الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فاتحة الكتاب
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأصلّي وأسلّم على المبعوث رحمة للعالمين، سيد الأولين والآخرين، سيّدنا ونبيّنا محمد وعلى آله وصحابته الطيبين الطاهرين، الذين عزروه ونصروه، وعظموه ووقروه، وكانوا رسل خير ومشاعل نور وهداية للناس أجمعين
…
وبعد:
فإن كتاب «الشمائل» ويقال له: «الشمائل المحمدية» ، للإمام الحافظ الكبير صاحب التصانيف: أبي عيسى محمد بن عيسى بن سَوْرَة الترمذي، (209 هـ - 279 هـ)، يعد من أعظم كتب الشمائل وأجمعها وأجودها، كما قال العلامة علي القاري رحمه الله: «إن مُطالع هذا الكتاب كأنه يطالع طَلعة ذلك الجناب
(1)
، ويرى محاسنه الشريفة في كل باب»
(2)
.
لذلك فقد لقي هذا الكتاب عناية عظيمة من قبل أهل العلم وطلبته عبر القرون، قراءة وضبطاً، ودراسة وحفظاً، وتصدى لشرحه غير واحد، ووضعوا عليه شروحاً وحواشي مطولة ومختصرة
(3)
.
(1)
يقصد: جناب النبي صلى الله عليه وسلم.
(2)
«جمع الوسائل» للقاري 1/ 2.
(3)
من أشهر الشروح التي وضعها العلماء على شمائل الترمذي: شرح العلامة أحمد بن محمد بن حجر الهيتمي المكي (ت: 974 هـ)، المسمى:«أشرف الوسائل إلى فهم الشمائل» ، كما شرحه العلامة ملا علي القاري الهروي (ت: 1014 هـ)، في شرح حافل سماه:«جمع الوسائل في شرح الشمائل» ، كذلك كتب عليه حاشية حافلة العلامة إبراهيم بن محمد الباجوري (ت: 1277 هـ) سماها: «المواهب اللدنية على الشمائل المحمدية» ، كما اختصره الشيخ محمد ناصر الدين الألباني في كتاب سماه:«مختصر الشمائل المحمدية» ، وينظر بقية شروحه في «كشف الظنون» 2/ 1059 لحاجي خليفة.
وقد أحببت أن أدخل في زمرة خَدَمَة هذا الكتاب، فوضعت عليه شرحاً متوسطاً، منتخباً من شروحه المتقدمة وبقية شروح كتب السُنَّة، مع محاولة عرضه بطريقة جديدة، تناسب أساليب الكتابة وأذواق القراء في العصر الحديث، متجافياً عن كثير من المباحث التي كان يشتغل بها الشراح القدماء، كالإغراق في التفصيلات المذهبية أو مسائل العربية، وبيان أوجه الإعراب والنحو والدلالات البلاغية ونحو ذلك، مما هو أجنبي عن فقه الأحاديث وما تحمله من فوائد وآداب. كما قال العلامة المناوي رحمه الله:«إنما الشأن في معرفة مقصوده صلى الله عليه وسلم، وبيان ما تضمنه كلامه من الحِكَم والأسرار، بياناً تعضده أصول الشريعة، وتشهد بصحته العقول السليمة. وما سوى ذلك ليس من الشرح في شيء»
(1)
.
ولأن الإمام الترمذي رحمه الله قد أطال الكتاب بذكر أحاديث متحدة الألفاظ، أو ذات دلالة واحدة في الباب، فقد رأيت اختصاره أولاً قبل شرحه على النحو التالي:
1 -
حذفت أسانيد الإمام الترمذي مع الإبقاء على راوي الحديث، من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم.
2 -
حذفت جميع الأحاديث الضعيفة في الكتاب، ولم أشرح إلا ما كان منها في دائرة القبول، حسب أحكام أهل العلم المعتبرين في الحديث.
3 -
حذفت الأحاديث المكررة المعنى، واقتصرت على أقواها وأتمها، وكثيراً ما أشير إلى بقيتها أثناء الشرح كشواهد تقوي الحديث وتزيده ثبوتاً.
(1)
«فيض القدير» 1/ 2.
4 -
حذفت الأحاديث التي ليس لها علاقة وثيقة بترجمة الباب، وأبقيت ما كان له صلة وثيقة وواضحة به.
5 -
أبقيت عناوين تراجم الأبواب كما وضعها الإمام الترمذي، لم أغيّر منها شيئاً، مع التزام طريقة ترتيبه وسرده للأحاديث والأبواب.
وقد خلص لي من أحاديث الكتاب بعد اختصاره «تسعون حديثاً» من أصل أربع مئة هي عدد أحاديث الكتاب كله.
وهذا يعني أنني قد يسرت كتاب الشمائل، واختصرته في أقل من ربعه بقليل.
ثم إنني شرعت بعد ذلك في شرح الأحاديث، فعرَّفت برواتها من الصحابة الكرام باختصار، وخرجتها من مصادرها الأصلية
(1)
مع الالتزام ببيان درجة كل حديث، من حيث الصحة أو الضعف، ثم شرحت معانيها، وأبنت عما تشتمل عليه من دلالات فقهية، وأحكام شرعية وآداب مرعية، وهذا هو مقصود الشرح ولبّه وجوهره.
وقد بذلت في سبيل ذلك جهدي وتفكيري وتأملي، ولم أكن مجرد ناقل أو ناسخ من كتب الشروح والحواشي المتقدمة.
•
معنى كلمة «الشمائل المحمدية» :
وقبل مغادرة هذه التقدمة أحب أن أشرح معنى كلمة الشمائل، أو
(1)
إذا كان الحديث في الصحيحين أو أحدهما فإني أقتصر على ذلك في التخريج ولا أتعداه غالباً، كذلك إذا كان الحديث في الكتب الستة أو بعضها فإني لا أتجاوز ذلك إلا لفائدة إسنادية فأخرجه من مصادر أخرى.
شمائل النبي صلى الله عليه وسلم التي هي عنوان كتاب الترمذي رحمه الله؛ فأقول: معنى كلمة الشمائل: الطباع والخصال والأخلاق والخلال والصفات والسجايا. وعندما يقال شمائل النبي صلى الله عليه وسلم فهذا يعني: خصاله الكريمة، وطباعه النبيلة، وأخلاقه العالية، وصفاته الطاهرة، وسجاياه الباهرة .. كجوده صلى الله عليه وسلم وحلمه، وأناته وصبره، وتواضعه وشجاعته ..
على أن الترمذي رحمه الله لم يقتصر في هذا الكتاب على موضوع الشمائل فحسب، بل وسّع دائرة بحثه فأضاف أبواباً تحدث فيها عن أمور أخرى، تخص النبي صلى الله عليه وسلم، فتحدث عن صفاته الخَلْقية البدنية الظاهرة، وطلعته البهية، ومحياه الوضاء.
وتحدث عن عبادته، وعن صفة صيامه وقيامه وقراءته للقرآن ونحو ذلك.
وتحدث عن كثير من أمتعته وحاجياته الخاصة، كخفّه ونعله، وإزاره وردائه، وخاتمه وعمامته، وسيفه ودِرْعه، ومِغفره وقَدَحه.
وتحدث عن طعامه وشرابه، وخبزه وإدامه، وفاكهته، وغير ذلك مما اشتمل عليه هذا الكتاب الشريف.
ثم ختم الكتاب بأبواب في أسمائه الشريفة صلى الله عليه وسلم، وسِنّه عند وفاته، وحادثة وفاته، وميراثه، ورؤيته في المنام.
وما من شك أن دراسة هذه الأبواب وتفهمها على الوجه الصحيح مما يزيد المسلم معرفة بنبيه صلى الله عليه وسلم ومحبة له، وتعلقاً به وتصديقاً برسالته.
أضف أن هذه الأبواب مشتملة على كثير من المسائل الفقهية، والآداب
السلوكية، والفوائد الأخلاقية، التي يحتاج إلى معرفتها والتأسي بها كل مؤمن.
هذا والله أسال الله أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم، وأن يكتب لنا ذخره وأجره، ويجعله شفيعاً يوم القيامة، وينفع به من قرأه وطالعه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وكتبه
أ. د. هاني أحمد فقيه
أستاذ الحديث وعلومه، بكلية الحديث الشريف،
الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة
1441 هـ
1 - بَابُ مَا جَاءَ فِي خَلْق رسول الله صلى الله عليه وسلم
-
ذكر الإمام الترمذي تحت هذا الباب جملة من الأحاديث الشريفة المتعلقة بصورة النبي صلى الله عليه وسلم الظاهرة، وصفاته البدنية الباهرة، وطلعته البهية، ومحياه الوضاء. وما من شك في أن الله تبارك وتعالى قد حبا نبيه صلى الله عليه وسلم من حسن الصورة وكمال الخِلقة وجمال الهيئة وبهاء الطلعة ما سوف يأتي بيانه والحديث عنه إن شاء الله.
1 -
• الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في التعريف براويه:
أنس بن مالك هو: ابن النضر بن ضمضم النَّجاري الخزرجي الأنصاري، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخادمه منذ أن قدم صلى الله عليه وسلم إلى المدينة مهاجراً إلى أن لحق بالرفيق الأعلى، وهو من المكثرين من رواية الحديث، وفضائله كثيرة،
وقد توفي سنة: 93 هـ، وهو المراد عند الإطلاق، وإن كان هناك جماعة من الصحابة يسمى كل منهم أنساً.
* الوجه الثاني: في تخريجه:
الحديث أخرجه البخاري في صحيحه
(1)
، والترمذي في سننه
(2)
وقال: حديث حسن صحيح.
* الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:
(الطويل البائن): الظاهر الطول أو المفرط في الطول.
(الأبيض الأمهق): الشديد البياض.
(الآدم): الأسمر، وهي منزلة بين البياض والسواد.
(الجعد القطط): الشعر يكون فيه التواء وانقباض.
(السَّبِط): بفتح فكسر: الشعر الناعم المسترسل.
* الوجه الرابع: ذكر أنس رضي الله عنه في هذا الحديث بعض الصفات الجسدية للنبي صلى الله عليه وسلم، وليعلم قبل الخوض في شرح الحديث أن الله عز وجل قد ركب خلقة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم في أجمل صورة وأحسن هيئة، فكان كما وصفه الصحابة: بهيّ الطلعة، حسن الخِلْقة، متناسب الأعضاء، لم تر العيون شيئاً أجمل ولا أحسن منه، لا قبله ولا بعد.
وقد ذكر أنس رضي الله عنه في هذا الحديث بعض صفاته الجسدية صلى الله عليه وسلم ومن جملتها أنه «لم يكن بالطويل البائن ولا بالقصير» ، أي أنه كان متوسط القامة،
(1)
«صحيح البخاري» (3548).
(2)
«سنن الترمذي» (3623).
لم يكن طويلاً شديد الطول، كما أنه لم يكن قصيراً، وإنما بين هذا وهذا.
لكنه عليه الصلاة والسلام كان إلى الطول أقرب وأميل، بدليل أن أنساً لم ينف عنه أصل الطول، وإنما نفى عنه الطول الزائد، وهذا ما وقع مصرحاً به في بعض الأحاديث الأخرى، كقول أبي هريرة رضي الله عنه: «كان صلى الله عليه وسلم ربعةً
(1)
إلى الطول أقرب»
(2)
.
* الوجه الخامس: بين الحديث صفة لون النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «ولم يكن بالأبيض الأمهق ولا بالآدم» ، ومعناه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن شديد البياض كالأبرص، فإنه لون مستكره، كما أنه لم يكن أسمر اللون، وإنما كان أبيض بياضاً مستنيراً مخلوطاً بحمرة كما وقع التصريح به في أحاديث عديدة.
وفي صحيح البخاري
(3)
عن أنس بن مالك: «كان أزهر اللون» ، والأزهر هو: الأبيض المستنير، كما أفاده أهل اللغة والغريب
(4)
.
* الوجه السادس: وقع في مسند أحمد من حديث حميد الطويل عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أسمر اللون
(5)
، لكن أعل هذه الرواية بعض العلماء بأن حميداً تفرد بها عن أنس، ورواها بقية تلامذة أنس بلفظ أزهر اللون. كما أن كل من ذكر صفته صلى الله عليه وسلم غير أنس فقد وصفه بالبياض دون
(1)
الربعة: المتوسط بين الطول والقصر.
(2)
رواه البخاري في «الأدب المفرد» (1155)، وحسنه الألباني في صحيح الأدب المفرد، وعزاه ابن حجر للذهلي في الزهريات، وحسن إسناده في «فتح الباري» 6/ 569.
(3)
«صحيح البخاري» (3547).
(4)
«مشارق الأنوار» 1/ 312، «النهاية في غريب الحديث» 2/ 321.
(5)
«مسند أحمد» (13715).
السمرة، وهم خمسة عشر صحابياً كما قاله الحافظ العراقي
(1)
، فلا شك أن روايتهم أصح وأرجح.
وتأول بعضهم كلمة «أسمر» هنا بأن المراد بها نفي البياض الشديد كما تقدم، وعلى هذا التوجيه فلا منافاة بين هذه الرواية وبين بقية الروايات التي وصفته بالبياض.
وقال بعضهم: بأن السمرة كانت في أعضائه صلى الله عليه وسلم البارزة للشمس، والبياض فيما تحت الثياب، وكل هذه تأويلات متكلفة.
* الوجه السابع: بين الحديث صفة شعر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه: «ليس بالجعد القطط، ولا بالسبط» ، ومعناه أن شعره صلى الله عليه وسلم كان وسطاً بين الجعودة والنعومة، وهي أحسن صفات الشعر، وقد جاء في رواية أبي هريرة: أنه كان «رَجِل الشعر»
(2)
، وهو الذي كأنه رُجّل وسُرّح بالمشط، وفسره بعضهم بما فيه تثنٍ قليل.
* الوجه الثامن: وردت صفات أخرى لخِلْقة النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث أخر كثيرة، ومنها على سبيل المثال:
أنه كان «بعيد ما بين المنكبين» ، كما في حديث البراء بن عازب
(3)
، والمعنى أنه كان عريض أعلى الظهر.
(1)
«تحفة الأحوذي» 10/ 68.
(2)
«الشمائل» (12)، وصححه الألباني في «مختصر الشمائل» .
(3)
رواه البخاري في «صحيحه» (3551)، ومسلم في «صحيحه» (2337).
وأنه كان (شَثْن القدمين والكفين)، كما في حديث أنس بن مالك
(1)
، ومعناه: غليظ الأصابع وراحة اليد، لكن من غير خشونة، كما في حديث أنس ابن مالك رضي الله عنه قال:«ما مسست حريراً ولا ديباجاً ألين من كف النبي صلى الله عليه وسلم»
(2)
.
وأنه كان (كَثَّ اللحية)، كما صح ذلك في أحاديث عدة، منها حديث علي بن أبي طالب
(3)
، ومعناه: كثير شعر اللحية، كما جاء مصرحاً به في حديث جابر بن سمرة في صحيح مسلم
(4)
.
وأنه كان (ضخم الرأس) أي عظيمه في اعتدال، وفيه دليل على كمال قواه صلى الله عليه وسلم العقلية والدماغية، وذكائه وفطنته.
وأنه كان (ضخم الكراديس)، ومعناه: عظيم رؤوس العظام والمفاصل التي تلتقي فيها العظام، والمراد أن بنيته صلى الله عليه وسلم كانت قوية شديدة.
وأنه كان (طويل المَسْربة)، ومعناه: أن له شعراً دقيقاً يمتد من صدره إلى سرته.
وهذه الصفات الثلاث الأخيرة: (ضخم الرأس، ضخم الكراديس، طويل المسربة) وردت في حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه
(5)
.
وأنه كان (ضليع الفم)، ومعناه: أن فمه صلى الله عليه وسلم لم يكن صغيراً ضيقاً.
(1)
رواه البخاري في «صحيحه» (5910).
(2)
«صحيح البخاري» (3561).
(3)
«مسند أحمد» (684)، وحسن إسناده شعيب الأرناؤوط.
(4)
«صحيح مسلم» (2344).
(5)
رواه الترمذي في «الشمائل» (4)، وفي «السنن» (3637)، وقال: حسن صحيح، وصححه الألباني.
وأنه كان (أشكل العينين)، ومعناه على القول الراجح: أن بياض عينيه صلى الله عليه وسلم كان يخالطهما شيء من الحمرة.
وأنه كان (منهوس العقبين)، أي أن عقب قدمه صلى الله عليه وسلم كان قليل اللحم.
وهذه الأوصاف الثلاثة الأخيرة (ضليع الفم، أشكل العين، منهوس العقب) صحت من حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه
(1)
.
كما وصف وجهه صلى الله عليه وسلم غير واحد من الصحابة بأنه كان كالقمر، بل أحسن من القمر، كما صح ذلك في حديث البراء بن عازب
(2)
، وكعب بن مالك
(3)
، وجابر بن سمرة
(4)
وغيرهم.
و (كأن الشمس تجري في وجهه)، كما في حديث أبي هريرة
(5)
.
وسيأتي مزيد كلام - إن شاء الله - عن صفة شعره، وصفات أخرى تتعلق ببدنه الشريف صلى الله عليه وسلم.
* الوجه التاسع: ذكر الحديث بأن بعثة النبي صلى الله عليه وسلم كانت «على رأس أربعين سنة» من عمره، وقد اختلف في تفسير هذه اللفظة، فذهب بعضهم إلى أن المراد أول سنة أربعين من مولده، أي بعد أن أتم التاسعة والثلاثين من
(1)
رواه مسلم في «صحيحه» (2339).
(2)
«صحيح البخاري» (3552).
(3)
«صحيح البخاري» (4677).
(4)
رواه الترمذي في «الشمائل» (8)، وفي «السنن» (2812)، وحسنه، وصححه الحاكم في «المستدرك» (7383)، ووافقه الذهبي، وقال عبد القادر الأرناؤوط في تعليقه على «جامع الأصول» (8308): حسن.
(5)
رواه الترمذي في «سننه» (3648)، وصححه ابن حبان (6309)، وحسنه عبد القادر الأرناؤوط.
عمره، وذهب بعضهم إلى أن المراد آخر الأربعين، أي بعث بعد أن أتم الأربعين، وطعن في الحادي والأربعين، وهذا قول الجمهور.
* الوجه العاشر: بين الحديث بأن النبي صلى الله عليه وسلم أقام بمكة بعد البعثة عشر سنين، لكن المشهور في روايات الصحيحين وغيرهما عن جمع من الصحابة أن مدة مقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة بعد البعثة كانت ثلاث عشرة سنة. قال ابن الجوزي
(1)
: «بلا خلاف» . وعليه فقد اختلف في مقصود أنس بهذه الرواية، والأقرب أنها مبنية على إلغاء الكسر الزائد على العشرة، كما هي عادة العرب في الحساب.
* الوجه الحادي عشر: ذكر في الحديث بأن مدة مقام النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة بعد الهجرة كانت عشر سنوات، وهذا محل اتفاق بين العلماء جميعاً كما قال النووي رحمه الله
(2)
.
* الوجه الثاني عشر: ذكر في الحديث بأن الله عز وجل قد توفى نبيه صلى الله عليه وسلم على رأس ستين سنة، لكن المشهور في روايات الصحيحين من حديث عائشة وابن عباس أن عمر النبي صلى الله عليه وسلم عند وفاته كان ثلاثاً وستين سنة، بل صح ذلك حتى عن أنس بن مالك عند مسلم في صحيحه
(3)
، وعليه فقد حمل العلماء رواية الستين بأنها مبنية على حذف الكسر الزائد كما تقدم في مدة بقائه صلى الله عليه وسلم في مكة.
ووردت رواية أخرى في الصحيح
(1)
عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم توفي عن خمس وستين سنة!! لكنها رواية شاذة أو متأولة، قال الحافظ ابن حجر:«كل من روي عنه من الصحابة ما يخالف المشهور، وهو ثلاث وستون جاء عنه المشهور»
(2)
.
* الوجه الثالث عشر: ذكر في الحديث بأن النبي صلى الله عليه وسلم عند وفاته لم يكن في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء أي أقل من ذلك، وهذا يدل على قلة شيبه صلى الله عليه وسلم، وتمتعه بالشباب والنضارة إلى حين وفاته صلى الله عليه وسلم، وسيأتي إن شاء الله مزيد كلام على صفة شيبه صلى الله عليه وسلم في باب خاص عقده المؤلف لذلك.
* الوجه الرابع عشر: كما دل حديث أنس رضي الله عنه على اهتمام الصحابة البالغ بنقل أدق التفاصيل المتعلقة بنبينا صلى الله عليه وسلم حتى إنهم نقلوا لنا عدد شعراته البيضاء في رأسه ولحيته صلوات الله وسلامه عليه، وسيأتينا أيضاً كيف وصفوا لنا نعله وخاتمه وإزاره وقميصه وطعامه وشرابه وفاكهته وغير ذلك من التفاصيل الدقيقة المتعلقة بشخصه وبحياته صلى الله عليه وسلم.
2 - بَابُ مَا جَاءَ فِي خَاتَمِ النُّبُوَّةِ
خاتم النبوة هو إحدى العلامات التي كانت على جسده الشريف صلى الله عليه وسلم، الدالة على نبوته. وكانت هذه العلامة معروفة عند أهل الكتاب، مذكورة في كتبهم، وبها تعرَّف بعضهم على النبي صلى الله عليه وسلم كبحيرى الراهب عندما التقى بالنبي صلى الله عليه وسلم على مشارف بلاد الشام، في رحلته صلى الله عليه وسلم الأولى إليها مع عمه أبي طالب
(1)
.
كذلك تعرَّف سلمان الفارسي على النبي صلى الله عليه وسلم بهذه العلامة أول مقدمه المدينة فآمن به
(2)
.
وقد أورد الترمذي رحمه الله تحت هذا الباب جملة من الأحاديث الواردة في شأن هذا الخاتم وصفته.
2 -
عن السَّائِبَ بنَ يَزِيدَ رضي الله عنه قال: «ذَهَبَتْ بِي خَالَتِي إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ ابنَ أُختِي وَجِعٌ، فَمَسَحَ صلى الله عليه وسلم رَأسِي، وَدَعَا لِي بِالبَرَكَةِ، وَتَوَضَّأَ، فَشَرِبْتُ مِنْ وَضُوئِهِ، وَقُمْتُ خَلْفَ ظَهْرِهِ فَنَظَرْتُ إِلَى الخَاتَمِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، فَإِذَا هُوَ مِثْلُ زِرّ الحَجَلَة» .
(1)
أخرج قصة بحيرى الترمذي في «سننه» (3620)، وصححها الحاكم في «المستدرك» (4229)، وقوى إسنادها ابن حجر في «الفتح» 7/ 716.
(2)
«مسند أحمد» (22997) وقوى إسناده شعيب الأرناؤوط.
• الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في التعريف براويه:
السائب بن يزيد هو: ابن سعيد الكناني: صحابيّ جليل، من صغار الصحابة، وكان مع أبيه في حجة الوداع. استعمله عمر بن الخطاب على سوق المدينة، وهو آخر من توفي بها من الصحابة، بعد سنة تسعين.
* الوجه الثاني: في تخريجه:
الحديث أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين
(1)
.
* الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:
(زرّ الحجلة): الحجلة طائر معروف متوسط الحجم، وزرّها: بيضها، مأخوذ من قول العرب: ارتزت الجرادة إذا أدخلت ذنبها في الأرض لتبيض. وقيل: المراد بالحجلة: بيت كالقبة له أزرار كبار وعرى، ويسمى في الحجاز بالناموسية.
* الوجه الرابع: دل الحديث على إثبات خاتم النبوة بين كتفيه صلى الله عليه وسلم، والأحاديث الواردة في إثباته كثيرة. وهو كما قدمنا إحدى العلامات الدالة على أنه النبي الموعود في آخر الزمان.
* الوجه الخامس: وَصَفَ الحديثُ خاتم النبوة بأنه مثل زرّ الحجلة، وقد اختلف في تفسير هذه اللفظة كما تقدم، والمشهور أن المراد بها كبيضة الحجلة، والحجلة طائر معروف متوسط الحجم، ويؤكد هذا التفسير ما ثبت
(1)
«صحيح البخاري» (190)، «صحيح مسلم» (2345).
من حديث جابر بن سمرة أنه قال: «رأيت الخاتم عند كتفه صلى الله عليه وسلم مثل بيضة الحمامة يشبه جسده»
(1)
.
* الوجه السادس: ثبتت أحاديث أخرى في صفة خاتم النبوة منها: حديث أبي سعيد الخدري، أن خاتم النبوة كان «بَضعة ناشزة»
(2)
، أي قطعة لحم ظاهرة مرتفعة.
وفي حديث جابر بن سمرة أنه كان «غدَّة حمراء»
(3)
أي مثل الغدة يميل لونها إلى الحمرة، لأن لون جسده صلى الله عليه وسلم كان أبيضَ مخلوطاً بحمرة.
وفي حديث أبي زيد عمرو بن أخطب الأنصاري قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا زيد، ادنُ منّي فامسح ظهري» ، فمسحت ظهره، فوقعت أصابعي على الخاتم. قيل: وما الخاتم؟ قال: «شعرات مجتمعات»
(4)
، وقد حمل العلماء هذا الحديث على أن أبا زيد لم ير الخاتم بعينه، وإنما أخبر عما وصلت إليه يده، وهو الشعر الذي كان حول الخاتم متراكباً عليه.
وفي حديث عبد الله بن سرجِس قال: «نظرت إلى خاتم النبوة بين كتفيه، عند ناغض كتفه اليسرى، جُمعاً، عليه خيلان كأمثال الثآليل»
(5)
. وهذه
(1)
أخرجه مسلم في «صحيحه» (2344).
(2)
أخرجه الترمذي في «الشمائل» (22) عن أبي سعيد الخدري بسند جيد.
(3)
أخرجه الترمذي في «الشمائل» (17) وفي «السنن» (3647)، وقال: حسن صحيح، وصححه الألباني في «مختصر الشمائل» .
(4)
أخرجه أحمد في «المسند» (22889)، والترمذي في «الشمائل» (20) واللفظ له، وابن حبان في «صحيحه» (6300)، وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح. ولفظه عند أحمد وابن حبان: «شعر مجتمع على كتفه» .
(5)
أخرجه مسلم في «صحيحه» (2346).
الرواية أفادتنا أن الخاتم كان إلى جهة الكتف الأيسر أقرب، وأن عليه خيلان سوداء، وأنه مثل الجُمع، أي جُمع اليد في الهيئة والاستدارة وليس في الحجم، حتى تتوافق مع بقية الروايات الدالة على أن الخاتم كان بحجم بيضة الحمامة أو الحجلة.
* الوجه السابع: تحصل من مجموع الروايات الثابتة في صفة خاتم النبوة أنه كان قطعة لحم ناتئة من جسد النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه كان بلون جسده الشريف؛ أبيض يميل إلى الحمرة، وأن محله على ظهره بين كتفيه، إلى الكتف الأيسر أقرب، وأنه في حجم وهيئة بيضة الحمامة، حوله شعر متراكب عليه، وعليه خيلان سود تشبه الثآليل.
* الوجه الثامن: ورد في بعض الروايات أن خاتم النبوة كان كالشامة السوداء أو الخضراء، وفي بضعها: مكتوب عليه محمد رسول الله، أو سر فأنت المنصور، لكن قال الحافظ ابن حجر: بأنه لم يثبت من هذه الروايات شيء، وأن ابن حبان غفل عندما صحح بعضها
(1)
.
* الوجه التاسع: اختلف العلماء هل كان خاتم النبوة موجوداً حين ولادة النبي صلى الله عليه وسلم أو أنه وجد بعد ذلك؟ والأقوى أنه وجد بعد ذلك، فقد ورد في بعض الروايات في مسند أحمد
(2)
وغيره أن الملكين عندما جاءا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو صبي بالطائف شقا صدره وغسلاه ثم لأماه وختما عليه بخاتم
(1)
«فتح الباري» 6/ 563.
(2)
«مسند أحمد» (17648)، لكن إسناده فيه ضعف، لأنه ورد من طريق بقية بن الوليد وهو يدلس تدليس التسوية وقد عنعن، ولا يقبل حديثه حتى يصرح بالسماع في جميع طبقات السند.
النبوة. قال الحافظ ابن حجر: «مقتضى هذه الأحاديث أن الخاتم لم يكن موجوداً حين ولادته، ففيه تعقيب على من زعم أنه ولد به»
(1)
، انتهى كلامه رحمه الله.
* الوجه العاشر: في شرب السائب بن يزيد من وضوء النبي صلى الله عليه وسلم دليل على مشروعية التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه، كالتبرك بالماء الفاضل من وضوئه صلى الله عليه وسلم، والتبرك بريقه وشعره وعرقه ونحوه. وفي السنة والسيرة وقائع كثيرة تشهد لذلك، وهو من خصائصه صلى الله عليه وسلم التي لا يقاس عليه فيها غيره.
* الوجه الحادي عشر: ثبت في صحيح البخاري
(2)
أن السائب بن يزيد رضي الله عنه بلغ الرابع والتسعين سنة وهو ممتع بقواه البدنية والعقلية، وكل هذا كان ببركة مسح النبي صلى الله عليه وسلم رأسه وشربه من وضوئه ودعائه له، ولفظ رواية البخاري: عن الجعيد بن عبدالرحمن قال: رأيت السائب بن يزيد، ابن أربع وتسعين، جلداً معتدلاً، فقال: قد علمتُ: ما متعتُ به سمعي وبصري إلا بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن خالتي ذهبت بي إليه، فقالت: يا رسول الله، إن ابن أختي شاك، فادع الله له، قال:«فدعا لي» .
(1)
«فتح الباري» 6/ 562.
(2)
«صحيح البخاري» (3540).
3 - بَابُ مَا جَاءَ فِي شَعْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
-
تقدم في الباب الأول بيان صفة شعر النبي صلى الله عليه وسلم، وفي هذا الباب ذكر المصنف جملة من الأحاديث المتعلقة بمقدار طول شعره صلى الله عليه وسلم وطريقة ترجيله وغير ذلك من الأخبار.
3 -
عَنْ أَنَس بن مالك رضي الله عنه: «أَنَّ شَعْرَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كانَ إِلَى أَنصَافِ أُذُنَيْهِ» .
• الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في التعريف براويه:
أنس بن مالك تقدم التعريف به في الحديث رقم 1.
* الوجه الثاني: في تخريجه:
الحديث أخرجه مسلم في صحيحه
(1)
.
* الوجه الثالث: دلّ الحديث على أن شعر النبي صلى الله عليه وسلم كان يبلغ طوله إلى أنصاف أذنيه. لكن هذه لم تكن الحال الوحيدة لشعره صلى الله عليه وسلم، فقد وردت أحاديث أخرى تفيد بأن شعره صلى الله عليه وسلم كان يبلغ أحياناً منكبيه، كما في حديث
(1)
«صحيح مسلم» (2338).
البراء بن عازب رضي الله عنه قال: «ما رأيت من ذي لِمَّة
(1)
أحسن في حلة حمراء من رسول الله صلى الله عليه وسلم شعره يضرب منكبيه»
(2)
.
وثبت من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم: «كان له شعر فوق الجُمَّة ودون الوَفْرة»
(3)
.
والجُمّة: الشعر يسقط على المنكبين، والوَفْرة: الشعر إذا وصل شحمة الأذن، كما في النهاية لابن الأثير.
وهذه الروايات وإن كانت متعارضة في الظاهر، لكن ليس الأمر كذلك، فقد جمع العلماء بينها بأجوبة أقواها وأرجحها: أن شعره صلى الله عليه وسلم كان يختلف طولاً وقصراً من وقت لآخر، فكان يطول أحياناً ويقصر أحياناً، فكل صحابي وصف ما رأى، قال الإمام النووي رحمه الله: إن ذلك يرجع لاختلاف الأوقات، فإذا غفل صلى الله عليه وسلم عن تقصيره بلغ المنكب، وإذا قصره كان إلى أنصاف الأذنين، فكان يقصر ويطول بحسب ذلك
(4)
.
وبنحوه قال الإمام ابن كثير: «ولا منافاة بين الحالين، فإن الشعر تارة يطول، وتارة يقصر منه، فكل حكى بحسب ما رأى»
(5)
.
وقال الحافظ ابن حجر: «كون شعره صلى الله عليه وسلم كان إلى قرب منكبيه كان غالب
(1)
(اللمة) بالكسر: الشعر الذي يجاوز شحمة الأذن، فإذا بلغ المنكبين فهي جُمة، كما في مختار الصحاح.
(2)
«صحيح البخاري» (3551)، «صحيح مسلم» (2337) واللفظ له.
(3)
«سنن الترمذي» (1755)، وصححه، وصححه الألباني في «مختصر الشمائل» (22).
(4)
«شرح صحيح مسلم» للنووي 15/ 91.
(5)
«البداية والنهاية» 8/ 412.
أحواله، وكان ربما طال حتى يصير ذؤابة ويتخذ منه عقائص وضفائر، كما أخرج أبو داود والترمذي بسند حسن من حديث أم هانئ قالت قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وله أربع غدائر، وفي لفظ أربع ضفائر .. فحاصل الخبر أن شعره طال حتى صار ذوائب فضفره أربع عقائص، وهذا محمول على الحال التي يبعد عهده بتعهده شعره فيها وهي حالة الشغل بالسفر ونحوه والله أعلم»
(1)
.
* الوجه الرابع: سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله عن إطالة شعر الرأس وتوفيره هل هو من السنة أو لا؟ فأجاب: «لا. ليس من السنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذه حيث إن الناس في ذلك الوقت يتخذونه، ولهذا لما رأى صبياً قد حَلَقَ بعض رأسه قال: «احلقه كله أو اتركه كله»
(2)
، ولو كان الشعر مما ينبغي اتخاذه لقال: أبقه. وعلى هذا فنقول: اتخاذ الشعر ليس من السنة، لكن إن كان الناس يعتادون ذلك فافعل، وإلاَّ فافعل ما يعتاده الناس .. فالصواب: أنه تَبَعٌ لعادة الناس، إن كنت في مكان يعتاد الناس فيه اتخاذ الشعر فاتخذه وإلا فلا»
(3)
.
* * *
4 -
عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُسْدِلُ شَعْرَهُ، وَكَانَ المُشْرِكُونَ يَفْرِقُونَ رُءُوسَهُمْ، وَكَانَ أَهْلُ الكِتَابِ يُسْدِلُونَ رُؤُوسَهُمْ، وَكَانَ يُحِبُّ مُوَافَقَةَ أَهْلِ الكِتَابِ فِيمَا لَمْ يُؤْمَرْ فِيهِ بِشَيْءٍ، ثُمَّ فَرَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأْسَهُ» .
(1)
«فتح الباري» 10/ 360.
(2)
«سنن أبي داود» (4195)، وصححه الألباني وشعيب الأرناؤوط.
(3)
«لقاء الباب المفتوح» ص 22.
• الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في التعريف براويه:
ابن عباس: هو الصحابي الجليل عبد الله بن العباس بن عبد المطلب القرشي الهاشمي، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العلماء الفقهاء المكثرين من رواية الحديث، ولد بمكة قبل الهجرة بثلاث سنين، وتوفي بالطائف بعد أن كف بصره، سنة: 68 هـ، وفضائله ومناقبه كثيرة.
* الوجه الثاني: في تخريجه:
الحديث أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين
(1)
بنحوه.
* الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:
(يسدل شعره)، سَدْلُ الشعر معناه: إرساله على الجبين ومن ورائه، وتركه على هيئته مسترسلاً.
(يفرقون رؤوسهم)، فرق الرأس معناه: فرق الشعر وقسمته من وسط الرأس، وكشفه عن الجبين بأن يجعله فرقتين، كل فرقة ذؤابة.
* الوجه الرابع: معنى الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما قدم المدينة مهاجراً كان في بداية أمره يسدل شعره، ويتركه مرسلاً على حاله، لأن اليهود كانوا يفعلون ذلك، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحب موافقتهم فيما لم يؤمر فيه بشيء، من باب التأليف لهم، لأنهم كانوا أهل كتاب وأقرب إلى الإيمان من عبدة الأوثان، فلمَّا استمروا في عنادهم ولم يفد معهم الاستئلاف والموافقة استحب النبي صلى الله عليه وسلم مخالفتهم، فخالفهم في أشياء كثيرة، منها مسألة سدل
(1)
«صحيح البخاري» (5918)، «صحيح مسلم» (2336).
الشعر، وصبغه، والصلاة في النعال، وإعفاء اللحى، واستقبال القبلة، حتى قال أهل الكتاب: والله ما يدع محمد شيئاً نعمله إلا خالفنا فيه!!
وقال بعض العلماء: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب موافقة أهل الكتاب في بداية الأمر، لأنهم كانوا متمسكين ببقايا من شرائع الرسل، فكانت موافقتهم أحبّ إليه من موافقة عباد الأوثان، فلما أسلم غالب عباد الأوثان بعد فتح مكة، أحبّ مخالفة باقي الكفار من أهل الكتاب.
* الوجه الخامس: ذكر العلماء بأن كلاً من سدل الشعر وفرقه جائز، بدليل أن الصحابة رضوان الله عليهم استمروا على فعل الأمرين، فمنهم من كان يسدل شعره، ومنهم من كان يفرقه، ولم يعب بعضهم على بعض
(1)
.
وقال جماعة من العلماء: الفرق أفضل لأنه آخر ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو لا يكون إلا مع كثرة الشعر
(2)
.
والذي يظهر أن الأمرين سيان، وإنما فرق النبي صلى الله عليه وسلم من أجل مخالفة أهل الكتاب. واليوم لم يعد أهل الكتاب يختصون بالسدل حتى تستحب مخالفتهم، فلم يعد فرق الشعر مطلوباً ولا مستحباً، كما كان عليه الأمر في زمنه صلى الله عليه وسلم، والله تعالى أعلم.
(1)
«المفهم» للقرطبي 6/ 125.
(2)
«التمهيد» لابن عبد البر 6/ 74.
4 - بَابُ مَا جَاءَ فِي تَرَجُّلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
-
ذكر الترمذي رحمه الله تحت هذا الباب الأحاديث المتعلقة بترجيل النبي صلى الله عليه وسلم شعره، وبيان بعض آداب الترجيل، وسيأتي بيان معناه بعد قليل إن شاء الله.
5 -
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «كُنْتُ أُرَجِّلُ رَأسَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وأنا حائض» .
• الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في التعريف براويه:
عائشة هي: أم المؤمنين، عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وأحب نسائه إليه، ولدت بعد البعثة بأربع سنين أو خمس، وكانت من فقهاء الصحابة ومن المكثرات من رواية الحديث، توفيت في المدينة ودفنت في البقيع، سنة: 58 هـ، وعندما توفي النبي صلى الله عليه وسلم كان عمرها ثمان عشرة سنة.
* الوجه الثاني: في تخريجه:
الحديث أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين
(1)
بنحوه.
(1)
«صحيح البخاري» (2028، 5925)، «صحيح مسلم» (297).
* الوجه الثالث: شرح ألفاظه:
(ترجيل الشعر): تسريحه وتنظيفه وتحسينه كما في النهاية لابن الأثير.
* الوجه الرابع: أورد المصنف هذا الحديث مختصراً، وقد أخرجه الشيخان بلفظ أطول عن عائشة رضي الله عنها قالت:«كان النبي صلى الله عليه وسلم يصغي إليّ رأسه وهو مجاورٌ في المسجد، فأرجّله وأنا حائض» ، هذا لفظ البخاري.
وفي رواية عند أبي داود: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون معتكفاً في المسجد، فيناولني رأسه من خلل الحجرة فأغسل رأسه وأنا حائض»
(1)
.
* الوجه الخامس: في الحديث دلالة على عناية النبي صلى الله عليه وسلم بتسريح شعره ونظافته، وقد وردت أحاديث أخرى في الباب لا تخلو من ضعف، منها حديث عائشة رضي الله عنها قالت:«كان لا يفارق مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم سواكه ومشطه، وكان ينظر في المرآة إذا سرح لحيته»
(2)
.
* الوجه السادس: دلّ الحديث على استحباب العناية بنظافة الشعر وتسريحه وتحسينه، اقتداء وتأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم، حيث إنه لم يكن يترك ذلك في زمن الاعتكاف مع قصره، واشتغاله بالعبادة ففي غيره من باب أولى.
وقد وردت أحاديث قولية أخرى في الحث على العناية بالشعر، منها حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«من كان له شعر، فليكرمه»
(3)
.
(1)
«سنن أبي داود» (2469)، وصحح إسناده شعيب الأرناؤوط.
(2)
أخرجه الطبراني في «الأوسط» (6367)، وضعف إسناده الهيثمي في «مجمع الزوائد» 5/ 157، وابن حجر في «الفتح» 10/ 367.
(3)
أخرجه أبو داود في «سننه» (4163) بإسناد حسنه ابن حجر في «الفتح» 10/ 368.
ومنها حديث عطاء بن يسار، أخبره قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فدخل رجل ثائر الرأس واللحية، فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده أن اخرج - كأنه يعني إصلاح شعر رأسه ولحيته - ففعل الرجل، ثم رجع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أليس هذا خيراً من أن يأتي أحدكم ثائر الرأس كأنه شيطان»
(1)
.
