المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌تقريظ الشيخ الدكتور علي بن عبد العزيز الشبل حفظه الله الحمد - شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري - ابن باز

[ابن باز]

فهرس الكتاب

‌تقريظ الشيخ الدكتور علي بن عبد العزيز الشبل حفظه الله

الحمد لله وحده، وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنَا محمدٍ، وعلى آله وصحبِه، وبعد:

فهذه دُرَّةٌ علميةٌ من درر شيخنا العلامة الفقيه/ عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الرحمن بن باز (1330 - 1420 هـ)، وتحفةٌ من دروسه العلميةِ المباركة في شرح آخر كتاب من «صحيح الإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري» ، وهو كتاب التوحيد، فجاءت تعليقاته وتقريراته مطردةً مع منهجيةِ شيخنا في شروحه وتدريسه.

والمؤمَّل جمع جميع تقريرات الشيخ ابن باز على «صحيح البخاري» في مجموعةٍ واحدةٍ.

وقد بشرني الأخ الكريم الشيخ/ محمد بن أبكر بن عبد الرحيم القرعاني بسعيهم على ذلك؛ فشكرَ الله له جهده وعنايته وأثابه.

وأجزلَ سبحانه وتعالى المثوبةَ لشيخنا ابن باز، وللإمام البخاري، وعلماء المسلمين خيرًا، ورفع درجاتهم، ورضي عنا وعنهم، وجمعنا بهم في الفردوس الأعلى، ووالدينا، ومشايخنا والمسلمين؛ إنه سبحانه لطيفٌ لما يشاء، إنه هو العليم الحكيم.

وكتبه/ علي بن عبد العزيز بن علي الشبل

الرياض ظهر 20/ 2/ 1439 هـ

ص: 5

‌مقدمة مؤسسة الشيخ عبد العزيز بن باز الخيرية

الحمد للَّه وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:

فيطيب لـ «مؤسسة عبد العزيز بن باز الخيرية» أن تضع بين يدي القارئ الكريم هذا ا لشرح لسماحة شيخنا الشيخ: عبد العزيز بن عبد اللَّه بن باز رحمه الله على كتاب التوحيد من كتاب «صحيح البخاري» للإمام الحافظ المحدث أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله.

وقد تولّى الاعتناء بهذا الجزء من الكتاب وإعداده للنشر أحد تلاميذ سماحته، والباحث المتعاون في المؤسسة الشيخ/ محمد بن أبكر بن عبد الرحيم القرعاني، وفقه اللَّه، حيث قام بتفريغ المادة الصوتية، ومطابقتها، وضبطها وفق القواعد العلمية المقررة في المؤسسة، إضافة إلى خدمات العزو، والتخريج الموجز، نسأل اللَّه تعالى أن ينفع بهذا العمل وأن يجعله خالصًا لوجهه الكريم.

وقد تفضل بمراجعة الكتاب فضيلة الشيخ الدكتور/ علي بن عبد العزيز الشبل، وفضيلة الشيخ الدكتور/ سعيد بن وهف القحطاني، والشيخ/ فهد بن عثمان بن باز، وغيرهم من المشايخ، ضاعف الله لهم الأجر والمثوبة.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يبارك في هذا العمل، ويجزل الأجر والمثوبة لكل من أسهم في إخراجه، وأن يجعل هذا الشرح من العلم النافع الذي

ص: 7

يجري أجره على سماحة والدنا الشيخ/ عبد العزيز بن باز رحمه الله في قبره، وأن يجمعنا به والقارئ الكريم في الفردوس الأعلى مع الأحبة محمد صلى الله عليه وسلم وصحبه؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه. وصلى اللَّه وسلم على نبيّنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

مؤسسة الشيخ عبد العزيز بن باز الخيرية

ص: 8

بسم الله الرحمن الرحيم

‌مقدمةُ المعتني بالكتابِ

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

فهذا شرحُ كتاب التوحيد من «صحيح البخاري» ، لسماحة شيخنا الإمام العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله.

وكان ذلك دروسًا ألقاها سماحته رحمه الله في جامع الإمام تركي بن عبد الله (الجامع الكبير)، في الرياض عام 1409 هـ، في درس الفجر بقراءة الشيخين الجليلين عبد العزيز بن عبد الله الراجحي، وعبد العزيز بن إبراهيم بن قاسم حفظهما الله.

وهو شرحٌ نفيسٌ جدًّا، مُلِئ بالدرر والفوائد، والتقريرات العلميَّةِ الدَّقيقة لسماحته رحمه الله في بيان عقيدة أهل السنة والجماعة، والرَّدِّ على المخالفين.

ولقد أنعمَ المولى جلَّ وعلى عليَّ أن هيّأ لي شرف الاعتناء بهذا ا لشَّرحِ العظيم وإعداده بعد أخذ الإذن من مؤسسة الشيخ عبد العزيز بن باز الخيرية، جزى الله القائمين عليها الجزاء الأوفى.

ص: 10

وكنت ممن أنعم الله عليهم بالتتلمذ على سماحة الشيخ رحمه الله منذ عام 1405 هـ إلى وفاته رحمه الله.

ولأهمية هذا الشَّرح، وحاجة الأمة إلى إخراجه مطبوعًا -ليعم النفع به، وتكمل الفائدة، ويسهل الرجوع إلى مسائله- قمتُ بتحويل مسموعه إلى مكتوبٍ من الأشرطة السمعية، ومقابلة المكتوب بالمسموع، وتخريج الأحاديث، فما كان من صوابٍ فمن الله وحده، وما كان من نقص أو خطإٍ فمنِّي ومن الشيطان وأستغفر الله منه، ورحم الله من وجد خللًا فنبّهني عليه على البريد الإلكتروني لإصلاحه.

وجزى الله سماحة شيخنا الجزاء الأوفى على شرحه القيِّم لهذا الكتاب العظيم، ورحم الله الإمام محمد بن إسماعيل البخاري على تأليفه «صحيح البخاري» ، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفع بهذا الشرح المبارك كما نفع بأصله، وأن يجعله من العلم النافع الذي يجري أجره لسماحة الشيخ في قبره، وأن يجعله في ميزان حسناته، وميزان حسنات من سجَّله وأخرجه ونشره، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل، إنه خير مسئولٍ، وأكرم مأمول.

وفي ختامِ هذا التقديم أتقدمُ بالشُّكر الجزيل والعرفان الجميل لسماحة والدنا الشيخ/ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ مفتي عام المملكة، ورئيس هيئة كبار العلماء، وإدارة البحوث العلمية والإفتاء، لإشرافه المباشر على إخراج علم سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله.

ص: 11

والشُّكر موصولٌ لفضيلة الشيخ الدكتور/ علي بن عبد العزيز الشبل، ولفضيلة الشيخ الدكتور/ سعيد بن وهف القحطاني، ولفضيلة الشيخ/ فهد بن عثمان بن باز. الذين بذلوا وسعهم وجهدهم في مراجعة هذا الكتاب، كما تفضل الدكتور/ الشبل بالتقديم له.

ثم الشُّكر موصولٌ لمؤسسة الشيخ عبد العزيز بن باز الخيرية، ممثلة في أمينها، ومديرها، وكافَّة العاملين في المؤسسة على إتاحتهم لي هذه الفرصة الثمينة لإخراج هذا الكتاب المفيد النافع.

والشكر موصولٌ أيضًا لشيخنا الجليل/ عبد الله بن محمد المعتاز على اهتمامه بنشر علم سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله، وتشجيعه على ذلك.

والشُّكر موصولٌ لجميع المشايخ الذين ساهموا معي في مراجعة الكتاب وإبداء الملاحظات والاستدراكات، والذين بذلوا جهدهم في إخراج هذا الكتاب القيم.

كما أشكرُ الأخت الكريمة نوال بنت عبد العزيز الجبرين - وفقها الله - وقد تبرعت بتكاليف طباعةِ الملازم وتجهيز الكتاب.

وكما أشْكرُ كل من ساهم في طباعة الكتاب، وتمويله، وأن يجعلها في موازين حسناتهم يوم الدِّين.

وأسأل الله تعالى أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، وأن ينفع به الإسلام والمسلمين، وأن ينفعني به في الحياة وبعد الممات؛ إنه جوادٌ كريمٌ مجيبُ الدعوات.

ص: 12

والحمدُ لله الذي بنعمتهِ تتم الصالحات.

وصلَّى الله على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلِّم تسليمًا كثيرًا.

كتبه/

محمد بن أبكر بن عبد الرحيم القرعاني

تلميذ سماحته، والباحث المتعاون

في مؤسسة الشيخ عبد العزيز بن باز الخيرية

الرياض 25/ 3/ 1439 هـ

جوال: 0541310646

البريد الإلكتروني:[email protected]

ص: 13

‌ترجمة الإمام البخاري رحمه الله

‌نسبه:

هو أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه الجعفي البخاري.

‌مولده:

يوم الجمعة بعد الصلاة، لثلاث عشرة من شوال سنة 194 هـ ببخارى، مدينة معروفة في أزبكستان، فهو بخاريٌّ، فارسيُّ الأصل، أما تسميته بالجعفي فهي نسبة ولاء الإسلام؛ لأن جدَّه الأعلى المغيرة أسلم على يد اليمان الجعفي؛ فهو مولى له بولاء الإسلام.

‌نشأته وطلبه العلم:

رُبّي بالحلال الطيِّب، حيث قال أبوه إسماعيل المحدث، عند وفاته:«لا أعلم في جميع مالي درهمًا من شبهة» .

أول سماعه سنة 205 هـ بداية من أهل بلده، وقد أُلهم حفظ الحديث منذ الصغر.

أول ترحاله سنة 210 هـ، حج مع أخيه وأمه فبقي بمكة في طلب الحديث، ثم رحل إلى أكثر محدثي الأمصار: في خراسان، والشام، ومصر، ومدن

ص: 14

العراق، وقدم بغداد مرارًا.

كتب عن ألف وثمانين نفسًا، وقيل له: أتحفظ جميع ما أدخلته في المصنف؟ فقال: «لا يخفى علي جميع ما فيه» . وكان يقول: «أحفظ مائة ألف حديث صحيحٍ، ومائتي ألف حديث غير صحيح» ، وعنه في رواية:«وقلَّ اسم في التاريخ إلا وله عندي قصة» .

‌صفاته الخَلْقية والخُلُقية:

نحيف الجسم، ليس بالطويل ولا بالقصير، طيب النفس، رقيق الشعور، قليل الأكل، مفرط الكرم، كثير الإحسان إلى الطلبة، ممتلئ بالنشاط والإخلاص وحب العمل - مع شدة زهده وكثرة ورعه - كما تعود الرياضة فكان يجيد الرمي مصيبًا فيه.

‌وفاته:

ليلة السبت الموافقة ليلة عيد الفطر، ودفن يوم العيد بعد صلاة الظهر، عام 256 هـ في خرتنك - قرية من قرى سمرقند - وعنه قال الحافظ:«فقد رُبي في حجر العلم، وارتضع ثدي الفضل، فكان فطامه على هذا اللِّباء» .

* * *

ص: 15

‌ترجمة موجزة لشارح الكتاب سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله

(1)

‌اسمه ونسبه وكنيته ولقبه:

هو سماحة الإمام المجتهد، بقية السلف، ومفتي المسلمين في زمانه العلاَّمة الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله ابن باز.

كنيته: أبو عبد الله، وهو أكبر أولاده. لقبه المشهور به: ابن باز.

‌مولده ونشأته وأسرته:

ولد في مدينة الرياض في اليوم الثاني عشر من شهر ذي الحجة من عام ثلاثين وثلاثمائة وألف من الهجرة النبوية (12/ 12/ 1330 هـ) وبها نشأ وشبَّ وشاب وكبر، ولم يخرج منها إلا ناويًّا الحج أو العمرة قاصدًا مكة، أو

(1)

ينظر ترجمته: في «مجموع فتاوى ومقالات متنوعة» لسماحته (1/ 9 ــ 12) و «الإنجاز في ترجمة الإمام عبد العزيز بن باز» للشيخ عبد الرحمن بن يوسف الرحمة (ص 27، 28، 29، 34، 45، 377) وكتاب «جوانب من سيرة الإمام عبد العزيز بن باز» ، راوية الشيخ محمد الموسى إعداد: محمد بن إبراهيم الحمد (33) و «الإبريزيِّة في التسعين البازية» ، د. حمد بن إبراهيم الشتوي (18، 20، 21، 30، 189) وترجمة سماحة الشيخ عبد العزيز ابن عبد الله بن باز، من إعداد واعتناء الشيخ عبد العزيز بن إبراهيم بن قاسم (13، 23، 26، 138) وغيرها

ص: 16

العمل في كل من الخرج، والمدينة، والطائف، وجدة.

وقد نشأ في بيت عامر بالصَّلاح وحبّ الخير، في حضن والدته، فقد توفي والده عام ثلاث وثلاثين وثلاث مئة وألف هجرية [1333 هـ]، وكان عمره آنذاك دون الثالثة، فعاش يتيمًا في حجر أمه، التي أحسنت تربيته ونشأته، مع شقيقه محمد، وأخيه من أمه إبراهيم، وأخته من أمه منيرة، وكلهم أكبر سنًا من سماحته.

وكان لوالدته رحمها الله التي توفيت عام [1356 هـ] دور بارز، وأثر بالغ في توجهه نحو العلم الشرعي، وطلبه له ومثابرته عليه، ففضلها عليه كبير، حيث اعتنت بتربيته وغرست فيه الصفات الحميدة، كما كانت البيئة التي عاش فيها بيئة علمية، فقد كان في مدينة الرياض كبار أئمة الدعوة السلفية في هذا العصر.

‌حياته العلمية والعملية:

بدأ حياته العلمية: بالدراسة منذ الصغر؛ فحفظ القرآن الكريم قبل البلوغ، على يد الشيخ عبد الله بن مفيريج، ثم تلقى العلوم الشرعية والعربية، على يد كوكبة من علماء الدعوة، ذكر منهم سماحته ستة شيوخ، وكان أول شيوخه فيما ذكره د. سليمان أبا الخيل: الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب

(1)

، ومن أبرز وأشهر شيوخه مفتي الديار السعودية سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ رحمه الله، والذي أخذ عنه جميع العلوم الشرعية حيث لازمه عشر سنوات من عام (1347 ــ 1357 هـ).

أما تلاميذه: فأكثر من أن نحصيهم في هذه الأسطر لكثرتهم وطول المدة،

ص: 17

حدود سبعون عامًا، فقد تتلمذ على يديه خلق كثير، ذكر منهم الشيخ عبد الرحمن ابن يوسف الرحمة في ترجمته لسماحته أكثر من (474) طالبًا

(1)

.

وأمَّا حياته العملية:

فقد تولى عدة أعمال، منها: القضاء في منطقة الخرج بالدلم مدة أربعة عشر عامًا وأشهرًا من عام (1357 إلى 1371 هـ)، ومنها: التدريس بالرياض في المعهد العلمي وكلية الشريعة، من سنة (1372 ـ 1380 هـ) درَّس الفقه والتوحيد والحديث، حدود تسع سنوات وبضعة أشهر، ومنها: العمل إداريًّا في التعليم من مطلع عام (1381 ـ 1395 هـ) نائبًا لرئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة حدود (10) أعوام، ثم رئيسًا لها حدود (5) أعوام.

وفي (14/ 10/ 1395 هـ) صدر أمر ملكي بتعيينه في منصب الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية، والإفتاء والدعوة والإرشاد، حتى مطلع سنة (1414 هـ).

وفي (20/ 1/ 1414 هـ) صدر أمر ملكي بتعيينه في منصب المفتي العام للمملكة، ورئيسًا لهيئة كبار العلماء، ورئيسًا لإدارة البحوث العلمية والإفتاء، ورئيسًا للجنة الدائمة للإفتاء، وبقي في هذا المنصب إلى أن توفاه الله في يوم (27/ 1/ 1420 هـ) رحمه الله رحمة واسعة.

وإلى جانب هذا العمل الوظيفي الرسمي كان سماحته عضوًا أو رئيسًا لكثير من المجالس العلمية الرسمية في المملكة وفي العالم الإسلامي: كرابطة

(1)

ينظر: «الإنجاز في ترجمة الإمام عبد العزيز بن باز» للشيخ عبد الرحمن الرحمة (ص 84 ــ 124).

ص: 18

العالم الإسلامي، والمجمع الفقهي التابع للرابطة، والمجمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، وعضوية المجلس الأعلى للجامعة الإسلامية في المدينة، وعضوية الهيئة العليا للدعوة في المملكة، وغيرها من العضويات، وما من منصب تقلَّده إلا وكانت له فيه إبداعات وبصمات وأوليات خالدة رحمه الله.

‌صفاته الخَلقية والخُلقية:

أمَّا صفاته الخَلقيَّة: فقد كان ربعة من الرجال ليس بالطويل ولا بالقصير، وإلى الطول أقرب، حنطي اللون، مستدير الوجه، ناتئ الجبهة، غاير العينين، أقنى الأنف قليلا، خفيف الشارب قليل اللحية على العارضين كثة في الذقن، ويمتاز بالتوسط في عموم أعضاء جسمه.

أمَّا صفاته الخُلقية: فقد جبل اللهُ الشيخ على صفات نبيلة، وشمائل فريدة، وسجايا كريمة قلَّ أن تجتمع في شخص في عصرنا هذا، ولا يمكن حصرها وتعدادها خصلة، خصلة، فقد ذكر الشيخ عبد الرحمن الرحمة في ترجمته للشيخ تسعين صفة ومنقبة تميَّز بها سماحته رحمه الله، وقد ذكر الشيخ محمد بن إبراهيم الحمد أبرز أربعين صفة خلقية لسماحته

(1)

.

وقد قال عنه سماحة المفتي العام للمملكة فضيلة الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ: «ضرب في كل ميدان من ميادين الخير بسهم، فسبحان من جمع له الخير من أطرافه، وبارك له في عمره وعمله .. ، وهذا من أمارات الخير له

(1)

ينظر: «الإنجاز في ترجمة الإمام عبد العزيز بن باز» للشيخ عبد الرحمن الرحمة (37، 45 ــ 60) وكتاب «جوانب من سيرة الإمام عبد العزيز بن باز» ، للحمد والموسى (39 ــ 41).

ص: 19

غفر الله له ورحمه»

(1)

.

‌مؤلفاته وفتاواه ودروسه:

أمَّا مؤلفاته المطبوعة فكثيرة جدًّا: وأكثرها قد جمع في كتابه المشهور «مجموع فتاوى ومقالات متنوعة» ، الذي قام بجمعه معالي الدكتور الشيخ محمَّد ابن سعد الشويعر - حفظه الله - في ثلاثين مجلدًا، وقد جمع فيه أكثر تراث سماحة الشيخ رحمه الله

(2)

.

كما حُوِّلت تسجيلات برنامجه الإذاعي إلى كتاب بعنوان: «فتاوى نور على الدرب» ، وقد طُبع منها حتى إعداد هذه الترجمة (31) مجلدًا والتي ستبلغ (35) مجلدًا، وقد تم إكمال العمل فيها بالرئاسة -إدارة البحوث العلمية والإفتاء.

وأصدرت مؤسسة الشيخ عبد العزيز بن باز الخيرية، بعض شروح وتعليقات سماحته على بعض كتب أهل العلم منها:«شرح التبصير في معالم الدين» لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري رحمه الله، وتعليق سماحته على «مقدمة تفسير الحافظ ابن كثير مع تعليق على تفسيره لسورة الفاتحة» ، وشرح

(1)

اقتباس بتصرف من تقديمه لكتاب فتاوى نور على الدرب لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز (1/ 4).

(2)

ذكر سماحته في «مجموع فتاوى ومقالات متنوعة» ثلاثة وعشرين مؤلفًا (1/ 11، 12) وزاد عليها تلميذه الشيخ عبد العزيز بن إبراهيم بن قاسم (24 عنونًا) في مقدمة كتاب «التحفة الكريمة» (ص 20 - 26) وأفرد لها محمد يوسف المجذوب كُتبًا صغيرًا، وقد طبع في حياة سماحة الشيخ رحمه الله، كما أفردها بمؤلَّف صالح بن راشد الهويمل بعنوان:«الإيجاز في سيرة ومؤلفات ابن باز» .

ص: 20

«عمدة الأحكام» للحافظ عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي رحمه الله، وشرح كتاب «الواسطية» ، و «الفتوى الحموية» كلاهما لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وشرح كتاب «كشف الشبهات» ، وتعليقات على كتاب «القواعد الأربع» ، وكتاب «فضل الإسلام» ، وشرح كتاب «التوحيد» ، جميع هذه الكتب الأربعة الأخيرة للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، وتعليقات سماحته على كتاب «وظائف رمضان» تلخيص الشيخ العلامة عبد الرحمن ابن قاسم العاصمي رحمه الله، من لطائف المعارف لابن رجب رحمه الله.

كما أشرفت المؤسسة على ما صدر من بعض مخطوطات سماحته منها: بتحقيق تلميذه الشيخ عبد العزيز بن إبراهيم بن قاسم، حاشية في «بلوغ المرام» في مجلدين، و «التحفة الكريمة في بيان كثير من الأحاديث الموضوعة والسقيمة» و «تحفة أهل العلم والإيمان بمختارات من الأحاديث الصحيحة والحسان» و «تحفة الإخوان بتراجم بعض الأعيان» .

وتعليقات سماحته على كتاب «تقريب التهذيب» صدر بعنوان: النكت، بتحقيق د. عبد الله بن فوزان الفوزان، وكتاب «الفوائد العلمية من الدروس البازية» الذي جمعه الشيخ الدكتور عبد السلام بن عبد الله السليمان، من دروس عامي 98، 1399 هـ).

وما صدر، بعنوان:«حديث الصباح، وحديث المساء، ودروس وفتاوى المسجد الحرم» من جمع الشيخ صلاح الدين أحمد عثمان، أمين مكتبة سماحته في حياة الشيخ رحمه الله.

وقريبًا ستصدر المؤسسة، شرح سماحته لكتاب «الوابل الصيب شرح

ص: 21

صحيح الكلم الطيب» لابن القيم رحمه الله، إن شاء الله وغيرها من التعليقات والشروح بعد خدمتها علميًّا.

‌زوجاته وعقبه ووفاته ورثاؤه:

تزوج رحمه الله أربع نسوة:

أولى زوجاته: تزوجها عام 1354 هـ وطلقها عام 1356 هـ ولم ينجب منها.

ثاني زوجاته: تزوجها عام 1357 هـ وهي أم أولاده الكبار: عبد الله، وعبد الرحمن، وثلاث بنات.

وثالث زوجاته: هي ابنة عمِّه، مكثت عنده ستة أشهر، ثم طلقها، ولم تلد له، ذكرها تلميذه عبد العزيز بن إبراهيم بن قاسم في ترجمته له نقلًا عن الشيخ عبد العزيز بن ناصر بن باز حفظهم الله جميعًا، وهو رئيس اللجنة العلمية بالمؤسسة.

ورابع زوجاته: تزوجها عام 1386 هـ وهي أم أولاده الصغار، أحمد، وخالد، وثلاث بنات.

وبهذا يُعلم أن سماحته قد تزوج أربع نسوة أنجب من الاثنتين أربعة أبناء، وست بنات، فمجموع ذريته عشرة، أسبغ الله عليهم النعم، وكفاهم الله الشرور والنِّقم، وجعلهم خير عقب لخير سلف بارِّين بوالديهم، آمين، آمين

(1)

.

(1)

ينظر: «الإنجاز في ترجمة الإمام عبد العزيز بن باز» (ص 34، 35) و «الإبريزية في التسعين» للشتوي (ص 21) وترجمة سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز للشيخ عبد العزيز ابن قاسم (ص 23).

ص: 22

‌وفاته:

توفي رحمه الله قُبيل فجر يوم الخميس السابع والعشرين من شهر محرم سنة عشرين وأربعمائة وألف من الهجرة، بمدينة الطائف (27/ 1/ 1420 هـ) ونقل جثمانه إلى مكة وغسِّل في بيته، وصلي عليه في المسجد الحرام بعد صلاة الجمعة، وحضر الجنازة جمٌّ غفير، قيل أكثر من مليونين، كما صلِّي عليه صلاة الغائب في عموم جوامع المملكة العربية السعودية، وفي عدّة دول إسلامية.

وقبر في مقبرة العدل، عن عمر يناهز التسعين عامًا، رحمه الله رحمة واسعة، وجزاه خيرًا على أعماله العظيمة التي قام بها لخدمة الإسلام والمسلمين، وجعل الجنة مثواه، إنه قريبٌ مجيبٌ.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

* * *

ص: 23

‌بابُ مَا جَاءَ فِي دُعَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أُمَّتَهُ إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ تبارك وتعالى

7371 -

حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ يَحْيَى ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَيْفِيٍّ، عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما:«أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى اليَمَنِ»

(1)

.

7372 -

وحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الأَسْوَدِ، حَدَّثَنَا الفَضْلُ ابْنُ العَلَاءِ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَيْفِيٍّ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا مَعْبَدٍ، مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، يَقُولُ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: لَمَّا بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ إِلَى نَحْوِ أَهْلِ اليَمَنِ قَالَ لَهُ: «إِنَّكَ تَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ، فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَى أَنْ يُوَحِّدُوا اللَّهَ تَعَالَى، فَإِذَا عَرَفُوا ذَلِكَ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمِهِمْ وَلَيْلَتِهِمْ، فَإِذَا صَلَّوْا، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ زَكَاةً فِي أَمْوَالِهِمْ، تُؤْخَذُ مِنْ غَنِيِّهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فَقِيرِهِمْ، فَإِذَا أَقَرُّوا بِذَلِكَ فَخُذْ مِنْهُمْ، وَتَوَقَّ كَرَائِمَ أَمْوَالِ النَّاسِ»

(2)

.

(1)

ورواه مسلم (19).

(2)

ورواه مسلم (19).

ص: 25

7373 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي حَصِينٍ، وَالأَشْعَثِ بْنِ سُلَيْمٍ، سَمِعَا الأَسْوَدَ بْنَ هِلَالٍ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «يَا مُعَاذُ أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى العِبَادِ؟» . قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: «أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، أَتَدْرِي مَا حَقُّهُمْ عَلَيْهِ؟» . قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: «أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ»

(1)

.

7374 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، أَنَّ رَجُلًا سَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ يُرَدِّدُهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ، وَكَأَنَّ الرَّجُلَ يَتَقَالُّهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّهَا لَتَعْدِلُ ثُلُثَ القُرْآنِ» .

زَادَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، أَخْبَرَنِي أَخِي قَتَادَةُ بْنُ النُّعْمَانِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

7375 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنَا عَمْرٌو، عَنِ ابْنِ أَبِي هِلَالٍ، أَنَّ أَبَا الرِّجَالِ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَهُ عَنْ أُمِّهِ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَكَانَتْ فِي حَجْرِ عَائِشَةَ

(1)

ورواه مسلم (30).

ص: 26

زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ رَجُلًا عَلَى سَرِيَّةٍ، وَكَانَ يَقْرَأُ لِأَصْحَابِهِ فِي صَلَاتِهِمْ فَيَخْتِمُ بِقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، فَلَمَّا رَجَعُوا ذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:«سَلُوهُ لِأَيِّ شَيْءٍ يَصْنَعُ ذَلِكَ؟» . فَسَأَلُوهُ، فَقَالَ: لِأَنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ، وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَقْرَأَ بِهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ»

(1)

.

بسم الله الرحمن الرحيم

وَصَلِّ اللَّهُمَّ عَلَى نَبِيِّنا مُحمَّدٍ وعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ أَجْمعِينَ، أمَّا بَعدُ:

فَهذَا الكِتَابُ مِنَ المُؤلِّفِ -كِتَابُ التَّوحِيدِ- وَما ذُكِرَ فيهِ مِنَ الأَحَادِيثِ أَرَادَ بِه المُؤلِّفُ رحمه الله التَّنبِيهَ عَلَى أنَّ هَذَا هُوَ أَصلُ الدِّينِ، وَأَسَاسُ المِلَّةِ: وهُوَ الدَّعَوةُ إِلَى تَوحِيدِ اللهِ قَبلَ كلِّ شَيءٍ؛ وَلِهذَا قَالَ: «كِتَابُ التَّوحِيدِ» ، ثمَّ ذَكرَ هذِهِ الأَحَادِيثَ.

الأُمَّةُ الكَافِرةُ يَجبُ أنْ تُبدَأَ بِالدَّعْوةِ إِلَى تَوحِيدِ اللهِ؛ حَتَّى تُسلِمَ، حَتَّى تَدخُلَ فِي الحَقِّ، ثم تُعلَّمَ الفَرائِضَ-فَرائِضَ الإِسْلَامِ وَمَا حرَّمَ اللهُ فِيهِ- وَلِذلِك بَدأَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وبَدَأتِ الرُّسلُ أُمَمَهُم بِالدَّعوَةِ إِلَى تَوحِيدِ

(1)

ورواه مسلم (813).

ص: 27

اللهِ: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]، فهَذهِ أوَّلُ دَعوَتِهم، وزُبْدتُها وخُلَاصَتُها، وَأَساسُها: الدَّعوَةُ إِلَى تَوحِيدِ اللهِ وَالنَّهيُ عَنِ الشِّركِ بِاللهِ عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25} [الأنبياء: 25]، وَنَبيُّنا عليه الصلاة والسلام أوَّلُ شَيءٍ بَدأَ بِهِ قَومَهُ: دَعْوتُهُ إِلَى تَوحِيدِ اللهِ، قَالَ:«يَا قَوْمِ قُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ تُفْلِحُوا»

(1)

.

وَمكَثَ فِيهِمْ عَشْرَ سِنِينَ يَدْعُوهُم إِلَى هذِهِ الكَلِمةِ، وإِلَى تَحْقيقِها وَالعَملِ بِها، لَا مُجرَّدُ قَولِها، لوْ كَانَ قَولُهَا يَكفِي لَبَادَروا إِليْها لَا يَضرُّهُم، المَقْصُودُ المَعْنَى وَخَلْعُ الأَوْثانِ، وَخلْعُ الآلِهَةِ الَّتِي تُعبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ، وَالبَراءَةُ مِنْها، وَاعْتِقادُ بُطْلانِها، وَالإِيمَانُ بِاللهِ وَحدَهُ، وَتَخصِيصُهُ بِالعِبادَةِ.

عَشرُ سِنِينَ وهُوَ يَقُولُ لَهُمْ: قُولُوا: «لَا إِلهَ إلَّا اللهُ» ، فَلْمْ يُؤمِنْ بِهِ إلَّا القَلِيلُ، وَقَالُوا عِنْدَ ذَلِك:{أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5)} [ص: 5].

تَعَجَّبُوا مِنْ خَلعِهِ الأَوْثانَ وَإِبْطالِهِ إِيَّاهَا: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36)} [الصافات: 35 - 37]، هَكَذا يُخاطِبُونهُ، وهَكَذا يَقُولُونَ فِي حقِّهِ؛ لِجَهلِهِم وَضَلالِهِم وَاسْتِقرَارِ الشِّركِ فِي قُلُوبِهم، تَوارَثُوهُ كَابِرًا عَنْ كَابرٍ؛ وَلِهذَا لمَّا بَعثَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم مُعاذًا رضي الله عنه إِلَى اليَمَنِ قَالَ لهُ:«إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ» فِيهِمْ يَهُودُ وَنَصارَى فِي ذَاكَ الوَقتِ، وكَانَ عِنْدَهُمْ عُلُومٌ، وَعِندَهم كِتابٌ.

(1)

رواه أحمد في «المسند» (16603).

ص: 28

وَالمَعْنى: أَعِدَّ لهُم مَا يَنْبغِي أنْ يُخاطَبوهُ، وَعلَّمهُ أنْ يَقُولَ لهُم: قُولُوا: لَا إِلهَ إلَّا اللهُ، عَلَّمَهُ أنْ يَدعُوَهُم إِلَى تَوحِيدِ اللهِ، يَدعُوَهم إِلَى أنْ يُوحِّدُوا اللهَ.

وَفِي اللَّفظِ الآخَرِ: «فَادْعُهُمْ إِلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلهَ إلَّا اللهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ»

(1)

.

وفِي اللَّفظِ الآخَرِ: «فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلهَ إلَّا اللهُ» .

وفِي اللَّفظِ الآخَرِ: «فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ عِبَادَةُ اللهِ»

(2)

. يَعنِي: قَبلَ كُلِّ شَيءٍ.

* وَالظَّاهرُ: أنَّ هذِهِ الأَلْفَاظَ مِنْ تَصَرُّفِ الرُّواةِ حَسبَ مَا نَقلُوهُ عَنِ الصَّحابَةِ عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.

وَهذِهِ الأَلْفاظُ كُلُّها تَدورُ عَلَى خَلعِ أَوْثانِهم الَّتِي يَعْبدُونَها مِنْ دُونِ اللهِ، وعَلَى إِفْرادِ اللهِ بِالعِبادَةِ، وَتَوحِيدهِ بِالعِبادةِ سبحانه وتعالى، وَالإِيمَانِ بِرَسولِهِ مُحمَّدٍ عليه الصلاة والسلام؛ «فَإِنْ أَجَابُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ» ثمَّ ذَكرَ الزَّكاةَ.

فعُلِمَ بِهذَا أنَّ الأَسَاسَ هُوَ أنْ يَدعُوَ النَّاسَ إِلَى تَوحِيدِ اللهِ، وَالإِخْلاصِ لَهُ، وَتَركِ الأَوْثانِ وَالأَصْنامِ الَّتِي يَعْبدُونَهَا مِنْ دُونِ اللهِ، وَأنْ تَكُونَ العِبَادَةُ للهِ وَحدَهُ دُونَ كلِّ مَا سِواهُ {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا} [الإسراء: 23]، {إِيَّاكَ

(1)

رواه البخاري (1395)، ومسلم (29)، (19).

(2)

رواه البخاري (1458)، ومسلم (31)، (19).

ص: 29

نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} [الفاتحة: 5].

وَهكَذَا الحَدِيثُ الثَّانِي أنَّهُ قَالَ لِمُعاذٍ رضي الله عنه: «مَا حَقُّ اللهِ عَلَى العِبَادِ، وَمَا حَقُّ العِبَادِ عَلَى اللهِ؟» فَأخْبرَ مُعاذٌ رضي الله عنه أنَّهُ لَا يَدرِي، قَالَ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، هذِهِ عَادةُ الصَّحابَةِ رضي الله عنهم إذَا سُئِلُوا عمَّا لَا يَعلَمُونَ قَالُوا: اللهُ ورَسُولهُ أَعلَمُ، وهَذَا فِي حَياتِهِ صلى الله عليه وسلم، بَعدَ وَفاتِهِ يُقالُ:(اللهُ أَعلَمُ، أوْ لَا أَدرِي) لِأنَّهُ لَا يَعلَمُ أَحْوالَ العِبادِ بَعدَ وَفاتِهِ عليه الصلاة والسلام، فقَالَ لَهُ صلى الله عليه وسلم:«حَقُّ اللهِ عَلَى العِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا» هَذَا حقُّهُ الأَعظَمُ، حقُّهُ الأَعظَمُ أنْ يَعبُدوا اللهَ وَحدَهُ دُونَ كلِّ مَا سِوَاهُ، وأَنْ يُطِيعوا أَوامِرهُ، ويَنْتهُوا عَنْ نَواهِيهِ عَلَى وَجهِ الإِخْلاصِ لَهُ سبحانه وتعالى.

«فَيعْبُدوهُ» أيْ: يَعبُدُوهُ بِالطَّاعَاتِ الَّتِي أَمرَهُم بِها: صَلاتِهِم وزَكَاتِهِم وصَومِهِم وحَجِّهِم وغَيرِ ذَلِك، يَخصُّوهُ بِذلِك ويُفرِدُوهُ بِذلِكَ؛ هَذَا حقُّهُ عَليِهم سبحانه وتعالى، وأنْ يَخلَعُوا تِلكَ الأَوْثانَ الَّتِي يَعبُدونَهَا مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَحْجَارٍ، وَأشْجَارٍ، وَأَمْوَاتٍ، وَكَواكِبَ وغَيرِ ذلِكَ.

ثمَّ ذَكرَ حَدِيثَيْ (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) لِعظَمِ شَأنِهَا؛ لِأنَّها سُورَةُ التَّوحِيدِ، وسُورَةُ العَقِيدةِ، وَأَخبرَ أنَّهَا تَعدِلُ ثُلثَ القُرآنِ، وأنَّ الَّذِي كَانَ يُصلِّي بِها فِي قَوْمِهِ ويَقرأُ بِها فِي آخِرِ صَلاتِهِ، قَالَ:«أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللهَ يُحِبُّهُ» يَعنِي: كَمَا أَحبَّهَا.

وفِي لَفظٍ: «حُبُّكَ إِيَّاهَا أَدْخَلَكَ الجَنَّةَ» وهِيَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)} [الإخلاص: 1 - 4].

فهِيَ سُورَةُ التَّوحِيدِ، وسُورَةُ العَقِيدةِ، فِيهَا بَيانُ أنَّهُ سبحانه وتعالى هُوَ الوَاحدُ

ص: 30

الأَحدُ فِي جَمِيعِ الوُجوهِ: فِي ذَاتهِ، وَأسْمائهِ، وصِفاتِهِ، وَاسْتِحقاقِهِ العِبادَة، وَأنَّهُ لَا كُفُؤَ لَهُ، وَلَا نِدَّ لَهُ، وَأنَّهُ لمْ يَلدْ، ولمْ يُولَدْ، ولمْ يَكنْ لَهُ كُفُوًا أَحدٌ، وَأنَّهُ الصَّمَدُ الَّذِي تَصْمُدُ إِليْهِ الخَلائِقُ فِي حَاجَاتِها، كُلُّ الخَلائِقِ يَصمُدُونَ إِليْهِ وتَقصِدهُ فِي حَاجَاتِها كُلِّها؛ فلِهذَا كَانتْ هذِهِ السُّورَةُ تَعدِلُ ثُلثَ القُرآنِ؛ لِأنَّهَا نَزَلتْ فِي تَوحِيدِ اللهِ مَحْضًا خَالِصًا لَيسَ معهُ شَيءٌ.

* والقُرآنُ أَقْسَامٌ ثَلاثَةٌ:

قِسْمٌ: يُخبِرُ عَنِ اللهِ وعَن صِفَاتهِ وَأَسْمائِهِ وحقِّهِ، وَهذِهِ هِيَ السُّورةُ.

وقِسْمٌ ثَانٍ: يُخبِرُ عمَّا كَانَ وَمَا يَكونُ.

وَالقِسْمُ الثَّالثُ: أَوامِرُ ونَواهٍ.

فَصارَتْ هذِهِ السُّورةُ تَعدِلُ ثلُثَ القُرآنِ؛ لِأنَّهَا نَزلَتْ مَحْضًا فِي تَوحِيدِ اللهِ، وَالإِخْلاصِ لَهُ، وَبَيانِ حقِّهِ سبحانه وتعالى.

* * *

ص: 31

‌باب قَوْلِ اللَّهِ تبارك وتعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء:

110]

7376 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ، وَأَبِي ظَبْيَانَ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَرْحَمُ اللَّهُ مَنْ لَا يَرْحَمُ النَّاسَ»

(1)

.

7377 -

حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَاصِمٍ الأَحْوَلِ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذْ جَاءَهُ رَسُولُ إِحْدَى بَنَاتِهِ، تَدْعُوهُ إِلَى ابْنِهَا فِي المَوْتِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«ارْجِعْ فَأَخْبِرْهَا أَنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ وَلَهُ مَا أَعْطَى، وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى، فَمُرْهَا فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ» ، فَأَعَادَتِ الرَّسُولَ أَنَّهَا قَدْ أَقْسَمَتْ لَتَأْتِيَنَّهَا، فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَقَامَ مَعَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، فَدُفِعَ الصَّبِيُّ إِلَيْهِ وَنَفْسُهُ تَقَعْقَعُ كَأَنَّهَا فِي شَنٍّ، فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ، فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا هَذَا؟ قَالَ: «هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ فِي

(1)

ورواه مسلم (2319).

ص: 32

قُلُوبِ عِبَادِهِ، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ»

(1)

.

وَأَرادَ رحمه الله بِهذَا [البَابِ] أنَّ اللهَ سُبحانَهُ هُوَ الرَّحمَنُ الرَّحِيمُ الَّذِي يَرحَمُ عِبادَهُ فِي الدُّنْيا وَالآخِرةِ، كَمَا أنَّ اللهَ المُستحِقُّ لِلعِبادةِ، هُوَ الرَّحمَنُ أيْضًا الَّذِي يَرحَمُ العِبادَ، لَا مُنافَاةَ بَينَ كَونِهِ الإِلَهَ وبَينَ كَونِهِ الرَّحمَنَ، فَالدَّعوةُ إِلَى تَوحِيدهِ وَأنَّهُ الإِلهُ الحقُّ لَا تُنافِي الدَّعوةَ إِلَى سُؤالِهِ ورَجائِهِ وطَلبِ الرَّحمةِ منهُ سبحانه وتعالى، هُوَ الرَّحمَنُ وهُوَ الإلهُ الحقُّ، هُوَ الرَّحِيمُ وهُوَ الجَوادُ وهُوَ الكَرِيمُ، وهُوَ السَّمِيعُ، وَأنَّهُ لَا تَنافِيَ بَينَ أَسْمَائهِ وصِفَاتهِ {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} [الإسراء: 110]. كِلاهُمَا أَسمَاءٌ للهِ سبحانه وتعالى، وكِلاهُمَا حقٌّ.

وَهكَذَا بَقيَّةُ الأَسمَاءِ وبَقيَّةُ الصِّفاتِ لَا تَنافِيَ بَينَها، فهُو اللهُ المُستحِقُّ لِلعِبادةِ، وهُوَ الرَّحمنُ الَّذِي يَرحمُ عِبادَهُ، وهُوَ الَّذِي وَسِعتْ رَحمتُهُ كُلُّ شَيءٍ سبحانه وتعالى؛ ولِهذَا قَالَ:«مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ» اللهُ يَرحمُ مِنْ عِبادِهِ الرُّحمَاءَ، فمَن تَكبَّرَ عَلَى النَّاسِ وظَلمَهم وتَعدَّى عَليهِم ولمْ يَرحمْهُم فهُو جَديرٌ بِأنْ لَا يُرحَمَ مِنْ اللهِ، بلْ يُعذَّبُ:«الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ يَومَ القِيَامَةِ»

(2)

، وأمَّا الَّذينَ يُعذِّبونَ النَّاسَ وَلَا يَرحَمُونَهم يَستَحقُّونَ أنَّهُ لَا يَرحَمُهم؛ وَلِهذَا قَالَ:

(1)

ورواه مسلم (923).

(2)

رواه أحمد في «المسند» (6494)، وأبو داود (4941)، والترمذي (1924). وقال: هذا حسن صحيح.

ص: 33

«مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ» .

وجَاءَ فِي بَعضِ رِوايَاتِ الحَدِيثِ فِي «الصَّحيحِ» : أنَّ أَسْبَابَ ذلِكَ أنَّ بَعضَ الأَعرابِ قَالَ: أَتُقبِّلونَ صِبْيانَكم؟ فقَالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «نَعَمْ» ؛ فَقالَ الأَقْرعُ: عِنْدِي كذَا وكَذَا مِنْ الوَلدِ فَلمْ أُقبِّلْ أَحدًا مِنْهم، فَقالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:«مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ» .

وَهكَذَا قِصَّةُ المَرأَةِ - قِصةُ ابْنتِهِ - لمَّا دَعتْ أبَاهَا إِلَى الحُضورِ عِندَها بِسبَبِ احْتِضَارِ صَبِيِّها، وَمَا حَصَلَ عَليهِ مِنْ شدَّةِ المَرَضِ وأمَارَاتِ المَوتِ؛ دَعتْ أبَاهَا أنْ يَحضُرَ عليه الصلاة والسلام، وكَانَ ليِّنًا رَقِيقًا رَفيقًا عليه الصلاة والسلام رَحيمًا، فَقالَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم:«ارْجِعْ إِلَيْهَا وَقُلْ لَهَا: فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ، فَلِلَّهِ مَا أَخَذَ وَلَهُ مَا أَعْطَى، وَكُلُّ شَيْءٍ لَهُ بِأَجَلٍ مُسَمَّى» .

فَردَّتْ عَليهِ تَطلُبُ منهُ أنْ يَحضُرَ، أَقْسَمَتْ عَليهِ أَنْ يَحضُرَ عليه الصلاة والسلام، فَأجابَ دَعْوتَها وقَامَ لِحُسنِ خُلُقهِ صلى الله عليه وسلم ورَحمتِهِ ورَأفتِهِ بِأهلِ بَيتِهِ وبِالمُسْلِمينَ عليه الصلاة والسلام كَمَا قَالَ عز وجل {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} [التوبة: 128].

فَقامَ إِليْها جَبْرًا لهَا ومعَهُ سَعْدُ بنُ عُبادةَ ومُعاذٌ وجَماعةٌ رضي الله عنهم كَمَا فِي الرِّوايَاتِ الأُخرَى، فلمَّا وَصلَ إِلَى البَيتِ قُدِّم إِليهِ الصَّبيُّ وهُوَ فِي المَوتِ يَتقعْقَعُ؛ ففَاضَتْ عَيناهُ عليه الصلاة والسلام بَكَى وقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ مَا هَذَا؟! قَالَ: «إِنَّهَا رَحْمَةٌ، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ» .

ص: 34

فكَونُ الإِنْسانِ يَبكِي عِنْدَ المُصِيبةِ وتَدمَعُ عَينُهُ رَحمةً لَا بَأسَ بِذلِكَ، إنَّمَا المُنكَرُ الصِّياحُ والنِّياحُ، ولطمُ الخُدودِ وشقُّ الثِّيابِ وأَشباهُ ذلِك، أمَّا كونُهُ تَفِيضُ عَينَاهُ، يَبكِي، يَدمَعُ، هذِهِ رَحمةٌ، واللهُ يَرحَمُ عِبادَهُ بِهَذِهِ الرَّحمةِ.

* * *

ص: 35

‌بابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:

58]

7378 -

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَا أَحَدٌ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ، يَدَّعُونَ لَهُ الوَلَدَ، ثُمَّ يُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ»

(1)

.

وَهذَا مِنْ كَرمِهِ سبحانه وتعالى صَبُورٌ عَلَى الأَذَى، وَلَا أَحدَ أَصبَرُ مِنهُ عَلَى الأَذَى، غَالِبُ أَهْلِ الأَرضِ يُشرِكونَ بِهِ وَيَعبُدُونَ سِواهُ ويُقْدِمونَ عَلَى مَعاصِيهِ وهُوَ يُعافِيهِم ويَرزُقُهم ويُمْهلُهُم ويُنْظِرهُم، مَا هُنَاكَ أَوسَعُ مِنْ هذِهِ الرَّحمةِ؛ وَلِهذَا قَالَ سُبْحانَهُ:{وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ} [النحل: 61] وَقالَ فِي الآيَةِ الأُخرَى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [فاطر: 45].

فَلوْلَا سِعةُ جُودِهِ ورَحمَتهِ وَفَضلِهِ وإِحْسانِهِ وعَظِيمِ عَفوِهِ لَمَا أَمْهلَهُم وهُم

(1)

ورواه مسلم (2804).

ص: 36

يُشرِكُون بِهِ، وَيَعصُونَ أَمرَهُ، وَيَأتونَ نَهيَهُ، وهُوَ يُعافِيهِم ويَرزُقُهم بِالصِّحَّةِ والأَمْوالِ والأَوْلادِ وهُم عَلَى كُفرِهِم، وعَلَى مَعصِيَتهمْ! هذِهِ غَايةُ الإِمْهالِ والإِنْظارِ والصَّبرِ عَلَى الأَذَى.

وفِي هَذَا إِقامَةُ الحُجَّةِ وقَطعُ المَعذِرةِ، أنَّهُ يُمهِلُهم، وأُنظِروا ومُتِّعُوا كَثِيْرًا، ولَكنَّهُم لم يَرْعَوُوا، ولمْ يَنتَبِهوا ولمْ يَرجِعُوا للصَّوَابِ؛ فلِهذَا اسْتحقُّوا العِقابَ مِنْ اللهِ عز وجل يَومَ القِيامَةِ.

وقدْ يُعاجِلُهُمْ بِالعُقوبَةِ فِي الدُّنْيا، قَالَ سُبْحانَهُ:{وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42)} [إبراهيم: 42]، وقال:{وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)} [هود: 102].

* * *

ص: 37

‌بابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} [الجن: 26]، وَ {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [لقمان: 34]، وَ {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء: 166]، {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} [فاطر: 11]، {إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ} [فصلت:

47]

قَالَ يَحْيَى: الظَّاهِرُ: عَلَى كُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا، وَالبَاطِنُ: عَلَى كُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا.

7379 -

حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«مَفَاتِيحُ الغَيْبِ خَمْسٌ، لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ: لَا يَعْلَمُ مَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ إِلَّا اللَّهُ، وَلَا يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ إِلَّا اللَّهُ، وَلَا يَعْلَمُ مَتَى يَأْتِي المَطَرُ أَحَدٌ إِلَّا اللَّهُ، وَلَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِلَّا اللَّهُ، وَلَا يَعْلَمُ مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا اللَّهُ» .

7380 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ:«مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ كَذَبَ، وَهُوَ يَقُولُ: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] وَمَنْ حَدَّثَكَ أَنَّهُ يَعْلَمُ الغَيْبَ، فَقَدْ كَذَبَ، وَهُوَ يَقُولُ: لَا يَعْلَمُ الغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ»

(1)

.

(1)

ورواه مسلم (177).

ص: 38

وَهذَا الَّذِي قَالتْهُ عَائشَةُ رضي الله عنها هُوَ الَّذِي عَليْهِ أَهْلُ السُّنةِ وَالجَماعَةِ قَاطِبةً، إلَّا خِلافًا شاذًّا قَلِيْلًا فِي الرُّؤيَةِ، والَّذِي عَليْهِ عَامَّةُ العُلمَاءِ أنَّهُ لمْ يَرَ ربَّهُ بِعيْنَيهِ؛ لِأنَّ اللهَ قَالَ:{لَا تُدْرِكُهُ} [الأنعام: 103] يَعنِي: لَا تَرَاهُ، وَبِهذَا احْتجَّتْ عَائشَةُ رضي الله عنها.

وسَألَ أبُو ذرٍّ رضي الله عنه النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم: هلْ رَأيْتَ ربَّكَ؟ فقَالَ: «نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ»

(1)

. وفِي اللَّفظِ الآخَرِ: «رَأَيْتُ نُورًا»

(2)

. أَخرَجَهُ مُسلِمٌ فِي «الصَّحيحِ» ، وقَالَ عليه الصلاة والسلام:«تَعَلَّمُوا أَنَّهُ لَنْ يَرَى أَحَدٌ مِنْكُمْ رَبَّهُ عز وجل حَتَّى يَمُوتَ»

(3)

.

فَالرُّؤيةُ أَعلَى نَعيمِ أَهْلِ الجنَّةِ، ولَيْستْ مِنْ نَعيمِ الدُّنْيا، بلْ هِيَ أَعلَى نَعيمِ أَهْلِ الجنَّةِ؛ وَلِهذَا لَا تَكونُ إلَّا فِي الآخِرةِ لِأهْلِ الجنَّةِ فِي القِيامَةِ وفِي دَارِ الكَرامَةِ، أمَّا الكفَّارُ فهُم مَحجُوبُونَ عَنْ هذِهِ الرُّؤيَةِ فِي الآخِرةِ {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)} [المطففين: 15].

وقَالَ آخَرُونَ فِي مَعنَى الآيَةِ: مَعنَى «لَا تُدْرِكُهُ» : لَا تُحيطُهُ، وإنْ رأتْهُ فِي الآخِرةِ، فَالآيَةُ مُحكَمةٌ؛ إذْ لَا يُحِيطُ بِهِ النَّاسُ، وإنْ رَأوْا وَجْهَهُ الكَرِيمَ سبحانه وتعالى وكشَفَ لهُم الحِجابَ، لكِنْ لَا يُحِيطُونَ بِهِ مِنْ كُلِّ الوُجُوهِ، كَمَا

(1)

رواه مسلم (178)(291).

(2)

رواه مسلم (178)(292).

(3)

رواه مسلم (169).

ص: 39

أنَّهُم لَا يُحِيطونَ بِهِ عِلمًا، فهَكذَا لَا يُحِيطُونَ بِهِ رُؤيَةً، وإِنْ رَأوْا وَجهَهُ الكَريمَ سبحانه وتعالى، ونَفيُ الأَخصِّ لَا يَستلزِمُ نَفيَ الأَعمِّ - فَرُؤيتُهُ أعمُّ - وقدْ يَرَى الإِنْسَانُ الشَّيءَ وَلَا يُحِيطُ بِهِ، كَمَا قَالَ جل وعلا:{فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62)} [الشعراء: 61، 62]. رَأوْهُ مِنْ بَعِيدٍ قَالُوا: إنَّا لَمُدرَكُونَ، خَافُوا مِنْ وُصُولِ جَيشِ فِرعَونَ إِليْهم وإِدْراكِهم إِيَّاهُم، فَالإِدْرَاكُ أَخصُّ، والرُّؤيةُ أَعمُّ، فَالرُّؤيةُ غَيرُ مَنفيَّةٍ يَومَ القِيامَةِ، بَلْ وَعدَ اللهُ بِها المُؤمِنينَ، أمَّا الإِدْراكُ فهُو مَنفيٌّ مُطلقًا.

ص: 40

‌باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ} [الحشر:

23]

7381 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا مُغِيرَةُ، حَدَّثَنَا شَقِيقُ بْنُ سَلَمَةَ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: كُنَّا نُصَلِّي خَلْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَنَقُولُ: السَّلَامُ عَلَى اللَّهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلَامُ، وَلَكِنْ قُولُوا: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ»

(1)

.

‌باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {مَلِكِ النَّاسِ} [الناس:

2]

فِيهِ ابْنُ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

7382 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدٍ هُوَ ابْنُ المُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«يَقْبِضُ اللَّهُ الأَرْضَ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَيَطْوِي السَّمَاءَ بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا المَلِكُ أَيْنَ مُلُوكُ الأَرْضِ» .

(1)

ورواه مسلم (402).

ص: 41

وَقَالَ شُعَيْبٌ، وَالزُّبَيْدِيُّ، وَابْنُ مُسَافِرٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ يَحْيَى، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ

(1)

.

هَذهِ الأَحادِيثُ فِيهَا الدَّلالَةُ عَلَى أنَّهُ سُبْحانَهُ هُوَ المَلكُ، وهُوَ السَّلامُ، وهُوَ العَزِيزُ الجَبَّارُ، وهُوَ المُتصَرِّفُ فِي عِبادِهِ كَيفَ شَاءَ فِي الدُّنيَا وفِي الآخِرةِ.

وكَانَ الصَّحابَةُ رضي الله عنهم إذَا جَلَسُوا فِي الجَلسةِ الثَّانيَةِ فِي الرَّكعَةِ الثَّانيةِ وفِي الجَلسَةِ الأَخيرَةِ يَقُولُونَ: السَّلامُ عَلَى اللهِ مِنْ عِبادِهِ، السَّلامُ عَلَى فُلانٍ، السَّلامُ عَلَى جِبْريلَ وَمِيكَائِيلَ. فعَلَّمهُمُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّ اللهَ هُوَ السَّلامُ سبحانه وتعالى.

وَالمَعنَى: أنَّهُ هُوَ المُسلمُ لِعبَادهِ، وهُوَ السَّالِمُ مِنْ كلِّ نَقصٍ جل وعلا، وهُوَ الكامل فِي ذَاتِهِ وَأَسْمَائهِ وَصِفَاتِه سبحانه وتعالى، وهُوَ السَّلَامُ من كُلِّ سُوءٍ؛ فَلَا يُدْعَى لَهُ بِالسَّلَامِ؛ لِأنَّهُ هُوَ المُسَلِّمُ لِعبَادهِ، بِيدِهِ التَّصرُّفُ جل وعلا، وهُوَ مَالِكٌ لِكلِّ شَيءٍ، قَالَ ابْنُ القيِّمِ رحمه الله فِي «النُّونيَّةِ»:

وهُو السَّلامُ عَلَى الحَقيقَةِ سَالمٌ

مِنْ كلِّ تَمثِيلٍ ومِن نُقْصانِ

والمَقصُودُ: أنَّهُ هُوَ السَّلامُ مِنْ كلِّ نَقصٍ، فَلا يَلِيقُ أنْ يُدعَى لَهُ بِالسَّلامِ فَيُقالُ: السَّلامُ عَلَى اللهِ؛ لأنَّ السَّلامَ مِنهُ سُبْحانَهُ، هُوَ المُسلِّمُ لِعِبادهِ جل وعلا، ولَكِن يُقالُ: اللَّهُمَّ أنتَ السَّلامُ، ومِنكَ السَّلامُ. وَيُقالُ: إنَّ اللهَ هُوَ السَّلامُ؛

(1)

كذا في «الفتح» ، وفي «عمدة القاري» وغيره زيادة:«مِثْلَهُ» ، ورواه مسلم (2787).

ص: 42

وَلِهذَا قَالَ جل وعلا: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ} [الحشر: 23] فهُوَ السَّالمُ مِنْ كلِّ نَقصٍ، وهُوَ المُسلِّمُ لِعِبادِهِ جل وعلا.

ثمَّ علَّمهُم أنْ يَقُولُوا: «التَّحِيَّاتُ للهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ» .

هَكذَا علَّمَهم صلى الله عليه وسلم فِي الصَّلاةِ بَعدَ الرَّكعَتَينِ وبَعدَ الأَخِيْرَةِ - بَعدَ الثَّالِثةِ فِي المَغرِبِ، وبَعدَ الرَّابعَةِ فِي الظُّهرِ والعَصْرِ والعِشَاءِ، وبَعدَ الثَّانيَةِ فِي الفَجْرِ والجُمُعةِ والعِيدِ والنَّوافِلِ ونَحوِ ذلِك.

وهذِهِ التَّحيَّاتُ فَرضٌ؛ لِأنَّ الرَّسُولَ أمَرَ بِها عليه الصلاة والسلام، وهِي فِي التَّشهُّدِ الأَخيرِ آكَدُ؛ وَلِهذَا عدَّهَا جَمعٌ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ مِنَ الأَرْكَانِ فِي التَّشهُّدِ الأَخيرِ، وفِي الأوَّلِ مِنْ الوَاجِبَاتِ الَّتِي تَسقُطُ بِالنِّسْيَانِ. ويدُلُّ عَلَى ذلِكَ أنَّهُ صلى الله عليه وسلم سَهَا عنْهَا ذَاتَ يَومٍ فلمْ يَجلِسْ فِي التَّشهُّدِ الأوَّلِ، فجَبرَ ذلِك بِسُجُودِ الَّسهوِ عليه الصلاة والسلام.

ثمَّ هُوَ جل وعلا المَلِكُ، معَ أنَّهُ السَّلامُ، فهُو المَلكُ، مَالكُ الدُّنيَا وَالآخِرةِ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3)} [الناس: 1 - 3]. {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (1) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (3)} [الفاتحة: 1 - 3] وفِي القِراءَةِ الأُخرَى {مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ} فَهُو المَالِكُ لكلِّ شَيءٍ سبحانه وتعالى؛ وَلِهذَا أَخبَرَ صلى الله عليه وسلم أنَّ اللهَ يَومَ القِيامَةِ يَقبِضُ الأَرضَ، ويَطوِي السَّماءَ بِيَمِينِهِ، ثمَّ يَقولُ:«أنَا المَلِكُ، أَيْنَ مُلُوكُ الأَرْضِ؟ أَيْنَ الجَبَّارُونَ؟ أَيْنَ المُتَكَبِّرُونَ؟» . وهَذَا

ص: 43

تَفسِيرٌ لِقولِهِ جل وعلا: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)} [الزمر: 67].

فهَذهِ الأَرضُ معَ عَظمَتِها واتِّسَاعِها وَمَا فِيهَا مِنْ جِبَالٍ وغَيرِهَا يَقبِضُها جل وعلا بِيَدِهِ سبحانه وتعالى، وفِي حَديثِ ابْنِ عُمرَ رضي الله عنهما:«بِيَدِهِ الشِّمَالِ»

(1)

والسَّمَواتُ تُطوَى بِيمِينهِ -معَ كَونِها سَبْعًا، ومعَ طُولِهَا وكَثافَتِها- فَيَهزُّهنَّ ويَقُولُ: أنَا المَلِكُ، أيْنَ الجبَّارُونَ؟ أيْنَ المُتكبِّرُونَ؟ يُبيِّنُ عَظمَتَهُ وكِبْرياءَهُ، وَأنَّهُ المَالِكُ لِكلِّ شَيءٍ، وَأنَّهُ القَادِرُ عَلَى كلِّ شَيءٍ سبحانه وتعالى.

فَجدِيرٌ بِالعِبَادَ وجَدِيرٌ بِكلِّ مُكلَّفٍ أنْ يَعبُدَ هَذَا المَلِكَ العَظِيمَ، وأنْ يَخصَّهُ بِالعِبادَةِ، وأنْ يُفرِدَهُ بِالعِبَادةِ دُونَ كُلِّ مَا سِوَاهُ، وأنْ يُطِيعَ أَوامِرَهُ، ويَنتَهِي عَنْ نَواهِيهِ، وأنْ يَقِفَ عِنْدَ حُدُودِهِ؛ حَتَّى يَلْقاهُ يَومَ القِيامَةِ وهُوَ رَاضٍ عنهُ؛ فَيَفوزَ بِالسَّعادَةِ وَالجنَّةِ وَالكَرامَةِ.

* * *

ص: 44

‌باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وهو العزيز الحكيم} [إبراهيم: 4]، {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الصافات: 180]، {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ} [المنافقون: 8]، وَمَنْ حَلَفَ بِعِزَّةِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ

وَقَالَ أَنَسٌ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «تَقُولُ جَهَنَّمُ: قَطْ قَطْ وَعِزَّتِكَ» .

وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «يَبْقَى رَجُلٌ بَيْنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، وهو

(1)

آخِرُ أَهْلِ النَّارِ دُخُولًا الجَنَّةَ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، اصْرِفْ وَجْهِي عَنِ النَّارِ، لَا وَعِزَّتِكَ لَا أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا».

قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «قَالَ اللَّهُ عز وجل: لَكَ ذَلِكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ» .

وَقَالَ أَيُّوبُ: «وَعِزَّتِكَ لَا غِنَى بِي عَنْ بَرَكَتِكَ» .

7383 -

حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَارِثِ، حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ المُعَلِّمُ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يَقُولُ: «أَعُوذُ بِعِزَّتِكَ، الَّذِي

(1)

كذا في «الفتح» : «وهو آخر» ، وفي «عمدة القارئ» وغيره:«آخر أهل النار» .

ص: 45

لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ الَّذِي لَا يَمُوتُ، وَالجِنُّ وَالإِنْسُ يَمُوتُونَ»

(1)

.

7384 -

حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي الأَسْوَدِ، حَدَّثَنَا حَرَمِيٌّ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«يُلْقَى فِي النَّارِ» . (ح) وقَالَ لِي خَلِيفَةُ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، وَعَنْ مُعْتَمِرٍ سَمِعْتُ أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«لَا يَزَالُ يُلْقَى فِيهَا وَتَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ، حَتَّى يَضَعَ فِيهَا رَبُّ العَالَمِينَ قَدَمَهُ، فَيَنْزَوِي بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، ثُمَّ تَقُولُ: قَدْ، قَدْ، بِعِزَّتِكَ وَكَرَمِكَ، وَلَا تَزَالُ الجَنَّةُ تَفْضُلُ، حَتَّى يُنْشِئَ اللَّهُ لَهَا خَلْقًا، فَيُسْكِنَهُمْ فَضْلَ الجَنَّةِ»

(2)

.

وَهذَا يَدلُّ عَلَى أنَّهُ سُبْحَانَهُ لَهُ العِزَّةُ الكَامِلَةُ، وَالعَزيزُ: هُوَ الغَالِبُ القَاهرُ، لَا يُغالَبُ وَلَا يُمَانَعُ، فلهُ العِزَّةُ الكَاملَةُ سبحانه وتعالى، كَمَا أنَّ لَهُ المُلكَ الكَامِلَ جل وعلا.

ولِهذَا لَا بَأسَ أنْ يُحلفَ بِعزَّةِ اللهِ، أوْ بِعزَّةِ اللهِ لَأفْعلْ كَذَا، أوْ لَأفْعلَنَّ كذَا؛ وَلِهذَا جَاءَ فِي هذِهِ الأَحَادِيثِ الشَّابُّ الَّذِي خَرجَ مِنْ النَّارِ وَأنْجاهُ اللهُ مِنْها إِلَى الجنَّةِ وقَالَ: رَبِّ اصْرفْ وَجهِي عَنِ النَّارِ، وعِزَّتكَ لَا أَسْألُك غَيرَ ذلِك.

(1)

ورواه مسلم (2717).

(2)

ورواه مسلم (2848).

ص: 46

وكذَلِك إِقْسَامُ أيُّوبَ عليه السلام: «وَعِزَّتِكَ لَا غِنَى لِي عَنْ بَركَتِك» . أيُّوبُ: هُوَ نَبيُّ اللهِ أيُّوبُ عليه الصلاة والسلام، فَإنَّهُ كَانَ يَومًا يَغتسِلُ، فأَنزَلَ اللهُ عَليهِ رِجْلًا مِنْ جَرادٍ، فجَعَلَ يَحْثُو؛ فقَالَ لَهُ جل وعلا: أَلَمْ أَكنْ أَغْنَيتُكَ عَنْ هذَا؟! فقَالَ: «وَعِزَّتكَ لَا غِنَى لِي عَنْ بَركَتِكَ» .

كذَلِك تَقُولُ جَهنَّمُ، لَا تَزالُ يُلقَى فِيهَا - يُلقَى فِيهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ - وهِي تَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ. كَمَا قَالَ عز وجل: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30)} [ق: 30]. فَلا تَزالُ يُلقَى فِيهَا وهِيَ تَقولُ: هَلْ مِنْ مَزيدٍ، حَتَّى يَضعَ الجَبَّارُ فِيهَا قَدمَهُ؛ فَينْزوِي بَعضُها إِلَى بَعضٍ وتَقولُ:(قَطْ قَطْ). وفِي اللَّفظِ الآخَرِ: (قَدْ قَدْ). (قَدْنِي قَدْنِي). يَعنِي: حَسْبِي حَسْبِي وعِزَّتِك، أمَّا الجنَّةُ فَلا يَزالُ يَبقَى فِيها فَضْلٌ؛ لِمَا فِيهَا مِنْ السَّعَةِ العَظِيمَةِ؛ فَيُنشِئُ اللهُ لهَا أَقْوَامًا؛ فيُدخِلُهم الجنَّةَ فَضْلًا منْهُ سبحانه وتعالى.

ومَعنَى «سُبْحَانَ ربِّكَ ربِّ العِزِّةِ» يَعنِي: صَاحبِ العِزَّةِ، كذَلكَ فِي لَفظِ الأَذَانِ:«اللَّهُمَّ رَبَّ هذِهِ الدَّعوَةِ التَّامَّةِ»

(1)

يَعنِي: صَاحبَ الدَّعوَةِ التَّامَّةِ والصَّلاةِ القَائِمةِ. ويُقالُ: ربُّ الدَّارِ، وربُّ الدَّابَّةِ. يَعنِي: صَاحِبُها.

* * *

(1)

رواه البخاري (614).

ص: 47

‌باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ}

7385 -

حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو مِنَ اللَّيْلِ: «اللَّهُمَّ لَكَ الحَمْدُ، أَنْتَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، لَكَ الحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، لَكَ الحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، قَوْلُكَ الحَقُّ، وَوَعْدُكَ الحَقُّ، وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ، وَالجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ، اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ، فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَأَسْرَرْتُ وَأَعْلَنْتُ، أَنْتَ إِلَهِي لَا إِلَهَ لِي غَيْرُكَ» .

حَدَّثَنَا ثَابِتُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بِهَذَا، وَقَالَ:«أَنْتَ الحَقُّ وَقَوْلُكَ الحَقُّ»

(1)

.

وَهذَا اسْتِفتَاحٌ عَظيمٌ، وهُوَ اسْتِفتَاحٌ طَويلٌ، وَيُشبِههُ فِي الطُّولِ مَا رَواهُ

(1)

ورواه مسلم (769).

ص: 48

مُسلِمٌ مِنْ حَديثِ عَليٍّ رضي الله عنه فِي الاسْتِفتاحِ أيْضًا، وقدْ صحَّ عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم اسْتِفتاحَاتٌ مُتعدِّدَةٌ كَانَ يَستَعمِلُهَا أوَّلَ مَا يَدخُلُ فِي الصَّلاةِ بَعدَ التَّكبِيرَةِ الأُولَى، ومِنْها: الاسْتِفتَاحُ الَّذِي رَواهُ أبُو هُريرَةَ رضي الله عنه: «اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ، اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنَ الخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأَبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْ خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالبَرَدِ» . أَخرجَهُ الشَّيخَانِ

(1)

.

والاسْتِفتاحُ الَّذِي رَواهُ عُمرُ وأبُو سَعِيدٍ وعَائشَةُ وغَيرُهُم رضي الله عنهم: «سُبحَانكَ اللَّهُمَّ وبِحمْدِكَ، تَبارَكَ اسْمُكَ، وتَعالَى جدُّكَ، وَلَا إلِهَ غَيرُكَ»

(2)

.

ومِن هَذَا الاسْتِفتاحُ الَّذِي رَواهُ ابنُ عبَّاسٍ رضي الله عنهما وأخْرجَهُ المؤلِّفُ هُنَا، وخرَّجهُ فِي كِتابِ التَّهجُّدِ باللَّيلِ، وخرَّجَهُ مُسْلِمٌ أيْضًا فِي أَحَادِيثِ الصَّلاةِ فِي السَّفرِ - وهُوَ دُعاءُ اسْتِفتاحٍ طَويلٍ:«اللَّهُمَّ لَكَ الحَمْدُ، أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ» . وفِي اللَّفظِ الآخَرِ «قَيَّامُ» . وفِي الآخَرِ «قَيُّومُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الحَمْدُ لَكَ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الحَمْدُ أَنْتَ مَلِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، وَلَكَ الحَمْدُ، أَنْتَ الحَقُّ، وَوَعْدُكَ الحَقُّ، وَقَوْلُكَ الحَقُّ، وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ، وَالجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ، وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ، وَمُحَمَّدٌ حَقٌّ، اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ، وَبِكَ

(1)

رواه البخاري (744)، ومسلم (598).

(2)

رواه مسلم (399) موقوفًا على عمر، وحديث عائشة أخرجه أبو داود (776)، وابن ماجه (806)، وحديث أبي سعيد أخرجه أحمد (1173)، وأبو داود (775)، والترمذي (242)، والنسائي (898، 899)، وابن ماجه (804).

ص: 49

خَاصَمْتُ، وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ، فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، أَنْتَ المُقَدِّمُ وَأَنْتَ المُؤَخِّرُ لَا إِلَهَ إلَّا أَنْتَ»

(1)

.

وَهذَا - لَا شكَّ - فيهِ بَيانُ ضَعْفِ العَبدِ وحَاجَتهِ إِلَى رَبِّهِ، وكَمَالِ لُطفِهِ سبحانه وتعالى وقُدرَتهِ جل وعلا؛ وجَدِيرٌ بِأنْ يَستَعمِلَ العَبدُ هَذَا تَارةً وهَذَا تَارةً، وهَذَا تَارةً وهَذَا تَارةً

(2)

.

* * *

(1)

رواه البخاري (1120)، ومسلم (769).

(2)

الاستفتاح هذا، والاستفتاح الآخر تارة أخرى.

ص: 50

‌باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء:

134]

قَالَ الأَعْمَشُ، عَنْ تَمِيمٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ الأَصْوَاتَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:

{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة: 1]

7386 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ، فَكُنَّا إِذَا عَلَوْنَا كَبَّرْنَا، فَقَالَ:«ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا، تَدْعُونَ سَمِيعًا بَصِيرًا قَرِيبًا» ، ثُمَّ أَتَى عَلَيَّ وَأَنَا أَقُولُ فِي نَفْسِي: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، فَقَالَ لِي:«يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ، قُلْ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، فَإِنَّهَا كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الجَنَّةِ» أَوْ قَالَ: «أَلَا أَدُلُّكَ» بِهِ

(1)

.

أَرَادَ المُؤلِّفُ رحمه الله بِهذَا [البَابِ] كَمَا تَقدَّمَ إِثْبَاتُ أَسْمَاءِ اللهِ وَصِفاتِهِ عَلَى الوَجهِ اللَّائقِ بِاللهِ جل وعلا، وَالرَّدِّ عَلَى مُنكِرِي الصِّفاتِ مِنْ المُعتَزِلةِ

(1)

ورواه مسلم (2704).

ص: 51

وَالخَوارِجِ وَالجَهميَّةِ وغَيرِهِم ممَّنْ دَخلَ فِي هَذَا البَابَ فَأنْكرَ الأَسْماءَ، أوْ أَثْبتهَا وأَنْكرَ الصِّفاتِ وَالمَعانِيَ كَالمُعتزِلةِ.

وَالحقُّ الَّذِي عَليهِ أَهْلُ السُّنةِ وَالجَمَاعَةِ مِنْ أَصْحابِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ومَن سَلكَ سَبيلَهُم مِنْ أَئمَّةِ الهُدَى: إِثْباتُ أَسْماءِ اللهِ وَصِفاتِه جَمِيعًا عَلَى الوَجهِ اللَّائقِ بِاللهِ سبحانه وتعالى، مِنْ غَيرِ تَحْريفٍ، وَلَا تَعْطيلٍ، وَلَا تَكْييفٍ، وَلَا تَمْثيلٍ، فهُو سَميعٌ وهُوَ بَصيرٌ، بِسَمعٍ يَسمَعُ بِهِ الأَصْواتَ، وبَصرٍ يَرَى بِهِ الأَشْياءَ {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219)} [الشعراء: 218، 219] {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14)} [العلق: 14].

فهُوَ سُبْحانَهُ يَسمَعُ أَصْوَاتَ العِبادِ، ودَعَواتِهم وتَكْبيرِهِم، وذِكرِهِم وقِراءَتِهم وَاسْتِغفارِهِم وسَائرِ حَركاتِهِم، فهُوَ يَعلَمُها سَمْعٌ وعِلْمٌ ويَرَاها، يَرى المَرئيَّاتِ، وَيَسمَعُ المَسْمُوعَاتِ بِسمْعٍ يَلِيقُ بِجلَالهِ، فهُوَ سَمِيعٌ بِسمْعٍ، وَعَليمٌ بِعلْمٍ، كَمَا أنَّهُ عَلِيمٌ بِعلْمٍ {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء: 166] فهُوَ سَمِيعٌ بِسمْعٍ يَسمَعُ بِهِ الأَصْواتَ لَا يُشابِهُ سَمعَ المَخلُوقِينَ، وبَصيرٌ بِبصَرٍ يَرَى بِهِ الأَشْياءَ، وهَكَذا رَحِيمٌ بِرحْمةٍ، وغَفورٌ بِمَغفرَةٍ، وجَوادٌ بِجُودٍ، وحَكيمٌ بِحكمَةٍ

إِلَى غَيرِ هَذَا مِنْ الأَسْماءِ والصِّفاتِ.

ولِهذَا ذَكرَ المُؤلِّفُ عَنْ عَائشَةَ رضي الله عنها هَذَا الأَثرَ المُعلَّقَ

(1)

: «سُبْحَانَ مَنْ وَسِعَ سَمْعُهُ الأَصْوَاتَ»

(2)

؛ لإِثْباتِ السَّمعِ، فإِنَّ الفَائدَةَ مِنْ الأَسْمَاءِ إِثْباتُ مَعَانِيهَا، فَالقَولُ بِأنَّها جَامِدةٌ لَا مَعانِيَ لهَا قَولٌ بَاطلٌ، مُخالِفٌ لمَا قُصِدَ مِنْ ذِكرِها، ومُخالِفٌ لمَا دلَّتْ عَليْهِ لُغةُ العَربِ.

فَالمَقصُودُ مِنْ ذِكْرِها: التَّعرُّفُ إِلَى عِبادِهِ بأنَّهُ يَسمَعُ كَلامَهُم حَتَّى

(1)

ورواه مسلم (2704).

(2)

ورواه مسلم (2704).

ص: 52

يَشكُروهُ، ويُعظِّمُوهُ ويُنادُوهُ، ويُسبِّحوهُ ويَسْتغفِرُوهُ، ويُخبِرُ عِبادَهُ أنَّهُ يَراهُم حَتَّى يَسْتحيُوا مِنْ عَظمَتِهِ، وَحتَّى يَخْشوْهُ، وَحتَّى يُراقِبُوهُ. فمَا الفَائدَةُ مِنْ أَسْماءٍ جَامِدةٍ لَا مَعانِيَ لهَا؟!

ثمَّ ذَكرَ خَبرَ أبِي مُوسَى رضي الله عنه لمَّا كَانُوا يَرْفعُونَ أَصْوَاتَهُم بِالتَّكبِيرِ، كَانُوا إِذَا عَلَوْا فِي المَشْيِ وَالمَحَلِّ المُرتَفعِ كَبَّرُوا ورَفعُوا أَصْوَاتَهم، وإنْ نَزلُوا بُطونَ الأَودِيةِ سبَّحُوا؛ فَقالَ لهُم صلى الله عليه وسلم:«أَرْبِعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ» . يَعنِي: هوِّنُوا، لَا تَرفَعُوا كَثِيرًا، لَا تَشدِّدُوا فِي الرَّفعِ؛ «فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا، وَإِنَّمَا تَدْعُونَ سَمِيعًا بَصِيرًا قَرِيبًا، أَقْرَبَ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ» . فهُوَ سُبْحانَهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ - وَإنْ كَانَ فَوقَ العَرْشِ فَوقَ جَميعِ الخَلقِ - فهُوَ قَرِيبٌ؛ لِأنَّهُ لَا يُشبِهُ العِبَادَ، وَلَا يُشبِهُ المَخْلوقِينَ حَتَّى يُقَاسَ عَليْهِم؛ وَلِهذَا يَقُولُ سُبْحانَهُ:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186].

فهُوَ معَ عُلوِّهِ وفَوْقيَّتهِ وَارْتِفاعِهِ عَلَى عَرشِهِ، فهُوَ قَرِيبٌ مِنْ عِبادِهِ، يَسمَعُ كَلامَهُم، وَيسمَعُ دُعاءَهُم، ويَرَى مَكانَهُم.

وَهكَذَا قَولُهُ عليه الصلاة والسلام فِي الحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ العَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ؛ فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ»

(1)

. لِأنَّ السُّجُودَ حَالَةُ خُضُوعٍ وذُلٍّ، ذُلٌّ للهِ سبحانه وتعالى، فَكانَ صَاحِبُ هذِهِ العِبادَةِ أَقْربَ مَا يَكُونُ إِلَى رَحمَةِ ربِّهِ وإِحْسانِهِ إِليْهِ وَسمَاعهِ دُعاءَهُ، كلَّما كَانَ العَبدُ أَذلَّ للهِ، وَأخْشَى للهِ؛ صَارَ أَقْربَ إِلَى رَحْمتهِ وَسَماعِ دَعْوتهِ؛ وَلِهذَا يَقُولُ السَّلفُ: إنَّ أَحسَنَ بَابٍ يُدخَلُ

(1)

رواه مسلم (482)، (215).

ص: 53

منْهُ عَلَى اللهِ بَابُ الذُّلِّ وَالانْكِسارِ وَالخُضوعِ للهِ، وَالتَّواضُعِ وَعَدمِ التَّكبُّرِ؛ فَالعَبدُ يَتقرَّبُ إِلَى ربِّهِ بأنَّهُ ذَليلٌ ضَعِيفٌ فَقيرٌ إِلَى ربِّهِ سبحانه وتعالى، وَمُنكسِرٌ إِليْهِ جل وعلا.

وفِي هَذَا شَرعيَّةُ الرِّفقِ فِي الأَصْواتِ فِي الذِّكرِ، وَأنَّ السُّنةَ عَدمُ الرَّفعِ الزَّائدِ الَّذِي قدْ يُشعِرُ بِشيْءٍ مِنْ سُوءِ الأَدبِ؛ وَلِهذَا قَالَ:«أَرْبِعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ» . إلَّا مَا شَرعَ اللهُ فِيهِ الرَّفعَ، كَالتَّلبِيةِ وَالأَذانِ وَالإِقَامةِ وَالخُطبِ. هذِهِ أَذكَارٌ مَشْروعٌ رَفعُ الصَّوتِ بِهَا.

وَأمَّا الأَذْكارُ العَاديَّةُ فَينْبغِي فِيهَا الرِّفقُ وَعدمُ الرَّفعِ الكَثِيرِ، كَمَا قَالَ النبي صلى الله عليه وسلم لِلصَّحابَةِ رضي الله عنهم، فَالسُّنةُ الرَّفعُ لِلصَّوتِ عِنْدَ المَحلَّاتِ المُرْتَفِعَةِ، إِذَا عَلَا الرُّكْبَانُ فِي الأَسْفَارِ، أوِ المُشَاةُ إِذَا عَلَوْا المَحلَّاتِ المُرتَفِعةَ كبَّرُوا، هَذَا السُّنَّةُ.

«اللهُ أَكبَرُ» يَعنِي: اللهُ أَكبَرُ مِنْ هذِهِ الأَشْياءِ المُرتَفعَةِ مِنْ جَبلٍ، أوْ دَكدْكٍ، أوْ غَيرِ ذلِكَ مِنْ أَنْواعِ الأَرضِ المُرتَفعَةِ، فإِذَا نَزلُوا الأَودِيةَ وَالمُنْخفَضاتِ سبَّحُوا تَنْزيهًا للهِ عَنِ السُّفُولِ، وَعنْ كلِّ مَا لَا يَليقُ بِهِ سبحانه وتعالى، فهُوَ عَلِيٌّ رَفيعٌ فَوقَ خَلقِهِ؛ وَلِهذَا يُكبَّرُ عِنْدَ صُعُودِ المَحلَّاتِ المُرتَفعَةِ؛ إِشارَةٌ إِلَى أنَّ اللهَ أَكبَرُ مِنْ هذِهِ الأَشْياءِ، وأَعَظمَ مِنْها، ويُسبَّحُ عِنْدَ المُنخَفضَاتِ مِنْ الأَودِيةِ وَنَحوِها؛ إِشارَةٌ إِلَى أنَّ اللهَ فَوقَ الخَلقِ، رَفيعٌ فَوقَ خَلقِهِ، عَالٍ فَوقَ خَلقِهِ سبحانه وتعالى.

وَلمَّا سمِعَ عبدَ اللهِ رضي الله عنه يقُولُ: «لَا حَولَ وَلَا قوَّةَ إلَّا بِاللهِ» - وهُوَ أبُو مُوسَى الأشْعرِيُّ، اسمُهُ عَبدُ اللهِ بنُ قَيسٍ رضي الله عنه قَالَ:«يَا عَبْدَ اللهِ، أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى كَنْزٍ مِنْ كُنُوزِ الجَنَّةِ؟ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ» .

ص: 54

هذِهِ كَلمَةٌ عَظِيمةٌ، يَنبَغِي الإِكْثَارُ مِنْها «لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ» فهِيَ كَنْزٌ مِنْ كُنوزِ الجنَّةِ.

وَالمَعنَى - وَاللهُ أَعلَمُ - أنَّها تُفضِي بِصاحِبِها وَيحصُلُ لِصاحِبِها مِنْ الخَيرِ مَا هُوَ كَنْزٌ فِي الجنَّةِ مِنْ النَّعِيمِ وَالثَّوَابِ؛ لِأنَّهَا كَلِمَةٌ فِيهَا التَّجرُّدُ مِنْ الحَوْلِ وَالقُوَّةِ، وأنَّكَ ضَعِيفٌ، وأنَّكَ لَا حَوْلَ لكَ عَلَى شَيءٍ، وَلَا قوَّةَ لكَ عَلَى شَيءٍ إلَّا بِاللهِ سبحانه وتعالى.

«لَا حَولَ» يَعنِي: لَا تَحوُّلَ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، وَلَا مِنْ ضَعْفٍ إِلَى قوَّةٍ، وَلَا مِنْ قوَّةٍ إِلَى ضَعْفٍ، وَلَا مِنْ غِنًى إِلَى فَقرٍ، وَلَا مِنْ فَقْرٍ إِلَى غِنَىً إلَّا بِاللهِ، وَلَا قوَّةَ عَلَى ذلِكَ إلَّا بِاللهِ سبحانه وتعالى. فهِيَ كَلمَةٌ عَظيمَةٌ، فِيهَا غَايةُ التَّجرُّدِ مِنْ حَولِك وَقوَّتِك، وَأنَّك فَقِيرٌ إِلَى ربِّكَ، وَأنَّهُ الغَنيُّ الحَمِيدُ، وَأنَّهُ المُتصَرِّف فِي عِبادِهِ، وأنَّ العِبادَ ضُعَفاءُ إلَّا بِاللهِ سبحانه وتعالى.

وهذِهِ الكَلمَةُ مَشرُوعةٌ عِنْدَ «حيَّ عَلَى الصَّلاةِ، حيَّ عَلَى الفَلاحِ» وَالحِكمةُ فِي ذلِكَ: أنَّ العَبدَ لَا يَقوَى عَلَى ذَهابِهِ إِلَى الصَّلاةِ وَإِجابَتهِ المُنادِي إلَّا بِاللهِ، إنْ قوَّاهُ اللهُ وَأعَانَهُ، وَإلَّا كَسِلَ وَضَعُفَ، فَناسَبَ عِنْدَ قَولِهِ: حيَّ عَلَى الصَّلاةِ، حيَّ عَلَى الفَلاحِ - يَعنِي: تَقدَّمُوا، يَعنِي: أَقْبلُوا إِلَى الصَّلاةِ وإِلَى الفَلاحِ - فَناسَبَ عِنْدَ هَذَا أنْ يَقولَ: «لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ» يَعنِي: لَا حَولَ لِي عَلَى إِجابَةِ هَذَا المُؤذِّنِ، وَلَا قُوَّةَ لِي عَلَى إِجابَتهِ وَالحُضُورِ إِلَى الصَّلاةِ إلَّا بِاللهِ، أيْ: إلَّا بِكَ يَا ربِّ، فأَعِنِّي عَلَى هذِهِ الإِجابَةِ.

وتُقالُ عِنْدَ الأُمورِ المُهمَّةِ، فهِيَ كَلمَةٌ تُقَالُ عِنْدَ الأُمُورِ المُهِمَّةِ الَّتِي يَخْشى

ص: 55

العَبدُ أنْ يَعجزُ عنْها وَالحَوَادِث؛ فَيقُولُ: لَا حَولَ وَلَا قوَّةَ إلَّا بِاللهِ. يَعنِي: لَا حَوْلَ عَلَى تَخطِّي هذِهِ العَظَائِمِ، وَلَا حَوْلَ عَلَى تَخطِّي هذِهِ المُشكِلاتِ، أوْ هذِهِ المُعجِزاتِ الَّتِي تُضعِفُ العَبدَ إلَّا بِاللهِ، فهُوَ المُقوِّي عَلَى ذلِكَ سبحانه وتعالى.

7387، 7388 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرٌو، عَنْ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي الخَيْرِ، سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رضي الله عنه، قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتِي، قَالَ:«قُلِ اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مِنْ عِنْدِكَ مَغْفِرَةً إِنَّكَ أَنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ»

(1)

.

وَهذَا رَواهُ مُسلِمٌ أيْضًا فِي «الصَّحِيحُ» ولهُ فِي رِوايَةٍ: «وَفِي بَيْتِي» ، «أَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتِي، وَفِي بَيْتِي»

(2)

، قَالَ:«قُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ وَارحَمْنِي، إِنَّكَ أَنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ» .

طَلبَ المَغفِرةَ مِنْ عِنْدِ اللهِ -يَعنِي: عَظِيمةً- وتَوسَّلَ إِليْهِ بِأنَّهُ غَفورٌ رَحيمٌ، صَاحِبُ المَغفِرةِ، صَاحِبُ الرَّحمةِ، وتَوسَّلَ إِليْهِ بِاعْترافِهِ بِظُلمهِ لِنفْسهِ، وَأنَّهُ ظَلمَها ظُلمًا كَثِيرًا بِالمَعَاصِي وَالتَّقصِيرِ فِي حقِّ اللهِ.

(1)

ورواه مسلم (2705).

(2)

رواه مسلم (2705).

ص: 56

فَدُخُولُ العَبدِ عَلَى اللهِ مِنْ طَريقِ الاعْتِرافِ بِتقْصِيرِهِ وظُلمِهِ لِنفْسهِ وعَدمِ قِيامِهِ بِالوَاجِبِ وتَوسُّلهِ إِلَى اللهِ بأنَّهُ الرَّحِيمُ والغَفُورُ والوَاسِعُ المَغفِرةِ وَالجَوادُ الكَرِيمُ، هذَانِ بَابَانِ عَظِيمَانِ مِنْ أَسْبابِ الإِجابَةِ، بَابُ الذُّلِّ وَالانْكِسارِ مِنْ العَبدِ، وبَابُ التَّوسُّلِ بِأسْماءِ اللهِ وصِفاتِهِ وَرحْمتِهِ وَإِحْسانِهِ وَكَرمِهِ، فهَذَا مِنْ أَسْبَابِ الإِجَابَةِ.

ومِثلُ هَذَا قَولُهُ صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ العَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي» . لمَّا قَالَتْ عَائِشةُ رضي الله عنها: يَا رَسولَ اللهِ، إِذَا وَافقْتُ لَيلَةَ القَدْرِ، مَاذَا أَقُولُ فِيهَا؟ قَالَ:«قُولِي: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ العَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي»

(1)

.

ففِي ضِمنِ هَذَا الاعْتِرافِ بِأنَّ العَبدَ مَحلُّ تَقْصِيرٍ، وَمحَلُّ مُؤاخَذَةٍ، وأنَّ اللهَ مَحَلُّ العَفوِ، فنَاسَبتْ هذِهِ الوَسيلَةُ فِي طَلبِ العَفوِ.

وَهذَا دُعاءٌ عَظِيمٌ يُعلَّمُ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه الصِّدِّيقُ الَّذِي هُوَ أَفْضلُ الأُمَّةِ وَخيرُ الأمَّةِ بَعدَ نَبيِّها وبَعدَ الأَنْبياءِ - يُقالُ لهُ: «قُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا

». يُقالُ لِلصِّدِّيقِ رضي الله عنه، يُعلَّمُ هَذَا الكَلامَ، فكَيفَ بِغيْرِ الصِّدِّيقِ؟!

إذَا كَانَ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه المشْهُودُ لَهُ بِالجنَّةِ، وهُوَ أَفْضَلُ الأُمَّةِ، ولوْ وُزِنتْ حَسنَاتُه بِالأمَّةِ لَرَجحَتْها بَعدَ نَبيِّها صلى الله عليه وسلم، فكَيفَ بِحَالِ غَيرِهِ، عُمرُ وَعُثمانُ وعَليٌّ وَالصَّحابَةُ رضي الله عنهم، ثمَّ التَّابِعُونَ ثمَّ مَنْ بَعدَهم إِلَى عَصرِنَا هذَا؟! يَعنِي: مَنْ هُوَ دُونَ الصِّدِّيقِ أَوْلى وَأوْلَى بِأنْ يَعتَرِفَ بِهذَا، وَأوْلَى وَأوْلَى بِأنْ يَقُولَ:«اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا» .

(1)

رواه الإمام أحمد في «المسند» (25384)، والترمذي (3513)، وابن ماجه (3850).

ص: 57

إِذَا كَانَ نَبيُّ الأُمَّةِ يُعلِّمُ الصِّديقَ هَذَا الدُّعاءَ الَّذِي فِيهِ الاعْتِرافُ بِأنَّهُ ظَلَمَ نَفسَهُ ظُلمًا كَثِيرًا، وَأنَّهُ فِي حَاجَةٍ إِلَى المَغفِرةِ، فَغيرُ الصِّدِّيقِ مِنْ بَابِ أَوْلى بِدرَجاتٍ كَثِيرةٍ.

«اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا» فَالظُّلمُ يَتنَوَّعُ: بِالغِيبَةِ، بِالنَّمِيمةِ، بِتقْصِيرهِ فِي حقِّ أَهلِهِ، بِتقْصِيرهِ فِي وَلدِهِ، بِتَقْصيرِهِ فِي جَارِهِ، مَنْ يَعدُّ أَنْوَاعَ الظُّلمِ وَأنْواعَ التَّقصِيرِ؟! والعَبدُ قدْ يَغفُلُ عَنْها وَلَا يَدرِي عنْها، يَحسَبُ أنَّهُ سَلِيمٌ، لكِن إِذَا تَأمَّلَ ونَظرَ عَرفَ مَا عِندَهُ مِنْ الظُّلمِ.

والظُّلمُ يُطلَقُ عَلَى المَعاصِي، سَواءٌ كَانتْ فِي حقِّ اللهِ أوْ فِي حقِّ العِبَادِ، كَمَا يُطلَقُ عَلَى الشِّركِ، وهُوَ أَعظَمُ الظُّلمِ.

«اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا» . وفِي رِوايَةٍ: «كَبِيرًا»

(1)

. وَالمَشْهُورُ فِي الرِّوايَةِ: «كَثِيرًا» .

«وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ» عدَّةُ وَسائِلَ:

1 -

اعْتِرافُهُ بأنَّهُ ظَالِمٌ لِنفْسِهِ.

2 -

الثَّانِي: أنَّهُ ظُلمٌ كَثِيرٌ.

3 -

الثَّالثُ: أنَّ اللهَ هُوَ الَّذِي يَغفِرُ الذُّنُوبَ، مَا فِي أَحَدٌ يَغفِرُ الذُّنُوبَ سِوَاهُ.

4 -

وَالرَّابعُ: الدُّعَاءُ: «فَاغِفْرِ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ» ، طَلَبُ المَغفِرَةِ، قَولُهُ:«مِنْ عِنْدِكَ» مَا هِيَ مِنْ عِنْدِ النَّاسِ، مِنْ عِنْدِكَ أَنْتَ تَأمُرُ بِها، وَأنتَ تَتَفضَّلُ بِها عَليَّ فَضْلًا مِنْكَ وَإحْسَانًا.

5 -

ثمَّ خَامِسًا: «إِنَّكَ أَنْتَ الغَفُورُ» .

6 -

سَادِسًا: «الرَّحِيْمُ» . عدَّةُ وَسائِلَ، اللهُ أَكْبَرُ.

(1)

ورواه مسلم (2705).

ص: 58

وَهذَا الدُّعاءُ يُدعَى بِهِ فِي السُّجودِ، ويُدْعَى بِهِ بَينَ السَّجْدتَينِ، ويُدعَى بِهِ فِي آخِرِ الصَّلاةِ، فِي مَواضِعِ الدُّعَاءِ، ويُدعَى بِهِ فِي كلِّ وَقتٍ، وفِي البَيتِ وفِي الطَّريقِ؛ لِأنَّهُ دُعاءٌ عَظِيمٌ.

7389 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، حَدَّثَنِي عُرْوَةُ، أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها، حَدَّثَتْهُ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ جِبْرِيلَ عليه السلام نَادَانِي قَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ»

(1)

.

هَذَا لِقَولِهِ: «سَمِعَ» يَسْمَعُ أَقْوَالَ النَّاسِ، وأنَّ لَهُ سَمْعًا يَسمَعُ بِهِ أَقْوَالَ النَّاسِ.

وتَمَامُ هَذَا الحَدِيثِ: «إِنَّ اللهَ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَإِنَّ اللهَ أَرْسَلَ إِلَيْكَ مَلَكَ الجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ يُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الأَخْشَبَيْنِ أَنْ يُهْلِكَهُمْ» . فَنادَاهُ مَلَكُ الجِبالِ وسَلَّمَ عَليْهِ وقَالَ: «إِنَّ اللهَ أَمَرَنِي أَنْ أَمْتَثِلَ أَمْرَكَ فِي هَؤُلَاءِ -أَهْلِ مَكَّةَ- إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الأَخْشَبَيْنِ -يَعنِي: الجَبلَينِ» قَالَ: «لَا، بَلْ أَسْتَأْنِي بِهِمْ؛ لَعَلَّ اللهَ يُخْرِجُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ»

(2)

. فخَرجَ مِنْ أَصْلابِهم [مَنْ يَعبُد اللهَ]، وهَداهُمُ اللهُ وَأسْلَموا عَامَ الفَتحِ،

(1)

ورواه مسلم (1795).

(2)

رواه البخاري (3231)، ومسلم (1795)(111).

ص: 59

ودَخلُوا فِي دِينِ اللهِ أَفْواجًا.

قَولُهُ: «أَرْبِعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ» ؟

يَعنِي: ارْفُقُوا، الرِّفقُ، لَا تُشَدِّدُوا فِي الرَّفعِ؛ لأنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أصَمَّ وَلَا غَائبًا، بلْ يَسمَعُ. الأَصمُّ ضدُّ السَّمِيعِ، والغَائبُ: البَعِيدُ الَّذِي مَا يَسمَعُ، واللهُ جل وعلا يَسمَعُ مِنْ عِبادِهِ - وَإنْ بَعُدوا وَإنْ كَانُوا فِي أَسفَلِ الأَرضِ- فهُوَ يَسْمَعُ كَلامَهُم وهُوَ فَوقَ العَرشِ جل وعلا؛ لِأنَّهُ قَرِيبٌ.

هلْ يُشرَعُ لِلمُسلِمِ أنْ يُكبِّرَ إِذَا عَلَا مَكانًا مُرْتفِعًا؟

يُشرَعُ لَهُ كلَّمَا ارْتَفعَ مَكانًا، إِذَا عَلَا المُرتَفعُ يُكبِّرُ، وإِذَا نَزلَ يُسبِّحُ، هَكَذا كَانَ الصَّحَابَةُ رضي الله عنهم والنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الأَسْفارِ، مَا سَمِعنَاهَا إلَّا فِي الأَسْفارِ.

هلْ جَاءَ فِي تَفْسيرِ بَعضِ الرِّوايَاتِ أنَّ هَذَا الدُّعاءَ بَعدَ التَّشهُّدِ؟

لَا، لَا، أَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتِي، عَامٌّ، قَالَ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه: علِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتِي - عَامٌّ - فَأقرَّهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وَقالَ لَهُ: «قُلْ

».

وَهذَا يَعمُّ آخِرَ الصَّلاةِ بَعدَ التَّشهُّدِ، ويَعمُّ بَينَ السَّجدَتيْنِ، ويَعمُّ السُّجُودَ، كُلُّها مَواضِعُ لِلدُّعاءِ، ويَعمُّ الدُّعَاءَ فِي الطَّرِيقِ، وفِي البَيتِ، وهُوَ جَالِسٌ، وهُوَ قَائِمٌ؛ لِأنَّ فِي الرِّوَايَةِ الأُخْرَى عِنْدَ مُسْلِمٍ:«وَفِي بَيْتِي» يَعنِي: أَدعُو بِهِ فِي صَلَاتِي وفِي بَيتِي.

* * *

ص: 60

‌باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {قُلْ هُوَ القَادِرُ} [الأنعام:

65]

7390 -

حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ المُنْذِرِ، حَدَّثَنَا مَعْنُ بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي المَوَالِي، قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ المُنْكَدِرِ، يُحَدِّثُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الحَسَنِ يَقُولُ: أَخْبَرَنِي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ السَّلَمِيُّ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُ أَصْحَابَهُ الِاسْتِخَارَةَ فِي الأُمُورِ كُلِّهَا، كَمَا يُعَلِّمُ السُّورَةَ مِنَ القُرْآنِ يَقُولُ: «إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الفَرِيضَةِ، ثُمَّ لِيَقُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلَا أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلَا أَعْلَمُ، وَأَنْتَ عَلَّامُ الغُيُوبِ، اللَّهُمَّ فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ هَذَا الأَمْرَ - ثُمَّ يُسَمِّيهِ بِعَيْنِهِ - خَيْرًا لِي فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ - قَالَ: أَوْ فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي - فَاقْدُرْهُ لِي وَيَسِّرْهُ لِي، ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ، اللَّهُمَّ إِنْ

(1)

كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي - أَوْ قَالَ: فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ - فَاصْرِفْنِي عَنْهُ، وَاقْدُرْ لِي الخَيْرَ حَيْثُ كَانَ ثُمَّ رَضِّنِي بِهِ».

(1)

كذا في «عمدة القارئ» وغيره، وفي «الفتح» «إن كنت» بدون كلمة «اللهم» .

ص: 61

قَالَ ابنُ بَازٍ: السَّلَميُّ نِسبَةً إِلَى بَنِي سَلِمةَ، الأَنْصارُ فِيهِمْ سَلَميٌّ، وبَنُو سُليمٍ: سُلَميٌّ، وبَنُو سُلَيمٍ لَيسُوا مِنْ الأَنْصارِ.

قَولُهُ: «فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ هَذَا الأَمْرَ» . فِي الرِّوايَةِ الأُخرَى: «أَنَّ هَذَا الأَمْرَ» . وَلِهذَا نَصبَ (خَيْرًا) مَفعُول «تَعْلَمُ» . فِي الرِّوايَةِ الأُخرَى: «أَنَّ هَذَا الأَمْرَ خَيْرٌ لِي

».

وَهذَا دُعاءٌ عَظِيمٌ - دُعاءُ الاسْتِخارَةِ - وَالمَقصُودُ مِنهُ هذِهِ الصِّفاتُ: «بِعِلْمِكَ

»، «بِقُدْرَتِكَ

» إِلَى آخِرهِ، بَيانُ هذِهِ الصَّفاتِ العَظِيمةِ للهِ سبحانه وتعالى.

وقَولُهُ: «إِذَا هَمَّ بِأَمْرٍ» . يَعنِي: أمْرًا فيهِ شُبهَةٌ، فِيهِ عَدمُ اقْتِناعٍ، وأنَّ المَصلَحةَ فِيهِ، هَذَا مَحلُّ الاسْتِخارَةِ، وهُوَ مَعْروفٌ مِنْ السِّياقِ. «إِذَا هَمَّ بِأَمْرٍ» يَعنِي: فِيهِ شَيءٌ مِنْ التَّوقُّفِ، أوْ شَيءٌ مِنْ جَهلٍ بِالعَاقبَةِ أوْ نَحوِ ذلِكَ ممَّا يَكُونُ فِيهِ حَاجةٌ إِلَى الاسْتِخارَةِ.

أمَّا الأُمورُ المَعرُوفةُ الَّتِي لَيسَ فِيهَا إِشْكالٌ وكُلُّها خَيرٌ -المَعرُوفةُ- مَعْروفٌ مَصلَحَتُها، لَا شُبهَةَ فِيهَا، فهذِهِ لَيسَ فِيهَا اسْتِخارَةٌ، مَا يَستَخيرُ مَنْ يُصلِّي، أوْ يَستَخيرُ مَنْ يُزكِّي، أوْ يَستخِيرُ مَنْ يَصومُ، أوْ يَستَخيرُ مَنْ يَحجُّ - إِذَا كَانَ الطَّريقُ آمِنًا ولَيسَ فِيهِ خَطرٌ - وَلَا يَستَخِيرُ فِي الأَشْياءِ المَعْروفَةِ فِي برِّ وَالِديْهِ، أوْ فِي صِلةِ رَحمِهِ، إنَّمَا يَستَخيرُ فِي الشَّيءِ الَّذِي فِيهِ شُبهَةٌ قدْ أَشكَلَ عَليْهِ مِنْ جَانِبٍ، إمَّا مِنْ جَانبِ كَذَا أوْ مِنْ جَانبِ كذَا، أوْ مِنْ جانِبِ كذَا، أوِ

ص: 62

الزَّواجِ بِفُلانةِ،

(1)

أوِ الزَّواجِ بِفُلانٍ، أوْ شِراءِ هذِهِ السِّلعَةِ، أوْ صُحبَةِ فُلانٍ، أوْ مَا أَشْبهَ ذلِكَ مِنْ الشَّيءِ الَّذِي قدْ يَكُونُ فِيهِ شُبهَةٌ.

مَتَى يَدعُو؟ قَبلَ السَّلامِ أوْ بَعدَ السَّلامِ؟

بَعدَ السَّلامِ، يُصلِّي رَكْعتَينِ، ثمَّ بَعدَ الصَّلاةِ.

يَرفَعُ يَديْهِ، أَحسنَ اللهُ عَملَكَ؟

رَفعُ اليَديْنِ مِنْ أَسْبَابِ الإِجابَةِ.

(الشَّيخُ): تَكلَّم المُحَشِّي عَلَى الحَدِيثِ؟ «ثمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ» ؟

[قَالَ الحَافِظُ ابنُ حَجرٍ رحمه الله فِي «فَتحِ البَارِي» (13/ 376)]: «وقَولُهُ: «ثُمَّ لِيَقُلْ» ظَاهِرٌ فِي أنَّ الدُّعَاءَ المَذكُورَ يَكُونُ بَعدَ الفَراغِ مِنْ الصَّلاةِ، ويَحتَملُ أنْ يَكُونَ التَّرتِيبُ فِيهِ بِالنِّسبَةِ لِأذْكارِ الصَّلَاةِ ودُعائِهَا، فَيقُولُهُ بَعدَ الفَرَاغِ وقَبلَ السَّلامِ». [انتهى كلامه].

قَالَ ابْنُ بَازٍ رحمه الله: هَذَا احْتِمَالٌ، وَالأوَّلُ أَظهَرُ؛ لِأنَّ فِيهِ (ثُمَّ) هَذَا أَظْهرُ، وَالاحْتِمالُ هَذَا لَيسَ بِشيْءٍ.

* * *

(1)

عباره غير واضحة

ص: 63

‌بابُ مُقَلِّبِ القُلُوبِ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ} [الأنعام:

110]

7391 -

حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنِ ابْنِ المُبَارَكِ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَكْثَرُ مَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَحْلِفُ: «لَا وَمُقَلِّبِ القُلُوبِ» .

‌بابُ إِنَّ لِلَّهِ مِائَةَ اسْمٍ إِلَّا وَاحِدة

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ذُو الجَلَالِ: العَظَمَةِ، البَرُّ: اللَّطِيفُ.

7392 -

حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا، مِائَةً إِلَّا وَاحِدًا، مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الجَنَّةَ» .

أَحْصَيْنَاهُ: حَفِظْنَاهُ

(1)

.

(1)

ورواه مسلم (2677).

ص: 64

(الشَّيخُ): تَكلَّمَ عَلَى «مِائَةً إِلَّا وَاحِدةً» ؟

[قَالَ الحَافِظُ ابنُ حَجرٍ فِي «فَتْحِ البَارِي» (13/ 377)]: «قَولُهُ: بَاب: إنَّ للهِ مِائَةَ اسْمٍ إلَّا وَاحدَةً: ذَكرَ فِيهِ حَدِيثَ أبِي هُريْرَةَ رضي الله عنه: «إِنَّ للهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا

». وَقدْ تَقدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتابِ الدَّعَواتِ وبَيَانِ مَنْ رَواهُ بِاللَّفظِ المَذْكورِ فِي هذِهِ التَّرجَمةِ، ووَقعَ هُنَا فِي رِوايَةِ الكُشْمِيهَنيِّ:«مِائَةً إِلَّا وَاحِدًا» . بِالتَّذكِيرِ، و «مِائةً» فِي الحَدِيثِ بَدلٌ مِنْ قَولِهِ: تِسْعَةً وَتِسْعِينَ». [انتهى كلامه].

[قَالَ الإِمَامُ العَينِيُّ رحمه الله فِي «عُمدَةِ القَارِي» (25/ 94)]: «قَوْلهُ: «إلَّا وَاحِدًا»

(1)

. كَذَا فِي رِوَايَة الكُشْمِيهنيِّ، وَفِي رِوَايَةِ غَيرِهِ:«إلَّا وَاحِدَة» ، وَلَعَلَّ التَّأْنِيثَ بِاعْتبَارِ الْكَلِمَةِ، أَوْ هِيَ للْمُبَالَغَة فِي الْوحدَةِ نَحوُ: رَجلٌ عَلَّامَةٌ، ورَاوِيةٌ، وَفَائدَةُ «مائَةً إلَّا وَاحِدَةً»: التَّأْكيدُ وَرفعُ التَّصحِيفِ

». [انتهى كلامه].

قَالَ ابْنُ بَازٍ رحمه الله: وَلِهذَا فِي الرِّوايَةِ الأُخرَى: «مَنْ حَفِظَهَا دَخَلَ الجَنَّةَ» . قَالَ العُلَمَاءُ: مَعْناهَا: إِحْصَاؤُها وحِفْظُهَا مِنْ حَيثُ اللَّفظُ وَالمَعنَى جَمِيعًا. يُحصِيها ويَحفَظُها ويَعتَنِي بِالمَعنَى ويَعملُ بهِ، لَا مُجرَّد الحِفظِ فَقطْ وَالإِحْصاءِ مِنْ غَيرِ عَملٍ، فهِي كَلمَاتٌ تُحصَى ويُعمَلُ بِمُقتضَاهَا؛ وَلِهذَا رُتِّبَ عَليْها دُخولُ الجنَّةِ.

(1)

رواه مسلم (2677).

ص: 65

(الشَّيخُ): تَكلَّم الشَّارحُ عَلَى «مَنْ أَحْصَاهَا» أوْ مَا تَكلَّمَ؟ العَينِيُّ تَكلَّمَ عَليْهِ أو قَالَ تَقدَّمَ؟

[قَالَ الإِمَامُ العَينِيُّ رحمه الله فِي «عُمدَة القَارِي» (25/ 94)]: «قَولُهُ: أَحْصَينَاهُ: حَفِظنَاهُ. هَذَا مِنْ كَلَامِ البُخَارِيِّ أَشَارَ بِهِ إِلَى أَنَّ مَعنَى الإِحْصاءِ هُوَ الحِفظُ، وَالإِحْصَاءُ فِي اللُّغةِ يُطلَقُ بِمَعنَى الإِحَاطَةِ بِعلمِ عَدَدِ الشَّيءِ وَقدْرهِ، وَمِنهُ {وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)} [الجن: 28] قَالهُ الْخَلِيلُ. وَبِمَعنَى الإِطاقَةِ لَهُ، قَالَ تَعَالَى: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ} [المزمل: 20] أَي: لنْ تُطِيقوهُ» . [انتهى كلامه].

بَعضُ المَصاحِفِ يُكتَبُ فِي آخِرِها هذِهِ الأَسْمَاءُ، هلْ هِيَ نَفسُها صَحِيحةٌ؟

لَا، مَا هِيَ مَحْفوظَةٌ، جَاءَتْ فِي أَحادِيثَ، وَلكِنَّها غَيرُ مَحفُوظةٍ، واللهُ جَعلَ ذلِكَ لِلْعبَادِ يَتَأمَّلونَهَا وَيَستَنْبطُونَها مِنْ القُرآنِ وَالسُّنَّةِ؛ حَتَّى يَستَفِيدُوا مِنْ التَّتبُّعِ وَالتَّأمُّلِ.

العَملُ بِها يَا شَيخُ وَالدُّعاءُ بِها؟

يَتعَلَّمُها الإِنْسَانُ، يَحفَظُها مِنْ القُرآنِ، يَحفَظُها وَيتَأمَّلُ مَعانِيَهَا وَيَسْتفِيدُ.

* * *

ص: 66

‌بَابُ السُّؤَالِ بِأَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَالِاسْتِعَاذَةِ بِهَا

7393 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ المَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ فِرَاشَهُ فَلْيَنْفُضْهُ بِصَنِفَةِ ثَوْبِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَلْيَقُلْ: بِاسْمِكَ رَبِّ وَضَعْتُ جَنْبِي، وَبِكَ أَرْفَعُهُ، إِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِي فَاغْفِرْ لَهَا، وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ» .

تَابَعَهُ يَحْيَى، وَبِشْرُ بْنُ المُفَضَّلِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

وَزَادَ زُهَيْرٌ، وَأَبُو ضَمْرَةَ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

وَرَوَاهُ ابْنُ عَجْلَانَ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

(1)

.

تَابَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَالدَّرَاوَرْدِيُّ، وَأُسَامَةُ بْنُ حَفْصٍ.

(1)

ورواه مسلم (2714).

ص: 67

7394 -

حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ المَلِكِ، عَنْ رِبْعِيٍّ، عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ قَالَ: «اللَّهُمَّ بِاسْمِكَ أَحْيَا وَأَمُوتُ» ، وَإِذَا أَصْبَحَ قَالَ:«الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا، وَإِلَيْهِ النُّشُورُ» .

7395 -

حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ، عَنْ خَرَشَةَ بْنِ الحُرِّ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ مِنَ اللَّيْلِ، قَالَ:«بِاسْمِكَ نَمُوتُ وَنَحْيَا» ، فَإِذَا اسْتَيْقَظَ قَالَ:«الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ»

(1)

.

فَيُستَحبُّ التَّأسِّي بِهِ عليه الصلاة والسلام، فإِذَا أَوَى إِلَى فِراشِهِ يَنفُضُ فِراشَهُ بِصِنفَةِ ثَوبِهِ، ثمَّ يَقُولُ:«اللَّهُمَّ بِاسْمِكَ أَحْيَا وَأَمُوتُ» ، «بِاسْمِكَ رَبِّي وَضَعْتُ جَنْبِي وَبِكَ أَرْفَعُهُ»

(2)

. كَمَا كَانَ النَّبيُّ يَفعَلُ عليه الصلاة والسلام. وَيَقولُ أيْضًا: «اللَّهُمَّ قِنِي عَذَابَكَ يَوْمَ تَبْعَثُ عِبَادَكَ»

(3)

كمَا يَأتِي.

الحَاصِلُ: أنَّهُ يُتأَسَّى بِالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فِي ذلِكَ عِندَما يَنامُ وعِنْدمَا يَسْتيقِظُ، وعِندَ الاسْتِيقَاظِ يَقُولُ: «الْحَمْدُ للهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ

(1)

ورواه مسلم (2711) من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه.

(2)

رواه البخاري (6320)، ومسلم (2714).

(3)

رواه مسلم (709)(62).

ص: 68

النُّشُورُ»

(1)

. ويَقُولُ: لَا إِلَهَ إلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. سُبْحَانَ اللهِ، وَالحَمْدُ للهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ. كَمَا فِي الحَدِيثِ الصَّحيحِ: «مَنْ تَعَارَّ مِنَ اللَّيْلِ فَقَالَ

»

(2)

فذَكرَ هَذَا الذِّكرَ.

فَالمَقصُودُ: أنَّ المُؤمِنَ يَتأَسَّى بِالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فِي هذِهِ الأُمُورِ، سَواءٌ فِيمَا يَتعلَّقُ بِالاسْتِيقاظِ، وَفِيما يَتعلَّقُ بِالنَّومِ، أوْ غَيرِ ذلِكَ.

مَا حِكمَةُ النَّفضِ؟

جَاءَ فِي الرِّوايَةِ الأُخرَى: «فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي مَا خَلَفَهُ عَلَيْهِ»

(3)

.

7396 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ كُرَيْبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ أَهْلَهُ، فَقَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا، فَإِنَّهُ إِنْ يُقَدَّرْ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فِي ذَلِكَ لَمْ يَضُرُّهُ شَيْطَانٌ أَبَدًا»

(4)

.

(الشَّيخُ): عِنْدَكَ: (فَقَالَ: بِسمِ اللهِ) بِالفَاءِ؟

(1)

رواه البخاري (6312)، ومسلم (2711)(59).

(2)

رواه البخاري (1154).

(3)

رواه البخاري (6320).

(4)

ورواه مسلم (1434).

ص: 69

(القَارِئُ): نَعمْ.

(الشَّيخُ): وَعِندَكُم فِي النُّسخِ الأُخرَى أوْ نُسخَةٍ وَاحِدةٍ؟

(الطَّلبَةُ): نَعمْ، بِالفَاءِ، وكَذَا بِالفَاءِ عِنْدَ العَينِيِّ.

قَالَ ابْنُ بَازٍ رحمه الله: الفَاءُ زَائدَةٌ، الَّذِي أَحْفَظُ فِي الحَدِيثِ:(قَالَ) جَوابُ (لَوْ).

وهذِهِ سُنَّةٌ، سنَّةٌ عِنْدَ الجِماعِ أنَّ المُؤمِنَ عِنْدَ الجِماعِ يَقُولُ هذَا:«بِسْمِ اللهِ، اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ، وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا» . وَالفَائدَةُ العَظِيمةُ، يَقُولُ:«فَإِنَّهُ إِنْ يُقَدَّرْ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ» مِنْ ذلِكَ الجِمَاعِ «لَمْ يَضُرَّهُ الشَّيْطَانُ أَبْدًا» . وفِي اللَّفظِ الآخَرِ: «شَيْطَانٌ أَبَدًا»

(1)

بِالتَّنكِيرِ.

وَهذَا كلُّهُ يدُلُّ عَلَى الفَائِدةِ العَظيمَةِ، فَينْبغِي لِلمُؤمِنِ أنْ يَحتَسِبَ ذلِكَ، وأنْ يُحسِنَ ظنَّهُ بِربِّهِ، وأنْ يَرجُوَ حُصُولَ هذِهِ الفَائدَةِ العَظيمَةِ؛ فَيقُولُ عِنْدَ الجِماعِ:«بِسْمِ اللهِ، اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا» .

كُلُّ جِماعٍ يَا شَيخُ -حَفِظكُم اللهُ- أوِ الَّذِي يُرجَى مِنهُ الوَلدُ، كَأنْ تَكُونَ المَرأَةُ حَامِلًا مَثلًا؟

الظَّاهِرُ العُمومُ. أَقُولُ: الظَّاهِرُ العُمُومُ، وهَذَا لَا يَزِيدُهُ إلَّا خيْرًا، الدُّعَاءُ لَا يَزيدُهُ إلَّا خَيرًا، وَلوْ أنَّهَا حَامِلٌ.

بَعدَ نِهايَةِ الجِمَاعِ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ، وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا» ؟

بَعدَ النِّهَايةِ مَا سَمِعتُ شَيْئًا.

(1)

رواه البخاري (5165)، ومسلم (1434).

ص: 70

لوْ نَسِيهُ؟

مَا عَليْهِ شَيءٌ، الحَمدُ للهِ، سُنَّةٌ مُستَحبَّةٌ فَقطْ، مَا قَالَ:(افْعَلُوا)، دُعاءٌ مُستَحَبٌّ.

. غير واضح؟

(الشَّيخُ): ابْنُ مَسعُودٍ؟

(السَّائلُ): نَعَمْ.

قَالَ ابْنُ بَازٍ رحمه الله: مَا عِنْدِي خَبرٌ مَا أَعلَمُهُ، إنْ كَانَ وَجدْتَهُ هَاته

(1)

.

7397 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، حَدَّثَنَا فُضَيْلٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قُلْتُ: أُرْسِلُ كِلَابِي المُعَلَّمَةَ؟ قَالَ: «إِذَا أَرْسَلْتَ كِلَابَكَ المُعَلَّمَةَ، وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ، فَأَمْسَكْنَ فَكُلْ، وَإِذَا رَمَيْتَ بِالْمِعْرَاضِ فَخَزَقَ فَكُلْ»

(2)

.

وَاللهُ يَقُولُ: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180]؛ وَلِهذَا ذَكرَ مَسْألةَ الصَّيدِ؛ لِأنَّ فِيهِ «بِسْمِ اللهِ» عِنْدَ إِرْسالِ الكِلَابِ، وعِندَ الرَّميِ بِالسَّهْمِ، فهُوَ تَبرُّكٌ بِاسمِهِ وَاسْتِعانَةٌ بِاسْمهِ عَلَى صَيدِهِ، وعَلَى مَا يَحصُلُ لَهُ مِنْ الوَلدِ، إِلَى غَيرِ ذلِكَ.

(1)

يوصي الشيخ أحد الطلبة ببحثه وإحضاره.

(2)

ورواه مسلم (1929).

ص: 71

وَقولُهُ: «إِذَا رَمَى بِالْمِعْرَاضِ فَخَزَقَ» . يَعنِي: رَماهُ بِالحَربَةِ - المِعْراضُ - وهُوَ الرُّمحُ، فَإنَّهُ بِهذَا يَكُونُ حَلالًا طيِّبًا، كَمَا لوْ كَانَ مَذْبوحًا، بِخِلافِ مَا لوْ أَصابَهُ بِالعَرضِ - عَرضِ الرُّمحِ - فَإنَّهُ يَكُونُ وَقيذًا؛ لِأنَّهُ قَتلَهُ بِالثَّقلِ لَا بِالحَدِّ، فَيكُونُ دَاخِلًا فِي قَولِهِ:{وَالْمَوْقُوذَةُ} [المائدة: 3].

إِذَا أَدْركَهُ وهُوَ حيٌّ هَلْ يُذكِّيهِ؟

فِي الحَدِيثِ الصَّحيحِ: «إِذَا أَدْرَكْتَهُ حَيًّا فَاذْبَحْهُ»

(1)

.

وإِذَا لمْ يَذْبحْهُ؟

يَكُونُ مَيتَةً، إلَّا إِذَا غَلبَهُ، مَا أَمْكنَهُ.

7398 -

حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ الأَحْمَرُ، قَالَ: سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ عُرْوَةَ، يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ هَا هُنَا أَقْوَامًا حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِشِرْكٍ، يَأْتُونَا بِلُحْمَانٍ لَا نَدْرِي يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا أَمْ لَا؟ قَالَ:«اذْكُرُوا أَنْتُمُ اسْمَ اللَّهِ، وَكُلُوا» .

تَابَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَعَبْدُ العَزِيزِ بن مُحمَّد، وَأُسَامَةُ ابْنُ حَفْصٍ.

7399 -

حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ:«ضَحَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِكَبْشَيْنِ يُسَمِّي وَيُكَبِّرُ»

(2)

.

(1)

رواه مسلم (6)(1929).

(2)

ورواه مسلم (17)(1966).

ص: 72

7400 -

حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ جُنْدَبٍ، أَنَّهُ شَهِدَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ النَّحْرِ صَلَّى، ثُمَّ خَطَبَ فَقَالَ:«مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ فَلْيَذْبَحْ مَكَانَهَا أُخْرَى، وَمَنْ لَمْ يَذْبَحْ فَلْيَذْبَحْ بِاسْمِ اللَّهِ»

(1)

.

7401 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا وَرْقَاءُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، وَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ»

(2)

.

وَهذَا يُبيِّنُ لنَا أنَّ المُسْلِمِينَ الَّذينَ هُمْ حُدثَاءُ عَهدٍ بِالإِسْلامِ تَحلُّ ذَبائِحُهُم عَلَى السَّلامَةِ وعَلَى الحِلِّ، وَإنَّمَا يُشرَعُ لِمنْ أُهْدِيتْ إِليْهِ أنْ يُسمِّيَ هُوَ كَمَا يُسمِّي عَلَى الطَّعامِ وعَلَى كلِّ مَا يَأكُلْ، فيُسَمِّي عَلَى هذِهِ اللُّحُومِ ويَكفِيهِ، فيُحسِنُ الظَّنَّ بِهِمْ وَلَا يَحمِلُهَا عَلَى المَيتَةِ.

بِخِلافِ ذَبائِحِ الكُفَّارِ، فلَا، لَا تُؤكَلُ وَلَا يُسَمَّى عَليْها ـ بِخِلافِ أَهْلِ الكِتابِ ـ كَالوَثنِيِّ وَالشُّيوعِيِّ ونَحوِهِم مِنْ الكَفَرةِ -غَيرِ أَهْلِ الكِتابِ- فَذَبيحَتُهم مُحرَّمَةٌ، وَلَا تَحِلُّ بِالتَّسمِيةِ عَليْها كَمَا يَظنُّ بَعضُ النَّاسِ، لَا، إنَّمَا هَذَا فِي قَومٍ حُدَثاءُ عَهدٍ بِالإِسْلامِ، تُحمَلُ ذَبائِحُهم عَلَى الأَصلِ -وهُوَ الحِلُّ- لأَنَّهُم

(1)

ورواه مسلم (1960).

(2)

ورواه مسلم (1646).

ص: 73

مُسلِمُونَ، وإِذَا شكَّ فِي ذلِكَ يُسمِّي هُو.

وَأمَّا ذَبائِحُ أَهْلِ الكِتابِ فهِيَ مِثلُ ذَبائِحِ المُسْلِمِينَ حِلٌّ لنَا، إلَّا أنْ نَعلَم أنَّها ذُبِحتْ عَلَى غَيرِ الشَّرعِ، كَالخَنقِ؛ لِأنَّ اللهَ جَعلَ طَعامَهُم حِلًّا لنَا، إلَّا مَنْ عُرِفَ مِنهُم بِالذَّبحِ غَيرِ الشَّرعِيِّ فَلا تُؤكَلُ ذَبيحَتُهُ.

وَمَا ذُكِرَ عَليهِ غَيرُ اسْمِ اللهِ؟

يَكُونُ مَيتَةً، إِذَا ذُكِرَ غَيرُ اسْمِ اللهِ: كَالمَسيحِ، أوِ الزُّهرَةِ، أوِ العُزيْرِ؛ يَكُونُ مَيتَةً.

أَحْسَنَ اللهُ إِليْكَ، تَسمِيتُهُ هُوَ لِإِزالَةِ الشَّكِّ أوْ لِلأَكلِ؟

الظَّاهِرُ لِتَطْييبِ النُّفُوسِ، وإلَّا فَتَسْمِيتُهم تَكفِي؛ لِأنَّهم يُسَمُّونَ عَلَى طَعَامِهِم.

تَكونُ التَّسْمِيةُ بِنيَّةِ الأَكْلِ؟

إِذَا سَمَّوُا اللهَ عَليْهَا عِنْدَ أَكلِهِم إِيَّاها كَفَى. يَعنِي: فِعلُ السُّنةِ الَّتِي شَرعَهَا اللهُ لهُمْ.

إِذَا بَحثَ عَنْ آلَةِ الذَّبحِ ولمْ يَجدْهَا وتَأخَّرتْ هلْ يَكُونُ مَيتَةً؟

الأَظهَرُ أنَّهُ يَكُونُ مَيتَةً؛ لِأنَّ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «فَإِنْ أَدْرَكْتَهُ حَيًّا فَاذْبَحْهُ، وَإِنْ أَدْرَكْتَهُ قَدْ قُتِلَ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ فَكُلْهُ»

(1)

، «فَإِنَّ أَخْذَ الْكَلْبِ ذَكَاتُهُ»

(2)

، يَكُونُ تَفْريطًا، كَونُهُ مَا يُعدُّ آلَةً لِلذَّبحِ يَكُونُ تَفْرِيطًا، يُعتَبرُ تَفرِيطًا منْهُ.

(1)

رواه مسلم (1929)(6).

(2)

رواه البخاري (5475).

ص: 74

إِذَا كَانَ حَيوانٌ غَيرُ مَأكُولِ اللَّحمِ، هلْ يُذكِّيهِ حَتَّى يُرِيحَهُ؟

مَا أَعلَمُ فِي هَذَا شَيْئًا. أَقُولُ: مَا أَعلَمُ فِي هَذَا شَيْئًا، إِنْ تَركَهُ فَلا بَأسَ، إنْ كَانَ قِطًّا أوْ كَلبًا إِذَا تَركَهُ حَتَّى يَمُوتَ، مَا أَعلَمُ أنَّهُ مَشْرُوعٌ لنَا أنْ نُذكِّيَهُ، يَترُكهُ حَتَّى يَمُوتَ.

الشَّاةُ إِذَا مَرِضتْ وَأَصابَهَا مَرضٌ شَدِيدٌ ويُخْشَى عَليْها المَوْتُ، هل يَذبَحُها؟

هُوَ بِالخِيارِ: إنْ شَاءَ ذَبَحَها لَعَلَّها تُؤكَلُ، وإنْ شَاءَ تَركَهَا؛ لِأنَّهَا مَأكُولةٌ، إنْ ذَبحَها فرُبَّمَا تُؤكَلُ، وإنْ لمْ يَذْبَحْهَا وتَركَهَا حَتَّى مَاتَتْ فلَا أَعلَمُ بِهِ بَأسًا - لِأنَّهَا قدْ تُشفَى.

