك، فأحس أن يعظَه في رفق، فقال: يا بني! ما أقدركَ على أن تصلَ إلى حاجتك من غير تهتُك يذهب بمروءتك وقدرك، ويشمت بك عدؤك، ويسيء بك صديقك. ثم قال: يا بنيّ! إني منشدُك أبياتًا فتأدَّبْ بها واحفظْها! فأنشَدَه:
انصَبْ نهارًا في طِلَابِ العُلا
…
واصبِرْ على هَجْرِ الحَبيبِ القَرِيب
حتَّى إذا اللَّيلُ أَتى بالدُّجى
…
واكتحلَتْ بالغُمضِ عينُ الرَّقِيب
فباشِرِ اللَّيلَ بما تَشْتَهي
…
فإنَّما اللَّيلُ نهارُ الأَرِيب
كمْ فاسِقٍ تحسبُهُ ناسِكًا
…
قد باشَرَ القَيلَ بأمرٍ عَجِيب
غَطَّى عليهِ اللَّيلُ أسْتارَهُ
…
فباتَ في أَمنٍ وعيشٍ خَصِيب
ولذَّةُ الأَحمقِ مكشُوفَةٌ
…
يسْعى بها كلُّ عدوٍّ مُرِيب
(2)
قلت: وهذا كما جاء في الحديث: "مَن ابتُليَ بشيءٍ من هذِه القاذوراتِ فليسْتَتِرْ بسِتر اللَّهِ عز وجل"
(3)
.
(1)
مختصر تاريخ دمشق (28/ 22) وقد أورده صاحب العقد الفريد (2/ 437) وفيه: أنه أمر له بمئتي ألف درهم ومئتي ثوب، فبعث يزيد إلى الأحنف بمئة ألف ومئة ثوب - شاطره إياها.
(2)
الخبر والأبيات في مختصر تاريخ دمشق (28/ 22 - 23).
(3)
أخرجه الطحاوي في شرح المشكل (91) و (92)، والحاكم (4/ 244) و (383)، والبيهقي في السنن الكبرى (8/ 330) بإسناد قوي. ورواه مالك في الموطأ (2386) برواية الليثي بتحقيق الدكتور بشار عن زيد بن أسلم مرسلًا.
وروى [الواقدي و]
(1)
المدائني: أن ابن عباس وفد إلى معاوية، فأمر معاوية ابنه يزيد أن يأتيَه فيعزِّيه في الحسن بن علي، فلما دخل على ابن عباس رحَّب به وأكرمه، وجلس عنده بين يديه، فأراد ابن عباس أن يرفع مجلسه، فأبى وقال: إنما أجلس مجلس المعزِّي لا المهنِّئ، ثم ذكر الحسن فقال: رحم اللَّه أبا محمد أوسع الرحمة وأفسحها، وأعظم اللَّه أجرك وأحسن عزاك، وعوَّضك من مصابك ما هو خير لك ثوابًا وخير عقبى. فلما نهض يزيد من عنده قال ابن عباس: إذا ذهب بنو حرب ذهب حلماء
(2)
الناس. ثم أنشد متمثلًا:
مَغَاضٍ عن العَوْراء لا يَنْطقونَها
…
وأهلُ وراثاتِ الحُلومِ الأَوائل
(3)
وقد كان يزيد أول من غزا مدينة فُسْطنطينية في سنة تسع وأربعين - في قول يعقوب بن سفيان. وقال خليفة بن خياط
(4)
: سنة خمسين. ثم حج بالناس في تلك السنة بعد مرجعه من هذه الغزوة من أرض الروم. وقد ثبت في الحديث: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "أولُ جيشٍ يَغْزُو مدينةَ قَيْصَر مغفورٌ لهم"
(5)
. وهو الجيش الثاني الذي رآه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في منامه عند أمِّ حرام، فقالت: ادع اللَّه أن يجعلني منهم، فقال:"أنتِ منَ الأوَّلين". يعني: جيش معاوية حين غزا قبرص ففتحها في سنة سبع وعشرين أيام عثمان بن عفان، وكانت معهم أمُّ حرام فماتت هنالك بقبرص، ثم كان أمير الجيش الثاني ابنه يزيد بن معاوية، ولم تدرك أمُّ حرام جيش يزيد هذا. وهذا من أعظم دلائل النبوة.
وقد أورد الحافظ ابن عساكر هاهنا الحديث الذي رواه محاضر، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن
(6)
عَبِيدة، عن عبد اللَّه: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "خيرُ النّاسِ قَرني، ثمَّ الذينَ يلُونَهُمْ، ثمَّ الذينَ يلُونَهُمْ"
(7)
.
وكذلك رواه عبد اللَّه بن شَقيق
(8)
، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.
(1)
سقط من المطبوع.
(2)
كذا في ب ومثله في مختصر تاريخ دمشق. والذي في أ، ط: علماء.
(3)
الخبر والبيت في مختصر تاريخ دمشق (28/ 23).
(4)
في تاريخه (ص 211).
(5)
أخرجه البخاري في الجهاد: 93 برقم (2924). وقد تقدم في أول هذا الجزء.
(6)
تحرفت في أ، ط إلى: بن.
(7)
تمامه: "ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته". وقد أخرجه البخاري: من طريق أخرى عن الأعمش رقم (6429)، ومسلم (2533) من طريق أخرى عن منصور في فضائل الصحابة.
(8)
تحرف في المطبوع إلى: شفيق.
ثم أورد من طريق حمّاد بن سلمة، عن أبي محمد، عن زُرارة بن أوفى قال: القرن عشرون ومئة سنة، فبُعث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في قرن وكان آخره موت يزيد بن معاوية.
قال أبو بكر بن عياش: حج بالناس يزيد بن معاوية سنة إحدى وخمسين، واثنتين وخمسين، وثلاث وخمسين.
وقال ابن أبي الدنيا: حدّثنا أبو كُريب، حدّثنا رشدين [عن] عمرو بن الحارث، عن بُكير
(1)
بن الأَشَج: أن معاوية قال ليزيد: كيف تراك فاعلًا إن وليت؟ قال: يمتع اللَّه بك يا أمير المؤمنين! قال: لتخبرني، قال: كنتُ -واللَّه يا أبة- عاملًا فيهم عمل عمر بن الخطاب. فقال معاوية: سبحان اللَّه يا بني! واللَّه لقد جهدتُ على سيرة عثمان بن عفان فما أطقتها، فكيف بك وسيرة عمر
(2)
؟!
وقال الواقدي: حدّثني أبو بكر بن عبد اللَّه بن أبي سَبْرَة، عن مروان بن أبي سعيد بن المعلَّى قال: قال معاوية ليزيد وهو يوصيه عند الموت: يا يزيد! اتقِ اللَّه فقد وطَّأتُ لك هذا الأمر، ووليت من ذلك ما وليت، فإن يك خيرًا فأنا أسعد به، وإن كان غير ذلك شقيت به، فارفُق بالناس، وأغمض عما بلغك من قول تؤذى به وتنتقص به، وطَأْ عليه يهنك عيشُك، وتصلح لك رعيتُك، وإياك والمناقشةَ وحملَ الغضب، فإنك تهلك نفسك ورعيَّتك، وإياك وجفوة
(3)
أهل الشرف واستهانتهم والتكبُّر عليهم، ولِنْ لهم لينًا لا يري منك ضعفًا ولا خَوَرًا، وأوطئهم فراشَك، وقربهم إليك، وأدنِهم منك، فإنهم يعلمون لك حقَّك، ولا تُهنهم ولا تستخفَّ بحقهم فيهينوك ويستخفُوا بحقك ويقعوا فيك. فإذا أردتَ أمرًا فادع أهل السِّنِّ والتجربة من أهل الخير من المشايخ وأهل التقوى، فشاورْهم ولا تخالفهم. وإياك والاستبدادَ برأيك، فإن الرأي ليس في صدر واحد، وصدِّقْ من أشار عليك إذا حملك على ما تعرف، واخزُن ذلك عن نسائك وخدمك، وشمِّر إزارك، وتعاهد جندَك، وأصلح نفسك يصلُحْ لك الناس، لا تدع لهم فيك مقالًا، فإن الناس سراع إلى الشرّ. واحضُر الصلاة، فإنك إذا فعلتَ ما أوصيك به عرف الناس لك حقَّك، وعظمتْ مملكتُك، وعظمتَ في أعين الناس. واعرف شرف أهل المدينة ومكة، فإنهم أصلُك وعشيرتُك. واحفظ لأهل الشام شرفهم، فإنهم [أنصارُك وحُماتُك وجندُك الذين بهم تصل إلى]
(4)
أهل طاعتك. واكتب إلى أهل الأمصار بكتاب تعِدُهم فيه منك بالمعروف، فإن ذلك يبسط آمالهم. وإن وفد عليك وافد من الكُوَر كلها فأحسِن إليهم، وأكرمهم فإنهم
(1)
في المطبوع: عن أبي بكير وفي ب عن بكر وكلاهما خطأ. وبكير بن الأشج: هو بكير بن عبد اللَّه بن الأشج القرشي. من رجال التهذيب.
(2)
مختصر تاريخ دمشق (28/ 25).
(3)
تحرفت في المطبوع إلى: خيرة.
(4)
سقط من ط.
لمن وراءهم. ولا تسمعن قول قاذف ولا ما حل
(1)
، فإني رأيتهم وزراء سَوء
(2)
.
ومن وجه آخر: أن معاوية قال ليزيد: إن لي خليلًا من أهل المدينة فأكرمه، قال: ومن هو؟ قال: عبد اللَّه بن جعفر. فلمَّا وفد بعد موت معاوية على يزيد أضعف جائزته التي كان معاوية يعطيه إياها، وكانت جائزته على معاوية ستمئة ألف، فأعطاه يزيد ألف ألف، فقال له: بأبي أنت وأمي، فأعطاه ألف ألف أخرى، فقال له ابن جعفر: واللَّه لا أجمع أبويَّ لأحد بعدك. ولمّا خرج ابن جعفر من عند يزيد -وقد أعطاه ألفي ألف- رأى على باب يزيد بَخَاتيَّ
(3)
مبركات قد قدم عليها هدية من خراسان، فرجع عبد اللَّه بن جعفر إلى يزيد، فسأله منها ثلاث بَخاتي ليركب عليها إلى الحج والعمرة وإذا وفد إليه، فقال يزيد للحاجب: ما هذه البَخاتي التي على الباب؟ -ولم يكن شعر بها- فقال: يا أمير المؤمنين! هي أربعمئة بُخْتيَّة جاءتنا من خراسان تحمل أنواع الألطاف -وكان عليها أنواع من الأموال كلها- فقال: اصرِفْها إلى أبي جعفر بما عليها. فكان عبد اللَّه بن جعفر يقول: أتلومونني على حسن الرأي في هذا؟! يعني: يزيد
(4)
.
وقد كان يزيد فيه خصال محمودة من الكرم والحِلْم والفصاحة والشعر والشجاعة وحسن الرأي في الملك. وكان ذا جمال، حسن المعاشرة. وكان فيه أيضًا إقبال على الشهوات وترك بعض الصلوات في بعض الأوقات.
وقد قال الإمام أحمد: حدّثنا أبو عبد الرحمن، حدّثنا حَيْوَة، حدّثني بشير بن أبي عمرو الخَوْلاني: أن الوليد بن قيس حدَّثه: أنه سمع أبا سعيد الخُدْري يقول: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "يكونُ خلفٌ من بعدِ ستِّينَ سنةً أضاعُوا الصَّلاةَ واتَّبعُوا الشَّهواتِ فسوفَ يلْقَوْنَ غَيًّا
(5)
، ثم يكون خلفٌ يقرؤُونَ القرآنَ لا يُجاوِزُ تراقِيَهُمْ. ويقرأُ القرآنَ ثلاثة: مؤمنٌ، ومنافقٌ، وفاجرٌ". [قال بشير]
(6)
: فقلت للوليد: ما هؤلاء الثلاثة؟ فقال: المنافقُ كافرٌ به، والفاجرُ يتأكَّلُ به، والمؤمنُ يؤمنُ به. تفرَّد به أحمد
(7)
.
(1)
"الماحل": الماكر.
(2)
مختصر تاريخ دمشق (28/ 26).
(3)
"البخاتي": جمال طوال الأعناق خراسانية. يقال: جمل بُختي، وناقة بُختية.
(4)
مختصر تاريخ دمشق (28/ 26 - 27).
(5)
وقعت هذه اللفظة في المطبوع: عيًا ثم شرحها محققو طبعة دار الكتب العلمية بقولهم: عيًا: كللًا وتعبًا وضلال.
قلت: لا يخفى على متعلم أن لفظ هذه العبارة متفق مع الآية 59 من سورة مريم، وقد قال المفسرون:"الغي": وادلا -أو نهر- في جهنم أعده اللَّه للغاوين. كما قيل: معناه: فسوف يلقون مجازاة غيهم. اللسان: مادة (غوي).
(6)
سقط من المطبوع.
(7)
وهو في مسنده (3/ 38 - 39) وأخرجه ابن حبان رقم (755) والحاكم (2/ 374) وهو حديث حسن.
وقال الحافظ أبو يعلى: حدّثنا زهير بن حرب، حدّثنا الفضل بن دُكين، حدّثنا كامل أبو العلاء، سمعت أبا صالح، سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "تعوَّذُوا باللَّهِ من سنةِ سَبْعين، ومن إمارَةِ الصِّبْيان"
(1)
.
وروى الزبير بن بكار، عن عبد الرحمن بن سعيد بن زيد بن عمرو بن نُفيل: أنه قال في يزيد بن معاوية:
لستَ منَّا وليسَ خالُكَ منّا
…
يا مُضِيعَ الصَّلاةِ للشَّهَواتِ
(2)
قال: وزعم بعض الناس أن هذا الشعر لموسى بن يسار، ويعرف بموسى شهوات.
وروي عن عبد اللَّه بن الزبير: أنه سمع جارية له تغني بهذا البيت، فضربها وقال: قولي:
أنتَ منَّا وليسَ خالُكَ منّا
…
يا مُضِيعَ الصَّلاةِ للشَّهَواتِ
وقال الحافظ أبو يعلى: حدّثنا الحكم بن موسى، حدّثنا يحيى بن حمزة، عن هشام بن الغاز، عن مكحول، عن أبي عبيدة: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "لا يزال أمرُ أمَّتي قائمًا بالقسط حتى يثلِمَه رجل من بني أميَّة يقال له: يزيد". وهذا منقطع بين مكحول وأبي عبيدة، بل معضل.
وقد رواه ابن عساكر من طريق صَدَقة بن عبد اللَّه الدمشقي، عن هشام بن الغاز، عن مكحول، عن أبي ثعلبة الخُشني، عن أبي عبيدة، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"لا يزالُ أمرُ هذه الأمَّة قائمًا بالقسط حتى يكون أول من يثلِمُه رجل من بني أميَّة يقال له: يزيد". ثم قال: وهو منقطع أيضًا بين مكحول وأبي ثعلبة.
وقال أبو يعلى: حدّثنا عثمان بن أبي شَيبة، حدّثنا معاوية بن هشام، عن سفيان، عن عوف، عن خالد بن أبي المهاجر، عن أبي العالية قال: كنّا مع أبي ذرٍّ بالشام، فقال أبو ذرّ: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "أولُ من يغيِّر سنَتي رجلٌ من بني أميَّة".
ورواه ابن خزيمة، عن بُنْدار، عن عبد الوهاب بن عبد المجيد، عن عوف: حدّثنا مهاجر بن أبي مخلد، حدَّثني أبو العالية، حدّثني أبو مسلم، عن أبي ذرّ. . فذكر نحوه. وفيه قصة وهي: أن أبا ذرٍّ كان في غزاة عليهم يزيدُ بن أبي سفيان، فاغتصب يزيدُ من رجل جارية، فاستعان الرجل بأبىِ ذرٍّ على يزيد أن يردَّها عليه، فأمره أبو ذرٍّ أن يردَّها عليه، فتلكَّأ، فذكر أبو ذرٍّ له الحديث، فردَّها، وقال يزيد لأبي ذرّ: نشدتك باللَّه أهو أنا؟ قال: لا.
(1)
ورواه أحمد في المسند (2/ 326) وإسناده ضعيف.
(2)
البيت مع بيت آخر في الأخبار الطوال (ص 265).
وكذا رواه البخاري في "التاريخ"، وأبو يعلى عن محمد بن المثنى، عن عبد الوهاب. ثم قال البخاري: والحديث معلول، ولا يعرف أن أبا ذر قدم الشام زمن عمر بن الخطاب. قال: وقد مات يزيد بن أبي سفيان زمن عمر، فولَّى مكانه أخاه معاوية. وقال عباس الدوري: سألت ابن مَعين: أسمع أبو العالية من أبي ذر؟ قال: لا، إنما يروي عن أبي مسلم عنه، قلت: فمن أبو مسلم هذا؟ قال: لا أدري.
وقد أورد ابن عساكر أحاديث في ذم يزيد بن معاوية كلُّها موضوعة لا يصح شيء منها، وأجود ما ورد ما ذكرناه على ضعف أسانيده وانقطاع بعضه، واللَّه أعلم.
قال الحارث بن مسكين: عن سفيان، عن شَبيب بن غَرْقدة، عن المستظل
(1)
قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: قد علمتُ -وربِّ الكعبة- متى تهلكُ العرب، إذا ساسَهم من لم يدرك الجاهليَّة ولم يكن له قدم في الإسلام.
قلت: يزيد بن معاوية أكثر ما نُقم عليه في عمله شربُ الخمر وإتيان بعض الفواحش، فأما قتل الحسين فإنه -كما قال جده أبو سفيان يوم أحد- لم يأمر بذلك ولم يسؤه. وقد قدَّمنا أنه قال: لو كنت أنا لم أفعل معه ما فعله ابن مَرْجانة -يعني: عبيد اللَّه بن زياد- وقال للرسل الذين جاؤوا برأسه: قد كان يكفيكم من الطاعة دون هذا. ولم يعطهم شيئًا، وأكرم آل بيت الحسين، وردَّ عليهم جميع ما فُقد لهم وأضعافه، وردَّهم إلى المدينة في محامل وأُبهة عظيمة، وقد ناح أهله في منزله على الحسين -حين كان أهل الحسين عندهم- ثلاثة أيام. وقد قيل: إن يزيد فرح بقتل الحسين أول ما بلغه، ثم ندم على ذلك. فقال أبو عبيدة مَعْمر بن المثنى: إن يونس بن حبيب الجَرْمي حدثه قال: لما قتل ابن زياد الحسين ومن معه بعث برؤوسهم إلى يزيد، فسُرَّ بقتلهم أولًا، وحسنت بذلك منزلة ابن زياد عنده، ثم لم يلبث إلا قليلًا حتى ندم، فكان يقول: وما كان عليَّ لو احتملتُ الأذى وأنزلته في داري، وحكمته فيما يريده، وإن كان عليَّ في ذلك وَكَف
(2)
ووهن في سلطاني حفظًا لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ورعايةً لحقِّه وقرابته؟! ثم يقول: لعن اللَّه ابن مَرْجانة، فإنه أحرجه واضطرَّه، وقد كان سأله أن يخلي سبيله، أو يأتيني، أو يكون بثغر من ثغور المسلمين حتى يتوفاه اللَّه، فلم يفعل، بل أبى عليه وقتله، فبغَّضني بقتله إلى المسلمين، وزرع لي في قلوبهم العداوة، فأبغضني البَرُّ والفاجر بما استعظم الناس من قتلي حسينًا. مالي ولابن مَرْجانة؟! لعنه اللَّه وغضب عليه.