* الوجه السابع: يلحق بالعناية بتسريح شعر الرأس العناية بتسريح شعر اللحية بالنسبة للرجال، فقد ورد في «شمائل الترمذي» عن أنس بن مالك قال:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر دهن رأسه وتسريح لحيته»
(2)
، وهو وإن كان ضعيف الإسناد لكن القياس الصحيح يقوم مقامه.
* الوجه الثامن: عناية المسلم بنظافة شعره وتسريحه، لا تعني استغراقه في ذلك، حتى يصبح ديدنه وشغله الشاغل، بل الواجب أن يكون حال المسلم وسطاً بين الإفراط والتفريط، ويشهد لذلك ما أخرجه المصنف في الشمائل والسنن، من حديث عبد الله بن مغفل، قال:«نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الترجّل إلا غباً»
(3)
. أي لا يبالغ في العناية بتسريح شعره فهذا أليق بالنساء.
* الوجه التاسع: السنة في تسريح الشعر أن يبدأ بشقه الأيمن أولاً، كما دل عليه حديث عائشة رضي الله عنها في الصحيحين: قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم «يعجبه التيمن، في تنعله، وترجله، وطهوره، وفي شأنه كله»
(4)
.
(1)
أخرجه مالك في «الموطأ» 2/ 949 بإسناد مرسل صحيح السند كما قال ابن حجر في «الفتح» 10/ 367.
(2)
«الشمائل» (33)، وضعف إسناده العراقي في «طرح التثريب» 4/ 175.
(3)
سيأتي تخريجه في الحديث التالي.
(4)
«صحيح البخاري» (168) واللفظ له، و» صحيح مسلم» (268).
6 -
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ رضي الله عنه، قَالَ:«نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عنِ التَّرَجُّلِ إِلَّا غِبّاً» .
• الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في التعريف براويه:
عبد الله بن مُغفل هو: ابن عبد غنم المزني، أبو سعيد، وأبو زياد، صحابي جليل، شهد بيعة الشجرة، وكان أحد الذين بعثهم عمر بن الخطاب ليفقهوا الناس بالبصرة، مات بالبصرة سنة: 59 هـ.
* الوجه الثاني: في تخريجه:
الحديث أخرجه أبو داود
(1)
، والنسائي
(2)
، والترمذي
(3)
وقال: حسن صحيح، وصححه ابن حبان
(4)
، وصححه: الألباني وشعيب الأرناؤوط بشواهده.
* الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:
(غباً): حيناً بعد حين.
* الوجه الرابع: دل الحديث على كراهة اشتغال المسلم بترجيل شعره والمبالغة في العناية به، حتى يصبح شغله الشاغل، وإنما الواجب التوسط في
الأمر، بحيث لا يهمله بالكلية ولا يشتغل به دوماً، وإنما يكون وسطاً بين هذا وهذا.
وقد تقدم معنا في شرح الحديث السابق ذكرُ بعض الأحاديث الدالة على استحباب العناية بنظافة الشعر، وتسريحه وتحسينه، دون إفراط ولا تفريط.
5 - بَابُ مَا جَاءَ فِي شَيْبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
-
أي بيان ما ورد في صفة شيب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأخبار وما يتعلق بخضابه.
7 -
عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: قُلْتُ لِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه: هَلْ خَضَبَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: «لَم يَبْلُغْ ذَلِكَ، إِنَّمَا كَانَ شَيْباً فِي صُدْغَيْهِ، وَلَكِنْ أَبُو بَكرٍ رضي الله تعالى عنه خَضَبَ بالحِنَّاء والكَتَم «.
• الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول في التعريف براويه:
أنس بن مالك رضي الله عنه تقدم التعريف به في الحديث رقم 1.
* الوجه الثاني: في تخريجه:
الحديث أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين
(1)
بنحوه، وليس في البخاري ذكر خضاب أبي بكر.
* الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:
(الشيب): تحول الشعر من لونه الأصلي إلى البياض، وهو يحصل لأسباب مختلفة، منها التقدم في السن ودوام الأحزان وغير ذلك.
(1)
«صحيح البخاري» (3550)، «صحيح مسلم» (2341).
(خضب): الخضب: تلوين الشعر بحمرة أو غيرها.
(صُدغيه): الصُّدغ: ما بين العين والأذن.
(الحناء والكتم): ورق نباتي يصبغ به، الأول يجعل الشعر لونه أحمر، والثاني يجعله أسود مائلاً إلى الحمرة، والصبغ بهما معاً يجعله بين السواد والحمرة كما في الفتح
(1)
.
* الوجه الرابع: دل الحديث على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يخضب شعره، لأن شيبه كان قليلاً في جهة الصدغين لا يحتاج معه إلى خضاب.
وقد ورد في بعض ألفاظ الحديث عند مسلم أن الشيب كان أيضاً في عنفقته وفي مفرق رأسه صلى الله عليه وسلم، ولفظه:«إنما كان البياض في عنفقته وفي الصدغين وفي الرأس نُبَذٌ»
(2)
.
* الوجه الخامس: صحت أحاديث أخرى تدل على قلة شيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، منها حديث أنس في البخاري:«قُبض - رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء»
(3)
.
وحديث جابر بن سمرة، أنه سئل عن شيب النبي صلى الله عليه وسلم فقال:«كان إذا دهن رأسه لم ير منه شيء، وإذا لم يدهن رئي منه»
(4)
.
فكل هذه الأحاديث وغيرها تدل على أن الشيب لم يكن كثيراً في شعر
(1)
«فتح الباري» 10/ 355.
(2)
«صحيح مسلم» (2341).
(3)
«صحيح البخاري» (3548).
(4)
«صحيح مسلم» (2344).
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما كان على سواده وحسنه حتى توفاه الله عز وجل.
* الوجه السادس: اختلف العلماء هل خضب رسول الله صلى الله عليه وسلم شعره أو لا؟ فذهب جماعة إلى نفي ذلك استناداً إلى حديث أنس في الباب.
وذهب جماعة إلى إثبات الخضاب مستدلين بأحاديث، منها: حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصبغ بالصفرة
(1)
، وفي رواية:«أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصفّر لحيته بالورس والزعفران»
(2)
.
ومنها حديث عثمان بن عبد الله بن موهب، قال: دخلت على أم سلمة رضي الله عنها «فأخرجت إلينا شعراً من شعر النبي صلى الله عليه وسلم مخضوباً»
(3)
.
وقد جمع الإمام النووي بين هذه الأحاديث بأن النبي صلى الله عليه وسلم صبغ في وقت وتركه في معظم الأوقات، فأخبر كل بما رأى
(4)
. وهذا معناه أن عدم علم أنس رضي الله عنه بخضاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعني عدم وقوع ذلك مطلقاً، خاصة وقد أثبت غيره ذلك.
* الوجه السابع: أخرج الترمذي في الشمائل من حديث أبي جحيفة رضي الله عنه قال: قالوا: يا رسول الله نراك قد شبت. قال: «قد شيبتني هود وأخواتُها»
(5)
.
(1)
«صحيح البخاري» (166).
(2)
«سنن أبي داود» (4210) وإسناده قوي كما قال شعيب الأرناؤوط.
(3)
«صحيح البخاري» (5897).
(4)
«شرح صحيح مسلم» 15/ 95.
(5)
«الشمائل» (42)، وصححه الألباني في «مختصر الشمائل» .
وأخرج من حديث ابن عباس، أن أبا بكر الصديق قال: يا رسول الله! قد شِبتَ؟، فقال صلى الله عليه وسلم:«شيبتني (هود) و (الواقعة) و (المرسلات) و (عم يتساءلون) و (إذا الشمس كورت)»
(1)
.
فهذه الأحاديث الصحيحة تدل على الأسباب التي لأجلها شاب شعر النبي صلى الله عليه وسلم، وهي اشتمال السور المذكورة على ذكر أهوال يوم القيامة وأحوال السعداء والأشقياء والأمر بالاستقامة وغير ذلك مما يوجب استيلاء سلطان الخوف، لا سيما خوفه صلى الله عليه وسلم على أمته وعظيم شفقته عليهم ورأفته بهم.
* الوجه الثامن: ذهب جمع من العلماء إلى أن صبغ الشيب وتغيير لونه سنة، سواء للرجال أو النساء، لما ثبت من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً:«إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم»
(2)
.
وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على مشيخة من الأنصار بيض لحاهم، فقال:«يا معشر الأنصار حمروا أو صفروا وخالفوا أهل الكتاب»
(3)
.
وذهب بعض أهل العلم إلى أن الصبغ مباح وليس بسنة، بدليل أن الصحابة كان بعضهم يصبغ كأبي بكر وعمر، وكان بعضهم لا يصبغ كعلي بن أبي طالب وأبيّ بن كعب وسَلَمَة بن الأكوع وأنس وغيرهم.
(1)
«الشمائل» (41)، وصححه الألباني في «مختصر الشمائل» ، وقال البوصيري في «الإتحاف» (2/ 171):«رواه أبو يعلى والترمذي في الشمائل ورواته ثقات» .
(2)
«صحيح البخاري» (3462)، «صحيح مسلم» (2103).
(3)
رواه أحمد في «المسند» (22283)، وحسن إسناده الحافظ في «الفتح» 10/ 354.
وقال الحافظ ابن حجر: «الخضاب مطلقاً أولى، لأنه فيه امتثال الأمر في مخالفة أهل الكتاب إلا إن كان من عادة أهل البلد ترك الصبغ، وأن الذي ينفرد بدونهم بذلك يصير في مقام الشهرة، فالترك في حقه أولى»
(1)
.
(1)
«فتح الباري» 10/ 355.
6 - بَابُ مَا جَاءَ فِي كُحْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
-
أي باب ما ورد في صفة كحل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأحاديث، وسنذكر بعد قليل معنى الكحل، وأن منه ما يستعمل للزينة ومنه ما يستعمل للاستشفاء.
8 -
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ خَيْرَ أَكْحَالِكُمُ الإِثْمِدُ يَجْلُو البَصَرَ وَيُنْبِتُ الشَّعْرَ» .
• الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في التعريف براويه:
ابن عباس تقدم التعريف به في حديث رقم 4.
* الوجه الثاني: في تخريجه:
الحديث أخرجه أبو داود
(1)
، والنسائي
(2)
، وابن ماجه
(3)
، وصححه جمع من العلماء منهم: ابن حبان
(4)
، والحاكم
(5)
، وابن القطان
(6)
، وأحمد شاكر، والألباني. ووردت أحاديث أخرى في معناه تشهد له.
(1)
«سنن أبي داود» (3878).
(2)
«سنن النسائي» (5113).
(3)
«سنن ابن ماجه» (3497).
(4)
«صحيح ابن حبان» (6072).
(5)
«مستدرك الحاكم» (8248).
(6)
«بيان الوهم والإيهام» 2/ 180.
* الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:
(أكحالكم): الكحل: ما يوضع في العين مما ليس بسائل، من أجل الزينة أو الاستشفاء.
(الإثمد): بكسر الهمزة، حجر معدني معروف، أسود يميل إلى الحمرة، يكتحل به بعد طحنه جيداً.
(يجلو البصر): أي يحسن النظر، لتنظيفه العين ودفع المواد الضارة عنها.
* الوجه الرابع: دل الحديث على استحباب الاكتحال بالإثمد لكثرة فوائده الصحية للعين، وقد أشار إلى استحبابه غير واحد من أهل العلم كالحافظ ابن حجر والمناوي
(1)
.
* الوجه الخامس: صح في حديث جابر بن عبد الله تقييد الاكتحال بالإثمد بما قبل النوم، ولفظه:«عليكم بالإثمد عند النوم فإنه يجلو البصر وينبت الشعر»
(2)
.
قال ابن القيم في زاد المعاد: «وفي الكحل حفظ لصحة العين، وله عند النوم مزيد فضل لاشتمالها على الكحل، وسكونها عقيبه عن الحركة المضرة بها، وخدمة الطبيعة لها» .
(1)
«فتح الباري» 10/ 158، «التيسير بشرح الجامع الصغير» 2/ 139.
(2)
رواه ابن ماجه (3496)، والترمذي في «الشمائل» (50)، وحسنه شعيب الأرناؤوط بشواهده في تعليقه على «سنن ابن ماجه» .
* الوجه السادس: أخرج الترمذي في الشمائل
(1)
وغيره من حديث ابن عباس: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت له مكحلة يكتحل منها كل ليلة. وفي رواية: قبل أن ينام ثلاثة في هذه، وثلاثة في هذه» ، وقد حسنه: الترمذي
(2)
، وأحمد شاكر وشعيب الأرناؤوط، وعبد القادر الأرناؤوط، خلافاً لتضعيف الألباني له.
* الوجه السابع: سئل الشيخ ابن باز رحمه الله عن حكم وضع الكحل للرجال؟ فأجاب بقوله: «الكحل مشروع للرجال والنساء على حدٍ سواء، فكونه يكحل عينيه فلا بأس، والكحل طيب نافع، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكتحل، فلا بأس بذلك»
(3)
.
قلت: وقد بوب الإمام المنذري في كتابه الترغيب والترهيب فقال: «باب الترغيب في الكحل بالإثمد للرجال والنساء» .
وقال الشيخ الشرقاوي: «ينبغي أن يقصد المكتحل باكتحاله المعالجة والدواء، لا مجرد الزينة كالنساء، ولذا ذهب الإمام مالك إلى كراهة الاكتحال للرجال مطلقاً إلا للتداوي»
(4)
.
(1)
«الشمائل» للترمذي (50).
(2)
«سنن الترمذي» (1757).
(3)
«مجموع فتاوى» ابن باز 29/ 48.
(4)
«شرح مختصر الشمائل» للشرقاوي ص 129.
7 - بَابُ مَا جَاءَ فِي لِبَاسِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
-
أي بيان ما ورد في صفة لباس رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأحاديث وما يتعلق باللباس من أحكام وآداب. وقد ذكر بعض العلماء أن اللباس تعتريه
الأحكام الخمسة، فقد يكون واجباً كاللباس الذي يستر العورة من العيون، ومندوباً كالثوب الحسن في العيدين والجُمَع، ومحرماً كلبس الحرير للرجال، ومكروهاً كلبس الثياب الرثة دائماً للغني، ومباحاً وهو ما عدا ذلك.
9 -
عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «كَانَ أَحَبَّ الثِّيَابِ إِلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم يلبسه القَمِيصُ» .
• الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في التعريف براويه:
أم سَلَمَة: هي أم المؤمنين، هند بنت أبي أمية بن المغيرة القرشية المخزومية، إحدى زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، أسلمت قديماً، وكانت من
أكمل النساء عقلاً وخلقاً، تعد من فقهاء الصحابة، توفيت في المدينة، سنة: 61 هـ.
* الوجه الثاني: في تخريجه:
الحديث أخرجه أبو داود
(1)
، والترمذي
(2)
وحسنه، وابن ماجه
(3)
، وصححه الحاكم
(4)
، والألباني، وقال شعيب الأرناؤوط: حديث حسن.
* الوجه الثالث: في غريبه:
(القميص): هو الثوب والجلباب المعروف، له كمان تدخل فيهما اليدين، وفتحة للعنق.
* الوجه الرابع: قال العلماء: وإنما كان القميص أحب الثياب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه أستر للبدن من الإزار والرداء اللذين يحتاجان إلى كثير من الربط والإمساك، كما أنه مريح في الحركة، خفيف في لبسه وخلعه.
* الوجه الخامس: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لبس أنواعاً مختلفة من اللباس، ولم يقتصر على صنف واحد، فقد ثبت أنه لبس القميص، ولبس الإزار والرداء، ولبس الجبة، ولبس البردة، ولبس القباء، ولبس الفروة، ولبس السراويل وغير ذلك
(5)
.
* الوجه السادس: ذكر العلماء أن الأصل في اللباس الحل والإباحة، وأن للمسلم لبس ما يشاء إلا ما ورد النهي عنه، كتحريم الحرير للرجال، أو
(1)
«سنن أبي داود» (4025).
(2)
«سنن الترمذي» (1762).
(3)
«سنن ابن ماجه» (3575).
(4)
«مستدرك الحاكم» (7406).
(5)
ينظر «زاد المعاد» 1/ 138
ما يكشف العورة، أو ما فيه تشبه بالنساء والكفار مما هو مختص بهم، أو ما كان لباس شهرة.
وقد دل على هذا الأصل نصوص الكتاب والسنة، كقوله تعالى:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32]، وقوله صلى الله عليه وسلم:«كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا، في غير إسراف ولا مخيلة» ، وقال ابن عباس:«كلْ ما شئت، والبسْ ما شئت، ما أخطأتك اثنتان: سرفٌ، أو مخيلة»
(1)
.
* * *
10 -
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا اسْتَجَدَّ ثَوْباً سَمَّاهُ بِاسْمِهِ عِمَامَةً أَوْ قَمِيصاً أَوْ رِدَاءً، ثُمَّ يَقُولُ:«اللَّهُمَّ لَكَ الحَمْدُ كَمَا كَسَوْتَنِيهِ، أَسْأَلُكَ خَيْرَهُ وَخَيْرَ مَا صُنِعَ لَهُ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهِ وَشَرِّ مَا صُنِعَ لَهُ» .
• الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في التعريف براويه:
أبو سعيد الخدري: هو الصحابي الجليل سعد بن مالك بن سِنَان الخزرجي الأنصاري الخدري، وخدره بطن من الأنصار، كان من حفاظ الحديث المكثرين، ومن العلماء الفضلاء العقلاء، توفي سنة: 74 هـ.
(1)
«صحيح البخاري» ، كتاب اللباس، باب قول الله تعالى:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} 7/ 140.
* الوجه الثاني: في تخريجه:
الحديث أخرجه أبو داود
(1)
، والترمذي
(2)
وحسنه، وصححه ابن حبان
(3)
، والنووي
(4)
، وحسنه الحافظ ابن حجر بشواهده
(5)
.
* الوجه الثالث: قوله «سماه باسمه» ، مقصود هذه العبارة على الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عندما يدعو بهذا الدعاء يقول: اللهم لك الحمد كما كسوتني هذه العمامة أو هذا القميص، يسمّيه باسمه مستحضراً منَّة الله عز وجل عليه، وليس المراد أن يطلق على الكساء الجديد اسماً أو العمامة الجديدة اسماً.
* الوجه الرابع: دل الحديث على استحباب دعاء المسلم بهذا الدعاء عندما يكرمه الله تبارك وتعالى بلباس جديد، قميصاً كان أو عمامة أو غير ذلك.
* * *
11 -
عَنْ عَوْنِ بنِ أَبِي جُحَيْفَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ:«رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ حَمْرَاءُ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى بَرِيقِ سَاقَيْهِ» .
• الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في التعريف براويه:
أبو جحيفة هو: وهب بن عبد الله بن مسلم السوائي، صاحب رسول الله
(1)
«سنن أبي داود» (4520).
(2)
«سنن الترمذي» (1767).
(3)
«صحيح ابن حبان» (5420).
(4)
«الأذكار» (45).
(5)
«نتائج الأفكار» 1/ 122.
-صلى الله عليه وسلم، توفي النبي صلى الله عليه وسلم وهو مراهق، وولي بيت المال والشرطة لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، كانت وفاته بالكوفة، سنة: 74 هـ رضي الله عنه.
* الوجه الثاني في تخريجه:
الحديث أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين بلفظ أطول
(1)
.
* الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:
(الحلة): إزار ورداء، ولا تكون الحلة إلا اسماً للثوبين معاً.
* الوجه الرابع: دل لبس النبي صلى الله عليه وسلم للحلة الحمراء على جواز لبس الأحمر، ولو كان قانياً، وهو مذهب الشافعي وغيره
(2)
، وقد صحت أحاديث أخرى في لباس النبي صلى الله عليه وسلم للحلة الحمراء، كحديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال:«كان النبي صلى الله عليه وسلم مربوعاً، وقد رأيته في حلة حمراء، ما رأيت شيئاً أحسن منه» ، أخرجاه في الصحيحين
(3)
.
وخالف بعض العلماء كابن قيم الجوزية، وذهبوا إلى تحريم لبس الأحمر الخالص على الرجال، مستدلين بأدلة من أصحها: ما ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس المعصفر
(4)
، والعصفر يصبغ صباغاً أحمر، قالوا: وما ورد من لبس النبي صلى الله عليه وسلم للحلة الحمراء، فهذه لم تكن خالصة الحمرة، وإنما كانت منسوجة بخطوط حمر مع الأسود، كسائر البرود اليمانية.
(1)
«صحيح البخاري» (376)، «صحيح مسلم» (503).
(2)
«أشرف الوسائل» ص 52.
(3)
«صحيح البخاري» (5848)، «صحيح مسلم» (2337)، واللفظ للبخاري.
(4)
«صحيح مسلم» (2077، 2078).
ونوقش هذا: بأنه لا دليل عليه لغة ولا شرعاً، وظاهر الأحاديث يدل على أن الحلة كانت كلها حمراء
(1)
.
قالوا: وأما استدلال المانعين بالنهي عن المعصفر، فقد اختلف في علة هذا النهي، فقيل: المعصفر من زينة النساء، وقيل: النهي خاص بالمعصفر وليس كل أحمر، وقيل: تحمل أحاديث النهي على الكراهة، وأحاديث الحلة الحمراء على الجواز.
والحاصل أن لبس الأحمر فيه خلاف كبير بين العلماء، وقد حكى الحافظ ابن حجر في الفتح
(2)
سبعة أو ثمانية أقوال في المسألة، ونَسَبَ إلى جمع من الصحابة والتابعين القول بالجواز مطلقاً، فمثل هذه المسألة مما لا ينبغي التشديد فيها، لقوة الخلاف وتعارض الأدلة.
ويعجبني في هذه المسألة قول الإمام الطبري: «الذي أراه جواز لبس الثياب المصبغة بكل لون، إلا أني لا أحب لبس ما كان مشبعاً بالحمرة، ولا لبس الأحمر مطلقاً ظاهراً فوق الثياب، لكونه ليس من لباس أهل المروءة في زماننا، فإن مراعاة زي الزمان من المروءة ما لم يكن إثماً، وفي مخالفة الزي ضرب من الشهرة»
(3)
.
فيفهم من كلام الإمام الطبري؛ أن الأصل في لبس الأحمر الجواز، إلا إذا خالف عرف الناس فيمنع لأجل الشهرة، والعرف قد يتغير من زمان إلى زمان، وليس فيه حكم مضطرد.
(1)
«أشرف الوسائل» ص 52.
(2)
«فتح الباري» 10/ 305.
(3)
«فتح الباري» 10/ 306.
* الوجه الخامس: صحت النصوص في الترغيب في لبس الثياب البيضاء، كحديث ابن عباس مرفوعاً:«البسوا من ثيابكم البياض، فإنها من خير ثيابكم، وكفنوا فيها موتاكم»
(1)
.
وورد تعليل الاستحباب في حديث سمرة بن جندب مرفوعاً: «البسوا البياض فإنها أطهر وأطيب» ، رواه الترمذي وصححه
(2)
، وقال ابن حجر:«إسناده صحيح»
(3)
.
فهذا الحديث يوضح سبب الترغيب في لبس الأبيض، لأنه أطهر، لأن النجاسة تظهر إذا وقعت عليه، ولأنه أقرب للتواضع وعدم الكبر والخيلاء.
* الوجه السادس: أما لبس بقية الألوان، فقد تقدم قبل قليل كلام الطبري في جواز لبس كل الألوان، ولم أقف على ما يمنع من لبس لون بعينه، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لبس ألواناً مختلفة، فقد لبس الأبيض، ولبس الأسود، ولبس الأحمر، والأخضر، والأصفر، ولبس المخطط، والله تعالى أعلم.
(1)
رواه أبو داود (3878)، والترمذي (994)، وصححه، وصححه ابن حبان (5423)، وابن القطان في «بيان الوهم والإيهام» 2/ 18، وابن الملقن في «البدر المنير» 4/ 671، وأحمد شاكر في تحقيق «المسند» (2219) وغيرهم.
(2)
«سنن الترمذي» (2810).
(3)
«فتح الباري» 3/ 135.
8 - بَابُ مَا جَاءَ فِي خُفِّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
-
أي بيان ما ورد في خف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأحاديث، وبيان صفته. والخف معروف، وهو عادة ما يصنع من الجلد الرقيق.
12 -
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُريدة، عن أبيه:«أن النَّجَاشِي أهدى النبيَّ صلى الله عليه وسلم خُفَّيْنِ أَسْوَدَيْنِ سَاذَجَيْنِ، فَلَبِسَهُمَا، ثُمَّ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَيْهِمَا» .
• الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في التعريف براويه:
بُريدة: هو الصحابي الجليل بريدة بن الحُصيب بن عبد الله الأسلمي رضي الله عنه، أسلم قبل بدر ولم يشهدها، واستعمله النبي صلى الله عليه وسلم على صدقات قومه. وسكن المدينة، وانتقل إلى البصرة، ثم إلى مرو فمات بها، سنة: 63 هـ. له 167 حديثاً.
* الوجه الثاني: في تخريجه:
الحديث أخرجه أبو داود
(1)
، والترمذي
(2)
وحسنه، وابن ماجه
(3)
، وحسنه الألباني وشعيب الأرناؤوط بالشواهد.
* الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:
(النجاشي): لقب ملوك الحبشة، واسم هذا النجاشي: أَصحمة على وزن أربعة، وقد أكرمه الله فأسلم.
(خُفين): مثنى خُف، وهو ما يلبس في الرجل، مصنوع من جلد رقيق.
(ساذجين): لا نقش فيهما، ولا شعر عليهما.
* الوجه الرابع: دل الحديث على فوائد منها:
1 -
بيان صفة خف النبي صلى الله عليه وسلم وأنه كان ساذجاً، لا نقش فيه ولا شعر عليه.
2 -
قبول هدايا أهل الكتاب، خاصة إذا كان فيه تأليف لهم على الإسلام، وكانت هدية النجاشي هذه قبل أن يسلم، كما أفاده ابن العربي
(1)
.
3 -
أن الأصل في الأشياء المجهولة الطهارة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسأل عن أصل هذين الخفين، هل هما من جلد حيوان مذكى أو ميتة!!
4 -
جواز المسح على الخفين في الوضوء وهو إجماع.
(1)
«منتهى السؤل» 1/ 586.
9 - بَابُ مَا جَاءَ فِي نَعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
-
أي بيان الأحاديث الواردة في صفة النعل الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبسه. وقد ذكر بعض العلماء: أن لبس النعال من الأمور المستحبة، ومن سنن الأنبياء، وفي صحيح مسلم من حديث جابر بن عبدالله مرفوعاً:«استكثروا من النعال، فإن الرجل لا يزال راكباً ما انتعل»
(1)
، ومعناه كما قال النووي:«أن المنتعل شبيه بالراكب في خفة المشقة عليه، وقلة تعبه وسلامة رجله مما يعرض في الطريق من خشونة وشوك وأذى ونحو ذلك»
(2)
.
13 -
عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: قُلْتُ لِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه: كَيْفَ كَانَ نَعْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قال: «لهما قِبَالان» .
• الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في التعريف براويه:
أنس بن مالك تقدم التعريف به في الحديث رقم 1.
* الوجه الثاني: في تخريجه:
الحديث أخرجه البخاري في صحيحه
(1)
، ولفظه من طريق قتادة، حدثنا أنس رضي الله عنه:«أن نعل النبي صلى الله عليه وسلم كان لها قبالان» .
* الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:
(النعل): الحذاء الذي يلبس في القدم، ليقيها من الأرض.
(لهما قبالان): أي لكل واحد من النعلين قبالان، تثنية قِبال بكسر القاف، وهما سيران، يضع أحدهما بين إبهام رجله والتي تليها، ويضع الآخر بين الإصبع الوسطى والتي تليها، ويجمع السيرين إلى السير الذي على ظهر القدم، وهو الشراك، ويسمى أيضاً الشِسْع.
* الوجه الرابع: في الحديث بيان صفة نعل النبي صلى الله عليه وسلم، وفي هذا عناية الصحابة الفائقة بنقل ورواية كل ما يتعلق بالنبي صلى الله عليه وسلم وأحواله وصفاته وأدواته ولباسه، حتى إنهم وصفوا شكل نعله وهيئته.
* الوجه الخامس: ورد في صفة نعلي النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً أنهما كانا جرداوين، كما في صحيح البخاري
(2)
، أي لا شعر عليهما. وأنهما كانا مخصوفين
(3)
، أي مخروزين، أي أن جلدهما مخيط.
* الوجه السادس: ذكر العلماء أن الأصل في لبس النعال الحل، وللمرء لبس ما يناسبه منها، دون أن يتقيد بصفة أو هيئة محددة.
(1)
«صحيح البخاري» (5857).
(2)
«صحيح البخاري» (3107).
(3)
ورد هذا في «مسند أحمد» (18736)، و» الشمائل» للترمذي (81)، وصححه الألباني في «مختصر الشمائل» بشواهده.
* الوجه السابع: صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يخصف - يخيط -ـ نعله بنفسه، فعن عائشة رضي الله عنها، أنها سُئلت ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعمل في بيته؟ قالت:«كان يخيط ثوبه، ويخصف نعله، ويعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم»
(1)
. وهذا من كمال تواضعه صلى الله عليه وسلم.
* الوجه الثامن: صح عن جماعة من الصحابة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن ينتعل الرجل قائماً
(2)
.
وذكر العلامة المناوي أن النهي للإرشاد، لأن لبسها قاعداً أسهل وأمكن، ومنه أخذ بعضهم تخصيص النهي بما في لبسه قائماً تعبٌ كالتاسومة والخف، لا كالقباقب.
* الوجه التاسع: صح عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن المشي في نعل واحدة، فقال:«لا يمشين أحدكم في نعل واحدة، لينعلهما جميعاً أو ليحفهما جميعاً»
(3)
.
قال العلماء: هذا مكروه تنزيهاً حيث لا عذر له، لما في مشيته في نعل واحدة من التشويه والمثلة، وربما أدى إلى اختلال توازنه وسقوطه
(4)
.
(1)
رواه أحمد في «المسند» (26239)، وصححه ابن حبان (5677)، وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين، كما في تحقيقه لصحيح ابن حبان.
(2)
رواه أبو داود (4135) وغيره، وصححه الألباني وغيره، ينظر «الصحيحة» (719).
(3)
رواه البخاري (5856)، ومسلم (2097) في «الصحيحين» .
(4)
«شرح صحيح مسلم» للنووي 14/ 75.
10 - بَابُ مَا جَاءَ فِي ذِكْرِ خَاتَمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
-
أي ذكر الأحاديث الواردة في الخاتم الذي كان يلبسه صلى الله عليه وسلم في يده، وبيان صفته، وإنما زاد لفظ «ذكر» هنا دون بقية التراجم ليكون علامة مميزة بين خاتم النبوة وهو البضعة الناشزة بين كتفيه صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم الحديث عنه، وبين الخاتم الذي كان يلبسه في يده ويختم به.
14 -
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ خَاتَمُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ وَرِقٍ وَكَانَ فَصُّهُ حَبَشياً» .
• الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في التعريف براويه:
أنس بن مالك تقدم التعريف به في الحديث رقم 1.
* الوجه الثاني: في تخريجه:
الحديث أخرجه مسلم
(1)
، وهو في البخاري
(2)
بلفظ: «اتخذ خاتماً من فضة» ، ليس فيه ذكر الفَصّ.
(1)
«صحيح مسلم» (2094).
(2)
«صحيح البخاري» (5877).
* الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:
(ورق): الورق بكسر الراء: الفضة.
(فصّه): الفص بفتح الفاء وكسرها
(1)
: ما يركَّب في الخاتم من الأحجار الكريمة وغيرها.
(حبشياً): أي أن فصّ الخاتم كان من حجر الحبشة، أي مجلوباً من بلاد الحبشة، وقيل المراد: أن لون الفص كان كلون الحبشة أحمر يميل إلى السواد.
* الوجه الرابع: في الحديث بيان صفة خاتم النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه كان مصنوعاً من فضة عليه حجر حبشي. وقد صح في حديث آخر لأنس رضي الله عنه؛ أن خاتم النبي صلى الله عليه وسلم كان من فضه فصّه منه
(2)
. وهذا بظاهره مخالف لحديث الباب، وقد جُمع بينهما بالتعدد، أي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له خاتمان، أحدهما فصه حبشي، والآخر فصه منه.
* الوجه الخامس: صح من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن خاتم النبي صلى الله عليه وسلم كان منقوشاً عليه ثلاثة أسطر: (محمد) سطر، و (رسول) سطر، و (الله) سطر
(3)
.
وقد ذكر بعض العلماء أن كتابتها كانت من أسفل إلى فوق، يعني أن لفظ
(1)
كما في «لسان العرب» 7/ 66، وقال الصفدي في «تصحيح التصحيف» 1/ 406: الكسر لغة رديئة، والصواب فتح الفاء.
(2)
«صحيح البخاري» (5870).
(3)
أخرجه البخاري (3106).
الجلالة في أعلى الأسطر الثلاثة، ومحمد في أسفلها، كي لا يعلو على اسم الله شيء، لكن قال ابن حجر:«لم أر التصريح بذلك في شيء من الأحاديث»
(1)
.
وقد نبه الحافظ ابن حجر أيضاً إلى أن هذه الكلمات الثلاث «لم تكن كتابتها على السياق العادي، لأن ضرورة الاحتياج إلى أن يختم به يقتضي أن تكون الأحرف المنقوشة مقلوبة ليخرج الختم مستوياً»
(2)
.
* الوجه السادس: ورد في الصحيحين سبب اتخاذ النبي صلى الله عليه وسلم للخاتم، فعن أنس بن مالك قال: لما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتب إلى الروم، قيل له: إنهم لا يقرءون كتاباً إلا مختوماً، قال:«فاتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتماً من فضة، كأني أنظر إلى بياضه في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، نقشه محمد رسول الله»
(3)
.
وفي قوله: «كأني أنظر إلى بياضه في يد رسول الله» دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلبس هذا الخاتم، وهذا يضعف رواية أنه صلى الله عليه وسلم كان يختم به ولا يلبسه
(4)
.
* الوجه السابع: دل حديث الباب على جواز لبس خاتم الفضة للرجال وهو إجماع. ولا يكره للمرأة لبسه أيضاً عند جماهير العلماء خلافاً للخطابي الذي كره الفضة للنساء لأنه شعارٌ للرجال، ورده النووي وقال «هذا ضعيف أو باطل لا أصل له، والصواب أنه لا كراهة في لبسها خاتم الفضة»
(5)
.
(1)
«فتح الباري» 10/ 329.
(2)
المصدر السابق.
(3)
«صحيح البخاري» (2938)، «صحيح مسلم» (2092).
(4)
أخرج هذه الرواية الترمذي في «الشمائل» (89)، وضعفها الألباني في «مختصر الشمائل» ص 57، على أن بعض الشراح تأولها بأنه لا يلبسه أي: دائماً.
(5)
«شرح صحيح مسلم» للنووي 14/ 67.
* الوجه الثامن: ذهب بعض العلماء إلى كراهة لبس الخاتم للرجال مطلقاً إلا لحاجة، مستدلين بحديث في سنن أبي داود
(1)
أن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى عن لبس الخاتم إلا لذي سلطان» ، لكنه حديث ضعيف لا يصلح للاحتجاج به
(2)
، وقد كان الصحابة يلبسون الخواتم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، لذلك فالصحيح الذي عليه جمهور العلماء جواز لبسه دون كراهة
(3)
.
* الوجه التاسع: ورد في سنن أبي داود
(4)
من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء وضع خاتمه» . وهو حديث مختلف في صحته، فقد ضعفه أبو داود والنسائي والدارقطني، وصححه الترمذي والمنذري وابن دقيق العيد
(5)
.
والحديث وإن كان مختلفاً في صحته لكن الأصول العامة تقتضي وجوب تنزيه ذكر الله تعالى عن الأماكن القذرة كالحمامات وبيوت الخلاء. لذلك جاء في فتاوى اللجنة الدائمة برقم (2245): «لا يجوز أن يدخل الشخص الحمام ومعه مصحف، بل يجعل المصحف في مكان لائق به؛ تعظيماً لكتاب الله واحتراماً له، لكن إذا اضطر إلى الدخول به خوفاً من أن يسرق إذا تركه خارجاً جاز له الدخول به للضرورة» .
(1)
«سنن أبي داود» (4049).
(2)
الحديث ضعفه جمع من العلماء منهم: ابن عبد البر في «الاستذكار» 8/ 395، وابن حجر في «التلخيص الحبير» 2/ 387، والألباني في «ضعيف الجامع الصغير» (6072) وغيرهم.
(3)
ينظر «التمهيد» لابن عبد البر 17/ 101، «شرح صحيح مسلم» للنووي 14/ 67.
(4)
«سنن أبي داود» (19).
(5)
ينظر «التلخيص الحبير» 1/ 314.
وبمثله يمكن أن يقال في الدخول إلى الحمامات بالكتب والنقود التي فيها ذكر الله تعالى.
* الوجه العاشر: فائدة: يحرم لبس خاتم الذهب على الرجال مطلقاً، وهو إجماع، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لبسه في بداية الأمر ثم نزعه وألقاه، وقال:«والله لا ألبسه أبداً»
(1)
.
(1)
«صحيح البخاري» (5866)، «صحيح مسلم» (2091).
11 - بَابُ مَا جَاءَ فِي أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كَانَ يَتَخَتَّمُ فِي يَمِينِهِ
أي بيان الأحاديث الواردة في أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلبس الخاتم في يمينه، وكأن الترمذي يرجح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتختم في اليمين فحسب، لكن سوف نورد ما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يتختم في شماله أيضاً.
15 -
عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَلْبَسُ خَاتَمَهُ فِي يمينه» .
• الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في التعريف براويه:
علي بن أبي طالب: هو الصحابي الجليل أمير المؤمنين أبو الحسن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف القرشي الهاشمي، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوج ابنته فاطمة الزهراء، وأحد الخلفاء الأربعة والعشرة المبشرين بالجنة، ومن أوائل من أسلم، فضائله كثيرة، وقد توفي رضي الله عنه شهيداً سنة: 40 هـ بالكوفة.
* الوجه الثاني: في تخريجه:
الحديث أخرجه أبو داود
(1)
، وصححه ابن حبان
(2)
، والألباني، وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده قوي.
* الوجه الثالث: دل الحديث على أن السنة لبس الخاتم في اليد اليمنى تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم، وقد أورد الترمذي في الشمائل أحاديث عدة في تختم النبي صلى الله عليه وسلم في اليمين غير هذا الحديث، وكأنه بهذا يرجح التختم في اليد اليمنى، وهو ظاهر من تبويبه.
لكن صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه تختم في اليسار أيضاً كما ثبت ذلك في صحيح مسلم
(1)
من حديث أنس بن مالك قال: «كان خاتم النبي صلى الله عليه وسلم في هذه، وأشار إلى الخنصر من يده اليسرى» .
قال النووي رحمه الله: «أجمعوا على جواز التختم في اليمين وعلى جوازه في اليسار، ولا كراهة في واحدة منهما، واختلفوا أيتهما أفضل، فتختم كثيرون من السلف في اليمين، وكثيرون في اليسار»
(2)
.
قلت: كلام النووي يدل على أن الأمر فيه سعة، بلا بأس من التختم في اليمين أو الشمال، وكلاهما جائز، والحمد لله.
* الوجه الرابع: الأفضل جعل خاتم الرَّجُل في خنصر اليد كما دل عليه حديث أنس السابق في صحيح مسلم.
وأما التختم في بقية الأصابع فقد ثبت من حديث علي بن أبي طالب قال: «نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتختم في إصبعي هذه أو هذه» ، قال: «فأومأ إلى
الوسطى والتي تليها»
(1)
، والمقصود بالتي تليها السبابة كما بينتها رواية أبي داود
(2)
.
وهذا النهي خاص بالرجال، وهو محمول على كراهة التنزيه، وأما المرأة فلها التختم في الأصابع كلها، أفاده النووي
(3)
والطيبي
(4)
.
(1)
«صحيح مسلم» (2095).
(2)
«سنن أبي داود» (4225)، وصحح إسنادها ابن الملقن في «التوضيح» 28/ 85.
(3)
«شرح صحيح مسلم» للنووي 14/ 71.
(4)
«شرح مشكاة المصابيح» 9/ 2914.
12 - بَابُ مَا جَاءَ فِي صِفَةِ سَيْفِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
-
أي بيان الأحاديث الواردة في صفة سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحاله التي كان عليها. وقد ذكر شرّاح الشمائل: أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت له سيوف متعددة، ذكروا منها تسعة، فكان له سيف يقال له:(المأثور)، وسيف يقال له:(البتار)، وسيف يقال له:(القضيب) .. إلى آخره.
16 -
عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَتْ قَبِيعَةُ سَيْفِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم من فضة» .
• الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في التعريف براويه:
أنس تقدم التعريف به في الحديث رقم 1.
* الوجه الثاني: في تخريجه:
الحديث أخرجه أبو داود
(1)
، والترمذي
(2)
، والنسائي
(3)
بلفظ أطول، من طريق جرير بن حازم عن قتادة عن أنس به، وهذا إسناد صحيح، لكن أعله جماعه من الحفاظ كأبي داود والنسائي بتفرد جرير بن حازم به، وقالوا: الصواب أنه عن قتادة عن سعيد بن أبي الحسن البصري به مرسلاً.
