المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌مقدمة الشرح بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على - شرح مسند الدارمي - جـ ١

[مرزوق بن هياس الزهراني]

فهرس الكتاب

‌مقدمة الشرح

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين

والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين

نبينا محمد وعلى آله وصحبه إلى يوم الدين وبعد:

فقد بدأت هذا العمل المبارك في المدينة النبوية اليوم الجمعة 16/ 12/ 1438 هـ لأن من أنفس ما تُشغل به الأوقات وتستنفد فيه الأعمار بعد القيام بما فرض الله عز وجل من العبادات طلب العلم، وإذا أطلق لفظ العلم فالمراد به علم الكتاب والسنة، فهو أشرف العلوم، لما فيه من بيان ما فرض الله عز وجل على عباده من الطاعات، وصحة الاعتقاد، والمنهج الصحيح لعمارة الدنيا والآخرة، وهو علم الأنبياء والرسل عليهم السلام، ودعوتهم إلى الخير، حتى خُتموا بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وقد بعثه إلى الثقلين كافة: الإنس، والجن، فما ترك خيرا إلا أرشد أمته إليه إنسهم وجنهم، فآمن به فئام من الثقلين، وهو صلى الله عليه وسلم أكثر الأنبياء أتباعا، وأكثر أهل الجنة من أمته صلى الله عليه وسلم، دينه الإسلام خاتمة الأديان، {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}

(1)

، ومصدر العلم بالإسلام كتاب الله عز وجل المنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ كتابٌ تكفل الله عز وجل بحفظه فلا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، هو كلام الله عز وجل منزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم غير مخلوق، والسنة كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أو فعله أوتقريره، منهما استلهم العلماء الهداية والتوفيق، وتباروا في خدمة الكتاب العزيز حفظا وتلاوة وتفسيرا، والسنة النبوية تصحيحا وتحسينا وتضعيفا، وبناء على هذا المصدر الموحَّد من كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أقيمت الأحكام الفقهية إما على النص من الوحيين: الكتاب والسنة، أو من الكتاب وحده، أو من السنة وحدها، أو مما أجمع عليه السلف من الصحابة أو التابعين بعدهم، أو من قياس صحيح، فيسر الله حفظ الكتاب في الصدور،

(1)

الآية (85) من سورة آل عمران.

ص: 2

وهدى إلى جمعه كتابة في السطور، وهذا من الحفظ الذي وعد به سبحانه، وقد يسر الله عز وجل حفظ سنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بأن خص هذه الأمة بالنَّقَلَة العدول فأخذ الصحابة من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعنهم أخذ التابعون، وعنهم أتباع التابعين، وهلم جرا حتى نهاية عصر الرواية، وسمي هذا المنهج الرصين بالسند، رجلا عن رجل منتهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم تقف بركة هذا المنهج عند هذا الحد بل لا زالت مستمرة يتبرك نَقَلَة العلم بالرواية المسندة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، غير أن ما بعد عصر الرواية لا يقوم عليه تصحيح ولا تضعيف، إنما هو ربط سلسلة السند تبركا، والعمدة في أحكام الجرح والتعديل يقف عند نهاية عصر الرواية، وقد حصل لي الاتصال برسول الله صلى الله عليه وسلم في رواية مسند الدارمي هذا بالمكاتبة فبيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم (25) خمسة وعشرون راويا، وهذا ما سعيت له، فأرويه بالإجازة من الشيخ العالم علم الدين محمد بن ياسين بن عيسى الفاداني المكي، أجازني في سنة (1404 هـ) كتابة بما في ثبته " الدر النثير في الاتصال بثبت الأمير" عن الشيخ عبد الرحمن كريم بخش الهندي قراءة وإجازة، عن الشيخ العالم حضرت نور الفنجابي الهندي إجازة، عن مؤسس المدرسة الصولتية الشيخ العالم رحمت الله بن خليل الرحمن الهندي المتوفي بمكة في سنة (1280 هـ) عن الشيخ العالم الفاضل علي أحمد الهندي، عن محدث الهند الشاه عبد العزيز الدهلوي

(1)

، عن أبيه الشاه ولي الله بن عبد الرحيم الدهلوي

(2)

، عن العلامة عثمان بن حسن الدمياطي، عن العلامة الشيخ محمد بن أحمد الأمير الكبير، عن الأستاذ الحفني، عن شيخه البديري، عن الملا إبراهيم الصَّفي القشاشي، عن الشمس الرملي، عن شيخ الإسلام زكريا، عن مسند الدنيا محمد بن مقبل الحلبي، عن جويرية بنت أحمد الكردي الهكاري، أنا

(3)

علي بن عمر الكردي، أنا أبو المنجا عبد الله بن عمر اللتي، أنا الداودي، أنا السرخسي، أنا أبو عمران عيسى بن عمر السمرقندي، أنا الدارمي قال: أنا يزيد بن هارون، أنا حميد، عن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن في الجنة لسوقا -

(1)

مؤلف بستان المحدثين، والمراد بالشاه الملك.

(2)

مؤلف القول الجميل، والانتماء إلى أولياء الله، والإرشاد إلى علوم الإسناد.

(3)

اختصار لصيغة الأداء (حدثنا).

ص: 3

قالوا: وما هو؟ - قال: كثبان

(1)

، من مسك، يخرجون إليها فيجتمعون، فيها، فيبعث الله عليهم ريحا فتدخلهم بيوتهم، فيقول لهم أهلوهم: لقد ازددتم بعدنا حسنا، ويقولون لأهليهم: مثل ذلك» هذا لفظ الدارمي، ورجاله ثقات، ومن الرواة من وقفه على أنس، ولفظه عند الإمام مسلم رحمه الله من رواية ثابت عن أنس مرفوعا «إن في الجنة لسوقا يأتونها كل جمعة، فتهب ريح الشمال، فتحثو في وجوههم وثيابهم، فيزدادون حسنا وجمالا، فيرجعون إلى أهليهم وقد ازدادوا حسنا وجمالا، فيقول لهم أهلوهم: والله لقد ازددتم بعدنا حسنا وجمالا، فيقولون: وأنتم والله لقد ازددتم بعدنا حسنا وجمالا» والمراد بالسوق: مكان يجتمع فيه أهل الجنة، لمزيد من إكرام الله لهم، وزيادة في المتعة والأنس، وليس المراد أنه مكان تزاول فيه أعمال كأسواق الدنيا، فالجنة لا عمل فيها ولا عبادة فيها، ولا حزن ولا غِل ولا حسد ولا تنافس، لأن هذا كله من لوازم الحياة الدنيا، وليس في الجنة إلا المتعة والأنس

(2)

، وكل ما تشهيه الأنفس من هذا القبيل. يأتونها كل جمعة: الجنة دار خلود لا عَدد فيها بقليل ولا كثير، ولا شمس بها ولا قمر، فليس فيها شيء مما كان في الدنيا إلا مجرد الاسم فقط، مع اختلاف الماهية، إذن المراد بالجمعة هنا المعاودة لزيادة المتعة والحسن والجمال، ولذلك تراهم إذا عادوا إلى أهليهم ازداد الحسن والجمال في الطرفين، فكل يرى الآخر أكثر حسنا وجمالا، وهذا من كمال المتعة والأنس، فلا يرد شيء من الكدر، ولا سبيل لشيء مما كان في الدنيا إلى نفوسهم، بل هم من حسن إلى أحسن، ومن جمال إلى أجمل، ولا يطأون مكانا إلا وهو أكمل وأجمل من سابقه، حتى لو عادوا إلى الموقع الأول لكان أجمل وأحسن مما كان.

ريح الشمال: ليس في الجنة جهات الدنيا الأربع، لعدم وجود الليل والنهار،

وذُكرت ريح الشمال، لأنها الأحب عند العرب، فهي ريح السحاب والمطر، وقد يقال: قيل لها الشمال: لأنها تأتي من قبل شمائلهم، كائنة بذلك الوصف الجميل، فكونها تلامس وجوههم وثيابهم بما يزيدهم حسنا وجمالا.

(1)

مفرده كثيب، وهو الرمل المجتمع.

(2)

مؤلف القول الجميل، والانتماء إلى أولياء الله، والإرشاد إلى علوم الإسناد.

ص: 4

وقد أورد الترمذي رحمه الله رواية ضعيفة عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن في الجنة لسوقا ما فيها شراء ولا بيع، وإلا الصور من الرجال والنساء، فإذا اشتهى الرجل صورة دخل فيها»

(1)

، وقال: هذا حديث غريب، قلت: وهو كذلك ففي سنده أبو شيبة: عبد الرحمن بن إسحاق، وهو ضعيف، ولو فرضنا صحة هذه الرواية، لنفيها البيع والشراء، فنقول في الصور: إنما جعلت متعة وزينة لمن أحب أن تكون صورته مثلها، ويحلّى بحليتها، ويكون على جمالها وحسنها، فتتشكل صورهم من حسن إلى أحسن، وليس المراد تغيير ذات المنعّم، وهذا لم يكن لهم في الدنيا وأعطوه في الآخرة، كما أعطى الملائكة التشكل في الصور الحسنة، والله أعلم.

وهذا الحديث هو أحد ثلاثيات الدارمي، وقد ذكر العلماء أن عدتها خمسة عشر حديثا، وقفت عليها وهي: ج 1 رقم 69 حديث " يَأْكُلُ الْهَدِيَّةَ وَلَا يَقْبَلُ الصَّدَقَةَ " عن أبي سلمة رضي الله عنه، ورقم 120 حديث " ينظر فيه العابدون" عن أبي سلمة رضي الله عنه، ج 2 رقم 756، حديث (ثم دعا بدلو من ماء) عن أنس رضي الله عنه، ورقم 1429، حديث (يناجي ربه ..... ) أيضا عن أنس رضي الله عنه، ج 3 رقم 2093، " يَأْكُلُ تَمْراً مُقْعِياً مِنَ الْجُوعِ " رقم 1793، حديث (بعث يوم عاشوراء

) عن سلمة بن الاكوع رضي الله عنه، ورقم 1961، حديث (سعى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة) عن ابن أبي اوفى رضي الله عنه، ورقم 2097، حديث (وظرا من صفرة

) عن أنس رضي الله عنه، ورقم 1963، حديث (لبيك بعمرة وحج

(1)

رجاله ثقات، إلا أن من الرواة من وقفه على أنس رضي الله عنه، وأخرجه ابن أبي شيبة (المصنف 13/ 102) والبيهقي (البعث والنشور رقم 375) وعبد الرزاق (المصنف رقم 20881) وهذا أعلى ما عنده.

ص: 5

) عن أنس رضي الله عنه، ورقم 2097، حديث (أولم ولو بشاة

) عن أنس رضي الله عنه، ج 4 رقم 2097، حديث (قصعة فيها ثريد .... ) عن أنس رضي الله عنه، ورقم 2658، حديث (حجمه أبو طيبه

) عن أنس رضي الله عنه، ورقم 2718، حديث (كان إذا نزل منزلا

) أيضا عن انس رضي الله عنه، ورقم 2739، حديث (يا أنجشة رويد ..... ) أيضا رضي الله عنه، ورقم 2877، حديث (إن في الجنة لسوقا .... ) أيضا عن انس رضي الله عنه، ووقفت على ثلاثيات مراسيل، وهي في الحقيقة رباعيات إذا ما عرف رواتها من الصحابة رضي الله عنهم.

أما الدارمي رحمه الله صاحب المسند الذي نحن بصدد شرحه نسأل الله أن ييسر لنا ذلك ويعيننا عليه، فهو: عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل بن بهرام بن عبد الله، أوردت ترجمته كاملة في أول كتابه المسند، المشهور بسنن الدارمي، فأغنى ذلك عن الإعادة هنا.

شرح وتوثيق الروايات

الواردة في مسند الإمام الدارمي

شرطي في هذا الشرح ما يلي:

دراسة رجال السند، والنظر في أقوال النقاد واستخدام ما أراه أعدل الأقوال. أحكم على السند، بنتيجة الدراسة.

تخريج الحديث، فما كان في الصحيحين: البخاري ومسلم، أو في أحدهما لا أزيد عليه، لإجماع الأمة على تلقي ما روياه، أو رواه أحدهما بالقبول. أحكم على الرواية بنتيجة التخريج.

ص: 6

أشرح الألفاظ الغريبة، واستدرك ما وقع في النسخة التي حققتها من أخطاء أو تعديل.

أذكر المعنى الإجمالي للنص، مالم يكون النص جليا، ويعد شرحه حشوا لا يحسن ذكره.

أذكر ما يستفاد من الأحكام كذلك من غير تكلف.

وكل حديث أذكره في الشرح مستشهدا به فهو صحيح أو حسن، وأبين ما كان فيه ضعف.

وقد رمزت لما انفرد به الدارمي عن الكتب الثمانية التي هو تاسعها، رمزت في الهامش بالحرف " ت " وهو ما تضمنه كتاب القطوف الدانية في ما نفرد به الدارمي عن الثمانية.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

بسم الله الرحمن الرحيم

بدأ الدارمي رحمه الله بالبسملة اتّباعا للسنة، وهذا عمل المسلمين، تأسيا بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فطريق التأسي به صلى الله عليه وسلم الافتتاح بالبسملة، والاقتصار عليها، ويؤيده وقوع كتبه صلى الله عليه وسلم إلى الملوك، وكتبه في القضايا، مفتتحة بالتسمية

(1)

، وما روي من آثار في التأنيب من عدم الحمد والشهادة فهي آثار منها المرسل، ومنها الموصول الضعيف، وقد أخرجها أهل العلم ومن ذلك: «كل أمر ذي

(1)

الموطأ: رواية محمد بن الحسن (1/ 42، والفتح 1/ 1).

ص: 7

بال لا يبدأ فيه بذكر الله أقطع»

(1)

، فالبسملة من ذكر الله عز وجل، وهي من أعظم الذكر، والاقتصار عليها يكفي، ولذلك اقتصر عليها أكثر المتقدمين، ومنهم البخاري، والدارمي؛ لأن القدر الذي يجمع الأمور الثلاثة: البسملة، والحمد، والشهادة، هو ذكر البسملة، ويؤيده أن أول شيء نزل من القرآن:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}

(2)

لذا فلا نرى ضرورة الإنكار على من لم يُصدّر كتابته بعد البسملة بالحمد، والشهادة، ومن فعل ذلك فلابأس، كذلك لا يتعين النطق بهما بعد البسملة في المواعظ والخطب، عدا خطبة الجمعة فلابد من ذلك كله.

بيان قول الدارمي رحمه الله:

" بابٌ

(3)

ما كان عليه الناس قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم " لم يهتم الرعيل الأول من الأئمة المؤلفين كثيرا بذكر تصنيف الكتب وما يندرج تحتها من أبواب، ولا الأبواب وما يندرج تحتها من فصول، وكذلك الفصول وما يندرج تحتها من مباحث، وعلى ذلك شوش الدارمي رحمه الله، فتارة يذكر الباب ويسميه كما هنا، وتارة يذكره منكّرا فيقول: بابٌ، ولا يسميه، وتارة يقول: كتاب، وأخرى: ومن كتاب، ولا أستبعد أن يكون هذا من عمل الرواة عنه، وما بدأ

(1)

أخرجه الدار قطني حديث (884) أرسله الزهري، أخرجه النسائي حديث (10331) ووصله الأئمة أحمد حديث (8712) وأبو داود قال: لا يبدأ فيه بالحمد لله حديث (4840) وقال: عن الزهري مرسلا، وكذلك ابن ماجه حديث (1894) وابن حبان حديث (1).

(2)

سورة القلم.

(3)

يجوز فيه التنوين والإضافة، وسأتبع التنوين في كل الأبواب.

ص: 8

به هنا منه ما يندرج تحت كتاب علامات النبوة، ومنه ما يكون تحت كتاب الفضائل، ومن الملاحظ أن الدارمي رحمه الله أكثر من التكرار طلبا للمزيد من الشيوخ، ولطلب علو الأسناد، وللتقوية أحيانا، ولم يكن له في ذلك منهج مرتب، وقد يكون هذا من فعل النساخ، ولا سيما إذا كان الدارمي حدثهم من حفظه. وقد أحسن الدارمي رحمه الله إذ بدأ كتابه بذكر بعض أحوال الجاهلية، وأشدّ ما كان في حياتهم ضررا الجهل المتمثل في الأفعال القبيحة، والضلال المتمثل في عبادة الأصنام.

السند إلى الدارمي رحمه الله

قال أبو يحيى زكريا بن أبي الحسين العلبي:

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين

(1)

.

أخبرنا

(2)

الشيخ الأجل الصالح، زكريا بن أبي الحسن بن حسان العلبي، قراءة عليه وأنا أسمع، وذلك بمدرسة السَّلم، في شهر الله المحرم، سنة تسع وعشرين وستمائة

(3)

، قال: أخبرنا الشيخ الإمام العالم أبو الوقت عبد الأول

(1)

هذا قد يكون من قول الدارمي رحمه الله، وقد يكون من قول الكاتب عنه.

(2)

وفي (ك) رواية عن قرينه محمد بن محمد بن سرايا، قال الراوي عنه: أخبرنا الشيخ العالم الإمام جمال الدين أبو عبد الله محمد بن محمد بن سرايا بن علي البلدي عفا الله عنه، قراءة عليه وهو يسمع، فأقرّ به وقال: نعم، أخبرنا الشيخ الثقة نقيب المشايخ، أبو الوقت عبد الأول بن عيسى.

(3)

في (ع/ أ) لم يذكر العلبي، وبدأ بقوله:(أخبرنا الشيخ أبو الوقت عبد الأول).

ص: 9

ابن عيسى بن شعيب بن إبراهيم ابن إسحاق السجزي الماليني

(1)

، قال: أخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد بن المظفر الداودي

(2)

، قال: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن حموية السرخسي، قراءة عليه في صفر، سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة قال: أخبرنا أبو عمران عيسى بن عمر بن العباس السمرقندي قال: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي السمرقندي قال:

1 -

‌ باب مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّاسُ قَبْلَ مَبْعَثِ

(3)

النبي صلى الله عليه وسلم مِنَ الْجَهْلِ وَالضَّلَالَةِ

1 -

(1) أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِى وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُؤَاخَذُ الرَّجُلُ بِمَا عَمِلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ؟، قَالَ:«مَنْ أَحْسَنَ في الإِسْلَامِ لَمْ يُؤَاخَذْ بِمَا كَانَ عَمِلَ في الْجَاهِلِيَّةِ، وَمَنْ أَسَاءَ فِي الإِسْلَامِ أُخِذَ بِالأَوَّلِ وَالآخِرِ»

(4)

.

(1)

في (ك) الصوفي، سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة. وفي (ر/ أ، ر/ ب) قال: " أخبرنا الشيخ الصالح الثقة شمس الدين أبو العباس أحمد بن عبد الله بن عبد الصمد ابن عبد الرزاق السلمي البغدادي بقراءتي عليه، في ذي الحجة سنة ست وستمائة (-606 ر/ أ) وسنة ست وستين وستمائة (666 ر/ ب) بدمشق كلأها الله، قيل له: أخبركم الشيخ الثقة الأوحد المعمر أبو الوقت

) وساق السند إلى الدارمي، وفي (ف، و، ع/ ب، م) لم يذكر السند، مبتدئا بعنوان الباب، وسياق الحديث الأول.

(2)

في (ع/ أ) قراءة عليه في جمادى الآخرة سنة خمس وستين وأربعمائة".

(3)

في (ف) بياض من بداية العنوان لكونه مكتوبا بالحمرة، وكذلك كلمة باب في كامل المخطوط، تبعه خطأ حين كتب الناسخ:" قيل منعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجهل والضلال".

(4)

رجاله ثقات، وأخرجه البخاري، حديث (6921) ومسلم (120) متفق عليه.

ص: 10

رجال السند:

محمد بن يوسف الفريابي، وسفيان بن سعيد الثوري، هو ابن مسروق، إمام ثقة، وسليمان بن مهران الأعمش، وأبو وائل شقيق بن سلمة الأسدي، هم أئمة ثقات، والصحابي عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

الشرح:

قوله: " قال رجل" جاء في رواية الإمام مسلم: قال أُناس، وفي رواية: قلنا

(1)

،

وهي عند ابن ماجه

(2)

.

قوله: «مَنْ أَحْسَنَ فِي الإِسْلَامِ لَمْ يُؤَاخَذْ بِمَا كَانَ عَمِلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ» . بدأ الدارمي رحمه الله كتابه بهذا الباب للربط بين ماضي الناس في الجاهلية، وبين حاضرهم بعد أن بُعث إليهم نبي الهدى والرحمة صلى الله عليه وسلم، مراعيا التسلسل التاريخي لمبعثه صلى الله عليه وسلم، مشيرا إلى نهاية الجهل والشرك والظلم، وبداية العلم والتوحيد والعدالة والمساواة، وبيان أن مبعثه صلى الله عليه وسلم كان رحمة للعالمين، فمن آمن به صلى الله عليه وسلم وأسلم فإن الله عز وجل وعدهم الخير فقال:{قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}

(3)

، وكان أخوف ما يخاف المسلم من قريش ماضيه في الجاهلية، لعلمهم يقينا بالحق الذي جاء به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وبما كانوا عليه من عظائم الأمور وأشدها الشرك بالله عز وجل، ولذلك لما جاء عمرو بن

(1)

حديث (171، 172).

(2)

حديث (4232).

(3)

الآية (53) من سورة الزمر.

ص: 11

العاص رضي الله عنه مسلما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأراد أن يبايعه على ذلك قال:«أبسط يمينك فلأبايعنك يا رسول الله، فبسط الرسول صلى الله عليه وسلم يمينه، فقبض عمرو يده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مالك يا عمرو؟! قال عمرو رضي الله عنه: أردت أن أشترط، قال: تشترط ماذا؟ قال: أن يُغفر لي، فقال صلى الله عليه وسلم: «أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله»

(1)

وقد وعد الله عز وجل من تاب وآمن وعمل صالحا أن يبدل سيئاتهم حسنات، قال تعالى:{إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}

(2)

.

قوله: «وَمَنْ أَسَاءَ فِي الإِسْلَامِ أُخِذَ بِالأَوَّلِ وَالآخِرِ» .

ليس في هذا مخالفة لما أجمع عليه العلماء من أن الإسلام يجب ما قبله، عملا بما تقدم بيانه؛ لأن المراد من أساء في توبته من المآثم بالعودة إليها مرة أو مرات، لم تكن توبته نصوحا، فهذا لم يحقق شروط التوبة، فإن أي توبة كانت من كفر أو مما دونه يشترط لها ثلاثة شروط:

الأول: الإقلاع عن الذنب، إن كان كفرا فبالإسلام، وإن كان مما دونه فبتركه مطلقا.

والثاني: العزم على عدم العودة إلى ذلك أبدا.

والثالث: الندم المستمر على الوقوع فيه فيما مضى، فمن أخلّ وعاد إلى ذنب تاب منه، فإنه إن مات على ذلك، كان مؤاخذا بما عمل قبل التوبة،

(1)

مسلم حديث (192).

(2)

الآية (70) من سورة الفرقان.

ص: 12

وبالعودة إلى الذنب بعد التوبة، وليس هذا معارضا لما في الحديث القدسي «أذنب عبدي ذنبا فقال: اللهم اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبا، فعلم أن له ربا يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب فقال: أي رب اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: عبدي أذنب ذنبا، فعلم أن له ربا يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب فقال: أي رب اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبا، فعلم أن له ربا يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب اعمل ما شئت فقد غفرت لك»

(1)

، فليس المراد أن يعمل ما شاء على الإطلاق، بل هذا مقيد بأحاديث عدم قبول التوبة، كأن تكون عند النزع الأخير، إذا بلغت النفس الحلقوم، أو فجأة الموت وهو على معصية، أو عنده معاص لم يتب منها، ومعلوم أن التوبة لا تقبل عند فوات الأوان، وفوات الأوان إذا حضره الموت، قال تعالى:{وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}

(2)

، فإن توبة من هذا حاله لا تقبل، ولذلك لم تقبل توبة فرعون فإنه قال لما أدركه الغرق:{قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ}

(3)

، فقال الله عز وجل: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ

(1)

مسلم حديث (2758).

(2)

الآية (18) من سورة النساء.

(3)

الآية (90) من سورة يونس.

ص: 13

وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}

(1)

، وكذلك إذا طلعت الشمس من مغربها؛ لأن الناس في هذا الوقت كلهم يؤمنون حتى الكفار مهما تنوعت اعتقاداتهم، فإنهم عند طلوع الشمس من مغربها يسلمون ولكن بعد فوات الأوان، وقد قال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم:«لا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها»

(2)

وقال الله عز وجل: {قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ}

(3)

؛ لأنه إيمان قهري، بأمر لا مفر منه، وقد فات أوان الإيمان الطوعي، وما يترتب عليه من الأعمال الصالحة.

وقد فسرت الإساءة بالكفر، أي: إن أسلم ثم ارتد، فهذا يؤاخذ بالسابق واللاحق

(4)

، والأولى في نظري العموم.

قوله: «يؤاخذ» المؤاخذة لها صورتان:

الأولى: مؤاخذة المسيء على إساءته في الدنيا تكون من قبل الحاكم الشرعي، كمعاقبة من يثبت عليه الزنا مثلا، أو السرقة أو غير ذلك من السيئات، فهذا تتم فيه المؤاخذة على ما يثبت عليه من إساءة وإن تعددت بشرط الثبوت الشرعي، ولولي الأمر أن يتجاوز عن بعض الإساءة، ولكن بشرط أن لا تكون مما يوجب الحد.

(1)

الآية (91) من سورة يونس.

(2)

أبوداود حديث (2439).

(3)

الآية (29) من سورة السجدة.

(4)

الفتح 12/ 266.

ص: 14

الثانية: تكون في الآخرة وهي ما تقدم الكلام عليها، وقد يعجِّل الله عز وجل العقوبة للعبد في الدنيا، رحمة به كما قال صلى الله عليه وسلم:«إذا أراد الله بعبده الخير عجّل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد الله بعبده الشر أمسك عنه بذنبه، حتى يوافي به يوم القيامة»

(1)

، ومن ابتلي فليحاسب نفسه مع الصبر والاحتساب، قال صلى الله عليه وسلم:«إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوما ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط»

(2)

، على أنه قد يُجمع للعاصي بين العقوبتين: عقوبة الدنيا وعقوبة الآخرة قال صلى الله عليه وسلم: «ما من ذنب أجدر أن يعجّل الله تعالى لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة مثل البغي، وقطيعة الرحم»

(3)

.

ما يستفاد:

* أن التائب من الذنب كمن لا ذنب عليه، إذا حقق شروط التوبة، وتفريعا على هذا يحرم تعييره بذب تاب منه.

* أنه يجب على التائب عدم العودة إلى الذنب الذي تاب منه.

* أن من تاب وأحسن العمل لا يؤاخذ على ذنوبه الماضية، بل تنقلب إلى حسنات، أخذا من قوله تعالى:{إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}

(4)

.

(1)

الترمذي حديث 8/ 412، رقم 2319، وقال: حسن غريب.

(2)

الترمذي حديث 8/ 413، رقم 2320، وقال: حسن غريب.

(3)

أبو داود حديث 4256، والترمذي 9/ 51، رقم 2435، وقال: حسن صحيح.

(4)

الآية (70) من سورة الفرقان.

ص: 15

* أن من تاب من ذنب ثم عاد إليه لم تنفعه توبته السابقة، وكأنه لم يتب.

* جواز السؤال عما مضى من الذنوب وغيرها للعلم بحكمها.

* بيان عفو الله عز وجل وكرمه ورحمته بعباده فإنه لو يؤاخذ الناس بذنوبهم ما ترك على وجه الأرض أحدا، قال عز وجل: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا

تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ}

(1)

.

واعلم أن الدارمي رحمه الله روى في مسنده هذا آثارا كثيرة وأحاديث مرفوعة بلفظ أخبرنا، وفي بعض النسخ بلفظ حدثنا، فسرت على نهجه ولم أفرق بين الأثر والحديث المرفوع في التسمية أخذا بعموم تسمية الأثر حديثا.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

2 -

(2) أَخْبَرَنَا الْوَلِيدُ بْنُ النَّضْرِ الرَّمْلِيُّ، عَنْ مَسَرَّةَ بْنِ مَعْبَدٍ - مِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ أَبِى الْحَرَامِ، مِنْ لَخْمٍ - عَنِ الْوَضِينِ: أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا كُنَّا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ وَعِبَادَةِ أَوْثَانٍ، فَكُنَّا نَقْتُلُ الأَوْلَادَ، وَكَانَتْ عِنْدِي بِنْتٌ لِي، فَلَمَّا أَجَابَتْ عِبَادَةَ الأَوْثَانِ، وَكَانَتْ مَسْرُورَةً بِدُعَائِي إِذَا دَعَوْتُهَا، فَدَعَوْتُهَا يَوْماً فَاتَّبَعَتْنِي، فَمَرَرْتُ حَتَّى أَتَيْتُ بِئْراً مِنْ أَهْلِي غَيْرَ بَعِيدٍ، فَأَخَذْتُ بِيَدِهَا فَرَدَّيْتُ

(2)

، بِهَا فِي الْبِئْرِ، وَكَانَ آخِرَ عَهْدِي بِهَا أَنْ تَقُولَ: يَا أَبَتَاهُ يَا أَبَتَاهُ. فَبَكَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى وَكَفَ دَمْعُ عَيْنَيْهِ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ جُلَسَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَحْزَنْتَ رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ لَهُ: «كُفَّ،

(1)

الآية (45) من سورة فاطر.

(2)

معناه: أسقطها، يقال: ردّى وتردّى لغتان: كأنه تفعل من الردى: الهلاك (النهاية 2/ 216).

ص: 16

فَإِنَّهُ يَسْأَلُ عَمَّا أَهَمَّهُ»، ثُمَّ قَالَ لَهُ:«أَعِدْ عَلَىَّ حَدِيثَكَ» فَأَعَادَهُ، فَبَكَى حَتَّى وَكَفَ الدَّمْعُ مِنْ عَيْنَيْهِ عَلَى لِحْيَتِهِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ:«إِنَّ اللَّهَ قَدْ وَضَعَ عَنِ الْجَاهِلِيَّةِ مَا عَمِلُوا، فَاسْتَأْنِفْ عَمَلَكَ»

(1)

.

رجال السند:

الوليد بن النضر أبو العباس الرملي، صدوق لابأس به، ومسرّة بن معبد اللخمي الفلسطيني، شيخ لابأس به، أخطأ من قال: ميسرة

(2)

، له عند الدارمي هذا الحديث، وله عند أبي داود حديث واحد هو حديث أبي سعيد الخدري أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال:«من استطاع منكم أن لا يحول بينه وبين قبلته أحد فليفعل» الوضين بن عطاء الخزاعي، صدوق سيء الحفظ، ورمي بالقدر، وله عند الدارمي هذا الحديث، وقد أعضله

(3)

، ولم يذكر واسطته التي تلقى منها الخبر، وقد تكون الواسطة أكثر من راو.

هذا حديث تفرد به الدارمي، ولم أقف عليه في مصدر آخر، وهو مؤيد بالكتاب والسنة، خرجناه في القطوف برقم (1/ 2).

الشرح:

قوله: «أن رجلا» هذا لا علاقة له بضبط السند، والإشكال فيما بين الوضين وهذا الرجل من الرواة.

(1)

خرجناه في القطوف برقم (1/ 2) وأد البنات من عادات الجاهلية، حرمها الإسلام.

(2)

تذكرة الحفاظ 3/ 815.

(3)

المعضل: ما رواه تابع التابعي عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد يسقط من سنده أكثر من اثنين، وهو نوع خاص من المنقطع، فكل معضل منقطع، وليس كل منقطع معضلا، والفقهاء يسمونه مرسلا.

ص: 17

قوله: «إنا كنا أهل جاهلية وعبادة أوثان، فكنا نقتل الأولاد» .

هكذا ترد الأسئلة عما كان يفعله الناس في الجاهلية، باحثين عن التصحيح، والتحلل من عادات الجاهلية وتبعاتها، روى هذا الصحابي رضي الله عنه أنهم كانوا يقتلون الأولاد، وقد علم أن الإسلام حرّم ذلك، لكن أهمه ما أقدم عليه في الجاهلية، وأراد أن يعلم أمره بعد أن أسلم، ولم يكن القتل في الجاهلية خاصا بالبنات، بل كان منهم من يقتل ولده خشية الفقر، أو من شدة الفقر، وكان ذلك في الإسلام من الكبائر، سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الذنب عند الله أكبر؟ قال:«أن تجعل لله ندا وهو خلقك، قلت: ثم أي؟ قال: ثم أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك، قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني بحليلة جارك»

(1)

، ونزل القرآن تصديقا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال تعالى:{وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ}

(2)

، وأد البنات من عادات الجاهلية، حرمها الإسلام، وكان هذا الذنب عظيما في الإسلام؛ لأن هذا المخلوق تكفّل الله عز وجل برزقه وهو في بطن أمه، وتكفل برزقه بعد ذلك ما دام حيا، وهو داخل في عموم قوله تعالى:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}

(3)

، فالاعتداء عليه ظلم له، فنهى الله عز وجل عن ذلك

(1)

البخاري حديث (4379).

(2)

الآية (68) من سورة الفرقان.

(3)

الآية (6) من سورة هود.

ص: 18

فقال: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ}

(1)

، أما قتل البنات فقد يكون ذلك من الأسباب، ولكن السبب الأقوى أن أهل الجاهلية، كانوا في مواجهات قبلية، وحروب دائمة ولأتفه الأسباب، وكثيرا ما تنتهك الحرمات، ومن ذلك وقوع النساء في السبي، وذلك يُلحق العار الكبير بالآباء والأقربين، بل بالقبيلة كلها، ومن هنا كان واد البنات أكثر فيهم، وقد حرّم الإسلام هذه العادة الظالمة، ونوّه بإنصاف الموؤدة يوم القيامة {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ}

(2)

.

قوله: «وكانت عندي بنت لي، فلما أجابت وكانت مسرورة بدعائي إذا دعوتها، دعوتها يوما، فاتّبعتني فمررت حتى أتيت بئرا من من أهلي غير بعيد، فأخذت بيدها فرديت بها

(3)

، في البئر، وكان آخر عهدي بها أن تقول: يا أبتاه، يا أبتاه».

في هذا بيان لما كان عليه الجاهليون من قسوة عظيمة، لم تكن مع الأبعدين فحسب، بل مع أقرب الأقربين، وهذا المشهد المحزن الأليم، لم يكن له أثر على الإطلاق في قلب ذلك الأب الجاهلي، المنزوع الرحمة، وتلك النفس البريئة المنادية بألطف الألفاظ وأعذبها لحنا، لكن قسوة الجهل لم تدع لتلك الكلمات الرنانة سبيلا إلى قلب أبيها، فلما أسلم رضي الله عنه انقلب الأمر رأسا

(1)

الآية (151) من سورة الأنعام، وانظر الآية (31) من سورة الإسراء.

(2)

الآيتان (8، 9) من سورة التكوير.

(3)

معناه: أسقطها، يقال: ردّى وتردّى لغتان: كأنه تفعل من الردى: الهلاك (النهاية 2/ 216).

ص: 19

على عقب، حتى أنه لم يهدأ حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قاصّا عليه جريمته، نادما أشد الندم، عاد إلى سمعه ما كان من قول ابنته: يا أبتاه، يا أبتاه، وكأن الحدث اللحظة وقع، غشيته رقة الإسلام، وشفقة المؤمنين. قوله:«فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وكف دمع عينيه فقال: له رجل من جلساء رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحزنت رسول الله صلى الله عليه وسلم» .

فيه بيان ما كان عليه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من اللطف والرقة والرحمة، تصوّر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبكي بحرقة ولوعة عند سماع القصة، ولم يشاهد الحدث رأي العين، والعجب أن الأب لم يتأثر وقد باشر الحدث، وذكر من صفات ابنته ما يدعوا إلى الشفقة عليها ورحمتها، ولم يكن منه ما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم، هنا يتأكد لكل عاقل أنه صلى الله عليه وسلم حقا الرحمة المهداة إلى هذه الأمة برّها وفاجرها، ويتوب الله على من تاب، إنه أرحم الرحماء، وقد قال صلى الله عليه وسلم لما أنكر عليه سعد بن عبادة، وقد فاضت عيناه بالدمع لما رفع ولدا لفاطمة ونفسه تقعقع: قال: «هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء»

(1)

وصح أنه قال صلى الله عليه وسلم: «الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا أهل الأرض يرحمكم من في السماء"

(2)

.

لم يملك أحد جلساء النبي صلى الله عليه وسلم نفسه لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يبكي فبادر إلى الرجل قائلا: أحزنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحزن معلوم أنه أشد الألم.

(1)

البخاري حديث (1224).

(2)

أبو داود حديث (4290).

ص: 20

قوله: «فقال له: كفّ، فإنه يسأل عما أهمه، ثم قال له: أعد عليّ حديثك، فأعاده فبكى حتى وكف

(1)

الدمع من عينيه على لحيته».

نهى عن لومه؛ لأنه الرحمة المهداة لم يُحرم منها ذلك الرجل، إذ بادر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدفاع عنه قائلا لمن لامه:«كفّ» وهذه كلمة فيها شيء من الحزم والصرامة، وعلل عدم لومه بقوله صلى الله عليه وسلم:«فإنه يسأل عما أهمه» نعم لم يهمه ذلك إذ كان جاهليا، فالشر لا يولد إلا الشر، فلما أسلم صار له شأن آخر، أقلقه ما حدث منه قلقا شديدا، حتى أصبح هما كبيرا يأمل في الخلاص منه بأي ثمن، طلب منه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وإعادة القصة لا لعدم استيعاب، فلم يكن بكاؤه صلى الله عليه وسلم إلا لشدة وعيه القصة بكل أبعادها، لكن له في ذلك حكمة صلى الله عليه وسلم، لعلها ليدرك الجلساء البعد الجاهلي وما فيه من قسوة وظلم وجبروت، والبعد الإسلامي وما فيه من رحمة وشفقة، وزادته الإعادة ألما وتأثرا، حتى تحدّر دمعه على لحيته، وما ذاك إلا من شدة رحمته وعدله ورقة إحساسه صلى الله عليه وسلم.

ما يستفاد:

*بيان ما كان عليه أهل الجاهلية من الجهل والضلال.

* بيان ما كانوا عليه من القسوة وعدم الرحمة حتى بأقرب الأقربين.

* بيان شدة تعلق تلك الفتاة بأبيها ومع ذلك لم ينفعها ذلك التعلق.

* أن الإنسان قد يسعى في هلكته أقرب الناس إليه.

(1)

نزل، وسال.

ص: 21

* بيان رحمة المسلم فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم حزن لما سمع القصة وبكى رحمة بتلك الطفلة المظلومة.

* بيان حب الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وشفقتهم عليه إذ قال أحدهم: أحزنت رسول الله صلى الله عليه وسلم.

* بيان حلم رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ لم يعنف الرجل ولم يقبح عمله مع أنه يستحق ذلك.

* جواز السؤال عما سلف من العمل للعلم بحكمه.

*بشارة الرجل بأن إسلامه غسل ما مضى من ذنوبه، وأن عليه أن يستأنف حياته في عمل صالح وتوبة خالصة.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

3 -

(3) أَخْبَرَنَا هَارُونُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سُلَيْمَانَ الْمُؤَدِّبِ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مَوْلَايَ

(1)

: أَنَّ أَهْلَهُ بَعَثُوا مَعَهُ بِقَدَحٍ فِيهِ زُبْدٌ وَلَبَنٌ إِلَى آلِهَتِهِمْ، قَالَ: فَمَنَعَنِي أَنْ آكُلَ الزُّبْدَ لِمَخَافَتِهَا

(2)

، قَالَ:

" فَجَاءَ كَلْبٌ فَأَكَلَ الزُّبْدَ وَشَرِبَ اللَّبَنَ، ثُمَّ بَالَ عَلَى الصَّنَمِ: وَهُوَ " إِسَافٌ وَنَائِلَةُ ".

(1)

لعله السائب بن أبي السائب رضي الله عنه، أو ابنه عبد الله رضي الله عنه، أو قيس بن السائب المخزومي رضي الله عنه انظر (تهذيب الكمال، والإصابة 8/ 187).

(2)

يعني الآلهة.

ص: 22

قَالَ هَارُونُ: " كَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا سَافَرَ حَمَلَ مَعَهُ أَرْبَعَةَ أَحْجَارٍ: ثَلَاثَةٌ لِقِدْرِهِ، وَالرَّابِعُ يَعْبُدُهُ، وَيُرَبِّى كَلْبَهُ، وَيَقْتُلُ وَلَدَهُ "

(1)

.

رجال السند:

هارون بن معاوية الأشعري، صدوق، وإبراهيم بن سليمان أبو إسماعيل الأردني المؤدب، صدوق يغرب، ومجاهد بن جبر أبو الحجاج المكي ثقة، وصيفي بن عائذ، يقال له: السائب بن أبي السائب، كان شريكا للنبي صلى الله عليه وسلم في الجاهلية، وهو مولى مجاهد من أعلى، قال مجاهد: كنت أقود بالسائب فيقول لي:: يا مجاهد أدلكت الشمس؟ " فإذا قلت: نعم صلى الظهر، ويقول: " هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل"

(2)

، وهذا سند حسن. قال: ولي حَجَرٌ أنا نحتّه بيدي أعبده من دون الله تبارك وتعالى فأجيء باللبن الخاثر الذي أنفسه على نفسي فأصبه عليه فيجيئ الكب فيلحسه ثم يشغر فيبول، أخرجه أحمد حديث (15484).

الشرح:

هذا الحديث يصور لنا مشهدا آخر من مشاهد الجاهلية، وما تربوا عليه من الحمق والضلال، فالرجل منهم يذهب بالزبد واللبن إلى أصنام لا تأكل ولا تشرب، جماد لا تنفع ولا تضر، وقد يكون بحاجة إلى شيء من ذلك، فيمتنع مخافة أن تدركه الأصنام بسوء، وقد ظهر لهذا الرجل عيانا أن الحيوان قد يكون أجسر على ذلك، ولعله اعتبر والله أعلم من ذلك الحدث، حيث أكل

(1)

سنده حسن، وقوله:(يربي كلبه ويقتل ولده) أراد أن هذه من صفات الجاهلية.

وانظر تخريجه في القطوف رقم (2).

(2)

المعجم الكبير حديث (931).

ص: 23

الكلب الزبد، وشرب اللبن، وزاد أن بال على الصنم إساف ونائلة، وقد هدي هذا إلى الإسلام وحدّث مجاهدا بما وقع له في الجاهلية، ومن هذا وأشباهه يعلم المسلم نعمة الله على البشرية إذ بعث نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم، فأنقذها من ظلمات الجهل والضلال، إلى نور الإسلام وعلم اليقين بأنه لا إله يعبد بحق إلا الله وحده لا شريك له.

قوله «قال هارون: كان الرجل في الجاهلية إذا سافر حمل معه أربعة

أحجار، ثلاثة لقدره

(1)

، والرابع يعبده، ويربي كلبه، ويقتل ولده». وهارون هو شيخ الدارمي المتقدم ذكره، وكان أبوه من وزراء المهدي، وهو يحكي مشهدا آخر مما كان في الجاهلية، وكان من عادتهم في السفر أن يأخذ المسافر معه ما يمكن حمله أربعة أحجار، ثلاثة منها يستخدمها إذا نزل وأراد أن يعد طعامه، وهي ما تعرف بالأثافي، توضع على شكل مثلث وتوقد النار بينها، ثم يوضع القدر على الأثافي، ولعل هذا لكونهم يجوبون الصحراء، وهي ذات رمال يندر أن يحد بها الحجر المناسب، أما الحجر الرابع فيعبده من دون الله عز وجل، وهذا هو الشرك الأكبر، وكان من عادة الجاهلية تربية الكلاب والعناية بها، ويسمونها الحوامي؛ لأنها تحمي بيوتهم ومواشيهم، وكان من عادتهم قتل الأولاد إما خشية أن يطعم معه، أو خشية العار من وقْع البنات في السبي، وتقدم بيانه، ومعلوم أن تربية الكلاب لا تجوز في الإسلام إلا لواحدة من ثلاث: أن يقتنى للصيد وهو المعلم كما قال تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا

(1)

أي أثافي يضع عليها قدره لطبخ طعامه.

ص: 24

أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ}

(1)

، أو لحراسة الماشية وحمايتها، كحماية الغنم من الذئب مثلا، أو يدرّب لأغراض تتعلق بها، أو لحراسة زرع وما تلزم حراسته، وما عدا ذلك فلا، فمن اقتنى كلبا لغير ما ذكر فإنه آثم، قال صلى الله عليه وسلم: «من اقتنى كلبا لا يغني عنه زرعا، ولا ضرعا،

نقص كل يوم من عمله قيراط»

(2)

، وذكر الماشية في رواية أخرى

(3)

.

نجاسة الكلاب:

أخذ العلماء من قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبع مرات وعفروه الثامنة في التراب»

(4)

، دلالةً على نجاسة الكلب؛ لأنه إذا كان لعابه نجسا، وهو عرق فمه ففمه نجس، ويستلزم نجاسة سائر بدنه، وذلك؛ لأن لعابه جزء من فمه، وفمه أشرف ما فيه، فبقية بدنه أولى بالنجاسة، وقد ذهب إلى هذا الجمهور، وقال عكرمة ومالك في رواية عنه: إنه طاهر، ودليلهم قول الله تعالى:{وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ}

(5)

، ولا يخلو الصيد من التلوث بريق الكلاب، ولم نؤمر بالغسل، وأجيب عن ذلك بأن إباحة الأكل مما أمسكن لا تنافي وجوب تطهير ما تنجس من الصيد، وعدم الأمر للاكتفاء بما في أدلة تطهير

(1)

من الآية (4) من سورة المائدة.

(2)

البخاري حديث (3146).

(3)

البخاري حديث (5163).

(4)

مسلم حديث (422).

(5)

من الآية (4) من سورة المائدة.

ص: 25

النجس من العموم، ولو سلم فغايته الترخيص في الصيد بخصوصه، واستدلوا أيضا بما ثبت من حديث ابن عمر بلفظ:«كانت الكلاب تقبل وتدبر في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد فلم يكونوا يرشون شيئا من ذلك»

(1)

، وهذا مردود بأن مجرد الإقبال والإدبار لا يدلان على الطهارة، والأقرب أن يقال: إن ذلك كان في ابتداء الحال على أصل الإباحة، ثم ورد الأمر بتكريم المساجد وتطهيرها، وجعل الأبواب عليها، واستدلوا على الطهارة أيضا بالترخيص في كلب الصيد والماشية والزرع، وأجيب بأنه لا منافاة بين الترخيص وبين الحكم بالنجاسة، وغاية الأمر أنه تكليف شاق وهو لا ينافي التعبد به

(2)

، وعلى هذا نرى عدم جواز تربية الكلاب واقتنائها، إلا لحاجة ماسة، وفائدة ظاهرة لا يستغنى عنها، فلابأسحينئذ كما هو الحال من التطور في تعليم الكلاب مهارات نافعة، كالكشف عن السرقات والممنوعات، والحراسات وغير ذلك من المنافع، وما كان استثناء الصيد والماشية والزرع، إلا لبيان الجواز في المنافع ولو تعددت، وليس المراد الحصر، مع لزوم القول بنجاستها تعبدا، وعدم مخالطتها واحتضانها إلا لضرورة ويجب التطهر، ولا يجوز تدريبها على تعذيب الناس، وامتهان كرامة الإنسان، مهما كانت جريمته، ومن فعل ذلك فقد تعدى وظلم.

ما يستفاد:

* بيان ما كان عليه أهل الجاهلية من عادات في عبادتهم.

(1)

البخاري حديث (168).

(2)

نيل الأوطار 1/ 41.

ص: 26

* بيان سخف عقول الجاهليين كان الرجل منهم يعتني بكلبه ويربيه، ويهمل ولده أو يقتله خشية الفقر أو العار.

