المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

البُدُورُ المَضِيَّةُ في تَراجِمِ الحَنَفِيَّةِ للإمَام الفَقِيهِ المُحَدِّث الشيخِ الأستاذُ المُفتِي محمد - البدور المضية في تراجم الحنفية - جـ ١

[محمد حفظ الرحمن الكملائي]

فهرس الكتاب

البُدُورُ المَضِيَّةُ في تَراجِمِ الحَنَفِيَّةِ

للإمَام الفَقِيهِ المُحَدِّث الشيخِ الأستاذُ المُفتِي

محمد حفظ الرحمن بن الشيخ العلامة محب الرحمن الكملائي

رئيس دار الإفتاء بالجامعة الرّحمانيّة العربية

داكا - بنجلاديش

دَارُ الصَّالِح

ص: 1

‌نِيَّاتُ قِرَاءَةِ الكِتَابِ

(*)

اللَّهُمَّ إِنِّي أُقَدِّمُ إلَيْكَ بَينَ يَدَي كُلِّ نَفَسٍ وَلَمَحَةٍ وَطَرْفَةٍ يَطرِفُ بِهَا أَهلُ السَّمَاوَاتِ وَأَهلُ الأرضِ، وَكُلِّ شَيءٍ هُوَ في عِلْمِكَ كَائِنٌ أَوْ قَدْ كان.

أُقَدِّمُ لَكَ بَيْنَ يَدَي ذَلِكَ كُلِّهِ ..

نَوَيتُ بِالتَّعَلُّمِ وَجْهَ الله تَعَالَى، وَنَشْرَ الْعِلْمِ، وَتَعلِيمِهِ، وَبَثَّ الْفَوَائِدِ الشَّرْعِيَّةِ، وتَبْلِيغَ أَحْكَامِ اللهِ تَعَالَى، وَالازدِيادَ مِن العِلمِ، وَإِحْيَاءَ الشَّرع الشَّرِيف، وَدَوامَ ظُهُورِ الْحَقِّ، وَخُمُول الْبَاطلِ، وَإِظهَارَ الصَّوَابِ، والرُّجُوعَ اِلَى الْحَقِّ، وَالاجْتِمَاعَ عَلَى ذِكْرِ اللهِ تَعَالى، وَالدُّعَاءَ لِلْمُسْلِمينَ، ولِلسَّلَفِ الصَّالحِينَ، وَدَوَامَ خَيِرْ الأُمَّةِ، بِكَثْرَةِ عُلُمَائِهَا، وَاغتِنَامَ ثَوَابِهِمْ، وَتَحصِيلَ ثوَابَ مَن يَنتَّهِي إلَيْهِ هَذَا الْعِلْمُ، وَبَرَكَةَ دُعَائِهِمْ لِي وَتَرَحُمُهُمْ عَلَيَّ، ودُخُولِي فيِ سِلْسِلَةِ الْعِلْمِ بَينَ رِسُولِ الله صَلَّى اللهُ تعَالَى عَلَيْهِ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّم، وَبْنَهُمْ، وعِدَادِي في جُمْلَةِ مُبَلِّغِي الوَحْي، وَأَحْكَامِهِ، وَإِزَالَةِ الجْهْلِ عَنْ نَفْسِي وَعَنْ غَيْرِي لله تَعَالَى.

وَشُكْرَ اللهِ عَلَى نِعَمِهِ: الصِّحَّةِ، وَالْعَقْلِ، والمَال، وَ. . . . . . وَ. . . . . . وَ. . . . . .

(*) دار الصالح.

ص: 2

‌مقدمة الطبعة الثانية

الحمدُ لله حمد الذاكرين والشاكرين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

وبعد؛ فهذه الطبعة الثانية من كتابي "البدور المضية في تراجم الحنفية"، وقد أنعم الله عليَّ بإعادة طبعه مزيدًا من التحقيق والتدقيق، منقّحًا من التصحيف والتحريف، الذي بقي في طبعته الأولى، مع ما كنت بذلت من أقصى الجهد في تنقيحها وتصحيحها، فالحمد لله جَلَّ وعَلَا، الذي يسَّر وأعان.

هذا، وقد لقي الكتاب قبولًا كريمًا من القرَّاء وطلبة العلم، والفضل لله وحده والحمد له، وتلقيت كلمات كثيرة من كبار العلماء، تخصه بالتقدير والثناء، ونفدت طبعته الأولى في وقت قصير لم يكن مقدَّرًا أن تنفد فيه، ولما كثر الطلب عليه رأيت إعادة طبعه، وحرصت أن يخرج في حلَّة قشيبة جميلة محبَّبة إلى القرَّاء، ليبقى محافظًا على سمته الرفيع، الذي خرج فيه في طبعته الأولى.

والله تعالى هو ولي التوفيق والسداد، بيده الهدى والرشاد، نرجو منه أن يتقبل هذا الكتاب، ومن ساعدني في هذا الصدد. آمين.

محمد حفظ الرحمن بن الشيخ العلامة محب الرحمن الكملائي

رئيس دار الإفتاء بالجامعة الرّحمانيّة العربية - داكا - بنجلاديش

17 ربيع الثاني 1439 هـ

ص: 5

‌ترجمة مؤلف الكتاب

الشيخ الفاضل مولانا محمد حفظ الرحمن بن العلامة محب الرحمن بن القاريء المقريء سمير الدين بن الشيخ سليمان بن علي محمود بن شيخ فطن بن محمود حسين المِيَانْجِي الكُمِلَّائي البَنْغَلادِيْشِي.

من بيت العلم والفضل، كان أبوه ممن تخرَّجَ على شيخ الإسلام المحدث الكبير السيد حسين أحمد المدني رحمه الله تعالى، وقد أجازه في السلوك والطريقة، وكان من شيوخه أستاذ العلماء العلامة رسول خان الهزاروي، والمفتي الأعظم عزيز الرحمن الديوبندي صاحب "الفتاوى العزيزية"، والعلامة السيد أصغر حسين الديوبندي، والعلامة إبراهيم البلياوي، صاحب "ضياء النجوم" والعلامة إعزاز علي الأمروهوي، صاحب "نفحة العرب" والمفتي الأعظم محمد شفيع، صاحب "معارف القرآن" رحمهم الله تعالى، وكان جده من الأب القاريء سمير الدين من أخص تلامذة شيخ القراء القاريء المقريء الشيخ إبراهيم الأجانوي رحمه الله تعالى، وجده من الأم العلامة غياث الدين الرئيس الأعلى للمدرسة الإسلامية بـ "نواخالي" كان من أرشد تلامذة شيخ الهند محمود حسن الديوبندي، ومن زملاء شيخ الإسلام السيد حسين أحمد المدني رحمهم الله تعالى.

ولد المؤلفُ في السادس والعشرين من رمضان المبارك سنة سبع وسبعين وثلاثمائةِ بعد الألف من الهجرة النبوية على صاحبها الصلاة والسلام في مولوي باري، من قرية "فِنُوَا الشمالية، من "أتَّرْ حَوْلَا"، من مضافات "لَكْسَام" من أعمال "كُمِلَّا" من أرض "بَنْغَلادِيش"، فنشأ فيها، وترعرع، ودأب، وحصل.

قرأ مبادئ العلم على أبويه الكريمين، ثم التحق بالمدرسة الفرقانية أمام داره، التي أسَّسها أحد أجداده من الأب العلامة آفتاب الدين رحمه الله

ص: 8

تعالى، وكان من خرّيجي مظاهر العلوم سهارنبور. وهو الذي أسَّس دار العلوم برورا، كملا، وهي من أكبر الجامعات وأقدمها في هذا البلد، وهو ممن أجازه شيخ القرَّاء الشيخ إبراهيم الأجانوى في الطريقة والسلوك.

قرأ المؤلف القرآن الكريم مع التجويد والإتقان فيها على أعمامه الثلاث: المولوى عبد الودود بن القارئ حمير الدين، والحافظ يوسف بن العلامة آفتاب الدين، والمولوي عبد المتين بن مولانا منير الدين، رحمهم الله تعالى، وقرأ أيضا الكتب الأردية الابتدائية عليهم.

ثم التحق بالمدرسة العصرية سنة ست وثمانين وثلاثمائة بعد الألف، فقرأ العلوم العصرية إلى الصف السابع في عدة أساكيل، ونجح في سائر الامتحانات بدرجة الامتياز بفضله جل وعلا، ثم التحق بالمدرسة الإسلامية الحسينية الواقعة بمنشير هات سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة بعد الألف، وقرأ فيها سنتين، ومن أساتذته فيها مولانا عبد المنَّان البَرَلَّاوي، رحمه الله تعالى: قرأ عليه "الميزان"، و"المنشغب" في علم التصريف، ومولانا صفى الله الأتِيَا باروي، حفظه الله تعالى، قرأ عليه الكتب الابتدائية في اللغة الفارسية، منها:"فارسى كي بهلي كتاب"، و"الكلستان" للشيخ مصلح الدين الشيرازي المعروف بسعدي، و"نحو مير" للسيد الجرجاني، و"شرح مائة عامل"، وغيرها من الكتب، ومولانا عاصم بالله بن العلامة المحدث دلاور حسين الفِنُوَائى، رحمه الله تعالى، قرأ عليه "كريما" في الأشعار الفارسية للشيخ مصلح الدين الشيرازي، وعدة كتب من الأردية، ومولانا صالح أحمد البَرَلَّاوي رحمه الله تعالى، قرأ عليه "بهمشتي زيور" في الفقه لحكيم الأمة الإمام أشرف على التهانوي رحمه الله تعالى، ومولانا عبد الله الأتَّرْحَولَاوي، حفظه الله تعالى، قرأ عليه عدة كتب ابتدائية.

ثم سَارَ إلى "جاتجام" سنة خمس وتسعين وثلاثمائة بعد الألف، والتحق بالمدرسة حامي السنة كيخل، التي أسّسَها المفتي الأعظم محمد فيض الله الجاتجامي، تلميذ الإمام الكشمميري، صاحب "فيض الباري شرح البخاري" رحمهما الله تعالى، وقرأ فيها خمس سنين متوالية.

ص: 9

من شيوخه فيها مولانا عزيز الله النواخالوي، رحمه الله تعالى، قرأ عليه "نحو مير" للسيد الجرجاني، و"شرح مائة عامل" للعلامة عبد القاهر الجرجاني، و"كلستان" لمصلح الدين الشيرازي، و"مفيد الطالبين" في الأدب العربي، و"فيض الكلام"، و"هدية العباد" للمفتي الأعظم فيض الله الجاتجامى، ومن شيوخه فيها المفتي سيف الإسلام السنديفى رحمه الله تعالى، قرأ عليه عدة أوراق من أوائل "نحو مير"، والمفتي غلام قادر الساتكانوي، حفظه الله تعالى، قرأ عليه "أخلاق محسني" للكاشفي في الأدب الفارسى، و"هداية النحو"، و"نور الإيضاح"، و"أصول الشاشي" في أصول الفقه، ومولانا مظفر حسين الميخلى، رحمه الله تعالى، قرأ عليه "المختصر" في الفقه الحنفي للإمام القدوري، و"كنز الدقائق" في الفقه الحنفى، ومولانا نعمان الميخلى، حفظه الله تعالى، صاحب المؤلفات الكثيرة، قرأ عليه "علم الصيغة" للمفتي عنايت أحمد الكاكوروي، و"الصغرى"، و"الأوسط"، و"الكبرى" في المنطق للسيد الجرجاني، و"ميزان المنطق"، و"نفحة اليمن" في الأدب العربي، و"شرح الكافية" للملا الجامي، ومولانا الحافظ عزيز الرحمن الميخلى، رحمه الله تعالى، قرأ عليه "الميزان"، و"المنشعب"، و"بنج كنج"، و"زبده" في علم التصريف، و"الكافية" لابن الحاجب، و"شرح الجامي" بحث الفعل، وشرح التهذيب لليزدي في المنطق، والمفتي إبراهيم الميخلي، حفظه الله تعالى، قرأ عليه "بوستان" للشيخ مصلح الدين الشيرازي، و"نفحة العرب" في الأدب العربي، ومولانا يوسف رحمه الله تعالى، قرأ عليه "المرقاة" في المنطق، و"قصيدة الإمام البوصيري" رحمه الله تعالى.

ثم التحق سنة أربعمائة وألف من الهجرة بأكبر الجامعات في "بنغلاديش" وهي الجامعة الأهلية دار العلوم معين الإسلام هاتهزاري، التي أسَّسَها العلامة البارع الداعي الكبير مولانا حبيب الله القريشى سنة 1320 هـ، وكان تلميذا خاصا للإمام حكيم الأمة أشرف علي التهانوى رحمه الله تعالى.

قرأ فيها أيضا خمس سنين متوالية، فمن شيوخه فيها: العلامة المحدث الكبير عبد العزيز رحمه الله تعالى، قرأ عليه "الصحيح" للإمام البخاري، و"الجامع" للإمام الترمذي، والمفتي الأكبر العلامة أحمد الحق المجاز الخاص

ص: 10

من شيخ الإسلام السيد حسين أحمد المدني، رحمه الله تعالى، قرأ عليه الجزء الأول والثاني من "الهداية" للإمام المرغيناني، و"الموطأ" للإمام محمد، و"الصحيح" للإمام مسلم بن الحجَّاج القُشَيري، والعلامة محمد حامد، رحمه الله تعالى، قرأ عليه الجزء الأول من "تفسير الجلالين" المحلّي والسيوطى، والجزء الأول من "السنن" للإمام أبي داود السجستاني، والعلامة حافظ الرحمن رحمه الله تعالى، قرأ عليه "نور الأنوار" في أصول الفقه، والجزء الثاني من "تفسير الجلالين" المحلّي والسيوطى، والعلامة أبو الحسن البابونغرى، رحمه الله تعالى، صاحب "تنظيم الأشتات في حل عويصات المشكاة"، و"تنظيم الدراية في حل عويصات الهداية"، قرأ عليه عدة أحاديث من أوائل "السنن" للإمام النسائي، ومن أوائل "قاضى مبارك" في المنطق، والعلامة الأديب محمد علي النظامبوري، رحمه الله تعالى، صاحب "مرآة الأماليح في شرح مشكاة المصابيح"، و"العقد الفرائد على شرح العقائد" للإمام النسفى، قرأ عليه "شرح العقائد النسفية"، و"المقامات" للعلامة الحريري، والعلامة شيخ الإسلام أحمد شفيع صاحب المصنفات الكثيرة حفظه الله تعالى، وبارك في حياته، شيخ الجامعة وشيخ الحديث لها، مجاز شيخ الإسلام السيد حسين أحمد المدني، قرأ عليه "ديوان الحماسة"، و"المعلقات السبع" في الأدب العربي، و"الصدرا"، و"الشمس البازغة" في الفلسفة، والجزء الأول من "مشكاة المصابيح" للخطيب التبريزي، و"الشمائل" للإمام الترمذي، و"السنن" للإمام النسائي، والحديث الأول والحديث الآخر من "صحيح البخاري"، والعلامة عبد الحق المدَارْشَاهي رحمه الله تعالى، قرأ عليه "شرح الوقاية" في الفقه، و"الميبذي" في الحكمة، والجزء الثاني من "مشكاة المصابيح"، والعلامة محمد هارون الهاتهزاروي رحمه الله تعالى، قرأ عليه "الأمور العامة"، و"السنن" لابن ماجه، والعلامة محمد قاسم الفتحبُوري رحمه الله تعالى، قرأ عليه "القطي"، و"الميرقطي" في المنطق، "مختصر المعاني" في علم المعاني والبيان للتفتازاني، والجزء الثالث والرابع من "الهداية" للمرغيناني، و"حجة الله البالغة" لإمام الهند الشماه ولي الله الدهلوي، و"التصريح"، و"أوقليدس"، و"شرح

ص: 11

جغميني"، و"شرح معاني الآثار" للإمام أبي جعفر الطحاوي، والجزء الثاني من "السنن" لأبي داود السجستاني، والعلامة شيخ أحمد حفظه الكه تعالى، قرأ عليه "سلَّم العلوم"، و"ملا حسن"، و"القاضي مبارك"، و"حمد الله"، وحصة من أواخر "شرح العقائد" للنسفي، و"حاشية العلامة الخيالي" على شرح العقائد، و"ديوان المتن"، و"لامية المعجزات"، و"التوضيح" مع "التلويح"، و"مسلَّم الثبوت" في أصول الفقه، وحصة من أوائل الجزء الثالث من "الهداية"، و"موطأ الإمام مالك".

بعد إتمام الدراسة التحق بإرشاد شيخه وأستاذه العلامة أحمد شفيع حفظه الله تعالى بدار العلوم برورا سنة خمس وأرلعمائة بعد الألف، التي هي من أكبر الجامعات، وأقدمها بعد جامعة هاتهزاري، درس فيها سنة واحدة، ثم ارتحل إلى "باكستان" سنة ست وأربعمائة بعد الألف، والتحق بقسم التخصص في الفقه الإسلامي في جامعة العلوم الإسلامية علامه بنوي تاؤن كراتشى، ومن شيوخه فيها المفتي الأعظم ولي حسن خان التونكي، الذي أجازه في الطريقة والسلوك شيخ الحديث زكريا الكاندهلوي، صاحب "أوجز المسالك في شرح موطأ الإمام مالك"، قرأ عليه مقدمة "الدر المختار" للعلاء الحصكفي، والعلامة المحدث الناقد عبد الرشيد النعماني، صاحب المصنفات الكثيرة الممتعة، منها:"ما تمس إليه الحاجه لما يطالع سنن ابن ماجه"، ألَّفَ تحتَ إشرافه مقالته التي عنوانها:"ما ينبغي به العناية لمن يطالع الهداية"، والعلامة المفتى عبد السلام الجاتجامي، صاحب "جواهر الفتاوى"، كتب تحت إشرافه الفتاوى والفرائض، والتحق في آخر السنة الثانية بامتحان تكميل الحديث تحتَ وفاق المدارس العربية باكستان، وفاز بدرجة الامتياز.

ثم وصلَ إلى وطنه الأليف سنة ثمان وأربعمائة بعد الألف، والتحق بالمدرسة السابقة، إلتي كان يدرس فيها، واشتغل بالتدريس والإفادة والتصنيف والتأليف، وكان يدرس فيها "كافية ابن الحاجب"، و"شرحه" للعلامة الجامي، و"سلم العلوم"، و "ملا حسن"، والجزء الثالث لـ"لهداية"، و"تفسير البيضاوي"، والجزء الأول من "مشكاة المصابيح"، و"الموطأ" للإمام

ص: 12

محمد، و"السنن" للإمام النسائي، و"الصحيح" للإمام مسلم القشيري، وغيرها من الكتب الدراسية، وأقام على هذه الخدمة الجليلة خمس عشرة سنة، وعين أمين التعليم سنة خمس عشرة وأربعمائة بعد الألف، وأقام على هذا المنصب الجليل خمس سنين، ثم فارق منها، والتحق بالجامعة الرحمانية العربية داكا، التي هي من أشهر الجامعات في بنغلاديش سنة عشرين وأربعمائة بعد الألف، وبعد سنة عين رئيس دار الإفتاء، ويدرس فيها "شرح الكافية" للجامي، والجزء الثالث من "الهداية" للمرغيناني، والجزء الأول من "الصحيح" للإمام مسلم القشيري، وكان يدرس "الصحيح" للإمام البخاري خلال هذه المدة في الجامعات المختلفة، منها: الجامعة الإسلامية لالْ مَاتِيا، والجامعة الإسلامية بيت الفلاح، ومظهر العلوم ميرفور، والجامعة الإسلامية العربية ميرفور، وغيرها من المدارس العربية الإسلامية.

ألف كتبا ممتعة كثيرة، باللغة البنغالية والعربية، فأفاد، وأجاد، ومن مؤلفاته العربية:"التعليقات" على أصول الإفتاء، لشيخ الإسلام العلامة محمد تقي العثماني، صاحب "تكملة فتح الملهم" شرح صحيح مسلم، و"مكانة أبي حنيفة في الفقه والحديث"، و"التعليقات" على فقه أهل العراق وحديثهم، الذي ألَّفَه الإمام محمد زاهد بن الحسن الكوثري رحمه الله تعالى تقدمة على "نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية"، و"ما ينبغى به العناية لمن يطالع الهداية"، و"معجم الفقيه والمتفقه"، و"الدرر المنتقاة على مقدمة الشيخ"، و"فتح الودود على شرح العقود"، و"الروض النضير على النافع الكبير"، و"الإمام محمد وكتابه الجامع الصغير"، و"الإمام القدوري وكتابه المختصر"، و"البدر المنير على الفوز الكبير"، و"البدور المضية في تراجم الحنفية"، وغيرها، من الكتب النفيسة.

وهو الآن في عقد الستين، أطال الله بقاءه بالعمر المديد، والعيش الرغيد، آمين.

ص: 13

‌التقاريظ

‌تقريظ المحدث الجليل والفاضل النبيل العلامة البارع الشيخ أبي القاسم النعماني

، حفظه الله تعالى ورعاه، الرئيس الأعلى لأزهر الهند دار العلوم، ديوبند، الهند.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسيلن، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى الأئمة المتبوعين، الذين حذوا حذوَهم في فهم القرآن والحديث، خصوصا على الإمام الهمام أبي حنيفة النعمان، وتلامذته وأصحابه، الذين بذلوا جهودَهم في نشر علوم القرآن والسنة.

وبعدا فإن مذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان يعدّ من المذاهب الحقّة، التي انتشرتْ في البلاد شرقا وغربا، قديما وحديثا، وهو أكثر المذاهب تبعا، وأوفرها رجالا، وإن العلماء الحنفية لهم سعى مشكور في خدمة الحديث النبوي وعلومه، لكن الحَسَدة الجَهَلة يغضّون أبصارَهم عن خدماتهم ومساعيهم، خصوصا في مجال الحديث الشريف وعلومه، يكثرون الغوغاء، ويقولون ما يقولون.

فمست الحاجةُ إلى تأليف مجموعة تكشفُ عن براعة الحنفية في الحديث النبوي، وخاصة في هذا العصر الراهن، لكثرة المطاعن والمثالب من بعض الجَهَلة اللامذهبية، فنحمد الله ونشكره على أنه وفّق الأخ المكرم محمد حفظ الرحمن الكملائي لهذا العمل الجليل، فصنّف كنابا حاويا، هو شفاء العليل بل الغليل، وسماه "البدور المضية في تراجم الحنفية"، ورتبه على ترتيب الحروف الهجائية، ليكون سهل المنال والإفادية.

وهذا كله بإشارة شيخه المحدث الكبير الشيخ عبد الرشيد النعماني - تغمده الله بغفرانه - فكفى لهذا الكتاب استنادا واعتمادا، إني وإن لم أطالع

ص: 14

هذا الكتاب مباشرة لكثرة الاشتغال، لكني أثق أنه كتاب جامع، شامل في موضوعه.

نسال الله جلَّ وعلا أن يديم نفعَه إلى يوم القيامة، ويعمّم فيضه في الدنيا والآخرة، ويكون سدا لباب المطاعن على الحنفية، وأن يوفّق المؤلف لمزيد من العمل البناء، وخدمة العلم وأهله، وما ذلك على الله بعزيز.

* * *

‌تقريظ المحدث الكبير الفقيه الضليع الجهبذ العلامة المفتي سعيد أحمد البالنبوري

، حفظه الله ورعاه، شيخ الحديث بدار العلوم ديوبند، وصدر المدرسين بها.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد، وآله وصحبه أجمعين، ومن تبعَهم بإحسان إلى يوم الدين.

وبعد! فإن العلماء الحنفيين لهم دور بارز في الفقه، وجهد مشكور في الحديث وعلومه، ولما كان الجانب الحديثيّ قد يختفي على بعض

ص: 15

الأذهان لكثرة اشتغالهم بالفقه وفنونه، ويجعله الحَسَدَة ذريعة إلى النيل منهم مسّت الحاجةُ إلى تأليف كتب تكشف عن براعة الحنفية في الحديث النبوي الشريف، لا سيما في العصر الراهن، فالناس في أمسّ حاجة إلى ذلك لكثرة الغوغاء من بعض الجهَلَة اللامذهبية.

وقد قدم إليَّ الأخ محمد حفظ الرحمن الكملائي البنغلاديشي صفحات من كتابه القيّم: "البدور المضية في تراجم الحنفية"، الذي ألَّفه بإشارة المحدث الكبير عبد الرشيد النعماني رحمه الله تعالى، وبذل في جمعه وترتيبه أقصى مجهود عبر مدة طويلة.

وإني وإن لم أجدْ فرصة للاستفادة من هذا الكتاب، لكننى واثق بحسن جمعه وجودة ترتيبه اعتمادا بالصلة، التي كانتْ بينه وبين المحدث الجليل عبد الرشيد النعماني رحمه الله تعالى، حيث أعدّ تحت إشرافه مقالة علمية، وشرع في تأليف هذا الكتاب بإشارته.

أسأل الله العظيم أن يجعله خالصا لوجهه الكريم، ويحقّق به أمنية شيخه النعماني رحمه الله تعالى، آمين، يا رب العالمين.

ص: 16

‌تقريظ شيخ الإسلام المحدث الكبير الفقيه البارع العلامة الشاه أحمد شفيع، حفظه الله تعالى ورعاه، الرئيس الأعلى وشيخ الحديث لأكبر الجامعات في بنغلاديش، الجامعة الأهلية دار العلوم معين الإسلام هاتهزاري، جاتجام، بنغلاديش

.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي أعلى منازل الفقهاء، ووفَّقهم في خدمة الشريعة السمحة البيضاء، والصلاة والسلام على سيّد الأنبياء، وعلى آله الأتقياء، وأصحابه الأصفياء، أما بعد! فإن علم التاريخ وسير الأفراد من العلوم التي يُحتاج إليها، إذ به يعرف الخلف أحوال السلف، وبه يُعرف الوفاء ومحاسن الأخلاق، وتجد الأجيال دراسة للحياة، وزادا للمعاد.

قال تعالى حكاية عن إبراهيم الخليل عليه السلام: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} .

قال محمد على الصابوني رحمه الله في تفسيره: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ} أي: اجعل ذكرا حسنا، وثناء عاطرا، {فِي الْآخِرِينَ} أي فيمن يأتي بعد إلى يوم القيامة، أذكر به، ويقتدي بي، فاستجابَ الله دعاءَه، فوهب له من العلم والحكم، وجعله مقتدى في جميع الملل في كل الأوقات، ونالت هذه الأمة ما يقتدي به له.

فلا شك أن تراجم الرجال مدارس الأجيال، وهذا الفن الشريف من أفضل الفنون، التي تحفظ أنساب الأفراد من أن تُنْسَى، قال تعالى:{وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} ، وقال تعالى:{وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} .

ص: 17

ورحم الله الإمام الصفدي، حيث قال: والتاريخ للزمان مرآة، وتراجم العالم للمشاركة في المشاهدة مرقاة، وأخبار الماضين لمعاقر الهموم ملهاة.

وربما أفاد التاريخ حزمًا وعزمًا، وموعظةً وعلمًا، وهمةً تذهب همًا، وبيانًا يزيل وهنًا ووهمًا، وجيلًا تثار للأعادي من مكامن المكايد، وسبلًا لا تعرج بالأماني إلى أن تقع من المصائب في مصايد، وصبرًا يبعثه التأسّي بمن مضى، واحتسابًا يوجب الرضا بما مرّ، وحلا من القضا، {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} ، فكم تشبث من وقف على التواريخ بإذيال معال تنوعت أجناسها، وتشبه بمن أخلده خموله إلى الأرض، وأصعده سعده إلى السهى، لأنه أخذ التجارب مجانًا من أنفق فيها عمره، وتجلت له العبر في مرآة عقله، فلم تطفح لها من قلبه جمرة، ولم تسفح لها في خده عبرة، {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} .

ولقد أدرك العقلاء والفضلاء أهمية علم التراجم وسير الأفراد، لأن ذكر رجالات الأمم والبلدان فيه إحياء الأولين والآخرين من علمائها

، فإن ذكرها حياة جديدة، و {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} .

ومن فوائد التراجم: حسن الاقتداء بمن سلف، قال الحافظ ابن الجوزي: واعلم أن في ذكر السير والتواريخ فوائد كثيرة، أهمها فائدتان: أحدهما أنه إذا ذكرت سيرة حازم، ووصفت عاقبة حاله، أفادت حسن التدبير، واستعمال الحزم، وإن ذكرت سيرة مفرط، ووصفت عاقبته، أفادت الخوف من التفريط، فيتأدّب المتسلط، ويعتبر المتذكر، ويتضمن ذلك شحذ صوارم المعقول، ويكون روضة للمتنزه في المنقول.

ص: 18

إن صاحبي وتلميذي الخاص المفتي محمد حفظ الرحمن الكُمِلَّائي الذي قرأ عليَّ عدة كتب من الكتب الدراسية، حينما كان طالبا في الجامعة الأهلية دار العلوم معين الإسلام هاتهزاري، منها:"ديوان الحماسة"، و"المعلقات السبع" في الأدب العربي، و"الصدرا"، و"الشمس البازغة" في الحكمة والفلسفة، والجرء الأول من "مشكاة المصابيح"، و"الشمائل" للإمام الترمذي، و"السنن" للإمام النسائي، والحديث الأول والآخر من "صحيح البخاري"، واستجازَ مني روايةَ الحديث، فأجزتُه، وإنه ألف عدة كتب نفيسة في العربية، والآن يقدم إليَّ كتابه "البدور المضية في تراجم الحنفية"، جع فيه أماثل الفضلاء وأفاحل العلماء من السادة الحنفية من قديم الزمان إلى العصر الراهن، فطالعتُ عدة مواضع منها، فأشكر له من صميم فؤادي، لأنه أبدى لدى أهل العلم هذه الموسوعة الكبرى التي تشتمل على تراجم الحنفية في البلدان العامة لا سيما في بنغلاديش والهند وباكستان، الذين كانوا مختفين في كنز مخفي، ولم تدر الدنيا خدماتهم الجليلة، فجزاه الله عنا وعن جميع المستفيدين منه إلى يوم الدين، تقبل الله هذه الخدمة العظيمة، وجعلها نافعة للأجيال المستقبلة. آمين.

ص: 19

‌تقريظ المحدث الكبير بحر العدوم العلامة نعمة الله الأعظمي الهندي أستاذ الحديث بدار العلوم ديوبند الهند

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد! فإن مما يبعث الفرحَ والسرورَ أن إخواننا من بنغلاديش المتضلِّعين في علوم الدين يعنون بخدمة السنَّة - بجانب عنايتهم بالفقه - عنايةً بالغةً، ويَتنوَّعون في خدمتها تنوُّعًا حسنًا، فقد طلعتْ في الأيام الأخيرة تأليفات مُتنوِّعة، كلُّها تهدف إلى خدمة السنة المشرَّفَةِ، وهذه سلسلةٌ مشكورةٌ قدَّرَ اللهُ لها النفعَ والقبولَ والدوامَ.

ومن تلك السلسلة الذهبية هذا الكتاب البسيط الجامع "البُدور المضيَّة في تراجم الحنفيَّة" للشيخ محمد حفظ الرحمن الكملائي، وهي موسوعةٌ للرجال الحنفية، الذين لهم دَوْرٌ بارزٌ في الفقه والحديث أو أحدِهما، وقد رأيتُ جزءًا منه، فوجدتُه نافعًا.

أسأل اللهَ تعالى أن يَجْعَلَه نافعًا، ويُقَدِّرَ له القبولَ، ويجعله ذُخْرًا لمؤلِّفِهِ آمين، يا رب العالمين.

ص: 20

‌تقريظ العلامة الكبير المحدث النبيل مولانا محمد عاقل، حفظه الله تعالى، صدر المدرسين، وأستاذ الحديث الشريف بمظهر العلوم، سهارنبور، الهند

.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد!

فقد أرسل إليّ أخي في الله الشيخ محمد حفظ الرحمن الكملائي البنغلاديشي طائفة من كتابه: "البدور المضية على تراجم الحنفية"، وطلب مني أن أقرظ له بكلمات، فأقول - وبالله التوفيق -:

إني رأيت قطعة من المجلد الثاني للكتاب، فوجدت أن مؤلّفه قد وفّق - بعون الله تعالى - فترجم لكل من ورد ذكرُه في كتب التراجم من علماء الحنفية: من أشهر أئمتهم إلى عامة أهل العلم منهم، حتى المعاصرين وأشباههم ترجمة عالم يرد ذكرُه في مجال العلم، ولا يجد هناك مصدرا يلقي ضوءً على شخصيته الذاتية، بل ربما لا يستطيع تحديد زمنه وتعيين طبقته، حتى تجمع لدى بعض العلماء فهرس لمساتير العلماء، الذين هم معروفون بأعمالهم العلمية، وفيضانهم العلمي، ومغمورة شهرتهم الشخصية والذاتية.

فالله أسأل أن يجزي عنا مؤلّفه، ويبارك في حياته، ويتقبل عمله هذا وسائر أعماله، والله ولي كل خير وتوفيق، وصلى الله تعالى على خير خلقه محمد وآله وأصحابه أجمعين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

وكتبه

محمد عاقل

(صدر المدرسين، أستاذ الحديث)

مظاهر العلوم، سهارنفور، يوبي، الهند.

التاريخ: 15/ 2/ 1438 هـ،

يوم الأربعاء

ص: 21

‌تقريظ العلامة الجهبذ الفقيه الضليع المفتي عبد السِّلام الجاتجامي حفظه الله تعالى ورعاه

،

رئيس دار الإفتاء بجامعة العلوم الإسلامية، علامة بنوري تاؤن كراتشي، باكستان، سابقا، ورئيس دار الإفتاء بالجامعة الأهلية دار العلوم معين الإسلام هاتهزاري، بنغلاديش، حالا.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وخاتم النبيين، محمد بن عبد اللّه، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعَهم بإحسان، ودعا بدعوتهم إلى يوم الدين، أما بعد!

فإن علم التاريخ هو علم جليل القدر وجدير الذكر، تزيّن به الأمة مستقبلها، وتضيئ أيامها القادمة، وتنهض به الأجيال الناشئة، وتعينها على السلوك في سبيل السواء والتقدم إلى مقابلة التحدّيات، خلال توضيح الحق على رؤوس الأشهاد.

وإن هذا الفن الميمون يتشعب بشعب متفرقة، وصنوف مشتتة، ومن أجلّها علم تراجم الكبار وأخبار الأخيار، من الأئمة المجتهدين، والعلماء العاملين، والفضلاء المحققين.

وإن المتقلدين بمذهب الحنفية من المذاهب الأربعة الحقة منهم الأئمة المجتهدون، والفقهاء المناضلون، والمحدّثون البارعون، وغيرهم من العلماء العاملين، والفضلاء المحققين، والأعيان الفاضلين، والمشايخ المعظمين، ولكن الأسف البالغ أننا لم نطلع على كثير من هؤلاء الأجلة الكرام والسادة العظام، فنشعر بالفراغ المؤلم والخلاء العظيم، وننتظر بكتاب يحتوي على تراجمهم رحمهم الله تعالى.

ص: 22

فمن بواعث الفخر والسرور ودواعي الفرحة والبحور أن أخي الفاضل تلميذي العزيز مولانا محمد حفظ الرحمن بن الشيخ العلامة محب الرحمن الكُمِلَّائي قد قام على إرشاد شيخه العلامة البحاثة الناقد عبد الرشيد النعماني رحمه الله تعالى رحمة واسعة بتأليف هذا المعجم الكبير، الذي يحتوي على تراجم السادة الحنفية والعلماء الأعزة، ويشتمل على أخبارهم، وفضائلهم، ومناقبهم، وذكر مؤلفاتهم، ومصنفاتهم، ومحاسن أشعارهم، ونوادر أخبارهم، وهو كتاب جليل فريد وحيد في تراجم الأجلة الحنفية في الدفة الواحدة.

قد سرحت النظر في بعض تراجمها، فوجدا متحلية بالفوائد النافعة والتراجم النادرة للعلماء الحنفية، ومرتبة على حروف المعجم، كترتيب أكثر المؤرخين، ليكون الانتفاع أسهل، والتحصيل أكمل، وإضافةً إلى ذلك أنه ضمن الملحقات الممتعة المفيدة، حتى صار معجما مزينا بالترتيب الأنيق، ومهذبا بتنسيقه البديع، وفائقا على جميع أمثال هذه المعاجم المصدَّرة حتى الآن، فللّه درّ المؤلّف، حيث أفاد، وأجاد بما يبرد به الأكباد، ويرضى عنه الأعيان.

وأدعو الله تعالى المولى الجليل أن يكثر فوائده، ويغزر عوائده، ويفتق به قريحة المعلمين والمتعلمين، ويجعله مرجعا للمحققين، ومفزعا للمدرسين، وغنيمة للمحصلين، ومطلبا للمستفيدين، كشفا لكرب الملهوفين.

وأدعو الله تعالى أن يجزي صاحبه أحسنَ الجزاء، ويوفقه للنهوض لمثل هذه الأعمال المثمرة المقبولة عند الله، وعند المصنفين، والراسخين في العلم، والشاهدين بالفضل، وأن يديم لنا وله العافية والتوفيق، ويرزقنا حسنَ الخاتمة، ويجمعَنا جميعا في دار النعيم. آمين.

كتبه

عبد السلام الجاتجامي

1 صفر الخير 1438 هـ.

ص: 23

‌تقريظ العلامة البارع المحدث الجليل مولانا حبيب الرحمن الأعظمي، أطال الله بقاءه، أستاذ دار العلوم ديوبند، الهند

.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، وبعد!.

فإن نشؤ الفقه الإسلامي في صدر الإسلام، لكنه شبّ وترعرع في العصر العبّاسي، بل إذا قلنا: إن العصر العباسي هو عصر الفقه والفقهاء فلا نخطئ في قولينا.

وقد شهد التاريخ أن البلاد الإسلامية قد شهدت عديدا من المدارس الفقهية منذ عصر الصحابة والتابعين، فقد انتشر العلماء والفقهاء في مختلف الأمصار الإسلامية لنشر العلوم والثقافة الإسلامية، فكانوا يعلّمون أهل بلده الكتاب والسنّة، وهم الذين كانوا يتعرّضون للنوازل والواقعات، ويبحثون عن حكمها في كتاب الله وسنة رسوله، وكانوا يحكمون بينهم في قضاياهم، ومن الطبيعى أن تختلف آراؤهم في مثل هذه الأمور، وبقى اختلافهم هذا ينتقل من جيل إلى جيل، حتى نشأت مدارس الفقه المختلفة: الحنفية، والشافعية، والمالكية، والحنبلية.

ثم كان الفقهاء والعلماء في الأجيال المتلاحقة قد احتاجوا في البحث وتمحيص مسائل الفقه والحديث إلى الإسناد، لتعذر تميز قوتها من سقيمها بدونه، ولذلك فقد نشأ علم الرجال وتدوين طبقات العلماء، فقاموا بتدوين تراجم الفقهاء، وألَّف الشيخ أبو عبد الرحمن هيثم بن عدي الثعالبي (المتوفى 207 هـ) في ذلك "طبقات الفقهاء والمحدثين"، والشيخ عبد الملك بن حبيب المالكى (المتوفى 238 هـ)"طبقات الفقهاء والتابعين"، كما ألَّف الشيخ محمد بن عبد الملك، وأبو إسحاق إبراهيم بن علي الشيرازى، وأبو الوليد سليمان بن خلف الباجي، وآخرون في طبقات الفقهاء.

ص: 24

ثم توجَّه العلماء إلى تدوين طبقات فقهاء المذاهب المختلفة في كتب مستقلة، فألَّف الإمام عمر بن علي، وتاج الدين علي بن أنجب الساعي، وآخرون في طبقات الفقهاء الشافعية، وصنَّف القاضي أبو الحسين وبرهان بن إبراهيم بن محمد اليماني في تراجم الفقهاء الحنابلة، والمالكية على الترتيب.

أما طبقات الحنفية فقد ألَّف فيها المتقدمون كتبا كثيرة، إلا أن معظمها ضاعتْ، ولم يبق الآن إلا أسماء مصنّفيها، راجع لأسماءهم "كشف الظنون"، نعم! قد بقيت بعضها محفوظة سالمة، مثل "أخبار أبي حنيقة وأصحابه" للشيخ حسين بن علي الصيمري، وقد طبع، ونشر هذا، ومن مؤلفات المتأخرين كتاب "الجواهر المضية في طبقات الحنفية" للحافظ عبد القادر القرَشي المتوفى 775 هـ، معروف متداول بين العلماء، ويوجد في المكتبات الإسلامية، ومن الكتب الجديرة بالذكر "تاج التراجم" للحافظ قاسم بن قطلوبغا المتوفى 879 هـ، وهو مقتبس من "الجواهر المضية".

ومن الكتب النافعة في هذا الموضوع "الأثمار الجنية في أسماء الحنفية" للملا علي القاري المتوفى 1014 هـ وهو مأخوذ أيضا من "الجواهر المضية"، وهكذا كتاب "الفوائد البهية في تراجم الحنفية" لمولانا أبي الحسنات عبد الحي الفرنكي المحلى المتوفى 1304 هـ، فهذه الكتب النافعة المحققة في موضوعها توجد في المكتبات الإسلامية، والحمد لله على ذلك. هذا، وكتاب "حدائق الحنفية" أيضا من الكتب الشاملة إلى حد كثير.

وعلى الرغم من ذلك، فلا نستطيع أن نقول: لسنا في حاجة إلى كتاب جديد في هذا الموضوع، فإن كل كتاب جديد يشتمل عموما على فوائد ومعلومات مفيدة ونافعة، ثم إن موضوع التراجم من أوسع الموضوعات نطاقا وانتشارا، فلا يمكن أن يأتي أحد في كتابه بما لا مزيد عليه، فإن الإمام الذهبي على عظمته وعلوّ كعبه في هذا الفن، ومكانته التي يعرفها كلُّ من يطالع تأريخَ الرجال لم يسلم تأليفُه من استدراكات العلماء عليه.

ثم إن الفقه الحنفي من بين المذاهب الفقهية قد ظفر - بفضل الله تعالى ومنه - من الانتشار والذيوع بما لم يظفر به غيره، فلا بد أن يكون عدد

ص: 25

العلماء والفقهاء فيه أكثر من غيره بكثير، فالحاجة ماسة إلى كتاب شامل لهم، وإلى من يصنفه.

وقد سرَّني كثيرا أن الشيخ محمد حفظ الرحمن بن العلامة محب الرحمن البنغلاديشي قد ألف كتابا أودعه - بصفة عامة - تراجم المحدثين والفقهاء الحنفية.

وجدير بالذكر أن المؤلف الفاضل من تلاميذ المحدث المعروف، والباحث المشهور، ذي الرأي والبصيرة الضيخ عبد الرشيد النعماني، وقد ألفَ هذا الكتاب بإيعاز منه وإرشاده، فلذا نقول بثقة أن الكتاب سيكون إضافة قيّمة إلى فهرست تراجم الحنفية.

ندعو الله يضع للكتاب ومؤلفه حسن القبول بين عباده، آمين.

‌تقريظ العالم الجليل الفاضل النبيل المحدث بن المحدث محمد جنيد البابونغري، حفظه الله تعالى، ورعاه، أستاذ الحديث وعلومه بالجامعة الأهلية دار العلوم معين الإسلام هاتهزاري

.

بسم الله الرحمن الرحيم

نحمد الله العلى العظيم، ونصلى ونسلم على رسوله الكريم، وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

ص: 26

أما بعد! فإن من بواعث السرور والفرحة أن أخانا الفاضل محمد حفظ الرحمن الكملائي الذي هو أحد الفضلاء من الجامعة الأهلية معين الإسلام هاتهزارى حفظه الله تعالى ورعاه ورئيس دار الإفتاء في أشهر الجامعات في داكا الجامعة الرحمانية العربية، وصاحب التآليف الكثيرة من الكتب العربية الدرسية وغيرها قد صنَّف كتابا حاويا على تراجم أجلة العلماء الحنفية من أعظم الأئمة وسراج الأمة الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى إلى العلماء المعاصرين في العهد الحاضر.

وقد سرحت النظر في صفحات من هذا الكتاب، فسررت به سرورا بالغا، لا أستطيع أن أبين بلساني، ولا أطيق أن أصف بكلامي، فوجدته ممتلأ بالفراغ العظيم، الذي نشعر به طوال أيام كثيرة، وغنيمة مفيدة غاية الفائدة لطالبي العلوم الشرعية، المشتغلين في الفتاوى والحديث والتفسير والقارئين في الدراسات العليا في خارج البلاد وداخلها، وقريحة ميمونة للعلماء والمحدثين والمفتين والباحثين في مشارق الأرض ومغاربها، فنشكر له تعالى شكرا جزيلا من سوداء قلبي، حيث وفِّق المؤلف العلام لهذة الخدمة الجليلة، ونشكر المؤلف أيضا، حيث بذل تمام جهده لهذا العمل الجليل.

نسأل الله تعالى أن يحييه حياة طيبة مباكة، وندعو الله تعالى أن يهديه إلى الصراط المستقيم حتى أتاه اليقين، آمين يا رب العالمين، وصلى الله تعالى على رسوله الأمين.

ص: 27

‌تقريظ العالم الجلبل مولانا عبد الله المعروفي، حفظه الله تعالى، مشرف قسم التخصص في علوم الحديث بدار العلوم ديوبند، الهند

.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، محمد وآله وصحبه أجمعين، وبعد!

فإن العلماء الحنفية لهم دور بارز في خدمة الحديث النبوي الشريف، وسائر العلوم الإسلامية، ولا يخفى على أحد خدماتهم الفقهية.

وقد توالت السلسلة التأليفية في تراجم الحنفية: حفاظهم ومحدثيهم وفقهائهم، فمن باسط وآخر موجز، وهذه سلسلة مشكورة - جزى الله عن جميع المسلمين كل مَنْ ساهمَ فيها.

وقد وقفنا في الأيام الأخيرة على كتاب فريد شامل على تراجم العلماء الحنفية، لمؤلفه مولانا حفظ الرحمن الكملائي حفظه الله تعالى، ألفه بإشارة شيخه المحدث الناقد الشيخ عبد الرشيد النعماني - رحمه الله تعالى رحمة واسعة - وعانا في إتمامه صنوفا من المشاكل عبر مدة طويلة، واستهلَّه بمقدمة نفيسة، حوتْ على أسماء الله تعالى الحسنى، وسيرة سيد المرسلين، عليه أفضل الصلوات والتسليم، وترجمة تفصيلية للإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان رحمه الله تعالى، ثم وضع الأسماء على ترتيب المعجم.

فجاء كتابا حاويا سهل المنال، وقد رأينا طائفة من هذا الكتاب، فوجدناها نافعة قيمة، ولله الحمد. نرجو الله تعالى أن يقدر له القبول في الأوساط العلمية، ويديم نفعه، ويجعله ذخرا لمؤلفه، آمين يا رب العالمين.

ص: 28

‌تقريظ العلامة الجليل الفقيه البارع الداعية الكبير المفتي محمد دلاور حسين، حفظه الله تعالى، ورعاه الرئيس الأعلى لدار العلوم المسجد الأكبر، ميربور، داكا، بنغلاديش

.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله العليم القديم، الذي هدانا إلى الدين القويم، والصراط المستقيم، والصلاة والسلام على رسوله الكريم، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، ومن تبعَهم بإحسان إلى يوم الدين.

وبعد! فإن ديننا دين الإسلام، يبقى بتبقيته سبحانه وتعالى إلى يوم القيام، كما قال نفسه:

{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]

أي حفظه بإبقاء شريعته إلى يوم القيامة، قاله الإمام الحسن - رحمه الله تعالى - كذا في "روح المعاني" 14:16.

غير أنه يحافظ دينه لا بنزوله إلى الأرض، بل بالرجال النبلاء من القراء، والمحدثين، والفقهاء وغيرهم، فبجهدهم البليغ حفظ الله سبحانه حياتهم وتراجمهم كحفظ دينه الغراء، وهذا من خصائص الأمة المحمدية، فهم صنَّفوا في التراجم والأنساب والطبقات والوفيات والسير، لم تر فيما سواهم من الأمم الماضية، شكر الله تعالى سعيَهم.

فعليكم "الإصابة" للحافظ ابن حجر العسقلاني، و"أسد الغابة" لابن الأثير، و"الاستيعاب" لابن عبد البر، و"سير أعلام النبلاء" للحافظ الذهبي، و"تذكرة الحفاظ"، و"الميزان"، و"تاريخ الإسلام" له، وللبخاري، و"الأنساب" للسمعاني، و"وفيات الأعيان" لابن خلكان، و"الكامل" لابن عدي، و"تهذيب الكمال" للحافظ المزي، و"طبقات" الواقدي، وأبي عبد الرحمن السلمي، والسبكي، وعبد القادر القرشي، والمجد الشيرازي، والقطب اليافعي، والقطب المكّي، والكَفَوي، و"حلية الأولياء" لأبي نعيم، و"نزهة الخواطر" للسيد عبد الحي والد أبي الحسن علي الندوي، وغيرهم رحمهم الله تعالى،

ص: 29

تجدها كتبا مدهشة نادرة ثمينة، تحصل بمثل هذه الكتب فوائد كثيرة، ومنافع مهمة، ومنها:

1 -

التأدّب بآدابهم، والتخلّق بأخلاقهم، فيحشر في زمرتهم، وإن لم يكن منهم، وذلك لا يمكن إلا بعد الاطلاع على مناقبهم وأوصافهم، ونباهتهم وجلالتهم، ومحاسن أثارهم.

2 -

الأمن من تنزيل أعلى الرتبة إلى الأدنى، وتعريج أدنى المرتبة إلى الأعلى، واختيار قول أدناهم على أعلاهم عند تعارض أقوالهم وإفاداتهم، وذلك لا يتيسر أيضا إلا بعد معرفة مراتبهم ومدارجهم.

3 -

الأمن من جعل القديم حديثا، والحديث قديما، والمتقدم متأخرا، والمتأخر متقدما، وهذا أيضا لا يمكن ولا ييسر إلا بعد العثور على مواليدهم وأعصارهم ووفياتهم وأزمانهم.

4 -

التحرك بعرق الشوق إلى الاهتداء بهداهم، والاقتداء بسيرهم، وهو أيضا غير ممكن إلا بعد الوقوف على آثارهم وحكاياتهم، وفيوضهم، وتصانيفهم.

5 -

تحصيل السكينة، لأن بذكر أولياء الله ومقرّبيهم نزلت السكينة.

6 -

معرفة مصنفاتهم، وما لها من الجلالة، وذلك العلم كله.

7 -

الأمن من الجهل بأئمتنا المتقدمين، والأمن من الإهمال بمعرفتهم، مع أنهم أسلافنا وأئمتنا كالوالدين لنا، فالواجب علينا أن نحصل على معرفتهم، فييسر لنا اقتداءهم.

8 -

التشكّر لإحسانهم، والأمن من كفرانهم، فإننا وجدنا ديننا الإسلام بنقلهم إلينا بجهد كثير، وسعي بليغ، فكيف نجهلهم ونهملم؟

9 -

تعلم الاجتهاد والاستنباط، وذلك لا يمكن إلا بمعرفة نهج اجتهادهم من الكتاب، والسنة، وإجماع الأمة.

ص: 30

10 -

معرفة أسلوب التصنيف والتأليف والدعوة والإرشاد والخبرة بها، وهي لا تسهل ولا تؤثّر إلا بهديهم.

11 -

التمييز بين العالِمَين، لاسِيَّما إذا اتحدت الأعلام والألقاب، والأعصار والأنساب، فمن لم يعرف ذلك وقع في الخلط بين المعروف والمجهول، والمردود والمقبول، ولا يمكنه أن يفرق بين الغثّ والثمين، ولا الشمال عن اليمين، وما إلى ذلك، عصمنا الله تعالى عنه.

لكن في بلادنا "بنغلاديش" لم يصنّف في هذا الفن العظيم الثمين كتاب حتى الآن على نمطهم، نمط المصنفين القدماء في بلاد شتى، وإن وصل الإسلام إلى بلادنا قبل ألف سنة، فكم من رجال من هذه القارة الذين صنَّفوا، ونقَّحوا، وبلَّغوا، وهذبوا، وجهدوا، ودعوا الناسَ إلى الحق سبحانه، ولهم نصيب وافر من خدمات الدين المتين، وهم مدفونون تحت التراب، ولم يذكروا في ورقة الكتاب؛ بل أسماءهم مفقودة، وتحت حجب الاختفاء مقهورة.

فمسَّت الحاجةُ إلى هذا العمل القيّم في بلادنا حاجة شديدة منذ زمان، فوفّق الله سبحانه أخانا العلامة النابغة، والفهَّامة الخافقة، والفقيه النبيل، المحدّث الجليل بن المحدّث النجيب (1)، والأديب الأريب، والحبر السامي، والبحر الطافي، فريد عصره، وحيد دهره، المكثر البارع، والثقة اللامع، الداعية الكبير، المحقّق البصير، النسَّاك الحذَّاق، مولانا المفتي محمد

1 - هو الشيخ المحدث محب الرحمن رحمه الله سبحانه -، تلميذ الشيخ المحدث الكبير النساك حسين أحمد المدني - قدس سره -، قد قضى طول عمره في خدمة السنة النبوية، ودرس صحيح البخاري إلى آخر عمره، وأنه ولد من أسرة كريمة نجيبة دينية، قد ورث العلم والدين أبًا عن جدٍ، جيلا بعد جيل.

ص: 31

حفظ الرحمن الفائق بين الأقران - حفظه الله تعالى، ورعاه المنَّان - ونفعنا، ونفع الناس بعلومه وبتصانيفه الكثيرة النافعة.

فإنه قد اعتنى بأداء هذا الدَّين عن أعناقنا بتأليف كتاب قيّم في هذا الفن باسم "البدور المضية في تراجم الحنفية"، يحتوي على ثلاثة وعشرين مجلدا، - فجزاه الله تعالى أحسنَ الجزاء -، قد طالعتُ منه مجلدا، فوجدتُه كتابا ثمينا، نادرا فقيدا، عزيزا وحيدا، وهو موسوعة بمعنى الكلمة.

وليس في الختام إلا أن أدعو لطلبة العلم للإقبال على هذا الكتاب الهام، بالمطالعة بتوجُّه تام، وأدعو الله سبحانه بأن يحظى هذا الكتاب عند الفحول في موقع حسن، وأحسن القبول عند علماء الزمن.

وشكرا لله بأخينا العلامة، وجزاه عن العلم والسنة والفقه خيرَ ما يجزي به العلماء الصادقين، وجعلنا وإياه من الذين يعلمون فيعلمون، ويعملون فيخلصون، ويخلصون فيقبلون.

وصلى الله تعالى على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليما كثيرًا كثيرًا.

وكتبه

دلاور حسين

خادم الطلبة بالجامعة الإسلامية دار العلوم (المسجد الأكبر) ميربور، داکا

ص: 32

‌تقريظ العالم الكبير المحدث الجليل العلامة الفهامة مولانا عبد المالك الكملائي، حفظه الله تعالى، ورعاه

أمين التعليم المركز الدعوة الإسلامية، ميرفور، داکا، بنغلاديش.

بسم الله الرحمن الرحيم

كلمة التحديث بالنعمة

الحمد لله على ما أنعم وأكرم، أسبغ نعمه علينا ظاهرة وباطنة، لا نحصي ثناء عليه، هو كما أثنى على نفسه، أشهد من صميم قلبي أنه لا إله إلا هو، وحده لا شريك له، وأشهد شهادة صادقة أن محمدا نبينا عبده ورسوله، وأسأله وهو المولى الكريم أن يصلي ويسلم وبارك على سيدنا ومولانا محمد النَّبِيّ المعظم، خاتم النبيين والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد فإن من أهم علوم أهل الإسلام علم سير الأعلام النبلاء، وتاريخ أحوال الرواة من الثقات والضعفاء، رواة علوم الشريعة على اختلاف أنواعها، وتنوع أصنافها.

ولهذا العلم وحده شعب كثيرة جدا، من أهم تلك الشعب قسم تراجم الأئمة الفقهاء وطبقات أصحابهم وعلماء مذاهبهم في جميع الأمصار وعلى ممر الأعصار، ومن أنواع هذا القسم علم طبقات علماء الحنفية وفقهائهم.

والأسف أن هذا النوع من علم السير والتاريخ كان قد هُضِم حَقَّه من قديم الزمن، فنشكر القليلين الذين تَوَجَّهوا إلى تدوينه ولو على فترات، وباختصار شديد، وفي حدود ضيقة جدا، نشكرهم بعد حمد الله تعالى وشكره، فلولا تَوُجُّهُهم لحُرم المسلمون من هذه البقية الباقية أيضًا.

وكان شيخنا العلامة الفقيه، المحدث الناقد القدوة، مولانا الشيخ محمد عبد الرشيد النعماني رحمه الله تعالى، كثير الحض لطلابه على سد الخلا والخلل في باب التدوين والتصنيف بوجه عام، وفي هذا النوع من العلم بوجه خاص.

ص: 33

وكان أمر مرة طالبًا من طلابه لتجريد تراجم الحنفية من كتاب "سير أعلام النبلاء" للذهبي رحمه الله تعالى ففعل، وأمرني وأنا في السنة الأولى من قسم علوم الحديث بتجريد تراجم الحنفية من كتاب "النجوم الزاهرة" لابن تغري بردي، وقد وفقت لذلك، ولله الحمد.

وكان يحضهم بوجه عام لجمع كتاب جامع في تراجم الحنفية، وأوصى بذلك خاصة غير واحد من طلابه، في رأسهم فضيلة أخينا الكبير ومربينا الفاضل، الأستاذ العالم الجليل، والمصنف الصابر النشيط، الشيخ حفظ الرحمن بن محب الرحمن الموقر حفظه الله تعالى ورعاه، كتب له الستر والسلامة والعفو والعافية والمعافاة في الدين والدنيا والآخرة، وأمد في حياته الطيبة بإذن الله تعالى، والشيخ حفظ الرحمن هو رفيق شقيقى الأكبر الأستاذ الشيخ أبي الحسن محمد عبد الله حفظه الله تعالى ورعاه، وكانا رفيقين أيضا في التلمذ على شيخنا النعماني رحمه الله تعالى.

فحفظ الشيخ حفظ الرحمن وصية الأستاذ النعماني ووفى بحق التلمذ، وحُقَّ له ذلك، فقد كان سيدي الشيخ يحبه كثيرا، وكان ألف رسالته للتخصص في الفقه الإسلامي في جامعة العلوم الإسلامية بنوري تاؤن كراتشي تحت إشراف شيخنا النعماني رحمه الله تعالى، وكان يتمنى له أن يلتحق بقسم التخصص في علوم الحديث الشريف ويقضي فيه أيضا مدة، ولكن لم يتيسر له ذلك لبعض الأعذار، مع إتمامه إجراء أمور الالتحاق، والخير فيما وقع إن شاء الله تعالى.

وأحمد الله تعالى وأشكره على هذه النعمة الجليلة التي أكرمنا بها بواسطة الشيخ حفظ الرحمن، إذ وفقه لجمع هذا المعجم الكبير الذي وصل إلى ثلاث وعشرين مجلدا، نشكره على ما وُفِّق له وهُدِي إليه شكرًا جزيلًا، ونرحبه به غاية الترحيب.

ومن قديم نرى الشيخ المولف يهتم بالتأليف بالعربية، وفي موضوعات علمية، ويعتني بتحقيق بعض الكتب العلمية المؤلفة باللغة العربية، واختيار

ص: 34

اللغة العربية للتحقيق أو التأليف في هذه الديار، ثم الاستقاهة عليه بهذه الطريقة أمر مستغرب جدا، وهذا كما يدل على عُلُوِّ همة هذا المؤلف يدل أيضا على أن البيئة العلمية في هذه البلاد قد أَنِسَتْ باللغة العربية الفطرية قراءة ومطالعة، وكما يقول بعض الأفاضل الأعلام أن الفضل يرجع في هذا التأنيس إلى فضيلة الأستاذ الشيخ الأديب أبو طاهر مصباح حفظه الله تعالى ورعاه، شكر الله تعالى سعي أبي طاهر ومشايخه وأعوانه، ومن تقدمه في خدمة اللغة العربية في هذه الديار وغيرها.

نرجع إلى كتاب المعجم الكبير في تراجم الحنفية، الذي سمي:"البدور المضية في تراجم الحنفية"، والذي أتحفنا به الشيخ المؤلف في هذه المرة، بعد أن قضى في جمع شتاته سنوات متوالية، وقد نظرت في فهرست مصادر الكتاب ومراجعه، كثرتُها مع تنوعها متطابقة مع ضخامة الكتاب ودالة على الجهود العظيمة التي بذلها المؤلف حفظه الله تعالى، كما أن هذه الفهرست لعدم تجاوزها أربع مئة كتاب تشير إلى أن على المؤلف قضاء شوط آخر طويل، ليصل الكتاب إلى تمام جمعه كمال صنعته.

وبما أني لم أقف إلا على صفحات من الكتاب ليس لي أن أفصل الكلام فيه، وإنما أكتفي بنقل كلام للمؤلف وصف فيه كتابه، رأيته في رسالته إلى الأستاذ العلامة الحجة الشيخ محمد عوامة حفظه الله تعالى ورعاه، تذكار السلف الصالح في هذا العصر، كتب إليه المؤلف يصف كتابه ويرجو منه الدعاء، ما نصه:

"فعملا بتلك الوصية ألفت هذا الكتاب، وجمعت فيه ما دونه الأقدمون من عهد الحافظ القرشي إلى عهد الإمام اللكنوي، وزدت إلى ذلك:

1 -

جماعة ممن فاتهم

2 -

جماعة كبيرة ممن جاءوا بعدهم

ص: 35

استخرجتهم من كتب التراجم العامة، ومن الجرائد والمجلات، وغرها.

وتوجهت بوجه خاص إلى رجال شبه القارة الهندية بما فيهم أعلام بنغلاديش.

ويجيء الكتاب في ثلاث وعشرين مجلدا مع المقدمة والفهارس.

ولا ريب أن العمل الآن في خطوته الأولى، وسأحاول ما فات أو تجدد في طبعات لاحقة إن شاء الله تعالى، كما يستمر عمل التصحيح والتجويد والإتقان قبل كل طبعة إن شاء الله تعالى

". انتهى.

ولا شك أن هذا العمل في خطوته الأولى نافع أيضا، ويفيدنا في معرفة تراجم جماعة كبيرة جدا من طوائف أهل العلم، من مختلف الأمصار والأعصار، ومختلف الألسنة والألوان، ومختلف الأمزجة والمشارب، كما يفيد إخواننا في الهند والسند في معرفة رجال بنغلاديش، ويفيد إخواننا العرب في معرفة رجال الهند الكبرى عامة، ورجال بنغلاديش خاصة.

بارك الله تعالى في حياة المؤلف وبارك في جهوده، كتب له ولذريته وطلابه الخير بحذافيره، وأعاذه وإياهم من كل سوء وآفة.

هذا، وصلى الله تعالى وبارك وسلم على سيدنا ومولانا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

كتب العبد

محمد عبد المالك

خادم الطلاب في مركز الدعوة الإسلامية داكا

في 25/ 1/ 1438 هـ

ص: 36

مقدمة الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الحكم العلي الكبير، اللطيف الخبير البصير، الذي خلق كل شيء فأحسن التقدير، ودبَّر الخلائق فأكمل التدبير، وقضى بحكمته على العباد بالسعادة والشقاوة، فريق في الجنة، وفريق في السعير، وأرسلَ رسلَه الكرام بأصدق الكلام وأبين التحرير، وختمَهم بالسيّد أبي القاسم البشير النذير، السراج المنير، فأرسلَه رحمةً للعالمين من نار السعير، وحفظ شريعتَه من التبديل والتغيير، وصيّرَ أمتَه خيرَ أمة أخرجتْ للناس، فيا حبّذا التصيير، وجعلَ فيهم أئمةً سادةً وفقهاءَ قادةً من الصحابة والتابعين، ومن تبعَهم إلى يوم الدين، الذين يدققون النقيرَ والقطميرَ، ويتبصّرون في ضبط آثار نبيهم أتمَّ التبصير، ويتعوّذون باللّه من الهوى والتقصير.

ما أعظم شانَه، أشكرُه شكرا جزيلا على أنه جعلَ اختلافَ المذاهب رأفة ورحمة، وافتراقَ المضارب فضلا ونعمة، فبأيّها اقتدى بنو آدم اهتدى إلى طريق الجنان.

وأشهدُ أن لا إلهَ إلا الله وحدَهـ لا شريكَ له شهادةً أدّخرُها لسؤال منكَر ونكير، وأردفُها بشهادة أن محمد عبده ورسوله خير في وأصدق نذير، صلى الله عليه وعلى آله أولي العزم والتشمير.

أما بعد فيقول العبد الفقير إلى الله جلَّ وعلا محمَّد حفظ الرحمن بن العلامة المحدث محب الرحمن بن القاري حمير الدين الفِنُوَائي الكُمِلَّائي البَنْغَلادِيْشي تجاوزَ الله عن ذنبه الجلي والخفي: إن علم التاريخ أجلّ ما يطالعُه ذوو العقول، وأعزّ ما ينتفع به الجهول، وأفضل ما يعانيه نقّاد الفحول، وأعلى ما يتبصّر الغفول، وفيه عبرةٌ لمن اعتبر، وموعظةٌ لمن افتكر، ولهذا الفن شعب متفرّقة وصنوف متشتّة، وأجلّها فن تراجم الكبار وأخبار الأخيار، من الأئمة المهتدين والعلماء العاملين، والفضلاء المحققين والمحققين الفاضلين، ممن لم يردْ

ص: 37

بالعلم مماراةً ولا مباهاةً، ولا مجادلةً ولا مضاهاةً، بل قصر ليله على العبادة، ونهاره على الإفادة، ويقول الحقَّ، ويعملُ به، ويفعلُ الخيرَ، ويرشد إليه، ولا تأخذه في الله لومةُ لائم، ولا تصدّه عن الحق رهبةُ ظالم.

ولا سبيل إلى هذا السبيل إلا بعد معرفتهم، والوقوف على درجاتهم، والإحاطة بأوصاف أخيارهم، والاطلاع على جملة أخبارهم، ففيه فوائد جمة.

أولا: الاطلاع على مناقبهم ونباهتهم وجلالتهم، ليحصل التأدّبُ بآدابهم، والتخلّقُ بأخلاقهم.

وثانيا: الاطلاع على مراتبهم ومدارجهم، فيؤمن به من تنزيل الأعلى إلى الأدنى، واختيار قول الأدنى على الأعلى عند تعارض أقوالهم.

وثالثا: الاطلاع على مواليدهم وأعصارهم ووَفَياتهم، فيؤمن من جعل القديم حديثا والعكس.

ورابعا: الاطلاع على أثارهم وحكاياتهم وتصانيفهم، فيحصل الشوقُ إلى الاهتداء والاقتداء.

وخامسا: إنهم أئمتنا وأسلافنا كالوالدين لنا، وأجدى علينا مصالح أخرتنا، التي هي دار قرارنا، وأنصح لنا فيما هو أعود علينا، فيَقْبُح علينا أن نجهلَهم، وأن نمهلَ معرفتَهم.

قال الداعية الكبير أبو الحَسَن الندوي رحمه الله: كتب التراجم والسير في الإسلام - وهي أوسع مكتبة وأثراها في تاريخ أمة من الأمم العِلْمِيّ والتأليفيّ - زاخرة بهذه الأخبار التي تُثير الهممَ، وتُشْعِل الموَاهب، وتنفُخُ في القاريء روحا جديدة، وحَمَاسا جديدا، وتعالج الفُتورَ في الهمم، والقناعة بالدُّون، والخمودَ في الطبائع، والاشتغال بسَفَاسِف الأمور: معالجة رفيقةً حكيمةً، لا يستثقلُها القاريء، ولا يشعُرُ بمرارة الدواء أو لَذْع آلة الجراحة.

وقد سبقَ في هذا المضمار علماءُ الشافعية، فبدأُوا مبكرين في النصف الأول من القرن الخامس للهجرة، قال التاج السبكي في "طبقات الشافعية الكبرى": فأول من بلغني صنَّف في ذلك الإمام أبو حفص عمر المطَّوِّعي المتوفى نحو سنة 444 هـ، فصنّف كتابا، حماه "المذْهَب في ذكر شيوخ

ص: 38

المذهَب"، ثم ألَّف القاضي أبو الطيب الطبَرى المتوفى 405 هـ مختصرا، ثم ألَّف الإمام أبو عاصم العبَّادي المتوفى 458 هـ كتابه، ثم ألَّف الأمام أبو إسحاق الشيرازى المتوفى 476 هـ كتابه، وهو أيضا مختصر، وهو غير مقتصر على الشافعية، ثم ألَّف الحافظ عبد الله الجرجاني المتوفى 489 هـ كتابه "الطبقات"، ثم ألَّف القاضي عبد الوهَّاب الشيرازي المتوفى 500 هـ كتابه "تاريخ الفقهاء"، ثم ألَّف المحدث أبو الحسن البيهقى المعروف بفُنْدُق المتوفى 565 هـ، وسماه "وَسَائل الألمعي في فضائل أصحاب الأمام الشافعي"، ثم جمع الإمام أبو النجيب السهروردي مجموعا، ثم جاء الشيخ ابنُ الصلاح المتوفى 643 هـ، فألَّف كتابَه، وكان الكتاب مسودة، فأخذَه الشيخ الإمام النَّوَوي المتوفى 676 هـ، وزاد فيه أساميَ قليلة، ومات، ثم بيَّضه أبو الحجَّاج المزّي المتوفى 742 هـ، ثم ألَّف الشيخ عماد الدين بن باطيش المتوفى 655 هـ كتابه، حتى جاء تاجُ الدين السبكى المتوفى سنة 771 هـ، فصنّف "طبقات الشافعية الكبرى".

أما علماءُ الحنفية فقد تأخّرَ إلى القرن الثامن للهجرة، وكانتْ تراجمُهم في الزمان الماضي ضمنَ كتب التاريخ العامة، وتواريخ البلدان، وطبقات الأدباء، والشعراء، واللغويين، والفقهاء، والمحدثين، ثم قاموا بهذا الأمر الهام، فجاءوا بمؤلفات كثيرة في القرون: الثامن، والتاسع، والعاشر، والحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر، ترجمتْ لعلماء المذهب.

ففي القرن الثامن ألَّف نجمُ الدين إبراهيم الطَّرَسُوسي المتوفى 758 هـ "وَفَيات الأعيان من مذهب النعمان"، وألَّفَ صلاحُ الدين عبد الله ابن المهندس المتوفى 769 هـ تاريخا كبيرا للفقهاء، ثم جاء الحافظ القُرَشي المتوفى 775 هـ، فصنَّفَ "الجواهر المضية في طبقات الحنفية"، وقال حاجي خليفة: إنه أول من صنَّف في طبقات الحنفية.

وفي القرن التاسع ألَّف صارمُ الدين إبراهيم القاهري المتوفى سنة 809 هـ "نظم العقيان في طبقات أصحاب إمامنا النعمان"، وهو كما ذكرَ حاجي خليفة في ثلاث مجلدات، وجاء بعده مجدُ الدين الفيروز آبادي السميرازي الشافعي المتوفى

ص: 39

سنة 817 هـ، فألَّف كتابا، سمَّاه "المرقاة الوفية في طبقات الحنفية"، ثم صنّف تقي الدين أحمد المقْريزي المتوفى سنة 845 هـ "التذكرة"، وجمعَ منها قاسمُ بن قطلوبغا السودوني الجمالي المتوفى سنة 879 هـ مادةَ كتابه "تاج التراجم"، وصنّف القاضي بدر الدين محمود العيني المتوفى سنة 855 هـ كتابا في طبقات الحنفية، ويذكر ابن الشّحنة في هوامشه على "الجواهر" أن الإمام مسعود بن شيبة السندي وابن سابق جمعَا طبقات أصحاب أبي حنيفة، ولابن الشّحنة هذا وهو أبو الفضل محمد بن محمد الثقفي الحلَبي المتوفى سنة 890 هـ كتابٌ في طبقات الحنفية في عدة مجلدات.

أما القرن العاشر فقد ألَّف شمسُ الدين بن طولون الصالحي الدمشقي المتوفى سنة 953 هـ "الغرف العلية في تراجم متأخّري الحنفية"، وألَّف شمس الدين بن آجا محمد كتابا في طبقات الحنفية في ثلاث مجلدات، واختصر إبراهيم الحَلَبى المتوفى 956 هـ كتابَ صلاح الدين ابن المهندس، كما اختصر "الجواهرَ المضية"، وألَّف محمد بن عمر المتوفى 959 هـ كتابا في طبقات الحنفية، وصنّف المولى علي بن أمر الله الحنَّائى المتوفى 979 هـ مختصرا، ذكرَ فيه المشاهيرَ، وألَّفَ محمودُ بن سليمان الرومى الكفوي المتوفى 990 هـ "كتائب أعلام الأخيار من فقهاء مذهب النعمان المختار"، يقع في 573 ورقة، وألَّف قطب الدين محمد النهرُوَاني الهندي المتوفى سنة 990 هـ كتابا في طبقات الحنفية في أربع مجلدات.

أما القرن الحادي عشر، فألَّف تقي الدين التميمي "الطبقات السنية في تراجم الحنفية"، ثم ألَّف الملا على القاري المتوفى 1014 هـ "الأثمار الجنية في أسماء الحنفية".

ثم في القرن الثالث عشر اشتغل الإمام عبد الحي اللكنوي المتوفى 1304 هـ بهذا الأمر الجليل، فقال: إنه لو جمع تراجم رجال الحنفية في كتاب فسيصير المجموع أكبر، ففرَّقهم في عدّة كتب، كـ "مقدمة الهداية"، و"النافع الكبير"، و"مقدمة عمدة الرعاية"، و"مقدمة السعاية"، ثم لخَّص كتاب الكفوي، وسماه "الفوائد البهية في تراجم الحنفية"، وفرغ منه سنة 1292 هـ، ثم

ص: 40

انقطعت هذه السلسلة، ولم يؤلفْ كتاب في طبقات الحنفية يحتوي على السادات الحنفية الذين جاءوا بعده.

فأوصاني وأرشدَني شيخى وأستاذي المحدّث الكبير البحَّاثة الناقد العلامة عبد الرشيد النعماني رحمه الله عز وجل، حينما أتممتُ مقالتي:"ما ينبغى به العناية لمن يطالع الهداية" تحت إشرافه في جامعة العلوم الإسلامية العلامة بنوري تاؤن بـ "كراتشى" إلى أن أؤلّف معجما كبيرا، يحتوي على جميع تراجم الأعلام الحنفية من المحدّثين والفقهاء، والسادات والنبلاء، فمن ذلك الحين لم أزلْ متشوّقا إلى استدراك أخبارهم، فإن الحاجة إليه لأصحابنا الحنفية أكثر، والاحتياج في بلادنا أظهر، فنظرتُ إلى الأسلاف والأكابر، فرأيتُهم أضم صنَّفوا في أحوالهم الدفاترَ، فمنهم من أفردَهم، كالحافظ عبد القادر الوفائي القُرَشى، والمجد الشيرازي، وقاسم بن قطلوبغا، والمَطب المكّى، والملا على القاري الهروي، وتقي الدين التميمى المصري، والعلامة عبد الحى اللكنوي، وغيرهم، ومنهم من خلطهم بغيرهم، كالجلال السيوطى، والحافظ الذهبي، والحافظ العسقلاني، والشمس السخاوي، والقطب اليافعي، والعلامة محمد خليل المرادي، ومحمد بن فضل الله المحبي، وغيرهم، رحمهم الله تعالى.

فصرفتُ عنانَ العناية إلى جمع تراجمهم، فكم طالعتُ فيه من كتب السير والطبقات وأسفار حوادث السنين والأوقات، فحصل عندي من ذلك الحظ الأوفر، واختزن منه القدر الأكثر، فخطر في خلدى أن أجمع ذلك في مجموع، هو منتهى الجموع، فالَّفْتُ كتابا مفردا حاويا لتراجم السادات الحنفية، من البداية إلى زماننا هذا، يشتمل على أخبارهم وفضائلهم ومناقبهم، وذكر مؤلّفاتهم ومصنّفاتهم ومحاسن أشعارهم ونوادر أخبارهم، بحسب الطاقة ونهاية القدرة.

وجعلت تراجمَ "الطبقات السنية" لتقى الدين التميمى في كتابي هذا مندمجةً، لكونه أكبر الكتب المتأخر، ونسخة "الطبقات" التي أمامنا من تحقيق الشيخ عبد الفتاح محمد الحلو، وناشرها دار الرفاعي بالرياض، وهذا الكتاب يوجد غير تام، آخر أرقام التراجم 1388، وخُتِمَ في الطبع على فصل في من

ص: 41

اسمه عُبيد، ومجموع التراجم في أصله 3034، فبعد عُبَيْدٍ اعتمدتُ على "الجواهر المضية" للقُرَشي، لأنه أكبر قبل "الطبقات"، ومجموع التراجم فيه 2115، فأول التراجم منها التي اندمجتْ في كتابي ترجةُ عتبةَ بن خيثمة برقم 913، فجاءتْ من "الجواهر" في كتابي هذا 1302 ترجمةً، والمجموع من منها ومن "الطبقات السنية" 2690 ترجمةً، ومجموع تراجم كتابي 6270 ترجمة، فما بقي بعد هذين الكتابين من التراجم من الكتب الأخرى، عدد كبير منهم من رجال الهند، والسند وباكستان وبنغلاديش، وبلاد أخرى مختلفة.

وقد صدَّرتُ أصلَ الكتاب بجزء مستقل، ذكرتُ فيه فوائد مهمة، لها ارتباط بعلم التااريخ، ودكرتُ أسماءَ الله الحسنى، وما يتعلق بها، وسيرةً وجيزةً لقرّة أعيُننا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وفضائلَ صحابته البرَرَة ومناقبَهم، رضي الله تعالى عنهم أجمعين، وأسماءَ أصحاب الفتيا منهم، ومن التابعين، ثم ذكرتُ تراجمَ عبد الله بن مسعود، وعلقمة بن قيس النخعى، وإبراهيم النخَعي، وحماد بن أبي سليمان، ثم دكرتُ سيرةَ إمامنا الأعظم أبي حنيفة النعمان رضي الله عنهم أجمعين بالبسط والتفصيل، سميتُه "البدور المضية في تراجم الحنفية".

ورَتَّبْتُ التراجمَ على حروف المعجم كترتيب أكثر المؤرخين، ليكون الانتفاع أسهل، والتحصيل أكمل، وبدأتُ أولا الاسم الذي أوله همزة ممدودة، ثم ما كان أوله ألف، فيكون، (آدم) قبل (إبراهيم) لألفين في بدء الأول، و (محمد) قبل (محمود) لسبق الدال الواو، و (إبراهيم بن أحمد) قبل (إبراهيم بن أدهم) لتقدم الحاء الدال في اسمي الأبوين، وهكذا، لكني قدّمتُ في حرف العين من كان اسمه عبد الله على غيره ممن يبدأ ايمه بكلمة "عبد"، على طريق صاحب "الجواهر".

أما ما كان مبدوءا بلفظ (أب) أو (أم) أو (ابن) أو (بنت) كأبي بكر، وأم سلمة، وابن أبيه، وابن أبي داود، فعددتُ الأب والأم ونظائرهما لغوا، وجعلت (أبا بكر) في حرف الباء مع الكاف، و (أم سلمة) في

ص: 42

حرف السمين مع اللام، و (ابن أبيه) في حرف الألف مع الباء فالياء، و (ابن أبي دواد) في الدال مع الواو، واتخذتُ رسم الحروف أساسا، فجعلتُ (صدى) في حرف الصاد مع الدال والياء، ومومنا في حرف الميم مع الواو.

ثم ذكرت في أواخر الكتاب أصحاب الكُنَى جميعًا في حرف الهمزة، قدمت من لم يعرف له اسمٌ سوى الكنية، ثم من له اسم، واشتهر بكنيته، وله ترجمة في حرف من الحروف، ذكرته باختصار، ولا أعدت له ترجة، وذكرت اسمه واسم أبيه ليسهل كشفه في محله.

وذكرت جميع هذه الكُنَى مُرتبة ترتيب الأسماء، وبالنظر إلى ما بعد ذكر الأب، كأبي إبراهيم، ذكرت مُقدمًا على أبي أحمد، وأبي داود مُقدمًا على أبي ذر، وهكذا إلى آخر الحروف.

وذكرت في آخر الكتاب بابًا للألقاب، وبابًا فيمن اشتهر بابن فلان، وبابًا في الأنساب.

قدمت في كل من البابين الأولين من اشتهر بلقبه، واشتهر بأبيه ولم يعرف له اسم، ثم من له اسم منهما ذكرته باختصار، كما فعلته في الكُنَى.

وأما الأنساب فقدمت فيها من لا يعرف إلا بالنسبة، ولم يذكر له في الكتاب ترجمة، وأما من ذكر له في الكتاب ترجمة، فقد ذكرته في نسبته، وتارة ما ذكرته، لأن ذكر جميع من انتسب في الكتاب إلى "الموصل" أو "الشام" أو "حماة" مثلًا في تلك النسبة، مما يطول شرحه، ويُميلّ ذكره، بلا كبير فائدة.

والحقيقة أن هذا العمل الجليل المبارك ليس إلا نتيجة إرشاد أستاذنا وشيخنا النعماني، فجزاه الله سبحانه وتعالى أحسنَ الجزاء وأطيبَه، وباركَ في هذا المشروع المبارك، ورزقَه حسنَ القبول لديه.

وأيضا لا بدَّ من تقديم الشكر إلى سيدي وشيخي ملك العلماء المحدث الكبير العلامة عبد الحفيظ المكي أطال الله بقاءه، فإنه شجَّعني، ورغَّبني في هذا الباب، ودعا عند الله سبحانه وتعالى للإتمام والإكمال.

ص: 43

كما لا يسعُني في هذا المقام أن أنسى زميلي الخاص ورفيقى الشيخ مولانا المفتي محمد نعمان أحمد الكملائي، صاحب المؤلفات الكثيرة، رحمه الله تعالى، فإنه كان يزيدني همةً حينا بعد حين، رفع الله درجته في الجنة.

ولا يسعني ههنا إلا أن أشكر بصميم قلبي كلَّ مَنْ ساعدَني، وأعانني من أهل الخير والصلاح في هذا الصدد بأيّ نوع كان، لاسيما تلامذتي الأربعة: الأخ في الله المفتي الفاضل روح الأمين، أستاذ قسم التخصص في الفقه الإسلامي بمركز الإسلام، محمد فور، داكا، والأخ الفاضل محمد الله شميم المانِكْغَنْجي، والأخ الفاضل محمد شميم أحمد الفريدفوري، والأخ الفاضل دين محمد الكُمِلائي، فإنهم أعانوني طوالَ هذه المدة في مراجعة الكتب والاستخراج والنقل، جزاهم الله تعالى أحسنَ الجزاء، وأكرمَهم بالفوز الكبير في الدارين، وتقبلهم وإيانا لخدمة العلم والدين.

وإني وإن قصرت فما قصرت، وطولت فما تطولت، وغاية البليغ في هذا المضمار الخطير أن يعترف بالقصور، ويلتزم بالتقصير، فإن المرء ولو بلغ جهده فالإحاطة في هذا الشأن لله وحده.

وقد شرعتُ في تأليف هذا الكتاب شهر شوَّال المكرَّم سنة ثلاثين وأربعمائة بعد الألف، وقد تم بعونه سبحانه وتعالى بعد عشاء يوم الثلاثاء ليلة العاشوراء من محرَّم الحرام سنة ثمان وثلاثين وأربعمائة بعد الألف من الهجرة النبوية على صاحبها ألف ألف صلاة وتحية، فالحمد لله على ذلك حمدا كثيرا كثيرا.

وإلى الله أتضرع في سدّ خللي، وستر زللي، ودفن عيبي، إنه الجواد الكريم، ومنه الهداية إلى الصراط المستقيم.

والله أسئل أن يتقبل من العبد الضعيف جهد المقل، وأن يفتح عليه بالعلم والعمل، وأن يرزقه فيهما الإخلاص والقبول، وأن ينفع بهذا الكتاب كل قاريء له وواقف، ويوفقني للمزيد راجيا من المنتفعين دعوة صالحة، يقول لهم الملَك عندها: ولك بمثل.

ص: 44

وصلى الله وسلّم على سيّد الحامدين والشاكرين، وإمام الهادين والمتقين والزاهدين والعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ولله الحمد على ما أبدى وأسدى، وللآخرة خير لك من الأولى.

وكتبه

العبد الفقير إليه تعالى

محمد حفظ الرحمن الكملائي

خادم الطلبة

بالجامعة الرحمانية العربية، داكا، بنغلاديش

ص: 45

‌الباب الأول في فوائد مهمة، تتعلق بفن التاريخ: لا يسع المؤرخ جهلها

، وهو يشتمل على ثلاثة فصول:

‌الفصل الأول

(1)

فيما تؤرخ العرب به:

قال الأمام التميمي الداري رحمه الله تعالى نقلا عن الصفدي: كانت العرب تؤرخ في بني كنانة من موت كعب بن لؤي، فلما كان عام الفيل أرخت منه، وكانت المدة بينهما مائة وعشرين سنة.

قال أبو الفرج الأصبهاني، صاحب "الأغاني": إنه لما مات الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم، أرخت قريش بوفاته مُدة؛ لأعظامها إياه، حتى إذا كان عام الفيل جعلوه تاريخا، هكذا ذكره ابن دأب

(2)

. وأما الزبير بن بكّار فذكر أنها كانت تؤرخ بوفاة هشام بن المغيرة تسع سنين، إلى أن كانت السنة التي بنوا فيها الكعبة، فأرخوا. انتهى.

وأرّخ بنو إسماعيل عليه الصلاة والسلام من نار إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلى بنائه البيت، ومن بنائه البيت إلى تفرق معدّ، ومن تفرق مَعَدِّ إلى

(1)

راجع: الوافي بالوفيات 1: 9 - 12.

(2)

أبو الوليد عيسى بن يزيد بن بكر.

ص: 46

موت كعب بن لؤي؛ ومن عادة الناس أن يؤرّخوا بالواقع المشهور، والآمر العظيم، فأرّخ بعض العرب بأيام الخُنان لشُهرتها.

قال النابغة الجعدي

(1)

:

فَمَنْ يَكُ سائلًا عني فإني

مِن الفِتيْان أيامَ الخُنَان

مَضَتْ مائةٌ لعام وُلدتُ فيه

وعامٌ بعد ذاك وحجتان

وَقد أبْقَتْ صُرُوفُ الدَّهر مني

كما أبقتْ من السَّيْفِ اليَمَاني

قال الشريف المرتضى في كتابه "غُرر الفوائد ودُرر القلائد": إن أيام الخُنان أيام كانت للعرب قديمة، هاج بهم فيها مرض في أنوفهم وحلوقهم.

قلت: وهو بضم الخاء وفتح النون، وقد يشتبه بالخِتان، بكسر الخاء والتاء المثناة من فوق.

وكانت العرب تؤرخ بالنجوم، وهو أصل قولك: نَجَّمتُ على فلان كذا، حتى يُؤديه في نجوم، وأول من أرَّخ الكتب من الهجرة عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، في شهر ربيع الأول، سنة ست عشرة، وكان سبب ذلك، أن أبا موسى الأشعري رضى الله عنه كتبَ إلى عمر رضي الله عنه: إنه يأتينا من قبل أمير المؤمنين كتب، لا ندري على أيّها نعمل، قد قرأنا صكًا منها محلّه شعبان، فما ندري أيّ الشعبانين، الماضي أو الآتي، فعمل عمر رضي الله تعالى عنه على كتب التاريخ، فأراد أن يجعل أوله رمضان، فرأى أن الأشهر الحرم تقع حينئذ في سنتين، فجعله من المحرّم، وهو آخرها، فصيره أولًا لتجتمع في سنة واحدة.

وكان قد هاجر صلى الله عليه وسلم يوم الخميس، لأيام من المحرّم، فمكث مُهاجرًا بين سير ومقام مُدة شهرين وثمانية أيام.

(1)

شعر النابغة الجعدي.

ص: 47

‌الفصل الثاني في تحقيق لفظ التاريخ وقاعدته

تقول العرب: أرَّخت وورَّخت، فيقلبون الهمزة واوًا، لأن الهمزة نظير الواو في المخرج، فالهمزة من أقصى الحلق، والواو من آخر الفم، فهى تحاذيها، ولذلك قالوا في وعد: أعد، وفي وجوه: أجُوه، وفي أثؤب: أثوب، وفي أحد: وحد، فعلى ذلك يكون المصدر تاريخا وتوريخا بمعنى.

وقاعدة التاريخ عند أهل العربية أن يؤرّخوا بالليالي دون الأيام؛ لأن الهلال إنما يُرى ليلًا، ثم إنهم يُؤنثون المذكر، ويذكرون المؤنث، على قاعدة العدد؛ لأنك تقول: ثلاثة غلمان، وأربع جواري.

إذا عرفت ذلك، فإنك تقول في الليالي ما بين الثلاث إلى العشر: ثلاث ليالي، وأريع ليالي، إلى بابه.

وتقول في الأيام ما بين الثلاثة إلى العشرة: ثلاثة أيام، وأربعة أيام، إلى بابه.

وأما واحد واثنان، فلم يُضيفوهما إلى مميز، فاما ما جاء من قول الشاعر:

كأنَّ خُصْيَيْه مِن التَّدَلدُلِ

ظَرف عجُوزٍ فيه ثِنتا حَنظَلِ

فبابهُ الشعر، وضرورة الشعر لا تكون قاعدة، وإنما امتنعوا من ذلك؛ لأنه يكون من باب إضافة الشيء إلى نفسه؛ فإنك إذا قلت: اثنا يومين، أو واحد رجل، فاليومان هما الاثنان، والواحد هو الرجل، وإذا قلت: يومٌ ورجلان، فقد دللت على الكمية والجنس، وليس كذلك في أيام ورجال، فيما فوق الثلاثة؛ لأن ذلك يصح على القليل والكثير، فيُضاف العدد إليه لتعلم الكمية.

ص: 48

وأضافوا العدد من الثلاثة إلى العشرة إلى جموع القِلة، فقالوا: ثلاثة أيام، وأربعة أحمال، وخمسة أشهر، وستة أرغفة، ولا يورد هاهنا قوله تعالى:{ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} ، لأنه ميز الثلاثة يحمع الكثرة؛ لأن المعنى كل واحد من المطلّقات تتربّص للعدة ثلاثة أقراء، فلما كان مجموع الأقراء من المطلّقات كثيرًا ميز الثلاثة، يجمع الكثرة، ولا يُضاف عدد أقل من ستة إلى مُميزين؛ ذكرٍ وأنثى؛ لأن كل واحدٍ من المميزين جمع، وأقل الجمع ثلاثة.

وقالوا في العدد المركب من بعد العشرة إلى العشرين، وهو أحد عشر وبابه: إحدى عشرة ليلة، وما بعده إلى العشرين، بإثبات التأنيث في الجُزءين من إحدى عشرة، واثنتي عشرة، وحذف التأنيث من الجزء الأول في الباقي للمؤنث، وأحد عشر يومًا، واثنا عشر يوما، وثلاثة عشر يوما، وما بعده إلى العشرين، بخلو الجزءين الأولين من التأنيث، وإثباته في الجزء الأول لما بعده في المذكر، والحجازيون يسكنون الشين في عشرة، وبنو تميم يكسرونها.

وميزوا ما بعد العشرة إلى العشرين وما بعدها من العُقود إلى التسعين بمنصوب، فقالوا: أحد عشر كوكبًا، وأربعين ليلة، وأتوا بواو العطف بعد العشرين، ومنعوها بعد العشرة إلى العشرين، فقالوا: أحد وعشرون، وأحد عشرة، وقالوا: مائة يوم، ومائتا يوم؛ فجعلوا المميز من المائة إلى الألف وما بعده مُضافًا، ولم يُجروه مجرى ما بعد العشرة إلى التسعين.

وقالوا: ثلاثمائة وأربعمائة، وبابه، فميزوه بالمفرد، ولم يميزوا بالجمع، وقالوا: ألف ليلة. فأجروا ذلك في التمييز مجرى المائة.

‌فائدة في استعمال "ألْف

":

لفظ "ألف" مُذكر، والدليل عليه قوله تعالى:{يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ} ، وقد تقرَّر أن المعدود المذكر يؤنث، والمؤنث يذكر.

ولا يورد قولهم: "هذه ألف درهم"؛ فإن الإشارة إنما هي إلى الدراهم، لا إلى الألف، وتقديره: هذه الدّراهم ألف.

ص: 49

‌فائدة أخرى في تعريف العدد المضاف:

إذا أردت تعريف العدد المضاف، أدخلت الأداة على الاسم الثاني، فتعرف به، نحو "ثلاثة الرجال"، "ومائة الدرهم" كقولك:"غُلام الرجُل". قال ذو الرُّمَّة:

وهل يَرْجعُ التسليمَ أو يكشِف العَمَى

ثلاثُ الأثافي والرِّسُومُ البَلاقِعُ

ولا يجوز "الخمسة دراهم"؛ لأن الإضافة للتخصيص، وتخصيص الأول باللام يُغنيه عن ذلك، فاما ما لم يُضف، فأداة التعريف في الأول نحو "الخمسة عشر درهمًا"؛ إذ لا تخصيص بغير اللام، وقد جاء شئ على خلاف ذلك.

‌تنبيه في استعمال كلمة "ثماني

":

الفصيح أن تقول: "عندي ثماني نسوة"، و"ثماني عشرة جارية"، و"وثماني مائة درهم"؛ لأن الياء هُنا ياء المنقوص، وهي ثابتة في حالة الإضافة والنصب، كياء قاضي، وأما قول الأعشى:

وَلقد شربتُ ثمانيًا وَثمانيًا

وَثَمانِ عشرَةَ واثْنتَين وأربَعَا

فبابه ضرورة الشعر، كما قال الآخر:

وطرْتُ بمُنْصُلِي في يَعْمَلاتٍ

دَوَامِي الأيدِ يَخْبِطْنَ السرِيحَا

يريد "الأيدي" على أنه قد قُرِئ: {وَلَهُ الْجَوَارُ الْمُنْشَآتُ} ، بضمِّ الرَاء.

‌الفصل الثالث في كيفية كتابة التاريخ

تقول للعشرة وما دونها: خَلَون؛ لأن المميز جمع، والجمع مؤنث.

وقالوا لما فوق العشرة: خَلَت، ومَضت؛ لأنهم يزيدون أن مميزه واحد.

وتقول من بعد العشرين: لتسع إن بقين، وثمان إن بقين، تأتي بلفظ الشك؛ لاحتمال أن يكون الشهر ناقصًا أو كاملًا.

ص: 50

وقد منع أبو علي الفارسي: لمستَهَلّ؛ لأن الاستهلال قد مضى، ونصّ على أن يؤرّخ بأول الشهر في اليوم، أو بليلة خَلت منه.

قال الحريري في "درة الغوَّاص": والعرب تختار أن تجعل النون للقليل والتاء للكثير، فيقولون لأربع: خلون، ولأربع عشرة ليلة: خلت.

قال: ولهم اختيار آخر، وهو أن تجعل ضمير الجمع الكثير الهاء والألف، وضمير الجمع القليل الهاء والنون المشدَّدة، كما نطق القرآن به، قال الله تعالى:{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} ، فجعل ضمير الأشهر الحرم بالهاء والنون لقلتهن، وضمير شهور السنة الهاء والألف لكثرتها.

وكذلك اختاروا أيضًا أن ألحقوا لصفة الجمع الكثير الهاء، فقالوا: أعطيته دراهم كثيرة، وأقمت أيامًا معدودة، وألحقوا لصفة الجمع القليل الألف والتاء، فقالوا: أقمت أيامًا معدودات، كسوته أثوابًا رفيعات.

وعلى هذا جاء في سورة البقرة: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} ، وفي سورة آل عمران {إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} ، كأنهم قالوا أولا: بِطُول المدّة، ثم إنهم رجعوا عنه، فقصروا المدة. انتهى.

والواجب أن تقول في أول الشهر: لليلة خلتْ منه، أو لغرَّته، أو لمستهلّه.

فإذا تحققت آخره، قلت: انسلاخُهُ، أو سَلخُه، أو آخره.

قال ابن عصفور: والأحسن أن تؤرخ بالأقل فيما مضى وما بقى، فإذا استويا أرخت بأيهما شئت.

وقال الصلاح الصفدي بعد نقله كلام ابن عصفور هذا: قلتُ: بل إن كان في خامس عشر، قلت: منتصف، أو في خامس عشر، وهو أكثر

ص: 51

تحقيقًا؛ لاحتمال أن يكون الشهر ناقصًا، وإن كان في الرابع عشر، ذكرته، أو السادس عشر ذكرته.

‌تنبيه في كتابة بعض الشهور

قال الصلاح الصفدي: رأيت الفضلاء قد كتبوا بعض الشهور بشهر كذا، وبعضها لم يذكروا معه شهرًا، وطلبت الخاصة في ذلك، فلم أجدهم أتوا بشهر إلا مع شهر يكون أوله حرف راء، مثل شهري ربيع، وشهر رجب، وشهر رمضان، ولم أدْرِ العلة في ذلك ما هي؟، ولا وجه المناسبة؟ لأنه كان ينبغي أن يُحذف لفظ شهر من هذه المواضع؛ لأنه يجتمع في ذلك راآن، وهم قد فرّوا من ذلك، كتبوا: داود، وناوس، وطاوس، بواو واحدة؛ كراهية الجمع بين المثلين. انتهى.

وقال الحافظ جلال الدين السيوطي في كتابه "نظم العقيان في أعيان الأعيان" بعد نقله كلام الصفدي هذا: قلت: قد تعرض للمسئلة من المتقدمين ابن درستويه في الكتاب "المتمم"، فقال: الشهور كلها مُذكرة إلا جمادى، وليس شئ منها يُضاف إليه شهر إلا شهرا ربيع، وشهر رمضان، قال الله تعالى:{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} .

وقال الراعي:

شَهْرَيْ رَبيعٍ مَا تذُوق لَبُونهُم

إلا حُمُوضًا وَخْمَة ودَوِيلًا

فما كان من أسمائها أسمًا للشهر، أو صفة قامت مقام الاسم، فهو الذي لم يَجُزْ أن يضاف الشهر إليه، ولا يُذكر معه، كالمحرّم، إنما معناه الشهر المحرّم؛ وهو من الأشهر الحرم، كصفر، وهو اسم معرفة كزيد، من قولهم: صفر الإناء يُصفر صفرًا، إذا خلا، وجُمادى، وهي معرفة، وليست بصفة، وهي من جمود الماء، ورجب وهو معرف، مثل صفر، وهو من قولهم: رجبت الشيء، أي عَظمته؛ لأنه أيضًا من الأشهر الحرم، وشعبان؛ وهو صفة بمنزلة عطشان،

ص: 52

من التشعّب والتفرّق، وشوَّال، وهو صفة جَرَت مجرى الاسم، وصارتْ معرفة، وفيها تشول الإبل، وذي القعدة، وهي صفة قامت مقام الشهر والقعود عن التصرف، كقولك، هذا الرجل ذو الجلسة، فإذا حذفت الرجل قلت: ذو الجلسة، وذي الحِجة مثله، مأخوذ من الحج.

وأما الربيعان، ورمضان، فليست بأسماء للشهر، ولا صفات له، فلا بد من إضافة شهر إليها، كقولك شهر ربيع، وشهر رمضان، ويدُلُّك على ذلك أن رمضان فعلان من الرمضاء، كقولك: الغليان، وليس الغليان بالشهر، ولكن الشهر شهر الغليان، وجعل رمضان اسمًا معرفة للرمضاء، فلم يُصرف لذلك، فأما رواة الحديث فيرون أن اسم من أسماء الله تعالى.

وربيع إنما هو اسم للغيث، وليس الغيث بالشهر، ولكن الشهر شهر غيث، فصار ربيع اسمًا للغيث معرفة كزيد، فإذا قلت: شهر ربيع الأول والآخر، فهما صفتان لشهرٍ، وإعرابهما كإعرابه، ولا يكونان صفة لربيع، وإن كان معرفة، لأنه ليس هنا ربيعان، وإنما هو ربيع واحد، وشهرا ربيع، ولو كان كذلك لكانا نكرتين، ولكانا مُضافين إلى معرفة، وصارا به معرفة. انتهى كلام ابن درستويه، كما نقله السيوطي.

ويؤخذ منه أن رجب لا يُضاف إليه لفظ شهر، كما ذكر الصفدي، فليتأمل.

وجرت العادة بأن يقولوا في شهر المحرم: شهر الله، وفي شهر رجب: شهر رجب الفرد، أو الأصم، أو الأصب، وفي شعبان: المكرّم، وفي رمضان: رمضان المعظّم، وفي شوَّال: شوَّال المبارك، ويؤرِّخوا أول شوَّال بعيد الفطر، وثامن الحجّة بيوم التروية، وتاسعه بيوم عرفة، وعاشر بعيد النحر، وتاسع المحرم بيوم تاسوعاء، وعاشره بيوم عاشوراء، فلا يحتاجون أن يذكروا الشهر، ولكن لا بد من ذكر السنة.

ص: 53

‌فائدة في استعمال"نيف" و"بضع

":

قد يجئ في بعض المواضع "نيف" و"بضع"، مثل قولهم: نيف وعشرون، وهو بتشديد الياء، ومن قال: نيف بسكونها، فذاك لحن، وهذا اللفظ مُشتق من أناف على الشئ، إذا أشرف عليه، فكأنه لما زاد على العشرين كان بمثابة المشرف عليها، ومنه قول الشاعر:

حَلَلْتُ برَابِيةٍ رَأسُهَا

على كُلِّ رابِيَةٍ نيَفُ

واختلف في مقداره، فذكر أبو زيد أنه ما بين العقدين، وقال غيره: هو الواحد إلى الثلاثة.

قال الصفدي: ولعل هذا الأقرب إلى الصحيح.

وقولهم: بِضع عشر سنة، البضع أكثر ما يستعمل فيما بين الثلاث إلى العشر، وقيل: بل هو ما دون نصف العقد، وقد انزوى القول الأول إلى النبي صلى الله عليه وسلم، في تفسير قوله تعالى:{وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ} ، وذلك أن المسلمين كانوا يحبون أن تظهر الروم على فارس، لأنهم أهل كتاب، وكان المشركون يميلون إلى أهل فارس، لأنهم أهل أوثان، فلما بشَّر الله تعالى المسلمين بأن الروم سيغلبون في بضع سنين، سُرَّ المسلمون بذلك، ثم إن أبا بكر رضي الله تعالى عنه بادر إلى مشركي قريش، فأخبرهم بما نزل عليهم فيه، فقال أبي بن خلف: خاطرْني على ذلك، فخاطره على خمس قلائص، وقدر له مُدة الثلاث سنين، ثم أتى النبي صلى اله عليه وسلم، فسأله كم البضع، فقال: ما بين الثلاث إلى العشر، فأخبره بما خاطر به أبي بن خلف، فقال: ما حملك على تقريب المدة؟، فقال: الثقة بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"عُدْ إليهِمْ فَزِدْهُمْ في الخَطْرِ وَازْدَدْ في الأجَلِ"، فزادهم قلوصين، وازداد منهم في الأجل سنتين، فأظفر اللّه تعالى الروم بفارس قبل انقضاء الأجل الثاني، تصديقا لتقدير أبي بكر رضي الله عنه،

ص: 54

وكان أُبَيٌّ قد ماتْ من جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ أبو بكر الخطر من ورثة أُبي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"تَصدَّق بِهِ"، وكانت المخاطرة بينهما قبل تحريم القِمار.

وقيل: الذي خاطر أبا بكر رضى الله عنه إنما هو أبو سفيان، والأول أصح.

كذا في "الوافي بالوفيات" للصلاح الصفدي، رحمه الله تعالى.

‌الباب الثاني في بيان العَلَم، والكُنية، وتعريف التاريخ وما يتعلق به

وهو يشتمل على أربعة فصول.

‌الفصل الأول فيما يكون مصدَّرا بأب وأم

اعلم أن الدال على مُعين مطلقا إما أن يكون مُصدَّرًا بأبٍ أو أمّ، كأبي بكر، وأمّ كلثوم، وأمّ سلمة، وإما أن يشعر برفعة المسمّى، كمُلاعب الأسنة، وعروة الصعاليك، وزيد الخيل، والرشيد، والمأمون، والواثق، والمكتفى، والظاهر، والناصر، وسيف الدولة، وعضد الدولة، وجال الدين، وعز الدين، وإمام الحرمين، وصدر الشريعة، وتاج الشريعة، وفخر الإسلام، وملك النحاة، وإما أن يشعر بضعة المسمّى كجُحى، وشيطان الطاق، وأبي العبر، وجحظة، وقد لا يشعر بواحد منهما، بل أجري عليه ذلك بواقعة جرت، مثل: غسيل الملائكة، وحمى الدَّبر، ومُطين، وصاع جزرة، والمبرَّد، وثابت قُطنة، وذي الرمَّة، والصعق، وصرَّدرَّ، وحيص بيص.

فهذه الأقسام الثلاثة تسمّى الألقاب.

ص: 55

وإلا فهو الاسم الخاص، كزيد وعمرو، وهذا هو العلم، وقد يكون مفردًا كما تقدم، وقد يكون مركبًا، إما من فعل وفاعل، كتأبَّط شرًا، وبرق نحرُه، وإما من مُضاف ومضاف إليه، كعبد الله، أو من اسمين قد رُكبا، وجُعلا بمنزلة اسم واحد، كسيبويه، والمفرد قد يكون مُرتجلًا، وهو الذي ما استعمل في غير العلمية، كمِذْحَج، وَأْدُد، وقد يكون منقولًا، إما من مصدرٍ؛ كسعد، وفضل، أو من اسم فاعل؛ كعامر، وصالح، أو من اسم مفعول؛ كمحمد، ومسعود، أو من أفعل تفضيل؛ كاحمد، وأسعد، أو من صفة؛ كثقيف، وهو الذَّرِبُ بالأمور الظافر بالمطلوب، وسَلول، وهو الكثير السل، وقد يكون منقولًا من اسم عين؛ كأسد، وصقر، وقد يكون منقولًا من فعل ماض؛ كأبان، وشمَّر، أو من فعل مضارع؛ كيزيد، ويشكر.

وإذ قد عرفت العَلَم، والكنية، واللقب، فسردها يكون على الترتيب: تُقدم اللقب على الكنية، والكنية على العَلَم، ثم النسبة إلى البلد، ثم إلى الأصل، ثم إلى المذهب في الفروع، ثم إلى المذهب في الاعتقاد، ثم إلى العَلَم، أو الصناعة، أو الخلافة، أو السلطنة، أو الوزارة، أو القضاء، أو الإمرة، أو المشيخة، أو الحج، أو الحرفة، كلها مقدم على الجميع.

فتقول في الخلافة: أمير المؤمنين الناصر لدين الله أبو العبَّاس أحمد السامري، إن كان بسُرَّ مَنْ رَأى، البغدادي، فرقًا بينه وبين الناصر الأموي صاحب "الأندلس"، الحنفي، الأشعري، إن كان يتمذهب في الفروع بفقه أبي حنيفة، ويميل في الاعتقاد إلى أبي الحسن الأشعري، ثم تقول: القُرشي، الهاشمي، العبَّاسي.

وتقول في السلطنة: السلطان الملك الظاهر ركن الدين أبو الفتح بَيْبَرَس الصالحي - نسبة إلى أستاذه الملك الصالح - التُركى الحنفى البندقدار، أو السلاح دار.

ص: 56

وتقول في الوزراء الوزير فلان الدين أبو كذا، وتسرد الجميع كما تقدم، ثم تقول: وزير فلان.

وتقول في القضاة كذلك: القاضي فلان الدين، وتسرد الباقي، كما تقدم.

وتقول في الأمراء كذلك: الأمير فلان الدين، وتسرد الباقي، إلى أن تجعل الآخر وظيفته التي كان يُعرف بها قبل الإمرة، مثل الجاشَنْكير، أو الساقي، أو غيرهما.

وتقول في أشياخ العلم: العلامة، أو الحافظ، أو المسنِد، فيمن عُمِّر وأكثر الرِّواية، أو الإمام، أو الفقيه، وتسرد الباقي إلى أن تختم الجميع بالأصُولي، أو النحوي، أو المنطقي.

وتقول في أصحاب الحرف: فلان الدين، وتسرد الجميع إلى أن تقول الحرفة إما البزَّاز، أو العطَّار، أو الخيَّاط.

فإن كان النسب إلى أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه قلت: القُرشى، التيمي، البَكري؛ لأن القرشي أعمّ من أن يكون تيميًا، والتيمي أعمّ من أن يكون من ولد أبي بكر رضي الله عنه.

وإن كان النسب إلى عمر بن الخطَّاب رضي الله تعالى عنه، قلت: القرشي، العدوي، العُمري.

وإن كان النسب إلى عثمان رضي الله تعالى عنه، قلت: القرشي، الأموي، العُثماني.

وإن كان النسب إلى علي بن أبي طالب رضى الله تعالى عنه، قلت: القُرشي، الهاشمي، العلوي.

وإن كان النسب إلى طلحة رضى الله تعالى عنه، قلت: القرشي، التيمي، الطلحي.

وإن كان النسب إلى الزبير رضي الله تعالى عنه، قلت: القرشي، الأسدي، الزبيري.

ص: 57

وإن كان النسب إلى سعد بن أبي وقَّاص رضي الله تعالى عنه، قلت: القرشي، الزهري، السعدي.

وإن كان النسب إلى سعيد رضي الله تعالى عنه، قلت: القرشي، العدوى، السعيدي، إلا أنه ما نُسب إليه فيما عُلم.

وإن كان النسب إلى عبد الرحمن بن عوف رضى الله تعالى عنه قلت: القرشي، الزهري، العوفي، من ولد عبد الرحمن بن عوف.

وإن كان النسب إلى أبي عبيدة بن الجرَّاح، قلت: القرشي، من ولد أبي عبيدة، على أنه ما أعقب.

هذا الذي. ذكرته هنا هو القاعدة المعروفة، والجادَّة المسلوكة المالوفة، عند أهل العلم.

وإن جاء في الكتاب في بعض التَّراجم ما يُخالف ذلك من تقديم وتأخير، فإنما هو سبق من القلم، وذهول من الفكر، وما خالف الأصل يُردُّ إليه، ولا يعترض بحد وضوح الاعتذار عليه. والله أعلم.

‌تنبيه

كلما رفعت في أسماء الآباء والنسب وزدت انتفعت بذلك، وحصل لك الفرق، فقد حكى أبو الفرج المعافي بن زكريا النهرُوَاني، قال: حججتُ في سنةٍ، كنت بمنى أيام التشريق، فسمعت مُناديًا يُنادي: يا أبا الفرج، فقلت: لعله يريدني، ثم قلت: في الناس كثير ممن يُكنى أبا الفرج، فلم أجبْه، فنادى: يا أبا الفرج المعافي، فهممت بإجابته، ثم قلت: قد يكون من اسمه المعافي، وكنيته أبو الفرج، فلم أجبه، فنادى يا أبا الفرج المعافي بن زكريا النهرواني، فقلت: لم يبق شك في مناداته إياي؛ إذ ذكر كنيتي، واسمي، واسم أبي، وبلدي، فقلت: ها أنا ذا، فما تريد؟ فقال: لعلك من نهروان الشرق؟ فقلت: نعم.

ص: 58

فقال: نحن نريد نهروان الغرب، فعجبت من اتفاق ذلك. انتهى.

وكذلك الحسن بن عبد اللّه العسكري أبو هلال، صاحب كتاب "الأوائل"؛ والحسن بن عبد اللّه العسكري أبو أحمد اللغوي، صاحب كتاب "التصحيف" كلاهما الحسن بن عبد الله العَسكري، الأول كان موجودًا في سنة خمس وتسعين وثلاثمائة، والثاني توفي سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة، فاتفقا في الاسم، واسم الأب، والنسبة، والعَلَم، وتقاربا في الزمان، ولم يُفرق بينهما إلا بالكنية؛ لأن الأول أبو هلال؛ والثاني أبو أحمد، والأول ابن عبد الله بن سهل بن سعيد، والثاني ابن عبد الله بن سعيد بن إسماعيل؛ ولهذا كثير من أهل العلم بالتاريخ لا يفرّقون بينهما، ويظنّون أنهما واحد.

ومثل هذا كثير جدًّا، وفي هذا القدر كفاية. واله تعالى أعلم.

‌الفصل الثاني في معرفة أصل الوفاة من حيث اللغة وفي ذكر فائدتها في التواريخ

فنقول: أصلها وَفَيَة، بتحريك الواو والفاء والياء، على وزن بقرة، ولما كانت الياء حرف علة سكنوها، فصارتْ وَفَيْة، فلما سُكنت الياء، وانفتح ما قبلها قُلبت ألفا، فقالوا: وَفَاة، ولهذا لما جمعوه رجعوا به إلى أصله، فقالوا: وَفَيات، بفتح الواو والفاء والياء، كما قالوا: شجرة وشجرات. وقالوا في الفعل منه: تُوفِّي زيد، بضم التاء والواو كسر الفاء وفتح الياء، فبنوه على ما لم يُسمَّ فاعله؛ لأن الإنسان لا يتوفى نفسه، فعلى هذا المتوفي بكسر الفاء هو الله، أو أحد الملائكة بأمره تعالى، وزيد المتوفى، بفتح الفاء.

وقد حُكي أن بعضهم حضر جنازة، فسأل بعض الفضلاء، وقال: من المتوفِّي؟ بكسر الفاء، فقال: الله تعالى، فأنكر ذلك، إلى أن بين له الغلط،

ص: 59

فقال: قُل المتوفَّى بفتح الفاء، ذكر ذلك الصفدي في مقدمة تاريخه "الوَافي بالوفيات".

وذكر فيه أيضًا فوائد للتاريخ، وقال: منها واقعة رئيس الرؤساء مع اليهودي الذي أظهر كتابًا فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بإسقاط الجزية عن أهل خيبر، وفيه شهادة الصحابة رضي الله تعالى عنهم، منهم على بن أبي طالب رضى الله تعالى عنه، فحمل الكتاب إلى رئيس الرؤساء، ووقع الناس منه في حيرة، فعرضه على الحافظ أبي بكر، خطيب "بغداد"، فتأمَّله، وقال: إن هذا مزوَّر، فقيل له: من أين لك ذلك؟. فقال: فيه شهادة معاوية رضى الله تعالى عنه، وهو أسلم عام الفتح، وفتوح خيبر سنة سبع، وفيه سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنه، ومات سعد يوم بني قريظة قبل خيبر بسنتين، ففرَّج ذلك على المسلمين غمًّا.

قال الصلاح الصفدي: وروي عن إسماعيل بن عيَّاش، أنه قال: كنت بـ "العراق"، فأتاني أهل الحديث، فقالوا: ههنا رجل يحدث عن خالد بن مَعْدان، فأتيته، فقلت: أيّ سنة كتبت عن خالد بن مَعْدان؟.

فقال: سنة ثلاثة عشرة، يعني: ومائة.

فقلت: أنت تزعم أنك سمعت منه بعد موته بسبع سنين، لأن خالدًا مات سنة ست ومائة.

وروي عن الحكم أبي عبد الله، أنه قال: لما قدم أبو جعفر محمد بن حاتم الكشّي - بالشين والسين معًا - وحدث عن عبد اللّه بن حميد، سألته عن مولده، فذكر أنه ولد سنة ستين ومائتين، فقلت لأصحابنا: هذا سمع من عبد بن حميد بعد موته بثلاث عشرة سنة.

وفوائد تاريخ الوفاة لا تنحصر، وهذا القدر كافٍ منها، واللّه أعلم.

ص: 60

‌الفصل الثالث في تعريف علم التاريخ وما يتعلق به

أقول وبالله التوفيق: قد كثرت الأقوال في تعريف التاريخ، وبيان فضيلته، وأحسن ما وقفت عليه من ذلك، ما نقله صاحب كتاب "غرر المحاضرة ودُرر المكاثرة"، وهو الشيخ الإمام المؤرخ تاج الدين علي بن أنجب المعروف بابن الخازن، فإنه قال في كتابه المذكور: قال العُلماء: التاريخ مَعادٌ معنوي؛ لأنه يعيد الأعصار، وقد سلفت، وينشر أهلها، وقد ذهبت آثارهم، وعفت، وبه يستفيد عقول التجارب من كان غرًا، ويلقى آدم، ومن بعده من الأمم، وهلمَّ جرا، فهم لديه أحياء، وقد تضمنتهم بطون القبور، وغُيَّاب، وهم عنده في عداد الحضور، ولولا التاريخ لجُهلت الأنساب، ونسيت الأحساب، ولم يعلم الإنسان أن أصله من تُراب، وكذلك لولاه لماتت الدول بموت زعمائها، وعمّي على الأواخر حالُ قُدمائها.

ولمكان العناية به لم يخل منه كتاب من كتب الله المنزلة، فمنها ما أتى بأخباره المجملة، ومنها ما أتى بأخباره المفصلة، وقد ورد في التوراة سفر من أسفارها، يتضمن أحوال الأمم السالفة ومُدد أعمارها.

وكانت العرب على جهلها بالقلم وخطه، والكتاب وضبطه، تصرف إلى التواريخ جُلّ دواعيها، وتجعل لها أوفر حظّ من مساعيها، وتستغني بحفظ قلوبها عن حفظ مَكتوبها، وتعتاض برقم صدورها، عن رقم مسطورها، كل ذلك عناية باخبار أوائلها، وأيام فضائلها، فهل للإنسان إلا ما أسّسَه وبناه، وهل البقاء لصورة لحمه ودمه لولا بقاء معناه. انتهى.

ص: 61

‌قاعدة حسنة في أدب المؤرخ:

وأما أدب المؤرخ، فقد ذكر ابن السُبكي في "طبقاته الكبرى" له قاعدة حسنة، فقال: قاعدة في المؤرخين نافعة جدًّا، فإن أهل التاريخ ربما وضعوا من أناس، أو رفعوا أناسًا، إما لتعصّب، أو لجهل، أو لمجرّد اعتماد على نقل من لا يوثق به، أو غير ذلك من الأسباب، والجهل في المؤرخين أكثر منه في أهل الجرح والتعديل، وكذلك التعصّب، قلّ أن رأيت تاريخًا خاليًا من ذلك.

وأما تاريخ "شيخنا الذهبي" غفر الله له، فإنه على حسنه وجمعه مشحون بالتعصّب المفرط، لا واخذه الله، فلقد أكثر الوقيعة في أهل الدين، أعني الفقراء، الذين هم صفوة الخلق، واستطال بلسانه على كثير من أئمة الشافعيين والحنفيين، ومال، فأفرط على الأشاعرة، ومدح، فزاد في المجسّمة، هذا وهو الحافظ المِدْرَه، والإمام المبجّل، فما ظنّك بعوام المؤرّخين.

‌ما يشترط في المؤرخ:

فالرأي عندنا أن لا يقبل مدح ولا ذم من المؤرخين، إلا بما اشترطه إمام الأئمة، وحبر الأمة، وهو الشيخ الإمام الوالد رحمه الله تعالى، حيث قال، ونقلته من خطّه في مجاميعه: يُشترط في المؤرخ الصدق، وإذا نقل يعتمد اللفظ دون المعنى، وأن لا يكون ذلك الذي نقله أخذه في المذاكرة، وكتبه بعد ذلك، وأن يسمي المنقول عنه؛ فهذه شروط أربعة فيما ينقله. ويُشترط فيه أيضًا لما يُترجمه من عند نفسه، ولما عساه يطول في التراجم من المنقول ويقصر، أن يكون عارفًا بحال صاحب الترجمة، علمًا، ودينًا، وغيرهما من الصفات، وهذا عزيز جدًّا، وأن يكون حسن العبارة، عارفًا بمدلولات الألفاظ، وأن يكون حصن التصوّر، حتى يتصوّر حال ترجمته جميع حال ذلك الشخص، ويعبر عنه بعبارة لا تزيد عليه، ولا تنقص عنه، وأن لا يغلبه الهوى،

ص: 62

فيخيّل إليهِ هواه الإطناب في مدح من يحبّه، والتقصير في غيره، بل يكون مجرّدًا عن الهوى، وهو عزيز جدًّا، وإما أن يكون عنده من العدل ما يقهر به هواه، ويسلك طريق الإنصاف. فهذه أربعة شروط أخرى، ولك أن تجعلها خمسة؛ لأن حسن تصوّره وعلمه قد لا يحصل معهما الاستحضار حين التصنيف، فتجعل حضور التصوّر زائدًا على حسن التصوّر، والعلم.