(1)
تحرف هذا السند في الأصول إلى:. . . عن شبيب، عن عرقدة بن المستظل. الجرح والتعديل (4/ 357) و (8/ 429)، وتهذيب الكمال (12/ 370).
(2)
"الوكف": الإثم.
ولما خرج أهل المدينة عن طاعة يزيد وخلعوه وولَّوا عليهم ابن مطيع وابن حنظلة، لم يذكروا عنه -وهم أشد الناس عداوة له- إلا ما ذكروه عنه من شربه الخمر وإتيانه بعض القاذورات. لم يتَّهموه بزندقة كما يقذفه بذلك بعض الروافض، بل قد كان فاسقًا، والفاسق لا يجوز خلعه لأجل ما يثور بسبب ذلك من الفتنة [ووقوع الهَرْج كما وقع زمن الحرَّة، فإنه بعث إليهم من يردهم إلى الطاعة، وأنظرَهم ثلاثة أيام، فلما لم يرجعوا قاتلهم]
(1)
. وقد كان في قتال أهل الحرَّة كفاية، ولكنه تجاوز الحدَّ بإباحة المدينة ثلاثة أيام، فوقع بسبب ذلك شرٌّ عظيم كما قدَّمنا.
وقد كان عبد اللَّه بن عمر بن الخطاب وجماعات من أهل بيت النبوة ممن لم ينقض العهد، ولا بايع أحدًا بعد بيعته ليزيد. قال الإمام أحمد
(2)
: حدّثنا إسماعيل بن عليَّة، حدّثني صخر بن جويرية، عن نافع قال: لما خلع الناس يزيد بن معاوية جمع ابنُ عمر بنيه وأهلَه، ثم تشهَّد، ثم قال: أما بعد، فإنا قد بايعنا هذا الرجل على بيع اللَّه ورسوله، وإني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول:"إنَّ الغادرَ يُنْصَبُ لهُ لواءٌ يومَ القيامةِ يُقال: هذه غَدْرَةُ فلان" وإن من أعظم الغدر -إلا أن يكون الإشراك باللَّه- أن يبايعَ رجلٌ رجلًا على بيع اللَّه ورسوله ثم ينكثَ بيعتَه، فلا يخلعن أحدٌ منكم يزيد، ولا يسرفن أحدٌ منكم في هذا الأمر فيكون الصَّيْلَم
(3)
بيني وبينه.
وقد رواه
(4)
مسلم
(5)
والترمذي
(6)
من حديث صخر بن جُويرية. وقال الترمذي: حسن صحيح.
وقد رواه أبو الحسن علي بن محمد بن عبد اللَّه بن أبي سيف المدائني، عن صخر بن جُويرية، عن نافع، عن ابن عمر. . فذكر مثلا
(7)
.
ولما رجع أهل المدينة من عند يزيد مشى عبد اللَّه بن مطيع وأصحابه إلى محمد ابن الحنفيَّة، فأرادوه
(1)
ما بين حاصرتين ليس في أ.
(2)
مسند أحمد (2/ 48).
(3)
كذا وردت هذه اللفظة في أ، ب، وهي كذلك في مسند أحمد. ووقعت في المطبوع: الفيصل ثم شرحها محققو طبعة دار الكتب العلمية بقولهم: الفيصل: من أسماء السيف.
قلت: كلا اللفظين -الفيصل والصيلم- بمعنى واحد، وهو القطيعة التامة أو المنكرة، كما شرحه ابن الأثير في النهاية (3/ 49، 452).
(4)
يعني متن الحديث الوارد خلال كلام نافع.
(5)
برقم (1735) في الجهاد والسير: باب تحريم الغدر.
(6)
برقم (1581) في السير: باب ما جاء أن لكل غادر لواء يوم القيامة ورواه البخاري رقم (7111) من طريق أيوب عن نافع به.
(7)
ورد في هامش النسخة أ ما نصه: ورواه البخاري في كتاب الفتن (7111) عن سليمان بن حرب، عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع. . . بنحوه.
على خلع يزيد، فأبى عليهم، فقال ابن مطيع: إن يزيد يشرب الخمر، ويترك الصلاة، ويتعدَّى حكم الكتاب. فقال لهم: ما رأيت منه ما تذكرون، وقد حضرته وأقمت عنده فرأيته مواظبًا على الصلاة، متحرِّيًا للخير، يسأل عن الفقه، ملازمًا للسنة. قالوا: فإن ذلك كان منه تصنُّعًا لك. فقال: وما الذي خاف مني أو رجا حتى يظهر لي الخشوع؟ أفأطلعكم على ما تذكرون من شرب الخمر؟ فلئن كان أطلعكم على ذلك إنكم لشركاؤه، وإن لم يكن أطلعكم فما يحل لكم أن تشهدوا بما لم تعلموا. قالوا: إنه عندنا لحق وإن لم نكن رأيناه. فقال لهم: أبى اللَّه ذلك على أهل الشهادة فقال: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُون} [الزخرف: 86] ولست من أمركم في شيء. قالوا: فلعلك تكره أن يتولى الأمر غيرك، فنحن نوليك أمرنا. قال: ما أستحلُّ القتال على ما تريدونني عليه تابعًا ولا متبوعًا. قالوا: قد قاتلت مع أبيك! قال: جيئوني بمثل أبي أقاتل على مثل ما قاتل عليه. فقالوا: فمر ابنيك أبا هاشم
(1)
والقاسم بالقتال معنا. قال: لو أمرتهما قاتلت. قالوا: فقم معنا مقامًا تحضُّ الناس فيه على القتال. قال: سبحان اللَّه! آمر الناس بما لا أفعله ولا أرضاه؟! إذًا ما نصحت للَّه في عباده. قالوا: إذًا نكرهك. قال: إذًا آمر الناس بتقوى اللَّه، وألا يُرضوا المخلوق بسخط الخالق. وخرج إلى مكة.
وقال أبو القاسم البغوي: حدّثنا مصعب الزّبيري، حدّثنا ابن أبي حازم، عن هشام، عن زيد بن أسلم، عن أبيه: أن ابن عمر دخل -وهو معه- على ابن مطيع، فلما دخل عليه قال: مرحبًا بأبي عبد الرحمن، ضعوا له وسادة. فقال: إنما جئتك لأحدِّثك حديثًا سمعته من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "مَنْ نَزَعَ يَدًا مِنْ طاعةٍ فإنَّهُ يأتي يومَ القيامَةِ لا حُجَّةَ له، ومَنْ مَاتَ مُفارقَ الجماعةِ فإنَّهُ يموتُ ميتَةً جاهليَّة".
وهكذا رواه مسلم
(2)
من حديث هشام بن سعد، عن زيد، عن أبيه، عن ابن عمر به. وتابعه إسحاق بن عبد اللَّه بن أبي طلحة، عن زيد بن أسلم، عن أبيه.
وقد رواه الليث، عن محمد بن عجلان، عن زيد بن أسلم، عن ابن عمر. . . فذكره.
وقال أبو جعفر الباقر: لم يخرج أحدٌ من آل أبي طالب ولا من بني عبد المطلب أيام الحرَّة، ولما قدم مسلم بن عقبة المدينة أكرم أبي، وأدنى مجلسه، وأعطاه كتاب أمان.
وروى المدائني: أن مسلم بن عقبة بعث رَوْح بن زنباع إلى يزيد ببثارة الحرَّة، فلما أخبره بما وقع قال: واقوماه، ثم دعا الضحاك بن قيس الفِهْري فقال له: ترى ما لقي أهل المدينة، فما الذي يجبرهم؟ قال: الطعام والأعطية، فأمر بحمل الطعام إليهم، وأفاض عليهم أعطيته.
(1)
وقع في أ، ط: أبا القاسم وهو خطأ.
(2)
برقم (1851)(58) في الإمارة: باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين.
وهذا خلاف ما ذكره كذَبة الروافض عنه من أنه شَمِت بهم، واشتفى بقتلهم، وأنه أنشد ذاكرًا وآثرًا ابن الزِّبعرى المتقدم ذكره.
وقال أبو بكر محمد بن خلف بن المَرْزبان بن بسام: حدّثني محمد بن القاسم، سمعت الأصمعي يقول: سمعت هارون الرشيد ينشد ليزيد بن معاوية:
إنَّها بينَ عامرِ بنِ لُؤَيٍّ
…
حينَ تَنْمي وبينَ عبدِ مَنَافِ
ولهَا في الطَّيِّبينَ جدودٌ
…
ثمَّ نالتْ مكارمَ الأخلافِ
بنت عمِّ النَّبيِّ أكرم مَنْ يَمـ
…
ــشي بنعلٍ على التُّرابِ وحافي
لَنْ تراها علَى التبدُّلِ والغِلـ
…
ـــظةِ إلَّا كَدُرَّةِ الأَصْدافِ
وقال الزبير بن بكار: أنشدني عمي مصعب ليزيد بن معاوية بن أبي سفيان:
آبَ هذا الهمُ فاكْتَنَعَا
(1)
…
ثمَّ مرَّ النَّومُ فامْتَنَعَا
راعِيًا للنَّجم أَرْقُبُهُ
…
فإذَا ما كوكبٌ طَلَعا
حامَ حتَّى إنَّني لأَرى
…
أنَّهُ بالغَوْرِ قَدْ وَقَعا
ولهَا بالماطِرونِ
(2)
إذا
…
أكلَ النَّملُ الذي جَمَعا
نُزْهَةٌ حتَّى إذا بَلَغَتْ
…
نَزَلَتْ من جِلِّقٍ
(3)
بِيَعَا
في قبابٍ وَسْطَ دَسْكَرَةٍ
(4)
…
حولَها الزيتونُ قد يَنَعا
(5)
[ومن شعره:
وقائلةٍ لي حينَ شبَّهْتُ وجهَها
…
ببدر الدُّجى يومًا وقد ضاقَ مَنْهَجي
تُشبِّهُني بالبدرِ هذا تناقصٌ
…
بقَدْري ولكنْ لستُ أوَّلَ مَنْ هُجي
ألمْ تَرَ أنَّ البدرَ عند كمالِهِ
…
إذا بلغَ التَّشبيه عادَ كدُمْلجي
(6)
(1)
تحرفت هذه اللفظة في المطبوع إلى: فاكتنفا وشرحها محققو طبعة دار الكتب العلمية على ذلك.
قلت: البيت من شواهد اللسان: مادة (كنع). وقوله: اكتنع، يعني: حضر.
(2)
تحرفت في المطبوع إلى: بالمطارونَ وقال محققو طبعة دار الكتب العلمية: المطارون: موضع بالشام.
قلت: ليس هنالك موضع اسمه المطارون، لكن الصحيح ما أثبتناه في النسختين أ وب، وقد أورده ياقوت في معجمه (5/ 42) وقال: موضع بالشام قرب دمشق، ومن شروطه أن يلزم الواو وتعرب نونه. ثم ذكر الأبيات.
(3)
تحرفت في المطبوع إلى: خلق.
(4)
"الدسكرة": بناء كالقصر حوله بيوت للأعاجم يكون فيها الراب والملاهي.
(5)
الأبيات في تاريخ الخلفاء للسيوطي (ص 332) وقد أورد الجَريري ثلاثة منها في الجليس الصالح (1/ 278).
(6)
"الدملج": العقد.
فلا فخرَ إنْ شبَّهْتَ بالبدرِ مَبْسَمي
…
وبالسِّحرِ أَجْفاني وباللَّيلِ مَدْعجي]
(1)
وقد ذكر الزبير بن بكار، عن أبي محمد الجزري قال: كانت بالمدينة جارية مغنِّية يقال لها سلّامة، من أحسن النساء وجهًا، وأتمهنَّ عقلًا، وأحسنهنَّ قدًّا، قد قرأت القرآن، وروت الشعر وقالته، وكان عبد الرحمن بن حسان والأحوص بن محمد يجلسان إليها. فعلقت الأحوص، وصدَّت عن عبد الرحمن، فرحل ابن حسان إلى يزيد بن معاوية إلى الشام، فامتدحه ودلَّه على سلّامة وجمالها وحسنها وفصاحتها. وقال: لا تصلح إلا لك يا أمير المؤمنين، وأن تكون من سمّارك، فأرسل يزيد، فاشتُريت له وحُملت إليه، فوقعت منه موقعًا عظيمًا، وفضَّلها على جميع من عنده. ورجع عبد الرحمن إلى المدينة فمرَّ بالأحوص فوجده مهمومًا، فأراد أن يزيده إلى ما به من الهم همًّا فقال:
يا مُبْتَلى بالحبِّ مَقْروحا
…
لاقى مِنَ الحبِّ تباريحا
أفحمَهُ الحبُّ فما يَنْثَني
…
إلَّا بكأسِ الحبِّ مَصْبُوحا
وصارَ ما يُعْجِبُهُ مُغْلَقًا
…
عنهُ وما يَكْرَهُ مَفْتُوحا
قد حازَها مَنْ أصبحتْ عندَهُ
…
ينالُ منها الشَّمَّ والرِّيحا
خليفةُ اللَّهِ فسَلِّ الهوى
…
وعَزِّ قلبًا منكَ مَجْروحا
قال: فأمسك الأحوص عن جوابه، ثم غلبه وجدُه عليها، فسار إلى يزيد، فامتدحه، فأكرمه يزيد وحظي عنده، فدسَّت إليه سلّامة خادمًا وأعطته مالًا على أن يدخله عليها، فأخبر الخادم يزيد بذلك، فقال: امض لرسالتها، ففعل وأدخل الأحوص عليها وجلس يزيد في مكان يراهما ولا يريانه، فلما بصرت الجارية بالأحوص بكت إليه وبكى إليها، وأمرت فأُلقي له كرسي فقعد عليه، وجعل كل واحد منهما يشكو إلى صاحبه شدة شوقه إليه، فلم يزالا يتحدثان إلى السَّحر، ويزيد يسمع كلامهما من غير أن يكون بينهما ريبة، حتى إذا همَّ الأحوص بالخروج قال:
أمسى فُؤادي في همٍّ وبَلْبالِ
…
مِنْ حبِّ مَنْ لمْ أزلْ منهُ على بالِ
فقالت:
صَحَا المحبُّونَ بعدَ النَّأي إذ يَئِسُوا
…
وقد يَئِسْتُ وما أَصْحُو على حالِ
فقال:
مَنْ كانَ يَسْلُو بيأسٍ عَنْ أخي ثِقَةٍ
…
فعنكِ سلَّامُ ما أمسَيتُ بالسَّالي
فقالت:
(1)
سقطت هذه الأبيات من النسخة ب.
واللَّهِ واللَّهِ لا أنساكَ يا شَجَني
…
حتَّى تفارقَ منِّي الرُّوحُ أوصَالي
فقال:
واللَّهِ ما خابَ مَنْ أمسى وأنتِ لهُ
…
يا قرَّةَ العينِ في أهلٍ وفي مالِ
قال: ثم ودَّعها وخرج، فأخذه يزيد ودعا بها فقال: أخبراني عما كان في ليلتكما واصدقاني. فأخبراه وأنشداه ما قالا، فلم يحرِّفا منه حرفًا، ولا غيَّرا شيئًا مما سمعه، فقال لها يزيد: أتحبينه؟ قالت: إي واللَّه يا أمير المؤمنين!
حبًا شَديدًا جري كالرُّوحِ في جَسَدي
…
فهَلْ يفرَّقُ بينَ الرُّوحِ والجَسَد
فقال له: أتحبها؟ فقال: إي واللَّه يا أمير المؤمنين!
حبًّا شَديدًا تَلِيدًا غيرَ مطَّرِفِ
…
بينَ الجوانحِ مثلَ النَّارِ يَضْطَرِمُ
فقال يزيد: إنكما لتصفان حبًا شديدًا، خذها يا أحوص فهي لك، ووصله صلة سنية. فرجع بها الأحوص إلى الحجاز وهو قرير العين
(1)
.
[وقد روي أن يزيد كان قد اشتهر بالمعارف وشرب الخمر والغناء والصَّيد واتخاذ الغلمان والقيان والكلاب والنطاح بين الكباش والدباب والقرود، وما من يوم إلا يصبح فيه مخمورًا، وكان يشدُّ القرد على فرس مسرجة بحبال ويسوق به، ويُلبس القرود قلانس الذهب وكذلك الغلمان، وكان يسابق بين الخيل، وكان إذا مات القرد حزن عليه. وقيل: إن سبب موته أنه حمل قردة وجعل ينقِّزها فعضَّته. وذكروا عنه غير ذلك، واللَّه أعلم بصحة ذلك]
(2)
.
وقال عبد الرحمن بن أبي مذعور: حدَّثني بعض أهل العلم قال: آخر ما تكلَّم به يزيد بن معاوية: اللهم لا تؤاخذني بما لم أحبه ولم أرده، واحكُم بيني وبين عبيد اللَّه بن زياد.
وكان نقش خاتمه: آمنت باللَّه العظيم.
مات يزيد بحوَّارين -من قرى دمشق- في رابع عشر ربيع الأول، وقيل: يوم الخميس للنصف منه، سنة أربع وستين. وكانت ولايته بعد موت أبيه في منتصف رجب سنة ستين. وكان مولده في سنة خمس -وقيل: سنة ست، وقيل: سبع- وعشرين. ومع هذا فقد اختلف في سنِّه ومبلغ أيامه في الإمارة على أقوال كثيرة، وإذا تأمَّلت ما ذكرته لك من هذه التحديدات انزاح عنك الإشكال من هذا الخلاف، فإن منهم
(1)
الخبر مطولًا في الأغاني (9/ 133 - 136) وتاريخ دمشق جزء تراجم النساء (ص 183 - 186) وهو -كما يرى الأصفهاني- موضوع.
(2)
ما بين حاصرتين ليس في ب.
من قال: جاوز الأربعين حين مات، فاللَّه أعلم. ثم حُمل بعد موته إلى دمشق، وصلَّى عليه ابنه معاوية بن يزيد أمير المؤمنين يومئذ، ودفن بمقابر باب الصغير.
وفي أيامه وسِّع النهر المسمَّى بيزيد في ذيل جبل قاسيون، وكان جدولًا صغيرًا فوسَّعه أضعاف ما كان يجري فيه من الماء.
وقال ابن عساكر: حدّثنا أبو الفضل محمد بن محمد بن الفضل بن المظفر العبدي -قاضي البحرين- من لفظه وكتبه لي بخطّه قال: رأيت يزيد بن معاوية في النوم، فقلت له: أنت قتلتَ الحسين؟ فقال: لا. فقلت له: هل غفر اللَّه لك؟ قال: نعم، وأدخلني الجنة. قلت: فالحديث الذي يروى: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رأى معاوية يحمل يزيد فقال: "رجلٌ مِنْ أهلِ الجنَّةِ يحملُ رجلًا منْ أهلِ النَّار"؟ فقال: ليس بصحيح. قال ابن عساكر: وهو كما قال، فإن يزيد بن معاوية لم يولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وإنما ولد بعد العشرين من الهجرة.