يَعنِي: مَا يُرِيحُها بِالذَّبحِ؟

مَا أَعلَمُ شَيْئًا فِي هذَا، بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ يَكرَهُ ذلِكَ -التَّرْيِيحَ- لِأنَّهُ مَا عَليْهِ دَليلٌ، لَكِنَّ الأَمرَ فِيهِ وَاسِعٌ إنْ شَاءَ اللهُ.

* * *

ص: 75

‌باب مَا يُذْكَرُ فِي الذَّاتِ وَالنُّعُوتِ وَأَسَامِي اللَّهِ عز وجل

وَقَالَ خُبَيْبٌ: «وَذَلِكَ فِي ذَاتِ الإِلَهِ فَذَكَرَ الذَّاتَ بِاسْمِهِ تَعَالَى»

7402 -

حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ أَسِيدِ بْنِ جَارِيَةَ الثَّقَفِيُّ - حَلِيفٌ لِبَنِي زُهْرَةَ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي هُرَيْرَةَ - أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَشَرَةً مِنْهُمْ خُبَيْبٌ الأَنْصَارِيُّ، فَأَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عِيَاضٍ، أَنَّ ابْنَةَ الحَارِثِ، أَخْبَرَتْهُ، أَنَّهُمْ حِينَ اجْتَمَعُوا اسْتَعَارَ مِنْهَا مُوسَى يَسْتَحِدُّ بِهَا، فَلَمَّا خَرَجُوا مِنَ الحَرَمِ لِيَقْتُلُوهُ، قَالَ خُبَيْبٌ الأَنْصَارِيُّ:

وَلَسْتُ أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا

عَلَى أَيِّ شِقٍّ كَانَ لِلَّهِ مَصْرَعِي

وَذَلِكَ فِي ذَاتِ الإِلَهِ وَإِنْ يَشَأْ

يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ

فَقَتَلَهُ ابْنُ الحَارِثِ، فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَصْحَابَهُ خَبَرَهُمْ يَوْمَ أُصِيبُوا.

وَهذَا وَرَدَ فِي عدَّةِ أَخْبارٍ، ذِكرُ الذَّاتِ وَردَ فِيهِ عدَّةُ أَخْبارٍ، مِنْها هَذَا الخَبرُ:

ص: 76

خَبرُ خُبَيبٍ رضي الله عنه حِينَ قَالَ: «وَذَلِكَ فِي ذَاتِ الإِلَهِ» . فَأقرَّهُ النَّبيُّ عليه الصلاة والسلام.

وَكَانَ هَذَا فِي قصَّةِ عَاصِمِ بنِ ثَابتٍ بنِ أبِي الأَقْلحِ فِي سَرِيَّتهِ رضي الله عنهم لمَّا أُصِيْبَ، واعْتَدَى عَليهِمْ جَماعَةٌ مِنْ بَنِي لِحْيانَ مِنْ هُذَيلٍ، وأَسرُوا مِنهُم جَماعَةً، مِنهُم خُبيْبٌ رضي الله عنه، وَبَاعُوهُ فِي أهلِ مكَّةَ، وَمَا جَرَى مِنْ قَتلِهِ كَمَا هُنَا فِي الحَدِيثِ.

فَالحَاصلُ: أنَّ قَولَهُ: «وَذَلِكَ فِي ذَاتِ الإِلَهِ» فِيهِ بَيانُ إِثْباتِ الذَّاتِ، كَمَا جَاءَ إِثْباتُ الأَسْماءِ وَالصِّفاتِ هَكَذا الذَّاتُ، فاللهُ سُبْحانَهُ لَهُ ذَاتٌ لَا تُشبِهُ الذَّواتِ، بلْ هِيَ أَعظَمُ الذَّواتِ وأَكمَلُ الذَّواتِ، ولهَا صِفاتُ الكَمالِ وَالأَسْماءِ الحُسنَى.

وَهكَذَا جَاءَ فِي حَدِيثِ قصَّةِ إِبْراهِيمَ عليه السلام: «أَنَّهُ لَمْ يَكْذِبْ إِلَّا ثَلَاثَ كَذَبَاتٍ، كُلُّهُنَّ فِي ذَاتِ اللهِ»

(1)

.

فَالوَاجِبُ عَلَى أَهْلِ الإِيمَانِ وعَلَى المُكلَّفِينَ: إِثْباتُ أَسْماءِ اللهِ وصِفَاتِهِ، وَأصْلُ ذلِكَ إِثْباتُ ذَاتهِ سبحانه وتعالى، وَأنَّهُ مَوجُودٌ عَظِيمٌ قَادِرٌ، مَوصُوفٌ بِالصِّفاتِ العُلَا ومُسمَّى بِالأَسْماءِ الحُسنَى، فَوقَ العَرشِ، فَوقَ جَمِيعِ الخَلقِ سبحانه وتعالى، لَهُ الأَسْماءُ الحُسنَى ولَهُ الصِّفاتُ العُلَى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} [الشورى: 11].

فكَمَا أنَّ المُسلِمِينَ يُثْبِتونَ صِفاتٍ لَيسَ لَهُ فِيهَا شَبِيهٌ، فهَكَذا الذَّاتُ مِنْ بَابِ أوْلَى لَيسَ لَهُ فِيهَا شَبِيهٌ، فهِيَ ذَاتٌ ذَات سَمْعٍ وبَصرٍ وعِلمٍ وقُدْرَةٍ، إِلَى غَيرِ ذلِكَ مِنْ الصِّفاتِ العَظِيمةِ.

(1)

رواه البخاري (3357)، ومسلم (2371)(154).

ص: 77

‌باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران:

28]

وَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة: 116].

7403 -

حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«مَا مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ الفَوَاحِشَ، وَمَا أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ المَدْحُ مِنَ اللَّهِ»

(1)

.

7404 -

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابِهِ وَهُوَ يَكْتُبُ عَلَى نَفْسِهِ وَهُوَ وَضْعٌ عِنْدَهُ عَلَى العَرْشِ إِنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي»

(2)

.

وَهكَذَا قَالَ سُبْحانَهُ: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54]. هُوَ الَّذِي كَتبَ ولَمْ يَكتُبْهُ أَحدٌ، وكَتبَ عَلَى نَفسِهِ الرَّحمَةَ فضْلًا مِنهُ وَإْحْسَانًا

(1)

ورواه مسلم (2760).

(2)

ورواه مسلم (2751).

ص: 78

وجُودًا وكَرَمًا، وهَكَذا أَحَقَّ عَلَى نَفسِهِ نَصْرَ عِبادِهِ المُؤمِنِينَ، وَإِدْخَالَ الجنَّةِ لِمنْ لَقِيَهُ بِالتَّوحِيدِ وَالإِيمَانِ، كُلُّ ذلِكَ مِنْ فَضلِهِ وَإِحْسَانِهِ سبحانه وتعالى.

الكِتابَةُ مِنْ الصِّفَاتِ الفِعلِيَّةِ؟

نَعمْ، كَالخَلقِ وَالرَّزقِ، القَاعِدَةُ: كُلُّ مَا يَتعلَّقُ بِالمَشِيئَةِ يُسمَّى صِفَاتِ فِعْلٍ، وَمَا يَتعَلَّقُ بِغَيرِ ذلِكَ يُسمَّى صِفَاتِ الذَّاتِ، كَالسَّمعِ وَالبَصرِ وَالعِلمِ وَنحْوِ ذلِكَ، صِفَاتٌ ذَاتيَّةٌ، وَالخَلْقُ وَالرَّزْقُ وَالتَّدْبِيرُ وَالإِحْياءُ وَالإِمَاتةُ وَإِنْزالُ المَطرِ وَالنُّزُولُ وَالاسْتِواءُ ونَحوُ ذلِكَ -كُلُّها صِفَاتُ فِعلٍ، تَكُونُ بِالمَشيئَةِ وَالاخْتِيارِ.

وَبَعضُ الصِّفاتِ يُطلَقُ عَليْهَا صِفَاتُ ذَاتٍ وَصِفاتُ فِعلٍ؛ لِأنَّهَا مُلازِمَةٌ لِلذَّاتِ؛ وَلِأنَّهَا تَكُونُ بِالمَشِيئةِ وَالاخْتِيارِ: كَالْكَلامِ، فَإنَّهُ لَا يَزَالُ مُتكلِّمًا إِذَا شَاءَ سبحانه وتعالى، هذِهِ يُقَالُ لَهَا: صِفَاتُ ذَاتٍ مِنْ هذِهِ الحَيثِيَّةِ، وصِفَةُ فِعلٍ؛ لِأنَّهُ بِمَشيئَتِهِ، لَا بِالإِجْبَارِ.

7405 -

حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، سَمِعْتُ أَبَا صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً»

(1)

.

(1)

ورواه مسلم (2675).

ص: 79

وَهذَا كَسَائِرِ الصِّفَاتِ تُمَرُّ عَلَى ظَاهِرِها عَلَى الوَجهِ اللَّائِقِ بِاللهِ، معَ العِلْمِ أنَّها تُفِيدُ أنَّهُ سُبْحانَهُ أَسْرعُ بِالخَيرِ إِلَى عِبادِهِ مِنهُمْ، وأَنَّهُم مَتَى سَارَعُوا إِلَى الخَيرَاتِ وَسابَقُوا إِلَى الطَّاعَاتِ، فَاللهُ بِالخَيرِ أَسبَقُ، وَفَضلُهُ أَكثَرُ وَأعظَمُ.

وَأمَّا تَفْسِيرُ هذِهِ الصِّفَاتِ فَلَا يَعلَمُ كَيفِيَّةَ ذلِكَ إلَّا هُو، صِفَاتُ حقٍّ (تَقرُّبُهُ مِنْ عِبَادِهِ ذِرَاعًا، وبَاعًا، وَمَشيُهُ إِليْهِ هَرْوَلةً) كُلُّ هذِهِ مِنْ الصِّفَاتِ الفِعلِيَّةِ الَّتِي تُمَرُّ عَلَى ظَاهِرِها مِنْ غَيرِ تَحرِيفٍ، وَلَا تَكْييفٍ، وَلَا تَمْثِيلٍ، بلْ عَلَى حَدِّ قَولِهِ سُبْحانَهُ:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} [الشورى: 11].

لَكنَّهُ يُستَفادُ مِنْها، مِنْ مَضْمونِهَا ومِن ثَمَراتِها ومِن مُقْتضَاهَا: أنَّهُ سُبْحانَهُ أَسْرعُ بِالخَيرِ إِلَى عِبادِهِ مِنهُم، وَأنَّهُ أَجْوَدُ وَأكْرَمُ، مِنْ سَابَقَ إِلَى الخَيْراتِ وسَارَعَ إِلَى الطَّاعَاتِ؛ فَاللهُ إِليْهِ أَسرَعُ بِالخَيرَاتِ وَالثَّوابِ.

وَقوْلُهُ: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران: 28]، و {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي} [المائدة: 116]: تُمرُّ كَمَا جَاءَتْ مِثلُ سَائرِ الصِّفاتِ، لَهُ نَفسٌ لَا يَعلَمُ كَيفِيَّتهَا إلَّا هُوَ سبحانه وتعالى، لَهُ نَفْسٌ كَمَا أنَّ لَهُ يدًا وقَدَمًا ورَحْمَةً وغَضَبًا ورِضًا ونَحوَهَا، وكلُّهَا تَلِيقُ بِاللهِ لَا يُشابِهُهُ فِيها خَلقُهُ.

أَحْسَنَ اللهُ إِليْكَ، لو وُعِظَ بِمثْلِ هَذَا الحَدِيثِ:«مَنْ تَقرَّبَ إِليَّ شِبْرًا» أَشَارَ شِبرًا، «مَنْ تَقرَّبَ إِليَّ ذِرَاعًا» أَشارَ ذِراعًا، «مَنْ تَقرَّبَ إِليَّ بَاعًا» أَشَارَ بَاعًا؟

إِذَا أَرَادَ بِهِ الحَقيقَةِ ونَفْيَ التَّشْبيهِ لَا بَأسَ، إِذَا أَرادَ أنَّهُ شِبرٌ عَلَى الحَقِيقَةِ، وبَاعٌ عَلَى الحَقِيقةِ عَلَى الوَجهِ اللَّائقِ بِاللهِ فلَا بَأسَ، مِنْ بَابِ بَيَانِ الحَقيقَةِ، لَا

ص: 80

مِنْ بَابِ التَّكْييفِ وَالتَّمْثيلِ، مِثلُ مَا أَشَارَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لمَّا ذُكِرَ السَّمْعُ وَالبَصرُ، قَالَ:«هَكَذَا» وَأشَارَ إِلَى الأُذنِ وَالعَينِ، لَيسَ قَصْدُهُ التَّمثِيلَ، وإنَّمَا قَصدُهُ أنَّهَا عَينٌ حَقِيقَةً، وسَمعٌ حَقِيقةً، وبَصرٌ حَقِيقةً.

«مَا مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرُ مِنَ اللهِ» «وَمَا أَحَدٌ أَحَبُّ إِلَيْهِ المَدْحُ مِنَ اللهِ» ؟

صِفَةُ الغَيرَةِ، فهُوَ يَغَارُ إِذَا انُتْهِكتْ مَحارِمُهُ، وَأنَّهُ يُحبُّ أنْ يُمدَحَ ويُثنَى عَليْهِ، مِنْ صِفاتِهِ أنَّهُ يُحِبُّ أنْ يُمدَحَ ويُثْنى عَليْهِ بِصِفاتِهِ العَظِيمةِ، فهُوَ العَزِيزُ وَالحَكِيمُ وَالرَّؤُوفُ وَالقَدِيرُ، هُوَ الجَوادُ وهُوَ الكَرِيمُ، تَمدَحهُ بِصِفاتِهِ سبحانه وتعالى؛ لِأنَّ البَابَ بَابُ ذِكرِ الأَسْماءِ وَالنُّعُوتِ.

* * *

ص: 81

‌باب قَوْلِ اللَّهِ عز وجل: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:

88]

7406 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} [الأنعام: 65]، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«أَعُوذُ بِوَجْهِكَ» . فَقَالَ: {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} [الأنعام: 65]، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«أَعُوذُ بِوَجْهِكَ» . قَالَ: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا} [الأنعام: 65]، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«هَذَا أَيْسَرُ» .

‌بابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه: 39]، «تُغَذَّى» ، وَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ:{تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:

14]

7407 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: ذُكِرَ الدَّجَّالُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:«إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْكُمْ، إِنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِأَعْوَرَ - وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى عَيْنِهِ - وَإِنَّ المَسِيحَ الدَّجَّالَ أَعْوَرُ العَيْنِ اليُمْنَى، كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ»

(1)

.

(1)

ورواه مسلم (169).

ص: 82

وَهذَا مِنْ بَابِ إِثْباتِ الحَقِيقَةِ، فَالنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أَشَارَ إِلَى عَينِهِ، لَيسَ قَصدُهُ التَّمْثيلَ كَمَا تَقدَّمَ، وَإنَّمَا قَصدُهُ الإِشَارَةُ إِلَى أنَّهَا حَقِيقةٌ، عَينٌ حَقِيقَةً تَلِيقُ بِاللهِ {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39)} [طه: 39]. أي تُغذَّى وتُوَجَّهُ وتُربَّى تَحتَ مَرْأًى مِنْ اللهِ ومَسمَعٍ، ذَكَرَ العَينَ هُنَا لِأنَّهُ سبحانه وتعالى يَراهُمْ، ويَعْلَمُ مَكانَهُم، ويُرشِدُهُم إِلَى مَا فِيهِ صَلَاحُ مُوسَى عليه الصلاة والسلام.

وَكذَلِكَ {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر: 14]: فِي السَّفينَةِ بِمرْأًى مِنْ اللهِ، لَا بِهَواهَا وَلَا بِهَواهُم، بَلِ اللهُ يُوجِّهُها جل وعلا فِي صَالحِ رُكَّابِها، نُوحٍ عليه السلام ومَنْ مَعهُ، كَمَا ذَكرَ وَصْفهُ فِي الآيَةِ الثَّانِيةِ {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 48]. يَعنِي: تَحتَ رِعَايَتِنا وَإِحْسَانِنا ومَرْأًى مِنَّا.

وَلَيسَ المُرَادُ إِنْكارَ هذِهِ الصِّفَاتِ، بَلِ المُرادُ إِثْباتُها، فَفِيهِ إِثْباتُ العَينِ، وَإِثباتُ البَصرِ، وإِثْباتُ الرِّعَايةِ لِهذِهِ الأَشْياءِ، وأنَّ مُقْتضَى ذلِكَ أنَّهُ يَرْعَى مُوسَى عليه السلام، ويَرعَى السَّفِينةَ، وَيَرعَى مُحمَّدًا عليه الصلاة والسلام، بِرِعايَتهِ سبحانه وتعالى، فلَا مُنافَاةَ بَينَ إِثْباتِ العَينِ وَإِثْباتِ الرِّعايَةِ.

وَليسَ هَذَا تَأْويلًا كَمَا يَظنُّ بَعضُ النَّاسِ أنَّ هَذَا مِنْ التَّأوِيلِ، لَيسَ هَذَا مِنَ التَّأوِيلِ، بلْ هَذَا صَرِيحُ الآيَاتِ، وَأنَّ اللهَ سُبْحانَهُ بَيَّنَ هذَا، وَأنَّ اللهَ جل وعلا رَعَى هذِهِ السَّفينَةَ، وَرعَى مُحمَّدًا صلى الله عليه وسلم، وَرعَى مُوسَى صلى الله عليه وسلم، حَيثُ صُنِعتِ [السَّفِينةُ] عَلَى عَينِهِ، وَجَرتْ عَلَى عَينِهِ، وأَمَرهُم بِالصَّبرِ لِحُكمِ ربِّهِ بِعيْنهِ سبحانه وتعالى.

ص: 83

وَهكَذَا فُسِّرَ ذلِكَ فِي حَدِيثِ الدَّجَّالِ وَقَالَ: «إِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ»

(1)

. فبيَّنَ أنَّ لَهُ عَينًا حَقِيقةً، الدَّجَّالُ أَعْورُ، وَاللهُ لَيسَ بِأَعورَ، بلْ لَهُ عَيْنانِ سَلِيمَتانِ لَا عَوَرَ فِيهِما وَلَا نَقصَ فِيهِما، بِخِلافِ الدَّجَّالِ فلَهُ عَينٌ عَوْراءُ كَأنَّهَا عِنَبةٌ طَافِيةٌ، وَأَشارَ إِلَى عَينِهِ عليه الصلاة والسلام، يَعنِي: أنَّهَا عَينٌ حَقِيقةً.

وَأكثَرُ أَصْحابِ الكَلَامِ وَأَرْبابِ الكَلَامِ ومَن بُلِيَ بِالتَّأْويلِ لَا يَطْمئِنُّونَ إِلَى هذِهِ الأَخْبَارِ، وَإِنَّما يُؤوِّلُونَها عَلَى غَيرِ تَأْوِيلِها، وَيَنْفونَ صِفَاتِ اللهِ عز وجل، نَسْألُ اللهَ العَافِيةَ.

وَهكَذَا يَكُونُونَ فِي جَمِيعِ الصِّفَاتِ كُلِّهَا بِالتَّأْويلِ، وهَذَا مِنْ فَسَادِ العُقُولِ، وفَسَادِ التَّصوُّرِ، وضَعْفِ الإِيمَانِ أوْ زَوالِهِ.

وَأيُّ مَحْذورٍ وأيُّ خَطرٍ فِي إِثْباتِها كَمَا أَرَادَ اللهُ عَلَى الوَجهِ اللَّائقِ بِاللهِ، مِنْ غَيرِ تَحْريفٍ، وَلَا تَعْطيلٍ وَلَا تَكْييفٍ وَلَا تَأْويلٍ؟! بِل هَذَا مِنْ كَمالِهِ، فهُوَ إِلهُ يُعبَدُ، لَهُ سَمعٌ وَلهُ بَصرٌ، وَلهُ رَحْمَةٌ، وَلهُ غَضَبٌ وَلهُ رِضًا، كُلُّ هذِهِ مِنْ صِفَاتِ الكَمَالِ الَّتِي يَستَحقُّ بِهَا أنْ يُعبَدَ ويُعظَّمَ.

وأيُّ تَعْظيمٍ وأَيُّ إِجْلالٍ فِي إِثْباتِ ذَاتٍ لَيسَ لَهَا صِفَاتٌ؟! هلْ يَقُولُ هَذَا عَاقِلٌ؟! ذَاتٌ لَيسَ لَهَا صِفَاتٌ لَيسَ لَهَا إلَّا العَدمُ، لَيسَ لَهَا صِفةٌ إلَّا العَدمُ؟!

يُؤخَذُ منَ الحَدِيثِ إِثْباتُ العَيْنينِ، وأنَّ للهِ عَيْنينِ؟

نَعمْ، مِثلُ مَا قَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ: إنَّ للهِ عَينَيْنِ، كَمَا دلَّ عَليْهِ إِطْلاقُ الآيَاتِ، وَالعَربُ تُطلِقُ الجَمعَ عَلَى المُثنَّى إِذَا أُرِيدَ بِهِ العَظمَةُ، كَمَا قَالَ جل وعلا:{فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] وهُمَا عَائِشةُ وحَفْصَةُ رضي الله عنهما،

(1)

رواه البخاري (3057)، ومسلم (169)(274).

ص: 84

قَلْبَانِ، وأُضِيفَ إِلَى المُثنَّى.

وَ {بِأَعْيُنِنَا} النُّونُ لِلعَظمَةِ، وهُما عَيْنانِ، كَمَا قَالَ:{فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] السَّارِقُ وَالسَّارِقةُ يَدَانِ، فَلمَّا أَضَافَ إِلَى ضَمِيرِ المُثنَّى جَمَعَ، قَالَ:«أَيْدِيَهُمَا» . وهمُا يَدانِ: يَدَيْهِما، فَلمَّا جَاءَ التَّفصِيلُ ثَنَّى كَمَا قَالَ:{خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75]، فثَنَّاهُما وَأوْضَحَ سبحانه وتعالى.

7408 -

حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، أَخْبَرَنَا قَتَادَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«مَا بَعَثَ اللَّهُ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَنْذَرَ قَوْمَهُ الأَعْوَرَ الكَذَّابَ، إِنَّهُ أَعْوَرُ، وَإِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ، مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَافِرٌ»

(1)

(2)

.

فِتنَةُ الدَّجَّالِ فِتْنتُهُ عَظِيمةٌ، الأَنْبيَاءُ كلُّهُم أَنْذرُوا قَومَهُم معَ أنَّهُ لَا يَخرُجُ إلَّا فِي آخِرِ الزَّمَانِ، وهَذَا مِنْ أَجْلِ عِظمِ خَطرِهِ، وَعِظمِ فِتْنتِهِ، حَتَّى يَتوَارَثَ النَّاسُ الحَذرَ مِنهُ، حَتَّى نُوحٌ عليه السلام أَنْذرَ قَومَهُ، وَنبيُّنَا صلى الله عليه وسلم أَبْدَى فِيهِ وأَعَادَ، وأَنذَرَ أَكْثرَ عليه الصلاة والسلام.

* * *

(1)

ورواه مسلم (2933).

(2)

وفي الحديث إثبات صفة العين لله تعالى على ما يليق بِهِ سبحانه.

ص: 85

‌باب قَوْلِ اللَّهِ: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} [الحشر:

24]

7409 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا مُوسَى هُوَ ابْنُ عُقْبَةَ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ، عَنِ ابْنِ مُحَيْرِيزٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، فِي غَزْوَةِ بَنِي المُصْطَلِقِ أَنَّهُمْ أَصَابُوا سَبَايَا، فَأَرَادُوا أَنْ يَسْتَمْتِعُوا بِهِنَّ، وَلَا يَحْمِلْنَ، فَسَأَلُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنِ العَزْلِ، فَقَالَ:«مَا عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَفْعَلُوا، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ كَتَبَ مَنْ هُوَ خَالِقٌ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ» .

وَقَالَ مُجَاهِدٌ، عَنْ قَزَعَةَ، سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ فَقَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَتْ نَفْسٌ مَخْلُوقَةٌ إِلَّا اللَّهُ خَالِقُهَا»

(1)

.

يَعنِي: أَرَادُوا أنْ يَعْزِلُوا؛ فَلمْ يَنْههُم عَنِ العَزْلِ؛ فدَلَّ ذلِكَ عَلَى الجَوَازِ؛ لِأنَّهُ منَ الأَسْبَابِ، مَا مِنْ نَفسٍ إلَّا مَكتُوبٌ رِزقُهَا وأَجَلُها وحَياتُهَا ومَوتُهَا، ومعَ ذلِكَ مَأمُورُونَ بِالأَسْبَابِ، يَتَّقِي أَسْبابَ الشَّرِّ وَيأْخُذُ بِأسَبَابِ الخَيرِ، ويتَّقِي أَسْبَابَ الهَلَاكِ، ويَأخُذُ بِأسْبَابِ الحَياةِ، وهَذَا لَا يُنافِي القَدَرَ.

(1)

ورواه مسلم (1438).

ص: 86

وَهكَذَا العَزلُ وَتَعاطِي مَا يَمْنعُ الحَمْلَ، هُوَ مِنْ هَذَا البَابِ؛ لِأنَّهُم يُحبُّونَ أنْ تَبقَى لِلبَيعِ فَيَستَمْتعُونَ بِهَا وَلَا تَحْمَلُ، فَعزَلُوا، وأَخْبرَهُم أنَّ هَذَا العَزلَ لَا يَمنَعُ مَا كَتبَ اللهُ أنْ يُخلَقَ، فَإنَّ المَاءَ لَيسَ بِيدِ الإِنْسَانِ، قدْ يُرِيدُ أنْ يَعزِلَ فيَسْبقُهُ المَاءُ وَيَخرُجُ إِلَى الرَّحِمِ؛ فَيحْصُلُ الوَلدُ، مَا كَتبَهُ اللهُ لَيسَ لَهُ مَانِعٌ، إنَّمَا هَذَا منَ الأَسْبَابِ الَّتِي قدْ تَنْفَعُ وقدْ تُفلِتُ مِنهُ وقدْ لَا تَنْفعُ.

وَهكَذَا البَيعُ والشِّراءُ، وهَكَذا الزَّوَاجُ وَالجِمَاعُ، كلُّهُا أَسْبَابٌ، قدْ تُثمِرُ هذِهِ الأَسْبابُ وقدْ يَربَحُ فِي بَيعِهِ ويَسْتغْنِي، وقدْ يُحمَلُ لَهُ فِي هَذَا النِّكَاحِ، وقدْ يُجامِعُ ويُجَامِعُ وَلَا يُحمَلُ لهُ.

عِنْدنَا فِي نُسخَتِنا (مُحمَّدُ بنُ يَحْيَى بنِ حَيَّانَ)؟

لَا، غَلطٌ، ابنُ حِبَّانَ، بِالمُوحَّدَةِ.

[قَالَ الإِمَامُ العَينِيُّ رحمه الله فِي «عُمدَةِ القَارِي» (25/ 103)]: «وَمُحَمّدُ بنُ يَحيْى بنِ حَيَّان، بِفَتْح الْحَاءِ الْمُهْملَةِ وَتَشْديدِ الْيَاءِ آخِرِ الْحُرُوفِ الْأنْصَارِيُّ» . [انتهى كلامه].

قَالَ ابْنُ بَازٍ رحمه الله: هَذَا غَلَطٌ، العَينِيُّ يَفُوتهُ كَثِيرٌ؛ لِأنَّهُ لَيسَ مِنْ أَهْلِ الحَدِيثِ كَمَا يَنْبغِي، فَقِيهٌ حَنفِيٌّ مَعْرُوفٌ، قدْ يَفُوتهُ أَشْيَاءُ مِنْ جِهةِ الحَدِيثِ. حبَّانُ، بِالبَاءِ المُوحَّدةِ.

(الشَّيخُ) رَاجِعْ كِتَابَ «التَّقْرِيبِ» ؟

[قَالَ الحَافِظُ ابنُ حَجَرٍ رحمه الله فِي «تَقْريبِ التَّهذيبِ» (6381)]: «مُحمَّدُ بْنُ يَحيَى بنُ حبَّانَ -بِفتْحِ المُهمَلةِ وتَشْديدِ المُوحَّدةِ- ابنُ مُنقِذٍ الأَنْصارِيُّ المَدَنيُّ، ثِقةٌ فَقِيهٌ منَ الرَّابِعةِ، مَاتَ سَنةَ إِحْدى وعِشْرينَ، وهُوَ ابنُ أَرْبعٍ وسَبْعينَ

ص: 87

سنةً، ع».

قَالَ ابْنُ بَازٍ رحمه الله: مَا ذَكرَ قَوْلًا آخَرَ، جدُّهُ حبَّانُ صَحَابِيٌّ أيْضًا.

أَحْسَنَ اللهُ إِليْكَ، قَالَ الحَافِظُ ابنُ حَجرٍ فِي شَرحِ حَدِيثِ:«إِنَّ اللهَ لَيسَ بِأعْورَ» : «وهُوَ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثيلِ والتَّقْريبِ لِلْفهمِ، لَا عَلَى مَعنَى إِثْباتِ الجَارِحةِ» ؟

لَا، هَذَا منَ التَّأوِيلِ أيْضًا، غَلَطٌ. الحَافِظُ عِندَهُ تَأوِيلَاتُ الأَشْعرِيَّةِ، لِأنَّهُ أَشْعرِيٌّ. وَالعَينُ ثَابتَةٌ، ولكِنْ لَيسَتْ مِثلَ عَينِ المَخلُوقِينَ فقَطْ، العَينُ وَالسَّمْعُ وَالبَصرُ وَالرَّحمَةُ وَالغَضبُ وَاليدُ وَالقَدمُ وَالنَّفسُ كلُّهَا ثَابِتةٌ، لكِنْ لَيسَتْ مِثلَ صِفَاتِ المَخْلوقِينَ، وَلَا قَرِيبًا مِنْ ذلِكَ، فهِيَ صِفَاتٌ لهَا البَقَاءُ وَالكَمَالُ، وصِفَاتُ المَخْلوقِينَ لهَا النَّقصُ وَالفَنَاءُ والزَّوَالُ، فَرْقٌ بَيْنهُمَا.

عَفَا اللهُ عَنكَ، إِثْباتُ العَيْنَينِ بِالتَّثنِيَةِ هلْ وَردَ نصٌّ بِإثْباتِ العَينَينِ بِالتَّثنِيةِ؟

أَصْرحُ مَا فِيهِ حَدِيثُ الدَّجَّالِ، ويُحتَجُّ لَهُ أيْضًا بِحَديثِ أبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه الَّذِي رَواهُ أَحمَدُ، وأَبُو دَاوُدَ، وجَمَاعةٌ -وَإِسْنادُهُ صَحِيحٌ عَنْ أبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه أنَّهُ لمَّا تَلَا قَولَهُ تَعالَى:{إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)} [النساء: 58] قَالَ: هكَذَا

(1)

.

قَالُوا: هَذَا دَلِيلٌ صَرِيحٌ أنَّ المُرَادَ: عَيْنانِ وسَمْعَانِ، سَمعٌ حَقِيقةً وبَصرٌ حَقِيقةً، لكِنْ لَيسَ عَلَى الوَجهِ الَّذِي يُشابِهُ المَخْلُوقِينَ.

* * *

(1)

رواه أبو داود (4728)، ولم أجده عند أحمد.

ص: 88

‌باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:

75]

7410 -

حَدَّثَنِي مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «يَجْمَعُ اللَّهُ المُؤْمِنِينَ يَوْمَ القِيَامَةِ كَذَلِكَ، فَيَقُولُونَ: لَوِ اسْتَشْفَعْنَا إِلَى رَبِّنَا حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا، فَيَأْتُونَ آدَمَ عليه السلام، فَيَقُولُونَ: يَا آدَمُ، أَمَا تَرَى النَّاسَ خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَأَسْجَدَ لَكَ مَلَائِكَتَهُ، وَعَلَّمَكَ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّك حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا، فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكَ، وَيَذْكُرُ لَهُمْ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَهَا، وَلَكِنِ ائْتُوا نُوحًا، فَإِنَّهُ أَوَّلُ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ؛ فَيَأْتُونَ نُوحًا، فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاك، وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ، وَلَكِنِ ائْتُوا إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَ الرَّحْمَنِ، فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، وَيَذْكُرُ لَهُمْ خَطَايَاهُ الَّتِي أَصَابَهَا، وَلَكِنِ ائْتُوا مُوسَى، عَبْدًا آتَاهُ اللَّهُ التَّوْرَاةَ، وَكَلَّمَهُ تَكْلِيمًا؛ فَيَأْتُونَ مُوسَى فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، وَيَذْكُرُ لَهُمْ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَها، وَلَكِنِ ائْتُوا عِيسَى عَبْدَ اللَّهِ وَرَسُولَهُ، وَكَلِمَتَهُ وَرُوحَهُ؛ فَيَأْتُونَ عِيسَى، فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، وَلَكِنِ ائْتُوا مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم، عَبْدًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبهِ وَمَا تَأَخَّرَ؛

ص: 89

فَيَأْتُونِي، فَأَنْطَلِقُ، فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي، فَيُؤْذَنُ لِي عَلَيْهِ، فَإِذَا رَأَيْتُ رَبِّي وَقَعْتُ لَهُ سَاجِدًا، فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِي، ثُمَّ يُقَالُ لِي: ارْفَعْ مُحَمَّدُ وَقُلْ يُسْمَعْ، وَسَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَحْمَدُ رَبِّي بِمَحَامِدَ عَلَّمَنِيهَا، ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا، فَأُدْخِلُهُمُ الجَنَّةَ، ثُمَّ أَرْجِعُ، فَإِذَا رَأَيْتُ رَبِّي وَقَعْتُ سَاجِدًا، فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِي، ثُمَّ يُقَالُ: ارْفَعْ مُحَمَّدُ وَقُلْ يُسْمَعْ، وَسَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَحْمَدُ رَبِّي بِمَحَامِدَ عَلَّمَنِيهَا، ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا، فَأُدْخِلُهُمُ الجَنَّةَ، ثُمَّ أَرْجِعُ، فَإِذَا رَأَيْتُ رَبِّي وَقَعْتُ سَاجِدًا، فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِي، ثُمَّ يُقَالُ: ارْفَعْ مُحَمَّدُ، قُلْ يُسْتَمَعْ، وَسَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَحْمَدُ رَبِّي بِمَحَامِدَ عَلَّمَنِيهَا، ثُمَّ أَشْفَعْ، فَيَحُدُّ لِي حَدًّا فَأُدْخِلُهُمُ الجَنَّةَ، ثُمَّ أَرْجِعُ فَأَقُولُ: يَا رَبِّ مَا بَقِيَ فِي النَّارِ إِلَّا مَنْ حَبَسَهُ القُرْآنُ، وَوَجَبَ عَلَيْهِ الخُلُودُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَكَانَ فِي قَلْبِهِ مِنَ الخَيْرِ مَا يَزِنُ شَعِيرَةً، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَكَانَ فِي قَلْبِهِ مِنَ الخَيْرِ مَا يَزِنُ بُرَّةً، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَكَانَ فِي قَلْبِهِ مَا يَزِنُ مِنَ الخَيْرِ ذَرَّةً»

(1)

.

(1)

ورواه مسلم (193).

ص: 90

هَذَا الحَدِيثُ حَدِيثٌ عَظِيمٌ جَلِيلٌ، وهُوَ حَدِيثُ فَزعِ النَّاسِ يَومَ القِيامَةِ وتَوجُّهُهم إِلَى آدَمَ، ثمَّ إِلَى نُوحٍ، ثمَّ إِلَى إِبْراهِيمَ، ثمَّ إِلَى مُوسَى، ثمَّ إِلَى عِيسَى، ثمَّ إِلَى مُحمَّدٍ، عَليْهِمُ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ.

يَومُ القِيَامَةِ يَومٌ عَظِيمٌ، شَدِيدُ الأَهْوالِ، يُحشَرُ النَّاسُ فِيهِ مِنْ أوَّلِهِم إِلَى آخِرِهم، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50)} [الواقعة: 49، 50]، وَقالَ تعالى:{يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} [التغابن: 9]، هَذَا يَومُ القِيامَةِ، يَومٌ مِثلُ مَا قَالَ اللهُ فِيهِ:{(3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14)} [المعارج: 4 - 14]

فهُوَ يَومٌ عَظِيمُ الهَولِ، يَفزَعُ النَّاسُ فِيهِ -يَوم القِيامَةِ- ويَشْتَدُّ كَرْبُهُم، ويَجمَعُ اللهُ المُؤمِنينَ، فَيقُولُونَ: اذْهبُوا إِلَى أَبِيكُم آدَمَ؛ لِيشْفَعَ لِلنَّاسِ.

وَهوَ [يَومٌ] مُيَسَّرٌ عَلَى المُؤمِنِينَ، يَومٌ يَسِيرٌ عَلَى أَهْلِ الإِيمَانِ، وَلكنَّهُ عَسِيرٌ عَلَى أَهْلِ الكُفرِ بِاللهِ، {وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26)} [الفرقان: 26]، {هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8)} [القمر: 8] يَعنِي: بِالنِّسبَةِ إِلَى أَعْداءِ اللهِ {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)} [المدثر: 8 - 10].

وتَقدَّم أنَّهُ يَعرَقُ النَّاسُ فِيهِ عَرقًا عَظِيمًا عَلَى قَدرِ خَطايَاهُم، مِنهُمْ مَنْ يَبلُغُهُ

ص: 91

العَرقُ إِلَى الكَعبِ، يَخُوضُهُ كَمَا يُخَاضُ السَّيْلُ، ومِنهُم مَنْ يَرتَفعُ العَرقُ معَهُ إِلَى رُكْبتِهِ، وإِلَى حَقْوِهِ، ومِنهُم من يُلْجِمُهُ العَرقُ إِلْجَامًا؛ فَيَأتُونَ آدَمَ -المُؤمِنُونَ يَأتُونَ آدَمَ- يَقُولُونَ: أنْتَ أبُو البَشرِ، خَلقَكَ اللهُ بِيدِهِ، وَأسْجَدَ لكَ مَلائِكتَهُ، وعلَّمَكَ أَسْمَاءَ كلِّ شَيءٍ.

وَالشَّاهِدُ قَولَهُ: «خَلَقَكَ اللهُ بِيَدِهِ» فِيهِ إِثْباتُ صِفةِ اليَدِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75]، خَلقَ اللهُ آدَمَ بِيَدهِ، هذِهِ مِيزَةٌ لِآدَمَ عليه السلام، وخِصِّيصَةٌ لآدَمَ عليه السلام، خَلقَهُ اللهُ بِيدِهِ مُباشَرَةً.

فَاللهُ يُوصَفُ بِاليَديْنِ، كَمَا قَالَ جَلَّ وعَلَا:{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64]، فهُمَا يَدانِ حَقِيقَتانِ، لَا مَجَازًا كَمَا يَقُولُهُ أَعْداءُ اللهِ مِنَ الجَهمِيَّةِ وَالمُعتَزلَةِ وَأَشْباهِهِم، لَا، بلْ يَدانِ حَقِيقَتانِ، يُوصَفُ بِهِمَا ربُّنَا جَلَّ وعَلَا، لَا تُشبِهُ أَيدِي البَشرِ وَلَا أَيدِي غَيرِ البَشرِ، لَا تُشبِهُ أَيدِي المَخْلُوقاتِ، يَدانِ عَظِيمَتانِ لَائِقتَانِ بِاللهِ، لَا يُشبِهُ فِيهَا خَلقَهُ، كَالسَّمْعِ وَالبَصرِ وَالقَدمِ وَالغَضَبِ وَالرِّضَا وَالرَّحمَةِ وغَيرِ هَذَا مِنْ صِفاتِهِ سبحانه وتعالى، كلُّهَا تَلِيقُ بِاللهِ، لَا يُشابِهُ فِيهَا خَلقَهُ جل وعلا، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} [الشورى: 11]، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)} [الإخلاص: 4]، {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74)} [النحل: 74]، {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)} [مريم: 65].

ومِنْ خَصَائِصِ آدَمَ: أنَّ اللهَ أَسْجدَ لَهُ مَلائِكتَهُ؛ تَكْرِيمًا وتَعْظِيمًا وتَقْدِيرًا لِمكَانَتهِ العَظِيمةِ مِنَ اللهِ، وعلَّمَهُ أسْمَاءَ كلِّ شَيءٍ، كَمَا دَلَّ عَليْهِ كِتابُ اللهِ فِي سُورَةِ البَقرَةِ.

ص: 92

هذِهِ مَزايَا لآدَمَ أَبِينَا عليه الصلاة والسلام، فَإِذَا أَتَاهُ النَّاسُ يَطلُبونَ مِنهُ الشَّفاعَةَ إِلَى اللهِ حَتَّى يُرِيحَ النَّاسَ مِنْ كَربِ هَذَا المَوقِفِ العَظِيمِ؛ قَالَ:«لَسْتُ هُنَاكُمْ» يَعنِي: لَستُ صِاحِبَ هَذَا المَقَامِ، هَذَا لَهُ غَيْرِي، ويَذكُرُ خَطِيئَتَهُ، وهيَ أنَّهُ أَكلَ منَ الشَّجَرةِ، معَ أنَّهُ تَابَ اللهُ عَليْهِ، لكِنْ مِنْ شدَّةِ مَا وَقعَ فِي نَفسِهِ مِنْها يَذكُرُها، قَالَ اللهُ عز وجل:{وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122)} [طه: 121، 122]، {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)} [البقرة: 37].

وَالتَّائِبُ لَا خَوْفَ عَليْهِ، ولكِنْ مِنْ شِدَّةِ مَا وقع فِي نَفسِهِ مِنْ هَذَا الأَمْرِ يَذكُرُها، ولكِنِ اذْهَبُوا إِلَى نُوحٍ، أوَّلِ رَسُولٍ أرْسلَهُ اللهُ إِلَى أهْلِ الأَرضِ، وأوَّلِ الرُّسلِ، أرْسَلَهُ اللهُ لمَّا وَقعَ الشِّركُ فِي بَنِي آدَمَ، أَرسَلَ اللهُ نُوحًا عليه الصلاة والسلام؛ لِيُنذِرهُم وَيُحذِّرَهُم مِنَ الشِّركِ بِاللهِ.

وَكَانَ ذلِكَ بِأسْبابِ ودٍّ وسُوَاعٍ ويَغُوثَ ويَعُوقَ ونَسْرٍ، كَانَ شِركُهُم أَسْبَابُهُ الغُلُوُّ فِي الصَّالِحينَ، غَلَوْا فِي الصَّالِحينَ كَمَا غَلَا النَّاسُ اليَومَ، وَكمَا غَلَا النَّاسُ قَبلَ ذلِكَ فِي العُهُودِ السَّابِقةِ قَبلَ نَبيِّنا صلى الله عليه وسلم فِي عهِدِ بنِي إِسْرَائِيلَ، غَلَوْا فِي الأَنْبيَاءِ، وغَلَوْا فِي الصَّالِحينَ، وعَبدُوهُم وعَظَّمُوهُم وَاسْتغَاثُوا بِهِمْ ونَذَرُوا لَهُمْ وبَنَوْا عَلَى قُبُورِهمُ المَسَاجِدَ وَالقِبَابَ.

كُلُّ هَذَا وَقعَ فِي الأُمَمِ، وأَصلُهُ مَا وَقعَ فِي قَومِ نُوحٍ عليه السلام، كَمَا قَالَ اللهُ جَلَّ وعَلَا:{وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23)} [نوح: 23] هَؤُلاءِ أَسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِينَ مِنْ قَومِ نُوحٍ عليه السلام، مَاتُوا فِي زَمنٍ مُتقَارِبٍ، فأَسِفَ عَليْهِم قَومُهُم، وَاْشْتدَّ عَليِهِم الحُزنُ، فَجاءَهُم الشَّيطَانُ وقَالَ: صَوِّرُوا

ص: 93

صُورَهُم وَانْصِبُوهَا فِي مَجالِسِهم، تَذْكُرُوا بِذلِكَ أعَمْالَهُم حَتَّى تَسِيرُوا عَلَى نَهْجِهِم فِي العَمَلِ الصَّالِحِ.

دَسَّ عَليْهِم هَذَا الخَبِيثُ هذِهِ الدِّسِّيسَةِ بِاسْمِ العِبادَةِ وَالصَّلاحِ وَالخَيرِ، فغَرَّهُمُ الغرُورَ حَتَّى صَوَّرُوهُم ونَصبُوهُم فِي مَجالِسِهم، ثمَّ طَالَ الأَمدُ، فَعبَدُوهُم مِنْ دُونِ اللهِ عز وجل، وجَاءَ قَومٌ لمْ يَعْرفُوا الحَقَائِقَ الَّتِي مِنْ أَجْلِها صُوِّرُوا؛ فَعَبدُوهُم مِنْ دُونِ اللهِ، ثمَّ انْتَشرَ هَذَا الشِّرْكُ فِي النَّاسِ إِلَى يَومِنَا هَذَا، ولَمْ يَزَلْ يَكثُرُ فِي النَّاسِ ويَعظُمُ حَتَّى غَلبَ عَلَى الخَلقِ، إلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ.

فَيأْتُونَ إِبْراهِيمَ عليه السلام يَطلُبونَ مِنهُ الشَّفاعَةَ فيَعْتذِرُ، ويَذكُرُ أَشْياءَ يَحتَجُّ بِهَا أنَّهُ لَيسَ أهْلًا لِهذَا المَقَامِ، فِي الرِّوايَةِ الأُخْرَى:«كَذَبَاتُهُ الَّتِي كَذَبَهَا» ، وكُلُّها فِي سَبِيلِ اللهِ، وكُلُّها فِي ذَاتِ اللهِ، حَيثُ قَالَ:{قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا (63)} [الأنبياء: 63] لمَّا كَسَّرَ الأَصْنامَ، وَحَيثُ قَالَ:{إِنِّي سَقِيمٌ (89)} [الصافات: 89] أَرَادَ أنْ يَرجِعَ لِيَكسِرَ أَصْنامَهُم، وَحَيثُ قَالَ فِي زَوجَتهِ: إنَّهَا أُختِي، وهُوَ أَرادَ أُختَهُ فِي اللهِ، لكِنَّ النَّاسَ إِذَا سَمِعُوا هَذَا الكَلَامَ يَظنُّونَها أُختَهُ فِي النَّسبِ، وقَالَهُ خَوفًا عَليْهَا مِنَ الجَبَّارِ، كلُّهَا فِي ذَاتِ اللهِ، لكِنْ لِعِظمِ خَوفِ الأَنْبِياءِ مِنَ اللهِ وتَعْظيمِهِم لَهُ سبحانه وتعالى وفَرَقِهِم مِنهُ جَلَّ وعَلَا -جَعلَ هذِهِ الكَذَبَاتِ عُذْرًا فِي أنَّهُ لَا يَتقدَّمُ لِلشَّفاعَةِ.

ثمَّ أَوْصاهُمْ وَنَصحَهُم بِأنْ يَذهَبُوا إِلَى مُوسَى كَلِيمِ اللهِ، مُوسَى بنِ عِمْرانَ عليه السلام، فأَتَوهُ أيْضًا، أَتَاهُ النَّاسُ فِي هَذَا الكَربِ العَظِيمِ يَسْألُونَهُ أنْ يَشفَعَ، فَاعْتَذرَ أيْضًا مُوسَى عليه الصلاة والسلام، وذَكَرَ قَتْلهُ لِلنَّفسِ الَّتِي قَتَلهَا وَلمْ يُؤمَرْ بِقَتْلها، ثمَّ أَرْشدَهُم إِلَى أنْ يَأتُوا عِيسَى عليه السلام عَبدَ اللهِ ورَسُولَهُ وكَلِمَتَهُ.

ص: 94

فأَتَوْا عِيسَى عليه الصلاة والسلام -وهُوَ عِيسَى ابنُ مَرْيمَ- فَاعْتذَرَ أيْضًا قَالَ: «لَسْتُ هُنَاكُمْ» ؛ فلَمْ يَذكُرْ خَطِيئةً وَلمْ يَتَعَذَّرْ بِعُذرٍ، بلْ قَالَ:«لَسْتُ هُنَاكُمْ» ، وأَوْصَاهُم بِأنْ يَذهَبُوا إِلَى محمَّدٍ عليه الصلاة والسلام، قَالَ:«عَبْدٌ غَفَرَ اللهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ» عليه الصلاة والسلام.

وبِهَذَا وَبِغيْرِه منَ الأَدِلَّةِ عَرفَ أهْلُ العِلْمِ أنَّهُ عليه الصلاة والسلام هُوَ أفْضَلُ الرُّسُلِ، وهُوَ مُقدَّمُهُم، وهُوَ خَطِيبُهم إِذَا اجْتَمعُوا، وَإِمامُهُم عليه الصلاة والسلام، فَتَقدَّمَ لِلشَّفاعَةِ، ولَمْ يَشْفعْ أوَّلًا، بِلْ سَجَدَ، أَتَى ربَّهُ، فلَمَّا رَآهُ خَرَّ سَاجِدًا للهِ، وفَتحَ اللهُ عَليْهِ بِمَحامِدَ عَظِيمةٍ علَّمَهُ إيَّاهَا سبحانه وتعالى، فَأثْنَى عَليْهِ جَلَّ وعَلَا وَحَمِدهُ كَثِيرًا، فقِيلَ لَهُ:«ارْفَعْ رَأْسَكَ يَا مُحَمَّدُ، وَقُلْ يُسْمَعْ، وَسَلْ تُعْطَ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ» ؛ فَرَفعَ رَأسَهُ وَطلَبَ الشَّفاعَةَ.

فِي هَذَا بَيانُ الشَّفاعَةِ فِي أَهْلِ النَّارِ مِنْ هذِهِ الأُمَّةِ، وفِي ضِمنِهَا فِي بَعضِ الطُّرُقِ: الشَّفاعَةُ أنْ يُقضَى بَينَ العِبادِ، وهُوَ المَقْصُودُ، لكِنْ لمْ يُذكَرْ هُنَا، المَقْصودُ: الشَّفاعَةُ فِي أنْ يُقضَى بَينَ العِبَادِ، فَالمَعنَى: أنَّهُ شَفَعَ لِأنْ يُقضَى بَينَهُم، ثمَّ شَفعَ فِيمَنْ دَخلَ النَّارَ مِنْ أُمَّتهِ عليه الصلاة والسلام.

فقَضَى اللهُ بَينَ العِبَادِ بِحُكمِهِ العَدلِ سبحانه وتعالى، فَانْصرَفَ النَّاسُ مِنْ مَحْشرِهِم إِلَى الجنَّةِ وَالنَّارِ {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7)} [الشورى: 7]، وشَفَعَ فِي أُنَاسٍ دَخَلُوا النَّارَ مِنْ أُمَّتهِ عليه الصلاة والسلام بِمعَاصِيهِم، وَأخْبرَ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ: «لَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ شَعِيرَةٍ، مِثْقَالُ بُرَّةٍ،

ص: 95

مِثْقَالُ ذَرَّةٍ»، فِي الرِّوايَةِ الأُخرَى:«مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ»

(1)

.

يَعنِي: مَنْ كَانَ فِي قَلبِهِ تَوْحيدٌ وَإِيمَانٌ لَا يُخلَّدُ فِي النَّارِ، وَإنَّمَا يُخلَّدُ فِيهَا الكُفَّارُ الخُلَّصُ الَّذينَ لَيسَ عِنْدهُم تَوحِيدٌ وَلَا إِسْلَامٌ، كُلُّهُم مُخلَّدُونَ فِيهَا أَبدَ الآبَادِ.

وَأمَّا أَهْلُ التَّوحِيدِ، وَإنْ كَانَ عِنْدَهُمْ مَعَاصٍ وسَيِّئاتٌ، فَإنَّهُم لَا يُخلَّدونَ إِذَا دَخلُوهَا، بلْ لَهُمْ نِهَايَةٌ، لهُم نِهَايةٌ يَنْتهُونَ إِليْهَا عَلَى قَدرِ خَطَايَاهُم: مِنْهُم مَنْ تَطُولُ مُدَّتهُ فِي النَّارِ، وَمِنهُم مَنْ لَا تَطُولُ مُدَّتهُ، عَلَى حَسبِ مَعاصِيهِم الَّتِي دَخَلُوا بِهَا النَّارَ.

وَما وَردَ فِي بَعضِ العُصَاةِ مِنَ الخُلُودِ فهُوَ خُلُودٌ مُؤقَّتٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي آيَةِ الفُرقَانِ:{وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69)} [الفرقان: 68، 69] ذَكَرَ الخُلُودَ وهُوَ خُلُودٌ دَائِمٌ فِي حقِّ المُشْرِكِينَ، وخُلُودٌ مُؤقَّتٌ فِي حَقِّ الزُّنَاةِ وَالقَتَلةِ الَّذينَ لمْ يَستَحِلُّوا ذلِكَ، بلْ فَعَلُوا ذلِكَ عَلَى سَبِيلِ المَعصِيَةِ، وهُمْ يَعرِفُونَ حُرمَةَ ذلِكَ.

وَهكَذَا مَا جَاءَ منَ الخُلُودِ فِي أهْلِ الرِّبَا، فِي قَاتِلِ نَفسِهِ، كلُّهُ خُلُودٌ مُؤقَّتٌ فِي حقِّ مَنْ لَيسَ بِكَافرٍ، وَالخُلُودُ عِنْدَ العَربِ خُلُودَانِ: خُلُودٌ لَا يَنْتهِي، وهَذَا خُلُودُ الكُفَّارِ، وخُلُودٌ لَهُ نِهَايةٌ وهُوَ خُلُودُ بَعضِ العُصَاةِ؛ لِأنَّ الإِقَامَةَ الطَّوِيلَةَ تُسَمَّى خُلُودًا عِنْدَ العَرَبِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ

(2)

:

(1)

رواه البخاري (22)، ومسلم (304)(184).

(2)

وهو مالك بن نويرة، الشاعر الجاهلي المعروف وكان قد أدرك الإسلام وأسلم، وهو من قصيدته التي يصف فيها يوم «مخطط» ، وهو يوم في الجاهلية كان لبني يربوع على بكر بن وائل. وتمام البيت:

يُهِلُّونَ عُمَّارًا إذَا مَا تَغَوَّرُوا

وَلاقَوْا قُرَيْشًا خبَّرُوهَا فأنْجَدُوا

بأبناءِ حيٍّ مِنْ قبائِلِ مالِكٍ

وعمرِو بنِ يَرْبُوعٍ أقامُوا فأخلَدُوا

انظر: «الأصمعيات» (1/ 10).

ص: 96

أَقَامُوا فَأخْلَدُوا

المَقصُودُ: أنَّهُم قِسْمانِ: قِسْمٌ يُخلَّدُونَ أَبَدَ الآبَادِ، وهُمُ الكُفَّارُ، وقِسْمٌ لَا يُخلَّدُونَ إلَّا خُلُودًا مُؤقَّتًا لَهُ نِهَايَةٌ، وهُم العُصَاةُ الَّذينَ تَقتَضِي جَرائِمُهم وَمَعاصِيهِم تَخْليدَهُم، يَعنِي: تَطْويلَ عَذابِهِم.

وفِي هَذَا الحَدِيثِ أنَّهُ شَفعَ ثَلَاثَ شَفَاعَاتٍ، وجَاءَ فِي الرِّوايَةِ الأُخرَى فِي «الصَّحِيحِ» أنَّهُ شَفعَ أَرْبعَ شَفاعَاتٍ -أرْبَعًا- يَشفَعُ فَيَحُدُّ اللهُ لَهُ حَدًّا، فيَذْهبُ إِلَى النَّارِ فيُخْرجُهُم بِالعَلامَاتِ الَّتِي يَجْعَلُها اللهُ لَهُ، ثمَّ يَعُودُ فَيَشفَعُ فيَحُدُّ اللهُ لَهُ حَدًّا، ثمَّ يَعُودُ فيَشْفعُ فيَحُدُّ اللهُ لَهُ حَدًّا، ثمَّ يَعُودُ فيَشفَعُ، أَرْبعَ مرَّاتٍ، ثمَّ يَقُولُ:«يَا رَبِّ لَمْ يَبْقَ فِي النَّارِ إلَّا مَنْ حَبَسَهُ القُرْآنُ» يَعنِي حَسبَ عِلمِهِ عليه الصلاة والسلام، حَسَبَ العَلَامَاتِ الَّتِي أُعْطِيَ إِيَّاهَا، وَإلَّا فَقدْ بَقِيَ فِي النَّارِ غَيرُهُم، لكِنْ حَسبَ عِلمِهِ عليه الصلاة والسلام وَحَسبَ مَا عِندَهُ مِنَ العَلَامَاتِ يَقُولُ:«لَمْ يَبْقَ فِي النَّارِ إلَّا مَنْ حَبَسَهُ القُرْآنُ» ، إلَّا الَّذِي يَعنِي لَهُ الخُلُودُ الدَّائِمُ.

وَجَاءَ فِي «الصَّحِيحِ» أيْضًا أنَّهُ يَبْقَى فِي النَّارِ بَقيَّةٌ لَا تَشمَلُهُم شَفَاعَةُ الشُّفَعاءِ، فيُخْرجُهُم اللهُ بِفضْلِ رَحْمتِهِ سبحانه وتعالى:«لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ»

(1)

، إلَّا أنَّهُم مَاتُوا عَلَى التَّوحِيدِ، إلَّا أنَّهُم مَاتُوا وهُمْ يَقُولُونَ: لَا إِلهَ إلَّا اللهُ، يَعنِي: مَاتُوا عَلَى التَّوحِيدِ، لكِنْ لهُمْ ذُنُوبٌ ولهُمْ سَيِّئاتٌ حَبَستْهُم، مَا تَابُوا مِنْها وَلمْ تَشْمَلْهُم الشَّفَاعَاتُ؛ فيُخْرجُهُم اللهُ بَعدَ ذلِكَ بِفضْلِ رَحمَتهِ، وبَعْدهَا

(1)

رواه مسلم (302)(183).

ص: 97

تُطبَقُ النَّارُ عَلَى أَهْلِها أَبدَ الآبَادِ، نَسْألُ اللهَ العَافِيةَ.

وفِي هَذَا إِثْباتُ الشَّفَاعَةِ ردًّا عَلَى المُعتَزِلةِ وَالخَوارِجِ الَّذينَ يَقُولُونَ: مَنْ دَخلَ النَّارَ منَ العُصَاةِ لَا يُخرَجُ منَ النَّارِ، عِنْدَ الخَوارِجِ وَالمُعتَزِلةِ ومَنْ سَلكَ مَذْهبَهُم مِنْ سَائِرِ طَوائِفِ المُبْتدِعَةِ يَقُولُونَ: العَاصِي لَا يُخْرَجُ منَ النَّارِ، بلْ يُخلَّدُ أَبدَ الآبَادِ. فعِنْدهُم الزَّانِي مُخلَّدٌ، وَالسَّارِقُ مُخلَّدٌ، وشَارِبُ الخَمْرِ مُخلَّدٌ، وَهكَذَا.

وَهذَا غَلَطٌ مِنْهُم عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَماعَةِ، وَالخَوارِجُ يَزِيدُونَ فِي هَذَا ويُكفِّرُونَهُم أيْضًا، لكِنْ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالجَماعَةِ يَقُولُونَ: لَا، لَيسُوا كُفَّارًا وَليْسُوا مُخلَّدِينَ الخُلُودَ خُلُودَ الكُفَّارِ، بلْ هُمْ تَحتَ مَشِيئَةِ اللهِ، كَمَا قَالَ اللهُ سُبْحانَهُ:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] فِي آيَتَينِ مِنْ كِتَابِهِ مِنْ سُورَةِ النِّسَاءِ.

فَأَبانَ سُبْحانَهُ أنَّ العُصَاةَ تَحتَ مَشِيئَةِ اللهِ سُبْحانَهُ، لَا يُخلَّدُونَ، بلْ تَحتَ مَشِيئتِهِ عز وجل.

وهَذَا هُوَ الحَقُّ، أنَّ لهُمْ نِهايَةً، وأنَّ مَنْ مَاتَ عَلَى المَعْصيَةِ لَيسَ مُستَحِلًّا لَهَا وَليْسَ كَافِرًا أنَّهُ لَهُ نِهايَةٌ، فَيَبقَى فِي النَّارِ مَا شَاءَ اللهُ، ثمَّ يُخرِجُهُ اللهُ منَ النَّارِ بِتوْحِيدِهِ وَإِسْلَامِهِ الَّذِي مَاتَ عَليْهِ، وإنْ مَضَى عَليْهِ دَهرٌ طَوِيلٌ فِي النَّارِ بِسبَبِ مَعاصِيهِ وَجَرائِمهِ الَّتِي مَاتَ عَليْهَا، فَإنَّ لَهُ نِهَايةً.

وَهذَا مَقَامٌ عَظِيمٌ يَنْبغِي لِطَالبِ العِلْمِ أنْ يَكُونَ عَلَى بيِّنةٍ مِنهُ، فَإنَّهُ فِيهِ مُفتَرقُ الطُّرقُ، وقدْ وَقعَ فِي هَذَا البَابِ أَخْطاءٌ عَظِيمَةٌ، وشَرٌّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ البِدَعِ، فأَهْلُ

ص: 98

السُّنَّةِ وَالجَماعَةِ قَاطِبةً وهُم أَصْحابُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وأَتْباعُهُم بِإِحْسَانٍ، هَذَا قَولُهُم فِي هَذَا المَقَامِ، لَا يُخلَّدُ فِي النَّارِ إلَّا الكُفَّارُ بِاللهِ، الكُفْر الأَكْبَر، همُ المُخلَّدُونَ فِي النَّارِ أَبدَ الآبَادِ.

وَأمَّا العُصَاةُ الَّذينَ مَاتُوا عَلَى التَّوحِيدِ، المَحكُومُ بِإِسْلامِهم حِينَ مَاتُوا، لكِنْ عِنْدَهم جَرائِمُ مِنَ الزِّنَا أوِ السَّرِقةِ أوِ الخَمرِ أوِ العُقُوقِ لِلوَالِديْنِ أوِ الرِّبَا أوْ شِهادَةِ الزُّورِ أوْ غَيرِ هَذَا منَ المَعَاصِي الَّتِي لم يَستَحِلُّوهَا، بلْ فَعلُوهَا لِأهْوَاءٍ وَلِشهَوَاتٍ ولِأَغْراضٍ -هَؤُلاءِ تَحتَ مَشِيئةِ اللهِ، إنْ شَاءَ عذَّبَّهُم وَلهُمْ نِهايَةٌ يَخْرجُونَ مِنَ النَّارِ، وإنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُم لِأسْبَابٍ تَقْتضِي ذلِكَ بِمَحْضِ جُودِهِ وكَرمِهِ، ولَيْسُوا كفَّارًا ولَيسُوا مُخلَّدِينَ، لَيسَ العُصَاةُ كُفَّارًا كَمَا تَقُولُهُ الخَوارِجُ، وَليْسُوا مُخلَّدِينَ فِي النَّارِ كَمَا تَقُولهُ المُعتَزِلةُ وَمَنْ سَارَ فِي رِكابِهِم، كَالإِبَاضيَّةِ ونَحْوِهِم، هَؤلَاءِ خَالَفُوا السُّنَّةَ وَخَالفُوا الأدِلَّةَ الشَّرعِيَّة وخَالَفُوا مَا دَرجَ عَليْهِ سَلفُ الأُمَّةِ.

وَالصَّوابُ أنَّهُم لَيسُوا كفَّارًا وَلَا مُخلَّدينَ خُلُودًا دَائمًا، بَلْ لهُمْ نِهايَةٌ يَخْرجُونَ [فِيهَا] مِنَ النَّارِ، إِذَا كَانُوا مَاتُوا عَلَى الإِسْلامِ لَيسُوا كُفَّارًا، ولَكنْ عِنْدَهُمْ مَعَاصٍ مَاتُوا عَليْها لمْ يَتُوبُوا مِنْها، فهُمْ تَحتَ مَشِيئَةِ اللهِ، ولهُمْ أمَدٌ يَنْتهُونَ إِليْهِ بِخُروجِهِم، وهُم مُتَفاوِتُونَ عَلَى قَدرِ مَعاصِيهِم، مِنهُم مَنْ تَطُولُ مُدَّتهُ فِي النَّارِ، وَمنْهُم مَنْ لَا تَطُولُ، عَلَى حَسبِ أَحْوالِهِم وَمَعاصِيهِم وَكَثْرتِها وقِلَّتِها، رَزَقَ اللهُ الجَمِيعَ العَافِيةَ وَلَا حَولَ وَلَا قوَّةَ إلَّا بِاللهِ.

ص: 99

أَحْسَنَ اللهُ إِليْكَ، قَولُهُ عَنْ نُوحٍ عليه السلام:«إِنَّهُ أَوَّلُ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللهُ إِلَى الأَرْضِ» . وَآدَمُ وَإِدْريسُ عليهما السلام كَانَا مِنَ الرُّسلِ؟!

آدَمُ عليه السلام رَسولٌ إِلَى نَفسِهِ وإِلَى ذُرِّيتهِ، مَا بَعدُ وَقعَ الشِّركُ، ونُوحٌ عليه السلام أَوَّلُ رَسُولٍ أَرْسلَهُ اللهُ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ بَعدَ وُقُوعِ الشِّركِ.

وقَالَ بَعضٌ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ فِي آدَمَ عليه السلام: لَيسَ بِرَسُولٍ، ولَكنَّهُ نَبيٌّ فقَطْ، أُوحَى اللهُ إِليْهِ بِشَرعٍ دَرَجَ عَليْهِ هُوَ وَجَماعَتُهُ -ذُرِّيتُهُ- وأمَّا نُوحٌ عليه السلام فهُوَ أوَّلُ رَسُولٍ، كَمَا قَالَ آدَمُ عليه السلام لمَّا قَالَ لِلأُمَّةِ:«اذْهَبُوا إِلَى نُوحٍ فَإنَّهُ أَوَّلُ رَسُولٍ» . وهَذَا قَولٌ جيِّدٌ، فإِنَّ النُّبوَّةَ ثَابِتةٌ لآدَمَ عليه السلام، وَالنَّبيُّ يُوحَى إِليْهِ بِشَرعٍ يَسِيرُ عَليْهِ وَيَعبُدُ اللهَ بِهِ، وَالرَّسُولُ هُوَ الَّذِي يُؤمَرُ بِالتَّبلِيغِ، يُؤمَرُ بِتبْلِيغِ النَّاسِ.

ويَحتَمِلُ أنَّهُ مِثلُ مَا تَقدَّمَ أنَّهُ رَسُولٌ وَنبِيٌّ، لكِنْ قَبلَ وُقُوعِ الشِّركِ، قَالَ ابْنُ عبَّاسٍ رضي الله عنهما: كَانَ آدَمُ وَعَشرَةٌ قُرُونٍ بَعدَهُ كُلُّهُم عَلَى الإِسْلَامِ مِنْ ذُرِّيتِهِ، حَتَّى وَقعَ الشِّركُ فِي قَومِ نُوحٍ، فَأرْسَلَ اللهُ إِليْهِم نُوحًا عليه الصلاة والسلام

(1)

، فَكَانَ أوَّلَ رَسُولٍ بِالنِّسبَةِ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ بَعدَما وَقعَ فِيهِمُ الشِّركُ.

عَفَا اللهُ عَنكَ، قَولُهُ:«فَإِذَا رَأَيْتُ رَبِّي وَقَعْتُ لَهُ سَاجِدًا» يَدلُّ عَلَى أنَّهُ يَرَى ربَّهُ؟

نعَمْ، صَرِيحٌ، يَرَاهُ يَومَ القِيامَةِ، وَالمُؤمِنُونَ يَرَوْنهُ يَومَ القِيَامَةِ أيْضًا.

(1)

رواه الطبري في «تفسيره» (4/ 275) موقوفًا، والحاكم في «المستدرك» (2/ 596)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي.

ص: 100

7411 -

حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«يَدُ اللَّهِ مَلْأَى لَا يَغِيضُهَا نَفَقَةٌ، سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَقَالَ: أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَدِهِ، وَقَالَ: عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ، وَبِيَدِهِ الأُخْرَى المِيزَانُ، يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ»

(1)

.

7412 -

حَدَّثَنَا مُقَدَّمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي القَاسِمُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ:«إِنَّ اللَّهَ يَقْبِضُ يَوْمَ القِيَامَةِ الأَرْضَ، وَتَكُونُ السَّمَوَاتُ بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا المَلِكُ» .

رَوَاهُ سَعِيدٌ، عَنْ مَالِكٍ، وَقَالَ عُمَرُ بْنُ حَمْزَةَ: سَمِعْتُ سَالِمًا، سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا

(2)

.

7413 -

وَقَالَ أَبُو اليَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يَقْبِضُ اللَّهُ الأَرْضَ»

(3)

.

وَهذَا إِشَارَةٌ إِلَى قَولِهِ جل وعلا: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا

(1)

ورواه مسلم (993).

(2)

ورواه مسلم (2788).

(3)

ورواه مسلم (2787).

ص: 101

قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)} [الزمر: 67]، فهُوَ يَقْبضُ الأَرضَ يَومَ القِيامَةِ عَلَى عَظَمتِهَا وَسِعَتِها، وَيَطوِي السَّمَاءَ بِيَمينِهِ، وَالأَرْضَ بِشِمالِهِ -وَكِلْتا يَدَيهِ يَمِينٌ مُبارَكَةٌ جل وعلا كِلْتاهُمَا يَمِينٌ فِي الفَضْلِ وَالشَّرفِ- فَيَهُزهُنَّ وَيقُولُ:«أَنَا المَلِكُ، أَيْنَ مُلُوكُ الأَرْضِ؟ أَيْنَ الجَبَّارُونَ؟ أَيْنَ المُتَكَبِّرُونَ؟» . لَهُ الْمُلكُ سبحانه وتعالى، وكُلٌّ خَاضِعٌ خَائِفٌ وَجِلٌ.

(الشَّيخُ): مَاذا قَالَ الشَّارحُ عَلَى: «وَقَالَ عُمرُ بنُ حَمزَةَ» ؟ أوِ العَينِيُّ؟

[قَالَ الحَافِظُ ابنُ حَجرٍ رحمه الله فِي «فتحِ البارِي» (13/ 396)]: «قَولُهُ: وَقالَ عُمرُ بنُ حَمْزةَ، يَعنِي: ابنَ عَبدِ اللهِ بنِ عُمرَ الَّذِي تَقدَّمَ ذِكْرهُ فِي الاسْتِسقَاءِ، وَشَيخُهُ سَالِمُ هُوَ ابنُ عَبدِ اللهِ بنِ عُمرَ عمُّ عُمرَ المَذْكورِ، وَحَدِيثهُ هَذَا وَصلَهُ مُسلِمٌ وَأَبو دَاوُدَ وَغَيرُهُما مِنْ رِوايَةِ أَبِي أُسَامةَ عَنهُ.

قَالَ البَيْهقِيُّ: تَفرَّدَ بِذِكرِ الشِّمَالِ فِيهِ عُمرُ بْنُ حَمْزةَ، وَقَدْ رَواهُ عَنِ ابْنِ عُمرَ أَيْضًا: نَافِعُ وَعُبَيدُ اللهِ بنُ مِقْسَمٍ بِدُونِها، وَرَواهُ أَبُو هُرَيرَةَ وَغَيرُهُ عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم كَذلِكَ، وَثَبتَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو رَفَعهُ:«إِنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ، عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ عز وجل، وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ» ، وَكذَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُريرَةَ قَالَ آدَمُ:«اخْتَرْتُ يَمِينَ رَبِّي، وَكِلْتَا يَدَيْ رَبِّي يَمِينٌ» .

قَالَ ابْنُ بَازٍ رحمه الله: كُلُّ هَذَا شَاهِدٌ لِإثْباتِ الشِّمَالِ، لِأنَّهُ مَع إِثْباتِ اليَمِينِ، لكِنْ كِلْتَا يَدَيْ رَبِّي يَمِينٌ مُبَاركَةٌ فِي الفَضْلِ وَالشَّرفِ، وَإنْ سُمِّيتْ شِمَالًا، وَلَيسَ فِيهَا نَقْصٌ بِالنِّسبَةِ إِلَى الرَّبِّ عز وجل، أمَّا المَخلُوقُ فَاليُسْرَى تَكُونُ أَضْعَفَ منَ اليُمنَى فِي الغَالِبِ، أمَّا رَبُّنا عز وجل فكِلْتَا يَديْهِ يَمِينٌ مُبارَكَةٌ،

ص: 102

كِلْتَا يَديْهِ يَمِينٌ فِي الشَّرَفِ وَالفَضْلِ وَالعَظَمةِ.

[قَالَ الحَافِظُ رحمه الله]: «وَسَاقَ مِنْ طَرِيقِ أبِي يَحْيَى القتَّاتِ -بِقَافٍ وَمُثنَّاةٍ ثَقِيلَةٍ وبَعدَ الأَلِفِ مُثنَّاةٌ أيْضًا- عَنْ مُجاهِدٍ فِي تَفْسيرِ قَولِهِ تَعَالَى: {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67] قَالَ: «وكِلْتا يَديْهِ يَمِينٌ» ، وفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَفعَهُ:«أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللهُ الْقَلَمَ، فَأَخَذَهُ بِيَمِينِهِ، وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ» .

وقَالَ القُرطُبيُّ فِي «المُفْهِمِ» (24/ 48): كَذَا جَاءَتْ هذِهِ الرِّوَايةِ بِإِطْلاقِ لَفظِ الشِّمَالِ عَلَى يَدِ اللهِ تَعَالَى عَلَى المُقَابَلةِ المُتَعارَفةِ فِي حَقِّنا، وفِي أَكْثرِ الرِّوَايَاتِ وَقعَ التَّحرُّزُ عَنْ إِطْلاقِها عَلَى اللهِ، حَتَّى قَالَ:«وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ» لِئلَّا يُتَوَهَّمَ نَقصٌ فِي صِفَتهِ سبحانه وتعالى؛ لِأنَّ الشِّمَالَ فِي حَقِّنا أَضْعَفُ منَ اليَمِينِ.

قَالَ البَيهَقِيُّ: ذَهبَ بَعضُ أَهْلِ النَّظرِ إِلَى أنَّ اليَدَ صِفَةٌ لَيْسَتْ جَارِحَةً، وكُلُّ مَوْضِعٍ جَاءَ ذِكْرُها فِي الكِتَابِ أوِ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ فَالمُرَادُ تَعلُّقُها بِالكَائنِ المَذْكورِ مَعَها، كَالطَّيِّ وَالأَخذِ وَالقَبْضِ وَالبَسطِ وَالقُبُولِ وَالشُّحِّ وَالإِنْفاقِ وغَيرِ ذلِكَ، تَعلُّقُ الصِّفةِ بِمُقتَضَاهَا مِنْ غَيرِ مُمَاسَّةٍ، وَلَيسَ فِي ذلِكَ تَشْبِيهٌ بِحَالٍ، وَذَهبَ آخَرُونَ إِلَى تَأْويلِ ذلِكَ بِمَا يَلِيقُ بهِ. انْتَهى.

وَسَيأْتِي كَلامُ الخَطَّابِيُّ فِي ذلِكَ فِي بَابِ قَولِهِ تَعَالَى: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4]. [انتهى كلامه].

قَالَ ابْنُ بَازٍ رحمه الله: المَقْصودُ: أنَّ عُمَرَ هَذَا انْفَردَ بِهَا، وَفِيهِ بَعضُ الضَّعفِ، وَلكِنْ الرِّوَايَاتُ الأُخْرَى كُلُّهَا تَشْهَدُ لِذلِكَ؛ لِأنَّهُ قَالَ:«وَكِلْتَا يَدَيْهِ» إِشَارَةٌ إِلَى أنَّ هَذَا التَّعْبيرَ بِاليَمِينِ لَا يَتضَمَّنُ نَقْصًا فِي الثَّانِيةِ، فهِيَ وَإنْ كَانَتْ تُسمَّى شِمَالًا فلَا نَقصَ فِيهَا، فهِيَ يَمِينٌ فِي المَعْنَى وَالشَّرفِ وَالفَضْلِ، وإِلَّا

ص: 103

فَتَخْصِيصُ اليَمِينِ يدُلُّ عَلَى الأُخْرَى وهِيَ الشِّمَالِ {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67]، «يَمِينُ اللهِ مَلْأَى

»

(1)

، إِلَى آخِرِهِ.

(الشَّيخُ): راجِعْ عُمرَ بنَ حَمزَةَ فِي «التَّقرِيبِ» .

[قَالَ الحَافِظُ ابنُ حَجرٍ رحمه الله فِي «تَقْريبِ التَّهذيبِ» (4884)]: «عُمرُ بْنُ حَمزَةَ بنِ عَبدِ اللهِ بنِ عُمرَ بنِ الخَطَّابِ العُمَرِيُّ المَدنِيُّ، ضَعِيفٌ منَ السَّادِسةِ. خت م د ت ق» .

قَالَ ابْنُ بَازٍ رحمه الله: جَزْمُ المُؤلِّفِ بِأنَّهُ ضَعِيفٌ بِإِطْلَاقٍ فِيهِ نظرٌ، فقدْ وثَّقَهُ آخَرُونَ.

المَقْصودُ: أنَّ تَعْلِيقَ البُخارِيِّ هُنَا كَمَا تَقدَّمَ لَا يَتضَمَّنُ التَّوثِيقَ وَلَا التَّلْيِينَ، لكِنْ يَتضَمَّنُ ثُبُوتَه لَديْهِ، أنَّهُ ثَبتَ هَذَا الأَثَرُ بِالنِّسبَةِ إِلَى عُمرَ، يَكُونُ ثَبتَ عِنْدَ المُؤلِّفِ إِلَى عُمرَ.

وَلكِنَّ النُّصُوصَ كلَّهَا شَاهِدةٌ لِمَعْناهُ.

عَفَا اللهُ عَنكَ، قَولُ آدَمَ عليه السلام:«فَاخْتَرْتُ يَمِينَ رَبِّي» مَاذا يُؤخَذُ مِنهُ؟

كَذلِكَ، تَضَمَّنَ إِثْباتَ اليَدَينِ لَهُ سُبْحانَهُ، اخْتَارَ يَمِينَ ربِّهِ وهِيَ فِيهَا أَرْواحُ أَهْلِ السَّعادَةِ، وَاليُسْرَى فِيهَا أَرْواحُ أهْلِ الشَّقَاوةِ.

أحْسَنَ اللهُ عَمَلكَ، الخَوارِجُ وَالمُعتَزِلةُ يَومَ القِيامَةِ مِنْ أَهْلِ الكَبائِرِ أوْ مُخلَّدُونَ فِي النَّارِ؟

اخْتَلفَ فِيهِمُ العُلمَاءُ، مِنهُمْ مَنْ كفَّرهُمْ، ومِنْهُم مَنْ لمْ يُكفِّرْهُم،

(1)

رواه البخاري (7419)، ومسلم (36)(993).

ص: 104

وَالأَظْهرُ منَ الأَدلَّةِ أنَّهُم كفَّارٌ؛ لِأنَّهُم كَذَّبُوا الصِّفَاتِ وَأنْكَرُوهَا، فَالأَظْهرُ منَ الأَدِلَّةِ الشَّرعِيَّةِ أنَّ الجَهمِيَّةَ وَالمُعتَزِلةَ ودُعَاةَ النَّارِ مِنْ هَؤُلاءِ الَّذينَ أَنْكرُوا صِفَاتِ اللهِ وَأَنْكرُوا أَسْماءَهُ أنَّهُم كُفَّارٌ؛ لِأنَّهُم أنَكْرُوا أَمْرًا واضِحًا مِنْ كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولهِ عليه الصلاة والسلام.

مَا يُبطِلُ قَولَهُمُ الإِيمُانُ

(1)

، أَحْسنَ اللهُ عَملَكَ؟

هُوَ يُبطِلُهُ الكُفرُ، الإِيمَانُ الَّذِي مَعهُ كُفرٌ مَا يَسْتقِيمُ، الإِيمَانُ إِذَا صَارَ مَعهُ كُفرٌ بَطلَ، نَسْألُ اللهَ العَافِيةَ.

عَفَا اللهُ عَنكَ، ذِكرُ الشِّمالَ مَا جَاءَ إلَّا فِي هَذَا الأَثرِ؟

مَا أَذكُرُهُ إلَّا فِي هَذَا الأَثرِ، وذَكرَهُ المُؤلِّفُ

(2)

فِي كِتَابِ «التَّوحِيدِ» فِي بَابِ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ (67)} [الزمر: 67] مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمرَ رضي الله عنهما، وَمِنْ رِوَايةِ مُسْلمٍ.

مُسلِمٌ رحمه الله ظَهرَ مِنْ سِياقِهِ أنَّهُ ثِقةٌ، وَلَوْلا أنَّهُ عِندَهُ ثِقةٌ مَا سَاقَهُ عَنهُ، فهُوَ يُعْتبَرُ نَوْعًا منَ التَّوثِيقِ.

بِالنِّسبَةِ لِكَلامِ البَيهَقِيِّ يَا شَيخُ؟

فِيهِ نَظرٌ، البَيْهقِيُّ أَشْعرِيٌّ، عِندَهُ تَسَاهَلٌ فِي هذِهِ المَسَائِلِ

(3)

، أَشْعرِيٌّ فِي بَعضِ الصِّفَاتِ، مَا هُوَ فِي كُلِّ شَيءٍ، لكِنْ لَهُ مُشارَكَةٌ.

(1)

مقصود السائل: أليس ما معهم من إيمان يمنع من تكفيرهم؟

(2)

يعني: الشيخ/ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله.

(3)

في الأصل المسموع: «في المسائل هذه» .

ص: 105

7414 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، سَمِعَ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ، عَنْ سُفْيَانَ، حَدَّثَنِي مَنْصُورٌ، وَسُلَيْمَانُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبِيدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ يَهُودِيًّا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالأَرَضِينَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالجِبَالَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالشَّجَرَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالخَلَائِقَ عَلَى إِصْبَعٍ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا المَلِكُ. «فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ» ، ثُمَّ قَرَأَ:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام: 91].

قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: وَزَادَ فِيهِ فُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبِيدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَعَجُّبًا وَتَصْدِيقًا لَهُ

(1)

.

اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ، هَذَا فِيهِ إِثْباتُ الأَصَابعِ، وَأنَّهَا خَمْسةٌ عَلَى الوَجهِ اللَّائِقِ بِاللهِ، فَإِثْباتُ اليَدِ وَالقَدمِ وَالأَصَابعِ كُلُّها طَرِيقُها وَاحِدٌ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَماعَةِ، لَا يَجُوزُ أنْ تَثْقُلَ عَلَى القُلُوبِ، وَلَا أنْ تَتَبرَّأَ مِنْها القُلُوبُ، وَلَا أنْ تَسْتوحِشَ مِنْها القُلُوبُ، كَمَا يَفعَلُهُ نُفَاةُ الصِّفَاتِ مِنَ الجَهْميَّةِ وغَيْرِهِم، لَا، بلْ تُسَرُّ بِهَا القُلُوبُ وتُؤمِنُ بِهَا، وأنَّهَا صِفَاتٌ لَائِقةٌ بِاللهِ، دالَّةٌ عَلَى كَمَالِهِ وَعَظمَتهِ، وَأنَّهُ يَتصَرَّفُ كَيفَ يَشَاءُ سبحانه وتعالى.

(1)

ورواه مسلم (2786).

ص: 106

فهَذِهِ الخَلَائقُ العَظِيمَةُ الَّتِي يَعْلمُهَا المُؤمِنُونَ تُجعَلُ عَلَى هذِهِ الأَصَابعِ الخَمْسَةِ يَومَ القِيَامةِ، الأَرْضُ عَلَى إصْبَعٍ، وَالسَّمَوَاتُ عَلَى إصْبَعٍ، وَالجِبَالُ عَلَى إصْبَعٍ، وَالشَّجرُ عَلَى كَثْرتِهِ عَلَى إصْبَعٍ، وَسائِرُ خَلقِهِ عَلَى إصْبَعٍ.

فِي الرِّوايَةِ الأُخْرَى: «وَالمَاءَ وَالثَّرَى عَلَى إِصْبَعٍ، ثُمَّ يَهُزُّهُنَّ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا المَلِكُ أَنَا المَلِكُ، أَيْنَ مُلُوكُ الأَرْضِ؟ أَيْنَ الجَبَّارُونَ؟ أَيْنَ المُتَكَبِّرُونَ؟» اللهُ المُسْتعَانُ.

عَفَا اللهُ عَنكَ، يَقُولُ الحَافِظُ فِي الشَّرحِ:«تَعلُّقُ الصِّفةِ بِمُقْتضَاهَا مِنْ غَيرِ مُماسَّةٍ» ؟

هَذَا مَعْناهُ إِنْكارُ اليَدِ، مَا يُثبِتُ اليَدَ عَلَى (الحَقِيقَةِ)

(1)

؛ وَلِهذَا قَالَ: مِنْ غَيرِ جَارِحةٍ، اللهُ لَهُ يدٌ يَأخُذُ بِهَا وَيُعطِي سُبْحانَهُ تَعَالَى، وَيَحمِلُ بِها وَيَقْبضُ الأَرْضَ، وَيَطوِي السَّمَواتِ بِيَمِينهِ، كُلُّ هَذَا قَبضٌ حَقِيقَةً وَطَيٌّ حَقِيقةً يَلِيقُ بِاللهِ، لَا يُشابِهُ خَلقَهُ فِي شَيءٍ مِنْ صِفَاتِهِ جل وعلا.

وَالصَّحَابةُ رضي الله عنهم مَا اسْتَنكَرُوا هَذَا؛ لِكَمالِ عُقُولِهم، وَكَمالِ إِيمَانِهِم، تلَقَّوْا هذِهِ الصِّفَاتِ بِالقَبُولِ، مَا تَوقَّفُوا فِيهَا، ثمَّ أَتْبَاعُهُم بِإِحْسَانٍ منَ القُرُونِ المُفَضَّلَةِ تَلقَّوْها بِإِحسَانٍ، وَآمَنُوا بِهَا وَأنَّهَا حَقٌّ وَأنَّهَا صِفَاتٌ تَلِيقُ بِاللهِ لَا يُشَابِهُ فِيهَا خَلقَهُ جل وعلا، لَا فِي اليَدِ، وَلَا فِي الأَصَابِعِ، وَلَا فِي القَدمِ، وَلَا فِي السَّمْعِ، وَلَا فِي البَصرِ، وَلَا فِي الكَلَامِ، وَلَا فِي المَحبَّةِ، وَلَا فِي الرِّضَا، وَلَا فِي الغَضبِ، كُلُّها صِفَاتٌ لَائِقةٌ بِاللهِ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} [الشورى: 11].

وَبِها عُرِفَ كَمَالُهُ، وَبِها عُرِفتْ عَظمَتُهُ، وَبِهَذِهِ الصِّفَاتِ عُرِفَ اسْتِحقَاقُهُ لِلْعِبادَةِ، وَأنَّهُ ربُّ العَالَمِينَ، وَأنَّهُ الخَلَّاقُ العَلِيمُ.

(1)

زيادة يقتضيها السياق.

ص: 107

ذَاتٌ بِدُونِ صِفَاتٍ لَا وُجُودَ لهَا، وَلِهذَا قَالَ أَهْلُ العِلْمِ مِنْ أَهْلِ السُّنةِ: إنَّ نِهَايةَ هَؤُلاءِ القَولُ بِالعَدمِ، نِهَايةُ قَولِهِم: القَولُ بِالعَدمِ، وَأنَّهُ لَيسَ هُناكَ إلهٌ يُعبَدُ، وَلَا حَولَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ.

7415 -

حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: سَمِعْتُ عَلْقَمَةَ يَقُولُ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ فَقَالَ: يَا أَبَا القَاسِمِ، إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالأَرَضِينَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالشَّجَرَ وَالثَّرَى عَلَى إِصْبَعٍ، وَالخَلَائِقَ عَلَى إِصْبَعٍ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا المَلِكُ، أَنَا المَلِكُ، «فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ» ، ثُمَّ قَرَأَ:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام: 91]

(1)

.

اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ، يَعنِي: تَصْدِيقًا لهُ؛ لِأنَّ فِيهَا {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)} [الزمر: 67].

(1)

ورواه مسلم (2786).

ص: 108

‌باب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «لَا شَخْصَ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ»

وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ عَبْدِ المَلِكِ:«لَا شَخْصَ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ»

7416 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ التَّبُوذَكِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ المَلِكِ، عَنْ وَرَّادٍ، كَاتِبِ المُغِيرَةِ عَنِ المُغِيرَةِ، قَالَ: قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: لَوْ رَأَيْتُ رَجُلًا مَعَ امْرَأَتِي لَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ غَيْرَ مُصْفَحٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:«تَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ، وَاللَّهِ لَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ، وَاللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي، وَمِنْ أَجْلِ غَيْرَةِ اللَّهِ حَرَّمَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَلَا أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ العُذْرُ مِنَ اللَّهِ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ بَعَثَ المُبَشِّرِينَ وَالمُنْذِرِينَ، وَلَا أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ المِدْحَةُ مِنَ اللَّهِ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ وَعَدَ اللَّهُ الجَنَّةَ»

(1)

.

[قَالَ الإِمَامُ العَينِيُّ رحمه الله فِي «عُمْدةِ القَارِي» (20/ 205)]: «قَولُهُ: (غَيْرَ مُصْفَحٍ): بِضمِّ المِيمِ وسُكُونِ الصَّادِ المُهمَلةِ وفَتحِ الفَاءِ وَكَسْرها» . [انتهى كلامه].

(1)

ورواه مسلم (1499).

ص: 109

قَالَ ابْنُ بَازٍ رحمه الله: مُصْفَحٌ وَمُصْفِحٍ، هَذَا أَظهَرُ، يَعنِي: ضَربَهُ بِالحَدِّ.

فِي اللَّفظِ الآخَرِ: «مِنْ أَجْلِ ذلِكَ حَرَّمَ الفَوَاحِشَ»

(1)

(2)

على نِفسِهِ، فهُوَ سُبْحانَهُ يُحبُّ العُذرَ، وَلِهذَا بَعثَ الرُّسُلَ وَأَنْزلَ الكُتُبَ؛ لِإقَامَةِ الحُجَّةِ وقَطعِ المَعْذرَةِ، وَلَا أَحدَ أَحبُّ إِليْهِ العُذرُ مِنَ اللهِ، وَلِهذَا أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَشَرعَ لِعِبادِهِ أنْ يَحْمَدُوهُ، وُيُثنُوا عَليْهِ، وَيَشْكرُوهُ؛ لِكَمالِ عَدلِهِ، وَكَمالِ حِكْمتهِ، وَكَمالِ إِحْسانِهِ وَجُودِهِ وَكَرمِهِ، فهُوَ أَهلٌ لِكلِّ ثَنَاءٍ وَكُلِّ حَمْدٍ.

وَلَا أَحدَ أَغْيرُ مِنهُ؛ أنْ تُنْتهكَ مَحَارِمهُ، وَلِذلِكَ حَرَّمَ الفَواحِشَ مَا ظَهرَ مِنْها وَمَا بَطنَ، وَأَقامَ الحُدُودَ وَالتَّعْزيرَاتِ لِلرَّدعِ عمَّا حَرَّمَ اللهُ عز وجل.

وَمَعنَى «لَا أَحدَ» يَعنِي: مِثلَ مَعنَى «لَا شَخصَ» ، يَعنِي: لَا ذَاتَ أَغْيرُ مِنَ اللهِ، ذَاتُهُ سُبْحانَهُ ذَاتٌ قَائِمةٌ بِنفْسِها، وَشَخصِيَّتهُ قَائِمةٌ بِنَفْسِهَا، وَلِهذَا قَالَ فِي الرِّوايَةِ الأُخْرَى:«لَا شَخْصَ أَغْيَرُ مِنَ اللهِ» . «لَا أَحَدَ أَغْيَرُ مِنَ اللهِ»

(3)

، «مَا أَحَد أَغْيرُ مِنَ اللهِ» . فهِيَ ذَاتٌ لَهَا صِفَاتٌ، لَهَا صِفَاتُ الكَمَالِ.

(الشَّيخُ): مَاذا قَالَ الشَّارِحُ الحَافِظُ ابنُ حَجرٍ عَلَى التَّرجَمةِ؟

[قَالَ الحَافِظُ ابنُ حَجرٍ فِي «فَتْحِ البَارِي» (13/ 399)]: «قَوْلُهُ: بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «لَا شَخْصَ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ» . كَذَا لَهُم، وَوَقعَ عِنْد ابنِ بَطَّالٍ بِلَفْظِ:«أَحَدَ» بَدَلَ «شَخْصَ» ، وَكَأَنَّهُ مِنْ تَغْيِيرِهِ، قَوْلُهُ: عَبْدُ الْمَلكِ هُوَ ابنُ عُمَيرٍ، وَالمُغِيرةُ هُوَ ابْنُ شُعْبَةَ كَمَا تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ فِي أَوَاخِرِ الْحُدُودِ وَالْمُحَارِبِينَ؛

(1)

رواه البخاري (5220)، ومسلم (2760).

(2)

كلمة غير واضحة.

(3)

رواه البخاري (4634)، ومسلم (2760)(33).

ص: 110

فَإِنَّهُ سَاقَ مِنَ الْحَدِيثِ هُنَاكَ بِهَذَا السَّنَدِ إِلَى قَوْلِهِ: «وَاللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي

».

وَتَقَدَّمَ شَرْحُ الْقَوْلِ الْمَذْكُورِ هُنَاكَ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى غَيْرَةِ اللهِ فِي شَرحِ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَنَّ الْكَلَامَ عَلَيْهِ تَقَدَّمَ فِي شَرْحِ حَدِيثِ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ فِي كِتَابِ الْكُسُوفِ.

قَالَ ابنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: الْمُنَزِّهُونَ للهِ إِمَّا سَاكِتٌ عَنِ التَّأْوِيلِ، وَإِمَّا مُؤَوِّلٌ، وَالثَّانِي يَقُولُ: الْمُرَادُ بِالْغَيْرَةِ: الْمَنْعُ مِنَ الشَّيْءِ وَالْحِمَايَةُ، وَهُمَا مِنْ لَوَازِمِ الْغَيْرَةِ، فَأُطْلِقَتْ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، كَالْمُلَازَمَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَوْجُهِ الشَّائِعَةِ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ». [انتهى كلامه].

[قَالَ الإِمَامُ العَينِيُّ رحمه الله فِي «عُمدَةِ القَارِي» (25/ 108)]: «

وَابنُ بَطَّالٍ غيَّرَ قَوْلَهُ: «لَا شَخْصَ» بِقَولِهِ: «لَا أَحَدَ» ، وَعَلِيهِ شَرَحَ. وَقَالَ: اخْتلَفتْ أَلْفَاظُ هَذَا الحَدِيثِ فَلمْ يخْتَلِفْ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودِ أَنَّهُ بِلَفْظِ: «لَا أَحَدَ» ؛ فَظَهرَ أَنَّ لفْظَ: «شَخْصَ» جَاءَ فِي مَوضِعٍ: «أَحَدَ» ، فَكَانَ مِنْ تَصرُّفِ الرَّاوِي.

قُلتُ: اخْتِلَافُ أَلْفَاظِ الحَدِيثِ هُوَ أَنَّ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «مَا مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرُ مِنَ اللهِ» ، وَفِي رِوَايَةِ عَائِشَةَ:«مَا أَحَدٌ أَغْيَرُ مِنَ اللهِ» ، وَفِي رِوَايَةِ أَسْمَاءَ:«لَا شَيْءَ أَغْيَرُ مِنَ اللهِ» ، وَفِي رِوَايَةِ أبِي هُرَيْرَةَ:«إِنَّ اللهَ تَعَالَى يَغَارُ» ، كُلُّ ذَلِك مَضَى فِي كِتَابِ النِّكَاحِ فِي بَابَ الْغَيرَةِ، وَرِوَايَةُ ابْن مَسْعُودٍ مُبيِّنَةٌ أَنَّ لَفظَ:«الشَّخْص» ، مَوْضُوعٌ مَوضِعَ:«أَحَدَ» .

وَقَالَ الدَّاودِيُّ: فِي قَولِهِ: «لَا شَخْصَ أَغْيَرُ مِنَ اللهِ» : لمْ يَأْتِ مُتَّصِلًا وَلمْ تَتلَقَّ الْأمَّةُ مِثلَ هَذِه الْأَحَادِيثِ بِالْقبُولِ، وَهُوَ يُتَوقَّى فِي الْأَحْكَامِ الَّتِي لَا تُلجِئُ الضَّرُورَةُ النَّاسَ إِلَى الْعَمَلِ بِهِ.

ص: 111

وَقَالَ الخطَّابِيُّ: إِطْلَاقُ الشَّخصِ فِي صِفَاتِ اللهِ غَيرُ جَائِزٍ؛ لِأَنَّ الشَّخْصَ إِنَّمَا يَكُونُ جِسْمًا مُؤلَّفًا، وَخَليقٌ أَنَّ لَا تَكُونَ هَذِه اللَّفْظَةُ صَحِيحَةً، وَأَنْ تَكُونَ تَصْحِيفًا منَ الرَّاوِي، وَكَثِيرٌ منَ الرُّوَاةِ يُحدِّثُ بِالْمَعْنَى، وَلَيْسَ كُلُّهم فُقَهَاءَ، وَفِي كَلَامِ آحَادِ الرُّوَاةِ جَفَاءٌ وتَعجْرُفٌ، وَقَالَ بَعضُ كِبارِ التَّابِعينَ:«نِعمَ الْمَرْءُ رَبُّنَا، لَوْ أَطَعْناهُ مَا عَصَانَا» وَلَفظُ «الْمَرْءِ» إِنَّمَا يُطلَقُ عَلَى الذُّكُورِ منَ الْآدَمِيّينَ، فَأرْسلَ الْكَلَامَ وَبَقِيَ أَنْ يَكُونَ لَفظُ «الشَّخْصِ» جَرَى عَلَى هَذَا السَّبِيلِ فَاعْتَورَهُ الْفسادُ مِنْ وُجُوهٍ:

أَحدُهَا: أَنَّ اللَّفْظَ لَا يَثبُتُ إلَّا مِنْ طَرِيقِ السَّمعِ.

وَالثَّانِي: إِجْمَاعُ الْأمَّة عَلَى الْمَنْعِ مِنْهُ.

وَالثَّالِثُ: أَنْ مَعْنَاهُ أَنْ يَكُونَ جِسْمًا مُؤلَّفًا فَلَا يُطلَقُ عَلَى اللهِ، وَقدْ مَنعَتِ الْجَهمِيَّةُ إِطْلَاقَ الشَّخْصِ مَعَ قَوْلِهمْ بِالجِسمِ، فَدلَّ ذَلِك عَلَى مَا قُلْنَاهُ منَ الْإِجْمَاعِ عَلَى مَنعِهِ فِي صِفتِهِ عز وجل». [انتهى كلامه].

[قَالَ الحَافِظُ ابنُ حَجرٍ فِي «فَتْحِ البَارِي» (13/ 399)]: «قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ بِأَنَّهُ شَخْصٌ؛ لِأَنَّ التَّوْقِيفَ لَمْ يَرِدْ بِهِ، وَقَدْ مَنَعَتْ مِنْهُ الْمُجَسِّمَةُ مَعَ قَوْلِهِمْ بِأَنَّهُ جِسْمٌ لَا كَالْأَجْسَامِ.

كَذَا قَالَ، وَالْمَنْقُولُ عَنْهُمْ خِلَافُ مَا قَالَ.

وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: لَيْسَ فِي قَوْلِهِ: «لَا شَخْصَ أَغْيَرُ مِنَ اللهِ» إِثْبَاتُ أَنَّ اللهَ شَخْصٌ، بَلْ هُوَ كَمَا جَاءَ: مَا خَلَقَ اللهُ أَعْظَمَ مِنْ آيَةِ الْكُرْسِيِّ، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إِثْبَاتٌ أَنَّ آيَةَ الْكُرْسِيِّ مَخْلُوقَةٌ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهَا أَعْظَمُ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، وَهُوَ كَمَا يَقُولُ مَنْ يَصِفُ امْرَأَةً كَامِلَةَ الْفَضْلِ حَسَنَةَ الْخَلْقِ: مَا فِي النَّاسِ رَجُلٌ يُشْبِهُهَا،

ص: 112

يُرِيدُ تَفْضِيلَهَا عَلَى الرِّجَالِ لَا أَنَّهَا رَجُلٌ.

وَقَالَ ابن بَطَّالٍ: اخْتَلَفَتْ أَلْفَاظُ هَذَا الْحَدِيثِ، فَلَمْ يُخْتَلَفْ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ بِلَفْظِ:«لَا أَحَدَ» ، فَظَهَرَ أَنَّ لَفْظَ «شَخْصَ» جَاءَ مَوْضِعَ «أَحَدَ» ، فَكَأَنَّهُ مِنْ تَصَرُّفِ الرَّاوِي

ثُمَّ قَالَ:

عَلَى أَنَّهُ مِنْ بَاب الْمُسْتَثْنى مِنْ غَيرِ جِنْسِهِ، قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} [النجم: 28] وَلَيْسَ الظَّنُّ مِنْ نَوْعِ الْعِلْمِ.

قُلْتُ: وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَقَدْ قَرَّرَهُ ابْنُ فَوْرَكٍ، وَمِنْهُ أَخَذهُ ابْنُ بَطَّالٍ، فَقَالَ بَعدَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّمْثِيلِ بِقَوْلِهِ:{إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} : فَالتَّقْدِيرُ أَنَّ الْأَشْخَاصَ الْمَوْصُوفَةَ بِالْغَيْرَةِ لَا تَبْلُغُ غَيْرَتُهَا وَإِنْ تَنَاهَتْ غَيْرَةَ اللهِ تَعَالَى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَخْصًا بِوَجْهٍ.

وَأَمَّا الْخَطَّابِيُّ: فَبَنَى عَلَى أَنَّ هَذَا التَّرْكِيبَ يَقْتَضِي إِثْبَاتَ هَذَا الْوَصْفِ لِلهِ تَعَالَى؛ فَبَالَغَ فِي الْإِنْكَارِ وَتَخْطِئَةِ الرَّاوِي، فَقَالَ: إِطْلَاقُ الشَّخْصِ فِي صِفَاتِ اللهِ تَعَالَى غَيرُ جَائِزٍ؛ لِأنَّ الشَّخْصَ لَا يَكُونُ إِلَّا جِسْمًا مُؤَلَّفًا؛ فَخَلِيقٌ أَنْ لَا تَكُونَ هَذِهِ اللَّفْظَةُ صَحِيحَةً، وَأَنْ تَكُونَ تَصْحِيفًا مِنَ الرَّاوِي.

وَدَلِيلُ ذَلِكَ: أَنَّ أَبَا عَوَانَةَ رَوَى هَذَا الْخَبَرَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ فَلَمْ يَذْكُرْهَا، وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ بِلَفْظِ «شَيْءَ» ، وَالشَّيْءُ وَالشَّخْصُ فِي الْوَزْنِ سَوَاءٌ، فَمَنْ لَمْ يُمْعِنْ فِي الِاسْتِمَاعِ لَمْ يَأْمَنِ الْوَهْمَ، وَلَيْسَ كُلٌّ مِنَ الرُّوَاةِ يُرَاعِي لَفْظَ الْحَدِيثِ حَتَّى لَا يَتَعَدَّاهُ، بَلْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ يُحَدِّثُ بِالْمَعْنَى، وَلَيْسَ كُلُّهُمْ فَهِمًا، بَلْ فِي كَلَامِ بَعْضِهِمْ جَفَاءٌ وَتَعَجْرُفٌ، فَلَعَلَّ لَفْظَ:«شَخْص» جَرَى عَلَى هَذَا السَّبِيلِ إِنْ لَمْ يَكُنْ غَلَطًا مِنْ قَبِيلِ التَّصْحِيفِ - يَعْنِي السَّمْعِيَّ.

ص: 113

قَالَ: ثُمَّ إِنَّ عُبَيْدَ اللهِ بْنَ عَمْرٍو انْفَرَدَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ فَلَمْ يُتَابَعْ عَلَيْهِ، وَاعْتَوَرَهُ الْفَسَادُ مِنْ هَذِهِ الْأَوْجُهِ.

وَقَدْ تَلَقَّى هَذَا عَنِ الْخَطَّابِيِّ أَبُو بَكْرِ بْنُ فَوْرَكٍ فَقَالَ: لَفْظُ «الشَّخْصِ» غَيْرُ ثَابِتٍ مِنْ طَرِيقِ السَّنَدِ، فَإِنْ صَحَّ فَبَيَانُهُ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُهُ:«لَا أَحَدَ» فَاسْتَعْمَلَ الرَّاوِي لَفْظَ «شَخْصَ» مَوْضِعَ «أَحَدَ»

ثمَّ ذكر نَحْو مَا تَقدَّمَ عَنِ ابْنِ بَطَّالٍ، وَمِنْهُ أَخذَ ابنُ بَطَّالٍ.

ثمَّ قَالَ ابن فَوْرَكٍ: وَإِنَّمَا مَنَعَنَا مِنْ إِطْلَاقِ لَفْظِ الشَّخْصِ أُمُورٌ:

أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّفْظَ لَمْ يَثْبُتْ مِنْ طَرِيقِ السَّمْعِ.

وَالثَّانِي: الْإِجْمَاعُ عَلَى الْمَنْعِ مِنْهُ.

وَالثَّالِثُ: أَنَّ مَعْنَاهُ الْجِسْمُ الْمُؤَلَّفُ الْمُرَكَّبُ.

ثُمَّ قَالَ: وَمَعْنَى الْغَيْرَةِ: الزَّجْرُ وَالتَّحْرِيمُ، فَالْمَعْنَى أَنَّ سَعْدًا الزَّجُورُ عَنِ الْمَحَارِمِ، وَأَنَا أَشَدُّ زَجْرًا مِنْهُ، وَاللهُ أَزْجَرُ مِنَ الْجَمِيعِ. انْتَهَى.

وَطَعْنُ الْخَطَّابِيِّ وَمَنْ تَبِعَهُ فِي السَّنَدِ مَبْنِيٌّ عَلَى تَفَرُّدِ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو بِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَكَلَامُهُ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ لَمْ يُرَاجِعْ «صَحِيحَ مُسْلِمٍ» وَلَا غَيْرَهُ مِنَ الْكُتُبِ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا هَذَا اللَّفْظُ مِنْ غَيْرِ رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو.

وَرَدُّ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ وَالطَّعْنُ فِي أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ الضَّابِطِينَ مَعَ إِمْكَانِ تَوْجِيهِ مَا رَوَوْا مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي أَقْدَمَ عَلَيْهَا كَثِيرٌ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الحَدِيثِ، وَهو يقْتضي قُصُورَ فَهْمِ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: لَا حَاجَةَ لِتَخْطِئَةِ الرُّوَاةِ الثِّقَات، بَلْ حُكْمُ هَذَا حُكْمُ سَائِرِ الْمُتَشَابِهَاتِ إِمَّا التَّفْوِيضُ،

ص: 114

وَإِمَّا التَّأْوِيلُ.

وَقَالَ عِيَاضٌ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ مَعْنَى قَوْلِهِ: «وَلَا أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنَ اللهِ» أَنَّهُ قَدَّمَ الْإِعْذَارَ وَالْإِنْذَارَ قَبْلَ أَخْذِهِمْ بِالْعُقُوبَةِ، وَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ فِي ذِكْرِ الشَّخْصِ مَا يُشْكِلُ.

كَذَا قَالَ، وَلَمْ يَتَّجِهْ أَخْذُ نَفْيِ الْإِشْكَالِ مِمَّا ذُكِرَ.

ثُمَّ قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ «الشَّخْصِ» وَقَعَ تَجَوُّزًا مِنْ «شَيْءَ» أَوْ «أَحَدَ» ، كَمَا يَجُوزُ إِطْلَاقُ الشَّخْصِ عَلَى غَيْرِ اللهِ تَعَالَى، وَقَدْ يَكُونُ الْمُرَادُ بِالشَّخْصِ الْمُرْتَفِعُ؛ لِأَنَّ الشَّخْصَ هُوَ مَا ظَهَرَ وَشَخَصَ وَارْتَفَعَ؛ فَيَكُونُ الْمَعْنَى: لَا مُرْتَفِعَ أَرْفَعُ مِنَ اللهِ كَقَوْلِهِ: لَا مُتَعَالِي أَعْلَى مِنَ اللهِ

قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: لَا يَنْبَغِي لِشَخْصٍ أَنْ يَكُونَ أَغْيَرَ مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ لَمْ يُعَجِّلْ وَلَا بَادَرَ بِعُقُوبَةِ عَبْدِهِ لِارْتِكَابِهِ مَا نَهَاهُ عَنْهُ، بَلْ حَذَّرَهُ وَأَنْذَرَهُ، وَأَعْذَرَ إِلَيْهِ وَأَمْهَلَهُ؛ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَأَدَّبَ بِأَدَبِهِ وَيَقِفَ عِنْدَ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَبِهَذَا تَظْهَرُ مُنَاسَبَةُ تَعْقِيبِهِ بِقَوْلِهِ:«وَلَا أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنَ اللهِ» .

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: أَصْلُ وَضْعِ الشَّخْصِ -يَعْنِي فِي اللُّغَةِ- لِجِرْمِ الْإِنْسَانِ وَجِسْمِهِ، يُقَالُ: شَخْصُ فُلَانٍ وَجُثْمَانُهُ، وَاسْتُعْمِلَ فِي كُلِّ شَيْءٍ ظَاهِرٍ يُقَالُ: شَخَصَ الشَّيْءُ إِذَا ظَهَرَ.

وَهَذَا الْمَعْنَى مُحَالٌ عَلَى اللهِ تَعَالَى فَوَجَبَ تَأْوِيلُهُ، فَقِيلَ: مَعْنَاهُ: لَا مُرْتَفِعَ، وَقِيلَ: لَا شَيْءَ وَهُوَ أَشْبَهُ مِنَ الْأَوَّلِ، وَأَوْضَحُ مِنْهُ: لَا مَوْجُودَ أَوْ لَا أَحَدَ، وَهُوَ أَحْسَنُهَا، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، وَكَأَنَّ لَفْظَ «الشَّخْصِ» أُطْلِقَ مُبَالَغَةً فِي إِثْبَاتِ إِيمَانِ مَنْ يَتَعَذَّرُ عَلَى فَهْمِهِ مَوْجُودٌ لَا يُشْبِهُ شَيْئًا مِنَ الْمَوْجُودَاتِ؛ لِئَلَّا

ص: 115

يُفْضِيَ بِهِ ذَلِكَ إِلَى النَّفْيِ وَالتَّعْطِيلِ، وَهُوَ نَحْوُ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لِلْجَارِيَةِ:«أَيْنَ اللهُ؟» . قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ. فَحَكَمَ بِإِيمَانِهَا مَخَافَةَ أَنْ تَقَعَ فِي التَّعْطِيلِ لِقُصُورِ فَهْمِهَا عَمَّا يَنْبَغِي لَهُ مِنْ تَنْزِيهِهِ مِمَّا يَقْتَضِي التَّشْبِيهَ، تَعَالَى اللهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا.

• تَنْبِيهٌ: لَمْ يُفْصِحِ الْمُصَنِّفُ بِإطلَاق «الشَّخْصِ» عَلَى اللهِ، بَلْ أَوْرَدَ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ الِاحْتِمَالِ، وَقَدْ جَزَمَ فِي الَّذِي بَعْدَهُ، فَتَسْمِيَتُهُ شَيْئًا لِظُهُورِ ذَلِكَ فِيمَا ذَكَرَهُ مِنَ الْآيَتَيْنِ». [انتهى كلامه].

قَالَ ابْنُ بَازٍ رحمه الله: الحَقِيقةُ أنَّ كَثِيرًا منَ النَّاسِ يَعتَمِدُ فَهمَهُ وَرَأيَهُ وَمَا وقع فِي نَفْسهِ منَ التَّشْبيهِ؛ فَلِهذَا يُقدِمُ عَلَى إِنْكارِ الرِّوَايَاتِ عَلَى غَيرِ بَصِيرَةٍ، فَالعُمدَةُ فِي هَذَا الرِّوايَةُ، مَتَى ثَبَتتْ لمْ يَجُزْ تَغْليطُ الرُّوَاةِ بِمُجرَّدِ الرَّأيِ وَالظَّنِّ وَالحَدَسِ، فَإِذَا ثَبتَتْ رِوَايةُ «لَا شَخْصَ» فَلَيسَ فِيهَا مَحْذُورٌ، وَالمُرَادُ: لَا ذَاتَ وَلَا شَيءَ وَلَا أَحدَ؛ لِأنَّهُ شَخْصٌ قَائِمٌ بِنَفسِهِ، ذَاتٌ قَائِمةٌ بِنَفْسهَا، كُلُّ شَيءٍ قَائِمٌ بِنفْسِهِ، مَا فِي مَانِعٌ مِنْ أنْ يُطلَقَ عَليْهِ شَخصٌ لِوُجُودِ قِيامِهِ بِنَفْسهِ وَاْستِقلَالِهِ بِنَفسِهِ.

فلَا يَلْزمُ مِنْ تَسْميَتهِ بِهذَا الاسْمِ أنْ يَكُونَ مُشَابِهًا لِلْمَخلُوقَاتِ، كَمَا لَا يَلْزمُ مِنْ تَسْمِيتِهِ وَاحِدًا وَلَا أَحدًا أنْ يَكُونَ مُشَابهًا لِلْمخْلُوقَاتِ، وَلَا يَلْزمُ مِنْ تَسْميتِهِ سَمِيعًا وَبَصِيرًا وَعَالِمًا وَقَدِيرًا مُشَابَهتُهُ لِلْقادِرِينَ وَالسَّامِعينَ وَالمُبْصِرِينَ، كُلُّ هَذَا بَابُهُ وَاحدٌ.

فَالعُمْدةُ الرِّوَايةُ، مَتَى ثَبَتتِ الرِّوَايةُ فَالمُرَادُ عَلَى وَجهٍ لَا يُشَابهُ فِيهِ المَخْلُوقِينَ، فهُوَ أَحدٌ لَا يُشَابهُ المَخْلوقِينَ، شَخصٌ لَا يُشَابِهُ المَخْلوقِينَ إِلَى غَيرِ ذَلِك، البَابُ وَاحِدٌ، فَالعُمدَةُ الرِّوَايةُ.

ص: 116

عَفَا اللهُ عَنْكَ: إِطْلاقُ الشَّخصِ أوِ الشَّيءِ عَلَى اللهِ مِنْ بَابِ الخَبرِ أوْ مِنْ بَابِ الوَصْفِ؟

مِنْ بَابِ الخَبرِ وَالوَصْفِ جَمِيعًا، شَخْصٌ لَا يُشبِهُ الأَشْخَاصَ، سَمِيعٌ لَا يُشبِهُ السَّامِعِينَ، عَلِيمٌ لَا يُشْبهُ العُلَمَاءَ، وَقَدِيرٌ لَا يُشْبهُ القَادِرِينَ، وَمَا أَشْبهَ ذَلِك.

وَالشَّارحُ أَشَارَ إِلَى أنَّهَا رَواهَا مُسْلمٌ، وَلِهذَا قَالَ: مَا تَأمَّلَ «صَحِيحَ مُسْلمٍ» وَالمُؤلِّفُ مَا سَاقَهَا بِالسَّندِ هُنا، سَاقَهَا مُعلِّقًا، فَيَحْتاجُ إِلَى تَتبُّعِ الرِّوَايَاتِ فِي مُسلِمٍ وَغَيرِ مُسلِمٍ؛ فَإِذَا ثَبتَتْ بِهذَا اللَّفظِ فَلَا وَجهَ لِلْإنْكارِ، دَعْوَى الإِجْماعِ لَا وَجهَ لهَا، لَعلَّهَا سَمَاحًا.

المَقْصودِ: أنَّ البَابَ وَاحِدٌ وهُوَ بَابُ التَّنْزيهِ، بَابُ الإِثْبَاتِ وَبَابُ التَّنْزِيهِ دُونَ التَّأْوِيلِ، وَالمُنزِّهُونَ مِثلُ مَا قَالَ ابنُ دَقِيقٍ رحمه الله: قِسْمانِ:

1 -

قِسمٌ: أَمِرُّوهَا كَمَا جَاءَتْ مِنْ غَيرِ تَأْويلٍ.

2 -

وَقِسمٌ: أَوَّلُوا لِلتَّنْزيهِ وَغَلِطُوا.

وَأَهلُ السُّنَّةِ وَالجَماعَةِ يُمِرُّونَها كَمَا جَاءَتْ، مِنْ غَيرِ تَأْويلٍ وَلَا تَحْريفٍ وَلَا تَعْطيلٍ وَلَا تَشْبيهٍ، هَذَا عَملُ الصَّحابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، إِمْرارُهَا كَمَا جَاءَتْ، مَع إِثْباتِ أَلْفاظِهَا وَاعْتِقادِ أنَّهَا حَقٌّ، وَأنَّهَا ثَابِتةٌ، وَأنَّهَا لَائِقةٌ بِاللهِ مِنْ غَيرِ أنْ يُشابِهَ خَلْقَهُ فِي شَيءٍ مِنْ صِفاتِهِ جل وعلا.

وَكَانَ الوَاجِبُ عَلَى الشَّارِحِ أنْ يَعْتنِيَ بِالرِّوَايةِ، وَيذْكُرَ من خَرَّجَها وَتَطْبيقَهَا، وَيَذكُرَ رِوايَةَ مُسْلمٍ وَيَعْتنِيَ هُوَ وَالعَينِيُّ وَلكِنْ أَعْرضُوا عَنْها.

ص: 117

أَحَدُ الطَّلبَةِ: ذَكرَ يَا شَيخُ، مَا قَرأَهَا؟

(الشَّيخُ): مَا قَرَأتَ شَيْئًا.

[قَالَ الحَافِظُ ابنُ حَجرٍ رحمه الله فِي «فَتْحِ البَارِي» (13/ 400): «قَولُهُ: «لَا شَخْصَ أَغْيَرُ مِنَ اللهِ» يَعْنِي: أَنَّ عُبَيْدَ اللهِ بْنَ عَمْرٍو رَوَى الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ أَوَّلًا فَقَالَ: «لَا شَخْصَ» بَدَلَ قَوْلِهِ: «لَا أَحَدَ» ، وَقَدْ وَصَلَهُ الدَّارِمِيُّ عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ عَدِيٍّ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ وَرَّادٍ مَوْلَى الْمُغيرَةِ، عَنِ الْمُغِيرَةِ قَالَ: «بَلَغَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ يَقُولُ

» فَذَكَرَهُ بِطُولِهِ.

وَسَاقَهُ أَبُو عوَانَةَ يَعْقُوبُ الإِسْفرايِينِيُّ فِي «صَحِيحِهِ» عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى الْعَطَّارِ، عَنْ زَكَرِيَّا بِتَمَامِهِ وَقَالَ فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ:«لَا شَخْصَ» .

قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ -بَعْدَ أَنْ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيِّ، وَأَبِي كَامِلٍ فُضَيْلِ بْنِ حُسَيْنٍ الْجَحْدَرِيِّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي الشَّوَارِبِ، ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ أَبِي عَوَانَةَ الْوَضَّاحِ الْبَصْرِيِّ بِالسَّنَدِ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، لَكِنْ قَالَ فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ:«لَا شَخْصَ» ، بَدَلَ «لَا أَحَدَ» ثُمَّ سَاقَهُ مِنْ طَرِيقِ زَائِدَةَ بْنِ قُدَامَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ كَذَلِكَ: فَكَأَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ لَمْ تَقَعْ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ فِي حَدِيثِ أَبِي عَوَانَةَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ؛ فَلِذَلِكَ عَلَّقَهَا عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو.

قُلْتُ: وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنِ الْقَوَارِيرِيِّ، وَأَبِي كَامِلٍ كَذَلِكَ، وَمِنْ طَرِيقِ زَائِدَة أَيْضًا». [انتهى كلامه].

قَالَ ابْنُ بَازٍ رحمه الله: تَركْتَ هَذَا، وهَذَا مُهِمٌّ. إِذَا ثَبتَتِ الرِّوايَةُ فَلَا

ص: 118

كَلامَ لِأحَدٍ.

يَا شَيخُ، حَفِظكَ اللهُ، لَكِن تَوجِيهُ «لَا شَخْصَ» عَلَى المَفْهومِ، يَعنِي: هُوَ مَا قَالَ: إنَّ اللهَ شَخصٌ، وَإنَّمَا قَالَ:«لَا شَخْصَ» إنَّمَا نَفَى هَذَا عَلَى الاسْتِثنَاءِ؟

مَفْهومُهُ أنَّهُ يُوصَفُ بِأنَّهُ شَخْصٌ، لَيسَ كَالأَشْخاصِ.

أَحْسَنَ اللهُ إِليْكَ، التَّأْويلُ مِنْ بَابِ التَّكلُّفِ؟

نَعمْ، مِنْ بَابِ التَّكلُّفِ، وَكَلامُ الخَطَّابيُّ رَدِيءٌ، كَلامُ الخَطَّابِيُّ فِي هَذَا رَدِيءٌ لَيسَ بِجيِّدٍ، عَفَا اللهُ عَنَّا وَعنْهُ، تُهمَتهُ لِلرُّواةِ وَالكَلامُ بِالعَجْرفَةِ سُوءُ أَدبٍ.

* * *

ص: 119

‌باب {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ} [الأنعام:

19]

«فَسَمَّى اللهُ تَعَالَى نَفْسَهُ شَيْئًا، وَسَمَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم القُرْآنَ شَيْئًا، وَهُوَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ اللهِ» ، وَقَالَ:{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88]

7417 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِرَجُلٍ:«أَمَعَكَ مِنَ القُرْآنِ شَيْءٌ؟» ، قَالَ: نَعَمْ، سُورَةُ كَذَا وَسُورَةُ كَذَا، لِسُوَرٍ سَمَّاهَا

(1)

.

‌باب {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود: 7]، {وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة:

129]

قَالَ أَبُو العَالِيَةِ: {اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [البقرة: 29]: «ارْتَفَعَ» ، {فَسَوَّاهُنَّ} [البقرة: 29]: «خَلَقَهُنَّ» وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {اسْتَوَى} [البقرة: 29]: «عَلَا» {عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {الْمَجِيدِ} [ق: 1]: «الكَرِيمُ» ، وَ {الْوَدُودُ} [البروج: 14]: «الحَبِيبُ» ، يُقَالُ:«حَمِيدٌ مَجِيدٌ، كَأَنَّهُ فَعِيلٌ مِنْ مَاجِدٍ، مَحْمُودٌ مِنْ حُمِدَ» .

(1)

ورواه مسلم (1425).

ص: 120

7418 -

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَمْزَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ جَامِعِ بْنِ شَدَّادٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، قَالَ: إِنِّي عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذْ جَاءَهُ قَوْمٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، فَقَالَ:«اقْبَلُوا البُشْرَى يَا بَنِي تَمِيمٍ» . قَالُوا: بَشَّرْتَنَا فَأَعْطِنَا. فَدَخَلَ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ اليَمَنِ، فَقَالَ:«اقْبَلُوا البُشْرَى يَا أَهْلَ اليَمَنِ، إِذْ لَمْ يَقْبَلْهَا بَنُو تَمِيمٍ» . قَالُوا: قَبِلْنَا، جِئْنَاكَ لِنَتَفَقَّهَ فِي الدِّينِ، وَلِنَسْأَلَكَ عَنْ أَوَّلِ هَذَا الأَمْرِ مَا كَانَ؟ قَالَ:«كَانَ اللهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ، ثُمَّ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ» . ثُمَّ أَتَانِي رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا عِمْرَانُ أَدْرِكْ نَاقَتَكَ فَقَدْ ذَهَبَتْ، فَانْطَلَقْتُ أَطْلُبُهَا، فَإِذَا السَّرَابُ يَنْقَطِعُ دُونَهَا، وَايْمُ اللهِ لَوَدِدْتُ أَنَّهَا قَدْ ذَهَبَتْ وَلَمْ أَقُمْ.

7419 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامٍ، حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«إِنَّ يَمِينَ اللهِ مَلْأَى لَا يَغِيضُهَا نَفَقَةٌ، سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَنْقُصْ مَا فِي يَمِينِهِ، وَعَرْشُهُ عَلَى المَاءِ، وَبِيَدِهِ الأُخْرَى الفَيْضُ - أَوِ القَبْضُ - يَرْفَعُ وَيَخْفِضُ»

(1)

.

قَالَ ابْنُ بَازٍ رحمه الله: وفِي رِوايَةٍ أُخْرَى: «القِسْطُ» ، يَعنِي: العَدلَ، بِيدِهِ العَدلُ سبحانه وتعالى.

(1)

ورواه مسلم (993).

ص: 121

7420 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ المُقَدَّمِيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: جَاءَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ يَشْكُو، فَجَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:«اتَّقِ اللهَ، وَأَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ» . قَالَ أَنَسٌ: لَوْ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَاتِمًا شَيْئًا لَكَتَمَ هَذِهِ، قَالَ: فَكَانَتْ زَيْنَبُ تَفْخَرُ عَلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَقُولُ: زَوَّجَكُنَّ أَهَالِيكُنَّ، وَزَوَّجَنِي اللهُ تَعَالَى مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ.

وَعَنْ ثَابِتٍ: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ} [الأحزاب: 37]، «نَزَلَتْ فِي شَأْنِ زَيْنَبَ وَزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ» .

7421 -

حَدَّثَنَا خَلَّادُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ طَهْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه، يَقُولُ:«نَزَلَتْ آيَةُ الحِجَابِ فِي زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، وَأَطْعَمَ عَلَيْهَا يَوْمَئِذٍ خُبْزًا وَلَحْمًا، وَكَانَتْ تَفْخَرُ عَلَى نِسَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَتْ تَقُولُ: إِنَّ اللهَ أَنْكَحَنِي فِي السَّمَاءِ»

(1)

.

هَذَا أَحدُ الأَحَادِيثِ الثُّلَاثيَّةِ لِلبُخارِيِّ رحمه الله، وهِيَ لَهُ ثَلَاثةٌ وَعِشْرونَ حَدِيثًا رَوَاهَا بِسنَدٍ ثُلاثِيٍّ.

(1)

ورواه مسلم (1428).

ص: 122

تَكلَّمَ عَليْهِ الشَّارحُ أوِ العَينِيُّ؟

[قَالَ الحَافِظُ ابنُ حَجرٍ رحمه الله فِي «فَتْحِ البَارِي» (13/ 412)]: «وَهُوَ آخِرُ مَا وَقَعَ فِي «الصَّحِيحِ» مِنْ ثُلَاثِيَّاتِ الْبُخَارِيِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لِعِيسَى حَدِيثٌ آخَرُ فِي اللِّبَاسِ، لَكِنَّهُ لَيْسَ ثُلَاثِيًّا، وَلَفْظُهُ هُنَا: وَكَانَتْ تَفْخَرُ عَلَى نِسَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَكَانَتْ تَقُولُ: إِنَّ اللهَ أَنْكَحَنِي فِي السَّمَاءِ». [انتهى كلامه].

[قَالَ الإِمَامُ العَينِيُّ رحمه الله فِي «عُمدَة القَارِي» (25/ 114)]: «وَهَذَا هُوَ الحَدِيث الثَّالِث وَالْعشْرُونَ مِنْ ثُلاثِيَّاتِ البُخَارِيِّ وَهُوَ آخِرُ الثُّلَاثِيَّاتُ.

والْحَدِيثُ أَخْرجَهُ النَّسَائِيُّ فِي عِشْرَةِ النِّسَاءِ عَنْ إِسْحَاقَ بنِ إِبْرَاهِيمَ، وَفِي النِّكَاحِ عَنْ أَحْمدَ بنِ يَحيَى الصُّوفِيِّ». [انتهى كلامه].