فهذه تسعة شروط في المؤرّخ، وأصعبها الاطلاع على حال الشخص في العلم؛ فإنه يحتاج إلى المشاركة في علمه، والقرب منه حتى يعرف مرتبته. انتهى.

ثم ذكر أن كتابته لهذه الشروط بعد أن وقف على كلام ابن معين في الشافعي، وقول أحمد بن حنبل: إنه لا يعرف الشافعي، ولا يعرف ما يقول.

قلت: وما أحسن قوله "ولما عساه يطوّل في التَّراجم من المنقول، ويقصِّر"، فإنه أشار به إلى فائدة جليلة، يغفل عنها كثيرون؛ ويحترز منها الموفَّقون، وهي تطويل التَّراجم وتقصيرها؛ فرب محتاط لنفسه لا يذكر إلا ما وجده منقولًا، ثم يأتي إلى من يُبغضه، فينقل جميع ما ذكر من مذامّه، ويحذف كثيرًا مما نقل من ممادحه، ويجئ إلى من يُحبّه، فيعكس الحال فيه، يظنّ المسكين أنه لم يأت بذنبٍ؛ لأنه ليس يجب عليه تطويل ترجمة أحدٍ ولا استيفاء ما ذكر من ممادحه، وما يظنّ المغترّ أن تقصيره لترجمته بهذه النِّية استزراء به، وخيانة لله، ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وللمؤمنين، في تأدية ما قيل في حقِّه من مدح وذمّ، فهو كمن يُذكر بين يديه بعض الناس، فيقول: دعونا منه، أو: إنه عجيب، أو: الله يصلحه، فيظنّ أنه لم يعتبهُ بشيء من ذلك، وما يظنّ أن ذلك من أقبح الغيبة.

ص: 63

ولقد وقفت في "تاريخ الذهبي" على ترجمة الشيخ الموفَّق بن قدامة الحنبلي، والشيخ فخر الدين بن عسكر، وقد أطال تلك، وقصَّر هذه، وأتى بما لا يشكّ الثبت أنه لم يحمله على ذلك إلا أن هذا أشعري، وذلك حنبلي، وسيقفون بين يدي ربّ العالمين.

وكذلك ما أحسن قول الشيخ الإمام: "وأن لا يغلبه الهوى"؛ فإن الهوى غلَّاب إلا من عصمه الله تعالى.

وقوله: "فإما أن يتجرّد عن الهوى، أو يكون عنده من العدل ما يقهر به هواه" عندنا فيه زيادة، فنقول: قد لا يتجرّد من الهوى، ولكنّه لا يظنّه هوى، بل يظنّه لجهله، أو لبدعته حقًا؛ ولذلك لا يتطلّب ما يقهر به هواه؛ لأن المستقرّ في ذهنه أنه محقّ، وهذا كما يفعل كثير من المتخالفين في العقائد بعضهم في بعض، فلا ينبغي أن يقبل قول مُخالف في العقيدة على الإطلاق، إلا أن يكون ثقة، وقد روي شيئًا مضبوطًا عاينه أو حقّقه.

وقولنا: "مضبوطًا" احترزنا به عن رواية ما لا ينضبط، من التُّرَّهات التي لا يترتّب عليها عند التأمل والتحقّق شيء.

وقولنا "عايَنَه أو حقّقه" ليخرج ما يرويه عن من غلا أو رخّص ترويجا لعقيدته.

وما أحسن اشتراطه العلم، ومعرفة مدلولات الألفاظ، فلقد وقع كثيرون بجهلهم في جرح جماعة بالفلسفة، ظنًا منهم أن علم الكلام فلسفة، إلى أمثال ذلك، مما يطول عَدّة، فقد قيل في أحمد بن صالح، الذي نحن في ترجمته: إنه يتفلسف، والذي قال: هذا، لا يعرف الفلسفة. وكذلك قيل في أبي حاتم الرازي، وإنما كان رجلًا مُتكلمًا. وقريب من هذا قول الذهبي في المزني: إنه يعرف مضايق المعقول، ولم يكن الذهبي ولا المزني يدريان شيئًا من المعقول.

ص: 64

والذي أفتي به أنه لا يجوز الاعتماد على كلام شيخنا الذهبي في ذم أشعري، ولا شكر حنبلي، والله المستعان. انتهى كلام ابن السبكي بحروفه.

قلت: أكثر هذه الشروط مفقودة في أكثر المؤرخين، وفي غالب التواريخ، خصوصًا تواريخ المتأخرين، وقلما تراها مجتمعة، حتى إن ابن السبكي نفسه يخالفهم في كثير من المواضع، ومن تأمل "طبقاته" حقّ التأمل، ووقف على كلامه في حق بعض المعاصرين له، ظهر له صحة ما ذكرنا، ونحن نسأل الله تعالى أن يوفقنا للعمل بجميعها، وأن يعيننا عليه، ويسامحنا بما طغى به القلم، وحصل فيه الذهول، وكلَّ عنه الفكر، وقصَّر في التعبير عنه اللسان، بمنّه وكرمه.

‌الفصل الرابع في كيفية ضبط حروف المعجم

قالوا: الباء الموحّدة، وبعضهم يقول: الباء ثاني الحروف، والتاء المثناة من فوق، لئلا يحصل الشبه بالياء، لأنها مثنَّاة، ولكنها من تحت، وبعضهم قال: ثالثة الحروف، والتاء المثلثة، والجيم، والحاء المهملة، والخاء المعجمة، والدال المهملة، والذال المعجمة، والراء، والزاي، وبعضهم يقول: الراء المهملة، والزاي المعجمة، والسين المهملة، والشين المعجمة، والصاد المهملة، والضاد المعجمة، والطاء المهملة، والظاء المعجمة، والعين المهملة، والغين المعجمة، والفاء، والقاف، والكاف، واللام، والهاء، والواو، والياء المثناة، وبعضهم يقول: آخر الحروف.

ص: 65

هكذا يقولون إذا أرادوا ضبط كلمة؛ فإن أرادوا زيادة قالوا: على وزن كذا، فيذكرون كلمة توازنا، وهي أشهر منها، كما إذا قيَّدوا فَلُوَّا، وهو المهر، قالوا فيه: بفتح الفاء وضم اللام، وتشديد الواو، على وزن عَدوّ، فحينئذ يكون الحال قد اتضح، والإشكال قد زال.

‌الباب الثالث في بيان أسماء الله الحسنى

، وهو يشتمل على ثلاثة فصول.

‌الفصل الأول في عدد أسماء الله الحسنى

قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} ، وقال تعالى:{قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} ، وقال تعالى:{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} ، وقال الله تعالى:{هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} ، فهذه أربع آيات، ذكر الله فيها أسماءه الحسنى.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لله تسعة وتسعين اسما، من أحصاها دخل الجنة. رواه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وفي رواية من حفظها، وفي رواية مائة إلا واحدة، وفي رواية إن الله وتر يحبّ الوتر. وقال الترمذي حدثنا إبراهيم بن يعقوب، حدثنا صفوان بن صالح، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا شعيب بن أبي حمزة، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله تسعة وتسعين اسما، من أحصاها دخل الجنة، هو: الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، الملك، القدّوس، السّلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبّار،

ص: 66

المتكبر، الخالق، البارئ، المصوّر، الغفّار، القهّار، الوهّاب، الرزّاق، الفتّاح، العليم، القابض، الباسط، الخافض، الرافع، المعزّ، المذلّ، السميع البصير، الحكم، العدل، اللطيف، الخبير، الحليم، العظيم، الغفور، الشكور، العلي، الكبير، الحفيظ، المقيت، الحسيب، الجليل، الكريم، الرقيب، المجيب، الواسع، الحكيم، الودود، المجيد، الباعث، الشهيد، الحق، الوكيل، القوي، المتين، الولي، الحميد، المصي، المبديء، المعبد، المحيي المميت، الحي، القيوم، الواجد، الماجد، الواحد، الصمد، القادر، المقتدر، المقدّم، المؤخّر، الأول، الآخر، الظاهر، الباطن، الوالي، المتعالي، البر، التوَّاب، المنتقم، العفو، الرؤوف، مالك الملك، ذو الجلال والإكرام، المقسط، الجامع، الغني، المغني، المعطي، المانع، الضارّ، النافع، النور، الهادي، البديع، الباقي، الوارث، الرشيد، الصبور.

قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، حدثنا به غير واحد عن صفوان بن صالح، ولا نعرفه إلا من حديث صفوان بن صالح، وهو ثقة عند أهل الحديث، وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، لا نعلم في كثير شيء من الروايات ذكر الأسماء إلا في هذا الحديث.

وقد روى آدم بن أبي إياس هذا الحديث بإسناد غير هذا عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر فيه الأسماء، وليس له إسناد صحيح، والله أعلم.

قال القرطبي: قال علماءنا رحمة الله عليهم: لما قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} ، والدعاء بها قبل معرفتها بأعيانها محال، وتحضيض الشرع على إحصائها وأمره بالدعاء بها، وهو لم يبّينها، ولم يعينها، من تكليف ما لا يطاق، ولم يرد به الشرع، فوجب تطلّبها، والوقوف عليها، حتى ندعو بها.

ص: 67

‌معنى قوله عليه السلام: من أحصاها:

قوله عليه السلام: "من أحصاها"، اختلف العُلماء فيه، فقيل: عدّها وحفظها، فتارة بالبحث والتفتيش عنها، فيكون ثوابه على هذا الإحصاء الجنة، وتارة يكون إحصاؤها حفظها، بعد أن وجدها محصاة، قد أحصاها غيره، ويشهد لهذا ما تقدم من قوله: من حفظها.

قال الإقليشي أبو العباس أحمد: ولعله عليه السلام وكل إحصائها في قوله "من أحصاها" وكل العُلماء إلى إحصائها بالبحث والنظر، ثم أشفق على أمته، ويسَّر لهم الأمرَ، فأحصاها لهم، وأخرجَها محصاةً، وقال: من حفظها دخل الجنة.

وقيل: إحصاؤها الفهم لها، والعلم بها.

وقيل: إحصاؤها أن ينزل كل اسم منها منزلته من غير تفريط.

‌هل أسماء الله محصورة في التسعة والتسعين:

قال القرطبي: واختلفوا هل أسماء الله عز وجل محصورة في التسعة والتسعين أم لا، فذهب قوم، منهم علي بن حزم إلى أن أسماءه محصورة في التسعة والتسعين، وذهب آخرون، وهم الأكثرون إلى أنه يجوز أن يكون له أسماء زائدة، قالوا: ومعنى ما أخبرنا بها النبي صلى الله عليه وسلم من التسعة والتسعين إنما هو معنى الشرع لنا في الدعاء بها، كما قال تعالى:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} ، وغيرها من الأسماء لم يشرع الدعاء بها، وهو الصحيح، لقوله عليه السلام في حديث الشفاعة:"فأحمده بمحامد لا أقدر عليها، إلا أن يلهمنيها الله عز وجل"، رواه مسلم.

وروى أبو بكر، قال: "علَّمني رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الدعاء، قال: قل: اللهم إني أسئلك بمحمد نبيك، وبإبراهيم خليلك، وبموسى

ص: 68

نجيك، وبعيسى روحك، وكلمتك، وبتوراة موسى، وبإنجيل عيسى، وبزبور داود، وبفرقان محمد صلى الله عليه وسلم، وكل وحي أوحيتَه، وقضاء قضيتَه، وأسئلك بكل اسم هو لك، أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم غيبك، وأسئلك باسمك الطُّهر الطاهر الأحد الصمد الوتر، وبعظمتك وكبريائك، وبنور وجهك أن ترزقني القرآن والعلم، وأن تخلطه بلحمي ودمي وسمعي وبصري، وتستعمل به جسدي بحولك وقوتك، فإنه لا حولَ ولا قوةَ إلا بك".

وخرَّج البيهقي وغيره عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أصاب مسلمًا قط حزن ولا همّ، فقال: اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك ناصيتي بيدك ماض فيَّ حكمك، عدل فيَّ قضاؤك، أسئلك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علَّمته أحدا من خلقك، أو استأثرتَ به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، وجلاءَ حزني، وذهابَ همي، إلا أذهب الله همَّه، وأبدله مكان همَّه فرحا، قالوا: يا رسول الله ألا نتعلم هذه الكلمات، قال: بلى، ينبغي لمن سمعهن أن يتعلَّمهن. وفي رواية بعد قوله: وجلاء حزني، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما قالهن مهموم قط، إلا أذهب الله همَّه وأبدله فرجا، قالوا: يا رسول الله ألا نتعلمهن، قال: فتعلموهن، وعلّموهن، وذكر غير ذلك من الأحاديث.

واحتجّوا أيضًا بحديث "إن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدًا، من أحصاها دخل الجنة، وحملوه على قضية واحدة، لا قضيتين، ويكون تمام الفائدة في خبر إن في قوله: من أحصاها، لا في قوله تسعة وتسعين، وهو كقول القائل: إن لزيد ألف درهم أعدّها للصدقة، وقوله: إن لعمرو مائة

ص: 69

ثوب، من زاره خلعها عليه، وهذا لا يدلّ على أن ليس عنده من الدراهم إلا ألف درهم، ولا من الثياب أكثر من مائة ثوب، وإنما دلالته أن الذي أعدّه زيد من الدراهم للصدقة ألف درهم، وأن الذي أرصدَه عمرو من الثياب للخلع مائة ثوب، وأجاب الأوَّلون، فقالوا: هو محمول على قضيتين، إحداهما: أن لله تسعة وتسعين اسما، والثانية: أن من أحصاها دخل الجنة.

‌الفصل الثاني في أقوال العُلماء في تسمية الله أسماءه بالحسنى

في تسمية الله سبحانه وتعالى أسماءه بالحسنى عدّة أقوال، قيل: لما فيها من العلو والتعظيم والتقديس والتطهير، وقيل: لما وعد فيها من الثواب، وقيل: لأنها حسنة في الأسماع والقلوب، وقيل: لأنها تدل على توحيده وكرمه.

قال أبو بكر بن العربي: قوله: {فَادْعُوهُ بِهَا} أي اطلبوا منه بأسماءه، فيطلب بكل اسم ما يليق به، تقول: يا رحيم ارحمني، يا حكيم احكم لي، يا رازق ارزقني، يا هادي اهديني، يا فتّاح افتح لي، يا توّاب تب عليَّ، هكذا، فإن دعوتَ باسم عام قلتَ: يا ملك ارحمْني، يا عزيز احكمْ لي، يا لطيف ارزقْنِي، فإن دعوت بالاسم الأعظم قلت: يا الله، فهو متضمّن لكل اسم، ولا تقول: يا رازق اهدني، إلا أن تريد يا رزّاق ارزقْني الخير، وهكذا رتّب دعاءك، تكن من المخلصين.

جاءتْ روايات كثيرة في تعديد أسماء الله الحسنى، وفي بعضها أسماء بدل أسماء، وفي بعضها زيادة، قال القرطبي: وأما الأحاديث التي فيها عدد الأسماء فكلها مضطربة، وأشبهها ما خرَّجه محمد بن إسحاق بن خُزيمة.

ص: 70

‌الفصل الثالث في أسماء الله المرتبة على حروف المعجم

قال القرطبي: لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لله تسعة وتسعين اسما، من أحصاها دخل الجنة، أردت أن يكون لي في هذا الإحصاء نصيب، وذكر عن بعضهم أنه من أراد الإحصاء فليقرأ القرآنَ من أوله إلى آخره، فيستوفي الأسماء كلَّها في أضعاف التلاوة.

قال الخطابي: وذكر أبو عبد الله الزبيدي أنه أخرج الأسماء كلها من القرآن، وذكر أنا مائة وثلاثة عشر اسما، وهي هذه مرتبة على حروف المعجم.

‌حرف الألف:

الله، اللهم، إله، أحد، أول، آخر، إلٌّ في أحد وجُوه أيل، أعزّ، أعظم، أسرع، أحكم، أجلّ، أقدر، أوسع، أكثر، أكبر، أكرم، أعلم، أقرب، أحسن، أصدق، أعلى، أبقى، أهل التقوى، أهل المغفرة، آمر، أبد، آمين.

‌حرف الباء الموحّدة:

باق، باطن، بصير، بديع، باري، بريء، بر، بار، باسط، باعث، بالغ أمره، بادي، بدي، برهان.

‌حرف التاء:

توَّاب، تام.

‌حرف الثاء:

قال الإقليشي: ولم يرد اسم مفتتح بالثاء، ولم يجيء ثابت في القرآن، ولا في الأثر، وإن كان يوصف الله تعالى به في معرض المدح، فيقال: الله ثابت سلطانه، وثابت علمه، وثابت قِدَمه، إلى غير ذلك مما يستحقّه.

‌حرف الجيم:

جليل، جبّار، جامع، جواد، جاعل، جميل، جابر.

‌حرف الحاء:

حكيم، حكم، حاكم، حاسب، حسيب، حليم، حنَّان، حافظ، حفيظ، حفي، حي، حق.

ص: 71

‌حرف الخاء:

خبير، خالق، خلَّاق، خافض، خليفة، خير، خفي.

‌حرف الدال:

دائم، دهر، ديّان، دافع، داع.

‌حرف الذال:

ذو الجلال والإكرام، ذو الفضل، ذو الطول، ذو المعارج، ذو العرش، ذو القوة، ذو الرحمة، ذو رحمة واسعة، ذو مغفرة، ذو عقاب، ذاريء، ذات.

وفي (كتاب الترمذي) يا ذا الحَيْل الشديد، بالياء المعجمة باثنتين، وهو الصحيح. ومن رواه بالباء الموحّدة فقد غلط، والحَيْل هو القوة، ومنه لا حولَ ولا قوةَ، ولا حيلَ إلا بالله، ولا احتيالَ.

‌حرف الراء:

رحمن، رحيم، رؤوف، رقيب، راشد، رشيد، رازق، رزاق، رافع، رفيع الدرجات، رب، رفيق، رمضان، راتق، راض، رابع ثلاثة.

‌حرف الزاي:

زكي، ذكره ابن برجان، زارع أم نحن الزارعون، ذكره ابن العربي.

‌حرف السين:

سامع، سميع، سلام، سيّد، سريع الحساب، سريع العقاب، ساخر، ساخط، ستير، ستَّار، ساتر، سادس خمسة.

‌حرف الشين المعجمة:

شيء، شهيد، شاكر، شكور، شديد العقاب، شافي، شفيع.

‌حرف الصاد:

صمد، صبور، صادق، صانع، صاحب.

‌حرف الضاد:

ضار.

‌حرف الطاء:

طاهر، طالب، طيب، طبيب.

‌حرف الظاء:

ظاهر.

‌حرف العين:

عالم، عليم، علام، علي، عزيز، عدل، عفو، عظيم، عاصم، عدو، عامل، عادل.

ص: 72

‌حرف الغين:

غافر، غفور، غفَّار، غالب، غيور، غضبان.

‌حرف الفاء:

فتّاح، فاعل، فعال، فارج الهم، فاكل، فاطل، فالق، فليق، فائق، فرد.

‌حرف القاف:

قادر، قدير، قوي، قيّوم، قايم، قاهر، قهَّار، قدّوس، قابض، قريب، قديم، قاض، قابل التوب.

‌حرف الكاف:

كبير، كريم، كاف، كاشف، كابن، كامل، كنز.

قال الإقليشي: وليس في الصفات كامل وصفا لله تعالى في أثر، ولو ورد كان معناه كمعنى تام، فإن ذات الله تعالى وأفعاله تامة كاملة.

‌حرف اللام:

لطيف.

‌حرف الميم:

موجود، معبود، منشيء، مصوّر، مكوّن، مخرج، موجد، مبدع، مبتدع، محدث، ملك، مالك، مليك، ملك الملوك، مالك الملك، مجيد، ماجد، متكبر، مقتدر، متعال، محصي، محيط، مؤمن، مهيمن، مقسط، مقيت، متين، مبين، منير، مجيب، مستجيب، مناد، مناج، مغيث، منيع، ملي، معطي، مغني، مانع، معز، مذل، مقدّم، مؤخّر، مبدئ، معيد، محيي، مميت، منتقم، محسن، محسان، مفضل، منّان، مولى، مستعان، مدبر، مريد، مكلم، متكلّم، مبرم، منذر، مرسل، منزل، مهلك، معدم، معذب، مبغض، معاذ، مسعر، مبلي، مبتلي، ممتحن، متوف، مغني، مبقي، مكرم، مطهر، موئل، موسع، ماهد، موهن، مقلّب القلوب، مثبتها، مجري السحاب، مصرفها، مستهزيء، ماكر، مضل، متمّ نوره، مقبل، ممرض، منصح، مداوي، مجير، معلم، ميسّر، مسهّل، مسترزق، متكفل.

‌حرف النون:

نور، نافع، ناصر، نصير، ناظر، نظيف، نعم المولى، ونعم النصير، ناء.

ص: 73

‌حرف الواو:

واحد، واجد، واسع، وكيل، وال، ودود، وهّاب، وارث، وتر، واف، وفي، ولي.

‌حرف الهاء:

هاد.

قال الإقليشي: وليس في القرآن ولا في الأثر من أسماء الله تعالى اسم مفتتح بها غيرها، وقد ذكر بعض العُلماء في شرح الأسماء هو والهوي.

قلت: قال القرطبي غفر الله له: وفيه اسم رابع هازم الأحزاب.

‌حرف لام ألف:

قال الإقليشي: وليس في الأسماء اسم مفتتح بلام ألف.

قلت: قال القرطبي غفر الله له: فيه لا إله إلا هو.

‌حرف الياء:

وليس في الأسماء مفتتح بياء غير ما ذكره بعض العُلماء في يس، إنه اسم من أسماء الله تعالى، كسائر حروف التهجّي، وهي أربعة عشر حرفا، ألف، حا، را، طا، كاف، لام، ميم، نون، صاد، عين، قاف، سين، ها، يا.

قال القاضي ابن عربي: وعندي أنه ليس لله تعالى اسم ولا صفة إلا وقد اطلع عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ابن الحصّار: وهذا عندي حسن، قال: والذي عليه جل العُلماء أن ما وجب لله سبحانه لا يحيط به مخلوق، ويدل عليه قوله تعالى:{قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي} الآية، وقوله صلى الله عليه وسلم:"سبحان الله عدد خلقه"

الحديث.

ص: 74

‌الباب الرابع في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم

وهو يشتمل على خمسة فصول

ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي أظهر هذا الدين القويم، وأنار هذا الصراط المستقيم، وكان كل فضل منسوبًا إلى فضله، كل علم مستفادًا من علمه، ولولاه ما كان عالم يذكر، ولا فاضل علمه يُنشر، قال البوصيري:

فهو الذي تم معناه وصورته

ثم اصطفاه حبيبا بارئ النسم

منزه عن شريك في محاسنه

فجوهر الحسن فيه غير منقسم

وكانت سائر الأفاضل، والعلماء الأماثل، والأولياء المخلصين، والصلحاء السابقين، يغترفون من ذلك البحر، ويستنيرون بذلك البدر.

وكانوا كما قال البوصيري رحمه الله تعالى:

وكلُّهُمْ مِن رَسُولِ اللهِ مُلتمِسٌ

غَرْفًا من البَحْر أو رَشْفًا من الدَّيَمِ

تعين أن نبدأ بذكر شئ يسير من سيرته الشريفة، وأوصافه المنيفة، لتكون لهذا الكتاب مشرفة، وعلى غيره من الطبقات التي خلت عنها مُفضلة، ويكون لهم في الذكر إمامًا، كما كان لهم في الدين هاديًا وهُمامًا.

ثم نتلوه بذكر فضائل أصحابه البررة، رضى الله عنهم، الذين أختارهم الله لصحبة حبيبه ونبيه صلى الله عليه وسلم، ثم نذكر أسماء فقهاء الصحابة رضي الله، ثم ترجمة حبر الأمة فقيه الملة الصحابي الجليل عبد اللّه مسعود رضي الله عنه، ثم أرشد تلاميذه علقمة بن قيس النخعي، ثم أعز تلاميذه إبراهيم النخعي، ثم أشهر تلامذته حماد بن أبي سليمان، الذي تخرج عليه إمامنا

ص: 75

الأعظم أبو حنيفة النعمان رضي الله تعالى عنهم، نذكرهم خصوصًا لتعلق الفقه الحنفي بهم.

قال الحافظ الذهبي في "سيره"(5: 236): أفقه أهل "الكوفة" علي وعبد الله بن مسعود، وأفقه أصحابهما علقمة، أفقه أصحابه إبراهيم، وأفقه أصحاب إبراهيم حماد، أفقه أصحاب حماد أبو حنيفة.

‌الفصل الأول في نسبه وأساميه صلى الله عليه وسلم

ذكر سيرته المباركة الإمام تقي الدين التميمي الداري المصري، وقال ما نصه: هو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحبيبه وصفيه وخيرته من خلقه، وأفضل الأولين والآخرين، أبو القاسم بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، الذي قيل فيه:

وكم أبٍ قد عَلا بابنٍ ذُرَى شرَفٍ

كما عَلَا برَسولِ الله عَدْنانُ

هذا هو المتفق على صحته، ومن هنا إلى آدم عليه الصلاة والسلام مختلف فيه، ومذكور في كتب السيرة المطولة، فمن أراد الوقوف عليه فليراجعها.

قال الحافظ عبد القادر القرشي في كتابه "الجواهر": في نسب سيِّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو أبو الأرامل، وأبو القاسم، وأبو إبراهيم، رسول الله صلى الله عليه وسلم، محمد، وأحمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان إلى هنا إجماع الأمة، وما وراءه فيه اختلاف واضطراب، والمحققون ينكرونه، قاله النووي.

ص: 76

ومن أشهره عدنان بن أدد بن مقوَّم بن ناحور بالنون والحاء المهملة ابن تيرح بفتح التاء المثناة من فوق والراء ابن يعرب بن يشجُب بضم الجيم ابن نابت بالنون ابن إسماعيل بن إبراهيم خليل الرحمن سبحانه وتعالى بن تارَح بالمثناة فوق وفتح الراء، وهو آذر بن ناحور بالحاء المهملة ابن فالح بالفاء واللام وبالمعجمة ابن عيبر بمهملة ثم مثناة تحت ساكنة، ثم موحّدة مفتوحة ابن شالخ بالمعجمتين واللام المفتوحة ابن أرفَخْشَد بالراء والمعجمات وفتح الفاء والشين وإسكان الحاء ابن سام بن نوح بن لاملك بفتح الميم وكسرها ابن متوشلخ بميم مفتوحة، ثم مثناة مشدّدة مضمومة، ثم واو ساكنة، ثم شين معجمة، ثم لام مفتوحتين، ثم خاء معجمة، ويقال: متوشلح ابن حنوخ بحاء مهملة، ويقال: معجمة ثم نون مضمومة، ثم واو، ثم خاء معجمة ابن يرد بمثناة تحت مفتوحة، ثم راء ساكنة ابن مهليل، ويقال: مهلايل بن قينين، ويقال: قينان بالقاف ابن يانش، ويقال: أنش، ويقال: أنوش بالنون والشين المعجمة ابن شيث بن آدم عليه السلام.

وذكر أبو الحسن المسعودي وآخرون بين عدنان وإبراهيم نحو أربعين أبا، وهذا أقرب، فإن المدة بينهما طويلة جدًّا، ولكن في لفظها وضبطها اختلاف كثير، ومنها: أن عدنان من نسل قيدار بن إسماعيل. قال: وأما الحديث المشهور عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بعد عدنان كذب النسَّابون، فهو ضعيف، والأصح أنه من كلام ابن مسعود، رضي الله عنه.

‌كنيته صلى الله عليه وسلم:

أما كنيته صلى الله عليه وسلم بأبي الأرامل، فقد ذكر الإمام أبو عبد الله سلام بن عبد الله الباهلي الإشبيلي في "كتاب الذخائر والأعلاق في آداب النفوس ومكارم الأخلاق" أن كنية النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة

ص: 77

أبو الأرامل، وأما كنيته صلى الله عليه وسلم بأبي القاسم فابنه القاسم، قال أبو نعيم: القاسم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم بكر ولده، وبه كان يكنى.

وأما كنيته بأبي إبراهيم فقد ذكر الحاكم حديثًا من طريق ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب، وعقيل عن الزهري، عن أنس رضي الله عنه قال: لما ولد إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل، فقال: السَّلام عليك يا أبا إبراهيم.

‌ذكر أسمائه صلى الله عليه وسلم:

وأما أسماؤه فقد قال الإمام أبو بكر بن العربي في (شرح الترمذي): قال بعض الصوفية: لله عز وجل ألف اسم، وللنبي صلى الله عليه وسلم ألف اسم، فأما أسماء النبي صلى الله عليه وسلم فلم أحصها إلا من جهة الورود الظاهرة بصفة الأسماء البينة، فوعيت منها جملة، الحاضر منها سبعة وستون اسما، ثم ساقها، وستأتي قريبًا.

وقال أبو الخطَّاب بن دحية في كتابه "المستوفى في أسماء المصطفى" صلى الله عليه وسلم: فإذا فحصنا عن جملتها من الكتب المتقدمة والقرآن العظيم والحديث النبوي وَفَت الثلاثمائة، وكذلك صنَّف الشيخ أبو الحسن علي بن أحمد بن الحسن التجيبي المعروف بالحالي باللام نسبة إلى قرية من قرى "مرسية"(كتاب أسماء النبي) صلى الله عليه وسلم، وذكرها تسعة وتسعين اسما، وذكر أبو الفرج بن الجوزي أن لنبينا صلى الله عليه وسلم ثلاثة وعشرين اسما، وذكر أبو عبد الله محمد بن علي بن عسكر لنبي الله صلى الله عليه وسلم عشرين اسما.

وهذا سياق ما ذكره أبو بكر ابن العربي من أسمائه على ما تقدّم، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: المرسل، النبي، الأمي، الشهيد، المصدّق، النور،

ص: 78

المسلم، البشير، المبشّر، النذير، المنذر، المبين، الأمين، العبد، الداعي، السراج المنير، الإمام، الذكر، المذكّر، الهادي، المهاجر، العامل، المبارك، الرحمة، الآمر، الناهي، الطيّب، الكريم، المحلّل، المحرّم، الواضع، الرافع، المخبر، خاتم النبيين، ثاني اثنين، منصور، أذن خير، مصطفى، أمين، مأمون، قاسم، نقيب، المزَّمّل، المدّثّر، العلي، الحكيم، المؤمن، الرؤوف الرحيم، الصاحب، الشفيع، المشفَّع، المتوكّل، محمّد، أحمد، الماحي، الحاشر، المقفّي، العاقب، نبي التوبة، نبي الرحمة، نبي الملحمة، عبد الله.

وذكر أبو الفرج بن الجوزي أن لنبينا صلى الله عليه وسلم ثلاثة وعشرين اسما، وذكر ما علمت عليه هكذا من الأسماء التي ذكرها ابن العربي، وزاد ابن الجوزي، قال: والشاهد، والضحوك، والقتّال، والفاتح، والقثم.

قال ابن الجوزي: هذه كلها أسماؤه، ومعلوم أن بعضها صفات، قلت: وفي "صحيح مسلم" من حديث أبي موسى، قال: سمي لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسَه بأسماء، منها: ما حفظنا، فقال: أنا محمد، وأنا أحمد، والمقفّى، ونبي التوبة، ونبي الرحمة، ونبي المقتلة، فهذه ستة، تقدم منها خمسة، والسادس مما لم يتقدم، نبي المقتلة، والله أعلم.

وذكر الحميدي حديث أبي موسى في "الجمع بين الصحيحين"، وذكر نبي المرحمة بدل نبي الرحمة. وروى الترمذي من حديث حذيفة نحو حديث أبي موسى، وقال: فيه: ونبي الملاحم.

قلت: وفي هذه الرِّواية لما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أسماءه قال: فإذا كان يوم القيامة لواء الحمد معي، ولواء الحمد هي الراية، التي يمسكها صاحب الجيش.

قال ابن مسعود وفي كتابه "الخصائص": سأل عبد الله بن سلام رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لواء الحمد ما صفته، فقال: طوله مسيرة ألف

ص: 79

سنة، وستمائة سنة، من ياقوتة حمراء، وقصبته أو قال: قبضته من فضة بيضاء، وزجّه من زمردة خضراء، له ثلاث ذوايب، ذوابة بالمشرق، وذوابة بالمغرب، وذوابة وسط الدنيا، عليه مكتوب ثلاثة أسطر، الأول: بسم الله الرحمن الرحيم، والثاني: الحمد لله رب العالمين، والثالث: لا إله إلا الله محمد رسول الله، طول كل سطر مسيرة ألف عام، قال: صدقت يا محمد.

قال ابن دحية: فإن قال قائل: كيف تدعون زيادة أسمائه صلى الله عليه وسلم إلى ثلاثمائة، وفي "الموطأ"، و"الصحيحين"، وغيرهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: لي خمسة أسماء.

الجواب أما قوله صلى الله عليه وسلم: لي خمسة أسماء: محمد، وأحمد، والماحي، والحاشر، والعاقب، لا يدلّ على الحصر، وخصت هذه الخمسة بالذكر في وقت لمعنى ما، إما لعلم السامع بما سواها، فكأنه قال: لي خمسة فاضلة معظمة، أو شهرتها كأنه قال لي خمسة أسماء مشهورة، أو لغير ذلك مما يحتمله اللفظ من المعاني.

وقال أبو العباس القرطبي: خصت هذه الأسماء بالذكر، لأنها هي الموجودة في الكتب المتقدمة، وأعرف عند الأمم السالفة، قال: ويحتمل أن يقال: إنه في الوقت الذي أخبر به لم يكن أوحي إليه في ذلك الوقت غيرها. انتهى.

‌أسمائه عليه السلام في الأشعار:

قال الصلاح الصفدي في (الوافي بالوفيات): أنشدني لنفسه قراءة منِّي عليه الشيخ الإمام الحافظ فتح الدين بن سيد الناس اليعمري، فيما وافق من أسماء الله الحسنى لأسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم، في قصيدة له في مدحه:

ص: 80

وَحلَّاهُ من حُسْنى أسَامِيه جُمْلةً

أتى ذكرُها فِي الذِّكْرِ ليس يبيدُ

وفي كُتب الله المقدَس ذِكرُها

وفي سُنَّةٍ تأتي بها وتُفِيدُ

رَؤوفٌ رحيمٌ فاتحٌ ومُقدّسٌ

أمينٌ قويٌ عَالِمٌ وشهيدُ

وَليٌّ شكورٌ صادقٌ في مَقالِه

عَفُوٌ كريمٌ بالنَّوَالِ يعودُ

ونُورٌ وجبارٌ وهَادي من اهتدَى

ومولى عزيزٌ ليس عنه مَحيدُ

بَشيرٌ نذيرٌ مؤمنٌ ومُهَيْمِنٌ

خَبيرٌ عَظيمٌ بالعَظيم يَجُودُ

وحقٌّ مُبينٌ آخرٌ أول سما

إلى ذِروة العلياء وهو وَليدُ

فآخِرُ أعْني آخِرَ الرُّسْل بَعْثُه

وأولُ مَن ينشقُ عَنهُ صَعِيدُ

أسامٍ يَلَذ السَّمعُ إن هي عُدِّدَتْ

نعُوتُ ثَنَاءٍ والثناءُ عَديدُ

وقال حسَّان بن ثابت، رضى الله تعالى عنه:

فشقّ له إسْمهِ ليُجِلَّهُ

فذُو الْعَرشِ محمودٌ وهذا مُحمَّدُ

انتهى كلام الصفدي.

‌الفصل الثاني في ولادة النبي وأحواله صلى الله عليه وسلم

ولد صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، في شهر ربيع الأول من عام الفيل، قيل: ثانيه، وقيل: ثالثه، وقيل: ثاني عشره، وقيل: غير ذلك.

يَوْمٌ أضاء به الزمانُ وفتَّحتْ

فيه الهدَايةُ زَهْرةَ الآمالِ

وقال عبد المطلب يوم ولادته:

الحمد لله الذي أعطاني

هذا الغلام الطيب الأردان

قد ساد في المهد على الغلمان

أعيذه بالله ذي الأركان

حتى أراه بالغ البنيان

أعيذه من شر ذي شنآن

من حاسد مضطرب العنان

ص: 81

ومات أبوه وله من العمر ثمانيةٌ وعشرون شهرًا، وقيل شهران، وقيل: سبع، وقيل: وهو حَمْل، كفله جَدُّه عبد المطلب، ثم توفي عبد المطلب وله صلى الله عليه وسلم من العمر إذ ذاك ثمان سنين وشهران وعشرة أيام، فكفله عمُّه أَبو طالب.

وماتت أمه آمنة، وهو ابن أربع سنين، وقيل: ست.

وأرضعتْه حَليمة السعدية، وثويبة الأسلمية، وحضنتْه أم أيمن.

ولما بلغ اثنتي عشرة سنة وشهرين وعشرة أيام، خرج مع عمِّه أَبي طالب إلى "الشام"، فلما بلغ "بُصرى" رآه بحيرى الراهب، فعرفه بصفته، فجاءهُ، وأخذ بيده، وقال: هذا رسول ربِّ العالمين، يبعثه الله رحمة للعالمين، إنكم حين أقبلتم من العقبة لم يبق حجرٌ ولا شجر إلا خَرَّ ساجدًا، ولا يسجد إلا لنبي، وإنا نجده في كُتبنا.

وقال لأبي طالب: لئن قدمت به إلى "الشام" لتقتله اليهود، فرده خوفًا عليه منهم.

ثم خرج مرة ثانية إلى "الشام"، مع ميسرة غلام خديجة بنت خويلد، في تجارة لها قبل أن يتزوّجها، فلما قدم "الشام"، نزل تحت ظل شجرة قريبًا من صومعة راهب، فقال الراهب: ما تىل تحت ظلّ هذه الشجرة إلا نبي.

وكان ميسرة يقول: إذا كان الهاجرة، واشتدّ الحر، نزل ملكان يُظلانه.

ولما رجع من سفره تزوَّج خديجة بنت خويلد، وعمره خمس وعشرون سنة وشهران وعشرة أيام، وقيل: غير ذلك.

ولما بَلغ خمسًا وثلاثين سنة شهد بنيان الكعبة، ووضع الحجر الأسود بيده.

ص: 82

ونشأ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في قومه ولَدْ طهَّره الله تعالى من دنس الجاهلية ومن كل عيب، ومنحه كل خُلُق جميل، حتى لم يكن يُعرف من بينهم إلا بالأمين؛ لما رأوه من أمانته، وصدق لسانه، وطهارته.

ولما بلغ أربعين سنة ويومًا بعثه الله بشيرًا ونذيرًا، وأتاه جبريل عليه السلام بـ "غار حراء"، فقال: اقرأ.

فقال: ما أنا بقارئ.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأخذني فغطَّني، حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ.

فقلت: ما أنا بقارئ.

فقال في الثالثة: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} إلى قوله تعالى: {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} .

وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: "أول ما بُدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، وكان لا يرى رُؤيا إلا جاءت مثل فلق الصُبح، وحُبِّب إليه الخَلاء، وكان يخلو بـ"غار حراء"، فيتحنَّث فيه - وهو التعبَّد - الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزوّد لذلك، ثم يرجع لخديجة، فيتزوَّد لمثلها، حتى جاءه الحقُّ". رواه البخاري ومسلم.

وكان مبدأ النبوة فيما ذُكر يوم الاثنين ثامن شهر ربيع الأول.

ثم حصره أهل "مكة" هو وأهل بيته في الشعب ثلاث سنين، ثم خرج من الشعب وله تسع وأربعون سنة.

وبعد ذلك بثمانية أشهر وأحد وعشرين يومًا، مات عمُّه أبو طالب.

وماتت خديجة، رضي الله تعالى عنها بعد أبي طالب بثلاثة أيام.

وكانت أول من آمن بما جاء به، ثم آمن أبو بكر، ثمَّ علي بن أبي طالب، وزيد بن حارثة، وبلال رضي الله تعالى عنهم، ثم بعد هؤلاء عمرو بن

ص: 83

عبسة السلمي، وخالد بن سعيد بن العاص، وسعد بن أبي وقَّاص، وعثمان بن عفَّان، والزبير بن العوَّام، وطلحة بن عُبيد الله ابن عثمان، ثم كان عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه تمام الأربعين إسلامًا، ذكر ذلك ابنُ حَزْم في "مختصر السيرة".

ولما بلغ خمسين سنة وثلاثة أشهر قدِم عليه جِنُّ نصيبين، فأسلموا.

‌إسرائه عليه الصلاة والسلام:

ولما بلغ إحدى وخمسين سنة وتسعة أشهر، أسري به إلى "بيت المقدس".

روى البخاري، ومسلم، والترمذي، والنسائي، عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه، "أن نبي الله صلى الله عليه وسلم حدثهم عن ليلة أُسري به، قال: "بينما أنا في الحطيم" - وربما قال: "في الحجر مضطجع" - ومنهم من قال: "بين النائم واليقظان"، "إذ أتاني آت"، قال: فَسمعته يقول: "فشق ما بين هذه إلى هذه".

فقيل للجارود: ما يَعني به؟ قال: من ثَغْرة نحره إلى شِعرته، وسمعته يقول: من قَصِّه إلى شِعرته. "فاستخرج قلبي، ثم أُتيت بطشت من ذهب مملوءة إيمانًا، فغسل قلبي ثم حُشي، ثم دُعي بدابة دون البغل وفوق الحمار" فقال له الجارود: هو البراق يا أبا حمزة؟ فقال أنس: نعم، يضع خطوة عند أقصى طرفه "فحملت عليه، فانطلق بي جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: أوقد أرسل إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحبًا به فنعم المجيء جاء" الحديث بطوله. ورأى الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، و {رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} ، {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} ، وفرضت الصلاة تلك الليلة، ولما أصبح قص علي قريش ما رأى. وروى البخاري، ومسلم، والترمذي عن جابر، "أنه سمع رسول الله صلى الله

ص: 84

عليه وسلم، يقول:"لما كذبني قريش قُمت إلى الحجر الأسود، فجلا الله لي بيت المقدس، فطفقت أُخبرهم عن آياته، وأنا أنظر إليه".

وقد اختلف الناس في كيفية الإسراء، فالأكثرون من طوائف المسلمين متفقون على أنه يجسده صلى الله عليه وسلم، والأقلّون قالوا: بروحه.

حكى الطبري في (تفسيره) عن حذيفة، أنه قال: كل ذلك رؤيا، وحكي هذا القول أيضًا عن عائشة، وعن معاوية رضي الله تعالى عنهما.

ومنهم من قال: يجسده إلى "بيت المقدس"، ومن هناك إلى السموات السبع بروحه.

قال الصلاح الصفدي، بعد أن نقل ما ذكرناه من الأقوال، قلت: والصحيح الأول؛ لأنه قد صح أن قريشًا كذبته، ولو قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رأيت رؤيا، لما كُذِّب، ولا أنكر ذلك على غيره، فضلًا عنه؛ لأن آحاد الناس يرون في منامهم أنهم ارتقوا إلى السموات، وما ذلك ببدع.

قال: أنشدني لنفسه الشيخ الإمام شهاب الدين أبو الثناء محمود بن سلمان بن فهد الحلبي الكاتب رحمه الله تعالى قراءة مني عليه، من جملة قصيدة طويلة، من جُملة مُجلدة فيها مدح النبي صلى الله عليه وسلم:

أُسْرى إلى الأقْصَى بجسمِكَ يَقْظةً

لا في المنام فَيقبلُ التَّأويلَا

إذ أنْكرتْه قريشُ قبل ولم تكنْ

لِترَى المهُولَ من المنامِ مَهُولا

ولما بلغ صلى الله عليه وسلم ثلاثًا وخمسين سنة هاجر إلى "المدينة"، ومعه أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، ومولى أبي بكر عامر بن فُهيرة، ودليلهم عبد الله بن الأريقط الليثي.

قال الحافظ عبد الغني، وغيره: وهو كافر، ولم نعرف له إسلامًا.

فأقام بـ "المدينة" عشر سنين، وكان يُصلي إلى "بيت المقدس" مُدة إقامته بـ "مكة"، ولا يستدبر الكعبة، يجعلها بين يديه، وصلى إلى "بيت المقدس" بعد قدومه "المدينة" سبعة عشر شهرًا، أو ستة عشر شهرًا.

ص: 85

‌وفاته صلى الله عليه وسلم:

ولما أكمل في "المدينة" عشر سنين سوا تُوفي، وقد بلغ ثلاثًا وستين سنة، وقيل: غير ذلك، وفيما تقدم من التواريخ خلاف، وكانت وفاته يوم الاثنين، حين اشتدّ الضُّحي، لثنتي عشرة ليلة خلتْ من ربيع الأول، ومرض أربعة عشر يومًا، ودفن ليلة الأربعاء.

ولما حضره الموت كان عنده قدح فيه ماء، فجعل يدخل يده فيه، ويمسح وجهه، ويقول:"اللهم أعني على سكرات الموت"، وَسجي ببرد حبرة، وقيل: إن الملائكة سجته.

وكذَّب بعض أصحابه بموته دَهشة، يُحكى ذلك عن عمر رضي الله تعالى عنه، وأُحرِسَ عُثمان رضي الله تعالى عنه، وأقعِدَ علي رضي الله تعالى عنه، ولم يكن فيهم أثبت من العبَّاس، وأبي بكر رضي الله تعالى عنهما.

ثم إن الناس سمعوا من باب الحجرة: لا تغسلوه، فإنه طاهر مُطهر، ثم سمعوا بعد ذلك: اغسلوه؛ فإن هذا إبليس، وأنا الخضر، وعزاهم، فقال: إن في الله عزاء من كل مصيبة، وخلفًا من كل هالك، ودَركًا من كل فائت، فبالله فثقوا، فإن المصاب من حُرم الثواب.

واختلفوا في غسله، هل يكون في ثيابه أو يجرّد عنها؟ فوضع الله عليهم النوم، فقال قائل، لا يدري من هو: اغسلوه في ثيابه، فانتبهوا، وفعلوا ذلك.

والذين ولوا غسله عليٌّ والعباس، ووالده الفضل، وقُثَم، وأسامة وشُقْران مَولياه، وحضرهم أوس بن خولَى من الأنصار، ونفضه عليّ، فلم يخرج منه شيء، فقال: صلى الله عليك وسلم، طِبت حيًا وميتًا.

وكفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية، ليس فيها قميص ولا عمامة، بل لفائف من غير خياطة.

وصلى المسلمون عليه أفذاذة، ولم يأمُّهم أحد.

ص: 86

وفرش تحته في القبر قطيفة حمراء، كان يتغطى بها، ونزل شقران، وحفر له، وألحد، وأطبق عليه تسعُ لِبنات.

واختلفوا: أيُلحد، أم يُضرح؟.

وكان بـ "المدينة" حَفَّارَان، أحدهما يلحد، وهو أبو طلحة، والآخر يضرح، وهو أبو عبيدة، فاتفقوا أن من جاء منهما أولًا عمل عليه، فجاء الذي يلحد، فلحد له. ونُحي فراشه، وحُفر له مكانه في بيت عائشة، رضي الله تعالى عنها.

وقال الحافظ عبد الغني: حول فراشه.

وكان ابتداء وجعه في بيت عائشة، واشتدَّ أمره في بيت ميمونة، فطلب من نسائه أن يُمرض في بيت عائشة رضي الله تعالى عنها، فأذن له في ذلك، وكان ما ابتدأ به من الوجع صُداع، وتمادى به، وكان ينفث في علته شيئًا يشبه أكل الزبيب، ومات بعد أن خيره الله تعالى بين البقاء في الدنيا ولقاء ربه، فاختار لقاء الله تعالى.

‌ما قال عمر بعد وفاته عليه السلام:

ويروى أن عمر رضي الله تعالى عنه سمع بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم يقول، وهو يبكي: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد كان لك جذع تخطب عليه، فلما كُثير الناس اتخذت منبرًا تسمعهم، فحنَّ الجذع لفراقك، حتى جعلت يدك عليه، فسكن، فأمتك أولى بالحنين عليك حين فارقتهم.

بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد بلغ من فضيلتك عند ربك، أن جعل طاعتك طاعته، فقال تعالى:{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} . بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد بلغ من فضيلتك عنده، أن أخبرك بالعفو عنك، قبل أن يخبرك بذنبك، فقال:{عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} .

ص: 87

بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد بلغ من فضيلتك عنده أن جعلك آخر الأنبياء، وذكرك في أولهم، فقال تعالى:{وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} .

بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد بلغ من فضيلتك عنده أن أهل النار يودون لو يكونوا أطاعوك، بين أطباقها يُعذبون، ويقولون:{يَالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا} .

بأبي أنت وأمي يا رسول الله، إن كان موسى بن عمران عليه السلام، أعطاه الله حَجرًا تتفجر منه الأنهار، فماذا بأعجبَ من أصابعك حين نبع منها الماء صلى الله عليك وسلم.

بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لئن كان سُليمان بن داود أعطاه الله الريح غدوّها شهر ورواحها شهر، فما ذلك بأعجب من البُراق حين سرتَ عليه إلى السماء السابعة، ثم صليت الصبح بالأبطح، صلى الله عليك وسلم.

بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لئن كان عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام، أعطاه الله تعالى إحياء الموتى، فما ذلك بأعجب من الشاة المسمومة حين كلمتْك، وهي مشوية، فقالت: لا تأكلني؛ فإني مسمومة.

بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد دعا نوح على قومه، فقال:{رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} ، ولو دَعوت علينا مثلها لهلكنا من عند آخرنا، فلقد وطئ ظهرك، وأدمي وجهك، وكسرت رباعيتك، فأبيت أن تقول إلا خيرًا، فقلت:"اللَّهُمَّ اغْفِر لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ".

بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد اتبعك في قلة سنّك، وقصر عمرك، ما لم يتبع نُوحًا في كبر سنّه، وطول عمره، فلقد آمن بك الكثير، وما آمن معه إلا القليل.

ص: 88

بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لو لم تجلس إلا كفوًا ما جالستنا، ولو لم تنكح إلا كفوًا ما أكلتنا، لَبست الصوف، وركبت الحمار، ووضعت طعامك بالأرض، ولعقت أصابعك تواضعًا منك صلى الله عليك وسلم.

انتهى كلام التميمي الداري في "الطبقات السنية".

‌ذكر أولاده صلى الله عليه وسلم:

وأولاده صلى الله عليه وسلم الذكور ثلاثة، هذا هو الصحيح، القاسم، وبه كان يكنى، وهو بكر أولاده، وعبد الله، وهو الطيّب، والطاهر، مات بـ "مكة"، وهما من خديجة رضي الله عنها، وإبراهيم بن مارية، مات بـ "المدينة"، وكلهم ماتوا صغارا قبل استكمال مدة الرضاع، والبنات أربع من خديجة أيضًا، زينب زوج أبي العاص بن الربيع بن عبد شمس، وهو ابن خالتها، ماتتْ تحته في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفاطمة زوج علي رضي الله عنهما، ماتتْ بعد أبيها بستة أشهر، وأم كلثوم، ورقية، تزوّجهما عثمان بن عفان رضي الله عنهم، وماتتا تحته في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، تزوَّج أولا رقية، فماتت، فتزوَّج بأم كلثوم، وأول من ولد له القاسم، ثم زينب، ثم رقية، ثم فاطمة، ثم أم كلثوم، ثم عبد الله، ثم إبراهيم، رضي الله عنهم.

‌الفصل الثالث: في ذكر مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسراياه

قال الإمام ابن سعد في "طبقاته الكبرى": وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا وعشرين غزوة بنفسه، وقيل: سبعا وعشرين، ولم يقاتل إلا في تسع:"بدر"، و"أحد"، و"الخندق"، وبني قريظة، والمصطلق، و"خيبر"، وفتح "مكة"، و"حنين"، و"الطائف".

ص: 89

قال الإمام محمد بن سعد بن منيع الزهري المتوفي سنة 230 هـ في "الطبقات الكبرى": قالوا: كان عدد مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم التي غزا بنفسه سبعا وعشرين غزوة، وكانت سراياه التي بعث بها سبعا وأربعين سرية، وكان ما قاتل فيه من المغازي تسع غزوات: بدر القتال، وأحد، والمريسع، والخندق، وقريظة، وخيبر، وفتح "مكة"، وحنين، والطائف. فهذا ما اجتمع لنا عليه.

وفي بعض روايتهم أنه قاتل في بني النضير، ولكن الله جعلها له نفلا خاصة، وقاتل في غزوة "وادي القرى" منصرفه من "خيبر"، وقتل بعض أصحابه، وقاتل في "الغابة".

قالوا: وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم "المدينة" حين هاجر من "مكة" يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأول، وهو المجتمع عليه، وقد روى بعضهم إنه قدم لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول، فكان أول لواء عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم لحمزة بن عبد المطلب بن هاشم في شهر رمضان على رأس سبعة أشهر من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم لواء أبيض، فكان الذي حمله أبو مرثد كنَّاز بن الحصين الغنوي حليف حمزة بن عبد المطلب، وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثين رجلًا من المهاجرين، قال بعضهم: كانوا شطرين من المهاجرين والأنصار، والمجتمع عليه أنهم كانوا جميعا من المهاجرين، ولم يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا من الأنصار مبعثا، حتى غزا بهم بدرا، وذلك أنهم شرطوا له أنهم يمنعونه في دارهم، وهذا الثبت عندنا، وخرج حمزة يعترض لعير قريش قد جاءت من "الشام" تريد "مكة"، وفيها أبو جهل بن هشام في ثلاثمائة رجل، فبلغوا سيف البحر يعني ساحله من ناحية "العيص"، فالتقوا حتى اصطفوا للقتال، فمشي مجدي بن عمرو الجهني، وكان حليفا للفريقين جميعا إلى هؤلاء مرة،

ص: 90

وإلى هؤلاء مرة، حتى حجز بينهم، ولم يقتلوا، فتوجّه أبو جهل في أصحابه، وعيره إلى "مكة"، وانصرف حمزة بن عبد المطلب في أصحابه إلى "المدينة".

‌1 - سرية عبيدة بن الحارث:

ثم سرية عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب بن عبد مناف إلى "بطن رابغ" في شوَّال على رأس ثمانية أشهر من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، عقد له لواء أبيض، كان الذي حمله مسطح بن أثاثة بن المطلب بن عبد مناف، بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في ستين رجلًا من المهاجرين، ليس فيهم أنصاري، فلقي أبا سفيان بن حرب، وهو في مائتين من أصحابه، وهو على ماء، يقال له:"أحياء" من"بطن رابغ" على عشرة أميال من "الجحفة".

‌2 - سرية سعد بن أبي وقَّاص:

ثم سرية سعد بن أبي وقَّاص إلى "الخرار" في ذي القعدة على رأس تسعة أشهر من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، عقد له لواء أبيض، حمله المقداد بن عمرو البهراني، وبعثه في عشرين رجلًا من المهاجرين، يعترض العير قريش تمر به.

‌3 - غزوة الأبواء:

ثم غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم الأبواء في صفر على رأس اثني عشر شهرا من مهاجره، وحمل لواءه حمزة بن عبد المطلب، وكان لواء أبيض، واستخلف على "المدينة" سعد بن عبادة، وخرج في المهاجرين ليس فيهم أنصاري، حتى بلغ "الأبواء"، يعترض لعير قريش، فلم يلق كيدا، وهي غزوة ودان، وكلاهما قد ورد، وبينهما ستة أميال، وهي أول غزوة غزاها بنفسه.

‌4 - غزوة بواط:

ثم غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم "بواط" في شهر ربيع الأول على رأس ثلاثة عشر شهرا من مهاجره، وحمل لواء سعد بن أبي وقَّاص،

ص: 91

وكان لواء أبيض، واستخلف على "المدينة" سعد بن معاذ، وخرج في مائتين من أصحابه، يعترض لعير قريش، فيها أمية بن خلف الجمحي، ومائة رجل من قريش، وألفان وخمسمائة بعير، فبلغ "بواط"، وهي جبال من جبال جهينة من ناحية "رضوى"، وهي قريب من "ذي خشب" مما يلي طريق "الشام"، وبين "بواط" و"المدينة" نحو أربعة برد، فلم يلق رسول الله صلى الله عليه وسلم كيدا، فرجع إلى "المدينة".

‌5 - غزوة طلب كرز بن جابر الفهري:

ثم غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم لطلب كرز بن جابر الفهري في شهر ربيع الأول على رأس ثلاثة عشر شهرا من مهاجره، وحمل لواءه علي بن أبي طالب، وكان لواء أبيض، واستخلف على "المدينة" زيد بن حارثة، وكان كرز بن جابر قد أغار على سرح "المدينة"، فاستاقه، وكان يرعى بـ "الجماء"، والسرح ما رعوا من نعمهم، و "الجماء" جبل ناحية "العقيق" إلى "الجرف"، بينه وبين "المدينة" ثلاثة أميال، فطلبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى بلغ واديا، يقال له:"سفوان" من ناحية "بدر"، وفاته كرز بن جابر، فلم يلحقه، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى "المدينة".

‌6 - غزوة ذي العشيرة:

ثم غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم "ذا العشيرة" في جمادى الآخرة على رأس ستة عشر شهرا من مهاجره، وحمل لواءه حمزة بن عبد المطلب، وكان لواء أبيض، واستخلف على "المدينة" أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي، وخرج في خمسين ومائة، ويقال: في مائتين من المهاجرين ممن انتدب، ولم يكره أحدا على الخروج، وخرجوا على ثلاثين بعيرا، يتعقبونها، خرج يعترض لعير قريش حين أبدأت إلى "الشام"، وكان قد جاءه الخبر بفصولها من"مكة"، فيها أموال قريش، فبلغ "ذا العشيرة"، وهي لبني مدلج بناحية "ينبع"، وبين "ينبع" و"المدينة" تسعة برد، فوجد العير التي خرج لها قد

ص: 92

مضت قبل ذلك بأيام، وهي العير التي خرج لها أيضًا يريدها حين رجعت من "الشام"، فساحلت على البحر، وبلغ قريشا خبرها، فخرجوا يمنعوها، فلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بـ "بدر"، فواقعهم، وقتل منهم من قتل، وبـ "ذي العشيرة" كنى رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب أبا تراب.

‌7 - سرية عبد الله بن جحش الأسدي:

ثم سرية عبد الله بن جحش الأسدي إلى "نخلة" في رجب على رأس سبعة عشر شهرا من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعثه في اثني عشر رجلًا من المهاجرين، كل اثنين يتعقبان بعيرا إلى بطن "نخلة"، وهو بستان بن عامر الذي قرب "مكة"، وأمره أن يرصد بها عير قريش، فوردت عليه، فهابهم أهل العير، وأنكروا أمرهم، فحلق عكَّاشة بن محصن الأسدي رأسه، حلقه عامر بن ربيعة ليطمئن القوم.

‌8 - غزوة بدر:

ثم غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم بدر القتال، ويقال: بدر الكبرى، قالوا: لما تحين رسول الله صلى الله عليه وسلم انصراف العير من "الشام" التي كان خرج لها يريدها حتى بلغ "ذا العشيرة" بعث طلحة بن عبيد الله التيمي، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل يتحسّسان خبر العير، فبلغا "التجبار" من أرض "الحوراء"، فنزلا علي كشد الجهني، فأجارهما، وأنزلهما، وكتم عليهما، حتى مرت العير، ثم خرجا، وخرج معهما كشد خفيرا، حتى أوردهما ذا المروة، وساحلت العير، وأسرعت، فساروا بالليل والنهار فرقا من الطلب، فقدم طلحة وسعيد" المدينة"، ليخبرا رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر العير، فوجداه قد خرج، وكان قد ندب المسلمين للخروج معه، وقال: هذه عير قريش، فيها أموالهم، لعل الله أن يغنمكموها، فأسرع من أسرع إلى ذلك، وأبطأ عنه بشر كثير، وكان من تخلف لم يلم، لأنهم لم يخرجوا على قتال إنما خرجوا للعير، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من "المدينة" يوم

ص: 93

السبت لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر رمضان على رأس تسعة عشر شهرا من مهاجره، وذلك بعدما وجه طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد بعشر ليال، وخرج من خرج معه من المهاجرين، وخرجت معه الأنصار في هذه الغزاة، ولم يكن غزا بأحد منهم قبل ذلك، وضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم عسكره بـ "بئر أبي عنبة" وهي على ميل من "المدينة"، فعرض أصحابه، ورد من استصغر، وخرج في ثلاثمائة رجل وخمسة نفر، كان المهاجرون منهم أربعة وسبعين رجلًا، وسائرهم من الأنصار.

‌9 - سرية عمير بن عدي:

ثم سرية عمير بن عدي بن خرشة الخطمي إلى عصماء بنت مروان من بني أمية بن زيد لخمس ليال بقين من شهر رمضان على رأس تسعة عشر شهرا من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت عصماء عند يزيد بن زيد بن حصن الخطمي، وكانت تعيب الإسلام، وتؤذي النبي، وتحرض عليه، وتقول الشعر، فجاءها عمير بن عدي في جوف الليل حتى دخل عليها بيتها، وحولها نفر من ولدها، منهم من ترضعه في صدرها، فجسَّها بيده، وكان ضرير البصر، ونحى الصبي عنها، ووضع سيفه على صدرها، حتى أنفذه من ظهرها، ثم صلى الصبح مع النبي صلى الله عليه وسلم بـ "المدينة".

‌10 - سرية سالم بن عمير:

ثم سرية سالم بن عمير العمري إلى أبي عفك اليهودي في شوَّال على رأس عشرين شهرا من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أبو عفك من بني عمرو بن عوف شيخا كبيرًا، قد بلغ عشرين ومائة سنة، وكان يهوديا، وكان يحرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول: الشعر، فقال سالم بن عمير: وهو أحد البكائين، وقد شهد بدرا علي نذر أن أقتل أبا عفك أو أموت دونه، فأمهل يطلب له غرة، حتى كانت ليلة صائفة، فنام أبو عفك بالفناء، وعلم به سالم بن عمير، فأقبل، فوضع السيف على كبده، ثم

ص: 94

اعتمد عليه، حتى خش في الفراش، وصاح عدو الله، فثاب إليه ناس ممن هم على قوله، فأدخلوه منزله، وقبروه.

‌11 - غزوة بني قينقاع:

ثم غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم بني قينقاع يوم السبت للنصف من شوَّال على رأس عشرين شهرا من مهاجره، وكانوا قوما من يهود حلفاء العبد الله بن أبي بن سلول، وكانوا أشجع يهود، وكانوا صاغة، فوادعوا النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كانت وقعة بدر أظهروا البغي والحسد، ونبذوا العهد والمرة، فأنزل الله تبارك وتعالى على نبيه:{وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا أخاف بني قينقاع، فسار إليهم بهذه الآية، وكان الذي حمل لواءه يومئذ حمزة بن عبد المطلب، وكان لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم أبيض، ولم يكن الرايات يومئذ، واستخلف على "المدينة" لبابة بن عبد المنذر العمري، ثم سار إليهم، فحاصرَهم خمس عشرة ليلة إلى هلال ذي القعدة، فكانوا أول من غدر من اليهود، وحاربوا، وتحصنوا في حصنهم، فحاصرهم أشدَّ الحصار، حتى قذف الله في قلوبهم الرعب، فنزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لرسول الله صلى الله عليه وسلم أموالهم، وأن لهم النساء والذرية، فأمر بهم، فكتفوا، واستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم على كتافهم المنذر بن قدامة السلمي من بني السلم رهط سعد بن خيثمة.

‌12 - غزوة السويق:

ثم غزوة النبي صلى الله عليه وسلم التي تدعى غزوة السويق، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحد لخمس خلون من ذي الحجة على رأس اثنين وعشرين شهرا من مهاجره، واستخلف على "المدينة" أبا لبابة بن

ص: 95

عبد المنذر العمري، وذلك أن أبا سفيان بن حرب لما رجع المشركون من بدر إلى "مكة" حرم الدهن، حتى يثئر من محمد وأصحابه، فخرج في مائتي راكب في حديث الزهري، وفي حديث ابن كعب في أربعين راكبا، فسلكوا النجدية فجاؤوا بني النضير ليلا، فطرقوا حيي بن أخطب ليستخبروه من أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فأبى أن يفتح لهم، وطرقوا سلام بن مشكم، ففتح لهم، وقراهم، وسقاهم خمرا، وأخبرهم من أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما كان بالسحر خرج أبو سفيان بن حرب، فمرَّ بالعريض، وبينه وبين "المدينة" نحو من ثلاثة أميال، فقتل به رجلًا من الأنصار، وأجيرا له، وحرق أبياتا هناك وتبنا، ورأى أن يمينه قد حلت، ثم ولى هاربا، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فندب أصحابه، وخرج في مائتي رجل من المهاجرين والأنصار في أثرهم، يطلبهم، وجعل أبو سفيان وأصحابه يتخففون، فيلقون جرب السويق، وهي عامة أزوادهم، فجعل المسلمون يأخذونها، فسميت غزوة السويق، ولم يلحقوهم، وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى "المدينة"، وكان غاب خمسة أيام.

‌13 - غزوة قرقرة الكدر:

ويقال: قرارة الكدر، ثم غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم قرقرة الكدر، ويقال: قرارة الكدر للنصف من المحرم على رأس ثلاثة وعشرين شهرا من مهاجره، وهي بناحية معدن بني سليم قريب من "الأرضية" وراء "سد معونة"، وبين "المعدن" وبين "المدينة" ثمانية برد، وكان الذي حمل لواءه صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب، واستخلف على "المدينة" عبد الله بن أم مكتوم.

‌14 - سرية قتل كعب بن الأشرف:

ثم سرية قتل كعب بن الأشرف اليهودي، وذلك لأربع عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأول على رأس خمسة وعشرين شهرا من مهاجر رسول

ص: 96

الله صلى الله عليه وسلم، وكان سبب قتله أنه كان رجلًا شاعرا يهجو النبيَّ صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، ويحرض عليهم، ويؤذيهم، فلما كانت وقعة بدر كبت وذل، وقال: بطن الأرض خير من ظهرها اليوم، فخرج حتى قدم "مكة"، فبكى قتلي قريش، وحرضهم بالشعر، ثم قدم"المدينة"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم اكفني ابن الأشرف بما شئت في إعلانه الشر، وقوله: الأشعار، وقال أيضًا: من لي بابن الأشرف، فقد آذاني، فقال محمد بن مسلمة: أنا به يا رسول الله، وأنا أقتله، فقال: أفعل

ثم حزوا رأسه، وحملوه معهم، فلما بلغوا "بقيع الغرقد" كبروا، وقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الليلة يصلي، فلما سمع تكبيرهم كبر.

‌15 - غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم غطفان:

ثم غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم غطفان إلى "نجد"، وهي "ذو أمر" ناحية "النخيل" في شهر ربيع الأول على رأس خمسة وعشرين شهرا من مهاجره، وذلك أنه بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن جمعا من بني ثعلبة ومحارب بـ "ذي أمر" قد تجمعوا، يريدون أن يصيبوا من أطراف رسول الله صلى الله عليه وسلم جمعهم رجل منهم يقال له: دعثور بن الحارث من بني محارب، فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين، وخرج لاثنتي عشرة ليلة، مضت من شهر ربيع الأول في أربعمائة وخمسين رجلًا، ومعهم أفراس، واستخلف على "المدينة" عثمان بن عفان، فأصابوا رجلًا منهم بـ "ذي القصة"، يقال له: جبار من بني ثعلبة، فأدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره من خيرهم، وقال: لن يلاقوك، لو سمعوا بمسيرك، هربوا في رؤوس الجبال، وأنا سائر معك، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام فأسلم، وضمَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بلال، ولم يلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا إلا أنه ينظر إليهم في رؤوس الجبال.

ص: 97

‌16 - غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم بني سليم:

ثم غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم بني سليم بـ "بحران" لست خلون من جمادى الأولى على رأس سبعة وعشرين شهرا من مهاجره، و"بحران" بناحية "الفرع"، وبين "الفرع" و"المدينة" ثمانية برد، وذلك أنه بلغه أن بها جمعا من بني سليم كثيرًا، فخرج في ثلاثمائة رجل من أصحابه، واستخلف على "المدينة" بن أم المكتوم، وأغذ السير حتى ورد "بحران"، فوجدهم قد تفرَّقوا في مياههم، فرجع، ولم يلق كيدا، وكانت غيبته عشر ليال.

‌17 - سرية زيد بن حارثة:

ثم سرية زيد بن حارثة إلى "القردة"، وكانت لهلال جمادى الآخرة على رأس ثمانية وعشرين شهرا من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي أول سرية خرج فيها زيد أميرا، و"القردة" من أرض "نجد"، بين "الربذة" و"الغمرة" ناحية "ذات عرق"، بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم يعترض لعير قريش، فيها صفوان بن أمية، وحويطب بن عبد العزى، وعبد الله بن أبي ربيعة، ومعه مال كثير نقر وآنية فضة، وزن ثلاثين ألف درهم.

‌18 - غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد:

ثم غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم "أحدا" يوم السبت لسبع ليال خلون من شوَّال على رأس اثنين وثلاثين شهرا من مهاجره، قالوا: لما رجع من حضر "بدرا" من المشركين إلى "مكة" وجدوا العير التي قدم بها أبو سفيان بن حرب موقوفة في دار الندوة، فمشت أشراف قريش إلى أبي سفيان، فقالوا: نحن طيبو أنفس إن تجهزوا بربح هذه العير جيشا إلى محمد، فقال أبو سفيان: وأنا أول من أجاب إلى ذلك، وبنو عبد مناف معي، فباعوها، فصارت ذهبا، فكانت ألف بعير، والمال خمسين ألف دينار، فسلم إلى أهل العير رؤوس أموالهم، وأخرجوا أرباحهم، وكانوا يرحون في تجارتهم للدينار دينارا، وفيهم

ص: 98

نزلت: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} ، وبعثوا رسلهم يسيرون في العرب، يدعوهم إلى نصرهم، فأوعبوا، وتألب من كان معهم من العرب، وحضروا، فأجمعوا على إخراج الظعن، يعني النساء معهم ليذكرنهم قتلى بدر، فيحفظنهم، فيكون أحد لهم في القتال، وكتب العبَّاس بن عبد المطلب بخيرهم كلّه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن الربيع بكتاب العبَّاس، وأرجف المنافقون واليهود بـ "المدينة"، وخرجتْ قريش من "مكة"، ومعهم أبو عامر الفاسق، وكان يسمَّى قبل ذلك الراهب في خمسين رجلًا من قومه، وكان عددهم ثلاثة آلاف رجل، فيهم سبعمائة دارع، ومعهم مائتا فرس وثلاثة آلاف بعير، والظعن خمس عشرة امرأة، وشاع خبرهم ومسيرهم في الناس، حتى نزلوا "ذا الحليفة"، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عينين له: أنسا، ومؤنسا، ابني فضالة الظفريين، ليلة الخميس الخمس ليال مضين من شوَّال، فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخبرهم، وأنهم قد خلوا إبلهم، وخيلهم في الزرع الذي بالعريض، حتى تركوه ليس به خضراء، ثم بعث الحباب بن المنذر بن الجموح إليهم أيضًا، فدخل فيهم، فحزرهم، وجاءه بعلمهم، وبات سعد بن معاذ، وأسيد بن حضير، وسعد بن عبادة في عدة ليلة الجمعة، عليهم السلاح في المسجد بباب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحرست "المدينة"، حتى أصبحوا، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الليلة كأنه في درع حصينة، وكأن سيفه ذا الفقار قد انفصم من عند ظبته، وكان بقرا تذبح، وكأنه مردف كبشا، فأخبر بها أصحابه، وأؤها، فقال: أما الدرع الحصينة فـ "المدينة"، وأما انفصام سيفي، فمصيبة في نفسي، وأما البقر المذبح، فقتل في أصحابي، وأما مردف كبشا، فكبش الكتيبة، يقتله الله إن شاء الله، فكان رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يخرج من "المدينة" لهذه الرؤيا، فأحبَّ أن يوافق على مثل رأيه، فاستشار أصحابه في الخروج، فأشار عليه عبد الله بن أبي بن

ص: 99

سلول أن لا يخرج، وكان ذلك رأي الأكابر من المهاجرين والأنصار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: امكثوا في "المدينة"، واجعلوا النساء والذراري في الآطام، فقال فتيان أحداث لم يشهدوا بدرا، فطلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم الخروج إلى عدوهم، ورغبوا في الشهادة، وقالوا: اخرج بنا إلى عدونا، فغلب على الأمر الذي يريدون الخروج، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمعة بالناس، ثم وعظهم، وأمرهم بالجد والجهاد، وأخبرهم أن لهم النصر ما صبروا، وأمرهم بالتهيؤ لعدوّهم، ففرح الناس بالشخوص، ثم صلى بالناس العصر، وقد حشدوا، وحضر أهل العوالي.

ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته، ومعه أبو بكر وعمر، فعمماه، ولبساه، وصفّ الناس له، ينتظرون خروجه، فقال لهم سعد بن معاذ وأسيد بن حضير: استكرهتم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخروج، والأمر ينزل عليه من السماء، فردوا الأمر إليه، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قد لبس لأمته، وأظهر الدرع، وحزم وسطها بمنطقة من أدم من حمائل السيف، واعتم، وتقلد السيف، وألقى الترسَ في ظهره، فندموا جميعا على ما صنعوا، وقالوا: ما كان لنا أن نخالفك، فاصنع ما بدا لك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا ينبغي لني إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين أعدائه، فانظروا ما أمرتكم به، فافعلوه، وامضوا على اسم الله، فلكم النصر ما صبرتم، ثم دعا بثلاثة أرماح، فعقد ثلاثة ألوية، فدفع لواءَ الأوس إلى أسيد بن حضير، ودفع لواءَ الخزرج إلى الحباب بن المنذر، ويقال: إلى سعد بن عبادة، ودفع لواءه لواء المهاجرين إلى علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، ويقال: إلى مصعب بن عمير، واستخلف على "المدينة" عبد الله بن أم مكتوم.

ص: 100

‌19 - غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم حمراء الأسد:

ثم غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم حمراء الأسد يوم الأحد لثماني ليال خلون من شوَّال على رأس اثنين وثلاثين شهرا من مهاجره، قالوا: لما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من "أحد" مساء يوم السبت بات تلك الليلة على بابه ناس من وجوه الأنصار، وبات المسلمون يداوون جراحاتهم، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح يوم الأحد أمر بلالا أن ينادي أن رسول الله يأمركم بطلب عدوكم، ولا يخرج معنا إلا من شهد القتال بالأمس، فقال جابر بن عبد الله: إن أبي خلفني يوم أحد على أخوات لي، فلم أشهد الحرب، فأذن لي أن أسير معك، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يخرج معه أحد لم يشهد القتال غيره، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلوائه، وهو معقود، لم يحل، فدفعه إلى علي بن أبي طالب، ويقال: إلى أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهما، وخرج وهو مجروح في وجهه، ومشجوج في جبهته، ورباعيته قد شظيت، وشفته السفلى قد كلمت في باطنها، وهو متوهن منكبه الأيمن من ضربة بن قميئة، وركبتاه مجحوشتان، وحشد أهل العوالي، ونزلوا حيث أتاهم الصريخ، وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسه، وخرج الناس معه، فبعث ثلاثة نفر من أسلم طليعة في آثار القوم، فلحق اثنان منهم القوم بـ "حمراء الأسد"، وهي من "المدينة" على عشرة أميال طريق "العقيق" متياسرة عن "ذي الحليفة" إذا أخذها في "الوادي"، وللقوم زجل، وهم يأتمرون بالرجوع، وصفوان بن أمية ينهاهم عن ذلك، فبصروا بالرجلين، فعطفوا عليهما، فعلوهما، ومضوا، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه، حتى عسكروا بـ "حمراء الأسد"، فدفن الرجلين في قبر واحد، وهما القرينان، وكان المسلمون يوقدون تلك الليالي خمسمائة نار، حتى ترى من المكان البعيد، وذهب صوت معسكرهم ونيرانهم في كل وجه، فكبت الله تبارك وتعالى بذلك عدوهم، فانصرف رسول الله

ص: 101

صلى الله عليه وسلم إلى "المدينة"، فدخلها يوم الجمعة، وقد غاب خمس ليال، وكان استخلف على "المدينة" عبد الله بن أم مكتوم.

‌20 - سرية أبي سلمة بن عبد الأسد المخزومي:

ثم سرية أبي سلمة بن عبد الأسد المخزومي إلى "قطن"، وهو جبل بناحية "فيد"، به ماء لبني أسد بن خزيمة في هلال المحرَّم على رأس خمسة وثلاثين شهرا من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن طليحة وسلمة ابني خويلد، قد سارا في قومهما، ومن أطاعَهما يدعوانهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدَعَا رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سلمة، وعقد له لواء، وبعث معه مائة وخمسين رجلًا من المهاجرين والأنصار.

‌21 - سرية عبد الله بن أنيس:

ثم سرية عبد الله بن أنيس إلى سفيان بن خالد بن نبيح الهذلي بـ "عرنة" خرج من "المدينة" يوم الاثنين لخمس خلون من المحرَّم على رأس خمسة وثلاثين شهرًا من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن سفيان بن خالد الهذلي ثم اللحياني، وكان ينزل "عرنة" وما والاها في ناس من قومه وغيرهم، قد جمع الجموع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أنيس ليقتله.

‌22 - سرية المنذر بن عمرو:

ثم سرية المنذر بن عمرو الساعدي إلى "بئر معونة" في صفر على رأس ستة وثلاثين شهرا من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: وقدم عامر بن مالك بن جعفر أبو براء ملاعب الأسنة الكلابني على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأهدى له، فلم يقبل منه، وعرض عليه

ص: 102

الإسلام، فلم يسلم، ولم يبعد، وقال: لو بعثت معي نفرا من أصحابك إلى قومي لرجوت أن يجيبوا دعوتك، ويتبعوا أمرك، فقال: إني أخاف عليهم أهل "نجد"، فقال: أنا لهم جار، إن يعرض لهم أحد، فبعث معه رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين رجلا من الأنصار شببة، يسمون القرَّاء، وأمر عليهم المنذر بن عمرو الساعدي، فلما نزلوا بـ "بئر معونة" وهو ماء من مياه بني سليم، وهو بين أرض بني عامر وأرض بني سليم، كلا البلدين يعدّ منه، وهو بناحية "المعدن"، نزلوا عليها، وعسكروا بها، وسرحوا ظهورهم، وقدموا حرام بن ملحان بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عامر بن الطفيل، فوثب على حرام، فقتله، واستصرخ عليهم بني عامر، فأبوا، وقالوا: لا يخفر جوار أبي براء، فاستصرخ عليهم قبائل من سليم، عصية، ورعلا، وذكوان، فنفروا معه، ورأسوه، واستبطأ المسلمون حراما، فأقبلوا في أثره، فلقيهم القوم، فأحاطوا بهم، فكاثروهم، فتقاتلوا، فقتل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيهم سليم بن ملحان، والحكم بن كيسان في سبعين رجلا، فلما أحيط بهم، قالوا: اللَّهم إنا لا نجد مَنْ يبلغ رسولَك منَّا السّلامَ غيرَك، فأقرئه منا السّلام، فأخبره جبرائيل صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال: وعليهم السلام، وبقي المنذر بن عمرو، فقالوا: إن شئت آمناك، فأبى، وأتى مصرع حرام، فقاتلهم، حتى قتل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أعنق ليموت، يعني أنه تقدم على الموت، وهو يعرفه، وكان معهم عمرو بن أمية الضمري، فقتلوا جميعا غيره، فقال عامر بن الطفيل: قد كان على أمّي نسمة، فأنتَ حرّ عنها، وجزّ ناصيته.

‌23 - سرية مرثد بن أبي مرثد:

ثم سرية مرثد بن أبي مرثد الغَنَوي إلى "الرجيع" في صفر على رأس ستة وثلاثين شهرا من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ص: 103

‌24 - غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير:

ثم غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير في شهر ربيع الأول سنة أربع على رأس سبعة وثلاثين شهرا من مهاجره، وكانت منازل بني النضير بناحية "الغرس" وما والاها مقبرة بني خطمة اليوم، فكانوا حلفاء لبني عامر، قالوا: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم السبت، فصلى في مسجد قباء، ومعه نفر من أصحابه من المهاجرين والأنصار، ثم أتى بنى النضير، فكلمهم أن يعينوه في دية الكلابين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري، فقالوا: نفعل يا أبا القاسم ما أحببت، وخلا بعضهم ببعض، وهموا بالغدر به، وقال عمرو بن جحاش بن كعب بن بسيل النضري أنا أظهر على البيت، فأطرح عليه صخرة، فقال سلام بن مشكم: لا تفعلوا، والله ليخبرن بما هممتم به، وإنه لنقض العهد الذي بيننا وبينه، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر بما همُّوا، فنهض سريعا، كأنه يريد حاجة، فتوجَّه إلى "المدينة"، ولحقه أصحابه، فقالوا: أقمت، ولم نشعر، قال: همت يهود بالغدر، فأخبرني الله بذلك، فقمت، وبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة أن اخرجوا من بلدي، فلا تساكنوني بها، وقد هممتم بما هممتم به من الغدر، وقد أجلتكم عشرا، فمن رئي بعد ذلك ضربت عنقه، فمكثوا على ذلك أياما يتجهزون، وأرسلوا إلى ظهر لهم بذى الجدر، وتكاروا من ناس من أشجع إبلا، فأرسل إليهم بن أبي لا تخرجوا من دياركم، وأقيموا في حصنكم، فإن معي ألفين من قومي، وغيرهم من العرب يدخلون معكم حصنكم، فيموتون عن آخرهم، وتمدكم قريظة وحلفاؤكم من غطفان، فطمع حيي فيما قال ابن أبي، فأرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا لا نخرج من ديارنا، فاصنعْ ما بدا لك، فأظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم التكبير، وكبر المسلمون لتكبيره، وقال حاربتْ يهود، فصار إليهم النبي صلى الله عليه وسلم في أصحابه، فصلى العصر بفضاء بني النضير، وعلى رضى الله تعالى عنه يحمل

ص: 104

رايته، واستخلف على "المدينة" ابن أم مكتوم، فلما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قاموا على حصونهم، معهم النبل والحجارة، واعتزلتهم قريظة، فلم تعنهم، وخذلهم ابن أبي وحلفاؤهم من غطفان، فأيسوا من نصرهم، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقطع نخلهم، فقالوا: نحن نخرج عن بلادك، فقال: لا أقبله اليوم، ولكن اخرجوا منها، ولكم دماؤكم، وما حملت الإبل إلا الحلقة، فنزلت يهود على ذلك، وكان حاصرهم خمسة عشر يوما، فكانوا يخربون بيوتهم بأيديهم، ثم أجلاهم عن "المدينة"، وولي إخراجهم محمد بن مسلمة، وحملوا النساء والصبيان، وتحملوا على ستمائة بعير.

‌25 - غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم بدر الموعد:

ثم غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم بدر الموعد، وهي غير بدر القتال، وكانت لهلال ذي القعدة على رأس خمسة وأربعين شهرا من مهاجره، قالوا: لما أراد أبو سفيان بن حرب أن ينصرف يوم أحد نادى بيننا وبينكم بدر الصفراء رأس الحول، نلتقي بها، فنقتتل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطَّاب: قلْ: نعم إن شاء الله، فافترق الناس على ذلك، ثم رجعتْ قريش، فخبروا من قبلهم بالموعد، وتهيؤوا للخروج، فلما دنا الموعد كره أبو سفيان الخروج، وقدم نعيم بن مسعود الأشجعي "مكة"، فقال له أبو سفيان: إني قد واعدت محمدا وأصحابه أن نلتقي بـ "بدر"، وقد جاء ذلك الوقت، وهذا عام جدب، وإنما يصلحنا عام خصب غيداق، وأكره أن يخرج محمد، ولا أخرج، فيجتريء علينا، فنجعل لك عشرين فريضة يضمنها لك سهيل بن عمرو على أن تقدم "المدينة"، فتخذل أصحاب محمد، قال: نعم، ففعلوا، وحملوه على بعير، فأسرع السير، فقدم "المدينة"، فأخبرهم بجمع أبي سفيان لهم، وما معه من العدة والسلاح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسى بيده لأخرجنَّ، وإن لم يخرج معى أحد، فنصر الله المسلمين، وأذهب عنهم الرعب، واستخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم

ص: 105

على "المدينة" عبد الله بن رواحة، وحمل لواءه علي بن أبي طالب، وسار في المسلمين، وهم ألف وخمسمائة، وكانت الخيل عشرة أفراس، وخرجوا ببضائع لهم، وتجارات، وكانت بدر الصفراء مجتمعا، يجتمع فيه العرب وسوقا، تقوم لهلال ذي القعدة إلى ثمان تخلو منه، ثم يتفرق الناس إلى بلادهم، فانتهوا إلى بدر ليلة هلال ذي القعدة، وقامت السوق صبيحة الهلال، فأقاموا بها ثمانية أيام، وباعوا ما خرجوا به من التجارات، فربحوا للدرهم درهما، وانصرفوا.

‌26 - غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات الرقاع:

ثم غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات الرقاع في المحرَّم على رأس سبعة وأربعين شهرا من مهاجره، قالوا: قدم قادم "المدينة" بـ "جلب" له، فأخبر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أنمارا وثعلبة قد جمعوا لهم الجموع، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستخلف على "المدينة" عثمان بن عفان، وخرج ليلة السبت لعشر خلون من المحرَّم في أربعمائة من أصحابه، ويقال: سبعمائة، فمضى حتى أتى محالهم بـ "ذات الرقاع"، وهو جبل فيه بقع حمرة وسواد وبياض قريب من النخيل بين "السعد" و"الشقرة"، فلم يجد في محالهم أحدا إلا نسوة، فأخذهنَّ، وفيهنَّ جارية وضيئة، وهربت الأعراب إلى رؤوس الجبال، وحضرت الصلاة، فخاف المسلمون أن يغيروا عليهم، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف، فكان ذلك أول ما صلاها، وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعا إلى "المدينة".

‌27 - غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم دومة الجندل:

ثم غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم "دومة الجندل" في شهر ربيع الأول على رأس تسعة وأربعين شهرا من مهاجره، قالوا: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن بـ "دومة الجندل" جمعا كثيرا، وأنهم يظلمون من مرَّ بهم من الضافطة، وأنهم يريدون أن يدنوا من "المدينة"، وهي طرف من أفواه "الشام"، بينها وبين "دمشق" خمس ليال، وبينها وبين "المدينة" خمس عشرة أو ست

ص: 106

عشرة ليلة، فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس، واستخلف على "المدينة" سباع بن عرفطة الغفاري، وخرج لخمس ليال بقين من شهر ربيع الأول في ألف من المسلمين، فكان يسير الليل، ويكمن النهار، ومعه دليل له من بني عذرة، يقال له: مذكور، فلما دنا منهم إذا هم مغربون، وإذا آثار النعم والشاء، فهجم على ماشيتهم ورعاتهم، فأصاب من أصَابَ، وهرب من هرب في كل وجه، وجاءَ الخبر أهل "دومة"، فتفرَّقوا، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بساحتهم، فلم يجدْ بها أحدا، فأقام بها أياما، وبثَّ السرايا، وفرَّقها.

‌28 - غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم المريسيع:

ثم غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم "المريسيع" في شعبان سنة خمس من مهاجره، قالوا: إن "بني المصطلق" من خزاعة، وهم من حلفاء بني مدلج، وكانوا ينزلون على بئر لهم، يقال لها:"المريسيع"، بينها وبين "الفرع" نحو من يوم، وبين "الفرع" و"المدينة" ثمانية برد، وكان رأسهم وسيدهم الحارث بن أبي ضرار، فسار في قومه، ومن قدر عليه من العرب، فدعاهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجابوه، وتهيؤوا للمسير معه إليه، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث بريدة بن الحصيب الأسلمى يعلم علم ذلك، فأتاهم، ولقى الحارث بن أبي ضرار، وكلمه، ورجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره خبرهم، فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إليهم، فأسرعوا الخروج، وقادوا الخيول، وهي ثلاثون فرسا في المهاجرين منها عشرة، وفي الأنصار عشرون، وخرج معه بشر كثير من المنافقين، ولم يخرجوا في غزاة قط مثلها، واستخلفَ على "المدينة" زيد بن حارثة، وكان معه فرسان لزاز والظرب، وخرج يوم الاثنين لليلتين خلتا من شعبان، وبلغ الحارث بن أبي ضرار ومن معه مسير رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه قد قتل عينه الذي كان وجهه ليأتيه بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسيء بذلك الحارث ومن معه، وخافوا خوفا شديدا، وتفرَّق من كان معهم من العرب، وانتهى

ص: 107

رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى "المريسيع"، وهو الماء، فاضطرب عليه قبته، ومعه عائشة وأم سلمة، فتهيؤوا للقتال، وصفَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابَه، ودفع رايةَ المهاجرين إلى أبي بكر الصديق، ورايةَ الأنصار إلى سعد بن عبادة، فرموا بالنبل ساعة، ثم أمرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابَه، فحملوا حملةَ رجل واحد، فما أفلت منهم إنسان، وقتل عشرة منهم، وأسر سائرهم، وسبى رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجالَ والنساءَ والذريةَ والنعمَ والشاءَ، ولم يقتل من المسلمين إلا رجل واحد.

‌29 - غزوة الحندق وهي غزاة الأحزاب:

ثم غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق، وهي غزوة الأحزاب في ذي القعدة سنة خمس من مهاجره، قالوا: لما أجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النظير ساروا إلى "خيبر"، فخرج نفر من أشرافهم، ووجوههم إلى "مكة"، فألبوا قريشا، ودعوهم إلى الخروج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعاهدوهم، وجامعوهم على قتاله، ووعدوهم لذلك موعدا، ثم خرجوا من عندهم، فأتوا غطفان وسليما، ففارقوهم على مثل ذلك، وتجهزتْ قريش، وجمعوا أحابيشهم، ومن تبعَهم من العرب، فكانوا أربعة آلاف، وعقدوا اللواءَ في دار الندوة، وحمله عثمان بن طلحة بن أبي طلحة، وقادوا معهم ثلاثمائة فرس، وكان معهم ألف وخمسمائة بعير، وخرجوا يقودهم أبو سفيان بن حرب بن أمية، ووافتهم بنو سليم بـ "مرّ الظهران"، وهم سبعمائة يقودهم سفيان بن عبد شمس حليف حرب بن أمية، وهو أبو أبي الأعور السلمي، الذي كان مع معاوية بـ "صفين"، وخرجت معهم بنو أسد، يقودهم طلحة بن خويلد الأسدي، وخرجتْ فزارة، فأوعبتْ، وهم ألف بعير، يقودهم عيينة بن حصن،

ص: 108

وخرجتْ أشجع وهم أربعمائة، يقودهم مسعود بن رخيلة، وخرجتْ بنو مرة، وهم أربعمائة، يقودهم الحارث بن عوف، وخرج معهم غيرهم.

وقد روى الزهري أن الحارث بن عوف رجع ببني مرة، فلم يشهد الخندق منهم أحد، وكذلك روت بنو مرة، والأول أثبت أنهم قد شهدوا الخندق مع الحارث بن عوف، وهجاه حسَّان بن ثابت، فكان جميع القوم الذين وافوا الخندقَ ممن ذكر من القبائل عشرة آلاف، وهم الأحزاب، وكانوا ثلاثة عساكر، وعناج الأمر إلى أبي سفيان بن حرب، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فصولهم من "مكة" ندب الناس، وأخبرهم خبرَ عدوّهم، وشاورَهم في أمرهم، فأشارَ عليه سلمان الفارسى بالخندق، فأعجب ذلك المسلمين، وعسكر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سفح سلع، وجعل سلعا خلف ظهره، وكان المسلمون يومئذ ثلاثة آلاف، واستخلفَ على "المدينة" عبد الله بن أم مكتوم، ثم خندق على "المدينة"، وجعل المسلمون يعملون مستعجلين يبادرون قدومَ عدوّهم عليهم، وعملَ رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم بيده لينشط المسلمين.

‌30 - غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بنى قريظة:

ثم غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم بنى قريظة في ذي القعدة سنة خمس من مهاجره، قالوا: لما انصرف المشركون عن الخندق، ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل بيت عائشة أتاه جبريل، فوقف عند موضع الجنائز، فقال: عذيرك من محارب، فخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فزعا، فقال: إن الله يأمرك أن تسير إلى بني قريظة، فإني عامد إليهم، فمزلزل بهم حصونهم، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا رضى الله تعالى عنه،

ص: 109

فدفع إليه لواءَه، وبعث بلالا، فنادى في الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم ألا تصلوا العصر إلا في بني قريظة، واستخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على "المدينة" عبدَ الله بن أم مكتوم، ثم سارَ إليهم في المسلمين، وهم ثلاثة آلاف، والخيل ستة وثلاثون فرسا، وذلك يوم الأربعاء لسبع بقين من ذي القعدة، فحاصرهم خمسة عشر يوما أشدّ الحصار، ورموا بالنبل، فانجحروا، فلم يطلع منهم أحد، فلما اشتدّ عليهم الحصار أرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر، فأرسله إليهم، فشاوروه في أمرهم، فأشارَ إليهم بيده أنه الذبح، ثم ندم، فاسترجعَ، وقال: خنت الله ورسوله، فانصرف فارتبط في المسجد، ولم يأت رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أنزل الله توبته، ثم نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة، فكتفوا، ونحوا ناحية، وأخرج النساء والذرية، فكانوا ناحية، واستعمل عليهم عبد الله بن سلام، وجع أمتعتهم وما وجد في حصونهم من الحلقة والأثاث والثياب، فوجد فيها ألف وخمسمائة سيف وثلاثمائة درع، وألفا رمح وألف وخمسمائة ترس وحجفة وخمر وجرار سكر، فأهريق ذلك كله، ولم يخمّس، ووجدوا جمالا نواضح وماشية كثيرة.

‌31 - سرية محمد بن مسلمة إلى القرطاء:

ثم سرية محمد بن مسلمة إلى "القرطاء"، خرج لعشر ليال خلون من المحرّم على رأس تسعة وخمسين شهرا من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعثه في ثلاثين راكبا إلى "القرطاء"، وهم بطن من بني بكر من كلاب، وكانوا ينزلون البكرات بناحية "ضرية"، وبين "ضرية"، و"المدينة" سبع ليال، وأمره أن يشنّ عليهم الغارة، فسار الليل، كمن النهار، وأغار عليهم، فقتل نفرا منهم، وهرب سائرهم.

ص: 110

‌32 - غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم بني لحيان:

ثم غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم بني لحيان، وكانوا بناحية "عسفان" في شهر ربيع الأول سنة ست من مهاجره، قالوا: وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم على عاصم بن ثابت وأصحابه وجدا شديدا، فأظهر أنه يريد "الشام"، وعسكر لغرة هلال شهر ربيع الأول في مائتي رجل، ومعهم عشرون فرسا، واستخلف على "المدينة" عبد الله بن أم مكتوم، ثم أسرع السير، حتى انتهى إلى "بطن غران"، وبينها وبين "عسفان" خمسة أميال، حيث كان مصاب أصحابه، فترحم عليهم، ودعا لهم، فسمعت بهم بنو لحيان، فهربوا في رؤوس الجبال، فلم يقدر منهم على أحد، فأقام يوما أو يومين، فبعث السرايا في كل ناحية، فلم يقدروا على أحد، ثم خرج حتى أتى "عسفان"، فبعث أبا بكر في عشرة فوارس لتسمع به قريش، فيذعرهم، فأتوا "الغميم"، ثم رجعوا، ولم يلقوا أحدا، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى "المدينة"، وهو يقول: آئبون تائبون عابدون لربنا حامدون، وغاب عن "المدينة" أربع عشرة ليلة.

‌33 - غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم الغابة:

ثم غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم الغابة، وهي على بريد من "المدينة" طريق "الشام" في شهر ربيع الأول سنة ست من مهاجره، قالوا: كانت لقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي عشرون لقحة ترعى بـ "الغابة"، كان أبو ذر فيها، فأغار عليهم عيينة بن حصن ليلةَ الأربعاء في أربعين فارسا، فاستاقوها، وقتلوا ابن أبي ذر، وجاءَ الصريخ، فنادى الفزع الفزع، فنودي يا خيل الله اركبي، وكان أول ما نودي بها، وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج غداة الأربعاء في الحديد مقنعا، فوقف، فكان أول من أقبل إليه المقداد بن عمرو، وعليه الدرع والمغفر شاهرا سيفه، فعقد له رسول الله صلى الله عليه وسلم لواء في رمحه، وقال: امض حتى تلحقك

ص: 111

الخيول، إنا على أثرك، واستخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على "المدينة" عبد الله بن أم مكتوم.

‌34 - سرية عكاشة بن محصن الأسدي إلى الغمر:

ثم سرية عكَّاشة بن محصن الأسدي إلى "الغمر""غمر مرزوق"، وهو ماء لبني أسد على ليلتين من فيد طريق الأول إلى "المدينة"، وكانتْ في شهر ربيع الأول سنة ست من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم عكَّاشة بن محصن إلى "الغمر" في أربعين رجلا، فخرج سريعا يغذ السير، ونذر به القوم، فهربوا، فنزلوا علياء بلادهم، ووجدوا دارهم خلوفا، فبعث شُجاع بن وهب طليعة، فرأى أثر النعم، فتحملوا، فأصابوا ربيئة لهم، فأمنوه، فدلهم على نعم لبني عم له، فأغاروا عليها، فاستاقوا مائتي بعير، فأرسلوا الرجل، وحدروا النعم إلى "المدينة"، وقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يلقوا كيدا.

‌35 - سرية محمد بن مسلمة إلى ذي القصة:

ثم سرية محمد بن مسلمة إلى "ذي القصة" في شهر ربيع الآخر سنة ست من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة إلى بني ثعلبة، وبنى عوال من ثعلبة، وهم بـ "ذي القصة"، وبينها وبين "المدينة" أربعة وعشرون ميلا طريق "الربذة" في عشرة نفر، فوردوا عليهم ليلا، فأحدق به القوم، وهم مائة رجل، فتراموا ساعة من الليل، ثم حملت الأعراب عليهم بالرماح، فقتلوهم، ووقع محمد بن مسلمة جريحا، فضرب كعبه، فلا يتحرك، وجردوهم من الثياب، ومرّ بمحمد بن مسلمة رجل من المسلمين، فحمله، حتى ورد به "المدينة". فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجرَّاح في أربعين رجلا إلى مصارع القوم، فلم يجدوا أحدا، ووجدوا نعما، وشاء، فساقه، ورجع.

ص: 112

‌36 - سرية أبي عبيدة بن الجراح إلى ذي القصة:

ثم سرية أبي عبيدة بن الجرَّاح إلى "ذي القصة" في شهر ربيع الآخر سنة ست من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: أجدبت بلاد بنى ثعلبة و"أنمار"، ووقعت سحابة بـ "المراض" إلى "تغلمين" و"المراض" على ستة وثلاثين ميلا من "المدينة"، فسارتْ بنو محارب وثعلبة وأنمار إلى تلك السحابة، وأجمعوا أن يغيروا على سرح "المدينة"، وهو يرعى بـ "هيفا" موضع على سبعة أميال من "المدينة"، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عُبيدة بن الجرَّاح في أربعين رجلا من المسلمين حين صلوا المغرب، فمشوا إليهم، حتى وافوا "ذا القصة" مع عماية الصبح، فأغاروا عليهم، فأعجزوهم هربا في الجبال، وأصاب رجلا واحدا، فأسلم، وتركه.

‌37 - سرية زيد بن حارثة إلى بني سليم بالجموم:

ثم سرية زيد بن حارثة إلى بنى سليم بالجموم في شهر ربيع الآخر سنة ست من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة إلى بنى سليم، فسَارَ حتى ورد "الجموم" ناحية "بطن نخل" عن يسارها، و"بطن نخل" من "المدينة" على أربعة برد، فأصابوا عليه امرأة من مزينة، يقال لها: حليمة، فدلتهم عن محله من محال بنى سليم، فأصابوا في تلك المحلة نعما، وشاء، وأسرى، فكان فيهم زوج حليمة المزنية، فلمَّا قفل زيد بن حارثة بما أصاب وهب رسول الله صلى الله عليه وسلم للمزنية نفسها وزوجها.

‌38 - سرية زيد بن حارثة إلى العيص:

ثم سرية زيد بن حارثة إلى "العيص"، وبينها وبين "المدينة" أربع ليال، وبينها وبين "ذي المروة" ليلة في جمادى الأولى سنة ست من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عيرا لقريش قد أقبلت من "الشام"، فبعث زيد بن حارثة في سبعين ومائة راكب يتعرض لها، فأخذوها، وما فيها.

ص: 113

‌39 - سرية زيد بن حارثة إلى الطرف:

ثم سرية زيد بن حارثة إلى "الطرف" في جمادى الآخرة سنة ست من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: بعثَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة إلى "الطرف"، وهو ماء قريب من "المراض" دون "النخيل" على ستة وثلاثين ميلا من "المدينة" طريق "البقرة" على "المحجة"، فخرج إلى بني ثعلبة في خمسة عشر رجلا، فأصاب نعما وشاء، وهربت الأعراب، وصبح زيد بالنعم "المدينة"، وهي عشرون بعيرا، ولم يلق كيدا، وغاب أربع ليال، وكان شعارهم أمت أمت.

‌40 - سرية زيد بن حارثة إلى حسمى:

ثم سرية زيد بن حارثة إلى "حسمى"، وهي وراء "وادي القرى" في جمادى الآخرة سنة ست من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: أقبل دحية بن خليفة الكلبي من عند قيصر، وقد أجارَه، وكسَاه، فلقيه الهنيد بن عارض وابنه عارض بن الهنيد في ناس من جذام بـ"حسمى"، فقطعوا عليه الطريق، فلم يتركوا عليه إلا سمل ثوب، فسمع بذلك نفر من بني الضبيب، فنفروا إليهم، فاستنقذوا لدحية متاعه، وقدم دحيةُ على النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبرَه بذلك، فبعثَ زيدَ بن حارثة في خمسمائة رجل ورد معه دحية، فكان زيد يسير الليلَ، ويكمن النهارَ، ومعه دليل له من بني عذرة، فأقبلَ بهم، حتى هجم بهم مع الصبح على القوم، فأغاروا عليهم، فقتلوا فيهم، فأوجعوا، وقتلوا الهنيد وابنه.

‌41 - سرية زيد بن حارثة إلى وادي القرى:

ثم سرية زيد بن حارثة إلى "وادي القرى" في رجب سنة ست من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: بعث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم زيدا أميرا سنة ست.

ص: 114

‌42 - سرية عبد الرحمن بن عوف إلى دومة الجندل:

ثم سرية عبد الرحمن بن عوف إلى "دومة الجندل" في شعبان سنة ست من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: دَعَا رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن عوف، فأقعدَه بين يديه وعمَّمه بيده، وقال: أغز بسم الله، وفي سبيل الله، فقاتل من كفر بالله، لا تغلّ، ولا تغدر، ولا تقتل وليدا، وبعثه إلى كلب بـ "دومة الجندل".

‌43 - سرية علي بن أبي طالب إلى بني سعد بن بكر بفدك:

ثم سرية علي بن أبي طالب إلى بني سعد بن بكر بـ "فدك" في شعبان سنة ست من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لهم جمعا يريدون أن يمدوا يهود خيبر، فبعث إليهم علي بن أبي طالب في مائة رجل، فسارَ الليلَ، كمن النهارَ، حتى انتهى إلى "الهمج"، وهو ماء بين "خيبر" و"فدك"، وبين "فدك" و"المدينة" ست ليال، فوجدوا به رجلا، فسألوه عن القوم، فقال أخبركم على أنكم تؤمنوني، فآمنوه، فدلهم، فأغاروا عليهم، فأخذوا خمسمائة بعير، وألفي شاة وهربتْ بنو سعد بالظعن، ورأسهم وبر بن عليم، فعزل علي صفي النبي صلى الله عليه وسلم لقوحا تدعى الحفذة، ثم عزل الخمس، وقسم سائر الغنائم على أصحابه، وقدم "المدينة"، ولم يلق كيدا.

‌44 - سرية زيد بن حارثة إلى أم قرفة بوادي القرى:

ثم سرية زيد بن حارثة إلى "أم قرفة" بناحية بـ "وادي القرى" على سبع ليال من "المدينة" في شهر رمضان سنة ست من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: خرج زيد بن حارثة في تجارة إلى "الشام"، ومعه بضائع لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كان دون "وادي القرى" لقيه ناس من فزارة من بني بدر، فضربوه، وضربوا أصحابه، وأخذوا ما كان معهم، ثم استبل زيد، وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره، فبعثه رسول

ص: 115

الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فكمنوا النهار، وساروا الليل، ونذرتْ بهم بنو بدر، ثم صبحهم زيد وأصحابه، فكبروا، وأحاطوا بالحاضر.

‌45 - سرية عبد الله بن عتيك إلى أبي رافع:

ثم سرية عبد الله بن عتيك إلى أبي رافع سلام بن أبي الحقيق النضري بـ "خيبر" في شهر رمضان سنة ست من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: كان أبو رافع بن أبي الحقيق قد أجلب في غطفان، ومن حوله من مشركي العرب، وجعل لهم الحفل العظيم لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعثَ رسول الله عبد الله بن عتيك، وعبد الله بن أنيس، وأبا قتادة، والأسود بن خزاعي، ومسعود بن سنان، وأمرَهم بقتله، فذهبوا إلى "خيبر"، فكمنوا، فلما هدأت الرجل جاؤوا إلى منزله، فصعدوا درجة له، وقدموا عبد الله بن عتيك، لأنه كان يرطن باليهودية، فاستفتح، وقال: جئت أبا رافع بهدية، ففتحت له امرأته، فلما رأت السلاح أرادت أن تصيح، فأشاروا إليها بالسيف، فسكتت، فدخلوا عليه، فما عرفوه إلا ببياضه، كأنه قبطية، فعلوه بأسيافهم، قال ابن أنيس: كنت رجلا أعشى لا أبصر، فأتكيء بسيفى على بطنه، حتى سمعت خشة في الفراش، وعرفت أنه قد قضي، وجعل القوم يضربونه جميعا.

‌46 - سرية عبد الله بن رواحة إلى أسير بن زارم:

ثم سرية عبد الله بن رَوَاحة إلى أسير بن زارم اليهودى بـ"خيبر" في شوَّال سنة ست من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: لما قتل أبو رافع سلام بن أبي الحقيق أمرت يهود عليهم أسير بن زارم، فسارَ في غطفان وغيرهم، يجمعهم لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجَّه عبد الله بن رَوَاحة في ثلاثة نفر في شهر رمضان سرا، فسأل عن خبره وغرته، فأخبر بذلك، فقدم على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فأخبرَه، فندبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم الناسَ، فانتدبَ له

ص: 116

ثلاثون رجلا، فبعثَ عليهم عبد الله بن رواحة، فقدموا على أسير فقالوا: نحن آمنون حتى نعرض عليك ما جئنا له، قال: نعم، ولي منكم مثل ذلك، وقالوا: نعم، فقلنا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثنا إليك لتخرج إليه، فيستعملك على "خيبر"، ويحسن إليك، فطمع في ذلك، فخرج، وخرج معه ثلاثون رجلا من اليهود مع كل رجل رديف من المسلمين، حتى إذا كنا بقرقرة ثبار ندم أسير، فقال عبد الله بن أنيس، وكان في السرية وأهوى بيده إلى سيفي، ففطنت له، ودفعت بعيري، وقلتُ: غدرا، أي عدوّا الله، فعل ذلك مرتين، فنزلتْ، فسقت بالقوم، حتى انفردَ لي أسير، فضربتُه بالسيف، فأندرت عامة، فخذه وساقه وسقط عن بعيره، وبيده مخرش من شوحط، فضربني، فشجّني مأمومة، وملنا على أصحابه، فقتلناهم كلهم غير رجل واحد، أعجزنا شدا، ولم يصب من المسلمين أحد. ثم أقبلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحدثناه الحديث، فقال: قد نجاكم الله من القوم الظالمين.

‌47 - سرية كرز بن جابر الفهري إلى العرنيين:

ثم سرية كرز بن جابر الفهري إلى العرنيين في شوَّال سنة ست من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: قدم نفر من عرينة ثمانية على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلموا، واستوبأوا "المدينة"، فأمرَ بهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى لقاحه، وكانتْ ترعى بـ "ذي الجدر" ناحية "قباء" قريبا من عير على ستة أميال من "المدينة"، فكانوا فيها حتى صحوا، وسمنوا، فغدوا على اللقاح، فاستاقوها، فيدركهم يسار مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه نفر، فقاتلهم، فقطعوا يده، ورجله، وغرزوا الشوك في لسانه وعينيه، حتى مات، وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر، فبعثَ في أثرهم عشرين فارسا، واستعملَ عليهم كرزَ بنَ جابر الفهري، فأدركوهم، فأحاطوا بهم، وأسروهم، وربطوهم، وأردفوهم على الخيل، حتى قدموا بهم "المدينة".

ص: 117

‌48 - سرية عمرو بن أمية الضمري:

ثم سرية عمرو بن أمية الضمري وسلمة بن أسلم بن حريس إلى أبي سفيان بن حرب بـ "مكة"، وذلك أن أبا سفيان بن حرب قال لنفر من قريش: وألا أحد يغتال محمدا، فإنه يمشي في الأسواق، فأتاه رجل من الأعراب، فقال: قد وجدت أجمع الرجال قلبا، وأشدّه بطشا، وأسرعه شدا، فإن أنت قوَّيتني خرجت إليه، حتى أغتاله، ومعي خنجر مثل خافية النسر، فأسوره، ثم آخذ في عير، وأسبق القوم عدوا، فإني هاد بالطريق خريت، قال: أنت صاحبنا، فأعطاه بعيرا ونفقة، وقال اطو أمرك، فخرج ليلا، فسارَ على راحلته خمسا، وصبح ظهر الحرة صبح سادسة، ثم أقبل يسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى دل عليه، فعقل راحلته، ثم أقبل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مسجد بني عبد الأشهل، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: إن هذا ليريد غدرا، فذهبَ ليجني على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجذبه أسيد بن الحضير بداخلة إزاره، فإذا الخنجر، فسقط في يديه، وقال دمي دمي، فأخذ أسيد بلبته، فدعته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اصدقني ما أنت، قال: وأنا آمن، قال: نعم، فأخبره بأمره، وما جعل له أبو سفيان، فخلى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلم، وبعثَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية وسلمة بن أسلم إلى أبى سفيان بن حرب، وقال: إن أصبتما منه غرة، فاقتلاه، فدخلا "مكة"، ومضى عمرو بن أمية يطوف بالبيت ليلا، فرآه معاوية بن أبي سفيان، فعرفه، فأخبر قريشا بمكانه، فخافوه، وطلبوه، وكان فاتكا في الجاهلية، وقالوا: لم يأت عمرو لخير، فحشد له أهل "مكة"، وتجمعوا، وهرب عمرو وسلمة، فلقي عمرو عبيد الله بن مالك بن عبيد اللّه التيمي، فقتله، وقتل آخر من بني الديل، سمعه يتغنى، ويقول:

ولست بمسلم ما دمت حيا

ولست أدين دين المسلمينا

ص: 118

ولقي رسولين لقريش بعثتهما يتحسبان الخبر، فقتل أحدهما، وأسر الآخر، فقدم به "المدينة"، فجعل عمرو يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك.

‌49 - غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديبية:

ثم غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم "الحديبية" خرج للعمرة في ذي القعدة سنة ست من مهاجره، قالوا: استنفر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابَه إلى العمرة فأسرعوا، وتهيأوا، ودخلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بيتَه، فاغتسلَ، ولبسَ ثوبين، وركبَ راحلتَه القصواءَ، وخرج، وذلك يومَ الاثنين لهلال ذي القعدة، واستخلفَ على "المدينة" عبد الله بن أم مكتوم، ولم يخرجْ معه بسلاح إلا السيوف في القرب، وساق بدنا، وساق أصحابه أيضا بدنا، فصلى الظهر بـ "ذي الحليفة"، ثم دعا بالبدن التي ساق، فجللت، ثم أشعرها في الشقّ الأيمن، وقلّدها، وأشعر أصحابه أيضا، وهن موجّهات إلى القبلة، وهي سبعون بدنة، فيها جمل أبي جهل، الذي غنمه يوم بدر وأحرم، ولبى، وقدم عباد بن بشر أمامه طليعة في عشرين فرسا من خيل المسلمين وفيهم رجال من المهاجرين والأنصار، وخرج معه من المسلمين ألف وستمائة، ويقال: ألف وأربعمائة، ويقال: ألف وخمسمائة وخمسة وعشرون رجلا. وأخرج معه زوجته أم سلمة رضى الله تعالى عنها، وبلغ المشركين خروجُه، فأجمعَ رأيُهم على صدّه عن المسجد الحرام.

‌50 - غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر:

ثم غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر في جمادى الأولى سنة سبع من مهاجره، وهي على ثمانية برد من "المدينة"، قالوا: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بالتهيؤ لغزوة خيبر، ويجلب من حوله يغزون معه، فقال: لا يخرجن معنا إلا راغب في الجهاد، وشقَّ ذلك على من بقي بـ "المدينة" من اليهود، فخرج، واستخلف على "المدينة" سباع بن عرفطة

ص: 119

الغفاري، وأخرج معه أم سلمة زوجته، فلما نزل بساحتهم لم يتحركوا تلك الليلة، ولم يصح لهم ديك، حتى طلعت الشمسُ، وأصبحوا، وأفئدتهم تخفق، وفتحوا حصونهم، وغدوا إلى أعمالهم، معهم المساحي والكرازين والمكاتل، فلما نظروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: محمد والخميس، يعنون بالخميس الجيش، فولوا هاربين إلى حصونهم، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الله أكبر، خربتْ خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين، ووعظ رسول الله صلى الله عليه وسلم الناسَ، وفرَّق بينهم الرايات، ولم يكن الرايات إلا يوم خيبر إنما كانت الألوية.

‌51 - سرية عمر بن الخطاب رحمه الله إلى تربة:

ثم سرية عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه إلى "تربة" في شعبان سنة سبع من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطَّاب في ثلاثين رجلا إلى عجز هوازن بـ "تربة"، وهي بناحية "العبلاء" على أربع ليال من "مكة" طريق "صنعاء" و"نجران"، فخرج، وخرج معه دليل من بني هلال، فكان يسير الليل، ويكمن النهار، فأتى الخبر هوازن، فهربوا، وجاء عمر بن الخطَّاب محالهم، فلم يلق منهم أحدا، فانصرف راجعا إلى "المدينة".

‌52 - سرية أبي بكر الصديق رضي الله عنه إلى بني كلاب بنجد:

ثم سرية أبي بكر الصديق إلى بني كلاب بـ "نجد" ناحية "ضرية" في شعبان سنة سبع من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخبرنا هاشم بن القاسم الكناني، أخبرنا عكرمة بن عمَّار، أخبرنا إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه، قال: غزوتُ مع أبي بكر إذ بعثه النبي صلى الله عليه وسلم علينا، فسبى ناسا من المشركين، فقتلناهم، فكان شعارنا أمت أمت، قال: فقتلت بيدي سبعة أهل أبيات من المشركين.

ص: 120

‌53 - سرية بشير بن سعد الأنصاري إلى فدك:

ثم سرية بشير بن سعد إلى "فدك" في شعبان سنة سبع من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: بعثَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بشيرَ بنَ سعد في ثلاثين رجلا إلى بني مرة بـ"فدك"، فخرج يلقى رعاء الشاء، فسأل عن الناس، فقيل في بواديهم، فاستاق النعم والشاء، وانحدر إلى "المدينة"، فخرج الصريخ، فأخبرهم، فأدركه الدهم منهم عند الليل، فأتوا يرامونهم بالنبل، حتى فنيت نبل أصحاب بشير، وأصبحوا، فحمل المريون عليهم، فأصابوا أصحاب بشير، وقاتل بشير، حتى ارتُثَّ، وضرب كعبه، فقيل: قد مات، ورجعوا بنعمهم وشائهم، وقدم علبة بن زيد الحارثي بخبرهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قدم من بعده بشير بن سعد.

‌54 - سرية غالب بن عبد الله الليثي إلى الميفعة:

ثم سرية غالب بن عبد الله الليثي إلى "الميفعة" في شهر رمضان سنة سبع من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم غالب بن عبد الله إلى بني عوال وبني عبد بن ثعلبة وهم بـ"الميفعة"، وهي وراء "بطن نخل" إلى "النقرة" قليلا بناحية "نجد"، وبينها وبين "المدينة" ثمانية برد، بعثه في مائة وثلاثين رجلا، ودليلهم يسار مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهجموا عليهم جميعا، ووقعوا وسط محالهم، فقتلوا من أشرف لهم، واستاقوا نعما وشاء، فحدروه إلى "المدينة"، ولم يأسروا أحدا.

‌55 - سرية بشير بن سعد الأنصاري إلى يمن وجبار:

ثم سرية بشير بن سعد الأنصاري إلى "يمن" و"جبار" في شوَّال سنة سبع من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن جمعا من غطفان بـ"الجناب"، قد واعدهم عيينة بن حصن، ليكون معهم، ليزحفوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا رسول الله

ص: 121

صلى الله عليه وسلم بشيرَ بنَ سعد، فعقدَ له لواء، وبعثَ معه ثلاثمَائة رجل، فساروا الليلَ، وكمنوا النهارَ، حتى أتوا إلى "يمن" و"جبار"

فنزلوا بسلاح، ثم دنوا من القوم، فأصابوا لهم نعما كثيرا، وتفرَّق الرعاء، فحذروا الجمع، فتفرَّقوا.

‌56 - سرية بن أبي العوجاء السلمي إلى بني سليم:

ثم سرية بن أبي العوجاء إلى بني سليم في ذي الحجّة سنة سبع من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: بعثَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ابنَ أبي العوجاء في خمسين رجلا إلى بني سليم، فخرج إليهم، وتقدمه عين لهم كان معه، فحذرهم، فجمعوا، فأتاهم ابن أبي العوجاء، وهم معدون له، فدعاهم إلى الإسلام، فقالوا: لا حاجة لنا إلى ما دعوتنا، فتراموا بالنبل ساعة، وجعلت الأمداد تأتي، حتى أحدقوا بهم من كل ناحية، فقاتل القوم قتالا شديدا، حتى قتل عامتهم.

‌57 - سرية غالب بن عبد الله الليثي إلى بني الملوح بالكديد:

ثم سرية غالب بن عبد الله إلى بني الملوح بـ"الكديد" في صفر سنة ثمان من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم،

عن جندب بن مكيث الجهني، قال: بعث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم غالبَ بنَ عبد الله الليثى، ثم أحد بني كلب بن عوف في سرية، فكتب فيهم، وأمرَهم أن يشنّوا الغارةَ علي بني الملوح بـ "الكديد"، وهم من بني ليث.

‌58 - سرية غالب بن عبد الله الليثي أيضا إلى مصاب:

أصحاب بشير بن سعد بـ"فدك"، ثم سرية غالب بن عبد الله الليثي إلى مصاب بشير بن سعد بـ"فدك" في صفر سنة ثمان من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخبرنا محمد بن عمر، حدثني عبد الله بن الحارث بن

ص: 122

الفُضَيل، عن أبيه، قال: هيأ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الزبيرَ بنَ العوام، وقال له: سرْ حتى تنتهى إلى مصاب أصحاب بشير بن سعد، فإن أظفرك الله بهم، فلا تبق فيهم، وهيأ معهم مائتي رجل، وعقد له لواء، فقدم غالب بن عبد الله الليثى من "الكديد" من سرية، قد ظفره الله عليهم، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم للزبير: اجلسْ، وبعث غالب بن عبد الله في مائتي رجل، وخرج أسامة بن زيد فيها، حتى انتهى إلى مصاب أصحاب بشير، وخرج معه علبة بن زيد فيها، فأصابوا منهم نعما، وقتلوا منهم قتلَى.