* وضوح الشبه بين كفار قريش، والكفار في هذا الزمان من الاهتمام الكبير بالكلاب والقطط وغيرها من الحيوانات، وضياع حقوق الآباء والأمهات، والأبناء والبنات، وكافة الأقارب، فقد يوصي الرجل منهم بثروته قلّت أو كثرت لما يخلّف من حيوان، ويحرم ذوي قرابته، فليس له حظ في مواساة قريب ولا بعيد.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

4 -

(4) حَدَّثَنَا مُجَاهِدُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا رَيْحَانُ - هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ السَّامِيُّ- حَدَّثَنَا عَبَّادٌ، هُوَ ابْنُ مَنْصُورٍ - عَنْ أَبِي رَجَاءٍ قَالَ: كُنَّا فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا أَصَبْنَا حَجَراً حَسَناً عَبَدْنَاهُ، وَإِنْ لَمْ نُصِبْ حَجَراً جَمَعْنَا كُثْبَةً مِنْ رَمْلٍ ثُمَّ جِئْنَا بِالنَّاقَةِ الصَّفِيِّ، فَتَفَاجُّ عَلَيْهِ

(1)

فَنَحْلِبُهَا عَلَى الْكُثْبَةِ حَتَّى نَرْوِيَهَا

(2)

، ثُمَّ نَعْبُدُ تِلْكَ الْكُثْبَةَ

(3)

مَا أَقَمْنَا بِذَلِكَ الْمَكَانِ

(4)

.

(1)

في (ع/ ب) عليها. والمراد الكثبة، وكتب في هامش (ت) فتفاجّ يعني الناقة إذا فرجت بين رجليها للحالب، والفج: الطريق الواسع، وجمعه: فجاج.

(2)

في (ع/ ب) ترويها. والمراد الناقة تروي الكثبة بحليبها.

(3)

قال في الصحاح (2/ 377): كثبت الشيء أكثبه كثبا: إذا جمعته والجمع: الكثبان وهي تلال الرمل، وانظر (النهاية 4/ 151).

(4)

ت: فيه ضعف عباد بن منصور، وعنعنته، وتغيّر بأخرة، لكن يحتمل منه مثل هذا، وأخرجه أبو نعيم بسند حسن (الحلية 2/ 306) وهو في القطوف برقم (3/ 4).

ص: 27

قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: الصَّفي: الْكَثِيرَةُ الأَلْبَانِ

(1)

.

رجال السند:

مجاهد بن موسى أبو علي الخوارزمي الختلي، ثقة ليس له في البخاري رواية، وريحان بن سعيد بن المثنى، أبو عصمة السامي الناجي البصري، صدوق ربما أخطأ، وكان إمام مسجد شيخه عباد بن منصور، وعباد بن منصور أبو سلمة الناجي، كان قاضيا على البصرة، لكنه ضعّف في الرواية، وعدّ في المدلسين، وعدّه ابن حجر في مرتبة صدوق رمي بالقدر، وعمران ابن ملحان التميمي، أبو رجاء البصري، تابعي ثقة مخضرم، أدرك الجاهلية والإسلام، وليست له رؤية، أدرك النبي قبل البعثة، ولما بعث هرب مع أهله، فقيل لهم: إنما سبيل هذا الرجل شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، فمن أقرّ بها أمن على دمه وماله، قال: فرجعنا فدخلنا في الإسلام

(2)

، فالحديث فيه ضعف عباد بن منصور، وعنعنته، وتغيّر بأخرة، لكن يحتمل منه مثل هذا.

الشرح:

هذا الحديث فيه ضعف عباد بن منصور، وعنعنته، وتغيّره، لكن يحتمل منه مثل هذا، وهو حكاية بعض ما كان عليه الجاهليون، وأخرجه أبو نعيم

(1)

كتب عقبه في (ت) عليه علامة صح (الكثير اللبن).

قلت: لعل قوله: " الألبان" جمع بالنظر إلى أكثر من ناقة، ومن نظر إلى المفرد أفرد فقال:" اللبن".

(2)

الطبقات الكبرى 7/ 139.

ص: 28

بسند حسن

(1)

، وهو شاهد لما سبق من عادات الجاهلية في عبادتهم، وفيه نوع آخر من أنواع الأصنام التي يعبدونها عند فقدهم الأحجار، وذلك أنهم يجمعون كومة من الرمل يحلبون عليها تبركا بها، ويعبدونها مدة إقامتهم، ومن سخف عقولهم لم يتنبهوا إلى صناعتهم إياها، وحلبهم عليها، ثم تركها أو هدمها عند الرحيل، لم يعوا أن عملهم مجرد بله وحمق في آن واحد، وهذا من شواهد ما تقدم.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

2 _

‌ بابٌ صِفَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْكُتُبِ قَبْلَ مَبْعَثِهِ

5 -

(1) أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ الرَّبِيعِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ قَالَ: قَالَ كَعْبٌ: نَجِدُ مَكْتُوباً: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا فَظٌّ وَلَا غَلِيظٌ، وَلَا صَخَّابٌ بِالأَسْوَاقِ، وَلَا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ، وَأُمَّتُهُ الْحَمَّادُونَ، يُكَبِّرُونَ اللَّهَ عز وجل عَلَى كُلِّ نَجْدٍ

(2)

، وَيَحْمَدُونَهُ فِي كُلِّ مَنْزِلَةٍ، يَتَأَزَّرُونَ عَلَى أَنْصَافِهِمْ، وَيَتَوَضَّئُونَ عَلَى أَطْرَافِهِمْ، مُنَادِيهِمْ يُنَادِى فِي جَوِّ السَّمَاءِ، صَفُّهُمْ فِي الْقِتَالِ وَصَفُّهُمْ في الصَّلَاةِ سَوَاءٌ، لَهُمْ بِاللَّيْلِ دَوِىٌّ كَدَوِيِّ النَّحْلِ، مَوْلِدُهُ بِمَكَّةَ، وَمُهَاجِرُهُ بِطَيْبَةَ، وَمُلْكُهُ بِالشَّامِ

(3)

.

(1)

الحلية 2/ 306.

(2)

قال في (الصحاح 2/ 541): النجد: ما ارتفع من الأرض، وفي الحديث رقم (7) فسَّره بقوله:(يكبرون على كل شرف).

(3)

رجاله ثقات.

ص: 29

رجال السند:

الحسن بن الربيع البجلي، أبو على القسري، ثقة من كبار شيوخ مسلم، وأبو الأحوص سلام بن سليم، ثقة، والأعمش سليمان بن مهران إمام، وأبو صالح ذكوان بن عبد الله السمان، مولى جويرية أم المؤمنين، ثقة، وكعب بن ماتع الحميري اليماني، يعرف بكعب الأحبار، أدرك حياة

النبي صلى الله عليه وسلم ولم تكن له رؤية، وهو إمام عالم، خبير بكتب اليهود.

الشرح:

عقّب المصنف رحمه الله تعالى بذكر ما ورد في الكتب المنزلة، وكأنه رحمه الله يتوخى التسلسل التاريخي، وذكر الكتب السابقة وما ورد فيها من ذكر النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم وصفاته وصفات أصحابه فيه علامة قوية على صدق نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا مهم في سياق الأحداث، وتقرير الحق، وإقامة الحجة، وللتدرج في ذلك أثر في أحوال المخاطبين، وخاصة من كتب الله عز وجل له هداية التوفيق، والخبررجاله ثقات، وهو من رواية كعب الأحبار، وهو تابعي، أدرك حياة النبي ولم يره، وهو عالم بكتب اليهود، أسلم وحسن إسلامه، قص ما وجد في التوراة والإنجيل، من صفات نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وذكر منها أنه لا فظ ولا غليظ، وقد تأكدت فيه صلى الله عليه وسلم بالممارسة الفعلية مع أصحابه إذ كان بهم رحيما، وبقول الله عز وجل مثنيا عليه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ

ص: 30

لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}

(1)

، وقوله تعالى:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}

(2)

، وقوله {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}

(3)

، وذكر منها أنه صلى الله عليه وسلم.

قوله: «لا صخّاب بالأسواق» .

المراد أن من صفاته صلى الله عليه وسلم أنه لا يعتاد الأسواق ويرفع صوته فيها مجادلا ومماريا بالبيع والشراء، وما يقع فيه من الجدل، وسوء الأخلاق، فالأسواق ليست للأنبياء؛ لأنها من أسوأ الأعمال في الدنيا إلا لمن مارسها بحقها، من الحذر وتحري الصدق والعدل والبعد عن المماحكة والجدل، والأيمان المنفقة للسلع، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:«شر البقاع الأسواق»

(4)

، فلم يكن مرتادا لها، ولا صخابا فيها.

قوله: «أنه لا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر» هذا من صفاته صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك صفة ملازمة له صلى الله عليه وسلم منذ الصغر، لم يذكر بسوء على الإطلاق، صبر على أذى قريش؛ لأنه بعث رحمة ليس لهم فحسب بل للعالمين كافة، فلم ينتقم لنفسه ولا مرة واحدة، خرج يدعو الناس ويصبر على أذاهم حتى وصل الطائف، فأوذي أشد الأذى، وأدميت عقباه صلى الله عليه وسلم،

(1)

الآية (159) من سورة آل عمران.

(2)

الآية (128) من سورة التوبة.

(3)

الآية (4) من سورة القلم.

(4)

(المستدرك 1/ 167.

ص: 31

فلجأ إلى من بعثه رحمة للعالمين مناجيا، قائلا:«اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين، وأنت ربي إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني، أو إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن ينزل بي غضبك، أو يحل عليّ سخطك، لك العتبى حتى ترضى، لا حول ولا قوة إلا بك»

(1)

، هذا الدعاء العظيم، مناجاة العبد الضعيف لربه القوي العظيم، من هو على كل شيء قدير، ولذلك لم يحْذر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم غضب الناس أجمعين، وإنما استعاذ من غضب ربه، ولم يتعرض لظالميه بشيء من الدعاء، بل إن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت له صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يوم أشد من يوم أحد؟ قال: «لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على بن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال فسلم عليّ، ثم قال: يا محمد، فقال: ذلك فيما شئت: إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا

(1)

تاريخ الطبري 1/ 554، وأجمع على نقله أهل العلم بالسير.

ص: 32

يشرك به»

(1)

، أيُّ عفو أعظم من هذا؟ وأي جزاء سيئة بحسنة كهذه؟ ولم يقف الأمر عند هذا الحد، فالعفو خلقة، والإحسان طبيعته -صلى الله علي 5 هـ وسلم-، كان فتحُ مكة نصرا كبيرا لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين رضي الله عنهم، وقد أمكنه الله من قريش الذين كذبوه وآذوه وأصحابه، وأخرجوهم من ديارهم وأموالهم، أمكنه الله منهم يوم الفتح، فقال لهم حين اجتمعوا في المسجد:«ما ترون أني صانع بكم؟ قالوا: خيرا أخ كريم وابن أخ كريم، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء»

(2)

، عفو شامل لأمة أخرجته طريدا، وآذته أشد الأذى.

قوله: الحمادون: هذه صفة المؤمنين به من أمته فذكر من صفاتهم أنهم الحمادون، أي: كثيروا الحمد لله عز وجل والثناء عليه تعالى في السراء والضراء، وهذا عام في كل الأحوال، وقد تجلت هذه الصفة في أكمل صورها في حياة الصحابة والتابعين وأتباع التابعين، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:«خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم»

(3)

، ولقد أقام الله سبحانه في القرون الثلاثة الأولى الخيرة: رجالا تلقوا هذا الدين بفهم وبصيرة، وحب وولاء، وإعزاز وتكريم، فآثروه على أنفسهم، وأهليهم وأولادهم وديارهم

(4)

، وذكر من صفاتهم أنهم يكبرون على كل نجد، المراد أنهم يكبرون الله عز وجل في كل الأحوال، وأشار بقوله: على كل نجد، ما يكون من التلبية والتكبير في الطريق إلى الحج، وفي التنقل بين المشاعر، وكذلك في حالات الفتح و

(1)

البخاري حديث (3059).

(2)

السنن الكبير للبيهقي 9/ 118.

(3)

البخاري حديث (2508).

(4)

الموطأ 1/ 3.

ص: 33

الجهاد لنشر الدين الحنيف، وهو ما حدث فعلا، وما يتخلل أوقات حياتهم من الذكر والتعبد، ولا زال يحدث إلى أن تقوم الساعة، وكذلك ما حدث من الرحلة في طلب العلم، وقد هاجروا في سبيل تحصيله، وضبطه وتلقيه وتبليغه، وهجروا الراحة والأوطان، وطافوا القرى والبلدان، لتحصيل الحديث النبوي الواحد، وما يتصل به آثار السلف الصالح، فبلغوا الغاية وأتوا على النهاية، وكانوا بحق

(1)

، {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}

(2)

، ثم ذكر من صفاتهم تقيدهم بما شرع لهم في كل الأحوال، ومن ذلك اللباس، فإنهم يأتزرون على أنصافهم، فلا يجاوز لباس الرجل كعبيه، وقد كان ذلك عملا بما صح من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:«موضع الإزار إلى أنصاف الساقين والعضلة، فإن أبيت فأسفل، فإن أبيت فمن وراء الساق، ولا حق للكعبين في الإزار»

(3)

، ولا يجوز تجاوز الكعبين في لباس الرجل، عملا بما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أنه سمع من الرسول صلى الله عليه وسلم قوله:«إزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه، لا جناح عليه ما بينه وبين الكعبين، وما أسفل من الكعبين في النار، يقول ثلاثا: لا ينظر الله إلى من جر إزاره بطرا»

(4)

، وقد قال بعض العلماء: إن الزيادة على الكعبين في لباس الرجل من الكبائر؛ لأن الله عز وجل توعد عليها بالنار، ومن تعمد ذلك فقد عصى الله ورسوله؛ لأنه

(1)

الموطأ 1/ 3.

(2)

الآية (110) من سورة آل عمران.

(3)

النسائي حديث (5329).

(4)

ابن ماجه حديث (3573).

ص: 34

متعبد بذلك، أما المرأة فالواجب في لبسها الزيادة حتى يغطي القدمين، عملا بما صح عن أم سلمة رضي الله عنها: أنها سألته صلى الله عليه وسلم فقال: «ترخي شبرا، قالت: إذن تنكشف، قال: فذراعا لا يزدن عليه»

(1)

، وقد انعكس الأمر في هذا العصر المليء بالمفارقات، أطال الرجال ثيابهم حتى جروها على الأرض، ولم يكشف بعض النساء القدمين المنهي عن كشفهما فحسب، بل زدن على ذلك بما قارب الركبتين أو زاد عنها، فأصبحن كاسيات عاريات، وزدن الطين بلّة كما يقال: بلباس السراويل" البنطلونات " الضيقة جدا المحجّمة لمفاتنهن دون مراعاة لدين ولا خلق، فمن كان هذا حاله من الرجال والنساء، لم يكن داخلا في ذلك الوصف لأمته صلى الله عليه وسلم، نعم هم من الأمة في الظاهر، ولكن إذا لم يتوبوا من المخالفات الشرعية قبل فوات الأوان، فإنهم ممن سيقول لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم القيامة: سحقا سحقا، كما ورد أنه قال صلى الله عليه وسلم:«أنا فرطكم على الحوض، من ورده شرب منه، ومن شرب منه لم يظمأ بعده أبدا، ليردن عليّ أقوام أعرفهم ويعرفونني، ثم يحال بيني وبينهم» وفي رواية قال: «إنهم مني، فيقال: إنك لا تدري ما بدلوا بعدك، فأقول سحقا سحقا لمن بدل بعدي»

(2)

، فإنه يعرفهم بعلامات الوضوء؛ لأنهم غرّ محجّلون، ويعرفونه بوقوفه على حوضه، ومع كونهم محجّلين من آثار الوضوء إلا أنهم أبعدوا عن حوضه لمخالفتهم هديه صلى الله عليه وسلم في أمور أخر، ولا ريب أن من استبدل القيم الإسلامية بالعادات الغربية، فهو ممن

(1)

أحمد حديث (5173).

(2)

البخاري حديث (6643).

ص: 35

بدّل واستعاض عن هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بما روّجه غير المسلمين، وهذا حبّ لهم، والمرء مع من أحب، وذكر من صفاتهم أنهم يتوضؤون على أطرافهم، وكان هذا من خصائص هذه الأمة، وهو التطهر للصلاة، والطواف وتلاوة القرآن، وذلك بغسل الكفين والمضمضة والاستنشاق، وغسل الوجه، وغسل اليدين إلى المرفقين، ومسح الرأس والأذنين، وغسل الرجلين إلى الكعبين، وقد جعل الله عز وجل هذا علامة فارقة لهم يوم القيامة، قال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم:«إن أمتي يدعون يوم القيامة غرّا محجّلين من آثار الوضوء»

(1)

، ومن صفاتهم أن مناديهم ينادي في جو السماء، والمراد الأذان للصلاة، المتحقق فيما بعد، فلم تكن لهم طريقة اليهود ولا النصارى، وذكر أن صفّهم في الصلاة واحد، وهو كذلك فالصلاة إلى يومنا هذا وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، يكون المسلمون فيها ضفوفا متراصّة، وكان ذلك حالهم في القتال، حتى تبدل الحال بما جدّ من وسائل الفتك والدمار، ومن صفاتهم أن لهم بالليل دويا كدوي النحل، وقد تحقق هذا بقراءة القرآن في كل الأحوال، في الصلاة فرضا ونفلا، وفي التلقي لفظا، ومراجعة ودرسا، وفي التعبد تلاوة وتدبرا، ولا زال المسلمون على هذا، وذكر أن مولده صلى الله عليه وسلم بمكة، وهو ما كان فعلا، فقد ولد بها في عام الفيل (570 م) على الصحيح يوم الاثنين، الثاني عشر من شهر ربيع الأول، وذكر أن مهاجره بطابة، وهذا اسم من أسماء المدينة، ومنها: طيبة والمحبوبة، وذكر أن ملكه بالشام، والمراد ما آل إليه أمر أمته، إذ كانت الشام عاصمة الإسلام في عهد الأمويين،

(1)

البخاري حديث (139).

ص: 36

وكذلك العراق عاصمة الإسلام في عهد العباسيين، أما عهد الرسول صلى الله عليه وسلم فنبوة وليس ملكا، وكانت طابة عاصمة الإسلام الأولى في عهد النبوة، والخلافة الراشدة، ولم تدم خلافة علي رضي الله عنه في الكوفة، هذا ما تحدثت به كتب أهل الكتاب، الذين غاضهم أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم من العرب فلم يؤمنوا به، وناصبوه العداء، فهم أعداؤه وأعداء دينه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وزماننا هذا حافل بعداوة اليهود والنصارى للإسلام، ولا يزعم غير هذا إلا من سلب التوفيق إلى قول الحق.

الشرح:

ورود صفة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأمته في الكتب السابقة، ويؤيد ذلك ما حكى الله في كتابه العزيز عن عيسى عليه السلام، إذ حكى قوله:{وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ}

(1)

.

ما يستفاد:

* بلوغ النبي صلى الله عليه وسلم الكمال في الصفات الحسنة، ومكارم الأخلاق.

* أن أمته كثيروا الحمد والتكبير في كل الأحوال.

* أن أمته يلتزمون الشرع في عبادتهم ولباسهم وسائر أعمالهم.

* أنهم الغر المحجلون من آثار الوضوء، وذلك صفة خاصة بهم.

* أنهم دائموا التلاوة لكتاب الله عز وجل.

* أن صفتهم في صلاتهم وقتال العدو واحدة، وفيها إشارة إلى الوحدة والتلاحم، ولاسيما في الذود عن العقيدة والمقدسات، وقد ظهر ذلك في هذا

(1)

من الآية (6) من سورة الصف.

ص: 37

الزمان عندما سخر العدو من نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بتلك الرسوم المشينة، هبّ المسلمون في كل مكان متوحدين ومناصرين نبيهم صلى الله عليه وسلم، فياليت قادة الأمة يعون أهمية العودة إلى الحكم بالكتاب والسنة، ويعيدون للأمة عزها، على نحو ما كان في عهد النبوة والخلافة الراشدة، وما تلاها من قوة الإسلام وعدالته.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

6 -

(2) حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِى اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي خَالِدٌ - هُوَ ابْنُ يَزِيدَ - عَنْ سَعِيدٍ - هُوَ ابْنُ أَبِي هِلَالٍ - عَنْ هِلَالِ بْنِ أُسَامَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنِ ابْنِ سَلَامٍ: أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إِنَّا لَنَجِدُ صِفَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدا، وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً، وَحِرْزاً لِلأُمِّيِّينَ

(1)

، أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي، سَمَّيْتُهُ

(2)

الْمُتَوَكِّلَ، لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ، وَلَا سخَّابٍ

(3)

بِالأَسْوَاقِ، وَلَا يَجْزِى بِالسَّيِّئَةِ مِثْلَهَا، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَتَجَاوَزُ، وَلَنْ أَقْبِضَهُ حَتَّى يُقِيمَ الْمِلَّةَ الْمُتَعَوِّجَةَ

(4)

، بِأَنْ يَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، يَفْتَحُ بِهِ أَعْيُناً عُمْياً، وَآذَاناً صُمًّا،

(1)

الأميون هم العرب، وما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم هو حصن لهم من الكفر.

(2)

التفات من الخطاب إلى الغيبة.

(3)

ويقال: صخاب، وكلاهما صحيح، قال في (النهاية 2/ 349): السخب، والصخب: بمعنى الصياح.

(4)

في (ر/ أ، ر/ ب) المعوجة، وكلاهما يصح، والمراد ما سوى الإسلام، من الملل والنحل، ويجمعها الكفر بالله.

ص: 38

وَقُلُوباً غُلْفاً

(1)

.

رجال السند:

عبد الله بن صالح الجهني مولاهم، أبو صالح المصري، المشهور بكاتب الليث، الصحيح أن حديثه حسن، وشيخه الليث بن سعد أبو الحارث الفهمي، ثقة إمام الديار المصرية ومفتيها، وخالد بن يزيد الجمحي، أبو عبد الرحيم المصري، ثقة إمام، وسعيد بن أبي هلال الليثي، أبو العلاء وثقه العلماء، ولا اعتبار لقول ابن حزم: ليس بالقوي، وقال ابن حجر: صدوق لم أر لابن جزم سلفا في تضعيفه، إلا ما حكاه الساجي عن أحمد أنه اختلط، وهلال بن علي بن أسامة المدني، ويقال: هلال بن أبي ميمونة، ثقة روى عن أنس رضي الله عنه، وعن كبار التابعين، وعطاء بن يسار الهلالي، مولى ميمونة أم المؤمنين، فقيه عالم، وإخوته: سليمان وعبد الله وعبد الملك فقهاء، كان كثير الملازمة للمسجد النبوي، وعبد الله بن سلام رضي الله عنه، صحابي من أهل الكتاب، من ولد يوسف بن يعقوب، شهد له نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بالجنة.

الشرح:

هذا حديث حسن على الصحيح، بدايته عند البخاري من حديث عبد الله

(1)

فيه كاتب الليث عبد الله بن صالح، صدوق، ثبت في كتابه، وكانت فيه غفلة. قلت: أرجح أنه حسن الحديث، وفي وصفه بكثرة الغلط مبالغة، وانظر: القطوف رقم (5/ 6).

قلت: الصحيح أن حديثه حسن، وهو ما تبين من النظر في أقوال النقاد، والخبر بدايته عند البخاري من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، حديث (2125) نحوه.

ص: 39

ابن عمرو ابن العاص رضي الله عنه

(1)

، وهو شاهد للرواية السابقة، وفيه:" إنا أرسلناك شاهدا ونذيرا "، نص ما جاء ذلك في كتاب الله عز وجل، قال تعالى:{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا}

(2)

، فهو شاهد على الناس كافة، قال تعالى:{فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا}

(3)

، وهو مبشر بالجنة والفلاح للمؤمنين، قال تعالى:{وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}

(4)

، وهو نذير للناس كافة، قال تعالى:{وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا}

(5)

، وأفهم من هذه الآية أن أم القرى محور الأرض كما ثبت علميا، وأن ما حولها جميع الأمة، ما كان منهم في حياته صلى الله عليه وسلم، وما كان من بلاغ الفتوحات الإسلامية، وما كان من شيوع الإسلام وشهرته، ولا زال الإسلام ينذر القاصي والداني إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، تنقله الطائفة المنصورة، كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله:«أنت عبدي ورسولي» فيه بيان أنه صلى الله عليه وسلم لا يخرج بنبوته عن كونه عبدا لله

(1)

البخاري حديث (2125).

(2)

الآية (8) من سورة الفتح.

(3)

الآية (41) من سورة النساء.

(4)

الآية (25) من سورة البقرة.

(5)

الآية (92) من سورة الأنعام.

ص: 40

تعالى، أرسله إلى الناس كافة، وفيه رد على الغالين في شخصه صلى الله عليه وسلم، فهو بشر كغيره من الناس، وليس في هذا معارضة لقوله صلى الله عليه وسلم: «لست كهيئتكم إني أظل أطعم وأسقى "

(1)

، وذلك في الصيام لمّا واصل، بادر الصحابة إلى صوم الوصال، فبين لهم الرسول صلى الله عليه وسلم أنه مخصوص من ربه بمزيد العناية، منها هذه، وانفراده عنهم بصفة الوحي إليه، وكمال في البنية والقوة، وخصائصه معروفة دوّنها العلماء ومنها: كتاب الخصائص للنسائي، وكل ذلك لا ينافي كونه بشرا، وقد أمره الله عز وجل أن يؤكد ذلك للناس فقال:{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ}

(2)

، ولذلك نهى عن المبالغة بالثناء عليه صلى الله عليه وسلم إلى حد يخرجه عن كونه بشرا، فقال:«لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبده فقولوا: عبد الله ورسوله»

(3)

، والإطراء هو الإفراط في المدح ومجاوزة الحد فيه، وهو المدح بالباطل والكذب فيه، وأي باطل وكذب أعظم من زعْم النصارى أن عيسى ابن الله، وأنه إلاه؟!!، ومن يجاوز الحد في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويصفه بما ليس فيه، ويعطه ما لم يعطه الله، فقد عصى الله وكذب عليه، ومن كان كذلك فالرسول خصمه، لمخالفته أمر الله عز وجل، وفي نفس الأمر هو عاص لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن زعم محبته، والله عز وجل خصمه لمخالفته أمر رسوله، كمن كذب

(1)

البخاري حديث (1822).

(2)

الآية (110) من سورة الكهف، وانظر الآية (6) من سورة فصلت.

(3)

البخاري حديث (3261).

ص: 41

عليه صلى الله عليه وسلم، ووضع أحاديث في الفضائل، فلما أنكر عليه ذلك قال: كذبت له ولم أكذب عليه، ومن كان خصمه الله ورسوله فقد خاب وخسر.

قوله: «حرزا للأميين» الأميون هم العرب؛ لأنهم في الغالب في زمنهم لا يقرئون ولا يكتبون، قال صلى الله عليه وسلم:«إنا أمة أمية، لا نكتب ولا نحسب»

(1)

، والمراد من آمن منهم، فإن ذلك حرزا في الدنيا من الفتن بالثبات على الحق، وفي الآخرة حرزا لهم من النار، ومن ذلك مقام الشفاعة.

قوله: «سميته المتوكل» هذا من صفاته صلى الله عليه وسلم وقد بلغ الكمال فيها، وكان صبره وثباته صلى الله عليه وسلم من مبعثه إلى أن لحق بالرفيق الأعلى من أبرز الأدلة على ذلك الكمال، فكان علما عليه لشدة ظهوره فيه.

قوله: «ولن أقبضه حتى يقيم الملة المتعوجة

(2)

، بأن يشهد أن لا إله إلا الله، نفتح به أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا» المراد بالملة المتعوجة ما سوى الإسلام، وقد وصفت بأنها متعوجة إما لأن الإسلام هو الخاتم، وأنه الدين الشامل لكل الناس، بل للإنس والجن، أو لأن ما قبله من الأديان حصل لها تحريف واعوجاج عن الحق، ومن ذلك اعوجاج قريش عن الحنيفية إلى عبادة الأصنام، والإسلام هو الطريق المستقيم، الذي تكفل الله بحفظه وسلامته من تدخل البشر، وهذا هو الأولى، بدلالة قوله:«بأن يشهد أن لا إله إلا الله، نفتح به أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا» فالمراد إقامة توحيد الله بالعبادة، وحده لا شريك له، لا كما تزعم

(1)

البخاري حديث (1780).

(2)

في بعض نسخ الدارمي (المعوجة) وكلاهما يصح، والمراد ما سوى الإسلام، من الملل والنحل، ويجمعها الكفر بالله.

ص: 42

اليهود أن عزيرا ابن الله، قال تعالى:{وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ}

(1)

، وزعمت النصارى أن المسيح ابن الله {وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ}

(2)

، وليس لهم مستند صحيح لا من عقل ولا من نقل، وإنما مسايرة لقول من كفر قبلهم من الأمم السابقة، سايروهم في مجال الكفر {يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}

(3)

، وزعموا أن الله ثالث ثلاثة {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ}

(4)

، سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا، وقد أقام الله بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم الملة المعوجة، وفتح به أعينا عميا عن الحق، فآمن به من أدركته هداية التوفيق، وسمع منه الحق ووعاه من أراد الله له الخير والفلاح في الدنيا والآخرة، ولم يكن هذا الفتح خاصا بقريش، ولا بقبائل العرب وحدها، بل دخل فيه أجناس من عباد الله عربا وعجما.

ما يستفاد:

* أن نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم شاهد على الأمة أنه بلّغها، وقد كرر ذلك في خطبة الوداع، إذ قال: ألا هل بلغت؟ اللهم أشهد.

(1)

الآية (30) من سورة التوبة.

(2)

الآية (30) من سورة التوبة.

(3)

الآية (30) من سورة التوبة.

(4)

الآية (73) من سورة المائدة.

ص: 43

* أنه صلى الله عليه وسلم مبشر للأمة بالجنة، والبشارة بها تقتضي البشارة بكل عمل يوصل إليها.

* أنه صلى الله عليه وسلم نذير للأمة، ينذرها ويحذرها من النار، وذلك يقتضي التحذير من كل عمل يؤدي إليها.

* أنه صلى الله عليه وسلم حصن للأمة في الدنيا والآخرة، بمقتضى تلك الشهادة، وتلك البشارة، وذلك التحذير.

* أن التعبير بالأميين إشارة إلى الأقربين إليه صلى الله عليه وسلم وهم العرب، والمراد عموم الأمة: العرب والعجم، على حد قوله تعالى:{وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}

(1)

، ولم يكن ذلك خاصا بهم.

* أنه صلى الله عليه وسلم بلغ الكمال في صفة التوكل وعدم المبالاة بما سوى الله عز وجل، وقد تجلى ذلك في حياته صلى الله عليه وسلم، وأثنى الله عز وجل عليه وعلى أمته فقال تعالى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}

(2)

.

* أنه صلى الله عليه وسلم أدى الأمانة وبلغ الرسالة، وأقام الملة على توحيد الله عز وجل وهدم الأصنام، وبعث هذا الخير إلى الناس، وكم أنقذ الله عز وجل به من الضلال، وبصّر به من العمى صلى الله عليه وسلم، والله غالب على أمره إذ نفع به أهل الإيمان، وضرّ به أهل الكفر والزيغ والعناد.

(1)

الآية (214) من سورة السعراء.

(2)

الآية (110) من سورة آل عمران.

ص: 44

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

7 -

(3) قَالَ عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ: وَأَخْبَرَنِي أَبُو وَاقِدٍ اللَّيْثِيُّ رضي الله عنه: أَنَّهُ سَمِعَ كَعْباً يَقُولُ مِثْلَمَا قَالَ ابْنُ سَلَامٍ

(1)

.

رجال السند:

هذا موصول بالسند السابق، وأبو واقد رضي الله عنه هو الحارث بن عوف، أحد البدريين، وقد تقدم الكلام على حديث كعب قبل هذا، وفي التالي مزيد بيان.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

8 -

(4) أَخْبَرَنَا زَيْدُ بْنُ عَوْفٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ ذَكْوَانَ أَبِي

(2)

صَالِحٍ، عَنْ كَعْبٍ: فِي السَّطْرِ الأَوَّلِ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ عَبْدِيَ الْمُخْتَارُ، لَا فَظٌّ وَلَا غَلِيظٌ، وَلَا صَخَّابٌ في الأَسْوَاقِ، وَلَا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ، مَوْلِدُهُ بِمَكَّةَ، وَهِجْرَتُهُ بِطَيْبَةَ، وَمُلْكُهُ بِالشَّامِ، وَفي السَّطْرِ الثَّانِي: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، أُمَّتُهُ الْحَمَّادُونَ، يَحْمَدُونَ اللَّهَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، يَحْمَدُونَ اللَّهَ فِي كُلِّ مَنْزِلَةٍ، وَيُكَبِّرُونَهُ

(3)

عَلَى كُلِّ شَرَفٍ

(4)

، رُعَاةُ

(5)

الشَّمْسِ، يُصَلُّونَ الصَّلَاةَ إِذَا جَاءَ وَقْتُهَا، وَلَوْ

(1)

انظر: السابق.

(2)

في بعض النسخ الخطية بن، وهو خطأ.

(3)

في (ع/ ب) يكبرون.

(4)

المكان العالي المرتفع.

(5)

لتحديد وقت الصلوات المفروضة.

ص: 45

كَانُوا عَلَى رَأْسِ كُنَاسَةٍ

(1)

، وَيَأْتَزِرُونَ عَلَى أَوْسَاطِهِمْ، وَيُوَضِّئُونَ أَطْرَافَهُمْ، وَأَصْوَاتُهُمْ بِاللَّيْلِ فِي جَوِّ السَّمَاءِ كَأَصْوَاتِ النَّحْلِ.

رجال السند:

زيد بن عوف أبو ربيعة القطيعي البصري، قيل: صدوق يسرق الحديث وقال أبو حاتم: متروك

(2)

، روى عنه الدارمي هذا الحديث، وآخر هو «أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله الذي تدعونه المحرم»

(3)

، والوضاح ابن عبد الله أبو عوانة اليشكري، إمام ثقة، وعبد الملك بن عمير بن سويد، قاضي الكوفة، من صغار التابعين، مدلس، رجل، مجهول، وأبو صالح: ذكوان بن عبد الله أبو صالح السمان، مولى جويرية أم المؤمنين، ثقة من كبار العلماء، وكعب بن ماتع الحميري اليماني، يعرف بكعب الأحبار، أدرك حياة النبي صلى الله عليه وسلم ولم تكن له رؤية، وهو إمام عالم، خبير بكتب اليهود.

الشرح:

تقدم في الحديث رقم (5) شرح غالب مفردات هذا الحديث، وهذا الحديث فيه زيد بن عوف البصري متروك، قال أبو حاتم: متروك (الجرح والتعديل 3/ 570) وقد صح الحديث من طرق، انظر: السابق، وما هو

الحق من صفات النبي وأمته، وانظر: القطوف رقم (4، 5).

(1)

مجمع الزبالة، والمراد الإشارة إلى شدة محافظتهم على أداء الصلاة، وأنه لو قدر أنهم لم يجدوا مكانا لأدائها إلا رأس كناسة لأدوها، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها.

(2)

الجرح والتعديل 3/ 570.

(3)

الدارمي حديث (1815).

ص: 46

قوله: «يحمدون الله في السراء والضراء» هذا تفسير للجملة قبلها ولما ورد في الحديث رقم (5) من الإطلاق، والمراد أنهم يحمدون الله على كل حال، وفي غالب الأحوال، ونكتفي بما تقدم بيانه.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

9 -

(5) أَخْبَرَنَا مُجَاهِدُ بْنُ مُوسَى قَالَ: ثَنَا مَعْنٌ - هُوَ

(1)

ابْنُ عِيسَى - حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ أَبِي فَرْوَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ سَأَلَ كَعْبَ الأَحْبَارِ: كَيْفَ تَجِدُ نَعْتَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي التَّوْرَاةِ؟، فَقَالَ كَعْبٌ: " نَجِدُهُ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، يُولَدُ بِمَكَّةَ، وَيُهَاجِرُ إِلَى طَابَةَ، وَيَكُونُ مُلْكُهُ بِالشَّامِ، وَلَيْسَ بِفَحَّاشٍ وَلَا صَخَّابٍ فِي الأَسْوَاقِ، وَلَا يُكَافِئُ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ، أُمَّتُهُ الْحَمَّادُونَ يَحْمَدُونَ اللَّهَ فِي كُلِّ سَرَّاءٍ، وَيُكَبِّرُونَ اللَّهَ عَلَى كُلِّ نَجْد، يُوَضِّئُونَ أَطْرَافَهُمْ، وَيَأْتَزِرُونَ في أَوْسَاطِهِمْ، يَصُفُّونَ في صَلَاتِهِمْ كَمَا يَصُفُّونَ فِي قِتَالِهِمْ، دَوِيُّهُمْ في مَسَاجِدِهِمْ كَدَوِيِّ النَّحْلِ، يُسْمَعُ

(2)

مُنَادِيهِمْ فِي جَوِّ السَّمَاءِ"

(3)

.

رجال السند:

مجاهد بن موسى أبو علي الخوارزمي الختّلي، ثقة ليس له في البخاري رواية، ومعن بن عيسى القزاز، ثقة كان يسمى عصاة مالك، لكثرة ملازمته للإمام مالك، ومعاوية بن صالح بن حدير، أبو عمرو الحضرمي، قاضي الأندلس، صدوق له أوهام، وعروة بن الحارث أبو فروة الهمداني، يقال له:

(1)

ليس في (ع/ ب).

(2)

في (م، و) يسمع، وكلاهما يصح، وهو بضم الياء فيهما.

(3)

سنده حسن، وانظر: رقم (5، 6، 7).

ص: 47

أبو فروة الأكبر، ثقة روى له مسلم، والبخاري مقرونا بغيره، وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما، أبو العباس، حبر الأمة، أخذ عن كعب الأحبار علما.

الشرح:

تقدم فيما سبق، وهذا من تعدد الرواية في هذا الموضوع.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

10 -

(6) أَخْبَرَنَا حَيْوَةُ بْنُ شُرَيْحٍ، ثَنَا بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ الْتَمِيْمِيُّ

(1)

، ثَنَا بَحِيرُ ابْنُ سَعْدٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ الْحَضْرَمِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ إِلَيْكُمْ لَيْسَ بِوَهِنٍ وَلَا كَسِلٍ، لِيَخْتِنَ قُلُوباً غُلْفاً، وَيَفْتَحَ أَعْيُناً عُمْياً، وَيُسْمِعَ آذَاناً صُمًّا، وَيُقِيمَ أَلْسِنَةً عُوْجَا حَتَّى يُقَالَ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ» .

رجال السند:

حيوة بن شريح أبو العباس الحضرمي ثقة، بقية بن الوليد أبو محمد التميمي، مدلس معروف بالراية عن الضعفاء والمجاهيل، تقبل روايته بشرط أن يصرح بالسماع، فهو ثقة إذا حدث عن الثقات، وقال في الصيغة: حدثنا أو أخبرنا، وبحير بن سعد أبو خالد الحمصي السحولي ثقة، وخالد بن معدان الحمصي، إمام ثقة جليل، و جبير بن نفير الحضرمي، لم تثبت له رؤية، ولم يرو له البخاري، وحديثه عن النبي مباشرة مرسل؛ وهو ثقة من كبار التابعين.

(1)

وفوقها (التيمي) وفي (ع/ ب) التميمي، وفي (ع/ أ) الميثمي، فوقها (التميمي) في (م) الميتمي، وفي (ر/ أ، ر/ ب) التميمي، وفي (ف) الميثمي، وفوقها" التميمي" وفي (ك) الميتمي، وفي (و) الميثمي، وفوقها" التميمي" والصواب التميمي.

ص: 48

الشرح:

الحديث فيه بقية بن الوليد، الراجح أنه ثقة إذا حدث عن ثقة، وصرح بالتحديث، وهو هنا كذلك، جبير تابعي كبير، روى عن أبيه، عن أبي الدرداء، حديثا يأتي، فالحديث مرسل، وقد ورد عنه أنه قال: أتانا رسول الله، فلعل له رؤية، وفي. سنده بقية بن الوليد، الراجح أنه ثقة إذا حدث عن ثقة، وصرح بالتحديث، وهو هنا كذلك، جبير تابعي كبير، روى عن أبيه، عن أبي الدرداء، حديثا يأتي، فالحديث مرسل، وقد ورد عنه أنه قال: أتانا رسول الله، فلعل له رؤية. وقوله:" عوجا " هكذا في كل النسخ وفي حاشية (ت) عن نسخة الضياء: ويقيم سنة عوجاء وفي حاشية (و) سنة عوجاء، والمراد بالسنة الطريقة، والطريقة العوجاء هي ما سوى الإسلام من الملل، وتقويمها بتوحيد الله، وهو قول: لا إله إلا الله محققا معناها من النفي والإثبات، وكذلك يقال في ألْسنة عوج، فقد ينسب إليها العوج لنطقها بالباطل.

هكذا في كل النسخ وفي حاشية (ت) عن نسخة الضياء: ويقيم سنة عوجاء وفي حاشية (و) سنة وقوله: " ليختن " شبه القلب بأن عليه غلفة: غشاء، قال في (الصحاح 2/ 205): قلب أغلف: كأنما أغشي غلافا، فهو لا يعي، ومنه قوله تعالى:{وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ} من الآية (88) من سورة البقرة، ومن النساء (155) ورجل أغلف بيّن الغلف، أي: أقلف.

ويحسن ذكر حكم تعمد الإرسال قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: إذا كان شيخ المرسل عدلا جاز بلا خلاف، وإذا كان غير عدل منع بلا خلاف.

ص: 49

أما إذا كان عدلا عنده لا عند غيره، أو غير عدل عنده عدلا عند غيره، فيحتمل فيهما الجواز وعده بحسب الأسباب الحاملة عليه

(1)

.

وتقدم شرح مفردات هذه الرواية فيما سلف، وبقيةُ صرّح بالتحديث، وبحير ثقة، ولكن الحديث مرسل، وهو مؤيد بما تقدم.

قال الدارمي رحمه تعالى:

11 -

(7) أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ الْحِزَامِيُّ، ثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي قَيْسٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ عَامِرٍ قَالَ: كَانَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهُ إِلَيْهِ حَاجَةٌ، فَمَشَى مَعَهُ حَتَّى دَخَلَ، قَالَ: فَإِحْدَى رِجْلَيْهِ فِي الْبَيْتِ، وَالأُخْرَى خَارِجَةٌ كَأَنَّهُ يُنَاجِى، فَالْتَفَتَ فَقَالَ: " أَتَدْرِي مَنْ كُنْتُ أُكَلِّمُ؟ إِنَّ هَذَا مَلَكٌ لَمْ أَرَهُ قَطُّ قَبْلَ يَوْمِي هَذَا، اسْتَأْذَنَ رَبَّهُ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَىَّ، قَالَ: إِنَّا آتَيْنَاكَ أَوْ

(2)

أَنْزَلْنَا الْقُرْآنَ فَصْلاً، وَالسَّكِينَةَ صَبْراً، وَالْفُرْقَانَ وَصْلاً

(3)

»

(4)

.

رجال السند:

محمد بن يزيد الحزامي، وهو غير الرفاعي المتفق معه في الاسم والطبقة، وهما ثقتان من شيوخ الدارمي، والبخاري، وإسحاق بن سليمان الرازي ثقة، عمرو بن أبي قيس الأزرق الرازي، صدوق له أوهام، وعطاء بن السائب أبو محمد الثقفي الكوفي، صدوق اختلط، وعامر بن شراحيل أبو عمرو

(1)

النكت على كتاب ابن الصلاح لابن حجر 1/ 89، 2/ 558، بتصرف.

(2)

في (ف) وأنزلنا.

(3)

في بعض النسخ الخطية" أصلا".

(4)

فيه عمرو بن أبي قيس، لم يذكر ممن سمع من عطاء قبل الاختلاط، ولم أقف عليه في مصدر آخر.

ص: 50

الشعبي، ثقة مشهور فقيه فاضل، أدرك خمسمائة من الصحابة رضي الله عنهم، رجل من أصحاب النبي، لا جهالة في الأمر، فالصحابة كلهم عدول، ولكن هل سمع الشعبي هذا من ذلك الرجل الصحابي؟ أم بينهما واسطة؟ وعلى أقل الأحوال فهو مرسل، والذي أرسله من كبار العلماء، والصفات تليق برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبما جاء به، وللمرسل ثلاث صور:

الأولى: مراسيل الصحابة كابن عباس وغيره فهي في حكم الموصول. الثانية: مرسل التابعي وهذا متفق على تسميته مرسل، والصحيح قبوله بشروط:

1 -

إذا كان من مراسيل كبار التابعين حجة، كحديثنا هذا.

2 -

إذا أتى من وجه آخر ولو مرسلا.

3 -

إذا اعتضد بقول صحابي أو أكثر العلماء.

4 -

إذا كان المرسِل لو سمى من أرسل عنه لا يسمي إلا ثقة، فحينئذ يكون مرسله حجة، ولا يكون من حيث القوة في رتبة المتصل.

الثالثة: مختلف فيها، وهي العموم في التابعين وغيرهم، وهذا قول الجمهور من الفقهاء والأصوليين، أنه يسمى مرسلا.

وأرى صحة الاحتجاج بالمرسل بالشروط المذكورة.

الشرح:

قوله: «أتدري من كنت أكلم؟، إن هذا ملك لم أره قط قبل يومي هذا، استأذن ربه أن يسلم عليّ، قال: إنا آتيناك- أو أنزلنا- القرآن فصلا» . لا غرابة في مخاطبة الملك له صلى الله عليه وسلم والسلام عليه، والبشارة بما حصل له من الوحي، وثبت أنه رأى جبريل عليه السلام، ونقل الوحي إليه، وكلمه إسرافيل عليه

ص: 51

السلام، في بدايات الوحي، وكلمه ملك الجبال عليه السلام، وهذا ملك آخر عليه السلام، استأذن في وبشارته إياه، وقد بشره ملك ببركة سورة الفاتحة في المدينة، وكانت مما نزل عليه بمكة، فصلته بالملأ الأعلى دائمة، فهو المصطفي المختار ليبلغ عن ربه ما يوحى إليه صلى الله عليه وسلم، وقد بشره هذا الملك بأنه جاءه بما أنزل عليه من ربه، وأنه حق وليس بباطل، وبهذا المعنى ورد قول الله عز وجل:{إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ}

(1)

، وبمعنى البيان والوضوح ورد قوله تعالى:{وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ}

(2)

، المحكم في لفظه البيّن في معناه، فكملت هدايته للبشر رحمة بهم.

قوله: «والسكينة صبرا» جعل الله تعالى فيه السكينة والوقار، والأمن والاستقرار، والرحمة، وسماها صبرا؛ لأنها من الأمور الباعثة على الطاعة والعمل، وتحتاج النفس إلى مجاهدة لتسكن، فإذا سكنت نفس العبد اطمأن وهدأ، وقد امتن الله بها على عباده فقال:{ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ}

(3)

، وكان يوصي بها النبي صلى الله عليه وسلم في كل الأحوال، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم للناس في الحج:«يا أيها الناس عليكم السكينة»

(4)

، وعند إقامة

(1)

الآيتان (12، 13) من سورة الطارق.

(2)

الآية (52) من سورة الأعراف.

(3)

الآية (26) من سورة التوبة.

(4)

الترمذي حديث (811) وقال حسن صحيح.

ص: 52

الصلاة قال صلى الله عليه وسلم: «واتوها تمشون وعليكم السكينة»

(1)

، وفي رواية «لا تقوموا حتى تروني، وعليكم السكينة»

(2)

، والمراد الزموا التأني والوقار، والرزانة والهدوء، لما في ذلك من الثبات وصلاح العمل، وهي من أهم ما يمتلكه المسلم في المواقف الجليلة والصعبة، ومن ذلك مقابلة العدو، وقد امتن الله بها على المؤمنين يوم حنين، فقال:{ثُمَّ أَنْزَلَ} وأثنى الله على عباده المؤمنين لما اتصفوا بالسكينة والوقار فقال: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا}

(3)

، والمراد بالرفق، والسكينة والوقار. قوله:«والفرقان وصلا» الفرقان هو القرآن، وصلا أي موصولا بالأديان السابقة فإنها حق منزل من عند الله عز وجل فوصل في القرآن ذكر الأنبياء وأن دعوتهم واحدة ومنهجهم واحد، الإخلاص لله عز وجل في العبادة، ولذلك ورد فيه أن كل نبي قال لقومه:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}

(4)

، وقال عيسى عليه السلام:{مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ}

(5)

، وقال تعالى عن إبراهيم عليه السلام: {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ

(1)

البخاري حديث (866).