قَالَ ابْنُ بَازٍ رحمه الله: المَقْصُودُ أنَّهَا ثَلاثَةٌ وَعِشْرونَ، رَوَاهَا مِنْ طَرِيقِ ثَلاثَةٍ: شَيخِهِ وَالتَّابِعيِّ وَالصَّحابِيِّ، وَقدْ شَرحَهَا السَّفارِينِيُّ فِي مُؤلَّفٍ مُفْرَدٍ. لَا

(1)

لِلسَّفارِينِيِّ شَرحُ ثُلَاثِيَّاتِ أَحْمدَ رحمه الله

(2)

.

7422 -

حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«إِنَّ اللهَ لَمَّا قَضَى الخَلْقَ، كَتَبَ عِنْدَهُ فَوْقَ عَرْشِهِ: إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي»

(3)

.

7423 -

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ المُنْذِرِ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحٍ،

(1)

استدراك من الشيخ رحمه الله لما وقع منه من سبق لسان، وبيان أن شرح السفاريني إنما هو لثلاثيات أحمد رحمه الله.

(2)

وحبذا لو شرح أحد العلماء ثلاثيات الإمام البخاري رحمه الله.

(3)

ورواه مسلم (2751).

ص: 123

قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنِي هِلَالٌ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ، وَأَقَامَ الصَّلَاةَ، وَصَامَ رَمَضَانَ، كَانَ حَقًّا عَلَى اللهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الجَنَّةَ، هَاجَرَ فِي سَبِيلِ اللهِ، أَوْ جَلَسَ فِي أَرْضِهِ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا» . قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَفَلَا نُنَبِّئُ النَّاسَ بِذَلِكَ؟ قَالَ:«إِنَّ فِي الجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ، أَعَدَّهَا اللهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ، كُلُّ دَرَجَتَيْنِ مَا بَيْنَهُمَا كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللهَ فَسَلُوهُ الفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الجَنَّةِ، وَأَعْلَى الجَنَّةِ، وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الجَنَّةِ» .

7424 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ التَّيْمِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: دَخَلْتُ المَسْجِدَ وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ، فَلَمَّا غَرَبَتِ الشَّمْسُ قَالَ:«يَا أَبَا ذَرٍّ، هَلْ تَدْرِي أَيْنَ تَذْهَبُ هَذِهِ؟» ، قَالَ: قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ:«فَإِنَّهَا تَذْهَبُ تَسْتَأْذِنُ فِي السُّجُودِ فَيُؤْذَنُ لَهَا، وَكَأَنَّهَا قَدْ قِيلَ لَهَا: ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ، فَتَطْلُعُ مِنْ مَغْرِبِهَا، ثُمَّ قَرَأَ: ذَلِكَ مُسْتَقَرٌّ لَهَا» فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللهِ

(1)

.

7425 -

حَدَّثَنَا مُوسَى، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ السَّبَّاقِ، أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي

(1)

ورواه مسلم (159).

ص: 124

عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنِ ابْنِ السَّبَّاقِ، أَنَّ زَيْدَ ابْنَ ثَابِتٍ، حَدَّثَهُ قَالَ:«أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ فَتَتَبَّعْتُ القُرْآنَ، حَتَّى وَجَدْتُ آخِرَ سُورَةِ التَّوْبَةِ مَعَ أَبِي خُزَيْمَةَ الأَنْصَارِيِّ، لَمْ أَجِدْهَا مَعَ أَحَدٍ غَيْرِهِ» ، {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [التوبة: 128] حَتَّى خَاتِمَةِ بَرَاءَةَ.

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يُونُسَ بِهَذَا، وَقَالَ: مَعَ أَبِي خُزَيْمَةَ الأَنْصَارِيِّ.

7426 -

حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي العَالِيَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ عِنْدَ الكَرْبِ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ العَلِيمُ الحَلِيمُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ الأَرْضِ وَرَبُّ العَرْشِ الكَرِيمِ»

(1)

.

(الشَّيخُ): كَذَا عِنْدكُم كُلّكُم «لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ العَلِيمُ الحَلِيمُ» ؟

(الطَّلبَةُ): إِي نَعمْ.

قَالَ ابْنُ بَازٍ رحمه الله: فِي الرِّوايَةِ الأُخرَى: «العَظِيمُ الحَلِيمُ» .

(1)

ورواه مسلم (2730).

ص: 125

7427 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ صلى الله عليه وسلم:«يَصْعَقُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى آخِذٌ بِقَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِمِ العَرْشِ»

(1)

.

7428 -

وَقَالَ المَاجِشُونُ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الفَضْلِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ بُعِثَ، فَإِذَا مُوسَى آخِذٌ بِالعَرْشِ»

(2)

.

فِي الرِّواية المحَفْوظَةِ: «أَوَّلَ مَنْ يَفِيقُ»

(3)

. لِأنَّ هَذَا صَعقَةٌ فِي المَوقِفِ غَيرَ صَعقَةِ المَوتِ وَالفَزعِ، وَلِهذَا الرِّوايَةُ المَحْفوظَةُ:«أَوَّلَ مَنْ يَفِيقُ» .

(الشَّيخُ): رَاجِعِ الكَلَامَ عَلَى أَبِي خُزَيمَةَ بْنِ ثَابِتٍ الأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه.

يَا شَيخُ، يُصْعَقُونَ أو يَصْعَقُونَ؟

يُقَالُ: يُصْعقُونَ، وَيُقالُ: يَصْعَقُونَ، قَالَ اللهُ تَعَالَى:{فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ} [الزمر: 68]، صَعِقَ: يَصْعقُونَ، يُقَالُ: يَصْعَقونَ، وَيُقالُ: يُصْعَقونَ.

[قَالَ الحَافِظُ ابنُ حَجرٍ رحمه الله فِي «تَقْريبِ التَّهذيبِ» (5301)]: «عِيسَى بْنُ طَهْمانَ

(1)

ورواه مسلم (2374).

(2)

ورواه مسلم (2373).

(3)

ورواه البخاري (2411).

ص: 126

الجُشَمِيُّ -بِضمِّ الجِيمِ وَفَتحِ المُعْجمَةِ- أَبُو بَكرٍ البَصرِيُّ، نَزِيلُ الكُوفَةِ، صَدُوقٌ، أَفْرطَ فِيهِ ابْنُ حِبَّانَ، وَالذَّنبُ فِيمَا اسْتَنكَرَهُ مِنْ حَدِيثِهِ لِغَيرِهِ، مِنَ الخَامِسةِ، خ تم س».

(الشَّيخُ): رَاجِعْ إِبْراهِيمَ بْنَ طَهْمانَ؟

[قَالَ الحَافِظُ ابنُ حَجرٍ رحمه الله فِي «تَقْريبِ التَّهذيبِ» (189)]: «إِبْراهِيمُ بنُ طَهْمانَ الخُرَاسَانِيُّ أَبُو سَعِيدٍ، سَكنَ نَيْسَابُورَ ثمَّ مكَّةَ، ثِقةٌ يُغرِبُ، وَتُكُلِّمَ فِيهِ لِلإِرْجاءِ، وَيُقالُ: رَجعَ عَنهُ، مِنَ السَّابِعةِ، مَاتَ سَنةَ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ، ع» .

يَا شَيخُ رِوَايَةُ: «فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ بُعِثَ» وَهْمٌ؟

وهْمٌ، مِثلُ مَا نبَّهَ ابنُ القِيِّمِ رحمه الله فِي كِتابِ «الرُّوحِ» ، وَالصَّوَابُ:«أَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يَفِيقُ» ؛ لِأنَّ هذِهِ صَعْقةٌ لِلْقضَاءِ يَومَ القِيَامةِ بَعدَ البَعْثِ وَالنُّشُورِ.

فِي مَوقِفِ القِيامَةِ؟

فِي مَوقِفِ القَيامَةِ، المَشْهورُ عِنْدَ مَجِيئِهِ جل وعلا لِلفَصْلِ بَينَ عِبَادِهِ.

[قَالَ الحَافِظُ ابنُ حَجرٍ رحمه الله فِي «فَتْحِ البَارِي» (13/ 414)]: «السَّابِعُ: حَدِيثُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ فِي جَمْعِ الْقُرْآنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ: آخِرُ سُورَةِ «بَرَاءَةَ» الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [التوبة: 128] إِلَى قَوْلهِ: {وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)} [التوبة: 129]؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ أَنَّ لِلْعَرْشِ رَبًّا، فَهُوَ مَرْبُوبٌ وَكُلُّ مَرْبُوبٍ مَخْلُوقٌ. وَمُوسَى شَيْخُهُ فِيهِ هُوَ ابْنُ إِسْمَاعِيلَ، وَإِبْرَاهِيمُ شَيْخُ شَيْخِهِ فِي السَّنَدِ الْأَوَّلِ هُوَ ابْنُ سَعْدٍ.

وَرِوَايَةُ اللَّيْثِ الْمُعَلَّقَةُ تَقَدَّمَ ذِكْرُ مَنْ وَصَلَهَا فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ «بَرَاءَةَ» ، وَرِوَايَتُهُ المسندةُ تَقَدَّمَ سِيَاقُهَا فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ مَعَ شَرْحِ الحَدِيث». [انتهى كلامه].

ص: 127

قَالَ ابْنُ بَازٍ رحمه الله: إِبْراهِيمُ بنُ طَهْمانَ مَا لَهُ صِلةٌ بِعِيسَى بنِ طَهْمانَ، شَارَكهُ فِي الأَبِ فَقطْ، اشْتَركَا فِي الأَبِ.

أَحْسَنَ اللهُ إِليْكَ، هُنَا غَايَرَ بَينَ التَّرْجمَتينِ، قَوْلهُ هُنَا: فَسمَّى اللهُ نَفسَهُ شَيْئًا، وَهْنَاكَ مَا قَالَ: فَسمَّى اللهُ نَفْسهُ شَخْصًا؟

(الشَّيخُ): فِي أيِّ بَابٍ؟

(القَارِئُ): فِي بَابِ: قَولِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: «لَا شَخْصَ أَغْيَرُ مِنَ اللهِ» ، التَّرجَمةُ الَّتِي بَعْدهَا اسْتَنبَطَ مِنْها التَّسمِيَةَ، فَقَالَ: فَسمَّى اللهُ نَفْسَهُ شَيْئًا، وَلمْ يَسْتنْبِطْ مِنَ التَّرجَمَةِ الأُولَى.

قَالَ ابْنُ بَازٍ رحمه الله: لِأنَّهُ نَصُّ القُرآنِ، نَقلَ نَصَّ القُرْآنِ، هُناكَ أَمَرَّ كَمَا جَاءَ، مَا أَحبَّ أنْ يَدخُلَ فِي المَوضُوعِ، يَكْفِي رِوايَتُهُ، يَعنِي، تَكفِي الرِّوايَةُ، يَعنِي: يُطلَقُ عَلَى اللهِ: شَخصٌ لَا كَالأَشْخاصِ، وَشَيءٌ لَا كَالأَشْياءِ، مِنْ بَابِ الخَبرِ.

* * *

ص: 128

‌باب قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4]، وَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ:{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر:

10].

وَقَالَ أَبُو جَمْرَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، بَلَغَ أَبَا ذَرٍّ مَبْعَثُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لِأَخِيهِ: اعْلَمْ لِي عِلْمَ هَذَا الرَّجُلِ، الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ يَأْتِيهِ الخَبَرُ مِنَ السَّمَاءِ وَقَالَ مُجَاهِدٌ:«العَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُ الكَلِمَ الطَّيِّبَ» يُقَالُ: {ذِي الْمَعَارِجِ} [المعارج: 3]: «المَلَائِكَةُ تَعْرُجُ إِلَى اللهِ»

7429 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ: مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلَاةِ العَصْرِ وَصَلَاةِ الفَجْرِ، ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ فَيَسْأَلُهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ، فَيَقُولُ: كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ: تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ»

(1)

.

هذِهِ مِنْ نِعمِ اللهِ العَظِيمَةِ، كَونُ المَلَائكَةِ يَحضُرُونَ صَلَاةَ المُسْلِمِينَ وَيَجْتمِعُونَ مَعهُمْ فِيهَا -مَلَائكَةُ اللَّيلِ وَمَلائِكةُ النَّهَارِ- يَتَعارَفُونَ عَلَى هَؤُلاءِ

(1)

ورواه مسلم (632).

ص: 129

العِبَادِ، وَيطَّلِعونَ عَلَى أَخْبارِهِم وَشُؤونِهِم، وَيَجْتمِعُونَ فِي صَلَاةِ الفَجرِ وَصَلاةِ العَصرِ -مَلَائكَةُ اللَّيلِ وَمَلائِكةُ النَّهَارِ- ثمَّ يَصْعدُ الَّذينَ بَاتُوا بَعدَ صَلَاةِ الفَجرِ، وَيصْعدُ الَّذينَ فِينَا فِي النَّهَارِ بَعدَ العَصرِ، وَاللهُ يَسْألُهمْ -وَهُوَ أَعْلمُ سبحانه وتعالى كَيفَ تَرَكتْمُ عِبَادِي؟ يَقُولُونَ:«تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ» . شَهادَةٌ منَ المَلَائِكةِ لِأُولئِكَ الَّذينَ حَضَروهُمْ وَشَهِدُوا صَلَوَاتِهمْ.

وَالمَقْصودُ مِنْ هَذَا الخَبرِ وَمَا ذُكِرَ مَعهُ منَ الآيَاتِ: بَيَانُ عُلوِّ اللهِ جل وعلا، وَأنَّ اللهَ فِي العُلوِّ فَوقَ العَرشِ فَوقَ جَمِيعِ خَلقِهِ سبحانه وتعالى؛ وَلِهذَا قَالَ:{تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4]، العُرُوجُ يَكُونُ مِنْ أَسْفلَ إِلَى أَعْلَى، وَقَالَ:{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ (10)} [فاطر: 10]. وَالصُّعُودَ وَالرَّفعُ يَكُونُ مِنْ أَسْفلَ إِلَى أَعْلَى.

وَهكَذَا بَقيَّةُ الآيَاتِ {فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12)} [غافر: 12]، {يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ (55)} [آل عمران: 55]، {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء: 158]، {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [السجدة: 4] إِلَى غَيرِ هَذَا مِنْ أَدِلَّةِ العُلوِّ.

وَقدْ تَكاثَرَتْ أَدلَّةُ العُلوِّ فِي الكِتَابِ وَالسُّنةِ بِمَا لَا يَبْقَى مَعهُ أيُّ شَكٍّ لِمنْ مَعهُ أَدْنَى عَقلٍ، وَذَلِك لِلدَّلالَةِ عَلَى عُلوِّ اللهِ وَفَوْقيَّتِهِ، وَأنَّهُ فَوقَ العَرشِ فَوقَ جَمِيعِ الخَلْقِ، وَلَيسَ مُخْتلِطًا بِهِم، وَلَا حالًّا فِيهِمْ، بلْ هُوَ فَوقَ جَمِيعِ الخَلْقِ سبحانه وتعالى.

فَالْوَاجِبُ عَلَى المُسلِمِ اعْتِقادُ ذلِكَ وَالإِيمَانُ بِذلِكَ، وَأنَّ رَبَّهُ فَوقَ العَرشِ، فَوقَ جَمِيعِ الخَلقِ سبحانه وتعالى، وَلَا تَخْفَى عَليْهِ خَافِيةٌ، يَعلَمُ عِلْمَ عِبَادهِ وَهُوَ فَوقَ العَرشِ، فهُوَ مُحِيطٌ بِهِمْ عِلْمًا وَقُدرَةً وَتَدْبِيرًا سبحانه وتعالى، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ

ص: 130

اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5)} [آل عمران: 5]، {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)} [الطلاق: 12]، {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)} [المجادلة: 7]. هُوَ العَالِمُ بِأحْوَالِ عِبَادهِ مَعَ عُلوِّهِ وَفَوقِيَّتهِ سبحانه وتعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19)} [غافر: 19].

وفِي هَذَا الحَدِيثِ حَدِيثِ: «يَتَعَاقَبُ فِيكُمْ المَلَائِكَةُ» هَذَا فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أنَّ المَلَائِكةَ لَهُمْ صِلَةٌ بِأهْلِ الإِيمَانِ، غَيرُ المَلائِكةِ الحَفظَةِ المُوكَّلُونَ بِالعِبادِ، هَؤلَاءِ المَلائِكَةُ غَيرُهُم، مُوكَّلُونَ بِهذَا الأَمْرِ، يَنْزِلُونَ وَيَصْعَدُونَ وَيَعْلمُونَ أَحْوَالَ العِبَادِ، وَيَحضُرُونَ الصَّلَواتِ وَيَجْتمِعُونَ فِي صَلَاةِ العَصرِ وَصَلَاةِ الصُّبْحِ، وَغَيرُ المَلَائِكةِ الأُخْرَى:«إِنَّ للهِ مَلَائِكَةً سَيَّاحِينَ، يُبَلِّغُونِي عَنْ أُمَّتِي السَّلَامَ»

(1)

. عليه الصلاة والسلام.

وَفِيهِ: أنَّ المَلَائِكةَ أيْضًا لَهُمْ عِنَايةٌ وَحِرْصٌ عَلَى تَتبُّعِ مَجَالسِ الذِّكرِ، فَإِذَا وَجدُوهَا تَنَادّْوا: هَلُمُّوا إِلَى حَاجَتِكُمْ، حَتَّى يَسُدُّوا مَا بَينَ الطَّابِقيْنِ. وهَذَا مِنْ آيَاتِ اللهِ العَظِيمةِ الَّتِي تَدلُّ عَلَى كَثرَةِ جُنُودهِ وَكَثْرةِ المَلَائكَةِ {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر: 31]، وَمَا يُحْصِيهِم إلَّا هُوَ سبحانه وتعالى.

عَفَا اللهُ عَنكَ، التَّرجَمَةُ هذِهِ فِي العُلوِّ وَالتَّرجَمةُ السَّابِقَةُ فِي العُلُوِّ؟

السَّابِقَةُ لِإِثْباتِ العَرْشِ وَالعُلُوِّ، وَأنَّ العَرْشَ فَوقَ السَّمَوَاتِ، هُوَ سَقْفُ المَخْلُوقَاتِ. وَهُنا العُلوُّ مُطْلقًا.

(1)

رواه أحمد في «المسند» (3666)، والنسائي (1282).

ص: 131

7430 -

وَقَالَ خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ، وَلَا يَصْعَدُ إِلَى اللهِ إِلَّا الطَّيِّبُ، فَإِنَّ اللهَ يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهِ، كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ، حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الجَبَلِ» .

وَرَوَاهُ وَرْقَاءُ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:«وَلَا يَصْعَدُ إِلَى اللهِ إِلَّا الطَّيِّبُ»

(1)

.

وهُنَا الشَّاهدُ لِلعُلوِّ كَونُهُ يَصعَدُ؛ لِأنَّ الصُّعُودَ مِنْ أَسْفلَ إِلَى أَعْلَى كَمَا تَقدَّمَ.

وفي هَذَا فَضْلُ الصَّدَقَةِ - وَلوْ قَلِيْلًا - فَمنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ - وَلَا يَصعَدُ إِلَى اللهِ إلَّا الطَّيِّبُ- إلَّا تَقبَّلَها اللهُ بِيَمِينهِ حَتَّى يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِها، كَمَا يُربِّي صَاحِبُها فُلُوَّهُ أوْ فَصِيلَهُ، حَتَّى تَكُونَ مِثلَ الجَبلِ.

هَذَا مِنْ فَضلِهِ سبحانه وتعالى، أنَّ هذِهِ الصَّدَقاتِ القَلِيلَةِ تُربَّى لِأَهْلِها، وُتُنمَّى لِأهْلِها، وَيُعطِي اللهُ لَهُمْ منَ الأُجُورِ إِذَا كَانَتْ مِنْ كَسبٍ طَيِّبٍ خَالِصةً لِوْجهِهِ الكَرِيمِ حَتَّى تَكُونَ جِبَالًا منَ الحَسَناتِ وَالأُجُورِ لِأهْلِها.

وَلِهذَا فِي حَدِيثِ عَدِيٍّ رضي الله عنه فِي «الصَّحِيحَيْنِ» : «اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ

(1)

ورواه مسلم (1014).

ص: 132

تَمْرَةٍ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ»

(1)

. وَأَصلُ حَدِيثِ عَديٍّ رضي الله عنه يَقُولُ فِيهِ: «مَا مِنْكُمْ أَحَدٌ إلَّا وَسَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ، لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانُ» يَعنِي: وَاسِطةً، التُّرجُمَانُ: الوَاسِطةُ، بَلْ يُكَلِّمُهُ اللهُ كِفَاحًا مِنْ غَيرِ وَاسِطةٍ، «فَيَنْظُرُ عَنْ يَمِينِهِ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ عَنْ شِمَالِهِ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ فَلَا يَرَى إِلَّا النَّارَ، فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ»

(2)

. يَعنِي: مَنْ لَمْ يَجِدْ صَدَقةً فَلْيرُدَّ بِردٍّ طَيِّبٍ، أَغْناكَ اللهُ، أَعْطاكَ اللهُ، وَمَا أَشْبهَ ذلِكَ.

كُنْتُ كَثِيرًا مَا أَذْكرُ حَدِيثَ عَائِشةَ رضي الله عنها الَّذِي رَوَاهُ البُخارِيُّ فِي «الصَّحِيحِ» - وهُوَ حَدِيثٌ عَظِيمٌ جَلِيلٌ، فِيهِ عِظةٌ وَدَلالَةٌ عَلَى فَضْلِ اللهِ سبحانه وتعالى وَسِعَةِ جُودِهِ - وهُوَ مَا رُوِيَ عَنْها رضي الله عنها أنَّهَا جَاءَتْها سَائِلةٌ - امْرَأةٌ تَسأَلُ - وَمَعهَا ابْنَتانِ، فَلَمْ تَجِدْ فِي البَيتِ إلَّا ثَلَاثَ تَمْرَاتٍ، فَأَعْطتْهُنَّ الثَّلَاثَ، فَدفَعَتْ الأُمُّ لِكلِّ وَاحِدةٍ مِنْ بَنَاتِها وَاحِدةً، وَرَفعَتِ الثَّالِثةَ لِتَأكُلَها، فَنَظرَ إِليْهَا ابْنَتاهَا يَطْلُبانِهَا الثَّالِثَةَ؛ فَشقَّتْهَا بَيْنهُمَا وَلمْ تَأكُلْ شَيْئًا؛ فَعَجِبتْ عَائِشةُ رضي الله عنها مِنْ ذلِكَ وَقَالَتْ: لَأذْكُرنَّ شَأْنَها إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلمَّا جَاءَ ذَكَرتْ لَهُ شَأْنَ المَرْأةِ وَابْنَتيْهَا، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ اللهَ أَوْجَبَ لَهَا بِهَا الجْنَّةَ»

(3)

. يَعنِي: بِهذِهِ الرَّحْمَةِ وَهَذَا العَطْفِ، تَمْرةٌ شَقَّتْهَا بَينَ ابْنَتيْهَا رَحْمةً لَهُما وَلمْ تَأكُلْ مِنْها شَيْئًا.

وَفِي هَذَا أيْضًا منَ الدَّلَالةِ عَلَى أنَّ المُسْلِمينَ أَصَابَهُم جَهدٌ فِي المَدِينَةِ، وَمَشقَّةٌ فِي المَدِينَةِ؛ حَتَّى إنَّ عَائِشةَ رضي الله عنها فِي بَعضِ الأَيَّامِ مَا تَجدُ شَيْئًا وَلَا

(1)

رواه البخاري (1417)، ومسلم (1016)(66).

(2)

رواه البخاري (6539)، ومسلم (1016).

(3)

رواه مسلم (2630)(148).

ص: 133

تَمْرةً فِي البَيتِ، حَتَّى الضَّيفُ لَا يَجدُ شَيْئًا عِندَهُم، وفِي رِوَايةٍ:«أَنَّها لَمْ تَجِدْ إلَّا تَمْرتَينِ فَدَفَعتْهَا إِلَى المَرأَةِ، فَدفَعتْهَا إِلَى ابْنَتيْهَا»

(1)

، وَكَانُوا فِي بَعضِ الأَحْيانِ يَخرُجُ الوَاحِدُ مِنْ بَيْتهِ مِنْ شِدَّةِ الجُوعِ يَطلُبُ الرِّزقَ لَعلَّهُ يَجِدُ شَيْئًا.

وَتَقدَّمَ قِصَّةُ الصِّدِّيقِ وَعُمرَ رضي الله عنهما لمَّا لَقِيَا النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم وَسَأَلَهُما: «مَا أَخْرَجَكُمَا؟» . قَالَا: أَخْرجَنَا الجُوعُ. قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أَخْرَجَنِي إلَّا الَّذِي أَخْرَجَكُمَا»

(2)

-وهُوَ الجُوعُ- فَزارُوا أَبَا الهَيْثمِ بْنَ التَّيِّهَانِ الأَنْصارِيَّ رضي الله عنه فِي بُسْتَانِهِ، وهلَّا بِهِمْ وَرَحَّبَ، وقدَّمَ لهُمْ شَيْئًا منَ الرُّطبِ وَالمَاءِ، ثمَّ ذَبحَ لَهُمْ دَاجِنًا

الحَدِيثَ المَعْرُوفَ.

فَهذَا يَدلُّ عَلَى أنَّهُم أَصَابهُمْ شِدَّةٌ؛ فَصَبرُوا وَجَاهدُوا فِي اللهِ، وَاسْتَقَامُوا عَلَى دِينِ اللهِ، ورَفعَ اللهُ بِهِمْ شَأنَ الإِسْلامِ، وَأَغْنَاهُم بَعدَ الفَقرِ، وَصَارُوا رُؤُوسَ النَّاسِ بَعدَ ذلِكَ وَقَادَتَهُم، وَفَتحُوا فُتُوحَاتٍ فِي بِلَادِ اللهِ، وَرَفعُوا رَايَةَ الإِسْلامِ، وَنَصرُوا الحَقَّ بَعدَ العَيْلَةِ وَالفَقرِ.

(الشَّيخُ): رَاجِعِ التَّعْليقَ عَلَى خَالِدِ بْنِ مَخْلدٍ.

[قَالَ الحَافِظُ ابنُ حَجرٍ رحمه الله فِي «فَتْحِ البَارِي» (13/ 417)]: «قَوْلُهُ: وَقَالَ خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ. كَذَا لِلْجَمِيعِ، وَوَقَعَ عِنْدَ الْخَطَّابِيِّ فِي شَرْحِهِ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ

قَوْلُهُ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ. هُوَ ابْنُ بِلَالٍ الْمَدَنِيُّ الْمَشْهُورُ، وَقَدْ وَصَلَهُ أَبُو بَكْرٍ الْجَوْزَقِيُّ فِي «الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ» قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الدَّغُولِيُّ،

(1)

رواه البخاري (1418)، ومسلم (2629)(147)، بلفظ:«غير تمرة» .

(2)

رواه مسلم (2038)(140).

ص: 134

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاذٍ السُّلَمِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ

فَذَكَرَهُ مِثْلَ رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ سَوَاءً.

وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ فِي «صَحِيحِهِ» عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُعَاذٍ. وَبَيَّضَ لَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي «الْمُسْتَخْرَجِ» ثُمَّ قَالَ: رَوَاهُ فَقَالَ: وَقَالَ خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ.

وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَخْلَدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ. لَكِنْ خَالَفَ فِي شَيْخِ سُلَيْمَانَ فَقَالَ: عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، كَمَا أَوْضَحْتُ ذَلِكَ فِي أَوَائِلِ الزَّكَاةِ. وَقَدْ ضَاقَ مَخْرَجُهُ عَنِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ وَأَبِي نُعَيْمٍ فِي «مُسْتَخْرَجَيْهِمَا» ، فَأَخْرَجَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ. وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ هِيَ الَّتِي تَقَدَّمَتْ لِلْبُخَارِيِّ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ.

وَدَلَّتِ الرِّوَايَةُ الْمُعَلَّقَةُ وَمُوَافَقَةُ الْجَوْزَقِيِّ لَهَا عَلَى أَنَّ لِخَالِدٍ فِيهِ شَيْخَيْنِ، كَمَا أَنَّ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ فِيهِ شَيْخَيْنِ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ التَّعْلِيقُ الَّذِي بعده». [انتهى كلامه].

7431 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي العَالِيَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:«أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يَدْعُو بِهِنَّ عِنْدَ الكَرْبِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ العَظِيمُ الحَلِيمُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ العَرْشِ الكَرِيمِ»

(1)

.

(1)

ورواه مسلم (2730).

ص: 135

هذَهِ دَعَوَاتٌ ثُنَائيَّةٌ، دَعَوَاتٌ فِي لَفْظِها الثَّنَاءُ وَالتَّعْظيمُ وَمَعْناهَا الدُّعَاءُ؛ لِأنَّ دُعَاءَ الِعَبادَةِ هُوَ دُعَاءٌ فِي الحَقِيقَةِ، هَذَا مِنْ دُعَاءِ العِبَادةِ؛ لِأنَّهُ ذِكْرٌ مَقُصُودُهُ طَلبُ الفَرَجِ، طَلبُ إِزَالَةِ الشِّدَّةِ، وَإِذَا دَعَا مَعهُ بَعدَ ذلِكَ كَمَا فِي بَعضِ الرِّوَايَاتِ:«ثَمْ يَدْعُو» أيْ: بَعدَ هَذَا الذِّكرِ، وَيَقُولُ:«لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ العَظِيمُ الحَلِيمُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ الأَرْضِ وَرَبُّ العَرْشِ الكَرِيمِ» .

هُنَا سَقطَتِ «الأَرضُ» ، وفِي الرِّوَايَاتِ الأُخْرَى «وَرَبُّ الأَرْضِ» فهَذَا دُعَاءٌ عَظِيمٌ، وهُوَ ثَنَاءٌ عَلَى اللهِ وَشَهَادَةٌ بِأَسْمائِهِ وَصِفاتِهِ العَظِيمَةِ، فهُوَ مِنْ أَعْظمِ الدُّعَاءِ؛ لِأنَّهُ تَوسُّلٌ إِليْهِ بِأسْمَائهِ وَصِفَاتِهِ العَظِيمَةِ.

وهُو دُعَاءٌ فِي المَعْنَى -وإِنْ لمْ يَدْعُ- فهُوَ قَالَهَا لِيَطلُبَ إِزَالَةَ الشِّدَّةِ، قَالَها لِيَطلُبَ الفَرَجَ، كَأنْ يُضَايَقَ مِنْ جِهَةِ دَيْنٍ وهُوَ مُعسِرٌ بِهِ، يُضَايَقُ مِنْ جِهةِ قَتلٍ بِغيْرِ حَقٍّ، يُضَايقُ مِنْ جِهةِ أَشْياءَ أُخْرَى فِي دِينِهِ أوْ دُنْياهُ؛ فَيقُولُ هَذَا الكَلَامَ:«لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ العَظِيمُ الحَلِيمُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ الأَرْضِ وَرَبُّ العَرْشِ الكَرِيمِ» . ثمَّ يَدعُو مَع هَذَا بِمَا أَحبَّ: اللهُمَّ فرِّجْ كُرْبتِي، اللَّهُمَّ يسِّرْ أَمْرِي، اللَّهُمَّ اقْضِ حَاجَتِي، اللَّهُمَّ اكْفِنِي شرَّ فُلَانٍ، اللَّهُمَّ أَعْطِني كَذَا. يَدعُو بِحَاجتِهِ معَ الذِّكْرِ.

(الشَّيخُ) مَاذَا قَالَ الشَّارِحُ عَليْهِ؟ أوِ العَينِيُّ؟

[قَالَ الإِمَامُ العَينِيُّ رحمه الله فِي «عُمدَة القَارِي» (25/ 119)]: «لَيْسَ هَذَا

ص: 136

بِمُطابِقٍ للتَّرْجَمَةِ، وَمحلُّهُ فِي الْبَابِ السَّابِقِ، وَلَعَلَّ النَّاسِخَ نَقلهُ إِلَى هُنَا. وَسَعِيدٌ: هُوَ ابْنُ أبِي عَرُوبَةَ، وَأَبُو الْعَالِيَةَ رَفِيعٌ. وَقدْ مَرَّ الحَدِيثُ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبلَهُ. قَالَ الكِرْمَانِي: هَذَا ذِكْرٌ وَتَهْليلٌ وَلَيْسَ بِدُعَاءٍ.

قُلتُ: هُوَ مُقَدّمَةُ الدُّعَاءِ، فَأُطلِقَ الدُّعَاءُ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ ذَلِك، أَوْ الدُّعَاءُ أَيْضًا ذِكرٌ، لَكنَّهُ خَاصٌّ، فَأَطْلقهُ وَأَرَادَ الْعَامَّ». [انتهى كلامه].

قَالَ ابْنُ بَازٍ رحمه الله: وَالصَّوابُ أنَّهُ دُعاءٌ؛ لِأنَّ الدُّعَاءَ قِسْمانِ: دُعاءُ عِبادَةٍ، وَدُعَاءُ مَسْألَةٍ، فاللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمنِي وَنَحو ذلِكَ هَذَا دُعَاءُ مَسْألةٍ، وَلَا إِلهَ إلَّا اللهُ، وَسُبْحانَ اللهِ، وَالحَمدُ للهِ، هَذَا يُسمَّى دُعَاءَ عِبَادَةٍ، وَهكَذَا الصَّلَواتُ وَالصَّدَقَاتُ جَمِيعُها دُعَاءٌ؛ لِأنَّهُ يَتَصدَّقُ يُرِيدُ ثَوَابَ اللهِ، وَصلَّى يُرِيدُ ثَوَابَ اللهِ.

فَأَعْمالُ الخَيرِ دُعَاءٌ فِي المَعْنَى، وَالذِّكرُ دُعَاءٌ فِي المَعْنَى؛ لِأنَّهُ إنَّمَا فَعلَ هَذَا يُرِيدُ فَضلَ اللهِ، فهُوَ يَسْألُهُ فِي المَعْنَى، يَسْألُهُ مِنْ فَضلِهِ أنْ يُثِيبَهُ عَلَى هَذَا العَملِ، وَأنْ يُدخِلَهُ الجَنَّةَ، وَأنْ يُجِيرَهُ منَ النَّارِ إِلَى غَيرِ ذلِكَ. فهُوَ ثَنَاءٌ وَعَمَلٌ صَالِحٌ يُرَادُ مِنهُ ثَوابُهُ، وَلِهذَا يُقَالُ لهُ: دُعَاءُ العِبَادَةِ.

وَأمَّا دُعَاءُ المَسْأَلةِ فهُوَ الَّذِي فِيهِ صَرِيحُ السُّؤَالِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، اللَّهُمَّ ارْحَمنِي.

وَهذَا أيْضًا - صَرِيحُ السُّؤَالِ - يَتَضمَّنُ دُعَاءَ العِبَادةِ؛ لِأنَّهُ يَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، يَتَضمَّنُ وَصفَ رَبِّهِ بِالمَغفِرةِ، اللَّهُمَّ ارْحَمنِي، وَصَفَ رَبَّهُ بِالرَّحْمَةِ، وهَذَا ثَنَاءٌ عَلَى اللهِ، فَيكُونُ دُعَاءَ عِبَادةٍ.

ص: 137

وَ «لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ العَظِيمُ الحَلِيمُ» : هُوَ ثَنَاءٌ عَلَى اللهِ مِنْ دُعَاءِ عِبَادِهِ يَسْتلْزِمُ كَمَا يَقُولُ بَعضُهُم: دُعَاءَ المَسْألَةِ؛ لِأنَّهُ إنَّمَا قَالَ ذلِكَ المُسْلِمُ يَرجُو ثَوَابَ اللهِ، وَيُريدُ فَضلَهُ سبحانه وتعالى.

7432 -

حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ أَبِي نُعْمٍ - أَوْ أَبِي نُعْمٍ - شَكَّ قَبِيصَةُ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، قَالَ: بُعِثَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِذُهَيْبَةٍ، فَقَسَمَهَا بَيْنَ أَرْبَعَةٍ.

وَحَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ أَبِي نُعْمٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، قَالَ:«بَعَثَ عَلِيٌّ وَهُوَ بِاليَمَنِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِذُهَيْبَةٍ فِي تُرْبَتِهَا، فَقَسَمَهَا بَيْنَ الأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ الحَنْظَلِيِّ، ثُمَّ أَحَدِ بَنِي مُجَاشِعٍ، وَبَيْنَ عُيَيْنَةَ بْنِ بَدْرٍ الفَزَارِيِّ وَبَيْنَ عَلْقَمَةَ بْنِ عُلَاثَةَ العَامِرِيِّ، ثُمَّ أَحَدِ بَنِي كِلَابٍ وَبَيْنَ زَيْدِ الخَيْلِ الطَّائِيِّ، ثُمَّ أَحَدِ بَنِي نَبْهَانَ، فَتَغَيَّظَتْ قُرَيْشٌ وَالأَنْصَارُ فَقَالُوا: يُعْطِيهِ صَنَادِيدَ أَهْلِ نَجْدٍ، وَيَدَعُنَا. قَالَ: «إِنَّمَا أَتَأَلَّفُهُمْ» . فَأَقْبَلَ رَجُلٌ غَائِرُ العَيْنَيْنِ، نَاتِئُ الجَبِينِ، كَثُّ اللِّحْيَةِ، مُشْرِفُ الوَجْنَتَيْنِ، مَحْلُوقُ الرَّأْسِ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، اتَّقِ اللهَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«فَمَنْ يُطِيعُ اللهَ إِذَا عَصَيْتُهُ، فَيَأْمَنُنِي عَلَى أَهْلِ الأَرْضِ، وَلَا تَأْمَنُونِي» .

فَسَأَلَ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ قَتْلَهُ، أُرَاهُ خَالِدَ بْنَ الوَلِيدِ، فَمَنَعَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا وَلَّى، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مِنْ

ص: 138

ضِئْضِئِ هَذَا قَوْمًا يَقْرَؤُونَ القُرْآنَ، لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الإِسْلَامِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ، يَقْتُلُونَ أَهْلَ الإِسْلَامِ، وَيَدَعُونَ أَهْلَ الأَوْثَانِ، لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ»

(1)

.

وَهذَا دَلِيلٌ عَلَى أنَّ أَحَدًا لَا يَسْلَمُ منَ اعْتِراضِ النَّاسِ، إِذَا كَانَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم لمْ يَسْلَمْ، فَمَنْ يَسْلَمُ بَعَد ذلِكَ؟! فهُوَ اجْتَهدَ عليه الصلاة والسلام، وقَسَّمَها بَيْنهُم الأَرْبعَةِ لِيتَأَلَّفهُم عَلَى الإِسْلامِ؛ لِأنَّ اللهَ جَعلَ لِلمُؤلَّفةِ حقًّا، المُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ جَعلَ لهُمْ حَقًّا فِي بَيتِ المَالِ وفِي الزَّكَاةِ.

وَالرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَتأَلَّفُ رُؤَسَاءَ العَربِ وَشُيوخَهُم وَكِبارَهُم؛ لِأنَّهُم إِذَا هَداهُمُ اللهُ هَدَى اللهُ بِهِمْ أُمَمًا كَثِيرَةً، وَإِذَا ضَلَّ الرَّئِيسُ تَبِعَهُ قَومُهُ، فَكانَ يَتَألَّفُ الرُّؤَسَاءَ وَالأَعْيَانَ بِالمَالِ عليه الصلاة والسلام. وَمِنهُم هَؤُلَاءِ الأَرْبعَةِ:«عُيَينَةُ بنُ حِصْنِ بنِ بَدرٍ الفَزَارِيُّ، وَالأَقْرعُ بنُ حَابِسٍ التَّمِيمِيُّ، وَعَلْقمَةُ بنُ عُلَاثَةَ العَامِريُّ، وَزَيدُ الخَيْلِ» رضي الله عنهم، كُلُّ هَؤُلَاءِ مِنْ رُؤسَاءِ وَكِبارِ العَرَبِ فِي نَجْدٍ؛ وَلِهذَا كَانَ يَتَألَّفُهُم فَاسْتَنكَرَ ذلِكَ مَنِ اسْتَنكَرَ مِنْ قُرَيشٍ وَالأَنْصَارِ حَتَّى أَخْبرَهُم وبَيَّنَ لهُمْ صلى الله عليه وسلم أنَّ القَصدَ مِنْ ذلِكَ التَّألِيفُ.

هَكذَا مَا فَعلَ يَومَ حُنَينٍ حِينَ فَعلَ بِالغَنائِمِ مَا فَعلَ مِنْ جِهةِ إِعْطاءِ كَثِيرٍ منَ النَّاسِ عَلَى مَائةٍ منَ الإِبلِ مِنْ غَنَائمَ حُنَينٍ لِيتَألَّفَهُم، وَاسْتَنكَرَ ذلِكَ مَنِ اسْتَنكَرَ؛ بيَّنَ لهُمْ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ يَتأَلَّفُهُم عَلَى الإِسْلامِ؛ لَعلَّهُم يَسْتقِيمُ لهُمْ إِيمَانُهُم وَتَتْبعُهُم أَقْوامُهُم بِالهِدايَةِ.

(1)

ورواه مسلم (1064).

ص: 139

فَاسْتَنكَرَ هَذَا الَّذِي قَامَ وَقَالَ: يَا مُحمَّدُ اعْدِلْ

(1)

. وفِي اللَّفظِ الآخَرِ: اعْدِلْ فَإنَّكَ لمْ تَعدِلْ

(2)

. وفِي اللَّفظِ الآخَرِ قَالَ: إِنَّ هذِهِ القِسمَةَ لمُ يُرَدْ بِها وَجهُ اللهِ

(3)

. كَمَا وَقعَ فِي يَومِ حُنَينٍ. فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: «مَنْ يُطِعِ اللهَ إِذَا عَصَيْتُهُ»

(4)

. وفِي اللَّفظِ الآخَرِ: «مَنْ يَعْدِلْ إِذَا لَمْ يَعْدِلِ اللهُ وَرَسُولُهُ» . وفِي اللَّفظِ الآخَرِ: «خِبْتَ وَخَسِرْتَ إِنْ لَمْ أكُنْ أَعْدِلُ»

(5)

، «أَلَا تَأْمَنُونِي وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ، يَأْتِينِي خَبَرُ السَّمَاءِ صَبَاحًا وَمَسَاءً»

(6)

. وفِي اللَّفظِ الآخَرِ: «فَيَأْمَنُنِي عَلَى أَهْلِ الأَرْضِ وَلَا تَأْمَنُونِي»

(7)

.

المَقْصُودُ: أنَّ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أنَّ الإِنْسَانَ مَهمَا بَلغَ مِنَ الفَضلِ وَمَهمَا بَلغَ مِنَ العَدَالةِ وَمَهمَا بَلغَ منَ العِلْمِ فَإنَّهُ لَا يَسلَمُ مِنْ شرِّ النَّاسِ وَاعْتِراضِهِم، وَلوْ كَانَ نَبيًّا كَنَبيِّنَا مُحمَّدٍ عليه الصلاة والسلام.

ثم قَالَ: «يَخْرُجُ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا» . أيْ: مِنْ أَصلِ هَذَا أوْ مِنْ جِنسِ هذَا. «قَوْمٌ» يَخْرجُونَ أيْ: بَعدَهُ صلى الله عليه وسلم. «يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ، وَقِرَاءَتَهُ مَعَ قِرَاءَتِهِمْ، يَقْرَؤُونَ القُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ» وهمُ الخَوارِجُ.

وقدْ وَقعَ ذلِكَ الَّذِي أَخْبرَ بِهِ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، وَقعَ، فَإنَّهُم خَرجُوا فِي زَمنِ عَليٍّ رضي الله عنه، وَحَصَلَ مَا حَصَلَ منَ الفِتْنةِ بِهِمْ وَقَاتَلَهُم عَليٌّ رضي الله عنه،

(1)

رواه مسلم (143)(1063).

(2)

رواه ابن ماجه (172).

(3)

رواه البخاري (3405)، ومسلم (141)(1062).

(4)

رواه النسائي (4101).

(5)

رواه البخاري (3610)، ومسلم (142)(1063).

(6)

رواه البخاري (4351)، ومسلم (144)(1064).

(7)

رواه البخاري (7432)، ومسم (143)(1064).

ص: 140

وَقَتلَ مِنهُم جَمًّا غَفِيرًا، وَهدَى اللهُ مَنْ هَدَى مِنهُمْ، وَبقِيَ مِنهُم بَقَايَا إِلَى يَومِنَا هَذَا، فِي كلِّ زَمَانٍ وفِي كلِّ عَصرٍ إِلَى زَمانِنَا هَذَا مَوجُودُونَ، مِنهُمْ طَوائِفُ فِي الجَزائِرِ وفِي لِيبْيَا وفِي عُمَانَ لهُمْ بَقايَا، وَبعْضُهُم تَنازَلَ عَنِ التَّكْفيرِ -تَكْفيرِ العُصَاةِ- وَلَا يُصِرُّ فِي تَكْفيرِ العُصَاةِ، وَلكِنَّهُ يَرَى أنَّ العَاصِيَ مُخلَّدٌ فِي النَّارِ، وَأنَّهُ مَع الكَفرَةِ، عَلَى طَرِيقَةِ الخَوارِجِ الأَوَائلِ، نَسْألُ اللهَ السَّلَامةَ.

أَحْسَنَ اللهُ إِليْكَ، مُنَاسبَةُ الحَدِيثِ لِلتَّرجَمةِ؟

المُنَاسَبةُ قَولُهُ: «أَلَا تَأْمَنُونِي وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ» . يَعنِي: اللهَ سبحانه وتعالى، وهُوَ فِي السَّمَاءِ، وفِي اللَّفظِ الآخَرِ:«أَلَا تَأْمَنُونِي وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ» يَعنِي: العُلُوَّ.

[قَالَ الحَافِظُ ابنُ حَجرٍ رحمه الله فِي «فَتْحِ البَارِي» (13/ 418)]: «قَوْلُهُ: «إِنَّمَا أَتَأَلَّفُهُمْ» . فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي فِي الْمَغَازِي: «أَلَا تَأْمَنُونِي وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ» . وَبِهَذَا تَظْهَرُ مُنَاسَبَةُ هَذَا الْحَدِيثِ لِلتَّرْجَمَةِ».

قَالَ ابْنُ بَازٍ رحمه الله: قَولُهُ: «فِي السَّمَاءِ» ، وَكَونُهُ يَأمَنهُ عَلَى أَهْلِ الأَرْضِ كَذلِكَ يُشِيرُ إِلَى هَذَا، يَأمَنُهُ عَلَى أَهْلِ الأَرضِ، يَعنِي: وهُوَ فِي السَّمَاءِ سبحانه وتعالى.

[قَالَ الحَافِظُ رحمه الله]: «لَكِنَّهُ جَرَى عَلَى عَادَتِهِ فِي إِدْخَالِ الْحَدِيثِ فِي الْبَابِ لِلَفْظَةٍ تَكُونُ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ هِيَ الْمُنَاسِبَةُ لِذَلِكَ الْبَابِ، يُشِيرُ إِلَيْهَا وَيُرِيدُ بِذَلِكَ شَحْذَ الْأَذْهَانِ، وَالْبَعْثَ عَلَى كَثْرَةِ الِاسْتِحْضَارِ، وَقَدْ حَكَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الضُّبَعِيِّ قَالَ: الْعَرَبُ تَضَعُ «فِي» مَوْضِعَ «عَلَى» كَقَوْلِهِ: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ} [التوبة: 2]، وَقَولِهِ:{وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71] فَكَذَلِك قَوْلُهُ: «مَنْ فِي السَّمَاء» أَيْ: عَلَى الْعَرْشِ فَوْقَ السَّمَاءِ كَمَا صَحَّتِ الْأَخْبَارُ بِذَلِكَ».

ص: 141

[انتهى كلامه].

[قَالَ الإِمَامُ العَينِيُّ رحمه الله فِي «عُمدَة القَارِي» (25/ 121)]: «قَوْلُهُ: «إِنَّ مِنْ ضِئْضِئِ» أَيْ: مِنْ أَصْلِ هَذَا الرَّجُلِ، وَهُوَ بِكَسْر الضَّادَينِ المُعْجمَتينِ وَسُكُونِ الْهَمزَةِ الأُولَى، «قَوْمًا» وَيُرْوى:«قَومٌ» فَإمَّا أَنَّهُ كُتِبَ عَلَى اللُّغَةِ الرَّبِيعِيَّةِ، فَإِنَّهُم يَكْتُبُونَ الْمَنْصُوبَ بِدُونِ الْألفِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي «إِنَّ» ضَمِيرُ الشَّأْنِ». [انتهى كلامه].

قَالَ ابْنُ بَازٍ رحمه الله: الرَّبِيعِيَّةَ نِسبَةً إِلَى رَبِيعَةَ، رَبِيعَةُ يَقِفُونَ بِالسُّكُونِ يَقُولُونَ:(رَأَيتُ زَيدْ) مَا يَقُولُونَ: (رَأيْتُ زَيدًا)، (رَأَيتُ زَيدْ)(رَأَيتُ عَامِرْ).

وَأمَّا المُضَريَّةُ فَيقِفُونَ بِالأَلفِ: (رَأَيتُ عَامِرًا) المَنْصوبُ المُنَوَّنُ يُوقَفُ عَليْهِ بِالأَلِفِ، هَذَا الأَفْصَحُ:(رَأَيتُ زَيدًا)(رَأَيتُ عَامِرًا) فـ {أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا} [الملك: 30] هَذَا الأَفْصَحُ، الوُقُوفُ عَلَى المَنْصوبِ بِالأَلفِ مُنوِّنًا، {وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا} [مريم: 5]، لُغةُ قُرَيشٍ المُضَريَّةُ، وَتَقرَأُ رَبِيعةُ:{وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِر} [مريم: 5]، بِدُونِ ذِكرِ الأَلِفِ عِنْدَ الوَقفِ.

7433 -

حَدَّثَنَا عَيَّاشُ بْنُ الوَلِيدِ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَوْلِهِ: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} [يس: 38]، قَالَ:«مُسْتَقَرُّهَا تَحْتَ العَرْشِ»

(1)

.

(1)

ورواه مسلم (159).

ص: 142

كَمَا فِي الرِّوايَةِ الثَّانِيةِ: «تَسْجُدُ تَحْتَ العَرْشِ» ، وَازَنتِ العَرشَ فِي سَيْرِها تَحتَ الأَرضِ وَسَجدَتْ، سُجُودًا يَلِيقُ بِهَا، اللهُ أَعلَمُ بِكَيْفيَّتهِ، وَالأَصلُ فِي هَذَا السُّجُودِ لِلشَّجَرِ وَالحَجَرِ خُضُوعٌ خَاصٌّ، اللهُ أَعلَمُ بِكيْفيَّتِهِ سبحانه وتعالى، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ (18)} [الحج: 18]، وهَكَذا تَسْبِيحُها شَيءٌ يَلِيقُ بِهَا.

قَولُهُ: تَحتَ العَرْشِ؟

يَعنِي: حِذاءَهُ، تَحتَ العَرشِ يَعنِي: حِذاءَهُ.

يَعنِي: فِي الوَسَطِ؟

إِذَا صَارَتْ وَتَوسَّطتْ فِي السَّيرِ.

كُلُّ شَيءٍ تَحتَ العَرشِ؟ المَخْلوقَاتُ كُلُّها؟

هُوَ سَقفُ المَخْلوقَاتِ، لَكِنِ المَقْصودُ وَاللهُ أَعْلمُ: تَوسَّطتْ يَعنِي.

الوَعدُ فِي الحَدِيثِ: «مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ

» إلخ، يَعُمُّ الفَرِيضَةَ وَالنَّافِلةَ؟

الظَّاهِرُ أنَّهُ يَعمُّ، الحَدِيثُ يَعمُّ الجَمِيعَ.

* * *

ص: 143

‌باب قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:

22، 23]

7434 -

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، وَهُشَيْمٌ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ قَيْسٍ، عَنْ جَرِيرٍ، قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذْ نَظَرَ إِلَى القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ قَالَ: «إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا القَمَرَ، لَا تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لَا تُغْلَبُوا عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَصَلَاةٍ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَافْعَلُوا»

(1)

.

وَهذَا منَ الفَضلِ العَظِيمِ، وَفِيهِ البِشَارَةُ لِأهْلِ الإِيمَانِ بِأنَّهُم يَرَونَ رَبَّهُمْ الكَرِيمَ جل وعلا يَومَ القِيامَةِ، رُؤيَةً وَاضِحةً كَمَا تُرَى الشَّمسُ صَحْوًا لَيسَ دُونَها سَحَابٌ، وَكمَا يُرَى القَمرُ لَيلَةَ البَدرِ فِي حَالِ اسْتِكمَالهِ لَيلَةَ البَدرِ-اللَّيلَةَ الرَّابِعةَ عَشْرةَ- حَالَ تَمَامِ نُورِهِ.

وَهذَا أَعْلَى نَعِيمِ أَهْلِ الجنَّةِ، أنَّهُم يَروْنَهُ يَومَ القِيَامَةِ، وَيَروْنَهُ فِي الجنَّةِ أيْضًا كَمَا يَشَاءُ سبحانه وتعالى كَمَا قَالَ تَعَالَى:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}

(1)

ورواه مسلم (633).

ص: 144

[يونس: 26] الحُسْنَى: الجَنَّةَ، وَالزِّيادَةَ جَاءَ فِي الحَدِيثِ الصَّحِيحِ حَدِيثِ صُهَيبٍ رضي الله عنه: أَنَّها النَّظرُ إِلَى وَجهِ اللهِ جل وعلا، وَلِهذَا قَالَ:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} [القيامة: 22، 23]، {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ}: منَ النَّضَارةِ ومِنَ الحُسنِ وَالبَهَاءِ وَالجَمَالِ، {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ} أيْ: يَومَ القِيَامةِ لهَا نُورٌ عَظِيمٌ وَبَهاءٌ عَظِيمٌ وَجَمَالٌ عَظِيمٌ، {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}: تَنْظرُ إِلَى رَبِّها.

تَأوَّلهُ أَهْلُ التَّأوِيلِ بِنفْيِ ثُبُوتِ الرُّؤيَةِ، بِأنَّها تَنظُرُ إِلَى ثَوابِهِ. وهَذَا مِنْ أَبْطلِ البَاطِلِ؛ لِأنَّ المَقْصودَ: إِلَى رَبِّها نَاظِرةٌ إِلَى وَجهِهِ الكَرِيمِ سبحانه وتعالى. كَمَا فَسَّرهُ الآيَاتُ الأُخرَى وَالأَحَادِيثُ الصَّحِيحةُ كَهذَا الحَدِيثِ.

ثُمَّ قَالَ عليه الصلاة والسلام: «فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ عَلَى أَلَّا تُغْلَبُوا عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَصَلَاةٍ قَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا» . هَذَا فِيهِ: الحثُّ عَلَى العِنَايةِ بِهَاتَينِ الصَّلَاتَينِ أَعْظمَ مِنْ غَيرِهِما -الفَجرِ وَالعَصرِ- وَأنَّ مَنْ يُحافِظُ عَليْهِما سُرَّ بِالنَّظرِ إِلَى وَجهِ اللهِ عز وجل، وَأنَّ المُحَافَظةَ عَليْهِما مِنْ أَعْظمِ الأَسْبابِ لِهذِهِ الرُّؤيَةِ العَظِيمَةِ، وَإنْ كَانَتْ الصَّلَاةُ كُلُّها يَلزَمُ المُحَافَظةُ عَليْهَا، وَيَجبُ أنْ يُحَافِظَ عَليْهَا، وَكلُّهَا عَمُودُ الإِسْلَامِ، وَكُلُّها لَازِمَةٌ، وَلَكِن لِهَذيْنِ الفَرْضَينِ -الصَّلَاةِ أَوَّلِ النَّهَارِ وَفِي آخِرِهِ- لِهَذيْنِ الفَرْضَيْنِ سِرٌّ وَأَثرٌ عَظِيمٌ فِي حُصُولِ النَّظرِ إِلَى وَجهِ اللهِ عز وجل.

ص: 145

7435 -

حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ يُوسُفَ اليَرْبُوعِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو شِهَابٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ عِيَانًا»

(1)

.

يَعنِي: مُعَاينَةً، أيْ: مُشَاهدَةً، اللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ.

7436 -

حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ الجُعْفِيُّ، عَنْ زَائِدَةَ، حَدَّثَنَا بَيَانُ بْنُ بِشْرٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ البَدْرِ، فَقَالَ:«إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا، لَا تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ»

(2)

.

مَعنَى «لَا تُضَامُّونَ» أيْ: لَا يَلْحقُكُم ضَيْمٌ، وَكلٌّ مِنْكُم يَرَى رَبَّه مِنْ دُونِ زَحْمةٍ وَلَا مَشقَّةٍ كَمَا تَرَى الشَّمسَ وَالقَمرَ دُونَ زَحْمةٍ وَلَا مَشقَّةٍ، رُؤيَةٌ عَظِيمَةٌ

(1)

ورواه مسلم (633).

(2)

ورواه مسلم (633).

ص: 146

ظَاهِرةٌ عَيَانًا مُشَاهدًا.

وفِي اللَّفظِ الآخَرِ: «لَا تُضَارُّونَ»

(1)

، يَعنِي: لَا تَشكُّونَ فِي رُؤْيتِهِ، بلْ رُؤيَةٌ ظَاهِرةٌ.

وَلِعظَمِ هذِهِ النِّعمَةِ عَلَى المُؤمِنِينَ ذَكرَ اللهُ ضِدَّها فِي حَقِّ الكَافِرينَ، فقَالَ:{كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)} [المطففين: 15]. فَالكُفَّارُ مَحْجوبُونَ عَنْها، وَالمُؤْمِنونَ مَأْذونٌ لَهُمْ فِيهَا، وَيُمتَّعُونَ بِهَا، ويُيَسَّرُونَ لهَا، فَضْلًا مِنهُ وَإِحْسَانًا سبحانه وتعالى.

7437 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّاسَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ القِيَامَةِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«هَلْ تُضَارُّونَ فِي القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ؟» . قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ:«فَهَلْ تُضَارُّونَ فِي الشَّمْسِ، لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ؟» . قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: «فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ كَذَلِكَ، يَجْمَعُ اللهُ النَّاسَ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَيَقُولُ: مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا فَلْيَتْبَعْهُ، فَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الشَّمْسَ الشَّمْسَ، وَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ القَمَرَ القَمَرَ، وَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الطَّوَاغِيتَ الطَّوَاغِيتَ، وَتَبْقَى هَذِهِ الأُمَّةُ فِيهَا شَافِعُوهَا أَوْ مُنَافِقُوهَا - شَكَّ إِبْرَاهِيمُ - فَيَأْتِيهِمُ اللهُ فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: هَذَا مَكَانُنَا حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبُّنَا، فَإِذَا جَاءَ رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ. فَيَأْتِيهِمُ اللهُ فِي صُورَتِهِ الَّتِي يَعْرِفُونَ، فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ.

(1)

رواه البخاري (7439)، ومسلم (183)(302).

ص: 147

فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا فَيَتَّبِعُونَهُ، وَيُضْرَبُ الصِّرَاطُ بَيْنَ ظَهْرَيْ جَهَنَّمَ، فَأَكُونُ أَنَا وَأُمَّتِي أَوَّلَ مَنْ يُجِيزُهَا، وَلَا يَتَكَلَّمُ يَوْمَئِذٍ إِلَّا الرُّسُلُ، وَدَعْوَى الرُّسُلِ يَوْمَئِذٍ: اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ، وَفِي جَهَنَّمَ كَلَالِيبُ مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ، هَلْ رَأَيْتُمِ السَّعْدَانَ؟». قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: «فَإِنَّهَا مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ قَدْرَ

(1)

عِظَمِهَا إِلَّا اللهُ، تَخْطَفُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ، فَمِنْهُمُ المُوبَقُ بَقِيَ بِعَمَلِهِ - أَوِ المُوثَقُ بِعَمَلِهِ - وَمِنْهُمُ المُخَرْدَلُ، أَوِ المُجَازَى، أَوْ نَحْوُهُ، ثُمَّ يَتَجَلَّى، حَتَّى إِذَا فَرَغَ اللهُ مِنَ القَضَاءِ بَيْنَ العِبَادِ، وَأَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ بِرَحْمَتِهِ مَنْ أَرَادَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، أَمَرَ المَلَائِكَةَ أَنْ يُخْرِجُوا مِنَ النَّارِ، مَنْ كَانَ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا، مِمَّنْ أَرَادَ اللهُ أَنْ يَرْحَمَهُ، مِمَّنْ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَيَعْرِفُونَهُمْ فِي النَّارِ بِأَثَرِ السُّجُودِ، تَأْكُلُ النَّارُ ابْنَ آدَمَ إِلَّا أَثَرَ السُّجُودِ، حَرَّمَ اللهُ عَلَى النَّارِ أَنْ تَأْكُلَ أَثَرَ السُّجُودِ، فَيَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ، قَدِ امْتُحِشُوا، فَيُصَبُّ عَلَيْهِمْ مَاءُ الحَيَاةِ، فَيَنْبُتُونَ تَحْتَهُ كَمَا تَنْبُتُ الحِبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ، ثُمَّ يَفْرُغُ اللهُ مِنَ القَضَاءِ بَيْنَ العِبَادِ، وَيَبْقَى رَجُلٌ مِنْهُمْ مُقْبِلٌ بِوَجْهِهِ عَلَى النَّارِ، هُوَ آخِرُ أَهْلِ النَّارِ دُخُولًا الجَنَّةَ، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ اصْرِفْ وَجْهِي عَنِ النَّارِ، فَإِنَّهُ قَدْ قَشَبَنِي رِيحُهَا، وَأَحْرَقَنِي ذَكَاؤُهَا، فَيَدْعُو اللهَ مَا شَاءَ أَنْ يَدْعُوَهُ. ثُمَّ يَقُولُ اللهُ: هَلْ عَسَيْتَ إِنْ أُعْطِيتَ ذَلِكَ أَنْ تَسْأَلَنِي غَيْرَهُ؟

(1)

كذا في الفتح، وفي «عمدة القارئ» وغيره:«ما قدر عظمها» .

ص: 148

فَيَقُولُ: لَا، وَعِزَّتِكَ لَا أَسْأَلُكَ غَيْرَهُ، وَيُعْطِي رَبَّهُ مِنْ عُهُودٍ وَمَوَاثِيقَ مَا شَاءَ، فَيَصْرِفُ اللهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ، فَإِذَا أَقْبَلَ عَلَى الجَنَّةِ وَرَآهَا سَكَتَ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَسْكُتَ، ثُمَّ يَقُولُ: أَيْ رَبِّ، قَدِّمْنِي إِلَى بَابِ الجَنَّةِ. فَيَقُولُ اللهُ لَهُ: أَلَسْتَ قَدْ أَعْطَيْتَ عُهُودَكَ وَمَوَاثِيقَكَ أَنْ لَا تَسْأَلَنِي غَيْرَ الَّذِي أُعْطِيتَ أَبَدًا؟ وَيْلَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مَا أَغْدَرَكَ. فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ، وَيَدْعُو اللهَ، حَتَّى يَقُولَ: هَلْ عَسَيْتَ إِنْ أُعْطِيتَ ذَلِكَ أَنْ تَسْأَلَ غَيْرَهُ؟ فَيَقُولُ: لَا وَعِزَّتِكَ، لَا أَسْأَلُكَ غَيْرَهُ، وَيُعْطِي مَا شَاءَ مِنْ عُهُودٍ وَمَوَاثِيقَ، فَيُقَدِّمُهُ إِلَى بَابِ الجَنَّةِ، فَإِذَا قَامَ إِلَى بَابِ الجَنَّةِ، انْفَهَقَتْ لَهُ الجَنَّةُ، فَرَأَى مَا فِيهَا مِنَ الحَبْرَةِ وَالسُّرُورِ، فَيَسْكُتُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَسْكُتَ، ثُمَّ يَقُولُ: أَيْ رَبِّ، أَدْخِلْنِي الجَنَّةَ. فَيَقُولُ اللهُ: أَلَسْتَ قَدْ أَعْطَيْتَ عُهُودَكَ وَمَوَاثِيقَكَ أَنْ لَا تَسْأَلَ غَيْرَ مَا أُعْطِيتَ؟ فَيَقُولُ: وَيْلَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مَا أَغْدَرَكَ. فَيُقَالُ: أَيْ رَبِّ، لَا أَكُونُ

(1)

أَشْقَى خَلْقِكَ. فَلَا يَزَالُ يَدْعُو حَتَّى يَضْحَكَ اللهُ مِنْهُ، فَإِذَا ضَحِكَ مِنْهُ، قَالَ لَهُ: ادْخُلِ الجَنَّةَ، فَإِذَا دَخَلَهَا قَالَ اللهُ لَهُ: تَمَنَّهْ، فَسَأَلَ رَبَّهُ وَتَمَنَّى، حَتَّى إِنَّ اللهَ لَيُذَكِّرُهُ، يَقُولُ كَذَا وَكَذَا، حَتَّى انْقَطَعَتْ بِهِ الأَمَانِيُّ، قَالَ اللهُ: ذَلِكَ لَكَ، وَمِثْلُهُ مَعَهُ»

(2)

.

وَلِهذَا قَالَ سُبْحانَهُ: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا

(1)

كذا في «الفتح» ، وفي «عمدة القارئ» وغيره:«لَا أَكُونَنَّ» .

(2)

ورواه مسلم (182).

ص: 149

يَسْتَطِيعُونَ (42)} [القلم: 42]، يَكْشِفُ لَهُمْ عَنْ سَاقِهِ سبحانه وتعالى، وَالسَّاقُ هُنَا وَاليَدُ وَالقَدَمُ وَكلُّ ذلِكَ عَلَى الوَجهِ الَّذِي يَلِيقُ بِهِ سبحانه وتعالى، لَا يُشَابهُهُ خَلقُهُ فِي أيِّ شَيءٍ، فَعِنْدَهَا يَسْجدُونَ لَهُ سبحانه وتعالى، وَيَبقَى المُنَافِقُونَ لَا يَسْتطِيعُونَ ذلِكَ وَلَا يَرَونَهُ سبحانه وتعالى؛ لِأنَّهُم مَحْجوبُونَ عَنهُ لِخُبثِهِم وَضَلالِهِم، فَالمُنَافقُ أَعْظمُ كُفْرًا منَ الكَافِرِ المُعْلِنِ.

يَومَ القِيامَةِ يُنَادَى فِي النَّاسِ: لِتَتَّبعْ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعبُدُ، فعُبَّادُ الشَّمسِ تُمَثَّلُ لَهمُ الشَّمسُ فَيَتَّبِعونَهَا إِلَى النَّارِ، وعُبَّادُ القَمرِ كَذلِكَ يُمثَّلُ لهُمُ القَمرُ فَيتَّبِعُونهُ إِلَى النَّارِ، وَعُبَّادُ اللَّاتِ وَالعُزَّى وَمَناةَ وَالأَصْنَامِ الأُخْرَى تُمثَّلُ لَهُمْ أَصْنامُهُم فَيتَّبِعُونَها إِلَى النَّارِ، وعُبَّادُ البَدَويِّ أوِ الشَّيخِ عَبدِ القَادِرِ أوِ الحُسَينِ أوْ فُلَانٍ أوْ فُلَانٍ تُمَثَّلُ لهُمْ مَعْبُودَاتُهم حَتَّى يَتَّبِعونَهَا إِلَى النَّارِ.

وَيَعُودُ المُؤمِنُ لَا يَدخُلُ فِي ذَلِك، المُؤمِنُ الَّذِي لمْ يَرضَ أنْ يُعبَدَ مِنْ دُونِ اللهِ لَيسَ دَاخِلًا فِي ذلِكَ، وَإنْ مُثِّلتْ لهُمْ صُورَتهُ وَاتَّبعُوهُ إِلَى النَّارِ، لكِنَّهُ لَا يَدخُلُ النَّارَ هُوَ، فَالأَنبِياءُ وَالمُؤمِنُونَ المَعْبُودُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَيسُوا رَاضِيْنَ بِعِبادَتهِم، وَهُمْ يَنْفُونَها وَلَيسُوا مَعَ عَابِدِيهِم، بلْ عَابِدُوهُم فِي النَّارِ، وَهُمْ سَالِمُونَ مِنْ ذَلِك؛ وَلِهذَا قَالَ:{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98)} [الأنبياء: 98]، فَهَؤُلاءِ المَعْبُودُونَ الرَّاضُونَ بِذلِكَ، وهَكَذا الأَصْنَامُ وَأَشْباهُهَا كُلُّهم مَع عَابِدِيهِم إِلَى النَّار، نَسْألُ اللهَ العَافِيةَ.

وَأمَّا المَعْبودُ الَّذِي لمْ يَرضَ بِذلِكَ كَالأَنْبِياءِ عليهم السلام وعَليٍّ، وَالحَسنِ، وَالحُسيْنِ، رضي الله عنهم، وَعَبدِ القَادرِ الجِيلَانيِّ وَأَشْباهِهِم منَ المُؤمِنِينَ هُمْ لَا يَرْضَونَ بِعِبادَةِ مَنْ عَبدَهُم، بلْ أَنْكرُوا ذلِكَ فِي حَيَاتِهِم وَحَذَّرُوا مِنْ ذلِكَ -فهَؤُلاءِ

ص: 150

لَا يَدْخُلونَ معَ عَابِدِيهِم إِلَى النَّارِ، بلْ هُمْ نَاجُونَ وَسَالِمُونَ، وَعَابِدُوهُم منَ الكَافِرينَ هُمْ الَّذينَ يُسَاقُونَ إِلَى النَّارِ، وإِنْ مُثِّلتْ لَهُمْ صُوَرُهُم وَتَابِعُوهُم يَظنُّونَ أنَّهُم هُم، فهُمْ يتَّبِعُونهُم إِلَى النَّارِ، وَالصُّورَةُ هِيَ فِي الحَقِيقَةِ، نَسْألُ اللهَ العَافِيةَ.

هَلِ الكُفَّارُ يَرَونَ ربَّهُم يَومَ القِيَامةِ؟

{كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)} [المطففين: 15] هُمْ أَكْثرُ النَّاسِ، لَا يَرَوْنهُ.

قَولُهُ: «وَفِي جَهَنَّمَ كَلَالِيبُ» . يَعنِي: الصِّرَاطَ الَّذِي [يُنصَبُ] عَلَى جَهنَّم كَمَا فِي النُّصُوصِ الأُخرَى. مَاذا قَالَ الشَارِحُ أوِ العَينِيُّ؟

المَقْصُودُ: «وَفِي جَهَنَّمَ كَلَالِيبُ» أنَّ الصَّحِيحَ: فِيهِ غَلطٌ مِنْ بَعضِ الرُّوَاةِ، وَالمَقْصُودُ «فِي جَهنَّمَ» يَعنِي: مَنْصوبٌ عَلَى جَهنَّمَ؛ لِأنَّ الصِّرَاطَ مَوْضُوعٌ عَلَى جَهنَّمَ، مَنْ سَقطَ منَ الصِّرَاطِ صَارَ إِلَى النَّارِ، نَسْألُ اللهَ العَافِيةَ.

قَولُهُ: «تَخْطَفُ النَّاسُ بِأَعْمَالِهِمْ، فَمِنْهُم المُوبَقُ وَمِنْهُمُ المُخَرْدَلُ» : قَولُهُ: «تَخْطَفُ» مِنْ بَابِ فَرِحَ وَمِنْ بَابِ تَعِبَ. وَالمَعْنَى: أنَّ النَّاسَ عَلَى الصِّرَاطِ عَلَى أَقْسَامٍ وعَلَى طَبَقاتٍ، حَتَّى إنَّ مِنهُم مَنْ يُخْدَشُ وَتُصِيبُهُ بَعضُ الأَشْياءِ عَلَى الصِّرَاطِ؛ لِضَعفِ عَملِهِ الصَّالِحِ وَمَا أَصَابَهُ مِنْ أَسْبَابِ النَّقصِ فَينْجُو، وآخَرُ يُخْدشُ فَيَسْقُطُ فِي النَّارِ بِهذِهِ الكَلَالِيبِ، نَسْألُ اللهَ العَافِيةَ.

قَولُهُ: «حَرَّمَ اللهُ عَلَى النَّارِ أَنْ تَأْكُلَ أَثَرَ السُّجُودِ» : وَهذَا يُبيِّنُ أنَّهُ يَدخُلُ النَّارَ أُنَاسٌ مُصلُّونَ، يَدخُلُ النَّارَ مُوحِّدُونَ وَمُصلُّونَ،

ص: 151

لكِنْ دَخَلُوهَا بِأَعْمالٍ أُخْرَى، دَخَلُوهَا بِالزِّنَا بِالرِّبَا بِالعُقُوقِ بِأَشْياءٍ أُخْرَى مِنْ جَرائِمِهِم، فَإِذَا أَذِنَ اللهُ فِي إِخْراجِهِم: أَمرَ المَلَائِكةَ أنْ تُخْرِجَهُم، وَأَمرَ الشُّفَعاءَ أنْ يَشْفعُوا فَيَخرُجُ منَ النَّارِ مَنْ كَانَ لَا يُشْركُ بِاللهِ شَيْئًا مِنْ أَهْلِ التَّوحِيدِ وَالإِسْلامِ الَّذينَ أَوْبَقتْهُم الذُّنُوبُ وَأَدْخلَتْهُم الذُّنُوبُ النَّارَ، نَسْألُ اللهَ العَافِيةَ.

ويُعْرَفُونَ بِآثَارِ السُّجُودِ فِي الصَّلَاةِ؛ لِأنَّ الله حرَّمَ عَلَى النَّار أنْ تَأكُلَ آثَارَ سُجُودِ ابْنِ آدَمَ، هَذَا منَ العَلَامَاتِ الَّتِي تَبْقَى يَعْرِفونَهُم بِهَا، وهَذَا مِنْ حِكْمتِهِ وَعدْلِهِ سبحانه وتعالى حَتَّى يَمِيزَ هَؤُلاءِ مِنْ هَؤُلاءِ، يَمِيزَ أَهْلَ الخُلُودِ منَ الكَفرَةِ عَنْ مَنْ لمْ يُحْكَم لهُمْ بِالخُلُودِ وَالبَقَاءِ فِي هَذَا حَتَّى يَخرُجَ.

وَهذَا يُفِيدُ الحَذرَ، وَأنَّهُ لَا يَنْبغِي لِلْعاقِلِ أنْ يَغتَرَّ وَيَقُولَ: إنَّهُ منَ المُصَلِّينَ، أوْ منَ المُزكِّينَ، ثمَّ يُسْرفُ عَلَى نَفْسهِ فِيمَا حرَّمَ اللهُ عَليْهِ، فلَمْ يَدْخُلْها وهُوَ مَعَ المُصلِّينَ، وهُوَ معَ المُوحِّدِينَ، ولكِنَّهُ أَسْرفَ عَلَى نَفسِهِ بِشَيءٍ منَ المَعَاصِي الَّتِي مَاتَ عَليْهَا وَلَمْ يَتُبْ، كَعُقوقِهِ لِوَالِديْهِ، أَكلِهِ لِلرِّبَا، تَعاطِيهِ المُسْكِراتِ، الزِّنَا، اللِّواطِ، ظُلمِ النَّاسِ

إِلَى غَيرِ هَذَا مِنْ أَنْواعِ الجَرَائمِ.

فَلْيحْذرِ العَاقِلُ غَايَةَ الحَذرِ، وَيُحاسِبُ نَفسَهُ، وَلَا يُعجَبُ بِنفْسِهِ وَلَا يُعْجبُ بِعَملِهِ:{أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99)} [الأعراف: 99].

قَولُهُ: «فَيُخْرَجُونَ مِنَ النَّارِ قَدِ امْتُحِشُوا

». امْتُحِشُوا: يَعنِي: احْتَرقُوا، نَسْألُ اللهَ العَافِيةَ.

وَالمَعْنَى فِي هَذَا: أنَّ اللهَ يُخرِجُهُم قدْ مَاتُوا وَاحْتَرقُوا كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه: «يُنْبِتُهُمُ اللهُ إِنْبَاتًا» ثمَّ يُصَبُّ عَليِهم مَاءُ الحَياةِ -نَهرٌ مِنَ الجَنَّةِ- فَيَنبُتُونَ كَمَا تَنبُتُ الحِبَّةُ مِنْ حَمِيلِ السَّيلِ، فَإِذَا نَبتُوا أَدْخلَهُم اللهُ الجَنَّةَ،

ص: 152

ويُعْرَفونَ فِيهَا أنَّهُم عُتَقاءُ اللهِ منَ النَّار الَّذينَ أَصَابهُمْ مَا أَصَابَهُم، وَيُطلَقُ عَليِهمُ الجُهنَّمِيُّونَ، ثمَّ يُمْحَى عنْهُم مَا يُشِينُهُم، رَحْمَةً منَ اللهِ عز وجل.

فهَذَا يُبيِّنُ لنَا أنَّ كلَّ مَا وَرَدَ منَ الأَحادِيثِ فِي فَضْلِ التَّوحِيدِ وَفَضلِ مَنْ مَات عَلَى التَّوحِيدِ وَفَضلِ مَنْ مَاتَ عَلَى الشَّهَادَتيْنِ صَادِقًا، أنَّ كلَّ هَذَا فِيمَنْ حقَّقَ حقَّ الشَّهادَتَينِ، وَأدَّى حَقَّهَا وَاسْتكْمَلَ مَا أَوجبَ اللهُ عَليْهِ، وَترَكَ مَا حَرَّم اللهُ عَليْهِ، فَأمَّا مَنْ فرَّطَ وَأضَاعَ وَلمْ يُؤدِّ حقَّ الشَّهادَتيْنِ فهُوَ عَلَى خَطَرٍ عَظِيمٍ فِيمَا مَاتَ عَليْهِ منَ السِّيِّئاتِ الَّتِي اقْتَرفَهَا وَلمْ يَتُبْ مِنْها، فَلا حَولَ وَلَا قوَّةَ إلَّا بِاللهِ.

الإِمَاتةُ هذِهِ إِمَاتةٌ خَاصَّةٌ عَفَا اللهُ عَنكَ؟

جَاءَ فِي حَدِيثِ أبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه الَّذِي رَواهُ مُسلِمٌ

(1)

أنَّهَا إِمَاتةٌ خَاصَّةٌ.

مَا يَبقَى مَعَها إِحْساسٌ؟

اللهُ أَعْلمُ. لكِنْ كَونُهُم يَدْخُلونَ النَّار فَيَمُوتُونَ فِيهَا إِماتَةً إِحْساسُهُم بِها لَا بُدَّ مِنهُ

(2)

.

[قَالَ الإِمَامُ العَينِيُّ رحمه الله فِي «عُمدَة القَارِي» (25/ 126)]: «قَوْله: «قَدِ امْتَحَشُوا» بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالشِّينِ الْمُعْجَمَة وَهُوَ بِفَتْح التَّاءِ وَالحَاءِ، هَكَذَا هُوَ فِي الرِّوَايَات، وَكَذَا نَقَلهُ القَاضِي عَنْ مُتْقِنِي شُيُوخِهِ، قَالَ: وَهُوَ وَجهُ الْكَلَامِ،

(1)

رواه مسلم (306)(185).

(2)

كلمة غير واضحة. لعلها: منه.

ص: 153

وَكَذَا ضَبطَهُ الْخطَّابِيُّ وَالهَروِيُّ وَقَالَا فِي مَعْنَاهُ: احْتَرقُوا، وَرُوِيَ عَلَى صِيغَة الْمَجْهُول، وَفِي «الصِّحَاحِ»: المَحْشُ: إِحْراقُ النَّارِ الْجِلدَ، وَفِيهِ لُغَةٌ: أَمْحَشَتْهُ النَّارُ، وَامْتَحشَ الْجِلدُ: احْتَرَقَ، وَقَالَ الدَّاودِيُّ: امْتَحشُوا: ضَمرُوا ونَقصُوا كَالمُحْترِقِينَ». [انتهى كلامه].

قَالَ ابْنُ بَازٍ رحمه الله: امْتَحشُوا يَعنِي: احْتَرقُوا

(1)

مَا مَعنَى حِبَّة؟

حبَّةُ النَّبَاتِ الصَّغِيرِ، الحبَّةُ الصَّغِيرَةُ الَّتِي تَنْبُتُ، البذْرَةُ الَّتِي تَصلُحُ لِلبَذْرِ.

قَولُهُ: «ذَكَاؤُهَا» يَعنِي: شِدَّةَ حرِّهَا، نَسْألُ اللهَ العَافِيةَ، هَذَا يُحمَلُ عَلَى أنَّ وَجْهَهُ إِلَى النَّارِ، أُخرِجَ مِنْها، لكِنْ بَقِيَ وَجهُهُ إِليْهَا، مَا بَعدُ صُرِفَ وَجْهُهُ عَنْها، فَلِهذَا يَطلُبُ مِنْ رَبِّهِ أنْ يَصرِفَ وَجهَهُ عنْهَا.

(الشَّيخُ) رَاجِعْ أَوْجُهَ الكَلامِ فِي «فَيُقالُ» ؟ وَجهُ الكَلَامِ: فَيَقُولُ، ضَعْ نُسخَةً:(فَيقُولُ). وَمعْنَى يُقَالُ: أنَّهُ يَقُولُ هُوَ، وهَذَا منَ المَفْهُومِ منَ المَعْلُومِ.

وَهذَا الكَلامُ يَدلُّ عَلَى كَمَالِ حِلمِهِ سبحانه وتعالى وَرَحْمتِهِ، وَأنَّهُ جل وعلا يَحلُمُ عَلَى عِبادِهِ وَلَا يَرُدُّ سُؤالَهُم إِذَا أَلحُّوا عَليْهِ وَطَلبُوهُ جل وعلا، وهُوَ الجَوَادُ الكَرِيمُ.

وَيُبيِّنُ ضَعْفَ ابْنِ آدَمَ، مَهمَا أَعْطَى مِنَ المَواثِيقِ، وَمَهمَا قَالَ، وَمَهْما فَعلَ فهُوَ ضَعِيفٌ، وَلَا يَنْبغِي لِلعَبدِ أنْ يَيْأسَ مِنْ ربِّهِ، بلْ يُلحُّ فِي الدُّعَاءِ وَيَطلُبُ

(1)

كلام غير واضح.

ص: 154

فيُلِحُّ -هَذَا الكَرِيمُ الجَوادُ العَظِيمُ- فِي طَلبِ السَّعادَةِ وَالنَّجَاةِ أمْرٌ مَطْلوبٌ، وَلِهذَا هَذَا الخَارِجُ منَ النَّارِ يَمكُثُ مَا شَاءَ اللهُ ثمَّ يُلِحُّ وَيَنتَهِي فِي الدُّعَاءِ حَتَّى نَالَ مَطْلُوبَهُ، حَتَّى دَخلَ الجنَّةَ، وأَنَّ اللهَ سُبْحانَهُ يَعرِفُ حَاجَتهُ وَضَعْفَهُ، وَيَعلَمُ هَذَا مِنهُ، وَلَكنَّهُ سُبْحانَهُ يُظهِرُ فَضْلَهُ وَرَحْمتَهُ وَإِحْسَانَهُ، ويُظهِرُ ضَعفَ ابْنَ آدَمَ وَغَدرَهُ وَعَجزَهُ وَعَدمَ وَفائِهِ، إلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ، وَاللهُ المُسْتعَانُ.

«وَاللهُ جل وعلا يَعْذِرهُ» كَمَا فِي الرِّوايَةِ الأُخرَى، مَا يَسْتطِيعُ الصَّبرَ وهُوَ يَرَى أَهْلَ الجنَّةَ وَمَا هُمْ فِيهِ منَ النَّعِيمِ يَبْقَى لَا جنَّةً وَلَا نَعِيمًا، مَا يَسْتطِيعُ، وَلِهذَا يُلِحُّ فِي الدُّعَاءِ وَيَسكُتُ مَا شَاءَ، لكِنَّهُ يُلِحُّ حَتَّى حَصَلَ مَطلُوبُهُ.

7438 -

قَالَ عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ، وَأَبُو سَعِيدٍ الخُدْرِيُّ، مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ لَا يَرُدُّ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِهِ شَيْئًا حَتَّى إِذَا حَدَّثَ أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ اللهَ تبارك وتعالى قَالَ:«ذَلِكَ لَكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ» ، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الخُدْرِيُّ:«وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ مَعَهُ» ، يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ مَا حَفِظْتُ إِلَّا قَوْلَهُ:«ذَلِكَ لَكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ» ، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الخُدْرِيُّ: أَشْهَدُ أَنِّي حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَوْلَهُ: «ذَلِكَ لَكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ» قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَذَلِكَ: الرَّجُلُ آخِرُ أَهْلِ الجَنَّةِ دُخُولًا الجَنَّةَ

(1)

.

وَآخِرُ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا منَ النَّارِ، اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ، وَاللهُ المُسْتعَانُ.

(1)

ورواه مسلم (183).

ص: 155

7439 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ، عَنْ زَيْدٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، قَالَ: قُلْنَا يَا رَسُولَ اللهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ القِيَامَةِ؟ قَالَ: «هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ وَالقَمَرِ إِذَا كَانَتْ صَحْوًا؟» ، قُلْنَا: لَا. قَالَ: «فَإِنَّكُمْ لَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ رَبِّكُمْ يَوْمَئِذٍ، إِلَّا كَمَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَتِهِمَا» . ثُمَّ قَالَ: «يُنَادِي مُنَادٍ: لِيَذْهَبْ كُلُّ قَوْمٍ إِلَى مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ، فَيَذْهَبُ أَصْحَابُ الصَّلِيبِ مَعَ صَلِيبِهِمْ، وَأَصْحَابُ الأَوْثَانِ مَعَ أَوْثَانِهِمْ، وَأَصْحَابُ كُلِّ آلِهَةٍ مَعَ آلِهَتِهِمْ، حَتَّى يَبْقَى مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللهَ، مِنْ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ، وَغُبَّرَاتٌ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ، ثُمَّ يُؤْتَى بِجَهَنَّمَ تُعْرَضُ كَأَنَّهَا سَرَابٌ، فَيُقَالُ لِلْيَهُودِ: مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟ قَالُوا: كُنَّا نَعْبُدُ عُزَيْرَ ابْنَ اللهِ. فَيُقَالُ: كَذَبْتُمْ، لَمْ يَكُنْ لِلهِ صَاحِبَةٌ وَلَا وَلَدٌ، فَمَا تُرِيدُونَ؟ قَالُوا: نُرِيدُ أَنْ تَسْقِيَنَا، فَيُقَالُ: اشْرَبُوا، فَيَتَسَاقَطُونَ فِي جَهَنَّمَ، ثُمَّ يُقَالُ لِلنَّصَارَى: مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟ فَيَقُولُونَ: كُنَّا نَعْبُدُ المَسِيحَ ابْنَ اللهِ، فَيُقَالُ: كَذَبْتُمْ، لَمْ يَكُنْ لِلهِ صَاحِبَةٌ، وَلَا وَلَدٌ، فَمَا تُرِيدُونَ؟ فَيَقُولُونَ: نُرِيدُ أَنْ تَسْقِيَنَا، فَيُقَالُ: اشْرَبُوا فَيَتَسَاقَطُونَ فِي جَهَنَّمَ، حَتَّى يَبْقَى مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللهَ مِنْ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ، فَيُقَالُ لَهُمْ:

ص: 156

مَا يَحْبِسُكُمْ وَقَدْ ذَهَبَ النَّاسُ؟ فَيَقُولُونَ: فَارَقْنَاهُمْ وَنَحْنُ أَحْوَجُ مِنَّا إِلَيْهِ اليَوْمَ، وَإِنَّا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي: لِيَلْحَقْ كُلُّ قَوْمٍ بِمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ، وَإِنَّمَا نَنْتَظِرُ رَبَّنَا. قَالَ: فَيَأْتِيهِمُ الجَبَّارُ فِي صُورَةٍ غَيْرِ صُورَتِهِ الَّتِي رَأَوْهُ فِيهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ. فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا. فَلَا يُكَلِّمُهُ إِلَّا الأَنْبِيَاءُ، فَيَقُولُ: هَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ آيَةٌ تَعْرِفُونَهُ؟ فَيَقُولُونَ: السَّاقُ. فَيَكْشِفُ عَنْ سَاقِهِ، فَيَسْجُدُ لَهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ، وَيَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ لِلهِ رِيَاءً وَسُمْعَةً، فَيَذْهَبُ كَيْمَا يَسْجُدَ، فَيَعُودُ ظَهْرُهُ طَبَقًا وَاحِدًا، ثُمَّ يُؤْتَى بِالْجَسْرِ فَيُجْعَلُ بَيْنَ ظَهْرَيْ جَهَنَّمَ»، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا الجَسْرُ؟ قَالَ:«مَدْحَضَةٌ مَزِلَّةٌ، عَلَيْهِ خَطَاطِيفُ وَكَلَالِيبُ، وَحَسَكَةٌ مُفَلْطَحَةٌ لَهَا شَوْكَةٌ عُقَيْفَاءُ، تَكُونُ بِنَجْدٍ، يُقَالُ لَهَا: السَّعْدَانُ، المُؤْمِنُ عَلَيْهَا كَالطَّرْفِ وَكَالْبَرْقِ وَكَالرِّيحِ، وَكَأَجَاوِيدِ الخَيْلِ وَالرِّكَابِ، فَنَاجٍ مُسَلَّمٌ، وَنَاجٍ مَخْدُوشٌ، وَمَكْدُوسٌ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، حَتَّى يَمُرَّ آخِرُهُمْ يُسْحَبُ سَحْبًا، فَمَا أَنْتُمْ بِأَشَدَّ لِي مُنَاشَدَةً فِي الحَقِّ، قَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنَ المُؤْمِنِ يَوْمَئِذٍ لِلْجَبَّارِ، فَإِذَا رَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ نَجَوْا فِي إِخْوَانِهِمْ، يَقُولُونَ: رَبَّنَا إِخْوَانُنَا الَّذِينَ، كَانُوا يُصَلُّونَ مَعَنَا، وَيَصُومُونَ مَعَنَا، وَيَعْمَلُونَ مَعَنَا، فَيَقُولُ اللهُ تَعَالَى: اذْهَبُوا، فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ دِينَارٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجُوهُ، وَيُحَرِّمُ اللهُ صُوَرَهُمْ عَلَى النَّارِ، فَيَأْتُونَهُمْ وَبَعْضُهُمْ قَدْ غَابَ فِي النَّارِ إِلَى قَدَمِهِ، وَإِلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ، فَيُخْرِجُونَ مَنْ عَرَفُوا، ثُمَّ يَعُودُونَ، فَيَقُولُ: اذْهَبُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ نِصْفِ دِينَارٍ فَأَخْرِجُوهُ، فَيُخْرِجُونَ مَنْ عَرَفُوا، ثُمَّ يَعُودُونَ، فَيَقُولُ: اذْهَبُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجُوهُ، فَيُخْرِجُونَ مَنْ عَرَفُوا» .

ص: 157

قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَإِنْ لَمْ تُصَدِّقُونِي فَاقْرَءُوا: {إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} [النساء: 40]. «فَيَشْفَعُ النَّبِيُّونَ وَالمَلَائِكَةُ وَالمُؤْمِنُونَ، فَيَقُولُ الجَبَّارُ: بَقِيَتْ شَفَاعَتِي، فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنَ النَّارِ، فَيُخْرِجُ أَقْوَامًا قَدِ امْتَحَشُوا، فَيُلْقَوْنَ فِي نَهَرٍ بِأَفْوَاهِ الجَنَّةِ، يُقَالُ لَهُ: مَاءُ الحَيَاةِ، فَيَنْبُتُونَ فِي حَافَتَيْهِ كَمَا تَنْبُتُ الحِبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ، قَدْ رَأَيْتُمُوهَا إِلَى جَانِبِ الصَّخْرَةِ، وَإِلَى جَانِبِ الشَّجَرَةِ، فَمَا كَانَ إِلَى الشَّمْسِ مِنْهَا كَانَ أَخْضَرَ، وَمَا كَانَ مِنْهَا إِلَى الظِّلِّ كَانَ أَبْيَضَ، فَيَخْرُجُونَ كَأَنَّهُمُ اللُّؤْلُؤُ، فَيُجْعَلُ فِي رِقَابِهِمُ الخَوَاتِيمُ، فَيَدْخُلُونَ الجَنَّةَ، فَيَقُولُ أَهْلُ الجَنَّةِ: هَؤُلَاءِ عُتَقَاءُ الرَّحْمَنِ، أَدْخَلَهُمُ الجَنَّةَ بِغَيْرِ عَمَلٍ عَمِلُوهُ، وَلَا خَيْرٍ قَدَّمُوهُ. فَيُقَالُ لَهُمْ: لَكُمْ مَا رَأَيْتُمْ وَمِثْلُهُ مَعَهُ»

(1)

.

هُوَ آخِرُ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا منَ النَّارِ، اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ المُسْتعَانُ.

(1)

ورواه مسلم (183).

ص: 158

قَولُهُ: «فَيَذهَبُ أَصْحَابُ الصَّلِيبِ مَعَ صَلِيبِهِمْ، وَأَصْحَابُ الأَوْثَانِ مَعَ أَوْثَانِهِمْ، وَأَصْحَابُ كُلِّ إِلَهِ مَعَ آلِهَتِهِمْ» يَعنِي: إِلَى النَّارِ، نَسْألُ اللهَ العَافِيةَ، يُسَاقُونَ إليها، نَسْألُ اللهَ العَافِيةَ.

الشيخ: نُسْختُكَ (غُبَّرَاتٌ) بِضمِّ الغَينِ. رَاجِعِ الضَّبطَ.

[قَالَ الإِمَامُ العَينِيُّ رحمه الله فِي «عُمدَة القَارِي» (25/ 128)]: «قَوْلهُ: وَغُبَّرَاتٌ، بِضَمِّ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الْبَاءِ الْمُوَحدَةِ أَي: بَقَايَا. وَقَالَ الْكرْمَانِي: جَمعُ غَابِرٍ، وَلَيْسَ كَذَلِك، بْل هُوَ جَمعُ غُبَّرٌ، وَغُبرُ الشَّيْء بَقِيَّتهُ. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: الغُبَّراتُ جَمعُ غُبَّرٍ، وَالغُبَّرُ جَمعُ غَابِرٍ» . [انتهى كلامه].

قَالَ ابنُ بَازٍ رحمه الله: قَولُهُ: «فَيُقالُ: اشْرَبُوا، فَيَتَسَاقَطُونَ فِي جَهَنَّمَ» يَعنِي: أَمَامَهُم جَهنَّمُ، كَأنَّهَا سَرَابٌ، كَأنَّهَا مَاءٌ، حَتَّى يُسَاقُونَ إِليْهَا، نَسْألُ اللهَ العَافِيةَ.

قَولُهُ: «فَارَقْنَاهُمْ وَنَحْنُ أَحْوَجُ مِنَّا إِلَيْهِ اليَوْمَ» يَعنِي: إِلَى اللهِ.

قَولُهُ: «فَيَعُودُ ظَهْرُهُ طَبَقًا وَاحِدًا» ، قَالَ:{وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42)} [القلم: 42]؛ لِنِفاقِهِم وَكُفرِهِم وَضَلالِهِم -نَسْألُ اللهَ العَافِيةَ- وفِي هَذَا تَفْسِيرٌ لِلْآيَةِ، أنَّ قَولَهُ تَعَالَى:{يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ (42)} [القلم: 42] يَعنِي: عَنْ سَاقِهِ سبحانه وتعالى، وهِيَ عَلَامةٌ بَيْنَهُم وَبَينَهُ.

وقدْ تُطلَقُ السَّاقُ عَلَى الشِّدَّةِ، كَشَفتِ الحَرْبُ عَنْ سَاقٍ، يَعنِي: شِدَّةٍ، لكِنِ

ص: 159

المُرَادُ بِالآيَةِ هُنَا غَيرُ المَعْنَى اللُّغوِيِّ، المُرَادُ هُنَا كَشفُهُ لَهُمْ وَإِظْهارُهُ لَهُمْ مَا هُوَ عَلَامةٌ لهُمْ عَلَى رَبِّهِمْ سبحانه وتعالى؛ وَلِهذَا يَكشِفُ لهُمْ عَنْ سَاقِهِ.

مَا يَدلُّ هَذَا عَلَى الرُّؤيَةِ؟

مَا يَدلُّ هذَا، لِأنَّ الآيَةَ مُحكَمَةٌ، لكِنْ [هَؤُلاءِ] لمَّا رَأَوُا النَّاسَ سَجدُوا أَرَادُوا أنْ يَسجُدُوا فَلمْ يَسْتطِيعُوا.

«فَيَأتِيهِمُ الجَبَّارُ فَيَروْنهُ، فَيَسجُدُ المُؤمِنُونَ وَالمُنافِقُونَ» ؟

هَذَا الفُجَّارُ «فُجَّارُها» ، المُؤمِنُ الفَاجِرُ، يَعنِي: العَاصِي، وَأمَّا المُنافِقُونَ هُمْ منَ الكَفَرةِ، بلْ أَشدُّ الكَفَرةِ، وَالرُّؤيَةُ نَعِيمٌ، وَلَيسُوا مِنْ أَهْلِ النَّعِيمِ.

قَولُهُ تَعَالَى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)} [المطففين: 15] أَلَا تَكُونُ فِي الجنَّةِ يَا شَيخُ؟

عَامٌّ، فِي المَوقِفِ وفِي الجَنَّةِ جَمِيعًا.

أَحْسنَ اللهُ إِليْكَ، مَا المُرَادُ بِهِم؟

العُصَاةُ الَّذينَ مَاتُوا عَلَى التَّوحِيدِ.

قَولُهُ: «مَدْحضَةٌ مَزِلَّةٌ» .

(الشَّيخُ): كَذَا (مَزِلَّة) تَكلَّمَ الشَّارِحُ؟

[قَالَ الحَافِظُ ابنُ حَجرٍ رحمه الله فِي «فَتْحِ البَارِي» (13/ 429)]: «وَقَولُهُ: قَالَ: «مَدْحَضةٌ مَزِلَّةٌ» بِفَتحِ المِيمِ وَكَسرِ الزَّايِ، وَيَجُوزُ فَتحُهَا وَتَشْدِيدُ اللَّامِ، قَالَ: أيْ: مَوضِعُ الزَّلَلِ، وَيُقالُ بِالكَسرِ فِي المَكَانِ، وَبِالفَتحِ فِي المَقَالِ، وَوَقعَ فِي رِوَايةِ أبِي ذَرٍّ عَنِ الكُشْمِيهنِيِّ هُنَا: الدَّحْضُ الزَّلِقُ». [انتهى كلامه].

ص: 160

قَالَ ابْنُ بَازٍ رحمه الله: المَقْصودُ: أنَّهَا مَوضِعٌ خَطرٌ (مَزَلَّةٌ أوْ مَزِلَّةٌ) مَعْناهَا أنَّهَا خَطَرٌ لَا يَسْلمُ مِنْهَا إِلَّا الأَتْقِياءُ وَالمُؤمِنُونَ، وَمَنْ زَالَ إِيمَانُهُ لَا يَمرُّ عَليْهِ.

(الشَّيخُ): قَولُهُ: (أَشدُّ لِي مُنَاشَدةً) كَذَا عِنْدَكَ (لِي)؟ رَاجِعِ العَينِيَّ تَكلَّم عَليْهَا؟ وَالنُّسخَ الأُخْرَى. أَظنُّ مَا لَهَا مَعنًى، المُنَاشَدةُ مَا هِيَ لَهُ، المُنَاشدَةُ لِلرَّبِّ جل وعلا، يَطْلبُونَ مِنهُ النَّجَاةَ، تَعرَّضَ لهَا الشَّارِحُ؟ فهُوَ قَالَ بَعْدهَا (مُنَاشَدةً لِلجَبَّارِ) لِلرَّبِّ جل وعلا. ضَعْ عَلَيهِ إِشَارَةً.

مَا مَعْنَى المُنَاشدَةِ؟ وَمِمَّنْ؟

المُطَالبَةُ بِإِلْحاحٍ مِنَ المُؤمِنِينَ لِربِّهِم، يَعنِي: المُؤمِنُ يُناشِدُ رَبَّهُ لِيُخلِّصَ الَّذِي يُسْحبُ والَّذِي أَمْسكَتْهُ الكَلَالِيبُ، يَسْألُ رَبَّه أنَّ اللهَ يُخلِّصُهُم وَيُنجِّيهِم وَيُلحُّونَ فِي الدُّعَاءِ وَالطَّلبِ حَتَّى يُخلَّصُوا، إِلَّا مَنْ سَبقَ فِي عِلمِ اللهِ أنَّهُ يَسْقطُ لِشدَّةِ أَعْمالِهِم السَّيِّئةِ وَكَثْرتِهَا، فَيَسقُطُ إِلَى المَدَى الَّذِي أَرَادَ اللهُ، ثمَّ يُخرِجُهُ منَ النَّارِ سبحانه وتعالى.

تَكُونُ مُسْتقِيمَةً «لِي» أَحْسنَ اللهُ إِليْكَ، يَعنِي: الصَّحَابةَ فِي مُنَاشَدتِهِم لِلرَّسُولِ الشَّدِيدَةِ، يَعنِي: كَمُناشَدَةِ الصَّحَابةِ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم؟

نَعَمْ، ظَهَرتْ، نَعَم، يَعنِي: المُنَاشَدةَ مِنكُمْ لِي فِي الحَقِّ إنْ تَبيَّنَ، مَا أَنتُمْ بِأشَّدَ مِنَ المُؤمِنِينَ يَومَ القِيَامَةِ لِلجَبَّارِ حِينَ يُناشِدُونهُ فِي طَلبِ نَجَاةِ إِخْوانِهِم، ظَاهِرةٌ يَعنِي.

ص: 161

المَقْصُودُ: يُخبِرُ عَنِ المُنَاشَداتِ الَّتِي تَقعُ لَهُ فِي الدُّنْيَا عليه الصلاة والسلام مِنْ أَصْحابِهِ أنْ يَشْفعَ لَهُمْ أوْ أَنْ يَفْعلَ كَذَا.

الظَّاهِرُ: أنَّ المُناشَدَةَ المَقصُودُ الَّتِي تَقعُ فِي الدُّنْيَا الَّتِي يَعرِفُونَها فِي الدُّنْيَا.

وقَولُهُ: «فَيُخْرِجُونَ مَنْ عَرَفُوا» وَالمَعنَى: أنَّ اللهَ جَعلَ لَهُمْ عَلَامَاتٍ عَلَى هذِهِ الأَشْياءِ، عَلَامَاتٍ يَعْرِفُونَها، وَيَعرِفُونَ بِها هذِهِ المَقَادِيرَ الَّتِي قَالَ سبحانه وتعالى.

أَحْسنَ اللهُ إِليْكَ يَا شَيخُ، بَينَ كلِّ إِخْراجٍ وَإِخْراجٍ مَا حُدِّدَ لَهُ زَمنٌ مُعيَّنٌ؟

مَا أَعلَمُ شَيْئًا، أَوْقاتٌ مُتعَدِّدةٌ، اللهُ أَعلَمُ مَا بَينَ كلِّ إِخْراجٍ وَإِخْراجٍ، وَهكَذَا النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يُحدُّ لَهُ حَدٌّ كَمَا تَقدَّمَ وَكمَا يَأتِي.

وقَولُهُ: «فَيُقَالُ لَهُمْ: لَكُمْ مَا رَأَيْتُمْ وَمِثْلَهُ مَعَهُ» : وَهذَا لِأهْلِ التَّوحِيدِ، كَمَا جَاءَ فِي الرِّوَايَاتِ الأُخْرَى: غَيرَ أنَّهُم مَاتُوا عَلَى التَّوحِيدِ، لكِنْ لمْ تَشْمَلْهُم شَفَاعَةُ الشَّافِعينَ.

فَأمَّا العَلَامَاتُ الَّتِي جُعِلَتْ لَهُمْ لمْ تَصِلْ إِلَى هَؤُلاءِ لَا مَعَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلَا مَع المُؤمِنِينَ، وَلَا مَع المَلَائِكةِ، فَبَقِيَ هَؤُلاءِ فَأَخْرجَهُم اللهُ بِرحْمَتهِ سبحانه وتعالى؛ لِأنَّهُم مَاتُوا عَلَى التَّوحِيدِ وَلمْ تَشمَلْهُم شَفَاعةُ أُولَئِكَ؛ فَضْلًا منَ اللهِ وَإِحْسَانًا سبحانه وتعالى.

ص: 162

نَسْألُ اللهَ النَّجَاةَ. نَسْألُ اللهَ أنْ يَجْعلَنَا وَإِيَّاكُم منَ النَّاجِينَ، يَا لَهُ مِنْ هَولٍ عَظِيمٍ، يَا لَهُ مِنْ هَولٍ عَظِيمٍ. لَا حَولَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ، اللَّهُمَّ سَلِّمْ، سَلِّمْ، اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ، اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ، لَا حَولَ وَلَا قُوَّة إلَّا بِاللهِ.

بَعضُهُم يَسْتدِلُّونَ بِهذَا الدَّلِيلَ عَلَى التَّهَاوُنِ فِي الصَّلَاةِ؟

يَرضَى أنَّهُ يُعذَّبُ فِي النَّارِ؟! إِذَا أَرَادَ أنْ يُعذَّبَ فِي النَّارِ يَتَهاوَنُ حَتَّى يُعذَّبَ [فِي النَّارِ]!! يَرْضَى أنَّهُ يَدخُلُ النَّارَ وَيَخرُجُ؟! إنْ كَانَ أَرَادَ النَّارَ اسْتِهانَةً بِالنَّارِ لَا حَولَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ.

يَقُولُونَ: إِنَّهُمْ يَخْرُجُونَ منَ النَّارِ؟

الكُفرُ ضِدُّ الإِيمَانِ، المُرَادُ بِهذَا أَهْلُ التَّوحِيدِ، الكُفَّارُ لَيسُوا مِنْ أَهْلِ التَّوحِيدِ، مَنْ تَركَ الصَّلَاةَ فَليْسَ مِنْ أَهْلِ التَّوحِيدِ، مَنِ اسْتَهزَأَ بِالدِّينِ فَلَيسَ مِنْ أَهْلِ التَّوحِيدِ، مَنْ كذَّبَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فَلَيسَ مِنْ أَهْلِ التَّوحِيدِ، وَلوْ وَحَّدَ اللهَ يَكفُرُ، يَبطُلُ تَوحِيدُهُ، وَمَنْ أَتَى بِنَاقضٍ مِنْ نَوَاقِضِ الإِسْلامِ [كَفَرَ].

إِذَا كَانَ يُوحِّدُ اللهَ وَيُصلِّي وَيَصُومُ وَلَا يَذبَحُ لِلْأصْنامِ وَقَالَ: إنَّ مُحمَّدًا صلى الله عليه وسلم كَذَّابٌ، مَاذَا تَقُولُونَ؟ يَبطُلُ تَوحِيدُهُ أوْ مَعهُ تَوحِيدُهُ؟ مَا قَالَ: مُحمَّدٌ كَذَّابٌ، لكِنْ قَالَ: مَا بلَّغَ الرِّسَالةَ كَمَا يَنْبغِي، تَسَاهَلَ؛ يَكفُرُ أوْ مَا يَكفُرُ؟ بِالإِجْماعِ أوْ بِالخِلَافِ؟ بِإِجْماعِ المُسْلمِينَ يَكفُرُ، أوِ اسْتَهزَأَ بِالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أوْ بِالجَنَّةِ أوْ بِالنَّارِ أوْ بِاللهِ يَكفُرُ أوْ مَا يَكفُرُ؟ يَكفُرُ، وَلوْ أنَّهُ وحَّدَ اللهَ، فهَذَا مِثلُهُ، إِذَا تَركَ الصَّلَاةَ مِثْلهُ. نَسْألُ اللهَ العَافِيةَ.

قَاعِدةٌ افْهَمُوهَا: (مَا يَنْفَعُ التَّوحِيدُ إِلَّا لِمَنْ سَلِمَ منَ النَّواقِضِ)، التَّوحِيدُ يَنْفَعُ النَّاسَ إِذَا سَلِمُوا منَ النَّواقِضِ؛ وَإلَّا مَا مَعنَى حُكْمِ المُرتَدِّ فِي هَذَا المَعنَى.

* * *

ص: 163

7440 -

وَقَالَ حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «يُحْبَسُ المُؤْمِنُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يُهِمُّوا بِذَلِكَ، فَيَقُولُونَ: لَوِ اسْتَشْفَعْنَا إِلَى رَبِّنَا فَيُرِيحُنَا مِنْ مَكَانِنَا، فَيَأْتُونَ آدَمَ، فَيَقُولُونَ: أَنْتَ آدَمُ أَبُو النَّاسِ، خَلَقَكَ اللهُ بِيَدِهِ، وَأَسْكَنَكَ جَنَّتَهُ، وَأَسْجَدَ لَكَ مَلَائِكَتَهُ، وَعَلَّمَكَ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ، لِتَشْفَعْ لَنَا عِنْدَ رَبِّكَ حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا. قَالَ: فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ - قَالَ: وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ: أَكْلَهُ مِنَ الشَّجَرَةِ، وَقَدْ نُهِيَ عَنْهَا - وَلَكِنِ ائْتُوا نُوحًا أَوَّلَ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللهُ تَعَالَى إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ؛ فَيَأْتُونَ نُوحًا فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ - سُؤَالَهُ رَبَّهُ بِغَيْرِ عِلْمٍ - وَلَكِنِ ائْتُوا إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَ الرَّحْمَنِ. قَالَ: فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ فَيَقُولُ: إِنِّي لَسْتُ هُنَاكُمْ -وَيَذْكُرُ ثَلَاثَ كَذِبَاتٍ

(1)

كَذَبَهُنَّ- وَلَكِنِ ائْتُوا مُوسَى، عَبْدًا آتَاهُ اللهُ التَّوْرَاةَ، وَكَلَّمَهُ، وَقَرَّبَهُ نَجِيًّا. قَالَ: فَيَأْتُونَ مُوسَى، فَيَقُولُ: إِنِّي لَسْتُ هُنَاكُمْ، وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ - قَتْلَهُ النَّفْسَ - وَلَكِنِ ائْتُوا عِيسَى عَبْدَ اللهِ وَرَسُولَهُ وَرُوحَ اللهِ وَكَلِمَتَهُ. قَالَ: فَيَأْتُونَ عِيسَى، فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، وَلَكِنِ ائْتُوا مُحَمَّدًا

(1)

كذا في «الفتح» ، وفي «عمدة القارئ» وغيره:«كَلِمَاتٍ» .

ص: 164

صلى الله عليه وسلم، عَبْدًا غَفَرَ اللهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، فَيَأْتُونِي، فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي فِي دَارِهِ فَيُؤْذَنُ لِي عَلَيْهِ، فَإِذَا رَأَيْتُهُ وَقَعْتُ سَاجِدًا، فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَدَعَنِي، فَيَقُولُ: ارْفَعْ مُحَمَّدُ، وَقُلْ يُسْمَعْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، وَسَلْ تُعْطَ، قَالَ: فَأَرْفَعُ رَأْسِي، فَأُثْنِي عَلَى رَبِّي بِثَنَاءٍ وَتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِيهِ، (ثُمَّ أَشْفَعُ)

(1)

فَيَحُدُّ لِي حَدًّا، فَأَخْرُجُ فَأُدْخِلُهُمُ الجَنَّةَ».

قَالَ قَتَادَةُ: وَسَمِعْتُهُ أَيْضًا يَقُولُ: «فَأَخْرُجُ فَأُخْرِجُهُمْ مِنَ النَّارِ، وَأُدْخِلُهُمُ الجَنَّةَ، ثُمَّ أَعُودُ (الثَّانِيَةَ)

(2)

فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي فِي دَارِهِ، فَيُؤْذَنُ لِي عَلَيْهِ، فَإِذَا رَأَيْتُهُ وَقَعْتُ سَاجِدًا، فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَدَعَنِي، ثُمَّ يَقُولُ: ارْفَعْ مُحَمَّدُ، وَقُلْ يُسْمَعْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، وَسَلْ تُعْطَ. قَالَ: فَأَرْفَعُ رَأْسِي، فَأُثْنِي عَلَى رَبِّي بِثَنَاءٍ وَتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِيهِ، قَالَ: ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا، فَأَخْرُجُ، فَأُدْخِلُهُمُ الجَنَّةَ».

قَالَ قَتَادَةُ: وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: «فَأَخْرُجُ فَأُخْرِجُهُمْ مِنَ النَّارِ وَأُدْخِلُهُمُ الجَنَّةَ، ثُمَّ أَعُودُ الثَّالِثَةَ فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي فِي دَارِهِ، فَيُؤْذَنُ لِي عَلَيْهِ، فَإِذَا رَأَيْتُهُ وَقَعْتُ سَاجِدًا، فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَدَعَنِي، ثُمَّ يَقُولُ: ارْفَعْ مُحَمَّدُ، وَقُلْ يُسْمَعْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، وَسَلْ تُعْطَهْ، قَالَ: فَأَرْفَعُ رَأْسِي، فَأُثْنِي عَلَى رَبِّي بِثَنَاءٍ وَتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِيهِ، قَالَ: ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا، فَأَخْرُجُ فَأُدْخِلُهُمُ الجَنَّةَ» .

(1)

ما بين القوسين زيادة من «عمدة القارئ» وغيره، وغير موجودة في «الفتح» .

(2)

ما بين القوسين زيادة من «عمدة القارئ» وغيره، وغير موجودة في «الفتح» .

ص: 165

قَالَ قَتَادَةُ: وَقَدْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «فَأَخْرُجُ فَأُخْرِجُهُمْ مِنَ النَّارِ، وَأُدْخِلُهُمُ الجَنَّةَ حَتَّى مَا يَبْقَى فِي النَّارِ إِلَّا مَنْ حَبَسَهُ القُرْآنُ» . أَيْ: وَجَبَ عَلَيْهِ الخُلُودُ. قَالَ: ثُمَّ تَلَا (هَذِهِ)

(1)

الآيَةَ: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79] قَالَ: «وَهَذَا المَقَامُ المَحْمُودُ الَّذِي وُعِدَهُ نَبِيُّكُمْ صلى الله عليه وسلم»

(2)

.

وَهذَا [الحَدِيثُ] يَدلُّ عَلَى عَظَمةِ خَشيَةِ الأَنْبِياءِ عليهم السلام لِربِّهِم، وَتَعظِيمِهم لَهُ وَخَوفِهِم مِنهُ سبحانه وتعالى، وهَكَذا خَوَاصُّ عِبَادهِ الأَخْيارِ، فَآدَمُ لَهُ ذَنبٌ وَاحِدٌ، ذَنبٌ وَاحِدٌ وَمَع ذلِكَ قَدْ تَابَ مِنهُ وَاصْطَفاهُ رَبُّهُ بَعدَهُ، وَمعَ هَذَا يَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُم، وَيَذكُرُ خَطِيئَتَهُ؛ لِشدَّةِ مَا وَقعَ فِي نَفْسهِ مِنْ هذِهِ الخَطِيئَةِ، وَقدْ قَالَ اللهُ عز وجل:{وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122)} [طه: 121، 122] وَقالَ سُبْحانَهُ: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)} [البقرة: 37].

مَع هذِهِ التَّوبَةِ وَمَع اجْتِباءِ اللهِ لَهُ، وَمَع كَونِ ذلِكَ ذَنبًا وَاحِدًا، يَذكُرُ خَطِيئَتَهُ لمَّا طَلبُوا مِنهُ الشَّفَاعةَ، فَكَيفَ بِحَالِ مَنْ جَمَعَ خَطَايَا كَثِيرةً عَظِيمَةً وَجَرائِمَ وَلمْ يَتُبْ؟! لَا حَولَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ، نَسْألُ اللهَ السَّلَامةَ.

(1)

ما بين القوسين زيادة من «عمدة القارئ» وغيره، وغير موجودة في «الفتح» .

(2)

ورواه مسلم (193).

ص: 166

قَولُهُ: «وَلَكِنِ ائْتُوا نُوحًا

وَيَذكُرُ خَطِيئتَهُ الَّتِي أَصَابَ: سُؤَالهُ رَبّهُ»: وَهكَذَا يُقَالُ فِي نُوحٍ مِثلُ مَا قِيلَ فِي آدَمَ عليهما السلام، خَطِيئَةٌ وَاحِدةٌ تَابَ مِنْها لمَّا قَالَ:{وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47)} [هود: 47] سُؤَالٌ، ظنَّ أنَّهُ صَالِحٌ وَأنَّهُ جَائِزٌ، اللهُ المُسْتعَانُ، اللهُ أَكْبَرُ.

قَولُهُ: «قَالَ: فَيَأتُونَ إِبْراهِيمَ

وَيَذكُرُ ثَلَاثَ كَذَبَاتٍ كَذَبهُنَّ»: كَذلِكَ إِبْراهِيمُ عليه السلام ثَلَاثُ كَذَباتٌ كُلُّها فِي ذَاتِ اللهِ، وَمَع هَذَا يَسْتَحْيِي أنْ يَتَقدَّمَ لِربِّهِ لِلشَّفَاعَةِ مِنْ أَجْلِها، فَيَذكُرُها وَيُعظِّمُها مَع أنَّهَا فِي ذَاتِ اللهِ، قَصدَ بِهَا وَجهَ اللهِ، وَهِي مَعْروفَةٌ:

1 -

قَولُهُ فِي قِصَّةِ كَسرِهِ الأَصْنامَ: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63]؛ لِيَنتَبِهُوا وَلِيعْرِفُوا أنَّهُم غَالِطُونَ وَخَاطِئونَ فِي عِبادَتِهِم الأَصْنامَ.

2 -

وَقوْلُهُ: {إِنِّي سَقِيمٌ (89)} [الصافات: 89] لمَّا ذَهبُوا إِلَى عِيدِهِم لِيَرجِعَ إِلَى أَصْنَامِهِم.

3 -

وَقَولِهِ فِي قصَّةِ سَارةَ: «إِنَّها أُخْتِي» . يَعنِي: فِي ذَاتِ اللهِ، لِئلَّا يَتَعدَّى عَليْهَا الظَّالِمُ.

وَالمَقْصودُ: أنَّها كَذَبَاتٌ فِي ذَاتِ اللهِ وَلَيسَتْ جَرَائِمَ، وَلكنَّهُ كَذَبَها فِي ذَاتِ اللهِ، وَلكنَّهُ اسْتَعظَمَها وَاسْتَحيَا مِنْ ربِّهِ أنْ يَتقَدَّمَ وأنْ يَشفَعَ وقَالَ: لَستُ هُنَاكُم.

قَولُهُ: «وَلَكِنِ ائْتُوا مُوسَى

قَتْلَهُ النَّفسَ»: كَذلِكَ قَتْلُ النَّفسِ فِي قِصَّةِ مُوسَى عليه السلام قَبلَ أنْ يُوحَى إِليْهِ، قَبلَ أنْ تَأتِيَهُ النُّبوَّةُ،

ص: 167

فَيَجتَهِدُ فِي ذلِكَ اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ المُسْتعَانُ.

وَهذِهِ الأُمُورُ أَلْهمَهُم اللهُ إِيَّاهَا أنْ يَقُولُوهَا وَيَعْتذِرُوا؛ لِمَا ادَّخَرَ اللهُ سُبْحانَهُ مِنْ خَيرِ ذلِكَ لمُحمَّدٍ عليه الصلاة والسلام، شَيءٌ أَلْهَمهُمُ اللهُ إِيَّاهُ وَشَرحَ صُدُورَهُم أنْ يَقُولُوهُ؛ حَتَّى تَنتَهِيَ هذِهِ الشَّفَاعَةُ إِلَى خَيرِ البَشرِ وَأَفضَلِهِم، نَبيِّنَا مُحمَّدٍ عليه الصلاة والسلام.

قَولُهُ: «وَلَكِنِ ائْتُوا عِيسَى

لَستُ هُنَاكُمْ»: عِيسَى عليه السلام مَا ذَكَرَ شَيْئًا، مَا ذَكرَ ذَنبًا وَلَا شَيْئًا، إنَّمَا شَيءٌ أَلْهمَهُ اللهُ إِيَّاهُ، قَالَ: ائْتُوا مُحمَّدًا عليه الصلاة والسلام.

قَولُهُ: «فَأُخْرِجُهُمْ مِنَ النَّارِ» يَعنِي: مِنْ عِنْدِ رَبِّي، منَ المَكَانِ الَّذِي شَفعَ فِيهِ إِلَى ربِّهِ إِلَى جِهةِ النَّارِ حَتَّى يُخْرجَهُم، وَقدْ جَعلَ اللهُ لَهُ عَلَامَاتٍ يُخْرجُهُم بِها سبحانه وتعالى فِي الحدِّ الَّذِي حَدَّه لَهُ.

قَولُهُ: «فَأَخْرُجُ فَأُخْرِجُهُمْ مِنَ النَّارِ، وَأُدْخِلُهُمُ الجَنَّةَ» : هَذهِ أَربَعُ شَفَاعَاتٍ. اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ المُسْتعَانُ، اللَّهُمَّ سلِّمْ سلِّمْ.

قَولُهُ: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79)} [الإسراء: 79]: وَهذَا هُوَ المَعْروفُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَماعَةِ، المَقَامُ المَحْمودُ هُوَ مَقَامُ الشَّفَاعةِ الَّتِي أَعْطَاهُ اللهُ إِيَّاهَا فِي أَهْلِ المَوْقفِ، وفِي إِخْرَاجِ العُصَاةِ.

هُنَا ذَكرَ أنَّهُ «ثُمَّ أَعُودُ الثَّالِثَةَ» آخِرُ شَيءٍ؟

الأَخِيرَةُ هِيَ الرَّابِعةُ الَّتِي بَعدَ الثَّالِثةِ. وفِي هَذَا دَلَالةٌ عَلَى أنَّهُ صلى الله عليه وسلم انْتَهتْ شَفَاعتُهُ، عَلَى أنَّهُ لمْ يَبقَ فِيهِمْ

ص: 168

مَنْ يَصلُحُ لِلشَّفَاعةِ، وهُوَ مَنْ حَبَسهُ القُرْآنُ لِكُفرِهِ، وهَذَا حَسبَ عِلْمهِ عليه الصلاة والسلام، حَسبَ مَا عِندَهُ منَ العِلمِ.

وَسَبقَ وَيَأتِي أنَّهُ جل وعلا يُخرَجُ منَ النَّار قَومٌ بِغَيرِ شَفاعَةٍ لمْ يَعمَلُوا خَيْرًا قَطُّ إلَّا أنَّهُم يَقُولُونَ: لَا إِلهَ إلَّا اللهُ. فهَذَا يَدلُّ عَلَى أنَّهُم خَفوا عَلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَلِمَهُمُ اللهُ، فَأخْرَجهُم بِفَضلِهِ وَرَحمتِهِ سبحانه وتعالى مِنْ غَيرِ شَفاعَةِ أَحدٍ، بلْ هُوَ الَّذِي أَخْرجَهُم سبحانه وتعالى لِعِلمِهِ بِأنَّهُم مُوحِّدُونَ مُسلِمُونَ دَخلُوا النَّارَ بِذُنوبِهِم، فَلمَّا قَضَوْا المُدَّةَ الَّتِي كَتَبَها اللهُ عَليْهِم أَخْرجَهُم مِنْها سبحانه وتعالى، وَبَعدَ هَذَا لَا يَبْقَى إلَّا الكَفرَةُ الَّذينَ لَا حِيلَةَ فِي إِخْراجِهِم؛ لِعَدمِ إِيمَانِهِم.

أَحْسنَ اللهُ إِليْكَ «داره» نِسبَتهُ [إِلَى اللهِ]؟

المَكَانُ الَّذِي هُوَ فِيهِ سبحانه وتعالى، الَّذِي فِيهِ العَرشُ وَالقَضَاءُ بَينَ العِبَادِ.

أَحْسنَ اللهُ إِليْكَ، مَا يَشفَعُ ثَلَاثَ مرَّاتٍ «ثُمَّ أَشْفَعُ الثَّالِثَةَ» ؟

مِنْ بِعدِ الثَّالِثةِ. ثمَّ يَشفَعُ الثَّالِثةَ، «

ثُمَّ أَعُودُ الثَّالِثَةَ: فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي فِي دَارِهِ، فَيُؤْذَنُ لِي عَلَيْهِ، فَإِذَا رَأَيْتُهُ وَقَعْتُ سَاجِدًا، فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَدَعَنِي، ثُمَّ يَقُولُ: ارْفَعْ مُحَمَّدُ، وَقُلْ

ص: 169

يُسْمَعْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، وَسَلْ تُعْطَهْ، قَالَ: فَأَرْفَعُ رَأْسِي، فَأُثْنِي عَلَى رَبِّي بِثَنَاءٍ وَتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِيهِ، قَالَ: ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا، فَأَخْرُجُ فَأُدْخِلُهُمُ الجَنَّةَ - هذِهِ الرَّابِعةُ - ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا».

قَالَ ابْنُ بَازٍ رحمه الله: ثمَّ أَشْفعُ هذِهِ المرَّةُ الرَّابِعةُ.

«قَالَ قَتَادَةُ: وَقَدْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «فَأَخْرُجُ فَأُخْرِجُهُمْ مِنَ النَّارِ، وَأُدْخِلُهُمُ الجَنَّةَ حَتَّى مَا يَبْقَى فِي النَّارِ إِلَّا مَنْ حَبَسَهُ القُرْآنُ» . أَيْ وَجَبَ عَلَيْهِ الخُلُودُ، قَالَ: ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الآيَةَ: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79)} [الإسراء: 79] قَالَ: «وَهَذَا المَقَامُ المَحْمُودُ الَّذِي وُعِدَهُ نَبِيُّكُمْ صلى الله عليه وسلم» .

هذِهِ الرَّابِعةُ؟

مَا سَمِعتُهُ قَرأَهَا!

لِأنَّهُ ذَكرَ الثَّالِثةَ وَلمْ يَذكُرِ الرَّابِعةَ؟

ثمَّ أَشفَعُ، مَا قَالَ: الرَّابِعةَ، قَالَ:«ثمَّ أَشْفَعُ» ، هذِهِ الرَّابِعةُ، وَقدْ جَاءَ مُصرَّحًا بِهَا فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ، أَرْبعُ شَفَاعَاتٍ عليه الصلاة والسلام، وَتِلْك

(1)

الشَّفَاعةُ الرَّابِعةُ بَعدَ قَولِهِ: الثَّالِثةُ، بَعدَ مَا خَرجَ مِنَ الشَّفَاعةِ قَالَ:«ثُمَّ أَشْفَعُ» يَعنِي: الرَّابِعةَ.

وَفِيهَا قَولٌ آخَرُ: أنَّ المَقَامَ المَحْمُودَ، أنَّهُ سُبْحانَهُ يُقْعِدهُ مَعهُ عَلَى العَرشِ -يَعنِي: مُحمَّدًا عليه الصلاة والسلام وَجَاءَ فِي حَدِيثٍ خَاصٍّ، لكِنْ فِي سَندِهِ بَعضُ النَّظرِ، وَالمَشْهورُ عِنْدَ أَهْلِ العِلْمِ وَجُمْهُورِهِم أنَّ المَقَامَ المَحْمودَ هُوَ مَقَامُ الشَّفاعَةِ.

(1)

في الأصل: وهذيك الشفاعة الرابعة.

ص: 170

هلْ وَردَ عَددٌ مُعيَّنٌ فِي حَمَلةِ العَرشِ؟

فِي القُرْآنِ الكَرِيمِ {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17)} [الحاقة: 17]، أمَّا فِي الدُّنْيا هُمْ أَرْبعَةٌ، كَمَا فِي شِعرِ أُميَّةَ بنِ الصَّلتِ رضي الله عنه:

رَجُلٌ وَثَوْرٌ تَحْتَ رِجْلِ يَمِينِهِ

وَالنَّسْرُ لِلْأُخْرَى وَلَيْثٌ مُرْصَدُ

وأقرَّ النَّبيُّ بِشِعْرِه

(1)

. اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيهِ وَسَلِّمْ.