وقال أبو جعفر بن جرير:
ذكر أولاد يزيد بن معاوية وعددهم
فمنهم: معاوية بن يزيد بن معاوية، يكنى أبا ليلى، وهو الذي يقول فيه الشاعر
(1)
:
إنِّي أرى فتنةً قَدْ حانَ أوَّلُها
…
والملكُ بعدَ أبي لَيْلى لِمَنْ غَلَبا
وخالد بن يزيد، يكنى أبا هاشم، كان يقول: إنه أصاب علم الكيمياء، وأبو سفيان، وأمهما أم هاشم بنت أبي هاشم بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، وفد تزوجها بعد يزيد مروان بن الحكم، وهي التي يقول فيها الشاعر:
انْعَمي أمَّ خالدِ
…
رُبَّ سَاعٍ كقَاعِدِ
وعبد اللَّه
(2)
بن يزيد -ويقال له: الأُسْوار
(3)
- كان من أرمى العرب، وأمُّه أم كلثوم بنت عبد اللَّه بن عامر. وهو الذي يقول فيه الشاعر:
زعمَ النّاسُ أنَّ خيرَ قريشٍ
…
كلِّهمْ حينَ يُذكرُ الأُسْوارُ
(1)
هو أزنم الفزاري، كما سيأتي قريبًا.
(2)
تحرف في المطبوع إلى: عبد العزيز. ترجمته في مختصر تاريخ دمشق (14/ 134).
(3)
"الأسوار والإسوار": هو الجيد الرمي بالسهام. وقد لقب عبد اللَّه بذلك لجودة رميه.
وعبد اللَّه الأصغر [وعمر]
(1)
وأبو بكر، وعتبة، وعبد الرحمن، والربيع، ومحمد، لأمهات أولاد شتى
(2)
. [ويزيد، وحرب، وعمر، وعثمان. فهؤلاء خمسة عشر ذكرًا. وكان له من البنات: عاتكة، ورَمْلة، وأم عبد الرحمن، وأم يزيد، وأم محمد. فهؤلاء خمس بنات. وقد انقرضوا كافة فلم يبق ليزيد عقب، واللَّه سبحانه أعلم]
(3)
.
إمارة معاوية بن يزيد بن معاوية
(4)
أبي عبد الرحمن -ويقال: أبو يزيد، ويقال: أبو ليلى
(5)
- القرشي الأموي. وأمُّه: أم هاشم بنت أبي هاشم بن عتبة بن ربيعة.
بويع له بعد موت أبيه -وكان وليّ عهده من بعده- في رابع عشر ربيع الأول سنة أربع وستين. وكان رجلًا صالحًا ناسكًا. ولم تطل مدَّته، قيل: إنه مكث أربعين يومًا. وقيل: عشرين يومًا. وقيل: شهرين. وقيل: شهرًا ونصف شهر. وقيل: ثلاثة أشهر وعشرين يومًا. وقيل: أربعة أشهر. فاللَّه أعلم.
وكان في مدة ولايته مريضًا لم يخرج إلى الناس، وكان الضحاك بن قيس هو الذي يصلِّي بالناس ويسد الأمور.
ثم مات معاوية بن يزيد هذا عن إحدى وعشرين -وقيل: ثلاث وعشرين- سنة وثمانية عشر يومًا، وقيل: تسع عشرة سنة، وقيل: عشرين، وقيل: ثلاث وعشرين، وقيل: إنما عاش ثمانى عشرة سنة، وقيل: خمس عشرة. فاللَّه أعلم. وصلَّى عليه أخوه خالد، وقيل: عثمان بن عَنْبسة، وقيل: الوليد بن عتبة، وهذا هو الصحيح، فإنه أوصى إليه بذلك. وشهد دفنه مروان بن الحكم. وكان الضحاك بن قيس هو الذي يصلي بالناس بعده حتى استقر الأمر لمروان بالشام. ودفن بمقابر باب الصغير بدمشق. ولما حضرته الوفاة قيل له: ألا توصي؟ فقال: لا أتزود مرارتها لآخرتي، وأترك حلاوتها لبني أمية.
(1)
زيادة من تاريخ الطبري.
(2)
هنا ينتهي كلام ابن جرير كما في تاريخه (5/ 500) وأيضًا الكامل لابن الأثير (4/ 125).
(3)
ما بين حاصرتين ليس في ب.
(4)
نسب قريش (128) المعارف (352) تاريخ أبي زرعة الدمشقي (1/ 358) تاريخ الطبري (5/ 501) مروج الذهب (3/ 82) تاريخ ابن عساكر (16/ 395/ ب) الكامل لابن الأثير (4/ 129) مختصر تاريخ دمشق (25/ 110) تاريخ الإسلام (3/ 83) العبر (1/ 69) سير أعلام النبلاء (4/ 139) النجوم الزاهرة (1/ 163) تاريخ الخلفاء (334) شذرات الذهب (1/ 287).
(5)
في المطبوع: أبو يعلى، تحريف.
وكان رحمه الله أبيض شديد البياض، كثير الشعر، كبير العينين، جعد الشعر، أقنى الأنف، مدور الرأس، جميل الوجه دقيقه، حسن الجسم.
قال أبو زرعة الدمشقي: معاوية، وعبد الرحمن، وخالد: إخوة، وكانوا من صالحي القوم
(1)
.
وقال فيه بعض الشعراء - وهو عبد اللَّه بن همّام السَّلولي:
تلقّاها يزيدٌ عَنْ أَبيهِ
…
فدُونَكَها مُعَاويَ
(2)
عن يَزيدَا
أَدِيرُوها بَني حَرْبٍ عليكُمْ
…
ولا ترمُوا بها الغَرَضَ البَعيدَا
(3)
ويروى: أن معاوية بن يزيد هذا نادى في الناس: الصلاة جامعة، ذات يوم، فاجتمع الناس، فقال لهم فيما قال: يا أيها الناس! إني قد وليتُ أمركم وأنا ضعيف عنه، فإن أحببتم تركتها لرجل قويٍّ كما تركها الصدِّيق لعمر، وإن شئتم تركتها شورى في ستة منكم كما تركها عمر بن الخطاب، وليس فيكم من هو صالح لذلك، وقد تركت لكم أمركم فولُوا عليكم من يصلح لكم، ثم نزل ودخل منزله فلم يخرج منه حتى مات رحمه اللَّه تعالى. فيقال: إن سُقي، ويقال: إنه طُعن.
ولما دفن حضر مروان دفنه، فلما فرغ منه قال مروان: أتدرون من دفنتم؟ قالوا: نعم، معاوية بن يزيد، فقال مروان: هو أبو ليلى الذي قال فيه أزنم
(4)
الفزاري:
إنِّي أرى فتنةً تَغْلي مَراجِلُها
…
والملكُ بعدَ أَبي ليلى لمَنْ غَلَبا
(5)
قالوا: فكان كما قال، وذلك أن أبا ليلى توفي من غير عهد منه إلى أحد، فتغلَّب على الحجاز عبد اللَّه بن الزبير، وعلى دمشق وأعمالها مروان بن الحكم، وبايع أهل خراسان سَلْم بن زياد حتى يتولى على الناس خليفة، وسار فيهم سَلْم سيرة حسنة أحبُّوه عليها، ثم أخرجوه من بين أظهرهم. وخرج القراء والخوارج بالبصرة وعليهم نافع بن الأزرق، وطردوا عنهم عبيد اللَّه بن زياد بعدما كانوا بايعوه عليهم حتى يصير للنَّاس إمام، فذهب إلى الشام بعد فصول يطول ذكرها، وقد بايعوا بعده عبد اللَّه بن الحارث بن نوفل المعروف ببَبَّة، وأمه: هند بنت أبي سفيان، وقد جعل على شرطة البصرة هميان بن عدي
(1)
تاريخ أبي زرعة الدمشقي (1/ 358).
(2)
في المطبوع: معاوية. ولا يستقيم بها الوزن.
(3)
البيتان من قصيدة لعبد اللَّه بن همام أوردها ابن سلام الجمحي في الطبقات (2/ 628). وأيضًا في نسب قريش (129) ومروج الذهب (3/ 63) ومختصر تاريخ دمشق (14/ 126 - 127) و (25/ 110).
(4)
تحرف في المطبوع إلى: أرثم.
(5)
الخبر والشعر أورده ابن سعد في طبقاته (5/ 39) ونقله عنه ابن عساكر، مختصره (4/ 247).
السدوسي، فبايعه الناس في مستهل جمادى الآخرة سنة أربع وستين. وقد قال الفرزدق
(1)
في ذلك:
وبايعتُ أقوامًا وفيتُ بعَهْدِهم
…
وبَبَّة قد بايعتُهُ غيرَ نادِم
فأقام فيهم أربعة أشهر ثم لزم بيته، فكتب أهلُ البصرة إلى ابن الزبير، فكتب ابنُ الزبير إلى أنس بن مالك يأمره أن يصلِّي بهم شهرين، ثم كان ما سنذكره. وخرج نَجْدة بن عامر الحنفي باليمامة، وخرج بنو ماحور في الأهواز وفارس، وغير ذلك على ما سيأتي تفصيله.
إمارة عبد اللَّه بن الزُّبير
(2)
وعند ابن حَزْم وطائفة أنه أمير المؤمنين آنذاك
قد قدَّمنا أنه لما مات يزيد أقلع الجيش عن مكة، وهم الذين كانوا يحاصرون ابن الزبير، وهو عائذ بالبيت، فلما رجع حُصَين بن نُمَير السَّكُوني بالجيش إلى الشام استفحل أمر ابن الزبير بالحجاز وما والاها، وبايعه الناس بعد يزيد بيعة عامة هنالك، واستناب على أهل المدينة أخاه عُبيد اللَّه بن الزبير، وأمره بإجلاء بني أمية منها، فأجلاهم، فرحلوا إلى الشام، وفيهم مروان بن الحكم وابنه عبد الملك.
ثم بعث أهل البصرة إلى ابن الزبير -بعد حروب جرت بينهم وفتن كثيرة يطول استقصاؤها، غير أنهم في أقل من ستة أشهر أقاموا عليهم نحوًا من أربعة أمراء من بينهم ثم تضطرب أمورهم- ثم بعثوا إلى ابن الزبير وهو بمكة يخطبونه لأنفسهم، فكتب إلى أنس بن مالك ليصلِّي بهم.
[ويقال: إن أول من بايع ابن الزبير مصعب بن عبد الرحمن، فقال الناس: هذا أمر فيه صعوبة. وبايعه عبد اللَّه بن جعفر، وعبد اللَّه بن علي بن أبي طالب، وبعث إلى ابن عمر وابن الحنفيّة وابن عباس ليبايعوا فأبَوا عليه. وبُويع في رجب بعد أن أقام الناس ثلاثة أشهر بلا إمام]
(3)
.
وبعث ابن الزبير إلى أهل الكوفة عبد اللَّه
(4)
بن يزيد الأنصاري على الصلاة، وإبراهيم بن محمد بن
(1)
البيت ليس في ديوانه، لكن نسب إليه في سفر السعادة (1/ 112) والنقائض (2/ 272) ونسب في طبقات ابن سعد (5/ 25 و 7/ 101) إلى سحيم بن وثيل اليربوعي، وروايته فيه:
بايعت أيقاظًا فأوفيت بيعتي
…
وبَبَّة قد بايعته وهو نائم
(2)
وستأتي ترجمته في أوائل الجزء اللاحق إن شاء اللَّه تعالى.
(3)
ما بين حاصرتين من ط فقط.
(4)
في ط: عبد الرحمن. وهو خطأ.
طلحة بن عبيد اللَّه على الخَرَاج، واسْتوسَق
(1)
له المصران جميعًا. وأرسل إلى أهل مصر فبايعوه، واستناب عليها عبد الرحمن بن جَحْدَر، وأطاعت له الجزيرة وبلاد الشام سوى دمشق وأعمالها من الأردن فإنهم بايعوا لمروان بن الحكم.
ولما رجع الحُصين بن نُمير من مكة إلى الشام كان قد التفَّ على عبد اللَّه بن الزبير جماعة من الخوارج يدافعون عنه، منهم: نافع بن الأزرق، وعبد اللَّه بن إباض، وجماعة من رؤوسهم. فلما استقرَّ أمره في الخلافة قالوا فيما بينهم: إنكم قد أخطأتم لأنكم قاتلتم مع هذا الرجل ولم تعلموا رأيه في عثمان بن عفان -وكانوا يبغضون عثمان- فاجتمعوا إليه فسألوه عن عثمان، فأجابهم فيه بما يَسُوءُهم، وذكر لهم ما كان متصفًا به من الإيمان والتصديق والعدل والإحسان والسِّيرة الحسنة والرجوع إلى الحق إذا تبيَّن له. فعند ذلك نفروا عنه، وفارقوه، وقصدوا بلاد العراق وخراسان، فتفرقوا فيها بأبدانهم، وأديانهم، ومذاهبهم، ومسالكهم المختلفة المنتشرة التي لا تنضبط ولا تنحصر، لأنها مفرعة على الجهل، وقوة النفس، والاعتقاد الفاسد. ومع هذا استحوَذوا على كثير من البلدان والكُوَر، حتى انتُزعت منهم بعد ذلك على ما سنذكره فيما بعد إن شاء اللَّه.
ذكر بيعة مروان بن الحكم
(2)
وكان سبب ذلك أن حُصَين بن نُمَير لما رجع من أرض الحجاز، وارتحل عبيد اللَّه بن زياد من البصرة إلى الشام، وانتقلت بنو أميَّة من المدينة إلى الشام، اجتمعوا إلى مروان بن الحكم بعد موت معاوية بن يزيد بن معاوية، وقد كان عزَم على أن يبايع لابن الزبير بدمشق، وقد بايع أهلها الضحَّاك بن قيس على أن يصلح بينهم ويقيم لهم أمرهم حتى يجتمع الناس على إمام، والضحاك يريد أن يبايع لابن الزبير. وقد بايع لابن الزبير النُّعمان بن بشير بحمص، وبايع له زُفَر بن عبد اللَّه الكِلابي بقِنَّسْرين
(3)
، وبايع له ناتل
(4)
بن قيس بفلسطين وأخرج منها رَوْح بن زنباع الجُذَامي. فلم يزل عبيد اللَّه بن زياد والحُصَين بن نُمير بمروان بن الحكم حتى ثنياه عن رأيه، وحذراه من دخول سلطان ابن الزبير وملكه إلى الشام، وقالا له: أنت شيخ قريش وسيدُها، فأنت أحقُّ بهذا الأمر. [فرجع عن البيعة لابن الزبير. وخاف ابن زياد الهلاك إن تولَّى غير بني أمية، فعند ذلك]
(5)
التفَّ هؤلاء كلُّهم مع قومه بني أمية ومع أهل اليمن على مروان، فوافقهم على ما أرادوا، وجعل يقول: ما فات شيء.
(1)
"استوسق": انضم وأطاع.
(2)
وستأتي ترجمته لاحقًا.
(3)
"قنسرين": بلدة قريبة من حلب.
(4)
تحرف في أ، ط إلى: نائل، وفي ب إلى: بابل وما أثبتناه من ترجمته في مختصر تاريخ دمشق (26/ 96) وغيره.
(5)
ما بين حاصرتين سقط من أ، ب.
وكتب حسان بن مالك بن بَحْدَل الكلبي إلى الضحّاك بن قيس يثنيه عن المبايعة لابن الزبير، ويعرِّفه أيادي بني أمية عنده وإحسانهم إليه، ويذكر فضلهم وشرفهم. وقد بايع حسان بن مالك أهل الأردن لبني أمية، وهو يدعو إلى ابن أخته خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، وبعث إلى الضحاك كتابًا بذلك، وأمره أن يقرأ كتابه على أهل دمشق يوم الجمعة على المنبر، وبعث بالكتاب مع رجل يقال له: ناغضة بن كريب الطابخي -وقيل: هو من بني كلب- وقال له: إن لم يقرأه هو على الناس فاقرأه أنت. وأعطاه نسخة به، فسار إلى الضحاك، فأمره بقراءة الكتاب، فلم يقبل، فقام ناغضة فقرأه على الناس، فصدَّقه جماعة من أمراء الناس وكذَّبه آخرون، وثارث فتنة عظيمة بين الناس، فقام خالد بن يزيد بن معاوية -وهو شاب حدث- على درجتين من المنبر فسكَّن الناس، ونزل الضحاك فصلَّى بالناس الجمعة، وأمر الضحاك بن قيس بأولئك الذين صدقوا ناغضة أن يُسجنوا، فثارت قبائلهم فأخرجوهم من السجن، واضطرب أهل دمشق في ابن الزبير وبني أمية. وكان اجتماع الناس لذلك ووقوفهم بعد صلاة الجمعة بباب جَيْرون
(1)
، فسمي هذا اليوم يوم جَيْرون.
قال المدائني: وقد أراد الناس الوليد بن عتبة بن أبي سفيان أن يتولَّى عليهم، فأبى، وهلك في تلك الليالي.
ثم إن الضحاك بن قيس صعد منبر المسجد الجامع فخطبهم به، ونال من يزيد بن معاوية، فقام إليه شاب من بني كلب فضربه بعصا كانت معه، والناس جلوس متقلِّدي سيوفهم، فقام بعضهم إلى بعض فاقتتلوا في المسجد قتالًا شديدًا، فقَيْس ومن لفَّ لفيفها يدعون إلى ابن الزبير وينصرون الضحاك بن قيس، وبنو كلب يدعون إلى بني أمية وإلى البيعة لخالد بن يزيد بن معاوية، ويتعصَّبون ليزيد وأهل بيته، فنهض الضحاك بن قيس فدخل دار الإمارة وأغلق الباب ولم يخرج إلى الناس إلا يوم السبت لصلاة الفجر، ثم أرسل إلى بني أمية فجمعهم إليه، فدخلوا عليه وفيهم مروان بن الحكم، وعمرو بن سعيد بن العاص، وخالد وعبد اللَّه ابنا يزيد بن معاوية -قاله المدائني- فاعتذر إليهم مما كان منه، واتفق معهم أن يركب معهم غدوة إلى حسان بن مالك الكلبي فيتَّفقوا على رجل يرتضونه من بني أمية للإمارة، فركبوا جميعا إليه، فبينما هم يسيرون إلى الجابية لقصد حسان بن مالك إذ جاء معنُ بن ثور
(2)
بن الأَخنس في قومه قيس، فقال له: إنك دعوتَنا إلى بيعة ابن الزبير فأجبناك، وأنت الآن ذاهب إلى هذا الأعرابي ليستخلف ابن أخته خالد بن يزيد بن معاوية! فقال له الضحاك: فما الرأي؟ قال: الرأي أن نُظهِر ما كنا
(1)
"باب جيرون": هو الباب الشرقي من أبواب الجامع الأموي بدمشق.
(2)
تصحف في تاريخ الطبري (5/ 533) والكامل لابن الأثير (4/ 147) إلى ثور بن معن. وترجمته في مختصر تاريخ دمشق (25/ 149).
نُسِرّ، وأن ندعو إلى طاعة ابن الزبير ونقاتل عليها. فمال الضحاك بمن معه فرجع إلى دمشق، فأقام بها بمن معه من قيس ومن لفَّ لفيفها، وبعث إلى أمراء الأجناد وبايع الناس لابن الزبير، وكتب بذلك إلى ابن الزبير يعلمه بذلك. فذكره ابن الزبير لأهل مكة وشكره على صنيعه، وكتب إليه بنيابة الشام. وقيل: بل بايع الناس لنفسه بالخلافة. فاللَّه أعلم أي ذلك كان.