‌59 - سرية شجاع بن وهب الأسدي إلى بني عامر بالسي:

ثم سرية شجاع بن وهب الأسدي إلى بني عامر بـ "السي" في شهر ربيع الأول سنة ثمان من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم،

عن عمر بن الحكم، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم شجاع بن وهب في أربعة وعشرين رجلا إلى جمع من هوازن بـ "السي" ناحية ركبة من وراء "المعدن"، وهي من "المدينة" على خمس ليال، وأمره أن يغير عليهم، وكان يسير الليلَ، ويكمن النهار، حتى صبحهم، وهو غارون، فأصابوا نعما كثيرا وشاء، واستاقوا ذلك، حتى قدموا "المدينة".

‌60 - سرية كعب بن عمير الغفاري إلى ذات أطلاح:

ثم سرية كعب بن عمير الغفاري إلى "ذات أطلاح"، وهي من وراء "وادى القرى" في شهر ربيع الأول، سنة ثمان من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم،

عن الزهري، قال: بعثَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم كعب بن عمير الغفاري في خمسة عشر رجلا، حتى انتهوا إلى "ذات أطلاح" من أرض "الشام"، فوجدوا جمعا من جمعهم كثيرا، فدعوهم إلى الإسلام، فلم يستجيبوا لهم، ورشقوهم بالنبل، فلمَّا رأى ذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاتلوهم أشدّ القتال، حتى قتلوا.

ص: 123

‌61 - سرية مؤتة:

ثم سرية "مؤتة"، وهي بأدنى "البلقاء"، و"البلقاء" دون "دمشق" في جمادى الأولى سنة ثمان من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: بعثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم الحارث بن عمير الأزدي أحد بني لهب إلى ملك "بصرى" بكتاب، فلمَّا نزل "مؤتة" عرض له شرحبيل بن عمرو الغسَّاني، فقتله، ولم يقتل لرسول الله صلى الله عليه وسلم رسول غيره، فاشتدَّ ذلك عليه، وندب الناس، فأسرعوا، وعسكروا بـ "الجرف"، وهم ثلاثة آلاف، فقال رسول الله صلى اله عليه وسلم أمير الناس زيد بن حارثة، فإن قتل، فجعفر بن أبي طالب، فإن قتل فعبد الله بن رواحة، فإن قتل فليرتض المسلمون بينهم رجلا، فيجعلوه عليهم، وعقد لهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لواء أبيضَ، ودفعَه إلى زيد بن حارثة، وأوصاهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يأتوا مقتل الحارث بن عمير، وأن يدعوا من هناك إلى الإسلام، فإن أجابوا وإلا استعانوا عليهم بالله، وقاتلوهم، وخرج مشيعا لهم، حتى بلغ "ثنية الوداع"، فوقف، وودعهم، فلمَّا ساروا من معسكرهم نادى المسلمون، دفع الله عنكم، وردكم صالحين غانمين.

‌62 - سرية الخبط:

أميرها أبو عبيدة بن الجرَّاح، ثم سرية الخبط، أميرها أبو عبيدة بن الجرَّاح، وكانتْ في رجب سنة ثمان من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجرَّاح في ثلاثمائة من المهاجرين والأنصار، وفيهم عمر بن الخطَّاب إلى حي من جُهَينة بـ"القبلية" مما يلي ساحل البحر، وبينها وبين "المدينة" خمس ليال، فأصابهم في الطريق جوع شديد، فأكلوا الخبط، وابتاع قيس بن سعد جزرا ونحرها لهم، وألقى لهم البحر حوتا عظيما، فأكلوا منه، وانصرفوا، ولم يلقوا كيدا.

ص: 124

‌63 - سرية أبي قتادة بن ربعي الأنصاري إلى خضرة:

ثم سرية أبي قتادة بن ربعي الأنصاري إلى "خضرة"، وهي أرض محارب بـ"نجد" في شعبان سنة ثمان من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: بعثَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أبا قتادة، ومعه خمسة عشر رجلا إلى "غطفان"، وأمره أن يشنّ عليهم الغارة، فسار الليلَ، كمن النهارَ، فهجم على حاضر منهم عظيم، فأحاطَ بهم، فصرخ رجل منهم يا خضرة، وقاتل منهم رجال، فقتلوا من أشرف لهم، واستاقوا النعم.

‌64 - سرية أبي قتادة بن ربعي الأنصاري إلى بطن إضم:

ثم سرية أبي قتادة بن ربعي الأنصاري إلى "بطن إضم" في أول شهر رمضان سنة ثمان من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: لما هم رسول الله صلى الله عليه وسلم بغزو أهل "مكة" بعث أبا قتادة بن ربعي في ثمانية نفر سرية إلى "بطن إضم"، وهي فيما بين "ذي خشب" و"ذي المروة"، وبينها وبين "المدينة" ثلاثة برد، ليظن ظان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توجّه إلى تلك الناحية، ولأن تذهب بذلك الأخبار، وكان في السرية محلم بن جثامة الليثى، فمرّ عامر بن الأضبط الأشجعى، فسلم بتحية الإسلام، فأمسك عنه القوم، وحمل عليه محلم بن جثامة، فقتله، وسلبه بعيره ومتاعه، ووطب لبن كان معه، فلمَّا، لحقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم نزل فيهم القرآن:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ} إلى آخر الآية.

‌65 - سرية رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح:

ثم غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح في شهر رمضان سنة ثمان من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: لما دخل شعبان على رأس اثنين وعشرين شهرا من صلح "الحديبية" كلمتْ بنو نفاثة، وهم من بني

ص: 125

بكر أشراف قريش أن يعينوهم على خزاعة بالرجال والسلاح، فوعدوهم، ووافوهم بالوتير متنكرين متنقبين، فيهم صفوان بن أمية، وحويطب بن عبد العزى، ومكرز بن حفص بن الأخيف، فبيتوا خزاعة ليلا، وهم غارون آمنون، فقتلوا منهم عشرين رجلا، ثم ندمت قريش على ما صنعتْ، وعلموا أن هذا نقض للمدّة والعهد، الذي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرج عمرو بن سالم الخزاعي في أربعين راكبا من خُزَاعة، فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبرونه بالذي أصابهم، ويستنصرونه، فقام وهو يجرُّ رداءَه، وهو يقول: لا نصرت إن لم أنصر بني كعب مما أنصر منه نفسي، وقال: إن هذا السحاب ليستهلّ بنصر بني كعب، وقدم أبو سفيان بن حرب على رسول الله صلى الله عليه وسلم "المدينة" يسأله أن يجدّدَ العهدَ، ويزيدَ في المدة، فأبى عليه، فقام أبو سفيان، فقال: إني قد أجرت بين الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنت تقول: ذلك يا أبا سفيان، ثم انصرف إلى "مكة"، فتجهَّز رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخفى أمرَه، وأخذَ بالأنقاب، وقال اللّهم خذ أبصارَهم، فلا يروني إلا بغتة، فلما أجمع المسير كتب حاطبُ بن بلتعةَ إلى قريش يخبرهم بذلك، فبعثَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عليَّ بنَ أبي طالب والمقدادَ بنَ عمرو، فأخذا رسولَه وكتابَه، فجاءا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مَنْ حولَه من العرب، فجلهم أسلم، وغفار، ومزينة، وجهينة، وأشجع، وسليم، فمنهم من وافاه بـ "المدينة"، ومنهم من لحقه بالطريق، فكان المسلمون في غزوة الفتح عشرة آلاف، واستخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على "المدينة" عبدَ الله بنَ أم مكتوم، وخرج يومَ الأربعاء لعشر ليال خلون من شهر رمضان بعد العصر.

ص: 126

‌66 - سرية خالد بن الوليد إلى العزى:

ثم سرية خالد بن الوليد إلى "العزَّى" لخمس ليال بقين من شهر رمضان سنة ثمان من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: بعثَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حين فتح "مكة" خالدَ بنَ الوليد إلى "العزَّى" ليهدمها، فخرج في ثلاثين فارسا من أصحابه، حتى انتهوا إليها، فهدمها، ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرَه.

‌67 - سرية عمرو بن العاص إلى سواع:

ثم سرية عمرو بن العاص إلى "سواع" في شهر رمضان سنة ثمان من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: بعثَ النبي صلى الله عليه وسلم حينَ فتح "مكة" عمرَو بنَ العاص إلى "سواع" صنم هُذَيل ليهدمَه، قال عمرو: فانتهيتُ إليه، وعنده السادن، فقال: ما تريد؟ قلتُ: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهدمَه، قال: لا تقدر على ذلك، قلت: لم؟ قال: تمنع، قلت: حتى الآن أنت في الباطل، ويحك، وهل يسمع أو يبصر، قال: فدنوت منه، فكسرته، وأمرت أصحابي، فهدموا بيت خزانته، فلم يجدوا فيه شيئا، ثم قلت للسادن: كيف رأيتَ؟ قال أسلمت لله.

‌68 - سرية سعد بن زبد الأشهلي إلى مناة:

ثم سرية سعد بن زيد الأشهلي إلى مناة في شهر رمضان سنة ثمان من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: بعثَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حين فتح "مكة" سعد بن زيد الأشهلي إلى مناة، وكانتْ بـ "المشلَّل" للأوس والخزرج وغسَّيان، فلما كان يوم الفتح بعثَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سعدَ بنَ زيد الأشهلي يهدمها، فخرج في عشرين فارسا، حتى انتهى إليها، وعليها سادن، فقال السادن: ما تريد؟ قال: هدم مناة، قال: أنت وذاك، فأقبل سعد يمشي إليها، وتخرج إليه امرأة عريانة سوداء، ثائرة الرأس، تدعو بالويل، وتضرب صدرها، فقال السادن:

ص: 127

مناة دونك بعض غضباتك، ويضربها سعد بن زيد الأشهلي، وقتلها، ويقبل إلى الصنم معه أصحابه، فهدموه، ولم يجدوا في خزانتها شيئا، وانصرف راجعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك لست بقين من شهر رمضان.

‌69 - سرية خالد بن الوليد إلى بني جذيمة من كنانة:

ثم سرية خالد بن الوليد إلى بني جذيمة من كنانة، وكانوا بأسفل "مكة" على ليلة ناحية "يلملم" في شوَّال سنة ثمان من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يوم الغميصاء، قالوا: لما رجع خالد بن الوليد من هدم العزَّى ورسول الله صلى الله عليه وسلم مقيم بـ "مكة" بعثه إلى بني جذيمة داعيا إلى الإسلام، ولم يبعثْه مقاتلا، فخرج في ثلاثمائة وخمسين رجلا من المهاجرين، والأنصار، وبني سليم، فانتهى إليهم خالد، فقال: ما أنتم؟ قالوا: مسلمون، قد صلينا، وصدقنا بمحمد، وبنينا المسَاجِد في ساحاتنا، وأذنا فيها، قال: فما بال السّلاح عليكم، فقالوا: إن بيننا وبين قوم من العرب عداوة، فخفنا أن تكونوا هم، فأخذنا السَّلاح، قال: فضعوا السَّلاح، قال: فوضعوه، فقال لهم: استأسروا، فاستأسر القوم، فأمر بعضهم، فكتف بعضا، وفرقهم في أصحابه، فلما كان في السحر نادى خالد من كان معه أسير، فليدافه والمدافة الإجهاز عليه بالسيف، فأما بنو سليم، فقتلوا من كان في أيديهم، وأما المهاجرون والأنصار، فأرسلوا أساراهم، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ما صنع خالد، فقال: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد، وبعث علي بن أبي طالب، فودى لهم قتلاهم، وما ذهب منهم.

‌70 - غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين:

ثم غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى "حنين"، وهي غزوة هوازن في شوَّال سنة ثمان من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، و"حنين" واد

ص: 128

بينه وبين "مكَّة" ثلاث ليال، قالوا: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم "مكَّة" مشت أشراف هوازن وثقيف بعضها إلى بعض، وحشدوا، وبغوا، وجمع أمرهم مالك بن عوف النصري، وهو يومئذ ابن ثلاثين سنة، وأمرهم، فجاؤوا معهم بأموالهم ونسائهم وأبنائهم، حتى نزلوا بـ "أوطاس"، وجعلت الأمداد تأتيهم، فأجمعوا المسير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج إليهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من "مكة" يوم السبت لستّ ليال خلونَ من شوَّال في اثني عشر ألفا من المسلمين، عشرة آلاف من أهل "المدينة"، وألفان من أهل "مكة"، فقال أبو بكر: لا نغلبُ اليومَ من قلة.

‌71 - سرية الطفيل بن عمرو الدوسي إلى ذي الكفين:

ثم سرية الطفيل بن عمرو الدوسي إلى ذي الكفين، صنم عمرو بن حممة الدوسي في شوَّال سنة ثمان من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: لما أرادَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم السيرَ إلى "الطائف" بعثَ الطفيلَ بنَ عمرو إلى ذي الكفين صنم عمرو بن حممة الدوسي يهدمُه، وأمره أن يستمدّ قومه، ويوافيه بـ "الطائف"، فخرج سريعا إلى قومه، فهدم ذا الكفين، وجعلَ يحش النار في وجهه، ويحرقه.

‌72 - غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم الطائف:

ثم غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم "الطائف" في شوَّال سنة ثمان من مهاجره، قالوا: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من "حنين"، يريدُ "الطائف"، وقدم خالد بن الوليد على مقدمته، وقد كانتْ ثقيف رموا حصنَهم، وأدخلوا فيه ما يصلحهم لسنة، فلما انهزموا من أوطاس دخلوا حصنَهم، وأغلقوه عليهم، وتهيأوا للقتال، وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزل قريبا من حصن "الطائف"، وعسكر هناك فرموا المسلمين بالنبل

ص: 129

رميا شديدا، كأنه رجل جراد، حتى أصيب ناس من المسلمين بجراحة، وقتل منهم اثنا عشر رجلا، فيهم عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة، وسعيد بن العاص، ورمي عبد الله بن أبي بكر الصديق يومئذ، فاندمل الجرحُ، ثم انتفض به بعد ذلك، فمات منه.

‌73 - سرية عيينة بن حصن الفزاري إلى بني تميم:

ثم سرية عيينة بن الحصن الفَيزَاري إلى بني تميم، وكانوا فيما بين "السقيا" وأرض بني تميم، وذلك في المحرَّم سنة تسع من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عيينةَ بنَ حصن الفزاري إلى بنى تميم في خمسين فارسا من العرب، ليس فيهم مهاجري ولا أنصاري، فكان يسير الليلَ، ويكمنُ النهارَ، فهجم عليهم في صحراء، فدخلوا، وسرحوا مواشيَهم، فلمَّا رأوا الجمعَ ولوا، وأخذ منهم أحد عشر رجلا، ووجدوا في المحلة إحدى عشرة امرأة وثلاثين صبيا، فجلبهم إلى "المدينة".

‌74 - سرية قطبة بن عامر بن حديدة إلى خثعم:

ثم سرية قطبة بن عامر إلى "خثعم" بناحية "بيشة" قريبا من "تربة" في صفر سنة تسع من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم قطبة بن عامر بن حديدة في عشرين رجلا إلى حي من "خثعم" بناحية "تبالة"، وأمره أن يشنّ الغارةَ عليهم، فخرجوا على عشرة أبعرة، يتعقّبونها، فأخذوا رجلا، فسألوه، فاستعجم عليهم، فجعلَ يصيح بالحاضر، ويحذرهم، فضربوا عنقه، ثم أمهلوا حتى نام الحاضر، فشنّوا عليهم الغارةَ، فاقتتلوا قتالا شديدا، حتى كثر الجرحَى في الفريقين جميعا، وقتل قطبة بن عامر من قتل، وساقوا النعمَ والشاءَ والنساءَ إلى "المدينة".

ص: 130

‌75 - سرية الضحاك بن سفيان الكلابي إلى بني كلاب:

ثم سرية الضحَّاك بن سفيان الكلابي إلى بني كلاب في شهر ربيع الأول سنة تسع من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: بعثَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم جيشا إلى "القرطاء"، عليهم الضحَّاك بن سفيان بن عوف بن أبي بكر الكلابي، ومعه الأصيد بن سلمة بن قرط، فلقوهم بالزُّجّ زُجَّ لاوَه، فدعوهم إلى الإسلام، فأبوا، فقاتلوهم، فهزموهم.

‌76 - سرية علقمة بن مجزز المدلجي إلى الحبشة:

ثم سرية علقمة بن مجزز المدلجي إلى "الحبشة" في شهر ربيع الآخر سنة تسع من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ناسا من الحبشة تراياهم أهل "جدة"، فبعثَ إليهم علقمةَ بن مجزز في ثلاثمائة.

‌77 - سرية علي بن أبي طالب إلى الفلس صنم طيء ليهدمه:

ثم سرية علي بن أبي طالب رضى الله تعالى عنه إلى "الفلس" صنم طيء، ليهدمه في شهر ربيع الآخر سنة تسع من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليَّ بنَ أبي طالب في خمسين ومائة رجل من الأنصار على مائة بعير وخمسين فرسا، ومعه راية سوداء، ولواء أبيض إلى "الفلس" ليهدمه، فشنّوا الغارةَ على محلة آل حاتم مع الفجر، فهدموا الفلسَ، وخربوه، وملأوا أيديَهم من السبي والنعم والشاء.

‌78 - سرية عكَّاشة بن محصن الأسدي إلى الجناب أرض عذرة وبلي:

ثم سرية عكَّاشة بن محصن الأسدي إلى الجناب أرض "عذرة وبليّ" في شهر ربيع الآخر سنة تسع من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

‌79 - غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم تبوك:

ثم غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم "تبوك" في رجب سنة تسع من مهاجره، قالوا: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الروم قد جمعتْ جموعا

ص: 131

كثيرة بـ"الشام"، وأن هرقل قد رزق أصحابه لسنة، وأجلبت معه لخم، وجذام، وعاملة، وغسَّان، وقدموا مقدماتهم إلى "البلقاء"، فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناسَ إلى الخروج، وأعلمَهم المكانَ الذي يريد ليتأهبوا لذلك، وبعث إلى "مكة"، وإلى قبائل العرب يستنفرهم، وذلك في حر شديد، وأمرَهم بالصدقة، فحملوا صدقات كثيرة، وقووا في سبيل الله، وجاء البكاؤون، وهم سبعة يستحملونه، فقال: لا أجد ما أحملكم عليه، تولوا، وأعينهم تفيض من الدمع حزنا أن لا يجدوا ما ينفقون.

‌80 - سرية خالد بن الوليد إلى بني عبد المدان بنجران:

ثم سرية خالد بن الوليد إلى بني عبد المدان بـ "نجران" في شهر ربيع الأول سنة عشر من مهاجر النبي صلى الله عليه وسلم.

‌81 - سرية علي بن أبي طالب رحمه الله إلى اليمن:

ثم سرية علي بن أبي طالب إلى "اليمن"، يقال: مرتين: إحداهما في شهر رمضان سنة عشر من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا إلى "اليمن"، وعقد له لواء، وعمَّمه بيده، وقال: امض، ولا تلتفتْ، فإذا نزلتْ بساحتهم فلا تقاتلْهم، حتى يقاتلوك، فخرج في ثلاثمائة فارس، وكانتْ أول خيل دخلتْ إلى تلك البلاد، وهي بلاد مذحج، ففرَّق أصحابَه، فأتوا بنهب، وغنائم ونساء، وأطفال، ونعم، وشاء، وغير ذلك.

‌82 - ذكر عمرة النبي صلى الله عليه وسلم:

عن ابن عباس، قال: اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عمر عمرة "الحديبية"، وهي عمرة الحصر، وعمرة القضاء من قابل، وعمرة "الجعرانة"، والرابعة التي مع حجته.

ص: 132

‌حجة الوداع:

ثم حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس سنة عشر من مهاجره، وهي التي يسمي الناس حجّة الوداع، وكان المسلمون يسمّونها حجّة الإسلام، قالوا: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بـ "المدينة" عشر سنين يضحي كل عام، ولا يحلق، ولا يقصر، ويغزو المغازي، ولا يحج، حتى كان في ذي القعدة سنة عشر من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجمع الخروج إلى الحج، وآذن الناس بذلك، فقدم "المدينة" بشر كثير يأتمون برسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته، ولم يحج غيرها منذ تُنُبِّئَ إلى أن توفاه الله، وكان ابن عباس يكره أن يقال: حجة الوداع، ويقول: حجّة الإسلام، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من "المدينة" مغتسلا متدهّنا مترجّلا متجرّدا في ثوبين صحاريين إزار ورداء، وذلك يوم السبت لخمس ليال بقين من ذي القعدة، فصلى الظهر بذي الحليفة ركعتين، وأخرج معه نساءَه كلَّهن في الهوادج، وأشعرَ هديَه، وقلَّده، ثم ركب ناقته، فلما استوى عليها بـ "البيداء" أحرم من يومه ذلك، وكان على هديه ناجية بن جندب الأسلمي، واختلف علينا فيما أهلَّ به، فأهل "المدينة" يقولون: أهلَّ بالحج مفردا، وفي رواية غيرهم أنه قرن مع حجته عمرة، وقال بعضهم: دخل "مكة" متمتّعا بعمرة، ثم أضاف إليها حجّة، وفي كل رواية.

‌83 - سرية أسامة بن زيد بن حارثة:

ثم سرية أسامة بن زيد بن حارثة إلى أهل "أبنى"، وهي أرض السراة ناحية "البلقاء"، قالوا: لما كان يوم الاثنين لأربع ليال بقين من صفر سنة إحدى عشرة من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الناسَ بالتهيؤ لغزو الروم، فلما كان من الغد دعا أسامة بن زيد، فقال: سرْ إلى موضع مقتل أبيك، فأوطئهم الخيل، فقد ولَّيتُك هذا الجيشَ، فأغر صباحا على أهل "أبنى"، وحرق عليهم، وأسرع السيرَ تسبق

ص: 133

الأخبار، فإن ظفرك الله فأقلل اللبث فيهم، وخذْ معك الأدلاء، وقدم العيون والطلائع أمامك، فلما كان يوم الأربعاء بدئ برسول الله صلى الله عليه وسلم فحم وصدع، فلما أصبح يوم الخميس عقد لأسامة لواء بيده، ثم قال: أغز بسم الله في سبيل الله، فقاتل من كفر بالله، فخرج بلوائه.

انتهى كلام الإمام ابن سعد في "الطبقات الكبرى".

‌كُتَّابه صلى الله عليه وسلم:

قال العلامة الحافظ عبد القادر القرشي الوفائي في كتابه "الجواهر المضية": وكتابه صلى الله عليه وسلم ثلاثة وأربعون أثبتُّهم في غير هذا الموضع، منهم الخلفاء الأربعة، ومعاوية، وزيد، وكان ألزمهم بذلك، وأخصهم.

إن كتَّاب الرسول صلى الله عليه وسلم سواء من كان يكتب الوحي فقط أو غيره فقط أو هما معا - كتابه صلى الله عليه وآله وسلم بهذا المعنى - كثيرون، ولعلهم كانوا على ما في "السيرة الحلبية" ستة وعشرين كاتبا، وعلى ما في محكي "السيرة" للعراقي اثنين وأربعين.

قال في "الاستيعاب" في ترجمة أبي: وكان من المواظبين على كتابة الرسائل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عبد الله بن الأرقم الزهري، وكان الكاتب لعهوده صلى الله عليه وسلم إذا عهد، وصلحه إذا صالح علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

وممن كتب لرسول الله صلى الله عليه سلم: أبو بكر الصديق - ذكر ذلك عمر بن شبة في كتاب الكتاب، وفيه زيادات على هولاء أيضا - وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وخالد وأبان ابنا سعيد بن العاص، وحنظلة الأسيدي، والعلاء بن الحضرمي، وخالد بن الوليد، وعبد الله بن رواحة، ومحمد بن مسلمة، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، وعبد الله بن أبي بن سلول، والمغيرة بن شعبة وعمرو بن العاص، ومعاوية بن أبي سفيان، وجهيم بن الصلت، ومعيقيب بن أبي

ص: 134

فاطمة، وشرحبيل بن حسنة. قال الواقدى: فلما كان عام الفتحِ وأسلم معاوية كتب أيضا. انتهى ما في "الاستيعاب".

‌أم محمد صلى الله عليه وسلم:

أم محمد صلى الله عليه وسلم آمنة، كذا سمعتُه من رسول الله صلى الله عليه وسلم في منام رأيته بطريق "مكة" في سنة عشرين وسبعمائة، قال لي صلى الله عليه وسلم: أمي أم محمد آمنة بهذا اللفظ.

قلت: وهي آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة، وتوفي أبوه، وأمه حامل به صلى الله عليه وسلم. وقيل: غير ذلك، ولم يبلغ أبوه من العمر إلا خمسا وعشرين، ولم يرزق ولدا ذكرا إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

‌أعمامه وعماته صلى الله عليه وسلم:

وأعمامه صلى الله عليه وسلم عشرة: الحارث، وهو أكبرهم، والزبير، والمغيرة، ولقبه جحل بتقديم الجيم على الحاء المهملة، وقيل: بالعكس، ويقال له: العنداق أيضا ضرار، والمقوم، وأبو لهب، واسمه عبد العزَّى، وتميم، وأبو طالب، والحمزة، والعباس، وهو أصغرهم، ولم يسلم منهم سوى حمزة، والعباس، وقيل: الأعمام أحد عشر، فجعلوا العنداق، وجحلا اثنين.

وعماته صلى الله عليه وسلم ست بلا خلاف، وهن أميمة، وأم حكيم، وبرة، وعاتكة، وصفية، وأروى. واختلف في إسلامهما، فذكر محمد بن سعد أنهما أسلمتا، وهاجرتا إلى "المدينة"، وقال آخرون: لم يسلم منهن أحد إلا صفية رضي الله عنها.

‌أزواجه صلى الله عليه وسلم:

أزواجه صلى الله عليه وسلم فوق العشرين، منهم من دخل بهنَّ، ومنهم من لم يدخل بهنَّ، وقد ذكرهنَّ شيخنا قطب الدين في "شرح السيرة" لعبد

ص: 135

الغني، وقال الدمياطي: وأما من لم يدخل بهن ومن وهبت نفسها له، ومن خطبها، ولم يتفق تزويجها فثلاثون امرأة على اختلاف في بعضهن.

وأول من تزوّج رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة، ولم يتزوّج أحدا عليها، حتى ماتتْ، ثم تزوّج سودة بنت زمعة، ثم عائشة بنت أبي بكر، ولم يتزوّج بكرا غيرها، ثم حفصة بنت عمر، ثم أم حبيبة بنت أبي سفيان، ثم أم سلمة، واسمها هند بنت أبي أمية، ثم زينب بنت جحش، ثم زينب بنت خريمة، ثم جويرية بنت الحارث، ثم صفية بنت حيي، ثم ميمونة بنت الحارث، وهي آخر من تزوَّج من أمَّهات المؤمنين، هذا الترتيب ذكره عبد الغني، وفي بعضه اختلاف، فجملة من دخل بهن إحدى عشر، وعقد على سبع، ولم يدخل بهن، مات منهن اثنتان في حياته، خديجة، وزينب بنت خريمة، وتوفي صلى الله عليه وسلم عن تسع رضي الله عنهن، وعن أصحابه أجمعين.

وسراريه أربع: مارية القبطية، وريحانة بنت زيد، وقيل: إنه تزوّجها، وأخرى جميلة، أصابها في السبي، وأخرى، وهبتها له زينب بنت جحش.

‌موالي رسول الله صلى الله عليه وسلم:

وموالي رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو السبعين، وإماؤه نحو العشرة، وهؤلاء لم يكونوا موجودين في وقت واحد، بل كان كل بعض منهم في وقت.

‌مؤذنوه صلى الله عليه وسلم:

مؤذنوه صلى الله عليه وسلم أربعة: بلال، وهو أول من أذن، وابن أم مكتوم، وأبو محذورة، وسعد، كان يؤذن له بـ "قباء".

‌اليوم الذي ولد فيه عليه السلام:

اتفق جمهور العلماء على أنه صلى الله عليه وسلم ولد بـ "مكة" يوم الاثنين في شهر ربيع الأول من عام الفيل، وذكر الزبير بن بكّار أن مولده

ص: 136

كان في شهر رمضان، والقول الأول هو المشهور، ثم اختلفوا في القدر الذي مضى من شهر ربيع الأول بولادته على أربعة أقوال: فقيل: ليلتان، وقيل: ثمان، وقيل: عشر، وقيل: اثنتا عشر ليلة، وهو الأشهر، وانتقل إلى الله، واختار ما عنده في يوم الاثنين حين اشتدّ الضحى لاثنتي عشر ليلة خلت من شهر ربيع الأول، وقيل: لثمان خلون منه سنة إحدى عشرة، ودفن ليلة الثلاثاء، وقيل: ليلة الأربعاء.

واختلف في مبلغ سنّه صلى الله عليه وسلم على ثلاثة أقوال: ففي حديث أنس رضي الله عنه أنه توفي على رأس الستين، وهو حديث صحيح متفق عليه، وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه توفي خمس وستين، زاده مسلم. والقول الثاني هو الأشهر، وهو الصحيح في سني أبي بكر وعمر أيضا رضى الله عنهما.

‌عدد الأنبياء عليهم السلام:

روى في حديث ضعيف مرفوع أن الأنبياء عليهم السلام مائة ألف وأربعة وعشرين ألفا، الرسل منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر، أولهم آدم، وآخرهم خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم، رواه الآجري، وأبو حاتم البستي عن أبى ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي رواية عن أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم بدر: أنتم عدد المرسلين، وعلى عدد أصحاب طالوت حين جاوزوا النهر، يعنى ثلاثمائة وثلاثة عشر.

‌معنى أولي العزم من الرسل:

قال الله تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} ، قال القرطبي في تفسيره: قال ابن عباس رضى الله عنهما: ذو العزم والصبر، قال مجاهد:

ص: 137

هم خمسة: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد صلى الله عليه وسلم، وهم أصحاب الشرائع.

وقال أبو العالية: أولو العزم نوح، وهود، وإبراهيم، فأمر الله نبيه عليه السلام أن يكون رابعهم. وقال السدّي: أنهم ستة إبراهيم، وموسى، وداود، وسليمان، وعيسى، ومحمد، صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين. وقيل: نوح، وهود، وصالح، وشعيب، ولوط، وموسى، وهم المذكورون على النسق في سورة الأعراف والشعراء.

وقال مقاتل: هم ستة: نوح، صبر على أذى قومه مدة، وإبراهيم صبر على النار، وإسماعيل صبر على الذبح، ويعقوب صبر على فقد الولد، وذهاب البصر، ويوسف صبر على البير والسجن، وأيوب صبر على الضر.

وقال ابن جريج: إن منهم إسماعيل، ويعقوب، وأيوب، وليس منهم يونس، ولا سليمان، ولا آدم. وقال الشعبي والكلبي ومجاهد أيضا: هم الذين أمروا بالقتال، فأظهروا المكاشفة، وجاهدوا الكفرة، وقيل: هم نجباء الرسل المذكورون في سورة الأنعام، وهم ثمانية عشر: إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، ونوح، وداود، وسليمان، وأيوب، ويوسف، وموسى، وهارون، وزكريا، ويحيى، وعيسى، وإلياس، وإسماعيل، واليسع، ويونس، ولوط، عليهم السلام. واختاره الحسين بن الفضل بقوله تعالى في عقبه:{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} .

وقال ابن عباس رضي الله عنهما: وأيضا كل الرسل كانوا أولوا العزم، واختاره علي بن مهدي الطبري، قال: وإنما دخلت من للتجنيس لا للتبعيض، كما تقول: اشتريت أردية من البز، وأكسية من الخز، أي اصبرْ كما صبر الرسل.

وقال بعض العلماء: أولو العزم اثنا عشر نبيا، أرسلوا إلى بني إسرائيل بـ "الشام"، فعصوهم، فأوحى الله تعالى إلى الأنبياء: أني مرسل عذابي على

ص: 138

عصاة بني إسرائيل، فشقّ ذلك على المرسلين، فأوحى الله إليهم اختاروا لأنفسكم إن شئتم أنزلت بكم العذاب، وأنجيت بني إسرائيل، وإن شئتم نجيتم، وأنزلت العذاب علي بني إسرائيل، فتشاوروا بينهم، فاجتمع رأيهم على أن ينزل بهم العذاب، وينجي الله بني إسرائيل، فأنجى الله بني إسرائيل، وأنزل بأولئك العذاب، وذلك أنه سلط عليهم ملوك الأرض، فمنهم من نشر بالمناشير، ومنهم من سلخ جلد رأسه، ومنهم من حرق بالنار. والله أعلم.

قال الحسن: أولو العزم أربعة: إبراهيم، وموسى، وداود، وعيسى، فأما إبراهيم فقيل له: أسلمْ، قال:{أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} ، ثم ابتلي في ماله، وولده، ووطنه، ونفسه، فوجد صادقا وافيا في جميع ما ابتلى به.

وأما موسى فعزمه حين قال له قومه: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} ، فقال:{كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} ، وأما داود، فأخطأ خطيئة، فنبّه عليها، فأقام يبكي أربعين سنة، حتى نبت من دموعه شجرة، فقعد تحت ظلّها، وأما عيسى فعزمه أنه لم يضعْ لبنة على لبنة، وقال أنها معبرة، فاعبروها، ولا تعمروها، وكان الله تعالى يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: اصبرْ إن كنتَ صادقا فيما ابتليتَ به مثل صدق إبراهيم، واثقا بنصرة مولاك كمثل ثقة موسى مهتما كا سلف من هفواتك مثل اهتمام داود زاهدا في الدنيا مثل زهد عيسى، ثم قيل: هي منسوخة بآية السيف، وقيل: هي محكمة، وإلا ظهر أنها منسوخة، لأن السورة مكية.

وذكر مقاتل أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، فأمر الله تعالى رسوله أن يصبر على ما أصابه، كما صبرَ أولو العزم من الرسل، تسهيلا عليه، وتثبيتا له. والله أعلم. انتهى كلام الحافظ القرشي في الجواهر المضية.

ص: 139

‌صفته صلى الله عليه وسلم:

قال الإمام تقي الدين التميمي في "طبقاته السنية": كان ربعة، بعيد ما بين المنكبين، أبيض اللون، مُشربًا حمرة، يبلغ شعره شحمة أذُنيه.

قالتْ عائشة رضي الله تعالى عنها: كنتُ أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان له شعر فوق الجمَّة ودون الوفرة. رواه أبو داود

(1)

، والترمذي

(2)

.

وقالتْ أم هانئ، رضي الله تعالى عنها: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم "مكة"، وله أربع غدائر. روياه أيضًا

(3)

.

كان سبط الشعر، في لحيته كثاثة، ومات ولم يبلغ الشيب رأسه ولحيته عشرين شعرة، ظاهر الوضاءة، يتلألأ وجهه كالقمر ليلة البدر.

وروى عن عائشة رضى الله تعالى عنها، أنها وصفته، فقالت: كان والله كما قال شاعره حسان بن ثابت الأنصاري

(4)

:

مَتى يَبْدُ في الدّاجي الْبَهيمِ جَبِينُه

يَلُحْ مثلَ مِصْباحِ الدُّجَى المتوقِّدِ

(5)

فمَن كان أوْ مَن قد يَكونُ كأحمدٍ

نِظامٌ لحقٍّ أوْ نَكَالٌ لِمُعْتَدِي

(6)

وروي عن أنس بن مالك، رضي الله تعالى عنه قال: كان أبو بكر الصديق رضى الله تعالى عنه إذا رأى النبي صلى الله عليه وسلم يقول:

أمينٌ مُصطفىً بالخَيْرِ يَدعو

كضَوْء البَدْرِ زايَلهُ الظلَام

(1)

سنن أبي داود، باب ما جاء في الشعر من كتاب الترجل 2:126.

(2)

سنن الترمذي بشرح ابن العربي 7: 257.

(3)

أبو داود في سننه باب في الرجل يعقص شعره، من كتاب الترجل 2:126.

(4)

ديوانه 101.

(5)

في الأصول "متى يند".

(6)

في الديوان "أومن يكون

نظام لحق أو نكال لملحد".

ص: 140

وروي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال كان عمر بن الخطَّاب رضي الله تعالى عنه إذا رآه ينشد قولَ زهير في هرم بن سنان

(1)

:

لو كنت من شيء سوى بشرٍ

كُنت المضي لليلةِ البدرِ

أزهر اللون، ليس بالأبيض الأمهق ولا بالآدم، أقنى العرنين، سهل الخدين، أزج الحاجبين، أقرن، أدعج العين، في بياض عينيه عروق حمر رقاق، حسن الخلق، معتدله، أطول من المربوع، وأقصر من المشذب، دقيق المسربة، كأن عنقه إبريق فضة، من لبته إلى سُرته شعر مُجرى كالقضيب، ليس في بطنه ولا صدره شعر غيره، ششن الكف والقدم، ضليع الفم، أشنب، مُفلج الأسنان، بادنًا مُتماسكًا، سواء البطن والصدر، ضخم الكراديس، أنور المتجرد، أشعر الذراعين والمنكبين، عريض الصدر، طويل الزند، رحب الراحة، سائل الأطراف، سبط القضيب، خمصان، بين كتفيه خاتم النبوَّة.

قال جابر بن سمرة: مثل بيضة الحمام يشبه جسده.

إذا مشى كأنما ينحدر من صبب، وإذا مشى كأنما ينقلع من صخر، إذا التفت جميعًا، كان عرقه اللؤلؤ، ولريح عرقه أطيب من ريح المسك الأذفر.

وقال

(2)

عند أم سليم، فعرق، فجاءتْ بقارورة، فجعلت تسكب العرق فيها، فاستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقال: يا "أم سليم، ما هذا الذي تصنعين؟ ".

قالتْ: هذا عرقك، نجعله في طيبنا، وهو أطيب الطيب.

وفي وصف أم معبد له: وفي صوته صَهَل، وفي عنقه سطع، إن صمت فعليه الوقار، وإن تكلم سما وعلاه البها، أحمل الناس وأبهاه من بعيد، وأحلاه وأحسنه من قريب، حلو المنطق.

(1)

شرح ديوان زهير 95.

(2)

من القيلولة.

ص: 141

وفي وصف هند بن أبي هالة

(1)

: خافض الطرف، نظره إلى الأرض أكثر من نظره إلى السماء، يسوق أصحابه، ويبدأ من لقيه بالسلام.

وفي وصف عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: أجود الناس كفًا، وأرحب الناس صدرًا، وأصدق الناس لهجة، وأوفى الناس بذمة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشرة، من رآه بديهة هابه، ومن خالطه أحبَّه، يقول ناعيته: لم أر قبله ولا بعده مثله، صلى الله عليه وسلم.

‌شرح الغريب مما في صفته صلى الله عليه وسلم:

الوضاءة: الحُسن والجمال.

والأزهر: الأبيض.

والأمهق: الشديد البياض، ليس بنيرٍ ولا تخالطه حُمرة.

والآدم من الناس: الأسمر.

والقنا: أحْدِيدابٌ في الأنف.

والزجج: دقة في الحاجبين وطول.

والدعج: شدة سواد العينين.

والمشذب: الطويل.

والمسربة، بضم الراء: الشعر الذي يأخذ من الصدر إلى السرة، وهو مستدق.

واللبة: المنحر.

والشثن، بتحريك الثاء: مصدر شثنت كفه، إذا خشنت وغلظت.

وضليع الفم، قال أبو عبيد: أراد أنه كان واسع الفم.

قال القتيبي: ضليع الفم: عظيمه.

والشنب: حدة الأسنان.

(1)

هو ربيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمّه خديجة بنت خويلد.

ص: 142

والبادن السمين.

والمتماسك: المستمسك اللحم.

والكراديس: جمع كُردوس، وهو كل عظيمين التقيا في مفضل.

وسواء البطن والصدر، يريد أن بطنه غير مُستفيض، فهو مُساوٍ لصدره.

أنور المتجرد، يعنى شديد بياض ما جرّد عنه الثوب.

رحب الراحة: واسع الكف.

والخمصان، الخمص: ما ارتفع عن الأرض من باطن القدم.

الصهل، والصحل في رواية: شِبه البحة، وهو غلظ في الصوت، لأنه مأخوذ من صهيل الفرس.

والسطع: طول العنق.

‌اصطفاؤه، وفضله على سائر الحلق:

روى البخاري، عن أبي هريرة رضى الله تعالى عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"بعثت من خير قرون بني آدم، قرنًا فقرنا، حتى كنت من خير قرن، كنت منه".

وروى مسلم، والترمذي، عن واثلة بن الأسقع، قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، يقول:"إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشًا من كِنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم".

وروى الترمذي، عن ابن عباس، رضى الله تعالى عنهما، قال: جلس ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتذاكرون، وهم ينتظرون خروجه.

قال: فخرج حتى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون، فسمع حديثهم، فقال بعضهم: عجبا، إن الله تبارك وتعالى اتخذ من خلقه خليلا، اتخذ إبراهيم خليلًا.

ص: 143

وقال آخر: ماذا بأعجب من كلام موسى، كلَّمه تكليميا.

وقال آخر: ماذا بأعجب من جعله عيسى كلمة الله وروحه.

وقال آخر: ماذا بأعجب من آدم، اصطفاه الله عليهم - زاد رزين -: وخلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته - ثم اتفقا -.

فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، على أصحابه، وقال:"قد سمعتُ كلامكم وعجبكم أن إبراهيم خليل الله، وهو كذلك، وأن موسى نجي الله، وهو كذلك، وأن عيسى روح الله كلمته، وأن آدم اصطفاه الله وهو كذلك، ألا وأنا حبيب الله، ولا فخر، وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة، ولا فخر، وأنا أكرم الأولين والآخرين على الله، ولا فخر، وأنا أول شافع وأول مُشفع يوم القيامة، ولا فخر، وأنا أول من يحرّك حلق الجنة، فيفتح الله لي، فيدخلنيها، ومعي فقراء المؤمنين، ولا فخر".

‌أخلاقه صلى الله عليه وسلم:

سُئلتْ عائشة رضي الله تعالى عنها، عَنهُ، فقالتْ: كان خُلُقُه القرآن؛ يغضب لغضبه، ويرضى لرضاه، ولا ينتقم لنفسه، ولا يغضب لها، إلا أن تُنهك حُرمات الله، فيغضب الله، وإذا غضب لم يقم لغضبه أحد.

وكان أشجع الناس، وأسخاهم، وأجودهم، ما سئل، فقال: لا، ولا يبت في بيته دينار ولا درهم، فإن فضل، ولم يجد من يأخذه، وفجأه الليل، لم يرجع إلى منزله حتى يبرأ منه إلى من يحتاج إليه، لا يأخذ مما آتاه الله إلا قوت أهله عامًا فقط، من أيسر ما يجد من التمر والشعير، ثم يؤثر من قوت أهله، حتى ربما احتاج قبل انقضاء العام.

وكان من أحلم الناس، وأشدّ حياء من العذراء في خدرها، خافض الطرف، نظرهُ الملاحظة.

ص: 144

وكان أكثر الناس تواضعًا، يجيب من دعاه من غنى أو فقير، أو حر أو عبد.

وكان أرحم الناس، يصغي الإناء للهرة، وما يرفعه حتى تَرْوَى، رحمة لها.

وكان أعفّ الناس، وأشدّهم إكرامًا لأصحابه، لا يمدّ رجليه بينهم، ويوسع عليهم إذا ضاق المكان، ولم تكن ركبتاه تتقدم ركبة جليسه، له رفقاء يحفون به، وإن قال أنصتوا له، وإن أمر تبادروا لأمره، ويتحمل لأصحابه، ويتفقدهم، ويسأل عنهم، فمن مرض عاده، ومن غاب دعا له، ومن مات استرجع فيه، وأتبعه الدعاء له، ومن تخوّف أن يكون وجد في نفسه شيئًا، انطلق إليه حتى يأتيه في منزله، ويخرج إلى بساتين أصحابه، ويأكل ضيافتهم، ويتألف أهل الشرف، ويكرم أهل الفضل، ولا يطوي بشره عن أحد، ولا يجفو عليه، ويقبل معذرة المعتذر إليه، والضعيف والقوي عنده في الحق سواء، ولا يدع أحدًا يمشي خلفه، ويقول:"خلوا ظهري للملائكة". ولا يدع أحد يمشي معه وهو راكب، حتى يحمله، فإن أبى قال: تقدمني إلى المكان الفلاني. ويخدم من خدمه، وله عبيد وإماء، ولا يرتفع عنهم في مأكل ولا ملبس.

قال أنس بن مالك، رضي الله تعالى عنه: خدمته نحوا من عشر سنين، فوالله ما صحبته في حضر ولا سفر لأخدمه إلا كانت خدمته لي أكثر من خدمتي له، وما قال لي: أفّ قط، ولا قال لشيء فعلته: لم فعلتَ كذا، ولا لشيء لم أفعله: ألا فعلتَ كذا.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفرٍ، فأمر بإصلاح شاة، فقال رجل: يا رسول الله، عليَّ ذبحها.

وقال آخر: عليَّ سلخها.

وقال آخر: عليَّ طبخها.

ص: 145

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وعَلَيَّ جمع الحطبِ".

فقالوا: يا رسول الله، نحن نكفيك.

فقال: "قد علمت أنكم تكفونني، ولكن أكره أن أتميز عليكم؛ فإن الله يكره من عبده أن يراه مُتميزًا بين أصحابه، وقام، فجمع الحطب.

وكان في سفر، فنزل إلى الصلاة، ثم كرَّ راجعًا.

فقيل: يا رسول الله، أين تريد؟ فقال:"أعقل ناقتي".

فقالوا: نحن نعقلها.

قال: "لا يستعن أحدكم بالناس، ولو في قضمة من سواك".

وكان لا يجلس ولا يقوم إلا على ذكر، وإذا انتهى إلى القوم جلس حيث انتهى به المجلس، ويأمر بذلك، ويعطى كل أحد من جلسائه نصيبه، لا يحسب جليسه أن أحدًا أكرم عليه منه، وإذا جلس إليه أحدهم لم يقم صلى الله عليه وسلم حتى يقوم الذي جلس إليه، إلا أن يستعجله أمر، فيستأذنه، ولا يقابل أحدًا بما يكره، ولا يجزي السيئة بمثلها، بل يعفو، ويصفح.

وكان يعود المرضى، ويحبّ المسكين، ويجالسُهم، ويشهدُ جنائزهم، ولا يحقرُ فقيرًا لفقره، ولا يهابُ ملكًا لملكه.

يُعظم النعمة وإن قلت، ولا يذمّ منها شيئًا، ما عاب طعامًا قط؛ إن اشتهاه أكله، وإلا تركه.

وكان يحفظ جارَه، ويكرم ضيفَه.

وكان أكثر الناس تبسّمًا، وأحسنهم بشرًا، ولا يمضى له وقت في غير عمل لله، أو في ما لا بد منه، وما خيّر بين أمرين، إلا اختار أيسرهما، إلا أن يكون فيه قطيعة رحم، فيكون أبعد الناس منه.

يخصف نعله، ويرقع ثوبه، ويركب الفرس والبغل والحمار، ويردف خلفه عبده، أو غيره، ويمسح وجه فرسه بطرف كمّه، أو بطرف ردائه.

ص: 146

وكان يحبّ الفأل، ويكره الطيرة، وإذا جاءه ما يحبّ قال:"الحمد لله رب العالمين"، وإذا جاءه ما يكره، قال:"الحمد لله على كل حال".

وإذا رفع الطعام من بين يديه قال: "الحمد لله الذي أطعمنا، وسقانا، وأوانا، وجعلنا مُسلمين".

وأكثر جلوسه مستقبل القبلة.

ويكثر الذكر، ويطيل الصلاة، ويقصر الخطبة.

ويستغفر في المجلس الواحد مائة مرة.

وكان يسمع لصدره وهو في الصلاة أزيز كأزيز المرجل من البكاء.

وكان يقوم حتى ترم قدماه.

وكان يصوم الاثنين، والخميس، وثلاثة أيام من كل شهر، وعاشوراء.

وقلما كان يفطر يوم الجمعة، وأكثر صيامه شعبان.

وفي "الصحيحين"، من رواية أنس رضى الله تعالى عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول: لا يفطر، ويفطر حتى نقول: لا يصوم.

وكان عليه الصلاة والسلام تنام عيناه، ولا ينام قلبه، انتظارًا للوحي.

وإذا نام نفخ، ولا يغط.

وإذا رأى في منامه ما يكره قال: "هو الله لا شريك له".

وإذا أخذ مضجعه قال: "ربِ قني عذابك يوم تبعث عبادك".

وإذا استيقظَ قال: "الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور".

وكان لا يأكل الصدقة، ويأكل الهدية، ويكافئ عليها، ولا يتأنق في مأكل، ويعصب على بطنه الحجر من الجوع، وأتاه الله مفاتيح خزائن الأرض، فلم يقبلها، واختارَ الآخرة، وأكل الخبز بالخل، وقال:"نعم الإدام الخل"، وأكل لحم الدجاج، ولحم الحُبارى، وكان يأكل ما وجد، ولا يردّ ما حضر، ولا يتكلّف ما لم يحضر، ولا يتورّع عن مطعم حلال؛ إن وجد تمرًا دون خبز أكله، وإن وجد حُلوًا أو عسلًا أكله.

ص: 147

وكأن أحبّ الشراب إليه الحلو البارد.

وقال لأبي الهيثم بن التَّيْهان: "كأنك علمت حُبَّنا للَّحْم". وكان لا يأكل متكئًا، ولا على خوان، لم يشبع من خبز برُ ثلاثًا تباعًا، حتى لقى الله عز وجل إيثارًا على نفسه، لا فقرًا ولا بخلًا، ويجيب الوليمة، ويجيب دعوة العبد والحر، ويقبل الهدايا ولو أنها جرعة لبن أو فخذ أرنب، وكان يحبّ الدبَّاء، والذراع من الشا، وقال:"كلوا الزيت، وادهنوا به، فأنه من شجرة مباركة"، وكان يأكل بأصابعه الثلاث، ويلعقهن، منديله باطن قدميه، وأكل خبز الشعير بالتمر، والبطيخ بالرطب، والقثاء بالرطب، والتمر بالزبد، وكان يحبّ الحلواء والعسل.

ويشرب قاعدًا، وربما شرب قائمًا، ويتنفَّس ثلاثًا مبينًا للإناء، ويبدأ بمَنْ عن يمينه إذا سقاه، وشرب لبنًا، وقال:"من أطعمه الله طعامًا، فليقل: اللهم بارك فيه، وأطعمنا خيرًا منه، ومن سقاه لبنًا فليقل: اللهم بارك لنا وزدنا منه".

وقال: "ليس شيء يُجزى مكان الطعام والشراب غير اللبن".

قال ابن حزم: وشرب النبيذ الحلو.

قال الصلاح الصفدي: تفسيره الماء الذي ينبذُ فيه التمرات اليسيرة ليحلو.

وكان يلبس الصوف، وينتعل المخصوف، ولا يتأّنق في ملبس، وأحبّ اللباس إليه الحِبرة من "اليمن"، فيها حمرة وبياض، وأحبّ الثياب إليه القميص، ويقول إذا لبس ثوبًا استجده:"اللهم لك الحمد كما ألبستنيه، أسألك خيره، وخير ما صنع، وأعوذ بك من شرّه، وشرّ ما صُنع"، وتعجبه الثياب الخضر، وربما لبس الإزار الواحد ليس عليه غيره، ويعقد طرفه بين كتفيه.

ويلبس يوم الجمعة برده الأحمر، ويعتم.

ص: 148

ويلبس خاتمًا من فضة، نقشه "محمد رسول الله" في خنصره الأيمن، وربما جعله في الأيسر.

ويحبّ الطيب، ويكره الرائحة الكريهة.

ويقول: "إن الله جعل لذّتي في النساء والطيب، وجعل قرّة عيني في الصلاة".

وكان يتطيّب بالغالية والمسك، أو المسك وحده، ويتبخّر بالعود والكافور، ويكتحل بالإثمد، وربما اكتحل وهو صائم، ويُكثر دهن رأسه ولحيته، ويدهن غبا، ويكتحل وترًا.

ويحبّ التيمّن في ترجّله، وفي ظهوره، وفي شأنه كله.

وينظر في المرآة، ولا تفارقه قارورة الدهن في سفره، والمكحلة، والمرآة، والمشط، والمقراض، والسواك، والإبرة، والخيط.

ويستاك في الليلة ثلاثة مرات، وقبل النوم، وبعده، وعند القيام لِورده، وعند الخروج لصلاة الصبح، وكان يحتجم.

وكان يمزح ولا يقول: إلا حقًا، وجاءته امرأة، فقالت: يا رسول الله، احملنى على جمل.

فقال: "أحملك على ولد الناقة".

قالت: لا يطيقني.

فقال لها الناس: وهل الجمل إلا ولد الناقة! وجاءتْه امرأةٌ، فقالت: يا رسول الله، إن زوجي مريض، وهو يدعوك.

فقال: "لعل زوجك الذي في عينيه بياض".

فرجعتْ، وفتحتْ عين زوجها، فقال: ما لك؟

قالت: أخبرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن في عينيك بياضًا.

فقال: وهل أحد إلا في عينيه بياض.

ص: 149

وقالتْ أخرى: يا رسول الله، ادْع الله لي أن يُدخلني الجنة.

فقال: "يا أمَّ فلان، إن الجنة لا يدخلها عجوز".

فولت المرأة، وهي تبكي، فقال صلى الله عليه وسلم: "أخبروها أنها لا تدخل الجنة وهي عجوز، إن الله تعالى يقول:{أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا} .

قد جمع الله له كمال الأخلاق، ومحاسن الأفعال، وحسبك ما أثنى عليه في قوله تعالى:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} .

وآتاه الله علم الأولين والآخرين، وما فيه النجاة والفوز، وهو أمّي، لا يكتب، ولا يقرأ، ولا معلم له من البشر، ونشأ في بلاد الجهل والصحارى، وآتاه ما لم يؤت أحدًا من العالمين، واختاره على الأولين والآخرين، صلى الله عليه وسلم.

‌الفصل الرابع في معجزاته وآياته صلى الله عليه وسلم:

وههنا أذكر عدة من معجزاته وآياته صلى الله عليه وسلم.

منها: القرآن العظيم: وهو أكبرها، الذي دعا به بلغاء قريش، وهم ما هم قالة البلاغة، ولسن الفصاحة، ولهم من ذلك قمراها والنجوم الطوالع، ودعا غيرهم، مُذ بعثه الله قرنًا بعد قرن، وجيلًا بعد جيل، إلى يومنا هذا، وإلى يوم البعث والنشور.

ص: 150

قال الجلال السيوطي في "خصائصه" في باب إعجاز القرآن: قال الله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} ، وقال تعالى:{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ} ، وقال تعالى:{فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} .

وأخرج البخاري عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من الأنبياء نبي إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إليَّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا.

قال العلماء: معناه أن معجزات الأنبياء انقضرت بانقراض أعصارهم، فلم يشاهدها إلا من حضرها، ومعجزة القرآن مستمرة إلى يوم القيامة، وخرقه العادة في أسلوبه وبلاغته وأخباره بالمغيبات، فلا يمر عصر من الأعصار إلا ويظهر فيه شئ مما أخبر أنه سيكون يدل على صحة دعواه، وقيل: المعنى أن المعجزات الماضية كانت حسية، تشاهد بالأبصار، كناقة صالح، وعصا موسى، ومعجزة القرآن تشاهد بالبصيرة، فيكون من يتبعه لأجلها أكثر، لأن الذين يشاهد بعين الرأس ينقرض بانقراض مشاهده، والذي يشاهد بعين العقل باق، يشاهده كل ممن جاء بعد.

وانشقاق القمر: روى مُسلم والترمذي، عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، قال: انشقّ القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقتين، فستر الجبل فلقة، وكانت فلقة فوق الجبل.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم اشهدْ".

ص: 151

وروى الترمذي، عن جبير بن مطعم، قال: انشقّ القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصار فرقتين. فقالت قريش: سحر محمد أعيننا.

فقال بعضهم: لئن كان سحرنا ما يستطيع أن يسحر الناس كلهم - وزاد رزين -: فكانوا يتلقون الركبان، فيخبرونهم بأنهم قد رأوه، فيكذبوهم.

وما أحقّه صلى الله عليه وسلم بقول أبي الطيب:

مَتى مَا يُشِرْ نحْوَ السَّمَاء بَطرفِه

يَخِرُّ لهُ الشَّعْرى وَينْكَسِفُ البَدْرُ

وأن الملأ من قريش تعاقدوا على قتله، فخرج عليهم، فخفضوا أبصارهم، وسقطت أذقانهم في صدورهم، وأقبل حتى قام على رءوسهم، فقبض قبضة من تراب، وقال:"شاهت الوجوه"، وحصبَهم، فما أصابَ رَجُلًا منهم من ذلك الحصباء شيءٌ إلا قُتل يوم بدر.

وَرَمى يوم حنين بقبضة من تراب في وجوه القوم، فهزمهم الله تعالى.

ونسج العنكبوت في الغار.

وما كان من أمر سراقة بن مالك، إذ بُعث خلفه في الهجرة، فساختْ قوائمُ فرسه، في الأرض الجلد.

ومسح على ظهر عَناق لم يَنز عليها الفحل، فدرَّتْ.

وشاة أم مَعبد.

ودعوته لعمر بن الخطَّاب رضى الله تعالى عنه أن يعزّ الله به الإسلام.

ودعوته لعليٍّ رضى الله تعالى عنه أن يذهب عنه الحرّ والبرد.

وتفله في عينيه، وهو أرمد، فعوفي من ساعته، ولم يرمد بعد ذلك.

ورده عين قتادة، بعد أن سالتْ على خدّه، فكانتْ أحسن عينيه وأحدّهما.

ودعاؤه لعبد الله بن عبَّاس، رضى الله عنهما، بالتأويل والفقه في الدين، وكان يُسمّى الحبر والبحر لعلمه.

ص: 152

ودُعاؤه لجمل جابر، فصار سابقًا بعد أن كان مسبوقًا.

ودعاؤه لأنس بن مالك، رضى الله تعالى عنه، بطول العمر، وكثرة المال والولد، فعاش مائة سنة أو نحوها، وولد له مائة وعشرون ولدًا ذكرًا لصلبه، وكان نخله يحمل في السنة مرتين.

ودُعاؤُه في تمر جابر بالبركة، فأوفى غُرماءه، وفضل ثلاثة عشر وسقًا.

واستسقاؤه عليه الصلاة والسلام، فمطروا أسبوعًا، ثم استصحاؤه، فانجابت السماء.

وإذا النوائبُ أظلمتْ أحداثُها

لَبِستْ بوَجْهك أَحْسَنَ الأشرَاقِ

ودعاؤه على عتبة بن أبي لهب، فأكله الأسد بـ "الزرقاء" من "الشام".

وشهادة الشجرة له بالرسالة، في خبر الأعرابي، الذي دعاه إلى الإسلام؛ فقال: هل من شاهد على ما تقول؟ فقال: "نعم، هذه الشجرة"، ثم دَعاها، فأقبلت، فاستشهدها، فشهدتْ له أنه كما قال، ثلاثًا، ثم رجعتْ إلى منبتها.

وأمره شجرتين، فاجتمعتا، ثم افترقتا.

وأمره أنسًا أن ينطلق إلى نحلات، فيقول لهن: أمركن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تجتمعن، فاجتمعن، فلما قضى حاجته أمره أن يأمرهن بالعود إلى أماكنهن، فعدن.

ونام، فجاءتْ شجرة تشقّ الأرض حتى قامتْ عليه، فلما استيقظَ ذكرت له، فقال:"هي شجرة استأذنت ربها أن تسلم عليَّ، فأذن لها".

وسلام الحجر والشجر عليه ليالي بعث: السَّلام عليك يا رسول الله.

وقوله: "إني لأعرف حجرًا بـ "مكة" كان يسلم عليَّ قبل أن أبعث".

وحنين الجذع إليه.

وتسبيح الحصا في كفّه، وكذلك الطعام.

ص: 153

وإعلامه الشاة بسمّها.

وشكوى البعير إليه كثرة العمل، وقلة العلف.

وسؤال الظبية له أن يُخلصها من الحبل؛ لترضع ولديها، وتعود، فخلصها، فتلفظت بالشهادتين.

وإخباره عن مصارع المشركين يوم بدر، فلم يعد أحد منهم مصرعه.

وإخباره أن طائفة من أمته يغزون في البحر، وأن أمّ حرام بنت ملحان منهم، فكذلك.

وقوله لعثمان رضي الله تعالى عنه تصيبه بلوى شديدة، فكانتْ، وقتل.

وقوله في الحسن: "إن ابني هذا سيد، وإن الله سيصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين".

وإخباره بقتل العنسي الكذَّاب، وهو بـ "صنعاء"، ليلة قتله.

وقوله لثابت بن قيس: "تعيش حميدًا، وتقتل شهيدًا"، فقتل يوم "اليمامة".

ولما ارتدّ رجل من المسلمين، ولحق بالمشركين، بلغه أنه مات، فقال:"إن الأرض لا تقبله"، فكان كذلك.

وقوله لرجل يأكل بشماله: "كل بيمينك" فقال: لا أستطيع، فقال له:"لا استطعت" فلم يُطق أن يرفعها إلى فيه بعد.

ودخوله "مكة" عام الفتح، والأصنام حول الكعبة معلّقة، وبيده قضيب، فجعل يشير إليها به، ويقول:{جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} ، وهي تتساقط.

وقصة مازن بن الغضوبة الطائي، وسواد بن قارب، وأمثالهما.

وشهادة الضبّ بنبوته.

وإطعام ألف من صاع شعير بالخندق، فشبعوا، والطعام أكثر مما كان، وأطعمهم من تمر يسير، وجمع فضل الأزواد على النطع، ودعا لها بالبركة، ثم قسمها في العسكر، فقامتْ بهم.

ص: 154

وأتاه أبو هريرة رضى الله تعالى عنه بتمرات قد صفهن في يده، وقالت: ادع لي فيهن بالبركة، فدعا له.

فقال أبو هريرة: فأخرجت من ذلك التمر كذا وكذا وسقا في سبيل الله، وكنا نأكل منه، ونطعم، حتى انقطع في زمن عُثمان رضى اللّه تعالى عنه.

ودعاؤه أهل الصفّة لقصعة ثريد، قال أبو هريرة: فجعلت أتطاول ليدعوني، حتى قام القوم، وليس في القصعة إلا اليسير في نواحيها، فجمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصنع لقمة، ووضعها على أصابعه، وقال:"كل بسم الله"، فوالله الذي نفسى بيده ما زلتُ آكل منها حتى شبعت. وأمر عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، أن يزوّد أربعمائة راكب من تمر كان في اجتماعه كربضة البعير، فزوّدهم كلّهم منه، وبقي تحسبه كما كان.

ونبع الماء بين أصابعه حتى شرب منه القوم، وتوضأوا، وهم ألف وأربعمائة.

وأتى بقدح فيه ماء، فوضع أصابعه في القدح، فلم يسع، فوضع أربعة منها، وقال:"هلمّوا"، فتوضأوا أجمعين، وهم من السبعين إلى الثمانين.

وورد في غزوة "تبوك" على ماء لا يروي أحدًا، والقوم عطاش، فشكوا إليه، فأخذ سهمًا من كنانته، فغرسه فيها، ففار الماء، وارتوى القوم، وكانوا ثلاثين ألفًا.

وشكا إليه قوم ملوحة في مائهم، فجاء في نفر من أصحابه، حتى وقف على بئرهم، فتفل فيها، فتفجر بالماء العذب المعين.

وأتتْه امرأة بصبي أقرع، فمسح على رأسه، فاستوى شعره، وذهب داؤه، فسمع أهل "اليمامة" بذلك؛ فأتتْ امرأة إلى مسيلمة بصبي، فمسح رأسه، فتصلع، وبقي الصلع في نسله.

وانكسر سيف عكَّاشة يوم بدر، فأعطاه جذلًا من حطب، فصار في يده سيفًا، ولم يزل بعد ذلك عنه.

ص: 155

وعزت كدية بالخندق عن أن يأخذها المعول، فضربها فصارتْ كثيبًا أهيل.

ومسح على رجل أبي رافع، وقد انكسرت، فكأنه لم يشكها قط.

وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله زوى لي الأرض، فرأيتُ مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها".

قال الصلاح الصفدي: وصدق الله قوله، بأن ملك أمته بلغ أقصى المشرق والمغرب، ولم ينتشر في الجنوب ولا في الشمال.

وأخبر عن الشيماء بنت بقيلة الأزدية، أنها رفعتْ له في خمار أسود على بغلة شهباء، فأخذتْ في زمن أبي بكر الصديق رضى الله تعالى عنه، في جيش خالد بن الوليد، بهذه الصفة.

وقال لرجل ممن يدعي الإسلام، وهو معه في القتال:"إنه من أهل النار"، فصدق الله قوله، بأن ذلك الرجل نحر نفسَه، وهذا لا يعرف البتةَ بشئ من النجوم، ولا بخط ولا بزجر، ولا بالنظر في الكف، ولا بتصويت الودع.

وأبطل الله تعالى ببعثه الكهانة، فانقطعتْ، وكانتْ ظاهرة موجودة.

ودعا اليهود إلى تمني الموت، وأخبرهم بأنهم لا يتمنونه، فحيل بينهم وبين النطق بذلك.

وأخبر بأن عمَّارًا تقتله الفئة الباغية، فكان مع عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، وقتَلهُ جماعة معاوية.

وأنذر بموت النجاشي، وخرج هو وأصحابه إلى "البقيع"، فصلوا عليه، فورد الخبر بموته بعد ذلك، في ذلك اليوم.

وخرج على نفر من أصحابه مُجتمعين؛ فقال: "أحدكم في النار، ضرسه مثل أحد". فماتوا كلهم على الإسلام، وارتدّ منهم واحد، وهو الدجّال الحنفي، فقتل مرتدًا مع مُسيلمة.

ص: 156

وقال لآخرين منهم: "آخركم موتًا في النار، فسقط آخرهم موتًا في نار، فمات، وهو سمرة بن جندب.

وأخبر بأنه يقتل أمية بن خلف الجمحي، فخدشه يوم أحد خدشًا لطيفًا، فكانت منيته منه.

وأخبر فاطمة ابنته، رضي الله تعالى عنها، أنها أول أهله لحاقًا به، فكانت كذلك.

وأخبر نساءه أن أطولهن يدًا أسرعهن لحاقًا به، وكانتْ زينب بنت جحش الأسدية؛ لأنها كانتْ كثيرة الصدقة.

وحكى الحكم بن أبي العاص مِشتيه صلى الله عليه وسلم مُستهزئًا، فقال:"كذلك فكن"، فلم يزلْ يرتعشْ إلى أن مات.

وخطب أُمامة بنت الحارث بن أبي عوف، وكان أبوها أعرابيًا جافيا، فقال: إن بها بياضًا، فقال:"لتكن كذلك"، فبرصت من وقتها، فتزوّجها ابن عمّها يزيد بن حمزة، فولدتْ له الشاعر شبيب بن يزيد، وهو المعروف بابن البرصاء.

وليلة ميلاده اضطرب إيوان كسرى، حتى سمع صوته، وسقطتْ منه أربع عشرة شُرفة، وخمدتْ نار" فارس"، ولم تخمد قبل ذلك بألف عام، وغاضتْ بحيرة ساوة.

ومن علائم نبوته: حراسة السماء بالشهب إلى تقذف الشياطين، فلا تسترق السمع، وبشرى الكهَّان به والهواتف، وإخبار الأحبار بظهوره، وفِراسة بحيرى الراهب فيه، ومعرفته آيات النبوة وأمارات البعثة فيه.

وَرَأوْكَ وَضَّاحَ الجَبِينِ كما يُرَى

قمرُ السَّماء السّعْدُ ليلةَ يَكمُلُ

وولادته مختونًا مسرورًا، وسجع شق وسطيح، ورؤيا الموبذان، إلى غير ذلك من الآيات الظاهرة، والأمارات الباهرة، والدَّلالات الزاهرة، والمعجزات القاهرة، والسيرة التي شهرت شهرة النجوم الزواهر، وسار الذكر منها في الناس سير القوافي السوائر.

ص: 157

وقدْ ألفت العلماء الحفَّاظ، والثقات الأيقاظ في سيرته ومعجزاته، وفي خصائصه، صلى الله عليه وسلم، كتبًا كثيرة، ومجلدات كبيرة، لا يحيط بها حد، ولا يحصرها عدٌّ.

وكل منهم بذل جهده، ولم يدّخر شيئًا عنده، وما أتوا بعُشر مِعشار فضائله، ولا بقطرة من بحار فواضله، وكان أكثر مما قيل ما بكوا، كل منهم ينشد مع ذلك بلسان حاله، أو لسان قاله، مُعتذرًا عن تقصيره، ومُخبرًا بما هو الواقع في ظاهر ضميره، قول صاحب "البردة"، رحمه الله تعالى:

وإنَّ فَضْلَ رَسُلِ الله ليسَ لهُ

حَدٌ فيُعْرِبُ عَنْهُ ناطق بِفَمِ

وأجمع ما وقفتُ عليه من ذلك، كتاب "الخصائص الكبرى" للجلال السيوطي، وكتاب "السيرة النبوية" للحافظ تقى الدين المقريزى، فمن أراد أن يُنزه بصره وبصيرته في رياض الجنة، فعليه بمطالعتهما، والوقوف عليهما، جزاهُما الله تعالى عن نبيه صلى الله عليه وسلم أحسن الجزاء بمنه، وكرمه، آمين.

ومدحه صلى الله عليه وسلم بالشعر جماعةٌ عديدة، من رجال الصحابة ونسائهم، جمعهم الشيخ الإمام الحافظ فتح الدين بن سيّد الناس اليعمري في قصيدة ميمية، ثم شرحها في مجلد، سماها "منح المدح"، ورتّبهم على حروف المعجم، فأربى في هذا الجمع على الحافظ ابن عبد البر؛ لأنه ذكر منهم ما يقارب المائة والعشرين، أو ما يزيد على ذلك، والشيخ فتح الدين قارب المائتين، كذا قال الصلاح الصفدي، وقال: لا أعلم أحدًا حصل من الصحابة الذين مدحوا النبي صلى الله عليه وسلم، هذا القدر، وقد كتبت هذا المصنف بخطي، وسمعت من لفظه ما يقارب نصفه، وأجازني البقية.

وأما شعراؤه الذين كانوا بصدد المناضلة عنه، والهجاء لكفَّار قريش، فإنهم ثلاثة: حسَّان بن ثابت الأنصاري، وعبد الله بن رواحة الأنصاري، كعب بن مالك الأنصاري، وكان حسان يقبل بالهجو على أنسابهم، وعبد

ص: 158

الله بن رواحة يعيرهم بالكفر، كعب بن مالك يخوفهم الحرب، فكانوا لا يبالون قبل الإسلام بأهاجي ابن رواحة، ويألمون من أهاجي حسَّان، فلمَّا دخل من دخل منهم الإسلام، وجد ألم أهاجي ابن رواحة أشدَّ وأشقَّ.

ومن أشهر الصحابة بالمدح له كعب بن زهير بن أبي سلمة السعدي، وقصيدته "بانت سعاد" مشهورة، وما من شاعر في الغالب جاء بعده، ومدح رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا وقد نظم في وزنها ورويها، ولله درُّ القاضي مُحي الدين بن عبد الظاهر، حيث يقول:

لقد قال كَعْبٌ في النبيِّ قصيدة

وقُلنا عسى في مَدحِه نَتَشارَكُ

فإنْ شَمِلتْنا بالجوائزِ رَحْمَةٌ

كرحمة كعبٍ فهو كصْبٌ مُباركُ

انتهى كلام تقى الدين التميمي من "طبقاته".

‌الفصل الخامس في ذكر من رثى النبي صلى الله عليه وسلم

ذكر الإمام محمد بن سعد الزهري في كتابه "الطبقات الكبرى" مَن رَثَى النبيَّ صلى الله عليه وسلم من الصحابة رضى الله تعالى عنهم، فقال:

‌مرثية أبي بكر الصديق رضي الله عنه:

قال أبو بكر الصديق يرثي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم:

يا عين فابكي ولا تسأمي

وحق البكاء على السيد

على خير خندف عند البلاء

أمسى يغيب في الملحد

فصلى المليك ولي العباد

ورب البلاد على أحمد

فكيف الحياة لفقد الحبيب

وزين المعاشر في المشهد

ص: 159

فليت الممات لنا كلنا

وكنا جميعا مع المهتدي

قال الواقدي: وقال أبو بكر الصديق أيضا:

لما رأيت نبينا متجدلا

ضاقت على بعرضهن الدور

وارتعت روعة مستهام واله

والعظم مني واهن مكسور

أعتيق ويحك إن حبك قد ثوى

وبقيت منفردا وأنت حسير

يا ليتني من قبل مهلك صاحبي

غيبت في جدث على صخور

فلتحدثني بدائع من بعده

تعيا بهن جوانح وصدور

قال الواقدي: وقال أبو بكر أيضا:

باتت تأوّبني هموم

حشد

مثل الصخور فأمست هدت الجسدا

يا ليتني حيث نبئت الغداة به

قالوا الرسول قد أمسى ميتا فقدا

ليت القيامة قامت بعد مهلكه

ولا نرى بعده مالا ولا ولدا

والله أثنى على شئ فجعت به

من البرية حتى أدخل اللحدا

كم لي بعدك من هم ينصبني

إذا تذكرت أني لا أراك بدا

كان المصفاء في الأخلاق قد علموا

وفي العفاف فلم نعدل به أحدا

نفسي فداؤك من ميت ومن بدن

ما أطيب الذكر والأخلاق والجسدا

‌مرثية عبد الله بن أنيس رضي الله عنه:

وأنشدنا هشام بن محمد الكلبي، عن عثمان بن عبد الملك أن عمران بن بلال بن عبد الله بن أنيس قال: سمعتها من مشيختنا، قال: قال عبد الله بن أنيس يرثي النبي صلى الله عليه وسلم:

تطاول ليلى واعترتني القوارع

وخطب جليل للبلية جامع

غداة نعى الناعى إلينا محمدا

وتلك التي تستك منها المسامع

فلو رد ميتا قتل نفسي قتلتها

ولكنه لا يدفع الموت دافع

فآليت لا أثني على هلك هالك

من الناس ما أوفى ثبير وفارع

ص: 160

ولكنني باك عليه ومتبع

مصيبته إني إلى الله راجع

وقد قبض الله النبيين قبله

وعاد أصيبت بالرزى والتبابع

فيا ليت شعري من يقوم بأمرنا

وهل في قريش من إمام ينازع

ثلاثة رهط من قريش هم هم

أزمة هذا الأمر والله صانع

علي أو الصديق أو عمر لها

وليس لها بعد الثلاثة رابع

فإن قال منا قائل غير هذه

أبينا وقلنا الله راء وسامع

فيا لقريش قلدوا الأمر بعضهم

فإن صحيح القول للناس نافع

ولا تبطئوا عنها فواقا فإنها

إذا قطعت لم يمن فيها المطامع

‌مرثية حسَّان بن ثابت رضي الله عنه:

أخبرنا قتيبة بن سعيد أبو رجاء البلخي، أخبرنا ليث بن سعد عن بن يزيد عن سعيد، يعني بن أبي هلال أن حسَّان بن ثابت، قال وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم:

والله ما حملت أنثى ولا وضعت

مثل النبي رسول الأمة الهادى

أمسى نساؤك عطلن البيوت فما

يضربن خلف قفا ستر بأوتاد

مثل الرواهب يلبسن المسوح وقد

أيقن بالبؤس بعد النعمة البادي

وقال حسَّان بن ثابت أيضا يرثي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أنشدنا أبو عمرو الشيباني:

آليت حلفة بر غير ذي دخل

مني ألية حق غير إفناد

بالله ما حملت أنثى ولا وضعت

مثل النبي نبي الرحمة الهادي

ولا مشى فوق ظهر الأرض من أحد

أوفى بذمة جار أو بميعاد

من الذي كان نورا يستضاء به

مبارك الأمر ذا حزم وإرشاد

مصدقا للنبيين الألى سلفوا

وأبذل الناس للمعروف للجادي

خير البرية إني كنت في نهر

جار فأصبحت مثل المفرد الصادي

ص: 161

أمسى نساؤك عطلن البيوت فما

يضربن خلف قفا ستر بأوتاد

مثل الرواهب يلبسن المسوح وقد

أيقن بالبؤس بعد النعمة البادي.

وقال أبو عمرو: قال حسَّان يرثيه صلى الله عليه وسلم:

ما بال عينك لا تنام كأنما

كحلت مآقيها بكحل الأرمد

جزعا على المهدي أصبح ثاويا

يا خير من وطئ الحصى لا تبعد

يا ويح أنصار النبي ورهطه

بعد المغيب في سواء الملحد

جنبي يقيك الترب لهفي ليتني

كنت المغيب في الضريح الملحد

يا بكر آمنة المبارك ذكره

ولدته محصنة بسعد الأسعد

نورا أضاء على البرية كلها

من يهد للنور المبارك يهتد

أأقيم بعدك بالمدينة بينهم

يا لهف نفسي ليتني لم أولد

بأبي وأمي من شهدت وفاته

في يوم الإثنين النبي المهتدي

فظللت بعد وفاته متلددا

يا ليتنى صبحت سم الأسود

أو حل أمر الله فينا عاجلا

في روحة من يومنا أو من غد

فتقوم ساعتنا فنلقى سيدا

محضا مضاربه كريم المحتد

يا رب فاجمعنا معا ونبينا

في جنة تفقي عيون الحسد

في جنة الفردوس واكتبها لنا

يا ذا الجلال وذا العلا والسودد

والله أسمع ما حييت بهالك

إلا بكيت على النبي محمد

ضاقت بالأنصار البلاد فأصبحوا

سودا وجوههم كلون الإثمد

ولقد ولدناه وفينا قبره

وفضول نعمته بنا لا تجحد

والله أهداه لنا وهدى به

أنصاره في كل ساعة مسهد

صلى الإله ومن يحف بعرشه

والطيبون على المبارك أحمد

قال: قال أبو عمرو الشيباني، وقال حسَّان بن ثابت يرثي النبي صلى الله عليه وسلم:

ص: 162

يا عين جودي بدمع منك إسبال

ولا تملن من سح وإعوال

لا ينفدن لي بعد اليوم دمعكما

إني مصاب وإني لست بالسالي

فإن منعكما من بعد بذلكما .. إياي مثل الذي قد غر بالآل

لكن أفيضى على صدرى بأربعة

إن الجوانح فيها هاجس صالي

سح الشعيب وماء الغرب يمنحه

ساق يحمله ساق بإزلال

حامي الحقيقة نسال الوديقة

فكاك العناة كريم ماجد عال

على رسول لنا محض ضريبته

سمح الخليقة عف غير مجهال

كشاف مكرمة مطعام مسغبة

وهاب عانية وجناء شملال

عف مكاسبه جزل مواهبه

خير البرية سمح غير نكال

وارى الزناد وقواد الجياد إلى

يوم الطراد إذا شبت بأجذال

ولا أزكي على الرحمن ذا بشر

لكن علمك عند الواحد العالي

إني أرى الدهر والأيام يفجعني

بالصالحين وأبقى ناعم البال

يا عين فابكي رسول الله إذ ذكرت

ذات الإله فنعم القائد الوالي

قال أبو عمرو وقال حسان بن ثابت يرثي النبي صلى الله عليه وسلم:

نسب المساكين أن الخير فارقهم

مع الرسول تولى عنه سحرا

من ذا الذي عنده رحلي وراحلتي

ورزق أهلي إذا لم نؤنس المطرا

ذاك الذي ليس يخشاه مجالسه

إذا الجليس سطا في القول أو عثرا

كان الضياء وكان النور نتبعه

وكان بعد الإله السمع والبصرا

فليتنا يوم واروه بمخبئه

وغيبوه وألقوا فوقه المدرا

لم يترك اللّه خلقا من بريته

ولم يعش بعده أنثى ولا ذكرا

ذلت رقاب بني النجار كلهم

وكان أمرا من الرحمن قد قدرا

ص: 163

‌مرثية كعب بن مالك رضي الله عنه:

قال أبو عمرو: قال كعب بن مالك يرثي رسول الله صلى الله عليه وسلم:

يا عين فابكي بدمع ذرى

لخير البرية والمصطفى

وبكى الرسول وحق البكاء

عليه لدى الحرب عند اللقا

على خير من حملت ناقة

وأتقى البرية عند التقى

على سيد ماجد جحفل

وخير الأنام وخير اللها

له حسب فوق كل الأنام

من هاشم ذلك المرتجى

نخص بما كان من فضله .... وكان سراجا لنا في الدجى

وكان بشيرا لنا ومنذرا

ونورا لنا ضوءه قد أضا

فأنقذنا الله في نوره

ونجى برحمته من لظى

‌مرثية أروى بنت عبد المطلب رضي الله عنها:

قال وفيها أنشدنا الواقدي، قالتْ أروى بنت عبد المطلب ترثي رسول الله صلى الله عليه وسلم:

ألا يا عين ويحك أسعديني

بدمعك ما بقيت وطاوعيني

ألا يا عين ويحك واستهلي

على نور البلاد وأسعدينى

فإن عذلتْك عاذلة فقولي

علام وفيم ويحك تعذلينى

على نور البلاد معا جميعا

رسول الله أحمد فاتركينى

فإلا تقصري بالعذل عني

فلومي ما بدا لك أو دعينى

لأمر هدني وأذل ركني

وشيب بعد جدتها قروني

وقالت أروى بنت عبد المطلب أيضا:

ألا يا رسول الله كنت رجاءنا

وكنت بنا برا ولم تك جافيا

وكنت بنا روفا رحيما نبينا

ليبك عليك اليوم من كان باكيا

ص: 164

لعمرك ما أبكي النبي لموته

ولكن لهرج كان بعدك آتيا

كأن على قلبى لذكر محمد

وما خفت من بعد النبي المكاويا

أفاطم صلى الله رب محمد

على جدث أمسى بيثرب ثاويا

أبا حسن فارقته وتركته

فبك بحزن آخر الدهر شاجيا

فدا لرسول الله أمي وخالتي

وعمي ونفسى قصرة ثم خاليا

صبرت وبلغت الرسالة صادقا

وقمت صليب الدين أبلج صافيا

فلو أن رب الناس أبقاك بيننا

سعدنا ولكن أمرنا كان ماضيا

عليك من الله السلام تحية

وأدخلت جنات من العدن راضيا

‌مرثية عاتكة بنت عبد المطلب رضي لله عنها:

قال: وقالت عاتكة بنت عبد المطلب ترثي رسول الله صلى الله عليه وسلم:

عينى جودا طوال الدهر وانهمرا

سكبا وسحا بدمع غير تعذير

يا عين فاسحنفري بالدمع واحتفلي

حتى الممات بسجل غير منزور

يا عين فانهملى بالدمع واجتهدي

للمصطفى دون خلق الله بالنور

بمستهل من الشؤبوب ذي سيل

فقد رزئت نبي العدل والخير

وكنت من حذر للموت مشفقة

وللذى خط من تلك المقادير

من فقد أزهر ضافي الخلق ذي فخر

صاف من العيب والعاهات والزور

فاذهب حميدا جزاك الله مغفرة

يوم القيامة عند النفخ في الصور

وقالت عاتكة بنت عبد المطلب:

يا عين جودي ما بقيت بعبرة

سحا على خير البرية أحمد

يا عين فاحتفلي وسحى واسجمي

وابكى على نور البلاد محمد

أنى لك الويلات مثل محمد

في كل نائبة تنوب ومشهد

فابكي المبارك والموفق ذا التقى .. حامى الحقيقة ذا الرشاد المرشد

ص: 165

من ذا يفك عن المغلل غله

بعد المغيب في الضريح الملحد

أم من لكل مدفع ذي حاجة

ومسلسل يشكو الحديد مقيد

أم من لوحى الله يترك بيننا

في كل ممسى ليلة أو في غد

فعليك رحمة ربنا وسلامه

يا ذا الفواضل والندى والسودد

هلا فداك الموت كل ملعن

شكس خلائقه لئيم المحتد

وقالت عاتكة بنت عبد المطلب أيضا:

أعيني جودا بالدموع السواجم

على المصطفى بالنور من آل هاشم

على المصطفى بالحق والنور والهدى

وبالرشد بعد المندبات العظائم

وسحا عليه وابكيا ما بكيتما

على المرتضى للمحكمات العزائم

على المرتضى للبر والعدل والتقى

وللدين والإسلام بعد المظالم

على الطاهر الميمون ذي الحلم والندى

وذي الفضل والداعي لخير التراحم

أعيني ماذا بعدما قد فجعتما

به تبكيان الدهر من ولد آدم

فجودا بسجل واندبا كل شارق

ربيع اليتامى في السنين البوازم

‌مرثية صفية بنت عبد المطلب رضي الله عنها:

قال: وقالت صفية بنت عبد المطلب ترثي رسول الله صلى الله عليه وسلم:

لهف نفسي وبت كالمسلوب

آرق الليل فعلة المحروب

من هموم وحسرة ردفتنى

ليت أني سقيتها بشعوب

حين قالوا إن الرسول قد أمسى

وافقته منية المكتوب

إذ رأينا أن النبي صريع

فاشاب القذال أي مشيب

إذ رأينا بيوته موحضات

ليس فيهن بعد عيش حبيبي

أورث القلب ذاك حزنا طويلا

خالط القلب فهو كالمرعوب

ليت شعري كيف أمسى صحيحا

بعد أن بين بالرسول القريب

ص: 166

أعظم الناس في البرية حقا

سيد الناس حبه في القلوب

فإلى الله ذاك أشكو وحسى

يعلم الله حسوبتي ونحيبي

وقالت صفية بنت عبد المطلب:

أفاطم بكي ولا تسأمى

بصبحك ما طلع الكوكب

هو المرء يبكى وحق البكاء

هو الماجد السيد الطيب

فأوحشت الأرض من فقده

وأى البرية لا ينكب

فما لي بعدك حتى الممات

إلا الجوى الداخل المنصب

فبكى الرسول وحقت له

شهود المدينة والغيب

لتبكيك شمطاء مضرورة

إذا حجب الناس لا تحجب

ليبكبك شيخ أو ولدة

يطوف بعقوته أشهب

ويبكيك ركب إذا أرملوا

فلم يلف ما طلب الطلب

وتبكى الأباطح من فقده

وتبكيه مكة والأخشب

وتبكى وعيرة من فقده

بحزن ويسعده الميثب

فعيني ما لك لا تدمعين

وحق لدمعك يستسكب

وقالت صفية بنت عبد المطلب أيضا:

أعيني جودا بدمع سجم

يبادر غربا بما منهدم

أعيني فاسحنفرا واسكبا

بوجد وحزن شديد الألم

على صفوة الله رب العباد

ورب السماء وبارى النعم

على المرتضى للهدى والتقى

وللرشد والنور بعد الظلم

على الطاهر المرسل المجتبيء

رسول تخيره ذو الكرم

وقالت صفية بنت عبد المطلب أيضا:

أرقت فبت ليلى كالسليب

لوجد في الجوانح ذي دبيب

فشيبني وما شابت لداتي

فأمسى الرأس مني كالعسيب

لفقد المصطفى بالنور حقا

رسول الله ما لك من ضريب

ص: 167

كريم الخيم أروع مضرحي

طويل الباع منتجب نجيب

ثمال المعدمين كل جار

ومأوى كل مضطهد غريب

فإن تمس في جدث مقيما

فقدما عشت ذا كرم وطيب

وكنت موفقا في كل أمر

وفيما ناب من حدث الخطوب

وقالت صفية بنت عبد المطلب:

عين جودي بدمعة تسكاب

للنبى المطهر الأواب

واندبي المصطفى فعمى وخصى

بدموع غزيرة الأسراب

عين من تندبين بعد نبي

خصه الله ربنا بالكتاب

فاتح خاتم رحيم رؤوف

صادق القيل طيب الأثواب

مشفق ناصح شفيق علينا

رحمة من إلهنا الوهاب

رحمة الله والسلام عليه

وجزاه المليك حسن الثواب

وقالت صفية بنت عبد المطلب أيضا:

عين جودي بدمعة وسهود

واندبي خير هالك مفقود

واندبي المصطفى بحزن شديد

خالط القلب فهو كالمعمود

كدت أقضي الحياة لما أتاه

قدر خط في كتاب مجيد

فلقد كان بالعباد رؤوفا

ولهم رحمة وخير رشيد

رضى الله عنه حيا وميتا

وجزاه الجنان يوم الخلود

وقالت صفية بنت عبد المطلب أيضا:

آب ليلي على بالتسهاد

وجفا الجنب غير وطء الوساد

واعترتني الهموم جدا بوهن

لأمور نزلن حقا شداد

رحمة كان للبرية طرا

فهدى من أطاعه للسداد

طيب العود والضريبة والشيم

محض الأنساب واري الزناد

أبلج صادق السجية عف

صادق الوعد منتهى الرواد

ص: 168

عاش ما عاش في البرية برا

ولقد كان نهبة المرتاد

ثم ولى عنا فقيدا حميدا

فجزاه الجنان رب العباد

‌مرثية هند بنت الحارث بن عبد المطلب رضي الله عنها:

وقالت هند بنت الحارث بن عبد المطلب ترثي رسول الله صلى الله عليه وسلم:

يا عين جودي بدمع منك وابتدري

كما تنزل ماء الغيث فانثعبا

أو فيض غرب على عادية طويت

في جدول خرق بالماء قد سربا

لقد أتتني من الأنباء معضلة

أن بن آمنة المأمون قد ذهبا

أن المبارك والميمون في جدث

قد ألحفوه تراب الأرض والحدبا

أليس أوسطكم بيتا وأكرمكم

خالا وعما كريما ليس مؤتشبا

‌مرثية هند بنت أثاثة بن عباد بن المطلب رضي الله عنها:

قال: وقالت هند بنت أثاثة بن عباد بن المطلب بن عبد مناف أخت مسطح بن أثاثة ترثي النبي صلى الله عليه وسلم:

أشاب ذؤابي وأذل ركني

بكاؤك فاطم الميت الفقيدا

فأعطيت العطاء فلم تكدر

وأخدمت الولائد والعبيدا

وكنت ملاذنا في كل لزب

إذا هبت شآمية برودا

وإنك خير من ركب المطايا

وأكرمهم إذا نسبوا جدودا

رسول الله فارقنا كنا

نرجي أن يكون لنا خلودا

أفاطم فاصبري فلقد أصابت

رزيئتك التهائم والنجودا

وأهل البر والأبحار طرا

فلم تخطئ مصيبته وحيدا

وكان الخير يصبح في ذراه

سعيد الجد قد ولد السعودا

وقالت هند بنت أثاثة أيضا:

ألا يا عين بكي لا تملى

فقد بكر النعي بمن هويت

وقد بكر النعي بخير شخص

رسول الله حقا ما حييت

ص: 169

ولو عشنا ونحن نراك فينا

وأمر الله يترك ما بكيت

فقد بكر النعى بذاك عمدا

فقد عظمت مصيبة من نعيت

وقد عظمت مصيبته وجلت

كل الجهد بعدك قد لقيت

إلى رب البرية ذاك نشكو

فإن الله يعلم ما أتيت

أفاطم إنه قد هد ركني

وقد عظمت مصيبة من رزيت

وقالت هند بنت أثاثة أيضا:

قد كان بعدك أنباء وهنبثة

لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب

إنا فقدناك فقد الأرض وابلها

فاحتل لقومك واشهدهم ولا تغب

قد كنت بدرا ونورا يستضاء به

عليك تنزل من ذي العزة الكتب

وكان جبريل بالآيات يحضرنا

فغاب عنا كل الغيب محتجب

فقد رزئت أبا سهلا خليقته

محض الضريية والأعراق والنسب

‌مرثية عاتكة بنت زيد بن عمرو رضي الله عنها:

وقالت عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل ترثي رسول الله صلى الله وسلم:

أمست مراكبه أوحشت

وقد كان يركبها زينها

وأمست تبكي على سيد

تردد عبرتها عينها

وأمست نساؤك ما تستفيق

من الحزن يعتادها دينها

وأمست شواحب مثل النصال

قد عطلت وكبا لونها

يعالجن حزنا بعيد الذهاب

وفي الصدر مكتنع حينها

يضربن بالكف حر الوجوه

على مثله جادها شونها

هو الفاضل السيد المصطفى

على الحق مجتمع دينها

فكيف حياتي بعد الرسول

وقد حان من ميتة حينها

‌مرثية أم أيمن رضي الله عنها:

وقالت أم أيمن ترثي النبي صلى الله عليه وسلم:

ص: 170

عين جودي فإن بذلك للدمع

شفاء فأكثرىْ مِ البكاء

حين قالوا الرسول أمسى فقيدا

ميتا كان ذاك كل البلاء

وابكيا خير من رزئناه في الدنيا

ومن خصه بوحي السماء

بدموع غزيرة منك حتى

يقضي الله فيك خير القضاء

فلقد كان ما علمت وصولا

ولقد جاء رحمة بالضياء

ولقد كان بعد ذلك نورا

وسراجا يضيء في الظلماء

طيب العود والضريبة والمعـ

ـدن والخيم خاتم الأنبياء

انتهى كلام الإمام محمد بن سعد بن منيع الزهري المتوفى سنة 230 هـ في "الطبقات الكبرى".

وهذا القدر من سيرته الشريفة صلى الله عليه وسلم كافٍ في التبرك بذكره الشريف، وفي الدلالة على أنه صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق، وأشرف الخلق، وشريعته أفضل الشرائع، وأمته أكرمُ الأمم، وعلماؤها أكرمُ العلماء، وأما حصر فضائله ومعجزاته، وما خصه الله به في الدنيا والآخرة، وأعدَّ له عنده فلا سبيل إليه، ولا يحوم طائر فكر عليه، ولا يعلمه إلا الله تعالى.

ص: 171

‌الباب الخامس في ذكر الصحابة رضي الله عنهم

وهو يشتمل على ثمانية فصول

‌الفصل الأول في تعريف الصحابي رضي الله عنه

فهم أفهم الناس لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، حيث شاهدوا التنزيل، وجلسوا بين يدي نبيهم واللغة لغتهم، واللسان لسانهم، فلا عجبَ أن ترى الأقلام تتسابق في تقرظهم، والألسنة تلهج بذكرهم، فقد كانوا لبنات المجتمع الإسلامي الأولى، وارتفع هذا الصرح الشامخ على أكتافهم، وتدعمت أركانه عليهم وبهم، وعلى ظهورهم قام، وانتشر بين الأنام، فجزاهم الله خيرا عن المسلمين والإسلام.

‌تعريف الصحابة:

والأصح ما قيل في تعريف الصَّحَابي: إنه من لقى النبي صلى الله عليه وسلم في حياته مسلما، ومات على إسلامه.

شرح التعريف: "من لقي النبي صلى الله عليه وسلم ": في التعريف يشمل كل من لقيه في حياته، وأما من رآه بعد موته قبل دفنه صلى الله عليه وسلم فلا يكون صحابيا، كأبي وذؤيب الهذلي الشاعر، فإنه رآه قبل دفنه. "مسلما": خرج به من لقيه كافرا، وأسلم بعد وفاته، كرسول قيصر، فلا صحبة له. "ومات على إسلامه ": خرج به من كفر بعد إسلامه، ومات كافرا.

ص: 172

أما منِ ارتدَّ بعده، ثم أسلم، ومات مسلما، فقال العراقي: فيهم نظر، لأن الشافعي وأبا حنيفة نصًّا على أن الردة محبطة للصحبة السابقة، كقرة بن ميسرة، والأشعث بن قيس. وجزم الحافظ ابن حجر شيخ الإسلام ببقاء اسم الصحبة له، كمن رجع إلى الإسلام في حياته، كعبد الله بن أبي سرح.

وهل يشترط لقيه في حال النبوَّة أو أعمّ من ذلك، حتى يدخل من رآه قبلها، ومات على الحنيفية، كزيد بن عمرو بن نفيل، وكذا من رآه قبلها، وأسلم بعد البعثة، ولم يره؟. قال العراقي: ولم أرَ من تعرَّض لذلك، وقد عدّ ابن منده زيد عمرو في الصحابة. هل من الملائكة صحابة؟ الملائكة أجسام نورانية قادرة على التشكيل والظهور بأشكال مختلفة، وهي تتشكل بأشكال حسنة، شأنها الطاعة، أحوال جبريل مع النبي صلى الله عليه وسلم حين تبليغه الوحى وظهوره في صورة دحية الكلبي تؤيد رجحانَ هذا التعريف للملائكة على غيره. والملائكة لا يوصفون بذكورة ولا أنوثة، ولا يتوالدون، فمن وصفهم بذكورة فسق، ومن وصفهم بأنوثه أو خنوثة كفر، لقوله تعالى:{وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ} الآية. ومسكنهم السماوات، ومنهم من يسكن الأرض. وقد دل على وجودهم الكتاب والسنَّة والإجماع، فالمنكر كافر، وإذا فيجب الإيمان إجمالا فيمن علم منهم إجمالا، وتفصيلا فيمن علم بالشخص، كجبريل، وميكائيل، أو بالنوع كحملة العرش، والحافين من حوله، والكتبة والحفظة، وقد خلق الله الملائكة جندا له منفذين لأوامره في خلقه، فمنهم ساكن السماوات، وأفضلهم حملة العرش، والحافين من حوله، وهم الكروبيون، ومنهم الموكَّلون بالنار، وهم الزبانية مع مالك، ومنهم الموكَّلون بالجنة لإعداد النعيم مع رضوان، ومنهم سفير الله إلى أنبيائه، وهو جبريل، والموكَّل

ص: 173

بالمطر والسحاب والرزق، وهو ميكائيل، وصاحب النفخ، وهو إسرافيل، والموكَّلون بحفظ بنى آدم، والكاتبون لأعمالهم، ومنهم منكر ونكير، فتَّانا القبر، ومنهم ملك الموت، وأعوانه، وهو عزرائيل {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} .

‌هل من الجن صحابة

؟!

اختلف علماء التوحيد في بيان حقيقة الجن، فقال بعضهم بتغاير حقيقته، فعرفوا الجن بأنها أجسام هوائية لطيفة تتشكل بأشكال مختلفة، وتظهر منها أفعال عجيبة، ومنهم المؤمن، ومنهم الكافر، أما الشياطين: فهي أجسام نارية شأنها إقامة النفس في الغواية والفساد.

وقال آخرون: إن حقيقتها واحرة، وهي أجسام نارية عاقلة قابلة للتشكل بأشكال حسنة أو قبيحة، وهم كبنى آدم، يأكلون، ويشربون، ويتناسلون، ويكلفون، منهم المؤمن، ومنهم العاصي، أما الشيطان فاسم للعاصى، يدل على ذلك قوله تعالى:{وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ} ، كما يدل على تكليفهم ووجودهم قوله تعالى:{وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} الآيات، وقوله:{قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} ، وحيث ثبت وجودهم بكلام الله وكلام أنبيائه انعقد عليه الإجماع كان الإيمان بما ثبت واجبا، ومنكره كافر.

والسؤال بعد ذلك هل هم داخلون في الصحابة الحق؟ نعم، يدخل في الصحابة رضوان الله تعالى عليهم من رآه صلى الله عليه وسلم أو لقيه مؤمنا به من الجن، لأنه صلى الله عليه وسلم بعث إليهم قطعا، وهم مكلفون، وفيهم العصاة والطائعون.

ص: 174

قال الحافظ ابن حجر: الراجح دخولهم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إليهم قطعا.

قال السبكى في "فتاويه"، كونه صلى الله عليه وسلم مبعوثا إلى الإنس والجن كافة، وأن رسالته شاملة للثقلين، فلا أعلم فيه خلافا، ونقل جماعة الإجماع عليه. قال السبكى: والدليل عليه قبل الإجماع الكتاب والسنّة، أما الكتاب فآيات، منها قوله تعالى:{لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} ، وقد أجمع المفسّرون على دخول الجن في ذلك في هذه الآية، ومع ذلك هو مدلول لفظها، فلا يخرج عنه إلا بدليل، ومنها قوله تعالى في سورة الأحقاف:{فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِين} ، والمنذرون هم المخوَّفون مما يلحق بمخالفته لوم، فلو لم يكن مبعوثا إليهم لماكان القرآن الذي أتي به لازما لهما، ولا خوّفوا به.

وأما السنّة ففي "صحيح مسلم" من حديث العلاء عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فضّلتُ على الأنبياء بستّ، أعطيتُ جوامع الكلم، ونصرتُ بالرعب، وأحلَّتْ لي الغنائم، وجعلتْ لي الأرض طهورا ومسجدا، وأرسلتُ إلى الخلق كافة، وختم بي النبييون". ومحل الاستدلال قوله: "وأرسلتُ إلى الخلق كافة"، فإنه يشمل الجن والإنس، وحمله على الإنس خاصة تخصيص بغير دليل فلا يجوز.

‌بم يعرف الصحابي

؟

يعرف الصحابي بأحد الأدلة التالية: أولا: التواتر، وهو رواية جمع عن جمع، يستحيل عادة تواطؤهم على الكذب، وذلك كأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وبقية العشرة المبشرّين بالجنّة - رضى الله عنهم.

ثانيا: الشهرة أو الاستفاضة القاضرة عن حد التواتر، كما في أمر ضمام بن ثعلبة، وعكَّاشة بن محصن.

ص: 175

ثالثا: أن يروى عن آحاد الصحابة أنه صحابي، كما في حممة بن أبي أحممه الدوسى، الذي مات بـ "أصبَهَان" مبطونا، فشهد له أبو موسى الأشعري أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم حكم له بالشهادة، وهكذا ذكره أبو نعيم في "تاريخ أصبهان".

رابعا: أن يخبر أحد التابعين بأنه صحابي بناء على قبول التزكية من واحد عدل، وهو الراجح.

خامسا: أن يخبر هو عن نفسه بأنه صحابي بعد ثبوت عدالته ومعاصرته، فأنه بعد ذلك لا يقبل ادعاؤه بأنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم أو سمعه، لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:"أرأيتكم ليلتكم هذه، فإنه على رأس مائة سنة منه لا يبقى أحد ممن على ظهر الأرض"، يريد بهذا انخرام القرن.

‌ما قال الذهبي في ترجمة رتَنْ الهندي:

قال الذهبي في "الميزان" في ترجمة "رتن الهندي" 2: 45 وما أدراك ما رَتَن؟! شيخ دجَّال بلا ريب، ظهر بعد الستمائة، فادّعى الصحبةَ، والصحابة لا يكذبون، وهذا جرئ على الله ورسوله، وقد ألفت في أمره جزءا.

حكمة الله في اختيار الصحابة الواقع أن العقل المجرّد من الهوى والتعصّب، يحيل على الله في حكمته ورحمته، أن يختار لحمل شريعته الختامية أمة مغموزة أو طائفة ملموزة، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا، ومن هنا كان توثيق هذه الطبقة الكريمة طبقة الصحابة، يعتبر دفاعا عن الكتاب والسنّة وأصول الإسلام مناحية، ويعتبر إنصافا أدبيا لمن يستحقّونه من ناحية ثانية، ويعتبر تقديرا لحكمة الله البالغة في اختيارهم لهذه المهمّة العظمى من ناحية ثالثة.

ص: 176

‌الفصل الثاني في مرتبة الصحابة رضي الله عنهم

للصحابة رضي الله عنهم أجمعين - خصيصة، وهي أنه لا يسأل عن عدالة أحد منهم، وذلك أمر مسلّم به عند كافة العلماء، لكونهم على الإطلاق معدلين بنصوص الشرع من الكتاب والسنّة، وإجماع من يعتدّ به في الإجماع من الأمة.

فأما الكتاب: قال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} . وقال تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ، وقال تعالى:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} ، وقال تعالى:{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} .

وأما السنَّة: وفي نصوص السنَّة النبوية المشرفة الشاهدة بذلك كثيرة، منها: عن أبي سعيد عن النبي عليه السلام قال: "لا تسبّوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفقَ مثل أحدكم ذهبا ما أدرك مدَّ أحدهم

ص: 177

ولا نصيفه "، وهذا خطاب منه لخالد بن الوليد ولأقرانه من مسلمة "الحديبية" والفتح، فإذا كان مدّ أحد أصحابه أو نصيفه أفضل عند الله من مثل أحد ذهبا من مثل خالد وأضرابه من أصحابه فكيف يجوز أن يحرّمهم الله الصوابَ في الفتاوى، ويظفر به من بعدهم؟ هذا من أبين المحال، وعن عبد الله بن مغفَّل المزني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا بعدي، فمن أحبّهم فبحبّي أحبّهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذانى فقد آذى الله، من آذى الله فيوشك أن يأخذه. وعن أبي موسى قال: صلينا مع النبي صلى الله عليه وسلم المغرب، ثم قلنا: لو انتظرنا حتى نصلّي معه العشاء، فانتظرناه، فخرج علينا، فقال: "ما زلتم ههنا"، قال: قلنا: نعم يا رسول الله، قلنا: نصلى معك العشاء، قال: "أحسنتم وأصبتم"، ثم رفع رأسه إلى السماء، وكان كثيرا ما يرفع رأسه إلى السماء، قال: "النجوم أمنة لأهل السماء، فإذا ذهبت النجوم أتى أهل السماء ما يوعدون، وأنا أمنة لأصحابي، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون".

وعن عمران بن حصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير أمتي القرن الذي بعثتُ فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم". فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن خير القرون قرنه مطلقا، وذلك يقتضي تقديمهم في كل باب من أبواب الخير، وإلا لو كان خيرا من بعض الوجوه فلا يكونون خير القرون مطلقا.

‌ثناء أهل العلم على الصحابة:

وهذا الثناء للاستئناس، وليس للتدليل، إذ لا يصح القول مع الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، حيث نص اللّه ورسوله على عدالتهم،

ص: 178

فهل بعد تعديل الله عز وجل ورسوله صلى الله "عليه وسلم تعديل؟!! فأقول ولله الحمد والمنة:

قال الإمام النووي: الصحابة كلهم عدول، من لابس الفتن وغيرهم بإجماع من يعتد به. قال إمام الحرمين: والسبب في عدم الفصل عن عدالتهم أنهم حَمَلَة الشريعة، فلو ثبت توقّف في روايتهم لانحصرت الشريعة على عصره صلى الله عليه وسلم، ولما استرسلت سائر الأعصار.

قال أبو زُرْعة الرازي: إذا رأيت الرجل ينتقص أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق، وذلك أن الرسول حق، والقرآن حق، وما جاء به حق، وإنما أدّى ذلك كلّه إلينا الصحابة، وهؤلاء الزنادقة يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنّة، فالجرح بهم أولى.

قال ابن الصلاح: ثم إن الأمة مجمعة على تعديل جميع الصحابة، ومن لابس الفتن منهم، فكذلك بإجماع العلماء الذين يعتدّ بهم في الإجماع أحيانا للظن بهم، ونظرا إلى ما تمهد لهم من المآثر، وكان الله سبحانه وتعالى أتاح الإجماع على ذلك، لكونهم نقلة الشريعة".

قال الخطيب البغدادي في "الكفاية" مبوّبا على عدالتهم: ما جاء في تعديل الله ورسوله للصحابة، وأنه لا يحتاج إلى سؤال عنهم، وإنما يجب فيمن دونهم كل حديث اتصل إسناده بين من رواه وبين النبي صلى الله عليه وسلم لم يلزم العمل به إلا بعد ثبوت عدالة رجاله، ويجب النظر في أحوالهم سوى الصحابي، الذي رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لإن عدالة الصحابة ثابتة معلومة بتعديل الله لهم، وإخباره عن طهارتهم، واختياره لهم في نص القرآن.

والأخبار في هذا المعنى تتسع، كلها مطابقة لما ورد في نص القرآن، وجميع ذلك يقتضي طهارة الصحابة والقطع على تعديلهم ونزاهتهم.

ص: 179

‌عقيدة أهل السنة في تفضيل الصحابة:

أجمع أهل السنّة على أن أفضل الصحابة بعد النبي صلى الله عليه وسلم على الإطلاق أبو بكر، ثم عمر، وممن حكى إجماعهم على ذلك أبو العبّاس القرطبي، فقال: ولم يختلف أحد في ذلك من أئمة السلف ولا الخلف، فقال: ولا مبالاة بأقوال أهل التشيّع ولا أهل البدع، انتهى. وقد حكى الشافعي وغيره إجماع الصحابة والتابعين على ذلك، قال البيهقي في كتاب "الاعتقاد": روينا عن أبي ثور عن الشافعي قال: ما اختلف أحد من الصحابة والتابعين في تفضيل أبي بكر وعمر، وتقديمهما على جميع الصحابة، وإنما اختلف من اختلف منهم في علي وعثمان. وقال العلامة الكمال بن الهمام في "المسايرة": فضل الصحابة الأربعة على حسب ترتيبهم في الخلافة، إذ حقيقة الفضل ما هو فضل عند الله تعالى، وذلك لا يطلع عليه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقال العلامة البغدادي في "أصول الدين": أصحابنا مجمعون على أن أفضلهم الخلفاء الأربعة، ثم الستّة الباقون بعدهم إلى تمام العشرة، وهم: طلحة، والزبير، وسعد بن أبي وقَّاص، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو عبيدة بن الجرَّاح، ثم البدريون، ثم أصحاب أحد، ثم أهل بيعة الرضوان بـ "الحديبية".

وقال العلامة المرعشي في "نشر الطوالع": يجب تعظيم جميع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، والكفّ عن مطاعنهم، وحسن الظنّ بهم، وترك التعصّب والبغض لأجل بعضهم على بعض، وترك الإفراط في محبة بعضهم على وجه يفضي إلى عداوة آخرين منهم والقدح فيهم، فإن الله تعالى أثنى عليهم في مواضع كثيرة.

ص: 180

‌الفصل الثالث في طبقات الصحابة رضي الله عنهم

للعلماء آراء في طبقات الصحابة، فمنهم من جعلها خمس طبقات، والأشهر ما ذهب إليه الحاكم حيث جعل الطبقات اثنتي عشرة طبقة، وهي:1. قوم تقدم إسلامهم بـ "مكة"، كالخلفاء الأربعة. 2 - الصحابة الذين أسلموا قبل تشاور أهل "مكة" في دار الندوة. 3 - مهاجرة الحبشة. 4 - أصحاب العقبة الأولى. 5 - أصحاب العقبة الثانية. 6 - أول المهاجرين الذين وصلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بـ "قباء" قبل أن يدخل "المدينة". 7 - أهل بدر. 8 - الذين هاجروا بين "بدر" و"الحديبية". 9 - أهل بيعة الرضوان في "الحديبية". 10 - من هاجر بين "الحديبية" وفتح "مكة" مثل خالد بن الوليد، وعمرو بن القاص. 11 - مسلموا الفتح الذين أسلموا في فتح "مكة". 12 - صبيان وأطفال رأوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم يوم الفتح في حجة الوداع.

‌الفصل الرابع في من بلَّغ بعد الرسول صلى الله عليه وسلم

قال الإمام ابن قيم الجوزية في كتابه القيّم "إعلام الموقعين ": ثم قامَ بالفتوى بعد النبي صلى الله عليه وسلم برك الإسلام، وعصابة الإيمان، وعسكر القرآن، وجند الرحمن أولئك أصحابه صلى الله عليه وسلم ألين الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلّها تكلّفا، وأحسنها بيانا، وأصدقها إيمانا، وأعمها نصيحة، وأقربها إلى الله وسيلة، وكانوا بين مكثر منها، ومقل، ومتوسط.

ص: 181

‌المكثرون من الفتيا:

والذين حفظتْ عنهم الفتوى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة ونيف وثلاثون نفسا، ما بين رجل وامرأة، وكان المكثرون منهم سبعة: عمر بن الخطَّاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وعائشة أم المؤمنين، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عبَّاس، وعبد الله بن عمر.

قال أبو محمد بن حزم: ويمكن أن يجمع من فتوى كل واحد منهم سفر ضخم.

قال: وقد جمع أبو بكر محمد بن موسى بن يعقوب ابن أمير المؤمنين المأمون فتيا عبد الله بن عبَّاس رضي الله عنهما في عشرين كتابا.

وأبو بكر محمد المذكور أحد أئمة الإسلام في العلم والحديث.

‌المتوسّطون في الفتيا:

قال أبو محمد: والمتوسّطون منهم فيما روى عنهم من الفتيا: أبو بكر الصديق، وأم سلمة، وأنس بن مالك، وأبو سعيد الخدرى، وأبو هريرة، وعثمان بن عفان، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن الزبير، وأبو موسى الأشعري، وسعد بن أبي وقَّاص، وسلمان الفارسى، وجابر بن عبد الله، ومعاذ بن جبل، فهؤلاء ثلاثة عشر، يمكن أن يجمع من فتيا كل واحد منهم جزء صغير جدا، ويضاف إليهم طلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وعمران بن حصين، وأبو بكرة، وعبادة بن الصامت، ومعاوية بن أبي سفيان.

‌المقلون من الفتيا:

والباقون منهم مقلّون في الفتيا، لا يروى عن الواحد منهم إلا المسئلة والمسئلتان والزيادة اليسيرة على ذلك، يمكن أن يجمع من فتيا جميعهم جزء صغير فقط بعد التقصّى والبحث، وهم: أبو الدرداء، وأبو اليسر، وأبو سلمة المخزومي، وأبو عبيدة بن الجرَّاح، وسيعد بن زيد، والحسن، والحسين، ابنا

ص: 182

علي، والنعمان بن بشير، وأبو مسعود، وأبي بن كعب، وأبو أيوب، وأبو طلحة، وأبو ذر، وأم عطية، وصفية أم المؤمنين، وحفصة، وأم حبيبة، وأسامة بن زيد، وجعفر بن أبي طالب، والبراء بن عازب، وقرظة بن كعب، ونافع أخو أبي بكرة لأمه، والمقداد بن الأسود، وأبو السنابل، والجارود، والعبدي، وليلَى بنت قائف، وأبو محذورة، وأبو شريح العكبي، وأبو برزة الأسلمي، وأسماء بنت أبي بكر، وأم شريك، والخولاء بنت تويت، وأسيد بن الحضير، والضحَّاك بن قيس، وحبيب بن مسلمة، وعبد الله بن أنيس، وحذيفة بن اليَمَان، وثمامة بن أثال، وعمَّار بن ياسر، وعمرو بن العاص، وأبو الغادية السلمي، وأم الدرداء الكبرى، والضحَّاك بن خليفة المازني، والحكم بن عمرو الغفاري، ووابصة بن معبد الأسدي، وعبد الله بن جعفر البرمكي، وعوف بن مالك، وعدي بن حاتم، وعبد الله بن أبي أوفى، وعبد الله بن سلام، وعمرو بن عبسة، وعتَّاب بن أسيد، وعثمان بن أبي العاص، وعبد الله بن سرجس، وعبد الله بن رَوَاحة، وعقيل بن أبي طالب، وعائذ بن عمرو، وأبو قتادة عبد الله بن معمر العدوي، وعمى بن سعلة، وعبد الله بن أبي بكر الصديق، وعبد الرحمن أخوه، وعاتكة بنت زيد بن عمرو، وعبد الله بن عوف الزهري، وسعد بن مَعَاذ، وسعد بن عبادة، وأبو منيب، وقيس بن سعد، وعبد الرحمن بن سهل، وسمرة بن جندب، وسهل بن سعد الساعدي، وعمرو بن مقرّن، وسويد بن مقرّن، ومعاوية بن الحكم، وسهلة بنت سهيل، وأبو حذيفة بن عتبة، وسلمة بن الأكوع، وزيد بن أرقم، وجرير بن عبد الله البَجَلي، وجابر بن سلمة، وجويرية أم المؤمنين، وحسَّان بن ثابت، وحبيب بن عدي، وقدامة بن مظعون، وعثمان بن مظعون، وميمونة أم المؤمنين، ومالك بن الحويرث، وأبو أمامة الباهلى، ومحمد بن مسلمة، وخبَّاب بن الأرت، وخالد بن الوليد، وضمرة بن الفيض، وطارق بن شهاب، وظهير بن رافع،

ص: 183

ورافع بن خديج، وسيدة نساء العالمين فاطمة بنت رسول الله صلى الله وعليه وآله وسلم، وفاطمة بنت قيس، وهشام بن حكيم بن حزام، وأبوه حكيم بن حزام، وشرحبيل بن السمط، وأم سلمة، ودحية بن خليفة الكلبي، وثابت بن قيس بن الشماس، وثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمغيرة بن شعبة، وبريدة بن الخصيب الأسلمي، ورويفع بن ثابت، وأبو حميد، وأبو أسيد، وفضالة بن عبيد، وأبو محمد روينا عنه وجوب الوتر، قلت: أبو محمد هو مسعود بن أوس الأنصاري نجاري بدري، وزينب بنت أم سلمة، وعتبة بن مسعود، وبلال المؤذن، وعروة بن الحارث، وسياه بن روح، أو روح بن سياه، وأبو سعيد بن المعلَّى، والعبَّاس بن عبد المطَّلب، وبشر بن أرطاة، وصهيب بن سنان، وأم أيمن، وأم يوسف، والغامدية، وماعز، وأبو عبد الله البصري.

فهؤلاء من نقلت عنهم الفتوى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أدرى بأيّ طريق عدّ معهم أبو محمد الغامدية وماعزا، ولعله تخيّل أن إقدامهما على جواز الإقرار بالزنا من غير استئذان لرسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك هو فتوى لأنفسهما بجواز الإقرار، وقد أقرَّا عليها، فإن تخيّل هذا فما أبعده من خيال، أو لعله ظفر عنهما بفتوى في شئ من الأحكام.

‌الصحابة سادة المفتين والعلماء:

وكما أن الصحابة سادة الأمة وأئمتها وقادتها فهم سادات المفتين والعلماء.

قال الليث عن مجاهد: العلماء أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وقال سعيد عن قتادة في قوله تعالى:{وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} . قال: أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.

ص: 184

وقال يزيد بن عمير: لما حضر مَعَاذ بن جبل الموت قيل: يا أبا عبد الرحمن أوصنا، قال - أجلسوني -: إن العلم والإيمان مكانهما، من ابتغاهما وجدهما، يقول ثلاث مرات. انتهى.

‌الفصل الخامس في الأئمة الذين نشروا الدين والفقه

والدين والفقه والعلم انتشر في الأمة عن أصحاب ابن مسعود وأصحاب زيد بن ثابت، وأصحاب عبد الله بن عمر، وأصحاب عبد الله بن عباس، فعلم الناس عامته عن أصحاب هولاء الأربعة، فأما أهل "المدينة" فعلمهم عن أصحاب زيد بن ثابت، وعبد الله بن عمر، وأما أهل "مكة" فعلمهم عن أصحاب عبد الله بن عبَّاس، وأما أهل "العِرَاق" فعلمهم عن أصحاب عبد الله بن مسعود.

قال ابن جرير: وقد قيل: إن ابن عمر وجماعة ممن عاش بعده بـ "المدينة" من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كانوا يفتون بمذاهب زيد بن ثابت، وما كانوا أخذوا عنه مما لم يكونوا حفظوا فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قولا.

وقال ابن وهب: حدثني موسى بن علي اللخمي عن أبيه أن عمر بن الخطَّاب خطب الناس بـ "الجابية"، فقال: من أراد أن يسأل عن الفرائض فليأت زيد بن ثابت، ومن أراد أن يسأل عن الفقه فليأت مَعَاذ بن جبل، ومن أرادَ المال فليأتني.

وأما عائشة فكانت مقدمة في العلم والفرائض والأحكام والحلال والحرام، وكان من الآخذين عنها الذين لا يكادون يتجاوزون قولها المتفقهين بها القاسم بن محمد بن أبي بكر ابن أخيها، وعروة بن الزبير ابن أختها أسماء، قال مسروق: لقد رأيت مشيخة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم

ص: 185

يسألونها عن الفرائض، وقال عروة بن الزبير: ما جالستُ أحدا قط كان أعلم بقضاء ولا بحديث بالجاهلية، ولا أروى للشعر، ولا أعلم بفريضة، ولا طب من عائشة.