لكن بين الإمام الترمذي أن جريراً لم يتفرد به، فقد تابعه همّام فرواه عن قتادة عن أنس به. وكذا تابعه أبو عوانه كما في رواية الطحاوي فرواه عن قتادة عن أنس به.
والحديث قال عنه الترمذي: حسن غريب، وقال عبد الحق الإشبيلي: الذي أسنده ثقة وهو جرير بن حازم. وصححه الألباني وذكر له شواهد عدة تقويه، وصحح أسانيد بعضها الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير، فصح الحديث إن شاء الله تعالى
(1)
.
* الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:
(القبيعة): بفتح القاف، قطعة من الحديد أو الفضة تكون على طرف مقبض السيف، تمنع اليد من انزلاق السيف منها.
* الوجه الرابع: دل الحديث على جواز تحلية السيف وسائر آلات الحرب بالقليل من الفضة. وأما التحلية بالذهب فغير مباحة، والحديث الذي أخرجه الترمذي في الشمائل؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح وعلى سيفه ذهب وفضة، حديث ضعيف كما قال شراح الشمائل كابن حجر المكي وعلي القاري
(2)
، وقال الذهبي:«هذا منكر، فما علمنا في حلية سيفه صلى الله عليه وسلم ذهباً»
(3)
.
(1)
ينظر «نصب الراية» 4/ 232، «البدر المنير» 1/ 635، «التلخيص الحبير» 1/ 210، «إرواء الغليل» 3/ 305.
(2)
ينظر «أشرف الوسائل» ص 162، و» جمع الوسائل» 1/ 156.
(3)
«ميزان الاعتدال» 2/ 333.
* الوجه الخامس: اتفق العلماء على تحريم لبس الذهب على الرجال مطلقاً كخاتم من ذهب ونحوه، وإباحة لبس خاتم الفضة، وأما النساء فيجوز لهن لبس الذهب والفضة كليهما
(1)
.
* الوجه السادس: اتفق العلماء على تحريم استعمال آنية الذهب والفضة الخالصة سواء على الرجال أو النساء، وألحق بهما أكثر العلماء بقية الأدوات المستعملة كالمكحلة والمشط والقلم ونحوها.
واختلفوا في الأدوات المطلية والمموهة بالذهب والفضة، فبعضهم منعه مطلقاً، وبعضهم فصّل وقال: إن كان الطلاء خفيفاً يسيراً، أي مجرد لون وتمويه فلا بأس به، وإن كان الأفضل تركه، وأما إن كانت كمية الذهب والفضة كثيرة بحيث يمكن فصلها عن الإناء، ويكون لها جرم فلا يجوز، ويكون حكمه حكم الذهب والفضة الخالصة
(2)
.
(1)
«شرح صحيح مسلم» للنووي 14/ 32.
(2)
ينظر «الموسوعة الكويتية» 1/ 119، «فقه السنة» 3/ 489، «الفقه الإسلامي» للزحيلي 4/ 2633.
13 - بَابُ مَا جَاءَ فِي صِفَةِ دِرْعِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
-
مقصود الترمذي بيان صفة لبسه صلى الله عليه وسلم للدرع وليس صفة الدرع نفسه، لأنه أورد في الباب حديثين في صفة لبس الدرع، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لبس درعين أحدهما فوق الآخر. وقال بعض الشراح: أراد الترمذي أن يبين اتخاذ النبي صلى الله عليه وسلم الدرع ولبسه في الحرب، والله أعلم.
وقد ذكر شراح الشمائل أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت له سبعة أدرع، وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم توفي ودرعه مرهونة عند يهودي على شعير اشتراه منه
(1)
.
17 -
عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ العَوَّامِ رضي الله عنه قال: كان على النبي صلى الله عليه وسلم يَوْمَ أُحُدٍ دِرْعَانِ فَنَهَضَ إِلَى الصَّخْرَةِ فَلَمْ يَسْتَطِعْ، فَأَقْعَدَ طَلْحَةَ تَحْتَهُ وَصَعِدَ النبي صلى الله عليه وسلم حَتَّى اسْتَوَى عَلَى الصَّخْرَةِ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: «أوجب طلحة» .
• الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في التعريف براويه:
الزبير بن العوام هو: الصحابي الجليل أبو عبد الله، الزبير بن العوام بن
(1)
«صحيح البخاري» (2916).
خويلد القرشي الأسدي، ابن عمة النبي صلى الله عليه وسلم وحواريّه، وأحد كبار وفضلاء الصحابة، والعشرة المبشرين بالجنة، ومن أوائل من أسلم، توفي شهيداً سنة: 36 هـ.
* الوجه الثاني: في تخريجه:
الحديث أخرجه الترمذي في سننه وقال: حسن غريب
(1)
، وصححه ابن حبان
(2)
، والحاكم
(3)
، والألباني.
* الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:
(الدرع): قَمِيص مصنوع من حلقات من الحديد المتشابك، يلبس وقاية من السّلاح.
* الوجه الرابع: قوله: «أوجب طلحة» أي وجبت له الجنة بسبب عمله هذا، أو بما فعله في ذلك اليوم - يوم أحد - فإنه خاطر بنفسه، وفدى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعلها وقاية له حتى طعن ببدنه وجرح جميع جسده حتى شلّت يده، وجرح ببضع وثمانين جراحة
(4)
.
* الوجه الخامس: (طلحة) في الحديث هو: طلحة بن عبيد الله القرشي التيمي، أحد فضلاء الصحابة السابقين إلى الإسلام، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، استشهد سنة: 36 هـ في معركة الجمل.
(1)
«سنن الترمذي» (1692).
(2)
«صحيح ابن حبان» (6979).
(3)
«مستدرك الحاكم» (5602).
(4)
«مرقاة المفاتيح» 9/ 3955.
* الوجه السادس: دل الحديث على فضل طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه، وفضائله كثيرة.
* الوجه السابع: في لبس النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد درعين دليل على مشروعية الأخذ بالأسباب، والتوقي من الأعداء والتأهب للحرب، وأن هذا لا ينافي كمال التوكل على الله سبحانه والتسليم له، كما جاء في الحديث:«اعقلها وتوكل» .
(1)
(1)
أخرجه الترمذي في «السنن» (2519) من حديث أنس بن مالك، وجود إسناده الحافظ العراقي في «المغني عن حمل الأسفار» ص 1640، وله شاهد من حديث عمرو بن أمية صححه ابن حبان (731).
14 - بَابُ مَا جَاءَ فِي صِفَةِ مِغْفَرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
-
أراد المصنف بهذا الباب بيان أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ المغفر ولبسه في الحرب تأهباً لها.
18 -
عن أنس بن مالك رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم دَخَلَ مَكَّةَ عَامَ الفَتْحِ وعليه مغفرٌ، فلما نزعه قيل لَهُ: هَذَا ابْنُ خَطَلٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الكَعْبَةِ. فَقَالَ: اقْتُلُوهُ» . قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَبَلَغَنِي أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ مُحْرِماً.
•
…
الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في التعريف براويه:
أنس بن مالك تقدم التعريف به في الحديث رقم 1.
الوجه الثاني في تخريجه:
الحديث أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين
(1)
.
* الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:
(المغفر): زَرَدٌ ينسج من الحديد على قدر الرَّأْس يلبس تَحت القلنسوة، وهي تسبغ على العنق فتقيه من ضربات السيوف والرماح ونحوها، وهو
(1)
«صحيح البخاري» (1846)، «صحيح مسلم» (1357).
معدود من جملة السلاح، لأن السلاح يطلق على ما يقتل به وعلى ما يدفع به.
* الوجه الرابع: عندما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة ودخلها أَمَّنَ كل من فيها إلا ستة نفر أهدر دماءهم لكثرة ما ألحقوه من الأذى الشديد بالمسلمين، منهم ابن خطل هذا، فإنه كان قد أسلم، ثم قتل رجلاً من المسلمين وارتد مشركاً وهرب إلى مكة، وكان له جاريتان تغنيان بهجاء النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين
(1)
.
* الوجه الخامس: دخول النبي صلى الله عليه وسلم مكة وعليه المغفر دليل على جواز دخول مكة بغير إحرام لمن لم يرد الحج أو العمرة، سواء دخلها لحاجة تتكرر أو لا تتكرر.
وما نقله الترمذي عن ابن شهاب أنه قال: «وبلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يومئذ محرماً» ، يشهد له ما أخرجه مسلم في صحيحه من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «دخل مكة يوم فتح مكة وعليه عمامة سوداء بغير إحرام»
(2)
.
* الوجه السادس: في لبس النبي صلى الله عليه وسلم للمغفر دليل على مشروعية الأخذ بالأسباب والتوقي من الأعداء والتأهب للحرب، وأن هذا لا ينافي كمال التوكل على الله سبحانه والتسليم له، كما جاء في الحديث:«اعقلها وتوكل» .
(3)
* الوجه السابع: قدمنا قبل قليل أنه ورد في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم
(1)
«إرشاد الساري» 3/ 317.
(2)
«صحيح مسلم» (1358).
(3)
أخرجه الترمذي في «السنن» (2519)، وتقدم الكلام عليه في نهاية شرح الباب السابق.
دخل مكة وعليه عمامة سوداء، وهذه الرواية لا تعارض حديث الباب لاحتمال أنه صلى الله عليه وسلم كان أوّل دخوله على رأسه المغفر، ثم أزاله ولبس العمامة بعد ذلك، فحكى كل راوٍ ما رآه.
15 - بَابُ مَا جَاءَ فِي عِمَامَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
-
أي بيان الأحاديث الواردة في صفة عمامة رسول الله صلى الله عليه وسلم. والعمامة هي ما يلفه الناس على رؤوسهم من الثياب، وهي منتشرة في كثير من البلدان والشعوب، يلبسونها وقاية من الحر والبرد أو جزءاً من الزينة. وجاء في المواهب اللدنية للقسطلاني:«لم تكن عمامته صلى الله عليه وسلم بالكبيرة التي يؤذي حملها ويضعفه ويجعله عرضة للآفات، أو بالصغيرة التي تقصر عن وقاية الرأس من الحر والبرد، بل وسطاً بين ذلك»
(1)
.
وورد في الصحيح ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اعتم يرخي عمامته بين كتفيه، ففي صحيح مسلم من حديث عمرو بن حريث قال:«كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، وعليه عمامة سوداء، قد أرخى طرفيها بين كتفيه»
(2)
.
* * *
19 -
عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما قال: «دخل النبي صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ يَوْمَ الفَتْحِ وَعَلَيْهِ عِمَامةٌ سوداء» .
(1)
«المواهب اللدنية» للقسطلاني 2/ 184.
(2)
«صحيح مسلم» (1359).
• الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في التعريف براويه:
جابر بن عبد الله هو: الصحابي الجليل أبو عبد الله جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام الخزرجي الأنصاري، أحد كبار الصحابة وفضلائهم وعلمائهم، ومن المكثرين من رواية الحديث، توفي بالمدينة، سنة: 74 هـ.
* الوجه الثاني: في تخريجه: الحديث أخرجه مسلم في صحيحه
(1)
.
* الوجه الثالث: قدمنا في الباب السابق وجه الجمع بين هذا الحديث وحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة وعلى رأسه المغفر، فلا حاجة لتكراره هنا.
* الوجه الرابع: دخول النبي صلى الله عليه وسلم مكة وعليه عمامة دليل على جواز دخول مكة بغير إحرام لمن لم يرد الحج أو العمرة، سواء دخلها لحاجة تتكرر أو لا تتكرر، وقد تقدمت الإشارة إلى هذه المسألة في الباب السابق.
* الوجه الخامس: دل الحديث على جواز لبس الثياب السوداء وإن كان الأبيض أفضل، كما دل عليه حديث:«البسوا من ثيابكم البياض فإنها من خير ثيابكم، وكفنوا فيها موتاكم»
(2)
.
والنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن من هديه لبس الثياب السوداء باستمرار وإنما كان يلبسها أحياناً، قال ابن القيم رحمه الله: «وفي القصة: أنه دخل مكة، وعليه
(1)
«صحيح مسلم» (1358).
(2)
أخرجه أبو داود في «سننه» (3878)، والترمذي في «سننه» (994)، وقال: حسن صحيح، وصححه ابن حبان (5423)، وابن القطان في «بيان الوهم والإيهام» 2/ 180، وابن الملقن في «البدر المنير» 4/ 671 وغيرهم.
عمامة سوداء، ففيه دليل على جواز لبس السواد أحياناً، ومن ثم جعل خلفاء بني العباس لبس السواد شعاراً لهم، ولولاتهم، وقضاتهم، وخطبائهم، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يلبسه لباساً راتباً، ولا كان شعاره في الأعياد والجمع والمجامع العظام البتة، وإنما اتفق له لبس العمامة السوداء يوم الفتح دون سائر الصحابة، ولم يكن سائر لباسه يومئذ السواد، بل كان لواؤه أبيض»
(1)
.
* الوجه السادس: وأما لباس بقية الألوان فقد تقدم كلام الإمام الطبري في الباب السابع في جواز لبس الألوان كلها وأن المسألة خاضعة للعرف. ولم أقف على ما يمنع من لبس لون بعينه إلا الأحمر وقد تقدم الخلاف فيه في الباب السابع، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لبس ألواناً مختلفة، فقد لبس الأبيض، ولبس الأسود، ولبس الأحمر، ولبس الأخضر، ولبس الأصفر، ولبس المخطط، والله تعالى أعلم.
* الوجه السابع: اختلف العلماء في لبس العمامة التي تلف على الرأس، فقال بعضهم إن لبسها سنة اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، ورجحت اللجنة الدائمة أنها من المباحات وليست بسنة، والأولى أن يلبس الإنسان ما اعتاد أهل بلده لبسه على رؤوسهم
(2)
.
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: «لباس العمامة ليس بسنة، لكنه عادة، والسنة لكل إنسان أن يلبس ما يلبسه الناس ما لم يكن محرماً بذاته، وإنما قلنا هذا؛ لأنه لو لبس خلاف ما يعتاده الناس لكان ذلك شهرة، والنبي
-صلى الله عليه وسلم نهى عن لباس الشهرة، فإذا كنا في بلد يلبسون العمائم لبسنا العمائم، وإذا كنا في بلد لا يلبسونها لم نلبسها، وأظن أن بلاد المسلمين اليوم تختلف، ففي بعض البلاد الأكثر فيها لبس العمائم، وفي بعض البلاد بالعكس، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يلبس العمامة؛ لأنها معتادة في عهده، ولهذا لم يأمر بها بل نهى عن لباس الشهرة مفيداً إلى أن السنة في اللباس أن يتبع الإنسان ما كان الناس يعتادونه إلا أن يكون محرماً»
(1)
.
قلت: وردت أحاديث عدة في فضل لبس العمامة، وكلها أحاديث ضعيفة وبعضها أوهى من بعض كما ذكر الشيخ الألباني رحمه الله
(2)
.
16 - بَابُ مَا جَاءَ فِي صِفَةِ إِزَارِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
-
أي بيان الأحاديث الواردة في صفة إزاره صلى الله عليه وسلم وكذلك ردائه، والإزار: ما يستر أسفل البدن، والرداء: ما يستر أعلاه.
20 -
عن أبي بردة، عن أبيه قَالَ: أَخْرَجَتْ إِلَيْنَا عَائِشَةُ رضي الله عنها كِسَاءً مُلَبَّداً وَإِزَاراً غَلِيظاً فَقَالَتْ: «قُبِضَ رُوحُ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم في هذين» .
• الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في التعريف براويه:
أبو بردة هو أحد علماء التابعين من أهل الكوفة، وأبوه هو: الصحابي الجليل عبدالله بن قيس بن سليم، المعروف بأبي موسى الأشعري، أحد كبار الصحابة وفضلائهم وعلمائهم، وأحد الشجعان الولاة الفاتحين، أسلم قديماً، وشهد المشاهد، وكانت وفاته بالكوفة، سنة: 44 هـ
* الوجه الثاني: في تخريجه:
الحديث أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين
(1)
من حديث أبي بردة عن أبيه به.
(1)
«صحيح البخاري» (3108)، «صحيح مسلم» (2080).
* الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:
(كساء): هو الرداء الذي يستر أعلى البدن ضد الإزار.
(ملبداً): مرقعاً.
(غليظاً): خشناً.
* الوجه الرابع: قال العلامة الباجوري: «كانت عائشة رضي الله عنها حفظت هذا الكساء والإزار اللذين قبض فيهما رسول الله صلى الله عليه وسلم لأجل التبرك بهما، وقد كان عندها أيضاً جبة طيالسية كان صلى الله عليه وسلم يلبسهما، فلما ماتت عائشة أخذتها أختها أسماء، فكانت عندها تستشفى بها المرضى، كما أخبرت بذلك أسماء في حديثها في مسلم»
(1)
، انتهى كلامه.
قلت: وفي هذا تبرك الصحابة رضي الله عنهم بآثار النبي صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه، كالتبرك بريقه صلى الله عليه وسلم وشعره وعرقه، وهو من خصائصه صلى الله عليه وسلم التي لا يقاس عليه فيها غيره، بمعنى أنه لا يجوز التبرك بآثار غيره من الأولياء والصالحين على القول الصحيح كما قرره الإمام الشاطبي
(2)
وغيره.
* الوجه الخامس: دل الحديث على تواضع رسول الله صلى الله عليه وسلم في لباسه بالرغم من إقبال الدنيا عليه بحذافيرها في آخر عمره، وربما لبس صلى الله عليه وسلم هذا الكساء موافقة لا عن قصد، فقد كان عليه الصلاة والسلام يلبس ما وجد.
وأما تعمد ترقيع الثياب الجديدة كما يفعل بعض المتصوفة فهذا من الجهل بالسنة ومن تلبيس الشيطان عليهم، قال العلامة ابن الجوزي رحمه
(1)
حاشية الباجوري على «الشمائل» ص 228، وينظر «صحيح مسلم» حديث (2069).
(2)
ينظر «الاعتصام» للشاطبي 1/ 482.
(1)
.
* الوجه السادس: يؤخذ من الحديث أيضاً أنه ينبغي للإنسان أن يجعل آخر عمره محلاً لترك الزينة والترفه كما أفاده العلامة الباجوري رحمه الله
(2)
.
* * *
21 -
عَنِ الأَشْعَثِ بْنِ سُلَيْمٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَمَّتِي تُحَدِّثُ، عن عمّها قال: بَيْنَا أَنَا أَمشِي بِالمَدِينَةِ إِذَا إِنْسَانٌ خَلْفِي يَقُولُ: «ارْفَعْ إزارك فإنه أتقى» ، فَإِذَا هُوَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا هِيَ بُرْدَةٌ مَلْحَاءُ، قَالَ:«أَمَا لَكَ فِيَّ أُسْوَةٌ» . فَنَظَرْتُ فَإِذَا إِزَارُهُ إلى نصف ساقيه.
(1)
«تلبيس إبليس» لابن الجوزي ص 193.
(2)
حاشية الباجوري على «الشمائل» ص 228.
• الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في التعريف براويه:
راوي الحديث هو: عبيد أو عبدة بن خالد، ويقال ابن خلف المحاربي، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، معدود في الكوفيين.
* الوجه الثاني: في تخريجه:
الحديث أخرجه أحمد في المسند
(1)
بنحوه، وضعف إسناده الشيخ شعيب الأرناؤوط وأعله بجهالة عمة أشعث بن سليم بن أبي الشعثاء، فإنها لا تعرف، لكن صححه الألباني بشواهده كما في مختصر الشمائل.
* الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:
(بردة ملحاء): بفتح الميم، والملحة بالضم بياض يخالطه سواد، وكأن الصحابي أراد أن مثل هذه البردة ليست من الثياب الفاخرة ولا خيلاء فيها.
(ارفع إزارك) أي عن الأرض.
(فإنه أتقى) أي أقرب للتقوى وأبعد عن الخيلاء، وفي بعض النسخ:(أتقى وأبقى)، أي أكثر دواماً للإزار، وفي بعضها:(أنقى وأبقى) أي أنظف، لأن الإزار إذا جُرّ على الأرض ربما تعلقت به نجاسة فتلوثه.
* الوجه الرابع: دل الحديث على استحباب أن يكون الإزار إلى أنصاف الساقين للرجال، وألحق بعضهم به القميص والسراويل وكل ملبوس، بدليل حديث عبد الله بن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الإسبال في الإزار والقميص
(1)
«مسند أحمد» (23086).
والعمامة، من جرّ شيئاً خيلاء لم ينظر الله تعالى إليه يوم القيامة»
(1)
.
والذي يظهر لي؛ أن جعل اللباس إلى نصف الساق إنما هو خاص بالإزار دون غيره، لورود الأحاديث بتقييده بذلك، كحديث «إزرة المؤمن إلى نصف الساقين»
(2)
، وأما حديث عبد الله بن عمر المتقدم فهو في الإسبال، وهو يشمل الإزار والقميص وكل ملبوس، وقد ذكر بعض العلماء: أن اللباس إلى نصف الساق، إذا كان يخالف عرف البلد فإنه يصبح شهرة، وموضع استغراب منهم.
* الوجه الخامس: فرّق النووي في حكم إسبال الثياب تحت الكعبين بين المسبل خيلاء والمسبل لغير خيلاء، فقال:«لا يجوز إسباله تحت الكعبين إن كان للخيلاء، فإن كان لغيرها فهو مكروه، وظواهر الأحاديث في تقييدها بالجرّ خيلاء، تدل على أن التحريم مخصوص بالخيلاء، وهكذا نص الشافعي على الفرق كما ذكرنا»
(3)
.
وهذا التفريق الذي ذكره النووي هو الذي عليه أكثر العلماء، وهو الذي رجحه ابن عبد البر والشوكاني
(4)
وغيرهما. وقال بعض العلماء يحرم إسبال الثياب تحت الكعبين مطلقاً، سواء كان من أجل الخيلاء أو لغير خيلاء،
والله تعالى أعلم.
(1)
أخرجه أبو داود (4094)، والنسائي (5334)، وقال النووي في شرح مسلم 2/ 116: إسناده حسن.
(2)
رواه ابن ماجه (3573)، وأحمد في «المسند» (11010) وغيرهما، وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم.
(3)
«شرح صحيح مسلم» للنووي 14/ 62.
(4)
«التمهيد» لابن عبد البر 3/ 244، «نيل الأوطار» 2/ 132.
* الوجه السادس: حكى القاضي عياض والشوكاني
(1)
إجماع العلماء على أن النهي عن الإسبال إنما هو خاص بالرجال دون النساء. ويؤيده حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من جر ثوبه خيلاء، لم ينظر الله إليه يوم القيامة، فقالت أم سَلَمة: فكيف يصنع النساء بذيولهن؟ قال: يرخين شبراً، فقالت أم سَلَمة: إذاً تنكشف أقدامهن، قال: فيرخين ذراعاً، لا يزدن عليه»
(2)
.
(1)
«إكمال المعلم» 6/ 598.» نيل الأوطار» 2/ 132.
(2)
«سنن أبي داود» (4117)، «سنن الترمذي» (1731) وصححه، وقال المناوي في «فيض القدير» 6/ 112: إسناده صحيح.
17 - بَابُ مَا جَاءَ فِي مِشْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
-
أي بيان الأحاديث الواردة في صفة مشيته صلى الله عليه وسلم، والمشية بكسر الميم: الهيئة التي يعتادها الإنسان في المشي.
22 -
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: «ما رَأَيْتُ شَيْئاً أَحْسَنَ مِنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم كَأَنَّ الشَّمْسَ تَجْرِي فِي وجهه، ولا رَأَيْتُ أَحَداً أَسْرَعَ فِي مِشْيَتِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَأَنَّمَا الْأَرْضُ تُطْوَى لَهُ، إِنَّا لَنُجْهِدُ أَنْفُسَنَا وَإِنَّهُ لغير مكترث» .
• الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في التعريف براويه:
أبو هريرة هو: الصحابي الجليل عبد الرحمن - على المشهور - بن صخر الدوسي، مشهور بكنيته، وهو أكثر الصحابة حفظاً للحديث ورواية له، أسلم بعد غزوة خيبر، ولزم النبي صلى الله عليه وسلم حتى وفاته ملازمة تامة، وكان من فضلاء الصحابة وعلمائهم، توفي بالمدينة سنة: 59 هـ.
* الوجه الثاني: في تخريجه:
الحديث أخرجه الترمذي في سننه
(1)
، من طريق ابن لهيعة، عن أبي يونس، عن أبي
(1)
«سنن الترمذي» (3648).
هريرة به، وقال: هذا حديث غريب.
قلت: إسناد الحديث ضعيف، فيه عبد الله بن لهيعة وهو سيء الحفظ، لكن تابعه عمرو بن الحارث عند ابن حبان
(1)
، فالحديث حسن إن شاء الله بمجموع الطريقين، وقد حسنه الشيخ عبد القادر الأرناؤوط.
* الوجه الثالث: دل الحديث على ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من جمال الوجه، وبهاء الطلعة، وحسن الصورة، وإشراق المحيا، حيث شبه أبو هريرة رضي الله عنه جريان الشمس في فلكها بجريان الحسن ونوره في وجهه الكريم صلى الله عليه وسلم.
ومن بلاغة أبي هريرة رضي الله عنه ودقته أنه لم يقل ما رأيت إنساناً أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما قال ما رأيت شيئاً، حتى يشمل بكلامه كل ما رآه من إنسان وشمس وقمر وغير ذلك، من الأشياء الحسنة الجميلة.
وقد عقد العلامة القسطلاني في كتابه: المواهب اللدنيّة فصلاً حافلاً في جمال صورته وكمال خلقته صلى الله عليه وسلم، أطال في ذكر الأحاديث الدالة على ذلك، وما تشتمل عليه من دلالات
(2)
.
* الوجه الرابع: دل الحديث على صفة مشية النبي صلى الله عليه وسلم، وأن طبيعتها كانت سريعة من غير تكلف، لكن ليس المقصود سرعة شديدة تخرج الإنسان عن حد الوقار والاعتدال، وإنما المقصود أنه لم يكن يمشي مشية
الكسلان المتماوت، كما لم يكن يثب وثب العجلان، وكان بين هذا وهذا، كما أدبه الله تعالى بقوله:{وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} [لقمان: 19].
ويصف علي بن أبي طالب رضي الله عنه مشيته صلى الله عليه وسلم فيقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم «ذا مشى تكفأ تكفؤاً، كأنما ينحط من صبب»
(1)
. أي كأنه ينزل من موضع عال أو منحدر من الأرض.
وعن على بن أبي طالب قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مشى تقلَّع»
(2)
، أي: رفع رجليه رفعًا ثابتاً قوياً، مشية أهل القوة والجلادة وعلو الهمة.
وعن ابن عباس قال: «كان - رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي مشياً يعرف فيه أنه ليس بعاجز ولا كسلان»
(3)
.
(1)
«سنن الترمذي» (3637)، وقال: حسن صحيح، وصححه الألباني في «مختصر الشمائل» (4).
(2)
سنن الترمذي (3638)، وقال: ليس إسناده بمتصل، لكن حسنه عبد القادر الأرناؤوط في تعليقه على «جامع الأصول» ، حديث (8784)، لعله لشواهده.
(3)
حسنه الألباني بشواهده في «الصحيحة» (2140)، وعزاه للمخلص في «الفوائد المنتقاة» .
18 - بَابُ مَا جَاءَ فِي جِلْسَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
-
أي بيان الأحاديث الواردة في صفة جلسة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والجلسة بكسر الجيم هي: هيئة الجلوس، والحالة التي عليها الجالس.
23 -
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه قال: «كان رسُول الله صلى الله عليه وسلم إِذَا جَلَسَ فِي المسْجِدِ احْتَبَى بِيَدَيْهِ» .
• الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في التعريف براويه:
أبو سعيد الخدري تقدم التعريف به في الحديث رقم 10.
* الوجه الثاني: في تخريجه:
الحديث أخرجه أبو داود
(1)
دون ذكر المسجد، وسنده واهٍ بمرة، كما قال الشيخ شعيب الأرناؤوط في تعليقه على سنن أبي داود.
لكن الحديث معناه صحيح، فقد ثبت احتباء النبي صلى الله عليه وسلم في غير ما حديث، منها: حديث ابن عمر في البخاري
(2)
قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بفناء الكعبة محتبياً بيده هكذا» .
وحديث ابن عباس عند مسلم
(1)
في قصة مبيته عند خالته ميمونة، وفيه: «فصلى إحدى عشرة ركعة. ثم احتبى، حتى إني لأسمع نفسه راقداً
…
إلخ».
* الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:
(احتبى)، الاحتباء: أن يجلس على مقعدته، وينصب ساقيه، ويضمها إلى بطنه وفخذيه بثوب أو بيديه، وهي جلسة تريح البدن، وتغنيه عن الاتكاء والاستناد إلى جدار أو نحوه، وكانوا قديماً يقولون: الاحتباء حيطان العرب، أي كالحيطان لهم في الاستناد، فإذا أراد أحدهم الاستناد احتبى، لأنّه لا حيطان في البراري، فيكون الاحتباء بمنزلة الحيطان لهم.
* الوجه الرابع: الاحتباء هو إحدى هيئات جلسته صلى الله عليه وسلم، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس على هيئات مختلفة
(2)
، فتارة كان يجلس محتبياً كما في الأحاديث المتقدمة.
وتارة يجلس متربعاً، كما في حديث جابر بن سمرة، قال:«كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى الفجر تربع في مجلسه، حتى تطلع الشمس حسناء» .
(3)
وتارة يجلس متكئاً، كما في حديث أبي بكرة: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئاً فجلس، فقال: «ألا وقول الزور
…
الحديث»
(4)
.
(1)
«صحيح مسلم» (763)(185).
(2)
وهذا في غير الصلاة، أما الصلاة فلها جلسات مخصوصة.
(3)
«سنن أبي داود» (4850)، وقال النووي في «رياض الصالحين» ص 266: رواه أبو داود وغيره بأسانيد صحيحة.
(4)
«صحيح البخاري» (6274)، «صحيح مسلم» (143).
وتارة يقعي
(1)
، كما في حديث أنس بن مالك، قال:«رأيت النبي صلى الله عليه وسلم مقعياً يأكل تمراً»
(2)
.
وتارة يستلقي، كما في حديث عباد بن تميم، عن عمه، أنه «رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مستلقياً في المسجد، واضعاً إحدى رجليه على الأخرى»
(3)
. لكن حمل العلماء هذه الهيئة على أنه فعلها لبيان الجواز، أو لضرورة تعب، أو لم يكن وقتها يوجد من يحتشمه من الغرباء.
وتارة يجثو على ركبتيه، كما في حديث عبد الله بن بسر، قال: أهديت للنبي صلى الله عليه وسلم شاة، فجثا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ركبتيه، يأكل، فقال أعرابي: ما هذه الجلسة؟ فقال: «إن الله جعلني عبداً كريماً، ولم يجعلني جباراً عنيداً»
(4)
. وكل هذا واسع، وهو محمول على اختلاف الأحوال.
* الوجه الخامس: استثنى العلماء جلسة الاحتباء حال الخطبة يوم الجمعة فكرهوها، لحديث معاذ بن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «نهى عن الحبوة يوم الجمعة والإمام يخطب»
(5)
. وقد عللوا النهي بأن جلسة الحبوة تجلب النوم فتفوت سماع الخطبة، وربما أفضت إلى انتقاض الوضوء.
* الوجه السادس: كان من تواضع النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن يتميز عن
(1)
الإقعاء: أن يجلس على إليتيه وينصب ساقيه مستوفزاً غير متمكن.
(2)
«صحيح مسلم» (2044).
(3)
«صحيح مسلم» (2100).
(4)
«سنن ابن ماجه» (3263)، وصحح إسناده البوصيري في «مصباح الزجاجة» 4/ 8، والألباني في «إرواء الغليل» 7/ 28.
(5)
«سنن أبي داود» (1110)، وحسنه الألباني في تعليقه على «مشكاة المصابيح» (1393).
أصحابه في مجلس ولا في لباس، لذلك كان يأتي الغريب فلا يدري أي الناس هو صلى الله عليه وسلم حتى يسأل عنه.
ففي سنن أبي داود عن أبي ذر وأبي هريرة، قالا:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس بين ظهري أصحابه، فيجيء الغريب، فلا يدري أيهم هو حتى يسأل. فطلبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نجعل له مجلساً يعرفه الغريب إذا أتاه، قال: فبنينا له دكاناً من طين، فجلس عليه، وكنا نجلس بجنبتيه»
(1)
.
(1)
«سنن أبي داود» (4698)، وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح.
19 - بَابُ مَا جَاءَ فِي تُكَأَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
-
أي بيان الأحاديث الواردة في تكأة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتُكأة على وزن لُمزة: ما يتكأ عليه من وسادة وغيرها مما هيّء وأُعِدَّ لذلك.
24 -
عن جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رضي الله عنه قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُتَّكِئاً عَلَى وِسَادَةٍ عَلَى يساره «.
• الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في التعريف براويه:
جابر بن سمرة هو: ابن جنادة العامري ثم السُّوائي، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد الذين رووا عنه أحاديث كثيرة، سكن الكوفة، وتوفي سنة: 76 هـ.
* الوجه الثاني: في تخريجه:
الحديث أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه
(1)
، وصححه أبو عوانه
(2)
، وابن حبان
(3)
، والألباني.
* الوجه الثالث: في الحديث جواز الاتكاء أثناء الجلوس، سواء على يمينه
(1)
«سنن أبي داود» (4143)، و» سنن الترمذي» (2770).
(2)
«صحيح أبي عوانة» (6714).
(3)
«صحيح ابن حبان» (589).
أو يساره لا فرق، وقد تقدم في الباب السابق أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجلس على هيئات مختلفة بحسب اختلاف الأحوال، وذكرنا بعضها هناك مع شواهدها.
* الوجه الرابع: استثنى العلماء الاتكاء أثناء الأكل فكرهوه إذا كان قادراً على الجلوس، لما صح من حديث أبي جحيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا آكل متكئاً»
(1)
. وحمل الجمهور النهي على الكراهة كما في عمدة القاري
(2)
.
واختلف في تفسير الاتكاء المنهي عنه، فقال بعضهم: هو أن يتمكن في الجلوس للأكل على أي وجه كان ومنه التربع، وجزم بعض العلماء بأنه الميل على أحد الشقين.
واختلفوا في حكمة النهي، فعلى التفسير الأول حتى لا يستكثر الآكل من الطعام فيسمن وتعظم بطنه، وعلى التفسير الثاني وهو الميل على أحد الشقين، فقيل: لأنه فعل المتكبرين والمكثرين من الأكل نهمة، وقيل: إن الآكل متكئاً لا ينحدر الطعام في مجراه سهلاً، ولا يسيغه هنيئاً وربما تأذى به، فكأنه لسبب صحي
(3)
. وأما الأكل مضطجعاً فهو أشد كراهة كما قال بعض أهل العلم.
(1)
«صحيح البخاري» (5398).
(2)
«عمدة القاري» 21/ 43.
(3)
ينظر «فتح الباري» 9/ 541.
20 - بَابُ مَا جَاءَ فِي عَيْشِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
-
أي بيان الأحاديث الواردة في صفة عيشه صلى الله عليه وسلم، وما كان فيها من الضيق وترك الترفه والتوسع في المطعم والمشرب إلا ما يقيم الأود.
25 -
عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ قَالَ: سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ يَقُولُ: أَلَسْتُمْ فِي طَعَامٍ وَشَرَابٍ مَا شِئِتُمْ؟ «لقد رأيت نبيكم صلى الله عليه وسلم وَمَا يَجِدُ مِنَ الدَّقَلِ مَا يَمْلَأُ بَطْنَهُ» .
• الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في التعريف براويه:
النعمان بن بشير هو: ابن سعد بن ثعلبة الأنصاري الخزرجي، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كنيته أبو عبد الله، ولد سنة اثنتين من الهجرة، وعد من صبيان الصحابة، وكانت وفاته سنة: 64 هـ رضي الله عنه.
* الوجه الثاني: في تخريجه:
الحديث أخرجه مسلم في صحيحه
(1)
، وفي إحدى روايات مسلم: عن سماك بن حرب، قال: سمعت النعمان يخطب قال: ذكر عمر ما أصاب
(1)
«صحيح مسلم» (2977 - 2978).
الناس من الدنيا، فقال:«لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يظل اليوم يلتوى، ما يجد دقلاً يملأ به بطنه» .
* الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:
(الدَقَل): بفتح الدال والقاف، ردئ التمر ويابسه.
* الوجه الرابع: أراد النعمان بن بشير بهذا الحديث تذكير من حوله من الناس بمنّة الله ونعمته عليهم، حيث يُسر لهم مختلف أنواع الأطعمة والأشربة في حين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في ضيق من العيش، ولا يجد من رديء الطعام ما يسد به جوعه، مع أنه أكرم الخلق على الله تعالى.
* الوجه الخامس: دل الحديث على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الزهد، وضيق العيش، والإعراض عن الدنيا، وقلة الطعام إلا ما يسد به الرَّمَق.
وقد صح في السُّنة والسيرة أحاديث كثيرة في هذا المعنى، كحديث عروة ابن الزبير، عن خالته عائشة رضي الله عنها قالت:«إن كنا لننظر إلى الهلال، ثم الهلال، ثلاثة أهلة في شهرين، وما أوقدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار، فقلت يا خالة: ما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان: التمر والماء»
(1)
.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم من طعام ثلاثة أيام حتى قبض» .
(2)
وعن ابن عباس قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبيت الليالي المتتابعة طاوياً
(1)
«صحيح البخاري» (2567)، «صحيح مسلم» (2972).
(2)
«صحيح البخاري» (5374)، «صحيح مسلم» (2976)، واللفظ للبخاري.
وأهله لا يجدون عشاء وكان أكثر خبزهم خبز الشعير»
(1)
. والأحاديث في الباب كثيرة.
* الوجه السادس: قال العلماء بأن فقر النبي صلى الله عليه وسلم كان اختيارياً ولم يكن اضطرارياً، وقد جاءته الأموال الكثيرة في آخر حياته من كل مكان، لكنه بقي على ما هو عليه من الزهد والتقلل من الدنيا، حتى إنه مات عليه الصلاة والسلام ودرعه مرهونة عند يهودي، من أجل ثلاثين صاعاً من شعير، اشتراها منه إلى أجل
(2)
، وكان ينفق تلك الأموال على الفقراء والمحتاجين والمعوزين والضيفان والمؤلفة قلوبهم وغيرهم.
(1)
رواه الترمذي في «سننه» (2360)، وقال: حسن صحيح، وصححه الألباني في «مختصر الشمائل» (125).
(2)
«صحيح البخاري» (2096).
21 - بَابُ مَا جَاءَ فِي صِفَةِ أَكْلِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم
-
أي بيان الأحاديث الواردة في صفة أكله صلى الله عليه وسلم.
26 -
عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ النبي صلى الله عليه وسلم إِذَا أَكَلَ طَعَاماً لَعِقَ أصابعه الثلاث» .
* * *
27 -
وعن كَعب بن مَالِكٍ قَالَ: «كان رسُول الله صلى الله عليه وسلم يَأْكُلُ بِأَصَابِعِهِ الثَّلَاثِ وَيَلْعَقُهُنَّ» .
• الكلام عليهما من وجوه:
* الوجه الأول: في التعريف براويه:
أنس بن مالك تقدم التعريف به في الحديث رقم 1.
وكعب بن مالك هو: ابن عمرو بن القين الخزرجي الأنصاري، أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وشعرائه الفحول، أسلم قديماً، وهو أحد الثلاثة الذين خلفوا في غزوة تبوك، ثم تاب الله عليهم، توفي سنة: 50 هـ.
* الوجه الثاني: في تخريجهما:
حديث أنس أخرجه مسلم في صحيحه
(1)
، وحديث كعب بن مالك
(1)
«صحيح مسلم» (2034).
أخرجه أيضاً مسلم في صحيحه بنحوه
(1)
.
* الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:
(لعق): اللعق: اللحس، ولعق الأصابع: لحسها.
* الوجه الرابع: دل الحديثان على استحباب لعق أصابع اليد بعد الفراغ من الطعام، وقبل غسلها، تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم ومن باب المحافظة على بركة الطعام، فقد جاء في الحديث الصحيح:«فإذا فرغ فليلعق أصابعه، فإنه لا يدري في أي طعامه تكون البركة»
(2)
.
وكأن مقصود الأحاديث ترك الإسراف في الطعام، وعدم التهاون بقليله، لأنه من جملة نعم الله التي ينبغي عدم إهدارها.
* الوجه الخامس: زعم بعض الجهلة أن لعق الأصابع بعد الأكل أمر لا يناسب الذوق العام! وهذا جهل من صاحبه، لأن هذا الطعام المتبقي على الأصابع هو جزء من طعامه الذي كان يأكله قبل قليل، فلا ضير من أكله. ولأن أكل ما تبقى من الطعام على الأصابع بأطراف شفته ليس فيه ما ينافي الذوق، وهو خير من غسل ذلك الطعام وإلقاءه في مياه التصريف مع القاذورات بعد أن شبع، وكان قبل قليل من جوعه يبحث عنه، ويحرص عليه ويدفع فيه أغلى الأثمان!!