والذي ذكره المدائني: أنه إنما دعا إلى بيعة ابن الزبير أولًا، ثم حسَّن له عبيد اللَّه بن زياد أن يدعو إلى نفسه، وذلك إنما فعله مكرًا منه وكبارًا ليفسد عليه ما هو بصدده، فدعا الضحاك إلى نفسه ثلاثة أيام، فنَقَم الناس عليه ذلك وقالوا: دعوتَنا إلى بيعة رجل فبايعناه ثم خلعته من غير سبب ولا عذر، ثم دعوتَنا إلى نفسك؟! فرجع إلى البيعة لابن الزبير، فسقط بذلك عند الناس، وذلك الذي أراد ابن زياد.
وكان اجتماع عبيد اللَّه بن زياد به بعد اجتماعه بمروان وتحسينه له أن يدعو إلى نفسه، ثم فارق مروان ليخدع له الضحاك، فنزل عنده بدمشق، وجعل يركب إليه كل يوم، ثم أشار ابن زياد على الضحاك أن يخرج من دمشق إلى الصحراء ويدعو بالجيوش إليه ليكون أمكن له، فركب الضحاك إلى مرج راهط فنزل بمن معه من الجنود، وعند ذلك اجتمع بنو أمية ومن اتبعهم بالأردن، واجتمع إليهم مَنْ هنالك من قوم حسان بن مالك من بني كلب.
ولما رأى مروان بن الحكم ما انتظم من البيعة لابن الزبير وما استوسق له من الملك عزم على الرحيل إليه لمبايعته، وليأخذ منه أمانًا لبني أميَّة، فسار حتى بلغ أَذْرِعات، فلقيه ابن زياد مقبلًا من العراق، فصدَّه عن ذلك، وهجَّن رأيه، واجتمع إليه عمرو بن سعيد بن العاص وحُصين بن نُمير وابن زياد وأهل اليمن وخلق، فقالوا لمروان: أنت كبير قريش ورئيسها، وخالد بن يزيد غلام، وعبد اللَّه بن الزبير كهل، فإنما يُقرع الحديد بعضه ببعض، فلا تباره بهذا الغلام، وارم بنحرك في نحره، ونحن نبايعك، ابسُط يدك، فبسط يده، فبايعوه بالجابية في يوم الأربعاء لثلاث خلون من ذي القعدة سنة أربع وستين. قاله الواقدي.
فلما تمهَّد له الأمر سار بمن معه نحو الضحاك بن قيس، فالتقيا بمرج راهط، فغلبه مروان بن الحكم وقتله وقتل من قيس مقتلة لم يُسمع بمثلها، على ما سيأتي تفصيله في أول سنة خمس وستين، فإن الواقدي وغيره قالوا: إنما كانت هذه الوقعة في المحرم من سنة خمس وستين. وفي رواية محمد بن سعد عن الواقدي وغيره قالوا: إنما كانت في أواخر هذه السنة. وقال الليث بن سعد والواقدي والمدائني وأبو سليمان بن يزيد وأبو عبيد وغير واحد: كانت وقعة مرج راهط للنصف من ذي الحجة سنة أربع وستين. واللَّه سبحانه وتعالى أعلم.
وقعة مَرْج راهِط ومقتل الضَّحّاك بن قَيْس الفِهري
(1)
قد تقدم: أن الضحاك كان نائب دمشق لمعاوية بن أبي سفيان، وكان يصلِّي عنه إذا اشتغل أو غاب، ويقيم الحدود وشهد الأمور، فلما مات معاوية قام بأعباء بيعة يزيد ابنه، ثم لما مات يزيد بايع الناس لمعاوية بن يزيد، فلما مات معاوية بن يزيد بايعه أهل دمشق حتى يجتمع الناس على إمام، فلما اتسعت البيعة لابن الزبير عزم على المبايعة له، فخطب الناس يومًا وتكلَّم في يزيد بن معاوية وذمّه، فقامت فتنة في المسجد الجامع حتى اقتتل الناس فيه بالسيوف، فسكن الناس ثم دخل دار الإمارة من الخضراء وأغلق عليه الباب، ثم اتفق مع بني أمية على أن يركبوا إلى حسان بن مالك بن بَحْدل وهو بالأردن فيجتمعوا عنده على من يراه أهلًا للإمارة، وكان حسان يريد أن يبايع لابن أخته خالد بن يزيد -ويزيد ابن ميسون، وميسون بنت بحدل أخت حسان- فلما ركب الضحاك معهم انخزل
(2)
بأكثر الجيش، فرجع إلى دمشق فامتنع بها، وبعث إلى أمراء الأجناد فبايعهم لابن الزبير، وسار بنو أمية ومعهم مروان بن الحكم وعمرو بن سعيد وخالد وعبد اللَّه ابنا يزيد بن معاوية، حتى اجتمعوا بحسان بن مالك بالجابية، وليس لهم قوة طائلة بالنسبة إلى الضحاك بن قيس، فعزم مروان بن الحكم على الرحيل إلى ابن الزبير ليبايعَه ويأخذَ أمانًا منه لبني أمية، فإنه كان قد أمر بإجلائهم عن المدينة، فسار حتى وصل إلى أذرِعات، فلقيه عبيد اللَّه بن زياد مقبلًا من العراق، فاجتمع به ومعه حُصين بن نُمير وعمرو بن سعيد بن العاص، فحسَّنوا إليه أن يدعوَ لنفسه، فإنه أحق بذلك من ابن الزبير الذي قد فارق الجماعة وخلع ثلاثة من الخلفاء، فلم يزالوا بمروان حتى أجابهم إلى ذلك، وقال له عبيد اللَّه بن زياد: وأنا أذهب لك إلى الضحاك بدمشق فأخدعه لك وأخذِّل أمره، فسار إليه، وجعل يركب إليه كل يوم ويُظهر له الودَّ والنصيحة والمحبة، ثم حسَّن له أن يدعو إلى نفسه ويخلع ابن الزبير، فإنك أحق بالأمر منه لأنك لم تزل في الطاعة مشهورًا
(1)
طبقات ابن سعد (7/ 410) نسب قريش (447) طبقات خليفة (127، 185، 301) تاريخ خليفة (219، 223، 224، 226، 259، 260) مسند أحمد (3/ 453) المحبر (295، 302) تاريخ البخاري الكبير (4/ 332) المعارف (412) تاريخ الطبري (الفهرس) الجرح والتعديل (4/ 457) مروج الذهب (3/ 95 وغيرها) مشاهير علماء الأمصار (ت 368) معجم الطبراني الكبير (8/ 296) مستدرك الحاكم (3/ 524) جمهرة أنساب العرب (178) الاستيعاب (2/ 744) إكمال ابن ماكولا (7/ 386) تاريخ ابن عساكر (8/ 205/ ب) أسد الغابة (3/ 49) الكامل في التاريخ (4/ 149) مختصر تاريخ دمشق (11/ 129) تهذيب الكمال (13/ 279) تاريخ الإسلام (3/ 21) تذهيب التهذيب (2/ 98/ آ) العبر (1/ 70) الكاشف (2/ 33) سير أعلام النبلاء (3/ 241) تجريد أسماء الصحابة (1/ 2851) إكمال مغلطاي (2/ ورقة 200) العقد الثمين (5/ 48) نهاية السول (ورقة 149) الإصابة (2/ 207) تهذيب التهذيب (4/ 448) خلاصة الخزرجي (176) شذرات الذهب (1/ 287) تهذيب ابن عساكر (7/ 7).
(2)
"انخزل": انفرد.
بالأمانة، وابن الزبير خارج عن الناس. فدعا الضحاك الناس إلى نفسه ثلاثة أيام فلم يصمد معه، فرجع إلى الدعوة لابن الزبير، ولكن انحطَّ عند الناس، ثم قال ابن زياد: إن من يطلب ما تطلب لا ينزل المدن والحصون، وإنما ينزل الصحراء ويدعو إليه بالجنود، فبرز الضحاك إلى مرج راهط فنزله، وأقام ابن زياد بدمشق، وبنو أمية بتدمر، وخالد وعبد اللَّه عند خالهم حسان بالجابية، فكتب ابن زياد إلى مروان يأمره أن يظهر دعوته، فدعا إلى نفسه، وتزوج بأم خالد بن يزيد -وهي أمُّ هاشم بنت أبي هاشم بن عتبة بن ربيعة- فعظم أمره، وبايعه الناس، واجتمعوا عليه، وسار إلى مرج راهط نحو الضحاك بن قيس، وركب إليه عبيد اللَّه بن زياد وأخوه عبّاد بن زياد، حتى اجتمع مع مروان ثلاثة عشر ألفًا، وبدمشق من جهته يزيد بن أبي النِّمس
(1)
. وقد أخرج عامل الضحاك منها وهو يمدُّ مروان بالسلاح والرجال وغير ذلك. ويقال: كان نائبه على دمشق يومئذ عبد الرحمن ابن أم الحكم. وجعل مروان على ميمنته عبيد اللَّه بن زياد، وعلى ميسرته عمرو بن سعيد بن العاص.
وبعث الضحاك إلى النعمان بن بشير، فأمدَّه النعمان بأهل حمص عليهم شرحبيل بن ذي الكلاع. وركب إليه زفر بن الحارث الكلابي في أهل قنّسرين، فكان الضحاك في ثلاثين ألفًا، على ميمنته زياد بن عمرو العقيلي، وعلى ميسرته زكريا بن شمر الهلالي. فتصافُّوا، وتقاتلوا بالمرج عشرين يومًا، يلتقون بالمرج في كل يوم، فيقتتلون قتالًا شديدًا. ثم أشار عبيد اللَّه على مروان أن يدعوهم إلى الموادعة خديعة، فإنَّ الحربَ خُدْعة
(2)
، وأنت وأصحابك على الحق وهم على الباطل، فنُودي في الناس بذلك. ثم غدر أصحاب مروان فمالوا يقتلونهم قتلًا شديدًا، وصبر أصحاب الضحاك صبرًا بليغًا، فقُتل الضحاك بن قيس في المعركة، قتله رجل يقال له: زحمة بن عبد اللَّه - من بني كلب، طعنه بحربة فانفذها ولم يعرفه. وصبر مروان وأصحابه صبرًا شديدًا حتى فرَّ أولئك بين يديه، فنادى مروان: ألا لا يتبع مُدْبر. ثم جيء برأس الضحاك، ويقال: إن أول من بشره بقتله رَوْح بن زنباع الجُذامي.
واستقر ملك الشام بيد مروان بن الحكم. وروي أنه بكى على نفسه يوم مَرْج راهط فقال: أبعدما كبرت وضعفت صرت إلى أن أقتل بالسيوف على الملك؟!
قلت: ولم تطل مدَّتُه في الملك إلا تسعة أشهر على ما سنذكره.
وقد كان الضَّحاك بن قَيْس بن خالد الأكبر بن وَهْب بن ثعلبة بن وائلة بن عَمرو بن شَيْبان بن مُحارب
(1)
كذا في أ، ب وتاريخ الطبري: ووقعت في المطبوع: النمر. وقال ابن الأثير في كامله (5/ 153): يزيد بن أبي الغمس -بالسين المهملة، وقيل: بالشين المعجمة- كان قد ارتد عن الإسلام ودخل الروم مع جبلة بن الأيهم، ثم عاود الإسلام، وشهد صفين مع معاوية، وعاش إلى أيام عبد الملك بن مروان.
(2)
قوله: فإن الحرب خدعة مقتبس من حديث صحيح.
ابن فِهْر بن مالك -أبو أُنيس
(1)
الفِهْري- أحدَ الصحابة على الصحيح. وقد سمع من النبي صلى الله عليه وسلم وروى عنه أحاديث عدة. وروى عنه جماعة من التابعين. وهو أخو فاطمة بنت قيس - وكانت أكبر منه بعشر سنين. وكان أبو عبيدة بن الجرّاح عمَّه. حكاه ابن أبي حاتم
(2)
.
وزعم بعضهم: أنه لا صحبة له.
وقال الواقدي: أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وسمع منه قبل البلوغ. وفي رواية عن الواقدي أنه قال: ولد الضحاك قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين.
وقد شهد فتح دمشق، وسكنها، وله بها دار عند حجر الذهب مما يلي نهر بردى. وكان أميرًا على أهل دمشق يوم صفِّين مع معاوية، ولما أخذ معاوية الكوفة استنابه بها في سنة أربع وخمسين. وقد روى البخاري في "التاريخ": أن الضحاك قرأ بالناس في الكوفة سورة (ص) في الصلاة فسجد فيها، فلم يتابعه علقمة وأصحاب ابن مسعود في السجود.
ثم استنابه معاوية عنده بدمشق فلم يزل عنده حتى مات معاوية وتولَّى ابنه يزيد، ثم ابن ابنه معاوية بن يزيد، ثم صار أمره إلى ما ذكرنا.
وقد قال الإمام أحمد: حدّثنا عفان بن مسلم، حدّثنا حماد بن سلمة، أنبأنا علي بن زيد، عن الحسن: أن الضحاك بن قيس كتب إلى [قيس بن]
(3)
الهيثم حين مات يزيد بن معاوية: سلام عليك، أما بعد: فإني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إنَّ بينَ يَدَي السَّاعةِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيلِ المُظْلم، فِتَنًا كقطعِ الدُّخان، يموتُ فيها قلبُ الرجلِ كما يموتُ بدنُه، يصبحُ الرجلُ مُؤمنًا ويُمْسي كافرًا، ويُمْسي مُؤمنًا ويصبحُ كافرًا، يَبيعُ أقوامٌ خلاقَهُمْ ودينَهُمْ بعَرَضٍ منَ الدُّنيا قليل" وإن يزيدَ بن معاوية قد مات وأنتم إخوانُنا وأشقاؤُنا فلا تَسْبقونا حتى نختار لأنفسِنا
(4)
.
وقد روى ابن عساكر
(5)
من طريق ابن قُتيبة، عن العباس بن الفرج الرِّياشي، عن يعقوب بن إسحاق بن تَوْبة، عن حماد بن زيد قال: دخل الضحاك بن قيس على معاوية، فقال معاوية منشدًا له:
تطاولت للضَّحّاكِ حتَّى رددتُهُ
…
إلى حَسَبٍ في قومِهِ متَقاصِر
(1)
ويقال: أبو أمية. ويقال: أبو عبد الرحمن. ويقال: أبو سعيد.
(2)
في الجرح والتعديل (4/ 457).
(3)
سقط من المطبوع.
(4)
أخرجه أحمد في مسنده (3/ 453) وابن سعد في الطبقات (7/ 410) وإسناده ضعيف لضعف علي بن زيد بن جدعان. وهو عند ابن الأثير في أسد الغابة (3/ 50) والذهبي في سير أعلام النبلاء (3/ 242) والمرفوع منه صحيح، دون قوله:"فتنًا كقطع الدخان".
(5)
تاريخ دمشق (24/ 291).
فقال الضحاك: قد علم قومنا أنا أحلاسُ الخيل. فقال: صدقت، أنتم أحلاسُها ونحن فرسانُها. يريد معاوية: أنتم راضَةٌ وساسَة، ونحن الفرسان. وأرى أن أصل الكلمة من الحِلْس وهو كساء يكون تحت البَرْذعة، أي: أنهم يلزمون ظهورها كما يلزم الحِلسُ ظهر البعير والدابَّة.
وروي أيضًا
(1)
: أن مؤذن دمشق قال للضَّحاك بن قيس: واللَّه -أيها الأمير- إني لأحبُّك في اللَّه. فقال له الضَّحاك: ولكني -واللَّه- أبغضُك في اللَّه. قال: ولمَ أصلحك اللَّه؟ قال: لأنَّك تتراءى في أذانك، وتأخذُ على تعليمك أجرًا.
قُتل الضَّحاك رحمه الله يوم مرج راهط، وذلك للنصف من ذي الحجَّة سنة أربع وستين. قاله الليث بن سعد، وأبو عبيد، والواقدي، وابن زبر، والمدائني.
وفيها مقتل:
النُّعْمان بن بَشِير الأَنْصاري
(2)
: وأُمه عَمْرة بنت رواحة. كان النعمان أول مولود ولد بالمدينة بعد الهجرة من الأنصار في جمادى الأول سنة اثنتين من الهجرة، فأتتْ به أمُّه تحمله إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحنَّكَهُ وبشَّرها بأنه يعيشُ حميدًا، ويُقتلُ شهيدًا، ويدخلُ الجنَّة. فعاش في خير وسعة.
ولي نيابة الكوفة لمعاوية تسعة أشهر، ثم سكن الشام، وولي قضاءها بعد قضائة بن عبيد، وفَضالة بعد أبي الدرداء. وناب بحمص لمعاوية. وهو الذي ردَّ آل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بأمر يزيد بن معاوية في ذلك. وهو الذي أشار على يزيد بالإحسان إليهم [وقال: عامِلْهم بما كان يعاملُهم به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لو رآهم على هذه الحالة]
(3)
فرق لهم يزيد، وأحسن إليهم وأكرمهم.
ثم لما كانت وقعة مَرْج راهط وقُتل الضحاك بن قيس، وكان النعمان قد أمدَّه بأهل حمص [عدا عليه أهل حمص] (3) فقتلوه بقرية يقال لها: بِيرِين
(4)
، قتله رجل يقال له خالد بن خَلِيّ المازني -
(1)
تاريخ دمشق (24/ 290).
(2)
طبقات ابن سعد (6/ 53) طبقات خليفة (ت 593، 930، 2853) مسند أحمد (4/ 267 و 375) المحبر (276، 294، 421) تاريخ البخاري الكبير (8/ 75) ثقات العجلي (450) المعارف (294) أخبار القضاة (3/ 201) الجرح والتعديل (8/ 444) مشاهير علماء الأمصار (ت 332) الأغاني (16/ 28) مستدرك الحاكم (3/ 530) جمهرة أنساب العرب (364) الاستيعاب (4/ 1496) الجمع بين رجال الصحيحين (2/ 531) تاريخ ابن عساكر (17/ 293/ ب) أسد الغابة (5/ 326) الكامل في التاريخ (4/ 149) تهذيب الأسماء واللغات (1/ 2/ 129) مختصر تاريخ دمشق (26/ 160) تهذيب الكمال (29/ 411) تاريخ الإسلام (3/ 88) العبر (1/ 70) تذهيب التهذيب (4/ 97/ ب) سير أعلام النبلاء (3/ 411) الكاشف (3/ 181) تهذيب التهذيب (10/ 447) الإصابة (3/ 559) خلاصة الخزرجي (402) شذرات الذهب (1/ 287).
(3)
ما بين حاصرتين ليس في ط.
(4)
"بيرين": من قرى حمص.
