المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرحمن الرحيم إنَّ الحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، ونعوذُ - شرح صفة الصلاة لابن القيم

[خالد المشيقح]

فهرس الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

إنَّ الحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، ونعوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فلا مضلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أن لَا إلَهَ إلا اللهُ وَحَدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُه، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].

{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1].

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [الأحزاب: 70 71].

أما بعد:

فهذا الشرح أصله دروس ألقيتها في محافظة الرس في شهر صفر عام 1443 هـ، وقد قام أخونا الشيخ سهيل بن إبراهيم الطاسان بالعناية بإخراجها، وقد نظرت فيها بعد نسخها، وعدلت ما يحتاج إلى تعديل، وأشكر جمعية الدعوة والإرشاد وتوعية الجاليات في الرس على ترتيب هذا الدرس والتكفل بنسخه وطباعته وتوزيعه، فأسأل الله عز وجل أن ينفع بها ملقيها، وقائلها، والناظر فيها، وأن يبارك فيها، آمين؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

د. خالد بن علي المشيقح

ص: 5

أمسية طيبة ولحظاتٌ مباركة نقضيها في مدارسة كتاب الله وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم في أمرٍ يتعلق بأهمِّ أركان الإسلام بعد الشهادتين؛ ألا وهو ركن الصلاة، في مسألةٍ أيضًا تعتبر من أهم مسائل الصلاة وهي: معرفة الكيفية والهيئة والصفة التي ينبغي أن تكون عليها الصلاة كما جاء عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

وهذه الصفة التي بين أيدينا كتبها عالمٌ جليل لا يخفى على أسماع أهل العلم، علمه معلوم وشهرته ذائعة؛ ألا وهو ابن القيم رحمه الله محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن القيم الجوزي، المولود سنة إحدى وتسعين وستمائة للهجرة، والمتوفى سنة إحدى وخمسين وسبعمئة للهجرة، وابن القيم رحمه الله لا يحتاج أن يُعرَّف به معروف لدى الجميع بعلمه الواسع الغزير في شتى فنون العلم، وهو أحد تلامذة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.

هذه الصفة التي سطَّرها ابن القيم رحمه الله لخَّص فيها صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم من التكبير إلى التسليم، وهذه الصفة أوردها رحمه الله في كتابه كتاب الصلاة وحكم تاركها في آخر كتاب الصلاة، وقال:[فصلٌ: فهاك سياق صلاته صلى الله عليه وسلم من حين استقباله القبلة] إلى آخره كما سيأتينا إن شاء الله.

وكتاب الصلاة كسائر كتب ابن القيم رحمه الله تُعنى بالتقعيد والتأصيل ومراعاة الدليل والأخذ به، وإيراد مذاهب الأئمة والسلف وأدلتهم وما ورد عليها من مناقشة، ثم بعد ذلك ينتهي به السياق إلى ترجيح ما دلَّ عليه كتاب الله وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم.

وهذا الكتاب [كتاب الصلاة] الذي ذكر فيه ابن القيم رحمه الله هذا الفصل في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم كتابٌ قيِّم، ساقه ابن القيم رحمه الله في الإجابة على عشرة أسئلة تتعلق بحكم الصلاة وحكم تاركها، تكلم عن حكم تارك الصلاة، وعن قتله،

ص: 6

وهل يُقتَل مسلمًا أو كافرًا؟ وحكم صلاة الليل بالنهار، وحكم صلاة النهار بالليل، وحكم صلاة الجماعة، وحكم الصلاة في البيت، وما يتعلق بالتخفيف الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم وما ضابطه، إلى آخره.

تكلم رحمه الله عن هذه المسائل، بعرض أقوال أهل العلم، ومذاهب الأئمة وسلف الأمة، وأدلتهم، ويُرجِّح ما يدل عليه الدليل، ثم بعد ذلك ختم هذا الكتاب القيم بهذه الصفة التي بين أيدينا.

ص: 7

قال الإمام ابن القيم عليه رحمة الله في كتابه الصلاة:

فَصْلٌ

فهاك سياق صلاته صلى الله عليه وسلم من حين استقباله القبلة وقوله: «الله أكبر» إلى حين سلامه، كأنَّك تشاهده عيانًا، ثم اختر لنفسك بعدُ ما شئت.

قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إِذا قام إِلى الصلاة واستقبل القبلة

قوله: «فهاك» أي: اسم فعل أمر بمعنى خذ.

قوله: «سياق صلاته صلى الله عليه وسلم، من حين استقباله القبلة

» هنا أراد رحمه الله أن يُبيِّن صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم من التسليم إلى التكبير، وقد ذكر رحمه الله جملة صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان هناك مسائل ما ذكرها رحمه الله إلا أنه من حيث العموم أتى على جملة صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم.

قوله: «ثم اختر لنفسك بعدُ ما شئت» يعني مع التنزّل أن الإنسان له الاختيار، وإلا فإن المسلم سيختار هدي النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا هو الأصل في المسلم، أنه يأخذ بما دلَّ عليه الدليل، قال الله عز وجل:{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 65]، {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور: 51]، {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36].

فقوله رحمه الله: «اختر لنفسك بعدُ ما شئت» يعني خُذْ بهدي النبي صلى الله عليه وسلم وليس مراده أنك تأخذ بقولٍ ولو خالف هدي النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه إنما قال ذلك؛ لأن الأصل في المسلم إنما يأخذ بما دلَّ عليه الدليل، وأن هذه الصفة التي كتبها على وفق هديه صلى الله عليه وسلم.

قوله رحمه الله: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إِذا قام إِلى الصَّلاة» القيام ركن من أركان

ص: 9

ووقف في مصلاه رفع يديه إِلى فروع أُذنيه»

(1)

.

الصلاة في الفرض بالاتفاق، وفي النفل مستحب، قال الله عز وجل:{وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238]، ولحديث أبي هريرة مرفوعًا:«إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة فكبِّر»

(2)

، متفق عليه.

والحد الفاصل بين حد القيام وحد الركوع أنه متى انحنى، فكان إلى القيام أقرب منه إلى الركوع فهو في حد القيام.

قوله: «وَوَقف في مصلَّاه رفع يَدَيْهِ إِلى فروع أُذُنَيْه» رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام سنَّة باتفاق الأئمة؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: «رأيت النبي صلى الله عليه وسلم إذا افتتح الصلاة رفع يديه حتى يُحاذي منكبيه» ، متفق عليه.

وعن سعيد بن جبير: أنه سُئل عن رفع اليدين في الصلاة، فقال: هو شيء يزين به الرجل صلاته، كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفعون أيديهم في الافتتاح، وعند الركوع، وإذا رفعوا رؤوسهم، رواه البيهقي في السنن الكبرى

(3)

. وإسناده صحيح.

وسيأتينا أن رفع الأيدي في الصلاة ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في أربعة مواضع فقط، أما الموضع الخامس: عند كل خفضٍ ورفع هذا موضع خلاف سنشير إليه وأضيق المذاهب في هذه المسألة هو مذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله.

قال المؤلف رحمه الله: «إِلى فروع أُذُنَيْه» يعني ترفع إلى فروع أذنيك، أعلى

(1)

أخرجه البخاري (737)، ومسلم (391).

(2)

أخرجه: البخاري رقم (10) ومسلم رقم (4).

(3)

السنن الكبرى (2/ 75).

ص: 10

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الأذنين، ورفع الأيدي ورد فيه صفتان:

الصفة الأولى: إلى فروع الأذنين؛ لما روى مالك بن الحويرث رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا كبر رفع يديه حتى يُحاذي بهما أذنيه، وإذا ركع رفع حتى يحاذي بهما أذنيه، وإذا رفع رأسه من الركوع فقال:«سمع الله لمن حمده» فعل مثل ذلك، رواه مسلم

(1)

، وفي

لفظ: حتى يُحاذي بهما فروع أذنيه، رواه مسلم.

وعن وائل بن حجر رضي الله عنه قال: قدمت المدينة، فقلت: لأنظرن إلى صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فكبر ورفع يديه حتى رأيت إبهاميه قريبًا من أذنيه

(2)

.

الصفة الثانية: إلى حذو المنكبين؛ لما رواه البخاري قال أبو حميد الساعدي رضي الله عنه: أنا كنت أحفظكم لصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأيته إذا كبر جعل يديه حذاء منكبيه.

ولحديث ابن عمر رضي الله عنهما: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة رفع يديه حتى يكونا حذو منكبيه ثم يكبر

(3)

. متفق عليه.

وعن نافع، أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يُكبر بيديه حين يستفتح، وحين يركع، وحين يقول: سمع الله لمن حمده، وحين يرفع رأسه من الركوع، وحين يستوي قائمًا. قلت لنافع: كان ابن عمر يجعل الأولى أرفعهن؟ قال: لا. مصنف عبد الرزاق، وجزء رفع اليدين للبخاري. وإسناده صحيح.

فهاتان صفتان، والصفات الواردة على وجوه متنوعة، للعلماء في ذلك مسلكان:

(1)

رواه مسلم (391).

(2)

أخرجه مسلم (401)، وأحمد (18850) واللفظ لأحمد.

(3)

رواه البخاري (735)، ومسلم (390).

ص: 11

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

* مسلك الجمع.

* ومسلك الترجيح.

فمسلك الترجيح: يذهب إليه كثير من الأئمة، فتجد أن بعض الأئمة يرجح هذه الصفة ويختارها، ويُرجِّح هذا الذكر ويختاره

إلخ.

والمسك الثاني: مسلك الجمع، ويختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وهو مسلك الجمع، وهو العمل بجميع أنواع العبادات الواردة في سنَّة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تطرق ابن رجب رحمه الله إلى هذا في كتابه [القواعد].

* ومسلك ابن تيمية رحمه الله هو الصواب لما في ذلك من العمل بكل سنَّة النبي صلى الله

عليه وسلم، هذه فائدة.

* والفائدة الثانية: حفظ العلم.

* والفائدة الثالثة: حضور القلب، القلب يحضر إذا كنت في هذه الصلاة تطبِّق هذه السنَّة، والصلاة التالية تطبِّق هذه السنَّة، ففي ذلك حفظ العلم، وفيه أيضًا حضور القلب، وفيه أيضًا العمل بكل السنَّة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم.

فَرع: زمن الرفع: يرفع يديه أولًا فإذا استقرتا في موضع المحاذاة كبر؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام للصلاة رفع يديه حتى تكونا حذو منكبيه، ثم كبَّر، رواه مسلم. لكن لفظه عند البخاري: فرفع يديه حين يكبر، ولفظ مسلم أكثر رواة.

وفي حديث أبي حميد مرفوعاً: يرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، ثم يكبر، أبو داود، إسناده صحيح.

ص: 12

واستقبل بأصابعه القبلة ونشرها، وقال: الله أكبر ولم يكن يقول قبل ذلك: نَوَيْتُ أُصلِّي كذا وكذا، مستقبل القبلة، أَربع ركعاتٍ، فريضة الوقت، أداءً لله تعالى، إمامًا أو مأمومًا! ولا كلمةً واحدةً من ذلك في مجموع صلاته من أوَّلها إلى آخرها؛ فقد نَقَل عنه أصحابه حركاته وسكناته وهيئاته، حتى اضطراب لحيته في الصَّلاة، حتى إنَّه حَمَل بنت ابنته مرَّةً في الصَّلاة، فنقلوه ولم يهملوه. فكيف يتَّفق مَلَؤُهُم من أوَّلهم إلى آخرهم على ترْك نقل هذا المهمِّ، الذي شِعَار الدُّخول في الصَّلاة؟! ولعمر الله لو ثبت عنه من هذا كلِّه

قوله: «وقال: «الله أكبر» » هذا متواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يفتتح صلاته بالتكبير، وهذا ما عليه عامة أهل العلم رحمهم الله خلافًا لأبي حنيفة، فهو يقول: يصح كل ذكرٍ دالٍّ على التعظيم.

قوله: «ولم يكن يقول قبل ذلك: نَوَيْتُ أُصلِّي كذا وكذا، مستقبل القبلة، أَربع ركعاتٍ، فريضة الوقت، أداءً لله تعالى، إمامًا .... » أي: لم يكن من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه يتلفَّظ ب‌

‌النية،

وذلك أن النية من أعمال القلوب وليست من أعمال الجوارح، والعبادات توقيفية، ولأن الذي يتلفظ بالنية كأنه يُعلِم الله عز وجل بما سيعمله، والله سبحانه وتعالى يعلم السر وأخفى، وهذا خلاف ما عليه متأخرو الفقهاء؛

* فمتأخرو الفقهاء يقولون: يُستحب أن يتلفظ بالنية.

* الحنابلة يقولون: يتلفظ بها سرًّا.

* الشافعية أوسع من هذا يقولون: يستحب أن ينطق بها.

وهذا كله ليس عليه دليل، والصحيح ما ذكر المؤلف رحمه الله هو أن التلفظ بالنية غير مشروع، وهذا ما ذهب إليه ابن تيمية، وما عليه المحققون؛ لما ذكر

ص: 13

كلمة واحدة لكُنَّا أول من اقتدى به فيها، وبادر إليها ثم كان يمسك شماله بيمينه، فيضعها عليها فوق المِفْصَل،

المؤلف رحمه الله من الدليل أنه لم يُنقَل عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأما ما ورد في الحج من قوله صلى الله عليه وسلم في

حديث أنس رضي الله عنه: «لبيك عمرة وحجًّا»

(1)

، رواه مسلم إلى آخره، فهذا تلفُّظٌ بالمنوي وليس تلفظًا بالنية.

قوله: «ثم كان يمسك شماله بيمينه، فيضعها عليها فوق المِفْصَل» وضع اليد اليمنى على اليد اليسرى هذا ما عليه عامة أهل العلم، وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال:«من أخلاق النبيين وضع اليمين على الشمال في الصلاة»

(2)

، رواه ابن أبي شيبة، وابن المنذر في الأوسط. وإسناده صحيح.

وروى ابن القاسم عن الإمام مالك كراهة وضع اليمنى على اليسرى في الفرض، وجوازه في النفل. وذكر القرافي أن المشهور عن مالك هو القبض، وذكر عبد الوهاب: أنه المذهب، وابن العربي: أنه الصحيح، وابن رشد: أنه الأظهر.

وروى ابن نافع، وعبد الملك، ومطرف عن مالك أنه قال:«توضع اليمنى على اليسرى في الصلاة في الفريضة والنافلة» .

وأما صفة وضع اليمين على الشمال، ففيها صفتان:

الصفة الأولى: يضع كف يده اليمنى على كوع اليسرى، وهذا المذهب عند الحنابلة؛ وحجته حديث وائل بن حجر رضي الله عنه قال:«فكبَّر ورفع يديه حتى حاذتا أذنيه، ثم وضع يده اليمنى على ظهر كفه اليسرى والرسغ والساعد» ، رواه أحمد،

(1)

رواه مسلم (1232).

(2)

ابن أبي شيبة (1/ 342/ رقم 3936).

ص: 14

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وأبو داود، والنسائي، وصحَّحه ابن حبان، والحديث في مسلم عن وائل بن حجر رضي الله عنه:«أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه حين دخل في الصلاة كبر وصف همام حيال أذنيه ثم التحف بثوبه، ثم وضع يده اليمنى على اليسرى» ، وليس فيه ذكر الرسغ والساعد. تفرد به زائد بن قدامة، والمحفوظ:«أخذ شماله بيمينه» .

ولحديث سهل بن سعد رضي الله عنه: «كان الناس يُؤمرون أن يضع الرجل اليد اليمنى

على ذراعه اليسرى في الصلاة»

(1)

، رواه البخاري، وتحمل على الوضع على الكف والرسغ.

وفي البخاري معلقًا بصيغة الجزم: «ووضع علي رضي الله عنه كفه على رسغه الأيسر، إلا أن يحك جلدًا أو يصلح ثوبًا» .

وعن جرير الضبي، عن أبيه، قال:«رأيت عليًّا يمسك شماله بيمينه على الرُّسغ فوق السرة» رواه أبو داود.

وعند ابن أبي شيبة، والطحاوي في شرح معاني الآثار عن جرير الضبي قال:«كان علي رضي الله عنه إذا قام في الصلاة وضع يمينه على رسغه، فلا يزال كذلك حتى يركع مثل ما ركع إلا أن يصلح ثوبه» ، وإسناده صحيح.

الصفة الثانية: يقبض بيده اليمنى على كوع يسراه، وبعض ساعدها ورسغها، وهو المشهور من مذهب الشافعية؛ لحديث وائل قال: «قلت: لأنظرن إلى صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يُصلي، قال: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستقبل القبلة فكبر، فرفع يديه حتى حاذتا أذنيه، ثم أخذ شماله بيمينه، فلما أراد أن يركع

(1)

أخرجه البخاري (745).

ص: 15

ثم يضعهما على صَدْرِه صلى الله عليه وسلم

رفعهما مثل ذلك، ثم وضع يديه على ركبتيه، فلما رفع رأسه من الركوع رفعهما مثل ذلك، فلما سجد وضع رأسه بذلك المنزل من بين يديه، ثم جلس فافترش رجله اليسرى ووضع يده اليسرى على فخذه اليسرى وحد مرفقه الأيمن على فخذه اليمنى وقبض ثنتين وحلق حلقة، ورأيته يقول هكذا، وحلق بشر الإبهام والوسطى وأشار بالسبابة»

(1)

. رواه أحمد، والبخاري في رفع اليدين، وأبو داود، وابن ماجه، والترمذي. قال الترمذي:«هذا حديث حسن صحيح» .

وأصله في مسلم، ولفظه:«ثم يضع يده اليمنى على اليسرى»

(2)

. ويمكن أن تحمل رواية الوضع على رواية القبض، فتكون صفة واحدة.

ويحتمل صفتان:

الصفة الأولى: القبض بيده اليمنى على رسغ اليسرى كما في حديث وائل.

الصفة الثانية: الوضع على كفه اليسرى كما في حديث سهل.

وقد سبق أن العبادة الواردة على وجوه، يفعل هذا الوجه تارة، والآخر تارة أخرى.

قوله: «ثم يضعهما على صَدْرِه» يعني الوضع للكفين على الصدر؛ لحديث سهل بن سعد رضي الله عنه في البخاري معلًّقًا بصيغة الجزم: «كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل يده اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة» ، فإذا وضع يده اليمنى على ذراعه اليسرى فإنه سيكون ذلك على صدره.

(1)

أخرجه أبو داود (957)، والنسائي (3/ 37)، والترمذي (292).

(2)

سبق تخرجه.

ص: 16

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ولحديث وائل بن حجر رضي الله عنه قال: «صليتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضع يده اليمنى على يده اليسرى على صدره» ، رواه ابن خزيمة وصحَّحه، والبيهقي. والحديث تفرد مؤمل بن إسماعيل، وهو سيء الحفظ، وخالفه الثقات من أصحاب سفيان الثوري مثل: وكيع، وعبد الرزاق، ويحيى بن آدم، وأبو نعيم، ومحمد بن يوسف الفريابي، وعبد الله بن الوليد، لم يذكروا:«على صدره» ، فهي شاذة، والحديث في مسلم دون قوله:«على صدره» .

ولما روى الإمام أحمد في مسنده عن قبيصة بن هلب، عن أبيه رضي الله عنه قال:«رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يضع يده على صدره» . لكن قبيصة مجهول، وهو يروي عن سماك بن حرب، وكل من روى عن سماك وسفيان لم يذكروا وضع اليد على الصدر.

ولما روى ابن جرير الضبي عن أبيه أنه قال: «رأيت عليًّا رضي الله عنه يُمسك شماله بيمينه على الرسغ فوق السرة»

(1)

. أخرجه أبو داود.

ودون قوله: «فوق السرة» ، علَّقه البخاري في صحيحه أول كتاب العمل في الصلاة. ووصله الحافظ ابن حجر في تغليق التعليق.

وعن الإمام أحمد، وبه قال ابن قدامة، والمجد: إنه مخيّر؛ عملًا بمجموع الأدلة. قال أحمد كما في مسائل الكوسج: قلت: أين يضع يمينه على شماله؟ قال: كل هذا عندي واسع.

ولعل الأقرب: الرواية الثالثة، فيكون الأمر واسعًا.

(1)

أخرجه أبو داود رقم (743).

ص: 17

ثُمَّ يقول: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ وَتَبَارَكَ اسْمُكَ، وَتَعَالَى جَدُّك، ولا إله غيرك»

(1)

. وكان أحيانًا يقول: «اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كما باعَدْت بين المشرق والمغرب، اللهم نَقِّنِي من خطايَاي كما يُنَقَّى الثوب الأبيض من الدَّنَس، اللَّهُمَّ اغسل خطايايَ بالماء والثَّلْج والبَرَد»

(2)

. وكان يقول أحيانًا: «وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا، وما أنا من المشركين،

قوله: «ثم يقول: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ وَتَبَارَكَ اسْمُكَ، وَتَعَالَى جَدُّك، ولا إله غيرك» » أي: ثم يستفتح، وأضيق الناس في الاستفتاحات هم المالكية يُكره في الفرض، ويجوز في النفل، وكذلك أيضًا هم أضيق الناس في الاستعاذة، والبسملة، وأوسع الناس في هذا هم الشافعية.

وقوله: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ .... » كما في حديث أبي سعيد رضي الله عنه في مسند أحمد، وسنن أبي داود، وهو الوارد عن عمر رضي الله عنه موقوفاً رواه مسلم، وقد رجح ابن القيم رحمه الله في كتابه [زاد المعاد] هذا الاستفتاح من عشرة أوجه.

فالإمام أحمد رحمه الله يأخذ بهذا الاستفتاح، وكذا أبو حنيفة رحمه الله، وذكر المؤلف رحمه الله صيغًا من صيغ الاستفتاح.

قوله: «وكان أحيانًا يقول: «اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ

»» هذا الاستفتاح من حديث أبي هريرة في [الصحيحين].

قوله: «وكان يقول أحيانًا: «وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا،

» خرَّجه مسلم من حديث علي رضي الله عنه، وهذا اختيار الشافعي.

(1)

أخرجه أبو داود (775)، وَالتِّرْمِذِيّ (242)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف أبي داود (775).

(2)

أخرجه البخاري (744)، ومسلم (598).

ص: 18

إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين، اللهم أنت الملك، لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمتُ نفسي، واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعًا، لا يغفر الذُّنوب إلَّا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلَّا أنت، واصرف عنِّي سيِّئَها، لا يصرِفُ عنِّي سيِّئَها إلَّا أنت، لبَّيْك وسَعْدَيْك، والخير كلُّه في يَدَيك، والشَّرُّ ليس إليك، أنا بك وإليك، تباركت وتعالَيْت، استغفرك وأتوب إليك»

(1)

. ولكن هذا إنَّما حُفِظ عنه في صلاة اللَّيل. ربَّما كان يقول: «اللهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا، اللهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا، اللهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا، الحمد لله كثيرًا، الحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرةً وأصيلًا»

(2)

.

لكن قال المؤلف رحمه الله: «ولكن هذا إنَّما حُفِظ عنه في صلاة اللَّيل» ، وعندنا قاعدة: ما ثبت في صلاة النافل يثبت في صلاة الفرض إلا بدليل، والعكس بالعكس.

قوله: «ربَّما كان يقول: اللهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا، اللهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا،

» خرجه أبو داود من حديث جبير بن المطعم رضي الله عنه، وفيه ضعف.

ولحديث ابن عمر رضي الله عنهما: «الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله وبحمده بكرة وأصيلا» ، رواه مسلم.

والاستفتاحات ورد لها صيغ:

أحديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: «اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقِّني من خطاياي كما يُنقى الثوب الأبيض

(1)

أخرجه مسلم (771).

(2)

أخرجه أبو داود (764)، وضعفه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود (764).

ص: 19

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد»

(1)

، متفق عليه.

ب - ومنها: «سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك

»، وقد سبق من حديث أبي سعيد رضي الله عنه في أبي داود.

ج ومنها: حديث علي رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا قام إلى الصلاة قال: «وجهَّت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفًا وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله ربِّ العالمين، لا شريك له، وبذلك أُمرت وأنا من المسلمين، اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي، واعترفت بذنبي، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت، لبيك وسعديك والخير كله في يديك، والشر ليس إليك، أنا بك وإليك، تباركت وتعاليت، أستغفرك وأتوب إليك»

(2)

. أخرجه مسلم.

د ومنها: حديث عائشة رضي الله عنها قالت: «كان أي النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل افتتح صلاته: اللهم ربَّ جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختُلِف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم»

(3)

. أخرجه مسلم.

هـ ومنها: حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل

(1)

أخرجه: البخاري 2/ 227، (744). ومسلم 1/ 419، (5).

(2)

أخرجه مسلم (771).

(3)

أخرجه مسلم 2/ 185 ق.

ص: 20

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

يتهجد قال: اللهم لك الحمد، أنت قَيِّمُ السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، لك ملك السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت نور السموات، ولك الحمد أن مَلِك السموات والأرض، ولك الحمد أنت الحق، ووعدك الحق، ولقاؤك حق، وقولك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد صلى الله عليه وسلم حق، والساعة حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدّمت وما أخّرت، وما أسرّرت وما أعلنت، أنت

المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت أو لا إله غيرك»

(1)

. أخرجه البخاري، ومسلم.

وومنها حديث أنس صلى الله عليه وسلم: أن رجلًا جاء فدخل الصف وقد حَفَزه النفس، فقال:«الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه» ، وفيه: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد رأيت اثني عشر ملكًا يبتدرونها أيهم يرفعها»

(2)

. أخرجه مسلم.

ز ومنها حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: «بينما نحن نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال رجل من القوم: الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرة وأصيلًا، وفيه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عجبت لها فُتِحت لها أبواب السماء»

(3)

، أخرجه مسلم.

ح ومنها: حدث حذيفة رضي الله عنه أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يُصلي من الليل، فكان يقول:«الله أكبر ثلاثًا، ذو الملكوت والجبروت والكبرياء والعظمة» ، ثم استفتح فقرأ البقرة

»

(4)

، أخرجه الإمام أحمد، وأبو داود.

(1)

أخرجه البخاري (1120)، ومسلم (769).

(2)

أخرجه مسلم (600).

(3)

أخرجه مسلم (601).

(4)

أخرجه أبو داود (874)، والنسائي (2/ 199 200)، والترمذي في الشمائل (270).

ص: 21

ورُبَّما كان يقول: «الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلَّا أنت، لا إله إلَّا أنت، سبحان الله وبحمده، سبحان الله وبحمده، سبحان الله وبحمده» . ثُمَّ يقول: «أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ»

(1)

ط ومنها: ما رواه عاصم بن حميد قال: سألت عائشة رضي الله عنها: بأي شيء كان يفتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم قيام الليل؟ فقالت: «كان إذا كبَّر كبَّر عشرًا، وحمد الله عشرًا، وسبَّح عشرًا، وهلَّل عشرًا، واستغفر عشرًا، وقال: «اللهم اغفر لي، واهدني، وارزقني» ، ويتعوذ من ضيق المقام يوم القيامة». أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه.

فالخلاصة في ذلك: أن الإنسان ينوّع بين الاستفتاحات، لكن الاستفتاحات الطويلة هذه إنما تكون في صلاة الليل كما جاء عن الإمام أحمد، وإن أتى بها في صلاة الفرض فإن هذا جائز؛ لما ذكرنا أن ما ثبت في الفرض يكون في النفل، وما ثبت في النفل يكون في الفرض.

