المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ - شرح كشف الشبهات - البراك

[عبد الرحمن بن ناصر البراك]

فهرس الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُون (102)} [آل عمران]، {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُوا اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)} [النساء]، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)} [الأحزاب].

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار

(1)

، أما بعد:

فهذا شرح شيخنا العلامة عبد الرحمن بن ناصر البراك لكتاب «كشف الشبهات» الذي ألفه الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، وألقاه فضيلته في مسجد الخليفي بمدينة الرياض.

(1)

هذه خطبة الحاجة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمها أصحابه، وكان السلف الصالح يقدمونها بين يدي دروسهم وكتبهم، ومختلف شؤونهم، وقد قام الشيخ الألباني رحمه الله، بتتبع طرقها وألفاظها من مختلف كتب السنة المطهرة في رسالته التي بعنوان:«خطبة الحاجة» ، فلينظر تخريج ألفاظها هناك.

ص: 5

وكان‌

‌ المنهج الذي سُلِك في إخراج هذا الشرح

كما يلي:

1 -

مراجعة النص والتأكد منه.

2 -

تهيئته وتنسيقه ليتناسب مع الطباعة.

3 -

عزو الآيات إلى أماكنها من المصحف.

4 -

تخريج الأحاديث وذلك باختصار، فإن كان الحديث في الصحيحين أو أحدهما اكتفي بذلك، وإن كان في غيرهما فإنه يقتصر في الغالب على الكتب الستة، مع ذكر كلام المحدثين في صحة الحديث وضعفه دون استقصاء.

5 -

عرض الشرح على الشيخ لإقراره وتعديله، فكان ذلك ولله الحمد والمنة.

6 -

عرض بعض التعليقات من تعريف وعزو ونحو ذلك.

7 -

ضبط المتن على طبعة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، مع مقابلته بعدد من الطبعات وأضيف منها بين معكوفين [] بعض الإضافات.

وفي الختام نحمد الله تعالى أن يسر إتمام خدمة هذا الكتاب، وإخراجه لطلاب العلم بثوب قشيب، ينهل منه الناهلون، ويستفيد منه المستفيدون، ونسأل الله أن نكون وُفِّقنا لذلك، وبالله نعتضد فيما نعتمد، ونعتصم مما يَصِم، ونسترشد إلى ما يرشد، فما المفزع إلا إليه، ولا الاستعانة إلا به، وبه نستعين، وهو نِعم المعين.

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ص: 6

‌مقدمة الشارح

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

فإن من نِعم الله سبحانه أن يقيض على رأس كل قرن من يجدد لهذه الأمة أمر دينها، وممن يرجى أن يدخل في ذلك ويشمله هذا الوعد الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، فقد وفقه الله للنهوض بالدعوة والتجديد في وقتٍ عم فيه الجهل والشرك بين كثير من المسلمين.

وقد ألف المؤلفات المباركة ك «الأصول الثلاثة» ، و «القواعد الأربع» ، و «كتاب التوحيد» ، و «كشف الشبهات»

وغيرها، وكلها مدارها على تقرير التوحيد الذي بعث الله به رسله من: توحيد الربوبية، وتوحيد الإلهية، وتوحيد الأسماء والصفات، وأهمها التوحيد الذي ضلَّت فيه أكثر الأمم، وهو توحيد العبادة أو توحيد الإلهية، ولهذا ألَّف في تقرير هذا التوحيد وبيانه ودلائله من الكتاب والسنة.

وهذا كتاب جليل القدر، وهو يعرف ب «كشف الشبهات»؛ أي: إزالة الشبهات، وبيان بطلانها، وقصد به الشيخ رحمه الله تقرير التوحيد الذي بعث الله به رسله أولًا، وهو الذي يكون به الإنسان مسلمًا، ولمزيد التقرير رد على الشبهات التي يتعلق بها كثير من القبوريين، وأهل البدع.

ص: 7

والشبهات: هي ما يلتبس فيه الحق بالباطل.

والشيخ قد ضمَّن هذه الرسالة جملة من شبهات المشركين القبوريين الواهية التي يتعلقون بها، ويحتجون بها؛ لكنها حجج مدحوضة باطلة، فكانت الحاجة إلى كشفها، وإيضاح بطلانها، وبطلان دلالتها على ما أراد المتوهم لها، والمتمسك بها.

وهؤلاء المشركون منتسبون للإسلام، ولكنهم لم يفهموا معنى «لا إله إلا الله» وما تقتضيه؛ فلهذا وقعوا فيما ينقضها ويناقضها تمامًا، فإنهم يقولون:«لا إله إلا الله» ويأتون بالشرك، فينقضها.

وهذه الرسالة المباركة نموذج من جهود أعلام الأمة في تفنيد شبهات أهل الباطل، وهداية الأمة إلى الحق؛ لأن ذكر الشبهات من دون رد يجعل الباطل يلتبس بالحق، وهذا من أسباب خفاء الحق، وضلال كثير من الخلق؛ وذلك أنهم يستدلون ببعض نصوص من الكتاب والسنة على الباطل، ويضعونها في غير موضعها ويزينون باطلهم بما هو من زخرف القول، حتى يكون لبعض شبههم رواج، ويظن من لا بصيرة له أنها حق فيقف معها، لكنها عند البحث والتمحيص، وعرضها على النصوص المحكمة من الكتاب والسنة، ومنهاج السلف الصالح؛ يتبين أنها زخرف وخداع، وأنها حجج داحضة عند أهل العلم والإيمان وأولي البصائر.

* * * * * * *

ص: 8

* قال الشيخ رحمه الله:

بسم الله الرحمن الرحيم

اعلم - رحمك الله - أن التوحيد هو: إفراد الله سبحانه بالعبادة، وهو دين الرسل الذي أرسلهم الله به إلى عباده فأولهم نوح عليه السلام؛ أرسله الله إلى قومه لما غلوا في الصالحين: ودًا، وسواعًا، ويغوث، ونسرًا.

وآخر الرسل محمد صلى الله عليه وسلم وهو [الذي] كسَّر صور هؤلاء الصالحين؛ أرسله إلى أناس يتعبدون، ويحجون، ويتصدقون، ويذكرون الله كثيرًا، ولكنهم يجعلون بعض المخلوقين وسائط بينهم وبين الله، ويقولون: نريد منهم التقرب إلى الله، ونريد شفاعتهم عنده، مثل: الملائكة، وعيسى، ومريم، وأناس غيرهم من الصالحين.

فبعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم يجدد لهم دين أبيهم إبراهيم عليه السلام، ويخبرهم أن هذا التقرب والاعتقاد محض حق الله لا يصلح منه شيء لغيره؛ لا لملك مقرَّب ولا لنبي مرسل، فضلًا عن غيرهما.

وإلا، فهؤلاء المشركون يشهدون أن الله هو الخالق وحده لا شريك له، وأنه لا يرزق إلا هو، ولا يحيي ولا يميت إلا هو، ولا يدبر الأمر إلا هو، وأن جميع السماوات ومن فيهن، والأرضين السبع ومن فيهن؛ كلهم عبيده، وتحت تصرفه وقهره.

ص: 9

يستهل الشيخ رحمه الله هذه الرسالة بعد البسملة بقوله: «اعلم رحمك الله» ، كما يستهل بعض المؤلفات وبعض الدروس بهذا التوجيه والتنبيه، فيقول: اعلم أيها المسلم، أيها الطالب، اعلم رحمك الله، وفي هذا تلطف في التعليم، ودعاء لطالب العلم بالرحمة التي يسألها العبد، فإن من رحمه الله أفلح وأنجح، وسعد في الدنيا والآخرة.

ثم استهل المؤلف رحمه الله هذا الكتاب ببيان حقيقة التوحيد، حيث قال:«اعلم - رحمك الله - أن التوحيد هو إفراد الله سبحانه بالعبادة» ؛ أي: تخصيصه بالعبادة، أو صرف العبادة له وحده لا شريك له، وهذا تعريف توحيد العبادة؛ الذي ضل عنه المشركون وانحرفوا، وجاءت به الرسل، وهو المقصود من «لا إله إلا الله» .

و‌

‌التوحيد نوعان: اعتقادي وعملي،

فالتوحيد الاعتقادي هو: الإقرار بأن الله تعالى رب كل شيء ومليكه، وأنه خالق كل شيء، وأنه مالك كل شيء، وأنه الإله الحق الذي لا يستحق العبادة سواه، وأنه الموصوف بالأسماء الحسنى والصفات العلى، فهذا توحيد الاعتقاد.

وأما التوحيد العملي، فهو ثمرة هذا الاعتقاد، وهو تخصيص الرب وإفراده بالعبادة؛ أي: عبادته وحده لا شريك له، قال تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة: 21]، وقال تعالى:{وَاعْبُدُوا اللّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36].

ص: 10

وبعض العلماء يجمعون التوحيد قسمين: التوحيد العلمي الخبري، والتوحيد الإرادي الطلبي

(1)

، والمشهور أن التوحيد ثلاثة أنواع:

- توحيد الربوبية.

- وتوحيد الألوهية، وهو: توحيد العبادة.

- وتوحيد الأسماء والصفات.

ولا بد من توحيد الله في ذلك كله، فلابد من الإيمان بأنه تعالى رب كل شيء ومليكه، لا رب غيره، ولا خالق ولا رازق سواه، ولابد من الإيمان بأسمائه وصفاته، وأنه سبحانه وتعالى لا شبيه له في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، ثم لا بد من الإيمان بأنه الإله الحق الذي لا يستحق العبادة سواه، ثم تخصيصه بالعبادة، فهذه ثلاثة أنواع، والشيخ رحمه الله ذكر تعريف واحد منها، وهو توحيد العبادة فقال:«اعلم - رحمك الله - أن التوحيد هو إفراد الله سبحانه بالعبادة» .

ثم قال بعد ذلك: «وهو دين الرسل الذي أرسلهم الله به إلى عباده» ؛ يعني: أن توحيد الله بإخلاص الدين له هو دين الرسل من أولهم إلى آخرهم، وخص الشيخ هذا التوحيد بالذكر؛ لأنه التوحيد الذي وقعت فيه الخصومة بين الرسل وأممهم، فإن سائر الأمم تقر بالربوبية لله، ولكن التوحيد الذي أنكروه وانحرفوا عنه هو توحيد العبادة، وحقيقته: عبادة الله وحده لا شريك له، وترك عبادة ما سواه، والكفر بما يعبد من دون الله، وهذا هو دين الرسل من أولهم - وهو نوح عليه السلام الذي

(1)

التدمرية ص 46، ومدارج السالكين (3/ 450).

ص: 11

أرسله الله بعدما حدث الشرك في قومه؛ وذلك أنهم غلو في الصالحين، وصوروا صور أولئك الصالحين لما ماتوا، وهم:«ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر» كما جاء في الأثر عن ابن عباس؛ أنها «أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابًا؛ (أي: ضعوا فيها تماثيل تذكركم سيرتهم)، وسموها بأسمائهم، ففعلوا، فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك، وتنسخ العلم؛ عبدت»

(1)

، إذ أوحى الشيطان إليهم بأن هذه الصور لها شأن، وأن من قبلكم كانوا يستنزلون بها المطر، ويستنصرون بها على الأعداء، فعبدوها؛ فهذه بداية حدوث الشرك في العالم، وسببه هو الغلو في الصالحين.

فأرسل الله نوحًا إلى قومه لما غلو في الصالحين وعبدوهم من دون الله.

وقوله: «وآخر الرسل محمد صلى الله عليه وسلم وهو الذي كسر صور هؤلاء الصالحين» .

وقد ورد في الأخبار أن عمرو بن لحي الخزاعي هو أول من غير دين إبراهيم

(2)

وسيب السوائب

(3)

، وأن هذه الأصنام كانت دفينة في

(1)

أخرجه البخاري (4920).

(2)

أخرجه الطبراني في «الكبير» (10808) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وصححه الألباني في «صحيح الجامع» (2580).

(3)

رواه البخاري (1212)، ومسلم (901) عن عائشة رضي الله عنها.

ص: 12

بعض البلاد، وقد دله الشيطان على تلك الأصنام، فاستخرجها

(1)

، ودعاهم إلى عبادتها فأجابوه، ودفع لكل قبيلة منها واحدًا - والعياذ بالله -، فلما بعث الله نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم كسر الأصنام كلها: التي حول الكعبة والتي في الحجاز، والتي في شمال الجزيرة، وفي اليمن، وبعث إليها من يهدمها مثل ما أرسل إلى الأصنام الكبيرة التي ذكرها الله في كتابه، وهي: اللات، والعزى، ومناة.

وقوله: «أرسله الله إلى أناس .... » ؛ أي محمدًا صلى الله عليه وسلم، وهو خاتم النبيين، فلا نبي بعده، ودينه هو دين إخوانه الأنبياء من قبله، وهو: التوحيد والإسلام، ف «الأنبياء إخوة لعلات، أمهاتهم شتى، ودينهم واحد»

(2)

، وقد أرسله الله إلى الثقلين: الجن والإنس، ولكن أول من أرسل إليهم هم عشيرته، ثم مَنْ حولَ أمِ القرى، فبدأ بقومه، وكانوا يؤمنون بأنه تعالى خالق كل شيء، لكنهم يجعلون بينهم وبين الله وسائط في العبادة، فيعبدون هذه الوسائط؛ زاعمين أنها تقربهم إلى الله زلفى، وأنها تشفع لهم، فيعبدونهم مع الله، كما قال الله تعالى عنهم:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]، وقال سبحانه:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللّهِ} [يونس: 18]، فهم يقولون: نريد منهم أن يقربونا إلى الله، ونريد شفاعتهم.

فبين لهم عليه الصلاة والسلام أن العبادة محض حق الله؛ وأن الشفاعة كلها لله، وإنما تطلب منه سبحانه؛ قال تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ

(1)

ذكره ابن الكلبي في «الأصنام» ص 56، ونقله عنه جماعة.

(2)

رواه البخاري (3443) - واللفظ له -، ومسلم (2365) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 13

السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُون (44)} [الزمر]؛ فدل ذلك على أن هذا التقرب لا يصلح إلا لله.

وهؤلاء الوسائط كانوا يتخذونهم من الصالحين، مثل: الملائكة؛ كما قال تعالى عنهم: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُون (40)} [سبأ]، وقال سبحانه:{وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُّسْلِمُون (80)} [آل عمران].

ومثل عيسى وأمه، قال تعالى:{وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ} [المائدة: 116].

فالعبادة محض حق لله، والرسل يطاعون ويُتَّبعون ولا يُعبدون، والصالحون يقتدى بهم ويحبون في الله، ولا يجوز الغلو فيهم ولا إعطاؤهم شيئًا من خصائص الإلهية.

والشيخ رحمه الله قد بيَّن أن هذا التقرب وهذا الاعتقاد لا يصلح إلا لله تعالى، فلا يصرف لملك مقرب، ولا لنبي مرسل، وهؤلاء هم أفضل الخلق؛ ومع ذلك يقول سبحانه وتعالى:{مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللّهِ وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُون (79)} [آل عمران]، وقال في الملائكة:{وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِين (29)} [الأنبياء]، والملائكة معصومون من هذا، لكن لو فُرِض أنه ادعى واحد منهم الإلهية لعذبه الله.

ص: 14

* قال الشيخ رحمه الله:

فإذا أردت الدليل على أن هؤلاء المشركين الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يشهدون بهذا، فاقرأ قوله تعالى:{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُم مِنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُون (31)} الآية [يونس]، وقوله تعالى:{قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُون (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُون (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيم (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُون (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُون (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُون (89)} [المؤمنون]، وغير ذلك من الآيات.

فإذا تحققت أنهم مقرون بهذا، وأنه لم يدخلهم في التوحيد الذي دعاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرفت: أن التوحيد الذي جحدوه هو توحيد العبادة الذي يسميه المشركون في زماننا: «الاعتقاد» ، كما كانوا يدعون الله سبحانه وتعالى ليلًا ونهارًا، ثم منهم من يدعو الملائكة؛ لأجل صلاحهم وقربهم من الله عز وجل؛ ليشفعوا له، أو يدعو رجلًا صالحًا، مثل اللات، أو نبيًا مثل: عيسى.

وعرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلهم على هذا الشرك ودعاهم إلى إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له؛ كما قال الله تعالى: {فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18)} [الجن]، وقال تعالى:{لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} [الرعد: 14].

ص: 15

وتحققت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلهم؛ ليكون الدعاء كله لله، والنذر كله لله، والذبح كله لله، والاستغاثة كلها بالله، وجميع أنواع العبادات كلها لله.

وعرفت: أن إقرارهم بتوحيد الربوبية لم يدخلهم في الإسلام، وأن قصدهم الملائكة، أو الأنبياء، أو الأولياء؛ يريدون شفاعتهم والتقرب إلى الله بذلك هو الذي أحل دماءهم وأموالهم.

عرفت حينئذ التوحيد الذي دعت إليه الرسل، وأبى عن الإقرار به المشركون.

يقول الشيخ رحمه الله: «فإذا أردت الدليل على أن هؤلاء المشركين الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم

» إلخ، لأنهم يتخذون بينهم وبين الله وسائط يعبدونهم من دون الله؛ زاعمين أنهم يقربونهم إلى الله، وأنهم يشفعون لهم.

وهؤلاء المشركون كانوا يقرون بأنه سبحانه وتعالى رب كل شيء، وأنه لا خالق غيره ولا رازق غيره، ولا يحيي ولا يميت إلا هو، وهذا هو تحقيق توحيد الربوبية، فكان عندهم توحيد، وعندهم شرك، وكان توحيدهم في الربوبية، وشركهم في العبادة؛ لأنهم اتخذوا مع الله آلهة أخرى يعبدونها، لكنهم لم يتخذوا شيئًا من المخلوقات ربًّا خالقًا مدبرًا، وربما كان عند بعضهم شيء من الشرك بالربوبية. أما اعتقاد خالق مدبر، فهذا لله وحده.

ص: 16

وقد بين الله عز وجل هذا في القرآن، بقوله:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُون (87)} [الزخرف]، وقال تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُون (61)} [العنكبوت]، ومن ذلك: الآيات التي ذكرها الشيخ في سورة يونس: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُم مِنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ} إلى قوله: {أَفَلَا تَتَّقُون (31)} [يونس]؛ أي: أفلا تخافون الله، فتتركون عبادة من سواه، وتخصونه بالعبادة؛ لأن الذي هذا شأنه هو المستحق لأن يُعبد. أما المعبودات الأخرى فهي لا تملك من هذا شيئًا ولا تستطيعه.

ومن ذلك الآيات التي في سورة المؤمنون: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا} إلى قوله: {فَأَنَّى تُسْحَرُون (89)} [المؤمنون: 84 - 89]، فأخبر أنهم يقرون بذلك كله لله، الأرض والسماوات والملك كله، فوبخهم سبحانه على الإشراك به وعبادة غيره معه وهو رب هذه العوالم، فقال سبحانه:{أَفَلَا تَذَكَّرُون (85)} ، {أَفَلَا تَتَّقُون (87)} ، {فَأَنَّى تُسْحَرُون (89)} .

فاحتج الله تعالى عليهم بما أقروا به من ربوبيته على ما أنكروه من إخلاص الدين له، وإخلاص العبادة، فإن توحيد الربوبية يستلزم توحيد العبادة عقلًا، سبحان الله! خالق هذا الوجود، ومدبره، وخالق السماوات والأرض ومن فيهن، وخالق الناس ومالكهم؛ أما يستحق العبادة، والخوف والرجاء، والتوكل والتفرد؟!

والآيات المبينة والمظهرة لهذا التوحيد كثيرة، أفلا تذكرون، وتتقون؟! أفمن يخلق كمن لا يخلق؟! {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ لَا

ص: 17

يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُون (20)} [النحل]، هذا إنكار للعقول، وعجيب أمر العباد؛ يقرون هذا الإقرار، ثم يتوجهون بخالص الخوف والرجاء، والتوكل والتقرب، والدعاء والمناجاة، ويجعلونها لمن يعظمونه، ويألهونه، ويعتقدون به من ملك أو نبي أو صالح {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِين (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنظِرُون (195)} [الأعراف].

وكذلك الذين يتوجهون إلى قبور الصالحين من الأموات {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُون (5)} [الأحقاف]، فهؤلاء القبوريون في العالم الإسلامي من الذين بنوا الأضرحة والمساجد على القبور؛ يأتي أحدهم إلى الولي، ويدعوه ويرجوه، ويطلبه الحوائج، والولد، والوظيفة، والمال، وكذلك هم يطلبون منهم مباشرة الشفاعة عند الله، ويطلبون الحوائج منهم، فيجمعون بين الشرك في العبادة والشرك في الربوبية.

والمشركون عمومًا هم أهون كفرًا - والعياذ بالله - من الملاحدة الذين ينكرون وجود الخالق عز وجل، ومن كان أكفر كان حظه من عذاب الله وسخطه أوفر.

ولعل الشيخ يريد مما تقدم أن يقرر أمرًا، وهو أنه إذا تحققت مما ذُكِر لك أن المشركين كانوا مقرين بأن الله هو خالق كل شيء، وأنه رب كل شيء ومليكه، وأن أهل السماوات والأرض وما بينهما؛ كلهم

ص: 18

عبيده، تحت تصرفه وقهره، ومع ذلك لم يكونوا بهذا الإقرار مسلمين، ولا موحدين، ولا مؤمنين، بل كانوا مشركين.

وإذا تحققت أن التوحيد الذي أنكروه هو توحيد العبادة؛ لأنهم كانوا يعبدون مع الله غيره، فمنهم من يعبد الملائكة لصلاحهم وقربهم من الله تعالى؛ يريد شفاعتهم، ومنهم من يعبد الأنبياء كالنصارى في عبادتهم للمسيح، ومنهم من يعبد بعض الصالحين، مثل الذين كانوا يعبدون اللاتَ، وهو الرجل الصالح الذي كان يلت السويق للحجيج في الطائف

(1)

.

والشيخ رحمه الله، يقول: إن توحيد العبادة هو الذي يسميه أهل زماننا أو مشركو زماننا: «الاعتقاد» ، ويقولون: يعتقد بالرسول، ويعتقد بالولي الفلاني، فيدعونه ويرجونه ويخافونه.