‌أهل الفتوى في التابعين:

ثم صارت الفتوى في أصحاب هؤلاء كسعيد بن المسيّب راوية عمر وحامل علمه، قال جعفر بن ربيعة: قلت لعراك بن مالك: من أفقه أهل "المدينة"، قال: أما أفقههم فقها، وأعلمهم بقضايا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقضايا أبي بكر، وقضايا عمر، وقضايا عثمان، وأعلمهم بما مضى عليه الناس فسعيد بن المسيّب، وأما أغزرهم حديثا فعروة بن الزبير، ولا تشاء أن تفجر من عبيد الله بحرا إلا فجرته. قال عراك: وأفقههم عندي ابن شهاب، لأنه جمع علمهم إلى علمه.

وقال الزهري: كنتُ أطلب العلم من ثلاثة: سعيد بن المسيّب، وكان أفقه الناس، وعروة بن الزبير، وكان بحرا لا تدركه الدلاء، كنت لا تشاء أن تجد عند عبيد الله طريقة من علم لا تجدها عند غيره إلا وجدت. وقال الأعمش:"فقهاء "المدينة" أربعة: سعيد ابن المسيّب، وعروة، وقبيصة، وعبد الملك. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: لما مات العبادلة: عبد الله بن عبَّاس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو بن العاص، صار الفقه في جميع البلدان إلى الموالي، فكان فقيه أهل "مكة" عطاء ابن أبي رَبَاح، وفقيه أهل "اليمن" طاوس، وفقيه أهل "اليمامة" يحيى بن أبي كثير، وفقيه أهل "الكوفة" إبراهيم، وفقيه أهل "البصرة" الحسن، وفقيه أهل "الشام" مكحول، وفقيه أهل "خراسان" عطاء الخراساني، إلا "المدينة"، فإن الله خصَّها بقرشي، فكان فقيه أهل "المدينة" سعيد بن المسيّب غير مدافع.

وقال مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيّب، قال: مررت بعبد الله بن عمر، فسلّمت عليه، ومضيت، قال: فالتفت إلى أصحابه،

ص: 186

فقال: لو رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا لسرّه، فرفع يديه جدا، وأشارَ بيده إلى السماء، وكان سعيد بن المسيّب صهر أبي هريرة، زوجه أبو هريرة ابنته، وكنا إذا رآه قال: أسأل الله أن يجمع بيني وبينك في سوق الجنة، ولهذا أكثر عنه من الرواية.

‌أهل الفتوى بالمدينة:

وكان المفتون بـ "المدينة" من التابعين ابن المسيّب، وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمد، وخارجة بن زيد، وأبا بكر بن عبد الرحمن بن حارث بن هشام، وسليمان بن يَسَار، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وهؤلاء هم الفقهاء، وقد نظمهم القائل، فقال:

إذا قيل من في العلم سبعة أبحر

روايتهم ليستْ عن العلم خارجه

فقل هم عبيد الله عروة قاسم

سعيد أبو بكر سليمان خارجه.

وكان من أهل الفتوى أبان بن عثمان، وسالم، ونافع، وأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وعلي بن الحسين، وبعد هؤلاء أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وابناه محمد، وعبد الله، وعبد الله بن عمر بن عثمان، وابنه محمد، وعبد الله، والحسين ابنا محمد ابن الحنفية، وجعفر بن محمد بن علي، وعبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر، ومحمد بن المنكدر، ومحمد بن شهاب الزهري، وجع محمد بن نوح فتاويه في ثلاثة أسفار ضخمة على أبواب الفقه، وخلق سوى هولاء.

‌أهل الفتوى بمكة:

شرفها الله، وكان المفتون بـ "مكة" عطاء بن أبي رَبَاح، وطاوس بن كَيْسَان، ومجاهد بن جبر، وعُبَيد بن عمير، وعمرو بن دينار، وعبد الله بن أبي مليكة، وعبد الرحمن بن سابط، وعكرمة، ثم بعدهم أبو الزبير المكّي، وعبد الله بن خالد بن أسيد، وعبد الله بن طاوس، ثم بعدهم عبد الملك بن عبد العزيز بن جُرَيج، وسفيان بن عُيَينة، وكان أكثر فتواهم في المناسك، وكان

ص: 187

يتوقف في الطلاق، وبعدهم مسلم بن خالد الزنجي، وسعيد بن سالم القداح، وبعدهما الإمام محمد بن إدريس الشافعي، ثم عبد الله بن الزبير الحميدي، وإبراهيم بن محمد الشافعي ابن عمّ محمد، وموسى بن أبي الجارود وغيرهم.

‌أهل الفتوى بالبصرة:

وكان من المفتين بـ "البصرة" عمرو بن سلمة الجرمي، وأبو مريم الحنفي، كعب بن سود، والحسن البصرى، وأدرك خمسمائة من الصحابة، وقد جمع بعض العلماء فتاويه في سبعة أسفار ضخمة، قال أبو محمد بن حَزْم: وأبو الشعثاء جابر بن زيد، ومحمد بن سيرين، وأبو قلابة عبد الله بن زيد الجرمي، ومسلم بن يَسَار، وأبو العالية، وحميد بن عبد الرحمن، ومطرف بن عبد الله الشخّير، وزرارة بن أبي أوفى، وأبو بردة بن أبي موسى، ثم بعدهم أيوب السختياني، وسليمان التيمى، وعبد الله بن عوف، ويونس بن عبيد، والقاسم بن ربيعة، وخالد بن أبي عمران، وأشعث بن عبد الملك الحمراني، وقتادة، وحفص بن سليمان، وإياس بن معاوية القاضي، وبعدهم سَوَّار القاضي، وأبو بكر العتكى، وعثمان بن سليمان البتي، وطلحة ابن إياس القاضي، وعبيد الله بن الحسن العنبري، وأشعث بن جابر بن زيد.

ثم بعد هؤلاء عبد الوهَّاب بن عبد المجيد الثقفى، وسعيد بن أبي عروبة، وحماد بن سلمة، وحماد بن زيد، وعبد الله بن داود الحرشي، وإسماعيل بن علية، وبشر بن المفضل، ومعاذ بن معاذ العنبري، ومعمر بن راشد، والضحَّاك بن مخلد، ومحمد بن عبد الله الأنصاري.

‌أهل الفتوى بالكوفة:

وكان من المفتين بـ "الكوفة" علقمة بن قيس النَّخَعي، والأسود بن يزيد النَّخَعي، وهو عم علقمة، وعمرو بن شرحبيل الهمداني، ومسروق بن الأجدع

ص: 188

الهمداني، وعبيدة السلماني، وشريح بن القاضي، وسليمان بن ربيعة الباهلي، وزيد بن صوحان، وسويد بن غفلة، والحارث بن قيس الجعفي، وعبد الرحمن بن يزيد النخعي، وعبد الله بن عتبة بن مسعود القاضي، وخيثمة بن عبد الرحمن، وسلمة بن صهيب، ومالك بن عامر، وعبد الله بن سخبرة، وزر بن حُبَيش، وخلاس بن عمرو، وعمرو بن ميمون الأودي، وهَّمام بن الحارث، والحارث بن سُوَيد، ويزيد بن معاوية النخَعي، والربيع بن خيثم، وعتبة بن فرقد، وصلة بن زفر، وشريك بن حنبل، وأبو وائل شقيق بن سلمة، وعبيد بن نضلة.

وهولاء أصحاب علي وابن مسعود، وأكابر التابعين، كانوا يفتون في الدين، ويستفتيهم الناس، وأكابر الصحابة حاضرون يجوّزون لهم ذلك، وأكثرهم أخذ عن عمر وعائشة وعلي، ولقي عمرو بن ميمون الأودي معاذ بن جبل، وصحبه، وأخذ عنه، وأوصاه معاذ عند موته أن يلحق بابن مسعود، فيصحبه، ويطلب العلم عنده، ففعل ذلك، ويضاف إلى هؤلاء أبو عُبَيدة، وعبد الرحمن ابنا عبد الله بن مسعود، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وأخذ عن مائة وعشرين من الصحابة، وميسرة، وزاذان، والضحَّاك.

ثم بعدهم إبراهيم النَّخَعي، وعامر الشعبي، وسعيد بن جبير، والقاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، وأبو بكر بن أبي موسى، ومحارب بن دثار، والحكم بن عتيبة، وجبلة بن سُحَيم، وصحب ابن عمر.

ثم بعدهم حماد بن أبي سليمان، وسليمان بن المعتمر، وسليمان الأعمش، ومسعر بن كدام، ثم بعدهم محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وعبد الله شبرمة، وسعيد بن أشوع، وشريك القاضي، والقاسم بن معن، وسفيان الثوري، وأبو حنفية، والحسن بن صالح بن حي.

ثم بعدهم حفص بن غياث، ووكيع بن الجرَّاح، وأصحاب أبي حنيفة كأبي يوسف القاضي، وزفر بن الهذيل، وحمَّاد بن أبي حنيفة، والحسن بن زياد

ص: 189

اللؤلؤي القاضي، ومحمد بن الحسن قاضي "الرقة "وعافية القاضي، وأسد بن عمرو، ونوح بن درَّاج القاضي، وأصحاب سفيان الثوري، كالأشجعي، والمعافي بن عمران، وصاحى الحسن بن حي الزولي، ويحيى بن آدم.

‌أهل الفتوى بالشام:

وكان من المفتين بـ "الشام" أبو إدريس الخولاني، وشرحبيل بن السمط، وعبد الله بن أبي زكريا الخزاعي، وقبيصة بن ذؤيب الخزاعي، وحبّان بن أمية، وسليمان بن حبيب المحاربي، والحارث بن عمير الزبيدي، وخالد بن معدان، وعبد الرحمن بن غنم الأشعري، وجبير بن نفير.

ثم كان بعدهم عبد الرحمن بن جبير بن نفير، ومكحول، وعمر بن عبد العزيز، ورجاء بن حيوة، وكان عبد الملك بن مروَان يعدُّ في المفتين قبل أن يلى ما ولي، وحدير بن كريب.

ثم كان بعدهم يحيى بن حمزة القاضي، وأبو عمرو، وعبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، وإسماعيل بن أبي المهاجر، وسليمان بن موسى الأموي، وسعيد بن عبد العزيز.

ثم مخلد بن الحسين، والوليد بن مسلم، والعبَّاس بن يزيد، صاحب الأوزاعي، وشعيب بن إسحاق، صاحب أبي حنيفة، وأبو إسحاق الفَزَاري، صاحب ابن المبارك.

‌من المفتين من أهل مصر:

يزيد بن أبي حبيب، وبكير بن عبد الله بن الأشج، وبعدهما عمرو بن الحرث. وقال ابن وهب: لو عاش لنا عمرو بن الحرث ما احتجنا معه إلى مالك، ولا إلى غيره، والليث بن سعد، وعبيد الله بن أبي جعفر، وبعدهم أصحاب مالك، كعبد الله بن وهب، وعثمان بن كنانة، وأشهب، وابن القاسم على غلبة تقليده لمالك إلا في الأقل، ثم أصحاب الشافعي، كالمزني،

ص: 190

والبُوَيْطي، وابن عبد الحكم، ثم غلب عليهم تقليد مالك، وتقليد الشافعي إلا قوما قليلا لهم اختيارات، كمحمد بن علي بن يوسف، وأبي جعفر الطحاوي، مفتو "القيروان"، وكان بـ "القيروان" سحنون بن سعيد، وله كثير من الاختيار، وسعيد بن محمد الحدّاد مفتو "الأندلس"، وكان بـ "الأندلس" ممن له شئ من الاختيار يحيى بن يحيى، وعبد الملك بن حبيب، وبقي بن مخلد، وقاسم بن محمد، صاحب الوثائق تحفظ لهم فتاو يسيرة. وكذلك مسلمة بن عبد العزيز القاضي، ومنذر بن سعيد. قال: أبو محمد بن حزم: وممن أدركنا من أهل العلم على الصفة التي من بلغها استحق الاعتداد به في الاختلاف مسعود بن سليمان، ويوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر.

‌أهل الفتوى باليمن:

وكان بـ "اليمن" مطرف بن مازن قاضي "صنعاء"، وعبد الرزَّاق بن همَّام، وهشام بن يوسف، ومحمد بن ثور، وسماك بن الفضل.

‌أهل الفتوى ببغداد:

وكان بـ "مدينة السلام" من المفتين خلق كثير، ولما بناها المنصور أقدم إليها من الأئمة والفقهاء والمحدثين بشرا كثيرا.

انتهى كلام الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى من "إعلام الموقعين".

‌الفصل السادس في أهم الأسانيد للإمامنا الأعظم

نذكر هنا نبذة من أحوال رجال أهم الأسانيد في الحديث والفقه للإمامنا الأعظم رحمه الله تعالى، وفيه الصحابي الجليل فقيه الملة حبر الأمة عبد الله بن مسعود، والتابعين الكبار علقمة بن قيس، وإبراهيم النخعي،

ص: 191

وحماد بن أبي سليمان، رحمهم الله تعالى، نذكرهم على الترتيب المذكور بفصله وعونه تبارك وتعالى.

‌الإمام الحبر، فقيه الأمة، الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود بن غافل بن حبيب بن شمخ بن فار بن مخزوم بن صاهلة بن كاهل بن الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار أبو عبد الرحمن الهذلي المكي المهاجري البدري، حليف بني زهرة

ذكره الحافظ الذهبي في "سير أعلام النبلاء"، فقال ما نصه: كان من السابقين الأولين، ومن النجباء العالمين، شهد "بدرا"، وهاجر الهجرتين، وكان يوم "اليرموك" على النفل، ومناقبه غزيرة، روى علما كثيرا.

* راجع: سير أعلام النبلاء 1: 461 - 500.

وترجمته في المسند لأحمد:1: 374 - 384، وطبقات ابن سعد: 3: 1: 106، وطبقات خليفة: 16، 126، وتاريخ خليفة:101، 166، والتاريخ الصغير: 60، والمعارف: 249، والجرح والتعديل: 5: 149، ومشاهير علماء الأمصار: ت: 21، وحلية الأولياء 1: 124 - 139، والاستيعاب: 7: 20، وتاريخ بغداد 1: 147 - 150، وطبقات الشيرازي: 43، وأسد الغابة: 3: 384، وتهذيب الأسماء واللغات:1: 288 - 290، وتهذيب الكمال: 740، ودول الإسلام:1: 54، وتاريخ الإسلام: 2: 24، وتذكرة الحفاظ:1: 31، والعبر: 1: 33، وطبقات القراء للذهبي:1: 33، ومجمع الزوائد: 9: 286 - 291، والعقد الثمين: 5: 283 - 284، وطبقات القراء:1: 458، وتهذيب التهذيب: 6: 27 - 28، والإصابة: 7: 209، والنجوم الزاهرة:1: 89، وطبقات الحفاظ: 5، وخلاصة تذهيب الكمال: 214، وكنز العمال: 13: 460 - 469، وشذرات الذهب:1: 38.

ص: 192

حدّث عنه أبو موسى، وأبو هريرة، وابن عبَّاس، وابن عمر، وعمران بن حصين، وجابر، وأنس، وأبو أمامة، في طائفة من الصحابة، وعلقمة، والأسود، ومسروق، وعبيدة، وأبو وائلة، وقيس بن أبي حازم، وزر بن حبيش، والربيع، بن خثيم، وطارق بن شهاب، وزيد بن وهب، وولداه أبو عبيدة وعبد الرحمن، وأبو الأحوص عوف بن مالك، وأبو عمرو الشيباني، وخلق كثير.

وروى عنه القراءة أبو عبد الرحمن السلمي، وعبيد بن نضيلة، وطائفة.

اتفقا له في "الصحيحين" على أربعة وستين، وانفرد له البخاري بإخراج أحد وعشرين حديثا، ومسلم لإخراج خمسة وثلاثين حديثا، وله عند بقيّ بالمكرّر ثمانيمائة وأربعون حديثا.

قال قيس بن أبي حازم: رأيتُه آدم، خفيف اللحم، وعن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: كان عبد الله رجلا نحيفا، قصيرا، شديد الأدمة، وكان لا يغير شيبه.

وروى الأعمش، عن إبراهيم قال: كان عبد الله لطيفا، فطنا.

قلت: كان معدودا في أذكياء العلماء.

وعن ابن المسيّب قال: رأيتُ ابن مسعود عظيم البطن، أحمش الساقين.

قلت: رآه سعيد لما قدم "المدينة" عام توفي سنة اثنتين وثلاثين، وكان يعرف أيضا بأمه، فيقال له: ابن أم عبد.

قال محمد بن سعد: أمه هي أم عبد بنت عبد ود بن سوي

(1)

، من بني زهرة.

(1)

كذا الأصل، وعند ابن سعد، و"الاستيعاب""سواء"، وفي "الإصابة":"سوادة".

ص: 193

وروي عن علقمة: عن عبد الله قال: كناني النبي، صلى الله عليه وسلم، أبا عبد الرحمن قبل أن يولد لي

(1)

.

وروى المسعودي: عن سليمان بن مينا، عن نويفع مولى ابن مسعود، قال: كان عبد الله من أجود الناس ثوبا أبيض، وأطيب الناس ريحا.

يعقوب بن شيبة: حدثني بشر بن مهران، حدثنا شريك، عن عثمان بن المغيرة، عن زيد بن وهب قال: قال عبد الله: إن أول ما علمته من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم: قدمتُ "مكة" مع عمومة لي أو أناس من قومي، نبتاع منها متاعا، وكان في بغيتنا شراء عطر، فأرشدونا على العباس، فانتهينا إليه، وهو جالس إلى زمزم، فجلسنا إليه، فبينا نحن عنده، إذ أقبل رجل من باب الصفا، أبيض، تعلوه حمرة، له وفرة جعدة، إلى أنصاف إذنيه، أشم، أقنى، أذلف، أدعج العينين، براق الثنايا، دقيق المسربة، شثن الكفين والقدمين، كث اللحية، عليه ثوبان أبيضان، كأنه القمر ليلة البدر، يمشي على يمينه غلام حسن الوجه، مراهق أو محتلم، تقفوهم امرأة قد سترت محاسنها، حتى قصد نحو الحجر، فاستلم، ثم استلم الغلام، واستلمت المرأة، ثم طاف بالبيت سبعا، وهما يطوفان معه، ثم استقبل الركن، فرفع يده كبَّر، وقام ثم ركع، ثم سجد ثم قام.

فرأينا

(2)

شيئا أنكرناه، لم نكن نعرفه بـ "مكة"، فأقبلنا على العباس، فقلنا: يا أبا الفضل إن هذا الدين حدث فيكم، أو أمر لم نكن نعرفه؟ قال: أجل والله ما تعرفون هذا، هذا ابن أخي محمد بن عبد الله، والغلام علي بن أبي طالب، والمرأة خديجة بنت خويلد امرأته، أما والله ما على وجه الأرض أحد نعلمه يعبد الله بهذا الدين إلا هولاء الثلاثة.

(1)

الخبر في " المستدرك " 3: 313.

(2)

تحرفت في المطبوع إلى "فرابنا".

ص: 194

قال ابن شيبة لا نعلم روى هذا إلا بشر الخصَّاف، وهو رجل صالح

(1)

.

محمد بن أبي عبيدة بن معن المسعودي: عن أبيه، عن الأعمش، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه قال: قال عبد الله: لقد رأيتني سادس ستة، وما على ظهر الأرض مسلم غيرنا

(2)

.

وقال ابن إسحاق: أسلم ابن مسعود بعد اثنين وعشرين نفسا، وعن يزيد بن رومان قال: أسلم عبد الله قبل دخول النبي، صلى الله عليه وسلم، دار الأرقم

(3)

.

أخبرنا أحمد بن سلامة وأحمد بن عبد السلام، إجازة، عن عبد المنعم بن كليب، أنبأنا علي بن بيان، أنبأنا محمد بن محمد، أنبأنا إسماعيل بن محمد (ح) وقرأتُ على أحمد بن إسحاق، وعبد الحافظ بن بدران، أخبركما أبو البركات الحسن بن محمد، أنبأنا محمد بن الخليل بن فارس، في سنة ثمان وأربعين وخمسمائة، وأنا في الخامسة (ح) وأنبأنا علي بن محمد، وعمر بن عبد المنعم، وعبد المنعم بن عسكر، وأبو علي بن الجلال، وابن مؤمن قالوا: أنبأنا محمد بن هبة الله القاضي، أنبأنا حمزة بن علي الثعلبي (ح) وأنبأنا أبو جعفر محمد بن علي، وأحمد بن عبد الرحمن قالا: أنبأنا أبو القاسم بن صصرى، أنبأنا أبو القاسم الحسين بن الحسن الأسدي، وأبو يعلى بن الحبوبى (ح)

(1)

كذا قال. مع أن ابن أبي حاتم نقل عن أبيه أنه ترك حديثه.

وشيخه شريك سيئ الحفظ.

(2)

أخرجه أبو نعيم في "الحلية"1: 126، والحاكم 3: 313 وصحَّحه، ووافقه الذهبي. وهو كما قالا.

(3)

أخرجه ابن سعد 3: 1: 107.

ص: 195

وأنبأنا إبراهيم بن أحمد الطائي، ومحمد بن الحسن الأرموي والحسن بن علي الدمشقي، وإسماعيل بن عبد الرحمن المرداوي، وأحمد بن مؤمن، وست الفخر بنت عبد الرحمن قالوا: أخبرتنا كريمة بنت عبد الوهَّاب القرشية، أنبأنا أبو يعلى حمزة بن الحبوبي قالوا: أنبأنا علي بن محمد بن علي الفقيه، أنبأنا عبد الرحمن بن عثمان التميمى، أنبأنا إبراهيم بن أبي ثابت قالا: أنبأنا الحسن بن عرفة العبدي (ح) وأنبأنا عبد الرحمن بن محمد، والمسلم بن محمد، وعلي بن أحمد قالوا: أنبأنا حنبل، أنبأنا ابن الحصين، أنبأنا ابن المذهب، أنبأنا أبو بكر القطيعي، أنبأنا عبد الله بن أحمد الشيباني، حدثني أبي قالا: أنبأنا أبو بكر بن عيَّاش، حدثني عاصم، عن زر، عن ابن مسعود قال: كنت أرعى غنما لعقبة بن أبي معيط، فمرَّ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، فقال: يا غلام! هل من لبن؟ قلت: نعم، ولكني مؤتمن، قال: فهل من شاة لم ينز عليها الفحل؟ فاتيته بشاة، فمسح ضرعها، فنزل لبن، فحلب في إناء، فشرب، وسقى أبا بكر، ثم قال للضرع: اقلص، فقلص.

زاد أحمد قال: ثم أتيته بعد هذا، ثم اتفقا - فقلت: يا رسول الله! علمني من هذا القول، فمسح رأسى، وقال: يرحمك الله إنك غليم معلم.

هذا حديث صحيح الإسناد

(1)

، ورواه أبو عوانة عن عاصم بن بهدلة، وفيه زيادة منها: فلقد أخذت من فيه صلى الله عليه وسلم سبعين سورة ما نازعنى فيها بشر، ورواه.

(1)

بل حسن. لأن عاصما وهو ابن بهدلة لا يرتقي حديثه إلى درجة الصحيح كما هو معلوم من كتب الرجال، وأخرجه أحمد 1: 379، والفسوي في "المعرفة والتاريخ" 2:537.

ص: 196

إبراهيم بن الحجَّاج السامي

(1)

، عن سلام أبي المنذر، عن عاصم، وفيه: قال: فأتيتُه بصخرة منقعرة، فحلب فيها، قال: فأسلمتُ وأتيتُه

(2)

.

عبيد الله بن موسى، وغيره: حدثنا إسرائيل، عن المقدام بن شريح عن أبيه، عن سعد قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن ستة، فقال المشركون: اطرد هؤلاء عنك فلا يجترئون علينا، كنت أنا، وابن مسعود، ورجل من هذيل، ورجلان نسيت اسمهما، فوقع في نفس النبي، صلى الله عليه وسلم، ما شاء الله، وحدّث به نفسه، فأنزل الله تعالى:{وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [الأنعام: 52، 53]

(3)

.

رواه قبيصة، عن الثوري، عن المقدام.

ابن إسحاق: حدثني يحيى بن عروة بن الزبير، عن أبيه قال: أول من جهر بالقرآن بـ "مكة" بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن مسعود

(4)

.

أبو بكر: عن عاصم، عن زر قال: أول من قرأ آية عن ظهر قلبه عبد الله بن مسعود

(5)

.

قلت: هذا مؤوَّل، فقد صلى قبل عبد الله جماعة بالقرآن.

أبو داود في "سننه": حدثنا أبو سلمة، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم آخى بين الزبير وابن مسعود

(6)

.

(1)

تحرفت في المطبوع إلى "الشامي".

(2)

أخرجه أحمد 1: 462 مع هاتين الزيادتين.

(3)

إسناده صحيح، وقد سبق تخريجه في الصفحة (353) تعليق رقم (5).

(4)

أخرجه ابن هشام 1: 314 مطولا، وابن حجر في "الإصابة" 6: 215 ورجاله ثقات.

(5)

ذكره صاحب الكنز (37222) عن زر، عن علي، ولم ينسبه لاحد.

(6)

إسناده صحيح.

ص: 197

وروى مثله سفيان بن حسين، عن يعلى بن مسلم، عن أبي الشعثاء، عن ابن عباس، رواه الحكم في "مستدركه"

(1)

.

وفيه لمجاهد، عن عبد الله بن سخبرة

(2)

: قال: رأيتُ ابنَ مسعود آدم، لطيف الجسم، ضعيف اللحم.

قلت: أكثر من آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهم مهاجري وأنصاري.

قال موسى بن عقبة: وممن قدم من مهاجرة "الحبشة"، الهجرة الأولى إلى "مكة"، على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عبد الله بن مسعود، ثم هاجر إلى "المدينة".

يحيى الحماني: حدثنا يحيى بن سلمة بن كهيل، عن أبيه، عن عكرمة، قال ابن عباس: ما بقي مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يوم أحد إلا أربعة، أحدهم ابن مسعود

(3)

.

شعبة: عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص سمعت أبا مسعود وأبا موسى حين مات عبد الله بن مسعود، وأحدهما يقول لصاحبه: أتراه ترك بعده مثله؟ قال: لئن قلت ذاك، لقد كان يؤذن له إذا حجبنا، ويشهد إذا غبنا.

يحيى، عن قطبة، عن الأعمش، عن مالك بن الحارث، عن أبي الأحوص بنحوه.

وأخرج البخاري والنسائي من حديث أبي موسى قال: قدمتُ أنا وأخي من "اليمن"، فمكثنا حينا، وما نحسب ابن مسعود وأمه إلا من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، لكثرة دخولهم وخروجهم عليه.

(1)

3: 314 وصححه، ووافقه الذهبي.

(2)

تحرفت "سخبرة" في المطبوع إلى "بحينة".

(3)

إسناده شديد الضعف. يحيى بن سلمة بن كهيل قال الحافظ في "التقريب": متروك.

ص: 198

الأعمش عن أبي عمرو الشيباني، عن أبي موسى قال: والله لقد رأيت عبد الله، وما أراه إلا عبد آل محمد صلى الله عليه وسلم.

حدثنا السلفي

(1)

: حدثنا الثقفي أنبأنا ابن بشران، أنبأنا محمد بن عمرو، حدثنا محمد بن عبد الجبار، حدثنا حفص بن غياث، عن الحسن بن عبيد الله، عن إبراهيم بن سويد، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عبد الله، إذنك علي أن ترفع الحجاب، وتسمع سوادى حتى أنهاك".

رواه الثورى، وزائدة، عن الحسن بن عبيد الله.

وفي لفظ: "أن ترفع الستر، وأن تستمع سوادي".

ورواه سفيان بن عيينة عن عمرو، عن رجل سماه، عن إبراهيم بن سويد، عن عبد الله. وهذا منقطع.

وكذا رواه ابن مهدي، عن سفيان، عن الحسن.

والسواد: السرار، وقيل: المحادثة.

وفي "مسند أحمد" من طريق ابن عون، عن عمرو بن سعيد، عن حميد بن عبد الرحمن قال: قال ابن مسعود: كنت لا أحبس عن النجوى، وعن كذا، وعن كذا.

وعن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، قال: كان ابن مسعود صاحب سواد رسول الله - يعني سره ووساده - يعني فراشه -، وسواكه، ونعليه، وطهوره.

وهذا يكون في السفر.

ابن سعد: حدثنا أبو نعيم، حدثنا المسعودي، عن القاسم بن عبد الرحمن، قال: كان عبد الله يلبس رسول الله صلى الله عليه وسلم نعليه، ثم

(1)

لم يتبين محقق المطبوع هذه اللفظة، فأسقطها.

ص: 199

يمشي أمامه بالعصا حتى إذا أتى مجلسه، نزع نعليه، فأدخلهما في ذراعه، وأعطاه العصا، وكان يدخل الحجرة أمامه بالعصا.

المسعودي: عن عيَّاش العامري، عن عبد الله بن شدَّاد، قال: كان عبد الله صاحب الوساد والسواك والنعلين.

الأعمش: عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال: لما نزلت {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ} الآية، قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم:"قيل لي: أنت منهم".

رواه مسلم.

منصور والأعمش: عن أبي وائل قال: كنت مع حذيفة، فجاء ابن مسعود، فقال حذيفة: إن أشبه الناس هديا ودلا وقضاء وخطبة برسول الله صلى الله عليه وسلم، من حين يخرج من بيته، إلى أن يرجع، لا أدري ما يصنع في أهله لعبد الله بن مسعود، ولقد علم المتهجدون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن عبد الله من أقربهم عند الله وسيلة يوم القيامة.

لفظ منصور، كذا قال المتهجدون، ولعله المجتهدون.

الأعمش: عن إبراهيم، عن علقمة، قال: كنا عند عبد الله، فجاء خباب بن الأرت حتى قام علينا، في يده خاتم من ذهب، فقال: أكلُّ هؤلاء يقرؤون كما تقرأ؟ فقال عبد الله: إن شئت أمرت بعضهم يقرأ، قال: أجل، فقال: اقرأ يا علقمة! فقال فلان: أتأمره أن يقرأ وليس بأقرئنا؟ قال عبد الله: إن شئت حدثتك بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قومه وقومك.

قال علقمة: فقرأت خمسين آية من سورة مريم، فقال عبد الله: ما قرأ إلا كما أقرأ.

ثم قال عبد الله: ألم يأن لهذا الخاتم أن يطرح؟ فنزعه، ورمى به، وقال: والله لا تراه عليَّ أبدا.

ص: 200

شيبان: عن الأعمش، عن مالك بن الحارث عن أبي الأحوص، قال: أتيت أبا موسى وعنده عبد الله وأبو مسعود الأنصاري، وهم ينظرون إلى مصحف، فتحدثنا ساعة، ثم خرج عبد الله، وذهب، فقال أبو مسعود: والله ما أعلم النبي صلى الله عليه وسلم ترك أحدا أعلم بكتاب الله من هذا القائم.

الأعمش: عن أبي الضحى، عن مسروق، قال عبد الله: والذي لا إله غيره لقد قرأتُ من في رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعا وسبعين سورة، ولو أعلم أحدا أعلم بكتاب الله مني تبلغنيه الإبل لأتيتُه.

جامع بن شدّاد: حدثنا عبد الله بن مرداس: كان عبد الله يخطبنا كل خمس على رجليه، فنشتهي أن يزيد.

الأعمش: عن إبراهيم التيمي، عن أبيه، قال ابن مسعود: لو تعلمون ذنوبي ما وطئ عقبي رجلان.

جابر بن نوح: عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عبد الله، قال: ما نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم أين نزلت، وفيما نزلت. الحديث.

الثوري: عن أبي إسحاق، عن خمير بن مالك، قال: قال عبد الله: لقد قرأت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سورة، وزيد له ذؤابة يلعب مع الغلمان.

عبدة بن سليمان: عن الأعمش، عن شقيق:

قال عبد الله: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 161] على قراءة من تأمروني أن أقرأ؟

لقد قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سورة، ولقد علم أصحاب محمد أني أعلمهم بكتاب الله، ولو أعلم أحدا أعلم بكتاب الله مني لرحلت إليه.

ص: 201

قال شقيق فجلست في حلق من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فما سمعت أحدا منهم يعيب عليه شيئا مما قال، ولا يرد عليه.

شعبة: عن الأعمش، عن أبي وائل، عن عبد الله:

أنهم ذكروا قراءته، فكأنهم عابوه، فقال:

لقد علم أصحاب رسول الله أني أقرؤهم لكتاب الله.

ثم كأنه ندم، فقال: ولست بخيرهم.

سويد بن سعيد: حدثنا علي بن مسهر، عن الأعمش، عن أبي وائل، قال: لما أمر عثمان بتشقيق المصاحف، قام عبد الله خطيبا، فقال: لقد علم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أني أعلمهم بكتاب الله.

ثم قال: وما أنا بخيرهم.

زائدة وأبو بكر بن عيَّاش: عن عاصم، عن زر، عن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ بين أبي بكر وعمر، وعبد الله قائم يصلي، فافتتح سورة النساء يسجلها، فقال صلى الله عليه وسلم:"من أحبَّ أن يقرأ القرآن غضّا كما أنزل فليقرأ قراءة ابن أم عبد"[فأخذ] عبد الله في الدعاء.

فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "سل تعط".

[فكان] فيما سأل: اللهم إني أسألك إيمانا لا يرتد، ونعيما لا ينفَدُ، ومرافقة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم في أعلى جنان الخلد.

فأتى عمر عبد الله يبشره، فوجد أبا بكر خارجا قد سبقه، فقال: إنك لسبّاق بالخير.

رواه يزيد بن هارون، عن عبيدة، عن أبي وائل، عن عبد الله.

أبو معاوية وغيره: عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، قال: جاء رجل إلى عمر وهو بـ "عرفة"(ح) والأعمش عن خيثمة، عن قيس بن مروان أنه أتى عمر، فقال: جئتُ يا أمير المومنين من "الكوفة"، وتركتُ بها رجلا

ص: 202

يملي المصاحف عن ظهر قلب، فغضب عمر، وانتفخ حتى كاد يملأ ما بين شعبتي الرجل، فقال: ومن هو ويحك؟ فقال ابن مسعود.

فما زال يطفئ غضبه، ويتسرى عنه، حتى عاد إلى حاله، ثم قال: ويحك! والله ما أعلم بقى من الناس أحد هو أحق بذلك منه، وسأحدّثك: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزال يسمر عند أبي بكر الليلة كذلك في الأمر من أمر المسلمين، وإنه سمر عنده ذات ليلة وأنا معه، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرجنا معه، فإذا رجل قائم يصلّى في المسجد، فقام رسول الله يسمع قراءته، فلما كدنا أن نعرفه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من سره أن يقرأ القرآن رطبًا كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد".

قال: ثم جلس يدعو، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له:"سل تعطه".

فقلت: والله لأغدونَّ إليه فلأبشره، قال: فغدوتُ فوجدتُ أبا بكر قد سبقني.

رواه أحمد في "مسنده"

(1)

عن أبي معاوية، وروى نحوه يحيى بن سعيد الأموى، عن مالك بن مغول، عن حبيب بن أبي ثابت، عن خيثمة فذكر القصة.

محمد بن جعفر بن أبي كثير: عن إسماعيل بن صخر الأيلي، عن أبي عبيدة بن محمد بن عمَّار، عن أبيه، عن جدّه أن رسول الله صلى الله عليه

(1)

إسناده ضعيف، وهو في المسند 1: 25 - 26، وأخرجه أبو نعيم في الحلية 1: 124 والفسوي في المعرفة والتاريخ 2: 538 من طريق: الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة.

ص: 203

وسلم مرَّ بابن مسعود وهو يقرأ حرفا حرفا، فقال:"من سرَّه أن يقرأ القرآن غضًّا كما أنزل فليسمعْه من ابن مسعود"

(1)

.

أحمد بن حنبل في "المسند": حدثنا وكيع، عن عيسى بن دينار، عن أبيه، عن عمرو بن الحارث المصطلقي عن الني صلى الله عليه وسلم بنحو ما قبله

(2)

، وروى جرير بن أيوب البجلي، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه.

زهير بن معاوية: عن منصور، عن أبي إسحاق، عن الحارث عن علي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لو كنت مؤمرا أحدا عن غير مشورة لأمرتُ عليهم ابن أمّ عبد"

(3)

.

رواه وكيع، عن سفيان، عن أبي إسحاق، ورواه أبو سعيد مولى بني هاشم، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، وقد رواه القاسم بن معن، عن منصور، فقال: عاصم بن ضمرة بدل الحارث.

ولفظ وكيع: لو كنت مستخلفا من غير مشورة لاستخلفت ابن أم عبد.

ابن فضيل: حدثنا مغيرة عن أم موسى: سمعتُ عليا يقول: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن مسعود، فصعد شجرة يأتيه منها بشيء، فنظر أصحابه إلى ساق عبد الله، فضحكوا من حموشة ساقيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما تضحكون؟ لرجل عبد الله أثقل في الميزان يوم القيامة من أحد"

(4)

.

(1)

ذكره صاحب الكنز (33461) عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار عن أبيه، عن جده، ونسبه إلى ابن عساكر. وانظر طريقيه التاليين مباشرة.

(2)

إسناده صحيح.

(3)

حديث صحيح. وأخرجه أحمد 1: 114.

(4)

تحرفت في المطبوع إلى "غياث".

ص: 204

ورواه جرير، عن مغيرة، وروى حماد بن سلمة عن عاصم، عن زر، عن عبد الله نحوه، ورواه أبو عتاب الدلال عن شعبة، عن معاوية بن قرة بن إياس المزني، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.

الثوري: عن عبد الملك بن عمير، عن مولى لربعي، عن ربعي، عن حذيفة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر، واهتدوا بهدي عمَّار، وتمسَّكوا بعهد ابن أم عبد"

(1)

.

رواه جماعة هكذا عنه. ورواه أسباط، عن الثوري فأسقط منه مولى ربعي، ورواه مسعر عن عبد الملك بن عمير، عن ربعي.

ورواه سالم المرادي عن عمرو بن هرم

(2)

عن ربعى، عن حذيفة وقال: وكيع عن سالم المرادي، فقال عن عمرو بن مرة، والأول

(3)

أشبه.

ورواه يحيى بن سلمة بن كهيل، عن أبيه، عن أبي الزعراء، عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال، فذكره.

وقال يحيى بن يعلى: حدثنا زائدة، عن منصور، عن زيد بن وهب، عن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رضيتُ لأمتي ما رضي لها ابن أم عبد"

(4)

.

(1)

أخرجه أحمد 5: 385، 402، والترمذي (3810) في المناقب، وأخرجه ابن ماجة مختصرا (97) في المقدمة: باب فضل أبي بكر الصديق، والحاكم 3: 75 وصحَّحه، ووافقه الذهبي، والفسوي في "المعرفة والتاريخ" 1:480.

(2)

تحرفت في المطبوع إلى "مرة".

(3)

تحرفت في المطبوع إلى "القول".

(4)

أخرجه الحاكم 3: 317، وقال: هذا إسناد صحيح، ولم يخرجاه، وله علة.

ص: 205

رواه الثوري وإسرائيل، عن منصور، فقال عن القاسم بن عبد الرحمن مرسلا.

وكذا قال ابن عيينة، عن أبي العميس، عن القاسم مرسلا

(1)

.

وقال أبو أحمد محمد بن عبد الوهَّاب الفرَّاء: حدثنا جعفر بن عون، عن المسعودي، عن جعفر بن عمرو بن حريث: عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد رضيتُ لكم ما رضي لكم ابن أم عبد

(2)

".

أخبرنا إسماعيل بن عبد الرحمن، حدثنا عبد الله بن أحمد الفقيه، حدثنا هبة الله بن الحسن الدقاق، حدثنا أبو الفضل عبد الله بن علي، سنة أربع وثمانين وأربعمائة، أنبأنا أبو الحُسين بن بشران، أنبأنا محمد بن عمرو، حدثنا عباس بن محمد، حدثنا أبو عتاب سهل بن حماد، حدثنا شعبة، عن معاوية بن قرة، عن أبيه قال: صعد ابن مسعود شجرة، فجعلوا يضحكون من دقة ساقيه، فقال النبي، صلى الله عليه وسلم:"لهما في الميزان أثقل من أحد".

حاتم بن الليث: حدثنا يعقوب بن محمد، حدثنا ابن أبي فديك، عن موسى بن يعقوب، عن ابن أبي حرملة، حدثتني سارة بنت عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"والذي نفسي بيده إن عبد الله أثقل في الميزان يوم القيامة من أحد".

علي بن مسهر: عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبيدة، عن عبد الله، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقرأ علي القرآن.

قلت: يا رسول الله أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: إني أشتهي أن أسمعه من غيري.

(1)

أخرجه الحاكم 3: 318، وهذا هو المرسل.

(2)

أخرجه الحاكم مطولا 3: 319، وصححه، ووافقه الذهبي.

ص: 206

فقرأت عليه سورة النساء حتى بلغت: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} [النساء: 41] فغمزني برجله، فإذا عيناه تذرفان". رواه أبو الأحوص، عن الأعمش، فقال: علقمة بدل عبيدة.

ورواه شعبة والثوري عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الله منقطعا.

البزار صاحب "المسند": حدثنا أحمد بن مالك، حدثنا مفضل بن محمد الكوفي، حدثنا الأعمش، ومغيرة، وابن مهاجر، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال: استقرأني النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائم على المنبر سورة النساء، فقرأتُ حتى بلغتُ:{فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} فاغرورقت عينا النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "من سرَّه أن يقرأ القرآن غضًّا كما أنزل فليقرأ على قراءة ابن أم عبد"

(1)

.

مفضل تركه أبو حاتم، ومشاه

(2)

غيره.

الحميدي في "مسنده" حدثنا سفيان

(3)

، حدثنا المسعودي، عن القاسم، قال النبي صلى الله عليه وسلم لا بن مسعود:"اقرأ" فقال: أقرأ وعليك أنزل؟.

(1)

إسناده ضعيف لضعف المفضل كما ذكر المُصَنِّف، وأخرجه الترمذي (3027) في التفسير: باب ومن سورة النساء.

(2)

تحرفت "مشاه" في المطبوع إلى "منشأ".

والمفضل هذا، هو المفضل الضبي، الكوفي، المقرئ، صاحب المفضليات، ترجمه المؤلف في الميزان، فقال: قال الخطيب: كان أخباريا، علامة، موثقا.

وأما أبو حاتم، فقال: متروك القراءة والحديث.

(3)

تحرفت في المطبوع إلى "شعبان".

ص: 207

الحديث

(1)

أخبرنا سُنْقُر القضائي، حدثنا عبد اللطيف بن يوسف، وعبد اللطيف بن محمد القبيطي، وجماعة، قالوا: حدثنا محمد بن عبد الباقي حدثنا مالك بن أحمد، حدثنا أحمد بن محمد بن الصَّلْت، حدثنا إبراهيم بن عبد الصمد، حدثنا عبيد بن أسباط، حدثني أبي، حدثنا سفيان، عن عبد الملك بن عمير، عن ربعي، عن حذيفة قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم:"اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر، واهتدوا بهدي عمَّار، وتمسَّكوا بعهد ابن أم عبد".

عفَّان: حدثنا الأسود بن شيبان، حدثنا أبو نوفل بن أبي عقرب، قال: قال عمرو بن العاص في مرضه، وقد جزع، فقيل له: قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدنيك ويستعملك، قال: والله ما أدري ما كان ذاك منه، أحب أو كان يتألفني، ولكن أشهد على رجلين أنه مات وهو يحبّهما: ابن أم عبد وابن سمية.

أبو نعيم: حدثنا فطر بن خليفة، عن كثير النواء، سمعتُ عبد الله بن مليل

(2)

، سمعتُ عليا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنه لم يكن نبي إلا وقد أعطي سبعة نجباء رفقاء وزراء، وإني أعطيتُ أربعة عشر: حمزة، وأبو بكر، وعمر، وعلي، وجعفر، وحسن، وحسين، وابن مسعود، وأبو ذر، والمقداد وحذيفة، وعمَّار، وسلمان".

رواه علي بن هاشم بن البريد عن كثير، فوقفه على علي رضي الله عنه وهو أشبه.

(1)

أخرجه الحميدي 1: 55 برقم (101)، وتمامه "قال: إني أحب أن أسمعه من غيري.

(2)

مليل باللام تصحفت في المطبوع إلى "مليك" وقد روى عنه كثير النواء والأعمش، وسالم بن أبي حفصة. وذكره ابن حبان في الثقات ص:(138)، وكثير النواء ضعيف.

ص: 208

أنبئت عن الخشوعي وغيره أن مرشد بن يحيى أنبأهم، قال: أنبأنا أبو الحسن الطفال، أنبأنا أبو الطاهر الذهلي، أنبأنا أبو أحمد محمد بن عبدوس، حدثنا عبد الله بن عمر، حدثنا وكيع، عن أبيه وإسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، قال: قال عبد الله: انتهيتُ إلى أبي جهل، وهو صريع، وهو يذب الناس بسيفه، فقلت: الحمد لله الذي أخزاك يا عدوَّ الله! قال: هل هو إلا رجل قتله قومه، فجعلت أتناوله بسيف لي، فأصبت يده، فندر سيفه، فأخذته، فضربتُه به، حتى برد، ثم خرجتُ حتى أتيتُ النبي، صلى الله عليه وسلم، وكأنما أقل من الأرض، فأخبرتُه، فقال:"الله الذي لا إله إلا هو"، قال: فقام معي حتى خرج يمشي معي حتى قام عليه، فقال:"الحمد لله الذي أخزاك يا عدوَّ الله، هذا كان فرعون هذه الأمة".

قال وكيع: وزاد فيه أبي عن أبي عبيدة: قال عبد الله، فنفَّلني رسول الله، صلى الله عليه وسلم، سيفه.

أحمد بن يونس: حدثنا أبو شهاب الحنَّاط، عن محتسب البصري، عن محمد بن واسع، عن ابن خثيم، عن أبي الدرداء قال: خطبَ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، خطبة خفيفة، فلما فرغ من خطبته قال: يا أبا بكر! قم فاخطب، فقام أبو بكر، فخطب، فقصر دون النبي، صلى الله عليه وسلم، ثم قال: يا عمر "قم فاخطبْ، فقام عمر، فقصر دون أبي بكر، ثم قال: يا فلان! قم فاخطبْ، فشقَّق القول، فقال له رسول الله، صلى الله عليه وسلم: اسكتْ أو اجلسْ، فإن التشقيق من الشيطان، وإن البيان من السحر. وقال: يا ابن أمّ عبد! قم فاخطبْ، فقام، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إن الله عز وجل ربنا، وإن الإسلام دينا، وإن القرآن إمامنا، وإن البيت قبلتنا، وإن هذا نبينا - وأومأ إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، - رضينا ما رضي الله لنا ورسوله، وكرهنا ما كره الله لنا ورسوله، والسَّلام عليكم.

ص: 209

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أصاب ابن أم عبد وصدق، رضيتُ بما رضي الله لأمتي وابن أم عبد، وكرهتُ ما كره الله لأمتي وابن أم عبد".

إسناده منقطع، رواه الطبراني في "معجمه".

الفسوي: حدثنا ابن نمير، حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة قال: كان عبد الله يشبه النبي، صلى الله عليه وسلم، في هديه ودلّه وسمته، وكان علقمة يشبه بعبد الله.

الثوري: عن أبي إسحاق، عن حارثة بن مضرب قال: كتب عمر بن الخطاب إلى أهل "الكوفة": إنني قد بعثتُ إليكم عمَّارا أميرا، وابن مسعود معلّما ووزيرا، وهما من النجباء من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، من أهل بدر، فاسمعوا لهما، واقتدوا بهما، وقد آثرتُكم بعبد الله على نفسي.

الأعمش: عن خيثمة قال: كنتُ جالسا عند عبد الله بن عمرو، فذكر ابن مسعود، فقال: لا أزال أحبّه بعد إذ سمعتُ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول:"استقرؤوا القرآن من أربعة: من عبد الله بن مسعود، فبدأ به، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وسالم مولى أبي حذيفة". أخرجه النسائي.

أخبرنا ابن علان وغيره كتابة أن حنبل بن عبد الله أخبرهم قال: أنبأنا ابن الحصين، حدثنا ابن المذهب، أنبأنا القطيعي، حدثنا عبد الله بن أحمد، حدثني أبي، حدثنا الأسود بن عامر، أنبأنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن خمير بن مالك، قال: أمر بالمصاحف أن تغير، فقال ابن مسعود: من استطاع منكم أن يغلّ مصحفه فليغله فإنه من غلّ شيئًا جاء به يوم القيامة.

ثم قال: لقد قرأتُ من فم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، سبعين سورة، أفأترك ما أخذث من في رسول الله، صلى الله عليه وسلم؟! ..

.. الأعمش عن زيد بن وهب قال: إني لجالس مع عمر بن الخطاب، إذ جاء ابن مسعود، فكاد الجلوس يوارونه من قصره، فضحك عمر

ص: 210

حين رآه، فجعل عمر يكلّمه، ويتهلّل وجهه، ويضاحكه، وهو قائم عليه، ثم ولى، فأتبعه عمر بصره حتى توارى، فقال: كنيف ملئ علما

(1)

.

معن بن عيسى: حدثنا معاوية بن صالح، عن أسد بن وداعة أن عمر ذكر ابن مسعود فقال: كنيف ملئ علما، آثرتُ به أهل "القادسية".

عفان: حدثنا وهيب

(2)

، عن داود، عن عامر أن مهاجر عبد الله كان بـ"حمص".

فجلاه

(3)

عمر إلى "الكوفة"، وكتب إليهم: إني والله الذي لا إله إلا هو آثرتُكم به على نفسي، فخذوا منه

(4)

.

عبيد الله بن موسى: عن مسعر، عن عمرو بن مرة، عن أبي عبيدة قال: سافر عبد الله سفرا يذكرون أن العطش قتله وأصحابه، فذكر ذلك العمر، فقال: هو أن يفجر الله له عينا يسقيه منها وأصحابه أظن عندي من أن يقتله عطشا

(5)

.

هشيم: حدثنا سيَّار، عن أبي وائل أن ابن مسعود رأى رجلًا قد أسبل.

فقال: ارفع إزارك، فقال: وأنت يا ابن مسعود فارفع إزارك، قال: إن بساقي حموشة، وأنا أومّ الناس.

(1)

وكنيف: تصغير كنف، وهو الوعاء، وهو تصغير تعظيم كقول الحباب بن المنذر: أنا جذيلها المحكك، وعذيقها المرجب

".

(2)

تحرفت في المطبوع إلى "وهب".

(3)

تحرفت في المطبوع إلى "فحمله".

(4)

أخرجه ابن سعد 3: 1: 111 ورجاله ثقات، لكنه منقطع. وعامر هو الشعبي.

(5)

أخرجه الفسوي 2: 543 في "المعرفة والتاريخ". ورجاله ثقات إلا أن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه فهو منقطع.

ص: 211

فبلغ ذلك عمر، فجعل يضرب الرجل، ويقول: أترد على ابن مسعود؟.

معمر: عن زيد بن رفيع، عن أبي عبيدة قال: أرسل عثمان إلى أبي عبد الله بن مسعود يسأله عن رجل طلَّق امرأته، ثم راجعَها حين دخلت في الحيضة الثالثة، فقال أبي: وكيف يفتي منافق؟ فقال عثمان: نعيذك بالله أن تكون هكذا، قال: هو أحقّ بها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة.

قبيصة: حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن حبة بن جوين، قال: لما قدم علي "الكوفة"، أتاه نفر من أصحاب عبد الله، فسألهم عنه، حتى رأوا أنه يمتحنهم، فقال: وأنا أقول فيه مثل الذي قالوا وأفضل، قرأ القرآن، وأحلّ حلاله، وحرم حرامه، فقيه في الدين، عالم بالسنَّة.

وفي "مستدرك الحاكم" من رواية الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري، عن علي وقيل له: أخبرنا عن عبد الله، فقال: علم الكتاب والسنة، ثم انتهى.

وقال الأعمش عن أبي عمرو الشيباني: إن أبا موسى استفتي في شيء من الفرائض، فغلط، وخالفه ابن مسعود، فقال أبو موسى: لا تسألوني عن شيء ما دام هذا الخبر بين أظهركم.

عبد الله بن إدريس: عن مالك بن مغول، قال: قال الشعبي: ما دخل "الكوفة" أحد من الصحابة أنفع علما ولا أفقه صاحبا من عبد الله.

وبإسناد "مسند أحمد": حدثنا يحيى بن أبي بكير، حدثنا إسرائيل، عن أبي حصين، عن يحيى بن وثَّاب، عن مسروق قال: حدثنا عبد الله يومًا، فقال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فرعد حتى رعدت ثيابه، ثم قال نحو ذا أو شبيها بذا

(1)

.

(1)

رجاله ثقات.

ص: 212

رواه عبيد الله بن موسى عن إسرائيل، فأبدل ابن وثَّاب بالشعبي.

وروي نحوه مسلم البطين وغيره عن عمرو بن ميمون، فقال القعنبي: حدثنا سفيان، عن عمَّار الدهني، عن مسلم، عن عمرو بن ميمون، قال: صحبتُ عبد الله ثمانية عشر شهرا، فما سمعتُه يحدّث عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلا حديثًا واحدا. فرأيتُه يفرق، ثم غشيه بهر، ثم قال نحوه أو شبهه

(1)

.

مسعر: عن معن بن عبد الرحمن، عن عون بن عبد الله، عن أخيه عبيد الله قال: كان عبد الله إذا هدأت العيون، قام فسمعتُ له دويا كدوي النحل

(2)

.

العلاء بن خالد: عن أبي وائل، عن عبد الله، قال: ارض بما قسم الله تكن من أغنى الناس، واجتنب المحارم تكن من أورع الناس، وأدّ ما افترض عليك تكن من أعبد الناس.

علي بن الأقمر: عن عمرو بن جندب، عن ابن مسعود قال: جاهدوا المنافقين بأيديكم، فإن لم تستطيعوا، فبألسنتكم، فإن لم تستطيعوا إلا أن تكفهروا في وجوههم، فافعلوا.

سيف بن عمر: عن عطية، عن أبي سيف أن ابن مسعود ترك عطاءه حين مات عمر.

(1)

أخرجه الحاكم 3: 314، وابن سعد 3: 1: 110، والفسوي 2: 548 في "المعرفة والتاريخ".

(2)

أخرجه الفسوي في "المعرفة والتاريخ" 2: 548، وابن سعد 3: 1: 110.

ص: 213

وفعل ذلك رجال من أهل "الكوفة" أغنياء، واتخذ لنفسه ضيعة براذان

(1)

فمات عن تسعين ألف مثقال، سوى رقيق وعروض وماشية رضي الله عنه.

وكيع: عن أبي عميس، عن عامر بن عبد الله بن الزبير قال: أوصى ابن مسعود وكتب: إن وصيتي إلى الله وإلى الزبير بن العوَّام، وإلى ابنه عبد الله بن الزبير، وإنهما في حل وبل

(2)

مما قضيا في تركتي، وإنه لا تزوّج امرأة من نسائي إلا بإذنهما

(3)

.

قلت: كان قد قدم على عثمان، وشهد في طريقه بـ "الربذة"

(4)

أبا ذر، وصلى عليه.

السري بن يحيى: عن أبي شجاع، عن أبي ظبية قال: مرض عبد الله، فعاده عثمان، وقال: ما تشتكي؟ قال: ذنوبي، قال: فما تشتهي؟ قال: رحمة ربي، قال: ألا آمر لك بطبيب؟ قال: الطبيب أمرضني، قال: ألا آمر لك بعطاء؟ قال: لا حاجة لي فيه.

(1)

بعد الألف ذال معجمة، وآخره نون، راذان الأسفل، وراذان الأعلى: كورتان بسواد بغداد تشتملان على قرى كثيرة

انظرها في "معجم البلدان".

(2)

تحرفت في المطبوع إلى "ومل". وفي "اللسان": هو لك حل وبل. فبل: شفاء.

وهي من قولهم: بل فلان من مرضه وأبل إذا برأ. ويقال: بل: مباح مطلق، وهي يمانية حميرية. ويقال: بل إتباعا لحل.

(3)

أخرجه ابن سعد 3: 1: 112.

(4)

الربذة: قرية من قرى المدينة، على ثلاثة أيام، قريبة من ذات عرق على طريق الحجاز. وبها قبر الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري.

ص: 214

كذا رواه سعيد بن مريم وعمرو بن الربيع. ورواه ابن وهب، فقال: عن شجاع.

ورواه عثمان بن يمان وحجَّاج بن نصير عن السري، عن شجاع، عن أبي فاطمة.

الفسوي: حدثنا ابن نمير، حدثنا يزيد، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس قال: دخل الزبير على عثمان رضي الله عنه بعد وفاة عبد الله فقال: أعطني عطاء عبد الله، فعيال عبد الله أحق به من بيت المال.

فأعطاه خمسة عشر ألفا

(1)

.

* * *

‌الإمام الحافظ فقيه الكوفة وعالمها ومقرئها، المجود، المجتهد الكبير أبو شبل علقمة بن قيس بن عبد الله بن مالك بن

*

(1)

أخرجه ابن سعد 3: 1: 113، من طريق يزيد بن هارون به، ورجاله ثقات.

* راجع: سير أعلام النبلاء 4: 53 - 61.

وترجمته في طبقات ابن سعد 6: 86، وطبقات خليفة ت 1054، وتاريخ البخاري 7: 41، والمعارف 431، والمعرفة والتاريخ 2: 552، والجرح والتعديل القسم الأول من المجلد الثالث 404، والحلية 2: 98، وتاريخ بغداد 12: 296، وطبقات الشيرازي 79، وتاريخ ابن عساكر 11: 404، وتهذيب الأسماء واللغات القسم الأول من الجزء الأول 342، وتهذيب الكمال ص 957، وتاريخ الإسلام 3: 50، وتذكرة الحفاظ 1: 45، والعبر 1: 66، 67، ومرآة الجنان 1: 137، والبداية والنهاية 8: 217، وطبقات =

ص: 215

علقمة بن سلامان بن كهل

(1)

، وقيل: ابن كهھيل بن بكر بن عوف، ويقال: ابن المنتشر بن النخع، النَّخَعي، الكوفي، الفقيه عم الأسود بن يزيد، وأخيه عبد الرحمن، وخال فقيه العراق إبراهيم النخعي.

ذكره الحافظ الذهبي في "سير أعلام النبلاء"، فقال ما لفظه: ولد في أيام الرسالة المحمدية، وعداده في المخضرمين، وهاجر في طلب العلم والجهاد، ونزل "الكوفة"، ولازم ابن مسعود، حتى رأس في العلم والعمل، وتفقَّه به العُلماء، وبعد صيته.

حدَّث عن عمر، وعثمان، وعلي، وسلمان، وأبي الدرداء، وخالد بن الوليد، وحذيفة، وخبَّاب، وعائشة، وسعد، وعمَّار، وأبي مسعود البدري، وأبي موسى، ومعقل بن سنان، وسلمة بن يزيد الجعفي، وشريح بن أرطاة، وقيس بن مروان، وطائفة سواهم.

وجوَّد القرآن على ابن مسعود.

تلا عليه يحيى بن وثَّاب، وعبيد بن نضيلة

(2)

وأبو إسحاق السبيعي.

وتفقَّه به أئمة: كإبراهيم، والشعبي.

وتصدى للإمامة والفتيا بعد علي وابن مسعود.

وكان يشبه بابن مسعود في هديه ودلّه وسمته.

وكان طلبته يسألونه، ويتفقهون به، والصحابة متوافرون.

= القراء: ت 2135، والإصابة ت 6454، وتهذيب التهذيب 7: 276، والنجوم الزاهرة 1: 157، وطبقات الحفاظ للسيوطي ص 12، وخلاصة تذهيب الكمال 271، وشذرات الذهب 1:70.

(1)

في جمهرة ابن حزم (سلامان بن كميل)416.

(2)

كذا في الأصل، وأسد الغابة 3: 354، وطبقات ابن سعد 6:117.

وأما عند ابن حجر في الإصابة والتهذيب: ابن نضلة.

ص: 216

حدَّث عنه أبو وائل، والشعبي، وعبيد بن نضيلة، وإبراهيم النخعي، ومحمد بن سيرين، وأبو الضحى مسلم بن صبيح، وإبراهيم بن سويد النخعي، وأبو ظبيان حصين بن جندب الجنبي، وأبو معمر عبد الله بن سخبرة، وسلمة بن كهھيل، وابن أخيه عبد الرحمن بن يزيد، وأبو إسحاق السبيعي، وعمارة بن عمير، وأبو قيس عبد الرحمن بن ثروان الأودي، وعبد الرحمن بن عوسجة، والقاسم بن مخيمرة، وقيس بن رومي، ومرة الطيب، وهني بن نويرة، ويحيى بن وثَّاب، ويزيد بن أوس، ويزيد بن معاوية النخعي لا الأموي، وأبو الرقاد النخعي، والمسيّب بن رافع.

وأرسل عنه أبو الزناد وغيره.

روي مغيرة، عن إبراهيم، قال: كنى عبد الله بن مسعود علقمة أبا شبل، وكان علقمة عقيما، لا يولد له.

الأعمش، عن إبراهيم، قال علقمة: ما حفظت وأنا شاب، فكأني أنظر إليه في قرطاس أو رقعة.

قال أحمد بن حنبل: علقمة ثقة، من أهل الخير، وكذا وثَّقه يحيى بن مَعين، وسئل عنه وعن عبيدة في عبد الله فلم يخير.

وقال عثمان بن سعيد: علقمة أعلم بعبد الله.

قال ابن المديني: لم يكن أحد من الصحابة له أصحاب حفظوا عنه، وقاموا بقوله في الفقه إلا ثلاثة: زيد بن ثابت، وابن مسعود، وابن عبَّاس، وأعلم الناس بابن مسعود: علقمة، والأسود، وعبيدة، والحارث.

وروى زائدة عن أبي حمزة، قال: قلت لرباح أبي المثنى: أليس قد رأيت عبد الله؟ قال: بلى، وحججتُ مع عمر ثلاث حجّات وأنا رجل.

قال: وكان عبد الله وعلقمة يصفان الناس "صفين" عند أبواب "كندة"، فيقرئ عبد الله رجلًا، ويقرئ علقمة رجلًا، فإذا فرغا، تذاكرا أبواب المناسك، وأبواب الحلال والحرام.

ص: 217

فإذا رأيت علقمة، فلا يضرّك أن لا ترى عبد الله، أشبه الناس به سمتا وهديا.

وإذا رأيت إبراهيم النخعي، فلا يضرّك أن لا ترى علقمة، أشبه الناس به سمتا، وهديا.

الأعمش عن عمارة بن عمير، قال: قال لنا أبو معمر: قوموا بنا إلى أشبه الناس بعبد الله هديا ودلًّا وسمتا، فقمنا معه حتى جلسنا إلى علقمة.

وروي سفيان بن عيينة عن داود بن أبي هند، قال: قلت للشعبي: أخبرني عن أصحاب عبد الله حتى كأني أنظر إليهم، قال: كان علقمة أبطن

(1)

القوم: به، وكان مسروق قد خلط منه ومن غيره، وكان الربيع بن خثيم

(2)

أشد القوم اجتهادا، وكان عبيدة يوازي شريكا في العلم والقضاء.

روى إبراهيم، عن علقمة، أنه قدم "الشام"، فدخل مسجد "دمشق"، فقال: اللهم ارزقْني جليسا صالحا، فجاء، فجلس إلى أبي الدرداء، فقال له: من أنت؟ قال: من أهل "الكوفة"، قال: كيف سمعت ابن أم عبد يقرأ {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} الحديث

(3)

.

وقال الأسود: إني لأذكر ليلة عرس أم علقمة.

(1)

يقال: بطن من فلان وبه: إذا صار من خواصه، واستبطن أمره: إذا وقف على دخلته، فهو أبطن.

(2)

في الأصل (خيثم) وهو تصحيف، وما أثبتناه من نص المؤلف في ترجمته ص 258، وتاريخ الإسلام 3: 15 و 247 و 365، وتهذيب التهذيب 3:242.

وهو مصحف في مصادر عدة.

(3)

أخرجه البخاري في فتح الباري 8: 543، باب وما خلق الذكر والأنثى ومسلم 828 في صلاة المسافرين وقصرها، باب ما يتعلق بالقراءات.

ص: 218

وقال شباب

(1)

: شهد علقمة "صفين" مع علي.

وروى الهيثم بن عدي، عن مجالد، عن الشعبي، قال: كان الفقهاء بعد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بـ"الكوفة" في أصحاب عبد الله: علقمة، وعبيدة، وشريح، ومسروق.

وروي حفص بن غياث، عن أشعث، عن ابن سيرين، قال: أدركت القوم وهم يقدمون خمسة: من بدأ بالحارث الأعور، ثني بعبيدة، ومن بدأ بعبيدة، ثني بالحارث، ثم علقمة الثالث، لا شك فيه، ثم مسروق، ثم شريح، وإن قوما أخسهم شريح، لقوم لهم شأن

(2)

.

وروى ابن عون، عن محمد، قال: كان أصحاب عبد الله خمسة كلهم فيه عيب: عبيدة أعور، ومسروق أحدب، وعلقمة أعرج، وشريح كوسج

(3)

، والحارث أعور.

وروى منصور عن إبراهيم، قال: كان أصحاب عبد الله الذين يقرؤون الناس القرآن، ويعلمونهم السنّة، ويصدر الناس عن رأيهم ستة: علقمة، والأسود، ومسروق، وعبيدة، وأبو ميسرة عمرو بن شرحبيل، والحارث بن قيس.

وروى إسرائيل، عن غالب أبي الهذيل، قلت لإبراهيم: أعلقمة كان أفضل أو الأسود؟ قال: علقمة، وقد شهد "صفين".

وقال ابن عون: سألتُ الشعبي عن علقمة والأسود، فقال: كان الأسود صوَّامًا قوَّامًا، كثير الحج، وكان علقمة مع البطئ ويدرك السريع.

(1)

هو خليفة بن خياط في تاريخ 196.

(2)

انظر الخبر أو نحوه ص 43 رقم (1) و 102 رقم (2) من هذا الجزء.

(3)

الكوسج: الذي لا شعر على عارضيه: ويقال: النقي الخدين من الشعر.

ص: 219

وقال مرة الهمداني: كان علقمة من الربانيين، وكان علقمة عقيما، لا يولد له.

وروى عنه إبراهيم، قال: صليتُ خلفَ عمر سنتين.

وروي مغيرة عن إبراهيم أن علقمة والأسود كانا يسافران مع أبي بكر وعمر.

قال الشعبي: كان علقمة أبطن

(1)

القوم بابن مسعود.

الأعمش عن إبراهيم، عن علقمة، قال: أتي عبد الله بشراب، فقال: أعط علقمة، أعط مسروقا، فكلهم قال: إني صائم، فقال:{يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور: 37]، وقال إبراهيم: كان علقمة يقرأ القرآن في خمس.

وقال علقمة: أطيلوا كر

(2)

الحديث لا يدرس الأعمش: عن شقيق، قال [كان] ابن زياد يراني مع مسروق، فقال: إذا قدمت فالقني، فأتيتُ علقمة، فقال: إنك لم تصب من دنياهم شيئًا إلا أصابوا.

من دينك ما هو أفضل منه، ما أحب أن لي مع ألفي ألفين، وإني أكرم الجند عليه.

وقال إبراهيم: كتب أبو بردة علقمة في الوفد إلى معاوية، فقال له علقمة: امحني امحني.

وقال علقمة: ما حفظتُ وأنا شاب، فكأني أنظر إليه في قرطاس.

قال إبراهيم عن علقمة: إنه كان له برذون يراهن عليه.

(1)

انظر ص 55 رقم (1)(1) في الأصل: "اطلبوا كريذ الحديث" وهو تصحيف، وما أثبتناه هو الذي صوبه ابن عساكر في تاريخه من نسخة (ع).

(2)

وفي نسخة (س) 11: 413 ب من حديث سليمان (ذكر الحديث) وكر الحديث مراجعته وتكراره.

ص: 220

الأعمش، عن مالك بن الحارث، عن عبد الرحمن بن يزيد، قلنا العلقمة: لو صليت في المسجد وجلسنا معك، فتسأل، قال: أكره أن يقال: هذا علقمة، قالوا: لو دخلت على الأمراء، قال: أخاف أن ينتقصوا مني أكثر مما أنتقص منهم.

وروى إبراهيم عن علقمة، قال: كنت رجلًا قد أعطاني الله حسن الصوت بالقرآن، وكان ابن مسعود يرسل إليّ، فأقرأ عليه، فإذا فرغت من قراءتي قال: زدنا، فداك أبي وأمي، فإني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إن حسن الصوت زينة القرآن".

أبو إسحاق: عن عبد الرحمن بن يزيد، قال عبد الله: ما أقرأ شيئًا ولا أعلمه إلا علقمة يقرؤه أو يعلمه، قال زياد بن حدير: يا أبا عبد الرحمن، والله ما علقمة بأقرئنا، قال: بلى والله، وإن شئت لأخبرنك بما قيل في قومك وقومه.

وروى الأعمش، عن إبراهيم، قال: كان علقمة يقرأ القرآن في خمس، والأسود في ست، وعبد الرحمن بن يزيد في سبع.

جرير بن عبد الحميد، عن قابوس بن أبي ظبيان، قال: قلت لأبي: لأيّ شيء كنت تأتي علقمة، وتدع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: أدركت ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يسألون علقمة، ويستفتونه.

شريك: عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن يزيد، قال: قيل لابن مسعود: ما علقمة بأقرئنا، قال: بلى، والله إنه لأقرؤكم.

أخبرنا إسحاق بن طارق، أنبأنا أبو المكارم التيمي، أنبأنا الحداد، أنبأنا أبو نعيم، حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن، حدثنا محمد بن عثمان، حدثنا ابن نمير، حدثنا حفص بن غياث عن الأعمش، عن المسيب بن رافع، قال: قيل لعلقمة: لو جلست فأقرأت الناس وحدثتهم، قال: أكره أن يوطأ عقبي

(1)

(1)

يقال: فلان موطأ العقب، أي كثير الأتباع، والعقب مؤخر القدم.

ص: 221

وأن يقال: هذا علقمة، فكان يكون في بيته يعلف غنمه، ويقت

(2)

لهم، وكان معه شيء يفرع بينهن إذا تناطحن.

ابن عيينة، عن عمر بن سعد، قال: كان الربيع بن خثيم

(3)

يأتي علقمة، فيقول: ما أزور أحدا غيرك أو ما أزور أحدا ما أزورك.

قال إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي: إن كان أهل بيت خلقوا للجنة، فهم أهل هذا البيت، علقمة والأسود.

وقال أبو قيس الأودي: رأيت إبراهيم آخذا بالركاب لعلقمة.

الأعمش، عن مالك بن الحارث، عن عبد الرحمن بن يزيد، قال: قيل لعلقمة: ألا تغشى الأمراء، فيعرفون من نسبك؟ قال: ما يسرّني أن لي مع ألفي ألفين، وإني أكرم الجند عليه.

فقيل له: ألا تغشى المسجد فتجلس وتفتي الناس؟ قال: تريدون أن يطأ الناس عقبي، ويقولون: هذا علقمة!.

حصين، عن إبراهيم، عن علقمة أنه أوصى، قال: إذا أنا حضرت، فأجلسوا عندي من يلقنني: لا إله إلا الله، وأسرعوا بي إلى حفرتي، ولا تنعوني إلى الناس، فإني أخاف أن يكون ذلك نعيا كنعي الجاهلية

(4)

.

قال بعض الحفَّاظ، وأحسن: أصح الأسانيد منصور، عن إبراهيم، عن علقمة، عن ابن مسعود. فعلى هذا، أصح ذلك شعبة وسفيان، عن منصور،

(2)

القت: الفصفصة وهي الرطبة من علف الدواب أو اليابس منه.

(3)

انظر ص 56 رقم (1).

(4)

وأخرج أحمد 5: 406، والترمذي (986)، وابن ماجة (1476)، والبيهقي 4: 74 من حديث حذيفة بن اليمان أنه كان إذا مات له ميت قال: لا تؤذنوا به أحدًا، إني أخاف أن يكون نعيا، إني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن النعي.

ص: 222

وعنهما يحيى القطَّان، وعبد الرحمن بن مهدي، وعنهما علي بن المديني، وعنه أبو عبد الله البخاري، رحمهم الله.

قال الهيثم بن عدي: مات علقمة في خلافة يزيد.

وقال أبو نعيم، وقعنب بن محرر: سنة إحدى وستين.

وقال المدائني، ويحيى بن بكير، وأبو عبيد، وابن مَعين، وابن سعد، وعدة: مات سنة اثنتين وستين.

ويقال: توفي سنة خمس وستين.

ويقال: سنة ثلاث ولم يصح، وشذّ أبو نعيم عبد الرحمن بن هانئ النخعي، فقال: مات سنة اثنتين وسبعين.

وكذا نقل عن أبي بكر بن أبي شيبة، ومحمد بن عبد الله بن نمير.

وقيل غير ذلك.

وقال أبو نعيم النخعي: عاش تسعين سنة.

* * *

‌الإمام الحافظ، فقيه العراق أبو عمران، إبراهيم بن يزيد بن * قيس بن الأسود بن عمرو بن ربيعة بن ذهل بن سعد بن مالك بن النخع]

(1)

(1)

في الأصل: "ربيعة بن ذهل" مكرر سهوا، وما بين الخاصرتين ساقط، وقد ساق ابن حزم نسبه في الجمهرة 415 على الشكل التالي:"إبراهيم بن يزيد بن الأسود بن ربيع بن ذهل بن حارثة بن سعد بن مالك بن النخع" أما عند ابن سعد وخليفة وابن خلكان فبإسقاط "ذهل".

ص: 223

النخعي، اليماني ثم الكوفي، أحد الأعلام، وهو ابن مليكة أخت الأسود بن يزيد *

ذكره الحافظ الذهبي في كتابه القيّم "سير أعلام النبلاء"، فقال:[روي] عن خاله، ومسروق، وعلقمة بن قيس، وعبيدة السلماني، وأبي زرعة البجلي، وخيثمة بن عبد الرحمن، والربيع بن خثيم، وأبي الشعثاء المحاربي، وسم بن منجاب، وسويد بن غفلة، والقاضي شريح، وشريح بن أرطاة، وأبي معمر عبد الله بن سخبرة، وعبيد بن نضيلة، وعمارة بن عمير، وأبي عبيدة بن عبد الله، وأبي عبد الرحمن السلمي، وخاله عبد الرحمن بن يزيد، وهمام بن الحارث، وخلق سواهم من كبار التابعين.

ولم نجد له سماعا من الصحابة المتأخِّرين، الذين كانوا معه بـ "الكوفة" كالبراء، وأبي جحيفة، وعمرو بن حريث.

وقد دخل على أم المؤمنين عائشة وهو صبي، ولم يثبت له منها سماع، على أن روايته عنها في كتب أبي داود، والنسائي، والقزويني، فأهل الصنعة

* راجع: سير أعلام النبلاء 4: 520 - 529.

وترجمته في طبقات ابن سعد 6: 270، وطبقات خليفة ت 1140، وتاريخ البخاري 1: 333، والمعارف 463، والمعرفة والتاريخ 2: 100 و 604، والجرح والتعدل القسم الأول من المجلد الأول 144، والحلية 4: 219، وطبقات الفقهاء للشيرازي 82، وتهذيب الأسماء واللغات القسم الأول من الجزء الأول 104، ووفيات الأعيان 1: 25، وتهذيب الكمال ص 68، وتذكرة الحفاظ 1: 69، وتاريخ الإسلام 3: 335، والعبر 1: 113، وتذهيب التهذيب 1: 45 آ، والبداية والنهاية 9: 140، وغاية النهاية ت 125، وتهذيب التهذيب 1: 177، وطبقات الحفاظ للسيوطى ص 29، وخلاصة تذهيب التهذيب 23، وشذرات الذهب 1:111.

ص: 224

يعدّون ذلك غير متصل مع عدهم كلهم لإبراهيم في التابعين، ولكنه ليس من كبارهم، وكان بصيرا بعلم ابن مسعود، واسع الرِّواية، فقيه النفس، كبير الشأن، كثير المحاسن، رحمه الله تعالى.

روى عنه الحكم بن عتيبة، وعمرو بن مرة، وحماد بن أبي سليمان تلميذه، وسماك بن حرب، ومغيرة بن مقسم تلميذه، وأبو معشر بن زياد بن كليب، وأبو حصين عثمان بن عاصم، ومنصور بن المعتمر، وعبيدة بن معتب، وإبراهيم بن مهاجر، والحارث العكلي، وسليمان الأعمش، وابن عون، وشباك الضبي، وشعيب بن الحبحاب، وعبيدة بن معتب

(1)

، وعطاء بن السائب، وعبد الرحمن بن أبي الشعثاء المحاربي، وعبد الله بن شبرمة، وعلي بن مدرك، وفضيل بن عمرو الفقيمي، وهشام بن عائذ الأسدي، وواصل بن حيَّان الأحدب، وزيد اليامي، ومحمد بن خالد الضبي، ومحمد بن سوقة، ويزيد بن أبي زياد، وأبو حمزة الأعور ميمون، وخلق سواهم.

قال أحمد بن عبد الله العجلي: لم يحدث عن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أدرك منهم جماعة، ورأى عائشة.

وكان مفتي أهل "الكوفة" هو والشعبي في زمانهما، وكان رجلًا صالحا، فقيها، متوقيا، قليل التكلف، وهو مختف من الحجَّاج.

روى أبو أسامة، عن الأعمش، قال: كان إبراهيم صيرفي الحديث

(2)

.

وروى جرير عن إسماعيل بن أبي خالد، قال: كان الشعبي وإبراهيم وأبو الضحى يجتمعون في المسجد، يتذاكرون الحديث، فإذا جاءهم شيء ليس فيه عندهم رواية، رموا إبراهيم بأبصارهم

(3)

.

(1)

سبق ذكره قبل سطرين.

(2)

أورده أبو نعيم في الحلية 4: 219، 220 مطولا.

(3)

الحلية 4: 221 بخلاف يسير.

ص: 225

قال يحيى بن معين: مراسيل إبراهيم أحبَّ إليّ من مراسيل الشعبي.

قاله عبَّاس عنه.

قال ابن عون: وصفت إبراهيم لابن سيرين، قال: لعله ذاك الفتى الأعور الذي كان يجالسنا عند علقمة، كان في القوم وكأنه ليس فيهم

(1)

.

شعبة، عن منصور، عن إبراهيم، قال: ما كتبتُ شيئًا قط

(2)

.

قال مغيرة: كنا نهاب إبراهيم هيبة الأمير

(3)

.

وقال طلحة بن مصرف: ما بـ "الكوفة" أعجب إليَّ من إبراهيم وخيثمة

(4)

.

قال فضيل الفقيمي: قال لي إبراهيم: ما كتب إنسان كتابا إلا اتكل عليه.

قال أبو قطن: حدثنا شعبة، عن الأعمش: قلت لإبراهيم: إذا حدثتني عن عبد الله فأسند، قال: إذا قلت: قال عبد الله، فقد سمعته من غير واحد من الصحابة، وإذا قلت: حدثني فلان، فحدثني فلان

(5)

.

وقال مغيرة: كره إبراهيم أن يستند إلى سارية

(6)

.

حماد بن زيد، عن ابن عون: جلست إلى إبراهيم، فقال في المرجئة قولا غيره أحسن منه.

(1)

ابن سعد 6: 270.

(2)

المصدر السابق والمعرفة والتاريخ 2: 609.

(3)

ابن سعد 6: 271، والمعرفة والتاريخ 2:604.

(4)

ابن سعد 6: 271.

(5)

ابن سعد 6: 272، وانظر ص 527 من هذا الجزء.

(6)

ابن سعد 6: 273.

ص: 226

وجاء ذم الإرجاء من وجوه عنه

(1)

.

وقال سعيد بن جبير: أتستفتوني وفيكم إبراهيم

(2)

؟.

قال الحاكم: كان إبراهيم النخعي يحج مع عمّه وخاله علقمة والأسود.

وكان يبغض المرجئة، ويقول: لأنه على هذه الأمة - من المرجئة - أخوف عليهم من عدتهم من الأزارقة

(3)

.

توفي وله تسع وأربعون سنة.

حماد بن زيد: حدثنا شعيب بن الحبحاب، حدثتني هنيدة امرأة إبراهيم، أن إبراهيم كان يصوم يومًا ويفطر يومًا

(4)

.

قال سعيد بن صالح الأشج، عن حكيم بن جبير، عن إبراهيم، قال: ما بها عريف إلا كافر

(5)

.

عفان: حدثنا يعقوب بن إسحاق، حدثنا ابن عون، قال: كان إبراهيم يأتي السلطان، فيسألهم الجوائز

(6)

.

وقال محمد بن ربيعة الكلابي عن العلاء بن زهير، قال: قدم إبراهيم على أبي وهو على "حلوان"، فحمله على برذون، وكساه أثوابا، وأعطاه ألف درهم، فقبله

(7)

.

(1)

انظر ابن سعد 6: 273، 274.

(2)

ابن سعد 6: 270، والحلية 4:221.

(3)

ابن سعد 6: 274.

(4)

ابن سعد 6: 276، والحلية 4:224.

(5)

ابن سعد 6: 276.

(6)

ابن سعد 6: 277.

(7)

ابن سعد 6: 279، والمعرفة والتاريخ 2:605.

ص: 227

قال الأعمش: ربما رأيت إبراهيم يصلّي ثم يأتينا، فيمكث ساعة، كأنه مريض

(1)

.

قال أبو حنيفة عن حماد، قال: بشرت إبراهيم بموت الحجَّاج، فسجد، ورأيته يبكي من الفرح.

وقال سلمة بن كهيل: ما رأيت إبراهيم في صيف قط إلا وعليه ملحفة حمراء، وإزار أصفر

(2)

.

وقال مغيرة: رأيت إبراهيم يرخي عمامته من ورائه

(3)

.

وقال يحيى القطَّان: [مات وهو]

(4)

ابن نيف وخمسين بعد الحجَّاج بأربعة أشهر أو خمسة.

قال محمد بن سعد: دخل إبراهيم على أم المؤمنين عائشة، وسمع زيد بن أرقم، والمغيرة بن شعبة، وأنس بن مالك.

روى عنه الشعبي، ومنصور، والمغيرة بن مقسم، والأعمش وغيرهم من التابعين.

عبد الله بن جعفر الرقي: حدثنا عبيد الله بن عمرو، عن زيد بن أبي أنيسة، عن طلحة بن مصرف، قال: قلت لإبراهيم النخعي: يا أبا عمران، من أدركت من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: دخلت على أم المؤمنين عائشة.

سليمان بن داود المباركي: حدثنا أبو شهاب، عن الحسن بن عمرو، عن أبيه، أنه دخل على إبراهيم، فقال: يا أبا عمران.

(1)

ابن سعد 6: 280.

(2)

ابن سعد 6: 281، وقد رواه بطريق أخرى 6: 282 عن أكيل قال: ما رأيت.

(3)

انظر ابن سعد 6: 283.

(4)

ما بين الحاصرتين ساقط من الأصل، استدركناه من ابن سعد 6:284.

ص: 228

وقال ضمرة بن ربيعة: سمعت رجلًا يذكر أن حماد بن أبي سليمان قدم عليهم "البصرة"، فجاءه فرقد السبخي، وعليه ثوب صوف، فقال له: ضع عنك نصرانيتك هذه، فلقد رأيتني

(1)

ننتظر إبراهيم، فيخرج عليه معصفرة، ونحن نرى أن الميتة قد حلت له

(2)

.

شعبة، عن أبي معشر، عن النخعي، أنه كان يدخل على عائشة، فيرى عليها ثيابا حبرا، فقال أيوب: وكيف كان يدخل عليها؟! قال: كان يخرج مع عمّه وخاله حاجا، وهو غلام قبل أن يحتلم، وكان بينهم ودّ وإخاء، وكان بينهما وبين عائشة ود وإخاء

(3)

.

شريك، عن سليمان بن يسير، عن إبراهيم: أدخلني خالي الأسود على عائشة وعليَّ أوضاح

(4)

.

جرير، عن مغيرة، قال: كان إبراهيم يدخل على عائشة مع الأسود وعلقمة، ومات وله سبع وخمسون سنة أو نحوه.

وقال سليم بن أخضر: حدثنا ابن عون، قال: مات إبراهيم وهو ما بين الخمسين إلى الستين.

علي بن عاصم: حدثنا مغيرة، قال: قيل لإبراهيم: قتل الحجَّاج سعيد بن جبير، قال: يرحمه الله، ما ترك بعده خلف، قال: فسمع بذلك الشعبي، فقال: هو بالأمس يعيبه بخروجه على الحجَّاج، ويقول اليوم هذا! فلما مات إبراهيم، قال الشعبي: ما ترك بعده خلف.

(1)

لفظ الحلية "رأيتنا".

(2)

الحلية 4: 221، 222.

(3)

انظر ابن سعد 6: 271.

(4)

الأوضاح: حلي من الدراهم أو الفضة.

ص: 229

نعيم بن حماد: حدثنا جرير، عن عاصم، قال: تبعت الشعبي، فمررنا إبراهيم، فقام له إبراهيم عن مجلسه، فقال له الشعبي: أما إني أفقه منك حيا، وأنت أفقه مني ميتا، وذاك أن لك أصحابا يلزمونك، فيحيون علمك

(1)

.

محمد بن طلحة بن مصرف: حدثني ميمون أبو حمزة الأعور، قال: قال لي إبراهيم: تكلمت، ولو وجدت بدا، لم أتكلم، وإن زمانا أكون فيه فقيها لزمان سوء

(2)

.

قال أبو حمزة الثمالي: كنت عند إبراهيم النخعي، فجاء رجل، فقال: يا أبا عمران، إن الحسن البصري يقول: إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار.

فقال رجل: هذا من قاتل على الدنيا، فأما قتال من بغي، فلا بأس به فقال إبراهيم: هكذا قال أصحابنا عن ابن مسعود، فقالوا له: أين كنت يوم "الزاوية"

(3)

؟ قال: في بيتي، قالوا: فأين كنت يوم الجماجم

(4)

؟ قال: في بيتي، قالوا: فإن علقمة شهد "صفين" مع علي، فقال: بخ بخ، من لنا مثل علي بن أبي طالب ورجاله.

(1)

انظر ابن سعد 6: 284.

(2)

الحلية 4: 223.

(3)

الزاوية: موضع قرب البصرة، كانت به الوقعة المشهورة بين الحجَّاج وعبد الرحمن بن الأشعث، قتل فيها خلق كثير من الفريقين، وذلك في سنة 83 للهجرة.

انظر معجم البلدان، وتاريخ الطبري 6:342.

(4)

يوم الجماجم كان بين الحجَّاج بن يوسف الثقفي، وعبد الرحمن بن محمد بن الأشعث سنة 83 أو 82 هـ على سبعة فراسخ من "الكوفة".

ص: 230

عن شعيب بن الحبحاب، قال: كنت فيمن دفن إبراهيم النخعي ليلا سابع سبعة أو تاسع تسعة، فقال الشعبي: أدفنتم صاحبكم؟ قلت: نعم.

قال: أما إنه ما ترك أحدا أعلم منه، أو أفقه منه، قلت: ولا الحسن ولا ابن سيرين؟ قال: نعم، ولا من أهل "البصرة"، ولا من أهل "الكوفة"، ولا من أهل "الحجاز" - وفي رواية: ولا من أهل "الشام"

(1)

.

روى الترمذي

(2)

من طريق شعبة عن الأعمش، قال: قلت لإبراهيم النخعي: أسند لي عن ابن مسعود، فقال: إذا حدثتكم عن رجل عن عبد الله بن مسعود، فهو الذي سمعت، وإذا قلت: قال عبد الله، فهو عن غير واحد عن عبد الله.

في سنّ إبراهيم قولان: أحدهما عاش تسعا وأربعين سنة، الثاني أنه عاش ثمانية وخمسين سنة.

مات سنة ست وتسعين.

أخبرنا أبو الحُسين علي بن محمد، وعبد الولي بن عبد الرحمن، وأحمد بن هبة الله، وعيسى بن بركة، وجماعة، قالوا: أبنأنا عبد الله بن عمر، أنبأنا سعيد بن أحمد بن البناء حضورا في سنة تسع وأربعين وخمسمائة، أنبأنا محمد بن محمد الزيني، أنبأنا محمد بن عمر بن زنبور، حدثنا يحيى بن محمد بن صاعد، حدثنا يوسف بن موسى حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة، قال: قال عبد الله: لعن الله الواشمات والمستوشمات، والمتنمّصات، والمتفلّجات للحسن، المغيّرات خلق الله.

فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها: أم يعقوب، كانت تقرأ القرآن، فأتته، فقالت: ما حديث بلغني عنك، أنت لعنت الواشمات والمستوشمات

(1)

أورده أبو نعيم في الحلية 4: 220 مطولا، وانظر ابن سعد 6:284.

(2)

أي في كتاب العلل ص 223 بشرح الحافظ ابن رجب الحنبلي.

ص: 231

والمتنمّصات والمتفلّجات للحسن المغيّرات خلق الله؟ قال: وما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في كتاب الله.

فقالت: والله لقد قرأت ما بين لوحي المصحف فما وجدته

(1)

.

قال أبو عبيد الآجري: حدثنا أبو داود، حدثونا عن الأشجعي، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، قال: كانوا يرون أن كثيرًا من حديث أبي هريرة منسوخ.

قلت: وكان كثير من حديثه ناسخا، لأن إسلامه ليالي فتح "خيبر"، والناسخ والمنسوخ في جنب ما حمل من العلم عن النبي صلى الله عليه وسلم نزر قليل، وكان من أئمة الاجتهاد، ومن أهل الفتوى، رضي الله عنه.

فالسنن الثابتة لا تردّ بالدعاوي.

قال أبو داود: حدثنا ابن أبي السري، حدثنا يونس بن بكير، عن الأعمش، قال: ما رأيت أحدا أرد لحديث لم يسمعه من إبراهيم.

(1)

أخرجه البخاري 10: 313، 314 في اللباس باب المتفلجات للحسن، وباب المتنمصات، وباب الموصولة، وباب المستوشمة، ومسلم (2125) في اللباس والزينة باب تحريم فعل الواصلة والمستوصلة، وفيه زيادة: "قال ابن مسعود: والله لئن قرأتيه لقد وجدتيه {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7].

والوشم هو أن تغرز المرأة ظهر كفها ومعصمها بإبرة أو بمسلة حتى تؤثر فيه، ثم تحشوه بالكحل أو النيل أو بالنؤور - والنؤور دخان الشحم - فيزرق أثره أو يخضر.

والنامصة التي تزين النساء بالنمص، وهو نتف الشعر من الوجه.

والمتفلجات: من الفلج، وهو تباعد ما بين الأسنان، يكون خلقة.

والمتفلجات هن اللاتي يفعلن ذلك، ويتكلفنه - ا هـ. (لسان).

ص: 232

وقيل: إن إبراهيم لما احتضر، جزع جزعا شديدا، فقيل له في ذلك، فقال: وأي خطر أعظم مما أنا فيه، أتوقَّع رسولا يرد عليَّ من ربي، إما بالجنة وإما بالنار، والله لوددت أنها تلجلج في حلقي إلى يوم القيامة

(1)

.

روي ابن عيينة، عن الأعمش، قال: جهدنا أن نجلس إبراهيم النخعي إلى سارية، وأردناه على ذلك، فأبى، وكان يأتي المسجد، وعليه قباء وريطة معصفرة.

قال: وكان يجلس مع الشرط.

قال أحمد بن حنبل: كان إبراهيم ذكيا، حافظا، صاحب سنة.

قال مغيرة: كان إبراهيم إذا طلبه إنسان لا يحب لقاءه خرجت الجارية، فقالت: اطلبوه في المسجد.

روى قيس عن الأعمش، عن إبراهيم، قال: أتى رجل، فقال: إني ذكرت رجلًا بشيء، فبلغه عني، فكيف أعتذر إليه؟ قال: تقول: والله إن الله ليعلم ما قلت من ذلك من شيء.

قال أبو عمرو الداني: أخذ إبراهيم القراءة عرضا عن علقمة، والأسود.

قرأ عليه الأعمش، وطلحة بن مصرف.

وروي وكيع عن شعبة، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم بدعة.

* * *

(1)

وفيات الأعيان 1: 25.

ص: 233

‌الإمام العلامة فقيه العراق حماد بن أبي سليمان أبو إسماعيل بن مسلم الكوفي مولى الأشعريين

*

أصله من "أصبهان".

ذكره الحافظ الذهبي في "سير أعلام النبلاء"، فقال ما نصه: روى عن أنس بن مالك، وتفقَّه بإبراهيم النخعي، وهو أنبل أصحابه وأفقههم، وأقيسهم، وأبصرهم بالمناظرة والرأي.

وحدث أيضًا عن أبي وائل، وزيد بن وهب، وسعيد بن المسيَّب، وعامر الشعبي، وجماعة.

وليس هو بالمكثر من الرِّواية، لأنه مات قبل أوان الرِّواية، وأكبر شيخ له: أنس بن مالك، فهو في عداد صغار التابعين.

روى عنه تلميذه الإمام أبو حنيفة، وابنه إسماعيل بن حماد، والحكم بن عتيبة، وهو أكبر منه، والأعمش، وزيد بن أبي أنيسة، ومغيرة، وهشام الدستوائي، ومحمد بن أبان الجعفي، وحمزة الزيَّات، ومسعر بن كدام، وسفيان الثوري، وشعبة بن الحجَّاج، وحمَّاد بن سلمة، وأبو بكر النهشلي، وخلق.

* راجع: سير أعلام النبلاء 5: 231 - 239.

وترجمته في طبقات ابن سعد 6: 332، وطبقات خليفة: 162، والتاريخ الكبير 3: 18، والضعفاء للعقيلي 107 - 110، والجرح والتعديل 3: 146، وتهذيب الكمال: 331، وتذهيب التهذيب 1: 174: 2، وتاريخ الإسلام 5: 243، العبر 1: 151، وتهذيب التهذيب 3: 16، وطبقات الحفاظ: 48، وخلاصة تذهيب الكمال:92.

ص: 234

وكان أحد العُلماء الأذكياء، والكرام الأسخياء، له ثروة وحشمة وتجمّل.

قال محمد بن عبد الله بن نمير: كان أبو سليمان والد حماد مولى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.

قال الحميدي: حدثنا سفيان، قال: رأيتُ حماد بن أبي سليمان جاء إلى أبي طلحة الكحال يستنعته من شيء بعينه، وهو على فرس، فرأيته أشهب اللحية.

وقال ابن إدريس، عن أبي إسحاق الشيباني، عن عبد الملك بن إياس الشيباني: قال: قلت لإبراهيم النخعي: من نسأل بعدك؟ قال: حماد، قال ابن إدريس: فما سمعتُ الشيباني ذكر حمادا إلا أثني عليه.

قال ابن عون: رأيتُ حمادا، وقد دخل على إبراهيم، ومعه أطراف

(1)

، فجعل يسأل إبراهيم عنها، فقال له إبراهيم: ما هذا؟ ألم أنه عن هذا؟ فقال: إنما هي أطراف.

روى منصور، عن إبراهيم، قال: لا بأس بكتابة الأطراف، وروى شريك عن جامع أبي صخرة، قال: رأيتُ حماد يكتب عند إبراهيم، ويقول: إنا لا نريد بذلك دنيا، وعليه كساء أنبجاني.

قال ابن عيينة: كان معمر يقول: لم أرَ من هؤلاء أفقه من الزهري، وحمَّاد، وقتادة.

(1)

جمع طرف: الطائفة من الشيء، أي أنه كتب من الحديث طرفا منه ليستثبته وكان إبراهيم النخعي يكره كتابة العلم وتخليده في الكراريس، والصواب خلافه، كما هو رأي الجمهور، فإن الحديث لا يضبط إلا بالكتابة، ثم بالمقابلة والمدارسة والتعهد والتحفظ والمذاكرة، انظر "المحدث الفاصل" 363 - 388، و "تقييد العلم" 109 - 112، و"جامع بيان العلم" 89 - 100.

ص: 235

قال ابن عيينة: وكان حمَّاد أبصر بإبراهيم من الحكم.

ابن إدريس: سمعتُ أبي عن ابن شبرمة، قال: ما أحد أمنّ عليّ بعلم من حمَّاد.

أبو بكر بن عيَّاش، عن مغيرة، قال: أتينا إبراهيم نعوده حين اختفى، فقال: عليكم بحمَّاد، فإنه قد سألني عن جميع ما سألني عنه الناس.

يحيى بن مَعين: حدثنا جرير، عن مغيرة، قال: كنا نرى أن بعد إبراهيم الأعمش، حتى جاء حمَّاد بما جاء به.

وقال شعبة: كان حمَّاد ومغيرة أحفظ من الحكم، وقال يحيى بن سعيد: حمَّاد أحبّ إليّ من مغيرة.

وقال معمر: كنا نأتي أبا إسحاق، فيقول: من أين جئتم؟ فنقول: من عند حمَّاد، فيقول: ما قال لكم أخو المرجئة؟ فكنا إذا دخلنا على حمَّاد، قال: من أين جئتم؟ قلنا: من عند أبي إسحاق، قال: الزَموا الشيخّ، فإنه يوشك أن يطفى.

قال: فمات حمَّاد قبله.

قال معمر: قلت لحمَّاد: كنت رأسا، وكنت إماما في أصحابك، فخالفتهم، فصرت تابعا، قال: إني أن أكون تابعا في الحق خير من أن أكون رأسا في الباطل.

قلت: يشير معمر إلى أنه تحوَّل مرجئا إرجاءَ الفقهاء، وهو أنهم لا يعدون الصلاة والزكاة من الإيمان، ويقولون: الإيمان إقرار باللسان، ويقين في القلب، والنزاع على هذا لفظي، إن شاء الله، وإنما غلو الإرجاء من قال: لا يضرُّ مع التوحيد ترك الفرائض، نسأل الله العافية.

روي حمَّاد بن زيد أن حمَّاد بن أبي سليمان، قال: من أمن أن يستثقل ثقل.

ص: 236

قال شعبة: سألتُ حمَّاد بن أبي سليمان عن عين الأضحية يكون فيها البياض، فلم يكرهها.

وسألته عن الرجل: يحلف على الشيء كاذبا، وهو يرى أنه صادق، قال: لا يكفر.

وسألتُه عن التربّع في الصلاة، فقال: لا بأس به.

وسألتُ حمادا عن الرجل يسرق من بيت المال، فقال: يقطع.

وسألته عن رجل قال: إن فارقت غريمي، فمالي عليه في المساكين، قال: ليس بشيء.

وسألته عن الصفر بالحديد نسيئة.

قال مغيرة بن مقسم: قلت لإبراهيم: إن حمادا قد جلس يفتي، قال: وما يمنعه وقد سألني عما لم تسألني عن عشره؟.

وقال شعبة: سمعتُ الحكم يقول: ومن فيهم مثل حمَّاد يعني أهل "الكوفة".

قال أبو إسحاق الشيباني: حمَّاد بن أبي سليمان أفقه من الشعبي، ما رأيت أفقه من جماد، وقال شعبة: كان حمَّاد صدوق اللسان، لا يحفظ الحديث، وقال النسائي: ثقة مرجئ.

وقال أبو حاتم الرازي: هو مستقيم في الفقه، فإذا جاء الأثر شوش.

وقال أحمد بن عبد الله العجلي: كان أفقه أصحاب إبراهيم، وكانت ربما تعتريه موتة

(1)

وهو يحدث.

وبلغنا أن حمادا كان ذا دنيا متسعة، وأنـ[ـه] كان يفطر في شهر رمضان خمسمائة إنسان، وأنه كان يعطيهم بعد العيد لكل واحد مائة درهم.

(1)

الموتة: الغشي.

ص: 237

وحديثه في كتب السنن، ما أخرج له البخاري، وخرَّج له مسلم حديثًا واحدا مقرونا بغيره.

ولا يلتفت إلى ما رواه أبو بكر بن عيَّاش عن الأعمش، قال: حدثني حمَّاد، وكان غير ثقة عن إبراهيم، وفي لفظ: وما كنا نثق بحديثه.

وقال أبو بكر عن مغيرة: إنه ذكر له عن حمَّاد شيئًا، فقال: كذب.

يوسف بن موسى: حدثنا جرير، عن مغيرة، قال: حج حمَّاد بن أبي سليمان، فلما قدم أتيناه نسلم عليه، فقال: أبشروا يا أهل "الكوفة"، فإني قدمت على أهل "الحجاز"، فرأيتُ عطاء، وطاوسا، ومجاهدا، فصبيانُكم بل صبيان صبيانكم أفقه منهم.

قال مغيرة: فرأينا أن ذاك بغي منه.

خلف بن خليفة، عن أبي هشام، قال: أتيتُ حمَّاد بن أبي سليمان، فقلتُ: ما هذا الرأي الذي أحدثت، لم يكن على عهد إبراهيم النخعي، فقال: لو كان حيا، لتابعَني عليه، يعني: الإرجاء.

الفريابي وعبيد الله، عن سفيان، قال: ما كنا نأتي حمَّاد إلا خفية من أصحابنا.

عبد الرزاق، عن معمر، قال: كان حمَّاد بن أبي سليمان يصرع، وإذا أفاق، توضأ، قلتُ: نعم، لأنه نوع من الإغماء، وهو أخو النوم، فينقض الوضوء.

وروي جرير بن عبد الحميد، عن مغيرة قال: كان حمَّاد يصيبه المس، فإذا أصابه شيء من ذلك، ثم ذهب عنه، عاد إلى الموضع الذي كان فيه

مات حمَّاد سنة عشرين ومائة، أرَّخه خليفة، وقيل: سنة تسع عشرة ومائة.

فأفقه أهل "الكوفة" علي وابن مسعود، وأفقه أصحابهما علقمة، وأفقه أصحابه إبراهيم، وأفقه أصحاب إبراهيم حمَّاد، وأفقه أصحاب حمَّاد

ص: 238

أبو حنيفة، وأفقه أصحابه أبو يوسف، وانتشر أصحاب أبي يوسف في الآفاق، وأفقههم محمد، وأفقه أصحاب محمد أبو عبد الله الشافعي، رحمهم الله تعالى.

وقال أبو نعيم الكوفي: مات حمَّاد سنة عشرين ومائة. قلت: مات كهھلا رحمه الله.

أخبرنا علي بن أحمد كتابة، أنبأنا عمر بن محمد، أنبأنا عبد الوهَّاب بن المبارك، أنبأنا عبد الله بن محمد، أنبأنا عبيد الله بن حبابة، أنبأنا عبد الله بن محمد، حدثنا علي بن الجعد، أنبأنا شعبة، عن حمَّاد، عن أبي وائل، عن عبد الله، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالتشهد:"التحيّات لله والصلوات والطيّبات، السَّلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السَّلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله"

(1)

.

وبه إلى البغوي، عبد الله، حدثنا أحمد بن إبراهيم العبدي، حدثنا عثمان بن عمر، أنبأنا شعبة، عن حمَّاد، سمعت أنس بن مالك يقول: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: "من كذب عليَّ متعمدا، فليتبوأ مقعده من النار"

(2)

.

(1)

إسناده صحيح، وأخرجه مسلم (402) من طريق منصور، عن أبي وائل، عن عبد الله، وأخرجه البخاري 2: 257، و 11: 12 من طريق الأعمش، عن شقيق، عن عبد الله.

(2)

إسناده صحيح، وأخرجه أحمد 3: 203 و 209 و 278، والبخاري 1:: 179 و 180، ومسلم (2)، والترمذي (2661)، وابن ماجة (32) من حديث أنس، وهو حديث متواتر، رواه أكثر من سبعين صحابيا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ص: 239

أخبرنا إسماعيل بن عبد الرحمن، ومحمد بن علي، وأحمد بن مؤمن، قالوا: أنبأنا أبو المحاسن محمد بن السيد الأنصاري بـ"المزَّة"، أنبأنا أبو الفتح نصر الله بن محمد المصّيصي، وهبة الله بن طاوس سنة أربع وثلاثين وخمسمائة قراءة عليهما، قالا: أنبأنا علي بن محمد بن علي الفقيه، أنبأنا عبد الرحمن بن عثمان، حدثنا عمي أبو علي محمد بن القاسم بن معروف، حدثنا أبو بكر أحمد بن علي القاضي، حدثنا علي بن الجعد، أنبأنا شعبة عن حمَّاد عن إبراهيم عن أصحاب عبد الله، قالوا:"الميت يغسل وترا، ويكفن وترا، ويجمر وترا"

(1)

.

وبه عن حمَّاد، سمعت سعيد بن جبير ومجاهدا وإبراهيم يقولون: إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر، والصوم أفضل، يعنون رمضان في السفر.

وبه عن حمَّاد: سألت سعيد بن المسيب عن الجنب يقرأ القرآن؟ قال: أو ليس هو في جوفه.

قال محمد بن الحُسين البرجلاني، عن إسحاق السلولي، سمعتُ داود الطائي يقول: كان حمَّاد بن أبي سليمان سخيا على الطعام، جوادا بالدنانير والدراهم.

وقال أيضًا عن زكريا بن عدي، عن الصَّلْت بن بسطام، عن أبيه، قال: كان حمَّاد بن أبي سليمان يزوري، فيقيم عندي سائر نهاره، فإذا أراد أن ينصرف قال: انظر الذي تحت الوسادة، فمرْهم ينتفعون به، فأجد الدراهم الكثيرة.

وعن الصَّلْت بن بسطام، قال: وكان يفطر كل يوم في رمضان خمسين إنسانا، فإذا كان ليلة الفطر، كساهم ثوبا ثوبا.

(1)

رجاله ثقات.

ص: 240

روى عثمان بن زفر التيمي: سمعتُ محمد بن صبيح يقول: لما قدم أبو الزناد "الكوفة" على الصدقات، كلَّم رجل حمَّاد بن أبي سليمان فيمن يكلّم أبا الزناد، يستعين به في بعض أعماله، فقال حمَّاد: كم يؤمل صاحبك من أبي الزناد أن يصيب معه؟ قال: ألف درهم.

قال: قد أمرت له بخمسة آلاف درهم، ولا يبذل وجهي إليه، قال: جزاك الله خيرا.

قال البخاري في "صحيحه"

(1)

: قال حمَّاد: إذا أقرَّ مرة عند الحاكم، رجم، يعني الزاني.

وروى له في كتاب الأدب، وأخرج له مسلم مقرونا بغيره والباقون.

‌الفصل السابع: في فضيلة بيان طبقات الفقهاء، ومراتبهم

يُعرف منها فضيلة بيان طبقات الفقهاء، ومراتبهم والاحتياجات إلى ذلك.

أوردها الإمام العلامة أحمد بن سليمان الشهير بابن كمال باشا المتوفي سنة 940 هـ في إحدى رسائله، التي تتعلق بالكلام على مسئلة دخول ولدِ البنت في الموقوف على أولاد الأولاد، وقد ذكرها العلامة محمد أمين بن عمر الشهير بابن عابدين الشامي المتوفي 1252 هـ في كتابه "شرح عقود رسم المفتي"، وذكر الطحطاوي المتوفي 1231 هـ رحمه الله تعالى أنه ذكر ذلك في رسالة "وقف البنات"، وقد أخذ منه كثير من العُلماء المتأخرين، فذكروا طبقات الفقهاء على ما ذكره ابن كمال باشا رحمه الله تعالى دون نقد وتثبّت، ولكن انتقده جمع من العُلماء الراسخين، الذين جاءوا بعده، لأن في كلامه

(1)

13: 140 في الأحكام: باب الشهادة تكون عند الحاكم.

ص: 241

ملاحظات من وجوه شتى، ذكر شيخنا العثماني في كتابه "أصول الإفتاء وآدابه".

قال رحمه الله تعالى: لا بد للمفتي المقلّد أن يَعلم حال من يُفتي بقوله، ولا نعني بذلك معرفته باسمه ونسبه إلى بلد من البلاد، إذ لا يُسمن ذلك من جوع ولا يغني، بل نعني معرفته في الرِّواية، ودرجته في الدراية، وطبقته من طبقات الفقهاء، ليكون على بصيرة وافية في التمييز بين القائلين المتخالفين، وقدرة كافية في الترجيح بين القولين المتعارضين. فنقول وبالله التوفيق: اعلم أن الفقهاء على سبع طبقات:

‌الطبقة الأولى:

طبقة المجتهدين في الشرع، كالأئمة الأربعة، رضي الله عنهم، ومَنْ سلك مسلكَهم في تأسيس قواعد الأصول، واستنباط أحكام الفروع عن الأدلة الأربعة: الكتاب، والسنّة، والإجماع، والقياس، على حسب تلك القواعد، من غير تقليد لأحدٍ، لا في الفروع، ولا في الأصول.

‌الطبقة الثانية:

طبقة المجتهدين في المذهب، كأبي يوسف، ومحمد، وسائر أصحاب أبي حنيفة، القادرين على استخراج الأحكام عن الأدلة المذكورة على مقتضى القواعد، التي قرَّرها أستاذهم أبو حنيفة، وإن خالفوه في بعض أحكام الفروع، لكن يُقلّدونه في قواعد الأصول، وبه يمتازون عن المعارضين في المذهب، ويُفارقوهم، كالشافعي ونظرائه، المخالفين لأبي حنيفة في الأحكام، غير مقلّدين له في الأصول.

‌الطبقة الثالثة:

طبقة المجتهدين في المسائل، التي لا رواية فيها عن أصحاب المذهب، كالخصّاف، وأبي جعفر الطحاوي، وأبي الحسن الكرخي، وشمس الأئمة الحلواني، وشمس الأئمة السرخسي، وفخر الإسلام البزدوي، وفخر الدين قاضي خان، وأمثالهم؛ فإنهم لا يقدرون على المخالفة الإمام، لا في الأصول، ولا في الفروع، ولكنهم يستنبطون الأحكام في المسائل، التي لا نصَّ عنه فيها حسب أصول قرَّرها، ومقتضى قواعد بسطها.

ص: 242

‌الطبقة الرابعة:

طبقة أصحاب التخريج من المقلدين، كالرازي، وأضرابه، فإنهم لا يقدرون على الاجتهاد أصلًا، لكنهم لإحاطتهم بالأصول، وضبطهم للمأخذ، يقدرون على تفصيل قول مُجمَل في وجهين، وحكم مبهم مُحتمل لأمرين، منقول عن صاحب المذهب، أو عن واحد من أصحابه المجتهدين، برأيهم ونظرهم في الأصول، والمقايسة على أمثاله ونظرائه من الفروع، وما وقع في بعض المواضع من "الهداية" من قوله:"كذا في تخريج الكرخي، وتخريج الرازي"، من هذا القبيل.

‌الطبقة الخامسة:

طبقة أصحاب الترجيح من المقلدين، كأبي الحُسين القدوري، وصاحب "الهداية"، وأمثالهما، وشأنهم تفضيل بعض الروايات على بعض آخر، بقولهم: هذا أولى، وهذا أصحّ رواية، وهذا أرفق للناس.

‌الطبقة السادسة:

طبقة المقلِّدين القادرين على التمييز بين الأقوى، والقوي، والضعيف، وظاهر المذهب، وظاهر الرِّواية، والرواية النادرة، كأصحاب المتون المعتبرة من المتأخّرين، مثل صاحب "الكنز"، وصاحب "المختار"، وصاحب "الوقاية"، وصاحب "المجمع"، وشأنهم أن لا ينقلوا في كتبهم الأقوال المردودة، والروايات الضعيفة.

‌الطبقة السابعة:

طبقة المقلدين الذين لا يقدرون على ما ذُكر، ولا يفرّقون بين الغثّ والسمين، ولا يميّزون الشمال عن اليمين، بل يجمعون ما يجدون، كحاطب الليل، فالويل لهم، ولمن قلّدهم كلّ الويل".

انتهى ما قاله ابن كمال باشا بحروفه، وهو تقسيم حسن جدًّا.

ص: 243

‌الفصل الثامن في مسائل أصحابنا الحنفية على ثلاث طبقات

قال تقي الدين بن عبد القادر التميمي الداري المتوفي 1010 هـ في "طبقاته": يتعين إيرادها أي (مسائل أصحابنا الحنفية)، ولا يستغني عنها، نقلتُها من خطّ المولى العلامة علي جلبي بن أمر الله الشهير بقنالي زاده، رحمه الله تعالى.

اعلم، وفّقك الله تعالى، أن مسائل أصحابنا الحنفية رحمهم الله تعالى على ثلاث طبقات.

الأولى: مسائل الأصول، وتُسمّى ظاهر الرِّواية أيضًا، وهي مسائل رُوِيَت عن أصحاب المذاهب، وهم أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد رحمهم الله تعالى، لكن الغالب الشائع في ظاهر الرِّواية أن يكون قول الثلاثة، أو قول بعضهم.

ثم هذه المسائل التي تُسمّى بظاهر الرِّواية والأصول، هي ما وجد في كتب محمد، التي هي:"المبسوط"، و"الزيادات"، و"الجامع الصغير"، و"الجامع الكبير"، و"السِّيَر الصغير"، و"الصير الكبير".

وإنما سميتْ بظاهر الرِّواية، لأنها رويتْ عن محمد بروايات الثقات، فهي ثابتةٌ عنه؛ إما متواترة، أو مشهورة.

الثانية: مسائل النوادر، وهي مسائل مروية عن أصحاب المذهب المذكورين، لكن لا في الكتب المذكورة؛ إما في كتب أخر لمحمد وغيرها، كـ "الكَيْسانيَّات"، و"الهارونيات"، و"الجرجانيات"، و "الرقيات".

وإنما قيل لها: غير ظاهرة الرِّواية؛ لأنها لم ترو عن محمد بروايات ظاهرة ثابتة صحيحة كالكتب الأولى، وإما في كتب غير كتب محمد، ككتاب "المجرَّد" للحسن بن زياد، وغيره.

ص: 244

ومنها: كتب الأمالي" المروية عن أبي يوسف، والإملاء أن يقعد العالم، وحوله تلامذته بالمحابر والقراطيس، فيقول بما فتحه الله عليه من ظهر قلبه، وتكتبه التلامذة، ثم يجمعون ما يكتبونه في المجالس، ويصير كتابًا، فيسمّونه الإملاء والأمالي.

وكان ذلك عادة لعُلماء السلف من الفقهاء، والمحدثين، وأصحاب العربية، فاندرست لذهاب العلم وأهله، وإلى الله تعالى المصير.

وإما بروايات مُفردة، مثل رواية ابن سماعة، ومعلَّى بن منصور، وغيرها، في مسائل مُعينة.

الثالثة: الفتاوى، وتسمى الواقعات أيضًا، وهي مسائل استنبطها المجتهدون المتأخرون لما سئل منهم، ولم يجدوا فيها رواية عن أصحاب المذهب، وهم أصحاب أبي يوسف ومحمد، وأصحاب أصحابهما، وهلمَّ جرا، وهم كثيرون، موضع ضبطهم كتاب "الطبقات" لأصحابنا.

وغالب من يُنقل عنهم المسائل أصحاب أبي يوسف ومحمد، كمحمد بن سلمة، ونصير بن يحيى، وأبي القاسم الصفَّار.

ومن أصحاب أبي يوسف، مثل عصام بن يوسف، وابن رستم.

ومن أصحاب محمد، مثل أبي حفص البخاري، وكثيرين.

وقد يتفق لهؤلاء العُلماء أن يخالفوا أصحاب المذاهب، لدلائل وأسباب، ظهرت لهم بعدهم.

وأول كتاب جُمِع في فتاويهم "كتاب النوازل" للفقيه أبي الليث السمرقندي، وكذلك "العُيون" له؛ فإنه جمع صور فتاوي جماعة من المشايخ، ممن أدركهم بقوله: سئل أبو القاسم في رجل كذا أو كذا، فقال: كذا وكذا. سئل محمد بن سلمة عن رجل كذا وكذا، فقال: كذا أو كذا، وهكذا.

ص: 245

ثم جمع المشايخ بعده كتبًا أخر في الفتاوي كـ "مجموع النوازل والواقعات" للناطفي، و"الواقعات" للصدر الشهيد، رحمه الله تعالى.

ثم جمع المتأخّرون هذه المسائل في فتاواهم وكتبهم مختلطة، غير متميزة، كما في "جامع قاضي خان"، و"الخلاصة"، وغيرهما.

وميَّز بعضهم كما في كتاب "المحيط" لرضي الدين السرخسي؛ فإنه ذكر أولًا مسائل الأصول، ثم النوادر، ثم الفتاوي، ونعم ما فعل.

واعلم أن من كتب الأصول كتاب "الكافي" للحاكم الشهيد، وهو كتاب معتمد في نقل المذهب.

وشرحه جماعة من المشايخ منهم: الإمام شمس الأئمة السرخسي وهو "مبسوط" السرخسي، والإمام القاضي الأسبِيْجَابي، وغيرهما.

ومن كتب المذهب: "المنتقى" له أيضًا، إلا أن فيه بعض النوادر؛ ولهذا يذكره صاحب "المحيط" بعد ذكره النوادر، مُعْنْوَنًا بـ "المنتقى"، ولا يوجد "المنتقى" في هذه الأعصار.

واعلم أيضًا أن نسخ "المبسوط" المروي عن محمد متعددة، وأظهرها "مبسوط أبي سليمان الجوزجاني".

وشرح (المبسوط) المتأخّرون، مثل شيخ الإسلام أبي بكر المعروف بخواهر زاده، ويسمى (المبسوط البكري)، والصدر الشهيد، وغيرهما، ومبسوطهم شروح في الحقيقة، ذكرها مختلطة بـ "مبسوط محمد"، كما فعل شُرَّاح "الجامع الصغير"، مثل فخر الإسلام، وشيخ الإسلام، وقاضي خان، وغيرهم.

وقد يقال: ذكره قاضي خان في "الجامع الصغير"، والمراد شرحه، وكذا غيره، فاعلم ذلك، والله أعلم. انتهى.

ص: 246

‌الباب السادس في سيرة الإمام الأعظم، أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي

*

* للإمام الأعظم ذكر حافل في المراجع التاريخية والفهارس، تصعب الإحاطة به، وأكتفي هنا بالإشارة إلى ما يحضرني منها:

الطبقات الكبرى لابن سعد 6/ 256، والتاريخ الكبير للبخاري 8/ 81، والجرح والتعديل لابن أبي حاتم، الجزء الرابع القسم الأول 449، والمعارف لابن قتيبة 495، ذيل المذيل للطبري 102، والفهرست لابن النديم 284، 285، وتاريخ بغداد 13/ 323 - 454، وطبقات الفقهاء للشيرازي 86، والانتقاء لابن عبد البر 121 - 171، والأنساب 196 ظ، واللباب 1/ 360، وتهذيب الأسماء واللغات 2/ 216 - 223، وخلاصة تذهيب تهذيب الكمال 402، ووفيات الأعيان 5/ 405 - 415، وتذكرة الحفاظ 1/ 168، 169، وميزان الاعتدال 4/ 265، والعبر 1/ 214، والبداية والنهاية 10/ 107، وتهذيب التهذيب 10/ 449 - 452، وغاية النهاية لابن الجزرى 2/ 342، ومرآة الجنان لليافعي 1/ 209 - 312، والنجوم الزاهرة 2/ 12 - 15، وطبقات الحفاظ للسيوطي 73، والخميس في أحوال أنفس نفيس 2/ 326 - 329، ومفتاح السعادة 2/ 195، والطبقات الكبرى للشعراني 1/ 53، 54، وشذرات الذهب 1/ 227 - 229، والكواكب الدرية للمناوي 1/ 175، 176، كشف الظنون 842، 1287، 1437، 1680، 2015، ونزهة الجليس للموسوي 2/ 176، والتاج المكلل من جواهر مآثر الطراز الآخر والأول 136 - 138، وجامع كرامات الأولياء 2/ 277، وروضات الجنات 8/ 167 - 176، وهدية العارفين 2/ 495، والذريعة إلى تصانيف الشيعة 1/ 316، وطبقات الفقهاء، لطاش كبري زاده صفحة 11 - 14. =

ص: 247

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= وترجم الكفوي الإمام الأعظم في أول كتيبة الأئمة المجتهدين وأصحاب المذهب وأهل اليقين، كتائب أعلام الأخيار، ترجمة رقم 70، كما ترجمه التقي التميمي، في مقدماته لكتابه الطبقات السنية 1/ 86 - 195، وذكر حاجي خليفة في كشف الظنون 1836 - 1839 من ألف في مناقب الإمام الأعظم، ومن ترجمه أثناء كتابه، وذيل عليه البغدادي في إيضاح المكنون 2/ 560، فذكر كتابين. ومن التَّراجم المفردة المطبوعة في مناقب الإمام الأعظم:

مناقب الإمام الأعظم أبي حنيفة، لأبي المؤيد الموفق بن أحمد المكي الخوارزمي المتوفى سنة 568 هجرية.