قوله: «ورُبَّما كان يقول: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر،

» لما روى أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه يقول: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل في الصلاة من الليل كبر ثلاثا، وسبح ثلاثا، وهلل ثلاثا، ثم يقول: اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه وشركه» ، رواه أحمد، وفيه إبهام الراوي له عن أبي أمامة رضي الله عنه.

قوله: «ثُمَّ يقول: أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيم» أي: ثم يستعيذ و‌

‌الاستعاذة

سنَّة خلافًا للمالكية تُكره في الفرض، وتجوز في النفل.

(1)

أخرج أحمد في مسنده مسند (22179) عن أبي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيَّ قال: كَانَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ كَبَّرَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ قَالَ:«لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ» ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، «وَسُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ» ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ قَالَ:«أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ مِنْ هَمْزِهِ وَنَفْخِهِ وَنَفْثِهِ» .

(

ص: 22

ورُبَّما قال: «أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، مِنْ نَفْخِهِ وَنَفْثِهِ وَهَمْزِهِ»

(1)

، ورُبَّما قال:«اللَّهُمَّ إنِّي أعوذ بك من الشَّيطان الرَّجيم، وهَمْزٍه ونفْخِه ونفْثِه»

(2)

.

والاستعاذة ذكر لها المؤلف رحمه الله صيغتها قال: (ثم يقول: أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) ودليلها قول الله عز وجل: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98)} [النحل: 98].

قال: «ورُبَّما قال: أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، مِنْ نَفْخِهِ وَنَفْثِهِ وَهَمْزِهِ،

» هذه صيغة ثانية؛ لحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «كان رسول الله رضي الله عنه إذا قام إلى الصلاة بالليل كبَّر

، ثم يقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه»، رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وورد من طرق وشواهد يُقوي بعضها بعضًا. قال عبد الله بن أحمد:«لم يحمد أبي إسناده» .

وعن ابن مسعود رضي الله عنه: «أنه كان يتعوذ في الصلاة من الشيطان الرجيم من نفخه ونفثه وهمزه» ، رواه الطيالسي في مسنده، وعبد الرزاق. وإسناده حسن.

الصيغة الثالثة: لم يذكرها المؤلف رحمه الله أن يقول: «أَعُوذُ بالله السميع العليم مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ» ؛ قال الله عز وجل: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت: 36].

وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يتعوذ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أو أعوذ بالله

(1)

4) أخرجه أحمد (22179).

(2)

أخرجه ابن ماجه (807)، وضعفه الألباني.

ص: 23

ثم يقرأ فاتحة الكتاب،

السميع العليم من الشيطان الرجيم، رواه ابن أبي شيبة، وعبد الرزاق. وإسناده صحيح.

وفائدة الاستعاذة: ليكون الشيطان بعيدًا عن قلب المصلي حتى يكون حاضر القلب في صلاته في قيامه وركوعه وسجوده، حاضر القلب وهو يتلو كتاب الله حتى يحصل له بذلك تدبر القرآن وتفهم معانيه، والانتفاع به؛ إذ ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها.

قوله: «ثم يقرأ فاتحة الكتاب» ثم بعد ذلك يقرأ فاتحة الكتاب، وليت المؤلف قدم البسملة

على الفاتحة، وفاتحة الكتاب ركن من أركان الصلاة، ويدل لذلك حديث عُبادة بن الصامت في [الصحيحين] أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ»

(1)

.

وأيضًا حديث أبي هريرة في [صحيح مسلم] أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كُلُّ صَلَاةٍ لَا يُقْرَأُ فِيهَا بفاتحةِ الكِتَابِ فَهِي خِدَاجٌ» ، والخداج: فُسِّر بالشيء الناقص، وفُسِّر بالشيء الفاسد.

والمصلي لا يخلو من أمرين:

الأمر الأول: أن يكون غير مأموم كما لو كان إمامًا أو منفردًا، فهذا يجب عليه أن يقرأ الفاتحة في كل ركعة جهرية كانت الصلاة أو سرية فريضة أو نافلة.

الأمر الثاني: أن يكون مأمومًا، فهذا موضع خلاف طويل بين أهل العلم رحمهم الله؛ هل الإمام يتحمل عن المأموم‌

‌ قراءة الفاتحة

أو لا يتحملها؟ هذا فيه خلاف وأُفرد

(1)

رواه مسلم (394).

ص: 24

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

في مؤلفات مستقلة. المذهب، ومذهب المالكية: لا يجب على المأموم قراءة الفاتحة في الصلاة السرية ولا الجهرية، ويتحملها عنه الإمام، لكن يستحب للمأموم أن يقرأ في إسرار إمامه في الصلاة السرية، وفي سكوته في الصلاة الجهرية.

وعند أبي حنيفة: لا يجب على المأموم أن يقرأ لا في السرية ولا الجهرية، بل القراءة خلف الإمام مكروهة كراهة تحريم.

وعند الشافعية، وابن حزم، وهو رواية عن الإمام أحمد: يجب على المأموم قراءة الفاتحة مطلقًا في السرية والجهرية.

وقيل: تجب القراءة فيما يسر به الإمام دون ما يجهر به.

واستدل من قال بعدم وجوب القراءة على المأموم بأدلة، منها:

1 قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} ، قال الإمام أحمد كما في مسائل أبي داود:«أجمع الناس أن هذه الآية في الصلاة» .

2 حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: «إنما جُعِل الإمام ليؤتم به، فإذا كبّر فكبّروا، وإذا قرأ فأنصتوا» ، رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، قال مسلم في صحيحه:«وهو صحيح عندي» . وعن ابن أبي حاتم قال: سمعت أبي ..... وذكر هذا الحديث، فقال أبي:«ليست هذه الكلمة محفوظة، هي من تخاليط ابن عجلان» .

3 حديث جابر رضي الله عنه مرفوعًا: «من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة» . رواه أحمد، وابن ماجه، وهو في الموطأ من قول جابر رضي الله عنه، وصححه البيهقي.

4 حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم انصرف من صلاة جهر فيها

ص: 25

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

بالقراءة، فقال:«هل قرأ معي أحد منكم آنفًا؟» ، فقال رجل: نعم يا رسول الله، قال:«إني أقول ما لي أُنازع القرآن؟!» ، قال: فانتهى الناس عن القراءة فيما يجهر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وقال الترمذي:«حسن صحيح» ، وانفرد به أكيمة الليثي وهو مجهول، وأيضا أُعل بأن قوله:«فانتهى الناس عن القراءة .. » مدرج من الزهري.

5 حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: «يكفيك قراءة الإمام خافت أو قرأ» ، رواه الدارقطني. قال الإمام أحمد لما سُئِل عن هذا الحديث:«هذا منكر» .

6 عن ابن عمر رضي الله عنها قال: «من صلى وراء الإمام كفاه قراءة الإمام» رواه البيهقي في السنن.

واستدل من قال بالوجوب بأدلة، منها:

1 حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» ، متفق عليه.

2 حديث أبي هريرة مرفوعًا: «من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج ثلاثًا غير تمام» ، فقيل لأبي هريرة:«إنا نكون وراء الإمام، فقال: اقرأ بها في نفسك» ، رواه مسلم.

3 حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمسيء صلاته: «إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعًا

، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها» متفق عليه، وهذا يشمل الإمام والمأموم والمنفرد.

ص: 26

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

4 حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: كنا خلف النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الفجر فثقلت عليه القراءة، فلما فرغ قال:«لعلكم تقرؤون خلف إمامكم؟» ، قلنا: نعم، قال:«لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها» ، رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، وغيرهم، وفيه ابن إسحاق، وقد صرَّح بالتحديث، وصححه أبو داود، والترمذي، والدارقطني، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي.

لكن ضعّفه الإمام أحمد، وذكر شيخ الإسلام: أن الحديث الصحيح قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا صلاة إلا بأم القرآن» ، ورواه الزهري عن محمود بن الربيع عن عبادة، وأما هذا الحديث فغلط فيه بعض الشاميين، وأصله أن عبادة كان يؤم ببيت المقدس، فقال هذا، فاشتبه عليهم المرفوع بالموقوف على عبادة.

5 وعن ابن عمر بقال: «إني لأستحيي من رب هذه البنية أن أُصلي صلاة لا أقرأ فيها بأم القرآن» رواه البيهقي في السنن.

واستدل من أوجب القراءة في السرية دون الجهرية: بحمل أدلة القائلين بالوجوب على الصلاة السرية، وحمل أدلة القائلين بعدم الوجوب على الصلاة الجهرية.

والأقرب في هذا: أنه لا يتحمل الإمام عن المأموم في الركعات التي يُسِر بها الإمام، مثل صلاة الظهر والعصر، وكالركعتين الأخريين من صلاة العشاء إلى آخره، المهم:

* الركعات التي يُسِر فيها الإمام لا يتحملها يجب على المأموم أن يقرأ.

ص: 27

فإنْ كانت الصَّلاة جهرية أسْمَعَهُم القراءة، ولم يُسْمِعهم: بسم الله الرحمن الرحيم، فربُّه أعلم هل كان يقرؤها أم لا؟

والركعات التي يجهر بها الإمام يتحملها عنه الإمام، يتحملها عن المأموم، وبهذا تجتمع الأدلة.

وقوله: «فإنْ كانت الصَّلاة جهرية أسْمَعَهُم القراءة» وهذا بالاتفاق، وهو متواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم.

قوله: «ولم يُسْمِعهم: بسم الله الرحمن الرحيم، فربُّه أعلم هل كان يقرؤها أم لا؟» تستحب البسملة؛ لما رواه نعيم المجمر قال: «صليتُ وراء أبي هريرة، فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم، ثم قرأ بأم القرآن

وفيه: والذي نفسي بيده إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم»، رواه النسائي، وابن خزيمة، وابن حبان، وصحَّحه ابن خزيمة. ورواه البخاري ومسلم من طريق أبي سلمة، عن أبي هريرة، وليس فيه ذكر قراءة البسملة والجهر بها.

وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ يُقَطِّع قراءته آية آية: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين

»، رواه أحمد، وأبو داود، والدارقطني، والحاكم، وابن خزيمة. وصحَّحه الدارقطني، والحاكم على شرطهما.

وعن ابن عمر رضي الله عنهما «أنه كان لا يدعُ (بسم الله الرحمن الرحيم) لأم القرآن وللسورة التي بعدها» . أخرجه الشافعي في مسنده واللفظ له، وعبد الرزاق في المصنف. وإسناده صحيح.

وعن عن عمرو بن دينار، أن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم كانا يفتتحان

ص: 28

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ب {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} .... ، رواه عبد الرزاق، إسناده صحيح.

وقوله: «ولم يسمعهم بسم الله الرحمن الرحيم» أي: لا يجهر بالبسملة؛ لحديث أنس بن مالك رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر، وعمر رضي الله عنهما كانوا يفتتحون الصلاة ب {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2]» ، وفي مسلم:«لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول قراءة ولا آخرها» .

وعند أحمد وابن خزيمة، وابن حبان، عن أنس، بلفظ:«صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلف أبي بكر، وعمر، وعثمان فكانوا لا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم» ، إسناده صحيح.

ولما روته عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح الصلاة بالتكبير، والقراءة ب {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2]» ، رواه مسلم.

وذكر الدارقطني: «لا يصح في الجهر بالبسملة حديث مرفوع، وإنما يصح عن بعض الصحابة موقوفًا» .

وعند الشافعية، ورواية عن أحمد: مشروعية الجهر بالبسملة. واستدلوا بأدلة:

1 ما رواه نعيم المجمر قال: «صليتُ وراء أبي هريرة رضي الله عنه، فقرأ:{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، ثم قرأ بأم القرآن

»، وفيه:«والذي نفسي بيده إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم» ، وتقدم قريبًا. رواه البخاري ومسلم من طريق أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وليس فيه ذكر قراءة البسملة والجهر بها، وهو المحفوظ، مع تفرد نعيم دون أصحاب أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 29

وكان يقطِّع قراءته آيةً آيةً، ثُمَّ يقف على {رَبُّ الْعَالَمِينَ} ، ثم يبتدئ {الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} ، ويقف، ثُمَّ يبتدئ {مَالِكِ يَوْمِ} على ترسُّلٍ وتمهُّلِ وترتيل، يمدُّ {الرَّحْمَنُ} ، ويمُدُّ {الرَّحِيمُ} وكان يقرأ {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} بالألف

وقال أبو هريرة رضي الله عنه: «فما أعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلناه لكم، وما أخفاه أخفيناكم لكم» ، رواه مسلم. ونوقش: بأنه لا يمتنع أن يسمع منه حال الإسرار.

2 حديث أم سلمة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ يُقَطِّع قراءته آية آية: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}» . تقدم قريبًا. وليس صريحًا أنه في الصلاة.

3 أنه ورد عن بعض الصحابة رضي الله عنهم: فروى ابن أبي شيبة «أن عمر رضي الله عنه جهر ب {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}» . وتقدم عنه كما سبق عدم الجهر.

وأيضًا في مصنف ابن أبي شيبة «أن ابن الزبير جهر بها» ، صحيح. وأيضًا روى عدم الجهر بها.

وفي سنن البيهقي «أن معاوية رضي الله عنه جهر بها» .

وثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يجهر في صلاته بالبسملة.

وعند شيخ الإسلام، وابن القيم، وهو رواية عن أحمد: يُستحب الجهر أحيانًا للمصلحة، كتعليم السنة، أو التأليف كما لو صلى معه من يرى الجهر بالبسملة.

قوله: «وكان يقطِّع قراءته آيةً آيةً، ثُمَّ يقف على {رَبُّ الْعَالَمِينَ} ، ثم يبتدئ {الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} ، ويقف،

» أي صفة قراءة النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه كان يقطِّع قراءته

ص: 30

وإذا ختم السُّورة قال: «آمين» ، يجهر بها، ويمدُّ بها صوتَه، ويجهر بها مَنْ خلفه، حتى يرتجَّ المسجد.

كما جاء في حديث قتادة، قال: سئل أنس رضي الله عنه كيف كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: «كانت مدًّا، ثم قرأ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] يمد ببسم الله، ويمد بالرحمن، ويمد بالرحيم» .

وحديث أم سلمة رضي الله عنها في [المستدرَك]، و [سنن الدارقطني]:«يقطِّع قراءته آيةً آية، {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 2 4]» ، إلى آخره.

قوله: «وإذا ختم السُّورة قال: «آمين» ، يجهر بها،

» «آمين» معناها: اللهم استجب؛ لأن الفاتحة دعاء، في أولها ثناء على الله عز وجل، توسُّل بصفات الله عز وجل وأسمائه الحسنى، ثم دعاء؛ {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 5 7].

ومن فضل التأمين ما رواه ابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على السلام والتأمين» ، حسن.

وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أمّن الإمام فأمّنوا، فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غُفِر له ما تقدم من ذنبه» ، متفق عليه.

قوله: «يجهر بها ويمد بها صوته، ويجهر بها من خلفه حتى يرتجَّ المسجد» ؛ لما تقدم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أمّن الإمام فأمّنوا، فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غُفِر له ما تقدم من ذنبه» متفق عليه، فعلَّق تأمينهم على تأمين الإمام، ولو لم يجهر به لما علق تأمين المأموم عليه.

ص: 31

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ولما روى وائل بن حجر رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ {وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] قال: آمين، ورفع بها صوته» . رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي وحسّنه، وصحَّحه الحافظ.

ولما روى نعيم المجمر قال: «صليتُ وراء أبي هريرة، فقرأ:{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، ثم قرأ بأم القرآن حتى بلغ {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7]، قال: آمين، وقال الناس: آمين

ثم قال: والذي نفسي بيده إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم»، رواه النسائي، وابن خزيمة، وابن حبان، وصحَّحه ابن خزيمة.

وما رواه عطاء قال: «آمين دعاء، أمّن ابن الزبير ومن بعده حتى إن للمسجد للَجَّة» ، رواه البخاري معلقًا مجزومًا به، وعبد الرزاق، وابن أبي شيبة.

وما رواه عطاء قال: «أدركتُ مائتين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المسجد إذا قال الإمام: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} سَمِعْتُ لهم رَجَّة بآمين» رواه البيهقي في الكبرى.

وقال نافع: «كان ابن عمر رضي الله عنه إذا ختم أم القرآن قال: آمين. لا يدع أن يؤمّن إذا ختمها. ويحضُّهم على قولها» رواه البخاري معلقًا مجزومًا به، وعبد الرزاق.

وروى البخاري معلقًا بصيغة الجزم، قال أبو عبد الله:«وكان أبو هريرة ينادي الإمام لا تفتني بآمين» .

وهل المأموم يؤمِّن مع الإمام أو يؤمِّن بعد الإمام؟ للعلماء رأيان:

الرأي الأول: أن المأموم يؤمِّن مع الإمام وعليه الأكثر؛ يعني الإمام يؤمن

ص: 32

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

والمأموم يؤمن كما هو حالنا الآن، وهو مذهب الشافعية، والحنابلة؛ لما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أمّن الإمام، فأمّنوا، فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة، غُفِر

له ما تقدّم من ذنبه» متفق عليه.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قال الإمام: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] فقولوا: آمين، فإنه من وافق قوله قول الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه» رواه البخاري ومسلم.

وعند أحمد، والنسائي:«إذا قال الإمام: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] فقولوا: آمين، فإن الملائكة تقول: آمين، وإن الإمام يقول آمين، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غُفِر له ما تقدم من ذنبه» ، قال الدارقطني في العلل:«وذلك وهم من معمر، والمحفوظ: إذا أمن الإمام فأمنوا» .

فالنبي صلى الله عليه وسلم جعل موافقة التأمين لتأمين الملائكة سببًا لمغفرة ما تقدم من الذنوب، فينبغي أن يقع تأمين الإمام والمأموم والملائكة دفعة واحدة.

ولحديث بلال أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: «لا تسبقني بآمين» . رواه أحمد، وعبد الرزاق، والحاكم، والبيهقي، وقد رجَّح أبو حاتم في العلل، والدارقطني وغيرهما إرساله.

وعند بعض الحنابلة: السنة أن يُؤمن المأموم بعد تأمين الإمام؛ لحديث أبي هريرة: «إذا أمن الإمام فأمنوا» متفق عليه. وهو محمول على أن المراد إذا أراد التأمين؛ بدليل قوله صلى الله عليه وسلم في الرواية الثانية: «إذا قال الإمام: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] فقولوا: آمين» متفق عليه.

ص: 33

واختلفت الرِّواية عنه، هل كان يسكت بين الفاتحة وقراءة السُّورة، أم كانت سكتته بعد القراءة كلِّها؟ فقال يونس، عن الحسن، عن سمرة:«حَفِظْتُ سكتتين، سكتةً إذا كبَّر الإمام حتى يقرأ، وسكتةً إذا فرغ من فاتحة الكتاب وسورة عند الركوع» ، وصدَّقَهُ أُبَيُّ بن كعبٍ على ذلك

(1)

. ووافق يونسَ: أشعثُ الحمراني، عن الحسن فقال:«سكتة إذا استفتح، وسكتة إذا فرغ من القراءة كلِّها»

(2)

. وخالفهما قتادة، فقال: عن الحسن، أنَّ سمرة بن جندب وعمران بن الحصين تذاكرا، فحدَّث سمرة أنَّه حفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سكتتين، سكتة إذا كبَّر، وسكتة إذا فرغ من قراءة:{الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} فقط، فحفظ ذلك سمرة، وأنكر عليه عمران بن حصين، فكتبا في ذلك إلى أُبَيِّ بن كعب، فكان في كتابه إليهما:«أنَّ سمرة قد حفظ»

(3)

.

قوله: «واختلفت الرِّواية عنه، هل كان يسكت بين الفاتحة وقراءة السُّورة، أم كانت سكتته بعد القراءة كلِّها؟

»، تكلم في هذه الجملة عن السكتات في الصلاة: الذي ثبت سكتة الاستفتاح ما بين تكبيرة الإحرام وقراءة الفاتحة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أبو هريرة رضي الله عنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم:«أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول فيه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ» في [الصحيحين]؛ فهذه السكتة بمقدار الاستفتاح.

بقي سكتتان مختلف فيهما:

سكتة بعد قراءة الفاتحة.

(1)

أخرجه أبو داود (779)، وضعفه الألباني.

(2)

أخرجه أبو داود (777، 778)، وضعفه الألباني.

(3)

أخرجه أبو داود (779)، وابن ماجه (844)، وضعفه الألباني.

ص: 34

وقال قتادة أيضًا: عن الحسن، عن سمرة:«سكتتان حفظتهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا دخل في الصَّلاة، وإذا فرغ من القراءة» ، ثم قال بعدُ:«وإذا قال: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)}»

(1)

. فقد اتَّفَقَت الأحاديث أنَّها سكتتان فقط: إحداهما: سكتة الاستفتاح، والثَّانية مختلف فيها؛ فالذي قال: إنَّها بعد قراءة الفاتحة هو قتادة، وقد اختلف عليه، فمرَّةً قال ذلك، ومرَّةً قال:«بعد الفراغ من القراءة» . ولم يختلف على يونس وأشعث أنَّها بعد فراغه من القراءة كلِّها، وهذا أرجح الرِّوايتين، والله أعلم.

وبالجملة فلم يُنْقل عنه صلى الله عليه وسلم بإسنادٍ صحيحٍ ولا ضعيفٍ أنَّه كان

وسكتة بعد القراءة كلها قبل الركوع. وقد جاء في هذا حديث سمرة بن جندب قال: «سكتتان حفظتهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قيل لقتادة: ما هاتان السكتتان؟ قال: إذا دخل في الصلاة، وإذا فرغ من القراءة، ثم قال بعد ذلك: وإذا قال: {وَلَا الضَّالِّينَ} . رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي واللفظ له وحسنه، وابن ماجه. وهو منقطع؛ من رواية الحسن عن سمرة.

والأقرب: أنها سكتة لطيفة؛ بعد قراءة الفاتحة لكي يترادَّ إليه نفسه، ولكي يتأمل ما يقرأ، ولكي يفرِّق بين القراءة الواجبة الفاتحة وبين القراءة المستحبة.

وسكتة لطيفة بعد الانتهاء من القراءة قبل الركوع، لكي يفصل بين القراءة وبين الركوع، ولكي يترادَّ إليه نفسه؛ لأن حديث سمرة كما سلف منقطع بين الحسن وبين سمرة رضي الله عنه.

قوله: «وبالجملة فلم يُنْقل عنه صلى الله عليه وسلم بإسنادٍ صحيحٍ ولا ضعيفٍ أنَّه كان

(1)

أخرجه أبو داود في سننه (780)، وضعفه الألباني.

ص: 35

يسكت بعد قراءة الفاتحة حتى يقرأها مَنْ خَلْفه، وليس في سكوته في هذا المحلِّ إلَّا هذا الحديث المختلف فيه كما رأيتَ.

ولو كان يسكت هنا سكتة طويلة يدرك فيها المأموم قراءة الفاتحة لما خفي ذلك على الصحابة، ولكان معرفتهم به ونَقْلهم له أهم من سكتة الاستفتاح.

ثم يقرأ بعد ذلك سورةً، طويلةً تارةً، وقصيرةً تارةً، ومتوسِّطةً تارةً، كما تقدَّم ذِكر الأحاديث به.

ولم يكن يبتدئ من وسط سورةٍ ولا من آخرها؛ وإنَّما كان يقرأ من

يسكت بعد قراءة الفاتحة حتى يقرأها مَنْ خَلْفه،

» أي لا يشرع للإمام أن يسكت بعد قراءة الفاتحة سكتة طويلة بمقدار الفاتحة؛ لأن هذا لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وظاهر كلامه أنه: يسكت سكتةً لطيفة كما سبق.

قوله: «وبالجملة فلم يُنْقل عنه صلى الله عليه وسلم بإسنادٍ صحيحٍ ولا ضعيفٍ أنَّه كان يسكت بعد قراءة الفاتحة حتى يقرأها مَنْ خَلْفه،

» أي لا يشرع للإمام أن يسكت بعد قراءة الفاتحة سكتة طويلة بمقدار الفاتحة؛ لأن هذا لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وظاهر كلامه أنه: يسكت سكتةً لطيفة كما سبق.

قوله: «ثم يقرأ بعد ذلك سورةً، طويلةً تارةً، وقصيرةً تارةً، ومتوسِّطةً تارةً،

» في هذه الجملة بيَّن المؤلف رحمه الله هدي النبي صلى الله عليه وسلم في قراءة السورة أو الآيات، وقال: بأن هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقرأ في كل ركعة سورةً كاملة، وربما أن النبي صلى الله عليه وسلم فرَقها في الركعتين.

قوله: «ولم يكن يبتدئ من وسط سورةٍ ولا من آخرها؛ وإنَّما كان يقرأ من

ص: 36

أوَّلها، فتارةً يكملها، وهو أغلب أحواله، وتارةً يقتصر على بعضها، ويكملها في الرَّكعة الثانية ولم ينقل أحدٌ عنه أنَّه قرأ بآيةٍ من سورةٍ أو بآخرها إلَّا في سُنَّة الفجر؛ فإنَّه كان يقرأ فيها بهاتين الآيتين:{قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} الآية،

أوَّلها، فتارةً يكملها، وهو أغلب أحواله» أي: الغالب على هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه يقرأ في الركعة الأولى بسورة من أولها، وفي الركعة الثانية بسورة، وهذا هو الذي دلَّ له؛ لحديث أبي قتادة

رضي الله عنه في [الصحيحين] قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الركعتين الأوليين من صلاة الظهر والعصر بفاتحة الكتاب وسورة، ويقرأ الركعتين الأخريين بفاتحة الكتاب» .

ويتلخص من كلامه رحمه الله: أن هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة فيما يتعلق بقراءة السورة أو الآيات ينقسم إلى أقسام:

القسم الأول: قراءة سورةٍ كاملةٍ في كل ركعة، وهذا هو الغالب على هدي النبي صلى الله عليه وسلم، قال المؤلف: وهذا هو الغالب على هدي النبي صلى الله عليه وسلم.

القسم الثاني: أن يقرأ سورة في الركعتين، يعني يقرأ في الركعة الأولى سورة ثم يكملها في الركعة الثانية، هذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله أحيانًا، واستدل له المؤلف بحديث عائشة رضي الله عنها في قراءة سورة الأعراف في ركعتين في المغرب.

القسم الثالث: قراءة آيات، يعني يقرأ في الركعة الأولى آيات، ثم في الركعة الثانية آيات، لا سورة كاملة كالقسم الثاني.

قوله: «ولم ينقل أحدٌ عنه أنَّه قرأ بآيةٍ من سورةٍ أو بآخرها إلَّا في سُنَّة الفجر

»، فإن النبي صلى الله عليه وسلم:

ص: 37

و {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} الآية

(1)

. وكان يقرأ بالسُّورة في الرَّكعة، وتارةً يعيدها في الرَّكعة الثانية، وتارةً يقرأ بسورتين في ركعةٍ. أمَّا الأوَّل: فكقول عائشة: «إنَّه قرأ في المغرب بالأعراف، فرَّقها في الرَّكعتين»

(2)

. وأمَّا الثَّاني: فقراءته في الصبح {إِذَا زُلْزِلَتِ} في الرَّكعتين كِلْتَيهما

(3)

. والحديثان في السُّنن. وأمَّا الثَّالث: فكقول ابن مسعود: «لقد عَرَفتُ النَّظائر التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرن بينهما» ، فذكر عشرين سورةً من المفصَّل، سورتين في ركعةٍ

(4)

.