(2)

البخاري حديث (867).

(3)

الآية (63) من سورة الفرقان.

(4)

الآية (59) من سورة الأعراف.

(5)

الآية (117) من سورة المائدة.

ص: 53

لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}

(1)

، وكذلك بقية الرسل عليهم السلام أصل دعوتهم توحيد الله تعالى، فالفرقان دلالته على صدق مقالته صلى الله عليه وسلم، وفيه قوة حجته على حقيقة نبوته صلى الله عليه وسلم، وهو معجزته الخالدة، مع اشتهار العرب بالفصاحة وقوة البيان، جاءهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بما هو أشد بيانا، وأقوى دلالة، وأكمل بلاغة، بلسان عربي مبين، إنه لسانهم ومنطقهم، وكان المعجزة الكبرى لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم حيث تحداهم أن يأتوا بمثله وإن قلّ، وأمره صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم:{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}

(2)

، فلم يقدروا على ذلك، وأقر عقلاؤهم بالعجز، وأذعنوا بالتصديق، وشهدوا له بالكمال، وعلى أنفسهم بالنقص، وتمادى سفاؤهم في الغي والمكابرة، مع علمهم بأنهم عاجزون عن الإتيان بما يماثل آية واحدة منه، وتيقنوا أنهم على ذلك غير قادرين، وتمادوا في الضلال المبين، فأسهلت عقولهم حمقا دل على فسادها كقول مسيلمة الكذاب:«والطاحنات طحنا، والعاجنات عجنا، فالخابزات خبزا، والثاردات ثردا، واللاقمات لقما!»

(3)

، فكشف من جهله ما كان مستترا، وأتى بما لا يعجز عنه الضعيف الأخرق، والجاهل الأحمق، ولذلك سمي الكذاب، فأين هذا الهراء

(1)

الآية (16) من سورة العنكبوت، وانظر الآية (38) من سورة يونس.

(2)

الآية (23) من سورة البقرة.

(3)

الطبري 1/ 28.

ص: 54

مما جاء به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إنه جاء بالفرقان بين الحق والباطل، فيه البيان والحكمة، ورحمة الله عز وجل للناس أجمعين.

ما يستفاد:

* عناية الله عز وجل بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم وتثبيته على الحق، ومبادرة الملائكة بالسلام عليه.

* إمكانية رؤيته صلى الله عليه وسلم للملك والتحدث معه ولا يراه الحاضرون معه، كما يحدث عند نزول الوحي، وقد يرى الحاضرون الملك كما في مجيئه في صورة رجل شديد بياض الثياب، وسؤاله الرسول صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان والإحسان، وفي هذا لا نعلم شيئا عن روية هذا الصحابي للملك، لكنها ممكنة.

* بيان فضله على الملائكة، فهي تسلم عليه وتصلي عليه وتدعو له، أما الصلاة من الله عز وجل عليه فهي ذكره في الملأ الأعلى، والثناء من الله عليه تكريم له صلى الله عليه وسلم.

* بيان جواز أن يقول من أرسل بشيء إلى شخص أن يقول آتيناك وأعطينا،

وإن لم يكن هو المعطي في الأصل، وذلك على اعتبار حالة الوصول إلى ذلك الشخص، دون حالة الابتداء.

* بيان أن القرآن هو الحق، وما عداه باطل، إما بالنسخ، أو بالتحريف، ولذلك سماه الفرقان، فقد فرق بين الحق والباطل.

* بيان أهمية السكينة في حياة المسلم، وأنها تدخل في حياته الخاصة والعامة.

* بيان أن السكينة لا تحصل للمسلم إلا بصبر وثبات، وسماها صبرا لأنها نتيجة له.

ص: 55

* بيان صلة القرآن بالكتب السابقة في أصل دعوة الرسل إلى عبادة الله وحده لا شريك له.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

12 -

(8) أَخْبَرَنَا مُجَاهِدُ بْنُ مُوسَى قَالَ: ثَنَا رَيْحَانُ - هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ - ثَنَا عَبَّادٌ - هُوَ ابْنُ مَنْصُورٍ - عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ عَطِيَّةَ، أَنَّهُ سَمِعَ رَبِيعَةَ الْجُرَشِيَّ يَقُولُ:" أُتِىَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقِيلَ لَهُ: لِتَنَمْ عَيْنُكَ، وَلْتَسْمَعْ أُذُنُكَ، وَلِيَعْقِلْ قَلْبُكَ " قَالَ: «فَنَامَتْ عَيْنِي، وَسَمِعَتْ أُذُنَاي، وَعَقَلَ قَلْبِي فَقِيلَ لِي: سَيِّدٌ بَنَى دَاراً فَصَنَعَ مَأْدُبَةً، وَأَرْسَلَ دَاعِياً، فَمَنْ أَجَابَ الدَّاعِيَ دَخَلَ الدَّارَ، وَأَكَلَ مِنَ الْمَأْدُبَةِ، وَرَضِيَ عَنْهُ السَّيِّدُ، وَمَنْ لَمْ يُجِبِ الدَّاعِيَ لَمْ يَدْخُلِ الدَّارَ، وَلَمْ يَطْعَمْ مِنَ الْمَأْدُبَةِ، وَسَخِطَ عَلَيْهِ السَّيِّدُ، قَالَ: فَاللَّهُ السَّيِّدُ، وَمُحَمَّدٌ الدَّاعِي، وَالدَّارُ الإِسْلَامُ، وَالْمَأْدُبَةُ الْجَنَّةُ»

(1)

.

رجال السند:

مجاهد بن موسى أبو علي الخوارزمي الختلي، ثقة ليس له في البخاري رواية، وريحان بن سعيد بن المثنى، أبو عصمة السامي الناجي البصري، صدوق ربما أخطأ، وكان إمام مسجد شيخه عباد بن منصور، وعباد بن منصور أبو سلمة الناجي، كان قاضيا على البصرة، لكنه ضعف في الرواية، وعدّ في المدلسين، عدّه ابن حجر في مرتبة صدوق رمي بالقدر، وأيوب بن أبي تميمة السختياني، ثقة إمام، وعبد الله بن زيد أبو قلابة

(1)

فيه عباد بن منصور ضعيف، وربيعة بن عمرو الجرشي في صحبته خلاف،

انظر: القطوف رقم (11/ 11).

ص: 56

الجرمي، ثقة إمام، وعطية بن قيس أبو يحيى الكلابي المقرئ ثقة، ربيعة ابن عمرو أبو الغاز الجرشي، قال بصحبته البخاري وجماعة، وبه أقول.

الشرح:

هذا مما وردت الأحداث فيه تثبيتا لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأن ما يأتيه هو حق من عند الله عز وجل لا مرية فيه، والخبر ضعّف بعباد.

قوله: «أتي نبي الله صلى الله عليه وسلم» .

في رواية جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما «إني رأيت في المنام كأن جبريل عند رأسي وميكائيل عند رجلي يقول أحدهما لصحابه اضرب له مثلا»

(1)

، الرؤيا للنبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يفسر لنا ما تقدم، وقد جرى الرفق به صلى الله عليه وسلم إذ قيل له: لتنم عينك، ولتسمع أذنك، وليعقل قلبك، فنوم عينه فيه هدوء وراحة، وفيه التركيز القوي على السمع، وبهذا يتم فهم ما يقال له بدقة، وهذا من عناية الله بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يكن هذا الإجراء بإرادة الملكين، بل بإرادة الله عز وجل طلب الملكان منه ذلك فمكنه الله عز وجل من نوم العين، وسماع الأذن، وعقل القلب، ولذلك أكد رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الموقف فقال:«فنامت عيني وسمعت أذناي، وعقل قلبي» وفي رواية من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما: أن ذلك قيل له بصيغة الدعاء

(1)

الترمذي حديث (2860) وقال: هذا حديث مرسل سعيد بن أبي هلال لم يدرك جابر بن عبد الله، وقال ابن حجر: وقد اعتضد هذا المنقطع بحديث ربيعة الجرشي عند الطبراني، بنحو سياقه، وسنده جيد (الفتح 13/ 56).

ص: 57

«اسمع سمعت أذنك وأعقل عقل قلبك»

(1)

، وفيه تلطف بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، يؤيد هذا قوله في رواية أحمد:«فأضجعاني بلا هصر ولا قصر»

(2)

، أي بلطف ولين، من غير عنف بدني أو حبس.

قوله: «فقيل لي: سيد بنى دارا فصنع مأدبة، وأرسل داعيا فمن أجاب دخل الدار، وأكل من المأدبة، ورضي عنه السيد» .

هذا مثل ضرب له صلى الله عليه وسلم، وهو أسلوب مشوّق لمعرفة خبر ذلك السيد بصورة تامة، وقد ألقي عليه الخبر بعد التهيئة المناسبة للفهم بدقة، من نوم العين، سماع الأذن، ووعي القلب، وفي رواية جابر رضي الله عنه:«يقول أحدهما لصحابه: اضرب له مثلا، فقال: إنما مثلك ومثل أمتك كمثل ملك اتخذ دارا، ثم بنى فيها بيتا، ثم جعل فيها مائدة، ثم بعث رسولا يدعو الناس إلى طعامه، فمنهم من أجاب الرسول ومنهم من تركه»

(3)

.

وهذا إيضاح لما أبهم في رواية الدارمي، من أمر السيد والداعي، وفيه تسلية لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وإرهاص بأن من الأمة من يجيب الدعوة ومنهم من

(1)

الترمذي حديث (2860) وقال: هذا حديث مرسل سعيد بن أبي هلال لم يدرك جابر بن عبد الله، وقال ابن حجر: وقد اعتضد هذا المنقطع بحديث ربيعة الجرشي عند الطبراني، بنحو سياقه، وسنده جيد (الفتح 13/ 56).

(2)

حديث (21296).

(3)

الترمذي حديث (2860) وقال: هذا حديث مرسل سعيد بن أبي هلال لم يدرك جابر بن عبد الله، وقال ابن حجر: وقد اعتضد هذا المنقطع بحديث ربيعة الجرشي عند الطبراني، بنحو سياقه، وسنده جيد (الفتح 13/ 56).

ص: 58

يأبى، فيكون في علمه بهذا مسبقا تسلية له وتهدئة، إذا لم يجب الجميع الدعوة.

قوله: «ومن لم يجب الداعي، لم يدخل الدار، ولم يطعم من المأدبة، وسخط عليه السيد» .

فسر هذا ما جاء في رواية جابر رضي الله عنه حيث قال: «فالله هو الملك، والدار الإسلام، والبيت الجنة، وأنت يا محمد رسول، فمن أجابك دخل الإسلام، ومن دخل الإسلام دخل الجنة، ومن دخل الجنة أكل ما فيها»

(1)

.

هذه التهيئة الربانية لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم جعلته يتحمل أعباء الرسالة، ودعوة الناس إلى الخير، وكانت تثبيتا له على الحق حينما يواجه بالتكذيب، والعداوة والطرد والقتال، ومع ذلك كان ينتابه الحزن الشديد عندما يرى إعراض قومه عنه وعدم قبولهم الحق الذي جاء به صلى الله عليه وسلم، فيذكره ربه ويسليه كما في قوله تعالى:{فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا}

(2)

، وقوله:{لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ}

(3)

، وغير ذلك من الآيات، ولم تكن هذه غفلة منه صلى الله عليه وسلم عن هذا الأمر، فإنه يعلم أن ليس عليه إلا هداية الدلالة والإرشاد، وأنه لا يملك هداية التوفيق، فهي لله وحده،

(1)

الترمذي حديث (2860) وقال: هذا حديث مرسل سعيد بن أبي هلال لم يدرك جابر بن عبد الله، وقال ابن حجر: وقد اعتضد هذا المنقطع بحديث ربيعة الجرشي عند الطبراني، بنحو سياقه، وسنده جيد (الفتح 13/ 56).

(2)

الآية (6) من سورة الكهف.

(3)

الآية (22) من سورة الغاشية.

ص: 59

يمنحها من يشاء من عباده، ولكنه صلى الله عليه وسلم الرحمة المهداة {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}

(1)

، فكان شديد الحرص على هداية الناس أجمعين، وكان يحزن أشد الحزن لمن لم يوفق، ومعلوم حرصه على هداية عمه أبي طالب، حتى نزل عليه قول الله تعالى:{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}

(2)

، إن هذا التثبيت لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم يجري وفق حكمة أرادها الله عز وجل منها: ابتلاء بني آدم، ومنها: قطعه على نفسه تعالى أن يملأ الجنة والنار، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:(كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قالوا: يا رسول الله ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى)

(3)

.

ما يستفاد:

* بيان عناية الله بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم في نومه ويقظته.

* بيان تهيئة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لحمل الرسالة.

* تعليم الأمة هذا الأسلوب في الإعداد وتربية النشء.

* استعمال الأسلوب الأمثل في تحقيق الغايات.

* استعمال الوسائل المناسبة المادية والمعنوية.

* جواز ضرب الأمثال لبيان المراد.

* أداء الواجب على قدر الطاقة.

(1)

الآية (107) من سورة الأنبياء.

(2)

الآية (56) من سورة القصص.

(3)

البخاري حديث (6851).

ص: 60

* عموم الرسالة المحمدية لهذه الأمة، فمن أجاب دخل الجنة، ومن عصى دخل النار.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

13 -

(9) أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ

(1)

بْنُ عَلِيٍّ، ثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مَيْمُونٍ التَّمِيمِيِّ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ: " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ إِلَى الْبَطْحَاءِ وَمَعَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ فَأَقْعَدَهُ، وَخَطَّ عَلَيْهِ خَطًّا ثُمَّ قَالَ:«لَا تَبْرَحَنَّ فَإِنَّهُ سَيَنْتَهِي إِلَيْكَ رِجَالٌ فَلَا تُكَلِّمْهُمْ، فَإِنَّهُمْ لَنْ يُكَلِّمُوكَ» فَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَيْثُ أَرَادَ، ثُمَّ جَعَلُوا يَنْتَهُونَ إِلَى الْخَطِّ لَا يُجَاوِزُونَهُ، ثُمَّ يَصْدُرُونَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى إِذَا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ جَاءَ إِلَيَّ فَتَوَسَّدَ فَخِذِي، وَكَانَ إِذَا نَامَ نَفَخَ فِي النَّوْمِ نَفْخاً، فَبَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُتَوَسِّدٌ فَخِذِي رَاقِدٌ إِذْ أَتَانِي رِجَالٌ كَأَنَّهُمُ الْجِمَالُ، عَلَيْهِمْ ثِيَابٌ بِيضٌ اللَّهُ أَعْلَمُ مَا بِهِمْ مِنَ الْجَمَالِ، حَتَّى قَعَدَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ عِنْدَ رَأْسِهِ وَطَائِفَةٌ مِنْهُمْ عِنْدَ رِجْلَيْهِ، فَقَالُوا بَيْنَهُمْ: مَا رَأَيْنَا عَبْداً أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ هَذَا النَّبِيُّ، إِنَّ عَيْنَيْهِ

(2)

لَتَنَامَانِ وَإِنَّ قَلْبَهُ لَيَقْظَانُ، اضْرِبُوا لَهُ مَثَلاً: سَيِّدٌ بَنَى قَصْراً ثُمَّ جَعَلَ مَأْدُبَةً

(3)

، فَدَعَا النَّاسَ إِلَى طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ، ثُمَّ ارْتَفَعُوا وَاسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ ذَلِكَ" فَقَالَ لِي

(4)

: «أَتَدْرِي مَنْ هَؤُلَاءِ؟» قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: «هُمُ الْمَلَائِكَةُ» وَقَالَ: «هَلْ تَدْرِي مَا الْمَثَلُ الَّذِي ضَرَبُوهُ؟» "

(1)

في (ت) الحسين، وهو تصحيف.

(2)

في (ع/ ب) عيناه: وهو خطأ.

(3)

المائدة الكبيرة يوضع فيها الطعام الكثير، وهو هنا تشبيه للجنة أعدت للمتقين.

(4)

في (ك) فقال النبي.

ص: 61

قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ:«الرَّحْمَنُ بَنَى الْجَنَّةَ، فَدَعَا إِلَيْهَا عِبَادَهُ، فَمَنْ أَجَابَهُ دَخَلَ جَنَّتَهُ، وَمَنْ لَمْ يُجِبْهُ عَاقَبَهُ وَعَذَّبَهُ» "

(1)

.

رجال السند:

الحسن بن علي أبو محمد الحلواني الخلال، ثقة أُخذ عليه الوقف في القرآن، ليس له رواية عند النسائي، وحماد بن أسامة أبو أسامة القرشي الكوفي، إمام ثقة حافظ، وجعفر بن ميمون التميمي، ليس له رواية في الصحيحين، لابأس به، حدث عنه يحيى بن سعيد القطان، ولا يحدث إلا عن الثقات، وعبد الرحمن بن ملّ أبو عثمان النهدي، ثقة مخضرم لم ير النبي صلى الله عليه وسلم، من أقواله: أديت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث صدقات ولم ألقه، وغزوت على عهد

عمر، وشهدت اليرموك والقادسية وجلولاء

(2)

.

شرح:

هذا مرسل، والنهدي لم يلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد صح من طرق، منها السابق، وهو من الأحاديث الدالة على علامات نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وقد جعل الله ذلك تقوية على تصديقه صلى الله عليه وسلم، وهو في نفس الأمر تقوية لإيمان المؤمنين به صلى الله عليه وسلم، وعبد الله بن مسعود بن غافل أبو عبد الرحمن الهذلي، رضي الله عنه من السابقين الأولين، أمّره عمر على الكوفة.

(1)

رجاله ثقات، وأخرجه البحتري من طريق أخرى عن جعفر بن ميمون عن أبي تميمة عن أبي عثمان به، وكأنه من المزيد في متصل الأسانيد، التاسع من فؤائده حديث (89).

(2)

الاستيعاب 1/ 258.

ص: 62

قوله: «خرج إلى البطحاء، ومعه ابن مسعود فأقعده وخط عليه خطا، ثم قال: لا تبرحن فإنه سينتهي إليك رجال فلا تكلمهم، فإنهم لن يكلموك» . كثيرا ما كان ابن مسعود صلى الله عليه وسلم يرافق رسول الله صلى الله عليه وسلم ليكون في خدمته، ويسعد بصحبته، فخرج معه ذات يوم إلى البطحاء من أرض مكة، ولِما كان من علم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أن الملائكة تلتقي به صلى الله عليه وسلم في كثير من الأحيان، ولاسيما في بدايات الوحي، ليكون ذلك علامة على نبوته صلى الله عليه وسلم، وتقوية للمؤمنين به صلى الله عليه وسلم، احتاط في شأن صاحبه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حتى لا يحدث له خوف حينما يرى شيئا مما يحدث، فأقعده صلى الله عليه وسلم وخط عليه خطا، لعلمه أن الملائكة لا يجاوزون ذلك الخط، وقال لصاحبه: لا تترك هذا الموقع المحدد، وليزيد طمأنينة وسكينة قال له: فإنه سينتهي إليك رجال، ولم يعلمه أنهم ملائكته اكتفاء بظاهر الحال، وقد خلق الله عز وجل الملائكة وأعطاهم من العظمة والقوة ما لا يعلمه إلا هو سبحانه، ومنحهم القدرة على التشكل في صور حسنة وهيئات جميلة، ولا يتشكلون في صور قبيحة تكريما لهم، ومفارقة لما يكون عليه الجن من التشكل، وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم صاحبه أن من يأتيه من الرجال لا يكلمونه، ونهاه عن كلامهم، ثم تركه صلى الله عليه وسلم وذهب حيث أراد، فجاء الرجال الذين أخبره عنهم، وجعلوا يصلون إلى ذلك الخط الذي خطه صلى الله عليه وسلم حول صاحبه، فيقفون عنده ولا يدخلون على عبد الله رضي الله عنه في موقعه، وهذه إحدى علامات نبوته صلى الله عليه وسلم، أما الصدق والأمانة فهما أمران غير مشكوك فيهما من قَبْل النبوة، ولكن النبوة حدث جديد تحتاج إلى دلالات قوية، فكانت تلك الأحداث المتوالية عبر حياته صلى الله عليه وسلم، وكان أولئك الرجال يصلون إلى الخط ثم يعودون إلى النبي صلى الله عليه وسلم في موقعه الذي أراده، وكأن هذه حالة بحث من

ص: 63

الملائكة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستمر هذا الأمر إلى آخر الليل، عاد النبي صلى الله عليه وسلم إلى صاحبه رضي الله عنه، وكما هي عادة أصحابه في تكريمه والاحتفاء به صلى الله عليه وسلم، فتوسد فخذ صاحبه رضي الله عنه، وكان من عادة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نام نفخ، والنفخ غير الشخير، النفخ إخراج الهواء من بين الشفتين برقة وهدوء، أما الشخير فيخرج الصوت مع هواء مزعج من اللهاة أعلى الحلق.

قوله: «فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم متوسد فخذي راقد، إذ أتاني رجال كأنهم الجمال، عليهم ثياب بيض، الله أعلم ما بهم من الجمال» .

يقول ابن مسعود صلى الله عليه وسلم: في الوقت الذي كان فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم متوسدا فخذه رضي الله عنه وهو غاطّ في نومه صلى الله عليه وسلم، رأى رجالا كأنهم الجمال، والجمال جمع جمل: والمراد أنهم كبار الأجسام فيهم ضخامة تضفي عليهم هيبة وعظمة، وعليهم ثياب بيض، وأجمل اللباس البياض، وبهم من جمال الصورة وهيبتها وعظمتها شيء لا يوصف، ولذلك قال:«الله أعلم ما بهم من الجمال» وهذا من تشكل الملائكة في الصور الحسنة الجميلة.

قوله: «حتى قعد طائفة منهم عند رأسه، وطائفة منهم عند رجليه، فقالوا بينهم: ما رأينا عبدا أوتي مثل ما أوتي هذا النبي صلى الله عليه وسلم» .

ينبهنا ابن مسعود رضي الله عنه إلى أن العدد ليس قليلا، معبرا عن ذلك بقوله: قعد طائفة منهم عند رأسه، والطائفة الجماعة، فالذي جرى أن طائفتين من الملائكة حفّت بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأخذ يحدث بعضهم بعضا في أمره صلى الله عليه وسلم.

قوله: «ما رأينا عبدا أوتي مثل ما أوتي هذا النبي صلى الله عليه وسلم» .

هذه إشادة بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وشهادة من ملائكة لهم صلة بأنبياء الله ورسله، ومعرفتهم بما أنزل الله عليهم، وبما آتاهم من الفضل والخصائص، غير

ص: 64

أن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم خص بأمور لم يعطها أحد سواه، ومن ذلك: نوم عينيه وعدم نوم قلبيه.

قوله: «اضربوا له مثلا: سيد بنى قصرا، ثم جعل مأدبة

(1)

فدعا الناس إلى طعامه وشرابه».

الشرح:

تقدم بيان هذا المثل في الحديث رقم (11) وبيّن صلى الله عليه وسلم لصاحبه بعد استيقاضه بعد أن سأله عن معرفة من شاهدهم فقال: الله ورسوله أعلم، قال: هم الملائكة، وفسر لصاحبه المثل الذي ضربوه له، وتقدم بيانه في حديث سابق.

ما يستفاد:

* حسن المصاحبة، وقد تجلت في أكمل صورها بين الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه.

* عناية الرسول صلى الله عليه وسلم بأمن من يرافقه، وإيضاح ما يحقق ذلك.

* بيان مكانة النبي صلى الله عليه وسلم إذ لم يتجاوز الملائكة الخط الذي وضعه.

* السمع والطاعة إذ لم يخالف الصحابي أمر النبي صلى الله عليه وسلم.

* حب الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم وخدمته، وتهيئة ما فيه راحته.

* قدرة الملائكة عليهم السلام على التشكل.

* أنهم عليهم السلام لا يتشكلون إلا في صور جميلة.

* إمكان رؤية المسلم للملائكة.

*علامة صدق نبوته صلى الله عليه وسلم حيث وقع ما حدث به صاحبه.

(1)

المائدة الكبيرة يوضع فيها الطعام الكثير، وهو هنا تشبيه للجنة أعدت للمتقين.

ص: 65

* أنه صلى الله عليه وسلم خص بنوم العين ويقظة القلب في آن واحد.

* أنه قد يلتقيه العدد من الملائكة في وقت واحد.

* أن من آمن به يدخل الجنة.

* أن من لم يؤمن به يدخل النار.

* أن ما جاء به دعوة من الله لعبادة.

قال الدارمي رحمه الله:

3 -

‌ بابٌ كَيْفَ كَانَ أَوَّلُ شَأْنِ النبي صلى الله عليه وسلم

-

14 -

(1) أَخْبَرَنَا نُعَيْمُ بْنُ حَمَّاد، ثَنَا بَقِيَّةُ، عَنْ بَحِيرٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ

مَعْدَانَ، ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَمْرٍو السُّلَمِيُّ، عَنْ عُتْبَةَ بْنِ عَبْدٍ السُّلَمِيِّ: أَنَّهُ حَدَّثَهُمْ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ رَجُلٌ: كَيْفَ كَانَ أَوَّلُ شَأْنِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ " قَالَ: «كَانَتْ حَاضِنَتِي مِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ، فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَابْنٌ لَهَا فِي بَهْمٍ لَنَا، وَلَمْ نَأْخُذْ مَعَنَا زَاداً، فَقُلْتُ: يَا أَخِي اذْهَبْ فَأْتِنَا بِزَادٍ مِنْ عِنْدِ أُمِّنَا، فَانْطَلَقَ أَخِي وَمَكَثْتُ عِنْدَ الْبَهْمِ، فَأَقْبَلَ طَائِرَانِ أَبْيَضَانِ كَأَنَّهُمَا نَسْرَانِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: أَهُوَ هُوَ؟ قَالَ الآخَرُ: نَعَمْ. فَأَقْبَلَا يَبْتَدِرَانِي، فَأَخَذَانِي فَبَطَحَانِي لِلْقَفَا، فَشَقَّا بَطْنِي، ثُمَّ اسْتَخْرَجَا قَلْبِي فَشَقَّاهُ، فَأَخْرَجَا مِنْهُ عَلَقَتَيْنِ سَوْدَاوَيْنِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: ائْتِنِي بِمَاءِ ثَلْجٍ، فَغَسَلَ بِهِ جَوْفِي، ثُمَّ قَالَ: ائْتِنِي بِمَاءِ بَرَدٍ فَغَسَلَ بِهِ قَلْبِي، ثُمَّ قَالَ: ائْتِنِي بِالسَّكِينَةِ، فَذَرَّهُ فِي قَلْبِي، ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: حُصْهُ.

ص: 66

فَحَاصَهُ

(1)

وَخَتَمَ عَلَيْهِ بِخَاتَمِ النُّبُوَّةِ، ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: اجْعَلْهُ فِي كَفَّةٍ، وَاجْعَلْ أَلْفاً مِنْ أُمَّتِهِ فِي كَفَّةٍ». قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«فَإِذَا أَنَا أَنْظُرُ إِلَى الأَلْفِ فَوْقِي، أُشْفِقُ أَنْ يَخِرَّ عَلَيَّ بَعْضُهُمْ، فَقَالَ: " لَوْ أَنَّ أُمَّتَهُ وُزِنَتْ بِهِ لَمَالَ بِهِمْ" ثُمَّ انْطَلَقَا وَتَرَكَانِي» قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «وَفَرِقْتُ فَرَقاً شَدِيداً

(2)

، ثُمَّ انْطَلَقْتُ إِلَى أُمِّي فَأَخْبَرْتُهَا بِالَّذِي لَقِيتُ، فَأَشْفَقَتْ أَنْ يَكُونَ قَدِ الْتُبِسَ بِي، فَقَالَتْ: أُعِيذُكَ بِاللَّهِ. فَرَحَّلَتْ بَعِيراً لَهَا فَجَعَلَتْنِي عَلَى الرَّحْلِ، وَرَكِبَتْ خَلْفِي حَتَّى بَلَغْنَا إِلَى أُمِّي فَقَالَتْ: أَدَّيْتُ أَمَانَتِي وَذِمَّتِي، وَحَدَّثَتْهَا بِالَّذِي لَقِيتُ، فَلَمْ يَرُعْهَا ذَلِكَ، وَقَالَتْ: إِنِّي رَأَيْتُ حِينَ خَرَجَ مِنِّى

(3)

تَعْنِي نُوراً أَضَاءَتْ مِنْهُ قُصُورُ الشَّامِ».

رجال السند:

نعيم بن حماد بن الحارث، أبو عبد الله الخزاعي المروزي، فقيه فرضي، الصحيح أن حديثه لا يقل عن الحسن، وما أنكر عليه محدود، وبقية قوي إذا حدث عن ثقة، وصرح بالتحديث، وقد صرح بالتحديث عن بحير في حديث سابق، وصرح به في هذا عند أحمد، وبحير بن سعد أبو خالد الحمصي السحولي ثقة، وعبد الرحمن بن عمرو بن عبسة السلمي، تابعي له حديث الموعظة عن العرباض، فيما عدا الصحيحين والنسائي، صدوق إنشاء الله، وعتبة بن عبد أبو الوليد السلمي رضي الله عنه، آخر من توفي بالشام من

(1)

كتبت لحقا في (ت) قال في (النهاية 1/ 461): حاص الثوب يحوصه حوصا: إذا خاطه. وفي (ع/ أ، ف) خطه فخاطوا، وفي (ك) خُصْه. وكل ذلك صحيح.

(2)

بالتحريك: الخوف والفزع (النهاية 3/ 438).

(3)

زاد في (ع/ أ، ف) شيئا.

ص: 67

أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ممن رمى في حصن بني قريظة: رمى بثلاثة أسهم، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول يوم قريظة: «من أدخل الحصن سهما وجبت له الجنة» والرجل السائل صحابي أيضا، ولا تضر جهالته، ولا علاقة لها بالسند، وقد يكون أبا ذر رضي الله عنه، كما في الرواية التالية، وقد تحمل على تعدد الرواية عن أكثر من صحابي كما في رواية ابن إسحاق، بسنده عن خالد بن معدان، عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنهم قالوا: يا رسول الله أخبرنا عن نفسك، قال: «أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى بن مريم، ورأت أمي حين حملت بي أنه خرج منها نور أضاءت له قصور بصرى من أرض الشام، واسترضعت في بني سعد بن بكر

(1)

، فبينا أنا مع أخ لي في بهم لنا

» وذكر القصة

(2)

، وهذا يدل على تعدد الرواية في هذا الأمر.

الشرح:

هذا حديث حسن فيه دلالة على عناية الله عز وجل بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وتهيئته لمقام النبوة وختم الرسل والرسالات، ولعل هذا أول حدث له مع الملائكة، إذ كان صلى الله عليه وسلم في بني سعد من ديار ثقيف، عند مرضعته وحاضنته: أمه حليمة السعدية، وكانت حاضنته الشيماء إحدى أخواته من الرضاع، وهذا في السنة السادسة من عمره صلى الله عليه وسلم، وهذا لا يتعارض مع الرواية التالية لاحتمال تعدد الواقعة، ولاسيما أن الرواية التالية لم يذكر فيها شق البطن، وكأن هذا التكرار لتطمينه صلى الله عليه وسلم وتهدئته، ليتهيأ لما يلقى عليه من أمر النبوة، وقد وقع

(1)

أمه حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية، نسبها ابن إسحاق السيرة 1/ 25.

(2)

السيرة 1/ 25.

ص: 68

الخلاف بين العلماء في عدد شق صدره صلى الله عليه وسلم، وأرى وجاهة ما قاله الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى، قال: " إن الشق الأول كان لاستعداده لنزع العلقة، التي قيل له عندها: هذا حظ الشيطان منك، والشق الثاني: كان لاستعداده لتلقي الحاصل له في تلك الليلة

(1)

"، وقال الحافظ معللا الشق الأول: " كان في زمن الطفولة فنشأ على أكمل الأحوال من العصمة من الشيطان "، وعلل الشق الثاني: " بأنه وقع عند البعث زيادة في إكرامه، لتلقي ما يوحى إليه بقلب قوي، في أكمل الأحوال من التطهير "، وذكر الشق الثالث فقال: " ثم وقع شق الصدر عند إرادة العروج إلى السماء ليتأهب للمناجاة، ويحتمل أن تكون الحكمة في هذا الغسل لتقع المبالغة في الإسباغ بحصول المرة الثالثة كما تقرر في شرعه صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن تكون الحكمة في انفراج سقف بيته الإشارة إلى ما سيقع من شق صدره، وأنه سيلتئم بغير معالجة يتضرر بها، وجميع ما ورد من شق الصدر واستخراج القلب وغير ذلك من الأمور الخارقة للعادة مما يجب التسليم له دون التعرض لصرفه عن حقيقته لصلاحية القدرة، فلا يستحيل شيء من ذلك"، قال القرطبي في المفهم: " لا يلتفت لإنكار الشق ليلة الإسراء؛ لأن رواته ثقات مشاهير "

(2)

، والخبر سنده حسن، نعيم بن حماد الصحيح أن حديثه لا يقل عن الحسن، وما أنكر عليه محدود، وبقية قوي إذا حدث عن ثقة، وصرح بالتحديث، وقد صرح بالتحديث عن بحير في حديث سابق، وصرح به في هذا عند أحمد،

(1)

الفتح 1/ 460.

(2)

الفتح 7/ 206. بتصرف.

ص: 69

وأخرجه في عدة مواضع حديث (17648، 17151) وعن العرباض بن سارية حديث (17163) وعن أبي أمامة حديث (22261).

ما يستفاد:

* بيان عناية الله بنبينا محمد وتطمينه ليكون آمن مما يعرض له.

* بيان بشرية نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إذ كان كغيره من البشر راعيا في صغره

لصغار الغنم، وفي كبره لكبارها، وأنه كغيره من البشر يحتاج الطعام

والشراب، ولذلك أرسل أخاه لجلب الزاد.

* أسمع الله نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كلام الملكين وهما في صورة طائرين ليأمن ويأنس بهما.

* لم يسلب صلى الله عليه وسلم الحواس السمعية والبصرية أثناء أجراء الشق، ليسمع ما يقول الملكان تطمينا له صلى الله عليه وسلم وتهيئة لما يستجد مستقبلا.

* سلب صلى الله عليه وسلم الإحساس بألم الشق، ليعلم أن وراء هذه الخوارق قادرا حكيما. * أنه بعد تمام الشق عاد إلى حالته البشرية فاعتراه الخوف الشديد، فأسرع إلى أمه ليخبرها بما جرى له.

* أنه صلى الله عليه وسلم كغيره من البشر، ولمكان الاصطفاء لمقام النبوة نزعت من صدره علقت الشيطان، فلا سبيل للشيطان عليه صلى الله عليه وسلم، أما العلقة الثانية فلعلها علقة حب الدنيا، ولذلك لم يكن له صلى الله عليه وسلم حظ، بل كل حظه في الآخرة في الفردوس الأعلى.

* أنه خص صلى الله عليه وسلم بوضع السكينة في صدره صلى الله عليه وسلم.

* أنه صلى الله عليه وسلم أكمل البشر، فلو وزن بالبشر كافة لرجح بهم صلى الله عليه وسلم.

ص: 70

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

15 -

(2) أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِمْرَانَ، ثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: ثَنَا جَعْفَرُ

(1)

بْنُ عُثْمَانَ الْقُرَشِيُّ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ: " يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ عَلِمْتَ أَنَّكَ نَبِيٌّ حَتَّى اسْتَيْقَنْتَ؟ " فَقَالَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ أَتَانِي مَلَكَانِ وَأَنَا بِبَعْضِ بَطْحَاءِ مَكَّةَ، فَوَقَعَ أَحَدُهُمَا إِلَى الأَرْضِ وَكَانَ الآخَرُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: أَهُوَ هُوَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَزِنْهُ بِرَجُلٍ. فَوُزِنْتُ بِهِ فَوَزَنْتُهُ، ثُمَّ قَالَ: زِنْهُ بِعَشَرَةٍ، فَوُزِنْتُ بِهِمْ فَرَجَحْتُهُمْ، ثُمَّ قَالَ: زِنْهُ بِمِائَةٍ فَوُزِنْتُ بِهِمْ فَرَجَحْتُهُمْ، ثُمَّ قَالَ: زِنْهُ بِأَلْفٍ فَوُزِنْتُ بِهِمْ فَرَجَحْتُهُمْ، كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَنْتَثِرُونَ عَلَىَّ مِنْ خِفَّةِ الْمِيزَانِ، قَالَ فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: لَوْ وَزَنْتَهُ بِأُمَّتِهِ لَرَجَحَهَا»

(2)

.

رجال السند:

عبد الله بن عمران أبو محمد الأصبهاني، ثقة، له رواية عند البخاري في غير الصحيح، وأبو داود سليمان بن داود الطيالسي، مولى آل الزبير، حافظ متقن، له المسند المعروف، سمع البخاري من عدة شيوخ من أقران الطيالسي، فلم يخرج له في الصحيح لذلك، وجعفر بن عثمان القرشي، نسب إلى جده، واسم أبيه عبد الله، وهو معروف بجعفر الحميدي، وثقه أحمد وابن حبان، وذكره ابن عدي في الضعفاء، ولا يلتفت إلى ذلك،

(1)

هو ابن عبد الله بن عثمان، نسب إلى جده.

(2)

فيه عروة لم يسمع من أبي ذر، وأخرجه البزار (كشف الأستار، رقم 2371) وقال: لا نعلمه يروى عن أبي ذر إلا من هذا الوجه، واللالكائي (شرح أصول اعتقاد أهل السنة، رقم 1405) وانظر: القطوف رقم (12/ 14).

ص: 71

وعمر بن عروة بن الزبير، نسب إلى جده، واسم أبيه عبد الله، من صغار التابعين، له عند البخاري ومسلم حديث، وعدّه في التقريب في درجة مقبول، وعثمان بن عروة بن الزبير، إخوته سبعة: عبد الله، وهشام، ويحيى، ومحمد، وإسماعيل، وإبراهيم، وعبيد الله، ثقة من أقواله: الشكر وإن قل ثمن لكل نوال

(1)

، وعروة بن الزبير بن العوام

القرشي، أحد الفقهاء السبعة، إمام ثقة، لكنه لم يسمع من أبي ذر.

الشرح:

هذا الحديث فيه ذكر الوزن مفصلا لبيان كماله صلى الله عليه وسلم، وهو كمال خُص به صلى الله عليه وسلم من بين سائر البشر، حتى أنه يفوق كمال الأمة بأسرها، وهو مختصر رواية البزار من حديث جعفر هذا

(2)

، وقصة الوزن عند البزار بسند رجاله ثقات.

ما يستفاد:

انظر السابق.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

16 -

(3) أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ خَلِيلٍ، أَنَا عَلِىُّ بْنُ مُسْهِرٍ، أَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُنَادِيهِمْ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ»

(3)

.

(1)

تهذيب الكمال رقم 3845.

(2)

كشف الأستار 3/ 115.

(3)

مرسل، رجاله ثقات، وانظر: القطوف رقم (13/ 15).

ص: 72

رجال السند:

إسماعيل بن خليل أبو عبد الله الكوفي في الخزاز، بالخاء المعجمة والزايين المعجمتين أولاهما مشددة، قال البخاري: جاءنا نعيه سنة خمس وعشرين ومائتين، وهو من شيوخه في الصحيح، وعلي بن مسهر، القرشي، قاضي الموصل، ثقة له غرائب بعد أن أضر، والأعمش سلمان بن مهران الأسدي، ثقة مدلس، وأبو صالح ذكوان بن عبد الله السمان، ثقة.

الشرح:

هذا حديث مرسل رجاله ثقات، وهو بيان للغاية من بعثه صلى الله عليه وسلم، فالله تعالى رحيم بعباده، خلقهم لعبادته وحده لا شريك له، وتكفل بالرزق قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}

(1)

، وكان من رحمته إرسال الرسل لدعوة العباد إلى توحيده تعالى، وأن لا يعذب أحدا من خلقه إلا بعد إرسال الرسل، وبيان الحق من الباطل، وإقامة الحجة على الخلق، قال تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}

(2)

، وكان من الرحمة للناس كافة بعث نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهو رحمة لجميع الناس إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فمن آمن به من أصحاب الملل السابقة ودان بالإسلام فقد دخل في هذه الرحمة، واستحق النجاة، لأن نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء ولا نبي بعده، ودين الإسلام ناسخ لكل الأديان {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا

(1)

الآية (56) من سورة الذاريات.

(2)

الآية (15) من سورة الإسراء.

ص: 73

فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}

(1)

، ومن عصى وكفر به كاليهود والنصارى وغيرهم من الملل فليس داخلا في هذه الرحمة، فلا حق له في النجاة، لعدم قبول الحق، وقد رُوي عن ابن عباس، رضي الله عنهما: أن الله أرسل نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم رحمة لجميع العالم، مؤمنهم وكافرهم، فأما مؤمنهم فإن الله هداه به، وأدخله بالإيمان به، وبالعمل بما جاء من عند الله الجنة، وأما كافرهم فإنه دفع به عنه عاجل البلاء الذي كان ينزل بالأمم المكذّبة رسلها من قبله، ولا شك أن الله بعث نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم رحمة ونعمة للعالمين: الإنس والجن فمن قبلها وقام بشكرها دخل الجنة، ومن ردها وكفرها دخل النار، ومن الرحمة أنه لم يقع بأمته ما وقع بالأمم السابقة؛ لأن المبعوث رحمة للعالمين، سأل الله عز وجل إنظارهم وتأجيلهم، لعل أن يخرج من أصلابهم من يعبده تعالى لا يشرك به شيئًا، وقد كان ما تمنى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

ما يستفاد:

* أن الله عز وجل أرسل نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين.

* مفهوم هذا الحديث أن من قبل منهم دعوته فقد دخل في رحمة الله، ومن لم يقبل دعوته فهو المحروم من رحمة الله تعالى.

(1)

الآية (85) من سورة آل عمران.

ص: 74

قال الدارمي رحمه الله:

4 -

‌ بابٌ مَا أَكْرَمَ اللَّهُ بِهِ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم

-

مِنْ إِيمَانِ الشَّجَرِ بِهِ وَالْبَهَائِمِ وَالْجِنِّ

17 -

(1) أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ طَرِيفٍ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، ثَنَا أَبُو حَيَّانَ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: " كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ فَأَقْبَلَ أَعْرَابِيٌّ، فَلَمَّا دَنَا مِنْهُ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«أَيْنَ تُرِيدُ؟» . قَالَ: إِلَى أَهْلِي. قَالَ: «هَلْ لَكَ فِي خَيْر؟» قَالَ: وَمَا هُوَ؟، قَالَ:«تَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ» فَقَالَ: وَمَنْ يَشْهَدُ عَلَى مَا تَقُولُ؟، قَالَ: «هَذِهِ السَّلَمَةُ

(1)

» فَدَعَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهِىَ بِشَاطِئِ الْوَادِي، فَأَقْبَلَتْ تُخُدُّ الأَرْضَ خَدًّا

(2)

حَتَّى قَامَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَاسْتَشْهَدَهَا ثَلَاثاً فَشَهِدَتْ ثَلَاثاً أَنَّهُ كَمَا قَالَ، ثُمَّ رَجَعَتْ إِلَى مَنْبَتِهَا، وَرَجَعَ الأَعْرَابِيُّ إِلَى قَوْمِهِ، وَقَالَ: إِنِ اتَّبَعُونِي أَتَيْتُكَ بِهِمْ، وَإِلاَّ رَجَعْتُ فَكُنْتُ مَعَكَ "

(3)

.

(1)

واحدة السلم وهو: بفتح اللام، شجر من العضاه (النهاية 2/ 395) وهذا من المعجزات التي أيد الله بها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

(2)

خد الأرض يخدها: إذا شقها، والأخدود: شق في الأرض (الصحاح 1/ 332).

(3)

رجاله ثقات، لكن عطاء لم يسمع من ابن عمر شيئا، ولم يسمع أبو حيان من عطا، وانظر: القطوف (14/ 16).

ص: 75

رجال السند:

محمد بن طريف، صدوق، ومحمد بن فضيل بن غزوان، صدوق رمي بالتشيع، وأبو حيان يحيى بن سعيد بن حيان، ثقة، وعطاء بن يسار، ثقة فقيه هو وإخوته.

الشرح:

هذا حديث حسن وفيه ركيزة من ركائز صدق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم المعجزات التي أيده الله بها وفي هذه الرواية عدة معجزات، معجزة فهم الشجرة لنداء رسل الله صلى الله عليه وسلم، ومعجزة تحركها من مكانها في سرعة وعجل، تلبية لنداء رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمعجزة الثالثة نطقها بالشهادة بصوت سمعه الأعرابي، وهي تردد الشهادة بصدق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، والمعجزة الرابعة عودتها إلى منبتها، والمعجزة الخامسة والأخيرة عدم تضررها بالحركة وكأنها لم تغادر منيتها، كل هذا لإظهار عظمة الخالق، وتأييد النبي الرسول صلى الله عليه وسلم، والملاحظ تسليم الأعرابي فلم يدعٍ ما يبطل مشاهدته، بل آمن ووعد بدعوة قومه إلى الإيمان بنبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

ما يستفاد:

* تأييد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بكل ما يظهر صدقه فيما حكى عن ربه تعالى.

* في هذا بيان عبودية كل المخلوقات لله عز وجل.

* بيان طاعة جميع المخلوقات واستجابتها لأمر الله عز وجل عدا الإنس والجن فمن بعضهم يحصل التردد أو عدم الاستجابة مطلقا، وقد أطاعته تعالى السماوات والأرض ومن فيهن حين قال تعالى: {ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا

ص: 76

أَتَيْنَا طَائِعِينَ}

(1)

، وهذا شامل لكل ما في الأرض والسماوات من المخلوقات، إلا الإنس والجن لم يحظوا بالطاعة المطلقة، ولذلك خلق الله تعالى الجنة والنار.

* أن في هذا رد على الطبعيين الذين يزعمون أن كل ما يجري في الكون مجرد أمر طبعي، وهذا لا يقول به إلا من طبع الله على قلبه، وسمعه وبصره.

* أن المعجزات فيها تقوية للإيمان، ونصر للحق.

قال الدارمي رحمه الله:

18 -

(2) أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ

أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: " خَرَجْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ، وَكَانَ لَا يَأْتِي الْبَرَازَ حَتَّى يَتَغَيَّبَ فَلَا يُرَى، فَنَزَلْنَا بِفَلَاةٍ مِنَ الأَرْضِ لَيْسَ فِيهَا شَجَرٌ وَلَا عَلَمٌ، فَقَالَ: " يَا جَابِرُ اجْعَلْ فِي إِدَاوَتِكَ مَاءً ثُمَّ انْطَلِقْ بِنَا» قَالَ: فَانْطَلَقْنَا حَتَّى لَا نُرَى، فَإِذَا هُوَ بِشَجَرَتَيْنِ بَيْنَهُمَا أَرْبَعُ

(2)

أَذْرُعٍ، فَقَالَ: «يَا جَابِرُ انْطَلِقْ إِلَى هَذِهِ الشَّجَرَةِ فَقُلْ: يَقُلْ لَكِ

(3)

رَسُولُ اللَّهِ الْحَقِي

(4)

بِصَاحِبَتِكِ

(5)

حَتَّى أَجْلِسَ خَلْفَكُمَا» فَرَجَعَتْ إِلَيْهَا، فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَلْفَهُمَا ثُمَّ رَجَعَتَا

(1)

من الآية (11) من سورة فصلت.

(2)

في (ر، ك) أربعة، وكلا هما صحيح.

(3)

زاد في (ع/ أ، ف، و) رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(4)

في (ر) إلحق، وهو خطأ.