مناقب الإمام أبي حنيفة، لحافظ الدين محمد بن محمد بن شهاب الكردري، ابن البزازي، المتوفى سنة 827 هجرية.

وقد طبع هذان الكتابان معا، سنة 1311 هجرية في حيدر آباد، في مجلدين، كما طبعا في مجلد واحد سنة 1321 هجرية في حيدر آباد أيضًا.

الخيرات الحسان في مناقب الإمام أبي حنيفة النعمان، لشهاب الدين أبي العباس أحمد بن محمد بن علي، ابن حجر الهيتمي المصري المكى، المتوفى سنة 974 هجرية، وقد طبع هذا الكتاب بمصر، سنة 1305 هجرية، ثم سنة 1326 هجرية.

مناقب الإمام الأعظم، لعلي بن سلطان محمد القاري، المتوفى سنة 1014 هجرية.

وقد طبع ذيلا للجواهر المضية، بحيدر آباد، سنة 1332 هجرية.

وللمحدثين في ترجمة الإمام الأعظم جهود مشكورة، أذكر منها:

للشيخ محمد زاهد الكوثرى: تأنيب الخطيب على ما ساقه في ترجمة أبي حنيفة من الأكاذيب، والترحيب بنقد التأنيب، والنكت الطريفة في التحدث عن ردود ابن أبي شيبة على أبي حنيفة.

للشيخ محمد أبو زهرة: أبو حنيفه حياته وعصره وآراؤه. =

ص: 248

وهو يشتمل على عشرة فصول.

‌الفصل الأول في نسبه وولادته وصفته وشيوخه وتلاميذه

هو إمام الأئمة، وسراج الأمة، وبجر العلوم والفضائل، ومنبع الكمالات والفواضل، عالم العراق، وفقيه الدنيا على الإطلاق، من أعجز من بعده عن لحاقه، وفات من عاصره في سياقه، ومن لا تنظر العيون مثله، ولا ينال مُجتهد كماله وفضله، الإمام الأعظم، والحبر البحر المكرّم، أحد أفراد الزمان، وإنسان عين الأعيان، الذي سارتْ بفضله الركبان، وعمَّتْ فواضله سائر البلدان، واعترف بمعروفه الشامل كل قاص ودان، وأجمعت الأمة، أنه قدوة الأئمة، وهو أبو حنيفة النعمان، رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وجعل الجنة متقلبه ومثواه، وفي ذلك المحل المقدس جمعنا وإياه.

فإنه صاحب المذهب الذي به يأخذون، وعليه يعتمدون، وله يقلدون، ومن بحر علمه يغترفون، تغمّده الله برحمته ورضوانه، وأباحه بحبوحة جنانه، ونفعنا ببركات عُلومه في الدنيا والآخرة، أنه جواد كريم، رؤوف رحيم.

= للأستاذ عبد الحليم الجندي: أبو حنيفة بطل الحرية والتسامح في الإسلام.

للأستاذ مصطفى نور الدين: المطالب المتينة في الذب عن الإمام أبي حنيفة.

للأستاذ سيد عفيفي: حياة الإمام أبي حنيفة وفقهه.

وجاء على هامش الأصل نقل ترجمة الإمام الأعظم من طبقات الفقهاء للشيرازي، وما قاله سراج الدين بن الملقن في ترجمته عند ذكره تراجم الأئمة الأربعة، وفائدة في من اسمه النعمان من الرواة، وعدد منهم ستة.

ص: 249

أبو حنيفة النعمان

(1)

بن ثابت بن زوطَى، بضم الزاي وفتح الطاء، وهو المشهور، وقال ابن الشحنة، نقلًا عن شيخه مجد الدين الفيروز آبادي، في "طبقات الحنفية": إنه بفتح الزاي والطاء المهملة، مثل سَكْرَى

(2)

. وكان زوطَى مملوكًا لبني تيم الله بن ثعلبة.

واختلف في أصله، فقيل: من "كابل"، وقيل: من "بابل"، وقيل: من "نَسَا"، وقيل: من "ترمذ"، وقيل: من "الأنبار"، وقيل: غير ذلك. قال السراج الهندي: ووجه التلفيق بين هذه الروايات أن يكون جدّه من "كابل"، ثم انتقل منها إلى "نَسَا"، ثم إلى "ترمذ"، أو ولد أبوه بـ "ترمذ"، ونشأ بـ "الأنبار"، إلخ.

قال ابن الشحنة: وهذا التلفيق أصله لخطيب خوارزم، ونظر ذلك بعض مشايخه، فقال: كأبي المعالي الفضل بن سهل الإسفَرَايني، فإن أباه من

(1)

اتفقوا على أنه النعمان، وفيه سر لطيف، إذ أصل النعمان الدم، الذي به قوام البدن، ومن ثمه ذهب بعضهم إلى أنه الروح، فأبو حنيفة رحمه الله به قوام الفقه، ومنه نشأ مداركه وعويصاته، أو نبت أحمر طيب الريح الشقيق، أو الأرجوان بضم الهمزة، فأبو حنيفة رحمه الله طابت خلاله، وبلغ الغاية كماله، أو فعلان من النعمة، فأبو حنيفة نعمة الله على خلقه، وتحذف ألْ عند التنكير والنداء والإضافة، وحذفها لغير ذلك نادر، وقال ابن مالك: حذفها وإثباته سيان، واعترض.

وعلى أن كنيته أبو حنيفة مؤنث حنيف، وهو الناسك أو المسلم، لأن الحنف الميل، والمسلم مائل إلى الدين الحق. وقيل: سبب تكنيته بذلك ملازمته للدواة المسماة حنيفة بلغة العراق. وقيل: كانت له بنت تسمى بذلك، وردَّ بأنه لا يعلم له ولد ذكر، ولا أنثى غير حمَّاد. انظر الخيرات الحسان ص 44.

(2)

انظر ذيل الجواهر المضية 2: 451.

ص: 250

"إسفراين"، وولد هو بـ"مصر"، ونشأ بـ"حلب"، ثم أقام بـ "بغداد"، ومات بها، ويقال له: المصري، الحلبي، البغدادي.

وروى الخطيب

(1)

بسنده، عن إسماعيل بن حمَّاد بن أبي حنيفة، أنه كان يقول: أنا إسماعيل بن حمَّاد بن النعمان بن ثابت بن النعمان بن المرزبان، من أبناء فارس الأحرار، والله ما وقع علينا رق قط؛ ولد جدّي في سنة ثمانين، وذهب ثابت إلى علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، وهو صغير، فدعا له بالبركة فيه، وفي ذريته، ونحن نرجو من الله أن يكون استجاب ذلك لعلي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، فينا. انتهى.

قال السراج الهندي بعد أن نقل ما ذكر عن إسماعيل: وكذلك قاله أخو إسماعيل، ولا يحل لمسلم أن يظنّ بهما مع جلالة قدرهما، ودقّة ورعهما، أن ينتسبا إلى غير آبائهما.

قال الخطيب البغدادي

(2)

: والنعمان بن المرزبان، أبو ثابت، هو الذي أهدي لعليّ بن أبي طالب الفالوذج يوم النيروز، فقال: نورزونا كل يوم.

وقيل: كان ذلك في المهرجان، فقال: مهرجونا كل يوم.

وذكر في "الجواهر المضية"

(3)

لأبي حنيفة نسبًا طويلًا، أوصله إلى آدم عليه الصلاة والسلام، تركنا ذكره لعدم صحته، والله تعالى أعلم.

‌ذكر مولده ووفاته، وصفته:

عن مزاحم بن داود بن عُليَّة، أنه كان يذكر عن أبيه أو غيره، أن أبا حنيفة ولد سنة إحدى وستين، ومات سنة خمسين ومائة.

(1)

تاريخ بغداد 13: 326.

(2)

الموضع السابق.

(3)

الجزء الأول صفحة 51 - 53.

ص: 251

وقال الخطيب

(1)

: لا أعلم لصاحب هذا القول مُتابعًا، ثم روي بسنده عن أبي نعيم، أن أبا حنيفة ولد سنة ثمانين، وكان له يوم مات سبعون سنة، ومات في سنة خمسين ومائة، وهو النعمان بن ثابت.

وروى عنه بسند آخر، أنه قال: ولد أبو حنيفة سنة ثمانين بلا مائة، ومات سنة خمسين ومائة، عاش سبعين سنة.

واختلف في الشهر الذي مات فيه، فقال بعضهم: في شعبان، وقال بعضهم: في رجب، وعن أبي يوسف: أنه مات في النصف من شوَّال.

وكانت وفاته بمدينة "بغداد"، ودفن بالجانب الشرقي منها في "مقبرة الخيزران"، وقبره هُناك ظاهر معروف مقصود بالزيارة.

وقال ابن خلكان

(2)

: وبنى شرف الملك أبو سعد محمد بن منصور الخوارزمي، مُستوفي مملكة السلطان ملك شاه السلجوقي على قبره مشهدًا وقبَّة، وبنى عنده مدرسة كبيرة للحنفية، ولما فرغ من عمارة ذلك، ركب إليها في جماعة من الأعيان ليشاهدوها، فبينما هُم هناك إذ دخل عليهم الشريف أبو جعفر مَسْعود المعروف بالبياضي

(3)

، وأنشد

(4)

:

ألم تَرَ أنَّ العلمَ كان مُبَدَّدًا

فَجَمَّعَهُ هذا المغيَّبُ في اللَّحدِ

كذلك كانتْ هذه الأرضُ مَيتةً

فأَنْشرَها فِعْلُ العَمِيد أبي سَعْدِ

(5)

فأجازه أبو سعد بجائزة سنية.

وكان بناء المشهد والقبَّة، في سنة تسع وخمسين وأربعمائة.

(1)

تاريخ بغداد: 13: 330.

(2)

وفيات الأعيان 5: 414، 415.

(3)

في بعض النسخ "بالبياضي".

(4)

البيتان في مناقب الإمام الأعظم 2: 194، ومناقب الكردري 2:33.

(5)

وفي مناقب الإمام الأعظم ومناقب الكردري "جود العميد".

ص: 252

وقيل: الذي بنى ذلك ألب أرسلان محمد، والد السلطان ملك شاه.

قال ابن خلكان: والظاهر أن أبا سعد بناهما نيابة عن ألب أرسلان المذكور، وهو كان المباشر، كما جرتْ عادةُ النواب مع ملوكهم، فنُسبت العمارة إليه بهذا الطريق. انتهى.

‌ما ورد في صفة أبي حنيفة:

وأما ما ورد في صفة أبي حنيفة: فمنه ما ذكر أبو نعيم، قال: كان أبو حنيفة حسن الوجه، حسن الثياب، طيب الريح، حسن المجلس، شديد الكرم، حسن المواساة لإخوانه.

وقال أبو يوسف: كان أبو حنيفة ربعة من الرجال، ليس بالقصير ولا بالطويل، وكان أحسن الناس منطقًا، وأحلاه نغمة، وأنبهه على ما يريده.

وعن عمر بن حماد بن أبي حنيفة، أن أبا حنيفة كان طوالًا، تعلوه سمرة، وكان لباسًا، حسن الهيئة، كثير التعطّر، يعرف بريح الطيب إذا أقبل، وإذا خرج من منزله قبل أن نراه. رضي الله عنه.

‌ذكر خبر ابتداء أبي حنيفة بالنظر في العلم:

عن أبي يوسف

(1)

أنه قال: قال لي أبو حنيفة: لما أردتُ طلبَ العلم جعلتُ أتخير العلوم، وأسال عن عواقبها، فقيل لي: تعلم القرآن. فقلتُ: إذا تعلمتُ القرآن، وحفظتُه، فما يكون آخره؟

قالوا: تجلس في المسجد، ويقرأ عليك الصبيان والأحداث، ثم لا تلبث أن تخرج منهم من هو أحفظ منك، أو يُساويك في الحفظ، فتذهب رياستك.

قلتُ: فإن سمعتُ الحديث، وكتبتُه حتى لم يكن في الدنيا أحفظ مني؟

(1)

ذكر هذا الخطيب في تاريخ بغداد 13: 331، 332.

ص: 253

قالوا: إذا كبرت وضعفت حدثت، واجتمع عليك الأحداث والصبيان، ثم لا تأمن أن تغلط، فيرموك بالكذب، فيصير عارًا عليك في عَقبِك.

فقلتُ: لا حاجة لي في هذا.

قلتُ: فإذا حفظتُ العربية، وتعلمتُ النحو ما يكون آخر أمري؟

قالوا: تقعد مُعلّمًا، فأكثر رزقك ديناران إلى ثلاثة.

قلتُ: وهذا لا عاقبة له.

قلتُ: فإن نظرتُ في الشعر، فلم يكن أشعر مني، ما يكون آخر أمري؟

قالوا: تمدح هذا، فيهب لك، أو يحملك على دابة، أو يخلع عليك خلعة، وإن حرمك هجوته، فصرت تقذف المحصنات.

فقلتُ: لا حاجة لي في هذا.

قلتُ: فإن نظرتُ في الكلام، ما يكون آخره؟

قالوا: لا يسلم من نظر في الكلام من مُشنعات الكلام، فيرمى بالزندقة، فإما أن يؤخذ، فيقتل، وإما أن يسلم، فيكون مذمومًا ملومًا.

قلتُ: فإن تعلمت الفقه؟

قالوا: تُسأل، وتُفتي الناس، وتُطلب للقضاء، وإن كنت شابًا.

قلت: ليس في العلوم شئ أنفع من هذا، فلزمتُ الفقه، وتعلمته.

وعن زفر بن الهُذيل

(1)

، قال: سمعتُ أبا حنيفة، يقول: كنتُ أنظر في الكلام، حتى بلغتُ فيه مبلغًا يُشار إليَّ فيه بالأصابع، وكنا نجلس بالقرب من حلقة حمَّاد بن أبي سُليمان، فجاءتْني امرأة يومًا، فقالتْ: رجل له امرأة أمة، أراد أن يُطلقها للسنَّة، كيف يُطلقها؟

(1)

تاريخ بغداد 13: 333.

ص: 254

فلم أدر ما أقولُ، فأمرتُها تسأل حمَّادًا، ثم ترجع، فتخبرني.

فسألتْ حمادًا، فقال: يُطلّقُها وهي طاهرة من الحيض والجماع تطليقة، ثم يتركها حتى تحيض حيضين، فإذا اغتسلتْ فقد حلّتْ للأزواج.

فرجعتْ، فأخبرتْني، فقلتُ: لا حاجة لي في الكلام، وأخذتُ نعلي، وجلستُ إلى حمَّاد، فكنت أسمع مسائلَه، فأحفظُ قولَه، ثم يعيدها من الغد، فأحفظ، ويخطئ أصحابه، فقال: لا يجلسُ في صدر الحلقة بحذائي غيرُ أبي حنيفة، فصحبتُه عشر سنين.

ثم إني نازعتْني نفسي لطلب الرياسة، فأحببتُ أن أعتزله، وأجلسُ في حلقة لنفسي، فخرجتُ يومًا بالعشى وعزمى أن أفعل، فلما دخلتُ المسجد، فرأيته، لم تطبْ نفسي أن أعتزله، فجئتُ فجلستُ معه، فجاءه في تلك الليلة نعى قرابة له، قد مات بـ "البصرة"، وترك مالًا، وليس له وارث غيره، فأمرني أن أجلس مكانه، فما هو إلا أن خرج، حتى وردتْ عليَّ مسائلُ لم أسمعْها منه، فكنت أجيب، وأكتب جوابي، فغاب شهرين، ثم قدم، فعرضت عليه المسائل، وكانت نحوًا من ستين مسئلة، فوافقَنى في أربعين، وخالفَنى في عشرين، فآليتُ على نفسي أن لا أفارقَه حتى يموت، فلم أفارقْه حتى مات.

وروي عن أبي حنيفة أنه قال

(1)

: قدمتُ "البصرة"، فظننتُ أني لا أُسأل عن شيء إلا أجبتُ فيه، فسألوني عن أشياء لم يكن عندي فيها جواب، فجعلتُ على نفسى أن لا أفارقَ حمَّادًا حتى يموت، فصحبتُه ثماني عشرة سنة.

(1)

تاريخ بغداد 13: 333.

ص: 255

وعن ابن سماعة

(1)

، أنه قال: سمعتُ أبا حنيفة يقول: ما صليتُ صلاة مُذ ماتَ حماد إلا استغفرتُ له مع والدي، وإني لأستغفرُ لمن تعلمتُ منه علمًا، أو علمتُه علما.

وعن يونس بن بكير، أنه قال: سمعتُ إسماعيل بن حمَّاد بن أبي سليمان، يقول: غاب أبي غيبة في سفر له، ثم قدم، فقلتُ له: يا أبة، إلى أيّ شئ كنت أشوق؟

قال: وأنا أرى أنه يقول: إلى ابني.

فقال: إلى أبي حنيفة، ولو أمكنني أن لا أرفعَ طرفي عنه فعلتُ.

وعن أبي مطيع البلخي

(2)

، أنه قال: قال أبو حنيفة: دخلتُ على أبي جعفر أمير المومنين، فقال: يا أبا حنيفة عن من أخذتَ العلمَ؟ قال: قلتُ عن حمَّاد، عن إبراهيم، عن عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عبَّاس.

قال: فقال أبو جعفر: بخٍ بخٍ، استوثقتَ ما شئتَ يا أبا حنيفة عن الطيبين المباركين، صلوات الله عليهم.

وعن ابن أبي أويس

(3)

، قال: سمعتُ الربيع بن يونس، يقول: دخل أبو حنيفة يومًا على المنصور، وعنده عيسى بن موسى، فقال للمنصور: هذا عالم الدنيا اليوم.

فقال له: يا نعمان، عن من أخذتَ العلمَ؟ قال: عن أصحاب عمر عن عمر، وعن أصحاب عليٍّ عن عليّ، وعن أصحاب عبد الله عن عبد الله، وما كان في وقت ابن عبَّاس على وجه الأرض أعلم منه، قال: لقد استوثقتَ لنفسك.

(1)

هو إبراهيم كما جاء في تاريخ بعداد 13: 334.

(2)

تاريخ بغداد 13: 334.

(3)

تاريخ بغداد 13: 335.

ص: 256

وروي عن أبي حنيفة، أنه قال: رأيتُ رُؤيا، فأفزعتْني، رأيتُ كأني أنبشُ قبرَ النبي صلى الله عليه وسلم، فاتيتُ "البصرة"، فأمرتُ رجلًا أن يسأل محمد بن سيرين، فسأله، فقال: هذا رجل ينبشُ أخبارَ رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وفي رواية أنه قال: صاحب هذه الرؤيا يُثَوّر (1) علمًا، لم يسبقْه إليه أحدٌ قَبله.

قال هشام (2): فنظر أبو حنيفة، وتكلّم حينئذ. والله تعالى أعلم.

‌شيوخه الكبار رحمهم الله تعالى:

أخذ الإمام أبو حنيفة رحمه الله عن أربعة آلاف شيخ من التابعين، كما ذكره محمد بن يوسف الصالحي الشافعي في "عقوده". وكان من شيخه علامة التابعين عامر بن شراحيل، وهو أكبر شيخ لأبي حنيفة، أدرك خمسمائة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (3). وأخذ الإمام أبو حنيفة عن عطاء بن أبي رَبَاح أيضا، وهو أدرك مائتين من الصحابة (4).

قال الحافظ جمال الدين المزي: روى أبو حنيفة عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر، وإسماعيل بن عبد الملك بن أبي الصفير، وجبلة بن سحيم، وأبي هند الحارث بن عبد الرحمن الهمداني، والحسن بن عبيد الله، والحكم بن عتيبة، وحماد بن أبي سلمان، وخالد بن علقمة، وربيعة بن أبي عبد الرحمن، وزبيد اليامي، وزياد بن علاقة، وسعيد بن مسروق الثوري، وسلمة بن كهيل، وسماك بن حرب، وأبي رؤبة شدَّاد بن عبد الرحمن، وشيبان بن عبد الرحمن النحوى،

(1) في تاريخ بغداد "يثير"، وثور العلم: بحثه، أو بحث في معانيه.

(2)

راجع عقود الجمان ص 183.

(3)

تذكرة الحفاظ 1: 79، 81.

(4)

تهذيب التهذيب 7: 205.

ص: 257

وهو من أقرانه، وطاوس بن كيسان فيما قيل، وطريف بن سفيان السعدي، وأبي سفيان طلحة من نافع، وعاصم بن كليب، وعامر الشعبي، وعبد الله بن أبي حبيبة، وعبد الله بن دينار، وعبد الرحمن بن هرمز الأعرج، وعبد العزيز بن رفيع، وعبد الكريم أبي أمية بن أبي المخارق، وعبد الملك بن عمير، وعدي بن ثابت الأنصاري، وعطاء بن أبي رَبَاح، وعطاء بن السائب، وعطية بن سعد العوفي، وعكرمة مولى ابن عباس، وعلقمة بن مرثد، وعلي بن الأقمر، وعلي بن الحسن البرَّاد، وعمرو بن دينار، وعون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وقابوس بن أبي ظبيان، والقاسم بن معن بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، وقتادة بن دعامة، وقيس بن مسلم الجدلي، ومحارب بن دثار، ومحمد بن الزبير الحنظلي، ومحمد بن السائب الكلبي، وأبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، رضى الله عنهم، ومحمد بن قيس الهمداني، ومحمد بن مسلم بن شهاب الزهري، ومحمد بن المنكدر، ومخول بن رائد، ومسلم البطين، ومسلم الملائي، ومعن بن عبد الرحمن، ومقسم، ومنصور بن المعتمر، وموسى بن أبي عائشة، وناصح بن عبد الله المحلمي، ونافع مولى ابن عمر، وهشام بن عروة، وأبي غسَّان الهيثم بن حبيب الصرَّاف، والوليد بن سريع المخزومي، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وأبي جحيفة يحيى بن عبد الله الكندي، ويحيى بن عبد الله الجابر، ويزيد بن صهيب الفقير، ويزيد بن عبد الرحمن الكوفي، ويونس بن عبد الله بن أبي فروة، وأبي إسحاق السبيعي، وأبي بكر بن عبد الله بن أبي الجهم، وأبي جناب الكلبي، وأبي حصين الأسدي، وأبي الزبير المكّي، وأبو السوَّار - ويقال: أبو السوداء - السلمي، وأبي عون الثقفي، وأبي فروة الجهنى، وأبي معبد مولى ابن عباس، وأبي يعفور العبدي.

ص: 258

‌تلاميذه العظام رحمهم الله تعالى:

تلاميذ أبي حنيفة رحمهم الله تعالى جم غفير وجمع كثير، اتفق له من الأصحاب ما لم يتفق لأحد من بعده من الأئمة

(1)

.

وذكر الصالحي في الباب الخامس من كتابه بعض الآخذين من أبي حنيفة الحديث والفقه من أهل "مكة"، و"المدينة"، و"دمشق"، و"البصرة"، و"الجزيرة"، وغيرها، وقال أنا مورد جماعة من الأعيان الآخذين عن الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه نحو الثمانمائة، ثم ذكر أسماءهم بالتفصيل

(2)

.

وسرد علي بن سلطان محمد القاري رحمه الله تعالى في كتابه "مناقب الإمام الأعظم" أسماء تلاميذه، وقد بلغتْ إلى مائة وخمسين تقريبا، ثم قال في آخره: هذا الذي اختصرناه من "مناقب الكردري"، وقال الكردى في آخره: فهؤلاء سبعمائة وثلاثون رجلا من مشايخ البلدان وأعلام ذلك الزمان، أخذوا عنه العلم، ووصل إلينا بسعيهم واجتهادهم، وجزاهم الله تعالى خير الجزاء يوم معادهم

(3)

.

فمن هؤلاء إبراهيم بن طَهْمَان، والأبيض بن الأغر بن الصبَّاح المنقري، وأسباط بن محمد القرشي، وإسحاق بن يوسف الأرزق، وأسد بن عمرو البَجَلي القاضي، وإسماعيل بن يحيى الصيرفى، وأيوب بن هانئ الجعفى، والجارود بن يزيد النيسابوري، وجعفر بن عون، والحارث بن نبهان، وحبَّان بن على العنزي، والحسن بن زياد اللؤلؤى، والحسن بن فُرَات القزَّاز، والحسين بن حسن بن عطية العوفي، وحفص بن عبد الرحمن البلخي القاضي، وحكّام بن سلم الرازي، وأبو مطيع الحكم بن عبد الله بن عبد الرحمن البلخى، وابنه حمَّاد

(1)

عقود الجمان ص 183.

(2)

عقد الجمان 88 - 158.

(3)

ذيل الجواهر 518 - 556.

ص: 259

بن أبي حنيفة، وحمزة بن حبيب الزيَّات، وخارجة ابن مصعب السرخسي، وداود بن نصير الطائى، وأبو الهُذَيل زُفَر بن الهُذَيل التيمى العنبري، وزيد بن الحباب العكلي، وسابق الرقى، وسعد بن الصلت قاضى "شيراز"، وسعيد بن أبي الجهم القابوسي، وسعيد بن سلام أبي الهيفاء العطاء البصري، وسلم بن سالم البلخى، وسليمان عمرو النَّخَعي، وسهل ابن مزاحم، وشعيب بن إسحاق الدمشقي، والصبَّاح بن محارب، والصلت بن الحجاج الكوفي، وأبو عاصم، والضحَّاك بن مخلد، وعامر بن الفُرَات، وعائد بن حبيب، وعبَّاد بن العوّام، وعبد الله بن المبارك، وعبد الله بن يزيد المقري، وأبو يحيى عبد الحميد بن عبد الرحمن الحمّاني، وعبد الرزَّاق بن همَّام، وعبد العزيز بن خالد الترمذي، وعبد الكريم بن محمد الجرجاني، وعبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي روَّاد، وعبد الوارث بن سعيد، وعبيد الله بن عمرو الرقي، وعبيد الله بن موسى، وعتَّاب بن محمد بن شوذان، وعلي بن ظبيان الكوفي القاضي، وعلي بن عاصم الواسطى، وعلي بن مسهر، وعمرو بن محمد العنقزي، وأبو قطن عمرو بن الهيثم القطني، وأبو نعيم الفضل بن دكين، والفضل بن موسى السيناني، والقاسم بن الحكم العرني، والقاسم بن معن المسعودي، وقيس بن الربيع، ومحمد بن أبان العنبري الكوفي، ومحمد بن بشر العبدي ومحمد بن الحسن بن آتش الصنعاني، ومحمد بن الحسن الشيباني، ومحمد ابن خالد الوهبى، ومحمد بن عبد الله الأنصاري، ومحمد بن الفضل بن عطية، ومحمد بن القاسم الأسدي، ومحمد بن مسروق الكوفي، ومحمد بن يزيد الواسطي، ومروان بن سالم، ومصعب بن المقدام، والمعافى بن عمران الموصلي، ومكَّي بن إبراهيم البلخي، وأبو سهل نصر بن عبد الكريم البلخى المعروف بالصيقل، ونصر بن عبد الملك العتكي، وأبو غالب النضر بن عبد الله الأزدي، والنضر بن محمد المروزي، والنعمان بن عبد السلام الإصبهاني،

ص: 260

ونوح بن درَّاج القاضي، وأبو عصمة نوح بن أبي مريم، وهريم بن سفيان، وهوذة بن خليفة، والهياج بن بسطام، وكيع بن الجرَّاح، ويحيى بن أيوب المصري، ويحيى بن نصر بن حاجب، ويحيى بن يمان، ويزيد بن زريع، ويزيد بن هارون، ويونس بن بكير، وأبو إسحاق الفزارى، وحمزة السكري، وأبو سعد الصاغاني، وأبو شهاب الحنَّاط، وأبو مقاتل السمرقندى، والقاضى أبو يوسف، رحمهم الله تعالى.

‌الفصل الثاني في مناقب أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه وثناء الأئمة عليه:

روى الخطيب البغدادي

(1)

بسنده، عن أبي هريرة رضى الله تعالى عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال:"إن في أمتي رجلًا"، وفي حديث القصري

(2)

: "يكون في أمتي رجل، اسمه النعمان، وكنيته أبو حنيفة، هو سراج أمتي"

(3)

.

قال الخطيب بعد روايته: قلتُ: وهو حديث موضوع، وتفرَّد بروايته البورقي

(4)

.

قلتُ: قد ذكر أنه موضوع غير الخطيب أيضًا، وإنما ذكرناه نحن هنا لاحتمال صحته في نفس الأمر عند الله تعالى، ولأن معناه متحقق في الإمام رضى الله تعالى عنه، فإنه بلا شبهة ولا ريب سراج، يُستضاء بنور علمه،

(1)

تاريخ بغداد 13: 335.

(2)

هو عبد الله أحمد بن أحمد بن علي، كما في تاريخ بغداد.

(3)

بعد هذا في تاريخ بغداد تكرار "هو سراج أمتي" للمرة الثانية.

(4)

نسبة إلى بورق، وهو شيء يقال له بورة.

ص: 261

ويهتدى بسناء فكره الثاقب، وحُسن فهمه، ولأنه لا يترتب عليه شئ من أحكام الدين، ولا يثبت به قاعدة من قواعد الإسلام.

وروى الخطيب

(1)

أيضًا، عن الحسن بن سليمان، في تفسير الحديث:"لا تقوم الساعة حتى يظهر العلم"، قال: هو علم أبي حنيفة، وتفسيره للآثار

(2)

.

وروى أيضًا عن خلف بن أيوب، أنه قال: صار العلم من عند الله تعالى إلى محمد صلى الله عليه وسلم، ثم صار إلى أصحابه، ثم صار إلى التابعين، ثم صار إلى أبي حنيفة وأصحابه، فمَنْ شاءَ فليرض، ومن شاءَ فليسخطْ.

وعن إسحاق بن بهلول

(3)

، سمعتُ ابن عُيينة، يقول: ما مقلتْ عيني مثل أبي حنيفة.

وعن إبراهيم بن عبد الله الخلال، قال: سمعتُ ابن المبارك يقول: كان أبو حنيفة آية.

فقال له قائل: في الشرّ يا أبا عبد الرحمن، أو في الخير؟ فقال: اسكتْ يا هذا؛ فإنه يقال: غايةٌ في الشرّ، آية

(4)

في الخير، ثم تلا هذه الآية:{وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} .

وعن المبارك أيضًا

(5)

، قال: ما كان أوقر مجلس أبي حنيفة، كان حسن السمت، حسن الوجه، حسن الثوب، ولقد كنا يومًا في مسجد الجامع،

(1)

تاريخ بغداد 13: 336.

(2)

في تاريخ بغداد "الآثار".

(3)

تاريخ بغداد 13: 336.

(4)

في تاريخ بغداد "وآية".

(5)

تاريخ بغداد 13: 336.

ص: 262

فوقعتْ حيّة، فسقطتْ في حِجر أبي حنيفة، وهرب النأس غيره، ما رأيتُه زاد على أن نفض الحيةَ، وجلس مكانه.

وعنه أيضًا

(1)

، أنه قال: لولا أن الله أعانَني

(2)

بأبي حنيفة وسُفيان، لكنتُ كسائر الناس.

وعن أبي يحيى الحمَّاني أنه كان يقول: ما رأيتُ رجلًا قط خيرًا من أبي حنيفة.

وكان أبو بكر الواعظ، يقول: أبو حنيفة أفضل أهل زمانه.

وعن سهل بن مزاحم

(3)

، أنه كان يقول: بذلت الدنيا لأبي حنيفة فلم يردْها، وضرب عليها بالسياط فلم يقبلْها.

وقيل للقاسم بن معن

(4)

بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود: ترضى أن تكون من غلمان أبي حنيفة؟ قال: ما جلس الناس إلى أحد أنفع من مجالسة أبي حنيفة.

وحدَّث الشافعي محمد بن إدريس

(5)

، قال: قيل لمالك بن أنس: هل رأيتَ أبا حنيفة؟ قال: نعم، رأيتُ رجلًا لو كلَّمَك في هذه السارية أن يجعلَها ذهبًا، لقام بحجّته.

وعن روح بن عبادة

(6)

، أنه قال: كنت عند ابن جُريج سنة خمسين، وأتاه موت أبي حنيفة، فاسترجع، وتوجَّع، وقال: أيّ علم ذهب.

(1)

تاريخ بغداد 13: 337.

(2)

في تاريخ بغداد "أغاثني".

(3)

تاريخ بغداد 13: 337.

(4)

تاريخ بغداد 13: 337.

(5)

تاريخ بغداد 13: 337.

(6)

تاريخ بغداد 13: 337.

ص: 263

قال: ومات فيها ابن جريج.

وروي عن عبد الله بن المبارك، أنه قال: قدمتُ "الشام" على الأوزاعي، فرأيتُه بـ "بيروت"، فقال لي: يا خراساني، من هذا المبتدع الذي خرج بـ "الكوفة"، يُكنى أبا حنيفة؟!

فرجعتُ إلى بيتي، فأقبلتُ على كتب أبي حنيفة، فأخرجتُ منها مسائل من جياد المسائل، وبقيتُ في ذلك ثلاثة أيام، فجئتُه يوم الثالث وهو مؤذن مسجدهم وإمامهم، والكتاب في يدي، فقال: لي أيّ شئ هذا الكتاب؟

فتناولتُه، فنظرَ في مسئلة منها وقعت عليها: قال النعمان بن ثابت

(1)

، فما زال قائمًا بعدما أذن، حتى قرأ صدرًا من الكتاب، ثم وضع الكتاب في كمّه، ثم قام، وصلَّى، ثم أخرج الكتابَ حتى أتى عليها، فقال: يا خراساني! من النعمان بن ثابت هذا؟ قلت: شيخ لقيته بـ "العراق".

فقال: هذا نبيل من المشايخ، اذهبْ فاستكثرْ منه.

قلتُ: هذا أبو حنيفة الذي نهيتَ عنه.

وعن مسعر بن كدام

(2)

، أنه قال: ما أحسد أحدًا بـ "الكوفة" إلا رجلين، أبا حنيفة في فقهه، والحسن بن صالح في زهده.

وعن إبراهيم بن الزرقان، أنه قال: كنت يومًا عند مسعر، فمرَّ بنا أبو حنيفة، فسلَّم ووقف عليه، ثم مضى، فقال بعض القوم لمسعر: ما أكثر خصوم أبي حنيفة!! فاستوى مسعر منتصبًا، ثم قال: إليك فما رأيته خاصم أحدًا قط إلا فلج

(3)

عليه.

(1)

ساقط من تاريخ بغداد.

(2)

تاريخ بغداد 13: 337.

(3)

فلج عليه: غلبه، وفاز عليه.

ص: 264

وعن أبي غسَّان

(1)

، أنه قال: سمعتُ إسرائيل، يقول: كان نعم الرجل النعمان، ما كان أحفظه لكل حديث فيه فقه، وأشدّ فحصه عنه، وأعلمه بما فيه من الفقه.

وكان مسعر يقول: من

(2)

جعل أبا حنيفة بينه، وبين الله رجوتُ أن لا يخاف، ولا يكون فرط في الاحتياط لنفسه.

وعن علي بن المديني

(3)

أنه قال: سمعتُ عبدَ الرزاق، يقول: كنتُ عند معمر، فأتاه ابن المبارك، فسمعنا معمرًا يقول: ما أعرف رجلًا يُحسن يتكلم في الفقه، أو يسعه أن يقيس، ويشرح لمخلوق النجاة في الفقه، أحسن معرفة من أبي حنيفة

(4)

، ولا أشفق على نفسه

(5)

، أن يدخل في دين الله شيئًا من الشك من أبي حنيفة.

وعن عبد الله بن أبي جعفر الرازي

(6)

، قال: سمعتُ أبي يقول: ما رأيتُ أحدًا أفقهَ من أبي حنيفة، وما رأيتُ

(7)

أورعَ من أبي حنيفة. وحدّث سعيد بن منصور

(8)

، قال: سمعتُ الفضَيل بن عياض، يقول: كان أبو حنيفة رجلًا فقيهًا، معروفًا بالفقه، مشهورًا بالورع، واسع المال، معروفًا بالإفضال على كل من يضيف، صبورًا على تعليم العلم بالليل والنهار، حسن

(1)

تاريخ بغداد 13: 339.

(2)

في الأصول "لمن"، والمثبت في تاريخ بغداد.

(3)

تاريخ بغداد 13: 339.

(4)

ساقط من بعض النسخ.

(5)

في تاريخ بغداد بعد هذا زياد "من".

(6)

تاريخ بغداد 13: 339.

(7)

بعد هذا في تاريخ بغداد زيادة "أحد".

(8)

تاريخ بغداد 13: 340.

ص: 265

الليل

(1)

، كثير الصمت، قليل الكلام، حتى ترد مسئلة في حلال أو حرام، وكان

(2)

يُحسن

(3)

يدلُّ على الحق، هاربًا من مال السلطان

(4)

، وكان إذا وردتْ مسئلة فيها حديث صحيح اتبعه، وإن كان عن الصحابة والتابعين، وإلا قاسَ فأحسنَ

(5)

القياسَ.

وقال أبو يوسف

(6)

: ما رأيتُ أحدًا أعلمَ بتفسير الحديث، ومواضع النكَت التي فيه من الفقه من أبي حنيفة.

وقال: ما خالفتُ أبا حنيفة في شيء قط، فتدبرتُه، إلا رأيتُ مَذهبَه الذي ذهب إليه أنجَى في الآخرة، كنتُ ربما ملتُ إلى الحديث، وكان هو أبصر بالحديث الصحيح مني.

وقال: إني لأدعو لأبي حنيفة قبل أبويَّ، ولقد سمعتُ أبا حنيفة يقول: إني لأدعو لحمَّاد مع أبويَّ.

وقال الأعمش يومًا لأبي يوسف

(7)

: كيف ترك صاحبك أبو حنيفة قول عبد الله: عتق الأمة طلاقها؟ قال: تركه لحديثك الذي حدثتَه عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة: أن بريرةَ حين أعتقتْ خُيرتْ.

قال الأعمش: إن أبا حنيفة لفطن. وأعجبه

(8)

ما أخذ به أبو حنيفة.

(1)

حسن الليل يعني حسن القيام بالليل.

(2)

في تاريخ بغداد "فكان".

(3)

في تاريخ بغداد بعد هذا زيادة "أن".

(4)

في تاريخ بغداد بعد هذا "آخر حديث مكرم".

(5)

في تاريخ بغداد "وأحسن".

(6)

تاريخ بغداد 13: 340.

(7)

تاريخ بغداد 13: 340.

(8)

قبل هذا في تاريخ بغداد زيادة "قال".

ص: 266

وعن أبي بكر بن عيَّاش

(1)

، قال: ماتَ عمر بن سعيد أخو سفيان، فأتيناه نعزيه، فإذا المجلس غاص بأهله، وفيهم عبد الله بن إدريس، إذا أقبل أبو حنيفة في جماعة معه، فلما رآه سفيان تحرَّك من مجلسه، ثم قام، فاعتنقَه، وأجلسَه في موضعه، وقعد بين يديه.

قال أبو بكر: فاغتظت عليه.

وقال ابن إدريس: ألا ترى وَيحك!

فجلسنا حتى تفرق الناس، فقلتُ لعبد الله بن إدريس: لا تقمْ حتى نعلم ما عنده في هذا.

فقلتُ: يا أبا عبد الله، رأيتُك اليوم فعلتَ شيئًا أنكرتُه، وأنكره أصحابُنا عليك.

قال: ما هو؟

قلتُ: جاء أبو حنيفة، فقمتَ إليه، وأجلستَه في مجلسك، وصنعتَ به صنيعًا بليغا، وهذا عند أصحابنا منكر.

فقال: وما أنكرت من ذلك! هذا رجل من العلم بمكان، فإن لم أقمْ لعلمه قمتُ لسنّه، وإن لم أقمْ لسنّه قمتُ لفقهه، وإن لم أقمْ لفقهه قمتُ لورعه.

فأفحمَني فلم يكنْ عندي جواب.

وعن محمد بن الفضل الزاهد البلخي

(2)

، قال: عدتُ أبا مطيع الحكم بن عبد الله، يقول: ما رأيتُ صاحبَ حديث أفقهَ من سفيان الثوري، وكان أبو حنيفة أفقهَ منه.

وعن الحسن بن علي، أنه قال: سمعتُ يزيد بن هارون، وقد سأله إنسان، فقال: يا أبا خالد! من أفقهُ مَنْ رأيتَ؟ قال: أبو حنيفة.

(1)

تاريخ بغداد 13: 341.

(2)

تاريخ بغداد 13: 342.

ص: 267

قال الحسن: ولقد قلتُ لأبي عاصم - يعني النبيل - أبو حنيفة أفقه أو سفيان؟ قال: أبو حنيفة أفقه من سفيان.

وسُئِلَ يزيدُ بن هارون مرة أخرى، من أفقه أبو حنيفة أو سفيان؟ قال: سفيان أحفظ للحديث، وأبو حنيفة أفقه.

وقال أبو عاصم النبيل

(1)

، وقد سئل أيضًا عنهما: غلام من غلمان أبي حنيفة أفقهُ من سفيان.

وقال سجَّادة: دخلتُ على يزيد بن هارون، أنا وأبو مسلم المستملي، وهو نازل بـ "بغداد" على المنصور بن المهدي، فصعدنا إلى غرفة هو فيها، فقال له أبو مسلم: ما تقول يا أبا خالد في أبي حنيفة، والنظر في كتبه؟

قال: انظروا فيها إن كنتم تريدون أن تفقهوا؛ فإني ما رأيتُ أحدًا من الفقهاء يكره النظر في قوله، ولقد احتال الثوري في "كتاب الرهن" حتى نسخه.

وروي عن عبد الله بن المبارك

(2)

، أنه قال: رأيتُ أعبدَ الناس؟ ورأيتُ أورعَ الناس، ورأيتُ أعلمَ الناس، ورأيتُ أفقهَ الناس، فأما أعبد الناس فعبد العزيز بن أبي روَّاد، وأما أورع الناس فالفُضَيل بن عياض، وأما أعلم الناس فسُفْيان الثوري، وأما أفقه الناس فأبو حنيفة، ما رأيتُ في الفقه مثلَه. وعنه أيضًا

(3)

، أنه قال: إن كان الأثر قد عُرف، واحتيج إلى الرأي، فرأي مالك، وسفيان، وأبي حنيفة، وأبو حنيفة أحسنُهم، وأدقُّهم فطنة، وأغوصُهم على الفقه، وهو أفقه الثلاثة.

وقال أبو عاصم النبيل، وقد سئل: أيهما أفقه؛ سفيان أو أبو حنيفة؟

(1)

تاريخ بغداد 13: 342.

(2)

تاريخ بغداد 13: 342، 343.

(3)

تاريخ بغداد 13: 343.

ص: 268

فقال: إنما يقاس الشيء إلى شكله، أبو حنيفة فقيه تام الفقه، وسفيان رجل متفقه.

وقال ابن المبارك

(1)

: رأيتُ مسعرًا في حلقة أبي حنيفة، جالسًا بين يديه، يسأله ويستفيد منه، وما رأيتُ أحدًا قط في الفقه أحسن من أبي حنيفة.

وعن إبراهيم بن هاشم

(2)

، عن أبي داود، أنه قال: إذا أردتَ الآثار أو قال: الحديث. وأحسبه قال: والورع، فسُفيان، وإذا أردتَ تلك الدقائق، فأبو حنيفة.

وقال محمد بن بشر: كنتُ أختلفُ إلى أبي حنيفة، وإلى سفيان، فآتى أبا حنيفة فيقول لي: من أين جئتَ؟ فأقول: من عند سفيان.

فيقول: لقد جئتَ من عند رجل لو أن علقمة والأسود حضرا لاحتاجا إلى مثله.

فآتى سفيان، فيقول لي: من أين جئتَ؟ فأقول من عند أبي حنيفة.

فيقول: لقد جئتَ من عند أفقه أهل الأرض.

وقال أبو نعيم

(3)

: كان أبو حنيفة صاحب غوص في المسائل.

وعن أبي عبد الله الكاتب، قال: سمعتُ عبد الله بن داود الخُرَيبي يقول: يجبُ على أهل الإسلام أن يدعوا الله لأبي حنيفة في صلواتهم.

قال: وذكر حفظه عليهم السنن والفقه.

وقال شدَّاد بن حكيم: ما رأيتُ أعلم من أبي حنيفة.

وقال مكّي بن إبراهيم

(4)

: كان أبو حنيفة أعلمَ أهل زمانه.

(1)

تاريخ بغداد 13: 343.

(2)

تاريخ بغداد 13: 344.

(3)

تاريخ بغداد 13: 344.

(4)

تاريخ بغداد 13: 345.

ص: 269

وقال النضر بن شميل: كان الناس نيامًا عن الفقه، حتى أيقظَهم أبو حنيفة؛ فيما فَتَّقَه وبيَّنه ولخَّصَه.

وحدّث أحمد بن علي بن سعيد القاضي، قال سمعتُ يحيى بن مَعين، يقول: سمعتُ يحيى بن سعيد القطَّان، يقول: لا نكذب الله، ما سمعنا أحسنَ من رأي أبي حنيفة، وقد أخذنا بأكثر أقواله.

قال يحيى بن مَعين: وكان يحيى بن سعيد يذهب في الفتوى إلى قول الكوفيين، ويختار من قولهم قوله، ويتبع رأيه من بين أصحابه.

وقال الإمام الشافعي

(1)

: الناس عيال على أبي حنيفة في الفقه.

وقال أيضًا: ما رأيتُ أفقه من أبي حنيفة، يعني ما علمت

(2)

.

وقال

(3)

: كان أبو حنيفة ممن وفّق له الفقه، ومن أرادَ أن يتبحَّر في الشعر فهو عيال على زُهَير بن أبي سلمى، ومن أراد أن يتبحَّر في المغازي فهو عيال على محمد بن إسحاق، ومن أراد أن يتبحَّر في النحو فهو عيال على الكسائى، ومن أراد أن يتبحَّر في تفسير القرآن فهو عيال على مقاتل بن سليمان.

وعن حرملة

(4)

، أنه قال: سمعتُ الشافعي، يقول: الناس عيال على هؤلاء الخمسة.

وعن الحسن بن عثمان، أنه كان يقول: وجدتُ العلم بـ "العراق" و"الحجاز" ثلاثة، علم أبي حنيفة، وتفسير الكلبى، ومغازي محمد بن إسحاق.

(1)

تاريخ بغداد 13: 346.

(2)

هذا تفسير الخطيب البغدادى.

(3)

تاريخ بغداد 13: 346.

(4)

تاريخ بغداد 13: 346.

ص: 270

وعن أحمد بن عطية، قال: سمعتُ يحيى بنَ مَعين، يقول: القراءة عندي قراءة حَمزة، والفقه فقه أبي حنيفة، على هذا أدركتُ الناسَ.

" [وعن أبي علي الجبائي المعتزلي المشهور، أنه قال: الحديث لأحمد بن حنبل، والفقه لأصحاب أبي حنيفة، والكلام للمعتزلة، والكذب للرافضة"]

(1)

.

وقال جعفر بن ربيع

(2)

: أقمتُ على أبي حنيفة خمسَ سنين، فما رأيتُ أطولَ صمتًا منه.

فإذا سُئل عن شيء من الفقه تفتح، وسال كالوادي، وسمعتُ له دويًا، وجهارة بالكلام.

وقال إبراهيم بن عكرمة المخزومى

(3)

: ما رأيتُ أحدًا أورعَ، ولا أفقهَ من أبي حنيفة.

وعن علي بن عاصم

(4)

، قال: دخلتُ على أبي حنيفة وعنده حجَّام يأخذُ من شعره، فقال للحجَّام: تتبع موضع البياض.

فقال الحجَّام: لا، فإنه يكثر. قال: فتتبع مواضع السواد، لعلّه يكثر.

وبلغتْ هذه الحكاية شريكًا، فضحكَ، وقال: لو ترك قياسَه لتركه مع الحجَّام.

وروى الخطيب في "تاريخه"

(5)

، عن محمد بن فضيل الزاهد، قال: سمعتُ أبا مُطيع، يقول: ماتَ رجل وأوصى إلى أبي حنيفة وهو غائب.

(1)

سقط من بعض النسخ.

(2)

تاريخ بغداد 13: 346.

(3)

تاريخ بغداد 13: 347.

(4)

تاريخ بغداد 13: 347، 348.

(5)

تاريخ بغداد 13: 348.

ص: 271

قال: فقدم أبو حنيفة، فارتفع إلى ابن شبرمة، وادّعى الوصية، وأقام البينة، أن فلانًا مات وأوصى إليه.

فقال ابن شبرمة: يا أبا حنيفة، أحلف أن شهودك شهدوا بحق.

قال: ليس عليَّ يمينٌ.

قال: ضلت مقاييسُك

(1)

يا أبا حنيفة.

قال أبو حنيفة: بل ["ضلّت مقاييسُك أنت"]

(2)

، ما تقول في أعمى شجّ، فشهد له شاهدان أن فلانًا شجَّه، هل [على الأعمى يمين أن شهوده شهدوا بالحق، وهو لا يرى؟ فانقطع ابن شبرمة]

(3)

".

وروى الخطيب أيضًا

(4)

، عن النضر بن محمد، قال: دخل قتادة "الكوفة"، ونزل في دار أبي بُردة، فخرج يومًا، وقد اجتمع إليه خلق كثير، فقال قتادة: والله الذي لا إله إلا هو، ما يسألني اليوم أحدٌ عن الحلال والحرام إلا أجبتُه. فقام إليه أبو حنيفة، فقال: يا أبا الخطَّاب، ما تقول في رجل غاب عن أهله أعوامًا، فظنتْ امرأتُه أن زوجَها ماتَ، فتزوجتْ، ثم رجعَ زوجُها الأول، ما تقول في صداقها؟

وقال لأصحابه الذين اجتمعوا إليه: لئن حدث بحديث ليكذبن، وإن قال برأي نفسه ليخطئنَّ.

فقال قتادة: وَيلك، أوَقَعَتْ هذه المسئلةُ؟ قال: لا.

قال: فلم تسألُني عما لم يقعْ؟ فقال أبو حنيفة: إنا نستعدُ للبَلاء قبلَ نزوله، فإذا وقع عرفنا الدخولَ فيه والخروج منه.

(1)

في تاريخ بغداد "مقاليد".

(2)

في تاريخ بغداد "ضلت مقاليد".

(3)

ساقط من تاريخ بغداد.

(4)

تاريخ بغداد 13: 348، 349.

ص: 272

قال قتادة: والله لا أحدّثكم بشيء من الحلال والحرام، سلوني عن التفسير.

فقام إليه أبو حنيفة، فقال له: يا أبا الخطَّاب: ما تقول في قول الله تعالى: {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} .

قال: نعم، هذا آصف بن برخيا بن شميعا، كاتب سليمان بن داود، وكان يعرف اسم الله الأعظم.

فقال أبو حنيفة: وهل كان يعرف الاسم سليمان؟

قال: لا.

قال: فيجوز أن يكون في زمان نبيٍّ من هو أعلم من النبي؟ قال: فقال قتادة: والله لا أحدّثكم بشئ من التفسير، سلوني عما اختلف فيه العلماء.

قال: فقام إليه أبو حنيفة، فقال: يا أبا الخطَّاب، أمؤمن أنت؟ قال: أرجو.

قال: ولم؟ قال: لقول إبراهيم عليه الصلاة والسلام

(1)

: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} .

فقال أبو حنيفة: فهلا قلتَ كما قال إبراهيم، عليه الصلاة والسلام

(2)

: {قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى} .

قال: فقام قتادة مُغضبًا، ودخل الدار، وحلف أن لا يحدّثهم.

وروى الخطيب أيضًا

(3)

، عن الفضل بن غانم، قال: كان أبو يوسف مريضًا شديد المرض، فَعاده أبو حنيفة مرارًا، فصار إليه آخر مرة، فرآه ثقيلًا،

(1)

سورة الشعراء 82.

(2)

سورة البقرة: 260.

(3)

تاريخ بغداد 13: 349، 350.

ص: 273

فاسترجع، ثم قال: لقد كنت أؤملك بعدي للمسلمين، ولئن أصيب الناس بك ليموتن علمٌ كثير.

ثم رزق العافية، وخرج من العلة، فأخبر أبو يوسف بقول أبي حنيفة فيه، فارتفعت نفسُه، وانصرفتْ وجوه الناس إليه، فعقد لنفسه مجلسًا في الفقه، وقصر عن لزوم مجلس أبى حنيفة، فسأل عنه، فأخبر أنه عقد لنفسه مجلسًا، وأنه بلغه كلامك فيه. فدعا رجلا كان له عنده قدر، فقال: صِرْ إلى مجلس يعقوب، فقل له: ما تقول في رجل دفع إلى قصَّار ثوبا ليقصره بدرهم

(1)

، فصار إليه بعد أيام في طلب الثوب.

فقال له القصَّار: ما لكَ عندي شئ، أنكره، ثم إن ربّ الثوب رجع إليه، فدفع إليه الثوب مقصورًا، أله أجره؟. فإن قال: له أجره، فقل: أخطأتَ، وإن قال: لا أجرَ له، فقل: أخطأتَ.

فصار إليه، فسأله، فقال أبو يوسف: له الأجرة.

فقال: أخطأتَ.

فنظر ساعة، ثم قال: لا أجرةَ له.

فقال: أخطأتَ.

فقام أبو يوسف من ساعته، فأتى أبا حنيفة، ققال له، ما جاء بك إلا مسئلة القصَّار.

قال: أجلْ.

فقال: سبحانَ الله، من قعد يُفتي الناس، وعقد مجلسًا يتكلّم في دين الله، وهذا قدره، لا يُحسن أن يجيب

(2)

في

(3)

مسئلة من الإجارات! فقال: يا أبا حنيفة! علّمني.

(1)

قصر الثوب: بيَّضه.

(2)

في بعض النسخ "يحسبه".

(3)

ساقط من بعض النسخ.

ص: 274

فقال: إن قصره بعدما غصبَه فلا أجرةَ له، لأنه قصر لنفسه، وإن كان قصره قبل أن يغصبه، فله الأجرة، لأنه قصره لصاحبه.

ثم قال: من ظنّ أن يستغني عن التعلّم فليبك على نفسه.

وحدّث الحسن بن زياد اللؤلؤي

(1)

، قال: كانتْ هنا امرأة يقال لها: أم عمران مجنونة، وكانتْ جالسة في الكناسة، فمرَّ بها رجل، فكلَّمها بشيء، فقالتْ له: يا ابن الزانيتين، وابن أبي ليلى حاضر، فسمع ذلك، فقال للرجل: أدخلها علي المسجد. وأقام عليها حدَّين، حدًّا لأبيه، وحدًّا لأمّه.

فبلغ ذلك أبا حنيفة، فقال: أخطأ فيها في ستة مواضع؛ أقام الحدَّ في المسجد، ولا تقام الحدود في المساجد، وضربها قائمة، والنساء يُضربن قعودًا، وضرب لأبيه حدًا، ولأمّه حدًا، ولو أن رجلًا قذف جماعة كان عليه حدٌّ واحد، وجمع بين الحدّين، ولا يجمع بين حدّين، حتى يخف

(2)

أحدهما، والمجنونة ليس عليها حدّ، وحدّ لأبويه، وهما غائبان، لم يحضرا، فيدعيان.

فبلغ ذلك ابنَ أبي ليلى، فدخلَ على الأمير، فشكا إليه أبا حنيفة، فحَجَرَ عليه، وقال: لا يُفتي.

فلم يُفت أياما، حتى قدم رسول من ولي العهد، فأمرَ أن يعرض على أبي حنيفة مسائل حتى يُفتي فيها، فأبى أبو حنيفة، وقال: أنا محجورٌ عليَّ.

فذهب الرسول إلى الأمير، فقال الأمير: قد أذنت له، فقعدَ، فأفتى.

‌ذكر ما نقل في حق الإمام:

قال الخطيب في "تاريخه"

(3)

: النعمان بن ثابت، أبو حنيفة التيمي، رأى أنس بن مالك، رضي الله عنه، وسمع عطاء بن أبي رباح، وأبا إسحاق

(1)

تاريخ بغداد 13: 351.

(2)

في بعض النسخ "يحف".

(3)

تاريخ بغداد 13: 323 - 324.

ص: 275

السبيعي، ومُحارب بن دِثار، وحمَّاد بن أبي سليمان، والهيثم بن حبيب الصرَّاف، وقيس بن مسلم، ومحمد بن المنكدر، ونافعًا مولى ابن عمر، وهشام بن عروة، ويزيد الفقير، وسماك بن حرب، وعلقمة بن مرثد، وعطية العوفي، وعبد العزيز بن رفيع، وعبد الكريم أبا أمية، وغيرهم.

وروى عنه أبو يحيى الحمَّاني، وهشيم بن بشير، وعبَّاد بن العوَّام، وعبد الله بن المبارك، ووكيع بن الجرَّاح، ويزيد بن هارون، وعلي بن عاصم، ويحيى بن نصر بن حاجب، وأبو يوسف القاضي، ومحمد بن الحسن الشيباني، وعمرو بن محمد العنقزي

(1)

، وهوذة بن خليفة، وأبو عبد الرحمن المقري، وعبد الرزَّاق بن همَّام، في آخرين لا يحصون.

وقال في "الجواهر"

(2)

، نقلًا عن "كتاب التعليم": إنه روى عن أبي حنيفة، ونقل مذهبه، نحو من أربعة آلاف نفر.

وقال أبو إسحاق الشيرازي

(3)

: كان في زمنه أربعة من الصحابة: أنس بن مالك، وعبد الله بن أبي أوفى

(4)

، وسهل بن سعد

(5)

، وأبو الطفيل

(6)

، ولم يأخذ عن أحدٍ منهم.

وكان أبو حنيفة ممن تلقّى عنه الحُفَّاظ، وعملوا بقوله في الجرح والتعديل، كتلقيهم عن الإمام أحمد، والبخاري، وابن مَعين، وابن المديني، وغيرهم من شيوخ الفن.

(1)

في الأصول "العبقري".

(2)

في الجواهر المضية 1: 5.

(3)

طبقات الفقهاء 86.

(4)

زاد في الطبقات: "الأنصاري".

(5)

زاد في الطبقات: "الساعدي".

(6)

زاد في الطبقات: "عامر بن واثلة".

ص: 276

وعن يحيى الحمَّاني، قال: سمعتُ أبا حنيفة، يقول: ما رأيتُ أكذب من جابر الجعفى، ولا أفضل من عطاء بن أبي رَبَاح.

وعن عبد الحميد الحمَّاني: سمعتُ أبا سعيد الصنعاني وقام إلى أبي حنيفة، فقال: يا أبا حنيفة، ما تقول في الأخذ عن الثوري؟

فقال: أكتبْ عنه، فإنه ثقة، ما خلا أحاديث أبي إسحاق عن الحريث، وحديث جابر الجعفى.

وقال أبو حنيفة: طلق بن حبيب كان يرى القدر.

وقال: زيد بن عيَّاش ضعيف.

وعن سفيان بن عُيينة، قال: أول من أقعدَني للحديث أبو حنيفة، قدمتُ "الكوفة"، فقال أبو حنيفة: إن هذا أعلم الناس بحديث عمرو بن دينار، فاجتمعوا عليَّ، فحدثتهم.

وقال أبو سليمان الجوزجاني: سمعتُ حمَّاد بن زيد، يقول: ما عرفنا كُنية عمرو بن دينار إلا بأبي حنيفة، كنا في المسجد الحرام، وأبو حنيفة مع عمرو بن دينار، فقلنا له: يا أبا حنيفة كلّمه يحدثنا، فقال: يا أبا محمَّد حدّثهم.

وقال أبو حنيفة: لعن الله عمرو بن عُبَيد، فإنه فتح للناس بابًا إلى علم الكلام.

وقال: قاتل الله جهمَ بنَ صفوان، ومقاتلَ بنَ سليمان، هذا أفرط في النفى، وهذا أفرط في التشبيه.

وعن أبي يوسف، قال: قال أبو حنيفة: لا ينبغى للرجل أن يحدّث من الحديث إلا بما حفظه من يوم سمعه إلى يوم يُحدّث به.

قال صاحب "الجواهر"

(1)

: ولكن أكثر الناس على خلاف هذا، ولهذا قلَّتْ روايةُ أبي حنيفة، لهذه العلة، لا لعلةٍ أخرى، زعمها المتحملون عليه.

(1)

الجواهر المضية 1: 62.

ص: 277

وسُئل يحيى بن مَعين، عن أبي حنيفة، فقال: هو ثقة، ما سمعتُ أحدًا ضعَّفه، هذا شعبة بن الحجَّاج يكتب إليه أن يحدّث بأمره، وشعبة شعبة!!.

وقيل له: يا أبا زكريا، أبو حنيفة كان يصدق في الحديث؟.

فقال: نعم، صدوق.

وأثنى عليه ابن المديني.

وكان شعبة حسن الرأي فيه، وشعبة أول من تكلّم في الرجال.

وقال ابن عبد البر

(1)

: الذين رَوَوْا عن أبي حنيفة، ووثَّقوه، وأثنَوْا عليه، أكثر من الذين تكلّموا فيه، والذين تكلّموا فيه من أهل الحديث أكثر ما عابوا عليه الإغراق في الرأي والقياس.

قال: وكان يُقال: يُستدل على نباهة الرجل من الماضين بتباين الناس فيه، قالوا: ألا ترى إلى علي بن أبي طالب، رضى الله تعالى عنه، أنه هلك فيه فَتَيان؛ مُحبّ أفرط، ومبغض أفرط.

وقد جاء الحديث: " [أنه يهلك فيه رجلان]

(2)

: محبّ مفطر، ومبغض مُفتر".

قال: وهذه صفة أهل النباهة، ومن بلغ في الفضل والدين والغاية.

(1)

جامع بيان العلم وفضله 2: 183، 184.

(2)

في الأصول "محب مضطر ومبغض مكثر"، والصواب من جامع بيان العلم وفضله.

ص: 278

‌الفصل الثالث في عبادته، وورعه، وثناء الناس عليه بذلك

عن يحيى بن مَعين

(1)

، أنه قال: سمعتُ يحيى القطَّان، يقول: جالسنا والله أبا حنيفة، وسمعنا منه، وكنتُ والله إذا نظرتُ إليه عرفتُ في وجهه أنه يتقي الله عز وجل.

وعن الحسن بن محمد الليثي

(2)

أنه كان يقول: قدِمتُ "الكوفة"، فسألتُ عن أعبد أهلها، فدفعتُ إلى أبي حنيفة، ثم قدمتُها وأنا شيخ، فسألتُ عن أفقه أهلها، فدفعتُ إلى أبي حنيفة.

وعن سُوَيد بن سعيد، قال: سمعتُ سفيانَ بنَ عُيينة، يقول: ما قدم رجل "مكة" في وقتنا أكثر صلاة من أبي حنيفة.

وقال أبو مطيع: كنتُ بـ "مكة"، فما دخلتُ الطواف في ساعة من ساعات الليل إلا رأيتُ أبا حنيفة وسفيان في الطواف.

وقال يحيى بن أيوب الزاهد: كان أبو حنيفة لا ينامُ الليلَ.

وقال أبو عاصم النبيل

(3)

: كان أبو حنيفة يُسمّى الوتد؛ لكثرة صلاته.

وعن أسد بن عمرو

(4)

، قال: صلى أبو حنيفة - فيما حُفظ عليه - صلاة الفجر بوضوء صلاة العشاء أربعين سنة، فكان عامة الليل يقرأ القرآن جميعه في ركعة واحدة، وكان يسمع بكاؤه بالليل، حتى يرحمه جيرانُه، وحفظ عليه أنه ختم القرآن في الموضع الذي توفي فيه سبعةَ آلاف مرة.

(1)

تاريخ بغداد 13: 352.

(2)

تاريخ بغداد 13: 353.

(3)

تاريخ بغداد 13: 354.

(4)

في تاريخ بغداد 13: 354 "عمر"، وهو خطأ.

ص: 279

وعن إسماعيل بن حمَّاد بن أبي حنيفة

(1)

، عن أبيه قال لما ماتَ أبي سألنا الحسن بن عُمارة أن يتولى غسله، ففعلَ، فلمَّا غسلَه، قال: رحمك الله، وغفر لك، لم تفطر منذ ثلاثين سنة، ولم تتوسَّدْ يمينُك بالليل أربعين سنة، وقد أتعبت من بعدك، وفضحت القرَّاء.

وعن أبي يوسف

(2)

، قال: بينا أنا أمشي مع أبي حنيفة، إذ سمع رجلا يقول لرجل: هذا أبو حنيفة، لا ينام الليل.

فقال أبو حنيفة: والله، لا يتحدّث عني بما لا أفعل.

فكان يُحيي الليلَ صلاةً، ودعاءً، وتضرعًا.

وعن ابن أبي معاذ

(3)

، عن مسعر بن كدام، قال: أتيتُ أبا حنيفة في مسجده، فرأيتُه يُصلي الغداةَ، ثم يجلس للناس في العلم، إلى أن يُصلي الظهرَ، ثم يجلس إلى العصر، فإذا صلى العصرَ جلسَ إلى المغرب، فإذا صلى المغربَ جلسَ إلى أن يصلي العشاءَ، فقلتُ في نفسي: هذا الرجل في هذا الشغل، متى يتفرغ للعبادة؟، لأتعاهدنَّه الليلةَ.

قال: فتعاهدتُه، فلمَّا هدأ الناس، خرج من المسجد، فانتصبَ للصلاة إلى أن طلع الفجر، ودخل منزلَه، ولبس ثيابَه، وخرج إلى المسجد، صلى الغداةَ، فجلس الناس إلى الظهر، ثم إلى العصر، ثم إلى المغرب، ثم إلى العشاء.

فقلتُ في نفسي: إن الرجل قد تنشط الليلةَ الماضيةَ للعبادة، لأتعاهدنَّه الليلةَ، فتعاهدتُه، فلما هدأ الناس خرج، فانتصبَ للصلاة، ففعل كفعله في الليلة الأولى، فلما أصبحَ خرجَ إلى الصلاة، وفعل كفعله في يوميه، حتى إذا صلى العشاءَ، قلتُ في نفسي: إن الرجلَ لينشط الليلةَ والليلةَ، لأتعاهدنَّه،

(1)

تاريخ بغداد 13: 354.

(2)

تاريخ بغداد 13: 355.

(3)

تاريخ بغداد 13: 356.

ص: 280

ففعل كفعله في ليلته، فلما أصبح جلس كذلك، فقلتُ في نفسي: لألزمنَّه إلى أن أموت أو يموت.

قال: فلازمتُه في مسجده.

قال ابن أبي معاذ: فبلغني أن مسعرًا ماتَ في مسجد أبي حنيفة في سجوده، رحمه الله تعالى.

وكان خارجة بن مصعب، يقول: ختم القرآن في الكعبة أربعة من الأئمة: عثمان بن عفَّان، وتميم الداري، وسعيد بن جُبَير، وأبو حنيفة، رضي الله تعالى عنهم.

وكان أبو حنيفة ربما ختم القرآنَ في شهر رمضان ستين ختمة

(1)

.

وحدّث أحمد بن يونس، قال: سمعتُ زائدةَ، يقول: صليتُ مع أبي حنيفة في مسجده عشاءَ الآخرة، وخرج الناس، ولم يعلم أني في المسجد، وأردتُ أن أسألَه عن مسئلة، من حيث لا يراني أحد، قال: فقام، فقرأ، وقد افتتح الصلاة، حتى إذا بلغ إلى هذه الآية

(2)

: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} ، فأقمتُ في المسجد أنتظر فراغَه، فلم يزلْ يرددُها حتى أذن الموذن لصلاة الفجر.

وروى عن يزيد بن الكميت

(3)

، وكان من خيار الناس، أنه كان يقول: كان أبو حنيفة شديدَ الخوف من الله تعالى، فقرأ بنا عليُّ بن الحسين المؤذّن ليلةً في العشاء الآخرة {إِذَا زُلْزِلَتِ} ، وأبو حنيفة خلفه، فلما قضى الصلاة، وخرج الناس، نظرتُ إلى أبي حنيفة وهو جالس يُفكر، ويتنفّس، فقلتُ: أقوم، لا يشتغل قلبه.

(1)

هذا الخبر في تاريخ بغداد 13: 357.

(2)

سورة الطور 27.

(3)

تاريخ بغداد 13: 357.

ص: 281

فلما خرجتُ تركتُ القنديل، ولم يكن إلا زيت قليل، فجئتُ وقد طلع الفجر، وهو قائم، قد أخذ بلحية نفسه، وهو يقول:"يا من يجزي بمثقال ذرة خيرًا خيرًا، ويا من يجزي بمثقال ذرة شرًا شرًا، أجر النعمان عبدَك من النار، وما يقرب منها من السوء، وأدخله في سعة رحمتك". قال: فأذنت، فإذا القنديل يزهو وهو قائم، فلما دخلتُ، قال لي: تريد أن تأخذ القنديل؟ قال: قلتُ: قد أذنت لصلاة الغداة.

قال: اكتمْ على ما رأيتَ.

وركع ركعتي الفجر، وجلسَ حتى أقمتُ الصلاة، وصلَّى معنا الغداةَ على وضوء أول الليل. انتهى.

وقام

(1)

رضى الله تعالى عنه ليلة بهذه الآية

(2)

: {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} يردّدها، ويبكي، ويتضرّع.

وكان رحمه الله تعالى - كما قال ابن المبارك - أورع أهل "الكوفة".

وروي

(3)

أنه كان شريكًا لحفص بن عبد الرحمن، وكان أبو حنيفة يُجهز إليه الأمتعة، وهو يبيع، فبعث إليه في رقعة بمتاع، وأعلمه أن في ثوب كذا وكذا عيبًا، فإذا بعته، فبين. فباع حفص المتاع، ونسي أن يبين، ولم يعلمْ ممن باعه، فلما علم أبو حنيفة تصدق بثمن المتاع كله.

وروي أيضًا

(4)

، عن أبي عبد الرحمن المسعودي، عن أبيه، قال: ما رأيتُ أحسنَ أمانة من أبي حنيفة، ماتَ يوم مات، وعنده ودائع بخمسين ألفًا، ما ضاع منها ولا درهم واحد.

(1)

هذا الخبر أيضا في تاريخ بغداد 13: 357 عن القاسم بن معين.

(2)

سورة القمر 46.

(3)

تاريخ بغداد 13: 358.

(4)

تاريخ بغداد 13: 359.

ص: 282

ونقل أن أبا جعفر المنصور أجازه بثلاثين ألف درهم في دفعات، فقال: يا أمير المؤمنين، إني بـ "بغداد" غريب، وعندي للناس ودائع، وليس لها عندي موضع، فاجعلْها في بيت المال.

فأجابه المنصور إلى ذلك، فدفع إليه الثلاثين ألفًا، ووضعها في بيت المال، فلما مات أبو حنيفة أخرجتْ ودائعُ الناس من بيته.

فقال المنصور: خدعنا أبو حنيفة.

وكان

(1)

رحمه الله تعالى، قد جعل على نفسه أن لا يحلف بالله في عرض كلامه إلا تصدق بدرهم، فحلف فتصدَّق به، ثم جعل على نفسه إن حلف أن يتصدَّق بدينار، فكان إذا حلف صادقًا في عرض كلامه تصدَّق بدينار. وكان إذا أنفقَ على عياله نفقة تصدَّق بمثلها، وإذا اكتسَى ثوبًا جديدًا أكسَى بقدر ثمنه الشيوخ العلماء.

وكان إذا وضع بين يديه الطعام أخذَ منه، فوضعَه على الخبز، حتى يأخذ منه بقدر ضعف ما كان يأكل، ثم يعطيه لإنسان فقير، فإن كان في الدار من عياله إنسان يحتاج إليه، دفعه إليه، وإلا أعطاه مسكينًا.

وقال وكيع

(2)

: كان والله، أبو حنيفة عظيم الأمانة، وكان الله في قلبه جليلًا كبيرًا عظيمًا، وكان يوثر رضاء ربه على كل شيء، ولو أخذته السيوف في الله لاحتمل، رحمه الله تعالى، ورضى عنه رضى الأبرار، فلقد كان منهم.

وقال ابن المبارك

(3)

: ما رأيتُ أحدًا أورعَ من أبي حنيفة، وقد

(4)

جرب بالسياط والأموال.

(1)

تاريخ بغداد 13: 358.

(2)

تاريخ بغداد 13: 358.

(3)

تاريخ بغداد 13: 359.

(4)

ساقط من بعض النسخ.

ص: 283

‌بيان ما روى وصح عن أبي حنيفة من إرادتهم إياه على القضاء: وامتناعه من قبوله، وضربهم إياه بالسياط على ذلك:

روى الخطيب

(1)

بسنده، أن ابن هُبَيرة

(2)

كلم أبا حنيفة أن يلي قضاء "الكوفة"، فأبى عليه، فضربه مائة سوط وعشرة أسواط، وهو على الامتناع، فلما رأى ذلك خلى سبيله، وكان ابن هُبَيرة إذ ذاك عامل مروان على "العراق"، في زمان بني أمية.

وروى الخطيب أيضًا

(3)

، أنه كان يخرجه كل يوم، أو بين الأيام، فيضرب، ليدخل في القضاء، فيأبى.

ولقد بكى في بعض الأيام، فلما أطلق، قال: كان غم والدتي أشدّ عليَّ من الضرب.

وكان أحمد بن حنبل إذا ذكر له ذلك بكى، وترحم عليه، خصوصًا بعد أن ضرب هو أيضًا.

وروى عن إسماعيل بن حمَّاد بن أبي حنيفة، أنه قال: مررتُ مع أبي بالكناسة

(4)

، فبكى، فقلتُ: ما يبكيك يا أبت؟ قال: يا بنى، في هذا الموضع ضَرَبَ ابنُ هُبيرة أبي عشرة أيام، في كل يوم عشرة أسواط، على أن يلي القضاءَ، فلم يفعلْ.

وروى الخطيب

(5)

بسنده، عن بشر بن الوليد الكندي، قال: أشخص أبو جعفر المنصور أبا حنيفة من "الكوفة"، فأراده على أن يولّيه القضاءَ،

(1)

تاريخ بغداد 13: 326.

(2)

يعني أبا خالد يزيد بن عمر بن هبيرة.

(3)

تاريخ بغداد 13: 327.

(4)

الكناسة القمامة، وموضعها، وهي محلة بالكوفة.

(5)

تاريخ بغداد 13: 327، 328.

ص: 284

فأبى، فحلف عليه ليفعلن، فحلف أبو حنيفة أن لا يفعل

(1)

، فحلف المنصور ليفعلن، فحلفَ أبو حنيفة أن لا يفعل، فقال الربيع الحاجب: ألا ترى أمير المؤمنين يحلف.

فقال أبو حنيفة: أمير المؤمنين على كفَّارة أيمانه أقدر مني على كفارة أيماني.

فأبى أن يلي، فأمرَ به إلى الحبس في الوقت.

وروي

(2)

أن أبا جعفر المنصور بعد أن حبسَه دعاه يومًا، وقال له: أترغبُ عن ما نحن فيه؟ فقال: أصلح الله أمير المؤمنين، لا أصلح للقضاء.

فقال له: كذبتَ.

ثم عرض عليه الثانيةَ، فقال أبو حنيفة: قد حكم عليَّ أمير المؤمنين أني لا أصلح للقضاء، لأنه نسبني إلى الكذب، فإن كنتُ كاذبًا فلا أصلحُ، وإن كنتُ صادقًا فقد أخبرت أمير المؤمنين أني لا أصلح.

فلم يقبلْ منه، وردَّه إلى الحبس، فأقامَ به إلى أن ماتَ فيه، على الصحيح من الروايات.

وحدّث عباس الدوري

(3)

، قال: حدّثونا عن المنصور، أنه لما بنى مدينته، ونزلها، ونزل المهدي في الجانب الشرقي، وبنى مسجد الرصافة، أرسلَ إلى أبي حنيفة، فجيء به، فعرض عليه قضاءَ الرصافة، فأبى، فقالَ: إن لم تفعلْ ضربتُك بالسياط.

قال: أوَ تفعل؟! قال: نعم.

(1)

سقط من بعض النسخ.

(2)

تاريخ بغداد 13: 328.

(3)

في الأصول "الدورقي"، وهو خطأ.

ص: 285

فقَعَدَ في القضاء يومين، فلم يأته أحد، فلمَّا كان في الثالث أتاه رجل صفَّار، ومعه آخر، فقال الصفَّار: لي على هذا درهمان وأربعة دوانيق، ثمن تور

(1)

صفر.

فقال أبو حنيفة: اتق الله، وانظرْ فيما يقول الصفَّار.

قال: ليس على شئ، فقال أبو حنيفة للصفَّار: ما تقول؟

قال: استحلفْه.

فقال أبو حنيفة للرجل: قُل والله الذي لا إله إلا هو، فجعل يقول، فلمَّا رآه أبو حنيفة عازمًا على أن يحلف، قطع عليه، وضرب بيده إلى كمِّه، فحلَّ صرّة، وأخرج درهمين ثقيلين، فقال للصفَّار: هذان عوض من باقي تورك.

فنظر الصفَّار إليهما، وقال: نعم، فأخذ الدرهمين.

فلما كان بعد يومين، اشتكى أبو حنيفة، فمرض ستة أيام، ثم مات، رحمه الله تعالى، ورضى عنه.

قال عبَّاس: وهذا قبره في مقابر "الخيزران" إذا دخلت من باب القطانين يسرة، بعد قبرين أو ثلاثة.

وقيل

(2)

: إن المنصور أقدمه "بغداد" لأمرٍ آخر غير القضاء.

وقيل

(3)

: إنه أقام بعد قدومه إلى "بغداد" خمسة عشر يومًا، ثم سقاه المنصور، فمات، رحمه الله تعالى، ورضي الله عنه، وذلك في سنة خمسين ومائة، وله من العمر سبعون سنة.

(1)

التور إناء يشرب فيه.

(2)

تاريخ بغداد 13: 329.

(3)

تاريخ بغداد 13: 329، 330.

ص: 286

‌جود أبي حنيفة، وسماحه، وحُسن عهده:

عن قيس بن الربيع

(1)

، قال: كان أبو حنيفة رجلًا ورعًا فقيهًا محسودًا، وكان كثير الصلة والبر لكل من لجأ إليه، كثير الإفضال على إخوانه.

وقال أيضًا: كان أبو حنيفة من عقلاء الرجال، وكان يبعث بالبضائع إلى "بغداد"، يشتري

(2)

بها الأمتعة، ويحملها إلى "الكوفة"، ويجمع الأرباح عنده من سنة إلى سنة، فيشتري بها حوائجَ الأشياخ المحدثين وأقواتهم، وكسوتهم، وجميع حوائجهم، ثم يدفع باقي الدنانير من الأرباح إليهم، فيقول: أنفقوا في حوائجكم، ولا تحمدوا إلا الله؟ فإني ما أعطيتكم من مالي شيئا، ولكن من فضل الله عليَّ فيكم، وهذه أرباح بضاعتكم؛ فإنه هو والله مما يجريه الله لكم على يدي، فما في رزق الله حول لغيره.

وحدث حجر بن عبد الجبَّار، قال: ما أرى الناس أكرم مجالسة من أبي حنيفة، ولا أكثر إكرامًا لأصحابه.

وقال حفص بن حمزة القرشي: كان أبو حنيفة ربما مرَّ به الرجل، فيجلس إليه لغير قصد ولا مجالسة، فإذا قام سأل عنه، فإن كانت به فاقة وصله، وإن مرض عاده.

وكان أكرم الناس مجالسة.

وروي

(3)

أنه رأى على بعض جُلسائه ثيابًا رثة، فأمره، فجلس، حتى تفرق الناس، وبقي وحده، فقال له: ارفع المصلى، وخذْ ما تحته.

فرفع الرجل المصلى، وكان تحته ألف درهم، فقال له: خذْ هذه الدراهم فغير بها من حالك.

(1)

تاريخ بغداد 13: 360.

(2)

في تاريخ بغداد "فيشتري".

(3)

تاريخ بغداد 13: 361.

ص: 287

فقال الرجل إني موسر، وأنا في نعمة، ولستُ أحتاج إليها.

فقال له: أما بلغك الحديث: "إن الله يحبّ أن يرى أثر نعمته على عبده"، فينبغي لك أن تغير حالك، حتى لا يغتم صديقك.

وروي

(1)

أن امرأة جاءتْ إلى أبي حنيفة تطلب منه ثوب خز، فأخرج لها ثوبًا، فقالت له: إني امرأة ضعيفة، وإنها أمانة، فبعني هذا الثوب بما يقوم عليك.

فقال: خُذيه بأربعة دراهم.

فقالتْ: لا تسخر بي، وأنا امرأة عجوز كبيرة.

فقال: إني اشتريتُ ثوبين، فبعتُ أحدهما برأس المال إلا أربعة دراهم، فبقى هذا يقوم عليَّ بأربعة دراهم.

وجاء إليه يوما رجل، فقال: يا أبا حنيفة، قد احتجت إلى ثوب خز.

فقال: ما لونه؟ قال: كذا، وكذا.

فقال له: اصبرْ حتى يقع، وآخذه لك، إن شاءَ الله تعالى.

فما دارت الجمعة حتى وقع، فمرَّ به الرجل، فقال: قد وقعت حاجتُك، وأخرج إليه الثوب، فأعجبَه، فقال: يا أبا حنيفة، كم أزن؟ قال: درهمًا.

فقال الرجل: يا أبا حنيفة ما كنت أظنّك تهزأ.

قال: ما هزأتُ، إني اشتريتُ ثوبين بعشرين دينارًا ودرهم، وإني بعتُ أحدهما بعشرين دينارًا، وبقى هذا بدرهم، وما كنت لأربح على صديق.

ومن المشهور عن مروءته، ووفائه ورعايته حق الجوار، ما روي أنه كان له جار بـ "الكوفة" إسكاف، يعمل نهاره أجمع، حتى إذا جنَّه الليل رجع إلى منزله، وقد حمل معه لحمًا، فطبخه أو سمكة، فشواها، ثم لا يزال يشرب، حتى

(1)

تاريخ بغداد 13: 361.

ص: 288

إذا دب الشراب فيه غنى بصوت، وهو يقول

(1)

:

أضاعوني وأي فتًى أضاعُوا

ليَوم كريهةٍ وسدَادِ ثَغْرِ.

فلا يزال يشرب، ويردّد هذا البيت، حتى يأخذه النوم.

وكان أبو حنيفة يصلي الليل كله، ففقد صوته، فسأل عنه، فقيل: أخذه العسس منذ ليال، وهو محبوس.

فصلى أبو حنيفة صلاة الفجر من غد، وكب بغلة، واستأذن على الأمير، فقال: ائذنوا له، وأقبلوا به راكبا، ولا تدعوه ينزل حتى يطأ البساط.

ففعل، فلم يزل الأمير يوسع في مجلسه، وقال: ما حاجتك؟

قال: لي جار إسكاف، أخذه العسس منذ ليال، ويأمر الأمير بتخليته.

فقال: نعم، كل من أخذ في تلك الليلة إلى يومنا هذا، فأمر بتخليتهم أجمعين.

فركب أبو حنيفة، والإسكاف يمشى وراءه، فلمَّا نزل أبو حنيفة مضى إليه، فقال: يا فتى، هل أضعناك؟ فقال: لا، بل حفظت ورعيت، جزاك الله خيرًا عن حرمة الجوار، ورعايته

(2)

.

وتاب الرجل، ولم يعدْ إلى ما كان عليه، ببركة الإمام، رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وجعل الجنة مُتقلبه ومثواه، ونفعنا ببركاته، وبركات علومه في الدنيا والآخرة.

(1)

البيت للعرجي، وهو في الأغاني.

(2)

في تاريخ بغداد "ورعاية الحق".

ص: 289

‌الفصل الرابع في ما كان عليه أبو حنيفة من وفور العقل، والفِطنة، والذكاء المفرط، والتلطف في الجواب، وبره لوالديه:

روى الخطيبُ

(1)

بسنده، عن يحيى بن نصر، قال: كان أبو حنيفة يفضل أبا بكر وعمر، ويحبّ عليًا وعثمان، وكان يؤمن بالأقدار، ولا يتكلّم في القدر، وكان يمسح على الخفّين، وكان من أعلم الناس في زمانه وأتقاهم.

وعن أبي يوسف، عن أبي حنيفة، أنه قال: من قال: القرآن مخلوق فهو مبتدع، فلا يقولنَّ أحدٌ بقوله، ولا يصلينَّ أحدٌ خلفه.

وروي

(2)

أن ابن المبارك قدم على أبى حنيفة، فقال له أبو حنيفة: ما هذا الذي دبَّ فيكم؟ قال له: رجل يقال له: جهم.

قال: وما يقول؟ قال: يقول القرآن مخلوق.

فقال أبو حنيفة: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا}

(3)

.

وكان معلّى بن منصور الرازي، يقول: ما تكلّم أبو حنيفة، ولا أبو يوسف، ولا زفر، ولا محمد، ولا أحد من أصحابهم في القرآن، وإنما تكلم بشر المريسي، وابن أبي داود.

وعن ابن المبارك

(4)

: قلتُ لسفيان الثوري، يا أبا عبد الله، ما أبعد أبا حنيفة من الغيبة، وما سمعتُه يغتاب عدوا له قط.

قال: هو والله أعقل من أن يسلط على حسناته ما يذهب بها.

(1)

تاريخ بغداد 13: 383.

(2)

تاريخ بغداد 13: 377، 178.

(3)

سورة الكهف 5.

(4)

تاريخ بغداد 13: 363.

ص: 290

وكان عليُّ بن عاصم، يقول: لو وزن عقل أبي حنيفة بعقل نصف أقل الأرض لرجح بهم.

وقال خارجة بن مصعب: لقيتُ ألفًا من العلماء، فوجدتُ العاقل فيهم أربعة، فذكر أبا حنيفة في الثلاثة أو الأربعة.

وقال أيضًا: من لا يرى المسح على الخفَّين، أو يقع في أبي حنيفة، فهو ناقص العقل.

وكان يزيد بن هارون

(1)

يقول: رأيتُ

(2)

الناس فما رأيتُ أحدا أعقل ولا أفضل ولا أورع من أبي حنيفة.

وروى الخطيب في "تاريخه"، أنه كان بـ "الكوفة" رجل يقول: عُثمان بن عفَّان كان يهوديًا.

فأتاه أبو حنيفة، قال: أتيتُك خاطبًا لابنتك.

قال: لمن؟

قال: لرجل شريف، غني من المال، حافظ لكتاب الله، سخي، يقوم في الليل في ركعة، كثير البكاء من خوف الله.

قال: في دون هذا مقنع يا أبا حنيفة.

قال: إلا أن فيه خصلة.

قال: وما هي؟ قال: يهودي.

قال: سُبحان الله، تأمرني أن أزوّج ابنتي من يهودي.

قال: لا تفعل؟ قال: لا.

قال: فالنبي صلى الله عليه وسلم زوَّج ابنتَه من يهودي!.

قال: أستغفر الله، فإني تائب إلى الله.

(1)

تاريخ بغداد 13: 364.

(2)

في تاريخ بغداد "أدركت".

ص: 291

وروى الخطيب أيضًا

(1)

، بسنده، عن إسماعيل بن حمَّاد بن أبي حنيفة، قال: كان لنا جار طحَّان رافضي، وكان له بغلان؛ أحدهما أبو بكر، والآخر عمر، فرمحه ذات ليلة أحدهما، فقتله، فأخبرَ أبو حنيفة، فقال: انظروا البغلَ الذي رمحه، هو الذي سماه عمر، فنظروا، فكان كذلك.

وقال ابن المبارك: رأيتُ أبا حنيفة في طريق "مكة"، وقد شوى لهم فصيل سمين، فاشتهوا أن يأكلوه بخل، فلم يجدوا شيئًا يصبّون فيه الخلَّ، فتحيَّروا، فرأيتُ أبا حنيفة قد حفر في الرمل حفرة، وبسط عليها السفرة، وسكب الخلَّ على ذلك الموضع، فأكلوا الشواءَ بالخلّ، فقالوا له: تحسن كل شيء!!.

قال: عليكم بالشكر، هذا شيء ألهمته فضلًا من الله عليكم.

وعن أبي يوسف

(2)

، قال: دعا المنصور أبا حنيفة، فقال الربيع حاجب المنصور، وكان يُعادي أبا حنيفة: يا أمير المؤمنين، هذا أبو حنيفة يُخالف جدَّك، كان عبد الله بن عبَّاس يقول: إذا حلف اليمين استثنى ذلك بيوم أو يومين جاز الاستثناء، وقال أبو حنيفة: لا يجوز الاستثناء، إلا متصلًا باليمين.

فقال أبو حنيفة: يا أمير المؤمنين، إن الربيع يزعم أنه ليس لك في رقاب جُندك بيعة.

قال: كيف؟ قال: يحلفون لكم، ثم يرجعون إلى منازلهم، فيستثنون، فتبطل أيمانُهم.

قال: فضحك المنصور، وقال: يا ربيع، لا تعرض لأبي حنيفة.

(1)

تاريخ بغداد 13: 364.

(2)

تاريخ بغداد 13: 365.

ص: 292

فلما خرج أبو حنيفة، قال: أردتُ أن تشيط بدمي؟ قال لا، ولكنك أردتَ أن تشيط بدمي، فخلصتك، وخلصت نفسي.

وكان أبو العبَّاس الطوسي

(1)

سيئ الرأي في أبي حنيفة، وكان أبو حنيفة يعرف ذلك، فدخل أبو حنيفة على أبي جعفر المنصور يومًا، وكثر الناس عنده، فقال الطوسي: اليوم أقتل أبا حنيفة.

فأقبل عليه، فقال: يا أبا حنيفة، إن أمير المؤمنين يدعو الرجل منا، فيأمره بضرب عنق الرجل، لا يدري ما هو، أيسعه أن يضرب؟ فقال: يا أبا العبَّاس، أمير المؤمنين يأمر بالحق أو بالباطل؟ قال: بالحق.

قال: أنفذ الحق حيث كان، ولا تسئل عنه.

ثم قال أبو حنيفة لمن قرب منه: إن هذا أراد أن يوثقني، فربطته.

وكان أبو حنيفة، رحمه الله، كثير البر بوالدته، والقيام بواجب حقّها، وإدخال السرور عليها، وعدم المخالفة لها.

حدّث حجر بن عبد الجبّار الحضرمي

(2)

، رحمه الله تعالى، قال: كان في مسجدنا قاص، يُقال له: زرعة، ينسب مسجدنا إليه، وهو مسجد الحضرميين، فأرادتْ أمُّ أبي حنيفة أن تستفتي في شيء، فأفتاها أبو حنيفة، فلم تقبلْ، وقالتْ: ما أقبل إلا ما يقوله زرعة القاص.

فجاء بها أبو حنيفة إلى زرعة، فقال: هذه أمّي، تستفتيك في كذا وكذا.

فقال: أنت أعلم مني وأفقه، فأفتها أنت.

فقال أبو حنيفة: قد أفتيتُها بكذا وكذا.

فقال زرعة: القول كما قال أبو حنيفة.

(1)

تاريخ بغداد 13: 365، 366.

(2)

تاريخ بغداد 13: 366.

ص: 293

فرضيتْ، وانصرفت.

وفي رواية أن زرعة قال لها: أفتيك ومعك فقيه "الكوفة"! فقال أبو حنيفة: أفتها بكذا وكذا، فأفتاها، فرضيتْ.

وفي برّه بوالديه وتعظيمه لشيخه حمَّاد يقول بعضهم

(1)

:

نُعمَانُ كان أبرَّ الناسِ كُلِّهمُ

بوَالدَيْه وبالأُسْتاذ حَمَّادِ

مَا مَدَّ رِجْليْهِ يومًا نحْو منزلِه

ودُونَه سِكَكٌ سَبْعٌ كأطْوَادِ

روي أن أبا حنيفة قال: ما مددتُ رجليَّ نحو دار أستاذي حمّاد؛ إجلالًا له، وكان بين داره وداره سبع سِكك.

وعن ابن المبارك، أنه قال: رأيتُ الحسن بن عمَّار آخذًا بركاب أبي حنيفة، وهو يقول: والله ما أدركتُ أحدًا تكلم في الفقه أبلغ، ولا أصبر، ولا أحضر جوابًا منك، وإنك لسيّد من تكلّم في وقتك غير مدافع، ولا يتكلّمون فيك إلا حسدًا.

وكان ابن داود يقول: الناس في أبي حنيفة حاسد، وجاهل، وأحسنهم عندى حالًا الجاهل.

وحدّث سفيان بن وكيع، قال: سمعتُ أبى يقول: دخلتُ على أبى حنيفة، فرأيتُه مُطرقًا مُفكرًا، فقال لي: من أين أقبلت؟ قلت: أقبلتُ من عند شريك.

فرفع رأسه، وأنشأ يقول

(2)

:

إن يَحسُدُودني فإنِّي غيرُ لائِمِهمْ

قَبْلي مِن الناس أهْلُ الفضْلِ قد حُسِدوا

فدَامَ لي ولهم مَا بِي وما بِهِمُ

ومَات أكثرُنا غَيظًا بما يَجِدُ

قال: وأظنه كان بلغه عنه شيء.

(1)

قائل هذين البيتين هو الموفق المكي صاحب المناقب.

(2)

هذان البيتان في المختار من شعر بشار.

ص: 294

وذكر لمحمد بن الحسن ما يجري الناس من الحسد لأبي حنيفة، فقال:

مُحَسَّدُون وشَرُّ الناسِ مَنْزِلَةً

مَن عاش في الناسِ يَوْمًا غيرَ مَحسودِ

(1)

‌الفصل الخامس في بعض اعتراضات الحُسَّاد

قال قاضي القضاة ابن خلكان في "وفيات الأعيان"

(2)

، بعد أن ذكر طرفًا صالحًا من مناقب الإمام رضي الله تعالى عنه: ومناقبه وفضائله كثيرة، وقد ذكر الخطيب في "تاريخه" منها شيئًا كثيرًا، ثم أعقب ذلك بذكر ما كان الأليق تركه والإضراب عنه، فمثل هذا الإمام لا يشكّ في دينه، ولا في ورعه وتحفظه، ولم يكن يُعاب بشيء سوى قلة العربية.

فمن ذلك ما روى أن أبا عمرو بن العلاء سأله عن القتل بالمثقل هل يستوجب القود أم لا؟ فقال: لا، كما هو قاعدة مذهبه، خِلافًا للإمام الشافعي.

فقال له أبو عمرو: ولو قتله بحجر المنجنيق؟.

فقال: ولو قتله بأبا قُبَيْس.

يعني الجبل المطل على "مكة"، حرسها الله تعالى.

قال: وقد اعتذروا عن أبي حنيفة بأنه قال ذلك على لغة من يقول: إن الكلمات الست المعربة بالحروف "أبُوهُ، وأخوه، وحموه، وهنوه، وفوه، وذو مال" إن إعرابها يكون في الأحوال بالألف، وأنشدوا على ذلك

(3)

:

إنَّ أباهَا وأبا أباهَا

قد بَلغا في المجْد غَايتاهَا

(1)

صدر البيت في المناقب.

(2)

وفيات الأعيان 5: 413.

(3)

هو لأبي النجم فضل بن قدامة العجلي.

ص: 295

وهي لغة الكوفيين، وأبو حنيفة من أهل "الكوفة"، فهي لغته. انتهى كلام ابن خلكان.

قلت: وهو مع ما اشتمل عليه من الصواب في الجواب لا يخلو من شائبة التعصب، حيث جزم بأن الإمام رضي الله تعالى عنه كان قليل العربية، بمجرّد كلمة صدرتْ منه على لغة أهل بلده، واستعملها غير واحد ممن يحتج بقوله في شعره، والحال أنه لم ينقل عن أحد من أهل اللغة وحملة العربية، أنه قال: إن كل من تكلَّم بكلمة غير فصيحة في عرض كلامه، على لغة أهل بلده، وهي غير شاذة، ولم يدونها في كتاب من كتبه، يكون لحَّانًا قليل العربية، هذا الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، مع كونه ممن يحتج بقوله في اللغة، قال في بعض تآليفه:"ماء عذب أو مالح"، فقال:"مالح"، ولم يقل:"مِلح"، وهي لغة شاذة، أنكرها أكثر أهل اللغة، ولم يقل أحدٌ في حقّه بسبب ذلك: إنه كان قليل العربية واللغة، ولكن جرى الأمر في ذلك على قول الشاعر

(1)

:

وعَينُ الرِّضَا عن كُلِّ عَيْبٍ كَلِيلةٌ

كما أنَّ عَينَ السُّخْطِ تُبْدِي المسَاويَا

وقد ذكر بعض من صنَّف في مناقب الإمام الأعظم، في حق الإمام الشافعي مِن مثل هذه المؤاخذات شيئًا كثيرًا، أضربنا عن ذكره، لعدم الفائدة، ولأن الأليق بكل إنسان أن يكُفَّ لِسانه عن التكلّم في حقّ مثل هولاء الأئمة، الذين اتفق الناس على علمهم، وصلاحهم، وعلوّ مقامهم، إلا بخير، فإنه قلما أطلق أحد لسانه في حق السلف، إلا وعُجلت له النكبة في الدنيا قبل الآخرة، عَصمنا الله من ذلك بمنّه وكرمه.

(1)

هذا البيت لعبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر.

ص: 296

‌بعض التشنيعات في حق الإمام:

ومن جملة التشنيعات في حق الإمام، رضي الله تعالى عنه، قول بعض الحُسَّاد: إنه كان قليل الرواية، وليس له إحاطة بكثير من الأحاديث والآثار، كغيره من مُجتهدي عصره، ومن تأخَّر بقليل عنهم.

والجواب عن ذلك هو المنع؛ بدليل أن أبا حنيفة، رضى الله تعالى عنه، كان أكثر الناس تفريعًا للأحكام، ووضعًا للمسائل، وكثرة الفروع تدلّ على كثرة الأصول، وصحتها على صحتها، وقد سلموا أن أبا حنيفة أقوى في القياس من غيره، وأعرف به من سواه، وإنما يُقاس على الكتاب والأثر، كثرة قياسه في المسائل تدلُّ على كثرة اطلاعه على الأثار، كثرة إحاطته بها.

وإنما قلَّت الرواية عنه لما ذكرناه سابقًا، من كونه كان يشترط في جواز الرواية حفظ الراوي لما يرويه من يوم سمعه إلى يوم يُحدث به، ولأنه صاحب مذهب، نصب نفسه لتدوين الفقه، وإثبات الأحكام، وتفقيه الناس وإفتائهم، وهذا لا يدل على أن ما كان يرويه عن غيره، عن النبي صلى الله عليه وسلم كان قليلًا؛ لأن صاحب المقالة والمذهب، إذا أنهى إليه الخبر، أخذ حكمه المشتمل عليه، فدوَّنه، وأثبته عنده، وجعله أصلًا ليقيس عليه نظائره؛ فمرة يفتي بحكمه، ولا يروى الخبر، فيخرجه على وجه الفتوى، فيقف لفظ الخبر، وينقطع عنده، وكذا فعل أكثر فقهاء الصحابة، كالخلفاء الأربعة، وعبد الله بن مسعود، وزيد، ويخرجها، من فقهاء الصحابة، رضي الله عنهم.

ويدلك على هذا، أن الخلفاء الأربعة صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من مبعثه إلى وفاته، وكانوا لا يكادون يُفارقونه في سفر ولا حضر، وكذلك عبد الله بن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وعمَّار بن ياسر؛ وأبو هريرة أكثر رواية منهم، وإنما صحب النبي صلى الله عليه وسلم أكثر مما سمع هؤلاء،

ص: 297

أو شاهد أكثر مما شاهد هؤلاء!!، وقد روى الناس عنه أكثر مما رَوَوْا عنهم!! وإنما كان كذلك؛ لأن الخلفاء الراشدين، رضي الله عنهم، كانوا فقهاء الصحابة، وكانوا أصحابَ مقالات ومذاهب، وكذلك عبد الله بن مسعود، وكانوا يفتون بكل علم صدر عن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عن فعله، فيخرجونه على وجه الفتوى، ولا يروونه، وربما رواه البعض منهم عند احتياجه إلى الاحتجاج به على غيره ممن خالفه من نظرائه.

وهذا هو المعنى في قلة رواية ذي المقالة والمذهب عن النبي صلى الله عليه وسلم للناس، وقلة روايتهم عنه.

وأما هو فقد سمع من الأخبار، وجمع ما لم يحط به غيره؛ فإن الأخبار منها ناسخ ومنسوخ، ومثبت وناف، وحاظر ومبيح، ونحو ذلك، فإذا ورد جميع ذلك إلى صاحب المقالة نظر فيها، وأخذ بالناسخ منها، وهو المتأخّر، فإن لم يعلم بالمتأخّر، أخذ بأرجحهما عنده، وترك الآخر، فإذا أخذ المتأخّر أو ما رجح عنده، فربما رواه، وربما أفتى بحكمه، ولم يروه، وأسقط ما نافاه، ولم يلتفتْ إليه، وأصحاب الحديث يروون الجميع؛ فلهذا قلَّت رواية الخلفاء الأربعة، ومن بعدهم من الفقهاء.

وقد يرد أيضًا الخبر من طرق كثيرة، فيقتصر صاحب المذهب منه على أصحّ الطرق، فيرويه منها، وريما أفتى بحكمه، ولم يروه، وأصحاب الحديث يروونه من جميع طرقه، فلهذا قلّت الروايةُ عن الفقهاء أولي المقالات.

قال أبو بكر عتيق بن داود اليماني: فإن قال قائل: قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "بلّغوا عني ولو آية"، وقال عليه الصلاة والسلام:"نضر الله امرءًا سمع مقالتي، فوَعَاها، ثم أدَّاها إلى مَنْ لم يسمعها، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه". قيل له: إذا أفتى بما قال النبي صلى الله عليه وسلم، أو بما فعل، فقد بلغ أشدّ التبليغ؛ لأن صاحب المقالة والمذهب،

ص: 298

يلزمه أن لا يروي جميع الأخبار المتنافية، لأن ذلك يؤدي إلى تحير من يستفتي، ولا يحصل له التخلّص مما نزل به من الحادثة، فإذا أفتاه بالصحيح عنده، أو رَوَاه، حصلتْ للمُستفتي الفائدة، وفي هذا كفاية لكل ذي بصر.

فهذا يدل على أن قلّة الرواية عنه لا تدلّ على قلّة ما نقله من الأخبار والآثار، عن النبي صلى الله عليه وسلم. انتهى.

هذا، ولئن سُلّم ما زعمه المشنّع من قلة الرواية، فجوابه أنا نقول: قال أبو عمر بن عبد البر

(1)

: الذي عليه جماعة [فقهاء] المسملمين وعُلمائهم ذم الإكثار - يعني من الحديث - دون تفقّه ولا تدبّر، فالمكثر لا يأمن من مواقعة

(2)

الكذب على رسول الله، صلى الله عليه وسلم

(3)

ثم روى بسنده، عن قتادة، أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إياكم وكثرة الحديث، ومن قال عني فلا يقولنَّ إلا حقًا".

وروى بسنده أيضًا، عن وهب بن بقية

(4)

، قال: سمعتُ خالد بن عبد الله، يقول: سمعتُ ابن شبرمة، يقول: أقلل الرواية تفقه.

وقال أيضًا

(5)

: أما طلب الحديث على ما يطلبه كثير من أهل عَصرنا [اليوم]، دون تفقة فيه، ولا تدبّر لمعانيه، فمكروه عند جماعة أهل العلم.

ثم ذكر

(6)

بعد كلام طويل، قول الأعمش لأبي يوسف: أنتم الأطبَّاء، ونحن الصيادلة.

(1)

جامع بيان العلم وفضله 2: 124.

(2)

في الأصول "الموافقة".

(3)

زاد ابن عبد البر بعد هذا "لروايته عمن يؤمن وعمن لا يومن".

(4)

في الأصول "منبه".

(5)

جامع بيان العلم وفضله 2: 127.

(6)

جامع بيان العلم وفضله 2: 131.

ص: 299

ومن ها هنا قال الترمذي: إن من يحمل الحديث ولا يعرف فيه التأويل، كالصيدلاني.

وعن ابن المبارك، أنه قال: ليكن الذي تعتمد عليه الأثر، وخذ من الرأى ما يفسر لك الحديث.

ولله درّ بعضهم حيث يقول:

إن الرُواةَ على جَهْلٍ بما حَملُوا

مثلُ الجِمَال عليها يُحْمَل الوَدَعُ

لا الوَدْعُ يَنفْعهُ حَمْلُ الجمالِ له

ولا الجمالُ بِحَمْل الوَدْع تنتفعُ

وقال ابن أبي ليلى: لا يفقه الرجل في الحديث حتى يأخذ منه ويَدَع.

‌من التشنيعات على المذهب الحنفي:

ومن التشنيعات أيضًا، قولهم: إن مذهب أبي حنيفة في موضوعه مُخالف لما عليه أساس الإمارة والأمامة، ولا يوافق في كثير من فروعه للأمراء والأئمة.

والجواب عن ذلك هو المنع، بل مذهبه أوفق للإمامة والإمارة، والأصلح للولاة والأئمة.

والدليل على ذلك، ما ذكرناه سابقًا

(1)

من الجواب عنه لأبي جعفر المنصور في مسئلة الاستثناء المنفصل، وخلافه فيه لابن عبَّاس؛ فإنه أوفق للإمامه والإمارة، بخلاف مذهب غيره.

وكان بعض السلف يقول: لا يزال الإسلام مُشيَّد الأركان ما بقى له ثلاثة أشياء:

الكعبة، والدولة العبَّاسية، والفتيا على مذهب أبي حنيفة، فلولا الموافقة بين الدولة العباسية ومذهب أبي حنيفة ما قرن بينها.

وقال بعض الشعراء في ذلك:

(1)

انظر ما تقدم.

ص: 300

أبو حنيفةَ فاق الناسَ كُلَّهمُ

في العِلمِ والزُّهْدِ والعَليَاء والباسِ

له الإمَامَةُ في الدُّنيا مُسلَّمةٌ

كما الخلافةُ في أولاد عَبَّاسِ

وسماهما بعض السلف التوْأمين؛ لاتفاقهما في الموضوع، وظهورهما في زمن واحد.

كيف يجوز أن يدعى أن أبا حنيفة على خلاف الإمامة مع ما ذكرناه عنه سابقًا، حين منع من الفتوى، وسألته ابنته عن مسئلة، فقال لها: سلي أخاك؛ فإن الأمير

(1)

منعني من الفتيا.

فلم يرض لنفيه أن يعمل بخلاف سلطان زمانه في جواب مسئلة.

والذي يدلّ على صحة ذلك أن من صفة الإمامة أن يكون الإمام غالبًا، قاهرًا، نافذ الأمر، جائز التصرف في مملكته، مُطلق اليد في الرعية، وعلى مذهب أبي حنيفة كل هذا مفوَّض إلى الأئمة أينما نزلوا، ومذهب المخالفين ليس على هذه الصفة.

وبيان ذلك في مسائل كثيرة من فرع الفقه، لا بأس بذكر بعضها في هذا الموضوع للإيضاح.

‌الفصل السادس في عدة مسائل فرعية:

مسئلة: من له أرض خراجية، عجز عن زراعتها، وأداء خَراجها.

قال أبو حنيفة: للإمام أن يؤجرها من غيره، ويأخذ الخراج من أجرتها، سواء رضي بذلك صاحبها أم لم يرض.

وقال الشافعي: ليس للإمام ذلك.

(1)

وفي بعض النسخ "أمير المؤمنين".

ص: 301

مسئلة: إذا فتح السلطان بلدة من بلاد الكفَّار، فأراد أن يمن عليهم، ويقرَّهم على أملاكهم، ويضع الجزية على رؤوسهم، ولا يقسمها بين الأجناد.

قال أبو حنيفة: له أن يفعل ذلك، سواء رضي الجند بذلك أم لم يرضوا.

وقال الشافعي: ليس له ذلك إلا برضى الجُند، وعليه أن يقسمها بين الغانمين.

وهذه مسئلة نفسية، والعمل بها على مذهبنا.

مسئلة: السلب في حال القتال لا يكون للقاتل عند أبي حنيفة، إلا أن يكون الإمام قال قبل ذلك: من قتل قتيلًا فله سلبه.

وقال الشافعي: السلب للقاتل، سواء قال الإمام: ذلك أو لم يقل.

مسئلة: من عزَّره الإمام، لاستحقاقه التعزير، فمات في تعزيره.

قال أبو حنيفة: لا ضمانَ عليه، ودمه هدر.

وقال الشافعي: يجبُ عليه الضمان.

مسئلة: من أحيى أرضًا مواتًا.

قال أبو حنيفة: إن أحياها بإذن الإمام ملكها.

وقال الشافعي: يملكها، ولا يحتاج إلى إذن الإمام.

مسئلة: إذا كان للرجل عبد فزنى، أو شرب خمرًا، لا يقيم مولاه عليه الحدّ إلا بإذن الإمام.

وقال الشافعي: يقيم مولاه، ولا يحتاج إلى إذن الإمام.

وهو افتيات على السلطان في ولايته؛ قال عليه الصلاة والسلام: "الحدود للولاة".

مسئلة: إذا كان للرجل سوائم، وحال عليها الحول، وأدَّى صاحبُها زكاتها.

ص: 302

قال أبو حنيفة: "للسلطان أن يأخذ زكاتها ثانيًا، ويصرفها إلى الفقراء.

وقال الشافعي: ليس للسلطان ذلك.

وهو افتيات على السلطان أيضًا؛ فإن القبض في الأموال الظاهرة له، لا إلى أصحاب الأموال.

مسئلة: أهل مصر خرجوا إلى المصلى يوم العيد، وأرادوا أن يصلوا العيد.

قال أبو حنيفة: إن كان السلطان أو نائبه معهم جاز، وإلا فلا.

وقال الشافعي: يجوز، ولا يحتاج إلى حضور السُلطان ولا نائبه.

مسئلة: رجل قتل لقيطًا متعمدًا.

قال أبو حنيفة: للسلطان ولاية استيفاء القصاص من قاتله.

وقال الشافعي: ليس عليه ذلك.

مسئلة: رجل مَاتَ، فحضر السلطان وأولياء الميت جنازته.

قال أبو حنيفة: السلطان أحقُّ بالتقديم للصلاة عليه من الأولياء.

وقال الشافعي: الأولياء أحقُّ.

مسئلة: الجزية إذا أخذت على مذهبنا حصل أكثر مما أخذت على مذهبه، وكان أنفع لبيت المال؛ فإن عندنا يوضع على الغنى الظاهر الغنى في كل سنة ثمانية وأربعون درهمًا، وعلى المتوسّط الغنى أربعة وعشرون درهمًا، وعلى الفقير المعتمل اثنا عشر درهمًا، وتؤخذ سلفًا، وعنده على كل شخص دينار، والدينار عشرة دراهم، فظهر التفاوت بينهما.

مسئلة: الإمام إذا أخذ صدقات أموال الناس، ثم أرادَ أن يمنع أعيانَ الصدقة، ويدفع أبدالها وأثمانها إلى الفقراء.

قال أبو حنيفة: له فعل ذلك إذا رأى فيه المصلحة.

وقال الشافعي: ليس له ذلك.

ص: 303

مسئلة: "السلطان إذا احتاج إلى تقوية الجيش فأخذ من أرباب الأموال ما يكفيه من غير رضاهم، له ذلك.

ومثل هذه المسائل كثيرة، قل أن تحصر في مصنف، وفيما ذكرناه منها كفاية للمنصف؛ فإنه إذا تأمَّل ما أوردناه، ونظر بعين الإنصاف إلى ما قرَّرناه، ظهر له أن مذهبنا أوفق للإمامة من غيره، وأكثر تفويضًا للأئمة من سواه، والله الموفّق للصواب.

‌بعض التشنيعات عليه والجواب عنه:

ومن التشنيعات أيضًا، قولهم: إنه قدَّم القياس الذي اختلف الناس في كونه حجَّة على الأخبار الصحيحة، التي اتفق العلماء على كونها حُجَّة.

والجواب: أن هذا القول

(1)

زعم منهم، فإن أبا حنيفة أخذ بكتاب الله تعالى، ثم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بما اتفقت عليه الصحابة، ثم بما جاءَ عن واحد من الصحابة، وثبتَ ذلك، واشتهرَ، ولم يظهرْ له فيه مُخالف، وإن كان أمرًا اختلف فيه الصحابة والعلماء، فإنه يقيس الشيء بالشيء حتى يتضح الأمر، ثم بالقياس إن لم يكنْ في الحادثة شئ مما ذكرناه.

والدليل على أن مذهب أبي حنيفة على الصفة المشروحة، ما رَوَى أبو مطيع البلخي، قال:[كتب] أبو جعفر المنصور إلى أبي حنيفة يسأله عن مسائل، وكان مما سأل: أخبرني عن ما أنت عليه، فقد وقع فيك الناس، وزعموا أنك ذو رأي، وصاحب اجتهاد وقياس، كتبتُ

(2)

إليك بالمسائل، فإن كنت بها عالمًا علمنا أنك تقول بما نقول، وإن اشتبهت عليك، وتماديت فيها، علمنا أنك تقول بالقياس، والسَّلام.

(1)

في بعض النسخ "القدر".

(2)

في بعض النسخ "فكتبت".

ص: 304

فأجابَ عنْ تلك المسائل، وقال: يعلم أمير المؤمنين أن الذين يقعون فينا، لأنا نعمل بكتاب الله، ثم سنة رسوله عليه الصلاة والسلام، ثم بأحاديث الصحابة: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، ونحوهم، وهذا حسد منهم، وطعن في الدين، وهذا علم لا يعرفه إلا الخبير البصير، والله ما تكلمت بمسئلة حتى أذنت نفسي بالنصيحة، وليس بين الله وبين خلقه قرابة، وقد قالت الصحابة والتابعون: الأمر بالرأي لا بالكبر والسنّ، فمن وافق كان أقرب إلى الحق، وأوفق للقرآن والسنن، فالأولى أن يعمل بقولهم. وقال أبو مطيع البلخي لأبي حنيفة: أرأيت لو رأيت رأيًا، ورأى أبو بكر رأيًا غيره، أتدع رأيك برأيه؟ قال: نعم.

فقلتُ: أرأيتَ لو رأيتَ رأيًا، ورأى عمر رأيًا، أتدع رأيك برأيه؟ قال: نعم.

قال: ثم سألته عن عثمان وعلي، فأجاب بمثل هذا، وقال: إني أدع رأيي عند رأي جميع الصحابة، إلا ثلاثة أنفس: أبو هريرة، وأنس بن مالك، وسمرة بن جُندب.

فهذا يدلّ على أنه يؤخّر القياس عند الآثار.

ويدلّ على ذلك أيضًا، ما روي عن محمد بن النضر، وكان من كبار العلماء، وأنه قال: ما رأيتُ أحدًا تمسّك بالآثار أكثر من أبي حنيفة.

وعن أبي مُطيع البلخي، أن سفيان الثوري، ومقاتل بن حيَّان

(1)

، وحمَّاد بن سلمة، وغيرهم من فقهاء ذلك العصر، اجتمعوا، وقالوا: إن النعمان هذا يدعى الفقه، وما عنده إلا القياس، فتعالوا، حتى نناظره في ذلك، فإن قال:

(1)

في الأصول "حبان"، والتصحيح من ميزان الاعتدال، وهو أبو بسطام النبطى البلخي الخراساني.

ص: 305

إنه قياس، قلنا له: عبدت الشمس بالمقاييس، وأول من قاسَ إبليس، لعنه الله، حيث قال:{خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} .

فناظرهم أبو حنيفة يوم الجمعة في جامع "الكوفة"، وعرض عليهم مذهبَه كما ذكرنا، فقالوا: إنك سيّد العلماء، فاعف عنا؛ فإننا وقعنا فيك من غير تجربة ولا روية.

فقال لهم أبو حنيفة: غَفر الله لنا ولكم.

وروى أن أبا حنيفة كان يتكلم في مسئلة من المسائل القياسية، وشخص من أهل "المدينة" يتسمع، فقال: ما هذه المقايسة، دعوها، فإن أول من قاسَ إبليس.

فأقبل عليه أبو حنيفة، فقال: يا هذا، وضعت الكلام في غير موضعه، إبليس رد على الله تعالى أمره، قال الله تعالى:{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} ، وقال تعالى:{فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ} ، وقال:{إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} وقال: {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} ، فاستكبر ورد على الله أمره، وكل من رد على الله تعالى أمره فهو كافر، وهذا القياس الذي نحن فيه نطلب فيه اتباع أمر الله تعالى؛ لأنا نرده إلى أصل أمر الله تعالى في الكتاب، أو السنَّة، أو إجماع الصحابة والتابعين، فلا نخرج من أمر الله تعالى، ويكون العمل على الكتاب والسنَّة والإجماع، فاتبعنا في أمرنا إليها أمر الله تعالى، قال الله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} إلى قوله: {وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} ، فنحن ندور حول الاتباع، فنعمل بأمر الله تعالى، وإبليس خالف أمر الله تعالى، وردَّه عليه، فكيف يستويان؟ فقال الرجل: غلطتُ يا أبا حنيفة، وتُبتُ إلى الله تعالى، فنوَّر الله قلبك كما نوَّرتَ قلبي.

ص: 306

‌عدة مسائل فرعية أخرى:

ولا بأس بذكر بعض المسائل الشاهدة لما دكرنا، والموضحة لما قررنا، على أنها لا تدخل تحت الحضر، والله الموفّق للصواب.

1 -

مسئلة: رجل رد عبدًا آبقًا من مسيرة ثلاثة أيام.

قال أبو حنيفة: له الجعل أربعون درهمًا، وكان القياس أن لا يجب، فترك الناس، وأخذ من ذلك بالخبر الذي روى عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه، في خبر طويل، أن رجلًا قدم بآبق من "الفيوم"

(1)

، فقال القوم: لقد أصاب أجرًا.

فقال ابن مسعود: وأصاب جعلًا.

وقال من خالفه: لا يجب الجعل، فترك الخبر، وأخذ بالقياس.

2 -

مسئلة: ولو أن رجلًا حلق لحية رجلٍ، أو حاجبيه، فلم تنبتْ ثانيًا.

قال أبو حنيفة: يجبُ على الحالق دية كاملة.

وقال من خالفه: لا يجبُ الدية على الكمال.

وكان القياس أن لا يجب الدية على الكمال، فترك القياس، وأخذ بالخبر المروي في حديث سعيد بن المسيّب، رحمه الله تعالى.

3 -

مسئلة: ولو أن رجلًا أوجب على نفسه أن ينحر ولده.

قال أبو حنيفة: يلزمه أن يذبح شاة.

وقال من خالفه: لا يجبُ عليه شئ، فأخذ بالقياس وترك الخبر.

4 -

مسئلة: ولو أن رجلًا حلف، وقال: إن فعلتُ كذا فأنا بريء من الإسلام، ففعل ذلك.

قال أبو حنيفة: يجب عليه كفارة يمين.

(1)

لعله يعني فيوم العراق، وهو موضع قريب من هيت. معجم البلدان 3:933.

ص: 307

وكان القياس أن لا يجب عليه شئ، فترك القياسَ، وأخذ بالخبر المروي عن عائشة، وابن عمر، رضى الله عنهما، أنهما أوجَبَا فيه كفارة يمين.

وقال من خالفه: لا شئ عليه إلا التوبة، فأخذَ القياسَ.