قرأ في الركعة الأولى في سنَّة الفجر: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} [البقرة: 136] الآية في البقرة.

وفي الركعة الثانية: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران: 64] الآية في سورة آل عمران.

لكن نقل عن الصحابة رضي الله عنهم، «فقرأ عمر في الركعة الأولى بمائة وعشرين آية من البقرة، وفي الثانية بسورة من المثاني» رواه البخاري معلقًا بصيغة الجزم.

وروى أبو رافع «كان عمر يقرأ في صلاة الصبح بمائة من البقرة، ويتبعها بسورة من المثاني، أو من صدور المفصل، ويقرأ بمائة من آل عمران، ويتبعها بسورة من المثاني، أو من صدور المفصل» رواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح.

وورد عن عبد الرحمن بن يزيد «أن ابن مسعود صلَّى بهم العشاء فقرأ

(1)

أخرجه مسلم في صحيحه (727).

(2)

أخرجه النسائي (991)، وصححه الألباني.

(3)

أخرجه أبو داود (816)، وحسنه الألباني.

(4)

أخرجه البخاري (775)، ومسلم (822).

ص: 38

وهذا في الصَّحيحَين وكان يمدُّ قراءة الفجر ويطيلها أكثر من سائر الصَّلوات، وأقصر ما حُفِظ عنه أنَّه قرأ به فيها في الحَضَر {ق} ونحوها

(1)

.

بأربعين من الأنفال، ثم قرأ في الثانية بسورة من المفصل» رواه عبد الرزاق، وابن أبي شيبة. وإسناده صحيح.

وعلى هذا: لا بأس أن يقرأ آيات لكن لا يكثر منه، والذي تأسف منه أن تجد بعض الأئمة كثيرًا ما يقرأ آيات، وقراءة سورة في كل ركعة قليل، هذا خلاف هدي النبي صلى الله عليه وسلم.

القسم الرابع: أن يقرأ السورة ثم يعيدها في الركعة الثانية كما جاء في سورة الزلزلة؛ لحديث رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم «أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بالزلزلة في الركعتين» رواه أبو داود، والبيهقي بإسناد حسن، واختلف في وصله وإرساله.

القسم الخامس: أن يقرأ في الركعة الواحدة سورتين وهذا كما جاء في [الصحيحين] وهذا في بعض الأحيان؛ لحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «لقد عرفت النظائر التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرن بينهن» ، فذكر عشرين سورة من المفصل، سورتين في كل ركعة، رواه البخاري ومسلم.

قوله: «وكان يمدُّ قراءة الفجر ويطيلها أكثر من سائر الصَّلوات،

» أي: بيان قدر القراءة في كل صلاةٍ من الصلوات، فهدي النبي صلى الله عليه وسلم في القراءة في صلاة الفجر: تستحب القراءة بطوال المفصل في صلاة الفجر باتفاق الأئمة.

روى سليمان بن يسار، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:«ما صليتُ وراء أحد أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم من فلان» ، قال سليمان: «كان يُطيل الركعتين الأوليين من

(1)

أخرجه مسلم (457).

ص: 39

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الظهر، ويُخفف الأخريين، ويُخفف العصر، ويقرأ في المغرب بقصار المفصل، ويقرأ في العشاء بوسط المفصل، ويقرأ في الصبح بطول المفصل»، رواه النسائي، وأحمد، وصحَّحه ابن رجب، وابن حجر، وحسَّنه النووي، فهذا الحديث كالجامع في القراءة في الصلاة.

فالوارد في القراءة في صلاة الفجر: ما تقدم في الحديث السابق.

وحديث أبي برزة رضي الله عنه في الصحيحين: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ ما بين الستين إلى المائة» .

وحديث أم سلمة رضي الله عنها: «أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بالطور» ، متفق عليه.

وحديث قطبة بن مالك رضي الله عنها: «أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ ب {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ}» ، متفق عليه.

وحديث جابر بن سمرة رضي الله عنهما: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الفجر بالواقعة، ونحوها من السور» ، رواه أحمد، وصحَّحه الحافظ ابن حجر.

وحديث عبد الله بن السائب رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بسورة المؤمنون» ، رواه مسلم.

وحديث عمرو بن حريث رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بسورة التكوير» ، رواه مسلم.

وحديث رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: «أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بالزلزلة في الركعتين» ، رواه أبو داود، والبيهقي بإسناد حسن، واختلف في وصله وإرساله.

وحديث رجل أيضًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: «أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بسورة الروم» ،

ص: 40

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

رواه أحمد، والنسائي بإسناد حسن، كما ذكر الحافظ.

وحديث عقبة بن عامر رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بالمعوذتين في السفر» ، رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي بإسناد صحيح.

وحديث رجل من بني غفار «أنه قرأ في المدينة بسورة مريم، والمطففين، والنبي صلى الله عليه وسلم بخيبر» ، رواه البزار، والطحاوي بإسناد صحيح.

وحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بالتخفيف ويؤمنا بالصافات» رواه أحمد، والنسائي، إسناده حسن.

وورد عن أبي بكر رضي الله عنه «أنه قرأ البقرة في ركعتين» رواه عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وصحَّحه الحافظ ابن حجر.

وعن عمر بن الخطاب كتب إلى أبي موسى رضي الله عنهما .... ، وصَلِّ الصبح، والنجوم بادية مشتبكة، واقرأ فيها بسورتين طويلتين من المفصل، الموطأ إسناده صحيح.

وورد عن عمر رضي الله عنه «أنه قرأ البقرة في صلاة الفجر» ، رواه الطحاوي، وإسناده صحيح.

وقرأ عمر في الركعة الأولى بمائة وعشرين آية من البقرة، وفي الثانية بسورة من المثاني، رواه البخاري معلقًا بصيغة الجزم.

وروى أبو رافع «كان عمر يقرأ في صلاة الصبح بمائة من البقرة، ويتبعها بسورة من المثاني، أو من صدور المفصل، ويقرأ بمائة من آل عمران، ويتبعها

ص: 41

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

بسورة من المثاني، أو من صدور المفصل»، رواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح.

وورد عن عمر رضي الله عنه أيضًا «أنه قرأ سورة الحج» ، رواه ابن أبي شيبة، وصحَّحه البيهقي.

وورد عنه أيضًا «أنه قرأ سورة يوسف، والحج» ، رواه مالك في الموطأ بإسناد صحيح.

وورد عنه أيضًا «أنه قرأ بالنجم» ، رواه عبد الرزاق.

وورد عنه أيضًا «أنه قرأ يوسف، والكهف» ، رواه الطحاوي في شرح معاني الآثار بإسناد صحيح.

وورد عن علي رضي الله عنه «أنه قرأ بالأنبياء» ، رواه ابن أبي شيبة، وعبد الرزاق بإسناد صحيح.

وروى أبو عمرو الشيباني قال: «صلَّى بنا عبد الله بن مسعود الفجر، فقرأ السورتين، الآخرة منهما بني إسرائيل» ، رواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح.

هذا الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن الصحابة رضي الله عنهم، ويتلخص منه: أن السنة في القراءة في صلاة الفجر أن يقرأ الإمام بطوال المفصل، كما جاء في حديث سليمان بن يسار، ولقراءة النبي صلى الله عليه وسلم بالطور، وبالواقعة، ونحوها من السور.

وأحيانًا يقرأ بأطول من ذلك؛ لما جاء عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، أيضًا النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بالروم، وقرأ الصافات، إلى آخر ما تقدم.

وما ورد من القراءة في المعوذتين أو التكوير محمولة على أحد أمرين:

ص: 42

وكان يجهر بالقراءة في الفجر، وفي الأُولَيَين من المغرب والعشاء، ويُسِرُّ فيما سوى ذلك. وربَّما كان يُسْمِعُهم الآية في صلاة السِّرِّ أحيانًا.

الأمر الأول: أنها في السفر، وكما سيأتينا أن القراءة في السفر السنة أن تكون قصيرة، هذا هو الوارد عن الصحابة رضي الله عنهم.

الأمر الثاني: محمولة على العذر، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يُخفف لسماع بكاء الصبي، إلى آخره.

وقيد بعض العلماء: الاستحباب للمنفرد، أو لجماعة محصورة رغبت في إطالة الصلاة،

وكانت تطيق ذلك.

فالخلاصة في صلاة الفجر: أنه يقرأ بطوال المفصل كثيراً، والمفصل: يبدأ من سورة {ق} ، أو من سورة الذاريات، أو من سورة الحجرات على خلاف، والأمر في هذا سهل إلى سورة النبأ، فيقرأ في الفجر بطوال المفصل. وفي بعض الأحيان يقرأ بأطول من ذلك هذا هو السنة، ويؤيد ذلك: قول الله عز وجل: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78]، فالله سبحانه وتعالى ذكر أربع صلوات؛ {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} يعني من الزوال، {إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} ، وذلك عند انتصافه، يشمل أربع صلوات، {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} أي: صلاة الفجر، سمَّاها قرآنًا؛ لأنه يُشرع أن تطال فيها القراءة. وإذا شق على المأمومين لطول السورة قسمها قسمين، كسورة المؤمنون.

قوله: «وكان يجهر بالقراءة في الفجر، وفي الأُولَيَين من المغرب والعشاء

» الجهر في مواضع الجهر في الفجر، والأوليين من صلاة من المغرب والعشاء، والإسرار في مواضع الإسرار في الظهر والعصر والثالثة من المغرب والأخريين من العشاء، متواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وقوله: «وربَّما كان يُسْمِعُهم الآية في صلاة السِّرِّ أحيانًا» هذا ورد في صلاة

ص: 43

وكان يقرأ في فجر يوم الجمعة سورة {الم (1) تَنْزِيلُ} السَّجدة، و {هَلْ أَتَى} كاملتين

(1)

. ولم يقتصر على إحداهما، ولا على بعض هذه وبعض هذه قط.

وكان يقرأ في صلاة الجمعة بسورة الجمعة والمنافقون كاملتين، ولم يقتصر على أواخرهما يومًا من الدَّهر. ورُبَّما كان يقرأ بسورة الأعلى والغاشية

(2)

.

الظهر وصلاة العصر لحديث أبي قتادة في [الصحيحين]، قال:«وكان يُسمعنا الآية أحيانًا» في صلاة الظهر وصلاة العصر.

قوله: «وكان يقرأ في فجر يوم الجمعة سورة {الم (1) تَنْزِيلُ} السَّجدة

» أي: السنَّة الغالبة في صلاة الفجر يوم الجمعة أن تقرأ بهاتين السورتين كاملتين: {الم (1) تَنْزِيلُ} السجدة، و {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ} [الإنسان: 1]؛ كما جاء في حديث أبي هريرة في [الصحيحين]، لكن قال العلماء: يترك القراءة أحيانًا لئلا يتوهم الوجوب.

وسن قراءة هاتين السورتين لما اشتملت عليه هاتان السورتان مما كان ويكون من المبدأ والمعاد وحشر الخلائق، وبعثهم من القبور إلى الجنة والنار، لا لأجل السجدة، وأما قراءة بعض السورة أو قراءة السجدة فقط هذا خلاف السنة كما ذكر المؤلف، فهدي رضي الله عنه قراءتهما

كاملتين.

قوله: «وكان يقرأ في صلاة الجمعة بسورة الجمعة والمنافقون كاملتين، ولم يقتصر على أواخرهما يومًا من الدَّهر. ورُبَّما كان يقرأ بسورة الأعلى والغاشية» القراءة في صلاة الجمعة ورد لها ثلاث سنن:

(1)

أخرجه البخاري (891)، ومسلم (880).

(2)

أخرجه مسلم (878).

ص: 44

وكان يقرأ في العيدين بسورة {ق} و {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} كاملتين

(1)

، ولم يقتصر على أواخرهما يومًا من الدَّهر.

السنة الأولى: يقرأ في الركعة الأولى بالجمعة، وفي الركعة الثانية بالمنافقون كاملتين.

عن ابن أبي رافع، قال: صلى لنا أبو هريرة الجمعة، فقرأ بعد سورة الجمعة، في الركعة الآخرة: إذا جاءك المنافقون، فقال أبو هريرة:«إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقرأ بهما يوم الجمعة» . رواه مسلم.

السنة الثانية: قراءة سورة الجمعة في الأولى، وفي الثانية الغاشية كاملتين؛ لحديث النعمان بن بشير رضي الله عنه، رواه مسلم. وهذه السنة موضع خلاف؛ بناءً على ثبوت الحديث.

السنة الثالثة في القراءة: أن يقرأ في الأولى ب {سَبِّحِ} ، وفي الثانية ب {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} كاملتين، رواه مسلم عن النعمان بن بشير رضي الله عنه.

قوله: «وكان يقرأ في العيدين بسورة {ق} و {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ}

» بالنسبة لصلاة العيد ورد فيها سنَّتان:

السنَّة الأولى: كما ذكر المؤلف رحمه الله يقرأ في الركعة الأولى ب {ق} ، وفي الركعة الثانية ب {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} [القمر: 1] كاملتين؛ لحديث أبي واقد الليثي رضي الله عنه، وفيه:«كان النبي يقرأ فيهما ب {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ}، و {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ}» ، رواه مسلم.

والسنَّة الثانية: بالأعلى والغاشية كاملتين؛ لحديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما

(1)

أخرجه مسلم (819).

ص: 45

وكان يقرأ في صلاة السِّرِّ بسورةٍ فيها السَّجدة أحيانًا، فيسجد للسَّجدة ويسجد معه مَنْ خَلْفه

(1)

.

وكان يقرأ في الظُّهر قدر {الم (1) تَنْزِيلُ} السَّجدة، ونحو ثلاثين آية

(2)

.

قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في العيدين وفي الجمعة ب {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}، و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ}» ، رواه مسلم.

قوله: «وكان يقرأ في صلاة السِّرِّ بسورةٍ فيها السَّجدة أحيانًا، فيسجد للسَّجدة ويسجد معه مَنْ خَلْفه» ؛ لما روى ابن عمر رضي الله عنهما: «أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى، ثم قام فركع، فرأينا أنه قرأ: {تَنْزِيلٌ} السجدة» رواه أحمد، وأبو داود، إسناده ضعيف في إسناده أمية لا يعرف.

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «كنا نحزر قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم

في الظهر والعصر، فحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين من الظهر قدر قراءة الم تنزيل السجدة، وحزرنا قيامه في الأخريين قدر النصف من ذلك، وحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين من العصر على قدر قيامه في الأخريين من الظهر، وفي الأخريين من العصر على النصف من ذلك»، رواه مسلم.

قوله: «وكان يقرأ في الظُّهر قدر {الم (1) تَنْزِيلُ} السَّجدة، ونحو ثلاثين آية .... » لما ذكر المؤلف رحمه الله قدْر القراءة في صلاة الفجر والجمعة والعيدين؛ بيَّن الآن قدر القراءة في صلاة الظهر؛ لحديث أبي سعيد رضي الله عنه قال: «لقد كانت صلاة الظهر تُقام فيذهب الذاهب إلى البقيع فيقضي حاجته، ثم يتوضأ، ثم يأتي

(1)

أخرجه مسلم (575).

(2)

أخرجه مسلم (452).

ص: 46

ومرَّةً كان يقرأ فيها ب {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}

(1)

، و {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى}

(2)

، و {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} ، و {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ}

(3)

،

ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الركعة الأولى مما يُطولها» رواه مسلم. وهذا مما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في بعض الأحيان يقرأ أكثر من أواسط المفصل.

وأيضًا حديث أبي سعيد رضي الله عنه في صحيح مسلم «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الظهر في الركعتين الأوليين في كل ركعة قدر ثلاثين آية، وفي الأُخريين قدر خمس عشرة آية، وفي العصر في الركعتين الأوليين في كل ركعة قدر قراءة خمس عشرة آية، وفي الأُخريين قدر نصف ذلك» .

بمعنى أنه قرأ في العصر في الركعتين الأوليين كل ركعة قدر خمس عشرة آية، وهذا قدر أواسط المفصل.

وقراءة النبي صلى الله عليه وسلم بثلاثين آية في كل ركعة من صلاة الظهر يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بأطول من أواسط المفصل.

ولحديث جابر بن سمرة رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الظهر ب {اللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى}، والعصر نحو ذلك» ، رواه مسلم. وفي لفظ عند مسلم «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ ب {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}» .

وعند ابن خزيمة «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر والعصر ب {الشَّمْسِ إِذَا وَضُحَاهَا}، ونحوها، ويقرأ في الصبح بأطول من ذلك» ، وإسناده صحيح.

وعند الإمام أحمد، وأبي داود، والنسائي، وصحَّحه الحافظ ابن حجر من

(1)

أخرجه مسلم (460).

(2)

أخرجه مسلم (459).

(3)

أخرجه أبو داود (805)، وصححه الألباني.

ص: 47

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الظهر والعصر ب (الطارق) و (البروج)، ونحوها من السور» .

وعند النسائي، وابن خزيمة أيضًا بإسناد حسَّنه الحافظ من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنهم كانوا يسمعون منه النَّغَمَة في الظهر ب {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ

الْأَعْلَى}، و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} ».

وفي حديث بريدة عند ابن خزيمة أيضًا بإسناد حسن «{إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ}» .

وأما الآثار عن الصحابة: فعن ابن عمر رضي الله عنهما «أنه قرأ في الظهر بسورة مريم» ، رواه ابن أبي شيبة. وإسناده صحيح.

«وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه في الظهر بسورة (طه)» ، رواه ابن أبي شيبة. وإسناده صحيح.

وعن ابن عمر رضي الله عنهما «أنه كان يقرأ في الظهر {الَّذِينَ كَفَرُوا}، و {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ}» ، رواه عبد الرزاق.

وروى الطحاوي «أن ابن عمر قرأ في الركعة الأولى من الظهر ب (ق)، وفي الثانية ب (الذاريات)» ، وإسناده صحيح.

وورد عن أنس في الظهر والعصر «أنه قرأ ب {سَبِّحِ}» ، رواه ابن أبي شيبة، والطبراني.

وأما الظهر فالكثير بأواسط المفصل، وفي بعض الأحيان يزيد على ذلك، كما سلف من الأحاديث والآثار.

ص: 48

ونحوها من السُّور. ومرةً بلقمان والذَّاريات.

وكان يقوم في الرَّكعة الأولى منها حتى لا يُسْمَع وقعُ قَدَمٍ.

وكذلك كان يطيل الرَّكعة الأولى من كُلِّ صلاةٍ على الثَّانية وكانت قراءته في العصر في الرَّكعتين الأُوْلَيَيْن في كُلِّ ركعة قدر خمس عشرة آية

(1)

،

قوله: «ونحوها من السور، ومرةً بلقمان والذاريات» في سنن النسائي وابن ماجه من حديث البراء رضي الله عنه، حسَّنه بعض أهل العلم وضعَّفه آخرون.

قوله: «وكان يقوم في الرَّكعة الأولى منها يعني صلاة الظهر حتى لا يُسْمَع وقعُ قَدَمٍ» جاء هذا في سنن أبي داود من حديث عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه، لكنه ضعيف.

قوله: «وكذلك كان يطيل الرَّكعة الأولى من كُلِّ صلاةٍ على الثَّانية» ؛ لما رواه أبو قتادة رضي الله عنه، وفيه:«وكان يُطيل في الركعة الأولى من صلاة الصبح، ويقتصر الثانية» متفق عليه.

ولما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «لقد كانت صلاة الظهر تُقام، فيذهب الذاهب إلى البقيع، فيقضي حاجته، ثم يتوضأ، ثم يأتي ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الركعة الأولى مما يُطيلها» ، رواه مسلم.

قوله: «وكانت قراءته في العصر في الرَّكعتين الأُوْلَيَيْن في كُلِّ ركعة قدر خمس عشرة آية» أي يقرأ في العصر بأواسط المفصل غالباً، أو قدره كما جاء في حديث أبي سعيد رضي الله عنه في مسلم:«في كل ركعة من الركعتين الأوليين قدر خمس عشرة آية» .

(1)

أخرجه مسلم (452).

ص: 49

وكان يقرأ في المغرب بالأعراف تارةً

(1)

، وبالطُّور تارةً

(2)

، والمرسلات تارةً

(3)

، وبالدُّخان تارةً

(4)

. ورُوِيَ عنه أنَّه قرأ فيها ب {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}

(5)

، انفرد به ابن ماجه. ولعلَّ أحد رواته وَهم من قراءته بهما في سُنَّة المغرب، فقال:«كان يقرأ بهما في المغرب» ؟ أو سَقَطَت «سُنَّة» من النُّسْخة. والله أعلم.

وكما تقدم في حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الظهر والعصر {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} [البروج: 1]، و {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} [الطارق: 1].

فالخلاصة: أن العصر يقرأ فيها بأواسط المفصل أو قدرها تارة، وتقدمت الأحاديث، والآثار في هذا قريباً.

قوله: «وكان يقرأ في المغرب بالأعراف تارةً، وبالطُّور تارةً،

» أي: في المغرب يستحب القراءة بقصار السور باتفاق الأئمة؛ جاء في حديث سليمان بن يسار المتقدم: «في المغرب بقصار المفصل» .

وأحيانًا يُطيل؛ لحديث جبير بن مطعم رضي الله عنه في الصحيحين: «أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في المغرب بالطور» .

ولحديث ابن عباس رضي الله عنهما في الصحيحين «أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في المغرب بالمرسلات» .

وحديث زيد بن ثابت رضي الله عنه في صحيح البخاري «أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في المغرب بالأعراف» .

(1)

أخرجه النسائي (991)، وصححه الألباني.

(2)

أخرجه البخاري (765)، ومسلم (463).

(3)

أخرجه البخاري (763)، ومسلم (462).

(4)

أخرجه النسائي (988)، وضعفه الألباني.

(5)

أخرجه ابن ماجه (833)، وضعفه الألباني.

ص: 50

وكان يقرأ في عشاء الآخرة ب {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ}

(1)

، وسورة {إِذَا السَّمَاءُ

وحديث ابن مسعود رضي الله عنه أيضًا وفيه ضعف «أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في المغرب بالدخان» .

وعن عمرو بن ميمون قال: «صلَّى بنا عمر رضي الله عنه صلاة المغرب، فقرأ في الركعة الأولى ب {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ}، وفي الركعة الثانية {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ}، و {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ}» ، رواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح.

وورد عن ابن عباس رضي الله عنهما «أنه قرأ {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ}» . وورد عنه أيضًا «أنه قرأ الدخان» ، رواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح. وهذا مما يُؤيد المرفوع.

وعن ابن عمر رضي الله عنهما «أنه قرأ ب {يس} في المغرب» ، رواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح.

وورد عنه أيضًا «أنه قرأ سورة الفتح» ، رواه عبد الرزاق بإسناد حسن.

والخلاصة: أن المغرب السنة يُقرأ فيها بقصار المفصل غالباً، أو قدرها، وقصار المفصل من سورة الضحى إلى سورة الناس، وفي بعض الأحيان يقرأ ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: الطور، والمرسلات، وإن تيسر الأعراف، كذلك أيضًا ما جاء عن الصحابة: الدخان، ويس، والفتح، هذه الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته.

قوله: «وكان يقرأ في عشاء الآخرة ب {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ}

» أي: صلاة العشاء: يقرأ بأواسط المفصل، جاء في حديث سليمان بن يسار «وفي العشاء بأواسطه» .

وحديث أبي هريرة في الصحيحين «أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في العشاء ب {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ}»

(2)

.

(1)

أخرجه البخاري (769)، ومسلم (464).

(2)

أخرجه البخاري (766)، ومسلم (578).

ص: 51

انْشَقَّتْ}، ويسجد فيها، ويسجد معه جميع مَنْ خَلْفَه

(1)

، وب {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} ، ونحو ذلك من السُّور

(2)

.

وحديث البراء بن عازب: «أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ (الزيتون)، لكن في السفر»

(3)

، متفق عليه.

وروى بريدة رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة العشاء ب {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا}، وأشباهها من السور»

(4)

، رواه أحمد، والنسائي، والترمذي وحسَّنه.

وحديث معاذ لما أمَّ قومه أرشده النبي صلى الله عليه وسلم: «فلولا صليت ب {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ}، {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا}، {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى}» ، رواه البخاري. أيضًا في البخاري «أمره بسورتين من أوسط المفصل» . وفي صحيح مسلم «اقرأ {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا}، {وَالضُّحَى}، و {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى}، و {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}» . وعند مسلم أيضًا «إذا أممت الناس فاقرأ ب {الشَّمْسِ إِذَا وَضُحَاهَا}، و {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}، و {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}، و {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى}» . وفي صحيح ابن خزيمة «اقرأ سورة {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى}، و {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}، و {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ}» . وفي سنن البيهقي «اقرأ ب {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}، و {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ}، و {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ}، و {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا}، و {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى}، ونحوها» . فهذه الروايات تكاد تجمع على أواسط المفصل بالنسبة لصلاة العشاء.

(1)

أخرجه البخاري (766)، ومسلم (578).

(2)

أخرجه الترمذي (309)، والنسائي (983)، وأحمد (23008) وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته (3772).

(3)

أخرجه البخاري (769)، ومسلم (464).

(4)

أخرجه الترمذي (309)، والنسائي (983)، وأحمد (23008) وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته (3772)

ص: 52

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وورد عن عمر رضي الله عنه «أنه قرأ {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ}»

(1)

، رواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح.

وورد عن ابن عمر رضي الله عنهما «أنه قرأ ب (محمد)، و (الفتح)»

(2)

، رواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح.

وورد عن عمر رضي الله عنه أيضًا «أنه قرأ ب (يوسف)»

(3)

، رواه عبد الرزاق بإسناد صحيح.

وورد عن عبد الرحمن بن يزيد «أن ابن مسعود رضي الله عنه صلَّى بهم العشاء فقرأ بأربعين من الأنفال، ثم قرأ في الثانية بسورة من المفصل»

(4)

، رواه عبد الرزاق، وابن أبي شيبة. وإسناده صحيح.

والخلاصة: أن صلاة العشاء السنة أن تكون القراءة فيها من أواسط المفصل غالباً، أو قدرها، كما في الأحاديث السابقة، وإن قرأ أحيانا ما ورد عن الصحابة من قراءة: سورة محمد، والفتح، ويوسف، وأربعين من الأنفال، فهذه ثابتة عن الصحابة رضي الله عنهم.

فَرع: السنة في القراءة في السفر التخفيف إذا كان جادًّا في السير؛ لما تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بالمعوذتين في صلاة الفجر. رواه النسائي وغيره.

وأيضًا: الوارد عن الصحابة رضي الله عنهم هو التخفيف في القراءة في السفر: ففي مصنف ابن أبي شيبة عن إبراهيم النخعي قال: «كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1)

أخرجه ابن أبي شيبة (3616).

(2)

أخرجه ابن أبي شيبة (3614).

(3)

أخرجه عبد الرزاق (2703).

(4)

أخرجه ابن أبي شيبة (3684).

ص: 53

وكان إذا فَرَغ من القراءة سَكَت هُنَيْئَةً؛ لتراجع إليه نَفَسُه

(1)

.

فَصْلٌ

ثُمَّ كان يرفع يَدَيه إلى أنْ يحاذي بهما فروع أُذُنَيْه، كما رفعهما في الاستفتاح، صحَّ عنه ذلك

(2)

كما صحَّ التَّكبير للرُّكوع،

يقرؤون في السفر بالسور القصار».

وعن عمرو بن ميمون قال: «صلَّى بنا عمر الفجر في السفر، فقرأ ب {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}» . وإسناده صحيح.