وتوحيد العبادة حقيقته، هو: إفراد الله بالحب والخوف، والرجاء والتوكل، وكل أنواع العبادة، فالمشركون الأولون والمشركون المتأخرون كلهم يشركون في العبادة، فيعبدون مع الله الملائكة والأولياء والصالحين، فالنصارى عبدوا المسيح وأمه؛ كما قال تعالى له:{أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللّهِ} [المائدة: 116]، وهؤلاء المشركون عندهم إيمان وشرك، ولكن إيمانهم مع هذا الشرك لا ينفعهم؛ كما قال تعالى:{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُون (106)} [يوسف]، وهذا تناقض؛ إذ كيف يقرون بأن الله خالق السماوات والأرض، وخالقهم ورازقهم، ومدبر الأمر، وهو

(1)

رواه البخاري (4859) عن ابن عباس رضي الله عنهما، في قوله:{اللاَّتَ وَالْعُزَّى (19)} [النجم]: «كان اللات رجلًا صالحًا يلت سويق الحاج» .

ص: 19

الذي يحيي ويميت، ويخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، ومع ذلك يعدلون به سواه؛ ولهذا يقول الله بعد كل آية:{أَفَلَا تَذَكَّرُون (85)} [المؤمنون]، وهذا توبيخ لهم؛ والمعنى: إذا كنتم تقرون بأن الله هو الذي يرزقكم من السماء والأرض، ويملك السمع والأبصار، ويخرج الحي من الميت، وهو الذي يدبر الأمر إذًا، فاعبدوه؛ لأن من هذا شأنه هو المستحق للعبادة؛ شرعًا وعقلًا.

وكان المشركون الأولون يدعون الله سبحانه وتعالى ليلًا ونهارًا - لاسيما في الشدائد -، ويدعون معه غيره، فمنهم من يدعو الملائكة، ومنهم من يدعو الأنبياء، ومنهم من يدعو الصالحين؛ فقاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم كلهم، ولم يفرق بينهم على هذا الشرك، ودعاهم إلى إخلاص العبادة لله، والإقرار بأنه المستحق للعبادة وحده دون ما سواه قال تعالى:{فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18)} [الجن]، وقال تعالى:{وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِين (106)} [يونس]، وقال تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِير (62)} [الحج]، وقال تعالى:{لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} [الرعد: 14]، أي: له وحده؛ لأن الجار والمجرور يفيد الحصر، فهو وحده المستحق بأن يُدعى ويُرجى ويُخاف؛ لأنه سبحانه وتعالى هو الذي يجيب الدعاء. أما هؤلاء فلا، قال تعالى:{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُون (5)} [الأحقاف].

قوله: «إذا تحققت أنهم مقرون

» إذا أداة شرط؛ والمعنى: إذا عرفت وتحققت من كل ما سبق وهذا شرط، ثم جاء جواب الشرط بعد

ص: 20

ذلك كله، وهو قوله:«عرفت حينئذٍ التوحيد الذي دعت إليه الرسل وأبى عن الإقرار به المشركون» ، وهو توحيد العبادة، واقرأ قصص الأنبياء، فقصص الأنبياء فيها بيان ما كانت عليه هذه الأمم من الشرك في العبادة، والضلال عن هذا التوحيد، يقول الله تعالى:{وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيب (61) قَالُوا يَاصَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيب (62)} [هود]، وكلهم كانوا على هذا المنوال؛ كما قال تعالى أنهم قالوا لرسلهم:{إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِين (10)} [إبراهيم]، فالرسل كل واحد منهم كان يخاطب قومه قائلًا لهم:{اعْبُدُوا اللّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُون (65)} [الأعراف].

وقد أجمل الله هذا كله - أعني: ما فصله من قصص الأنبياء - في قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]، وقوله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُون (25)} [الأنبياء]، فتبين من ذلك أن التوحيد الذي دعت إليه الرسل هو توحيد العبادة، ومع ذلك يزعم كثير من المتأخرين أن التوحيد الذي دعت إليه الرسل، هو الإقرار بأن الله هو النافع الضار، وأنه الخالق؛ بل يزعمون أن هذا هو معنى «لا إله إلا الله» ، وهذا من أفحش الغلط والجهل بأصل الدين الذي بعث الله به رسله.

ص: 21

قال الشيخ رحمه الله:

وهذا التوحيد هو معنى قولك «لا إله إلا الله» فإن الإله عندهم هو الذي يُقصد لأجل هذه الأمور: سواء كان ملكًا أو نبيًا أو وليًا أو شجرة أو قبرًا أو جنيًا، لم يريدوا أن الإله هو الخالق الرازق المدبر، فإنهم يعلمون أن ذلك لله وحده كما قدمت لك، وإنما يعنون بالإله: ما يعني المشركون في زماننا بلفظ: «السيد» ، فأتاهم النبي صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى كلمة التوحيد وهي:«لا إله إلا الله» ، والمراد من هذه الكلمة معناها، لا مجرد لفظها.

والكفار الجهال يعلمون أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمة هو: إفراد الله تعالى بالتعلق به، والكفر بما يعبد من دون الله والبراءة منه؛ فإنه لما قال لهم قولوا:«لا إله إلا الله» قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَاب (5)} [ص]

(1)

.

(1)

يشير الشيخ إلى ما أخرجه الترمذي (3232) عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: مرض أبو طالب فجاءته قريش وجاءه النبي صلى الله عليه وسلم، وعند أبي طالب مجلس رجل، فقام أبو جهل كي يمنعه، وشكوه إلى أبي طالب، فقال: يا ابن أخي! ما تريد من قومك؟ قال: «إني أريد منهم كلمة واحدة تدين لهم بها العرب، وتؤدي إليهم العجم الجزية» ، قال: كلمة واحدة؟ قال: «كلمة واحدة» ، قال:«يا عم، قولوا: لا إله إلا الله» ، فقالوا: إلهًا واحدًا ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة، إن هذا إلا اختلاق، قال: فنزل فيهم القرآن: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْر (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاق (2)} [ص]، إلى قوله:{مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلَاق (7)} [ص]، قال الترمذي:«هذا حديث حسن صحيح» .

ص: 22

فإذا عرفت: أن جهَّال الكفار يعرفون ذلك؛ فالعجب ممن يدعي الإسلام وهو لا يعرف من تفسير هذه الكلمة ما عرفه جهَّال الكفار! بل يظن أن ذلك هو التلفظ بحروفها من غير اعتقاد القلب لشيء من المعاني!

والحاذق منهم يظن أن معناها: لا يخلق ولا يرزق إلا الله ولا يدبر الأمر إلا الله، فلا خير في رجل جُهَّال الكفَّار أعلم منه بمعنى «لا إله إلا الله» .

قوله: «وهذا التوحيد

»؛ يريد توحيد العبادة الذي سبق ذكره، وأنه دين الرسل كلهم، وهذا التوحيد هو معنى:«لا إله إلا الله» ، ولهذا تسمى كلمة التوحيد؛ لأن مضمونها توحيد الإله، وتخصيص الإلهية به سبحانه وتعالى، كما قال:{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيم (163)} [البقرة]، وقال:{شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} [آل عمران: 18]، ويتضح هذا بمعرفة معنى الإله.

فما معنى الإله؟

الإله: هو المعبود الذي يُقصد بأنواع العبادة من الذبح والنذر والصلاة الخوف والرجاء والتوكل والرغبة والرهبة، فهذا هو الإله الذي يُؤله ويقصد بهذه الأمور.

ص: 23

والإله عندهم - يعني: - عند المشركين معناه: المعبود الذي يقصد لهذه الأمور، فيقصد بالخوف والرجاء، والتوكل والرغبة والرهبة {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت: 65]، وهذا هو معنى الإله عند العرب المشركين، وهو عين ما يريده المشركون في الأعصار المتأخرة بلفظ:«السيد» ، فإذا قالوا السيد فيعنون الذي يُخاف ويرجى، وهؤلاء المشركون متفرقون في شركهم وفيما يعبدون من دون الله، فلكل أهل طريقة سيد يدعونه ويستغيثون به ويحجون إلى ضريحه؛ كالبدوي ويوسف وشمسان والعيدروس وابن علوان.

والرافضة هم الأصل في هذا الشرك، فحدوث الشرك في هذه الأمة أصله من الرافضة، فهم الذين أسسوا وبنوا الأضرحة على قبور من يعظمونهم، وهذا كله بسبب الجهل بمعنى الإله.

وقد كان المشركون الكفار الجهَّال يعرفون معنى الإله؛ فإنهم لما قال لهم صلى الله عليه وسلم: «قولوا: لا إله إلا الله» كبر عليهم ذلك، ونفروا، وقالوا:{أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَاب (5) وَانطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ} [ص]، فكان الكفار المشركون الأولون يعلمون معنى لا إله إلا الله، ويعلمون مقصود النبي صلى الله عليه وسلم منها؛ فلذلك أبوا أن يقولوها، حتى إن أبا طالب وهو في سياق الموت يقول له النبي صلى الله عليه وسلم وقد كان أبو طالب ينصره ويحتفي به ويحبه -:«قل: لا إله إلا الله» فيأبى ويقول: «هو على ملة عبد المطلب»

(1)

؛ لأنه يعلم أنه إذا قال «لا إله إلا الله» ، فإن معناها أن ملة عبد المطلب باطلة، ومعناها الكفر بما يعبد من دون الله.

(1)

رواه البخاري (1360)، ومسلم (24) من حديث المسيب بن حزن رضي الله عنهما.

ص: 24

إذًا؛ فالصواب أن الإله يعني المألوه، ككتاب بمعنى مكتوب، فإذا قلنا:«لا إله إلا الله» فيكون معناها: لا معبود بحق إلا الله، وكل معبود سواه باطل، فالله تعالى هو الإله المستحق للعبادة، وكل ما يعبد من دون الله فليس هو إله على الحقيقة، لكن هم يسمونه بألسنتهم، قال تعالى:{مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَا أَنْزَلَ اللّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُون (40)} [يوسف]، وقوله تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِير (62)} [الحج].

يقول الشيخ رحمه الله: «فإذا عرفت أن جهَّال الكفار يعرفون ذلك

»؛ أي: معنى «لا إله إلا الله» فالعجب أن كثيرًا ممن يقول «لا إله إلا الله» لا يعرف معناها، ولا يعرف ما يعرفه جهال المشركين من معناها؛ بل يظن أنه يكفيه أن يقولها بلسانه دون أن يعتقد شيئًا من معناها في قلبه.

وقوله: «والحاذق منهم

»؛ أي: المتعلم المتمكن يظن معناها: لا يخلق ولا يرزق إلا الله، وهذا ما يظنه كثير من طوائف المتكلمين، حيث يظنون أن معنى:«لا إله إلا الله» ؛ أي: لا خالق إلا الله، أو لا قادر على الاختراع إلا الله، ولو كان هذا هو معناها لم يمتنع المشركون من أن يقروا بها؛ لأن هذا لا يتناقض مع ملة آبائهم.

والشيخ يُحَقِّرُ من هذه حالته، بقوله:«فلا خير في رجل جهَّال الكفار أعلم منه بمعنى «لا إله إلا الله» ».

ص: 25

* قال الشيخ رحمه الله:

إذا عرفت ما ذكرت لك معرفة قلب، وعرفت الشرك بالله الذي قال الله فيه:{إِنَّ اللّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء} الآية [النساء: 48]، وعرفت دين الله الذي أرسل به الرسل من أولهم إلى آخرهم، الذي لا يقبل الله من أحد دينًا سواه، وعرفت ما أصبح غالب الناس فيه من الجهل بهذا؛ أفادك فائدتين:

الأولى: الفرح بفضل الله ورحمته، كما قال الله تعالى:{قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُون (58)} [يونس].

وأفادك أيضًا الخوف العظيم، فإنك إذا عرفت أن الإنسان يكفر بكلمة يخرجها من لسانه، وقد يقولها وهو جاهل فلا يعذر بالجهل، وقد يقولها وهو يظن أنها تقربه إلى الله كما ظن المشركون؛ خصوصًا إن ألهمك الله ما قص عن قوم موسى مع صلاحهم وعلمهم؛ أنهم أتوه قائلين:{اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138]

(1)

، فحينئذ يعظم خوفك وحرصك على ما يخلصك من هذا وأمثاله.

قوله: «إذا عرفت ما ذكرت لك معرفة قلب

»؛ يعني: ليست معرفة سطحية على اللسان، وإنما معرفة متمكنة في القلب، ويبين الشيخ أن

(1)

رواه أحمد (5/ 218)، وصححه الترمذي (2180)، وابن حبان (6702) من حديث أبي واقد الليثي رضي الله عنه.

ص: 26

كثيرًا من المسلمين يتلفظ بهذه الكلمة من غير فقه بمعناها، وقد تأتي هذه الكلمة التي هي أعلى وأفضل شعب الدين، حيث ورد في الحديث:«الإيمان بضع وستون شعبة، فأفضلها قول: لا إله إلا الله»

(1)

على اللسان هكذا من غير بصيرة، ولا وعي بما يقول، فليس المقصود مجرد التلفظ بها، بل المقصود معناها، والمشركون الضلال الجهال يدركون معناها ويفهمونها، فلذا امتنعوا أن يقولوها، ونفروا من ذلك، وقالوا ما قال الله تعالى عنهم {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص: 5].

فإذا عرف المسلم جهل كثير من المسلمين بهذا، وعرف أن الشرك هو أعظم الذنوب؛ كما قال تعالى:{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيم (13)} [لقمان]، وكما قال تعالى فيه أيضًا:{إِنَّ اللّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء} [النساء: 48]، وقال تعالى:{لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِين (65)} [الزمر]، وعرف الدين الحق الذي بعث الله به الرسل كلهم من أولهم إلى آخرهم، وعرف ما أصبح عليه واقع الناس من الجهل بدين الإسلام والانغماس في الشرك؛ استفاد فائدتين:

الأولى: الفرح بفضل الله ورحمته؛ لأن الضلال بلاء، ومن الأدعية التي يقولها المؤمن إذا رأى مبتلى «الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به»

(2)

، بحيث أنعم الله عليك بمعرفة التوحيد الذي ضل أكثر الناس

(1)

أخرجه البخاري (9)، ومسلم (35) - واللفظ له - من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

رواه الترمذي (3431) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقال أبو عيسى:«هذا حديث غريب» ، وصححه الألباني في «السلسلة الصحيحة» (602).

ص: 27

عنه، فهذه نعمة {قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُون (58)} [يونس].

وإذا تأمل الإنسان واقع البشر اليوم وجد أكثر الأمم على الضلال من يهود ونصارى ووثنيين، أو من لا دين لهم ينتسبون إليه، وكثير من المسلمين قد شابهوا أولئك المشركين بعبادتهم لغير الله، وتعلقهم بالصالحين، فإذا أجال الإنسان فِكره في هذا الوجود، ورجع إلى نفسه وقد عافاه الله، ومنَّ عليه بالإسلام ومعرفة التوحيد وما يناقضه؛ أوجب له فِكره هذا الفرح بفضل الله ورحمته، كما قال الله عز وجل:{قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُون (58)} [يونس].

الفائدة الثانية: الخوف العظيم من الوقوع في شَرَك الشرك، فإن الخليل عليه السلام قد خاف على نفسه وبنيه، ودعا ربه جل جلاله؛ أن يعصمه منه قائلًا:{وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَّعْبُدَ الأَصْنَام (35)} [إبراهيم]، ومن الدعاء المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم:«يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك»

(1)

، وكان السلف يخافون على أنفسهم من الشرك والنفاق؛ ولهذا عقد الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في كتاب التوحيد بابًا بعنوان:(باب الخوف من الشرك)

(2)

.

(1)

رواه أحمد (3/ 12)، والبخاري في الأدب المفرد (684)؛ والترمذي (2140) - وقال:«حسن» -؛ وصححه الحاكم (1/ 526)، والضياء في «المختارة» (6/ 211) من حديث أنس رضي الله عنه، وروي من حديث غيره من الصحابة رضي الله عنهم.

(2)

باب رقم (3) ص 12.

ص: 28

فينبغي للمسلم أن يسأل ربه الثبات على هذا الدين، وأن يزيده توفيقًا وهداية؛ كما يقول في الصلاة:{اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيم (6)} ، يعني علمنا ما لم نعلم وزدنا علمًا ووفقنا وثبتنا.

كما ينبغي له أن يسأل ربه أن يعصمه من زيغ القلب، كما جاء في دعاء الراسخين في العلم:{رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّاب (8)} [آل عمران]، فإذا عرف الإنسان أنه قد يكفر بكلمة يقولها بلسانه، وقد يقولها وهو جاهل، ولا يعذر بالجهل؛ بل قد يظن أنها تقربه إلى الله. إذا علم ذلك فإنه يعظم خوفه وحرصه على ما يخلصه من الكفر والشرك، فيأخذ بأسباب السلامة «من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل»

(1)

.

وهؤلاء بنو إسرائيل مع علمهم، وإيمانهم بموسى، وقد خلصهم الله من فرعون وقومه؛ لما مروا على القوم الذين يعكفون على أصنام لهم؛ جاءوا لموسى وقالوا:{اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138]، فأنكر عليهم موسى وأغلظ لهم في الإنكار قائلًا:{إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُون (138) إِنَّ هَؤُلاء مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُون (139) قَالَ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِين (140)} [الأعراف].

وفي قول الشيخ: «إن الإنسان يكفر بكلمة يخرجها من لسانه، وقد يقولها وهو جاهل، فلا يعذر بالجهل» ؛ لعل المراد أنه يقولها جاهلًا بدرجة الحكم عليها؛ لأن بعض الناس يقول الكلمة وهو يعرف أنها

(1)

رواه الترمذي (2450) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال: غريب؛ وصححه الألباني في «صحيح الجامع» حديث رقم (6222).

ص: 29

كلمة رديئة خبيثة، لكن يقول: أنا لا أدري أنها كفر فلا يعذر! وفي الحديث: «إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالًا؛ يهوي بها في جهنم»

(1)

، وفي لفظ:«إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها النار أبعد ما بين المشرق والمغرب»

(2)

، وقد يفعل بعض الناس الذنوب، ولا يعلم أنها كبيرة لكن يعلم أنها محرمة؛ فلا يعذر بقوله: لم أعلم أنها كبيرة.

أما بنو إسرائيل فقالوا: {اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138]، جاهلين، ولم يفعلوا ما أرادوا، وإنما جاءوا يسألون موسى سؤالًا فأنكر عليهم؛ وكذلك قال الصحابة الذين قالوا:«اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط» ، فأنكر عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم وأغلظ عليهم بالإنكار، وتعجب من مقولتهم، وقال:«الله أكبر! إنها السنن»

(3)

وشبههم ببني إسرائيل، لكن بحكم أنهم قالوا ذلك عن جهل وحسن نية، وجاءوا مسترشدين وطالبين، يستأذنون الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم هم أولًا: لم يفعلوا ولم يتصرفوا، وثانيًا: لما بيّن لهم انتهوا؛ لم يكفروا.

* * * * * * *

(1)

رواه البخاري (6478)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

رواه البخاري (6477)، ومسلم (2988).

(3)

تقدم تخريجه في ص 26.

ص: 30

* قال الشيخ رحمه الله:

واعلم أن الله سبحانه - من حكمته - لم يبعث نبيًا بهذا التوحيد إلا جعل له أعداء؛ كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام: 112]، وقد يكون لأعداء التوحيد علوم كثيرة، وكتب وحجج؛ كما قال تعالى:{فَلَمَّا جَاءتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} [غافر: 83].

ذكر الشيخ رحمه الله في هذا الفصل أمرًا مهمًا هو ما أخبر الله به من أنه ما بعث نبيًا إلا كان له أعداء يكذبون ويحاربون ويصدون عن سبيل الله؛ كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام: 112]، فأعداء الرسل هم شياطين الإنس والجن {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ} [الأنعام: 112]، حيث شياطين الجن يوحون إلى شياطين الإنس، وشياطين الإنس كذلك، فهم متعاونون {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام: 112]، يُلقون كلامًا مزخرفًا مزينًا يغرُّ الأغرار والجهَّال؛ فديدن هؤلاء أنهم يزينون الباطل ويزخرفونه بالقول الخادع، ويشوهون الحق بالكلمات المنفرة، وهؤلاء الأعداء لم يزالوا في وقت الأنبياء، ولا يزالون بعد وقت الأنبياء.

وأعداء الأنبياء هم أيضًا أعداء للمؤمنين، وللدعاة إلى الله وللجميع؛ فالذين يحاربون الإسلام، ويحاربون الجهاد في سبيل الله، ويحاربون

ص: 31

الدعوة إلى الله؛ هؤلاء على طريق أعداء الرسول، وهم قد يكونون كفارًا ظاهرين أو قد يكونون منافقين، وقد يقع من بعض أهل الإسلام ما يشبهون به هؤلاء.

وبسبب هذه العداوة قامت سوق الجهاد بين الأنبياء وأعدائهم؛ والحرب فيها سجال؛ كما قال ابن القيم:

ولأجلِ ذَاكَ الحَربُ بَينَ الرُّسلِ وال

-كُفَّارِ مُذ قَامَ الوَرَى سَجلَانِ

(1)

فالخصومة قائمة بين الحق والباطل من لدن نوح عليه السلام إلى أن تقوم الساعة.

* * * * * * *

(1)

الكافية الشافية ص 29 رقم البيت 219.

ص: 32

* قال الشيخ رحمه الله:

إذا عرفت ذلك وعرفت: أن الطريق إلى الله لا بد له من أعداء قاعدين عليه أهل فصاحة وعلم وحجج؛ فالواجب عليك أن تتعلم من دين الله ما يصير سلاحًا تقاتل به هؤلاء الشياطين الذين قال إمامهم ومقدمهم لربك عز وجل: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيم (16) ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِين (17)} [الأعراف].

ولكن إذا أقبلت على الله، وأصغيت إلى حجج الله وبيناته؛ فلا تخف ولا تحزن {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76)} [النساء].

والعامي من الموحدين يغلب الألف من علماء هؤلاء المشركين؛ كما قال تعالى: {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُون (173)} [الصافات]، فجند الله تعالى هم الغالبون بالحجة واللسان، كما أنهم هم الغالبون بالسيف والسنان، وإنما الخوف على الموحد الذي يسلك الطريق وليس معه سلاح، وقد من الله علينا بكتابه الذي جعله {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِين (89)} [النحل]، فلا يأتي صاحب باطل بحجة إلا وفي القرآن ما ينقضها ويبين بطلانها؛ كما قال تعالى:{وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33)} [الفرقان]. قال بعض المفسرين: هذه الآية عامة في كل حجة يأتي بها أهل الباطل إلى يوم القيامة.