7441 -

حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنِي عَمِّي، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَرْسَلَ إِلَى الأَنْصَارِ، فَجَمَعَهُمْ فِي قُبَّةٍ وَقَالَ لَهُمْ:«اصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوُا اللهَ وَرَسُولَهُ، فَإِنِّي عَلَى الحَوْضِ»

(2)

.

وَالشَّاهِدُ مِنهُ: «حَتَّى تَلْقَوُا اللهَ وَرَسُولَهُ» وَأنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ لِقَاءِ اللهِ {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ} [الكهف: 110].

وَالمُرَادُ بِهِ: البَعْثُ وَالنُّشُورُ وَجَمْعُ النَّاسِ يَومَ القِيَامةِ، مِنهُمْ مَنْ يَرَاهُ وَيَلقَاهُ لِقَاءً كَامِلًا -وهُمُ المُؤمِنُونَ- وَمِنهُمْ مَنْ يَلْقاهُ، وَلكِنْ لَا يَرَاهُ -وهُمْ بَقيَّةُ النَّاسِ

(1)

رواه أحمد في «المسند» (2314).

(2)

ورواه مسلم (1059).

ص: 171

- يَلْقَونَ اللهَ فِي البَعثِ وَالنُّشُورِ، وَيُجازِيهِم بِأَعْمَالِهِم؛ لكِنْ لَا يَرَوْنَهُ سُبْحانَهُ {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)} [المطففين: 15].

فَاللِّقَاءُ عَامٌّ، وَلكِنَّهُ لِقَاءَانِ: لِقاءٌ مَعهُ رُؤيَةٌ، وهَذَا لِلمُؤمِنِينَ، وَلِقاءٌ لَيسَ مَعهُ رُؤيَةٌ، وهَذَا لِلْكافِرِينَ، نَسْألُ اللهَ السَّلَامةَ.

وكُلُّهُم مُلَاقٍ ربَّهُ {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6)} [الانشقاق: 6]، قَالَ جَماعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّفْسيرِ:«مُلَاقِيهِ» يَعنِي: مُلَاقٍ كَدْحَكَ. وَقالَ آخَرُونَ: مُلَاقٍ ربَّكَ. وكِلَاهُمَا حقٌّ، كُلُّ إِنْسَانٍ مُلَاقٍ كَدْحهُ وَمُلاقٍ ربَّهُ، لكِنِ المُؤمِنُ يُلَاقِي عَملَهُ وَيُلاقِي ربَّهُ رُؤيَةً، وهَذَا اللِّقَاءُ الكَامِلُ.

وَالكَافِرُ يُلاقِي كَدحَهُ وَيُلاقِي ربَّهُ لَا رُؤيَةً، ولكِنْ كَلَامًا وَتَوْبِيخًا وَعَذابًا، نَسْألُ اللهَ العَافِيةَ، «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ اللهُ لَيْسَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ»

(1)

. نَسْألُ اللهَ السَّلَامةَ.

7442 -

حَدَّثَنِي ثَابِتُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ الأَحْوَلِ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا تَهَجَّدَ مِنَ اللَّيْلِ قَالَ: «اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، وَلَكَ الحَمْدُ أَنْتَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، أَنْتَ الحَقُّ، وَقَوْلُكَ الحَقُّ، وَوَعْدُكَ الحَقُّ، وَلِقَاؤُكَ الحَقُّ، وَالجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ، اللَّهُمَّ لَكَ

(1)

رواه البخاري (7512)، ومسلم (67)(1016).

ص: 172

أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ خَاصَمْتُ، وَبِكَ حَاكَمْتُ، فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَأَسْرَرْتُ وَأَعْلَنْتُ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ».

قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: قَالَ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ، وَأَبُو الزُّبَيْرِ، عَنْ طَاوُسٍ:«قَيَّامُ» . وَقَالَ مُجَاهِدٌ: «القَيُّومُ القَائِمُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ» . وَقَرَأَ عُمَرُ، القَيَّامُ، «وَكِلَاهُمَا مَدْحٌ»

(1)

.

(الشَّيخُ) رَاجِعْ ثَابِتَ بنَ مُحمَّدٍ؟

[قَالَ الحَافِظُ ابنُ حَجرٍ رحمه الله فِي «تقْريبِ التَّهذيبِ» (829)]: «ثَابِتُ بنُ مُحمَّدٍ العَابِدُ)، أَبُو مُحمَّدٍ ويُقَالُ: أبُو إِسْمَاعِيلَ، صَدُوقٌ زَاهِدٌ يُخطِئُ فِي أَحادِيثِهِ، منَ التَّاسِعةِ، مَات سَنةَ خَمسَ عَشرَةَ، خ ت» .

قَالَ ابْنُ بَازٍ رحمه الله: هَذَا مِنْ كِبَارِ شُيُوخِهِ رحمه الله، كَانَ مُقِلًّا.

(الشَّيخُ) مَا قَالَ: بَصرِيٌّ أوْ حِمْصِيٌّ أوْ شَامِيٌّ؟

(قَارِئُ التَّقرِيبِ): لَا يَا شَيخُ.

[قَالَ الحَافِظُ ابنُ حَجرٍ رحمه الله فِي «تقْريبِ التَّهذيبِ» (830)]: «ثَابِتُ بنُ مُحمَّدٍ العَبدِيُّ منَ الرَّابِعةِ، وَقِيلَ: صَوابُهُ مُحمَّدُ بنُ ثَابِتٍ، وَسَيأتِي، ق» .

[قَالَ الإِمَامُ العَينِيُّ رحمه الله فِي «عُمدَةِ القَارِي» (25/ 133)]: «قَوْلُه: وَثَابتٌ

(1)

ورواه مسلم (769).

ص: 173

- بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَة فِي أَوَّلهِ - ابْنُ مُحَمَّدٍ، أَبُو إِسْمَاعِيلَ، العَابِدُ الشَّيْبَانِيُّ الْكُوفِيُّ». [انتهى كلامه].

قَالَ ابْنُ بَازٍ رحمه الله: ذَكرَ بَلدَهُ وَنَسبَهُ.

يَا شَيخُ، صَدُوقٌ؟

صَدُوقٌ، يُخطِئُ فِي أَحَادِيثَ لَكنَّهُ صَدُوقٌ فِي الجُملَةِ، لكِنْ وَقعَتْ لَهُ أَخْطَاءٌ فِي أَحَادِيثَ، وهَذَا لَيسَ مِنْ أَخْطائِهِ، هذَا لَهُ شَواهِدُ كَثِيرةٌ؛ وَلِهذَا سَاقَهُ المُؤلِّفُ، وهَذَا لِأنَّ حَدِيثَهُ هُنَا لَيسَ مِمَّا فِيهِ أَخْطاءٌ، مِمَّا لَهُ شَوَاهِدُ.

وفِي رِوَايةٍ: «وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ»

(1)

، الشَّاهِدُ قَولُهُ: «

وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ»، تَقدَّمَ هَذَا الحَدِيثُ فِي التَّهجُّدِ لِلمُؤلِّفِ رحمه الله، وَقدْ رَوَاهُ مُسلِمٌ أيْضًا مِنْ طُرقٍ أُخْرَى، وَلِهذَا سَاقَهُ المُؤلِّفُ مِنْ طَرِيقِ ثَابِتٍ هُنَا.

قَولُهُ: «قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: قَالَ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ، وَأَبُو الزُّبَيْرِ، عَنْ طَاوُسٍ: «قَيَّامُ» . وَقَالَ مُجَاهِدٌ: «القَيُّومُ القَائِمُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ» . وَقَرَأَ عُمَرُ: القَيَّامُ، «وَكِلَاهُمَا مَدْحٌ» .

وهذِهِ اللَّفظَةُ جَاءَتْ بِعدَّةِ رِوَايَاتٍ: «قيِّمٌ وَقيَّامٌ وَقيُّومٌ» كَمَا قَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255] فهُوَ قيِّمُ السَّمَواتِ، وَقيَّامُ السَّمَواتِ، وقَيُّومُ السَّمَواتِ، كُلُّها صِيغَةُ مُبالَغَةٍ «قيِّمٌ وقيَّامٌ وقيُّومٌ» كلُّهَا صِيغَةُ مُبالَغَةٍ، وهُوَ القَائِمُ بِأحْوَالِ عِبَادهِ جل وعلا.

مَا جَاءَتْ بِلفْظِ القَائِمِ؟

مَا أَذْكرُ شَيْئًا.

(1)

رواه البخاري (1120)، ومسلم (769)(199).

ص: 174

كَأنَّ النَّووِيَّ أَشَارَ إِليْهَا فِي مُسلِمٍ

(1)

؟

يُمكِنُ، مَا أَتذَكَّرُ شَيْئًا، الَّذِي أَحْفظُ ثَلَاثةً:«قيِّمٌ وَقيَّامٌ وَقيُّومٌ» ، إِذَا قَالَ يُمكِنُ، وَمَنْ حَفِظَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَحفَظْ.

7443 -

حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنِي الأَعْمَشُ، عَنْ خَيْثَمَةَ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ، لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تَرْجَمَانٌ، وَلَا حِجَابٌ يَحْجُبُهُ»

(2)

.

هذِهِ الكَلِمةُ فِيهَا لُغَاتٌ عِدَّةٌ، ثَلَاثٌ:«تَرْجَمَانٌ» بِفَتحَتينِ، و «تَرْجُمَانٌ» بِفَتحٍ ثمَّ ضَمٍّ، و «تُرْجُمَانٌ» بِضمَّتينِ. وقَالَ بَعضُهُم رَابِعةً وهي «تُرْجَمَانٌ» بِضَمِّ التَّاء فِي الأُولَى وفَتحِ الجِيمِ فِي الأَربَعةِ.

والتُّرْجُمانُ: الوَاسِطةُ الَّذِي يُعبِّرُ عَنِ الآخَرِ.

وَالمَعنَى: أنَّ اللهَ يُكلِّمُهُم كِفَاحًا، مَا يَحتَاجُ تُرْجُمانًا، يَكلِّمُهُم سُبْحانَهُ مِنْ دُونِ وَاسِطَةٍ «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ» . وهَذَا أَمرٌ عَظِيمٌ وَخَطِيرٌ عَلَى أَعْداءِ اللهِ، وَمَنِ اجْتَرأَ عَلَى مَحَارِمِ اللهِ، وَلَا حَولَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ، نَسْألُ اللهَ العَافِيةَ.

وَالكَلَامُ أَوْسعُ مِنَ الرُّؤيَةِ، الرُّؤيَةُ إنَّمَا تَقعُ لِخَواصِّ عِبَادِهِ، وَأمَّا الكَلَامُ فهُوَ عَامٌّ، الكَلَامُ وَالتَّوبِيخُ وَالعَذَابُ هَذَا لِمنْ عَصَى وَكفَرَ، اللهُ أَكْبَرُ.

(1)

ورواه مسلم (1016).

(2)

قال النووي رحمه الله في «شرح مسلم» (6/ 54): «قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: «أَنْتَ قَيَّامُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ» وَفِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ: «قَيِّمُ» قَالَ الْعُلَمَاءُ: مِنْ صِفَاتِهِ الْقَيَّامُ وَالْقَيِّمُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ هَذَا الْحَدِيثُ، وَالْقَيُّومُ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، وَقَائِمٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ على كل نفس} . قَالَ الهَرَويُّ: وَيُقالُ: قَوَّامٌ. قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: القَيُّومُ: الَّذِي لا يَزولُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ الْقَائِمُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَمَعْنَاهُ: مُدَبِّرُ أَمْرِ خَلْقِهِ». [انتهى كلامه].

ص: 175

7444 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ، عَنْ أَبِي عِمْرَانَ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «جَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ، آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَجَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ، آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَمَا بَيْنَ القَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ إِلَّا رِدَاءُ الكِبْرِيَاءِ

(1)

عَلَى وَجْهِهِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ»

(2)

.

7445 -

حَدَّثَنَا الحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ المَلِكِ ابْنُ أَعْيَنَ، وَجَامِعُ بْنُ أَبِي رَاشِدٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنِ اقْتَطَعَ مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينٍ كَاذِبَةٍ، لَقِيَ اللهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ» .

قَالَ عَبْدُ اللهِ: ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، مِصْدَاقَهُ مِنْ كِتَابِ اللهِ جَلَّ ذِكْرُهُ:{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 77] الآيَةَ

(3)

.

7446 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ: رَجُلٌ حَلَفَ عَلَى سِلْعَةٍ لَقَدْ أَعْطَى بِهَا أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَى وَهُوَ كَاذِبٌ، وَرَجُلٌ حَلَفَ

(1)

كذا في «الفتح» ، وفي «عمدة القارئ» وغيره:«الكِبْرِ» .

(2)

ورواه مسلم (180).

(3)

ورواه مسلم (138).

ص: 176

عَلَى يَمِينٍ كَاذِبَةٍ بَعْدَ العَصْرِ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، وَرَجُلٌ مَنَعَ فَضْلَ مَاءٍ فَيَقُولُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ: اليَوْمَ أَمْنَعُكَ فَضْلِي كَمَا مَنَعْتَ فَضْلَ مَا لَمْ تَعْمَلْ يَدَاكَ»

(1)

.

قَولُهُ: «لَقَدْ أَعْطَى بِهَا» ضُبِطَ بِهذَا وهَذَا، «لَقَدْ أَعْطَى» يَعنِي: اشْتَراهَا بِأَكثَرَ مِمَّا اشْتَراهَا بِهِ، وضُبِطَ «لَقَدْ أُعْطِيَ بِهَا» يَعنِي: سِيمَتْ مِنهُ بِأكْثرَ ممَّا أُعْطِيَ، أيْ: بِأكْثرَ ممَّا أُعْطِي سِيمَتْ مِنهُ. وكِلَاهُما حقٌّ، وَكِلاهُمَا ظَالِمٌ، سَوَاءٌ، قَالَ: إنَّهُ اشْتَراهَا بِكذَا وهُوَ يَكذِبُ، أوْ قَالَ: سِيمَتْ بِكذَا، وَكِلاهُمَا تَدْلِيسٌ وغِشٌّ، ودَاخِلٌ فِي الوَعِيدِ.

أَكثَرُ ممَّا أَعطَى؟

اشْتَراهَا بِكذَا، أَكثَرَ ممَّا اشْتَراهَا، يَقُولُ: اشْتَريْتُ بِألْفِ رِيَالٍ -وهُوَ بِثَمانٍ أوْ سَبعٍ- حَتَّى يُقرِّبَ لِلمُشْترِي أنَّهُ يَسُومُ بِهذَا المَعنَى.

يَعنِي: وَجْهينِ عَلَى حدٍّ سَواءٍ بِالوَجْهَينِ؟

إمَّا بِضمِّهِمَا أوْ فَتْحِهِما (لَقَدْ أُعْطِيَ بِأَكْثَرَ مِمَّا أُعْطِيَ) هَذَا إِذَا سِيمَتْ مِنهُ (وَلَقَدْ أَعْطَى أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَى) يَعنِي: اشْتَراهَا، يَعنِي: بَذَلَ.

وَالمُخَالفَةُ بَينَهُما؟

مَا هُوَ ظَاهِرٌ، لَقدْ أَعَطَى ممَّا أُعْطِيَ، مَا يَصلُحُ، إمَّا أَعْطَى وأَعَطْى أوْ

(1)

ورواه مسلم (108).

ص: 177

أُعْطِيَ وأُعْطِيَ.

يَا شَيخُ، تَخْصِيصُ بَعدَ العَصرِ؟

لِأنَّهُ آخِرُ النَّهَارِ، خَاتِمةُ النَّهَارِ، منْ خَتَمَ نَهارَهُ بهِ، آخِرُ النَّهَارِ لَهُ شَأنٌ عَظِيمٌ يَنْبغِي أنْ يَختِمَهُ بِخَيرٍ، وهُوَ خَتَمهُ بِالكَذِبِ وَالزُّورِ.

7447 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ المُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَهَّابِ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«الزَّمَانُ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا: مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلَاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ، ذُو القَعْدَةِ، وَذُو الحِجَّةِ، وَالمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ، أَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟» قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ يُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ:«أَلَيْسَ ذَا الحَجَّةِ؟» قُلْنَا: بَلَى، قَالَ:«أَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟» قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ:«أَلَيْسَ البَلْدَةَ؟» قُلْنَا: بَلَى، قَالَ:«فَأَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟» قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ:«أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ؟» قُلْنَا: بَلَى. قَالَ: «فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ» قَالَ مُحَمَّدٌ: وَأَحْسِبُهُ قَالَ: «وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، وَسَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ فَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ، أَلَا فَلَا تَرْجِعُوا بَعْدِي ضُلَّالًا، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ، أَلَا لِيُبْلِغِ

ص: 178

الشَّاهِدُ الغَائِبَ، فَلَعَلَّ بَعْضَ مَنْ يَبْلُغُهُ أَنْ يَكُونَ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضِ مَنْ سَمِعَهُ» فَكَانَ مُحَمَّدٌ إِذَا ذَكَرَهُ قَالَ: صَدَقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَالَ:«أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ»

(1)

.

هَذَا الشَّاهِدُ، قَولُهُ:«سَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ» الشَّاهِدُ مِنْ ذِكْرِها: «وَسَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ» .

وَهذَا مِنهُ عليه الصلاة والسلام تَنْبِيهٌ لَهُمْ أنْ يَتَيقَّنُوا هَذَا الأَمرَ وَيَعقِلُوهُ، وَلِهذَا كَرَّرهُ عَليْهِم «أَيُّ شَهْرِ هَذَا؟ أَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟ أَيُّ يَوْمٍ هَذَا» ؛ لِيَنتَبِهُوا لِهذَا الأَمرِ العَظِيمِ وَيَعْقلُوهُ وَيَنقِلُوهُ عَنهُ وَيُبلِّغُوهُ عَنهُ عليه الصلاة والسلام.

وَأنَّ دِمَاءَ النَّاسِ دِمَاءَ المُسْلمِينَ وَأَمْوالَهُم -يَعنِي: وَالمَعْصومِينَ- وَأَعْراضَهُم عَلَيهِم حَرَامٌ كَحُرمَةِ مَكَّةَ الحَرمِ، وَكَحُرمَةِ ذِي الحجَّةِ الشَّهرِ الحَرَامِ، وَكحُرْمةِ يَومِ النَّحرِ فِي شَهرِ ذِي الحِجَّةِ، وهُوَ يَومُ الحَجِّ الأَكْبرِ؛ لِيعْرِفَ المُسلِمُونَ عَظمَةَ هذِهِ الأَشْياءِ، فَيتَّقُوهَا وَيَحذَرُوهَا؛ فَلَا يَظْلمُوا النَّاسَ فِي دِمائِهِم، وَلَا فِي أَمْوالِهِم، وَلَا فِي أَعْراضِهِم.

وقَالَ: «وَأَحْسِبُهُ قَالَ: وَأَعْرَاضِكُمْ» هَكَذا جَاءَ فِي الرِّوَايةِ، وَجَاءَ فِي الرِّوايَةِ الأُخرَى بِالجَزمِ:«إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ»

(2)

، فِي «الصَّحِيحَينِ» بِالجَزمِ فِي الثَّلَاثِ: الدِّمَاءِ وَالأَمْوالِ وَالأَعْراضِ، فَالوَاجِبُ الحَذرُ منَ التَّعدِّي عَلَى هذِهِ الثَّلَاثِ، أَعْظمُهَا الدَّمُ، ثمَّ المَالُ، ثمَّ العِرضُ، نَسْألُ اللهَ العَافِيةَ.

(1)

ورواه مسلم (1679).

(2)

رواه البخاري (67)، ومسلم (1679).

ص: 179

رِوَايةُ «وَأَبْشَارَكُمْ» ؟

جَاءَتْ رِوَايَةُ «وَأَبْشَارَكُمْ» صَحِيحةٌ، وَالأَبْشارُ يَعنِي: الجِلد.

* * *

ص: 180

‌باب مَا جَاءَ فِي قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}

7448 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَاحِدِ، حَدَّثَنَا عَاصِمٌ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ أُسَامَةَ، قَالَ: كَانَ ابْنٌ لِبَعْضِ بَنَاتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَقْضِي، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَهَا، فَأَرْسَلَ «إِنَّ لِلهِ مَا أَخَذَ، وَلَهُ مَا أَعْطَى، وَكُلٌّ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ» .

فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ فَأَقْسَمَتْ عَلَيْهِ، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَقُمْتُ مَعَهُ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَعُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ، فَلَمَّا دَخَلْنَا نَاوَلُوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم الصَّبِيَّ وَنَفْسُهُ تَقَلْقَلُ فِي صَدْرِهِ - حَسِبْتُهُ قَالَ: كَأَنَّهَا شَنَّةٌ - فَبَكَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ أَتَبْكِي؟ فَقَالَ:«إِنَّمَا يَرْحَمُ اللهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ»

(1)

.

هَذَا الحَدِيثُ -وَقدْ سَبقَ هَذَا الحَدِيثُ أيْضًا- فِيهِ الدَّلَالةُ عَلَى شَرعِيَّةِ

(1)

ورواه مسلم (923).

ص: 181

الرَّحمَةِ لِلضُّعفَاءِ وَالمَسَاكِينِ وَأهْلِ المُصِيبَةِ وَالميِّتِ كَذلِكَ، وَلِهذَا يَقُولُ:{وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)} [الأعراف: 56]، وَيَقولُ {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)} [العنكبوت: 69] وَيَقُولُ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ»

(1)

.

وَفِي هَذَا الحَدِيثِ: أنَّ إِحْدى بَنَاتِه رضي الله عنها كَانَ عِنْدهَا صَبيٌّ فِي المَوتِ يَعنِي: قَدْ ظَهَرتْ عَليْهِ أَمَارَاتُ المَوتِ؛ فَأَرْسلَتْ إِلَى أَبِيهَا عليه الصلاة والسلام تَطلُبُ مِنهُ الحُضُورَ، حُضُورَ مَوتِ هَذَا الصَّبيَّ لِيعُزِّيَهم وَيَجبُرَ حَالَهُم بِحُضورِهِ عليه الصلاة والسلام، فَأَرسَلَ إِليْهَا، وَقَالَ:«لِتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ، فَإِنَّ للهِ مَا أَخَذَ، وَلَهُ مَا أَعْطَى، وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمّى» .

يَعنِي: أنْ تَصبِرَ إِذَا مَاتَ وَتَحتَسِبَ الأَجرَ عِنْدَ اللهِ، فَإنَّ للهِ مَا أَخذَ وَلهُ مَا أَعْطَى، كُلُّ شَيءٍ بِيدِهِ سبحانه وتعالى، وَالنَّاسُ مِلكُهُ، الخَلقُ كَلُّهُم مِلكُهُ، وَكلُّ هَذَا مِلكُهُ، إنَّا للهِ وَإنَّا إِليْهِ رَاجِعُونَ، الجَمِيعُ مِلكُ اللهِ سبحانه وتعالى يَتَصرَّفُ فِيهِ كَيفَ يَشَاءُ، كَمَا قَالَ جل وعلا فِي سُورَةِ المَائِدةِ فِي آخِرِهَا:{لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)} [المائدة: 120].

فَأَرْسَلَتْ إِليْهِ مَرَّةً أُخرَى تُقسِمُ عَليْهِ -تَحلِفُ عَليْهِ- أنْ يَحضُرَ، فَقَامَ وَحقَّقَ قَسَمَها عليه الصلاة والسلام، وَتَوجَّهَ إِليْهَا وَمعَهُ جَماعَةٌ منَ الصَّحَابةِ، مِنهُمْ: مُعَاذُ بنُ جَبلٍ، وَسَعدُ بنُ عُبَادَةَ، وَأُبيُّ بنُ كَعْبٍ، وَزَيدُ بنُ ثَابِتٍ، وَأُسَامَةُ بنُ زَيدٍ وَآخَرُونَ رضي الله عنهم.

(1)

تقدم برقم (7377).

ص: 182

فَلمَّا حَضَرَ وَقَدَّمُوا لَهُ الصَّبيَّ رَأَى نَفسَهُ تَقَعقَعُ لِلخُرُوجِ، وفِي رِوَايةٍ:«تَقَلْقَلُ» فِي أَمَارَاتِ الخُرُوجِ وَأَمارَاتِ المَوتِ؛ فَبَكَى عليه الصلاة والسلام وَذَرَفتْ عَينَاُه لمَّا رَأَى مَا رَأَى، فَقَالَ لَهُ سَعدُ بنُ عُبَادَةَ: تَبكِي يَا رَسُولَ اللهِ؟! فَقَالَ: «إِنَّهَا رَحْمَةٌ، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءُ» .

فَفِي هَذَا فَوائِدُ:

مِنْها: حُسْنُ خُلقِهِ عليه الصلاة والسلام وَتَواضُعُهُ، كَونُهَا أَقْسمَتْ عَليْهِ وَقَامَ وحَقَّقَ قَسَمَها مِنْ أَجلِ جَبرِ حَالِهَا وَجَبرِ مُصِيبَتِها وَرَحمَةً لِحَالِها، فهَذَا يَدلُّ عَلَى التَّواضُعِ وحُسنِ الخُلُقِ، وَالرَّحمَةِ أيْضًا، كَونُهُ رَحِمَها أيْضًا، ثمَّ لمَّا حَضَرَ رَحِمَ أيْضًا طِفلَهَا وَبَكَى مِنْ أَجلِ ذَلِك، فهَذَا يَدلُّ عَلَى حُسْنِ خُلُقهِ صلى الله عليه وسلم وَطِيبِ شَمَائِلِهِ، وَرَحمَتهِ بِالضُّعَفاءِ وَرِقَّتهِ عَلَى أَوْلادِهِ وَرَحمتِهِ لهُمْ، وَحُسْنِ مُعاشَرتِهِ لهُمْ، وَإِجَابتِهِ طَلَباتِهِم الَّتِي لَا مَحْذورَ فِيهَا.

وَمِنَ الفَوائِدِ: جَوَازُ البُكَاءِ، وَأنَّهُ لَا حَرَجَ فِيهِ عَلَى الطِّفلِ وَعَلَى غَيرِهِ، وَأنَّ المَحظُورَ هُوَ النِّيَاحةُ، وَأمَّا دَمعُ العَينِ فَلَا حَرَجَ فِي ذَلِك؛ وَلِهذَا قَالَ عليه الصلاة والسلام فِي قِصَّةِ ابْنهِ إِبْراهِيمَ لمَّا تُوفِّيَ:«إِنَّ العَيْنَ تَدْمَعُ، وَالقَلْبَ يَحْزَنُ، وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يُرْضِي رَبَّنَا، وَإِنَّا بِفرَاقِكَ يَا إَبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ»

(1)

.

وَفِيهِ: الدَّلَالةُ عَلَى أنَّهُ يَنبَغِي لِلوَالدِ أنْ يَكُونَ رَحِيْمًا عَطُوفًا عَلَى أَوْلَادِهِ، لَا يَتجَبَّرُ عَليْهِم وَلَا يَتكَبَّرُ عَنْ تَحقِيقِ طَلبَاتِهِم المُنَاسِبةِ الَّتِي لَا مَحْذورَ فِيهَا -وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ المَصَائبِ وَعِنْدَ المَرضِ، وَعِنْدَ الشِّدَّةِ وعِندَ الحَاجَةِ- يَلطُفُ بِهِمْ وَيَرحَمُهُم وَيَعطِفُ عَليْهِم، وَلوْ كَانَ عَظِيمًا وَلوْ كَانَ كَبِيرًا، وَلوْ كَانَ مَلِكًا.

(1)

رواه البخاري (1303)، ومسلم (2315)(62).

ص: 183

فَأعْظَمُ العُظَمَاءِ منَ المَخْلوقِينَ هُوَ رَسُولُ اللهِ عليه الصلاة والسلام، فَلَيسَ هُنَاكَ فِي الدُّنيَا مَنْ هُوَ أَعظَمُ مِنهُ وَأحَقُّ مِنهُ بِالاحْتِرامِ وَالتَّبجِيلِ، ومَعَ هَذَا أَجَابَ دَعْوةَ ابْنتِهِ وقَامَ إِليْهَا وحَقَّقَ طَلبَهَا، وَحقَّقَ قَسَمَهَا وَحَضَرَ إِلَى بَيتِهَا، وَجَبرَ مُصِيبَتهُم وَدَعا لهُمْ صلى الله عليه وسلم.

وَمِنَ الفَوائِدِ أيْضًا، وَهِيَ مُهمَّةٌ: أنَّ الوَاجِبَ الصَّبرُ عِنْدَ المَصائِبِ، وَأنْ تَصبِرَ، الوَاجِبُ الصَّبرُ وَالاحْتِسابُ، وَعَدمُ الجَزعِ، كُلٌّ مُصَابٌ، المَصَائِبُ مَاشِيةٌ عَلَى العِبَادِ؛ فَالوَاجبُ الصَّبرُ عِنْدَهَا وَعدَمُ الجَزَعِ، وَاسْتِحضَارُ أنَّ العَبدَ ومَن عِندَهُ مِنْ ذُريَّةٍ مِنْ إِخْوَانٍ، مِنْ آبَاءٍ، مِنْ أُمَّهاتٍ إِلَى غَيرِهِم كُلُّهُم مِلكُهُ سُبْحانَهُ «للهِ مَا أَخَذَ وَلَهُ مَا أَعْطَى، وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى»

(1)

، وهُوَ المَالِكُ المُتصَرِّفُ فِي الجَمِيعِ، فَلَا وَجهَ لِلْجزَعِ، بلِ الجَزعُ يُفوِّتُ الخَيرَ، وَيُسبِّبُ الغَضَبَ، وَالاحْتِسَابَ، وَالرِّضَا يَحصُلُ بِهِ الخَيرُ العَظِيمُ وَالأَجْرُ منَ اللهِ عز وجل، وَالعِوَضُ مِنهُ سبحانه وتعالى.

7449 -

حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «اخْتَصَمَتِ الجَنَّةُ وَالنَّارُ إِلَى رَبّهِمَا، فَقَالَتِ الجَنَّةُ: يَا رَبِّ، مَا لَهَا لَا يَدْخُلُهَا إِلَّا ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَسَقَطُهُمْ، وَقَالَتِ النَّارُ: -يَعْنِي- أُوثِرْتُ بِالْمُتَكَبِّرِينَ، فَقَالَ اللهُ تَعَالَى لِلْجَنَّةِ: أَنْتِ رَحْمَتِي، وَقَالَ لِلنَّارِ: أَنْتِ عَذَابِي، أُصِيبُ بِكِ

(1)

تقدم برقم (7448).

ص: 184

مَنْ أَشَاءُ، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا مِلْؤُهَا، قَالَ: فَأَمَّا الجَنَّةُ، فَإِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مِنْ خَلْقِهِ أَحَدًا، وَإِنَّهُ يُنْشِئُ لِلنَّارِ مَنْ يَشَاءُ، فَيُلْقَوْنَ فِيهَا، فَتَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ، ثَلَاثًا، حَتَّى يَضَعَ فِيهَا قَدَمَهُ فَتَمْتَلِئُ، وَيُرَدُّ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، وَتَقُولُ: قَطْ قَطْ قَطْ»

(1)

.

7450 -

حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«لَيُصِيبَنَّ أَقْوَامًا سَفْعٌ مِنَ النَّارِ، بِذُنُوبٍ أَصَابُوهَا عُقُوبَةً، ثُمَّ يُدْخِلُهُمُ اللهُ الجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ، يُقَالُ لَهُمُ الجَهَنَّمِيُّونَ» . وَقَالَ هَمَّامٌ: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، حَدَّثَنَا أَنَسٌ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

وَهذِهِ رَحمَتُهُ سبحانه وتعالى {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)} [الأعراف: 56] فَالجنَّةُ مِنْ رَحمَتهِ كَمَا قَالَ: «أَنْتِ رَحْمَتِي» وفِي الرِّوايَةِ الأُخرَى: «أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ»

(2)

فهِيَ رَحْمتُهُ يَهَبُها لِمنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادهِ المُؤمِنِينَ، فَيَلطُفُ بِهِمْ سبحانه وتعالى، وَالنَّارُ عَذابُهُ يُعذِّبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ، وَلِكلِّ وَاحِدةٍ مِنهُمَا مِلؤُهَا.

وَبيَّنَ عليه الصلاة والسلام هذِهِ الخُصُومةَ بَينَ الجنَّةِ وَالنَّارِ وَاحِتِجاجَهُما

(1)

ورواه مسلم (2846).

(2)

رواه البخاري (4850)، مسلم (2846)(34).

ص: 185

أنَّ الجنَّةَ قَالَتْ: «فِيَّ ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَسَقَطُهُمْ» يَعنِي: فُقَراءَهُم، يَعنِي: غَالِبُ مَنْ يَدخُلُها الفُقَراءُ؛ لِأنَّ المَالَ يُطغِي أَهلَهُ إلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6)} [العلق: 6].

وَالنَّارُ فِيهَا الجَبَّارُونَ وَفِيهَا المُتكبِّرُونَ، الَّذينَ حَملَهُم التَّكبُّرُ وَالتَّعاظُمُ وَالعِنَادُ عَلَى التَّكذِيبِ وَعدَمِ الاسْتِجابَةِ، فَلِهذَا صَارَتِ النَّارُ أَوْلَى بِهِمْ.

وَالجنَّةُ دَارُ المُتَّقِينَ، دَارُ المُؤمِنِينَ، دَارُ أَهْلِ السَّعادَةِ، وإِنْ كَانُوا فُقَراءَ وَإِنْ كَانُوا ضُعَفاءَ، فَالفَقرُ المَالِيُّ لَا قِيمَةَ لَهُ، إنَّمَا الفَقرُ الخَطِيرُ الفَقرُ مِنَ الدِّينِ وَضَعفُ الدِّينِ، هَذَا هُوَ الفَقرُ المُهلِكُ، وَأمَّا فَقرُ المَالِ فَأمْرُهُ سَهلٌ، وَعِلاجُهُ كَثِيرٌ.

وفِي هَذَا الحَدِيثِ وَقَعَ وَهْمٌ مِنْ بَعضِ الرُّوَاةِ فَقَالَ: «إِنَّ النَّارَ يُنْشِئُ اللهُ لهَا أَقْوامًا، لَا تَمتَلِئُ فَيُنشِئُ اللهُ لهَا أَقْوامًا فَيُدخِلهُم النَّارَ» . وَهذَا غَلطٌ؛ لِأنَّ النَّارَ دَارُ العَذَابِ، وهُوَ لَا يُعذِّبُ إلَّا مَنِ اسْتحَقَّ العَذَابَ بِعمَلهِ السَّيِّئِ، وَالنَّارُ لَا تَزَالُ تَقُولُ (هَلْ مِنْ مَزِيدٍ، هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) لِسِعتِهَا وَعَظمَتِها وَعُمْقِها، فَإنَّ عُمقَهَا مَسافَة سَبْعينَ خَرِيفًا مِنْ أَعْلاهَا إِلَى أَسْفلِها، سَبْعِينَ عَامًا إِذَا أُلقِيَ فِيهَا شَيءٌ يَمكُثُ سَبْعينَ عَامًا مَا وَصَلَ قَعْرَها، نَسْألُ اللهَ العَافِيةَ.

فَيضَعُ الجَبَّارُ فِيهَا قَدمَهُ ـ أيْ رِجلَهُ ـ فَيَنزَوِي بَعضُهَا إِلَى بَعضٍ فَتَقولُ: «قَطُّ قَطُّ» يَعنِي: حَسبِي حَسْبِي، يَعنِي: امْتَلئْتُ امْتَلئْتُ.

وَأمَّا الجَنَّةَ فَيَبْقَى فِيهَا فَضلٌ، فَيُنشِئُ اللهُ لَهَا أَقْوَامًا لمْ يَعمَلُوا خَيْرًا قطُّ فَيُدخِلُهم الجنَّةَ بِفَضلِ رَحمَتهِ، وهَذَا هُوَ الشَّاهِدُ لِلْبابِ معَ قَولِهِ:«أَنْتِ رَحْمَتِي» وَلَكنَّهُ انْقَلَبَ عَلَى بَعضِ الرُّوَاةِ، فَجعَلهُ تَبعَ النَّارِ، وَليْسَ الأَمرُ كَذلِكَ.

ص: 186

المَقْصُودُ: إِثْباتُ الرَّحمَةِ فِي هذِهِ النُّصُوصِ؟

فِي المَوضِعَينِ فِي «أَنْتِ رَحْمَتِي» {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)} [الأعراف: 56] وَأَهلُ الجنَّةِ هُمْ أَهْلُ الإِحْسَانِ.

(الشَّيخُ) تَعرَّضَ لهَا الشَّارِحُ؟

(القَارِئُ) فِي تَعْليقٍ عَلَى المَتنِ: وَالشَّارِحُ تَكلَّمَ عَليْهِ، التَّعلِيقُ يَقُولُ: قَالَ مُحبُّ الدِّينِ الخَطِيبُ: «جَزَمَ ابنُ القيِّمِ بِأنَّ هَذَا غَلطٌ مِنَ الرَّاوِي، صَوَابُهُ: «يُنْشِئُ لِلْجَنَّةِ» كَمَا تَقدَّم بِرقَمِ (4850) مِنْ طَرِيقِ عَبدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ أبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه، وَكمَا فِي رَقمِ (7384) مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ عَنْ أَنسٍ، فَتَبيَّنَ مِنهُمَا: أنَّ الرَّاوِيَ هُنَا سَبقَ لَفظُهُ منَ الجنَّةِ إِلَى النَّارِ، وَيُسمُّونَهُ فِي عِلمِ المُصْطلَحِ: المُنْقَلِبَ»

(1)

.

[قَالَ الحَافِظُ ابنُ حَجرٍ رحمه الله فِي «فَتْحِ البَارِي» (13/ 437)]: «قَولُهُ: «فَأمَّا الجنَّةَ فَإنَّ اللهَ لَا يَظلِمُ مِنْ خَلقِهِ أَحدًا وَأنَّهُ يُنْشِئُ لِلنَّارِ مَنْ يَشَاءُ» . قَالَ أبُو الحَسنِ القَابِسيُّ: المَعْرُوفُ فِي هَذَا المَوضِعِ أنَّ اللهَ يُنْشِئُ لِلجنَّةِ خَلْقًا، وَأمَّا النَّارُ فَيضَعُ فِيهَا قَدَمَهُ

قَالَ: وَلَا أَعلَمُ فِي شَيءٍ منَ الأَحَادِيثِ أنَّهُ يُنْشِئُ لِلنَّارِ خَلقًا إلَّا هَذَا. انْتَهَى.

وقَدْ مَضَى فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ «ق» مِنْ طَرِيقِ مُحمَّدِ بنِ سِيرِينَ، عَنْ أبِي هُرَيرَةَ: يُقالُ لِجهَنَّمَ: «هَلِ امْتَلَأْتِ؟ وَتَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ؟ فَيَضَعُ الرَّبُّ عَلَيْهَا قَدَمَهُ، فَتَقُولُ: قَطْ قَطْ» ومِن طَرِيقِ همَّامٍ بِلَفظِ: «فَأَمَّا النَّارُ فَلَا تَمْتَلِئُ حَتَّى يَضَعَ رِجْلَهُ، فَتَقُولُ: قَطْ قَطْ» . فَهُناكَ تَمْتلِئُ وَيَزوِى بَعضُهَا إِلَى بَعْضٍ، وَلَا يَظلِمُ اللهُ

(1)

«فتح الباري» (13/ 444، ح 7449).

ص: 187

مِنْ خَلقِهِ أَحَدًا.

وَتَقدَّمَ هُناكَ بَيَانُ اخْتِلافِهِم فِي المُرَادِ بِالقَدَمِ مُسْتوْفًى، وَأَجَابَ عِيَاضٌ بِأنَّ أَحدَ مَا قِيلَ فِي تَأْوِيلِ القَدمِ: أنَّهُم قَومٌ تَقدَّمَ فِي عِلمِ اللهِ أنَّهُ يَخلُقُهمْ، قَالَ: فَهذَا مُطَابقٌ لِلْإنشَاءِ، وَذِكرُ القَدمِ بَعدَ الإِنْشاءِ يُرجِّحُ أنْ يَكُونَا مُتَغايِرَينِ.

وَعنِ المُهلَّبِ قَالَ: فِي هذِهِ الزِّيَادةِ حُجَّة لِأهْلِ السُّنةِ فِي قَولِهِم: إنَّ للهِ أنْ يُعذِّبَ مَنْ لمْ يُكلِّفْهُ لِعِبادَتهِ فِي الدُّنْيَا؛ لِأنَّ كلَّ شَيءٍ مِلكُهُ، فلَوْ عَذَّبهُم لَكَانَ غَيرَ ظَالمٍ. انْتَهَى.

وَأهْلُ السُّنةِ إنَّمَا تَمسَّكُوا فِي ذلِكَ بِقَولِهِ تَعَالَى: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الأنبياء: 23]، و {يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)} [الحج: 18] وَغَيرِ ذلِكَ، وهُوَ عِنْدَهُمْ مِنْ جِهةِ الجَوَازِ، وَأمَّا الوُقُوعُ فَفِيهِ نَظرٌ.

وَلَيسَ فِي الحَدِيثِ حجَّةٌ؛ لِلِاخْتِلافِ فِي لَفظِهِ، وَلِقبُولِهِ التَّأْوِيلَ. وقدْ قَالَ جَماعَةٌ منَ الأَئِمَّةِ: إنَّ هَذَا المَوضِعَ مَقْلوبٌ، وَجَزمَ ابنُ القَيِّمِ بأَنَّهُ غَلطٌ، وَاحْتجَّ بِأنَّ اللهَ تَعَالَى أَخْبرَ بِأنَّ جَهنَّمَ تَمْتلِئُ مِنْ إِبْليسَ وَأَتْباعِهِ.

وَكَذا أَنْكرَ الرِّوايَةَ شَيخُنَا البُلْقينِيُّ وَاحْتجَّ بِقَولهِ: {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)} [الكهف: 49] ثمَّ قَالَ: وَحَملُهُ عَلَى أَحْجارٍ تُلقَى فِي النَّارِ أَقْربُ مِنْ حَملِهِ عَلَى ذِي رُوحِ يُعذَّبُ بِغَيرِ ذَنبٍ. انْتَهَى.

وَيُمكِنُ الْتِزامُ أنْ يَكُونُوا مِنْ ذَوِي الأَرْواحِ، وَلَكنْ لَا يُعذَّبُونَ كَمَا فِي الخَزَنةِ، وَيَحتَملُ أنْ يُرَادَ بِالإِنْشاءِ ابْتِداءُ إِدْخالِ الكُفَّارِ النَّارَ، وَعبَّرَ عَنِ ابْتِداءِ الإِدْخالِ بِالإِنْشاءِ، فهُوَ إِنْشاءُ الإِدْخَالِ، لَا الإِنْشاءُ بِمَعنَى ابْتِداءِ الخَلقِ؛ بِدَلِيلِ قَولِهِ:«فَيُلْقَوْنَ فِيهَا، وَتَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ» وَأَعادَها ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثمَّ قَالَ: «حَتَّى

ص: 188

يَضَعَ فِيهَا قَدَمَهُ، فَحِينَئِذٍ تَمْتَلِئُ». فَالَّذِي يَملَؤُها حَتَّى تَقُولَ: حَسْبِي هُوَ القَدمُ، كَمَا هُوَ صَرِيحُ الخَبرِ، وَتَأوِيلُ القَدمِ قدْ تَقدَّمَ، وَاللهُ أَعلَمُ.

وَقدْ أَيَّدَ ابنُ أَبِي جَمرَةَ حَملَهُ عَلَى غَيرِ ظَاهِرهِ بِقَولِهِ تَعَالَى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)} [المطففين: 15]؛ إذْ لَو كَانَ عَلَى ظَاهِرهِ لَكَانَ أَهْلُ النَّارِ فِي نَعِيمِ المُشَاهَدةِ، كَمَا يَتَنعَّمُ أَهْلَ الجَنةِ بِرُؤيَةِ رَبِّهمْ؛ لِأنَّ مُشَاهدَةَ الحَقِّ لَا يَكُونُ مَعَها عَذَابٌ.

وقَالَ عَيَاضٌ: يَحتَمِلُ أنْ يَكُونَ مَعنَى قَولِهِ عِنْدَ ذِكرِ الجَنَّةِ: «فَإِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مِنْ خَلْقِهِ أَحَدًا» أنَّهُ يُعذِّبُ مَنْ يَشَاءُ غَيرَ ظَالِمٍ لَهُ، كَمَا قَالَ:«أُعَذِّبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ» ، وَيَحتَملُ أنْ يَكُونَ رَاجِعًا إِلَى تَخَاصُمِ أَهْلِ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَإنَّ الَّذِي جَعلَ لِكُلٍّ مِنْهُما عَدْل وَحِكمَة، وَبِاسْتِحقَاقِ كُلٍّ مِنهُم مِنْ غَيرِ أنْ يَظلِمَ أَحدًا.

وَقَالَ غَيرُهُ: يَحتَملُ أنْ يَكُونَ ذلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّلمِيحِ بِقَولِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30)} [الكهف: 30]؛ فَعبَّرَ عَنْ تَركِ تَضْيِيعِ الأَجرِ بِتَركِ الظُّلمِ، وَالمُرَادُ: أنَّهُ يَدخُلُ مِنْ أَحْسَنِ الجنَّةِ الَّتِي وَعدَ المُتَّقِينَ بِرَحمَتهِ، وَقدْ قَالَ لِلجَنَّةِ:«أَنْتِ رَحْمَتِي» ، وَقَالَ:{إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)} [الأعراف: 56]، وَبِهذَا تَظهَرُ مُنَاسَبةُ الحَدِيثِ لِلتَّرجَمةِ وَالعِلمِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى. وَفِي الحَديثِ دَلَالةٌ عَلَى اتِّسَاعِ الجَنةِ وَالنَّارِ». [انتهى كلامه].

قَالَ ابْنُ بَازٍ رحمه الله: وَالمَقْصُودُ مِنْ هَذَا كلِّهِ: أنَّ اللَّفْظَ هَذَا لَا شَكَّ أنَّهُ وَهْمٌ، وَانْقلَبَ عَلَى الرَّاوِي بِلَا شَكٍّ، وَتَدلُّ عَليْهِ الرِّوَايَةُ الأُخْرَى المَحْفُوظَةُ:«فَأَمَّا الجَنَّةُ -فِيهَا فَضْلٌ- فَيُنْشِئُ اللهُ لَهَا أَقْوَامًا» ، وهَذَا هُوَ المُطَابقُ لِرَحمَتهِ وَفَضلِهِ

ص: 189

وَإِحْسانِهِ، وَأمَّا النَّارُ فَلَا يَسْتحِقُّهَا إلَّا مَنْ سَبقَ مِنهُ أَعْمالٌ تُوجِبُ ذلِكَ، وهَذَا مُقْتضَى رَحْمتِهِ وَعَدلِهِ سبحانه وتعالى.

وَأمَّا القَدمُ فَلَا حَاجَةَ إِلَى التَّأْويلِ، وَقَولُ المُؤوِّلِينَ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ بَاطِلٌ، وَلَيسَ هُنَاكَ تَأْويلٌ لَهُ، بِخِلافِ مَا هُوَ عَلَيهِ، فهُوَ القَدَمُ المَعْرُوفُ -قَدمُ اللهِ عز وجل وفِي اللَّفظِ الآخَرِ:«رِجْلَهُ» . فَإِحدَى الرِّوَايَتيْنِ تُفسِّرُ الأُخْرَى، فهُوَ يُوصَفُ بِالقَدمِ كَمَا يُوصَفُ بِاليَدِ سبحانه وتعالى، وَبِالأَصَابعِ وَالسَّمعِ وَالبَصرِ، فهُوَ سبحانه وتعالى لَهُ قَدمٌ وَلَهُ يَدٌ، وَلهُ أَصَابعُ، وَلهُ نَفْسٌ، كُلُّها تَلِيقُ بِهِ سبحانه وتعالى لَا يُشابِهُ فِيهَا خَلْقَهُ جل وعلا، فَكَمَا أنَّ اليَدَ وَالسَّمعَ وَالبَصَرَ وَبَقيَّةَ الصِّفَاتِ لَا يُشَابهُهُ فِيهَا شَيءٌ وَهِي حَقٌّ، فَهكَذَا لَفظُ:«القَدَمِ» وَ «الرِّجْلِ» وَصفٌ لَائقٌ بِاللهِ لَا يُشَابِههُ فِيهِ شَيءٌ سبحانه وتعالى.

وَأمَّا التَّأْويلُ فَبَاطلٌ، التَّأْويلُ بِأنَّهُم خَلقٌ يُلْقَونَ فِي النَّارِ هَذَا لَا وَجهَ لَهُ.

مَا قَالهُ عِياضٌ، بِأنَّ أَحدَ مَا قِيلَ فِي تَأْويلِ القَدمِ أنَّهُم قَومٌ تَقدَّمَ فِي عِلمِ اللهِ أنَّهُ يَخْلُقهُم؟

عَلَى كلِّ حَالٍ بَاطِلٌ، كَلَامُ عِيَاضٍ بَاطِلٌ، كَلَامُ عِيَاضٍ أَوْ غَيرِهِ مِمَّنْ تَأوَّلَ الحَدِيثَ، كلُّهُ بَاطِلٌ، وَالحَقُّ مَا قَالَهُ أَئمَّةُ السُّنَّةِ مِنْ إِثْبَاتِ القَدَمِ للهِ، وَأنَّهُ المُرَادُ، مَا يَضرُّهُ سُبْحانَهُ شَيءٌ (قَدَمَهُ فِي النَّارِ) لَا يَضرُّهُا شَيءٌ، هُوَ الخَالِقُ لِلنَّارِ وَالقَادِرُ عَلَيْها وَالمُتصَرِّفُ فِيهَا، فَلَا يَضرُّهُ شَيءٌ مِنْ خَلقِهِ سبحانه وتعالى.

أَحْسنَ اللهُ إِليْكَ، قَولُهُ:«فَإِذَا رَأَيْتُهُ وَقَعْتُ سَاجِدًا» هَذَا فِي الرُّؤيَةِ؟

هَذَا صَرِيحُ القُرْآنِ، نَعمْ.

* * *

ص: 190

‌بابُ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا} [فاطر:

41]

7451 -

حَدَّثَنَا مُوسَى، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: جَاءَ حَبْرٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ اللهَ يَضَعُ السَّمَاءَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالأَرْضَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالجِبَالَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالشَّجَرَ وَالأَنْهَارَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَسَائِرَ الخَلْقِ عَلَى إِصْبَعٍ، ثُمَّ يَقُولُ بِيَدِهِ: أَنَا المَلِكُ. فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام: 91]

(1)

.

سَبقَ هَذَا، نَعَمْ، وَفِيهِ إِثْباتُ الأَصَابِعِ، خِلَافًا لِلْجَهمِيَّةِ وَالمُعتَزلَةِ وَمَنْ أوَّلَ الصِّفَاتِ، هذِهِ الأَخْبَارُ شذًى فِي حُلُوقِهِم وَعَليْهِم فِي النَّارِ -نَسْألُ اللهَ العَافِيةَ- لِفَسادِ القُلُوبِ، وَفَسادِ الضَّمَائرِ، وَسُوءِ العَقَائدِ يَأْنفُونَ مِنْ هذِهِ الأَخبَارِ؛ لِأنَّ قُلُوبَهُمْ تَنفِرُ مِنْهَا، نَسْألُ اللهَ العَافِيةَ.

اللهُ جل وعلا جَعلَ فِي قُلُوبِ أَهْلِ السُّنَّةِ البَصِيرَةَ وَالهُدَى وَالنُّورَ؛ حَتَّى

(1)

ورواه مسلم (2786).

ص: 191

قَبِلَتِ الحَقَّ، وَأَقرَّتْ بِهِ وَدَعتْ إِليْهِ، وَأَنْكرَتْ عَلَى مَنْ خَالَفهُ.

وَأيُّ مَحْذُورٍ فِي وَصفِهِ سُبْحانَهُ بِمَا أَخْبرَ بِهِ عَنْ نَفْسهِ: مِثلِ يَدهِ، وَأَصَابِعهِ، وَقَدمِهِ، وَسَمعِهِ، وَبَصرِهِ، وَغَيرِ ذَلِك؟!

هَذِه الصِّفَاتُ هِيَ الَّتِي اقْتَضتْ أنَّهُ الحَكِيمُ، وَأنَّهُ الإِلَهُ الحقُّ، وَأنَّهُ المُستَحِقُّ لِلعِبَادةِ، فَإِلهٌ لَيسَ لَهُ صِفَاتٌ عَدمٌ؛ وَلِهذَا قَالَ أَئمَّةُ السَّلفِ: إنَّ مَدَارَ قَولِ الجَهْميَّةِ وَمَنْ سَارَ عَلَى نَهْجهِمْ مَدَارُهَا أنَّهُم يَقُولُونَ: لَا شَيءَ، لَيسَ هُناكَ إِلهٌ يُعْبَدُ؛ لِأنَّ مَعْناهُ النَّفيُ وَالتَّعْطيلُ، نَسْألُ اللهَ العَافِيةَ.

أَحْسنَ اللهُ إِليْكَ، التَّرْجمَةُ {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا} [فاطر: 41] وَالحَدِيثُ فِي إِثْباتِ الأَصَابعِ؟

قَولُهُ: «أَنَا المَلِكُ، أَيْنَ الجَبَّارُونَ؟» يَعنِي: هُوَ الَّذِي أَمْسَكَهَا كَمَا فِي رِوَايَةٍ أُخرَى: «يَطْوِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ

» إلخ. إِشَارةٌ إِلَى بَقيَّةِ الرِّوَايَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أنَّهُ المُتَصرِّفُ فِيهَا سُبْحانَهُ، وَلَو تَركَهَا لَهَلكَتْ، أيِ: انْدَكَّتْ، وَهُو عَادَتُهُ أنْ يُشِيرَ بِالرِّوَايةِ إِلَى الرِّوَايَاتِ الأُخْرَى. ثمَّ هُوَ الَّذِي جَعَلَ هُوَ الَّذِي أَمْسَكَ وَجَعلَهُ ....

(1)

يَومَ القِيَامةِ، كمَا أَمْسكَها فِي الدُّنْيَا.

أَحْسَنَ اللهُ إِليْكَ، التَّردُّدُ «وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ» نِسبَتُهُ للهِ؟

هَذَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه: «إِنَّ اللهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ

(1)

كلمة غير واضحة لعلها: في يده.

ص: 192

عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ المُؤْمِنِ، يَكْرَهُ المَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ، ولَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ»

(1)

. تَردُّدٌ يَلِيقُ بِجَلالِهِ وَعَظمَتهِ، لَيسَ مِنْ جِنسِ تَردُّدِنَا، كَسَائرِ الصِّفَاتِ، لَيسَ تَردُّدَ شَكٍّ وَلَا جَهلٍ، وَإنَّمَا هُوَ لِحِكمَةٍ بَالِغةٍ سبحانه وتعالى.

تَفْسِيرُهُ بِأنَّهُ تَعَارُضُ إِرَادَتَينِ؟

الأَولَى -مِثلُ مَا تَقدَّمَ- يَلِيقُ بِاللهِ، اللهُ أَعلَمُ بِكَيفِيَّتهِ، لَا نَعْلمُ كَيفِيَّتَهُ، لَكِن لَيسَ مِثلَ تَردُّدِنَا؛ لِأنَّ تَردُّدَنا يَكُونُ عَنْ جَهلٍ وَعَنِ اشْتِباهٍ عِنْدَنَا وَشكٍّ، أمَّا هُوَ سُبْحانَهُ فهُوَ العَلِيمُ بِكلِّ شَيءٍ وَهُوَ القَادِرُ عَلَى كلِّ شَيءٍ وَلَا يَغِيبُ عَنْ عِلمِهِ شَيءٌ سبحانه وتعالى. فَتَردُّدُهُ لِمَعنًى آخَرَ لَيسَ مِنْ جِنسِ حَالِنَا، اللهُ أَعْلمُ بِهِ هوُ، وَأَعلَمُ بِكيَفيَّةِ صِفَاتهِ سبحانه وتعالى.

* * *

(1)

رواه البخاري (6502).

ص: 193

‌بابُ مَا جَاءَ فِي تَخْلِيقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَغَيْرِهَا مِنَ الخَلَائِقِ

وَهُوَ فِعْلُ الرَّبِّ تبارك وتعالى وَأَمْرُهُ، فَالرَّبُّ بِصِفَاتِهِ وَفِعْلِهِ وَأَمْرِهِ، وَهُوَ الخَالِقُ المُكَوِّنُ، غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَمَا كَانَ بِفِعْلِهِ وَأَمْرِهِ وَتَخْلِيقِهِ وَتَكْوِينِهِ، فَهُوَ مَفْعُولٌ مَخْلُوقٌ مُكَوَّنٌ

7452 -

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، أَخْبَرَنِي شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ، عَنْ كُرَيْبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: بِتُّ فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ لَيْلَةً، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَهَا؛ لِأَنْظُرَ كَيْفَ صَلَاةُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِاللَّيْلِ، فَتَحَدَّثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ أَهْلِهِ سَاعَةً ثُمَّ رَقَدَ، فَلَمَّا كَانَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ، أَوْ بَعْضُهُ، قَعَدَ فَنَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ فَقَرَأَ:{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} إِلَى قَوْلِهِ {لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 190]، ثُمَّ قَامَ فَتَوَضَّأَ وَاسْتَنَّ، ثُمَّ صَلَّى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، ثُمَّ أَذَّنَ بِلَالٌ بِالصَّلَاةِ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى لِلنَّاسِ الصُّبْحَ

(1)

.

(1)

ورواه مسلم (763).

ص: 194

وَهذَا يُبيِّنُ أنَّ جَمِيعَ الأَشْيَاءِ كُلِّها مَخْلوقَةٌ للهِ سبحانه وتعالى، فَاللهُ هُوَ الخَالِقُ، وَمَا سِوَاهُ مَخْلوقٌ؛ وَلِهذَا قَالَ عز وجل {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62)} [الزمر: 62]، {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} [فاطر: 3]. هَذَا مُرَادُ البُخارِيِّ رحمه الله: أنَّ جَمِيعَ الأَشْيَاءِ كُلِّها مَفْعُولَاتٌ مَخْلوقَةٌ للهِ عز وجل، منَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَالجِبَالِ وَالبِحَارِ وَبَنِي آدَمَ وَالجِنِّ وَالمَلائِكَةِ وَغَيرِ ذَلِك، فَلهُ الخَلقُ وَلَهُ الأَمرُ، فَمَا كَانَ مِنْ تَخْلِيقهِ وَأَمرِهِ فِي هَذَا العَالَمِ فهُوَ مَخْلوقٌ، وَصِفاتُهُ وَكَلامُهُ كَذاتِهِ غَيرُ مَخْلوقٍ، فهُوَ الخَلَّاقُ سبحانه وتعالى.

وَاللهُ اسْمٌ لِلذَّاتِ وَالصِّفَاتِ جَمِيعًا، اسْمٌ لِلذَّاتِ الَّتِي هِيَ مَوصُوفَةٌ بِالصِّفَاتِ، مَوصُوفَةٌ بِأنَّها خَالِقةٌ، مَوصُوفَةٌ بِأنَّهَا رَازِقةٌ، مَوصُوفَةٌ بِالرِّضَا وَالغَضَبِ وَالعِلمِ وَالسَّمعِ وَالبَصرِ وَالكَلَامِ وَغَيرِ ذلِك، وَاللهُ بِصِفاتِهِ هُوَ الخَالِقُ، وَمَا سِوَاهُ منَ المَفْعولَاتِ وَالمَوْجُودَاتِ مَخْلُوقٌ لَهُ سبحانه وتعالى فَلَهُ الخَلقُ وَلهُ الأَمْرُ، فَالأَمرُ أَمرُهُ وَالخَلْقُ خَلقُهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف: 54].

وَالأَمرُ يُطلَقُ عَلَى الكَلَامِ {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} [يس: 82]، وَيُطلَقُ عَلَى أَشْياءَ أُخْرَى منَ الشُّؤونِ، فَمَا كَانَ منَ القَولِ فهُوَ كَلَامُهُ وَصِفاتُهُ، وَمَا كَانَ منَ المَخْلوقَاتِ فهُوَ مَخْلُوقٌ.

وكَذلِكَ هَذَا الحَدِيثُ العَظِيمُ، حَدِيثُ ابْنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما فِي نَومِهِ عِنْدَ خَالَتهِ مَيْمُونةَ رضي الله عنها؛ لِيَنظُرَ صَلاةَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فِيهِ فَوائِدُ:

مِنْهَا: جَوَازُ نَومِ الصَّبيِّ عِنْدَ الرَّجلِ وَأَهلِهِ إِذَا كَانَتِ المَرأَةُ مَحْرمًا لهُ؛ لِيَنظُرَ

ص: 195

إِذَا كَانَ هُناكَ مَصْلحَةٌ شَرعِيَّةٌ، فَإنَّ ابْنَ عبَّاسٍ رضي الله عنهما كَانَ لمْ يَبلُغِ الحُلُمَ حِينَ مَاتَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ كَبِيرًا بِلْ نَاهَزَ الاحْتِلامَ

(1)

، وَأقرَّهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أنْ يَنَامَ عِنْدَ خَالَتهِ مَيمُونَةَ رضي الله عنها.

وَفِيهِ منَ الفَوَائدِ: أنَّ الرَّجُلَ يَتَحدَّثُ مَع أَهلِهِ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشهِ، يَتَحدَّثُ مَع أَهلِهِ وَيُؤنِسُهمْ، وَلَا يَكُونُ حَرِيصًا عَلَى النَّومِ مُبَاشَرةً، بلْ يَتَحدَّثُ مَع أَهلِهِ وَيُؤنِسُهم، وَيَتكلَّمُ مَعَهُم بِمَا يُنَاسِبُ المَقَامَ إِينَاسًا وَإِحْسَانَ مُعَاشَرةٍ، ثمَّ يَنَامُ بَعدَ ذلِكَ.

وَفِيهِ منَ الفَوَائدِ: أنَّهُ إِذَا قَامَ منَ النَّومِ مِنْ آخِرِ اللَّيلِ يَقْرأُ هذِهِ الآيَةَ؛ وَلِهذَا رَفعَ بَصرَهُ إِلَى السَّمَاءِ عليه الصلاة والسلام وَقَرأَ: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190)} [آل عمران: 190] وَجَاءَ فِي رِوَايةٍ: أنَّهُ كَمَّلَ الآيَاتِ إِلَى أنْ خَتَمهَا إِلَى آخِرِ السُّورَةِ، وَهِيَ آيَاتٌ عَظِيمَةٌ يُسْتحَبُّ لِمنْ قَامَ منَ النَّومِ أنْ يَقْرأَهَا، كَمَا قَرَأهَا النَّبيُّ عليه الصلاة والسلام، لِمَا فِيهَا منَ العِظَةِ وَالذِّكرَى وَالتَّذْكيرِ بِآيَاتِ اللهِ جل وعلا وَذِكرِ الجَنَّةِ وَالنَّارِ وَأَهلِ الجنَّةِ وَأَهلِ النَّارِ.

وَفِيهِ مِنَ الفَوَائدِ: أنْ يَسْتَنَّ، إِذَا قَامَ منَ النَّومِ يَسْتَنُّ، يَعنِي: يَشُوصُ فَاهُ بِالسِّوَاكِ، يَتَسوَّكُ عِنْدَ قِيَامهِ مِنَ النَّومِ، عِنْدَ صَلَاتهِ، عِنْدَ وُضُوئهِ، قَالَ حُذَيفَةُ رضي الله عنه:«كَانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَامَ منَ اللَّيلِ يَشُوصُ فَاهُ بِالسِّوَاكِ»

(2)

. وَفِي الحَدِيثِ: «لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ»

(3)

، «وَمَعَ كُلِّ وُضُوءٍ»

(4)

.

(1)

أي قارب الاحتلام، كان عمره ثلاثة عشر عامًا.

(2)

رواه البخاري (245)، ومسلم (255)(46).

(3)

رواه مسلم (252)(42).

(4)

رواه أحمد في «المسند» (7513)، والبخاري قبل حديث (1934).

ص: 196

وَفِيهِ: أنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَتَهجَّدُ منَ اللَّيْلِ، إِذَا كَانَ ثُلُثُ اللَّيْلِ أوْ قَبلَهُ بِقَلِيْلٍ أوْ بَعدَهُ بِقَلِيْلٍ عليه الصلاة والسلام، وَيُطِيلُ القِرَاءَةَ، وَيُطِيلُ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ وَيُصلِّي إِحْدَى عَشْرةَ فِي الغَالِبِ، وَرُبَّما صَلَّى ثَلَاثَ عَشْرةَ، وَرُبَّما صَلَّى تِسعًا، وَرُبَّما صَلَّى سَبعًا، عَلَى حَسبِ التَّيسِيرِ.

إِذَا اسْتَعملَ الصَّابُونَ وَغَسلَ فَمَهُ بِالصَّابُونِ بَدلَ السِّوَاكِ؟

الصَّابُونُ لَا بَأسَ، الصَّابُونُ أوْ غَيرُ الصَّابُونِ لَا بَأسَ، لَكِنِ السُّنَّةُ السِّوَاكُ عِنْدَ الوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ، السِّوَاكُ، ولَكنِ الصَّابُونُ وَمَا أَشْبَههُ -مِثلُ الفُرشَةِ وَأَشْباهِهَا- هَذَا مِنْ بَابِ تَنظِيفِ الأَسْنَانِ فِي الأَوْقَاتِ المُنَاسِبةِ، أمَّا عِنْدَ الصَّلَاةِ وَعِنْدَ الوُضُوءِ فَالسُّنةُ السِّوَاكُ.

قَبلَ الوُضُوءِ؟

نَعمْ، عِنْدَ المَضْمضَةِ وَعِنْدَ بَدءِ الصَّلَاةِ.

* * *

ص: 197

‌بابُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ} [الصافات:

171]

7453 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«لَمَّا قَضَى اللهُ الخَلْقَ، كَتَبَ عِنْدَهُ فَوْقَ عَرْشِهِ: إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي»

(1)

.

فِي اللَّفظِ الآخَرِ: «كَتَبَ كِتَابًا عِنْدَهُ فَوْقَ العَرْشِ سبحانه وتعالى: إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي»

(2)

، وهَذَا مِمَّا يَدعُو إِلَى الرَّجَاءِ وَحُسنِ الظَّنِّ بِاللهِ عز وجل، وَأنَّ رَحمَتهُ تَغلِبُ غَضَبهُ، وَأنَّ عَفْوهُ يَغلِبُ انْتِقامَهُ، وهَذَا مِمَّا يُوجِبُ حُسنَ الظَّنِّ بِاللهِ، وَالرَّجَاءَ وَعَدمَ القُنُوطِ، وفِي الحَدِيثِ: «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي وَدَعَانِي

»

(3)

.

وَفِي الحَدِيثِ الآخَرِ يَقُولُ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إلَّا وَهُوَ

(1)

ورواه مسلم (2751).

(2)

وواه البخاري (7422).

(3)

رواه البخاري (7405)، ومسلم (2675)، ولفظة:«ودعاني» ليست عند البخاري ولا مسلم.

ص: 198

يُحْسِنُ بِاللهِ الظَّنَّ». أَخْرجَهُ مُسلِمٌ فِي «صَحِيحِهِ»

(1)

.

7454 -

حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، سَمِعْتُ زَيْدَ بْنَ وَهْبٍ، سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، حَدَّثَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ الصَّادِقُ المَصْدُوقُ:«أَنَّ خَلْقَ أَحَدِكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَهُ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَهُ، ثُمَّ يُبْعَثُ إِلَيْهِ المَلَكُ فَيُؤْذَنُ بِأَرْبَعَةِ كَلِمَاتٍ، فَيَكْتُبُ: رِزْقَهُ، وَأَجَلَهُ، وَعَمَلَهُ، وَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ، ثُمَّ يَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ حَتَّى لَا يَكُونُ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُ النَّارَ، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ، فَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا»

(2)

.

(الشَّيخُ): فِي النُّسخَةِ الأُخْرَى: (بِأَرْبَعَةِ كَلِمَاتٍ) بِالتَّاءِ؟

(القَارِئُ) قَالَ فِي «عُمْدة القَارِي» : «بَأَرْبَعِ» .

(الشَّيخُ) نبَّه عَلَيهِ الشَّارِحُ أوْ مَا نبَّهَ، العَينِيُّ نبَّهَ؟ لَعلَّهَا رِوَايةٌ، المَعْرُوفُ فِي الرِّوَايةِ:«أَرْبَعِ كَلِمَاتٍ» بِالتَّأنِيثِ.

(1)

رواه مسلم (2877)(81).

(2)

ورواه مسلم (2643).

ص: 199

(الشَّيخُ): ضَبَطَها (فيَكْتُبُ أو فيُكتَبُ) مَا ضَبطَهَا أَحَدُهمَا، العَينِيُّ أوِ الحَافِظُ؟

إنْ كَانَ العَطفُ عَلَى «شَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ» يَقْتضِي الرَّفعَ، «فيُكْتَبُ» . يَصحُّ هَذَا وهَذَا «يكْتبُ» مَبنِيٌّ لِلمَعْلومِ مثلُ (قُضِي الأَمرُ وَقَضَى اللهُ الأَمرَ) وَيَجُوزُ هذَا.

وَشقِيٌّ أوْ سَعِيدٌ هُنَا عَفَا اللهُ عَنكَ؟

وشَقِيٌّ خَبرُ مُبتَدأٍ مَحْذوفٍ، وهُوَ شَقِيٌّ.

وَالمَعنَى: أنَّ النَّاس مُيَسَّرُونَ لِمَا خُلِقُوا لَهُ، فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَسبِقُ عَليْهِ عَملُ أَهْلِ النَّارِ -وَلوْ كَانَ فِي آخِرِ حَيَاتهِ- وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ كَذلِكَ، كَمَا ثَبتَ فِي «الصَّحِيحَينِ» مِنْ حَدِيثِ عَليٍّ رضي الله عنه: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فِي بَعضِ خَرجَاتِهِ مَع الجَنائِزِ عِنْدَ القَبرِ وَهُمْ جَالِسُونَ قَالَ: «مَا مِنْكُم مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ الجَنَّةِ وَمَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ» . قَالُوا: فَفِيمَ العَملُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «اعْمَلُوا؛ فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ، أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ» ، ثمَّ تَلَا قَولَهُ تَعَالَى:{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)} [الليل: 5 - 10]

(1)

.

وَفِي الرِّوَايةِ الأُخْرَى فِي الحَدِيثِ الآخَرِ: «فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ»

(2)

؛ لِأنَّ بَعضَ النَّاسِ قَدْ يَعمَلُ بِعَملِ أَهْلِ الجَنَّةِ فِيمَا يَبدُو لِلنَّاسِ، وفِي البَاطِنِ بِخِلافِ ذَلِك،

(1)

رواه البخاري (4945).

(2)

رواه البخاري (2898)، ومسلم (112)(179).

ص: 200

كَأهْلِ النِّفَاقِ، وَبَعضَ النَّاسِ يَعمَلُ بِعَملِ أَهْلِ النَّار فِي ظَاهِرِ مَا يَرَاهُ النَّاسُ، وَيَكُونُ قَدِ ابْتُلِيَ بِالشُّرُورِ، ثمَّ يَمُنُّ اللهُ عَليْهِ بِالتَّوبَةِ وَيَرجِعُ إِلَى اللهِ، كَمَا هُوَ وَاقِعٌ مِنْ جَمٍّ غَفِيرٍ مِنَ النَّاسِ الَّذينَ أَسْلمُوا فِي آخِرِ حَيَاتِهِم.

(الشَّيخُ): تَكلَّمَ الشَّارِحُ عَلَى آخِرِ الحَدِيثِ أوِ العَينِيُّ؟

[قَالَ الإِمَامُ العَينِيُّ رحمه الله فِي «عُمدَة القَارِي» (25/ 140)]: «قَوْله: «إلَّا ذِرَاعٌ» المُرَادُ بِهِ: التَّمَسُّكُ بِقُرْبِهِ إِلَى المَوْتِ.

وَفِيهِ: أَنَّ الْأَعْمَال منَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئاتِ أَمَارَاتٌ لَا مُوجِبَاتٌ، وَأَنَّ مَصِيرَ الْأَمرِ فِي الْعَاقِبَةِ إِلَى مَا سَبقَ بِهِ الْقَضَاءُ وَجرَى بِهِ التَّقْدِيرُ». [انتهى كلامه].

قَالَ ابْنُ بَازٍ رحمه الله: يُمكِنُ نبَّهَ فِي القَدَرِ.

7455 -

حَدَّثَنَا خَلَّادُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ ذَرٍّ، سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«يَا جِبْرِيلُ، مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَزُورَنَا أَكْثَرَ مِمَّا تَزُورُنَا» ، فَنَزَلَتْ:{وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا} [مريم: 64] إِلَى آخِرِ الآيَةِ، قَالَ: كَانَ هَذَا الجَوَابَ لِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.

وَهذَا [الحَدِيثُ] احْتَجَّ بِهِ العُلَماءُ عَلَى اسْتِحْبابِ اسْتِضافَةِ الأَخْيارِ وَطَلبِ

ص: 201

مَجِيئِهِم، وَطَلبِ الاسْتِكثَارِ مِنْ زَيارَتِهِم؛ لِأنَّ زِيَارَةَ الأَخْيارِ لَا تَأتِي إلَّا بِخَيرٍ، منَ التَّذكِيرِ بِاللهِ وَالتَّوجِيهِ إِليْهِ وَالتَّعَاوُنِ عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى، وَمَعلُومٌ أنَّ جِبْرائِيلَ عليه السلام يَأتِي بِالخَيرِ وَبِالوَحيِ؛ وَلِهذَا قَالَ عليه الصلاة والسلام:«مَا مَنَعَكَ أَنْ تَزُورَنَا أَكْثَرَ مِمَّا تَزُورُنَا» ؛ فَأَنْزَلَ اللهُ الآيَةَ، وَأنَّ المَلائِكَةَ بِأمْرِ اللهِ لَا يَتَصرَّفُونَ إلَّا بِأمْرِهِ سبحانه وتعالى؛ وَلِهذَا قَالَ عز وجل:{وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64)} [مريم: 64]» سبحانه وتعالى.

7456 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَرْثٍ بِالْمَدِينَةِ وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى عَسِيبٍ، فَمَرَّ بِقَوْمٍ مِنَ اليَهُودِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: سَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تَسْأَلُوهُ، فَسَأَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ

(1)

، فَقَامَ مُتَوَكِّئًا عَلَى العَسِيبِ وَأَنَا خَلْفَهُ فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ، فَقَالَ:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85] فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: قَدْ قُلْنَا لَكُمْ لَا تَسْأَلُوهُ

(2)

.

وَهذَا مِنَ الأَمرِ المَخْلُوقِ، يَعنِي: مَخْلوقَاتِ الرَّبِّ الَّتِي يَعْلمُهَا سُبْحانَهُ؛

(1)

كذا في «الفتح» ، وفي «عمدة القارئ» وفي غيره:«لَا تَسْأَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ، فَسَأَلُوهُ» .

(2)

ورواه مسلم (2794).

ص: 202

لِأنَّ الأَمرَ وَالإِذْنَ وَنَحوَ ذلِكَ تُطلَقُ عَلَى المَخْلوقَاتِ وَالمَأْمُورَاتِ، وَتُطْلَقُ عَلَى الكَلَامِ.

فَالكَلَامُ غَيرُ مَخْلُوقٍ، وَالمَخْلوقَاتُ مَفْعُولَاتٌ مَخْلوقَةٌ، وَالمَعنَى: أنَّ مِنْ مَخْلوقَاتِهِ الَّتِي يَعلَمُهَا سُبْحانَهُ وهُوَ الحَاكِمُ فِيهَا وَالمُتصَرِّفُ فِيهَا.

بِخِلافِ الأَمرِ فِي الآيَةِ؟

بِخِلافِ الأَمرِ فِي الآيَةِ وهُوَ القَولُ.

7457 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«تَكَفَّلَ اللهُ لِمَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِهِ، لَا يُخْرِجُهُ إِلَّا الجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ وَتَصْدِيقُ كَلِمَاتِهِ، بِأَنْ يُدْخِلَهُ الجَنَّةَ، أَوْ يَرْجِعَهُ إِلَى مَسْكَنِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ، مَعَ مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ»

(1)

.

اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ، هَذَا فَضلٌ عَظِيمٌ لِلمُجَاهِدينَ، اللهُ أَكْبَرُ.

7458 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ

(1)

ورواه مسلم (1876).

ص: 203

صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: الرَّجُلُ يُقَاتِلُ حَمِيَّةً، وَيُقَاتِلُ شَجَاعَةً، وَيُقَاتِلُ رِيَاءً، فَأَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللهِ؟ قَالَ:«مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ العُلْيَا، فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ»

(1)

.

يَعنِي: الجِهَادَ الشَّرعِيَّ، مَنْ قَاتَلَ بِهذِهِ النِّيَّةِ فِي طَاعَةِ اللهِ وَسَبِيلِهِ وَإِخْراجِ النَّاسِ منَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَنَشرِ دَينِ اللهِ، لَا رِيَاءً وَلَا سُمْعةً وَلَا حَمِيَّةً، هَذَا هُوَ المُجاهِدُ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَلهُ الأَجرُ العَظِيمُ وَالفَضلُ العَظِيمُ.

وَالجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَخَصُّ منَ الشَّهَادةِ، وَالشَّهَادةُ أَوْسَعُ (المَطْعُونُ، وَالمَبْطونُ، وَالغَرِيقُ، وَالهَدْمُ) كُلُّ هَؤُلاءِ شُهَداءُ، لكِنِ الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ هُوَ الَّذِي يُقاتِلُ لِأَجلِ نَصرِ دِينِ اللهِ، وَإِخْراجِ النَّاسِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ، هَذَا يُقَالُ لَهُ: جَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ.

وَأمَّا مَا يَتعَلَّقُ بِالشَّهَادةِ وَالأَجْرِ فَهَذَا أَوْسَعُ؛ وَلِهذَا مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهلِهِ فهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ عِرْضِهِ فهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتلَ دُونَ دَمِهِ فهُوَ شَهِيدٌ، وفِي الحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ مُسلِمٌ رحمه الله أنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأيْتَ الرَّجُلَ يُرِيدُ مَالِي؟ قَالَ:«لَا تُعْطِهِ مَالَكَ» قَالَ: فَإنْ قَاتَلنِي؟ قَالَ: «قَاتِلْهُ» فَقَالَ: فَإنْ قَتَلنِي؟ قَالَ: «فَأَنْتَ شَهِيدٌ» . قَالَ: فَإنْ قَتلْتُهُ؟ قَالَ: «هُوَ فِي النَّارِ»

(2)

.

(1)

ورواه مسلم (1904).

(2)

رواه مسلم (140)(255).

ص: 204

فَالمَبْطُونُ شَهِيدٌ، وَلكِنِ الَّذِي قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ هُوَ الَّذِي يُقاتِلُ وَيَبعَثُهُ عَلَى القِتَالِ، قَصَدَ دِينَ اللهِ وَإِخْراجَ النَّاسِ منَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ، هَذَا هُوَ الجِهَادُ الَّذِي هُوَ أَعْلَى الدَّرَجاتِ فِي الجِهَادِ، وهُوَ الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ صِدْقًا وَإِخْلاصًا. لَا لِحظٍّ آخَرَ.

مَنِ الَّذِي أَخْرجَها؟

مُسلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه.

* * *

ص: 205

‌بابٌ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ} [النحل:

40]

7459 -

حَدَّثَنَا شِهَابُ بْنُ عَبَّادٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ قَيْسٍ، عَنِ المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ:«لا يَزَالُ مِنْ أُمَّتِي قَوْمٌ ظَاهِرِينَ عَلَى النَّاسِ، حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ»

(1)

.

7460 -

حَدَّثَنَا الحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا الوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ جَابِرٍ، حَدَّثَنِي عُمَيْرُ بْنُ هَانِئٍ، أَنَّهُ سَمِعَ مُعَاوِيَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: «لا يَزَالُ مِنْ أُمَّتِي أُمَّةٌ قَائِمَةٌ بِأَمْرِ اللَّهِ، مَا يَضُرُّهُمْ مَنْ كَذَّبَهُمْ وَلَا مَنْ خَذَلَهُمْ

(2)

، حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ»

(3)

.

هَذَا مِنَ البِشَارَةِ العَظِيمَةِ لهَذِه الأُمَّةِ، وَأنَّه لا يَزَالُ فيها مَنْ يَقُومُ بِأمرِ اللهِ ويَنصُرُ الحَقَّ إلى أن يَأتِيَ أَمرُ اللهِ بِقَبضِ أَروَاحِ المُؤمِنِينَ والمُؤمِنَاتِ، وعند ذَلكَ لا يَبقَى إلا الأَشْرَارُ فَعَلِيهم تَقُومُ السَّاعَةُ؛ ولِهذَا قَالَ:«حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ» ،

(1)

ورواه مسلم (1921).

(2)

كذا في «الفتح» ، وفي «عمدة القارئ» وفي غيره:«وَلَا مَنْ خَالَفَهُمْ» .

(3)

ورواه مسلم (1027).

ص: 206

«لَا تَزَالُ مِنْ أُمَّتِي أُمَّةٌ قَائِمَةٌ بِأَمْرِ اللَّهِ لا يَضُرُّهُم مَنْ كَذَّبَهُم ولا مَنْ خَالَفَهُم» .

وفي اللَّفظِ الآخَرِ: «مَنْ خَذَلَهُم ولا مَنْ خَالَفَهُم حَتَّى يَأتِيَ أَمرُ اللهُ»

(1)

.

وفي اللَّفظِ الآخَرِ: «لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي على الحَقِّ مَنصُورَةً»

(2)

.

والأَلفَاظُ مُتَقَارِبةٌ، هم:«قَومٌ، طَائفَةٌ، وأُمَّةٌ قَائمَةٌ» كُلُّ هَذِه أَلفَاظٌ مُتَقَارِبَةٌ.

والمَعنَى: أَنَّه لا يَزَالُ في هَذِه الأُمَّةِ مَنْ يَنْصُرُ دِينَ اللهِ، ويَقُومُ بِأَمرِ اللهِ ويَدعُو إلى اللهِ -وإن قَلُّوا في بِعْضِ الجِهَاتِ لا يَلزَمُ أن يَكُونَوا في مَكَانٍ وَاحِدٍ، قد يَكُونُونَ في جِهَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ- حَتَّى يَأتِيَ أَمرُ اللهِ.

والوَاقِعُ شَاهِدٌ بذَلِكَ اليَومَ، وهَكَذَا بعدَ اليَومِ حَتَّى يَتِمَّ أَمرُ اللهِ الَّذي وَعدَ به رَسُولَهُ عليه الصلاة والسلام، وذَلكَ بأن يُرسِلَ اللهُ رَيحًا طِيَّبةً فَتقِبِضُ أَروَاحَ المُؤمِنِينَ، ولا يَبقَى إلا الأَشرَارُ فعَلَيهِم تَقُومُ السَّاعَةُ.

فَالسَّاعَةُ لا تَقُومُ إلا على الأَشرَارِ، على من لا يَقُولُ في الأَرضِ:«الله، الله» ، بل يَبقُونَ في كُفرِهِم وضَلَالِهِم، ويَعُودُونَ إلى عِبَادةِ الأَوثَانِ والأَصنَامِ، وتَمرجُ عُهُودُهُم وأَحوَالُهم، ويَكُونُونُ أَشبَهَ بِالبَهَائِمِ وبذَلكَ تَقُومُ عَلَيهِم السَّاعَةُ، يَعْنِي يَنفُخُ اللهُ في الصُّورِ وتَقُومُ القِيَامَةُ التي أَخبرَ اللهُ بها في كِتَابهِ جلا وعلا.

فإذا كَانَ الأَمرُ هَكَذَا فَيَنبَغِي لِأهلِ العِلْمِ والإِيمَانِ وأَهلِ البَصِيرَةِ وأَهلِ البَصَائرِ أن يَغتَنِمُوا الفُرصَةَ، وأنْ يَستَغِلُّوا وَقتَهُم في الدَّعْوَةِ إلى اللهِ ونَشْرِ الحَقِّ، والصَّبرِ على ذَلكَ، وبَيَانِ البَاطِلِ وتَزيِيفِهِ والتَّحذِيرِ منه؛ حَتَّى يَدخُلَ في هَذِه الطَّائِفَةِ، مَنْ قَامَ بهَذَا دَخَلَ في هَذِه الطَّائِفَةِ، سَوَاءٌ كَانَ في شَرقِ الأَرضِ أو

(1)

رواه البخاري (3641)، ومسلم (1037)(174).

(2)

رواه البخاري (3640)، ومسلم (247)(156) بنحوه، ورواه ابن حبان في «صحيحه» (6714)، واللفظ لابن حبان.

ص: 207

في غَربِهَا أو في جَنُوبِهَا أو شَمَالِهَا.

مَنْ قَامَ بهَذِه المُهِمَّةِ -وهي الدَّعوَةُ إلى اللهِ، وإِظهَارُ الحَقِّ، ونَصرُهُ وبَيَانُه للنَّاسِ- ولو كَانَ وَاحِدًا في قَرِيةٍ، أو وَاحِدًا في مَدِينَةٍ، أو في إِقلِيمٍ أو في قَبِيلَةٍ، يَعمُّهُ هَذَا الخَيرُ وهَذَا الفَضلُ، ويَكُون مِنْ الغُربَاءِ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ عليه الصلاة والسلام:«فَطُوبَى للغُرَبَاءِ» ، قِيلَ: ومَنِ الغُرَبَاءُ يا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «الَّذِينَ يَصْلُحُونَ إذا فَسدَ النَّاسُ»

(1)

وفي اللَّفظِ الآخَرِ: «يُصْلِحونَ ما أَفسَدَ النَّاسُ مِنْ سُنَّتِي»

(2)

، وفي اللَّفظِ الآخَرِ:«هم النُّزَّاعُ مِنْ القبَائِلِ»

(3)

وفي اللَّفظِ الآخَرِ: «هم أُناسٌ صَالِحُونَ قَلِيلٌ في أُناسِ سُوءٍ كَثِيرٍ»

(4)

.

هَؤلَاءِ همُ الغُربَاءُ، وهم دُعَاةُ الحَقِّ، وهم أَنْصَارُ الهُدَى، وهمُ المُشَارُ إليهم في هَذِه الأَحَادِيثِ:«لا تَزَالُ طَائِفَةٌ من أُمَتِّي على الحَقِّ مَنصُورَةً»

(5)

، «لا يَزَالُ قَومٌ ظَاهِرِين حَتَّى يَأتِيَ أَمرُ اللهِ»

(6)

. «لا تَزَالُ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ بِأمِرِ اللهِ لا يَضُرُّهُم مَنْ كَذَّبَهُم ولا مَنْ خَالَفَهُم حَتَّى يَأتِيَ أَمرُ اللهِ»

(7)

هم هَؤلَاءِ، سَواءٌ اجْتَمَعُوا في مَكَانٍ، أو اخْتَلَفُوا، أو تَنَوَّعُوا، أو تَفَرَّقُوا.

(1)

رواه ابن بطة في «الإبانة» (531)، واللالكائي في «أصول اعتقاد أهل السنة» (174).

(2)

رواه الترمذي (2630).

(3)

رواه أحمد في «المسند» (3784)، وابن ماجه (3988).

(4)

رواه أحمد في «المسند» (6650).

(5)

رواه ابن ماجه (10).

(6)

رواه البخاري (3116)، ومسلم (1920)(170).

(7)

رواه البخاري (7460).

ص: 208

المَقْصُودُ: أَنَّهم هم هَؤلَاءِ الَّذِينَ يَنْصُرُونَ دِينَ اللهِ، ويَدْعُونَ إلى اللهِ، لا يَضُرُّهم مَنْ خَذَلَهم ولا مَنْ خَالَفَهُم، ولا يَضُرُّهُم مَنْ كَذَّبَهُم، ولا مَنْ سَخِرَ بهم، والوَاجِبُ عَلَيهِم الصَّبرُ لا يَهتَمُّونَ بمن كَذَّبَ أو خَذَّلَ أو سَخِرَ أو اسْتَهزَأَ، لا يُهمُّهُم ولا يَلتَفِتُون إليه، فقد سَخِرَ أَقوَامُ الأَنبِيَاءِ بِالأنبِياءِ عليهم السلام ولم يَضُرُّهُم ذَلكَ، ولم يَثنِهم عن دَعَوتِهِم إلى اللهِ، وقد استَهزَأَ أَهْلُ مَكَّةَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كما اسْتَهزَأَ المُنَافِقُونَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، واليَهُودُ كذَلكَ اسْتَهزَؤوا به، فَمَا ضَرَّه ذَلكَ، صَدَعَ بِأمِرِ اللهِ، وقَامَ بِأَمرِ اللهِ، وصَبرَ على ذَلكَ حَتَّى أَظهَرَهُ اللهُ على الدِّينِ كُلِّهِ.

وهَكَذَا مَنْ قَبلَهُ مِنْ الرُّسُلِ عليهم السلام صَبَرُوا ونَجَحُوا وأَفلَحُوا، ومَن أُوذِيَ مِنْهُم زَادَهُ اللهُ كَرَامَةً وَرِفعَةً ودَرَجَاتٍ، ومَن قُتِلَ كذَلكَ.

* * *

«فَقَالَ مَالِكُ بْنُ يُخَامِرَ: سَمِعْتُ مُعَاذًا، يَقُولُ: وَهُمْ بِالشَّامِ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: هَذَا مَالِكٌ يَزْعُمُ أَنَّهُ سَمِعَ مُعَاذًا يَقُولُ: وَهُمْ بِالشَّامِ» .

والمَعنَى: أَنَّهُمْ يَكُونُونَ بِالشَّامِ يومًا ما، أو دَهْرًا ما، ولكن لا يَلزَمُ ذَلكَ في كُلِّ وَقتٍ، قد يَكُونُ في الشَّامِ طَائِفَةٌ، وفي البِلَادِ الأُخْرَى طَوَائِفُ كما هو الوَاقِعُ الآنَ.

الآن في أَمرِيكَا، في آسِيَا على طُولِهَا وعَرضِهَا، في أَفرِيقِيَا، في أُورُوبَّا دُعَاةٌ للحَقِّ، وأَنصَارٌ للحَقِّ، لا يَضُرُّهُم مَنْ خَالَفَهُم ولا مَنْ خَذَلَهم، وهَذَا الوَاقِعُ شَاهِدٌ لهَذِه الأَحَادِيثِ، وهَذِه الحَركَةُ الجَدِيدَةُ الإِسلَامِيَّةُ واليَقظَةُ الإِسلَامِيةُ

ص: 209

شَاهِدٌ لِهذَا الأَمرِ.

حَفِظَك اللهُ يا شَيخُ، قَولُهُ:«لا تَزَالُ» ما يُفِيدُ الدَّيمُومَةَ والاسْتِمرَاريَّةَ؟

نعم، إلى أن يَأْتِيَ أَمرُ اللهُ، لكنْ يَكثُرُونَ في مَكَانٍ ويَقِلُّونَ في مَكَانٍ، ويَكثُرُونَ في زَمَانٍ ويَقِلُّونَ في زَمَانٍ، أَمرُهُم يَتَنَوَّعُ.

أَحسَنَ اللهُ إِليكَ، قَولُهُ:«ظَاهِرِينَ على النَّاسِ» يَعْنِي النَّاسَ الَّذِينَ حَولَهُم فَقَطْ أو كُلِّ النَّاسِ؟

يَحتَمِلُ هَذَا وهَذَا، قد يَكُونُونَ في وَقْتٍ ما ظَاهِرِينَ على النَّاسِ الَّذِينَ حَولَهُم، وفي وَقتٍ ما ظَاهِرينَ على النَّاسِ الَّذِينَ لهم السَّلطَةُ والإِمَامَةُ، كما وَقعَ في عَهدِ الخُلفَاءِ الرَّاشِدِينَ رضي الله عنهم، وفي أَئِمَّةِ بَنِي أُمَيَّةَ، وفي أَوقَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ أَوقَاتِ بَنِي العَبَّاسِ، وَقَعَ في أَقَاليمَ وجِهَاتٍ ومُنَاطقَ مُتَعَدِّدةٍ إلى يَومِنَا هَذَا.

ومِثلمَا وَقعَ في عَهدِ الشيَّخِ مُحمَّدِ بنِ عبدِ الوَهَابِ رحمه الله وآلِ سُعُودٍ في مَنطِقَةِ الجَزِيرَةِ، ومِثلمَا وقع في بِعْضِ مَنَاطقِ المَغرِبِ وأَفْرِيقيَا في أَوقَاتٍ كَثِيرَةٍ، وهَكَذَا في الهِندِ قَبلَ التَّقسِيمِ وبعدَ التَّقسِيمِ.

7461 -

حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ أَبِي حُسَيْنٍ، حَدَّثَنَا نَافِعُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: وَقَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى مُسَيْلِمَةَ فِي أَصْحَابِهِ، فَقَالَ:«لَوْ سَأَلْتَنِي هَذِهِ القِطْعَةَ مَا أَعْطَيْتُكَهَا، وَلَنْ تَعْدُوَ أَمْرَ اللَّهِ فِيكَ، وَلَئِنْ أَدْبَرْتَ لَيَعْقِرَنَّكَ اللَّهُ»

(1)

.

(1)

ورواه مسلم (2273).

ص: 210

وقد وَقَعَ ذَلكَ، أَدبَرَ وعَقَرَهُ اللهُ عز وجل، أَدبَرَ واسْتَمَرَّ في طُغيَانِهِ ودَعوَاهُ النُّبُوةَ؛ فَعقَرهُ اللهُ وقَتَلَهُ المُسلِمُونَ في عَهدِ الصَّدِّيقِ رضي الله عنه، وهَذَا مِصدَاقُ ما أَخبَرَ به عليه الصلاة والسلام «لَئِنْ أَدْبَرْتَ لَيَعْقِرَنَّكَ اللَّهُ» ، وقد أَدبَرَ وكَذَّبَ وافْتَرَى وزَعَمَ أَنَّه يُوحَى إِليهِ، وأَتَى بِخُرَافَاتٍ لا تَرُوجُ على ذَوِي العُقُولِ حَتَّى قَتَلَهُ اللهُ على يدِ المُسْلِمِينَ في عَهدِ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه.

7462 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ عَبْدِ الوَاحِدِ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: بَيْنَا أَنَا أَمْشِي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم في بِعْضِ حَرْثِ المَدِينَةِ وَهُوَ يَتَوَكَّأُ عَلَى عَسِيبٍ مَعَهُ، فَمَرَرْنَا عَلَى نَفَرٍ مِنَ اليَهُودِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: سَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تَسْأَلُوهُ أَنْ يَجِيءَ فِيهِ بِشَيْءٍ تَكْرَهُونَهُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَنَسْأَلَنَّهُ، فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنْهُمْ، فَقَالَ: يَا أَبَا القَاسِمِ، مَا الرُّوحُ؟

فَسَكَتَ عَنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَعَلِمْتُ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ، فَقَالَ:«وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ، قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي، وَمَا أُوتُوا مِنَ العِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا» ، قَالَ الأَعْمَشُ: هَكَذَا فِي قِرَاءَتِنَا

(1)

.

(1)

ورواه مسلم (2794).

ص: 211

قِرَاءَتَانِ «أُوتُوا» يَعْنِي اليَهُودَ السَّائِلينَ، «وما أُوتِيتُمْ» يَعمُّ الأُمَّةَ، ويَعُمُّ اليَهُودَ.

عَفَا اللهُ عنكَ: التَّرجَمَةُ هَذِه والتَّرجَمَةُ السَّابِقَةُ مُتَشَابِهَتَانِ وتَكَررَّ الحَدِيثُ هنا مِثلُ التَّرجَمَةِ السَّابِقَةِ، التَّرجَمَةُ السَّابِقَةُ: بَابُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171)} [الصافات: 171]. وهنا: بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)} [النحل: 40]، وجَاءَ بِالحَدِيثِ هُنَا وَهُناكَ؟

اللهُ أَعلَمُ، الوَجهُ هُناكَ أنَّ الحَدِيثَ يَدُلُّ على أن مَنْ سَبَقَتْ لَه السَّعَادَةُ يُصَدِّقُ بِأمرِ اللهِ، ولا يَتَعَنَّتْ ويَقبَلُ الحَقَّ، ويُؤمِنُ بما بُيِّنَ وبما أُخفِي، ويَكِلُهُ إلى اللهِ.

وهنا قَولُهُ: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85]، {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)} [النحل: 40]؛ فَالرُّوحُ مِنْ أَمرِهِ إذا أَرَادَها كوَّنها لِلإنسِ والجِنِّ والمَلَائِكَةِ والدَّوَابِّ وغَيرِ ذَلكَ.

وفي هَذَا في بِعْضِ الرِّوَاياتِ: أن اليَهُودَ قَالُوا: لقد أُوتِي مُوسَى عليه السلام التَّورَاةُ فهل هي عِلمٌ قَلِيلٌ؟ التَّورَاةُ فيها عِلمٌ كَثِيرٌ؛ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:

ص: 212

«نعم ولكن في جَنبِ عِلمِ اللهِ قَلِيلٌ» . التَّورَاةُ والزَّبُورُ والقُرآنُ والكُتُبُ كُلُّهَا في جَنبِ عِلمِ اللهِ قَلِيلٌ؛ لأنَّ عِلمَ اللهِ وَاسعٌ لا يَحدُّهُ حَدٌّ.

فالتَّورَاةُ والإِنجِيلُ والقُرآنُ والزَّبُورُ كُلُّهَا في جَنبِ عِلمِ اللهِ قَلِيلٌ، ولِهذَا قَالَ:{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)} [الإسراء: 85].

(الشَّيخُ) رَاجِع كَلَامَ الشَّارِحِ على البَابِ؟

[قَالَ الحَافِظُ ابنُ حَجرٍ رحمه الله فِي «فَتْحِ البَارِي» (13/ 443 - 444)]: «قَوْلُه: بَابُ قَولِ اللهِ تَعَالَى: «إنما أمرنا لشَيْء إِذا أردناه» زَادَ غَيْرُ أَبِي ذَرٍّ: {أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} وَنَقَصَ: {إِذَا أَرَدْنَاهُ} . مِنْ رِوَايَةِ أَبِي زَيْدٍ الْمَرْوَزِيِّ. قَالَ عِيَاضٌ: كَذَا وَقَعَ لِجَمِيعِ الرُّوَاةِ عَنِ الْفَرَبْرِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي ذَرٍّ وَالْأَصِيلِيِّ وَالْقَابِسِيِّ وَغَيْرِهِمْ، وَكَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ النَّسَفِيِّ، وَصَوَابُ التِّلَاوَةِ:{إِنَّمَا قَوْلُنَا} . وَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُتَرْجِمَ بِالْآيَةِ الأُخْرَى {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50)} [القمر: 50]، وَسَبَقَ الْقَلَمُ إِلَى هَذِهِ.

قُلْتُ: وَقَعَ فِي نُسْخَةٍ مُعْتَمَدَةٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ: {{إِنَّمَا قَوْلُنَا} على وفْق التِّلَاوَة، وَعَلَيْهَا شَرحُ ابنِ التِّينِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ إِصْلَاحِ مَنْ تَأَخَّرَ عَنْهُ، وَإِلَّا فَالْقَوْلُ مَا قَالَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ، قَالَ ابن أَبِي حَاتِمٍ فِي كِتَابِ «الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ»: حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ: قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ حَدِيثُ عُبَادَةَ: «أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمُ فَقَالَ اكْتُبْ

» الْحَدِيثَ.

قَالَ: وَإِنَّمَا نَطَقَ الْقَلَمُ بِكَلَامِهِ لِقَوْلِهِ: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)} [النحل: 40]، قَالَ: فَكَلَامُ اللَّهِ سَابِقٌ عَلَى أَوَّلِ خَلْقِهِ؛ فَهُوَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. وَعَنِ الرَّبِيعِ بْنِ سُلَيْمَانَ: سَمِعْتُ الْبُوَيْطِيَّ يَقُولُ: خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ كُلَّهُ بِقَوْلِهِ: «كُنْ» فَلَوْ كَانَ «كُنْ» مَخْلُوقًا لَكَانَ قد خَلقَ الْخلقَ بِمخلُوقٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، ثُمَّ ذَكَرَ

ص: 213

فِيهِ خَمْسَةَ أَحَادِيثَ الْأَوَّلُ:

حَدِيثُ الْمُغِيرَةِ وَقَوْلُهُ فِيهِ: عَنْ إِسْمَاعِيلَ -هُوَ ابنُ أَبِي خَالِد- وَقيسٌ -هُوَ ابنُ أَبِي حَازِمٍ- وَالْغَرَضُ مِنْهُ وَمِنَ الَّذِي بَعْدَهُ قَوْلُهُ: «حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ» ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ الْمُرَادِ بِهِ عِنْدَ شَرْحِهِ فِي كِتَابِ «الِاعْتِصَام» .

وَقَالَ ابنُ بَطَّالٍ: الْمُرَادُ بِأَمْرِ اللَّهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ السَّاعَةُ. والصَّوَابُ: أَمْرُ اللَّهِ بِقِيَامِ السَّاعَةِ فَيَرْجِعُ إِلَى حُكْمِهِ وَقَضَائِهِ».

قال ابنُ بَازٍ رحمه الله: والصَّوَابُ كمَا تَقَدَّمَ أنَّ أَمرَ اللهِ هنا الرِّيحُ التي تَقبِضُ أَرْوَاحَ المُؤمِنِينَ؛ لأنَّ السَّاعَةَ ما تَقُومُ على المُؤمِنِينَ ولا عَلى دُعَاةِ الحَقِّ، وإنَّمَا تَقُومُ على الأَشْرَارِ:«لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لا يُقَالُ في الأَرْضِ اللهُ اللهُ»

(1)

.

[قال الحَافِظُ رحمه الله]: «وَالثَّانِي وَالثَّالِثُ: حَدِيثُ مُعَاوِيَةَ فِي ذَلِكَ، وَفِيهِ رِوَايَةُ مَالِكِ بْنِ يُخَامِرَ -بِضَمِّ التَّحْتَانِيَّةِ وَتَخْفِيفِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ الْمِيمِ- عَنْ مُعَاذٍ وَهُمْ بِالشَّامِ، وَذَكَرَ مُعَاوِيَةَ عَنْهُ ذَلِكَ وَقَوْلُهُ فِيهِ: «وَلَا مَنْ خَذَلَهُمْ» .

وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ: «حِذَاهُمْ» بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ ثُمَّ دَال مُعْجَمَةٍ بَعْدَهَا أَلِفٌ لَيِّنَةٌ، قَالَ: وَلَهَا وَجْهٌ. يَعْنِي: «مَنْ جَاوَرَهُمْ مِمَّنْ لَا يُوَافِقُهُمْ» . قَالَ: وَلَكِن الصَّوَابُ بِفَتْح الخاء المعجمة وباللَّام منَ الخِذْلانِ، وابنُ جَابِرٍ الْمَذْكُورُ فِيهِ هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ، نُسِبَ لِجَدِّهِ.

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ: حَدِيثُ ابن عَبَّاسٍ فِي شَأْنِ مُسَيْلِمَةَ، ذَكَرَ مِنْهُ طَرَفًا وَقَدْ تَقَدَّمَ بِتَمَامِهِ فِي أَوَاخِرِ الْمَغَازِي مَعَ شَرْحِهِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ قَوْلُهُ:«وَلَنْ يَعْدُوَ أَمْرُ اللَّهِ فِيكَ» أَيْ: مَا قَدَّرَهُ عَلَيْكَ مِنَ الشَّقَاء أَوْ السَّعَادَة.

الحَدِيث الْخَامِ

حَدِيث ابن مَسْعُودٍ فِي سُؤَالِ الْيَهُودِ عَنِ الرُّوحِ

(1)

رواه مسلم (148)(234).

ص: 214

وَقَوْلُهُ: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85] تَمَسَّكَ بِهِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الرُّوحَ قَدِيمَةٌ، زَعْمًا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَمْرِ هُنَا الْأَمْرُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف: 54]. وَهُوَ فَاسِدٌ؛ فَإِنَّ الْأَمْرَ وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ لمعانٍ يتَبيُّنُ الْمُرَادُ بِكُلٍّ مِنْهَا مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ، وَسَيَأْتِي فِي بَابِ:{وَالله خَلقكُم وَمَا تَعْمَلُونَ} مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَمْرِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف: 54] وَأَنَّهُ بِمَعْنَى الطَّلَبِ الَّذِي هُوَ أَحَدُ أَنْوَاعِ الْكَلَامِ، وأمَّا الْأَمرُ فِي حَدِيثِ ابنِ مَسْعُودٍ هَذَا؛ فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمَأْمُورُ، كَمَا يُقَالُ: الْخَلْقُ وَيُرَادُ بِهِ الْمَخْلُوقُ، وَقَدْ وَقَعَ التَّصْرِيحُ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ، فَفِي تَفْسِيرِ السُّديّ عَنْ أبي مَالكٍ عَنِ ابن عَبَّاسٍ وَعَنْ غَيْرِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85] يَقُولُ: هُوَ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ، لَيْسَ هُوَ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ.

وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِالرُّوحِ الْمَسْؤولِ عَنْهَا: هَلْ هِيَ الرُّوحُ الَّتِي تَقُومُ بِهَا الْحَيَاةُ أَوِ الرُّوحُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا} [النبأ: 38]، وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} [القدر: 4]؟

وَتَمَسَّكَ مَنْ قَالَ بِالثَّانِي بِأَنَّ السُّؤَالَ إِنَّمَا يَقَعُ فِي الْعَادَةِ عَمَّا لَا يُعْرَفُ إِلَّا بِالْوَحْيِ، وَالرُّوحُ الَّتِي بِهَا الْحَيَاةُ قَدْ تَكَلَّمَ النَّاسُ فِيهَا قَدِيمًا وَحَدِيثًا بِخِلَافِ الرُّوحِ الْمَذْكُورِ؛ فَإِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِهِ، بَلْ هِيَ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ، بِخِلَافِ الْأُولَى، وَقَدْ أَطْلَقَ اللَّهُ لَفْظَ «الرُّوحِ» عَلَى الْوَحْيِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52]، وَفِي قَوْلِهِ:{يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} [غافر: 15]، وَعَلَى الْقُوَّةِ وَالثَّبَاتِ وَالنَّصْرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة: 22]، وَعَلَى جِبْرِيلَ فِي عِدَّةِ آيَاتٍ، وَعَلَى عِيسَى ابن مَرْيَمَ،

ص: 215

وَلَمْ يَقَعْ فِي الْقُرْآنِ تَسْمِيَةُ رُوحِ بَنِي آدَمَ رُوحًا، بَلْ سَمَّاهَا نَفْسًا فِي قَوْلِهِ:{النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} [الفجر: 27] وَالنَّفْسُ الْأَمَارَةُ بِالسُّوءِ، وَالنَّفْسُ اللَّوَّامَةُ، وَأَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمْ، وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ.

وَتَمَسَّكَ مَنْ زَعَمَ بِأَنَّهَا قَدِيمَةٌ بِإِضَافَتِهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحجر: 29]. وَلَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ تَقَعُ عَلَى صِفَةٍ تَقُومُ بِالْمَوْصُوفِ كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ، وَعَلَى مَا يَنْفَصِلُ عَنْهُ كَبَيْتِ اللَّهِ، وَنَاقَةِ اللَّهِ. فَقَوْلُهُ:«رُوحُ اللَّهِ» مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ».

قَالَ ابنُ بَازٍ رحمه الله: يَعْنِي مِنْ بَابِ إِضَافَةِ المَخلُوقِ إلى خَاِلقِهِ، رُوحُ آدَمَ وَرُوحُ عِيسَى عليهما السلام كُلُّهَا مِنْ بَابِ إِضَافَةِ المَخلُوقِ إلى خَالِقِه إِضَافَةَ تَشرِيفٍ وتَكرِيمٍ، كَنَاقَةِ اللهِ، وبَيتِ اللهِ، ورَسُولِ اللهِ.

[قال الحَافِظُ رحمه الله]: «الثَّاني: وهي إِضَافَةُ تَخصِيصٍ وتَشرِيفٍ، وهي فَوقَ الإِضَافَةِ العَامَّةِ التي بِمَعنَى الإِيجَادِ، فَالإِضَافَةُ على ثَلَاثِ مَرَاتِبَ: إِضَافَةُ إِيجَادٍ، وإِضَافَةُ تَشرِيفٍ، وإِضَافَةُ صِفةٍ» . [انتهى كلامه].

قَالَ ابنُ بَازٍ رحمه الله: ويُضَافُ إليهِ إِضَافَةُ صِفَةٍ، كَعلْمِ اللهِ، وقُوَّةِ اللهِ، وإِضَافَةٌ الذَّاتِ إلى غَيرِهَا، وإِضَافَةُ الذَّاتِ على قِسمَينِ:

1 -

إِضَافَةُ مُخلُوقٍ إلى خَالِقِهِ، كَأرضِ اللهِ وسَمَاءِ اللهِ.

2 -

وإِضَافَةُ تَشرِيفٍ وتَكَرِيمٍ مع أنَّها إِضَافَةُ مَخلُوقٍ، كَبَيتِ اللهِ ونَاقةِ اللهِ.

ولا مُشَاحَّةَ في الاصطِلَاحِ، إذا جُعِلَ ثَلَاثةَ أَقْسَامٍ، أو قِسْمَينِ ثم جُعِلَ

ص: 216

القِسمُ الثَّاني قِسمَينِ.

أَحسَنَ اللهُ إِليكَ، المَخلُوقٌ مَعرُوفٌ أَنَّه بِإيجَادِ اللهِ؟

لكِنَّه على قِسمَينِ: تَارَةً يَكُونُ مِنْ بَابِ الإِيجَادِ فَقَطْ، وتَارَةً مِنْ بَابِ ذَلكَ مع التَّشرِيفِ والتَّكرِيمِ لِأجلِ الإِضَافةِ.

[قال الحَافِظُ رحمه الله]: «والَّذِي يَدُلُّ على أنَّ الرُّوحَ مَخلُوقَةٌ عُمُومُ قَولِهِ تَعَالَى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 62]، [الزمر: 62]، {وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 164]، {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26)} [الشعراء: 26]. والأَروَاحُ مَربُوبَةٌ، وكُلُّ مَربُوبٍ مَخلُوقُ رَبِّ العَالَمِينَ» . [انتهى كلامه].

قَالَ ابنُ بَازٍ رحمه الله: وكُلُّ مَربُوبٍ مَخلُوقُ رَبِّ العَالَمِينَ، يَصلُحُ إِضَافةُ المَخلُوقِ إلى خَالِقِهِ، يَعْنِي مَخلُوقٌ لِرَبِّ العَالَمِينَ على تَقدِيرِ اللَّامِ.

[قال الحَافِظُ رحمه الله]: «وَقَوْلُهُ تَعَالَى لِزَكَرِيَّا: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلم تَكُ شَيْئا} وَهَذَا الْخِطَابُ لِجَسَدِهِ وَرُوحِهِ مَعًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1)} [الإنسان: 1]، وَقَوله تَعَالَى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} [الأعراف: 11]، سَوَاءٌ قُلْنَا: إِنَّ قَوْلَهُ: «خَلَقْنَا» يَتَنَاوَلُ الْأَرْوَاحَ وَالْأَجْسَادَ مَعًا، أَوِ الْأَرْوَاحَ فَقَطْ.

وَمِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ حَدِيثُ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: «كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ غَيْرُهُ» ، وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ بَدْءِ الْخَلْقِ، وَقَدْ وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ مَخْلُوقُونَ وَهُمْ أَرْوَاحٌ. وَحَدِيثُ:«الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ» . وَالْجُنُودُ الْمُجَنَّدَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا مَخْلُوقَةً، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ وَشَرْحُهُ فِي «كِتَابِ الْأَدَبِ» .

ص: 217

وَحَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ: أَنَّ بِلَالًا رضي الله عنه قَالَ لَمَّا نَامُوا فِي الْوَادِي: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخَذَ بِنَفْسِي الَّذِي أَخَذَ بِنَفْسِكَ» . وَالْمُرَادُ بِالنَّفْسِ الرُّوحُ قَطْعًا؛ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا الْحَدِيثِ: «إِنَّ اللَّهَ قَبَضَ أَرْوَاحَكُمْ حِينَ شَاءَ

» الْحَدِيثَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر: 42]، الْآيَةَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى بَقِيَّةِ فَوَائِدِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي سُورَةِ «سُبْحَانَ» .

وَقَوْلُهُ فِي آخِرِهِ: «وَمَا أُوتُوا مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا» كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ:{وَمَا أُوتِيتُمْ} [الإسراء: 85] عَلَى وَفْقِ الْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَةِ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ قَوْلُهُ فِي بَقِيَّتِهِ: قَالَ الْأَعْمَشُ: هَكَذَا فِي قراءتنا.

قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: غَرَضُهُ الرَّدُّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ فِي زَعْمِهِمْ أَنَّ أَمْرَ اللَّهِ مَخْلُوقٌ؛ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْأَمْرَ هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى لِلشَّيْءِ: كُنْ؛ فَيَكُونُ بِأَمْرِهِ لَهُ، وَأَنَّ أَمْرَهُ وَقَوْلَهُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَأَنَّهُ يَقُولُ:«كُنْ» حَقِيقَةً، وَأَنَّ الْأَمْرَ غَيْرُ الْخَلْقِ؛ لِعَطْفِهِ عَلَيْهِ بِالْوَاوِ. انْتَهَى. وَسَيَأْتِي مَزِيدٌ لِهَذَا فِي بَابِ {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)} [الصافات: 96]». [انتهى كلامه].

* * *

ص: 218

‌بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف: 109]

{وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَ

الْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان: 27]،

{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54]

سَخَّرَ: ذَلَّلَ.

7463 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«تَكَفَّلَ اللَّهُ لِمَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِهِ، لَا يُخْرِجُهُ مِنْ بَيْتِهِ إِلَّا الجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ وَتَصْدِيقُ كَلِمَتِهِ، أَنْ يُدْخِلَهُ الجَنَّةَ، أَوْ يَرُدَّهُ إِلَى مَسْكَنِهِ بِمَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ»

(1)

.

هَذَا البَابُ مِنَ المُؤلِّفِ رحمه الله فيه بَيَانُ عِظَمِ شَأنِ اللهِ عز وجل، وأنَّ كَلِمَاتِهِ

(1)

ورواه مسلم (1876).

ص: 219

لا تُحصَى سبحانه وتعالى، فَإنهُ جل وعلا:{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} [يس: 82] سبحانه وتعالى، وكُلُّ ما في العَالمِ قَدِيمًا وحَدِيثًا كُلُّهُ بِأمرِهِ وتَكوينِهِ سبحانه وتعالى، وهَكَذَا ما يَكُونُ في العَالمِ بعدَ البَعثِ والنُشُورِ كُلُّهُ بِأمرِهِ سبحانه وتعالى وتَكوِينِهِ؛ ولِهذَا قَالَ سبحانه وتعالى:{قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109)} [الكهف: 109]، وهَكَذَا يَقُولُ سُبحَانَهُ:{وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27)} [لقمان: 27]، فَلا يُحصِي كَلِمَاتِهِ أَحَدٌ سبحانه وتعالى.

وهَذَا يعمُّ الكَلَامَ الكَونِيَّ والكَلَامَ الشَّرعِيَّ، كَلَامُهُ الكَونِيُّ الذي يَأمُرُ به سبحانه وتعالى، يَأمُرُ بِتَكوِينِ الأَشيَاءِ وخَلقِهَا وإِيجَادِهَا، ويَشمَلُ الكَلَامَ الشَّرعِيَّ مما أَنْزَلَ على رُسلِهِ مِنْ كَلِمَاتِ القُرآنِ، وكَلِمَاتِ التَّورَاةِ، وكَلِمَاتِ الإِنجِيلِ، وكَلِمَاتِ الزَّبُورِ، وجَمِيعِ الكَلِمَاتِ المُنزَّلةِ على الأَنبِياءِ عليهم السلام في الصُّحُفِ التي أُنزِلَت عَلَيهِم، فلا يُحصِي ذَلكَ إلا هو سبحانه وتعالى.

ثم هو يُخبِّرُ عِبَادَهُ أَنَّه رَبَّهُمْ وخَالَقَهُم ومُدِبَّرَ شُئُونِهِم: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ (54)} [الأعراف: 54]-يَعْنِي: خَلقَ الشَّمسَ والقَمرَ والنُّجُومَ- {مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ} [الأعراف: 54]

مُذلَّلَات بِأمْرِهِ {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} [الأعراف: 54] يَعْنِي: بِأمْرِهِ. {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ (54)} [الأعراف: 54].

كُلُّ هَذَا يِشمَلُ الكَلَامَ كُلَّهُ. ذَكرَ الخَلقَ والأَمرَ، فَالخَلقُ ما يَتَعَلَّق بِالْمَخلُوقَاتِ، والأَمرُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالأَقوَالِ.

ص: 220

وهَكَذَا قَولُهُ في سُورَةِ يُونُسَ: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} [يونس: 3].

فهو مُدَبِّرُ الأُمُورِ سبحانه وتعالى، يَعرِفُ العَبدُ رَبَّه بِأنَّه خَالِقُ السَّمَوَاتِ وخَالِقُ الأَرضِ، وَرَبُّ كُلُّ شَيءٍ ومَلِيكُهُ، وأنَّه الإِلَهُ الحَقُّ المُستَحِقُّ لِلعِبَادةِ، وأنَّهُ ذُو الأَسمَاءِ الحُسنَى والصِّفَاتِ العُلَا، وَأنَّه لا شَبِيهَ له، ولا كُفءَ له، ولا ندَّ لَه، وأنَّ كَلِمَاتِهِ لا تُحصَى، ولو جُمِعَ ما في الأَرضِ مِنْ شَجَرٍ، وجُمِعَ ما فيها مِنْ أَقلَامٍ، وجُمِعَ ما فيها من بِحَارٍ وكُتُبٍ بهَذِه الأَقلَامِ كُلَّ شَيءٍ حَتَّى تَنتَهِيَ البِحَارُ -لم تَنفَدْ كَلِمَاتُ اللهِ سبحانه وتعالى.

ومَن هَذِه صِفَتُهُ هو المُستَحِقُّ لأن يُعبَدَ جل وعلا، وهو المُستَحِقُّ لأن يُطَاعَ أَمرُهُ، ويُنْتَهى عن نِهيِهِ جل وعلا، وهو المُستَحِقُّ لأن تَخضَعَ له العِبَادُ طَائِعِينَ مُمتَثِلِينَ لِأمْرِه، تَارِكِينَ لما نَهَى عنه، وَاِقِفِينَ عند حُدُودِهِ.

ولكِنْ جَهْلُ الأَكْثَرِ بِاللهِ، وجَهْلُهُمْ بِدِينِهِ، وجَهلُهُمْ بِصِفَاتِهِ وأَسمَائِهِ هُو الَّذِي أَوقَعَهُم فِيمَا أَوقَعَهُم فيهِ مِنَ الشِّركِ بِاللهِ، والمَعصِيَةِ له سبحانه وتعالى، ولِهذَا يَقُولُ جل وعلا:{أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)} [الفرقان: 43، 44]. فَجَعَلَهُم أَضَلَّ مِنَ الأَنعَامِ، مِنْ البَقرِ والإِبِلِ والغَنَمِ؛ لِجَهلِهِم بِاللهِ وجَهلِهِمْ بِدِينِهِ واتِّبَاعِهِم أَهوَاءَهُم.

وفي سُورَةِ الأَعرَافِ يَقُولُ سُبحَانَهُ: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)} [الأعراف: 179].

ص: 221

حَكَمَ عَلَيهِم بِأَنَّهم أَضَلُّ، شَبَّهَهمْ بِالأَنعَامِ ثم حَكَمَ بأنهم أَضَلُّ مِنَ الأَنعَامِ؛ لِإعْرَاضِهِم عن الحَقِّ وجَهلِهِم به، والأَنعَامُ قد تَهتَدِي لِمَصَالِحَها، أَمَّا هَؤلاءِ فقَدْ ضَلُّوا عن مَصَالِحِهِم، وعن نَجَاتِهِم وعن أَسبَابِ سَعَادَتِهِم؛ فَصَارُوا أَضَلَّ منَ الأَنعَامِ، وأَسوَأَ حَالًا مِنَ الأَنعَامِ، ثم حَكَمَ عَلَيهِم فَقَالَ:{أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} ، لَيْسَ هُنَاكَ أَحَدٌ أَشَدَّ غَفلَةً مِنْ هَؤلَاءِ؛ لَمَّا أَعرَضُوا عن دِينِ اللهِ واسْتَكبَرُوا عن طَاعَتِهِ واتَّبَعُوا أَهوَاءَهُم، وإن حَذَقُوا في أيِّ صِنَاعَةٍ وفي أيِّ اخْتِرَاعٍ؛ لا قِيمَةَ لذَلكَ، وإن طَارُوا في السَّمَاءِ وإن غَاصُوا في البِحَارِ لا قِيمَةَ لذَلكَ؛ لما جَهِلُوا أَمرَ اللهِ وجَهِلُوا دِينَهُ، وجِهِلُوا أَسبَابَ السَّعَادَةِ.

يُقالُ: كَلمِاتُ اللهِ عِلمُهُ؟

لا، الكَلمِاتُ غَيرُ العِلمِ.

أَحسَنَ اللهُ إِليكَ: مُناسَبةُ الحَدِيثِ لِلبَابِ؟

قَولُهُ: «هو تَصْدِيقٌ بِكَلِمَتِي» بِكَلمَاتِ اللهِ، التَّصدِيقُ بِكَلِمَاتِ اللهِ مِنْ أهمِّ الإِيمَانِ، ولِهذَا قَالَ:«أن تُؤمِنَ بِاللهِ ومَلَائِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسَلِهِ واليَومِ الآخِرِ» ، والتَّصْدِيقُ بِكَلِمَاتِ اللهِ مما يُوجِبُهُ الإِيمَانُ.

والعِلمُ أَوسَعُ من الكَلَامِ، الكَلَامُ مِنْ عِلمِ اللهِ، ولَمَّا أَنزلَ اللهُ قَولَهُ:{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)} [الإسراء: 85] قَالَتْ اليَهُودُ: عندنا التَّورَاةُ فَهَلْ هِيَ قَلِيلٌ من عِلمِ اللهِ؟ قَالَ: نعَم، التَّورَاةُ بِالنِّسبَةِ إلى عِلمِ اللهِ قَلَيلٌ. اللهُ أَكبَرُ.

* * *

ص: 222

‌بَابٌ فِي المَشِيئَةِ وَالإِرَادَةِ

وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ} [آل عمران: 26]، {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} ، {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23، 24]، {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص: 56]. قَالَ سَعِيدُ بْنُ المُسَيِّبِ، عَنْ أَبِيهِ: نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ.

{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]

7464 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَارِثِ، عَنْ عَبْدِ العَزِيزِ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا دَعَوْتُمُ اللَّهَ فَاعْزِمُوا فِي الدُّعَاءِ، وَلَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ إِنْ شِئْتَ فَأَعْطِنِي، فَإِنَّ اللَّهَ لَا مُسْتَكْرِهَ لَهُ»

(1)

.

ومُرَادُ المُؤَلفِ بهَذَا أنَّ الوَاجِبَ على العِبَادِ إِثبَاتُ مَشِيئَةِ اللهِ وَإِرَادَتِهِ، وأنَّ ما شَاءَ اللهُ كَانَ وما لم يَشأْ لم يَكُن، وأنَّ مَشِيئَتَه نَافِذَةٌ عَامَّةٌ لا مَانعَ لِمَا شَاءَ سبحانه وتعالى، فما شَاءَه جل وعلا نَفذَ لا رَادّ له: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ

(1)

ورواه مسلم (2678).

ص: 223

لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} [يس: 82]، {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ (30)} [الإنسان: 30]، يُؤتِي المُلْكَ مَنْ يَشَاءُ، ويُذِلُّ مَنْ يَشَاءُ ويَهدِي مَنْ يَشَاءُ {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)} [الأنعام: 112] {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)} [الأنعام: 112]، {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253)} [البقرة: 253] إلى غَيرِ ذَلكَ.

فَمَشِيئَتُه نَافِذَةٌ سبحانه وتعالى، وما في الوُجُودِ كُلِّهِ نَشَأَ عن مَشِيئَتِهِ {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} [يس: 82]، {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107)} [هود: 107] يَعْنِي: لما يَشَاءُ.

وهَذَا مِنْ مَعنَى الإِيمَانِ بِالقَدَرِ، فإنَّ الإِيمَانَ بِالقَدرِ يَشمَلُ أَربَعَةَ أُمُورٍ، لا يِتِمَّ الإِيمَانُ بِالقَدَرِ الذي هو أَصلٌ مِنْ أُصُولِ الإِيمَانِ إلا بِإيمَانِ العَبدِ بِأَربَعَةِ أُمُورٍ:

الأَمرُ الأَوَّلُ: أن يُؤمِنَ بِعلْمِ اللهِ وأنَّ اللهَ عَالِمٌ بِكُلِّ شَيءٍ لا يَخفَى عليه خَافِيةٌ سبحانه وتعالى: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)} [الطلاق: 12]، {أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231)} [البقرة: 231].

الثاني: كِتَابَتُهُ لِلأَشيَاءِ، أَنَّه كَتَبَ كُلَّ شَيءٍ سبحانه وتعالى كمَا قَالَ عز وجل:{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70)} [الحج: 70] وقال في سُورةِ الحَدِيدِ: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22)} [الحديد: 22].

والثَّالِثُ: مَشِيئَتُهُ النَّافِذَةُ: يُؤمِنُ بأنَّ ما شَاءَ اللهُ كَانَ ومَا لمْ يَشَأ لم يَكُنْ {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: 30]، {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83)} [الأنعام:

ص: 224

83]، {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج: 18] سبحانه وتعالى، لا رَادَّ له جل وعلا:{وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29)} [الشورى: 29] سبحانه وتعالى.

الرَّابِعُ: خَلقُهُ لِلأَشيَاءِ وإِيجَادُهُ لها، هو الخَلَّاقُ لها، هو المُوجِدُ قَدَّرَهَا وخَلقَهَا، شَاءَهَا وخَلَقَهَا، هَذَا الرَّابِعُ أَنَّه خَالِقُ الأَشيَاءِ ومُوجِدُهَا ومُختَرِعُهَا على غَيرِ مِثَالٍ سَبَقَ:{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 62]، {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} [فاطر: 3] فَالمَشِيئَةُ لها صِفَةُ العُمُومِ، فما شَاءَ اللهُ كَانَ وما لم يَشَأْ لم يَكُنْ، وتَكُونُ في الخَيرِ والشَّرِّ، مِنْ حَيَاةٍ أو مَوتٍ أو عَجزٍ أو صَلَاحٍ أو ضَلَالٍ وغَيرِ ذَلكَ:{إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)} [الحج: 18].

أمَّا الإِرَادَةُ فهي قِسمَانِ:

1 -

إرَادَةٌ بِمَعنَى المَشِيئَةِ: كما قَالَ عز وجل: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا (82)} [يس: 82] أي: إذا شًاءَ شَيْئًا {أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} [يس: 82]، بِمَعنَى المشيئة {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107)} [هود: 107] أي: لِمَا يَشَاءُ. ومِن هَذَا قَولُهُ سُبحَانَهُ: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} [الأنعام: 125] يَعْنِي: يَشَاءُ أن يَهدِيَهُ: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام: 125] هَذِه لا رَادَّ لها؛ لأنَّها بِمَعنَى المَشِيئَةِ.