وورد أيضًا «أنه قرأ ب (التين) في صلاة الفجر» ، رواه عبد الرزاق، وإسناده صحيح.

قوله: «وكان إذا فَرَغ من القراءة سَكَت هُنَيْئَةً؛ لتراجع إليه نَفَسُه» تقدَّم هذا قريباً.

قوله: «فصلٌ: ثُمَّ كان يرفع يَدَيه إلى أنْ يحاذي بهما فروع أُذُنَيْه

» هذا الموضع الثاني من المواضع التي تُرفع فيه الأيدي: عند تكبيرة الركوع، لما روى ابن عمر:«رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استفتح الصلاة رفع يديه حتى يحاذي منكبيه، وإذا أراد أن يركع، وبعدما يرفع رأسه» ، متفق عليه.

وحديث مالك بن الحويرث، وعن أبي قلابة، أنه رأى مالك بن الحويرث رضي الله عنه «إذا صلَّى كبَّر، ثم رفع يديه، وإذا أراد أن يركع رفع يديه، وإذا رفع رأسه من الركوع رفع يديه» ، وحدَّث «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل هكذا» ، رواه مسلم.

(1)

أخرجه أبو داود (779)، وضعفه الألباني.

(2)

أخرجه مسلم (391).

ص: 54

بل الذين رَوَوْا عنه رفع اليَدَين ههنا أكثر من الذين رَوَوْا عنه التَّكبير ثُمَّ يقول: «الله أكبر» ، ويخرُّ راكعًا، ويَضَع يديه على ركبتيه، فيمكِّنُهُما من ركبتيه،

قوله: «بل الذين رَوَوْا عنه رفع اليَدَين ههنا أكثر من الذين رَوَوْا عنه التَّكبير» أي: روى الرفع عند التكبير للركوع ابن عمر رضي الله عنهما كما في الصحيحين، ومالك بن الحويرث رضي الله عنه كما صحيح مسلم، وعلي رضي الله عنه أخرجه أبو داود، وابن ماجه، والبخاري في جزء رفع اليدين في الصلاة.

وفي هذا رد على من خص الرفع عند تكبيرة الإحرام كالحنفية.

قوله: «ثُمَّ يقول: «الله أكبر» » أي يكبر أثناء الانتقال من القيام إلى الركوع، وكذا سائر تكبيرات الانتقال تكون أثناء الانتقال؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه، يقول:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة يكبر حين يقوم، ثم يكبر حين يركع، ثم يقول: سمع الله لمن حمده، حين يرفع صلبه من الركعة، ثم يقول وهو قائم: ربنا لك الحمد» ، رواه البخاري ومسلم.

قوله: «ويخرُّ راكعًا» هنا شرع المؤلف رحمه الله في بيان‌

‌ صفة الركوع،

والركوع له صفتان:

صفةٌ مجزئة.

وصفةٌ كاملة. والمؤلف بيَّن الصفة الكاملة.

والصفة المجزئة: المشهور من مذهب الإمام أحمد أن ينحني بحيث تصل يداه ركبتيه إذا كان وسط الخلقة؛ لا عبرة بمن كانت يداه طويلتين أو كانت يداه قصيرتين، المقصود وسط الخلقة كما هو في عامة الناس.

وقال بعض العلماء: الركوع المجزئ: أن ينحني بحيث يكون إلى الركوع أقرب

ص: 55

وفرَّج بين أصابعه

(1)

، وجافى مِرْفَقَيه عن جَنْبَيه، ثُمَّ اعتدل، وجعل رأْسَه حِيَال ظهره، فلم يرفع رأْسَه ولم يصوِّبْه، وهَصَر ظهره، أي: مَدَّه ولم يجمعه

(2)

. ثُمَّ قال: «سبحان ربِّي العظيم»

(3)

.

ورُوِيَ عنه أنَّه كان يقول: «سبحان ربِّي العظيم وبحمده» . قال أبو داود:

منه إلى القيام، وهذا أحسن؛ يعني إذا انحني يقال: هذا راكع لا يقال: هذا قائم.

أما الركوع الكامل فذكر المؤلف رحمه الله صفته.

وفرَّج بين أصابعه

(4)

، وجافى مِرْفَقَيه عن جَنْبَيه، ثُمَّ اعتدل، وجعل رأْسَه حِيَال ظهره، فلم يرفع رأْسَه ولم يصوِّبْه، وهَصَر ظهره، أي: مَدَّه ولم يجمعه

(5)

. ثُمَّ قال: «سبحان ربِّي العظيم»

(6)

.

ورُوِيَ عنه أنَّه كان يقول: «سبحان ربِّي العظيم وبحمده» . قال أبو داود: «وأخاف

قوله: «وفرَّج بين أصابعه، وجافى مِرْفَقَيه عن جَنْبَيه» ؛ لحديث أبي مسعود رضي الله عنه: «ألا أُريكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟» ، قال:«فقام فكبّر، ثم ركع، فجافى يديه، ووضع يديه على ركبتيه، وفرَّج بين أصابعه من وراء ركبتيه، حتى استقر كل شيء منه، ثم رفع رأسه فقام، حتى استقر كل شيء منه، ثم سجد فجافى حتى استقر كل شيء منه» . رواه أحمد، والنسائي، والبيهقي. إسناده قوي.

قوله: «ثُمَّ اعتدل، وجعل رأْسَه حِيَال ظهره، فلم يرفع رأْسَه ولم يصوِّبْه» ؛ لما روته عائشة: «وكان إذا ركع لم يشخص رأسه ولم يُصوبه، ولكن بين ذلك» ، رواه مسلم.

قوله: «وهَصَر ظهره، أي: مَدَّه ولم يجمعه» ؛ لحديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا ركع أمكن يديه من ركبتيه، ثم هصر ظهره» ، رواه البخاري.

قوله: «ورُوِيَ عنه أنَّه كان يقول: «سبحان ربِّي العظيم وبحمده» . قال أبو داود:

(1)

أخرجه أبو داود (731)، وصححه الألباني.

(2)

أخرجه البخاري (828).

(3)

أخرجه مسلم (772).

(4)

أخرجه أبو داود (731)، وصححه الألباني.

(5)

أخرجه البخاري (828).

(6)

أخرجه مسلم (772).

ص: 56

«وأخاف أنْ لا تكون هذه الزِّيادة محفوظةً»

(1)

. وربَّما مَكَث قدر ما يقول القائل عشر مرَّات، وربَّما مَكَث فوق ذلك ودونه. وربَّما قال:«سبحانك اللَّهم ربَّنا وبحمدك، اللَّهم اغفر لي»

(2)

،

«وأخاف أنْ لا تكون هذه الزِّيادة محفوظةً» » يشير المؤلف لما روى عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: «فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ركع قال: «سبحان ربي العظيم وبحمده» ثلاثا، وإذا سجد قال:«سبحان ربي الأعلى وبحمده» ثلاثا»، رواه أبو داود.

«وبحمده» ليست محفوظة، قال الإمام أحمد رحمه الله:«أما أنا فلا أقول: وبحمده» .

قوله: «وربَّما مَكَث قدر ما يقول القائل عشر مرَّات، وربَّما مَكَث فوق ذلك ودونه» أي يكون الركوع بفدر عشر تسبيحات، والسجود بعشر تسبيحات؛ لقول أنس رضي الله عنه:«ما صليتُ وراء أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الفتى» يعني عمر بن عبد العزيز، قال أي سعيد بن جبير:«فحزرنا في ركوعه عشر تسبيحات، وفي سجوده عشر تسبيحات» ، رواه أحمد، وأبو داود، وإسناد ضعيف وهب بن مانوس في عداد المجهولين.

أيضًا هناك أذكار أخرى تُشرَع في الركوع فينبغي للمسلم أن يحفظها: منها ما ذكره المؤلف.

قوله: «وربَّما قال: «سبحانك اللَّهم ربَّنا وبحمدك، اللَّهم اغفر لي» »؛ لما روت عائشة

رضي الله عنها قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه وسجوده: «سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي» »، خرجاه في [الصحيحين].

(1)

أخرجه أبو داود (870)، وضعفه الألباني.

(2)

أخرجه البخاري (794)، ومسلم (484).

ص: 57

وربَّما قال: «سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ، ربُّ الملائكة والرُّوح»

(1)

.

وربَّما قال: «اللَّهم لك رَكَعت، وبك آمنتُ، ولك أسلمت، وعليك توكَّلْت، أنت ربِّي، خشع قلبي، وسمعي، وبصري، ودمي، ولحمي، وعظمي، وعصبي، لله ربِّ العالمين»

(2)

، وربَّما كان يقول:«سبحان ذي الجبروتِ، والملكوتِ، والكِبرياءِ، والعَظَمة»

(3)

، وكان ركوعه مناسبًا لقيامه في التَّطويل والتَّخفيف

(4)

، وهذا بيِّنٌ في سائر الأحاديث.

قوله: «وربَّما قال: «اللَّهم لك رَكَعت، وبك آمنتُ، ولك أسلمت .... » ؛ لما روى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا ركع، قال:«اللهم لك ركعت، وبك آمنت، ولك أسلمت، خشع لك سمعي، وبصري، ومخي، وعظمي، وعصبي» ، رواه مسلم.

قوله: «وربَّما كان يقول: «سبحان ذي الجبروتِ، والملكوتِ

»؛ لما روى عوف بن مالك رضي الله عنه مرفوعاً: «ثم ركع بقدر قيامه، يقول في ركوعه: «سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة» ، ثم سجد بقدر قيامه، ثم قال في سجوده مثل ذلك»، في مسند أحمد، وسنن أبي داود، والنسائي بإسناد حسن.

فهذه الأذكار ينبغي للمسلم أن يحفظها؛ لأنها تحيي الصلاة، ويكون هناك خشوع القلب وحضوره.

قوله: «وكان ركوعه مناسبًا لقيامه في التَّطويل والتَّخفيف

» أي: هدي

(1)

أخرجه مسلم (487).

(2)

أخرجه مسلم (771).

(3)

أخرجه أبو داود (873)، وضعفه الألباني.

(4)

أخرجه أبو داود (873)، وضعفه الألباني.

ص: 58

فَصْلٌ

ثم كان يرفع رأسه، قائلًا:«سمع الله لمن حمده»

(1)

، ويرفع يَدَيه كما رفعهما عند الركوع

(2)

، فإذا اعتدل قائمًا قال:«ربَّنا ولك الحمد»

(3)

، وربَّما

النبي صلى الله عليه وسلم إذا أطال القيام أطال الركوع، واذا قصر القيام قصر الركوع؛ لما روى عوف بن مالك رضي الله عنه مرفوعاً:«ثم ركع بقدر قيامه، يقول في ركوعه: «سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة» ثم سجد بقدر قيامه، ثم قال في سجوده مثل ذلك»، في مسند أحمد، وسنن أبي داود، والنسائي بإسناد حسن.

قوله: «فصلٌ: ثم كان يرفع رأسه، قائلًا: «سمع الله لمن حمده» ، ويرفع يَدَيه .... » أي يكون التسميع أثناء الرفع كما تقدم، ويرفع يديه، وهذا الموضع الثالث من المواضع التي ترفع فيه الأيدي، وهو عند الرفع من الركوع، وهذا يقول به الأئمة الثلاثة خلافًا للإمام أبي حنيفة.

وقد دلَّ له حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استفتح الصلاة رفع يديه حتى يحاذي منكبيه، وإذا أراد أن يركع، وبعدما يرفع رأسه» ، متفق عليه.

وحديث مالك بن الحويرث، وعن أبي قلابة أنه رأى مالك بن الحويرث رضي الله عنه إذا صلَّى كبَّر، ثم رفع يديه، وإذا أراد أن يركع رفع يديه، وإذا رفع رأسه من الركوع رفع يديه، وحدَّث:«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل هكذا» ، رواه مسلم.

قوله: «فإذا اعتدل قائمًا قال: «ربنا ولكَ الحمد» ، وربما قال:«ربنا لك الحمد» » التحميد ورد له أربع صيغ، وقد ذكر المؤلف صيغتين:

(1)

أخرجه البخاري (789)، ومسلم (392).

(2)

أخرجه مسلم (391).

(3)

أخرجه البخاري (789)، ومسلم (392).

ص: 59

قال: «ربَّنا لك الحمد» ، وربَّما قال:«اللَّهم ربَّنا لك الحمد، ملءَ السَّموات وملءَ الأرض، وملءَ ما شئت من شيءٍ بعد، أهلَ الثَّناء والمجد، أحقُّ ما قال العبد، وكلُّنا لك عبدٌ، اللَّهم لا مانع لما أعطيت، ولا مُعْطِي لما منعت، ولا ينفع ذا الجَدِّ منك الجَّد»

(1)

.

الأول: الجمع بين (اللهم) و (الواو): (اللهم ربنا ولك الحمد)، أخرجه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه.

الثاني: حذف الواو فقط: (اللهم ربنا لك الحمد) رواه البخاري، ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه.

الثالث: حذف (اللهم) فقط: (ربنا ولك الحمد)، رواه البخاري، ومسلم عن عائشة رضي الله عنها.

الرابع: حذف (اللهم) و (الواو): (ربنا لك الحمد)، وهذا رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه.

والأفضل: أن يفعل هذا تارة، وهذا تارة.

قوله: «وربما قال: اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَوَاتِ وَمِلْءَ الأَرْضِ .... » ؛ لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع قال: «ربنا لك الحمد ملء السماوات والأرض، وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد: اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد» ، رواه مسلم.

(1)

أخرجه مسلم (477).

ص: 60

وربَّما زاد على ذلك: «اللَّهم طهِّرني بالثَّلج والبَرَد والماء البارِد، اللَّهم طهِّرني من الذُّنُوب والخطايا كما ينقَّى الثَّوب الأبيض من الوَسَخ»

(1)

، وكان يُطِيْل هذا الرُّكن حتَّى يقول القائل:«قد نَسِي»

(2)

،

قوله: «وربما زاد على ذلك: اللهم طهرني بالثلج .... » ؛ لما روى عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه، يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول:«اللهم لك الحمد ملء السماء، وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد اللهم طهرني بالثلج والبرد، والماء البارد اللهم طهرني من الذنوب والخطايا، كما ينقى الثوب الأبيض من الوسخ» ، رواه مسلم.

فهذه الأذكار وإن كانت مستحبة، والواجب هو التسبيح والتحميد، ينبغي لطالب العلم أن يحفظها وأن يردِّدها في صلاته، فهذه تحيي الصلاة وتحضر القلب.

والمسلم له من صلاته على ما عقل منها كما قال ابن عباس رضي الله عنهما.

قوله: «وكان يطيل هذا الركن حتى يقول القائل: قد نسي» ؛ لما روى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «إني لا آلو أن أصلي بكم، كما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بنا» ، قال ثابت:«كان أنس بن مالك يصنع شيئا لم أركم تصنعونه، كان إذا رفع رأسه من الركوع قام حتى يقول القائل: قد نسي، وبين السجدتين حتى يقول القائل: قد نسي» .

كيف ذلك؟ نفهم أن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم متناسبة؛ الركوع، والرفع من الركوع والسجود، والجلسة بين السجدتين، قريبٌ من السواء، لحديث البراء رضي الله عنه قال: «كان ركوع النبي صلى الله عليه وسلم وسجوده، وإذا رفع رأسه من الركوع وبين السجدتين قريبا

(1)

أخرجه مسلم (476).

(2)

أخرجه البخاري (821)، ومسلم (472).

ص: 61

وكان يقول في صلاة اللَّيل فيه: «لربِّي الحمد، لربِّي الحمد»

(1)

.

من السواء»، رواه البخاري، ومسلم.

كيف كان أنس يجلس حتى يقول القائل: قد نسي، ويقوم حتى يقول القائل: قد نسي؟ أجاب عنه ابن القيم رحمه الله في كتابه [زاد المعاد] قال: «وتقصير هذين الركنين مما تصرف فيه أمراء بني أمية في الصلاة وأحدثوه فيها، كما أحدثوا فيها ترك إتمام التكبير ..... ، والناس تبعٌ لأمرائهم، وأنس كان يطبِّق السنَّة يقوم ويمكث إلى قدر الركوع، فيقول القائل: قد نسي» .

ولهذا مذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله القيام بعد الركوع ليس واجبًا، لو هوى من الركوع إلى السجود مباشرة صح، والجلسة بين السجدتين أيضًا يرى أنها ليست واجبة، لو أنه سجد ثم رفع رأسه ثم سجد مباشرة أجزأ ذلك، ولهذا تجد الآن بعض إخواننا الذين يتابعون مذهب الإمام أبي حنيفة يرفع من الركوع ثم يهوي مباشرة، ويرفع من السجود ثم يهوي؛ لأنهم لا يرون وجوب هذين الركنين.

قوله: «وكان يقول في صلاة الليل: لربي الحمد، لربي الحمد» أي: إذا أطلت الركوع تطيل أيضًا القيام بعده؛ لأن القيام بعد الركوع قدر الركوع السنَّة.

فإذا أتيت بالذكر الذي ذكره المؤلف: «ربنا ولك الحمد ملء السماوات وملء الأرض ..... » إلخ، تُكرر:«لربي الحمد، لربي الحمد، لربي الحمد» ، وقد تكون خلف إمام يصلي في قيام رمضان إلى آخره ويطيل الركوع والقيام بعد الركوع، فأنت تكرر: «لربي الحمد،

لربي الحمد، لربي الحمد» إلى آخره حتى يكون قريبًا من الركوع؛ لما روى حذيفة رضي الله عنه: أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل، فكان يقول: «الله أكبر ثلاثا ذو الملكوت والجبروت والكبرياء

(1)

أخرجه أبو داود (874)، وصححه الألباني.

ص: 62

فَصْلٌ

ثُمَّ يكبِّرُ ويخرُّ ساجدًا، ولا يرفع يَدَيه،

والعظمة»، ثم استفتح فقرأ البقرة، ثم ركع فكان ركوعه نحوا من قيامه، وكان يقول في ركوعه:«سبحان ربي العظيم، سبحان ربي العظيم» ثم رفع رأسه من الركوع فكان قيامه نحوا من قيامه، يقول:«لربي الحمد» ثم سجد فكان سجوده نحوا من قيامه» رواه أبو داود.

قوله: «فصلٌ: ثم يُكبِّر ويخرُّ ساجدًا ولا يرفع يديه» أي: يكبر أثناء الانتقال كما تقدم، وتقدم دليله قريباً.

لما أنهى ما يتعلق بصفة الركوع والقيام بعده شرع الآن في بيان‌

‌ صفة السجود

قال: «ثم يُكبِّر ويخرُّ ساجدًا ولا يرفع يديه» هذا الموضع الرابع؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما المتقدم: «وكان لا يفعل ذلك حين يسجد، ولا حين يرفع رأسه من السجود» رواه البخاري. ولمسلم: «ولا يفعله حين يرفع رأسه من السجود» ، وله أيضًا:«ولا يرفعهما بين السجدتين» .

ولما روى علي رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنه كان إذا قام إلى الصلاة المكتوبة كبَّر ورفع يديه حذو منكبيه، ويصنع مثل ذلك إذا قضى قراءته إذا أراد أن يركع، ويصنعه إذا رفع من الركوع، ولا يرفع يديه في شيء من صلاته وهو قاعد، وإذا قام من السجدتين رفع يديه كذلك وكبَّر» ، رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وصحَّحه أحمد، وقوله:

«وإذا قام من السجدتين» أي: التشهد الأول.

والرأي الثاني: أنه يرفع يديه إذا أراد السجود، وهو رواية عن أحمد، وبه قال القاسم بن محمد، وسالم، والحسن البصري، وعطاء، وقول لمالك، وقول

ص: 63

وكان يَضَع رُكْبَتَيه قبل يَدَيه، هكذا قال عنه وائل بن حجر

(1)

، وأنس بن

للشافعي، وبه قال ابن المنذر.

والرأي الثالث: أنه يرفع يديه عند كل خفض ورفع، وهو رواية عن أحمد. واستدلوا: بما روى ميمون المكي «أنه رأى عبد الله بن الزبير يُشير بكفيه حين يقوم، وحين يركع، وحين يسجد، وحين ينهض للقيام

وفيه: قال ابن عباس: إن أحببت أن تنظر إلى صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقتد بعبد الله بن الزبير» رواه أبو داود.

وبحديث وائل بن حُجر رضي الله عنه مرفوعًا، وفيه:«وإذا رفع رأسه من السجود أيضًا رفع يديه حتى فرغ من صلاته» رواه أحمد، وأبو داود، وقال:«روى هذا الحديث همام عن أبي جحادة لم يذكر الرفع مع الرفع من السجود» .

وأيضًا: حديث مالك بن الحويرث: «أنه رأى نبي الله صلى الله عليه وسلم رفع يديه في صلاته إذا ركع، وإذا رفع رأسه من ركوعه، وإذا سجد، وإذا رفع من رأسه من سجوده حتى يُحاذي بهما فروع أذنيه» رواه النسائي.

قال البخاري في جزء رفع اليدين: «ولا يرفع يديه في شيء من صلاته وهو قاعد» ، إشارة إلى ضعف ما ورد في الرفع من السجود، وقد تقدم عن ابن عمر رضي الله عنهما كما في الصحيحين نفي الرفع بين السجدتين.

قوله: «وكان يضع ركبتيه قبل يديه هكذا قال عنه وائل بن حُجْر

» هذه المسألة التي أطال فيها المؤلف رحمه الله، وذكر تناظر العلماء في هذه المسألة وما استدل به كل فريق، وهي: إذا انحطَّ من قيامه إلى سجوده هل يبدأ بيديه أو يبدأ

(1)

أخرجه أبو داود (838)، وضعفه الألباني.

ص: 64

مالك

(1)

. وقال عنه ابن عمر: «إنَّه كان يضعُ يَدَيه قبل رُكْبَتَيه»

(2)

. واختُلِفَ على أبي هريرة، ففي السُّنَن، عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم:«إذا سجد أحدُكُم فلا يبرك كما يبرك البعير، وليضع يَدَيه قبل رُكْبَتَيه»

(3)

. وروى عنه المقبري، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم:«إذا سجد أحَدُكم فليبدأ برُكْبَتَيْه قبل يَدَيْه»

(4)

. فأبو هريرة قد تعارضت الرِّواية عنه، وحديث وائل وابن عمر قد تعارَضَا.

بركبته؟ هل يبدأ باليدين أو يبدأ بالركبتين؟ وهو مذهب أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد، واختاره ابن عبد البر.

وعند مالك، وابن حزم، والأوزاعي: السنة تقديم اليدين على الركبتين.

وعن الإمام مالك: أنه مخيّر؛ لاختلاف الآثار.

استدل أهل الرأي الأول: بحديث وائل بن حجر: «رأيت النبي صلى الله عليه وسلم إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه» رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وابن خزيمة، وابن السكن في صحيحهما، وقال البخاري والترمذي وأبو داود:«تفرد به شريك» ، وذكر ابن القيم أن فيه قلباً على الراوي.

وله شاهد عن عاصم الأحول، عن أنس رضي الله عنه قال:«رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم انحط بالتكبير حتى سبقت ركبتاه يديه» رواه الدارقطني، والحاكم، والبيهقي، وصحَّحه الحاكم على شرطهما، لكن قال البيهقي:«تفرد به العلاء بن العطار، والعلاء مجهول» .

(1)

أخرجه الدارقطني (1308)، وضعفه الألباني.

(2)

أخرجه ابن خزيمة (627)، وصححه الألباني.

(3)

أخرجه أبو داود (840)، والنسائي (1091)، وصححه الألباني.

(4)

أخرجه البيهقي (2635)، وضعفه الألباني في أصل صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 65

فرجَّحَت طائفةٌ حديث ابن عمر، ورجَّحَت طائفةٌ حديث وائل بن حجرٍ، وسَلَكت طائفةٌ مسلك النَّسخ، وقالت: كان الأمر الأوَّل وضع اليَدَين قبل الرُّكبتين، ثم نُسِخ بوضع الرُّكبتين أولًا. وهذه طريقة ابن خزيمة قال:«ذكر الدَّلائل على أنَّ الأمر بوضع اليَدَين عند السجود منسوخٌ؛ وأنَّ وضْعَ الرُّكبتين قبل اليَدَين ناسخٌ» . ثُمَّ روى من طريق إبراهيم بن إسماعيل بن يحيى بن سلمة بن كهيل، حدَّثني أبي، عن أبيه، عن سلمة، عن مصعب بن سعد قال:«كُنَّا نَضَع اليَدَين قبل الرُّكْبَتَين، فأُمِرْنا بالرُّكبتين قبل اليَدَين»

(1)

.

وأخرج ابن خزيمة في صحيحه عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: «كنا نضع اليدين قبل الركبتين، فأُمرنا بوضع الركبتين قبل اليدين» ، وفي إسناده إسماعيل بن يحيى بن سلمة، وهو متروك.

وورد عن عمر رضي الله عنه عند عبد الرزاق بإسناد صحيح، وابن مسعود رضي الله عنه عند الطحاوي، وابن عمر رضي الله عنهما، كما في مصنف ابن أبي شيبة.

واستدل أهل الرأي الثاني: بحديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: «إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير، وليضع يديه قبل ركبتيه» ، رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وأعلَّه البخاري، والترمذي، والدارقطني. قال الترمذي:«غريب لا نعرفه من حديث أبي الزناد إلا من هذا الوجه» . فالحديث تفرد به الدراوردي، وفيه أيضًا محمد بن عبد الله العلوي، قال البخاري:«محمد بن عبد الله بن حسن لا يتابع عليه» .

ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه شاهد من حديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا، صحَّحه ابن خزيمة، والحاكم. وذكره البخاري معلقًا موقوفًا على ابن عمر رضي الله عنهما.

(1)

أخرجه ابن خزيمة (628)، وضعفه الألباني.

ص: 66

وهذا لو ثَبَت لكان فيه الشِّفاء، لكن يحيى بن سلمة بن كهيل قال البخاريُّ:«عنده مناكير» ، وقال ابن معين:«ليس بشيءٍ، لا يُكْتَب حديثه» ، وقال النَّسائي:«متروك الحديث» . وهذه القِصَّة مِمَّا وُهِّمَ فيها يحيى أو غيره، وإنَّما المعروف عن مصعب بن سعد، عن أبيه نسخ التَّطبيق في الرُّكوع بوضع اليَدَين على الرُّكبتين، فلم يحفظ هذا الرَّاوي، وقال:«المنسوخ وضع اليَدَين قبل الرُّكبتين» . قال السَّابقون باليَدَين: قد صحَّ حديث ابن عمر؛ فإنَّه من رواية عبيد الله، عن نافع، عنه. قال ابن أبي داود:«وهو قول أهل الحديث» .

قالوا: وهم أعلم بهذا من غيرهم؛ فإنَّه نقلٌ محضٌ. قالوا: وهذه سُنَّةٌ رواها أهل المدينة، وهم أعلم بها من غيرهم. قال ابن أبي داود: ولهم فيها إسنادان: أحدهما: محمد بن عبد الله بن حسن، عن أبي الزِّناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة. والثَّاني: الدَّراوردي، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر. قالوا: وحديث وائل بن حُجْر له طريقان، وهما معلولان، في إحداهما شريكٌ، تفرَّد به. قال الدَّارقطنيُّ:«وليس بالقويِّ فيما يتفرَّدُ به» . والطَّريق الثَّاني: من رواية عبد الجبار بن وائل، عن أبيه، ولم يسمع منه. قال السَّابقون بالرُّكبتين: حديث وائل بن حُجْر أثبت من حديث أبي هريرة وابن عمر.