ص: 33

لما ذكر الشيخ: أن من حكمته تعالى أنه لم يبعث نبيًا من نوح إلى محمد صلى الله عليه وسلم إلا وجعل له أعداء يكذبونه ويؤذونه ويحاربونه وأتباعه، فابتلى الله الرسل وأتباعهم بأعدائهم، وأعداء الرسل هم في الحقيقة أعداء لأتباعهم المؤمنين {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31)} [الفرقان]، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ} [الأنعام: 112]؛ أي: أعداء من الجن وأعداء من الإنس، فشياطين الجن يوحون إلى شياطين الإنس بالوسوسة والشبهات والمخاصمات {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُون (112)} [الأنعام].

ذكر الشيخ هنا في هذا الفصل أنه يجب على المسلم أن يعلم أن هؤلاء الأعداء أصحاب علوم وفصاحة، ولهم مؤلفات وحجج هم مغرورون وفرحون بها، كما قال تعالى:{فَلَمَّا جَاءتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} [غافر: 83]؛ لا سيما في هذا العصر الذي فيه كم هائل من العلوم والفصاحة والكتب والمؤلفات عند أعداء الرسل من اليهود والنصارى والمشركين.

ومن تلك الشبه أن المشركين قالوا للمسلمين: أنتم تأكلون ما تقتلونه بأيديكم وهو عندكم حلال، وأما ما يقتله الله فأنتم تحرمونه، وجوابها ذكر في سبب نزول قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ

ص: 34

اللّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُون (121)} [الأنعام]

(1)

.

ونشاهد الآن أن النصارى عندهم شبهات يحرفون بها الإسلام، والمشركون المنتسبون للإسلام لهم شبهات؛ بل سائر المشركين لهم شبهات ومعارضات.

والكفرة في هذا العصر قد فتحت عليهم أبواب الدنيا، وجرى على أيديهم ما جرى من الحضارة، فهم ينطبق عليهم هذا المعنى أعظم انطباق؛ لأنهم يفتخرون الآن بعلومهم ويتعاظمون بها على البشرية، ويحتقرون المسلمين والإسلام، ويرون أنهم فوقهم؛ فهم يأنفون أن يدعوا إلى الإسلام، والكفرة الأوربيون والأمريكان ومن على شاكلتهم كلهم مغرورون وفرحون، فتراهم يفتخرون ويتعاظمون ويتسلطون على العالم بسبب ما لديهم من علوم، ويظنون أنهم بهذا يَفضلون على غيرهم. وفي الحقيقة، فإن هذه الحضارة لا تزيدهم عند الله إلا هوانًا وشقاءً؛ وهم بهذه الحضارة يزدادون كفرًا وغرورًا وكبرًا وطغيانًا.

فإذا علم المسلم الموحد أن الطريق إلى الله لا بد فيه من أعداء قاعدين على الطريق، وأنهم أهل فصاحة وعلوم، وقد قال مقدمهم الشيطان إبليس:{قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيم (16) ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِين (17)} [الأعراف]. إذا علم المسلم ذلك فإن هذا يوجب عليه الإقبال على الله

(1)

رواه أبو داود (2818)، وانظر: تفسير ابن كثير (3/ 328).

ص: 35

بالتوكل عليه والاستعانة به ودعائه والاستعاذة به من شرور الإنس والجن، والإقبال على كتاب الله تلقيًا لحجج الله وتدبرًا لآياته، ولا بد أن يتعلم المسلم من دين الله ما يكون له سلاحًا يقاتل به هؤلاء الأعداء، فيتعلم من الأدلة العقلية والشرعية ما يرد به شبهات هؤلاء الأعداء وحججهم، بحيث يكون لديه القدرة على مجادلتهم ودحض شبهاتهم التي هي داحضة عند الله؛ كما قال سبحانه:{حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيد (16)} [الشورى]، وهذا كلام عظيم، فالعلم سلاح يميز الإنسان به الحق من الباطل، والخير من الشر، وويميز به أولياء الله من أعداء الله، فهو فرقان، ولا بد للإنسان من فرقان يميز به بين ما يحب الله ويرضاه، وبين ما يسخطه ويبغضه ويأباه من الأعمال والأقوال والناس؛ إذ من الناس مَنْ هو محبوب مرضي عند الله، ومنهم من هو مبغوض مسخوط ممقوت.

فإذا أقبلت على الله بقلبك، وتدبرت بيناته وحججه، فلا تخف ولا تحزن؛ فإن جند الله هم الغالبون؛ كما أخبر بذلك الله عز وجل بقوله:{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِين (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُون (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُون (173)} [الصافات]، وقال تعالى:{كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيز (21)} [المجادلة]، وقال تعالى:{إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُمْ مُّحْسِنُون (128)} [النحل]. وعلى هذا فإن الله مع أوليائه المجاهدين في سبيله، المتقين له، وجند الله هم الغالبون بالحجة والبيان؛ كما أنهم الغالبون بالسيف والسِنان؛ لأن قوله تعالى: {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ

ص: 36

الْغَالِبُون (173)} [الصافات] عام بالحجة والبيان، والسيف والسنان، وهاتان الحجتان هما المعنوية والحسية.

ولهذا، فإن العامي من الموحدين يغلب الكثير من علماء أهل الباطل، وليس المراد العامي الجاهل الساذج، وإنما المراد العامي الذي عنده بصيرة وفقه في دينه، فإن بعض العوام عنده من البصيرة ما يفحم به أهل الباطل؛ لأن التوحيد - ولله الحمد - هو دين الفطرة، والعامي الفطِن يقول لهؤلاء القبوريين والمشركين: هذه جمادات لا تغني عنكم شيئًا، أتنادون ما لا يسمع ولا يبصر ولا يتكلم ولا ينفعكم شيئًا؟

وهذه هي الحجج نفسها التي نبه الله عليها، وأنها كانت حجة إبراهيم على أبيه المشرك، حيث جاء في الكتاب العزيز:{مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42)} [مريم].

فالعامي من الموحدين يغلب ألفًا من هؤلاء المشركين المبتدعين إذا كان الأمر بالمحاجة والمخاصمة بالدليل العقلي والشرعي، ولكن أكثر هؤلاء المبطلين إنما يخاصمون بشبهات يموهون بها، كما سيذكر الشيخ جملة من شبهات أهل الباطل.

لكن الخوف على الموحد الذي يسلك الطريق إلى الله على غير هدى ولا بصيرة، فهذا عليه خطر إذا خالط هؤلاء المشركين؛ حيث من السهل عليهم أن يشبهوا ويموهوا عليه، ولهذا فإن الإنسان المحارب لا يدخل المعركة، ولا يعرض نفسه للهزيمة، أو يكون فتنة لأعداء الرسل،

ص: 37

إلا إن كان عنده مقدرة علمية وبيانية، وهذه توطئة لما سيذكره من الشبهات، وما يذكره من نقض لها.

ومما ينبغي أن نعرفه أن هؤلاء الأعداء أنواع، وشبهاتهم أنواع، فهناك شبهات ضعيفة، وهناك شبهات تحتاج عند الرد عليها إلى بصيرة وعلم واسع، ولهذا قيض الله لهذا الدين عبر الأزمان من يدافع عنه عند ظهور البدع والمنكرات، ويبين حقيقة التوحيد المحض الخالص، ويكشف حقيقة الباطل منذ عهد الأئمة في القرون المفضلة إلى عصرنا هذا، ومن أعظمهم في هذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، ولا يزال الجهاد والبلاء والصراع بين الحق والباطل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

والله سبحانه وتعالى قد جعل كتابه: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِين (89)} [النحل]، فالقرآن هدى وشفاء، وتبيانًا لكل شيء، يهدي للتي هي أقوم، فهو مصدر الهدى والخير، وفيه بيان الأحكام والعقائد الصحيحة، وفيه الدليل والمدلول، وقد ذكر الله فيه أصول الإيمان التي أهمها وأعظمها التوحيد والرسل والبعث.

فعلى المسلم أن يقبل على كتاب الله فيتدبر ما فيه من الحجج والبينات فإنه لن يأتي صاحب باطل بشبهة أو حجة إلا وفي القرآن ما ينقضها ويبين بطلانها؛ كما قال تعالى: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33)} [الفرقان]، ولكن هذا بحسب ما يفتح الله به على العبد من فهم كتابه؛ وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والناس في فقه الدين وفهم كتاب الله على درجات ومراتب، فليس القصور في كتاب

ص: 38

الله أو في شرع الله، وإنما القصور والنقص هو في أفهامنا، فإذا لم نهتدِ إلى حجة أو دليل؛ فذلك من قصور علمنا وفهمنا، وقد قال بعض المفسرين في قوله تعالى:{وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33)} [الفرقان]، هذه الآية عامة في كل حجة يأتي بها أهل الباطل إلى يوم القيامة؛ لأن الله يقول:{وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ} ، أي: بقياس أو شبهة عقلية، و «مثل» نكرة في سياق النفي، والنكرة في سياق النفي تفيد العموم التام {إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33)} [الفرقان]، جئناك بالحق البين، والبيان الشافي؛ لأن كتاب الله باق إلى يوم القيامة، وهو النور المبين الذي يهتدى به في كل ميادين الحياة.

* * * * * * *

ص: 39

* قال الشيخ رحمه الله:

وأنا أذكر لك أشياء مما ذكر الله في كتابه جوابًا لكلام احتج به المشركون في زماننا علينا، فنقول:

‌ جواب أهل الباطل من طريقين: مجمل ومفصل:

أما المجمل: فهو الأمر العظيم والفائدة الكبيرة لمن عقلها؛ وذلك قوله تعالى: {هُوَ الَّذِيَ أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ} [آل عمران: 7]، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:«إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله في كتابه، فاحذروهم»

(1)

، مثال ذلك:

إذا قال بعض المشركين: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُون (62)} [يونس]، وإن الشفاعة حق، وإن الأنبياء لهم جاه عند الله، أو ذكر كلامًا للنبي صلى الله عليه وسلم يستدل به على شيء من باطله؛ وأنت لا تفهم معنى الكلام الذي ذكره فجاوبه بقولك:

إن الله ذكر في كتابه أن الذين في قلوبهم زيغ يتركون المحكم ويتبعون المتشابه، وما ذكرت لك من أن الله ذكر أن المشركين يقرون بالربوبية، وأن كفرهم بتعلقهم على الملائكة والأنبياء والأولياء مع قولهم:{هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللّهِ} [يونس: 18]، وهذا أمر محكم بيِّن، لا يقدر أحد أن يغير معناه.

(1)

رواه البخاري (4547)، ومسلم (2665) من حديث عائشة رضي الله عنها.

ص: 40

وما ذكرت لي - أيها المشرك - من القرآن أو كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لا أعرف معناه، ولكن أقطع أن كلام الله لا يتناقض، وأن كلام النبي صلى الله عليه وسلم لا يخالف كلام الله عز وجل، وهذا جواب جيد سديد ولكن لا يفهمه إلا من وفقه الله تعالى، فلا تستهن به؛ فإنه كما قال تعالى:{وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيم (35)} [فصلت].

يريد الشيخ أن يوضح هنا ما قرره من أن كتاب الله مشتمل على الحجج التي ترد على شبهات أهل الباطل، وذلك بما سيأتي مما ذكره من الشبه والجواب عنها، فذكر الشيخ رحمه الله أن جوابَ أهلِ الباطل من طريقين:

- مجمل عام لا يختص بشبهة بعينها.

- ومفصل يوضح كل شبهة، ويكشف زيفها وفسادها.

ثم نوه رحمه الله بشأن الجواب المجمل، وبين أنه أمر عظيم، وجواب سديد، وأنه مستمد من قوله تعالى:{هُوَ الَّذِيَ أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ} [آل عمران: 7].

فدلت هذه الآية على أن القرآن منه ما هو محكم {مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} [آل عمران: 7]؛ أي: أصله الذي يرد إليه غيره، وهو الواضح البين الذي لا يحتمل إلا معنى واحدًا، ومنه ما هو متشابه

ص: 41

{وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} ، وهو الذي فيه خفاء، ويحتمل أكثر من معنى، فيشكل على بعض الناس، وهذا هو الذي يمكن أن يتعلق به أهل الأهواء؛ ولهذا قال سبحانه وتعالى:{فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِه} يتبعونه، ويطلبونه، ويتعلقون به، ويتخذون منه حججًا لباطلهم، ويؤيد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:«إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمى الله في كتابه، فاحذروهم» .

فإذا عرفت ما تضمنته الآية، وما تضمنه الحديث؛ فعندئذ إذا قال لك أحد المشركين يحتج على شركه وتعلقه بالصالحين: قال الله تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُون (62)} [يونس]، والشفاعة حق والأنبياء والصالحون لهم جاه عند الله، فيحتج بمثل هذا على أن الصالحين يستشفع بهم، ويدعون في النوائب والشدائد، فقل: هذه الآية فيها ثناء الله على أوليائه، ووعدهم بالبشرى في الدنيا والآخرة، وليس فيها أنهم يرجون أو يدعون أو يخافون.

فإذا كنت لا تستطيع أن تجيبه عن هذه الشبهة تفصيلًا، فقل له: إن الله تعالى أخبر بأن الذين في قلوبهم زيغ عن الحق يتركون الواضح البين، ويبحثون عن الشيء الذي فيه إشكال وخفاء؛ لأن الواضح البين لا يجدون فيه مدخلًا، وقد أخبر الله بأن المشركين مقرون بأن الله هو خالقهم وخالق السماوات والأرض، وهو الذي يدبر الأمر، ويخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي. ومع هذا الإقرار فقد كفرهم الله لتعلقهم بالملائكة والأنبياء والصالحين خوفًا ورجاءً، وتوكلًا ودعاءً

ص: 42

لهم؛ كما قال الله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللّهِ} [يونس: 18]، وما ذكرتَه لا أفهم معناه؛ لأنك تستدل على أن التعلق بالصالحين رجاء ودعاء، وخوفًا ليس حرامًا، ولا كفرًا ولا شركًا، والله تعالى قد كفَّر المشركين مع إقرارهم له بالربوبية، وكلام الله لا يتناقض وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم لا يناقض ولا يخالف كلام الله تعالى؛ فلا يمكن أن يأتي ما يناقض ما دل عليه القرآن من أن المشركين كفار مع إقرارهم بالربوبية؛ لأن كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم حق ومحكم، والحق لا يناقض بعضه بعضًا، كما أن المحكم يصدق بعضه بعضًا.

ومضمون هذا الجواب أن القرآن قد دل على أن التعلق بالصالحين بالعبادة لهم وبطلب شفاعتهم؛ شرك وكفر، وهذا أصل ثابت، ولن يأتي ما يناقض ذلك، فكل ما يحتج به على خلاف هذا الأصل فهو مدفوع وباطل، وهذا جواب جيد سديد يمكن أن يحتج به مع كل مبطل، فاعتن بهذا الجواب وافهمه، ولا تستهن به فإنه لا يفهم أهمية هذا الجواب المجمل وعِظَم فائدته إلا محظوظ؛ كما قال الله تعالى:{وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيم (35)} [فصلت].

* * * * * * *

ص: 43

* قال الشيخ رحمه الله:

[وأما الجواب المفصل]: فإن أعداء الله لهم اعتراضات كثيرة على دين الرسل، يصدون بها الناس عنه؛ منها:

قولهم: نحن لا نشرك بالله شيئًا، بل نشهد أنه لا يخلق ولا يرزق، ولا ينفع ولا يضر؛ إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا صلى الله عليه وسلم لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا؛ فضلًا عن عبد القادر أو غيره، ولكن أنا مذنب، والصالحون لهم جاه عند الله، وأطلب من الله بهم.

فجاوبه بما تقدم، وهو: أن الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مقرون بما ذكرت لي، ومقرون أن أوثانهم لا تدبر شيئًا، وإنما أرادوا الجاه والشفاعة، واقرأ عليه ما ذكره الله في كتابه ووضحه.

فإن قال: هؤلاء الآيات نزلت فيمن يعبد الأصنام، كيف تجعلون الصالحين مثل الأصنام؟! أم كيف تجعلون الأنبياء أصنامًا؟! فجاوبه بما تقدم، فإنه إذا أقر أن الكفار يشهدون بالربوبية كلها [لله]، وأنهم ما أرادوا ممن قصدوا إلا الشفاعة، ولكن إذا أراد أن يفرق بين فعلهم وفعله بما ذكر؛ فاذكر له: أن الكفار منهم من يدعو الأصنام، ومنهم من يدعو الأولياء الذين قال الله فيهم:{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [الإسراء: 57]، ويدعون عيسى بن مريم وأمه، وقد قال الله تعالى: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُون (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللّهُ

ص: 44

هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم (76)} [المائدة]، واذكر له قوله تعالى:{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُون (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِمْ مُّؤْمِنُون (41)} [سبأ]، وقوله تعالى:{وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوب (116)} [المائدة]، فقل له: أعرفتَ أن الله كفَّر من قصد الأصنام؟ وكفَّر أيضًا من قصد الصالحين، وقاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

فإن قال: الكفار يريدون منهم، وأنا أشهد أن الله هو النافع الضار المدبر، لا أريد إلا منه، والصالحون ليس لهم من الأمر شيء، ولكن أقصدهم أرجو من الله شفاعتهم.

فالجواب: أن هذا قول الكفار سواءً بسواء، واقرأ عليه قوله تعالى:{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]، وقوله تعالى:{وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللّهِ} [يونس: 18].

واعلم أن هذه الشبه الثلاث هي أكبر ما عندهم، فإذا عرفت أن الله وضّحها لنا في كتابه، وفهمتها فهمًا جيدًا، فما بعدها أيسر منها.

ثم بعدما ذكر الشيخ الجواب المجمل الذي ينفع في كل شبهات المشركين؛ أتبعه بذكر الجواب الثاني وهو المفصل، وهو أن يجيب

ص: 45

عن كل شبهة بجواب مفصل يخصها؛ فالمشركون لهم شبه يتعلقون بها، ويستدلون بها على صحة ما هم عليه، وهذه الشبه ما هي إلا حجج داحضة باطلة.

* * * * * * *

ص: 46

‌الشبهة الأولى والرد عليها

أول تلك الشبه هي قول بعض أولئك المشركين: أنا لا أشرك بالله، بل أقر بأن الله تعالى هو الخالق الرازق، لا يخلق ولا يرزق، ولا ينفع ولا يضر؛ إلا هو سبحانه، ولكن الصالحين والأنبياء والملائكة لهم جاه ومنزلة عند الله، فأنا أتوسل بهم إلى الله، وأنا مقصر ومذنب، فأنا أسأل الله وأستشفع بهم، وأطلب شفاعتهم عند الله.

فإذا قال ذلك، فالجواب عليه بما تقدم، وهو: أن الكفَّار والمشركين الذين نزل فيهم القرآن، وكفَّرهم الله، وقاتلهم الرسول صلى الله عليه وسلم؛ كانوا مقرين بنفس ما أقررت به، وإنما تعلقوا بالأولياء والصالحين طلبًا للشفاعة؛ كما قال الله تعالى:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللّهِ} [يونس: 18]، فما ذكرته لا يختلف عما حكى الله عن المشركين، وأخبر به في كتابه عن أنهم يقرون بالربوبية كلها لله، قال تعالى:{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُم مِنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُون (31)} [يونس]، وقال تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُون (87)} [الزخرف]، وقال تعالى:{قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُون (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُون (85)} [المؤمنون]، وكل هذا التقرير قد سبق في أوائل هذه الرسالة، فهذا الذي يدعي أنه ليس بمشرك

ص: 47

لا تختلف حاله عن حال المشركين الأولين، من حيث إنهم كانوا مقرين بربوبية الله، ولكنهم يتوجهون إلى غيره، ويعبدون غيره، ويتقربون إلى غيره، وهذه هي الشبهة الأولى.

* * * * * * *

ص: 48

‌الشبهة الثانية والرد عليها

الشبهة الثانية: قد يقول: هذه الآيات التي ذكر الله فيها كفر المشركين إنما كفَّرهم سبحانه لأنهم كانوا يعبدون الأصنام والجمادات المنحوتة من أحجار أو معادن، ونحن إنما نتعلق ونتوسل بالصالحين فكيف تجعلوننا مثل أولئك؟ أم كيف تجعلون الأنبياء والأولياء مثل الأصنام؟

فهذه الشبهة مبنية على التفريق بين فعله وفعلهم من حيث ما يتعلقون به؛ وذلك أن المشركين الأولين إنما كانوا يتعلقون بالأصنام المنحوتة بأيديهم. أما نحن، فإنما نتعلق بأولياء الله وأنبيائه وملائكته.

والجواب عن هذه الشبهة ببيان أن المشركين الأولين لم يعبدوا كلهم الأصنام مباشرة، إنما عبدوا الأصنام على أنها تماثيل لأولئك الصالحين كما صنع قوم نوح عليه السلام لما عبدوا تلك الأصنام على أنها تماثيل لأولئك الصالحين، ثم إن المشركين الأولين ليسوا كلهم يعبدون الأصنام، وإنما منهم من يعبد الأنبياء، ومنهم من يعبد الصالحين، ومنهم من يعبد الملائكة؛ دون أن يوسط بينه وبينهم صورهم وتماثيلهم، ومن الدليل على ذلك قوله تعالى:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلَا تَحْوِيلا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء]؛ أي أن هؤلاء المدعوين هم أنفسهم يبتغون إلى ربهم الوسيلة، ويرجون رحمته

ص: 49

ويخافون عذابه، وهذه الآية قيل: إنها نزلت في الذين كانوا يعبدون الملائكة، والمسيح وعزيرًا

(1)

، وقيل: إنها نزلت في قوم من العرب كانوا يعبدون ناسًا من الجن، فأسلم الجن وبقي أولئك على شركهم

(2)

.

وقال سبحانه ذامَّا النصارى في غلوهم في المسيح ابن مريم: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُون (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم (76)} [المائدة]، ومن ذلك قوله سبحانه:{وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوب (116)} [المائدة].