5 -

مسئلة: ولو أن رجلًا اشترى شيئًا بألف درهم، وقبضه، ولم ينقد الثمن، ثم باعَه من البائع بخمسمائة درهم.

قال أبو حنيفة: بيع الثاني لا يجوز، وكان ينبغي في القياس أن يجوز، فترك القياس، وأخذ في ذلك بخبر روي عن عائشة، رضى الله عنها، أنها قالتْ للمرأة التي سألتها عن هذا البيع: أبلغي زيدَ بنَ أرقم أن الله تعالى أبطلَ جهادَه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يتبْ.

وقال من خالفه: يجوز بيعُه، فأخذ بالقياس، وترك الخبر.

6 -

مسئلة: ولو أن رجلًا باع من ذمّي خمرًا.

قال أبو حنيفة: جاز بيعه.

وكان ينبغي في القياس أن لا يجوز، فترك أبو حنيفة القياسَ، وأخذ بالخبر الذي روي عن عمر أنه قال: ولوهم بيعها، وخذوا العُشر من أثمانها.

وقال من خالفَه: لا يجوزُ بيعُه، وأخذ بالقياس وترك الخبر.

7 -

مسئلة: ولو أن رجلًا اغتسلَ من الجنابة، ولم يتمضمضْ ولم يستنشقْ، وصلى على ذلك.

قال أبو حنيفة: لا يجوزُ ما لم يتمضمضْ، ويستنشقْ.

فرآها فرضين في الجنابة، وكان القياس أن لا يكونا فرضين، فترك القياس، وأخذ بخبر الواحد، وهو ما روى عن ابن عبَّاس، رضى الله تعالى عنهما، أنه قال: مَنْ تركَ المضمضةَ، والاستنشاقَ في الجنابة، وصلّى، تمضمض، واستنشق، وأعادَ ما صلَّى.

وقال مَنْ خَالَفَه: المضمضة والاستنشاق غير مفروضين في غسل الجنابة، فأخذ بالقياس، وترك الخبر.

ص: 308

ويقع

(1)

الخلاف من هذا الجنس بين أبي حنيفة ومالك؛ لأن عند أبي حنيفة الخبر المروي عن طريق الآحاد مُقدم على القِيَاس، وعند مالك، القِيَاس مُقدَّم على الخبر المروي من طريق الآحاد.

8 -

مسئلة: ولو أن صائمًا أكل، أو شرب، أو جامع، ناسيًا.

قال أبو حنيفة: لا يبطل صومه.

وكان القياس أن يبطل، فترك القياس، وأخذ بخبر رواه أبو هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"الصائم إذا أكل أو شرب ناسيًا فليتم صومه، فإن الله تعالى أطعمه وسقاه".

وقال من خالفه: يبطل صومه، فأخذ بالقياس، وترك الخبر.

9 -

مسئلة: ولو أم رجلًا تزوج أمةً على حرةٍ.

قال أبو حنيفة: لا يجوز.

وكان القياس أن يجوز؛ إلا أنه ترك القياسَ، وأخذ في ذلك بخبر، روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال:"لا تنكح الأمة على حرة".

وقال من خالف: يجوز نكاحها، فأخذ بالقياس، وترك الخبر.

10 -

مسئلة: إذا تزوَّج العبد بإذن مولاه.

قال أبو حنيفة لا يجوز أن يتزوّج أكثرَ من امرأتين.

وكان القياس أن يجوز له أن يتزوّج بأربع نسوة كالحر، إلا أن أبا حنيفة ترك القياسَ، وأخذ بالخبر، وهو ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال:"لا يتروّج العبد أكثرَ من اثنتين".

وقال من خالفه بالقياس، وترك الخبر.

11 -

مسئلة: رجل وهب أخر هبة، ولم يقبضْها الموهوب له.

قال أبو حنيفة: لا تصح الهبة.

(1)

في بعض النسخ "يقع".

ص: 309

وكان القياس أن تصح، إلا أنه ترك القياس، وأخذ بالخبر الوارد في ذلك، وهو ما روي عن أبي بكر الصديق، رضى الله عنه، أنه قال لعائشة: كنت نحلتك جداد

(1)

عشرين وسقا بـ "العالية"

(2)

، ولم تكوني حزتيه، ولا قبضتيه، وإنما هو مال الوارث، جعل القبض شرطًا.

ومخالفه أخذ بالقياس، وترك الخبر.

13 -

مسئلة: إذا تزوَّج الرجل امرأة وهو غير كفءٍ

(3)

لها.

قال أبو حنيفة: للأولياء حق الاعتراض.

وكان القياس أن لا يكون لهم ذلك، فترك أبو حنيفة القياس، وأخذ بالخبر، وهو ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال؛ "لا تزوّج النساء إلا من كفءٍ".

ومخالفه أخذ بالقياس، وترك الخبر.

14 -

مسئلة: عبد بين اثنين، أعتقَه أحدُهما وهو معسر.

قال أبو حنيفة: على العبد أن يسعى في نصف قيمته.

وكان القياس أن لا سعايةَ عليه؛ لأنه لم تكن منه جناية، فترك أبو حنيفة القياس، وأخذ بالخبر، وهو ما روى أبو هريرة رضى الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال في عبدٍ من اثنين أعتقد أحدهما:"إن كان موسرًا ضمن نصف قيمته، وإن كان مُعسرًا سعى العبد في نصف قيمته غير مشقوق عليه".

وقال المخالف: لا سعايةَ عليه، فأخذَ بالقياس، وترك الخبرَ.

(1)

في بعض النسخ "جذاد"، والجداد صرام النخل. القاموس.

(2)

العالية اسم لكل مكان من جهة نجد من المدينة من قراها وعمايرها إلى تهامة. معجم البلدان 3: 592.

(3)

في بعض النسخ "الأكفاء".

ص: 310

15 -

مسئلة: السكران إذا طلّق امرأته.

قال أبو حنيفة: يقع طلاقه وعتاقه.

وكان القياس أن لا يقع، فترك القياس، وأخذ بخبر رواه أبو هريرة رضي الله تعالى عنه، وعن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال:"ثلاثٌ جدّهن جدّ، وهزلهن جدّ: الطلاق، والعتاق، والنكاح".

وقال من خالفه: لا يقع طلاقه، وعتاقه؛ لأنه لا يعقل، فأخذ بالقياس، وترك الخبر.

16 -

مسئلة: لو اجتمع جماعة في قتل رجل عَمدًا.

قال أبو حنيفة: يقتلون جميعًا.

وكان القياس أن لا تقتل الجماعة بواحد، فترك القياس، وأخذ بخبر روي عن عمر رضي الله تعالى عنه، أنه قتل سبعة نفر بقتل رجلٍ واحد، فترك القياسَ بهذا، حتى قال عمر، رضى الله تعالى عنه: لو اجتمع أهل "صنعاء" على قتله لقتلتهم به.

وقال من خالفه: لا تقتل الجماعة بواحد، فأخذ بالقياس، وترك الخبر.

وفي هذا القدر كفايةٌ في الدلالة على أن أبا حنيفة رضي الله عنه لم يقدم القياسَ على الخبر، ومن ادّعى ذلك فليس عنده خبر، وأن مخالفه هو الذي فعل ذلك، والله أعلم.

‌عدة تشنيعات في حق الإمام:

ومن جملة التشنيعات في حق الإمام، رضى الله تعالى عنه، أنهم زعموا أنه ترك من فروع الفقه طريق الاحتياط والتورَّع، وأفرط في الرخصة فيما يحتاج فيه إلى التحرّج.

والجواب عن ذلك، أن هذا زعم ممنوع، وقول غير مسموع، لأن أبا حنيفة رضي الله تعالى عنه، كان من أزهد الناس وأوعهم وأتقاهم لله تعالى،

ص: 311

وقد ذكرنا سابقًا من شهادة العلماء له بذلك ما فيه الكفاية، والدلالة على أنه كان أجل قدرًا من أن يترك الاحتياط، ويتساهل في الدين.

ولا بأس بذكر بعض المسائل، التي تدل على أنه أخذ فيها بالأحوط، وترك غيره. فنقول، وبالله التوفيق:

1 -

مسئلة: إذا أكل في رمضان متعمدًا.

قال أبو حنيفة: يجبُ عليه الكفَّارة، كما يجبُ على المجامع، فأخذ بالاحتياط.

وقال من خالفه: يجبُ عليه قضاء يوم واحد، ولا يجبُ عليه الكفَّارة.

وفيما ذهب إليه المخالف ترك الاحتياط.

2 -

مسئلة: إذا شرع الرجل في صوم التطوّع، ثم أفطر.

قال أبو حنيفة: يجبُ عليه القضاء.

وقال مَنْ خَالَفَه: لا يجبُ عليه القضاء.

والاحتياط فيما ذهبَ إليه أبو حنيفة، لا فيما ذهبَ إليه المخالف.

3 -

مسئلة: إذا صُبّ في جوف الصائم شراب أو طعام.

قال أبو حنيفة: انتقض صومُه، وعليه القضاءُ، وسلك فيه طريقة الاحتياط.

وقال المخالف: لا ينتقضُ صومُه، فترك الاحتياط في فتواه.

4 -

مسئلة: إذا قاءَ الرجلُ، أو رعفَ أو افتصدَ.

قال أبو حنيفة: انتقض وضوءُه.

وقال المخالف: لا ينتقضُ.

والأحوط ما قاله الإمام.

5 -

مسئلة: إذا صلَّى الرجل خلفَ إمام، والإمام محدث أو جنب وهو لا يعلم، ثم علم بعد فراغه من الصلاة.

قال أبو حنيفة: لا تجوزُ صلاةُ الإمام، وصلاةُ المقتدي.

ص: 312

وقال من خالفه: صلاة المقتدي جائزة.

والاحتياط فيما ذهب إليه الإمام.

6 -

مسئلة: إذا نَسي الرجل الظهرَ والعصرَ في يومين مختلفين، ولا يدري أيهما الأول.

قال أبو حنيفة: يُصلي الظهر، ثم العصر، ثم الظهر، حتى يسقط الفرض عن ذمته بيقينٍ، ويكون ذلك أخذًا بالاحتياط.

وقال من خالفه: يُصلّي مرة واحدة، ولا يصلي مرتين.

وفي ذلك ترك الاحتياط، لأن الفرضَ لا يسقطُ عن ذمته بيقينٍ.

7 -

مسئلة: إذا تكلم الرجل في صلاته ناسيًا.

قال أبو حنيفة: تفسدُ صلاتُه.

وقال من خالفه: لا تفسد إن كان قليلًا، وإن كان كثيرًا تفسد.

والاحتياط فيما ذهب إليه الامام.

8 -

مسئلة: إذا تناول المحرم من محظورات إحرامه ناسيًا.

قال أبو حنيفة: تلزمه الذكاة.

وقال من خالفه: لا تجبُ عليه إذا كان ناسيًا، إلا في الأشياء التي نصَّ الله في كتابه على تحريمها، نحو قتل الصيد والجماع، وحلق الرأس.

والاحتياطُ فيما ذهبَ إليه الإمام.

9 -

مسئلة: إذا اشترك الرهط المحرمون في قتل الصيد.

قال أبو حنيفة: يجبُ على كل واحد منهم كفَّارة على حدة.

وقال مَنْ خَالَفه: يجبُ عليهم كفارة واحدة.

والاحتياط فيما قاله أبو حنيفة.

10 -

مسئلة: إذا استأجَرَ الرجلُ شيئًا، ثم أجره من غيره بأكثرَ مما استأجره، ولم يزد من عنده شيئا.

قال أبو حنيفة: لا تطيب له الفضل، ويتصدّق به.

ص: 313

والاحتياط فيما ذهب إليه أبو حنيفة، حتى لا يكون داخلًا تحت نهيه عليه الصلاة والسلام عن ربح ما لم يضمنْ.

ومسائل هذا النوع لا تنحصر، وفيما ذكرناه كفاية.

ومن جملة ما يشنع به الحسَّاد على أبي حنيفة، رضى الله عنه، أنه من جملة الموالي وليس هو من العرب، وأن من كان مجتهدًا من العرب أولى بالتقديم من غيره.

والجواب، أن شرف العلم مُقدَّم على شرف النسب، وشرف الدين مقدَّم على شرف المنتسبين، وأكرم الناس عند الله أتقاهم، وما يضرّ العالم كونه من الموالي، وما ينفع الغوي الجاهل كونه حجازيًا، أو تميميًا، وهو لا يعرف اليمين من الشمال، ولا يفرق بين الهدى والضلال.

ومما روي أن رجلًا من بني قفل

(1)

، من خيار بني تيم الله، قال لأبي حنيفة: أنت مولاي.

فقال: والله!! والله أشرف لك منك لي.

فجعل أبو حنيفة شرف القرشى التيمى يكون من مواليه مثل أبي حنيفة، أفضل من شرف أبي حنيفة بكونه من موالي القرشى التيمى، وهذا مما لا شبهةَ فيه، فإنه ثابت بالكتاب والسنَّة.

أما الكتاب، فقوله تعالى

(2)

: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} .

وأما السُّنة، فقوله صلى الله عليه وسلم:"لا فضلَ لعربي على عجمي إلا بالتقوى"، وقال صلى الله عليه وسلم:"سلمان منا أهل البيت"، ونفى الله تعالى ولد نوح عليه الصلاة والسلام منه، فقال

(3)

: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} ،

(1)

انظر المعارف 495 وكان أبو حنيفة مولاهم.

(2)

سورة الحجرات 13.

(3)

سورة هود 43.

ص: 314

وعلى هذا بلال الحبشي، وأبو لهب الهاشمي، وأبو جهل القرشي.

وقد أشدّ الخطيب الخوارزمي

(1)

في هذا المعنى، وأجادَ، فقال:

إلى التُقَى فانْتسِبْ إن كنتَ مُنْتَسِبًا

فليس يُجديكَ يومًا خالِصُ النَّسَبِ

بِلالٌ الحبشيُّ العَبْدُ فَاق تُقىً

أحرَارَ صِيدِ قُرَيشٍ صَفْوَةَ العَرَب

غَدَا أبُو لهَبٍ يُرْمَى إلى لَهَبٍ

فيه غَدَتْ حَطَبًا حَمَّالَةُ الحَطَب

وذكر القاضي عياض في "الشفاء"

(2)

عن الشعبى، قال: صلى زيد بن ثابت على جنازة أمه، ثم قربت له بغلته ليركبها، فجاء ابن عباس، فأخذ بركابه، فقال زيد: خَلِّ عنه يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فقال: هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا.

فقبَّل زيد يدَ ابن عباس، وقال: هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا، صلى الله عليه وسلم.

ففعل ابن عباس فعله معه بالعلم، وإنه إنما بالغ في التواضع إلى هذه الغاية، لكونه عالمًا، وابن عباس ابن عباس. انتهى.

وفي أوائل "شرح الهداية" لمحمد بن محمد المعروف بابن الشحنة حكاية مشهورة، نقلها هو وغيره عن عطاء، وأظنّه عطاء بن السائب الكوفي، قال: دخلتُ على هشام بن عبد الملك بالرصافة، فقال: يا عطاء، هل لك علم بعلماء الأمصار؟ قلت: بلى، يا أمير المؤمنين.

فقال: من فقيه أهل "المدينة"؟ قلت: نافع مولى ابن عمر.

قال: فمن فقيه أهل "مكة"؟ قلت: عطاء بن أبي رَبَاح.

قال: مولى أم عربي.

قلت: مولى.

(1)

هو صاحب المناقب الموفق بن أحمد المكي خطيب خوارزم.

(2)

انظر شرح الشفا للخفاجي 3: 461.

ص: 315

قال فمن فقيه أهل "اليمن"؟ قلت: طاوس بن كيسان.

قال: مولى أم عربي؟.

قلت: مولى.

قال: فمن فقيه أهل "الشام"؟ قلت: مكحول.

قال: مولى أم عربي.

قلت: مولى.

قال: فمن فقيه أهل "الجزيرة"؟ قلت: ميمون بن مهران.

قال: مولى أم عربي؟

قلت: مولى.

قال: فمن فقيه أهل "خراسان"؟ قلت: الضحَّاك بن مزاحم.

قال: مولى أم عربي؟

قلت: مولى.

قال: فمن فقيه أهل "البصرة"؟ قلت: الحسن، وابن سيرين.

قال: موليان أم عربيان؟

قلت: موليان.

قال: فمن فقيه أهل "الكوفة"؟ قلت: إبراهيم النَّخَعي.

قال: مولى أم عربي؟

قلت: لا، بل عربي.

قال: كادت تخرج نفسي.

أقول: إن اصطلاح أهالي الديار الرومية في هذه الأيام إطلاق لفظ الموالي على العلماء الكبار منهم، سواء كانوا من قسم الموالي المذكورين هنا، أم من الأحرار أبًا وجدا، من غير أن يمسهم أو يمس أحدًا منهم الرق، والسبب في ذلك - والله تعالى أعلم - أنهم لما رأوا غالب العلماء من طائفة الموالي،

ص: 316

أطلقوا هذا على علمائهم تشبّهًا بهم، وتقليدًا لهم، ومنعوا من إطلاقه على غير أهل العلم، ثم طال الأمد، وقصرت الهمم، وتساهلت الناس في إطلاق الألقاب، على غير ذوي الألباب، وشارك الفاضل المفضول، وتساوى العالم بالجهول.

وصار من ليس لهُ منْصِبٌ

يُقال عنه جاهلٌ يَمْذُقُ

ومَن غدا بالمال ذا ثروةٍ

يُقال عنه عالمٌ مُفْلِقُ

مَوْلَى الموالي كلِّهم وهو بالْـ

ـحقِّ غَبِيٌ جاهلٌ أحمقُ

والعلمُ عندَ الله لا يُرْتجىَ

به نوالٌ لا ولا يُرْزَقُ

ولا ترى عنه امْرَءًا سائلًا

ولا به يُعْطَى ولا يُنْفِقُ

هذا ولم يبق من يستحق أن يوصف بالمولوية بالديار الرومية، على الوجه الأكمل، والوصف الأجل، إلا جماعة يسيرة، ذُكر آباؤهم في هذه الطبقات، ووفينا كلًا منهم حقه، أدام الله تعالى بهم جمال هذه الدولة العُثمانية بمنه وكرمه.

وأما ما يُنسب إلى أبي حنيفة من الشعر فكثير، منه قوله:

إن يحسُدُوني فإنِّي غيْرُ لائمهمْ

.........................

البيتين السابقين.

ومنه قوله: وقد اتفق له مع شيطان الطاق

(1)

في الحمام لما رآه الإمام مكشوف العورة، ونهاه عن ذلك، ما هو مشهور، وهو

(2)

:

أقول وفي قولي بلاغٌ وحِكمةٌ

وما قلتُ قَوْلًا جئتُ فيه بمُنكَرِ

ألا يا عباد الله خَافُوا إلهَكمْ

فلا تدخلوا الحمَّامَ إلا بمِئزرِ

(1)

هو أبو جعفر محمد علي بن النعمان البجلي الكوفي الأحول.

(2)

ذيل الجواهر المضية 2: 477.

ص: 317

وأما ما كان يتمثل به أبو حنيفة من الشعر، وما مدح به رضى الله تعالى عنه من النظم، فكثير لا يدخل تحت الحصر، ومنه قول بعضهم

(1)

:

لأبي حنيفةَ ذي الفَخارِ قراءة

مشهورةٌ مَنْخُولةٌ غَرَّاءُ

عُرضِتْ على القُرَّاءِ في أيامِهِ

فتعجَّبَتْ من حُسْنِها القُراءُ

لله در أبي حنيفة إنهُ

خضَعَتْ له القُرَّاء والفقهاءُ

خلَف الصَّحابةِ كلَّهم في علمهمْ

فتضاءلَت لِجَلالِهِ العُلماءُ

سُلطانُ مَن في الأرضِ من فقهائها

وهمُ إذا أفتَوا له أصدَاءُ

إن المياهَ كثيرةٌ لكنَّهُ

فَضَلَ الميَاهَ جمَيعَهَا صَدَّاءُ

(2)

قال ابن الشحنة: وكأن "أصداء" هذا جمع صدى بالقصر، وهو الذي يجيبك مثل صوتك في الجبال وغيرها، إشارة إلى أن الأصل منه نشأ وعنه أخذ؛ لأنه كان كافل الفقهاء ومُربيهم، لأنهم عياله، كما نصَّ عليه الشافعي. انتهى.

وفِي هذه الأبيات تصريح بأن الإمام، رضى الله تعالى عنه، كان من المتقدمين في فن القراءات، كما هو من المتقدمين السابقين في علم الفقه، وهو كذلك، فقد أفردوا بالتآليف قراءته التي انفرد بها، ورَوَوْها عنه بالأسانيد.

وممن أفردها بالتأليف أبو القاسم الزمخشري، وأبو القاسم يوسف بن علي بن جبارة الهُذلي البسكري، بموحَّدة وسين مهملة، في كتابه المعروف بـ "الكامل"، وغيرهما.

وممن روى عنه القراءة أبو يوسف، ومحمد، رحمهما الله، وغيرهما.

وحروفه معروفة مذكورة في "المناقب"، وغيرها.

(1)

ذيل الجواهر المضية 2: 511، 512.

(2)

صداء: ركية ليس عند العرب ماء أعذب منه.

ص: 318

وقد وضع بعض الحسَّاد قراءات، ونسبها إليه، فأظهر الله الحق، ومحق الباطل، وجوزي كلٌّ بفعله.

وقال صاحب "المناقب" يمدحه:

رَسُولُ الله قال سِراجُ ديني

وأمَّتِي الهُداة أبو حنيفَة

غدا بعد الصَّحابةِ في الفتاوى

لأحْمَدَ في شريعته خليفَهْ

وقال غيره، يصفه بالعلم والعبادة، من أبيات:

نهارُ أبي حنيفة للإفادة

وليل أبي حنيفة للعبادَهْ

وَوَدَّعَ نوْمَهُ خمسين عَامًا

لِطَاعَتِه وَخَدَّاهُ الوِسَادَهْ

وكان يحيى بن مَعين إذا ذكر من يتكلم في أبي حنيفة، يقول:

حَسَدُوا الفتى إذ لم ينالُوا سَعْيَهُ

فالقومُ أعْداء لهُ وخُصومُ

كضَرائرِ الحَسْناء قُلْنَ لوَجْهِها

حَسَدًا وَبَغْيًا إنَه لذَميمُ

وقيل لعبد الله بن طاهر: الناس يقعون في أبي حنيفة، فقال:

ما يَضُرُّ البَحْرَ أمْسَى زاخرًا

أن رَمَى فيه غلامٌ بِحَجَز

ثم أنشد:

إن يحسدوني فزاد الله في حَسَدي

لا عاشَ مَن عَاشَ يَومًا غَيرَ مَحْسُودِ

ما يُحْسَدُ المرءُ إلا مِنْ فضائِلِه

بالعلم والبأس أو بالمْجدِ والجُودِ

وقال:

فازدادَ لي حَسدًا مَن لستُ أحْسُدُه

إنَ الفضيلةَ لا تخلو عن الحَسَدِ

وقال:

ما ضَرني حَسَدُ اللِّئامِ ولم يَزلْ

ذو الفضلِ يحسُدُهُ ذَوو النُّقْصانِ

يا بُؤسَ قومٍ ليس ذَنبي بَيْنَهُمْ

إلا تظاهُر نعمَةِ الرّحمنِ

ولله درُّ الشريف الرضي، حيث يقول:

نَظرُوا بعَيْنِ عَدَاوَةٍ وَلَوَ أنها

عَينُ الرِّضَا لاسْتَحْسَنُوا ما اسْتَقْبحُوا

يُولُونَني شَزْرَ العُيُونِ لأنَّني

غَلَّسْتُ في طَلَبِ العُلَى وتصبَّحُوا

ص: 319

ومما أنشده صاحب "المناقب" في مدح في الإمام، وذكر واقعته مع ابن هُبَيرة، قوله:

أرضيت نَفْسَك ضَارب النُّعمانِ

فكسبتَ جَهلًا سَخطةَ الرَّحمنِ

ما زلت تُنقُصُ لا تزيدُ بضَربهِ

يا بشَ ما قدَّمتَ للميزانِ

أضَربْت عابِدَ رَبّه في ليله

ونهارهِ يا عَابِدَ الشَّيْطَانِ

أعْطَيْتَه الدنيا ولكن رَدَّها

رَدَّ التقيِّ الخائف الرباني

حَرّ السَّياط قد ارتضى كي لا يرى

يَوم الجَزاءِ مَقامعَ النِّيرانِ

مَا ذَلَّ يا ابن هُبيرة بالضَّربِ مَنْ

مَلأ الفُؤادَ بعِزَّةِ الإيمَانِ

ولصاحب "المناقب" أيضًا في مدحه قوله:

غدا مذهبُ النعمان خير المذاهب

كما القَمرُ الوَضَّاحُ خيرُ الكواكب

تفقَّه في خيرِ القرونِ مع التُقَى

فمذهبهُ لا شَكَّ خيرُ المذاهبِ

ولا عيبَ فيه غيرَ أنَّ جميعَه

حَلا إذْ تخلى عن جميع المعايب

لأنَّ عِداهُ قد أقرُّوا بحُسْنِه

وإقرارُهم بالحسنِ ضربَةُ لازِب

وكان له صَحبٌ بُنودُ عُلومِهم

تُجلِّي عن الأحْكام سُجْفَ الغَياهِبِ

ثلاثةُ آلافٍ وألفٌ شيوخُه

وأصحابُه مثلُ النجوم الثَّواقِبِ

وله أيضًا يمدحه:

نُعمانُ فحل العلم يَعسُوبُ الهُدى

في خير قَرن قد أتى وقرَانِ

نُعْمَانُ كانَ سِراجَ أفضلِ أُمَّةٍ

لكنْ سِرَاجًا دائمَ اللَّمَعَانِ

الفِقْهُ في نادِيه مُجْتَمِعُ النَّوى

راسي القَواعدِ شامِخُ البُنيانِ

بحر موارده تراها عذبة

قذافة للدر والمرجان

وشقائِقُ النُّعْمَانِ في بَهَجاتِها

هَزأتْ بهنَّ دَقائِقُ النُّعمَانِ

كم قد رَمَوْهُ بمُعْضلاتٍ رَدَّهَا

بحَوابِ حَقٍّ سَاطعِ البُرْهَانِ

وعن سفيان بن عيينة، قال: قال مساور الورَّاق، وكان رجلًا صالحًا، في أبي حنيفة، وله فيه رأي:

ص: 320

إذا ما الناس يومًا قَايَسُونَا

بمُعْضِلةٍ منْ الفُتيَا لَطِيفَهْ

أَتيْنَاهُمْ بمِقْياسٍ صَحيحٍ

بَديعٍ مِن طِرَاز أبي حَنيفه

إذا سَمعَ الفقيهُ به وَعَاهُ

وأثبَتهُ بحِبْرٍ في صَحِيفهْ

وعن الحسن بن الربيع، قال: سمعتُ عبدَ الله بنَ المبارك، يقول:

رأيتُ أبا حنيفة كلَّ يَوْمٍ

يزِيدُ نَباهَةً ويَزيدُ خِيرًا

ويَنْطِقُ بالصَّواب ويصْطفِيهِ

إذا ما قال أهلُ الحقِّ حُورا

يُقايسُ مَن يُقايسُه بلُبٍّ

ومَن ذا تجعلُونَ له نَظيرًا

كَفانا فَقْدَ حَمَّاد وكانتْ

مُصِيبتُنا به أمْرًا كَبيرًا

رَأيتُ أبَا حنيفةَ حين يُؤتَى

ويُطلبُ عِلمهُ بَحْرًا غَزيرًا

إذا ما المشْكِلاتُ تدافعَتْها

رِجَالُ العِلم كانَ بهَا بَصيرًا

وقال بعضهم يرثيه بقصيدة، أظنّها لصاحب "المناقب"، منها:

لقَدْ طَلَعَ النُّعمانُ من أرْضِ كوفةٍ

كَغُرَّةِ صُبْح يَسْتفِيضُ انبلاجُهَا

هو المرتَضى في الدِّين والمقتدى به

وصَدرُ الورَى في الخافقيْنِ وتاجُها

إذا مرض الإسلامُ والدِّينُ مَرْضَةً

فمِن نُكَتِ النُّعمانِ يُلفى عِلاجُها

وإن كسَدتْ سُوقُ الهُدى وتوجعت

فمِن مذهب النُعمان أيضًا رواجُهَا

وَإنْ فُتِحتْ أبْوابُ جهْلٍ وبِدْعَةٍ

على الناسِ يَوْمًا كان منه رتَاجُها

وإن غُمَّة فمِنهُ انْجلاؤُهَا

وإن شِدةٌ ضاقت فمِنه انْفراجُها

سَقَاهُ إلهُ الخَلْق في الخُلْدِ شَرْبةً

بكأسٍ من الكافُور كان مِزاجُهَا

وقال عبد الله بن صهيب الكلبى: كان أبو حنيفة يتمثَّل كثيرًا بهذين البيتين، وهما:

عَطاء العَرْشِ خيرٌ من عطائِكمُ

وسَيْبُهُ واسِعٌ يُرْجَى ويُنتظَرُ

أنتم يُكدِّرُ مَا تُعْطُونَ مَنُّكُمُ .. والله يُعْطي فلا مَنٌّ ولا كَدَرُ

ص: 321

هذا، وما قيل في حق الإمام من المديح، وما رُثي به، وما مدح به، وما تمثل به هو، أو تمثل به الغير عند ذكره، فأمر لا يدخل كما قلنا تحت الحَصر، وفيما ذكرناه منه كفاية، والله تعالى أعلم.

‌الفصل السابع في بعض بعض المنامات التي رآها له الصالحون:

فمن ذلك ما روي عن الإمام الشافعي، أنه كان يقول: إني لأتبرك بأبى حنيفة رضى الله عنه، وأجيء إلى قبره كل يوم، كنت إذا عَرضت لي حاجة صليت ركعتين، وجئت إلى قبره، وسألت الله تعالى الحاجة، فما تبعد عنى حتى تُقضى.

وقال أبو يوسف: رأيتُ أبا حنيفة في المنام، وهو جالس على إيوان، وحوله أصحابه، فقال: إيتوني بقرطاس ودواة، فقمت من بينهم وأتيته بهما، فجعل يكتب، فقلت: ما تكتب؟ قال: أكتب أصحابي من أهل الجنَّة.

فقلت: أفلا تكتبني فيهم؟ قال: نعم.

فكتبني في آخرهم.

وعن أبي مُعاذ، قال: رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام، فقلتُ: يا رسول الله، ما تقول في علم أبي حنيفة؟ فقال: ذلك علم يحتاج إليه الناس عند الحُكم.

وعن بعضهم، قال: كنتُ في حلقة مُقاتل بن سليمان، إمام أهل التفسير في زمانه، فقام إليه رجل، فقال: يا أبا الحسن، رأيتُ البارحةَ في المنام كان رجلًا من السماء.

قد نزل، ثيابه بيض، وقام على المنارة الفُلانية بـ "بغداد"، وهي أطول منارة بها، فنادى: ماذا فقد الناس!! فقال له مقاتل: لئن صدقت رؤياك ليفقدن أعلم الناس.

ص: 322

فأصبحنا، فإذا أبو حنيفة قد مات.

وعن ابن بسطام، أنه قال: صحبتُ أبا حنيفة اثنى عشرة سنة، فما رأيتُ أفقهَ منه، ورأيتُ ليلة كان القيامة قد قامتْ، وإذا أبو حنيفة ومعه لواء وهو واقف، فقلت له: ما بالك واقفًا؟ قال: أنتظر أصحابى، لأذهبَ معهم.

فوقفتُ معه، فرأيتُ جماعة عظيمة اجتمعتْ عليه، ثم مضى، ومعه اللواء، ونحن نتبعه.

فأتيتُه فذكرتُ ذلك له، فجعل يبكى، ويقول: اللهم اجعلْ عاقبتنا إلى خير.

وعن أزهر، أنه قال: كنت زاهدًا في علم أبي حنيفة، فرأيتُ النبي صلى الله عليه وسلم، وخلفه رجلان، فقيل لي: المتقدم هو النبي صلى الله عليه وسلم، واللذان خلفه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما.

فقلت لهما: أسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن شئٍ؟ فقالا لي: سَلْ، ولا ترفعْ صوتَك.

فسألتُه عن علم أبي حنيفة.

فقال: هذا علمٌ انتسخ من علم الحضرة.

وعن السري بن طلحة، قال: رأيتُ أبا حنيفة في النوم جالسًا في موضع، فقلتُ: ما يجلسك هنا؟ قال: جئتُ من عند ربّ العزّة سبحانه وتعالى، وقد أنصفني من سفيان الثورى.

وعن مسدّد بن عبد الرحمن البصري، قال: نمتُ بين الركن والمقام، فإذا أنا بآتٍ قد دنا منى، فقال لي: أتنام في هذا المكان، وهو مكان لا يحجب فيه دعاء!.

فانتبهتُ من نومي، فقمتُ مبادرًا، أدعو الله للمسلمين والمؤمنين إلى أن غلبتْني عيناي، فإذا أنا بالنبي صلى الله عليه وسلم، فدنا مني، فقلتُ: يا رسول الله، ما تقول في هذا الرجل الذي بـ "الكوفة"، يُقال له: النعمان، أ آخذ

ص: 323

من علمه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: خذ من علمه، واعملْ به، فنعم الرجل هو.

فقمتُ من نومي، فإذا مُنادي صلاة الغداة، ولقد كنت والله من أكره الناس للنعمان، وأنا أستغفر الله مما كان مني.

ويُحكى: أن أبا حنيفة رضى الله عنه رُئي في المنام على سرير في بستان، ومعه رق عظيم، يكتب جوائزَ قوم، فسُئلَ عن ذلك، فقال: إن الله قبل عملي ومذهبي، وشفعني في أصحابي، وأنا أكتبُ جوائزَهم.

ومنامات الصُلحاء والأولياء، التي رؤيتْ له في مثل ذلك كثيرة، وهذا اليسير منها كافٍ لمن بصره الله تعالى، ولم ينظرْ بعين الحمية، وقوة العصبية.

‌الفصل الثامن في ما يؤثر عنه من المحاسن، وحسن الاعتقاد

وهي وإن كان مَحلّها الفصول المتقدمة، فقد ذكرناها هُنا على حِدة، لما أنها وقعتْ إلينا بعد الانتهاء من الترتيب المتقدم، لأن النفس إلى مثل هذا أميل، وإلى مطالعته أرغب، فنقول، وبالله التوفيق:

روي عن علي بن مُسهر، أنه قال: خرج الأعمش إلى الحج، فشيعه أهل "الكوفة"، وأنا فيهم، فلما أتى "القادسية"، رأوه مَغمومًا، فقالوا له: ما لك؟.

قال: أعليٌّ بن مسهر شيعنا؟.

قالوا: نعم.

قال: ادعوه لي.

فدعوني، وقد كان عرفني بمجالسة أبي حنيفة، فقال: ارجع إلى المِصر، واسأل أبا حنيفة أن يكتب لنا المناسك.

فرجعتُ، فسألتُه، فأملى علي، ثم أتيتُ بها الأعمش.

ص: 324

وعن أبي مُعاوية، قيل للأعمش في علته: لولا أن أبا حنيفة يأتيك، لأتيناك مرتين في اليوم.

فلما جاءه أبو حنيفة، قال: إن الناس يستثقلونني لما أصنع بهم في الحديث، وقد زدتني أنت عندهم ثقلًا، قالوا لي: كيت وكيت.

فقال له: لولا العلم الذي يُجريه الله على لسانك ما رأيتني ولا أحدًا من أصحابي ببابك، وذلك أن فيك خِصالًا أنا لها كارهٌ، تتسحر عند طلوع الفجر، وتقول: هو الأول، وقد صح عندي أنه الثاني، وترى الماء، وتُفتي به، وتجامع أهلك، فإذا لم تنزل لم تغتسل أنت ولا هي، ولولا أنك تتأول من الحديث ما غاب عنك معانيه ما استحللت أن أكلّمك، ولكنّك تتأول شيئًا غيره، والله أولى بك.

فما تسحر الأعمش بعد ذلك إلا بالليل، ولا قرب أهله إلا اغتسل وأمرها بالغسل، وقال: صيام وصلاةٌ يكونان باختلاف، والله لا أفتيت بذلك أبدًا.

وعن عبد الصمد بن حسَّان، قال: كان سفيان الثوري يختلف إلى أبي حنيفة، فوقعتْ بينهما وحشة، فقعدَ عنه، ثم عادَ إليه، فجلس مُتقنعًا، فسئل أبو حنيفة عن مسئلة، فأسرع الجواب فيها، فقال له السائل: يا أبا حنيفة، ألا تنظر فيها؟ قال: إني أستيقن أنهما كما أجبتُ، كما أستيقن أن هذا سُفيان.

ثم أخذ أبو حنيفة بقناعه، فحركه ابن المبارك.

وقال عبد الصمد أيضًا: قلتُ لأبي عبد الله سفيان الثوري: ما تقول في الدعوة قبل الحرب؟ فقال: إن القوم قد علموا ما يُقاتلون عليه.

فقلت: إن أبا حنيفة يقول فيها: ما قد بَلغك.

فنكس رأسه، ثم رفعه، وأبصر يمينًا وشمالًا، فلم ير أحدًا، فقال: إن كان أبو حنيفة ليركب في العلم أحد من سنان الرمح، وكان، والله، شديد الأخذ

ص: 325

للعلم، ذابًا عن المحارم، مُتبعًا لأهل بلده، لا يستحيل أنا يأخذ إلا بما يصحُّ عنده من الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم، شديد المعرفة بناسخ الحديث ومنسوخه، وكان يطلب أحاديث الثقات، والأخير من فعل النبي صلى الله عليه وسلم؛ وما أدرك عليه عامة أهل "الكوفة"، حيث وجد الحق أخذ به، وجعله دينه، وقد شنَّع عديه قوم بما نستغفر الله منه، بل كان منا اللفظة بعد اللفظة.

قال: فقلتُ أرجو أن يغفر الله لك ذلك.

وعن قاسم بن آدم، قال: قلت للفضل بن موسى السيناني: ما تقول في هولاء الذين يقعون في أبي حنيفة.

قال: إن أبا حنيفة عليم كما يعقلونه، وبما لا يعقلونه من العلم، ولم يترك لهم شيئًا، فحسدوه.

وحدّث أبو سفيان الحميري، قال: قال ابن شبرمة: كنتُ شديد الإزراء على أبي حنيفة، فحضر الموسم، كنت حاجًا يومئذٍ، فاجتمع عليه قوم يسألون، فوقفتُ من حيث لا يعلم من أنا، فجاءه رجل، فقال،: يا أبا حنيفة، قصدتُك عن أمر قد أهمَّني، أو أعجزني.

قال: ما هو؟

قال: لي ولد ليس لي غيره، فإن زَوَّجْتُه طلَّق، وإن سَرَّيْتُه أعْتَقَ، وقد عجزتُ عن هذا، فهل من حيلة؟ فقال له للوقت: اشتر الجارية التي يرضاها لنفسه هو، ثم زوّجها منه، فإن طلّقها رجعتْ مملوكتك، وإن أعتق أعتق ما لَا يملك.

قال: فعلمتُ أن الرجل فقيه من يومئذ، فكففتُ عن ذكره إلا بخير.

وروي عن الليث بن سعد، أنه كان يقول: كنتُ أسمع بذكر أبي حنيفة، وأتمنى أن أراه، فكنتُ يومًا في المسجد الحرام، فرأيتُ حلقة عليها الناس منقضين، فأقبلتُ نحوَها، فرأيتُ رجلًا من أهل "خراسان" أتى أبا حنيفة،

ص: 326

فقال: أنا رجل من أهل "خُراسان"، كثير المال، وأن لي ابنًا ليس بالمحمود، وليس له ولد غيره، وذكر نحو ما تقدم.

قال الليث: فو الله ما أعجبَني قوله بأكثرَ مما أعجبَني سرعة جوابه.

وعن عثمان بن زائدة، قال: كنت عند أبي حنيفة، فقال له رجل: ما قولك في الشرب في قدح أو كأس في بعض جوانبه فضة؟ فقال: لا بأس به.

فقال عثمان: فقلتُ له: ما الحجّة في ذلك؟

فقال: إنما ورد النهي عن الشرب في إناء الفضَّة والذهب، فما كان غير الفضَّة والذهب فلا بأس بما كان فيه منهما.

ثم قال: يا عثمان، ما تقول في رجل مرَّ على نهر، وقد أصابَه عطش، وليس معه إناء، فاغترف الماء من النهر، فضربه بكفّه، وفي أصبعه خاتم؟ فقلتُ: لا بأسَ.

قال: فهذا كذلك.

قال عُثمان: فما رأيتُ أحضرَ جوابًا منه.

وعن زفر بن الهذيل، قال: اجتمع أبو حنيفة وابن أبي ليلى وجماعة من العلماء، في وليمة لقوم، فأتوهم بطيب في مدهن فضَّة، فأبوا أن يستعملوه لحال المدهن، فاخذه أبو حنيفة، وسَلَتَه بأصبعه، وجعله في كفّه، ثم تطيّب به، وقال لهم: ألم تعلموا أن أنس بن مالك أتى بخبيص في جام فضة، فقلبه على رغيف، ثم أكله.

فتعجَّبوا من فطنته وعقله.

وعن أبي الوليد الطيالسي، قال: قدم الضحّاك الشَّارِيُّ "الكوفة"، فقال لأبي حنيفة: تبْ.

فقال: ممَّ أتوب؟ فقال: من قولك بتجويز الحكمين.

فقال: أبو حنيفة: تقتلني أو تناظرني.

قال: بل أناظرك.

ص: 327

قال: فإن اختلفنا في شيء مما تناظرنا فيه، فمن بيني وبينك؟ قال: اجعل أنت من شئتَ.

فقال أبو حنيفة لرجل من أصحاب الضحَّاك: اقعدْ بيننا فيما نختلف فيه إن اختلفنا.

ثم قال الضحًاك: أترضى بهذا بيني وبينك؟.

قال: نعم.

فقال أبو حنيفة: فأنتَ قد جوَّزت التحكيم.

فانقطع الضحَّاك.

وعن أبي يوسف، قال: بعث ابن هُبَيرة إلى أبي حنيفة، وعنده ابن شبرمة، وابن أبي ليلى، فسألهم عن كتاب صُلح الخوارج، وكانت بقيتْ بقية من الخوارج، من أصحاب الضحّاك الخارجي، فقالت الخوارج: نريد أن نكتب لنا صُلحًا، على أن لا نؤخذ بشئٍ أصبناه في الفتنة، ولا قبلها، لا الأموال، ولا الدماء.

فقال ابن شبرمة: لا يجوزُ لهم الصلحُ على ذلك، على هذا الوجه، لأنهم يُؤخَذُون بهذه الأموال والدماء.

وقال ابن أبي ليلى: الصلح لهم جائز في كل شيءٍ.

قال أبو حنيفة: فقال لي ابن هبيرة: ما تقول أنت؟ فقلت: أخطأ جميعًا.

فقال ابن هُبَيرة: أفحشت، فقل أنت.

فقلت: القول في هذا، إن كان مال ودم أصابوه من قبل إظهار الفتنة، فإن ذلك يؤخذ منهم، ولا يجوز لهم الصلح عليه، وأما كل شئ أصابوه من مال ودم في الفتنة، فالصلح عليه جائز، فلا يؤخذون به.

فقال ابن هبيرة: أصبتَ، وقلتَ: الصواب، هذا هو القول.

وقال: يا غلام، اكتب ما قال أبو حنيفة.

ص: 328

وعن علي بن عاصم، قال: سألت أبا حنيفة عن درهم لرجل ودرهمين لآخر، اختلطت، ثم ضاع درهمان من الثلاثة، لا يعلم أيّها هما.

فقال: الدرهم الباقي بينها أثلاثًا.

قال علي: فلقيت ابن شبرمة، فسألتُه عنها. فقال: سألت عنها أحدًا غيرى؟ قلتُ: نعم، سألتُ أبا حنيفة عن ذلك، فقال: يُقسم الدرهم الباقي بينهما أثلاثًا.

قال: أخطأ أبو حنيفة، درهم من الدرهمين الضائعين يحيط العلم أنه من الدرهمين، والدرهم الباقي بعد الماضيين يحتمل أن يكون الدرهم الباقي من الدرهمين، ويحتمل أن يكون الدرهم المنفرد المختلط بالدرهمين، فالدرهم الذي بقي يكون بينهما نصفين.

قال ابن عاصم: فاستحسنتُ ذلك، ثم لقيتُ أبا حنيفة، فوالله لو وزن عقله بنصف عقول أهل المصر يعني "الكوفة" لرجح بهم، فقلتُ له: يا أبا حنيفة: خولفت في تلك المسئلة، وقلت له: لقيت ابن شبرمة، فقال: كذا.

فقال أبو حنيفة: إن الثلاثة حين اختلطت ولم تتميز، رجعت الشركة في الكل، فصار لصاحب الدرهم ثلت كل درهم، ولصاحب الدرهمين ثلثا كل درهم، فأيّ درهم ذهب فعلى هذا.

وعن أبي يوسف، قال: جاء رجل إلى مسجد "الكوفة" يوم الجمعة، فدارَ على الخلق يسألهم عن القرآن، وأبو حنيفة غائب بـ "مكة"، فاختلفَ بـ "مكة"، فاختلفَ الناس في ذلك، والله ما أحسبه إلا شيطانًا تصوّر في سورة الأنس، حتى انتهى إلى حلقتنا؛ فسألنا عنها، وسأل بعضنا بعضًا، وأمسكنا عن الجواب، وقلنا: ليس شيخنا حاضرًا، ونكره أن نتقدم بكلام حتى يكون هو المبتدي بالكلام.

فلمَّا قدم أبو حنيفة تلقيناه بـ "القادسية"، فسألنا عن الأهل والبلد، فأجبناه، ثم قلنا له بعد ذلك: رضي الله عنك، وقعتْ مسئلة، فما قولك

ص: 329

فيها؟ فكأنه كأن في قلوبنا، وأنكرنا، وظنّ أنه وقعتْ مسئلة معنتة، وأنا قد تكلمنا فيها بشيءٍ، فقال: ما هي؟ قلتُ: كذا وكذا.

فأمسك ساكتًا ساعة، ثم قال: فما كان جوابكم فيها؟ قُلنا: لم نتكلم فيها بشيءٍ، وخشينا أن نتكلم فيها بشيءٍ، فتنكره.

فسرى عنه، وقال: جزاكم الله خيرًا، احفظوا عنى وصيتى: لا تكلموا فيها، ولا تسألوا عنها أبدًا، انتهوا إلى أنه كلام الله عز وجل، بلا زيادة حرف واحد، ما أحسب هذه المسئلة تنتهى حتى توقع أهل الإسلام في أمر لا يقومون له ولا يقعدون، أعَاذَنا الله وإياكم من الشيطان الرجيم.

وسئل حفص بن مسلم عن القرآن، فقال: القرآن كلام الله، غير مخلوق، ومن قال: غير هذا فهو كافر.

فقال ابنه سالم: هل يخبر عن أبي حنيفة في هذا بشيء؟ فقال: نعم، كان أبو حنيفة على هذا، وما علمتُ منه يضره، ولو علمتُ منه غيره لم أصحبْه.

قال: وكان أبو حنيفة إمام الدنيا في زمانه، فِقهًا وعلمًا وورعًا، وكان محنة، يعرف به أهل الباع من الجماعة ولقد ضرب بالسياط على الدخول في الدنيا لهم، فأبى.

وعن أبي مقاتل: سمعتُ أبا حنيفة يقول: الناس عندنا على ثلاث منازل؟ الأنبياء من أهل الجنة، ومن قالت الأنبياء: إنه من أهل الجنة فهو من أهل الجنة.

والمنزلة الأخرى المشركون، نشهد عليهم أنهم من أهل النار.

والمنزلة الثالثة المؤمنون: نقف عنهم، ولا نشهد على واحد منهم أنه من أهل الجنة، ولا من أهل النار؛ ولكنا نرجو لهم، ونخاف عليهم، ونقول كما قال الله تعالى: {خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ

ص: 330

عَلَيْهِمْ}، حتى يكون الله عز وجل يقضي بينهم، وإنما نرجو لهم، لأن الله عز وجل يقول:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} ، ونخاف عليهم بذنوبهم وخطاياهم، وليس أحدٌ من الناس أوجب له الجنَّة، ولو كان صوَّامًا قوَّامًا غير الأنبياء، ومن قالتْ فيه الأنبياء: إنه من أهل الجنة.

وعن أبي مقاتل أيضًا، عن أبي حنيفة، قال: الأيمان هو المعرفة، والتصديق، والإقرار بالإسلام.

قال: والناس في التصديق على ثلاث منازل: فمنهم من صدق الله، وما جاء منه بقلبه ولسانه.

ومنهم من صدق بلسانه، وهو يكذبه بقلبه.

ومنهم من يصدق بقلبه، ويكذب بلسانه.

فأما من صدق الله، وما جاءَ به رسوله عليه الصلاة والسلام، بقلبه ولسانه، فهو عند الله وعند الناس مؤمن.

ومن صدق بلسانه، وكذب بقلبه، كان عند الله كافرًا، وعند الناس مؤمنًا؛ لأن الناس لا يعلمون ما في قلبه، وعليهم أن يُسموه مؤمنًا، بما أظهرَ لهم من الإقرار بهذه الشهادة، وليس لهم أن يتكلّفوا علم القلوب.

ومنهم من يكون عند الله مؤمنًا، وعند الناس كافرًا، وذلك أن يكون المؤمن يظهر الكفر بلسانه في حال التقية، فيسمّيه من لا يعرفه كافرًا، وهو عند الله مؤمن. انتهى.

ص: 331

‌الفصل التاسع في وصية الإمام الأعظم رحمه الله تعالى:

وللإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه وصية مشهورة، أوصى به أصحابه، تشتمل على كثير من أصول الدين، نقلَها كثير من المؤرخين، يتعين إيرادها هنا، لما اشتملت عليه من صحيح الاعتقاد، ودفع الانتقاد، ورد كلام الحُسَّاد، وهي هذه: قال، رضى الله تعالى عنه: اعلموا يا أصحابي وإخواني، أن مذهب أهل السنَّة والجماعة على اثنتى عشرة خصلة، فمن كان يستقيم على هذه الخصال لا يكون مبتدعًا، ولا صاحب هوى، فعليكم بهذه الخصال، حتى تكونوا في شفاعة سيّدنا محمد، عليه الصلاة والسلام:

الأولى: الإيمان، وهو إقرار باللسان، وتصديق بالجنان.

والاقرار وحدَه لا يكون إيمانًا؛ لأنها لو كان إيمانًا لكان المنافقون كلهم مؤمنين.

وكذلك المعرفة وحدَها لا تكون إيمانًا، لأنها لو كانت إيمانًا لكان أهل الكتاب كلهم مؤمنين.

قال الله تعالى في حق المنافقين: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} .

وقال في حق أهل الكتاب: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} .

والإيمان لا يزيد ولا ينقص، لأنه لا يتصوّر نقصان الإيمان إلا بزيادة الكفر، ولا يتصوّر زيادته إلا بنقصان الكفر، كيف يجوز أن يكون الشخص الواحد في حالة واحدة مؤمنًا وكافرًا.

والمؤمن مؤمن حقًا، والكافر كافر حقًا.

وليس في الإيمان شكٌ، كما أنه ليس في الكفر شكٌ، قال الله تعالى:{أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} ، و {أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} .

ص: 332

والعاصمون من أمة محمد صلى الله عليه وسلم كلهم مؤمنون حقًا، وليسوا بكافرين.

والعمل غير الإيمان، والإيمان غير العمل؛ بدليل أن كثيرًا من الأوقات يرتفع العمل عن المؤمن، ولا يجوز أن يُقال: ارتفع عنه الإيمان، فإن الحائض رفع الله عنها الصلاة، ولا يجوز أن يُقال: رفع الله عنها الإيمان، وأمرها بترك الإيمان، وقال لها الشرع: دعى الصوم ثم أقضيه، ولا يجوز أن يقال: دعى الإيمان ثم اقضيه، ويجوز أن يقال: ليس على الفقراء زكاة، ولا يجوز أن يقال: ليس على الفقراء إيمان.

وتقدر الخير والشر من الله تعالى؛ لأنه لو زعم أحد أن تقدير الخير والشر من غيره لصار كافرًا بالله تعالى، وبطل توحيده، والله أعلم.

والثانية: نقرّ بأن الأعمال ثلاثة؛ فريضة، وفضيلة، ومعصية.

فالفريضة بأمر الله تعالى، ومشيئته، ورضائه، وقدره، وتخليقه، وكتابته في اللوح المحفوظ.

والفضيلة ليست بأمر الله، ولكن بمشيئته، ومحبته، ورضائه، وقدره، وتخليقه، وكتابته في اللوح المحفوظ.

والمعصية ليستْ بأمر الله، لكن بمشيئته، لا بمحبته، وبقضائه، لا برضائه، وبتقديره، لا بتوفيقه، وبخذلانه، وعلمه، وكتابته في اللوح المحفوظ.

والثالثة: نقرّ بأن الله سبحانه وتعالى على العرش استوى، أي استولى، من غير أن يكون جارحةٌ واستقرار، وهو حافظ للعرش وغير العرش من غير احتياج، فلو كان مُحتاجًا لما قدر على إيجاد العالم وتدبيره، ولو كان مُحتاجًا إلى الجلوس والقرار لكان قبل خلق العرش، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

والرابعة: نقرّ بأن القرآن الكريم كلام الله تعالى غير مخلوق، ووحيه، وتنزيله، لا هو ولا غيره، بل هو صفته على التحقيق، مكتوب في المصاحف، مقروء بالألسنة، محفوظ في الصدور، غير حال فيها، والحبر والكَاغَدُ والكتابة

ص: 333

مخلوق لأنها أفعال العباد، لأن الكتابة والحروف والكلمات والآيات دلالة القرآن، لحاجة العباد إليها.

وكلام الله تعالى قائم بذاته، ومعناه مفهوم بهذه الأشياء، فمن قال: بأن كلام الله مخلوق فهو كافر بالله العظيم، والله تعالى معبود، لا يزال عما كان، وكلامه مقروء، ومكتوب، ومحفوظ في الصدور من غير مزايلة عنه.

والخامسة: نقرّ بأن أفضل هذه الأمة بعد نبينا محمد عليه الصلاة والسلام أبو بكر الصديق، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، رضوان الله عليهم أجمعين؛ لقوله تعالى:{وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} .

كل من كان أسبق إلى الخير فهو أفضل عند الله تعالى، ويحبّهم كل مؤمن تقي، ويبغضهم كل منافق شقي.

والسادسة: نقرّ بأن العبد مع أعماله وإقراره ومعرفته مخلوق، فلما كان الفاعل مخلوقًا، فأفعاله أولى أن تكون مخلوقة.

والسابعة: نقرّ بأن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق، ولم يكن لهم طاقة؛ لأنهم ضعفاء عاجزون، فالله تعالى خالقهم ورازقهم؛ لقوله تعالى:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} .

والكسب بالعلم والمال من الحلال حلال، ومن الحرام حرام.

والناس على ثلاثة أصناف؛ المؤمن المخلص في إيمانه، والكافر الجاحد في كفره، والمنافق المداهن في نفاقه.

والله تعالى فَرَض على المؤمن العمل، وعلى الكافر الإيمان، وعلى المنافق الإخلاص؛ لقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} ، يعني يا أيها المؤمنون أطيعوا الله بالعمل الصالح، ويا أيها الكافرون آمنوا، ويا أيها المنافقون أخلصوا، والله أعلم.

ص: 334

والثامنة: نقرّ بأن الأستطاعة مع الفعل، لا قبل الفعل، ولا بعد الفعل؛ لأنه لو كان قبل الفعل لكان العبد مُستغنيًا عن الله تعالى وقت الحاجة، فهذا خلاف حكم النص؛ لأنه لو كان قبل الفعل لكان العبد مُستغنيًا عن الله تعالى وقت الحاجة، فهذا خلاف حكم النص؛ لقوله تعالى:{وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} ، ولو كان بعد الفعل لكان من المحال، لأنه حصول بغير استطاعة، ولا طاقة.

والتاسعة: نقرّ بأن المسح على الخفين واجب للمقيم يومًا وليلة، وللمسافر ثلاثة أيام ولياليها؛ لأن الحديث ورد هكذا، فمن أنكر فإنه يُخشى عليه الكفر، لأنه قريب من الخبر المتواتر.

والقصر والإفطار في السفر رخصة بنص الكتاب؛ لقوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} ، وفي الإفطار قوله تعالى:{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَر} .

والعاشر: نقرُّ بأن الله تعالى أمر القلم أن يكتب، فقال القلم: ماذا أكتبُ يا رب؟ فقال الله تعالى: اكتبْ ما هو كائن إلى يوم القيامة؛ لقوله تعالى: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ} .

والحادية عشر: نقرُّ بأن عذاب القبر كائن لا محالة، وسؤال منكر ونكير حق؛ لورود الأحاديث، والجنة والنار حق، وهما مخلوقتان لأهلهما؛ لقوله تعالى في حق المؤمنين:{أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} ، وفي حق الكافرين:{أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} ، خَلقهما الله تعالى للثواب والعقاب، والميزان حق؛ لقوله تعالى:{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} . وقراءة الكتب، لقوله تعالى:{اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} .

والثانية عشر: نقرُّ بأن الله تعالى يُحيي هذه النفوس بعد الموت، ويبعثُهم في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، للجَزَاء والثواب، وأداء الحُقوق؛ لقوله تعالى:{وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} .

ص: 335

ولقاء الله تعالى لأهل الحق حق، بلا كيفية، ولا تشبيه، ولا وجه.

وشفاعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم للكل من هو من أهل الجنة، وإن كان صاحب الكبيرة.

وعائشة رضي الله تعالى عنها بعد خديجة الكبرى أفضل نِساء العالمين، وأم المؤمنين، ومطهرة من الزنا، بريئة عن ما قال الروافض، فمن شهد عليها بالزنا فهو ولد الزنا. وأهل الجنة في الجنة خالدون، وأهل النار في النار خالدون، لقوله تعالى في حق المؤمنين:{أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} ، وفي حق الكفار:{أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} .

‌وصية أخرى للإمام الأعظم رحمه الله:

وللإمام رضى الله تعالى عنه وصية أخرى، أوصى بها الإمام أبا يوسف، رحمه الله تعالى، لا بأس بإيرادها هنا؛ فإنها قد تضمنت كثيرًا من لطائف الحكماء، ومحاسن الكلم، وفيها لمن تدبّرها نفع كبير، وأدب غزير.

وقد نقلها الشيخ الفاضل زين بن نجيم في آخر كتابه "الأشباه والنظائر"، ومنها نقلنا.

وقال رضى الله تعالى عنه: يا يعقوب! وقّر السلطان، وعظّمْ منزلتَه، وإياك والكذبَ بين يديه، والدخولَ عليه في كل وقت ما لم يدعك لحاجة؛ فإنك إذا أكثرتَ الاختلافَ عليه تهاونَ بك، وصغرتْ منزلتُك عنده، فكنْ منه كما أنتَ من النار، تنتفع منها، وتتباعد عنها؛ فإن السلطان لا يرى لأحد ما يرى لنفسه.

وإياك وكثرة الكلام بين يديه، فإنه يأخذ عليك ما قلتَه، ليرى من نفسه بين يدي حاشيته أنه أعلم منك وأنه يخطئك، فتصغر في أعين قومه، ولتكن إذا دخلت عليه تعرف قدرَك وقدرَ غيرك، ولا تدخل عليه وعنده من أهل العلم من لا تعرفه؛ فإنك إن كنت أدون حالًا منه لعلّك ترتفع عليه فيضرّك، وإن كنت أعلم منه لعلك تنحطّ عنه، فتسقط بذلك من عين

ص: 336

السلطان، وإذا عرض عليك شيئًا من أعماله، فلا تقبلْ منه إلا بعد أن تعلم أنه يرضاك، ويرضى مذهبك في العلم والقضايا؛ كيلا تحتاج إلى ارتكاب مذهب غيرك في الحكومات، ولا تواصل أولياء السلطان وحاشيته، بل تقرب إليه فقط، وتباعدْ عن حاشيته؛ ليكون مجدُك وجاهُك باقيًا.

ولا تتكلمْ بين يدي العامة إلا بما تُسأل عنه.

وإياك والكلامَ في العامة والتجّار إلا بما يرجع إلى العلم؛ كيلا يوقف على حبّك ورغبتك في المال؛ فإنهم يُسَيّئُون الظنّ بك، ويعتقدون ميلَك إلى أخذ الرشوة منهم.

ولا تضحكْ، ولا تبتسّمْ بين يدي العامة.

ولا تكثر الخروجَ إلى الأسواق.

ولا تكلم المراهقين، فإنهم فتنة، ولا بأس أن تكلم الأطفال، وتمسح رءوسَهم.

ولا تمش في قارعة الطريق مع المشايخ والعامة، فإنك إن قدمتهم ازدرى بعلمك، وإن أخرتهم ازدرى بك، من حيث إنهم أسنّ منك، قال النبي صلَّى الله عليك وسلَّم:"من لم يرحم صغيرَنا، ولم يوقّر كبيرَنا، فليسَ منا".

ولا تقعدْ على قوارع الطريق، فإذا دعاك ذلك فاقعد في المسجد.

ولا تأكل في الأسواق والمساجد.

ولا تشربْ من السقايات، ولا من أيدي السقائين.

ولا تقعدْ على الحوانيت.

ولا تلبس الديباج، والحلي، وأنواع الإبريسم؛ فإن ذلك يقضي إلى الرعونة.

ولا تكثر الكلام في بيتك مع امرأتك في الفراش، إلا وقت حاجتك إليها بقدر ذلك، ولا تكثرْ لمسَها، ولا تقربْها إلا بذكر الله تعالى، ولا تتكلّم

ص: 337

بأمر نساء الغير بين يديها، ولا بأمر الجواري، فإنها تنبسط إليك في كلامك، ولعلّك إذا تكلمتَ عن غيرها تكلمتَ عن الرجال الأجانب.

ولا تتزوّج امرأة كان لها بعل، أو أب، أو أم، أو بنت، إن قدرت، إلا بشرط أن لا يدخل عليها أحد من أقاربها، فإن المرأة إذا كانت ذات مال يدعي أبوها أن جميع مالها له، وأنه عارية في يدها.

ولا تدخل بيت أبيها ما قدرت، وإياك أن ترضى أن تزف في بيت أبويها، فإنهم يأخذون أموالك، ويطمعون فيها غايةَ الطمع.

وإياك أن تتزوّج بذات البنين والبنات، فإنها تدّخر جميعَ المال لهم، وتسرق من مالك، وتنفق عليهم؛ فإن الولدَ أعزّ عليها منك.

ولا تجمع بين امرأتين في دار واحدة، ولا تتزوّجْ إلا بعدَ أن تعلم أنك تقدر على القيام بجميع حوائجها.

واطلب العلم أولًا، ثم اجمع المال من الحلال، ثم تزوّج، فإنك إن طلبت المال في وقت التعلّم عجزتَ عن طلب العلم، ودعاك المال إلى طلب الجواري والغلمان، وتشتغل بالدنيا والنساء قبل تحصيل العلم، فيضيع وقتك، ويجتمع عليك الولد، وتكثر عيالك، فتحتاج إلى القيام بمصالحهم وترك العلم.

واشتغل بالعلم في عنفوان شبابك، ووقت فراغ قلبك وخاطرك، ثم اشتغل بالمال ليجتمع عندك؛ فإن كثرة الولد والعيال يشوش البال، فإذا جمعت المال فتزوّج.

وعليك بتقوى الله، وأداء الأمانة، والنصيحة لجميع الخاصة والعامة. ولا تستخف بالناس، ووقّر نفسك ووقّرهم، ولا تكثر معاشرتهم إلا بعد أن يعاشروك، وقابل معاشرتهم بذكر المسائل، فإنه إن كان من أهله اشتغل بالعلم، وإن لم يكن من أهله أحبَّك.

ص: 338

وإياكَ أن تكلم العامة بأمر الدين في الكلام، فإنهم قوم يقلّدونك، فيشتغلون بذلك.

ومن جاءَك يستفتيك في المسائل، فلا تجبْ إلا عن سؤاله، ولا تضم إليه غيره؛ فإنه يشوش عليه جواب سؤاله.

وإن بقيت عشر سنين بغير كتب ولا قوة فلا تعرض عن العلم، فإنكَ إن أعرضتَ عنه كانت معيشتُك ضنكا.

وأقبل على مُتفقهيك، كانك اتخذت كل واحد منهم ابنًا وولدا، يزيدهم رغبة في العلم.

ومن ناقشك من العامة والسوقة، فلا تُناقشْه؛ فإنه يذهب ماء وجهك.

ولا تحتشمْ من أحدٍ عند ذكر الحق، وإن كان سُلطانًا.

ولا ترض لنفسك من العبادات إلا بكثرَ مما يفعله غيرك، وتعاطاها؛ فإن العامة إذا لم يروا منك الإقبال عليها بأكثرَ مما يفعلون، اعتقدوا فيك قلة الرغبة، واعتقدوا أن علمك لا ينفعك إلا ما نفعهم الجهل الذي هم فيه.

وإذا دخلت بلدة فيها أهل العلم، فلا تتخذْ لنفسك، بل كن كواحد من أهله؛ ليعلموا أنك لا تقصد جاهَهم، وإلا يخرجون عليك بأجمعهم، ويطعنون في مذهبك، وتصير مطعونًا عندهم بلا فائدة.

وإن استفتوك في المسائل، فلا تناقشْهم في المناظرة والمطارحات، ولا تذكر لهم شيئًا إلا عن دليل واضح، ولا تطعنْ في أساتذتهم، فإنهم يطعنون فيك.

كنْ من الناس على حذر، وكنْ لله تعالى في سرّك، كما أنت له في علانيتك، ولا يصلح أمر العلم إلا بعد أن يجعل سرّه كعلانيته.

وإذا ولاك السلطان عملًا، فلا تقبلْ ذلك منه، إلا بعد أن تعلم أنه إنما يولّيك ذلك لعلمك.

ص: 339

وإياك أن تتكلم في مجلس النظر على خوف؛ فإن ذلك يورثْ الخللَ في الألفاظ، والكللَ في اللسان.

وإياك أن تكثر الضحكَ، فإنه يميت القلب.

ولا تمش إلا على طمأنينة. ولا تكن عجولًا في الأمور.

ومن دعاك من خلفك فلا تجبْه، فإن البهائم تُنادى من خلف.

وإذا تكلمتَ فلا تكثر صياحَك، ولا ترفع صوتَك واتخذْ لنفسك السكون وقلة الحركة؛ كي يتحقق عند الناس ثباتك.

وأكثر ذكر الله تعالى فيما بين الناس؛ ليتعلموا ذلك منك.

واتخذ لنفسك وردًا خلف الصلوات، تقرأ فيه القرآن، وتذكر الله تعالى، وتشكره على ما أودعَك من الصبر، وأولاك من النعم.

واتخذْ أيامًا معدودة من كل شهر تصوم فيها؛ ليقتدي غيرك بك.

وارقبْ نفسك، وحافظْ على الغير؛ لتنتفع من دنياك وآخرتك بعلمك.

ولا تشتر بنفسك ولا تبعْ، بل اتخذْ لك مُصلحًا يقوم بأشغالك، وتعتمدْ عليه في أمورك، ولا تطمئنَّ إلى دنياك، وإلى ما أنتَ فيه، فإن الله تعالى سائلك عن جميع ذلك.

ولا تشتر الغلمان المرد.

ولا تظهر من نفسك التقرّب إلى السلطان قربك؛ فإنه ترفع إليه الحوائج، فإن قمت أهانك، وإن لم تقم أعابك.

ولا تتبع الناس في خطاياهم، بل اتبع في صوابهم.

وإذا عرفت إنسانًا بالشرّ فلا تذكره به، بل اطلبْ منه خيرًا، فأذكره به، إلا في باب الدين، فإنك إن عرفت في دينه ذلك فاذكره للناس؛ كيلا يتبعوه ويحذروه، قال عليه الصلاة والسلام:"اذكروا الفاجر بما فيه، حتى يحذره الناس"، وإن كان ذا جاه ومنزلة، فادكر ذلك، ولا تبال من جاهه؛ فإن الله

ص: 340

تعالى معينك وناصرك وناصر الدين، فإذا فعلت ذلك مرة هابوك، ولم يتجاسرْ أحد على إظهار البدعة في الدين.

وإذا رأيتَ من سفطانك ما لا يوافق العلم، فاذكر ذلك مع طاعتك إياه؛ فإن يده أقوى من يدك، تقول له: أنا مطيع لك في الذي أنت فيه سلطان، ومُسلط علي، غير أني أذكر لك من سيرتك ما لا يوافق العلم، فإذا فعلت ذلك مع السلطان مرة كَفَاكَ لأنكَ إذا واظبتَ عليه، ودمتَ، لعلهم يمقتونك، فيكون قمعًا للدين، فإذا فعل ذلك مرة أخرى، فادخل عليه وحدَك في داره، وانصحْه في الدين، وناظرْه إن كان مبتدعًا، وإنه كان سلطانًا، فاذكرْ له ما يحضرك من كتاب الله تعالى وسنَّة رسوله عليه الصلاة والسلام، فإن قبل منكَ، وإلا فاسأل الله تعالى أن يحفظك منه، واذكر الموت، واستغفرْ للأستاذ، ومن أخذت عنهم العلم، وداومْ على التلاوة، وأكثر من زيارة القبور والمشايخ والمواضع المباركة.

واقبل من العامة ما يقضون عليك من رؤياهم للنبي صلى الله عليه وسلم، ورؤيا الصالحين في المنازل، والمساجد، والمقابر.

ولا تجالس أحدًا من أهل الأهواء إلا على سبيل الدعوة إلى الدين، ولا تكثر اللعب، والشتم.

وإذا أذّن الموذّن فتأهبْ لدخول المسجد؛ كيلا تتقدم عليك العامة.

ولا تتخذْ دارك في جوار السلطان.

وما رأيت على جارك فاستره عليه؛ فإنه أمانة، ولا تظهر أسرار الناس.

ومن استشارك في شيء فأشر عليه بما يقربك إلى الله تعالى.

وإياك والبخل؛ فإنه تنتقص به المروءة.

ولا تك طماعًا، ولا كاذبا، ولا صاحب تخاليط، بل احفظْ مروءتك في الأمور كلها.

ص: 341

والبسْ من الثياب البيض في الأحوال كلها.

وأظهرْ غنى القلب، مُظهرًا في نفسك قلة الحرص، والرغبة في الدنيا، وأظهر من نفسك الغنى، ولا تظهر الفقر، وإن كنت فقيرًا.

وكنْ ذا همة، فإن من ضعفتْ همتُه ضعفتْ منزلتُه.

وإذا مشيت في الطريق فلا تلتفت يمينًا ولا شمالًا، بل داوم النظر إلى الأرض.

وإذا دخلت الحمَّام، فلا تساو الناس في أجرة الحمام، بل ارجح على ما تعطي العامة؛ لتظهر مروءتُك بينهم، فيعظمونك.

ولا تسلم الأمتعة إلى الحائك وسائر الصنَّاع، بل اتخذ لنفسك ثقة يفعل ذلك.

ولا تماكس بالحبات والدوانيق، ولا تزنْ بالدراهم، بل اعتمدْ على غيرك.

وحقِّر الدنيا المحقَّرة عند أهل العلم؛ فذلك أحفظ لحاجتك.

وإياك أن تكلم المجانين، ومن لا يعرف المناظرة والحجَّة من أهل العلم، والذين يطلبون الجاة، ويستغرقون بذكر المسائل فيما بين الناس؛ فإنهم يطلبون تخجيلك، ولا يبالون منك، وإن عرفوك على الحق.

وإذا دخلت على قوم كبار فلا ترتفع عليهم بعالم يرفعوك، لئلا يلحق بك منهم أذية.

وإذا كنت في قوم فلا تتقدمْ عليهم في الصلاة، ما لم يقدموك على وجه التعظيم.

ولا تدخل الحمَّام وقت الظهيرة أو الغداة.

ص: 342

ولا تحضر مظالم السلاطين، إلا إذا عرفت أنك إذا قلتْ شيئًا ينزلون على قولك بالحق، فإنهم إن فعلوا ما لا يحل وأنت عندهم ربما لا تملك منعَهم، ويظن الذين هناك أن ذلك حق؛ لسكوتك فيما بينهم وقت الأقدام عليه.

وإياك والغضب في مجلس العلم.

ولا تقصَّ على العامة؛ فإن القاصَّ لا بدَّ له أن يكذب.

وإذا أردتَ اتخاذ مجلس لأحدٍ من أهل العلم، فاحضرْ بنفسك، واذكرْ فيه ما تعلمه؛ كيلا يغترَّ الناس بحضورك، فيظنّون أنه على صفة من العلم، وليس هو على تلك الصفة، فإن كان يصلح للفتوى فاذكرْ منه ذلك، وإلا فلا، ولا ليدرس بين يديك، بل اتركْ أحدًا من أصحابك؛ ليخبرك بكيفية كلامه، كمية علمه.

وفوّض أمرَ المناكح إلى خطيب ناحيتك، وكذا صلاة الجنائز والعيدين.

ولا تنسني من صالح دعائك.

واقبل هذه الموعظة مني، وإنما أوصيك لمصلحتك، ومصلحة المسلمين. انتهى.

هذا، وقد آن لنا أن نحبس عنانَ القلم عن الجري في ميدان لا غاية لمداه، وأن نكفَّ لسانَ المقال عن تعداد ما لا سبيلَ إلى حصره، وليسَ يدرك منتهاه، على أن ما أوردنا منه فيه مقنع لمنَ نوَّر الله بصيرته، وطهر من دنس التعصّب سريرته، وأحسن في السلف عقيدته، ولم ينكر لأحد من الناس فضيلته.

ولقد صنف الفضلاء في مناقب هذا الإمام الجليل كتبًا لا تحصى، وأورد فيها من فضائله ومناقبه ما لا يستقصى، كل منهم معترف بأنه لم يبلغ

ص: 343

من تعداد فضائله، وما يستحقُّه، وما كان عليه من العلم والعمل، عُشر معشاره، رضي الله تعالى عنه وأرضاه.

‌الفصل العاشر في مكانة الإمام أبي حنيفة في الحديث

هل كان أبو حنيفة قليلَ البضاعة من الحديث؟ يروي لنا الخطيبُ البغداد نقولا متعددة، يروي فيها أصحابها أبا حنيفة بقلة البضاعة في الحديث، وضعفه فيه، من ذلك: ما نقلَه عن ابنُ المبارك كان أبو حنيفة يتيما في الحديث، وعن أبي قطن كان زمنا في الحديث، وعن يحيى بن سعيد القطَّان لم يكن بصاحب حديث، وعن يحيى بن مَعين أيش كان عند أبي حنيفة من الحديث، حتى تسأل عنه؟ وعن أحمد بن حنبل أنه ليس له رأي ولا حديث، وعن أبي بكر بن أبي داود جميع ما روي عن أبي حنيفة من الحديث مائة وخمسون حديثا، أخطأ في نصفها، وعن عبد الرزاق ما كتبتُ عن أبي حنيفة إلا لأكثر به رجالا، وكان يروي عنه نيفا وعشرين حديثا، وعن ابن المديني أنه روى خمسين حديثا، أخطأ فيها، هذه الأقوال مبثوثة في الجزء الثالث عشر من "تاريخ الخطيب" ص 444، وما بعدها.

ونحن نريد أن نورد الجوابَ في هذا الصدد بالبسط والتفصيل، ونحب أن نسوق ما قاله شيخُنا وأستاذُنا البحَّاثة النقَّاد فخر الأحناف مخدوم العلماء الفاضل النبيل الأديب الأريب المحدّث الكبير العلامة محمد عبد الرشيد بن المنشئ محمد عبد الرحيم بن محمد بخش النعماني رحمهم الله تعالى رحمة واسعة، وجعل الفردوسَ مثواه، في كتابه القيم الممتع:"مكانة الإمام أبي حنيفة في الحديث"، فأفاد وأجاد، ونصه ما يلى:

ص: 344

‌مكانة الإمام أبي حنيفة

وقد كان أبو حنيفة رحمه الله تعالى أحد أئمة الدنيا فقها وعلما وورعا وحفظا وضبطا، وكان معدودا في الأجواد الأسخياء، والألبَّاء الأذكياء، مع الدين والعبادة والتهجّد وكثرة التلاوة وقيام الليل.

وكان ممن عُنِيَ بعلم الكتاب والسنّة وسَعى في طلب الحديث، ورَحَل فيه، كثرتْ عنايتُه بالسنن وجعه لها، وذبِّه عن حريمِها، وقمعِه من خالفها أو رام مُباينتَها، مُؤْثرًا لسنَّة رسول الله صلَّى الله تعالى عليه وسلَّم على غيرها، وهو أول من عرّج على الأقوياء من الثقات، وترك الضعفاءَ في الروايات، لزم الحديثَ والفقهَ، وواظبَ على الورع والعبادة، حتى صار عَلَمًا، يُرجَعُ إليه في الأمصار، ومَلْجأً يُقتدى به في الأقطار.

وأحوالُه في العلم والحفظ والصيانة والإتقان، والاجتهاد في تحصيل العلم والفقه ونشرهما، والصبر على ترك مناصب السلطان، وبذل النفس في إشاعة العلم والعبادة والكرم، وهوانِ الدنيا عنده، وعدم المبالاة بحُطام هذه الفانية الزائلة، مع الدين والسلامة وجَمْعِ أنواع الخير: أكثرُ من أن يُحصر، وأشهرُ من أن يُشَهَّر.

وقد انعقد الإجماعُ على إمامته وجلالته وعلوِّ مرتبته، وكمالِ فضيلته، وأقاويل السلف كثيرة مشهورة في الثناء عليه في ورعه وزهده وعبادته، ومجانبته السلطانَ وإنكاره ولايةَ القضاء، ووفور علمه كثرة حديثه، وبراعته في الفقه واتباعه السنّة، وأخبار إجلال أعيان أئمة زمانه من جميع الأقطار إياه واعترافهم بمزاياه وفيرةٌ مستفيضةٌ، كل ذلك مُدوَّن في كتب التواريخ والرجال، لا حاجةَ لنا بذكرها.

ص: 345

‌عنايته بطلب الحديث

وقد شهد له أئمةُ النقد وكبارُ المحدّثين بعنايته بطلب الحديث وارتحاله في ذلك ومعاناته في تحصيله.

قال الحافظ الذهبي في ترجمة أبي حنيفة من كتابه "سير أعلام النبلاء"

(1)

: "وعُني بطلب الأثار، وارتحل في ذلك". ا هـ.

وقال أيضًا:

(2)

"إن الإمام أبا حنيفة طلب الحديثَ وأكثرَ منه في سنة مائة وبعدها". ا هـ.

وقال أيضًا في جزئه الذي صنّفه في "مناقب أبي حنيفة" في ذكر شيوخه:

(3)

"وسمع الحديث من عطاء بن أبي رَبَاح بـ "مكة"، وقال: ما رأيتُ أفضل من عطاء".

قلتُ: وكان عطاء أيضًا يُفضِّلُه على تلامذته، فكان أبو حنيفة إذا حضر مجلسَ السماع أوسَعَ له، وأدناه، كما سيأتي.

وقال في "دول الإسلام"

(4)

: "وأكبرُ شيوخه عطاء بن أبي رَباح، وشيخه في الفقه حماد بن أبي سليمان". ا هـ.

قال الحافظ أبو بكر الخطيب في "تاريخ بغداد"

(5)

: أخبرنا أبو نعيم الحافظ، حدثنا أبو بكر عبد الله بن يحيى الطَّلْحي، حدثنا عثمان بن عبيد الله

(1)

6: 392 من الطبعة الثالثة ببيروت سنة 1405.

(2)

6: 396.

(3)

"مناقب الإمام أبي حنيفة وصاحبيه" ص 110 طبع مصر.

(4)

"دول الإسلام" للذهبي 1: 79 طبع دائرة المعارف النظامية بحيدرآباد الدكن بالهند سنة 1337.

(5)

13: 331.

ص: 346

الطلحي، حدثنا إسماعيل بن محمد الطلحي، حدثنا سعيد بن سالم البصري، قال: سمعتُ أبا حنيفة يقول: لقيتُ عطاءً بـ "مكة" فسألتُه عن شيء، فقال: من أين أنتَ؟ قلتُ: من أهل "الكوفة"، قال: أنت من أهل القرية الذين فرَّقُوا دِيْنَهم وكانوا شِيَعًا؟ قلت نعم! قال: فمِنْ أيِّ الأصناف أنت؟ قلتُ: ممن لا يَسُبُّ السلفَ، ويؤمنُ بالقدر، ولا يُكَفِّرُ أحدًا بذنب، قال: فقال لي عطاء: عرفتَ فالزم". ا هـ.

وقال الإمامُ المحدّثُ الفقيه شيخ الخطيب البغدادي، القاضي، أبو عبد الله الحسين بن علي الصيمرى في كتابه "أخبار أبي حنيفة وأصحابه"

(1)

: "أخبرنا عبد الله بن محمد، قال: حدثنا مُكرَّم، قال: حدثنا عبد الصمد بن عبيد الله، عن عبد الله بن محمد بن نوح، قال: ثنا حفص بن يحيى، قال: ثنا محمد بن أبان، عن الحارث بن عبد الرحمن، قال: كنا نكون عند عطاء، بعضُنا خلفَ بعض، فإذا جاء أبو حنيفة أوسَعَ له، وأدناه". ا هـ.

قلتُ: وصنيعُهُ هذا معه يدلّ على أن الإمام أبا حنيفة كان من أنجب تلامذته في الحديث، وقد ذكر الإمامُ عبد الوهَّاب الشعراني في كتابه "الميزان الكبرى"

(2)

: سَنَدَ: أبو حنيفة، عن عطاء، عن ابن عباس، كما ذكر سَنَدَ: مالك، عن نافع، عن ابن عمر، حيْنَما تعرض لبيان أسانيد الأئمة المجتهدين في الكتاب والسنَّة.

وكذلك شيخه في الفقه حماد بن أبي سليمان أيضًا يُجْلِسُه في صدر الحلقة حذاءَهُ، قال الحافظ أبو بكر الخطيب في "تاريخ بغداد"

(3)

: "أخبرنا

(1)

ص 83 طبع حيدرآباد الدكن بالهند سنة 1394.

(2)

1: 48.

(3)

13: 332 - 333.

ص: 347

الخلّالُ، أخبرنا الحريري أن النخعيَّ حدّثهم، قال: حدثني جعفر بن محمد بن حازم، حدّثنا الوليد بن حماد، عن الحسن بن زياد، عن زفر بن الهذيل، قال: سمعتُ أبا حنيفة يقول: كنتُ أنظر في الكلام حتى بلغتُ فيه مبلَغُا، يُشارُ إليّ فيه بالأصابع، وكنّا نجلِسُ بالقرب من حلقة حماد بن أبي سليمان، فجاءتْني امرأة، فقالت: رجل له امرأة أمة أراد أن يُطلِّقَها للسنّة، كم يُطلِّقُها؟ فلم أدر ما أقول؟ فأمرتُها تسأل حمادا، ثم ترجعُ، فتُخبِرُني، فسألتْ حمادا، فقال: يطلقُها وهي طاهرة من الحيض والجماع تطليقة، ثم يتركها حتى تحيض حيضتين، فإذا اغتسلتْ فقد حلّت للأزواج. فرجعتْ فأخبرتْني، فقلتُ: لا حاجة لي في الكلام، وأخذتُ نعليّ، فجلستُ إلى حماد، فكنتُ أسمع مسائله، فأحفظ قولَه، ثم يُعيِدُها من الغد، فاحفظها، ويُخْطئُ أصحابُه، فقال: لا يجلِسْ في صدر الحلقة بحذائي غيرُ أبي حنيفة". ا هـ.

قلتُ: هذا يدل على جودة حفظ الإمام وإتقانه.

وقال الحافظ أبو بكر الخطيب في "تاريخ بغداد"

(1)

: "أخبرني محمد بن عبد الملك القرشى، أنبأنا أبو العبَّاس أحمد بن محمد بن الحسين الرازي، حدثنا علي بن أحمد القاري، أخبرنا محمد بن الفضل هو البلخى العابد، أنبأنا أبو مطيع، قال: قال أبو حنيفة: دخلتُ على أبي جعفر أمير المؤمنين، فقال لي: يا أبا حنيفة عمن أخذتَ العلمَ؟ قال: قلتُ: عن حماد عن إبراهيم عن عمر بن الخطَّاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس، قال: فقال أبو جعفر: بَخ بَخ، استوثقتَ ما شئتَ، يا أبا حنيفة، الطيّبين الطاهرين المباكين، صلوات الله عليهم". ا هـ.

(1)

13: 334.

ص: 348

هكذا وقع في المطبوع من "تاريخ بغداد"، والصوابُ ("عن إبراهيم عن أصحاب عمر بن الخطَّاب"

إلخ) صرَّح به العلامة الكوثري في "التأنيب"

(1)

.

قلتُ: وقد فاق الإمام في طلب الحديث على مشايخ عصره، فقد روى الحافظ الذهبي في "مناقب أبي حنيفة"

(2)

عن الإمام مِسْعَر بن كِدَام، قال:"طلبتُ مع أبي حنيفة الحديثَ، فغلبَنا، وأخذنا في الزهد، فبرع علينا، وطلبنا الفقه، فجاء منه ما ترون". ا هـ.

قلتُ: ومسعر بن كدام هذا ذكره الذهبي في "تذكرة الحُفّاظ"، وحلّاه في كتابه "سير أعلام النبلاء" بالإمام الثبتِ شيخِ "العراق" الحافظ.

وقال صدر الأئمة المكي: وكان مسعر بن كدام أحدَ مفاخر "الكوفة" في حفظه وزهدهِ، وكان من شيوخ أبي حنيفة، روى عنه في "مسنده"

(3)

.

‌إمامة أبي حنيفة في الحديث:

وقد شهد الأئمة في القديم والحديث بإمامة أبي حنيفة في الحديث، قال الإمام المحدّث حافظ المغرب أبو عمر يوسف بن عبد البر النَّمَيرِي القرطبى الأندلسى رحمه الله تعالى في كتابه المعروف "جامع بيانِ العلم وفضله وما ينبغى في روايته وحَمْلته"

(4)

: "حدثنا عبد الله بن محمد بن يوسف، قال: حدثنا ابن رَحْميون، قال: سمعتُ محمد بن بكر بن داسهْ يقول: سمعتُ أبا داود سليمان بن الأشعث السجستاني، يقول: رحم الله

(1)

"تأنيب الخطيب" ص 29.

(2)

ص 27.

(3)

من "مناقب الإمام الأعظم" لصدر الأئمة الموفق 2: 37، طبع دائرة المعارف بحيدر آباد الدّكن بالهند.

(4)

2: 163، طبع إدارة الطباعة المنيرية بمصر.

ص: 349

مالكا، كان إماما، رحم الله الشافعي، كان إماما، رحم الله أبا حنيفة، كان إماما".

وقال في كتابه: "الانتقاء في فضائل الثلاثة الفقهاء، مالك والشافعي وأبي حنيفة رضي الله عنهم، وذكرِ عيونٍ من أخبارهم وأخبار أصحابهم للتعريف بجلالة أقدارهم"

(1)

: "حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن بن يحيى رحمه الله، قال: أنا أبو بكر محمد بن بكر بن عبد الرزّاق التمَّار المعروف بابن داسَهْ، قال: سمعتُ أبا داود سليمان بن الأشعث بن إسحاق السجستاني رحمه الله، يقول: رَحِمَ اللهُ مالكا كان إماما، رحم الله الشافعي، كان إماما، رحم الله أبا حنيفة، كانا إماما".

فهذه شهادة الإمام الثبتِ سيّدِ الحفّاظ شيخ السنّة أبي داود الأزدي السجستاني صاحب "السنن" رحمه الله تعالى، في حق الأئمة الثلاثة بإمامتهم، وتجدُ شرحَ هذه الإمامة مستوفى فيما كتبه الإمامُ الحافظ العلامة شيخُ "خراسان" أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي رحمه الله تعالى في مدخل كتابه "دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة"

(2)

ونصه:

"فصل: ومما يحق معرفته في الباب أن تعلم أن الله تعالى بعث رسوله صلى الله عليه وسلم بالحق، وأنزل عليه كتابه الكريم، وضمن حفظه، كما قال تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}

(3)

ووضع رسوله صلى الله عليه وسلم من دينه وكتابه موضع الإبانة عنه، كما قال:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}

(4)

، وترك نبيه في أمته حتى يبين لأمته

(1)

ص 232 عنيت بنشره مكتبة القدسي بالقاهرة عام 1350.

(2)

1: 43 - 46 طبع بيروت، الطبعة الأولى سنة 1405.

(3)

من سورة الحِجْر، الآية 9.

(4)

من سورة النحل، الآية 44.

ص: 350

ما بعث به، ثم قبضه الله تعالى إلى رحمته، وقد تركهم على الواضحة، فلا تنزل بالمسلمين نازلة إلا وفي كتاب الله وسنة رسول الله بيانهًا نصًا أو دلالة.

وجعل في أمته في كل عصر من الأعصار أئمة يقومون ببيان شريعته، وحفظها على أمته، ورد البدعة عنها.

كما أخبرنا أبو سعد أحمد بن محمد الصوفي، قال: أخبرنا أبو أحمد بن عدي الحافظ، حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز، حدثنا أبو الربيع الزهراني، حدثنا حماد بن زيد، حدثنا بقية بن الوليد، حدثنا مُعَان بن رفاعة، عن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يرث هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين".

ورواه الوليد بن مسلم، عن إبراهيم بن عبد الرحمن، عن الثقة من أشياخهم، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وقد وُجِدَ تصديقُ هذا الخبر في زمان الصحابة، ثم في كل عصر من الأعصار إلى يومنا هذا، وقام بمعرفة رواة السنَّة في كل عصر من الأعصار جماعة، وقفوا على أحوالهم في التعديل والجرح، وبيَّنوها، ودوَّنوها في الكتب، حتى من أراد الوقوفَ على معرفتها وجد السبيلَ إليها، وقد تكلم فقهاء الأمصار في الجرح والتعديل، فمن سواهم من علماء الحديث.

أخبرنا أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين السلمي، حدثنا أبو سعيد الخلّال، حدثنا أبو القاسم البغوي، حدثنا محمود بن غيلان المروزي، قال: حدثني الحمَّاني، عن أبي حنيفة قال: ما رأيتُ أحدًا أكذبَ من جابر الجعفي، ولا أفضلَ من عطاء.

ص: 351

قال: وحدثنا عبد الحميد الحمَّاني، قال: سمعتُ أبا سعد الصغَاني، قام إلى أبي حنيفة، فقال: يا أبا حنيفة ما تقول في الأخذ عن الثورى؟ فقال: أكتبْ عنه، فإنه ثقة ما خلا أحاديث أبي إسحاق عن الحارث، وحديث جابر الجعفي.

وأخبرنا أبو الحسن بن الفضل القطَّان بـ "بغداد"، قال: أخبرنا عبد الله بن جعفر، حدثنا يعقوب بن سفيان، قال: سمعتُ حرملة، يقول: قال الشافعي: الرواية عن حرام بن عثمان حرام.

أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن الحسن الغضائرى بـ "بغداد"، حدثنا أحمد بن سليمان، حدثنا جعفر بن محمد الصائغ، حدثنا عفَّان، قال: حدثني يحيى بن سعيد القطَّان، قال: سألتُ شعبة، وسفيان الثوري، ومالكَ بنَ أنس، وسفيانَ بن عيينة عن الرجل يتّهم في الحديث، ولا يحفظ؟ فقالوا: بين أمرَه للناس.

وأخبرنا أبو علي الحسين بن محمد الروذباري، قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن كامل بن خلف القاضي، قال: حدّثني أبو سعد الهروى، عن أبي بكر بن خلّاد، قال: قيل ليحيى بن سعيد القطَّان: أما تخشى أن يكون الذين تركتَ حديثَهم خصماءك عند الله؟ قال: لأن يكون هؤلاء خصمائى عند الله أحبّ إليَّ من أن يكون خصمي رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: لم حدثتَ عني حديثًا، تُرى أنه كذب؟

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، قال: أخبرنا أبو الوليد الفقيه، حدثنا الحسن بن سفيان، حدثنا حرملة بن يحيى، قال: سمعتُ الشافعيَّ رحمه الله يقول: لولا شعبة ما عُرف الحديث بـ "العراق"، وكان يجيء إلى الرجل، فيقول: لا تحدثْ وإلا استعديت عليك السلطان.

ص: 352

فعلى هذه الجملة كان ذبّهم عن حريم السنّة، وشواهد ما ذكرنا كثيرة، وفيما ذكرنا عن التطويل غنية. " ا هـ.

وكذلك قال الإمام الحافظ أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة السلمي الترمذي رحمه الله في "كتاب العلل" من "جامعه"

(1)

: وقد عاب بعض من لا يفهم على أهل الحديث الكلام في الرجال، وقد وجدنا غير واحد من الأئمة من التابعين قد تكلّموا في الرجال، منهم: الحسن البصري، وطاوس، تكلّما في معبد الجهنى، وتكلّم سعيد بن جُبير في طلق بن حبيب، وتكلّم إبراهيم النخَعى وعامر الشعبى في الحارث الأعور.

وهكذا روى عن أيوب السختياني، وعبد الله بن عون، وسليمان التيمي، وشعبة بن الحجَّاج، وسفيان الثورى، ومالك بن أنس، والأوزاعى، وعبد الله بن المبارك، ويحيى بن سعبد القطَّان، ووكيع بن الجرَّاح، وعبد الرحمن بن مهدى، وغيرهم من أهل العلم أنهم تكلّموا في الرجال، وضعَّفوا.

وإنما حملهم على ذلك عندنا - والله أعلم - النصيحة للمسلمين، لا يظنُّ بهم أنهم أرادوا الطعنَ على الناس أو الغيبةَ، إنما أرادوا عندنا أن يبيّنوا ضعفَ هؤلاء لكي يعرفوا، لأن بعضهم من الذين ضُعّفوا كان صاحب بدعة، وبعضهم كان متّهما في الحديث، وبعضهم كانوا أصحابَ غفلة وكثرة خطإ. فأراد هؤلاء الأئمة أن يبيّنوا أحوالَهم شفقةً على الدين وتثبيتا، لأن الشهادة في الدين أحق أن يتثبت فيها من الشهادة في الحقوق والأموال

- وسرد أقوالا من أئمة هذا الفن في جرح كثير من الرواة، إلى أن قال -:

(1)

13: 305 - 309 مع عارضة الأحوذي، طبع مصر سنة 1352.

ص: 353

حدّثنا محمود بن غيلان، حدّثنا أبو يحيى الحمَّاني، قال: سمعتُ أبا حنيفة يقول: "ما رأيتُ أحدا أكذبَ من جابر الجعفى، ولا أفضلَ من عطاء بن أبي رباح". اهـ.

وقال شيخ البيهقى الحافظ الكبير إمام المحدثين أبو عبد الله محمد بن عبد الله النَّيْسَابوري الحكم المعروف بابن البيِّع في كتابه "المستدرك على الصحيحين"

(1)

عند سرد طرق حديث "لا نكاحَ إلا بوليّ ما نصه: "وقد وصلَ هذا الحديثَ عن أبي إسحاق جماعة من أئمة المسلمين غير من دكرناهم، منهم: أبو حنيفة النعمان بن ثابت، ورقبة بن مَصْقلة العبدي، ومُطَرِّف بن طريف الحارثي، وعبد الحميد بن الحسن الهلالي، وزكريا بن أبي زائدة وغيرهم، وقد ذكرناهم في الباب". اهـ.

وقال الحكم أيضًا في كتابه "معرفة علوم الحديث"

(2)

ما نصه: "ذكر النوع التاسع والأربعين من معرفة علوم الحديث، هذا النوع من هذه العلوم معرفة الأئمة الثقات المشهورين من التابعين وأتباعهم، ممن يجمع حديثهم للحفظ والمذاكرة والتبرّك بهم، وبذكرهم من الشرق إلى الغرب - فذكر خلقا من أعيان كثير من البلدان -.

فمنهم من أهل "المدينة": محمد بن مسلم الزهري، ومحمد بن المنكدر القرشي، وربيعة بن أبي عبد الرحمن الرائي، ومالك بن أنس الأصبحي، وجعفر بن محمد الصادق، وغيرهم.

ومن أهل "مكة": مجاهد بن جَبْر، وعمرو بن دينار، وعبد الملك بن جُريج، وفضيل بن عياض، وغيرهم.

(1)

2: 171 كتاب النكاح، طبع دائرة المعارف بحيدر آباد الدكن، بالهند سنة 1340 هـ.

(2)

ص 240 - 249 طبع القاهرة.

ص: 354

ومن أهل "مصر": عمرو بن الحارث، ويزيد بن أبي حبيب، وحيوة بن شُريح التّجيبى، وغيرهم.

ومن أهل"الشام": عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، وشعيب بن أبي حمزة الحمصي، ومكحول الفقيه، وغيرهم.

ومن أهل "اليمن": طاوس، وعبد الله بن طاوس، وغيرهما.

ومن أهل "اليمامة": يحيى بن أبي كثير، وغيره.

ومن أهل "الكوفة": عامر بن شَراحيل الشعي، وسعيد بن جُبير الأسدي، وإبراهيم النخعي، وأبو إسحاق السَّبيعي، وحماد بن أبي سليمان، ومنصور بن المعتمر، ومغيرة بن مِقْسَم الضَّبِّي، والأعمش الأسدي، ومِسْعِر بن كِدام الهلالي، وأبو حنيفة النعمان بن ثابت التيمي، وسفيان بن سعيد الثوري، وداود بن نصير الطائى، وزفر بن الهذيل، وعافية بن يزيد القاضي، وغيرهم.

ومن أهل "الجزيرة": ميمون بن مِهْران، وعمرو بن ميمون بن مهران، وخالد بن مَعْدان العابد، وغيرهم.

ومن أهل "البصرة": أيوب بن أبي تميمة السَّخْتياني، وشعبة بن الحجّاج، وهشام بن حسان، وقتادة بن دعامة، وغيرهم.

ومن أهل "واسط": العوّام بن حوشب، وأبو خالد يزيد بن عبد الرحمن الدَّالاني، وغيرهم.

ومن أهل "خراسان": إبراهيم بن طَهْمان الفقيه العابد، وإبراهيم بن أدهم الزاهد من أهل "بلخ"، وشقيق بن إبراهيم الزاهد، والنضر بن محمد الشيباني، وغيرهم. رحمة الله عليهم أجمعين". انتهى.

وقال شيخ الإسلام العلامة أبو العبَّاس تقي الدين أحمد بن عبد الحليم الشهير بابن تيمية الحنبلى في كتابه "منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة

ص: 355

والقدرية"

(1)

: "قال أبو العباس بن عُقْدَة: حدّثنا جعفر بن محمد بن عمرو، حدّثنا سليمان بن عبّاد، سمعتُ بشَّار بن دراع، قال: لقي أبو حنيفة محمد بن النعمان، فقال: عمن رويتَ حديث رد الشمس؟ فقال: عن غير الذي رويتَ عنه: يا ساريةُ الجبلَ

قلتُ - القائل ابن تيمية -: وهذا يدلّ على أن أئمة أهل العلم لم يكونوا يصدقون بهذا الحديث، فإنه لم يروه إمام من أئمة المسليمن، وهذا أبو حنيفة أحد الأئمة المشاهير، وهو لا يتهم على عليّ، فإنه من أهل "الكوفة" دار الشيعة، وقد لقى من الشميعة، وسمع من فضائل على ما شاء الله، وهو يحبّه، ويتولاه، ومع هذا أنكر هذا الحديث على محمد بن النعمان، وأبو حنيفة أعلم وأفقه من الطحاوي وأمثاله.

ولم يجبْه ابن النعمان بجواب صحيح، بل قال: عن غير من رويتَ عنه حديث: يا ساريةُ الجبلَ. فيقال له: هبْ إن ذلك كذب، فأيّ شيء في كذبه مما يدلّ على صدق هذا؟ فإن كان كذلك، فأبو حنيفة لا ينكر أن يكون لعمر وعلي وغيرهما كرامات، بل أنكر هذا الحديث للدلائل الكثيرة على كذبه، ومخالفته للشرع والعقل، وأنه لم يروه أحد من العُلماء المعروفين بالحديث من التابعين وتابعيهم، وهم الذين يروون عن الصحابة، بل لم يروه إلا كذّاب أو مجهول، لا يعلم عدله وضبطه، فكيف يقبل هذا من مثل هؤلاء، وسائر العُلماء المسلمين يودّون أن يكون مثل هذا صحيحا لما فيه من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم، وفضيلة عليٍّ، على الذين يحبّونه ويتولّونه، ولكنّهم لا يستجيزون التصديق بالكَذِبِ، فردوه ديانةً. والله أعلم".

(1)

4: 194، 195 الطبعة الأميرية ببولاق مصر سنة 1322.

ص: 356

وقال في موضع آخر من الكتاب المذكور

(1)

: "

أئمة أهل الحديث، والتفسير، والتصوّف، والفقه، مثل الأئمة الأربعة وأتباعهم".

وقال أبو الفداء الحافظ ابن كثير الدمشقي رحمه الله تعالى في كتابه "البداية والنهاية"

(2)

:

والطحاوى رحمه الله وإن كان قد اشتبهَ عليه أمرُه - أي أمر حديث ردّ الشمس لعليّ - فقد رُوِي عن أبي حنيفة رحمه الله إنكارُه والتهكّمُ بمن رواه، قال أبو العبَّاس بن عقدة: ثنا جعفر بن محمد بن عمير، ثنا سليمان بن عبّاد، سمعتُ بشّار بن دراع، قال: لقي أبو حنيفة محمد بن النعمان، فقال: عمن رويتَ حديثَ رد الشمس؟ فقال: عن غير الذي رويتَ عنه: يا ساريةُ الجبلَ.

فهذا أبو حنيفة رحمه الله، وهو من الأئمة المعتبرين، وهو كوفي، لا يتهم على حبّ علي بن أبي طالب وتفضيله بما فضَّله الله به ورسوله، وهو مع هذا ينكر على راويه.

وقول محمد بن النعمان له ليس بجواب، بل مجرّد معارضة بما لا يجدي، أي أنا رويتُ في فضل علي هذا الحديثَ، وهو إن كان مستغربا، فهو في الغرابة نظير ما رويتيه أنت في فضل عمر بن الخطَّاب في قوله:"يا ساريةُ الجبلَ". وهذا ليس بصحيح من محمد بن النعمان، فإن هذا ليس كهذا إسنادا ولا متنا، وأين مكاشفة إمام، قد شهد الشارع له بأنه محدث بأمر خير من رد الشمس طالعة بعد مغيبها، الذي هو أكبر علامات الساعة؟ ".

(1)

1: 172 - 173.

(2)

6: 86 - 85 الطبعة الأولى سنة 1966 مكتبة المعارف بيروت.

ص: 357

وقال الحافظ ابن حجر في "لسان الميزان"

(1)

: "محمد بن علي بن النعمان بن أبي طريفة البجلي الكوفي أبو جعفر الملقَّب "شيطان الطّاق" نسب إلى سوق في طاق المحامل بـ "الكوفة"، كان يجلس للصرف بها

، ويقال: إن أول من لقبه "شيطان الطاق" أبو حنيفة مع مناظرةٍ جرتْ بحضرته بينه وبين بعض الحرورية

، ووقعتْ له مناظرة مع أبي حنيفة في شئ يتعلق بفضائل عليٍّ، سُمِّي فيها محمد بن النعمان نسبة إلى جدّه، فقال أبو حنيفة كالمنكر عليه عن من رويت حديث رد الشمس لعلى؛ فقال: عمن رويتَ أنت عنه: (يا ساريةُ الجبلَ)؟. اهـ.

وقال الشيخ الإمام الحافظ الحجّة شمس الدين أبو عبد الله محمد المعروف بابن قيّم الجوزية الحنبلي في كتابه "إعلام الموقّعين عن رب العالمين"

(2)

: وقد احتجَّ الأئمة الأربعة والفقهاء قاطبة بصحيفة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه، ولا يعرف في أئمة الفتوى إلا من احتاج إليها، واحتجَّ بها، وإنما طَعَنَ فيها من لم يَتَحَمَّل أعباءَ الفقه والفتوى، كأبى حاتم البُسْتِي، وابن حزْم، وغيرهما". اهـ.

وقال أيضًا في موضع آخر منه

(3)

ما نصه: "أما طريقة الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، كالشافعى، والإمام أحمد، ومالك، وأبي حنيفة، وأبي يوسف، والبخاري، وإسحاق

". اهـ.

فهؤلاء الأئمة الجِلّةُ الأعلام، جهابذةُ النقد: أبو داود، والترمذي، والحاكم، والبيهقى، وابن عبد البر، وابن تيمية وابن القيّم، وابن كثير، قد أذعنوا أن الإمام أبا حنيفة من أئمة الحديث المعروفين، الذين يرجع إلى

(1)

5: 300 - 301.

(2)

1: 35 طبع الهند بأشرف المطابع الواقع بدهلى سنة 1314.

(3)

نفس المصدر 1: 359.

ص: 358

أقوالهم في الجرح والتعدلِل والتصحيح والتعليل كسائرِ الحفَّاظ النقَّاد من أئمة المحدّثين.

وقد اعترف جهابذةُ المحدثين والحُفّاظ من المتقدّمين والمتأخّرين ببراعته في الحديث، وضبطه، وإتقانه، وحفظه، وورعه في روايته.

قال الحافظ أبو بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد":

(1)

أخبرنا الجوهرى، أخبرنا محمد بن عمران المرزباني، حدّثنا عبد الواحد بن محمد الخصيبي، حدثني أبو مسلم الكجى إبراهيم بن عبد الله، قال: حدثني محمد بن سعيد أبو عبد الله الكاتب، قال: سمعتُ عبد الله بن داود الخريبي، يقول: يجب على أهل الإسلام أن يدعوا الله لأبي حنيفة في صلاتهم، قال: وذكر حفظه عليهم السنن والفقه". اهـ.

قلتُ: والخريبي هذا من كبار الحفّاظ، ذكره الذهبي في "تذكرة الحفاظ"

(2)

، وحلّاه "بالحافظ الإمام القدوة"، ونقل عن وكيع أنه قال:"النظر إلى وجه عبد الله بن داود عبادة".

وذكر "أن الخرب قيل له: رجع أبو حنيفة عن مسائل كثيرة، قال: إنما يرجع الفقيه إذا اتَّسع علمه". اهـ.

فهذا الإمام الحافظ القدوة يصف أبا حنيفة بسعة العلم، وحفظ السنن.

وروى الخطيب أيضًا، قال: أخبرنا الخلَّال، أخبرني الحريري، أن النخَعي حدثهم: أخبرنا سليمان بن الربيع الخزَّاز، حدّثنا محمد بن حفص، عن الحسن بن سليمان أنه قال في تفسير الحديث:"لا تقوم الساعة حتى يظهر العلم"، قال: هو علم أبي حنيفة وتفسيره الآثار". اهـ.

(1)

13: 344.

(2)

1: 338.

ص: 359

قلتُ: والحسن بن سليمان هذا معدود في الحفّاظ، ترجم له الذهبي في "تذكرة الحفاظ"

(1)

، و "سير أعلام النبلاء"

(2)

، وقال في "السير": قُبَّيْطَة الحافظ المتقن الإمام أبو علي الحسن بن سليمان البصري نزيل "مصر"، وصفه ابن يونس بالحفظ. اهـ.

فهذا الحافظ الإمام يطري أبا حنيفة، ويثني على علمه وتفسيره الأحاديث والآثار.

وقال الخطيب أيضًا في "تاريخ بغداد"

(3)

: أخبرنا الحسن بن أبي بكر، أخبرنا القاضي أبو نصر أحمد بن نصر بن محمد بن إشكاب البخاري، قال سمعتُ: محمد بن خلف بن رجاء، يقول: سمعتُ محمد بن سلمة، يقول: قال خلف بن أيوب: "صار العلم من الله تعالى إلى محمد صلى الله عليه وسلم، ثم صار إلى أصحابه، ثم صار إلى التابعين، ثم صار إلى أبي حنيفة وأصحابه، فمن شاء فليرض، ومن شاء فليسخط". اهـ.

قلتُ: وقول خلف بن أيوب هذا يشبه ما قال ابن حزْم في حق محمد بن نصر المروزي، قال الذهبي في ترجمة ابن نصر المروزي من كتابه "سير أعلام النبلاء" ما نصه: قال أبو محمد بن حزْم في بعض تواليفه: أعلم الناس من كان أجمعهم للسنن، وأضبطهم لها، وأذكرهم لمعانيها، وأدراهم بصحتها، وبما أجمع الناس عليه مما اختلفوا فيه.

قال: وما نعلم هذه الصفة بعد الصحابة أتمَّ منها في محمد بن نصر المروزى، فلو قال قائل: ليس لرسول الله صلى الله عليه وسلم حديث ولا لأصحابه إلا وهو عند محمد بن نصر، لما أبعد عن الصدق.

(1)

2: 572.

(2)

12: 508.

(3)

13: 336.

ص: 360

قلتُ - القائل الذهبي -: هذه السعة والإحاطة ما ادَّعاها ابن حزْم لابن نصر إلا بعد إمعان النظر في جماعة تصانيف لابن نصر، ويمكن ادّعاء ذلك لمثل أحمد بن حنبل ونظرائه، والله أعلم". انتهى.

قلت: وإذا ان ادّعاء ذلك صحيحا لمحمد بن نصر عند ابن حزم، ولأحمد ونظرائه عند الذهبي، فيكون ادّعاء ذلك صحيحا بالأولى للإمام الأعظم أبي حنيفة، فإنه أسبق المجتهدين المتبوعين، وأعلمهم وأفقههم وأقدمهم، رضي الله تعالى عنه وعن أصحابه، على ما شهد به شيخ أحمد وابن مَعين خلف بن أيوب هذا، ولم تكن شهادته بذلك لأبي حنيفة رحمه الله تعالى إلا بعد إمعان النظر في فقهه وإتقانه لمذهبه، وهذه شهادة صدق من إمام بارع تقي، كيف لا؟ والعلم برا وبحرا شرقا وغربا، بعدا وقربا تدوينه رضى الله تعالى عنه، كما قاله ابن النديم في كتابه "الفهرست"

(1)

.

وقال الجامع للعلوم النقلية والعقلية، والمتضلع من السنة النبوية، أحد كبار الأعلام، ومشاهير أولي الحفظ والأفهام، ملا على القاري شارح "المشكاة" في كتابه "مسند الأنام في شرح مسند الإمام"

(2)

ما نصه: "إن حسن الظن بأبي حنيفة أنه أحاط بالأحاديث الشريفة من الصحيحة والضعيفة". اهـ

(3)

.

(1)

ص 299 طبع مطبعة الاستقامة بالقاهرة.

(2)

ص 52، بحث أكل الضب، طبع مجتبائى دهلى، سنة 1330.

(3)

قال عبد الفتاح: هذا القول من على القارى، وقول ابن حزم السابق في محمد بن نصر محمولان على أكثر الأحاديث والسنن، فإن الإحاطة المطلقة لجميع الأحاديث والسنن لآحاد الأمة متعذرة عادة.

ص: 361

وخلف المذكور هذا قال فيه صدر الأئمة الموفَّق بن أحمدِ المكّي في "مناقب الإمام الأعظم"

(1)

ما لفظه: "خلف بن أيوب كان من "بلخ"، ما روى عن أبي حنيفة، ويروي عن أبي يوسف، وكان أزهد أهل زمانه وأعبدهم، قدم على عبد الله بن المبارك، فعانقه، وأكرمه، فلما قام من عنده قال: ما أشبه سيماه بسيما أهل الجنة، وكان يسمع من حمَّاد بن سلمة، فلما قام من عنده قال حمَّاد: ما أحسن سمت هذا الرجل وهديه، ما قدم علينا من "خراسان" خير منه، توفي سنة خمس ومائتين، فلما رفعت جنازته أقبل نوح بن أسد والي "بلخ" إلى جنازته، فوضعها على عاتقه، حتى بلغ المصلَّى، وصلى عليه نوح بن أسد، فلما سلَّم سمع صوتا في الهواء يا نوح بن أسد صليتَ على خير أهل الأرض، صليتَ على خلف بن أيوب، فزتَ". اهـ.

وقال الحافظ الذهبي في "سير أعلام النبلاء"

(2)

: "خلف بن أيوب الإمام المحدّث الفقيه، مفتى المشرق، أبو سعيد العامري البلخى الحنفي الزاهد، عالم أهل "بلخ". تفقّه على القاضي أبي يوسف، وسمع من ابن أبي ليلى، وعوف الأعرابي، ومعمر بن راشد، وطائفة، وصحب إبراهيم بن أدهم مدة، حدّث عنه يحيى بن مَعين، وأحمد بن حنبل، وأبو كُريب، وعلي بن سلمة اللبقي، وأهل بلده." اهـ.

وسيأتيك في الفصول الآتية من ثناء أئمة المحدّثين القدامى والحفّاظ المتأخرين على الإمام أبي حنيفة في جودة حفظه وسعة علمه ما يصدّق قولَ خلف هذا، ويزيد، وبالله التوفيق.

(1)

2: 61 - 62، طبع دائرة المعارف النظامية حيدر آباد الدكن بالهند.

(2)

9: 541 - 542.

ص: 362

‌ثناء الذهبي على أبي حنيفة

إن من أصدق الكلمات التي قالها الإمام الذهبي رحمه الله تعالى - وهو من أهل الاستقراء التام في نقد الرجال - قوله في ترجمة العلامة الإمام فقيه "العراق" حمَّاد بن أبي سليمان رحمه الله تعالى: من كتابه "سير أعلام النبلاء"

(1)

:

"فأفقه أهل "الكوفة" علي وابن مسعود، وأفقه أصحابهما علقمة، وأفقه أصحابه إبراهيم - النخعي - وأفقه أصحاب إبراهيم حمَّاد، وأفقه أصحاب حمَّاد أبو حنيفة، وأفقه أصحابه أبو يوسف، وانتشر أصحاب أبي يوسف في الآفاق، وأفقههم محمد - بن الحسن -، وأفقه أصحاب محمد أبو عبد الله الشافعي، رحمهم الله تعالى".

وقال أيضًا في "سير أعلام النبلاء"

(2)

، في ترجمة الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه:

"الإمام، فقيه الملة، عالم العراق، أبو حنيفة

، وعُني بطلب الآثار، وارتحل في ذلك، وأما الفقه والتدقيق في الرأي وغوامضه، فإليه المنتهى، والناس عليه عيالٌ في ذلك".

وقال أيضًا

(3)

: "الإمامة في الففه ودقائقه مسلَّمة إلى هذا الإمام، وهذا أمر لا شكَّ فيه.

وليس يصح في الأذهان شئ

إذا احتاج النهار إلى دليل".

(1)

5: 236 من الطبعة الثالثة بيروت سنة 1405.

(2)

6: 390، 392.

(3)

6: 403.

ص: 363

وقال في ترجمة الإمام مالك رحمه الله

(1)

بعد أن نقل عن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى أنه قال: "العلم يدور على ثلاثة: مالك، والليث، وابن عيينة" ما نصه:

"قلتُ: بل وعلى سبعة معهم، وهم: الأوزاعى، والثوري، ومعمر، وأبو حنيفة، وشبعة، والحمَّادان".

وذكر في ترجمته أيضًا

(2)

، عن الإمام أبي يوسف أنه قال:

"ما رأيتُ أعلمَ من أبي حنيفة، ومالك، وابن أبي ليلى".

ولما حكى في ترجمته

(3)

الأسطورة التي تعزى إلى محمد والشافعي رحمهما الله تعالى في المقارنة بين علم مالك وأبي حنيفة رحمهما الله تعالى، ولفظها:

"ابن عبد الحكم سمعتُ الشافعي يقول: قال لي محمد: أيهما أعلم صاحبنا أم صاحبكم؟ يعني أبا حنيفة ومالكا، قلتُ: على الإنصاف؟ قال: نعم، قلتُ: أنشدك بالله، من أعلم بالقرآن؟ قال: صاحبكم، قلتُ: من أعلم بالسنّة؟ قال: صاحبكم، قلتُ: فمن أعلم بأقاويل الصحابة والمتقدمين؟ قال: صاحبكم، قلتُ: فلم يبق إلا القياس، والقياس لا يكون إلا على هذه الأشياء، فمن لم يعرف الأصول، على أيّ شيء يقيس؟ ".

عقَّب عليها قائلا:

"قلتُ: وعلى الإنصاف، لو قال قائل: بل بها سواء في علم الكتاب، والأول أعلم بالقياس، والثاني أعلم بالسنّة، وعنده علم جم من أقوال كثير من

(1)

8: 94.

(2)

8: 94.

(3)

8: 112 - 113.

ص: 364

الصحابة، كما أن الأول أعلم بأقاويل على، وابن مسعود، وطائفة ممن كان بـ"الكوفة" من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرضي الله عن الإمامين، فقد صرنا في وقت لا يقدر الشخص على النطق بالإنصاف، نسأل الله السلامة".

وقال في ترجمة الإمام مالك أيضًا

(1)

ما نصّه:

فالمقلَّدون صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بشرط ثبوت الإسناد إليهم، ثم أئمة التابعين، كعلقمة، ومسروق، وعبيدة السلماني، وسعيد بن المسيّب، وأبي الشعثاء، وسعيد بن جبير، وعبيد الله بن عبد الله، وعروة، والقاسم، والشعبي، والحسن، وابن سيرين، وإبراهيم النخَعي.

ثم كالزهري، وأبي الزناد، وأيوب السختياني، وربيعة، وطبقتهم.

ثم كأبي حنيفة، ومالك، والأوزاعى، وابن جُريج، ومعمر، وابن أبي عروبة، وسفيان الثوري، والحمَّادين، وشعبة، والليث، وابن الماجاشون، وابن أبي ذئب.

ثم كابن المبارك، ومسلم الزنجي، والقاضى أبي يوسف، والهقل بن زياد، ووكيع، والوليد بن مسلم، وطبقتهم.

ثم كالشافعى، وأبى عُبيد، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور، والبويطى، وأبي بكر بن أبي شيبة.

ثم كالمزني، وأبي بكر الأثرم، والبخاري، وداود بن علي، ومحمد بن نصر المروزي، وإبراهيم الحربي، وإسماعيل القاضي.

ثم كمحمد بن جرير الطبري، وأبي بكر بن خُزيمة، وأبي عباس بن سُريج، وأبي بكر بن المنذر، وأبي جعفر الطحاوي، وأبي بكر الخلَّال.

(1)

8: 91 - 92.

ص: 365

ثم من بعد هذا النمط تناقص الاجتهاد، ووضعت المختصرات، وأخلد الفقهاء إلى التقليد، من غير نظر في الأعلم، بل بحسب الاتفاق، والتشهّي، والتعظيم، والعادة، والبلد. فلو أراد الطالب اليوم أن يتمذهب في المغرب لأبي حنيفة، لعسر عليه، كما لو أراد أن يتمذهب لابن حنبل بـ "بخارى"، و "سمرقند"، لصعب عليه، فلا يجيء منه حنبلى، ولا من المغربى حنفي، ولا من"الهند" مالكي". انتهى.

وقال في ترجمة يحيى بن آدم

(1)

، بعد ما نقل عن محمود بن غيلان، قال: سمعتُ أبا أسامة يقول: كان عمر في زمانه رأسَ الناس، وهو جامع، وكان بعده ابن عباس في زمانه، وبعده الشعبي في زمانه، وكان بعده سفيان الثوري في زمانه، ثم كان بعد الثورى يحيى بن آدم". قال الذهبي بعد هذا:

قلت: قد كان يحيى بن أدم من كبار أئمة الاجتهاد.

وقد كان عمر كما قال في زمانه.

ثم كان علي، وابن مسعود، ومعاذ، وأبو الدرداء.

ثم كان بعدهم في زمانه زيد بن ثابت، وعائشة، وأبو موسى، وأبو هريرة.