وقال ابن حجر: «وحديث أبي هريرة أقوى من حديث وائل بن حجر» .

عندنا قاعدة وهي: «أن حركات الصلاة على مقتضى الطبيعة» إلا فيما دلَّ له الدليل، ومقتضى الطبيعة أن تقدم الأسافل قبل الأعالي، إلا عند الحاجة، إذا كان الإنسان يحتاج إلى هذا ككبير السن يحتاج أنه يقدم يديه على ركبتيه أو مثلًا إذا كان ثقيلًا يعني أخذه اللحم يحتاج أن

يقدِّم ركبتيه على يديه.

وأيضًا مما يؤيد ما ذهب إليه الجمهور أهل العلم، مما يؤيد ذلك: أن الشارع

ص: 67

قال البخاريُّ: «حديث أبي الزِّناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة=لا يُتَابَع عليه محمد

بن عبد الله بن الحسن». قال: «ولا أدري سمع من أبي الزِّناد أم لا؟» . وقال الخطَّابيُّ: «حديث وائل بن حُجْر أثبت منه» . قال: «وزَعَم بعض العُلماء أنَّه منسوخٌ؛ ولهذا لم يحسِّنه التِّرمذي، وحكم بغرابته، وحسَّن حديث وائلٍ» . قالوا: وقد قال في حديث أبي هريرة: «لا يبرك كما يبرك البعير» ، والبعير إذا برك بدأ بَيَدَيه قبل ركبتيه، وهذا النَّهْي لا يمانِعُ قوله:«وليضع يَدَيه قبل ركبتيه» ، بل ينافيه. ويدلُّ على أنَّ هذه الزيادة غير محفوظةٍ، ولعلَّ لفظها انقلب على بعض الرُّواة. قالوا: ويدلُّ على ترجيح هذا أمران آخران: أحدهما: ما رواه أبو داود، من حديث ابن عمر:«أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أنْ يعتمد الرجل على يَدَيه في الصَّلاة» . وفي لفظٍ: «نهى أن يعتمد الرَّجل على يَدَيْه إذا نهَض في الصَّلاة»

(1)

، ولا ريب أنَّه إذا وضع يَدَيه قبل رُكْبَتيه اعتمد عليهما، فيكون قد أوقع جُزْءًا من الصَّلاة معتمِدًا على يَدَيه بالأرض. وأيضًا فهذا الاعتماد في السُّجود نظير الاعتماد في الرَّفع منه سواء؛ فإذا نهى عن ذلك كان نظيره كذلك. الثَّاني: أنَّ المصلِّي في انحطاطه ينحطُّ منه إلى الأرض الأقرب إليها أوَّلًا، ثُمَّ الذي مِنْ فَوْقِهِ، حتى ينتهي إلى أعلى

نهى عن التشبُّه بالحيوان وخصوصًا في الصلاة، فالنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التفاتٍ كالتفات الثعلب، وعن نقرٍ كنقر الغراب، ولا شك أنه إذا قدَّم يديه شابه في الهيئة، شابه نزول البعير، هذا ما فيه إشكال.

فالذي يظهر والله أعلم: أنه يقدم ركبتيه إلا عند الحاجة، فإنه يبدأ بيديه قبل ركبتيه.

(1)

أخرجه أبو داود (992)، وابن خزيمة (692)، وضعفه الألباني.

ص: 68

ما فيه، وهو وجهه، فإذا رفع رأسه من السُّجود ارتفع أعلى ما فيه أوَّلًا، ثُمَّ الذي دونه، حتى يكون آخر ما يرتفع منه ركبتاه. والله أعلم.

فَصْلٌ

ثم كان يسجد على جبهته وأنفه ويَدَيه ورُكْبَتيه وأطراف قَدَمَيه

(1)

،

قوله: «فصلٌ: ثم كان يسجد على جبهته وأنفه ويديه

» هنا شرع المؤلف رحمه الله في‌

‌ بيان هيئة السجود،

وهو ركن من أركان الصلاة بالإجماع فقال رحمه الله: «فصلٌ: ثم كان يسجد على جبهته وأنفه ويديه وركبتيه وأطراف قدميه» السجود على الأعضاء السبعة واجب؛ لقول ابن عباس: «أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يسجد على سبعة أعظم ولا يكف شعرا ولا ثوبا: الجبهة واليدين والركبتين والرجلين» متفق عليه.

ولحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أُمرت أن أسجد على سبعة أعظم: الجبهة، وأشار بيده على أنفه» ، متفق عليه.

ولحديث أبي حميد رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد أمكن أنفه وجبهته الأرض» ، رواه أبو داود، والترمذي، وقال:«حديث حسن صحيح» .

وأيضًا السجود له صفتان:

* صفةٌ مجزئة.

* وصفةٌ كاملة.

أما الصفة المجزئة: كيفما سجد على هذه الأعضاء السبعة، قال العلماء: يكفي بعض العضو، فبعض الرجل يكفي، وبعض اليد والأنف يكفي، إلى آخره.

الصفة الكاملة: هي التي سيبينها المؤلف رحمه الله.

(1)

أخرجه البخاري (812)، ومسلم (490).

ص: 69

ويستقبل بأصابع يَدَيه ورِجْلَيه القبلة وكان يعتمد على إِلْيَتَي كَفَّيْه، ويرفع مِرْفَقيه، ويجافي عضديه عن جَنْبَيه، حتى يبدو بياض إبْطَيْه،

قوله: «ويستقبل بأصابع يديه ورجليه القبلة» أي يستقبل بأصابع يديه القبلة كما جاء في حديث أبي حميد في [صحيح البخاري]. والكفان في السجود لهما صفتان:

الصفة الأولى: أن تكون حذو المنكبين؛ لما روى أبو حميد «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد أمكن أنفه وجبهته من الأرض، ونحى يديه عن جنبيه، ووضع يديه حذو منكبيه» ، رواه أبو داود، والترمذي وصحَّحه، وتقدم.

الصفة الثانية: تضعهما حذو الأذنين كما جاء في حديث وائل بن حُجْر في [صحيح

مسلم]: «سجد بين كفيه» .

قوله: «وكان يعتمد على إِلْيَتَي كَفَّيْه، ويرفع مِرْفَقيه، ويجافي عضديه

» باتفاق الأئمة؛ لما روى عبد الله بن بحينة رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سجد يجنح في سجوده حتى يرى وضح إبطيه» ، متفق عليه.

ولحديث ميمونة رضي الله عنها قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سجد لو شاءت بَهْمَة أن تمر بين يديه لمرَّت» ، أخرجه مسلم.

وعن آدم بن علي قال: «رآني ابن عمر رضي الله عنهما وأنا أُصلي لا أتجافى عن الأرض بذراعي، فقال: يا ابن أخي لا تبسط بسط السبع، وادَّعِم على راحتيك، وأَبْد ضَبْعَيْك، فإنك إذا فعلت ذلك سجد كل عضو منك» ، أخرجه عبد الرزاق في المصنف. وإسناده صحيح.

وعن أبي إسحاق قال: «ما رأيت سجدةً أعظم من سجدته يعني ابن

ص: 70

ويرفع بطنه عن فَخِذَيه، وفَخِذَيه عن ساقيه، ويعتدل في سجوده، ويمكِّن وجهه من الأرض،

الزبير رضي الله عنهما»، أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف. وإسناده صحيح.

وهذا إذا لم يكن هناك أذية، إذا كان مأموم قد يكون هناك أذية، لكن إذا كان يصلي منفردًا.

قوله: «ويرفع بطنه عن فَخِذَيه، وفَخِذَيه عن ساقيه» باتفاق الأئمة؛ لحديث أبي حميد رضي الله عنه عند أبي داود: «إذا سجد فرَّج بين فخذيه غير حامل بطنه على شيء من فخذيه» ، رواه أبو داود، وأشار إلى تعليله.

ولما رواه أحمد، عن وائل الحضرمي «أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم صلى فكبر، فرفع يديه، فلما ركع رفع يديه، فلما رفع رأسه من الركوع رفع يديه، وخوَّى في ركوعه، وخوَّى في سجوده» ، إسناده حسن.

وقوله في الحديث: «وخوَّى في سجوده» ، خَوَّى البعير تَخْوِيَةً: إذا جافى بطنه عن الأرض في بروكه، وكذلك الرجل في سجوده.

قال رحمه الله: «ويعتدل في سجوده» ؛ لحديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اعتدلوا في السجود، ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب» ، متفق عليه، ومن الاعتدال ألَّا يمتد في سجوده، ولا ينضم بأن يجعل بطنه على فخذيه، وفخذيه على ساقيه.

قوله: «ويمكِّن وجهه من الأرض» ؛ لحديث أبي حميد رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد أمكن أنفه وجبهته الأرض» ، رواه أبو داود، والترمذي، وقال:«حديث حسن صحيح» .

ص: 71

مباشرًا به للمصلَّى، غير ساجدٍ على كور العمامة

(1)

.

قوله: «مباشرًا به للمصلَّى، غير ساجدٍ على كور العمامة» أي: تباشر أعضاء السجود تباشر الأرض؛ لحديث أنس رضي الله عنه في البخاري قال: «كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم فيضع أحدنا طرف الثوب من شدَّة الحر مكان السجود» ، هذا يدل على أنهم كانوا يباشرون الأرض.

وفي صحيح مسلم من حديث خبَّاب بن الأرت رضي الله عنه قال: «شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حر الرمضاء فلم يُشكِنا» ، هذا يدل على أنهم يباشرون الأرض.

واعلم أن الحائل ينقسم ثلاثة أقسام:

القسم الأول: أن يكون الحائل من أعضاء السجود، فهنا لا يُجزئ السجود، كما لو وضع رجلاً على رجل، أو سجد على يده.

القسم الثاني: أن يكون الحائل من غير أعضاء السجود وهو منفصل عن المصلي، فلا بأس كسجادة الحصير، إلى آخره؛ لحديث أنس رضي الله عنه:«أن النبي صلى الله عليه وسلم صلَّى على الحصير» ، رواه البخاري ومسلم.

وصلَّى على الخُمرَة رواه البخاري ومسلم من حديث ميمونة رضي الله عنها، لكن قال العلماء: يُكرَه أن يخص جبهته بشيءٍ يسجد عليه؛ لأن هذا تشبه بالرافضة.

القسم الثالث: أن يكون متصلًا بالمصلي مثل العمامة أو الطاقية ونحو ذلك فهذا يُكرَه كما تقدم من حديث أنس وحديث خبَّاب إلا عند الحاجة، كما لو كان هناك حاجة غبار أو شوك أو شدة برد أو شدة حر فإن هذا جائز ولا بأس بذلك.

(1)

أخرجه البخاري (390)، ومسلم (495).

ص: 72

قال أبو حُمَيْد السَّاعدي وعشرة من الصَّحابة يسمعون كلامه: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصَّلاة اعتدل قائمًا، ويرفع يَدَيه حتَّى يحاذي بهما مِنْكَبَيه، فإذا أراد أنْ يركع رفع يَدَيه حتى يحاذي بهما مَنْكِبَيه، ثُمَّ قال: «الله أكبر» ، فرفع ثُمَّ اعتدل، فلم يصوِّب رأسه ولم يُقْنِعه، ووضع يَدَيه على ركبتيه، ثُمَّ قال:«سمع الله لمن حمده» ، ثُمَّ رفع واعتدل، حتى رجع كُلُّ عظمٍ في موضعه معتدلًا، ثُمَّ هوى ساجدًا، وقال:«الله أكبر» ، ثُمَّ جافى وفتح عضدَيْه عن بطنه، وفتح أصابع رِجْلَيه، ثُمَّ ثَنَى رِجْله اليُسْرى، وقعد عليها، واعتدل، حتى يرجع كُلُّ عظمٍ موضعه معتدلًا، ثُمَّ هَوَى ساجدًا، وقال:«الله أكبر» ، ثم ثَنَى رجله وقعد عليها، حتى يرجع كُلُّ عضوٍ إلى موضعه،

قوله: «قال أبو حُمَيْد السَّاعدي وعشرة من الصَّحابة يسمعون كلامه: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصَّلاة اعتدل قائمًا، ويرفع يَدَيه حتَّى يحاذي بهما مِنْكَبَيه .... » حديث أبي حميد رضي الله عنه حديث جامع في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، رواه البخاري، وأحمد وأبو داود، والترمذي، وصححه، والنسائي، وابن ماجه يزيد بعضم على بعض.

فينبغي لطالب العلم أن يحفظ الأحاديث الجوامع، هيئات العبادة وردت فيها أحاديث جوامع؛

* الوضوء حديث عثمان رضي الله عنه في الصحيحين، وحديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه في الصحيحين.

* التيمُّم حديث عمَّار رضي الله عنه في الصحيحين.

* الغسل حديث عائشة وحديث ميمونة رضي الله عنهما في الصحيحين.

* صفة الصلاة حديث أبي حميد، وحديث أبي هريرة، وحديث أبي مسعود،

ص: 73

ثُمَّ نَهَض فصنع في الركعة الثَّانية مثل ذلك، حتى إذا قام من السَّجْدَتَيْن كبَّر ورَفَع يَدَيه حتى يحاذي بهما مَنْكِبَيْه، كما صَنَع حين افتتح الصَّلاة، ثُمَّ صنع كذلك، حتى إذا كانت الرَّكعة التي تنقضي فيها الصَّلاة أخَّر رِجْلَه اليُسرى، وقعد على شِقِّه متورِّكًا، ثُمَّ سلَّم»

(1)

.

وكان يقول في سجوده: «سبحان ربِّي الأعلى» ، ورُوِيَ أنَّه كان يزيد عليها:«وبحمده»

(2)

.

وحديث وائل رضي الله عنهم، أحاديث جوامع تقدمت قريبًا.

* مقادير الزكاة حديث أبي بكر كما رواه أنس رضي الله عنهما، فرقه البخاري في صحيحه.

* الحج حديث جابر رضي الله عنه في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم في مسلم.

هذه أحاديث جوامع ينبغي لطالب العلم لا بد أن يحفظ مثل هذه الأحاديث، تُعلِّمها الناس؛ إذا حفظت مثل حديث أبي حُميد وشرحته للناس، هذا فيه خير كثير، تشرحه وتبيِّنه للناس كي يكون على بيِّنة وهدى، فالأحاديث الجوامع هذه مهمة جدًّا يُعنَى بها طالب العلم ويحفظها.

قوله: «وكان يقول في سجوده: «سبحان ربِّي الأعلى» » هذا في مسلم من حيث حذيفة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في سجوده: «سُبْحَانَ رَبِيَّ الأَعْلَى» ، وهذه التسبيحة كما أشرنا واجبة عند الحنابلة خلافًا للجمهور.

قوله: «ورُوِيَ أنَّه كان يزيد عليها: «وبحمده» » زيادة «وبحمده» من حديث

(1)

أخرجه البخاري (828).

(2)

أخرجه أبو داود (870)، وضعفه الألباني.

ص: 74

وربَّما قال: «اللَّهم لك سجدتُّ، وبك آمنت، ولك أسلمت، سجد وجهي للَّذي خلقه، وصوَّره، وشقَّ سمعه وبصره، تبارك الله أحسن الخالقين»

(1)

. وكان يقول أيضًا: «سبحانك اللَّهمَّ وبحمدك، اللَّهم اغفر لي»

(2)

. وكان يقول: «سبحانك اللَّهم وبحمدك، لا إله إلَّا أنت»

(3)

. وكان يقول: «سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ ربُّ الملائكة والرُّوح»

(4)

.

عقبة بن عامر رضي الله عنه، لم تثبت كما تقدم فريبًا؛ والإمام أحمد رحمه الله قال:«أما أنا فلا أقول: وبحمده» .

قوله: «وربَّما قال: «اللَّهم لك سجدتُّ، وبك آمنت، ولك أسلمت

»؛ لحديث علي رضي الله عنه، وفيه:«وإذا سجد، قال: «اللهم لك سجدت، وبك آمنت، ولك أسلمت، سجد وجهي للذي خلقه، وصوره، وشق سمعه وبصره، تبارك الله أحسن الخالقين» ، رواه مسلم.

قوله: «وكان يقول أيضًا: «سبحانك اللَّهمَّ وبحمدك، اللَّهم اغفر لي» »؛ لما روت عائشة

رضي الله عنها، قالت:«كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه وسجوده: «سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي» »، خرجاه في [الصحيحين].

قوله: «وكان يقول: «سبحانك اللَّهم وبحمدك، لا إله إلَّا أنت» » رواه مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها، وتقدم.

قوله: «وكان يقول: «سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ ربُّ الملائكة والرُّوح» »؛ لما روت

(1)

أخرجه مسلم (771).

(2)

أخرجه مسلم (487).

(3)

أخرجه مسلم (485).

(4)

أخرجه البخاري (794)، ومسلم (484).

ص: 75

وكان يقول: «اللَّهم اغفر لي ذنبي كُلَّه، دِقَّهُ وجِلَّه، وأوَّله وآخره، وعلانيته وسِرَّه»

(1)

.

وكان يقول: «اللَّهم إنِّي أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك»

(2)

.

عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في ركوعه وسجوده: «سبوح قدوس، رب الملائكة والروح» ، رواه مسلم.

قوله: «وكان يقول: «اللَّهم اغفر لي ذنبي كُلَّه، دِقَّهُ وجِلَّه، وأوَّله وآخره

» أيضًا هذا في مسلم.

قوله: «وكان يقول: «اللَّهم إنِّي أعوذ برضاك من سخطك .... » ؛ لما روت عائشة رضي الله عنها، قالت: فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من الفراش فالتمسته فوقعت يدي على بطن قدميه وهو في المسجد وهما منصوبتان وهو يقول: «اللهم أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» ، رواه مسلم.

هل يرص عقبيه أو لا يرص عقبيه؟

حديث عائشة رضي الله عنها السابق في مسلم «فوقعت يدي على بطن قدميه وهو في المسجد وهما منصوبتان» يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم قارب بين القدمين، لكن رصَّ العقبين غير ثابت جاء في صحيح ابن خزيمة:«فكان ساجدًا راصًّا عقبيه» .

(1)

أخرجه مسلم (483).

(2)

أخرجه مسلم (486).

ص: 76

وكان يجعل سجوده مناسبًا لقِيامه، ثُمَّ يرفع رأسه قائلًا:«الله أكبر» ، غير رافعٍ يَدَيه، ثُمَّ يفرش رِجْله اليُسرى، ويجلس عليها، وينصب اليُمْنى، ويضع يَدَيه على فخذيه.

فحديث ابن خزيمة أصله في صحيح مسلم دون زيادة «راصًّا عقبيه» ، لفظة شاذة.

قوله: «وكان يجعل سجوده مناسبًا لقِيامه، ثُمَّ يرفع رأسه» أشرنا إليه كما تقدم في حديث البراء بن عازب رضي الله عنه.

قوله: «ثُمَّ يرفع رأسه قائلًا: «الله أكبر» ، غير رافعٍ يَدَيه، ثُمَّ يفرش رِجْله اليُسرى

» أي في الجلسة بين السجدتين، صفة الجلسة بين السجدتين صفتان:

* مجزئة.

* وكاملة.

المجزئة: كيفما جلس.

أما الكاملة: فهي الافتراش، ينصب رجله اليمنى وتكون أصابعها تجاه القبلة، ويفرش رجله اليسرى ظهرها إلى الأرض وبطنها يجلس عليه، هذه كيفية الافتراش، وهي الأصل في جلسات الصلاة؛ لحديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه مرفوعًا، وفيه:«فإذا جلس في الركعتين جلس على رجله اليسرى ونصب اليمنى» ، رواه البخاري.

وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: «إنما سنة الصلاة أن تنصب رجلك اليمنى، وتثني اليسرى» ، رواه البخاري.

وقال ابن عمر رضي الله عنهما: «من سنة الصلاة أن ينصف القدم اليمنى، واستقباله بأصابعها القبلة، والجلوس على اليسرى» ، رواه النسائي بإسناد صحيح.

ص: 77

ثُمَّ يقول: «اللَّهُم اغفر لي، وارحمني، واجبرني، واهدني، وارزقني» . وفي لفظٍ: «وعافني» بدل: «واجبرني» ، هذا حديث ابن عباس

(1)

. وقال حذيفة: كان يقول بين السَّجدَتَين: «ربِّ اغفر لي»

(2)

. والحديثان في السُّنن،

فالقاعدة: أن الأصل في جلسات الصلاة الافتراش، يُستثنى من ذلك التورُّك في الركعة الأخيرة كما سيأتينا إن شاء الله.

ولما روت عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من السجدة، لم يسجد حتى يستوي جالسا، وكان يقول في كل ركعتين التحية، وكان يفرش رجله

اليسرى وينصب رجله اليمنى»، رواه مسلم.

أما بالنسبة لكفيه فتكون مبسوطة الأصابع على فخذيه هذا ما عليه عامة أهل العلم.

قوله: «ثُمَّ يقول: «اللَّهُم اغفر لي، وارحمني، واجبرني، واهدني .... » أي يقول في الجلسة بين السجدتين، ثم أورد المؤلف حديثين:

الحديث الأول: حديث ابن عباس رضي الله عنهما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول بين السجدتين: «اللهم اغفر لي، وارحمني، وعافني، واهدني، وارزقني» ، رواه أحمد، وأبوداود، والترمذي، وابن ماجه، تفرد به كامل بن العلاء، عن حبيب بن أبي ثابت، وحديث مبيت ابن عباس في الصحيحين، وليس فيه هذه الزيادة.

وفي وهذا لفظ أبي داود والحاكم. وعند الترمذي وابن ماجه: «واجبرني» بدل «وعافني» ، وعند ابن ماجه أيضا:«وارفعني» بدل «واهدني» .

(1)

أخرجه أبو داود (850)، والترمذي (284)، وابن ماجه (898)، وحسنه الألباني.

(2)

أخرجه أبو داود (874)، وابن ماجه (897)، وصححه الألباني.

ص: 78

وكان يُطِيل هذه الجلسة حتى يقول القائل: «قد أوهم» ، أو:«قد نسي»

(1)

.

فَصْلٌ

ثُمَّ يكبِّر ويسجد، غير رافع يَدَيه، ويصنع في الثَّانية كما صنع في الأولى،

الحديث الثاني: حديث حذيفة رضي الله عنه ذكر صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وفيه قال: وكان يقول في سجوده «سبحان ربي الأعلى» ، وكان يقول بين السجدتين:«رب اغفر لي رب اغفر لي» ، رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، إسناده صحيح.

قوله: «وكان يُطِيل هذه الجلسة حتى يقول القائل: «قد أوهم» ، أو:«قد نسي» » تكلَّمنا عليه فيما تقدم من حديث أنس رضي الله عنه.

قوله: «فصْلٌ: ثُمَّ يكبِّر ويسجد، غير رافع يَدَيه» أي لا يرفع يديه عند السجود؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما السابق، وسبق الكلام عليه.

قوله: «ويصنع في الثَّانية كما صنع في الأولى» ؛ كما جاء في حديث المسي صلاته «ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلَاتِكَ كُلِّهَا» ، رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، غير الاستفتاح.

وظاهر كلامه: أنه يستعيذ في الركعة الثانية، ولو استعاذ في الأولى، والمذهب: أنه إذا استعاذ في الأولى لا يستعيذ في الثانية.

قال رحمه الله: «ثم يرفع رأسه مكبِّرًا» يعني يقوم للركعة الثانية مكبرًا، ويكون التكبير أثناء الانتقال كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه:«ثم يكبر حين يرفع» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

(1)

سبق تخريجه.

ص: 79

ثُمَّ يرفع رأسه مكبِّرًا، وينهض على صدور قَدَمَيه، معتمدًا على رُكْبَتيه وفَخِذيه

(1)

.

قوله: «وينهض على صدور قَدَمَيه، معتمدًا على رُكْبَتيه وفَخِذيه» أي ينهض على صدور القدمين، ولا يجلس للاستراحة؛ لما روى عاصم بن كليب، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم:«وإذا نهض نهض على ركبتيه، واعتمد على فخذه» ، أبو داود، مرسل ضعيف.

وعند مالك، ومذهب الشافعية: الأفضل أن يعتمد على الأرض بيديه؛ لحديث مالك بن

الحويرث، وفيه:«فإذا رفع رأسه من السجدة الثانية جلس واعتمد على الأرض، ثم قام» ، رواه البخاري.

وعن الأزرق بن قيس قال: «رأيت ابن عمر رضي الله عنهما ينهض في الصلاة ويعتمد على يديه» ، أخرجه ابن أبي شيبة. وإسناده صحيح.

وأما القيام عجنًا فلم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وقيل: ينهض بالاعتماد على اليدين المقبوضتين على هيئة العاجن، ذهب إلى هذا بعض الشافعية؛ عن الأزرق بن قيس، قال:«رأيت ابن عمر يعجن في الصلاة، يعتمد على يديه إذا قام، فقلت له فقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله» . غريب الحديث، ذكر العجن فيه لا يثبت.

وقيل: إن جلس للاستراحة قام معتمدًا على يديه، وإن لم يجلس للاستراحة قام معتمدًا على صدور قدميه وركبتيه، وهذا دل له كلام الإمام أحمد، وهذا أقرب.

(1)

أخرجه الترمذي (288)، وصححه الألباني.

ص: 80

وقال مالك بن الحويرث: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان في وترٍ من صلاته لم ينهض حتى يستوي قاعدًا»

(1)

. فهذه تُسَمَّى جلسة الاستراحة، ولا ريب أنَّه صلى الله عليه وسلم فعلها، ولكن هل فَعَلها على أنَّها من سنن الصَّلاة وهيئاتها كالتَّجافي وغيره، أو لحاجته إليه لما أسنَّ وأخذه اللَّحم؟ وهذا الثَّاني أظهر؛ لوجهين: أحدهما: أنَّ فيه جمعًا بينه وبين حديث وائل بن حجر، وأبي هريرة:«أنَّه كان ينهض على صدور قدميه» . الثَّاني: أنَّ الصَّحابة الذين كانوا أحرص النَّاس على مشاهدة أفعاله وهيْئات صلاته كانوا ينهضون على صدور أقدامهم؛ فكان عبد الله بن مسعود يقوم على صُدُور قدميه في الصَّلاة، ولا يجلس.

قوله: «وقال مالك بن الحويرث: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان في وترٍ من صلاته لم ينهض حتى يستوي قاعدًا» . فهذه تُسَمَّى جلسة الاستراحة

» عطية العوفي ضعيف المؤلف يختار أنه لا يجلس للاستراحة، وهو قول أكثر أهل العلم:

أولاً: أن أكثر الذين وصفوا صلاة النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكروا هذه الجلسة.

ثانياً: حديث أبي حميد في صفة صلاته صلى الله عليه وسلم، وفيه:«أنه قام ولم يتورك» ، رواه أبو داود، وإسناده ضعيف.

ثالثاً: حديث أبي هريرة رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينهض على صدور قدميه» ، رواه الترمذي، والبيهقي، وضعَّفه بخالد بن إياس رضي الله عنه.

رابعاً: أن أقرب الصحابة وألزمه صحبة للنبي صلى الله عليه وسلم وأشدهم اقتفاء له لم يكونوا يجلسون هذه الجلسة، كابن عباس، وابن عمر، وابن مسعود، وابن الزبير،

(1)

أخرجه البخاري (823).