فالله كفَّر النصارى لغلوهم في المسيح وأمه، وتأليههم للمسيح وأمه.

ودليل الشرك بالملائكة قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُون (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِمْ مُّؤْمِنُون (41)} [سبأ]؛ فهؤلاء كانوا يعبدون الملائكة، ولكنَّ الملائكة تتبرأ منهم ومن شركهم في الدنيا والآخرة؛ لأن الملائكة لا يرضون بأن يعبدهم أحد.

فبهذا يُعرف أن المشركين ليسوا كلهم يعبدون الأصنام، بل منهم من يعبد الأصنام ومنهم من يعبد الأنبياء ومنهم من يعبد الأولياء ومنهم من يعبد الملائكة.

(1)

تفسير الطبري (9/ 1/ 104) من قول ابن عباس رضي الله عنهما.

(2)

رواه البخاري (4714) من كلام ابن مسعود رضي الله عنه.

ص: 50

وبعد هذا البيان عرفت أن الله كفَّر أولئك الذين كانوا يتعلقون بالصالحين، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم كفَّرهم وقاتلهم، ولم يفرق بين من يعبد الأصنام من الأحجار والأشجار ونحوها من الجمادات؛ لأن الكل قد ألَّه مخلوقًا مع الله، وعبد مخلوقًا من دون الله، واتخذ ندًا من دون الله.

* * * * * * *

ص: 51

‌الشبهة الثالثة والرد عليها

الشبهة الثالثة: إن قال المشرك الذي يغلو في الصالحين ويتعلق بهم ويدعوهم من دون الله: الكفار كانوا يطلبون من أولئك الصالحين قضاء الحوائج؛ كشفاء المرضى والنصر على الأعداء؛ وأنا أعلم أن الله تعالى هو النافع الضار، وأن الصالحين ليس لهم من الأمر شيء، وأنا لا أريد إلا الله، ولكني أتوجه إليهم أطلب من الله بشفاعتهم.

فإذا قال هذا فقل له: هذا وقول الكفار سواء بسواء، فالكفار الأولون يؤمنون بأن الصالحين لا ينفعون ولا يضرون، وإنما يتعلقون بهم ليشفعوا لهم عند الله، واقرأ عليه هذه الآيات:{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]، وقوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء

ص: 52

شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللّهِ} [يونس: 18]، فهاتان الآيتان تدلان على أن المشركين يؤمنون بأن الله هو الخالق الرازق المدبر المحيي المميت، وقد تقدمت الأدلة على إيمانهم بربوبية الله، ولكنهم يتخذون الصالحين وسائط يطلبون شفاعتهم عند الله بناء على ما يزعمونه من أنهم يشفعون لهم، والمشركون لا يريدون شفاعة من يعبدونهم من الأنبياء والصالحين يوم القيامة؛ لأن المشركين الأولين لا يقرون بالبعث؛ إنما يريدون شفاعتهم في الدنيا؛ فيعبدونهم ويتقربون إليهم، ويريدون شفاعتهم لقضاء حوائجهم في الدنيا:{وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللّهِ} [يونس: 18]، ويقول تعالى:{قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُون (44)} [الزمر].

فهذه هي الشبهات الثلاث، وهي كما قال الشيخ رحمه الله:«واعلم: أن هذه الشبه الثلاث هي أكبر ما عندهم، فإذا عرفت أن الله وضحها لنا في كتابه، وفهمتها فهمًا جيدًا، فما بعدها أيسر منها» ، والشبهة الثالثة تشبه الشبهة الأولى، إلا أن ألفاظها وعباراتها تختلف، ولعل الشيخ كررها باعتبار أنهم تارة يعبرون بهذا، وتارة يعبرون بهذا، وهذه الشبه الثلاث والتي بعدها في بعضها تداخل وتقارب.

* * * * * * *

ص: 53

* قال الشيخ رحمه الله:

فإن قال: أنا لا أعبد إلا الله، وهذا الالتجاء إلى الصالحين ودعاؤهم ليس بعبادة، فقل له: أنت تقر أن الله فرض عليك إخلاص العبادة لله، وهو حقه عليك؟ فإذا قال: نعم، فقل له: بين لي هذا الذي فرضه الله عليك، وهو إخلاص العبادة لله وهو حقه عليك

فإن كان لا يعرف العبادة ولا أنواعها، فبينها له بقولك: قال الله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55]، فإذا أعلمته بهذا فقل له: هل علمت هذا عبادة لله تعالى؟ فلا بد أن يقول: نعم، والدعاء مخ العبادة.

فقل له: إذا أقررت أنه عبادة، ودعوت الله ليلًا ونهارًا، خوفًا وطمعًا، ثم دعوت في تلك الحاجة نبيًا أو غيره؛ هل أشركت في عبادة الله غيره؟ فلا بد أنه يقول: نعم، فقل له: قال الله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَر (2)} [الكوثر]، فإذا أطعت الله ونحرت له؛ هل هذه عبادة؟ فلا بد أن يقول: نعم.

فقل له: إذا نحرت لمخلوق - نبي أو جني أو غيرهما - هل أشركت في هذه العبادة غير الله؟ فلا بد أن يقر ويقول: نعم.

وقل له - أيضًا -: المشركون الذين نزل فيهم القرآن هل كانوا يعبدون الملائكة والصالحين واللات وغير ذلك؟ فلا بد أن يقول: نعم.

ص: 54

فقل له: وهل كانت عبادتهم إياهم إلا في الدعاء والذبح، والالتجاء ونحو ذلك؟ وإلا فهم مقرون أنهم عبيده، وتحت قهر الله، وأن الله هو الذي يدبر الأمر ولكن دعوهم والتجأوا إليهم للجاه والشفاعة وهذا ظاهر جدًا.

هذه الشبهة الرابعة من شبه المشركين الذين يغلون في الصالحين، فيقول أحدهم:«أنا لا أعبد إلا الله وأما التجائي إلى الصالحين ورجائي وتوجهي إليهم فليس بعبادة» ، وهذا هو أصل الشبهة، والجديد هو قولهم:«ليس بعبادة» ، وهو إنكار أن الالتجاء إلى الصالحين عبادة.

وهذه الشبهة تشبه بعض الشبه المتقدمة؛ لكنها صيغت بعبارة أخرى، فقوله:«أنا لا أعبد إلا الله» مثل ما تقدم من قوله: «أنا لا أشرك بالله» .

فإذا قال ذلك، فقل له: إن الله فرض عليك عبادته؛ لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة: 21]، وقال سبحانه:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُون (56)} [الذاريات]، فإذا كنت تقر أن الله فرض عليك إخلاص العبادة له، فبين لي ما هي العبادة التي فرض عليك أن تجعلها خالصة له ولا تصرف شيئًا منها لغيره؟

فإنه لا يعرف حقيقة العبادة التي يجب إخلاصها لله، حينئذٍ بيِّن له أنواع العبادة فالعبادة حقيقتها: ما أمر الله به من الدعاء والخوف والرجاء والصلاة والخضوع لله والحب لله والتعظيم له سبحانه، وبيِّن له أنها أنواع؛ منها: الخوف والرجاء والتوكل والدعاء والذبح والنذر،

ص: 55

فإذا قال: الدعاء ليس بعبادة، كما قال: الالتجاء إلى الصالحين ليس عبادة، فقل له: أليس الله يقول: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِين (60)} [غافر]، وفي الحديث:«الدعاء هو العبادة»

(1)

، وقد أمر الله سبحانه عباده بالدعاء في آيات كثيرة؛ منها قوله تعالى:{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِين (55)} [الأعراف]، وأثنى على عباده فقال:{يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة: 16]، وقال:{وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء: 90]، فأمر بالدعاء وأثنى على عباده بأنهم يدعونه، وسمى الدعاء عبادة. فإذا تبين أن الدعاء عبادة فقل لهذا المشرك: إذا تبين لك بهذا الدليل أن الدعاء عبادة فإنك إذا دعوت الله ليلًا ونهارًا، ثم دعوت معه غيره؛ ألست قد أشركت معه في عبادته، حيث قد دعوت معه غيره والدعاء عبادة؟ فلا بد - إن كان عاقلًا ومنصفًا - أن يقول: نعم.

وإذا سلم أن الدعاء عبادة، وأنه إن دعا الله ودعا معه غيره؛ فقد أشرك معه في عبادته، فإنه قد اعترف بأن هؤلاء مشركون.

ومن الأمثلة الأخرى التي ذكرها الشيخ: الذبح قال تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَر (2)} [الكوثر]، فقد أمر الله في هذه الآية بالصلاة والنحر، وبهذا نعلم أن النحر عبادة؛ لأن الله أمر به، فإذا ذبحت لله ونحرت لله من أضحية أو غيرها، ثم ذبحت لنبي أو جني أو ملك أو صنم؛ أفليس هذا شركًا في العبادة، حيث قد تقرر أن النحر عبادة؟

(1)

رواه أبو داود (1479)، وصححه الترمذي (2969)، وابن حبان (890) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما.

ص: 56

فلا بد أن يقول: نعم؛ لأنه إذا سلَّم أن النحر لله عبادة فلا بد أن يكون النحر لغير الله شركًا، حيث هي عبادة لغيره معه سبحانه، وهكذا يقال في أمثلة أخرى، فالطواف بالبيت عبادة لله، والطواف على القبر شرك وبدعة، والمشركون الأولون إنما كان شركهم بأنهم كانوا يدعون مع الله غيره، ويذبحون لغيره، وينذرون لغيره، ويحجون لغيره، فهذا عين الشرك، وهذا الذي تفعله هو بعينه ما كان يفعله هؤلاء المشركون.

والالتجاء في الرخاء أو عند الشدائد إلى الصالحين الموتى أو إلى الصالحين الأحياء فيما لا يقدر عليه إلا الله؛ شرك. وأما الالتجاء إلى المخلوق فيما يقدر عليه فهذا شيء آخر؛ كمن يقع في شدة أو كربة، أو يخاف من عدو؛ فيلتجئ إلى من يقدر على دفع عدوه عنه ويخلصه منه.

* * * * * * *

ص: 57

* قال الشيخ رحمه الله:

فإن قال أتنكر شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وتبرأ منها؟

فقل له: لا أنكرها ولا أتبرأ منها بل هو صلى الله عليه وسلم الشافع المشفع، وأرجو شفاعته، ولكن الشفاعة كلها لله؛ كما قال تعالى:{قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [الزمر: 44]، ولا تكون إلا بعد إذن الله؛ كما قال عز وجل:{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255]، ولا يشفع [النبي صلى الله عليه وسلم] في أحد إلا بعد أن يأذن الله فيه؛ كما قال تعالى:{وَلَا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28]، وهو لا يرضى إلا التوحيد؛ كما قال تعالى:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85].

فإذا كانت الشفاعة كلها لله، ولا تكون إلا من بعد إذنه، ولا يشفع النبي صلى الله عليه وسلم ولا غيره في أحد حتى يأذن الله فيه، ولا يأذن إلا لأهل التوحيد؛ تبين لك أن الشفاعة كلها لله، فاطلبها منه، فأقول: اللهم لا تحرمني شفاعته، اللهم شفعه فيَّ، وأمثال هذا.

فإن قال: النبي صلى الله عليه وسلم أُعطي الشفاعة، وأنا أطلبه مما أعطاه الله.

فالجواب: أن الله أعطاه الشفاعة ونهاك عن هذا، فقال:{فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18)} [الجن]، وطلبك من الله شفاعة نبيه عبادة، والله نهاك أن تشرك في هذه العبادة أحدًا، فإذا كنت تدعو الله أن يشفعه فيك فأطعه في قوله:{فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18)} [الجن].

ص: 58

وأيضًا: فإن الشفاعة أُعطيها غير النبي صلى الله عليه وسلم، فصح أن الملائكة يشفعون، والأفراط

(1)

يشفعون، والأولياء يشفعون.

أتقول: إن الله أعطاهم الشفاعة فأطلبها منهم؟ فإن قلت هذا رجعت إلى عبادة الصالحين التي ذكرها الله في كتابه، وإن قلت: لا، بطل قولك: أعطاه الله الشفاعة وأنا أطلبه مما أعطاه الله.

هذه الشبهة الخامسة في صيغة اعتراض، فإذا قال المشرك القبوري بعد المحاورة السابقة، وبعد الإنكار عليه الالتجاء إلى الصالحين وطلب الشفاعة منهم: أتنكر شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم ولا تقر بها وتبرأ منها؟ كأنه بعد إفحامه وبعد غلبته بالحجة، ذهب يتهم الموحد ويشهر به، ويدعي أن النهي عن الالتجاء إلى الصالحين وطلب الشفاعة منهم؛ يتضمن إنكار شفاعتهم، ويقول: أتنكر شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم؟ فإذا قال ذلك، فقل له: لا أنكرها بل أقول: إن شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم حق فهو الشافع المشفع، وهو سيد الشفعاء، وله شفاعات منها: أنه يشفع في أهل الموقف أن يقضى بينهم - وهو المقام المحمود -، ويشفع فيمن دخل النار من أمته، فيخرج منها من شاء الله، وفي كل مرة يأتي ويسجد ويحمد ربه، فيقال له: ارفع رأسك وقُل يُسمَع وسل تُعْطَه واشفع تُشفَّع، يقول:«فيحد لي حدًّا فأخرجهم من النار»

(2)

فهو أول شافع وأول مشفع

(3)

.

(1)

الأطفال.

(2)

رواه البخاري (4476)، ومسلم (193) من حديث أنس رضي الله عنه.

(3)

قوله صلى الله عليه وسلم: «أول شافع وأول مشفع» ؛ مشفع - بتشديد الفاء - اسم مفعول من التشفيع؛ أي: مقبول الشفاعة، وإنما ذكر الثاني لأنه قد يشفع اثنان فيشفع الثاني منهما قبل الأول، فهو صلى الله عليه وسلم أول من يشفع، وأول من تقبل شفاعته، والله أعلم.

ص: 59

لكن مع هذا الإقرار بشفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، يجب أن نعلم أن الشفاعة يوم القيامة لا تكون إلا بشرطين:

- بإذن الله للشافع.

- ورضاه عن المشفوع له.

فالشفاعة عند الله ليست كالشفاعة عند الخلق؛ لأنَّ الشفاعة عند المخلوق تكون بغير إذنه، فالمقرب والوزير يأتي ويشفع وإن كان الملك غير راض، ولكنه قد يقبل الشفاعة لأنه محتاج إليه، وإن كان غير راض عن المشفوع له فيضطر إلى قبول شفاعته. أما الله تعالى، فله الملك كله ليس بحاجة إلى أحد من الخلق، ولهذا فلا أحد يشفع عند الله إلا بإذنه كما جاء ذلك في آيات منها قوله تعالى:{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255]؛ أي: لا أحد يشفع عنده إلا بإذنه، وهذا سيد الشفعاء محمد صلى الله عليه وسلم لا يبدأ بالشفاعة أولًا، بل يبدأ بالسجود والحمد حتى يؤذن له بالشفاعة، فيقال له:«ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع»

(1)

.

وهكذا غيره من الملائكة والنبيين والصالحين لا يشفع أحد منهم حتى يُؤذن له ولا يشفعون إلا لمن ارتضى الله تعالى؛ كما قال سبحانه: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28]، وهو سبحانه لا يرتضي إلا أهل التوحيد، فلا يشفع أحد من الأنبياء أو الملائكة أو الصالحين إلا لمن كان موحدًا.

(1)

انظر: التخريج السابق.

ص: 60

أما الظالمون المشركون فليس لهم شفيع؛ كما قال تعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاع (18)} [غافر].

إذا عرفت أن الشفاعة يوم القيامة لا تكون إلا بإذنه تعالى للشافع ورضاه عن المشفوع له؛ علمت أن الشفاعة كلها لله، فاطلبها من الله، وقل:«اللهم شفع فيَّ نبيك اللهم اجعلني من أهل شفاعته» ؛ إذ الشفاعة لا تُطلب أصلًا إلا من الله تعالى، ولا يجوز أن تُطلب من ميت أو من غائب. أما الضُّلال فإنهم يطلبونها من الملائكة وهم غائبون عنهم، ويطلبونها من الأموات؛ فتجدهم يصرخون عند قبورهم يسألونهم الشفاعة، وشفاء مرضاهم، ونصرهم على الأعداء، ومنحهم ما يحتاجون إليه، وبدل أن يتوجهوا إلى الله يتوجهون إلى الأموات المرتهنون في قبورهم، وهذا من الضلال المبين.

وهذا الكلام أيضًا موجه ومناسب لحال المسلم أو المنتسب للإسلام الذي يتوجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أو غيره طلبًا لشفاعته، يرجو أن يشفع له في حوائجه في الدنيا، ويدعوه ويتقرب إليه رجاء شفاعته في الآخرة، ولهذا قال الشيخ: اطلب من الرب أن يشفعه فيك، وهذا لا ينمُّ عن نقص في طلب الشفاعة من الحي القادر، كما سيأتي.

فقول الشيخ رحمه الله: «فإن قال: النبي صلى الله عليه وسلم أعطي الشفاعة، وأنا أطلبه مما أعطاه الله

» هذه أيضًا شبهة سادسة من شبهات المشركين الذين يتعلقون على الأنبياء والصالحين، ويخصون النبي صلى الله عليه وسلم بالكلام أحيانًا، فيقول: إن الرسول قد أعطاه الله الشفاعة كما في الحديث الصحيح:

ص: 61

«وأُعطيت الشفاعة»

(1)

، وقال عليه الصلاة والسلام:«وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة»

(2)

، فالله أعطاه الشفاعة وأنا أطلب من الرسول الشفاعة، وأقول: يا رسول الله! اشفع لي، يا رسول الله ادع الله أن يغيثني - وهو في قبره -؟

نقول لو كان الرسول صلى الله عليه وسلم حيًّا، فيجوز أن تطلب منه الشفاعة، فقد كان الصحابة يطلبون منه أن يشفع لهم عند الله بمعنى أن يدعو لهم، ومن ذلك قول ذلك الأعرابي:«إنا نستشفع بك على الله، ونستشفع بالله عليك» ، فأنكر النبي عليه الصلاة والسلام قوله: نستشفع بالله عليك، وقال له:«إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه»

(3)

، فأنكر عليه واحدة، وأقره على الثانية، فأقره في استشفاعه بالرسول إلى الله «ونستشفع بك على الله» ، فيجوز الاستشفاع بالحي القادر، فيطلب من العبد الصالح أن يدعو الله له؛ إما طلب خاص، أو طلب عام للمسلمين قال عكاشة:«يا رسول! ادع الله أن يجعلني منهم»

(4)

، والمرأة التي كانت تُصرع تأتي وتقول: يا رسول الله! ادع الله لي

(5)

، ويطلب منه المسلمون أن يستسقي لهم، فيقول أحدهم:«ادع الله يغيثنا»

(6)

، فيدعو فيجيب الله دعاءه،

(1)

رواه البخاري (335)، ومسلم (521) من حدث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.

(2)

رواه البخاري (6304)، ومسلم - واللفظ له - (199) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(3)

رواه أبو داود (4728)، وصححه ابن خزيمة في «التوحيد» ص 103 من حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه.

(4)

رواه البخاري (6541)، ومسلم (220) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

(5)

رواه البخاري (5652)، ومسلم (2576) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

(6)

رواه البخاري (1013)، ومسلم (897) من حديث أنس رضي الله عنه.

ص: 62

وينزل الغيث، ويأتي هذا الرجل ويطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله أن يرفع السحاب عنهم

(1)

، والرجل الأعمى الذي قال:«يا رسول الله! ادع الله أن يعافيني»

(2)

، إلى غير ذلك.

والحي يشفع، وقد شرع الله عز وجل جواز الدعاء للمؤمنين فقال لنبيه عليه الصلاة والسلام:{وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد: 19]، أما بعد موته صلى الله عليه وسلم فلا يجوز طلب الدعاء منه؛ لأنه وإن كان يسمع سلام المؤمن، فلا يلزم منه أن يسمع ممن يطلب منه الدعاء، ولو فرض أنه يسمع لكنه في قبره فليس حاله كحاله في الدنيا؛ ولهذا لم يكن الصحابة رضي الله عنهم يأتون إلى قبره ويسألونه الدعاء؛ فضلًا عن أن يتقرب إليه أحدهم بصلاة أو نذر أو ذبح، أو أن يدعوه مباشرة، فيدعوه من بعد أو قرب، وإنما كان المسلمون بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم يرجون شفاعته يوم القيامة، ولما أجدبت الأرض واحتاجوا للسقيا؛ لم يأتوا ليطلبوا منه أن يستسقي لهم كما قال عمر رضي الله عنه:«اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا»

(3)

، فعدل عن الاستسقاء بالنبي عليه الصلاة والسلام إلى الاستسقاء بالعباس رضي الله عنه، وهذا يدل على أنه لا يجوز طلب الشفاعة من الميت.

فإذا قال لك القبوري: إن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه الله الشفاعة، فقل: نعم أعطاه الله الشفاعة، وأمرك أن لا تدعو مع الله أحدًا، فلما كان الله هو

(1)

انظر: التخريج السابق.

(2)

رواه أحمد (4/ 138)، وصححه الترمذي (3578)، وابن خزيمة (1219)، والحاكم (1/ 313) من حديث عثمان بن حنيف رضي الله عنه.

(3)

رواه البخاري (1010) من حديث أنس رضي الله عنه.

ص: 63

الذي أعطاه الشفاعة، فالواجب عليك أن تسأل الله، وتقول: اللهم شفع فيَّ نبيك، اللهم وفقني لِاتباعه. أما إذا دعوت الرسول صلى الله عليه وسلم فإن معنى ذلك أنك أشركت مع الله في عبادة الدعاء، والله تعالى يقول:{فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18)} [الجن].

ورد عليه بجواب آخر أيضًا: وهو أن الذين أعطوا الشفاعة غير الأنبياء كثير، منهم: الملائكة والصالحين والأفراط، فإذا كان كل من أعطي الشفاعة يدعى إذًا فادع الأنبياء والملائكة والصالحين، فأنت بين خيارين: إما أن تدعو كل من أعطاه الله الشفاعة، فتدعو الملائكة، أو تدعو الأنبياء وتستغيث بهم، وتطلبهم النصر والرزق، والشفاء من الأمراض، فتكون قد شاركت الذين يغلون ويعبدون الصالحين والأنبياء.