قال الإمام الخطابي رحمه الله: «عاب قوم أفسد عقلهم الترفه فزعموا أن لعق الأصابع مستقبح، كأنهم لم يعلموا أن الطعام الذي علق بالأصابع أو الصحفة جزء من أجزاء ما أكلوه، وإذا لم يكن سائر أجزائه مستقذراً لم يكن
(1)
«صحيح مسلم» (132 - 2032).
(2)
«صحيح مسلم» (2033).
الجزء اليسير منه مستقذراً، وليس في ذلك أكبر من مصه أصابعه بباطن شفتيه، ولا يشك عاقل في أن لا بأس بذلك»
(1)
.
* الوجه السادس: ذكر بعض الشرّاح: أن السنة لعق الأصابع ثلاث مرات وهذا خطأ، والصواب لعقها مرة واحدة بعد الفراغ من الطعام وقبل غسل اليد، ولا يلعق أثناء الأكل، لأنه سيضطر إلى إعادة إدخال الأصابع إلى الطعام مرة أخرى فيقذره
(2)
.
* الوجه السابع: زعم بعض الناس أن الأكل بالملاعق بدعة مخالفة للسنة وأنه من التشبه بالكفار!!
وهذا خطأ في القول وخطأ في الاجتهاد، أولاً: لأن الأكل بالملاعق ليس من عادات الكفار الخاصة بهم حتى نعده من التشبه بهم، وثانياً: لأن الملاعق مجرد وسيلة لإيصال الطعام إلى الفم، وهذه الوسيلة قد تختلف باختلاف عادات الناس وثقافاتهم، فمن الناس من يأكل بيده، ومنهم وهم أكثر الناس اليوم من يأكل بالملاعق، وكلا الأمرين داخل في باب المباحات، ولا دخل له في السنة أو البدعة أو التشبه، وهذا يشبه ركوب الناس قديماً للخيل والحمير والبغال، واليوم أصبحوا يركبون السيارات والقطارات، ولا أحد يقول بأن ركوب الحمار سنة، ولا ركوب السيارة بدعة!!
* الوجه الثامن: يسن أكل ما سقط من المائدة أو القصعة أو اليد من الطعام بعد مسح الأذى عنه، لما ثبت في صحيح مسلم من حديث جابر
(1)
«فتح الباري» 9/ 579.
(2)
ينظر مناقشة الروايات الواردة في ذلك في «جمع الوسائل» 1/ 188.
مرفوعاً: «إذا وقعت لقمة أحدكم فليأخذها، فليمط ما كان بها من أذى وليأكلها ولا يدعها للشيطان»
(1)
.
* الوجه التاسع: دل حديث كعب بن مالك على أن السنة الأكل بثلاث أصابع، ولو احتاج إلى الأكل بأكثر منها جاز.
قال القاضي عياض: «الأكل بأكثر منها إنما هو من الجشع، وسوء الأدب فيه، وتكثير اللقم، وذلك من غير آدابه ومستحسناته، إلا أن يضطر إلى غير ذلك»
(2)
.
* الوجه العاشر: يستحب غسل اليد وتنظيفها قبل البدء بالطعام، خاصة إذا كانت متسخة، وقد ورد في ذلك حديث متكلم فيه لكن يمكن الاستئناس به، عن سلمان الفارسي مرفوعاً:«بركة الطعام الوضوء قبله والوضوء بعده»
(3)
. والمقصود بالوضوء هنا المعنى اللغوي، وهو غسل اليدين والفم.
كما يستحب غسل اليد والفم وتنظيفهما بعد الفراغ من الطعام، فقد أخرج أبو داود بسند صحيح على شرط مسلم -كما قال ابن حجر
(4)
- عن أبي هريرة رفعه: «من نام وفي يده غَمَر - دسم - ولم يغسله فأصابه شيء فلا يلومنَّ إلا نفسه «. لأن الهوام ربما تقصده في المنام لرائحة الطعام في يده فتؤذيه.
(1)
«صحيح مسلم» (134 - 2033).
(2)
«إكمال المعلم» 6/ 502.
(3)
رواه الترمذي (1846) وضعفه، لكن نقل المناوي تحسين إسناده عن المنذري في «فيض القدير» 3/ 200، وقواه علي القاري في «المرقاة» 7/ 2714 بمجموع طرقه.
(4)
«فتح الباري» 9/ 579.
* الوجه الحادي عشر: هناك آداب نبوية أخرى ينبغي مراعاتها عند الأكل، ومنها: الأكل باليد اليمنى، والتسمية قبل الأكل، وحمد الله بعد الفراغ منه، وغير ذلك مما بينته السنة النبوية ولا مجال للتفصيل فيه الآن.
22 - بَابُ مَا جَاءَ فِي صِفَةِ خُبْزِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
-
أي بيان الأحاديث الواردة في صفة خبز رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما فيه من التواضع وترك الترفه.
28 -
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «كان رسُول الله صلى الله عليه وسلم يَبِيتُ اللَّيَالِيَ المُتَتَابِعَةَ طَاوِياً هُوَ وَأَهْلُهُ لَا يَجِدُونُ عَشَاءً، وَكَانَ أَكْثَرُ خُبْزِهِمْ خُبْزَ الشَّعِيرِ» .
* * *
29 -
وعَنِ أبي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قِيلَ لَهُ:«أَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم النَّقِيَّ يَعْنِي الحُوَّارَى؟ فَقَالَ سَهْلٌ: مَا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم النَّقِيَّ حَتَّى لَقِيَ اللَّهَ عز وجل. فَقِيلَ لَهُ: هَلْ كَانَتْ لَكُمْ مَنَاخِلُ عَلَى عَهْدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: مَا كَانَتْ لَنَا مَنَاخِلُ. قِيلَ: كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ بِالشَّعِيرِ؟ قَالَ: كُنَّا نَنْفُخُهُ فَيَطِيرُ مِنْهُ مَا طار ثم نثرّيه ثم نعجنه» .
• الكلام على الحديثين من وجوه:
* الوجه الأول: في التعريف براوييهما:
ابن عباس تقدم التعريف به في الحديث رقم 4.
وسهل بن سعد هو: ابن مالك بن خالد الخزرجي الساعدي الأنصاري، أبو العباس، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، روى حديثاً كثيراً عن النبي صلى الله عليه وسلم، وتوفي سنة: 91 هـ.
* الوجه الثاني: في تخريجهما:
حديث ابن عباس أخرجه الترمذي
(1)
، وابن ماجه
(2)
، وقال الترمذي: حسن صحيح. وصححه الألباني، وشعيب الأرناؤوط، وقال عبد القادر الأرناؤوط: إسناده حسن.
وحديث سهل بن سعد أخرجه البخاري في صحيحه بنحوه، ولفظه: عن أبي حازم، قال: سألت سهل بن سعد، فقلت: هل أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم النقي؟ فقال سهل: «ما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم النقي من حين ابتعثه الله حتى قبضه الله» . قال: فقلت: هل كانت لكم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مناخل؟ قال: «ما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم منخلاً من حين ابتعثه الله حتى قبضه الله» . قال: قلت: كيف كنتم تأكلون الشعير غير منخول؟ قال: كنا نطحنه وننفخه، فيطير ما طار، وما بقي ثريناه فأكلناه.
* الوجه الثالث: في شرح ألفاظهما:
(طاوياً): جائعاً خالي البطن.
(أهله): أهل الرجل: امرأته وولده والذين في عياله ونفقته.
(النقي): الخبز النقي الخالص من النخالة.
(الحُوَّارى): بضم الحاء وتشديد الواو وراء مفتوحة: الدقيق الأبيض الذي نخل مرة بعد أخرى، وهو لب الدقيق.
(المنخل): أداة النخل، وهو الغربال الذي يغربل ويصفّى به القمح والشعير ونحوه من الشوائب.
(نثريه): نبله بالماء ونعجنه.
* الوجه الرابع: دل حديث ابن عباس على تقلل النبي صلى الله عليه وسلم وأزواجه من الدنيا وصبرهم على الجوع وتجنب السؤال. وقد تقدم بيان أن فقره صلى الله عليه وسلم إنما كان اختيارياً ولم يكن اضطرارياً، خاصة وقد جاءته الأموال الكثيرة في آخر حياته من كل مكان، لكنه صلى الله عليه وسلم كان ينفقها على الفقراء والمحتاجين والضيفان والمؤلفة قلوبهم وغيرهم.
وقد جاء في الترمذي من حديث أبي أمامة مرفوعاً: «عرض عليّ ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذهباً، قلت: لا يا ربّ. ولكن أشبع يوماً وأجوع يوماً، فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك، وإذا شبعت شكرتك وحمدتك»
(1)
.
* الوجه الخامس: دل حديث ابن عباس على أن أكثر خبز النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته كان من الشعير، وهو من أقل أنواع الخبز جودة، وكانوا يأكلونه من غير نخل، بل كانوا لا يشبعون منه يومين متتاليين، كما جاء في حديث عائشة:«ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم من خبز الشعير يومين متتاليين حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم»
(2)
.
(1)
«سنن الترمذي» (2347)، وقال: حديث حسن، وحسن إسناده عبد القادر الأرناؤوط.
(2)
أخرجه الترمذي في «الشمائل» (144)، وصححه الألباني في «مختصر الشمائل» (123).
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير»
(1)
.
* الوجه السادس: دل حديث سهل بن سعد وحديث ابن عباس على ضيق عيش النبي صلى الله عليه وسلم وقلة اهتمامه بشأن الطعام، فإنه لا يعتني بشأن الطعام ويحرص عليه حرصاً زائداً إلا أهل الشره والبطالة.
(1)
«صحيح البخاري» (5414).
23 - بَابُ مَا جَاءَ فِي إِدامِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم
-
أي بيان الأحاديث الواردة في صفة إدام رسول الله صلى الله عليه وسلم وما فيه من التواضع وترك الترفه. والإدام بكسر الهمزة: كل ما يؤكل مع الخبز، مائعاً أو جامداً.
30 -
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «نِعْمَ الإِدَامُ الخَلُّ» .
• الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في التعريف براويه:
عائشة تقدم التعريف بها في الحديث رقم 5.
* الوجه الثاني في تخريجه:
الحديث أخرجه مسلم في صحيحه
(1)
، وأخرج المصنف في الباب ومسلم في صحيحه
(2)
نحوه من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل أهله الأدم، فقالوا: ما عندنا إلا خلٌ، فدعا به، فجعل يأكل به، ويقول:«نعم الأدم الخل، نعم الأدم الخل» ، هذا لفظ مسلم.
* الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:
(الخل): ما حمض من عصير العنب وغيره.
(1)
«صحيح مسلم» (2051).
(2)
«صحيح مسلم» (2052).
* الوجه الرابع: دل الحديث على فضل أكل الخل والائتدام به، ومعلوم أن الخل ليس أجود الأدم، ففي الأدم ما هو أجود منه كاللحم والعسل، لكن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك - كما ذكر شراح الشمائل - باعتبار الحال الحاضرة حينها، ومن باب جبر وتطييب خاطر أهل بيته الذين قدموا له ذلك الخل، يوضح هذا ما أخرجه مسلم في صحيحه، عن حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي ذات يوم إلى منزله، فأخرج إليه فلقاً - كسراً - من خبز، فقال:«ما من أدم؟» ، فقالوا: لا إلا شيء من خل، قال:«فإن الخل نعم الأدم»
(1)
.
* الوجه الخامس: دل الحديث على الحث على الاقتصاد في الطعام، وترك التأنق والتوسع فيه، فيأتدم ولو بالخل وما تيسر.
* الوجه السادس: ذكر شرّاح الشمائل: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن من عادته الكريمة حبس نفسه على نوع واحد من الأغذية، فإن ذلك يضر غالباً بالصحة، وإن كان أفضل الأطعمة، لذلك كان يأكل ما اعتيد من لحم وفاكهة وتمر وغيره
(2)
.
قلت: لا شك أن التنويع في الأطعمة من الأمور المطلوبة لحفظ صحة البدن، كما يؤكده الأطباء المختصون بعلوم التغذية.
* * *
(1)
«صحيح مسلم» (2052).
(2)
«أشرف الوسائل» ص 215، «جمع الوسائل» 1/ 199.
31 -
عَنْ زَهْدَمٍ الجَرْمِيِّ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ فَأُتِيَ بِلَحْمِ دَجَاجٍ فَتَنَحَّى رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ فَقَالَ: مَا لَكَ؟ فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُهَا تَأْكُلُ شَيْئاً فَحَلَفْتُ أَنْ لَا آكُلَهَا! قَالَ: «ادْنُ فَإِنِّي رَأَيْتُ رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يأكل لحم دجاج» .
• الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في التعريف براويه:
أبو موسى الأشعري تقدم التعريف به في الحديث رقم 20.
* الوجه الثاني: في تخريجه:
الحديث أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين
(1)
بلفظ أطول.
* الوجه الثالث: دل الحديث على حل أكل الدجاج إنسيه ووحشيه وهو إجماع
(2)
.
* الوجه الرابع: ذكر العلماء أن الدجاجة إذا كانت تتغذى غالباً على القاذورات والنجاسات حتى أثَّر ذلك في لحمها، فهذه تسمى جلَّالة، والحكم فيها: ألا تؤكل حتى تحبس ثلاثة أيام، وتطعم طعاماً جيداً حتى يطيب لحمها وتذهب عنها الخباثة، ثم يحل أكلها بعد ذلك.
(1)
«صحيح البخاري» (5518)، «صحيح مسلم» (1649).
(2)
«فتح الباري» 9/ 648.
وقد ورد في هذا أحاديث عدة، منها حديث عن ابن عمر قال:«نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل الجلالة وألبانها»
(1)
.
وصح عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه: كان إذا أراد أكل الدجاجة الجلالة حبسها ثلاثاً
(2)
.
* * *
32 -
عَنْ أَبِي أَسِيدٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «كُلُوا الزَّيْتَ وَادَّهِنُوا بِهِ فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ» .
• الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في التعريف براويه:
أبو أَسيد بفتح الهمزة هو: ابن ثابت الأنصاري الزرقي المدني، معدود في الصحابة.
* الوجه الثاني: في تخريجه:
الحديث أخرجه الترمذي في سننه
(3)
وقال: غريب، وصححه الحاكم وأقره الذهبي
(4)
، وحسنه الألباني بمجموع طرقه وشواهده، وكذا حسنه عبدالقادر الأرناؤوط.
(1)
رواه أبو داود (3785)، والترمذي (1824) وحسنه، وصححه الألباني في «صحيح الجامع الصغير» (6855).
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (4660 - 8847)، وصحح إسناده الألباني في «الإرواء» (2505).
(3)
«سنن الترمذي» (1852).
(4)
«المستدرك» للحاكم (3504).
* الوجه الثالث: المقصود بالزيت هنا زيت الزيتون، بدليل قوله في الحديث:«فإنه من شجرة مبارك» .
* الوجه الرابع: الحديث فيه فضل أكل زيت الزيتون والادهان به، وقد وصفه في الحديث بأنه من شجرة مباركة، وهذا مصداق قوله تعالى:{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} [النور: 35].
وقد ذكر الإمام ابن القيم في زاد المعاد كثيراً من فوائد زيت الزيتون ومنافعه، فيمكن مراجعته هناك
(1)
.
لكن نبّه العلامة المناوي؛ بأن الأمر بأكل الزيت والادهان به لا ينبغي أن يفهم منه الإكثار منه
(2)
.
قلت: هذا كلام صحيح، فإن استحسان الشرع لشيء أو الأمر به لا يعني الاستكثار منه، وهذا مثل شرب العسل فإنه مستحسن، لكن الإكثار الزائد منه فيه مضرة.
* * *
(1)
«زاد المعاد» 4/ 291.
(2)
«فيض القدير» 5/ 43.
33 -
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُعْجِبُهُ الدُّبَّاءُ، فَأُتِيَ بِطَعَامٍ أَوْ دُعِيَ لَهُ فَجَعَلْتُ أَتَتَبَّعُهُ فَأَضَعُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ لِمَا أَعْلَمُ أَنَّهُ يُحِبُّهُ» .
• الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في التعريف براويه:
أنس بن مالك تقدم التعريف به في الحديث رقم 1.
* الوجه الثاني: في تخريجه:
الحديث أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين
(1)
مختصراً ومطولاً، وفي أحد ألفاظه عند البخاري: عن أنس رضي الله عنه، قال: دخلت مع النبي صلى الله عليه وسلم على غلام له خيَّاط، فقدم إليه قصعة فيها ثريد، قال: وأقبل على عَمَلِه، قال:«فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يتتبع الدباء» ، قال: فجعلت أتتبعه فأضعه بين يديه، قال: فما زلت بعد أحبّ الدباء.
* الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:
(الدباء): بالضم والتشديد والمد أو القصر: القرع، مفرده دباءة أو دباة، وهي ثمرة نبتة ليس لها ساق، وتسمى أيضاً باليقطين. وقال بعضهم: اليقطين يشمل كل شجرة ليس لها ساق نحو الدباء والبطيخ والحنظل.
* الوجه الرابع: في الحديث حل أكل الدباء، وهو من الثمار المفيدة الغنية بالفيتامينات والألياف. وقد نقل ابن كثير عن بعض العلماء من فوائد
(1)
«صحيح البخاري» (5420)، «صحيح مسلم» (2041).
الدباء: سرعة نباته، وتظليل ورقه لكبره، ونعومته، وأنه لا يقربها الذباب، وجودة أغذية ثمره، وأنه يؤكل نيئاً ومطبوخاً بلبه وقشره أيضاً
(1)
.
والدباء في قول كثير من المفسرين هي الشجرة التي أنبتها الله عز وجل لنبي الله يونس عليه السلام عندما أخرجه من بطن الحوت، فكانت له ظلاً وغذاء ودواء، كما قال تعالى:{فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146)} [الصافات 145 - 146].
* الوجه الخامس: استحب بعض العلماء أكل الدباء وأكل كل ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبه
(2)
.
لكن فرق بعض العلماء بين محبة النبي صلى الله عليه وسلم وكرهه الشرعي، وبين محبته وكرهه الإنساني، فالقدوة إنما هي في المحبة والكره الشرعيين، كمحبته صلى الله عليه وسلم لأصحابه رضي الله عنهم، ومحبته صلى الله عليه وسلم للتيمن في تنعه وترجله وطهوره. أما المحبة أو الكره الطبيعي فلا قدوة فيه، كمحبته صلى الله عليه وسلم لأكل الحلواء والعسل ومحبته للدباء والثريد، وكرهه أكل الضبّ، وقوله:«أجدني أعافه» ، فإن الصحابة لم يقتدوا به في ذلك، بل أكله خالد بن الوليد على مائدته صلى الله عليه وسلم.
* الوجه السادس: استشكل بعضهم تتبع النبي صلى الله عليه وسلم للدباء حوالي القصعة، مع أنه ثبت عنه الأمر بالأكل مما يليه، كما في حديث عمر بن أبي سلمة رضي الله عنهما قال: كنت غلاماً في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت يدي تطيش في
الصحفة، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:«يا غلام، سمّ الله، وكُلْ بيمينك، وكُلْ مما يليك»
(1)
.
وأجاب بعض العلماء بأن الأمر يقصد به ما إذا كان الطعام لوناً واحداً فلا يتعدى ما يليه، أما إذا كان أكثر من لون فيجوز، وحمل فعله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث على ذلك، فقال: كان الطعام مشتملاً على مرق ودباء وقديد، فكان يأكل مما يعجبه وهو الدباء، ويترك ما لا يعجبه وهو القديد.
وقال بعضهم: إنما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لأن الطعام كان له وحده ومعه خادمه، وأما إن كان معه غيره فالمستحب أن يأكل مما يليه.
وهناك احتمال أن يكون معنى تتبع النبي صلى الله عليه وسلم للدباء إنما كان من ناحيته وجهته، وليس من جميع جهات القصعة، وكل هذه التوجيهات محتملة، والله تعالى أعلم.
(1)
«صحيح البخاري» (5376)، «صحيح مسلم» (2022).
24 - بَابُ مَا جَاءَ فِي صِفَةِ وُضُوءِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
-
عند الطعام
أي بيان الأحاديث الواردة في صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الطعام، والمراد بالوضوء هنا - على الأرجح - معناه اللغوي، وهو غسل اليدين، ويدل عليه قوله:«عند الطعام» ، أي قبله وبعده، وأما الوضوء الشرعي فهو غير واجب ولا مستحب عند الطعام.
34 -
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خَرَجَ مِنَ الخَلَاءِ فَقُرِّبَ إِلَيْهِ الطَّعَامُ فَقَالُوا: أَلَا نَأتِيكَ بِوَضُوءٍ؟ قَالَ: «إِنَّمَا أُمِرْتُ بِالوُضُوءِ إِذَا قُمْتُ إِلَى الصَّلَاةِ» ، وفي رواية أخرى في الشمائل: فقال صلى الله عليه وسلم: «أأصلي فأتوضأ؟» .
• الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في التعريف براويه:
ابن عباس تقدم التعريف به في الحديث رقم 4.
* الوجه الثاني: في تخريجه:
الحديث أخرجه مسلم في صحيحه
(1)
بنحوه، ولفظه عن ابن عباس: «أن
(1)
«صحيح مسلم» (374).
النبي صلى الله عليه وسلم خرج من الخلاء، فأتي بطعام»، فذكروا له الوضوء فقال:«أريد أن أصلي فأتوضأ؟» .
* الوجه الثالث: دل الحديث على أن تناول الطعام ليس له وضوء شرعي، لا وجوباً ولا ندباً، وإنما يجب للصلاة، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: الوضوء الشرعي إنما يكون لمن أراد الصلاة وأنا لا أريد أن أصلي الآن.
* الوجه الرابع: ذكر كثير من الشرّاح: أنه يستحب غسل اليدين وتنظيفها قبل البدء بالطعام، خاصة إذا كانت متسخة، وقد ورد في ذلك حديث متكلم في صحته، لكن يمكن الاستئناس به عن سلمان الفارسي مرفوعاً:«بركة الطعام الوضوء قبله والوضوء بعده»
(1)
. والمقصود بالوضوء هنا غسل اليدين والفم.
كما يستحب غسل اليد والفم وتنظيفهما بعد الفراغ من الطعام، وقد ورد فيه حديث عند أبي داود بسند صحيح على شرط مسلم، كما قال الحافظ ابن حجر
(2)
، عن أبي هريرة رفعه: «من نام وفي يده غَمَر - دسم - ولم يغسله، فأصابه شيء، فلا يلومن إلا نفسه «
(3)
. لأن الهوام ربما تقصده في المنام لرائحة الطعام فتؤذيه.
* الوجه الخامس: أجمع العلماء على أن المحدث (غير المتوضئ) له
(1)
رواه الترمذي (1846)، وضعفه، لكن نقل المناوي في «فيض القدير» 3/ 200 تحسين إسناده عن المنذري، وقواه علي القاري في «المرقاة» 7/ 2714 بمجموع طرقه.
(2)
«فتح الباري» 9/ 579.
(3)
«سنن أبي داود» (3852).
أن يأكل ويشرب، ويذكر الله سبحانه وتعالى ويقرأ القرآن، ويجامع ولا كراهة في شيء من ذلك، وقد تظاهرت على هذا كله دلائل السُّنة الصحيحة المشهورة، مع إجماع الأمة كما أفاده الإمام النووي رحمه الله
(1)
.
(1)
«شرح صحيح مسلم» للنووي 4/ 69.
25 - بَابُ مَا جَاءَ فِي قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ الطَّعَامِ وَبَعْدَمَا يَفْرُغُ مِنْهُ
أي بيان الأذكار الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أكل الطعام وبعدما يفرغ منه، ويلحق به الشرب أيضاً.
35 -
عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ رضي الله عنهما أَنَّهُ: دَخَلَ عَلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم وَعِنْدَهُ طَعَامٌ فَقَالَ: «ادْنُ يَا بُنَيَّ فَسَمِّ اللَّهَ تَعَالَى وَكُلْ بِيَمِينِكَ وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ» .
• الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في التعريف براويه:
عمر بن أبي سلمة: هو: ابن عبد الأسد بن هلال المخزومي القرشي، أبو حفص، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وربيبه، ولد قبل الهجرة بسنتين أو أكثر، وتوفي في خلافة عبد الملك بن مروان، سنة: 83 هـ.
* الوجه الثاني: في تخريجه:
الحديث أخرجه البخاري
(1)
ومسلم
(2)
في الصحيحين، ولفظه عند
(1)
«صحيح البخاري» (5376).
(2)
«صحيح مسلم» (2022).
البخاري: عن عمر بن أبي سلمة قال: كنت غلاماً في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:«يا غلام، سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك» ، فما زالت تلك طعمتي بعد. ورواية مسلم نحوها.
* الوجه الثالث: اشتمل هذا الحديث على ثلاثة آداب من آداب الأكل، وهي التسمية، والأكل باليمين، والأكل مما يليه، وسنذكر تفصيل القول فيها في الوجوه التالية.
* الوجه الرابع: دل الحديث على الأمر بالتسمية في ابتداء الطعام ويلحق به الشراب، وهي من أسباب حصول البركة، ومنع الشيطان من مشاركة الإنسان في طعامه وشرابه.
واختلف هل الأمر للوجوب أم للندب، والجمهور على الندب، كما ذكره العيني وغيره
(1)
.
* الوجه الخامس: المقصود بالتسمية الواردة في الحديث، أن يقول: باسم الله في ابتداء الأكل، يوضحه حديث عائشة مرفوعاً:«إذا أكل أحدكم طعاماً فليقل: بسم الله، فإن نسي في أوله فليقل: بسم الله في أوله وآخره»
(2)
.
وأما قول بعض العلماء: الأفضل أن يقول: باسم الله الرحمن الرحيم، فقد ردّه الحافظ ابن حجر بأنه لا دليل عليه. كذلك رد الحافظ ابن حجر على
(1)
«عمدة القاري» 21/ 29، «جمع الوسائل» 1/ 235.
(2)
رواه أبو داود (3767)، والترمذي (1858)، وقال: حسن صحيح، وصححه ابن حبان (5214)، والحاكم في «المستدرك» (7087)، والألباني في «صحيح الجامع» (1323).
من استحب التسمية مع كل لقمة، وقال إنه لا دليل عليه
(1)
.
* الوجه السادس: ذكر العلماء أن من نسي التسمية في أول الأكل أو الشرب: ثم تذكرها أثناء ذلك أو بعد الفراغ منهما، فإنه يستحب له الإتيان بها تداركاً لما فات، لحديث عائشة المرفوع المتقدم في الوجه الخامس، وفيه:«فليقل بسم الله في أوله وآخره» .
* الوجه السابع: دل الحديث كذلك على الأمر بالأكل باليمين، ويلحق به الشرب.
واختلف هل الأمر للوجوب أم للندب، فذهب الجمهور إلى الندب
(2)
، والأقوى أنه للوجوب، كما هو قول بعض العلماء
(3)
لما ثبت عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه، وإذا شرب فليشرب بيمينه، فإن الشيطان يأكل بشماله، ويشرب بشماله»
(4)
، فهذا الحديث يدل على أن المسلم يجب عليه اجتناب أفعال الشيطان.
أيضاً ثبت من حديث سلمة بن الأكوع: أن رجلاً أكل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بشماله، فقال:«كل بيمينك» ، قال: لا أستطيع، قال:«لا استطعت» ، ما منعه إلا الكبر، قال: فما رفعها إلى فيه
(5)
. ولا يدعو صلى الله عليه وسلم إلا على من ترك واجباً. وأما كون الدعاء لتكبره فهو محتمل، ولا ينافي أن الدعاء عليه للأمرين معاً.
(1)
«فتح الباري» 9/ 521.
(2)
«سبل السلام» 2/ 626.
(3)
«فتح الباري» 9/ 522، «سبل السلام» 2/ 233.
(4)
«صحيح مسلم» (2020).
(5)
«صحيح مسلم» (2021).
واستثنى العلماء المعذور والمريض في الأكل والشرب بالشمال، لعموم الأدلة القاضية برفع الحرج عنهما.
* الوجه الثامن: دل الحديث على الأمر بأكل الإنسان مما يليه.
واختلف هل الأمر فيه للوجوب أم للندب؟ والأكثر على الندب، وقوَّى بعض العلماء القول بالوجوب لظاهر الأمر، ولما في الأكل مما يلي الآخرين من سوء الأدب والشَرَه وتقزز نفوس الناس ممن يمد يده إلى ما يليهم.
وقد حمل العلماء هذا الأمر على الطعام الذي يكون من جنس واحد، أما إذا كان الطعام من أجناس مختلفة كالتمر والفاكهة، فللمرء أن يأكل من أي موضع من الطبق وينتقي ما تشتهيه نفسه.
* * *
36 -
عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا رُفِعَتِ المَائِدَةُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ يَقُولُ: «الحمْدُ لِلَّهِ حَمْداً كَثِيراً طَيِّباً مُبَارَكاً فِيهِ، غَيْرَ مُودَعٍ وَلَا مُسْتَغْنًى عَنْهُ رَبَّنَا» .
• الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في التعريف براويه:
أُبو أمامة هو: صُدي بن عجلان بن وهب الباهلي، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، مشهور بكنيته، روى عنه حديثاً كثيراً، وسكن حمص، وتوفي بها، سنة: 86 هـ على المشهور.
* الوجه الثاني: في تخريجه:
الحديث أخرجه البخاري في صحيحه
(1)
ولفظه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع مائدته قال: «الحمد لله كثيراً طيباً مباركاً فيه، غير مكفي ولا مودعَّ ولا مستغنى عنه، ربنا» ، بزيادة «غير مكفي». وفي أحد ألفاظ البخاري:«الحمد لله الذي كفانا وأروانا، غير مكفي ولا مكفور»
(2)
.
* الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:
(غير مودَّع): بضم الميم وتشديد الدال المفتوحة، أي: أن ذلك الحمد غير متروك، بل يجب الاشتغال به على الدوام، حتى لا تنقطع النعم.
(ولا مستغنى عنه): أي لا يستغني عن الحمد أحد.
(غير مكفي): أي أن هذا الحمد لا يُكتفى به، بل يجب المزيد منه، وقيل غير ذلك.
(ولا مكفور): أي لا يجحد فضله ولا تنكر نعمته.
* الوجه الرابع: دل الحديث على فضل هذا الذكر، وأن من السنة الإتيان به بعد الفراغ من الطعام تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم.
والطعام من أجلّ النعم التي بها قوام الحياة. فإذا اقترن بذكر الله في أوّله، وشكره في آخره، أدى إلى دوام النعم واستمرارها، كما قال تعالى:{لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7].
وفي الصحيح من رواية أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله
(1)
«صحيح البخاري» (5458).
(2)
المصدر السابق (5459).
ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشربة فيحمده عليها»
(1)
.
* الوجه الخامس: وردت في السُّنة المطهرة أدعية عدة، يستحب قولها بعد الفراغ من الطعام، منها حديث الباب الذي شرحناه، ومنها حديث أبي سعيد الخدري؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من طعامه قال:«الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين»
(2)
.
ومنها حديث أبي أيوب الأنصاري، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أكل أو شرب قال: «الحمد لله الذي أطعم وسقى وسوغه وجعل له مخرجاً»
(3)
.
ومنها حديث عبد الرحمن بن جبير، عمن خدم النبي صلى الله عليه وسلم ثمان سنين، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا قُرّبَ إليه طعاماً قال: «بسم الله» ، فإذا فرغ من طعامه قال:«اللهم أطعمت، وأسقيت، وأغنيت، وأقنيت، وهديت، واجتبيت، فلك الحمد على ما أعطيت»
(4)
.
وكان صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من الطعام عند قوم يقول: «اللهم، بارك لهم في ما رزقتهم، واغفر لهم وارحمهم»
(5)
.
(1)
«صحيح مسلم» (2734).
(2)
رواه أبو داود (3850)، وضعفه الألباني وشعيب الأرناؤوط.
(3)
رواه أبو داود (3851)، وصحح إسناده النووي في «الأذكار» (679).
(4)
رواه النسائي في «الكبرى» (6871) وصحح إسناده الحافظ ابن حجر في «الفتح» 9/ 581.
(5)
«صحيح مسلم» ، من حديث عبد الله بن بسر (2042).
وأحياناً كان يقول: «أفطر عندكم الصائمون، وأكل طعامكم الأبرار، وصلَّت عليكم الملائكة»
(1)
.
* الوجه السادس: ذكر بعض العلماء بأن أصل السنة يحصل بأي لفظ اشتق من مادة «ح م د» ، كأن يقول الحمد الله، أو حمداً لله، أو أحمدك يا الله، بل يحصل بكل ما يدل على الثناء على الله تعالى، وما مَرَّ ذكره من الأدعية إنما هو لبيان الأكمل والأفضل
(2)
.
(1)
«سنن أبي داود» (3854)، وصحح إسناده النووي في «الأذكار» (686)، وابن حجر في «التلخيص الحبير» (1570).
(2)
«دليل الفالحين» 4/ 340.
26 - بَابُ مَا جَاءَ فِي قَدَحِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
-
أي بيان الأحاديث الواردة في صفة قدح رسول الله صلى الله عليه وسلم. والقدح بفتح القاف والدال: الإناء الذي يشرب به الماء والنبيذ ونحوهما، وهو عادة متوسط الحجم، لا بالصغير ولا بالكبير، وقد ذكر شرّاح الشمائل: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له أكثر من قدح.
37 -
عَنْ ثَابِتٍ قَالَ: «أَخَرَجَ إِلَيْنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَدَحَ خَشَبٍ غَلِيظاً مُضَبَّباً بِحَدِيدٍ، فَقَالَ: يَا ثَابِتُ هَذَا قَدَحُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» .
* * *
38 -
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: «لَقَدْ سقيتُ رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم بِهَذَا القَدَحِ الشَّرَابَ كُلَّهُ: المَاءَ وَالنَّبِيذَ وَالعَسَلَ وَاللَّبَنَ» .
• الكلام على الحديثين من وجوه:
* الوجه الأول: في التعريف براويهما:
أنس بن مالك تقدم التعريف به في الحديث رقم 1.
* الوجه الثاني: في تخريجهما:
حديث أنس الأول أخرجه البخاري
(1)
في صحيحه من طريق عاصم
(1)
«صحيح البخاري» (5638).
الأحول قال: رأيت قدح النبي صلى الله عليه وسلم عند أنس بن مالك، وكان قد انصدع فسلسله بفضة، قال: وهو قدح جيد عريض من نُضَار
(1)
، قال: قال أنس: «لقد سقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا القدح أكثر من كذا وكذا» .
وحديث أنس الثاني أخرجه مسلم في صحيحه
(2)
.
* الوجه الثالث: في شرح ألفاظهما:
(مضبباً): تضبيب الإناء إصلاحه بلحام من حديد أو غيره، والضبّة: حديدة عريضة تجمع الخشب وتلمّ بعضه إلى بعض حتى يتماسك.
(النبيذ): ماء يطرح فيه تمرات أو زبيب وغيره من الحلويات ليحلو. وكان ينبذ للنبي صلى الله عليه وسلم أول الليل، ويشرب منه إذا أصبح، ولم يكن يشربه بعد ثلاثة أيام خوفاً من تغيره إلى الإسكار
(3)
.
* الوجه الرابع: الحديث فيه بيان صفة قدح النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يشرب فيه، وأنه كان عريضاً مصنوعاً من الخشب الخالص الغليظ.
* الوجه الخامس: أفاد حديث أنس بأن إناء النبي صلى الله عليه وسلم كان قد أصابه تصدع وتشقق فاتخذ مكان الصدع ضبّة، واختلفت الروايات في نوع هذه الضبّة، فرواية الترمذي في الباب تقول بأنها كانت من حديد، ورواية البخاري تقول بأنها كانت من فضة، فبعض العلماء قدم رواية البخاري وقال: إنها أصح، وهناك احتمال أن تكون ضبّة الحديد كانت في القدح أولاً، ثم لما
(1)
النُّضارة: الخالص من العود، وهو أجود الخشب للآنية.
(2)
«صحيح مسلم» (2008).
(3)
«صحيح مسلم» (2004).
صُدع سلسله بفضة، فصار فيه الضبّتان
(1)
.
* الوجه السادس: دلت رواية البخاري لحديث أنس على جواز تضبيب الإناء بالفضة، عند الحاجة إلى ذلك، أما إذا كان لمجرد الزينة فلا، على خلاف بين العلماء في هذه المسألة.
* الوجه السابع: كان السلف رضوان الله عليهم يحرصون على رؤية هذا القدح، والشرب منه من باب التبرك بمتعلقات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر الإمام القرطبي أنه رأى في بعض النسخ القديمة من البخاري: قال أبو عبد الله البخاري: رأيت هذا القدح بالبصرة وشربت فيه
(2)
.
وفي صحيح البخاري: أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله، كان قد استوهب من سهل بن سعد رضي الله عنه قدحاً كان قد سقى النبي صلى الله عليه وسلم منه
(3)
.
(1)
نقله الشحاري في «منتهى السؤل» 2/ 273.
(2)
«فتح الباري» 10/ 100.
(3)
«صحيح البخاري» (5637).
27 - بَابُ مَا جَاءَ فِي فَاكِهَةِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم
-
أي بيان الأحاديث الواردة في صفة فاكهته صلى الله عليه وسلم. والفاكهة هي ما يتفكه به الإنسان، أي يتنعم ويتلذذ بأكله، كالرطب والزبيب والتين والرمان ونحوه.
39 -
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جعفر رضي الله عنه قال: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَأْكُلُ القِثَّاءَ بِالرُّطَبِ» .
• الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في التعريف براويه:
عبد الله بن جعفر هو: بن أبي طالب بن عبد المطلب الهاشمي القرشي، معدود في صغار الصحابة، كفله النبي صلى الله عليه وسلم بعد استشهاد أبيه، فنشأ في حجره، وقد توفي بالمدينة، سنة: 80 هـ.
* الوجه الثاني: في تخريجه:
الحديث أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين
(1)
، ولفظه عندهما:«رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل القثاء بالرطب» .
* الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:
(القثاء): ثمرة تشبه الخيار في الشكل والطعم، لكنها أكبر منه.
(1)
«صحيح البخاري» (5440)، «صحيح مسلم» (2043).
* الوجه الرابع: ذكر الشراح رحمهم الله أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين القثاء والرطب، لأن القثاء فيها برودة على المعدة، والرطب فيه حرارة، فكان يجمع بينهما ليدفع ضرر كل منهما بالآخر ويحصل اعتدال بأكلهما معاً.
ويوضح هذا حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل الطبيخ
(1)
بالرطب، فيقول:«نكسر حر هذا ببرد هذا، وبرد هذا بحر هذا»
(2)
.
* الوجه الخامس: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يجمع في أكله أيضاً بين البطيخ والرطب كما تقدم، وبين الخربز والرطب
(3)
للعلة نفسها.
* الوجه السادس: يؤخذ من حديث الباب جواز أكل الشيئين من الفاكهة وغيرها معاً، وبَوَّبَ عليه البخاري بقوله:«باب جمع اللونين أو الطعامين بمرة» ، وجواز التوسع في المطاعم، ولا خلاف في ذلك، لكن العلماء كرهوا الإكثار حتى لا يعتاد الرفاهية
(4)
.
* * *
40 -
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ النَّاسُ إِذَا رَأَوْا أَوَّلَ الثَّمَرِ جَاءُوا بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَإِذَا أَخَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي ثِمَارِنَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي مَدِينَتِنَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا وَفِي مُدِّنَا،
(1)
الطبيخ لغة في البطيخ.
(2)
«سنن أبي داود» (3836)، وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده جيد.
(3)
رواه أحمد (12449)، وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين.
(4)
«فتح الباري» 9/ 573، «إرشاد الساري» 8/ 243.
اللَّهُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَبْدُكَ وَخَلِيلُكَ وَنَبِيُّكَ، وَإِنِّي عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ، وَإِنَّهُ دَعَاكَ لِمَكَّةَ، وَإِنِّي أَدْعُوكَ لِلمَدِينَةِ بِمِثْلِ مَا دَعَاكَ بِهِ لِمَكَّةَ وَمِثْلِهِ مَعَهُ»، قَالَ: ثُمَّ يَدْعُو أَصْغَرَ وَلِيدٍ يَرَاهُ فَيُعْطِيهِ ذَلِكَ الثَّمَرَ.
• الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول في التعريف براويه:
أبو هريرة تقدم التعريف به في الحديث رقم 22.
* الوجه الثاني: في تخريجه:
الحديث أخرجه مسلم في صحيحه
(1)
.
* الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:
(صاعنا)، الصاع: مكيال تكال به الحبوب ونحوها، وقدّره جمهور العلماء بأربعة أمداد، وهو ما يعادل تقريباً:(2172) غراماً.
(مُدنا)، المد بضم الميم: مكيال تكال به الحبوب ونحوها، وقدَّره جمهور العلماء تقريباً:(543) غراماً تقريباً.
* الوجه الرابع: مقصود الحديث: أن الناس كانوا إذا طلع أول الثمر من التمر، أهدوا منه للنبي صلى الله عليه وسلم رغبة منهم في دعائه ومباركته، وإعلاماً له صلى الله عليه وسلم بابتداء صلاحه لما يتعلق به من الزكاة وغيرها، وتوجيه الخارصين، كما أفاده الإمام النووي رحمه الله
(2)
.
وقال العلامة الزرقاني رحمه الله: إنهم كانوا يفعلون ذلك؛ «إما هدية وجلالة ومحبة وتعظيماً، وإما تبركاً بدعائه لهم بالبركة، وهو الذي يغلب على ظني»
(1)
.