ص: 81

رواه البيهقي عنه. ورواه عن ابن عمر، وابن عباس، وابن الزُّبير، وأبي سعيد الخدري، من رواية عطيَّة العوفي عنهم، وهو صحيحٌ عن ابن مسعودٍ

(1)

.

وأبي سعيد رضي الله عنهم، أخرج هذه الآثار: البيهقي في سننه، وصحَّحه عن ابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهم.

فقد ورد عن ابن مسعود «أنه كان ينهض على صدور قدميه في الركعة الأولى والثالثة، ولا يجلس» ، رواه البيهقي بسند صحيح. وروى أيضًّا بسند صحيح عن ابن عمر بنحوه.

وعن النعمان بن أبي عياش قال: «أدركت غير واحد، من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فكان إذا رفع رأسه من السجدة في أول ركعة والثالثة قام كما هو ولم يجلس» ، رواه ابن أبي شيبة، صحيح.

وعند الشافعي، ورواية عند الحنابلة، وابن حزم: تُشرع مطلقًا.

واستدلوا: بحديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه: «أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان في وتر من صلاته لم ينهض حتى يستوي قاعدًا» ، رواه البخاري. قال أحمد عن حديث مالك بن الحويرث:«ليس لهذا الحديث ثانٍ» ، نقلها ابن رجب في فتح الباري.

وبحديث أبي حميد حيث ذكرها في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثم هوى إلى الأرض ساجدًا، ثم قال: الله أكبر، ثم جافى عضديه عن إبطيه وفتخ أصابع رجليه، ثم ثنى رجله اليسرى وقعد عليها، ثم اعتدل حتى يرجع كل عظم في موضعه معتدلًا، ثم هوى ساجدًا، ثم قال: الله أكبر، ثم ثنى رجله وقعد واعتدل حتى يرجع كل عظم في موضعه، ثم نهض، ثم صنع في الركعة الثانية مثل ذلك» ، رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وقال الترمذي:«حسن صحيح» .

(1)

أخرجه البيهقي (2763).

ص: 82

ولم يكن يرفع يَدَيه في هذا القيام، وكان إذا اسْتَتَمَّ قائمًا أخذ القراءة، ولم يسكت، وافتتح قراءته ب {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}

لكن زيادة جلسة الاستراحة شاذة من حديث عبد الحميد بن جعفر.

وقال أبو يعلى، وابن قدامة: تُشرع عند الحاجة، كالمريض، والكبير، والبدين.

واستدلوا: بأن ما ورد من جلوسه يُحمل على الحاجة؛ إذ إن قدوم مالك بن الحويرث رضي الله عنه كان في آخر حياته صلى الله عليه وسلم بعد أن أخذه اللحم، وكان صلى الله عليه وسلم في آخر حياته يُصلي الليل جالسًا لمدة عام.

وعلى هذا يكون أقرب الأقوال ما ذهب إليه أبو يعلى وابن قدامة، وبه تجتمع الأدلة.

وهذه الجلسة تكون عند القيام للركعة الثانية، وعند القيام للركعة الثالثة، وليس لها ذكر، كما ذكرنا فيما سلف أن الأصل في جلسات الصلاة الافتراش.

قوله: «ولم يكن يرفع يَدَيه في هذا القيام» يعني إذا قام من الركعة الأولى إلى الركعة الثانية، لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يرفع يديه، وهذا هذا باتفاق الأئمة، وعن بعض السلف الرفع، وتقدم الكلام على هذه المسألة.

وذكرنا بأن البخاري رحمه الله أشار إلى ضعف الأحاديث الواردة في الرفع من السجود أو الهوي إلى السجود، إلى آخره.

قوله: «وكان إذا اسْتَتَمَّ قائمًا أخذ القراءة، ولم يسكت، وافتتح قراءته ب {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}» يعني أنه لا يستفتح، حتى ولو فاته الاستفتاح في الركعة الأولى، فلا يستفتح في الركعة الثانية؛ لأنه سنة فات محلها.

ص: 83

فإذا جلس في‌

‌ التَّشهد الأول

جلس مفترشًا كما يجلس بين السَّجدتين،

وعلى هذا إذا قام فإنه يشرع في القراءة، ويدل لذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه في صحيح مسلم قال:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نهض من الركعة الثانية استفتح القراءة ب {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ولم يسكت» يبسمل.

وهل يستعيذ ويبسمل أو لا؟ المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله أنه إذا استعاذ في الركعة الأولى لا يستعيذ في الركعة الثانية، وإن لم يستعذ في الركعة الأولى يستعيذ في الركعة الثانية.

والرأي الثاني: أنه يستعيذ في كل ركعة؛ لأن الاستعاذة للقراءة، وكل ركعة لها قراءة مستقلة، الله سبحانه وتعالى قال:{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [النحل: 98].

ثم يقول: بسم الله الرحمن الرحيم؛ لما تقدم من أدلة مشروعية البسملة قريباً.

قوله: «فإذا جلس في التَّشهد الأول جلس مفترشًا كما يجلس بين السَّجدتين» هنا شرع المؤلف رحمه الله في بيان كيفية الجلوس في التشهد الأول، وكيفية الجلوس في التشهد الأول هي جلسة الافتراش كما تقدم في حديث أبي حميد، وعائشة، وابن عمر رضي الله عنهم، وتقدم أن الأصل في جلسات الصلاة الافتراش، والافتراش؛ تنصب اليمنى، وتكون أصابعها تجاه القبلة، وتفترش رجلك اليسرى، ظهرها إلى الأرض، وبطنها تجلس عليه.

فالجلوس للتشهد له صفتان كما سبق:

صفة مجزئة.

وصفة كاملة.

الصفة المجزئة: كيفما جلس.

ص: 84

ويضع يده اليسرى على ركبته اليسرى، واليمنى على فخذه اليمنى،

الصفة الكاملة: أن يفترش، تنصب اليمنى، وأصابعها تجاه القبلة، وتفترش رجلك اليسرى وتجلس عليها، كما سلف.

قوله: «ويضع يده اليسرى على ركبته اليسرى، واليمنى على فخذه اليمنى» لكيفية وضع الكفين، فله صفتان:

الأولى: أن يضع الكف اليمنى على الفخذ اليمنى، واليسرى على الفخذ اليسرى، وهذه الصفة المشهور عند الحنابلة، وهو قول جمهور أهل العلم؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال:«كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا جلس في الصلاة وضع كفه اليمنى على فخذه اليمنى، وقبض أصابعه كلها، وأشار بإصبعه التي تلي الإبهام، ووضع كفه اليسرى على فخذه اليسرى» ، رواه مسلم.

وعند الحنفية، والشافعية: يفرج أصابع يديه اليسرى قليلًا.

الثانية: أن يضع كفه اليمنى على ركبته اليمنى، وكفه اليسرى على ركبته اليسرى باسطها عليها، ويشير بسبابته اليمنى، وهو قول بعض الحنابلة؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا جلس في الصلاة وضع يديه على ركبتيه، ورفع إصبعه اليمنى التي تلي الإبهام، فدعا بها، ويده اليسرى على ركبته باسطها عليها» ، رواه مسلم.

وعن عباس بن سهل، قال: اجتمع أبو حُميد، وأبو أُسيد، وسهل بن سعد، ومحمد بن مسلمة، فذكروا صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو حميد: أنا أعلمكم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، .... وفيه: قال: «ثم جلس فافترش رجله اليسرى، وأقبل بصَدْر اليمنى على قِبلته، ووضع كفَّه اليمنى على ركبته اليمنى، وكفَّه اليسرى على ركبته اليسرى» ، رواه أبو داود، إسناده صحيح.

ص: 85

وأشار بأصبعه السَّبَّابة، ووضع إبهامه على أصبعه الوسطى، كهيئة الحلقة،

وعن عبد الله بن الزبير قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قعد يدعو وضع يده اليمنى على فخذه اليمنى، ويده اليسرى على فخذه اليسرى، وأشار بإصبعه السبابة، ووضع إبهامه على إصبعه الوسطى، ويلقم كفه اليسرى ركبته» ، رواه مسلم.

قوله: «وأشار بأصبعه السَّبَّابة، ووضع إبهامه على أصبعه الوسطى، كهيئة الحلقة

» لكيفية الكفين، ثلاث صفات:

الأولى: أن يقبض أصابع كفِّه اليمنى كلها، ويُشير بأصبعه السبابة، وإبهامه على إصبعه الوسطى، واليسرى تكون مبسوطة؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال:«كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا جلس في الصلاة وضع كفه اليمنى على فخذه اليمنى، وقبض أصابعه كلها، وأشار بإصبعه التي تلي الإبهام، ووضع كفه اليسرى على فخذه اليسرى» ، رواه مسلم.

وعن عبد الله بن الزبير، قال:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قعد يدعو، وضع يده اليمنى على فخذه اليمنى، ويده اليسرى على فخذه اليسرى، وأشار بإصبعه السبابة، ووضع إبهامه على إصبعه الوسطى، ويلقم كفه اليسرى ركبته» ، رواه مسلم.

الثانية: أن يقبض الخنصر والبنصر، ويحلق الإبهام مع الوسطى، ويشير بالسبابة، وأما اليسرى فمبسوطة، وهو مذهب الحنابلة؛ لما رواه ابن عمر رضي الله عنهما «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قعد في التشهد وضع يده اليسرى على ركبته اليسرى، ووضع يده اليمنى على ركبته اليمنى، وعقد ثلاثةً وخمسين، وأشار بالسبابة» ، رواه مسلم.

وعن وائل بن حجر، قال: قلت: لأَنظُرَنَّ إلى صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف

ص: 86

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

يصلي! قال: «فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستقبل القبلة، فكبر فرفع يديه حتى حاذتا أذنيه، ثم أخذ شماله بيمينه

»، وذكر الحديث، وفيه:«ثم جلس فافترش رجله اليسرى، ووضع يده اليسرى على فخذه اليسرى، وحدَّ مِرفَقه الأيمن على فخذه اليمنى، وقبض ثنتين، وحلَّق حلْقةً. ورأيته يقول هكذا: وحلَّق بِشرٌ الإبهامَ والوسطى، وأشار بالسبابة» ، رواه أبو داود، إسناده حسن.

الثالثة: أن يقبض الخنصر والبنصر والوسطى، ويجعل الإبهام عند أصل السبابة، ويُشير بالسبابة؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما:«أن النبي صلى الله عليه وسلم قبض على يده ثلاثة وخمسين» . رواه مسلم. فسر الحديث بهذه الصفة، والصفة التي قبلها.

قوله: «وأشار بأصبعه السَّبَّابة

» أي يرفع إصبعه السبابة من أول التشهد إلى آخره بلا تحريك، وورد عند أبي داود إثبات التحريك دائمًا، وورد أيضًا نفيه.

فعن ابن الزبير رضي الله عنهما: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُشير بإصبعه إذا دعا، ولا يُحركها» ، رواه الدارمي، وأبو داود، والنسائي. ولفظة:«لا يُحركها» شاذة؛ فقد أخرج مسلم هذا الحديث، ولم يذكر هذه اللفظة.

أما التحريك: فقد تفرد به زائدة بن قدامة، عن عاصم بن كليب، عن أبيه، عن وائل بن حجر «فرأيته يُحركها يدعو بها» . رواه النسائي. وهي زيادة شاذة.

ولعل الأقرب: أنه يُشير بها، أي: يرفعها من أول التشهد إلى آخره دون تحريك تدعو بها، معنى الدعاء بها أنك ترفعها؛ لأن المسلم في أول التشهد يثني على الله عز وجل، التحيات لله والصلوات، ثم بعد ذلك تدعو؛ اللهم صلِّ على محمد، اللهم بارك على محمد، اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في

ص: 87

وجعل بصره إلى موضع إشارته، وكان يرفع إصبعه السَّبَّابة ويحنيها قليلًا، يوحِّدُ بها ربَّه عز وجل

(1)

، وذكر أبو داود، من حديث ابن عباسٍ عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:«هكذا الإخلاص» ، يشير بإصبعه التي تلي الإبهام، «وهكذا الدُّعاء» ، فرفع يَدَيه حذو مَنْكِبَيه، «وهكذا الابتهال» ، فرفع يَدَيه مدًّا

(2)

. وقد رُوِي موقوفًا

(3)

.

حديث ابن مسعود: «ثُم ليَتخيَّر مِنْ الدُّعاءِ أَعجَبه» ، فهو كله دعاء.

لحديث ابن عمر رضي الله عنهما: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا جلس في الصلاة وضع يديه على ركبتيه، ورفع إصبعه اليمنى التي تلي الإبهام، فدعا بها، ويده اليسرى على ركبته باسطها عليها» ، رواه مسلم.

ولما تقدم من إشارة النبي صلى الله عليه وسلم بالسبابة، كما في حديث ابن الزبير رضي الله عنهما.

قوله: «وجعل بصره إلى موضع إشارته» يعني رمى ببصره إلى موضع إشارته، هذا الحديث ضعيف، لكنه ثابت عن ابن عمر رضي الله عنه.

قوله: «ويحنيها قليلًا

» حنيها: فقد جاء عند أبي داود عن مالك بن نمير الخزاعي، عن أبيه، قال:«رأيت النبي صلى الله عليه وسلم واضعًا ذراعه اليمنى على فخذه اليمنى، رافعًا إصبعه السبابة، قد حناها شيئًا» ، وإسناده ضعيف.

قوله: «وذكر أبو داود، من حديث ابن عباسٍ عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: «هكذا الإخلاص» ، يشير بإصبعه التي تلي الإبهام، «وهكذا الدُّعاء» ، فرفع يَدَيه حذو مَنْكِبَيه، «وهكذا الابتهال» ، فرفع يَدَيه مدًّا. وقد رُوِي موقوفًا» الحديث في سنن

(1)

أخرجه مسلم (579).

(2)

أخرجه أبو داود (1491)، وصححه الألباني.

(3)

أخرجه أبو داود (1489)، وصححه الألباني.

ص: 88

ثُمَّ كان يقول: «التَّحيَّات لله والصَّلوات والطَّيبات، السَّلام عليك أيُّها النَّبيُّ ورحمة الله وبركاته، السَّلام علينا وعلى عباد الله الصَّالحين، أشهد أنْ لا إله إلَّا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله»

(1)

. وكان يعلِّمُه أصحابه، كما يعلِّمُهُم القرآن، وكان أيضًا يقول:«التَّحيَّات المباركات الصَّلوات الطَّيبات لله»

(2)

، هذا تشهُّد ابن عباسٍ، والأوَّل تشهُّد ابن مسعودٍ، وهو أكمل؛ لأنَّ تشهد ابن مسعود يتضمَّن جُمَلًا متغايرةً، وتشهُّد ابن عباسٍ جملةٌ واحدةٌ، وأيضًا فإنَّه في الصَّحِيحَين، وفيه زيادة الواو، وكان يعلِّمهم إيَّاه كما يعلِّمُهُم القرآن.

أبي داود، وفيه الاستغفار، بدل الإخلاص، وصححه الحاكم، ورواه موقوفاً على ابن عباس رضي الله عنهم عبد الرزاق، وأبو داود.

قوله: «ثُمَّ كان يقول: «التَّحيَّات لله والصَّلوات والطَّيبات،

»، «وكان أيضًا يقول: «التَّحيَّات المباركات الصَّلوات الطَّيبات لله

» التشهد ورد له صيغ عن النبي صلى الله عليه وسلم.

التشهد الذي ذكره المؤلف رحمه الله هذا تشهد ابن مسعود في [الصحيحين]، اختاره الإمام أحمد وأبو حنيفة، (التحيات لله والصلوات والطيبات) إلى آخره.

الصيغة الثانية: تشهد ابن عباس، وقد ذكرها المؤلف، رواها مسلم، ويأتي.

قوله: «والأوَّل تشهُّد ابن مسعودٍ، وهو أكمل

» المؤلف فضّل تشهد ابن مسعود على تشهد ابن عباس من أربعة أو جه، قال ابن رجب في الفتح: «لم

(1)

أخرجه البخاري (831)، ومسلم (402).

(2)

أخرجه مسلم (403).

ص: 89

ورَوَى ابن عمر عنه: «التَّحيَّات لله الصَّلوات الطَّيِّبات»

(1)

. وفيه أنواع أُخَر،

يخرج البخاري في التشهد غير تشهد ابن مسعود، وقد أجمع العلماء على أنه أصح أحاديث التشهد».

واختار مالك تشهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «التحيات الزاكيات لله، الطيبات، الصلوات لله

»، واختار الشافعي تشهد ابن عباس: «التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله

».

وسيأتي إن شاء الله قريبًا إيراد صيغ التشهد الواردة، وتقدم اختيار شيخ الإسلام: أن العبادة الواردة على وجوه متنوعة أنه تفعل هذه الصفة تارة، وتلك تارة أخرى.

قوله: «ورَوَى ابن عمر عنه: «التَّحيَّات لله الصَّلوات الطَّيِّبات» . وفيه أنواع أُخَر، كُلُّها جائزةٌ» ورد للتشهد في السنة عدة صيغ نذكرها للعمل بها، والله الموفق:

منها: حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وقد ذكره المؤلف.

ومنها: تشهد ابن عباس رضي الله عنهما: ولفظه: «التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسوله» ، أخرجه مسلم في الصلاة.

وأيضًا: تشهد أبي موسى رضي الله عنه: ولفظه: «التحيات الطيبات الصلوات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله» ، أخرجه مسلم.

(1)

أخرجه أبو داود (971)، وصححه الألباني.

ص: 90

كُلُّها جائزةٌ وكان يخفِّف هذه الجلسة، حتى كأنَّه جالسٌ على الرَّضَف

(1)

،

وأيضًا: تشهد عمر رضي الله عنه: أخرجه مالك في الموطأ، وعبد الرزاق، والدارقطني، والبيهقي، وقال الزيلعي في نصب الراية «وهذا إسناد صحيح» ، ولفظه عند مالك والبيهقي: «التحيات لله، الزاكيات لله، الطيبات الصلوات لله

» إلخ، كتشهد ابن مسعود، وفي لفظ للبيهقي: «التحيات لله، الزاكيات لله، الطيبات لله، الصلوات لله

» كتشهد ابن مسعود، فقد كان عمر يعلم الناس وهو على المنبر، وإن كان موقوفًا فله حكم الرفع.

وأيضًا: تشهد عائشة رضي الله عنها: أخرجه مالك في الموطأ، وابن أبي شيبة، ولفظه كما روى القاسم بن محمد عنها قال: «كانت عائشة تُعلمنا التشهد وتُشير بيدها، تقول: التحيات

الطيبات الصلوات الزاكيات لله، السلام على النبي ورحمة الله وبركاته

» إلخ، كتشهد ابن مسعود.

وأيضًا: تشهد ابن عمر رضي الله عنهما: أخرجه أبو داود، والدارقطني، وصحَّحه، كتشهد ابن مسعود رضي الله عنه، وفيه: قال ابن عمر رضي الله عنهما: وزدت فيها «وحده لا شريك له» بعد «شهادة أن لا إله إلا الله» .

وهذه الصيغ كما أسلفنا ينبغي لطالب العلم أنه يحفظ مثل هذه الصيغ، ينوعها في صلاته.

قوله: «وكان يخفِّف هذه الجلسة، حتى كأنَّه جالسٌ على الرَّضَف

» أي: لا يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ويسن تخفيف هذه الجلسة؛ لما روى ابن مسعود رضي الله عنه:«أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في الركعتين الأوليين كأنه على الرضف، قال: قلنا: حتى يقوم؟ قال: حتى يقوم» ، أخرجه أبو داود، والترمذي، والرضف: هو الحجارة المحماة.

(1)

أخرجه أبو داود (995)، والترمذي (366)، والنسائي (1176)، وضعفه الألباني.

ص: 91

وهي: الحجارة المُحْمَاة، ثُمَّ يكبِّر وينهض، فيصلِّي الثَّالثة والرَّابعة، ويخفِّفُهما عن الأُوْلَيَين،

وإسناده ضعيف؛ لانقطاعه؛ أبو عبيدة وهو ابن عبد الله بن مسعود لم يسمع من أبيه. قال الترمذي: «هذا حديث حسن، إلا أن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه» .

وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: «علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد في وسط الصلاة وفي آخرها

، ثم إن كان في وسط الصلاة نهض حين يفرغ من تشهده، وإن كان في آخرها دعا بعد تشهده ما شاء الله أن يدعو ثم يسلم»، رواه أحمد، تفرد به محمد بن إسحاق.

وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح الصلاة بالتكبير، والقراءة، بالحمد لله رب العالمين

»، وذكر الحديث وفيه:«وكان يقول في كل ركعتين التحية» ، رواه مسلم، ولم يذكر الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.

وعن أبي بكر رضي الله عنه «أنه كان إذا جلس في الركعتين كأنه على الرضف» ، رواه ابن أبي شيبة، وصحَّحه الحافظ. ونحوه عن ابن عمر رضي الله عنهما.

لكن إذا كان مأمومًا والإمام لم ينهض فإنه يصلي على النبي.

قوله: «ثُمَّ يكبِّر وينهض، فيصلِّي الثَّالثة والرَّابعة» ما ذكر المؤلف رحمه الله أنه يرفع يديه عند القيام من التشهد الأول، وهذا ثابت في حديث ابن عمر في البخاري، وهو رواية عن الإمام

أحمد، وجمهور أهل العلم لا يرونه، لكنه ثابت من حديث ابن عمر في صحيح البخاري، وليت المؤلف رحمه الله ذكر ذلك، وهذا الموضع الرابع من المواضع التي ترفع فيها الأيدي.

قوله: «ويخفِّفُهما عن الأُوْلَيَين» أي: لا تشرع قراءة ما بعد الفاتحة في

ص: 92

وكان يقرأ فيهما بفاتحة الكتاب، ورُبَّما زاد عليها أحيانًا.

الركعتين الأُخريين؛ لحديث أبي قتادة رضي الله عنه قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الركعتين الأُوليين من الظهر والعصر بفاتحة الكتاب وسورة، ويُسمعنا الآية أحيانًا، ويقرأ في الركعتين الأُخريين بفاتحة الكتاب» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

قوله: «وكان يقرأ فيهما بفاتحة الكتاب، ورُبَّما زاد عليها أحيانًا» وليس دائماً فتجتمع الأدلة؛ لحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الظهر في الركعتين الأُوليين في كل ركعة قدر ثلاثين آية، وفي الأُخريين قدر خمس عشرة آية، وفي العصر من الركعتين الأوليين في كل ركعة قدر خمس عشر آية، وفي الأُخريين قدر نصف ذلك» ، رواه مسلم.

وأيضًا حديث أبي سعيد رضي الله عنه قال: «كنا نحزر قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهر والعصر، فحزرنا قيامه في الركعتين الأُوليين من الظهر قدر (ألم. تنزيل) السجدة، وحزرنا قيامه في الأُخريين قدر النصف من ذلك، وحزرنا قيامه في الركعتين الأُوليين من العصر على قدر قيامه في الأُخريين من الظهر، وفي الأُخريين من العصر على النصف من ذلك» ، رواه مسلم.

وبما ورد «أن أبا بكر قرأ في الركعة الثالثة بفاتحة الكتاب، وقوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران: 8]» رواه مالك في الموطأ، وعبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وصححه النووي في المجموع، لكنه في القنوت.

وعن نافع «أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان إذا صلَّى وحده يقرأ في الأربع جميعًا، في كل ركعة بأم القرآن وسورة من القرآن، وكان يقرأ أحيانًا بالسورتين والثلاث في الركعة الواحدة من صلاة الفريضة، ويقرأ في الركعتين من المغرب كذلك بأم القرآن وسورة سورة» ، رواه مالك في الموطأ. وإسناده صحيح.

ص: 93

فَصْلٌ

وكان إذا قَنَت لقومٍ أو على قومٍ يجعل قنوتَه في الرَّكعة الأخيرة، بعد رفع رأسه من الرُّكوع، وكان أكثر ما يفعل ذلك في صلاة الصُّبح. وقال حميد، عن أنسٍ:«قَنَت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرًا بعد الركوع في صلاة الصُّبح، يدعو على رِعْلٍ وذَكْوَان»

(1)

. وقال ابن سيرين: قلتُ لأنسٍ: قَنَت رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الصُّبح؟ قال: «نعم، بعد الركوع يسيرًا» . وقال ابن سيرين عن أنسٍ: «قَنَت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرًا بعد الركوع في صلاة الفجر، يدعو على عُصَيَّة»

(2)

. متَّفقٌ على هذه الأحاديث. فهؤلاء أعلم النَّاس بأنسٍ قد حَكَوا عنه أنَّ قنوته كان بعد الركوع، وحُمَيدٌ هو الذي روى عن أنسٍ أنَّه سُئِل عن‌

‌ القُنُوت

فقال: «كُنَّا نقنت قبل الركوع وبعده»

(3)

.

عند الشافعي في الجديد: أن القراءة تُسن بعد الفاتحة في الأُخريين من الرباعية، والثالثة من المغرب

وعند ابن حزم: تُسن القراءة في الأُخريين من الظهر دون غيرها؛ لحديث أبي سعيد السابق.

قوله: «وكان إذا قَنَت لقومٍ أو على قومٍ يجعل قنوتَه في الرَّكعة الأخيرة، بعد رفع رأسه من الرُّكوع، وكان أكثر ما يفعل ذلك في صلاة الصُّبح .... » القنوت في الصلاة، المراد به هنا: الدعاء، والقنوت في الصلاة على ثلاثة أنواع:

النوع الأول: القنوت في النوازل، كما في هذه الأحاديث التي أوردها

(1)

أخرجه البخاري (1003)، ومسلم (677).

(2)

أخرجه البخاري (1001)، ومسلم (677).

(3)

أخرجه ابن ماجه (1183)، وصححه الألباني.

ص: 94

والمراد بهذا القُنُوت طول القيام. وقد أخبر أبو هريرة مثل ما أخبر به أنسٌ سواء، أنَّه صلى الله عليه وسلم قَنَت بعد الركوع لَمَّا قال:«سمع الله لمن حمده» ، قال قبل أنْ يسجد:«اللَّهم نَجِّ عيَّاش بن أبي ربيعة، والوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، والمستضعفين من المؤمنين»

(1)

. متَّفقٌ عليه. وقال ابن عمر: إنَّه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر يقول: «اللَّهمَّ العن فلانًا وفلانًا» ، بعد ما يقول:«سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد»

(2)

. فقد اتَّفقت الأحاديث أنَّه قَنَت بعد الركوع، وأنَّه قَنَت لعارضٍ، ثُمَّ تَرَكه. ثم قال أنسٌ:«القنوت في المغرب والفجر»

(3)

. رواه البخاري.

المؤلف رحمه الله، إذا نزلت بالمسلمين نازلة يُقنت في الفرائض، وهو قول أبي حنيفة وأحمد كما جاء في الأحاديث حديث أبي هريرة، وابن عمر، وابن عباس، وأنس، وغير ذلك.

لكن ما هي النازلة التي يُقنت لها؟

النوازل على نوعين:

النوع الأول: نوازل من قبل الخالق، من قِبَل الله، فهذه لا يُقنت لها، ورد لها عبادات خاصة، فمثلًا إذا قحط المطر، وجفت العيون، وغارت الآبار تشرع صلاة الاستسقاء أو الدعاء في خطبة الجمعة، أو الدعاء المجرد.

إذا كسفت الشمس أو خسف القمر تشرع صلاة الكسوف.

إذا هبت الرياح يشرع قول: اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما

(1)

أخرجه البخاري (4560)، ومسلم (675).

(2)

أخرجه البخاري (4559).

(3)

أخرجه البخاري (1004).