وَقيل: خليّ بن داود، وهو جد خالد بن خَلِيّ. وقد رثته ابنته حَميدة بنت النعمان فقالت:
ليتَ ابنَ مُزْنَةَ وابنَهُ
…
كانُوا لقَتْلِكَ واقيَهْ
وبني أُميَّةَ كلَّهمْ
…
لَمْ تبقَ منهمْ باقِيَهْ
جاءَ البريدُ بقَتْلِهِ
…
يا لَلْكِلابِ العاويَهْ
يَسْتَفْتحونَ برأسِهِ
…
دارتْ عليهمْ ثانيَهْ
فَلأَبْكينَّ مُسِرَّةً
…
ولأَبكينَّ عَلانيَهْ
ولأَبكينَّكَ ما حَييـ
…
ـــتُ معَ السِّباعِ العاديَهْ
(1)
[وقيل: إن أعشى هَمْدان
(2)
قدم على النعمان بن بشير وهو على حمص وهو مريض، فقال له النعمان: ما أقدمَك؟ قال: جئت لتصلَني وتحفظَ قرابتي، وتقضيَ دَيْني، فقال: واللَّه ما عندي، ولكني سائلُهم لك شيئًا، ثم قام فصعد المنبر ثم قال: يا أهل حمص! إن هذا ابن عمِّكم من العراق، وهو مُسْترفِدُكم شيئًا، فما ترون؟ فقالوا: احتكم في أموالنا، فأبى عليهم، فقالوا: قد حكمنا من أموالنا كل رجل دينارين -وكانوا في الديوان عشرين ألف رجل- فعجَّلها له النعمان من بيت المال أربعين ألف دينار، فلما خرجت أعطياتهم أسقط من عطاء كل رجل منهم دينارين]
(3)
.
ومن كلام النعمان بن بشير رضي الله عنه قوله: إن الهَلكة كل الهَلكة أن تعمل السيئات في زمن البلاء.
وقال يعقوب بن سفيان: حدّثنا أبو اليمان، حدّثنا إسماعيل بن عياش، عن أبي رواحة يزيد بن أيهم، عن الهيثم بن مالك الطائي قال: سمعت النعمان بن بشير وهو على المنبر يقول: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إنَّ للشَّيطانِ مَصَاليَ وفُخوخًا، وإن من مَصَاليه وفخوخِهِ البطَر بنِعَمِ اللَّه، والفخر بعَطاء اللَّه، والكِبْر على عباد اللَّه، واتَباع الهوى في غير ذاتِ اللَّه"
(4)
.
(1)
الأبيات في مختصر تاريخ دمشق (26/ 163 - 164).
(2)
هو أبو المصبّح عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن الحارث. شاعر مفوّه شهير.
(3)
هذا الخبر من المطبوع فقط. وتمامه كما في الأغاني (6/ 50) ومختصر تاريخ دمشق (26/ 162) أنه عندما قبضها قال يمدح النعمان:
ولم أر للحاجات عند التماسها
…
كنعمان نعمان الندى ابن بشير
إذا قال أوفى ما يقول ولم يكن
…
كمدل إلى الأقوام حبل غرور
متى أكفر النعمان لم ألف شاكرًا
…
وما خير من لا يقتدي بشكور
(4)
أخرجه يعقوب بن سفيان في المعرفة والتاريخ (2/ 446) وابن عساكر، مختصره (26/ 162). والمصالي - كما قال ابن الأثير في النهاية (3/ 51) شبيهة بالشرَك، واحدتها مِصْلاة. أراد ما يستفز به الناس من زينة الدنيا وشهواتها.
ومن أحاديثه الحسان ما سمعه من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إنَّ الحلالَ بيِّن، وإنَّ الحرامَ بيِّن، وبينَ ذلكَ أمورٌ مشتَبِهاتٌ لا يعلمُهُنَّ كثيرٌ منَ الناس، فمَنِ اتَّقى الشُّبُهاتِ فقدِ اسْتَبْرَأ لدِينهِ وعِرْضِه، ومَنْ وقعَ في الشُّبهاتِ وقعَ في الحرامِ كالرّاعي يَرْعى حولَ الحِمى يوشِكُ أنْ يرتعَ فيه، ألَا وإنَّ لكلِّ مَلِكٍ حِمًى، ألَا وإن حِمَى اللَّهِ محارمُه، ألَا وإنَّ في الجَسدِ مُضغةً إذا صلحتْ صلحَ لها سائرُ الجسَد، وإذا فَسدَتْ فسَدَ لها سائر الجسَد، ألَا وهي القَلْب". رواه البخاري ومسلم
(1)
.
وقال أبو مُسهِر: كان النعمان بن بشير على حمص عاملًا لابن الزبير، فلما تَمَرْوَن أهل حمص خرج النعمان هاربًا، فاتبعه خالد بن خَلي فقتله. قال أبو عبيد وغير واحد: في هذه السنة.
وقد روى محمد بن سعد بأسانيده: أن معاوية كان قد تزوج امرأة
(2)
جميلة جدًا، فبعث إحدى امرأتيه -مَيْسون
(3)
أو فاختة- لتنظرَ إليها، فلما رأتْها أعجبتها جدًا، ثم رجعتْ إليه، فقال: كيف رأيتِها؟ قالت: بديعة الجمال، غير أني رأيتُ تحت سُرَّتها خالًا أسود، وإني أحسب أن زوجها يُقتل ويُلقى رأسُه في حِجْرها. فطلَّقها معاوية، وتزوجها النعمان بن بشير. فلما قُتل أُتي برأسه فأُلقي في حِجْرها سنة خمس وستين.
وقال أبو سليمان بن زَبْر
(4)
: قتل بسَلَمْيَة
(5)
سنة ست وستين
(6)
. وقال غيره: سنة خمس وستين. وقيل: سنة ستين. والصحيح ما ذكرناه.
وفيها توفي:
المِسْوَر
(7)
بنُ مَخْرَمَة بن نَوْفل
(8)
: صحابي صغير، أصابه حَجَر المنجنيق مع ابن الزُّبير بمكة
(1)
أخرجه البخاري رقم (52) في الإيمان باب فضل من استبرأ لدينه، ومسلم (1599) في المساقاة: باب أخذ الحلال وترك الشبهات، وأبو داود (3330) والترمذي (1205) في البيوع: باب ما جاء في ترك الشبهات، وابن ماجه (3984) في الفتق: باب الوقوف عند الشبهات، والدارمي (2/ 245) وأحمد في مسنده (4/ 269).
(2)
هي نائلة بنت عمارة الكلبية.
(3)
هي ميسون بنت بحدل الكلبية. وقد تحرفت في المطبوع إلى: قيسون.
(4)
تحرف في المطبوع إلى: زير. والخبر في تاريخ مولد العلماء ووفياتهم لابن زبر (1/ 181). على أن المصنف لا ينقل منه مباشرة، وإنما ينقل من تهذيب الكمال لشيخه المزي (29/ 417)، وليس في وفيات ابن زبر لفظة "سلمية" فقد زادها غيره.
(5)
"سلمية": بلدة في ناحية البرية من أعمال حماة. قال ياقوت في معجمه (3/ 24) وفي طريقها إلى حمص قبر النعمان بن بشير.
(6)
تحرف لفظ ستين في المطبوع إلى: خمسين.
(7)
"المِسْور": بكسر الميم وسكون السين، هكذا ضبطه ابن الأثير في أسد الغابة (5/ 176) وغيرُه. ووقع في المطبوع في أكثر من موضع المسوَّر وهو خطأ.
(8)
نسب قريش (262) طبقات خليفة (ت 81) المحبر (68) تاريخ البخاري الكبير (7/ 410) المعارف (429) المعرفة =
وهو قائم يصلِّي في الحِجْر. وهو من أعيان من قُتل في حصار مكة.
[وهو
(1)
المِسْور بن مَخْرمة بن نوفل، أبو عبد الرحمن الزُّهري. أمُّه عاتكة أخت عبد الرحمن بن عوف.
له صحبة ورواية. ووفد على معاوية. وكان ممَّن يلزم عمر بن الخطاب.
وقيل: إنه كان ممن يصوم الدهر، وإذا قدم مكة طاف لكل يوم غاب عنها سبعًا وصلَّى ركعتين.
وقيل: إنه وجد يوم القادسية إبريق ذهب مرصَّعًا بالياقوت، فلم يدر ما هو، فلقيه رجل من الفرس فقال له: بِعْنيه بعشرة آلاف، فعلم أنه شيء له قيمة، فبعث به إلى سعد بن أبي وقاص، فنفله [سعد]
(2)
إياه، فباعه بمئة ألف.
ولما توفي معاوية قدم مكة، فأصابه حجر المنجنيق مع ابن الزبير لمّا رموا به الكعبة، فمات بعد خمسة أيام، وغسَّله عبد اللَّه بن الزبير، وحمله في جملة من حمل إلى الحَجُون
(3)
، وكانوا يطؤون به القتلى ويمشون به بين أهل الشام.
واحتكر المِسْور بن مخرمة طعامًا في زمن عمر بن الخطاب، فرأى سحابًا فكرهه، فلما أصبح عدا إلى السوق فقال: من جاءني أعطيتُه، فقال عمر: أجُننتَ يا أبا مخرمة؟! فقال: لا واللَّه يا أمير المؤمنين، ولكني رأيت سحابًا، فكرهت ما فيه الناس، فكرهت أن أربح فيه شيئًا. فقال له عمر: جزاك اللَّه خيرًا.
ولد المِسْور بمكة بعد الهجرة بسنتين.
المُنْذر بن الزُّبير بن العوَّام
(4)
: ولد في خلافة عمر بن الخطاب. وأمُّه أسماء بنت أبي بكر الصدِّيق.
= والتاريخ (1/ 358) الاشتقاق (96) الجرح والتعديل (8/ 297) مشاهير علماء الأمصار (ت 87) مستدرك الحاكم (3/ 523) جمهرة أنساب العرب (129) الاستيعاب (3/ 1399) الجمع بين رجال الصحيحين (2/ 515) تاريخ ابن عساكر (16/ 251/ أ) أسد الغابة (5/ 175) تهذيب الأسماء واللغات (94) مختصر تاريخ دمشق (24/ 305) تهذيب الكمال (27/ 581) تاريخ الإسلام (3/ 79) سير أعلام النبلاء (3/ 390) العبر (1/ 70) الكاشف (3/ 128) تذهيب التهذيب (4/ 40/ ب) مرآة الجنان (1/ 140) العقد الثمين (7/ 197) تهذيب التهذيب (1/ 151) الإصابة (3/ 419) خلاصة الخزرجي (377) شذرات الذهب (1/ 287).
(1)
من هنا يبدأ سقط من النسختين أ، ب، وينفرد المطبوع بصفحة تقريبًا يمر خلالها ترجمة كل من المنذر بن الزبير، ومصعب بن عبد الرحمن بن عوف. وسنشير إلى هذا السقط عند نهايته.
(2)
زيادة من سير أعلام النبلاء (3/ 392) يقتضيها السياق. والخبر أيضًا في تاريخ ابن عساكر مختصر (24/ 308). وقوله: نفله، يعني: أهداه.
(3)
الحجون: جبل بأعلى مكة، عنده مدافن أهلها. معجم البلدان (2/ 225).
(4)
طبقات ابن سعد (5/ 182) نسب قريش (244) المحبر (70، 100) جمهرة نسب قريش (1/ 236) وما بعدها،=
وقد غزا المنذر القسطنطينية مع يزيد بن معاوية، ووفد على معاوية فأجازه بمئة ألف، وأقطعه أرضًا، فمات معاوية قبل أن يقبض المال.
وكان المنذر بن الزبير وعثمان بن عبد اللَّه بن حكيم بن حِزام يقاتلان
(1)
أهل الشام بالنهار ويطعمانهم بالليل.
قتل المنذر بمكة في حصارها مع أخيه. ولما مات معاوية أوصى إلى المنذر أن ينزل في قبره.
مُصْعَبُ بن عبد الرَّحمن بن عَوْف
(2)
: كان شابًا ديِّنًا فاضلًا.
قُتل مصعب -أيضًا- في حصار مكّة مع ابن الزبير]
(3)
.
وفي هذه السنة -أعني سنة أربع وستين- جرت حروب كثيرة وفتن منتشرة ببلاد المشرق، واستحوذ على بلاد خراسان رجل يقال له: عبد اللَّه بن حازم، وقهر عمّالها وأخرجهم منها، وذلك بعد موت يزيد وابنه معاوية قبل أن يستقر ملك ابن الزبير على تلك النواحي، وجرت بين عبد اللَّه بن حازم هذا وبين عمرو بن مَرْثَد حروب يطول ذكرها وتفصيلها، اكتفينا بذكرها إجمالًا إذ لا يتعلَّق بذكرها كبير فائدة، وهي حروب فتنة وقتال بغاة بعضهم في بعض، واللَّه المستعان.
[وقال الواقدي: وفي هذه السنة بعد موت معاوية بن يزيد بايع أهل خراسان سَلْم بن زياد بن أبيه، وأحبُّوه حتى إنهم سمَّوا باسمه -في تلك السنة- أكثر من ألف غلام مولود، ثم نكثوا واختلفوا، فخرج عنهم سَلْم وترك عليهم المهلَّب بن أبي صفرة]
(4)
.
وفيها اجتمع ملأ الشيعة على سليمان بن صُرَد بالكوفة، وتواعدوا النُّخيلة ليأخذوا بثأر الحسين بن علي بن أبي طالب، وما زالوا في ذلك مجدِّين وعليه عازمين من بعد مقتل الحسين بكربلاء في العاشر من المحرم سنة إحدى وستين، وقد ندموا على ما كان منهم من بعثهم إليه، فلما أتاهم خذلوه وتخلَّوا عنه
= المعارف (223) تاريخ الطبري (5/ 480، 575) وغيرها، جمهرة أنساب العرب (123) تاريخ ابن عساكر (17/ 102/ ب) الكامل في التاريخ (4/ 102، 124) وغيرها، مختصر تاريخ دمشق (25/ 247) تاريخ الإسلام (3/ 86) سير أعلام النبلاء (3/ 381) العقد الثمين (7/ 280) تعجيل المنفعة (269).
(1)
في المطبوع: يقاتلون، خطأ. والخبر في جمهرة نسب قريش (ص 387).
(2)
طبقات ابن سعد (5/ 157) نسب قريش (267) المعارف (238) أخبار القضاة (1/ 118) تاريخ الطبري (5/ 345، 497، 575) الجرح والتعديل (8/ 303) العقد الفريد (4/ 392) مشاهير علماء الأمصار (ت 146) الكامل في التاريخ (4/ 124) وغيرها.
(3)
هنا ينتهي النقص من النسختين أ، ب الذي أشرنا إلى ابتدائه قبل صفحة تقريبًا.
(4)
انفرد المطبوع بهذه الفقرة، ولم ترد في النسختين أ، ب.
ولم ينصروه [فجادت بوصل حين لا ينفع الوصل]
(1)
. فاجتمعوا في دار سليمان بن صُرَد -وهو صحابي جليل. [وكان رؤوس القائمين في ذلك خمسة: سليمان بن صُرَد الصحابي]
(2)
والمسيّب بن نَجَبَة
(3)
الفزاري -أحد كبار أصحاب علي، وعبد اللَّه بن سعد بن نُفيل الأزدي، وعبد اللَّه بن وال التيمي، ورفاعة بن شدّاد البجلي- وكلهم من أصحاب علي رضي الله عنه. فاجتمعوا كلهم بعد خطب ومواعظ على تأمير سليمان بن صُرَد عليهم، فتعاهدوا وتعاقدوا وتواعدوا النُّخيلة، وأن يجتمع من يستجيب لهم إلى ذلك بها في سنة خمس وستين، ثم جمعوا من أموالهم وأسلحتهم شيئًا كثيرًا وأعدُّوه لذلك.
[وقام المسيّب بن نَجَبة خطيبًا فيهم، فحمد اللَّه وأثنى عليه وقال: أما بعد، فقد ابتُلينا بطول العمر وكثرة الفتن، وقد ابتلانا اللَّه فوجدَنا كاذبين في نصرة ابن بنت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعد أن كتبنا إليه وراسلناه، فأتانا طمعًا في نصرتنا إياه، فخذلناه، وأخلفناه، وأتينا به إلى مَنْ قتله وقتل أولاده وذريته وقراباته الأخيار، فما نصرناهم بأيدينا، ولا خذَّلنا عنهم بالسنتنا، ولا قوَّيناهم بأموالنا، فالويل لنا جميعًا ويلًا متصلًا أبدًا لا يفتر ولا يبيد دون أن نقتل قاتلهم والممالئين عليه، أو نُقتل دون ذلك وتذهب أموالنا وتخرب ديارنا، أيها الناس! قوموا في ذلك قومة رجل واحد، وتوبوا إلى بارئكم فاقتُلوا أنفسَكم ذلكم خيرٌ لكم عند بارئكم. . . وذكر كلامًا طويلًا. ثم كتبوا إلى جميع إخوانهم أن يجتمعوا بالنُّخيلة في السنة الآتية]
(4)
.
وكتب سليمان بن صُرَد إلى سعد بن حُذيفة بن اليمان وهو أمير على المدائن يدعوه إلى ذلك، فاستجاب له، ودعا إليه سعد من أطاعه من أهل المدائن، فبادروا إليه بالاستجابة والقبول، وتمالؤوا عليه، وتواعدوا النُّخيلة في التاريخ المذكور. وكتب سعد بن حذيفة إلى سليمان بن صُرَد بذلك، ففرح أهل الكوفة بموافقة أهل المدائن لهم على ذلك، وتنشَّطوا لأمرهم الذي تمالؤوا عليه. فلما مات يزيد بن معاوية وابنه معاوية بن يزيد بعد قليل طمعوا في الأمر، واعتقدوا أن أهل الشام قد ضعفوا ولم يبق من يقيم لهم أمرًا، فاستشاروا سليمان في الظهور وأن يخرجوا إلى النُّخيلة قبل الأجل، فنهاهم عن ذلك وقال: لا، حتى يأتي الأجل الذي واعدوا إخوانهم فيه، ثم هم في الباطن يعدون السلاح والقوة ولا يشعر بهم جمهور الناس، وحينئذ عَمَد جمهور أهل الكوفة إلى عمرو بن حُريث -نائب عبيد اللَّه بن زياد على الكوفة- فاخرجوه من القصر، واصطلحوا على عامر بن مسعود بن أمية بن خلف الملقب: دُحْرُوجة، فبايع
(1)
ما بين حاصرتين ليس في أ، ب.
(2)
ما بين حاصرتين سقط من ب.
(3)
كذا قيده ابن ماكولا وغيره. ووقع في أ، ط في مواضع كثيرة: نجية، وهو تحريف.
(4)
انفرد المطبوع بهذه الفقرة ولم ترد في النسختين أ، ب.
لعبد اللَّه بن الزبير، فهو يسد الأمور حتى تأتي نواب ابن الزبير. فلما كان يوم الجمعة لثمان بقين من رمضان من هذه السنة -أعني سنة أربع وستين- قدم أميران إلى الكوفة من جهة ابن الزبير، أحدهما عبد اللَّه بن يزيد الخَطْمي على الحرب والثغر، والآخر إبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبيد اللَّه التيمي على الخَراج والأموال. وقد كان قدم قبلهما بجمعة واحدة للنصف من هذا الشهر المختار بن أبي عبيد -وهو المختار الثقفي الكذاب- فوجد الشيعة قد التفت على سليمان بن صُرَد وعظَّموه تعظيمًا زائدًا، وهم معدُّون للحرب. فلما استقر المختار عندهم بالكوفة دعا -في الباطن- إلى إمامة المهدي محمد بن علي بن أبي طالب -وهو محمد بن الحنفية، ولقبه المهدي- فاتَّبعه على ذلك كثير من الشيعة، وفارقوا سليمان بن صُرَد، وصارت الشيعة فرقتين: الجمهور منهم مع سليمان بن صُرَد يريدون الخروج على الناس ليأخذوا بثأر الحسين، وفرقة أخرى مع المختار يريدون الخروج للدعوة إلى إمامة محمد بن الحنفيَّة، وذلك عن غير أمر ابن الحنفيَّة ورضاه، وإنما يتقوَّلون عليه ليروِّجوا على الناس به، وليتوصلوا إلى أغراضهم الفاسدة.