(5)

في (ع/ ب) بصاحبك، صححت في الهامش.

ص: 77

إِلَى مَكَانِهِمَا، فَرَكِبْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرَسُولُ اللَّهِ

(1)

بَيْنَنَا كَأَنَّمَا عَلَيْنَا الطَّيْرُ تُظِلُّنَا، فَعَرَضَتْ لَهُ امْرَأَةٌ مَعَهَا صَبِيٌّ لَهَا فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ ابْنِي هَذَا يَأْخُذُهُ الشَّيْطَانُ كُلَّ يَوْمٍ ثَلَاثَ مِرَارٍ، قَالَ: فَتَنَاوَلَ الصَّبِيَّ فَجَعَلَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُقَدَّمِ الرَّحْلِ، ثُمَّ قَالَ: «اخْسَأْ عَدُوَّ اللَّهِ أَنَا رَسُولُ اللَّهِ، اخْسَأْ

(2)

عَدُوَّ اللَّهِ أَنَا رَسُولُ اللَّهِ»

(3)

ثَلَاثاً ثُمَّ دَفَعَهُ

(4)

إِلَيْهَا

(5)

، فَلَمَّا قَضَيْنَا سَفَرَنَا مَرَرْنَا بِذَلِكَ الْمَكَانِ فَعَرَضَتْ لَنَا الْمَرْأَةُ مَعَهَا صَبِيُّهَا، وَمَعَهَا كَبْشَانِ تَسُوقُهُمَا فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اقْبَلْ مِنِّي هَدِيَّتِي، فَوَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا عَادَ إِلَيْهِ بَعْدُ.

فَقَالَ: «خُذُوا مِنْهَا وَاحِداً وَرُدُّوا عَلَيْهَا الآخَرَ» قَالَ: ثُمَّ سِرْنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَنَا كَأَنَّمَا عَلَيْنَا الطَّيْرُ تُظِلُّنَا، فَإِذَا جَمَلٌ نَادٌّ

(6)

حَتَّى إِذَا كَانَ بَيْنَ سِمَاطَيْنِ

(7)

خَرَّ سَاجِداً، فَحَبَس

(8)

رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: «عَلَىَّ النَّاسَ مَنْ صَاحِبُ الْجَمَلِ؟» فَإِذَا فِتْيَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ قَالُوا: هُوَ لَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: " فَمَا شَأْنُهُ؟» قَالُوا: اسْتَنَيْنَا عَلَيْهِ مُنْذُ عِشْرِينَ سَنَةً، وَكَانَتْ بِهِ شُحَيْمَةٌ فَأَرَدْنَا أَنْ نَنْحَرَهُ فَنُقَسِّمَهُ بَيْنَ غِلْمَانِنَا، فَانْفَلَتَ مِنَّا. قَالَ: " بِيعُونِيهِ» قَالُوا: لَا بَلْ هُوَ

(1)

ليس في (ت).

(2)

في (ت، ر/ أ، ع/ ب، ك، م) إخس، في الموضعين.

(3)

زاد في (ع/ ب) صلى الله عليه وسلم.

(4)

في هامش (م) رفعه، وكلاهما صحيح.

(5)

في (ك) إليه، وصححت في الهامش.

(6)

أي هارب.

(7)

هما من النخل، ومن الناس: الجانبان (الصحاح 1/ 611).

(8)

في (ع/ أ، ع/ ب، ف) فجلس، وكلاهما صحيح، حبس: أي توقف.

ص: 78

لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: «أَمَّا لِي فَأَحْسِنُوا إِلَيْهِ حَتَّى يَأْتِيَهُ أَجَلُهُ» قَالَ الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ ذَلِكَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَحْنُ أَحَقُّ بِالسُّجُودِ لَكَ مِنَ الْبَهَائِمِ.

قَالَ: «لَا يَنْبَغِي لِشَيْءٍ أَنْ يَسْجُدَ لِشَيْءٍ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ كَانَ النِّسَاءُ

(1)

لأَزْوَاجِهِنَّ»

(2)

.

رجال السند:

عبيد الله بن موسى بن باذام العبسي، ثقة، وإسماعيل بن عبد الملك بن

أبي الصّغير، صدوق كثير الوهم، وأبو الزبير محمد بن مسلم المكي، صدوق مدلس، وجابر بن عبد الله رضي الله عنهما.

الشرح:

قوله: " الْبَرَازَ " البَراز بالفتح اسم للفَضاء الواسع، فكنَّوا به عن قَضاء الغائط كما كَنوا عنه بالخلاء، لأنهم كانوا يتبرَّزُون في الأمكنة الخالية من الناس (النهاية).

قوله: " اسْتَنَيْنَا " أي: استعملنا سانية لسقي المزارع، وتسمّى النواضح أيضا.

وقوله: " شُحَيْمَةٌ " أي زاد شحمه (الصحاح 1/ 651).

قوله: " غِلْمَانِنَا " وهذا حديث فيه ضعف وقد تضمن أربع قضايا: الأولى تتعلق بتأييده صلى الله عليه وسلم في صدق نبوته صلى الله عليه وسلم، فقد وعى نبوته كل شيء في هذا

(1)

في (ر/ أ) يسجدن.

(2)

فيه إسماعيل بن عبد الملك بن أبي الصّغير، صدوق كثير الوهم، وأبو الزبير مدلس، وروي بالعنعنة، وله شواهد يقوى بها، وأخرجه ابن أبي شيبة حديث (11803) ومختصرا في سطر (1/ 107) وعنه أبو داود، حديث (2) وابن ماجه، حديث (1853) بطرف السجود، وصححه الألباني.

ص: 79

الكون، فالشجر، شهد بذلك، وقد تقدم في الحديث السابق جانب من هذا، والقضية الثانية، قصة الصبي، ومخاطبة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من التبسه من الجن، وأمره بالخروج، مخبرا أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يكن من الجني إلا السمع والطاعة، ولا يخلو حاله من أحد أمرين: إما أنه آمن وتاب وخرج من ذلك الصبي، وإما أنه خاف من عقاب الله له إذا لم يستجب لأمر نبيه صلى الله عليه وسلم، والقضية الثالثة، قصة الجمل الذي لجأ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطرح رأس على الأرض إجلالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرف الرسول نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أنه استجار به، فطلب من صاحبه أن يبيعه إياه، ولمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال هو لك يا رسول الله هدية من غير ثمن، فأمرهم وبالإحسان إليه حتى يأتي أجله، ولا يمسوه بسوء، والقضية الرابعة، توثيق العلاقة بين الزوجين، فكما أمر الزوج بالمحافظة على المرأة والعناية بحقوقها الخاصة والعامة، بين للمرأة مكانة الزوج منها، وأنه لو كان السجود لغير الله جائزا لأمر صلى الله عليه وسلم المرأة أن تسجد لزوجها لعظيم حقه عليها، والسجود عبادة لا يكون لغير الله سبحانه.

ما يستفاد:

* أهمية الاستتار عند قضاء الحاجة ولو كان الإنسان في فلاة من الأرض.

* التوكيد على ما تقدم من ذكر المعجزات للتدليل على صدق نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

* بيان شفقته صلى الله عليه وسلم ورحمته لا بالآدميين فحسب بل بغيرهم من مخلوقات الله. * بيان مكانة الرسول صلى الله عليه وسلم في نفوس أصحابه رضي الله عنهم، وتسابقهم إلى خدمة وتعظيمه صلى الله عليه وسلم، كما هو الحال من خدمة أنس رضي الله عنه.

ص: 80

* القدوة في الخير والعمل الصالح، فقد طلب الصحابة أن يسجدوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لما رأوا من فعل ذلك الجمل.

* تحريم السجود لغير الله عز وجل، وإنما سمى الصحابة فعل الجمل سجودا إما للمشابهة، وإما أنه سجود حقيقي لكنه جاز لكونه من غير بني آدم.

* صحة وقوع التلبس من الجن بالإنس، وقد خاطب الرسول صلى الله عليه وسلم الجني بقوله: أخرج، والخروج لا يكون إلا بعد دخول.

* جواز قبول الهدية، ورد بعضها شفقة على المهدي.

* جواز أخذ الأجرة على الرقية الشرعية، ضمنا من هذا الحديث، ونصا

من حديث البخاري أن الفاتحة رقية أخذ الصحابي عليها العطاء

(1)

.

* بيان عظيم حق الزوج على الزوجة.

قال الدارمي رحمه الله:

19 -

(3) حَدَّثَنَا يَعْلَى

(2)

ثَنَا الأَجْلَحُ، عَنِ الذَّيَّالِ بْنِ حَرْمَلَةَ، عَنْ جَابِرِ ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ

(3)

قَالَ: " أَقْبَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى دَفَعْنَا إِلَى حَائِطٍ فِي بَنِي النَّجَّارِ، فَإِذَا فِيهِ جَمَلٌ لَا يَدْخُلُ الْحَائِطَ أَحَدٌ إِلاَّ شَدَّ عَلَيْهِ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَتَاهُ فَدَعَاهُ، فَجَاءَ وَاضِعاً مِشْفَرَهُ فِي الأَرْضِ حَتَّى بَرَكَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ:

(1)

البخاري حديث (2276).

(2)

في (ع/ أ ف، و) معلّى، وكلاهما شيخ للدارمي، وهما ثقتان.

(3)

في (ع/ أ، ف، و) رضي الله عنهما.

ص: 81

«هَاتُوا خِطَاماً» فَخَطَمَهُ وَدَفَعَهُ إِلَى صَاحِبِهِ، ثُمَّ الْتَفَتَ" فَقَالَ:«مَا بَيْنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ أَحَدٌ إِلاَّ يَعْلَمُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلاَّ عَاصِيَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ»

(1)

.

رجال السند:

يعلى بن عبيد الطنافسي، مسند الكوفة، شيخ الإسلام، إمام ثقة، لينوه في سفيان بن عيينة، والأجلح، هو ابن عبد الله الكندي، الأجلح لقب وقيل: اسمه يحيى، له أحاديث صالحة، والذيال بن حرملة، سكت عنه الإمامان البخاري وأبو حاتم، وأرى أن من سكتا عنه فيحمل على الستر والصيانة، ولاسيما إذا ورد ما يشهد لروايته، وجابر بن عبد الله رضي الله عنهما.

الشرح:

هذه الرواية يشهد لها ما تقدم في الحديث السابق، وذلك لتأييده صلى الله عليه وسلم في صدق ما أخبر به صلى الله عليه وسلم من أمر الوحي والنبوة، ولذلك بين أنه ما من أحد من المخلوقات، من غير عصاة الإنس والجن إلا وقد علم بصدقه فيما أخبر به صلى الله عليه وسلم.

ما يستفاد:

* الدلالة على علم المخلوقات جميعها بنبوة رسول الله، إلا العصاة من الإنس والجن.

(1)

فيه الذيال، سكت عنه الإمامان: البخاري، وأبو حاتم (التاريخ 3/ 261، والجرح 3/ 451) وذكرة ابن حبان (الثقات 4/ 222) وأخرجه أحمد حديث (14333).

ص: 82

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

20 -

(4) أَخْبَرَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ، ثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ فَرْقَدٍ السَّبَخِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: " أنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ بابنٍ لَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ ابْنِي بِهِ جُنُونٌ، وَإِنَّهُ يَأْخُذُهُ عِنْدَ غَدَائِنَا وَعَشَائِنَا، فَيُخَبَّثُ عَلَيْنَا. فَمَسَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَدْرَهُ وَدَعَا، فَثَعَّ

(1)

ثَعَّةً، وَخَرَجَ مِنْ جَوْفِهِ مِثْلُ الْجِرْوِ الأَسْوَدِ فَسَعَى"

(2)

.

رجال السند:

الحجاح بن منهال، هو البصري، أبو محمد مظهر السنة، إمام ثقة،

وحماد بن سلمة، هو البزاز، أبو سلمة أعلم الناس بحديث البناني، إمام ثقة، وفرقد السبخي، هو الكوفي، من أفراد الدارمي، متكلم فيه، وسعيد ابن جبير، هو من سادان التابعين، إمام ثقة، استشهد على يدي الحجاج، وكان كابوس الحجاج في منامه.

الْحَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ، ثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ فَرْقَدٍ السَّبَخِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ.

الشرح:

ليس في القصة ما يستغرب صدوره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعجزاته تؤيد هذا.

(1)

أي قاء (الصحاح 1/ 155) وفي (ك) ثغّ.

(2)

فيه فرقد بن يعقوب السبخي، لين الحديث كثير الخطأ، وأخرجه أحمد (1/ 268).

ص: 83

ما يستفاد:

* جواز أن يعرض المريض نفسه أو غيره على من يثق بدينه وصلاحه، للاستشفاء بدعاء أو تطبيب.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

21 -

(5) حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ، أَنْبَأنَا يَحْيَى بْنُ أَبِى بُكَيْر

(1)

الْعَبْدِيُّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي لأَعْرِفُ حَجَراً

(2)

بِمَكَّةَ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُبْعَثَ،

إِنِّي لأَعْرِفُهُ الآنَ»

(3)

.

رجال السند:

محمد بن سعيد الأصبهاني، أبو جعفر الكوفي، من شيوخ البخاري، وهو في الصحيح

(4)

، يقال له حمدان ثقة مات سنة عشرين ومائتين، وإبراهيم ابن طهمان، ثقة، وسماك بن حرب، صدوق من أقواله: أدركت ثمانين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وكان قد ذهب بصري، فدعوت الله فرد علي بصري، وجابر بن سمرة رضي الله عنه.

(1)

في (ف) بكر مكبّرا، وهو خطأ.

(2)

في (ر/ ب) علق فوقه: قيل: إنه الحجر الأسود.

(3)

سنده حسن، سماك صدوق، وهذه الرواية ليست من حديثه عن عكرمة، وأخرجه مسلم حديث (2277).

(4)

حديث (2805، 3402).

ص: 84

الشرح:

هذا حديث حسن، فيه بيان لما كان يعرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الأمور التي فيها لفت نظر إلى أن امرا ما يعدّ له صلى الله عليه وسلم وفي ذلك طمأنة له كيما يتلقى الأحداث فيما بعد في تدرج وقبول، فكون الحجر يسلم عليه قبل أن يبعث صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك المجتمع الجاهلي، الذي تُعبد فيه أصنام مصنوعة، لا تنطق ولا تنفع ولا تضر، لا بد أن يكون من وراء ذلك شأن عظيم، فقد أنطق الله تعالى ذلك الحجر، تمييزا لمحمد وتهيئة له، فأخبر بذلك نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بعد البعثة ليعلم أصحابه والأمة كلها أنه الصادق الأمين صلوات ربي وسلامه عليه.

ما يستفاد:

* بيان المزيد من العانية الربانية بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

* أن الإعداد المبكر من أساليب التربية الصحيحة الناجحة.

* جواز التحدث بنعمة الله تعالى، وليس ذلك من قبيل مدح النفس، وإن كان حقا لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم لو مدح نفسه، فهو المصطفي المختار، سيد الأولين والآخرين، أعلم الله بنبوته ورسالته وفضله صلى الله عليه وسلم كل أحد في السماوات والأرض إلا من كتب له الشقاء من الإنس والجن.

قال الدارمي رحمه الله:

22 -

(6) حَدَّثَنَا فَرْوَةُ، ثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ أَبِى ثَوْرٍ الْهَمْدَانِيُّ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ السُّدِّيِّ، عَنْ عَبَّادِ

(1)

بْنِ أَبِي يَزِيدَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: " كُنَّا مَعَ

(1)

في (ف، و) ابن أبي يزيد، وفي (ر) بين يزيد.

ص: 85

النَّبِيّ

(1)

صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ، فَخَرَجْنَا مَعَهُ فِي بَعْضِ نَوَاحِيهَا، فَمَرَرْنَا بَيْنَ الْجِبَالِ وَالشَّجَرِ، فَلَمْ نَمُرَّ

(2)

بِشَجَرَةٍ وَلَا جَبَلٍ إِلاَّ قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ"

(3)

.

رجال السند:

فروة بن أبي المغراء معدي كرب، أبو القاسم صدوق، من شيوخ البخاري في الصحيح، والوليد بن عبد الله بن أبي ثور الهمداني ضعيف، وإسماعيل السدي، ثقة له أوهام، وهو إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي كريمة السدي، روى له مسلم، وهو صدوق، وعباد أبو يزيد، أو ابن أبي يزيد مجهول، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

الشرح:

هذه الرواية فيها ضعفاء، وقد صح سلام الحجر والشجر، وتقدم برقم 17، 18، 22.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

23 -

(7) أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، ثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ شِمْرِ ابْنِ عَطِيَّةَ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ مُزَيْنَةَ أَوْ جُهَيْنَةَ قَالَ: " صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْفَجْرَ

(1)

في (ك) رسول الله.

(2)

في (ف، و) يمر.

(3)

فيه الوليد: ضعيف، وعبّاد: مجهول، وأخرجه الترمذي حديث (3626) وقال: حسن غريب، وعند أحمد: إني لأعرف حجرا بمكة، حديث (20823، 20888) وانظر السابق.

ص: 86

فَإِذَا هُوَ بِقَرِيبٍ مِنْ مِائَةِ ذِئْبٍ قَدْ أَقْعَيْنَ

(1)

، وُفُودُ الذِّئَابِ" فَقَالَ

(2)

رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «تَرْضَخُوا

(3)

لَهُمْ شَيْئاً مِنْ طَعَامِكُمْ وَتَأْمَنُونَ عَلَى مَا سِوَى ذَلِكَ» فَشَكَوْا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْحَاجَةَ قَالَ: «آذِنُوهُنَّ»

(4)

قَالَ: فَآذَنُوهُنَّ فَخَرَجْنَ وَلَهُنَّ عُوَاءٌ"

(5)

.

رجال السند:

محمد بن يوسف، ثقة، وسفيان بن سعيد الثوري، ثقة، والأعمش سليمان ابن مهران الأسدي، شمر بن عطية، كان ثقة له أحاديث صالحة.

الشرح:

هذه الروية فيها انقطاع، وهي تحكي معجزات ثلاث:

الأولى: معرفة الذئاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، الثانية: فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مراد الذئاب، وأنها تطلب أن تعطى شيئا من الطعام، ويأمن الناس اعتداءها.

الثالثة: فهم الذئاب اعتذار الصحابة، عن شيء يقدمونه لها، وانصرفت ولها عواء، وعلى فرض عدم صحة القصة لكنها ممكنة الوقوع؛ لأنه صح

(1)

الإقعاء: الجلوس على الرجلين، ناصبا اليدين (الصحاح 2/ 329).

(2)

زاد في (ع/ ب) لهم.

(3)

في (ف) ترضخوا، وهو خطأ، والمراد إعطاءهم شيئا من الطعام، والرضخ: العطاء ليس بالكثير (الصحاح 1/ 487).

(4)

في (ع/ أ، ف، و) فآذنوهن؟، وكلاهما صحيح، والمراد أخبروهم بشكواكم.

(5)

في هامش عوي (م) والعكس في (ت).

سنده منقطع إذ أن شمر من الطبقة السادسة، وهم الذين لم يدركوا أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانظر: القطوف رقم (15/ 22).

ص: 87

من المعجزات ما يؤيدها من جنسها، كما في قصة الجملين، ومن غير جنسها كما في قصة الحجر والشجر.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

24 -

(8) أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَنْبَأَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، ثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ:" جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ جَالِسٌ حَزِينٌ، وَقَدْ تَخَضَّبَ بِالدَّمِ مِنْ فِعْلِ أَهْلِ مَكَّةَ مِنْ قُرَيْشٍ، فَقَالَ جِبْرِيلُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ تُحِبُّ أَنْ أُرِيَكَ آيَةً؟ قَالَ: " نَعَمْ». فَنَظَرَ إِلَى شَجَرَةٍ مِنْ وَرَائِهِ فَقَالَ: ادْعُ بِهَا. فَدَعَا بِهَا فَجَاءَتْ فَقَامَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: مُرْهَا فَلْتَرْجِعْ. فَأَمَرَهَا فَرَجَعَتْ

(1)

، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«حَسْبِي حَسْبِي»

(2)

.

رجال السند:

إسحاق بن إبراهيم، بن راهويه ثقة إمام حافظ تقدم، وأبو معاوية، هومحمد ابن خازم السعدي، لزم الأعمش عشرين سنة، وهو من أثبت الناس فيه، ثقة، والأعمش، سليمان، وأبو سفيان، هو طلحة بن نافع الواسطي، من صغار التابعين لابأس به، وأنس بن مالك رضي الله عنه.

(1)

زاد في (ك) إليه، وهو خطأ.

(2)

سنده حسن، والأعمش لم يسمع رواية أبي سفيان طلحة بن نافع القرشي، كما قال المزي: في التهذيب (12/ 439) وقد ذكر محقق تهذيب الكمال ما نقله مغلطائي عن البزار قوله: لم يسمع يعني الأعمش من أبي سفيان طلحة شيئا، وقد روى عنه نحوا مائة حديث، وإنما هي صحيفة عرضت، وإنما يثبت يعني الأعمش من حديثه يعني أبا سفيان ما لا يحفظه من غيره، لهذه العلة (تهذيب الكمال 12/ 79) أخرجه ابن ماجة حديث (4028) وصححه الألباني.

ص: 88

الشرح:

هذه الرواية فيها عدم سماع الأعمش من أبي سفيان، وسبق شهادة الشجرة على صدقه صلى الله عليه وسلم حديث (16) واستجابة الشجرتين لندائه صلى الله عليه وسلم حديث (17) ولا غرابة في وقوع مثل هذا تأييدا لرسول الله نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

أما قوله صلى الله عليه وسلم: «حسبي حسبي» أي: يكفيني ما رأيت من تأييد ربي لي، وتصديقي بالمعجزات الخارقة للعادة.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

25 -

(9) أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَنْبَأَنَا جَرِيرٌ وَأَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِى ظَبْيَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ:" أَتَى رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَامِرٍ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَلَا أُرِيكَ آيَةً؟» قَالَ: بَلَى. قَالَ: " فَاذْهَبْ فَادْعُ تِلْكَ النَّخْلَةَ» فَدَعَاهَا فَجَاءَتْ تَنْقُزُ

(1)

بَيْنَ يَدَيْهِ. فَقَالَ: قُلْ لَهَا تَرْجِعْ. قَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «ارْجِعِي» فَرَجَعَتْ حَتَّى عَاَدَتْ إِلَى مَكَانِهَا، فَقَالَ: يَا بَنِي عَامِرٍ مَا رَأَيْتُ رَجُلاً كَالْيَوْمِ أَسْحَرَ مِنْهُ

(2)

.

رجال السند:

إسحاق بن إبراهيم، بن راهويه ثقة إمام حافظ، وجرير، هو ابن عبد الحميد الضبي، أبو عبد الله الكوفي، إمام ثقة صحيح الكتاب، وأبو معاوية، هو محمد بن خازم السعدي، لزم الأعمش عشرين سنة، وهو من أثبت الناس فيه،

(1)

من قولهم: نقز الظبي: إذا قفز ووثب (الصحاح 2/ 601).

(2)

رجاله ثقات، وأخرجه أحمد حديث (1954) وزاد" فقال: يا رسول الله، أرني الخاتم الذي بين كتفيك، فإ ني من أطب الناس" والترمذي بنحوه حديث (3628) وقال: حسن غريب صحيح.

ص: 89

ثقة تقدم، الأعمش، هو سليمان بن مهران، إمام ثقة، أبي ظبيان، هو حصين بن جندب الجنبي، ثقة صدوق، شارك في غزو القسطنطينية في جيش يزيد سنة خمسين من الهجرة، ابن عباس رضي الله عنهما.

الشرح:

انظر السابق وهذه الرواية قوية السند، وهي تقوي ما سبق من الروايات.

ما يستفاد:

* إضافة إلى ما تقدم في الروايات المماثلة، بيان حلم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ورفقه

بأمته.

* جواز استخدام أقصى ما يمكن من الدلائل والبراهين لبيان الحق.

* بيان عناد كفار قريش ومحاولتهم تكذيبه صلى الله عليه وسلم.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

5 -

‌ بابٌ مَا أُكْرِمَ النبي صلى الله عليه وسلم مِنْ تَفْجِيرِ الْمَاءِ مِنْ

(1)

بَيْنِ أَصَابِعِهِ

26 -

(1) أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، ثَنَا شُعَيْبُ بْنُ صَفْوَانَ، عَنْ عَطَاءِ ابْنِ السَّائِبِ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: " دَعَا النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بِلَالاً رضي الله عنه فَطَلَبَ بِلَالٌ الْمَاءَ، ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ مَا وَجَدْتُ الْمَاءَ.

(1)

زاد في (ر/ ب، ع، ف، و) بين، وكل ذلك يصح.

ص: 90

فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «فَهَلْ مِنْ شَنٍّ؟ " فَأَتَاهُ بِشَنٍّ

(1)

فَبَسَطَ كَفَّيْهِ فِيهِ، فَانْبَعَثَ

(2)

تَحْتَ يَدَيْهِ عَيْنٌ قَالَ: فَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَشْرَبُ وَغَيْرُهُ يَتَوَضَّأُ "

(3)

.

رجال السند:

إسماعيل بن إبراهيم، نزل بغداد، وتوفي في المحرم سنة ست وثلاثين ومائتين، وهو أبو إبراهيم الترجماني قال ابن شاهين: ليس بهبأس، وشعيب ابن صفوان بن الربيع بن الركين الثقفي، أبو يحيى الكوفي، كاتب عَبد اللَّهِ ابْن شبرمة القاضي، كان فِي الديوان ببغداد، ثقة روى له مسلم في الصحيح

(4)

، وعطاء بن السائب، هو أبو محمد، ويقال: أبو السائب، الثقفي الكوفي، صدوق اختلط، وأبو الضحى، هو مسلم بن صبيح، بالتصغير، الهمداني أبو الضحى، الكوفي، العطار، مشهور بكنيته ثقة، وابن عباس رضي الله عنهما.

الشرح:

هذه الرواية سندها حسن، وفيها ذكر معجزة أخرى لسيد الأنبياء، وبني آدم أجمعين صلى الله عليه وسلم.

(1)

القربة الخلق (القديمة) والجمع شنان (الصحاح 1/ 689).

(2)

في (ت، ر) فانبعث، كلاهما صحيح، من النبع، والانبعاث.

(3)

فيه شعيب بن صفوان أبو يحي الكوفي، مقبول، وقد توبع فيه، أخرجه أحمد (1/ 251 - 324) وفيه ضعف.

(4)

حديث (927، 2935).

ص: 91

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

27 -

(2) أَخْبَرَنَا أَبُو النُّعْمَانَ، ثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ نُبَيْحٍ الْعَنَزِيِّ قَالَ: قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: " غَزَوْنَا أَوْ سَافَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ يَوْمَئِذٍ بِضْعَةَ عَشَرَ

(1)

وَمِائَتَانِ، فَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «هَلْ فِي الْقَوْمِ مِنْ طَهُور؟ " فَجَاءَ رَجُلٌ يَسْعَى بِإِدَاوَةٍ

(2)

فِيهَا شَيْءٌ مِنْ مَاءٍ، لَيْسَ فِي الْقَوْمِ مَاءٌ غَيْرُهُ، فَصَبَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي قَدَحٍ، ثُمَّ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ انْصَرَفَ وَتَرَكَ الْقَدَحَ، فَرَكِبَ النَّاسُ ذَلِكَ الْقَدَحَ وَقَالُوا: تَمَسَّحُوا تَمَسَّحُوا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«عَلَى رِسْلِكُمْ» حِينَ سَمِعَهُمْ يَقُولُونَ ذَلِكَ، فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَفَّهُ فِي الْمَاءِ وَالْقَدَحِ، وَقَالَ:«بِسْمِ اللَّهِ» ثُمَّ قَالَ: «أَسْبِغُوا الطُّهُورَ»

(3)

، فَوَ الَّذِي هُوَ ابْتَلَانِي بِبَصَرِي

(4)

، لَقَدْ رَأَيْتُ الْعُيُونَ: عُيُونَ الْمَاءِ تَخْرُجُ

(5)

مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ، فَلَمْ يَرْفَعْهَا حَتَّى تَوَضَّئُوا أَجْمَعُونَ"

(6)

.

(1)

زاد في (ت) رجلا.

(2)

القربة الصغيرة، قال في (الصحاح 1/ 14): المطهرة، والجمع الأداوى.

(3)

في (ر/ أ) الوضوء، وذكرهما في (و) الوضوء الطهور.

(4)

في (ر/ أ) الوضوء، وذكرهما في (و) الوضوء الطهور.

(5)

في (ف، و) فخرج، وهو خطأ، وفي (م) يخرج.

(6)

فيه نبيح بن عبد الله العنزي، مقبول، وأخرجه أحمد حديث (14114) وشاهده عند البخاري من حديث أنس، حديث (195، وطرفه 169).

ص: 92

رجال السند:

أبو النعمان، محمد بن الفضل الملقب بعارم، إمام ثقة، وأبو عوانة، الوضاح بن عبد الله اليشكري، إمام ثقة، والأسود بن قيس الكوفي، تابعي ثقة، ونبيح أبو عمرو العنزي، لابأس به.

الشرح: انظر السابق.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

28 -

(3) أَخْبَرَنَا أَبُو الْوَلِيدِ الطَّيَالِسِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ الرَّبِيعِ قَالَا: ثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، وَحُصَيْنٍ سَمِعَا سَالِمَ بْنَ أَبِي الْجَعْدِ يَقُولُ: سَمِعْتُ جَابِرَ ابْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: " أَصَابَنَا عَطَشٌ فَجَهَشْنَا، فَانْتَهَيْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَوَضَعَ يَدَهُ فِي تَوْرٍ

(1)

، فَجَعَلَ يَفُورُ كَأَنَّهُ عُيُونٌ مِنْ خَلَلِ أَصَابِعِهِ، وَقَالَ:«اذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ» . فَشَرِبْنَا حَتَّى وَسِعَنَا وَكَفَانَا "

(2)

.

وَفي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ فَقُلْنَا لِجَابِرٍ: كَمْ كُنْتُمْ؟ قَالَ: كُنَّا أَلْفاً وَخَمْسَمِائَةٍ، وَلَوْ كُنَّا مِائَةَ أَلْفٍ لَكَفَانَا.

رجال السند:

أبو الوليد الطيالسي، هو هشام بن عبد الملك الباهلي، إمام ثقة فقيه، وسعيد بن الربيع هو الحرشي، أبو زيد الهروي ثقة من قدماء شيوخ البخاري، شيخ لم يسمع منه الإمام أحمد، وهذان شيخان للدارمي قرن السماع منهما، وشعبة بن الحجاج، هو العتكي مولاهم، أبو عبد الله الكوفي، إمام ثقة،

(1)

التور من (الطين) إناء يشرب فيه (الصحاح 1/ 147).

(2)

رجاله ثقات، وأخرجه البخاري حديث (3576).

ص: 93

وعمرو بن مرة، هو أبو عبد الله الكوفي، ثقة إمام يتقي في الرواية، ولذلك سلم من التدليس، وحصين بن عبد الرحمن أبو الهذيل السلمي، إمام ثقة، وسالم بن أبي الجعد الكوفي، ثقة دلس الرواية عن عمر وعلي رضي الله عنهما.

الشرح: انظر التالي.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

29 -

(4) أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الرَّقَاشِىُّ، ثَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا الْجَعْدُ أَبُو عُثْمَانَ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه، حَدَّثَنَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: " شَكَا أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْعَطَشَ، فَدَعَا بِعُسٍّ

(1)

فَصُبَّ فِيهِ مَاءٌ، وَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ فِيهِ، قَالَ: فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ إِلَى الْمَاءِ يَتنْبُعُ

(2)

عُيُوناً مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالنَّاسُ يَسْتَقُونَ حَتَّى اسْتَقَى النَّاسُ كُلُّهُمْ "

(3)

.

رجال السند:

محمد بن عبد الله الرقاشي، أبو عبد الله البصري، إمام ثقة، وجعفر بن سليمان الضبعي، صحب كثيرا عبد الرزاق صاحب المصنف، فيه تشيع، والجعد اليشكري كان يتجر في الحلي، إمام ثقة.

الشرح: انظر التالي.

(1)

العس إناء من الخشب، قال في (الصحاح 2/ 112): القدح العظيم. يعني الكبير.

(2)

في (ر/ ب، ف، و، ع/ ب) ينبع، وكلاهما يصح.

(3)

رجاله ثقات، وأخرجه أحمد (3/ 343).

ص: 94

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

30 -

(5) أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: " سَمِعَ عَبْدُ اللَّهِ

(1)

رضي الله عنه بِخَسْفٍ فَقَالَ: كُنَّا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم نَعُدُّ الآيَاتِ بَرَكَةً، وَأَنْتُمْ تَعُدُّونَهَا تَخْوِيفاً، إِنَّا بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَيْسَ مَعَنَا مَاءٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«اطْلُبُوا مَنْ مَعَهُ فَضْلُ مَاءٍ» فَأُتِيَ بِمَاءٍ فَصَبَّهُ فِي الإِنَاءِ، ثُمَّ وَضَعَ كَفَّهُ فِيهِ، فَجَعَلَ الْمَاءُ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ، ثُمَّ قَالَ:«حَيَّ عَلَى الطَّهُورِ الْمُبَارَكِ، وَالْبَرَكَةُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى» فَشَرِبْنَا.

قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: وَكُنَّا نَسْمَعُ تَسْبِيحَ الطَّعَامِ وَهُوَ يُؤْكَلُ

(2)

.

رجال السند:

عبيد الله بن موسى تقدم قريبا، إسرائيل بن يونس بن إسحاق السبيعي،

إمام ثقة أتقن حديث جده، ومنصور بن المعتمر الكوفي، إمام ثقة، أحد رجال أصح الأسانيد، سفيان بن عيينة، عن منصور بن المعتمر، عن إبراهيم النخعي، عن علقمة"، وإبراهيم بن يزيد النخعي، يماني من فقهاء العراق، إمام ثقة، مات مختفيا من الحجاج، دلس الرواية عن بعض الصحابة، وعلقمة بن قيس النخعي الكوفي، إمام ثقة، عبدالله بن مسعود رضي الله عنه.

(1)

هو ابن مسعود.

(2)

رجاله ثقات، وأخرجه البخاري حديث (3579).

ص: 95

الشرح: انظر التالي.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

31 -

(6) أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، ثَنَا أَبُو الْجَوَّابِ، عَنْ عَمَّارِ ابْنِ رُزَيْقٍ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ

(1)

عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه، قَالَ: " زُلْزِلَتِ الأَرْضُ عَلَى عَهْدِ عَبْدِ اللَّهِ، فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ فَقَالَ: إِنَّا كُنَّا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم نَرَى الآيَات بَرَكَاتٍ، وَأَنْتُمْ تَرَوْنَهَا تَخْوِيفاً، بَيْنَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ إِذْ حَضَرَتِ الصَّلَاةُ وَلَيْسَ مَعَنَا مَاءٌ إِلاَّ يَسِيرٌ

(2)

، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَاءٍ فِي صَحْفَةٍ

(3)

، وَوَضَعَ كَفَّهُ فِيهِ، فَجَعَلَ الْمَاءُ يَنْبَجِسُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ، ثُمَّ نَادَى:«حَيَّ عَلَى الْوَضُوءِ، وَالْبَرَكَةُ مِنَ اللَّهِ» فَأَقْبَلَ النَّاسُ فَتَوَضَّئُوا وَجَعَلْتُ لَا هَمَّ ليِ

(4)

إِلاَّ مَا أُدْخِلُهُ بَطْنِي لِقَوْلِهِ: «وَالْبَرَكَةُ مِنَ اللَّهِ» فَحَدَّثْتُ بِهِ سَالِمَ بْنَ

(5)

أَبِي الْجَعْدِ فَقَالَ: كَانُوا خَمْسَ عَشَرَةَ "

(6)

.

رجال السند: محمد بن عبد الله بن نمير، أبو عبد الرحمن الهمداني، إمام ثقة، وأبو الجواب الأحوص بن الجواب الضبي، ثقة من رجال مسلم، وعمار بن رزيق الكوفي إمام ثقة، وتقدم الباقون وهم ثقات.

(1)

في (ت) بن، وهو خطأ.

(2)

في (ع/ أ، ف، و) يسيرا، هو خطأ.

(3)

إناء من الخشب يوضع فيه الطعام، قال في الصحاح (2/ 706): طبق يطاف على الآكلين. والصواب أن يقول: يوضع بين يدي الآكلين.

(4)

ليس في (ف، و) لي، وكلاهما صحيح.

(5)

ليس في (ف) بن.

(6)

سنده حسن، وأخرجه أحمد حديث (3762) والنسائي حديث (77) وانظر (رقم 27).

ص: 96

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

6 -

‌ بابٌ مَا أُكْرِمَ النبي صلى الله عليه وسلم بِحَنِينِ

(1)

الْمِنْبَرِ

32 -

(1) أَخْبَرَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ، أَنَا مُعَاذُ بْنُ الْعَلَاءِ، عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما:" أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَخْطُبُ إِلَى جِذْعٍ، فَلَمَّا اتَّخَذَ الْمِنْبَرَ حَنَّ الْجِذْعُ حَتَّى أَتَاهُ، فَمَسَحَهُ"

(2)

.

رجال السند:

عثمان بن عمر بن فارس، ثقة، ومعاذ بن العلا، هو أبو غسان البصري، قيل ليس له من المسند سوى هذا الحديث، نافع مولى ابن عمر.

الشرح:

هذا مما كرم الله عز وجل به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهو غيض من فيض، إذ لم يعط الله جل جلاله نبيا ما أعطاه صلى الله عليه وسلم، فحن الجذع، حتى سمع الناس صوته، وهو جماد، وقد صح وعلم، وله أحوال وردت في روايات صحيحة.

ما يستفاد:

* تعد الحالات التي أكرم الله جل جلاله بها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

* فيه هذا دلالة على علم الجماد بنوبته صلى الله عليه وسلم.

* بيان رحمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وشمولها للأمة وغيرها.

(1)

في (ع/ أ، و) من حنين، وفي (من) حنين.

(2)

رجاله ثقات، وأخرجه البخاري حديث (3583) والترمذي حديث (505) وقال: حسن غريب صحيح.

ص: 97

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

33 -

(2) أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ، ثَنَا تَمِيمُ بْنُ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ، ثَنَا صَالِحُ ابْنُ حَيَّانَ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه قَالَ: " كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا خَطَبَ قَامَ فَأَطَالَ الْقِيَامَ، فَكَانَ يَشُقُّ عَلَيْهِ قِيَامُهُ، فَأُتِيَ بِجِذْعِ نَخْلَةٍ، فَحُفِرَ لَهُ وَأُقِيمَ إِلَى جَنْبِهِ قَائِماً لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا خَطَبَ فَطَالَ الْقِيَامُ عَلَيْهِ وَغَلَبَهُ اسْتَنَدَ إِلَيْهِ فَاتَّكَأَ عَلَيْهِ، فَبَصُرَ بِهِ رَجُلٌ كَانَ وَرَدَ الْمَدِينَةَ، فَرَآهُ

(1)

قَائِماً إِلَى جَنْبِ ذَلِكَ الْجِذْعِ، فَقَالَ لِمَنْ يَلِيهِ مِنَ النَّاسِ: لَوْ أَعْلَمُ أَنَّ مُحَمَّداً يَحْمَدُنِي فِي شَيْءٍ يَرْفُقُ بِهِ لَصَنَعْتُ لَهُ مَجْلِساً يَقُومُ عَلَيْهِ، فَإِنْ شَاءَ جَلَسَ مَا شَاءَ

(2)

، وَإِنْ شَاءَ قَامَ. فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:«ائْتُونِي بِهِ» فَأَتَوْهُ بِهِ فَأُمِرَ أَنْ يَصْنَعَ لَهُ

(3)

هَذِهِ الْمَرَاقيِ الثَّلَاثَ - أَوِ الأَرْبَعَ - هِيَ الآنَ فِي مِنْبَرِ الْمَدِينَةِ، فَوَجَدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ رَاحَةً، فَلَمَّا فَارَقَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم الْجِذْعَ، وَعَمَدَ إِلَى هَذِهِ الَّتِي صُنِعَتْ لَهُ جَزِعَ الْجِذْعُ، فَحَنَّ كَمَا تَحِنُّ النَّاقَةُ، حِينَ فَارَقَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَزَعَمَ ابْنُ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم حِينَ سَمِعَ حَنِينَ الْجِذْعِ رَجَعَ إِلَيْهِ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ وَقَالَ:«اخْتَرْ أَنْ أَغْرِسَكَ فِي الْمَكَانِ الَّذِي كُنْتَ فِيهِ، فَتَكُونَ كَمَا كُنْتَ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ أَغْرِسَكَ فِي الْجَنَّةِ فَتَشْرَبَ مِنْ أَنْهَارِهَا وَعُيُونِهَا فَيَحْسُنَ نَبْتُكَ وَتُثْمِرَ، فَيَأْكُلَ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ مِنْ ثَمَرَتِكَ وَنَخْلِكَ فَعَلْتُ» فَزَعَمَ أَنَّهُ سَمِعَ مِنَ

(1)

ليس في (ف، و) فرآه.

(2)

ليس في (ر) ما شاء.

(3)

ليس في (ف، و) له.

ص: 98

النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَقُولُ لَهُ: " نَعَمْ قَدْ فَعَلْتُ» مَرَّتَيْنِ، فَسُئِلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم " فَقَالَ: «اخْتَارَ أَنْ أَغْرِسَهُ في الْجَنَّةِ

(1)

».

رجال السند:

محمد بن حميد، أبو عبد الله الرازي، وثقه يحيى بن معين، وتكلم فيه آخرون، وتميم بن عبد المؤمن، أبو حازم التميمي، سكت عنه الإمامان البخاري وأبو حاتم، ووثقه ابن حبان فيقبل منه على البراءة، وصالح بن حيان القرشي ضعيف، وابن بريدة، هو عبد الله أبو سهل الأسلمي ثقة قاضي مرو، إمام ثقة روى له الستة، وأبوه بريدة بن الحصيب رضي الله عنه.

الشرح:

قوله: «فبصر به رجل» سيأتي في الروايات اللاحقة أن الجذع رمي. قوله: «فزعم بريدة» فيه إيحاء بعدم ثبوت ذلك من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولاسيما ومحمد بن حميد متكلم فيه، وصالح بن حيان ضعيف، فقوي احتمال عدم الثبوت، وإن كان بالنظر إلى الإعجاز فإنه ممكن قول ذلك والحمل على الضعف أولى، لذلك ابن كثير رحمه الله لما ذكر أنه خيره بين الدنيا والآخرة فاختار الجذع الآخرة وغار حتى ذهب فلم يعرف، قال: هذا حديث غريب إسنادا ومتنا

(2)

.

ما يستفاد:

* جواز اتخاذ المنابر في المساجد.

(1)

ت: وفيه محمد، وصالح: ضعيفان، وتميم سكت عنه أبو حاتم، وذكره ابن حبان في الثقات (الجرج 2/ 444، والثقات 8/ 156).

(2)

البداية والنهاية 6/ 131.

ص: 99

* أن السنة فيها عدم الزيادة على الدرجات المذكورة إلا لحاجة.

* جواز عرض الإنسان مهنته على الآخرين، ولاسيما عند الحاجة إليها.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

34 -

(3) أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُّ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ كَثِيرٍ، عَنِ الزُّهْرِي، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِي قَالَ:" كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُومُ إِلَى جِذْعٍ قَبْلَ أَنْ يُجْعَلَ الْمِنْبَرُ، فَلَمَّا جُعِلَ الْمِنْبَرُ حَنَّ ذَلِكَ الْجِذْعُ حَتَّى سَمِعْنَا حَنِينَهُ، فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ عَلَيْهِ فَسَكَنَ"

(1)

.

رجال السند:

محمد بن كثير العبدي، أبو عبد الله البصري، إمام ثقة، وهو الذي وهم فيه الأخ أحمد سعد حمدان رحمه حين وضعف رواية اللالكائي

(2)

، وليس

الراوي من الضعفاء المسمى كل منهم محمد بن كثير، وسليمان بن كثير العبدي، أخو محمد، صدوق، ضعفوا روايته عن الزهري خاصة، والزهري محمد بن مسلم إمام ثقة، سعيد بن المسيب، تابعي إمام.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

35 -

(4) أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: " كَانَ النبي صلى الله عليه وسلم

(1)

فيه سليمان بن كثير العبدي، ضعيف في الزهري، وهذا من حديثه عنه، وتابعه معمر، أخرجه عبد الرزاق حديث (5253).

والخبر صحيح تقدم تخريجه أنظر رقم (31).

(2)

أصول الاعتقاد 4/ 801.

ص: 100

يَخْطُبُ إِلَى خَشَبَةٍ، فَلَمَّا صُنِعَ الْمِنْبَرُ فَجَلَسَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَنَّتْ حَنِينَ الْعِشَارِ

(1)

، حَتَّى وَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ عَلَيْهَا فَسَكَنَتْ"

(2)

.

رجال السند:

محمد بن كثير، ثقة تقدم، سليمان بن كثير، صدوق تقدم، وليس هو ابن بلال كما وهم ابن حجر رحمه الله

(3)

، ويحيى بن سعيد الأنصاري، أبو سعيد إمام ثقة، وحفص بن عبيد الله بن أنس، ثقة، ذكروا أنه لم يتصل من حديثه عن الصحابة إلا ما كان عن جده، وحديثه هذا عن جابر يرد ذلك، وهو في البخاري.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

36 -

(5) أَخْبَرَنَا فَرْوَةُ، ثَنَا يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي كَرِبٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ:" حَنَّتِ الْخَشَبَةُ حَنِينَ النَّاقَةِ الْخَلُوجِ "

(4)

.

(1)

مفردها عشراء: الناقة التي أتت عليها من يوم أرسل فيها الفحل عشرة أشهر، وزال عنها اسم المخاض (الصحاح 2/ 115).

(2)

زالت علة سليمان بروايته الحديث عن غير الزهري، وهو لابأس به فيما سواه، انظر رقم (31) وأخرجه البخاري حديث (918) غير أنه قال: أخبرني ابن أنس: أنه سمع جابر، ولا مشكلة فهو: حفص بن عبيد الله بن أنس بن مالك، كما في رواية البخاري حديث (3585).

(3)

فتح الباري لابن حجر 2/ 400.

(4)

رجاله ثقات، وانظر: السابق (ورقم 31) والخلوج: الناقة التي انتزع منها ولدها (النهاية 2/ 60).

ص: 101

رجال السند:

فروة بن أبي المغراء الكندي، صدوق تقدم، ويحيى بن زكريا بن أبي زائدة، ثقة صاحب سنة، وأبوه زكريا بن أبي زائدة، ثقة أدرك بعض الصحابة ولم يرو عنهم، وأبو إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، إمام ثقة، وسعيد بن أبي كرب

(1)

الهمداني، لابأس به.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

37 -

(6) أَخْبَرَنَا زَكَرِيَّا بْنُ عَدِىٍّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ، عَنِ الطُّفَيْلِ بْنِ أُبَىِّ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه قَالَ: " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي إِلَى جِذْعٍ وَيَخْطُبُ إِلَيْهِ إِذْ كَانَ الْمَسْجِدُ عَرِيشاً، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: أَلَا نَجْعَلُ لَكَ عَرِيشاً تَقُومُ عَلَيْهِ يَرَاكَ النَّاسُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَنسْمَعُ

(2)

مِنْ خُطْبَتِكَ. قَالَ: «نَعَمْ» فَصَنَعَ لَهُ الثَّلَاثَ دَرَجَاتٍ: هُنَّ اللَّوَاتِي عَلَى الْمِنْبَرِ، فَلَمَّا صُنِعَ الْمِنْبَرُ وَوُضِعَ فِي مَوْضِعِهِ الَّذِى وَضَعَهُ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: فَلَمَّا جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُرِيدُ الْمِنْبَرَ مَرَّ عَلَيْهِ، فَلَمَّا جَاوَزَهُ خَارَ

(3)

الْجِذْعُ حَتَّى تَصَدَّعَ وَانْشَقَّ، فَرَجَعَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَمَسَحَهُ بِيَدِهِ حَتَّى سَكَنَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْمِنْبَرِ، قَالَ: فَكَانَ إِذَا صَلَّى صَلَّى إِلَيْهِ، فَلَمَّا هُدِمَ

(1)

في (ر) زكريا، وهو خطأ.