وقال الباجي رحمه الله: «قوله رضي الله عنه: كان الناس إذا رأوا أول الثمر يريد: أول ثمر النخل؛ لأنه هو مقصود ثمارهم»
(2)
.
* الوجه الخامس: قوله في الحديث: «اللهم بارك لنا في ثمارنا، وبارك لنا في مدينتنا» المراد به: الدعاء بحصول البركة الدينية والدنيوية، وقد استجاب الله تبارك وتعالى لنبيه هذا الدعاء، فأصبحت المدينة وثمرها أعظم بركة من غيرها، كما هو مشاهد، وأصبح المد والصاع فيها يكفي ما لا يكفي في غيرها.
* الوجه السادس: في الحديث دليل على ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من مكارم الأخلاق، وكمال الشفقة والرحمة وملاطفة الصغار، وقد خصهم بإعطاء ذلك الثمر لكونهم أرغب فيه، وأكثر تطلعاً إليه وحرصاً عليه من غيرهم
(3)
.
* الوجه السابع: دل الحديث أيضاً على فضل المدينة حيث دعا لها النبي صلى الله عليه وسلم بالبركة وأن يجعل فيها ضعف ما بمكة من البركة، وقد استجاب الله تبارك وتعالى له هذا الدعاء. والأحاديث الواردة في فضائل المدينة كثيرة شهيرة.
28 - بَابُ مَا جَاءَ فِي صِفَةِ شَرَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
-
أي بيان الأحاديث الواردة في صفة شراب رسول الله صلى الله عليه وسلم. والشراب: ما يشرب من السوائل، كالماء والنبيذ وغيرهما.
41 -
عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كَانَ أَحَبَّ الشَّرَابِ إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحلو البارد» .
• الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في التعريف براويه:
عائشة رضي الله عنها تقدم التعريف بها في الحديث رقم 5.
* الوجه الثاني: في تخريجه:
الحديث أخرجه الترمذي
(1)
في السنن وأعله بالإرسال، فقال:«والصحيح ما روي عن الزهري عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً» . لكن صحح الحديث الحاكم في المستدرك
(2)
وأقره الذهبي، وصححه الألباني
(3)
وشعيب الأرناؤوط
(4)
بشواهده.
* الوجه الثالث: في الحديث بيان للشراب الذي كان يحبه صلى الله عليه وسلم، وهو ما
(1)
«سنن الترمذي» (1895).
(2)
«مستدرك الحاكم» (7200).
(3)
«الصحيحة» (3006).
(4)
تحقيق «مسند أحمد» (24100).
جمع صفتين: الحلاوة والبرودة. وهذا يشمل: الماء العذب، والماء الممزوج بالعسل، أو الذي نُقِعَ فيه تمر أو زبيب ليحلو. والمراد بالبارد: أي برودة معتدلة، وكذلك الحلاوة المعتدلة.
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله: أن الشراب إذا جمع وصفي الحلاوة والبرودة فإنه يكون من أنفع الأشياء للبدن، ومن أكبر أسباب حفظ الصحة، وتحصل به التغذية، وتنفيذ الطعام إلى الأعضاء
(1)
.
* الوجه الرابع: ومن محبة النبي صلى الله عليه وسلم للماء العذب؛ ما روته السيدة عائشة رضي الله عنها: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُستعذَب له الماء من بيوت السقيا» . وهي عين بينها وبين المدينة يومان
(2)
.
ومعنى «يُستعذَب له الماء» أي يطلب له الماء العذب ويحضر له من تلك العين لكون كثير من مياه المدينة كان مالحاً.
* الوجه الخامس: قال العلماء رحمهم الله: تبريد الماء وتحليته لا ينافي كمال الزهد، لأن فيه مزيد الشهود لنعم الله تعالى وإخلاص الشكر له، وليس في شرب الماء المالح فضيلة
(3)
.
وقد رَدّ الإمام ابن الجوزي (ت: 597 هـ) على بعض جهلة المتصوفة الذين يتقربون إلى الله بترك شرب الماء البارد، والماء الصافي، وبيّن خطأهم ومخالفتهم للهدي النبوي، وقال: إن شرب الماء الكدر يولّد الحصا في
(1)
«زاد المعاد» 4/ 206.
(2)
«سنن أبي داود» (3735)، وجود إسناده الحافظ ابن حجر في «الفتح» 10/ 74.
(3)
حاشية الباجوري على «الشمائل» ص 322.
الكلى والسدد في الكبد، وأن النفس لها حق على صاحبها، وليس للمرء أن يؤذي نفسه
(1)
.
* * *
42 -
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: دَخَلْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَا وَخَالِدُ بْنُ الوَلِيدِ عَلَى مَيْمُونَةَ، فَجَاءَتْنَا بِإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ، فَشَرِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا عَلَى يَمِينِهِ وَخَالِدٌ عن شِمَالِهِ، فَقَالَ لِي:«الشَّرْبَةُ لَكَ. فَإِنْ شِئِتَ آثَرْتَ بِهَا خَالِداً» . فَقُلْتُ: مَا كنت لأوثر على سُؤْرِكَ أَحداً، ثُمَّ قَالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:«مَنْ أَطْعَمَهُ اللَّهُ طَعَاماً فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ وَأَطْعِمْنَا خَيْراً مِنْهُ، وَمَنْ سَقَاهُ الله عز وجل لَبَناً فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ وَزِدْنَا مِنْهُ» ، ثُمَّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ شَيْءٌ يُجْزِئُ مَكَانَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ غَيْرُ اللَّبَنِ» .
• الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في التعريف براويه:
ابن عباس تقدم التعريف به في الحديث رقم 4.
* الوجه الثاني: في تخريجه:
الحديث أخرجه الترمذي
(2)
في السنن بتمامه وحسنه، وأخرجه أبو
(1)
«تلبيس إبليس» ص 195.
(2)
«سنن الترمذي» (3455)،
داود
(1)
وابن ماجه
(2)
مختصراً، وحسنه ابن القيم
(3)
، والحافظ ابن حجر
(4)
.
* الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:
(اللبن): المراد به: الحليب الطبيعي الذي يحلب من ضروع المواشي، وأما اللبن المعروف اليوم بالرائب؛ فهذا يُصَنَّع من الحليب بطريقة خاصة.
* الوجه الرابع: ميمونة الواردة في الحديث هي: أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث بنت حزن الهلالية رضي الله عنها، زوج النبي صلى الله عليه وسلم وكانت خالة لابن عباس وخالد بن الوليد، وهذا يوضح سبب دخولهما عليها في الحديث.
* الوجه الخامس: دل الحديث على أن السنة تقديم من على اليمين على من على الشمال في الشرب ولو كان أقلّ سناً أو أقل فضلاً، حيث قدَّم النبي صلى الله عليه وسلم ابن عباس على خالد بن الوليد وهو أكبر سناً وقدراً من ابن عباس.
ومن نظائر هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي مرة بلبن فشرب منه، وكان عن يساره أبو بكر الصديق وعن يمينه أعرابي، فأعطى الأعرابي، وقال:«الأيمن فالأيمن»
(5)
.
لكن قال العلماء إن الأيمن له أن يؤثر الأيسر في الشراب على نفسه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث:«إن شئت آثرتَ بها خالداً» .
* الوجه السادس: دل الحديث على فضل اللبن، وأنه أفضل الأغذية
(1)
«سنن أبي داود» (3730).
(2)
«سنن ابن ماجه» (3426).
(3)
«زاد المعاد» 2/ 366.
(4)
«نتائج الأفكار»
(5)
«صحيح البخاري» (5612).
على الإطلاق، وفي القرآن الكريم:{وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ} [النحل: 66]، وقال تعالى:{مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ} [محمد: 15].
وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أسري به إلى بيت المقدس، أتاه جبريل عليه السلام بإناء من خمر وإناء من عسل وإناء من لبن، فاختار اللبن، فقال له جبريل: هي الفطرة التي أنت عليها وأمتك
(1)
. وقد قيل: إن سبب تسمية اللبن فطرة أنه أول شيء يدخل بطن المولود ويشق أمعاءه.
* الوجه السابع: اختلف أيهما أفضل اللبن أم العسل الذي أخبر الله بأن فيه شفاء؟ ففضل بعضهم اللبن، وعكس البعض، وجمع ابن رسلان بأن الأفضل من جهة التغذي والري اللبن، والعسل أفضل من جهة التداوي من كل داء وباعتبار الحلاوة، ففي كل منهما خصوصية يترجح بها
(2)
.
(1)
«صحيح البخاري» (3887)، «صحيح مسلم» (259)، واللفظ للبخاري.
(2)
«شرح سنن أبي داود» لابن رسلان 15/ 273.
29 - بَابُ مَا جَاءَ فِي صِفَةِ شُرْبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
-
أي بيان الأحاديث الواردة في صفة شربه صلى الله عليه وسلم، وما يتعلق بذلك من أحكام وآداب شرعية.
43 -
عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ:«رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يشربُ قائماً وقاعداً» .
• الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في التعريف براويه:
راوي الحديث هو الصحابي الجليل: عبد الله بن عمرو بن العاص بن وائل القرشي السَّهمي، أبو محمد، أحد فضلاء الصحابة وعلمائهم ونساكهم، ومن أكثرهم رواية للحديث، توفي سنة: 65 هـ.
* الوجه الثاني: في تخريجه:
الحديث أخرجه الترمذي
(1)
في السنن وحسنه، وحسنه الألباني وقال: إن له شواهد كثيرة
(2)
.
(1)
«سنن الترمذي» (1883).
(2)
«مختصر الشمائل» (177).
* الوجه الثالث: دل حديث الباب على جواز الشرب حال القعود وهو إجماع، وكذا على جواز الشرب حال القيام. وقد وردت أحاديث أخرى تشهد لذلك، منها: حديث النَّزَّال بن سَبْرَة، قال: أتى عليٌّ رضي الله عنه على باب الرَّحبة فشرب قائماً، فقال: إن ناساً يكره أحدهم أن يشرب وهو قائم، وإني «رأيت النبي صلى الله عليه وسلم فعل كما رأيتموني فعلت»
(1)
.
ومنها حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال:«شرب النبي صلى الله عليه وسلم قائماً من زمزم»
(2)
.
ومنها: حديث سعد بن أبي وقاص: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يشرب قائماً»
(3)
.
ومنها حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: «كنا نأكل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نمشي، ونشرب ونحن قيام»
(4)
.
وقد عارض هذه الأحاديثَ أحاديثُ أخرى وردت في النهي عن الشرب قائماً، منها: حديث أنس بن مالك رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم زجر عن الشرب قائماً»
(5)
.
ومنها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يشربن أحد منكم قائماً، فمن نسي فليستقي»
(6)
.
(1)
«صحيح البخاري» (5615).
(2)
«صحيح البخاري» (5617).
(3)
رواه الترمذي في «الشمائل» (184)، وحسن إسناده العيني في «عمدة القاري» 21/ 192
(4)
«سنن الترمذي» (1880)، وقال: حسن صحيح، وصححه الألباني.
(5)
«صحيح مسلم» (2024).
(6)
«صحيح مسلم» (2026).
وقد اختلف في الجمع بين هذه النصوص، والذي عليه الأئمة الجامعون بين الفقه والحديث، كالإمام الخطابي والبغوي والمازري والقاضي عياض والنووي؛ أن النهي محمول على التنزيه والإرشاد والتأديب، لا على التحريم، وأما شربه صلى الله عليه وسلم قائماً فلبيان الجواز
(1)
. قال الحافظ ابن حجر: «وهذا أحسن المسالك وأسلمها وأبعدها من الاعتراض»
(2)
.
* الوجه الرابع: قال ابن القيم: «وللشرب قائماً آفات عديدة، منها: أنه لا يحصل به الري التام، ولا يستقر في المعدة حتى يقسمه الكبد على الأعضاء، وينزل بسرعة وحدة إلى المعدة فيخشى منه أن يبرد حرارتها، ويشوشها، ويسرع النفوذ إلى أسفل البدن بغير تدريج، وكل هذا يضر بالشارب، وأما إذا فعله نادراً أو لحاجة لم يضره»
(3)
انتهى كلامه رحمه الله.
* الوجه الخامس: ورد في صحيح مسلم من طريق عمر بن حمزة، عن أبي غطفان، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يشربن أحد منكم قائماً، فمن نسي فليستقي»
(4)
.
وهذا الحديث الذي فيه الأمر بالاستقاء لمن شرب قائماً؛ تكلم فيه بعض أهل العلم، بالرغم من إخراج مسلم له، فقال القاضي عياض: «لا خلاف بين أهل العلم أن من يشرب قائماً ناسياً فليس عليه أن يستقي،
(1)
«عمدة القاري» 21/ 193.
(2)
«فتح الباري» 10/ 84.
(3)
«زاد المعاد» 4/ 210.
(4)
«صحيح مسلم» (2026).
وعمر بن حمزة لا يتحمل مثل هذا الحديث لمخالفة غيره له، والصحيح أنه موقوف على أبى هريرة.»
(1)
.
وأعلَّ هذه اللفظة الألباني بالنكارة، وقال:«وعمر هذا وإن احتج به مسلم فقد ضعفه الإمام أحمد وابن معين والنسائي وغيرهم، ولذلك أورده الذهبي في «الميزان» وذكره في «الضعفاء» ، وقال:«ضعفه ابن معين لنكارة حديثه» . وقال الحافظ في «التقريب» : «ضعيف» . انتهى كلام الألباني
(2)
.
نعم صحح الألباني حديثاً آخر في الأمر بالاستقاء وهو حديث أبي زياد الطحان، قال: سمعت أبا هريرة، يقول: عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه رأى رجلاً يشرب قائماً، فقال له:«قِهْ» قال: لَِمهْ؟ قال: «أيسرك أن يشرب معك الهر؟» قال: لا. قال: «فإنه قد شرب معك من هو شر منه: الشيطان»
(3)
.
لكن خالفه الشيخ شعيب الأرناؤوط رحمه الله، وأعل الحديث، فقال:«غريب تفرد بروايته أبو زياد الطحان عن أبي هريرة، والغرابة بينة في متنه»
(4)
.
قلت: أبو زياد الطحان قال عنه الذهبي: «لا يُعرف» ، لكن نقل ابن أبي حاتم عن ابن معين توثيقه، وقال أبو حاتم: شيخ صالح الحديث، فمثل هذا لا يحتمل التفرد برواية هذا الحديث، والله أعلم.
* * *
(1)
«إكمال المعلم» 6/ 491 باختصار.
(2)
«الضعيفة» للألباني (927).
(3)
«مسند أحمد» (8003)، «الصحيحة» للألباني (175).
(4)
تعليق شعيب الأرناؤوط على «مسند أحمد» (8003).
44 -
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: كَانَ يَتَنَفَّسُ فِي الإِنَاءِ ثَلَاثاً إِذَا شَرِبَ، وَيَقُولُ:«هُوَ أَمْرَأُ وَأَرْوَى» .
• الكلام على الحديث من وجوه:
* الوجه الأول: في التعريف براويه:
أنس بن مالك تقدم التعريف به في الحديث رقم 1.
* الوجه الثاني: في تخريجه:
…
الحديث أخرجه مسلم في الصحيح، ولفظه:«إنه أروى وأبرأ وأمرأ»
(1)
.
* الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:
(أمرأ): أي أسوغ وأكثر انسياباً وهضماً.
(أروى): أي أكثر رياً وأقمع للعطش.
(أبرأ): أي أكثر برأ وصحة وأسلم من الأذى الذي يحصل بسبب الشرب دفعة واحدة.
* الوجه الرابع: معنى قوله: «كان يتنفس في الإناء ثلاثاً إذا شرب» أي: كان من عادته صلى الله عليه وسلم ألا يشرب دفعة واحدة، وإنما يشرب على ثلاث دفعات، فيشرب، ثم يزيل الإناء عن فمه فيتنفس، ثم يعود فيشرب، ثم يزيل الإناء عن فمه فيتنفس، ثم يعود يشرب الثالثة. وكان يقول:«إنه أروى وأبرأ وأمرأ» ، أي أن هذه الطريقة في الشرب أكثر رياً للشارب، وأكثر انسياباً للشراب في جوفه، وأكثر حفظاً لصحته.
(1)
«صحيح مسلم» (2028).
* الوجه الخامس: ثبت في الصحيحين من حديث أبي قتادة الحارث بن ربعي الأنصاري رضي الله عنه مرفوعاً: «إذا شرب أحدكم فلا يتنفس في الإناء»
(1)
. ولا تعارض بين هذا الحديث وبين حديث الباب، لأن مقصوده: النهي عن التنفس داخل الإناء أي أثناء الشرب، فإن هذا يعكر الشراب ويقذره، وربما أورث ريحاً كريهة في الإناء فيعافه من يشرب بعده فلذلك نهى عنه، وهذا يتفق مع حديث الباب، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتنفس خارج الإناء.
قال الحافظ ابن حجر: «وهذا النهي للتأدب لإرادة المبالغة في النظافة، إذ قد يخرج مع النَفَس بصاق أو مخاط أو بخار رديء، فيكسبه رائحة كريهة، فيتقذر بها هو أو غيره عن شربه»
(2)
.
وإذن فالمستحب هو التنفس خارج الإناء، كما أفاده حديث أنس رضي الله عنه، والمكروه هو التنفس داخل الإناء، كما أفاده حديث أبي قتادة رضي الله عنه، والله تعالى أعلم.
(1)
«صحيح البخاري» (153)، «صحيح مسلم» (267)، واللفظ للبخاري.
(2)
«فتح الباري» 1/ 253.
30 - بَابُ مَا جَاءَ فِي تَعَطُّرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
-
أي بيان الأحاديث الواردة في تعطر رسول الله صلى الله عليه وسلم. والتعطر هو: استعمال العطر وهو الطيب، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الطيب، بالرغم من طيب رائحة بدنه صلى الله عليه وسلم، ولو لم يمس طيباً، كما جاء في حديث أنس رضي الله عنه قال:«ما شممت عنبراً قط، ولا مسكاً، ولا شيئاً أطيب من ريح رسول الله صلى الله عليه وسلم»
(1)
.
45 -
عَنْ مُوسَى بْنِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ:«كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُكَّةٌ يَتَطَيَّبُ مِنْهَا» .
• الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في التعريف براويه:
أنس بن مالك تقدم التعريف به في الحديث رقم 1.
* الوجه الثاني: في تخريجه:
الحديث أخرجه أبو داود
(2)
، وقال الحافظ ابن الملقن:«إسناده صحيح ورجاله كلهم ثقات، مخرج لهم في الصحيح» ، ثم نقل عن الإمام ابن المنذر أنه جوَّد إسناده
(3)
، وقال الحافظ المناوي: سنده حسن
(4)
.
(1)
«صحيح مسلم» (2330).
(2)
«سنن أبي داود» (4162).
(3)
«البدر المنير» 1/ 501.
(4)
«كشف المناهج والتناقيح» (3564).
* الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:
(السكة): بضم السين وتشديد الكاف، يحتمل أن تكون نوعاً من الطيب، ويحتمل أن تكون ظرفاً أو وعاء يوضع فيه الطيب.
* الوجه الرابع: في الحديث دليل على استحباب وضع الطيب، وأنه لا ينافي الزهد.
* الوجه الخامس: كانت رائحة بدن النبي صلى الله عليه وسلم طيّبة، ولو لم يمس طيباً، كما تقدم قبل قليل، وكان مع ذلك يحب الطيب، وكان يقول:«حُبّبَ إليّ من الدنيا: النساء والطيب، وجعل قرة عيني في الصلاة»
(1)
.
* الوجه السادس: من محبته صلى الله عليه وسلم للطيب؛ أنه كان لا يردّه إذا قُدّم إليه، فقد ثبت من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه:«أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يردّ الطيب»
(2)
.
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من عرض عليه طيّبُ فلا يرده، فإنه طيب الريح، خفيف المحمل»
(3)
.
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ثلاث لا تردّ: الوسائد والدهن واللبن»
(4)
.
(1)
«سنن النسائي» (3939) من حديث أنس بن مالك، وصحح إسناده ابن الملقن في «البدر المنير» 1/ 501.
(2)
«صحيح البخاري» (5929).
(3)
«سنن أبي داود» (4152) من حديث أبي هريرة، وصححه أبو عوانة في «المستخرج» (9920)، وابن حبان (5109)، وقال أحمد شاكر في تعليقه على «المسند» (8247): إسناده صحيح.
(4)
«سنن الترمذي» (2790)، و» الشمائل» (209) من حديث ابن عمر، وحسن إسناده ابن حجر في «الفتح» 5/ 209.
والمراد بالدهن: الطيب كما بَيّنَ الترمذي بعد إخراج الحديث.
قال العلماء: إذا أكرم أحدٌ ضيفاً بشيء من هذه الثلاث فلا ينبغي له ردّها، لخفتها وقلة المنّة فيها. وألحقوا بها كل ما لا منّة عرفاً في قبوله.
(1)
.
* الوجه الثامن: ذكر بعض العلماء: أن وضع الطيب يتأكد للرجال في نحو يوم الجمعة، والعيدين، وعند الأحرام، وحضور المحافل، وقراءة القرآن، والعلم، والذكر. ويتأكد للرجل والمرأة عند المباشرة، فإنه من حسن المعاشرة
(2)
.
(1)
«زاد المعاد» 4/ 257.
(2)
«جمع الوسائل» للقاري 2/ 5.
31 - بَابُ كَيْفَ كَانَ كَلَامُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
-
أي بيان الأحاديث الواردة في صفة كلامه صلى الله عليه وسلم. وقد ذكر العلماء: بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان أفصح الخلق لساناً وأعذبهم بياناً وأحلاهم منطقاً، صلوات الله وسلامه عليه.
46 -
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ:«مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْرُدُ سرْدَكُمْ هَذَا، وَلَكِنَّهُ كَانَ يَتَكَلَّمُ بِكَلَامٍ بَيِّنٍ فَصْلٍ، يَحْفَظُهُ مَنْ جَلَسَ إِلَيْهِ» .
• الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في التعريف براويه:
عائشة تقدم التعريف بها في الحديث رقم 5.
* الوجه الثاني: في تخريجه:
الحديث أخرجه بهذا اللفظ الترمذي في السنن، وقال: حسن صحيح
(1)
. وأخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين
(2)
بلفظ: «لم يكن يسرد الحديث كسردكم» ، دون بقية الحديث. وفي رواية عندهما:«كان يحدث حديثاً لو عدَّه العاد لأحصاه»
(3)
.
(1)
«سنن الترمذي» (3639).
(2)
«صحيح البخاري» (3568)، «صحيح مسلم» (2493).
(3)
«صحيح البخاري» (3567)، «صحيح مسلم» (2493).
* الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:
(يسرد سردكم هذا): أي يتابع الحديث استعجالاً بعضه تلو بعض، فيلتبس على السامع.
(بكلام فصل): أي مفصول عن غيره بحيث يفهمه السامع جيداً.
* الوجه الرابع: جاء في الصحيحين بيان سبب ورود هذا الحديث، وهو أن أبا هريرة رضي الله عنه كان قد جلس مرة إلى جنب حجرة عائشة، يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قام وانصرف، وعائشة تسمعه وهي تصلي، فلما فرغت من صلاتها أنكرت سرعة أبي هريرة في التحديث، وقالت لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يسرد كسردكم هذا
(1)
.
* الوجه الخامس: دل الحديث على كيفية كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه كان يتكلم بأناة ومهل، وبكلام واضح مفصَّل مبيَّنٍ، يفهمه ويحفظه كل سامع. بخلاف بعض الناس فإنه يكثر الحديث، ويسرع فيه حتى تختفي مع السرعة بعض الحروف، وربما اختفت بعض الكلمات أيضاً!!
* الوجه السادس: اعتذر بعض العلماء عن إسراع أبي هريرة رضي الله عنه بأنه كان واسع الرواية، كثير المحفوظ، فكان لا يتمكن من التمهل عند إرادة التحديث، كما قال بعض البلغاء: أريد أن أقتصر فتتزاحم القوافي عليّ.
* الوجه السابع: دل الحديث على استحباب المهل والأناة في الكلام، وعدم الاستعجال فيه، خاصة في مجالس التحديث بالعلم وتلاوة القرآن،
(1)
رواية البخاري لم تسم أبا هريرة، وسمته رواية مسلم.
تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم، وحتى يفهم السامع جيداً ولا يلتبس عليه القول.
* الوجه الثامن: ومن أساليب النبي صلى الله عليه وسلم في الكلام، ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه قال:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثاً، حتى تُفهم عنه»
(1)
، وفي رواية الترمذي:«لتُعقل عنه»
(2)
.
وأوضح العلماء بأن هذا لم يكن هديه صلى الله عليه وسلم في كل كلامه، وإنما كان يفعله أحياناً إذا عرض للسامعين نحو لغط فاختلط عليهم، فيعيده لهم ليفهموه، أو إذا كثر المخاطبون فيلتفت مرة يميناً، وأخرى شمالاً، وأخرى أماماً، ليسمع الكل
(3)
.
(1)
«صحيح البخاري» (95).
(2)
«الشمائل» للترمذي (225).
(3)
«فيض القدير» 5/ 234.
32 - بَابُ مَا جَاءَ فِي ضَحِكِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
-
أي بيان الأحاديث والأخبار الواردة في ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفته. وقد ذكر أهل العلم بأن الضحك من خصائص الإنسان، والغالب أنه ينشأ عن سرور يعرض للقلب، وقد يضحك غيرُ المسرور.
47 -
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ رضي الله عنه قَالَ: «مَا كَانَ ضَحِكُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَّا تَبَسُّماً» .
• الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في التعريف براويه:
عبدالله بن الحارث هو: ابن جَزْء الزُّبيدي، أحد الصحابة الكرام وعلمائهم، شهد فتح مصر وسكنها، وتوفي بها سنة: 86 هـ.
(1)
* الوجه الثاني: في تخريجه:
الحديث أخرجه الترمذي في السنن
(2)
وقال: حديث صحيح، وصححه الألباني وعبد القادر الأرناؤوط.
* الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:
(التبسم): التبسم من مبادي الضحك، والضحك انبساط الوجه حتى
تظهر الأسنان من السرور، فإن كان بصوت وكان بحيث يسمع من بعد فهو القهقهة، وإلا فهو الضحك، وإن كان بلا صوت فهو التبسم، نقله المباركفوري عن أهل اللغة
(1)
.
* الوجه الرابع: دل الحديث على أن ضحك النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يجاوز في غالبه التبسم من غير صوت، وهذا من كمال وقاره وحشمته صلى الله عليه وسلم.
ونظير هذا ما رواه مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: «ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعاً ضاحكاً، حتى أرى منه لهواته، إنما كان يتبسم»
(2)
.
* الوجه الخامس: لكنه صلى الله عليه وسلم أحياناً ربما ضحك بصوت خفيف منخفض دون قهقهة حتى تظهر نواجذه، كما ثبت ذلك في غير ما حديث، منها حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتى رجلٌ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هلكت، وقعت على أهلي في رمضان، قال:«أعتق رقبة» ، قال: ليس لي، قال:«فصم شهرين متتابعين» ، قال: لا أستطيع، قال:«فأطعم ستين مسكيناً» ، قال: لا أجد، فأتي بعَرَق (زنبيل) فيه تمر، فقال:«أين السائل، تصدق بها» ، قال: على أفقر مني، والله ما بين لابتيها أهل بيت أفقر منّا، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه (أنيابه)، قال:«فأنتم إذا»
(3)
.
وهذا الحديث وأمثاله يدل على أن الضحك ليس بمكروه في بعض
(1)
«تحفة الأحوذي» 10/ 87.
(2)
«صحيح البخاري» (6092)، «صحيح مسلم» (899).
(3)
«صحيح البخاري» (6087).
المواطن، وليس بمسقط للمروءة إذا لم يجاوز به الحد المعتاد.
(1)
.
* الوجه السادس: روى البخاري في الأدب المفرد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: «لا تكثروا الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب»
(2)
.
قلت: لا ريب أن كثرة الضحك - حتى يغلب على صاحبه - مذموم منهي عنه، وهو يميت القلب كما أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم، ومعنى موته: أنه يصير مغموراً في الظلمات، بمنزلة الميت الذي لا ينفع نفسه.
كما أن كثرة الضحك ربما أورثت الضغينة في بعض الأحوال، كما أنها تسقط المهابة والوقار، نسأل الله السلامة.
(1)
«فتح الباري» 10/ 506.
(2)
«الأدب المفرد» (253)، وحسنه الألباني وعبد القادر الأرناؤوط.
33 - بَابُ مَا جَاءَ فِي صِفَةِ مِزَاحِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
-
أي بيان الأحاديث الواردة في صفة مزاحه صلى الله عليه وسلم. والمزاح بضم الميم وكسرها هو الانبساط مع الغير من غير إيذاء له، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمزح أحياناً مع أصحابه من باب التأليف لهم وحسن العشرة.
وقد ذكر العلماء بأن المزاح وإن كان مطلوباً وهو من حسن العشرة لكن لا ينبغي المداومة عليه والإكثار منه، لأنه قد يفضي إلى الإيذاء ويسبب العداوة ويسقط المهابة، ولذلك كان يفعله النبي صلى الله عليه وسلم عن ندرة وفي أوقات متفرقة
(1)
.
48 -
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ:«يَا ذَا الْأُذُنَيْنِ» ، «يَعْنِي يُمَازِحُهُ» .
• الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في التعريف براويه:
أنس بن مالك تقدم التعريف به في الحديث رقم 1.
(1)
حاشية الباجوري على «الشمائل» ص 389.
* الوجه الثاني: في تخريجه:
الحديث أخرجه أبو داود
(1)
، والترمذي
(2)
وصححه، وحسنه ابن القطان
(3)
، وشعيب الأرناؤوط، وصححه الألباني.
* الوجه الثالث: هذا القول قاله النبي صلى الله عليه وسلم لأنس، من باب المزاح والانبساط والمداعبة، وإلا فإن كل إنسان صاحب أذنين. وقيل أراد صلى الله عليه وسلم حض أنس وتنبيهه على اليقظة، وحسن الاستماع لما يقال له، لأن السمع إنما يكون بحاسة الأذن.
والمعنى الأول أظهر، وهو الذي فهمه الإمام الترمذي حيث أورد الحديث في باب مزاحه صلى الله عليه وسلم، وكذا هو فهم راوي الحديث (أبو أسامة)، عندما قال:(يعني يمازحه).
* الوجه الرابع: في الحديث مداعبة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه وخدمه ومزاحه معهم، وهذا من تواضعه وحسن أخلاقه ولطفه. وكان مزاحه صلى الله عليه وسلم مزاحاً خفيفاً لطيفاً، ليس فيه كذب ولا تزيد، ولذلك صح أن الصحابة قالوا:«يا رسول الله إنك لتداعبنا، قال: إني لا أقول إلا حقاً»
(4)
.
* الوجه الخامس: دل الحديث أيضاً على جواز دعاء الإنسان بغير اسمه، لا سيما إذا كان ليس من الألقاب المكروهة لديه.
(1)
«سنن أبي داود» (5002).
(2)
«سنن الترمذي» (3828).
(3)
«بيان الوهم والإيهام» 5/ 822.
(4)
«سنن الترمذي» (1991) وحسنه، وقال عبد القادر الأرناؤوط في تعليقه على «جامع الأصول» 11/ 54: إسناده حسن.
49 -
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: إِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيُخَالِطُنَا حَتَّى يَقُولَ لِأَخٍ لِي صَغِيرٍ: «يَا أَبَا عُمَيْرٍ، مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ؟» .
• الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في التعريف براويه:
أنس بن مالك تقدم التعريف به في الحديث رقم 1.
* الوجه الثاني: في تخريجه:
الحديث أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين
(1)
، ولفظه عند مسلم: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقاً، وكان لي أخ يقال له: أبو عمير، قال: أحسبه، قال: كان فطيماً (مفطوماً)، قال: فكان إذا جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآه، قال:«أبا عمير ما فعل النُّغير» قال: فكان يلعب به.
* الوجه الثالث: في غريبه:
(النغير): تصغير النغر، هو طائر صغير يعيش في الغابات والمزارع، جمعه نغران.
* الوجه الرابع: دل الحديث على جواز المزاح مع الأطفال والصغار وملاطفتهم بما ليس فيه إثم، وهو من حسن الخلق وكرم الشمائل وحسن التربية.
* الوجه الخامس: حديث أنس هذا اشتمل على كثير من الفوائد والأحكام، ومن جملتها فيما ذكره العلماء: جواز تكنية من لم يولد له،
(1)
«صحيح البخاري» (6129)، «صحيح مسلم» (2150).
وتكنية الطفل وأنه ليس كذباً، وجواز المزاح فيما ليس أثماً، وجواز لعب الصبي بالعصفور، وتمكين الولي إياه من ذلك، وجواز السجع بالكلام الحسن بلا كلفة، وملاطفة الصبيان وتأنيسهم، وبيان ما كان النبي صلى الله عليه وسلم عليه من حسن الخلق وكرم الشمائل والتواضع، وزيارة الأهل .. إلى آخره
(1)
.
* * *
50 -
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، أَنَّ رَجُلًا اسْتَحْمَلَ
(2)
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «إِنِّي حَامِلُكَ عَلَى وَلَدِ نَاقَةٍ» . فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَصْنَعُ بِوَلَدِ النَّاقَةِ؟ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «وَهَلْ تَلِدُ الْإِبِلَ إِلَا النُّوقُ» .
• الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في التعريف براويه:
أنس بن مالك تقدم التعريف به في الحديث رقم 1.
* الوجه الثاني: في تخريجه:
الحديث أخرجه أبو داود
(3)
، والترمذي
(4)
وصححه، وصحح إسناده الألباني وشعيب الأرناؤوط وعبد القادر الأرناؤوط.
* الوجه الثالث: توهم هذا الرجل أن الولد لا يطلق إلا على الصغير،
(1)
شرح النووي على صحيح مسلم 14/ 129.
(2)
استحمل: أي سأله أن يجعله على دابة.
(3)
«سنن أبي داود» (4998).
(4)
«سنن الترمذي» (1991).
وهو غير قابل للركوب، لذلك قال: وما أصنع بولد ناقة؟!. فبين النبي صلى الله عليه وسلم أنه لو تدبر لعلم أن الصغير والكبير كلهم أولاد ناقة، فلا وجه لاعتراضه إذن!!
* الوجه الرابع: في الحديث مباسطة النبي صلى الله عليه وسلم للناس وملاطفته لهم، وهكذا ينبغي لأهل العلم والدعاة أن يكونوا سهلين محببين للناس قريبين منهم، فإن هذا أدعى لقبول كلامهم والتأثر به، وألا يعيشوا في أبراج عاجية ليصدروا منها الأوامر والتوجيهات.
كما أن في الحديث إرشاداً إلى أنه ينبغي لمن سمع قولاً أن يتأمله، ولا يبادر إلى رده إلا بعد أن يدرك غوره.
34 - بَابُ مَا جَاءَ فِي صِفَةِ كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الشِّعْرِ
أي بيان الأحاديث الواردة في صفة كلامه صلى الله عليه وسلم في الشعر. ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن شاعراً، ولا يحسن قول الشعر، بل إن الله تبارك وتعالى حرمه عليه، كما في قوله تعالى:{وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس: 69]، لكن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستشهد بشعر غيره أحياناً، ويعجبه سماع الشعر، وقد افترى الكفار عليه واتهموه بأنه شاعر، فردّ القرآن الكريم دعواهم هذه، وبيّن لهم أن الله لم يعلمه الشعر، ولا ينبغي لمقامه أن يكون شاعراً، لأن الله شرفه بمقام أعلى وأسمى، وهو مقام النبوة والرسالة.
51 -
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: قِيلَ لَهَا: هَلْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَمَثَّلُ
(1)
بِشَيْءٍ مِنَ الشِّعْرِ؟ قَالَتْ: كَانَ يَتَمَثَّلُ بِشِعْرِ ابْنِ رَوَاحَةَ، وَيَتَمَثَّلُ بِقَوْلِهِ:«وَيَأْتِيكَ بِالأَخْبَارِ مَنْ لَمْ تُزَوِّدِ» .
• الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في التعريف براويه:
عائشة رضي الله عنها تقدم التعريف بها في الحديث رقم 5.
(1)
يتمثل: يستشهد.
* الوجه الثاني: في تخريجه:
الحديث أخرجه الترمذي
(1)
وقال: حسن صحيح، وصححه الألباني بشواهده.
* الوجه الثالث: ابن رواحة هو الصحابي الجليل عبد الله بن رواحة الأنصاري الخزرجي، أحد فضلاء الصحابة وشعرائهم المحسنين، استشهد في غزوة مؤتة، وكان ثالث ثلاثة أمرائها، سنة: ثمان من الهجرة.
* الوجه الرابع: قوله «ويأتيك بالأخبار من لم تزود» ، هذا جزء من بيت لطرفة بن العبد في معلقته الشهيرة، وتمام البيت:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً
…
ويأتيك بالأخبار من لم تزود
أي يأتيك بالأخبار التي تريدها من لم تكلّفه بها ولم تعطه عليها زاداً، فلا ينبغي الاستعجال عليها.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتمثل بهذا البيت عندما يستبطئ عليه الخبر، كما دلت عليه رواية أحمد في المسند ولفظها:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استراث الخبر، تمثل فيه ببيت طرفة: ويأتيك بالأخبار من لم تزود»
(2)
.
* الوجه الخامس: دل الحديث على جواز قول الشعر وإنشاده والاستشهاد به، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستمع إلى الشعر أحياناً، ويستنشده ويعجبه الحسن منه.
ولا ريب أن للشعر الحسن تأثيراً حسناً على الناس، وهو يحمل في
(1)
«سنن الترمذي» (2848).
(2)
«مسند أحمد» (24023)، وقال شعيب الأرناؤوط: حديث حسن لغيره.
طياته كثيراً من التوجيهات الطيبة، والقيم النبيلة والحكم النافعة، ومن ثم أطلق عليه العرب بأنه (ديوان العرب)، لأنه مشتمل على خلاصة تجاربهم ومعارفهم وقيمهم.
وقد روى عمرو بن الشريد عن أبيه الشريد بن سويد الثقفي، قال: ردفت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً، فقال:«هل معك من شعر أُمية بن أبي الصلت شيء؟» قلت: نعم، قال:«هيه» ، فأنشدته بيتاً، فقال:«هيه» ، فأنشدته بيتاً، فقال:«هيه» ، حتى أنشدته مائة بيت
(1)
.
وكان شعر أمية بن أبي الصلت مشتملاً على كثير من الحكم، والدعوة إلى توحيد الله عز وجل، ونبذ الشرك والأصنام، لكنه أدرك الإسلام ولم يسلم!!
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم»
(2)
. وورد عند ابن عساكر بإسناد ضعيف عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «آمن شعره وكفر قلبه» .
* الوجه السادس: من اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بأمر الشعر ومعرفة تأثيره؛ أنه كان يأمر بالمنبر فينصب في المسجد لحسان بن ثابت رضي الله عنه ليقوم عليه ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«إن الله يؤيد حسان بروح القدس ما ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم»
(3)
.
(1)
«صحيح مسلم» (2255).
(2)
«صحيح البخاري» (3841)، «صحيح مسلم» (2256).
(3)
«سنن أبي داود» (5015)، «سنن الترمذي» (2846)، وقال: حسن صحيح، وصححه الحاكم في «المستدرك» (6058)، والألباني في «مختصر الشمائل» (213).
* الوجه السابع: قال العلماء: الشعر كالكلام حسنه حسن وقبيحه قبيح، وقد جاء في هذا المعنى حديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«الشعر بمنزلة الكلام، حسنه كحسن الكلام، وقبيحه كقبيح الكلام»
(1)
. وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن من الشعر حكمة»
(2)
.
وأما حديث: «لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً خير له من أن يمتلئ شعراً»
(3)
، فهذا محمول على الشعر الباطل، أو يكون المراد به أن يستولي عليه الشعر حتى يشغله عن القرآن وغيره من العلوم الشرعية وذكر الله تعالى والعبادة وهذا مذموم.
(1)
رواه البخاري في «الأدب المفرد» (865) من حديث عبد الله بن عمرو، وقال الألباني: صحيح لغيره.
(2)
«صحيح البخاري» (6145).
(3)
«صحيح البخاري» (6154)، «صحيح مسلم» (2257).
35 - بَابُ مَا جَاءَ فِي نَوْمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
-
أي بيان الأحاديث الواردة في صفة نومه صلى الله عليه وسلم، وما كان يقوله من الأذكار عند النوم وعند الاستيقاظ. والنوم من أعظم النعم التي امتن الله بها على خلقه، فبه تحصل الراحة وسكون الحركة وذهاب التعب، كما قال تعالى في محكم التنزيل:{وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23)} [الروم: 23].
52 -
عَنِ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ وَضَعَ كَفَّهُ اليُمْنَى تَحْتَ خَدِّهِ الأَيْمَنِ، وَقَالَ:«رَبِّ قِنِي عَذَابَكَ يَوْمَ تَبْعَثُ عِبَادَكَ» .
• الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في التعريف براويه:
البراء بن عازب هو: ابن الحارث الأنصاري الحارثي المدني، أحد أعيان الصحابة، نزل الكوفة، وروى أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وتوفي سنة: 72 هـ.