وجاءت العين الصافية إلى عبد اللَّه بن يزيد الخَطْمي -نائب ابن الزبير- بما تمالأ عليه فرقتا الشيعة على اختلافهما من الخروج على الناس والدعوة إلى ما يريدون، وأشار عليه من أشار بأن يبادر إليهم، ويحتاط عليهم، ويبعث الشُّرط والمقاتلة فيقمعهم عمّا هم مجمعون عليه من إرادة الشر والفتنة. فقام خطيبًا في الناس، وذكر في خطبته ما بلغه عن هؤلاء القوم، وما أجمعوا عليه من الأمر، وأن منهم من يريد الأخذ بثأر الحسين، ولقد علموا أنني لست ممن قتله، وأني واللَّه لممن أصيب بقتله وكره قتله، فرحمه اللَّه ولعن قاتله، وإني لا أتعرَّض لأحد قبل أن يبدأني بالشر، وإن كان هؤلاء يريدون الأخذ بثأر الحسين فليعمِدوا إلى ابن زياد، فإنه هو الذي قتل الحسين وخيار أهله، فليأخذوا منه بالثأر، ولا يخرجوا بسلاحهم على أهل بلدهم فيكون فيه حتفهم واستئصالهم.
فقام إبراهيم بن محمد بن طلحة الأمير الآخر فقال: أيها الناس! لا يغرنَّكم من أنفسكم كلام هذا المداهن، إنا -واللَّه- قد استيقنّا من أنفسنا أن قومًا يريدون الخروج علينا، ولنأخذنَّ الوالد بالولد، والولد بالوالد، والحميم بالحميم، والريف بما في عرافته، حتى يدينوا للحق ويذلُّوا للطاعة.
فوثب إليه المسيّب بن نَجَبة الفزاري، فقطع عليه كلامه فقال: يا بن الناكثين أتهدِّدنا بسيفك وغَشْمك
(1)
؟ أنت واللَّهِ أذلُّ من ذلك، إنا واللَّه لا نلومك على بغضنا وقد قتلنا أباك وجدَّك، وإنا لنرجو أن نلحقك بهما قبل أن تخرج من هذا القصر.
وساعد المسيّب بن نَجَبة من أصحاب إبراهيم بن محمد بن طلحة جماعة من العمال، وجرَت فتنة
(1)
"الغشم": الظلم.
وشرٌّ كبير في المسجد، فنزل عبد اللَّه بن يزيد الخَطْمي عن المنبر، وحاولوا أن يوقعوا بين الأميرين فلم يتفق لهم ذلك، ثم ظهرت الشيعة أصحاب سليمان بن صُرَد بالسلاح، وأظهروا ما كان في أنفسهم من الخروج على الناس، وركبوا مع سليمان بن صُرَد فقصدوا نحو الجزيرة، وكان من أمرهم ما سنذكره.
وأما المختار بن أبي عبيد الثقفي الكذاب فإنه قد كان بغيضًا إلى الشيعة من يوم طعن الحسين وهو ذاهب إلى الشام بأهل العراق، فلجأ إلى المدائن، فأشار المختار على عمِّه -وهو نائب المدائن- بأن يقبض على الحسين ويبعثه إلى معاوية فيتخذ بذلك عنده اليد البيضاء، فامتنع عمُّ المختار من ذلك، فأبغضته الشيعة بسبب ذلك، فلمَّا كان من أمر مسلم بن عَقيل ما كان وقتله ابن زياد كان المختار يومئذ بالكوفة، فبلغ ابن زياد أنه يقول: لأقومنَّ بنصرة مسلم ولآخذنَّ بثأره، فأحضره بين يديه، وضرب عينه بقضيب كان بيده فشتَرها، وأمر بسجنه، فلمَّا بلغ أختَه سجنُه بكت وجزعت عليه، وكانت تحت عبد اللَّه بن عمر بن الخطاب، فكتب ابن عمر إلى يزيد بن معاوية يشفع عنده في إخراج المختار من السجن، فبعث يزيد إلى ابن زياد: أن ساعة وقوفك على هذا الكتاب تخرج المختار بن أبي عبيد من السجن، فلم يمكن ابن زياد غير ذلك، فأخرجه وقال له: إن وجدتك بعد ثلاثة أيام بالكوفة ضربت عنقك. فخرج المختار إلى الحجاز وهو يقول: واللَّه لأقطعنَّ أنامل عبيد اللَّه بن زياد، ولأقتلنَّ بالحسين ابن علي على عدد من قُتل بدم يحيى بن زكريا. فلمَّا استفحل أمر عبد اللَّه بن الزبير بمكة بايعه المختار بن أبي عبيد، وكان من كبار الأمراء عنده، ولمّا حاصره الحُصين بن نُمير مع أهل الشام قاتل المختار دون ابن الزبير أشدَّ القتال، فلمّا بلغه موت يزيد بن معاوية واضطراب أهل العراق نَقَم على ابن الزبير في بعض الأمر، وخرج من الحجاز، وقصد الكوفة فدخلها في يوم الجمعة والناس يتهيؤون للصلاة، فجعل لا يمرُّ بملأٍ من الناس إلا سلَّم وقال: أبشِروا بالنصر والظفر بالأعداء. ودخل المسجد فصلَّى إلى سارية هنالك حتى أقيمت الصلاة، ثم صلَّى من بعد الصلاة حتى صلِّيت العصر، ثم انصرف، فسلَّم عليه الناس وأقبلوا إليه وعليه وعظَّموه، وجعل يدعو إلى إمامة المهدي محمد بن الحنفيَّة، ويظهر الانتصار لأهل البيت، وأنه ما جاء إلا بصدد أن يقيم شعارهم، ويظهر منارهم، ويستوفي ثأرهم، ويقول للناس الذين اجتمعوا على سليمان بن صُرَد من الشيعة -وقد خشي أن يبادروا إلى الخروج مع سليمان- فجعل يخذِّلهم ويستميلهم إليه ويقول لهم: إني قد جئتكم من قِبَل وليّ الأمر، ومعدن الفضل، ووصي الرضي، والإمام المهدي بأمر فيه الشفاء، وكشف الغطاء، وقتل الأعداء، وتمام النَّعماء، وأن سليمان بن صُرَد -يرحمنا اللَّه وإياه- إنما هو غشمة من الغشم، وشَنٌّ
(1)
بالٍ، ليس بذي تجربة للأمور، ولا له علم بالحروب، إنما يريد أن يخرجكم فيقتل نفسه ويقتلكم، وإني إنما أعمل على مَثل مُثِّل لي، وأمر قد بُيِّن
(1)
"الشن": القِربة.
لي، فيه عزُّ وليكم، وقتلُ عدوكم، وشفاء صدوركم، فاسمعوا مني وأطيعوا أمري، ثم أبشِروا وتباشروا فإني لكم بكل ما تأمُلون وتحبُّون كفيل. فالتفَّ عليه خلق كثير من الشيعة، ولكن الجمهور منهم مع سليمان بن صُرَد، فلمّا خرجوا مع سليمان إلى النُّخيلة قال عمر بن سعد بن أبي وقاص وشَبث بن رِبْعي وغيرهما لعبد اللَّه بن زياد نائب الكوفة: إن المختار بن أبي عبيد أشدُّ عليكم من سليمان بن صُرَد. فبعث إلى الشُّرط، فأحاطوا بداره، فأُخذ فذُهب به إلى السجن مقيَّدًا -وقيل: بغير قيد- فأقام به مدة، ومرض فيه.
قال أبو مخنف: فحدّثني يحيى بن أبي عيسى أنه قال: دخلتُ إليه مع حميد بن مسلم الأزدي نعوده ونتعاهده، فسمعته يقول: أما وربِّ البحار، والنخيل والأشجار، والمَهامِهِ
(1)
والقفار، والملائكة الأبرار، والمصلِّين الأخيار، لأقتلنَ كل جبّار بكل لَدْن
(2)
خطّار، ومهند بتّار، في جموع من الأنصار، ليسوا بمِيل أَغْمار
(3)
، ولا بعُزْل أشرار، حتى إذا أقمتُ عمود الدِّين، ورأبتُ صدع المسلمين، وشفيتُ غليل صدور المؤمنين، وأدركتُ ثأر أولاد النبيِّين، لم أبكِ على زوال الدنيا، ولم أَحفِل بالموت إذا دنا.
قال: وكان كلما أتيناه وهو في السجن يردِّد علينا هذا القول حتى خرج.
ذكر هَدْم الكعبة وبنائها في أيَّام ابن الزُّبير
قال ابن جرير: وفي هذه السنة هدَم ابن الزبير الكعبة، وذلك لأنه مال جدارها مما رُميت به من حجارة المنجنيق، فهدم الجدار حتى وصل إلى أساس إبراهيم، وكان الناس يطوفون ويصلُّون من وراء ذلك، وجعل الحجر الأسود في تابوت في سَرَقة من حرير، وادُّخر ما كان في الكعبة من حلي وثياب وطيب عند الخُزّان
(4)
حتى أعاد ابن الزبير بناءها
(5)
على ما كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يريد أن يبنيها عليه من الشكل. وذلك كما ثبت في "الصحيحين" وغيرهما من المسانيد والسنن من طرق عن عائشة أمِّ المؤمنين: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "لولا حِدْثانُ قومِكِ بكُفرٍ لنقضتُ الكعبةَ ولأَدخلتُ فيها الحِجْر، فإنَّ قومَكِ قصرتْ بهم النَّفقة، ولجعلْتُ لها بابًا شرقيًّا وبابًا غربيًّا يدخلُ الناسُ من أحدِهما ويخرجونَ من الآخر، ولأَلصَقْتُ بابَها بالأرض فإنَّ قومَكِ رفعُوا بابَها ليُدْخِلُوا مَنْ شاؤُوا ويَمْنَعُوا مَنْ شاؤُوا"
(6)
.
(1)
"المهامه": جمع مهمهة، وهي المفازة البعيدة.
(2)
"اللدن": الرمح. وفي اللسان: رمح خطار: ذو اهتزاز شديد.
(3)
"الميل": جمع أميل، وهو الجبان. "والأغمار": جمع غُمْر، وهو الجاهل الغر الذي لم يجرب الأمور.
(4)
"الخُزان": الحجبة في خزانة البيت.
(5)
هنا ينتهي كلام ابن جرير. تاريخه (5/ 582).
(6)
أخرجه البخاري (1584) في الحج: باب فضل مكة وبنيانها، ومسلم (1333) في الحج: باب نقض الكعبة =
فبناها ابن الزبير على ذلك كما أخبرَتْه به خالته عائشة أمُّ المؤمنين عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فجزاه اللَّه خيرًا. ثم لما غلبه الحجاج بن يوسف في سنة ثلاث وسبعين -كما سيأتي- هدم الحائط الشمالي وأخرج الحِجْرَ كما كان أولًا، وأدخل الحجارة التي هدمها في جوف الكعبة فرصَّها فيها، فارتفع الباب، وسدَّ
(1)
الغربي، وتلك آثاره إلى الآن، وذلك بأمر عبد الملك بن مروان له في ذلك، ولم يكن بلغه الحديث، فلما بلغه الحديث قال: وددنا أنا تركناه وما تولّى من ذلك.
وقد همَّ المهدي ابن المنصور أن يعيدها على ما بناها ابن الزبير، واستشار الإمام مالك بن أنس في ذلك، فقال: إني أكره أن يتخذها الخلفاء لعبة -يعني: يتلاعبون في بنائها بحسب آرائهم- فهذا يرى رأي ابن الزبير، وهذا يرى رأي عبد الملك بن مروان، وهذا يرى رأيًا آخر. واللَّه أعلم.
قال ابن جرير: وحج بالناس في هذه السنة عبد اللَّه بن الزبير. وكان عامله على المدينة أخوه عبيدة
(2)
، وعلى الكوفة عبد اللَّه بن يزيد الخَطْمي، وعلى قضائها سعيد بن نِمْراد
(3)
، وامتنع شُريح أن يحكم في زمن الفتنة، وعلى البصرة عمر [بن عبيد اللَّه]
(4)
بن معمر التيمي، وعلى قضائها هشام بن هُبيرة، وعلى خراسان عبد اللَّه بن خازم.
وكان في أواخر هذه السنة وقعة مرج راهط كما قدَّمنا. وقد استقر ملك الشام لمروان بن الحكم، وذلك بعد ظفره بالضحاك بن قيس وقتله له في الوقعة.
وقيل: إن فيها دخل مروان الديار المصرية، وأخذها من نائبها الذي من جهة ابن الزبير، وهو عبد الرحمن بن جَحْدم
(5)
، واستقرت يد مروان على الشام ومصر وأعمالها، واللَّه أعلم.
[وقال الواقدي: لما أراد ابنُ الزبير هدم البيت شاور النَّاسَ في هدمها، فأشار عليه جابر بن عبد اللَّه، وعبيد اللَّه بن عُمير بذلك، وقال ابن عباس: أخشى أن يأتيَ بعدك من يهدمها، فلا تزال تُهدم حتى يتهاون الناس بحُرْمتها، ولكن أرى أن تصلح ما وهى منها (وتدع بيتًا أسلم الناسُ عليه، وأحجارًا بُعث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عليها. فقال ابن الزبير: لو احترق بيت أحدكم ما رضي حتى يجدِّده، فكيف ببيت
= وبنائها، ومالك في الموطأ (1/ 363، 364) في الحج: باب ما جاء في بناء الكعبة، والنسائي:(5/ 214 - 216) في الحج: باب بناء الكعبة، والترمذي (875) في الحج: باب ما جاء في كسر الكعبة.
(1)
تحرفت في المطبوع إلى: وسه.
(2)
كذا في ب، م ومثله في تاريخ الطبري. ووقع في أ، ط: عبيد اللَّه.
(3)
في الأصول: سعيد بن المرزبان خطأ، والمثبت من تاريخ الطبري. وأيضًا من أخبار القضاة لوكيع (2/ 397).
(4)
ما بين حاصرتين سقط من المطبوع، ووقع في أ، ب: بن عبد اللَّه.
(5)
كذا وردت في أ، ب وتاريخ الطبري وابن الأثير. ووقعت في المطبوع: جحدر.
ربكم)
(1)
! ثم إن ابن الزبير استخار اللَّه ثلاثة أيام، ثم غدا في اليوم الرابع، فبدأ بنقض الرُّكن من الأساس، فلما وصلوا إلى الأساس وجدوا أصلًا بالحِجْر مشبَّكًا كأصابع اليد، فدعا ابن الزبير خمسين رجلًا فأمرهم أن يحفروا، فلما ضربوا المعاول في تلك الأحجار المشبَّكة ارتجَّت مكة، فتركه على حاله، ثم أسّس عليه البناء، وجعل للكعبة بابين موضوعين بالأرض: باب يُدخل منه، وباب يُخرج منه، ووضع الحَجَر الأسود بيده، وشدَّه بفضة لأنه كان قد تصدَّع، وزاد في وسع الكعبة عشرة أذرع، ولطَخ جدرانها بالمسك وسترها بالديباج، ثم اعتمر من مسجد عائشة، وطاف بالبيت وصلَّى وسعى، وأزال ما حول الكعبة من الزّبالة وما كان حولها من الدماء. وكانت الكعبة قد وَهَتْ من أعلاها إلى أسفلها من حجارة المنجنيق، واسودَّ الركن، وانصدع الحجرُ الأسود من النار التي كانت حول الكعبة. وكان سبب تجديد ابن الزبير لها ما ثبت في الصحيحين من حديث عائشة المتقدم ذكره، واللَّه أعلم]
(2)
.
ثم دخلت سنة خمس وستين
فيها اجتمع إلى سليمان بن صُرَد نحو من سبعة عشر ألفًا، كلُّهم يطلبون الأخذ بثار الحسين ممن قتله.
[قال الواقدي: لما خرج الناس إلى النُّخيلة كانوا قليلًا، فلم تعجب سليمان قلَّتُهم، فأرسل حكيم بن منقذ فنادى في الكوفة بأعلى صوته: يا ثارات الحسين، فلم يزل ينادي حتى بلغ المسجد الأعظم، فسمع الناس، فخرجوا إلى النُّخيلة، وخرج أشراف الكوفة فكانوا قريبًا من عشرين ألفًا أو يزيدون -في ديوان سليمان بن صُرَد- فلما عزم على المسير بهم لم يصف معه منهم سوى أربعة آلاف، فقال المسيب بن نَجَبة لسليمان: إنه لا ينفعك الكاره، ولا يقاتل معك إلا من أخرجَتْه النية وباع نفسه للَّه عز وجل، فلا تنتظرن أحدًا، وامضِ لأمرك في جهاد عدوك، واستعن باللَّه عليهم. فقام سليمان في أصحابه وقال: يا أيها الناس! من كان خرج لوجه اللَّه وثواب الآخرة فذلك منا ونحن منه، ومن كان خروجه معنا للدنيا فليس منا ولا يصحبنا. فقال الباقون معه: ما للدنيا خرجنا، ولا لها طلبنا. فقيل له: أنسير إلى قتلة الحسين بالشام وقتلتُه عندنا بالكوفة كلهم مثل عمر بن سعد وغيره؟! فقال سليمان: إن ابن زياد هو الذي جهَّز الجيش إليه وفعل به ما فعل، فإذا فرغنا منه عدنا إلى أعدائه بالكوفة، ولو قاتلتموهم أولًا -وهم أهل مصركم- ما عدم الرجل منكم أن يرى رجلًا قد قتل أباه، قد قتل أخاه أو حميمَه، فيقع التخاذل، فإذا فرغتم من الفاسق ابن زياد حصل لكم المراد. فقالوا: صدقت.
(1)
ما بين هذين القوسين ليس في المطبوع، وهو من أ فقط.
(2)
هذه الفقرة برمتها سقطت من النسخة ب.
فنادى فيهم: سيروا على اسم اللَّه تعالى، فساروا عشية الجمعة لخمس مضين من ربيع الأول]
(1)
.
وقال في خطبته: من كان خرج منكم للدنيا ذهبها وزَبَرْجدها فليس معنا مما يطلب شيء، وإنما معنا سيوف على عواتقنا، ورماح في أكفنا، وزاد يكفينا حتى نلقى عدوَّنا. فأجابوه إلى السمع والطاعة والحالة هذه. وقال لهم: عليكم بابن زياد الفاسق أولًا فليس له إلا السيف وها هو قد أقبل من الشام قاصدًا العراق. فصمّم الناس معه على هذا الرأي.