ولِهذَا قَالَ في قِصَّةِ أَبِي طَالِبٍ: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ (56)} [القصص: 56] اجْتَهَدَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في هِدَايَةِ عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ، ودَعَاهُ إلى اللهِ في صِحَّتِهِ وفي مَرَضِه قَبلَ أن يَمُوتَ، ولكنه أَصَرَّ على دِينِ قَومِهِ، وقال:«هو على مِلَّةِ عَبدِ المُطَّلبِ» عند مَوتِهِ -والعِياذُ بِاللهِ- فَأنزَلَ اللهُ في

ص: 225

ذَلكَ: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ (56)} [القصص: 56] وهو القَائِلُ في شِعرِهِ:

لَولَا المَلَامَةُ أو حِذِار مَسبَّةٍ

لَوجَدتَنِي سَمْحًا بِذَاك مُبِينًا

تَركَ الإِسلَامَ لِئَلَّا يُقَالَ له: إنَّ أَشيَاخَهُ ضَالُّونَ، لِيسَيرِ على دِينِ أَشيَاخِهُ {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23)} [الزخرف: 23].

وَاللَّهِ لَوْلَا أَنْ أَجِيءَ بِسُبَّةٍ

تَجَرُّ عَلَى أَشْيَاخِنَا فِي الْمَحَافِلِ

لَكُنَّا اتَّبَعْنَاهُ عَلَى كُلِّ حَالَةٍ

مِنَ الدَّهْرِ جِدًّا غَيْرَ قَوْلِ التَّهَازُلِ

(1)

المَقْصُودُ: أَنَّه على بَصِيرةٍ، على عِلمٍ، ولكنه تَركَ ذَلكَ مُتَابَعَةً لِأسْلَافِهِ وأَشيَاخِهِ؛ فَصَارَ إلى النَّارِ -والعِياذُ بِاللهِ- مع كَونِهِ نَاصَرَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم وحَمَاهُ، وبَذَلَ جُهْدًا كَبِيرًا في حِمَايَتهِ مِنْ أَذَى قَومِهِ، ولَكنَّه لم يَكتُبِ اللهُ له السَّعَادَةَ.

وأَخبَرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّه رَآهُ في جَمرَاتٍ مِنَ النَّارِ؛ فَشَفَعَ إلى رَبِّهِ فصَارَ في ضَحضَاحٍ منَ النَّارِ يَغلِي منها دِمَاغُهُ

(2)

، نَسأَلُ اللهَ العَافِيَةَ.

2 -

أما الإِرَادَةُ الشَّرعِيَّةُ: فهي بِمَعنَى الْمَحبَّةِ وبِمَعنَى الرِّضَا، قد يَقَعُ مُرَادُها وقد لا يَقَعُ مُرَادُهَا، اللهُ أَرَادَ مِنَ العِبَادِ أن يَعبُدُوهُ وأن يُطِيعُوهُ، فمنهم مَنْ امْتَثَلَ وَوَحَّدَ اللهَ وأَطَاعَ أَمرَهُ -وهم الأَقَلُّ- وَمِنهُم من عَصَى وكَفرَ -وهمُ الأَكثَرُونَ-.

هَذِه الإِرَادَةُ يُقَالُ لها: إِرَادَةٌ شَرعِيَّةٌ بِمَعنَى المَحَبَّةِ وبِمَعنَى الرِّضَا، أَرَادَ أن يُؤِمِنُوا، أي: أَحَبَّ مِنْهُم ذَلكَ ورَضِيَ مِنْهُم ذَلكَ، ولكنَّ الأَكثَرِينَ لمْ يَفعَلُوا.

(1)

انظر «البداية النهاية» لابن كثير، ط هجر (4/ 142).

(2)

رواه البخاري (3885).

ص: 226

ومن هَذَا البَابِ قَولُهُ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، هَذِه الإِرَادَةُ الشَّرعِيَّةُ، يُحِبُّ لِعبِادِهِ ذَلكَ، يُحِبُّ لهم اليُسرَ ولا يُحِبُّ لهم العُسرَ، لكن قد يَفعَلُ هَذَا وقد لا يَفعَلُهُ سبحانه وتعالى.

ولِهذَا يَقعُ الكَثِيرُ من النَّاسِ في عُسرٍ ومَشَاقٍّ، قد يُقتَلُ بَعضُهُم وقد يَهْلكُ بِالغَرقِ وغَيرِ ذَلكَ؛ لما سَبَقَ في عِلمِ اللهِ وإِرَادَتهِ الكَونِيةِ أَنَّه يَقعُ هَذَا الشَّيءُ.

وكذَلكَ: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء: 28]، {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ (26)} [النساء: 26]. هَذِه إِرَادَةٌ شَرعِيَّةٌ، قد يَقَعُ مُرَادُهَا وقد لا يَقعُ مُرَادُهَا، مِثلمَا تَقَدَّمَ أنَّ اللهَ أَرادَ مِنْ العِبَادِ أن يَعبُدُوهُ، وأَرَادَ مِنْ العِبَادِ أن يُطِيعُوا الرُّسُلَ، ولَكنْ منْهُم مَنْ أَطَاعَهُم ومنْهُم منْ لمْ يُطِعْ:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء: 64]. أَكثَرُ الرُّسُلِ ما أَطَاعَهَمْ قَومَهَمْ، وَمِنهُم مَنْ أَطَاعَهُ الكَثِيرُ وعَصَاهُ الكَثِيرُ، ومِنهم مَنْ قَتَلَهُ قَومُهُ.

فالحَاصِلُ: أنَّ الإِرَادَةَ الشَّرعِيَّةَ لَيْسَتْ مِنْ جِنسِ الإِرَادَةِ الكَونِيَّةِ، الكَونِيَّةُ مِنْ جِنسِ المَشِيئَةِ لا يَتَخَلَّفُ مُرَادُهَا، وأمَّا الإِرَادَةُ الشَّرعِيَّةُ فقد يَقَعُ مُرَادُهَا وقد لا يَقعُ مُرَادُهَا؛ لِأَنَّهَا بِمَعنَى الْمَحبَّةِ والرِّضَا، أَرَادَ مِنْ عِبَادِهِ أن يَعبُدُوهُ، يَعْنِي أَحَبَّ مِنْهُم ذَلكَ وأَمَرَهُم بهَذَا وَرَضِي مِنْهُم هَذَا، لَكنَّ الأَكثَرِينَ لم يَستَجِيبُوا للدَّاعِي.

هَذَا مَقَامٌ عَظِيمٌ زَلَّت فيه أَقدَامٌ وضَلَّت فيه أَفهَامٌ مِنْ أَهْلِ الِبدعِ مِنَ المُعتَزلةِ والقَدَريةِ وغَيرِهِم مِمَّنْ سَارَ في رِكَابِهِم، ظَنُّوا أن الِإَراَدةَ وَاحِدَةٌ، قَالُوا: كيف يُخَالَفُ مُرَادُ اللهِ؟! وقد ضَلُّوا في هَذَا، فَالإِرَادَةُ قِسمَانِ، لَيستَ وَاحِدَةً:

ص: 227

1 -

الإِرَادَةُ الشَّرعِيَّةُ.

2 -

والإِرَادَةُ الكَونِيَّةُ.

فَالإِرَادَةُ الكَونِيَّةُ بِمَعنَى المَشِيئَةِ لا يَتَخَلَّفُ مُراَدُهَا {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107)} [هود: 107] والإِرَادَةُ الشَّرعِيَّةُ بِمَعنَى الْمَحبَّةِ والرِّضَا فقد يَقَعُ مُرَادُهَا وقد لا يَقَعُ الْمُرَادُ. وقد فَصَّلَ ذَلكَ العَلَّامَةُ ابنُ القَيِّمِ رحمه الله في كِتَابِهِ «شِفَاءِ العَلِيلِ» وغَيرِهِ مِنْ أَئمَّةِ العِلْمِ في التَّفسِيرِ وغَيرِ التَّفسِيرِ، وهَكَذَا أَبُو العَبَّاسِ ابنُ تَيمِيَّةَ في فَتَاوَاه الكَثِيرَةِ.

7465 -

حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، ح وحَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنِي أَخِي عَبْدُ الحَمِيدِ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عَتِيقٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ، أَنَّ حُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ، رضي الله عنهما أَخْبَرَهُ: أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَرَقَهُ وَفَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةً، فَقَاللَّهُمَّ «أَلَا تُصَلُّونَ» ، قَالَ عَلِيٌّ: فَقُلْتُ: يا رَسُولَ اللهِ، إِنَّمَا أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللَّهِ، فَإِذَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَنَا بَعَثَنَا، فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ قُلْتُ ذَلِكَ، وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيَّ شَيْئًا، ثُمَّ سَمِعْتُهُ وَهُوَ مُدْبِرٌ يَضْرِبُ فَخِذَهُ وَيَقُولُ:{وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف: 54]

(1)

.

(1)

ورواه مسلم (775).

ص: 228

والشَّاهِدُ قَولُ عَليٍّ رضي الله عنه: «إنما أَنفُسُنَا بِيدِ اللهِ، إن شَاءَ رَدَّهَا وإن شَاءَ أَمسَكَهَا» . فهي الإِرَادَةُ الكَونِيَّةُ، كَأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كَرِهَ منه هَذَا عليه الصلاة والسلام؛ لأنَّه أَتَاهمَا وقال:«ألا تُصَلِّيَانِ» ، فَحَثَّهُما على أن يَقُومَا يَتَهجَّدا بِاللَّيلِ، فقال عَليٌّ رضي الله عنه ما قَالَ:«إنما أَنفُسُنَا بِيدِ اللهِ» يَعْنِي: أَرْوَاحُنَا، إن شَاءَ رَدَّهَا وإن شَاءَ أَمسَكَهَا. فَانصَرَفَ ولم يُرجِعْ إليه شَيْئًا؛ فَسمِعَهُ يَقُولُ وهو يَضرِبُ فَخِذَهُ:{وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54)} [الكهف: 54].

فهو جَادَلَ بِالقَدَرِ، ولو قَالَ كَلِمَةً أُخرَى غَيرَ ذَلكَ لكان أَنسَبَ؛ لأنَّ القَدَرَ ما يُحتَجُّ به في التَّخلُّفِ عن المحَابِّ الشَّرعِيَّةِ، الإِنسَانُ يُعَالِجُ، وإِنما يُحتَجُّ بِالقَدَرِ بعد المُصِيبَةِ:«إنَّا للهِ وإنَّا إِلَيهِ رَاجِعُونَ» .

أمَّا أنْ يُحتَجَّ بِالقَدَرِ على تَخَلُّفِهِ عنِ العَملِ الصَّالحِ وهو يَستَطِيعُ العِلَاجَ؛ هَذَا ما يَلِيقُ، ولكن يَعمَلُ الأَشيَاءَ، مَثَلًا يَجعَلُ مَنْ يُوقِظُه وَقتَ العِبَادَةِ، بعدَ وُجُودِ السَّاعَاتِ الآن يَجعَلُ السَّاعَةَ على الوَقتِ الذي يُريدُ، يَفعَلُ الأَسبَابَ، إذا كَانَ صَادِقًا يَفعَلُ الأَسبَابَ، لا يَحتَجُّ بِالقَدرِ وهو مُعرِضٌ أو غَافِلٌ أو مُتَسَاهلٌ أو مُقَصِّرٌ في الأَسبَابِ، لا يَكُونُ هَذَا صَحِيحًا، بلْ لا بُدَّ مِنْ عِلَاجٍ.

فلو أنَّ إِنسَانًا تَركَ الأَسبَابَ ونَامَ حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمسُ ما يَكُونُ عُذْرًا له في تَركِ صَلَاةِ الفَجرِ، أو نَامَ عند قُربِ الظُّهرِ ولم يَجعَلْ هُنَاكَ أَسبَابًا حَتَّى فَاتَتْهُ الظُّهرُ أو حَتَّى فَاتَتهُ العَصرُ ما يَكُونُ عُذرًا له، ولا يَكُونُ مِنَ العُذرِ؛ لأنهُ مُفَرِّطٌ.

أمَّا لو أَمرَ مَنْ يُوقِظُه مِنَ الثِّقَاتِ وقَال: إذا أُذِّنَ أَيقِظنَي. أو ركَّبَ السَّاعَةَ

ص: 229

على الوَقتِ المُنَاسِبِ ثم لم يَسمَعْهَا، أو أَصَابَهَا خَلَلٌ يَكُونُ مَعذُورًا.

ثم أيضًا هَذَا فيه تَفصِيلٌ للعُذرِ، لا يُؤَقِّتُ السَّاعَةَ مَثَلًا وهو مُتَأَخِّرٌ في النَّومِ؛ فَيَستَحكِمُ عليه النَّومُ ولا يَسمَعُ؛ فَيكُونُ مَلُومًا مِنْ جِهِةِ تَأَخُّرِه وسَهرِهِ، فَالوَاجِبُ أن يَتَقَدَّمَ ويَنَامَ مُبَكِّرًا حَتَّى لا يَغلِبَهُ النَّومُ، وحتى يَستَطِيعَ أن يَسمَعَ المُنَبِّهَ أو السَّاعَةَ، فإذا ما تَأَخَّرَ وما نَامَ إلا عند الفَجرِ كيف يَسمَعُ السَّاعَةَ؟! قد اسْتَغرَقَ في النَّومِ وسَقطَ كَالمَيِّتِ؛ هَذَا مُفَرِّطٌ وليس بِمعذُورٍ ولو جَعلَ السَّاعَةَ عند رَأسِهِ؛ لِأنَّه سَهرَ وتَأَخَّرَ، وكان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يَكرَهُ النَّومَ قَبلَهَا -العِشَاءَ- والحَدِيثَ بَعدَهَا

(1)

عليه الصلاة والسلام، ونَهَى عنِ السَّمَرِ، يَعْنِي السَّمرَ الذي يَضُرُّ الإِنسَانَ أو السَّمرَ الذي في غَيرِ مَصلَحَةِ المُسْلِمِينَ أو في غَيرِ ضَرُورَةٍ.

فالحَاصِلُ: أنَّ السَّمرَ الذي يَفعَلُه الكَثيرُ منَ النَّاسِ في القِيلَ والقَالِ، أو سَماَعِ آلَاتِ المَلَاهِي أو في الأَخبَارِ التي تَضُرُّهُ ولا تَنفعُهُ أو في غَيرِ هَذَا مما لا يُضطَرُّ إليه؛ ما هو عُذرٌ إذا تَأَخَّرَ ونَامَ عنِ الفَجرِ؛ لِأنَّه مُفَرِّطٌ.

أَحسَنَ اللهُ إِليكَ: احْتِجَاجُ آدَمَ ومُوسَى عليهما السلام؟

هَذَا احتجَّ بعد التَّوبَةِ؛ لأنَّ مُوسَى عليه الصلاة والسلام لامَهُ على المُصِيبَةِ التي هي خُرُوجُهُ منَ الجَنَّةِ؛ فقال له آدَمُ عليه السلام: «أَتعلَمُ أن هَذَا كُتِبَ عليَّ قبلَ أن أُخلَقَ بِأَربَعِينَ سَنةً» ، كما في الحَدِيثِ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«فحجَّ آدَمُ مُوسَى» ؛ لأنَّ هَذَا شَيءٌ كُتِبَ عليه وليْسَ مِنْ فِعلِهِ، إنما فِعْلُهُ أَكلُهُ مِنَ الشَّجرَةِ، فهو مَلُومٌ عليها لكنَّه تَابَ، ومَن تَابَ لا يُلَامُ وقد تَابَ {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122)} [طه: 121، 122] والإنَسَانُ بعد التَّوبَةِ لا يَجُوزُ أن يُلَامَ، لا يُقَالُ لِلإِنسَانِ إذا تَابَ من الزِّنَا أو الخَمرِ عَصَى رَبَّه، بَعد التَّوبَةِ لا، إنما التَّوبِيخُ قَبلَ ذَلكَ.

(1)

رواه البخاري (547)، ومسلم (235)(647).

ص: 230

كذَلكَ المُصِيبَةُ، إذا الإِنسَانُ نَزلَت به مُصِيبَةٌ فَالأَمرُ لَيْسَ بِيدِهِ، نَفسُ المُصِيبَةِ مِنْ مَرضٍ أو غَيرِه، ذَلكَ من المَصَائبِ التي لَيْسَت مِنْ فِعلِهِ لا يُلَامُ، اللَّائِمُ هو المَلُومُ؛ ولِهذَا قَالَ تَعَالَى:{وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156)} [البقرة: 155، 156]، احتَجُّوا بِالقَدرِ:{إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} ؛ لأنَّ المُصِيبةَ لَيْسَت بَأَيدِيهِم وَلَيْسَت بِاخْتِيارِهِم.

7466 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ، حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ، حَدَّثَنَا هِلَالُ ابْنُ عَلِيٍّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«مَثَلُ المُؤْمِنِ كَمَثَلِ خَامَةِ الزَّرْعِ يَفِيءُ وَرَقُهُ مِنْ حَيْثُ أَتَتْهَا الرِّيحُ تُكَفِّئُهَا، فَإِذَا سَكَنَتِ اعْتَدَلَتْ، وَكَذَلِكَ المُؤْمِنُ يُكَفَّأُ بِالْبَلَاءِ، وَمَثَلُ الكَافِرِ كَمَثَلِ الأَرْزَةِ صَمَّاءَ مُعْتَدِلَةً حَتَّى يَقْصِمَهَا اللَّهُ إِذَا شَاءَ»

(1)

.

«يُكَفَّأُ بِالْبَلَاءِ» يَعْنِي: يُصيبُهُ أَنوَاعُ البَلَاءِ.

(الشَّيخُ): رَاجِعْ ضَبَطَها الشَّارح؟ أوِ العَينيُّ حَاضرٌ؟ كَذَا عندَكَ «أُرْزَة بِالضَّمِّ أو أَرْزَة» ، العَينيُّ حَاضِرٌ؟ الشَّارِحُ ما ضَبَطَ؟

المَعرُوفُ كَالأَرزَةِ بِالفَتحِ، شَجرَةٌ عَظِيمَةٌ يُقَالَ لها:«الصَّنَوْبَرُ» ، أيضًا قَوِيَّةٌ صَلَبةٌ لا تَنجَعِفُ إلا مَرةً وَاحِدَةً، كَالكَافِرِ يَعِيشُ صَحِيحًا سَلِيمًا في الغَالِبِ

(1)

ورواه مسلم (2810).

ص: 231

حَتَّى يَأتِيَهُ أَجَلُهُ فَيكُونُ ذَلكَ أَكمَلَ في عَذَابِهِ ونَكَالِهِ -نَسأَلُ اللهَ العَافِيَةَ- لِأنَّه لم تُصِبْهُ مَصَائِبُ تُخفِّفُ عنه، المَصَائِبُ تُخفِّفُ.

أمَّا الْمُؤمِنُ كَخَامةِ الزَّرعِ مِثلُ الزُّرُوعِ المَعرُوفَةِ، هَذِه تَكْفَؤهَا الرِّيَاحُ هَكَذَا وهَكَذَا، إذا جَاءَت الرِّياحُ كَفَأَتهَا ها هنا وها هنا وَرُبَّما كَسَرَتهَا الرِّيحُ لِشَدِّتِهَا.

فهَكَذَا المَؤمِنُ تُصِيبُهُ أَنوَاعُ البَلَاوِي وربما اشْتَدَّ به البَلَاءُ حَتَّى يَمُوتَ، وهَذِه البَلَاوِي كَفَّارَةٌ له:«مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ وَصَبٍ وَلَا نَصَبٍ وَلَا هَمٍّ وَلَا حَزَنٍ وَلَا أَذًى وَلَا غَمٍّ، حَتَّى الشَّوْكَةُ يُشَاكُهَا، إِلَّا كَفَّرَ اللهُ مِنْ خَطَايَاهُ»

(1)

، فالمُؤمِنُ عُرضَةٌ للمَصَائِبِ وسَائِرِ الأَمرَاضِ والأَكدَارِ؛ لِيُكفِّرَ اللهُ به مِنْ خَطَايَاهُ ويَرفَعَ به من دَرجَاتِهِ، ويُضَاعِفَ من حَسنَاتِهِ، بِخِلَافِ الكَافِرِ فإنه قد يَعِيشُ سَلِيمًا إلى المَوتِ كَالأَرزَةِ؛ حَتَّى يَكُونَ ذَلكَ أَكمَلَ في العَذَابِّ وأَشَدَّ في العَذَابِ -نَسأَلُ اللهَ العَافِيَةَ- يَمُوتُ وقد تَوفَّرَتِ السَّيئَاتُ ولم يُكَفِّرْهَا شَيءٌ.

7467 -

حَدَّثَنَا الحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى المِنْبَرِ، يَقُولَ: «إِنَّمَا بَقَاؤُكُمْ فِيمَا سَلَفَ قَبْلَكُمْ مِنَ الأُمَمِ، كَمَا بَيْنَ صَلَاةِ العَصْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، أُعْطِيَ أَهْلُ التَّوْرَاةِ التَّوْرَاةَ، فَعَمِلُوا بِهَا حَتَّى انْتَصَفَ النَّهَارُ ثُمَّ عَجَزُوا، فَأُعْطُوا قِيرَاطًا قِيرَاطًا، ثُمَّ أُعْطِيَ أَهْلُ الإِنْجِيلِ الإِنْجِيلَ، فَعَمِلُوا بِهِ حَتَّى صَلَاةِ العَصْرِ ثُمَّ عَجَزُوا، فَأُعْطُوا قِيرَاطًا قِيرَاطًا، ثُمَّ أُعْطِيتُمُ القُرْآنَ، فَعَمِلْتُمْ بِهِ حَتَّى غُرُوبِ الشَّمْسِ،

(1)

رواه أحمد في «المسند» (8027)، ومسلم (52)(2573)، واللفظ لأحمد.

ص: 232

فَأُعْطِيتُمْ قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ، قَالَ أَهْلُ التَّوْرَاةِ: رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَقَلُّ عَمَلًا وَأَكْثَرُ أَجْرًا؟ قَالَ: هَلْ ظَلَمْتُكُمْ مِنْ أَجْرِكُمْ مِنْ شَيْءٍ؟ قَالُوا: لَا، فَقَالَ: فَذَلِكَ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ».

سبحانه وتعالى وهَذَا فَضلُهُ جل وعلا أنَّ هَذِه الأُمَّةَ أَقلُ عَمَلًا وأَقلُّ مُدَّةً، وأَكثَرُ أَجرًا، قد خَفَّفَ لنا على من قَبلَنَا أَعمَالًا كَثِيرَةً وآصَارًا لِحكمَةٍ بَالَغةٍ سبحانه وتعالى.

وضَربَ لِهذَا مَثَلًا بِالمُستَأجَرِينَ، فَبَقَاءُ هَذِه الأُمَّةِ فيمَن قَبلَهَا مِثلُ ما بينَ صَلَاةِ العَصرِ إلى غُرُوبِ الشَّمسِ يَعْنِي: أنَّ مُعظَمَ الدُّنيَا ذَهَبَ، مُعظَمُ الدُّنيَا ذَهَبَ قَبلَ هَذِه الأُمَّةِ، ثم جَاءَت هَذِه الأُمَّةُ لَيْسَ لها إلا مِقدَارُ العَصرِ، وقد ذَهَبَ منه الآنَ الشَّيءُ الكَثِيرُ، ونحن في آخِرِ الزَّمَانِ وآخَرِ هَذَا العَصرِ الذي بعده تَقومُ السَّاعَةُ، ولكنَّ اللهَ جل وعلا جَعلَ لهَذِه الأُمَّةِ مِنْ الفَضلِ والخَيرِ والمُضَاعَفَةِ في الأُجُورِ أَكثرَ مما جَعلَ لِمَنْ قَبلَهَا.

ومثَّلَ لِليَهُودِ بمن عَمِلَ مِنْ الصَّبَاحِ إلى الظُّهرِ على قِيرَاطٍ، والنَّصَارَى منَ الظُّهرِ إلى العَصرِ على قِيرَاطٍ، وهَذِه الأُمَّةُ مِنْ العَصرِ إلى غُرُوبِ الشَّمسِ، وجَعل لها قَيرَاطَينِ، ضَاعَفَ لها الأَجرَ مع قِلَّةِ الوَقتِ والعَملِ.

قالت اليَهُودُ والنَّصَارَى: يا رَبَّنَا، ما بَالُنَا أَكثَرُ عَمَلًا وأَقلُّ أَجرًا؟ قَالَ: هل ظَلَمتُكُم مِنْ حَقِّكُم شَيْئًا؟ قالُوا: لا. قَالَ: فَذَلكَ فَضلِي أُوتِيهِ مَنْ

ص: 233

أَشَاءُ. سبحانه وتعالى.

فَالأُجرَاءُ يَختَلِفُونَ مع أَنَّهُمْ في الحَقِيقَةِ لَيسوا أُجَرَاءَ بل فَضلٌ مِنَ اللهِ تَفَضَّلَ عَلَيهِم، وأَحسَنَ إِلَيهِم بأن وَفَّقَهُم لِطَاعتِهِ وهَدَاهُم لَطَاعَتِهِ ومَنَّ عَلَيهِم بِطَاعَتِهِ؛ فَضلًا منه جل وعلا، ثمَّ جَازَاهُم فَضلًا منه.

فَأعمَالُهُم فَضلٌ منه سُبحَانَهُ، تَوفِيقُ اللهِ لهم وهِدَايَتُهُ لهم فَضلٌ منه، هو الذي وَفَّقَهُم وهَدَاهُم، ثم إِعطَاؤُهم الثَّوَابَ والأَجرَ فَضلٌ منه سبحانه وتعالى.

7468 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ المُسْنِدِيُّ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ: بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي رَهْطٍ، فَقَالَ:«أُبَايِعُكُمْ عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلَا تَسْرِقُوا، وَلَا تَزْنُوا، وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ، وَلَا تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ، وَلَا تَعْصُونِي فِي مَعْرُوفٍ، فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَأُخِذَ بِهِ فِي الدُّنيَا، فَهُوَ لَهُ كَفَّارَةٌ وَطَهُورٌ، وَمَنْ سَتَرَهُ اللَّهُ، فَذَلِكَ إِلَى اللَّهِ: إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ، وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ»

(1)

.

كَذَا عِنْدَكُمْ {وفَى} بِتَخفِيفِ الفَاءِ؟ ما ضَبَطَهَا الشَّارِحُ؟

(القَارئُ): قَالَ: «تَقَدَّمَ في كِتَابِ الإِيمَانِ» .

(1)

ورواه مسلم (1709).

ص: 234

قَالَ ابنُ بَازٍ رحمه الله: الظَّاهِرُ أنَّ فيهَا الوَجهَينِ {وفَى} بِما التَزمَ به، أو {وفَّى} بِالتَّشدِيدِ، وهو أَكمَلُ.

وهَذَا يَدُلُّ على أن العَبدَ بَينَ أُمُورٍ -هَذِهِ الَبيعَةُ يُقالُ لها بَيعَةُ النِّسَاءِ، المَذكُورَةُ في سُورَةِ المُمتَحنَةِ- فَالعبدُ بَين أُمُورٍ:

1 -

بينَ أن يُوفِّيَ بما عَاهَدَ اللهَ عليه؛ فله أَجرُهُ عِنْدَ اللهِ.

2 -

والَأمرُ الثَّانِي: أن يُؤخَذَ بما عَمِلَ مِنَ التَّقصِيرِ وتُقَامُ عليه الحُدُودُ أو يُعَاقَبُ بِعُقُوبَاتٍ في الدُّنيَا على فِعلِهِ، فاللهُ أَكبَرُ من أن يُعِيدَ عليه العُقوبَةَ؛ فَيكُونَ جَزَاءً له، إلا أن يَفعَلَ بعد ذَلكَ شَيْئًا آخَرَ، إلا أن يُعِيدَ الكَرَّةَ.

3 -

والأَمرُ الثَّالثُ: يُستَرُ، يَفعَلُ المَعصِيَةَ ويُستَرُ، لا يَتُوبُ ولا يُعَاقبُ في الدُّنيَا بل يُستَرُ، هَذَا أَمرُهُ إلى اللهِ إن شَاءَ عَذَّبَهُ وإن شَاءَ غَفرَ له كمَا في قَولِهِ سُبحَانَهُ:{وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]، أمَّا مَنْ وَفَّى واستقَامَ على دِينِ اللهِ فهَذَا أَجْرُهُ على اللهِ سبحانه وتعالى.

أمَّا الحَالَةُ الثَّانِيةُ: الذي أَتَى المَعَاصِيَ ثم عُوقِبَ، زَنا فَأُقيمَ عليه الحَدُّ، شَربَ الخَمرَ فَأُقِيمَ عليه الحَدُّ ثم لم يَعُدْ، فهَذَا كَفَّارَةٌ له، فإن عَادَ إلى زِنًا ثَانٍ هَذِه عُقُوبةُ زِنًا ثَانِيَةٌ، أو عَادَ لِشُربٍ آخَرَ عليه عُقُوبَةٌ ثَانِيةٌ. لكن إن زَنَا فَأُقِيمَ عليه الحَدُّ ثم مَاتَ على ذَلكَ؛ كَانَ كَفَّارةً له هَذَا الحَدُّ، كذَلكَ قَتَلَ فَقُتِلَ كذَلكَ.

الثَّالثُ: مَستُورٌ، عَصَى وسُتِرَ فلم يُقَمْ عليه الحَدُّ فهَذَا أَمرُهُ إلى اللهِ، إن شَاءَ عَفَا عنه بِفضلِهِ سُبحَانَهُ بِأسبَابِ أَعمَالٍ صَالِحَةٍ، أو شَفَاعةِ الشُّفَعَاءِ أو

ص: 235

الأَفرَاطِ أو المَلَائِكَةِ أو نَحوِ ذَلكَ، وإن شَاءَ رَبُّنَا عَاقَبَهُ على قَدرِ الجَريمَةِ التي مَاتَ عليها فَيدخُلَ النَّارَ يُعذَّبُ في النَّارِ، ثم بعد ما يُطَهَّرُ ويُمَحَّصُ في النَّارِ يُخرِجُه اللهُ من النَّارِ كمَا جَاءَت بِذَلكَ النُّصُوصُ الكَثِيرَةُ، ومنها قَولُهُ سُبحَانَهُ في سُورَةِ النِّسَاءِ في المَوضِعَينِ:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]، {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 116]، وهَذَا يَشمَلُ جَمِيعَ المَعَاصِي التي دُونَ الشِّركِ مِنْ الزِّنَا وغَيرِهِ.

وهَكَذَا الأَحَادِيثُ المُتَوَاتِرَةُ عن الرِّسُولِ صلى الله عليه وسلم، وَأنَّه يَشفَعُ في أَهْلِ المَعَاصِي، وأنَّ اللهَ يَحِدُّ له حَدًّا، وَأنَّه يَعُودُ مَرَّةً بعد مَرَّةٍ عليه الصلاة والسلام، وهَكَذَا شَفَاعةُ المَلَائِكَةِ والمُؤمِنِينَ والأَفرَاطِ، كُلُّ هَذَا مِمَّا تَوَاتَرَت به الأَخبَارُ عن رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.

شَيخُ أَحسَنَ اللهُ إِليكَ، إن لم يَستُرِ اللهُ عليه تَكُونُ كَفَّارةً؟

يَكُونُ مَا أَصَابَهُ كَفَّارةً إذا لم يَعُدْ.

هَذِه بَيعَةُ العَقَبةِ الأُولَى أو بَيعَةُ النِّسَاءِ؟

هَذِه بَيعَةُ النِّسَاءِ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ} [الممتحنة: 12]، هَذِه يُقاَلُ لها: بَيعَةُ النِّسَاءِ، هَذِه بَايَعَها الصَّحَابَةَ رضي الله عنهم بعد ذَلكَ، أَمَّا البَيعَةُ الأُولَى بَيعَةُ العَقَبَةِ غَيرُ هَذِه البَيعَةِ، يُطِيعُونَ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم وَيحمُونَهُ كما يَحمُونَ نَسَاءَهُم وذُرِّيَاتِهِم.

ص: 236

7469 -

حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ سُلَيْمَانَ عليه الصلاة والسلام كَانَ لَهُ سِتُّونَ امْرَأَةً، فَقَالَ: لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى نِسَائِي فَلْتَحْمِلْنَ كُلُّ امْرَأَةٍ، وَلْتَلِدْنَ فَارِسًا يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَطَافَ عَلَى نِسَائِهِ، فَمَا وَلَدَتْ مِنْهُنَّ إِلَّا امْرَأَةٌ وَلَدَتْ شِقَّ غُلَامٍ. قَالَ نَبِيّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«لَوْ كَانَ سُلَيْمَانُ اسْتَثْنَى لَحَمَلَتْ كُلُّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ، فَوَلَدَتْ فَارِسًا يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ»

(1)

.

يَعْنِي: أنَّ سُليمَانَ عليه السلام قَالَ: تَلِدُ كُلُّ امْرَأةٍ غِلَامًا يُقَاتِلُ في سَبِيلِ اللهِ ولم يَقُل: إنْ شَاءَ اللهُ، ولِهذَا لم يَقَعْ مَا أَرَادَ؛ لِيُرِيَهُ اللهُ الآيَاتِ والعِبرَ، وأنَّ الأَمرَ لَيْسَ بِيدِهِ ولكنَّهُ بِيدِ اللهِ سبحانه وتعالى، فلم تَلِدْ لَه إِلَّا امْرَأةٌ وَاحِدَةٌ شِقَّ إِنسَانٍ -نِصفَ إِنسَانٍ- هَذَا مِنْ آيَاتِ اللهِ العَظِيمَةِ، ومِنَ التَّعرِيفِ به سُبحَانَهُ وأنَّ الأَمرَ بِيدِهِ، وأنَّ الأَنبِيَاءَ عليهم السلام قد يَخفَى عَلَيهِم بَعضُ الأَمرِ فَيُعرِّفُهُم سبحانه وتعالى ما قد يَخفَى عَلَيهِم.

سُليمَانُ عليه السلام جَاءَ في رِوَايَةٍ: «سِتِّينَ» وجَاءَ في رِوَايَةٍ: «سَبعِينَ» وجَاءَ: «تِسعِينَ» . وكان في شَرِيعَةِ التَّورَاةِ يُبَاحُ لهم منَ النِّسَاءِ كَثِيرٌ، أمَّا في شَرِيعَةِ الإِسلَامِ فَحَصَرهُمُّ الرَّبُّ جل وعلا على أَربَعٍ، ما عَدَا النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فله أَكثَرُ مِنْ ذَلكَ.

(1)

ورواه مسلم (1654).

ص: 237

المَقْصُودُ: أنَّ شَرِيعَةَ التَّورَاةِ كَانَ فيها تَوَسُّعٌ في أَمرِ النِّسَاءِ.

(الشَّيخُ): ماذا قَالَ الشَّارِحُ على قَولِهِ: «سِتِّينَ امْرَأَةً» ؟

[قَالَ الحَافِظُ ابنُ حَجرٍ رحمه الله فِي «فَتْحِ البَارِي» (13/ 451)]: «الْحَدِيثُ السَّادِسُ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيرَةَ فِي قَوْلِ سُلَيْمَانَ عليه السلام: «لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى نِسَائِي» ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ وَبَيَانُ الِاخْتِلَافِ فِي عَدَدِ نِسَائِهِ، وَذَكَرَهُ هُنَا بِلَفْظِ:«لَوْ كَانَ سُلَيْمَانُ اسْتَثْنَى لَحَمَلَتْ كُلُّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ» ، أَيْ لَوْ قَالَ:«إنْ شَاءَ اللهُ» كَمَا في الرِّوَايَةِ الأُخْرَى، وَإِطْلَاقُ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى قَوْلِ: إنْ شَاءَ اللهُ؛ بِحسَبِ اللُّغَةِ». [انتهى كلامه].

7470 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ الحَذَّاءُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَى أَعْرَابِيٍّ يَعُودُهُ فَقَالَ: «لا بَأْسَ عَلَيْكَ طَهُورٌ إنْ شَاءَ اللهُ» . قَالَ: قَالَ الأَعْرَابِيُّ: طَهُورٌ بَلْ هِيَ حُمَّى تَفُورُ عَلَى شَيْخٍ كَبِيرٍ تُزِيرُهُ القُبُورَ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«فَنَعَمْ إِذًا» .

يَعْنِي: اللهُ أَكبَرُ ولا حَولَ ولا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ ما قَبِلَ أن تَكُونَ طَهُورًا، لِجهلِهِ مَا قَبلَ أن تَكُونَ طَهورًا، بل قَالَ:«بَلْ حُمَّى تَفُورُ عَلَى شَيْخٍ كَبِيرٍ تُزِيرُهُ القُبُورَ» ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«فنَعَم إذًا» . نَسأَلُ اللهَ السَّلَامَةَ.

وهَذَا يُبَيِّنُ لنا أن قَولَ الزَّائرِ العَائِدِ لِلمَرِيضِ: «طَهُورٌ إنْ شَاءَ اللهُ» أنَّ هَذَا

ص: 238

لَيْسَ مِنْ المَنهِيِّ عنه، لَيْسَ مِنْ جِنسِ الدُّعَاءِ، بل هو خَبَرٌ

(1)

؛ ولِهذَا قَالَ: «طَهُورٌ إنْ شَاءَ اللهُ» .

يَعْنِي: هنا المَرضُ طَهُورٌ لكَ إنْ شَاءَ اللهُ منَ الذُّنُوبِ، فهو خَبَرٌ لا دُعَاءٌ، بِخِلَافِ ما تَقَدَّمَ:«إذا دَعَا أَحَدُكُم فلا يَقُلْ: إنْ شَاءَ اللهُ؛ فإنَّ اللهَ لا مُسْتَكْرِهَ له»

(2)

، فهَذَا في إِثبَاتُ الدُّعَاءِ، لا يَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِر لي إن شَئتَ، اللَّهُمَّ ارْحَمنِي إنْ شِئتَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِفُلَانٍ إن شِئتَ، اللَّهُمَّ أَدخِلْنِي الجَنَّةَ إن شِئتَ. لا يَقُولُ هَكَذَا، بل يَجزِمُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي، اللَّهُمَّ ارْحمْنِي، اللَّهُمَّ أَدْخِلْنِي الجَنَّةَ، اللَّهُمَّ أَعِذْنِي منَ النَّارِ، اللَّهُمَّ عَافِنِي مِنْ هَذَا المَرضِ، لا يَستَثنِي، اللهُ لا مُكرِهَ له سبحانه وتعالى.

أما إذا دَخَلَ على المَرِيضِ وقال: «طَهُورٌ إنْ شَاءَ اللهُ» ؛ فهَذَا لَيْسَ من هَذَا البَابِ؛ ولِهذَا اسْتَعمَلَهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم.

7471 -

حَدَّثَنَا ابْنُ سَلَامٍ، أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ، حِينَ نَامُوا عَنِ الصَّلَاةِ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ اللَّهَ قَبَضَ أَرْوَاحَكُمْ حِينَ شَاءَ، وَرَدَّهَا حِينَ شَاءَ» . فَقَضَوْا حَوَائِجَهُمْ، وَتَوَضَّئُوا إِلَى أَنْ طَلَعَتِ الشَّمْسُ وَابْيَضَّتْ، فَقَامَ فَصَلَّى

(3)

.

(1)

هذا خبر يفيد التفاؤل والتشجيع ورفع المعنويات.

(2)

رواه البخاري (6338، 6474)، ومسلم (7)(2678) بنحوه.

(3)

ورواه مسلم (681).

ص: 239

وبهَذَا يُعلَمُ أنَّ النَّاسَ إذا نَامُوا عنِ الصَّلَاةِ حَتَّى طَلعَتِ الشَّمسُ يُصَلُّونَها كما كانوا يُصَلُّونَها في الوَقتِ، وقد وَقعَ هَذَا للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مَرَّاتٍ، وَقَعَ عِدَّةَ مَرَّاتٍ.

والنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِبِلَالٍ رضي الله عنه: «اكْلَأْ لَنَا الصُّبْحَ» ؛ فَوقَفَ على دَابَّتِهِ يَرقُبُ الصُّبحَ، فَأَخذَهُ النَّومُ كمَا أَخَذَهُم، فلم يَستَيقِظُوا إلا في حَرِّ الشَّمسِ، كمَا في الرِّوَايَةِ الأُخْرَى الصَّرِيحَةِ، فَقَالَ:«إِنَّ اللَّهَ قَبَضَ أَرْوَاحَكُمْ حَيْثُ شَاءَ، وَرَدَّهَا حَيْثُ شَاءَ»

(1)

. سبحانه وتعالى.

وفي اللَّفظِ الآخَرِ قَالَ لِبِلَالٍ رضي الله عنه: «أَيْ بِلَالُ» فَقَالَ: أَخَذَ بِنَفْسِي الَّذِي أَخَذَ بِنَفْسِكَ

(2)

.

المَقْصُودُ: أن الإِنسَانَ ضَعِيفٌ، فعَليهِ الأَخْذُ بِالأَسبَابِ، فإذا نَامَ مُتَأَخِّرًا أو خَشِيَ ألَّا يَقُومَ لِثِقلِ نَومِهِ، لا بُدَّ أن يَأخُذَ بِالأَسبَابِ، إمَّا بأَنْ يَجعَلَ مَنْ يَرقُبُ الصُّبحَ، مِثلمَا أَمرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بِلَالًا حَتَّى يُخَبِّرَهُ، يَقُولُ لِأهلِهِ لِأَخِيهِ أو لِأَبِيهِ أو لِأُمِّهِ: نَبِّهُونِي إذا أذَّنَ، انْتَبِهُوا لي، أو بِمثلِ ما يَسَّرَ اللهُ الآنَ السَّاعَات، السَّاعَةُ الآنَ بِحَمدِ اللهِ مُيَسَّرةٌ، فيُرَكِّبَها على الوَقتِ الذي يُنَاسِبُ، ثم يَنتَبِهُ بِالمُنَبِّهِ، وهَذَا من أَسبَابِ التَّيسِيرِ -وللهِ الحَمدُ- ولا سِيَّمَا إذا نَامَ مُبَكِّرًا، أما الذي قد يَتَأَخَّرُ كَثِيرًا يِسهَرُ كَثِيرًا، فهَذَا قد يَنَامُ

(1)

رواه أبو داود (439).

(2)

رواه مسلم (309)(680).

ص: 240

ولو يِضبِطُهُ على السَّاعَةِ قد لا يَنتَبِهُ للسَّاعَةِ لِثقَلِ النَّومِ.

فَالوَاجبُ أن يَأخُذَ بِالأَسبَابِ، لا يَتَأَخَّرُ، لا يَسهَرُ سَهَرًا قد يَحُولُ بَينه وبين سَمَاعِ المُنبِّهِ، أو يَحُولُ بينه وبين صَلَاةِ اللَّيلِ وقِيامِ اللَّيلِ، يَتَحَرَّى، والسَّهرُ الذي لا خَيرَ فيه يَضُرُّ ولا يَنْفَعُ. تَقُولُ عَائِشَةُ رضي الله عنها:«كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا فرَغَ مِن صَلَاةِ العِشَاءِ آوَى إلى فِرَاشِهِ» ، إذا صَلَّى العِشَاءَ آوَى إلى فِرَاشِهِ. هَذِه عَادَتُهُ صلى الله عليه وسلم، إذا صَلَّى العِشَاءَ قَصَدَ الفِراشَ، فإذا كَانَ آخِرَ اللَّيلِ قَامَ يَتَهَجَّدُ عليه الصلاة والسلام.

إلا مِنْ حَاجَةٍ، قد يَسْمُرُ مع الصِّدِّيقِ ومع عُمرَ ومع بَعضِ الصَّحَابةِ رضي الله عنهم بعد العِشَاءِ، يَسمُرُونَ لِبعضِ مَصَالحِ المُسْلِمِينَ، لِيَنظُرُوا في بِعْضِ المَصَالحِ، يَأخُذُونَ بَعضَ اللَّيلِ، هَذَا لا بَأْسَ، وليُّ الأَمرِ أو الحِسَبَةُ أو طَالِبُ العِلْمِ قد يَسمُرُونَ بَعضَ الوَقتِ، إمَّا لِمَصَالحِ المُسْلِمِينَ في مُرَاقَبةِ أَحوَالِهِم، كَالهَيئَاتِ أو وليِّ الأَمرِ أو أَمِيرِ البَلَدِ أو ما أَشبَهَهُ ممن له حَاجةٌ، فلَا بأسَ أن يَسمُرَ بَعضَ الوَقتِ، أو طَالبُ العِلْمِ يُهيِّئ دُرُوسَهُ، ولكن لا يَتَأَخَّرُ تَأخُّرًا يَمنَعُهُ مِنْ الصُّبحِ أو يُثَقِّلُ عليه صَلَاةَ الصُّبحِ.

والحَاصِلُ: أَنَّه مَتى أَخَذَه النَّومُ لِأيِّ سَبَبٍ فإنه يُصَلِّي كما كَانَ يُصَلِّي، يُؤَذِّن ويُقِيمُ ويُصَلِّي الرَّاتِبَةَ، النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا قَامُوا بعد الشَّمسِ أَمرَ بِلَالًا رضي الله عنه فَأذَّنَ وتَوضَّؤوا وصَلَّى سُنَّةَ الفَجرِ، ثم قَامَ وصَلَّى الفَجرَ وقَرَأَ فيها جَهْرًا كما كَانَ يَقرَأُ جَهْرًا في الوَقتِ عليه الصلاة والسلام.

فَدَلَّ ذَلكَ على أَنَّها تُؤدَّى كما كَانَتْ تُفعَلُ في الوَقتِ سَواءً بِسَواءٍ، هَكَذَا الظُّهرُ وهَكَذَا العَصرُ وهَكَذَا المَغرِبُ وهَكَذَا العِشَاءُ، متى حَبَسَهُ حَابِسٌ عن الوَقتِ، صَلَّاهَا بعد ذَلكَ كما كَانَ يُصَلِّيهَا في الوَقتِ كَالنَّاسِي.

ص: 241

ولِهذَا قَالَ عليه الصلاة والسلام: «مَنْ نَسِيَ صَلَاةً، أَوْ نَامَ عَنْهَا، فَكَفَّارَتُهَا أَنْ يُصَلِّيَهَا إِذَا ذَكَرَهَا»

(1)

، يَعْنِي: يُصَلِّيها كما كَانَ يُصَلِّيهَا سَواءً بِسَواءٍ.

وقَولُهُ: «وَرَدَّهَا حَيْثُ شَاءَ» : يدُلُّ على أَنَّه سُبحَانَهُ هو المُتَصَرِّفُ في العِبَادِ، وأنَّ نُفُوسَ العِبَادِ وجَمِيعَ أُمُورِهِم كُلِّها بِيدِهِ سبحانه وتعالى، يَتَصَرَّفُ فيها كيف يَشَاءُ، ويُقَلِّبُ القُلُوبَ كيف يَشَاءُ، يَقبِضُ الأَروَاحُ حَيثُ يَشَاءُ، ويَرُدُّهَا حَيثُ يَشَاءُ:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: 30].

وهَذَا قَولُ أَهْلِ السُّنَّةِ والجَمَاعةِ قَاطِبَةً، أَهْلُ السُّنَّةِ والجَمَاعةِ أَجمَعُوا على أنَّ مَشيئَةَ اللهِ ناَفِذَةٌ، وأنَّ جَمِيعَ أَعمَالِ العِبَادِ: مُسلِمِهِم وكَافِرِهِم، مَرِيضِهِم وصَحِيحِهِم، حَاكِمِهِم ومَحكُومِهِم، كُلِّها بِمَشيئَةِ اللهِ سبحانه وتعالى، لا تَخرجُ عن مَشيئَةِ اللهِ، ولا يَكُونُ في مُلكِهِ ما لا يُرِيدُ:{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا (253)} [البقرة: 253]، {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ (112)} [الأنعام: 112]، {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)} [التكوير: 28، 29]، {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)} [الحج: 18]، {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107)} [هود: 107] هَذِه إِرَادَةٌ بِمَعنَى المَشيئَةِ: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107)} [هود: 107] هَذِه بِمَعنَى المَشِيئَةِ، {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} [الأنعام: 125].

{فَمَنْ يُرِدِ} : مَنْ يَشَأ، وهَذِه يُقَالُ لها: الإِرَادَةُ الكَونيَّةُ القَدَرِيَّة، وهي بِمَعنَى المَشيئَةِ عند أَهْلِ السُّنَّةِ.

وهناك إِرَادَةٌ ثَانِيةٌ تُسَمَّى الإِرَادَةَ الشَّرعيَّة، تلك لا يَلزَمُ مُرَادهَا، قد يَقَعُ مُرادُهَا مِنْ العَبدِ، وقد لا يَقَعُ مُرَادُهَا؛ لِأَنَّهَا بِمَعنَى الْمَحبَّةِ ومَعنَى الرِّضَا، كَقَولِهِ: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ

(1)

رواه مسلم (684).

ص: 242

عَلَيْكُمْ} [النساء: 26]، هَذِه الإِرَادَةُ قد حَصَلَت لِبعضِ النَّاسِ، وبَعضُ النَّاسِ ما حَصَلَت لهم، بَعضُ النَّاسِ لم يَتُوبُوا، بَعضُ النَّاسِ لم يَهتَدُوا، بَعضُ النَّاسِ ما بُيِّنَ لهم شَيءٌ، مَاتُوا على جَهلِهِم وعلى حَالِهِم السَّيِّئَةِ، وبَعضُهم لم تَبلُغْهُمُ الدَّعوَةُ.

هَذِه الإِرَادَةُ الشَّرعيَّةُ مِثلُ قَولِهِ لابنِ آدَمَ يَومَ القِيامَةِ، لِبعضِ المُشرِكِينَ يَومَ القِيَامَةِ، لِلمُشرِكِ:«لو كَانَتْ لَكَ الدُّنيَا بِمَا فِيْهَا كُنْتَ مُفتَدِيًا بِهِ مِنْ عَذَابِ اللهِ؟! فَيقُولُ: نَعَمْ، فَيقُولُ اللهُ: قد أَردْتُ مِنْكَ وأَنتَ في صُلبِ أَبِيكَ مَا هُوَ أَهوَنُ من ذَلكَ فَأَبَيتَ إلا الشِّركَ، أَرَدتُ منكَ أَلَّا تُشرِكَ بِي فَأَبَيْتَ إلا الشِّركَ» . أَردتُ مِنكَ، يَعْنِي: شَرعًا، يَعْنِي: أَحبَبتُ منكَ وأَمَرتُكَ.

وهَذِه أُمُورٌ تَخفَى على كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ، مَنْ يَغلَطُ فيها لِأجلِ تَشوِيشِ المُعتَزِلَةِ والقَدَرِيَّةِ في هَذَا، فإنَّ القَدَرِيَّةَ والمُعتَزِلَةَ يَنفُونَ المَشِيئَةَ، إمَّا مُطلَقًا وإِمَّا في الشَّرِّ، وبَعضُهُم يَنفِيهَا مُطلَقًا فَيقُولُ: إنَّ العَبدَ يَفعَلُ ما يَشَاءَ ويَختَارُ ما يَشَاءُ من دونِ أنْ يَكُونَ للهِ في ذَلكَ مَشيِئَةٌ، يُريدُونَ -بِزعْمِهِم- بهَذَا التَّنزِيهَ، وأَنَّهم لَمَّا كَانُوا يُعذَّبُونَ لا يُعذَّبُونَ إلا على أَفعَالٍ لهم لَيْسَ للهِ فيها مَشَيئَةٌ. وَأشكَلَ عَلَيهِم كيفَ تَكُونُ مَشِيئَةُ اللهِ ثم يُعاقَبُ عليها العَبدُ؟ فَالتَبَسَ عَلَيهِم الأَمرُ.

وأَهلُ السُّنَّةِ والجَمَاعَةِ أَجمَعُوا على أنَّ الخَيرَ والشَّرَّ كُلَّهُ بِقَدرِ اللهِ، والطَّاعَاتِ والمَعَاصِيَ كُلَّهَا بِقَدرِ اللهِ وكُلَّها بِمشِيئةِ اللهِ الكَونِيَّةِ، وهمُ الفَاعِلُونَ، سَبَقَ في عِلمِ اللهِ أَنَّه يَقَعُ كَذَا ويَقَعُ كَذَا وله مَشِيئَةٌ في ذَلكَ وإِرَادَةٌ وحِكْمَةٌ بَالِغَةٌ، ولكنْ لا يَمنَعُ هَذَا أنَّ العَبدَ فَاعِلٌ مُختَارٌ، فَالعَبدُ فَاعِلٌ مُختَارٌ،

ص: 243

وهو مُؤَاخَذٌ على فِعلِهِ واخْتِيَارِهِ، كما أنهُ مُثَابٌ على فِعلِهِ واخْتِيارِهِ.

فهو مُختَارٌ، يَصُومُ ويُصَلِّي ويَتَصَدَّقُ ويُسَافِرُ ويُقِيمُ، ويَقُومُ ويَقعُدُ ويَأمُرُ ويَنهَى، مُختَارٌ لهَذِه الأَشيَاءِ، فما كَانَ منها مِنْ صَلَاحٍ اسْتَحَقَّ عليه الثَّوَابَ، وما كَانَ منها مِنْ شَرٍّ كَالزِّنَا والسَّرِقَةِ والظُّلمِ اسْتَحَقَّ عليه العِقَابَ؛ لأنهُ فَاعِلٌ مُختَارٌ.

7472 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ قَزَعَةَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، وَالأَعْرَجِ، ح وحَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنِي أَخِي، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عَتِيقٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَسَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: اسْتَبَّ رَجُلٌ مِنَ المُسْلِمِينَ وَرَجُلٌ مِنَ اليَهُودِ، فَقَالَ المُسْلِمُ: وَالَّذِي اصْطَفَى مُحَمَّدًا عَلَى العَالَمِينَ فِي قَسَمٍ يُقْسِمُ بِهِ. فَقَالَ اليَهُودِيُّ: وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى العَالَمِينَ، فَرَفَعَ المُسْلِمُ يَدَهُ عِنْدَ ذَلِكَ فَلَطَمَ اليَهُودِيَّ، فَذَهَبَ اليَهُودِيُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَخْبَرَهُ بِالَّذِي كَانَ مِنْ أَمْرِهِ، وَأَمْرِ المُسْلِمِ فَقال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«لَا تُخَيِّرُونِي عَلَى مُوسَى، فَإِنَّ النَّاسَ يَصْعَقُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ، فَإِذَا مُوسَى بَاطِشٌ بِجَانِبِ العَرْشِ، فَلَا أَدْرِي أَكَانَ فِيمَنْ صَعِقَ فَأَفَاقَ قَبْلِي، أَوْ كَانَ مِمَّنِ اسْتَثْنَى اللَّهُ»

(1)

.

(1)

ورواه مسلم (2373).

ص: 244

وهَذَا عَندَ أَهْلِ العِلْمِ مِنْ بَابِ التَّوَاضُعِ، قَالَ:«لَا تُخَيِّرُونِي عَلَى مُوسَى» من بَابِ التَّوَاضُعِ، وإلا فهو أَفضَلُ العَالَمِينَ، كمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم:«أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ القِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ»

(1)

عليه الصلاة والسلام، لكِنْ قَالَ هَذَا مِنْ بَابِ التَّوَاضُعِ؛ لِئَلَّا يَتَجَرَّأَ النَّاسُ على هَذِه الأُمُورِ، أو مِنْ بَابِ سدِّ الفِتنَةِ، قَضَى على أَسبَابِهَا لِئَلَّا يَكُونَ هُنَاكَ تَعَصُّبٌ مَقِيتٌ، لا لِطَلبِ الحَقِّ ولا لِأَجلِ فَضلٍ، أو لأنَّهُ قد يُثِيرُ فِتَنًا بَينَ النَّاسِ.

فالحَاصِلُ: أنَّ هَذَا لا يَقْدَحُ في الرِّوَايَةِ المَعرُوفَةِ الَّتِي رَوَاهَا مُسْلِمٌ وغَيرُهُ: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ القِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ» . هَذَا أمرٌ مُجْمَعٌ عليه عند أَهْلِ السُّنَّةِ، أَنَّه أَفضَلُ الأَنبِيَاءِ عليه الصلاة والسلام وخَيرُهُم، ولكِنَّ التَّفضِيلَ إذا كَانَ على سَبِيلِ العَصَبِيَّةِ أو يَتَرَتَّبُ عليه بَعضُ الفِتنِ يَنبَغِي تَركُهُ.

وهَذِه الصَّعقَةُ ظَنَّ بَعضُ النَّاسِ أَنَّها صَعْقَةُ البَعثِ، وليسَ الأَمرُ كذَلكَ، مِثلُ ما في الحَدِيثِ هَذَا يَومَ القِيَامةِ، يُصعَقُونَ يَومَ القِيَامةِ بَعدَمَا قَامُوا بَعدَمَا بُعِثُوا، هَذِه صَعْقَةٌ أُخرَى وهُم في المَوقِفِ، جَاءَ في بِعْضِ الرِّوَايَاتِ ما يَدُلُّ على أَنَّها عند مَجِيءِ اللهِ لِفَصلِ القَضَاءِ بين عِبَادِهِ.

(1)

رواه مسلم (3)(2278)، الترمذي (3148).

ص: 245

فالحَاصِلُ: أَنَّها صَعَقَةُ يَومِ القِيَامةِ، بَعد قِيامِ النَّاسِ.

«فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ» : هَذَا الْمَحفُوظُ، ما قَالَ: فأنَا أَوَّلُ مَنْ يُبعَثُ، هنا قَالَ:«أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ -صَعقَةٌ عَارِضَةٌ- فإذا أنا بِمُوسَى بَاطشًا بِقَائِمَةِ العَرشِ، فَلا أَدرِي أَفَاقَ قَبلِي أم كَانَ مِمَّنْ استَثنَى اللهُ» ؟ كقَولِهِ {فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [النمل: 87] وهَذَا الشَّاهِدُ للمَشِيئَةِ.

وقد ثَبَتَ عنه صلى الله عليه وسلم أَنَّه قَالَ: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ القِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ القَبْرُ» ، فَأَوَّلُ مَنْ يَنشَقُّ عنه القَبرُ هو مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، يَعْنِي: أوَّلَ مَبعُوثٍ يَومَ القِيَامَةِ هو مُحَمَّدٌ عليه الصلاة والسلام، «وَأَنَا أَوَّلُ شَافِعٍ، وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ» . أَخرجَهُ مُسلِمٌ في «الصَّحِيحِ»

(1)

.

فهَذَا يَدُلُّ على أَنَّه هو أَوَّلُ مَنْ يُبعَثُ، وَلَيْسَت القِصَّةُ هَذِه قِصَّةَ مُوسَى عليه الصلاة والسلام، وإنما قِصَّةُ مُوسَى عليه الصلاة والسلام يَومَ القِيامَةِ بعد بَعثِ النَّاسِ وبعد وُجُودِهِم في القِيَامَةِ، صَعقةٌ أُخرَى ثَالِثَةٌ تَكُونُ يَومَ القِيَامةِ والنَّاسُ مَوجُودُونَ قد قَامُوا مِنْ قُبُورِهِم وقد جُمِعُوا.

هَذَا فيه اسْتِثنَاءُ الصَّعقَةِ هَذِه؟

«أَوْ كَانَ مِمَّنِ اسْتَثْنَى اللَّهُ» الشَّاهِدُ قَولُهُ: «أَوْ كَانَ مِمَّنِ اسْتَثْنَى اللَّهُ» .

لكن فِيهَا اسْتِثنَاءُ الصَّعقَةِ؟

لا، أَرَادَ النَّبيُ صلى الله عليه وسلم قَولَهُ جل وعلا:{وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [النمل: 87] أَرادَ منه هنا الآيَةَ الكَريمَةَ.

(1)

رواه مسلم (3)(2278).

ص: 246

ألا يتَّجِهُ -أَحسَنَ اللهُ إِليكَ- «على العَالَمِينَ» عَالَمِي زَمَانِ مُوسَى عليه الصلاة والسلام؟

هَذَا في التَّفضِيلِ، في التَّفضِيلِ على عَالَمِي زمَانِهِ، المُرَادُ به عَالَمِي زَمَانِهِ، لكنَّ المَقصُودَ هنا أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أَرَادَ بهَذَا ألَّا يَكُونَ فِتنَةً بين النَّاسِ، أو من بَابِ التَّواضُعِ عليه الصلاة والسلام.

أَحسَنَ اللهُ إِليكَ، ما يَكُونُ قبلَ أنْ يُعلمَ بأنَّه أَفضَلُ الخَلقِ؟

هَذَا أَحدُ الأَقوَالِ فيها، ذَكَرَهُ النَّوَوِّيُّ، وذَكَرَ أَقوَالًا خَمسَةً فيها، لكن أَحسَنُهَا أَنَّه مِنْ بَابِ التَّوَاضُعِ أو مِنْ بَابِ الْمَنعِ مِنَ التَّخْيِيرِ والتَّفضِيلِ على سَبِيلِ التَّعصُّبِ، أو إذا كَانَ يَتَرتَّبُ عليه فِتنَةٌ.

أَحسَنَ اللهُ إِليكَ، الاسْتِثنَاءُ هنا قَولُهُ:«أَوْ كَانَ مِمَّنِ اسْتَثْنَى اللَّهُ» يُمكِنُ هَذَا وَهْمٌ مِنْ بَعضِ الرُّوَاةِ؛ لأنَّ هَذِه الصَّعقَةَ في التَّجَلِّي ما فِيهَا اسْتِثنَاءٌ؟

مُحتَمِلٌ أَنَّها دَخَلَتْ على بَعضِ الرُّوَاةِ مِنْ صَعقَةِ البَعثِ. اللهُ المُستَعَانُ.

ابنُ القَيمِ له كَلَامٌ عليه جَيدٌ، ابنُ القَيمِ رحمه الله في كِتَابِ «الرُّوحِ» تَكَلَّمَ عليه، وفي غَيرِ كِتَابِ «الرُّوحِ» كَلَامًا طيِّبًا، وهو مَعنَى ما ذَكَرتُ لكم، كَلَامُ ابنِ القَيمِ هو مَعنَى ما ذَكَرتُ لكُم.

ص: 247

7473 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ أَبِي عِيسَى، أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «المَدِينَةُ يَأْتِيهَا الدَّجَّالُ، فَيَجِدُ المَلَائِكَةَ يَحْرُسُونَهَا فَلَا يَقْرَبُهَا الدَّجَّالُ، وَلَا الطَّاعُونُ إنْ شَاءَ اللهُ»

(1)

.

7474 -

حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ، فَأُرِيدُ إنْ شَاءَ اللهُ أَنْ أَخْتَبِيَ دَعْوَتِي، شَفَاعَةً لِأُمَّتِي يَوْمَ القِيَامَةِ»

(2)

.

وهَذَا مِنْ رَأفَتِهِ ورَحمَتِهِ عليه الصلاة والسلام، اخْتَبَأَ الدَّعوَةَ إلى وَقتٍ أَشَدَّ، النَّاسُ فيه أَشَدُّ حَاجَةً إليها، وإن كَانَ دَعَا لهم كَثِيرًا، لكن هَذِه الدَّعوَةُ العَامَّةُ دَعوَةٌ خَاصَّةٌ، دَعوَتُهُ لِلأُمَّةِ خَاصَّةً اخْتَبَأَهَا لِيدعُوَ لهم يَومَ القِيَامةِ في شَفَاعَتِهِ عليه الصلاة والسلام «فَهِيَ نَائِلَةٌ إنْ شَاءَ اللهُ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا» .

غَيرُ الشَّفَاعةِ العُظمَى، عَفَا اللهُ عنكَ؟

الظَّاهِرُ هو مَقَامُ الشَّفَاعَةِ العُظمَى يَومَ القِيَامةِ، فإنهُ يَشفَعُ لهم مَرَّاتٍ

(1)

ورواه مسلم (199).

(2)

ورواه مسلم (198).

ص: 248

كَثِيرَةً، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيه وسَلِّمْ، وأَعظَمُهَا الشَّفَاعَةُ العُظمَى في القَضَاءِ بينهم؛ لِأَنَّهَا عَامَّةٌ.

والشَّفَاعَةُ لِلعُصَاةِ في النَّارِ؟

دَاخِلَةٌ في هَذَا، «فَهِيَ نَائِلَةٌ إنْ شَاءَ اللهُ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا»

(1)

. فهَذَا يَدُلُّ على أنَّ الشَّفَاعَاتِ الأُخْرَى تَتَعَلَّقُ بِالعُصَاةِ، وأمَّا الشَّفَاعَةُ العُظمَى فهي تَعُمُّ المُشرِكَ وغَيرَ الْمُشرِكِ.

المَشِيئَةُ التي ذَكَرَهَا النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في قَولِهِ: «إنْ شَاءَ اللهُ» بعدَ الدَّجَّالِ الطَّاعُونُ، أَرَادَ الأَمرَينِ أو

؟

الأَمرَينِ؛ جَاءَ في الرِّوَايَاتِ الأُخْرَى الجَزمُ بأن المَدِينةَ لا يَدخُلُهَا الطَّاعُونُ ولا مَكَّةَ، ولا الدَّجَالُ كذَلكَ، والمَشِيئَةُ للتَّبرُّكِ، أو قَبلَ أن يَعلَمَ اليَقِينَ

ثم جَاءَهُ الوَحِيُ بِالجَزمِ بِأنَّه لا يَدخُلُ الطَّاعُونُ ولا الدَّجَالُ مَكَّةَ ولا المَدِينَةَ.

الطَّاعُونُ جَاءَ في مَكَّةَ؟

يَغلُبُ على ظنِّي جَاءَ فيهما، مِثلمَا جَاءَ في الدَّجَّالِ، الدَّجَّالُ لَا شَكَّ، جَاءَ فِيهِمَا جَمِيعًا.

ما يُذكَرُ مِنْ الوَقَائِعِ بِالنِّسبَةِ للحُجَّاجِ، إِصَابَةُ الحُجَّاجِ بِمَرضِ الطَّاعُونِ؟

مَحلُّ نظرٍ، يُنظَرُ في صِحَّةِ وُقُوعِهِ.

(1)

رواه مسلم (338)(199).

ص: 249

أو أنْ يُقَالَ أَحسَنَ اللهُ إِليكَ: إنَّه ما يُخرَجُ منها، ما يُخرَجُ مِنْ مَكَّةَ إذا جَاءَهَا الطَّاعُونُ؟

اللهُ أَعلَمُ.

(الشَّيخُ): تَتَبَّعْ رِوَاياتِ الطَّاعُونِ وَالدَّجَّالِ، اجْمَعْهَا، تتَّبعْهَا في «الصَّحِيحَينِ» وغَيرِ «الصَّحِيحَينِ»

(1)

.

(الطَّالِبُ): إنْ شَاءَ اللهُ.

(الشَّيخُ): الحَافظُ مَا تَكَلَّمَ؟

(الطَّالِبُ): كُلُّ الأَحَادِيثِ فيها إِشَارَةٌ خَفِيفَةٌ.

قَالَ ابنُ بَازٍ رحمه الله: هو أَرَادَ الاختِصَارَ

(2)

، وإلا كَانَ مِنْ الْمُستَحسَنِ أَنَّه إذا مَرَّ مِثلُ هَذَا يَأْتِي بِمُلَخَّصٍ ولو في بِعْضِ الأَحيَانِ، مُلخَّص ما تَقَدمَ؛ لأنَّ الكِتَابَ كَبِيرٌ وَاسِعٌ، لكن قَصدُهُ الاخْتِصَارَ حَمَلَهُ على العَزْوِ.

7475 -

حَدَّثَنَا يَسَرَةُ بْنُ صَفْوَانَ بْنِ جَمِيلٍ اللَّخْمِيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُنِي عَلَى قَلِيبٍ، فَنَزَعْتُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ أَنْزِعَ، ثُمَّ أَخَذَهَا ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ

(1)

يأمر الشيخ أحد الطلبة بجمع أحاديث الدجال والطاعون.

(2)

يعني: الحافظ.

ص: 250

فَنَزَعَ ذَنُوبًا أَوْ ذَنُوبَيْنِ وَفِي نَزْعِهِ ضَعْفٌ، وَاللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ، ثُمَّ أَخَذَهَا عُمَرُ فَاسْتَحَالَتْ غَرْبًا، فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيًّا مِنَ النَّاسِ يَفْرِي فَرِيَّهُ حَتَّى ضَرَبَ النَّاسُ حَوْلَهُ بِعَطَنٍ»

(1)

.

7476 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ العَلَاءِ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ بُرَيْدٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَتَاهُ السَّائِلُ - وَرُبَّمَا قَالَ جَاءَهُ السَّائِلُ - أَوْ صَاحِبُ الحَاجَةِ، قَالَ:«اشْفَعُوا فَلْتُؤْجَرُوا وَيَقْضِي اللَّهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ مَا شَاءَ»

(2)

.

وهَذِه مِنْ نِعَمِ اللهِ العَظِيمَةِ، ومِن مَحَاسِنِ هَذَا الدِّينِ، أنَّ المُؤمِنَ يَشفَعُ لِأَخِيهِ ولِإخْوَانِهِ، ويَشفَعُ في المصَالحِ العَامَّةِ، حَتَّى يَحصُلَ التَّعَاونُ:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ (2)} [المائدة: 2].

فإذا جَاءَ صَاحِبُ الحَاجةِ وأنت تَعرِفُ أَنَّه يَستَحِقُّ وَأنَّه ذُو حَاجَةٍ وشَفَعَت في أن يُعطَى حَاجَتَه وأن يُسعَفَ في طَلْبَتهِ، فأنت مَأجُورٌ، واللهُ يَقضِي على لِسَانِ نبيِّه ما شَاءَ، يَعْنِي: اللهُ جل وعلا هو الذي يَقضِي ما يَشَاءُ سُبحَانَهُ، إنَّمَا أنتَ مُتَسَبِّبٌ، فإذا شَفعْتَ لِمَظلُومٍ أو لِحَاجَةٍ أو في أَمْرٍ يَنْفَعُ النَّاسَ، يَنَفعُ المُسْلِمِينَ، كَانَ ذَلكَ

(1)

ورواه مسلم (2392).

(2)

ورواه مسلم (2627).

ص: 251

من الخَيرِ العَظِيمِ وأنت مَأجُورٌ عليه.

يَشفَعُ على ظَاهِرِ حَالِهِ أَحسَنَ اللهُ إِليكَ؟

على حَسَبِ ما يَعلَمُ منه.

7477 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ هَمَّامٍ، سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«لَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ، ارْحَمْنِي إِنْ شِئْتَ، ارْزُقْنِي إِنْ شِئْتَ، وَليَعْزِمْ مَسْأَلَتَهُ، إِنَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، لَا مُكْرِهَ لَهُ»

(1)

.

سبحانه وتعالى، هَذَا شَاهِدٌ ظَاهِرٌ، وهو مُطَابِقٌ للآيَةِ الكَرِيمَةِ في الحَجِّ:{إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)} [الحج: 18] بِمَعنَى: لا مُعَقِّبَ له ولا أَحَدَ يَردُّ عليه ما يَشَاؤُهُ سبحانه وتعالى، بل هو القَاهِرُ لِعِبَادِهِ وهو الذي يَفعَلُ ما يَشَاءُ:{إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107)} [هود: 107] سبحانه وتعالى.

وفي الحَدِيثِ: السُّؤَالُ، وأنَّ السَّائِلَ يَعزِمُ في سُؤَالِهِ، ويُعَظِّمُ الرَّغبَةَ، وُيقبِلُ على اللهِ بِدُعَاءِ الْمُضْطَرِّ الْمُحتَاجِ الذي يَعلَمُ أَنَّه لا حِيلَةَ له ولا خَلاصَ له إلا باللهِ، وَأنَّه في أَشدِّ الضَّرُورَةِ لِرَبِّهِ في مَغفِرَتِهِ ورَحمَتِهِ وإِحسَانِهِ إِلَيه، وإِدخَالِهِ الجَنَّةَ وإِنجَائهِ مِنَ النَّارِ، وتَيسِيرِ أُمُورِهِ، إلى غَيرِ ذَلكَ.

(1)

ورواه مسلم (2679).

ص: 252

فلِهذَا لا يُنَاسِبُ أن يَقُولَ: «إن شِئتَ» ، إنما يَقُولُ:«إن شِئتَ» الذي عندَه غنَاءٌ، عنده سَعَةٌ يَستَطِيعُ أن يَستَغْنِيَ، أمَّا العِبَادُ فلَيْسَ عندَهُم سَعَةٌ وليْسَ عندَهُم قُدْرَةٌ وليس لهم مَلجَأٌ إلَّا إلى اللهِ سبحانه وتعالى، فهم فُقَرَاءُ إليه وإِنْ مَلكُوا الدُّنيَا؛ ولِهذَا يَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي، اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي يا أَرحَمَ الرَّاحِمِينَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي وارْحَمْنِي، اللَّهُمَّ أَنْجِنِي من النَّارِ بِرَحمَتِكَ يا أَرحَمَ الرَّاحِمِينَ. لا يِقُولُ: إن شِئتَ.

كرَّرَ الحَدِيثَ، هَذَا حَدِيثُ أَنَسٍ كَرَّرَهُ في نَفسِ البَابِ:«إِذَا دَعَوْتُمُ اللَّهَ فَاعْزِمُوا فِي الدُّعَاءِ، وَلَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: إِنْ شِئْتَ فَأَعْطِنِي، فَإِنَّ اللَّهَ لَا مُسْتَكْرِهَ لَهُ» ثم أَعَادَهُ هنا؟

(الشَّيخُ): الَّذِي عِنْدَكَ هَذَا عنْ أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه أو عَنْ أَنسٍ رضي الله عنه، الأَخِيرُ هَذَا؟

(الطَّالِبُ): عن أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه.

التَّكرَارُ لِأجلِ الصَّحَابِي، أَقُولُ: لِأَجلِ الصَّحَابِيِّ.

7478 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو حَفْصٍ عَمْرٌو، حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ، حَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: أَنَّهُ تَمَارَى هُوَ وَالحُرُّ بْنُ قَيْسِ بْنِ حِصْنٍ الفَزَارِيُّ فِي صَاحِبِ مُوسَى أَهُوَ خَضِرٌ؟ فَمَرَّ بِهِمَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ الأَنْصَارِيُّ، فَدَعَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: إِنِّي تَمَارَيْتُ أَنَا وَصَاحِبِي هَذَا فِي صَاحِبِ مُوسَى الَّذِي سَأَلَ السَّبِيلَ إِلَى لُقِيِّهِ،

ص: 253

هَلْ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ شَأْنَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:«بَيْنَا مُوسَى فِي مَلَإٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: هَلْ تَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ مِنْكَ؟ فَقَالَ مُوسَى: لَا، فَأُوحِيَ إِلَى مُوسَى، بَلَى عَبْدُنَا خَضِرٌ، فَسَأَلَ مُوسَى السَّبِيلَ إِلَى لُقِيِّهِ، فَجَعَلَ اللَّهُ لَهُ الحُوتَ آيَةً، وَقِيلَ لَهُ: إِذَا فَقَدْتَ الحُوتَ فَارْجِعْ فَإِنَّكَ سَتَلْقَاهُ، فَكَانَ مُوسَى يَتْبَعُ أَثَرَ الحُوتِ فِي البَحْرِ، فَقَالَ فَتَى مُوسَى لِمُوسَى: أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهِ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ. قَالَ مُوسَى: ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِي فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا، فَوَجَدَا خَضِرًا، وَكَانَ مِنْ شَأْنِهِمَا مَا قَصَّ اللَّهُ»

(1)

.

(الشَّيخُ): تَكَلَّمَ على «أَبِي حَفصٍ عَمرو» ؟

[قَالَ الحَافِظُ ابنُ حَجرٍ رحمه الله فِي «فَتْحِ البَارِي» (13/ 452)]: «وقد تقَدَّمَ شَرحُهُ مُستَوفًى في التَّفسِيرِ، وتَقَدَّمَ شَيءٌ منه في كِتَابِ العِلمِ، وشَيخُهُ عبدُ اللهِ بنُ مُحمَّدٍ هو الْمُسنَدِيُّ، وشَيخُ الْمُسندِيِّ أَبُو حَفْصٍ عَمرو بِفتحِ العَينِ، هو ابنُ أَبِي سَلَمَةَ التِّنِّيسِيّ بِمُثَنَّاةٍ ونُونٍ ثَقِيلَةٍ مَكسُورةٍ، وأَبُو سَلَمَةَ أَبُوهُ لم أَقِفْ على اسْمِهِ» . [انتهى

(1)

ورواه مسلم (2380).

ص: 254

كلامه].

(الشَّيخُ): عندك فَقَالَ: «إِنِّي تَمَارَيْتُ»

(1)

أو «تَمَادَيْتُ» ؟ بِالدَّالِ أو بِالرَّاءِ؟

(الطَّالِبُ): بِالدَّالِ في الشَّكلِ بِالدَّالِ.

(الشَّيخُ): ضَبَطَ عندَكُم؟ المَعرُوفُ «تَمَارَيتُ» : اخْتَلَفَتْ. ما ضَبَطَ عِندَكُم؟ القَسْطَلَّانِي عِندَكُم؟ ما جَاءَ؟ مَنْ الذي عِندَهُ القَسطَلَّانِي؟

(الطَّالِبُ): وفي النُّسخَةِ الثَّانِيَةِ بِالرَّاءِ.

المَعرُوفُ الرَّاءُ «تَمَارَيتُ» ، وإن كَانَ لها وَجهٌ «تَمَادَيتَ» يَعْنِي: طَالَ الخِلَافُ، طَالَ النِّزَاعُ بينَنا، تَمَادَى يَعْنِي طَالَ، المَعرُوفُ في الرِّوَايةِ الرَّاءُ.

(القَارِئُ): في الأَوَّلِ أَنَّه تَمَارَى بِالرَّاءِ ثم قالَ: «إِنِّي تَمَادَيْتُ» .

قال ابنُ بَازٍ رحمه الله: ضَعْ عَليهِ إِشَارَةً، رَاجعِ القَسْطلَّانيَّ، [أَحَدٌ] مِنْكُمْ يُحضِرهُ. سُلْطانُ

(2)

تُجِيء بِهِ؟

(سُلطَانُ): إنْ شَاءَ اللهُ.

قال ابنُ بَازٍ رحمه الله: والشَّاهِدُ: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69)} [الكهف: 69].

(1)

قرأها الطالب من نسخته (تماديت) بالدال.

(2)

وهو الشيخ سلطان الخميس وفَّقه الله.

ص: 255

7479 -

حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَقَالَ، أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«نَنْزِلُ غَدًا إنْ شَاءَ اللهُ بِخَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ، حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلَى الكُفْرِ يُرِيدُ المُحَصَّبَ»

(1)

.

يَعْنِي في حَجَّةِ الوَدَاعِ عليه الصلاة والسلام، بِالأَبطَحِ يَعْنِي، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيه وسَلِّمْ.

7480 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي العَبَّاسِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: حَاصَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَهْلَ الطَّائِفِ فَلَمْ يَفْتَحْهَا، فَقَالَ:«إِنَّا قَافِلُونَ غَدًا إنْ شَاءَ اللهُ» . فَقَالَ المُسْلِمُونَ: نَقْفُلُ وَلَمْ نَفْتَحْ، قَالَ:«فَاغْدُوا عَلَى القِتَالِ» . فَغَدَوْا فَأَصَابَتْهُمْ جِرَاحَاتٌ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«إِنَّا قَافِلُونَ غَدًا إنْ شَاءَ اللهُ» . فَكَأَنَّ ذَلِكَ أَعْجَبَهُمْ فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

(2)

.

(1)

ورواه مسلم (1314).

(2)

ورواه مسلم (1314).

ص: 256

والتَّبسُّمُ للدَّلَالَةِ على ضَعفِ ابنِ آدَمَ، وَأنَّه مَتَى مَسَّه الضُرُّ فَرِحَ بِأسبَابِ العَافِيَةِ.

في اليَومِ الأَوَّلِ ما أَحَبُّوا أن يَقفُلُوا ولم يَفتَحُوا البِلَادَ؛ لأنَّهم كانوا في سَلَامةٍ يَرجُونَ الفَتحَ، فَلمَّا أُصِيبُوا بِالجِرَاحَاتِ قَالَ:«إنا قَافِلُونَ غدًا إنْ شَاءَ اللهُ» ؛ سَكَتُوا لِأجلِ ما أَصَابَهُم مِنْ الضُرِّ، وهَذَا من طَبِيعَةِ ابنِ آدَمَ وضَعفِهِ:{وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28].

* * *

ص: 257

‌بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}

[سبأ: 23]،

«وَلَمْ يَقُلْ: مَاذَا خَلَقَ رَبُّكُمْ» ، وَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ:{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255].

وَقَالَ مَسْرُوقٌ، عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ:«إِذَا تَكَلَّمَ اللَّهُ بِالوَحْيِ سَمِعَ أَهْلُ السَّمَوَاتِ شَيْئًا، فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ وَسَكَنَ الصَّوْتُ، عَرَفُوا أَنَّهُ الحَقُّ وَنَادَوْا: {مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ} [سبأ: 23]» .

وَيُذْكَرُ عَنْ جَابِرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «يَحْشُرُ اللَّهُ العِبَادَ، فَيُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ: أَنَا المَلِكُ، أَنَا الدَّيَّانُ» .

7481 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«إِذَا قَضَى اللَّهُ الأَمْرَ فِي السَّمَاءِ، ضَرَبَتِ المَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خَضْعَانًا لِقَوْلِهِ كَأَنَّهُ سِلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانٍ - قَالَ عَلِيٌّ: وَقَالَ غَيْرُهُ- صَفْوَانٍ يَنْفُذُهُمْ ذَلِكَ فَإِذَا: {فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ: 23]» .

ص: 258

قَالَ عَلِيٌّ: وَحَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا عَمْرٌو، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ بِهَذَا، قَالَ سُفْيَانُ: قَالَ عَمْرٌو: سَمِعْتُ عِكْرِمَةَ: حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ. قَالَ عَلِيٌّ: قُلْتُ لِسُفْيَانَ: قَالَ سَمِعْتُ عِكْرِمَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ لِسُفْيَانَ: إِنَّ إِنْسَانًا رَوَى عَنْ عَمْرٍو بْن دِينَار، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، يَرْفَعُهُ: أَنَّهُ قَرَأَ: {فُزِّعَ} ، قَالَ سُفْيَانُ: هَكَذَا قَرَأَ عَمْرٌو، فَلَا أَدْرِي سَمِعَهُ هَكَذَا أَمْ لَا؟ قَالَ سُفْيَانُ: وَهِيَ قِرَاءَتُنَا.

{فُزِّعَ} [سبأ: 23] بِعَينٍ مُهمَلَةٍ، {فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} [سبأ: 23] يَعْنِي: زَالَ عنها الفَزعُ، وفي قِرَاءَةٍ أُخرَى:(فُرِّغ).

7482 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ مَا أَذِنَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَتَغَنَّى بِالقُرْآنِ» . وَقَالَ صَاحِبٌ لَهُ: يُرِيدُ: أَنْ يَجْهَرَ بِهِ

(1)

.

(1)

ورواه مسلم (792).

ص: 259

«ما أَذِنَ» يَعْنِي: ما اسْتَمعَ، وهَذَا يَدُلُّ على شَرعِيَّةِ تَحسِينِ الصَّوتِ بِالقُرآنِ والتَّغَنِّي به، ما هو مَعنَاهُ الغِنَاءُ، ولكن مَعنَاهُ مِثلُ ما فَسَّرهُ، وهو الجَهْرُ به مع تَحسِينِ الصَّوتِ، اللهُ أَكبَرُ.

«النَّبيُّ» جِنسٌ؟

جِنسُ النَّبيِّ نعم. في اللَّفظِ الآخَرِ «مِنْ نَبِيٍّ» ، المَعرُوفُ بِالتَّنكِيرِ.

أَحسَنَ اللهُ إِليكَ، قَولُهُ:«صلى الله عليه وسلم» من كَلَامِ النَّبِيِّ؟

كُل نبيٍّ يُقَالُ له هَذَا، كُلُّ الأَنبِياءِ يُقَالُ لهُم: صلى الله عليه وسلم.

في الحَدِيثِ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ مَا أَذِنَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم» ، يَعْنِي الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم صلى على جِنسِ الأَنبِيَاءِ؟

وهَذَا مُحتَمِلُ، يَحتَاجُ إلى تَأَمُّلٍ، قد يَكُونُ قَالَهُ وقد يَكُونُ مِنْ تَصَرُّفِ الرُّوَاةِ.

7483 -

حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «يَقُولُ اللَّهُ: يَا آدَمُ، فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ

ص: 260

وَسَعْدَيْكَ، فَيُنَادَى بِصَوْتٍ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُخْرِجَ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ بَعْثًا إِلَى النَّارِ»

(1)

.

وفي اللَّفظِ الآخَرِ: «بَعثَ النَّارِ»

(2)

بِالإِضَافَةِ، قَالَ:«يا رَبِّ ومَا هُوَ بَعْثُ النَّارِ؟» . قَالَ: «مِنْ كُلِّ ألْفٍ تِسعُمَائةٍ وتِسعَةٌ وتِسعُونَ» اللهُ أَكبَرُ، كمَا يَأَتِي.

7484 -

حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ:«مَا غِرْتُ عَلَى امْرَأَةٍ مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ، وَلَقَدْ أَمَرَهُ رَبُّهُ أَنْ يُبَشِّرَهَا بِبَيْتٍ فِي الجَنَّةِ»

(3)

.

(الشَّيخُ): اللَّهُمَّ ارْضَ عنها، اللَّهُمَّ ارْضَ عنها، رَاجِعِ الشَّرحَ على البَابِ.

[قَالَ الحَافِظُ ابنُ حَجرٍ رحمه الله فِي «فَتْحِ البَارِي» (13/ 454)]: «قَوْلُهُ: بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْده الا لمن أذن لَهُ} «وَسَاقَ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ ثُمَّ قَالَ: «وَلَمْ يَقلْ مَاذَا خلق ربُّكُم؟» . قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: اسْتَدَلَّ الْبُخَارِيُّ

(1)

ورواه مسلم (222).

(2)

رواه البخاري (3348)، ومسلم (379)(222).

(3)

ورواه مسلم (2434، 2435).

ص: 261

بِهَذَا عَلَى أَنَّ قَوْلَ اللَّهِ قَدِيمٌ لِذَاتِهِ، قَائِمٌ بِصِفَاتِهِ، لَمْ يَزَلْ مَوْجُودًا بِهِ، وَلَا يَزَالُ كَلَامُهُ لَا يُشْبِهُ الْمَخْلُوقِينَ، خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ الَّتِي نَفَتْ كَلَامَ اللَّهِ، وَلِلْكُلَّابِيَّةِ فِي قَوْلِهِمْ: هُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْفِعْلِ وَالتَّكْوِينِ، وَتَمَسَّكُوا بِقَوْلِ الْعَرَبِ: قُلْتُ بِيَدِي هَذَا، أَيْ: حَرَّكْتُهَا، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ الْكَلَامَ لَا يُعْقَلُ إِلَّا بِأَعْضَاءٍ وَلِسَانٍ، وَالْبَارِي مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ؛ فَرَدَّ عَلَيْهِمُ الْبُخَارِيُّ بِحَدِيثِ الْبَابِ وَالْآيَةِ، وَفِيهِ أَنَّهُمْ إِذَا ذَهَبَ عَنْهُمُ الْفَزَعُ قَالُوا لِمَنْ فَوْقَهُمْ: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ سَمِعُوا قَوْلًا لَمْ يَفْهَمُوا مَعنَاهُ مِنْ أَجْلِ فَزَعِهِمْ؛ فَقَالُوا: مَاذَا قَالَ؟ وَلَمْ يَقُولُوا: مَاذَا خَلَقَ؟ وَكَذَا أَجَابَهُمْ مَنْ فَوْقَهُمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ بِقَوْلِهِمْ: قَالُوا الْحَقَّ.

وَالْحَقُّ أَحَدُ صِفَتَيِ الذَّاتِ الَّتِي لَا يَجُوزُ عَلَيْهَا غَيْرُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَى كَلَامِهِ الْبَاطِلُ، فَلَوْ كَانَ خَلْقًا أَوْ فِعْلًا لَقَالُوا خَلَقَ خَلْقًا إِنْسَانًا أَوْ غَيْرَهُ، فَلَمَّا وَصَفُوهُ بِمَا يُوصَفُ بِهِ الْكَلَامُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ بِمَعْنَى التَّكْوِينِ. انْتَهَى.

وَهَذَا الَّذِي نَسَبَهُ لِلْكُلَّابِيَّةِ بَعِيدٌ مِنْ كَلَامِهِمْ، وَإِنَّمَا هُوَ كَلَامُ بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ، فَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي «خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ» عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ الْقَاسِمِ بْنِ سَلَّامٍ: أَنَّ الْمَرِيسِيَّ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نقُول لَهُ كن فَيكون} : هُوَ كَقَوْلِ الْعَرَبِ: قَالَتِ السَّمَاءُ فَأَمْطَرَتْ، وَقَالَ الْجِدَارُ هَكَذَا، إِذَا مَالَ، فَمَعنَاهُ قَوْلُهُ إِذَا أَرَدْنَاهُ إِذَا كَوَّنَّاهُ.

وَتَعَقَّبَهُ أَبُو عُبَيْدٍ بِأَنَّهُ أُغْلُوطَةٌ؛ لِأَنَّ الْقَائِلَ إِذَا قَالَ: قَالَتِ السَّمَاءُ؛ لَمْ يَكُنْ كَلَامًا صَحِيحًا حَتَّى يَقُولَ فَأَمْطَرَتْ، بِخِلَافِ مَنْ يَقُولُ: قَالَ الْإِنْسَانُ فَإِنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ قَالَ كَلَامًا، فَلَوْلَا قَوْلُهُ فَأَمْطَرَتْ لَكَانَ الْكَلَامُ بَاطِلًا؛ لِأَنَّ السَّمَاءَ

ص: 262

لَا قَوْلَ لَهَا، فَإِلَى هَذَا أَشَارَ الْبُخَارِيُّ وَهَذَا أَوَّلُ بَابٍ تَكَلَّمَ فِيهِ الْبُخَارِيُّ عَلَى مَسْأَلَةِ الْكَلَامِ وَهِيَ طَوِيلَةُ الذَّيْلِ». [انتهى كلامه].

وهَذَا أَوَّلُ بَابٍ أو الأَبْوَابُ التي سَبَقَت: {إنما أمره إذا أراد شَيْئًا أن يقول له كن فيكون} ؟

كأنَّ قَصْدَهُ أَنَّه أَفرَدَهُ لِهذَا الشَّيءِ، أَفرَدَهُ لِهذَا الشَّيءِ المُتَغَلِّبِ، والكِتَابُ كُلُّهُ مَلْآنٌ، وإلَّا فهو أَفرَدَهُ لِهذَا الشَّيءِ.

[قال الحَافِظُ رحمه الله]: «وَهِيَ طَوِيلَةُ الذَّيْلِ قَدْ أَكْثَرَ أَئِمَّةُ الْفِرَقِ فِيهَا الْقَوْلَ، وَمُلَخَّصُ ذَلِكَ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ «الِاعْتِقَادِ» : «الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ، وَكَلَامُ اللَّهِ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ مَخْلُوقًا وَلَا مُحْدَثًا وَلَا حَادِثًا، قَالَ تَعَالَى {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)} [النحل: 40]، فَلَو كَانَ الْقُرْآنُ مَخلُوقًا لَكَانَ مَخلُوقًا يكن وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ اللَّهِ لِشَيْءٍ بِقَوْلٍ؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ قَوْلًا ثَانِيًا وَثَالِثًا فَيَتَسَلْسَلُ وَهُوَ فَاسِدٌ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3)} [الرحمن: 1 - 3]، فَخَصَّ الْقُرْآنَ بِالتَّعْلِيمِ؛ لِأَنَّهُ كَلَامُهُ وَصِفَتُهُ، وَخَصَّ الْإِنْسَانَ بِالتَّخْلِيقِ؛ لِأَنَّهُ خَلْقُهُ وَمَصْنُوعُهُ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَقَالَ: خَلَقَ الْقُرْآنَ وَالْإِنْسَانَ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)} [النساء: 164]، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَلَامُ الْمُتَكَلِّمِ قَائِمًا بِغَيْرِهِ» . [انتهى كلامه].

قَالَ ابنُ بَازٍ رحمه الله: هَذَا كَلَامٌ يُؤذِي ويُتْعِبُ، ولِهذَا يَقُولُ بَعضُ السَّلَفِ -وأَظُنَّهُ ابنَ المُبَارَكِ رحمه الله: «إِنَّنَا نَستَطِيعُ أن نَحكِيَ كَلَامَ اليَهُودِ ونَحكِيَ كَلَامَ

ص: 263

النَّصَارَى ولكن لا نَستَطِيعُ أن نَحكِيَ كَلَامَ الجَهمِيَّةِ»

(1)

. يَعْنِي: لِشنَاعَتِهِ وخُبثِهِ.

المَقْصُودُ: أنَّ هَذِه الأَدِلَّةَ والأَحَادِيثَ كُلَّها وَاضِحَةٌ في إِثبَاتِ الصِّفَاتِ للهِ وإِثبَاتِ الكَلَامِ، وَأنَّه قَالَ ويَقُولُ وتَكَلَّمَ ويَتَكَلَّمُ إذا شَاءَ سبحانه وتعالى.

وهَذَا من أَعظِمِ الصِّفَاتِ، ومِن أَعظَمِ الكَمَالِ، كَونُهُ يُوصَفُ بِأنَّه قَالَ وَيقُولُ جل وعلا ويَتَكَلَّمُ، وَأنَّه أَنزلَ الكُتُبَ على الأَنبِيَاءِ، وتَكَلَّمَ سُبحَانَهُ بِالقُرآنِ، كُلُّ هَذَا مِنْ أَعظَمِ الدَّلَائِلِ على اسْتِحقَاقِهِ العِبَادةَ، وَأنَّه رُبُّ العَالَمِينَ، وأنهُ الخَلَّاقُ العَلِيمُ، وَأنَّه الذي يَقُولُ للشَّيءِ كُنْ فَيكُونُ سبحانه وتعالى، وليسَ عَدَمُ الكَلَامِ صِفَةَ كَمَالٍ، ولكنَّها صِفَةُ نَقصٍ؛ لِأَنَّهَا مِنْ صِفَاتِ الجَمَادِ.

والحَاصِلُ: أنَّ ما جَاءَتْ به هَذِه الأَدِلَّةُ هو مَحضُ ما تَقتَضِيهِ العُقُولُ السَّلِيمَةُ، العُقُولُ الصَّحِيحَةُ والفِطَرُ السَّلِيمَةُ مِنْ إِثبَاتِ صِفَةِ الكَلَامِ للهِ أَنَّه قالَ ويَقُولُ جل وعلا، ويَتَكَلَّمُ فيما مَضَى، ويَتَكَلَّمُ فيما يَأتِي سبحانه وتعالى على الوَجهِ اللَّائِقِ به سبحانه وتعالى، لا يُشَابِهُهُ خَلقُهُ في شَيءٍ مِنْ صِفَاتِهِ، لا في الكَلَامِ ولا في غَيرِهِ.

ولِهذَا يَقُولُ يَومَ القِيَامةِ لآدَمَ عليه السلام: «أَخرِجْ بَعثَ النَّارِ»

(2)

. هَذَا كَلَامٌ غَيرُ الكَلَامِ السَّابِقِ، ويَقُولُ لِأهلِ الجَنَّةِ:«هل رَضِيتُم؟ يَقُولُونَ: يا رَبَّنَا مَا لنَا لا نَرضَى وقد أَعطَيتَنَا ما لَمْ تُعطِ أَحَدًا مِنْ خَلقِكَ؟! أَلم تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا؟! أَلَمْ تُثقِّلْ مَوازِينَنَا؟! ألَمْ تُدْخِلْنَا الجَنَّةَ؟! ألَمْ تُنجِّنَا منَ النَّارِ؟!»

(3)

. وهَكَذَا يَقُولُ

(1)

رواه البخاري في «خلق أفعال العباد» (ص 30).

(2)

رواه البخاري (3348)، ومسلم (222)(379).

(3)

رواه البخاري (6549)، ومسلم (9)(2829)، دون قوله: «ألم تبيض وجوهنا

» إلخ.

ص: 264

سبحانه وتعالى لِأَهلِ الجَنَّةِ: «السَّلَامُ عليكُمْ» .

والمَقْصُودُ: أن الكَلَامَ يَتَجَدَّدُ وقتًا بعد وَقتٍ ولِهذَا قَالَ: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ (2)} [الأنبياء: 2]، {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ} [الشعراء: 5] يَعْنِي: جَدِيدًا، بعد أن لم يَتَكَلَّمْ تَكَلَّمَ سبحانه وتعالى، والقُرْآنُ تَكَلَّمَ به بعدَ التَّورَاةِ، والإِنجِيلُ بعد التَّورَاةِ وهَكَذَا.

وهَذِه الأَحَادِيثُ التي ذَكَرهَا الْمُؤَلِّفُ كُلُّها وَاضِحَةٌ في كَلَامِهِ سُبحَانَهُ، وَأنَّه يُسمَعُ، وأنَّ له صَوتًا يُسمَعُ، تَسمَعُهُ الْمَلَائِكَةُ وتَسمَعُ كَلَامَهُ، وهَكَذَا سِمِعَهُ جبرَائِيلَ عليه السلام، وهَكَذَا سَمِعَهُ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم حين أُسْرِيَ به حينَ عُرجَ به إلى السَّمَاءِ، وهَكَذَا سَمِعَهُ مُوسَى عليه الصلاة والسلام:{وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)} [النساء: 164]. وهَذَا هو الكَلَامُ الذي يَعقِلُهُ النَّاسُ، تَعقِلُهُ الأُمَمُ أَنَّه يَتَكَلَّمُ بِكَلَامٍ يُسمَعُ.

يَكفِي؛ لأنَّ كَلَامَهُم في كَلَامِ اللهِ كَلَامٌ صَعبٌ على القُلُوبِ وصَعبٌ على الآذَانِ سَمَاعُهُ، قَبَّحَهُمُ اللهُ.

لِمَنْ المَقَالَةُ هَذِه: إنا لَنَحكِي كَلَامَ اليَهُودِ والنَّصَارَى؟

عَبدُ اللهِ بنُ الْمُبَارَكِ رحمه الله.

* * *

ص: 265

‌بَابُ كَلَامِ الرَّبِّ مَعَ جِبْرِيلَ، وَنِدَاءِ اللَّهِ المَلَائِكَةَ

وَقَالَ مَعْمَرٌ: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ} [النمل: 6]، أَيْ يُلْقَى عَلَيْكَ وَتَلَقَّاهُ أَنْتَ، أَيْ: وَتَأْخُذُهُ عَنْهُمْ، وَمِثْلُهُ:{فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} [البقرة: 37]

7485 -

حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ - هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ - عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيلَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ، فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي جِبْرِيلُ فِي السَّمَاءِ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، وَيُوضَعُ لَهُ القَبُولُ فِي أَهْلِ الأَرْضِ»

(1)

.

وهَذَا فيه النِّدَاءُ وفيه الْمَحبَّةُ، فيه الكَلَامُ وفيه الْمَحبَّةُ {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54]، و {فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76)} [آل عمران: 76]، و {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ} [البقرة: 222]. الآيَاتُ في هَذَا كَثِيرَةٌ، والبَابُ وَاحِدٌ، البَابُ عند أَهْلِ السُّنَّةِ والجَمَاعةِ وَاحِدٌ، هو إِثبَاتُ جِمِيعِ ما جَاءَ في الكِتَابِ العَزِيزِ والسُّنَّةِ

(1)

ورواه مسلم (2637).

ص: 266

الْمُطَهَّرةِ الصَّحِيحَةِ مِنْ صِفَاتِ اللهِ وأَسمَائِهِ على الوَجهِ اللَّائِقِ بِاللهِ، إِثبَاتًا بِلا تَمثِيلٍ، وتَنزِيهًا بِلَا تَعطِيلٍ، هَذَا قَولُ أَهْلِ الحَقِّ، وأَوَّلُهم الرُّسُلُ عَلَيهِم الصلاة والسلام وأَتبَاعُهُم مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم، وهَكَذَا أَتبَاعُهُم مِنْ أَئِمَّةِ الإِسلَامِ، يُثبِتُونَ آيَاتِ الصِّفَاتِ وأَحَادِيثَها، ويُمِرُّونَها كمَا جَاءَتْ، ويُؤمِنُونَ بما دَلَّتْ عليه مِنْ الأَسمَاءِ والصِّفَاتِ، وأَنَّهَا حَقٌّ وأَنَّهَا ثَابِتَةٌ للهِ عز وجل، وأنَّها تَلِيقُ به سُبحَانَهُ، لا يُشَابِهُ فيها خَلقَهُ جل وعلا، فَيُثبِتُونَ إِثبَاتًا بَرِيئًا مِنَ التَّمثِيلِ، ويُنَزِّهُونَ اللهَ عن مُشَابَهةِ خَلقِهِ تَنزِيهًا بَرِيئًا منَ التَّعطِيلِ.

فليس إِثبَاتُهُم كَإِثبَاتِ الْمُشَبِّهةِ، وليس تَنزِيهُهُم كَتَنزِيهِ الْمُعطِّلَةِ مِنْ الجَهمِيَّةِ والْمُعتَزِلَةِ، لا، بل إِثبَاتٌ معه تَنزِيهٌ، إِثبَاتٌ كَامِلٌ معه تَنزِيهٌ للهِ عن مُشَابَهَةِ خَلقِهِ سبحانه وتعالى.

7486 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلَاةِ العَصْرِ وَصَلَاةِ الفَجْرِ، ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ، فَيَسْأَلُهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ: كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ: تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ»

(1)

.

7487 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ وَاصِلٍ، عَنِ المَعْرُورِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا ذَرٍّ، عَنِ النَّبِيِّ

(1)

ورواه مسلم (632).

ص: 267

صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَتَانِي جِبْرِيلُ فَبَشَّرَنِي أَنَّهُ مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الجَنَّةَ، قُلْتُ: وَإِنْ سَرَقَ وَإِنْ زَنَى، قَالَ: وَإِنْ سَرَقَ، وَإِنْ زَنَى»

(1)

.

وهَذَا كَالأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ -أَحَادِيثِ الرَّجَاءِ وأَحَادِيثِ التَّبشِيرِ بِالجَنَّةِ لِأهلِ التَّوحِيدِ- هَذِه الأَحَادِيثُ تَدلُّ على أن أَصْلَ الدِّينِ وأَصلُ السَّعَادَةِ هو تَوحِيدُ اللهِ والإِخلَاصُ له، وأنَّ مَنْ مَاتَ عَليهِ سَالِمًا منَ الشِّركِ فَإنَّه مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، وإن كَانَتْ له ذُنُوبٌ وسَيِّئاتٌ؛ ولِهذَا قَالَ:«وإن زَنَى وإِن سَرَقَ» قَالَ: «وإن زَنَى وإِن سَرَقَ» ، وفي اللَّفظِ الآخَرِ: كَرَّرَها ثَلَاثًا ثم قَالَ: «على رَغمِ أَنفِ أَبِي ذَرٍّ» .

فهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ على أنَّ الْمُوحِّدِينَ مَصِيرُهُم إلى الجَنَّةِ، وأنَّ ارْتِكَابَ الذُّنُوبِ والْمَعَاصِي التي قد يَمُوتُ عليها بَعضُهُم تَحتَ مَشِيئةِ اللهِ لا تَمنَعُهُم مِنْ دُخُولِ الجَنَّةِ، وإنْ جَرَى عَلَيهِم خُطُوبٌ قَبلَهَا وأُمُورٌ من عَذَابٍ وشِدَّةٍ وغَيرِ ذَلكَ، لكنَّهَا لَا تَمنَعُهُم مِنْ دُخُولِ الجَنَّةِ في المُنتَهَى والمَصِيرِ، فمنهم من يَتُوبُ اللهُ عليه قبلَ المَوتِ فَيَسْلَمُ مِنْ شَرِّهَا، وَمِنهُم من تَكُونُ له أَعمَالٌ صَالِحَةٌ عَظِيمَةٌ تَرجُحُ بِسَيئَاتِهِ، ومِنهم يَشفَعُ فيه الشُّفعَاءُ كَنَبِيِّنا صلى الله عليه وسلم وغَيرُهُ كَالمَلَائِكَةِ والمُؤمِنِينَ والأَفْرَاطِ؛ فَيُغفَرُ له، وَمِنهُم من يُعَذَّبُ على قَدرِ مَعَاصِيهِ كمَا تَقَدَّمَ

(1)

ورواه مسلم (94).

ص: 268

في حَدِيثِ شَفَاعَتِهِ صلى الله عليه وسلم في أَهْلِ المَعَاصِي، وَأنَّه يَشفَعُ فِيهِمْ فَيُحَدُّ له حَدٌّ

إلى آخره، عِدةَ مَرَّاتٍ.

وهَكَذَا تَشفَعُ المَلَائِكَةُ، ويَشفَعُ المُؤمِنُونَ، ويَشفَعُ الأَفْرَاطُ، ثم يَقُولُ سبحانه وتعالى:«شَفعَ النَّبِيونَ وشَفعَتِ المَلَائِكَةُ وشَفَعَ المُؤمِنُونَ، ولم يَبقَ إلا رَحمَةُ أَرحَمِ الرَّاحِمِينَ»

(1)

؛ فَيُخرِجُ من النَّارِ أَقوَامًا ما فَعَلُوا خَيرًا قَط، إلَّا أنَّهُم يَقُولُونَ: لا إِلهَ إِلَّا اللهُ، إلا أَنَّهُمْ مُوحِّدُونَ قد عُذِّبُوا على مَعَاصِيهِم، ثم صَارَتِ النَّهَايَةُ إِخرَاجَهُم مِنْ النَّارِ بِتَوحِيدِهِم وما مَاتُوا عليه مِنَ الإِسلَامِ.

هَذَا هو قَولُ أَهْلِ السُّنَّةِ والجَمَاعةِ قَاطِبَةً، خِلَافًا للمُعتَزِلَةِ وخِلَافًا للخَوَارِجِ وخِلَافًا لِمَنْ تَابَعَهُم مِنْ أَهْلِ البَاطِلِ.

وحَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه هَذَا وما جَاءَ في مَعنَاهُ كُلُّهَا صَريحَةٌ في الرَّدِّ عَلَيهِم؛ لأنَّ الخَوَارِجَ كَفَّرُوا مَنْ سَرقَ ومَن زَنَى قَالُوا: إنه كَافِرٌ مُخَلَّدٌ في النَّارِ، وهَذَا غَلَطٌ مِنْهُم عَظِيمٌ، وزَلَّةٌ كَبِيرةٌ وضَلَالٌ بَعِيدٌ؛ ولِهذَا قَالَ فِيهِمْ صلى الله عليه وسلم:«يَمْرُقُونَ مِنْ الإِسْلَامِ كما يَمرُقُ السَّهمُ من الرَّمِيةِ»

(2)

، وقال فيهم:«يَقتُلُونَ أَهْلَ الإِسلَامِ ويَدَعُونَ أَهْلَ الأَوثَانِ»

(3)

.

وهَكَذَا قالت الْمُعتَزِلَةُ ومَن تَابَعَهُم أَنَّهُمْ عُصَاةٌ مُخَلّدُون في النَّارِ، ولم يَجرُؤوا أن يَقُولُوا: كُفَّارٌ، بل قالوا: في مَنزِلَةٍ بين الْمَنزِلَتَينِ، وجَعلُوهُم لا مُسلِمِينَ ولا كُفَّارًا، بل بين ذَلكَ في الدُّنيَا، وفي الآخِرَةِ مُخَلَّدُونَ في النَّارِ كمَا

(1)

رواه مسلم (302)(183).

(2)

رواه البخاري (3611)، ومسلم (143)(1064).

(3)

رواه البخاري (3344)، ومسلم (143)(1064).

ص: 269

قَالتِ الخَوَارِجُ.

وكُلُّ هَذَا بَاطِلٌ، قَولُ الخَوَارجِ والْمُعتَزلَةِ بَاطِلٌ، بل هم مُسلِمُونَ ما دَامُوا مَاتُوا على التَّوحِيدِ ولم يُشرِكُوا باللهِ شَيْئًا ولم يَأتُوا بنَاقِضٍ مِنْ نَوَاقِضِ الإِسلَامِ، فهم على الإِسلَامِ لكنَّهم خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وآخَرَ سَيِّئًا، فَعَلُوا ما يُوجِبُ النَّارَ مِنَ المَعَاصِي، وفَعَلُوا ما يُوجِبُ الجَنَّةَ مِنْ تَوحِيدِ اللهِ؛ فَصَارُوا بَينَ بَينَ، بَينَ هَؤلَاءِ وبَينَ هَؤلَاءِ، لا معَ الكُفَّارِ ولا معَ المُؤمِنِينَ السَّالِمِينَ، بلْ هُمْ في بَرزَخٍ آخَرَ، وهم الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ سُبحَانَهُ:{وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48].

ولا يَدُلُّ هَذَا على التَّهَاونِ بِالمَعَاصِي فإنَّ خطَرَهَا عَظِيمٌ؛ لِأَنَّهَا تُوجِبُ غَضَبَ اللهِ وتُوجِبُ النَّارَ إلا مَنْ رَحِمَ اللهُ ومَنْ مَنَّ عَليهِ بِالعَفُوِ، فلا يَلِيقُ بِعَاقِلٍ أن يَتَسَاهَلَ بها، وإِنْ كَانَتْ لا تَمنَعُهُ مِنْ دُخُولِ الجَنَّةِ في الْمُستَقبَلِ، وإن كَانَ لا يُخَلَّدُ في النَّارِ. لكن ومَن يَرضَى؟! أَيُّ عَاقِلٍ يرَضَى أن يَدخُلَ النَّارَ ولو لَحَظَةً، سَاعَةً وَاحِدَةً؟! وأَيُّ عَاقِلٍ يَرضَى بِبَقَائِهِ في النَّارِ المُدَّةَ الطَّوِيلَة أو القَصِيرَة؟! كُلُّ هَذَا لا يَرضَاهُ عَاقِلٌ.

فالوَاجِبُ الحَذَرُ مِنهَا، والابْتِعَادُ عنْهَا وعنْ أَسبَابِهَا، وأَنْ يَجتَهِدَ إذا بُليَ بِشَيءٍ منها بِالمبَادَرةِ بِالتَّوبَةِ والإِقلَاعِ والنَّدَمِ قبلَ أن يَنزِلَ به الأَجلُ، ولا حَولَ ولا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ.

* * *

ص: 270

‌بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ} [النساء:

166]،

قَالَ مُجَاهِدٌ: {يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ} [الطلاق: 12] بَيْنَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَالأَرْضِ السَّابِعَة.

7488 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الهَمْدَانِيُّ، عَنِ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «يَا فُلَانُ إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَقُلْ: اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ نَفْسِي إِلَيْكَ، وَوَجَّهْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ، وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ، رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ، لَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَا مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ، آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ، وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ، فَإِنَّكَ إِنْ مُتَّ فِي لَيْلَتِكَ مُتَّ عَلَى الفِطْرَةِ، وَإِنْ أَصْبَحْتَ أَصَبْتَ أَجْرًا»

(1)

.

وهَذَا فيهِ الدَّلَالَةُ على شَرعِيَّةِ هَذِه الكَلِمَاتِ الطَّيبَةِ، إذا أَوَى الإِنسَانُ إلى فِرَاشِهِ، وجَاءَ في الرِّوَايَةِ الأُخْرَى:«واجْعَلْهُنَّ مِنْ آخَرِ مَا تَقُولُ» . إذا أَوَى الإِنسَانُ إلى فِرَاشِهِ قَالَ: «اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ نَفْسِي إِلَيْكَ، وَوَجَّهْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ، وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ، رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ، لَا مَلْجَأَ وَلَا

(1)

ورواه مسلم (2714).

ص: 271

مَنْجَا مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ، آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ، وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ».

الشَّاهِدُ: قَولُهُ: «آمَنتُ بِكِتَابِكَ الذي أَنزَلْتَ» ؛ لِأنَّه أَنْزَلَ الكِتَابَ بِعلمِهِ، وأَنزَلَهُ بِعلمِهِ مُشتَمِلًا على عِلمِهِ وعلى إِرشَادٍ عِبَادِهِ إلى كُلِّ خَيرٍ.

ويُشِيرُ مُجَاهِدٌ رحمه الله وهو التَّابِعِيُّ الجَلِيلُ إلى أن هَذَا الإِنزَالَ يَعمُّ السَّمَوات ويُعُمَّ الأَرضَ جِمِيعًا بَطبَقَاتِهَا كمَا يَعُمُّ السَّمَوَاتِ بِطَبقَاتِهَا، كَأنَّه يُشِيرُ بهَذَا إلى قَولِهِ:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)} [الطلاق: 12] فهو أَنزلَ هَذَا الكِتَابَ العَظِيمَ -وهو القُرآنُ- بِعلمِهِ العَظِيمِ، وعِلمُه لا يَنتَهِي، وهَذَا شَيءٌ مِنْ عِلمِهِ.

أَنْزَلَهُ على عِبَادِهِ على يَدِ أَفضَلِ خَلقِهِ وأَشرَفِهِم مُحَمَّدٍ عليه الصلاة والسلام في أَفضلِ بُقعَةٍ وفي أَفضَلِ مَكَانٍ، في مَكَّةَ المُكَرَّمةِ ثم المَدِينَةِ الْمُنَوَّرةِ، في أَفضلِ زَمَانٍ وأَشرَفِ زمَانٍ في رَمَضَانَ في لَيلَةِ القَدرِ، هَذِه أَنوَاعٌ مِنْ الفَضلِ وأَنوَاعٌ مِنَ الشَّرفِ لِهذَا الكِتَابِ العَظِيمِ.

وفيه مِنَ العُلُومِ والتَّوجِيهِ إلى أَنوَاعِ الخَيرِ والتَّحذِيرِ مِنْ أَنْوَاعِ الشَّرِّ، والخَبرِ عَمَّن مَضَى وعمَا يَأَتيِ ما لا يُحصِيهِ إلا اللهُ عز وجل، وإنما يَعلَمُ مِقدَارَ ذَلكَ مَنْ تَدَبَّرَهُ وتَعَقَّلَهُ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ والبَصِيرةِ {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)} [النحل: 89]، {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ (9)} [الإسراء: 9]، {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} [فصلت: 44]، {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)} [ص: 29].

ص: 272

فَجِدِيرٌ بِأهلِ الإِيمَانِ، وجَدِيرٌ بِأهلِ العِلْمِ بِوجِهٍ خَاصٍّ أن تَكُونَ لهم العِنَايةُ العَظِيمَةُ الكَامِلَةُ بهَذَا الكِتَابِ -تَدَبُّرًا، وتَعَقُّلًا، وعَمَلًا، ودَعوَةً، وتَوجِيهًا، وإِرْشَادًا لِلعِبَادِ؛ لِيعلَمُوا حَقَّ رَبِّهم وما فَرضَ عَليهم وما دَعَاهُم إليه، وما لهم عنده مِنَ الخَيرِ العَظِيمِ إذا أَجَابُوا دَعوَتَهُ وأَدَّوا حَقَّهُ سبحانه وتعالى.

(الشَّيخُ): كَذَا عِندكَ «أَصَبتَ أَجْرًا» ؟

قَالَ ابنُ بَازٍ رحمه الله: وفي رِوَايَةٍ «خيرًا» ، وفي رِوَايَةٍ:«أَصبْتَ خَيرًا»

(1)

، وفي الرِّوَايَةِ الأُخْرَى:«خَيْرًا» .

وفيه فَضْلُ هَذَا الذِّكرِ والضَّرَاعَةِ إلى اللهِ، وأنَّ صَاحِبَهَا إذا قَالها عن صِدِّقٍ وإِخلَاصٍ لو مَاتَ مَاتَ على الفِطرَةِ يَعْنِي: على الإِيمَانِ، وإن أَصبَحَ أَصَابَ أَجْرًا وأَصَابَ خَيرًا.

كَلِمَاتٌ عَظِيمَةٌ فيها تَجَرُّدٌ مِنْ الحَولِ والقُوَّةِ إلى اللهِ عز وجل، وَأنَّه سُبحَانَهُ هو مُصَرِّفُ أَمرِهِ، مُصَرِّفُ أَمرِ العِبدِ ومُدَبِّرُهُ، وهو العَلِيمُ بِحَالِهِ، وهو القَادِرُ عليه، ثم خَتَمَ هَذَا بقَولِهِ:«آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ، وَنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ» . وهَذَا الخَتمُ يَتَضَمَّنُ إِيمَانَهُ بِكلِّ ما في القُرآنِ مِنْ تَوحِيدٍ وإِخْلَاصٍ وأَوَامرَ ونَواهٍ وقَصَصٍ وغَيرِ ذَلكَ.

فكان هَذَا كلامًا عظيمًا، وخَاتِمَةً عَظِيمَةً، وصَاحِبُهُ جَدِيرٌ بأن يَحصُلَ له هَذَا الخَيرُ: إن مَاتَ مَاتَ على الفِطرَةِ وإن أَصبَحَ أَصَابَ أَجرًا وأَصَابَ خَيْرًا: «اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ نَفْسِي إِلَيْكَ، وَوَجَّهْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ، وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ، رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ، لَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَا مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ،

(1)

ورواه مسلم (58)(2710).

ص: 273

آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ، وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ، فَإِنَّكَ إِنْ مُتَّ فِي لَيْلَتِكَ مُتَّ عَلَى الفِطْرَةِ، وَإِنْ أَصْبَحْتَ أَصَبْتَ أَجْرًا». والأفضل أن يَكُونَ مِنْ آخِرِ كَلَامِهِ عند النَّومِ.

كيفَ الجَمعُ بينَهُ وبين: «مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ دَخَلَ الجَنَّةَ» ؟

لا مُنَافَاةَ، هَذَا عَامٌّ وهَذَا خَاصٌّ، هَذَا خَاصٌّ عند النَّومِ وذاك عَامٌّ في آخِرِ حَيَاةِ الإِنسَانِ.

الجَمعُ بين الأَدْعِيَةِ الوَارِدَةِ عند النَّومِ يُشرَعُ التَّنَوعُ أو الجَمْعُ؟

الظَّاهِرُ: أَنَّه يُشرَعُ أن يَأتِيَ بها كُلِّهَا إذا تَيسَرَ؛ لأنَّ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم ما بينَ مُعلِّمٍ لها وما بينَ فَاعِلٍ لها، فإذا تَيَسَّرَ لِلعَبدِ أن يَأتِي بها جَمِيعَها أو ما تَيَسَّرَ منها فهو المَطلُوبُ.

أَحسَنَ اللهُ إِليكَ، يُشرَعُ عند النَّومِ أنْ يَقُولَ كَلمَةَ التَّوحِيدِ ثم يَقُولُ هَذَا الدُّعَاءَ جَمعًا بَينَ الحَدِيثَينِ؟

لا أَعلمُ، كُلُّهُ خَيرٌ، لا أَعلَمُ مِنْ ذَلكَ، إذا قالَ: سُبحَانَ اللهِ والحَمدُ للهِ ولا إِلهَ إِلَّا اللهُ واللهُ أَكبَرُ، أو قَالَ: لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحدَهُ لا شَريكَ له، أو قَالَ: لا إِلهَ إِلَّا اللهُ، كُلُّهُ خَيرٌ. لكن لا أَتَذَكَّرُ الآن في كَلِمَاتِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم عند النَّومِ غَيرَ هَذِه الكَلِمَةِ، وهي دَاخِلَةٌ في قَولِهِ: «آمَنتُ بِكِتَابِكَ

»؛ لأنَّ في كتَابِهِ: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد: 19]، {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)} [البقرة: 163] دَاخِلَةٌ في الكَلِمَةِ هَذِه.

* * *

ص: 274

7489 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ ابْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الأَحْزَابِ: «اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الكِتَابِ، سَرِيعَ الحِسَابِ، اهْزِمِ الأَحْزَابَ، وَزَلْزِلْ بِهِمْ» .

زَادَ الحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ

(1)

، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي خَالِدٍ، سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ، سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم

(2)

.

7490 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، عَنْ هُشَيْمٍ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما:{وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء: 110]، قَالَ:«أُنْزِلَتْ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُتَوَارٍ بِمَكَّةَ، فَكَانَ إِذَا رَفَعَ صَوْتَهُ سَمِعَ المُشْرِكُونَ، فَسَبُّوا القُرْآنَ وَمَنْ أَنْزَلَهُ وَمَنْ جَاءَ بِهِ» .

وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} لَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ حَتَّى يَسْمَعَ المُشْرِكُونَ»، {وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} عَنْ أَصْحَابِكَ فَلَا تُسْمِعُهُمْ، {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} أَسْمِعْهُمْ وَلَا تَجْهَرْ، حَتَّى يَأْخُذُوا عَنْكَ القُرْآنَ

(3)

.

(1)

كذا في «عمدة القارئ» وفي غيره، وفي «الفتح»: زَادَ الحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي خَالِدٍ.

(2)

ورواه مسلم (1742).

(3)

ورواه مسلم (446).

ص: 275

وذَلكَ لأنَّ القُرآنَ هو أَعظَمُ مُهِمَّةٍ في الصَّلَاةِ؛ فلِهذَا أَطلَقَ عليهِ الصَّلَاةَ، يَعْنِي: قِرَاءَتَكَ.

وهَذَا مِثلمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الذي رَوَاهُ مُسلِمٌ في «الصَّحِيحِ» : «يَقُولُ اللهُ عز وجل: قَسَمتُ الصَّلَاةَ بَينِي وبَينَ عَبدِي نِصفَينِ»

(1)

. يَعْنِي: القِرَاءَةَ، يَعْنِي: الفَاتِحَةَ؛ لأنَّ القِرَاءَةَ رُكنُهَا العَظِيمُ والمَقصُودُ العَظِيمُ مِنْ فَرضِهَا، ولِمَا في ذَلكَ مِنْ تَوجِيهِ النَّاسِ وإِسمَاعِهِم كِتَابَ اللهِ في حَالِ خُشُوعٍ وحَالِ إِقْبَالٍ.

أَحسَنَ اللهُ إِليكَ، قَولُهُ: زَادَ الحُمَيدِيُّ، حَدَّثنَا سُفيَانُ قَالَ: حَدَّثنَا ابنُ أَبِي خَالِدٍ؟

كَأنَّ الرِّوَايَاتِ الأُخْرَى ما فيها: حَدَّثنَا.

(القَاِرئُ): سَاقِطَةٌ في المَتِن مَوجُودةٌ في الشَّرحِ.

* * *

(1)

رواه مسلم (38)(395).

ص: 276

‌بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ} [الفتح: 15]، {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ} [الطارق: 13] «حَقٌّ» {وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} [الطارق: 14]«بِاللَّعِبِ»

7491 -

حَدَّثَنَا الحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ يَسُبُّ الدَّهْرَ، وَأَنَا الدَّهْرُ بِيَدِي الأَمْرُ، أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ»

(1)

.

وهَذَا يُفِيدُ تَحرِيمَ سَبَّ الدَّهرِ، وَأنَّه لا يَجُوزُ أن يُسَبَّ الدَّهرُ، الدَّهرُ مَخلُوقٌ مِنَ الْمَخلُوقَاتِ يُصَرِّفُهُ اللهٌ، ولِهذَا قَالَ:«يُؤذِينِي ابنُ آدَمَ يَسُبُّ الدَّهرَ، وأنا الدَّهرُ» . يَعْنِي: وأنا خَالِقُ الدَّهرِ ومُصَرِّفهُ، ومُقَلِّبُه؛ ولذَلكَ قَالَ في اللَّفظِ الآخَرِ:«أُقَلِّبُ لَيلَهُ ونَهَارَهُ»

(2)

؛ فَسَبُّهُ سَبٌّ لِصَانِعِهِ وخَالِقِه، فَلا يَلِيقُ بِالمُؤمِنِ أن يَقُولَ: لا بَارَكَ اللهُ في هَذِه السَّاعَةِ، أو قَاتَلَ اللهُ هَذِه السَّاعَةَ، أو لَعَنَ اللهُ هَذِه السَّاعَةَ، أو هَذَا اليَومَ أو هَذِه اللَّيلَةَ أو هَذَا المَسَاءَ.

المَقْصُودُ: فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالزَّمَانِ، وهَكَذَا سَبُّ الأَشيَاءِ كُلِّهَا مَمنُوعٌ إلا مَنْ

(1)

ورواه مسلم (2246).

(2)

رواه مسلم (2246).

ص: 277

أَذِنَ اللهُ في سَبَّهِ، فَالمَرءُ لا يَكُونُ سَبَّابًا ولا لَعَّانًا إلا مَنْ شَرعَ اللهُ سَبَّهُ.

بَعضُ النَّاسِ إذا زَارَهُ شَخْصٌ قَالَ: هَذَا يَومٌ مُبَاركٌ؟

إذا قَالَهَا بِمَعنَى أَنَّها زِيَارَةٌ مُبَارَكةٌ، وأنَّ اليَومَ الذي حَصَلَتْ فيهِ [مُبارَكٌ]؛ ما نَعلَمُ فيه شَيْئًا.

7492 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«يَقُولُ اللَّهُ عز وجل: الصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَأَكْلَهُ وَشُرْبَهُ مِنْ أَجْلِي، وَالصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَلِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ: فَرْحَةٌ حِينَ يُفْطِرُ، وَفَرْحَةٌ حِينَ يَلْقَى رَبَّهُ، وَلَخَلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ المِسْكِ»

(1)

.

الشَّاهِدُ في هَذَا كُلِّهِ: أَنَّه يَتَكَلَّمُ إذا شَاءَ سبحانه وتعالى، مَقصُودُ المَؤَلِّفِ بَيَانُ الأَحَادِيثِ التي فيها كَلَامُهُ جل وعلا، وتَكلِيمُ عِبَادِهِ، وإِخبَارهِ عن نَفسِهِ بما هو أَهلُهُ، وإِخبَارُهُ عِبَادَهُ بما يُحِبُّهُ مِنْ أَعمَالِهِم، وهو تَكَلَّمَ ويَتَكلَّمُ إذا شَاءَ جل وعلا رَدًّا على أَهْلِ البِدَعِ الْمُنكِرِينَ لِكَلَامِهِ سبحانه وتعالى، فقد قالَ ويَقُولُ وتَكَلَّمَ ويَتَكَلَّمُ إذا شَاءَ، لا مَانِعَ له مِنْ ذَلكَ سبحانه وتعالى.

وهَذَا مِنْ صِفَاتِ كَمَالِهِ. مِنْ نَقصِ الأَصنَامِ والأَحجَارِ والأَشجَارِ أَنَّها لا تَتَكَلَّم كما قَالَ تَعَالَى: {فَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89)} [طه: 89]، عَابَهَا بِأنها لا تُرجِعُ قَولًا ولا تَتَكَلَّمُ، كَونُهُ يَتَكَلَّم ويَقولُ هَذَا مِنْ

(1)

ورواه مسلم (1151).

ص: 278

صِفَاتِ الكَمَالِ، ومِن وُجُوهِ استِحقَاقِهِ العِبَادَةَ سبحانه وتعالى، فهو يَتَكَلَّمُ ويَأمُرُ ويَنهَى إذا شَاءَ بما يَشَاءُ؛ ولِهذَا تَكَلَّمَ قَالَ:«يُؤذِينِي ابنُ آدَمَ يَسُبُّ الدَّهرَ، وأنا الدَّهرُ»

(1)

، «الصَّومُ لي وأنَا أجْزِي بهِ» .

7493 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«بَيْنَمَا أَيُّوبُ عليه السلام يَغْتَسِلُ عُرْيَانًا خَرَّ عَلَيْهِ رِجْلُ جَرَادٍ مِنْ ذَهَبٍ، فَجَعَلَ يَحْثِي فِي ثَوْبِهِ، فَنَادَاهُ رَبُّهُ: يَا أَيُّوبُ أَلَمْ أَكُنْ أَغْنَيْتُكَ عَمَّا تَرَى؟. قَالَ: بَلَى، يَا رَبِّ، وَلَكِنْ لَا غِنَى بِي عَنْ بَرَكَتِكَ» .