ص: 95

وقال البراء: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقنت في صلاة الفجر والمغرب»

(1)

. رواه مسلم. وقَنَت أبو هريرة في الركعة الأخيرة من الظهر، وعشاء الآخرة، وصلاة الصُّبح، بعدما يقول:«سمع الله لمن حمده» ، يدعو للمؤمنين، ويلعن الكُفَّار، وقال:«لأُقَرِّبَنَّ بكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم»

(2)

. ذكره البخاري. وقال أحمد: «وصلاة العصر» ، مكان:«صلاة العشاء»

(3)

. وقال ابن عباسٍ: «قَنَت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرًا متتابعًا، في الظُّهر والعصر والمغرب والعشاء والصُّبح، في دُبُر كُلِّ صلاةٍ، إذا قال: «سمع الله لمن حمده» ، من الرَّكعة الأخيرة، يدعو على حيٍّ من بني سُلَيمٍ، ويؤمِّن مَنْ خَلْفَه». ذكره أحمد

(4)

، وأبو داود

(5)

.

أُمرت به، ونعوذ بك من شرها ومن شر ما فيها، وشر ما أُمرت به.

إذا زادت الأمطار يشرع قول: اللهم حوالينا ولا علينا، إلى آخره.

فما يكون من قبَل الخالق هذا شُرع له عبادات، إما صلاة أو ذكر أو غير ذلك.

النوع الثاني: النوازل التي تكون من قِبل المخلوقين كأن يحصل لطائفة من المسلمين شيء من الظلم والاضطهاد ونحو ذلك، فهذه يُقنت لها.

ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم قنت للمستضعفين، كما ذكر المؤلف رحمه الله:«اللهم نج عياش بن أبي ربيعة، والوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، والمستضعفين من المؤمنين» ، في [الصحيحين]، ودعا على أحياء من العرب لأنهم آذوا المؤمنين.

(1)

أخرجه (678).

(2)

أخرجه البخاري (797).

(3)

أخرجه أحمد (7464)، (10073)، ولكن لفظه مثل لفظ البخاري.

(4)

أخرجه أحمد (2746).

(5)

أخرجه أبو داود (1443)، وحسنه الألباني.

ص: 96

وقد اتَّفقت الأحاديث كما تَرَى على أنَّه في الرَّكعة الأخيرة بعد الرُّكوع، وأنَّه عارِضٌ لا راتِبٌ. وفي صحيح مسلمٍ، عن أنسٍ:«قَنَت شهرًا يدعو على أحياء من أحياء العرب، ثُمَّ تَرَكه»

(1)

. وعند الإمام أحمد: «قَنَت شهرًا ثُمَّ تَرَكه»

(2)

.

ومن هو الذي يقنت؟ المذهب أن الذي يقنت هو الإمام؛ لأن الذي كان يقنت هو النبي صلى الله عليه وسلم.

وعن الإمام أحمد: يقنت إمام كل جماعة؛ لأنه ورد عن الصحابة القنوت، كأبي هريرة رضي الله عنه، رواه الطحاوي في شرح معاني الآثار بإسناد صحيح.

والبراء، وابن عباس رضي الله عنهم، رواه عبد الرزاق، وابن أبي شيبة. وأنس رضي الله عنه: رواه ابن المنذر في الأوسط، وأبو موسى رضي الله عنه: رواه ابن أبي شيبة.

وعن الإمام أحمد رواية ثالثة، وهو مذهب الشافعية: يقنت كل مصل، اختاره شيخ الإسلام؛ لحديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه مرفوعًا:«صلوا كما رأيتموني أصلي» ، رواه البخاري.

وذكر المؤلف رحمه الله أن القنوت يكون في الركعة الأخيرة بعد الركوع كما في الأحاديث التي أوردها المؤلف حديث ابن عمر، وأبي هريرة، وابن عباس، وأنس رضي الله عنهم، ولو قنت قبل الركوع لا بأس؛ لأن الوارد عن الصحابة رضي الله عنهم في قنوت الوتر، قبل الركوع، فيكون لمحل القنوت صفتان.

ويكون الدعاء في قنوت النوازل بما يناسب النازلة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«اللهم نج عياش بن أبي ربيعة، والوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، والمستضعفين من المؤمنين» .

(1)

أخرجه مسلم (677).

(2)

أخرجه أحمد (12990)، إسناده صحيح على شرط الشيخين.

ص: 97

وقال أبو مالكٍ الأشجعي قلت: لأبي: يا أبتِ، إنَّك قد صلَّيْتَ خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ بالكوفة ههنا قريبًا من خمس سنين=أكانوا يقنتون؟ قال: أيْ بُنَيَّ، إنَّه محْدَثٌ. قال الترمذي:«هذا حديثٌ صحيحٌ»

(1)

.

ويقنت في جميع الفرائض؛ لما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «لأُقَرِّبن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان أبو هريرة يقنت في الركعة الأخيرة من صلاة الظهر، والعشاء الآخرة، وصلاة الصبح بعد ما يقول: سمع الله لمن حمده، فيدعو للمؤمنين ويلعن الكفار» ، متفق عليه.

وفي حديث البراء بن عازب رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقنت في صلاة المغرب، والفجر» ، رواه مسلم.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرًا متتابعًا في الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، والصبح» ، تقدم قريبًا.

وقال شيخ الإسلام: يقنت كل مصل في جميع الصلوات، لكنه في الفجر والمغرب آكد. وتقدمت الأدلة على شرعيته في كل الصلوات.

هذا النوع الأول من أنواع القنوت وهو القنوت في النوازل.

قوله: «وقال أبو مالكٍ الأشجعي قلت: لأبي: يا أبتِ، إنَّك قد صلَّيْتَ خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ .... » النوع الثاني من أنواع القنوت: القنوت في صلاة الفجر دون أن يكون هناك نازلة قال أبو حنيفة: القنوت في الفجر بدعة.

(1)

أخرجه الترمذي (402)، وصححه الألباني.

ص: 98

ورواه النَّسائي، ولفظه:«صلَّيْتُ خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يقنت، وصلَّيْتُ خلف أبي بكر فلم يقنت، وصلَّيْتُ خلف عمر فلم يقنت، وصلَّيْتُ خلف عثمان فلم يقنت، وصلَّيْتُ خلف عليٍّ فلم يقنت» ، ثُمَّ قال:«يا بُنَيَّ، بِدْعةٌ!»

(1)

. فمَنْ كره القُنُوت في الفجر احتجَّ بهذه الأحاديث، وبقول أنس:«ثُمَّ تَرَكه» . قالوا: فهو منسوخٌ.

وقال الحنابلة: يُكره؛ لحديث أنس رضي الله عنه: «أن الرسول صلى الله عليه وسلم قنت

شهرًا يدعو على أحياء من أحياء العرب، ثم تركه»، رواه مسلم.

ولحديث أبي مالك الأشجعي الذي أورده المؤلف.

ولترك عمر، وابن مسعود، وابن عمر رضي الله عنهم القنوت.

وعند المالكية: الإسرار بالقنوت، وعدم الجهر به في حق الإمام والمأموم والمنفرد؛ لأنه دعاء، وليس لدعاء القنوت حد محدود، ولا يرفع يديه في دعاء القنوت.

وعند الشافعية: يستحب رفع اليدين بعد الرفع من الركوع في الركعة الثانية.

ولفظه، والجهر به، كما في قنوت الوتر، ولا يتعين دعاء.

ودليل المالكية، والشافعية: حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما: «أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقنت في الصبح، والمغرب» ، رواه مسلم. ولفظ:«كان» يدل على استمرار المشروعية.

ونوقش: بما سيأتي.

ولحديث أنس رضي الله عنه قال: «ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقنت في الفجر حتى

(1)

أخرجه النسائي (1080)، وصححه الألباني.

ص: 99

ومن استحبَّه قبل الرُّكوع فحُجَّتُه الآثار عن الصَّحابة والتَّابعين بذلك. قال أبو داود الطَّيالسي: حدَّثنا سعيد بن أبي عروبة، عن أبي رجاء، عن أبي مغفل:«أنَّه قَنَت في الفجر قبل الركوع» . وقال مالكٌ: عن هشام بن عروة، عن أبيه:«أنَّه كان يقنت في الفجر قبل الركوع» . وذكر أبو بكر ابن المنذر، عن عمر بن عبد العزيز: أنَّه كان يقنت قبل الركوع.

فارق الدنيا»، رواه أحمد.

ونوقش: أن المراد طول القيام.

وعن عبد الرحمن بن أبزى «أن عمر رضي الله عنه كان يقنت في الصبح قبل الركوع بهاتين السورتين: اللهم إياك نعبد، واللهم إنا نستعينك» ، رواه الطبري في تهذيب الآثار مسند ابن عباس. وإسناده صحيح.

وعن أبي عبد الرحمن السلمي «أن عليًّا رضي الله عنه كبر حين قنت في الفجر، ثم كبر حين يركع» ، رواه عبد الرزاق، وابن أبي شيبة. وإسناده حسن.

وعن عبد الرحمن بن معقل قال: «قنت في الفجر رجلان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: علي، وأبو موسى رضي الله عنهم» ، رواه ابن أبي شيبة. وإسناده حسن.

وعن الأعرج قال: «كان أبو هريرة رضي الله عنه يقنت في صلاة الصبح» ، رواه الطحاوي

في شرح معاني الآثار. وإسناده حسن.

وأيضا ورد القنوت بأسانيد صحيحة عن ابن عباس، والبراء بن عازب، وأنس بن مالك رضي الله عنهم.

قوله: «ومن استحبَّه قبل الرُّكوع فحُجَّتُه

» هنا دليل مالك والشافعي الذين يقولون بالقنوت في صلاة الفجر قبل الركوع.

ص: 100

وقال أصْبَغ بن الفَرَج والحارث بن مسكين وابن أبي الغمر: حدَّثنا عبد الرحمن بن القاسم قال: سُئِلَ مالكٌ عن القنوت في الصُّبح، أيُّ ذلك أعجبُ إليك؟ قال: الذي أدركت النَّاس عليه، وهو أمر النَّاس القديم: القنوت قبل الركوع. قلتُ: أيُّ ذلك تأخذ به في خاصَّة نفسك؟ قال: القنوت قبل الركوع. قلتُ: فالقنوت في الوتر؟ قال: ليس فيه قنوتٌ.

قوله: «ومن استحبَّه قبل الرُّكوع فحُجَّتُه الآثار عن الصَّحابة والتَّابعين بذلك

» أي ومن استحب القنوت في الفجر قبل الركوع فاحتج ببعض الآثار عن الصحابة والتابعين عن ابن مغفل، وعروة، وعمر بن عبد العزيز.

هذه آثار عن السلف رحمهم الله تعالى في القنوت في صلاة الفجر قبل الركوع كما هو قول مالك، وظاهرها من غير نازلة لكن لو أن المؤلف رحمه الله استدل بحديث أنس لكان أحسن، أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يقنت حتى فارق الدنيا. وتقدم الجواب عنه: أن المراد بالقنوت هنا هو طول القيام.

قوله: «وقال أصْبَغ بن الفَرَج والحارث بن مسكين وابن أبي الغمر: حدَّثنا عبد الرحمن بن القاسم قال: سُئِلَ مالكٌ عن القنوت في الصُّبح، أيُّ ذلك أعجبُ إليك؟ قال: الذي أدركت النَّاس عليه، وهو أمر النَّاس القديم: القنوت قبل الركوع. قلتُ: أيُّ ذلك تأخذ به في خاصَّة نفسك؟ قال: القنوت قبل الركوع. قلتُ: فالقنوت في الوتر؟ قال: ليس فيه قنوتٌ» مذهب مالك: أنه يرى القنوت في صلاة الفجر من غير نازلة، ولا يرى القنوت في الوتر، وتقدم، ويأتي.

ص: 101

فَصْلٌ

ومن استحبَّه بعد الرُّكوع فذهب إلى الأحاديث التي صرَّحَت بأنَّه بعد الركوع، وهي صِحاحٌ كُلُّها.

قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله: يقول أحدٌ في حديث أنسٍ: «إنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قَنَت قبل الركوع» ، غير عاصم الأحول؟ قال: ما عملتُ أحدًا يقولُه غيره خالف عاصمًا. قلتُ: هشام، عن قتادة، عن أنس:«أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قَنَت بعد الركوع» ، والتَّيمي، عن أبي مجلز، عن أنسٍ:«أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قَنَت بعد الرُّكوع» ، وأيُّوب، عن محمَّدٍ قال: سألتُ أنسًا، وحنظلة السَّدوسي عن أنس، أربعة وجوهٍ. قيل لأبي عبد الله: وسائر الأحاديث أليس إنَّما هي بعد الركوع؟ قال: بلى كُلُّها، خِفَاف بن إيماء وأبو هريرة.

قوله: «فصْلٌ: ومن استحبَّه بعد الرُّكوع فذهب إلى الأحاديث التي صرَّحَت بأنَّه بعد الركوع، وهي صِحاحٌ كُلُّها .... » ذكر المؤلف رحمه الله أن القنوت يكون في الركعة الأخيرة بعد الركوع كما في الأحاديث التي أوردها المؤلف حديث ابن عمر، وأبي هريرة، وابن عباس، وأنس رضي الله عنهم، ولو قنت قبل الركوع لا بأس؛ لأن الوارد عن الصحابة رضي الله عنهم في قنوت الوتر، قبل الركوع، فيكون لمحل القنوت صفتان.

قوله: «قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله: يقول أحدٌ في حديث أنسٍ: «إنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قَنَت قبل الركوع» ، غير عاصم الأحول؟ قال: ما عملتُ أحدًا يقولُه

» أي أن حديث أنس رضي الله عنه القنوت فيه بعد الركوع، وما روي فيه قبله فضعيف.

قوله: «قيل لأبي عبد الله: وسائر الأحاديث أليس إنَّما هي بعد الركوع؟ قال: بلى كُلُّها، خِفَاف

» فيه تضعيف الأحاديث الواردة في القنوت قبل الركوع.

ص: 102

قلتُ لأبي عبد الله: فلِمَ ترخِّصُ إذًا في القنوت قبل الركوع، وإنَّما صحَّ الحديث بعد الركوع؟ فقال: القنوت في الفجر بعد الركوع، وفي الوِتْر نختاره بعد الركوع، ومن قَنَت قبل الركوع فلا بأس؛ لفعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم واختلافهم فيه، فأمَّا في الفجر فبعد الركوع، والذي فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم هو القُنُوت في النَّوازل، ثُمَّ تَرَكَه، فَفِعْله سُنَّةٌ، وتَرْكُه سُنَّةٌ، وعلى هذا دَلَّت جميع الأحاديث، وبه تتَّفِق السُّنَّة.

وقال عبد الله بن أحمد: سألتُ أبي عن القُنُوت في أيِّ صلاةٍ؟ قال: في الوتر بعد الرُّكوع، فإنْ قَنَت رجلٌ في الفجر، اتِّباع ما روي عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قَنَت دعاءً للمستضعفين فلا بأس، فإنْ قَنَت رجلٌ بالنَّاس، يدعو لهم ويستنصر الله تعالى فلا بأس.

قوله: «قلتُ لأبي عبد الله: فلِمَ ترخِّصُ إذًا في القنوت قبل الركوع، وإنَّما صحَّ الحديث بعد الركوع؟ فقال: القنوت في الفجر بعد الركوع، وفي الوِتْر نختاره بعد الركوع، ومن قَنَت قبل الركوع فلا بأس؛ لفعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم واختلافهم فيه

» أي: الإمام أحمد يرى القنوت في النوازل في الفجر وغيرها، ويكون بعد الركوع، وفي الوتر بعد الركوع، ومَن قنت قبل الركوع فلا بأس لفعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ستأتي الآثار قريباً.

قوله: «وقال عبد الله بن أحمد: سألتُ أبي عن القُنُوت في أيِّ صلاةٍ؟ قال: في الوتر بعد الرُّكوع، فإنْ قَنَت رجلٌ في الفجر، اتِّباع ما روي عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قَنَت دعاءً للمستضعفين فلا بأس، فإنْ قَنَت رجلٌ بالنَّاس، يدعو لهم ويستنصر الله تعالى فلا بأس» تقدم نوعان من أنواع القنوت:

النوع الأول: القنوت في النوازل في الفرائض.

ص: 103

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

والنوع الثاني: القنوت في صلاة الفجر.

النوع الثالث: القنوت في الوتر، وأضيق الناس في ذلك هم المالكية، الإمام مالك لا يرى القنوت في الوتر، مع أنه كما تقدم يرى القنوت في صلاة الفجر، لكنه يخفف في ذلك، يجعله سرًّا؛ لأن الذين وصفوا وتر النبي صلى الله عليه وسلم، كعائشة، وحذيفة، وابن عباس، وغيرهم لم يذكروا القنوت.

وورد عن ابن عمر، كما في مصنف عبد الرزاق، وابن أبي شيبة.

قال ابن خزيمة في صحيحه: «ولست أحفظ خبرًا ثابتًا عن النبي صلى الله عليه وسلم في القنوت في الوتر» .

أبو حنيفة وأحمد: كل ليلة طول العام، يرون شرعية القنوت، واستدلوا: بحديث أُبي بن كعب رضي الله عنه في القنوت في الوتر، في سنن أبي داود، وفيه ضعف.

وحديث الحسن بن علي رضي الله عنهما الذي أورده المؤلف أيضًا: «علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في قنوت الوتر .... » ، أخرجه أحمد، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وصحَّحه النووي، وهذا يشمل جميع السنة.

ولوروده عن ابن مسعود رضي الله عنه، رواه عبد الرزاق، وهو ضعيف.

ولقول علقمة: «إن ابن مسعود رضي الله عنه وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يقنوت في الوتر قبل الركوع» ، رواه ابن أبي شيبة. وحسَّنه الحافظ.

وورد عن عمر رضي الله عنه، كما في مختصر كتاب الوتر للمروزي.

وابن عمر، وابن عباس رضي الله عنهم:«أنهما قنتا في الوتر» ، رواه ابن أبي شيبة،

ص: 104

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وهذا مطلق.

وعند الشافعية، ورواية عن مالك، ورواية عن أحمد: أنه يُستحب في النصف الأخير من رمضان.

واستدلوا: بأن عمر جمع الناس على أُبي بن كعب رضي الله عنهما، وفيه:«ولا يقنت إلا في النصف الثاني» ، رواه أبو داود، وهو ضعيف.

وورد عن علي رضي الله عنه، رواه البيهقي. وهو ضعيف.

ولما ثبت عن ابن عمر رضي الله عنهما: «أنه كان لا يقنت إلا في النصف يعني من رمضان» ، رواه ابن أبي شيبة.

وثبت عن أُبي بن كعب رضي الله عنه، رواه عبد الرزاق.

وورد عن أُبي، وتميم الداري:«لما صليا بالصحابة قنتا في النصف الأخير من رمضان» ، رواه أبو داود.

وابن تيمية رحمه الله: يرى أنه يقنت في بعض الأحيان، ويترك القنوت في بعض الأحيان جمعاً بين الأدلة.

وإن شاء قنت قبل الركوع: لأن هذا هو الثابت عن الصحابة رضي الله عنهم في قنوت الوتر، كعمر رضي الله عنه، رواه ابن أبي شيبة.

وعثمان، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما، رواه عبد الرزاق، وابن أبي شيبة.

وابن مسعود رضي الله عنه، رواه ابن أبي شيبة.

وابن عباس رضي الله عنهما، رواه عبد الرزاق، وابن أبي شيبة.

ص: 105

وقال إسحاق الحربيُّ: سمعت أبا ثورٍ يقول لأبي عبد الله أحمد بن حنبل: ما تقول في القنوت في الفجر؟ فقال أبو عبد الله: إنَّما يكون القنوت في النَّوازل. فقال له أبو ثورٍ: أيُّ نوازل أكثر من هذه النَّوازل التي نحن فيها؟ قال: فإذا كان كذلك فالقنوت. وقال الأثرم: سألتُ أبا عبد الله عن القنوت

وأُبي بن كعب رضي الله عنه، رواه ابن أبي شيبة.

وأنس بن مالك رضي الله عنه، رواه ابن جرير في تهذيب الآثار مسند ابن عباس.

والبراء بن عازب رضي الله عنهما، رواه ابن أبي شيبة.

وإذا قنت قبل الركوع كبَّر، ثم أخذ في القنوت، ثم كبَّر حين يركع، وإن شاء قنت بعد الركوع؛ لحديث أبي هريرة، وأنس رضي الله عنهما في قنوت النوازل: رواهما البخاري ومسلم.

ولثبوت قنوت الوتر بعد الركوع عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، رواه ابن أبي شيبة.

وعمر رضي الله عنه، رواه ابن جرير في تهذيب الآثار مسند ابن عباس.

وعلي رضي الله عنه، رواه ابن المنذر، وابن جرير.

وعلى هذا فيكون محل القنوت من السنن المتنوعة يُؤتى بهذا تارة، وبذاك تارة.

قوله: «وقال إسحاق الحربيُّ: سمعت أبا ثورٍ يقول لأبي عبد الله أحمد بن حنبل: ما تقول في القنوت في الفجر؟ فقال أبو عبد الله: إنَّما يكون القنوت في النَّوازل

» الإمام أحمد رحمه الله يرى: أنه يقنت في الفرائض في النوازل، فقال: «إن قنت رجل في الفجر اتباع ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قنت دعاءً للمستضعفين

ص: 106

في الفجر، فقال: نعم، في الأمر يحدث، كما قَنَت النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يدعو على قومٍ. قلتُ له: ويرفع صوته؟ قال: نعم، ويؤمِّن مَنْ خَلْفه، كذلك فعل النَّبيّ صلى الله عليه وسلم. قال: وسمعت أبا عبد الله يقول: القنوت في الفجر بعد الركوع. وسمعتُه قال لَمَّا سُئِلَ عن القنوت في الفجر فقال: إذا نزل بالمسلمين أمرٌ قَنَت الإمام، وأمَّن مَنْ خَلْفه. ثُمَّ قال: مثل ما نزل بالنَّاس من هذا الكافر، يعني بابك. وقال عبد القدوس بن مالك العطَّار: سألت أبا عبد الله أحمد بن حنبل فقلت:

فلا بأس، فإن قنت رجل بالناس يدعو لهم ويستنصر الله تعالى، فلا بأس».

قوله: «قال: وسمعت أبا عبد الله يقول: القنوت في الفجر بعد الركوع. وسمعتُه قال لَمَّا سُئِلَ عن القنوت في الفجر فقال: إذا نزل بالمسلمين أمرٌ قَنَت الإمام، وأمَّن مَنْ خَلْفه. ثُمَّ

قال: مثل ما نزل بالنَّاس من هذا الكافر، يعني بابك» بابك: بابك الخرمي قاد الطائفة الخرمية ضد الدولة العباسية في أذربجان، توفي سنة 223 هـ.

والطائفة الخرمية تجمع على القول بالرجعة، وأن الرسل يحصلون على روح واحدة، وأن الوحي لا ينقطع، وأن كل ذي دين مصيب.

قوله: «وقال عبد القدوس بن مالك العطَّار: سألت أبا عبد الله أحمد بن حنبل .... ، قلتُ: فإنَّ بالبصرة قومًا يقنتون، كيف ترى

» عبدوس بن مالك العطار، سأل الإمام أحمد رحمه الله عن الذين يقنتون في الفجر هل يتابعهم؟ قال الإمام أحمد رحمه الله:«تابعهم» ، يعني أنك لا تخالف، وهذا فيه مسلك تربوي لا ينبغي للإنسان أن يخالف؛ لأن المسألة اجتهادية، والقانت يعتقد أنه على هدى ودليل، فلا تظهر المخالفة.

لكن يرى في جملته الأخيرة أنه يُقتصر على الوارد في القنوت، ولهذا قال:

ص: 107

إنِّي رجلٌ غريبٌ من أهل البصرة، وإنَّ قومًا قد اختلفوا عندنا في أشياء، وأحبُّ أنْ أعلم رأيك فيما اختلفوا فيه. قال سَلْ عمَّا أحببت، قلتُ: فإنَّ بالبصرة قومًا يقنتون، كيف ترى في الصَّلاة خلف من يقنت؟ فقال: قد كان المسلمون يصلُّون خلف من يقنت، وخلف من لا يقنت، فإنْ زاد في القنوت حرفًا، أو دعا بمثل «إنَّا نستعينك» ، أو «عذابك الجد» ، أو «نحفد» . فإنْ كنتَ في الصَّلاة فاقطعها.

فَصْلٌ

وشرع لأمَّته أنْ يصلُّوا عليه في التَّشهُّد الأخير، فيقولوا:«اللَّهم صلِّ على محمَّدٍ وعلى آل محمَّدٍ، كما صلَّيْتَ على آل إبراهيم، إنَّك حميدٌ مجيدٌ، وبارك على محمَّدٍ وعلى آل محمَّدٍ، كما باركت على آل إبراهيم، إنَّك حميدٌ مجيدٌ»

(1)

.

«فإنْ زاد في القنوت حرفًا، أو دعا بمثل «إنَّا نستعينك» ، أو «عذابك الجد» ، أو «نحفد» . فإنْ كنتَ في الصَّلاة فاقطعها».

قوله: «فصْلٌ: وشرع لأمَّته أنْ يصلُّوا عليه في التَّشهُّد الأخير .... » الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ركن وهذا هو المذهب، ومذهب الشافعية.

واستدلوا بأدلة، منها:

1 قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 59]

2 حديث أبي مسعود، وفيه:«أمرنا الله أن نُصلي عليك، فكيف نصلي عليك؟» ، ثم قال: «قولوا: اللهم صل على محمد

»، رواه مسلم، وفي رواية:

(1)

أخرجه البخاري (4797)، ومسلم (406).

ص: 108

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

«كيف نصلي عليك إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا؟» ، رواه أحمد، والدارقطني، وصحَّحه ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي، تفرد به ابن إسحاق، لكنه أمر إرشاد وليس أمرًا ابتدائياً.

3 حديث سهل بن سعد رضي الله عنه مرفوعًا: «لا صلاة لمن لم يُصل على نبيه صلى الله عليه وسلم» ، رواه الدارقطني، والبيهقي، وهو عند ابن ماجه والحاكم مرفوعًا بلفظ:«ولا صلاة لمن لم يُصل علي» ، ولكنه ضعيف بعبد المهيمن بن عباس.

4 وعن أبي الأحوص وأبي عبيدة عن عبد الله رضي الله عنه قال: «يتشهد الرجل، ثم يُصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يدعو لنفسه» ، أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف، والحاكم في المستدرك. وصحَّحه ابن حجر.

وعن أحمد: أنها واجبة.

واستدلوا:

بحديث فضالة بن عبيد قال: سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلًا يدعو في صلاته ولم يُصل على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«عَجِل هذا» ، ثم دعاه فقال:«إذا صلَّى أحدكم فليبدأ بتحميد الله والثناء عليه، ثم ليُصل على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ليدع بما شاء» ، رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وقال:«حسن صحيح» .

قالوا: لو كانت ركنًا لأمره بالإعادة.

وعند أبي حنيفة، ومالك: أنها سنة، وبه قال ابن حزم.

واستدلوا: بحديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: «إذا فرغ أحدكم من التشهد الآخر فليتعوذ من أربع: من عذاب جهنم

»، رواه مسلم.

ص: 109

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ولأن عمر رضي الله عنه علَّم الناس التشهد، ولم يذكر الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وعن عبد الله بن مسعود بيدي قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فعلمني التشهد: «التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله» . قال عبد الله: فإذا قلت ذلك فقد قضيت ما عليك من الصلاة فإذا شئت أن تقوم فقم وإن شئت أن تقعد فاقعد»، إسناده صحيح.

الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وردت بصيغ متنوعة:

1 حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه، وفيه:«اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد» ، أخرجه البخاري بهذا اللفظ في الأنبياء/ باب حدثنا موسى بن إسماعيل.

2 حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه أيضًا، وفيه:«اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد» ، أخرجه البخاري، ومسلم.

3 حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه، وفيه:«اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد» ، أخرجه مسلم.

ص: 110

وأَمَرَهم أنْ يتعوَّذُوا بالله من عذاب النَّار، وعذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدَّجَّال

(1)

.

4 حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه، وفيه:«اللهم صل على محمد، وعلى أزواجه وذريته، كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى أزواجه وذريته، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد» ، أخرجه البخاري، ومسلم.

5 حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وفيه:«اللهم صل على محمد عبدك ورسولك، كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وآل محمد، كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم» ، أخرجه البخاري.

6 حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وفيه:«اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما صليت وباركت على إبراهيم وآل إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد» ، أخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة.

قوله: «وأَمَرَهم أنْ يتعوَّذُوا بالله من عذاب النَّار، وعذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدَّجَّال» أي: إذا انتهى من الصلاة يستعيذ بالله من هذه الأربع؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: «إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير فليتعوذ بالله من أربع: من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر المسيح الدجال» ، رواه مسلم، وهو في الصحيحين من حديث عائشة من فعله صلى الله عليه وسلم. ولعظم خطرها.

والرأي الثاني: الوجوب، وبه قال طاووس، وبعض الظاهرية كابن حزم، وهو رواية عن أحمد.

(1)

أخرجه البخاري (1377)، ومسلم (588).

ص: 111

وعَلَّم الصِّدِّيق أنْ يدعو في صلاته: «اللَّهم إنِّي ظلمتُ نفسي ظلمًا كثيرًا، وإنَّه لا يغفر الذُّنوب إلَّا أنت، فاغفر لي مغفرةً من عندك، وارحمني، إنَّك أنت الغفور الرَّحيم»

(1)

.

وكان من آخر ما يقول بين التَّشهُّد والتَّسليم: «اللهُمَّ اغفر لي ما قدَّمتُ وما أخَّرتُ، وما أسررتُ وما أعلنتُ، وما أنت أعلم به منِّي، أنت المقدِّم وأنت المؤخِّر، لا إله إلَّا أنت» (1).

لكن عندنا كما تقدم صارف يصرف عن الوجوب: حديث ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا: «فليقل: التحيات لله والصلوات

، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، ثم يتخير من المسألة ما شاء»، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

قوله: «وعَلَّم الصِّدِّيق أنْ يدعو في صلاته: «اللَّهم إنِّي ظلمتُ نفسي .... » أي إذا انتهى من الاستعاذة بالله من هذه الأربع، أو قبل الاستعاذة بالله من هذه الأربع يتخير من الدعاء ما شاء، يتخير من الدعاء أعجبه من خير الدنيا والآخرة.

والأحسن أن يأتي بالوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر المؤلف رحمه الله حديث الصديق رضي الله عنه قال:«وعَلَّم الصِّدِّيق أنْ يدعو في صلاته: «اللَّهم إنِّي ظلمتُ نفسي ظلمًا كثيرًا، وإنَّه لا يغفر الذُّنوب إلَّا أنت، فاغفر لي مغفرةً من عندك، وارحمني، إنَّك أنت الغفور الرَّحيم» ، هذا الحديث في [الصحيحين].

قوله: «وكان من آخر ما يقول بين التَّشهُّد والتَّسليم: «اللهُمَّ اغفر لي ما قدَّمتُ وما أخَّرتُ، وما أسررتُ وما أعلنتُ، وما أنت أعلم به منِّي، أنت المقدِّم وأنت المؤخِّر، لا إله إلَّا أنت» الحديث في صحيح مسلم من حديث علي رضي الله عنه.

(1)

أخرجه مسلم (771).

ص: 112

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ومما ورد في صحيح السنة من الأدعية بعد التشهد الأخير، وقبل السلام:

1 التعوذ بالله من أربع، وقد سبق.

2 «اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم» ، متفق عليه.

3 «اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم» ، متفق عليه.

4 «اللهم إني أسألك الجنة، وأعوذ بك من النار» ، رواه مسلم.

5 «اللهم أعني على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك» ، رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وقال الحافظ في البلوغ:«بسند قوي» .

6 «اللهم إني أعوذ بك من البخل، وأعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك من أن أُرد إلى أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا وعذاب القبر» ، رواه البخاري.

7 «اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا علمت الوفاة خيرًا لي، اللهم إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق في الرضا والغضب، وأسألك القصد في الغنى والفقر، وأسألك نعيمًا لا ينفد، وأسألك قرة عين لا تنقطع، وأسألك الرضا بعد القضاء، وأسألك برد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين» ، رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وإسناده جيد.

وذكر ابن تيمية رحمه الله ضابطًا بأن ما جاء مقيدًا بدُبر الصلاة فإن كان دعاءً

ص: 113

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

يكون قبل السلام، وما كان ذكرًا فإنه يكون بعد السلام.

وعلى هذا حديث معاذ رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له:«يَا مُعَاذُ: إِنِّي أُحِبُّكَ فَلَا تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ أَنْ تَقُولَ: اللهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ» ، يقال قبل السلام لأنه دعاء.

ولم يذكر المؤلف رحمه الله كيفية الجلوس في التشهد الأخير، وكما سلف أن هذه الكيفيات لها صفتان:

* صفة مجزئة.

* وصفة كاملة.

أما الصفة المجزئة: فكيفما جلس.

وأما الصفة الكاملة: صفة التورك:

الأولى: وقد رواها البخاري من حديث أبي حميد رضي الله عنه: «فإذا جلس في الركعتين جلس على رجله اليسرى ونصب اليمنى، وإذا جلس في الركعة الآخرة قدَّم رجله اليسرى ونصب الأخرى وقعد على مقعدته» ، رواه البخاري.

اليمنى تكون تارة منصوبة وأصابعها جهة القبلة، وتارة يجعل أصابع قدمه اليمنى خلفه فارشًا لها في الخلف.

الثانية: أن يفرش القدمين جميعًا، ويخرجهما من الجانب الأيمن، ويجعل أليتيه على الأرض، وهذه الصفة رواها أبو داود، وابن حبان، والبيهقي عن أبي حميد، وصحَّحه الألباني في صفة الصلاة.

ص: 114

ثُمَّ كان يسلِّم عن يمينه: «السَّلام عليكم ورحمة الله» ، وعن يساره:«السَّلام عليكم ورحمة الله»

(1)

، وروى ذلك خمسة عشر صحابيًا.

وقال الخرقي: يفرش اليمنى، ويجعل اليسرى بين فخذ وساق الرجل اليمنى، ويجعل أليتيه على الأرض. وهذه الصفة رواها مسلم عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما.

لكن هذه الرواية بمعنى الصفة الأولى؛ إذ في أبي داود: «جعل قدمه اليسرى تحت فخذه اليمنى وساقه» ؛ إذ المخرج للحديثين متحد.

يشرع التورك في التشهد الأخير إذا كان في الصلاة تشهدان، فإن كان تشهد واحد فالافتراش؛ لحديث أبي حميد رضي الله عنه في صفة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه:«ثم ثنى رجله وقعد عليها واعتدل حتى يرجع كل عظم في موضعه، ثم نهض .... » ، «حتى إذا كانت الركعة التي تنقضي فيها صلاته أخَّر رجله اليسرى وقعد على شقِّه متوركًا، ثم سلَّم» ، رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي وصححه، وابن ماجه.

ورواه البخاري بلفظ: «فإذا جلس في الركعتين جلس على رجله اليسرى ونصب اليمنى، وإذا جلس في الركعة الآخرة قدَّم رجله اليسرى ونصب الأخرى وقعد على مقعدته» .

قوله: «ثُمَّ كان يسلِّم عن يمينه: «السَّلام عليكم ورحمة الله» ، وعن يساره:«السَّلام عليكم ورحمة الله» ، وروى ذلك خمسة عشر صحابيًا» أي: بعد التشهد الأخير يُسلِّم والتسليم هذا ركن وهذا هو المذهب عند الحنابلة.

واستدلوا:

(1)

أخرجه أبو داود (996)، والترمذي (295)، والنسائي (1322)، وابن ماجه (914)، وصححه الألباني.

ص: 115

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

1 بحديث جابر بن سمرة رضي الله عنهما مرفوعًا، وفيه:«إنما يكفي أحدكم أن يضع يده على فخذه يُسلم على أخيه من على يمينه وشماله» ، رواه مسلم. وما دون الكفاية لا يكون مجزئًا.

2 حديث علي رضي الله عنه مرفوعًا: «وتحليلها التسليم» ، رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والحاكم. وإسناده حسن.

3 مواظبته صلى الله عليه وسلم على التسليمتين سفرًا وحضرًا، وقد قال صلى الله عليه وسلم:«صلوا كما رأيتموني أُصلي» ، رواه البخاري،

ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه اقتصر على تسليمه واحدة، فعن ابن مسعود رضي الله عنه «أن أميرًا كان بمكة يُسلم تسليمتين، فقال ابن مسعود: أنى عَلِقَهَا؟ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعله» ، رواه مسلم.

وعن سعد رضي الله عنه قال: «كنت أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسلم عن يمينه وعن يساره حتى أرى بياض خده» ، رواه مسلم.

4 عن مسروق أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان يُسلم تسليمتين عن يمينه وعن شماله حتى يرى بياض خده، أخرجه ابن المنذر. وإسناده صحيح.

5 عن الحسن بن عمرو قال: ذكر التسليم عند شقيق فقال: «قد صليت خلف عمر وعبد الله، فكلاهما يقولان: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله» ، أخرجه ابن أبي شيبة. وإسناده صحيح.

6 وعن شقيق بن سلمة قال: «صليت خلف علي فسلَّم عن يمينه وعن شماله: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله» ، أخرجه

ص: 116

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ابن أبي شيبة. إسناده حسن.

وعند الشافعي: الفرض تسليمة واحدة، وتُسن الأخرى. واستدل:

1 بظاهر قوله صلى الله عليه وسلم في حديث علي رضي الله عنه: «وتحليلها التسليم» ، والتسليمة الواحدة يقع عليها التسليم.

2 وأيضًا ما روي أنه صلى الله عليه وسلم اقتصر على تسليمة واحدة، كما في حديث عائشة، وأنس، وسلمة رضي الله عنهم.

قال ابن عبد البر: «أحاديث التسليم (تسليمة واحدة) معلولة، ولا يُصححها أهل العلم بالحديث» .

3 ولوروده عن جمع من الصحابة رضي الله عنهم: فقد ورد عن حميد قال: «صليتُ مع أنس فكان يُسلّم تسليمة واحدة: السلام عليكم» ، رواه ابن المنذر، وابن أبي شيبة. وإسناده صحيح.

وعن سعيد بن مرزبان قال: «صليتُ خلف ابن أبى ليلى فسلَّم واحدة، ثم قال: صليت خلف علي فسلّم واحدة» ، رواه ابن أبي شيبة. وإسناده حسن.

وعن يزيد بن أبي عبيد قال: «رأيت سلمة وهو ابن الأكوع يُسلّم تسليمة إذا انصرف من الصلاة من قِبَل وجهه إذا كان مع الإمام وغيره» ، رواه ابن المنذر.

وثبت بإسناد صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما «أنه كان يُسلّم عن يمينه واحدة» ، رواه عبد الرزاق.

وعن عائشة رضي الله عنها «أنها كانت تُسلم تسليمة واحدة قبالة وجهها» ، رواه ابن أبي شيبة. وإسناده صحيح.

ص: 117

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

4 أنه ثبت في النفل، وما ثبت في النفل ثبت في الفرض إلا لدليل، كما في حديث عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أوتر بتسع ركعات لم يقعد إلا في الثامنة

»، وفيه:«ثم يسلم تسليمة» ، رواه أحمد، والنسائي، قال الحافظ: إسناده على شرط مسلم. وفي لفظ: «ثم يسلم تسليمة واحدة» . رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجه. المحفوظ:«ثم يسلم تسليمًا يسمعنا» .

وحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفصل بين الشفع والوتر بتسليمة يسمعناها» ، رواه أحمد، وابن حبان. وصححه ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، وقوَّاه أحمد.

وصيغة التسليم كما ذكرها المؤلف: السلام عليكم ورحمة الله، لحديث ابن مسعود رضي الله عنه وغيره.

فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يُكبر في كل خفض ورفع، وقيام وقعود، ويُسلم عن يمينه وعن شماله: السلام عليكم ورحمة الله، حتى يرى بياض خده» ، قال:«ورأيتُ أبا بكر وعمر رضي الله عنهما يفعلان ذلك» ، رواه النسائي وغيره بإسناد صحيح.

وعن شقيق قال: قد صليتُ خلف عمر، وعبد الله، فكلاهما يقولان:«السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله» ، رواه ابن أبي شيبة، بإسناد صحيح.

وعن عاصم، عن أبي رزين «أن عليًّا كان يُسلم عن يمينه، وعن يساره: السلام عليكم السلام عليكم» ، رواه عبد الرزاق. وإسناده حسن.

ص: 118

وكان إذا سلَّم قال: «أستغفر الله» ، ثلاثًا، «اللَّهُم أنت السَّلام ومنك السَّلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام»

(1)

،

وروى ابن المنذر عن حميد قال: «صليت مع أنس، فكان يُسلم واحدة: السلام عليكم» ، وإسناده حسن.

وروى عبد الرزاق عن ابن جريج قال: أخبرني نافع، وسألته: كيف كان ابن عمر يُسلم إذا كان إمامكم؟ قال: «عن يمينه واحدة: السلام عليكم» ، وإسناده صحيح.

ويكون السلام مع ابتداء الالتفات، السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله، أن يقول من على يمينه وشماله، كما جاء في حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه.

قوله: «وكان إذا سلَّم قال: «أستغفر الله» ، ثلاثًا، «اللَّهُم أنت السَّلام ومنك السَّلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام» من رحمة الله عز وجل أن هذه الأركان العظيمة لها جوابر تجبرها، التوحيد له جوابر، الصلاة لها جوابر، الزكاة، الصيام، الحج، الصلاة لها ثلاثة جوابر:

* الجابر الأول: الذكر بعد السلام يجبر ما يحصل في الصلاة من سهو وغفلة ووسواس ونحو ذلك.

* الجابر الثاني: صلاة التطوع، النوافل.

* الجابر الثالث: سجود السهو.

هذه ثلاث جوابر للصلاة، المؤلف رحمه الله ذكر جابرين:

(1)

أخرجه مسلم (591).

ص: 119

«لا إله إلَّا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كُلِّ شيءٍ قدير، اللَّهُم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجدِّ منك الجدُّ»

(1)

، «لا إله إلَّا الله، ولا نعبد إلَّا إيَّاه، له النِّعمة وله الفضل وله الثَّناء الحسن، لا إله إلَّا الله مخلصين له الدِّين ولو كره الكافرون»

(2)

.

الأول: الذكر، فإذا انتهى من صلاته استغفر الله ثلاثًا، كما جاء في حديث ثوبان في [صحيح مسلم]؛ أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله، اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام، هذا هو السنَّة، بعض الناس إذا انتهى من صلاته قال: أستغفر الله التواب الرحيم الجليل الكريم، هذه الصيغة لم ترد.

قوله: «لا إله إلَّا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كُلِّ شيءٍ قدير، اللَّهُم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجدِّ منك الجدُّ» ، «لا إله إلَّا الله، ولا نعبد إلَّا إيَّاه، له النِّعمة وله الفضل وله الثَّناء الحسن، لا إله إلَّا الله مخلصين له الدِّين ولو كره الكافرون» كان ابن الزبير يقول في دبر كل صلاة حين يُسَلِّم: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه، له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون» ، وقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُهلّل بهنَّ دبر كل صلاة. رواه مسلم.

وفي حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من الصلاة وسلَّم قال: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل

(1)

أخرجه البخاري (844)، ومسلم (593).

(2)

أخرجه مسلم (594).

ص: 120

وشَرَع لأمته التَّسبيح والتَّحميد والتَّكبير عقيب الصلاة

(1)

.

شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا مُعطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد»، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

قوله: «وشَرَع لأمته التَّسبيح والتَّحميد والتَّكبير عقيب الصلاة. وأمَرَ عقبة بن عامر أنْ يقرأ بالمعوِّذتين عقيب كلِّ صلاةٍ» التسبيح، بعدما تهلل تسبِّح، والتسبيح الوارد عنه صلى الله عليه وسلم له صيغ:

الأولى: أن يُسبح ويحمد ويُكبر ثلاثًا وثلاثين، ويقول في تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. رواه مسلم.

الثانية: أن يُسبح عشرًا، ويحمد عشرًا، ويُكبر عشرًا. رواه البخاري.

الثالثة: أن يُسبح ثلاثًا وثلاثين، ويحمد ثلاثًا وثلاثين، ويُكبر أربعًا وثلاثين. متفق عليه.

الرابعة: أن يُسبح خمسًا وعشرين، ويحمد خمسًا وعشرين، ويُكبر خمسًا وعشرين، ويقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، خمسًا وعشرين. رواه النسائي.

فيُستحب أن يأتي بكل نوع تارة.

مسألة: ويُستحب رفع الصوت بما تقدم من الاستغفار والتسبيح؛ لما تقدم من حديث ابن الزبير، وفيه:«يُهلل بهنَّ» ، والإهلال فع الصوت.

وفي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما «أن رفع الصوت بالذكر حين

(1)

أخرجه البخاري (843)، ومسلم (595).

ص: 121

وأمَرَ عقبة بن عامر أنْ يقرأ بالمعوِّذتين عقيب كلِّ صلاةٍ

(1)

. وروى عنه النَّسائي، من حديث أبي هريرة أنَّه قال:«من قرأ آية الكرسي عقيب كُلَّ صلاةٍ لم يمنعه من دخول الجَنَّة إلَّا أنْ يموت»

(2)

، وكان يصلِّي قبل الظُّهر أربعًا، وبعدها ركعتين دائمًا

(3)

، ولَمَّا شُغِلَ عنهما يومًا صلَّاهما بعد العصر

(4)

،

ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم».

وفيه أيضًا عن ابن عباس: «كنت أعرف انقضاء صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالتكبير» .

قوله: «وأمَرَ عقبة بن عامر أنْ يقرأ بالمعوِّذتين عقيب كلِّ صلاةٍ» ؛ روى عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: «أمرني رسول الله أن أقرأ بالمعوذتين دبر كل صلاة» ، رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وهو صحيح.

قوله: «وروى عنه النَّسائي، من حديث أبي هريرة أنَّه قال: «من قرأ آية الكرسي عقيب كُلَّ صلاةٍ لم يمنعه من دخول الجَنَّة إلَّا أنْ يموت» »؛ لما روى أبو أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت» ، رواه النسائي، وصحَّحه ابن حبان، والحديث فيه ضعف، وعلى هذا لا يداوم على قراءتها دبر كل صلاة. وزاد في الطبراني:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} [الإخلاص: 1]، لكن لم تثبت.

قوله: «وكان يصلِّي قبل الظُّهر أربعًا، وبعدها ركعتين دائمًا، ولَمَّا شُغِلَ عنهما يومًا صلَّاهما بعد العصر» ؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: «كان يصلي في

(1)

أخرجه النسائي (1336)، وصححه الألباني.

(2)

أخرجه النسائي (9848)، وصححه الألباني.

(3)

أخرجه البخاري (1182)، ومسلم (730).

(4)

أخرجه البخاري (1233)، ومسلم (834).

ص: 122

ونَدَب إلى أربعٍ بعدها، فقال:«مَنْ حافظ على أربع ركعاتٍ قبل الظُّهر وأربع بعدها حرَّمَه الله على النَّار»

(1)

، قال الترمذي:«حديثٌ صحيحٌ» .

ولم يُنْقَل عنه أنَّه كان يُصَلِّي قبل العصر حديثٌ صحيحٌ. وفي السُّنن عنه أنَّه قال: «رحم الله امرأً صلَّى قبل العصر أربعًا»

(2)

.

بيتي قبل الظهر أربعا، ثم يخرج فيصلي بالناس، ثم يدخل فيصلي ركعتين»، رواه مسلم.

ولما شغِله وفد عبد القيس عنهما صلاهما بعد العصر كما في حديث أم سلمة رضي الله عنها، رواه البخاري ومسلم.

قوله: «ونَدَب إلى أربعٍ بعدها، فقال: «مَنْ حافظ على أربع ركعاتٍ قبل الظُّهر وأربع بعدها حرَّمَه الله على النَّار» . قال الترمذي: «حديثٌ صحيحٌ» » الحديث رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه من حديث أم حبيبة رضي الله عنها، وهو من النفل المطلق، والنفل المطلق لا يداوم عليه، لكن فعله في بعض الأحيان.

قوله: «ولم يُنْقَل عنه أنَّه كان يُصَلِّي قبل العصر حديثٌ صحيحٌ. وفي السُّنن عنه أنَّه قال: «رحم الله امرأً صلَّى قبل العصر أربعًا» » من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وفي إسناده محمد بن مهران، فيه ضعف.

(1)

أخرجه أبو داود (1269)، والترمذي (428)، والنسائي (1816)، وابن ماجه (1160)، وصححه الألباني.

(2)

أخرجه أبو داود (1271)، والترمذي (430)، وحسنه الألباني.

ص: 123

وكان يصلِّي بعد المغرب ركعتين، وبعد العشاء ركعتين، وقبل الصُّبح ركعتين

(1)

؛ فهذه اثنتا عشرة ركعة، سننًا راتبةً، والفرائض سبع عشرة ركعة.

وكان يصلِّي من اللَّيل عشر ركعاتٍ، وربما صلَّى اثنتي عشرة ركعة، ويوتر بواحدة

(2)

، فهذه أربعون ركعة، كانت وِرْده دائمًا، الفرائضُ وسننُها،

قوله: «وكان يصلِّي بعد المغرب ركعتين، وبعد العشاء ركعتين، وقبل الصُّبح ركعتين؛ فهذه اثنتا عشرة ركعة، سننًا راتبةً، والفرائض سبع عشرة ركعة. وكان يصلِّي من اللَّيل عشر ركعاتٍ، وربما صلَّى اثنتي عشرة ركعة، ويوتر بواحدة. فهذه أربعون ركعة، كانت وِرْده دائمًا، الفرائضُ وسننُها، وقيام اللَّيل والوتر» الجابر الثاني وهي السنن والنوافل والتطوعات:

فأولًا: السنن الرواتب، اختار المؤلف رحمه الله أنه يصلي ثنتي عشرة ركعة، وهذا هو الذي دلَّ له حديث أم حبيبة رضي الله عنها في [صحيح مسلم]، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«مَنْ صَلَّى للهِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً تَطُّوعًا غَيْرَ الفَرِيضَةِ إِلَّا بُنِيَ لَهُ بِهِنَّ بَيْتٌ فِي الْجَنَّةِ» : أربع قبل الظهر، وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل صلاة الفجر، وأفضلها ركعة الفجر ثم المغرب ثم سواء.

وإذا شُغِل عنها فإنه يقضي السنن الرواتب، كما لو غلبه النوم حتى أقيمت الصلاة، حديث أم سلمة رضي الله عنها لما شُغِل عن الركعتين بعد صلاة الظهر قضاها النبي صلى الله عليه وسلم بعد المغرب.

قوله: «وكان يصلِّي من اللَّيل عشر ركعاتٍ، وربما صلَّى اثنتي عشرة ركعة، ويوتر بواحدة» الوتر سنَّة مؤكدة، والإمام أبو حنيفة رحمه الله يرى أنه واجب، وشيخ

(1)

أخرجه البخاري (1180)، ومسلم (729).

(2)

أخرجه البخاري (1139)، ومسلم (738).

ص: 124

وقيام اللَّيل والوتر.

ولم يكن من سُنَّته الدُّعاء بعد الصُّبح والعصر، وإنَّما كان من هَدْيه الدُّعاء في الصَّلاة، وقبل السَّلام منها

(1)

، كما تقدَّم. والله أعلم.

الإسلام تيمية رحمه الله يقول: واجبٌ على من يقوم الليل.

والغالب أن وتر النبي صلى الله عليه وسلم إحدى عشرة، وربما زاد كما ذكر المؤلف كما جاء في حديث ابن عباس وعائشة، وربما نقص، لكن الغالب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوتر بإحدى عشرة.

ويستحب للمسلم أن يقضي الوتر، إذا نام عنه كما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها في مسلم قالت:«وكان إذا غلبه نومٌ أو وجع صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة» ، فإذا أردت أن توتر بثلاث تصلي أربعا، وبخمس ستا وهكذا.

قوله: «ولم يكن من سُنَّته الدُّعاء بعد الصُّبح والعصر، وإنَّما كان من هَدْيه الدُّعاء في الصَّلاة، وقبل السَّلام منها، كما تقدَّم. والله أعلم» أي: لم يكن من هديه الدعاء بعد الفريضة يعني يرفع يديه ويدعو، فلا يشرع الدعاء بعد الفجر والعصر؛ لأنه لا تشرع النافلة بعد الفجر والعصر؛ لأنه وقت نهي.

وسبق أن ذكرنا الضابط الذي ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «ما جاء مقيدًا بدبر الصلاة؛ فإن كان دعاء فإنه يكون قبل السلام، وما كان ذكرًا فإنه يكون بعد السلام» .

لكن الدعاء بعد النافلة أحيانًا لا بأس به كما جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه،

(1)

سبق تخريجه.

ص: 125

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

قال: «بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عند البيت، وأبو جهل وأصحاب له جلوس، وقد نحرت جزور بالأمس، فقال أبو جهل: أيكم يقوم إلى سلا جزور بني فلان، فيأخذه فيضعه في كتفي محمد إذا سجد؟ فانبعث أشقى القوم فأخذه، فلما سجد النبي صلى الله عليه وسلم وضعه بين كتفيه، قال: فاستضحكوا، وجعل بعضهم يميل على بعض وأنا قائم أنظر، لو كانت لي منعة طرحته عن ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم ساجد ما يرفع رأسه حتى انطلق إنسان فأخبر فاطمة، فجاءت وهي جويرية، فطرحته عنه، ثم أقبلت عليهم تشتمهم، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته، رفع صوته، ثم دعا عليهم، وكان إذا دعا دعا ثلاثا، وإذا سأل سأل ثلاث» ، رواه البخاري، ومسلم.

انتهى، نسأل الله سبحانه وتعالى التوفيق والسداد، وأن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح، وفي نهاية هذا المجلس نحمد الله سبحانه وتعالى ونشكره الذي منَّ علينا بمثل هذه اللقاءات العلمية والمجالس المباركة.

وبعد شكر الله سبحانه وتعالى نتوجه بالشكر للأخوة المشايخ في جمعية الدعوة بمحافظة الرس على ترتيب مثل هذه اللقاءات والدروس، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يبارك في جهودهم وأعمالهم، ونشكر أيضًا وزارة الشؤون الإسلامية على إقامة مثل هذه المناشط التي فوائدها عديدة، وبركاتها كثيرة، وفَّق الله الجميع لما يُحبه ويرضاه، وصلَّ الله وسلَّم وبارك على نبينا محمد.

ص: 126