وإما أن تقول: لا أدعو الملائكة ولا الأنبياء، فيقال لك: وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم، إن كان إعطاء الملائكة والأنبياء والصالحين الشفاعة لا يوجب دعاءهم مع الله؛ فكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم.

ونحن أهل التوحيد نقر بشفاعة هؤلاء كلهم، ولكننا نؤمن بالله ونرجو ذلك، ولا نتوجه بالدعاء والخوف، والرجاء والرغبة، والرهبة والعبادات العملية الإيمانية، إلا إلى الله، فلا نستغيث إلا به، ولا ندعو غيره، ولا نرجو سواه، ولا نتوكل إلا عليه، ولا نذبح إلا له، ولا نتقرب إلا إليه سبحانه، فهذا جواب سديد محكم، وهذه الشبهات -كما تقدم - فيها تقارب وتداخل، إلا أن عباراتها تتنوع.

* * * * * * *

ص: 64

* قال الشيخ رحمه الله:

فإن قال: أنا لا أشرك بالله شيئًا حاشا وكلا. ولكن الالتجاء إلى الصالحين ليس بشرك. فقل له: إذا كنت تقر أن الله حرم الشرك أعظم من تحريم الزنا، وتقر: أن الله لا يغفره فما هذا الأمر الذي حرمه الله وذكر أنه لا يغفره؟ فإنه لا يدري.

فقل له: كيف تبرئ نفسك من الشرك وأنت لا تعرفه؟ أم كيف يحرم الله عليك هذا ويذكر أنه لا يغفره، ولا تسأل عنه ولا تعرفه؟! أتظن أن الله عز وجل يحرمه ولا يبينه لنا.

فإن قال: الشرك عبادة الأصنام ونحن لا نعبد الأصنام.

فقل له: ما معنى عبادة الأصنام؟ أتظن أنهم يعتقدون أن تلك الأخشاب والأحجار تخلق وترزق وتدبر أمر من دعاها؟ فهذا يكذبه القرآن.

فإن قال: إنهم يقصدون خشبة أو حجرًا أو بنية على قبر أو غيره، يدعون ذلك ويذبحون له، ويقولون: إنه يقربنا إلى الله زلفى، ويدفع الله عنا ببركته، أو يعطينا ببركته.

فقل: صدقت، وهذا هو فعلكم عند الأحجار والأبنية التي على القبور وغيرها.

فهذا أقر أن فعلهم هذا هو عبادة الأصنام، فهو المطلوب.

ص: 65

ويقال له أيضًا: قولك: الشرك عبادة الأصنام، هل مرادك أن الشرك مخصوص بهذا؟ وأن الاعتماد على الصالحين ودعاءهم لا يدخل في ذلك؟ فهذا يرده ما ذكره الله تعالى في كتابه من كفر من تعلق على الملائكة أو عيسى أو الصالحين، فلا بد أن يقر لك أن من أشرك في عبادة الله أحدًا من الصالحين فهو الشرك المذكور في القرآن، وهذا هو المطلوب.

وسر المسألة: أنه إذا قال: أنا لا أشرك بالله، فقل له: وما الشرك بالله؟ فسره لي. فإن قال: هو عبادة الأصنام، فقل له: وما معنى عبادة الأصنام؟ فسرها لي، فإن قال: أنا لا أعبد إلا الله وحده، فقل: ما معنى عبادة الله وحده؟ فسرها لي. فإن فسرها بما بينه القرآن فهو المطلوب. وإن لم يعرفه فكيف يدعي شيئًا وهو لا يعرفه؟ وإن فسر ذلك بغير معناه بينت له الآيات الواضحات في معنى الشرك بالله وعبادة الأوثان، وأنه الذي يفعلونه في هذا الزمان بعينه، وأن عبادة الله وحده لا شريك له هي التي ينكرون علينا، ويصيحون فيه كما صاح إخوانهم، حيث قالوا:{أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَاب (5)} [ص].

فإن قال: إنهم لا يكفرون بدعاء الملائكة والأنبياء وإنما يكفرون لما قالوا: الملائكة بنات الله، فإنا لم نقل: إن عبد القادر ولا غيره ابن الله.

فالجواب: أن نسبة الولد إلى الله تعالى كفر مستقل، قال الله تعالى:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد (1) اللَّهُ الصَّمَد (2)} ، والأحد: الذي لا نظير له

ص: 66

والصمد: المقصود في الحوائج، فمن جحد هذا فقد كفر ولو لم يجحد السورة.

وقال الله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} [المؤمنون: 91] ففرق بين النوعين، وجعل كلًا منهما كفرًا مستقلًا، وقال الله تعالى:{وَجَعَلُوا لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام] ففرق بين الكفرين.

والدليل على هذا أيضًا أن الذين كفروا بدعاء اللات - مع كونه رجلًا صالحًا - لم يجعلوه ابن الله، والذين كفروا بعبادة الجن لم يجعلوهم كذلك.

وكذلك أيضًا: العلماء في جميع المذاهب الأربعة يذكرون في «باب حكم المرتد» ؛ أن المسلم إذا زعم أن لله ولدًا فهو مرتد، [وإن أشرك فهو مرتد]، فيفرقون بين النوعين، وهذا في غاية الوضوح.

وإن قال: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُون (62)} [يونس].

فقل: هذا هو الحق، ولكن لا يُعْبَدون، ونحن لا ننكر إلا عبادتهم مع الله وشركهم معه، وإلا فالواجب عليك حبهم واتباعهم والإقرار بكرامتهم، ولا يجحد كرامات الأولياء إلا أهل البدع والضلالات، ودين الله وسط بين طرفين، وهدى بين ضلالتين، وحق بين باطلين.

ص: 67

وهذه هي الشبهة السابعة، وسبق أن قلنا إن هذه الشبه بينها تقارب كبير، لكنها تختلف في أسلوبها، مما يقتضي تنويع الجواب أيضًا.

فإذا قال هذا القبوري الذي يدعو الصالحين ويغلو فيهم ويذبح لهم: أنا لا أشرك بالله حاشا وكلَّا، والالتجاء إلى الصالحين ليس بشرك.

فقل له: إذا كنت تقر بأن الله حرم عليك الشرك، وأخبر أنه لا يغفره فما هذا الشرك الذي حرمه الله عليك، وأخبر بأنه لا يغفره؟ كيف تقر بهذا وأنت لا تعرف حقيقة الشرك، فلا بد أن تعرف حقيقة الشرك؛ لأن الله سبحانه وتعالى الذي حرم الشرك على عباده بيَّن حقيقته، ولا يحرم الله تعالى شيئًا ثم لا يبينه، قال تعالى:{وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 119]، وقال:{قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [الأنعام: 151]؛ يعني: اسأله عن هذا الشرك الذي يزكي نفسه، ويبرئ نفسه منه لاعتقاده أن الله حرمه، وأنه لا يغفره فاسأله ما هذا الشرك الذي حرمه الله، وأخبر أنه لا يغفره؟ فإنه لا يعرفه.

فقل له: هذا غلط، وتفريط عظيم أنك تؤمن وتعرف أن الله حرم الشرك وأخبر أنه لا يغفره ثم لا تعرفه ولا تسأل عنه، وهذا خلاف ما يجب، وما يقتضيه الحزم، كيف تقول: بأن الله حرم الشرك وأنه لا يغفره؛ ثم لا تدري ولا تسأل!!

ص: 68

وإن مما يجب على من يؤمن بالله، ويؤمن بوجوب تحريم الشرك؛ أن يعرف حقيقة ما نهى الله عنه، إذًا كيف يجتنب الإنسان ما لا يعرف حقيقته، فلا بد إذًا أن تعرف الذي نهاك الله عنه، وتوعَّد فاعله بعدم الغفران.

وقال رحمه الله في الشبهة الثامنة: «فإن قال: الشرك: عبادة الأصنام، ونحن لا نعبد الأصنام

»، ففي هذه الشبهة يريد أن يدفع عن نفسه رميه بالشرك، فيقول: أنا لست مثل المشركين الأولين؛ لأنهم كانوا يعبدون الأصنام والشرك هو عبادة الأصنام، ونحن لا نعبد الأصنام، فالنتيجة أننا لسنا مشركين.

فإذا قال ذلك، فقل له: فما معنى عبادة الأصنام؟ إذ قد يظن أن عبادة الأصنام التي من أخشاب وأحجار وغيرها هو الاعتقاد بها أنها تنفع وتضر، وتخلق وترزق، فإذا فصل العبادة بهذا المعنى كان مبطلًا، وهذا التفسير باطل فليس عبادة المشركين للأصنام بهذا الاعتقاد؛ لأن هذا المعنى يكذبه القرآن كما في الآيات الدالة على أن المشركين لم يكونوا يعتقدون أن تلك الأصنام تخلق وترزق، وتدبر أمر العالم، ومنشأ هذا التفسير الباطل هو الجهل بحقيقة الشرك، مما يوجب على الإنسان أن يعرف ويتعلم ما هو الشرك، كما يتوجب عليه معرفة حقيقة غيره من المحرمات، فالربا مثلًا يعرف كل مسلم أنه حرام؛ لكن ما هو الربا؟ هذا هو الإشكال، وكثير من الناس مع معرفتهم وإيمانهم بتحريم الربا، فإنه لا يعرف ما هو الربا بسبب الإعراض، وعدم الاهتمام بمعرفة شرع الله؛ لذا يجب على العبد الذي آمن بالله وبرسوله وكتابه أن يعرف ما

ص: 69

أوجب الله عليه، وما حرم عليه، فإذا علم العبد أن الله حرم كذا، فعليه أن يعرفه ليحذره، كما يجب عليه أن يعلم الواجب ليفعله.

وإن قال إن الشرك هو القصد إلى تلك التماثيل والأحجار والأبنية التي على القبور بالذبح لها ودعائها، والظن بأن الله ينفع ويضر ببركتها؛ فهذا هو الشرك. فإن قال ذلك فقل له: فهذا فعلكم تمامًا، وقد لزمكم أن ما تفعلونه مثل شرك المشركين الأولين في عبادة الأصنام وهو المطلوب.

والضمير في قول المؤلف: «فهذا أقر أن فعلهم

» يحتمل أن يراد به فعل المشركين الأولين عباد الأصنام؛ أي: أن هذا هو عبادة الأصنام، ويحتمل أن يكون المراد بقوله: «أن فعلهم

» أي: فعل أولئك القبوريين، وقصدهم إلى تلك الأبنية التي على القبور، والذبح لها أو دعائها منهم مثل عبادة الأصنام.

فهذا المشرك بعد هذا الحوار قد أقر بأن التعلق على الصالحين شرك، وهو الذي نهى الله تعالى عنه في القرآن، وهذا الإقرار نتيجة لما تقدم؛ يعني: بعد إفهامه والرد على هذه الشبهة، لا بد أن يقر أن التعلق بالصالحين ودعاءهم، والعكوف عند قبورهم؛ هو الشرك الذي بينه الله ونهى عنه في القرآن.

وجواب آخر، هو أن يقال له: قولك «الشرك عبادة الأصنام» إن كان مرادك أن الشرك مخصوص بعبادة الأصنام، وأن الاعتماد على الصالحين ودعاءهم والاستغاثة بهم والتعلق بالملائكة؛ ليس بشرك، فهذا باطل

ص: 70

أيضًا يكذبه القرآن، فالله قد أخبر عن المشركين أنهم كانوا يتعلقون بالملائكة والأنبياء والصالحين، كما أخبر عن النصارى أنهم عبدوا المسيح، وقالوا: إنه ابن الله، وألهوه هو وأمه، كما قال تعالى:{وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللّهِ} [المائدة: 116]، وقد كفرهم سبحانه وتعالى بقوله:{لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة: 17]، وقال تعالى:{لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} [المائدة: 73]، وكفر الذين تعلقوا بالملائكة، فقال:{وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُّسْلِمُون (80)} [آل عمران]، فهذا المشرك القبوري إذا أقر أن الاعتماد على الصالحين والقصد إلى قبورهم فعل المشركين؛ فإنه سيقر بأن هذا هو الشرك، ويلزمه أن يقر بأن ما يفعلونه عند قبور الصالحين من جنس فعل المشركين الأولين وبهذا تبطل هذه الشبهة، ويتبين بهذا أن الشرك ليس مخصوصًا بعبادة الأصنام، وإنما هو عبادة غير الله؛ سواء كان ملكًا مقربًا أو نبيًا أو صالحًا أو شجرًا أو حجرًا، فكل ما عُبِد من دون الله فقد اتخذه عابده ربًّا وإلهًا من دون الله فكان بذلك من المشركين.

يقول المؤلف رحمه الله: «وسر المسألة: أنه إذا قال: أنا لا أشرك بالله، فقل له: وما الشرك بالله؟ فسره لي، فإن قال: هو عبادة الأصنام، فقل له: وما معنى عبادة الأصنام؟ فسرها لي، فإن قال: أنا لا أعبد إلا الله وحده، فقل: ما معنى عبادة الله وحده؟ فسرها لي

».

ص: 71

فهذه طريقة الاستفصال عن الكلام المجمل والمبهم، وهي من أحسن الطرق لإفحام للخصم؛ وذلك بأن تقول له - إذا قال كلامًا مجملًا -: فسر كلامك حتى يتضح الأمر والحقيقة.

فإن قال: أنا لا أعبد إلا الله وحده، فهذا مثل قوله: أنا لا أشرك بالله، فقل له: ما معنى عبادة الله وحده؟ فسرها لي؟، وهنا بداية الاستفصال والسؤال.

فإن فسرها بما بينه القرآن ألزمناه به، وإن قال أنا لا أدري قلنا: إذًا كيف تدعي شيئًا أنت لا تعرفه؟ وإن فسر ذلك بغير معناه بينت له الآيات الواضحات في معنى الشرك بالله وعبادة الأوثان، وأن الذي يفعلونه في هذا الزمان من القصد إلى قبور الصالحين والاستغاثة بهم والالتجاء إليهم وذبح القرابين عند قبورهم هو نفس الشرك الذي فعله المشركون، وأنكره الله عليهم.

وبين له أن عبادة الله وحده لا شريك له وترك الغلو في الصالحين؛ هي التي ينكرون علينا، حتى إنهم ليقولون: إنكم بإنكاركم علينا تبغضون الصالحين، فجعلوا عبادة الصالحين هي التعبير عن حبهم، فصاروا ينكرون علينا ويصيحون بعنف وضجيج كما صاح إخوانهم، حيث قالوا:{أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَاب (5)} [ص].

ومنكرو التوحيد من أهل زماننا ينكرون علينا أننا لا نفعل عند قبور الأولياء مثل ما يفعلون كما صاح إخوانهم من قبل لما دُعوا وقيل لهم: قولوا لا إله إلا الله، فإذا قيل لهم ذلك اشمأزت قلوبهم؛ كما قال تعالى:

ص: 72

{وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُون (45)} [الزمر]، وهو نفس واقع المشركين من الرافضة والصوفية؛ حيث إنهم إذا ذكر الله وحده أعرضوا، وإذا ذكر من يعظمونه كعلي رضي الله عنه والحسين، وذكر السيد البدوي عندهم؛ هشوا وبشوا وتكلموا بكلمات التعظيم والإجلال، كما كان المشركون الأولون يعتزون بآلهتهم، ويستنصرون بها ويفتخرون بها، حتى قال أبو سفيان: اعل هبل، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يقولوا لأبي سفيان:«الله أعلى وأجل» ، فقال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه:«قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم»

(1)

.

وهؤلاء المشركين على شاكلة من قبلهم من مشركي قوم نوح، ومشركي العرب، والشرك في العادة يتنوع تنوعًا لا حد له باعتبار المعبودات الكثيرة، فالمجوس يعبدون النار، وهناك من يعبد الحيوانات، ومنهم من يعبد أشياء عجيبة، وكله شرك؛ إذ كيف يتوجه الإنسان الذي أعطاه الله عقلًا إلى نار لا تسمع، ولا تبصر، ولا تعقل، أو يتوجه إلى حيوان، أو حجر، أو شجرة؛ ولهذا يقول أهل النار في الآخرة معترفين بسفاهتهم:{وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِير (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لِّأَصْحَابِ السَّعِير (11)} [الملك].

وقال في الشبهة التاسعة: «فإن قال: إنهم لا يكفرون بدعاء الملائكة والأنبياء، وإنما يكفرون لما قالوا: الملائكة بنات الله، فإنا لم نقل: إن

(1)

رواه البخاري (3039) من حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما.

ص: 73

عبد القادر ولا غيره ابن الله

» إلى آخره، فهذه أيضًا شبهة من شبه المشركين القبوريين.

والجواب عنها أن يقال: نسبة الولد إلى الله هو كفر مستقل، فإن الله تعالى نزه نفسه عن الولد وكذَّب من زعم ذلك فقال:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد (1) اللَّهُ الصَّمَد (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَد (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد (4)} ، وفسر الأحد: أنه الذي لا نظير له، والصمد هو المقصود في الحوائج، فمن جحد ذلك جحد معنى السورة، ومن نسب الولد إلى الله كفر، ولو لم يجحد السورة.

ومن الأدلة على أن الشرك ونسبة الولد كل منهما كفر على حدة؛ قوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} [المؤمنون: 91]، وقال سبحانه:

{وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انتَهُوا خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 171]، ويؤكد ذلك أن العلماء في جميع المذاهب ذكروا في باب «حكم المرتد» أن المسلم إذا زعم أن لله ولدًا فقد كفر وصار مرتدًا، وإن أشرك بالله صار مرتدًّا، فجعلوا كلًّا من الأمرين موجب للردة.

ومما يبطل هذه الشبهة أن الذين كانوا يدعون «اللات» الذي كان يلت السويق للحاج في الطائف كفروا بشركهم مع أنهم لم يجعلوه ابنًا لله، وكذلك الذين عبدوا الجن لم يزعموا أنهم أبناء الله، فكانوا بهذا مشركين؛ قال سبحانه وتعالى:{وَجَعَلُوا لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُون (100)} [الأنعام]، فمشركو العرب جمعوا بين هذين الشركين، والنصارى كذلك قالوا: المسيح ابن الله، فجعلوه

ص: 74

إلهًا مع الله، فوقعوا في الشرك ونسبة الولد إلى الله، وهذا الجواب بين واضح والشبهة واهية داحضة.

ولا شك أن‌

‌ الكفر قد يجتمع في الشخص الواحد لعدة أسباب،

فاليهود كفروا بتكذيب المسيح، وقتل الأنبياء، وكفروا أيضًا بتكذيب محمد صلى الله عليه وسلم، وكل واحدة من هذه الثلاث هي كفر مستقل بنفسه، والنصارى كفروا بزعمهم أن عيسى ابن الله، واتخاذه وأمه إلهين من دون الله، وكفروا أيضًا بتكذيبهم محمد صلى الله عليه وسلم.

فإذا قال لك هذا المشرك الذي يتعلق بالصالحين، ويتوجه إليهم بالدعاء والاستغاثة، ويلجأ إليهم بالشدائد محتجًا على باطله:{أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُون (62)} [يونس]، وجه الاستدلال عنده هنا كأنه يقول إن أولياء الله لا بد أن يرضيهم الله بنجاة من يتعلق بهم ويتوجه إليهم؛ لأن من كمال أمنهم من الحزن والخوف أن الذين يغلون فيهم، ويتعلقون بهم؛ لا بد أن ينالوا مرادهم.

فنقول: أولًا: الجواب على هذا الاستدلال تقدم في الجواب المجمل.

وثانيًا: نعم أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون حقًا، فإن لهم منزلة عظيمة عند ربهم، وقد أمنهم الله من الخوف والحزن، {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيم (64)} [يونس]، ولكنهم مع ذلك لا يُعبَدون، وهذه الآية ليس فيها حجة على عبادة الأولياء والالتجاء إليهم، وإنما فيها ثناء من الله عليهم، ووعد لهم.

ص: 75

ونحن لا ننكر إلا الغلو فيهم وعبادتهم من دون الله، وإلا فإن الواجب على المسلم أن يحب أولياء الله، ويعرف لهم فضلهم، ويتبعهم على الهدى، وأن يقر بكراماتهم التي هي الأمور الخارقة التي يجريها الله على يد بعض أوليائه؛ إظهارًا لفضلهم، ودفعًا للحاجة في بعض الأحيان، وفيها إقامة الحجة على خصومهم ومن يعاديهم، وهذا من عقيدة أهل السنة والجماعة، ولا ينكر كرامات الأولياء إلا أهل البدع والضلال؛ كالمعتزلة، ولكن ليس كل ما يُحكى ويذكره الناس يصير واقعًا، وإنما يجب التصديق بما ثبت من كرامات الأولياء.

فدين الله حق بين باطلين في كل المعاني وكل الأبواب، وهذا يفيد بأن الذين يخاصمون من هؤلاء الغلاة المشركين يرمون أهل التوحيد بهضم منزلة أولياء الله.

* * * * * * *

ص: 76

* قال الشيخ رحمه الله:

فإذا عرفت: أن هذا الذي يسميه المشركون في زماننا: «الاعتقاد» هو الشرك الذي نزل فيه القرآن، وقاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس عليه؛ فاعلم أن شرك الأولين أخف من شرك أهل زماننا بأمرين:

أحدهما: أن الأولين لا يشركون ولا يدعون الملائكة والأولياء والأوثان مع الله؛ إلا في الرخاء. وأما في الشدة، فيخلصون لله الدعاء، كما قال تعالى:{وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا (67)} [الإسراء]، وقال تعالى:{قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِين (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُون (41)} [الأنعام]، وقال تعالى:{وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّار (8)} [الزمر]، وقال تعالى:{وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [لقمان: 32].

فمن فهم هذه المسألة التي وضحها الله في كتابه، وهي: أن المشركين الذين قاتلهم الرسول صلى الله عليه وسلم يدعون الله، ويدعون غيره في الرخاء. وأما في الضراء والشدة، فلا يدعون إلا الله وحده لا شريك له وينسون ساداتهم؛ تبين له الفرق بين شرك أهل زماننا وشرك الأولين، ولكن أين من يفهم قلبه هذه المسألة فهمًا راسخًا؟ والله المستعان.