(2)

في (ف، و) ويسمعون، وفي (ع/ أ) يسمعنّ.

(3)

الخوار: صوت البقر، أي أطلق صوتا مشبها بخوار الثور، وهو كذلك في الرواية التالية برقم (42).

ص: 102

الْمَسْجِدُ أَخَذَ ذَلِكَ الْجِذْعَ أُبَىُّ بْنُ كَعْبٍ، فَلَمْ يَزَلْ عِنْدَهُ حَتَّى بَلِيَ، فَأَكَلَتْهُ الأَرَضَةُ وَعَادَ رُفَاتاً "

(1)

.

رجال السند:

زكريا بن عدي، أبو يحيى الكوفي، إمام ثقة، وعبيد الله بن عمرو، هو أبو وهب الرقي، إمام ثقة، وعبد الله بن محمد بن عقيل، أبو سعيد المدني، إمام ثقة، والطفيل بن أبي ابن كعب، تابعي ثقة، وأبوه أبي بن كعب رضي الله عنه.

الشرح:

قوله: «أخذ ذلك الجذع أبي بن كعب رضي الله عنه، فلم يزل عنده حتى بلي وأكلته الأرضة، وعاد رفاتا» .

في الرواية التالية: «فأمر به أن يحفر له ويدفن» .

ولا تعارض بين الروايتين، فيكون الأمر بالدفن قبل هدم المسجد وتجديده، قال ابن حجر رحمه الله: لاحتمال أن يكون ظهر بعد الهدم عند التنظيف فأخذه أبي بن كعب

(2)

.

قوله: «أكلته الأرضة» هي حشرة آفة في الخشب، ذكر الله عز وجل فعلها في عصاة سليمان عليه السلام فقال عز وجل:{مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ}

(3)

.

(1)

سنده حسن، وأخرجه أحمد تقدم برقم (33) وابن ماجة حديث (1414) وحسنه الألباني.

(2)

فتح الباري 6/ 603.

(3)

من الآية (14) من سورة سبأ.

ص: 103

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

38 -

(7) حَدَّثَنَا

(1)

عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنْ أَبِى الْوَدَّاكِ، عَنْ أَبِى سَعِيدٍ قَالَ:" كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ إِلَى لِزْقِ جِذْعٍ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ رُومِىٌّ فَقَالَ: أَصْنَعُ لَكَ مِنْبَراً تَخْطُبُ عَلَيْهِ؟ فَصَنَعَ لَهُ مِنْبَراً هَذَا الَّذِى تَرَوْنَ، قَالَ: فَلَمَّا قَامَ عَلَيْهِ النبي صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ حَنَّ الْجِذْعُ حَنِينَ النَّاقَةِ إِلَى وَلَدِهَا، فَنَزَلَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَضَمَّهُ إِلَيْهِ فَسَكَنَ، فَأُمِرَ بِهِ أَنْ يُحْفَرَ لَهُ وَيُدْفَنَ "

(2)

.

رجال السند:

عبد الله بن سعيد، أبو سعيد الأشج، إمام ثقة، صحف اسمه في المطبوعات فقيل:" عبيد الله"، وأبو أسامة، حماد بن أسامة الكوفي، إمام ثقة، ومجالد بن سعيد الهمداني مقبول بالمتابعة أو الشاهد، وأبو الوداك، جبر بن نوف الكوفي، تابعي ثقة.

الشرح:

قوله: «لزق جذع» أي: استند إلى الجذع، في حال الخطبة، وتقدمت روايات الجذع وحنينه، وهي صحيحة ثابته.

(1)

زاد في (ت، ك) أخبرنا أبو عمران عيسى بن عمر السمرقندي، قال: أنْبَأَ أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، وذكر بقية السند.

(2)

فيه مجالد بن سعيد الهمداني، ليس بالقوي، والخبرصحيح انظر: رقم (31) وما بعده، وفي السابق أنه بقي عند أبي بن كعب.

ص: 104

قوله: «رجل رومي» اسمه ميناء، روى سهل رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى امرأة: «مُرِي غلامك النجار، يعمل لي أعوادا، أجلس عليهن»

(1)

، هي امرأة من الأنصار.

ما يستفاد:

* جواز الاستناد في حال الخطبة، ولاسيما في حال الكبر أو المرض.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

39 -

(8) أَخْبَرَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، ثَنَا الصَّعْقُ، قَالَ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ يَقُولُ: " لَمَّا أَنْ قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ جَعَلَ يُسْنِدُ ظَهْرَهُ إِلَى خَشَبَةٍ وَيُحَدِّثُ النَّاسَ، فَكَثُرُوا حَوْلَهُ، فَأَرَادَ النبي صلى الله عليه وسلم أَنْ يُسْمِعَهُمْ فَقَالَ

(2)

: «ابْنُوا لِي شَيْئاً أَرْتَفِعُ عَلَيْهِ» قَالُوا: كَيْفَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟، قَالَ: «عَرْشٌ كَعَرْشِ

(3)

مُوسَى» فَلَمَّا أَنْ بَنَوْا لَهُ - قَالَ الْحَسَنُ -: حَنَّتْ وَاللَّهِ الْخَشَبَةُ ".

قَالَ الْحَسَنُ: سُبْحَانَ اللَّهِ هَلْ يَبْتَغِيْ

(4)

قُلُوبُ قَوْمٍ سَمِعُوا؟

(5)

.

قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: يَعْنِي هَذَا.

(1)

البخاري حديث (448) ومسلم حديث (544).

(2)

في (ع/ أ) فقالوا، وهو خطأ.

(3)

في (ر/ ب، ع/ ب) عريش، وكلاهما يصح.

(4)

الاستفهام إنكاري، أي لا يبتغي الشيطان قلوبهم، يئس لقوة إيمانهم.

(5)

هذا مرسل، يعضده ما تقدم من أحاديث الباب، أنظر: رقم (31) وما بعده، وانظر: القطوف رقم (16/ 38).

ص: 105

رجال السند:

مسلم بن إبراهيم الفراهيدي، إمام ثقة، والصّعِق بن حزن البكري، ثقة، والحسن البصري، أبو سعيد تابعي إمام ثقة، الحديث من مراسيله، وقد ورد أن أُبي ابن كعب، وأبا الدرداء، رضي الله عنهما ذرعا المسجد، ثم أتيا النبي صلى الله عليه وسلم بالذراع قال:«بل عريش كعريش موسى، ثمام وخشبات»

(1)

. الشرح:

قوله: «ابنوا لي شيئا» المراد شيء مرتفع ليرقى عليه في الخطبة، وسواء من خشب يبنى درجات، أو من سواه، فلما سألوه صلى الله عليه وسلم عن النوع قال:«عرش كعرش موسى» والمراد شيء مرتفع عن الأرض، وجاء في المطبوعات: عريش، وأراه تصحيفا، فالعريش: ما يستظل به، ولذلك صنع لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر عريش يستظل به.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

40 -

(9) أَخْبَرَنَا الحَجَّاجُ بن منهال، ثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما:" أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَخْطُبُ إِلَى جِذْعٍ قَبْلَ أَنْ يَتَّخِذَ الْمِنْبَرَ، فَلَمَّا اتَّخَذَ الْمِنْبَرَ وَتَحَوَّلَ إِلَيْهِ حَنَّ الْجِذْعُ فَاحْتَضَنَهُ فَسَكَنَ " وَقَالَ: «لَوْ لَمْ أَحْتَضِنْهُ لَحَنَّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»

(2)

.

رجال السند:

الحجاج بن منهال، ثقة تقدم، وحماد بن سلمة، ثقة تقدم، وعمار بن أبي عمار مولى بني هاشم، لابأس به روى له مسلم.

(1)

عبد الرزاق حديث (1535).

(2)

سنده حسن، وأخرجه أحمد، وابن ماجه حديث (1415). انظر: رقم (31) وما بعده.

ص: 106

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

41 -

(10) أَخْبَرَنَا حَجَّاجٌ، ثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ بِمِثْلِهِ

(1)

.

رجال السند:

كلهم ثقات، حجاج بن منهال، وحماد بن سلمة، وراوية أنس ثابت البناني.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

42 -

(11) أَخْبَرَنَا عبد الله بن يزيد، ثَنَا الْمَسْعُودِيُّ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ:" حَنَّتِ الْخَشَبَةُ الَّتِي كَانَ يَقُومُ عِنْدَهَا، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهَا فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا فَسَكَنَتْ "

(2)

.

رجال السند:

عبد الله بن يزيد المقرئ، إمام ثقة، والمسعودي، عبد الرحمن بن عبدالله ابن عتبة بن عبد الله بن مسعود ثقة تغير، وليس هذا بعد التغير، وأبو حازم، سلمة بن دينار المخزومي، تابعي ثقة، في البخاري عنه ذكر قصة المنبر.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

43 -

(12) أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِى خَلَفٍ، ثَنَا عُمَرُ

(3)

بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ أَبِى طَلْحَةَ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ

(1)

رجاله ثقات، وأخرجه ابن ماجه حديث (1415).

(2)

فيه المسعودي عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود، صدوق اختلط قبل موته، وما تقدم من الروايات يؤكد أن هذا لا يدخل عليه القدح بالاختلاط، فهو حسن، وأخرجه البخاري حديث (917) ومسلم حديث (544).

(3)

في (ت) عمرو، وهو خطأ.

ص: 107

-رضي الله عنه: " أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُومُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَيُسْنِدُ ظَهْرَهُ إِلَى جِذْعٍ مَنْصُوبٍ

(1)

فِي الْمَسْجِدِ، فَيَخْطُبُ النَّاسَ، فَجَاءَهُ رُومِيٌّ فَقَالَ: أَلَا أَصْنَعُ لَكَ شَيْئاً تَقْعُدُ عَلَيْهِ وَكَأَنَّكَ قَائِمٌ؟ فَصَنَعَ لَهُ مِنْبَراً لَهُ دَرَجَتَانِ، وَيَقْعُدُ عَلَى الثَّالِثَةِ، فَلَمَّا قَعَدَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ الْمِنْبَرِ خَارَ الْجِذْعُ كَخُوَارِ الثَّوْرِ، حَتَّى ارْتَجَّ الْمَسْجِدُ حُزْناً عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَنَزَلَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْمِنْبَرِ فَالْتَزَمَهُ وَهُوَ يَخُورُ، فَلَمَّا الْتَزَمَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَكَتَ " ثُمَّ قَالَ:«أَمَا وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ لَمْ أَلْتَزِمْهُ لَمَا زَالَ هَكَذَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» حُزْناً عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَدُفِنَ

(2)

.

رجال السند:

محمد بن أحمد بن أبي خلف، أبو عبد الله البغدادي، ثقة، وعمر بن يونس، أبو حفص اليمامي ثقة، وعكرمة بن عمار البصري، من صغار التابعين، لابأس به، حديثه في الشواهد عند مسلم، وإسحاق بن أبي طلحة، أبو يحيى المدني، إمام ثقة، واسم أبي طلحة عبد الله.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

7 -

‌ بابٌ مَا أُكْرِمَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي بَرَكَةِ طَعَامِهِ:

44 -

(1) أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ

(3)

بْنِ أَبَانَ قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ

(4)

الْمُحَارِبِيُّ، عَنْ عَبْدِ

(1)

ليس في (ع/ أ، ف، و) منصوب، وكلاهما يصح.

(2)

رجاله ثقات، والخبرصحيح تقدم رقم (31) وما بعده، وتقدم في رقم (36) أنه بقي عند أبي بن كعب.

(3)

في بعض النسخ الخطية" عمرو" وهو خطأ.

(4)

في (ك) مخلد، وهو خطأ.

ص: 108

الْوَاحِدِ بْنِ أَيْمَنَ الْمَكِّيِّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قُلْتُ لِجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما: " حَدِّثْنِي بِحَدِيثٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَمِعْتَهُ مِنْهُ أَرْوِيهِ عَنْكَ. فَقَالَ جَابِرٌ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْخَنْدَقِ نَحْفُرُهُ، فَلَبِثْنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا نَطْعَمُ طَعَاماً، وَلَا نَقْدِرُ عَلَيْهِ، فَعَرَضَتْ فِي الْخَنْدَقِ كُدْيَةٌ

(1)

فَجِئْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ كُدْيَةٌ قَدْ عَرَضَتْ فِي الْخَنْدَقِ، فَرَشَشْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ، فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَبَطْنُهُ مَعْصُوبٌ بِحَجَرٍ، فَأَخَذَ الْمِعْوَلَ أَوِ الْمِسْحَاةَ، ثُمَّ سَمَّى ثَلَاثاً، ثُمَّ ضَرَبَ فَعَادَتْ كَثِيباً أَهْيَلَ، فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِي، قَالَ: فَأَذِنَ لِي، فَجِئْتُ امْرَأَتِي فَقُلْتُ: ثَكِلَتْكِ أُمُّكِ فَقُلْتُ قَدْ رَأَيْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَيْئاً لَا صَبْرَ لِي عَلَيْهِ، فَهَلْ عِنْدَكِ مِنْ شَيْءٍ؟، فَقَالَتْ: عِنْدِي صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ، وَعَنَاقٌ

(2)

، قَالَ: فَطَحَنَّا الشَّعِيرَ، وَذَبَحْنَا الْعَنَاقَ وَسَلَخْتُهَا، وَجَعَلْتُهَا فِي الْبُرْمَةِ

(3)

، وَعَجَنْتُ الشَّعِيرَ، ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَبِثْتُ سَاعَةً ثُمَّ اسْتَأْذَنْتُهُ الثَّانِيَةَ، فَأَذِنَ لِي فَجِئْتُ فَإِذَا الْعَجِينُ قَدْ أَمْكَنَ

(4)

، فَأَمَرْتُهَا بِالْخَبْزِ، وَجَعَلْتُ الْقِدْرَ عَلَى الأَثَاثِى، -

(1)

هي الأرض الصلبة (الصحاح 2/ 381) وقد ورد في بعض الروايات تفسيرها (صخرة).

(2)

هي الأنثى الصغيرة من الماعز (الصحاح 2/ 168).

(3)

القدر: والجمع بُرام (الصحاح 1/ 8).

(4)

اختمر، وأصبح صالحا للخبز.

ص: 109

قَالَ: أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: إِنَّمَا هيِ الأَثَافِيُّ

(1)

وَلَكِنْ هَكَذَا

(2)

قَالَ - ثُمَّ جِئْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: إِنَّ عِنْدَنَا طُعَيْماً، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَقُومَ مَعِي أَنْتَ وَرَجُلٌ أَوْ رَجُلَانِ مَعَكَ. فَقَالَ:«وَكَمْ هُوَ؟» قُلْتُ: صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ وَعَنَاقٌ. فَقَالَ: «ارْجِعْ إِلَى أَهْلِكَ وَقُلْ لَهَا لَا تَنْزِعِ الْقِدْرَ مِنَ الأَثَاثِي وَلَا تُخْرِجِ الْخُبْزَ مِنَ التَّنُّورِ حَتَّى آتِىَ» ثُمَّ قَالَ لِلنَّاسِ: «قُومُوا إِلَى بَيْتِ جَابِرٍ» قَالَ: فَاسْتَحْيَيْتُ حَيَاءً لَا يَعْلَمُهُ إِلاَّ اللَّهُ، فَقُلْتُ لاِمْرَأَتِي: ثَكِلَتْكِ أُمُّكِ، قَدْ جَاءَكِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ. فَقَالَتْ: أَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَأَلَكَ كَمِ الطَّعَامُ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَتْ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَدْ أَخْبَرْتَهُ بِمَا كَانَ عِنْدَنَا. قَالَ: فَذَهَبَ عَنِّى بَعْضُ مَا كُنْتُ أَجِدُ وَقُلْتُ: لَقَدْ صَدَقْتِ، فَجَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَدَخَلَ ثُمَّ قَالَ لأَصْحَابِهِ: «لَا تَضَاغَطُوا

(3)

» ثُمَّ بَرَّكَ عَلَى التَّنُّورِ وَعَلَى الْبُرْمَةِ، قَالَ: فَجَعَلْنَا نَأْخُذُ مِنَ التَّنُّورِ الْخُبْزَ، وَنَأْخُذُ اللَّحْمَ مِنَ الْبُرْمَةِ، فَنُثَرِّدُ

(4)

وَنَغْرِفُ لَهُمْ، وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«لِيَجْلِسْ عَلَى الصَّحْفَةِ سَبْعَةٌ أَوْ ثَمَانِيَةٌ» فَإِذَا أَكَلُوا كَشَفْنَا عَنِ التَّنُّورِ، وَكَشَفْنَا عَنِ الْبُرْمَةِ، فَإِذَا هُمَا أَمْلأُ مِمَّا كَانَا، فَلَمْ [يَزَلْ نَفْعَلُ ذَلِكَ كُلَّمَا فَتَحْنَا التَّنُّورَ، وَكَشَفْنَا عَنِ الْبُرْمَةِ]

(5)

وَجَدْنَاهُمَا أَمْلأَ مِمَّا كَانَا، حَتَّى شَبِعَ الْمُسْلِمُونَ

(1)

ثلاثة أحجار توضع عليها القدر (النهاية 1/ 23، والصحاح 1/ 8).

(2)

القائل شيخ الدارمي، يعني: أنه سمعها كذا من شيخه عبد الرحمن بن محمد المحاربي.

(3)

لا يزاحم بعضكم بعضا.

(4)

الثرد: تكسير الخبز قطعا صغيرة، وخلطها باللحم والمرق انظر (الصحاح 1/ 154).

(5)

ما بين المعقوفين سقط من بعض النسخ الخطية وكتب بعضه لحقا في الهامش.

ص: 110

كُلُّهُمْ، وَبَقِىَ طَائِفَةٌ مِنَ الطَّعَامِ، فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ النَّاسَ

(1)

قَدْ أَصَابَتْهُمْ مَخْمَصَةٌ

(2)

، فَكُلُوا وَأَطْعِمُوا» فَلَمْ نَزَلْ يَوْمَنَا نَأْكُلُ وَنُطْعِمُ. قَالَ: وَأَخْبَرَنِي أَنَّهُمْ كَانُوا ثَمَانَمِائَةٍ، أَوْ قَالَ ثَلَاثَمِائَةٍ. قَالَ أَيْمَنُ: لَا أَدْرِى أَيُّهُمَا قَالَ

(3)

.

رجال السند:

عبد الله بن عمر بن أبان، أبو عبد الرحمن الكوفي صدوق، وعبد الرحمن ابن محمد المحاربي، ثقة مدلس، وعبد الواحد بن أيمن المكي، أبو القاسم ثقة، وأبوه أيمن المكي حبشي وثقة أبو زرعة، ولم ينفرد ابنه بالرواية عنه.

الشرح:

قال أنس رضي الله عنه: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق، فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون في غداة باردة، فلم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم، فلما رأى ما بهم من النصب والجوع، قال:«اللهم إن العيش عيش الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة» فقالوا مجيبين له:

نحن الذين بايعوا محمدا

على الجهاد ما بقينا أبدا

(4)

.

فدل هذا أنهم يحفرون بأنفسهم طلبا للأجر، وهم في بداية الأمر ليس لهم عبيد بكثرة، ولاسيما المهاجرون.

(1)

ليس في بعض النسخ الخطية.

(2)

مجاعة (الصحاح 2/ 373).

(3)

إسناد حسن، وأخرجه البخاري حديث (4101) وأخرجه مسلم حديث (2039) وانظر:(اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان حديث 1322).

(4)

البخاري حديث (2834).

ص: 111

ويدل قوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم إن العيش عيش الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة» على التعب والجوع الذي لحق الأصحاب رضي الله عنهم، فأراد أن ينشطهم بما قال، ويرغبهم فيما عند الله عز وجل، ولا ريب أنه صلى الله عليه وسلم لحقه من الجوع والتعب ما لحقهم، ورغم هذا لما عرضت الكدية للصحابة وأعياهم كسرها، لا ريب أنهم شكوا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرهم أن يرشوها بالماء، والكدية: صخرة أمد الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم بقوة ظهرت من خلا ضربه لها معجزة، فقد ضربها «بمعول أو مسحاة» شك الراوي وهما لآلتان: المعول للكسر، والمسحاة للحفر، فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمعول «فعادت كثيبا أهيل» أي: تفتت حتى صارة كثبة من الرمل تهال باليد دون هناء، ظهرت المعجزة فقد حدث هذا بعد أن عجز عنه الجم الغفير من الصحابة، فكان عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رغم ما ظهر عليه من التعب والجوع، فلما رأى جابر رضي الله عنه، استأذن وانصرف إلى أمرأته واسمها سهيلة رضي الله عنها، وذكر لها ما رأى من حال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: عندي صاع من شعير وعناق، العناق: الصغيرة من المعز، وهيأت ذلك كله، فرجع جابر رضي الله عنه ليدعو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت امرأته: صحيح؟ لا تفضحني برسول الله صلى الله عليه وسلم وبمن معه

(1)

، قوله:«طعيم» فيه تحقير وتقليل إشارة إلى اختصاصه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الرحمة المهداة تأبا ذلك، فأمره بالعودة إلى امرأته، «ولا تخرج الخبر من التنور» وأشمل من هذا قوله:«لا تنزلن برمتكم، ولا تخبزن عجينكم حتى أجيء»

(2)

، لتناله من الله بركة

(1)

البخاري حديث (4102) ومسلم حديث (2039).

(2)

البخاري حديث (4102).

ص: 112

يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال للناس: قوموا إلى جابر، فولى جابر إلى امرأته خائفا من فضحها فقال:" قد جاء رسول الله بأصحابه أجمعين " كلهم على صاع من شعير وعناق، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على المخبز يخبر للقوم، وكشف عن القدر ليأخذ من اللحم والمرق، فبارك الله لنبيه فيما صنع جابر وأمرته، وبقي طائفة من الطعام بعد عدد كبير من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم، وقال صلى الله عليه وسلم:«إن الناس، قد أصابتهم مخمصة، فكلوا وأطعموا» قال جابر رضي الله عنه: فلم نزل يومنا نأكل ونطعم، هذا من فضل الله عز وجل ثم بركة يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا الإعجاز نظائر لا ريب فيها.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

45 -

(2) أَخْبَرَنَا زَكَرِيَّا بْنُ عَدِىٍّ، ثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ - هُوَ ابْنُ عَمْرٍو - عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: " أَمَرَ أَبُو طَلْحَةَ أُمَّ سُلَيْمٍ أَنْ تَجْعَلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَعَاماً يَأْكُلُ مِنْهُ، قَالَ: ثُمَّ بَعَثَنِي أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ: بَعَثَنِي إِلَيْكَ أَبُو طَلْحَةَ فَقَالَ لِلْقَوْمِ: «قُومُوا» فَانْطَلَقَ وَانْطَلَقَ الْقَوْمُ مَعَهُ، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا صَنَعْتُ طَعَاماً لِنَفْسِكَ خَاصَّةً. فَقَالَ: «لَا عَلَيْكَ انْطَلِقْ» قَالَ: فَانْطَلَقَ وَانْطَلَقَ الْقَوْمُ، قَالَ: فَجِيءَ بِالطَّعَامِ، فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ وَسَمَّى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ:«ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ» قَالَ: فَأَذِنَ لَهُمْ. فَقَالَ: «كُلُوا بِاسْمِ اللَّهِ»

ص: 113

فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، ثُمَّ قَامُوا، ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ كَمَا صَنَعَ في الْمَرَّةِ الأُولَى وَسَمَّى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ:«ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ» فَأَذِنَ لَهُمْ، فَقَالَ:«كُلُوا بِاسْمِ اللَّهِ» فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، ثُمَّ قَامُوا حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ بِثَمَانِينَ رَجُلاً، وَأَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَهْلُ الْبَيْتِ وَتَرَكُوا سُؤْراً

(1)

.

رجال السند:

زكريا بن عدى، ثقة تقدم، وعبيد الله بن عمرو الرقي، ثقة تقدم، وعبد الملك ابن عمير، ثقة فقيه، تغير حفظه وربما دلس، وعبد الرحمن بن أبي ليلى يسار ابن بلال، وأبو عيسى، من كبار التابعين ثقة، قال: أدركت عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، غرق ليلة دجيل مع ابن الأشعث سنة ثلاث وثماني ومائة.

الشرح:

هذه رواية أخرى في واقعة لأبي طلحة زيد بن سهل لأنصاري رضي الله عنه، يرويها ربيبه أنس رضي الله عنه، وأم سليم هي أم أنس بنت ملحان رضي الله عنها، والقصة من جنس ما تقدم في رواية جابر رضي الله عنه، وكان عدد من حضر دعوة أبي طلحة ثمانين رجلا أوردهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة عشر، فأكلوا حتى شبعوا، وتركوا سؤرا من الطعام، ولا شك أن هذا بفضل الله ثم بركة يد رسوله صلى الله عليه وسلم.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

46 -

(3) أَخْبَرَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا أَبَانُ - هُوَ الْعَطَّارُ - حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ أَبِى عُبَيْدٍ: " أَنَّهُ طَبَخَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قِدْراً، فَقَالَ لَهُ:«نَاوِلْنِي ذِرَاعَهَا» وَكَانَ يُعْجِبُهُ الذِّرَاعُ، فَنَاوَلَهُ الذِّرَاعَ، ثُمَّ قَالَ: «نَاوِلْنِي

(1)

رجاله ثقات، وأخرجه البخاري حديث (3578، ومسلم حديث (2040) وانظر: اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان حديث 1323).

ص: 114

ذِرَاعاً» فَنَاوَلَهُ ذِرَاعاً، ثُمَّ قَالَ:«نَاوِلْنِي ذِرَاعا» فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَكَمْ لِلشَّاةِ مِنْ ذِرَاعٍ؟، فَقَالَ:«وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ أَنْ لَوْ سَكَتَّ لأُعْطِيتُ أَذْرُعاً مَا دَعَوْتُ بِهِ»

(1)

.

رجال السند:

مسلم بن إبراهيم الفراهيدي، ثقة تقدم، وأبان بن يزيد العطار، أبو زيد البصري ثقة، وقتادة بن دعامة السدوسي، ثقة حافظ مدلس، وشهر بن حوشب، أبو سعيد مولى أسماء بنت يزيد، تابعي متكلم فيه رغم توثيق أحمد له، روى له مسلم في المتابعات والشواهد، وحسن البخاري حديثه، وأبو عبيد رضي الله عنه مولى النبي صلى الله عليه وسلم وخادمه.

الشرح:

هذا حديث حسن وكان صلى الله عليه وسلم يحب من اللحم الذراع، فكان يطلب من خادمه الذراع، لكنه قال في الثالثة:«ناولني ذراعا» وهو يعلم أن الشاة ليس لها إلا ذراعان، ولكن أراد أن يبين كرامته عند الله عز وجل، فقال:«والذي نفسي بيده أن لو سكت لأعطيتُ أذرعا ما دعوتُ به» فلو أن الخادم لم يسأل وسكت، لظهرت معجزة الدراع الثالث، وأكثر.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

47 -

(4) أَخْبَرَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، ثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ نُبَيْحٍ الْعَنَزِىِّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: " خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمُشْرِكِينَ

(1)

فيه شهر بن حوشب: متكلم فيه، ونرجح قبول روايته، وأخرجه أحمد حديث (15967).

ص: 115

لِيُقَاتِلَهُمْ فَقَالَ أَبِي: عَبْدُ اللَّهِ: يَا جَابِرُ لَا عَلَيْكَ أَنْ تَكُونَ فِي نَظَّارِي

(1)

أَهْلِ الْمَدِينَةِ حَتَّى تَعْلَمَ إِلَى مَا يَصِيرُ أَمْرُنَا، فَإِنِّي وَاللَّهِ لَوْلَا أَنِّي أَتْرُكُ بَنَاتٍ لِي بَعْدِي لأَحْبَبْتُ أَنْ تُقْتَلَ بَيْنَ يَدَيَّ. قَالَ: فَبَيْنَمَا أَنَا فِي النَّظَّارِينَ

(2)

إِذْ جَاءَتْ عَمَّتِي بابي وَخَالِي لِتَدْفِنَهُمَا فِي مَقَابِرِنَا، فَلَحِقَ رَجُلٌ يُنَادِي: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَرُدُّوا الْقَتْلَى فَتَدْفِنُوهَا في مَضَاجِعِهَا

(3)

حَيْثُ قُتِلَتْ. فَرَدَدْنَاهُمَا فَدَفَنَّاهُمَا فِي مَضْجَعِهِمَا حَيْثُ قُتِلَا فَبَيْنَا أَنَا فِي خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ إِذْ جَاءَنِي رَجُلٌ فَقَالَ: يَا جَابِرُ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ لَقَدْ أَثَارَ

(4)

أَبَاكَ عُمَّالُ مُعَاوِيَةَ فَبَدَا، فَخَرَجَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ. فَانْطَلَقْتُ إِلَيْهِ فَوَجَدْتُهُ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي دَفَنْتُهُ لَمْ يَتَغَيَّرْ

(5)

إِلاَّ مَا لَمْ يَدَعِ الْقَتِيلَ، قَالَ: فَوَارَيْتُهُ، وَتَرَكَ أَبِي عَلَيْهِ دَيْناً مِنَ التَّمْرِ، فَاشْتَدَّ عَلَيَّ بَعْضُ غُرَمَائِهِ

(6)

فِي التَّقَاضِي، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَبِي أُصِيبَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا وَإِنَّهُ تَرَكَ عَلَيْهِ دَيْناً مِنَ التَّمْرِ، وَإِنَّهُ قَدِ اشْتَدَّ عَليَّ بَعْضُ غُرَمَائِهِ فِي الطَّلَبِ، فَأُحِبُّ أَنْ تُعِينَنِي عَلَيْهِ، لَعَلَّهُ يُنْظِرُنِي طَائِفَةً مِنْ تَمْرِهِ إِلَى هَذَا الصِّرَامِ الْمُقْبِلِ.

(1)

الإنظار في الأصل: التأخير والإمهال، والمراد به هنا: الملاحظة والمراقبة، يفسره ما بعده " فبينما انا في النظارين" قال في (الصحاح 2/ 581): والنظارة: القوم ينظرون إلى الشيء، وانظر (النهاية 5/ 78).

(2)

في بعض النسخ الخطية" الناظرين" وكلاهما يصح.

(3)

في بعض النسخ الخطية" مضجعها" وكلاهما يصح.

(4)

أي أظهره بإزالة التراب عنه.

(5)

وقد مضى على دفنه ما يقارب سبعا وثلاثين سنة، فسبحان من كرمهم.

(6)

أصحاب الدَّين.

ص: 116

قَالَ: «نَعَمْ آتِيكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ قَرِيباً مِنْ وَسَطِ النَّهَار» قَالَ: فَجَاءَ وَمَعَهُ حَوَارِيُّوهُ

(1)

، قَالَ: فَجَلَسُوا فِي الظِّلِّ وَسَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاسْتَأْذَنَ ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْنَا، قَالَ: وَقَدْ قُلْتُ لاِمْرَأَتِي: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَائِيَّ الْيَوْمَ وَسَطَ النَّهَارِ، فَلَا يَرَيَنَّكِ وَلَا تُؤْذِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي شَيْءٍ وَلَا تُكَلِّمِيهِ، فَفَرَشَتْ فِرَاشاً وَوِسَادَةً فَوَضَعَ رَأْسَهُ فَنَامَ، فَقُلْتُ لِمَوْلًى لِي: اذْبَحْ هَذِهِ الْعَنَاقَ، وَهِيَ دَاجِنٌ

(2)

سَمِينَةٌ فَالْوَحَا

(3)

، وَالْعَجَلَ افْرُغْ مِنْهَا، قَبْلَ أَنْ يَسْتَيْقِظَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا مَعَكَ فَلَمْ نَزَلْ فِيهَا حَتَّى فَرَغْنَا مِنْهَا وَهُوَ نَائِمٌ، فَقُلْتُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ يَسْتَيْقِظُ يَدْعُو بِطَهُورٍ، وَأَنَا أَخَافُ إِذَا فَرَغَ أَنْ يَقُومَ فَلَا يَفْرُغُ مِنْ طُهُورِهِ حَتَّى يُوضَعَ الْعَنَاقُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ قَالَ:«يَا جَابِرُ ائْتِنِي بِطَهُورٍ» قَالَ: نَعَمْ فَلَمْ يَفْرُغْ مِنْ وُضُوئِهِ

(4)

حَتَّى وَضَعْتُ الْعَنَاقَ بَيْنَ يَدَيْهِ، قَالَ: فَنَظَرَ إِلَيَّ فَقَالَ: «كَأَنَّكَ قَدْ عَلِمْتَ حُبَّنَا اللَّحْمَ، ادْعُ أَبَا بَكْرٍ»

(5)

ثُمَّ دَعَا حَوَارِيِّيهِ، قَالَ فَجِيءَ بِالطَّعَامِ فَوُضِعَ، قَالَ: فَوَضَعَ يَدَهُ وَقَالَ: «بِسْمِ اللَّهِ كُلُوا» فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا وَفَضَلَ مِنْهَا لَحْمٌ كَثِيرٌ، وَقَالَ: وَاللَّهِ إِنَّ مَجْلِسَ بَنِي سَلَمَةَ لَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ هُوَ أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِنْ أَعْيُنِهِمْ، مَا يَقْرَبُونَهُ مَخَافَةَ أَنْ يُؤْذُوهُ، ثُمَّ قَامَ وَقَامَ أَصْحَابُهُ، فَخَرَجُوا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَكَانَ يَقُولُ:«خَلُّوا ظَهْرِي لِلْمَلَائِكَةِ» قَالَ:

(1)

أي أنصاره، قال في (الصحاح 1/ 312): الحواري: الناصر.

(2)

العناق: الأنثى من ولد المعز (الصحاح 2/ 168) والداجن: المعلوفة.

(3)

بالحاء المهملة: السرعة (النهاية 5/ 163) ويفسرها ما بعدها أيضا (العجل).

(4)

في بعض النسخ الخطية" طهوره" وكلاهما يصح.

(5)

فكيف يتجرأ الظلمة المفسدون على القول في أبي بكر وعمر وهما حواريي رسول الله صلى الله عليه وسلم، يذكرهما في كل موقف.

ص: 117

فَاتَّبَعْتُهُمْ حَتَّى بَلَغْتُ سَقْفَة الْباب، فَأَخْرَجَتِ امْرَأَتِي صَدْرَهَا، وَكَانَتْ سِتِّيرَةً، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صَلِّ عَليَّ وَعَلَى زَوْجِي. قَالَ:«صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكِ وَعَلَى زَوْجِكِ» ثُمَّ قَالَ: «ادْعُوا لِي فُلَاناً» لِلْغَرِيمِ الَّذِي اشْتَدَّ عَلَيَّ فِي الطَّلَبِ، فَقَالَ: «أَنْسِيْء جَابِراً طَائِفَةً مِنْ دَيْنِكَ الَّذِي عَلَى أَبِيهِ إِلَى هَذَا الصِّرَامِ

(1)

الْمُقْبِلِ» قَالَ: مَا أَنَا بِفَاعِلٍ. قَالَ: وَاعْتَلَّ وَقَالَ: إِنَّمَا هُوَ مَالُ يَتَامَى. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَيْنَ جَابِرٌ؟» قَالَ: قُلْتُ: أَنَا ذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: «كِلْ لَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَوْفَ يُوَفِّيهِ» فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ فَإِذَا الشَّمْسُ قَدْ دَلَكَتْ قَالَ: «الصَّلَاةُ يَا أَبَا بَكْر" قَالَ: فَانْدَفَعُوا إِلَى الْمَسْجِدِ، فَقُلْتُ لِغَرِيمِي: قَرِّبْ أَوْعِيَتَكَ، فَكِلْتُ لَهُ مِنَ الْعَجْوَةِ فَوَفَّاهُ اللَّهُ، وَفَضَلَ لَنَا مِنَ التَّمْرِ كَذَا وَكَذَا، وَكِلْتُ لَهُ مِنْ أَصْنَافِ التَّمْرِ فَوَفَّاهُ اللَّهُ، وَفَضَلَ لَنَا مِنَ التَّمْرِ كَذَا وَكَذَا، قَالَ: فَجِئْتُ أَسْعَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَسْجِدِهِ كَأَنِّي شَرَارَةٌ، فَوَجَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ صَلَّى فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي قَدْ كِلْتُ لِغَرِيمِي تَمْرَهُ فَوَفَّاهُ اللَّهُ، وَفَضَلَ لَنَا مِنَ التَّمْرِ كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَيْنَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ؟» قَالَ: فَجَاءَ يُهَرْوِلُ قَالَ: «سَلْ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ غَرِيمِهِ وَتَمْرِهِ» قَالَ: مَا أَنَا بِسَائِلِهِ، قَدْ عَلِمْتُ

(1)

جداد النخل، انظر (الصحاح 1/ 718) وهو بمعنى الحصاد، سواء النخل أو غيره من الثمار.

ص: 118

أَنَّ اللَّهَ سَوْفَ يُوَفِّيهِ

(1)

قَالَ: مَا أَنَا بِسَائِلِهِ، قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ اللَّهَ سَوْفَ يُوَفِّيهِ. فَرَدَّدَ عَلَيْهِ وَرَدَّدَ عَلَيْهِ هَذِهِ الْكَلِمَةَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ: مَا أَنَا بِسَائِلِهِ.

وَكَانَ لَا يُرَاجَعُ بَعْدَ الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ فَقَالَ: مَا فَعَلَ غَرِيمُكَ وَتَمْرُكَ؟ قَالَ: قُلْتُ: وَفَّاهُ اللَّهُ، وَفَضَلَ لَنَا مِنَ التَّمْرِ كَذَا وَكَذَا، فَرَجَعْتُ إِلَى امْرَأَتِي فَقُلْتُ: أَلَمْ أَكُنْ نَهَيْتُكِ أَنْ تُكَلِّمِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِي؟، فَقَالَتْ: تَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُورِدُ نَبِيَّهُ فِي بَيْتِي ثُمَّ يَخْرُجُ وَلَا أَسْأَلُهُ الصَّلَاةَ عَلَيَّ وَعَلَى زَوْجِي".

رجال السند:

أبو النعمان، محمد بن الفضل بعارم ثقة، وأبو عوانة الوضاح ثقة، والأسود بن قيس ثقة، ونبيح العنزي حسن الحديث تقدموا.

الشرح:

قوله: " أَنْسِيْء " أي: أخر طائفة من دينك، وجميع الأحاديث المتقدمة في ذكر بعض المعجزات التي أيد الله عز وجل بها نبوة محمد صلى الله عليه وسلم منها ما هو في أعلى درجات الصحة، ومنها الصحيح، ومنها الحسن، ومنها ما هو ضعيف السند، وكلها يصدق بعضها بعضا، وما يكذب بها إلا من لم يوفق للفهم الصحيح، وقد تكرر شرح ألفاظها، فأغنى عن الإعادة، والخبر فيه نبيح العنزي: الصحيح أنه ثقة، وأخرجه أحمد حديث (15281).

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

8 -

‌ بابٌ مَا أُعْطِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْفَضْلِ:

48 -

(1) أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَنْبَأَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِى حَكِيمٍ قَالَ: حَدَّثَنِي الْحَكَمُ

(2)

بْنُ أَبَانَ، عَنْ

(1)

هنا تعرف مكانة عمر رضي الله عنه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ كان حريصا على بشارته بهذه البركة، ومكانة رسول الله صلى الله عليه وسلم عند عمر رضي الله عنه، إذ أنه عرف أن الله عز وجل سيوفي دين أبي جابر لإخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فقاتل الله من ينكر فضل أبي بكر وعمر.

(2)

ليس في بعض النسخ الخطية.

ص: 119

عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ فَضَّلَ مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم عَلَى الأَنْبِيَاءِ وَعَلَى أَهْلِ السَّمَاءِ. فَقَالُوا: يَا أَبَا

(1)

عَبَّاسٍ بِمَ

(2)

فَضَّلَهُ عَلَى أَهْلِ السَّمَاءِ؟ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَالَ لأَهْلِ السَّمَاءِ: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ}

(3)

وَقَالَ اللَّهُ لِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ}

(4)

قَالُوا: فَمَا فَضْلُهُ عَلَى الأَنْبِيَاءِ؟ قَالَ: قَالَ اللَّهُ عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} الآية (4) من سورة إبراهيم، وَقَالَ اللَّهُ عز وجل لِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا}

(5)

.

رجال السند:

إسحاق بن إبراهيم بن راهويه ثقة إمام حافظ تقدم، ويزيد بن أبي حكيم العدني، ليس بهبأس، والحكم بن أبان العدني، صدوق وله أوهام، وتقدموا جميعا، وعكرمة أبو عبد الله، مولى ابن عباس وراويته ثقة، لم يصب من تكلم فيه، تحققت من ذلك في دراستي له ولما روى في البخاري، فثبت أنه ثقة، إمام في التفسير، والرواية عن ابن عباس.

(1)

في (ك) ابن، وفي (ت) يا أبا، والصواب: أبا عباس، وكلاهما صحيح، فهو ابن عباس، وأبو العباس.

(2)

في (ت، ك) لم، في هامشهما (بم).

(3)

الآية (29) من سورة الأنبياء.

(4)

الآيتان (1، 2) من سورة الفتح.

(5)

من الآية (28) من سورة سبأ.

ص: 120

الشرح:

صدق ابن عباس رضي الله عنهما حين قال: " إن الله فضل محمدا صلى الله عليه وسلم على الأنبياء، وعلى أهل السماء " وقد استند في قوله على كتاب الله عز وجل، ومعلوم تفضيل من جمع له بين النبوة والرسالة على من نُبئ ولم يرسل، وذلك لمزيد أعباء الرسالة وما يقع من التكذيب وعدم القبول من الأمم، وما يقع من قتلهم الرسل جراء ذلك، القاعدة في ذلك عدم التفضيل بالتعيين، بل على العموم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لا تخيروني على موسى، فإن الناس يصعقون يوم القيامة، فأصعق معهم، فأكون أول من يفيق، فإذا موسى باطش جانب العرش، فلا أدري أكان فيمن صعق، فأفاق قبلي أو كان ممن استثنى الله»

(1)

، وقال صلى الله عليه وسلم:«ما ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يونس بن متى»

(2)

، وهذا تقدير من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليونس عليه السلام لما لحقه من البلاء، وقال في العموم:«أنا سيد الناس يوم القيامة»

(3)

، وهو سيدهم في الدنيا صلى الله عليه وسلم.

ما يستفاد:

*فيما ذكر ابن عباس رضي الله عنهما في التنزيل عن أهل السماوات وعيد شديد.

*علو مكانة ابن عباس في فقه التنزيل.

* امتنان الله صلى الله عليه وسلم على نبيه صلى الله عليه وسلم بالفتح المبين.

(1)

البخاري حديث (2411) ومسلم حديث (2373).

(2)

البخاري حديث (4603) ومسلم حديث (4669).

(3)

البخاري حديث (3340) ومسلم حديث (328).

ص: 121

* بشارة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بمغفرة ذنبه، وأن الله عز وجل فتح له لكي يجعل ذلك أمارة وعلامة لغفرانه له، وهدايته الصراط المستقيم، ثم البشارة بالمغفرة في حد ذاتها نصر عظيم، وكذلك ما تحقق له من النصر بعد الحديبية، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لقد أنزلت علي آية هي أحب إلي من الدنيا جميعا»

(1)

. الآية هي أول سورة الفتح.

* أن رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم عامة للناس، وفي هذا إلى نسخ جميع الأديان وعموم النبوة والرسالة.

* بيان ما فضل الله به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

49 -

(2) أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيد، ثَنَا زَمْعَةُ، عَنْ سَلَمَةَ، عَنْ عِكْرِمَة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " جَلَسَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَنْتَظِرُونَهُ، فَخَرَجَ حَتَّى إِذَا دَنَا مِنْهُمْ سَمِعَهُمْ يَتَذَاكَرُونَ، فَتَسَمَّعَ حَدِيثَهُمْ، فَإِذَا بَعْضُهُمْ يَقُولُ: عَجَباً إِنَّ اللَّهَ اتَّخَذَ مِنْ خَلْقِهِ خَلِيلاً، فَإِبْرَاهِيمُ خَلِيلُهُ. وَقَالَ آخَرُ: مَاذَا بِأَعْجَبَ مِنْ {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا}

(2)

.

وَقَالَ آخَرُ: فَعِيسَى كَلِمَةُ اللَّهِ وَرُوْحُهُ. وَقَالَ آخَرُ: وَآدَمُ اصْطَفَاهُ اللَّهُ. فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ فَسَلَّمَ وَقَالَ: " قَدْ سَمِعْتُ كَلَامَكُمْ وَعَجَبَكُمْ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلُ اللَّهِ وَهُوَ كَذَلِكَ، وَمُوسَى نَجِيُّهُ وَهُوَ كَذَلِكَ، وَعِيسَى رُوْحُهُ وَكَلِمَتُهُ وَهُوَ كَذَلِكَ، وَآدَمُ اصْطَفَاهُ اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ كَذَلِكَ، أَلَا وَأَنَا حَبِيبُ اللَّهِ وَلَا فَخْرَ، [وَأَنَا حَامِلُ

(1)

مسلم حديث (1786).

(2)

من الآية (164) من سورة النساء.

ص: 122

لِوَاءِ الْحَمْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، تَحْتَهُ آدَمُ فَمَنْ دُونَهُ وَلَا فَخْرَ]

(1)

، وَأَنَا أَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يُحَرِّكُ غَلَقَ الْجَنَّةِ وَلَا فَخْرَ، فَيَفْتَحُ اللَّهُ فَيُدْخِلُنِيهَا وَمَعِي فُقَرَاءُ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا أَكْرَمُ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ عَلَى اللَّهِ وَلَا فَخْرَ».

رجال السند:

عبيد الله بن عبد المجيد، أبو علي الحنفي، ثقة من شيوخ الدارمي هو وأخوه عبد الكبير، وزمعة بن صالح، يماني سكن مكة، ضعفه الجمهور، وحديثه عند مسلم مقرون لذلك، وسلمة بن وهرام، يماني من قرية جبا باليمن، يعتبر بحديثه من غير رواية زمعة لضعفه، وروايته عنه ما ينكر، وثقه ابن معين.

الشرح:

في سنده زمعة بن صالح الجندي ضعيف، وحديثه في مسلم مقرون، وأخرجه الترمذي حديث (3620) وقال: حسن غريب، ولغالبه شواهد في الصحيح، وانظر: القطوف رقم (18/ 48).

قوله: " غَلَقَ " في بعض النسخ الخطية " بحلق": ووجه الصواب في المخطوطتين: أن الغلق: جمع أغاليق، وهي المفاتيح، فالمراد مفتاح الجنة، وانظر (النهاية 3/ 380) وما قبله.

وستأتي رواية " بحلق " الجنة، ولا تعارض فالحلق مسكة الباب، والغلق القفل. وليس في الرواية ما يستغرب، وما ذكر من ضعف بعض الرواة لا

(1)

ما بين المعقوفين جاء لحقا في هامش (ك).

ص: 123

يرد به ما يوافق الواقع، من تفضيل النبي صلى الله عليه وسلم وما أكرم الله عز وجل به الأنبياء المذكورين عليهم السلام، وبيان ما من الله به عليه صلى الله عليه وسلم، سقط من المتن ما نصه:(وقال آخر: فعيسى كلمة الله وروحه، وقال آخر: وآدم اصطفاه الله، فخرج عليهم فسلم وقال: قد سمعت كلامكم وعجبكم، إن إبراهيم خليل الله وهو كذلك، وموسى نجيه وهو كذلك، وعيسى روحه وكلمته وهو كذلك، وآدم اصطفاه الله تعالى وهو كذلك، ألا وأنا حبيب الله ولا فخر، وأنا حامل لواء الحمد يوم ال 0 قيامة تحته آدم فمن دونه ولا فخر، وأنا أول شافع وأول مشفع يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول من يحرك غلق الجنة ولا فخر، فيفتح الله فيدخلنيها ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر، وأنا أكرم الأولين والآخرين على الله ولا فخر) وجل من لا يسهو.