ثم كان ابن عبّاس، وابن عمر.

ثم علقمة، ومسروق، وأبو إدريس، وابن المسيّب.

ثم عروة، والشعبي، والحسن، وإبراهيم النخعى، ومجاهد، وطاوس، وعدة، ثم الزهرى، وعمر بن عبد العزيز، وقتادة، وأيوب.

ثم الأعمش، وابن عون، وابن جُريج، وعُبيد الله بن عمر.

(1)

"السير" 9: 525، وفيه (محمد بن غيلان) بدل (محمود بن غيلان)، وهو خطأ.

ص: 366

ثم الأوزاعى، وسفيان الثوري، ومعمر، وأبو حنيفة، وشعبة.

ثم مالك، والليث، وحماد بن زيد، وابن عيينة.

ثم ابن المبارك، ويحيى القطّان، ووكيع، وعبد الرحمن، وابن وهب.

ثم يحيى بن آدم، وعفَّان، والشافعى وطائفة.

ثم أحمد، وإسحاق وأبو عبيد، وعلي بن المديني، وابن مَعين، ثم أبو محمد الدارِمى، ومحمد بن إسماعيل البخاري، وآخرون من أئمة العلم والاجتهاد".

وقال في ترجمة ابن حزْم

(1)

، بعد نقل قوله: أنا أتبع الحق، وأجتهد، ولا أتقيّد بمذهب، ما نصّه:

"قلت: نعم، من بلغ رتبة الاجتهاد، وشهد له بذلك عدة (4) من الأئمة، لم يسغ له أن يقلّد، كما أن الفقيه المبتدئ والعامى الذي يحفظ القرآن أو كثيرًا منه لا يسوغ له الاجتهاد أبدًا، فكيف يجتهد، وما الذي يقول؟ وعلام يبني؟ وكيف يطير ولما يريش؟

والقسم الثالث: الفقيه المنتهى اليقظ الفهم المحدّث، الذي قد حفظ مختصرا في الفروع، وكتابا في قواعد الأصول، وقرأ النحو، وشارك في الفضائل مع حفظه لكتاب الله وتشاغله بتفسيره وقوة مناظرته.

فهذه رتبة من بلغ الاجتهاد المقيّد، وتأهّل للنظر في دلائل الأئمة، فمتى وضح له الحق في مسئلة، وثبت فيها النصّ، وعمل بها أحد الأئمة الأعلام كأبي حنيفة مثلا، أو كمالك، أو الثوري، أو الأوزاعي، أو الشافعي، وأبي عبيد، وأحمد، وإسحاق، فليتبع فيها الحق، ولا يسلك الرُّخَص، وليتورّعْ، ولا يسعه فيها بعد قيام الحجّة عليه تقليد".

(1)

18: 191.

ص: 367

وقد سرد الإمام الحافظ الذهبي في ترجمة أبي حنيفة رحمه الله تعالى

(1)

، الأسطورة التي رواها الخطيب البغداي في "تاريخه"، عن أبي يوسف، عن أبي حنيفة، في ابتداء طلبه العلم، واختياره الفقه من بين سائر العلوم، وحكم عليها بالوضع والاختلاق، فأفاد وأجاد، قال رحمه الله تعالى:

"أخبرنا ابن علَّان كتابة، أنبأنا الكندي، أنبأنا القزّاز، أنبأنا الخطيب، أنبأنا، الخلال، أنبأنا علي بن عمرو الحريري، حدّثنا علي بن محمد بن كاس النخعى، حدّثنا محمد بن محمود الصيدناني، حدّثنا محمد بن شُجَاع بن الثلجي، حدّثنا الحسن بن أبي مالك، عن أبي يوسف، قال: قال أبو حنيفة: لما أردتُ طلب العلم، جعلتُ أتخير العلوم، وأسأل عن عواقبها. فقيل: تعلم القرآن. فقلتُ: إذا حفظتُه فما يكون آخره؟ قالوا: تجلس في المسجد، فيقرأ عليك الصبيان والأحداث، ثم لا يلبثُ أن يخرج فيهم من هو أحفظ منك أو مساويك، متذهب رياستُك.

قلت - القائل الذهبي -: من طلب العلم للرياسة قد يفكر في هذا، وإلا فقد ثبت قول المصطفى صلوات الله عليه "أفضلكم من تعلّم القرآن وعلَّمه"، يا سبحان الله! وهل محل أفضل من المسجد؟ وهل نشر العلم يقارب تعليم القرآن؟ كلا والله، وهل طلبة خير من الصبيان الذين لم يعملوا الذنوب؟ وأحسب هذه الحكاية موضوعة

ففي إسنادها من ليس بثقة.

تتمة الحكاية: "قال: قلتُ: فإن سمعتُ الحديث وكتبتُه حتى لم يكن في الدنيا أحفظ مني؟ قالوا: إذا كبرتَ، وضعفتَ، حدثتَ، واجتمع عليك هؤلاء

(1)

6: 395 - 397.

ص: 368

الأحداث والصبيان. ثم لم تأمن أن تغلط، فيرموك بالكذب، فيصير عارا عليك في عقبك. فقلتُ: لا حاجة لي في هذا.

قلتُ - القائل الذهبي -: الآن كما جزمتُ بأنها حكاية مختلقة، فإن الإمام أبا حنيفة طلب الحديثَ وأكثرَ منه في سنة مائة وبعدها، ولم يكن إذ ذاك يسمع الحديث الصبيانُ، هذا اصطلاح وجد بعد ثلاثمائة سنة، بل كان يطلبه كبارُ العُلماء، بل لم يكن للفقهاء علم بعد القرآن سواه، ولا كانت دوّنتْ كتب الفقه أصلا.

ثم قال: قلتُ: أتعلم النحو. فقلت: إذا حفظتُ النحو والعربية، ما يكون آخر أمري؟ قالوا: تقعد معلّما، فأكثر رزقك ديناران إلى ثلاثة. قلتُ: وهذا لا عاقبة له. قلتُ: فإن نظرت في الشعر فلم يكن أحد أشعر مني؟ قالوا: تمدح هذا فيهب لك، أو يخلع عليك، وإن حرمك هجوتَه. قلتُ: لا حاجة فيه. قلت: فان نظرت في الكلام، ما يكون آخر أمره؟ قالوا: لا يسلم من نظر في الكلام من مشنَّعات الكلام، فيرمى بالزندقة، فيقتل، أو يسلم مذموما.

قلتُ - القائل الذهبي -: قاتل الله من وضع هذه الخُرافةَ، وهل كان في ذلك الوقت وجد علم الكلام؟

قال: قلتُ: فإن تعلمتُ الفقهَ؟ قالوا: تسال، وتفتي الناس، وتطلب للقضاء، وإن كنت شابّا. قلتُ: ليس في العلوم شيء أنفعَ من هذا، فلزمتُ الفقه وتعلمتُه".

وقال الحافظ الذهبي أيضًا في ترجمة الإمام سفيان الثوري من كتابه "تذكرة الحفَّاظ"

(1)

معلّقا على قوله رحمه الله تعالى:

(1)

1: 204 - 205.

ص: 369

"ليس طلب الحديث من عُدَّة الموتِ، لكنه عِلّة، يتشاغل بها الرجل"، ما نصّه:

"قلت: صدق والله، إن طلب الحديث شيء غير الحديث، فطلب الحديث اسم عرفي الأمور زائدة على تحصيل ماهية الحديث، وكثير منها مراق إلى العلم، وأكثرها أمور يُشْغَفُ بها المحدّث، من تحصيل النسخ المليحة، وتطلُّب العالي، وتكثير الشيوخ، والفرخ بالألقاب، والثناء، وتمنّي العمر الطويل ليروي، وحبّ التفرَّد، إلى أمور عديدة لازمة للأغراض النفسانية، لا الأعمال الربَّانية.

فإذا كان طلبك الحديث النبوي محفوفا بهذه الآفات، فمتى خلاصُك منها إلى الإخلاص؟! وإذا كان علم الآثار مدخولا، فما ظنّك بعلم المنطق والجدل وحكمة الأوائل التي تسلب الإيمان، وتورث الشكوكَ والحيرةَ؟ التي لم تكن والله من علم الصحابة ولا التابعين، ولا من علم الأوزاعي، والثوري، ومالك، وأبي حنيفة، وابن أبي ذئب، وشعبة.

ولا والله عرفها ابن المبارك، ولا أبو يوسف القائل: من طلب الدين بالكلام تزندق، ولا وكيع، ولا ابن مهدي، ولا ابن وهب، ولا الشافعي، ولا عفَّان بن مُسلم - ولا أبو عبيد، ولا ابن المديني، وأحمد وأبو ثور، والمزني، والبخاري، والأثرم، ومسلم، والنسائي، وابن خزيمة، وابن سُريج، وابن المنذر، وأمثالهم، بل كانت علومهم القرآن، والحديث، والفقه، والنحو، وشبه ذلك. نعم، وقال سفيان أيضًا: فيما سمعه منه الفريابي: ما من عمل أفضل من طلب الحديث إذا صحت النية فيه".

وقال في خاتمة الطبقة الخامسة

(1)

، التي ذكر فيها أبا حنيفة، ومالكا، والأوزاعي، وسفيان: "وفي زمان هذه الطبقة، كان الإسلام وأهله في عِزٍّ تامّ،

(1)

1: 244.

ص: 370

وعِلْمٍ غزير

وكان في هذا الوقت من الفقهاء، كأبي حنيفة، ومالك، والأوزاعي، الذين مرّوا". انتهى.

قلت: فقد ثبت مما نقلناه من تصريحات الحافظ الذهبي أمور:

1 -

كانت علوم أبي حنيفة رحمه الله القرآن، والحديث، والفقه، والنحو، وشبه ذلك.

2 -

أن الإمام أبا حنيفة طلب الحديث وأكثر منه في سنة مائة وبعدها، بل لم يكن إذ ذاك للفقهاء علم بعد القرآن سواه، وقد عُنِي الإمام بطلب الآثار، وارتحل في ذلك.

3 -

وكان أعلم بأقاويل عليّ، وابن مسعود، وطائفة ممن كان بـ "الكوفة" من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

4 -

وكان من الأئمة العَشَرة الذين يدور عليهم العلمُ في ذلك العصر. فهو قرين مالك، والأوزاعي، والثوري، والليث، وابن عُيينة، ومَعْمَر، وشعبة، والحمَّادين، في علم الكتاب والسنّة.

5 -

وكان من كبار أئمة الاجتهاد، وأحد الأئمة الأعلام، وإليه المنْتَهَى في الفقه، والناس عِيَالٌ عليه في ذلك.

فهذا رأيُ مؤرّخ الإسلام الحافظ الناقد البصير شمس الدين الذهبي، الذي هو من أهل الاستقراء التام في نقد الرجال، في حق إمامنا الأعظم أبي حنيفة النعمان رضي الله تعالى عنه.

‌ثناء ابن تيمية على أبي حنيفة

ويقول شيخه ابن تيمية، الشيخ الإمام، العلامة، الحافظ، الناقد، الفقيه، المفسّر، شيخ الإسلام تقي الدين، أبو العبَّاس أحمد بن عبد الحليم

ص: 371

الحَرَّاني، البارع في الرجال، وعِلَل الحديث في كتابه "منهاج السنة النبوية في نقض قول الشيعة والقَدَرية"

(1)

ما نصّه:

وهؤلاء أهل العلم، الذين يبحثون الليل والنهار عن العلم، وليس لهم غرض مع أحد، بل يرجّحون قول هذا الصحابي تارة، وقول هذا الصحابي تارة، بحسب ما يرونه من أدلة الشرع، كسعيد بن المسيّب، وفقهاء "المدينة" مثل عروة بن الزبير، والقاسم بن محمد، وعلي بن الحُسين، وأبي بكر بن عبد الرحمن، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وسليمان بن يَسَار، وخارجة بن زيد، وسالم بن عبد الله بن عمر، وغير هؤلاء، ومن بعدهم، كابن شهاب الزهري، ويحيى بن سعيد، وأبي الزناد، وربيعة، ومالك بن أنس، وابن أبي ذئب، وعبد العزيز الماجشون، وغيرهم.

ومثل طاوس اليماني، ومجاهد، وعطاء، وسعيد بن جبير، وعبيد بن عمير، وعكرمة مولى ابن عباس، ومن بعدهم، مثل عمرو بن دينار، وابن جريج، وابن عيينة، وغيرهم من أهل "مكة".

ومثل الحسن البصري، ومحمد بن سيرين، وجابر بن زيد أبي الشعثاء، ومطرّف بن عبد الله بن الشخّير، ثم أيوب السختياني، وعبد الله بن عون، وسليمان التيمي، وقتادة، وسعيد بن أبي عروبة، وحمَّاد بن سلمة، وحمَّاد بن زيد.

وأمثالهم مثل علقمة، والأسود، وشُريح القاضي، وأمثالهم، ثم إبراهيم النخَعي، وعامر الشعبي، والحكم بن عُتيبة، ومنصور بن المعتمر، إلى سفيان الثوري، وأبي حنيفة، وابن أبي ليلى، وشريك، إلى وكيع بن الجرَّاح، وأبي يوسف، ومحمد بن الحسن، وأمثالهم.

(1)

3: 142 من طبعة بولاق سنة 1322.

ص: 372

ثم الشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبي عبيد القاسم بن سلام، والحُميدي عبد الله بن الزبير، وأبو ثور، ومحمد بن نصر المروزي، ومحمد بن جرير الطبري، وأبو بكر بن المنذر". انتهي.

فقد عدّ الحافظ ابن تيمية أبا حنيفة، وصاحبه أبا يوسف، ومحمد بن الحسن في "أهل العلم الذين يبحثون الليل والنهار عن العلم، وليس لهم غرض مع أحد، بل يرجّحون قول هذا الصحابي تارة، وقول هذا الصحابي تارة، بحسب ما يرونه من أدلة الشرع"، وسرد أسماء قرنائهم.

وصرح في موضع آخر من كتابه هذا أن "أبا حنيفة وأصحابه ممن له في الأمة لسان صدق من علمائها"

(1)

.

وقال في موضع آخر من "منهاج السنة"

(2)

، ما نصه:

"فقد جاء بعد أولئك في قرون الأمّة من يعرف كل أحد زَكاءهم وذكاءهم، مثل سعيد بن المسيّب، والحسن البصري، وعطاء بن أبي رَباح، وإبراهيم النخَعي، وعلقمة، والأسود، وعبيدة السلماني، وطاوس، ومجاهد، وسعيد بن جُبير، وأبي الشعثاء جابر بن زيد، وعلي بن زيد، وعلي بن الحُسين، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمد بن أبي بكر، وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، ومطرف بن الشخير، ومحمد بن واسع، وحبيب العجمي، ومالك بن دينار، ومكحول، والحكم بن عُتيبة، ويزيد بن أبي حبيب، ومن لا يحصي عددَهم إلا الله.

ثم بعدهم أيوب السختياني، وعبد الله بن عون، ويونس بن عبيد، وجعفر بن محمد، والزهري، وعمرو بن دينار، ويحيى بن سعيد الأنصاري،

(1)

4: 77.

(2)

1: 167، 168.

ص: 373

وربيعة بن أبي عبد الرحمن، وأبو الزناد، ويحيى بن أبي كثير، وقتادة، ومنصور بن المعتمر، والأعمش، وحمّاد بن أبي سليمان، وهشام الدستوائي، وسعيد بن أبي عروبة.

ومن بعد هؤلاء مثل مالك بن أنس، وحمّاد بن زيد، وحمّاد بن سلمة، والليث بن سعد، والأوزاعي، وأبي حنيفة، وابن أبي ليلى، وشريك، وابن أبي ذئب، وابن الماجشون.

ومن بعدهم مثل يحيى بن سعيد القطّان، وعبد الرحمن بن مهدي، ووكيع بن الجرَّاح، وعبد الرحمن بن القاسم، وأشهب بن عبد العزيز، وأبي يوسف، ومحمد بن الحسن، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبي عبيد، وأبي ثور، ومن لا يحصي عددَه إلا الله تعالى، ممن ليس لهم غرض في تقديم غير الفاضل، لا لأجل رياسة ولا مال، وممن هم من أعظم الناس نظرا في العلم، وكشفا لحقائقه". انتهى.

وقال في موضع آخر من "منهاج السنة"

(1)

:

"

أئمة أهل الحديث، والتفسير، والتصوّف، والفقه، مثل الأئمة الأربعة وأتباعهم".

وقال رحمه الله أيضًا في موضع آخر من "منهاج السنَّة"

(2)

:

"

أئمة الإسلام المعروفون بالإمامة في الدين، كمالك، والثوريّ والأوزاعيّ، والليث بن سعد، والشافعيّ، وأحمد، وإسحاقَ، وأبي حنيفة، وأبي يوسف".

وقال رحمه الله أيضًا ما لفظه

(3)

:

(1)

1: 172، 173.

(2)

215:1 و 216.

(3)

1: 173.

ص: 374

" .. وهذا مذهب الأئمة المتبوعين مثل مالك بن أنس، والثوريّ، والليث بن سعد، والأوزاعي، وأبي حنيفة، والشافعيّ، وأحمد بن حنبل، وإسحاق، وداود، ومحمد بن خُزيمة، ومحمد بن نصر المروزي، وأبي بكر بن المنذر، ومحمد بن جرير الطبري، وأصحابهم". انتهى.

فمن يقرأ تراجم هؤلاء العُلماء الأعلام، والأئمة البرَرة الكرام، في كتب الرجال والتواريخ، يذعن لجلالة شأنهم وإمامتهم.

والحافظ ابن تيمية يعدُّ الإمام وصاحبيه في زُمرة هؤلاء الكبار، ويصفهم تارة "بالأئمة المتبوعين" وتارة:"بأئمة الإسلام المعروفين بالإمامة في الدين" ومرة "بأئمة أهل الحديث، والتفسير، والتصوّف، والفقه" ومرة يقول: "هم من أعظم الناس نظرا في العلم، وكشفا لحقائقه، ويعرف كل أحد زكَاءهم وذكاءهم" وأخرى يصفهم: "بأنهم الذين يبحثون الليل والنهار عن العلم".

فمن يكون موصوفا بهذه الصفات العُليا، فلا تَسأْل عن إمامته في الحديث، وثقته في الرِّواية، وكثرة إتقانه وضبطه، وحفظه وبراعته، وتضلُّعه في علوم الكتاب والسنة، فهؤلاء الذين قد جاوَزوا القنطرة، ووصلوا ذِروَةَ الكمال في العلم، وكُتُب الرجال والطبقات مشحونة بذكر فضائلهم ومناقبهم، وسارت الرُّكْبان بمآثرهم ومعاليهم، وقد جعل الله لهم لسان صدق في الآخرين، وجرتْ على أقاويلهم الفتاوى، وتبعتْهم الأمة، فلا يُقْبل في هؤلاء قول كلِّ قائلٍ يَرْميهم بسوءٍ أو تقصيرٍ في العلم والرواية، والله يقول الحق، وهو يهدي السبيل.

ص: 375

‌أبو حنيفة من الأئمة الجِلّة الذين عرفت عدالتهم واشتهرتْ

وهؤلاء الأئمة هم الذين يقول فيهم الشيخ الإمام القدوة المجتهد شيخ الإسلام أبو إسحاق الشيرازي الشافعي في كتابه "اللُّمَع في أصول الفقه"

(1)

في "باب القول في الجرح والتعديل" ما نصه: "وجملته أن الراوي لا يخلو إما أن يكون معلوم العدالة، أو معلوم الفسق، أو مجهول الحال، فإن كانت عدالته معلومة، كالصحابة رضي الله عنهم، أو أفاضل التابعين، كالحسن، وعطاء، والشعبي، والنخعي، أو أجلاء الأئمة، كمالك، وسفيان، وأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، ومن يجري مجراهم: وجب قبول خبره، ولم يجب البحث عن عدالته". ا هـ.

ويقول فيهم ابنُ الصلاح الإمام الحافظ المفتي شيخ الإسلام تقي الدين أبو عَمرو عثمان بن صلاح الدين عبد الرحمن الكُردي الشَّهْرَزُوري الشافعي، في كتابه المشهور

(2)

"علوم الحديث":

"فمن اشتهرت عدالته بين أهل النقل من أهل العلم، وشاع الثناء عليه بالثقة والأمانة، استُغْنِيَ فيه بذلك عن بينة شاهدة بعدالته تنصيصا. وهذا هو الصحيح في مذهب الشافعي، وعليه الاعتماد في فن أصول الفقه.

ومن ذكر ذلك من أهل الحديث أبو بكر الخطيب الحافظ، ومثَّل ذلك مالك، وشعبة، والسفيانيين، والأوزاعي، والليث، وابن المبارك، ووكيع، وأحمد

(1)

ص 41 طبع مصطفى البابي الحلبي بمصر سنة 1358.

(2)

"علوم الحديث" المعروف بمقدمة ابن الصلاح ص 115. في (النوع الثالث والعشرين).

ص: 376

بن حنبل، ويحيى بن مَعين، وعلي بن المديني، ومن جرى مَجْرَاهم في نباهة الذكر واستقامة الأمر، فلا يُسأل عن عدالة هؤلاء وأمثلاهم، وإنما يُسأل عن عدالة من خَفِي أمره، على الطالبين".

وقال الإمام العلامة الأصولي الناقد المحدث محقق الحنفية الكمال بن الحمام في "تحرير الأصول":

"عرف أن الشهرة معرِّف العدالة والضبط، كمالك، والسفيانين، والأوزاعي، والليث، وابن المبارك، وغيرهم، للقطع بأن الحاصل بها من الظن فوق التركية، وأنكر أحمد على من سأله عن إسحاق، وابن مَعين عن أبي عبيد، وقال: أبو عبيد يُسأل عن الناس". ا هـ

(1)

.

وقال الشيخ الإمام العالم الكبير العلامة عبد العلي بن نِظام الدين الأنصاري السِّهالوي اللَّكْنَوِي بَحْرُ العلوم مَلِكُ العُلماء:

" (مسئلة: مُعرِّف العدالة) أمور منها: (الشهرة)، والتواتر، (كمالك) الإمام، و (الأوزاعي، و) عبد الله بن المبارك وغيرهم)، كالإمام الهُمام أبي حنيفة وصاحبيه وبواقي أصحابه، والإمام الشافعي، وأحمد بن حنبل، وسائر الأئمة الكرام قُدِّس سِرُّهم، (لأنها فوقَ التزكية) في إفادة العلم بالعدالة. (ولهذا) أي لأجل كونِ الشُّهرة فوق التزكية (انكَر أحمدُ) بن حنبل (على من سأله عن إسحاق بن راهويه: هو عدْلٌ أم لا؟ (و) أنكر يحبي (بن مَعين على من سأله عن أبي عبيد، فقال ابن مَعين: (أبو عُبيد يُسأل عن

(1)

راجع "التقرير والتحبير شرح التحرير" 2: 247 الطبعة الأولى ببولاق مصر سنة 1316.

ص: 377

الناس)، وأنت تسأل عنه! يعني أنه مشهور بالعدالة، حتى يُجْعَلِ مُزَكِّيًا، وأنت تسأله عنه"

(1)

.

وقال الإمام العلامة الحافظ الكبير محدث الديار المصرية وفقيهها أبو جعفر أحمد بن محمد الطحاوي الحنفي في "بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب فقهاء المِلَّة أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي وأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري وأبي عبد الله محمد بن الحسن الشيباني":

"وعلماء السلف من السابقين ومن بعدهم من التابعين أهل الخبر والأثر، وأهل الفقه والنظر، لا يُذكَرون إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل".

وهذا هو السبب في عدم إيراد الذهبي الإمام الأعظم أبا حنيفة، والهُمام الأقدم الشافعي، والإمام البخاري في كتابه "المغني في الضعفاء" و"الميزان"

(2)

فقد صرَّح في مقدمة "ميزان الاعتدال" بما نصه:

"وكذا لا أذكر في كتابي من الأئمة المتبوعين أحدا، لجلالتهم في الإسلام وعظمتهم في النفوس، مثل أبي حنيفة، والشافعي، والبخاري". ا هـ.

(1)

من "فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت" مع "المستصفي" 2: 148 الطبعة الأولى ببولاق المصرية سنة 1324.

(2)

وترجمة الإمام أبي حنيفة الواقعة في بعض نسخ "الميزان" مدسوسة ومُقْحَمَة بغير قلم مؤلفه الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى، كما بينته في كتابي "الإمام ابن ماجة وكتابه السنن" ص 245، وأوسعه بيانا العلامة المحدث الناقد الشيخ عبد الفتاح أبو غدة في تعليقه على "الرفع والتكميل" للإمام اللكنوي ص 121 - 126 من الطبعة الثالثة.

ص: 378

‌كثرة أتباع أبي حنيفة واشتهار مذهبه في الآفاق

ثم قد امتاز الإمام أبو حنيفة من بين هؤلاء الأئمة بكثرة أتباع واشتهار مذهبه في الآفاق، فقد تبعه شطر أهل البسيطة، بل ثلثاها، ومذهبه هو أول المذاهب تدوينا.

قال الحافظ الذهبي في "سير أعلام النبلاء"

(1)

:

اشتهر مذهب الأوزاعي مدةً، وتلاشَى أصحابه، وتفانَوْا، وكذلك مذهب سفيان وغيره ممن سمينا، ولم يبق اليوم إلا هذه المذاهب الأربعة، وقلَّ من ينهض بمعرفتها كما ينبغي، فضلًا عن أن يكون مجتهدا. وانقطع أتباع أبي ثور بعد الثلاثمائة، وأصحاب داود إلا القليل، وبقي مذهب ابن جرير إلى ما بعد الأربعمائة

، ولا بأس بمذهب داود، وفيه أقوال حسنة، ومُتابعة للنصوص، مع أن جماعة من العُلماء لا يعتدّون بخلافه، وله شذوذ في مسائل شانت مذهبه".

وقال في "تذكرة الحفاظ"

(2)

: "كان أهل الشام" ثم أهل "الأندلس" على مذهب الأوزاعي مدة من الدهر، ثم فَنِيَ العارفون به، وبقي منه ما يوجد في كتب الخلاف".

وقال الإمام الرَّبَّاني سيدي عبد الوهَّاب الشَّعراني في كتاب الميزان

(3)

: "ومذهبه - أي أبي حنيفة - أول المذاهب تدوينا، وآخرها انقراضا، كما قاله بعض أهل الكشف، قد اختاره الله تعالى إماما لدينه وعباده، ولم يزل أتباعه في زيادة في كل عصر إلى يوم القيامة، لو بس أحدهم وضرب على أن يخرج

(1)

8: 92.

(2)

1: 182.

(3)

1: 59 من الطبعة الأزهرية بمصر 1344.

ص: 379

عن طريقه ما أجاب، فرضي الله عنه وعن أتباعه وعن كل من لزم الأدب معه ومع سائر الأئمة".

وقال أيضًا رحمه الله تعالى في "الميزان

(1)

:

"إن الله تعالى لما مَنَّ عليَّ بالاطلاع على عينِ الشريعة، رأيت المذاهب كلَّها متصلة بها، ورأيت مذاهب الأئمة الأربعة بحري جداولها كلها، ورأيت جميع المذاهب التي اندرستْ، قد استحالتْ حِجارة، ورأيت أطوَل الأئمة جَدْولا الإمامَ أبا حنيفة، ويليه الإمام مالك، ويليه الإمام الشافعي، ويليه الإمام أحمد بن حنبل، وأقصرهم جدولا مذهبَ الإمام داود، وقد انقرض في القرن الخامس، فأولتُ ذلك بطول زمن العمل بمذاهبهم وقصره، فكما كان مذهب الإمام أبي حنيفة أولَ المذاهب المدوَّنة تدوينا، فكذلك يكون آخرها انقراضا، وبذلك قال أهل الكشف".

‌كان أبو حنيفة حُجَّة ثَبْتًا أعلمَ أهل عصرهِ بالحديث، ومن صَيارِفَته

وقال شمس الأئمة الإمام أبو بكر محمد بن أحمد بن أبي سهل السَّرَخسي رحمه الله تعالى: في "أصول الفقه"

(2)

: "كان الإمام أبو حنيفة أعلم - أهل - عصره بالحديث، ولكن لمراعاة شرط كمال الضبط قلَّت روايته".

وقال الإمام علاء الدين أبو بكر بن مسعود الكَاساني رحمه الله تعالى: في "بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع"

(3)

: "إنه كان من صَيارفة الحديث، وكان

(1)

1: 27.

(2)

1: 350 من طبعة دار الكتاب العربي سنة 1372.

(3)

5: 188 من طبعة مصر سنة 1328.

ص: 380

من مذهبه تقديم الخَبَر وإن كان في حد الآحاد على القياس، بعد أن كان راويه عَدْلا، ظاهرَ العدالة".

وقال الإمام الكاساني أيضًا في كتابه المذكور

(1)

: "وحديث صحَّحه أبو حنيفة لم يبق فيه لأحد مطعن".

‌عِدَاد الإمام أبي حنيفة في الحُفَّاظ

وقد أطبق الحُفاظ الجهابذة المحدثون الذين صنَّفوا في طبقات الحُفاظ على ذكر الإمام فيهم، فهذا الحافظ الذهبي، يُترجِم له في "تذكرة الحفاظ"، ويُثني عليه، وقد قال في مبدأ كتابه:"هذه تذكرةٌ بأسماء مُعَدَّلي حَمَلةِ العلم النَّبَوي، ومن يُرْجَعُ إلى اجتهادهم في التوثيق والتضعيف، والتصحيح والتزييف". وكتابه (تذكرة الحفاظ) مطبوع مُتداول، قد طبع مرارا.

وتبعه الإمام المحدث الحافظ ذو الفنون شمس الدين محمد بن أحمد بن عبد الهادي المِقْدِسِي الحنبلي في كتابه "المختصر في طبقات علماء الحديث"، فأورده في كتابه، وترجم له، وأثنى عليه خيرا، والكتاب غير مطبوع إلى الآن

(2)

، فأحب أن أذكر ما قاله برمَّته.

قال رحمه الله تعالى: "ت، س" أبو حنيفة النعمان بن ثابت بن زوطي، التيمي مولاهم، الكوفي، الإمام، فقيه العراق، مولده سنة ثمانين، رأى أنس بن مالك غير مرة، لما قدم عليهم "الكوفة"، رواه ابن سعد عن سيف بن جابر، أنه سمع أبا حنيفة يقوله.

(1)

2: 97.

(2)

نسخة هذا الكتاب محفوظة في مكتبة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة وهي نسخة مصورة. وقد طبع شطر منه، وحين نقل المؤلف عنه كان غير مطبوع. عبد الفتاح.

ص: 381

وحدَّث عن عطاء، ونافع، وعبد الرحمن بن هُرْمُزْ الأعرج، وعدي بن ثابت، وسلمة بن كُهَيْل، وأبي جعفر محمد بن علي، وقتادة، وعَمْرو بن دينار، وأبي إسحاق، وخَلْق.

تفقه به زُفَر بن الهُذيل، وداود الطائي، وأبو يوسف، ومحمد، وأسد بن عمرو، والحسن بن زياد اللُّؤلؤي، ونوح الجامع، وأبو مطيع البلخي، وعِدَّة وكان قد تفقه بحماد بن أبي سليمان، وغيره.

وحدث عنه وكيع، ويزيد بن هارون، وسعد بن الصَّلْت، وأبو عاصم، وعبد الرزَّاق، وعُبيد الله بن موسى، وأبو نُعَيم، وأبو عبد الرحمن المقري، وخلق.

وكان إماما، وَرِعا، عالما، عاملا، متعبدا، كبير الشأن، لا يقبلُ جوائزَ السلطان، بل يتَّجر، ويكتسب.

قال ضِرار بن صُرد: سُئِلَ يزيد بن هارون، أيهما أفقه، الثوري أو أبو حنيفة؟ فقال: أبو حنيفة أفقه، وسفيان أحفظ للحديث.

وقال ابن المبارك: "أبو حنيفة أفقه الناس"، وقال الشافعي:"الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة"، وقال يزيد:"ما رأيت أحدا أورع ولا أعقل من أبي حنيفة"، وقال أبو داود:"رحمه الله أبا حنيفة كان إماما".

وروي بِشْر بن الوليد، عن أبي يوسف قال: كنت أمشي مع أبي حنيفة، فقال رجل لآخر: هذا أبو حنيفة لا ينام الليل، فقال: والله لا يتحدَّث عني بما لا أفعل، فكان يُحْيي الليل صلاة، ودعاء وتضرّعا، ومناقبه وفضائله كثيرة. وكان موته في رجب سنة خمسين ومائة. رحمه الله تعالى". انتهى.

وقال في مبدأ كتابه: "وبعدُ، فهذا كتابٌ مختصر، يشتمل على جُملة من الحفاظ، من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين، ومَنْ بَعدهم، لا يَسَع من يشتغل بعلم الحديث الجهل بهم".

ص: 382

ومع كون الكتاب مختصرا، ذكر الإمام فيه، وهذا يدلّ على كون الإمام من الحفاظ المعدودين الذين ينبغي الاعتناءُ بتراجمهم.

ثم ذكره في الحُفاظ الإمام العلامة الحافظ مؤرّخ الديار الشامية وحافظها، شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر الشهير بابن ناصر الدين الشافعي رحمه الله تعالى، في كتابيه:"بديعة البيان عن موت الأعيان" منظومة، وشرحها "التِّبيان لبديعة البيان"، وهي طبقات الحُفاظ نظما نثرا، وقد رأيت منها نسخة مخطوطة في مكتبة شيخ الإسلام عارف حكمت، بـ "المدينة المنورة"، حين سافرتُ للحج في عام 1387 هـ، ضِمنَ كتب التواريخ رقم (48) جاء فيها ما نصه:

بعدهما فتى جريج الداني

مثل أبي حنيفة النعمان

أي بعد وفاة الحجَّاج، والزُّبيدي بعام

(1)

، وفاة ابن جريج، وأبي حنيفة الإمام.

فالأول عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، أبو الوليد، وقيل: أبو خالد الأموي مولاهم المكي

والثاني النعمان بن ثابت بن زوطَى التيمي مولاهم، الكوفي، وقيل: هو من أبناء فارس، قال إسماعيل بن حمَّاد بن أبي حنيفة فيما روي عنه: أنا إسماعيل بن حمَّاد بن النعمان بن ثابت بن النعمان بن المرزبان، من أبناء فارس الأحرار، والله ما وقع علينا رِقٌّ قط. انتهى.

(1)

الحجَّاج هو أبو أرطاة الحجَّاج بن أرطاة الكوفي النخعي الإمام أحد الأعلام. والزبيدي بضم الزاي بصيغة التصغير: أبو الهذيل محمد بن الوليد بن عامر الزبيدي الحمصي، قاضي حمص، وكلاهما توفيا سنة 149، قبل وفاة ابن جريج وأبي حنيفة الذين توفيا سنة 150، رحمهم الله أجمعين. عبد الفتاح.

ص: 383

رأى الإمام أنسَ بن مالك غير مرة، لما قدم عليهم "الكوفة"، فيما رواه سيف بن جابر سماعا من أبي حنيفة، وحدَّث عن عطاء، ونافع، وعمرو بن دينار، والأعرج، وقتادة، وخَلْقٍ من الأخبار.

وكان أحد أئمة الأمصار، فقيهَ العراق، متعبدا، كبير الشأن، وكان يتجر، ولا يقبلُ جوائز السلطان.

وهو أحد من كان يختم في ركعة القرآن، ومكث أربعين سنة يصلي الصبح بوضوء العتمة، وفضائله كثيرة معروفة. قال الشافعي:"الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة". انتهى.

وذكره أيضًا الإمام المحدث جمال الدين يوسف بن حسن بن أحمد بن عبد الهادي الصالحي الحنبلي الشهير بابن المبْرَدِ (بكسر الميم وسكون الموحّدة، وفتح الراء الخفيفة) في كتابه "طبقات الحفاظ" وقد نقل عنه الشيخ العلامة المحدث عبد اللطيف بن المخدوم العلامة محمد هاشم السِّندي، في كتابه "ذَبّ ذُباباتِ الدِّراسات، عن المذاهب الأربعة المتناسبات"

(1)

.

ثم ذكره بعدهم خاتمةُ الحفاظ الإمام جلال الدين السيوطي في كتابه "طبقات الحفاظ"، وقد ذكرت ما قاله الحافظ السيوطي في ترجمة الإمام أبي حنيفة في "التعليقات على ذب ذُبابات الدراسات، عن المذاهب الأربعة المتناسبات" فليراجع، وقد طبع كتابُ "طبقات الحفاظ" للسيوطي في "أوروبا" و"بيروت". وقال في مبدأ كتابه:

"أما بعدُ، فهذا كتاب "طبقات الحفاظ ومُعَدَّلي حَمَلَةِ العلم النبوي، ومَنْ يُرْجَعُ إلى اجتهادهم في التوثيق، والتجريح، والتضعيف

(1)

1: 445، قامت بنشره وطبعه لجنة إحياء الأدب السِّندي بكراتشي 1379.

ص: 384

والتصحيح، لخصتُها من طبقات إمام الحفَّاظ أبي عبد الله الذهبي، وذيلتُ عليه مَنْ جاء بعده".

ثم ذكره من بعده الشيخ العلامة المحدث محمد بن رُسْتُم بن قُبَاد الحارثي البَدَخْشي، أحدُ البارعين في علم الحديث والرجال، في كتابه (تراجم الحفاظ)، وهو مجلّد ضخم في تراجم الحفاظ، استخرجها من (كتاب الأنساب) للإمام الحافظ السمعاني، مع اختصار في بعض التَّراجم وزيادة مفيدة في أكثرها، فرغ من تصنيفه يوم الخميس لتسع خَلَوْنَ من ربيع الأول سنة ست وأربعين ومائة وألف بمدينة "دِهْلِي" عاصمة "الهند"، فقال ما نصه:

"النعمان بن ثابت الكوفي أبو حنيفة الإمام الأعظم، أحد الأئمة الأربعة المتبوعين، ذكره في نسبة "الخَزَّاز"، وقال: بفتح الخاء المعجمة، وتشديد الزاء الأولى، اشتهر بهذه الصنعة والحِرفة جماعة من أهل العِراقين، من أئمة الدين وعلماء المسلمين: فأما من أهل "الكوفة"، فأبو حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي، مع تبحّره في العلم وغَوْصه على دقائق المعاني وخفيها، كان يبيع الخزَّ، ويأكل منه طلبا للحلال، وقيل: كان ذلك في ابتداء أمره. وشُهرته تُغني عن الإطناب في ذكره. ولد سنة سبعين، وتوفي سنة خمسين ومائة، انتهى كلامه في الخزاز.

ثم أعاد ذكره في "الرائي"، وقد مرَّ تحقيقه في ترجمة ربيعة بن أبي عبد الرحمن

(1)

فقال:

(1)

قال فيها: "الرائي" بتشديد الراء المفتوحة وفي آخرها الياء

وإنما قيل له الرائي لعلمه به. أي بالراي. وكان عارفا بالسنة وقائلا بالرأي.

ص: 385

وأبو حنيفة النعمان بن ثابت بن النعمان بن المرْزُبان التَّيمي الكوفي، صاحب الرأي، وإمام أصحاب الرأي، وفقيه أهل العراق. رأى أنسَ بن مالك رضي الله عنه.

وسمع عطاءَ بن أبي رباح، وأبا إسحاق السَّبِيْعي، ومُحارِبَ بن دِثار، وحمّاد بن أبي سليمان، والهيثَمَ بن حبيب، وقَيْسَ بن مُسْلِم، ومحمد بن المنكدر، ونافعا مولى ابنِ عمر رضي الله عنهما، وهشامَ بن عروة، وسِمَاكَ بن حرب.

رَوَى عنه هُشَيْمُ بن بَشِيْر، وعبَّاد بن العَوَّام، وعبد الله بن المبارك، ووكيع بن الجرَّاح، ويزيد بن هارون، وأبو يوسف القاضي، ومحمد بن الحسن الشيباني، وعمرو بن محمد العَنْقَزي، وهَوْذَةُ بن خَلِيفة، وأبو عبد الرحمن المقْرِيء، وعبد الرزَّاق بن هَمَّام، وغيرهم.

وهو كوفي تَيميّ من رهط حمزة بن حبيب الزيَّات، وُلِدَ بـ "الكوفة"، ونقله أبو جعفر المنصور إلى "بغداد"، فسكنها إلى حين وفاته. قيل: إن أباه ثابت بن النعمان بن المرزبان من أبناء فارس الأحرار، ذهب إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو صغير، فدعا له بالبركة فيه وفي ذريته. وقيل: إن جدّه النعمان بن المرزبان هو الذي أهدى لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه الفالوذج في يوم النَّيْروز، فقال: نَوْرِزونا كل يوم، وفي رواية كان في يوم المهرجان، فقال: مَهْرجونا كل يوم.

وكلمه ابن هُبيرة على أن يلي القضاءَ، فأبى، فضربه مائة سوطٍ وعشرة أسواط، كل يوم عشرة أسواط، فصبر، وامتنع، فلما رأى ذلك خلَّى سبيله.

ص: 386

واشتغل بطلب العلم، وبالغ فيه، حتى حصل له ما لم يحصل لغيره. ودخل يومًا على المنصور، فكان عنده عيسى بن موسى، فقال للمنصور: هذا عالم الدنيا اليوم.

ورأى أبو حنيفة في المنام أنه يَنْبِش قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل لمحمد بن سيرين، فقال: صاحب هذه الرؤيا رجل يثوِّر عِلْمًا - أي يستخرج علما - لم يسبقه إليه أحد قبله.

وكان مسعر بن كِدام يقول: ما أحسُد أحدا بـ "الكوفة" إلا رجلين: أبو حنيفة في فقهه، والحسن بن صالح في زهده، وقال مِسْعر أيضًا: من جعل أبا حنيفة بينه وبين الله رجوتُ أن لا يخاف، ولا يكونَ فرَّط في الاحتياط لنفسه.

وقال الفضيل بن عياض: كان أبو حنيفة رجلًا فقيها معروفا، بالفقه، مشهورا بالورع، واسع المال، معروفا بالإفضال على كل من يُطيف به، صبورا على تعليم العلم بالليل والنهار، حسَنَ الدين، كثير الصمت، قليلَ الكلام حتى تَرِدَ مسئلة في حرامٍ أو حلال، وكان يحسن يدلّ على الحق، هاربا من مال السلطان، وإذا وردتْ عليه مسئلة فيها حديث صحيح اتبعه، وإن كان عن الصحابة والتابعين، وإلا قاسَ، فأحسن القياس.

وكانت ولادته سنة ثمانين، ومات في رجب سنة خمسين ومائة، ودُفن بمقبرة الخَيْزُران بباب الطاق، وصُلِّيَ عليه ستَّ مرات من كثرة الزحام، آخرهم صلى عليه ابنه حمَّاد، وغسَّله الحسن بن غمارة، ورجلٌ آخر.

قلتُ: وزرت قبره غير مرة. انتهى.

قلت: ذكره الذهبي وابن ناصر الدين في "طبقات الحفَّاظ". انتهى ما ذكره البدخشي.

ص: 387

ورأيت من هذا الكتاب نسخة خطية في خزانة الكتب بدار العلوم الندوة العُلماء لكنو بـ "الهند".

وقد عقد الشيخ العلامة الثقة المطَّلع، والحافظ المتَّبع، الشيخ الإمام، شمس الدين محمد بن يوسف الصالحي الدمشقي الشافعي، مؤلّف "السيرة الشامية"، في كتابه "عقود الجُمان في مناقب الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان"

(1)

، "الباب الثالث والعشرين" في "بيان كثرة حديثه، وكونه من أعيان الحفَّاظ من المحدّثين" قال فيه رحمه الله تعالى:

"إعلم رحمك الله تعالى أن الإمام أبا حنيفة رحمه الله تعالى، من كبار حُفاظ الحديث، وذكره الحافظ الناقد أبو عبد الله الذهبي في كتابه "المُمْتِع" و"طبقات الحُفَّاظ المحدثين" منهم، ولقد أصاب وأجاد، لولا كثرة اعتنائه بالحديث ما تهيأ له استنباط مسائل الفقه، فإنه أول من استنبطه من الأدلة". انتهى.

وقال العلامة المحدث إسماعيل العجلُوني بن محمد جَرَّاح الشافعي في رسالته المسماة: "عِقد الجوهر الثمين في أربعين حديثًا من أحاديث سيد المرسلين"، وهي ثَبَتُه المعروف "بالرسالة العَجْلُوْنِية"

(2)

: "وزدتُّ على ما فيها مُسْنَدَ الإمام أبي حنيفة النعمان، تنويها بأنه من أهل هذا الشأن".

ثم علق على قوله: "الإمام أبي حنيفة النعمان" بالحاشية ما نصه

(3)

: "هو إمام الأئمة، هادي الأمة، أبو حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي، ووُلد سنة ثمانين، وتوفاه الله تعالى سنة مائة وخمسين من الهجرة.

(1)

في ص 319. طبع بالهند في حيدرآباد الدكن، طبعته لجنة إحياء المعارف النعمانية سنة 1394.

(2)

ص 4.

(3)

ص 4 و 5 و 6 من طبعة مصر سنة 1322.

ص: 388

أحد من عُدَّ من التابعين، إمام المجتهدين بلا نزاع، أول من فتح باب الاجتهاد بالإجماع، لا يشك من وقف على فقهه، وفروعه، في سعة علومه، وجلالة قدره، وأنه كان أعلم الناس بالكتاب والسنة، لأن الشريعة إنما تؤخذ من الكتاب والسنّة، ومن كان قليل البضاعة من الحديث فيتعين عليه طلبه وتحمله، والجِدُّ والتشمير في ذلك، ليأخذ الدين من أصولٍ صحيحة، ويتلقَّى الأحكام عن صاحبها المبلغ لها.

وقد أجمع الناقلون عنه من أهل الأصول وأهل الحديث أنه يقدم الحديث الصحيح على القياس المعتبر، نعم لم يكن هو رضي الله عنه من المكثرين كسائر الأئمة، وليس من شروط الإمامة والاجتهاد الإكثار في الرِّواية، لأن الاجتهاد إنما يتوقف على حفظ السنن، وتحملها، لا على أداءها وتبليغها.

فالصِّدِّيق رضي الله عنه إمام الصحابة، وأفقههم، وأحفظهم، لا يشك فيه مسلم: لم يكثر، وإنما رَوَى أحاديث معدودة، وإمامُ المحدثين بالإجماع إمام الأئمة وإمام دار الهجرة مالك رضي الله عنه، لم يصحَّ عنده إلا ما في (كتاب الموطأ)

(1)

، فهل يقول قائل فيه شيئًا.

ونحن لا ننكر أن في السنن سُننًا لم تبلغ الإمام أبا حنيفة، أو بلغتْه ولم تثبتْ عنده صحتُها، لكن هذا أمر لا يمسّ شأنَ المجتهد، وقد كان عُمر رضي الله عنه، يرى رأيا ثم تبلغه السنة، فيرجع، مع أنه ثبت عند أهل العلم بالأثر أن عمر أفقه الصحابة - بعد أبي بكر -.

ثم الطاعنون فيه كانوا يقرذون بإمامته وتقدمه من حيث لا يدرون. كانوا يَرمونه بالرأي، وليس الرأي في سلفنا إلا قُوَّةُ الاطّلاع على معاني النصوص

(1)

يعني إذا قصرنا النظر على ما دَوَّنه في "الموطأ". عبد الفتاح.

ص: 389

الشرعية، وعلى الحكم المعتبرة من عند الشارع في شرعه الأحكام، ولن يَتِمَّ اجتهاد، بل ولا عِلْمٌ إلا بالحفظ، وفقهِ معاني المحفوظ.

فهو رضي الله عنه، حافظ، حُجَّةٌ، فقيه، لم يُكْثر في الرِّواية، لما شَدَّد في شروط الرِّواية، والتحمل، وشروط القبول". انتهى.

فثبت أن الإمام أبا حنيفة رضي الله عنه أحدُ أئمة الأمصار، الذين هم من أهل هذا الشأن، ومن أعيان حُفَّاظ الحديث، الذين لا يسع من يشتغل بعلم الحديث الجهل بهم، ومن كبار مُعَدَّلِي حَمَلَة العلم النبوي، وممن يُرجع إلى اجتهادهم في التوثيق والتجريح، والتضعيف والتصحيح، ومن أعلم الناس بالكتاب والسنَّة.

‌أبو حنيفة من أئمة الجَرح والتعديل

قال الحافظ العلامة أبو العبَّاس تقيُّ الدين أحمد بن عبد الحليم المعروف بابن تيمية رحمه الله تعالى في "تلخيص كتاب الاستغاثة" المعروف بالرد على البكري

(1)

: "وكلام يحيى بن مَعين، والبخاري، ومسلم، وأبي حاتم، وأبي زُرْعة، والنسائي، وأبي أحمد بن عَدِيّ، والدارقطني، وأمثالهم، في الرجال، وصحيح الحديث، وضعيفه، هو مثل كلام مالك، والثوري، والأوزاعي، والشافعي، وأمثالهم في الأحكام، ومعرفة الحلال والحرام، وفي الأئمة من هو إمام مع هؤلاء وهؤلاء، مشارك للطائفتين، وإن كان بأحد الصِّنفين أجْدَرُ.

وأكثر أئمة الحديث والفقه كمالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق بن راهويه، وأبي عُبيد، وكذلك الأوزاعي، والثوري، والليث، هولاء، وكذلك لأبي يوسف صاحب أبي حنيفة، ولأبي حنيفة، أيضًا ما له من ذلك، ولكن لبعضهم في الإمامة في الصنفين ما ليس للآخر، وفي بعضهم من صِنف المعرفة

(1)

ص 13 و 14 من طبع مصر.

ص: 390

بأحد الصِّنفين ما ليس في الآخرَ، فرضي الله عن جميع أهل العلم والإيمان". انتهى.

وقال إمام الحفاظ، الجِهْبِذُ الناقد، شمس الدين الذهبي، في كتابه "ذكر من يُعتمدُ قوله في الجرح والتعديل"

(1)

"فأول مَن زَكّى وجرَّح عند انقراض عصر الصحابة:

1 -

الشعبي.

2 -

وابن سيرين، ونحوهما، حُفظ عنهم توثيق أناس وتضعيف آخرين.

وسبب قِلّة الضعفاء في ذلك الزمان: قِلَّة متبوعهم من الضعفاء، إذ أكثر المتبوعين صحابة عدول، وغير الصحابة من المتبوعين أكثرهم ثقات، يَعون ما يرون، وهم كبار التابعين، فيوجد فيهم الواحد بعد الواحد فيه مقال، كالحارث الأعور، وعاصم بن ضَمْرَة، ونحوها.

نعم فيهم عِدَّة من رؤوس أهل البدع، من الخوارج، والشِّيعة، والقَدَرية، نسأل الله العافية، كعبد الرحمن بن مُلْجَم، والمختار بن أبي عُبيد الكذَّاب، ومَعْبَد الجُهني، ثم كان في المائة الثانية في أوائلها جماعة من الضعفاء من أوساط التابعين وصغارهم، ممن تُكِلّم فيهم من قبل حفظهم، أو لبدعة فيهم، كعطية العَوفي، وفَرْقَد السَّبَخِي، وجابر الجُعْفي، وأبي هارون العَبْدِي.

فلما كان عند انقراض عامة التابعين في حدود الخمسين ومائة، تكلم طائفة من الجهابذة في التوثيق والتضعيف.

3 -

فقال أبو حنيفة: ما رأيت أكذب من جابر الجُعفي.

(1)

ص 159 - 162. طبع مع "قاعدة في الجرح والتعديل"، طبع المكتبة العلمية في لاهور سنة 1402، بتحقيق العلامة المحقق المحدث الناقد الأستاذ عبد الفتاح أبو غدة نفع الله به.

ص: 391

4 -

وضعَّف الأعمش جماعةً، ووثَّق آخرين.

5 -

وانتقد الرجال شعبة.

6 -

ومالك".

وقال الحافظ أبو الخير محمد بن عبد الرحمن السَّخاوي صاحب الحافظ ابن حجر العسقلاني

(1)

:

"وتكلم في الرجال، كما قاله الذهبي جماعة من الصحابة، ثم من التابعين كالشعبي، وابن سيرين، ولكنه في التابعين بقلة، لقلة الضعف في متبوعهم، إذ أكثرهم صحابةٌ عُدول، وغير الصحابة من المتبوعين أكثرهم ثقات، ولا يكاد يوجد في القرن الأول الذي انقرض، في الصحابة وكبار التابعين ضعيف، إلا الواحد بعد الواحد، كالحارث الأعور، والمختار الكذَّاب.

فلما مضى القرن الأول، ودخل الثاني، كان في أوائله من أوساط التابعين جماعة من الضعفاء، الذين ضُعِّفوا غالبا من قبل تحمّلهم، وضبطهم للحديث. فتراهم يرفعون الموقوف، ويرسلون كثيرًا، ولهم غلط، كأبي هارون العَبْدِي.

فلما كان عند آخر عصر التابعين وهو حدود الخمسين ومائة، تكلَّم في التوثيق والتضعيف طائفة من الأئمة، فقال أبو حنيفة: ما رأيت أكذبَ من جابر الجُعفي، وضعَّف الأعمش جماعةً، ووثَّق آخرين، ونظر في الرجال شعبةُ، وكان متثبِّتًا، لا يكاد يَرْوي إلا عن ثقة، وكذلك مالك". انتهى.

وقال الإمام العلامة الحافظ عبد القادر القرشي رحمه الله تعالى في "الجواهر المضية في طبقات الحنفية":

(2)

(1)

في ص 479 من "فتح المغيث بشرح ألفية الحديث" من طبعة أنوار محمدي لكنو بالهند.

(2)

1: 30 و 31 من طبعة الهند.

ص: 392

"اعلم أن الإمام أبا حنيفة قد قبل قوله في الجرح والتعديل، وتلقّاه عنه علماء هذا الفن، وعملوا به، كتلقّيهم عن الإمام أحمد، والبخاري، وابن مَعين، وابن المديني، وغيرهم من شيوخ الصنعة، وهذا يدلُّك على عظمة شأنه وسعة علمه وسيادته.

فمن ذلك ما رواه الترمذي رحمه الله تعالى في "كتاب العلل" من "الجامع الكبير" حدّثنا محمود بن غيلان، عن يحيى الحمَّياني، سمعتُ أبا حنيفة يقول:"ما رأيتُ أكذب من جابر الجعفي، ولا أفضلَ من عطاء بن أبي رباح".

ورَوَينا في "المدْخل لمعرفة دلائل النبوة" للبيهقي الحافظ، بسنده عن عبد الحميد الحِمَّاني، سمعت أبا سعد الصَّغاني، وقام إلى أبي حنيفة، فقال: يا أبا حنيفة، ما تقول: في الأخذ عن الثوري؟ قال: أكتب عنه، فإنه ثقة، ما خلا أحاديث أبي إسحاق عن الحارث، وحديث جابر الجعفي.

وقال أبو حنيفة: "طَلْق بن حبيب كان يرى القَدَر". وقال أبو حنيفة: "زيد بن عيَّاش ضعيف". وقال سُويد بن سعيد، عن سفيان بن عيينة، قال:"أول من أقعدني للحديث أبو حنيفة، قدِمتُ "الكوفة"، فقال أبو حنيفة: "إن هذا أعلم الناس بحديث عمرو بن دينار، فاجتمعوا عليَّ، فحدثتهم".

وقال يعقوب بن شيبة: "كلام رَقَبَةٍ بن مَصْقَلَة، الذي يحدثه سفيان بن عيينة، عن أبي حنيفة" قال يعقوب: "فعرفه ابن المديني، وقال: "لم أجدْه عندي".

وقال أبو سليمان الجُوزَجاني: "سمعتُ حمَّاد بن زيد يقول: ما عرفنا كنية عمرو بن دينار إلا بأبي حنيفة، كنا في المسجد الحرام، وأبو حنيفة مع عمرو

ص: 393

بن دينار، فقلنا له: يا أبا حنيفة، كلّمْه يُحدّثنا، فقال: يا أبا محمد، حدِّثْهم، ولم يقلْ، يا عمرو".

وقال أبو حنيفة: "لعن الله عمرو بن عبيد، فإنه فتح للناس بابًا إلى علم الكلام". وقال أبو حنيفة: "قاتَلَ الله جَهمَ بنَ صفوان، ومُقاتِلَ بن سليمان. هذا أَفْرط في النفي، وهذا أفرط في التشبيه". انتهى

وجاء في "الجواهر المضية في طبقات الحنفية" للحافظ عبد القادر القرشي أيضًا

(1)

:

"قال الطحاوي: حدّثنا سليمان بن شعيب، حدّثنا أبي، قال: أملي علينا أبو يوسف، قال: قال أبو حنيفة: لا ينبغي للرجل أن يحدِّث من الحديث إلا بما حفظه من يوم سمعه إلى يوم يحدث به.

قلت: سمعتُ شيخنا العلامة الحجّة زين الدين بن الكِناني، في درس الحديث بالقُبَّة المنصورية، وكان أحد سلاطين العُلماء، ينصر هذا القول، وسمعتُه يقول في هذا المجلس: لا يحلّ لي أن أروي إلا قوله صلى الله عليه وآله وسلم:

أنا النبي لا كذب،

أنا ابن عبد المطلب

فإني حفظته من حين سمعته إلى الآن.

قلت: ولكن أكثر الناس على خلاف ذلك، ولهذا قلّت روايةُ أبي حنيفة لهذه العلة، لا لعلة أخرى، زعمها المتحاملون عليه.

وقال أبو عاصم: سمعتُ أبا حنيفة يقول: القراءة جائزة، يعني عرض الكتب. قال: سمعت ابن جريج يقول: هي جائزة، يعني عرض الكتب.

قال: وسمعتُ مالك بن أنس وسفيان، وسألت أبا حنيفة عن الرجل يُقْرأ عليه الحديث يقول: أخبرنا أو كلاما هذا معناه، فقالوا: لا بأس.

(1)

31 و 32 الطبعة الأولى.

ص: 394

وعن أبي عاصم أخبريني ابن جريج وابن أبي ذيب وأبو حنيفة ومالك بن أنس والأوزاعي والثوري كلهم يقولون: لا بأس إذا قرأت على العالم أن تقول: أخبرنا.

وقال أبو قَطَن فيما رواه الطحاوي: قال لي أبو حنيفة: اقرأ عليَّ، وقُلْ: حدَّثني. وقال لي مالك: اقرأ عليَّ، وقل: حدَّثني.

قال الطحاوي: حدّثنا روحُ بن الفرج، أنا ابن بكير، قال: لما فرغنا من قراءة "الموطأ" على مالك، قام إليه رجل، فقال: يا أبا عبد الله! كيف نقول في هذا؟ فقال: إن شئتَ فقل: حدَّثني، وإن شئتَ فقل: أخبرني، وإن شئت فقل: أخبرنا، قال: وأراه قد قال: وإن شئتَ فقل: سمعتُ

(1)

.

قال الطحاوي: ومن قال بهذا أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد.

وقال أبو حنيفة: لم يصح عندي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لَبِس السراويل، فأفتى به"

(2)

. انتهى.

(1)

وقع في الأصل هنا تبعا "للجواهر" سقط استدركته من رسالة الطحاوي في "التسوية بين حدّثنا وأخبرنا". عبد الفتاح.

(2)

كذا جاء سياق هذا الخبر في "الجواهر المضية"، وفيه اختصار شديد، وهذا نصه بتمامه من "الانتقاء" لابن عبد البر، ص 140 - 141: "محمد بن إسماعيل الصائغ: قال: حدّثنا داود بن المِحبَّر، قال: قيل لأبي حنيفة: المحرِمُ لا يجد الإزار يَلْبَسُ السراويل؟ قال: لا، ولكن يلبس الإزار، قيل له ليس له إزار، قال: يبيع السراويل ويشتري بها إزارا.

قيل له: فإن النبي صلى الله عليه وسلم خطب وقال: "المحرم يلبس السراويل إذا لم يجد الإزار"، فقال أبو حنيفة: لم يصح في هذا عندي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء فأفتي به، وينتهي كلّ امريء إلى ما سمع، وقد =

ص: 395

قُلتُ: وقال ابن حِبَّان في "صحيحه"

(1)

: "أخبرنا الحُسين بن عبد الله بن يزيد القطَّان بـ "الرَّقَّة"، قال: حدّثنا أحمد بن أبي الحَواري، قال: سمعتُ أبا يجب الحِمَّانِيَّ، قال: سمعتُ أبا حنيفة يقول: ما رأيتُ فيمن لقيتُ أفضلَ من عطاء، ولا لقيتُ فيمن لقيتُ أكذب من جابر الجعفي، ما أتيتُه بشيء قطٌّ من رأيي إلا جاءني فيه بحديث، وزعم أن عنده كذا وكذا ألف حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم ينطقْ بها، فهذا أبو حنيفة يُجرّح جابرا الجُعفي، ويكذّبه". انتهى.

وقال ابن حبَّان أيضًا في كتاب "الثقات"

(2)

في ترجمة أبي محمد موسى بن السندي: "حدّثنا عمران بن موسى بن مُجاشع، ثنا موسى بن السندي، ثنا المؤمَّل بن إسماعيل، قال سمعتُ أبا حنيفة يقول: "يقولون: من كان طويل اللحية لم يكنْ له عقل، ولقد رأيتُ علقمة بن مَرْثَد طويلَ اللحية وافرَ العقل".

وقال الحافظ أبو أحمد عبد الله بن عدي الجرجان، في ترجمة جابر بن يزيد الجعفي من كتابه "الكامل في الضعفاء"

(3)

:

= صح عندنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يلبس المحرم السراويل"، فننتهي إلى ما سمعنا.

قيل له: أتُخالِفُ النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: لعن الله من يُخالفُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، به أكرمَنا الله وبه استنقَذَنا". عبد الفتاح.

(1)

من "الإحسان بترتيب صحبح ابن حبان" 3: 273 طبع دار الكتب العلمية بيروت.

(2)

9: 162.

(3)

3: 537، طبع "المكتبة الأثرية" بباكستان.

ص: 396

"حدّثنا الحُسين بن عبد الله القطَّان، ثنا أحمد بن أبي الحواري، سمعتُ أبا يحيى الحِمَّاني يقول: سمعت أبا حنيفة يقول: ما رأيتُ فيمن رأيتُ أفضل من عطاء، ولا لقيتُ فيمن لقيتُ أكذب من جابر الجعفي، ما أتيتُه قط بشيء من رأيي إلا جاءني فيه بحديث، وزعم أن عنده كذا وكذا ألف حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يُظهرْها.

ثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز، ثنا محمود بن غيلان، ثنا عبد الحميد الحِمَّاني، سمعت أبا سعد الصاغاني، يقول: جاء رجل إلى أبي حنيفة، فقال: ما ترى في الأخذ عن الثوري؟ فقال: أكتب عنه ما خلا حديث أبي إسحاق عن الحارث، عن علي، وحديثَ جابر الجعفي.

سمعتُ عبد الله يقول: قال عبد الحميد الحِمَّاني، عن أبي حنيفة، قال: ما رأيتُ أكذبَ من جابر. ثنا ابن أبي بكر، ثنا عبَّاس، وثنا ابن حمَّاد، قال: قال عباس: ثنا عبد الحميد بَشْمِيْنُ، عن أبي حنيفة، قال: ما رأيتُ أحدًا أكذب من جابر الجعفي". انتهى

وقال الحافظ أبو عمر يوسف بن عبد البر القرطبي في "جامع بيان العلم وفضله"

(1)

: "وقد كان أبو حنيفة، وهو أقعدُ الناس بحمَّاد، يُفضِّلُ عطاء عليه (على حمَّاد). أخبرنا حكم بن منذر، قال: أخبرنا يوسف بن أحمد، قال: حدّثنا أبو رجاء محمد بن حمَّاد المقريء، قال: حدّثنا عمر بن شبَّة، قال: حدّثنا أبو عاصم الضحَّاك بن مَخْلَد، قال: سمعتُ أبا حنيفة يقول: ما رأيتُ أفضلَ من عطاء بن أبي رباح.

وأخبرنا حكم، قال: حدّثنا يوسف، قال: حدّثنا أبو عبد الله محمد بن خَيْران الفقيه العبد الصالح، قال: حدّثنا شعيب بن أيوب سنة ستين ومائتين،

(1)

2: 153 طبع إدارة الطباعة المنيرية بمصر.

ص: 397

قال: سمعتُ أبا يحيى الحِمَّاني، يقول: سمعتُ أبا حنيفة يقول: ما رأيتُ أحدا أفضل من عطاء بن أبي رباح، ولا رأيتُ أحدا أكذب من جابر الجعفي". انتهى.

وقال البيهقي في "كتاب القراءة خلف الإمام"

(1)

: ولو لم يكن في جَرْح الجُعْفي إلا قولُ أبي حنيفة رحمه الله لكفاه به شرا، فإنه رآه وجرَّبه، وسمع منه ما يوجب تكذيبه، فأخبر به.

أخبرنا أبو سَعْدٍ الماليني، أنا أبو أحمد بن عدي الحافظ، نا الحسن بن عبد الله القطَّان، نا أحمد بن أبي الحواري، قال: سمعتُ أبا يحيى الحِمَّاني يقول: سمع أبا حنيفة يقول: ما رأيتُ فيمن رأيتُ أفضل من عطاء، ولا لقيتُ فيمن لقيتُ أكذب من جابر الجعفي، ما أتيتُه بشيء قط من رأيي إلا جاءني فيه بحديث، وزعم أن عنده كذا وكذا ألف حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يظهرْها.

وأخبرنا أبو سَعد أنا أبو أحمد، أنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز، نا محمود بن غيلان، نا عبد الحميد الحِمَّاني قال: سمعتُ أبا سعد الصاغاني يقول: جاء رجل إلى أبي حنيفة، فقال: ما ترى في الأخذ عن الثوري؟ فقال: اُكْتُب عنه ما خلا حديث أبي إسحاق عن الحارث عن علي، وحديث جابر الجعفي.

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، قال: سمعتُ أبا العبَّاس محمد بن يعقوب يقول: سمعتُ العبَّاس بن محمد الدوري يقول: سمعتُ أبا يحيى الحِمَّاني يقول: سمعتُ أبا حنيفة يقول: ما رأيتُ فيمن رأيتُ أكذب من جابر الجعفي".

(1)

ص 108 و 109 من طبع دهلي سنة 1915 م.

ص: 398

وقال الإمام ذو الفنون والمعارف أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الحافظ الأديب الظاهري في كتابه "المحلَّى في شرح المجلّى بالحجج والآثار"

(1)

:

"جابر الجعفي كذَّاب، وأول من شهد عليه بالكذب أبو حنيفة".

وقال أيضًا

(2)

:

"مجالد ضعيف، أول من ضعَّفه أبو حنيفة".

وروى الحاكم في "تاريخ نيسابور" في ترجمة أحمد بن عباس بن حمزة الواعظ، من طريق أبي مُسْهر، قال: حدّثنا سعيد بن عبد العزيز، قال: كان أبو حنيفة يقول: أول من أسلم من الرجال أبو بكر، ومن النساء خديجة، ومن الصبيان علي. انتهى

(3)

.

ونقل الحافظ الذهبي في "تذكرة الحفاظ"

(4)

في ترجمة عطاء بن أبي رباح "قال أبو حنيفة: ما رأيتُ أحدا أفضلَ من عطاء".

ونقل في ترجمة أبي الزِّناد، فقيه "المدينة"

(5)

. "وقال أبو حنيفة: رأيتُ ربيعةَ وأبا الزِّناد، وأبو الزناد أفقه الرجلين".

ونقل في ترجمة جعفر الصادق

(6)

: "وعن أبي حنيفة، قال: ما رأيتُ أفقه من جعفر بن محمد".

(1)

1: 378 طبع بيروت.

(2)

5: 243.

(3)

من "فتح المغيث بشرح ألفية الحديث" للسخاوي ص 388.

(4)

1: 98.

(5)

135:1.

(6)

1: 166.

ص: 399

وقال الإمام الحافظ المحدّث البارع ترجمان العرب، ولسان أهل الأدب، أثير الدين محمد بن يوسف أبو حيَّان الأندلسي الغَرْناطِي الظاهري، في تفسيره المعروف بـ "البحر المحيط"

(1)

، ما نصه:

"وقال الثوري، وأبو حنيفة، ويحيى بن آدم: غلب حمزة الناس على القرآن والفرائض". انتهى.

وعلى كلِّ حالٍ فإمامنا الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان رضي الله عنه من كبار أئمة الجرح والتعديل في عصره، ممن إذا قال قُبِل قوله، وإذا جرّح أو عدَّل سُمِع منه، وكان متثبتا، لا يكاد يَرْوِي إلا عن ثقة، كشعبة، ومالك، رحمهما الله تعالى، وهو أول من انتقى الرجالَ من الأئمة، وأعرض عمن ليس بثقة، ولم يكن يروي إلا ما صحّ، ولا يُحَدّث إلا ما يَحْفظُ، وتبعه مالك.

ولقد قال ملِكُ المحدثين إمام الجرح والتعديل يحيى بن مَعين - كما في "البداية والنهاية" للحافظ ابن كثير -

(2)

: "العُلماء أربعة: الثوري، وأبو حنيفة، ومالك، والأوزاعي".

فهؤلاء القُرناءُ في العلم، وأبو حنيفة ومالك يفوقان على الثوري والأوزاعي في نقد الرجال، وهما الحافظان الحُجّتان، فمن احتجّ به أبو حنيفة في "كتاب الآثار" أو مالك في "الموطّأ" فهو المقبول، ومن اختلفا فيه - وذلك قليل جدًّا - كزيد بن عيَّاش اجتُهِد في أمره.

‌أبو حنيفة على شَرطِ أصحِّ الأسانيد

ويدل على جلالة شأن أبي حنيفة في علم الحديث، وضبطه، وإتقانه، وصحة روايته، وعُلُوِّ مكانته، أنه لما قال البخاري: أصحُّ الأسانيد كلّها

(1)

3: 159 الطبعة الثانية ببيروت سنة 1403.

(2)

116:10.

ص: 400

مالك، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، وبنى على ذلك الإمام أبو منصور عبد القاهر بن طاهر التميمي أن أجلَّ الأسانيد: الشافعيُّ، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر، اعترض عليه الشيخ الإمام العلامة الحافظ علاء الدين مُغْلطاي:"بأن أبا حنيفة يَرْوي عن مالك أحاديث فيما ذكره الدَّارقُطْنِي". انتهى.

وأجاب عنه البُلْقِيْني في "محاسن الاصطلاح" بقوله: "فأمَّا أبو حنيفة فهو وإن رَوَى عن مالك كما ذكره الدَّارقُطْنِي، لكن لم تشتهرْ روايتُه عنه، كاشتهار رواية الشافعي". انتهى.

وقال العراقي: رواية أبي حنيفة عن مالك فيما ذكره الدَّارقُطْنِي في "غرائبه"، وفي "المَدبَّج"، ليستْ من روايته عن نافع، عن ابن عمر، والمسئلة مفروضة في ذلك، نعم ذكر الخطيب حديثًا كذلك في الرِّواية عن مالك.

وقال شيخ الإسلام ابن حجر العسقلاني رحمه الله تعالى: "أما اعتراضه بأبي حنيفة فلا يَحْسُنُ، لأن أبا حنيفة لم تثبت روايتُه عن مالك، وإنما أوردها الدَّارقُطْنِي، ثم الخطيب لروايتين وقعتا لهما عنه، بإسنادين فيهما مقال، وأيضًا فإن رواية أبي حنيفة عن مالك، إنما هي فيما ذكره في المذاكرة، ولم يَقْصِد الرِّواية عنه، كالشافعي الذي لازمه مدة طويلة، وقرأ عليه "الموطّأ" بنفسه". انتهى. نقله السيوطي في "تدريب الراوي شرح تقريب النواوي"

(1)

.

فانظر - يا رعاك الله - هؤلاء الحُفّاظ الأئمة الأعلام، لما ذكر الحافظ المغلْطاي الإمام أبا حنيفة في سلسلة أصحّ الأسانيد عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر: لا يَرْمُون أبا حنيفة بسوء الحفظ والضعف في الرِّواية، ولا يُنكرون جلالته في الحديث، ولا إتقانَه في الرِّواية، وإنما يُنْكرون على مُغْلُطاي

(1)

ص 30 طبع الخيرية سنة 1307 هـ.

ص: 401

إدخاله في هذه السلسلة، لعدم اشتهار روايتُه عن مالك، كاشتهار رواية الشافعي عنه، أو لأنها وقعتْ في المذاكرة، ولم يقصدْ أبو حنيفة الرِّواية عنه، أو لأن روايتُه عنه ليستْ من روايتُه عن نافع، أو لأنه لم تصح روايتُه عن مالك.

فظهر من هذا اتفاقُ هؤلاء الحُفَّاظ الجهابذة أئمة النقد: الإمام الحافظ مُغُلْطاي، والإمام الحافظ البُلْقِيني، والحافظ العراقي، وشيخ الإسلام ابن حجر العسقلاني، والحافظ السيوطي، على أن الإمام أبا حنيفة في جلالة قدره، وإتقانه في الحديث قرين مالك، والشافعي، رحم الله الجميع.

ولو قال الإمام مُغُلْطاي: إن من أصحّ الأسانيد أبا حنيفة، عن نافع عن ابن عمر لكان له وجه، ولا ريبَ أن من أصحّ الأسانيد أبا حنيفة عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عبَّاس، وهذا الإسناد ذكره الإمام عبد الوهَّاب الشَّعراني في "ميزانه الكُبرى"

(1)

، كما ذكر إسناد مالك، عن نافع، عن ابن عمر، رضي الله تعالى عنهم.

وقال الحافظ الذهبي في ترجمة عَبِيْدة السَّلْماني من كتابه "سير أعلام النبلاء"

(2)

: "قال أبو عمرو بن الصلاح: رُوِيَنا عن عمرو بن علي الفَلَّاس، أنه قال: أصح الأسانيد ابن سيرين، عن عَبِيْدة، عن علي.

قلتُ - القائل الذهبي -: لا تفوُّق لهذا الإسناد مع قوته، على إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، ولا على الزهري، عن سالم عن أبيه، ثم إن هذين الإسنادين رُوِيَ بهما أحاديث جَمَّةٌ في الصحاح، وليس كذلك الأول، فما في "الصحيحين" لعَبيدَة عن عليٍّ سوى حديث واحد". انتهى.

(1)

1: 48.

(2)

41:4.

ص: 402

وقال في ترجمة علقمة بن قيس النَّخعي الكوفي

(1)

:

"قال بعض الحفَّاظ وأحْسَنَ: أصحُّ الأسانيد منصور، عن إبراهيم عن علقمة، عن ابن مسعود، فعلى هذا، أصح ذلك: شعبة وسفيان، عن منصور، وعنهما يحيى القطَّان وعبد الرحمن بن مَهدي، وعنهما علي بن المديني، و عنه أبو عبد الله البخاري، رحمهم الله". انتهى.

وقال في ترجمة وكيع بن الجرَّاح

(2)

: "قلتُ: أصح إسنادٍ بـ "العراق " وغيرها، أحمد بن حنبل، عن وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي "المسند" بهذا عِدَّةُ مُتُون.

قال عبد الله بن هاشم: خرج علينا وكيع يوما، فقال: أيُّ الإسنادين أحبّ إليكم: الأعمش، عن أبي وائل، عن عبد الله، أو سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، (عن علقمة) عن عبد الله؟ فقلنا: الأعمش، فإنه أعلى، فقال: بل الثاني، فإنه فقيه، عن فقيه، عن فقيه، عن فقيه، والآخر شيخ، عن شيخ. وحديث يتداولهُ الفقهاء خير من حديث يتداوله الشيوخ". انتهى.

وقال في ترجمة عبد لله بن هاشم

(3)

: "الحكم: حدثنا يحيى بن محمد العَنْبَري، حدثنا أحمد بن سَلَمة، حدثنا عبد الله بن هاشم، قال لنا وكيع: أيُّ الإسنادين أحب إليكم، الأعمش، عن أبي وائل، عن عبد الله، أو سفيان، عن منصور، عن إبراهم، عن علقمة، عن عبد الله؟ فقلنا: الأول، فقال: الأعمش

(1)

60:4 و 61.

(2)

158:9.

(3)

12: 328 - 329.

ص: 403

شيخ، وأبو وائل شيخ، وسفيان فقيه، ومنصور فقيه، وإبراهيم فقيه، وعلقمة فقيه. وحديث يتداوله الفقهاء خير مما يتداوله الشيوخ.

قلتُ: بل والأعمش وشيخه لهما فقه ومعرفة وجلالة". انتهى.

قلتُ: فعلى هذا: أصح أسانيد "العراق" وأجلّها ما رواه أبو يوسف، ومحمد بن الحسن، عن الإمام الأعظم أبي حنيفة، عن حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم، عن علقمة، أو الأسود، عن عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإن هؤلاء كلهم فقهاء نبلاء، ولهم معرفة وجلالة، بل أبو يوسف ومحمد أفقه وأجل من وكيع، وأبو حنيفة أفقه وأجل من سفيانَ والأعمش، وكذلك شيخه حماد أفقه من منصور.

وقال الحافظ ابن حجر في "شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر": "وقد يقع في أخبار الآحاد المنقسمة إلى مشهور وعزيز وغريب، ما يفيد العلم النظري بالقرائن على المختار

والخبر المحتَفَّ بالقرائن أنواع.

منها: ما أخرجه الشيخان في "صحيحيهما" مما لم يبلغ حدَّ التواتر

ومنها: المشهور إذا كانت له طرق مباينة سالمة من ضعف الرواة والعلل

ومنها: المسلسل بالأئمة الحفَّاظ المتقنين، حيث لا يكون غريبا، كالحديث الذي يرويه أحمد بن حنبل مثلا، ويشاركه فيه غيره، عن الشافعي، ويشاركه فيه غيره، عن مالك بن أنس، فإنه يفيد العلم عند سامعه بالاستدلال، من جهة جلالة رواته، وأن فيهم من الصفات اللائقة الموجبة للقبول ما يقوم مقام العدد الكثير من غيرهم.

ولا يتشكَّك من له أدنى ممارسة بالعلم وأخبار الناس، أن مالكا مثلا لو شافهه بخبرٍ لعلِمَ أنه صادق فيه، فإذا انضاف إليه أيضا من هو في تلك الدرجة ازداد قوة، وبعد عما يُخشى عليه من السهو". انتهى ملخَّصا.

ص: 404

قلتُ: فعلى هذا: ما رواه الإمام الليث بن سعد - ويشاركه فيه غيرُه -، عن الإمام أبي يوسف - ويشاركه فيه غيره - عن الإمام الأعظم أبي حنيفة، أو ما رواه الإمام الشافعي كذلك، عن الإمام محمد بن الحسن الشيباني، عن الإمام الأعظم أبي حنيفة: يَجري فيه هذا الحكم، فإنه أيضا مُحْتَفٌّ بالقرائن، ومسلسل بالأئمة الحفَّاظ المتقنين.

بل قد يرجّح المسلسل بالأئمة على ما في "الصحيحين" أيضا، قال ابن حجر في "شرح النخبة":"قد يَعرضُ للمَفوقِ ما يَجعلهُ فائقا، كما لو كان الحديث عند مسلم مثلا، وهو مشهور قاصر عن درجة التواتر، لكن حَفَّتْ قرينة صار بها يفيد العلم، فإنه يُقدمُ على الحديث الذي يخرجه البخاري إذا كان فردا مطلقا، وكما لو كان الحديث الذي لم يخرجاه من ترجمةٍ وُصِفَت بكونها أصحَّ الأسانيد، كمالك، عن نافع، عن ابن عمر، فإنه يُقدَّم على ما انفردَ به، أحدهما مثلا، لا سيّما إذا كان في إسناده مَنْ فيه مقال". انتهى.

فعلى هذا ما رواه مالك، عن نافع، عن ابن عمر، يُقدَّم على الحديث الذي لم يخرجاه من ترجمة وُصِفتْ بكونها أصحَّ الأسانيد، وكذلك ما رواه أبو حنيفة، عن نافع، عن ابن عمر، أو عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عبَّاس، أو عن شيخه حمَّاد، عن إبراهيم، عن علقمة، عن ابن مسعود.

ص: 405

‌إطباق الحُفاظ الذين جمعوا في رجال الكتب الستة وغيرهم من الأئمة المحدثين، على إسقاط الجرح في ترجمة أبي حنيفة

ثم قد أطبق الأئمة الحُفاظ الذين جمعوا رجالَ الأصول السِّتَّة، ودوَّنوا دواوينهم فيها، على الثناء على أبي حنيفة رحمه الله تعالى، والتبجيل، والتعظيم المفْرِط له، دون الحَطِّ عليه والطَّعْنِ فيه بسوءَ الحفظِ والغفلة، بل إنهم يذكرون حِفظَه وجلالته في العلم، ويذكرونه بكل خير، فهذا يدل على أنهم لا يبالون بطعن طاعنٍ فيه أيًّا مَن كان.

فهذا الإمام الحافظ المِزِّيّ يوسف بن الزَّكي عبد الرحمن، أبو الحَحَّاج جال الدين مُحدِّث "الشام"، العالم الحَبرُ الحافظ الأوحدُ الدمشقي الشافعي عَمِلَ كتاب "تهذيب الكمال"، وذكر فيه ترجمة الإمام أبي حنيفة، فأطال فيها، وكل ما نقله الحافظ السيوطي في "تبييض الصحيفة" معزوا إلى الخطيب، إنما هو منقول من كتابه "تهذيب الكمال".

وعامة ما ذكر في "تهذيب الكمال" من أقوال أئمة الجرح والتعديل، هو منقول من "كتاب الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم، و"الكامل" لابن عدي، و"تاريخ بغداد" للخطيب، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر.

والجدير بالملاحظة أنه لم يذكر الإمام المزِّيُّ في كتابه "تهذيب الكمال" شيئا لا يليق بمكانة الإمام أبى حنيفة، فلله درُّه ما أدقّ نظرَه! كيف لا يكون ذلك، وقد قال الذهي في حقِّيه في "تذكرة الحفاظ"

(1)

: "وأما معرفة الرجال فهو حامل لوائها، والقائم بأعبائها، لم ترا العيون مثله".

(1)

4: 1498.

ص: 406

وقد أثنى الحافظ الذهبي على صنيعه هذا في "تذهيبه" في ترجمة أبي حنيفة، قائلا:"قلت: قد أحسن شيخنا أبو الحَجَّاج حيث لم يورد شيئا يَلْزَم منه التضعيف". انتهى.

قلت: بل نقل في "تهذيب الكمال" توثيقه عن إمام الصنعة سيّد الحفَّاظ يحيى بن مَعين رحمه الله تعالى، حيث قال:"قال محمد بن سعْد العَوْفي: سمعتُ يحيى بن مَعين يقول: "وكان أبو حنيفة ثقة، لا يحدّث بحديث إلا بما يحفظه، ولا يحدّث بما لا يحفظ". وقال صالح بن محمد الأسدي الحافظ: سمعتُ يحيى بن مَعين يقول: "كان أبو حنيفة ثقة في الحديث"، وقال أحمد بن محمد بن القاسم بن مُحْرز: عن يحيى بن مَعين: "كان أبو حنيفة لا بأس به"، وقال مرة:"كان أبو حنيفة عندنا من أهل الصدق، ولم يُتَّهم بالكذب" انتهى.

هذا، وقد صرَّح الحافظ المِزِّيُّ في مقدمة "تهذيب الكمال" بقوله:"وما لم يُذكر إسناده فيما بيننا وبين قائله، فما كان من ذلك بصيغة الجَزْم، فهو مما لا نعلم بإسناده عن قائله المحكيِّ ذلك عنه بأسا، وما كان منه بصيغة التمريض فربما كان في إسناده إلى قائله ذلك نظر". انتهى.

وثبت من هذا التصريح أن توثيق أبي حنيفة الإمام عن ابن مَعين صحيح ثابث، لا شك فيه.

ثم تلاه الإمام الحافظ أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي في كتابه "تذهيب تهذيب الكمال"، فقال

(1)

:

(1)

يوجد من هذا الكتاب نسخة مصورة في مكتبة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وقد تفضل الأستاذ عبد القيوم السِّنْدِي بإرسال هذه الترجمة إلي، فجزاه الله خيرا.

ص: 407

" (ت، س) النعمان بن ثابت بن زُوطَى الإمام أبو حنيفة الكوفيّ، فقيه "العراق"، وإمام أصحاب الرأي، قيل: إنه من أبناء "فارس"، وولاؤه لبني تَيْم بن ثَعْلَبَة، رأى أنسا رضي الله عنه. وروى عن 1. عطاء بن أبي رباح، 2 - ونافع، 3 - وعدي بن ثابت، 4 - وعبد الرحمن بن هُرْمُز الأعرج، 5 - وعِكْرِمَة، 6 - ومُحارب بن دِثار، 7 - وعَلْقَمَة بن مَرثَد، 8 - وسلمة بن كُهيل، 9 - وحَمَّاد بن أبي سُليمان،10 - والحَكَم بن عُتَيْبَة، 11 - وأبي جعفر الباقر، 12 - وقتادة، 13 - وعمرو بن دينار، وخَلْقٍ سِواهم. وقيل: إنه روى 14 - عن الشعبي، 15 - وطاوس.

وعنه: 1. ابنه حمَّاد، 2 - وحمزة الزيَّات، 3 - وداود الطائي، 4 - وزُفر بن الهُذيل،5 - ونوح بن أبي مريم، 6 - وأبو يوسف القاضي، 7 - ومحمد بن الحسن، 8 - وابن المبارك، 9 - وأبو يحيى الحِمَّاني،10 - وكيع، 11 - وحفص بن عبد الرحمن البَلْخى، 12 - وسعد بن الصَّلت، 13 - وأبو نُعَيْم، 14 - وأبو عبد الرحمن المِقري، 15 - والحسن بن زياد اللُؤلؤي، 16 - وأبو عاصم النبيل، 17 - وعبد الرزَّاق، 18 - وعبيد الله بن موسى، وخلق كثير.

قال أحمد العِجْليُّ: هو من رَهْط حمزة الزيَّات. وكان خَزَّازا يبيع الخزَّ. وقال محمد بن إسحاق البكَّائي، عن عمر بن حمَّاد بن أبي حنيفة، قال: زوطَى من أهل "كابُل"، ووُلِد ثابتٌ على الإسلام، وكان أبو حنيفة خزَّازا، ودُكَّانه معروف في دار عَمرو بن حُريث، وقيل: أصله من "نَسَا"، وقيل: من "ترمذ".

وعن إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة، قال: أنا إسماعيل بن حماد بن النعمان بن ثابت بن النعمان بن المرزبان، من أبناء فارس الأحرار، والله ما وقع علينا رِقٌّ

، وُلِدَ جَدِّي في سنة ثمانين، وذهب ثابتٌ إلى علي رضى الله عنه، وهو صغير، فدعا له بالبركة فيه وفي ذريته، وأبوه النعمان هو الذي أهدى لعلى يوم النَّيْروز، فقال: نَوْرِزُونا كُلّ يوم.

ص: 408

قال صالح بن محمد جَزرة وغيره: سمعنا يحيى بن مَعين يقول: "أبو حنيفة ثقة في الحديث". وروى أحمد بن محمد بن مُحْرز عن ابن مَعين: لا بأس به، لقد ضربه ابن هُبَيْرة على أن يكون قاضيا، فأبى. قال ابن كأس النخعي: ثنا جعفر بن محمد بن حازم، ثنا الوليد بن حماد، عن الحسن بن زياد، عن زُفر بن الهُذيل: سمعتُ أبا حنيفة، قال: "كنتُ أنظُرُ في الكلام حتى بلغتُ فيه (مبلغا يُشارُ إليّ فيه بالأصابع)(1).

وكنا نجلس بالقرب من حَلْقة حَمَّاد بن أبي سُليمان، فجاءتْني امرأة، فقالتْ: رجل له امرأة أمة أراد أن يطلّقها للسنَّة، كم يطلّقها؟ فلم أدر ما أقول، فأمرتُها أن تسأل حمادا ثم ترجع، فتُخبرني، فسألتْه فقال: يُطلِّقها وهي طاهر من الحيض والجماع تطليقة، ثم يتركها حتى تحيض حيضتين، فإذا اغتسلتْ فقد حلتْ للأزواج.

فرجعتْ، وأخبرتْني، فقلتُ: لا حاجة لي في الكلام، وأخذتُ نعلي، وجلستُ إلى حماد، فكنتُ أسمع مسائله، وأحفظ قوله، ثم يُعيدها من الغد، فأحفظها، ويُخطئ أصحابه، فقال: لا يجلس في صدر الحَلْقة بحذائي إلا أبو حنيفة، فصحبتُه عَشْر سنين.

ثم نازعتْني نفسي الطلب للرياسة، فأحببتُ أن أعتزله، وأجلس في حلقة لنفسى، فخرجتُ يوما بالعَشِيِّ، وعَزْمى أن أفعل، فلما دخلتُ المسجد، فرأيتُه لم تطب نفسي أن أعتزله، فجئتُ فجلستُ معه، فجاءه في تلك الليلة نَعْيُ قرابة له بـ "البصرة"، وترك مالا، وليس له وارث غيره، فأمرني أن أجلس مكانه.

فما هو إلا أن خرج، حتى وردتْ على مسائلُ لم أسمعها منه، فكنت أجيب، وأكتب جوابي، فغاب شهرين، ثم قَدِم، فعرضتُ عليه المسائل، وكانتْ نحوا من ستين مسئلة، فخالفني في عشرين منها، فآليتُ أن لا أفارقه، حتى يموت".

ص: 409

وقال محمد بن مُزاحم: سمعتُ ابن المبارك يقول: لو لا أنِ الله أغاثني بأبي حنيفة وسفيان كنتُ كسائر الناس، وقال سليمان بن أبي شيخ: حدثني حُجْرُ بن عبد الجبَّار قال: قيل للقاسم بن معن المسعودى: تَرضى أن تكون من غلمان أبى حنيفة؟ قال: ما جلس الناس إلى أحد أنفع من مُجالسة أبي حنيفة.

وقال أحمد بن الصَّبَّاح: سمعتُ الشافعيَّ يقول: قيل لمالك: هل رأيتَ أبا حنيفة؟ قال: نعم، رأيتُ رجلا لو كلَّمكَ في هذه السارية أن يجعلها ذهبا لقام بحجته.

وعن رَوْح قال: كنتُ عند ابن جُرَيْج سنةَ خمسين ومائة، فأتاه نَعْيُ أبي حنيفة، فاسترجعَ، وتوجَّع، وقال: أيّ علم ذهب؟!

وقال ضرار بن صُرَد: سُئل يزيد بن هارون، أيما أفقه، أبو حنيفة أو سفيان؟ قال: سفيان أحفظ للحديث، وأبو حنيفة أفقه.

و عن ابن المبارك، قال: ما رأيتُ في الفقه مثل أبي حنيفة. وعنه قال: إذا اجتمع سفيان، وأبو حنيفة فمن يقوم لهما على فُتْيا؟

وقال أبو عَرُوبة: سمعتُ سَلَمَة بن شَبيب، سمعتُ عبد الرزاق، سمعتُ ابن المبارك يقول: إن كان أحد ينبغي أن يقول برأيه فأبو حنيفة.

وروى جَنْدَلُ بن والق: حدثني محمد بن بِشْر، قال: كنتُ أختلف إلى أبي حنيفة وإلى سفيان - الثورى -، فآتي أبا حنيفة، فيقول: مِن أين جئتَ؟ فأقول: من عِند سفيان، فيقول: لقد جئت من عند رجل لو أن علقمة والأسود حضرا لاحتاجا إلى مثله، فآتي سفيان، فيقول: مِن أين جئتَ، فأقول: مِن عند أبي حنيفة، فيقول: لقد جئتَ من عند أفقه أهل الأرض.

وروى بكر بن يحيى بن زَبَّان، عن أبيه: قال لي أبو حنيفة: يا أهل "البصرة"، أنتم أورع منا، ونحن أفقه منكم.

ص: 410

وعنْ شدَّاد بن حكيم، قال: ما رأيتُ أعلم منْ أبي حنيفة، وعن مكِّيِّ بن إبراهيم قال: كان أبو حنيفة أعلم أهل زمانه. وقال يحيى بن مَعين: سمعتُ يحيى بن سعيد القطَّان يقول: لا نَكْذِبُ الله، ما سمعنا أحسنَ من رأي أبي حنيفة، وقد أخذنا بأكثر أقواله، وقال الربيع وغيره عن الشافعي، قال: الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة.

وقال أبو الفضل عَبَّاس بن عزيز القَطَّان، ثنا حَرْمَلة، سمعتُ الشافعي يقول: الناس عِيَال على هؤلاء، فمن أراد أن يتبحَّر في الفقه فهو عيال على أبى حنيفة، ومن أراد أن يتبحَّر في المغازي فهو عيال على ابن إسحاق، ومن أراد أن يتبحَّر في التفسير فهو عيال على مُقاتل بن سليمان، ومن أراد أن يتبحَّر في الشعر فهو عيال على زُهير بن أبي سلمى، ومن أراد أن يتبحَّر في النحو فهو عيال على الكِسائي.

وروى حماد بن قُريش عن أسد بن عمرو، قال: صلّى أبو حنيفة قيما حُفِظ عليه صلاةَ الفجر بوُضوء العشاء أربعين سنة، وكان عامّة الليل يقرأ جميعَ القرآن في ركعة واحدة، وكان يُسمَعُ بكاؤه بالليل حتى يَرحمَه جيرانُه، وحُفِظ عليه أنه خَتَم القرآن في الموضع الذي تُوفي فيه سبعين ألف مرة.

قلتُ: هذه حكاية منكرة، وفي رواتها من لا يُعرف، رواها عبد الله بن محمد بن يعقوب الحارثى البخاري الفقيه، ثنا أحمد بن الحسين البلخي، ثنا حماد، فذكرها.

قال الحارثى أيضا: وحدثنا قيس بن أبي قيس، ثنا محمد بن حرب المِرْوَزي، ثنا إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة، عن أبيه، قال: لما مات أبي سألنا الحسن بن عُمارة أن يتولى غَسْلَه، ففعل، فلما غسله قال: رحمك الله وغفر لك، لم تُفْطر منذ ثلانين سنة، ولم تتوسَّد يمينك بالليل منذ أربعين سنة، وقد أتبعتَ من بعدَك، وفَضَحْتَ القرَّاء.

ص: 411

وروى بِشْرُ بنْ الوليد، عن أبي يوسف قال: بينما أنا أمشي مع أبي حنيفة، إذ سمعتُ رجلا يقول لرجل: هذا أبو حنيفة، لا ينام الليل، فقال: والله لا يُتَحدَّث عني بما لم أفعل، فكان يُحمس الليلَ صلاة ودُعاءً وتضرُّعًا.

وقال محمد بن علي بن عفَّان: ثنا علي بن حفص البزّار، سمعتُ حفص بن عبد الرحمن، سمعتُ مِسْعَرًا يقول: دخلتُ المسجد ليلةً فرأيتُ رجلا يصلي، فقرأ سُبْعا، فقلت: يركع، ثم قرأ الثُّلُثَ ثم النّصف، فلم يزل يقرأ حتى ختم في ركعة، فنظرتُ فإذا هو أبو حنيفة.

وعن خارجة بن مُصْعب، قال: ختم القرآن في ركعة أربعةٌ: عثمان، وتميم الداري، وسعيد بن جُبير، وأبو حنيفة. وعن يحيى بن نَصْر، قال:(أبو حنيفة" (1) ربما ختم القرآن في رمضان ستين ختمة.

وقال سليمان بن الربيع، ثنا حِبَّان بن موسى، سمعتُ ابن المبارك يقول: قدمتُ "الكوفة"، فسألتُ عن أورع أهلها، فقالوا: أبو حنيفة. قال سليمان: فسمعتُ مكي بن إبراهيم يقول: جالستُ الكوفيين فما رأيتُ فيهم أورع من أبي حنيفة، وقال حامد بن أدم سمعتُ ابن المبارك يقول: ما رأيتُ أحدا أورع من أبي حنيفة، قد جُرِّب بالسياط والأموال.

وعن عُبيد الله بن عَمر الرَّقِّي، قال: كلَّم ابن هُبَيرة أبا حنيفة أن يلي قضاء "الكوفة"، فأبى، فضربه مائة سوط وعشرة أسواط، في كل يوم عشرة أسواط، ثم خلّاه.

وقال سليمان بن أبي شيخ: حدثني الربيع بن عاصم، قال: أرسلني يزيد بن عُمر بن هُبيرة، فأتيتُه بأبي حنيفة، فأراده على بيت المال، فأبى، فضربه أسواطا.

وعن مغيث بن بديل، قال خارجة بن مصعب: أجاز المنصور أبا حنيفة بعشرة آلاف درهم، فدُعِيَ ليقبِضها، فشاورني، وقال: هذا رجل إن

ص: 412

رددتها عليه غضب، فقلت: إن هذا المال عظيم في عينه، فإذا دُعيتَ لتقبضها فقل: لم يكن هذا أملى من أمير المومنين، فدُعي ليقبضها فقال ذلك، فرجع إليه خبره فحبس الجائزة.

قال محمد بن عبد الملك الدَّقيقي: سمعتُ يزيد بن هارون يقول: أدركتُ الناس فما رأيتُ أحدا أعقلَ، ولا أورعَ، ولا أفضلَ من أبي حنيفة.

وقال محمد بن عبد الله الأنصاري: كان أبو حنيفة يتبيّن عقلُه في مَنْطِقِه ومَشْيه ومَدْخَلِه ومَخْرجه.

وقال سهل بن عثمان: ثنا إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة، قال: كان لنا جار طَحَّان رافضِيٌّ، له بَغلان، سمَّى أحدَهما أبا بكر، والآخرَ عمرَ، فرمحه ذات ليلة أحدهما فقتله، فقال أبو حنيفة: انظروا الذي رمحه الذي سماه عمر؟ فنظروا، فكان ذلك.

وقال يعقوب بن شيبة: أملى عليَّ بعضُ أصحابنا أبياتا لابن المبارك:

رأيت أبا حنيفة كل يوم

يزيد نبالة ويزيد خيرا

وينطق بالصواب ويصطفيه

إذا ما قال أهل الجَور جَورا

يُقايِسُ من يُقايسُه بلُبٍّ

فمن ذا تجعلون له نظيرا

كفانا فقد حمَّاد وكانت

مُصيبتنا به أمرا كبيرا

فردّ شماتَةَ الأعداء عنا

وأبدى بعدَه عِلمًا كثيرا

رأيتُ أبا حنيفة حين يؤتى

ويُطْلبُ عِلْمُه بَحْرًا غزيرا

إذا ما المشكلات تدافعتها

رجال العلم كان بها بصيرا

روى نصر بن علي عن الخُرَيبي، قال: الناس في أبي حنيفة رحمه الله حاسد وجاهل، وأحسنهم عندي حالا الجاهل.

ص: 413

وقال يحيى بن أيوب: سمعتُ يزيد بن هارون يقول: أبو حنيفة رجل من الناس، خطؤه كخطأ الناس، وصوابه كصواب الناس.

تُوفِّي أبو حنيفة بـ "بغداد"، قال سعيد بن عُفير وغره: في رجب سنة خمسين ومائة، ومن قال: سنة إحدى وخمسين أو ثلاث وخمسين فقد وَهِمَ. وعن الحسن بن يوسف قال: صُلِّيَ على أبي حنيفة سِتَّ مراتٍ من كثرة الزحام.

روى له الترمذي في "العِلَل" قوله: ما رأيتُ أفضل من عطاء، (وقال عوص: وقد روى له النَّسائي في "سننه الكبير" في "باب من وقع على بهيمة": قال النسائي: أنا عليُّ بن حُجْر، قال: ثنا عيسى هو ابنُ يونس، عن النعمان يعني أبا حنيفة، عن عاصم هو ابن بَهْدَلة، عن أبي رَزين، عن ابن عباس، قال: ليس على من أتى البهيمة حدٌّ")

(1)

.

قلتُ: قد أحسن شيخنا أبو الحَجَّاج حيث لم يُورد شيئا يَلْزم منه التضعيف" انتهى.

فهذا ما ذكره الإمام، الحافظ، محدث العصر، وخاتمة الحُفاظ، ومؤرخ الإسلام، وفَرْد الدهر، والقائم بأعباء هذه الصناعة، شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز التُّركماني ثم الدمشقي رحمه الله تعالى، في ترجمة أبى حنيفة رحمه الله تعالى.

(1)

ما بين الهلالين ليس في الأصل، وإنما هو في الحاشية بلفظ: (وقال عوص

)، و (عوص) كذلك في المخطوطة، والحديث المذكور في "السنن الكبرى" (للنسائي 4: 322 - 323 في أبواب التعزيرات والشّهود.

ص: 414

وقال الإمام الحافظ المؤرخ أبو المحاسن محمد بن علي بن الحسن الحُسيني، في كتابه "التذكرة بمعرفة رجال العَشَرة"

(1)

، وهي الكُتب الستة، و"الموطأ"، و"مسند أحمد"، و"مسند الشافعي"، و"مسند أبي حنيفة":

" (فع، أ، ت، ن "2) النعمان بن ثابت التَّيْمِي، أبو حنيفة الكوفي، فقيه أهل العراق، وإمام أصحاب الرأي، وقيل: إنه من أبناء فارس.

رأى أنس بن مالك، وروى عن حماد بن أبي سليمان، وعطاء، وعاصم بن أبي النجود، والزهري، وقتادة، وأبي الزُّبير، ومحمد بن المنكدر، وأبي جعفر الباقر، والشعبي، وخلقٍ.

وعنه ابنه حماد، ووكيع بن الجرَّاح، وعيسى بن يونس، وعبد الرزَّاق، وأبو يوسف القاضي، ومحمد بن الحسن، وزُفر بن الهذيل، وخلق كثير.

قال العجلي: كوفِي تَيْميٌّ من رهط حمزة الزيَّات، وكان خَزَّازا، يبيع الخَزَّ، وقال محمد بن سعد العَوفي: سمعت يحيى بن مَعين يقول: كان أبو حنيفة ثقة، لا يحدّث من الحديث إلا بما يحفظه، ولا يُحدّث بما لا يحفظه، وقال مرة: كان من أهل الصدق، ولم يُتَّهم بالكذب، ولقد ضربه ابن هبيرة على القضاء، فأبى أن يكون قاضيا.

وقال ضِرار بن صُرَد: سُئِل يزيد بن هارون أيهما أفقه أبو حنيفة أو سفيان؟ فقال: سفيان أحفظ للحديث، وأبو حنيفة أفقه، وقال ابن المبارك: ما رأيتُ في الفقه مثله، إذا اجتمع سفيان وأبو حنيفة فمن يقوم لهما على

(1)

وتوجد لهذا الكتاب نسخة على ميكروفلم في الجامعة الإسلامية بـ "المدينة المنورة" تحت رقم 123، وقد تفضل الأستاذ العالم المقريء مسعود أحمد السيد بإرسال ترجمة الإمام إلينا، جزاه الله تعالى عني وعن سائر أهل الإسلام خيرا.

ص: 415

فُتيا، وقال مكّيّ بنْ إبراهيم: كان أبو حنيفة أعلم أهل زمانه، وقد جالستُ الكوفيين، فما رأيتُ فيهم أورعَ منه.

وقال ابن مَعين: سمعتُ يحيى القطّان يقول: لا نَكذبُ اللهَ، ما سمعتُ أحسنَ من رأي أبي حنيفة، وقد أخذنا بأكثر أقواله. قال ابن مَعين: وكان يحيى بن سعيد يذهب في الفتوى إلى قول الكوفيين، ويختار قوله من أقوالهم، ويتبعُ رأيه من بين أصحابه.

وقال الربيع: سمعتُ الشافعي يقول: الناس عيال في الفقه على أبي حنيفة. كان أبو حنيفة ممن وُفِّق له الفقه.

قال الربيع عن الشافعي: سُئِل أبو حنيفة عن الصائم يأكل، ويشربُ، ويطأ إلى طلوع الفجر، وكان عنده رجل نبيل

(1)

فقال: أرأيت إن طلع الفجر نصف الليل؟ فقال: الزم الصمتَ يا أعرج.

وقال أبو يوسف: بينا أنا أمشى مع أبي حنيفة، إذ سمعتُ رجلا يقول: هذا أبو حنيفة، لا ينام الليل، فقال أبو حنيفة: والله لا يُتَحدَّث عنى بما لم أفعل. فكان يُحيي الليل صلاة ودعاء وتضرُّعا.

قال أبو نُعيم وجماعة: وُلِد سنة ثمانين، ومات سنة خمسين ومائة. وقال ابن مَعين: مات سنة إحدى وخمسين. وقال غيره: سنة ثلاث وخمسين ومائة.

أخبرنا الحافظ الحُجَّة أبو الحَجَّاج يوسف بن الزَّكِيّ عبد الرحمن المِزِّيِّ بقراءتي عليه سنة أربعين وسبع مائة، قال: أنا الزاهد أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن الواسطى، أنا أبو علي الحسن بن إسحاق بن الجَوَاليقى، أنا أبو بكر محمد بن عُبيد الله بن الزَّاغوني، أنا أبو القاسم علي بن أحمد البُنْدار، أنا أبو طاهر محمد بن عبد الرحمن البَزَّاز، أنا أبو حامد محمد بن هارون الحَضْرَمِي،

(1)

كذا في الأصل! ولعله "مُغَفَّل".

ص: 416

ثنا يوسف بن موسى، ثنا وكيع، ثنا أبو حنيفة، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من باع عَبدًا وله مالٌ، فالمال للبائع إلا أن يَشترط المبتاع. رواه "د" في البيوع "ن" في العتق، وفي الشروط من حديث عطاء عن جابر" انتهى.

وقال سِبطُ ابن العَجَمي الإمام العلامهَ برهان الدين أبو الوفاء إبراهيم بن محمد بن خليل الطرابلسى ثم الحلبي الشافعي، شيخ البلاد الحلبية بلا مُدافع، في كتابه "نهاية السُّول في رجال الستة الأصول"

(1)

:

" (ت، س) النعمان بن ثابت بن زوطَى كسُلْمَى، الإمام المجتهد، أبو حنيفة الكوفي، فقيه العراق، وإمام أصحاب الرأي، قيل: إنه من أبناء فارس، وولاؤه لبني تَيْمِ الله بن ثعلبة، وأما زوطَى فإنه من أهل "كابُل"، ووُلدَ ثابتُ على الإسلام، وكان زُوطَى مملوكا لبنى تَيمِ الله بن ثعلبة، فأُعتق، فولاؤه لبني تَيْم الله بن ثعلبة. وقال إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة: أنا إسماعيل بن حماد بن النعمان بن ثابت بن النعمان بن المرزبان: من أبناء "فارس" الأحرار، والله ما وقع علينا رِقٌّ قطّ، وكان أبو حنيفة خَزَّارًا، ودُكَّانه معروف في دار عَمرو بن حُرَيْث.

(1)

وفي "لحظ الألحاظ بذيل تذكرة الحفاظ" اسمه "غاية السول". وهذا الكتاب له نسخة عكسية موجودة في خزانة "الجامعة الإسلامية" بـ "المدينة المنورة"، وقد تفضل الأستاذ العالم المقرئ مسعود أحمد السيد الموقر، بإرسال عكس ترجة الإمام إلينا جزاه الله تعالى عنا خير الجزاء، ولكن النسخة سقيمة الخط جدا صَعْبةُ القراءة، وقد طمست بعض الأسطر في العكس، فلا تكاد تقرأ.

ص: 417

وقال أبو نُعيم الفَضْلُ - بن دُكَيْن -: أصل أبي حنيفة من "كابل"، وقال أبو عبد الرحمن المقرئ: كان أبو حنيفة من أهل "بابِل". وقال يحيى بن نَصْر القريشي: كان والد أبي حنيفة من "نَسا"، وقال الحارث بن إدريس: أصل أبي حنيفة من "تِرْمِذ". وقال إسحاق بن البُهلول عن أبيه: قال: ثابت والد أبي حنيفة من "الأنبار".

رأى أبو حنيفة أنسا. وكان في زمن أبي حنيفة - كما قال أبو إسحاق الفَيْرُوزآبادي - أربعة من الصحابة: أنس، وعبد الله بن أبي أوفى، وسَهْل بن سَعْد، وأبو الطُّفيل، ولم يأخذ عن أحد منهم. انتهى، وقيل: إنه روى عن الشعبى، وطاوس، انتهى.

وقد روينا عن قاضي القُضاة جمال الدين محمود بن أحمد بن السراج، أن أبا حنيفة، روى عن سبعة من الصحابة، ونَظَمهم في بيتين، والله أعلم. وأخرج له جُزءًا يُروَى، سماه:"ما رواه أبو حنيفة عن الصحابة"

ورأيت لبعض الفضلاء من الحنفية بسند مُلا يعقوب ما رواه أبو حنيفة عن الصحابة. يعني أن ما موصولة بمعنى الذي - إلى آخره -.

قال الخطيب البغدادي في "تاريخه": رأى أنس بن مالك، وسمع عطاءَ بن أبي رَباح، وأبا إسحاق السَّبِيعي، ومُحارِبَ بنَ دِثار، والهيثَم بنَ حبيب الصوَّاف، وقيس بن مسلم، ومحمد بن المِنْكَدِر، ونافعا مولى ابن عُمَر، وهشام بن عُروة، ويزيد الفقير، وسِمَاكَ بن حرب، وعلقمة بن مَرثَد، وعطيةَ العَوفي، وعبدَ العزيز بن رُفيع، وعبدَ الكريم أبا أمية، وغيرهم.

وروى عنه أبو يحيى الحِمَّاني، وهُشَيْمُ بن بَشير، وعَبَّاد بن العوَّام، وعبد الله بن المبارك، وكيع بن الجرَّاح، ويزيد بن هارون، وعليّ بن عاصم، ويحيى بن نصر، وأبو يوسف القاضي، ومحمد بن الحسن، وعَمْرو بن محمد العَنْقَزِي، وهَوْذَة بن خليفة، وأبو عبد الرحمن المقْرئ، وعبد الرزَّاق بن هَمَّام، وآخرون.

ص: 418

وهو من أهلِ "الكوفة"، ونقله أبو جعفر المنصور إلى "بغداد" وقال الشيخ أبو إسحاق في "الطبقات": ولد سنة 70 من الهجرة، وتوفي في "بغداد" سنة 150 هـ، وهو ابن 80 سنة.

أخذ الفقه عن حماد بن أبي سليمان، ومناقبه كثيرة معروفة في الكتب، وكذا زُهدُه وصلاته وعبادته كله معروف، وقد أفردت مناقبه بالتصنيف.

والصحيح أنه توفي في السِّجن، دعاه أبو جعفر المنصور إلى القضاء، فأبى عليه، فحَبسه، وقِصَّته معروفة مذكورة في الكتب، رحمة الله عليه". انتهى كلام سبط بن العجمي البرهان الحلبى الشافعي.

وجرى على مِنوال المزِّيِّ والذهبيِّ والحُسَينيِّ والبرهان الحلبِيِّ شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن عليِّ العسقلاني الشافعي الحافظ ابن حجر شيخ الإسلام، وإمام الحُفاظ في زمانه، وحافظ الديار المصرية رحمه الله تعالى، فلم يَذكر في كتابه "تهذيب التهذيب"، في ترجمة الأمام أبى حنيفة رضى الله تعالى عنه شيئا يَلْزَم منه تضعيفه.

وهؤلاء الأئمة: المزِّيُّ، والذهبي، والعراقيُّ، وابن الحجر، هم الذين يقول في حقهم الإمام الحافظ جلال الدين السيوطي في "ذيل تذكرة الحفاظ"

(1)

ما نصه: "والذى أقوله: إن المحدثين عِيالٌ الآن في الرجال وغيرها من فنون الحديث على أربعة: المِزِّيِّ، والذهبي، والعراقي، وابن حجر" انتهى.

وكذلك فعل الإمام المحدث الحافظ المفيد البارع عِماد الدين الحافظ بن كثير أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير، الدمشقي الشافعي رحمه الله تعالى. فذكر له في كتابه "البداية والنهاية" ترجمةً حسنة، حيث قال في وفيات سنة خمسين ومائة:

(1)

ص 348.

ص: 419

"وفيها توفي الإمام أبو حنيفة

، واسمه النعمان بن ثابت التيمي مولاهم الكوفي، فقيه العراق، وأحد أئمة الإسلام، والسادة الأعلام، وأحد أركان العلماء، وأحد الأئمة الأربعة، أصحاب المذاهب المتبوعة، وهو أقدمهم وفاة، لأنه أدرك عصر الصحابة، ورأى أنس بن مالك، قيل وغيره. ودكر بعضهم أنه روى عن سبعة من الصحابة. والله أعلم.

وروى عن جاعة من التابعين، منهم: الحكم، وحماد بن أبي سليمان، وسلمة بن كهيل، وعامر الشعبي، وعكرمة، وعطاء، وقتادة، والزهري، ونافع مولى ابن عمر، ويحيى بن سعيد - الأنصاري، وأبو إسحاق السبيعي.

وروى عنه جماعة منهم ابنه حماد، وإبراهيم بن طهمان، وإسحاق بن يوسف الأزرق، وأسد بن عمرو القاضي، والحسن بن زياد اللؤلؤي، وحمزة الزيَّات، وداود الطائي، وزفر، وعبد الرزَّاق، وأبو نعيم، ومحمد بن الحسن الشيباني، وهشيم، ووكيع، وأبو يوسف القاضي.

قال يحيى بن مَعين: كان ثقة، وكان من أهل الصدق، ولم يتهم بالكذب، ولقد ضربه ابن هبيرة على القضاء، فأبى أن يكون قاضيا. وقد كان يحيى بن سعيد يختار قوله في الفتوى، وكان يحيى يقول: لا نكذب! ما سمعنا أحسن من رأي أبي حنيفة، وقد أخذنا بأكثر أقواله. وقال عبد الله بن المبارك: لولا أن الله أعانني بأبي حنيفة وسفيان الثوري لكنتُ كسائر الناس.

وقال عبد الله بن داود الخريبي: ينبغي للناس أن يدعوا في صلاتهم لأبي حنيفة، لحفظه الفقه والسنن عليهم، وقال سفيان الثوري وابن المبارك: كان أبو حنيفة أفقه أهل الأرض في زمانه. وقال أبو نعيم: كان صاحب غوص في المسائل. وقال مكي بن إبراهيم: كان أعلم أهل الأرض". انتهى باختصار.

ص: 420

وكذلك فعل صاحب "المشكاة" الشيخ الإمام العلامة وليُّ الدين محمد بن عبد الله الخطيب التبريزيُّ الشافعي في "أسماء رجاله" فقال في ترجمة الإمام:

"قال شريك النخعي: كان أبو حنيفة طويل الصمت، دائم الفكر، قليل المحادثة للناس. وهذا من أوضح الأمارات على علم الباطن، والاشتغال بمُهمات الدين، فمن أوتي الصمت والزهد فقد أوتي العلم كله. ولو ذهبنا إلى شرح مناقبه وفضائله لأطلنا الخَطْبَ، ولم نصل إلى الغَرَض، فإنه كان عالما عاملا، وَرِعا زاهدا عابدا، إماما في علوم الشريعة. والغَرَض بإيراد ذكره في هذا الكتاب وإن لم نَرْوِ عنه حديثا في "المشكاة" التبرك به لعلُوّ مرتبته ووفور علمه" انتهى.

وقبلهم النووي الإمام المحافظ الأوحد شيخ الإسلام، عَلَمُ الأولياء محيي الدين أبو زكريا يحيى بن شرَف بن مُرّي الحِزامي الحَوْرانيُّ الشافعي رحمه الله تعالى، في كتابه "تهذيب الأسماء واللغات"، فلم يذكر في ترجمته شيئا سوى فضائله، ومناقبه، والثناء عليه في علمه وورعه.

وقبله العلامة البارع الأوحد، البليغ القاضي الرئيس مجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمد الشيباني الجَزَري ثم الموْصِلي الشافعي، الكاتب، ابنُ الأثير، المتوفى سنة 606 هـ، صاحب "جامع الأصول" و"النهاية في غريب الحديث والأثر"، حيث ذكر ترجمة الإمام في الركن الثالث من كتابه "جامع الأصول"

(1)

، وأثنى عليه ثناء بليغا، وردّ على طاعنيه فقال:

(1)

رأيت من هذا الكتاب نسخة خطية جيدة الخط، في خزانة محمد آباد طونك من أعمال راجبوتانه بالهند، وقد تفضل علينا الأستاذ الشيخ العالم عِمران خان بن عِراف خان المرحوم الطونكي بنقل هذه الترجمة من "جامع الأصول"، جزاه الله تعالى عنا وعن أهل العلم خيرا.

ص: 421

النعمان بن ثابت: هو أبو حنيفة النعمانُ بن ثابت بن زُوْطَى بن ماه الإِمام الفقيه الكوفي مولى تيم الله بن ثعلبة، وهو من رهط حَمْزَةَ الزَّيَات، وكان خزَّازا، يبيع الخَزّ، له ذِكْر في "الأشعار" من كتاب الحج. وكان جدّه زُوْطى من أهل "كابُل"، وقيل: من أهل "بابل"، وقيل: من "الأنْبار". وكان مملوكا لبني تيم الله بن ثعلبة، فأُعتِقَ، ووُلِدَ أبوه ثابت على الإسلام.

قال إسماعيل بن حماد ابن أبي حنيفة: أنا إسماعيل بن حماد النعمان بن ثابت بن النعمان بن المرزبان، من أبناء الفرسَ من الأحرار، والله ما وقع علينا رقّ قط، وُلِدَ جدّي في سنه ثمانين، وذهب ثابت إلى عليّ بن أبي طالب، وهو صغير، فدعا له بالبركة فيه وفي ذريته، ونحن نرجو أَن يكونَ الله قد استجابَ ذلك لعلي.

وُلِدَ سنةَ ثمانين، ومات بـ"بغدادَ" سنة خمسين ومائة، وقيل: سنة إحدى وخمسين، وقيل: سنة ثلاث وخمسين، والأول أصح وأكثر، ودُفِنَ بمقابرِ الخيزُران، وقبرُه معروف بـ"بغداد".

وكان في أيام أبي حنيفة أربعة من الصحابة: أنسُ بن مالك بـ "البصرة"، وعبد الله بن أبي أوفى بـ "الكوفة"، وسهل بن سعد السَّاعدي بـ "المدينة"، وأبو الطّفيل عامر بن واثِلة بـ "مكة"، ولم يلقَ أحدا منهم، ولا أخَذَ عنه، وأصحابُه يقولون: إنه لقي جماعة من الصحابة، وروى عنهم، ولا يثَبتُ ذلك عند أهل النقل

(1)

.

(1)

قال العلامة شمس الدين القُهُستاني رحمه الله تعالى، في مقدمة "جامع الرموز شرح مختصر الوقاية المسمى بالنقاية" 1: 6، طبع كلكتة سنة 1274 ما نصه. "إن الإمام من التابعين، رأى أنس بن مالك، كما قال الشيخ الجَزَري في أسماء القُرَّاء، بل من أكابرهم كما في "كشف الكشاف" في سورة النور. ولا يضره ما في "جامع الأصول": أن ذلك مما لا يثبت، فإنه قال في =

ص: 422

وأخذ الفقه عن: حمادِ بن أبي سليمان، وسمع: عطاء بن أبي رباح، وأبا إسحاق السَّبيعي، ومُحارب بن دِثار، والهيثم بن حبيب، ومحمد بن المنكدر، ونافعا مولى ابن عمر، وهِشام بن عروة، وسمَاك بن حرب.

وروى عنه: عبدُ الله بن المبارك، ووكيعُ بن الجرَّاح، ويزيدُ بن هارون، وعلي بن عاصم، والقاضي أبو يُوسف، ومحمد بن الحسن الشيباني، وغيرهُم.