* الوجه الثاني: في تخريجه:
الحديث أخرجه الترمذي وحسنه
(1)
، وصحح إسناده الحافظ في الفتح
(2)
، وله شواهد عدة.
* الوجه الثالث: اشتمل الحديث على ثلاثة آداب، يستحب فعلها عندما يأوي المسلم إلى فراشه للنوم:
الأدب الأول: الاضطجاع على شقه الأيمن.
الأدب الثاني: وضع الكفّ اليمنى تحت الخدّ الأيمن.
الأدب الثالث: أن يقول قبل النوم: «رب قني عذابك يوم تبعث عبادك»
(3)
.
* الوجه الرابع: ورد في السُّنة المطهرة أدعية كثيرة مأثورة، كان النبي صلى الله عليه وسلم يقولها عند نومه، ومنها هذا الدعاء الوارد في الباب.
ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم باسمك أموت وأحيا»
(4)
.
ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت» . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قالهن ثم مات تحت ليلته
(5)
مات على الفطرة»
(6)
.
(1)
«سنن الترمذي» (3399).
(2)
«فتح الباري» 11/ 115.
(3)
«شرح الشمائل» للبدر ص 286.
(4)
«صحيح البخاري» (6314) من حديث حذيفة بن اليمان.
(5)
أي: في ليلته.
(6)
«صحيح البخاري» (6315) من حديث البراء بن عازب.
ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: «الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا، وكفانا وآوانا، فكم ممن لا كافي له ولا مؤوي»
(1)
.
وثبت عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه، ثم نفث فيهما فقرأ فيهما: قل هو الله أحد وقل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس، ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده، يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده يفعل ذلك ثلاث مرات»
(2)
.
* الوجه الخامس: من الأمور المستحبة عند النوم أيضاً: أن يتوضأ كما يتوضأ للصلاة، فينام على طهارة كاملة، فقد ثبت في الصحيح من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له:«إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على شقك الأيمن .. وذكر بقية الحديث»
(3)
.
كذلك تستحب قراءة آية الكرسي عند النوم، لكونها من أسباب حفظ المسلم من الشيطان حتى يصبح، ففي قصة أبي هريرة مع الشيطان الذي كان يأتي ويسرق من تمر الصدقة، وفيها أن الشيطان قال له: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية، فإنه لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«أما إنه قد صدقك وهو كذوب»
(4)
.
(1)
«صحيح مسلم» (2715) من حديث أنس بن مالك.
(2)
«صحيح البخاري» (5017).
(3)
«صحيح البخاري» (247).
(4)
«صحيح البخاري» (2311).
36 - بَابُ مَا جَاءَ فِي عِبَادَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
-
ظاهر عنوان الترجمة العموم في كل العبادات، لكن الأحاديث التي أوردها الترمذي في الباب خاصة بقيام الليل، فكأنه قال: باب ما جاء في عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قيام الليل.
53 -
عَنِ المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رضي الله عنه قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى انْتَفَخَتْ قَدَمَاهُ. فَقِيلَ لَهُ: أَتَتَكَلَّفُ هَذَا وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ قَالَ: «أَفَلَا أَكُونُ عَبْداً شَكُوراً» .
• الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في التعريف براويه:
مغيرة بن شعبة هو: ابن أبي عامر بن مسعود الثقفي، أحد الصحابة الكرام، وأحد دهاة العرب وقادتهم وولاتهم، أسلم في العام الخامس من الهجرة، وتوفي بالكوفة سنة: 50 هـ، وكان والياً عليها من قبل معاوية بن أبي سفيان.
* الوجه الثاني: في تخريجه: الحديث أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين بنحوه
(1)
.
(1)
«صحيح البخاري» (4836)، «صحيح مسلم» (2819).
* الوجه الثالث: كانت قدما رسول الله صلى الله عليه وسلم تنتفخان وتتورمان بسبب طول قيامه وتهجده في قيام الليل، فقد ثبت أنه كان يقرأ أحياناً سورة البقرة وآل عمران والنساء في ركعة واحدة، كما في حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه في صحيح مسلم
(1)
.
* الوجه الرابع: دل الحديث على أن شكر الله تعالى قد يكون بالعمل كما يكون باللسان، كما قال تعالى:{اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} [سبأ: 13]، فأمرهم الله أن يعملوا له شكراً، وهذا على خلاف ما يتوهم العامة أن الشكر يكون باللسان فقط!!
* الوجه الخامس: دل الحديث على ما كان عليه نبينا صلى الله عليه وسلم من الاجتهاد في الطاعة، وطول التهجد والقيام، وتحمل المشاق البدنية في سبيل ذلك، ولهذا الحديث نظائر كثيرة، كقول أبي هريرة رضي الله عنه:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي حتى ترم قدماه»
(2)
.
وقول ابن مسعود رضي الله عنه: «صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطال، حتى هممت بأمر سوء، قيل: وما هممت به؟ قال: هممت أن أجلس وأدعه»
(3)
.
* الوجه السادس: أخذ بعض العلماء من هذا الحديث؛ أن للإنسان أخذ نفسه بالشدة في العبادة، وإن أضرّ ذلك ببدنه، لكن قال الحافظ ابن
(1)
صحيح مسلم (772).
(2)
رواه الترمذي في «الشمائل» (263)، وصححه ابن خزيمة (1184)، وقال الألباني في «مختصر الشمائل «: إسناده حسن صحيح.
(3)
«صحيح البخاري» (1135)، «صحيح مسلم» (773).
(1)
.
* الوجه السابع: يؤخذ من هذا الحديث وبقية أحاديث الباب أن قيام الليل سنة مسنونة، ينبغي للمسلم المحافظة عليها تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم، وقد ورد في سنن الترمذي من حديث بلال رضي الله عنه مرفوعاً:«عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم»
(2)
.
54 -
عَنِ الأَسْوَدِ بنِ يَزِيدَ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِاللَّيْلِ؟ فَقَالَتْ: «كَانَ يَنَامُ أَوَّلَ اللَّيْلِ ثُمَّ يَقُومُ، فَإِذَا كَانَ مِنَ السَّحَرِ أَوْتَرَ، ثُمَّ أَتَى فِرَاشَهُ، فَإِذَا كَانَ لَهُ حَاجَةٌ أَلَمَّ بِأَهْلِهِ، فَإِذَا سَمِعَ الأَذَانَ وَثَبَ، فَإِنْ كَانَ جُنُباً أَفَاضَ عَلَيْهِ مِنَ المَاءِ، وَإِلَّا تَوَضَّأَ وَخَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ» .
• الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في التعريف براويه:
عائشة رضي الله عنها تقدم التعريف بها في الحديث رقم 5.
(1)
«فتح الباري» 3/ 15 باختصار يسير.
(2)
«سنن الترمذي» (3549)، وصححه الألباني في «صحيح الجامع الصغير» (4079).
* الوجه الثاني: في تخريجه:
الحديث أخرجه مسلم في الصحيح بنحوه
(1)
.
* الوجه الثالث: قولها: «كان ينام أول الليل» ، مقصودها أي من بعد صلاة العشاء، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكره النوم قبل صلاة العشاء
(2)
.
* الوجه الرابع: قولها: «ثم يقوم» ، أي عند تمام منتصف الليل، كما ذكر جماعة الشرّاح، يدل عليه حديث عائشة رضي الله عنها أنها سئلت: في أي حين كان يقوم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: «كان يقوم إذا سمع الصارخ»
(3)
. والمراد بالصارخ: الديك، قال في الفتح:«وقد جرت العادة أن الديك يصيح عند نصف الليل غالباً»
(4)
.
وفي حديث ابن عباس قال: «نام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا انتصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل استيقظ صلى الله عليه وسلم، فجلس يمسح النوم عن وجهه بيده»
(5)
.
وروى عبد الله بن عمرو مرفوعاً: «أحب الصلاة إلى الله صلاة داود عليه السلام، كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه»
(6)
.
قال العلامة الصنعاني: «وذلك من أنفع النوم، لأنه يهب من نومه وقد
(1)
«صحيح مسلم» (739).
(2)
«صحيح البخاري» (547)، «صحيح مسلم» (647) من حديث أبي برزة الأسلمي.
(3)
«صحيح البخاري» (6461)، «صحيح مسلم» (741).
(4)
«فتح الباري» 3/ 17.
(5)
«صحيح البخاري» (183)، «صحيح مسلم» (763).
(6)
«صحيح البخاري» (1131)، «صحيح مسلم» (1159).
أخذت الأعضاء حقها من الراحة والسكون، فيقوم نشطاً إلى الطاعة، ويقوم للعبادة في أفضل أوقات الليل»
(1)
.
* الوجه الخامس: قولها: «ثم أتى فراشه» أي يرجع للنوم، وهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يواصل قيام الليل حتى أذان الفجر، وإنما يرجع فينام في السدس الأخير من الليل، وهذا أنفع للإنسان حتى يتقوى به على صلاة الفجر، وما بعدها من الوظائف والطاعات، ويدفع عنه تعب السهر.
* الوجه السادس: قولها: «فإذا سمع الأذان وثب» أي قام بسرعة وخفة، وهذا يدل على الاهتمام بالعبادة والقيام إليها بنشاط.
* * *
55 -
عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ كَيْفَ كَانَتْ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي رَمَضَانَ؟ فَقَالَتْ: مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِيَزِيدَ فِي رَمَضَانَ وَلَا فِي غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُصَلِّي أَرْبَعاً لَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعاً لَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي ثَلَاثاً، قَالَتْ عَائِشَةُ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتَنَامُ قَبْلَ أَنْ تُوتِرَ؟ فَقَالَ:«يَا عَائِشَةُ، إِنَّ عَيْنَيَّ تَنَامَانِ وَلَا يَنَامُ قَلْبِي» .
(1)
«التنوير شرح الجامع الصغير» 8/ 635.
• الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في التعريف براويه:
عائشة رضي الله عنها تقدم التعريف بها في الحديث رقم 5.
* الوجه الثاني: في تخريجه:
الحديث أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين
(1)
.
* الوجه الثالث: هذا الحديث يفيد عدم زيادة النبي صلى الله عليه وسلم في قيام الليل على إحدى عشرة ركعة، لكن عارضه حديث ابن عباس وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة. ولفظ حديث ابن عباس:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة»
(2)
.
وجمع العلماء بين الأحاديث بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي أحياناً ثلاث عشرة ركعة وأحياناً إحدى عشرة، أو أن عائشة رضي الله عنها لم تحسب الركعتين الخفيفتين اللتين كان النبي صلى الله عليه وسلم يفتتح بها صلاة الليل، وقيل غير ذلك.
* الوجه الرابع: قولها: «كان يصلي أربعاً، فلا تسل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعاً، فلا تسل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثاً» ، هذا محمول على بعض الأوقات، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه أنه كان يصلي الليل والوتر على أنواع وكيفيات كثيرة، فأحياناً كان يصلي كما ورد في حديث عائشة هذا، وأحياناً كان يفصل فيصلي ركعتين ركعتين، ثم يوتر بواحدة أو بثلاث أو
(1)
«صحيح البخاري» (3569)، «صحيح مسلم» (738).
(2)
«صحيح البخاري» (1138)، «صحيح مسلم» (764).
بخمس .. إلى غير ذلك من الصور والأنواع، والكل جائز والحمد الله
(1)
.
* الوجه الخامس: قوله: «إن عيني تنامان ولا ينام قلبي» ، معناه: أن قلبه صلى الله عليه وسلم مستيقظ على الدوام يحس بما حوله، وهذا ليس خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم، بل هو عام في الأنبياء كلهم عليهم السلام، ففي الصحيح من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه:«الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم»
(2)
. وإنما امتنع النوم على قلبهم حتى يعوا الوحي الذي يأتيهم حال النوم.
(1)
«سبل السلام» 1/ 349.
(2)
«صحيح البخاري» (3570).
37 - بَابُ صَلَاةِ الضُّحَى
أي بيان الأحاديث الواردة في صلاة الضحى وما يتعلق بها من أحكام، وسيأتي بيان أن صلاة الضحى مستحبة ومندوبة، وقد وردت النصوص بالترغيب فيها.
56 -
عن مُعَاذَةَ قَالَتْ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ: أَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الضُّحَى؟ قَالَتْ: «نَعَمْ، أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ وَيَزِيدُ مَا شَاءَ اللَّهُ عز وجل» .
• الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في التعريف براويه:
عائشة رضي الله عنها تقدم التعريف بها في الحديث رقم 5.
ومعاذة هي: بنت عبد الله العدوية، من التابعيات، وثقها الأئمة كابن معين وغيره، وكانت من العابدات
(1)
.
* الوجه الثاني: في تخريجه:
الحديث أخرجه مسلم في صحيحه
(2)
ولفظه عنده: عن معاذة أنها سألت عائشة رضي الله عنها كم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة الضحى؟ قالت: «أربع ركعات ويزيد ما شاء» .
(1)
«تهذيب الكمال» للمزي 35/ 308.
(2)
«صحيح مسلم» (719).
* الوجه الثالث: في الحديث دليل على مشروعية صلاة الضحى وأنها من جملة صلوات التطوع المندوبة الثابتة في السنة النبوية.
وقد ورد في فضلها أحاديث كثيرة، كقوله صلى الله عليه وسلم: «يصبح على كل سلامى
(1)
من أحدكم صدقة، فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى»
(2)
.
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث: «صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام»
(3)
.
* الوجه الرابع: دل الحديث على أن عدد ركعات صلاة الضحى أربع ركعات فما فوق، لكن جاءت أحاديث أخرى تدل على أنها يمكن أن تصلَّى ركعتين أو أربعاً أو ستاً أو ثماني وهو أكثرها.
ففي حديثي أبي ذر وأبي هريرة المتقدمين ما يدل على صلاتها ركعتين.
وفي شمائل الترمذي من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلّي الضحى ست ركعات»
(4)
.
وفي صحيح مسلم من حديث أم هانئ بنت أبي طالب قالت: «قام رسول
(1)
السُّلامى: جميع عظام البدن ومفاصله.
(2)
«صحيح مسلم» (720) من حديث أبي ذر.
(3)
«صحيح البخاري» (1981)، «صحيح مسلم» (721).
(4)
«الشمائل» (290)، وقال الألباني في «مختصر الشمائل» ص 156: صحيح لغيره.
الله صلى الله عليه وسلم إلى غسله، فسترت عليه فاطمة ثم أخذ ثوبه فالتحف به، ثم صلَّى ثماني ركعات سبحة الضحى»
(1)
، وكان ذلك عام الفتح.
فهذا يدل على أن لصلاة الضحى أعداداً مختلفة، فأقلها ركعتان، وأكملها ثمان، وأوسطها أربع ركعات أو ست.
* الوجه الخامس: ذكر العلماء بأن وقت صلاة الضحى يبتدئ من ارتفاع الشمس ويستمر إلى قبيل الزوال أي قبل أذان الظهر بعشر دقائق.
وأفضل أوقاتها حين تبدأ حرارة الشمس بالاشتداد، لقوله صلى الله عليه وسلم:«صلاة الأوابين حين ترمض الفصال»
(2)
، أي حين تبدأ أخفاف الفصال وهي الصغار من أولاد الإبل بالاحتراق من شدة حرّ الرمل، فهذا أفضل أوقاتها.
* الوجه السادس: اختلفت الروايات عن السيدة عائشة في صلاة الضحى، ففي حديث الباب إثباتها صلاة النبي صلى الله عليه وسلم لها، وأنه كان يصلّيها أربعاً ويزيد ما شاء.
وفي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: «ما سبح رسول الله صلى الله عليه وسلم سبحة الضحى قط وإني لأسبحها»
(3)
.
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن شقيق، قال: قلت لعائشة: هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى؟ قالت: «لا، إلا أن يجيء من مغيبه (أي من سفره)»
(4)
.
(1)
«صحيح مسلم» (336).
(2)
«صحيح مسلم» (748) من حديث زيد بن أرقم.
(3)
«صحيح البخاري» (1128).
(4)
«صحيح مسلم» (717).
فهذه ثلاث روايات صحيحة متعارضة عن السيدة عائشة في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم للضحى. فالرواية الأولى تثبتها مطلقاً، والرواية الثانية تنفيها مطلقاً، والرواية الثالثة تقيدها بالقدوم من سفر.
وأجيب عن هذا بأن رواية الإثبات المطلق مبنية على ما علمته عائشة من غيرها، أي ما روته لا ما رأته. ورواية النفي المطلق محمولة على حسب رؤيتها، أي أنها لم تر النبي صلى الله عليه وسلم يصليها بعينها. وراية التقييد بالغيبة محمولة على حسب ما بلغها. وقد أثبت غيرها من الصحابة صلاته صلى الله عليه وسلم لها، وحثه عليها وترغيبه فيها، ومن علم حجةٌ على من لم يعلم، فهذا أحسن ما يمكن قوله في الجمع بين الروايات
(1)
.
* الوجه السابع: اختلف العلماء هل الأفضل المداومة على صلاة الضحى أو لا على قولين؟ فقيل: لا يداوم عليها، لقول عائشة رضي الله عنها المتقدم: ما كان يصليها إلا أن يجيء من مغيبه.
لكن سبق الجواب عن هذا الحديث، وقلنا: إن عائشة رضي الله عنها قالته بحسب ما بلغها، بينما أثبت غيرها من كبار الصحابة الترغيب في صلاتها مطلقاً والوصية بها، كحديثي أبي ذر وأبي هريرة المتقدمين، لذلك كان الأرجح استحباب المداومة والمواظبة عليها: لمن تيسر له ذلك، والله تعالى أعلم.
(1)
«نيل الأوطار» 3/ 80.
38 - بَابُ صَلَاةِ التَّطَوُّعِ فِي البَيْتِ
أي بيان الأحاديث الواردة في استحباب أداء صلاة التطوع في البيت. وصلاة التطوع هي ما شرعه الله من الصلوات زيادة على الفرائض، ومنها السنن الرواتب والنوافل المطلقة، وهي من أعظم أسباب رضا الله ومحبته، كما ورد في الحديث القدسي:«وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته: كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به .. الحديث»
(1)
.
وفي السنن من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاته، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر، فإن انتقص من فريضته شيء، قال الرب عز وجل: انظروا هل لعبدي من تطوع فيكمل بها ما انتقص من الفريضة، ثم يكون سائر عمله على ذلك»
(2)
.
57 -
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الصَّلَاةِ فِي بَيْتِي وَالصَّلَاةِ فِي المَسْجِدِ؟ قَالَ: «قَدْ تَرَى مَا أَقْرَبَ بَيْتِي
(1)
«صحيح البخاري» (6502) من حديث أبي هريرة.
(2)
«رواه الترمذي» (413) وقال: حسن غريب، وابن ماجه (1425)، وصححه الشيخان الألباني وشعيب الأرناؤوط وغيرهما.
مِنَ المَسْجِدِ، فَلَأَنْ أُصَلِّيَ فِي بَيْتِي أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُصَلِّيَ فِي المَسْجِدِ، إِلَا أَنْ تَكُونَ صَلَاةً مَكْتُوبَةً».
• الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في التعريف براويه:
عبد الله بن سعد هو: ابن خيثمة بن مالك الأنصاري الأوسي، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، بايع بيعة الرضوان، وذكر بعضهم أنه استشهد في معركة اليمامة.
* الوجه الثاني: في تخرجه: الحديث أخرجه ابن ماجه في سننه
(1)
، وصححه ابن خزيمة
(2)
، والألباني، وشعيب الأرناؤوط.
* الوجه الثالث: دل الحديث على أن صلاة النافلة في البيت أفضل من صلاتها في المسجد، حتى لو كان المسجد قريباً من البيت. أما الصلاة المكتوبة وهي الصلوات الخمس المفروضة فإن أداءها للرجال في المسجد أفضل، كما هو مذهب أكثر العلماء، وبعض العلماء أوجبها في المسجد.
* الوجه الرابع: ورد في معنى حديث الباب أحاديث كثيرة صحيحة، تؤكد فضل أداء صلاة النوافل والسنن في البيت، منها حديث زيد بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة»
(3)
.
ومنها حديث ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اجعلوا من صلاتكم في
بيوتكم، ولا تتخذوها قبوراً»
(1)
. أي لا تجعلوا بيوتكم كالقبور مهجورة من الصلاة، لأنها ليست محلاً للعبادة.
ومنها حديث جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده، فليجعل لبيته نصيباً من صلاته، فإن الله جاعل في بيته من صلاته خيراً»
(2)
.
وقال النووي رحمه الله: «وإنما حثَّ على النافلة في البيت لكونها أخفى وأبعد من الرياء، وأصون من المحبطات، وليتبرك البيت بذلك وتنزل فيه الرحمة والملائكة وينفر منه الشيطان»
(3)
.
* الوجه الخامس: استثنى العلماء من النوافل والسنن في البيت: الصلوات التي يشرع فيها الاجتماع كصلاة الكسوف والخسوف، والصلوات التي تختص بالمسجد كركعتي تحية المسجد والتطوع قبل صلاة الجمعة، فهذه الصلوات إنما تصلى في المسجد لثبوت السنة بذلك، وما عدا ذلك من النوافل، والسنن الرواتب، وقيام الليل والضحى، كل ذلك يصلى في البيت، هذا هو الأفضل.
39 - بَابُ مَا جَاءَ فِي صَوْمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
-
أي بيان الأحاديث الواردة في صفة صيامه صلى الله عليه وسلم، والصيام وإن كان يشمل الفريضة والنافلة إلا أن مقصود الترمذي هنا صيام النافلة، حسبما أورد من الأحاديث.
والصوم يعد من أعظم العبادات التي يتقرب بها إلى الله عز وجل، وقد ثبت في الحديث القدسي؛ أن الله تبارك وتعالى قال:«كل عمل ابن آدم له، إلا الصيام، هو لي وأنا أجزي به»
(1)
.
وذكر العلماء أوجهاً عديدة في سبب اختصاص الصيام بهذه الفضيلة دون سائر الطاعات، منها: أن الصوم لا يقع فيه الرياء كما يقع في غيره من الطاعات، قال الإمام القرطبي:«لما كانت الأعمال يدخلها الرياء، والصوم لا يطلع عليه بمجرد فعله إلا الله، فأضافه الله إلى نفسه»
(2)
. وقال ابن الجوزي: «جميع العبادات تظهر بفعلها، وقلَّ أن يسلم ما يظهر من شوب بخلاف الصوم»
(3)
.
* * *
(1)
«صحيح البخاري» (5927)، «صحيح مسلم» (1151)، من حديث أبي هريرة.
(2)
«فتح الباري» 4/ 107.
(3)
المصدر السابق 4/ 107.
58 -
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنْ صِيَامِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَتْ:«كَانَ يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ قَدْ صَامَ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ قَدْ أَفْطَرَ» . قَالَتْ: «وَمَا صَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَهْراً كَامِلاً مُنْذُ قَدِمَ المَدِينَةَ إِلَّا رَمَضَانَ» .
• الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في التعريف براويه:
عائشة رضي الله عنها تقدم التعريف بها في الحديث رقم 5.
* الوجه الثاني: في تخريجه:
الحديث أخرجه مسلم في الصحيح
(1)
بنحوه. وله شواهد في الصحيحين من حديث أنس بن مالك وحديث عبد الله بن عباس بمعناه
(2)
.
* الوجه الثالث: في الحديث دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يرتبط في الصيام بأيام معينة بصورة دائمة وراتبة، وإنما كان يكثر الصوم ويواليه، حتى يُظن أنه لن يفطر شيئاً من الشهر، ثم يكثر الفطر ويواليه، حتى يُظن أنه لن يصوم شيئاً من الشهر، وكان يصوم تارة من أول الشهر، وتارة من وسطه، وتارة من آخره، وفي هذا دليل على أن نافلة الصوم غير مختصة بوقت معين، بل كل السنة محل لها إلا الأيام المنهي عنها.
(1)
«صحيح مسلم» (1156).
(2)
ينظر «جامع الأصول» 6/ 302.
لكن قد يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم رغّب في صيام الاثنين والخميس كما سيأتي بعد قليل؟
والجواب أن يقال: نعم، ولكن صومه صلى الله عليه وسلم كان على حسب نشاطه، فربما وافق الأيام التي رغب فيها، وربما لم يوافقها.
* الوجه الرابع: دل الحديث على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر من الصيام وكان يكثر من الإفطار أيضاً، فلم يكن صلى الله عليه وسلم يفطر دوماً ولا كان يصوم دوماً، بل قد صح عنه النهي عن صيام الدهر، وقال:«لا صام ولا أفطر، أو ما صام وما أفطر»
(1)
.
* الوجه الخامس: دل الحديث على عدم استحباب التطوع بصيام شهر بأكمله، لأنه لم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم كما أخبرت عائشة في الحديث.
كما يستحب ألا يخلي شهراً من صيام بعض أيامه، فقد جاء في إحدى روايات حديث عائشة المتقدم قولها:«ما علمته صلى الله عليه وسلم صام شهراً كله إلا رمضان، ولا أفطره كله حتى يصوم منه»
(2)
.
* * *
59 -
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «لَمْ أَرَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ فِي شَهْرٍ أَكْثَرَ مِنْ صِيَامِهِ لِلَّهِ فِي شَعْبَانَ، كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ إِلَّا قَلِيلًا بَلْ كَانَ يَصُومُهُ كُلَّهُ» .
(1)
«صحيح مسلم» (1162) من حديث أبي قتادة الأنصاري.
(2)
«صحيح مسلم» (1156).
• الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في التعريف براويه:
عائشة رضي الله عنها تقدم التعريف بها في الحديث رقم 5.
* الوجه الثاني: في تخريجه:
الحديث أخرجه مسلم في صحيحه بنحوه
(1)
ولفظه عنده: «لم أره صائماً من شهر قط، أكثر من صيامه من شعبان، كان يصوم شعبان كله، كان يصوم شعبان إلا قليلاً» .
* الوجه الثالث: في الحديث دليل على أن صوم النبي صلى الله عليه وسلم تطوعاً في شعبان كان أكثر من صيامه فيما سواه من الشهور.
* الوجه الرابع: في الحديث دليل على استحباب صوم معظم شهر شعبان، لمن تيسر له ذلك.
وقولها في الرواية: «كان يصومه كله» ، قال بعض الشراح: معناه معظمه وأكثره، بدليل قولها «كان يصومه إلا قليلاً» ، فهذه الرواية تفسر الرواية الأولى.
ويؤيد هذا الجمع حديث عائشة السابق في بداية الباب وفيه قولها: «وما صام رسول الله صلى الله عليه وسلم شهراً كاملاً منذ قدم المدينة إلا رمضان» . وجمع بعضهم بين الروايتين بأنه صلى الله عليه وسلم كان يصوم شعبان كله في وقت، ويصوم معظمه في سنة أخرى
(2)
.
* الوجه الخامس: اختلف في الحكمة من إكثار النبي صلى الله عليه وسلم الصوم في شهر
(1)
«صحيح مسلم» (1156).
(2)
شرح النووي على صحيح مسلم 8/ 37، «فتح الباري» 4/ 214.
شعبان؟ وأقوى ما قيل: إنه شهر ترفع فيه أعمال العباد، ففي حديث أسامة بن زيد، قال: قلت: يا رسول الله لم أرك تصوم شهراً من الشهور ما تصوم من شعبان؟ قال: «ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأحبّ أن يرفع عملي وأنا صائم»
(1)
.
* * *
60 -
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ:«كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَحَرَّى صَوْمَ الِاثنَيْنِ وَالخَمِيسِ» .
• الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في التعريف براويه:
عائشة رضي الله عنها تقدم التعريف بها في الحديث رقم 5.
* الوجه الثاني: في تخريجه:
الحديث أخرجه الترمذي وحسنه
(2)
، وابن ماجه
(3)
، والنسائي
(4)
، وصححه ابن حبان
(5)
، وابن حجر
(6)
وغيرهم.
(1)
«سنن النسائي» (2357)، وحسنه الألباني وعبد القادر الأرناؤوط في تعليقه على «جامع الأصول» (4458).
(2)
«سنن الترمذي» (745).
(3)
«سنن ابن ماجه» (1739).
(4)
«سنن النسائي» (2360).
(5)
«صحيح ابن حبان» (3643).
(6)
«فتح الباري» 4/ 236.
* الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:
(يتحرَّى): يتعمد ويتقصد ويتوخى، وقيل: التحري: المبالغة في طلب الشيء.
* الوجه الرابع: دل الحديث على استحباب تحري صوم الاثنين والخميس، وهو قول جمهور العلماء خلافاً لمن كره ذلك.
* الوجه الخامس: الحكمة التي من أجلها كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى صوم يومي الاثنين والخميس؛ أنهما يومان تعرض فيهما أعمال العباد على الله تعالى، فقد ثبت من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«تعرض الأعمال يوم الاثنين والخميس، فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم»
(1)
. وفي صحيح مسلم من حديث أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم يوم الاثنين؟ قال: «ذاك يوم ولدت فيه، ويوم بعثت أو أنزل عليّ فيه»
(2)
.
ولا منافاة بين الحديثين، ويمكن أن يعلل الحكم بأكثر من علة.
وما تقدم في شرح الحديث السابق من أن الأعمال ترفع في شهر شعبان فذاك هو الرفع السنوي، وأما رفع الأعمال يوم الاثنين والخميس فذاك الرفع الأسبوعي.
* * *
(1)
رواه الترمذي في «السنن» (747) وحسنه، وصححه ابن الملقن في «البدر المنير» 5/ 755، والألباني في «مختصر الشمائل» (259) بشواهده.
(2)
«صحيح مسلم» (1162).
61 -
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «كَانَ عَاشُورَاءُ يَوْماً تَصُومُهُ قُرَيْشٌ فِي الجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُهُ، فَلَمَّا قَدِمَ المَدِينَةَ صَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ، فَلَمَّا افْتُرِضَ رَمَضَانُ كَانَ رَمَضَانُ هُوَ الفَرِيضَةُ وَتُرِكَ عَاشُورَاءُ، فَمَنْ شَاءَ صَامَهُ وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ» .
• الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في التعريف براويه:
عائشة رضي الله عنها تقدم التعريف بها في الحديث رقم 5.
* الوجه الثاني: في تخريجه:
الحديث أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين بنحوه
(1)
.
* الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:
(عاشوراء): هو اليوم العاشر من محرم في قول أكثر العلماء من الصحابة والتابعين، وقيل اليوم التاسع وهو ضعيف
(2)
.
* الوجه الرابع: دل الحديث على فضل يوم عاشوراء، وأنه من الأيام التي يسن ويستحب صيامها لمن تيسر له ذلك، وهذا باتفاق العلماء.
* الوجه الخامس: دلت الأحاديث الصحيحة على أن يوم عاشوراء كان يصومه أهل الجاهلية من كفار قريش واليهود وغيرهم، وجاء الإسلام بفرض صيامه، ثم نسخ الفرض بعد أن فرض رمضان وأصبح صوم عاشوراء سنة فقط،
(1)
«صحيح البخاري» (2002)، «صحيح مسلم» (1125).
(2)
«نيل الأوطار» 4/ 287.
وهذا هو مقصود قول عائشة رضي الله عنها «فلما افترض رمضان ترك عاشوراء» . وقال بعض أهل العلم إن صوم عاشوراء كان سنة من بداية الأمر ولم يكن فرضاً.
* الوجه السادس: ذكر العلماء بأنه يستحب صوم اليوم التاسع مع العاشر من محرم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد صام العاشر، ونوى صوم التاسع معه في العام المقبل، كما في حديث ابن عباس قال: حين صام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا: يا رسول الله! إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع» ، قال: فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
.
وقوله: (صمنا اليوم التاسع)، أي إضافة إلى العاشر، حتى يخالف أهل الكتاب، ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستحب مخالفة أهل الكتاب في آخر حياته.
* الوجه السابع: صحت السنة بأن صيام يوم عاشوراء يكفر السنة الفائتة، ففي الصحيح من حديث أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«صيام يوم عاشوراء، أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله»
(2)
. قال العلماء: والمراد بها الصغائر من الذنوب دون الكبائر، فإن لم توجد صغائر فإنه يرجى التخفيف من الكبائر
(3)
.
(1)
«صحيح مسلم» (1134).
(2)
«صحيح مسلم» (1162).
(3)
شرح النووي على صحيح مسلم 8/ 51.
40 - بَابُ مَا جَاءَ فِي قِرَاءَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
-
أي بيان الأحاديث الواردة في صفة قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم للقرآن؛ من الترتيل والمد والوقف والإسرار بالقراءة والجهر وغير ذلك.
62 -
عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: قُلْتُ لِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: كَيْفَ كَانَتْ قِرَاءَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ: «مَدّاً» .
• الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في التعريف براويه:
أنس بن مالك رضي الله عنها تقدم التعريف به في الحديث رقم 1.
* الوجه الثاني: في تخريجه:
الحديث أخرجه البخاري في الصحيح
(1)
ولفظه: «كَانَ يَمُدُّ مَدّاً» .
* الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:
(مداً): أي يمد الحروف التي تستحق المد، ويمكّن لها بالقدر المعروف عند علماء القراءة، وقال بعضهم: المراد أنه يجود ويرتل ويشدد ويمكن ويتم الحركات
(2)
.
(1)
«صحيح البخاري» (5045).
(2)
«جمع الوسائل» 2/ 111.
* الوجه الرابع: في الحديث استحباب مد الصوت بالقراءة، والحكمة فيه هو الاستعانة على تدبر معاني القرآن، والتفكر فيها، وتذكير من يتذكر.
* * *
63 -
عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ:«كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْطَعُ قِرَاءَتَهُ يَقُولُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] ثُمَّ يَقِفُ، ثُمَّ يَقُولُ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 3] ثُمَّ يَقِفُ، وَكَانَ يَقْرَأُ (مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ)» .
• الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في التعريف براويه:
أم سلمة رضي الله عنها تقدم التعريف بها في الحديث رقم 9.
* الوجه الثاني: في تخريجه:
الحديث أخرجه الترمذي واستغربه
(1)
، وأبو داود
(2)
، وصححه الدارقطني
(3)
، والحاكم
(4)
، والبيهقي
(5)
، والألباني بجموع طرقه.
* الوجه الثالث: دل الحديث على استحباب الوقوف على رؤوس الآي، حتى وإن تعلقت بما بعدها، اتباعاً لهدي النبي صلى الله عليه وسلم وسنته، وهذا هو المشهور عند جمهور العلماء والقراء.
(1)
«سنن الترمذي» (2927).
(2)
«سنن أبي داود» (4001).
(3)
«سنن الدارقطني» (1191).
(4)
«مستدرك الحاكم» (2910).
(5)
«الخلافيات» 2/ 274.
* الوجه الرابع: قولها في الحديث: و «كَانَ يَقْرَأُ (مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ)» ، (ملك) بغير ألف، كما في بعض نسخ الشمائل، وفي بعضها (مالك)، بإثبات الألف، قال الإمام ابن كثير:«قرأ بعض القراء: {ملك يوم الدين}، وقرأ آخرون: {مالك}، وكلاهما صحيح متواتر في السبع»
(1)
.
* * *
64 -
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَيْسٍ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ، عَنْ قِرَاءَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَكَانَ يُسِرُّ بِالقِرَاءةِ أَمْ يَجْهَرُ؟ قَالَتْ:«كُلُّ ذَلِكَ قَدْ كَانَ يَفْعَلُ، قَدْ كَانَ رُبَّمَا أَسَرَّ وَرُبَّمَا جَهَرَ» . فَقُلْتُ: الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي الأَمْرِ سَعَةً.
• الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في التعريف براويه:
عائشة رضي الله عنها تقدم التعريف بها في الحديث رقم 5.
* الوجه الثاني: في تخريجه: الحديث أخرجه أبو داود
(2)
، والترمذي
(3)
وحسنه، ولفظ الترمذي:«كيف كانت قراءته بالليل» . بزيادة لفظة الليل. وقد صححه الألباني وشعيب الأرناؤوط.
والحديث له شواهد عديدة، منها حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال:
«كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم بالليل يرفع طوراً ويخفض طوراً»
(1)
.
* الوجه الثالث: الحديث فيه دليل على جواز الجهر والإسرار في صلاة الليل، لثبوت الأمرين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
واختلفوا أي الأمرين أفضل، فقال النووي:«الإخفاء أفضل، حيث خاف الرياء، أو تأذى مصلون، أو نيام بجهره، والجهر أفضل في غير ذلك، لأن العمل فيه أكثر، ولأن فائدته تتعدى إلى السامعين، ولأنه يوقظ قلب القارئ، ويجمع همّه إلى الفكر، ويصرف سمعه إليه، ويطرد النوم، ويزيد في النشاط»
(2)
.
ويحتمل أن يقال: يفعل هذا تارة وهذا تارة تأسياً به صلى الله عليه وسلم.
وأما النوافل النهارية فيستحب فيها الإسرار بالقراءة عند جميع العلماء، قال النووي رحمه الله:«نوافل النهار يسنّ فيها الإسرار بلا خلاف»
(3)
.
* الوجه الرابع: الجهر بالقراءة المقصود به الجهر اليسير الذي يسمع فيه المرء من بجواره، وليس برفع الصوت عالياً فيؤذي الناس، ويشهد لذلك ما أخرجه أبو داود عن أبي سعيد قال: اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فسمعهم يجهرون بالقراءة، فكشف الستر فقال:«ألا إن كلكم مناجٍ ربه، فلا يؤذين بعضكم بعضاً، ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة» ، أو قال:«في الصلاة»
(4)
.
(1)
«سنن أبي داود» (1328)، وحسن إسناده النووي في «المجموع» 3/ 391.
(2)
نقله عنه السيوطي في «الإتقان في علوم القرآن» 1/ 374.
(3)
«المجموع شرح المهذب» 3/ 391.
(4)
«سنن أبي داود» (1332)، وقال النووي في «المجموع» 3/ 392: إسناده صحيح.
وفي سنن أبي داود عن أبي قتادة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج ليلة فإذا هو بأبي بكر يصلي يخفض من صوته، قال: ومرّ بعمر بن الخطاب وهو يصلي رافعاً صوته، قال: فلما اجتمعا عند النبي صلى الله عليه وسلم قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا أبا بكر، مررت بك وأنت تصلي تخفض صوتك» ، قال: قد أسمعت من ناجيت يا رسول الله، قال: وقال لعمر: «مررت بك وأنت تصلي رافعاً صوتك» ، قال: فقال: يا رسول الله، أوقظ الوسنان، وأطرد الشيطان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«يا أبا بكر، ارفع من صوتك شيئاً، وقال لعمر: اخفض من صوتك شيئاً»
(1)
.
(1)
«سنن أبي داود» (1329)، و» صححه ابن خزيمة» (1161)، وقال النووي في «المجموع» 3/ 391: إسناده صحيح.
41 - بَابُ مَا جَاءَ فِي بُكَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
-
أي بيان الأحاديث الواردة في بكاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفته. قال ابن حجر المكي: «بكاؤه صلى الله عليه وسلم كان من جنس ضحكه، لم يكن بشهيق ورفع صوت، كما لم يكن ضحكه بقهقهة، ولكن تدمع عينه حتى تهملان، ويُسمع لصدره أزيز»
(1)
.
وقد كان صلى الله عليه وسلم يبكي تارة رحمة على الميت، وتارة خوفاً على أمته، وتارة يبكي من خشية الله، أو اشتياقاً ومحبة له عز وجل عند استماع القرآن وقراءته.
65 -
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ رضي الله عنه قَالَ: «أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُصَلِّي وَلِجَوْفِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ المِرْجَلِ مِنَ البُكَاءِ» .
• الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في التعريف براويه:
عبد الله بن الشخير هو عبد الله بن الشِخِّير بن عوف العامري الحَرشي، قال ابن عبدالبر: له صحبة ورواية. وهو والد الفقيه الشهير مطرّف بن عبد الله بن الشخير، أسلم عام الفتح، وسكن البصرة.
(1)
«أشرف الوسائل» 1/ 453.
* الوجه الثاني: في تخريجه:
الحديث أخرجه أبو داود
(1)
، وصححه ابن خزيمة
(2)
، وابن حبان
(3)
، والحاكم
(4)
، وقال ابن حجر: إسناده قوي
(5)
. ولفظ أبي داود «كأزيز الرحى» .
* الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:
(أزيز كأزيز المرجل): أي يسمع له صوت كصوت غليان القِدر بسبب البكاء، والمرجل: القِدر.
وفي رواية أبي داود: «كأزيز الرحى» أي كصوت الطاحون إذا دارت وتحركت.
* الوجه الرابع: في الحديث دليل على كمال خوف النبي صلى الله عليه وسلم وخشيته من ربه عز وجل، وقد كان عليه الصلاة والسلام أشد الناس خوفاً من الله تبارك وتعالى، كما جاء في حديث الصحيحين:«والله إني لأعلمهم بالله، وأشدهم له خشية»
(6)
.
وسبب هذه الخشية هو كمال علمه صلى الله عليه وسلم بالله تعالى، وعظمته وشدة عقابه، وما أُعْلِمَ به من أحوال يوم القيامة، ولذلك جاء في الصحيحين:«يا أمة محمد والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً»
(7)
.
(1)
«سنن أبي داود» (904).
(2)
«صحيح ابن خزيمة» (900).