وهَذَا فيه قَولُهُ: «يا أَيَّوبَ» يُنَادِيهِ: «يَا أَيُّوبَ أَلم أُغنِكَ عن هَذَا» ، كَلَامٌ خَاصٌّ مع نَبِيٍّ خَاصٍّ عليه الصلاة والسلام، فَقَالَ:«بَلَى، ولكن لا غِنًى لي عن بَركَتِكَ» . لأنَّ إِنزَالَ هَذَا الخَيرِ مِنَ البَركَةِ، وقد أَنْزَلَ عليه رِجْلًا من جَرَادٍ من ذَهَبٍ، فهَذَا مِنْ بَركَةِ اللهِ سبحانه وتعالى؛ ولِهذَا كَانَ يَحثُو، يَحثُو منه أَيُّوبُ عليه الصلاة والسلام؛ لِأنَّه مِنحَةٌ منَ اللهِ ونِعمَةٌ مِنَ اللهِ سَاقَهَا إِلَيهِ ومِن بَركَاتِهِ سبحانه وتعالى، «لا غِنًى لي عن بَركَتِكَ» . إذا يَسَّرَ اللهُ لِلعَبدِ مِنْ الكَسبِ الحَلَالِ والرِّزقِ الحَلَالِ لا حَرجَ في أَخذِهِ وجَمعِهِ والإِنفَاقِ منه، والإِحسَانِ منه إلى النَّاسِ.

وَفِيهِ: جَوازُ الاغتِسَالِ عُريَانًا؛ فإن أَيُّوبَ عليه السلام اغْتَسَلَ عُريَانًا، وهَكَذَا مُوسَى عليه السلام اغْتَسَلَ عُريَانًا، وهَكَذَا كَانَ نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم يَتَجَرَّدُ ويَغتَسِلُ

(1)

تقدم برقم (7491).

ص: 279

مع أَهلِهِ، فلا بأسَ بذَلكَ في الْمَحِلِّ الْمَستوِر عن أَعْيُنِ النَّاسِ، في حَمَّامِهِ، في مُغتَسَلِهِ، في مَحِلٍّ مَستُورٍ، مَشرُوعٌ له أن يَتَجَرَّدَ مِنْ ثِيَابِهِ حَتَّى يَغتَسِلَ، ولِهذَا تَجَرَّدَ أَيُّوبَ عليه الصلاة والسلام، وهَكَذَا مُوسَى عليه السلام وهَكَذَا نبيُّنا عليه الصلاة والسلام.

والمَقْصُودُ: النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ذَكرَ أَنَّه عُرْيَانٌ وأَقَرَّهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم؛ فَدَلَّ ذَلكَ على أَنَّه لا بَأْسَ بِالتَّعَرِّي لِلاغْتِسَالِ لِغُسلِ الجَنَابةِ وغُسلِ التَّبَرُّدِ وغُسلِ يَومِ الجُمُعُةِ ونَحوِ ذَلكَ.

أَحسَنَ اللهُ إِليكَ، قَولُهُ:«يُؤذِينِي ابنُ آدَمَ» ؟

فيه الدَّلَالَةُ على أنَّ العَبدَ يُؤذِي رَبَّه بِمَعَاصِيهِ وسَيِّئاتِهِ ولا يَضُرُّهُ، يُؤذِيهِ ولا يَضُرُّهُ، والضَّررُ على العَبدِ، لا يَضرُّ اللهَ شَيْئًا:«إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي»

(1)

، فاللهُ لا يَضُرُّهُ شَيءٌ فهو الغَنيُّ والكَامِلُ والقَادِرُ على كُلِّ شَيءٍ فلا يَضُرُّهُ الخَلقُ ولكن يُؤذِيهِ العَبدُ بِمَعَاصِيهِ وشِركِهِ، أنْ يَفعَلَ شَيْئًا يَكرَهُه اللهُ ويَبغَضُهُ اللهُ منهُ، ويَكُونُ أَذًى مِنْ العَبدِ لِرَبِّهِ بِتَعَاطِيهِ ما حَرَّمَهُ عليه، والأَذَى غَيرُ الضَّرَرِ.

{لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ} [الأحزاب: 69] هَذَا في كَلَامِهِ.

الاغْتِسَالُ مع الأَهلِ عُرِيَانًا؟

إذا كَانَ ما مَعَهُم أَحَدٌ، ما فيهِ شَيءٌ.

قَولُهُ لِأَيُّوبَ عليه السلام: «أَلمْ أَكُنْ أَغنَيتُكَ عَنْ هَذَا» ، هَذَا إِنكَارٌ عَليهِ في أَخذِهِ؟

(1)

رواه مسلم (55)(2577).

ص: 280

سَؤَالٌ يَسأَلُهُ، فَقَالَ: بَلَى، ولِهذَا أَجَابَ:«بلَى» ؛ لِإظْهَارِ النِّعمَةِ لِإظْهَارِ الفَضلِ والنِّعمَةِ؛ ولِيتَكَلَّم أَيُّوبُ عليه السلام بما أَرسَلَهُ اللهُ إليه وأَنزلَ مِنْ البَركَةِ لِيستَفِيدَ النَّاسُ ويَعلَمُوا، فهو سَألَ وهو أَجَابَ لِحكمَةٍ بَالِغَةٍ منها: أن يَستَفِيدَ النَّاسُ.

ولا يُنَافِي أن تَكُونَ هَذِه الرِّجْلُ مِنْ بَركَتِهِ؟ يَعْنِي هَذِه الرِّجلُ مِنَ الذَّهبِ دَاخِلَةٌ في بَركَةِ اللهِ؟

مِنْ بَركَةِ اللهِ.

أَحسَنَ اللهُ إِليكَ هل كَلَّمَ اللهُ أَيُّوبَ عليه السلام بِوَاسِطَةٍ سبحانه وتعالى؟

يَظهَرُ منَ السِّيَاقِ أَنَّه كَلَّمَهُ سُبحَانَهُ مُشَافَهَةً، ولا مَانِعَ مِنْ ذَلكَ، مِثلمَا كَلَّمَ مُوسَى عليه السلام وكَلَّمَ مُحَمَّدًا عَلَيهِم الصلاة والسلام، قَالَ تَعَالَى:{وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)} [النساء: 164]، ومُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم لما عُرِجَ به إلى السَّمَاءِ كَلَّمَهُ اللهُ، وفَرضَ عَلَيهِ الصَّلَوَاتِ الخَمسَ.

7494 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الأَغَرِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «يَتَنَزَّلُ

(1)

رَبُّنَا تبارك وتعالى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنيَا، حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ»

(2)

.

(1)

كذا في «الفتح» ، وفي «عمدة القارئ» وغيره:«يَنْزِلُ» .

(2)

ورواه مسلم (758).

ص: 281

وهَذَا التَّنزُّلُ ثَابِتٌ مِنْ أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ، ومُتَوَاتِرٌ عن الرَّسُولِ عليه الصلاة والسلام.

وفيه الدَّلَالَةُ على عُلُوِّ اللهِ كمَا تَقَدَّمَ مِنَ الآيَاتِ والأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ على النُّزُولِ، فَالتَّنَزّلُ والنُّزُولُ كُلُّهُ دَالٌّ على عُلُوِّ المنزِّلِ، وَأنَّه فَوقَ الجَمِيعِ سبحانه وتعالى، وَأنَّه يَنْزِلُ إلى السَّمَاءِ الدُّنيَا كُلَّ لَيلَةٍ نُزُولًا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ، لا يَعلَمُ كَيفِيَّتَهُ سِوَاهُ سبحانه وتعالى مع كَونِه عَالِيًا فَوقَ العَرشِ، وهو فَوقَ الجَمِيعِ ويَتَنَزَّلُ إلى السَّمَاءِ الدُّنيَا كُلَّ لَيلَةٍ نُزُولًا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ لا يُعلَمُ كَيفِيَّتَهُ سُبحَانَهُ.

وهو نُزُولٌ يَلِيقُ بِجَلَالِهِ ولا يَتنَافَى مع اخْتِلَافِ الليَّلِ والنَّهَارِ في سَائِرِ أَرجَاءِ الدُّنيَا، فإنَّ اللَّيلَ والنَّهَارَ في الدُّنيَا مُختَلِفٌ، فَآخِرُ اللَّيلِ عند قَومٍ هو لَيْسَ بِآخِرِ اللَّيلِ عند آخَرِينَ، بل وَسَطُ اللَّيلِ أو أَوَّلُ اللَّيلِ كمَا بينَ المَشرِقِ والمَغرِبِ، فهو نُزُولٌ يَلِيقُ بِاللهِ في كُلِّ بَلَدٍ وفي كُلِّ إِقلِيمٍ، وفي كُلِّ جِهَةٍ بِحَسَبِهَا، لا يَعلَمُ كَيفِيَّةَ ذَلكَ إلا هو سبحانه وتعالى.

وقد كَتَبَ في هَذَا أَبُو العَبَّاسِ -شَيخُ الإِسلَامِ ابنُ تَيمِيَّةَ- كِتَابًا جَيِّدًا شَرحَ فيه حَدِيثَ النُّزُولِ، وبَيَّنَ فيه هَذِه المَعَانِي، وأنَّ النُّزُولَ صِفَةٌ خَاصَّةٌ مِنْ صِفَاتِ اللهِ عز وجل لا يَلزَمُ منها تَكْييفٌ ولا تَمثِيلٌ كَسَائِرِ الصِّفَاتِ، فلا يَلزَمُ منها تَعَارضٌ بِسبَبِ اخْتِلَافِ اللَّيلِ والنَّهَارِ في البُلدَانِ، فَالتَّعَارضُ بِالنِّسبَةِ إِلَينَا ولِصِفَاتِنَا، أما بِالنِّسبَةِ إلى اللهِ فلا يَتَعَارضُ؛ لِأنَّه لا يَعلَمُ كَيفِيَّةَ صِفَاتِهِ إلا هو سبحانه وتعالى.

فعلى العَبدِ الإِيمَانُ والتَّسلِيمُ، على الأُمّةِ الإِيمَانُ والتَّصدِيقُ والإِقرَارُ بما

ص: 282

جَاءَ عنِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم على الوَجهِ اللَّائِقِ بِاللهِ، وعلى المَعنَى الذي أَرَادَهُ اللهُ سبحانه وتعالى.

والفَائِدَةُ العَظِيمَةُ من هَذَا: حَثُّ العِبَادِ على الدُّعَاءِ في هَذَا الوَقتِ العَظِيمِ: هل مِنْ داَعٍ فَيُستَجَابُ له؟ هل مِنْ تَائِبٍ فَيُتَابُ عليه؟ هل من سَائِلٍ فَيُعطَى سُؤلَهُ؟ هل مِنْ مُستَغفِرٍ فَيُغفَرُ له؟

فَيَنبَغِي للمُؤمِنِ أن يَكُونَ له نَصِيبٌ في هَذَا الوَقتِ مِنْ عِبَادَتِهِ ودُعَائِهِ وضَرَاعَتِهِ إلى رَبِّهِ جل وعلا، ولا يَستَبْطِئَ الإِجَابَةَ ولا يَقُولَ: لم يُجَبْ. يَدعُو والأَمرُ بِيدِ اللهِ سبحانه وتعالى، فقد يُعَجِّلُ الإِجَابَةَ لِحكْمَةٍ، وقد يُؤَجِّلُهَا لِحكْمَةٍ، وقد يمْنَعُهَا لِحكْمَةٍ، فَيصْرِفُ عن العَبدِ شَيْئًا يَضُرُّهُ سِوَاهَا كمَا في الحَدِيثِ الصَّحيحِ:«ما مِنْ عَبدٍ يَدْعُو اللهَ بِدعُوَةٍ لَيْسَ فيها إِثمٌ ولا قَطِيعَةُ رَحِمٍ إلا أَعطَاهُ اللهُ بها إِحدَى ثَلَاثٍ: إما أنْ تُعَجَّلَ له دَعوَتُهُ في الدُّنيَا، وإمَّا أن تُدَخَرَ له في الآخِرَةِ، وإمَّا أَنْ يُصرَفَ عنه مِنَ الشَّرِّ مِثلُ ذَلكَ» ، قالوا: يا رَسُولَ اللهِ، إذًا نُكثِرُ. قَالَ:«اللهُ أَكثَرُ»

(1)

.

فأنتَ على خَيرٍ في دُعَائِكَ، اسْألْ رَبَّكَ، وأنت على خَيرٍ، فادْعُ رَبَّكَ بِإخْلَاصٍ وصِدقٍ واسْألْ حَاجَتَكَ، وَرَبُّكَ أَعلَمُ بذَلكَ، إن شَاءَ سُبحَانَهُ عَجَّل هَذَا كما يَقَعُ وَوَقَعَ لِكَثِيرٍ منَ النَّاسِ، عُجِّلَت لهم طَلَبَاتُهُم، وقد تُؤَجَّلُ كمَا وَقَعَ أَيضًا لِكَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ أُجِّلَت طَلَبَاتُهُم ولم تَحصُلْ لهم في الدُّنيَا، وقد يُصرَفُ عنه منَ الشَّرِّ ما لا يَدُورُ على بَالِهِ ولم يُذكَرْ في خَيالِهِ؛ فَضلًا مِنْ اللهِ سبحانه وتعالى، وبَدَلًا مِنْ إِجَابتِهِ لهَذِه الدَّعوَةِ أُعطِي ما هو خَيرٌ منها وأَفضَلُ، أو أُجِّلَتْ لَه في الآخِرَةِ لِيكُونَ ذَلكَ أَنفعَ له؛ لأنَّ حِكمَةَ اللهِ اقْتَضَتْ ألَّا تَحصُلَ له في الدُّنيَا،

(1)

رواه البخاري في «الأدب المفرد» (710).

ص: 283

إلى غَيرِ ذَلكَ.

أَحسَنَ اللهُ إِليكَ، نُزُولُ الرَّبِّ مِنْ ثُلُثِ اللَّيلِ الآخِرِ حَتَّى الفَجرِ؟

نعم حَتَّى طُلُوعِ الفَجرِ في كُلِّ بَلَدٍ، نُزُولًا يَلِيقُ به لا يُشبِهُ خَلقَهُ في ذَلكَ، ولا يَعلمُ كَيفِيَّتَه إلا هو سبحانه وتعالى.

7495 -

حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، أَنَّ الأَعْرَجَ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ: أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ»

(1)

.

7496 -

وَبِهَذَا الإِسْنَادِ قَالَ اللَّهُ: «أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ»

(2)

.

هَذَا الشَّاهِدُ: «قَالَ اللهُ: أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ» وهَذَا من فَضلِ اللهِ العَظِيمِ: «يَا بْنَ آدَمَ أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ» . وهَذَا مِثلُ قَولِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)} [سبأ: 39]، {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} [التغابن: 17]. فَالمَشرُوعُ لابنِ آدَمَ أن يُنْفِقَ ويُحسِنَ ولا يَبخَلَ؛ واللهُ يُعَوِّضُهُ خَيرًا عَاجِلًا أو آجِلًا.

والبُخلُ ذَمِيمٌ وقَبِيحٌ، لا يَلِيقُ بِالمُؤمِنِ، بل يَنبَغِي له أن يَكُونَ جَوَادًا كَرِيمًا

(1)

ورواه مسلم (855).

(2)

ورواه مسلم (993).

ص: 284

مُنْفِقًا مما يَسَّرَ اللهُ له: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق: 7]، «اتَّقُوا النَّارَ ولو بِشِقِّ تَمرَةٍ»

(1)

، فلا يَنبَغِي له أن يَحمِلَهُ سُوءُ الظَّنِّ بِاللهِ، أو البُخلُ بِمَا أَعطَاهُ اللهُ، أو مَحبَّةُ المَالِ أو غيرُ هَذَا مِنْ الآفَاتِ التي لا تَنبَغِي، لا يَنبَغِي أن تَحمِلَه تلكَ الآفَاتُ على الإِمسَاكِ عن الإِنفَاقِ في مَحِلِّهِ والجُودِ في محِلِّه، ولو لمْ تَعلَمْ حَالَ المُعْطَى، إذا سَألَ أو ظَنَنتَ أَنَّه مُحتَاجٌ تُعطِه ما تَيسَّرَ قَالَ تَعَالَى:{وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19)} [الذاريات: 19]، السَّائِلُ قد يَكُونُ مَعلُومًا وقد يَكُونُ مَجهُولًا، فإذا عَلمَتَ أَنَّه مُحتَاجٌ فهَذَا آكَدُ، وإذا لم تَعلَمْ تُعطِهِ، قد يَكُونُ مُحتَاجًا وأنت لا تَدْرِي، تُعطِهِ ما تَيَسَّرَ.

أما إذا عَلمتَ حَالةً ثَالِثَةً: وهو أَنَّه غَنيٌّ وَأنَّه كَذَّابٌ فهَذَا يُزجَرُ ويُؤَدَّبُ ويُعَلَّمُ ويُوَجَّهُ إلى الخَيرِ؛ حَتَّى يَنتَهِيَ عن جَشَعِهِ وحِرصِهِ على المَالِ، وهو لا يَستَحِقُّ؛ لأنَّ اللهَ قد أَغنَاهُ.

فالسَّائِلُونَ ثَلَاثَةُ أَقسَامٍ: مَجهُولٌ، وفَقِيرٌ مَعلُومٌ، وغَنِيٌّ مَعلُومٌ:

1 -

فَالفَقِيرُ المَعلُومُ: لا إشكالَ فيه، يُعطَى.

2 -

والمَجهُولُ: يُعطَى بما يَسَّرَ اللهُ، وليس مِثلَ المَعلُومِ.

3 -

والمَعلُومُ أَنَّه غَنِيٌّ: يُعَلَّمُ ويُوجَّه ويُرشَدُ ويُزجَرُ عن عَمَلهِ السَّيِّئِ.

الذي ظَاهِرُهُ الفَقرُ؟

ما دَامَ ما تَعلمُ حَالَهُ تُعطِيه، إلَّا مِنَ الزَّكَاةِ، إذا كَانَ مَجْهُولًا تَقُولُ له هَذَا زَكَاةٌ حَتَّى يَعلَمَ، أمَّا صَدَقَةُ الْمُتَطَّوعِ ما يَحتَاجُ سُؤَالًا.

(1)

رواه البخاري (1417)، ومسلم (1016)(68).

ص: 285

(1)

؟

ما فيه مَانِعٌ، مِثلمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِسَعدٍ رضي الله عنه:«إنَّك إن تَذَرْ وَرَثَتكَ أَغنِياءَ خَيرٌ مِنْ أن تَتركَهُم فُقَرَاءَ يَتَكَّفَّفُونَ النَّاسَ»

(2)

، ولا يَمنَعُ مِنَ الصَّدَقَةِ، النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَعزِلُ نَفَقَةَ أَهلِهِ سَنَةً عليه الصلاة والسلام، ثم يُنفِقُهَا، وقد يَمرُّ عليه الأَيّامُ الكَثِيرةُ واللَّيَالِي وليس عنده شَيءٌ، عليه الصلاة والسلام.

7497 -

حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ فَقَالَ:«هَذِهِ خَدِيجَةُ أَتَتْكَ بِإِنَاءٍ فِيهِ طَعَامٌ - أَوْ إِنَاءٍ فِيهِ شَرَابٌ - فَأَقْرِئْهَا مِنْ رَبِّهَا السَّلَامَ، وَبَشِّرْهَا بِبَيْتٍ مِنْ قَصَبٍ لَا صَخَبَ فِيهِ، وَلَا نَصَبَ»

(3)

.

هَذَا الشَّاهِدُ قَولُهُ: «أَقْرِئهَا مِنْ رَبِّهَا السلَّامَ» أَنَّه سبحانه وتعالى يَتَكَلَّمَ وَأنَّه يُسَلِّمُ على مَنْ شَاءَ سبحانه وتعالى؛ ولِهذَا جَاءَ جَبرَائِيلَ عليه السلام يَحمِلُ منَ اللهِ السَّلَامَ لِخَدِيجةَ رضي الله عنها، هَذَا فَضلٌ كَبِيرٌ لِخَدِيجَةَ رضي الله عنها. أنَّ اللهَ أَمرَ جَبرَائِيلَ أن يُبَلِّغَهَا منه السَّلَامَ وأن يُبَشِّرَهَا بِالجَنَّةِ، بِبَيتٍ في الجَنةِ مِنْ قَصَبٍ لا صَخَبَ فيه ولا نَصَبَ، قال العُلمَاءُ: القَصَبُ يَعْنِي: مِنْ اللُّؤلُؤِ.

«وليس فيه صَخَبٌ ولا نَصَبٌ» يَعْنِي: لَيْسَ فيه تَعَبٌ ولا صِياحٌ يُؤذِي، فليس فيه صَخَبٌ منَ الكَلَامِ المُؤذِي،

(1)

ولعل السؤال: هل الفقير يتصَدق؟

(2)

رواه البخاري (1295)، ومسلم (1628)(5).

(3)

ورواه مسلم (2432).

ص: 286

ولا نَصَبٌ مما يُتعِبُ، بل هو مِنْ أَنوَاعِ النَّعِيمِ، وفيه ما هو نَعِيمٌ، كُلهُ نَعِيمٌ، فهَذَا يَدُلُّ على فَضلِهَا والشَّهَادةِ لها بِالجَنَّةِ، وأنها مِنَ المَشهُودِ لهم بِالجَنَّةِ رضي الله عنها.

وهَذَا مِنْ الوُجُوهِ التي فُضِّلَت بها خَدِيجَةُ رضي الله عنها على عَائِشَةَ رضي الله عنها وعلى بَقِيَّةِ الأَزوَاجِ رضي الله عنهن جَمِيعًا.

ما رَفَعَهُ أَبُو هُرَيرَةَ رضي الله عنه هنا؟

هَذَا مَرفُوعٌ في الرِّوَايَاتِ الأُخْرَى، ولا يَقُولُهُ أَبُو هُرَيرَةَ رضي الله عنه من كيسِهِ،

(1)

فهُوَ لَه حُكمُ الرَّفعِ.

(الشَّيخُ): ماذا قَالَ الشَّارِحُ؟

[قَالَ الحَافِظُ ابنُ حَجرٍ رحمه الله فِي «فَتْحِ البَارِي» (13/ 469)]: «قَولُهُ: عن أَبِي هُرَيرَةَ فَقَالَ: «هَذِه خَدِيجَةُ» كذا أَورَدَه هنا مُختَصَرًا، والقَائلُ جِبرِيلُ كمَا تَقَدَّمَ في بَابِ تَزْوِيجِ خَدِيجَةَ رضي الله عنها في أَوَاخرِ المَنَاقِبِ، عن قُتَيبَةَ بنِ سَعيدٍ، عن مُحمَّدِ بنِ فُضَيلٍ بهَذَا السَّنَدِ عن أَبِي هُرَيرَةَ قَالَ: أَتَى جِبرِيلُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يا رَسُولَ اللهِ، هَذِه خَدِيجَةُ

إلى آخِرهِ. وبهَذَا يَظهَرُ أنَّ جَزمَ الكَرمَانِيُّ بأن هَذَا الحَدِيثَ مَوقُوفٌ غَيرُ مَرفُوعٍ مَردُودٌ». [انتهى كلامه].

(الشَّيخُ): تَكَلَّم على «مِنْ قَصَبٍ» ؟ أو العَينِيُّ؟

[قالَ الإِمَامُ العَينِيُّ رحمه الله في «عُمدَةِ القَارِي» (25/ 160)]: «قَولُهُ: «مِنْ قَصَبٍ» . قَالَ الْكرْمَانِيُّ: يُرِيد بِهِ قَصَبَ الدُّرِّ المُجَوَّفِ، وَقيلَ: اصْطِلَاحُ الجَوهَريِينَ أَنْ يَقُولُوا: قَصَبٌ من الدُّرٍّ وقَصَبٌ مِنَ الْجَوْهَرِ، وَقَالَ الْهَرَوِيُّ: أَرَادَ بِقصرٍ من زُمُرُّدَةٍ مُجَوَّفةٍ أَوْ من لُؤلُؤَةٍ مُجَوَّفةٍ. قَولُهُ: «لَا صَخَبَ فِيهِ» أَي: لَا صِياحَ وَلَا جَلَبَةَ. قَولُهُ: «وَلَا نَصَبَ» أَي: وَلَا تَعبَ، وَقَالَ الدَّاودِيُّ: يَعْنِي لاعِوجَ». [انتهى كلامه].

(1)

أي من فهمه ورأيه.

ص: 287

وقال الإِمَامُ القَسْطلَّانيُّ رحمه الله (3/ 275): ««مِنْ قَصَبٍ» بِفَتحِ القَافِ وَالصَّادِ المُهْمَلةِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ، وَوَقَعَ في حَدِيثٍ عِنْدَ الطَّبَرَانيِّ في «الأَوسَطِ» تَفْسِيرُه مِنْ طَريقِ ابنِ أَبِي أَوْفَى بِلَفظِ:«يَعنِي مِنْ قَصَبِ اللُّؤْلُؤِ» . وَعِندَهُ في «الكَبيرِ» مِنْ حَديثِ أَبِي هُرَيرةَ: «بِبَيتٍ مِنْ لُؤْلُؤةٍ مُجَوَّفَةٍ» ، وَعِندَه فِي «الأَوسَطِ» في حَدِيثِ فَاطِمةَ قَالَتْ: قُلتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَينَ أُمِّي خَدِيجَةُ؟ قَالَ:«فِي بَيتٍ مِنْ قَصَبٍ» . قُلتُ: أَمِنْ هَذَا القَصَب؟ قَالَ: «لَا، مِنَ القَصَبِ المَنْظُومِ بِالدُّرِّ وَاللُّؤلُؤِ وَاليَاقُوتِ» .

فَإِنْ قُلتَ: مَا النُّكْتَةُ في قَولِه: «مِنْ قَصَبٍ» وَلَمْ يَقُلْ مِنْ لُؤلُؤٍ؟

أُجِيبَ: بِأَنَّ في لَفظِ «القَصَبِ» مُنَاسَبةٌ؛ لِكَونِهَا أَحْرَزَتْ قَصَبَ السَّبقِ لِمُبادَرَتِها إلى الإِيْمَانِ دُونَ غَيرِهَا.

فَإِنْ قُلْتَ: لمَ قَالَ: «بِبَيتٍ» وَلَمْ يَقُلْ: بِقَصرٍ؛ وَالقَصْرُ أَعْلَى وَأَشْرفُ؟

أُجِيبَ: بِأنَّهَا لمَّا كَانتْ ربَّة بَيتٍ قَبلَ المَبعَثِ، ثُمَّ صَارَتْ رَبَّة بَيتٍ في الإِسْلَامِ مُنْفَردةً بِه، فَلَم يَكُنْ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ فِي أَوَّلِ يَومٍ بُعِثَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بيتُ إِسْلامٍ إِلَّا بَيتُهَا، وَهِي فَضِيلةٌ مَا شَارَكَهَا فِيهَا غَيرُهَا، وَجَزاءُ الفِعلِ يُذْكَرُ غَالبًا بِلَفظِه وَإِنْ كَانَ أَشْرفَ منه قَصْدًا لِلمُشَاكَلةِ وَمُقَابلةِ اللَّفظِ بِاللَّفظِ، فَلِهذَا جَاءَ الحَدِيثُ بِلَفظِ «البَيتِ» دُونَ ذِكرِ القَصرِ». [انتهى كلامه].

7498 -

حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ أَسَدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«قَالَ اللَّهُ: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ»

(1)

.

يَعْنِي في الجَنَّةِ كما في الرِّوَايَاتِ الأُخْرَى، وهَذَا مِنْ كَلَامِهِ:«أَعدَدتُ» ، هَذَا الشَّاهِدُ: «يَقُولُ اللهُ: أَعدَدتُ

». اللهُ يَجعَلُنَا وإِيَّاكُم منهم، اللهُ المُستَعَانُ، اللهُ المُستَعَانُ.

7499 -

حَدَّثَنَا مَحْمُودٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ الأَحْوَلُ، أَنَّ طَاوُسًا، أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا تَهَجَّدَ مِنَ اللَّيْلِ، قَالَ: «اللَّهُمَّ لَكَ الحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، وَلَكَ الحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، وَلَكَ الحَمْدُ أَنْتَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، أَنْتَ الحَقُّ، وَوَعْدُكَ الحَقُّ، وَقَوْلُكَ الحَقُّ،

(1)

ورواه مسلم (2824).

ص: 288

وَلِقَاؤُكَ الحَقُّ، وَالجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ، اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ، فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، أَنْتَ إِلَهِي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ»

(1)

.

7500 -

حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ النُّمَيْرِيُّ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ الأَيْلِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ، قَالَ: سَمِعْتُ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ، وَسَعِيدَ بْنَ المُسَيِّبِ، وَعَلْقَمَةَ بْنَ وَقَّاصٍ، وَعُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ، زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، حِينَ قَالَ لَهَا أَهْلُ الإِفْكِ مَا قَالُوا، فَبَرَّأَهَا اللَّهُ مِمَّا قَالُوا، وَكُلٌّ حَدَّثَنِي طَائِفَةً مِنَ الحَدِيثِ الَّذِي حَدَّثَنِي عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: وَلَكِن وَاللَّهِ مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ يُنْزِلُ بَرَاءَتِي وَحْيًا يُتْلَى، وَلَشَأْنِي فِي نَفْسِي كَانَ أَحْقَرَ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ فِيَّ بِأَمْرٍ يُتْلَى، وَلَكِنِّي كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَرَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي النَّوْمِ رُؤْيَا يُبَرِّئُنِي اللَّهُ بِهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:{إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ} العَشْرَ الآيَاتِ

(2)

.

الشَّاهِدُ قَولُهَا: «أن يَتَكَلَّمَ اللهُ فيَّ» ، وقَولُهُ في حَدِيثِ ابنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما المُتَقَدِّمِ:«وقَولُكَ الحَقُّ» .

(1)

ورواه مسلم (769).

(2)

ورواه مسلم (277).

ص: 289

7501 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا المُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «يَقُولُ اللَّهُ: إِذَا أَرَادَ عَبْدِي أَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً، فَلَا تَكْتُبُوهَا عَلَيْهِ حَتَّى يَعْمَلَهَا، فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا بِمِثْلِهَا، وَإِنْ تَرَكَهَا مِنْ أَجْلِي فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَعْمَلَ حَسَنَةً فَلَمْ يَعْمَلْهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً، فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ»

(1)

.

وهَذَا فَضْلُهُ وجُودُهُ، وحَدِيثُ ابنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما العَظِيمُ هَذَا وما جَاءَ في مَعنَاهُ كُلُّهُ يَدُلُّ على فَضلِ اللهِ العَظِيمِ سبحانه وتعالى، فَالعَبدُ إذا هَمَّ بِالحَسنَةِ فلم يَعمَلْهَا كُتِبَتْ له حَسنَةٌ بهَذَا الهَمِّ وهَذَا القَصدِ، كأن يَهِمَّ أن يَعُودَ مَرِيضًا، أو يَهِمَّ أن يَتَصَدَّقَ، أو ما أَشبَهَ ذَلكَ من أَعمَالِ الخَيرِ تُكتَبُ له حَسنَةٌ، فإنْ فَعَلَهَا كُتِبَتْ له عَشرُ حَسنَاتٍ إلى سَبعِمَائةِ ضِعفٍ، إلى أَضعَافٍ كَثِيرَةٍ.

أمَّا إنْ همَّ بِالسِّيئَةِ فإنها [لا] تُكتَبُ عليه حَتَّى يَعمَلَهَا، فإن عَمِلَها كُتِبَت سَيئَّةً وَاحِدةً فَقَطْ بِمثلِهَا، كما قَالَ:{وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} [الأنعام: 160]. فإن ترَكهَا مِنْ أَجلِ اللهِ كُتَبتْ له حَسنَةً، وهَذَا فَضلُهُ سبحانه وتعالى كأن يَهِمَّ بأن يَسرِقَ أو يَسُبَّ فُلَانًا ثم لا يَفعَلُ لم تُكتَبْ عليه، فإن تَركَهَا مِنْ أَجلِ اللهِ، خَافَ اللهُ، تَركَ مِنْ أَجلِ خَوفِ اللهِ كُتِبَت له حَسنَةً؛ لأنَّه تَركَهَا مِنْ أَجلِ اللهِ

(1)

ورواه مسلم (128).

ص: 290

كما قَالَ: «مِنْ جَرَّائِي» .

وهناك حَالٌ ثَالثَةٌ: وهي أن يَعمَلَ ويَجتَهِدَ لِفِعلِهَا ولكِنْ يَعجَزُ؛ فهَذَا تُكتَبُ عليه. فَتَركُ السَّيَّئةِ له أَحوَالٌ ثَلَاثٌ:

أَحَدهُا: أن يَترُكَهَا مِنْ غَيرِ قَصدِ اللهِ، هَكَذَا تَسَاهُلًا فلا تُكتَبُ عَليه.

الحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أن يَترُكَهَا خَوفًا منَ اللهِ؛ فَتُكتَبُ له حَسنَةً.

الحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أن يَعمَلَ ويَجتَهِدَ في فِعلِهَا، ولكن يُغلَبُ ويَعجَزُ فَتُكتَبُ عليه السَّيئَةُ، كمَا في الحَدِيثِ الصَّحِيحِ:«إذا الْتَقَى المُسلِمَانِ بِسَيفَيهِمَا فَالقَاتِلُ والمَقتُولُ في النَّارِ» . قالوا: يا رَسُولَ اللهِ، هَذَا القَاتِلُ فما شَأنُ القَتِيلِ؟! قَالَ:«إنه كَانَ حَرِيصًا على قَتلِ صَاحِبِهِ»

(1)

. يَعْنِي: قدْ فَعَلَ وَلكِنَّهُ غُلِبَ، وهَكَذَا مَنْ هتَكَ السِّترَ وهَتَكَ الحِرزَ واجْتَهدَ في أَخذِ السَّرِقةَ ولكن حِيلَ بينه وبين ذَلكَ يَأثَمُ وتُكتَبُ عليه؛ لِأنَّه فَعَلَ ما اسْتَطَاعَهُ، وهَكَذَا مَنْ فَعلَ جُهدَهُ لِفِعلِ السَّيئَةِ ولكن حِيلَ بينه وبين ذَلكَ تُكتَبُ عَليهِ تلكَ السَّيئَةُ؛ لِأنَّه بَذلَ في هَذَا عَمَلًا مُنكَرًا.

أَحسَنَ اللهُ إِليكَ، تُكتَبُ عليه السّرقَةُ كَامِلَةً أو ما بَاشَرَ مِنْ أَسْبَابِهَا؟

اللهُ أَعلَمُ، المَقْصُودُ: أَنَّه آثِمٌ، أمَّا السَّيئَةُ ما أَعلَمُ عِظَمَهَا وكَيفِيِّتَها اللهُ أَعلَمُ، في الحَدِيثِ:«القَاتِلُ والمَقتُولُ في النَّارِ» عمَّهُ الوَعِيدُ، نَسأَلُ اللهَ العَافِيَةَ.

نعم مِثلُهُ، دَاخِلٌ في هَذَا، رَجُلٌ كَانَ له عِلمٌ ومَالٌ وكان يَعمَلُ بِمَالِهِ فيما شَرعَ اللهُ فهو في خَيرِ المَنَازِلِ، والثَّانِي: له عِلمٌ وليس له مَالٌ فهو يَقُولُ: لو أنَّ لي مَالَ فُلَانٍ لَعمِلتُ مِثلَ عَمَلِهِ فَله مِثلُ أَجرِهِ بِنيَّتِهِ الصَّالِحَةِ .... إلخ.

(1)

رواه البخاري (31).

ص: 291

7502 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي مُزَرِّدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «خَلَقَ اللَّهُ الخَلْقَ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهُ قَامَتِ الرَّحِمُ، فَقَالَ: مَهْ. قَالَتْ: هَذَا مَقَامُ العَائِذِ بِكَ مِنَ القَطِيعَةِ، فَقَالَ: أَلَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ، وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ. قَالَتْ: بَلَى يَا رَبِّ. قَالَ: فَذَلِكِ لَكِ» .

ثُمَّ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد: 22]

(1)

.

(الشَّيخُ): في نُسخَتكَ «مُزَرِّدٍ» بِالكَسْرِ؟

[قال الإِمَامُ العَينِيُّ رحمه الله في «عُمدَةِ القَارِي» (172/ 19)]: «مُزَرِّدٍ» بِضَمِّ المَيمِ وفَتحِ الزَّاي وكَسرِ الرَّاءِ المشَدَّدةِ وبِالدَّالِ المُهمَلَةِ». [انتهى كلامه].

قَالَ ابنُ بَازٍ رحمه الله: هَذَا هو المَعرُوفُ «مُزَرِّد» كَسرُ الرَّاءِ مع التَّشدِيدِ.

(الشَّيخُ) رَاجِعِ «التَّقرِيبَ» : مُعَاوِيةُ بنُ أَبِي مُزَرِّدٍ؟

[قال الحَافِظُ ابنُ حَجرٍ رحمه الله في «تقْرِيبِ التَّهذيبِ» (6770)]: «مُعَاوِيةُ بنُ أَبِي مُزَرِّدٍ» بِضَمِّ المِيمِ وفَتحِ الزَّاي وتَثقِيلِ الرَّاءِ المَكسُورَةِ، عَبدُ الرَّحمَنَ بنُ يَسَارٍ مَولَى بَنِي هَاشَمٍ المَدَنِيُّ، لَيْسَ به بَأسٌ، مِنْ السَّادِسَةِ، خ م س».

(1)

ورواه مسلم (2554).

ص: 292

قَالَ ابنُ بَازٍ رحمه الله: هَذَا يَدُلُّ على أن الشَّكلَ هنا لَيْسَ عليه اعْتِمَادٌ

(1)

، وأنَّ الذي يَتَحَرَّى الشَّكَلَ لَيْسَ عنده ضَبطٌ كما يَنبَغِي؛ فبَعضُ النُّسخِ «مزرَّد» بِالفَتحِ، غَلطٌ في الشَّكلِ.

7503 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ صَالِحٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ، قَالَ: مُطِرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «قَالَ اللَّهُ: أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي كَافِرٌ بِي وَمُؤْمِنٌ بِي»

(2)

.

الحدِيثُ تَمَامُهُ: «فَأمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرنَا بِفضْلِ اللهِ وَرحْمَتِهِ فذَلِكَ مُؤمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالكَوكَبِ، وأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرنَا بِنَوءِ كَذَا وكَذَا فَهُوَ كَافِرٌ بِي مُؤمِنٌ بِالكَوكَبِ» .

واحْتَجَّ به العُلمَاءُ على أَنَّه لا يَجُوزُ أن يُقَالَ: مُطِرنَا بِنَوءِ كَذَا، أو بِنَجمِ كَذَا، ولكِنْ يَقُولُ: مُطِرنَا بِفَضلِ اللهِ ورَحمَتِهِ؛ لِأنَّه مِنْ جُودِهِ وكَرَمهِ سبحانه وتعالى. وأنَّ نِسبَةَ المَطرِ إلى الكَواكَبِ كُفرٌ.

ثم فيه التَّفصِيلُ: هل كُفرٌ أَكبَرُ أو كُفرٌ أَصغَرُ؟ على حَسبِ حَالِ مَنْ قَالَ ذَلكَ، مَنْ اعتَقَدَ أَنَّها مُؤثِّرَةٌ وأنَّهَا هي التي تُمطِرُ كَانَ كُفرًا أَكبَرَ؛ شِركٌ في الرُّبُوبِيَّةِ، وإن كَانَ ظَنَّ أَنَّها سَبَبٌ وقال هَذَا لأنَّهُ يَعتَقِدُ أَنَّها سَبَبٌ صَارَ هَذَا كُفرًا أَصغَرَ، فلا

(1)

أي الضبط بالشكل.

(2)

ورواه مسلم (71).

ص: 293

يَقُولُ هَذَا مُطلَقًا، فهو كُفرٌ مُطلَقًا، لكن فيه التَّفصِيلُ مِنْ جِهَةِ كَونِهِ أَكبَرَ أو أَصغَرَ على حَسَبِ القَوَاعِدِ الشَّرعِيَّةِ.

7504 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «قَالَ اللَّهُ: إِذَا أَحَبَّ عَبْدِي لِقَائِي أَحْبَبْتُ لِقَاءَهُ، وَإِذَا كَرِهَ لِقَائِي كَرِهْتُ لِقَاءَهُ» .

اللهُ أَكبَرُ، اللهُ أَكبَرُ، وهَذَا في اللَّفظِ الآخَرِ:«مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللهِ أَحَبَّ اللهُ لِقَاءَهُ، ومَن كَرِهَ لِقَاءَ اللهِ كَرِهَ اللهُ لِقَاءَهُ» . قَالتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: يَا رَسُولَ اللهِ، هو المَوتُ فَكُلُّنَا نَكرَهُ المَوتَ. قَالَ:«لا، ولكِنَّ المُؤمِنَ إذا حَضَرَهُ أَجلُهُ بُشِّرَ بِرَحمَةِ اللهِ وفَضلِهِ -أو قَالَ-: ورِضْوَانِهِ فَأَحَبَّ لِقَاءَ اللهِ فَأَحَبَّ اللهُ لِقَاءَهُ، والكَافِرُ إذا حَضَرهُ أَجَلُهُ بُشِّرَ بِغَضبِ اللهِ وعَذَابِهِ؛ فَكرِهَ لِقَاءَ اللهِ فَكرِهَ اللهُ لِقَاءَهُ»

(1)

. نَسأَلُ اللهَ العَافِيَةَ.

7505 -

حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «قَالَ اللَّهُ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي»

(2)

.

(1)

رواه البخاري (6507)، ومسلم (2684)(15).

(2)

ورواه مسلم (2675).

ص: 294

(الشَّيخُ): تَكَلَّمَ عليه الحَافِظُ أو العَينِيُّ؟ أو تَقَدَّمَ في كذا؟ وفي بَعضِهَا: «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي وأنا مَعَه إذا دَعَانِي»

(1)

.

[قَالَ الحَافِظُ ابنُ حَجرٍ رحمه الله فِي «فَتْحِ البَارِي» (13/ 470)]: «قَولُهُ: قَالَ اللهُ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي. تَقَدَّمَ في أَوَائلِ التَّوحِيدِ في بَابَ {ويُحُذِّركُمُ اللهُ نَفسَهُ} مِنْ رِوَايَةِ أَبِي صَالحٍ عن أَبِي هُرَيرَةَ، وَأَوَّلُهُ يَقولُ اللهُ، وزَادَ: «وأنا مَعهُ إذا ذَكَرنِي

» الحدِيثَ. وتَقَدَّمَ شَرحُهُ هنَاك مُستَوفًى». [انتهى كلامه].

7506 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«قَالَ رَجُلٌ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ: إِذَا مَاتَ فَحَرِّقُوهُ وَاذْرُوا نِصْفَهُ فِي البَرِّ، وَنِصْفَهُ فِي البَحْرِ، فَوَاللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ لَيُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا لَا يُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ العَالَمِينَ، فَأَمَرَ اللَّهُ البَحْرَ فَجَمَعَ مَا فِيهِ، وَأَمَرَ البَرَّ فَجَمَعَ مَا فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: لِمَ فَعَلْتَ؟. قَالَ: مِنْ خَشْيَتِكَ وَأَنْتَ أَعْلَمُ، فَغَفَرَ لَهُ»

(2)

.

اللهُ أَكبَرُ، اللهُ أَكبَرُ، ذَكَرَ أَبُو العَبَّاسِ ابنُ تَيمِيَّةَ وغَيرُهُ أَيْضًا مِنْ أَهْلِ العِلْمِ أنَّ هَذَا كَانَ أَسَاءَ الظَّنَّ بِنَفسِهِ، وَأنَّه فَعلَ ما لا يُغفَرُ واشْتَدَّ عليه خَوفُ اللهِ وخَشيَتُهُ

(1)

ورواه مسلم (2675)، ولفظة:«إذا دعاني» ليست عند البخاري ومسلم.

(2)

ورواه مسلم (2756).

ص: 295

سبحانه وتعالى؛ فَفَعَلَ ما فَعلَ جهلًا منه بِكمَالِ القُدرَةِ؛ فَعفَا اللهُ عنه لِأنَّه جَهِلَ هَذَا الشَّيءَ، هَذَا المِقدَارَ منِ القُدرَةِ هَذَا المِقدَارَ العَظِيمَ، وهَذَا مما قد يَجهَلُهُ بَعضُ النَّاسِ.

واحتُجَّ به على أنَّ الإِنسَانَ قد يَجهَلُ بَعضَ الأَشيَاءِ التي قد يُجهَلُ مِثلُهَا فَيُعفَى عنه لِجَهلِهِ، بِخِلَافِ الأُمُورِ الوَاضِحَةِ فإنَّه لا يُعذَرُ بِجَهلِهَا، بل لا بُدَّ مِنْ فِعلِهَا إن كَانَتْ وَاجِبَةً، أو ترَكِهَا إن كَانَتْ مُحرَّمَةً.

7507 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ ابْنَ أَبِي عَمْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ عَبْدًا أَصَابَ ذَنْبًا -وَرُبَّمَا قَالَ: أَذْنَبَ ذَنْبًا- فَقَالَ: رَبِّ أَذْنَبْتُ ذَنْبًا -وَرُبَّمَا قَالَ: أَصَبْتُ- فَاغْفِرْ لِي. فَقَالَ رَبُّهُ: أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ؟ غَفَرْتُ لِعَبْدِي، ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ أَصَابَ ذَنْبًا، أَوْ أَذْنَبَ ذَنْبًا، فَقَالَ: رَبِّ أَذْنَبْتُ- أَوْ أَصَبْتُ -آخَرَ، فَاغْفِرْهُ؟ فَقَالَ: أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ؟ غَفَرْتُ لِعَبْدِي، ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ أَذْنَبَ ذَنْبًا، وَرُبَّمَا قَالَ: أَصَابَ ذَنْبًا، فَقَالَ

(1)

: رَبِّ أَصَبْتُ -أَوْ قَالَ أَذْنَبْتُ- آخَرَ، فَاغْفِرْهُ لِي، فَقَالَ: أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ؟ غَفَرْتُ لِعَبْدِي ثَلَاثًا، فَلْيَعْمَلْ مَا شَاءَ»

(2)

.

هنا «أَعَلِمَ» ، وفي اللَّفظِ الآخَرِ:«عَلمَ» بِدُونِ هَمزَةٍ يَعْنِي: ما دَامَ العَبدُ هَكَذَا

(1)

كذا في «الفتح» ، وفي «عمدة القارئ» وغيره:«قال: قال رَبِّ أَصَبْتُ» .

(2)

ورواه مسلم (2758).

ص: 296

متى وَقَعَ منه الذَّنبُ بَادَرَ بِالتَّوبةِ والإِقلَاعِ والنَّدمِ؛ فإن اللهَ يَغفِرُ له سبحانه وتعالى، ولو سَبَقَتْ لَهُ ذُنُوبٌ، كُلُّ ذَنبٍ يُؤخَذُ به عَلَى حِدَةٍ، فإذَا تَابَ مِنهُ وأَنَابَ إلى اللهِ غَفرَ اللهُ لَه، وإذا وَقَعَ بعد ذَلكَ في الذَّنبِ بعد تَوبَةٍ صَادِقَةٍ أُخِذَ بِالذَّنبِ الأَخِيرِ إلَّا أنْ يَتُوبَ، فإن تَابَ غَفرَ اللهُ له، وهَكَذَا إلى المَوتِ.

فاَلذُّنُوبُ تَتَنوَّعُ والتَّوبَةُ تَتَبعَّضُ، فإذا تَابَ مِنْ الذَّنبِ تَوبَةً صَادِقَةً ثم بُليَ به مَرَّةً أُخرَى أُخِذَ بِالأَخِيرِ، والأَوَّلُ مَضَى بِتَوبَتِه، وهَكَذَا إذا كَانَ له ذُنُوبٌ فَتَابَ من هَذَا دُونَ هَذَا، أُخذَ بِالذَّنبِ الذي لم يَتُبْ منه، وغُفِرَ له ما تَابَ منه تَوبَةً صَادِقةً، وإنما يَكُونُ مُصِرًّا إذا لم يَتُبْ، هَذَا هو المُصرُّ الذي أَتَى بِالذَّنبِ ثم الذَّنبِ ثم الذَّنبِ ولم يَتُبْ، هَذَا هو المُصِرُّ ولا يُغفَرُ للمُصِرِّ؛ لأنَّ اللهَ قَالَ:{وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135)} [آل عمران: 135].

فَأمَّا مَنْ تَابَ ونَدِمَ وأَقلَعَ، ثم وَقَعَ فيه مَرَّةً أُخْرَى ولم يُصرَّ عليه سَابقًا، وإنما وَقَعَ له ذَنبٌ مِثلُ ذَلكَ أو غَيره؛ فهَذَا يُؤخَذُ بِالأَخِيرِ إلا أن يَتُوبَ.

أَحسَنَ اللهُ إِليكَ: قَولُهُ: «فَليعمَلْ ما شَاءَ» ؟

الظَّاهِرُ: أن المُرادَ بهَذَا لَيْسَ الإِذْنَ له، وإنَّما ما دَامَ بهَذِه الحَالَةِ فإنَّه لا يَضُرُّهُ، ما دَامَ بهَذِه الحَالَةِ كُلَّمَا أَذنَبَ تَابَ ولم يُصرَّ على الذَّنبِ؛ فإنَّ حُكمَ اللهِ في ذَلكَ أَنَّه يُتَابُ عليه في ذَلكَ، وليس المُرَادُ به أَنَّه مَأذُونٌ لَهُ أَنْ يَفعَلَ أو يَعصِيَهُ، ما دَامَ فَليعمَلْ ما شَاءَ.

قد يُقَالُ: المُرَادُ بهَذَا التَّهدِيدُ، لكنَّ المَقَامَ ما هو مَقَامُ تَهدِيدٍ، المَقَامُ مَقَامُ الفَضْلِ، فالمَعْنَى ما دَامَ بهَذِه الحَالَةِ فإنه يُغفَرُ له، ما دَامَ كُلَّمَا أذنَبَ تَابَ وأَقلَعَ فعليه أن يَتَوقَّى الذُّنُوبَ وعليه أن يَحذَرَهَا، ولكِنْ ما دَامَ متى فَعَلَ تَابَ فَإنَّهُ لا

ص: 297

يَضُرُّه ذَلكَ الذَّنبُ الذي يَسَّرَ اللهُ له التَّوبَةَ منه، لكنَّ العَبدَ على خَطرٍ، قد يُبتَلَى بِالذَّنبِ ثم لا يُوفَّقُ للتَّوبةِ، فَالحَزمَ كُلَّ الحَزمِ أن يَحذَرَ ولا يَتَّكلَ على أَنَّه سَيتُوبُ؛ لأن هَذَا قد يُستَدرَجُ ويُصَابُ ولا يُمَكَّنُ مِنْ التَّوبَةِ؛ عُقُوبَةً له بِتَسَاهُلِهِ.

7508 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الأَسْوَدِ، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ، سَمِعْتُ أَبِي، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَبْدِ الغَافِرِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:«أَنَّهُ ذَكَرَ رَجُلًا فِيمَنْ سَلَفَ -أَوْ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، قَالَ: كَلِمَةً: يَعْنِي- أَعْطَاهُ اللَّهُ مَالًا وَوَلَدًا، فَلَمَّا حَضَرَتِ الوَفَاةُ، قَالَ لِبَنِيهِ: أَيَّ أَبٍ كُنْتُ لَكُمْ؟. قَالُوا: خَيْرَ أَبٍ، قَالَ: فَإِنَّهُ لَمْ يَبْتَئِرْ -أَوْ لَمْ يَبْتَئِزْ- عِنْدَ اللَّهِ خَيْرًا، وَإِنْ يَقْدِرِ اللَّهُ عَلَيْهِ يُعَذِّبْهُ، فَانْظُرُوا إِذَا مُتُّ فَأَحْرِقُونِي حَتَّى إِذَا صِرْتُ فَحْمًا فَاسْحَقُونِي -أَوْ قَالَ: فَاسْحَكُونِي- فَإِذَا كَانَ يَوْمُ رِيحٍ عَاصِفٍ فَأَذْرُونِي فِيهَا» . فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «فَأَخَذَ مَوَاثِيقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَرَبِّي، فَفَعَلُوا، ثُمَّ أَذْرَوْهُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ، فَقَالَ اللَّهُ عز وجل: كُنْ، فَإِذَا هُوَ رَجُلٌ قَائِمٌ، قَالَ اللَّهُ: أَيْ عَبْدِي مَا حَمَلَكَ عَلَى أَنْ فَعَلْتَ مَا فَعَلْتَ؟ قَالَ: مَخَافَتُكَ، - أَوْ فَرَقٌ مِنْكَ - قَالَ: فَمَا تَلَافَاهُ أَنْ رَحِمَهُ عِنْدَهَا» وَقَالَ مَرَّةً أُخْرَى: «فَمَا تَلَافَاهُ غَيْرُهَا» . فَحَدَّثْتُ بِهِ أَبَا عُثْمَانَ، فَقَالَ: سَمِعْتُ هَذَا مِنْ سَلْمَانَ غَيْرَ أَنَّهُ زَادَ فِيهِ: «أَذْرُونِي فِي البَحْرِ» . أَوْ كَمَا حَدَّثَ

(1)

.

(1)

ورواه مسلم (2757).

ص: 298

حَدَّثَنَا مُوسَى، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ، وَقَالَ:«لَمْ يَبْتَئِرْ» وَقَالَ لِي خَلِيفَةُ: حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ، وَقَالَ:«لَمْ يَبْتَئِزْ» فَسَّرَهُ قَتَادَةُ: لَمْ يَدَّخِرْ.

(الشَّيخُ): الأَوَّلُ عن أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه؟ السَّابِق؟

(القَارِئُ): إي نعم.

قَالَ ابنُ بَازٍ رحمه الله: عن أَبِي هُرَيرَةَ وعن أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنهما، وهَذَا الثَّالِثُ عن سَلمَانَ رضي الله عنه. اللهُ أَكبَرُ.

(الشَّيخُ): رَاجِعْ كَلَامَهُ على هَذَا؟

[قَالَ الحَافِظُ ابنُ حَجرٍ رحمه الله فِي «فَتْحِ البَارِي» (13/ 473)]: «قَوْلُهُ: «عَنْ عُقْبَةَ بْنَ عَبْدِ الْغَافِرِ، فِي رِوَايَةِ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ: سَمِعْتُ عُقْبَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ فِي الرِّقَاقِ مَعَ سَائِرِ شَرْحِهِ.

وَقَوْلُهُ: أَنَّهُ «ذَكَرَ رَجُلًا فِيمَنْ سَلَفَ أَوْ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ» شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَوَقَعَ عِنْدَ الْأَصِيلِيِّ «قَبْلَهُمْ» وقَدْ مَضَى فِي الرِّقَاقِ عَنْ مُوسَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ عَنْ مُعْتَمِرٍ بِلَفْظِ:«ذَكَرَ رَجُلًا فِيمَنْ كَانَ سَلَفَ قَبْلَكُمْ» وَلَمْ يَشُكَّ.

وَقَوْلُهُ: «قَالَ كَلِمَةً» يَعْنِي أَعْطَاهُ اللَّهُ مَالًا، فِي رِوَايَةِ مُوسَى «آتَاهُ اللَّهُ مَالًا وَوَلَدًا». وَقَوْلُهُ:«أَيَّ أَبٍ كُنْتُ لَكُمْ» قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: هُوَ بِنَصْبِ أَيٍّ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ «كُنْتُ» ، وَجَازَ تَقْدِيمُهُ لِكَوْنِهِ اسْتِفْهَامًا، وَيَجُوزُ الرَّفْعُ، وَجَوَابُهُمْ بِقَوْلِهِمْ:«خَيْرَ أَبٍ» ، الْأَجْوَدُ النَّصْبُ عَلَى تَقْدِيرِ: كُنْتَ خَيْرَ أَبٍ؛ فَيُوَافِقُ مَا هُوَ جَوَابٌ عَنْهُ، وَيَجُوزُ الرَّفْعُ بِتَقْدِيرِ أَنْتَ خَيْرُ أَبٍ.

ص: 299

وَقَوْلُهُ: «فَإِنَّهُ لَمْ يَبْتَئِرْ» أَوْ «لَمْ يَبْتَئِزْ» تَقَدَّمَ عَزْوُ هَذَا الشَّكِّ أَنَّهَا بِالرَّاءِ أَوْ بِالزَّايِ، لِرِوَايَةِ أَبِي زَيْدٍ الْمَرْوَزِيِّ تَبَعًا لِلْقَاضِي عِيَاضٍ، وَقَدْ وَجَدْتُهَا هُنَا فِيمَا عِنْدَنَا مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ عَنْ شُيُوخِهِ. وَقَوْلُهُ:«فَاسْحَقُونِي» ، أَوْ قَالَ «فَاسْحَكُونِي» فِي رِوَايَةِ مُوسَى مِثْلُهُ لَكِنْ قَالَ أَوْ قَالَ:«فَاسْهَكُونِي» . [انتهى كلامه].

(الشَّيخُ): تَكَلَّمَ على الحُكمِ أو ما تَكَلَّمَ؟ والعَينِيُّ تَكَلَّمَ على الحُكمِ؟ مَاذَا قَالَ؟

[قال الإِمَامُ العَينِيُّ رحمه الله في «عُمدَةِ القَارِي» (25/ 163)]: «قَولُهُ: فَغَفَرَ لَهُ. قِيلَ: إِنْ كَانَ مُؤمِنًا فَلمَ شَكَّ فِي قُدرَةِ اللهِ، وَإِنْ كَانَ كَافِرًا فَكيف غُفِرَ لَهُ؟

وَأجِيبَ: بِأَنَّهُ كَانَ مُؤمنا بِدَلِيل الخَشيَةِ، وَمعنى:«قَدرَ» ، مُخفَّفًا ومُشَدَّدًا: حَكَمَ وَقضَى أَوْ ضَيَّقَ. كَقَوْلِه تَعَالَى: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5)} [البلد: 5]، وَقيل أَيْضًا: على ظَاهِرِهِ، وَلكِنَّه قَالَه وَهُوَ غَيرُ ضَابِطٍ لنَفسِهِ، بل قَالَه فِي حَالِ دُخُولِ الدَّهشِ وَالْخَوْفِ عَلَيْهِ؛ فَصَارَ كَالغَافِلِ لَا يُؤَاخَذُ بِهِ، أَوْ أَنَّه جَهِلِ صِفَةً مِنْ صِفَاتَ اللهِ، وجَاهِلُ الصَّفةِ كُفرُهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، أَوْ أَنَّه كَانَ فِي زمَانٍ يَنْفَعهُ مُجَرَّدُ التَّوْحِيدِ، أَوْ كَانَ فِي شَرعِهِم جَوَازُ الْعَفوِ عَنْ الْكَافِر، أَوْ مَعنَاهُ: لَئِنْ قَدرَ اللهُ عَليَّ مُجْتَمِعًا صَحِيحَ الْأَعْضَاءِ لَيُعَذبنِي، وَحسِبَ أَنه إِذا قَدرَ عَلَيْهِ مُحتَرِقًا مُفْتَرِقًا لَا يُعَذِّبهُ». [انتهى كلامه].

قَالَ ابنُ بَازٍ رحمه الله: الأَفضَلُ مِثلمَا قَالَ أَبُو العَبَّاسِ ابنُ تَيمِيَّةَ وغَيرُهُ أَنَّه جَهِلَ كَمَالَ هَذِه الصِّفَةِ، كَمَالَ القُدرَةِ، ومِثلُ هَذَا قد يَجهَلُهُ الإِنسَانُ، الجَهْلُ بِالصِّفَةِ لَما كَانَ شَيْئًا دَقِيقًا في أَمرِ الصِّفَاتِ غُفرَ له؛ لأن مِثلهُ قد يَجهَلُ ذَلكَ، وهَذَا يَدُلُّ على أنَّ دَقَائِقَ الأُمُورِ التي قد تَخفَى على العَامِّيِّ ولا يَضبِطُهَا ولا تَكُونُ في حِسَابِهِ يُعفَى عنه؛ لأنهُ جَهِلَ، بِخِلَافِ الأُمُورِ الظَّاهِرَةِ التي يَعلَمُهَا

ص: 300

النَّاسُ ولا تَخفَى؛ هَذَا لا يُعفَى عنه للتَّسَاهُلِ فيها، أو جَهِلَهَا لِإِعرَاضِهِ وغَفلَتِهِ.

قَولُهُ: في الحَدِيثِ الأَولِ: «لم يَعمَلْ خَيرًا قَطُّ» ؟

يَحْتَمِلُ -واللهُ أَعلَمُ- يَعْنِي الخَيرَ الذي لَيْسَ بِفَرضٍ مِنْ التَّقَرُّبَاتِ والمُسَابَقةِ إلى الخَيرَاتِ، لَيْسَ المُرادُ تَركَ الوَاجِبَاتِ أو فِعلَ الْمُحَرَّماتِ، مُحتَمِلَةٌ، العِبَارَةُ هَذِه مُحتَمِلَةٌ، فإنَّ ظَاهِرهَا أَنَّه ما عنده شَيءٌ بِالكُلِّيةِ وليس هو المُرادُ، بل عندَه مِنْ الإِيمَانِ والتَّوحِيدِ الوَاجِبِ ما يكون سَببًا لِنَجَاتِهِ، لكِنْ جَهِلَ شَيْئًا مِنَ القُدرَةِ. وعلى كُلِّ حَالٍ هو شَيءٌ مما مَضَى، والإِشكَالُ في كَونِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَهُ وسَكَتَ وأَقَرَّ، هَذَا هو مَحَلُّ الإِشكَالِ.

والجَوَابُ: أنَّ مَنْ عَلِمَ الشَّرائِعَ وعَرفَ الأَحكَامَ لَيْسَ كَمَنْ جِهِلهَا؛ فَعليهِ أن يُؤدِّيَ ما عَرفَ وتَركُ ما حُرِّمَ، وإذا جَهِلَ شَيْئًا مما قد يَجهَلُهُ العَامِيُّ الذي لَيْسَ عنده مَعلُومَاتٌ وليس منَ الأُمُورِ الظَّاهِرةِ التي مِثل الصَّلَاةِ مِثل الزَّكَاةِ، الشَّيءَ الوَاضِحَ؛ فإنَّه قد يُعفَى عنه لِجَهلِهِ بذَلكَ الشَّيءِ، مِثلُ أَصحَابِ الفَترَاتِ ومَن أَدرَكَهُ الإِسلَامُ وهو أَصَمُّ أَبكَم لا يَفهَمُ، أو مُخَرِّفٌ؛ لأنَّ هَؤلَاءِ مَعذُوُروُنَ، فهَذَا كذَلكَ في هَذِه الأَشيَاءِ الدَّقِيقَةِ، فهَؤلَاءِ كالَّذِينَ لم يُدرِكُوا الشَّرِيعَةَ ولم تَبلُغْهُم الرِّسَالَةُ، فهو لَفظٌ مُجمَلٌ لا بُدَّ أن يُفسِّرَه بما جَاءَتِ به الشَّريعَةُ الإِسلَامِيَّةُ.

كَلِمَةُ: «خَيرًا» ، نَكِرةٌ في سِيَاقِ النَّفيِ ما تَعمُّ؟

مُحتَمِلَةٌ، مُحتَمِلَةٌ، اللهُ أَعلَمُ.

* * *

ص: 301

‌بَابُ كَلَامِ الرَّبِّ عز وجل يَوْمَ القِيَامَةِ مَعَ الأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ

7509 -

حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ رَاشِدٍ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ حُمَيْدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ شُفِّعْتُ، فَقُلْتُ: يَا رَبِّ أَدْخِلِ الجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ خَرْدَلَةٌ فَيَدْخُلُونَ، ثُمَّ أَقُولُ: أَدْخِلِ الجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى شَيْءٍ» . فَقَالَ أَنَسٌ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَصَابِعِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

(1)

.

لَفظُ أَنسٍ رضي الله عنه هَذَا مُختَصَرٌ مِنْ حَدِيثِ الشَّفَاعةِ، يَشفَعُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عِدَّةَ شَفَاعَاتٍ كما يَأْتِي، أَربعَ شَفَاعَاتٍ، وفي كُلِّ مَرةٍ يَسأَلُ رَبَّه أن يَدخُلَ الجَنَّةَ مِنْ أُمَّتهِ كذا وكذا من أَهْلِ النَّارِ الَّذِينَ دَخَلُوهَا بِمَعَاصِيهِم، يَعْنِي: أن يُخرِجَهَم مِنَ النَّارِ إذا كَانَ في قُلُوبِهِمْ هَذَا المِقدَارُ من الإِيمَانِ مع التَّوحِيدِ، يَسأَلُ رَبَّهُ أن يُخِرِجَهُم مِنْ النَّارِ مِنْ أَجلِ ما مَاتُوا عليه مِنَ التَّوحِيدِ الذي هو ضِدُّ الشِّركِ، ويُخرِجُ مِنْ قُلُوبِهِمْ هَذِه المَثَاقِيلَ.

(1)

ورواه مسلم (193).

ص: 302

ما يَكُونُ هَذَا المِقدَارُ هو التَّوحِيدُ والإِيمَانُ؟

مع التَّوحِيدِ، زَائِدٌ على التَّوحِيدِ.

أَشَفَعَ مِنْ بَابِ الدُّعَاءِ؟

نعم يَطلُبُ رَبَّهُ.

7510 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، حَدَّثَنَا مَعْبَدُ بْنُ هِلَالٍ العَنَزِيُّ، قَالَ: اجْتَمَعْنَا نَاسٌ مِنْ أَهْلِ البَصْرَةِ فَذَهَبْنَا إِلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَذَهَبْنَا مَعَنَا بِثَابِتٍ البُنَانِيِّ إِلَيْهِ يَسْأَلُهُ لَنَا عَنْ حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ، فَإِذَا هُوَ فِي قَصْرِهِ فَوَافَقْنَاهُ يُصَلِّي الضُّحَى، فَاسْتَأْذَنَّا، فَأَذِنَ لَنَا وَهُوَ قَاعِدٌ عَلَى فِرَاشِهِ، فَقُلْنَا لِثَابِتٍ: لَا تَسْأَلْهُ عَنْ شَيْءٍ أَوَّلَ مِنْ حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ، فَقَالَ: يَا أَبَا حَمْزَةَ، هَؤُلَاءِ إِخْوَانُكَ مِنْ أَهْلِ البَصْرَةِ جَاءُوكَ يَسْأَلُونَكَ عَنْ حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ. فَقَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ مَاجَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ

(1)

، فَيَأْتُونَ آدَمَ، فَيَقُولُونَ: اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِإِبْرَاهِيمَ فَإِنَّهُ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ، فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ، فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُوسَى فَإِنَّهُ كَلِيمُ اللَّهِ، فَيَأْتُونَ مُوسَى فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِعِيسَى فَإِنَّهُ رُوحُ اللَّهِ، وَكَلِمَتُهُ، فَيَأْتُونَ عِيسَى، فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ

(1)

كذا في «عمدة القارئ» وغيره، وفي «الفتح»:«مَاجَ النَّاسُ فِي بَعْضٍ» .

ص: 303

بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، فَيَأْتُونِي، فَأَقُولُ: أَنَا لَهَا، فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي، فَيُؤْذَنُ لِي، وَيُلْهِمُنِي مَحَامِدَ أَحْمَدُهُ بِهَا لَا تَحْضُرُنِي الآنَ، فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ المَحَامِدِ، وَأَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ، وَسَلْ تُعْطَ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ، أُمَّتِي أُمَّتِي، فَيُقَالُ: انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مِنْهَا مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ شَعِيرَةٍ مِنْ إِيمَانٍ، فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ، ثُمَّ أَعُودُ، فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ المَحَامِدِ، ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ، وَسَلْ تُعْطَ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ، أُمَّتِي أُمَّتِي

(1)

، فَيَقُولُ: انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مِنْهَا مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ - أَوْ خَرْدَلَةٍ - مِنْ إِيمَانٍ، فَأَنْطَلِقُ، فَأَفْعَلُ، ثُمَّ أَعُودُ فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ المَحَامِدِ، ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ، وَسَلْ تُعْطَ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي، فَيَقُولُ: انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى أَدْنَى أَدْنَى

(2)

مِثْقَالِ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ، فَأَخْرِجْهُ مِنَ النَّارِ، مِنَ النَّارِ، مِنَ النَّارِ،

(3)

فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ».

فَلَمَّا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ أَنَسٍ قُلْتُ لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا: لَوْ مَرَرْنَا بِالحَسَنِ وَهُوَ مُتَوَارٍ فِي مَنْزِلِ أَبِي خَلِيفَةَ فَحَدَّثَنَا بِمَا حَدَّثَنَا أَنَسُ

(1)

كذا في «عمدة القارئ» وغيره، وفي «الفتح»:«يَا رَبِّ، أُمَّتِي» .

(2)

كذا في «عمدة القارئ» وغيره، وفي «الفتح»:«فَأَخْرِجْ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى أَدْنَى» .

(3)

كذا في «الفتح» ، وفي «عمدة القارئ» وغيره:«مِنَ النَّارِ» ، بدون تكرار.

ص: 304

ابْنُ مَالِكٍ، فَأَتَيْنَاهُ فَسَلَّمْنَا عَلَيْهِ، فَأَذِنَ لَنَا فَقُلْنَا لَهُ: يَا أَبَا سَعِيدٍ، جِئْنَاكَ مِنْ عِنْدِ أَخِيكَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، فَلَمْ نَرَ مِثْلَ مَا حَدَّثَنَا فِي الشَّفَاعَةِ، فَقَالَ: هِيهْ، فَحَدَّثْنَاهُ بِالحَدِيثِ، فَانْتَهَى إِلَى هَذَا المَوْضِعِ، فَقَالَ: هِيهْ، فَقُلْنَا لَمْ يَزِدْ لَنَا عَلَى هَذَا، فَقَالَ: لَقَدْ حَدَّثَنِي وَهُوَ جَمِيعٌ مُنْذُ عِشْرِينَ سَنَةً، فَلَا أَدْرِي أَنَسِيَ أَمْ كَرِهَ أَنْ تَتَّكِلُوا، قُلْنَا: يَا أَبَا سَعِيدٍ فَحَدِّثَنَاهُ، فَضَحِكَ، وَقَالَ: خُلِقَ الإِنْسَانُ عَجُولًا، مَا ذَكَرْتُهُ إِلَّا وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُحَدِّثَكُمْ

(1)

، حَدَّثَنِي كَمَا حَدَّثَكُمْ بِهِ، قَالَ:«ثُمَّ أَعُودُ الرَّابِعَةَ فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ، ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ، وَسَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ ائْذَنْ لِي فِيمَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَيَقُولُ: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي، وَكِبْرِيَائِي وَعَظَمَتِي لَأُخْرِجَنَّ مِنْهَا مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ»

(2)

.

أَحسَنَ اللهُ إِليكَ قَالَ في الرِّوَايَةِ: «أَدْنَى» ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، و «مِنْ النَّارِ» وَاحِدَةً فَقَطْ؟

ذَكَرَ «مِنْ النَّارِ» بِالنِّسبَةِ إلى حَدَيثِ الشَّفَاعَةِ: «مِنْ النَّارِ، مِنْ النَّارِ، مِنْ النَّارِ» ، وهي في الأُولَى والثَّانِيَةِ والثَّالِثَةِ.

(1)

كذا في «عمدة القاري» وغيره، وفي «الفتح»:«إِلَّا وَأَنَا أُرِيدُ أُحَدِّثُكُمْ» .

(2)

ورواه مسلم (193).

ص: 305

(الشَّيخُ): ماذا قَالَ الشَّارِحُ على الرِّوَايَةِ: «أَدْنَى أَدْنَى» ؟ لَعَلَّهَا رِوَايَتَانِ، رِوَايَةٌ فيها:«أَدْنَى أَدْنَى» ، وفي رِوَايةٍ:«أَدْنَى أَدْنَى أَدْنَى» . نبَّه عليه الشَّارِحُ أو ما نبَّهَ عليه؟ نَتَأمَّلُهَا بَعدِين.

[قَالَ الحَافِظُ ابنُ حَجرٍ رحمه الله فِي «فَتْحِ البَارِي» (13/ 475)]: «قَوْلُهُ: «ثُمَّ أَقُولُ» ذَكرَ ابنُ التِّينِ أَنَّهُ وَقَعَ عِنْدَهُ بِلَفْظِ «ثُمَّ نَقُولُ» بِالنُّونِ، قَالَ: وَلَا أَعْلَمُ مَنْ رَوَاهُ بِالْيَاءِ، فَإِنْ كَانَ رُوِيَ بِالْيَاءِ طَابَقَ التَّبْوِيبَ أَيْ:«ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُ» وَيَكُونُ جَوَابًا عَنِ اعْتِرَاضِ الدَّاوُدِيِّ حَيْثُ قَالَ قَوْلهُ: «ثُمَّ أَقُولُ» خِلَافٌ لِسَائِرِ الرِّوَايَاتِ؛ فَإِنَّ فِيهَا أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ أَنْ يُخْرِجَ.

قُلْتُ: وَفِيهِ نَظَرٌ، وَالْمَوْجُودُ عِنْدَ أَكْثَرِ الرُّوَاةِ:«ثُمَّ أَقُولُ» بِالْهَمْزَةِ كَمَا لِأَبِي ذَرٍّ، وَالَّذِي أَظُنُّ أَنَّ الْبُخَارِيَّ أَشَارَ إِلَى مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ كَعَادَتِهِ، فَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي «الْمُسْتَخْرَجِ» مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَاصِمٍ أَحْمَدَ بْنِ جَوَّاسٍ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالتَّشْدِيد، عَنْ أبي بكر عَنْ عَيَّاشٍ، وَلَفْظُهُ:«أَشْفَعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ لِي: لَكَ مَنْ فِي قَلْبِهِ شَعِيرَةٌ، وَلَكَ مَنْ فِي قَلْبِهِ خَرْدَلَةٌ، وَلَكَ مَنْ فِي قَلْبِهِ شَيْءٌ» . فَهَذَا مِنْ كَلَامِ الرَّبِّ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَيُمْكِنُ التَّوْفِيقُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم يَسْأَلُ عَنْ ذَلِكَ أَوَّلًا؛ فَيُجَابُ إِلَى ذَلِكَ ثَانِيًا؛ فَوَقَعَ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ ذِكْرُ السُّؤَالِ وَفِي الْبَقِيَّةِ ذِكْرُ الْإِجَابَةِ.

وَقَوْلُهُ فِي الْأُولَى: «مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى شَيْءٍ» ، قَالَ الدَّاوُدِيُّ هَذَا زَائِدٌ عَلَى سَائِرِ الرِّوَايَاتِ.

وتُعقِّبَ: بِأَنَّهُ مُفَسَّرٌ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ حَيْثُ جَاءَ فِيهَا: «أَدْنَى أَدْنَى مِثْقَالِ

ص: 306

حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ». قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: قَوْلُهُ: «أَدْنَى أَدْنَى» ، التَّكْرِيرُ لِلتَّأْكِيدِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ التَّوْزِيعُ عَلَى الْحَبَّةِ وَالْخَرْدَلِ، أَيْ أَقَلُّ حَبَّةٍ مِنْ أَقَلِّ خَرْدَلَةٍ مِنَ الْإِيمَانٍ، وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ صِحَة القَوْل بِتَجزِيءِ الْإِيمَانِ وَزِيَادَتِهِ وَنُقْصَانِهِ.

وقَولُهُ: «قَالَ أَنسٌ: كَأَنِّي أَنظُرُ إلى أَصَابِعِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم» يَعْنِي: قَولُهُ: «أَدنَى شَيءٍ» ، وكَأَنَّه يَضُمُّ أَصَابِعَهُ ويُشِيرُ بها.

وقَولُهُ: «فَأَخْرِجْهُ مِنَ النَّارِ، مِنَ النَّارِ، مِنَ النَّارِ» ، التَّكرِيرُ للتَّأكِيدِ أَيضًا لِلمُبَالَغَةِ، أو للنَّظرِ إلى الأُمُورِ الثَّلَاثَةِ من الحَبَّةِ والخَردَلةِ والإِيمَانِ، أو جَعلَ أَيضًا للنَّارِ مَرَاتِبَ.

قُلتُ: سَقَطَ تَكْرِيرُ قَولِهِ: «مِنْ النَّارِ» عند مُسلِمٍ ومَن ذَكَرتُ معه في رِوَايَةِ حَمَّادِ بن زَيدٍ هَذِه، واللهُ تَعَالَى أَعلمُ». [انتهى كلامه].

قَالَ ابنُ بَازٍ رحمه الله: ويَحتَمِلُ «مِنْ النَّارِ» أَنَّه كَرَّرَهَا لِأجلِ تَكرَارِ الشَّفَاعَةِ في الحَالَاتِ، في كُلِّ مَرَّةٍ مُقَابِلُهَا مِنْ النَّارِ.

أَحسَنَ اللهُ إِليكَ، تَسلَسُلُ الأَنبِياءِ ما يَدُلُّ على تَسَلسُلِ [الفَضلِ]

(1)

؟

بينهم مَسَافَاتٌ، لكن يَدُلُّ على الشَّرفِ الخَاصِّ.

وهَذَا الحَدِيثُ العَظِيمُ هو المَشهُورُ مِنْ حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ، والشَّفَاعَةُ جَاءَتْ فيها أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مُتَنَوِّعةٌ فيها زِيَادَةٌ ونَقصٌ فيمَا بينهَا، وجِمَاعُها أنَّ النَّاسَ يَفزَعُونَ يَومَ القِيَامَةِ ويَشتَدُّ بهم الكَربُ، ثم يَمُوجُ بَعضُهُم في بِعْضِ من شِدِّةِ الهَولِ وضِيقِ المَقَامِ وكَثرَةِ العَرقِ، وخَوضِ النَّاسِ في عَرقِهِم كَالسُّيُولِ العَظِيمَةِ

(1)

عبارة غير واضحة، لعلها:(الفضل).

ص: 307

حَتَّى يُلْجِمَهُمُ العَرقُ إلا مَنْ رَحِمَ اللهُ، فَيمُوجُ بَعضُهُم في بِعْضٍ حِينئذٍ ويَنظُرُونَ ماذا يَفعَلُونَ؛ فَيفزَعُ المُؤمِنُونَ إلى آدَمَ عليه الصلاة والسلام ويَقُولُونَ: أَنت أَبُو البَشرِ، خَلقَكَ اللهُ بِيدِهِ، وأَسْجدَ لك مَلَائِكَتَهُ، وعَلَّمَكَ أَسمَاءَ كُلِّ شَيءٍ؛ ألا تَرَى ما نَحنُ فيه؟! ألا تَرَى ما قد بَلَغَنَا؟! فاشْفَعْ لنا إلى ربك؛ فَيَقُولُ: لست هُنَاكُم -ويَذكُرُ خَطِيئَتَهُ وهي أَكلُهُ مِنْ الشَّجرَةِ- نَفسِي نَفسِي نَفسِي، ثم يُحِيلُهُم إلى نَوحٍ عليه الصلاة والسلام؛ لأنَّهُ أَوَّلُ رَسُولٍ إلى أَهْلِ الأَرضِ بَعدَمَا وَقَعَ فيهَا الشِّركُ.

فَيَأتُونَ نُوحًا عليه السلام ويَقُولُونَ: أنت أَوَّلُ رَسُولٍ أَرسَلَهُ اللهُ إلى أَهْلِ الأَرضِ، قد سَمَّاكَ اللهُ عَبدًا شَكُورًا؛ أَلَا تَرَى مَا نَحنُ فِيهِ؟! ألا ترى ما قد بَلغنَا؟! اشفَعْ لنا إلى رَبِّكَ، فَيقُولُ: لسْتُ هُنَاكُم-ويَذكُرُ سَؤَالَهُ الذي سَألَهُ رَبَّه فَعَاتَبَه اللهُ عَليهِ فيهِ، وهو قَولُه في سُؤَالِهِ لابْنِه:{إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} [هود: 45]- اذْهَبُوا إلى غَيرِي، اذْهَبُوا إلى إِبرَاهِيمَ.

فَيأتُونَ إِبرَاهِيمَ عليه الصلاة والسلام، فيَقُولُونَ له: أنتَ خَلِيلُ اللهِ؛ اشْفعْ لنا إلى رِبِّكَ. فَيقُولُ: لسْتُ هُنَاكُم، ويَذكُرُ كَذَبَاتِهِ التي كَذَبَهَا، وهي ثَلَاثٌ، كُلُّهَا في ذَاتِ اللهِ.

ثم يُحِيلُهُم إلى مُوسَى عليه السلام، كَلِيمِ الرَّحمنِ؛ فَيأتُونَ مُوسَى، ويَقُولُ: لَستُ هُنَاكُمْ -ويَذكُرُ قَتلَهُ النَّفسَ التي قَتَلَهَا ولم يُؤذَنْ له في قَتلِهَا- اذْهَبُوا إلى عَيسَى»؛ فَيأتُونَ إلى عِيسَى عليه السلام، فَيعتَذِرُ ويَقُولُ: لَستُ هُنَاكُمْ. وفي بِعْضِ الرِّوَايَاتِ: كُلُّ وَاحِدٍ يَقُولُ: «إنَّ رَبِّي قد غَضِبَ اليَومَ غَضَبًا لم يَغضَبْ قَبلَهُ مِثلَهُ، ولم يَغضَب بَعدَهُ مِثلَهُ» ، وكُلُّ وَاحِدٍ يقُولُ:«نَفسِي نَفسِي نَفسِي» ، ثم يُحيلُهم عِيسى عليه الصلاة والسلام إلى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم عَبدٍ غَفرَ اللهُ له ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنبِهِ وما تَأَخَّرَ، عليه الصلاة والسلام.

ص: 308

فَيأتُونَ مُحَمَّدًا عليه الصلاة والسلام؛ فَيقُولُ: «أنا لها» ، ثم يَتَقَدَّمُ فَيسجُدُ تَحتَ العَرشِ، يَتَقَدَّمُ إلى رَبهِ ويَسجُدُ بين يَدَيهِ ويَحمَدُهُ بِمَحَامدَ كَثِيرَةٍ يَفتَحُهَا عليه سبحانه وتعالى ثم يَشفَعُ.

وهَذَا هو المَقَامُ الْمَحمُودُ الذي وَعدَهُ اللهُ به في قَولِهِ جل وعلا: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79)} [الإسراء: 79]، فيشَفَعُ في أَهْلِ المَوقِفِ حَتَّى يُقضَى بينهم، ويَشفَعُ فيمَن دَخلَ النَّارَ مِنْ أُمِّتهِ عِدَّةَ شَفَاعَاتٍ عليه الصلاة والسلام.

وفي هَذَا الحَدِيثِ فَوَائِدُ كَثِيرةٌ:

منها: الرَّدُّ على الخَوَارجِ الَّذِينَ يُكَفِّرُونَ بِالذُّنُوبِ ويَقُولُونَ: من عَصَى فقد كَفَر، ومَن أَتَى كَبِيرةً فقد كَفرَ، والرَّدُّ عَلَيهِم وعلى المُعتَزِلَةِ في تَخلِيدِ العُصَاةِ في النَّارِ، فَالحَدِيثُ يَدُلُّ على أَنَّهُمْ لا يُخَلُّدُونَ، وهَكَذَا بَقِيةُ الأَحَادِيثِ الوَارِدَةِ في ذَلكَ، كُلُّها دَالَةٌ على أَنَّهُمْ لا يُخَلَّدُونَ، ولَيسُوا بِكُفَّارٍ، فَيقتَضِي من ذَلكَ بُطلَانِ قَولِ الخَوَارجِ وقَولِ المُعتَزِلةِ ومَن قَالَ بِقَولِهم مِنَ الإِبَاضِيَّةِ وغَيرِهِم ممن رَأَى خُلُودَ العُصَاةِ في النَّارِ.

وفيه من الفَوَائِدِ: فَضلُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأنَّ لَه هَذَا المقَامُ العَظِيمُ مع بَقِيةِ الأَنبِيَاءِ عَلَيهِم الصلاة والسلام، وهَذَا شَرفٌ عَظِيمٌ على رُؤُوسِ الأَشهَادِ.

وفيه من الفَوَائِدِ: أَنَّه يَحسُنُ أَمَامَ الدُّعَاءِ الثَّنَاءُ على اللهِ، إذا أَرَادَ العَبدُ أن يَدعُوَ رَبَّه أن يُثنِيَ عليه ويُمَجِّدَهُ سُبحَانَهُ ثم يَدعُو بَعْدَ ذَلكَ.

وهَذَا مَعنَى ما جَاءَ في حَدِيثِ فُضالَةَ بنِ عُبَيدٍ رضي الله عنه، أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم سَمِعَه يَدعُو، ولم يَحمَدِ اللهَ ولم يُصَلِّ على النَّبيِّ فَقَالَ:«عَجِلَ هَذَا» . ثم قَالَ: «إذا دَعَا أَحَدُكُم رَبَّه فَليبْدَأ بِتَحمِيدِ رَبِّه والثَّنَاءِ عليه، ثم يُصَلِّي

ص: 309

عليَّ ثم يَدعُو بمَا شَاءَ»

(1)

.

فَيَنبَغِي في الدُّعَاءِ تَقدِيمُ الثَّنَاءِ والحَمدِ على اللهِ سبحانه وتعالى؛ لِأنَّه ذُو فَضلٍ وذُو إِحسَانٍ، ثم يُثَنِّي بِالصَّلَاةِ على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، ثم يَدعُو بما أَحَبَّ، فهَذَا مِنْ أَسبَابِ الإِجَابَةِ.

وفيه: أن العُصَاةَ كمَا تَقَدَّمَ لا يُخَلَّدُونَ في النَّارِ، وأَنَّهم مَرَاتبُ في دُخُولِهمُ النَّارَ على حَسبِ مَعَاصِيهِم التي مَاتُوا عليها، مِنْهُم مَنْ يَكُونُ في قَلبِهِ شَيءٌ كَثِيرٌ مِنَ الإِيمَانِ، وَمِنهُم مَنْ يَكُونُ في قَلبِهِ الشَّيءُ اليَسِيرُ بعدَ التَّوحِيدِ، فالتَّوحِيدُ لا بُدَّ منه، فلا نَجَاةَ إلا بِاللهِ ثم بِالتَّوحِيدِ، فاللهُ حَرَّمَ على النَّارِ أَهْلَ التَّوحِيدِ، حَرَّمَ عَلَيهِم دُخُولَها إذا اسْتَقَامُوا على التَّوحِيدِ وأَدَّوا الوَاجِبَاتِ ولم يَمُوتُوا على المَعَاصِي، فهَؤلَاءِ يَدخُلُونَ الجَنَّةَ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ.

أما مَنْ لَطَّخَ تَوحِيدَهُ بِالمَعَاصِي فهو تَحتَ مَشِيئةِ اللهِ؛ لأنَّ تَوحِيدَهُ نَاقِصٌ، وإِيمَانَهُ ضَعِيفٌ حِينئَذٍ بِالمَعَاصِي، فيكون عُرضَةً لِدُخُولِ النَّارِ إلا مَنْ رَحِمَ اللهُ، ولِهذَا قَالَ سُبحَانَهُ:{وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48].

فَأهْلُ التَّوحِيدِ الَّذِينَ مَاتُوا على المَعَاصِي مِنْ السَّرِقةِ أو الزِّنَا أو الرِّبَا أو شُربِ الخَمرِ أو غَيرِ هَذَا ولم يَتُوبُوا هَؤلَاءِ هم المُرادُ في هَذِه الشَّفَاعَةِ وفي هَذَا قَولُهُ: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48].

وفي هَذَا: فَضلُ هَؤلَاءِ الرُّسُلِ عَلَيهِم الصلاة والسلام؛ لِأنَّه خَصَّهُم بِالقَصدِ بأن تَقَدَّمُ إليهم المُؤمِنُونَ وهم أُولُو العَزمِ: نُوحٌ، وإِبرَاهِيمُ، ومُوسَى، وعِيسَى، ومُحَمَّدٌ عَلَيهِم الصلاة والسلام.

(1)

رواه أحمد (23937)، وأبو داود (1481)، والترمذي (3477).

ص: 310

وفيه أَيضًا: الحَذرُ مِنْ المَعَاصِي وأن عَاقِبَتَها وَخِيمَةٌ، وَأنَّه لا يُمكِنُ أن يَرضَى أَحَدٌ بِدُخُولِ النَّارِ ولو لَحَظَةً، فكَيفَ بِالإِقَامَةِ فيها مَا شَاءَ اللهُ من الزَّمَانِ، فَالعَاقِلُ والرَّاغِبُ في النَّجاةِ يَحذَرُ أَسبَابَ دُخُولِ النَّارِ من جَمِيعِ الوُجُوهِ، وذَلكَ بِالحَذَرِ من المَعَاصِي والحَذَرِ مِنْ أَسبَابِهَا، ومتى وَقَعَ في شَيءٍ منها بَادَرَ بِالتَّوبَةِ وسَارَعَ إلى التَّوبَةِ؛ لِأنَّه لا يَدرِي متى يَهجِمُ عليه الأَجَلُ، فَالوَاجِبُ الحَذرُ أَوَّلًا مِنْ المَعَاصِي والسَّيئَاتِ، ثم الحَذرُ مِنْ الإِقَامةِ والإِصرَارِ عليها.

الَّذِينَ يَذهبُونَ إلى الأَنبِيَاءِ سَائرُ النَّاسِ أم أَهْلُ الإِيمَانِ؟

في الحَدِيثِ الصَّحيحِ: «المُؤمِنُونَ» «يَفزَعُ المُؤمِنُونَ» ، هَكَذَا، ولا مَانعَ مِنْ أن يَفزَعَ غَيرُهم، لكن نَصُّ الحَدِيثِ «ويَفزَعُ المُؤمِنُونَ» ؛ لأنهم أَعلَمُ بِرُسُلِهِم وأَعلَمُ بِالرُّسُلِ وأَعلَمُ بِمَقَامَاتِهِم.

وأيضًا الكُفَّارُ في هَمٍّ عَظِيمٍ وغَمٍّ عَظِيمٍ وشِدَّةٍ من البَلَاءِ والعَذَابِ، فهم في شُغلٍ شَاغِلٍ عنِ الفَزعِ إليه، بِخَلَافِ المُؤمِنِينَ فإنهم في رَحمَةٍ ورَاحةٍ وخَيرٍ عَظِيمٍ.

7511 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبِيدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ آخِرَ أَهْلِ الجَنَّةِ دُخُولًا الجَنَّةَ، وَآخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنَ النَّارِ رَجُلٌ يَخْرُجُ حَبْوًا، فَيَقُولُ لَهُ رَبُّهُ: ادْخُلِ الجَنَّةَ، فَيَقُولُ: رَبِّ الجَنَّةُ مَلْأَى، فَيَقُولُ لَهُ ذَلِكَ ثَلَاثَ

ص: 311

مَرَّاتٍ، فَكُلُّ ذَلِكَ يُعِيدُ عَلَيْهِ الجَنَّةُ مَلْأَى، فَيَقُولُ: إِنَّ لَكَ مِثْلَ الدُّنيَا عَشْرَ مِرَارٍ»

(1)

.

وهَذَا فيه اخْتِصَارٌ، وقد جَاءَ في الرِّوَايَاتِ الأُخرَى-الرِّوَاياتِ الكَثيرَةِ- أَنَّه يُخيَّلُ إليه أَنَّها مَلأَى، وليسَ الحَقِيقَةُ أَنَّها مَلأَى ولكن يُخيَّل إليه أَنَّها مَلأَى، فَالجنَّةُ فيها سِعَةٌ عَظِيمَةٌ، فَإذَا دَخَلَها قِيلَ له: تَمنَّ؛ فَيتَمَنَّى فَيُقاَلُ: لكَ ما تَمنَّيتَ ومِثلُهُ ومِثلُهُ. وفي اللَّفظِ الآخَرِ: «وعَشرَةُ أَمثَالِهِ

» إلى آخِرِ الحَدِيثِ، واللهُ المُستَعَانُ.

وهَذَا آخِرُ مَنْ يَخرُجُ مِنْ النَّاسِ مِنَ العُصَاةِ، فكَيفَ بِحَالِ الأَتقِيَاءِ؟ فماذا يَكُونُ لهم؟!

الوَسِيلَةُ ما مَعنَاهُا؟

الوَسِيلَةُ لها مَعنَيِانِ:

1 -

وَسِيلَةٌ بِمَعنَى الطَّاعَةِ والقُربَةِ، كَمَا قَالَ جل وعلا:{اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة: 35] يَعْنِي القُربَ إليه بِطَاعَتِهِ، إذا أَطلَقَ الوَسيلَةَ: القُربُ إليه بِطَاعَتِهِ.

2 -

أما الوَسِيلَةُ في الأَذَانِ، في دُعَاءِ الأَذَانِ فهي المَنزِلَةُ التي في الجَنَّةِ للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.

(1)

ورواه مسلم (186).

ص: 312

هي غَيرُ المَقَامِ المَحمُودِ؟

غَيرُ المَقَامِ الْمَحمُودِ، الوَسيلَةُ مَنزِلَةٌ في الجَنَّةِ، مَسكَنٌ. بَعضُ الخُرَافِيِّينَ وبَعضُ الجَهلَةِ يَظنَّ أن الوِسِيلَةَ دُعَاءُ الأَنبِياءِ والاِستِغَاثَةُ بِالأَنبِياءِ والاسْتِغَاثةُ بِالأَموَاتِ أو بِالمَلَائِكَةِ. هَذَا مِنْ أَعظَمُ الفِريَةِ ومِن أَعظَمِ الكَذبِ والإِلحَادِ؛ فإنَّ هَذَه لَيستْ وَسِيلَةً إلى الخَيرِ، وَسيلَةٌ إلى النَّارِ، دُعَاءُ الأَموَاتِ والأَنبِياءِ والمَلَائِكَةِ وَسيلَةٌ نعم، لكن وَسِيلَةٌ إلى النَّارِ، وَسِيلَةٌ إلى غَضَبِ اللهِ، وَسِيلَةٌ إلى الخُلُودِ في النَّارِ، أَعُوذُ بِاللهِ.

فإنَّ الوَسَائلَ التي أَمرَ اللهُ بها في قَولِهِ: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة: 35] وقَولِهِ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} [الإسراء: 57]، يَعْنِي القُربَ إليه بِطَاعَتِهِ، هَذَا مَعنَى ما قَالَ أَهْلُ التَّفسِيرِ، وقد أَجمَعَ أَهْلُ التَّفسِيرِ على ذَلكَ أنَّ الْمُرادَ بِالوَسِيلةِ طَاعَةُ اللهِ ورَسُولِهِ، والتَّقرُّبُ إليه بما شَرعَ سبحانه وتعالى، وأَعظَمُهَا التَّوحِيدِ، أَعظَمُهَا الإِخلَاصُ للهِ تَعَالَى بِالعَملِ، هَذَا أَعظَمُ الوَسَائِلِ.

أما قَولُ الجَهلَةِ: إن الوَسِيلَةَ التَّقرُّبُ بُدُعَاءِ الأَنبِيَاءِ والاسْتِغَاثةُ بِالأَنبِيَاءِ؛ لأَنَّهم مُعَظَّمُونَ وأَنَّهم أَحبَّاءُ اللهِ، هَذَا مِنْ أَعمَالِ الوَثَنِيِّينَ، مِنْ أَعمَالِ أَبِي جَهلٍ وأَشبَاهِهِ.

وهَكَذَا مَنْ فَسَّرَهَا بِالجَاهِ: السُّؤَالُ بِجَاهِ فُلَانٍ أو بِحَقِّ فُلَانٍ هَذَا غَلَطٌ أَيضًا، لَيْسَتْ هَذِه هي الوَسِيلَةُ بل هَذَا بِدعَةٌ، السُّؤالُ بِجَاهِ فُلَانٍ أو بِحَقِّ فُلَانٍ هَذَا مِنْ البِدَعِ، لا أَصلَ لها في الشَّرعِ، إنما الوَسيلَةُ هي التَّقرُّبُ إلى اللهِ بِطَاعَتِهِ، واتِّبَاعِ شَريعَتِهِ، وفِعلِ أَوامِرِه وتَركِ نَوَاهِيهِ، وهي التي أَمرَ اللهُ بها في قَولِهِ:{وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة: 35] يَعْنِي: القُربَةَ إليه بِطَاعتِهِ وتَركِ مَحَارِمِهِ.

ص: 313

الدُّعَاءُ بِجَاهِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؟

بِدعَةٌ، هَذِه بِدعَةٌ مِنَ البِدعَ، مِنْ وَسَائلِ الشِّركِ.

وكذَلكَ: قَولُهُ في عِيسَى عليه السلام: «رُوحُ اللهِ وكَلِمَتُهُ» يَعْنِي رُوحًا مِنَ الأَرْوَاحِ التي خَلقَهَا وجَعَلَهَا في عِيسَى عليه السلام كالتي خَلقَهَا في البَاقِينَ في آدَمَ وإِبرَاهِيمَ وغَيرِهِم مِنَ الأَنبِيَاءِ والنَّاسِ، فاللهُ الذي خَلقَ أَروَاحَهُم وأَوجَدَهَا فهي رُوحٌ مِنَ الأَرْوَاحِ التي خَلَقَهَا اللهُ وأَوجَدَهَا، لكنها رُوحٌ شَرِيفَةٌ.

وهَكَذَا «كَلِمَتُهُ» ؛ لِأنَّه كَانَ بِالكَلِمَةِ، قَالَ اللهُ له:{كُنْ} فكَانَ، سُمِّي بِالكَلِمَةِ يَعْنِي: أَنَّه كَانَ بِالكَلِمَةِ لَيْسَ له أَبٌّ، خَلَقُهُ اللهُ مِنْ أُنْثَى بِلَا ذَكَرٍ، «وَرُوحُ اللهِ» مِنْ إِضَافَةِ المَخلُوقِ إلى خَالِقِه، مِثلُ «نَاقَةِ اللهِ» ، مِثلُ «رَسُولِ اللهِ» ، مثلُ «بَيتِ اللهِ» من بَابِ إِضَافَةِ المَخلُوقِ إلى خَالِقِهِ إِضَافَةَ تَشرِيفٍ وتَكرِيمٍ.

فإنَّ المُضَافَ إلى اللهِ قِسمَانِ:

1 -

مَعنًى مِنْ المَعَانِي.

2 -

وذَاتٌ قَائِمَةٌ.

فالمَعنَى من المَعَانِي إذا أُضِيفَ إلى اللهِ فهو صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ: كِعِلمِ اللهِ، وقُدرَةِ اللهِ، ورِضَا اللهِ، ومَحَبَّةِ اللهِ، فهَذِه صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ.

أمَّا إذا كَانَ المُضَافُ ذَاتًا مِنَ الذَّوَاتِ فهو قِسمَانِ أَيضًا:

1 -

قِسمٌ يُضَافُ إلى اللهِ مِنْ بَابِ إِضَافَةِ المَخلُوقِ إلى خَالِقِهِ، يَعْنِي: أَبدَعَهُ وأَوجَدَهُ، فَيُضَافُ إليه؛ لِأنَّه خَلَقَهُ كَأرضِ اللهِ، وسَمَاءِ اللهِ، وبَحرِ اللهِ، ومَاءِ اللهِ، ونَحوِ ذَلكَ، مِنْ إِضَافةِ المَخلُوقِ إلى خَالِقِهِ.

2 -

النُّوعُ الثَّانِي: إِضَافَةُ تَشرِيفٍ، إِضَافةُ مَخلُوقٍ إلى خَالِقِهِ، لكن على سَبِيلِ التَّشرِيفِ، يَعْنِي صِفَةً خَاصَّةً على سَبِيلِ التَّشرِيفِ والتَّكرِيمِ وَرَفعِ المَنزِلَةِ، مِثلُ بَيتِ اللهِ، الكَعبَةُ بَيتُ اللهِ، مِثلُ رَسُولِ اللهِ، مِثلُ نَاقَةِ اللهِ، وهي نَاقَةُ

ص: 314

صَالحٍ عليه السلام، مِثلُ عِيسَى رَوحِ اللهِ. هَذَا مِنْ بَابِ التَّشرِيفِ والتَّكرِيمِ، وهو إِضَافَةُ مَخلُوقٍ إلى خَالِقِهِ لكن على وَجهٍ خَاصٍّ، يَتَضَمَّنُ التَّفضِيلَ والتَّكرِيمَ.

مِثلُ أَمَةِ اللهِ وعَبدِ اللهِ؟

مِثلُ عَبدِ اللهِ، ولكِن هَذَا يَختَلفُ؛ لأنهُ قد يَكُونُ عَبدًا صَالِحًا وقد يَكُونُ لَيْسَ بِصَالحٍ مِنْ إِضَافةِ المَخلُوقِ إلى خَالِقِهِ.

وأَمَةُ اللهِ؟

مِثلُهُ، إن كَانَتْ صَالِحَةً فهو مِنْ بَابِ التَّشرِيفِ مع الخَلقِ، وإن كَانت غَيرَ صَالَحَةٍ فهو مِنْ إِضَافَةِ المَخلُوقِ إلى خَالِقِهِ فَقَطْ.

المُرَادُ بِقصرِ أَنسٍ رضي الله عنه؟

بَيتُهُ يَعْنِي، بَيتٌ له خَارِجَ البَصرَةِ على أَمْيَالٍ: كِيلُواتٍ مِنْ البَصرَةِ، بَارِزًا عنِ البَصرَةِ، رضي الله عنه لازم فيه، قَصرُهُ: لَعلَّهُ مَزرَعةٌ هناك، قَصرٌ في مَزرَعَةٍ له، لَازم فيه رضي الله عنه.

7512 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ خَيْثَمَةَ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٌ إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تَرْجُمَانٌ، فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ مِنْ عَمَلِهِ، وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلَا يَرَى إِلَّا النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ» .

ص: 315

قَالَ الأَعْمَشُ: وَحَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ، عَنْ خَيْثَمَةَ، مِثْلَهُ، وَزَادَ فِيهِ:«وَلَوْ بِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ»

(1)

.

وهَذَا فيه الحَثُّ على الصَّدَقةِ، وأنَّ هَذَا مِنْ أَسبَابِ الإِنقَاذِ مِنْ النَّارِ: مَنْ رَحِمَ رُحِمَ: «مَنْ لا يَرحَمُ لا يُرحَمُ»

(2)

. الحَثُّ على طَاعَةِ اللهِ والقِيَامِ بَأمْرِهِ؛ لأنَّ هَذَا مِنْ أَسبَابِ السَّلَامَةِ مِنْ النَّارِ، ومن ذَلكَ الصَّدَقَةُ والإِحسَانُ والرَّحمَةُ بِالفُقَراءِ.

(الشَّيخُ): مَاذَا قَالَ على حَدِيثِ عَدِيٍّ رضي الله عنه؟

[قَالَ الحَافِظُ ابنُ حَجرٍ رحمه الله فِي «فَتْحِ البَارِي» (13/ 477)]: «الحَدِيثُ الثَّالِثُ: حَدِيثُ عَدِيِّ بنِ حَاتِمٍ: «مَا مِنكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ» . وقد تَقَدَّمَ شَرحُهُ في كِتَابِ «الرِّقَاقِ» ، وقَولُهُ: قَالَ الأَعمَشُ: وحَدَّثَنِي عَمرُو بنُ مُرَّةٍ، هو مَوصُولٌ بِالسَّنَدِ الذي قَبلَهُ إِلَيه». [انتهى كلامه].

أَحسَنَ اللهُ إِليكَ: «مِنْكُمْ» عَامَّةٌ للمَخلُوقِينَ؟

نعم لِلمَخْلُوقِينَ، لكن كَلَامُ الكُفَّارِ كَلَامُ تَوبِيخٍ، والمُؤمِنُونَ كَلامُ خَيرٍ ورِضًا.

ما يَلزَمُ منه الرُّؤيَا؟

الرُّؤيَا للمُؤمِنِينَ فَقَطْ، أمَّا غَيرُ المُؤمِنِينَ: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ

(1)

ورواه مسلم (1016).

(2)

رواه البخاري (5997)، ومسلم (65)(2318).

ص: 316

لَمَحْجُوبُونَ (15)} [المطففين: 15]، أما ما في الآيَاتِ الأُخرَى:{وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ} [آل عمران: 77] فلا مُنَافَاةَ بينها وبين الحَدِيثِ: «لا يُكَلِّمُهُم اللهُ» كَلَامَ رِضًا ومَحَبَّةٍ، بل كَلَامٌ يَضُرُّهُم ولا يَنفَعُهُم، نَسأَلُ اللهَ السَّلَامَةَ، وهَكَذَا:«لا يَنْظُرُ إِلَيهِم» يَعْنِي: نَظَر رحَمةٍ وإِحسَانٍ وإلَّا هو لا تَخفَى عليه خَافِيَةٌ، يَرَى الدُّنيَا سبحانه وتعالى.

كَونُهُ يُكَلِّمُهُم لَيْسَ بَينَه وبَينَهُم تُرجُمَانٌ ما تُفِيدُ الرُّؤيَةَ؟

ما يَلزَمُ الرُّؤيَةَ، يُكَلِّمُهُم ويُكَلِّمُونَهُ بِدُونِ رُؤيَةٍ إذا كانوا كُفَّارًا. أنت الآن تُكلِّمُ بِالتليفُونَ، تُكلِّمُ تَرَاهُم؟ تُكلِّمُ كُلَامًا وَاضِحًا تَعرفُ أَنَّه فُلَانٌ وفُلَانٌ، أَبُوكَ، أَخوكَ وأنتَ لا تَرَاهُم، تَعلَمُ أَنَّه كَلَامُهُ. هَذَا مِثَالُه في الدُّنيَا، وقد يَقعَ أَيضًا مِنْ غَيرِ التِّليفُون مثلُ: تَكَلِّمُهُ مِنْ حُجرَةٍ وهو مِنْ حُجرَةٍ ومِن بَابٍ مُغلَقٍ لا تَرَاُه، وَيسمَعُكَ وتَسمَعُه، هَذَا ما يَقَعُ؟! هَذَا مِثالُهُ في الدُّنيَا.

قَولُهُ: «ولو بِشِقِّ تَمرَةٍ» ، فيه إِشَارةٌ إلى فَضلِ الإِطعَامِ خَاصَّةً؟

نعم ولو بِالقَلِيلِ، كُنْتَ دَائِمًا أَذكُرُ في مَجلِسِي دَائِمًا قِصّةَ عَائِشَةَ رضي الله عنها ولا بُدَّ أنَّكُم سَمِعتُمُوهَا مَرَّاتٍ في «البُخَارِيِّ» ، ولَعلَّهَا في «مُسلِمٍ» أَيضًا.

المَقْصُودُ: أن عَائِشَةَ رضي الله عنها أَتَت إِلَيها امْرَأةٌ ومعها ابْنتَانِ تَسأَلُ، قَالتْ: فلم أَجِدْ إلا ثَلَاثَ تَمْرَاتٍ فَقَدَّمَتهَا إلى المَرأَةِ، ثَلَاثَ تَمرَاتٍ في البَيتِ وَجَدَت في البَيتِ ثَلَاثَ تَمرَاتٍ، بِيتُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ما وُجِدَ فيه إلا ثَلَاثُ تَمرَاتٍ، وهو النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، أَصَابهُ شِدَّةٌ وحَاجةٌ حَتَّى فَقَدُوا التَّمرَ وشَقَّ عَلَيهِم الجُوعُ، ففِي هَذِه الحَالَةِ وَجَدَتْ ثَلَاثَ تَمرَاتٍ فَقَدَّمتهَا إلى المَرأَةِ، والمَرأَةُ قَدَّمَتها لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ بِنتَيهَا تَمرَةٌ، ورَفَعَتِ التَّمرَةُ إلى فَمِهَا لِتَأكُلَهَا -الثَّالِثَةَ-

ص: 317

فَأسرَعَتِ البِنتَانِ وأَكَلَتَا التَّمرَتَينِ وجَعَلَتَا تَنظُرَانِ إِلَيها تُريدَانِ منها التَّمرَةَ الثَّالِثَةَ؛ فَقَدَّمَتهَا إِليهمَا وشَقَّتَها بِينهمُا ولم تَأْكُلْهَا، قالت عَائِشَةُ رضي الله عنها: فَأَعجَبَنِي أَمرُهَا، فلمَّا جَاءَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أَخبَرتُهُ؛ فَقَالَ:«إنَّ اللهَ أَوجَبَ لها الجَنَّةَ بهَذِه الرَّحمَةِ»

(1)

. فَالتَّمرَةُ لها شَأنٌ مع الْمُحتَاجِ والْمُضْطَرِّ.

ومن ذَلكَ حَدِيثٌ آخرَ ذَكرَهُ جَابرٌ رضي الله عنه في غَزوَةِ السَّاحِلِ حين كَانَ مع أَبِي عُبَيدَةَ رضي الله عنه -في «الصَّحِيحِ» أيضًا- وقد زَوَّدَهُمُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بِتَمرٍ، فَصَارَ أَبُو عُبَيدَةَ رضي الله عنه في آخِرِ الوَقتِ يُعطِيهم على تَمرَةٍ تَمرَةٍ، لَمَّا قَلَّ التَّمرُ صَارَ يُعطِيهِم على تَمرَةٍ تَمرَةٍ، وَاحِدُةٌ كُلَّ يَومٍ، فقال له بَعضُ الرُّوَاةِ -لِجَابرٍ رضي الله عنه: ما تَفعَلُ فيكم التَّمرَةُ الوَاحِدَةُ؟ قَالَ: «كنَّا نَمُصَّها ونَشرُبُ عليها المَاءَ»

(2)

. تَمرَةٌ؛ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «اتَّقُوا النَّارَ ولو بِشِقِّ تَمرَةٍ»

(3)

.

يا شَيخُ أَحسَنَ اللهُ إِليكَ، سَؤَالُهُ يَقُولُ: يَعْنِي هلِ الإِطعَامُ أَفضَلُ مِنْ النَّقدَينِ في كُلِّ حَالَةٍ؟

ما هو بِالمَقصُودِ، جِنسُ الإِطعَامِ، الإِنسَانُ يُنْفِقُ مما يَسَّرَ اللهُ له، حَتَّى ولو لم يِجِد إلَّا شِقَّ تَمرَةٍ، إذا أَعطَاهُ النَّقدَينِ أَزْيَدُ مِنْ شِقِّ التَّمرَةِ، النُّقُودُ تَأتِي بِالتَّمرِ وبِغَيرِ التَّمرِ.

رُؤيَةُ المَلَائِكَةِ للهِ عز وجل؟

اللهُ أَعلَمُ.

(1)

ورواه مسلم (148)(2630).

(2)

رواه أحمد (14337)، والنسائي (4354).

(3)

رواه البخاري (1417)، ومسلم (67)(1016).

ص: 318

7513 -

حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبِيدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه، قَالَ: جَاءَ حَبْرٌ مِنَ اليَهُودِ، فَقَالَ: إِنَّهُ إِذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ جَعَلَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالأَرَضِينَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالمَاءَ وَالثَّرَى عَلَى إِصْبَعٍ، وَالخَلَائِقَ عَلَى إِصْبَعٍ، ثُمَّ يَهُزُّهُنَّ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا المَلِكُ أَنَا المَلِكُ. فَلَقَدْ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَضْحَكُ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ؛ تَعَجُّبًا وَتَصْدِيقًا لِقَوْلِهِ، ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} إِلَى قَوْلِهِ {يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67]»

(1)

.

هنا ذَكرَ أَربَعَ أَصَابِعَ، وفي الرِّوَايَةِ الأُخْرَى:«والجِبَالُ والشَّجرُ على إِصبَعٍ» ، الإصبَعُ الخَامِسَةُ، وهَذَا مُختَصَرٌ، الأَصَابِعُ خَمسٌ له سُبحَانَهُ، لا تُشَابِهُ صِفَاتِ الْمَخلُوقِينَ، كما أن وَجهَهُ ويَدَهُ وسَائرَ صِفَاتِهِ لا تُشَابِهُ صِفَاتِ الْمَخلُوقِينَ؛ فله الكَمَالُ الْمُطلَقُ مِنْ كُلِّ الوُجُوهِ سبحانه وتعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} [الشورى: 11].

لكن يُستَفَادُ مِنَ الأَحَادِيثِ أنَّ له يدًا، وأنَّ له أَصَابِعَ خَمسًا، وَأنَّه يَومَ القِيَامةِ يَحمِلُ هَذِه الْمَخلوُقاَت على تلك الأَصَابِعِ ويَهُزهَا ويَقُولُ: أنا الْمَلكُ، أنا الجَبَّارُ، أين الجَبَّارُونَ؟ أين الْمُتَكَبِّرُونَ؟

(1)

ورواه مسلم (2786).

ص: 319

مَكتُوبٌ «حَبَرٌ» يا شَيخُ؟

لا، غَلَطٌ، «حِبرٌ» أو «حَبرٌ» بِاللُغَتَينِ بِكسرِ الحَاءِ وفَتحِهَا، أمَّا فَتحُ البَاءِ غَلَطٌ، حَبرٌ مِنَ الأَحبَارِ.

الشَّاهِدُ: يَعْنِي: تَلَا الآيَةَ عليه الصلاة والسلام، شَاهِدٌ لِمَا قَالَ الحَبرُ:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)} [الزمر: 67]، فَالأَحبَارُ همُ العُلمَاءُ {أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ} [التوبة: 31]، والأَحبَارُ جَمعُ حَبرٍ، ويُقَالُ: حِبرٌ، بِالكَسرِ.

7514 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ، أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ ابْنَ عُمَرَ، كَيْفَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي النَّجْوَى؟ قَالَ:«يَدْنُو أَحَدُكُمْ مِنْ رَبِّهِ حَتَّى يَضَعَ كَنَفَهُ عَلَيْهِ، فَيَقُولُ: أَعَمِلْتَ كَذَا وَكَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، وَيَقُولُ: عَمِلْتَ كَذَا وَكَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيُقَرِّرُهُ، ثُمَّ يَقُولُ: إِنِّي سَتَرْتُ عَلَيْكَ فِي الدُّنيَا، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ اليَوْمَ»

(1)

.

وَقَالَ آدَمُ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، حَدَّثَنَا صَفْوَانُ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم.

وهَذَا فيمَنِ اقْتَرفَ شَيْئًا سَتَرَهُ اللهُ عليه وغَفرَ اللهُ له سبحانه وتعالى، فإنَّه

(1)

ورواه مسلم (2768).

ص: 320

هو السَّتَّارُ لِعبِادهِ، وهو الْمُحسِنُ الكَرِيمُ الجَوادُ، فَيُقرِّرُهُ بِذُنُوبِهِ لِيعرِفَ فَضلَ اللهِ عليه وإِحسَانَهُ إِليه، ثم يُخبِرُه أَنَّه سَترَهَا عليه في الدُّنيَا ويَغفِرُهَا عليه اليَومَ. وهَذِه النَّجوَى بين العَبدِ وبين رَبِّهِ

(الشَّيخُ): ماذا قَالَ الشَّارِحُ على النَّجوَى؟ أو قَالَ: مَضَى؟

[قَالَ الحَافِظُ ابنُ حَجرٍ رحمه الله فِي «فَتْحِ البَارِي» (13/ 477)]: «الحَدِيثُ الخَامِسُ: حَدِيثُ ابنِ عُمرَ في النَّجوَى، قَولُهُ: «يَدنُو أَحَدُكُم مِنْ رَبِّه» قَالَ ابنُ التِّينِ: يَعْنِي: يَقربُ مِنْ رَحمَتِهِ، وهو سَائِغٌ في اللُّغَةِ، يُقالُ: فُلَانٌ قَرِيبٌ من فُلَانٍ، ويُرَادُ الرُّتَبَةُ، ومِثلُهُ:{إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)} [الأعراف: 56]». [انتهى كلامه].

قَالَ ابنُ بَازٍ رحمه الله: وهَذَا تَأوِيلٌ لا يَنبَغِي، وهَذَا تَأْوِيلٌ لَيْسَ بِجَيدٍ، الأَصلُ أَنَّه دُنُوٌّ حَقِيقِيٌّ منه سبحانه وتعالى، دُنُوٌّ حَقِيقِيٌّ على الوَجهِ الذي يَعلَمُه سُبحَانَهُ، فهو يُدْنِي عَبدَهُ المُؤمِنَ كمَا يَشَاءُ دُنُوًّا خَاصًّا؛ فَيُقَرِّرُه بِذُنُوبِهِ ويَسأَلُه؛ فضلًا منه وإِحسَانًا وإِظهارًا لِرحمَتِهِ وجُودِهِ وكَرَمِهِ، ويَنزلُ لِيحكُمَ بين عِبَادِهِ بِالعَدلِ سبحانه وتعالى، ولكِنْ لَا يَعلمُ كَيفِيَّةَ هَذَا الدُّنُوِّ إلا هو سبحانه وتعالى، دُنُوٌّ خَاصٌّ لا يَعلَمُ كَيفِيَّتَه إلا هو سبحانه وتعالى.

هَذَا مِنْ تَأْوِيلَاتِ الأَشَاعِرَةِ أَحسَنَ اللهُ إِليكَ؟

نَوعٌ مِنَ التَّأوِيلِ.

[قال الحَافِظُ رحمه الله]: «وقَولُهُ: «فَيضَعُ كَنَفَهُ» بِفتحِ الكَافِ والنُّونِ بَعدَها فَاءٌ، المُراُد بِالكَنَفِ: السِّترُ، وقد جَاءَ مُفَسَّرًا بذَلكَ في رِوَايةِ عَبدِ اللهِ بنِ الْمُبَاركِ عن مُحَمَّدِ بنِ سَوَاءٍ، عن قَتَادةَ، فقَالَ في آخِرِ الحَدِيثِ:

ص: 321

قَالَ عبدُ اللهِ بنُ الْمُبَاركِ: كَنَفُهُ سِترُهُ. أَخرَجَهُ الْمُصَنِّفُ في كِتَابِ «خَلقِ أَفعَالِ العِبَادِ» ، والمَعنَى: أَنَّه تُحيطُ به عِنَايَتُهُ التَّامَّةُ، ومَن رَوَاه بِالْمُثَنَّاةِ الْمَكسُورةِ فقد صَحَّفَ على ما جَزَمَ به جَمعٌ مِنَ العُلَمَاءِ». [انتهى كلامه].

(الشَّيخُ): رَاجِعِ الكَلَامَ على قَولِهِ: «وهو مُتَوارٍ في مَنزِلِ أَبِي خَلِيفَةَ» ؟

[قَالَ الحَافِظُ ابنُ حَجرٍ رحمه الله فِي «فَتْحِ البَارِي» (13/ 476)]: «قَوْلُهُ: «وَهُوَ مُتَوَارٍ فِي مَنْزِلِ أَبِي خَلِيفَةَ» هُوَ حَجَّاجُ بْنُ عَتَّابٍ الْعَبْدِيُّ الْبَصْرِيُّ، وَالِدُ عُمَرَ بْنِ أَبِي خَلِيفَةَ، سَمَّاهُ الْبُخَارِيُّ فِي «تَارِيخِهِ» وَتَبِعَهُ الْحَاكِمُ أَبُو أَحْمَدَ فِي الْكُنَى». [انتهى كلامه].

[قال الإِمَامُ العَينِيُّ في «عُمدَةِ القَارِئِ» (25/ 167)]: «قَولُهُ: وَهُوَ مُتَوارٍ أَي: مُخَتَفٍ فِي مَنزِلِ أَبِي خَليفَة الطَّائِي الْبَصْرِيّ؛ خَوفًا من الْحجَّاجِ بنِ يُوسُفَ الثَّقَفِيّ» . [انتهى كلامه].

قَالَ ابنُ بَازٍ رحمه الله: يَعْنِي: وَقتَ فِتنَةِ الحَجَّاجِ.

أَحسَنَ اللهُ إِليكَم الكَنَفُ؟

اللهُ أَعلَمُ، المُرَادُ سِترَهُ، واللهُ أَعلَمُ، الصِّفَاتُ لا تُفسَّرُ إلا بِالدَّلِيلِ، فاللهُ أَعلَمُ بِالكَيفِيَّةِ التي أَرَادَ بها سبحانه وتعالى، لكِنْ على هَذَا يَدُلُّ على عِنَايةٍ وفَضْلٍ منَ اللهِ سبحانه وتعالى وَرَحمَةٍ وإِحسَانٍ ولُطفٍ به، ولُطفٍ بِعبدِهِ المؤْمِنِ.

وهَذَا من آثَارِ صِفَةِ الرَّحمَةِ؟

هَذَا مِنْ الصَّفَاتِ.

ص: 322

مِنْ آثَارِ هَذِه الصِّفَةِ الرَّحمَةُ؟

نِعمَةٌ.

ما الَّذِي سَترَهُ اللهُ عليه؟

اللهُ أَعلَمُ، اللهُ أَعلَمُ، ظَاهِرُ السِّيَاقِ أَنَّها الذُّنُوبُ التي سُتِرَت عليه ولم يُفضَحْ بها ولم تَظهَرْ في الدُّنيَا، بَينَه وبينَ رَبِّهِ، هَذَا مَحَلُّ التَّقدِيرِ، سَتَرَهَا ويُخبِرُهُ أَنَّها لم تَخفَ عليه سبحانه وتعالى؛ حَتَّى لا يَظُنّ العَبدُ أَنَّها ضَاعَت، بِخِلَافِ الذُّنُوبِ الظَّاهِرةِ؛ [فإنها] مَعرُوفَةٌ، التي أُقيمَ عَليها الحَدُّ، فيها الكَفَّارَةُ، أو ظَهَرَت وعُلِمَت مِنَ النَّاسِ ثمَّ تَابَ مِنهَا، لَكِنْ هَذِه الَّتِي في الحَدِيثِ أَنَّها ذُنُوبٌ خَاصَّةُ بين العَبدِ وبين رَبِّهِ، مَا عَلِمَها النَّاسُ ولا حَكَمَ فيها أَحدٌ ولا ظَهَرتْ للنَّاسِ.

ولا تَابَ مِنهَا؟

الظَّاهِرُ ولا تَابَ منها، ولِهذَا قَالَ:«وأَغفِرُهَا لكَ اليومَ» .

* * *

ص: 323

‌بَابُ مَا جَاءَ في قَولِهِ عز وجل: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:

164]

7515 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، حَدَّثَنَا عُقَيْلٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى، فَقَالَ مُوسَى: أَنْتَ آدَمُ الَّذِي أَخْرَجْتَ ذُرِّيَّتَكَ مِنَ الجَنَّةِ، قَالَ آدَمُ: أَنْتَ مُوسَى الَّذِي اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِرِسَالَاتِهِ وَكَلَامِهِ، ثُمَّ تَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِّرَ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ؛ فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى»

(1)

.

«فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى» مَعنَاهُ: يَعْنِي خَصمَهُ وغَلبَهُ بِالحُجَّةِ؛ لأنَّ إِخرَاجَ الذُّرِّيةِ مِنْ الجَنَّةِ لَيْسَ مِنْ عَملِ آدَمَ عليه السلام، بلْ أَمرٌ كَتَبَهُ اللهُ وقَضَاهُ ورَتَّبَهُ على ما جَرَى مِنْ مَعصِيَتهِ، الذي جَرَى مِنْ آدَمَ هو الْمَعصِيَةُ، فَالعَبدُ لا يُلَامُ على الْمَصَائِبِ وإِنَّمَا يُلَامُ على الْمَعَايبِ، فَالْمُصِيبَةِ التي تَرَّتَبَتْ على ذَلكَ لَيسَت مِنْ عَملِهِ، وإنما هو أَمرٌ قَضَاهُ اللهُ وقَدَّرهُ لِحكمةٍ بَالِغَةٍ، فهو مَلُومٌ على الْمَعصِيةِ وقد تَابَ منها، والتَّائِبُ لا يُلَامُ، مَنْ تَابَ تَابَ اللهُ عليه ولا يُلَامُ بعد ذَلكَ، ولا يُعَابُ، قَالَ تَعَالَى:{وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122)} [طه: 121، 122]؛

(1)

ورواه مسلم (2652).

ص: 324

ولِهذَا حَجَّ آدَمُ مُوسَى؛ لأنهُ لَامَهُ على أَمرٍ لَيْسَ مِنْ فِعلِهِ، وأمْرٍ قد تَابَ مِنْ أَسبَابِهِ ورَجَعَ مِنْ أَسبَابِهِ، والتُّوبَةُ تَجُبُّ ما قَبلَهَا، واللهُ جل وعلا أَخرَجَهُ مِنْ الجَنَّةِ بِسببِ الْمَعصِيَةِ، وأَخرَجَ ذُرِيَّتَهُ من الجَنَّةِ لِحكمَةٍ بَالِغَةٍ حَتَّى يُظهِرَ دِينَهُ في الأَرْضِ، وتَعلُو كَلِمتُهُ في الأَرْضِ، وُيعبَدَ وَحدُهُ في الأَرضِ، بعدَما كَانَ في الجَنَّةِ.

خُرُوجُ بَنِي آدَمَ هَذِه مِنْ المَصَائِبِ يَعْنِي؟

مِنْ الْمَصَائِبِ، والذي عَمِلَهُ آدَمُ أَكلُهُ مِنَ الشَجَرةِ وقد تَابَ منه.

7516 -

حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «يُجْمَعُ المُؤمِنُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ فَيَقُولُونَ: لَوِ اسْتَشْفَعْنَا إِلَى رَبِّنَا فَيُرِيحُنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا، فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ لَهُ: أَنْتَ آدَمُ أَبُو البَشَرِ، خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَأَسْجَدَ لَكَ المَلَائِكَةَ، وَعَلَّمَكَ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ، فَاشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّنَا حَتَّى يُرِيحَنَا. فَيَقُولُ لَهُمْ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، فَيَذْكُرُ لَهُمْ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ»

(1)

.

(الشَّيخُ): كذا «يُجمَعُ» عِندكَ أَوْ «يَجتَمِعُ» ؟ رَاجِعِ الشَّارِحَ، تَعَرَّضَ لها؟ أو العِينِيُّ؟

(القَارِئُ) ما تَعَرَّضَ، أَحسَنَ اللهُ إِليكَ.

(الشَّيخُ): ما الشَّاهِدُ مِنْ هَذَا البَابِ؟

(2)

(القَارِئُ): يَعْنِي بَقِيَّةَ الحَدِيثِ.

(1)

ورواه مسلم (193).

(2)

مشاروة من سماحته للطلبة شحذًا لأذهانهم.

ص: 325

(الشَّيخُ): ماذا عنَدَكُم يَا إِخوَانُ؟ فيه شَاهِدٌ لِكَلَامِهِ؟

(القَارِئُ) لا، هَذَا ما فيهِ شَيءٌ.

(الشَّيخُ): والتَّعلِيمُ ما يَكُونُ بِالكَلَامِ؟ «وعَلَّمَكَ أسمَاءَ كُلِّ شَيءٍ» ، هَذَا الشَّاهِدُ، تَعلِيمُ اللهِ آدَمَ أَسمَاءَ كُلِّ شَيءٍ ما يَكُونُ بِالكَلَامِ؟

(القَارِئُ): التَّرجَمَةُ: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)} [النساء: 164].

قَالَ ابنُ بَازٍ رحمه الله: هَذِه إِشَارَةٌ لِلكَلَامِ، قَصدُهُ الكَلَامُ، جِنسُ الكَلَامِ يَعْنِي؛ لأنَّ هَذَا ما فيه شَيءٌ يَتَعَلَّقُ بمُوسَى عليه السلام، فَالظَّاهِرُ أَنَّه أَرَادَ جِنسَ الكَلَامِ مع اسْتِشهَادِهِ بِتَكلِيمِ اللهِ لمُوسَى، مِثلمَا تَقَدَّمَ: كَلَامُ اللهِ لِأهلِ الجَنَّةِ ولِأهلِ المَوقِفِ. أَرَادَ مِنْ هَذَا: «وعَلَّمَكَ أَسمَاءَ كُلِّ شَيءٍ» .

7517 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ، عَنْ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ مَالِكٍ

(1)

، يَقُولُ: «لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَسْجِدِ الكَعْبَةِ، أَنَّهُ جَاءَهُ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ وَهُوَ نَائِمٌ فِي المَسْجِدِ الحَرَامِ، فَقَالَ أَوَّلُهُمْ: أَيُّهُمْ هُوَ؟ فَقَالَ أَوْسَطُهُمْ: هُوَ خَيْرُهُمْ، فَقَالَ آخِرُهُمْ

(2)

:

(1)

كذا في «الفتح» وفي «عمدة القارئ» ، وفي نسخة شعيب الأرنؤوط:«سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ» . وقال سماحته رحمه الله: سقط أنس، أنس بن مالك، معروف.