نقله المنصورُ من "الكوفة" إلى "بغدادَ"، فأقامَ بها إلى أن مات فيها، وكان أكرهه ابنُ هُبَيْرة أيامَ مروان بن محمد الأموي على القضاء بـ "الكوفة"، فأبى، فضربه مائة سوط في عشر أيام، كل يوم عشرة، فلمَّا رأى ذلك خلَّى سبيلَه. ولما أشْخَصه المنصورُ إلى "بغداد"، أرادَه على القضاء، فأبى، فحلفَ عليه ليفعلنَّ، وحلفَ أبو حنيفة أن لا يفعل، وتكررت الأيمانُ بينهما، فحبسَه المنصورُ، ومات في الحبسِ، وقيل: إنه افتدى نفسَه بأن تولى عدد اللبن، ولم يصحَّ.

كان رَبْعَة من الرِّجالِ، وقيل: كان طوالا تعلوه سمرة، حسن الوجه، أحسنَ الناسِ منطقا، وأحلاهم نغمة، حسن المجلس، شَديدَ الكرم، حسن المواساة لإخوانه.

قال الشافعي رحمه الله: قيل لمالك: هل رأيت أبا حنيفة؟ قال: نعم، رأيتُ رجلا لو كلَّمك في هذه الساريةِ أن يجعلَها ذهبا لقام بحجته. وقال

= آخر كلامه: إن أصحابه أعلم بحاله من غيرهم، فالرجوع إلى ما نقلوه عنه أولى من غيرهم".

والعلامة القهستاني محمد شمس الدين المفتي ببخارى، من مشاهير أهل العلم، كان إماما عالما زاهدا فقيها متبحرا، يقال: إنه ما نسي قط ما طرق بسمعه، وترجمته مذكورة في "شذرات الذهب"، في وفيات سنة 953.

ص: 423

الشافعي رحمه الله تعالى: من أراد أن يتبحَّر في الفقه فهو عِيال على أبي حنيفة.

ولو ذهبنا إلى شرح مناقبه وفضائله لأطلْنا الخطب، ولم نصل إلى الغرض منها، فإنه كان عالما عاملا زاهدا عابدا ورعا تقيا، إماما في علوم الشريعة مرضيا.

وقد نسب إليه، وقيل عنه من الأقاويل المختلقة، التي يَجلُّ قدره عنها من القول بخلقِ القرآن، والقول بالقدر، والقول بالإرجاء، وغير ذلك مما نُسب إليه. ولا حاجة إلى ذكرها، ولا إلى ذكر قائلها، والظاهر أنه كان منزَّها عنها.

ويدلّ على صحة نزاهته عنها ما نشر الله تعالى له من الذِّكر المنتشر في الآفاق، والعلم الذي طبَّق الأرضَ، والأَخذ بمذهبه وفقهه والرجوع إلى قوله وفعله، وإن ذلك لو لم يكن لله فيه سرّ خفي، ورضى إِلهيّ، وفقه الله له، لما أجمع شطرُ أهل الإسلامِ أو ما يقاربهُ على تقليده، والعمل برأيه، ومذهبه، حتى قد عُبِدَ الله ودِيْنَ بفقهه، وعُمل برأيه، ومذهبه، وأُخذَ بقوله إلى يومنا هذا ما يقارب أربعمائة وأربعين سنة.

وفي هذا أدلّ دليل على صحة مذهبه، وعقيدته، وأن ما قيل عنه هو منزَّه عنه. وقد جمع أبو جعفر الطحاوي وهو من أكبر الآخذين بمذهبه كتابا، سماه "عقيدةُ أبي حنيفةَ رحمه الله"، وهي عقيدةُ أهل السُّنَّة والجماعة، وليس فيها شئ مما نُسبَ إليه، وقيل عنه، وأصحابه هم أخبرُ بحاله وبقوله من غيرهم، فالرجوعُ إلى ما نقلوه عنه أولى مما نقله غيرُهم عنه

(1)

.

(1)

قال الإمام ابن القيم في "إعلام الموقعين" 3: 222: "فالواجب على من شرح الله صدره للإسلام. إذا بلغته مقالة ضعيفة عن بعض الأئمة. أن =

ص: 424

وذُكِر أيضا سبب قول من قال عنه ما قال، والحامل له على ما نسب إليه. ولا حاجة لنا إلى ذكر ما قالوه، فإن مثل أبي حنيفة ومَحَلَّه في الإسلام لا يحتاجُ إلى دليل يُعْتَذَرُ به مما نُسب إليه. والله أعلم". انتهى.

وقَبْلَ هؤلاء كلِّهم الحافظ البارع العلامة تاج الإسلام أبو سَعْد عبد الكريم السَّمْعاني المزوَزِي الشافعيُّ، ترجَمَ له في كتاب "الأنساب" ترجمةً حسنةً، وذكر فضائله ومناقبه، ولم يعرّج على شيء من مثالبه.

وعلى هذا المنوال جرى من أتى بعد هؤلاء العلماء الأكابر المذكورين، من الحفَّاظ الجهابذة والأئمة المحدّثين وغيرهم من أهل العلم، الذين ترجموا للإمام أبي حفيفة رضى الله تعالى عنه، أو أفردوا في أخباره كُتُبا وأجزاءً فلم يَذكروا شيئا سوى فضائله، ومناقبه والثناء عليه في دينه وورعه، وسعة علمه بالكتاب والسنَّة.

وأورد هنا كلام واحد من هولاء الأجلَّة أحد كبار علماء القرن الحادي عشر، وهو الإمام العلامة ابن عَلّان، محمد علي بن محمد عَلّان بن إبراهيم الصِّدِّيقي العَلَوِي، الشافعي، محي السُّنَّة بالديار الحجازية، وأحد العلماء المفسّرين والأئمة المحدّثين في تلك الديار، المولود سنة 996 هـ، والمتوفى سنة 1057 هـ، رحمه الله تعالى، وقد ترجم للإمام أبي حنيفة في كتابه "الفتوحات الربَّانية على الأذكار النووية"، حيث جاء ذكر الإمام في متن "الأذكار"، فقال ما نصه:

"الإمام أبو حنيفة هو الإمام الأعظم، والعَلَمُ المفرَد المُكَرَّم، إمام الأئمة، المتَّفق على عُلُوِّ مرتبته، ووفور علمه، وزهده، وتَمَلِّيه من العلوم الباطنة

= لا يحكيها لمن يتقلدها، بل يسكت عن ذكرها إن تيقن صحتها، وإلا توقف في قبولها، فكثيرا ما يُحكى عن الأئمة ما لا حقيقة له". عبد الفتاح.

ص: 425

فضل عن الظاهرة بما فاق به أهلَ عصره، وفاق بحُسنِ الثناء عليه وإذاعة ذكره من أكابر التابعين: النعمان بن ثابت بن زُوطَى - بضم الزاي وفتح الطاء - بن ماه، مَوْلى تَيْمِ الله بن ثَعْلَبَة الكوفي.

رَوَى الخطيب بإسناده عن حفيده عُمر بن حمَّاد بن أبي حنيفة: أن ثابتا وُلِد على الإسلام، وزُوطَى كان مملوكا لبني تَيمٍ، فأعتقوه، فصار ولاؤه لهم، وأنكر إسماعيل أخو عمر حفيد أبي حنيفة ذلك، وقال: إن والدَ ثابت من أبناء "فارس"، وأنهم أحرار، - قال -: والله ما وقع علينا رِقٌّ قط، قال: وذهب. زوطَى. بثابت ابنه إلى علي بن أبي طالب، وهو صغير، فدعا له بالبركة فيه وفي ذريته، ونحن نرجو الله أن يكون ذلك قد استجيب فينا. اهـ.

وهو كما رجا - إسماعيل - فقد بارك الله في جدّه أبي حنيفة بركةً، لا نهِاية لأقصاها، ولا حدَّ لمنتهاها، وبارك في أتباعه، فكثروا في سائر الأقطار، وظهر عليهم من بركة إخلاصه وصدقه ما اشتهر به في سائر الأمصار.

أخذ الفقه عن حمّاد بن أبي سليمان، وأدرك أربعة من الصحابة، بل ثمانية، منهم أنس، وعبد الله بن أبي أوفى، وسهل بن سَعَدٍ، وأبو الطفيل، وقد نظم بعضهم أسماء بعض من رَوَى عنه الإمام أبو حنيفة من الصحابة، فقال:

أبو حنيفة زين التابعين رَوَى

عن جابر وابن جَزءٍ والرِّضا أنس

ومَعقِلٍ وحُرَيثيٍّ

(1)

وواثلة

وبنت عَجْرَد، عِلْمَ الطيِّبين قَبَس

وقيل: لم يلق أحدا منهم.

(1)

يعني: عَمْرو بن حُرَيْث المخزومي، رضي الله تعالى عنه.

ص: 426

وسمع من عطاء وأهل طبقته، وروى عنه ابن المبارك، ووكيع بن الجرَّاح، وآخرون.

وطلب منه المنصور أن يلي القضاء، فامتنع، فحبسه على ذلك، وضربه، وهو مُصِرٌّ على الامتناع، حتى مات في السجن، رضى الله عنه.

قال عبد الله بن المبارك في حقه: أتذكرون رجلا عُرِضَتْ عليه الدنيا بحذافيرها، ففرَّ منها.

وكان حسن الثياب، طَيِّبَ الريح، يُعرف بريح الطِّيب إذا أقبل، حسن المجلس، كثير الكَرَم، حسَنَ المواساة لأخوانه، رَبْعَة، وقيل: كان طُوالا، أحسن الناس مَنْطِقا، وأحلاهم نَغْمَةً.

قال: قَدِمتُ "البصرة"، فظننتُ أني لا أسأل عن شئ إلا أجبتُ عنه، فسألوني عن أشياء لم يكن عندي فيها جواب، فجعلتُ على نفسي ألا أفارق حمادا حتى يموتَ، فصحبتُه ثمانيَ عَشْرَةَ سنة، ثم ما صليتُ صلاةً إلا استغفرتُ له مع والدَيَّ، وإني لأستغفر لمن تعلمتُ منه علما أو تعلَّم مني علما.

قال سهل بن مُزاحم: بُذِلت له الدنيا فلم يُرِدْها، وضُرب عليها بالسِّياطِ، فلم يَقْبَلها.

وكان خَزَّازًا، يبيع الخَزَّ، ودكانهُ في دار عَمْرو بن حُريث.

ولما بلغ ابنَ جُريج موته توجَّع، وقال: أيّ علمٍ ذهب.

وقال الفُضيلُ بن عياض. وناهيكَ بها شهادةً من هذا الحَبْر: كان أبو حنيفة معروفا بالفقه، مشهورا بالوَرَع، واسعَ العلم، معروفا بالإفضال، صبورا على تعليم العلم بالليل والنهار، قليلَ الكلام، حتى تردَ مسئلة في الحلال والحرام.

وفضائله كثيرة

ص: 427

ولما غَسَّله الحَسَنُ بن عُمارة - قاضي "بغداد" قاله: غَفَر الله لك، لم تُفطِر منذ ثلاثين سنة، ولم تتوسَّد يمينك في الليل أربعين سنة.

وُلد رضي الله عنه سنة ثمانين من الهجرة، وتوفي بـ "بغداد". قيل: في السجن، على أن يلي القضاء - سنة خمسين على المشهور، أو إحدى أو ثلاث وخمسين ومائة، في شهر رجب. وقبره بـ "بغداد"، يُزار.

ومن فضله قول إمامنا الشافعي: الناس في الفقه عِيال على أبي حنيفة، رحمه الله تعالى. انتهى كلام ابن عَلّان، رحمه الله تعالى.

فهولاء الحُفّاظ النُّقَّاد أئمة الجرح والتعديل لم يُوردوا في تصانيفهم شيئا مما ذكر أعداؤُه وحُسّادُه من مطاعنه ومَثَالبه، فثبت من صنيع هؤلاء جميعا أن كل ما ذُكِر في بعض كتب الرجال من جَرْحِه، ينبغى أن يُرمَى به عُرْضَ الحائط.

ولا شكَّ أنه ما طَعَن أحد في قول من أقواله إلا لجهله به، إما من حيث دليلُه، وإما من حيث دِقَّةُ مداركه عليه، - رضى الله تعالى عنه -، وقد أجمع السَّلَفُ والخَلَفُ على كثرة علمه، ووَرَعِه، وعبادته، ودقَّة مداركه واستنباطاته. ولا عبرة بقول الجُهَّال والحُسَّاد والأعداء على كل حال. ولقد صَدَق الإمام عبد الوهَّاب الشَّعْراني رحمه الله تعالى؛ حيث يقول في "الميزان الكبرى"

(1)

:

"وأما ما نقل عن الأئمة الأربعة رضى الله عنهم أجمعين في ذم الرأي، فأوَّلهم تَبَرِّيًا من كل رأي يخالف ظاهر الشريعة الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان بن ثابت رضى الله عنه، خِلافَ ما يضيفه إليه بعض المتعصّبين، ويا فضيحته يوم القيامة من الإمام إذا وقع الوجه في الوجه، فإن من كان في قلبه نور لا يتجرأ أن يذكر أحدا من الأئمة بسوء.

(1)

1: 54 و 55.

ص: 428

وأين المقامُ من المقام؟ إذ الأئمة كالنجوم في السماء وغيرُهم كأهل الأرض، الذين لا يعرفون من النجوم إلا خيالها على وجه الماء! وقد روى الشيخ محيي الدين في "الفتوحات المكية" بسنده إلى الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه أنه كان يقول: إيَّاكم والقولَ في دين الله تعالى بالرأى، وعليكم باتباع السنَّة، فمن خرج عنها ضلّ".

وقال أيضا رحمه الله تعالى

(1)

: "والعلماء أمناء الشارع على شريعته من بعده، فلا اعتراض عليهم فيما بيَّنوه للخلق، واستنبطوه من الشريعة، لا سيّما الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه، فلا ينبغي لأحدٍ الاعتراض عليه، لكونه من أجلِّ الأئمة، وأقدمهم تدوينا للمذهب، وأقربهم سندا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومُشاهِدًا لفعل أكابر التابعين من الأئمة، رضي الله عنهم أجمعين.

كيف يَليقُ بأمثالنا الاعتراض على إمام عظيم، أجمع الناسُ على جلالته، وعلمه، وورعه، وزهده، وعفّته، وعبادته، كثرة مراقبته لله عز وجل، وخوفه منه طُول عمره، ما هذا والله إلا عمَى في البصيرة

وإيَّاك أن تخوضَ مع الخائضين في أعراض الأئمة بغير علم، فتخسر في الدنيا والآخرة، فإن الإمام رضي الله عنه كان متقيّدا بالكتاب والسنَّة، متبرّئا من الرأي، كما قدمنا لك في عِدَّة مواضع من هذا الكعاب.

ومن فتَّش مذهبَه رضي الله عنه وَجَده من أكثر المذاهب احتياطا في الدين، ومن قال غير ذلك فهو من جملة الجاهلين المتعصّبين المنكرين على أئمة الهُدى بفهمه السقيم، وحاشا ذلك الإمامَ الأعظمَ من مثل ذلك حاشاه، بل هو إمام عظيم مُتَّبَع إلى انقراض المذاهب كلها.

(1)

1: 69.

ص: 429

وأتباعه لن يزالوا في ازدياد كلما تقارب الزمان، وفي مزيد اعتقادٍ في أقواله، وأقوال أتباعه، وقد قدمنا قول إمامنا الشافعي رضى الله عنه:"الناس كلهم عِيالٌ في الفقه على أبي حنيفة".

وقد ضُرِب بعض أتباعه، وحُبِسَ ليُقلِّدَ غيره من الأئمة، فلم يفعل، وما ذلك والله سُدًى، ولا عبرة بكلام بعض المتعصّبين في حق الإمام، ولا بقولهم: إنه من جملة أهل الرأي، بل كلام مَنْ يَطْعَن في هذا الإمام عند المحققين يُشْبِهُ الهَذَيانات. ولو أن هذا الذي طَعَن في الإمام، كان له قدمٌ في معرفة مَنازع المجتهدين، ودِقَّة استنباطاتهم، لقدَّم الإمام أبا حنيفة في ذلك على غالب المجتهدين، لخفاء مُدْرَكهِ، رضي الله تعالى عنه.

واعلم يا أخى، أننى ما بسطتُ لك الكلام على مناقب الإمام أبي حنيفة أكثر من غيره، إلا رحمةً بالمتهوِّرين في دينهم من بعض طلبة المذاهب المخالفة له، فإنهم ربما وقعوا في تضعيف شيء من أقواله، لخفاء مُدْرَكِه عليهم، بخلاف غيره من الأئمة، فإن وجوه استنباطاتهم من الكتاب والسنَّة ظاهرة لغالب طلبة العلم، الذين لهم قَدَمٌ في الفهم ومعرفة المدارك". انتهى.

‌اعتداء الألباني على الإمام أبي حنيفة

فهذا ما نقلناه من أركان النقل وأئمة الرجال، الذين عليهم المعوَّل في هذا الباب، في حق أبي حنيفة الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه، من الثناء على حفظه وإتقانه وعلمه، وحد قال الحافظ أبو الحَجَّاج المزِّي في "مقدمة تهذيب الكمال":

واعلم: أن ما كان في هذا الكتاب من أقوال أئمة الجرح والتعديل ونحو ذلك، فعامته منقول من كتاب "الجرج والتعديل" لأبي محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازى الحافظ ابن الحافظ،. ومن كتاب "الكامل" لأبي أحمد عبد الله بن عدي الجرجاني الحافظ، ومن كتاب "تاريخ بغداد" لأبي بكر أحمد بن علي

ص: 430

بن ثابت الخطيب البغدادي الحافظ، ومن كتاب "تاريخ دمشق" لأبي القاسم علي بن الحسن بن هبة الله المعروف بابن عساكر الدمشقي الحافظ، وما كان فيه من ذلك منقولا من غير هذه الكتب الأربعة، فهو أقلّ مما كان فيه من ذلك منقولا منها، أو من بعضها

وقد اشتمل هذا الكتاب على ذكر عامة رواة العلم، وحملة الآثار، وأئمة الدين، وأهل الفتوى، والزهد والورع والنسك، وعامة المشهورين من كل طائفة من طوائف أهل العلم المشار إليهم من أهل هذه الطبقات، ولم يخرج عنهم إلا القليل.

فمن أراد زيادة اطلاع على ذلك، فعليه بعد هذه الكتب الأربعة بكتاب "الطبقات الكبرى" لمحمد بن سعد كاتب الواقدى، وكتاب "التاريخ" لأبي بكر أحمد بن أَبي خيثمة زهير بن حرب، وكتاب "الثقات" لأبي حاتم محمد بن حبّان البستي، وكتاب "تاريخ مصر" لأبي سَعِيد عبد الرحمن بن أحمد بن يونس بن عبد الأعلى الصدفي، وكتاب "تاريخ نيسابور" للحكم أبى عَبد الله محمد بن عَبد الله النيسابورى الحافظ، وكتاب "تاريخ أصبهان" لأبي نُعَيم أحمد بن عَبد الله بن أحمد الأصبهاني الحافظ، فهذه الكتب العشرة أمهات الكتب المصنفة في هذا الفن". انتهى

(1)

.

ومعلوم أن ابن عَدِيّ قد تعدَّى وجاوز الحدَّ في الوقيعة في الإمام الأعظم، وكذا الخطيب البغدادي قد استوعب مثالبَ الإمام، فأتى بقاذورات، لا تَغْسِلُها البحار!

وكانت عامة كتب الجرح والتعديل في متناول أهل العلم، الذين نقلنا مناقب الإمام الأعظم من تصانيفهم، كالسمعاني، والنووى، والمِزِّي، والذهبي، وابن كثير، والحُسَيْنى، والبرهان الحَلَبى، وابن حجر العَسْقلاني.

(1)

"تهذيب الكمال" 1: 3 طبع دار المأمون للتراث الطبعة الأولى سنة 1402.

ص: 431

وهؤلاء كلهم من أئمة هذا الشأن، ومع ذلك لم يلتفتوا إلى ما قيل في أبي حنيفة أصلا، بل على رغم هؤلاء الطاعنين يَعُدّونه في الحُفَّاظ، ويوثّقونه ويجعلونه من أئمة النقد، الذين يُرْجَع إلى اجتهادهم في التزييف والتصحيح، والجرح والتعديل، ويذكرون أقواله في هذا الباب.

فهذا الإمام أبو الحجَّاج المزِّي كل ما ذكره في ترجمة أبي حنيفة في كتابه "تهذيب الكمال" إنما أخذه من كتاب "تاريخ بغداد" للخطيب البغدادي، ولم يُعرّج على ما ذكر فيه من قدحه أصلا، عِلْمًا منه أن كلام من تكلَّم فيه إنما صدر عن هوى وعصبية، والإمام بريء عما رُمي به من أعدائه، فلا ينبغي أن يُذكر منه شيء.

وقد صرَّح الإمام الذهبي رحمه الله تعالى: "أن كتاب "تهذيب الكمال" ينبوع معرفة الثقات"

(1)

، وقد أثنى على صنيعه هذا قائلا:

"قد أحسن شيخنا أبو الحَجَّاج حيث لم يورد شيئا يلزم منه التضعيف". انتهى كما مرَّ سابقا

(2)

.

وعلى منواله جرى مَن أتى بعده كالذهبي، وابن كثير، والحُسيني، والبرهان الحلبى، وابن حجر، كلهم من السادة الشافعية رحمهم الله تعالى، وهلُمَّ جرًّا إلى يومنا هذا، إلا أن بعض منتحلي الحديث من أهل عصرنا - وهو الشيخ ناصر الألباني - قد شذَّ وحاد عن الطريق، فأخذ يقع في مثل هذا الإمام، ويتكلم في حفظه وإتقانه، ويُضعِّفه، ويَرْميه بسوء الحفظ، وينفي عنه الضبط والحفظ.

(1)

من "الموقظة في علم مصطلح الحديث" للإمام الذهبي ص 79، بتحقيق العلامة أبو غدة، الناشر مكتبة المطبوعات الإسلامية بحلب، الطبعة الأولى سنة 1405.

(2)

في ص 95.

ص: 432

وتعامَى عن نصوص موثقيه أمثال الإمام الحجَّة الحافظ شيخ الإسلام أبي بِسطام شبعة بن الحجَّاج الأزدي، والإمام العلَمِ سيِّد الحفَّاظ أبي سعيد يحيى بن سعيد القطَّان، والإمام الحافظ قدوة أصحاب الجرح والتعديل أبي الحسن علي بن المديني، والامام الفرد سيّد الحفَّاظ ملك الجرح والتعديل يحيى بن مَعين، والامام الثبت سيّد الحفَّاظ أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني، وغيرهم من أئمة هذا الشأن، حيث يقول في كتابه "سلسلة الأحاديث الضعيفة"

(1)

، عند الكلام على حديث "إذا طلع النجم رُفعت العاهةُ عن أهل كل بلد ما نصّه:

"ضعيف، أخرجه الإمام محمد بن الحسن في كتاب "الآثار" (ص 159) أخبرنا أبو حنيفة، قال: حدثنا عطاء بن أبي رباح، عن أبي هريرة مرفوعا، ومن طريق أبي حنيفة أخرجه الثقفي في "الفوائد" (1: 3:12)، وكذا الطبراني في "المعجم الصغير" (ص 20) وفي "الأوسط" (2: 140: 1)، وعنه أبو نعيم في "أخبار أصبهان" (121: 1)، وقال: "النجم هو الثريَّا".

وهذا إسناد، رجاله ثقات، إلا أن أبا حنيفة رحمه الله تعالى على جلالته في الفقه، قد ضعَّفه من جهة حفظه البخاري، ومسلم، والنسائي، وابن عدي، وغيرهم من أئمة الحديث. ولذلك لم يزد الحافظ ابن حجر في "التقريب" على قوله في ترجمته "فقيه مشهور". انتهى.

ونحن نسأل الألبانيَّ إذا كان ضَعْفُ أبي حنيفة متحقّقا عند ابن حجر، فلم لم يضعّفْه، واكتفى بقوله "فقيه مشهور" مع تصريحه في "مقدمة تقريبه" بقوله:"إنني أحكُمُ على كل شخص منهم بحكم يَشْمَل أصح ما قيل فيه، وأعدل ما وُصِفَ به، بألخَص عبارة وأخلص إشارة". انتهى.

(1)

في المجلد الأول، الجزء الرابع ص 77 - 78، من منشورات المكتب الإسلامي.

ص: 433

فهل قرأ الألباني في كتاب من كتب المصطلح أن كلمة "فقيه مشهور"، تدلّ على ضعف الراوي تصريحا أو تلويحا، بيِّنْه لنا مأجورا، وهل اتِّصاف راوٍ بالفقه والشُّهرة يَدُلّ على ضعفه وتركه، أم يُخرجه من الجهالة والستر إلى الشهرة والمعرفة، ويفيد تبجيله بالعلم والجلالة، ويُثْبِتُ له كل خير، فقد ثبت عن المصطفى صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين"، فهل بعد الفقه خير يُرجَى له، ولفظ "الفقيه" في عرف السلف كان لا يُطلق إلا على المجتهد، فما بالُ الألباني يجعل الثناء ذمًّا؟! ويعكِسُ الأمر! والله حسيبه.

وأما قوله: "لم يزد الحافظ ابن حجر في "التقريب" على قوله: "فقيه مشهور"، فهذا كذب وبهت! ونفيُ الزيادة لا يصحُّ، كيف وقد أقرَّ الحافظ ابن حجر بإمامته في موضعين! فقد جاء في الكنى من "التقريب" ما نصه: "أبو حنيفة النعمان بن ثابت، الإمام المشهور". وقال في حرف النون، ما نصه: "النعمان بن ثابت الكوفي أبو حنيفة الإمام، يقال أصله من "فارس"، ويقال مولى بني تَيْم، فقيه مشهور، من السادسة، مات سنة خمسين - ومائة - على الصحيح، وله سبعون سنة". انتهى.

ولفظ الإمام إذا أطلق ولم يقيد في كتب الجرح التعديل من أعلى مراتب التوثيق، وهو أرفع من ثقة، أو مُتقن، أو ثَبْت، أو عَدْل، ولكن الإنسان إذا وقع في كبار الأئمة ينزل عليه المقت، ويُسلَب عقله، فيخبط كخبط عشواء.

وظهر من هذا أن الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى لم يقبل تضعيف هؤلاء في حق الإمام أبي حنيفة أصلا، وفي لفظ "الفقيه" و"الإمام" إشارة إلى ترجيح روايته على رواية غير الفقيه وغير الإمام من عامة الرواة، ولم يتفطن له الألباني أصلا - إن لم نقل: علمه كتمه! - بل عكس الأمر،

ص: 434

وزَعَم أن الوصف "بفقيه مشهور" يدل على ضعف الراوي، فسبحان قاسم العقول!

وقد دكر الإمام الزكي يوسف بن الحجّاج المِزِّي رحمه الله في "مقدمة تهذيب الكمال"

(1)

:

"قال أبو بكر بن خُزيمة: عن عبد الله بن هاشم الطُوسي: كنا عند وكيع، فقال: الأعمش أحب إليكم، عن أبي وائل، عن عبد الله، أو سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة عن عبد الله؟ فقلنا: الأعمش، عن أبي وائل أقرب، فقال: الأعمق شيخ، وأبو وائل شيخ، وسفيان عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله، فقيه، عن فقيه، عن فقيه، عن فقيه، زاد غيره، قال: وحديث يتداوله الفقهاء أحبّ إلينا من حديث يتداوله الشيوخ". انتهى.

ثم لا يخفى أن الحافظ ابن حجر العسقلاني في سائر تصانيفه لم ينقل عن أحد من أهل العلم شيئا في تضعيف الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى، على رغم أنف الألباني، بل نقل توثيق الإمام نصا في كتابه "تهذيب التهذيب"

(2)

عن إمام الصنعة يحيى بن مَعين رحمه الله تعالى، وهذا نصه:

"قال محمد بن سعد العَوفي: سمعتُ يحيى بن مَعين يقول: كان أبو حنيفة ثِقةً، لا يُحدِّث بالحديث إلا بما يحفظه، ولا يحدّث بما لا يحفظه، وقال صالح بن محمد الأسدي عن ابن مَعين: كان أبو حنيفة ثقة في الحديث". انتهى.

(1)

1: 5.

(2)

452:10.

ص: 435

وقال أيضا رحمه الله تعالى: "قال ابن أبي داود، عن نصر بن علي، سمعتُ ابن داود يعني الخريبي يقول: الناس في أبي حنيفة حاسد وجاهل.

وقال أحمد بن عَبْدَة قاضي "الرَّيِّ" عن أبيه: كنا عند ابن عائشة، فذكر حديثا لأبي حنيفة، ثم قال: أما إنكم لو رأيتموه لأردتموه، فما مثله ومثلكم إلا كما قيل:

أقلُّوا عليهم ويلكم لا أبا لكم

من اللَّوم أو سُدُّوا المكان الذي سَدُّوا".

وختم ترجمته بقوله: "ومناقب الإمام أبي حنيفة كثيرة جدا، فرضى الله تعالى عنه وأسكنه الفردوس آمين".

والخُريبيُّ هو الإمام الحافظ القُّدوَة أبو عبد الرحمن عبد الله بن داود بن عامر الهَمْداني الشَّعْبي الكوفي، كان يَسْكُن محلة الخُرَيْبَة بـ "البصرة"، ذكره الذهبي في "تذكرة الحفاظ".

وقال الحافظ في "التقريب " في ترجمة الخُريبي هذا: " (خ، عـ) عبد الله بن داود بن عامر الهَمْداني، أبو عبد الرحمن الخُريبى، بمعجمة وموحدة مصغرا، كوفيّ الأصل، ثقة عابد، من التاسعة، مات سنة ثلاث عشرة - ومائتين - وله سبع وثمانون سنة، أمسك عن الرواية قبل موته، فلذلك لم يسمع منه البخاري" انتهى.

وقال في "تهذيب التهذيب": "قال ابن سعد: كان ثقة عابدا ناسكا، وقال معاوية بن صالح عن ابن مَعين: ثقة صدوق مأمون، وقال عثمان الدارِمي: سألت ابن مَعين عنه وعن أبي عاصم، فقال: ثقتان، قال الدارمي: الخُرَيبيُّ أعلى، وقال أبو زُرعَة والنسائي: ثقة، وقال أبو حاتم: كان يميل إلى الرأي، وكان صدوقا، وقال الدارقطني: ثقة زاهد، وقال ابن عُيَيْنة: ذاك أحد الأحدين، وقال مرة: ذلك شيخنا القديم". انتهى.

فانظر أيها الألباني المتعصّب - ولا تغمض عينيك - ما ذا يقول أحد الأحدين الخُريبي شيخ ابن عيينة الثقة الصدوق الزاهد العابد الناسك المأمون:

ص: 436

إن الناس في أبي حنيفة حاسد وجاهل، فلا تغترَّ بما قاله الحسَّاد والجاهلونِ في هذا الإمام.

وأما ابن عائشة فهو أبو عبد الرحمن عبيد الله بن محمد بن حفص العيشي بتحتانية ومعجمة، ذكره الحافظ في "التقريب"، فقال:" (ر، ت، س) عُبيد الله بن محمد بن عائشة، اسم جدّه حفص بن عمر بن موسى بن عبيد الله بن مَعْمَر التَّيمي، وقيل له: ابن عائشة، والعائشيُّ، والعيَشِيُّ نسبة إلى عائشة بنتِ طلحة، لأنه من ذريتها، ثقة، جَواد، رُمِيَ بالقدر، ولم يثبت، مِن كبار العاشرة، مات سنة ثمان وعشرين - ومائتين".

وقال في "تهذيب التهذيب": "قال أبو طالب عن أحمد: صدوق في الحديث، وقال أبو حاتم: صدوق ثقة، روى عنه أحمد، وكان عنده عن حماد بن سلمة تسعة آلاف، وكان عنده دقائق، وفصاحة، وحُسنُ خلُق، وسخاء، وقال الآجُرِيُّ عن أبي داود: سمع علما كثيرا

، قال الساجيُّ: وكان من سادات أهل "البصرة" غير مُدافَع، وكان كريما سخيا. وقال إبراهيم الحربي: ما رأتْ عَيْني مِثْلَه

وقال ابن حبَّان: كان حافظا عالما بأنساب العَرَب". انتهى باختصار.

وحلَّاه الذهىبي في "سير أعلام النبلاء" بقوله: "الإمام العلامة الثقة

الأخباري، الصادق". انتهى.

فهذا شيخ الإمام أحمد العلامة الأخباريّ الحافظ الصَّدوق الثقة، حامل العلم الكثير، من سادات أهل "البصرة": يذكر حديثا لأبى حنيفة، فقال: بعض من حضر: لا نريده (كما يقول الألباني في عصرنا هذا) فيقول له: "أما إنكم لو رأيتموه لأردتموه، وما أعرف له ولكم مثلا إلا ما قال الشاعر:

ص: 437

أقلُّوا عليهم ويلكم لا أبا لكم

من اللَّوم أو سُدُّوا المكان الذي سَدُّوا"

(1)

.

وفي ذلك عبرة للألباني، لو كان من أولى الألباب والأمانة.

ولما كان أبو حنيفة ثقة لا يحدّثُ بالحديث إلا بما يحفظه، ولا يحدّث بما لا يحفظه، كما ينقله ابن حجر عن ابن مَعين ويقرّه، ولا يتعقّب عليه، فكيف يظنّ به أنه قد تأثر بجرح المخالفين له، فما بال الألباني لا يتفطن لهذا الأمر الظاهر المكشوف؟ وما حجبه عن رؤية هذا الكلام وفهمه إلا تعصّبه وحنقه الأسود على الإمام أبي حنيفة!

وفي "الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر" تأليف الحافظ الإمام شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي، ما نصه:

وسئل - أي الحافظ ابن حجر - عما ذكره النسائي في "الضعفاء والمتروكين": عن أبي حنيفة رضي الله عنه أنه: ليس بقوي في الحديث، وهو كثير الغلط والخطأ على قلّة روايته

(2)

، هل هو صحيح؟ وهل وافقه على هذا أحد من أئمة المحدثين أم لا؟

فأجاب النسائي من أئمة الحديث، والذى قاله إنما هو حسب ما ظهر له، وأداه إليه اجتهاده، وليس كل أحد يؤخذ بجميع قوله، وقد وافق

(1)

والحافظ ذكر هذه القصة في "تهذيب التهذيب" بالإجمال، وهي بتمامها في تهذيب الكمال" 29: 442 من طبعة مؤسسة الرسالة بيروت.

(2)

والظاهر أن النسائي رجع عن تضعيف الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى فقد أخرج في "السنن الكبرى" 4: 322 - 323 في أبواب التعزيرات والشهود، باب من وقع على بهيمة، حديث الإمام أبي حنيفة عن عاصم، عن أبي رزين، عن عبد الله بن عباس قال: ليس على من أتى بهيمة حد ثم قال النسائي: هذا غير صحيح، وعاصم بن عمر ضعيف في الحديث. =

ص: 438

النسائي على مُطلق القول جماعة من المحدثين، واستوعب الخطيب في ترجمته من "تاريخه" أقاويلهم، وفيها ما يُقبل وما يُردُّ، وقد اعتُذِرَ عن الإمام بأنه كان يرى أنه لا يحدث إلا بما حفظه منذ سمعه إلى أن أداه، فلهذا قلّت الروايةُ عنه، وصارتْ روايتُه قليلة بالنسبة لذلك، وإلا فهو في نفس الأمر كثير الرواية.

وفي الجملة: ترك الخوض في مثل هذا أولى، فإن الإمام وأمثاله ممن قفزوا القنطرة، فما صار يؤثر في أحد منهم قول أحد، بل هم في الدرجة التي رفعهم

= فأعل الحديث بعاصم شيخ أبي حنيفة، ولو كان أبو حنيفة كما قاله النسائي في "الضعفاء والمتروكين" لأعل الحديث أولا بأبي حنيفة، ولكنه لم يفعل، بل اكتفى بإعلاله بعاصم، فالظاهر أنه رجع عما قاله في حق الإمام أبى في كتاب "الضعفاء".

وكم يقع مثل هذا الرجوع من النقاد إذ يتجلى لهم غير ما حكموا به من قبل.

ثم إن النسائي ظن أن عاصم شيخ أبي حنيفة هو عاصم بن عمر المدني، وهو ضعيف، والواقع أنه عاصم بن بَهْدلة أبي النَّجود كما جاء مصرحا به في "كتاب الآثار للإمام أبي حنيفة" رواية الإمام محمد عنه ص 311 (باب درأ الحدود)، كذا القال الحافظ ابن حجر في "تهذيب التهذيب" 10: 415، وتصحف في المطبوع من "التهذيب"(أبي النجود) إلي (أبي ذر) فليصحح، ولم يذكر المزي في "تهذيب الكمال" عاصم بن عمر من شيوخ أبي حنيفة، بل ذكر عاصم بن بَهْدَلة أبي النجود، كتب أمامه (س) إشارة إلى أن حديث أبي حنيفة عنه في كتاب النسائي، وليس لأبي حنيفة في كتاب النسائي إلا هذا الحديث، فظهر أن المزي أيضا لم يتابع النسائي في قوله إن عاصما راوي هذا الحديث هو عاصم بن عمر.

وعاصم بن بَهْدلة هو المقريء المعروف، حديثه في الكتب الستة، وقد قال فيه النسائي: لا بأس به، ووثقه طائفة، وإن تكلم بعضهم في حفظه، فالحديث جيد إن شاء الله تعالى.

ص: 439

الله تعالى إليها، من كونهم متبوعين يُقْتدى بهم، فليعتمد هذا، والله ولي التوفيق. انتهى

(1)

.

فعلى الألباني أن يتقي الله تعالى فيما يقول، وليجتنب الخِداعَ والتقويلَ لابن حجر - وغيره - ما لم يقلْه، والله ولي التوفيق.

وبهذا ظهر الجوابُ عمن شاركَ النسائي في الجرح للإمام، وقد حَثّ أبرُّ أصحاب ابن حجر إليه الإمام الحافظ السَّخاويّ، في كتابه "الإعلان بالتوبيخ لمن ذَمَّ التاريخ"(2) على الاجتناب عن اقتفاء الجارحين والطاعنين فيه، حيث يُوصي رحمه الله تعالى قائلا:

"ويلتحق بذلك (أبي في التأويل والتجنّب عن ذكره) ما وقع بين الأئمة، سِيَّما المتخالفين في المناظرات والمباحثات، وأما ما أسنده الحافظ أبو الشيخ بن حَيَّان في "كتاب السنة" له، من الكلام في حق بعض الأئمة المقَلَّدين، وكذا الحافظ أبو أحمد بن عَدِيَّ في "كامله"، والحافظ أبو بكر الخطيب في "تاريخ بغداد" وآخرين ممن قبلهم كابن أبي شيبة في "مصنفه"، والبخاري، والنسائى، مما كنت أنزههم عن إيراده مع كونهم مجتهدين، ومقاصدهم جميلة: فينبغي تجنّب اقتفائهم فيه، ولذا عَزَّر بعضُ القُضاة الأعلام من شيوخنا من نُسب إليه التحدّث ببعضه، بل منعنا شيخنا - الحافظ ابن حجر - حين سمعنا عليه "كتاب ذم الكلام" للهروي، من الرواية عنه، لما فيه من ذلك". انتهى.

(1)

نقله صديقنا العلامة المحقق الشيخ محمد عوامة في كتابه "أثر الحديث الشريف في اختلاف الأئمة رضي الله عنهم" ص 116 و 117 الطبعة الثانية، نشرته دار السلامة للطباعة والنشر سنة 1407.

(2)

ص 65، طبع القدسي بدمشق عام 1349.

ص: 440

‌رد الإمام ابن عبد البر على الطاعنين في الإمام، وفيه عبرة للألباني لو اعتبر

وأما الإمام شيخ الإسلام حافظ المغرب أبو عمر يوسف بن عبد البر النَّمَري القرطي رحمه الله فقد صدع بالحق، كشف القناع عن وجوه الطاعنين في الإمام في كتابيه "الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء"، و"جامع بيان العلم وفضله وما ينبغى في روايته وحمله" حيث قال في ترجمة الإمام أبي يوسف من "الانتقاء" ما لفظه:"كان يحيى بن مَعين يُثني عليه، ويوثّقه، وأما سائر أهل الحديث فهم كالأعداء لأبي حنيفة وأصحابه".

فنسئلك أيها الألباني هل يُقْبل قول الأعداء من غير إقامة برهان على دعواهم في حق إمام، قد خضعت الأمة لجلالته وعلمه وورعه، وتبعه شطر أهل البسيطة على توالي القرون إلى يومنا هذا؟ أفما لك عقل يمنعك عن الخوض في مثل تلك الورطات؟

وقال الإمام ابن عبد البر في "جامع بيان العلم"

(1)

:

"أفرط أصحاب الحديث في ذم أبي حنيفة، وتجاوزوا الحدّ في ذلك، والسبب الموجب لذلك عندهم إدخاله الرأي والقياس على الآثار واعتبارهما، وأكثر أهل العلم يقولون: إذا صحَّ الأثرُ بطل القياس والنظر.

وكان ردّه لما ردَّ من أخبار الآحاد بتأويل محتمل، كثير منه قد تقدمه إليه غيره، وتابعه عليه مثله ممن قال بالرأي، وجُل ما يوجد له من ذلك ما كان منه اتباعا لأهل بلده، كإبراهيم النخَعي، وأصحاب ابن مسعود، إلا أنه أغرق وأفرط في تنزيل النوازل هو وأصحابه، والجواب فيها برأيهم واستحسانهم، فأتى منه من ذلك خلاف كبير للسلف، وشُنع هي عند مخالفيهم بدع.

(1)

2: 148 - 150 طبع المنيرية بمصر.

ص: 441

وما أعلم أحدا من أهل العلم إلا وله تأويل في آية، أو مذهب في سنة، رد من أجل ذلك المذهب سنة أخرى بتأويل سائغ أو إدعاء نسخ، إلا أن لأبي حنيفة من ذلك كثيرا، وهو يوجد لغيره قليل.

وقد ذكر يحيى بن سلام، قال: سمعتُ عبد الله بن غانم في مجلس إبراهيم بن الأغلب يحدّث عن الليث بن سعد أنه قال: أحصيتُ على مالك بن أنس سبعين مسئلة كلها مخالفة لسنّة النبي صلى الله عليه وسلم، مما قال مالك فيها برأيه، قال: ولقد كتبتُ إليه في ذلك".

قال أبو عمر (ابن عبد البر): "ليس أحد من علماء الأمة" يُثبتُ حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يَرُدُّه دون إدعاء نسخ عليه بأثر مثله، أو بإجماع، أو بعمل يجب على أصله الانقياد إليه، أو طعن في سنده، ولو فعل ذلك أحد سقطت عدالتُه، فضلا عن أن يتخذ إماما، ولزمه إثمُ الفسق.

ونقموا أيضا على أبي حنيفه الإرجاءَ، ومن أهل العلم من ينسب إلى الإرجاء كثير.

ولم يُعْنَ أحد بنقل قبح ما قيل فيه، كما عُنُوا بذلك في أبى حنيفة، لإمامته، وكان أيضا مع هذا يُحسدُ، وينسب إليه ما ليس فيه، ويُختلَق عليه ما لا يليق.

وقد أثنى عليه جماعة من العلماء، وفضَّلوه، ولعلَّنا إن وجدنا نَشْطةً أن نجمع من فضائله، وفضائل مالك أيضا، والشافعي، والثوري، والأوزاعي كتابا أمَّلنا جمعه قديما في أخبار أئمة الآثار، إن شاء الله تعالى

(1)

.

(1)

ثم جمع في ذلك كتابه "الانتقاء في فضائل الثلاثة الفقهاء، مالك، والشافعي، وأبي حنيفة".

ص: 442

حدثنا عبد الرحمن بن يحيى، قال: حدثنا أحمد بن سعيد، قال: حدثنا أبو سعيد بن الأعرابي، قال: حدثنا عباس بن محمد الدوري، قال: سمعتُ يحيى بن مَعين يقول: أصحابنا يُفْرطون في أبي حنيفة وأصحابه، فقيل له: أكان أبو حنيفة يكذبُ؟ فقال: كان أنبل من ذلك.

وذكر محمد بن الحسين الأزدي الحافظ الموْصِلى في الأخبار التي في آخر كتابه في "الضعفاء": قال يحيى بن مَعين: ما رأيتُ أحدا أقدمه على وكيع، وكان يفتي برأي أبي حنيفة، وكان يحفظ حديثه كله، وكان قد سمع من أبي حنيفة حديثا كثيرا.

وقال علي بن المديني: أبو حنيفة روى عنه الثوري، وابن المبارك، وحماد بن زيد، وهُشَيْم، وكيع بن الجرَّاح، وعبَّاد بن العوَّام، وجعفر بن عون، وهو ثقة لا بأس به. وقال يحيى بن سعيد: ربما استحسنا الشئ من قول أبي حنيفة، فنأخذ به. قال يحيى: وقد سمعتُ من أبي يوسف "الجامع الصغير". ذكره الأزدي، قال: حدثنا محمد بن حرب سمعتُ: علي بن المديني، فذكره من أوله إلى آخره حرفا بحرف".

قال أبو عمر (ابن عبد البر): "الذين رووا عن أبي حنيفة ووثقوه وأثنوا عليه، أكثر من الذين تكلّموا فيه، والذين تكلّموا فيه من أهل الحديث أكثر ما عابوا عليه الإغراق في الرأي والقياس، والإرجاء.

وكان يقال: يُستدلُّ على نباهة الرجل من الماضين بتباين الناس فيه. قالوا: ألا ترى إلى علي بن أبي طلب أنه هلك فيه فئتان، محبّ أفرط، ومبغض فرَّط. وقد جاء في الحديث:"أنه يَهْلكُ فيه رجلان، محب مُطْرٍ، ومُبْغِض مُفتَرٍ". وهذه صفة أهل النباهة، ومن بلغ في الدين والفضل الغاية، والله أعلم".

ص: 443

وقال ابن عبد البر في (باب حكم قول العلماء بعضهم في بعض) من "جامع بيان العلم"

(1)

أيضا، ما نصه:

"هذا باب قد غلط فيه كثير من الناس، وضلَّتْ به نابتة جاهلة، لا تدري ما عليها في ذلك، والصحيح في هذا الباب أن من صحتْ عدالتُه، وثبتتْ في العلم أمانتُه، وبات ثقته، وعنايته بالعلم، لم يُلتَفَتْ فيه إلى قول أحد، إلا أن يأتي في جَرْحته ببينة عادلة، تصح بها جرحتُه على طريق الشهادات، والعمل فيها من المشاهدة والمعاينة لذلك كما يوجب قوله من جهة الفقه والنظر.

وأما من لم تثبت إمامتُه، ولا صحتْ لعدم الحفظ والإتقان روايتُه، فإنه يُنظر فيه إلى ما اتفق أهل العلم عليه، ويُجتهد في قبول ما جاء به على حسب ما يؤدِّي النظر إليه.

والدليل على أنه لا يُقْبل فيمن اتخذه جمهور من جماهير المسلمين إماما في الدين قول أحد من الطاعنين: أن السلف رضوان الله عليهم قد سبق من بعضهم في بعض كلام كثير في حال الغصب، ومنه ما حمل عليه الحسد، كما قال ابن عباس، ومالك بن دينار، وأبو حازم

(2)

، ومنه على جهة التأويل مما لا

(1)

2: 152 - 163.

(2)

قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: "استمعوا علم العلماء، ولا تُصدقوا بعضهم على بعض، فوالذي نفسي بيده لهم أشدّ تغايرا من التُّيُّوس في زُرُوها". وقال مالك بن دينار: "يؤخذ بقول العلماء والقرَّاء في كل شئ إلا قول بعضهم في بعض، فلهم أشدّ تحاسدا من التيوس". وقال أبو حازم: "العلماء كانوا فيما مضى من الزمان إذا لقي العالمُ مَنْ هو فوقه في العلم كان ذلك يوم غنيمة، وإذا لقي من هو مثله ذاكره، وإذا لقى من هو دونه لم يزه عليه، حتى كان هذا الزمان، فصار الرجل يعيب من هو فوقه ابتغاء =

ص: 444

يلزم المقولَ فيه ما قاله القائل فيه، وقد حمل بعضهم على بعض بالسيف تأويلا واجتهادا، لا يلزم تقليدهم في شيء منه دون برهان، ولا حجّة توجبه، ونحن نورد في هذا الباب من قول الأئمة الجلّة الثقات السادة بعضهم في بعض، مما يجب أن لا يُلتفت فيهم إليه، ولا يعرّج عليه: ما يوضح لك صحة ما ذكرنا، وبالله التوفيق

، ثم سرد ابن عبد البر من قول بعضهم في بعض ممن لا يلتفت إليه أمثلة كثيرة، ثم قال:

وقد كان بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلَّةِ العلماء عند الغصب كلام أكثر من هذا، ولكن أهل الفهم والعلم والميز لا يلتفتون إلى ذلك، لأنهم بشر يغضبون ويرضون، والقول في الرضا غير القول في الغضب، ولقد أحسن القائل:

لا يُعرف الحِلْمُ إلا ساعة الغضب

وما مَثَل من تكلَّم في مالك والشافعى ونظرائهما من الأئمة، إلا كما قال الأعشى:

كناطح صخرة يوما ليوهنها

فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل

أو كما قال الحسين بن حُميد:

يا ناطحَ الجَبَل العالي ليَكْلِمه

أشفِق على الرأس لا تُشْفِق على الجبل

ولقد أحسن أبو العتاهية، حيث يقول:

ومن ذا الذي ينجو من الناس سالما .. وللناس قالٌ بالظنون وقيل

وهذا خير من قول القائل:

= أن ينقطع منه، حتى يري الناس أنه ليس به حاجة إليه، ولا يُذاكِر من هو مثله، ويزهو على من هو دونه، فهلك الناس". أسندكل ذلك ابن عبد البر رحمه الله تعالى في أول "باب حكم قول العلماء بعضهم في بعض".

ص: 445

وما اعتذارك من قولٍ إذا قيلا؟!

فقد رأينا البغيَ والحسدَ قديمًا، ألا ترى إلى قول الكوفي في سعد بن أبي وقاص: إنه لا يعدل في الرعية، ولا يغزو في السَّرِيَّة، ولا يَقْسم بالسَّوِيَّة. وسعدٌ بَدْرِيّ، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنَّة، وأحد الستَّة الذين جعل عمر بن الخطاب الشورى فيهم، وقال: توفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راضٍ.

وروى أن موسى صلى الله عليه وسلم قال: يا ربِّ ادفع عني ألْسُنَ بني إسرائيل، فأوحى الله إليه يا موسى لم أقطعها عن نفسي، فكيف أقطعها عنك.

قال أبو عمر: والله لقد تجاوز الناس الحدّ في الغيبة والذّمِّ، فلم يقنعوا بذم العامّة دون الخاصة، ولا بذم الجهَّال دون العلماء، وهذا كله يحمل عليه الجهل والحسد، قيل لابن المبارك: فلان يتكلم في أبي حنيفة، فأنشد بيتَ ابن الرُّقَيَّات:

حسدوك أن رأوك فضَّلك الله بما فُضِّلت به النُّجَباءُ

وقيل لأبي عاصم النبيل: فلان يتكلم في أبى حنيفة، فقال: هو كما قال نُصَيْبُ:

حسدوا الفتى إذا لم ينال سعيه

فالقوم أعداء له وخصوم

فمن أراد أن يقبل قول العلماء الثقات الأئمة الأثبات بعضهم في بعض، فليقبل قول من ذكرنا قوله من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين بعضهم في بعض، فإن فعل ذلك فقد ضلّ ضلالا بعيدا، وخَسِرَ خسرانا مبينا. وكذلك إن قَبِل في سعيد بن المسيّب قول عكرمة، وفي الشعبى والنخعي وأهل "الحجاز"، وأهل "مكة"، وأهل "الكوفة"، وأهل "الشام" على الجملة،

ص: 446

وفي مالك والشافعى وسائر من ذكرنا في هذا الباب: ما ذكرنا عن بعضهم في بعض.

فإن لم يفعل ولن يفعل إن هداه الله، وألهمه رُشده، فليقف عند ما شرطنا في أن لا يقبل فيمن صَحَّت عدالته، وعُلِمَتْ بالعلم عنايته، وسَلِمَ من الكبائر، ولزم المروءة والتعاون، وكان خيره غالبا وشرُّه أقلَّ عمله، فهذا لا يقبل فيه قول قائل لا برهان له به، فهذا هو الحق الذي لا يصح غيره، إن شاء الله. قال أبو العتاهية:

بَكَى شَجْوه الإسلام من عُلمائه

فما اكترثوا لما رأوا من بكائه

فأكثرهم مُستَقبح لصواب من

يخالفه مستحسن بخطائه

فأيهم المرجوّ فينا لدينه ..... وأيهم الموثوق فينا برأيه

والذين أثنوا على سعيد بن المسيّب، وعلى سائر من ذكرنا من التابعين، وأئمة المسلمين أكثر من أن يُحصوا، وقد جمع الناس فضائلهم، وعُنُوا بسيرهم، وأخبارهم، فمن قرأ فضائل مالك، وفضائل الشافعي، وفضائل أبي حنيفة بعد فضائل الصحابة والتابعين، وعُنِىَ بها، ووَقف على كريم سيرهم وهديهم، كان ذلك له عملا زاكيا، نفعنا الله بحب جميعهم. قال الثوري رحمه الله: عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة، ومن لم يحفظ من أخبارهم إلا ما بدر من بعضهم في بعض على الحسد والهفوات والغضب والشهوات، دون أن يُعني بفضائلهم، حُرم التوفيق، ودخل في الغيبة، وحاد عن الطريق، جعلنا الله وإياك ممن يسمع القول، فيتبع أحسنه.

وقد افتتحنا هذا البابَ بقوله صلى الله عليه وسلم: "دَبَّ إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء"، وفي ذلك كفاية

ومن صحبه التوفيق أغناه من الحكمة يسيُرها، ومن المواعظ قليلُها، إذا فَهِم، واستعمل ما علم، وما توفيقى إلا بالله، وهو حسبى ونعم الوكيل.

ص: 447

وحدثنا عبد الله بن محمد بن يوسف، قال حدثنا ابن رَحمْون، قال: سمعتُ محمد بن بكر بن داسه، يقول: سمعتُ أبا داود سليمان بن الأشعث يقول: رحم الله مالكا كان إماما، رحم الله الشافعي كان إماما، رحم الله أبا حنيفة كان إماما". انتهى باختصار.

وقال ابن عبد البر في "جامع بيان العلم"

(1)

أيضا:

"حدثنا خلف بن القاسم، نا أبو عبد الله محمود الورَّاق، نا أحمد بن مَسعَدة، نا محمد بن حماد المِصِّيصي، نا أحمد بن القاسم، ثنا أحمد بن أبي رجاء، قال: سمعتُ أبي يقول: رأيتُ محمد بن الحسن في المنام، فقلتُ: إلى ما صرتَ، قال: غُفِر لي، ثم قيل لي: لم نجعل هذا العلم فيك إلا ونحن نريد أن نغفر لك، قال: قلتُ: وما فعل أبو يوسف؟ قال: فوقنا بدرجة، قلتُ: وأبو حنيفة؟ قال: في أعلى علّيين". انتهى.

‌جواب الحافظ ابن التركماني عن جروح الإمام

وقال قاضي القضاة الإمام العلامة الحافظ الشيخ علاء الدين علي بن عثمان المارديني الشهير بابن التركماني في "الجوهر النقي في الرد على البيهقي"

(2)

عند الكلام على أثر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: "لا تقتل النساء إذا ارتددن"، ما نصه:

"وأبو حنيفة وإن تكلم فيه بعضُهم فقد وثَّقه كثيرون، وأخرج له ابن حبَّان في "صحيحه"، واستشهد به الحكمُ في "المستدرك"، ومثله في دينه

(1)

1: 47، 1: 213 من الطبعة الجديدة المحققة.

(2)

8: 203 المطبوع بذيل "السنن الكبرى" للبيهقي.

ص: 448

وعلمهِ لا يَقدح فيه كلامُ أولئك، وقد ذكر جماعة من السلف أنه كان محسودا، حكى أبو عمر - ابن عبد البر - في "الانتقاء في فضائل الثلاثة الفقهاء" عن حاتم بن داود، قال: قلتُ للفضل بن موسى السِّيناني: ما تقول في هؤلاء الذين يقعون في أبي حنيفة؟ فقال: إن أبا حنيفة جاءهم بما يعقلونه من العلم وما لا يعقلونه، ولم يترك لهم شيئا، فحسدوه". انتهى.

رد ابن الوزير اليماني على من حاول التشكيك في علم أبي حنيفة بالحديث والعربية

وقال الإمام الحافظ العلامة النظَّار أبو عبد الله محمد بن إبراهيم ابن الوزير اليماني المتوفى سنة 840 هـ رحمه الله تعالى، في "الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم"

(1)

صلى الله عليه وسلم، ردًّا على السيّد جمال الدين علي بن محمد بن أبي القاسم، حيث حاول التشكيك في علم أبي حنيفة بالحديث والعربية، قال ما نصه:

"لا يخلوا إما أن يُنكر - هذا المعترض - صدور الفتوى عنه رضى الله عنه، وينكر نقل السلف والخلف مذاهبه في الفقه، أو يقرّ بذلك، إن أنكره أنكر الضرورة، ولم تكن لمناظرته صورة، وإن لم ينكره فهو يدلّ على اجتهاده، ولنا في الاستدلال به على ذلك مسالك:

المسلك الأول: أنه ثبت بالتواتر فضله، وعدالته، وتقواه، وأمانته، فلو أفتى بغير علم، وتأهّل لذلك، وليس له بأهل، لكان جرحا في عدالته، وقدحا

(1)

1: 158 - 166.

ص: 449

في ديانته وأمانته، ووصما في عقله ومروءته، لأن تعاطي الإنسان ما لا يحسنه ودعواه لمعرفة ما لا يعرفه من عادت السفهاء، ومن لا حياء له ولا مروءة من أهل الخساسة والدَّناءة، ووجوه مناقبه مصونة عن ابتذالها وتسويدها بهذه الوَصْمة القبيحة، والمذَمَّة الشنيعة.

المسلك الثاني: أن رواية العلماء لمذاهبه، وتدوينها في كتب الهداية، وخزائن الإسلام يدل على أنهم قد عرفوا اجتهاده، لأنه لا يحلُّ لهم رواية مذهبٍ إلا بعد المعرفة لعلمه، لأن إيهام ذلك من غير معرفة محرم، لما يترتب عليه من الأحكام الشرعية المجمع عليها كانخرام إجماع أهل عصره بخلافه، والمختلف فيها كانخرام إجماع من بعده بخلافه، وجواز تقليده بعد موته.

المسلك الثالث: أن نقول: الإجماع منعقد على اجتهاده، فإن خالف في ذلك مخالف، فقد انعقد الإجماع بعد موته، وإنما قلنا بذلك لأن أقواله متداولة بين العلماء الأعلام، سائرة في مملكة الإسلام في الشرق والغرب، و"اليمن" و"الشام" من عصر التابعين من سنة خمسين ومائة إلى يوم الناس هذا، وهو أوَّل المائة التاسعة بعد الهجرة، لا يُنْكَرُ على من يرويها، ولا من يعتمد عليها، والمسلمون بين عامل عليها، وساكتٍ عن الإنكار على من يعمل عليها، وهذه الطريقة هي التي تثبت بمثلها دعوى الإجماع في أكثر المواضع.

المسلك الرابع: أنه قد نَصَّ كثير من الأئمة والعلماء على أن أحد الطرق الدالة على اجتهاد العالم هي انتصابه للفتيا، ورجوع العامة إليه، من غير نكير من العلماء والفضلاء، وموضع نصوص العلماء على ذلك في علم الأصول، وهناك يُذكر الدليل على أن ذلك كاف في معرفة اجتهاد العالم

ص: 450

وجواز تقليده، وممن ذكر ذلك من أئمة الزيدية وشيوخ المعتزلة المنصور بالله في كتابه "الصفوة"، وأبو الحسين البصري في كتابه "المعتمد".

وهذا في سكوت سائر العلماء عن النكير على المفتي، فكيف بسكوت رُكن الإسلام من عصابة التابعين ونبلاء سادات المسلمين، ومن هم من خير القرون بنص سيّد المرسلين، فقدكان الإمام أبو حنيفة معاصرا لذلك الطِّراز الأول، كما سياتي.

وقد تَطابق الفريقان من أهل السنّة والاعتزال على التعظيم لأبي حنيفة والإجلال.

أما أهل السنَّة فذلك أظهر من الشمس، وأوضح، من أن يدخل فيه لَبسٌ.

وليس يصح في الأذهان شئ

إذا احتاج النهار إلى دليل.

وأما المعتزلة فقد تشرف أكثرهم بالانتساب إليه، والتعويل في التقليد عليه، كأبي علي، وولده أبي هاشم من متقدّميهم، وأبي الحسين البصري، والزمخشري من متأخِّريهم، وهم وإن قدَّرنا دعواهم الاجتهادَ والخروج من التقليد، فذلك إنما كان بعد طلب العلم وطول المدة، وهم قبل ذلك وفي خلاله مُعترفون باتباع أقواله، وبعد ذلك لم يستنكفوا من الانتساب إلى اسمه، والمتابعة في المعارف لرسمه.

وفِي كلام علّامتهم الزمخشري: وتَدَ الله الأرض بالأعلام المنيفة، كما وَطَد الحنفية بعلوم أبي حنيفة، الأئمة الجِلَّة الحنفية، أزمَّة الملة الحنيفية، الجود والحلمُ حاتمي وأحنفي، والدين والعلم حنيفى وحنفى.

وقد عقد الحكم أبو سعيد فصلا في فضل أبي حنيفة وعلمه، ذكره في كتابه "سفينة العلوم".

ص: 451

وقد أطبق أهل التاريخ على تعظيمه، وأفرد بعضهم سيرته رضى الله عنه في كتاب سماه "شقائق النعمان في مناقب النعمان".

ولو كان الإمام أبو حنيفة جاهلا، ومن حِلْية العلم عاطلا ما تَطابقت جبال العلم من الحنفية على الاشتغال مذاهبه، كالقاضي أبي يوسف، ومحمد بن الحسن الشيباني، والطحاوي، وأبي الحسن الكرخى، وأمثالهم وأضعافهم.

فعلماء الطائفة الحنيفة في "الهند" و"الشام"، و"مصر"، و"اليمن"، و"الجزيرة"، و"الحرمين"، و"العراقَين" منذ مائة وخمسين من الهجرة إلى هذا التاريخ يزيد على ستمائة سنة، فهم أُلوف لا ينحصرون وعوالم لا يُحصَون، من أهل العلم والفتوى والوَرَع والتقوى.

فكيف يجترئ هذا المعترض، ويُجوِّز عليهم أنهم تطابقوا على الاستناد إلى عامي جاهل، لا يعرف أن الباء تجرُّ ما بعدها، ولا يدرى ما يخرج من رأسه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ما هذا إلا كلام عامي أو أعمى يخبط من الجهل في ظَلْماء.

وهبك تقول هذا الصبح ليل

أيعمى العالمون عن الضياء

وأما ما قدح به على الإمام أبي حنيفة من عدم العلم باللغة العربية، فلا شك أن هذا كلام مُتحامل مُتنكب عن سبيل المحامل، فقد كان الإمام أبو حنيفة من أهل اللسان القديمة واللغة الفصيحة.

وليس بنحويّ يلوك لسانه

ولكن سليقي يقول فيُعربُ

وذلك لأنه أدرك زمانَ العرب، واستقامةَ اللسان، فعاصرَ جريرا والفرزدق، ورأى أنس بنَ مالك، خادمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين، وقد توفي أنس سنة ثلاث وتسعين من الهجرة، والظاهر أن أبا حنيفة ما رآه وهو في المهد، وإنما رآه بعد التمييز، فدلَّ على أن أبا حنيفة

ص: 452

كان المعمرين، وتأخّرت وفاتُه، إلى سنة خمسين ومائة. وقد جاوز التسعين في العمر

(1)

.

وهذا يقتضى أنه بلغ الحُلمَ، وأدرك بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدر الثمانين سنة، لأنه عليه السلام توفي بعد مُضيِّ عشرٍ من الهجرة، فهذا يدل على تقدم أبي حنيفة، وإدراكه زمان العرب، وهو أقدم الأئمة وأكبرهم سنا، فهذا مالك على تقدمه توفي بعده بنحو ثلاثين سنة.

ولا شك أن تغير اللسان في ذلك الزمان كان يسيرا، وأنه لم يشتغل في ذلك الزمان بعلم اللغة وفن الأدب أحد من مشاهير العلماء المتبوعين المعتمد عليهم في التقليد لعدم مسيس الحاجة إلى ذلك في ذلك العصر، كما أشار إلى ذلك أبو السعادات ابن الأثير في ديباجة كتابه "النهاية"، وكما لا يخفى ذلك على من له أنس بعلم التاريخ.

فلو أجبنا قراءةَ علم العربية في ذلك الزمان على المجتهد لم نقتصر على أبي حنيفة، ولزم أن لا يصح استشهاد علماء العربية بأشعار جرير والفرزدق، وهذا ما لم يقل به أحد، وإنما احتلَّ اللسانُ الاختلالَ الكبيرَ في حق بعض الناس بعد ذلك العصر، وقد سلم من تغير اللسان من لم يُخالط العجم في الأمصار، من خُلص العرب، وأدرك الزمخشري كثيرا منهم ممن لزم البادية - وكان الزمخشري في القرن السادس توفي سنة 538 هـ -، وأكثر ما أسرع التغير إلى العامة، ومن لا تمييز له.

(1)

هذا على قول من قال أن مولد أبي حنيفة سنة إحدى وستين، والصحيح أنه ولد سنة ثمانين، وهذا لا يؤثر على استدلال ابن الوزير، بل يبقى صحيحا على الحالين كما لا يخفى.

ص: 453

وقد قال الأمير العالم الحسين بن محمد في كتاب "شفاء الأوام": إن الإمام يحيى بن الحسين رضى الله عنه كان عربي اللسان، حجازيَّ اللغة، من غير قراءة، وروى علامة الشيعة علي بن عبد الله بن أبي الخير أنه - أي الإمام يحيى - قرأ في العربية أربعين يوما، وهذا قد توفي على رأس ثلاثمائة سنة من الهجرة.

وأما سنة ثمانين من الهجرة فليس أحد من أهل التمييز يعتقد أن أهل العلم في ذلك الزمان كانوا لا يتمكنون من معرفة معاني كلام الله ورسوله إلا بعد القراءة في علم العربية، ولو كان ذلك منهم لنقل ذلك، وعرف شيوخ التابعين فيه.

وليت شعري من كانوا في ذلك شيوخ علقمة بن قيس، وأبي مسلم الخولاني، ومَسْروق بن الأجدع، وجبير بن نفير، كعب الأحبار؟ ومن كانوا شيوخَ من بعدهم من التابعين، كالحسن، وأبي الشَّعْثاء، وزين العابدين، وإبراهيم التيمي، والنَّخعى، وسعيد بن جبير، وطاوس، وعطاء، ومجاهد، والشعبى، وأضرابهم؟ فلم خُصَّ أبو حنيفة بوجوب تعلم العربية، وفي أيّ المصنّفات البسيطة يقرأ في ذلك الزمان؟!

وأما قوله: (بأبا قبيس) فالجواب عليه من وجوه:

الأول: أن هذا يحتاج إلى طريق صحيحة، والمعترض - السيّد جمال الدين علي - قد شدّد في نسبة الصحاح إلى أهلها مع اشتهار سماعها والمحافظة على ضبطها، فكيف بهذه الرواية؟

الثاني: أنه إن ثبت بطريق صحيحة فإنه لم يشتهرْ ولم يصح مثل شهرة صدور الفتيا ودعوى الاجتهاد عن الإمام أبي حنيفة، وقد تواتر علمه وفضله، وأُجْمِع عليه، وليس يُقدح في المعلوم بالمظنون، بل بما لا يستحق أن يُسمى مظنونا.

ص: 454

الثالث: أنا لو قدرنا أن ذلك صح عنه بطرق معلومة، لم يَقْدح به، لأنه ليس بلحن، بل هو لغة صحيحة، حكاه الفرَّاء عن بعض العرب، وأنشد:

إن أباها وأبا أباها

قد بلغا في المجد غايتاها

الرابع: سلمنا أن هذا لحن، لا وجه له، فإنه لا يدلّ على عدم المعرفة. فإن كثيرا من العلماء العربية يتكلم بلسان العامة، ويتعمد النطق باللحن، بل قد يتكلم العربي بالعجمية، ولا يقدح ذلك في عربيته.

وعلى الجملة: فكيف ما دارت المسئلة، فإن ذلك لا يدل على قصور الإمام أبى حنيفة، بل يدل على غفلة المعترض به وتغفيله، وجُرأته على وصم هذا الإمام الجليل وتجهيله.

وأما قدحه عليه بالرواية عن المضعفين، وقوله: إن ذلك ليس إلا لقلة معرفته بالحديث، فهو وَهم فاحش، ولا يتكلم به منصف، والجواب على ذلك يتبين بذكر محامل:

المِحْمِلُ الأول: أنه قد عُلم من مذهب أبى حنيفة رحمه الله أنه يقبل المجهولَ، وإلى ذلك ذهب كثير من العلماء كما قدمنا

(1)

، ولا شك أنهم إنما يقبلونه، حيث لا يعارضه حديث الثقة المعلوم العدالة، لأن الترجيح بزيادة الثقة والحفظ عند التعارض أمر مجمع عليه.

ولا شك أن الغالب على حملة العلم النبوى في ذلك الزمان العدالة.

ويشهد لذلك الحديث الثابت المشهور: "خيركم القرن الذي أنا فيه، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يفشو الكذب".

(1)

في 1: 20 - 26، من "الروض الباسم".

ص: 455

وقد كان علي رضى الله عنه يتَّهم بعض الرواة، فيستحلفه، ثم يقبله، وهذا إنما يكون في حديث من فيه جهالة أو نحوها، ولهذا لم يستحلف المقداد لما أخبره بحكم المِذْي.

وقد روى الحافظ ابن كثير في جزء، جمعه في أحاديث السِّباق عن الإمام أحمد بن حنبل أنه كان يرى العمل بالحديث الذي فيه ضعف إذا لم يكن في الباب حديث صحيح يدفعه، وأنه روى في "المسند" أحاديث كثيرة من هذا القبيل، وذلك على سبيل الاحتياط من غير جهل بضعف الحديث، ولا بمقادير الضعف، وما يحرم معه قبول الحديث بالإجماع، وما فيه خلاف.

وقال الحافظ أبو عبد الله بن مَنْدَة: إن أبا داود يخرج الإسناد الضعيف إذا لم يجد في الباب غيرَه، لأنه أقوى عنده من رأي الرجال. انتهى.

وفي هذا شهادة واضحة على أن رواية الحديث الضعيف لا تَسْتلزمُ الجهلَ بالحديث، فأحمد وأبو داود من أئمة علم الأثر بلا مُدافعة.

وهذا الحديث الضعيف الذي ذكروه ليس حديث الكذَّابين، ولا الفسَّاق المصرِّحين، فذلك عندهم لا يستحقّ اسم الضعيف، إنما يقال فيه: إنه باطل وموضوع، أو ساقط أو متروك، أو نحو ذلك.

وإنما الضعيف حديث الراوي الصدوق الذي ليس بحافظ، أو المعلوم بالاختلاف في رفعه أو إسناده، واضطرب اضطرابا يسيرا، أو نحو ذلك مما اختلف العلماء في التعليل للحديث به أو الجرح للراوي به، ولا يظهر قوة في دليل ردِّه ولا دليل قبوله.

وأكثر التضعيف إنما يكون من جهة الحفظ، وعند الأصوليين أنه لا يُقدَح به، حتى يكون الخطأ راجحا على الصواب، أو مساويا له. وفي المساوي خلاف عندهم، والمسئلة مقرَّرة في كتب علوم الحديث، وكتب الأصول.

ص: 456

فعلى هذا الوجه تكون رواية الإمام أبي حنيفة عن بعض الضعفاء مذهبا واختيارا، لا جَهْلا واغترارا.

المحْمَلُ الثاني: أن يكون ضعف أولئك الرواة الذين روي عنهم مختلفا فيه، ويكون مذهبه وجوب قبول حديثهم، وعدم الاعتداد بذلك التضعيف، إما لكونه غير مفسّر السبب، أو لأجل مذهب، أو غير ذلك، وقد جرى ذلك لغير واحد من العلماء والحفَّاظ، بل لم يَسْلَم من ذلك صاحبا "الصحيح".

وكذلك أئمة هذا العلم: هذا الإمام الشافعي رضي الله عنه أكثر من الرواية عن إبراهيم بن أبي يحيى الأسلمى، ووثَّقه، وقد خالفه الأكثرون في ذلك، وقال ابن عبد البر في "تمهيده": أجمعوا على تجريح ابن أبي يحيى إلا الشافعي.

قلت: أما الإجماع على تجريحه فغير مسلَّم، فقد وافق الشافعيَّ على توثيقه أربعة من كبار الحفَّاظ، وهم ابن جُريج، وحَمْدان بن محمد الأصبهاني، وابن عَدي، ابن عُقْدَة.

وقال الذهبي في "التذكرة": لم يكن ابن أبي يحيى في وزن من يضع الحديث. انتهى. ولكن تضعيفه قول الجماهير، وهو المصحّح عند أئمة الحديث من الشافعي كالنووي، والذهبى، وابن كثير، وابن النَّحْوي - وهو ابن الملَقِّن شيخ الحافظ ابن حجر -، وغيرهم.

وكذلك روى الشافعي عن ابن خالد الزِّنْجِي المكّى، وهو مختلَفٌ في توثيقه.

وكذلك الإمام أحمد يروي عن جاعة مختلَفٍ فيهم.

وكذلك القاسم بن إبراهيم، ويحيى بن الحسين رضى الله عنه قد رويا عن ابن أبي أُويس، وهو مختلَفٌ فيه.

ص: 457

وقد ذكر أهل العلم بالرجال ذلك الاختلاف، وبينوا في علوم الأحاديث ما يقبل من الجرح والتعديل، ومراتبهما، كيفية العمل عند تعارضهما.

المحْمَلُ الثالث: أن يكون إنما رَوَى عن أولئك الضعفاء على سبيل المتابعة والاستشهاد، وقد اعتمد على غير حديثهم من عموم آية أو حديث أو قياس أو استدلال، مثل ما صنع مالك في الرواية عن عبد الكريم بن أبي المخارق البصري، قال ابن عبد البر في "تمهيده": كان مُجمعا على تجريحه، ولم يرو عنه مالك إلا حديثا واحدا معروفا من غير طريقه، وهو حديث وضع اليمين على الشِّمال في الصلاة، وقد رواه مالك في "الموطأ" من طريق صحيحة من رواية أبي حازم التابعي الجليل عن سهل بن سعد الصحابي، رضي الله عنه.

وكذلك القاسم بن إبراهيم وحفيده يحيى بن الحسين من أئمة الزيدية، قد أكثر من رواية أحاديث الأحكام والاحتجاج عليها من حديث ابن أبي ضَمرة، وأهل الرواية متفقون على تجريحه والقَدْح في روايته.

وكذلك قد روى شعبة على جلالته وتشدّده عن أبان بن أبي عيَّاش مع قول شعبة فيه: لأن أشرب من بول حمار حتى أروَى أحبُّ إليَّ من أن أقول: حدثنا أبان بن أبي عيَّاش. رواه شعيب بن جرير عنه، وروى ابن إدريس وغيره عن شعبة أنه قال: لأن يزني الرجل خير من أن يروي عن أبان.

فإن قلتَ: فكيف روى عنه مع اعتقاده تحريمَه، قلتُ: إنما أراد تحريم ذلك على من لا يعرف الحق من الباطل من غيره، وتحريم رواية العارف عن المتروكين في حضرة من لا يعرف، فإن الثوري نهى عن الرواية عن بعض

ص: 458

المتروكين، فقيل له: ألستَ تروي عنه؟ فقال: إني أروي ما أعرف، وهذا من لطيف علم الحديث.

وعن مسلم أنه ربما أخرج الإسناد الضعيف لعلوِّه، واقتصر عليه، وترك الإسناد الصحيح لنزوله ومعرفة أهل الشأن له، روى ذلك النووي عن مسلم تنصيصا، وفيه دلالة على أن رواية العالم لحديث الرجل الضعيف لا تدل على جهله بضعفه.

وكذلك البخاري قد ضعَّف هو بعض من روى عنه في "الصحيح"، ذكر ذلك الذهبي في "الميزان"، وهذا يدل على أنه لم يتعمدْ على ذلك الراوي الذي ضعَّفه لو لا شواهد بحديثه ومتابعات، وهذا من لطائف علم الحديث.

ولذا قال الإمام النووي: إن من صحَّح حديثا على شرط مسلم لكون رواته من رواة "صحيح مسلم" فقد وَهِمَ في ذلك.

المحْمَلُ الرابع: أن تكون رواية الإمام أبي حنيفة من قبيل تدوين ما بلغه من الحديث صحيحه وضعيفه، كما هو عادة كثير من مصنّفي الحفَّاظ أهل السنن والمسانيد، وغرضهم بذلك حفظ الحديث للأمة، لينظر في توابعه وشواهده، فإن صحَّ منه شيء عُمل به، وإن بطل شئ حُذِّر من العمل به، وإن احتمل شيء الخلاف كان للناظر من العلماء أن يعمل فيه باجتهاده.

وفي الرواية المشهورة عن البخاري أنه كان يحفظ ثلاثمائة ألف حديث، منها مائتا ألف غير صحاح.

وقال إسحاق بن راهُويه: أحفظُ مكان مائة ألف حديث، كأني أنظر إليها، وأحفظُ سبعين ألف حديث صحيحة عن ظهر قلبي، وأحفظ أربعة آلاف حديث مُزوَّرة، فقيل له في ذلك، فقال: لأجل إذا مرَّ بي منها حديث في الأحاديث الصحيحة فلَيْتُه فَلْيا.

ص: 459

المحمل الخامس: أن يكون كثير من الأحاديث المنسوبة إلى الإمام أبي حنيفة ضعيفة من قِبَل من روى عنه، لا من جهته، ولا من جهة شيوخه، ومَنْ فوقهم، كما في كثير من الأحاديث المنسوبة إلى جعفر الصادق وكثير من الثقات، فقد روى الذهبي في "الميزان" عن الحافظ ابن حبَّان أن أبان بن جعفر

(1)

وضع على أبي حنيفة أكثر من ثلاثمائة حديث، ما حدَّث بها أبو حنيفة قط. رواه الذهبي في ترجمة أبان بن جعفر.

إذا عرفتَ هذا فاعلم أن الإمام أبا حنيفة رضي الله عنه طلب العلم بعد أن أسنَّ،

(2)

وقد كان الحافظ المشهور بالعناية في هذا الشأن إذا كَبُر وأسنّ تناقَضَ حفظه، فلهذا لم يكن في الحفظ في أرفع المراتب، وكذلك غيره من الأئمة، فقد كان الإمام أحمد بن حنبل أوسع الأئمة الأربعة معرفة بالحديث وحفظا له، ولم يكن عيبا فيهم، ولا قَدْحا في اجتهادهم.

وقد كان حديث ابن المسَيّب، ومحمد بن سيرين، وإبراهيم النخعي أصحّ وأقوى من حديث عطاء، والحسن البصري، وأبي قِلابة، وأبي العالية، وكان ابن المسيّب أصحّ الجماعة حديثا من غير قدح في علم من هو دونه.

ولهذا السبب تكلَّم بعضُ الحفَّاظ في حديث الإمام الأعظم أبي حنيفة رضي الله عنه، فظنَّ بعض الجهَّال أن ذلك يقتضي القدحَ في اجتهاده وإمامته، وليس كذلك، فغاية ما في الباب أن غيره أحفظ منه، وذلك لا يستلزم أن غيره أفضل منه، ولا أعلم منه على الإطلاق، فقد كان أبو هريرة رضى الله عنه أحفظ الصحابة رضي الله عنهم، ولم يكن أعلمَهم ولا أفقهَهم

(1)

ويقال فيه (أباء بن جعفر)، وهو النَّجِيْرَمِي.

(2)

سبق عن الحافظ الذهبي ص 42، أن الإمام طلب الحديث في سنة مائة وبعدها، وكان وقتئذ ابن عشرين سنة، فإن مولده سنة ثمانين على الصحيح، وابن الوزير مشى على القول بأن مولده سنة إحدى وستين.

ص: 460

ولا أفضلَهم، وقد كان معاذ أفقهَهم، وزيد أفرضَهم، وعلي أقضاهم، وأبي أقرأَهم، والخلفاء أفضلَهم، وبعد فالمناقب مواهب يهب الله منها ما يشاء لمن شاء.

وقد أشارَ الذهبي إلى الاعتذار عن ذكر الإمام أبي حنيفة وأمثاله، وإلى أنه لا قَدْح عليه بما ذكر فيه من الاختلاف، فقال في خطبة "الميزان": "وكذا لا أذكر من الأئمة المتبوعين في الفروع أحدا لجلالتهم في الإسلام، وعظمتهم في النفوس، فإن ذكرت أحدا منهم فأذكره على الإنصاف، وما يضرّه ذلك عند الله، ولا عند الناس، إذ إنما يضرّ الإنسان الكذب والإصرار على كثرة الخطأ، والتجرِّي على تدليس الباطل، فإنه خيانة وجنايةٌ، فالمرء المسلم يُطبَع على كل شئ إلا الخيانة والكذب. انتهى كلامه

(1)

.

(1)

ترجمة الإمام أبي حنيفة في بعض نسخ "الميزان" مقحمة من قلم غير المؤلف الذهبي كما بينته في "الإمام ابن ماجه وكتابه السنن"، وكما أوضحه بدلائله وشواهده الشيخ العلامة البارع المحدث عبد الفتاح أبو غدة حفظه الله تعالى في تعليقه على "الرفع والتكميل" ص 121 - 126 من الطبعة الثالثة، وتلك الترجة المقحمة المدسوسة غير منصفة يقينا، والذهبي اشترط على نفسه الإنصاف في ذكر الأئمة المتبوعين، وإذا وازنَ القارئ تلك الترجمة بما ترجمه به الذهبي نفسه في "تذكرة الحفاظ" و "سير أعلام النبلاء" و "تهذيب التهذيب"، لرأى بينهما بُعدَ المشرقين، وقد سبق في ص 87، نص ترجمة أبي حنيفة بتمامه من "تذهيب التهذيب"، كما نقلنا سابقا نصوص الذهبي من "سير أعلام النبلاء" في تقريظه البالغ لأبي حنيفة رضي الله عنه، فمن قرأ تلك النصوص ونصَّ ترجمة "التذهيب" لازداد يقينا بدسِّ الترجمة الموجودة في بعض نسخ "الميزان"، وعذر ابن الوزير في هذا الاعتذار عن الذهبي. ولم يكن إليه أي حاجة. عدم وقوفه على نسخ "الميزان" =

ص: 461

فانظر كيف تأدَّب أبو عبد الله الذهبي، وذكر جلالة الأئمة المتبوعين في الإسلام، ونصَّ على أن ذكرَهم في كتب الجرح والتعديل لا يضرّ عند الله ولا عند الناس، وهكذا فليكن ذكرُ العالم لمن هو أعلم منه بأدب وتواضع وتعظيم وتوقير، جعلنا الله ممن عرف قَدْرَ الأئمة وعصمنا عن مخالفة إجماع الأئمة.

وبهذه الجملة تَمَّ كشف عُوار هاتين الشُّبهتين الضعيفتين، في علم إمام من أكبر أئمة أهل الإسلام، الذي أجمع على إمامته العلماء الأعلام. وقد أحببتُ التقرُّب إلى الله تعالى والتشرُّفَ بخدمة مناقبه العزيزة، والذبِّ عن معارفه الغزيرة، بذكر هذه الأحرف الحقيرة اليسيرة، ولم أقصد التعريفَ بمجهول من فضائله، ولا الرفعَ لمخفوض من مناقبه، فهو من ذلك أرفع مكانا وأجلّ شأنا.

والشمس في صادع أنوارها

غَنِيَّةٌ عن وصف الواصف".

انتهى كلام ابن الوزير بطوله. وفيه وفي ما تقدَّم من نصوص الأئمة المتقدمين، والحفَّاظ الجهابذة المتأخرين من المالكية، والشافعية، والحنابلة، وغيرهم، في تقريظ الإمام أبي حنيفة، والثناء على سعة علمه بالكتاب والسُّنة، والرد على جارحيه والإنكار عليهم بالحُجج الواضحة والأدلة النَّيِّرة: إبطال لطعن الشَّانئين المتحاملين على الإمام رضى الله تعالى عنه، في هذا الزمن المتأخر!

وفي كل ذلك أيضا ما يزيل الغِشاوَة عن عُيونهم الرَّمداء، ونفوسهم المريضة، إذا هُدُوا ووفقوا، وفي كل ما تقدم أيضا ما تقرّ به أعين طلبة العلم

= الصحيحة، وابن الوزير يشكو في "العواصم والقواصم": قلةَ كتب المحدثين عنده.

ص: 462

وأهله، الذين رزقهم الله تعالى التأدب مع أئمة الدين، رضوان الله تعالى عليهم أجمعين.

انتهى كلام أستاذي وسيدي المحدث الناقد العلامة عبد الرشيد النعماني رحمه الله تعالى من كتابه القيّم "مكانة الإمام أبي حنيفة في الحديث".

آخر الجزء الأول ويليه الجزء الثاني، وأوله: باب من اسمه آدم والحمد لله حق حمده

ص: 463

المراجع والمصادر

1 آب بيتي (أردو): العلامة محمد زكريا الكاندهلوي

2 آب بيتي (أردو): مولانا عبد الماجد الدريا آبادي

3 آثار السنن: العلامة ظهير أحسن النيموي

4 آفتاب (بنغله): الجريدة السنوية لدار العلوم برورا، كملا، بنغلاديش

5 ابن ماجه أور علم حديث (أردو): العلامة عبد الرشيد النعماني

6 أبو حنيفة بطل الحرية والتسامح في الإسلام: العلامة عبد الحليم الجندي

7 أبو حنيفة حياته وعصره وآراءه: العلامة محمد أبو زهرة

8 أثر الحديث الشريف: شيخنا العلامة محمد عوامة

9 الإحكام في أصول الأحكام: الإمام علي بن أبي علي الآمدي

10 الإحكام في أصول الأحكام: علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي

11 أحكام القرآن: الإمام أبو بكر محمد الشهير بابن العربي المالكي

12 أحكام القرآن: الإمام أحمد بن علي الجصاص الرازي

13 أحكام القرآن: العلامة المفتي محمد شفيع

14 أحمد العرب: العلامة قباد النواخالوي

15 أحوال علماء فرنكي محل: مولانا ألطاف حسين

16 أخبار أبي حنيفة وأصحابه: الإمام القاضي حسين بن علي الصيمري

17 أخبار الأخيار: العلامة عبد الحق المحدث الدهلوي

18 الأخبار الطوال: الإمام الدينورى

19 أخبار الظراف والمتماجنين: الإمام ابن الجوزي

20 أخبار القضاة: الإمام وكيع، تحقيق عبد العزيز المراغي

21 أخبار النحويين البصريين: العلامة السيرافي

ص: 475

22 ارتقاء العربية في بنغلاديش: الدكتور شبير أحمد الكملائي

23 أزهار الرياض في أخبار القاضي عياض: العلامة المقري

24 أسماء الكتب: العلامة رياضي زاده

25 الإشارات إلى أمكن الزيارات: العلامة السويدي

26 الاشتقاق: الإمام محمد بن الحسن بن دُريد

27 أشرف الفتاوى: المفتي نور محمد البانسخالوي

28 أشرف السوانح:

29 الإصابة في تميز الصحابة: الإمام أحمد بن علي بن حجر العسقلاني

30 إظهار الحق: العلامة رحمة الله الكيرانوي الهندي

31 الأعلام: العلامة خير الدين الزركلي

32 أعلام المهندسين: العلامة أحمد تيمور

33 إعلام الموقعين: الإمام محمد بن أبي بكر الشهير بابن القيم الحنبلي

34 إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء: العلامة الطباخ

35 الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ: الإمام محمد بن عبد الرحمن السخاوي

36 إعلاء السنن: العلامة ظفر أحمد العثماني التهانوي

37 أعيان الشيعة: العلامة محسن الأمين

38 الأغاني: الإمام أبو الفرج الأصفهاني

39 أكابر علماء ديوبند (أردو): حافظ أكبر شاه البخاري

40 أكابر مشاهير أمت كي نظر مين (أردو): مولانا ممشاد على القاسمي

41 إكفار الملحدين: الإمام السيد أنور شاه الكشميري

42 الإكمال: الإمام علي بن هبة الله أبي نصر بن مكولا

43 الإكمال في أسماء الرجال: الشيخ ولي الدين الخطيب

44 الإلماع: القاضي أبو الفضل عياض بن موسى اليحصبي

45 الأم: الإمام محمد بن إدريس الشافعي

ص: 476

46 الإمام أبو حنيفة وأصحابه المحدثون: العلامة ظفر أحمد العثماني

47 إمام ابن ماجه أور علم حديث: العلامة عبد الرشيد النعماني

48 الإمام القدوري وكتابه المختصر: المفتي محمد حفظ الرحمن الكملائي

49 الإمام محمد وكتابه الجامع الصغير: المفتي محمد حفظ الرحمن الكملائي

50 الإمام محمد قاسم النانوتوي: العلامة محمد يعقوب النانوتوى

51 أماني الأحبار في شرح شرح معاني الأخبار: العلامة يوسف الكاندهلوي

52 الإمتاع بسيرة الإمامين: العلامة زاهد بن الحسن الكوثرى

53 الإمتاع والمؤانسة: التوحيدي، تحقيق أحمد أمين، وأحمد الزين

54 إنباه الغمر بأبناء العمر: الإمام أحمد بن علي بن حجر العسقلاني

55 إنباء الرواة على أنباء النحاة: العلامة القفطي

56 الانتقاء: الإمام أبو عمر يوسف بن عبد البر القرطبي

57 الأنساب: الإمام عبد الكريم بن محمد السمعاني

58 الأنساب المتفقة: العلامة ابن القيسراني

59 الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل: العلامة العليمي

60 أوجز المسالك: العلامة محمد زكريا الكاندهلوي

61 الإيثار بمعرفة رواة الآثار: الإمام ابن حجر العسقلاني

62 إيضاح المكنون في الذي على كشف الظنون: الشيخ إسماعيل البغدادي

63 بدائع الزهور: العلامة ابن إياس

64 البداية والنهاية: الإمام عماد الدين إسماعيل بن كثير الدمشقي

65 بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع: الإمام علاء الدين الكاساني

66 البدر الطالع: العلامة محمد بن علي الشوكاني

67 بذل المجهود في شرح سنن أبي داود: العلامة خليل أحمد السهارنبوي.

68 بزم أشرف (أردو): الأستاذ أحمد سعيد

69 بستان المحدثين (أردو): الشاه عبد العزيز المحدث الدهلوي

ص: 477

70 البضاعة المزجاة لمن يطالع المرقاة في شرح المشكاة: الدكتور عبد الحليم

71 بغية الوعاة: الإمام جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي

72 بلدان الخلافة والشرقية: كي لسترنج

73 بلوغ الأماني في سيرة الإمام محمد: العلامة زاهد بن الحسن الكوثري

74 بهجة المجالس: الإمام أبو عمر يوسف بن عبد البر القرطبي

75 البيان والتبيان: الإمام أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ البصري

76 تأنيب الخطيب: العلامة زاهد بن الحسن الكوثري

77 تاج التراجم: الإمام قاسم بن قطلوبغا

78 تاج العروس: الإمام مجد الدين السيّد مرتضى الزبيدي

79 التاج المكلل من مآثر الطراز الآخر والأول: العلامة صديق حسن القنوجي

80 تاريخ إسلام (أردو): مولانا أكبر النجيب آبادي

81 تاريخ بغداد: الإمام أبو بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي

82 تاريخ جرجان: الإمام أبو القاسم حمزة بن يوسف السهمي

83 تاريخ الحكماء: العلامة القفطي

84 تاريخ حكماء الإسلام: البيهقى

85 تاريخ: خليفة بن خياط

86 تاريخ دار العلوم ديوبند (أردو): مولانا محبوب رضوي

87 تاريخ دار العلوم هاتهزاري (بنغله): المفتي جسيم الدين الجاتجامي

88 تاريخ دعوت وعزيمت: العلامة أبو الحسن علي الندوي

89 تاريخ دولة آل سلجوق:: العلامة العماد الأصبهاني

90 تاريخ الطبري (تاريخ الرسل والملوك) تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم

91 تاريخ علم الحديث (بنغله): مولانا نور محمد الأعظمى

92 تاريخ علماء بغداد الإمام ابن رافع السلامى (منتخبة) للفاسي

93 تاريخ علماء المستنصرية: الدكتور ناجى معروف

ص: 478

94 تاريخ العلماء النحويين: العلامة ابن مسعر

95 تاريخ فرشته (أردو): العلامة محمد قاسم

96 التاريخ الكبير: الإمام محمد بن إسماعيل البخاري

97 تاريخ مختصر الدول: العلامة ابن العبري

98 تاريخ ندوة العلماء (أردو): المولوي شمس تبريز خان

99 تاريخ واسط: العلامة بحشل، تحقيق كوركيس عواد

100 تاريخ: ابن الوردي

101 تأليف القلب اللأليف: العلامة الشيخ عبد الحق المحدث الدهلوي

102 التبر المسبوك:

103 تبصير المنتبه بتحرير المشتبه: الإمام أحمد بن علي بن حجر العسقلاني

104 تبيين كذب المفتري: الإمام ابن عسكر

105 تتمة اليتيمة: العلامة عبد الملك بن محمد الثعالبي

106 التحبير: العلامة ابن السمعاني

107 التحبير في المعجم الكبير: تحقيق منيرة ناجى سالم

108 التحرير الوجيز فيما يبتغيه المستجيز: العلامة زاهد بن الحسن الكوثري

109 تحريك شيخ الهند (أردو): مولانا السيّد محمد ميان

110 تحفة الفقهاء: العلامة علاء الدين السمرقندي

111 تذكره أكابر كنكوه (أردو): مولانا خالد سيف الله

112 تذكرة أولي الألباب: العلامة داود الأنطاكي

113 تذكره أولياء باك وهند (أردو): شيخنا المفتي ولي حسن خان التونكي

114 تذكرة الحفاظ: الإمام أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي

115 تذكرة الخليل (أردو): العلامة عاشق إلهي الميرتهي

116 تذكرة الرشيد (أردو): العلامة عاشق إلهي الميرتهي

117 تذكرة شيخ الهند (أردو): المفتي عزير الرحمن البجنوري

ص: 479

118 تذكرة صوفياء بنغال: العلامة عبيد الحق الساتكانوي

119 تذكره مجدد الألف الثاني (أردو): المفتي محمد فاروق

120 تذكره علماء أهل سنت بنجاب (أردو): مولانا محمد نذير رانجها

121 تراث العرب العلمي: طوقان

122 تراجم ستة من فقهاء العالم الإسلامي: العلامة عبد الفتاح أبو غدة

123 ترتيب المدارك: القاضي أبو الفضل عياض بن موسى اليحصبي

124 ترويح القلوب في ذكر ملوك بني أيوب: العلامة الزبيدي

125 التعليق القويم على مقدمة كتاب التعليم: العلامة عبد الرشيد النعماني

126 التعليق الممجد على موطأ الإمام محمد: العلامة عبد الحي اللكنوي

127 التعليقات على ذب ذبابات الدراسات: العلامة عبد الرشيد النعماني

128 تعليم المتعلم طريق التعليم: العلامة برهان الدين الزرنوجي

129 تقدمة نصب الراية: العلامة زاهد بن الحسن الكوثري

130 تقريب التهذيب: الإمام أحمد بن علي بن محمد بن حجر العسقلاني

131 تكملة الصلة: العلامة ابن الأبار

132 تكملة فتح الملهم: العلامة المفتي محمد تقي العثماني

133 التكملة لوفيات الفقة: الإمام المنذري

134 تلخيص مجمع الآداب: العلامة ابن الفوطي

135 تلخيص مجمع الآداب: العلامة ابن الفوطي

136 تنقيح المقال: المقاني

137 تهذيب الأسماء واللغات: الإمام محي الدين بن شرف النووي

138 تهذيب الألفاظ العامية: العلامة محمد علي الدسوقي

139 تهذيب تاريخ دمشق: العلامة عبد القادر بدران

140 تهذيب التهذيب: الإمام أحمد بن علي بن محمد بن حجر العسقلاني

141 تهذيب كمال في أسماء الرجال: الإمام جمال الدين يوسف المزي

ص: 480

142 تهذيب اللغة: الإمام أبو منصور محمد بن أحمد الأزهريِ

143 توضيح الأفكار لمعاني تنقيح الآثار: الأمير محمد بن إسماعيل الصنعاني

144 ثمار القلوب في المضاف والمنسوب: العلامة عبد الملك بن محمد الثعالبي

145 الثقافة الإسلامية: العلامة عبد الحي الحسني

146 جامع بيان العلم وفضله: الإمام أبو عمر يوسف بن عبد البر القرطبي

147 جامع العلوم: العلامة الأحمد نكري

148 جامع كرامات الأولياء: العلامة النبهاني

149 الجامع لأحكام القرآن الكريم: الإمام عمد بن أحمد الأنصاري القرطبي

150 الجامع لمفردات الأدوية: العلامة ابن البيطار

151 الجامع الصغير: الإمام محمد بن الحسن الشيباني

152 الجامع الصغير: الإمام عبد الرحمن السيوطي

153 الجامع المختصر: العلامة ابن الساعي

154 الجرح والتعديل: الإمام ابن أبي حاتم

155 الجمان في تشبيهات القرآن: العلامة ابن ناقيا

156 جمع الجوامع: الإمام جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي

157 جمهرة أنساب العرب: الإمام علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي

158 جوامع السيرة: الإمام علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي

159 جواهر الفتاوى: العلامة المفتي عبد السَّلام الجاتجامي

160 الجواهر المضية: الإمام عبد القادر القرشي

161 الجواهر النقي في الرد على البيهقى: العلامة علاء الدين علي المارديني

162 جودهوي صدي كى علماء بر صغير (أردو): عبد الحي بن فخر الدين

163 حاشية الآجهوري على شرح الزرقاني: البيقونية

164 حالات مشايخ كاندهلا. (أردو): مولانا احتشام الحسن الكاندهلوي

165 الحاوي في سيرة الإمام الطحاوي: العلامة زاهد بن الحسن الكوثري

ص: 481

166 حدائق الحنفية: (أردو) مولانا فقير محمد بن محمد سفارش الجهلمي

167 حسن التقاضي في سيرة الإمام أبي يوسف: العلامة زاهد الكوثري

168 حسن المحاضرة: الإمام جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي

169 حصر الشارد في أسانيد ملا محمد عابد: العلامة محمد عابد السندي

170 الحطة في ذكر الصحاح الستة: العلامة صديق حسن خان القنوجي

171 حلية الأولياء: الإمام أحمد بن عبد الله أبو نعيم الأصبهاني

172 الحوادث الجامعة: الإمام ابن الفوطي

173 حيات شيخ القراء القاري إبراهيم (بنغله): محبوب إلهي الأجانوي

174 حيات مفتى أحمد الحق (بنغله): المفتي جسيم الدين الجاتجامي

175 حياة الإمام أبي حنيفة وفقهه: العلامة سيد عفيفي

176 حيات مولانا أشرف الدين (بنغله): مولانا زبير أشرف الكملائي

177 حيات مولانا أطهر على (بنغله): مولانا شفيق الرحمن الجلال آبادى

178 حيات أمير شريعت (أردو): جانباز مرزا

179 حياة الحيوان: الإمام كمال الدين محمد بن عيسى الدميرى

180 حيات خطيب أعظم (بنغله): الدكتور خالد حسين.

181 حيات شيخ الكل: مولانا شفيق الإسلام الرنكونوي

182 حيات شاه جلال اليمني (بنغله): المفتى بايزيد الداكوي

183 حيات مولانا دلاور حسين (بنغله): مولانا أبو موسى الكملائي

184 حيات شمس الحق الفريدفورى: مولانا عبد الرزاق الفريدفوري

185 حيات العلامة عبد العزيز (بنغله): دار العلوم معين الإسلام هاتهزاري

186 حيات مولانا على أكبر (بنغله): مولانا محبوب الرحمن الكملائي

187 حيات مولانا عمر على (بنغله): مكتبة العرفان، داكا

188 حيات مفتي عميم الإحسان المجددي (بنغله): الدكتور أمين الحق

189 حيات مفتي أعظم فيض الله (أردو): المفتى إظهار الإسلام الجاتجامي

ص: 482

190 حيات مولانا محب الرحمن الفنوائي (بنغله): المفتي حفظ الرحمن الكملائي

191 حيات محدث عصر (أردو): مولانا أنظر شاه الكشميري

192 حيات مولانا محيي الدين خان (بنغله): مولانا محي الدين خان

193 حيات الشيخ يونس (بنغله): شاه يونس إكادمي، هاتهزاري، جاتجام

194 خريدة القصر: العلامة العماد الأصفهاني

195 خزانة الأدب: الإمام البغدادي

196 الخطط التوفيقية: العلامة علي باشا مبارك

197 خطط الشام: العلامة محمد كرد علي

198 الخطط والآثار: العلامة تقي الدين أحمد بن علي المقريزى

199 خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر: أمين بن فضل الله المحبي

200 خلاصة تذهيب تهذيب الكمال: صفى الدين أحمد بن عبد الله الخزرجي

201 خلاصة الذهب المسبوك: العلامة الإربلي

202 خلاصة الفتاوى: العلامة طاهر بن أحمد بن عبد الرشيد البخاري

203 الخميس في أحوال أنفس نفيس: العلامة الدياربكري

204 الخيرات الحسان في مناقب الإمام أبى حنيفة: أحمد بن حجر الهيتمي

205 الدارس في تاريخ المدارس: العلامة النعيمي

206 الدر المختار: العلامة علاء الدين الحصكفي

207 الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة: أحمد بن علي بن حجر العسقلاني

208 الدر المنثور في طبقات ربات الخدور: زينب فواز

209 درة الحجال: العلامة ابن القاضي

210 دلائل النبوة: الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقى

211 دمية القصر وعصرة أهل العصر: العلامة أبو الحسن على الباخرزي

212 دول الإسلام: الإمام أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي

213 الديباج المذهب: الإمام ابن فرحون

ص: 483

214 ديوان: البستي

215 ديوان: أبي حيان الأندلسي

216 ديوان: ابن الرومي

217 ديوان: ابن عنين

218 ديوان: المؤيد في الدين داعي الدعاة

219 ديوان: ابن نباتة المصري

220 ذخيره كرامت: العلامة كرامت على الجونفوري

221 الذريعة إلى تصانيف الشيعة: العلامة الطهراني

222 ذكر أخبار أصبهان: الإمام أبو نعيم الأصبهاني

223 ذيل تاريخ بغداد: العلامة ابن الدبيثي

224 ذيل الجواهر المضية (ملحق بالجواهر): الإمام عبد القادر القرشي

225 ذيل الروضتين: العلامة أبو شامة المقدسي

226 ذيل طبقات الحنابلة: الإمام عبد الرحمن الشهير بابن رجب الحنبلي

227 ذيل المذيل: محمد بن جرير الطبري

228 ذيل مرآة الزمان: العلامة اليونيني

229 ذيول تذكرة الحفاظ: الحسيني وابن فهد والسيوطي بتصحيح الكوثري

230 الرجال: العلامة النجاشي

231 رد المحتار الإمام: الإمام أمين ابن عابدين الشامي

232 رسالة ابن حزم في أصحاب الفتيا: الإمام علي بن حزم الأندلسي

233 رسالة القشيري: تحقيق الدكتور عبد الحليم محمود، ومحمود

234 الرسالة المستطرفة: العلامة محمد بن جعفر الكتاني

235 رفع الإصر عن قضاة مصر: الإمام أحمد بن علي بن حجر العسقلاني

236 روض المناظر: العلامة أبو الوليد محمد بن محمد الشهير بابن الشحنة

237 روضات الجنات: العلامة الخوانساري

ص: 484

238 الروضتين: الإمام أبو شامة

239 رياض النفوس: المالكى تحقيق الدكتور سامى الدهان

240 ريحانة الألباء: العلامة أحمد بن محمد بن عمر الخفاجي

241 زجاجة المصابيح: أبو المحاسن عبد الله الحيدر آبادي

242 سبحة المرجان في آثار هندوستان: العلامة علام على آزاد

243 سبل الهدى والرشاد: الصالحي

244 سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر: العلامة خليل المرادي

245 السلوك: الإمام المقريزى

246 السنن: الإمام أبو عيسى الترمذي

247 السنن: الإمام أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني

248 السنن: الإمام محمد بن يزيد بن ماجه القزويني

249 السنن: الإمام أحمد بن شعيب النسائي

250 السنن الكبرى: الإمام أحمد بن الحسين البيهقى

251 سوانح قاسمي: العلامة مناظر أحسن الكيلاني

252 سوانح مولانا عمر البالنبوري (أردو): المفتي محمد البالنبوري

253 سوانح مولانا يحيى الكاندهلوي (أردو): مولانا مسعود عزيزي الندوي

254 سيرت مولانا محمد علي المونكيري (أردو): السيد محمد الحسني

255 سير أعلام النبلاء: الإمام أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي

256 سيرة المؤيد في الدين داعي الدعاة: تحقيق كامل حسين

257 السيرة النبوية: الإمام ابن هشام

258 شخصيات وتأثرات: العلامة يوسف اللدهيانوي

259 شذرات الذهب: الإمام أبي الفلاح عبد الحي بن العماد الحنبلي

260 شرح تعليم المتعلم: العلامة إبراهيم بن إسماعيل

261 شرح الشواهد: الإمام بدر الدين العيني

ص: 485

262 شرح شمائل الترمذي: الإمام المناوي

263 شرح صحيح مسلم: الإمام محيي الدين بن شرف النووي

264 شرح معاني الآثار: الإمام أبو جعفر أحمد بن محمد الطحاوي

265 شرح نخبة الفكر: الإمام أحمد بن علي بن محمد بن حجر العسقلاني

266 الشريعة (العدد الخصوصي) على مولانا سر فراز خان صفدر (أردو)

267 شفاء الغليل: العلامة خليل

268 الشقائق النعمانية: العلامة أحمد بن مصطفى الطاشكبري زاده

269 شهداء إسلام: مولانا عبد الله فاراني ومولانا إسحاق ملتاني

270 صبح الأعشى: العلامة أبو العباس أحمد بن علي القلقشندي

271 الصحاح: الإمام إسماعيل بن حماد الجوهري

272 الصحيح: الإمام محمد بن إسماعيل البخاري

273 الصحيح: الإمام مسلم بن الحجَّاج القشيري

274 صفة الصفوة: أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الشهير بابن الجوزي

275 الصلة: العلامة أبو القاسم خلف بن عبد الملك ابن بشكوال

276 الضعفاء الصغير: الإمام محمد بن إسماعيل البخاري

277 الضعفاء والمتروكين: الإمام أحمد بن شعيب النسائي

278 الضوء اللامع: الإمام محمد بن عبد الرحمن السخاوي

279 الطالع السعيد: العلامة كمال الدين أبو الفضل جعفر للأدفوي

280 طبقات الأولياء: الإمام سراج الدين عمر بن علي الشهير بابن الملقّن

281 طبقات الحفّاظ: الإمام جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطى

282 طبقات الحنابلة: الإمام ابن أبي يعلى

283 الطبقات: خليفة بن خيَّاط، تحقيق سهيل زكار

284 الطبقات السنية: العلامة تقى الدين عبد القادر التميمى المصري

285 طبقات الشافعية: العلامة جمال الدين عبد الرحيم بن حسن الإسنوي

ص: 486

286 طبقات الشافعية الكبرى: أبو نصر عبد الوهَّاب تاج الدين السبكى

287 طبقات الصوفية: العلامة محمد بن حسين السلمي النيسابوري

288 طبقات علماء أفريقية وتونس: العلامة أبو العرب التميمى

289 طبقات الفقهاء: الإمام أبو إسحاق إبراهيم بن علي الشيرازي

290 طبقات الفقهاء: الإمام أحمد بن مصطفى الطاشكبري زاده

291 طبقات الفقهاء (الوسطى): الإمام تاج الدين عبد الوهاب بن السبكي

292 طبقات القاري (نقل عنها ضمن الفوائد البهيمة)

293 طبقات القراء: الإمام محمد بن محمد الجزري

294 الطبقات الكبرى: الإمام محمد ابن سعد بن منيع الزهري

295 الطبقات الكبرى: الإمام عبد الوهَّاب الشعراني

296 طبقات المفسرين: الإمام محمد بن علي بن أحمد الداودي

297 طبقات المفسرين: الإمام جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي

298 طبقات النجاة واللغويين: الإمام ابن قاضي شهبة

299 طبقات النحويين واللغويين: الإمام أبو بكر محمد بن حسن الزبيدي

300 طرب الأماثل بتراجم الأفاضل: العلامة عبد الحى اللكنوي

301 طلبة الطلبة في الاصطلاحات الفقهية: الإمام عمر بن محمد النسفي

302 ظفر المحصلين (أردو): العلامة محمد حنيف الكنكوهي

303 عارضة الأحوذي شرح سنن الترمذي: محمد الشهير بابن العربي المالكي

304 العبر في خبر من غبر: أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي

305 عجالة المبتدي وفضالة المنتهي: الإمام محمد بن موسى الحازمى الهمداني

306 عجاله نافعه: الإمام الشاه عبد العزيز المحدث الدهلوي

307 العقد الثمين في أخبار البلد الأمين: الإمام التقي الفاسي

308 العقد المنظوم: المولى علي بن بالي

309 عقود الجمان في مناقب الإمام الأعظم: محمد بن يوسف الصالحي

ص: 487

310 العقود اللؤلؤية: الإمام صفى الدين أحمد بن عبد الله الخزرجي

311 علماء ديوبند واتجاههم الديني: العلامة القاري محمد طيب الديوبندي

312 علماء ديوبند وخدماتهم: الدكتور عبد الرحمن البرني

313 علماء فرنكي محل: إيفا ببليكشنس نئي دهلي

314 علماء مظاهر علوم سهارنبور وإنجازاتهم: محمد شاهد السهارنبوري

315 علماء هند كا شاندار ماضي (أردو): مولانا سيد محمد ميان

316 العناقيد الغالية في الأسانيد العالية: العلامة عاشق إلهي البرني

317 عنوان الدارية: العلامة الغبريني

318 عيون الأثر: الإمام ابن سيد الناس

319 عيون الأبناء: العلامة ابن أبي أصيبعة

320 عيون التواريخ: الإمام ابن شاكر الكتب

321 غاية النهاية في طبقات القراء: الإمام ابن الجزري

322 فتح الباري: الإمام أحمد بن علي بن حجر العسقلاني

323 فتح القدر (شرح الهداية): الإمام كمال الدين ابن الهمام السيواسي

324 فتوح مصر وأخبارها: ابن عبد الحكيم

325 الفرق بين الفرق: الإمام أبو منصور البغدادي

326 الفصول الخموس: العلامة ابن معطي

327 فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة: تحقيق فؤاد سيد

328 فقهاء باك وهند (أردو): مولانا محمد إسحاق بهتى

329 فقه السنن والآثار: المفتي عميم الإحسان المجددي

330 فقه أهل العراق وحديثهم: العلامة زاهد بن الحسن الكوثري

331 الفلاكة والمفلوكين: العلامة الدلجي

332 الفهرست: العلامة أبو الفرج ابن النديم

333 فوات الوفيات: العلامة محمد بن شاكر بن أحمد الكتبى

ص: 488

334 الفوائد البهية: الإمام عبد الحي اللكنوي

335 القاموس المحيط: مجد الدين الشيرازي الفيروزابادي

336 قلائد الأزهار في شرح كتاب الآثار: مهدي حسن الشاهجهان بوري

337 قواعد في علوم الحديث: العلامة ظفر أحمد العثماني التهانوي

338 القلائد الجوهرية في تاريخ الصالحية: إسحاق الشهير بابن طولون

339 القول المقتضب فيما وافق لغة أهل مصر: محمد بن أبي السرور البكري

340 كاروان أحرار: جانباز مرزا

341 الكامل: الإمام علاء الدين علي بن محمد بن الأثير الجزري

342 الكتاب الذهبي: المهرجان الألفى لذكري ابن سينا

343 كتائب أعلام الأخيار: العلامة محمود بن سليمان الكفوي

344 الكتيبة الكامنة في أعيان المائة الثامنة: العلامة لسان الدين بن الخطيب

345 كشاف اصطلاح الفنون: العلامة محمد أعلي بن علي التهانوي

346 كشف الظنون: العلامة مصطفى بن عبد الله الشهير بحاجي خليفة

347 الكلام المفيد في تحرير الأسانيد: المفتي روح الأمين الفريدفوري

348 الكواكب السائرة بأعيان المائة العاشرة: العلامة نجم الدين الغزي

349 كنز العمال: الإمام على المتقى بن حسام الدين الهندي

350 الكنز المتوارى: لجنة من تلاميذ الإمام الكاندهلوي

351 لب اللباب فيما يقوله الترمذي وفي الباب: الدكتور حبيب الله مختار

352 لسان العرب: الإمام محمد بن مكرم بن منظور الأفريقي

353 لسان الميزان: الإمام أحمد بن علي بن محمد بن حجر العسقلاني

354 لمحات النظر في سيرة الإمام زفر: العلامة زاهد بن الحسن الكوثرى

355 ما تمس إليه الحاجه لمن يطالع سنن ابن ماجه: عبد الرشيد النعماني

356 مالديب تاريخ وتهذيب: الدكتور القاري محمد يونس

357 مائة من العلماء المهرة في بنغلاديش (بنغله): أشرف علي النظام بوري

ص: 489

358 حياة مائة رجال من علماء بنغلاديش (بنغله): مولانا أمين الإسلام

359 مجمع بحار الأنوار: العلامة محمد طاهر الفتني

360 مجمع الزوائد: الإمام نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي

361 مرآة الجنان: العلامة أبو محمد عبد الله بن أسعد اليافعى اليمني

362 المراسيل: الإمام أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني

363 مروج الذهب: العلامة أبو الحسن علي بن حسين المسعودي

364 المسلمون في الهند: العلامة عبد الحي الحسنى

365 المسند: الإمام أبو داود الطيالسى

366 المسند: الإمام أحمد بن حنبل الشيباني

367 مشايخ أحمد آباد (أردو): مولانا يوسف متالا

368 مشايخ بي باريه (بنغله): المفتي احتشام الحق

369 مشايخ جاتجام (بنغله):

370 مشايخ كملا (بنغله): المفتي حفظ الرحمن الكملائى

371 مشايخ فيني (بنغله): مولانا محمد طيب السلطاني

372 مشكاة المصابيح: الإمام ولي الدين بن عبد الله الخطيب التبريزي

373 المصباح المنير: العلامة أحمد بن محمد بن علي الفيومي

374 المصنف: الإمام عبد الرزاق بن همام الصنعاني

375 معارف السنن: العلامة محمد يوسف البنوري

376 معجم الأدباء: العلامة ياقوت الحموي

377 معجم البلدان: الإمام أبو عبد الله ياقوت الحموي

378 المعجم الصغير: الإمام الطبراني

379 المعجم الكبير: الإمام الطبراني

380 معجم المصنفين: العلامة محمود حسن خان الطونكي

381 معجم مقاييس اللغة: الإمام أبو الحسن أحمد بن فارس

ص: 490

382 معجم المؤلفين: العلامة عمر رضا كحاله

383 معرفة القراء الكبار: الإمام شمس الدين الذهبي

384 مفتاح السعادة: الإمام أحمد بن مصطفى الطاشكبري زاده

385 مفردات القرآن: الإمام راغب الأصبهاني

386 مقالات الكوثري: العلامة زاهد بن الحسن الكوثري

387 مقالات يوسفى (أردو): العلامة يوسف اللدهيانوي

388 مقدمه أحسن الفتاوى (أردو): المفتي رشيد أحمد اللدهيانوي

389 مقدمة أصول البزدوي: العلامة عبد الرشيد النعماني

390 مقدمة أنوار الباري: مولانا سيد أحمد رضا البجنوري

391 مقدمة بلوغ المرام: العلامة عبد الرشيد النعماني

392 مقدمة تنظيم الأشتات (أردو): مولانا جنيد شوق البابو نغري

393 مقدمة عمدة الرعاية: العلامة عبد الحي اللكنوي

394 مقدمة الفيض الجاري في صحيح البخاري: أحمد شفيع الجاتجامي

395 مقدمة كتاب الآثار رواية أبي يوسف: العلامة أبو الوفا الأفغاني

396 مقدمة كتاب الآثار رواية محمد: العلامة عبد الرشيد النعماني

397 مقدمة كتاب الحجة على أهل المدينة: العلامة يوسف البنوري

398 مقدمة كشف الباري شرح البخاري: العلامة سليم الله خان البكستاني

399 مقدمة كنز المتواري شرح البخاري: شيخنا ملك عبد الحفيظ المكي

400 مقدمة الهداية: العلامة عبد الحي اللكنوي

401 مكانة أبي حنيفة في الحديث: العلامة عبد الرشيد النعماني

402 مكانة أبي حنيفة في الفقه والحديث: محمد حفظ الرحمن الكملائي

403 مناقب الإمام أبي حنيفة وصاحبيه: محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي

404 مناقب الإمام الأعظم: العلامة محمد بن محمد بن البزاز الكردري

405 مناقب الإمام الأعظم: العلامة موفق بن أحمد المكي

ص: 491

406 منتهى المقال: العلامة أبو علي محمد بن إسماعيل المارندواني

407 المنهل الصافي: العلامة جمال الدين أبي المحاسن يوسف الظاهري

408 المواهب الشريفة في مناقب الإمام أبي حنيفة: العلامة عاشق إلهي البرني

409 الموسوعة الإسلامية (بنغله): المؤسّسة الإسلامية داكا، بنغلاديش

410 الموطأ: الإمام مالك بن أنس

411 المنتظم في تاريخ الملوك والأمم: الإمام عبد الرحمن بن علي بن الجوزي

412 ميزان الاعتدال: الإمام أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي

413 ميزان الأصول في نتائج العقول: علاء الدين محمد بن أحمد الأصولي

414 الميزان الكبرى: الإمام عبد الوهاب الشعراني

415 النافع الكبير على الجامع الصغير: العلامة عبد الحى اللكنوي

416 نتائج الأفكار: العلامة شمس الدين أحمد بن قودر الشهير بقاضى زاده

417 النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة: الإمام يوسف بن تغري بردي

418 نزهة الألباء: العلامة أبو البركات عبد الرحمن بن محمد الأنباري

419 نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنواظر: العلامة السيد عبد الحي الحسني

420 نفحة العنبر في هدي الشيخ أنور: العلامة محمد يوسف البنوري

421 نصب الراية: الإمام جمال الدين عبد الله بن يوسف الزيلعي

422 نفح الطيب: العلامة عبد الرحمن السيوطي

423 نفح الطيب من ذكر المنزل والحبيب: النواب صديق حسن القنوجي

424 نفحات الأنس: العلامة عبد الرحمن الجامي

425 نقش حيات (أردو): شيخ الإسلام السيّد حسين أحمد المدني

426 نقوش رفتكان (أردو): المفتي محمد تقي العثماني

427 النور السافر في أخبار القرن العاشر: العلامة عبد القادر العيدروس

428 النهاية: الإمام مبارك بن محمد بن الأثير الجزري

429 الوافي بالوفيات: العلامة صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي

ص: 492

430 وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان: الإمام أحمد بن محمد خلكان

431 الولاة والقضاة: العلامة الكندي

432 وه كوه كن (أردو): العلامة نور عالم خليل الأميني

433 هدية العارفين في أسماء المؤلفين: العلامة إسماعيل باشا البغدادي

434 الهند في العهد الإسلامي: العلامة عبد الحي الحسني

435 ياد رفتكان (أردو): العلامة سليمان الندوي

436 اليانع الجني في أسانيد الشيخ عبد الغني: العلامة محمد بن يحيى الترهتي

ص: 493