(3)
«صحيح ابن حبان» (665).
(4)
«مستدرك الحاكم» (971).
(5)
«فتح الباري» 2/ 206.
(6)
«صحيح البخاري» (6101)، «صحيح مسلم» (2356).
(7)
«صحيح البخاري» (1044)، «صحيح مسلم» (901).
* الوجه الخامس: في الحديث دليل على أن المصلي ينبغي له أن يخشع في صلاته، وأن يكون قلبه فيها بين الخوف من عدل الله والرجاء في فضله.
* الوجه السادس: دل الحديث على أن البكاء لا يبطل الصلاة مطلقاً، سواء ظهر منه حرفان أم لا. وقيل: إن كان البكاء من خشية الله لا يبطل، وإن كان لأمر دنيوي أبطل، وقوّى الحافظ ابن حجر القول الأول، لأنه ليس من جنس الكلام
(1)
.
واستدل على جواز البكاء في الصلاة بقوله تعالى: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم: 58].
* الوجه السابع: ذكر بعض العلماء: أن الضحك في الصلاة يبطلها مطلقاً، لما فيه من هتك حرمة الصلاة، قال الإمام ابن المنذر:«أجمعوا على أن الضحك يفسد الصلاة، وأكثر أهل العلم على أن التبسم لا يفسدها»
(2)
.
* * *
66 -
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «اقْرَأْ عَلَيَّ» ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَقَرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟ قَالَ:«إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي» ، فَقَرَأْتُ سُورَةَ النِّسَاءِ، حَتَّى بَلَغْتُ {وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} [النساء: 41] قَالَ: فَرَأَيْتُ عَيْنَيْ رَسُولِ اللَّهِ تَهْمِلَانِ.
(1)
«فتح الباري» 2/ 206.
(2)
«المغني» لابن قدامة 2/ 40، «فتح الباري» 2/ 206.
• الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في التعريف براويه:
عبد الله بن مسعود هو: ابن غافل بن حبيب الهذلي، أبو عبد الرحمن، أحد كبار الصحابة وعلمائهم وقرائهم وحفاظهم، ومن السابقين للإسلام، توفي بالمدينة في خلافة عثمان بن عفان، سنة: 32 هـ.
* الوجه الثاني: في تخريجه:
الحديث أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين بنحوه
(1)
، وفي رواية البخاري:«فإذا عيناه تذرفان» ، وفي رواية مسلم:«فرأيت دموعه تسيل» .
* الوجه الثالث: دل الحديث على فوائد منها: استحباب طلب المرء القراءة من غيره ليستمع له، وهو أبلغ في التفهم والتدبر من قراءته بنفسه، لأنه مشغول بضبط القراءة وتصحيحها.
ومنها: استحباب الخشوع والبكاء عند سماع القرآن وتدبره.
ومنها: استحباب تواضع أهل العلم والفضل ولو مع أتباعهم.
* الوجه الرابع: ذكر بعض الشرّاح: أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما بكى عند تلاوة هذه الآية لأنه مثل لنفسه أهوال يوم القيامة، وشدة الحال الداعية إلى شهادته لأمته بالتصديق، وسؤاله الشفاعة لأهل الموقف، وهو أمر يحق له طول البكاء.
وقال الحافظ ابن حجر: الذي يظهر أنه بكى رحمة لأمته; لأنه علم أنه
(1)
«صحيح البخاري» (5050)، «صحيح مسلم» (800).
لا بد أن يشهد بعملهم، وعملهم قد لا يكون مستقيماً فقد يفضي إلى تعذيبهم
(1)
.
* * *
67 -
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَبَّلَ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ وَهُوَ مَيِّتٌ وَهُوَ يَبْكِي» ، أَوْ قَالَ:«عَيْنَاهُ تَهْرَاقَانِ» .
• الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في التعريف براويه:
تقدم التعريف بعائشة رضي الله عنها في الحديث رقم 5.
* الوجه الثاني: عثمان بن مظعون رضي الله عنه هو الصحابي الجليل عثمان بن مظعون بن حبيب القرشي الجُمَحِي، أبو السائب، أخو النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، ومن أوائل من أسلم، توفي في السنة الثانية من الهجرة، ولما توفي أعلم النبي صلى الله عليه وسلم على قبره بحجر، وكان يزوره رضي الله عنه.
* الوجه الثالث: في تخريجه:
الحديث أخرجه أبو داود
(2)
، وابن ماجه
(3)
، والترمذي
(4)
وقال: حديث حسن صحيح، وصححه الحاكم في المستدرك وقال: «هذا حديث متداول
بين الأئمة»
(1)
، وصححه الألباني بشواهده.
* الوجه الرابع: دل الحديث على جواز البكاء على الميت، لكن دون جزع أو ندب أو نياحة، وأن هذا لا يتنافى مع الصبر والتسليم بقضاء الله وقدره.
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بكى أيضاً عندما توفي ابنه إبراهيم
(2)
، كذلك عندما توفيت ابنته أم كلثوم
(3)
رضي الله عنهما.
وهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو بشر يفرح ويحزن ويتألم، لكنه كان يتقيد بحدود الشرع ولا يتعداها.
* الوجه الخامس: دل الحديث على جواز تقبيل الميت، وقد ثبت في الصحيح أن أبا بكر قَبَّل النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، ثم بكى، وقال:«بأبي أنت يا نبي الله، لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي كُتبتْ عليك فقد متها»
(4)
.
(1)
«مستدرك الحاكم» (1334، 4868).
(2)
«صحيح البخاري» (1303)، «صحيح مسلم» (2315).
(3)
«صحيح البخاري» (1285)، لكن لم يصرح باسمها في رواية البخاري، ووقع التصريح باسمها عند غيره كما في «الفتح» 3/ 158.
(4)
«صحيح البخاري» (1241).
42 - بَابُ مَا جَاءَ فِي فِرَاشِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
-
أي بيان الأحاديث الواردة في فراشه صلى الله عليه وسلم الذي كان ينام عليه وما يتصف به من الخشونة والتواضع، وقد زعم بعضهم
(1)
بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينام غالباً على التراب!!، وهذا لا أصل له، بل لقد كان الغالب عليه صلى الله عليه وسلم النوم على فراش، وإن كان متواضعاً خشناً، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى.
68 -
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «إِنَّمَا كَانَ فِرَاشُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الَّذِي يَنَامُ عَلَيْهِ مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهُ لِيفٌ» .
• الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في التعريف براويه:
عائشة رضي الله عنها تقدم التعريف بها في الحديث رقم 5.
* الوجه الثاني: في تخريجه:
الحديث أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين
(2)
بنحوه.
* الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:
(أدم): الأدم هو: الجلد المدبوغ أو مطلق الجلد.
(ليف): الليف: قشر النخل الذي يجاور السعف، الواحدة ليفة.
(1)
قاله ابن حجر المكي في «أشرف الوسائل إلى فهم الشمائل» ص 466!!
(2)
«صحيح البخاري» (6456)، «صحيح مسلم» (2082).
* الوجه الرابع: في الحديث بيان ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الزهد في الدنيا، والابتعاد عن التنعم الزائد في الفراش، فإن الجلد المحشو بالليف يعد فراشاً خشناً متواضعاً.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ينام ويضطجع أحياناً على الحصير، كما جاء في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير، فأثر في جنبه، فلما استيقظ، جعلت أمسح جنبه، فقلت: يا رسول الله، ألا آذنتنا حتى نبسط لك على الحصير شيئاً؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ما لي وللدنيا؟ ما أنا والدنيا؟ إنما مثلي ومثل الدنيا كراكب ظلّ تحت شجرة، ثم راح وتركها»
(1)
.
قال ابن القيم رحمه الله: «كان صلى الله عليه وسلم ينام على الفراش، وعلى النطع
(2)
تارة، وعلى الحصير تارة، وعلى الأرض تارة، وعلى السرير تارة»
(3)
.
* الوجه الخامس: دل الحديث على جواز اتخاذ الفرش والوسائد والنوم عليها والارتفاق بها، وجواز المحشو، وجواز اتخاذ ذلك من الأدم وهي الجلود.
(1)
رواه أحمد في «المسند» (3709)، وصححه شعيب الأرناؤوط، وله شواهد كثيرة.
(2)
النطع: بساط من الجلد.
(3)
«زاد المعاد» 1/ 149.
43 - بَابُ مَا جَاءَ فِي تَوَاضُعِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
-
أي بيان الأحاديث والأخبار الواردة في تواضعه صلى الله عليه وسلم. والتواضع ضد التكبر، وهو هضم النفس والتنازل عن بعض ما تستحق من التقدير، وهو من سمات المؤمنين، ومن أسباب محبة الله للعبد ومن أسباب محبة الناس له أيضاً، وفي الحديث مرفوعاً:«من تواضع لله درجة يرفعه الله درجة»
(1)
.
69 -
عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ فَقُولُوا: عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ» .
• الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في التعريف براويه:
عمر بن الخطاب هو: ابن نفيل القرشي العدوي، أبو حفص، الصحابي الجليل، أمير المؤمنين، وثاني الخلفاء الراشدين، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، أسلم قبل الهجرة بخمس سنين، وتوفي شهيداً بالمدينة سنة: 23 هـ.
* الوجه الثاني: في تخريجه: الحديث أخرجه البخاري في الصحيح
(2)
.
(1)
رواه ابن ماجه (4176)، وضعف إسناده البوصيري في «زوائد ابن ماجه» 1/ 264، لكن له شواهد تقويه، ينظر «الصحيحة» للألباني (2328).
(2)
«صحيح البخاري» (3445).
* الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:
(لا تطروني): الإطراء: المدح بالباطل، تقول: أطريت فلاناً: مدحته فأفرطت في مدحه، أفاده الحافظ ابن حجر
(1)
. وقيل: الإطراء: مجاوزة الحد في المدح والكذب فيه
(2)
.
وكلا التعريفين صحيح.
* الوجه الرابع: دل الحديث على تحريم المبالغة في مدح النبي صلى الله عليه وسلم، والغلو في ذلك ومجاوزة الحد المسموح، كما وقع للنصارى عندما غلوا في مدح سيدنا عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام، فقالوا: هو إله أو ابن إله!! تعالى الله عن ذلك.
* الوجه الخامس: في الحديث حرص النبي صلى الله عليه وسلم على صيانة التوحيد، والخوف على أمته من الوقوع في الشرك، الذي وقعت فيه الأمم السابقة، فإن النصارى إنما كفروا بالله عندما غلوا في نبيهم عيسى بن مريم بوصفه بالألوهية والبنوة لله تعالى، كما قال تعالى:{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة: 17].
* الوجه السادس: دل الحديث على عظيم تواضعه صلى الله عليه وسلم عندما اكتفى بقوله: «فإنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله» ، ففيه هضمه لنفسه وإظهاره التواضع، مع أنه سيد الخلق وإمامهم، وهذا هو موضع الشاهد من الحديث الدال على تواضعه صلى الله عليه وسلم، وليس قوله «لا تطروني» ، لأن الإطراء محرم شرعاً
(1)
«فتح الباري» 6/ 490.
(2)
«عمدة القاري» 16/ 37.
وهو من الغلو في الدين، والنهي عنه ليس من التواضع، وبهذا يندفع استشكال بعض العلماء إيراد الترمذي هذا الحديث تحت هذا الباب.
* * *
70 -
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ لَهُ: إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً، فَقَالَ:«اجْلِسِي فِي أَيِّ طَرِيقِ المَدِينَةِ شِئْتِ أَجْلِسْ إِلَيْكِ» .
• الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في التعريف براويه:
أنس بن مالك رضي الله عنه تقدم التعريف به في الحديث رقم 1.
* الوجه الثاني: في تخريجه:
الحديث أخرجه مسلم في الصحيح
(1)
بنحوه، ولفظه عنده:«أن امرأة كان في عقلها شيء، فقالت: يا رسول الله إن لي إليك حاجة، فقال: «يا أم فلان انظري أي السكك شئت، حتى أقضي لك حاجتك» ، فخلا معها في بعض الطرق حتى فرغت من حاجتها».
* الوجه الثالث: في الحديث دليل على عظيم تواضعه صلى الله عليه وسلم حيث استمع لهذه المرأة مع ما في عقلها من الضعف، وترك لها اختيار المكان الذي تريد أن تلقاه فيه، ولم يرسل معها أحداً من أصحابه بل ذهب بنفسه معها وقضى لها حاجتها.
(1)
«صحيح مسلم» (2326).
* الوجه الرابع: في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم شواهد كثيرة جداً على ما كان عليه من التواضع الجم مع الناس جميعاً، صغيرهم وكبيرهم، غنيهم وفقيرهم، ولين جانبه وعريكته، مما كان له أبلغ الأثر في نجاح دعوته ومحبة الناس له.
ففي الصحيح من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، أن غلاماً ليهود كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم، فمرض فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده، فقال:«أسلم» فأسلم
(1)
.
وفي الشمائل من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعى إلى خبز الشعير والإهالة السنخة
(2)
فيجيب. ولقد كان له درع عند يهودي فما وجد ما يفكها حتى مات»
(3)
.
وفي الشمائل من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أيضاً قال: حج رسول الله صلى الله عليه وسلم على رحل رثّ، وعليه قطيفة لا تساوي أربعة دراهم، فقال:«اللهم اجعله حجاً لا رياء فيه ولا سمعة»
(4)
. والأحاديث والأخبار في الباب كثيرة.
* * *
71 -
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: «لَمْ يَكُنْ شَخْصٌ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» قَالَ: «وَكَانُوا إِذَا رَأَوْهُ لَمْ يَقُومُوا، لِمَا يَعْلَمُونَ مِنْ كَرَاهَتِهِ لِذَلِكَ» .
(1)
«صحيح البخاري» (5657).
(2)
(الإهالة السنخة): دهن متغير الرائحة من طول المكث.
(3)
«الشمائل» للترمذي (334)، وهو في «صحيح البخاري» (2069) بنحوه.
(4)
«الشمائل» للترمذي (335)، وصححه الضياء في «المختارة» (1705)، والألباني بشواهده في «مختصر الشمائل» (288).
• الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في التعريف براويه:
أنس بن مالك رضي الله عنه تقدم التعريف به في الحديث رقم 1.
* الوجه الثاني: في تخريجه:
الحديث أخرجه الترمذي في السنن
(1)
وقال: حسن صحيح، وصحح إسناده ابن عبد الهادي
(2)
، والألباني، وغيرهما.
* الوجه الثالث: دل الحديث على كمال تواضع النبي صلى الله عليه وسلم وحسن خلقه، حيث إنه كان يكره قيام أصحابه له، إذا ما أقبل كما جرت به العادة العرفية بين الناس، وكان الصحابة ينزلون عند رغبته، فلا يقومون له رغم شدة محبتهم له وتعظيمهم لشأنه.
* الوجه الرابع: (حكم القيام إكراماً للقادم)، استدل بعض العلماء بهذا الحديث على منع القيام للقادم إكراماً له.
وأيدوا المنع بما ثبت في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أحبّ أن يمثل له عباد الله قياماً فليتبوأ مقعده من النار»
(3)
.
وبحديث أبي أمامة قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم متوكئاً على عصا، فقمنا إليه، فقال:«لا تقوموا كما تقوم الأعاجم، يعظم بعضها بعضاً»
(4)
.
(1)
«سنن الترمذي» (2754).
(2)
«الصارم المنكي» ص 78.
(3)
رواه أبو داود في «سننه» (5229)، وأحمد في «المسند» (16830)، وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح.
(4)
رواه أبو داود في «سننه» (5230)، وضعفه الشيخان الألباني وشعيب الأرناؤوط وغيرهما.
والصحيح: أن القيام للقادم إكراماً له ومن أجل السلام عليه جائز شرعاً، وهو من محاسن الأخلاق، لا سيما إذا كان القادم من أهل العلم والفضل أو الصلاح أو السن.
والأدلة على ذلك كثيرة متضافرة، منها: ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري؛ لما قدم سعد بن معاذ ليحكم في بني قريظة، فقال صلى الله عليه وسلم للأنصار:«قوموا إلى سيدكم»
(1)
.
ومنها: حديث كعب بن مالك، وهو يقص خبر تخلفه عن غزوة تبوك وتوبة الله عليه، وفيه:«حتى دخلت المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس حوله الناس، فقام إليّ طلحة بن عبيد الله يهرول، حتى صافحني وهناني، والله ما قام إليّ رجل من المهاجرين غيره، ولا أنساها لطلحة»
(2)
.
ومن الأحاديث الدالة على الجواز أيضاً: ما روته عائشة أم المؤمنين، قالت:«ما رأيت أحداً أشبه سمتاً ودلاً وهدياً برسول الله في قيامها وقعودها من فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم» ، قالت:«وكانت إذا دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم قام إليها فقبّلها وأجلسها في مجلسه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل عليها قامت من مجلسها فقبّلته، وأجلسته في مجلسها»
(3)
.
فهذه الأحاديث صريحة في جواز القيام للقادم إكراماً له.
(1)
«صحيح البخاري» (3043)، «صحيح مسلم» (1768).
(2)
«صحيح البخاري» (4418)، «صحيح مسلم» (2769).
(3)
رواه أبو داود في «سننه» (5217)، و» الترمذي» (3872)، وقال: حسن صحيح، وصححه الألباني.
وأما الأحاديث التي استدل بها المانعون من القيام فالجواب عنها كالتالي:
أما حديث أنس الأول: «لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا، لما يعلمون من كراهته لذلك» . فيجاب عنه: بأن هذا كان حقاً له صلى الله عليه وسلم وقد تركه، وتنازل عنه تواضعاً منه وشفقة على أصحابه.
وأما حديث: «من أحبّ أن يمثل له عباد الله قياماً، فليتبوأ مقعده من النار» ، فأجيب عنه بعدة أجوبة، منها: أن المقصود به أن يأمرهم بذلك ويلزمهم به تكبراً
(1)
، كما يفعل بعض المدرسين عندما يأمر طلبته بالقيام له إذا حضر! فهذا أقل ما يقال فيه الكراهة الشديدة، كما رجح الشيخ ابن باز رحمه الله
(2)
.
ومنها: أن المنهي عنه محبة المرء قيام الناس له، فلو لم يخطر بباله فقاموا له أو لم يقوموا فلا لوم عليه، فإن أحب ارتكب التحريم سواء قاموا أو لم يقوموا، فلا يصح الاحتجاج به لترك قيام الرجل لأخيه إذا سلم عليه.
ومنها: أن النهي يقصد به أن يقوم الرجال على رأسه أو عن جانبيه طول جلوسه، تكبراً وإذلالاً للناس، كما يفعل بعض الملوك والأمراء.
وأما استدلالهم بحديث: «لا تقوموا كما تقوم الأعاجم، يعظم بعضها بعضاً» ، فقد تقدم أنه ضعيف الإسناد، وعلى فرض صحته فالجواب عنه كالحديث السابق: أن النهي يقصد به أن يقوم الناس على رأسه، وهو قاعد
(1)
«معالم السنن» 4/ 155.
(2)
«مجموع فتاوى» ابن باز 24/ 54.
تكبراً عليهم وإذلالاً لهم والله تعالى أعلم.
وهذا الذي رجحناه من جواز القيام للقادم إكراماً له، هو مذهب جمهور العلماء، وهو اختيار الإمام النووي وغيره من أهل العلم المحققين
(1)
، والله تعالى أعلم.
* * *
72 -
عَنْ عَمْرَةَ، قَالَتْ: قِيلَ لِعَائِشَةَ: مَاذَا كَانَ يَعْمَلُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِهِ؟ قَالَتْ: «كَانَ بَشَراً مِنَ البَشَرِ، يَفْلِي ثَوْبَهُ، وَيَحْلُبُ شَاتَهُ، وَيَخْدُمُ نَفْسَهُ» .
• الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في التعريف براويه:
عائشة رضي الله عنها تقدم التعريف بها في الحديث رقم 5.
* الوجه الثاني: في تخريجه:
الحديث أخرجه البخاري في صحيحه بنحوه ولفظه عنده: «كان يكون في مهنة أهله، فإذا سمع الأذان خرج»
(2)
، لكن السائل عنده هو الأسود بن يزيد، وليس عمرة بنت عبد الرحمن
(3)
.
وقد أخرج الحديث أحمد في المسند، من طريق هشام بن عروة، عن
(1)
«شرح صحيح مسلم» للنووي 12/ 93.
(2)
«صحيح البخاري» (5363).
(3)
وعد الألباني حديث البخاري حديثاً آخر كما في «مختصر الشمائل» ص 180.
أبيه، عن عائشة، أنها سئلت: ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل في بيته؟ قالت: «كان يخيط ثوبه، ويخصف نعله، ويعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم»
(1)
.
* الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:
(يفلي ثوبه): أي يلتقط ما فيه من هناة ويزيلها.
* الوجه الرابع: في الحديث بيان لتواضع النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه كان يخدم نفسه، ويقوم على شؤون أموره برغم تشريف الله له بالنبوة والرسالة والوحي والعصمة والمعجزات، وفي ذلك إرشاد للناس عامة وللأئمة والعلماء خاصة أن يقوموا بخدمة أنفسهم وقضاء حوائجهم بأنفسهم، وأن ذلك من فعل الصالحين.
* الوجه الخامس: نقل الإمام المناوي عن بعض أهل العلم: أن خدمة النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه يجب حملها على بعض الأحيان، لأنه ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان له خدم، فتارة كان يخدم نفسه بنفسه وتارة بغيره وتارة بالمشاركة
(2)
(1)
«مسند أحمد» (24903)، وصححه شعيب الأرناؤوط.
(2)
«فيض القدير» 5/ 236.
44 - بَابُ مَا جَاءَ فِي خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
-
أي بيان الأحاديث الواردة في صفة خُلُقه صلى الله عليه وسلم، والخُلُق بضم الخاء واللام هو: الطبع والسجية والصفات الباطنة، كالحلم والشجاعة والتواضع، وقد تقدم في أول الكتابِ الحديثُ عن خَلْق رسول الله صلى الله عليه وسلم بفتح الخاء وسكون اللام، وهو الصفات البدنية الظاهرة.
ولِيُعْلَم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أعظم الناس خُلُقاً، ويكفي شهادة القرآن له:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].
وهذا الخُلُق العظيم الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم هو من أكبر أسباب نجاح دعوته، وانجذاب الناس له وتأثرهم به، كما قال تعالى:{وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159].
73 -
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: «خَدَمْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَشْرَ سِنِينَ، فَمَا قَالَ لِي أُفٍّ قَطُّ، وَمَا قَالَ لِشَيْءٍ صَنَعْتُهُ: لِمَ صَنَعْتَهُ، وَلَا لِشَيْءٍ تَرَكْتُهُ: لِمَ تَرَكْتَهُ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ خُلُقاً، وَلَا مَسَسْتُ خَزّاً وَلَا حَرِيراً وَلَا شَيْئاً كَانَ أَلْيَنَ مِنْ كَفِّ رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَا شَمَمْتُ مِسْكاً قَطُّ وَلَا عِطْراً كَانَ أَطْيَبَ مِنْ عَرَقِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم».
• الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في التعريف براويه:
أنس بن مالك رضي الله عنه تقدم التعريف به في الحديث رقم 1.
* الوجه الثاني: في تخريجه:
الحديث أخرج البخاري ومسلم جزأه الأول بنحوه
(1)
، وأخرج مسلم جزأه الأخير مستقلاً بنحوه
(2)
.
* الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:
(أُفّ): كلمة تقال عند الضجر، وتستعمل في كل ما يستقذر أو يستثقل.
(خزاً): ثياب مصنوعة من حرير وغيره.
* الوجه الرابع: في الحديث دليل على كمال حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم، فإن مخالطة الخدم تقتضي السؤال عادة عن أعمالهم ومهامهم، ولكن حسن خلقه صلى الله عليه وسلم حمله على ألا يسأل عما وقع منهم من تقصير، خاصة وأن أنساً قد أقر بأنه ربما وقع منه تقصير بسبب صغره أو غفلته أحياناً، كما جاء في إحدى روايات الحديث:«ليس كل أمري كما يشتهي صاحبي أن أكون عليه»
(3)
.
لكن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعامل خدمه كما أرشد الله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199].
* الوجه الخامس: دل الحديث على أن الإنسان يجب عليه أن ينزه لسانه عن الزجر والسب والتوبيخ، وأن عليه استئلاف خاطر الخادم بترك
(1)
«صحيح البخاري» (6038)، «صحيح مسلم» (2309).
(2)
«صحيح مسلم» (2330).
(3)
«سنن أبي داود» (4774)، وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح.
معاتبته، وهذا في الأمور المتعلقة بأمور الخدمة وحظ الإنسان، أما الأمور الشرعية فلا يتسامح فيها.
* الوجه السادس: في قول أنس: ولا مسست خزاً ولا حريراً .. إلى آخره، وقوله: ولا شممت مسكاً .. إلى آخره: دليل على حسن خِلقة النبي صلى الله عليه وسلم ولين كفه، وطيب رائحة بدنه وعرقه، وقد تضافرت بذلك الأحاديث الصحيحة، كما في حديث جابر بن سمرة، عندما مسح النبي صلى الله عليه وسلم على خده وهو صبي، قال:«فوجدت ليده برداً أو ريحاً، كأنما أخرجها من جؤنة عطار»
(1)
.
* * *
74 -
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، أَنَّهَا قَالَتْ:«لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاحِشاً وَلَا مُتَفَحِّشاً وَلَا صَخَّاباً فِي الأَسْوَاقِ، وَلَا يَجْزِئءُ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ» .
• الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في التعريف براويه
عائشة رضي الله عنها تقدم التعريف بها في الحديث رقم 5.
* الوجه الثاني: في تخريجه:
الحديث أخرجه الترمذي في سننه
(2)
وقال: حسن صحيح، وصححه: الألباني وشعيب الأرناؤوط.
(1)
«صحيح مسلم» (2329)، والجؤنة: سلة مستديرة يجعل العطار فيها متاعه من العطور.
(2)
«سنن الترمذي» (2016).
* الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:
(فاحشاً): الفاحش: القبيح أو البذيء في أقواله وأفعاله وصفاته.
(متفحشاً): المتفحش: الذي يتكلف الفحش ويتعمده.
(صخاباً): ضبط بالصاد وبالسين، أي صيَّاحاً، والصخب: الصياح واختلاط الأصوات.
* الوجه الرابع: في الحديث دليل على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الأخلاق الكريمة، والآداب العالية، والبعد عن كل ما هو قبيح من الأقوال والأفعال أو الصفات، وما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الصفح والمسامحة والعفو، مما تواترت به الأحاديث الصحيحة، ويكفي شهادة الله تبارك وتعالى له في كتابه:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].
وهذا العفو والصفح إنما هو في حقه صلى الله عليه وسلم، وما يمس شخصه الكريم، وأما ما كان من حقوق الله ومحارمه وحقوق الآدميين فكان عليه الصلاة والسلام وقافاً عند حدود الله، كما جاء في الحديث الصحيح:«لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها»
(1)
.
* * *
75 -
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ:«مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ شَيْئاً قَطُّ إِلَا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَا ضَرَبَ خَادِماً أَوِ امْرَأَةً» .
(1)
«صحيح البخاري» (3475)، «صحيح مسلم» (1688).
• الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في التعريف براويه:
عائشة تقدم التعريف بها في الحديث رقم 5.
* الوجه الثاني: في تخريجه:
الحديث أخرجه مسلم في صحيحه
(1)
* الوجه الثالث: دل الحديث على أن ترك الضرب في التربية أفضل، وإن كان مباحاً في الأصل بشروط.
* الوجه الرابع: دل الحديث على أن الأولى للإمام التنزه عن إقامة الحدود والتعزيرات بنفسه، بل يقيم لها من يتعاطاها، وعلى ذلك عمل الخلفاء رحمهم الله
(2)
.
* * *
76 -
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتِ: اسْتَأْذَنَ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا عِنْدَهُ، فَقَالَ:«بِئْسَ ابْنُ العَشِيرَةِ» أَوْ «أَخُو العَشِيرَةِ» ، ثُمَّ أَذِنَ لَهُ، فَأَلَانَ لَهُ القَوْلَ، فَلَمَّا خَرَجَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قُلْتَ مَا قُلْتَ ثُمَّ أَلَنْتَ لَهُ الْقَوْلَ؟ فَقَالَ:«يَا عَائِشَةُ، إِنَّ مِنْ شَرِّ النَّاسِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ أَوْ وَدَعَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ فُحْشِهِ» .
(1)
«صحيح مسلم» (2328).
(2)
«طرح التثريب» 7/ 209.
• الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في التعريف براويه:
عائشة تقدم التعريف بها في الحديث رقم 5.
* الوجه الثاني: في تخريجه:
الحديث أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين
(1)
بنحوه.
* الوجه الثالث: الرجل الوارد في الحديث هو عُيينة بن حصن الفزاري ولم يكن أسلم حينئذ، وإن كان قد أظهر الإسلام، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبين حاله ليعرفه الناس، ولا يغتر به من لم يعرف حاله، وقد كان منه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعدها ما دل على ضعف إيمانه، وارتد مع المرتدين وجيء به أسيراً إلى أبي بكر رضي الله عنه. ووصْفُ النبي صلى الله عليه وسلم له بأنه: بئس أخو العشيرة من أعلام النبوة لأنه ظهر كما وصف، وإنما ألان له القول تألفاً له ولأمثاله على الإسلام
(2)
.
* الوجه الرابع: في الحديث دليل على استحباب مداراة من يُتقى فحشه، وجواز غيبة الفاسق المعلن فسقه، ومن يحتاج الناس إلى الحذر منه، ولم يمدحه النبي صلى الله عليه وسلم ولا ذكر أنه أثنى عليه في وجهه ولا في قفاه، إنما تألفه بشيء من الدنيا مع لين الكلام
(3)
.
* الوجه الخامس: استدل العلماء بهذا الحديث على مشروعية جرح رواة الحديث، وبيان ما فيهم من كذب أو ضعف ونحوه، مما يوجب رد
(1)
«صحيح البخاري» (6032)، «صحيح مسلم» (2591).
(2)
«إكمال المعلم» 8/ 62.
(3)
«شرح صحيح مسلم» للنووي 16/ 144.
روايتهم، صيانة للشريعة وذباً عن السُّنة، وبينوا أن هذا مستثنى من الغيبة التي حرمها الله عز وجل
(1)
.
* * *
77 -
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدَ النَّاسِ بِالخَيْرِ، وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، حَتَّى يَنْسَلِخَ، فَيَأْتِيهِ جِبْرِيلُ فَيَعْرِضُ عَلَيْهِ القُرْآنَ، فَإِذَا لَقِيَهُ جِبْرِيلُ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدَ بِالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ» .
• الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في التعريف براويه:
ابن عباس تقدم التعريف به في الحديث رقم 4.
* الوجه الثاني: في تخريجه:
الحديث أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين
(2)
بنحوه.
* الوجه الثالث: دل الحديث على فوائد منها: عظم جود النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مما تواترت به الأحاديث الصحيحة، واستحباب الإكثار من الجود والسخاء في العطاء في شهر رمضان، تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم، ومنها: زيادة الجود والخير عند ملاقاة الصالحين، وعقب فراقهم للتأثر بلقائهم، ومنها استحباب مدارسة القرآن الكريم خاصة في شهر رمضان.
(1)
«فتح المغيث» للسخاوي 4/ 352.
(2)
«صحيح البخاري» (6)، «صحيح مسلم» (2308).
* الوجه الرابع: قيل: الحكمة في كونه صلى الله عليه وسلم أجود في رمضان أن مدارسة القرآن تجدّد له العهد بمزيد غنى النفس، والغنى سبب الجود، وأيضًا فرمضان موسم الخيرات؛ لأن نِعَم الله على عباده فيه زائدة على غيره، فكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يُؤْثِر متابعة سُنَّة الله في عباده
(1)
.
وقد كان السلف رضوان الله عليهم يكثرون من تلاوة القرآن في شهر رمضان أكثر من غيره من الشهور، وكان بعضهم كالزهري ومالك بن أنس وسفيان الثوري وغيرهم يتوقفون عن رواية الحديث ونحوه من دروس العلم، ويتفرغون لتلاوة القرآن ومدارسته في هذا الشهر الكريم
(2)
.
* * *
78 -
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَا يَدَّخِرُ شَيْئاً لِغَدٍ» .
• الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في التعريف براويه:
أنس بن مالك رضي الله عنه تقدم التعريف به في الحديث رقم 1.
* الوجه الثاني: في تخريجه:
الحديث أخرجه الترمذي في سننه
(3)
واستغربه، لكن صححه ابن حبان
(4)
،
(1)
«فتح الباري» 1/ 31.
(2)
ينظر «لطائف المعارف» لابن رجب 1/ 171.
(3)
«سنن الترمذي» (2362).
(4)
«صحيح ابن حبان» (6356).
وجود إسناده المناوي
(1)
، وقال الألباني: إسناده صحيح على شرط مسلم.
* الوجه الثالث: دل ظاهر الحديث على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يدخر شيئاً لنفسه، وذلك لكمال توكله على الله تبارك وتعالى، لكن قال العلماء بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدخر لعياله قوت سنتهم، وذلك لضعف توكلهم بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم، وليكون سُنَّةً للمعيلين من أمته.
ومما يدل على هذا ما ثبت في الصحيح من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبيع نخل بني النضير، ويحبس لأهله قوت سنتهم»
(2)
.
لكن قد يقال: كيف يتفق هذا مع ما ورد في أحاديث كثيرة؛ من أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت تمر عليه الليالي والأيام ولا يجد هو ولا أهل بيته شيئاً يأكلونه؟
والجواب: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدخر لأهله قوت سنتهم، لكن من جوده وكرمه على الوافدين والمحتاجين كان يفرغ زادهم قبل تمام السنة.
(3)
* * *
79 -
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ وَيُثِيبُ عَلَيْهَا» .
• الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في التعريف براويه:
…
عائشة رضي الله عنها تقدم التعريف بها في الحديث رقم 5.
* الوجه الثاني: في تخريجه:
الحديث أخرجه البخاري في صحيحه
(1)
.
* الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:
(يثيب عليها): يكافئ ويجازي المهدي، فيعطيه عوضاً عنها مثلها أو أحسن منها.
* الوجه الرابع: دل الحديث على استحباب قبول الهدية وكراهة ردها، لما في ذلك من جبر خواطر الناس وتطييب نفوسهم، فإن المهدي إنما يقصد غالباً التودد والتقرب من المهدى إليه.
وقد جاءت أحاديث كثيرة في استحباب الهدايا واستحباب قبولها، كقوله صلى الله عليه وسلم «تهادوا تحابوا»
(2)
.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «لو أُهديَ إلي ذراع أو كراع لقبلت»
(3)
.
* الوجه الخامس: يستحب للمهدَى إليه المكافأة على الهدية بمثلها أو بأعظم منها، لقوله في الحديث:«ويثيب عليها» ، وحتى يقابل المعروف بأكثر
(1)
«صحيح البخاري» (2585).
(2)
رواه البخاري في «الأدب المفرد» (594) من حديث أبي هريرة، وحسنه الألباني.
(3)
«صحيح البخاري» (2568).
منه، وتلك شيمة الكرام، وفي الحديث الصحيح:«من أهدى لكم فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئوه فادعوا له»
(1)
.
* الوجه السادس: استثنى العلماء صوراً عدة تمنع من قبول الهدية، منها: أن يهدي لمسؤولٍ كي يعطيه شيئاً لا يستحقه، أو يتجاوز عن شيء ليس له أن يتجاوز عنه، فهذه رِشوة محرمة، لا يجوز إعطاؤها ولا قبولها.
كما أنه لا يجوز إعطاء المسؤول هدية على واجبه سداً لباب الرشوة.
ومما يدل على هذا ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي حميد الساعدي، قال: استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأسد، يقال له: ابن اللتبية على الصدقة، فلما قدم قال: هذا لكم، وهذا لي، أُهدي لي، قال: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، وقال:«ما بال عامل أبعثه، فيقول: هذا لكم، وهذا أهدي لي، أفلا قعد في بيت أبيه، أو في بيت أمه، حتى ينظر أيهدى إليه أم لا؟ والذي نفس محمد بيده، لا ينال أحد منكم منها شيئاً إلا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه بعير له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر» ، ثم رفع يديه حتى رأينا عفرتي إبطيه، ثم قال:«اللهم، هل بلغت؟» مرتين
(2)
.
قال النووي رحمه الله: «أَخْذُ القاضي أو العامل
(3)
هدية محرمة، يلزمه ردها إلى مهديها، فإن لم يعرفه وجب عليه أن يجعلها في بيت المال»
(4)
.
(1)
رواه أحمد في «المسند» (5703)، وقال شعيب الأرناؤوط: صحيح لغيره.
(2)
«صحيح البخاري» (6979)، «صحيح مسلم» (1832) واللفظ له.
(3)
المقصود بالعامل: القائم على الأمر، كالموظف والمسؤول.
(4)
«شرح صحيح مسلم» للنووي 12/ 114.
45 - بَابُ مَا جَاءَ فِي حَيَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
-
أي بيان الأحاديث الواردة في كمال حيائه صلى الله عليه وسلم. والحياء كما قال العلماء: خُلُق يبعث المرء على اجتناب القبيح وفعل الحسن، وقال بعضهم: انقباض يجده الإنسان من نفسه، يَحْمِله على الامتناع من ملابسة ما يعاب عليه ويُستقبح منه، ونقيضه الصَّلَفُ، وهو التَّصَلُّفُ في الأمور، وعدم المبالاة بما يستقبح.
80 -
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَشدَّ حَيَاءً مِنَ العَذرَاءِ في خِدْرِهَا، وَكَانَ إِذَا كَرِهَ شَيْئاً عَرَفْنَاهُ فِي وَجْهِهِ» .
• الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في التعريف براويه:
أبو سعيد الخدري تقدم التعريف به في الحديث 10.
* الوجه الثاني: في تخريجه:
الحديث أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين
(1)
.
* الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:
(العذراء): هي البكر. سميت بذلك لأن عذرتها وهي جلدة البكارة باقية.
(خدرها): سترها.
(1)
«صحيح البخاري» (3562)، «صحيح مسلم» (2320).
والتشبيه بالعذراء لأنها أكثر حياء من غيرها.
(عرفناه في وجهه): أي لا يتكلم به لحيائه، بل يتغير وجهه فنفهم نحن كراهته.
* الوجه الرابع: في الحديث بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من شدّة الحياء، حتى كان أشدّ حياءً من العذراء في خِدْرها. لكن هذا الحياء إنما هو في غير ما يتعلّق بالحقوق الدينيّة؛ كانتهاك حرمات الله تعالى، فإنه كان أشدّ الناس غضباً لذلك، وإزالةً له بالقول والفعل.
* الوجه الخامس: في الحديث فضيلة خلق الحياء، وهو من شعب الإيمان، وهو خير كله، ولا يأتي إلا بخير، كما ثبت في الأحاديث الصحاح.
46 - بَابُ مَا جَاءَ فِي حِجَامَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
-
أي بيان الأحاديث الواردة في حجامة رسول الله صلى الله عليه وسلم. والحجامة بكسر الحاء هي: شرط الجلد وإخراج الدم بالمحجمة، وهي ما يحتجم به، وهي من الأدوية الطبيعية الفعالة، وكانت معروفة قديماً عند العرب وغيرهم، وجاءت السنة النبوية بإثباتها والحث عليها.
وقد احتجم النبي صلى الله عليه وسلم مرات عدة في أوقات متفرقة.
81 -
عَنْ حُمَيْدٍ قَالَ: سُئِلَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ كَسْبِ الْحَجَّامِ، فَقَالَ: احْتَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، حَجَمَهُ أَبُو طَيْبَةَ، فَأَمَرَ لَهُ بِصَاعَيْنِ مِنْ طَعَامٍ، وَكَلَّمَ أَهْلَهُ فَوَضَعُوا عَنْهُ مِنْ خَرَاجِهِ، وَقَالَ:«إِنَّ أَفْضَلَ مَا تَدَاوَيْتَمْ بِهِ الحِجَامَةُ» ، أَوْ «إِنَّ مِنْ أَمْثَلِ دَوَائِكُمُ الحِجَامَةَ» .
• الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في التعريف براويه:
أنس بن مالك رضي الله عنه تقدم التعريف به في الحديث رقم 1.
* الوجه الثاني: في تخريجه:
الحديث أخرج البخاري جزأه الأول، وأخرجه مسلم بتمامه بنحوه
(1)
.
(1)
«صحيح البخاري» (2102)، «صحيح مسلم» (1577).
* الوجه الثالث: دل الحديث على إباحة الحجامة، وأنها من أفضل وأنفع الأدوية لمن يحتاج إليها. والذي يظهر لي أن الحجامة ليست سنة مقصودة لذاتها يتعبد بها، وإنما هي نوع من العلاج والدواء لمن يحتاج إليه، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام كما في حديث الباب:«إن أفضل أو أمثل ما تداويتم به الحجامة» .
وفي الصحيحين من حديث ابن عباس مرفوعاً: «إن كان في شيء من أدويتكم خير، ففي شربة عسل، أو شرطة محجم، أو لذعة من نار، وما أحب أن أكتوي»
(1)
.
وفي السنن من حديث أنس: «أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم على ظهر القدم، من وجع كان به»
(2)
.