فلما أزمعوا على ذلك بعث عبد اللَّه بن يزيد وإبراهيم بن محمد -أمراء الكوفة من جهة ابن الزبير- إلى سليمان بن صُرَد يقولان له: إنا نحب أن تكون أيدينا واحدة على ابن زياد، وأنهم يريدون أن يبعثوا معهم جيشا ليقوِّيهم على ما هم قد قصدوا له، وبعثوا إليه البريد أن ينتظرهم حتى يقدموا عليه. فتهيأ سليمان بن صُرَد لقدومهم عليه في رؤوس الأمراء، وجلس في أبهته والجيوشُ محدقة به، وأقبل عبد اللَّه بن يزيد وإبراهيم [بن محمد]
(2)
بن طلحة في أشراف أهل الكوفة من غير قتلة الحسين لئلا يطمعوا فيهم -وكان عمر بن سعد بن أبي وقاص في هذه الأيام كلها لا يبيت إلا في قصر الإمارة عند عبد اللَّه بن يزيد خوفًا على نفسه- فلما اجتمع الأميران عند سليمان بن صُرَد قالا له وأشارا عليه: ألا يذهبوا حتى تكون أيديهم واحدة على قتال ابن زياد، ويجهزوا معهم جيشًا، فإن أهل الشام جمع كثير وجمٌّ غفير وهم يحاجفون عن ابن زياد، فامتنع سليمان من قبول قولهما وقال: إنا قد خرجنا لأمر فلا نرجع عنه ولا نتأخر فيه. فانصرف الأميران راجعين إلى الكوفة.
وانتظر سليمان بن صُرَد وأصحابه أصحابَهم الذين كانوا قد واعدوهم من أهل البصرة وأهل المدائن، فلم يقدموا عليهم ولا واحد منهم، فقام سليمان في أصحابه خطيبًا وحرَّضهم على الذهاب لما خرجوا له، وقال: لو قد سمع إخوانكم بخروجكم للحقوكم سراعًا. فخرج سليمان وأصحابه من النُّخيلة يوم الجمعة لخمس مضين من ربيع الأول سنة خمس وستين، فسار بهم مراحل ما يتقدمون مرحلة إلى نحو الشام إلا تخلَّف عنه طائفة من الناس الذين معه، فلما مرُّوا بقبر الحسين صاحوا صيحة رجل واحد، وتباكوا، وباتوا عنده ليلة يصلُّون ويدعون، وظلوا يومًا يترحمون عليه، ويستغفرون له، ويترضون عنه، ويتمنون أن لو كانوا ماتوا معه شهداء.
قلت: لو كان هذا العزم والاجتماع قبل وصول الحسين إلى تلك المنزلة لكان أنفعَ له وأنصر من اجتماع سليمانَ وأصحابِه لنصرته بعد أربع سنين.
(1)
هذه الفقرة من المطبوع فقط. وقد ورد بدلًا عنها في النسختين أ، ب ما نصه: وقد خطبهم سليمان بن صرد حين خرجوا من الكوفة في ربيع الأول من هذه السنة بالنخيلة، فحرضهم على الجهاد في ذلك.
(2)
سقط من المطبوع.
ولما أرادوا الانصراف جعل لا يَرِيم
(1)
أحد منهم حتى يأتي القبر فيترحم عليه ويستغفر له، حتى جعلوا يزدحمون أشدَّ من ازدحامهم عند الحجر الأسود.
ثم ساروا قاصدين الشام، فلما اجتازوا بقَرْقِيسِيا
(2)
تحصَّن منهم زفر بن الحارث، فبعث إليه سليمان بن صُرَد: إنا لم نأت لقتالكم، فأخرج إلينا سوقًا، فإنا إنما نقيم عندكم يومًا أو بعض يوم، فأمر زفر بن الحارث أن يخرج السوق إليهم، وأمر للرسول إليه -وهو المسيّب بن نَجَبة- بفرس وألف درهم. فقال: أما المال فلا، وأما الفرس فنعم، وبعث زفر بن الحارث إلى سليمان بن صرَد ورؤوس الأمراء الذين معه إلى كل واحد عشرين جزورًا وطعامًا وعلفًا كثيرًا، ثم خرج زفر بن الحارث فشيَّعهم وسار مع سليمان بن صرَد وقال له: إنه قد بلغني أن أهل الشام قد جهزوا جيشًا كثيفًا وعددًا كثيرًا مع حُصين بن نُمير، وشرحبيل بن ذي الكلاع، وأدهم بن محرز الباهلي، وربيعة بن المخارق الغَنَوي، وجبلة بن عبد اللَّه الخثعمي. فقال سليمان بن صرَد: على اللَّه توكلنا، وعلى اللَّه فليتوكل المؤمنون.
ثم عرض عليهم زفر أن يدخلوا مدينته أو يكونوا عند بابها، فإن جاءهم أحد كان معهم عليه. فأبوا أن يقبلوا وقالوا: قد عرض علينا أهل بلدنا مثل ذلك فامتنعنا. قال: فإذا أبيتم ذلك فبادروهم إلى عين الوردة، فيكون الماء والمدينة والأسواق والسباق خلف ظهوركم، وما بيننا وبينكم فأنتم آمنون منه. ثم أشار عليهم بما يعتمدونه في حال القتال [فقال: ولا تقاتلوهم في فضاء فإنهم أكثر منكم عددًا فيحيطون بكم، فإني لا أرى معكم رجالًا والقومُ ذوو رجال وفرسان، ومعهم كراديس فاحذروهم]
(3)
. فأثنى عليه سليمان بن صرَد والناسُ خيرًا. ثم رجع عنهم.
وسار سليمان بن صرَد، فبدر إلى عين الوردة، فنزل غربيها، وأقام هنالك [خمسًا] قبل وصول أعدائه إليه، واستراح سليمان وأصحابه واطمأنوا.
وقعة عين وَرْدة
فلما اقترب قدوم أهل الشام إليهم خطب سليمان أصحابَه، فرغَّبهم في الآخرة، وزهَّدهم في الدنيا، وحثَّهم على الجهاد، وقال: إن قُتلت فالأمير عليكم: المسيّب بن نَجَبة، فإن قُتل فعبد اللَّه بن سعد بن نفيل، فإن قُتل فعبد اللَّه بن وال، فإن قُتل فرفاعة بن شداد، ثم بعث بين يديه المسيب بن نَجَبة في
(1)
"لا يريم": لا يبرح.
(2)
"قرقيسيا": بلد على نهر الخابور قرب رحبة مالك، وعندها مصب الخابور في الفرات.
(3)
ما بين حاصرتين من المطبوع فقط.
أربعمئة
(1)
فارس، فأغاروا على جيش شرحبيل بن ذي الكلاع وهم غازُون
(2)
، فقتلوا منهم جماعة وجرحوا آخرين، واستاقوا نعمًا. وأتى الخبر إلى عبيد اللَّه بن زياد، فأرسل بين يديه الحصين بن نُمير، فصبَّح سليمان بن صُرَد وجيشه، فتواقفوا في يوم الأربعاء لثمان بقين من جمادى الأولى، وحُصين بن نُمير قائم في اثني عشر ألفًا، وقد تهيأ كل من الفريقين لصاحبه، فدعا الشاميون أصحاب سليمان إلى الدخول في طاعة مروان بن الحكم، ودعا أصحاب سليمان الشاميين إلى أن يسلموا إليهم عبيد اللَّه بن زياد فيقتلوه عن الحسين. وامتنع كل من الفريقين أن يجيب إلى ما طُلب منه، فاقتتلوا قتالًا شديدًا عامة يومهم إلى الليل، وكانت الدائرة فيه للعراقيين. فلما أصبحوا أصبح ابن ذي الكلاع وقد وصل إلى الشاميين في ثمانية آلاف
(3)
فارس، وقد أنَّبه وشتمه ابن زياد، فاقتتل الناس في هذا اليوم قتالًا لم يَرَ الشيب والمرد مثلَه قط، لا يحجز بينهم إلا أوقات الصلوات إلى الليل، فلما أصبح الناس في اليوم الثالث وصل إلى الشاميين أدهم بن محرز في عشرة آلاف -وذلك في يوم الجمعة- فاقتتلوا قتالًا شديدًا إلى حين ارتفاع الضحى، ثم استدار أهل الشام باهل العراق وأحاطوا بهم من كل جانب، فخطب سليمان بن صُرَد الناس وحرَّضهم على الجهاد، فاقتتل الناس قتالًا عظيمًا جدًا، ثم ترجَّل سليمان بن صُرَد [وكسر جفن سيفه ونادى: يا عباد اللَّه! من أراد الرواح إلى الجنة والتوبةَ من ذنبه والوفاءَ بعهده فليات إلي. فترجَّل معه ناس كثيرون، وكسروا جفون سيوفهم، وحملوا حتى صاروا في وسط القوم، وقتلوا من أهل الشام مقتلة عظيمة حتى خاضوا في الدماء، وقُتل سليمان بن صُرَد أمير العراقيين]
(4)
رماه يزيد بن الحصين بسهم فوقع، ثم وثب ثم وقع، ثم وثب ثم وقع وهو يقول: فزت ورب الكعبة. فأخذ الراية المسيّب بن نَجَبة، فقاتل بها قتالًا شديدًا وهو يقول:
قد عَلِمَتْ ميَّالةُ الذَّوائبِ
…
واضِحةُ اللَّبّاتِ والتَّرائبِ
أنِّي غداةَ الرَّوع والتغالُبِ
…
أشجَعُ مِنْ ذي لبدةِ
(5)
مُواثبِ
قَصَّاع
(6)
أقرانٍ مَخُوفُ الجانبِ
(7)
ثم قاتل قتالًا شديدًا، فقضى ابن نَجَبة نحبه، ولحق في ذلك الموقف صحبه رحمهم الله. فأخذ
(1)
مثله في تاريخ الطبري (5/ 596)، ووقع في المطبوع: خمسمئة.
(2)
"غارّون": غافلون. وقد تحرفت في المطبوع إلى: عارون.
(3)
مثله في تاريخ الطبري (5/ 598)، ووقع في المطبوع: ثمانية عشر ألف. وهو خطأ.
(4)
ما بين حاصرتين سقط من ب.
(5)
"ذو اللبدة": الأسد.
(6)
في اللسان: قصعت الرجل قصعًا: صغرته وحقرته.
(7)
الأبيات في تاريخ الطبري (5/ 600) ومروج الذهب (3/ 102).
الراية عبد اللَّه بن سعد بن نفيل، فقاتل قتالًا شديدًا أيضًا [وهو يقول: رحم اللَّه إخوتي، منهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر، وما بدَّلوا تبديلا]
(1)
. وحمل حينئذ ربيعة بن المخارق على أهل العراق حملة منكرة، وتبارز هو وعبد اللَّه بن سعد بن نفيل، ثم اتحدا، فحمل ابن أخي ربيعة على عبد اللَّه بن سعد فقتله، ثم احتمل عمه، فأخذ الراية عبد اللَّه بن وال، فحرَّض الناس على الجهاد وجعل يقول: الرواح إلى الجنة -وذلك بعد العصر- وحمل بالناس ففرَّق من كان حوله، ثم قُتل -وكان من الفقهاء المفتين- قتله أدهم بن محرز الباهلي أمير حرب الشاميين ساعتئذ، فأخذ الراية رفاعة بن شداد، فانحاز بالناس وقد دخل الظلام، ورجع الشاميون إلى رحالهم، وانشمر رفاعة بمن بقي معه راجعًا إلى بلاده، فلما أصبح الشاميون إذا العراقيون قد كرُّوا راجعين إلى بلادهم، فلم يبعثوا وراءهم طلبًا ولا أحدًا [فقطع رفاعة بمن معه الخابور، ومرَّ على قَرقيسيا، فبعث إليهم زفر بن الحارث الطعام والعلف والأطباء، فأقاموا ثلاثًا حتى استراحوا، ثم ارتحلوا]
(2)
فلما وصلوا إلى هِيْت إذا سعد بن حذيفة بن اليمان قد أقبل بمن أطاعه من أهل المدائن قاصدين إلى نصرتهم، فلما أخبروه بما كان من أمرهم وما حل بهم، ونَعْوا إليه أصحابهم ترحموا عليهم، واستغفروا لهم، وتباكوا على إخوانهم، وانصرف أهل المدائن إليها، ورجع راجعة أهل الكوفة إليها وقد قتل منهم خلق كثير وجمٌ غفير، وإذا المختار بن أبي عبيد كما هو في السجن لم يخرج منه بعد، فكتب إلى رفاعة بن شداد يعزِّيه فيمن قُتل منهم، ويترحم عليهم، ويغبطهم بما نالوا من الشهادة وجزيل الثواب [ويقول: مرحبًا بالذين أعظم اللَّه أجورهم ورضي عنهم، واللَّه ما خطا منهم أحد خطوة إلا كان ثواب اللَّه له فيها أعظم من الدنيا وما فيها، وإن سليمان قد قضى ما عليه وتوفاه اللَّه وجعل روحه في أرواح النبيين والشهداء والصالحين، وبعد: فأنا الأمير المأمون، قاتل الجبّارين والمفسدين إن شاء اللَّه، فأعِدُّوا واستعدُّوا وأبشروا، وأنا أدعوكم إلى كتاب اللَّه وسنة رسوله والطلب بدماء أهل البيت. . . وذكر كلامًا كثيرًا في هذا المعنى]
(3)
. وقد كان قبل قدومهم أخبر الناس بهلاكهم عن رَئِيِّهِ
(4)
الذي كان يأتي إليه من الشياطين، فإنه قد كان يأتي إليه شيطان، فيوحي إليه قريبًا مما كان يوحي شيطان مسيلمة إلى مسيلمة.
وكان جيش سليمان بن صُرَد وأصحابه يسمى بجيش التوَّابين رحمهم الله.
وقد كان سليمان بن صُرَد [الخزاعي -أبو مطرِّف- الكوفي]
(5)
صحابيًا جليلًا نبيلًا عابدًا. وروى عن
(1)
ما بين حاصرتين ليس في ب، ط.
(2)
ما بين حاصرتين من أ فقط. ومكانه في المطبوع: لما لقوا منهم من القتل والجراح وكلاهما سقط من النسخة ب.
(3)
ما بين حاصرتين من المطبوع فقط، ونحوه في تاريخ الطبري (5/ 606) من رواية أبي مخنف.
(4)
تحرفت في المطبوع إلى: ربه، "والرئيّ": ما يعتاد الإنسان من الجن - اللسان (رأي).
(5)
ما بين حاصرتين من أ فقط. وترجمته وأهم مصادرها في سير أعلام النبلاء (3/ 394).
النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث في "الصحيحين" وغيرهما. وشهد مع علي صفِّين. وكان أحد من كان يجتمع الشيعة في داره لبيعة الحسين، وكتب إلى الحسين فيمن كتب بالقدوم إلى العراق، فلما قدمها وقُتل بكربلاء بعد ذلك ورأى هؤلاء أنهم كانوا سببًا في قدومه وأنهم خذلوه حتى قُتل هو وأهل بيته، فندموا على ما فعلوا معه، ثم اجتمعوا في هذا الجيش وسمَّوا جيشهم: جيش التوابين، وسمَّوا أميرهم سليمان بن صُرَد: أمير التوابين، فقُتل سليمان رضي الله عنه في هذه الوقعة بعين وردة سنة خمس وستين، وقيل: سنة سبع وستين، والأول أصح. وكان عمره يوم قتل ثلاثًا وتسعين سنة رحمه الله.
[وأما المسيب بن نَجَبة بن ربيعة الفَزاري فإنه قدم مع خالد بن الوليد من العراق، وشهد فتح دمشق، ثم عاد إلى العراق وشهد مع علي صفِّين وغيرها. وكان أحد الكبار الذين خرجوا يطلبون بدم الحسين رضي الله عنه]
(1)
وحُمل رأسه ورأس سليمان بن صُرَد إلى مروان بن الحكم بعد الوقعة.
وكتب أمراء الشاميين إلى مروان بما فتح اللَّه عليهم وأظفرهم به من عدوهم، فخطب الناس وأعلمهم بما كان من أمر الجنود ومن قتل من أهل العراق [وقد قال: أهلك اللَّه رؤوس الضلال سليمان بن صُرَد وأصحابه. وعلّق الرؤوس بدمشق]
(2)
.
وكان مروان بن الحكم قد عهد بالأمر من بعده إلى ولديه عبد الملك ثم من بعده عبد العزيز، وأخذ بيعة الأمراء على ذلك في هذه السنة. قاله ابن جرير
(3)
وغيره.
وفيها دخل مروان بن الحكم وعمرو بن سعيد الأشدَق إلى الديار المصرية، فأخذاها من يد نائبها الذي كان لعبد اللَّه بن الزبير، وهو عبد الرحمن بن جَحْدم، وكان سبب ذلك أن مروان قصدها، فخرج إليه نائبها ابن جَحْدم، فقابله مروان ليقاتله، فاشتغل به، وخلص عمرو بن سعيد بطائفة من الجيش من وراء عبد الرحمن بن جَحْدم فدخل مصر فملكها، وهرب عبد الرحمن، ودخل مروان إلى مصر فتملَّكها، وجعل عليها ولده عبد العزيز.
وفيها بعث ابن الزبير أخاه مصعبًا ليفتح له الشام، فبعث إليه مروان عمرو بن سعيد، فتلقّاه إلى فلسطين، فهرب منه مصعب بن الزبير وكرَّ راجعًا ولم يظفر بشيء. واستقر ملك الشام ومصر لمروان.
[وقال الواقدي: إن مروان حاصر مصر، فخندق عبد الرحمن بن جَحْدم على البلد خندقًا وخرج في
(1)
ما بين حاصرتين من أ فقط.
(2)
ما بين حاصرتين من ط فقط.
(3)
في تاريخه (5/ 610).
أهل مصر إلى قتاله، وكانوا يتناوبون القتال ويستريحون، ويسمَّى ذلك يوم التراويح، واستمر القتل في خواصِّ أهل البلد، فقُتل منهم خلق كثير، وقُتل يومئذ عبد اللَّه بن يزيد بن معدي كرب الكلاعي أحد الأشراف. ثم صالح عبد الرحمن مروان على أن يخرج إلى مكة بماله وأهله، فأجابه مروان إلى ذلك، وكتب إلى أهل مصر كتاب أمان بيده، وتفرَّق الناس، وأخذوا في دفن موتاهم والبكاء عليهم، وضرب مروان عنق ثمانين رجلًا تخلَّفوا عن مبايعته، وضرب عنق الأُكيدر بن حملة اللخمي -وكان من قتلة عثمان- وذلك في نصف جمادى الآخر يوم توفي عبد اللَّه بن عمرو بن العاص، فما قدروا أن يخرجوا بجنازته، فدفنوه في داره. واستولى مروان على مصر، وأقام بها شهرًا، ثم استعمل عليها ولده عبد العزيز، وترك عنده أخاه بشر بن مروان، وموسى بن نُصير وزيرًا له، وأوصاه بالإحسان إلى الأكابر، ورجع إلى الشام
(1)
.
وفيها جهَّز مروان جيشين: أحدهما مع حُبَيش بن دُلَجَة القيني
(2)
ليأخذ له المدينة، وكان من أمره ما سنذكره، والآخر مع عبيد اللَّه بن زياد إلى العراق لينتزعه من نواب ابن الزبير، فلما كانوا ببعض الطريق لقوا جيش التوابين مع سليمان بن صُرَد، وكان من أمرهم ما تقدم ذكره. واستمر جيش الشاميين ذاهبًا إلى العراق، فلما كانوا بالجزيرة بلغهم موت مروان بن الحكم.