ص: 77

الأمر الثاني: أن الأولين يدعون مع الله أناسًا مقربين عند الله؛ إما أنبياء وإما أولياء وإما ملائكة، أو يدعون أشجارًا أو أحجارًا مطيعة لله تعالى ليست عاصية، وأهل زماننا يدعون مع الله أناسًا من أفسق الناس، والذين يدعونهم هم الذين يحكون عنهم الفجور من الزنا والسرقة وترك الصلاة وغير ذلك، والذي يعتقد في الصالح أو الذي لا يعصي مثل الخشب والحجر أهون ممن يعتقد فيمن يشاهد فسقه وفساده، ويشهد به.

هذا الكلام مبني على ما سبق - يعني: من الشرك -، يقول: إذا عرفت أن ما يسميه أهل زماننا: «الاعتقاد» بفلان والاعتقاد بعلان؛ كالاعتقاد بالبدوي والعيدروس وابن علوان وشمسان من شيوخ الطرق الصوفية؛ هذا الاعتقاد هو نفس الشرك الذي كان عليه المشركون الأولون، وبهذا يعلم أن أولئك الذين يعتقدون في الصالحين حكمهم حكم المشركين الأولين الذين قاتلهم الرسول صلى الله عليه وسلم.

فإذا عرفت ذلك فاعلم أن شرك الأولين أخف من شرك أهل زماننا، وإن شئت قل: فاعلم أن شرك أهل زماننا أغلظ شركًا من الأولين، كما عبر بذلك في «القواعد الأربع»

(1)

، والشيخ هنا بعدما قرر أن شرك أهل زماننا هو نفس ما كان عليه المشركون الأولون؛ أراد أن يبين أن شرك أهل هذا الزمان أشد من شرك الأولين، وذلك لأمرين:

(1)

القاعدة الرابعة ص 26 في أول هذا المجلد.

ص: 78

الأول: أن المشركين الأولين كانوا في الرخاء يدعون الله، ويدعون من يدعون من الملائكة والأنبياء والصالحين ويدعون أوثانهم. وأما في الشدة إذا نزلت بهم الضراء وألمَّت بهم الخطوب، وأحاطت بهم الأمواج كالظلل؛ فهم يخلصون ويفردون الله سبحانه وتعالى ومن الأدلة على ذلك قوله تعالى:{فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُون (65)} [العنكبوت]، وقال سبحانه:{هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِين (22) فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [يونس]، وهكذا قوله تعالى:{وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّار (8)} [الزمر].

أما مشركو أهل هذا الزمان؛ فيشركون في الرخاء والشدة، فمن يخالط أو يسافر مع مشركي هذا الزمان يراهم عند هيجان البحار وتلاطم الأمواج؛ يستغيثون بسادتهم وبمعظميهم، فالرافضي يقول: يا علي أو يا حسين! والصوفي يقول: يا بدوي أو يا سيدي أو يا فلان! وكلٌ له معظم يغلو فيه، ولا شك أن الذي يشرك في الرخاء والشدة أغلظ شركًا ممن لا يشرك إلا في الرخاء.

فحري بالمسلم أن يعرف الحق من الباطل، ويعرف أنواع الباطل والكفر والشرك؛ وحري به أن يعرف أن أحوال المشركين متفاوتة، فمن عنده بصيرة؛ فرق بين هذه الأصناف والأنواع.

ص: 79

يقول رحمه الله: «الأمر الثاني: أن الأولين يدعون مع الله أناسًا مقربين عند الله؛ إما أنبياء وإما أولياء وإما ملائكة، أو يدعون أشجارًا أو أحجارًا مطيعة لله تعالى ليست عاصية

».

الأمر الثاني من الأمور التي تدل على أن شرك الأولين أخف من شرك المتأخرين؛ أن الأولين كانوا يعبدون أناسًا صالحين؛ إما ملائكة أو أنبياء أو أولياء أو يعبدون أشجارًا وأحجارًا هي في حقيقتها عابدة ومسبحة لله. وأما المتأخرون فمن معبوديهم من هو معروف بالفسق والفجور، وهم يشهدون بذلك عليهم، ومنهم من يعبد بعض الطواغيت ممن يدَّعون فيهم الصلاح، وهم في الحقيقة فجرة فسقة؛ يرتكبون الحرام، وهذا ينطبق على بعض طواغيت الصوفية، ولكن الشيطان يلبس عليهم، فيقول: إنما فعل ما فعل لأنه قد وصل إلى الغاية في علم الباطن، ومن وصل إلى تلك الغاية فإنه تسقط عنه التكاليف، وتحل له المحرمات، وهذه من أقبح أنواع الكفر والضلال، فبدهيٌّ أن الذي يغلو في عبد صالح خير من الذي يغلو في عبد فاسق؛ لأن الصالحين لهم حق المحبة والتعظيم، وأما الفاسق والفاجر فليس له حق المحبة.

إذًا؛ فالمشركون الأولون أصح عقولًا؛ لأنهم يفهمون معاني الكلام وكما تقدم أنهم يعلمون معنى: «لا إله إلا الله» ، ولهذا امتنعوا من قولها؛ لعلمهم بمناقضتها لدينهم، بخلاف المتأخرين فإنهم ليس لهم هذا الفقه.

* * * * * * *

ص: 80

* قال الشيخ رحمه الله:

إذا تحققت أن الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أصح عقولًا وأخف شركًا من هؤلاء؛ فاعلم أن لهؤلاء «شبهة» يوردونها على ما ذكرنا، وهي من أعظم شبههم، فأصغ سمعك لجوابها، وهي أنهم يقولون:

إن الذين نزل فيهم القرآن لا يشهدون أن «لا إله إلا الله» ، ويكذبون الرسول صلى الله عليه وسلم، وينكرون البعث، ويكذبون القرآن ويجعلونه سحرًا، ونحن نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ونصدق القرآن، ونؤمن بالبعث، ونصلي ونصوم فكيف تجعلوننا مثل أولئك؟

فالجواب:

1 -

أنه لا خلاف بين العلماء كلهم أن الرجل إذا صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء وكذبه في شيء؛ أنه كافر لم يدخل في الإسلام، وكذلك إذا آمن ببعض القرآن وجحد بعضه، كمن أقر بالتوحيد، وجحد وجوب الصلاة، أو أقر بالتوحيد والصلاة، وجحد وجوب الزكاة، أو أقر بهذا كله وجحد الصوم، أو أقر بهذا كله وجحد الحج، ولما لم ينقد أناس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم للحج؛ أنزل الله تعالى في حقهم:{وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِين (97)} [آل عمران].

ومن أقر بهذا كله وجحد البعث؛ كفر بالإجماع وحل دمه وماله كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللّهِ

ص: 81

وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا (150) أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا (151)} [النساء]، فإذا كان الله تعالى قد صرح في كتابه أن من آمن ببعض وكفر ببعض فهو الكافر حقًا، وأنه يستحق ما ذكر؛ زالت [هذه] الشبهة، وهذه هي التي ذكرها بعض أهل الأحساء في كتابه الذي أرسله إلينا.

2 -

ويقال أيضًا: إن كنت تقر أن من صدق الرسول صلى الله عليه وسلم في كل شيء وجحد وجوب الصلاة، إنه كافر حلال الدم والمال بالإجماع؛ كذلك إذا أقر بكل شيء إلا البعث، وكذلك لو جحد وجوب صوم رمضان وصدق بذلك كله؛ لا تختلف المذاهب فيه، وقد نطق به القرآن كما قدمنا.

فمعلوم أن التوحيد هو أعظم فريضة جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أعظم من الصلاة والزكاة والصوم والحج، فكيف إذا جحد الإنسان شيئًا من هذه الأمور كفر، ولو عمل بكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وإذا جحد التوحيد الذي هو دين الرسل كلهم لا يكفر؟ سبحان الله ما أعجب هذا الجهل!

3 -

ويقال أيضًا لهؤلاء: أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلوا بني حنيفة، وقد أسلموا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهم يشهدون: أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويؤذنون ويصلون، فإن قال: إنهم يقولون: إن مسيلمة نبي؟ فقل: هذا هو المطلوب، إذا كان من رفع رجلًا إلى

ص: 82

رتبة النبي صلى الله عليه وسلم كفر وحل ماله ودمه، ولم تنفعه الشهادتان ولا الصلاة، فكيف بمن رفع شمسان أو يوسف أو صحابيًا أو نبيًا إلى مرتبة جبار السماوات والأرض؟ سبحان الله ما أعظم شأنه {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُون (59)} [الروم].

4 -

ويقال - أيضًا -: الذين حرَّقهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالنار؛ كلهم يدعون الإسلام، وهم من أصحاب علي رضي الله عنه، وتعلموا العلم من الصحابة، ولكن اعتقدوا في علي مثل الاعتقاد في يوسف وشمسان وأمثالهم، فكيف أجمع الصحابة على قتلهم وكفرهم؟! أتظنون أن الصحابة يكفرون المسلمين؟! أم تظنون أن الاعتقاد في «تاج» وأمثاله لا يضر، والاعتقاد في علي بن أبي طالب يكفِّر؟

5 -

ويقال أيضًا: بنو عبيد القداح الذين ملكوا المغرب ومصر في زمان بني العباس؛ كلهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ويدَّعون الإسلام، ويصلون الجمعة والجماعة، فلما أظهروا مخالفة الشريعة في أشياء دون ما نحن فيه؛ أجمع العلماء على كفرهم وقتالهم، وأن بلادهم بلاد حرب، وغزاهم المسلمون حتى استنقذوا ما بأيديهم من بلدان المسلمين.

6 -

ويقال أيضًا: إذا كان الأولون لم يكفروا إلا لأنهم جمعوا بين الشرك وتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم والقرآن، وإنكار البعث وغير ذلك، فما معنى الباب الذي ذكره العلماء في كل مذهب: باب حكم المرتد؟! وهو: المسلم الذي يكفر بعد إسلامه؟ ثم ذكروا أنواعًا كثيرة، كل

ص: 83

نوع منها يكفر ويحل دم الرجل وماله، حتى أنهم ذكروا أشياء يسيرة عند من فعلها، مثل: كلمة يذكرها بلسانه دون قلبه، أو كلمة يذكرها على وجه المزح واللعب.

7 -

ويقال أيضًا: الذين قال الله فيهم: {يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ} [التوبة: 74]، أما سمعت الله كفّرهم بكلمة مع كونهم في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويجاهدون معه ويصلون ويزكون ويحجون ويوحدون؟! وكذلك الذين قال الله فيهم:{قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُون (65)} {لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة]؛ فهؤلاء الذين صرح الله فيهم أنهم كفروا بعد إيمانهم وهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك قالوا كلمة ذكروا أنهم قالوها على وجه المزح.

فتأمل هذه الشبهة وهي قولهم: تكفرون من المسلمين أناسًا يشهدون أن لا إله إلا الله ويصلون ويصومون؟ ثم تأمل جوابها؛ فإنه من أنفع ما في هذه الأوراق.

8 -

ومن الدليل على ذلك أيضًا: ما حكى الله عن بني إسرائيل - مع إسلامهم وعلمهم وصلاحهم -؛ أنهم قالوا لموسى: {اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138]، وقول أناس من الصحابة: اجعل لنا ذات أنواط فحلف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هذا نظير قول بني إسرائيل لموسى: {اجْعَل لَنَا إِلَهًا}

(1)

.

(1)

تقدم تخريجه في ص 26.

ص: 84

ذكر أهل العلم في باب أحكام الردة أمورًا من وقع فيها وأقيمت علية الحجة وكان غير متأول؛ فإنه يكفر، فمن أقر بالتوحيد وجحد وجوب الصلاة أو وجوب الزكاة أو الصوم أو الحج؛ كفر، لأنه تكذيب لله ورسوله فلو أقر الرجل بما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام لكنه جحد شيئًا مما جاء به الرسول مما هو مقطوع به فإنه يكفر؛ لأن الله جعل المكذب لرسول مكذبًا لجميع الرسل، فقال تعالى:{كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِين (141)} [الشعراء]، وقال تعالى:{كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِين (123)} [الشعراء]، وقال تعالى:{وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ} [الفرقان: 37]، وقال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا (150)} {أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا (151)} [النساء]، وهكذا من كذب بشيءٍ مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه يكفر، ولو صدق الرسول بكل شيء سوى ذلك، وهذا متفق عليه بين المسلمين؛ أن من أنكر هذا الشيء مما جاء به الرسول مما هو معلوم من الدين بالضرورة فإنه يكفر، ويصير مرتدًّا حلال الدم، قال النبي صلى الله عليه وسلم:«من بدَّل دينه فاقتلوه»

(1)

.

ولو قال: أطيع الرسول في كل شيء إلا في مسألة تحريم الخمر، فأنا لا أطيعه فيستحل الخمر، فإنه يكفر بذلك - نسأل الله العافية -، فإذا كان الأمر كذلك فكيف بمن جحد التوحيد الذي هو أعظم ما جاء به الرسل،

(1)

رواه البخاري (3017) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

ص: 85

وزعم أن الغلو في الصالحين ليس بشرك؟! لا شك أنه أشد كفرًا، وبهذا يعلم بطلان هذه الشبهة، فإن الكفر يكون بكلمة، ويكون بفعل ويكون باعتقاد، وهذا كله يبين أن النطق بالشهادتين لا يعصم الدم والمال إذا أتى الإنسان بناقض من نواقض الشهادتين التي هي أسباب الردة.

ومن الوجوه التي يرد بها على هذه الشبهة: أن الصحابة رضي الله عنهم قاتلوا بني حنيفة أصحاب مسيلمة قتال الكفار، وسبوا نساءهم وذريتهم؛ مع أنهم ينطقون بالشهادتين ويؤذنون ويصلون، فعلم بهذا أن من أتى بناقض يكفر، ولو كان يتكلم بالشهادتين.

ولكن قد يقول الخصم: إن هؤلاء كفروا لأنهم ادعوا أن مسيلمة نبي، فيقال: نعم، إذا كانوا قد كفروا بأن رفعوا بشرًا إلى مرتبة النبي عليه الصلاة والسلام، فكيف بمن رفع بعض البشر؛ كشمسان أو يوسف أو غيرهم ممن تعظم قبورهم، ويدعون ويستغاث بهم من دون الله إلى مرتبة رب السماوات والأرض! فمن فعل هذا فإنه يكون كافرًا من باب أولى.

ومن الوجوه التي يرد بها على هذه الشبهة؛ ما وقع في خلافة علي رضي الله عنه، من تحريقه للسبئية الذين ادعوا فيه الإلهية

(1)

؛ مع أنهم كانوا يشهدون أن لا إله إلا الله، ويدعون الإسلام، وهم من أصحاب علي، وتعلموا من الصحابة، وسموا بالسبئية؛ لأنهم أصحاب عبد الله بن سبأ، وهو الذي زين لهم هذا الباطل، فلما اعتقدوا في علي رضي الله عنه، ما يعتقده الضلال في هذا الزمان في يوسف وشمسان وتاج وغيرهم

(1)

انظر: التخريج السابق.

ص: 86

من المعظمين والمعبودين في زمن الشيخ؛ حرقهم رضي الله عنه وقال قولته المشهورة:

لما رأيت الأمر أمرًا منكرًا

أججت ناري ودعوت قنبرًا

وقد أجمع الصحابة على قتلهم وكفرهم، فهل يظن ظانٌّ أن الاعتقاد في تاج لا يضر، والاعتقاد في علي يوجب الكفر؟ هذا من أبطل الباطل، أم يظن أن الصحابة يكفرون المسلمين؟ وهذا أيضًا ظن سوء في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فعلم من هذا أن النطق بالشهادتين لا ينفع مع وجود ما يناقضها، فإذا حصل ما يناقضها حصلت الردة، وقد قال صلى الله عليه وسلم:«لا يحل دم امرئٍ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة»

(1)

، وقال صلى الله عليه وسلم «من بدل دينه فاقتلوه»

(2)

.

ومن الوجوه أيضًا في الرد على هذه الشبهة: أن بني عبيد القداح الذين ملكوا مصر والمغرب، بل والحجاز في خلافة بني العباس، واستمر ملكهم قريبًا من مائتي سنة؛ كانوا يشهدون شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ويصلون ويقيمون الجمعة والجماعة، فلما أظهروا مخالفة الشريعة، ومن ذلك ما يذكر عنهم أنهم كانوا يظهرون

(1)

رواه البخاري (6878)، ومسلم (1676) - واللفظ له - من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.

(2)

تقدم في ص 85.

ص: 87

الرفض، ويبطنون الكفر المحض، واعتقادهم في الحاكم العبيدي - أول ملوكهم - الإلهية، فكفرهم المسلمون، وعدوا ديارهم ديار حرب، وغزوهم حتى أنقذ الله بلاد المسلمين من أيديهم على يد صلاح الدين الأيوبي رحمه الله.

وقول الشيخ: «في أشياء دون ما نحن فيه» فيه نظر؛ فالقول بأنه دون ما عليه القبوريون الجهال ليس بظاهر؛ لأن بنو عبيد القداح ملاحدة من غلاة الروافض، والرافضة ثلاث طوائف على سبيل الإجمال:«غلاة وإمامية متوسطون، وزيدية» .

ومن الوجوه في الرد على هذه الشبهة؛ أنه:

إذا كان الإنسان لا يكفر حتى يجمع بين الشرك والتكذيب بالقرآن والبعث والرسول؛ إذًا فما معنى الباب الذي ذكره أهل العلم في كل مذهب واسمه «باب حكم المرتد» ؟ والمرتد هو من كفر بعد إسلامه؛ لأن الكافر نوعين: كافر أصلي، وهو من لم يدخل في الإسلام أصلًا، مثل اليهود والنصارى، وكافر مرتد: وهو الذي أسلم ثم ارتد، وهو أقبح من الكافر الأصلي؛ لأن الكافر الأصلي يمكن أن يقر على كفره بالجزية، ويمكن يعاهد. أما المرتد، فإنه لا يقبل منه إلا الإسلام أو يقتل.

وقد ذكر أهل العلم أقوال وأفعال كثيرة في موجبات الكفر وأسباب الردة؛ حتى ذكروا أشياء يسيرة؛ كمن يتكلم بكلمة لا يلقي لها بالًا يقولها على سبيل المزح فيكفر بذلك؛ كما قال تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ} [التوبة: 74]، وكذلك الذين قالوا:

ص: 88

{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُون (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَّعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِين (66)} [التوبة]، فأخبر سبحانه أنهم كفروا بعد ما آمنوا؛ وذلك بسبب ما كان منهم من استهزاء، وقد جاء في سبب نزول هذه الآية عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رجل في غزوة تبوك في مجلس: «ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونًا ولا أكذب ألسنًا ولا أجبن عند اللقاء» ، فقال رجل في المجلس: كذبت ولكنك منافق؛ لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، ونزل القرآن، قال عبد الله بن عمر: فأنا رأيته متعلقًا بحقب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، تنكبه الحجارة، وهو يقول:«يا رسول الله! إنما كنا نخوض ونلعب» ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُون (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة]

(1)

، ولا شك أن من نواقض الإسلام وأسباب الردة الاستهزاء بالله أو القرآن أو الرسول، ولو قال: أنا أمزح.

فإذا أتى الإنسان بناقض من نواقض الإسلام؛ عالمًا عامدًا مختارًا، فإنه يكفر ولو كان يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله. ومعنى كلام الشيخ أن الذين يدعون الصالحين ويستغيثون بهم ويعكفون على قبورهم؛ قد وقعوا في ناقض من نواقض شهادة أن لا إله إلا الله؛ ولذلك فلا ينفعهم أنهم ينطقون بلا إله إلا الله؛ لأن شهادة أن لا إله إلا الله تقتضي تخصيصه بالعبادة، فلا يرجى ولا يخاف، ولا يتوكل ولا يدعى إلا الله سبحانه.

(1)

رواه الطبري في «تفسيره» (10/ 2/ 172).

ص: 89

لكن من قال كلمة الكفر سهوًا من غير شعور، أو لسبق لسان؛ كالذي قال:«اللهم أنت عبدي وأنا ربك»

(1)

، فأخطأ من شدة الفرح، هذا ليس كمن قالها عالمًا، وإن كان من غير اعتقاد؛ لكنه قالها عالمًا بمعناها، مختارًا متعمدًا.

فتأمل هذه الشبهة وهي قولهم: تكفرون من المسلمين أناسًا يشهدون أن لا إله إلا الله ويصلون ويصومون ثم تأمل جوابها فإنه أنفع ما في هذه الأوراق.

وقد ذكر الشيخ الشواهد من الأقوال الفقهية لأهل العلم في حكم المرتد، فالذي يعبد مع الله غيره، فيدعوهم ويستغيث بهم، ويتقرب إليهم؛ يصير مشركًا، ولو كان يقول لا إله إلا الله. والسبب أن هؤلاء كما تقدم في مطلع الكتاب لا يدركون ولا يفهمون معنى لا إله إلا الله، فلذلك يشركون مع الله، ويقولون: لا إله إلا الله، ويفعلون ما يناقض دلالتها ومقتضاها.

قوله: «ومن الدليل على ذلك أيضًا: ما حكى الله عن بني إسرائيل - مع إسلامهم وعلمهم وصلاحهم -؛ أنهم قالوا لموسى: {اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138]، وقول أناس من الصحابة: «اجعل لنا ذات أنواط» ، فحلف رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أن هذا نظير قول بني إسرائيل:{اجْعَل لَنَا إِلَهًا} [الأعراف: 138]

».

(1)

رواه مسلم (2747) من حديث أنس رضي الله عنه.

ص: 90

لما قال بنو إسرائيل لموسى عليه السلام: {اجْعَل لَنَا إِلَهًا} [الأعراف: 138]، فأنكر عليهم وأغلظ في الإنكار وقال:{قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُون (138)} [الأعراف]، وظاهر الحال أنهم لم يكفروا؛ لأنهم لم يفعلوا، ولو اتخذوا إلهًا وصنمًا كالذين رأوهم لكفروا، وليس المراد بالجهل هنا عدم العلم مطلقًا؛ لكن كل من فعل منكرًا فهو جاهل ويحتمل - والله أعلم - أنه يريد جهلهم وهو عدم العلم.

ولكن إذا حصل شيء من ذلك؛ أي: إذا طلب الإنسان أمرًا منكرًا محرمًا فإنه يبين له، وينكر عليه؛ خصوصًا ما يناقض التوحيد، فإذا تكلم فيه مسلم فإنه لا يكفر، لكن ينبغي أن يغلظ عليه لبيان عظم هذا الأمر، فإن موسى عليه السلام قال لهم:{إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُون (138)} {إِنَّ هَؤُلاء مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُون (139)} {قَالَ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِين (140)} [الأعراف]، وكبر الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال لأصحابه: «الله أكبر! إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده

»، وهذا فيه تغليظ في الإنكار.