فهذه الأحاديث صريحة في أن الحجامة نوع من العلاج، لمن كان بحاجة له، وليست سنة مقصودة لذاتها كما يروج بعض الناس!!
* الوجه الرابع: دل الحديث على حل أخذ الأجرة على الحجامة، كما هو مذهب أكثر العلماء، وقد صح عن ابن عباس أنه قال:«احتجم النبي صلى الله عليه وسلم، وأعطى الذي حجمه» ، ولو كان حراماً لم يعطه
(3)
.
وأما حديث: «كسب الحجام خبيث»
(4)
، فحمله العلماء على التنزيه،
(1)
«صحيح البخاري» (5702)، «صحيح مسلم» (2205).
(2)
«سنن أبي داود» (1837)، وصححه ابن خزيمة (2659)، وابن حبان (3952)، وشعيب الأرناؤوط وغيرهم.
(3)
«صحيح البخاري» (2103).
(4)
«صحيح مسلم» (1568)، من حديث رافع بن خديج.
والارتفاع عن دني المكاسب، والحث على معالي الأمور
(1)
، فقد كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم يعدون مهنة الحجامة من المهن الوضيعة.
* الوجه الخامس: كما أن في الحديث إشارة إلى الاهتمام بتدبير البدن، وأنه أمر مشروع، وأنه غير مناف للتوكل على الله تبارك وتعالى، وقد صح في الحديث مرفوعاً: «تداووا، فإن الله عز وجل لم يضع داء إلا وضع له دواء غير داء واحد: الهرم «
(2)
.
(1)
«شرح صحيح مسلم» للنووي 10/ 233.
(2)
«سنن أبي داود» (3855)، «سنن الترمذي» (2038)، وقال: حسن صحيح، وصححه ابن حبان (6061)، والحاكم في «المستدرك» (8206)، والنووي في «خلاصة الأحكام» (3264)، وغيرهم.
47 - بَابُ: مَا جَاءَ فِي أَسْمَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
-
أي بيان الأحاديث الواردة في أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد كان له صلى الله عليه وسلم أسماء عدة، كما سيأتي، ولا شك أن كثرة الأسماء تدل على شرف المسمى وعلو مرتبته، وللإمام السيوطي رسالة سماها:«البهجة السنية في الأسماء النبوية» ، جمع فيها نحواً من خمسمائة اسم ووصف للنبي صلى الله عليه وسلم، مع ذكر الدليل على كل اسم، يذكره من القرآن الكريم أو السنة النبوية، وهي رسالة مطبوعة.
82 -
عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ لِي أَسْمَاءً: أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَنَا أَحْمَدُ، وَأَنَا المَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللَّهُ بِيَ الكُفْرَ، وَأَنَا الحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمِي، وَأَنَا العَاقِبُ، وَالعَاقِبُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ نَبِيٌّ» .
• الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في التعريف براويه:
جبير بن مطعم هو: الصحابي الجليل جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل ابن عبد المناف القرشي، كان من سادات قريش وعلمائهم خاصة في الأنساب، توفي بالمدينة سنة: 57 هـ.
* الوجه الثاني: في تخريجه:
الحديث أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين
(1)
.
* الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:
(محمد): هذا هو الاسم الأجل والأشهر من أسماء نبينا صلى الله عليه وسلم، قيل: إن الذي سماه به جده عبد المطلب، وقيل: بل أمه آمنة، رأت في المنام من يأمرها بتسميته محمداً
(2)
.
- وقد تكرر هذا الاسم في القرآن الكريم مرات عدة، وهو مشتق من الحمْد، لكثرة محامده وخصاله المحمودة صلى الله عليه وسلم.
- ولم يكن هذا الاسم مشهوراً في الجاهلية، وإنما تسمَّى به بعض أفراد من العرب قرب بعثته صلى الله عليه وسلم لما سمعوا من الأحبار والرهبان بأن نبياً يبعث آخر الزمان اسمه (محمداً)، فسمُّوا أبناءهم بهذا الاسم رجاء نيل النبوة
(3)
!!
(أحمد): هذا هو الاسم الثاني في المكانة والشهرة لنبينا صلى الله عليه وسلم. وقد ورد ذكره في القرآن الكريم مرة واحدة على لسان نبي الله عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6].
(1)
«صحيح البخاري» (3532)، «صحيح مسلم» (2354).
(2)
«فتح الباري» 7/ 163، «شرح المواهب» للزرقاني 1/ 199، وقد وهم الدكتور عبد الرزاق البدر فقال في شرحه على الشمائل ص 399 بأن الذي سماه بهذا الاسم هو والده!! وهو وهم، لأن والد النبي صلى الله عليه وسلم توفي قبل مولده كما هو معلوم.
(3)
«عيون الأثر» 1/ 39.
(الماحي): هذا من أسمائه صلى الله عليه وسلم، وقد فسره النبي صلى الله عليه وسلم بالذي يمحو الله به الكفر.
(الحاشر): هذا من أسمائه صلى الله عليه وسلم، وقد فسره النبي صلى الله عليه وسلم بالذي يحشر الناس على قدمه.
واختلف في معنى هذه العبارة، فقيل معناها: أن الخلق يحشرون يوم القيامة على إثر حشره، لأنه يحشر قبل الناس
(1)
، كما جاء في الحديث:«أنا أول من ينشق عنه القبر»
(2)
.
وقيل معناها: أن الخلق يحشرون يوم القيامة على أثره، فليس بينه وبين يوم القيامة نبي آخر.
(العاقب): هذا أيضاً من أسمائه صلى الله عليه وسلم، وقد فسره في الحديث بالذي ليس بعده نبي، لأنه يأتي عقب الأنبياء أي آخرهم.
* الوجه الرابع: هذه الأسماء الواردة في الحديث هي بعض أسمائه الشريفة صلى الله عليه وسلم، وقد صحت أسماء أخرى له في بعض النصوص، منها: المقفي، ونبي التوبة، ونبي الرحمة، ونبي الملحمة، كما في حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمي لنا نفسه أسماء، فقال:«أنا محمد، وأحمد، والمقفي، والحاشر، ونبي التوبة، ونبي الرحمة»
(3)
.
(والمقفي): أي آخر الأنبياء المتَّبع لهم، فإذا قفّى فلا نبي بعده.
(1)
«فتح الباري» 6/ 557.
(2)
«صحيح مسلم» (2278).
(3)
» صحيح مسلم» (2355).
(ونبي التوبة): سمي بهذا الاسم؛ لأنه كان كثير الرجوع والتوبة إلى الله تعالى، أو لأنه قُبل من أمته التوبة بمجرد الاستغفار، بخلاف الأمم السابقة.
(ونبي الرحمة): سمي بذلك: لأنه بُعِثَ رحمة للناس، كما قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].
(ونبي المَلحمة): هذا الاسم ورد في بعض ألفاظ روايات مسلم، لحديث أبي موسى الأشعري المتقدم.
ومعنى (نبي الملحمة): أي نبي الحرب والجهاد، فالإسلام كما أنه دين لين ورحمة، فهو دين جهاد وقوة، كلٌ بحسب الحاجة والمناسبة، وإن كان أصل علاقته من الغير: السلم والمهادنة، كما قال تعالى:{وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [الأنفال: 61].
* الوجه الخامس: نقل الحافظ أبو بكر ابن العربي المالكي عن بعض الصوفية؛ أن أسماء النبي صلى الله عليه وسلم بلغت الألف
(1)
!!
قلت: بعض هذه الأسماء ثابت في القرآن الكريم أو في السنة النبوية كما تقدم. بيد أن كثيراً من الأسماء التي يذكرونها إنما هي من قبيل الصفات وليست أسماء، كالمصطفى، والمجتبى، والشاهد، والمبشر، والنذير. وقد نبّه على هذا جمع من العلماء، كابن الملقن
(2)
، وابن حجر
(3)
، وغيرهما.
وبعض هذه الأسماء لم يصح فيه نص، فضلاً عن اشتمال بعضها على مخالفات شرعية، كتسمية بعضهم للنبي صلى الله عليه وسلم: بـ (وحيد)، و (مغيث)، و (غوث)، و (غياث)، و (مدعو)، و (مقيل العثرات)، إلى غير ذلك من التسميات المبتدعة!!
48 - بَابُ: مَا جَاءَ فِي سِنِّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
-
أي بيان الأحاديث الواردة في عمره الشريف صلى الله عليه وسلم عند وفاته.
83 -
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «مَكَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً يُوحَى إِلَيْهِ، وَبِالمَدِينَةِ عَشْراً، وَتُوُفِّيَ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ» .
• الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في التعريف براويه:
ابن عباس رضي الله عنهما تقدم التعريف به في الحديث رقم 4.
* الوجه الثاني: في تخريجه:
الحديث أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين
(1)
بنحوه.
* الوجه الثالث: الحديث صريح في أن النبي صلى الله عليه وسلم توفي وهو ابن ثلاث وستين سنة، وقد اختلفت الروايات في ذلك، فقيل: ستون، وقيل: خمس وستون، وقيل ثلاث وستون، وهذه أصح الروايات وأشهرها باتفاق العلماء، كما قال النووي وغيره
(2)
. وما عداها إما روايات شاذة أو غلط أو متأولة على ترك الكسر.
قال الحافظ ابن حجر: «كل من روي عنه من الصحابة ما يخالف المشهور، وهو ثلاث وستون جاء عنه المشهور»
(1)
.
* الوجه الرابع: دل الحديث على تحديد مدة مقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة بعد البعثة وهي ثلاث عشرة سنة، وهذا هو القول الصحيح المشهور، الذي عليه عامة أهل العلم، ودلت عليه الروايات الثابتة في الصحيحين وغيرهما عن جمع من الصحابة. قال ابن الجوزي
(2)
: بلا خلاف.
وأما ما ورد عن بعض الصحابة أنه صلى الله عليه وسلم أقام بمكة بعد البعثة عشر سنين فمحمول على إلغاء الكسر الزائد على العشرة كما هي عادة العرب في الحساب
(3)
.
* الوجه الخامس: دل الحديث على أن مدة مقام النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعد الهجرة عشر سنين بما فيها أيام أسفاره في الغزو والحج والعمرة إلى أن توفاه الله عز وجل، وهذا محل اتفاق بين العلماء جميعاً كما قال الإمام ابن عبد البر
(4)
والنووي
(5)
وغيرها.
(1)
«فتح الباري» 8/ 151.
(2)
«كشف المشكل من حديث الصحيحين» 3/ 214.
(3)
ينظر الوجه العاشر من شرح الحديث الأول.
(4)
«التمهيد» 3/ 9.
(5)
«شرح صحيح مسلم» 15/ 99.
49 - بَابُ: مَا جَاءَ فِي وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
-
أي بيان الأحاديث الواردة في حال النبي صلى الله عليه وسلم قبيل وفاته، وعند وفاته، وبيان موضع دفنه.
84 -
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: «آخِرُ نَظرَةٍ نَظَرْتُهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَشَفَ السِّتَارَةِ يَوْمَ الاثنَيْنِ، فَنَظَرْتُ إِلَى وَجْهِهِ كَأَنَّهُ وَرَقَةُ مُصْحَفٍ، وَالنَّاسُ خَلْفَ أَبِي بَكرٍ، فَأَشَارَ إِلَى النَّاسِ أَنِ اثبُتُوا، وَأَبُو بَكرٍ يَؤُمُّهُمْ وَألقَى السِّجْفَ، وَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ آخِرِ ذَلِكَ اليَومِ» .
• الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في التعريف براويه:
أنس بن مالك رضي الله عنه تقدم التعريف به في الحديث رقم 1.
* الوجه الثاني: في تخريجه:
الحديث أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين
(1)
بنحوه.
* الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:
(ورقة مصحف): أي في الحسن وصفاء البشرة واستنارتها.
(السجف): إحدى الستارتين المقرونتين بينهما فرجة.
(1)
«صحيح البخاري» (680)، «صحيح مسلم» (419).
* الوجه الرابع: في الحديث دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم توفي يوم الاثنين، وهذا محل إجماع من أهل العلم كما حكاه غير واحد كالحافظ ابن حجر وغيره، وكان ذلك في شهر ربيع الأول بالإجماع أيضاً
(1)
.
واختلف في تحديد تاريخ يوم الوفاة؟ والمشهور أنه في الثاني عشر كما هو قول جمهور العلماء
(2)
.
* الوجه الخامس: في استخلاف النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق، كي يصلي بالناس في مرض موته، دليل على فضل أبي بكر ومرتبته، وأنه أولى الناس بالخلافة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه:«رضيه لديننا فرضيناه لدنيانا»
(3)
.
* الوجه السادس: في الحديث دليل على أن أحق الناس بإمامتهم في الصلاة أفقههم وأعلمهم، ولذلك استخلف النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق، كي يصلّي بالناس، لأنه كان أعلمهم وأفقههم، وقد بوب الإمام البخاري رحمه الله لهذا الحديث في الصحيح بقوله:«باب أهل العلم والفضل أحق بالإمامة» .
* الوجه السابع: قول أنس: «وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم من آخر ذلك اليوم» . هذا فيه إشكال، لأن المتفق عليه بين علماء السيرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم توفي حين اشتد وقت الضحى من ذلك اليوم. وقد وجه العلماء كلام أنس بأن المراد به تحقق وفاة النبي صلى الله عليه وسلم عند الناس، لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعدما توفّي حصل اضطراب
(1)
«فتح الباري» 7/ 164.
(2)
المصدر السابق 8/ 129.
(3)
قال السفاريني في «لوامع الأنوار» 2/ 312: أخرجه الحاكم بإسناد جيد.
واختلاف بين الصّحابة في موته، فأنكر كثير منهم موته؛ حتّى قال عمر بن الخطاب:«والله ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليبعثنه الله، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم»
(1)
؟! فما تحقّقوا وفاته إلّا في آخر النّهار، حين جاء الصّدّيق رضي الله تعالى عنه وأعلمهم بذلك.
* الوجه الثامن: كان ابتداء مرض النبي صلى الله عليه وسلم من وَجَعٍ وجده في رأسه الشريف، وقد استمر به هذا الوجع نحواً من ثلاثة عشر يوماً، إلى أن توفاه الله عز وجل. ومما يدل على هذا: ما روته عائشة رضي الله عنها قالت: «دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليوم الذي بُدئ فيه، فقلت: وارأساه، قال: بل أنا وارأساه .. »
(2)
.
* الوجه التاسع: كان من أسباب ذلك المرض: أثرُ الشاة المسمومة، التي قدمتها له المرأة اليهودية في غزوة خيبر، فإن ذلك السمّ لم يقتله حينها، لكنه بقي أثره حتى كان من أسباب وفاته بعد ذلك صلى الله عليه وسلم، كما في صحيح البخاري مرفوعاً:«يا عائشة ما أزال أجدُ ألم الطعام الذي أكلتُ بخيبر، فهذا أوان وجدتُ انقطاع أبهَري من ذلك السمّ»
(3)
.
وبهذا يكون الله عز وجل قد جمع لنبيه صلى الله عليه وسلم بين درجة النبوة ودرجة الشهادة وأكرمه بذلك.
(1)
ينظر «صحيح البخاري» (3667).
(2)
«مسند أحمد» (25113)، وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين.
(3)
«صحيح البخاري» (4428).
85 -
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ:«كُنْتُ مُسْنِدَةً النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إِلَى صَدْرِي، أَوْ قَالَتْ: إِلَى حِجْرِي، فَدَعَا بِطَسْتٍ لِيَبُولَ فِيهِ، ثُمَّ بِالَ، فَمَاتَ» .
• الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في التعريف براويه:
عائشة رضي الله عنها تقدم التعريف بها في الحديث رقم 5.
* الوجه الثاني: في تخريجه:
الحديث أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين
(1)
بنحوه دون ذكر البول. وأخرجه كاملاً بنحوه ابن ماجه في سننه
(2)
، وصححه: الألباني وشعيب الأرناؤوط.
* الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:
(حجري): بالكسر والفتح: الحضن.
(الطست): إناء كبير من نحاس ونحوه.
* الوجه الرابع: دلَّ الحديث على أن النبي صلى الله عليه وسلم قبضه الله تبارك وتعالى وهو في حضن زوجه السيدة عائشة رضي الله عنها، وفي رواية الصحيحين: «قبضه الله بين سَحْري
(3)
ونَحْري»
(4)
، وفي رواية عند البخاري: «مات بين حاقنتي
(1)
«صحيح البخاري» (2741)، «صحيح مسلم» (1636).
(2)
«سنن ابن ماجه» (1626).
(3)
السحر: الرئة أو الصدر.
(4)
«صحيح البخاري» (1389)، «صحيح مسلم» (2443).
وذاقنتي
(1)
»
(2)
. أي كان رأسه الشريف بين حنكها وصدرها.
قال الحافظ ابن حجر: «وهذا لا يغاير حديثها أنه كان على فخذها، لأنه محمول على أنها رفعته من فخذها إلى صدرها»
(3)
.
* الوجه الخامس: في الحديث دليل على فضل السيدة عائشة رضي الله عنها، حيث خصّها اللَّه تعالى بأن مات النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها، وفي يومها، وبين سَحْرِها ونَحْرها.
* * *
86 -
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ:«لَا أَغبِطُ أَحَداً بَهَوْنِ مَوْتٍ بَعدَ الذِي رَأَيْتُ مِنْ شِدَّةِ مَوْتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» .
• الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في التعريف براويه:
عائشة رضي الله عنها تقدم التعريف بها في الحديث رقم 5.
* الوجه الثاني: في تخريجه:
الحديث إسناده ضعيف، فيه عبد الرحمن بن العلاء لم يوثقه غير ابن حبان، فهو مجهول، لكن رواه البخاري في صحيحه من طريق آخر عن عائشة بلفظ:«لا أكره شدة الموت لأحد أبداً بعد النبي صلى الله عليه وسلم»
(4)
.
(1)
الحاقنة: أعلى الصدر، والذاقنة: طرف الحلقوم.
(2)
«صحيح البخاري» (4438).
(3)
«فتح الباري» 8/ 139.
(4)
«صحيح البخاري» (4446).
* الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:
(بهون موت): أي بموت سهل هين ليس فيه شدة.
* الوجه الرابع: مقصود عائشة رضي الله عنها: أن الميتة السهلة الهينة لو كانت كرامة لأحد لكان أحق الناس بها النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه صلى الله عليه وسلم كان قد أصابه في موته شدة ووجع شديد، وهو خير خلق الله، وأحبهم إلى الله تبارك وتعالى.
ومن الأحاديث الدالة على شدة الوجع الذي أصاب النبي صلى الله عليه وسلم عند موته: ما ثبت عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يُوْعَكُ وعكاً شديداً، فمسسته بيدي فقلت: يا رسول الله، إنك لتُوْعَكُ وعكاً شديداً؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أجل، إني أُوْعَكُ كما يُوْعَك رجلان منكم» ، فقلت: ذلك أن لك أجرين؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أجل» ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ما من مسلم يصيبه أذى، مرض فما سواه، إلا حط الله له سيئاته، كما تَحط الشجرة ورقها»
(1)
.
وثبت عن عائشة رضي الله عنها في قصة موت النبي صلى الله عليه وسلم وفيها: وبين يديه ركوة أو علبة فيها ماء، فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح بهما وجهه، يقول:«لا إله إلا الله، إن للموت سكرات» ، ثم نصب يده، فجعل يقول:«في الرفيق الأعلى» حتى قُبض ومالت يده
(2)
.
* الوجه الخامس: دل الحديث على أن للموت شدة، وأنها أشد ما تكون على نفوس أحباب الله، من أنبيائه وأوليائه وأصفيائه، كما وقع للنبي صلى الله عليه وسلم.
(1)
«صحيح البخاري» (5660).
(2)
«صحيح البخاري» (4449).
(1)
.
* الوجه السابع: قوله صلى الله عليه وسلم عند موته «لا إله إلا الله إن للموت سكرات» ، يدل على أنه يجوز للإنسان أن يشكو لزوجه أو لصديقه أو طبيبه ما يعانيه من شدة أو ألم أو مرض، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول لعائشة رضي الله عنها:«لا إله إلا الله إن للموت سكرات» ، فاشتكى من سكرات الموت، وأما ما روي عن بعض العلماء:«أن تأوه المريض مكروه» ، فقد قال النووي: هذا ضعيف أو باطل، فإن المكروه ما ثبت فيه نهي مخصوص، وهذا لم يثبت فيه ذلك.
والحاصل أن إخبار المريض عن مرضه لا بأس به، وهو لا ينافي الرضا بقضاء الله وقدره، فكم من شاكٍ وهو راض، وكم من ساكت وهو ساخط، والمعول في ذلك على عمل القلب اتفاقاً، لا على نطق اللسان
(2)
.
* * *
(1)
نقله عنه السيوطي في «شرح الصدور بشرح حال الموتى والقبور» ص 42.
(2)
«فتح الباري» 10/ 125، «منار القاري» لحمزة قاسم 5/ 25.
87 -
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: لَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اختَلَفُوا فِي دَفنِهِ، فَقَالَ أَبُو بَكرٍ: سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَيْئاً مَا نَسِيتُهُ قَالَ: «مَا قَبَضَ اللَّهُ نَبِيّاً إِلَا فِي المَوْضِعِ الذِي يُحِبُّ أَنْ يُدْفَنَ فِيهِ» . ادْفِنُوهُ فِي مَوْضِعِ فِرَاشِهِ.
• الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في التعريف براويه:
عائشة رضي الله عنه تقدم التعريف بها في الحديث رقم 5.
* الوجه الثاني: في تخريجه:
الحديث أخرجه الترمذي في سننه
(1)
واستغربه، لكن صحح الحديث وقواه: الألباني، وعبد القادر الأرناؤوط، وشعيب الأرناؤوط، لما له من الطرق والشواهد.
* الوجه الثالث: في شرح ألفاظه:
(موضع فراشه): أي في بيته بيت عائشة بنت الصديق رضي الله عنهما، كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة الصريحة
(2)
، واتفق عليه العلماء
(3)
.
* الوجه الرابع: اختلف الصحابة في الموضع الذي ينبغي أن يدفن فيه النبي صلى الله عليه وسلم، وكان هذا أول خلاف يقع بينهم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال
(1)
«سنن الترمذي» (1018).
(2)
«صحيح البخاري» (3100).
(3)
«الاستذكار» 3/ 54،
بعضهم: يدفن مع أصحابه في البقيع، وقال بعضهم: يدفن بمكة حيث ولد، وقال بعضهم: يدفن في مسجده، حتى حدثهم أبو بكر الصديق بالحديث
(1)
.
* * *
88 -
عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ:«قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الِاثنَيْنِ، فَمَكَثَ ذَلِكَ اليَوْمَ وَلَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ، وَدُفِنَ مِنَ اللَّيْلِ» ، وَقَالَ سُفْيَانُ
(2)
: «وَقَالَ غَيْرُهُ
(3)
: يُسْمَعُ صَوْتُ المَسَاحِي مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ».
• الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في التعريف براويه:
راوي هذا الحديث هو محمد بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أبو جعفر الباقر، من أفاضل ثقات التابعين، من أهل البيت النبوي، وأحد من جمع العلم والفقه والشرف، والديانة والثقة والسؤدد، كما قال الحافظ الذهبي، توفي بالمدينة، سنة: 114 هـ.
* الوجه الثاني: في تخريجه:
الحديث إسناده مرسل، لأن محمداً الباقر تابعي، لكن صحح الحديث الشيخ الألباني بشواهده.
ومن جملة هذه الشواهد: حديث عائشة رضي الله عنها قالت: «توفي النبي
(1)
ينظر مضمون ذلك في «سنن ابن ماجه» (1626)، وصححه شعيب الأرناؤوط بالشواهد.
(2)
سفيان هو: ابن عيينة أحد الرواة في الإسناد.
(3)
أي غير محمد الباقر.
-صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، ودفن ليلة الأربعاء»
(1)
.
* الوجه الثالث: دل الحديث على أن وفاة النبي صلى الله عليه وسلم كانت يوم الاثنين، وهذا محل اتفاق بين العلماء، ودلت عليه الأحاديث الصحيحة كما قدمنا في شرح أول حديث في الباب.
كما دل على أن دفن النبي صلى الله عليه وسلم كان في ليلة الأربعاء
(2)
، وهذا هو المشهور عن جمهور العلماء كما قال الحافظ ابن كثير رحمه الله
(3)
.
* الوجه الرابع: ذكر العلماء رحمهم الله أن سبب تأخر الصحابة رضوان الله عليهم في دفن النبي صلى الله عليه وسلم يرجع إلى أمور عدة منها: دهشتهم أولاً بهذا الأمر الهائل، الذي لم يسبق لهم به معرفة، حتى إن بعضهم شك وبعضهم أنكر في البداية موته صلى الله عليه وسلم، الأمر الثاني: اختلافهم بعد ذلك في تعيين مكان دفنه، والأمر الثالث: انشغالهم بنصب خليفة للمسلمين يتولى مصالح الأمة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، لما قد يترتب على تأخير ذلك من الفتنة والاختلاف
(4)
.
فلما اتفقوا على كل هذه الأمور سارعوا إلى تجهيز النبي صلى الله عليه وسلم، والصلاة عليه ودفنه.
(1)
رواه أحمد في «المسند» (24790)، وقال شعيب الأرناؤوط: حديث محتمل للتحسين.
(2)
أي بعد وفاته صلى الله عليه وسلم بيوم ونصف يوم، ونصف ليلة، كما قال الإمام ابن حزم في «جوامع السيرة» ص 265.
(3)
«البداية والنهاية» 8/ 152.
(4)
ينظر «أشرف الوسائل» ص 574، «جمع الوسائل» 2/ 210.
50 - بَابُ: مَا جَاءَ فِي مِيرَاثِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
-
أي بيان الأحاديث الواردة في أن ميراث النبي صلى الله عليه وسلم الذي خلفه من المال لا يُملك، وإنما هو صدقة عامة للمسلمين.
89 -
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَتْ فَاطِمَةُ إِلَى أَبِي بَكرٍ فَقَالَتْ: مَنْ يَرِثُكَ؟ فَقَالَ: أَهْلِي وَوَلَدِي، فَقَالَتْ: مَا لِي لَا أَرِثُ أَبِي؟ فَقَالَ أَبُو بَكرٍ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لَا نُورَثُ» ، وَلَكِنِّي أَعُولُ مَنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعُولُهُ، وَأُنْفِقُ عَلَى مَنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُنْفِقُ عَلَيْهِ.
• الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في التعريف براويه:
أبو هريرة تقدم التعريف به في الحديث رقم 22.
* الوجه الثاني: في تخريجه:
الحديث أخرجه الترمذي في سننه
(1)
وقال: حديث حسن غريب، وحسنه الألباني، وعبدالقادر الأرناؤوط.
لكن مجيء السيدة فاطمة إلى أبي بكر الصديق ومطالبتها بالميراث وامتناع أبي بكر .. إلى آخره: ثابت في أحاديث كثيرة صحيحة، منها ما أخرجه
(1)
«سنن الترمذي» (1608).
الشيخان من حديث عروة بن الزبير أن عائشة رضي الله عنها أخبرته: أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، سألت أبا بكر بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أن يقسم لها ميراثها مما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم، مما أفاء الله عليه، فقال لها أبو بكر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا نورث ما تركنا صدقة»
(1)
.
على أن حديث: «لا نورث ما تركنا صدقة» معدود في الأحاديث المتواترة، رواه نحو ثلاثة عشر صحابياً، منهم الخلفاء الأربعة، وممن نص على تواتره: الحافظ ابن حجر، والسيوطي، والكتاني وغيرهم
(2)
.
* الوجه الثالث: دل الحديث على أن ما تركه النبي صلى الله عليه وسلم من أموال لا يورث، وإنما هو صدقة عامة للمسلمين، وهو من الخصائص المستثناة من آيات المواريث، وهذا مذهب أهل السنة قاطبة
(3)
.
* الوجه الرابع: وأما مطالبة السيدة فاطمة رضي الله عنها بميراث أبيها فقال العلماء: إن ذلك كان قبل أن تعلم بحديث: «لا نورث ما تركناه صدقة» ، ولمّا علمت به كفَّت وتراجعت عما طلبت، ويحتمل - وهذا أقوى عندي - أنها تأولت الحديث على أن المراد به: تملك الأصول والرقاب، دون المنافع، وأما أبو بكر ومعه عامة الصحابة فتمسكوا بعموم النص.
قال الحافظ ابن حجر: «وأما سبب غضبها مع احتجاج أبي بكر بالحديث المذكور، فلاعتقادها تأويل الحديث على خلاف ما تمسك به أبو بكر، وكأنها اعتقدت تخصيص العموم في قوله: «لا نورث» ، ورأت أن منافع ما
(1)
«صحيح البخاري» (3711)، «صحيح مسلم» (1759) واللفظ لمسلم.
(2)
ينظر «نظم المتناثر في الحديث المتواتر» ص 216.
(3)
«الخصائص الكبرى» للسيوطي 2/ 436.
خلّفه من أرض وعقار لا يمتنع أن تورث عنه، وتمسك أبو بكر بالعموم، واختلفا في أمر محتمل للتأويل»
(1)
.
وكلام الحافظ هذا فيه جواب عمَّا استشكله الحافظ ابن كثير، عندما قال: إنه لا يدري ما وجه غضب فاطمة رضي الله عنها على أبي بكر، بعد أن حدَّثها بالحديث
(2)
، فقد وضح الآن أنها تأولت الحديث، على أن المراد به: تملُّك الأصول والرقاب دون المنفعة.
* الوجه الخامس: ذكر العلماء: أن الحكمة في أن الأنبياء صلوات الله عليهم لا يورثون، أنه لا يؤمن أن يكون في الورثة من يتمنى موتهم فيهلك بذلك، وحتى لا يظن بهم الرغبة في الدنيا وجمع حطامها لورثتهم.
وقال الشيخ محمد العثيمين في بيان حكمة عدم توريث الأنبياء: «لأنهم لو ورثوا لقال من يقول: إن هؤلاء جاءوا بالرسالة يطلبون ملكاً يورث من بعدهم؛ ولكن الله عز وجل منع ذلك، فالأنبياء لا يورثون، بل ما يتركونه يكون صدقة يصرف للمستحقين له»
(3)
.
* الوجه السادس: من الأمور التي يستحسن التنبيه عليها؛ أن أبا بكر الصديق لم يمنع فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وحدها من ميراث النبي صلى الله عليه وسلم، بل لقد منع كل من كان مستحقاً لإرثه صلى الله عليه وسلم لو كان يورث، ومنهم عمّه العباس وجميع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بمن فيهم ابنته عائشة رضي الله عنهم جميعاً، وإذن فلم يخص أبو بكر فاطمة بالمنع وحدها فقط.
51 - بَابُ: مَا جَاءَ فِي رُؤْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
-
أي بيان الأحاديث الواردة في رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام، وما يتعلق بها من أحكام. وقد ذكر شرّاح الشمائل: أن الإمام الترمذي ختم كتابه بهذا الباب، بعد بيانه لصفات النبي صلى الله عليه وسلم الظاهرة والباطنة، حتى يستطيع الرائي التحقق من أن الذي رآه في المنام أهو رسول الله صلى الله عليه وسلم أم لا؟ فإن طابقت الرؤيا صفاته المعلومة كانت حقاً، وإلا فلا.
90 -
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ رَآنِي فِي المَنَامِ فَقَدْ رَآنِي فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَصَوَّرُ» ، أَوْ قَالَ:«لَا يَتَشَبَّهُ بِي» .
• الكلام عليه من وجوه:
* الوجه الأول: في التعريف براويه:
أبو هريرة تقدم التعريف به في الحديث رقم 22.
* الوجه الثاني: في تخريجه:
الحديث أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين
(1)
بنحوه، وقد روى نحوه أربعة عشر صحابياً، منهم: أنس بن مالك، وأبو مسعود، وجابر بن عبد الله، وأبو قتادة، وأبو سعيد، وابن مسعود، وابن عباس وغيرهم، وصرح
(1)
«صحيح البخاري» (6993)، «صحيح مسلم» (2266).
بتواتره الحافظ المناوي
(1)
والكتاني
(2)
وغيرهما.
* الوجه الثالث: معنى هذا الحديث كما ذكر العلامة العيني وغيره: أن من رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فهي رؤيا صحيحة صادقة لا أضغاث أحلام، ولا من تشبيه الشيطان، لأن الشيطان لا قدرة له على التشكل على صورته وخلقته صلى الله عليه وسلم
(3)
.
* الوجه الرابع: متى يقال فيمن رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام: إنّه رآه حقاً؟
الجواب: أن هناك علامة فارقة يستطيع بها المرء أن يعرف من رآه، هل هو النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره؟
فإن كان الذي رآه على صورة شبيهة بصورة النبي صلى الله عليه وسلم الثابتة بالنقل الصحيح عنه فهو النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان من رآه مخالفاً لصورته صلى الله عليه وسلم المعروفة المعهودة في سنته، بأن رآه طويلاً جداً أو قصيراً جداً، أو شديد السمرة، أو نحو ذلك، فإنه لم ير النبي صلى الله عليه وسلم.
ولذلك أخرج الحاكم من طريق عاصم بن كليب، قال: حدثني أبي، قال: قلت: لابن عباس، رأيتُ النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، قال صفه لي؟ قال ذكرت الحسن بن علي فشبهته به، قال قد رأيته. قال ابن حجر: سنده جيد
(4)
.
وثبت عن التابعي الجليل محمد بن سيرين، أنه كان إذا قصَّ عليه رجلٌ
(1)
«فيض القدير» 6/ 131.
(2)
«نظم المتناثر» ص 218.
(3)
ينظر «عمدة القاري» 2/ 155.
(4)
«فتح الباري» 12/ 384.
أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم، قال له: صف لي الذي رأيته، فإن وصف له صفة لا يعرفها، قال: لم تره، وسنده صحيح، كما قال الحافظ ابن حجر
(1)
.
* الوجه الخامس: رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم على صورته الحقيقة، قد تكون بشارة للمسلم، وقد تكون نذارة أو تخويفاً له، فإن رأى النبي صلى الله عليه وسلم مقبلاً عليه فهي خير وبشارة، وإن رآه معرضاً عنه كان العكس
(2)
.
* الوجه السادس: ذكر العلماء: أن الأحكام الشرعية لا تثبت بالرؤى والمنامات، فلو رأى أحد النبي صلى الله عليه وسلم يأمره بشيء مخالف للكتاب أو السُّنة، أو غير ثابت في الكتاب أو السُّنة، فإنه لا يجوز له العمل بهذا الحكم أو الترك به، لأن الرؤيا من غير الأنبياء لا يحكم بها شرعاً على حال؛ إلا أن تُعرض على ما في أيدينا من الأحكام الشرعية، فإن سوغتها عُمل بمقتضاها، وإلا وجب تركها والإعراض عنها.
فلو رأى في النوم النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول له: إن فلاناً سرق فاقطعه، أو عالماً فاسأله، أو فلاناً زنى فحدَّه .. ، وما أشبه ذلك لم يصح له العمل بذلك، حتى يقوم له الشاهد والبينة في اليقظة، وإلا كان عاملاً بغير شريعة
(3)
.
أما إذا رأى النبي صلى الله عليه وسلم يأمره بفعل هو مندوب إليه في الشرع، أو ينهاه عن منهي عنه في الشرع، أو يرشده إلى فعل مصلحة، فلا خلاف في استحباب
(1)
«فتح الباري» 12/ 384.
(2)
«فتح الباري» 12/ 384.
(3)
«الاعتصام» للشاطبي 1/ 332.
العمل على وفقه، لأن ذلك ليس حكماً بمجرد المنام، بل تقرر من أصل ذلك الشيء
(1)
.
والحاصل أن أحكام الشريعة لا تثبت ولا تنفى بالرؤى والأحلام إطلاقاً، والله تبارك وتعالى أعلم.
هذا وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
تم الكتاب
بحمد الله تعالى
(1)
«شرح صحيح مسلم» للنووي 1/ 115.
فهرس
المصادر والمراجع
1 -
«إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري» ، لأحمد بن محمد بن أبي بكر القسطلاني، المطبعة الكبرى الأميرية، مصر، ط: 7، 1323 هـ.
2 -
«أشرف الوسائل إلى فهم الشمائل» ، لأحمد بن محمد بن حجر الهيتمي المكي، تحقيق: أحمد فريد المزيدي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط: 1، 1419 هـ.
3 -
«التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد» ، ليوسف بن عبد البر النمري القرطبي، تحقيق مصطفى بن أحمد العلوي وجماعة، وزارة عموم الأوقاف والشؤون الإسلامية، المغرب، ط: 1387 هـ.
4 -
«تنوير الحوالك شرح موطأ مالك» ، لجلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، المكتبة التجارية الكبرى، مصر، ط: 1969 م.
5 -
«التنوير شرح الجامع الصغير» ، لمحمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني، تحقيق: د. محمد إسحاق محمد إبراهيم، مكتبة دار السلام، الرياض، ط: 1، 1432 هـ.
6 -
«التوضيح لشرح الجامع الصحيح» ، لعمر بن علي ابن الملقن الشافعي، دار الفلاح للبحث العلمي وتحقيق التراث، ط: 1، 1429 هـ.
7 -
«توضيح الأحكام بشرح بلوغ المرام» ، لعبد الله بن عبد الرحمن البسام، مكتبة الأسدي، مكة المكرمة، ط: 5، 1423 هـ.
8 -
«التيسير بشرح الجامع الصغير» ، لمحمد عبد الرؤوف المناوي القاهري، مكتبة الإمام الشافعي، الرياض، ط: 3، 1408 هـ.
9 -
«جمع الوسائل في شرح الشمائل» ، لعلي بن سلطان الهروي القاري، المطبعة الأشرفية، مصر.
10 -
حاشية الباجوري على الشمائل، المسماة:«المواهب اللدنية على الشمائل المحمدية» ، لإبراهيم بن محمد الباجوري الشافعي، عناية: محمد عوامة، دار المنهاج للنشر والتوزيع، ط: 5، 1436 هـ.
11 -
«ذخيرة العقبى في شرح المجتبى» ، لمحمد بن علي بن آدم الأثيوبي، دار المعراج الدولية للنشر، ط: 1، 1416 هـ.
12 -
«سبل السلام بشرح بلوغ المرام» ، لمحمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني، دار الحديث.
13 -
«شرح الموطأ» ، لمحمد بن عبد الباقي الزرقاني الأزهري، تحقيق: طه عبد الرؤوف سعد، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، ط: 1، 1424 هـ.
14 -
«شرح رياض الصالحين» ، لمحمد بن صالح بن محمد العثيمين، دار الوطن للنشر، الرياض، ط: 1426 هـ.
15 -
«شرح سنن أبي داود» ، لأحمد بن الحسين بن رسلان الرملي، تحقيق عدد من الباحثين بدار الفلاح، دار الفلاح للبحث العلمي وتحقيق التراث، مصر، ط: 1، 1437 هـ.
16 -
«شرح شمائل النبي صلى الله عليه وسلم» ، لعبد الرزاق بن عبد المحسن البدر، الناشر المتميز، ط: 1438 هـ.
17 -
«شرح صحيح مسلم» ، ليحيى بن شرف النووي الشافعي، ط: 2، 1392 هـ.
18 -
«طرح التثريب في شرح التقريب» ، لعبد الرحيم بن الحسين العراقي، الطبعة المصرية القديمة.
19 -
«عمدة القاري بشرح صحيح البخاري» ، لمحمود بن أحمد العيني، درا إحياء التراث العربي، بيروت.
20 -
«فتح الباري بشرح صحيح البخاري» ، لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني الشافعي، دار المعرفة، بيروت، 1379 هـ.
21 -
«فتح الودود في شرح سنن أبي داود» ، لأبي الحسن السندي، تحقيق: محمد زكي الخولي، مكتبة لينة، دمنهور، مصر، ط: 1، 1431 هـ.
22 -
«فيض القدير بشرح الجامع الصغير» ، لمحمد عبد الرؤوف المناوي القاهري، المكتبة التجارية الكبرى، مصر، ط: 1، 1356 هـ.
23 -
«كشف المشكل من حديث الصحيحين» ، لأبي الفرج عبد الرحمن بن علي ابن الجوزي الحنبلي، تحقيق: علي حسين البواب، دار الوطن، الرياض.
24 -
«مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح» ، لعلي بن سلطان الهروي القاري، دار الفكر، بيروت، لبنان، ط: 1، 1422 هـ.
25 -
«معالم السنن شرح سنن أبي داود» ، لحمد بن إبراهيم الخطابي، المطبعة العلمية، حلب، ط: 1، 1351 هـ.
26 -
«منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري» ، لحمزة محمد قاسم،
مراجعة عبد القادر الأرناؤوط، مكتبة دار البيان، دمشق، ط: 1410 هـ.
27 -
«المنتقى شرح الموطأ» ، لسليمان بن خلف الباجي المالكي، مطبعة السعادة، مصر، ط: 1432 هـ.
28 -
«منتهى السول على وسائل الوصول إلى شمائل الرسول» ، عبد الله بن سعيد اللحجي الشحاري، دار المنهاج، جدة، ط: 3، 1426 هـ.
29 -
«نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار» ، محمد بن علي الشوكاني، تحقيق عصام الدين الصبابطي، دار الحديث، مصر، ط: 1، 1413 هـ.