(2)

كذا في «عمدة القارئ» وغيره، وفي «الفتح»:«فَقَالَ أَحَدُهُمْ» .

ص: 326

خُذُوا خَيْرَهُمْ، فَكَانَتْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَلَمْ يَرَهُمْ حَتَّى أَتَوْهُ لَيْلَةً أُخْرَى، فِيمَا يَرَى قَلْبُهُ، وَتَنَامُ عَيْنُهُ وَلَا يَنَامُ قَلْبُهُ، وَكَذَلِكَ الأَنْبِيَاءُ تَنَامُ أَعْيُنُهُمْ وَلَا تَنَامُ قُلُوبُهُمْ، فَلَمْ يُكَلِّمُوهُ حَتَّى احْتَمَلُوهُ، فَوَضَعُوهُ عِنْدَ بِئْرِ زَمْزَمَ، فَتَوَلَّاهُ مِنْهُمْ جِبْرِيلُ، فَشَقَّ جِبْرِيلُ مَا بَيْنَ نَحْرِهِ إِلَى لَبَّتِهِ حَتَّى فَرَغَ مِنْ صَدْرِهِ وَجَوْفِهِ، فَغَسَلَهُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ بِيَدِهِ، حَتَّى أَنْقَى جَوْفَهُ. ثُمَّ أُتِيَ

(1)

بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ فِيهِ تَوْرٌ مِنْ ذَهَبٍ، مَحْشُوًّا إِيمَانًا وَحِكْمَةً، فَحَشَا بِهِ صَدْرَهُ وَلَغَادِيدَهُ - يَعْنِي: عُرُوقَ حَلْقِهِ - ثُمَّ أَطْبَقَهُ. ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنيَا، فَضَرَبَ بَابًا مِنْ أَبْوَابِهَا فَنَادَاهُ أَهْلُ السَّمَاءِ مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ جِبْرِيلُ. قَالُوا: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مَعِيَ مُحَمَّدٌ. قَالَ: وَقَدْ بُعِثَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالُوا: فَمَرْحَبًا بِهِ وَأَهْلًا، فَيَسْتَبْشِرُ بِهِ أَهْلُ السَّمَاءِ، لَا يَعْلَمُ أَهْلُ السَّمَاءِ بِمَا يُرِيدُ اللَّهُ بِهِ فِي الأَرْضِ حَتَّى يُعْلِمَهُمْ، فَوَجَدَ فِي السَّمَاءِ الدُّنيَا آدَمَ، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: هَذَا أَبُوكَ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَرَدَّ عَلَيْهِ آدَمُ، وَقَالَ: مَرْحَبًا وَأَهْلًا بِابْنِي، نِعْمَ الِابْنُ أَنْتَ، فَإِذَا هُوَ فِي السَّمَاءِ الدُّنيَا بِنَهَرَيْنِ يَطَّرِدَانِ، فَقَالَ: مَا هَذَانِ النَّهَرَانِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَذَانِ النِّيلُ وَالفُرَاتُ عُنْصُرُهُمَا، ثُمَّ مَضَى بِهِ فِي السَّمَاءِ، فَإِذَا هُوَ بِنَهَرٍ آخَرَ عَلَيْهِ قَصْرٌ مِنْ لُؤْلُؤٍ وَزَبَرْجَدٍ،

(1)

كذا في «عمدة القارئ» وغيره، وفي «الفتح»:«ثُمَّ أَتَى» .

ص: 327

فَضَرَبَ يَدَهُ فَإِذَا هُوَ مِسْكٌ أَذْفَرُ، قَالَ: مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَذَا الكَوْثَرُ الَّذِي خَبَأَ لَكَ رَبُّكَ. ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ، فَقَالَتِ المَلَائِكَةُ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَتْ لَهُ الأُولَى مَنْ هَذَا، قَالَ جِبْرِيلُ: قَالُوا: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، قَالُوا: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالُوا: مَرْحَبًا بِهِ وَأَهْلًا، ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ، وَقَالُوا لَهُ مِثْلَ مَا قَالَتِ الأُولَى وَالثَّانِيَةُ، ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى الرَّابِعَةِ، فَقَالُوا لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ. ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الخَامِسَةِ، فَقَالُوا مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ السَّادِسَةِ، فَقَالُوا لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، فَقَالُوا لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، كُلُّ سَمَاءٍ فِيهَا أَنْبِيَاءُ قَدْ سَمَّاهُمْ، فَوَعَيْتُ مِنْهُمْ إِدْرِيسَ فِي الثَّانِيَةِ، وَهَارُونَ فِي الرَّابِعَةِ، وَآخَرَ فِي الخَامِسَةِ لَمْ أَحْفَظِ اسْمَهُ، وَإِبْرَاهِيمَ فِي السَّادِسَةِ، وَمُوسَى فِي السَّابِعَةِ بِتَفْضِيلِ كَلَامِ اللَّهِ

(1)

.

فَقَالَ مُوسَى: رَبِّ لَمْ أَظُنَّ أَنْ تَرْفَعَ عَلَيَّ أَحَدًا، ثُمَّ عَلَا بِهِ فَوْقَ ذَلِكَ بِمَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، حَتَّى جَاءَ سِدْرَةَ المُنْتَهَى، وَدَنَا الجَبَّارُ رَبُّ العِزَّةِ، فَتَدَلَّى حَتَّى كَانَ مِنْهُ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى، فَأَوْحَى اللَّهُ فِيمَا أَوْحَى إِلَيْهِ

(2)

: خَمْسِينَ صَلَاةً عَلَى أُمَّتِكَ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، ثُمَّ هَبَطَ

(1)

كذا في «عمدة القارئ» وغيره، وفي «الفتح»:«بِفَضْلِ كَلَامِهِ للَّهِ» .

(2)

كذا في «عمدة القارئ» وغيره، وفي «الفتح»:«فَأَوْحَى اللَّهُ فِيمَا أَوْحَى خَمْسِينَ صَلَاةً» .

ص: 328

حَتَّى بَلَغَ مُوسَى، فَاحْتَبَسَهُ مُوسَى، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، مَاذَا عَهِد إِلَيْكَ رَبُّكَ؟ قَالَ: عَهِدَ إِلَيَّ خَمْسِينَ صَلَاةً كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ. قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لَا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ، فَارْجِعْ فَلْيُخَفِّفْ عَنْكَ رَبُّكَ وَعَنْهُمْ. فَالْتَفَتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى جِبْرِيلَ كَأَنَّهُ يَسْتَشِيرُهُ فِي ذَلِكَ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ جِبْرِيلُ: أَنْ نَعَمْ إِنْ شِئْتَ. فَعَلَا بِهِ إِلَى الجَبَّارِ، فَقَالَ وَهُوَ مَكَانَهُ: يَا رَبِّ خَفِّفْ عَنَّا فَإِنَّ أُمَّتِي لَا تَسْتَطِيعُ هَذَا. فَوَضَعَ عَنْهُ عَشْرَ صَلَوَاتٍ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مُوسَى، فَاحْتَبَسَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُرَدِّدُهُ مُوسَى إِلَى رَبِّهِ حَتَّى صَارَتْ إِلَى خَمْسِ صَلَوَاتٍ، ثُمَّ احْتَبَسَهُ مُوسَى عِنْدَ الخَمْسِ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، وَاللَّهِ لَقَدْ رَاوَدْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَوْمِي عَلَى أَدْنَى مِنْ هَذَا فَضَعُفُوا فَتَرَكُوهُ، فَأُمَّتُكَ أَضْعَفُ أَجْسَادًا وَقُلُوبًا وَأَبْدَانًا وَأَبْصَارًا وَأَسْمَاعًا، فَارْجِعْ فَلْيُخَفِّفْ عَنْكَ رَبُّكَ، كُلَّ ذَلِكَ يَلْتَفِتُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى جِبْرِيلَ لِيُشِيرَ عَلَيْهِ، وَلَا يَكْرَهُ ذَلِكَ جِبْرِيلُ، فَرَفَعَهُ عِنْدَ الخَامِسَةِ، فَقَالَ: يَا رَبِّ إِنَّ أُمَّتِي ضُعَفَاءُ أَجْسَادُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ وَأَسْمَاعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَأَبْدَانُهُمْ فَخَفِّفْ عَنَّا. فَقَالَ الجَبَّارُ: يَا مُحَمَّدُ، قَالَ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، قَالَ: إِنَّهُ لَا يُبَدَّلُ القَوْلُ لَدَيَّ، كَمَا فَرَضْتُ عَلَيْكَ فِي أُمِّ الكِتَابِ. قَالَ: فَكُلُّ حَسَنَةٍ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، فَهِيَ خَمْسُونَ فِي أُمِّ الكِتَابِ، وَهِيَ خَمْسٌ عَلَيْكَ، فَرَجَعَ إِلَى مُوسَى، فَقَالَ: كَيْفَ فَعَلْتَ؟ فَقَالَ: خَفَّفَ عَنَّا، أَعْطَانَا

ص: 329

بِكُلِّ حَسَنَةٍ عَشْرَ أَمْثَالِهَا. قَالَ مُوسَى: قَدْ وَاللَّهِ رَاوَدْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ فَتَرَكُوهُ، ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَلْيُخَفِّفْ عَنْكَ أَيْضًا. قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: يَا مُوسَى، قَدْ وَاللَّهِ اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّي مِمَّا اخْتَلَفْتُ إِلَيْهِ. قَالَ: فَاهْبِطْ بِاسْمِ اللَّهِ قَالَ: وَاسْتَيْقَظَ وَهُوَ فِي مَسْجِدِ الحَرَامِ»

(1)

.

وهَذَا خَبرٌ عَظِيمٌ وهو خَبرُ الْمِعرَاجُ، جَاءَ من عِدَّةِ رِوَايَاتٍ ذَكَرَهَا الْمُؤلِّفُ وغَيرُهُ عن شَريكِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ أَبِي نَمرٍ، «ولِشرِيكٍ» رحمه الله أَوهَامٌ في هَذَا عندَ أَهْلِ العِلْمِ: منها قَولُهُ: «قَبلَ أن يُوحَى إِلَيه» . والمِعرَاجُ بعدَ الوَحِيِ بِمَدَّةٍ طَوِيلَةٍ بِعشرِ سِنِينَ.

ومنها قَولُهُ: «وهو نَائِمٌ ثم اسْتَيقَظَ» . والذي عند أَهْلِ السُّنَّةِ وجَاءَتْ به الأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ أنَّ كُلَّ ذَلكَ كَانَ في حَالِ اليَقَظَةِ، أُسرِيَ به حَالَ اليَقظَةِ، وعُرجَ به في حَالِ اليَقَظَةِ، مع جَبرَائِيلَ عليه الصلاة والسلام.

ومِن أَوهَامِهِ أَيضًا: أَنَّه شَكَّ في مَنَازِلِ الأَنبِياءِ عليهم السلام، فَجَعَلَ إِدرِيسَ عليه الصلاة والسلام في الثَّانِيةِ، ومُوسَى عليه الصلاة والسلام في السَّابِعَةِ، وهَذَا خِلَافُ الصَّوابِ. والصَّوَابُ أن مُوسَى عليه الصلاة والسلام في السَّادِسَةِ، وهَارُونَ عليه الصلاة والسلام في الخَامِسَةِ، وإِدرِيسَ عليه الصلاة والسلام في الرَّابِعَةِ، وإِبرَاهِيمَ عليه الصلاة والسلام هو الذي في السَّابِعَةِ عَلَيهِم الصلاة والسلام.

(1)

ورواه مسلم (162).

ص: 330

ومِن أَوهَامِهِ العَظِيمَةِ أَيضًا: قَولُه في الجَبَّارِ: {فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9)} [النجم: 8، 9].

والصَّوَابُ: أنَّ هَذَا هو جَبرَائِيلِ عليه الصلاة والسلام كما قَالَ: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5)} [النجم: 1 - 5].

شَدِيدُ القُوَى هو جَبرَائيِلَ عليه الصلاة والسلام: {ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7)} [النجم: 6، 7]، كُلُّ هَذَا جَبرَائِيلُ، قالت عَائِشَةُ رضي الله عنها: سَألتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم عن ذَلكَ فَقَالَ: «هو جَبرَائِيلُ»

(1)

.

واللهُ فَوقَ ذَلكَ، فَوقَ العَرشِ، وليس هو الذي تَدَلَّى إلى مُحَمَّدٍ، وإِنَّما تَدَلَّى إليه جَبرَائِيلُ. وقد بَسطَ العَلَّامَةُ ابنُ القَيِّمِ وشَيخُ الإِسلَامِ ابنُ تَيمِيَّةَ وجَمَاعَةٌ آخَرُونَ الكَلَامَ في هَذَا، وأَوضَحُوا أَوهَامَ شَرِيكٍ، وذَكرَ بَعضَهَا الحَافِظُ هنا في الشَّرحِ، وذَكَرَ غَيرُهُ ذَلكَ.

عَفَا اللهُ عنكَ، شَارِحُ «الطَّحَاوِيَّةِ» يَقُولُ: التَّدَلِّي في سُورَةِ النَّجمِ غَيرُ التَّدَلِّي في حَالَةِ الإِسرَاءِ؟

لا، غَلَطٌ، هو غَلطٌ. الصَّوابُ الذي ذَكَرَهُ أَهْلُ العِلمِ، شَرِيكٌ هو الذي في سُورَةِ النَّجمِ، وهو الذي وَهِمَ فيه شَريكٌ، وَأصَابَ فيه غَيرُهُ، أمَّا اللهُ فهو في مَكَانِهِ وهو على عَرشِهِ مِنْ غَيرِ تَدَلٍّ، وإنما الذي تَدَلَّى وتَكَلَّمَ معه هو جَبرَائِيلُ عليه الصلاة والسلام.

(1)

رواه مسلم (287)(177).

ص: 331

هل فَضلُهُم في المَنزِلَةِ كَفضلِهِم في السَّمَوَاتِ؟

مُحتَمِلٌ، لا شَكَّ أنَّ إِبرَاهِيمَ عليه الصلاة والسلام أَفضَلُهُم، ومُوسَى عليه الصلاة والسلام كذَلكَ بعدَ إِبرَاهِيمَ عليه الصلاة والسلام، أمَّا البَاقُونَ فهو محَلُّ نَظرٍ.

أَحسَنَ اللهُ إِليكَ، ما فَسَّرَ القَصرَ الذي بِاللُّؤلُؤِ والزَّبَرجَدِ؟

جاء في بِعْضِ الأَحَادِيثِ أَنَّه قَصرُهُ عليه الصلاة والسلام، وَأنَّه هو الوَسِيلَةُ.

قَولُهُ: «فَقَالَ وهو مَكَانَهُ» . يَعُودُ إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؟

يَعْنِي: على العَرشِ، يَعُودُ إلى الرَّبِّ.

قَولُهُ: «فقال وهو مَكَانهُ: يا رَبِّ خَفِّفْ عنا» ؟

مُحتَمِلٌ، مُحتَمِلٌ نعم، فَقَالَ: هو اللهُ الذي في مَكَانِهِ؛ لِأنَّه جَاءَه في الْمَرَّاتِ الأُولَى، وهو أَظهَرُ.

ويَحتَمِلُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم في مَكَانٍ مُعَيَّنٍ تَكَلَّمَ فيه، مِثلُ ما جَاءَ في رِوَايَةٍ:«في دَارِهِ، يا رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي» ، الرِّوَايَةُ السَّابِقةُ في الشَّفَاعةِ.

الرَّازِيُّ قَالَ هَذَا: مِنْ أَوهَامِ شَرِيكٍ: «وهو مَكَانَهُ» ، وأَنكَرَ المَكَانَ؟

مُحتَمِلٌ، ولا هو صَرِيحٌ، هَذَا ما هو وَاضِحٌ في التَّوهِيمِ يَعْنِي.

قَولُهُ هنا: «في قَصْرٍ مِنْ لُؤلُؤٍ وزَبَرجَدٍ فَضَربَ يَدَهُ فإذا هو مِسكٌ أَذفَرُ» . ما المَقصُودُ؟

ضَربَ بِيدِهِ في النَّهرِ، هَذَا الْمُرادُ.

الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم؟

إي نعم.

* * *

ص: 332

‌بَابُ كَلَامِ الرَّبِّ مَعَ أَهْلِ الجَنَّةِ

7518 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ لِأَهْلِ الجَنَّةِ: يَا أَهْلَ الجَنَّةِ. فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ وَالخَيْرُ فِي يَدَيْكَ. فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لَا نَرْضَى يَا رَبِّ وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ. فَيَقُولُ: أَلَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ. فَيَقُولُونَ: يَا رَبِّ وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ. فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا»

(1)

.

يَا لَها مِنْ نِعمَةٍ عَظِيمَةٍ، اللهُ يَجعَلُنَا وإِيَّاكُم مِنهُم، يَا لَهَا مِنْ نِعمَةٍ عَظِيمَةٍ، اللهُ أَكبَرُ، اللهُ أَكبَرُ، اللهُ أَكبَرُ.

7519 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ، حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ، حَدَّثَنَا هِلَالٌ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ

(1)

ورواه مسلم (2829، 2859).

ص: 333

يَوْمًا يُحَدِّثُ وَعِنْدَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ البَادِيَةِ: «أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ اسْتَأْذَنَ رَبَّهُ فِي الزَّرْعِ، فَقَالَ: أَوَلَسْتَ فِيمَا شِئْتَ؟ قَالَ: بَلَى، وَلَكِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَزْرَعَ، فَأَسْرَعَ وَبَذَرَ، فَتَبَادَرَ الطَّرْفَ نَبَاتُهُ وَاسْتِوَاؤُهُ وَاسْتِحْصَادُهُ وَتَكْوِيرُهُ أَمْثَالَ الجِبَالِ، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: دُونَكَ يَا ابْنَ آدَمَ، فَإِنَّهُ لَا يُشْبِعُكَ شَيْءٌ» . فَقَالَ الأَعْرَابِيُّ: يا رَسُولَ اللهِ، لَا تَجِدُ هَذَا إِلَّا قُرَشِيًّا أَوْ أَنْصَارِيًّا، فَإِنَّهُمْ أَصْحَابُ زَرْعٍ، فَأَمَّا نَحْنُ فَلَسْنَا بِأَصْحَابِ زَرْعٍ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ.

هَذَا ممَّا يَحصُلُ لِأهلِ الجَنَّةِ مِنْ أَنوَاعِ النَّعيمِ ومِن آيَاتِ اللهِ العَظِيمَةِ، هَذَا طَلَبَ الزَّرعَ، واللهُ قَالَ له: ألسَتَ فيمَا تَشتَهِي وتُريدُ، كُلُّ النِّعمِ عندك؟! قَالَ: أُحِبُّ أن أَزرَعَ؛ فَبذَرَ وبَادرَ الطَّرفَ سُرعَة اسْتوَاءِ الزَّرعِ، اسْتِوَاؤُه وحَصَادُهُ وانْتهَاؤُهُ مِنْ كُلِّ شَيءٍ طَرفَة عَينٍ كَالجِبالِ، اللهُ المُستَعَانُ، اللهُ أَكبَرُ. {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} [يس: 82].

أَحسَنَ اللهُ إِليكَ، قَولُ الأَعرَابِيِّ:«ما أَرَاهُ إلا قُرَشِيًّا» ، يَكُونُ هَذَا مِنْ الدُّعَابَةِ الجَائِزَةِ أو مِنَ التَّفسِيرِ الذي لَيْسَ المَقصُودُ به القَدْحُ؟

يَظهَرُ واللهُ أَعلَمُ أَنَّه مِنَ الدُّعَابَةِ، وَأنَّه أَرادَ أن يُضحِكَ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم، وأن يَتَكَلَّمَ بِكَلِمةٍ تُؤنِسُهُ عليه الصلاة والسلام؛ ولِهذَا قَالَ: ما أَرَاه إلا قرشيًّا أو أنصَاريًّا،

ص: 334

أماَّ البَادِيةُ فَلَيسُوا بأَهلِ الزَّرعِ، لكن ما يَنحَصِرُ الزًّرعُ في قُرَشِيٍّ وأَنصَارِيٍّ؛ ولِهذَا ضَحِكَ عليه الصلاة والسلام تَعَجُّبًا مِنْ قَولِهِ.

ما نَبَّهُ الحَافِظُ على رِوَايَةِ البُخَارِيِّ لِحَدِيثِ شَريكٍ السَّابِقِ؟

أَظُنَّهُ نبَّهَ عليه، ذَكرَ هَذَا، تَقَدَّمَ في أَوَّلِ الصَّحِيحِ، رِوَايَاتُ الِمِعرَاجِ تَقَدَّمَت في أَوَّلِ الصَّحِيحِ، على عَادَةِ الأَئِمَةِ يَذكُرُونَ الرِّوَايَاتِ على ما رَوَاهُ الثِّقَاتُ، ثم التَّنبِيهُ على الأَخطَاءِ لها بَحثٌ آخَرُ.

يَعْنِي: هَذِه تُعتَبرُ الأَلفَاظُ التي في حَدِيثِ شَريكٍ مِنَ الحُرُوفِ التي انْتُقِدَت على الصَّحِيحِ؟

هَذِه ذَكَرَها على ما رَوَاهَا الثِّقَاتُ، ولم يَكنْ عنده رحمه الله شَيءٌ يَجزِمُ به بِتركِهَا أو حَذفِهَا، ذَكَرَهَا على ما رَوَاهَا الثِّقَاتُ، وإِنَّما يُنَبِّهُ عَلَيهَا مِنْ جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ واسْتَكمَلَهَا، ولَعلَّ له شَيْئًا في أَوَّلِ الكِتَابِ، يُرَاجَعُ ما تَقَدَّمَ في أَوَّلِ الكِتَابِ -كِتَابِ الصَّلَاةِ- أَحَادِيث الْمِعرَاجِ؛ قد يَكُونُ نبَّهَ عَلَيها ما رَاجَعتُهَا أنَا.

أَحسَنَ اللهُ إِليكَ، إِيرَادُ البُخَارِيِّ الحَدِيثَ عن شَرِيكٍ مع أنَّ له أَوهَامًا؟

هو ثِقَةٌ ومَعرُوفٌ، ومن رِجَالِ الشَّيخَينِ، لكن قد يَكُونُ للرَّجُلِ الثِّقَةِ بَعضُ الأَوهَامِ وإن كَانَ ثِقَةً، يَكُونُ له بَعضُ الأَغلَاطِ وبَعضُ الأَوهَامِ وإن كَانَ ثِقَةً، نبَّهَ عليها غَيرُهُ.

* * *

ص: 335

‌بَابُ ذِكْرِ اللَّهِ بِالأَمْرِ، وَذِكْرِ العِبَادِ بِالدُّعَاءِ، وَالتَّضَرُّعِ وَالرِّسَالَةِ وَالإِبْلَاغِ

لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152]، {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72)} [يونس: 71، 72] «غُمَّةٌ: هَمٌّ وَضِيقٌ».

قَالَ مُجَاهِدٌ: «اقْضُوا إِلَيَّ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ» ، يُقَالُ

(1)

: افْرُقْ: اقْضِ.

وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة: 6] إِنْسَانٌ يَأْتِيهِ، فَيَسْتَمِعُ مَا يَقُولُ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ، فَهُوَ آمِنٌ حَتَّى يَأْتِيَهُ فَيَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ، وَحَتَّى يَبْلُغَ مَأْمَنَهُ حَيْثُ جَاءَهُ، والنَّبَأُ العَظِيمُ:«القُرْآنُ» ، {صَوَابًا} [النبأ: 38]: «حَقًّا فِي الدُّنيَا، وَعَمِلَ بِهِ» .

(1)

«يقال» زائدة من «عمدة القارئ» وغيره.

ص: 336

(الشَّيخُ) رَاجِع كَلَامَهُ على التَّرجَمَةِ الأُولَى؟

[قَالَ الحَافِظُ ابنُ حَجرٍ رحمه الله فِي «فَتْحِ البَارِي» (13/ 489)]: «قَوْلُهُ: «بَابُ ذِكْرِ اللَّهِ بِالْأَمْرِ وَذِكْرِ الْعِبَادِ بِالدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ وَالرِّسَالَةِ وَالْبَلَاغِ» فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ والإِبلَاغ وَعَلَيْهَا اقْتَصَرَ ابنُ التِّينِ، قَوْلهُ: لِقَوْلهِ تَعَالَى: {فاذْكُرُونِي أَذكُرْكُم} ، قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ «خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ»: بَيَّنَ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ ذِكْرَ الْعَبْدِ غَيْرُ ذِكْرِ اللَّهِ عَبْدَهُ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ الْعَبْدِ الدُّعَاءُ وَالتَّضَرُّعُ وَالثَّنَاءُ وَذِكْرَ اللَّهِ الْإِجَابَةُ.

ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ عُمَرَ رَفَعَهُ: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ شَغَلَهُ ذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلين» ، قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: مَعْنَى قَوْلِهِ: بَابُ ذِكْرِ اللَّهِ بِالْأَمْرِ ذِكْرُ اللَّهِ عِبَادَهُ بِأَنْ أَمَرَهُمْ بِطَاعَتِهِ، وَيَكُونُ مِنْ رَحْمَتِهِ لَهُمْ وَإِنْعَامِهِ عَلَيْهِمْ إِذَا أَطَاعُوهُ أَوْ بِعَذَابِهِ إِذَا عَصَوْهُ، وَذِكْرُ الْعِبَادِ لِرَبِّهِمْ أَنْ يَدْعُوهُ وَيَتَضَرَّعُوا إِلَيْهِ وَيُبَلِّغُوا رِسَالَاتَهُ إِلَى الْخلقِ. قَالَ ابن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى {فاذْكُرُونِي أَذكُرْكُم}: إِذَا ذَكَرَ الْعَبْدُ رَبَّهُ وَهُوَ عَلَى طَاعَتِهِ ذَكَرَهُ بِرَحْمَتِهِ، وَإِذَا ذَكَرَهُ وَهُوَ عَلَى مَعْصِيَتِهِ ذَكَرَهُ بِلعْنَتِهِ. قَالَ: وَمعنى قَوْلهِ {فاذْكُرُونِي أَذكُرْكُم} اذْكُرُونِي بِالطَّاعَةِ أَذْكُرْكُمْ بِالْمَعُونَةِ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: اذْكُرُونِي بِالطَّاعَةِ أَذْكُرْكُمْ بِالْمَغْفِرَةِ.

وَذَكَرَ الثَّعْلَبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ نَحْوَ أَرْبَعِينَ عِبَارَةٍ أَكْثَرُهَا عَنْ أَهْلِ الزُّهْدِ، وَمَرْجِعُهَا إِلَى مَعْنَى التَّوْحِيدِ وَالثَّوَابِ أَوِ الْمَحَبَّةِ وَالْوَصْلِ أَوِ الدُّعَاءِ وَالْإِجَابَةِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ «وَذِكْرُ الْعِبَادِ بِالدُّعَاءِ ..... » إِلَى آخِرِهِ فَجَمِيعُ مَا ذَكَرَهُ وَاضِحٌ فِي حَقِّ الْأَنْبِيَاءِ، وَيَشْرَكُهُمْ فِي الدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ سَائِرُ الْعِبَادِ، وَحكى ابنُ التِّينِ أَنَّ ذِكْرَ الْعَبْدِ بِاللِّسَانِ وَعِنْدَمَا يَهِمُّ بِالسَّيِّئَةِ فَيَذْكُرُ مَقَامَ رَبِّهِ فَيَكُفُّ». [انتهى كلامه].

ص: 337

قال ابنُ بَازٍ رحمه الله: الْمَقصُودُ من هَذِه التَّرجَمَةِ أنَّ فيهَا بَعضَ الإِشكَالِ، ولكنَّ مَقصُودَهُ رحمه الله أنَّ ذِكرَ اللهِ للعبدِ بِالأَمرِ، هو تَفسِيرٌ للشَّيءِ بِبَعضِهِ، تَفسِيرٌ لِلذِّكرِ بِبَعضِهِ، فإنَّ ذِكرَ اللهِ لِلعَبدِ: قد يَكُونُ بِالأَمرِ وقد يَكُونُ بِغَيرِ الأَمرِ، فهو مِنْ بَابِ التَّفسِيرِ بِالبَعضِ، مِثلمَا فُسِّرَ الصِّرَاطُ الْمُستَقِيمُ بِاتِّبَاعِ القُرآنِ، يَعْنِي: والسُّنَة، بِاتِّبَاعِ أَبِي بَكرٍ وعُمرَ رضي الله عنهما، يَعْنِي ما كَانَ عليه مِنْ السَّيرِ على مَنهَجِ السَّلفِ الصَّالحِ.

فَذِكرُ اللهِ بِالأَمرِ هو مِنْ هَذَا البَابِ، من بَابِ تَفسِيرِ الشَّيءِ بِبَعضِ مَعنَاهُ، فإنه سُبحَانَهُ يَذكُرُ العِبَادَ بِالأَمر «فَاتَّقُونِ، أَقِيمُوا الصَّلَاةَ، آتُوا الزَّكَاةَ، حَافِظُوا على الصَّلَوَاتِ» ، هَذِه أَوَامرُ.

ويَأتِي أَيضًا ذِكرُهُ لِلعِبَادِ بِغَيرِ الأَمرِ. يَأتِي بِالخَبرِ ما كَانَ ومَا يَكُونُ، يَذكُرُهُم بِالمَاضِي، يَذكُرُهُم بِالجَنَّةِ والنَّارِ، يَذكُرُهُم بِيَومِ القِيَامةِ، يُخبِرُ عن بَعضِ ما مَضَى، يُخبِرُ عن بَعضِ ما يَأتِي، يَذكُرُ لهم أَوصَافَ المُؤمِنِينَ، أَوصَافَ الكَافِرِينَ، كُلُّ هَذَا مِنْ ذِكرِهِ سُبحَانَهُ.

هو ذَكرَ هَذِه الأَشيَاءَ لِمَا فيهَا مِنْ العِظَةِ والتَّوجِيهِ وتَنبِيهِ العِبَاِد عما يَنبَغِي أن يَفعَلُوه، وفي الحَدِيثِ الصَّحِيحِ:«مَنْ ذَكَرَنِي في نَفسِهِ ذَكَرتُهُ في نَفسِي، ومَن ذَكَرَنِي في مَلَإٍ ذَكرتُهُ في مَلإٍ خَيرٍ مِنهم»

(1)

. {فاذْكُرُونِي أَذكُرْكُم} . فِذِكُرُ اللهِ بِخَوفِهِ، ومَحَبَّتِهِ، والثَّنَاءِ عليه، وبَيَانِ صِفَاتِهِ وأَسمَائِهِ الحُسنَى، إلى غَيرِ ذَلكَ، مِنْ أَسبَابِ أنَّ اللهَ يَذكُرُ العَبدَ بِأحسَنِ خِصَالِهِ وأَفضلِ

(1)

رواه البخاري (7405)، ومسلم (2675)(2)

ص: 338

خِصَالِهِ مِمَّا يَجرِي ذِكرُهُ العَظِيمُ عند المَلَائِكَةِ.

وتَفسِيرُ {أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152]: هو عند المَعصِيةِ يُذَكِّركُمْ بِاللهِ. مَحَلُّ نَظرٍ، وإنما ظَاهِرُ السِّياقِ وظَاهِرُ النُّصُوصِ الأُخرَى: الحَثُّ على ذِكرِهِ سبحانه وتعالى بِالقَولِ والعَملِ، يَعْنِي: بِطَاعَتهِ واتِّبَاعِ شَريعَتِهِ، يَذكُرُ العِبَادَ بما يَنفَعُهُم وبما يُعلِي شَأنَهُم عند الْمَلَأ الأَعلَى، وقول المؤلف:(ذِكْرُ اللهِ الأَمرُ) مِنْ بَابِ تَفسِيرِ الشَّيءِ بِبعضِ مَعنَاهُ.

وأمَّا ذِكرُ العِبَادِ بِالدُّعَاءِ والخَوفِ والرَّجَاءِ والبَلَاغِ، هَذَا كُلُّهُ صَحِيحٌ، العِباُد ذِكرُهُم للهِ بِثنَائِهِم عليه، وتَسبِيحِهِم إِيَّاهُ، وذِكرُ صِفَاتهِ وأَسمَائِهِ، ذِكرُ حَقِّهِ على عِبَادِهِ، البَلَاغُ عنِ اللهِ، والبَلَاغُ عن رَسُولِهِ عليه الصلاة والسلام، وَعظُ النَّاسِ وتَذكِيرُهُم، كُلُّ هَذَا مِنْ ذِكرِ العِبَادِ.

{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ (6)} [التوبة: 6] الشَّاهِدُ منه كَلَامِ اللهِ مِنْ الذِّكرِ؟

هَذَا من ذِكرِهِ سُبحَانَهُ.

* * *

ص: 339

‌بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} [البقرة:

22]،

وَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ: {وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [فصلت: 9]، {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر: 66]، وَقَولُهُ:{وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [الفرقان: 68].

ذكر هذه الآية بعد الآيتين للتنبيه على ان اتخاذ الأنداد هو الشرك، {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22]، {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا} [البقرة: 165] هذا هو الشرك، فمن اتخذ الند هو اتخاذ معبود مع الله، يقال فلان: أي نديده ونظيره.

فمن عبد المخلوق مع الله بتن دعاه أو أعتقد فيه أنه يصلح للعبادة فقد اتخذ ندًّا لله، وهذا هو الشرك الذي قال الله فيه {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65].

وَقَالَ عِكْرِمَةُ: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106]، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ} [الزخرف: 87]، وَ {مَنْ

ص: 340

خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} «فَذَلِكَ إِيمَانُهُمْ، وَهُمْ يَعْبُدُونَ غَيْرَهُ» .

وَمَا ذُكِرَ فِي خَلْقِ أَفْعَالِ العِبَادِ وَأَكْسَابِهِمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: 2]. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ بِهِ [الحجر: 8]: «يَعْنِي: بِالرِّسَالَةِ وَالعَذَابِ» {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ} [الأحزاب: 8]: «المُبَلِّغِينَ المُؤَدِّينَ مِنَ الرُّسُلِ» ، {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [يوسف: 12]: «عِنْدَنَا» ، {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ} [الزمر: 33]: «القُرْآنُ» {وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر: 33]: «المُؤْمِنُ يَقُولُ يَوْمَ القِيَامَةِ: هَذَا الَّذِي أَعْطَيْتَنِي عَمِلْتُ بِمَا فِيهِ» .

قَولُهُ: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [الفرقان: 68]: ذَكَرَ هَذِه الآيَةَ بعدَ الآيَتَينِ للتَّنبِيهِ على أنَّ اتِّخَاذَ الأَندَادِ هو الشِّركُ، {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)} [البقرة: 22]، {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا} [البقرة: 165]، هَذَا هو الشِّركُ، فمِنِ اتِّخَاذِ النِّدِّ هو اتِّخَاذُ مَعبُودٍ مع اللهِ، يُقَالُ: فُلَانٌ نِدُّ فُلَانٍ: أي نَدِيدُهُ ونَظِيرُهُ، فمَنْ عَبدَ المَخلُوقَ مع اللهِ بأنْ دَعَاهُ أو اعْتَقدَ فيه أَنَّه يَصلُحُ لِلعِبَادةِ فقد اتَّخَذَ نِدًّا للهِ، وهَذَا هو الشِّركُ الَّذي قَالَ اللهُ فيه:{وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65].

وهَذَا الذي عن عِكرمَةَ هو مَعنَى ما جَاءَ عن ابنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما وهو تَلَقَّاهُ عن ابنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما في قَولِهِ تَعَالَى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)} [يوسف: 106]، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25] هَذَا إِيمَانُهُم تَوحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ، وشِركُهُم دَعوَتُهُم الأَندَادَ مع اللهِ واتِّخَاذُهُمُ الأَندَادَ، فهم يُؤْمِنُونَ مِنْ جَانِبٍ ويَكفُرُونَ مِنْ جَانِبٍ، وشِركُهُم الذي وَقَعُوا فيه أَبطَلَ إِيَمانَهُم، فإنَّ الإِيمَانَ ما يَلتَئِمُ ولا يَصِحُّ مع الشِّركِ، فَأَحَدُهمَّا يُضَادُّ الآخَرَ.

فَإيمَانُهُم الذي نَطَقُوا به وهو اعْتِقَادُهُم أنَّ اللهَ رَبَّهُم، وقَولُهُم: رَبُّنَا اللهُ، هَذَا صَحِيحٌ أَنَّه يُسمَّى إِيمَانًا، لكن إذا سَلِمَ مِنْ الضِّدِّ، إذا جَاءَ الضِّدُّ أَبطَلَهُ، فإذا أَشرَكَ العَبدُ بِاللهِ بَطَلَ إِيمَانُهُ وصَارَ إِيمَانُهُ لَاغيًا لا وُجُودَ له ولا يَنفَعُهُ، كمَا قَالَ تَعَالَى:{وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88)} [الأنعام: 88]، وأَعظَمُ العَملِ الإِيمَانُ يَحبَطُ {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)} [المائدة: 5].

فهَذَا حَالُ الْمُشرِكِينَ عُبَّادُ الأَصنَامِ والأَوثَانِ والأَموَاتِ والكَواكِبِ،

ص: 341

يَقُولُونَ: اللهُ رَبُّنَا وخَالِقُنَا ورَازِقُنَا، وهم مع هَذَا يَعبُدُونَ الأَصنَامَ والأَوثَانَ، ويَدعُونَها مع اللهِ ويَسجُدُونَ لها، ويَستَغِيثُونَ بها ويُعَظِّمُونَ أَمرَهَا ويُقَاتِلُونَ دُونَها؛ فَصَارَ هَذَا الشِّركُ الذي وَقَعُوا فيه وعَظَّمُوه وقَاتَلُوا مِنْ أَجلِهِ مُحبِطًا ومُبْطِلًا لِمَا ادَّعُوهُ مِنْ الإِيمَانِ.

في هَذَا دَلَالَةٌ على اجْتِمَاعِ الشِّركِ الأَصغَرِ مع التَّوحِيدِ والإِيمَانِ؟

لَيْسَ بِظَاهِرٍ؛ لأنَّ هَذَا في الكُفَّارِ الْمُشرِكِينَ، أمَّا الإِيمَانُ الذي مع أَهْلِ الشِّركِ الأَصغَرِ فهو إِيمَانٌ صَحِيحٌ لَيْسَ من جِنسِ هَذَا، إِيمَانٌ صَحِيحٌ لَكنَّهُ ضَعِيفٌ، أَضَعَفَهُ الشِّركُ الأَصغَرُ والمَعَاصِي، فَإِيمَانُ العُصَاةِ وإِيمَانُ مَنْ تَعَاطَى الشِّركَ الأَصغَرَ كَالرِّياءِ، لَيْسَ مِثلَ إِيمَانِ الكُفَّارِ الَّذِينَ أَحبَطُوهُ بِشرِكِهِم الأَكبَرِ، فَذَاكَ إِيمَانٌ قَارَنَهُ ما أَبطَلَهُ، وهَذَا إِيمَانٌ لم يَبطُلْ، ولكِنَّهُ قَارَنَهُ ما يُضعِفُهُ.

حُذَيفَةُ رضي الله عنه لَمَّا رَأَى الخَيطَ قَطَعَهُ وتَلا هَذِه الآيَةَ {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)} [يوسف: 106]؟

هَذَا لَيْسَ بِظَاهِرٍ من حَيثُ المَعنَى؛ لأنَّ أَعظَمَ ذَلكَ ما عليه المُشرِكُونَ الأَوَّلُونَ قد يَدخُلُ في المَعنَى مِنْ حَيثُ جِنسُ الشِّركِ؛ لأنَّ الآيَاتِ التي نَزَلَت في الأَكبَرِ يُحتَجُّ بها على الأَصغَرِ، يَعُمُّ اسمَ الشِّركِ، ولِتَحرِيمِ النَّوعَينِ جميعًا مِثلمَا فَسَّرَهُ ابنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما:{فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)} [البقرة: 22] بِأنوَاعٍ منَ الشِّركِ الأَصغَرِ لِلعُمُومِ، لكن هَذِه الآيَةُ {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)} [يوسف: 106]، أَظهَرُ في إِبطَالِ إِيمَانِهِم؛ للدَّلَالَةِ على أنَّ إِيمَانَهُم هَذَا لا يَنفَعُهُم، نَسأَلُ اللهَ العَافِيَةَ.

* * *

ص: 342

7520 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ؟ قَالَ:«أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ» . قُلْتُ: إِنَّ ذَلِكَ لَعَظِيمٌ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «ثُمَّ أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ تَخَافُ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ» . قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «ثُمَّ أَنْ تُزَانِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِكَ»

(1)

.

وفي هَذَا الحَدِيثِ جَمعٌ بين الشِّركِ والمَعصِيَةِ؛ لِأَنَّهَا ذُنُوبٌ عَظِيمَةٌ، لكن أَعظَمُهَا الشِّركُ الأَكبَرُ؛ أَعظَمُهَا الشِّركُ؛ لِأنَّه ضِدُّ التَّوحِيدِ الذي بَعثَ اللهُ به الرُّسُلَ، وأَنزلَ به الكُتُبَ، وخَلقَ مِنْ أَجلِهِ الثَّقَلَينِ، فَالشِّركُ هَضمٌ للرُّبُوبِيَّةِ وعَدَمُ إِيمَانِهِم بها على الحَقِيقةِ وتَنَقُّصٌ لِلإِلَهيةِ، وسُوءُ ظَنٍّ بِاللهِ سبحانه وتعالى وكُفرٌ به.

(1)

ورواه مسلم (86).

ص: 343

وهو أَعظَمُ الذُّنُوبِ وأَخطَرُهَا، وليسَ مع صَاحِبِهِ مَغفِرةٌ ولا رَجَاءٌ في دُخُولِ الجَنَّةِ، بل هو آيسٌ مِنْ رَحمَةِ اللهِ ومن مَغفِرَتِهِ ما لم يَتَبْ، بِخِلَافِ الْمَعَاصِي؛ فإنَّهَا وإن كَانَتْ عَظِيمَةً وإن كَانَتْ خَطِيرَةً وإن كَانَ صَاحِبُهَا على شَفَا جُرُفٍ لكنَّهَا لَيْسَتْ من جِنسِ الكُفرِ بالله عز وجل، بَلْ هي دُونَهُ.

ولذَلكَ من مَاتَ عليه لا يُخَلَّدُ في النَّارِ إن دَخَلَهَا، وإنما يُعَذَّبُ إذا شَاءَ اللهُ تَعذِيبَهُ على قَدرِ مَعَاصِيهِ، وقد يَعفُو اللهُ عنه لِأسبَابٍ اقْتَضَت ذَلكَ، أمَّا الْمُشركُ فلا حِيلَةَ فيه، من مَاتَ على الشِّركِ الأَكبَرِ فَالنَّارُ أَولَى به أَبدَ الآبَادِ، نَسأَلُ اللهَ العَافِيَةَ.

والآيَةُ الكَرِيمَةُ ذَكَرَ فيها سُبحَانَهُ القَتلَ والزِّنَا قَرينَي الشَّركِ

(1)

، والحَدِيثُ ذَكرَ قَتلَ الوَلَدِ والزِّنَا بِحَلِيلَةِ الجَارِ، فَالحَدِيثُ نبَّهَ على أَقبَحِ أَنْواَعِ القَتلِ، وأَقبَحِ أَنوَاعِ الزِّنَا، وَأنَّه أَلصَقُ بِالآيَةِ بِكَونِهِ يَلِي الشِّركَ -نَسأَلُ اللهَ العَافِيَةَ- لِأنَّه إذا قَتلَ وَلَدَه جَمَعَ بين قَتلِ النَّفسِ بِغَيرِ الحَقِّ وبَين قَطِيعَةِ الرَّحِمِ، وإذا زَنَا بِحَلِيلَةِ الجَارِ جَمَعَ بينَ شَرَّينِ، بين الزِّنَا وبينَ إِيذَاءِ الجَارِ وإِفسَادِ زَوجَتِهِ عليه.

وصَارَ هَذَانِ النَّوعَانِ أَخطَرَ أَنْوَاعِ الزِّنَا والقَتلِ، نَسأَلُ اللهَ العَافِيَةَ، وكُلُّ أَنوَاعِ الزِّنَا شَرٌّ، وكُلُّ أَنوَاعِ القِتلِ بِغَيرِ حَقٍّ شَرٌّ، لكن إذا كَانَ القَتلُ للقَرِيبِ أو للوَلَدِ أو الوَالِدِ أو الأَخِ صَارَ أَقبَحَ، وهَكَذَا إذا كَانَ الزِّنَا بِزَوجَةِ الجَارِ، أو الْمحْرمِ صَارَ أَقبَحَ، نَسأَلُ اللهَ العَافِيَةَ.

* * *

ص: 344

‌بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ} [فصلت:

22].

7521 -

حَدَّثَنَا الحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه، قَالَ:«اجْتَمَعَ عِنْدَ البَيْتِ ثَقَفِيَّانِ وَقُرَشِيٌّ - أَوْ قُرَشِيَّانِ وَثَقَفِيٌّ - كَثِيرَةٌ شَحْمُ بُطُونِهِمْ، قَلِيلَةٌ فِقْهُ قُلُوبِهِمْ، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: أَتَرَوْنَ أَنَّ اللَّهَ يَسْمَعُ مَا نَقُولُ؟ قَالَ الآخَرُ: يَسْمَعُ إِنْ جَهَرْنَا وَلَا يَسْمَعُ إِنْ أَخْفَيْنَا، وَقَالَ الآخَرُ: إِنْ كَانَ يَسْمَعُ إِذَا جَهَرْنَا، فَإِنَّهُ يَسْمَعُ إِذَا أَخْفَيْنَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ} [فصلت: 22]» الآيَةَ

(1)

.

(الشَّيخُ): عندَكَ (كَثِيرَةٌ شَحْمُ بُطُونِهِمْ)؟ نبَّه الشَّارحُ عليه؟ كأنَّه على مُضَافٍ إِلَيه، قد يُؤنَّثُ الْمُضَافُ لِتَأنِيثِ الْمُضَافِ إليه، كما قَالَ ابنُ مَالِكٍ.

(1)

ورواه مسلم (2775).

ص: 345

وَرُبَّمَا أَكْسَبَ ثَانٍ أَوَّلَا

تَأْنِيثًا انْ كَانَ لِحَذْفٍ مُوْهَلَا

وأَنَّثَ «كَثِيرَةً» ؛ مُرَاعَاةً لأنَّ الشَّحمَ مُضَافٌ إلى البُطُونِ، والِفقَهَ مُضَافٌ إلى القُلُوبِ وهي مُؤَنَّثةٌ.

[قَالَ الحَافِظُ ابنُ حَجرٍ رحمه الله فِي «فَتْحِ البَارِي» (13/ 496)]: «وَإِنَّمَا وَصَفَ الْجَمِيعَ بِقِلَّةِ الْفِقْهِ؛ لِأَنَّ هَذَا الَّذِي أَصَابَ لَمْ يَعْتَقِدْ حَقِيقَةَ مَا قَالَ بَلْ شَكَّ بِقَوْلِهِ: «إِنْ كَانَ» . وَقَوْلُهُ فِي وَصْفِهِمْ: «كَثِيرَةٌ شَحْمُ بُطُونِهِمْ قَلِيلَةٌ فِقْهُ قُلُوبِهِمْ» وَقَعَ بِالرَّفْعِ عَلَى الصِّفَةِ وَيَجُوزُ النَّصْبُ، وَأَنَّثَ الشَّحْمَ وَالْفِقْهَ لِإِضَافَتِهِمَا إِلَى الْبُطُونِ وَالْقُلُوبِ، وَالتَّأْنِيثُ يَسْرِي مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ إِلَى الْمُضَافِ أَوْ أَنَّثَ بِتَأْوِيلِ شَحْمٍ بِشُحُومٍ وَفِقْهٍ بِفِهُومٍ». [انتهى كلامه].

قَالَ ابنُ بَازٍ رحمه الله: ولا شَكَّ مِثْلمَا بَيَّنَ سبحانه وتعالى أَنَّه يَعلَمُ السِّرَّ وأَخفَى، وَأنَّه يَسمَعُ الخَفِيَّ والجَهرَ {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13)} [الملك: 13]، فهو عَلِيمٌ بِأَحوَالِهِم سَمِيعٌ لِمَقَالِهِم، وإن خَفِيَ على مَنْ يَلتَصِقُ بهم، فإنَّه لا تَخفَى عليه خَافِيَةٌ، سَمعُهُ بِكُلِّ شَيءٍ، وعِلمُهُ لِكُلِّ شَيءٍ سبحانه وتعالى.

والمَقصُودُ مِنْ ذِكرِ قِصَّةِ الثَّقَفِيِّينِ والقُرشِيِّ أو عَكسِهِ: التَّنبِيهُ على الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، يُنَبِّهُ العَبَادَ على أنَّ الوَاجِبَ الحَذَرُ مِنَ اللهِ، وأنهُ يَعلَمُ السِّرَّ وأَخفَى ويَسمَعُ النَّجوَى ولا تَخفَى عليه خَافِيَةٌ، فَعَليكَ يَا عَبدَ اللهِ أنْ تَحذَرَ ما حَرَّمَ عليك، وأن تَبتَعِدَ عن ذَلكَ سِرًّا وجَهْرًا، وأن تَعلَمَ يَقِينًا أَنَّه لا يَخفَى عليه خَافِيَةٌ سبحانه وتعالى؛ فَالوَاجِبُ تَعظِيمُهُ والحَذَرُ مِنْ نِقمَتِهِ، والإِقَامَةُ الدَّائِمَةُ على طَاعَتِهِ واتِّبَاعُ شَريعَتِهِ، وتَعظِيمُ أَمرِهِ ونَهيِهِ، فلا يَخفَى عليه خَافِيَةٌ

ص: 346

سبحانه وتعالى، بِخِلَافِ الْمَخلُوقِ فإنه يَخفَى عليه ما غَابَ عنه وما حِيلَ بينَه وبينه، أمَّا اللهُ سبحانه وتعالى فهو لا يَخفَى عليه خَافِيَةٌ جل وعلا.

قَولُ الآخَرِ: إِنْ كَانَ يَسْمَعُ إِذَا جَهَرْنَا، فَإِنَّهُ يَسْمَعُ إِذَا أَخْفَيْنَا، مِنْ قَبِيلِ الفِقهِ؟

على كُلِّ حَالٍ هَذَا نَوعٌ مِنْ الفِقْهِ، لكِنْ ما أَنْكَرَ عَليهِ، إذا كَانَ عنده فَقْهٌ أَنكرَ عليه.

* * *

ص: 347

‌بابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:

29] وَ {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} [الأنبياء: 2]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى:{لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1]«وَأَنَّ حَدَثَهُ لَا يُشْبِهُ حَدَثَ المَخْلُوقِينَ» ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].

وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَشَاءُ، وَإِنَّ مِمَّا أَحْدَثَ: أَنْ لَا تَكَلَّمُوا فِي الصَّلَاةِ» .

والمَعنَى: أن حَدَثَهُ لَيْسَ عن جَهْلٍ ولا عن تَغَيُّرِ عِلْمٍ، ولكنَّهُ له الحِكْمَةُ البَالِغَةُ في تَعجِيلِ هَذَا وتَأجِيلِ هَذَا، وشَرعِ هَذَا قَبلَ هَذَا، والتَّخفِيفِ في هَذَا والزِّيَادةِ في هَذَا أو العَكسِ، له الحِكمَةُ البَالِغَةُ في ذَلكَ.

بِخِلَافِ الْمَخلُوقِ فإنه قد يَغِيبُ عنه الشَّيءُ ويِجهَلُهُ ثم يَعلَمُه، وقد يَبدُو له ظُهُورُ شَيءٍ ثم يَتَغَيرُ حَالُهُ ويَتَغَيَّرُ فِقهُهُ فيه وعِلمُهُ به.

أما هو سُبحَانَهُ فلا يَخفَى عليه خَافِيَةٌ، وكُلُّ شِيءٍ عنده مَعلُومٌ، ولكنَّهُ له الحِكمَةُ البَالِغَةُ في تَقدِيمِ هَذَا وتَأخِيرِ هَذَا وتَخفِيفِ هَذَا وتَشدِيدِ هَذَا، والعَكْسُ في ذَلكَ، هو الحَكِيمُ العَلِيمُ جل وعلا.

ص: 348

فَالحَدَثُ الذي يَقعُ هو الأَمرُ بِالشَّيءِ أو شَرعُهُ بعد أنْ لم يَكنْ شَرَعَهُ، والتَّجدِيدُ بِالشَّيءِ بِالأَمرِ به بعدَ أنْ لم يَكُنْ أَمرَ به، أو إِنزَالُهُ بعدَ أنْ لم يَكُنْ أنَزَلَهُ.

والْمُحدَثُ: الجَدِيدُ لَيْسَ سَابِقًا: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} [الأنبياء: 2]، {إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الأنبياء: 3] لَيْسَ الْمُرادُ به الحَدثَ الذي هو المَخلُوقُ، وإِنَّما الشّيءُ الذي جَاءَ بعد أن لم يَأتِ، الجَدِيدُ.

وقَولُهُ: «يُحدِثُ مِنْ أَمرِهِ ما يَشَاءُ» . مِنَ الشَّرَائِعِ، شَرعَ الصَّلَاةَ بعد أنْ لم يَشرَعْهَا، الصَّلَوَاتِ الخَمْسِ، شَرعَ تَحرِيمَ الخَمرِ بعدمَا كَانَ مُستَعمَلًا بينَهُم، شَرعَ الزَّكَاةَ وأَنصِبَتَهَا وتَفصِيلَهَا بعد أن لم يكُن شَرعَها، وهَكَذَا، كُلُّ شَيءٍ جَاءَ في وَقتِهِ لِحِكمَةٍ بَالِغَةٍ، فهو جَدِيدٌ بِالنِّسبَةِ إلى الْمَخلُوقِينَ وهو عندَه مَعلُومٌ سبحانه وتعالى، لا يَخفَى عليه خَافِيَةٌ.

بِخِلَافِ حَدَثِ الْمَخلُوقِ، هَذَا شَيءٌ آخَرُ، الْمَخلُوقُونَ كُلُّهُم مُحدَثُونَ مَخلُوقُونَ مَربُوبُونَ، هَكَذَا السَّمَاءُ هَكَذَا الأَرضُ، أَحدَثَها بِمَعنَى خَلَقَهَا وأَوجَدَهَا، لكنَّ الحَدَثَ في الشَّرَائِعِ وفي المُنزَّلِ مِنَ القُرآنِ والكُتُبِ لَيْسَ مَعنَاهُ الحَدَثَ الذي يُصَارُ به السَّمَاءُ أو الأَرضُ أو الجِبَالُ أو البِحَارُ؛ فذاكَ إِحدَاثُ مَخلُوقٍ، وهَذَا إِحدَاثُ وَصفٍ وُصِفَ به جل وعلا لم يَتَقَدَّم به إلى الْمَخلُوقِينَ ثم تَقَدَّمَ به سُبحَانَهُ مِنْ إِنزَالِ القُرآنِ، إِنزَالِ التَّورَاةِ، إِنزَالِ الإِنْجِيلِ، إِنزَالِ الشَّرائِعِ التي نَوَّعَهَا سبحانه وتعالى.

أَحَدثَ في الصَّلَاةِ أَلَّا يَتَكَلَّموا، وكانوا قَبلَ ذَلكَ يَتَكَلَّمُونَ في حَاجَاتِهِم كَرَدِّ السَّلَامِ والأَمرِ بِالحَاجَةِ، ثم نَسَخَ اللهُ ذَلكَ وأَمرَ بِالخُشُوعِ في الصَّلَاةِ والسُّكُوتِ فيها وعَدمِ الكَلَامِ.

ص: 349

7522 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ وَرْدَانَ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ:«كَيْفَ تَسْأَلُونَ أَهْلَ الكِتَابِ عَنْ كُتُبِهِمْ، وَعِنْدَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ، أَقْرَبُ الكُتُبِ عَهْدًا بِاللَّهِ، تَقْرَءُونَهُ مَحْضًا لَمْ يُشَبْ» .

مَعنَى «مَحضًا» يَعْنِي: خَالِصًا، لَيْسَ فيه تَحرِيفٌ ولا إِدخَالُ شَيءٍ لَيْسَ منه، بِخِلَافِ كُتُبِ المَاضِينَ؛ فقد حَرَّفُوا وغَيَّرُوا وأَدخَلُوا فيها ما لَيْسَ منْهَا، أمَّا هَذَا الكِتَابُ فقد حَفِظَهُ اللهُ مِنْ التَّغييرِ والتَّبدِيلِ، والزِّيَادَةِ والنَّقصِ، وهو أَحدَثُ الكُتُبِ، هي أَقرَبُهَا إلى اللهِ وآخِرُهَا وأَفضَلُهَا وأَعظَمُها، ولا يَلِيقُ بِأُمَّةِ مُحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أن يَحتَاجُوا إلى كُتُبِ التَّورَاةِ والإِنجِيلِ وكُتُبِ الأَوَائلِ، وقد أَغنَاهُمُ اللهُ بهَذَا في دِينِهِمْ.

أَحسَنَ اللهُ إِليكَ، قَولُهُ:{مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} [الأنبياء: 2] يَشمَلُ السُّنَّةَ أو مُقتَصِرٌ على القُرآنِ؟

عَامٌّ يَشمَلُ السُّنَّةَ والقُرآنَ لا شَكَّ، كذَلكَ يَشمَلُ ما يَأتِي يَومَ القِيَامةِ مِنْ مُحَدَثٍ أَيضًا «هل رَضِيتُمْ يِا أَهْلَ الجَنَّةِ هل رَضِيتُمْ»

(1)

، وقولُهُ لآدَمَ عليه السلام:«أَخرِجْ بَعثَ النَّارِ»

(2)

، وما أَشبَه ذَلكَ، يَعُمُّ السُّنَّةَ، السُّنَّةُ وَحِيٌ مِنْ اللهِ، وَحِيٌ ثانٍ.

(1)

رواه البخاري (6549)، ومسلم (2829)(9).

(2)

رواه البخاري (3348)، ومسلم (222)(379).

ص: 350

7523 -

حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ، قَالَ: «يَا مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ، كَيْفَ تَسْأَلُونَ أَهْلَ الكِتَابِ عَنْ شَيْءٍ، وَكِتَابُكُمُ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّكُمْ صلى الله عليه وسلم أَحْدَثُ الأَخْبَارِ بِاللَّهِ، مَحْضًا لَمْ يُشَبْ، وَقَدْ حَدَّثَكُمُ اللَّهُ: أَنَّ أَهْلَ الكِتَابِ قَدْ بَدَّلُوا مِنْ كُتُبِ اللَّهِ وَغَيَّرُوا، فَكَتَبُوا بِأَيْدِيهِمُ

(1)

، قَالُوا: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِذَلِكَ ثَمَنًا قَلِيلًا، أَوَلَا يَنْهَاكُمْ مَا جَاءَكُمْ مِنَ العِلْمِ عَنْ مَسْأَلَتِهِمْ؟ فَلَا وَاللَّهِ، مَا رَأَيْنَا رَجُلًا مِنْهُمْ يَسْأَلُكُمْ عَنِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْكُمْ».

والشَّاهِدُ: قَولُهُ: «هو أَحدَثُ الكُتُبِ» ، وأن الحَادِثَ لا يَلزَمُ المَخلُوقَ، فهو أَحدَثُ الكُتُبِ يَعْنِي: أَقرَبُهَا إلى اللهِ، جَدِيدٌ يَعْنِي، بعدَ التَّورَاةِ والإِنْجِيلِ، وأَقرَبُهَا وأَعظَمُهَا وأَفضَلُهَا وأَحكَمُهَا.

ما حُكمُ قِرَاءةِ التَّورَاةِ والإِنجِيلِ لِلرَّدِّ على أَصحَابِهِما؟

إذا دَعَتِ الحَاجَةُ إلى ذَلكَ عند أَهْلِ العِلْمِ لا بَأْسَ، كما أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أَتَى بِالتَّورَاةِ وأَمَرَ بِتِلَاوتِهَا لِلرَّدِّ عَلَيهِم بِإِنكَارِهِمُ الرَّجمَ، إذا كَانَ لِمَقصَدٍ صَالِحٍ وبَيانِ بَاطِلِهِم وبَيَانِ تَزيِيفِهِم وخِدَاعِهِم ومَكرِهِم مِنْ أَهْلِ العِلْمِ

(1)

كذا في «الفتح» و «عمدة القارئ» ، وفي نسخة شعيب الأرنؤوط زيادة:«الكُتُبَ» .

ص: 351

والبَصِيرَةِ الَّذِينَ لهم قَدَمُ صِدقٍ ولهم بَصِيرةٌ وعِلمٌ، مِثلمَا فَعلَ السَّلَفُ، ومثلمَا فَعلَ أَبُو العَبَّاسِ ابنُ تَيمِيَّةَ، وابنُ القَيِّمِ وغَيرُهُم مِمن قَبلَهُم مِنَ الأَئمَةِ الَّذِينَ رَدُّوا عَلَيهِم من كُتُبِهِم رحمهم الله.

ومُنَاظَرَتُهم أَحسَنَ اللهُ إِليكَ؟

كذَلكَ، إذا كَانَ من عَالمٍ بَصِيرٍ بِدِينِهِ، ويَرجُو فيها الخَيرَ ويَرجُو فيها الْمَصلَحَةَ لِلمُسلِمِينَ أو يَرجُو هِدَايَتَهُم.

* * *

ص: 352

‌بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} [القيامة:

16]

وَفِعْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِينَ يَنْزِلُ

(1)

عَلَيْهِ الوَحْيُ وَقَالَ أَبُو هُرَيرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا مَعَ عَبْدِي إِذَا ذَكَرَنِي

(2)

وَتَحَرَّكَتْ بِي شَفَتَاهُ».

7524 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ في قَولِهِ تَعَالَى:{لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} [القيامة: 16]، قَالَ:«كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُعَالِجُ مِنَ التَّنْزِيلِ شِدَّةً، وَكَانَ يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ - فَقَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ: فَأَنَا أُحَرِّكُهُمَا لَكَ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُحَرِّكُهُمَا - فَقَالَ سَعِيدٌ: أَنَا أُحَرِّكُهُمَا كَمَا كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُحَرِّكُهُمَا فَحَرَّكَ شَفَتَيْهِ - فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17)} [القيامة: 16 - 17]. قَالَ: جَمْعُهُ فِي صَدْرِكَ ثُمَّ تَقْرَؤُهُ، {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18)} [القيامة: 18]. قَالَ: فَاسْتَمِعْ لَهُ وَأَنْصِتْ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا أَنْ تَقْرَأَهُ، قَالَ: فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَتَاهُ جِبْرِيلُ عليه السلام اسْتَمَعَ، فَإِذَا انْطَلَقَ جِبْرِيلُ قَرَأَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَمَا أَقْرَأَهُ»

(3)

.

(1)

كذا في «الفتح» ، وفي «عمدة القارئ» وغيره:«يُنْزَلُ» .

(2)

كذا في «الفتح» ، وفي «عمدة القارئ» وغيره:«حَيْثُمَا ذَكَرَنِي» .

(3)

ورواه مسلم (448).

ص: 353

يُبَيِّنُ الْمُؤلِّفُ رحمه الله في البَابِ وما قَبلَهُ وما بَعدَه أنَّ أَفعَالَ الْمَخلُوقِينَ وَصفٌ لهم، وأنَّ فِعلَ اللهِ وصفٌ له سبحانه وتعالى: تَحرِيكُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لِسَانَهُ وقِرَاءَةُ النَّبيِّ وغَيرُ ذَلكَ هَذِه مِنْ أَفعَالِهِ، والْمَقرُوءُ هو كَلَامُ اللهِ عز وجل، واللهُ سُبحَانَهُ هو الخَلَّاقُ، هو الرَّزَّاقُ، وهو الْمُحِيي، وهو الْمُمِيتُ، وهو الفَعَّالُ لِمَا يُرِيدُ سبحانه وتعالى، وكَلَامُهُ صِفةٌ من صِفَاتِهِ، كما أَنَّه الخَلَّاقُ والرَّزَّاقُ والْمُحِيي والْمُمِيتُ وكُلُّ ذَلكَ صِفةٌ مِنْ صِفَاتِهِ، فهَكَذَا كَلَامُهُ بِالقُرآنِ وكَلَامهُ بِغيرِ القُرآنِ كُل ذَلكَ صِفةٌ من صِفَاتِهِ، تَلِيقُ بِاللهِ لا يُشَابِهُهُ فيها خَلقُهُ جل وعلا، كما قَالَ سُبحَانَهُ:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} [الشورى: 11]، {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)} [الإخلاص: 1 - 4].

أمَّا الْمَخلُوقُ فله أَفعَالٌ وله كَلَامٌ لَائقٌ به، يَعتَرِيهِ النَّقصُ والفَنَاءُ والْمَرضُ وغَيرُ ذَلكَ.

فَصِفَاتُ الْمَخلوُقِينَ تَلِيقُ بهم وتُنَاسبُهُم، ولها آفَاتُهَا وعَوَارضُهَا، وصِفَاتُ اللهِ تَلِيقُ به ولها الكَمَالُ ولها البَقَاءُ والدَّوَامُ، فهو سُبحَانَهُ الكَامِلُ في ذَاتِهِ وأَسمَائِهِ وصِفَاتِهِ وأَفعَالِهِ، لا شَبِيهَ له ولا شَرِيكَ له.

وكان صلى الله عليه وسلم يُصِيبُهُ شِدَّةٌ عند سَمَاعِ الوَحِي؛ حِرْصًا منه على حِفظِ الوَحِيِ، وأن يَحفَظَهُ كما جَاءَ به جَبرَائِيلُ عليه الصلاة والسلام، وكان يُحَرِّكُ لِسَانَهُ عند سَمَاعِ ما يَقرَؤُهُ جَبِرَائِيلُ لِيحفَظَ ولِيضْبِطَ الأَلفَاظَ؛ فَنَهَاهُ اللهُ عن ذَلكَ

ص: 354

قَالَ: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16)} [القيامة: 16] وفي الآيَةِ الأُخرَى: {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)} [طه: 114].

وهَذَا مِنْ لُطفِ اللهِ به وَرحمَتِه إِيَّاهُ ألَّا يَتعَبَ بل يُنصِتُ ويَستَمِعُ، فإذا انْتهَى جَبرَائِيلُ مِنْ الوَحِيِ حِفظَهُ عليه الصلاة والسلام. ما هو بِحَاجةٍ إلى تَكَلُّفٍ، بلِ اللهُ يَجمَعُهُ في قَلبِهِ ويُقرِئهُ إِيَّاهُ ويُحفِّظُهُ إِيَّاه سبحانه وتعالى.

ولِهذَا قَالَ: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17)} [القيامة: 17] يَعْنِي: جَمْعَهُ في صَدرِكَ وقِراءَتَهُ، يَعْنِي: يَجِبُ أن تَقرأَهُ كَمَا أَنْزِلَ، فكَان يَستَمِعُ لَجبرَائِيلَ عليه السلام ويُنصِتُ، فإذا انْتَهَى جَبرَائِيلُ عليه السلام قَرأَهُ كمَا أُنزِلَ، ولم يُخرِمْ منه شَيْئًا

(1)

.

وهَذَا من حِفظِ اللهِ لِهذَا الكِتَابِ العَظِيمِ، وأنَّ هَذَا النَّبيَّ الأُمِيَّ صلى الله عليه وسلم الذي لا يَكْتبُ ولا يَقرَأُ الخَطَّ أَنزلَ اللهُ عليه هَذَا الكِتَابَ العَظِيمَ الْمُعجِزَ، الذي قَرأَهُ وحَفِظَهُ وبَلَّغَهُ لِلأُمَّةِ، وأَنزَلَ عليه الوَحيَ الثَّانِيَ -السُّنَّةَ- على أَنوَاعِهَا وكَثرَتِهَا فَحفِظهَا وبَلَّغَها أُمَّتَهُ عليه الصلاة والسلام {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40)} [الرعد: 40].

فقد بلَّغَ البَلَاغَ الْمُبِينَ، وأَدَّى الأَمَانَةَ، وجِمِيعُ أَصحَابِهِ يَشهَدُونَ له بذَلكَ، ثم مَنْ بَعدَهُم مِنْ أَئِمَّةِ الإِسلَامِ، وهو قَولُ أَهْلِ السُّنَّةِ والجَمَاعةِ إلى يَومِنَا هَذَا، يَشهَدُونَ له بِالبَلَاغِ، ونحن نَشهَدُ له بِالبَلَاغِ، وكُلُّ مُسلمٌ عَقلَ ذَلكَ، كلٌّ يَشهَدُ له بذَلكَ وُيؤمِنُ بذَلكَ، أَنَّه بَلَّغَ البَلَاغَ الْمُبِينَ عليه الصلاة والسلام، وَأنَّه حَفظَ ما أُنْزِلَ إِلَيهِ وأَدَّى الأَمَانَةَ، ولم يَتَوَفَّ إلا وقد بَلَّغَ ما أُنزِل إليه، وأَكَمَلَ اللهُ به الدِّينَ، وأَتَمَّ به النِّعمَةَ عليه الصلاة والسلام.

(1)

أي: لم يسقط.

ص: 355

(الشَّيخُ): تَكَلَّمْ عندكم على المُعلَّقِ: «وقال أَبُو هُرَيرَةَ» ؟

[قَالَ الحَافِظُ ابنُ حَجرٍ رحمه الله فِي «فَتْحِ البَارِي» (13/ 500)]: «قَولُهُ: وقال أَبُو هُرَيرَةَ عن الَّنبيِّ صلى الله عليه وسلم: «قال اللهُ عز وجل: أنا مع عَبدِي إذا ذَكَرَنِي» . في رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: «ما ذَكَرَنِي وتَحَرَّكَت بي شَفَتَاهُ» ، هَذَا طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ أَخرَجَهُ أَحمَدُ والبُخَارِيُّ في «خَلقِ أَفعَالِ العِبَادِ» ، والطَّبَرَانيُّ مِنْ رِوَايةِ عبدِ الرَّحمَنِ بنِ يَزِيدَ بنِ جَابرٍ عَنْ إِسمَاعِيلَ بنِ عُبَيدِ اللهِ بنِ أَبِي الْمُهاجِرِ، عن كَرِيمَةَ بِنتِ الحَسحَاسِ -بِمهمَلَاتِ- عن أَبِي هُرَيرَةَ فَذَكَرَهُ بِلفْظِ:«إذا ذَكَرَنِي» ، وفي رِوَايةٍ لِأحمَدَ: حدَّثَنَا أَبُو هُرَيرَةَ ونحنُ في بَيتِ هَذِه -يَعْنِي أُمَّ الدَّردَاءِ- أَنَّه سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم.

وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي «الدَّلَائِلِ» مِنْ طَرِيقِ رَبِيعَةَ بْنِ يَزِيدَ الدِّمَشْقِيِّ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ الدَّرْدَاءِ فَلَمَّا سَلَّمْتُ جَلَسْتُ؛ فَسَمِعْتُ كَرِيمَةَ بِنْتَ الْحَسْحَاسِ وَكَانَتْ مِنْ صَوَاحِبِ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَتْ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه وَهُوَ فِي بَيْتِ هَذِهِ -تُشِيرُ إِلَى أُمِّ الدَّرْدَاءِ- سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ، فَذَكَرَهُ بِلَفْظِ «مَا ذَكرنِي» .

وَأَخرَجَهُ أحْمَدُ أَيْضًا وابنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ مِنْ رِوَايَةِ الْأَوْزَاعِيِّ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ، عَنْ أبي هُرَيْرَة، وَرَوَاهُ ابنُ حِبَّانَ فِي «صَحِيحِهِ» مِنْ رِوَايَةِ الْأَوْزَاعِيِّ عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ كَرِيمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَرَجَّحَ الْحُفَّاظُ طَرِيقَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ وَرَبِيعَةَ بْنِ يَزِيدَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ إِسْمَاعِيلَ عَنْ كَرِيمَةَ وَعَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ مَعًا، وَهَذَا مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي عَلَّقَهَا الْبُخَارِيُّ وَلَمْ يَصِلْهَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ كِتَابِهِ. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق.

ص: 356

قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَا مَعَ عَبْدِي زَمَانَ ذِكْرِهِ لِي، أَيْ أَنَا مَعَهُ بِالْحِفْظِ وَالْكِلَاءَةِ، لَا أَنَّهُ مَعَهُ بِذَاتِهِ حَيْثُ حَلَّ الْعَبْدُ». [انتهى كلامه].

قَالَ ابنُ بَازٍ رحمه الله: وهَذَا هو قَولُ أَهْلِ السُّنَّةِ والجَمَاعَةِ، أَنَّها مَعِيَّةٌ خَاصَّةٌ مِثلُ:{لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40]، {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46)} [طه: 46] مثل: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)} [البقرة: 153]. مَعيَّةٌ خَاصَّةٌ تَقتَضِي الحِفظَ والكَلَاءَةَ والتَّوفِيقَ، بِخِلَافِ المَعِيَّةِ العَامَّةِ، فإن لها مَعنًى آخَرَ وهو العِلمُ {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4].

(الشَّيخُ): رَاجَعِ «التَّقرِيبَ» كَرِيمةَ بِنتِ الحَسْحاسِ.

[قال الحَافِظُ ابنُ حجَرٍ رحمه الله في «تَقْرِيبِ التَّهذِيبِ» (8671)]: «كَريمَةُ بنتُ الحَسحَاسِ المُزَنِيةُ، مِنْ الثَّالِثَةِ، عخ» .

(الشَّيخُ): رَاجِع إِسمَاعِيلَ بنَ عُبَيدِ اللهِ بن أَبِي الْمُهَاجرِ.

[قال الحَافِظُ ابنُ حجَرٍ رحمه الله في «تَقْرِيبِ التَّهذِيبِ» (466)]: «إِسمَاعِيلُ بنُ عُبَيدِ اللهِ بن أَبِي الْمُهَاجرِ الْمَخزُومِيِّ مَولَاهُمُ الدِّمَشِقِيُّ، أَبُو عبدِ الحَمِيدِ، ثِقَةٌ منَ الرَّابِعَةِ، مَات سَنَةَ إِحدَى وثَلَاثِينَ وله سَبعُونَ سَنَةً، خ م د س ق» .

في نُسخةٍ: ابنُ أَبِي المُهَاجِرِ؟

وعند «التَّقرِيبِ» كذَلكَ.

أَيُّهما صَحِيحٌ؟

ضَعْ نُسخَةً عندَكَ، ابنُ الْمُهَاجرِ، يُرَاجَع «التَّهذِيبُ» وغَيرُهُ، غَالِبُ ظَنِّي أَنَّه ابنُ أَبِي المُهَاجِرِ.

ص: 357

قَولُهُ: {وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20)} [البروج: 20]؟

هَذَا مَعنَاهُ أَنَّه مُحِيطٌ بهم، يَعلَمُ كُلَّ شَيءٍ، وهو فَوقَ العَرشِ، «من وَرَاءِ كُلِّ شَيءٍ» يَعْنِي مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيءٍ وهو يَعلَمُ سِرَّهَم وما يُخفُونَ وما يُبدُونَ وما يَعمَلُونَ في جَمِيعِ الأَحوَالِ سبحانه وتعالى، وهو فَوقَ العَرشِ، فَمَعنَى أَنَّه وَرَاءَهُم أَنَّه مُحِيطٌ بهم جل وعلا، لا يَخفَى عليه شَيءٌ مِنْ شُؤونِهم. تَقُولُ العَربُ «أنا مِنْ وَرَائِكَ» ، يَعْنِي لا أَغْفلُ عنك.

يَعْنِي تَزُورُهُ وتُحِبُّهُ وتَسمعُ حَدِيثَهُ.

وهَذَا الأَثرُ الْمُعلَّقُ يُوافِقُ الحَدِيثَ الصَّحِيحَ الْمُتصِلَ في «الصَّحِيحَينِ» : «مَنْ ذَكَرَنِي في نَفسِهِ ذَكرتُهُ في نَفسِي، ومَن ذَكَرَنِي في مَلَإٍ ذَكرتُهُ في مَلإٍ خَيرٍ منه»

(1)

، فهو يُشبِهُهُ في المَعنَى، فيه الحَثُّ على إِدَامَةِ الذِّكرِ بِالقَلبِ واللِّسَانِ والعَملِ، وأنَّ المُؤمِنَ كَثِيرُ الذِّكرِ بِقَلبِهِ ولِسَانهِ وعَمَلهِ، بِالقَلبِ مِثلُ خَوفِ اللهِ ومَحبَّتهِ، وتَذكُّرِ عَظَمَتِهِ واستِحقَاقِهُ العِبَادَةَ، وتَذَكُّرِ ما يَجبُ عليكَ له مِنْ حَقٍّ يَكُونُ على بَالِك، ذَاكِرًا له بِالقَلبِ خَوفًا وشَوقًا وَرَجَاءً ومَحَبَّةً وتَعظِيمًا، وبِاللِّسَانِ بِأنْوَاعِ الذِّكرِ مِثل التَّسبِيحِ والتَّحمِيدِ والتَّهلِيلِ والتَّكبِيرِ، وقَولِ: لا إِلهَ إلا اللهُ، إلى غَيرِ ذَلكَ.

وبِالعَملِ مِثْل الجَوَارِحِ: كَالصَّلَاةِ، والصَّدَقَاتِ، والجِهَادِ، والأَمرِ بِالمَعرُوفِ، والنَّهيِ عنِ الْمُنكَرِ، وغَيرِ هَذَا من أَنْوَاعِ أَعمَالِ الخَيرِ.

(1)

تقدم برقم (7405).

ص: 358

أَحسَنَ اللهُ إِليكَ، ذِكرُ اللهِ لِلعِبَادِ، كيف يَذْكُرُهُم؟

يَذكُرُهُم في المَلَإ الأَعلَى عند المَلَائِكَةِ «ذَكَرتُهُ في نَفسِي» ، هَذَا صِفَةٌ تَخُصُّهُ، فهَذَا ذِكرٌ لِلعَبدِ في نَفسِهِ، وأنَّ العَبدَ يَذكُرُ مَولَاهُ، وأنَّ اللهَ عز وجل يَذكُرُهُ، فهَذَا مِنْ نِعمِ اللهِ العَظِيمَةِ، ومِن أَسبَابِ تَوفِيقِ اللهِ له وهِدَايَتهِ له بِسبَبِ ذِكرِهِ للهِ، وأمَّا ذِكرُهُ في المَلإِ: ذِكرُهُ في المَلَائِكَةِ. الجَزَاءُ مِنْ جِنسِ العَمَلِ.

وهَذَا فيه إِثبَاتُ النَّفسِ للهِ كمَا قَالَ تَعَالَى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة: 116]{وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران: 28] لكن نَفسٌ تَلِيقُ بِاللهِ، ما يَعلَمُ كَيفِيَّتَهَا إلا هو سبحانه وتعالى.

* * *

ص: 359

‌بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}

[الملك: 13، 14]{يَتَخَافَتُونَ} [طه: 103]: «يَتَسَارُّونَ»

7525 -

حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ، عَنْ هُشَيْمٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما في قَولِهِ تَعَالَى:{وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء: 110]، قَالَ:«نَزَلَتْ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُخْتَفٍ بِمَكَّةَ، فَكَانَ إِذَا صَلَّى بِأَصْحَابِهِ رَفَعَ صَوْتَهُ بِالقُرْآنِ، فَإِذَا سَمِعَهُ المُشْرِكُونَ، سَبُّوا القُرْآنَ وَمَنْ أَنْزَلَهُ وَمَنْ جَاءَ بِهِ، فَقَالَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ}: أَيْ بِقِرَاءَتِكَ فَيَسْمَعَ المُشْرِكُونَ فَيَسُبُّوا القُرْآنَ: {وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} عَنْ أَصْحَابِكَ فَلَا تُسْمِعُهُمْ {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} [الإسراء: 110]»

(1)

.

وتَسمِيَةُ القِرَاءَةِ صَلَاةً ما يُستَغرَبُ؛ لِأَنَّهَا صَلَاةٌ، لِأَنَّهَا في الحَقِيقَةِ صَلَاةٌ؛ لأنَّها دُعَاءٌ وثَنَاءٌ على اللهِ، وتِلَاوَةٌ لِكِتَابهِ هي صَلَاةٌ، والصَّلَاةُ تُطلَقُ على الدُّعَاءِ

(1)

ورواه مسلم (446).

ص: 360

والضَّرَاعةِ إلى اللهِ. والتعبُّدُ له سبحانه وتعالى تُسمَّى صَلَاةً، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام في الحَدِيثِ الصَّحِيحِ يَقُولُ اللهُ عز وجل: «قَسمْتُ الصَّلَاةَ بَينِي وبَينَ عَبدِي نِصفَينِ فإذا قَالَ: الحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ. قَالَ اللهُ: حَمِدَنِي عَبدِي، وإذا قَالَ: الرَّحمَنُ الرَّحِيمِ. قَالَ: أَثنَى عَلَيَّ عَبدِي، وإذا قَالَ مَالِكِ يَومِ الدِّينِ. قَالَ: مَجَّدَنِي عَبدِي

»

(1)

إلى آخره، فَسمَّى الفَاتِحَةَ صَلَاةً؛ لِأَنَّهَا رُكنُ الصَّلَاةِ، ولأنَّها عِبَادةٌ عَظِيمَةٌ.

7526 -

حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ:«نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء: 110] فِي الدُّعَاءِ»

(2)

.

الأَظْهَرُ قَولُ ابنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما في هَذَا، وأنَّها في القِرَاءَةِ لا في الدُّعَاءِ؛ لأنَّ الدُّعَاءَ يُستَحَبُّ فيه الإِخفَاتُ، والإِسرَارُ ما يَكُونُ بين ذَلكَ، بل يُستَحَبُّ فيه الإِخفَاتُ {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55]، فَالإِسرَارُ في الدُّعَاءِ مَطلُوبٌ، وقَولُهُ:{وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء: 110] يَقتَضِي خِلَافَ ذَلكَ، ولِهذَا ما قاله ابنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أنَّ الْمُراَد به القِرَاءَةُ أَظهَرُ وأَبْيَنُ، أمَّا الدُّعَاءُ فهو مَشرُوعٌ فيه السِّرُّ بينَ العَبدِ وبين رَبِّهِ، إلا إذا كَانَ دُعَاءً يُؤمَّنُ

(1)

رواه مسلم (395)(38).

(2)

ورواه مسلم (447).

ص: 361

عليه كَدُعَاءِ القُنُوتِ والاسْتِسقَاءِ ونَحوِ ذَلكَ، هَذَا يَجهَرُ ولا يُخَافِتُ، يَجهَرُ.

فَعُلِمَ بذَلكَ أنَّ الْمُرادَ بِالصَّلَاةِ هنا: القِرَاءةُ كمَا قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما.

7527 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالقُرْآنِ» ، وَزَادَ غَيْرُهُ:«يَجْهَرُ بِهِ» .

وهَذَا فيه الحَثُّ على تَحسِينِ الصَّوتِ بِالقِرَاءَةِ، والتَّلَذُّذُ بِالقِرَاءةِ والخُشُوعُ فيها والتَّحزُّنُ؛ حَتَّى تُحرِّكَ القُلُوبَ للقَارِئِ والْمُستَمِعِ، ومنه:«زَيِّنُوا القُرآنَ بِأصوَاتِكم»

(1)

، ومنه:«ما أَذِنَ اللهُ لِشَيءٍ كَأذنِهِ لِنَبِيٍّ حَسنِ الصَّوتِ بِالقُرآنِ، يَجهَرُ به»

(2)

.

والجَهرُ بِالقُرآنِ مع تَحسِينِ الصَّوتِ والتَّخَشُّعِ فيه له أَثرٌ عَظِيمٌ في تَحرِيكِ قَلبِ القَارِئِ وقُلُوبِ الْمُستَمِعِينَ، لكنْ لَيْسَ على سَبِيلِ التَّمطِيطِ أو الغِنَاءِ، إِنَّما التَّغَنِّي التَّلذُّذُ به وتَحسِينُ الصَّوتِ بهِ.

(الشَّيخُ): تَكَلَّمَ عليه الشَّارِحُ أو ما تَكَلَّمَ؟ أو العِينِيُّ؟

[قَالَ الحَافِظُ ابنُ حَجرٍ رحمه الله فِي «فَتْحِ البَارِي» (13/ 501)]: «وَحَدِيثَ أَبِي

(1)

رواه أحمد في «المسند» (18494)، وأبو داود (1468)، والنسائي (1015)، وابن ماجه (1342).

(2)

رواه البخاري (7544) ومسلم (792).

ص: 362

هُرَيْرَةَ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ» ، وَزَادَ غَيْرُهُ «يَجْهَرْ بِهِ» ، أَوْرَدَهُ من طَرِيق ابنِ جُرَيجٍ حَدَّثنَا ابنُ شِهَابٍ، وَقَدْ مَضَى فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ وَفِي بَابِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:{وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 23]، من طَرِيق عُقَيلٍ عَنْ ابنِ شِهَابٍ بِلَفْظِ:«مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ مَا أَذِنَ لِنَبِيٍّ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ» . وَقَالَ صَاحِبٌ لَهُ «يَجْهَرُ بِهِ» ، وَسَيَأْتِي قَرِيبًا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بِلَفْظِ:«مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ مَا أَذِنَ لِنَبِيٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ» ؛ فَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ الْغَيْرَ الْمُبْهَمَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ وَهُوَ الصَّاحِبُ الْمُبْهَمُ فِي رِوَايَةِ عُقَيْلٍ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيُّ، وَالْحَدِيثُ وَاحِدٌ إِلَّا أَنَّ بَعْضَهُمْ رَوَاهُ بِلَفْظِ «مَا أَذِنَ اللَّهُ» ، وَبَعْضَهُمْ رَوَاهُ بِلَفْظِ «لَيْسَ مِنَّا» .

وَإِسْحَاق شَيْخه فِيهِ هُوَ ابنُ مَنْصُورٍ، وَقَالَ الْحَاكِمُ بْنُ نَصْرٍ: وَرَجَّحَ الْأَوَّلَ أَبُو عَليٍّ الجيَانيُّ. وَأَبُو عَاصِمٍ هُوَ النَّبِيلُ، وَهُوَ مِنْ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ قَدْ أَكْثَرَ عَنْهُ بِلَا وَاسِطَةٍ وَأَقْرَبُ ذَلِكَ فِي أول حَدِيثٍ مِنْ كِتَابِ التَّوْحِيدِ». [انتهى كلامه].

أَحسَنَ اللهُ إِليكَ قَولُهُ: «أُوتِيَ مِزمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ»

(1)

. ما المَقصُودُ بِالمِزمَارِ؟

يَعْنِي الصَّوتَ الحَسنَ، كَانَتْ أَصوَاتُهُم حَسنَةً، كَأنَّهُم أُعطُوا أَصوَاتًا حَسَنَةً.

* * *

(1)

رواه البخاري (5048)، ومسلم (793).

ص: 363

‌بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ القُرْآنَ فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، وَرَجُلٌ يَقُولُ: لَوْ أُوتِيتُ مِثْلَ مَا أُوتِيَ هَذَا فَعَلْتُ كَمَا يَفْعَلُ»

.

فَبَيَّنَ اللهُ أَنَّ قِيَامَهُ بِالكِتَابِ هُوَ فِعْلُهُ.

وَقَالَ: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} [الروم: 22]، وَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ:{وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77].

كُلُّ هَذَا مِثلُ ما تَقَدَّمَ فهو يُبَيِّنُ أنَّ العَبدَ له قِرَاءَةٌ وله قِيَامٌ يَقُومُ بِالقُرآنِ هَذَا فِعلُهُ، وأَفعَالُ الخَيرِ كذَلكَ، والقِرَاءَةُ مِنْ فِعلِ الخَيرِ، قِرَاءَةُ القُرآنِ مِنْ فِعلِ الخَيرِ، والصَّلَاةُ مِنْ فِعلِ الخَيرِ كُلُّهَا مَنْسوبَةٌ لِلعَبدِ، والقُرآنُ هو كَلَامُ اللهِ لَيْسَ من فِعلِ العَبدِ، إنما فِعلُهُ القِرَاءَةُ، الصَّوتُ والتَّلَفَظُ، أمَّا المَقرُوءُ والْمَحفُوظُ في الصُّدُورِ والْمَكتُوبُ في الصُّحُفِ هو كَلَامُ اللهِ.

ص: 364

7528 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَحَاسُدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ القُرْآنَ فَهُوَ يَتْلُوهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ أُوتِيتُ مِثْلَ مَا أُوتِيَ هَذَا لَفَعَلْتُ كَمَا يَفْعَلُ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَهُوَ يُنْفِقُهُ فِي حَقِّهِ، فَيَقُولُ: لَوْ أُوتِيتُ مِثْلَ مَا أُوتِيَ عَمِلْتُ فِيهِ مِثْلَ مَا يَعْمَلُ»

(1)

.

7529 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ الزُّهْرِيُّ: عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ القُرْآنَ فَهُوَ يَتْلُوهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَهُوَ يُنْفِقُهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ» .

سَمِعْتُ مِنْ

(2)

سُفْيَانَ مِرَارًا، لَمْ أَسْمَعْهُ يَذْكُرُ الخَبَرَ، وَهُوَ مِنْ صَحِيحِ حَدِيثِهِ

(3)

.

وهَذَا كُلُّهُ وَاضِحٌ في فَضلِ قِرَاءَةِ القُرآنِ وإِنفَاقِ المَالِ، وأنَّ مثلَ هَذَينِ الشَّخصَين يُغبَطَانَ ويُحسَدَانِ حَسدَ الغِبطَةِ، والحَسدُ حَسَدَانِ:

(1)

ورواه مسلم (815).

(2)

كذا في «الفتح» ، وفي «عمدة القارئ» وغيره:«سَمِعْتُ سُفْيَانَ مِرَارًا» .

(3)

ورواه مسلم (815).

ص: 365

1 -

حَسَدٌ مَذمُومٌ: وهو تَمَنِّي زَوَالِ النَّعمَةِ عن أَخِيكَ، سَواءٌ صَارَت لك أو لم تَصِرْ لك، تَمَنِّي زَوَالِ النِّعمَةِ عنه هَذَا حَسَدٌ وظُلمٌ ومُنكَرٌ، وإذا فَعلتَ مع ذَلكَ أَسبَابَ الإِزَالةِ بِإِتلَافِ الْمَالِ أو بِفِعلِ ما يُنكِّدُه عليه ويُزِيلُهُ منه كَانَ هَذَا ظُلْمًا مع حِسِدٍ.

2 -

أَمَّا حَسَدُ الغِبطَةِ: فهو تَمَنِّي ومَحبَّةِ أن يَكُونَ لك مِثلُ ما له مِنْ الخَيرِ، مِنْ دُونِ أن تَتَمَنَّى زَوَالَهُ عنه، فأنت تُحِبُّ أن تَكُونَ مِثلَهُ، تَقرَأَ القُرْآنَ تُنفِقُ المَالَ تُحبُّ أنْ تَكُونَ مِثلَهُ، فهَذِه الغِبطَةُ في هَذَا الخَيرِ العَظِيمِ الذي تُحِبُّ أن تَكُونَ كِمِثلِ أَخِيكَ فيه.

فإذا قَرأَ القُرآنَ وتَلَاهُ آنَاءَ اللَّيلِ وآنَاءَ النَّهَارِ تِلَاوَةَ لِفظٍ وعَمَلٍ، يَعمَلُ به ويَقرَؤُهُ، فهو مَحسُودٌ على هَذَا مَغبُوطٌ، فالذي يَقُولُ: لَيتَنِي مِثلُهُ، أو أُحِبُّ أن يَكُونَ مِثلَهُ، أو أَوَدُّ أن أَكُونَ مِثلَهُ ويَغبِطُه بذَلكَ؛ هَذَا هو حَسَدُ الغِبطَةِ.

في اللَّفظِ الآخَرِ: «لا حَسَدَ إلا في اثْنَتَينِ؛ رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ مَالًا فَسَلَّطَهُ على هَلَكَتِهِ في الحَقِّ، ورَجُلٌ آتَاهُ اللهُ الحِكمَةَ -يَعْنِي الفِقهَ في الدِّينِ- فهو يَقضِي بها ويُعَلِّمُهَا»

(1)

، وهَذَا كُلُّهُ ممَّا يَنبَغِي فيه الغِبطَةُ، إِنفَاقُ المَالِ في وُجُوهِ الخَيرِ، والتَّفَقُّهُ في الدِّينِ، وتَدَبُّرُ القُرآنِ.

والقُرآنُ رَأسُ الحِكمَةِ، مَنْ تَدَبَّرَهُ وفَهِمَهُ وأَعطَاهُ اللهُ فيه الفِقهَ فهو رَأسُ الحِكمَةِ، فهو يَقضِي به بين النَّاسِ ويُعَلِّمهُ النَّاسَ، ومَعلُومٌ أنَّ السُّنَّةَ تَابِعَةٌ للقُرآنِ، وهي تُفَسِّرُهُ وتَدلُّ عليه لِمَنْ رَزَقَهُ اللهُ فيه الفِقهَ، وهو لا يَتمُّ له ذَلكَ إلا بالسُّنَّةِ.

(1)

رواه البخاري (73).

ص: 366

هل التَّغَنِّي بِالقُرآنِ دَاخِلَ الصَّلَاةِ أو خَارِجَهَا؟

القِرَاءَةُ تَكُونُ في الصّلَاةِ وخَارجَ الصَّلَاةِ، فهو مَغبُوطٌ في هَذَا، وهَذَا سَوَاءٌ في الصَّلَاةِ أو في خَارِجِ الصَّلَاةِ، والْمُهِمُّ أن تَكُونَ القِرَاءةُ معها تَصدِيقٌ ومعها عَمَلٌ، أَمَّا قِرَاءةٌ بلا عَملٍ ولا تَصدِيقٍ تَضُرُّهُ، وتَكُونُ حُجَّةً عليه، «والقُرآنُ حُجَّةٌ لك أو عليك»

(1)

، نَسأَلُ اللهَ السَّلَامَةَ.

* * *

(1)

رواه مسلم (1)(223).

ص: 367

‌بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَاتِهِ) [المائدة:

67]

وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: مِنَ اللَّهِ عز وجل الرِّسَالَةُ، وَعَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم البَلَاغُ، وَعَلَيْنَا التَّسْلِيمُ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ} [الجن: 28]، وَقَالَ تَعَالَى:{أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي} [الأعراف: 62]

هَذَا كَلَامٌ من الزُّهرِيِّ عَظِيمٌ، كَلَامٌ عَظِيمٌ «منَ اللهِ الرِّسَالَةُ، ومن الرَّسُولِ البَلَاغُ، وعلى الأُمَّةِ التَّسلِيمُ» يَعْنِي: القَبولَ والانْقِياَد لِمَا جَاءَ به الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم مِنْ الأَوَامِرِ والنَّوَاهِي والأَخبَارِ. الأَخبَارُ يُسلَّمُ لها بِالتَّصدِيقِ، والأَوَامرُ يُسلَّمُ لها بِالامِتِثَالِ، والنَّوَاهِي بِالتَّركِ والاجْتِنَابِ، هَذَا هو الوَاجِبُ على الأُمَّةِ، ولو ما عَرَفُوا الحِكمَةَ ولو ما دَرَوا عنِ الحِكمَةِ، عندنا يَقِينٌ أَنَّه حَكِيمٌ عَلِيمٌ سبحانه وتعالى، سَوَاءٌ عَرفنَا الحِكمَةَ أو لم نَعرِفْهَا.

فعلى الأُمَّةِ التَّسلِيمُ لِلأَوَامِرِ والنَّوَاهِي والأَخبَارِ لِمَا جَاءَ في الكِتَابِ العَظِيمِ، أو السُّنَّةِ الْمُطَهَّرةِ الصَّحِيحَةِ، ولو لم يَفهَمُوا الحِكمَةَ ولم يَعرِفُوا العِلَّةَ، لَيْسَ بِشَرطٍ، إن ظَهَرَتِ العِلَّةُ والحِكمَةُ؛ فهَذَا خَيرٌ إلى خَيرٍ، ونُورٌ إلى نُورٍ وعِلمٌ

ص: 368

إلى عِلمٍ، وإلَّا فَالوَاجِبُ التَّسلِيمُ والانْقِيادُ والامْتِثَالُ:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} [النساء: 65].

في نُسخَةٍ: «رِسَالَاته»

(1)

؟

قِرَاءَةٌ، نعم.

وَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ: حِينَ تَخَلَّفَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: {وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 94] وَقَالَتْ عَائِشَةُ: إِذَا أَعْجَبَكَ حُسْنُ عَمَلِ امْرِئٍ فَقُلْ: {اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 105]: وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ أَحَدٌ. وَقَالَ مَعْمَرٌ: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة: 2] هَذَا القُرْآنُ {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2]: بَيَانٌ وَدِلَالَةٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ} [الممتحنة: 10]: هَذَا حُكْمُ اللَّهِ {لَا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2]: لَا شَكَّ. {تِلْكَ آيَاتُ} [البقرة: 252]: يَعْنِي هَذِهِ أَعْلَامُ القُرْآنِ، وَمِثْلُهُ:{حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} [يونس: 22]: يَعْنِي بِكُمْ.

وَقَالَ أَنَسٌ: بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَالَهُ حَرَامًا إِلَى قَوْمٍ

(2)

، وَقَالَ: أَتُؤْمِنُونِي أُبَلِّغُ رِسَالَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَجَعَلَ يُحَدِّثُهُمْ.

قوله: «وَقَالَتْ عَائِشَةُ: إِذَا أَعْجَبَكَ حُسْنُ عَمَلِ امْرِئٍ

» إلى آخره: الأُمُورُ على الظَّواهرِ، قد يُعجِبُك عَمَلهُ وهو خَاسِرٌ، إمَّا للرِّيَاءِ أو لِفسَادِ عَقِيدَةٍ كَالمُنَافِقِينَ والخَوَارِجِ، كمَا في الحَدِيثِ:«يَحقِرُ أَحَدُكُم صَلَاتَهُ مع صَلَاتِهِم، وصِيَامَهُ مع صِيَامِهِم، وقِرَاءَتَهُ مع قِرَاءَتِهِم»

(3)

، فلا يُعجِبَنَّكَ ما ظَهَرَ مِنْ حَالِهِ حَتَّى تَخبُرَ أَحوَالَهُ وتَعرفَ ما يَدُلُّ على صِدقِهِ، فقد يَكُونُ عَمِلَ هَذَا لِغرَضٍ وحَاجةٍ، أو رِيَاءً وسُمعَةً، أو لِبِدعَةٍ اقْتَرَفَهَا كَالخَوَارِجِ.

أَحسَنَ اللهُ عَمَلَكَ، يَكتبُونَ هَذِه الآيَةَ على الإِنتَاجِ المَادِّي، على المَصَانِعِ وغَيرِهَا:{اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 105]

(1)

كذا في المطبوع والذي قرئ على الشيخ (رسالته) كما هو في المصحف الآن.

(2)

كذا في «الفتح» ، وفي «عمدة القارئ» وغيره:«إِلَى قَوْمِهِ» .

(3)

رواه البخاري (6163)، ومسلم (1064)(148).

ص: 369

فيها عِظَةٌ أو فيها ذِكرَى وعِظَةٌ أيضًا لِمَنْ اتَّعَظَ، ما نَعلَمُ فيهَا شَيْئًا.

المَقصُودُ مِنْ كَلَامِ عَائِشَةَ وكَعبِ بنِ مَالِكٍ رضي الله عنهما نِسبَةُ العَملِ إلى النَّاسِ؟

لِأنَّه قد يَعمَلُ وليْسَ الأَمرُ كذَلكَ، مثلُ ما في قِصَّةِ الخَوارِجِ لَمَّا خَرَجُوا على عَلِيٍّ رضي الله عنه؛ لأنهم تَظَاهَرُوا بِالنُّسُكِ والعِبَادةِ وطَعَنُوا في خِلَافةِ عُثمَانَ رضي الله عنه وقَتَلُوهُ، كُلُّهُ مِنْ جَهلِهِم وضَلَالِهِم، وما أَظهَرُوه مِنَ البِدعَةِ وتَحسِينِ الأَعمَالِ حَتَّى غَرُّوا النَّاسَ.

المَقصُودُ نِسبَةُ الأَعمَالِ إليهم؟

هَذَا المَقصُودُ، مَقصُودُ الْمُؤلِّفِ: أنَّ الْمُكَلَّفَ يُنسَبُ إِلَيه عَمَلُهُ.

أَحسَنَ اللهُ إِليكَ، أَقُولُ المَقصُودُ بهَذَا أن هَذَا المَصنَعَ أَنتَجَ وَأنَّه نَشِيطٌ، وَأنَّه كذا؟

المَقصُودُ فيها عِظةٌ لِمَنْ سَمِعَها، إن صَدَقُوا وأَدَّوا الأَمَانَاتِ فَعَائدٌ لهم أن يُصِيبَهُمْ منَ الخَيرِ، وإن خَانُوا الأَمَانَةَ فَسَيرَى اللهُ عَمَلهُم. إذا كَانَ للذِّكرَى ما في شَيءٌ، إذا كَانَ ما كَتَبُوهُ إلا بِسبَبِ العِظَةِ والذِّكرَى.

ص: 370

7530 -

حَدَّثَنَا الفَضْلُ بْنُ يَعْقُوبَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ الرَّقِّيُّ، حَدَّثَنَا المُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيُّ، حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ المُزَنِيُّ، وَزِيَادُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ حَيَّةَ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ حَيَّةَ، قَالَ المُغِيرَةُ: أَخْبَرَنَا نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم عَنْ رِسَالَةِ رَبِّنَا: «أَنَّهُ مَنْ قُتِلَ مِنَّا صَارَ إِلَى الجَنَّةِ» .

يَقُولُونَهُ لِأَعدَاءِ اللهِ، لَمَّا قَاتَلُوا الفُرسَ يُبَيِّنُونَ لهم أَنَّهُمْ عَازِمُونَ، وأَنَّهم صَابِرُونَ، وأَنَّهم صَامِدُونَ للجِهَادِ، وأن الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم بَلَّغَهُم أنَّ مَنْ قُتِلَ فهو شَهِيدٌ إلى الجَنَّةِ، وأن مَنْ عَاشَ عَاشَ إلى النَّصرِ؛ حَتَّى يَعلَمَ أَعدَاءُ اللهِ أنَّ المُسْلِمِينَ عَازِمُونَ على القِتَالِ والجِهَادِ، وأَنَّهم صَامِدُونَ لِهذَا الأَمرِ وصَابِرُونَ عليه، وأنَّ حَيَّهُم للسَّعَادَةِ والنَّصرِ، ومَيِّتَهُم للجَنَّةِ والكَرَامَةِ، وهَذَا يُوهِنُ قُوَى الأَعدَاءِ ويَجعَلُهُم يَستَجِيبُونَ للدَّعوَةِ أو لما يُطلَبُ مِنْهُم مِنْ مُصَالَحَةٍ.

ص: 371

(الشَّيخُ): ماذا قَالَ الشَّارِحُ على جُبَيرِ بنِ حيَّةَ؟ تَكَلَّمَ الشَّارِحُ تَعَرَّضَ له؟ أو العَينِيُّ؟

">ج: [قَالَ الحَافِظُ ابنُ حَجرٍ رحمه الله فِي «فَتْحِ البَارِي» (13/ 506)]: «قَولُهُ: عن جُبَيرِ ابنِ حَيَّةَ بِمُهمَلَةٍ وتَحتَانِيَّةٍ ثَقِيلَةٍ، وجُبَيرٌ هو وَالِدُ زِيَّادِ بنِ جُبَيرٍ الرَّاوِي عنه» . [انتهى كلامه].

رَاجِعِ «التَّقرِيبَ» : جُبَير بن حَيَّةَ؟

">ج: [قال الحَافِظُ ابن حجَرٍ رحمه الله في «تَقريبِ التَّهذيبِ» (899)]: «جُبَيرُ ابنُ حَيَّةَ بِمُهمَلَةٍ وتَحتَانِيَّةٍ ثَقِيلَةٍ، ابنُ مَسعُودٍ الثَّقَفيُّ، ابنُ أَخِي عُروَةَ بنِ مَسعُودٍ، ثِقَةٌ جَلِيلٌ، منَ الثَّالِثَةِ، مَاتَ في خِلَافةِ عَبدِ الْمَلكِ بنِ مَرَوَانِ، خ 4» .

هل رَسَالَةُ رَبِّنَا يَعْنِي بها الكِتَابَ والسُّنَّةَ؟

نعم.

7531 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم كَتَمَ شَيْئًا؟.

وَقَالَ مُحَمَّدٌ، حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ العَقَدِيُّ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَتَمَ شَيْئًا مِنَ الوَحْيِ فَلَا تُصَدِّقْهُ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ

ص: 372

رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67]

(1)

.

7532 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: قَالَ رَجُلٌ: يا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ الذَّنْبِ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى؟ قَالَ:«أَنْ تَدْعُوَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ» ، قَالَ: ثُمَّ أَيْ؟ قَالَ: «ثُمَّ أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ مَخَافَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ» ، قَالَ: ثُمَّ أَيْ؟ قَالَ: «أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ» ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَهَا:{وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ} الآيَةَ [الفرقان: 68، 69]

(2)

.

والشَّاهِدُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ أَنَّها تُنسَبُ إِلَيهِم، وأنَّها أَفعَالُهم ويُؤخَذُونَ بها، والقُرآنُ كَلَامُ اللهِ مُنزَّلٌ غَيرُ مَخلُوقٍ، وأمَّا هَذِه أَفعَالُهُم يُؤخَذُونَ بها شِركُهُم وقَتلُهُم وزِنَاهُم وسَائِرُ أَفعَالِهِم، وتَبلِيغُهم الرِّسالَةَ، وتَبلِيغُهُمُ الحَقَّ والخَيرَ، وتَبلِيغُهُم الْمُنكرَ، كُلُّهَا أَفعَالُهُم؛ فَيُثَابُونَ على خَيرِهَا، وُيعَاقَبُونَ على شَرِّهَا.

مَنْ هو عَبدُ اللهِ عَفَا اللهُ عنكَ؟

ابنُ مَسعُودٍ رضي الله عنه.

(1)

ورواه مسلم (177).

(2)

ورواه مسلم (86).

ص: 373

أَحسَنَ اللهُ عَمَلَكَ، ما في أَلفَاظِ الحَدِيثِ:«خَشيَةَ أن يَطعَمَ معك» ؟

بَلَى، رِوَايَةٌ أُخرَى.

* * *

ص: 374

‌بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا} [آل عمران:

93]

وَقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «أُعْطِيَ أَهْلُ التَّوْرَاةِ التَّوْرَاةَ فَعَمِلُوا بِهَا، وَأُعْطِيَ أَهْلُ الإِنْجِيلِ الإِنْجِيلَ فَعَمِلُوا بِهِ، وَأُعْطِيتُمُ القُرْآنَ فَعَمِلْتُمْ بِهِ» .

وَقَالَ أَبُو رَزِينٍ: {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ} [البقرة: 121]: وَيَعْمَلُونَ بِهِ حَقَّ عَمَلِهِ، يُقَالُ:{يُتْلَى} [النساء: 127]: يُقْرَأُ، حَسَنُ التِّلَاوَةِ: حَسَنُ القِرَاءَةِ لِلْقُرْآنِ.

{لَا يَمَسُّهُ} [الواقعة: 79]: لَا يَجِدُ طَعْمَهُ وَنَفْعَهُ إِلَّا مَنْ آمَنَ بِالقُرْآنِ، وَلَا يَحْمِلُهُ بِحَقِّهِ إِلَّا المُوقِنُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الجمعة: 5]. وَسَمَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: الإِسْلَامَ وَالإِيمَانَ وَالصَّلَاةَ عَمَلًا.

وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِبِلَالٍ: «أَخْبِرْنِي بِأَرْجَى عَمَلٍ عَمِلْتَهُ فِي الإِسْلَامِ» ، قَالَ: مَا عَمِلْتُ عَمَلًا أَرْجَى عِنْدِي أَنِّي لَمْ أَتَطَهَّرْ إِلَّا صَلَّيْتُ

(1)

.

وَسُئِلَ أَيُّ العَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، ثُمَّ الجِهَادُ، ثُمَّ حَجٌّ مَبْرُورٌ» .

قوله: وَقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «أُعْطِيَ أَهْلُ التَّوْرَاةِ التَّوْرَاةَ فَعَمِلُوا بِهَا، وَأُعْطِيَ أَهْلُ الإِنْجِيلِ الإِنْجِيلَ فَعَمِلُوا بِهِ، وَأُعْطِيتُمُ القُرْآنَ فَعَمِلْتُمْ بِهِ» : سمَّاه عَملًا، سمَّى تِلَاوَتَهُم وعَمَلَهُم بما فيهِ عَمَلًا. والمَتلُو غَيرُ الفِعلِ، التِّلَاوَةُ فِعلُ العَبدِ، والْمَتلُو كَلَامُ الرَّبِّ.

وقوله: «وَقَالَ أَبُو رَزِينٍ:

» إلى آخره: يَعْنِي: يُقَالُ هَذَا وهَذَا، يُقَالُ: يَتلُوهُ تِلَاوَةً يَعْنِي قَرأَهُ، يُقَالُ: حَسنُ التِّلَاوَةِ حَسنُ القِرَاءَةِ، ويُقَالُ: تَلَاهُ بِمَعنَى عَملَ به واتَّبَعَهُ، وفي الحَدِيثِ:«لا دَرَيتَ ولا تَلَيتَ»

(2)

، ما فَهمْتَ الحَقَّ ولا اهْتَدَيتَ إلى الحَقِّ {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ}

(1)

ورواه مسلم (2458).

(2)

رواه البخاري (1338).

ص: 375

[البقرة: 121] يَتَّبِعُونَهُ حَقَّ الاتِّبَاعِ، فلو تَلَوَه أَحسنَ التِّلَاوَةِ ولم يَتَّبِعُوه لَهَلَكُوا.

(الشَّيخُ): ماذا قَالَ الشَّارِحُ «لا يَمَسُّه أي لا يَجِدُ طَعمَهُ» ، تَعَرَّضَ له أو ما تَعَرَّضَ له؟ أو العَينِيُّ؟

[قَالَ الحَافِظُ ابنُ حَجرٍ رحمه الله فِي «فَتْحِ البَارِي» (13/ 509)]: «قَوْلُهُ: لَا يَمَسُّهُ: لَا يَجِدُ طَعْمَهُ وَنَفْعَهُ إِلَّا مَنْ آمَنَ بِالْقُرْآنِ، وَلَا يَحْمِلُهُ بِحَقِّهِ إِلَّا الْمُوقِنُ، وَفِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي: الْمُؤْمِنُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة: 5]، وَحَاصِلُ هَذَا التَّفْسِيرِ أَنَّ مَعْنَى لَا يَمَسُّ الْقُرْآنَ: لَا يَجِدَ طَعْمَهُ وَنَفْعَهُ إِلَّا مَنْ آمَنَ بِهِ وَأَيْقَنَ بِأَنَّهُ مِنْ عِنْدَ اللَّهِ، فَهُوَ الْمُطَهَّرُ مِنَ الْكُفْرِ وَلَا يَحْمِلُهُ بِحَقِّهِ إِلَّا الْمُطَهَّرُ مِنَ الْجَهْلِ وَالشَّكِّ، لَا الْغَافِلُ عَنْهُ الَّذِي لَا يَعْمَلُ فَيَكُونُ كَالْحِمَارِ الَّذِي يَحْمِلُ مَا لَا يَدْرِيهِ» . [انتهى كلامه].

قَالَ ابنُ بَازٍ رحمه الله: وهَذَا لَتَنبِيهِ الآيَاتِ، وقَول جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ والْمَشهُورُ:{لا يمسه} أي: لا يَحمِلُهُ ويَمسُّهُ بِيدِه: {إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (} [الواقعة: 79] مِنْ

ص: 376

الأَحدَاثِ، وأَمَّا حَملُهُ على: لا يَجِد طَعمَهُ ولا يَذُوقُ طَعمَهُ إلا الْمُطَهَّرُونَ مِنْ الكُفرِ فهَذَا مَعنًى أَعظَمُ وأَكمَلُ، لكن هل هَذَا المُرَادُ؟ أو هَذَا مِنَ التَّنبِيهِ؟

يُقالُ هَذَا من تَنبِيهِ النَّصِّ ومِن بَابِ أَولَى ومِن فَحوَاهُ؛ لِأنَّه إذا كَانَ لا يَمَسُّهُ في الدُّنيَا الْمَسَّ الحِسيَّ إلا الْمُطَهَّرُ مِنَ الأَحدَاثِ فمِن بَابِ أَولَى لا يَذُوقُ طَعمَهُ ولا يَنتِفِعُ به ولا يَجِدُ حَلَاوَتَهُ على الحَقِيقَةِ إلا الْمُؤمِنُ الْمُطَهَّرُ مِنْ الكُفرِ.

هَذَا مَرجُوحٌ؟ {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79)} [الواقعة: 79]؟

لا، مُرَادُ الْمُؤلِّفِ التَّنبِيهُ، يَعْنِي: الْمَسّ الحَقيقِيّ ما يَحصُلُ إلا للمُؤمِنِ وهو ذَاقَ طَعمَهُ، وأما ذَاكَ المَعنَى الأَظهَرُ المْشهُورُ عنِ السَّلفِ، لا بُدَّ مِنْ الطَّهُورِ عند مَسِّ القُرآنِ. لكن هَذَا مِنْ بَابِ التَّنبِيهِ ومِن بَابِ الفَحوَى ومِن بَابِ أَولَى يَعْنِي.

وقوله: «وَسَمَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الإِسْلَامَ وَالإِيمَانَ وَالصَّلَاةَ عَمَلًا» :

ص: 377

سَمَّى تَطَهُّرَهُ للصَّلَاةِ عَمَلًا، وهَذَا أَمَرُ مَعلُومٌ بِإِجمَاعِ أَهْلِ السُّنَّةِ والجَمَاعَةِ، بِإجمَاعِ العُقَلَاءِ، أنَّ أَفعَالَ العَبدِ تُنَسبُ إليه؛ لِأَنَّهَا عَمَلُهُ: طَهَارَتُهُ عَملٌ وصَلَاتُهُ عَملٌ، وصِيَامُهُ عَملٌ، أَمرُهُ بِالمَعرُوفِ إلى غَيرِ ذَلكَ، فَالعَبدُ تُنسَبُ إِليهِ أَعمَالُهُ ويُجَازَى على خَيرِهَا ويَستَحِقُّ العِقَابَ على شَرِّهَا.

وفي هَذَا الدَّلَالَةُ على أَفضَلِيَّةِ التَّطَهُّرِ بعد الحَدَثِ وصَلَاةِ رَكعَتَينِ، وأنها عَملٌ صَالِحٌ: سُنَّةُ الوُضُوءُ.

وأَعمَالُ القُلُوبِ أَصلَحُ اللهُ عَمَلَكَ تُعتَبرُ عَمَلًا؟

نعم بِإِجمَاعِ أَهْلِ السُّنَّةِ، مِثلُ الْمَحَبةِ، والشَّوقِ إلى لِقَاءِ اللهِ، والخَوفِ والرَّجَاءِ، هَذِه أَعمَالُ القُلوبِ والإِخلَاصُ، هَذِه أَعظَمُ الأَعمَالِ، أَعظَمُ الأَعمَالِ مِنْ حيث الأَجرِ والثَّوَابِ؛ لِأَنَّهَا هي الأَسَاسُ.

7533 -

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي سَالِمٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّمَا بَقَاؤُكُمْ فِيمَنْ سَلَفَ مِنَ الأُمَمِ، كَمَا بَيْنَ صَلَاةِ العَصْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، أُوتِيَ أَهْلُ التَّوْرَاةِ التَّوْرَاةَ، فَعَمِلُوا بِهَا حَتَّى انْتَصَفَ النَّهَارُ ثُمَّ عَجَزُوا، فَأُعْطُوا قِيرَاطًا قِيرَاطًا، ثُمَّ أُوتِيَ أَهْلُ الإِنْجِيلِ الإِنْجِيلَ، فَعَمِلُوا بِهِ حَتَّى صُلِّيَتِ العَصْرُ ثُمَّ عَجَزُوا، فَأُعْطُوا قِيرَاطًا قِيرَاطًا، ثُمَّ أُوتِيتُمُ القُرْآنَ، فَعَمِلْتُمْ بِهِ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، فَأُعْطِيتُمْ قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ، فَقَالَ أَهْلُ الكِتَابِ: هَؤُلَاءِ أَقَلُّ مِنَّا عَمَلًا وَأَكْثَرُ أَجْرًا.

ص: 378

قَالَ اللَّهُ: هَلْ ظَلَمْتُكُمْ مِنْ حَقِّكُمْ شَيْئًا؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فَهُوَ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ».

هَذَا حظُّ هَذِه الأُمَّةِ ما بَينَ صَلَاةِ العَصرِ إلى غُرُوبِ الشَّمسِ، والَبِقيَّةُ قد مَضَت قد مَضَى قَبلَنَا.

وهَذَا فَضلُ اللهِ أن هَذِه الأُمَّةَ ضُوعِفَ لها الأَجرُ مع قِلَّةِ العَملِ، وهَذَا مِنْ فَضلِهِ سبحانه وتعالى وجُودِهِ وكَرَمِهِ؛ ولَعلَّ ذَلكَ لِأَسبَابٍ: أَنَّها آخِرُ الأُمَمِ، ونَبِيُّهَا صلى الله عليه وسلم آخِرُ الرُّسُلِ، وأنها تُلَاقِي من الصُّعُوبَاتِ والْمَتَاعبِ في قِيَامِهَا بِأَمرِ اللهِ وصَبرِهَا على طَاعَةِ اللهِ ما لَيْسَ لِغَيرِهَا، بِخِلَافِ الأُمَمِ المَاضِيَةِ، كُلَّمَا مَضَى نَبيٌّ جَاءَ نَبيٌّ يُذَكِّرُهُم ويَأمُرُهُم ويَنهَاهُم ويُثَبِّتُهُم، أما هَذِه الأُمَّةُ فليس لها إلا نَبيٌّ وَاحِدٌ، قد مَضَى عليه الصلاة والسلام، وهو خَاتَمُ الأَنبِيَاءِ، وبَقِيَ عليها أن تُصَابِرَ وتُجَاهِدَ وتَأخُذَ بما جَاءَ به، وتُمسِكَ به، وتَبتَعِدَ عمَّا يَدعُو إِلَيه أَهْلُ الضَّلَالَةِ، وهَذَا يَحتَاجُ إلى صَبرٍ عَظِيمٍ وثَبَاتٍ وقُوَّةٍ، فمِن رَحمَةِ اللهِ أن ضَاعفَ لها الأَجرَ.

عَفَا اللهُ عنكَ يا شَيخُ، ما يُؤخَذُ من الحَدِيثِ قِصرُ أَعمَارِ هَذِه الأُمَّةِ مِنْ العَصرِ إلى غُرُوبِ الشَّمسِ؟

مَحَلُّ نَظرٍ، الْمَقصُودُ أنَّ مُدَّتَهَا أَقَلُّ مِمَّا مَضَى، البَاقِي من الْمُدَّةِ قَليلٌ، هَذَا الْمُرَادُ، أمَّا قِصرُ الأَعمَارِ مَأخُوذَةٌ من أَدِلَّةٍ أُخرَى.

ص: 379

أَحسَنَ اللهُ إِليكَ، هل تَعنِي: بَقَاءُ الأُمَّةِ في ثُلُثِ الدُّنيَا؟

أَقلُّ، يَمكِنُ حَملُهُ على الرُّبُعِ أو الخُمُسِ ما بين صَلَاةِ العَصرِ إلى غُرُوبِ الشَّمسِ بِالنِّسبَةِ إلى ما مَضَى مِنْ الدُّنيَا.

أَحسَنَ اللهُ إِليكَ يا شَيخُ مِنْ الأُمَّةِ اليَهُودُ والنَّصَارَى؟

الأُمَّةُ الْمُستَجِيبَةُ، الْمُطِيعُ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم يُقَالُ لها: أُمَّةُ الإِجَابةِ، وأمَّا ذَاك يُقَالُ لها: أُمَّةُ الدَّعوَةِ، الكُفَّارُ والنَّصَارَى واليَهُودُ والْمُشرِكِينَ يقالُ لهُم: أُمَّةُ الدَّعوَةِ، وأمَّا الْمُرَادُ بالَّذِينَ أَعطَاهُم اللهُ مُضَاعفَةَ الأَجرِ مَعنَاهُ همُ الْمُستَجِيبُونَ الَّذِينَ أَجَابُوا الرَّسُولَ واتَّبَعُوهُ، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيه وسَلِّمْ.

بِالنِّسبَةِ لِلَّيلِ والنَّهَارِ أو نِصفِ النَّهَارِ؟

عَامٌّ، عَامٌّ.

* * *

ص: 380

‌بَابٌ وَسَمَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الصَّلَاةَ عَمَلًا، وَقَالَ:«لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ»

7534 -

حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الوَلِيدِ، ح وَحَدَّثَنِي عَبَّادُ بْنُ يَعْقُوبَ الأَسَدِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبَّادُ بْنُ العَوَّامِ، عَنِ الشَّيْبَانِيِّ، عَنِ الوَلِيدِ بْنِ العَيْزَارِ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَيُّ الأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «الصَّلَاةُ لِوَقْتِهَا، وَبِرُّ الوَالِدَيْنِ، ثُمَّ الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ»

(1)

.

وهَذَا وَاضِحٌ في أَنَّه سَمَّى الصَّلَاةَ عَمَلًا؛ لأن السَّائِلَ سَأَلَ: أَيُّ الأَعمَالِ أَفضَلُ؟ فَأَجَابَ: «الصَّلَاةُ على وَقتِهَا» . فهَذَا يَدُلُّ على أَنَّها مِنْ العَملِ الذي يُنسَبُ إلى العَبدِ، كما يُنسَبُ إِليه صَومُهُ، وصَدَقَتُهُ، وحَجُّهُ، وبَيعُهُ، وشِرَاؤُهُ، وذَهَابُهُ ومَجِيئُهُ، إلى غَيرِ ذَلكَ.

ولِهذَا رَتَّبَ اللهُ سُبحَانَهُ الجَزَاءَ على الأَعمَالِ؛ لِأَنَّهَا أَعمَالُهُم، سَعيُهُم،

(1)

ورواه مسلم (85).

ص: 381

كَسبُهُم: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286]؛ فَرتَّبَ اللهُ سُبحَانَهُ الجَزَاءَ على الأَعمَالِ قَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} [الزلزلة: 7، 8]، وقال سُبحَانَهُ:{وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31)} [النجم: 31]. فاللهُ خَالِقُ العَبدِ وخَالِقُ أَعمَالِهِ: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)} [الصافات: 96]، فاللهُ خَالِقُ العِبَادِ وخَالِقُ أَعمَالِهِم ومُقَدِّرُ أَرزَاقِهِم وجِمِيعِ شُؤونِهِم.

وفي اللَّفظِ الآخَرِ: «الصَّلَاةُ على وَقتِهَا» ، قُلتُ: ثم أَي؟. قَالَ: «بِرُّ الوَالِدَينِ» قلت: ثم أَي؟. قَالَ: «الجِهَادُ في سَبِيلِ اللهِ»

(1)

، فَجعَلَ الصَّلَاةَ على وَقتِهَا قَبلَ كُلِّ شَيءٍ؛ لأنَّ أَدَاءَهَا في الوَقتِ فَرضٌ لا بُدَّ منه، وتَأخِيرُهَا لا يَجُوزُ، وتَعَمُّدُ تَأخِيرِهَا عن الوَقتِ كُفرٌ وضَلَالٌ. وقِيلَ: كُفرٌ أَكبَرُ كمَا هو الصَّحِيحُ، وقِيلَ: كُفرٌ دُونَ كُفرٍ إذا كَانَ لا يَجحَدُ وُجُوبَهَا، فعُلِمَ بذَلكَ أنَّ شَأنَهَا عَظِيمٌ، وأنها عَمُودُ الإِسلَامِ كمَا في حَدِيثِ مُعَاذٍ رضي الله عنه، وأنَّ تَركْهَا كُفرٌ.

وفي حَدِيثِ عُمرَ رضي الله عنه كما قَالَ نَافِعٌ رضي الله عنه: كَانَ عُمرُ رضي الله عنه يَكتُبُ إلى عُمَّالِهِ -أَمِيرُ المُؤمِنِينَ عُمرُ بنُ الخَطَّابِ رضي الله عنه كَانَ يَكْتبُ إلى عُمَّالِهِ -يَعْنِي: إلى أُمرَائِهِ- ويَقُولُ: إن أَهَمَّ أَمرَكُم عندي الصَّلَاةُ، فمن حَفِظَهَا حِفِظَ دِينَهُ، ومَن ضَيَّعَهَا فهو لِمَا سِوَاهَا أَضيِعُ، يَعْنِي فهو إلى غَيرِهَا أَشَدُّ إِضَاعَةً.

ويَشهَدُ لِهذَا المَعنَى ما رَوَاهُ الإِمَامُ أَحمَدُ بِإسنَادٍ صَحِيحٍ عن عبدِ اللهِ بنِ عَمرِو بنِ العَاصِ رضي الله عنهما قَالَ: ذَكرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم الصَّلَاةَ يَومًا بينَ

(1)

رواه البخاري (527)، ومسلم (85)(139).

ص: 382

أَصحَابِهِ فَقَالَ: «مَنْ حَافظَ عليها كَانَتْ له نُورًا وبُرهَانًا ونَجَاةً يَومَ القِيَامَةِ، ومَن لم يُحَافِظْ عليها لم يَكُنْ له نُورٌ ولا بُرهَانٌ ولا نَجَاةٌ، وحُشِرَ يَومَ القِيَامةِ مع فِرعَونَ وهَامَانَ وقَارُونَ وأُبَيِّ بنِ خَلَفٍ»

(1)

.

فهَذَا يَدُلُّ على عِظَمِ شَأنِهَا، وأنَّ حِفظَهَا هو طَرِيقُ النَّجَاةِ، وأنَّ إِضَاعَتَهَا هو طَرِيقُ الهَلَاكِ.

قال بَعضُ أَهْلِ العِلمِ: وإِنَّماَ يُحشَرُ مَنْ ضَيَّعَ الصَّلَاةَ مع فِرعُونَ وقَارُونَ وهَامَانَ وَأُبَيِّ بنِ خَلفٍ؛ لأنَّ مَنْ ضَيَّعَهَا إمَّا أن تَكُونَ إِضَاعَتُهُ لها بِأَسبَابِ الرِّيَاسَةِ والْمُلْكِ والإِمَارَةِ؛ فَيكُونُ شَبِيهًا بِفرْعَونَ، حَمَلَهُ مُلكُهُ ورِيَاسَتُهُ على أن طَغَى وبَغَى وتَكَبَّرَ عن الحَقِّ.

وإمَّا أن تَكُونَ الأَسبَابُ لِشُغلِهِ بِالوُظيفَةِ والوزَارَةِ فَيكُونُ شَبِيهًا بِهَامَانَ وَزِيرِ فِرعَونَ، شَغَلَهُ ما هو فيه مِنْ وَزَارَةٍ والأَعمَالِ الوَظِيفِيَّةِ عن الإِجَابةِ إلى مُوسَى عليه السلام والمُوَافَقَةِ لِمَا دَعَا إليه.

وإما أن يَتركَهَا مِنْ أَجلِ المَالِ والشَّهَوَاتِ وما أَعطَاهُ اللهُ مِنْ رَفَاهَةِ العَيشِ؛ فَيكُونُ شَبِيهًا بِقَارُونَ الذي أَعطَاهُ اللهُ أَموَالًا عَظِيمَةُ وتَكَبَّرَ بِسبَبِ ذَلكَ وبَغَى؛ فلم يُجِبْ إلى الحَقِّ؛ فَخسَفَ اللهُ به وبِدَارِهِ الأَرضَ، فهو يَتَجَلجَلُ فيهَا إلى يَومِ القِيامَةِ هو ودَارُهُ.