ما يستفاد:

* بيان أن إبراهيم عليه السلام خليل الرحمن عز وجل.

* وأن موسى عليه السلام كليم الله عز وجل.

* وأن عيسى عليه السلام روح الله عليه السلام، وليس نفسه، فالروح غير النفس، لأن الروح فيها الطهر والقداسة والتزكية.

* وهو كلمة الله عز وجل التي خلق بها المخلوقات منها عيسى عليه السلام، فالله عز وجل له الأمر {وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}

(1)

.

*وآدم عليه السلام اصطفاه الله عز وجل، واستخلفه في الأرض.

* بيان فضل نبيا محمد صلى الله عليه وسلم وأنه حبيب الله عز وجل.

(1)

من الآية (117) من سورة البقرة.

ص: 124

* أن من الفخر له على الأنبياء أن حامل لواء الحمد يوم القيامة.

* بيان أن آدم فمن دونه من الأنبياء عليهم السلام ينضوون تحت لواء الحمد.

* بيان أنه صلى الله عليه وسلم أول شافع وأول مشفع يوم القيامة.

* بيان أنه صلى الله عليه وسلم أول من يحرك مفتاح الجنة.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

50 -

(3) حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ أَبِي الأَسْوَدِ، عَنْ

لَيْثٍ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: " قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَنَا أَوَّلُهُمْ خُرُوجاً، وَأَنَا قَائِدُهُمْ إِذَا وَفَدُوا على ربي

(1)

، [وَأَنَا خَطِيبُهُمْ إِذَا أَنْصَتُوا، وَأَنَا مُسْتَشْفِعُهُمْ إِذَا حُبِسُوا، وَأَنَا مُبَشِّرُهُمْ إِذَا أَيِسُوا

(2)

، الْكَرَامَةُ وَالْمَفَاتِيحُ يَوْمَئِذٍ

(1)

ليس في (ت).

(2)

في حاشية (ت) يئسوا، وكلاهما يصح، وفي (ك) ضبب على ما بين المعقوفين، وعلقه في الهامش، وكتب أسفل الصفحة (هذه الزيادة ليست في هذا الموضع، بل في الحاشية فوقه، إلى آخر الحديث

) وهي ملحقة في الحاشية بالحديث السابق، حديث سعيد بن سليمان، وهي كذلك في (ت) ولا وجود لها في حديث عبد الله بن عبد الحكم المصري في (ت).

ص: 125

بِيَدِي، وَأَنَا أَكْرَمُ وَلَدِ آدَم]

(1)

عَلَى رَبِّي، يَطُوفُ عَلَىَّ أَلْفُ خَادِمٍ كَأَنَّهُمْ بَيْضٌ مَكْنُونٌ أَوْ لُؤْلُؤٌ مَنْثُورٌ» "

(2)

.

رجال السند:

سعيد بن سليمان أبو عثمان الضبي، المعروف بسعدويه، ثقة سكن بغداد وتوفي فيها (225 هـ)، صحف اسم أبيه في المطبوعات، فقيل: ابن سفيان، ومنصور بن أبي الأسود، مولى لبني ليث، وكان تاجرا وكان من الشيعة الكبار، قال ابن معين: لابأس به، ولعله لم يكن رافضيا، وليث بن أبي سليم، كثير الغلط، واختلفوا في تحسن حديثه، والربيع بن أنس، من بكر ابن وائل من أنفسهم، هرب من الحجاج فأتى مرو فسكن قرية منها فكان فيها إلى أن مات في خلافة أبي جعفر المنصور، صدوق يُجتنب من حديثه ما رواه عن أبي جعفر الرازي، لضعفه في الحديث.

الشرح:

فيه المزيد من فضائل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، والخبرحسن لغيره.

ما يستفاد:

*بيان أن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أول من يبعث يوم القيامة من الأنبياء عليهم السلام.

* بيان أنه صلى الله عليه وسلم قائد الأنبياء إذا وفد على الله عز وجل.

* وأنه صلى الله عليه وسلم المتكلم فيهم إذا أنصتوا لقوله.

(1)

ما بين المعقوفين (ك) ضبب عليه، وكتب أسفل الصفحة (هذه الزيادة ليست في هذا الموضع، بل فوقه في الحاشية إلى آخر الحديث).

(2)

فيه ليث بن أبي سليم، مقبول وأخرجه الترمذي حديث (3610) وقال: حسن غريب.

ص: 126

* وأنه صلى الله عليه وسلم الشافع لهم بإذن الله إذا طال وقوفهم في المحشر.

* وأنه صلى الله عليه وسلم بشيرهم إذا تمالكهم اليأس من الكرامة.

* ونه صلى الله عليه وسلم بيده مفاتيح الجنة.

* وأنه كما تقدم أنه سيد ولد آدم، فهو أكرمهم على الله صلى الله عليه وسلم.

* وأن من إكرام الله عز وجل له صلى الله عليه وسلم أن يقوم على خدمته ألف خادم كأنهم بيض مكنون أو لؤلؤ منثور.

أسأل الله عز وجل أن يجمعنا بهذا النبي الكريم في لفردوس الأعلى في الجنة على ما ذكر له من الفضل والتكريم.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

51 -

(4) أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ الْمِصْرِيُّ، ثَنَا بَكْرُ بْنُ مُضَرَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ صَالِحٍ - هُوَ ابْنُ عَطَاءِ بْنِ خَباب مَوْلَى بَنِى الدُّئِلِ - عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَنَا قَائِدُ الْمُرْسَلِينَ وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا أَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ وَلَا فَخْرَ»

(1)

.

رجال السند:

عبد الله بن عبد الحكم بن أعين بن ليث المصري أبو محمد الفقيه، ثقة، جرحه ابن معين ولم يثبت، وله كتاب في سيرة عمر بن عبد العزيز، وبكر ابن مضر بن محمد ابن حكيم أبو محمد المصري، ثقة، مات سنة ثلاث

(1)

فيه صالح بن عطاء، سكت عنه الإمامان: البخاري، وأبو حاتم، وذكره ابن حبان في الثقات (الثقات 6/ 455) وانظر: القطوف رقم (19/ 50).

ص: 127

أو أربع وسبعين ومائة، وجعفر بن ربيعة، بن شرحبيل بن حسنة المصري، أبو شرحبيل ثقة، وصالح بن عطاء بن خباب مولى بني الدئل، وثقه العجلي وقال: حجازي ثقة، وابن حبان، وتوثيق ابن حبان يقبل في مثل هذه الرواية المتفقة في المعنى مع ما سبق، وعطاء بن أبي رباح أسلم القرشي، مولاهم، المكي، ثقة، فقيه.

الشرح:

الحديث مرادف لبعض ما سبق، وفيه المزيد من خصائص نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

ما يستفاد:

* تأييد ما تقدم في شأن قيادته صلى الله عليه وسلم للأنبياء عليه السلام.

* بيان أنه صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء عليهم السلام، وأنه لا نبي بعده.

* بيان أنه صلى الله عليه وسلم أول من يشفع يوم القيامة.

* وأنه صلى الله عليه وسلم وأول من تقبل شفاعته.

أسأل الله أن يجعله شفيعنا من هول يوم القيامة، ومن النار.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

52 -

(5) حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ، ثَنَا سُفْيَانُ _ هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ _ عَنِ ابْنِ جُدْعَانَ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَنَا أَوَّلُ مَنْ يَأْخُذُ بِحَلْقَةِ باب الْجَنَّةِ فَأُقَعْقِعُهَا

(1)

». قَالَ أَنَسٌ: " كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى يَدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُحَرِّكُهَا" وَصَفَ

(1)

أي أحركها، فيصدر عنها صوت القعقعة.

ص: 128

لَنَا سُفْيَانُ كَذَا، وَجَمَعَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَصَابِعَهُ وَحَرَّكَهَا، قَالَ: وَقَالَ لَهُ ثَابِتٌ: " مَسِسْتَ يَدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَأَعْطِنِيهَا أُقَبِّلْهَا "

(1)

.

رجال السند:

محمد بن عباد المكي، ابن الزبرقان، أبو عبد الله لابأس به، وسفيان بن عيينة إمام ثقة، وابن جدعان، علي بن زيد ضعيف، مات سنة إحدى وثلاثين ومائة.

الشرح:

رواية ابن جدعان هذه يشهد لها ما تقدم من الروايات، وتقدم قوله: أول من يحرك غلق، وكلاهما يصح فالغلق المراد به قفل الباب، وصح هنا

بتحريك الحلَق بالحاء.

ما يستفاد: انظر ما تقدم.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

53 -

(6) أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، ثَنَا حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنِ الْمُخْتَارِ بْنِ فُلْفُلٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَنَا أَوَّلُ شَافِعٍ في الْجَنَّةِ»

(2)

.

(1)

فيه علي بن زيد بن جدعان ضعيف، وأخرجه الترمذي حديث (3148) وقال: حسن، من حديث أبي سعيد رضي الله عنه، وفي آخره قول سفيان: ليس عن أنس، إلا هذه الكلمة" فآخذ بحلقة باب الجنة فأقعقعها".

(2)

سنده حسن، وأخرجه مسلم حديث (331) وتقدم من حديث جابر بن عبد الله، أتم برقم (50).

ص: 129

رجال السند:

أحمد بن عبد الله بن يونس التميمي، أبو عبد الله الكوفي ثقة متقن، وحسين ابن علي الجعفي، أبو عبد الله المقرئ ثقة أذن في مسجد ستين سنة، وكان يقرئ الناس، وزائدة ابن قدامة الثقفي، أبو الصلت إمام ثقة، لا يحدث أحدا حتى يسأل عنه، فإن كان صاحب سنة حدثه، وإلا لم يحدثه، والمختار بن فلفل، مولى عمرو بن حريث، تابعي ثقة.

الشرح: انظر ما تقدم.

ما يستفاد: انظر ما تقدم.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

54 -

(7) أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قال: حَدَّثَنِي اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي يَزِيدُ - هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْهَادِ - عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنِّي لأَوَّلُ النَّاسِ تَنْشَقُّ الأَرْضُ عَنْ جُمْجُمَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ، وَأُعْطَى لِوَاءَ الْحَمْدِ وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ، وَآتِي باب الْجَنَّةِ فَآخُذُ بِحَلْقَتِهَا فَيَقُولُونَ: مَنْ هَذَا؟ فَأَقُولُ: أَنَا مُحَمَّدٌ. فَيَفْتَحُونَ لِي فَأَدْخُلُ فَأَجِدُ، فَأَجِدُ الْجَبَّارَ مُسْتَقْبِلِي فَأَسْجُدُ لَهُ فَيَقُولُ: ارْفَعْ رَأْسَكَ يَا مُحَمَّدُ، وَتَكَلَّمْ يُسْمَعْ مِنْكَ، وَقُلْ يُقْبَلْ مِنْكَ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ. فَأَرْفَعُ رَأْسِى فَأَقُولُ: أُمَّتِي أُمَّتِي يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: اذْهَبْ إِلَى أُمَّتِكَ، فَمَنْ وَجَدْتَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنَ الإِيمَانِ فَأَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ، فَأَذْهَبُ فَمَنْ وَجَدْتُ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ ذَلِكَ أَدْخَلْتُهُمُ الْجَنَّةَ]، وَفُرِغَ مِنْ حِسَابِ النَّاسِ، وَأُدْخِلَ مَنْ بَقِيَ مِنْ أُمَّتِي النَّارَ مَعَ أَهْلِ النَّارِ فَيَقُولُ أَهْلُ النَّارِ: مَا أَغْنَي عَنْكُمْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ

ص: 130

تَعْبُدُونَ اللَّهَ لَا تُشْرِكُونَ بِهِ شَيْئاً، فَيَقُولُ الْجَبَّارُ: فَبِعِزَّتِي لأَعْتِقَنَّهُمْ مِنَ النَّارِ، فَيُرْسِلُ إِلَيْهِمْ فَيَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ وَقَدِ امْتُحِشُوا، فَيَدْخُلُونَ فِي نَهْرِ الْحَيَاةِ فَيَنْبُتُونَ فِيهِ كَمَا تَنْبُتُ الْحِبَّةُ فِي غُثَاءِ السَّيْلِ، وَيُكْتَبُ بَيْنَ أَعْيُنِهِمْ: هَؤُلَاءِ عُتَقَاءُ اللَّهِ، فَيُذْهَبُ بِهِمْ فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ فَيَقُولُ لَهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ: هَؤُلَاءِ الْجَهَنَّمِيُّونَ، فَيَقُولُ الْجَبَّارُ: بَلْ هَؤُلَاءِ عُتَقَاءُ الْجَبَّارِ»

(1)

.

رجال السند:

عبد الله بن صالح كاتب الليث، حسن الحديث، تقدم وشيخه الليث بن سعد، ويزيد بن عبد الله بن الهاد ثقة، وعمرو بن أبي عمرو ميسرة، مولى المطلب ابن عبد الله بن حنطب المخزومي، توفي عمرو في أول خلافة أبي جعفر المنصور، ليس بهبأس، وكان صاحب مراسيل، وليس هذا منها.

الشرح:

هذا الحديث جُمع فيه ما تفرق فيما سبق من الروايات، وتقدم القول في كل رواية، وزاد هنا أنه لما يأخذ بحلق باب الجنة ويقعقعه يقول الملائكة: من،

(1)

فيه عبد الله بن صالح كاتب الليث، المرجح أنه حسن الحديث، وهو من رجال الصحيحين، ذكر ذلك الحفاظ: المزي، والذهبي، وابن حجر، تقدم من حديث أنس وجابر انظر: رقم (49) وما بعده.

وقد كتب لحقا في الهامش في (ك) ما نصه: " فأجد الجبار مستقبلي، فأسجد له فيقول: ارفع رأسك يا محمد وتكلم، يسمع منك، وقل، يقبل منك، واشفع تشفع. فأرفع رأسي فأقول: أمتي أمتي يا رب، فيقول: اذهب إلى أمتك فمن وجدت في قلبه مثقال حبة من شعير من الإيمان، فأدخله الجنة. فأذهب، فمن وجدت في قلبه مثقال ذلك أدخلتهم الجنة" وهو مكرر، ولعله بالنظر بين وزن شعيرة، ووزن حبة خردل من الإيمان.

ص: 131

فيخبرهم بأنه محمد صلى الله عليه وسلم، فيفتحون له الباب فيدخل صلى الله عليه وسلم، ويرى رب العزة والجلال في استقباله جل جلاله، فيبادر صلى الله عليه وسلم بالسجود تقديسا وتعظيما للجبار سبحانه، فيأمره ربه بأن يرفع رأسه، ويقول ما شاء ليُجب فيه صلى الله عليه وسلم، ولكون الشفاعة للأمة من أسنى المطالب لنبينا صلى الله عليه وسلم، فيبادر بالنهوض قائلا: أمتي أمتي يا رب، وهنا يتجلى التكريم لنبينا وأمته فيقول رب العزة والجلال:«اذهب إلى أمتك فمن وجدت في قلبه مثقال حبة من شعير من الإيمان فأدخله الجنة، فأذهب فمن وجدت في قلبه مثقال ذلك أدخلتهم الجنة» ]

(1)

، وبعد الفراغ من حساب الناس، ودخل من بقي من الأمة النار مع أهلها من الكفار، فيقول أهل النار: ما أغنى عنكم أنكم كنتم تعبدون الله لا تشركون به شيئا؟.

فيقول الجبار: «فبعزتي لأعتقهم من النار» فيرسل إليه فيخرجون من النار وقد احترقت جلودهم فيدخلون في نهر الحياة فينبتون فيه كما تنبت الحبة في غثاء السيل، ويكتب بين أعينهم: هؤلاء عتقاء الله، فيذهب بهم فيدخلون الجنة، فيقول لهم أهل الجنة: هؤلاء الجهنميون فيقول الجبار: «بل هؤلاء عتقاء الجبار» .

اللهم أجرنا من النار، وأدخلنا الجنة بغير حساب، ولا عذاب.

ما يستفاد:

* من الزيادة على ما تقدم بيان إجلال الملائكة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

* بيان أنه صلى الله عليه وسلم أول من يدخل الجنة من بني آدم عليه السلام.

(1)

ما بين المعقوفين كتب لحقا في الهامش في (ك).

ص: 132

* بيان تكريم الله عز وجل لعبده ورسوله نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بكونه أول من يبعث، وأول من يدخل الجنة، وأول من يستقبل الله عز وجل من البشر في الجنة، وأول من يسجد لربه في الجنة تعظيما وتقديسا لله عز وجل، وأول من يؤمر بالشفاعة للأمة.

* بيان فضل الإيمان بالله عز وجل، وأنه من أسباب عدم دخول النار، وإن قل فهو من أسباب عدم الخلود فيها.

* بيان تفويض نبينا بإخراج من دخل النار من أمته، وإدخالهم الجنة،

بفضل الله ورحمته.

* بيان صلف الكفار واستهزائهم بمن دخل النار من المؤمنين.

* بيان رحمة الله عز وجل بمن دخل النار من لأمة وانتصاره لهم.

* بيان ما هيأ الله للخارجين من النار لزوال آثارها وتهيئتهم لدخول الجنة.

* ولبيان أنهم أخرجوا من النار بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم فإنه يكتب بين أعينهم: هؤلاء عتقاء الله.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

55 -

(8) أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ يُونُسَ بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ أَبِى إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ، عَنِ ابْنِ غَنْمٍ قَالَ:" نَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَشَقَّ بَطْنَهُ، ثُمَّ قَالَ جِبْرِيلُ: قَلْبٌ وَكِيعٌ فِيهِ أُذُنَانِ سَمِيعَتَانِ وَعَيْنَانِ بَصِيرَتَانِ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ الْمُقَفي الْحَاشِرُ، خُلُقُكَ قَيِّمٌ، وَلِسَانُكَ صَادِقٌ، وَنَفْسُكَ مُطْمَئِنَّةٌ"

(1)

.

(1)

فيه عبد الله بن صالح كاتب الليث: أرجح أنه حسن الحديث.

ص: 133

قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَكِيعٌ يَعْنِي: شَدِيداً.

رجال السند:

عبد الله بن صالح، تقدم وحديثه حسن، ومعاوية بن صالح بن حدير، صدوق له أوهام، ويونس بن ميسرة بن حلبس، أبو حلبس الأعمى، تابعي ثقة، قتل في المسجد وهو يصلي، وأبو إدريس الخولاني، عائذ ابن عبد الله بن عمرو العوذي القاضي، تابعي ثقة إمام، وابن غنم: عمرو ابن ثعلبة بن وهب بن عدى بن مالك بن غنم بن عدي بن النجار، شهد

بدرا.

الشرح:

تقدمت روايات في شق بطنه صلى الله عليه وسلم، وأضافت هذه الرواية ذكر جبريل عليه السلام أوصافا هي من خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه ذا قلب شديد محكم يحتمل ما يلقي إليه من أعباء النبوة والرسالة، مشيدا بسمعه وبصره صلى الله عليه وسلم، وهو أثر للعناية بقلبه صلى الله عليه وسلم؛ لأن وعي القلب شرط في صحة السمع والبصر.

أما قول جبريل عليه السلام: «محمد رسول الله المقفي الحاشر» فلم أقف على ذكر لمعنى ذلك، وأرى أن قوله:" المقفي" يراد به أنه خاتم الأنبياء والرسل، وأن دين الإسلام خاتمة الأديان، إذ جاء مقفيا للأنبياء والرسل والأديان، فصار من أسمائه قال صلى الله عليه وسلم:«أنا محمد، وأحمد، والمقفي»

(1)

، وقوله:" الحاشر" لعل المراد أن أمته أول من يحشر يوم القيامة، وأول من يحاسب،

(1)

مسلم حديث (2355).

ص: 134

يؤيد هذا قوله صلى الله عليه وسلم: «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة»

(1)

، أي: نحن الآخرون في الخلق السابقون في الحساب والدخول إلى الجنة، فصار ذلك اسما له، قال صلى الله عليه وسلم:«أنا محمد، وأحمد، والمقفي، والحاشر» ثم وصف جبريل عليه السلام خلقه صلى الله عليه وسلم بأنه مستقيم عادل، وأن لسانه صلى الله عليه وسلم صادق؛ لأنه لا ينطق عن الهوى، أنه صلى الله عليه وسلم ساكن النفس هادئ الطبع كريم الخلق.

ما يستفاد:

* ثبوت تلك الأوصاف لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم أيد هذا قول الله عز وجل: {وَإِنَّكَ لَعَلَى

خُلُقٍ عَظِيمٍ}

(2)

.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

56 -

(9) أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِى مُعَاوِيَةُ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ رُوَيْمٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ أَدْرَكَ بِيَ الأَجَلَ الْمَرْحُومَ

(3)

، وَاخْتَصَرَ لِيَ اخْتِصَاراً، فَنَحْنُ الآخِرُونَ وَنَحْنُ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِنِّي قَائِلٌ قَوْلاً غَيْرَ فَخْرٍ: إِبْرَاهِيمُ خَلِيلُ اللَّهِ، وَمُوسَى صَفِيُّ اللَّهِ، وَأَنَا حَبِيبُ اللَّهِ وَمَعِي لِوَاءُ الْحَمْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّ اللَّهَ عز وجل وَعَدَنِي فِي أُمَّتِي

(1)

البخاري حديث (238) ومسلم (855).

(2)

الآية (4) من سورة القلم.

(3)

لعله المحتوم.

ص: 135

وَأَجَارَهُمْ مِنْ ثَلَاثٍ: لَا يَعُمُّهُمْ بِسَنَةٍ

(1)

، وَلَا يَسْتَأْصِلُهُمْ عَدُوٌّ، وَلَا يَجْمَعُهُمْ عَلَى ضَلَالَةٍ»

(2)

.

رجال السند:

عبد الله بن صالح تقدم حسن الحديث، ومعاوية، تقدم صدوق له أوهام، وعروة بن رُوَيم اللخمي أبو القاسم صدوق يرسل كثيراً، ولم يدرك ابن أم مكتوم، عمرو بن قيس بن زائدة بن أم مكتوم مؤذن رسول الله رضي الله عنه. هذه الرواية معضلة والخبرصحيح فيما تقدم من ألفاظه، وفيه زيادة بشارة للأمة.

الشرح:

تقدم بعض ألفظه، وقوله:«إن الله أدرك بي الأجل المرحوم» أي: جعل زمانه رحمة للأمة، وضاعف الله فيه لأجر لعباده الصاحين، رغم قلة العمل، كفرض الصلاة خمس مرات في اليوم، وهي خمسون في الأجر، ولذلك ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلا للأمة فقال: «مثلكم ومثل أهل الكتابين، كمثل رجل استأجر أجراء، فقال: من يعمل لي من غدوة إلى نصف النهار على قيراط؟ فعملت اليهود، ثم قال: من يعمل لي من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط؟ فعملت النصارى، ثم قال: من يعمل لي من العصر إلى أن تغيب الشمس على قيراطين؟ فأنتم هم "، فغضبت اليهود،

(1)

أي قحط وإجداب، انظر (الصحاح 1/ 621).

(2)

فيه كاتب الليث: أرجح أنه حسن الحديث. وتقدم برقم (50 - 51). وزاد هنا إن الله وعدني في أمتي

الخ، وانظر: القطوف رقم (21/ 55).

ص: 136

والنصارى، فقالوا: ما لنا أكثر عملا، وأقل عطاء؟ قال: «هل نقصتكم من حقكم؟ قالوا: لا، قال: فذلك، فضلي أوتيه من أشاء"

(1)

.

قوله صلى الله عليه وسلم: «واختصر لي اختصارا» أي: أعطاه جوامع الكلم، فتملك الإيجاز، والإعجاز في الفصاحة، ويصح أن يكون المراد القرآن اختصر له أخبار من سبق من الأمم، وما نزل من الكتب، والتفضيل على الأمم لذلك قال صلى الله عليه وسلم:«فنحن الآخرون، ونحن السابقون يوم القيامة»

(2)

، والمعنى ما ورد في قوله صلى الله عليه وسلم:«نحن الآخرون من أهل الدنيا، والأولون يوم القيامة، المقضي لهم قبل الخلائق»

(3)

،

قوله صلى الله عليه وسلم: «وإن الله وعدني في أمتي وأجارهم من ثلاث: لا يعمهم بسنة

(4)

، ولا يستأصلهم عدو، ولا يجمعهم على ضلالة» هذا الوعد من الله عز وجل تكريم لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فقد سأل ربه ذلك زيادة فقال:«إني سألت ربي أن لا يهلك أمتي بسنة فأعطانيها، وسألته أن لا يسلط عليهم عدوا من غيرهم فيستبيحهم فأعطانيها، وسألته أن لا يلبسهم شيعا، ويذيق بعضهمبأسبعض فأبى علي، أو قال فمنعنيها، فقلت: حمى إذا أو طاعونا، حمى إذا أو طاعونا، حمى إذا أو طاعونا» ثلاث مرات

(5)

، والمراد أن الله عز وجل أمن الأمة من هلاك عام بشدة وجوع يقع فيها فتهلك عن بكرة أبيها، ولم يؤمن بعض

(1)

البخاري حديث (2268).

(2)

البخاري حديث (238) ومسلم (855).

(3)

مسلم حديث (856).

(4)

أي قحط وإجداب، انظر (الصحاح 1/ 621).

(5)

أحمد حديث (22136).

ص: 137

الأمة من وقوع شيء من ذلك، كما هو الحال في كل زمان، وأمنهم من عدو يستأصل الأمة بأسرها، وليس من ذلك ما قد يقع لبعض الأمة من عدوها، وأمنها من إجماع علمائها وعقلائها على ضلال، وليس منه وقوع الضلال من بعض الأمة، وفي رواية أحمد رحمه الله عدم منع الأمن من الاختلاف والتفرق، فقد يكون ذلك سخطا من الله عليها، ومن عقوبة الأمة وقوع الأمراض الفتاكة، كما هو الحال في اليمن اليوم من وباء الكلرا، بسبب تسلط بعضهم على بعض، وما يحدث في سوريا والعراق اليوم وغيرها، لا ريب أن ذلك عقوبة من الله عز وجل.

ما يستفاد:

*زيادة على ما سبق بيان بركة رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان زمنه رحمة للعالمين.

* بيان فضل الأمة إذ جعلها الله عز وجل آخر الأمم وجودا في الدنيا، وأولها بعثا في الآخرة ودخولا الجنة.

* بيان حرص نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على الأمة كافة وسؤال ربه عز وجل ألا يعمهم بعذاب.

* بيان أن عموم الأمة آمنة من الهلاك بالقحط الشامل.

* وأنها آمنة من عدو يبيدها عن بكرة أبيها.

* أن الأمة لا يجتمع علماؤها وعقلاؤها إلا على الحق، وهذا كله من رحمة الله عز وجل بالأمة.

ص: 138

* بيان أن اختلاف الأمة وتفرقها شر ولاسيما في الاعتقاد، وإن حدث فهو عقوبة من الله عز وجل، ولذلك توعد الله عز وجل بذلك فقال:{أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ}

(1)

.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

9 -

‌ بابٌ مَا أُكْرِمَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بِنُزُولِ الطَّعَامِ مِنَ السَّمَاءِ

57 -

(1) حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُبَارَكِ، ثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ يَحْيَى، ثَنَا أَرْطَاةُ بْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ ضَمُرَةَ بْنِ حَبِيبٍ قَالَ: سَمِعْتُ مَسْلَمَةَ السَّكُونِيَّ - وَقَالَ غَيْرُ مُحَمَّدٍ: سَلَمَةَ السَّكُونِيَّ - قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ قَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ أُتِيتَ بِطَعَامٍ مِنَ السَّمَاءِ؟ قَالَ:«نَعَمْ أُتِيتُ بِطَعَامٍ» . قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، هَلْ كَانَ فِيهِ مِنْ فَضْلٍ؟ قَالَ:«نَعَمْ» . قَالَ: فَمَا فُعِلَ بِهِ؟ قَالَ: «رُفِعَ إِلَى السَّمَاءِ وَقَدْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنِّي غَيْرُ لَابِثٍ فِيكُمْ إِلاَّ قَلِيلاً، ثُمَّ تَلْبَثُونَ حَتَّى تَقُولُوا مَتَى مَتَى؟ ثُمَّ تَأْتُونِي أَفْنَاداً يُفْنِي بَعْضُكُمْ بَعْضاً

(2)

، بَيْنَ يَدَي السَّاعَةِ مُوتَانٌ

(3)

، شَدِيدٌ، وَبَعْدَهُ سَنَوَاتُ الزَّلَازِل»

(4)

.

رجال السند:

(1)

من الآية (65) من سورة الأنعام.

(2)

في حاشية (ت) أي تصيرون فرقا مختلفين.

(3)

جاء في حاشية (ت) الموتان: الطاعون وهو الموت يفشو في الناس. وفي حاشية (ت) موتا شديدا وعليه الرمز (خ ط) والأول صحيح فهو الموت الكثير. انظر (النهاية 4/ 370)

(4)

حسن، فيه أبو مطيع معاوية بن يحي: صدوق له أوهام، والخبرأخرجه أحمد حديث (16964).

ص: 139

محمد بن المبارك، أبو عبد الله القلانسي، ثقة إمام، ومعاوية بن يحيى، هو أبومطيع الدمشقي، صدوق، أرطأة بن المنذر، هو أبو عدي الحمصي، ثقة إمام، لم يرو له الشيخان، وضمرة بن حبيب أبو عتبة الزبيدي الحمصي، ثقة، ومسلمة السكوني، وقال غير محمد بن المبارك: سلمة السكوني، فإن وقع التصحيف في الاسم فقط، فسلمة له صحبة، وهو من زبيد باليمن نزل حمص.

الشرح:

هذا حديث حسن، قوله:" إذ قال قائل " القائل صحابي دون شك، كأن علمه بمائدة عيسى عليه السلام دفعه إلى هذا، قوله:«نعم أتيت بطعام» وثبت، أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا في صلاة الخسوف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، رأيناك تناولت شيئا في مقامك، ثم رأيناك تكعكعت، قال:«إني أريت الجنة، فتناولت منها عنقودا، ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا»

(1)

، قوله:"هل كان فيه من فضل؟ " المراد الطعام وهو غير العنب، ثم بين أنه رفع إلى السماء.

قوله: «وقد أوحي إليّ أني غير لابث فيكم إلا قليلا» .

هذا إخبار بدنو أجله صلى الله عليه وسلم، وأنهم يبقون بعده والخطاب للأمة حتى يقول الصالحون منهم متى، متى؟ اللحوق به صلى الله عليه وسلم لما يرون من الفتن، وإن خاصا بالصحابة رضي الله عنهم فالمراد أنهم يقولون: متى؟ متى؟، يعني اللحوق بالرسول صلى الله عليه وسلم شوقا إلى صحبته في الجنة كما صحبوه في الدنيا، قوله: «ثم تأتوني أفنادا

(1)

البخاري حديث (748) ومسلم حديث (907).

ص: 140

يفني بعضكم بعضا» أي: جماعات مختلفين، فيه إشارة إلى ما وقع بين الصحابة من الخلاف وقتال بعضهم بعضا، وليس هذا واقع حالهم بل يعم حال الأمة إلى يوم القيامة، بسبب اختلافهم في الاعتقاد، وحب الدنيا وشهواتها، ونهى عن اقتتال الأمة أشد النهي فقال:«لا ترجعوا بعدي كفارا، يضرب بعضكم رقاب بعض»

(1)

، ولعل هذا لا يراد به الكفر الحقيقي؛ لأن بعض الأعمال يطلق عليه الكفر تغليظا، إلا من استحل ما حرم الله عز وجل، قوله:«بين يدي الساعة موتان» أي: موت بسبب المرض كالطاعون، وآخر بسبب كثرة القتل قال صلى الله عليه وسلم:«لا تقوم الساعة حتى يقبض العلم، وتكثر الزلازل، ويتقارب الزمان، وتظهر الفتن، ويكثر الهرج: وهو القتل القتل، حتى يكثر فيكم المال فيفيض، بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ مُوتَان شديد، وبعده سنوات الزلازل»

(2)

، وقد كثر القتل بأسباب كثيرة منها قتل الناس بعضهم بعضا، وما يكون بسبب الزلازل، والعواصف، والفيضانات، وحوادث الطرق، وقد ذكر من ذلك الطاعون كتب لحقا في هامش بعض النسخ الخطبة، ولعل هذا أبرز الأسباب في زمان المعلق.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

58 -

(2) أَخْبَرَنَاْ عثمَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ، ثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَنَا سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ، عَنْ أَبِي الْعَلَاءِ، عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ: " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِقَصْعَةٍ مِنْ ثَرِيدٍ فَوُضِعَتْ بَيْنَ يَدَي الْقَوْمِ، فَتَعَاقَبُوهَا إِلَى الظُّهْرِ مِنْ غُدْوَةٍ يَقُومُ قَوْمٌ

(1)

البخاري حديث (121) ومسلم حديث (118).

(2)

البخاري حديث (1036) ومسلم حديث (157).

ص: 141

وَيَجْلِسُ آخَرُونَ، فَقَالَ رَجُلٌ لِسَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ: أَمَا كَانَتْ تُمَدُّ؟ فَقَالَ سَمُرَةُ: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ تَعْجَبُ؟ مَا كَانَتْ تَمُدُّ إِلاَّ مِنْ هَاهُنَا، وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى السَّمَاءِ"

(1)

.

رجال السند:

عثمان بن محمد بن أبي شيبة، أبو الحسن ثقة إمام، حديثه في الصحيحين، ويزيد بن هارون، أبو خالد الواسطي، ثقة إمام قدوة، وسليمان التيمي ابن طرخان، أبو المعتمر، إمام ثقة، وأبو العلاء يزيد بن عبد الله بن الشخير البصري، ثقة إمام.

الشرح:

الحديث حسن، وفيه ذكر معجزة وكرامة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ودلالة على صدق

نبوته ورسالته، قوله:" فقال رجل لسمرة بن جندب: أما كانت تمد؟ " كأن القائل استغرب كثرة القوم يأكلون من القصعة، دون أن يزاد الطعام فيها، ولذلك قال سمرة رضي الله عنه:"من أي شيء تعجب؟ ما كانت تمد إلا من ههنا، وأشار بيده إلى السماء" أي: ما كان يزاد الطعام في القصعة من الأرض، وإنما المدد من عند الله عز وجل، ولو بقي القوم عليها سنة جلوسا لأكلون دون مدد من الأرض؛ لأنها معجزة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

ما يستفاد:

* التصديق بالمعجزات وأنها تأييد من الله للرسل عليهم السلام.

* الإيمان بأن الله عز وجل على كل شيء قدير.

(1)

فيه سليمان التيمي: صدوق يخطئ، والخبرأخرجه الترمذي حديث (3625) وقال: حديث حسن صحيح.

ص: 142

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

10 -

‌ بابٌ فِي حُسْنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

-

59 -

(1) حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَشْعَثَ ابْنِ سَوَّارٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: " رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي لَيْلَةٍ ضِحْيَانٍ

(1)

، وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ حَمْرَاءُ، فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ إِلَيْهِ وَإِلَى الْقَمَرِ، قَال: فَلَهُوَ

(2)

كَانَ أَحْسَنَ فِي عَيْنِي مِنَ الْقَمَرِ"

(3)

.

رجال السند:

محمد بن سعيد الأصبهاني ثقة تقدم، وعبد الرحمن بن محمد المحاربي، حافظ ثقة، تقدم، وأشعث بن سوار القاضي الكوفي، ضعفه الجمهور، وأبو إسحاق، السبيعي، إمام تقدم.

الشرح:

قوله «في ليلة ضحيان» أي" مضيئة شبيهة بالضحى، إذا كانت صافية مقمرة، قوله:«وعليه حلة حمراء» الحلة إزار ورداء من لون واحد، ولا يقال لها حلة إلا أن تكون كذلك، وفي لبسها خلاف، والظاهر الجواز ما لم تكن لباس شهرة، أو كبرياء.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

(1)

فسرت في هامش (ت) ليلة ضحيانة، وضحيان مضيئة تنير. وهو كذلك انظر (النهاية 3/ 78).

(2)

في بعض النسخ الخطية" فهو" وكلاهما يصح بلام التوكيد وبدونها.

(3)

فيه الأشعث بن سوار: ضعيف، والخبرأخرجه الترمذي حديث (2811) هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث الأشعث.

ص: 143

60 -

(2) أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ

(1)

، ثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ الزُّهْرِيُّ قال: حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنُ أَخِي مُوسَى، عَنْ عَمِّهِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ كُرَيْبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَفْلَجَ الثَّنِيَّتَيْنِ، إِذَا تَكَلَّمَ رُئِيَ كَالنُّورِ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ

(2)

ثَنَايَاهُ "

(3)

.

رجال السند:

إبراهيم بن المنذر، أبو إسحاق الأسدي الحزامي، إمام ثقة، وعبد العزيز ابن أبي ثابت عمران الزهري، ضعف لكثرة غلطه بعد احتراق كتبه، وإسماعيل بن إبراهيم بن عقبة، ابن أخي موسى، عمه موسى بن عقبة، أبو محمد، فقيه ثقة، أول من ألف في المغازي، وكريب بن مسلم، أبو رشدين إمام ثقة.

الشرح:

قول: «أفلج الثنيتين، إذا تكلم رئي كالنور يخرج من بين ثناياه» .

هذا من صفة خلقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان بعيد ما بين الثنايا، فبدنه صلى الله عليه وسلم مشتمل على أكمل الحسن، وقد ذكرت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخصف نعله، وكانت تغزل قالت: فنظرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل جبينه يعرق وجعل عرقه يتوقد نورا قالت: فبهت، قالت: فنظر إلي فقال: «ما لك بهت؟» فقلت: يا رسول الله نظرت إليك فجعل جبينك

(1)

كتب في هامش (ك) في الأصل إسماعيل بن إبراهيم.

(2)

جاء في هامش بعض النسخ الخطية" بين" بدون (من).

(3)

فيه عبد العزيز بن أبي ثابت الزهري: متروك، وانظر: القطوف رقم (22/ 59).

ص: 144

يعرق وجعل عرقك يتولد نورا فلو رآك أبو كبير الهذلي لعلم أنك أحق بشعره قال: «وما يقول يا عائشة أبو كبير الهذلي؟» فقالت: يقول:

ومبرأ من كل غبر حيضة

وفساد مرضعة وداء مغيل

وإذا نظرت إلى أسرة وجهه

برقت كبرق العارض المتهلل

قالت: فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان في يده وقام إلي فقبل ما بين عيني وقال: «جزاك الله يا عائشة خيرا ما سررت مني كسروري منك» فكل شيء في رسول الله صلى الله عليه وسلم جميل، سواء في الخَلْق أو الخُلُق.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

61 -

(3) أَخْبَرَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ قال: أَنبأ

مِسْعَرٌ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ:

" مَا رَأَيْتُ أَحَداً أَنْجَدَ وَلَا أَجْوَدَ وَلَا أَشْجَعَ وَلَا أَضْوَأَ وَأَوْضَأَ

(1)

مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "

(2)

.

رجال السند: محمود بن غيلان، أبو محمد المروزي، إمام ثقة، ويزيد بن هارون ثقة تقدم، ومسعر بن كدام الكوفي، أبو سلمة إمام ثقة، وعبد الملك بن

(1)

ليست في (ت) وفي الأصل" أضوأ" والحاشية" أوضأ" وعليها علامة التصحيح. وهو كذلك لأنه من الوضاءة، وهي الحسن. انظر (النهاية 5/ 195).

(2)

سنده منقطع، عبد الملك بن عمير لم يدرك ابن عمر رضي الله عنه، وانظر: القطوف رقم (23/ 60).

ص: 145

عمير، لم يدرك ابن عمر، وما ذكر من الصفات لا ريب أنها تليق برسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

62 -

(4) أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ الْحِزَامِيُّ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ

(1)

بْنُ مُوسَى، ثَنَا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ قَالَ: قُلْتُ لِلرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذِ بْنِ عَفْرَاءَ: صِفِي لَنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ:" يَا بُنَيَّ لَوْ رَأَيْتَهُ رَأَيْتَ الشَّمْسَ طَالِعَةً "

(2)

.

رجال السند:

إبراهيم بن المنذر الحزام، إمام ثقة، تقدم، وعبد الله بن موسى أبو محمد

الطلحي، صدوق كثير الخطأ، وهذا مما لم يخطئ فيه، وأسامة بن زيد الليثي، أبو محمد لابأس به، وأبو عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر، وثقه الإمامان أحمد وابن معين، الربيع بنت معوذ بن عفراء، والدها من البدريين رضي الله عنهما.

قال الدارمي رحمه الله:

63 -

(5) أَخْبَرَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ، ثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، أَنْبَأَنَا ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ:" كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَزْهَرَ اللَّوْنِ، كَأَنَّ عَرَقَهُ اللُّؤْلُؤُ، إِذَا مَشَى تَكَفَّأَ، وَمَا مَسِسْتُ حَرِيرَةً وَلَا دِيبَاجَةً أَلْيَنَ مِنْ كَفِّهِ، وَلَا شَمِمْتُ رَائِحَةً قَطُّ أَطْيَبَ مِنْ رَائِحَتِهِ، مِسْكَةً وَلَا غَيْرَهَا ".

(1)

في بعض النسخ الخطية" عبيد الله".

(2)

ت: فيه عبد الله بن موسى بن إبراهيم التيمي، وشيخه أسامة: الأول صدوق كثير الخطأ، والثاني يهم، ولم أقف عليه في موضع آخر.

ص: 146

رجال السند:

حجاج بن منهال، وحماد بن سلمة، وثابت البناني، أئمة ثقات تقدموا، وأنس رضي الله عنه.

الشرح:

ما ذكر أنس رضي الله عنه من وصف عرق رسول الله صلى الله عليه وسلم ولين كفه، وطيب ريحه كل ذلك يليق بالمصطفى صلى الله عليه وسلم، فقد كمله الله عز وجل وجمله، والروايات في شمائله كثيرة ولا تكاد تحصر.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

64 -

(6) أَخْبَرَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، ثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسِ ابْنِ مَالِكٍ قَالَ: خَدَمْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَمَا قَالَ لِي أُفٍّ قَطُّ، وَلَا قَالَ لِي لِشَيْءٍ صَنَعْتُهُ: لِمَ صَنَعْتَ كَذَا وَكَذَا؟، أَوْ هَلاَّ صَنَعْتَ كَذَا وَكَذَا؟، وَقَالَ: لَا وَاللَّهِ مَا مَسِسْتُ

(1)

بِيَدِي دِيبَاجاً وَلَا حَرِيراً أَلْيَنَ مِنْ يَدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَا وَجَدْتُ رِيحاً قَطُّ أَوْ عَرَقاً كَانَ أَطْيَبَ مِنْ عَرَقِ أَوْ رِيحِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

(2)

.

رجال السند:

أبو النعمان محمد بن الفضل عارم، ثقة إمام تقدم، وحماد بن زيد البصري، أبو إسماعيل الجهضمي، إمام ثقة، وثابت البناني، ثقات تقدموا.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

65 -

(7) أخبرنا محمد بن يزيد الرفاعي، ثنا أبو بكر، عن حبيب بن خدرة، قال: حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنْ بَنِي حُرَيْش قَالَ: كُنْتُ مَعَ أَبِي حِينَ رَجَمَ رَسُولُ

(1)

في بعض النسخ الخطية" مسيت" وصححت في الحاشية (مسست) وكلاهما صحيح.

(2)

رجاله ثقات، تقدم برقم (62).

ص: 147

اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ، فَلَمَّا أَخَذَتْهُ الْحِجَارَةُ أُرْعِبْتُ فَضَمَّنِي إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَالَ عَلَىَّ مِنْ عَرَقِ إِبْطِهِ مِثْلُ رِيحِ الْمِسْكِ

(1)

.

رجال السند:

محمد بن يزيد الرفاعي، أبو هشام المقرئ، لابأس به، قيل: أخرج له البخاري، فلعله محمد بن يزيد الكوفي، وأبو بكر بن عياش الكوفي، المقرئ ثقة، وحبيب ابن خدرة، من صغار التابعين مجهول ورجل من بني حريش، صحابي لا تضر جهالته.

الشرح:

ماعز رضي الله عنه وقع في الزنا، فاشتد عليه حمل ذلك الذنب فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم،

فقال: إني أصبت فاحشة، فأقمه علي، فرده النبي صلى الله عليه وسلم مرارا، قال: ثم سأل قومه، فقالوا: ما نعلم به بأسا إلا أنه أصاب شيئا يرى أنه لا يخرجه منه إلا أن يقام فيه الحد، قال: فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأمرنا أن نرجمه، قال: فانطلقنا به إلى بقيع الغرقد، قال: فما أوثقناه، ولا حفرنا له، قال: فرميناه بالعظم، والمدر، والخزف، قال: فاشتد، واشتددنا خلفه حتى أتى عرض الحرة، فانتصب لنا فرميناه بجلاميد الحرة

(2)

، حتى سكت

(3)

، في رواية الدارمي ما يؤكد الحمل على حبيب بن خدرة لجهالته؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحضر الرجم، فالرواية تعارض الثابت، فتسقط هذه الرواية فيما يخص حضور النبي صلى الله عليه وسلم، ومن غيرها صح طيب ريح عرقه صلى الله عليه وسلم.

(1)

فيه حبيب بن خدرة: لا يعرف، وانظر: القطوف رقم (25/ 64).

(2)

حجارتها.

(3)

مات، وانظر مسلم حديث (1694).

ص: 148

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

66 -

(8) حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، ثَنَا زُهَيْرٌ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: سَأَلَهُ رَجُلٌ قَالَ: أَرَأَيْتَ كَانَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِثْلَ السَّيْفِ؟ قَالَ: لَا مِثْلَ الْقَمَرِ

(1)

.

رجال السند:

أبو نعيم الفضل بن دكين، الطلحي مولى آل طلحة، إمام ثقة، وزهير ابن معاوية الجعفي، أبو خيثمة، ثقة إمام، وأبو إسحاق السبيعي، ثقة تغير، تقدموا جميعا.

الشرح:

قوله: «أرأيت كان وجه رسول الله مثل السيف؟ قال: لا، مثل القمر» .

لعل الراوي أراد أن يعلم صفة وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطول واللمعان فذكر السيف، وقد يوصف وجه الرجل بذلك من حيث الطول والصفاء، ولكن البراء رضي الله عنه رد السائل إلى الأفضل والحقيقة فقال:" لا، مثل القمر ".

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

67 -

(9) أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَنْبَأَنَا شَرِيكٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ:"كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُعْرَفُ بِاللَّيْلِ بِرِيحِ الطِّيبِ"

(2)

.

(1)

رجاله ثقات. والخبرأخرجه البخاري حديث (3552).

(2)

كتب على هامش الأصل. هكذا (في الأصل (بريح الطيب). رجاله ثقات لكنه مرسل. وإن كان إبراهيم النخعي دخل على عائشة، لكن العلماء لم يثبتوا سماعه منها. وانظر: القطوف رقم (26/ 66).

ص: 149

رجال السند:

يزيد بن هارون، ثقة تقدم، وشريك بن عبد الله النخعي، أبو عبد الله صدوق كثيرالغلط بعد التغير، والأعمش سليمان بن مهران إمام ثقة، وإبراهيم بن يزيد النخعي، أبو عمران إمام ثقة، أرسل هذا الخبر، وقد صح طيب ريح سول الله صلى الله عليه وسلم، ليلا ونها فطيب ريح جسده ملازم له في كل الأحوال صلى الله عليه وسلم.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

68 -

(10) أَخْبَرَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، ثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْهَاشِمِيُّ، أَنْبَأنَا الْمُغِيرَةُ بْنُ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ: أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَسْلُكْ طَرِيقاً - أَوْ لَا يَسْلُكُ طَرِيقاً - فَيَتْبَعُهُ أَحَدٌ إِلاَّ عَرَفَ أَنَّهُ قَدْ سَلَكَهُ، مِنْ طِيبِ عَرْفِهِ

(1)

- أَوْ قَالَ -: مِنْ رِيحِ عَرَقِهِ

(2)

.