* * * * * * *

ص: 91

* قال الشيخ رحمه الله:

ولكن للمشركين شبهة يدلون بها عند هذه القصة، وهي أنهم يقولون: إن بني إسرائيل لم يكفروا بذلك، وكذلك الذين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: اجعل لنا ذات أنواط؛ لم يكفروا.

فالجواب أن نقول: إن بني إسرائيل لم يفعلوا ذلك وكذلك الذين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعلوا ذلك، ولا خلاف أن بني إسرائيل لو فعلوا ذلك لكفروا، وكذلك لا خلاف في أن الذين نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم لو لم يطيعوه واتخذوا ذات أنواط بعد نهيه؛ لكفروا، وهذا هو المطلوب.

ولكن هذه القصة تفيد: أن المسلم، بل العالِم، قد يقع في أنواع من الشرك لا يدري عنها، فتفيد التعلم والتحرز، ومعرفة أن قول الجاهل:«التوحيد فهمناه» : أن هذا من أكبر الجهل ومكائد الشيطان.

وتفيد أيضًا أن المسلم المجتهد إذا تكلم بكلام كفر - وهو لا يدري - فنبه على ذلك وتاب من ساعته أنه لا يكفر، كما فعل بنو إسرائيل، والذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وتفيد أيضًا: أنه ولو لم يكفر، فإنه يغلط عليه الكلام تغلّظًا شديدًا كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهذه شبهة للمشركين والخرافيين، وهي: أن بني إسرائيل لم يكفروا، وكذلك الذين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 92

والجواب أن يقال: إن بني إسرائيل لو فعلوا ذلك بعد ما نهاهم موسى عليه السلام، وأنكر عليهم؛ لكفروا، وكذلك الذين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: اجعل لنا ذات أنواط، لو لم يطيعوا الرسول عليه الصلاة والسلام، وفعلوا ما نهاهم عنه؛ لكفروا.

وقد ذكر الشيخ بعض فوائد هذه القصة، ومنها:

- أن المسلم - بل العالِم - قد يغلط، ويقع في نوع من الشرك وهو لا يدري، وهذا يوجب للمسلم العناية بمعرفة الدين؛ لا سيما التوحيد، فإن السبب الحامل لبني إسرائيل على قولهم ذلك، وكذلك من قال من الصحابة:«اجعل لنا ذات أنواط» ؛ هو الجهل.

وبعض الجهال الآن يقول: لا نحتاج لدراسة التوحيد في كل مراحل التعليم المتوسط والثانوي والجامعة؛ فالعقيدة واضحة - ولله الحمد -، وهؤلاء يريدون الاكتفاء بما يدرس في الابتدائي، وهذا الاكتفاء غلط، فإن المسلم في حاجة إلى مزيد من العلم، والتفقه في الدين، وإذا جئنا للحقيقة، فهل ما يدرسه الإنسان في الابتدائي يكفيه؟!

إن الطالب في الابتدائي يدرس ما يدرسه تلقينًا من غير أن يفهم معاني ما يدرس، بل إن الإنسان - حتى وإن بلغ - فإنه لا يزال في حاجة إلى التفقه في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومعرفة ما يناقض أصول الدين.

- ومن الفوائد أيضًا أن من تكلم بكلام وهو كفر جاهلًا بحقيقته وبحكمه، ثم نُهِي عن ذلك فتاب؛ لم يضره فإن من تاب؛ تاب الله عليه.

ص: 93

- ومن فوائدها أيضًا: أن من تكلم بكلام هو كفر عن جهل وخطأ، فإنه ينكر عليه - وإن لم يكفر -، ويغلظ عليه؛ ليتبين قبح ما طلب، كما فعل موسى عليه الصلاة والسلام، وكما فعل النبي صلى الله عليه وسلم.

* * * * * * *

ص: 94

* قال الشيخ رحمه الله:

وللمشركين شبهة أخرى، يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر على أسامة رضي الله عنه قتل من قال: لا إله إلا الله، [وقال:«أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله»

(1)

، وكذلك قوله:«أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله»

(2)

، وأحاديث أخر في الكف عمن قالها، ومراد هؤلاء الجهلة: أن من قالها لا يكفر ولا يقتل، ولو فعل ما فعل.

فيقال لهؤلاء المشركين الجهال: معلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتل اليهود وسباهم، وهم يقولون: لا إله إلا الله، وأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلوا بني حنيفة، وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ويصلون ويدعون الإسلام، وكذلك الذين حرقهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالنار، وهؤلاء الجهلة مقرون أن من أنكر البعث كفر وقتل، ولو قال: لا إله إلا الله، وأن من جحد شيئًا من أركان الإسلام كفر وقتل ولو قالها، فكيف لا تنفعه إذا جحد فرعًا من الفروع، وتنفعه إذا جحد التوحيد الذي هو أصل دين الرسل ورأسه؟! ولكن أعداء الله ما فهموا معنى الأحاديث.

فأما حديث أسامة رضي الله عنه فإنه قتل رجلًا ادعى الإسلام بسبب أنه ظن أنه ما ادعى الإسلام إلا خوفًا على دمه وماله، والرجل إذا أظهر الإسلام وجب الكف عنه حتى يتبين منه ما يخالف ذلك، وأنزل الله تعالى في ذلك:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا} [النساء: 94]؛

(1)

رواه البخاري (4269)، ومسلم (96).

(2)

رواه البخاري (1399)، ومسلم (20) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 95

أي: تثبتوا، فالآية تدل على أنه يجب الكف عنه والتثبت، فإذا تبين منه بعد ذلك ما يخالف الإسلام قتل لقوله:{فَتَبَيَّنُوا} ، ولو كان لا يقتل إذا قالها لم يكن للتثبت معنى، وكذلك الحديث الآخر وأمثاله، معناه ما ذكرناه: أن من أظهر الإسلام والتوحيد وجب الكف عنه، إلى أن يتبين منه ما يناقض ذلك.

والدليل على هذا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال: «أقتلته بعد ما قال: لا إله إلا الله؟» ، وقال:«أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلى الله» ، هو الذي قال في الخوارج:«أينما لقيتموهم فاقتلوهم»

(1)

، «لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عادٍ»

(2)

، مع كونهم من أكثر الناس عبادة وتهليلًا وتسبيحًا، حتى إن الصحابة يحقرون صلاتهم عندهم، وهم تعلموا العلم من الصحابة فلم تنفعهم لا إله إلا الله، ولا كثرة العبادة، ولا ادعاء الإسلام لما ظهر منهم مخالفة الشريعة.

وكذلك ما ذكرناه من قتال اليهود، وقتال الصحابة رضي الله عنهم بني حنيفة، وكذلك أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يغزو بني المصطلق لما أخبره رجل أنهم منعوا الزكاة، حتى أنزل الله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] وكان الرجل كاذبًا عليهم

(3)

.

وكل هذا يدل على أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث التي يحتج بها ما ذكرناه.

(1)

رواه البخاري (3611) من حديث علي رضي الله عنه.

(2)

رواه البخاري (3344)، ومسلم (1064) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

(3)

رواه أحمد 4/ 279، وانظر: تفسير ابن كثير (7/ 370).

ص: 96

هذه أيضًا شبهة من شبهات المشركين الذين يتعلقون بالصالحين، ويعبدونهم ويطوفون عند قبورهم، يقولون: إن الرسول صلى الله عليه وسلم أنكر على أسامة عندما قتل الرجل الذي قال: لا إله إلا الله، وأغلظ عليه في ذلك، قائلًا له:«يا أسامة أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله؟ فكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟» ، وكذلك قال عليه الصلاة والسلام:«أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا أن لا إله إلا الله» .

وهم بهذا الاستدلال يريدون أن من قال لا إله إلا الله لا يكفر؛ ولا يستوجب القتل، ولو قال ما قال، ولو فعل ما فعل، وعلى هذا فهو ما دام يقول:«لا إله إلا الله» ، فإنه يجب الكف عنه.

وهذه الشبهة أطال الشيخ في الجواب عنها، وقد أجاد وأفاد، ونقض هذه الشبهة بما ذكره؛ من أن الرسول صلى الله عليه وسلم قاتل اليهود وسباهم، وسبا نساءهم وذرياتهم، مع أنهم يقولون لا إله إلا الله؛ وذلك أنه لا يعرف عن اليهود الشرك الظاهر، وهم يقولون: لا إله إلا الله، ولكنهم كفروا بأشياء أخرى؛ كقتل الأنبياء، وتحريف الكتب، واتخاذهم لأحبارهم أربابًا، وكفروا أيضًا بتكذيب المسيح، وكفروا بتكذيب محمد صلى الله عليه وسلم، فلم ينفعهم أنهم يقولون: لا إله إلا الله، وكذلك قاتل الصحابة رضي الله عنهم بني حنيفة أتباع مسيلمة، وسبوا نساءهم وذراريهم مع أنهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ولكنهم أتوا بما يناقض الشهادتين،

ص: 97

وأقروا بنبوة مسيلمة، فلم ينفعهم النطق بالشهادتين، وكذا السبئية الذين حرقهم علي كانوا يظهرون الإسلام، ويقولون: لا إله إلا الله.

ولا شك أن هذه شبهة داحضة، وجوابها ظاهر، فدعوى أن من قال لا إله إلا الله؛ لا يكفر إذا سب الله، أو سب كتابه، أو سب رسوله عليه الصلاة والسلام، أو امتهن المصحف كما لو بال عليه، أو وسخه بنجاسة؛ دعوى باطلة، فحكمه الكفر ولو كان ينطق بالشهادتين، ولو كان يصلي ويصوم، ولو أقر بكل ما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام، فالنطق بالشهادتين لا يمنع من الكفر إذا وقع فيه المتكلم، أو أتى ناقضًا من نواقض الإسلام يوجب ردته.

وهؤلاء الذين يحتجون بهذه الشبهة متناقضون، فإنهم يقرون بأن من أنكر البعث كفر، ولو قال: لا إله إلا الله، وهذا حجة عليهم؛ فإذا علم أنه ليس كل من قال: لا إله إلا الله يكون معصوم الدم والمال، ولا كل من قالها لا يكون كافرًا؛ بل قد يكفر الإنسان بمكفر من المكفرات، وإن كان يقول: لا إله إلا الله.

وسبب ضلالهم وتعلقهم بهذه الشبهات: الجهل وعدم النظر والتدبر للأحاديث طلبًا للحق، وهكذا أصحاب الباطل لا بد أن يتناقضوا، وأقوال أهل الضلال متناقضة.

وكذا من أنكر وجوب الصلاة والزكاة، أو وجوب الصيام؛ فإنه يكفر عند هؤلاء ولو كان يقول: لا إله إلا الله، فكيف يكفر ويستوجب القتل من أنكر شيئًا من الفروع ولا يكفر من نقض التوحيد الذي هو الأصل؟!

ص: 98

ويراد بالفروع أركان الإسلام العملية؛ إذ يسميها بعض الفقهاء ب «الفروع» ، ولكن التحقيق أنها أصول، حيث يقول صلى الله عليه وسلم:«بني الإسلام على خمس»

(1)

، ويمكن أن تكون أحكامها التفصيلية فروعًا. أما نفس هذه الفرائض فهي أصول عملية من أصول الإسلام.

ويجاب عن قول النبي صلى الله عليه وسلم لأسامة: «أقتلته بعد أن قال: لا إله إلا الله؟» بأن الذي قتله أسامة كان كافرًا، ولكنه تلفظ بالشهادتين، فكان الواجب أن يترك حتى يتبين أمره، فالكافر إذا أعلن الإسلام، وأقر بالشهادتين، فإنه يحكم له بالإسلام ويجب الكف عنه؛ فإن استقام على ذلك والتزم الفرائض؛ وإلا قُتِل مرتدًّا.

واستدل المؤلف بقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُوا} [النساء: 94]؛ ومعناه: تثبتوا، فدل ذلك على أن من أظهر الإسلام وجب الكف عنه، والتثبت في معرفة حقيقة دعواه، فإن تبين بعد ذلك منه ما يخالف ما أظهره من الإسلام قتل، ولو كان من قال: لا إله إلا الله لا يقتل مطلقًا إذا قالها؛ لم يكن للتثبت معنى، فيكون من أظهر الإسلام وجب الكف عنه، ولا يحتاج إلى التثبت والنظر في حاله.

وكذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: أن لا إله إلا الله» يجاب عنه - كما سبق - بأن هذا في حق الكفَّار الأصليين إذا دعوا إلى الإسلام، وأعلنوا الشهادة، وجب الكف عنهم.

(1)

رواه البخاري (8)، ومسلم (16) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

ص: 99

ويجاب عنهم أيضًا بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الخوارج، فقال:«فأينما لقيتموهم فاقتلوهم» ، وقال:«لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد» مع أنهم أكثر الناس عبادة، حتى قال فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم:«يخرج فيكم قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم، وعملكم مع عملهم، ويقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم»

(1)

، فالذي قال:«أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله» ، وقال لأسامة:«أقتلته بعد ما قال: لا إله إلا الله؟» هو الذي قال في الخوارج ما سبق، فلا بد من الجمع بين هذه الأحاديث كلها دون الاقتصار على بعض دون بعض.

و‌

‌الخوارج مختلف في حكمهم، ورجح كثير من أهل العلم أنهم ليسوا كفارًا

مرتدين؛ لكنهم ضُلَّال

(2)

، فهم من شر أهل الأهواء {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} [الروم: 32].

ولا يلزم من الأمر بقتالهم كفرهم، فإن القتل له أسباب، فقد يقتل المسلم حدًا كما في الثيب الزاني، ويقتل قصاصًا، ويقتل لبغيه، ويقتل لكف شره، ويقتل لردته.

وخلاصة الرد على هذه الشبهة: أن الإنسان إذا قال: لا إله إلا الله وجب الكف عنه، فإذا أظهر ما يخالف الشريعة؛ وجب قتله كالخوارج مثلًا، ويؤيد هذا أن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يغزو بني المصطلق لما بلغه أنهم منعوا الزكاة، وكان الذي أخبر بذلك قد كذب عليهم، فهم كانوا

(1)

رواه البخاري (5058) - واللفظ له -، ومسلم (1064) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

(2)

انظر: مجموع الفتاوى (7/ 217) و (28/ 518).

ص: 100

يقولون: لا إله إلا الله، فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنهم منعوا الزكاة أراد قتالهم، فأنزل الله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6].

وكذلك قاتل الصحابة رضي الله عنهم مانعي الزكاة، كل هذا وغيره يدل على بطلان هذه الشبهة، وقد أفاض الشيخ رحمه الله في الرد على هذه الشبهة؛ لأنها من أقوى شبهاتهم.

* * * * * * *

ص: 101

* قال الشيخ رحمه الله:

ولهم شبهة أخرى وهو: ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم؛ أن الناس يوم القيامة يستغيثون بآدم ثم بنوح ثم بإبراهيم ثم بموسى ثم بعيسى؛ فكلهم يعتذرون حتى ينتهوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1)

.

قالوا: فهذا يدل على أن الاستغاثة بغير الله ليست شركًا.

والجواب أن تقول: سبحان من طبع على قلوب أعدائه:

1 -

فإن الاستغاثة بالمخلوق فيما يقدر عليه لا ننكرها؛ كما قال تعالى في قصة موسى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} [القصص: 15]، وكما يستغيث الإنسان بأصحابه في الحرب وغيره في أشياء يقدر عليها المخلوق.

2 -

ونحن أنكرنا استغاثة العبادة التي يفعلونها عند قبور الأولياء، أو في غيبتهم في الأشياء التي لا يقدر عليها إلا الله تعالى. إذا ثبت ذلك، فاستغاثتهم بالأنبياء يوم القيامة يريدون منهم أن يدعوا الله أن يحاسب الناس حتى يستريح أهل الجنة من كرب الموقف، وهذا جائز في الدنيا والآخرة؛ وذلك أن تأتي عند رجل صالح حي يجالسك، ويسمع كلامك، فتقول له: ادع الله لي، كما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه ذلك في حياته، وأما بعد موته، فحاشا وكلَّا

(1)

تقدم ص 59.

ص: 102

أنهم سألوه ذلك عند قبره؛ بل أنكر السلف الصالح على من قصد دعاء الله عند قبره، فكيف بدعائه نفسه؟!

ولهم شبهة أخرى، وهي: قصة إبراهيم عليه السلام لما ألقي في النار؛ اعترض له جبريل في الهواء، فقال له: ألك حاجة؟ فقال إبراهيم عليه السلام: أما إليك فلا، قالوا: فلو كانت الاستغاثة بجبريل شركًا لم يعرضها على إبراهيم.

فالجواب: أن هذا من جنس الشبهة الأولى، فإن جبريل عليه السلام عرض عليه أن ينفعه بأمر يقدر عليه، فإنه كما قال الله تعالى فيه:{شَدِيدُ الْقُوَى (5)} [النجم]، فلو أذن الله له أن يأخذ نار إبراهيم وما حولها من الأرض والجبال ويلقيها في المشرق أو المغرب لفعل، ولو أمره الله أن يضع إبراهيم في مكان بعيد عنهم لفعل، ولو أمره أن يرفعه إلى السماء لفعل.

وهذا كرجل غني له مال كثير، يرى رجلًا محتاجًا، فيعرض عليه أن يقرضه أو يهبه شيئًا يقضي به حاجته، فيأبى ذلك الرجل المحتاج أن يأخذ ويصبر إلى أن يأتيه الله برزق لا منة فيه لأحد، فأين هذا من استغاثة العبادة والشرك لو كانوا يفقهون؟

يريد القبوريون الذين يستغيثون بالصالحين ويلجأون إليهم أن يستدلوا بهذه الشبهة على جواز الاستغاثة بالمخلوق، وهذه شبهة واهية ضعيفة؛ لأن الاستغاثة بالمخلوق الحي الحاضر بما يقدر عليه جائزة لا

ص: 103

ننكرها، وذلك مثل أن يستغيث الرجل بإخوانه عند الشدة في الحرب وغيرها، ومن ذلك ما تواترت به سنة النبي عليه الصلاة والسلام؛ من أن الناس يوم القيامة يشتد عليهم الموقف والكرب، فيقول بعضهم لبعض: اذهبوا إلى أبيكم آدم يشفع لنا عند ربنا أن يخرجنا من هذا الكرب، فيأتون آدم فيقولون له: أنت آدم الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، ويذكرون له من الفضائل؛ ألا ترى ما نحن فيه، اشفع لنا عند ربك، ادع الله أن يريحنا، أو كما جاء في الحديث، فيذكر أكله من الشجرة، ويذكر أن الله نهاه عن الأكل من الشجرة فأكل منها، ويقول: نفسي نفسي، وفي بعض الروايات يقول: إن ربي غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، اذهبوا إلى نوح، فيأتون نوحًا، فيذكرون له ذلك، فيعتذر ويذكر أنه دعا على قومه؛ كما قال الله تعالى:{وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26)} [نوح]، فيعتذر قائلاً: اذهبوا إلى إبراهيم، فيأتون إبراهيم فيعتذر أيضًا، ويقول نحو ما قاله من قبله، ويذكر كذباته الثلاث - وكلها في ذات الله -، ويقول: اذهبوا إلى موسى، فيأتون موسى فيعتذر ويقول: إني قتلت نفسًا لم أؤمر بقتلها، فيعتذر فيقول: اذهبوا إلى عيسى، فيأتون عيسى فيعتذر كذلك ولا يذكر ذنبًا، فيقول: إن ربي غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، اذهبوا إلى محمد عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال عليه الصلاة والسلام: «فيأتوني، فأنطلق فآتي ربي، فإذا

ص: 104

رأيته خررت له ساجدًا، فيتفتح علي بمحامد لا أتقنها الآن، فيقال: ارفع رأسك، وسل تُعط، واشفع تُشفَّع

» الحديث

(1)

.

فالأنبياء يوم القيامة أحياء قادرون على الدعاء، واستغاثة الناس بهم هي استغاثة بالمخلوق فيما يقدر عليه، ومن جملة هذا النوع من الاستغاثة أيضًا استغاثة الإسرائيلي بموسى كما قال الله تعالى:{فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} [القصص: 15]، فإذا أتى الإنسان إلى من يتوسم فيه الخير، وسأله أن يدعو له؛ فلا بأس، وإن كان لا ينبغي التوسع كثيرًا في مثل هذا؛ لأن فيه سؤال الناس، وقد جاء النهي عن كثرة السؤال، والترغيب في عدم سؤال الناس. ولكن على كل حال، إذا طلب الدعاء من غيره، فهذا جائز وليس بشرك، وقد كان الصحابة يأتون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ويسألونه الدعاء في الاستسقاء وفي غيره، كما قال الأعرابي فادع الله أن يغيثنا

(2)

، فهذا سؤال إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يدعو لهم، وكما قال عكاشة:«ادع الله أن يجعلني منهم»

(3)

، وقالت المرأة التي كانت تُصرع وتتكشف:«إني أصرع فادع الله أن يعافيني» ، فقال:«إن شئتِ صبرتِ ولك الجنة» ، فقالت:«أصبر، ولكن ادع الله أن لا أتكشف» ، فطلبت الدعاء، وكذلك حديث الأعمى الذي طلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يدعو له أن يرد الله عليه بصره

(4)

.

(1)

تقدم في ص 59.

(2)

تقدم في ص 62.

(3)

تقدم في ص 62.

(4)

تقدم في ص 62.

ص: 105

والمنكر والممنوع هو الاستغاثة بالأموات والغائبين، فالاستغاثة بهم لا تجوز مطلقًا؛ لا فيما يقدر عليه المخلوق، ولا فيما لا يقدر عليه؛ لأن الميت لا يقدر على شيء.

ولما مات الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن الصحابة رضي الله عنهم يأتون إلى قبره - وهو أفضل الخلق -، والصحابة أعلم الخلق بما يليق به صلى الله عليه وسلم، وبما لا يليق، وقد حصل لهم قحط شديد في السنة السابعة عشرة من الهجرة، فلم يأتوا إلى قبره ليستغيثوا به، بل استغاثوا بالله، وطلب عمر الفاروق رضي الله عنه من العباس رضي الله عنه؛ أن يدعو الله

(1)

، فتبين بهذا الفرق بين الاستغاثة بالحي والميت.