وإما أَنْ يَكُونَ المَانِعُ لَه شُغلَهُ بِأعمَالِ التِّجَارةِ والبَيعِ والشِّرَاءِ؛ فَيكُون شَبِيهًا بِأُبَيِّ بنِ خَلفٍ تَاجرِ أَهْلِ مَكَّةَ، فَيُحشَرُ معه إلى النَّارِ، نَسأَلُ اللهَ العَافِيَةَ.

(1)

رواه أحمد في «المسند» (6576)، وأورده الهيثمي في «المجمع» (1/ 292)، وقال: رواه أحمد والطبراني في «الكبير» ، و «الأوسط» ورجال أحمد ثقات.

ص: 383

وبهَذَا يُعلَمُ أنَّ الْمُحَافَظَةَ على الصَّلَاةِ مِنْ أَهَمِّ الْمُهِمَّاتِ ومِن أَعظَمِ الفَرَائضِ؛ ولِهذَا قَالَ عز وجل: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)} [البقرة: 238]، {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)} [المؤمنون: 9 - 11] {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35)} [المعارج: 34، 35]. فهَذَا يَدُلُّ على أن الصَّلَاةَ هي المِيزَانُ، وأنَّ الْمُتَخَلَّفَ عنها قد تخلَّفَ عن كُلِّ خَيرٍ، وأنَّ الْمُحَافِظَ عليها قد أَدرَكَ كُلَّ خَيرٍ.

أَحسَنَ اللهُ إِليكَ، حَدِيثُ:«لا خَيرَ في دِينٍ لا صَلَاةَ فيه» ؟

لا أَعرِفُهُ، ولكن جَاءَ مَعنَا في وَفدِ أَهْلِ الطَّائفِ، لكن قَرِيبٌ مِنْ هَذَا المَعنَى، لِمَّا اشْتَرَطُوا أَلَّا يُصَلُّوا.

* * *

ص: 384

‌بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا}

[المعارج: 19 - 21]

هَلُوعًا: ضَجُورًا.

7535 -

حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، عَنِ الحَسَنِ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ تَغْلِبَ، قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَالٌ، فَأَعْطَى قَوْمًا وَمَنَعَ آخَرِينَ، فَبَلَغَهُ أَنَّهُمْ عَتَبُوا، فَقَالَ:«إِنِّي أُعْطِي الرَّجُلَ وَأَدَعُ الرَّجُلَ، وَالَّذِي أَدَعُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الَّذِي أُعْطِي، أُعْطِي أَقْوَامًا لِمَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الجَزَعِ وَالهَلَعِ، وَأَكِلُ أَقْوَامًا إِلَى مَا جَعَلَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الغِنَى وَالخَيْرِ، مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ تَغْلِبَ» ، فَقَالَ عَمْرٌو: مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِكَلِمَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حُمْرَ النَّعَمِ.

لأنه قَالَ صلى الله عليه وسلم: «مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ تَغْلِبَ» وَأنَّه لم يُعطِهِ لِمَا جَعلَ اللهُ في قَلبِهِ مِنْ الغِنَى والخَيرِ.

وفي هَذَا أنَّ الوَالِيَ يَنْظُرُ في الْمَصلحَةِ والتَّألِيفِ، وليس عَطَاؤُهُ لِقَومٍ دَلِيلًا على أَنَّهم أَحَبُّ إليه مِنْ غَيرِهِم، لا، قد يُعطِيهِم للتَّألِيفِ أو لِكَفِّ شَرِّهِم أو لِأسبَابٍ أُخرَى وغَيرُهُم أَحَبُّ إليه، وغَيرُهُم أَولَى، وغَيرُهُم أَحَقُّ، لكن

ص: 385

لِلمَصلَحَةِ الإِسلَامِيَّةِ والسِّيَاسَةِ الشَّرعِيَّةِ؛ فلِهذَا قد يُعطِي أَقوَامًا وغَيرُهُم أَحبُّ إِليهِ منهم، لكن لِمَا في قُلُوبِهِمْ مِنَ الهَلَعِ والجَزعِ يُعطِيهِم، وفي الحَدِيثِ الآخَرِ:«يَأَبَونَ إلا أن يُبَخِّلُونِي ويَأَبَى اللهُ لِي البُخلَ»

(1)

.

فالحَاصِلُ: أنَّ وَليَّ الأَمرِ عليه أن يُلَاحِظَ الْمَصَالحَ العَامَّةَ في العَطَاءِ والْمَنعِ وفي سَائِرِ شُؤونِهِ؛ لِأنَّه مُكَلَّفٌ بهَذَا، مَأمُورٌ بهَذَا، أن يَسُوسَ الأُمَّةَ بما فيه مَصلَحَتُهَا وسَعَادَتُهَا ونَجَاتُهَا. فهَذَا يُعْطَى وهَذَا لا يُعطَى، وهَذَا يُؤدَّبُ ويُزجَرُ، وهَذَا يُسجَنُ وهَذَا يُقتَلُ على حَسبِ ما تَقتَضِيهِ الأَدِلَّةُ الشَّرعِيَّةُ والمَصَالحُ الإِسلَامِيَّةُ؛ ولِهذَا جَعلَ اللهُ في الزَّكَاةِ حَقًّا لِلمُؤَلَّفةِ قُلُوبِهِم، وفي بَيتِ المَالِ أَيْضًا.

وبَعضُ النَّاسِ لو لم يُعطَ شَيْئًا مِنْ هَذَا المَالِ أو مِنْ الزَّكَاةِ لَرُّبَما كَفرَ وارْتَدَّ عنِ الِإسلَامِ، ولَرُبَّما أَسَاءَ إلى المُسْلِمِينَ بِقطِعِ الطُّرقِ وغَيرِ ذَلكَ؛ فلِهذَا كَانَ يُعطِي أَقوَامًا ويَدعُ آخَرِينَ لِمُرَاعَاةِ الْمَصَالحِ عليه الصلاة والسلام.

* * *

(1)

رواه أحمد في «المسند» (11123).

ص: 386

‌بَابُ ذِكْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَرِوَايَتِهِ عَنْ رَبِّهِ

7536 -

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ، حَدَّثَنَا أَبُو زَيْدٍ سَعِيدُ ابْنُ الرَّبِيعِ الهَرَوِيُّ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ، قَالَ:«إِذَا تَقَرَّبَ العَبْدُ إِلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِذَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، وَإِذَا أَتَانِي مَشْيًا أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً»

(1)

.

وهَذَا تَقَدَّمَ غَيرَ مَرَّةٍ، تَقَدَّمَ الكَلَامُ على مِثلِ هَذَا، وأنَّ الوَاجِبَ كما هو طَريقُ أَهْلِ السُّنَّةِ إِمرَارُ هَذِه الصِّفَاتِ كمَا جَاءَتْ مِنْ غَيرِ تَعَرُّضٍ للمَعَانِي التي تَتَعَلَّقُ بِالكَيفِيَّةِ.

هَذَا يَدُلُّ على أَنَّه أَسرَعُ بِالخَيرِ سُبحَانَهُ إلى عِبَادِهِ، متى أَسرَعُوا بِالخَيرِ وتَقَرَّبُوا فهو أَسرَعُ إليهم بِالخَيرِ، وأَعظَمُ إِحسَانًا وَأعظَمُ جُودًا وأَعظَمُ كَرمًا.

وأمَّا كيف يَتَقَرَّبُ ذِرَاعًا وبَاعًا ويَأتِي هَروَلَةً؟ كُلُّ هَذَا مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالصِّفَاتِ، والطَّرِيقُ فيها مَعرُوفٌ وَاحِدٌ: إِمرَارُهَا كمَا جَاءَت مِنْ غَيرِ تَحرِيفٍ ولا تَعطِيلٍ ولا تَكْيِيفٍ ولا تَمثِيلٍ، بلِ اللهُ أَعلَمُ بما يَتَعَلَّقُ بِالكَيفِيَّةِ سبحانه وتعالى.

(1)

ورواه مسلم (2675).

ص: 387

7537 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، عَنْ يَحْيَى، عَنِ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَنَسِ ابْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ قَالَ: رُبَّمَا ذَكَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا تَقَرَّبَ العَبْدُ مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا، وَإِذَا تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، -أَوْ بُوعًا-»

(1)

.

وَقَالَ مُعْتَمِرٌ: سَمِعْتُ أَبِي، سَمِعْتُ أَنَسًا، عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ عز وجل

7538 -

حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّكُمْ قَالَ:«لِكُلِّ عَمَلٍ كَفَّارَةٌ، وَالصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، وَلَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ المِسْكِ»

(2)

.

7539 -

حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، ح وقَالَ لِي خَلِيفَةُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي العَالِيَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ قَالَ:«لَا يَنبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّهُ خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ ابْنِ مَتَّى» . وَنَسَبَهُ إِلَى أَبِيهِ

(3)

.

(1)

ورواه مسلم (2675).

(2)

ورواه مسلم (1151).

(3)

ورواه مسلم (2377).

ص: 388

والشَّاهِدُ: قَولُهُ: «أن يِقُولَ» ، والعَبدُ يُنسَبُ إليه قَولُهُ، أَمَّا تَقرَّبَ، وتَقرَّبَ مِنِّي شِبرًا تُنسَبُ أَفعَالُهُ إليه: تَقَرَّبَ، تَقَرَّبَ، والشَّاهِدُ هو هَذَا، نِسبَةُ أَفعَالِ العِبَادِ إليهم.

يُونُسُ بنُ مَتَّى نِسبَةً إلى أَبِيهِ؟

مَتَّى أَبُوهُ لَيْسَ هو أُمّهُ.

وهل يُنسَبُ إلى أُمِّهِ يَعْنِي؟

لا، يُريدُ مِنْ بَابِ البَيَانِ، ابنُ مَتَّى ما هي أمُّهُ، أَبُوهُ.

7540 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي سُرَيْجٍ، أَخْبَرَنَا شَبَابَةُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ المُزَنِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ المُزَنِيِّ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الفتح عَلَى نَاقَةٍ لَهُ يَقْرَأُ سُورَةَ الفتح - أَوْ مِنْ سُورَةِ الفتح -. قَالَ: فَرَجَّعَ فِيهَا، قَالَ: ثُمَّ قَرَأَ مُعَاوِيَةُ: يَحْكِي قِرَاءَةَ ابْنِ مُغَفَّلٍ، وَقَالَ: لَوْلَا أَنْ يَجْتَمِعَ النَّاسُ عَلَيْكُمْ لَرَجَّعْتُ كَمَا رَجَّعَ ابْنُ مُغَفَّلٍ، يَحْكِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ لِمُعَاوِيَةَ: كَيْفَ كَانَ تَرْجِيعُهُ؟ قَالَ: آ آ آ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ

(1)

.

(1)

ورواه مسلم (794).

ص: 389

التَّرجِيعُ التَّردِيدُ وتَحسِينُ الصَّوتِ بِالقِرَاءَةِ، لِأَنَّهَا تَجِذِبُ القُلُوبَ وتُحَرِّكُ القُلُوبَ، وتَجعَلُ القَارِئَ والْمُستَمِعَ قد اجْتَمَعَ قَلبُهُ على القِرَاءةِ والتَّدَبُّرِ، ولِهذَا قَالَ سُبحَانَهُ:{وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4)} [المزمل: 4]. وقال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «زَيِّنُوا أَصوَاتَكُم بِالقُرآنِ»

(1)

، فَتَرتِيلُ القِرَاءةِ وتَحسِينُ الصَّوتِ والتَّأَنِّي وعَدَمُ العَجَلةِ مِنْ أَعظَمِ الأَسبَابِ لِفَهمِ القُرآنِ وتَدَبُّرِهِ وتَعقُّلِهِ.

الحَدِيثُ القُدُسِيُّ هل من عند اللهِ لَفظًا ومَعنًى أَمْ مَعنًى فَقَطْ؟

لَفظًا ومَعَنًى، فهو كَلَامُ اللهِ لَفْظًا ومَعْنًى، والقُرآنُ كَلَامُ اللهِ لَفظًا ومَعْنًى، والأَحَادِيثُ كَلَامُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لكنَّه في المَعنَى وَحِيٌ. فهَذَا كَلَامُ الرَّبِّ:«تَقَرَّبتُ منه ذِرَاعًا»

(2)

كَلَامُ الرَّبِّ، وكذَلكَ قَولُهُ:«إِنِّي حَرَّمتُ الظُّلمَ على نَفسِي وجَعَلتُهُ بينكم مُحَرَّمًا فلا تَظَّالَمُوا» ، «يا عِبَادِي كُلُّكُم ضَالٌّ إلَّا مَنْ هَدَيتُهُ»

(3)

، وهَكَذَا.

كَالقُرآنِ؟

كَالقُرآنِ في كَونِهِ كَلَامَ اللهِ، لكنَّ القُرآنَ مُعجِزٌ، وَأنَّه لا يُقرَأُ إلا بِطَهَارَةٍ ونَحوِ ذَلكَ. يَجتَمِعَانَ في أنهما كَلَامُ اللهِ، لكنَّ القُرآنَ له صِفَاتٌ أُخرَى مِنْ جِهِةِ الإِعجَازِ، ومِن جِهِةٍ لا يُمسُّ إلا بِطَهَارَةٍ.

(1)

رواه عبد الرزاق في «مصنفه» (4176).

(2)

رواه البخاري (7536)، ومسلم (2)(2675).

(3)

رواه مسلم (55)(2577).

ص: 390

لَفظُ الحَدِيثِ «زيِّنُوا أَصوَاتَكُم» أو «زيِّنُوا القُرآنَ» ؟

«زَيِّنُوا القُرآنَ بِأَصوَاتِكُم»

(1)

.

* * *

(1)

رواه أحمد في «المسند» (18494)، وأبو داود (1468)، والنسائي (1015)، وابن ماجه (1342).

ص: 391

‌بَابُ مَا يَجُوزُ مِنْ تَفْسِيرِ التَّوْرَاةِ وَغَيْرِهَا مِنْ كُتُبِ اللَّهِ، بِالعَرَبِيَّةِ وَغَيْرِهَا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:{فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران:

93]

7541 -

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَخْبَرَنِي أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ: أَنَّ هِرَقْلَ دَعَا تَرْجُمَانَهُ، ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَرَأَهُ:«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدٍ، عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، إِلَى هِرَقْلَ، وَ: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران: 64]» الآيَةَ

(1)

.

7542 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ المُبَارَكِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ قَالَ: كَانَ أَهْلُ الكِتَابِ يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ بِالعِبْرَانِيَّةِ، وَيُفَسِّرُونَهَا بِالعَرَبِيَّةِ لِأَهْلِ الإِسْلَامِ، فَقال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«لَا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الكِتَابِ وَلا تُكَذِّبُوهُمْ وَقُولُوا: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ} [البقرة: 136]» الآيَةَ.

7543 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، قَالَ: أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِرَجُلٍ

(1)

ورواه مسلم (1773).

ص: 392

وَامْرَأَةٍ مِنَ اليَهُودِ قَدْ زَنَيَا، فَقَالَ لِلْيَهُودِ:«مَا تَصْنَعُونَ بِهِمَا؟» ، قَالُوا: نُسَخِّمُ وُجُوهَهُمَا وَنُخْزِيهِمَا، قَالَ:{فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران: 93]، فَجَاءُوا، فَقَالُوا لِرَجُلٍ مِمَّنْ يَرْضَوْنَ: يَا أَعْوَرُ، اقْرَأْ فَقَرَأَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَوْضِعٍ مِنْهَا فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ، قَالَ:«ارْفَعْ يَدَكَ» ، فَرَفَعَ يَدَهُ فَإِذَا فِيهِ آيَةُ الرَّجْمِ تَلُوحُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ عَلَيْهِمَا الرَّجْمَ، وَلَكِنَّا نَتَكَاتَمُهُ

(1)

بَيْنَنَا، فَأَمَرَ بِهِمَا فَرُجِمَا، فَرَأَيْتُهُ يُجَانِئُ عَلَيْهَا الحِجَارَةَ

(2)

.

والمَقْصُودُ: من هَذَا أنَّ اليَهُودَ قَومٌ بُهْتٌ، وقَومُ كَذِبٍ؛ ولِهذَا غَضِبَ اللهُ عَلَيهِم بِسَبَبِ تَغيِيرِهِم وتَحرِيفِهِم وتَبدِيلِهِم، وكِتمَانِهِم بَعضَ ما أُنْزِلَ إليهِم، ومِن ذَلكَ الرَّجمُ، فهم يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عن مَوَاضِعِهِ، فَيزِيدُونَ ويُنقِصُونَ، ويَكتبُونَ أَشيَاءَ ويَقُولُونَ: إنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللهِ؛ ولِهذَا غَضِبَ اللهُ عَليهم ومَقَتَهُم، ومن ذَلكَ عَمَلُهُم في الرَّجمِ كِتمَانُهُم آيَةَ الرَّجمِ وتَغِييرُهُم الحَدَّ الشّرعيَّ بِالتَّسخِيمِ: وهو تَسوِيدُ الوُجُوهِ وإِخزَاؤُهم بأن يُركِبُوهُم على دَابَّةٍ مَنكُوسينَ ويُطَافُ بهم في البَلَادِ.

فهَذَا مِنْ تَغييرِهِم وتَحرِيفِهِم وتَبدِيلِهِم، ولِهذَا نُهينَا أن نُصَدِّقَهُم، لا نُصَدِّقُهُم ولا نُكَذِّبُهُم، لأنهم ما يؤمَنونَ، ونَقُولُ: {آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ

(1)

كذا في «الفتح» ، وفي «عمدة القارئ» وغيره:«نُكَاتِمُهُ» .

(2)

ورواه مسلم (1699).

ص: 393

إِلَيْكُمْ} [العنكبوت: 46]، كما قَالَ سُبحَانَهُ:{وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46)} [العنكبوت: 46].

فالمَعنَى: نُصَدِّقُ الحَقَّ ولا نُصَدِّقُ البَاطِلَ، وهم قد يَقُولُونَ البَاطِلَ وقد يَقُولُونَ الحَقَّ فلا نُصَدِّقُهُم ولا نُكَذِّبُهُم؛ لأنَّهُم قد يَقُولُونَ حَقًّا فَنُكَذِّبُهُ، وقد يَقُولُونَ بَاطِلًا فَنُصَدِّقُه؛ فلِهذَا أَرشَدَنا عليه الصلاة والسلام إلى أنَّنَا لا نُصَدِّقُهم ولا نُكَذِّبُهم، بل نَقُولُ:{آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ}

مَنْ هُمْ أَهْلُ الذِّمةِ؟

اليَهُودُ والنَّصَارَى والْمَجُوسُ الَّذِينَ ضُرِبَتْ عَليهِمُ الجِزيَةُ، أَهْلُ الذِّمَّةِ مَنْ ضُرِبَت عَلَيهمُ الجِزْيةُ مِنْ اليَهُودِ والنَّصَارَى والْمَجوسِ يُقالُ لهُم أَهْلُ الذِّمَّةِ.

تَحرِيفُ اليَهُودِ للتَّورَاةِ لَفظِيٌّ أَوْ مَعنَوِيٌّ؟

ظَاهِرُ القُرآنِ أَنَّه لَفظِيٌّ ومَعنَوِيٌّ، بِالكِتمَانِ والزِّيَادَةِ والنَّقصِ، كمَا قالوا فيه ذَكَرُوا عنه أَنَّه أَمرَ إِبرَاهِيمَ أن يَذبَحَ ابْنَهُ -بِكرَهُ- فَزَادُوا فيه إِسْحَاقَ. والصَّوَابُ إِسمَاعِيلُ، ولهم تَحرِيفَاتٌ كَثِيرةٌ مَعرُوفَةٌ، نَسأَلُ اللهَ العَافِيَةَ.

المَجُوسُ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ؟

من أَهْلِ الذِّمَّةِ، ولَيسُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ، أَهْلُ الكِتَابِ اليَهُودُ والنَّصَارَى، لكنَّ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم أَلحَقَ بِهمُ الْمَجُوسَ فِي أَخذِ الجِزيَةِ.

ص: 394

ذَبِائِحُهُم كَذَبَائِحِ أَهْلِ الكِتَابِ؟

لا، الجِزيَة فَقَطْ، أمَّا ذَبَائِحُهُم مُحَرَّمةٌ ونِسَاؤُهم مُحَرَّمةٌ، لَيسوا مِثلَ أَهْلِ الكِتَابِ.

أَهْلُ الكِتَابِ يُحكَمُ فِيهِمْ بِكُتُبِهِم؟

لا، بِالقُرآنِ {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] ولكن يُحتَجُّ عَلَيهِم بما كَتَمُوهُ، وَأنَّه مُوَافِقٌ للقُرآنِ، التَّورَاةُ وَافَقَت القُرآنَ في هَذَا.

* * *

ص: 395

‌بابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «المَاهِرُ بِالقُرْآنِ مَعَ الكِرَامِ البَرَرَة» ، وَ «زَيِّنُوا القُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ»

.

7544 -

حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ، حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ يَزِيدَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:«مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ مَا أَذِنَ لِنَبِيٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ بِالقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ»

(1)

.

7545 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَسَعِيدُ بْنُ المُسَيِّبِ، وَعَلْقَمَةُ بْنُ وَقَّاصٍ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ، حِينَ قَالَ لَهَا أَهْلُ الإِفْكِ مَا قَالُوا- وَكُلٌّ حَدَّثَنِي طَائِفَةً مِنَ الحَدِيثِ - قَالَتْ: فَاضْطَجَعْتُ عَلَى فِرَاشِي وَأَنَا حِينَئِذٍ أَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ، وَأَنَّ اللَّهَ يُبَرِّئُنِي، وَلَكِنْ وَاللَّهِ مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ يُنْزِلُ فِي شَأْنِي وَحْيًا يُتْلَى، وَلَشَأْنِي فِي نَفْسِي كَانَ أَحْقَرَ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ فِيَّ بِأَمْرٍ يُتْلَى، وَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل:{إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} العَشْرَ الآيَاتِ كُلَّهَا

(2)

.

(1)

ورواه مسلم (792).

(2)

ورواه مسلم (2770).

ص: 396

7546 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، أُرَاهُ عن البراء قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي العِشَاءِ: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ فَمَا سَمِعْتُ أَحَدًا أَحْسَنَ صَوْتًا أَوْ قِرَاءَةً مِنْهُ

(1)

.

مُرَادُ المُؤَلَّفُ بهَذَا رحمه الله بَيانُ أنَّ أَلفَاظَ النَّاسِ بِالقُرآنِ مَنسُوبَةُ إِلَيهِم، وهي أَصوَاتُهُم، وهي مَخلُوقَةٌ، ولِهذَا قَالَ:«المَاهِرُ بِالقُرآنِ مع السَّفَرةِ الكِرَامِ البَرَرَةِ» ، وقَالَ عليه الصلاة والسلام:«ما أَذِنَ اللهُ لِشَيءٍ ما أَذِنَ لِنَبيٍّ حَسنِ الصَّوتِ بِالقُرآنِ أن يَجهَرَ به» ، وقال:«زَيِّنُوا القُرآنَ بِأَصوَاتِكُم» ، وفي قِصَّةِ عَائِشةَ رضي الله عنها في قَولِهَا:«إِنِّي لا أَظُنَّ أنَّ اللهَ يُنزِلُ فيَّ وَحِيًا يُتلَى» ؛ فَأنزَلَ اللهُ فيها أَمرًا يُتلَى.

كُلُّ هَذَا يُبِيِّنُ أن القُرآنَ هو كَلَامُ اللهِ عز وجل، وأنَّ التِّلَاوَةَ عَملُ الْمَخلُوقِ والصَّوتُ صَوتُ الْمَخلُوقِ، والْمَخلُوقُ يُزَينُ صَوتَهُ فَيتَلَذَّذُ النَّاسُ بِالقُرآنِ، ويَستَفِيدُونَ منه أَكثَرَ بِحُسنِ التِّلَاوَةِ والتَّأَنِّي فيها والتَّرتِيلِ والتَّخَشُّعِ؛ فَينتَفِعُ النَّاسُ أَكثَرَ.

وفيه الرَّدُّ على مَنْ أَنكرَ ذَلكَ، فالقُرآنُ شَيءٌ وصَوتُ الإِنسَانِ وفِعلُهُ شَيءٌ آخَرُ، فَالقُرآنُ كَلَامُ اللهِ مُنَزَّلٌ غَيرُ مَخلُوقٍ، منه بَدَأَ وإِلَيهِ يَعُودُ، سَواءٌ كَانَ مَحفُوظًا أو مَتْلُّوًّا أو مَكتُوبًا أو مَسمُوعًا، كُلُّ ذَلكَ هو كَلَامُ اللهِ، لكنَّ الْمَخلُوقَ له صَوتٌ يَتَكَلَّمُ به ويَتلُو،

(1)

ورواه مسلم (464).

ص: 397

فالصَّوتُ والتِّلَاوةُ والقِرَاءَةُ فِعلُهُ، والْمَتلُو الْمَقرُوءُ هو كَلَامُ اللهِ عز وجل.

وفي هَذَا حَثٌّ وتَحرِيضٌ على العِنَايةِ بِالتِّلَاوَةِ، وَأنَّه يَنبَغِي للتَّالِي أن يَعتَنِيَ بِالتَّلَاوةِ حَتَّى يَستَفِيدَ هو ويَستَفِيدَ مَنْ يَستَمِعُ له:«المَاهِرُ بِالقُرآنِ مع السَّفَرةِ الكِرامِ البَرَرَةِ» . ذَكَرُوا في المَاهِرِ أَنَّه الحَافِظُ الذي يُحسِنُ التِّلَاوَةَ، والحَاذِقُ في التِّلَاوَةِ الذي يُجِيدُهَا ويَتَخَشَّعُ فيها فَيستَفِيدُ ويَستَفِيدُ مَنْ يَستَمِعُ له.

وهَكَذَا: «زَيِّنُوا القُرآنَ بِأصوَاتِكُم» إذا حَسَّنَ صَوتَهُ وحَسَّنَ تَلِاوَتَهُ وتَخَشَّعَ فيها؛ كَانَ هَذَا أَكثرَ لِتَأثِيرِ القُرآنِ في قُلُوبِ الْمُستَمِعِينَ والتَّالِينَ أَيضًا.

وهَكَذَا قَولُهُ صلى الله عليه وسلم: «ما أَذِنَ اللهُ لِنَبِيٍّ ما أَذِنَ

» يَعْنِي: اسْتَمَعَ، أَذِنَ: اسْتَمَعَ، وهَذَا شَيءٌ يَلِيقُ بِاللهِ لا يُشَابِهُ خَلقَهُ في اسْتمَاعِهِم، فَكَلَامُهُ واسْتِمَاعُهُ وسَائِرُ صِفَاتِهِ كُلِّهَا تَلِيقُ بِاللهِ لا يُشبِهُ فيها خَلقَهُ سبحانه وتعالى، بل هو الكَامِلُ في كُلِّ شَيءٍ وليس في صِفَاتِهِ شَيءٌ منَ النَّقصِ والعَيبِ كما في صِفَاتِ الْمَخلُوقِينَ.

فإذا كَانَ الرَّبُّ جل وعلا يَستَمِعُ للنَّبيِّ حَسنِ الصَّوتِ بِالقُرآنِ، وَأنَّه ما أَذِنَ لِشَيءٍ كَأذنِهِ له؛ دَلَّ ذَلكَ على أَنَّه يَنبَغِي لِلقَارِئِ أن يُحَسِّنَ صَوتَهُ ويَجتَهِدَ في تِلَاوَتهِ من دُونِ تَمطِيطٍ وتَشِبيهٍ له بِالغِنَاءِ، لكن عِنَايَةً وتَخَشُّعًا، وإِعطَاءَ الحُروفِ حَقَّها والمُدُودِ حَقَّهَا والوُقُوفِ حَقَّهَا؛ حَتَّى يَستَفِيدَ القَارِئُ والْمُستَمِعُ.

وتَقَدَّمَ في مُرُورِه صلى الله عليه وسلم على أبي مُوسَى رضي الله عنه وهو يَقرَأُ؛ فَوقَفَ يَستَمِعُ له وقال: «لقد أُوتِيَ هَذَا مِزمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاودَ» . يَعْنِي: صَوتًا حَسَنًا مِنْ أَصوَاتِهِم.

فَلَمَّا جَاءَ أَبُو مُوسَى رضي الله عنه إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أَخبَرهُ بذَلكَ قَالَ:

ص: 398

«لو عَلمْتُ أنك تَسمَعُ لَحَبَّرتُهُ لك تَحبِيرًا»

(1)

، يَعْنِي: زِدتُ في تَحسِينِهِ.

فَالمُؤمنُ يَتَحَرَّى الأَسبَابَ، ويَأخُذُ بِالأَسبَابِ التي تَنفَعُهُ وتَنفَعُ غَيرَهُ في التِّلَاوَةِ وغَيرِهَا.

7547 -

حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُتَوَارِيًا بِمَكَّةَ، وَكَانَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ، فَإِذَا سَمِعَ المُشْرِكُونَ سَبُّوا القُرْآنَ وَمَنْ جَاءَ بِهِ، فَقَالَ اللَّهُ عز وجل لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم:{وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء: 110]

(2)

.

وتَقَدَّمَ هَذَا الحَدِيثُ، والْمُرَادُ بِالصَّلَاةِ هي القِرَاءَةُ، وتَقَدَّمَ قَولُ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّها نَزَلَت في الدُّعَاءِ، وتَقَدَّمَ أنَّ الأَظهَرَ والأَصوَبَ ما قَالَه ابنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما وما دَلَّ عليه كِتَابُ اللهِ وفي الحَدِيثِ الصَّحِيحِ يَقُولُ اللهُ:«قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَينِي وبين عَبدِي»

(3)

، يَعْنِي: قِرَاءَةَ الفَاتحَةِ.

(1)

رواه البيهقي في «السنن الكبرى» (4708)، وأصله في «الصحيحين» دون قول أبي موسى رضي الله عنه.

(2)

ورواه مسلم (446).

(3)

رواه مسلم (395)(38).

ص: 399

والقِرَاءَةُ رُكنُ الصَّلَاةِ، والرُّكنُ الْمُهِمُّ منها؛ فلِهذَا سُمِّيتْ صَلَاةً؛ ولأنَّهُ دُعَاءٌ في المَعنَى، فَالقَارِئُ دَاعٍ في المَعنَى يَطلُبُ الأَجرَ ويَطلُبُ الثَّوَابَ، فهو مُصَلٍّ في المَعنَى دَاعٍ.

فالسُّنَّةُ للتَّالِي أن يَتَحَرَّى النَّفعَ الأَكمَلَ، فإنْ كَانَ الجَهرُ أَنفَعَ جَهَرَ، وإن كَانَ السِّرُّ أَنفعَ أَسَرَّ، وإن كانتِ الحَالُ تَحتَاجُ إلى التَّوَسُّطِ تَوَسَّطَ، كما أُمرَ به النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في هَذَا الحَدِيثِ لَمَّا كَانَ الْمُشرِكُونَ إذا سَمِعُوا القُرآنَ سَبُّوا القُرآنَ ومَن أَنزَلَهُ، وكان هَذَا في مَكَّةَ قَبلَ أن يُؤمَرَ بِالصَّدعِ، قَبلَ أن تَنزِلَ عليه:{فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر: 94].

وهَكَذَا إذا كَانَ الإِنسَانُ بين النُّوَّامِ أو بين الْمُصَلِّينَ أو بين القُرَّاءِ يَتَحَرَّى فلا يَجهَرُ جَهرًا يُؤذِي الْمُصَلِّينَ أو القُرَّاءِ، ولا يُخَافِتُ شَيْئًا [بحيثُ] يَجلِبُ إليه النُّعَاسَ أو يَضُرُّهُ، بل يَكُونُ يَتْلُو تَلَاوَةً لا تُؤذِي أَحَدًا ويَنتَفِعُ بها هُو.

وهَذَا يَقَعُ كَثِيرًا في الْمَسَاجِدِ وفي الصَّفُوفِ يَومَ الجُمُعَةِ وفي غَيرِهَا، بَعضُ النَّاسِ قد يَجهَرُ كَثِيرًا فَيُشَوِّشُ على مَنْ حَولَهُ مِنْ الْمُصَلِّينَ والقُرَّاءِ، فَالسُّنَّةُ في التِّلَاوَةِ في مِثلِ هَذَا هو الخَفضُ حَتَّى لا يُشَوِّشَ على إِخوَانِهِ.

وفي هَذَا المَعنَى جَاءَ الحَدِيثُ الآخَرُ الذي رَوَاهُ مَالِكٌ وغَيرُهُ بِإسنَادٍ صَحِيحٍ أنَّ الرَّسُولَ عليه الصلاة والسلام خَرَجَ على أُنَاسٍ في الْمَسجِدِ يُصَلُّونَ بِاللَّيلِ أَوزَاعًا؛ فَقَالَ: «كُلُّكُم يُنَاجِي اللهَ فَلا يَجهَرُ بَعضُكُم على بَعضٍ»

(1)

. أو كَمَا قَالَ عليه الصلاة والسلام.

فَأوصَاهُم بأن يُرَاعِيَ بَعضُهُم بَعضًا حَتَّى لا يُشُوِّشَ بَعضُهُم على بَعضٍ.

(1)

رواه عبد الرزاق في «مصنفه» (4216).

ص: 400

7548 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ رضي الله عنه قَالَ لَهُ: إِنِّي أَرَاكَ تُحِبُّ الغَنَمَ وَالبَادِيَةَ، فَإِذَا كُنْتَ فِي غَنَمِكَ أَوْ بَادِيَتِكَ فَأَذَّنْتَ لِلصَّلَاةِ، فَارْفَعْ صَوْتَكَ بِالنِّدَاءِ؛ فَإِنَّهُ:«لَا يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِ المُؤَذِّنِ جِنٌّ وَلَا إِنْسٌ، وَلَا شَيْءٌ، إِلَّا شَهِدَ لَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ» . قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

(1)

.

7549 -

حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أُمِّهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ القُرْآنَ وَرَأْسُهُ فِي حَجْرِي وَأَنَا حَائِضٌ

(2)

.

وهَذَا يَدُلُّ على فَوَائِدَ:

منها: تَوَاضُعُهُ صلى الله عليه وسلم وحُسْنُ عِشرَتِهِ مع أَهلِهِ، كَانَ يَضَعُ رَأسَهُ في حِجرِ أَهلِهِ وَيقرَأُ يَعْنِي: يَضْطَجِعُ ويَضَعُ رَأسَهُ على فَخِذِ زَوجَتِهِ ويَقرَأُ أو يَسبِّحُ أو يَتَحَدَّثُ معَهَا، هَذَا من حُسنِ العِشرَةِ ومِنَ التَّوَاضُعِ.

وفيه من الفَوَائِدِ: أَنَّه لا مَانِعَ مِنْ أن يَقرَأَ وَرَأسُهُ في حِجرِ امْرَأتِهِ الحَائِضِ

(1)

ورواه مسلم (609).

(2)

ورواه مسلم (301).

ص: 401

أو النُّفَسَاءِ لا يَضُرُّهُ ذَلكَ، الْمَمنُوعُ لِمسُ الدَّمِ، لَمسُ النَّجَاسةِ أو جِمَاعُهَا حَالَ الحَيضِ، أمَّا كَونُهُ يَقرَأُ ورَأْسُهُ في حِجرِهَا أو مُتَّكِئًا عليها أو مُلَاصِقًا لها أو ما أَشبَهَ ذَلكَ؛ كُلُّ ذَلكَ لا بَأْسَ به.

وفيه أيضًا من الفَوَائِدِ: أَنَّه لا مَانعَ مِنْ أن يَقرَأَ القُرآنَ وهو مُضْطَجِعٌ؛ لأنَّ رَأسَهُ في حِجرِها يَعْنِي: مُضطَجِعًا.

واللهُ يَقُولُ جل وعلا: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 191] يَدخُلُ فيه القُرآنُ وغَيرُ القُرآنِ، ومنه الآيَةُ الكَريمَةُ {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} [النساء: 103] وهَذَا مِنْ تَيسِيرِ اللهِ وتَوسِعَتِهِ، فإنَّ الإِنسَانَ قد يَحتَاجُ إلى القِراَءةِ وهو مُضْطَجِعٌ، قد يَكُونُ مَرِيضًا، قد يَكُونُ عنده شَيءٌ مِنَ الكَسلِ عنِ الجُلُوسِ، فَيقرَأُ قَائِمًا وقَاعِدًا ومَاشِيًا ومُضْطَجِعًا والحَمدُ للهِ.

أَحسَنَ اللهُ إِليكَ يا شَيخُ، السُّنَّةُ الأَذَانُ لِلمصَلِّي أم يَكفِيهِ أَذَانُ المَسجِدِ؟

في الْمُدُنِ والقُرَى في الْمَسَاجدِ، أمَّا إذا كَانَ في البَرِيةِ يُؤذِّنُ ولو وَاحِدًا، مِثْلمَا قَالَ أَبُو سَعِيدٍ، النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِمَالِكِ بنِ الحُويرِثِ رضي الله عنه وصَاحِبهِ:«إذا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ فَليُؤَذِّن لَكمَا أَحَدُكمَا ولْيَؤُمُّكُمَا أَكبَركُمَا»

(1)

، فإذا كانَ في البَادِيَةِ أو في السَّفَرِ يُؤذِّنُ ولو وَاحِدًا.

* * *

(1)

رواه البخاري (658)، ومسلم (674)(293).

ص: 402

‌بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ}

(1)

[المزمل: 20]

7550 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، حَدَّثَنِي عُرْوَةُ، أَنَّ المِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ ابْنَ عَبْدٍ القَارِيَّ، حَدَّثَاهُ أَنَّهُمَا سَمِعَا عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ يَقُولُ: سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمٍ يَقْرَأُ سُورَةَ الفُرْقَانِ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَاسْتَمَعْتُ لِقِرَاءَتِهِ، فَإِذَا هُوَ يَقْرَأُ عَلَى حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ لَمْ يُقْرِئْنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَكِدْتُ أُسَاوِرُهُ فِي الصَّلَاةِ، فَتَصَبَّرْتُ حَتَّى سَلَّمَ، فَلَبَبْتُهُ بِرِدَائِهِ، فَقُلْتُ: مَنْ أَقْرَأَكَ هَذِهِ السُّورَةَ الَّتِي سَمِعْتُكَ تَقْرَأُ؟ قَالَ: أَقْرَأَنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: كَذَبْتَ، أَقْرَأَنِيهَا عَلَى غَيْرِ مَا قَرَأْتَ، فَانْطَلَقْتُ بِهِ أَقُودُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: إِنِّي سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ سُورَةَ الفُرْقَانِ عَلَى حُرُوفٍ لَمْ تُقْرِئْنِيهَا، فَقَالَ:«أَرْسِلْهُ، اقْرَأْ يَا هِشَامُ» . فَقَرَأَ القِرَاءَةَ الَّتِي سَمِعْتُهُ، فَقال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ» ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«اقْرَأْ يَا عُمَرُ» . فَقَرَأْتُ الَّتِي أَقْرَأَنِي، فَقَالَ:«كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ، إِنَّ هَذَا القُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ»

(2)

.

(1)

كذا في «الفتح» ، وفي «عمدة القارئ» وغيره «مِنَ القُرْآنِ» .

(2)

ورواه مسلم (818).

ص: 403

وفي هَذَا من الفَوَائِدِ: إَنكَارُ الْمُنكَرِ على مَنْ فَعَلَهُ في اعْتِقَادِ الْمُنكِرِ.

وفيه: رَفعُ الأَمرِ إلى أَهْلِ العِلْمِ عند النِّزَاعِ، في حَيَاةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم إلى الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، وبعد وَفَاتِهِ إلى الأَدِلَّةِ الشَّرعِيَّةِ -إلى الكِتَابِ والسُّنَّةِ- لِأَنَّهَا هي التي تَحِلُّ النِّزَاعَ، فَعمُرُ رضي الله عنه رَفعَهُ إلى النَّبيِّ صلى الله عليه سلم لِيعرِفَ صِحَّةَ ما قَالَ مِنْ إِنكَارِهِ عليه.

وفيهِ: شِدَّةُ عُمرَ رضي الله عنه وغَيرَتِهِ العَظِيمَةِ حَتَّى أَخذَ بِتَلَابِيبِ هِشَامٍ رضي الله عنه وقَادَهُ إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، واشْتَدَّ عليه حَتَّى قَالَ: كَذبْتَ. حَتَّى أَعلَمَهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بِالوَاقِعِ، وكانت تَغلِبُ عليه قُوَّتُهُ في اللهِ وغَيرَتُهُ العَظِيمَةُ عند رُؤيَتِهِ ما يُخَالِفُ أَمرَ اللهِ.

وفيه: رِفقُهُ صلى الله عليه وسلم بِعُمَرَ رضي الله عنه، فَرَفَقَ بِعُمرَ رضي الله عنه ولم يُشَدِّدْ عليه فَقَالَ:«أَرسِلْهُ» ، وهَذَا فيه الرِّفقُ بِالأَخيَارِ والعُظمَاءِ والكِبَارِ ومَن عُرِفَت نِيَّتُهُمُ الطَّيبَةُ وغَيرَتُهُم -وإن شَدَّدُوا في بِعْضِ الشَّيءِ- تَقدِيرًا لِأَعمَالِهِمُ العَظِيمَةِ وغَيرَتِهِم الإِسلَامِيَّةِ وجُهُودِهِم الصَّالِحَةِ. ويُعلَّمُوا ويُوَجَّهُوا بِالحِكمَةِ، فَالنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«اقْرَأْ يا هِشَامُ» ، فَلمَّا قَرأَ هِشَامٌ كمَا سَمِعَ عُمرُ رضي الله عنه قَالَ:«هَكَذَا أُنزِلَت» ثم قَالَ: «اقْرَأ يَا عُمرُ» فَقَرأَ عُمرُ رضي الله عنه، قَالَ:«هَكَذَا أُنزِلَت» ثم بَيَّنَ له صلى الله عليه وسلم أنَّ القُرآنَ أُنْزِلَ على سَبعَةِ أُحرُفٍ {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل: 20].

قال العُلَمَاءُ: أَحرُفٍ يَعْنِي: مُختَلِفَةً في الأَلفَاظِ مُتَقَارِبَةً في الْمَعَانِي على حَسَبِ مُرَادِ العَرَبِ، فقد تَنزِلُ الآيَةُ بِمَعنَى الآيَةِ الأُخْرَى لكن بِألفَاظٍ مِثلِ:

ص: 404

(خَبيرٌ بما تعملون)، (خبير بما تفعلون)، (بما تصنعون)، (إن الله عليم بما يصنعون)، (إن اللهَ عَليمٌ خبير)، (إن الله خبير عليم)، وما أَشبهَ ذَلكَ مِنَ الأَشيَاءِ الْمُتَقَارِبةِ التي تَختَلِفُ في الأَلفَاظِ وتَتَقَارَبُ في الْمَعَانِي والأَحكَامِ.

ولَمَّا تُوفِّي النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وصَارَ بين النَّاسِ نِزَاعٌ في القِرَاءَاتِ أَدرَكَ الصَّحَابَةُ رضي الله عنهم ذَلكَ، وعَرَفُوا أن فيه شَيْئًا مِنَ الخَطرِ مِنْ جِهةِ النِّزَاعِ والاخْتِلَافِ؛ فَقَدِمَ حُذَيفَةُ على عُثمَانَ رضي الله عنهما في المَدِينَةِ، وأَخبَرَهُ وحَثَّهُ على جَمعِ النَّاسِ على مُصحَفٍ وَاحِدٍ؛ حَتَّى لا يَختَلِفُوا ولا يَتَنَازعُوا؛ فَاستَشَارَ الصَّحَابَةَ رضي الله عنهم وأَرضَاهُم في ذَلكَ، فاتَّفَقَ رَأْيُهُم على أن يَجمَعُوهُم على حَرفٍ وَاحِدٍ وعلى مُصحَفٍ وَاحِدٍ.

فَكَتَبَ الْمَصَاحِفَ رضي الله عنه، وأَرسلَهَا إلى الأَمصَارِ، وصَارَتِ العُمدَةُ على ذَلكَ؛ تَلَاشيًا لما قد يَقعُ مِنْ النِّزَاعِ الكَثِيرِ والاخْتِلَافِ في كِتَابِ اللهِ عز وجل.

(الشَّيخُ): ماذا قَالَ الشَّارِحُ على التَّرجَمَةِ الأَخيرَةِ؟

[قَالَ الحَافِظُ ابنُ حَجرٍ رحمه الله فِي «فَتْحِ البَارِي» (13/ 520)]: «قَولُهُ: «قَوْلُهُ: بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل: 20] كَذَا لِلْكُشْمِيهَنِيِّ وَلِلْبَاقِينَ {مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20]، وَكُلٌّ مِنَ اللَّفْظَيْنِ فِي السُّورَةِ وَالْمُرَادُ بِالْقِرَاءَةِ؛ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ بَعْضُ أَرْكَانِهَا، ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ عُمَرَ فِي قِصَّتِهِ مَعَ هِشَامِ بْنِ حَكِيمٍ فِي قِرَاءَةِ سُورَةِ الْفُرْقَانِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ.

وَقَوْلُهُ فِي آخِرِهِ: «إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ فاقرؤوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ» ، الضَّمِيرُ لِلْقُرْآنِ، وَالْمُرَادُ بِالْمُتَيَسِّرِ مِنْهُ فِي الْحَدِيثِ غَيْرُ الْمُرَادِ بِهِ فِي الْآيَةِ؛

ص: 405

لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُتَيَسِّرِ فِي الْآيَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ، وَالْمُرَادَ بِهِ فِي الْحَدِيثِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يَسْتَحْضِرُهُ الْقَارِئُ مِنَ الْقُرْآنِ، فَالْأَوَّلُ مِنَ الْكَمِّيَّةِ وَالثَّانِي مِنَ الْكَيْفِيَّةِ، وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ وَحَدِيثِهَا لِلْأَبْوَابِ الَّتِي قَبْلَهَا مِنْ جِهَةِ التَّفَاوُتِ فِي الْكَيْفِيَّةِ وَمِنْ جِهَةِ جَوَازِ نِسْبَةِ الْقِرَاءَة للقَارِئِ». [انتهى كلامه].

(الشَّيخُ): رَاجِعِ الكَلَامَ على أَوَّلِهِ: «المَاهِرُ بِالقرَآنِ» ؟

[قَالَ الحَافِظُ ابنُ حَجرٍ رحمه الله فِي «فَتْحِ البَارِي» (13/ 520)]: «قَوْلُهُ: «بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْمَاهِرُ أَيِ الْحَاذِقُ» ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا جَوْدَةُ التِّلَاوَةِ مَعَ حُسْنِ الْحِفْظِ. قَوْلُهُ:«مَعَ سَفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ» ، كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ إِلَّا عَنِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فَقَالَ «مَعَ السَّفَرَةِ» ، وَهُوَ كَذَلِكَ لِلْأَكْثَرِ، وَالْأَوَّلُ مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى صِفَتِهِ، وَالْمُرَادُ بِالسَّفَرَةِ الْكَتَبَةُ جَمْعُ سَافِرٍ مِثْلُ كَاتِبٍ وَزْنُهُ وَمَعْنَاهُ، وَهُمْ هُنَا الَّذِينَ يَنْقُلُونَ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، فَوُصِفُوا بِالْكِرَامِ أَيِ الْمُكَرَّمِينَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْبَرَرَةُ أَيِ الْمُطِيعِينَ الْمُطَهَّرِينَ مِنَ الذُّنُوبِ، وَأَصْلُ الْحَدِيثِ تَقَدَّمَ مُسْنَدًا فِي التَّفْسِيرِ لَكِنْ بِلَفْظِ:«مَثَلُ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَهُوَ حَافِظٌ لَهُ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ» . وَأَخْرَجَهُ مُسلمٌ بِلفظِهِ مِنْ طَريقِ زَرَارَةِ بنِ أَبِي أَوفَى.

قَالَ ابنُ بَازٍ رحمه الله: زَرَارَةُ بنُ أَوفَى، هَذَاك الصَّحَابيُّ عبدُ اللهِ بنُ أَبِي أَوفَى، أمَّا هنا أَبُوهُ اسْمُه أَوفَى بِدُونِ أَبِي.

ص: 406

[قال الحَافِظُ رحمه الله]: «مِنْ طَرِيقِ زَرَارَةَ بْنِ أَبِي أَوْفَى عَنِ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا «الْمَاهِرُ بِالْقُرْآنِ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ» ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْمَاهِرُ الْحَاذِقُ، وَأَصْلُهُ الْحِذْقُ بِالسِّبَاحَةِ، قَالَهُ الْهَرَوِيُّ، وَالْمُرَادُ بِالْمَهَارَةِ بِالْقُرْآنِ جَوْدَةُ الْحِفْظِ وَجَوْدَةُ التِّلَاوَةِ مِنْ غَيْرِ تَرَدُّدٍ فِيهِ لِكَوْنِهِ يَسَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ كَمَا يَسَّرَهُ عَلَى الْمَلَائِكَةِ؛ فَكَانَ مِثْلَهَا فِي الْحِفْظِ وَالدَّرَجَةِ». [انتهى كلامه].

قَالَ ابنُ بَازٍ رحمه الله: وتَفسِيرُ «السَّفَرةِ» بِالكَتَبَةِ مَحَلُّ نَظرٍ، يَحتَاجُ إلى دَلِيلٍ؛ لأنَّ الْمُتَبَادَرَ مِنْ السَّفَرةِ هم الحَمَلَةُ للرِّسَائلِ والأَوامِرِ والنَّوَاهِي بين اللهِ وبين النَّاسِ، بينَ اللهِ وبين المَلَائِكَةِ، بين اللهِ وبينَ الرُّسُلِ، وليس مُجَرَّدَ الكَاتِبِ فَقَطْ، يُقَالُ: جَبرَائِيلُ هو السَّفَيرُ بين اللهِ وبين رُسُلِهِ، يَعْنِي الوَاسِطَةَ في التَّبلِيغِ، فَتفسِيرُ السَّفرَةِ بِمُجَرَّدِ الكَتَبَةِ مَحَلُّ نَظَرٍ.

[قال الحَافِظُ رحمه الله]: «قَوْلُهُ: «وَزَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ» ، هَذَا الْحَدِيثُ مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي عَلَّقَهَا الْبُخَارِيُّ وَلَمْ يَصِلْهَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ كِتَابِهِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ فِي «كِتَابِ خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ» مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْسَجَةَ عَنِ الْبَرَاءِ بِهَذَا، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وابنُ مَاجَه والدَّارمِيُّ وابنُ خُزَيْمَة وابنُ حِبَّانَ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَفِي الْبَابِ عَنْ أبي هُرَيْرَة أَخرَجَهُ ابنُ حِبَّانَ فِي «صَحِيحِهِ» وَعَنْ ابنِ عَبَّاسٍ، أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي «الْأَفْرَادِ» بِسَنَدٍ حَسَنٍ، وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ بِسَنَد ضَعِيف». [انتهى كلامه].

قَالَ ابنُ بَازٍ رحمه الله: وهَذِه كُلُّهَا في المَعنَى: «زينوا القرآن بأصواتكم» يَعْنِي: كما جَاءَ في حَدِيثِ البَرَاءِ رضي الله عنه جَاءَ من حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ وابنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم بِسَنَدٍ حَسنٍ، ومن حَدِيثِ عَبدِ الرَّحمَنِ بنِ عَوفٍ رضي الله عنه

ص: 407

بِسنَدٍ ضَعِيفٍ يَعْنِي: شَوَاهِدهُ لِحَدِيثِ البَرَاءِ رضي الله عنه.

[قال الحَافِظُ رحمه الله]: «وعن عَبدِ الرَّحمَنِ بنِ عَوفٍ أَخرَجَهُ البَزَّارُ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ. وعنِ ابنِ مَسعُودٍ وَقَعَ لنا في الأَوَّلِ مِنْ فَوَائِدِ عُثمَانَ بنِ السَّمَّاكِ

(1)

، ولكنَّهُ مَوقُوفٌ.

قال ابنُ بَطَّالٍ: المُرَادُ بِقَولِهِ: «زَيِّنُوا القُرآنَ بِأَصوَاتِكُم» : الْمَدُّ والتَّرتِيلُ، والمَهَارَةُ في القُرآنِ: جَودَةُ التِّلَاوَةِ بِجَودَةِ الحِفظِ فلا يَتَلَعثَمُ ولا يَتَشَكَّكُ، وتَكُونُ قِرَاءَتُهُ سَهلَةٌ بِتَيسِيرِ اللهِ تَعَالَى كمَا يَسَّرَهُ على الكِرَامِ البَرَرَةِ». [انتهى كلامه].

قَالَ ابنُ بَازٍ رحمه الله: وهَذَا هو المَعنَى بِلا شَكٍّ، «التَّزيِينُ»: هو أن يَقرَأَ بِتَلَاوَةٍ وَاضِحَةٍ بَيِّنَةٍ فيها الخُشُوعُ، فيها التَّحَزُّنُ، فيها التَّرتِيلُ وعَدَمُ العَجَلَةِ، حَتَّى يَتَأَثَّرَ هو وغَيرُهُ.

هل يَلزَمُ مِنْ السَّمعِ وُجُودُ الأُذُنِ؟

لا، ما يَلزَمُ، لا يَلزَمُ مِنَ السَّمعِ ولا مِنْ الاسْتِمَاعِ، تُجرَى على ظَاهِرهَا كما قَالَ اللهُ، سَمِيعٌ وبَصِيرٌ، ولا يَلزَمُ ما يَلزَمُ في صِفَاتِ الْمَخلُوقِينَ، فَصِفَاتُ اللهِ تَلِيقُ به، لا يُشَابِهُهُ فيها شَيءٌ سبحانه وتعالى، مِثلمَا أَنَّه لا يَلَزَمُ في يَدِهِ ولا في قَدَمِهِ ولا في وَجهِهِ ما يَلزَمُ الْمَخلُوقِينَ، ولا في ذَاتِهِ كذَلكَ، ربُّنا جل {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} [الشورى: 11] سبحانه وتعالى، لا في ذَاتِهِ ولا في صِفَاتِهِ جل وعلا {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} [النحل: 74]، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)} [الإخلاص: 4].

(1)

قال سماحته رحمه الله السَّمَّاك الذي يبيع السمك.

ص: 408

الاسْتِمَاعُ للقِرَاءَةِ هل له مِثلُ أَجرِ القَارِئِ؟

يُرجَى ذَلكَ، يُرجَى أَنَّهمَا شَرِيكَانِ؛ لِأنَّه وَرَدَ في ذَلكَ ما يَدُلُّ على أنَّهُما شَرِيكَانِ مِثلُ الدَّاعِي إلى اللهِ، ومِثلُ الْمُنفِقُ الذي عَلمِ الحَقَّ وأَنفَقَ، والآخَرُ الذي لَيْسَ عنده قُدرَةٌ على الإِنفَاقِ وهو يَنوِي ذَلكَ.

المَقْصُودُ: أنهما

(1)

مُتَعَاوِنَانِ، شَرِيكَانِ في الأَجْرِ.

* * *

(1)

أي القارئ والمستمع.

ص: 409

‌بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:

17]

وَقال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ» يُقَالُ مُيَسَّرٌ: مُهَيَّأٌ.

وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَسَّرْنَا القُرْآنَ بِلِسَانِكَ: هَوَّنَّا قِرَاءَتَهُ عَلَيْكَ.

وَقَالَ مَطَرٌ الوَرَّاقُ: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: 17]، قَالَ: هَلْ مِنْ طَالِبِ عِلْمٍ فَيُعَانَ عَلَيْهِ.

وهَذَا من رَحمَةِ اللهِ عز وجل أنَّ اللهَ يَسَّرَهُ لِلعِبَادِ، وجَعَلَهُ في مُتَنَاوَلِهِم إذا صَدَقُوا في حِفظِهِ وفَهمِهِ يَسَّرَهُ لهم سبحانه وتعالى، فإذا صَدَقَ العَبدُ في تَدَبُّرِهِ والاسْتِفَادةِ منه حَصَلَ له الخَيرُ العَظِيمُ، والعِلمُ العَظِيمُ الْمُبَاركُ، وهَكَذَا حِفظُهُ، فالْمُهِمُّ الصِّدقُ في ذَلكَ والحِرصُ والرَّغبَةُ الصَّادِقِةُ في حِفظِهِ وفَهمِهِ، واللهُ يُعِينُ على ذَلكَ ويُيَسِّرُهُ سبحانه وتعالى.

قَولُهُ: «هل من طَالِبِ عِلمٍ فَيُعَانُ عليه» ، هل المَقصُودُ به الحِفظُ، أو المَقصُودُ به التَّدَبُّرُ؟

العُمُومُ، الحِفظُ من العِلمِ، والفَهمُ أَعظَمُ، وَرَأسُ العِلْمِ وأَصلُ العِلْمِ

ص: 410

هو القُرآنُ، فمَن أَرَادَ العِلمَ فَليتَدَبَّرِ القُرآنَ ولَيعتَنِ بِالقُرآنِ: حِفظًا، وتَدَبُّرًا، وعَمَلًا، ومُذَاكَرةً.

وكان عِلمُ الصَّحَابةِ رضي الله عنهم أَكثَرُهُ كُلُّهُ مِنَ القُرآنِ بَعضُهُم لا يَحفَظُ إلا أَحَادِيثَ قَلِيلَةً، لكن نَفَعَهُمُ اللهُ بِعلمِهِم وعِنَايِتِهِم بِكِتَابِ اللهِ عز وجل، «هل مِنْ طَالِبِ عِلمٍ فَيُعَانُ عليه» ، من أَقبَلَ على القُرآنِ هو مِنْ أَفضَلِ الطَّلَبةِ وأَهمِّ الطَّلَبَةِ وأَكمَلِهِم عِلمًا؛ لأن الإِقبَالَ على القُرآنِ مع العِلْمِ يُعطِي خَشيَةً للهِ، وتَعظِيمًا للهِ، ومُرَاقِبَةً وخَوفًا منه، وَجِدَّةً في طَاعَتِهِ، وحِرْصًا على مَرضَاتِهِ، وحَذَرًا مِنْ عِقَابهِ، فهو يُرَبِّي في القُلُوبِ الخَوفَ مِنَ اللهِ، والرَّغبَةَ فيما عنده، وخَشيَتَهُ سبحانه وتعالى مع ما يَحصُلُ منَ العِلمِ.

أيُّهما أفضَلُ يا شَيخُ، أنْ يَحفَظَ القُرآنَ أو يَتَدَبَّرُه، أو يَحفَظ قَلِيلًا منَ القُرآنِ ويَتَدَبَّرُ مَعنَاهُ؟

كَونُهُ يَحفَظُ ويَتَدَبرُ أَفضَلُ، الذي يَحفَظُ وَيَقرَأُ ولو نَظرًا ويَتَدَبَّرُ هَذَا هو العِلمُ، وإذا يَسَّرَ له حِفظَهُ كَامِلًا؛ هَذَا خَيرٌ إلى خَيرٍ، لكن تَدَبُّرُهُ والعِنَايةُ به ولو نظرًا أَفضَلُ مِنْ مُجَرَّدِ الحِفظِ بِغَيرِ عِنَايَةٍ.

القُرآنُ يُقَدَّمُ على مِثلِ هَذِه المَجَالِسِ؟

لا، هَذِه الْمَجَالِسُ مَجَالسُ عِلمٍ، والقُرآنُ له أَوقَاتٌ أُخْرَى، اللهُ وَسَّعَ الوَقتَ، يَجعَلُ لِلحفْظِ وَقتًا، وللتِّلَاوَةِ وَقتًا، ولِمَجَالسِ العِلْمِ وَقتًا، لا يُغنِي هَذَا عن هَذَا.

هل وَاجِبٌ على المُسلِمِ أن يَجعَلَ وَقتًا للتَّدَبُّرِ في كُلِّ يَومٍ؟

لا، ما هو بِوَاجِبٍ كُلَّ يَومٍ، حَسبَ الطَّاقَةِ، ما فيه شَيءٌ مُحَدَّدٌ،

ص: 411

الوَاجِبُ أن يَتَدَبَّرَ ويَعتَنِيَ حَتَّى يَتَّقِيَ رَبَّهُ، يَفعَلُ ما لا يَسعُهُ جَهَلُهُ، يَفعَلُ ما يُعِينُهُ على فَهمِ ما أَوجَبَ اللهُ وتَركِ ما حَرَّمَ اللهُ، مِنْ غَيرِ تَحدِيدٍ.

وقد نبَّه سُبحَانَهُ على هَذَا المَعنَى بقَولِهِ: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص: 29] ما قَالَ يَتلُو، لِيتَدَبَّرُوا، والْمُهِمُّ التَّدَبُّرُ، {مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)} [ص: 29]، {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [النساء: 82]، {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9]، {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} [فصلت: 44] إنما هو بِالتَّدَبُّرِ.

يَتَدَبَّرُ يَعْنِي يَتَفَكَّرُ؟

نعم يَتَفَكَّرُ في الْمَعَانِي يَعْنِي.

هل مِنَ المَعَانِي دَائمًا الرُّجُوعُ منه إلى التَّفسِيرِ.

يَرجِعُ إلى التَّفسِيرِ فيما أَشكَلَ عليه، الوَاضِحُ ما يَحتَاجُ {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45)} [الحجر: 45]، {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17)} [الطور: 17]، وما أَشبَهَ ذَلكَ {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75)} [الزخرف: 74، 75]، ما هو يَحتَاجُ إلى التَّفسِيرِ إذا سَمِعَهُ حَصلَ لِقَلبِهِ منَ الخُشُوعِ والإِنَابَةِ والخَيرِ الشَّيءُ الكَثِيرُ، وإذا أَشكَلَ عليه بَعضُ الأَحكَامِ يُرَاجِعُ التَّفسِيرَ.

المُتَشَابِهُ؟

ما أَشكَلَ عليه يَرجِعُ إلى التَّفسِيرِ ويَرجِعُ إلى أَهْلِ العِلْمِ يَسأَلُهُم.

ص: 412

7551 -

حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَارِثِ، قَالَ يَزِيدُ: حَدَّثَنِي مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عِمْرَانَ، قَالَ: قُلْتُ يا رَسُولَ اللهِ.

فِيمَا يَعْمَلُ العَامِلُونَ؟ قَالَ: «كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ»

(1)

.

7552 -

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مَنْصُورٍ، وَالأَعْمَشِ، سَمِعَا سَعْدَ بْنَ عُبَيْدَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَنَّهُ كَانَ فِي جَنَازَةٍ فَأَخَذَ عُودًا فَجَعَلَ يَنْكُتُ فِي الأَرْضِ، فَقَالَ:«مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ أَوْ مِنَ الجَنَّةِ» ، فَقَالُوا: أَلَا نَتَّكِلُ؟ قَالَ: «اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ» ، {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} [الليل: 5] الآيَةَ

(2)

.

يَعْنِي قَالَ: كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ له، كما جَاءَ في الرِّوَايَةِ الأُخْرَى، ثم قَرَأَ الآيَةَ:{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)} [الليل: 5 - 10]. المَعنَى: أن القَدَرَ مَاضٍ، والأَعمَالَ مِنْ أَسبَابِ التَّيسِيرِ لِمَا سَبَقَ، أَعمَالُ الخَيرِ مِنْ أَسبَابِ التَّيسِيرِ لِلحُسنَى والسَّعَادَةِ، وأَعمَالُ الشَّرِّ مِنْ أَسبَابِ التَّيسِيرِ للشَّقَاوَةِ والهَلَاكِ. اللهُ أَكبَرُ، اللهُ أَكبَرُ.

(1)

ورواه مسلم (2649).

(2)

ورواه مسلم (2647).

ص: 413

«سَعدُ بنُ عُبَيدَةَ» كذا؟

«سَعدُ بنُ عُبَيدٍ»

(الطَّالبُ): عندنَا ابنُ عُبَيدَةَ.

قَالَ ابنُ بَازٍ رحمه الله: لا، سَعدُ بنُ عُبَيدٍ مَولَى ابنِ الأَزهَرِ، الْمَشهُورِ في الرِّوَايَةِ، الذي نَعرِفُهُ سَعدُ بنَ عُبَيدٍ مَولَى ابنِ الأَزهَرِ أمَّا هَذَا شَخصٌ آخَرُ.

(الشَّيخُ) رَاجِعْ عندك لَعلَّهُ شَخصٌ آخِرُ؟

[قال الإِمَامُ العَينِيُّ رحمه الله في «عُمدَةِ القَارِي» (28/ 500)]: «وَسعْدُ بن عُبَيْدَة أَبُو حَمْزَة بِالْمُهْمَلَةِ وَالزَّاي السّلمِيّ بِالضَّمِّ الْكُوفِيُّ خَتَنُ أَبِي عَبدِ الرَّحْمَنِ السّلمِيِّ، واسْمُهُ عَبدُ اللهِ بنُ حَبِيبٍ الْكُوفِيُّ الْقَارِيُ ولِأَبِيهِ صُحْبَةٌ» . [انتهى كلامه].

قَالَ ابنُ بَازٍ رحمه الله: هَذَا غَيرُهُ، غَيرُ سَعدِ بنِ عُبَيدٍ مَولَى ابنِ الأَزهَرِ.

[قال الحَافِظُ ابنُ حجَرٍ رحمه الله في «تَقريبِ التَّهذيبِ» (2249)]: «سَعدُ بنُ عُبَيدَةَ السّلمِيُّ، أَبو حَمزَةَ الكُوفِيُّ، ثِقَةٌ منَ الثَّالِثَةِ، مَات في وِلَايةِ عُمرَ بنِ هُبَيرةَ على العِراقِ، ع»

(1)

.

(الشَّيخُ): والذي قَبلَهُ؟

[قال الحَافِظُ ابنُ حَجَرٍ رحمه الله في «تَقريبِ التَّهذيبِ» (2249)]: «سَعدُ بنُ عُبَيدٍ الزُّهرِيُّ مَولَى عَبدِ الرَّحمَنِ بنِ أَزهَرَ، يُكَنَّى أَبَا عُبَيدٍ، ثِقَةٌ منَ الثَّانِيَةِ، وقِيلَ: له إِدْرَاكٌ، ع» .

قَالَ ابنُ بَازٍ رحمه الله: هَذَا الأَوَّلُ ابنُ أَزهَرِ بنِ عُبَيدٍ، وهَذَا السُّلَمِيُّ بِالهَاءِ ابنُ عُبَيدَةَ.

* * *

(1)

«التقريب» (2249)

ص: 414

‌بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج:

21، 22]

{وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} [الطور: 1، 2] قَالَ قَتَادَةُ: مَكْتُوبٌ، {يَسْطُرُونَ} [القلم: 1]: يَخُطُّونَ، {فِي أُمِّ الْكِتَابِ} [الزخرف: 4]: جُمْلَةِ الكِتَابِ وَأَصْلِهِ، {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ} [ق: 18]: مَا يَتَكَلَّمُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا كُتِبَ عَلَيْهِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُكْتَبُ الخَيْرُ وَالشَّرُّ، {يُحَرِّفُونَ} [النساء: 46]: يُزِيلُونَ، وَلَيْسَ أَحَدٌ يُزِيلُ لَفْظَ كِتَابٍ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ عز وجل، وَلَكِنَّهُمْ يُحَرِّفُونَهُ، يَتَأَوَّلُونَهُ عَنْ غَيْرِ تَأْوِيلِهِ {دِرَاسَتِهِمْ} [الأنعام: 156]: تِلَاوَتُهُمْ، {وَاعِيَةٌ} [الحاقة: 12]: حَافِظَةٌ، {وَتَعِيَهَا} [الحاقة: 12]: تَحْفَظُهَا، {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ} [الأنعام: 19]، يَعْنِي أَهْلَ مَكَّةَ {وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19]: هَذَا القُرْآنُ فَهُوَ لَهُ نَذِيرٌ.

7553 -

وَقَالَ لِي خَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاطٍ: حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ، سَمِعْتُ أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَمَّا قَضَى اللَّهُ الخَلْقَ، كَتَبَ كِتَابًا عِنْدَهُ: غَلَبَتْ - أَوْ قَالَ - سَبَقَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي، فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ العَرْشِ»

(1)

.

(1)

ورواه مسلم (2751).

ص: 415

7554 -

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي غَالِبٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ، سَمِعْتُ أَبِي، يَقُولُ: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، أَنَّ أَبَا رَافِعٍ، حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ كِتَابًا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الخَلْقَ: أَنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي، فَهُوَ مَكْتُوبٌ عِنْدَهُ فَوْقَ العَرْشِ»

(1)

.

(الشَّيخُ): تَكَلَّمَ عليه الشَّارِحُ «مُحمَّدُ بنُ أَبِي غَالِبٍ» ؟ هَذَا غَرِيبٌ من مَشَايخِ المُؤَلِّفِ. العَينِيُّ أو الحَافِظُ؟

[قَالَ الحَافِظُ ابنُ حَجرٍ رحمه الله فِي «فَتْحِ البَارِي» (13/ 526)]: «قَوْلُهُ: «حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي غَالِبٍ» ، فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ «حَدَّثَنَا» وَهُوَ قُومَسِيٌّ نَزَلَ بَغْدَادَ وَيُقَالُ لَهُ: الطَّيَالِسِيُّ وَكَانَ حَافِظًا مِنْ أَقْرَانِ الْبُخَارِيِّ، كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي «بَابِ الْأَخْذِ بِالْيَدِ» مِنْ كِتَابِ الِاسْتِئْذَانِ.

وَقَدْ نَزَلَ الْبُخَارِيُّ فِي هَذَا الْإِسْنَادِ دَرَجَةً بِالنِّسْبَةِ لِحَدِيثِ مُعْتَمِرٍ، فَإِنَّهُ أَخْرَجَ عَنْهُ الْكَثِيرَ بِوَاسِطَةِ وَاحِدٍ، فَعِنْدَهُ فِي الْعِلْمِ وَالْجِهَادِ وَالدَّعَوَاتِ وَالْأَشْرِبَةِ وَالصُّلْحِ وَاللِّبَاسِ عِدَّةُ أَحَادِيثَ أَخْرَجَهَا مُسَدَّدٌ». [انتهى كلامه].

قَالَ ابنُ بَازٍ رحمه الله: أَخرَجَهَا الْمُؤَلِّفُ عن مُسَدَّدٍ، لَعلها عن مُسَدَّدٍ، يَعْنِي الْمُؤلِّفَ في هَذَا عن شَيخِهِ مُسَدَّدٍ عن مُعتَمِرٍ.

(1)

ورواه مسلم (2751).

ص: 416

[قال الحَافِظُ رحمه الله]: «عن مُسَدَّدٍ عَنْ مُعتَمِرٍ وَدَرَجَتَيْنِ بِالنِّسْبَةِ لِحَدِيثِ قَتَادَةَ؛ فَإِنَّهُ عِنْدَهُ الْكَثِيرُ مِنْ رِوَايَةِ شُعْبَةَ عَنْهُ بِوَاسِطَةِ وَاحِدٍ عَنْ شُعْبَةَ، وَقَدْ سَمِعَ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ، وَالْأَنْصَارِيُّ سَمِعَ مِنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، وَلَكِنْ لَمْ يُخَرِّجِ الْبُخَارِيُّ هَذِهِ التَّرْجَمَة فِي «الْجَامِعِ» ، وَمُحَمّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ شَيْخُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي غَالِبٍ بَصرِيٌّ يُقَال لَهُ ابنُ أَبِي سَمِينَةَ بِمُهْمَلَةٍ وَنُونٍ وَزْنُ عَظِيمَة، مِنَ الطَّبَقَةِ الثَّالِثَةِ مِنْ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، وَقَدْ أَخْرَجَ عَنْهُ فِي «التَّارِيخِ» بِلَا وَاسِطَةٍ، وَلَمْ أَرَ عَنْهُ فِي «الْجَامِعِ» شَيْئًا إِلَّا هَذَا الْمَوْضِعَ، وَقَدْ سَمِعَ مِنْهُ مَنْ حَدَّثَ عَنِ الْبُخَارِيِّ مِثْلُ صَالِحِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْحَافِظِ الْمُلَقَّبِ جَزَرَةً بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالزَّايِ وَمُوسَى بْنِ هَارُونَ وَغَيْرِهِمَا». [انتهى كلامه].

قَالَ ابنُ بَازٍ رحمه الله: مثل ما قَالَ المُؤلِّفُ ما أَذكُرُ أَنَّه مَرَّ معَنَا إلا هَذِه المرَّةَ مُحَمَّدُ بنُ إِسمَاعِيلُ هَذَا، مُحَمَّدُ بنُ أَبِي غَالِبٍ هَكَذَا، كذَلكَ قَلِيلٌ، غَفرَ اللهُ له.

يُراجَعُ بَعضُ الْمَوَاضِعِ هَذِه، الظَّاهِرُ أنَّ الكَلَامَ «أَخرَجَهُ عن مُسَدَّدٍ» ، يَعْنِي: المُؤلِّفَ يُرَاجَعُ بَعضُ المَوَاضِعِ التي أَشَارَ لها.

قَولُهُ: «إن رَحمَتِي سَبَقَت غضَبِي» : وهَذَا مما يَجعَلُ المُؤمِنَ تَغلِبُ عليه عِبَادَةُ الرَّجَاءِ وحُسنِ الظَّنِّ بِاللهِ عز وجل، ولكِنْ لا يَحمِلُهُ ذَلكَ على الأَمنِ مِنْ مَكرِ اللهِ، بل على حُسنِ الظَّنِّ باللهِ وحُسنِ الرَّجَاءِ؛ فإن رَحمَتَهُ سَبَقَتْ غَضَبَهُ، وهو القَائلُ سُبحَانَهُ:{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ (156)} [الأعراف: 156] وقال عنه المَلَائِكَةُ: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر: 7].

فَالمُؤمِنُ يُحسِنُ ظَنَّهُ بِرَبِّهِ، ويَحذَرُ الأَمنَ مِنْ مَكرِهِ، فقد قَالَ: {وَرَحْمَتِي

ص: 417

وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ (156)} [الأعراف: 156] ثم قَالَ: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156)} [الأعراف: 156] فَليست هَذِه الرَّحمَةُ تَنالُ مَنْ كَفَرَ به وتَركَ دِينَهُ، ولكنَّهَا وَاسِعَةٌ، يَنَالُهم منها نَصِيبُهُمْ مِنْ الرَّزقِ في الدُّنيَا، والصَّحَّةِ في الدُّنيَا، والتَّمكِينِ مِنْ سَمَاعِ الحُجَجِ، وهَذَا مِنْ رَحمَتِهِ سبحانه وتعالى.

فَرحمَتُهُ عَامَّةٌ لهم في الدُّنيَا، ولكن لا يَفُوزُ بها في الآخِرَةِ ويَحصُلُ له أَثَرُهَا في الآخِرَةِ إلا مَنْ اتَّقَى واسْتَقَامَ على أَمرِهِ، ووَحَّدَهُ وأَخلَصَ له، هَؤلَاء هم أَهْلُ الرَّحمَةِ، فمَنِ استَقَامَ على التَّقوَى حَصَلَت له الرَّحمَةُ الكَامِلَةُ، ومَن أَخَلَّ بِالتَّقوَى بِبَعضِ المَعَاصِي نَالَهُ منها بِقَدرِ ما عنده مِنَ الخَيرِ والهُدَى.

هو مَكتُوبٌ عنده فَوقَ العَرشِ؟

نعم. يَعْنِي كِتَابَهُ.

العَرشُ فَوقَ المَخلُوقَاتِ، فَوقَهُ الكِتَابُ؟

الكِتَابُ فَوقَ العَرشِ نعم، عند اللهِ سُبحَانَهُ، ما في مَانِعٌ، العَرشُ سَقفُ المَخلُوقَاتِ، ولا مَانِعَ أن يَكُونَ فَوقَهُ شَيءٌ بِأمرِ اللهِ، لا مَانِعَ.

* * *

ص: 418

‌بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96]، {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:

49].

وَيُقَالُ لِلْمُصَوِّرِينَ: «أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ» {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54].

قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: بَيَّنَ اللَّهُ الخَلْقَ مِنَ الأَمْرِ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف: 54] وَسَمَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الإِيمَانَ عَمَلًا.

قَالَ أَبُو ذَرٍّ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ: سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَيُّ الأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَجِهَادٌ فِي سَبِيلِهِ» وَقَالَ: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17].

وَقَالَ وَفْدُ عَبْدِ القَيْسِ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: مُرْنَا بِجُمَلٍ مِنَ الأَمْرِ، إِنْ عَمِلْنَا بِهَا دَخَلْنَا الجَنَّةَ، فَأَمَرَهُمْ بِالإِيمَانِ وَالشَّهَادَةِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ.

فَجَعَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ عَمَلًا.

ص: 419

7555 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الوَهَّابِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَهَّابِ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، وَالقَاسِمِ التَّمِيمِيِّ، عَنْ زَهْدَمٍ، قَالَ: كَانَ بَيْنَ هَذَا الحَيِّ مِنْ جَرْمٍ وَبَيْنَ الأَشْعَرِيِّينَ وُدٌّ وَإِخَاءٌ، فَكُنَّا عِنْدَ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ فَقُرِّبَ إِلَيْهِ الطَّعَامُ، فِيهِ لَحْمُ دَجَاجٍ وَعِنْدَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَيْمِ اللَّهِ كَأَنَّهُ مِنَ المَوَالِي، فَدَعَاهُ إِلَيْهِ فَقَالَ الرَّجُلُ: إِنِّي رَأَيْتُهُ يَأْكُلُ شَيْئًا فَقَذِرْتُهُ فَحَلَفْتُ لَا آكُلُهُ، فَقَالَ: هَلُمَّ فَلْأُحَدِّثْكَ عَنْ ذَاكَ: إِنِّي أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي نَفَرٍ مِنَ الأَشْعَرِيِّينَ نَسْتَحْمِلُهُ، قَالَ:«وَاللَّهِ لَا أَحْمِلُكُمْ وَمَا عِنْدِي مَا أَحْمِلُكُمْ» ، فَأُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِنَهْبِ إِبِلٍ، فَسَأَلَ عَنَّا، فَقَالَ:«أَيْنَ النَّفَرُ الأَشْعَرِيُّونَ؟» ، فَأَمَرَ لَنَا بِخَمْسِ ذَوْدٍ غُرِّ الذُّرَى، ثُمَّ انْطَلَقْنَا، قُلْنَا: مَا صَنَعْنَا؟ حَلَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لَا يَحْمِلُنَا وَمَا عِنْدَهُ مَا يَحْمِلُنَا؟ ثُمَّ حَمَلَنَا، تَغَفَّلْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَمِينَهُ، وَاللَّهِ لَا نُفْلِحُ أَبَدًا، فَرَجَعْنَا إِلَيْهِ فَقُلْنَا لَهُ: فَقَالَ: «لَسْتُ أَنَا أَحْمِلُكُمْ، وَلَكِنَّ اللَّهَ حَمَلَكُمْ، إِنِّي وَاللَّهِ لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلَّا أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ وَتَحَلَّلْتُهَا»

(1)

.

(الشَّيخُ): رَاجِعِ الكَلَامَ على القَاسِمِ التَّمِيمِيِّ. العَينِيُّ فيه شَيءٌ؟

[قَالَ الحَافِظُ ابنُ حَجرٍ رحمه الله فِي «فَتْحِ البَارِي» (13/ 534)]: «والقَاسِمُ التَّمِيمِيُّ هو ابنُ عَاصِمٍ» . [انتهى كلامه].

(1)

ورواه مسلم (1649).

ص: 420

[قال الإِمَامُ العَينِيُّ رحمه الله في «عُمدَةِ القَارِي» (25/ 198)]: «والقَاسِمُ بن عَاصِمٍ التَّمِيمِيُّ، ويُقَالُ: الكَلبِيّ، ويُقَالُ: اللَّيثِيُّ» . [انتهى كلامه].

قَالَ ابنُ بَازٍ رحمه الله: وهَذَا أَصْلٌ في أنَّ المُؤمِنَ إذا حَلَفَ على شَيءٍ ثم رَأَى ما هو أَصلَحُ منهُ يُكَفِّرُ عن يَمِينِهِ، ولِهذَا في اللَّفظِ الآخَرِ:«إِنِّي واللهِ لَا أَحلِفُ عَلى يَمِينٍ فأَرَى غَيرَهَا خَيرًا مِنْهَا إلا أَتَيتُ الَّذِي هُوَ خَيرٌ وكَفَّرتُ عن يَمِيْنِي»

(1)

، وفي الحَدِيثِ الآخَرِ:«إِذَا حَلفْتَ على يَمِينٍ فَرَأَيتَ غَيرَهَا خِيرًا مِنْهَا فَكَفِّرْ عن يَمِينِكَ وأْتِ الَّذِي هُوَ خَيرٌ»

(2)

.

وفيه: أنَّ أَعمَالَ العِبَادِ مَخلُوقَةٌ للهِ، وأنَّ اللهَ هو الذي حَمَلَهُم، يَسَّرَ أَمرهُم ويَسَّرَ للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم هَذَا المَالَ وهو الغَنِيمَةُ فَحمَلَهُم، فَفعلهُ فِعْل الْمَخلُوقِينَ، واللهُ خَالِقُهُم وأَعْمَالَهُم {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)} [الصافات: 96]، فَأعمَالُهُم من إِيمَانٍ وكُفرٍ وصَلَاةٍ وصَومٍ وحَملٍ ونُزُولٍ وغَيرِ ذَلكَ هي أَعمَالُهُم، مَخلُوقَةٌ للهِ عز وجل، واللهُ الخَلَّاقُ، وله الأَمرُ، فَالقَولُ غَيرُ الفِعلِ، فلهُ الأَمرُ سُبحَانَهُ، وله التَّصَرُّفُ في عِبَادِهِ:{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} [يس: 82] له الأَمرُ النَّافِذُ، وكَلمَاتُهُ وَصفٌ له سُبحَانَهُ، وهو بِسَائرِ صِفَاتِهِ هو الخَلَّاقُ، والعِبَادُ بِسَائرِ صِفَاتِهِم وأَعمَالِهِم مَخلُوقُونَ.

المُؤَلِّفُ كَرَّرَ هَذِه التَّرَاجِمَ {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل: 20]، {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21)} [البروج: 21] لِهذَا الغَرضِ بَيانُ

؟

نعم كُلُّهَا لِأجْلِ فِعلِ الْمَخلُوقِ نعم، والقِرَاءَةُ قِرَاءتهُ، والمَقرُوءُ كَلَامُ اللهِ سبحانه وتعالى.

(1)

رواه البخاري (6718)، ومسلم (1649)(7).

(2)

رواه البخاري (6622)، ومسلم (1650)(11).

ص: 421

(الشَّيخُ): رَاجِعِ الكَلَامَ على «جَرمٍ» ، الذي أَعرِفُهُ بِفَتحِ الجِيمِ قَبِيلهُ عَبدِ اللهِ بنِ زَيدٍ الجَرمِيِّ، أَبُو قلَابَةَ. «القَّامُوس» و «التَّقرِيب»: عَبد اللهِ بن زَيدٍ، أَبُو قلَابَةَ؟

[قالَ الحَافِظُ ابنُ حَجَرٍ رحمه الله في «تَقرِيبِ التَّهذيبِ» (3333)]: «عَبدُ اللهِ بنُ زَيدِ بنِ عَمرٍو أو عَامِرٍ الجَرْمِيُّ، أَبُو قلَابَةَ البَصْرِيُّ، ثِقَةٌ فَاضِلٌ، كَثِيرُ الإِرسَالِ، قَالَ العَجلِيُّ: فيه نَصبٌ يَسِيرٌ، مِنَ الثَّالِثَةِ، مَاتَ بِالشَّامِ هَارِبًا مِنَ القَضَاءِ سَنَةَ أَربَعِ مائَةٍ، وقِيلَ بَعدَها، ع» .

قال في «القَامُوسِ»

(1)

: «والجَرْمُ: الحَارُّ، مُعَرَّبٌ، والأرضُ الشَّديدَةُ الحَرِّ، وزَوْرَقٌ يَمَنِيّ، ج: جُرُومٌ، وبَطْنٌ في طَيِّئٍ» . [انتهى كلامه].

قَالَ ابنُ بَازٍ رحمه الله: هَذَا هو، جَرمٌ، هَذِه فَائِدَةٌ ثَانِيةٌ، أَنَّه بَطنٌ مِنْ طَيِّئٍ.

7556 -

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا قُرَّةُ ابْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو جَمْرَةَ الضُّبَعِيُّ، قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ؛ فَقَالَ: قَدِمَ وَفْدُ عَبْدِ القَيْسِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: إِنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ المُشْرِكِينَ مِنْ مُضَرَ، وَإِنَّا لَا نَصِلُ إِلَيْكَ إِلَّا فِي أَشْهُرٍ حُرُمٍ، فَمُرْنَا بِجُمَلٍ مِنَ الأَمْرِ إِنْ عَمِلْنَا بِهِ دَخَلْنَا الجَنَّةَ، وَنَدْعُو إِلَيْهَا مَنْ وَرَاءَنَا، قَالَ:«آمُرُكُمْ بِأَرْبَعٍ وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَعٍ: آمُرُكُمْ بِالإِيمَانِ بِاللَّهِ، وَهَلْ تَدْرُونَ مَا الإِيمَانُ بِاللَّهِ؟ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَإِقَامُ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَتُعْطُوا مِنَ المَغْنَمِ الخُمُسَ، وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَعٍ: لَا تَشْرَبُوا فِي الدُّبَّاءِ، وَالنَّقِيرِ، وَالظُّرُوفِ المُزَفَّتَةِ، وَالحَنْتَمَةِ»

(2)

.

(1)

«القاموس المحيط» (1087).

(2)

ورواه مسلم (17).

ص: 422

وهَذِه كُلُّهَا مِنْ أَعمَالِهِم لِمَا تَقَدَّمَ، كُلُّهَا جَعَلَهَا عَمَلًا؛ فَأقوَالُهُم وأَعمَالُهُم مَخلُوقَةٌ.

وفيه: أنَّ العَملَ منَ الإِيمَانِ، والرَّدُّ على المُرجِئَةِ، فَالأَعمَالُ كُلُّهَا مِنَ الإِيمَانِ، ولِهذَا قَالَ عليه الصلاة والسلام:«الإِيمَانُ بِضعٌ وسِتُّوَن شُعبَةً -أو قال- بِضعٌ وسَبعُونَ شُعبَةً، فَأفضَلُهَا قَولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عنِ الطَّرِيقِ، والحِيَاءُ شُعبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ»

(1)

، فَجَعَلَ إِمَاطَةَ الأَذَى مِنَ الطَّرِيقِ، وجَعلَ الحَيَاءَ وكَلمَةَ لا إِلهَ إلَّا اللهُ وبَقِيَّةَ أُمُورِ الدِّينِ كُلِّهَا مِنْ الإِيمَانِ.

وأمَّا النَّهيُ عنِ الشُّربِ في الدُّبَّاءِ والحَنتَمِ والنَّقِيرِ والْمُزَفَّتِ فهَذَا كَانَ في أَوَّلِ الإِسلَامِ ثم نُسِخَ، كَانَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم نَهَاهُم عن الدَّبَّاءِ: وهو القَرعُ، والحَنتَمِ: وهي الجَرَّةُ تُعمَلُ منَ الطِّينِ، والنَّقِيرُ: يُنقَرُ مِنَ الجُذُوعِ، والمُزَفَّتُ: الْمُقَيَّرُ، كَانُوا يَنبِذُونَ فيْهَا الرُّطَبَ والتَّمرَ والزَّبِيبَ حَتَّى يَتَخَمَّرَ ثم يَشرَبُونَها، فَنُهُوا عن ذَلكَ.

فلمَّا حُرِّمَتِ الخَمرُ صَارَ الْمُسلِمُ قد يَشرَبُها، ما يَعلَمُونَ أَنَّها تَخَمَّرَت؛ لِأَنَّهَا قَوِيةٌ لا يَبِينُ فيها الشِّدَّةُ؛ فَنُهُوا عن النَّبذِ فيها لِئَلَّا يَقَعُوا في شُربِ الخَمرِ، وأُمِرُوا بِالشُّربِ في الأَوعِيَةِ التي يُلَاثُ على أَفْوَاهِهَا مِنَ الجُلُودِ؛ لِأنَّه إذا اشتَدَّ بها الخَمرُ انْشَقَّتْ وانْصَدَعَتْ.

ثم قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «كُنْتُ نَهيتُكُمْ عَنِ الانْتِبَاذِ فِي الأَوعِيَةِ، فَانَتَبِذُوا في كُلِّ وِعَاءٍ، ولا تَشرَبُوا مُسْكِرًا»

(2)

. فَرَخَّصَ لهم بعد ذَلكَ في الانْتِبَاذِ في هَذِه الأَوعِيَةِ، لكن مع الحَذَرِ مِنْ شُربِ الْمُسْكِرِ، يَعْنِي: يَعتَنُوا بها، فإذا ظَهَرَ فيها الشِّدَّةُ وبَانَ فيها التَّخمُّرُ أُرِيقَتْ.

* * *

(1)

رواه البخاري (9)، ومسلم (35)(57).

(2)

رواه مسلم (977)(106).

ص: 423

7557 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ القَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الصُّوَرِ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَيُقَال لهُم أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ»

(1)

.

7558 -

حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الصُّوَرِ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَيُقَال لهُم أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ»

(2)

.

يَعْنِي ما صَوَّرتم وأَوجَدتُم، فَجَعَلَه عَمَلًا لهم وهو تَصوِيرُهَا على النَّحوِ الذي أَرَادُوا.

و «الخَلَّاقُ» : هو اللهُ الذي أَوجَدَهَا، واللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيءٍ فَسَمَّى تَصوِيرَهُم خَلقًا؛ لِأنَّه يَتَضَمَّنُ تَقدِيرًا وتَحدِيدًا، وهَذَا يُسَمَّى خَلْقًا كما قَالَ تَعَالَى:{فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)} [المؤمنون: 14]. أَي: الْمُقَدِّرِينَ، وإِلَّا فَالخَلَّاقُ هو اللهُ وَحدَهُ سُبحَانَهُ، هو الْمُوجِدُ والْمُنشِئُ والْمُحدِثُ هو اللهُ وَحدَهُ، لَيْسَ هُنَاكَ خَالِقٌ آخَرُ:{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 62]{هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} [فاطر: 3]. لكن

(1)

ورواه مسلم (2107).

(2)

ورواه مسلم (2108).

ص: 424

تَصوِيرُ الأَشيَاءِ وتَقدِيرُهَا وتَنظِيمُهَا يَقعُ مِنْ الْمَخلُوقِ، مِنْ أَعمَالِ المَخلُوقِ، ومِن هَذَا قَولُ الشَّاعِرِ:

ولأنت تَفرِي ما خَلقْتَ

وبَعْضُ القَومِ يَخلُقُ ثم لا يَفْرِي

يَعْنِي يُقَدِّرُ ثم لا يُنْشِئُ ولا يُوجِدُ مِنَ العَمَلِ.

المَقصُودُ أنَّ هُنَا خَلْقَهُم يَعْنِي: تَصويرَهُم إِيَّاهَا على الشَّكلِ الَّذِي يُرِيدُونَ، أَمَّا المَادَّةُ والعَمَلُ فهو خَلقُ اللهِ سبحانه وتعالى هو الذي خَلَقَهُم وخَلقَ أَعمَالَهُم والمَادَّةَ التي صَوَّرُوهَا.

7559 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ العَلَاءِ، حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «قَالَ اللَّهُ عز وجل: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِي، فَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً أَوْ لِيَخْلُقُوا حَبَّةً أَوْ شَعِيرَةً»

(1)

.

(الشَّيخُ): تَكَلَّمَ الشَّارِحُ على كَلِمَةِ «خَلَقتُمْ» العَينِيُّ أو الشَّارِحُ؟.

[قَالَ الحَافِظُ ابنُ حَجرٍ رحمه الله فِي «فَتْحِ البَارِي» (13/ 534)]: «وَقَوْلُهُ: «يَخْلُقُ كَخَلْقِي» نَسَبَ الْخَلْقَ إِلَيْهِمْ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ أَوِ التَّشْبِيهِ فِي الصُّورَةِ فَقَطْ، وَقَوْلُهُ:«فَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً أَوْ شَعِيرَةً» أَمْرٌ

(1)

ورواه مسلم (2111).

ص: 425

بِمَعْنَى التَّعْجِيزِ، وَهُوَ عَلَى سَبِيلِ التَّرَقِّي فِي الْحَقَارَةِ أَوِ التَّنَزُّلِ فِي الْإِلْزَامِ، وَالْمُرَادُ بِالذَّرَّةِ إِنْ كَانَ النَّمْلَةُ فَهُوَ مِنْ تَعْذِيبِهِمْ وَتَعْجِيزِهِمْ بِخَلْقِ الْحَيَوَانِ تَارَةً، وَبِخَلْقِ الْجَمَادِ أُخْرَى، وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى الْهَبَاءِ فَهُوَ بِخَلْقِ مَا لَيْسَ لَهُ جِرْمٌ مَحْسُوسٌ تَارَةً، وبِمَا لهُ جِرْمٌ أُخْرَى، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ «أَوْ» شَكًّا من الرَّاوِي.

قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ وَغَيْرِهِ: «يُقَالُ لَهُمْ: أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ» إِنَّمَا نَسَبَ خَلْقَهَا إِلَيْهِمْ تَقْرِيعًا لَهُمْ بِمُضَاهَاتِهِمُ اللَّهَ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ؛ فَبَكَّتَهُمْ بِأَنْ قَالَ: إِذَا شَابَهْتُمْ بِمَا صَوَّرْتُمْ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ تَعَالَى فَأَحْيُوهَا كَمَا أَحْيَا هُوَ مَنْ خَلَقَ.

وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: أَسْنَدَ الْخَلْقَ إِلَيْهِمْ صَرِيحًا وَهُوَ خِلَافُ التَّرْجَمَةِ، لَكِنَّ الْمُرَادَ كَسْبُهُمْ؛ فَأَطْلَقَ لَفْظَ «الْخَلْقِ» عَلَيْهِمُ اسْتِهْزَاءً، أَوْ ضَمَّنَ «خَلَقْتُمْ» مَعْنَى صَوَّرْتُمْ تَشْبِيهًا بِالْخَلْقِ، أَوْ أَطْلَقَ بِنَاءً عَلَى زَعْمِهِمْ فِيهِ.

قُلْتُ: وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ مُنَاسَبَةَ ذِكْرِ حَدِيثِ الْمُصَوِّرِينَ لِتَرْجَمَةِ هَذَا الْبَابِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَخْلُقُ فِعْلَ نَفْسِهِ لَوْ صَحَّتْ دَعْوَاهُ لَمَا وَقَعَ الْإِنْكَارُ عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُصَوِّرِينَ، فَلَمَّا كَانَ أَمْرُهُمْ بِنَفْخِ الرُّوحِ فِيمَا صَوَّرُوهُ أَمْرَ تَعْجِيزٍ وَنِسْبَةُ الْخَلْقِ إِلَيْهِمْ إِنَّمَا هِيَ عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ وَالِاسْتِهْزَاءِ؛ دَلَّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ مَنْ نَسَبَ خَلْقَ فِعْلِهِ إِلَيْهِ اسْتِقْلَالًا. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

ثُمَّ قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: هَذِهِ الْأَحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ مَنْسُوبٌ إِلَى الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْكَسْبِ اعْتِبَارُ الْجِهَتَيْنِ؛ فَيُسْتَفَادُ الْمَطْلُوبُ مِنْهَا وَلَعَلَّ غَرَضَ الْبُخَارِيِّ فِي تَكْثِيرِ هَذَا النَّوْعِ فِي الْبَابِ وَغَيْرِهِ بَيَانُ جَوَازِ مَا نُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ» إِنْ صَحَّ عَنْهُ.

ص: 426

قُلْتُ: قَدْ صَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ تَبَرَّأَ مِنْ هَذَا الْإِطْلَاقِ؛ فَقَالَ: كُلُّ مَنْ نَقَلَ عَنِّي أَنِّي قُلْتُ: «لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ» فَقَدْ كَذَبَ عَلَيَّ، وَإِنَّمَا قُلْتُ: أَفْعَالُ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ. أَخْرَجَ ذَلِكَ غُنْجَارٌ فِي تَرْجَمَةِ الْبُخَارِيِّ من «تَارِيخ بُخَارَى» بِسَنَدٍ صَحِيحٍ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيِّ الْإِمَامِ الْمَشْهُورِ أَنَّهُ سَمِعَ الْبُخَارِيَّ يَقُولُ ذَلِكَ، وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي عُمَرَ وَأَحْمَدَ بْنِ نَصْرٍ النَّيْسَابُورِيِّ الْخَفَّافِ أَنَّهُ سَمِعَ الْبُخَارِيَّ يَقُولُ ذَلِكَ». [انتهى كلامه].

قَالَ ابنُ بَازٍ رحمه الله: وما ذَلكَ إلا لأنَّ «لَفظِي بِالقُرآنِ» مُحتَمِلَةٌ، فلِهذَا تَبَرَّأَ منها، لِأنَّه يَحتَمِلُ «لَفظِي» الصَّوتَ، ويَحتمِلُ المَلفُوظَ؛ فلِهذَا تَبَرَّأَ من ذَلكَ كما أَنْكَرَ ذَلكَ جَمعٌ مِنَ السَّلَفِ، لِئَلَّا يُتَوَصَّلَ بذَلكَ إلى قَولِ الجَهمِيَّةِ.

فَرقٌ بين اللَّفظِ والصَّوتِ، الصَّوتُ لا يَشتَبِهُ، واللَّفظُ قد يُؤَوَّلُ على المَلفُوظِ كَالخَلقِ بِمَعنَى المَخلُوقِ؛ فَلِهذَا تَبَرَّأَ من ذَلكَ، وَأنَّه يُبَينُ أن أَفعَالَهُم مَخلُوقَةٌ ومن ذَلكَ أَصوَاتُهُم كما تَقَدَّمَ.

الصَّوتُ ما فيه اشْتِباهٌ عَفَا اللهُ عنكَ؟

الصَّوتُ لا، صُوتُهُ هو، ما يَسمَعُ النَّاسَ إلا صَوتَهُ هو، ما هو صَوتُ اللهِ.

اللَّفظُ؟

يَحتَمِلُ أَوضَح مِنْ «لَفظِي» «تَلَفُّظِي» ما يَحتَمِلُ مَعنَى المَفعُولِ، ولكن أَحسَنُ منه «صَوتِي» ، وإذا أَرَادَ اللَّفظَ بِمَعنَى الصَّوتِ ما فيه مَحذُورٌ، الأَعمَالُ بِالنِّيَّاتِ.

ص: 427

‌بَابُ قِرَاءَةِ الفَاجِرِ وَالمُنَافِقِ، وَأَصْوَاتُهُمْ وَتِلَاوَتُهُمْ لَا تُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ

7560 -

حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، حَدَّثَنَا أَنَسٌ، عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَثَلُ المُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ القُرْآنَ كَالأُتْرُجَّةِ، طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَرِيحُهَا طَيِّبٌ، وَالَّذِي لَا يَقْرَأُ كَالتَّمْرَةِ، طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَلَا رِيحَ لَهَا، وَمَثَلُ الفَاجِرِ الَّذِي يَقْرَأُ القُرْآنَ كَمَثَلِ الرَّيْحَانَةِ، رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ، وَمَثَلُ الفَاجِرِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ القُرْآنَ كَمَثَلِ الحَنْظَلَةِ، طَعْمُهَا مُرٌّ وَلَا رِيحَ لَهَا»

(1)

.

هَذَا الفَاجِرُ وفي اللَّفظِ الآخَرِ «المُنَافِقُ» ، والمُرَادُ الكَافِرُ الذي يِدَّعِي الإِسلَامَ.

وهَذِه أَمثِلَةٌ عَظِيمَةُ مَثَّلَ بها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لِأهلِ القُرآِن، «فَالمُؤمِنُ الذي يَقرَأُ القُرآنَ كَمثلِ الأُترُجَّةِ طَعمُهَا طَيبٌ وَرِيحُهَا طَيِّبٌ والمُؤمِنُ الَّذِي لا

(1)

ورواه مسلم (797).

ص: 428

يَقرَأُ القُرآنَ - أُمِّيٌّ - كَمثَلِ التَّمرَةِ طَعمُهَا طَيبٌ وليسَ لهَا رِيحٌ». ولَكنَّه مُؤمِنٌ.

«والفَاجِرُ» وفي اللَّفظِ الآخَرِ: «المُنَافِقُ الذي يَقرَأُ القُرآنَ كَالرَّيحَانَةِ لها رِيحٌ طَيِّبٌ»

(1)

وهو ما يَصدُرُ منه من القُرآنِ «وطَعمُهَا مُرٌّ» ؛ لأنَّ عَمَلَهُ خَبِيثٌ.

فَالمُنَافِقُ الذي لا يَقرَأُ أو الفَاجِرُ لا رِيحَ ولا طَعمَ كَالحَنظَلَةِ لا رِيحَ طِيبٌ ولا طَعمَ طَيِّبٌ، نَسأَلُ اللهَ السَّلَامَةَ.

وفي هَذَا فَضلُ قِرَاءَةِ القُرآنِ والاستِكثَارِ مِنْ قِرَاءةِ القُرآنِ، فَيَنبَغِي للمُؤمِنِ أن يَكُونَ له نَصِيبٌ من ذَلكَ.

الفَاجِرُ هنا يُفَسَّرُ بِالمُنَافِقِ؟

كما في الرِّوَايَاتِ الأُخْرَى المُنَافِقُ، أمَّا الفَاجِرُ الذي هو العَاصِي هَذَا بَينَ بَينَ، على طَرِيقَةِ الأَدِلَّةِ، وقد ذَكَرَ العُلمَاءُ أنَّ العَاصِيَ يُسَمَّى ذا الشَّائِبَتَينِ، في الغَالِبِ النُّصُوصُ تَسكُتُ عنه: المُؤمِنُ والكَافِرُ، المَؤمِنُ والمُنَافِقُ. يُسكَتُ عن صَاحِبِ الشَّائِبَتَينِ، يَبقَى بين الرَّجَاءِ والخَوفِ، فليس مع هَؤلَاءِ مَذكُورًا ولا مع هَؤلَاءِ مَذكُورًا، فَيبقَى تَحتَ الخَوفِ وتَحتَ الحَذرِ، ولكن عند النِّهَايةِ وعند التَّحقِيقِ يَرجِعُ إلى القِسمِ الأَوَّلِ، قِسمِ أَهْلِ الإِيمَانِ لِعَقِيدَتهِ الصَّالحَةِ وتَوحِيدِهِ، وإن جَرَى عليه ما يَجرِي منَ التَّعذِيبِ في النَّارِ بِأعمَالِهِ السَّيئَةِ التي مات عليها ولم يَتُبْ، لكنه مُلحَقٌ بالمُؤمِنِينَ في النّهَايَةِ.

(الشَّيخُ): رَاجِعْ نَبَّهَ الشَّارِحُ على الرِّوَايَةِ الأُخْرَى المنَافق أو الفَاجِر؟

[قَالَ الحَافِظُ ابنُ حَجرٍ رحمه الله فِي «فَتْحِ البَارِي» (13/ 536)]: «قوْلُهُ بَابُ قِرَاءَةِ الْفَاجِرِ وَالْمُنَافِقِ وَتِلَاوَتُهُمْ لَا تُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ» :

(1)

رواه البخاري (5059)، ومسلم (243)(797).

ص: 429

قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: الْمُرَادُ بِالْفَاجِرِ الْمُنَافِقُ، بِقَرِينَةٍ جَعَلَهُ قَسِيمًا لِلْمُؤْمِنِ فِي الْحَدِيثِ -يَعْنِي الْأَوَّلَ- وَمُقَابِلًا لَهُ؛ فَعَطْفُ الْمُنَافِقِ عَلَيْهِ فِي التَّرْجَمَةِ مِنْ بَابِ الْعَطْفِ التَّفْسِيرِيِّ.

قَالَ: وَقَوْلُهُ: «وَتِلَاوَتُهُمْ» مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ «لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ» ، وَإِنَّمَا جَمَعَ الضَّمِيرَ لِأَنَّهُ حِكَايَةٌ عَنْ لَفْظِ الْحَدِيثِ. قَالَ: وَزِيدَ فِي بَعْضِهَا: «وَأَصْوَاتُهُمْ» . قُلْتُ: هِيَ ثَابِتَةٌ فِي جَمِيعِ مَا وَقَفْنَا عَلَيْهِ مِنْ نُسَخِ الْبُخَارِيِّ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ «قِرَاءَةُ الْفَاجِرِ أَوِ الْمُنَافِقِ» بِالشَّكِّ، وَهُوَ يُؤَيِّدُ تَأْوِيلَ الْكِرْمَانِيِّ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِلتَّنْوِيعِ، وَالْفَاجِرُ أَعَمُّ مِنَ الْمُنَافِقِ؛ فَيَكُونُ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، وَذَكَرَ فِيهِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ:

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: حَدِيثُ أَبِي مُوسَى وَهُوَ الْأَشْعَرِيُّ: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِ» وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي «فَضَائِلِ الْقُرْآنِ» ، وَالسَّنَدُ كُلُّهُ بَصْرِيُّونَ وَمُطَابَقَتُهُ لِلتَّرْجَمَةِ ظَاهِرَةٌ، وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا مِنَ الْأَبْوَابِ أَنَّ التِّلَاوَةَ مُتَفَاوِتَةٌ بِتَفَاوُتِ التَّالِي؛ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مِنْ عَمَلِهِ.

وَقَالَ ابنُ بَطَّالٍ: مَعْنَى هَذَا الْبَابِ أَنَّ قِرَاءَةَ الْفَاجِرِ وَالْمُنَافِقِ لَا تَرْتَفِعُ إِلَى اللَّهِ وَلَا تَزْكُو عِنْدَهُ، وَإِنَّمَا يَزْكُو عِنْدَهُ مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُهُ وَكَانَ عَنْ نِيَّةِ التَّقَرُّبِ إِلَيْهِ، وَشَبَّهَهُ بِالرَّيْحَانَةِ حِينَ لَمْ يَنْتَفِعْ بِبَرَكَةِ الْقُرْآنِ وَلَمْ يَفُزْ بِحَلَاوَةِ أَجْرِهِ، فَلَمْ يُجَاوِزِ الطِّيبُ مَوْضِعَ الصَّوْتِ وَهُوَ الْحَلْقُ وَلَا اتَّصَلَ بِالْقَلْبِ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ». [انتهى كلامه].

قَالَ ابنُ بَازٍ رحمه الله: ودُخُولُ الخَارِجِيُّ في ذَلكَ لَيْسَ أيضًا بِبَعِيدٍ؛ لأنَّ الخَوَارجَ يَتَكَلَّفُونَ ويَتنَطَّعُونَ وابْتَدَعُوا، حَتَّى قَالَ جَمعٌ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ بِكُفرِهِم؛ لِقَولِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم:«يَحقِرُ أَحَدُكُم صَلَاتَهُ مع صَلَاتِهِم وقِرَاءَتَهُ مع قِرَاءَتِهِم يَمرُقُونَ مِنْ الإِسْلَامِ ثمَّ لا يَعُودُونَ إليه»

(1)

، في اللَّفظِ الآخَرِ:«لا تَتَجَاوُزُ قِرَاءَتُهُم حَنَاجِرَهُم»

(2)

، فهَذَا يَدخُلُ فيه الفَاجِرُ، فنَصَّ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم على أن قِراءَتَهُم لا تَتَجَاوُز حَنَاجِرَهُم ولا تَرتَفعُ لِبِدعَتِهِم الشَّنِيعَةِ أو لِكُفرِهِم على القَولِ الآخَرِ.

(1)

رواه البخاري (3610)، ومسلم (1064)(148).

(2)

رواه البخاري (3344)، ومسلم (1063)(142).

ص: 430

أمَّا الفَاجِرُ الذي هو العَاصِي هَذَا تَنْقُصُ قِرَاءتُهُ ويَنقُصُ فَضلُهُ على حَسَبِ مَعَاصِيهِ، ولكِنْ لَيْسَ مِثلَ المُنَافِقِ وليسَ مِثلَ المُؤمِنِ السَّالِمِ -السَّلِيمِ- بل بينهما، وهو صَاحِبُ الشَّائِبَتَينِ، لا مع هَؤلَاءِ المُؤمِنِينَ في سَلَامَةِ إِيمَانِهِ وفي كمَالَ قِرَاءتِهِ وفَضلِهَا، ولا مع المَنَافِقِينَ والخَوَارِجِ؛ لِأنَّه خَيرٌ منهم، ولكنَّه بين ذَلكَ.

ما مَعنَى لا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهَمُ؟

لا يُقبَلُ يَعْنِي، ما يَرتَفَعُ إلى اللهِ نَسأَلُ اللهَ العَافِيَةَ. ويَحتَمِلُ مَعنًى ثانيًا: وهو أَنَّه لا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُم وهو أَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفعَلُونَ، يَقرَؤونَ القُرآنَ وهم يُكَفِّرُونَ المُؤمِنِينَ، ويَقُولُونَ بِخلُودِهِم في النَّارِ إذا عَصَوا، فَصَارَت قِرَاءَتُهُم لم تَتَجَاوَزِ الحَنَاجِرَ؛ لأنهم لم يَعمَلُوا بها ولم يَتَأَثَّرُوا بها التَّأَثُرَ الشَّرعِيَّ. والأَوَّلُ أَظهَرُ، وهو أَنَّها لا تُقبَلُ ولا تَرتَفِعُ إلى اللهِ سبحانه وتعالى.

المُنَافِقُ يُؤجَرُ على قِرَاءَةِ القُرآنِ؟

لا، الْمُنَافقُ أَعمَالُه بَاطِلَةٌ، حَابِطَةٌ، ولِهذَا شبَّهَ قِرَاءَتَه بأنَّهَا رَيحَانَةٌ، التي رِيحُهَا طَيِّبٌ ولا طَعمَ لها.

7561 -

حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، ح وَحَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا عَنْبَسَةُ، حَدَّثَنَا يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ سَمِعَ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ يقول: قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: سَأَلَ أُنَاسٌ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الكُهَّانِ، فَقَالَ:«إِنَّهُمْ لَيْسُوا بِشَيْءٍ» ، فَقَالُوا: يا رَسُولَ اللهِ، فَإِنَّهُمْ

ص: 431

يُحَدِّثُونَ بِالشَّيْءِ يَكُونُ حَقًّا؟ قَالَ: فَقال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «تِلْكَ الكَلِمَةُ مِنَ الحَقِّ يَخْطَفُهَا الجِنِّيُّ، فَيُقَرْقِرُهَا فِي أُذُنِ وَلِيِّهِ كَقَرْقَرَةِ الدَّجَاجَةِ، فَيَخْلِطُونَ فِيهِ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ كَذْبَةٍ»

(1)

.

يَعْنِي أَفعَالَهَم؟ قَصدُ المُؤَلِّفِ؟

يَعْنِي أَفَعالَهُم نعم مِنْ كَذِبِهِم وافتِرَائِهِم وزِيَادَتِهِم فيما يَسمَعُونَ.

مع أنَّ التَّرجَمَةَ في القِرَاءةِ فَقَطْ وهَؤلَاءِ ما يَقرَؤُونَ يَعْنِي؟

قد يَسمَعُونَ أَشيَاءَ ويُوهِمُونَ مَولَاهُم أَنَّها قُرْآنٌ أو أَنَّها شَيءٌ مما أُنْزِلَ على مُحَمَّدٍ عليه الصلاة والسلام، نَسأَلُ اللهَ العَافِيَةَ.

7562 -

حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا مَهْدِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ، سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ سِيرِينَ، يُحَدِّثُ عَنْ مَعْبَدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«يَخْرُجُ نَاسٌ مِنْ قِبَلِ المَشْرِقِ، وَيَقْرَءُونَ القُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، ثُمَّ لَا يَعُودُونَ فِيهِ حَتَّى يَعُودَ السَّهْمُ إِلَى فُوقِهِ» ، قِيلَ: مَا سِيمَاهُمْ؟

(1)

ورواه مسلم (2228).

ص: 432

قَالَ: «سِيمَاهُمْ التَّحْلِيقُ - أَوْ قَالَ: التَّسْبِيدُ»

(1)

.

وهَؤلَاءِ هم الخَوَارجِ؛ لأنهم يُوجِبُونَ التَّحلِيقَ، وهو مِنْ خِصَالِهِم.

يُوجِبُونَهُ؟

هَذَا الظَّاهِرُ مِنْ طَريقِهِم، ولِهذَا جَعَلَها سِيمَا لهم، جَعلَهَا عَلَامَةً على أَصحَابِهِم.

(الشَّيخُ): ماذا قَالَ على (التَّسبِيدِ)؟

[قَالَ الحَافِظُ ابنُ حَجرٍ رحمه الله فِي «فَتْحِ البَارِي» (13/ 536)]: «قَولُهُ: التَّحْلِيقُ أَوْ قَالَ التَّسْبِيدُ. شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي وَهُوَ بِالْمُهْمَلَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ، بِمَعْنَى التَّحْلِيقِ وَقِيلَ: أَبْلَغُ مِنْهُ وَهُوَ بِمَعْنَى الِاسْتِئْصَالِ، وَقِيلَ: إِنْ نَبَتَ بَعْدَ أَيَّامٍ. وَقِيلَ: هُوَ تَرْكُ دَهْنِ الشَّعْرِ وَغَسْلِهِ.

قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: فِيهِ إِشْكَالٌ وَهُوَ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِ الْعَلَامَةِ وُجُودُ ذِي الْعَلَامَةِ فَيَسْتَلْزِمُ أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ مَحْلُوقَ الرَّأْسِ فَهُوَ مِنَ الْخَوَارِجِ وَالْأَمْرُ بِخِلَافِ ذَلِكَ اتِّفَاقًا. ثُمَّ أَجَابَ بِأَنَّ السَّلَفَ كَانُوا لَا يَحْلِقُونَ رؤوسهم إِلَّا لِلنُّسُكِ أَوْ فِي الْحَاجَةِ، وَالْخَوَارِجُ اتَّخَذُوهُ دَيْدَنًا؛ فَصَارَ شِعَارًا لَهُمْ وَعُرِفُوا بِهِ.

قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ حَلْقُ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ وَجَمِيعُ شُعُورِهِمْ، وَأَنْ يُرَادَ

(1)

ورواه مسلم (1064).

ص: 433

بِهِ الْإِفْرَاطُ فِي الْقَتْلِ وَالْمُبَالَغَةُ فِي الْمُخَالَفَةِ فِي أَمْرِ الدِّيَانَةِ.

قُلْتُ: الْأَوَّلُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ مِنَ الْخَوَارِجِ، وَالثَّانِي مُحْتَمِلٌ، لَكِنَّ طُرُقَ الْحَدِيثِ الْمُتَكَاثِرَةِ كَالصَّرِيحَةِ فِي إِرَادَةِ حَلْقِ الرَّأْسِ، وَالثَّالِثُ كَالثَّانِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ». [انتهى كلامه].

قَالَ ابنُ بَازٍ رحمه الله: هو الظَّاهِرُ تَحلِيقُهم له، لكن هم لَتَدَيُّنِهِم به وتَعَبَّدِهِم به، فَحلقُ الرأسِ لَيْسَ من العِبَادةِ إلا في النُّسُكِ، لكن هو من المُبَاحِ، إن شَاءَ حَلقَهَ وإن شَاءَ تَرَكَهُ.

وأمَّا هم فَتَعبَّدُوا بذَلكَ وأَلزَمُوا به وصَارَ دَيدَنًا لهم يُعرَفُونَ به، ولِهذَا صَارَ وَصفًا لهم، وليس المُرَادُ كُلَّ مَنْ حَلَقَ فهو خَارِجِيٌّ مِثْلمَا قَالَ الكَرمَانِيُّ، بِالتَّأكِيدِ لَيْسَ هَذَا مُرَادًا؛ فإن الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم حَلقَ في الحَجِّ، وأَمرَ بِحَلِق أَولَادِ جَعفَرَ رضي الله عنه وخَفَّفُوا رُؤُسَهُم، وقال لِصَاحِبِ القَزعِ:«احْلِقْهُ كُلَّهُ أو دَعْهُ كُلَّهُ» .

المَقْصُودُ: أن الحَلقَ في نَفسهِ جَائزٌ، ومَن ربَّاهُ للتَّعَبُّدِ به فلا بَأْسَ، أمَّا الخَوَارجَ فهم تَعَبَّدُوا به، تَعَبّدُوا بِالحَلقِ، وصَارَ شِعَارًا لهم بين النَّاسِ، نَسأَلُ اللهَ العَافِيَةَ.

هل لهم شَيءٌ في الحَلقِ يَتَعَلَّقُونَ به؟

لا أَعلمُ لهم شَيْئًا، إلا أَنَّهُمْ كَأَنَّهم أَرَادُوا أنْ يَكُونَ شِعَارًا لهم يَعرِفُ بَعضُهُم بَعضًا به، أو لِأَسبَابٍ أُخرَى لا نَعرِفُهَا.

كَونُ السَّلفِ كانوا لا يَحلِقُونَ رُؤُوسَهُم إلا للنُّسُكِ أو للحَاجَةِ؟

يَعْنِي الكَثيرَ منهم.

ص: 434

[قال الحَافِظُ رحمه الله]: «تَنْبِيهٌ: وَقَعَ لِابْنِ بَطَّالٍ فِي وَصْفِ الْخَوَارِجِ خَبْطٌ أَرَدْتُ التَّنْبِيهَ عَلَيْهِ؛ لِئَلَّا يُغْتَرَّ بِهِ وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ: يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي قَوْمٍ عَرَفَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْوَحْيِ أَنَّهُمْ خَرَجُوا بِبِدْعَتِهِمْ عَنِ الْإِسْلَامِ إِلَى الْكُفْرِ، وَهُمُ الَّذِينَ قَتَلَهُمْ عَلِيٌّ بِالنَّهْرَوَانِ حِينَ قَالُوا: إِنَّكَ رَبُّنَا. فَاغْتَاظَ عَلَيْهِمْ وَأَمَرَ بِهِمْ فَحُرِّقُوا بِالنَّارِ؛ فَزَادَهُمْ ذَلِكَ فِتْنَةً وَقَالُوا: الْآنَ تَيَقَّنَّا أَنَّكَ رَبُّنَا؛ إِذْ لَا يُعَذِّبُ بِالنَّارِ إِلَّا اللَّهُ. انْتَهَى.

وَقَدْ تَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ لِعَلِيٍّ فِي الْفِتَنِ وَلَيْسَتْ لِلْخَوَارِجِ، وَإِنَّمَا هِيَ لِلزَّنَادِقَةِ كَمَا وَقَعَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ، وَوَقَعَ فِي «شَرْحِ الْوَجِيزِ» لِلرَّافِعِيِّ عِنْدَ ذِكْرِ الْخَوَارِجِ قَالَ: هُمْ فِرْقَةٌ مِنَ الْمُبْتَدِعَةِ خَرَجُوا عَلَى عَلِيٍّ حَيْثُ اعْتَقَدُوا أَنَّهُ يَعْرِفُ قَتَلَةَ عُثْمَانَ وَيَقْدِرُ عَلَيْهِمْ وَلَا يَقْتَصُّ مِنْهُمْ؛ لِرِضَاهُ بِقَتْلِهِ وَمُوَاطَأَتِهِ إِيَّاهُمْ، وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ مَنْ أَتَى كَبِيرَةً فَقَدْ كَفَرَ وَاسْتَحَقَّ الْخُلُودَ فِي النَّارِ وَيَطْعَنُونَ لِذَلِكَ فِي الْأَئِمَّةِ. انْتَهَى.

وَلَيْسَ الْوَصْفُ الْأَوَّلُ فِي كَلَامِهِ وَصْفَ الْخَوَارِجِ الْمُبْتَدِعَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ وَصْفُ النَّوَاصِبِ أَتْبَاعِ مُعَاوِيَةَ بِصِفِّينَ، وَأَمَّا الْخَوَارِجُ فَمِنْ مُعْتَقَدِهِمْ تَكْفِيرُ عُثْمَانَ وَأَنَّهُ قُتِلَ بِحَقٍّ. وَلَمْ يَزَالُوا مَعَ عَلِيٍّ حَتَّى وَقَعَ التَّحْكِيمُ بِصِفِّينَ فَأَنْكَرُوا التَّحْكِيمَ وَخَرَجُوا عَلَى عَلِيٍّ وَكَفَّرُوهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِمْ مَبْسُوطًا فِي «كِتَابِ الْفِتَنِ» ». [انتهى كلامه].

قَالَ ابنُ بَازٍ رحمه الله: المَقصُودُ ضبط، ابن بَطَّالٍ التبَسَ عليه الخَوَارجِ بِالزَّنَادقَةِ الغُلَاةِ الَّذِينَ قالوا: أنت رَبُّنَا. هَؤلَاءِ هم الرَّافِضَةُ البَاطِنِيَّةُ الَّذِينَ غَلَوا

ص: 435

في عَلِيٍّ رضي الله عنه، حَتَّى لِمَّا أَحرَقَهُم بِالنَّارِ قالوا: الآن زِدنَا فيك علمًا بأنك رَبُّنَا؛ لأن النَّارَ لا يَحرِقُ بها إلا اللهُ. وهَذَا مِنْ ضَلَالِهِم وجَهلِهِم نَسأَلُ اللهَ العَافِيَةَ.

ورَأسُهُمُ ابنُ سَبَإٍ الذي قِيلَ: إنه حُرِّقَ، وقيلَ: إنه هَرَبَ ولم يُحرَّقْ، وأَتبَاعُهُ إلى الآنَ مُوجُودُونَ مِنْ الرَّافِضَةِ وأَشبَاهِهِم مِنَ البَاطِنِيَّةِ من نُصَيرِيَّةٍ وإِسمَاعِيلِيَّةٍ وغَيرِهِم، نَسأَلُ اللهَ السَّلَامَةَ.

والمَقْصُودُ: أنَّ الخَوَارجَ غَيرُ هَؤلاء، هَؤلَاءِ زَنَادِقَةٌ بَاطِنِيَّةُ، والخَوَارجُ غَلَوا في الأَحكَامِ وإِثبَاتِ الأَحكَامِ والتَّحذِيرِ منَ المَعَاصِي حَتَّى جَعَلُوا المَعصِيَةَ كُفرًا، وجَعَلُوا صَاحِبَهَا مُخَلَّدًا في النَّارِ؛ فَتَابَعَتهُمُ الْمُعتَزِلَةُ في ذَلكَ بِالتَّخلِيدِ، تَخلِيدِ العَاصِي في النَّارِ.

فالخَوَارجُ شَيءٌ والبَاطِنِيَّةُ شَيءٌ آخَرُ، فابنُ بَطَّالٍ التَبسَ عليه أَمرُ هَؤلَاءِ بِأمرِ هَؤلَاءِ.

ص: 436

‌بابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء: 47]، وَأَنَّ أَعْمَالَ بَنِي آدَمَ وَقَوْلَهُمْ يُوزَنُ

.

وَقَالَ مُجَاهِدٌ: القُسْطَاسُ: العَدْلُ بِالرُّومِيَّةِ. وَيُقَالُ: القِسْطُ: مَصْدَرُ المُقْسِطِ وَهُوَ العَادِلُ، وَأَمَّا القَاسِطُ فَهُوَ الجَائِرُ.

وهَذَا وَاضِحٌ، يُقَالُ: مُقسِطُونَ يَعْنِي عَادِلُونَ مُستَقِيمُونَ، {وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9)} [الحجرات: 9] أَقسَطَ يَعْنِي: عَدَلَ واستَقَامَ.

وأمَّا «القَاسِطُ» الثُلَاثيُّ من قَسَطَ: هو الجَائِرُ الظَّالِمُ {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15)} [الجن: 15] والرُّبَاعِيُّ ضِدُّ الثُّلَاثِيِّ، الرُّبَاعِيُّ أَقسَطَ مِنَ العَدلِ هو ضِدُّ الجَورِ، والثُّلَاثِيُّ قَسَطَ «قَ سَ طَ» ، هَذَا ضِدُّ العَدلِ وهو الجَورُ.

ومَصدَرُ الثُّلَاثِيِّ؟

قِسْطًا، وأمَّا الْمُقسِطُ إِقسَاطًا. رُبَاعِيٌّ.

هنا يُقَالُ والقِسْطُ مَصدَرُ المُقسِطِ؟

هَذَا ضِدُّ القِسْطِ قد يَكُونُ مَصدَرًا صِنَاعِيًّا. المَصدَرُ القِيَاسِيُّ «إِفْعَالٌ» أَقسَطَ إِقسَاطًا، مِثلُ أَكرَمَ إِكرَامًا وأَعلَمَ إِعلَامًا، وأَفضَلَ إِفضَالًا. فَالقِسطُ قِسمُ

ص: 437

مِنْ العَدلِ، واللهُ هو القِسطُ أي: هو العَدلُ.

يَكُونُ اسْمُ المَصدَرِ بِالنِّسبَةِ إلى المُقسِطِ؟

ويُسَمَّى اسمَ مَصدَرٍ ويُسمَى اسمًا للعَدلِ، مِنْ أَسمَاءِ الَعدلِ: القِسطُ. وأمَّا مَصدَرُ قَسَطَ «قَسْطٌ» بِفتحِ القَافِ.

فيه تَوَافُقُ في المَصدَرِ يَعْنِي؟

تَوَافُقٌ في الاشْتِقَاقِ العَامِّ، وهناك زَادَ عليه الهَمزَةَ، كرُم صَارَ كَرِيمًا، وأَكرَمَ: أَكرَمَ غَيرَهُ، قَسطَ صَارَ جائرًا.

لكن «ويُقَالُ القِسطُ مَصدَرُ المُقسِطِ» كَأنَّ هَذَا سَمَاعِيٌّ وَافَقَ مَصدَرَ «قَسَطَ» .

قَولُهُ: مَصدَرٌ تَسَامُحٌ، تَسمُّحٌ منه في الكَلَامِ، وإنما هو اسمُ مَصدَرٍ.

7563 -

حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ إِشْكَابَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ القَعْقَاعِ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «كَلِمَتَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ، خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي المِيزَانِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ العَظِيمِ»

(1)

.

(1)

ورواه مسلم (2694).

ص: 438

قد أَحسَنَ المُؤَلِّفُ رحمه الله في خَتمِ كِتَابِهِ بهَذَا الحَدِيثِ الجَلِيلِ رحمه الله وأَكرَمَ مَثوَاهُ وجَزَاهُ عن المُسْلِمِينَ خَيرًا.

هَذَا حَدِيثٌ عَظِيمٌ: «كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ في المِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ، سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ العَظِيمِ» .

كلَمِتَاَنِ عَظِيمَتَانِ يَنبَغِي الإِكثَارُ منهمَا والحِرصُ عَلَيهِما دَائِمًا؛ لِمَا فِيهما منَ الخَيرِ العَظِيمِ مع السّهُولَةِ. رحمه الله وأَكرَمَ مَثوَاهُ، والحَمدُ للهِ.

تَأَمَّلُوا تُريدُونَهُ مِنْ أَوَّلِهِ أو؟ أَرَى أنَّ إِعَادَتَهُ أَحسَنُ؛ لِأنَّه كُلَّهُ خَيرٌ، ولا يُشبَعُ منه

(1)

.

أثَابَ اللهُ الجَمِيعَ وعَلَّمنَا وإِيَّاكُم ما يَنْفَعُنَا، ورَزَقَنَا وإِيَّاكُمُ الفِقهَ في الدِّينِ والثَّبَاتَ عليه والعَملَ به.

غير واضح؟

(2)

هو أَحَدُ الشُّرَّاحِ قد يُصِيبُ وقد يُخطِئُ، مِثلُ غَيرِهِ، الكَرمَانِيُّ وابنُ بَطَّالٍ وغَيرُهُم، الشُّرَّاحُ كَثِيرُونَ.

* * *

(1)

يقصد الشيخ رحمه الله قراءة «صحيح البخاري» مرة أخرى حيث يشاور فيها طلبته.

(2)

أظن السؤال عن شرح العيني للبخاري.

ص: 439