رجال السند:

مالك بن إسماعيل، الكوفي، أبو غسان النهدي، إمام ثقة، وإسحاق بن الفضل بن عبد الرحمن الهاشمي، من أفراد الدامي ليس له إلا هذا، سكت عنه الأئمة، ووثقه ابن حبان، ويعتبر في هذه الحال، والمغيرة بن عطية، هو كسابقه، عن أبي الزبير، هو محمد بن مسلم بن تدرس المكي، راوية جابر رضي الله عنه، مشهور بالتدليس، وهذه الرواية مؤيدة بما سبق، ولا غرابة فقد اجتمع لرسول الله صلى الله عليه وسلم الطيب في الثياب، وكان يحبه، وطيب ريح البدن صلى الله عليه وسلم.

(1)

الصواب: عرفه، بالفاء في الموضعين في (ت، ك) وقد صوبت في هامش (ت).

(2)

فيه إسحاق بن الفضل: ذكره الطوسي في رجال الشيعة، انظر (لسان الميزان 1/ 368) ولم أقف على المغيرة، ولعله المذكر في (الثقات لابن حبان 9/ 168).

ص: 150

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

11 -

‌ بابٌ مَا أَكْرَمَ اللَّهُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مِنْ كَلَامِ الْمَوْتَى

69 -

(1) أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو اللَّيْثِيُّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْكُلُ الْهَدِيَّةَ وَلَا يَقْبَلُ الصَّدَقَةَ، فَأَهْدَتْ لَهُ امْرَأَةٌ مِنْ يَهُودِ خَيْبَرَ شَاةً مَصْلِيَّةً

(1)

، فَتَنَاوَلَ مِنْهَا وَتَنَاوَلَ مِنْهَا بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ، ثُمَّ رَفَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ ثُمَّ قَالَ:«إِنَّ هَذِهِ تُخْبِرُنِي أَنَّهَا مَسْمُومَةٌ» فَمَاتَ بِشْرُ ابْنُ الْبَرَاءِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«مَا حَمَلَكِ عَلَى مَا صَنَعْتِ؟ " فَقَالَتْ: إِنْ كُنْتَ نَبِيًّا لَمْ يَضُرَّكَ شَيْءٌ، وَإِنْ كُنْتَ مَلِكاً أَرَحْتُ النَّاسَ مِنْكَ فَقَالَ فِي مَرَضِهِ: " مَا زِلْتُ مِنَ الأَكْلَةِ الَّتِي أَكَلْتُ بِخَيْبَرَ، فَهَذَا أَوَانُ انْقِطَاعِ أَبْهَرِى»

(2)

.

رجال السند:

جعفر بن عون المخزومي، أبو عبد الله العمري، إمام ثقة، ومحمد بن عمرو الليثي، هو ابن علقمة بن وقاص، أبو الحسن المدني، ليس به بأس راوية أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، ثقة مكثر، وأَبِو سَلَمَةَ، هو ابن عبد الرحمن بن عوف الصحابي، قاضي المدين، اسمه كنيته، أمام ثقة.

الشرح:

قوله: «يأكل الهدية ولا يقبل الصدقة» .

الهدية عامة، يهدي الإنسان لصديقه، أو لأخيه وجاره، والصدقة يتقرب بها إلى الله، ولها مصارفها الخاصة، مثل الفقراء، والمساكين، وغير هذا

(1)

أي مشوية. انظر: (الصحاح 1/ 732).

(2)

جاء في حاشية الأصل: الأبهر: عرق متصل بالقلب، وقال في (الصحاح 1/ 120) الأبهر: عرق إذا انقطع مات صاحبه.

ص: 151

من أبواب البر، وكان من علامات نبوة محمد أنه يقبل الهدية، ويرد الصدقة، فكان سلمان الفارسي يعلم ذلك من أهل الكتاب فكان من موقفه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قدم رسول الله مهاجراً أن قال: الآن سأعرف، وكان يعمل في بستان رجل يهودي، فجاء برطب وقال: يا محمد، هذه صدقة مني عليك، قال: إني لا آكل الصدقة، وقدمها لمن معه، فقال سلمان: هذه واحدة، ثم رجع من الغد وقال: يا محمد! هذا هدية مني إليك، فأخذها وأكل، فقال: هذه ثانية، ثم لما أراد أن يذهب ناداه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: تعال انظر إلى الثالثة، وكشف له ما بين كتفيه، فنظر إلى خاتم النبوة فقبله سلمان، وأعلن إسلامه رضي الله عنه، وقال: أشهد أنك رسول الله.

فإن الله أعلم رسوله بأن سلمان يعلم من علامات النبوة ثلاثاً: لا يأكل الصدقة، ويقبل الهدية، وبين كتفيه خاتم النبوة، فلما رأى سلمان الأولى والثانية أخبره رسول الله بالثالثة قبل أن يتكلم بها سلمان، وما حدث من اليهودية، مفاده أنها تؤمن بعصمة الأنبياء، فأقدمت على تسميم الشاة، فكشف الله عز وجل أمرها، وحما رسوله من شرها، وقد قيل في قصتها: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر واطمأن جعلت زينب بنت الحارث أخي مرحب، وهي امرأة سلام بن مشكم تسأل: أي الشاة أحب إلى محمد؟ فيقولون: الذراع، فعمدت إلى عنز لها فذبحتها وشوتها، ثم عمدت إلى سم لا يُطْني

(1)

، وقد شاورت يهود في سموم، فأجمعوا لها على هذا السم بعينه، فسمت الشاة وأكثرت في الذراعين والكتف، فلما غابت الشمس وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم المغرب بالناس انصرف

(1)

أي: لم يكن من الذي تعافه النفس لعدم طهور طعمه أو رائحته.

ص: 152

وهي جالسة عند رجليه، فسأل عنها فقالت: يا أبا القاسم، هدية أهديتها لك، فأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذت منها فوضعت بين يديه وأصحابه حضور أو من حضر منهم، وفيهم بشر ابن البراء بن معرور البدري، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ادنوا فتعشوا» وتناول رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذراع فانتهش منها، وتناول بشر بن البراء عظما آخر فانتهش منه، فلما ازدرد رسول الله صلى الله عليه وسلم لقمته، ازدرد بشر بن البراء ما في فيه، وأكل القوم منها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ارفعوا أيديكم، فإن هذه الذراع، وقال بعضهم: فإن كتف الشاة تخبرني أنها مسمومة» فقال بشر: والذي أكرمك، لقد وجدت ذلك من أكلتي التي أكلت حين التقمتها، فما منعني أن ألفظها إلا أني كرهت أن أبغض إليك طعامك، فلما أكلت ما في فيك لم أرغب بنفسي عن نفسك، ورجوت أن لا تكون ازدردتها وفيها بغى

(1)

، مات بسبب ما فعلت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم بشر بن البراء رضي الله عنه، فأرسل إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسألها «ما حملك على ما صنعت؟» فقالت:" إن كنت نبيا لم يضرك شيء، وإن كنت ملكا أرحت الناس منك " فعفا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعاقبها فيما يخصه، ولكنه أمر بها فقتلت قصاصا ببشر رضي الله عنه؛ لأنه مات بسبب السم الذي وضعته، وقال الزهري: أسلمت فتركها، قال معمر: وأما الناس فيذكرون أنه قتلها.

وبقي أثر السم يجد منه صلى الله عليه وسلم إلى أن قال: في مرضه: «ما زلت من الأكلة التي أكلت بخيبر، فهذا أوان انقطاع أبهري» الأبهر: هو في الظهر، وهو أحد العروق المتصلة بالقلب، ففي الإنسان عروق رئيسة في الجسد

(1)

أي: اعتداء، وانظر الطبقات الكبرى 2/ 201.

ص: 153

هي: الوتين في القلب، والأبهر في الظهر، والأكحل في الذراع والنساء في الفخذ، ولقد كانت تلك الأكلة سببا بقي ليمرض به رسول الله صلى الله عليه وسلم ويموت في مرضه ليزاد له في كمال الفضل والأجر، بأن تجمع له النبوة والرسالة والشهادة، ولذلك قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:" لأن أحلف بالله تسعا، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل قتلا، أحب إلي من أن أحلف واحدة، وذلك بأن الله عز وجل اتخذه نبيا، وجعله شهيدا "

(1)

.

ما يستفاد:

*جواز قبول الهدية من الطعام وغيره، ما لم تكن من حرام، أو سببا فيه. * جواز قبولها من المسلم وغيره.

* عدم جواز الصدقة لآل محمد، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يقبل الصدقة، هريرة رضي الله عنه: أخذ الحسن بن علي رضي الله عنهما، تمرة من تمر الصدقة، فجعلها في فيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«كخ كخ. ليطرحها، ثم قال: أما شعرت أنا لا نأكل الصدقة»

(2)

.

* بيان عناية الله عز وجل بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم إذ أنطق الذراع بأنها مسمومة.

* أن من المعجزات التي أيد الله بها نبيا محمد صلى الله عليه وسلم نطق الذراع وتحذيره مما فيها.

* بيان كيد اليهود للإسلام ونبيه صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم يعلمون أنه نبي، فكادوا له لأنه من العرب.

(1)

أحمد حديث (3617).

(2)

البخاري حديث (1491) ومسلم حديث (1069).

ص: 154

* معرفة اليهود بعصمة الأنبياء ولذلك أقدمت اليهودي على تسميم الشاة.

* أن رسول الله صلى الله عليه وسلم من البشر ويمكن يلحقه الضرر، ولكن الله عز وجل يعصمه من الناس.

* أنه يأكل الطعام كغيره من الناس.

* أن الشهادة تُرجَى لمن مات من الصالحين غيلة من.

* أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتبت له الشهادة بسبب تلك الأكلة.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

70 -

(2) أَخْبَرَنَا الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ، أَنْبَأَنَا شُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: كَانَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يُحَدِّثُ: " أَنَّ يَهُودِيَّةً مِنْ أَهْلِ خَيْبَرَ سَمَّتْ شَاةً مَصْلِيَّةً، ثُمَّ أَهْدَتْهَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَخَذَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم الذِّرَاعَ فَأَكَلَ مِنْهَا، وَأَكَلَ الرَّهْطُ مِنْ أَصْحَابِهِ مَعَهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«ارْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ» وَأَرْسَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْيَهُودِيَّةِ فَدَعَاهَا، فَقَالَ لَهَا:«أَسَمَمْتِ هَذِهِ الشَّاةَ؟» فَقَالَتْ: نَعَمْ، وَمَنْ

(1)

أَخْبَرَكَ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَخْبَرَتْنِي هَذِهِ فِي يَدَيَ الذِّرِاعُ» فَقَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ: «فَمَاذَا

(2)

أَرَدْتِ إِلَى ذَلِكَ؟» قَالَتْ: قُلْتُ: إِنْ كَانَ نَبِيًّا لَمْ يَضُرَّهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا اسْتَرَحْنَا مِنْهُ. فَعَفَا عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يُعَاقِبْهَا، وَتُوُفي بَعْضُ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ أَكَلُوا مِنَ الشَّاةِ، وَاحْتَجَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى كَاهِلِهِ مِنْ أَجْلِ الَّذِي

(1)

في هامش الأصل (ما).

(2)

في (ك) فما، وعلق في الهامش (في الأصل فماذا) وكلاهما يصح.

ص: 155

أَكَلَ مِنَ الشَّاةِ، حَجَمَهُ أَبُو هِنْدٍ مَوْلَى بَنِى بَيَاضَةَ بِالْقَرْنِ وَالشَّفْرَةِ

(1)

، وَهُوَ مِنْ بَنِي ثُمَامَةَ وَهُمْ حَيٌّ مِنَ الأَنْصَارِ"

(2)

.

رجال السند:

الحكم بن نافع البهراني، أبو اليمان الحمصي، إمام ثقة، وشعيب بن أبي حمزة دينار الحمصي، أبو بشر إمام ثقة، والزهري محمد بن مسلم، ثقة إمام تقدم، ولم يدرك جابرا رضي الله عنه فالرواية مرسلة.

الشرح: انظر السابق.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

71 -

(3) أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيُّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمَّا فَتَحْنَا خَيْبَرَ أُهْدِيَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَاةٌ فِيهَا سُمٌّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«اجْمَعُوا لِي مَنْ كَانَ هَا هُنَا مِنَ الْيَهُودِ» فَجُمِعُوا لَهُ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«إِنِّي سَائِلُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَهَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْهُ؟» قَالُوا: نَعَمْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ. فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَبُوكُمْ؟» قَالُوا: أَبُونَا فُلَانٌ. فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «كَذَبْتُمْ، بَلْ أَبُوكُمْ فُلَانٌ» قَالُوا: صَدَقْتَ وَبَرَرْتَ. فَقَالَ لَهُمْ: «هَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْ شَيْءٍ إِنْ سَأَلْتُكُمْ عَنْهُ؟» فَقَالُوا: نَعَمْ، وَإِنْ كَذَبْنَاكَ

(3)

عَرَفْتَ كَذِبَنَا كَمَا عَرَفْتَ فِي آبَائِنَا. فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «فَمَنْ أَهْلُ النَّارِ؟ " فَقَالُوا: نَكُونُ فِيهَا يَسِيراً ثُمَّ تَخْلُفُونَا فِيهَا. فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «اخْسَئُوا فِيهَا، وَاللَّهِ لَا نَخْلُفُكُمْ

(1)

أدوات الحجامة.

(2)

أدوات الحجامة.

(3)

في بعض النسخ الخطية" كذبنا".

ص: 156

فِيهَا أَبَداً» ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: «هَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْ شَيْءٍ إِنْ سَأَلْتُكُمْ عَنْهُ؟» قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: «هَلْ جَعَلْتُمْ فِي هَذِهِ الشَّاةِ سُمًّا» قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: «مَا حَمَلَكُمْ عَلَى ذَلِكَ؟» قَالُوا: أَرَدْنَا إِنْ كُنْتَ كَاذِباً أَنْ نَسْتَرِيحَ مِنْكَ، وَإِنْ كُنْتَ نَبِيًّا لَمْ يَضُرَّكَ"

(1)

.

رجال السند:

عبد الله بن صالح تقدم، وهو حسن الحديث، والليث بن سعد إمام ثقة تقدم وسعيد بن أبي سعيد كيسان المقبري، أبو سعد المدني، تابعي إمام ثقة، يرسل ولم يرو بعد التغيّر.

الشرح:

قوله: «لما فتحت خيبر» .

هي المدينة المعروفة اليوم تبعد عن المدينة (150 كم) سار إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر محرم سنة سبع من الهجرة، ومعه من الرجالة (1700) ومئتا فارس، وصلها ليلا، وصبحهم وهو يقول: «خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين"

(2)

.

قوله: «فهل أنتم صادقي» أي: أتصدقوني في جواب ما أسألكم عنه؟. فسألهم عن أبيهم الذي ينتسبون إليه فكذبوه ولم يصدقوا، وقالوا:" فلان" لم أقف على ذكر اسمه الصريح، ولعلهم أجابوا بما زعموا حين قالوا: {نَحْنُ

(1)

فيه عبد الله بن صالح كاتب الليث أرجح أنه حسن الحديث، والخبرتقدم بعضه برقم (68، 69) أخرجه البخاري حديث (3169، وطرفاه 4249، 5777).

(2)

انظر القصة كاملة البخار حديث (371).

ص: 157

أَبْنَاءُ اللَّهِ}

(1)

، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذبتم بل أبوكم" فلان" ولا ريب أن أباهم إسرائيل عليه السلام وهو يعقوب بن إبراهيم الخليل عليه السلام، ثم سألهم فقال:«فمن أهل النار؟» فاعترفوا أنهم أهل النار، وزعموا أنهم يخرجون منها ويخلفهم المؤمنون، فكذبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:«اخسئوا فيها» وهكذا يقول الله عز وجل لأهل النار: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ}

(2)

، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«والله لا نخلفكم فيها أبدا» وهذه بشارة للأمة؛ لأن من يدخل النار من عصاة المسلمين يخرج منها فلا يتصور أنه يخلف غيره أصلا، ونعوذ بالله العظيم من دخول النار، ومن صلف اليهود وكذبهم أنهم قالوا:{لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً}

(3)

، قال ابن عباس: رضي الله عنهما: " إن اليهود كانوا يقولون: مدة الدنيا سبعة آلاف سنة، الدنيا يوما واحدا في النار؛ وإنما هي سبعة أيام معدودة ثم ينقطع العذاب"

(4)

. أما سؤالهم عن تسميم الشاة، فقد كشف لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عصمته وأن الله عز وجل أطلعه على ما فعلوا وهو من الغيب الذي لا يعلمه أحد، فلما قررهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك أبدوا معرفتهم بأنه إن نبيا حقا فسيكشف له ذلك ولا يضره، وإن كان يطلب ملكا هلك واستراحوا منه.

(1)

من الآية (18) من سورة المائدة.

(2)

من الآية (108) من سورة المؤمنون.

(3)

من الآية (80) من سورة البقرة، ومن الآية (24) من سورة آل عمران.

(4)

انظر أحاديث في الفتن والحوادث، حديث (197).

ص: 158

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

12 _

‌ بابٌ فِي سَخَاءِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم

-

72 -

(1) أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ

جَابِرٍ قَالَ: مَا سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم شَيْئاً قَطُّ فَقَالَ لَا

(1)

.

قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: إِذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ وَعَدَ.

رجال السند:

محمد بن يوسف، هو الفريابي وسفيان، هو ابن عيينة، هما إما مان ثقتان تقدما، وابن المنكدر، هو محمد أبو عبد الله المدني، إمام ثقة.

الشرح:

فيه بيان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يبخل بشيء قلّ ما عنده أو كثر، وما رد سلائلا قط، إن كان عنده شيء أعطاه، وإن لم يكن وعد بالعطاء، وهذا غاية الجود والسخاء، وقد جمع الله جل جلاله لسيد الخلق صلى الله عليه وسلم أكمل الصفا وأحسنها.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

73 -

(2) أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِمْرَانَ، ثَنَا أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، عَنْ زَمْعَةَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ:" كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَيِيًّا لَا يُسْأَلُ شَيْئاً إِلاَّ أَعْطَاه "

(2)

.

(1)

رجاله ثقات، وأخرجه الإمام مسلم حديث (56 - 2311).

(2)

فيه زمعة بن صالح الجندي: ضعيف، والخبرصحيح، شاهده ما تقدم، وما أخرجه البخاري حديث (421) من حديث أنس رضي الله عنه، وانظر: القطوف (28/ 72).

ص: 159

رجال السند:

عبد الله بن عمران الأسدي، أبو محمد الأصبهاني، ثقة، وأبو داود الطيالسي، سليمان بن داود، إمام ثقة، وزمعة صالح يماني، ضعفه

الجمهور تقدم، وأبو حازم سلم، ثقة تقدم.

الشرح: انظر السابق.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

74 -

(3) أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي خَلَفٍ، ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنَ الْعَرَبِ قَالَ: زَحَمْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ حُنَيْنٍ وَفِي رِجْلِي نَعْلٌ كَثِيفَةٌ، فَوَطِئْتُ

(1)

بِهَا عَلَى رِجْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَنَفَحَنِي

(2)

نَفْحَةً بِسَوْطٍ فِي يَدِهِ وَقَالَ: «بِسْمِ اللَّهِ أَوْجَعْتَنِي» قَالَ: فَبِتُّ لِنَفْسِي لَائِماً أَقُولُ أَوْجَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: فَبِتُّ بِلَيْلَةٍ كَمَا يَعْلَمُ اللَّهُ، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا إِذَا رَجُلٌ يَقُولُ: أَيْنَ فُلَانٌ؟ قَالَ قُلْتُ: هَذَا وَاللَّهِ الَّذِي كَانَ مِنِّي بِالأَمْسِ، قَالَ: فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مُتَخَوِّفٌ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«إِنَّكَ وَطِئْتَ بِنَعْلِكَ عَلَى رِجْلِي بِالأَمْسِ فَأَوْجَعْتَنِي، فَنَفَحْتُكَ نَفْحَةً بِالسَّوْطِ، فَهَذِهِ ثَمَانُونَ نَعْجَةً فَخُذْهَا بِهَا»

(3)

.

(1)

زاد في بعض النسخ الخطية" بها".

(2)

المراد هنا دفعه بقوة، والنفح الضرب والرمي. انظر:(النهاية 5/ 89) وله معان أنظرها فيه. وانظر (الصحاح 2/ 592).

(3)

فيه محمد بن إسحاق تكلم فيه: وقد صرح بالتحديث، وهو صدوق إن شاء الله.

ص: 160

رجال السند:

محمد بن أحمد بن أبي خلف، إمام ثقة تقدم، وعبد الرحمن بن محمد المحاربي ثقة مدلس تقدم، ومحمد بن إسحاق بن يسار، صاحب السير والمغازي، حسن الحديث، وعبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن

حزم، تابعي إمام ثقة، ورجل، هو صحابي من البادية.

الشرح:

فيه إشارة إلى خشونة ذلك الرجل، ولعل سبب ذلك التزاحم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله آلمه أن وطئ الرجل رجله، فجاءت النفحة فجأة من غير قصد، فأتبعها صلى الله عليه وسلم بقوله:«بسم الله أوجعتني» أسف الرجل لما حدث منه، وبات في ليلته لائما لنفسه نادما، فلما أصبح إذا برجل يسأل عنه، فظن أنه مدعو لعقاب على ما كان منه، فتمالكه الخوف، فانطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا به يقول له:«إنك وطئت بنعلك على رجلي بالأمس، فأوجعتني، فنفحتك نفحة بالسوط، فهذه ثمانون نعجة فخذها بها» عجبا لهذا الكمال الخلقي، ولا عجب فإنه الرحمة المهداة، وما عُلم أنه انتقم لنفسه من أحد، إلا أن يكون انتقاما لله عز وجل، ولو كان فعلا شيئا لنفسه لكان ذلك لما آذه كفار قريش، حين أتاه جبريل عليه السلام فقال له:" يا محمد، فقال، ذلك فيما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين؟ " فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده، لا يشرك به شيئا»

(1)

، ولكان حين قال لقريش يوم فتح مكة: «ما ترون أني صانع بكم؟، قالوا:

(1)

البخاري حديث (3231).

ص: 161

خيرا، أخ كريم، وابن أخ كريم قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء»

(1)

، ولم يجعل منها فيئا قليلا ولا كثيرا، لا دارا ولا أرضا ولا مالا، ولم يسب من أهلها أحدا، وقد قاتله قوم فيها فقتلوا وهربوا فلم يأخذ من متاعهم شيئا،

ولم يجعله فيئا.

ما يستفاد:

* بيان لطف رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ لم ينس نفحته للرجل رغم أنه آلمه حين وطئ قدمه.

* بيان حسن خلقه ورحمته، وتواضعه إذ سأل عنه وبين له سبب ما كان منه.

* بيان جوده صلى الله عليه وسلم وسخائه، إذ دفعه للرجل قطيعا قابل نفحة سوط.

* أن الندم على الخطأ من أخلاق الكرام ومنهم الرجل إذ لم ينم ليلته أسفا على ما كان منه.

* جواز التحلل من الأخطاء ولو سببها يبيح العقوبة، وهو ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم.

* حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على ألا يلقى الله عز وجل بأذى أحد من الناس، يؤيد هذا أنه صلى الله عليه وسلم قال: «الصلاة جامعة فاجتمع الناس فصعد المنبر، وقال: أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وقد دنا مني حقوق، من بين أظهركم، فمن شتمت له عرضا فهذا عرضي، فليستقد منه، ومن ضربت له ظهرا فهذا ظهري فليستقد منه، ومن أخذت له مالا فهذا مالي فليأخذ منه، ولا

(1)

معرفة السنن والآثار 13/ 293.

ص: 162

يقولن أحدكم إني أتخوف الشحناء من رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا، وإنها ليست من طبيعتي، ولا من خلقي، وإن أحبكم إلي من أخذ حقا إن كان له، أو حللني فلقيت ربي، وأنا طيب النفس، فقام رجل فقال: أنا أسألك ثلاثة دراهم، فقال: من أين؟» قال: أسلفتكم يوم كذا،

وكذا فأمر الفضل بن عباس أن يقضيها إياه

(1)

.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

75 -

(4) أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ حُمَيْدٍ، ثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ أَخِي الزُّهْرِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: إِنَّ جِبْرِيلَ قَالَ: مَا فِي الأَرْضِ أَهْلُ عَشَرَةِ أَبْيَاتٍ إِلاَّ قَلَّبْتُهُمْ، فَمَا وَجَدْتُ أَحَداً أَشَدَّ إِنْفَاقاً مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

(2)

.

رجال السند:

يعقوب بن حميد بن كاسب المدني، أبو الفضل، روى مناكير، وعبد العزيز ابن محمد الدراوردي، أبو محمد المدني، لابأس به، أخذ عليه إذا حدث من حفظه، ومحمد بن عبد الله بن مسلم، ابن أخي الزهري، لابأس به، ومحمد بن مسلم إمام ثقة، تقدم.

الشرح: تقدم ما يقوي هذا، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكرم الخلق.

(1)

عبد الرزاق حديث (18043).

(2)

هذا من مراسيل الزهري، ولقوله هذا شاهد، انظر: رقم (17، 72).

ص: 163

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

13 -

‌ بابٌ في تَوَاضُعِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

-

76 -

(1) أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ، ثَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى، ثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ وَاقِد، عَنْ يَحْيَى بْنِ عُقَيْلٍ، عَنْ عَـ[بْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى أَوْفي قَالَ: " كَانَ النَّبِيُّ

(1)

صلى الله عليه وسلم يُكْثِرُ

(2)

الذِّكْرَ، وَيُقِلُّ اللَّغْوَ، وَيُطِيلُ الصَّلَاةَ، وَيُقْصِرُ الْخُطْبَةَ، وَلَا يَأْنَفُ، وَلَا يَسْتَنْكِفُ أَنْ يَمْشِيَ مَعَ الأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ، فَيَقْضِيَ لَهُمَا حَاجَتَهُمَا "

(3)

.

رجال السند:

محمد بن حميد الرازي، وثقه يحيى بن معين، وتكلم فيه آخرون تقدم، والفضل بن موسى السيناني، وأبو عبد الله المروزي، إمام ثقة، والحسين ابن واقد المروزي، وأبو عبد الله إمام ثقة، ويحيى بن عقيل البصري الخزاعي، صدوق ليس له عند الدارمي إلا هذه الرواية.

الشرح:

قوله: «يكثر الذكر» الذكر عام في جميع العبادات، وهو من الإكثار، ولذلك قال الله عز وجل:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا}

(4)

، فالذكر

(1)

في هامش علق (رسول الله) وكلاهما صحيح.

(2)

في هامش (ت) يقصّر، وهو خطأ لمقابلته بيُقل، ولو كان صحيحا لقوبل بيُطيل.

(3)

فيه محمد بن حميد أبو عبد الله الرازي: ضعيف وكان ابن معين حسن الرأي فيه، وأخرجه النسائي حديث (1414) وصححه الألباني.

(4)

الآية (41) من سورة الأحزاب.

ص: 164

مطلوب في كل الأوقات، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله في كل أحيانه

(1)

، والصلاة من أعظم الذكر فرضا ونفلا، ولذلك قال الله عز وجل:{وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا}

(2)

، أي: صل لربك بكرة، المراد صلاة الفجر، وأصيلا صلاة الظهر والعصر، {وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ}

(3)

، صلاة المغرب وصلاة العشاء، {وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا}

(4)

، صلاة القيام على جهة الندب. قوله:«ويقل اللغو» .

هذا القول من عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه أن المراد بالذكر الذي يكثر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم التسبيح والتهليل والتحميد والثناء على الله عز وجل؛ لأن الذكر في الصلاة لا يعتريه اللغو، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم منزه عن اللغو، وإنما أراد الصحابي أنه الكلام في الدنيا وشؤنها لا يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم، سماه لغوا بالنظر لعدم اشتغال الرسول صلى الله عليه وسلم به، وإن كان الناس يتكلمون في شؤون دنياهم ولا يسمى ذلك لغوا منهم، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أنتم أعلم بأمر دنياكم»

(5)

.

قوله: «ويطيل الصلاة، ويقصر الخطبة» .

(1)

انظر مسند أبي يعلى حديث (4937).

(2)

الآية (25) من سورة الإنسان.

(3)

من الآية (26) من سورة الإنسان.

(4)

من الآية (26) من سورة الإنسان.

(5)

مسلم حديث (2363).

ص: 165

المراد صلاة الجمعة يطيلها، ويقصر الخطبة، هذه هي السنة، ولكن يلزم للتقصير بلاغة من يخطب، ويجيد انتقاء الألفاظ الجامعة، مع سهولة الأسلوب، وبيان المقاصد، وهذا لا يجيده كثير من الخطباء، ولذلك يطيلون الكلام وتتشعب المحاور في الخطبة، ولا ريب أن لرسول الله صلى الله عليه وسلم الكمال في هذا.

وفي غير الجمعة يستحب الاعتدال في الصلاة بالناس وعدم التطويل، فقد لام رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذا رضي الله عنه لما أطال في الصلاة بالناس وقال:«أفتان يا معاذ؟ أفتان يا معاذ؟ ألا قرأت بسبح اسم ربك الأعلى، والشمس وضحاها ونحوهما»

(1)

.

قوله: «ولا يأنف، ولا يستنكف أن يمشي مع الأرملة والمسكين فيقضي لهما حاجتهما» .

لأنه نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم، للقوي والضعيف والغني والفقير والأرملة وذات الزوج وللناس كافة، قال الله عز وجل:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}

(2)

.

ما يستفاد:

* بيان أهمية الذكر في الصلاة وخارجها.

* استحباب إطالة صلاة الجمعة، وتقصير خطبتها.

* التعفف عن لغو الكلام، وما لا مائدة فيه، فالله عز وجل يقول:

(1)

النسائي حديث (984).

(2)

الآية (107) من سورة الأنبياء.

ص: 166

{وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ}

(1)

.

* التعفف عن لغو الكلام، وما لا مائدة فيه، فالله عز وجل يقول:{وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ}

(2)

.

* أهمية التواضع في حياة كل مسلم، ولاسيما من كانت لدية قدرة على قضاء الحاجات.

* أهمية الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}

(3)

.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

14 -

‌ بابٌ في وَفَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

-

(4)

77 -

(1) حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، ثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: قَالَ الْعَبَّاسُ رضي الله عنه: لأَعْلَمَنَّ مَا بَقَاءُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِينَا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَرَاهُمْ قَدْ آذَوْكَ وَآذَاكَ غُبَارُهُمْ، فَلَوِ اتَّخَذْتَ عَرِيشاً

(5)

تُكَلِّمُهُمْ مِنْهُ؟، فَقَالَ:«لَا أَزَالُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ يَطَئُونَ عَقِبِي، وَيُنَازِعُونِي رِدَائِي، حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي يُرِيحُنِي مِنْهُمْ» قَالَ: فَعَلِمْتُ أَنَّ بَقَاءَهُ فِينَا قَلِيلٌ

(6)

.

(1)

الآية (3) من سورة المؤمنون.

(2)

الآية (3) من سورة المؤمنون.

(3)

الآية (21) من سورة الأحزاب.

(4)

كتب قبالته في هامش (ك) بلغ.

(5)

في حاشية (ت) عرشا، وعليها الرمز (خ).

(6)

رجاله ثقات، وانظر: القطوف رقم (31/ 76).

ص: 167

رجال السند:

سليمان بن حرب بن بجيل أزدي، أبو أيوب البصري، إمام ثقة، وحماد ابن زيد الجهضمي، إمام ثقة تقدم، وأيوب السختياني، إمام ثقة تقدم، وعكرمة مولى ابن عباس ثقة تقدم. وسيأتي بهذا موصولا بهذا السند.

الشرح:

قوله: «لأعلمن ما بقاء النبي صلى الله عليه وسلم فينا؟» .

كأن العباس رضي الله عنه عم رسول الله صلى الله عليه وسلم لاح له علامات تنبئ بقرب أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال هذا لأصحاب رسول الله رضي الله عنهم.

قوله: «إني أراهم قد آذوك وآذاك غبارهم، فلو اتخذت عريشا، تكلمهم منه» . أراد العباس رضي الله عنه الصحابة رضي الله عنهم ليكشف بهذه العبارة ما يعلم منه قرب أو بعد أجل الرسول صلى الله عليه وسلم، والعريش تقدم بيان أن منه ما يكون للجلوس عليه، ومنه ما يكون للظل.

قوله: «فقال: لا أزال بين أظهرهم يطؤون عقبي، وينازعوني ردائي، حتى يكون الله هو الذي يريحني منهم» .

هذه العبارة فيها أنه سيصبر على ما ذكر عمه العباس عن أصحابه رضي الله عنهم، من تجمعهم عليه، وسيرهم خلفه، منازعتهم رداءه إما للبركة، أو لحاجة استيقافه، وفيها معنى أن الأمر بيد الله عز وجل فأنا صابر طال الصبر أو قصر.

قوله: «فعلمت أن بقاءه فينا قليل» .

المراد أن العباس رضي الله عنه استنتج من ذلك عندم طول بقاء الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم، ولعل طلب العباس رضي الله عنه قبل طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم عمل عرش كعرش موسى عليه السلام، انظر ما تقدم برقم 38.

ص: 168

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

78 -

(2) أَخْبَرَنَا الْحَكَمُ بْنُ مُوسَى، ثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ، عَنْ دَاوُدَ ابْنِ عَلِيٍّ قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا نَحْجُبُكَ؟ قَالَ:«لَا دَعُوهُمْ يَطَئُونَ عَقِبِي وَأَطَأُ أَعْقَابَهُمْ حَتَّى يُرِيحَنِي اللَّهُ مِنْهُمْ»

(1)

.

رجال السند:

الحكم بن موسى البغدادي، أبو صالح القنطري، إمام ثقة، ويحيى بن حمزة الحضرمي، أبو عبد الله القاضي الدمشقي، ثقة إمام، وعبد الرحمن ابن عمرو الأوزاعي، إمام ثقة، وداود بن علي بن عبد الله بن عباس، أبو سليمان الهاشمي، كان أميرا على الكوفة، قليل الحديث متكلم فيه، لم يرو عنه الدارمي إلا هذا الحديث.

الشرح:

قولهم: «ألا نحجبك» ابتعاده عن الناس إلا باستئذان، فلم يقبل ذلك؛ لأنه من عمل الملوك، وليس من أخلاق الأنبياء، وانظر المزيد فيما سبق.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

79 -

(3) أَخْبَرَنَا زَكَرِيَّا بْنُ عَدِيٍّ، ثَنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ أُنَيْسِ بْنِ أَبِي يَحْيَى، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: " خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، وَنَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ عَاصِباً رَأْسَهُ بِخِرْقَةٍ

(2)

، حَتَّى أَهْوَى نَحْوَ الْمِنْبَرِ، فَاسْتَوَى عَلَيْهِ وَاتَّبَعْنَاهُ، قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ

(1)

فيه داود بن علي أبو سليمان، مقبول.

(2)

في (ت) خرقة، وكلاهما يصح.

ص: 169

إِنِّي لأَنْظُرُ إِلَى الْحَوْضِ

(1)

مِنْ مَقَامِي هَذَا» ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ عَبْداً عُرِضَتْ عَلَيْهِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا فَاخْتَارَ الآخِرَةَ» قَالَ: فَلَمْ يَفْطِنْ بِهَا

(2)

أَحَدٌ غَيْرُ أَبِي بَكْرٍ، فَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ فَبَكَى ثُمَّ قَالَ: بَلْ نَفْدِيكَ بابائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا وَأَنْفُسِنَا وَأَمْوَالِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: ثُمَّ هَبَطَ فَمَا قَامَ عَلَيْهِ حَتَّى السَّاعَةِ "

(3)

.

رجال السند:

زكريا بن عدي، إمام ثقة تقدم، وحاتم بن إسماعيل المدني، أبو إسماعيل الحارثي، ثقة صحيح الكتاب، وأنيس بن أبي يحيى الأسلمي، ثقة لم يرو له الدارمي إلا هذا، وأبوه سمعان أبو يحيى الأسلمي لابأس به.

الشرح:

قوله: «خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه» .

المراد أنه خرج من بيته الملاصق للمسجد، وهم جلوس في المسجد. ولعل هذا كان قبل موته بخمس ليال، فقد ذكر جندب رضي الله عنه بعض خطبه في البراءة من اتخاذ خليل منهم؛ لأن الله اتخذه خليلا، وذكر الثناء على أبي بكر رضي الله عنه، وقال جندب رضي الله عنه:" سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس "

(4)

. قوله: «

(1)

هو الكوثر.

(2)

في (ت، ك) لها، وصححت في حاشية (ت) بها، عليها علامة (صح) والرمز (ض).

(3)

فيه سمعان أبو يحي الأسلمي: لابأس به، أخرجه البخاري حديث (466، وطرفا: 3654، 3904) ومسلم حديث (2 - 2382).

(4)

مسلم حديث (532).

ص: 170

ونحن في المسجد» أي: جلوس في المسجد، والذي يظهر أن اليوم ليس يوم جمعة.

قوله: «عاصبا رأسه خرقة» .

فيه إشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم مريض، وأنه عصب رأسه لما يجد من الألم.

قوله: «حتى أهوى نحو المنبر، فاستوى عليه واتبعناه» .

المراد توجه نحو المنبر، ورقاه حتى جلس عليه، واجتمع الصحابة حول المنبر لعلمهم أنه صلى الله عليه وسلم سيقول لهم أمرا ذا شأن.

قوله: «والذي نفسي بيده إني لأنظر إلى الحوض، من مقامي هذا» . هذا يدل على أن الله عز وجل كشف له عن حوضه الذي ترد عليه الأمة، فمن شرب منه لا يظمأ بعد ذلك أبدا، وقد قال صلى الله عليه وسلم:«فإنكم سترون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض»

(1)

، وليس هذا خاصا بالصحابة رضي الله عنهم بل هو عام في كل مؤمن إلى يوم القيامة، وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحقيقة الحوض فقال:«أتدرون ما الكوثر؟ فإنه نهر وعدنيه ربي عز وجل، عليه خير كثير، هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة، آنيته عدد النجوم، فيختلج العبد منهم، فأقول: رب، إنه من أمتي فيقول: ما تدري ما أحدثت بعدك»

(2)

.

قوله: «إن عبدا عرضت عليه الدنيا وزينتها فاختار الآخرة» .

(1)

البخاري حديث (3163) ومسلم حديث (1061).

(2)

مسلم حديث (400).

ص: 171

أراد نفسه صلى الله عليه وسلم فإن الله عز وجل لكرامته خيره بين أن يعطيه من الدنيا ما شاء، ويبقى فيها ما شاء، وبين أن يعطيه الآخرة ونعيمها في جوار ربه عز وجل، فاختار صلى الله عليه وسلم الآخرة والرفيق الأعلى.

قوله: «فلم يفطن بها أحد غير أبي بكر فذرفت عيناه فبكى، ثم قال: بل نفديك بآبائنا وأمهاتنا وأنفسنا وأموالنا يا رسول الله» .

لم يفطن الصحابة رضي الله عنهم لمراد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم تعودوا منه في خطبه الأمر والنهي والمواعظ، وما يذكر عن الأمم السابقة، فظنوا أن العبد المخير أحد عباد الله الصالحين من الأمم السابقة، لكن أبابكر فهم المراد، وعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ينعي نفسه إلى أصحابه رضي الله عنهم، وإلى الصالحين من أمته إلى يوم القيامة، ولذلك فداه أبو بكر رضي الله عنه، ولا غرابة فقد كان سباقا إلى كل خير رضي الله عنه، وهو بأحوال صاحبه خبير، وقد فهم هذا أبو بكر لما نزلت سورة النصر، وتلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قوله: «ثم هبط، فما قام عليه حتى الساعة» .

المراد أن الرسول صلى الله عليه وسلم نزل عن المنبر، وكانت هذه الخطبة آخر خطبة ألقاها على أصحابه رضي الله عنهم من فوق منبره، وهذا يؤيد أنها كانت قبل وفاته صلى الله عليه وسلم بخمس ليال.

ما يستفاد:

* جواز الجلوس في المسجد ولو في غير وقت الصلاة.

* جواز أن يعصب المريض رأسه من الألم، ولا ينافي ذلك التوكل.

* السنة في إلقاء الخطب من على منبر ليراه ويسمعه كل من حضر.

* جواز القسم على ما يقال للتوكيد، ولاسيما إذا كان الخبر فيه بشارة.

ص: 172

* إظهار فضل رسول الله صلى الله عليه وسلم وكرامته على الله عز وجل إذا أراه حوضه وهو على المنبر.

* بيان كرامته صلى الله عليه وسلم على الله عز وجل إذ خيره في البقاء في الدنيا والتلذذ بمتاعها، أو الآخرة.

* بيان شوق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى لقاء ربه واختياره الآخرة.

* فطنة أبي بكر صلى الله عليه وسلم وقوة احساسه بأحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم.

* بيان عظمة حبه لله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم وتضحيته في سبيل ذلك رضي الله عنه.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

80 -

(4) أَخْبَرَنَا خَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاطٍ، ثَنَا بَكْرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، ثَنَا ابْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَدِيٍّ، عَنْ عُبَيْدٍ - مَوْلَى الْحَكَمِ ابْنِ أَبِي الْعَاصِ - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي مُوَيْهِبَةَ - مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي قَدْ أُمِرْتُ أَنْ أَسْتَغْفِرَ لأَهْلِ الْبَقِيعِ، فَانْطَلِقْ مَعِي» فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ، فَلَمَّا وَقَفَ عَلَيْهِمْ قَالَ:«السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ الْمَقَابِرِ لِيَهْنِكُمْ مَا أَصْبَحْتُمْ فِيهِ مِمَّا أَصْبَحَ فِيهِ النَّاسُ، أَقْبَلَتِ الْفِتَنُ كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يَتْبَعُ آخِرُهَا أَوَّلَهَا، الآخِرَةُ أَشَدُّ مِنَ الأُولَى» ثُمَّ أَقْبَلَ عَليَّ فَقَالَ: «يَا أَبَا مُوَيْهِبَةَ إِنِّي قَدْ أُوتِيتُ بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ الدُّنْيَا وَالْخُلْدِ فِيهَا ثُمَّ الْجَنَّةُ، فَخُيِّرْتُ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ لِقَاءِ رَبِّي» قُلْتُ: بابي أَنْتَ وَأُمِّي خُذْ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الدُّنْيَا وَالْخُلْدِ فِيهَا ثُمَّ الْجَنَّةَ، قَالَ: «لَا وَاللَّهِ يَا أَبَا

ص: 173

مُوَيْهِبَةَ لَقَدِ اخْتَرْتُ لِقَاءَ رَبِّي» ثُمَّ اسْتَغْفَرَ لأَهْلِ الْبَقِيعِ ثُمَّ انْصَرَفَ، فَبُدِئ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي وَجَعِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ "

(1)

.

رجال السند:

خليفة بن خياط شباب العصفري، أبو عمرو البصري، إخباري صدوق، وبكر ابن سليمان الأسواري، أبو يحيى، أخذ المغازي عن ابن إسحاق لابأس به، تفرد الدارمي بالرواية عنه، وليس له سوى هذا، ومحمد بن إسحاق، صدوق تقدم، وعبد الله بن عمر بن علي بن عدي العُبْلي، سكت عنه الأئمة، ووثقه ابن حبان، وهو معتبر على البراءة، من أفراد الدارمي بهذه الرواية، وعبيد مولى الحكم بن أبي العاص، وعبيد جبير أو جبر ابن عبد الله بن عمرو، سكت عنه الأئمة، ووثقه ابن حبان، وهو معتبر على البراءة، وهو من أفراد الدارمي بهذه الرواية.

الشرح:

فيه من لم يوثقه إلا ابن حبان، بعد سكوت الأئمة عنه، وقد صح الحديث في استغفاره صلى الله عليه وسلم لأهل البقيع، وهم في ذلك الوقت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس فيه سواهم ولا يمنع أن يكون الاستغفار شاملا كل من قبر بعدهم من صالحي الأمة، إلى يوم القيامة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم بعث رحمة للعالمين، وفي قوله صلى الله عليه وسلم:«إني قد أمرت أن أستغفر لأهل البقيع فانطلق معي» .

(1)

فيه عبد الله بن عمر بن علي بن عدي: لم أقف عليه، وأخرجه الإمام أحمد حديث (15996).

ص: 174

ما ينئ بأهمية الأمر، وأن من وراء ذلك نبأ عظيم، يؤيد هذا يؤيد هذا قول أبي مويهبة رضي الله عنه:«فانطلقت معه في جوف الليل» .

لأن مبادرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخروجه في جوف الليل إلى البقيع، وإن كان سريع الإجابة لأمر ربه لا يخلوا من الإشارة إلى دنو أجله صلى الله عليه وسلم، يؤيد هذا قوله صلى الله عليه وسلم:«يا أبا مويهبة إني قد أوتيت بمفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة، فخيرت بين ذلك وبين لقاء ربي» .

وقد قال بعد أن سلم عليهم: «ليهنئكم ما أصبحتم فيه مما أصبح فيه الناس، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها، الآخرة أشد من الأولى» .

قد يفهم من هذه التهنئة لأهل البقيع المخاطبين في تلك اللحظة، أن الله عز وجل أطلع رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن أصحابه رضي الله عنهم هم في نعيم، لذلك هنأهم بما أصبحوا فيه من السلامة مما أصبح فيه أهل الدنيا من كثرة الفتن والتي ستتوالى عليهم، هم فيها كمن هو في ليال ذات ظلمات بعضها فوق بعض، كل فتنة هي أعظم من سابقتها.

وقد قال أبو مويهبة رضي الله عنه لما سمع من الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله عز وجل خيره: فداه وقال: «بابي أنت وأمي، خذ مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة» . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا والله يا أبا مويهبة لقد اخترت لقاء ربي» مؤكدا اختياره لقاء ربه عز وجل.

قوله: «فبدئ رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجعه الذي مات فيه» .

ص: 175

هذا يوحي بأن ذهابه ليستغفر لأهل البقيع رضي الله عنهم، كان بعد منتصف ليلة أن أصبح مريضا، وأن ذلك كان قبل وفاته صلى الله عليه وسلم بخمس ليال، على غرار ما تقدم من الرواية.

ما يستفاد:

* علاوة على ما تقدم في الأمر بالاستغفار لأهل البقيه بشارة خير لهم، ولكل صالح من عباد الله يدفن فيه.

* مشروعية الدعاء والاستغفار لأهل البقيه.

* بيان محبة أصحاب رسول الله للنبي محمد صلى الله عليه وسلم.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

81 -

(5) أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ الْعَوَّامِ، عَنْ هِلَالِ بْنِ خَباب، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " لَمَّا نَزَلَتْ {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاطِمَةَ فَقَالَ: «قَدْ نُعِيَتْ إِلَيَّ نَفْسي» فَبَكَتْ فَقَالَ: «لَا تَبْكِى، فَإِنَّكِ أَوَّلُ أَهْلِي لَاحِقٌ

(1)

بِي» فَضَحِكَتْ فَرَآهَا بَعْضُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْنَ: يَا فَاطِمَةُ، رَأَيْنَاكِ بَكَيْتِ ثُمَّ ضَحِكْتِ، قَالَتْ: إِنَّهُ أَخْبَرَنِي أَنَّهُ قَدْ نُعِيَتْ إِلَيْهِ نَفْسُهُ فَبَكَيْتُ، فَقَالَ لِي:«لَا تَبْكِى، فَإِنَّكِ أَوَّلُ أَهْلِي لَاحِقٌ بِي» فَضَحِكْتُ "

(2)

.

(1)

في هامش الأصل (لحاقا) وكتب عليه الرمز (خ).

(2)

الحديث صحيح، انظر: القطوف رقم (33/ 80).