فإذا ثبت أن الاستغاثة بالحي فيما يقدر عليه جائزة؛ تبين أن الاستغاثة بالأنبياء يوم القيامة من هذا النوع، فالناس إذ ذاك يريدون منهم أن يدعوا الله أن يحاسب الناس حتى يستريح أهل الجنة من كرب الموقف، وهذا جائز في الدنيا والآخرة، كما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه ذلك في حياته. أما بعد موته، فلم يحصل من ذلك شيء، بل ثبت عن السلف أنهم كانوا ينكرون على من يدعو الله عند قبره عليه الصلاة والسلام.

يقول الشيخ: «ولهم شبهة أخرى، وهي: قصة إبراهيم عليه السلام لما ألقي في النار اعترض له جبريل في الهواء، فقال له: ألك حاجة؟ فقال إبراهيم عليه السلام: أما إليك فلا، قالوا: فلو كانت الاستغاثة بجبريل شركًا لم يعرضها على إبراهيم

» إلى آخره.

(1)

تقدم في ص 63.

ص: 106

فهذه القصة من الإسرائيليات، وتذكر في كتب التفسير عند قوله تعالى:{قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِين (68)} [الأنبياء]، وقوله تعالى:{قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيم (97)} [الصافات]، فقوم إبراهيم المشركون كانوا قد أضرموا له نارًا عظيمة، ولم يستطيعوا أن يضعوه فيها من قرب؛ فجاءوا بالمنجنيق فوضعوه فيه، وقذفوا به إلى النار، فعرض جبريل عليه السلام لإبراهيم في أثناء القذف، وهو في الهواء، فقال له: ألك حاجة؟ قال أما إليك فلا، وأما إلى الله فبلى، فيستدل المبطل: بأن هذا جبريل عرض على إبراهيم أن يغيثه، فلو كانت الاستغاثة شركًا لما عرض ذلك عليه.

والجواب على هذه الشبهة كالجواب على الشبهة السابقة، وهو أن استغاثة الناس بالأنبياء يوم القيامة استغاثة بحي قادر، وهكذا لو استغاث إبراهيم بجبريل، فإنها استغاثة بحي قادر، كيف وقد وصفه الله بأنه:{شَدِيدُ الْقُوَى (5)} [النجم]، فلو أذن الله له أن يلقي نار إبراهيم وما حولها من الأرض والجبال في مكان بعيد؛ شرقًا أو غربًا، أو أذن له أن يأخذ إبراهيم إلى مكان بعيد، أو أن يرفعه إلى السماء؛ لفعل.

ويمثل الشيخ هذه القصة برجل غني له مال يعرض على فقير محتاج أن يسلفه، أو يعطيه هبة، فيأبى ذلك الفقير، ويصبر حتى يأذن الله له برزق لا منَّة فيه لأحد، فهكذا فعل إبراهيم عليه السلام، حيث أبى أن يفعل له جبريل شيئًا توكلًا منه على الله؛ ولهذا جاء في الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما؛ أنه قال في قول الله تعالى {حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيل (173)} [آل عمران]، قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها

ص: 107

محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيل (173)} [آل عمران]

(1)

، وهذا يتضمن التوكل على الله، والرضا بكفايته، وعدم الالتفات لسواه.

فقول إبراهيم لجبريل: أما إليك فلا، من باب التوكل على الله، وكمال الثقة بأن الله سينصر نبيه وخليله، قال الله تعالى:{قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيم (69)} [الأنبياء]، فإنها أمام أعينهم نار ملتهبة من اتصل بها أحرقته، وهي على إبراهيم الذي كان بداخلها بردًا وسلامًا، ولم يأت الأمر {كُونِي بَرْدًا} فقط، ولو أمرها الله عز وجل أن تكون بردًا لحالت إلى برد بالنسبة لكل أحد، ولكنه قيد الأمر، فقال:{كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيم (69)} .

يقول الشيخ في ختام هذا الكلام: «فأين هذا من استغاثة العبادة والشرك؟!» أي: أين الاستغاثة بالحي القادر من الاستغاثة بالأموات والغائبين؟ وهي الاستغاثة البدعية الشركية، والله أعلم.

* * * * * * *

(1)

رواه البخاري (4563).

ص: 108

* قال الشيخ رحمه الله:

ولنختم الكلام إن شاء الله تعالى بمسألة عظيمة مهمة تُفهم مما تقدم، ولكن نفرد لها الكلام؛ لعظم شأنها، ولكثرة الغلط فيها، فنقول:

لا خلاف أن التوحيد لا بد أن يكون بالقلب واللسان والعمل، فإن اختل شيء من هذا لم يكن الرجل مسلمًا.

فإن عرف التوحيد ولم يعمل به فهو كافر معاند؛ كفرعون وإبليس وأمثالهما.

وهذا يغلط فيه كثير من الناس، يقول: هذا حق، ونحن نفهم هذا، ونشهد أنه الحق؛ ولكنا لا نقدر أن نفعله ولا يجوز عند أهل بلدنا إلا من وافقهم، أو غير ذلك من الأعذار، ولم يدر المسكين أن غالب أئمة الكفر يعرفون الحق، ولم يتركوه إلا لشيء من الأعذار؛ كما قال تعالى:{اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَصَدُّوا} [التوبة: 9] وغير ذلك من الآيات كقوله: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ} [البقرة: 146].

فإن عمل بالتوحيد عملًا ظاهرًا، وهو لا يفهمه أو لا يعتقده بقلبه، فهو منافق، وهو شر من الكافر الخالص؛ [كما قال تعالى]:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء: 145].

وهذه المسألة مسألة كبيرة طويلة، تتبين لك إذا تأملتها في ألسنة الناس ترى من يعرف الحق ويترك العمل به لخوف نقص دنيا، أو جاه، أو مداراة لأحد.

ص: 109

وترى من يعمل به ظاهرًا لا باطنًا، فإذا سألته عما يعتقد بقلبه؛ إذا هو لا يعرفه، ولكن عليك بفهم آيتين من كتاب الله تعالى:

أولاهما: قوله تعالى: {لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إ} [التوبة: 66]، فإذا تحققت أن بعض الصحابة الذين غزوا الروم مع الرسول صلى الله عليه وسلم كفروا بسبب كلمة قالوها على وجه المزح واللعب؛ تبين لك أن الذي يتكلم بالكفر أو يعمل به خوفًا من نقص مال أو جاه أو مداراة لأحد؛ أعظم ممن يتكلم بكلمة يمزح بها.

والآية الثانية: قوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللّهِ مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيم (106)} {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ} [النحل].

فلم يعذر الله من هؤلاء إلا من أكره مع كون قلبه مطمئنًا بالإيمان. وأما غير هذا، فقد كفر بعد إيمانه؛ سواء فعله خوفًا، أو مداراة لأحد، أو مشحة بوطنه أو أهله، أو عشيرته، أو ماله، أو فعله على وجه المزح، أو لغير ذلك من الأغراض إلا المكره، فالآية تدل على هذا من جهتين:

الأولى قوله: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ} [النحل: 106]، فلم يستثن الله تعالى إلا المكره، ومعلوم أن الإنسان لا يكره إلا على الكلام أو الفعل.

وأما عقيدة القلب، فلا يكره عليها أحد.

ص: 110

والثانية: قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ} [النحل: 107]، فصرح أن هذا الكفر والعذاب لم يكن بسبب الاعتقاد أو الجهل أو البغض للدين أو محبة الكفر، وإنما سببه: أن له في ذلك حظًا من حظوظ الدنيا، فآثره على الدين، والله سبحانه وتعالى أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

ختم الشيخ هذه الرسالة بهذه المسألة التي هي بحق عظيمة، وكما ذكر الشيخ أنه أفردها لعظم شأنها، وكثرة الغلط فيها.

وقد قدم الشيخ لهذه المسألة بالقول: إن التوحيد لا بد أن يكون ظاهرًا وباطنًا بالقلب واللسان والجوارح، فمن عرفه بقلبه ولم يقر به ظاهرًا؛ فإنه كافر معاند كفرعون، وكثير من أمم الكفر يعرفون الحق ولكنهم يعاندون ويجحدون، فمثلًا فرعون قال:{وَمَا رَبُّ الْعَالَمِين (23)} [الشعراء]، وقال:{مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38]، فقال الله عن هذا التكبر والجحود:{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14]. وقال تعالى عن موسى لما قال لفرعون: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ} [الإسراء: 102]، وقال تعالى عن أهل الكتاب اليهود:{يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ} [البقرة: 146].

وقال تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُون (33)} [الأنعام]، يقولون: هو مجنون، هو

ص: 111

كاهن، وهم في قرارة أنفسهم يعلمون ويقرون أو يعتقدون أنك صادق تمامًا، وهذا واقع كثير من الكفار، فهم يقرون بالحق في قلوبهم، ويقرون به بألسنتهم؛ لكنهم يقولون إننا لا نقدر أن نعمل به من أجل قومنا وأهلينا وعشيرتنا، وهذا ينطبق على حال أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم، فإن أبا طالب كان مصدقًا بالرسول صلى الله عليه وسلم؛ ظاهرًا وباطنًا، إلا أنه لم يستجب ولم ينقد ولم يقر بما جاء به، فامتنع أن يقول: لا إله إلا الله إلى آخر رمق؛ تعصبًا لملة أبيه عبد المطلب، فلم ينفعه ذلك التصديق.

وهذه حال كثير من أهل الكفر، يعرفون الحق ولكنهم لا يعملون به ولا ينقادون له لعذر من الأعذار؛ إما تعصبًا للآباء، أو خوف المذمة عند قومهم وعشيرتهم، أو لأمر مادي؛ كما قال الله عز وجل:{اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً ف} [التوبة: 9].

فالناس بهذا الاعتبار ثلاثة أقسام:

الأول: مؤمنون ظاهرًا وباطنًا، ويدخل فيه جميع المؤمنين: الظالم لنفسه والمقتصد والسابق للخيرات.

والثاني: كافرٌ ظاهرًا وباطنًا، وهو المعلن للكفر، والمعلن للكفر كافر؛ لا ينفعه تصديقه الباطن أو معرفته الباطنة.

والثالث: مؤمن ظاهرًا لا باطنًا، وهم المنافقون.

وهذه الأقسام الثلاثة ذكرها الله في مواضع كما فصلها في أول سورة البقرة؛ ذكر صفات المؤمنين وصفات الكافرين، وصفات المنافقين.

ص: 112

فإن عمل بالإيمان بجوارحه وهو لا يعتقده بقلبه فهو منافق؛ لأن المنافقين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر؛ كما قال الله تعالى عنهم: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُون (14)} [البقرة].

والمنافقون مصيرهم معروف، وأنهم شر من الكفار المظهرين المعلنين لكفرهم؛ ولهذا كان المنافقون {فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء: 145].

وغلاة المرجئة يقولون: الإيمان هو المعرفة، فمن عرف بأن الله ربه وخالقه فهو مؤمن، ويقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب، كما لا ينفع مع الكفر طاعة.

والكرامية يقولون: إن من أقر بلسانه فهو مؤمن.

وكل هذه أقوال باطلة، فإن التوحيد والإسلام والإيمان لا بد أن يتطابق فيه الظاهر والباطن.

والمسألة العظيمة التي يريد أن يتكلم الشيخ عنها هي مسألة «ما تقع به الردة عن الإسلام» ، وقد تقدم أن الردة تقع بالشرك بالله، وبالتكذيب بما أخبر الله ورسوله، وإن كان الشخص يقول:«لا إله إلا الله» .

وإذا تأمل الإنسان أحوال الناس وأقوالهم، فإنه يدرك أن منهم من يعمل بالحق ظاهرًا لا باطنًا؛ أي يوافق على الحق مداهنة، وهو بالباطن خلاف ذلك، ومنهم من يترك الحق، فيكون كفره ظاهرًا، فالأمر يتردد إما بين الكفر الظاهر، أو النفاق.

ص: 113

والنجاة تكون بمعرفة الحق واتباعه؛ ظاهرًا وباطنًا.

أما من ترك الحق إيثارًا لدنيا، أو لأغراض مختلفة؛ فإنه لا يعذر، ومما يوضح هذا الأمر النظر في آيتين:

الآية الأولى: قوله تعالى في المستهزئين: {لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 66]، فهذه الآية نزلت في الذين أطلقوا كلامًا على وجه المزح استهزاءً بالرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه حيث قالوا:«ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء، أرغب بطونًا، وأكذب ألسنة، وأجبن عند اللقاء» ، وفي الرواية أنهم يعنون رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأنزل الله هذه الآية، وذهب عوف بن مالك يبلغ الرسول عليه الصلاة والسلام، فوجد الوحي قد سبقه، وجاء ذلك الرجل الذي أطلق الكلمة يعتذر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد ركب الرسول صلى الله عليه وسلم راحلته، فتعلق بنسعة الراحلة، فجعل يردد:«إنما كنا نخوض ونلعب، ونتحدث حديث الركب، نقطع به عناء الطريق» ؛ فأنزل الله: {أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُون (65)} {لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة]

(1)

.

فإذا كان هؤلاء قد كفروا بعد إيمانهم؛ لأنهم تكلموا بكلام على وجه المزح فكيف بمن أظهر الكفر من أجل غرض من أغراض الدنيا، وخوفًا على فوت مصلحة من المصالح، أو مشحة بالوطن أو بالأهل والعشيرة؟! كمن يعز عليه فراق أهله وعشيرته، ويعز عليه مخالفتهم أيضًا كأبي طالب الذي ما منعه من قول «لا إله إلا الله» إلا المشحة بالآباء والخوف من مخالفتهم.

(1)

تقدم في ص 89.

ص: 114

والآية الثانية قوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللّهِ مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيم (106)} {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ} [النحل]، فهذه الآية تدل على أن كل من أظهر الكفر لأي غرض من الأغراض، فإنه كافر؛ إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان، فلم يستثن إلا المكره، فمن أظهر الكفر خوفًا من فوات حظ من الحظوظ مشحةً بالوطن والأهل والعشيرة، فهو كافر؛ لأنه غير مكره، والله تعالى لم يستثن إلا المكره، كمن قيل له سب الرسول صلى الله عليه وسلم، أو سب هذا القرآن والمصحف، وإلا فهذا السيف على رأسك، وهو يتكلم بهذا، وقلبه يحترق، ويجد ألمًا في باطنه، بل وفي ظاهره؛ فهذا هو المكره، ولا يكفر.

والآية تدل على هذا من وجهين:

أولًا: أن قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ} ؛ تدل على أن المراد الإكراه على فعل الكفر، أو التكلم بالكفر. أما اعتقاد القلب فلا تعلق للإكراه به؛ لأنه لا يستطيع أحد أن يكره أحدًا على اعتقاد قلبه؛ لأنه أمر باطن، يقول تعالى:{مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ} ؛ أي فقد كفر، {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} فمن أظهر الكفر من غير إكراه، فقد شرح بالكفر صدرًا.

ثانيًا: قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ} [النحل: 107]، فهذا تصريح على أن الذي حملهم على الكفر هو إيثار الدنيا؛ فعلم بذلك أن الكفر لا يتوقف على اعتقاد القلب، ولا

ص: 115

يتوقف على بغض الحق، فكم من الكفار من يعتقد صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، ويعرف أن ما جاء به هو الحق، ولكن يمنعه من ذلك التعصب للآباء، أو الأغراض الدنيوية، فهل كفر بسبب اعتقاد القلب؟

لا، إنما كفر بما أظهر من الكفر، وبما تكلم به من الكفر، فمن تكلم بالكفر هازلًا مازحًا، أو تكلم بالكفر مداراةً ومداهنةً ليتوصل بذلك إلى مصلحة دنيوية، فإنه كافر؛ لأنه غير مكره، والله لم يستثن إلا المكره.

وبهذا ينتهي التعليق على هذا الكتاب المبارك المفيد، ورحم الله الشيخ على كشفه لتلك الشبهات الباطلة التي يتذرع بها المشركون لتصحيح باطلهم، ولا ريب أن كشف الشبهات وبيان الحق بدليله من الجهاد الذي أمر الله به في قوله:{وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52)} [الفرقان]؛ أي: بالقرآن، وقد أبلى الشيخ في ذلك بلاء حسنًا، فرفع بدعوته أعلام التوحيد، وأذل به الشرك وأهله، فجزاه الله على دعوته وجهاده خيرًا.

والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

* * * * * * *

ص: 116

‌مراجع التحقيق

• الأحاديث المختارة: الضياء المقدسي، ت: عبد الملك بن دهيش، مكتبة النهضة الحديثة.

• الأدب المفرد: البخاري، ت: كمال الحوت، عالم الكتب.

• إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل: الألباني، المكتب الإسلامي، ط: الثانية.

• الاستقامة: ابن تيمية، ت: محمد رشاد سالم، دار الفضيلة، ط: الأولى.

• الأصنام: ابن الكلبي، ت: أحمد زكي، دار الكتب المصرية، 1924 م.

• الأصول الثلاثة وأدلتها: محمد بن عبد الوهاب، وزارة الشؤون الإسلامية، السعودية، ط: الأولى.

• الأعلام: الزركلي، دار العلم للملايين، بيروت، لبنان.

• إعلام الموقعين: ابن القيم، ت: محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الفكر.

• تفسير البغوي «معالم التنزيل» ، ت: محمد النمر، وصاحباه، دار طيبة، ط: الأولى.

• تفسير سورة الفاتحة: محمد بن عبد الوهاب، ضمن مجموع مؤلفاته، ط: دار القاسم.

• تفسير القرآن العظيم: ابن كثير، ت: سامي السلامة، دار طيبة، الإصدار الثاني، ط: الأولى.

ص: 117

• تهذيب الآثار: ابن جرير الطبري، ت: محمود محمد شاكر، مكتبة الخانجي، ط: الأولى.

• التوحيد: ابن خزيمة، ت: محمد خليل هراس، دار الكتب العلمية، 1412 هـ.

• التيسير في القراءات السبع: الداني، ت: أوتويترتزل، دار الكتاب العربي، ط: الثالثة.

• جامع البيان: ابن جرير الطبري، دار الفكر، ط: الأولى.

• جامع العلوم والحكم: ابن رجب، ت: طارق بن عوض الله، دار ابن الجوزي، ط: الثانية.

• الجامع الكبير: الترمذي، ت: بشار عواد معروف، دار الغرب الإسلامي، ط: الثانية.

• جلاء الأفهام: ابن القيم، ت: زائد النشيري، دار عالم الفوائد، ط: الأولى.

• الرد على الجهمية والزنادقة: أحمد بن حنبل، ت: صبري سلامة، دار الثبات، ط: الأولى.

• الرسالة التدمرية: ابن تيمية، ضمن شرح الشيخ عبد الرحمن البراك، ت: سليمان الغصن، كنوز أشبيليا، ط: الأولى.

• الروح: ابن القيم، ت: السيد الجميلي، دار الكتاب العربي، ط: السادسة.

• السلسلة الصحيحة: الألباني، مكتبة المعارف، 1415 هـ.

• سنن ابن ماجه، ت: بشار عواد معروف، دار الجيل، ط: الأولى.

• سنن أبي داود، دار ابن حزم، ط: الأولى.

• سنن النسائي، ت: مكتب تحقيق التراث الإسلامي، دار المعرفة، ط: الأولى.

ص: 118

• صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان، ت: شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، ط: الثالثة.

• صحيح ابن خزيمة، ت: محمد الأعظمي، المكتب الإسلامي، ط: الثانية.

• صحيح البخاري، عناية: محمد زهير الناصر، دار طوق النجاة، ط: الأولى.

• صحيح الجامع الصغير: الألباني، المكب الإسلامي، ط: الثالثة.

• صحيح مسلم، ت: محمد فؤاد عبد الباقي، دار الصميعي، ط: الأولى.

• الطبقات الكبرى: ابن سعد، دار صادر، بيروت.

• العقيدة الواسطية: ابن تيمية -ضمن شرحها: توضيح مقاصد الواسطية-، للشيخ عبد الرحمن البراك، ت: عبد الرحمن السديس، دار التدمرية، ط: الأولى.

• فتح الباري: ابن رجب، ت: محمود شعبان وجماعة، مكتبة الغرباء الأثرية، ط: الأولى.

• الكافية الشافية: ابن القيم، ت: محمد العريفي وجماعة، دار عالم الفوائد، ط: الأولى.

• كتاب التوحيد: محمد بن عبد الوهاب -ضمن مجموع مؤلفاته ورسائله-، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ط: الأولى.

• كشف الشبهات: محمد بن عبد الوهاب، وزارة الشؤون الإسلامية، السعودية، ط: الأولى.

• لسان العرب: ابن منظور، دار صادر، ط: الأولى.

• مجموع الفتاوى: ابن تيمية، ت: عبد الرحمن بن قاسم وابنه محمد، دار عالم الكتب، 1412 هـ.

• مجموعة رسائل في التوحيد والإيمان: محمد بن عبد الوهاب، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ط: الثانية.

ص: 119

• مدارج السالكين: ابن القيم، ت: محمد حامد الفقي، دار الكتاب العربي، ط: الثانية.

• المستدرك على الصحيحين: الحاكم، ت: جماعة من العلماء، دار المعارف النظامية في حيدر أباد الدكن، تصوير دار الفكر، 1398 هـ.

• مسند الإمام أحمد، ت: شعيب الأرناؤوط وجماعة، مؤسسة الرسالة، ط: الأولى.

• المعجم الكبير: الطبراني، ت: حمدي السلفي، دار إحياء التراث الإسلامي، ط: الثانية.

• المغني عن حمل الأسفار في الأسفار: العراقي، بهامش إحياء علوم الدين، ت: سيد إبراهيم، دار الحديث، ط: الأولى.

• المقاصد الحسنة: السخاوي، ت: محمد الخشت، دار الكتاب العربي، ط: الثانية.

• النشر في القراءات العشر: ابن الجزري، ت: علي محمد الضباع، المكتبة التجارية الكبرى.

• نصب الراية: الزيلعي، ت: إدارة المجلس العلمي، تصوير مكتبة الرياض الحديثة، ط: الثانية.

• الوابل الصيب: ابن القيم، ت: عبد الرحمن بن حسن بن قائد، دار عالم الفوائد، ط: الأولى.

ص: 120