وكانت وفاته في شهر رمضان من هذه السنة. وكان سبب موته أنه تزوج بأمِّ خالد امرأة يزيد بن معاوية -وهي أم هاشم بنت هاشم بن عتبة بن ربيعة- وإنما أراد مروان بتزويجه إياها ليصغِّر ابنها خالدًا في أعين الناس، فإنه قد كان في نفوس كثير من الناس أن يملكوه بعد أخيه معاوية، فتزوج أمَّه ليصغر أمره فيما بينهم. فبينما هو ذات يوم داخل إلى عند مروان إذ جعل مروان يتكلم فيه عند جلسائه، فلما جلس قال له فيما خاطبه به: يا بن الرطبة الاست. فذهب خالد إلى أمِّه، فأخبرها بما قال له، فقالت: اكتم ذلك ولا تُعلمه أنك أعلمتني بذلك. فلما دخل عليها مروان قال لها: هل ذكرني خالد عندكِ بسوء؟ فقالت له: وماذا عساه يقول لك وهو يحبك ويعظِّمك؟! ثم إن مروان رقد عندها، فلما أخذه النوم عمَدت إلى وسادة فوضعتها على وجهه، وتحاملت عليها هي وجواريها حتى مات غمًا. وكان ذلك في ثالث شهر رمضان سنة خمس وستين بدمشق، وله من العمر ثلاث وستون سنة، وقيل: إحدى وثمانون سنة. وكانت إمارته تسعة أشهر، وقيل: عشرة أشهر إلا ثلاثة أيام.
(1)
هذه الفقرة من المطبوع فقط.
(2)
وقعت في المطبوع: العتيبي، وهو تحريف، تنظر ترجمته في تاريخ دمشق (12/ 86).
ترجمة مَرْوان بن الحَكَم
(1)
هو مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أميَّة بن [عبد]
(2)
شمس بن عبد مناف القرشيّ الأموي، أبو عبد الملك، ويقال: أبو الحكم، ويقال: أبو القاسم.
وهو صحابي عند طائفة كثيرة لأنه ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وروى عنه في حديث صلح الحديبية، وفي رواية في "صحيح البخاري" عن مروان والمِسْور بن مخرمة عن جماعة من الصحابة الحديث بطوله
(3)
.
وروى مروان عن: عمر، وعثمان -وكان كاتبه: أي: كان كاتب عثمان- وعلي، وزيد بن ثابت، وبُسْرة
(4)
بنت صفوان الأسدية - وكانت حماته. وقال الحاكم أبو أحمد: كانت خالته. ولا منافاة بين كونها حماته وخالته.
وروى عنه: ابنه عبد الملك، وسهل بن سعد، وسعيد بن المسيِّب، وعروة بن الزبير، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومجاهد، وغيرهم.
قال الواقدي ومحمد بن سعد: أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يحفظ عنه شيئًا، وكان عمره ثمان سنين حين توفي النبي صلى الله عليه وسلم
(5)
.
وذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من التابعين
(6)
.
وقد كان مروان من سادات قريش وفضلائها.
(1)
طبقات ابن سعد (5/ 35) نسب قريش (159، 160) طبقات خليفة (ت 1984) المحبر (22، 55، 58، 228، 377) تاريخ البخاري الكبير (7/ 368) المعارف (353) الأخبار الطوال (285) الجرح والتعديل (8/ 271) تاريخ الطبري (5/ 530 و 610) مروج الذهب (3/ 94)، معجم الشعراء (317)، جمهرة أنساب العرب (87) الاستيعاب (3/ 1387) الجمع بين رجال الصحيحين (2/ 501) تاريخ ابن عساكر (16/ 170/ أ) أسد الغابة (5/ 144) الكامل في التاريخ (4/ 191) الحلة السيراء (1/ 28) تهذيب الأسماء واللغات (1/ 87/2) مختصر تاريخ دمشق (24/ 172) تهذيب الكمال (ورقة 1315) تاريخ الإسلام (3/ 70) العبر (1/ 71) تذهيب التهذيب (4/ 30/ أ) سير أعلام النبلاء (3/ 476) الكاشف (3/ 116) فوات الوفيات (4/ 125) العقد الثمين (7/ 165) الإصابة (3/ 477) تهذيب التهذيب (10/ 91) النجوم الزاهرة (1/ 164، 169) حسن المحاضرة (1/ 234) خلاصة الخزرجي (373) شذرات الذهب (1/ 289).
(2)
سقط من ط.
(3)
هو في صحيح البخاري في عدة مواضع. ينظر تخريج هذا الحديث وعدة أحاديث أخرى في تحفة الأشراف للمزي (8/ 51)(بشار).
(4)
كذا قيدها الحافظ في التقريب، بضم أولها وسكون المهملة. وقد تحرفت في المطبوع إلى: بسيرة.
(5)
تاريخ دمشق (57/ 232).
(6)
الطبقات الكبرى (5/ 35).
روى ابن عساكر
(1)
وغيره: أن عمر بن الخطاب خطب أمرأة إلى أمها، فقالت: قد خطبها جرير بن عبد اللَّه البَجَلي وهو سيد شباب المشرق، ومروان بن الحكم وهو سيد شباب قريش، وعبد اللَّه بن عمر وهو من قد علمتم. فقالت المرأة: أجادٌّ يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم. قالت: قد زوجناك يا أمير المؤمنين!
وقد كان عثمان بن عفان يكرمه ويعظِّمه. وكان كاتب الحُكم بين يديه. ومن تحت رأسه جرت قضية الدار، وبسببه حُصر عثمان بن عفان فيها، وألحَّ عليه أولئك أن يسلِّم مروان إليهم، فامتنع عثمان أشد الامتناع. وقد قاتل مروان يوم الدار قتالًا شديدًا، وقتل بعض الخوارج، وكان على الميسرة يوم الجمل، ويقال: إنه رمى طلحة بسهم في ركبته فقتله، فاللَّه أعلم.
وقال ابن عبد الحكم
(2)
: سمعت الشافعي يقول: كان عليٌّ يوم الجمل حين انهزم الناس يكثر السؤال عن مروان، فقيل له في ذلك، فقال: إنه تعطفني عليه رحم ماسَّة، وهو سيد من شباب قريش.
وقال ابن المبارك: عن جرير بن حازم، عن عبد الملك بن عمير، عن قَبيصة بن جابر أنه قال لمعاوية: من تركتَ لهذا الأمر من بعدك؟ فقال: أما القارئ لكتاب اللَّه، الفقيه في دين اللَّه، الشديد في حدود اللَّه، مروان بن الحكم. وقد استنابه على المدينة غير مرة، يعزله ثم يعيده إليها. وأقام للناس الحج في سنين متعددة.
وقال حنبل عن الإمام أحمد قال: يقال: كان عند مروان قضاء، وكان يتتبَّع قضايا عمر بن الخطاب.
وقال ابن وهب: سمعت مالكًا يقول - وذكر مروان يومًا فقال: قال مروان: قرأت كتاب اللَّه منذ أربعين سنة، ثم أصبحت فيما أنا فيه من إهراق الدماء وهذا الشأن!
وقال إسماعيل بن عياش: عن صفوان بن عمرو
(3)
، عن شُريح بن عبيد وغيره قال: كان مروان إذا ذكر الإسلام قال:
بنعمةِ ربِّي لا بما قَدَّمتْ يَدِي
…
ولا بتُراثي
(4)
إنَّني كنتُ خاطِئا
(1)
في تاريخ دمشق (57/ 238).
(2)
هو محمد بن عبد اللَّه بن عبد الحكم، كما في مختصر تاريخ دمشق (24/ 179) ووقع في المطبوع: وقال أبو الحكم.
(3)
تحرف في المطبوع إلى: عمرة، وصفوان بن عمرو: هو السكسكي، من رجال التهذيب.
(4)
في مختصر تاريخ دمشق (24/ 180) ببراتي.
وقال الليث عن يزيد بن [أبي]
(1)
حَبيب، عن سالم أبي النَّضر أنه قال: شهد مروان جنازة، فلما صلَّى عليها انصرف، فقال أبو هريرة: أصاب قيراطًا وحُرم قيراطًا. فأُخبر بذلك مروان، فأقبل يجري حتى بدت ركبتاه، فقعد حتى أُذن له.
وروى المدائني، عن إبراهيم بن محمد، عن جعفر بن محمد: أن مروان كان أسلف علي بن الحسين حين رجع إلى المدينة بعد مقتل أبيه الحسين ستة آلاف دينار، فلمّا حضرته الوفاة أوصى إلى ابنه عبد الملك أن لا يسترجع عن علي بن الحسين شيئًا، فبعث إليه عبد الملك بذلك، فامتنع من قبولها، فألحَّ عليه، فقبلها.
وقال الشافعي: أنبأنا حاتم بن إسماعيل، عن جعفر بن محمد، عن أبيه: أن الحسن والحسين كانا يصلِّيان خلف مروان ولا يُعيدانها، ويعتدَّان بها.
وقد روى عبد الرزاق، عن الثَّوري، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب قال: أول من قدَّم الخطبة على الصلاة يوم العيد مروان، فقال له رجل: خالفتَ السنة، فقال مروان: إنه قد تُرك ما هنالك. فقال أبو سعيد: أما هذا فقد قضى ما عليه، سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول:"مَنْ رأى منكم منكَرًا فليغيِّرْهُ بيده، فإنْ لم يستطِع فبلسَانه، فإنْ لم يستطِع فبقلبه، وذلك أضعفُ الإيمان"
(2)
.
قالوا: ولما كان نائبًا بالمدينة كان إذا وقعت معضلة جمع مَنْ عنده من الصحابة، فاستشارهم فيها.
قالوا: وهو الذي جمع الصِّيعان، فأخذ بأعدلها، فنُسب إليه الصاع، فقيل: صاع مروان.
وقال الزبير بن بكار: حدّثنا إبراهيم بن حمزة، حدّثني ابن أبي علي اللَّهَبي
(3)
، عن إسماعيل بن أبي سعيد الخدري، عن أبيه قال: خرج أبو هريرة من عند مروان فلقيَه قوم قد خرجوا من عنده فقالوا له: يا أبا هريرة إنه أشهدنا الآن على مئة رقبة أعتقها الساعة، قال: فغمز أبو هريرة يدي وقال: يا أبا سعيد: يَك
(4)
من كسب طيَّب خيرٌ من مئة رقبة. قال الزبير: اليَك
(5)
الواحد.
وقال الإمام أحمد: حدّثنا عثمان بن أبي شيبة، حدّثنا جرير، عن الأعمش، عن عطية، عن
(1)
سقطت من ط.
(2)
رواه عبد الرزاق في المصنف رقم (5649) أخرجه مسلم (49) في الإيمان: باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان، والترمذي (2172) في الفتن: باب ما جاء في تغيير المنكر من طريق أخرى عن سفيان به.
(3)
هو علي بن علي. و"اللهَبي": نسبة إلى أبي لهب. ذكره السمعاني في الأنساب (11/ 44) وقال: يروي عن الثقات الموضوعات، وعن الأثبات المقلوبات. ولا يجوز الاحتجاج به.
(4)
تحرفت هذه اللفظة في أ، ط إلى:"بك".
(5)
تحرفت هذه اللفظة في أ، ط إلى:"البك".
أبي سعيد قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إذا بلغَ بنو أبي فلانٍ ثلاثين رجلًا اتَّخذوا مال اللَّه دُوَلًا، ودين اللَّه دَخَلًا، وعباد اللَّه خَوَلًا"
(1)
.
ورواه أبو يعلى، عن زكريا بن يحيى زَحْمويه، عن صالح بن عمر، عن مطرِّف، عن عطيَّة، عن أبي سعيد قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إذا بلغَ بنو الحكم ثلاثين رجلًا اتَّخذوا دين اللَّه دَخَلًا، وعباد اللَّه خَوَلَّا، ومال اللَّه دُوَلًا"
(2)
.
وقد رواه الطبراني
(3)
، عن أحمد بن عبد الوهاب، عن أبي المغيرة، عن أبي بكر بن أبي مريم، عن راشد بن سعد، عن أبي ذرّ قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا بلغَ بنو أميَّة أربعين رجلًا. . . " وذكره. وهذا منقطع.
ورواه العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة من قوله:"إذا بلغَ بنو أبي العاص ثلاثين رجلًا. . . " فذكره.
ورواه البَيْهقي وغيره من حديث ابن لَهِيعة عن أبي قَبيل، عن ابن وهب، عن معاوية وعبد اللَّه بن عباس، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: أنه قال: "إذا بلغَ بنو الحكم ثلاثين اتَّخذوا مال اللَّه بينهم دُوَلًا، وعباد اللَّه خَوَلًا، وكتاب اللَّه دخلًا. فإذا بلغوا ستة وتسعين وأربعمئة كان هلاكُهم أسرعَ من لَوْك تمرة". وأن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ذكر عبد الملك بن مروان فقال: "أبو الجبابرة الأربعة".
وهذه الطرق كلها ضعيفة.
وروى أبو يعلى وغيره -من غير وجه- عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة:"أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رأى في المنام أن بني الحكم يَرْقَوْن على منبره ويَنْزلون، فأصبح كالمتغيّظ وقال: رأيت بني الحكم يَنْزون على منبري نَزْوَ القردة! فما رؤي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مستجمعًا ضاحكًا بعد ذلك حتى مات".
ورواه الثوري، عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيِّب مرسلًا وفيه: فأوحى اللَّه إليه: إنما هي دنيا أُعطوها. فقرَّتْ عينه. وهي قوله: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء: 60] يعني: بلاءً للناس واختبارًا.
(1)
أخرجه أحمد في مسنده (3/ 80) وهو حديث ضعيف، كما سيبين المصنف حيث يقول:"وهذه الطرق كلها ضعيفة"، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله (الصحيحة 2/ 379 حديث 744)، ولم أر له سندًا يفرح به، فمدار أسانيده على عطية العوفي وهو ضعيف، فحكم ابن كثير أولى (بشار). "والدخل": الفساد. "والخول": الخدم والعبيد.
(2)
أخرجه أبو يعلى في مسنده (2/ رقم 1152).
(3)
في مسند الشاميين (1451).
وهذا مرسل، وسنده إلى سعيد ضعيف.
وقد ورد في هذا المعنى أحاديث كثيرة موضوعة، فلهذا أضربنا صفحًا عن إيرادها لعدم صحتها. [وقد كان أبوه الحكم من أكبر أعداء النبي صلى الله عليه وسلم وإنما أسلم يوم الفتح، وقدم الحكم المدينة، ثم طرده النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، ومات بها.
ومروان كان أكبر الأسباب في حصار عثمان، لأنه زوّر على لسانه كتابًا إلى مصر بقتل أولئك الوفد.
ولما كان متولِّيًا على المدينة لمعاوية كان يسبُّ عليًا كل جمعة على المنبر. وقال له الحسين بن علي: لقد لعن اللَّه أباك الحكم وأنت في صُلْبه على لسان نبيِّه فقال: "لعن اللَّه الحكم وما ولد". واللَّه أعلم]
(1)
.
وقد تقدم أن حسان بن مالك بن بَحْدل لما قدم عليه مروان أرض الجابية أعجبه إتيانه إليه، فبايعه، وبايع أهل الأردن على أنه إذا انتظم له الأمر نزل عن الإمرة لخالد بن يزيد، ويكون لمروان إمرة حمص، ولعمرو بن سعيد نيابة دمشق. وكانت البيعة لمروان يوم الإثنين للنصف من ذي القعدة سنة أربع وستين. قاله الليث بن سعد وغيره.
وقال الليث: وكانت وقعة مرج راهط في ذي الحجة من هذه السنة بعد عيد النحر بيومين.
قالوا: فغلب الضحاك بن قيس، واستوسق له ملك الشام ومصر، فلما استقرَّ ملكه في هذه البلاد بايع من بعده لولده عبد الملك، ثم من بعده لولده عبد العزيز -والد عمر بن عبد العزيز- وترك البيعة لخالد بن يزيد بن معاوية لأنه كان لا يراه أهلًا للخلافة، ووافقه على ذلك حسان بن مالك
(2)
بن بَحْدل - وإن كان خالًا لخالد بن يزيد -وهو الذي قام بأعباء بيعة عبد الملك. ثم إن أمَّ خالد دبَّرت أمر مروان فسمَّته- ويقال: بل وضعت على وجهه وهو نائم وسادةً فمات مخنوقًا، ثم إنها أعلنت الصُّراخ هي وجواريها وصِحْنَ: مات أمير المؤمنين فجأة. ثم قام من بعده ولده عبد الملك بن مروان كما سنذكره.
وقال عبد اللَّه بن أبي مذعور: حدّثني بعض أهل العلم قال: كان آخر ما تكلَّم به مروان: "وجبت الجنَّة لمن خاف النار". وكان نقش خاتمه: العزَّة للَّه.
وقال الأصمعي: حدّثنا عدي بن أبي عمار، عن أبيه، عن حرب بن زياد قال: كان نقش خاتم مروان: آمنتُ بالعزيز الرحيم.
(1)
ما بين حاصرتين من المطبوع فقط.
(2)
تحرف في المطبوع إلى: مالك بن حسان.
وكانت وفاته بدمشق عن إحدى -وقيل: ثلاث- وستين سنة. وقال أبو مَعْشر وغير واحد: كان عمره يوم توفي إحدى وثمانين سنة.
وقال خليفة: حدَّثني الوليد بن هشام، عن أبيه، عن جدِّه قال: مات مروان بدمشق لثلاث خلون من شهر رمضان سنة خمس وستين وهو ابن ثلاث وستين، وصلَّى عليه ابنه عبد الملك، وكانت ولايته تسعة أشهر وثمانية عشر يومًا وقال غيره: عشرة أشهر.
وقال ابن أبي الدنيا وغيره: كان قصيرًا، أحمر الوجه، أوقَص
(1)
، دقيق العنق، كبير الرأس واللحية، وكان يُلقب: خيط باطل.
قال الحافظ ابن عساكر
(2)
: وذكر سعيد بن كثير بن عُفير: أن مروان مات حين انصرف من مصر بالصِّنَّبرة
(3)
، ويقال: بِلُدّ
(4)
. وقد قيل: إنه مات بدمشق ودفن بين باب الجابية وباب الصغير.
[وكان كاتبه عبيد بن أوس، وحاجبه المِنْهال مولاه، وقاضيه أبو إدريس الخَوْلاني، وصاحب شرطته يحيى بن قيس الغسّاني.
وكان له من الولد: عبد الملك، وعبد العزيز، ومعاوية، وغير هؤلاء. وكان له عدة بنات من أمَّهات شتّى]
(5)
.
(1)
"الوقص": قصر العنق.
(2)
تاريخ دمشق (57/ 280).
(3)
"الصنبرة": موضع بالأردن مقابل لعقبة أَفيق، بينه وبين طبرية ثلاثة أميال معجم البلدان (3/ 425).
(4)
"لُدّ": قرية قرب بيت المقدس من نواحي فلسطين معجم البلدان (5/ 15).
(5)
ما بين حاصرتين من المطبوع فقط.