ص: 176

وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَجَاءَ أَهْلُ الْيَمَنِ هُمْ أَرَقُّ أَفْئِدَةً، وَالإِيمَانُ يَمَانٍ، وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ»

(1)

.

رجال السند:

سعيد بن سليمان سعدويه، ثقة تقدم، وعباد بن العوام الكلابي، أبو سهل البصري ثقة، وهلال بن خباب العبدي، أبو العلاء المصري، ثقة مأمون،

وعكرمة راوية ابن عباس ثقة تقدم.

الشرح:

قوله: لما نزلت {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} .

سورة النصر آخر سورة نزلت كاملة بالمدينة، والمراد بالنصر نصر الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم على الكفار والمشركين كافة، والفتح المراد به فتح مكة.

قوله: «دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة فقال: قد نُعُيت إلي نفسي» .

أخبرها صلى الله عليه وسلم لأنها بضعة منه رضي الله عنها، وهي آخر من بقي من بناته رضي الله عنهن، ويشق عليه فراقها، لو لم تكن الآخرة خيرته.

قوله: «فبكت» .

حق لها ذلك ولو لم تكن ابنته، ومن الذي لا يحزن ويبكي على فراق من أرسله الله عز وجل رحمة للعالمين.

قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تبك فإنك أول أهلي لاحق بي» .

(1)

هذا الجزء الثاني من الحديث، أخرجه الإمام البخاري حديث (4388) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأخرجه مسلم حديث (52) وانظر:(اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان حديث 32).

ص: 177

هذه بشارة طال ما عدت فاطمة رضي الله عنها لتلحق بابيها في الفردوس الأعلى وحيثما كان في الجنة، ولذلك ضحكت واستبشرت، ويا ليتني كنت معها فأفوز فوزا عظيما، وأسأل الله ألا يحرمني رؤيتهما في الجنة.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا جاء نصر الله والفتح» تقدم المراد بالنصر الموعود، والفتح كذلك.

قوله: «وجاء أهل اليمن» .

أخبر صلى الله عليه وسلم بمجيء أهل اليمن، ليعلنوا إيمانهم بالنبوة والرسالة، واتباع محمد صلى الله عليه وسلم في المنشط والمكره، ثم وصف أهل اليمن بما يدل على قوة إيمانهم، وأطلق على الإيمان أنه يماني لذلك، فهذا الوصف عام في كل مؤمن ممن سكن جهة اليمن مما يقع جنوب مكة المكرمة إذ منها تُحدد الجهات الأربع، والمراد من كان منهم في ذلك الوقت وليس كل فرد من أهل اليمن ولا يعم كل زمان، ويتأكد لك ذلك إذا تأملت قدوم أبي موسى الأشعري وقومه رضي الله عنهم فقد قدم الأشعريون على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم خمسون رجلا فيهم أبو موسى رضي الله عنه، قدموا في سفن، وخرجوا بجدة، فلما دنوا من المدينة جعلوا يقولون: غدا نلقى الأحبة محمدا وحزبه صلى الله عليه وسلم و رضي الله عنهم، فلما وصلوا المدينة وجدوا رسول الله في سفره إلى خيبر، فأسلموا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الأشعريون في الناس كصرة فيها مسك» وقدم الدوسيون بقيادة الطفيل بن عمرو الدوسي الزهراني رضي الله عنهم، فإنه لما أسلم دعا قومه فأسلموا، وقدم معه منهم المدينة سبعون أو ثمانون أهل بيت، وفيهم: أبو هريرة الزهراني رضي الله عنه، وعبد الله ابن أزيهر الدوسي، ورسول الله بخيبر، فساروا إليه فلقوه هناك، ثم قدموا معه المدينة، فقال أبو هريرة في هجرته حين خرج من دار قومه:

ص: 178

يا طولها من ليلة وعنائها

* * *

على أنها من بلدة الكفر نجت

(1)

.

قوله: «هم أرق أفئدة» .

المراد أن قلوبهم ذات خشية، واستكانة اللحق، تقبل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولذلك أقبلوا رضي الله عنهم من ديارهم سيرا إلى خيبر لملاقاة رسول الله صلى الله عليه وسلم والانضواء تحت لوائه.

وانظر قول ابن بطوطة عن غامد وزهران وهم من أهل اليمن في ذلك الوقت فذكر بعض صفات قبائل بني مالك" بجيلة "، وزهران، وغامد، وهو شاهد عيان، فقال: وبلاد السروات التي يسكنها بجيلة، وزهران، وغامد، وسواهم من القبائل مُخْصِبة، كثيرة الأعناب، وافرة الغلات، وأهلها فصحاء الألسن، لهم صدق نية، وحسن اعتقاد، وهم إذا طافوا بالكعبة يتطارحون عليها، لائذين بجوارها، متعلقين بأستارها، داعين بأدعية تتصدع لرقتها القلوب، وتدمع العيون الجامدة، فترى الناس حولهم باسطي أيديهم، مؤمنين على أدعيتهم، ولا يتمكن لغيرهم الطواف معهم، ولا استلام الحجر لتزاحمهم على ذلك، وهم شجعان أنجاد.

فهذا يشير إلى مجيء أهل اليمن، والتحاقهم برسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم، ثم جاء النصر والفتح بعد ذلك، ونقول لمن يعمم قوله صلى الله عليه وسلم:«الإيمان يمان» على كل من سكن اليمن أن التعميم خطأ؛ لأن

(1)

انظر: المصباح المضي في كتاب النبي الأمي ورسله إلى ملوك الأرض من عربي وعجمي (1/ 227) والمنتظم في تاريخ الملوك والأمم (3/ 304).

ص: 179

المراد بالإيمان ما وافق الكتاب والسنة، فأين الفرق التي ظهرة في اليمن في الزمن القديم ودان أتباعها بما تدعي، أينهم «من الإيمان يمان» وأين الحوثيون وغيرهم اليوم من هذا؟ بأي إيمان يلتزمون؟، وكذلك «الحكمة يمانية» لا يجوز فيها التعميم وإن وجدت في أفراد؛ لأن المراد بالحكمة قبول الحق، والعمل بالكتاب والسنة، وتطبيق الأحكام الشرعية، على بصيرة وهدى، وتربية النفس على ذلك، وحال اليمن اليوم تناقض هذا، وهي شاهد لنا على عدم التعميم؛ لأن منهم أناس يعاهدون في الليل ويخونون في الصباح.

ما يستفاد:

* بيان أن الله عز وجل أنجز لرسوله صلى الله عليه وسلم ما وعده نصره على من عاده من اليهود والنصارى وكفار قريش، وأنجز له فتح مكة.

* أن مجيء أهل اليمن وبعده النصر والفتح كان من علامات دنو أجل النبي صلى الله عليه وسلم.

* بيان فضل الرعيل الأول من أهل اليمن، ومن نهج نهجهم.

*بيان فضل الأشعريين والدوسيين على غيرهم من أهل اليمن.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

82 -

(6) أَخْبَرَنَا الْحَكَمُ بْنُ الْمُبَارَكِ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عُتْبَةَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ ابْنِ عُتْبَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: " رَجَعَ إِلَيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ مِنْ جَنَازَةٍ مِنَ الْبَقِيعِ، فَوَجَدَنِي وَأَنَا أَجِدُ صُدَاعاً، وَأَنَا أَقُولُ: وَارَأْسَاهُ. قَالَ: «بَلْ أَنَا يَا عَائِشَةُ وَارَأْسَاهُ، قَالَ: وَمَا ضَرَّكِ لَوْ مُتِّ قَبْلِي فَغَسَّلْتُكِ وَكَفَّنْتُكِ، وَصَلَّيْتُ

ص: 180

عَلَيْكِ وَدَفَنْتُكِ» فَقُلْتُ: لَكَأَنِّي بِكَ وَاللَّهِ لَوْ فَعَلْتَ ذَلِكَ لَرَجَعْتَ إِلَى بَيْتِي فَعَرَّسْتَ فِيهِ بِبَعْضِ نِسَائِكَ، قَالَتْ: فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ بُدِئَ

(1)

فِي وَجَعِهِ الَّذِى مَاتَ فِيهِ "

(2)

.

رجال السند:

الحكم بن المبارك، هو البلخي، ثقة أثنى عليه الإمام أحمد، ومحمد بن سلمة الحراني، أبو عبد الله الباهلي، ثقة من رجال مسلم، ومحمد بن إسحاق، تقدم وحديث حسن، وقد صرح بالحديث عن الزهري، وهو عالي السند، فلا تضر روايته هنا بالعنعنة، ويعقوب بن عتبة بن المغيرة الثقفي، ثقة من العلماء بالسيرة، وابن شهاب محمد بن مسلم الزهري، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة المدني، أبو عبد الله من ولد عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، من فقهاء المدينة ثقة له فضائل.

الشرح:

قول أم المؤمنين رضي الله عنها: «فوجدني وأنا أجد صداعا وأنا أقول وارأساه» .

إشعار لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنها تجد ألما، وليس ذلك من التضجر والشكوى المنهي عنها.

قوله صلى الله عليه وسلم: «بل أنا يا عائشة وارأساه» .

(1)

هكذا ضبطت في الأصل (بُدِئَ) وفي نظري أن الصواب (بدء) فيكون الضمير العائد عليه صلى الله عليه وسلم فاعل.

(2)

فيه الحكم بن المبارك أبو صالح الباهلي: صدوق ربما وهم، أخرجه البخاري حديث (5666).

ص: 181

فيه مواساة لعائشة رضي الله عنها، فكأنه يعني أن ما يؤلمها يؤلمه صلى الله عليه وسلم لشدة حبه لها، فإنه لما سئل من أحب الناس إليك؟ قال: عائشة

(1)

، ولما بدأ به المرض قالت عائشة رضي الله عنها: لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه استأذن نساءه، وقال:«إني قد ثقلت، فأريد أن أطوف بينكم، فأذن لي أن أكون في بيت امرأة منكن» قالت عائشة: فكنت أول من أذن له، فقالت سودة: وكانت تضحكه أحيانا، قد علمنا أنك تريد بيت عائشة، فقال:«نعم فاحملوني» فحمله القوم، فغشي عليه حين حملوه فذهبت أهرول أو أكاد أن أهرول حتى ألقيت له فراشا حشوه ليف، ووضعه القوم عليه عرضا حتى غشي عليه، فلما أفاق قال:«أقيمت الصلاة؟» قالوا: لا، قال:«فمروا بلالا فليقم الصلاة ومروا أبا بكر فليصل بالناس»

(2)

، فمرض في بيت عائشة، وتوفي صلى الله عليه وسلم بين سحرها ونحرها

(3)

.

قوله: «وما ضرك لو مت قبلي فغسلتك وكفنتك وصليت عليك ودفنتك؟» . هذه مداعبة منه صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها، فذكر لها ما فيه خير وبركة أن قدر الله عز وجل أن تموت من ذلك الصداع، فتلمسها يد خير خلق الله صلى الله عليه وسلم فيغسلها، ويكفنها، ويصلي عليها، فصلاته صلى الله عليه وسلم ليست كصلاة غيره، فلم ترد برفض ذلك بل داعبت حبيبها كما داعبها فقالت:«لكأني بك والله لو فعلت ذلك لرجعت إلى بيتي فعرّست فيه ببعض نسائك» .

(1)

الترمذي حديث (3886).

(2)

ابن بشران حديث (899).

(3)

انظر البخاري حديث (1389) ومسلم حديث (2443).

ص: 182

فكأنها تقول: لن تحزن عليّ؛ لأن لديك غيري، وستفعل هذا، ثم ذكرت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تبسم لقولها، وقالت:" ثم بدئ، في وجعه الذي مات فيه" وهذا يتفق مع ما سبق من أن وجعه صلى الله عليه وسلم بدأ به قبل وفاته بخمس ليال.

ما يستفاد:

* استحباب اتباع الجنائز، وحضور الدفن.

* جواز أن يخبر الإنسان بما يجد لقريب أو لطبيب.

* استحباب مواساة المتألم بما يفيد مشاركته في التألم لأمه.

* جواز المداعبة بين الأخلاء بما هو حق.

* كانت هذه المداعبة بين الحبين قبل الفراق بخمس ليال.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

83 -

(7) أَخْبَرَنَا فَرْوَةُ بْنُ أَبِى الْمَغْرَاءِ، ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُخْتَارٍ، عَنْ مُحَمَّدِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي مَرَضِهِ: «صُبُّوا عَلَىَّ سَبْعَ قِرَبٍ مِنْ سَبْعِ آبَارٍ شَتَّى حَتَّى أَخْرُجَ إِلَى النَّاسِ فَأَعْهَدَ إِلَيْهِمْ» . قَالَتْ: فَأَقْعَدْنَاهُ فِي مِخْضَبٍ

(1)

لِحَفْصَةَ فَصَبَبْنَا عَلَيْهِ الْمَاءَ صَبًّا أَوْ شَنَنَّا

(2)

عَلَيْهِ شَنًّا - الشَّكُ مِنْ قِبَلِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ - فَوَجَدَ رَاحَةً فَخَرَجَ فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَاسْتَغْفَرَ لِلشُّهَدَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أُحُدٍ وَدَعَا لَهُمْ، ثُمَّ قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الأَنْصَارَ عَيْبَتِي الَّتِي أَوَيْتُ إِلَيْهَا، فَأَكْرِمُوا كَرِيمَهُمْ وَتَجَاوَزُوا عَنْ مُسِيئِهِمْ إِلاَّ فِي حَدٍّ، أَلَا إِنَّ عَبْداً مِنْ

(1)

هو الطست أو الصحن، قال في (النهاية 1/ 39) شبه المركن وهي إجّانة، تغسل فيها الثياب. وانظر (الصحاح 1/ 251).

(2)

أي صببناه متفرقا على سائر بدنه. انظر (الصحاح 1/ 689).

ص: 183

عِبَادِ اللَّهِ قَدْ خُيِّرَ بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَ اللَّهِ فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ» فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ، وَظَنَّ أَنَّهُ يَعْنِى نَفْسَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«عَلَى رِسْلِكَ يَا أَبَا بَكْرٍ، سُدُّوا هَذِهِ الأَبْوَابَ الشَّوَارِعَ إِلَى الْمَسْجِدِ إِلاَّ باب أَبِي بَكْرٍ، فَإِنِّي لَا أَعْلَمُ امْرَأً أَفْضَلَ عِنْدِي يَداً فِي الصُّحْبَةِ مِنْ أَبِي بَكْرٍ»

(1)

.

رجال السند:

فروة بن أبي المغراء، صدوق تقدم، وإبراهيم بن مختار الرازي، أبو إسماعيل، فيه كلام، والذي يظهر أنه لابأس به، ومحمد بن إسحاق، تقدم وحديثه حسن، ومحمد بن كعب القرضي، أبو عبد الله المدني، إمام ثقة ويرسل، وعروة بن عبد الله بن الزبير، إمام فقيه ثقة.

الشرح:

قول: «صبّوا علي سبع قرب من سبع آبار شتى» .

هذه من خصائص رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليست عامة، وإن كان من العلماء من قال غيرها، كأن تكون للراحة والتبرد من حرارة الحمى، ولا أرى فيها العموم. قوله:«حتى أخرج إلى الناس فأعهد إليهم» .

بين صلى الله عليه وسلم سبب طلب الماء ليجد به راحة وقدرة على الخروج ليعهد ببعض الوصايا؛ لأنه أحس بدنو أجله، فأراد أن يحتاط لأصحابه رضي الله عنهم، وبعد أن صب عليه الماء وجد راحة، فخرج فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه واستغفر للشهداء من أصحاب أحد ودعا لهم، وهذا من رحمته بأصحابه رضي الله عنهم

(1)

فيه ابن إسحاق: تكلم فيه، وهو صدوق إنشاء الله، وانظر: رقم (78).

ص: 184

ووفائه لهم صلى الله عليه وسلم، ثم قال:«أما بعد فإن الأنصار عيبتي التي أويت إليها، فأكرموا كريمهم وتجاوزا عن مسيئهم إلا في حد» .

بين صلى الله عليه وسلم فضل الأنصار رضي الله عنهم، وأنهم خاصته من أصحابه، فهم جماعته الذين آووه ونصروه، ووقفوا معه في أموره الظاهرة والباطنة، ولم يخالفوه في شيء رضي الله عنهم، وقال:«قد قضوا الذي عليهم، وبقي الذي لهم، فاقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم»

(1)

.

قوله: «ألا إن عبدا من عباد الله قد خير بين الدنيا وبين ما عند الله فاختار ما عند الله» .

تقدم بيان هذا فيما مضى من الروايات المماثلة، وأنه أراد نفسه صلى الله عليه وسلم.

قوله صلى الله عليه وسلم: «على رسلك يا أبا بكر» أي: تمهل واصبر ولا تحزن، قال هذا صلى الله عليه وسلم: لما بكى أبو بكر لفهمه أنه نعى نفسه.

قوله: «سدوا هذه لأبواب الشوارع إلى المسجد إلا باب أبي بكر، فإني لا أعلم أمرا أفضل عندي يدا في الصحبة من أبي بكر» .

هذا إشادة بابي بكر رضي الله عنه رفيق دربه من البعثة إلى الوفاة، آمن به وصده فيما يقول، وصحبه في المنشط والمكره، وبذل نفسه وماله لنصرته صلى الله عليه وسلم، فاستحق رضي الله عنه لقب الصديق، وأنه أفضل هذه الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، ولا زال باب أبي بكر في المسجد مشرعا إلى يومنا هذا، وهو في الجهة الغربية من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت أنه قال: «يا أبا بكر لا تبك، إن أمن

(1)

انظر: البخاري حديث (3799).

ص: 185

الناس علي في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذا خليلا من أمتي لاتخذت أبا بكر، ولكن أخوة الإسلام ومودته»

(1)

.

ما يستفاد:

* علاوة على ما سبق لم يثن المرض رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البلاغ الأخير

لأصحابه رضي الله عنهم.

* بيان مكانة شهداء أحد رضي الله عنهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ خصهم بعد الثناء على الله عز وجل بالاستغفار والدعاء.

* الثناء على الأنصار رضي الله عنهم، وبيان مكانتهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، والوصية بهم.

* إشهار فضل أبي بكر، وسد جميع الأبواب المؤدية إلى داخل المسجد إلا باب أبي بكر رضي الله عنه.

* أنه صلى الله عليه وسلم لولا أنه خليل الله عز وجل، لاتخذ أبا بكر خليلا.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

84 -

(8) أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، ثَنَا فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ سُلَيْمَانَ ابْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: أُوذِنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالصَّلَاةِ فِي مَرَضِهِ، فَقَالَ:«مُرُوا أَبَا بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ» ثُمَّ أُغْمِيَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا سُرِّىَ عَنْهُ قَالَ:«هَلْ أَمَرْتُنَّ أَبَا بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ» فَقُلْتُ: إِنَّ

(1)

انظر: البخاري حديث (466) وانظر: مسلم حديث (2383).

ص: 186

أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ رَقِيقٌ، فَلَوْ أَمَرْتَ عُمَرَ؟ فَقَالَ:«أَنْتُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ، مُرُوا أَبَا بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ، فَرُبَّ قَائِلٍ مُتَمَنٍّ، وَيَأْبَي اللَّهُ وَالْمُؤْمِنُونَ»

(1)

.

رجال السند:

سعيد بن منصور الخراساني، أبو عثمان المروزي، صاحب السنن إمام ثقة، وفليح بن سليمان الخزاعي، أبو يحيى المدني، إمام ثقة اتفق عليه الشيخان، وسليمان بن عبد الرحمن بن خباب، لابأس به من أفراد الدارمي بهذا الحديث، والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصدق، أبو محمد ثقة أحد فقهاء المدينة.

الشرح:

قوله: «أُوْذِن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة في مرضه» .

تذكر أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر بحلول وقت الصلاة وهو في مرضه.

فقال: «مروا أبا بكر يصلي بالناس» ثم أغمي عليه.

هذا يوحي بشدة مرضه صلى الله عليه وسلم، ولو كانت لديه أدني قدرة لما تخلف عن إمامة أصحابه رضي الله عنهم.

قوله: «فلما سري عنه قال: هل أمرتنّ أبا بكر يصلي بالناس؟» .

(1)

فيه فليح بن سليمان: صدوق كثير الخطأ، والخبرأصله في الصحيحين من طرق عن عائشة: البخاري حديث (198) وانظر أطرافه (664، 665، 679، 683، 687، 712، 713، 716، 2588، 3384، 3099، 44442، 4445، 5714، 7303) مسلم حديث (90 - 95، 97، 101، 418، 419) وانظر: (اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان حديث 238، 239).

ص: 187

هذا من حرصه صلى الله عليه وسلم على أن يؤم الناس أب بكر رضي الله عنهم، لأنه أفضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، بشهادته صلى الله عليه وسلم فيما تقدم، وفي هذا إلى إشارة ألى أنه رضي الله عنه المقدم في الخلافة كما قُدّم في الصلاة، ولذلك اشتد عضبه صلى الله عليه وسلم من أم المؤمنين رضي الله عنها لما راجعته في ذلك بالتبرير لرأيها حين قالت:«إن أبا بكر رجل رقيق، فلو أمرت عمر» و لم يقبل ذلك من أم المؤمنين، فقال صلى الله عليه وسلم:«أنتن صواحب يوسف» وليس هذا تهمة لعائشة رضي الله عنها، ولكنه ضرب مثل في الاحتيال، ظن أن عائشة تريد ابعاد والدها أبي بكر رضي الله عنه عن موقف لا يحتمل الصبر فيه عن البكاء، ولأهمية أن يكون أبو بكر المقدم في ولاية الصلاة، والإشارة بذلك إلى تقديمه في الخلافة، كرر صلى الله عليه وسلم وقال:«مروا أبا بكر يصلي بالناس، فرب قائل متمن، ويأبى الله والمؤمنون» .

المراد أن في تقديم أبي بكر رضي الله عنه في الصلاة يقطع الاحتجاج على من لا يرى أحقية أبي بكر في الخلافة، فيزعم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقدمه في الصلاة وقدم عمر رضي الله عنه، ولا ريب أنه كان في الصحابة رضي الله عنهم من تمنى أن يكون علي رضي الله عنه هو الخليفة من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما له من قرابة النسب والمصاهرة، ولذلك قيل لعلي رضي الله عنه:" يا أمير المؤمنين أخبرنا عن أبي بكر فقال: ذاك امرؤ سماه الله الصديق على لسان محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم رضيه لديننا فرضيناه لدنيان"

(1)

.

ما يستفاد:

* من السنة أن يخبر الإمام بوقت الصلاة إذا شغله شاغل.

(1)

الصواعق المحرقة على أهل الرفض والضلال والزندقة 1/ 201.

ص: 188

* يجوز للإمام أن يستخلف غيره من الصالحين عند الضرورة.

* يجوز للإمام التأكد من إبلاغ المستخلف للإمامة.

* توكيد ما تقدم ذكره من فضل أبي بكر رضي الله عنه على الأمة.

* الإشارة إلى أنه الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤيد هذا قوله: «فرب قائل متمن، ويأبى الله والمؤمنون» وقد قالت عائشة رضي الله

عنها: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: في مرضه «ادعي لي أبا بكر، أباك، وأخاك، حتى أكتب كتابا، فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل: أنا أولى، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر» فقد عهد بالكتابة الصريحة لأبي بكر رضي الله عنه بالخلافة، ثم عدل عن ذلك لثقته بالله عز وجل ثم بالعقلاء من المؤمنين بأنهم لن يختلفوا على أبي بكر، وهذا ما كان ولو أراد الله عز وجل غير ذلك لما مضى قول رسوله صلى الله عليه وسلم

(1)

.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

85 -

(9) أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، ثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: " تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الاِثْنَيْنِ، فَحُبِسَ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ وَلَيْلَتِهِ وَالْغَدَ حَتَّى دُفِنَ لَيْلَةَ الأَرْبِعَاءِ، وَقَالُوا: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَمُتْ وَلَكِنْه عُرِجَ بِرُوحِهِ كَمَا عُرِجَ بِرُوحِ مُوسَى، فَقَامَ عُمَرُ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَمُتْ، وَلَكِنْ عُرِجَ بِرُوحِهِ كَمَا عُرِجَ بِرُوحِ مُوسَى، وَاللَّهِ لَا يَمُوتُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى يَقْطَعَ أَيْدِيَ أَقْوَامٍ وَأَلْسِنَتَهُمْ.

(1)

مسلم حديث (2387).

ص: 189

فَلَمْ يَزَلْ عُمَرُ يَتَكَلَّمُ حَتَّى أَزْبَدَ شِدْقَاهُ مِمَّا يُوعِدُ وَيَقُولُ، فَقَامَ الْعَبَّاسُ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ مَاتَ، وَإِنَّهُ لَبَشَرٌ، وَإِنَّهُ يَأْسُنُ كَمَا يَأْسُنُ الْبَشَرُ، أَيْ قَوْمِ، فَادْفِنُوا صَاحِبَكُمْ، فَإِنَّهُ [أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْ أَنْ يُمِيتَهُ إِمَاتَتَيْنِ]

(1)

أَيُمِيتُ أَحَدَكُمْ إِمَاتَةً وَيُمِيتُهُ إِمَاتَتَيْنِ، وَهُوَ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ؟ أَيْ قَوْمِ فَادْفِنُوا صَاحِبَكُمْ، فَإِنْ يَكُ كَمَا تَقُولُونَ فَلَيْسَ بِعَزِيزٍ عَلَى اللَّهِ أَنْ يَبْحَثَ عَنْهُ التُّرَابَ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاللَّهِ مَا مَاتَ حَتَّى تَرَكَ السَّبِيلَ نَهْجاً وَاضِحاً، فَأَحَلَّ الْحَلَالَ وَحَرَّمَ الْحَرَامَ، وَنَكَحَ وَطَلَّقَ وَحَارَبَ وَسَالَمَ، مَا كَانَ رَاعِي غَنَمٍ يَتْبَعُ بِهَا صَاحِبُهَا رُؤُوسَ الْجِبَالِ، يَخْبِطُ عَلَيْهَا الْعِضَاهَ

(2)

بِمِخْبَطِهِ، وَيَمْدُرُ

(3)

حَوْضَهَا بِيَدِهِ بِأَنْصَبَ

(4)

وَلَا أَدْأَبَ

(5)

مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ فِيكُمْ، أَيْ قَوْمِ فَادْفِنُوا صَاحِبَكُمْ، قَالَ: وَجَعَلَتْ أُمُّ أَيْمَنَ تَبْكِى، فَقِيلَ لَهَا: يَا أُمَّ أَيْمَنَ تَبْكِين

(6)

عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟، قَالَتْ: إِنِّي وَاللَّهِ مَا أَبْكِي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ لَا أَكُونَ أَعْلَمُ أَنَّهُ قَدْ ذَهَبَ إِلَى مَا هُوَ خَيْرٌ لَهُ مِنَ الدُّنْيَا، وَلَكِنِّي

(7)

أَبْكِي عَلَى خَبَرِ السَّمَاءِ انْقَطَعَ ".

(1)

كتب لحقا في (ك)

(2)

كل شجر يعظم وله شوك. واحدة (عضاة) فالجمع بالهاء، والمفرد بالتاء، وفي حاشية الأصل: شجر الشوك. انظر (الصحاح 2/ 127).

(3)

يصلحه بالمدر: وهو التراب الجيد. انظر (الصحاح 2/ 483).

(4)

أي بأكثر تعبا، نصب الرجل: تعب. انظر (الصحاح 2/ 571).

(5)

أي أكثر جدا ومواصلة للعمل. انظر (الصحاح 1/ 284).

(6)

في (ت، ك) تبكي، وهو خطأ.

(7)

علق في هامش (ك) ولكن، وكلاهما يصح.

ص: 190

قَالَ حَمَّادٌ: خَنَقَتِ

(1)

الْعَبْرَةُ أَيُّوبَ حِينَ بَلَغَ هَهُنَا

(2)

.

رجال السند:

سليمان بن حرب، وحماد بن زيد، وأيوب، وعكرمة، تقدموا جميعا وهم ثقات.

الشرح:

قوله: «توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين» .

هذا هو الصحيح ولا خلاف فيه، ومعلوم في السير أنه صلى الله عليه وسلم توفي في اليوم الثاني عشر من ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة، بعد أدى فريضة الحج وودع الأمة في عرفات.

قوله: «فحبس بقية يومه وليلته والغد حتى دفن ليلة الأربعاء» .

وقع الخلاف في ساعة ووقت وفاته صلى الله عليه وسلم، ووقت دفنه كذلك

(3)

.

قوله: «وقالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يمت، ولكنه عرج بروحه كما عرج بروح موسى، فقام عمر فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يمت، ولكنه عرج بروحه كما عرج بروح موسى، والله لا يموت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يقطع أيدي أقوام وألسنتهم، فلم يزل عمر يتكلم حتى أزبد شدقاه مما يوعد ويقول» .

لاريب أن القائلين تملكهم حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولاسيما وللمنافقين شوكة، ولازال كثير من العرب حدثاء الإسلام، وهذا ما دفع عمر أن يقول ما قال،

(1)

في (ت) حنقته، وهي تسبب ركة في السياق.

(2)

رجاله ثقات، وانظر: القطوف رقم (34/ 84).

(3)

فتح المغيث بشرح ألفية الحديث 4/ 319.

ص: 191

وهذه فرصة العدو الأكبر الشيطان، فربما نزغ في قلوب القائلين لإثارة الفتنة بين أصحاب رسول الله رضي الله عنهم، يؤيد هذا قول عمر رضي الله عنه سمع الآية من أبي بكر رضي الله عنه:{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ}

(1)

، وقوله:{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ}

(2)

، أو إنها لفي كتاب الله ما شعرت أنها في كتاب الله

(3)

.

قوله: «فقام العباس فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات وإنه لبشر، وإنه يأسَن

(4)

، كما يأسن البشر، أي قوم فادفنوا صاحبكم».

العباس رضي الله عنه عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أكد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر بدفن رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤيدا قول أبي بكر رضي الله عنه، وبين أنه في هذا الحدث كغيره من البشر، ففضله ونبوته والرسالة التي كلف بها وأداها صلى الله عليه وسلم لا يمنعه ذلك كله من الموت واللحاق بالرفيق الأعلى، ثم أكد بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم أن جثته تتغير بعد الموت، كغيره من الناس سواء بسواء، هذا في حال البقاء في الدنيا وقتا لم يدفن، أما كونه لا يتغير بعد دفنه، فقد حدث لجابر رضي الله عنه لما أجرى معاوية رضي الله عنه العين فمرت على شهداء أحد، فأخرجهم طرايا تنثني أطرافهم، وجدوا والد جابر رضي الله عنهما ويده على جرحه، فأميطت يده عن جرحه، فانبعث الدم،

(1)

الآية (3) من سورة الزمر.

(2)

الآية (144) من سورة آل عمران.

(3)

أحمد حديث (25841).

(4)

أي تتغير رائحته. انظر (الصحاح 1/ 29).

ص: 192

فردت إلى مكانها، فسكن الدم، قال جابر رضي الله عنه:" فرأيت أبي في حفرته كأنه نائم، والنمرة التي كفن فيها كما هي "، وكان ذلك بعد أحد بست وأربعين سنة، وأصابت المسحاة رِجْل رجل منهم وهو حمزة، فانبعث الدم، فقال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه:" لا ينكر بعد هذا منكِر"، وكانوا وهم يحفرون يفيح عليهم من القبور ريح المسك

(1)

، وقال طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه قال: أردت مالي بالغابة فأدركني الليل فأويت إلى قبر عبد الله ابن حرام، فسمعت قراءة من القبر ما سمعت أحسن منها، فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فقال:«ذاك عبد الله ألم تعلم أن الله تعالى قبض أرواحهم فجعلها في قناديل من زبرجد وياقوت، ثم علّقها وسط الجنة، فإذا كان الليل ردت إليهم أرواحهم، فلا تزال كذلك، حتى إذا طلع الفجر ردّت أرواحهم إلى مكانها الذي كانت فيه!»

(2)

، هذه كرامة من الله عز وجل للشهداء، وكرامة سيدهم صلى الله عليه وسلم أعظم وقد قال الصحابة رضي الله عنهم:" يا رسول الله، وكيف تعرض عليك صلاتنا وقد أرمت؟ "

(3)

، قال:(إن الله عز وجل حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء صلوات الله عليهم)

(4)

. قول: «فإنه أكرم على الله من أن يميته إماتتين، أيميت أحدكم إماتة ويميته إماتتين» .

هذا رد العباس رضي الله عنه على من زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب إلى ربه بهذه

الصورة، والصحيح أن الله عز وجل أماته ميتة واحدة كغيره من الناس.

(1)

لوامع الأنوار البهية 2/ 368.

(2)

سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد 4/ 253، وغيره وفي بعض طرقه كلام.

(3)

أي: بَليت.

(4)

أحمد حديث (16162).

ص: 193

قوله: «وهو أكرم على الله من ذاك» .

أي: وهو أعز على الله وأكرم من تأتيه سكرات الموت مرتين.

قوله: «قوموا فادفنوا صاحبكم فإن يك كما تقولون: فليس بعزيز على الله أن يبحث عنه التراب» .

فيه حث لهم على الاقتناع بأنه صلى الله عليه وسلم بشر كغيره من الناس، وإن كان كما تظنون أنه ذهب إلى ربه فليس صعبا على الله عز وجل أن يزيح عنه التراب، ويخرجه من قبره، ولكن لن يحدث هذا، لأن ما تظنون غير صحيح. قوله: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم والله ما مات حتى ترك السبيل نهجا واضحا، فأحل الحلال وحرم الحرام ونكح وطلق، وحارب وسالم، ما كان راعي غنم يتبع بها صاحبها رؤوس الجبال يخبط عليها العضاه، بمخبطه، ويمدر، حوضها بيده بأنصب

(1)

، ولا أدأب من رسول الله صلى الله عليه وسلم كان فيكم، أي قوم فادفنوا صاحبكم».

هذا رد على عمر رضي الله عنه حين قال: " والله لا يموت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يقطع أيدي أقوام وألسنتهم " ويفهم منه أن مهمته صلى الله عليه وسلم لم تنته بعد فبين ذلك العباس رضي الله عنه أحسن بيان وأنه صلى الله عليه وسلم بلغ الرسالة أكمل بلاغ، وترك الأمة على بيضاء ليلها كنهارها، لا يخرج عنها إلا هالك، لأنه بين الحلال والحرام، فلم يبق لأحد عذر، ثم أشار إلى بشرية محمد صلى الله عليه وسلم فقال:«ونكح وطلق، وحارب وسالم» كغيره من البشر صلى الله عليه وسلم نكح النساء، وطلق من شاء منهن، وحارب المشركين، فانتصر كما في بدر، وهزم كما في أحد، فجرى عليه من ما

(1)

أي بأكثر تعبا، نصب الرجل: تعب. انظر (الصحاح 2/ 571).

ص: 194

يجري على البشر، حتى كسرت رباعيته صلى الله عليه وسلم، وبشره الله صلى الله عليه وسلم بالنصر والفتح، ثم صرب العباس رضي الله عنه مثلا لحرص النبي صلى الله عليه وسلم على الأمة وصبره على أعباء الرسالة، ودعوة الأمة، فقال:«ما كان راعي غنم يتبع بها صاحبها رؤوس الجبال يخبط عليها العضاه، بمخبطه، ويمدر، حوضها بيده بأنصب ولا أدأب» .

أي: لم يكن تعَبُ مثابرة رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمته وطلب السعادة لها في الدارين أقل من تعب ومثابرة ذلك الراعي على رعيته، إذ ينطلق بها في الأودية ورؤوس الجبال طلب للماء والكلأ، ولا يكتفي بذلك بل يضرب لها الشجر بعصاه حتى يستنزل الورق لها، وإذا عادت إلى مراحها نظفه بيده، ورش فيه التراب لتجفيف أرضه، فتجد راحة في مبيتها، لقد أبلغ العباس رضي الله عنه القول وأوجز وصدق رضي الله عنه.

قوله: «وجعلت أم أيمن تبكي» .

اسمها بركة كانت لأبي رسول الله صلى الله عليه وسلم فورثها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقها، كان عبيد الخزرجي قد تزوجها بمكة فولدت أيمن

(1)

.

قوله: «فقيل لها: يا أم أيمن تبكين على رسول الله

(1)

الطبقات الكبرى ط العلمية 1/ 386.

ص: 195

-صلى الله عليه وسلم؟».

قالوا ذلك عجبا؛ لأن الله عز وجل غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ولأنه عز وجل خيره بين البقاء في الدنيا أو الآخرة ونعيمها فاختار الآخرة، ولكنها أدركت إنكارهم البكاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت:«إني والله ما أبكي على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا أكون أعلم أنه قد ذهب إلى ما هو خير له من الدنيا، ولكني أبكي على خبر السماء انقطع» .

كانت أبعد نظرا رضي الله عنها.

ما يستفاد:

* بيان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي يوم الاثنين، ولما سئل صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الاثنين؟ قال:«ذاك يوم ولدت فيه، ويوم بعثت، أو أنزل علي فيه»

(1)

. * بيان أنه صلى الله عليه وسلم دفن ليلة الأربعاء.

* بيان اختلاف الصحابة في التصديق بموته صلى الله عليه وسلم لفرط حبهم إياه.

* جميع من روى موقف عمر رضي الله عنه، قالوا: عرج بروحه كما عرج بروح موسى، هكذا، ولكن روى ابن سعد رحمه الله عن عكرمة قالوا: عرج بروحه كما عرج بروح عيسى، ولم يقل: موسى.

* ظن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يموت حتى يقضي على المنافقين.

* بيان قوة أبي بكر رضي الله عنه وثباته عند نزول المصائب، وشواهد هذا كثيرة في تصديقه الرسول صلى الله عليه وسلم وتكذيبه الكفار.

* بيان ثبات العباس رضي الله عنه وبيانه الحق، في بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم.

* بيان كمال الشرع وأن الرسول صلى الله عليه وسلم بلغ ما أمر به، ولم يمت إلا بعد كمال الشريعة، يؤيد هذا قوله عز وجل:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}

(2)

.

(1)

الطبقات الكبرى ط العلمية 1/ 386.

(2)

من الآية (3) من سورة المائدة.

ص: 196

* بيان أن الرسول صلى الله عليه وسلم بلغ الكمال في الإخلاص لأمته، وأنه بلغ الرسالة وأدى الأمانة، ولم يقصر في شيء من ذلك صلى الله عليه وسلم.

* بيان أن البشر إذا تركت جثثهم ولم تدفن على عجل تغيرت وأسنت.

* بيان أن الأرض إذا دفن فيها الأنبياء والشهداء فإن أجسادهم لا تأسن ولا تتغير، وذلك من تكريم الله لهم دون سواهم.

* بيان فقه أم أيمن وأن بكاءها كان لانقطاع الوحي، وهي تعلم فضل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما سيلقى من نعيم الجنة.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

86 -

(10) أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ سَعِيدٍ الدِّمَشْقِىُّ، ثَنَا شُعَيْبٌ - هُوَ ابْنُ إِسْحَاقَ - ثنا الأَوْزَاعِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي يَعِيشُ بْنُ الْوَلِيدِ، حَدَّثَنِي مَكْحُولٌ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا أَصَابَ أَحَدَكُمْ مُصِيبَةٌ فَلْيَذْكُرْ مُصِيبَتَهُ

(1)

بِي، فَإِنَّهَا مِنْ أَعْظَمِ الْمَصَائِبِ»

(2)

.

رجال السند:

عبد الوهاب بن سعيد الدمشقي، أبو محمد السلمي صدوق، وشعيب بن إسحاق بن عبد الرحمن، أبو شعيب الدمشقي، فقيه من ثقات أهل الرأي، والأوزاعي عبد الرحمن بن عمرو، ثقة تقدم، يعيش بن الوليد المعيطي ثقة، ومكحول أبو عبد الله أو أيوب، فقيه الشام من أقران ابن شهاب الزهري.

(1)

في (ك) مصابه، وكلاهما يصح.

(2)

ما بين المعقوفين ليس في (ت) بهذا السياق، وانظر التالي، والخبرسنده حسن، عبد الوهاب بن سعيد الدمشقي، صدوق لكنه مرسل. والخبرأخرجه ابن ماجة موصولا حديث (1599) من حديث عائشة رضي الله عنها، وصححه الألباني.

ص: 197

الشرح:

هذا مرسل وصله ابن ما جه.

قوله: «إذا أصاب أحدكم مصيبة» .

فيه إشارة إلى عدم سلامة أحد من مصائب الدنيا قلت أو كثرة.

قوله: «فليذكر مصيبته، بي فإنها من أعظم المصائب» .

المراد لتكون مصيبته هينة عليه عند المقارنة؛ لأن موت الرسول صلى الله عليه وسلم مصيبة على الأمة في دينها، وفي جماعتها؛ لأنه صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين في حياته، وهو كذلك بعد موته وبعثه يوم القيامة، وقد جله الله عز وجل في حياته حجابا للأمة من الأخذ بعذاب؛ لأن الله عز وجل قال:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}

(1)

، فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم عظمت مصائب الأمة بانفتاح الدنيا وكثرة شهواتها التي حذر منها، وكثرت الفتن، وهي تتوالى على الأمة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«بدأ الإسلام غريبا، وسيعود كما بدأ غريبا، فطوبى للغرباء»

(2)

، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«يأتي على الناس زمان الصابر فيهم على دينه كالقابض على الجمر»

(3)

.

ما يستفاد:

* بيان أنه لا يسلم من مصائب الدنيا أحد.

(1)

من الآية (33) من سورة الأنفال.

(2)

مسلم حديث (232).

(3)

مسلم حديث (2260).

ص: 198

* بيان أعظم مصيبة وقعت على المسلمين وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

* إرشاد المسلم إذا حلت به مصيبة أن يذكر المصيبة العظمى وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

* أن تذكر ذلك فيه عزاء وتسلية لكل مصاب، لأن وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم أعظم مصائب الأمة.

* فيه إشارة إلى أن المصيبة في الدين أعظم المصائب.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

87 -

(11) [أَخْبَرَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، ثَنَا فِطْرٌ، عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

(1)

: «إِذَا أَصَابَ أَحَدَكُمْ مُصِيبَةٌ فَلْيَذْكُرْ مُصَابَهُ بِى فَإِنَّهَا مِنْ أَعْظَمِ الْمَصَائِبِ»

(2)

.

رجال السند:

أبو نعيم الفضل بن دكين ثقة تقدم، وتصحف في المطبوع: أبو النعمان، وهو غلط، وفطر بن خليفة ثقة متشيع، وعطاء بن أبي رباح ثقة تقدم.

الشرح: مرسل وصله ابن ماجه، وانظر السابق.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

88 -

(12) حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِى خَلَفٍ، ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرَ

ابْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: مَا سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَذْكُرُ النَّبيِّ قَطُّ إِلاَّ بَكَى

(3)

.

(1)

ما بين المعقوفين ليس في (ك) والمتن ملحق بالسابق.

(2)

سنده إلى عطاء حسن، والخبرمرسل تقدم آنفا، وقد وصله ابن ماجة.

(3)

رجاله ثقات، وانظر: القطوف رقم (36/ 87).

ص: 199

رجال السند:

محمد بن أحمد بن أبي خلف، أبو عبد الله ثقة تقدم، وسفيان بن عيينة، إمام ثقة، وعمر بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، إمام ثقة، تصحف في المطبوع: عمرو وهو غلط، وأبوه محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، تابعي إمام ثقة.

الشرح:

قوله: «ما سمعت ابن عمر يذكر النبي قط إلا بكى» .

نعم البكاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا ريب أن سبب بكاء ابن عمر رضي الله عنهما، عيشه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ورؤيته وسماع حديثه وصحبته، فكيف لا يبكي من كان هذا حاله مع المصطفى صلى الله عليه وسلم.

ما يستفاد:

* بيان حب الصحابة رضي الله عنهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذروة في الود والتقدير.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

89 -

(13) أَخْبَرَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، ثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسِ ابْنِ مَالِكٍ، أَنَّ فَاطِمَةَ، قَالَتْ: " يَا أَنَسُ كَيْفَ طَابَتْ أَنْفُسُكُمْ أَنْ تَحْثُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

(1)

التُّرَابَ؟ وَقَالَتْ: يَا أَبَتَاهُ مِنْ رَبِّهِ مَا أَدْنَاهُ

(2)

، وَا أَبَتَاهُ جَنَّةُ الْفِرْدَوْسِ مَأْوَاهُ، وَا أَبَتَاهُ إِلَى جِبْرِيلَ نَنْعَاهُ، وَا أَبَتَاهُ أَجَابَ رَبًّا دَعَاهُ". قَالَ

حَمَّادٌ: حِينَ حَدَّثَ ثَابِتٌ بَكَى. وَقَالَ ثَابِتٌ: حِينَ حَدَّثَ بِهِ أَنَسٌ بَكَى

(3)

.

(1)

ليس في (ت) وكتب لحقا الهامش (على رسوله).

(2)

هكذا (ما أدنا) أي: ما أقربه.

(3)

رجاله ثقات، والخبرأخرجه البخاري حديث (4462) وهذا طرف منه.

ص: 200

رجال السند:

أبو النعمان محمد بن الفضل عارم، ثقة تقدم، وحماد بن زيد، ثقة تقدم وثابت البناني ثقة تقدم.

الشرح:

فاطمة بنت رسول الله رضي الله عنها، أم الحسن والحسين، أمها خديجة بنت خويلد، وفاطمة تزوجها علي بن أبي طالب في السنة الثانية من الهجرة، تقدم أن أباها صلى الله عليه وسلم قال لها:«إنك أول أهل بيتي لحوقا بي» فكانت أول من مات من أهل بيته، بعد ستة أشهر من وفاته صلى الله عليه وسلم.

قوله: «كيف طابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، التراب؟» . خاطبت أنس خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرادت عموم الصحابة رضي الله عنهم، لما تعلم من حبهم الشديد لنبيهم صلى الله عليه وسلم، ولم يجبها أنس رضي الله عنه، تجاوبا مع مصابها، ولكن سنته صلى الله عليه وسلم في الموتى أن يدفنوا، وقد حضر دفن الشهداء وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم، امتثالا لقول الله عز وجل:{مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى}

(1)

.

قوله: «وقالت: يا أبتاه من ربه ما أدناه، وا أبتاه جنة الفردوس مأواه، وا أبتاه إلى جبريل ننعاه، وا أبتاه أجاب ربا دعاه» .

هذا من النعي الجائز؛ ليس فيه تسخط، وألفاظه لائقة برسول الله صلى الله عليه وسلم،

فهو قريب من ربه عز وجل، وجنة الفردوس نزله ومقره صلى الله عليه وسلم، وجبريل عليه السلام الوسيط بينه وبين ربه في نزول الوحي، وغيره مما يأمر الله عز وجل به أو ينهى عنه،

(1)

الآية (55) من سورة طه.

ص: 201

وقد أجاب ربه عز وجل لما خيّره فاختار الآخرة، فنعي فاطمة رضي الله عنها حق.

ما يستفاد:

* جواز أن تخاطب المرأة من له علاقة بمحرمها من غير المحارم.

* خاطبت فاطمة رضي الله عنها أنسأ رضي الله عنه دون غيره وهو أجنبي؛ لأنه خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

* جواز عتاب المحبين على فعلهم ولو كان فعلا صحيحا.

* جواز نعي الميت، وذكر صفاته الحسنة، من غير نياحة ولا تسخط.

قال الدارمي رحمه الله تعالى: 90 - (14) حَدَّثَنَا عَفَّانُ

(1)

، ثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، وَذَكَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" شَهِدْتُهُ يَوْمَ دَخَلَ الْمَدِينَةَ، فَمَا رَأَيْتُ يَوْماً قَطُّ كَانَ أَحْسَنَ وَلَا أَضْوَأَ مِنْ يَوْمٍ دَخَلَ عَلَيْنَا فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَشَهِدْتُهُ يَوْمَ مَوْتِهِ، فَمَا رَأَيْتُ يَوْماً كَانَ أَقْبَحَ وَلَا أَظْلَمَ مِنْ يَوْمٍ مَاتَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "

(2)

.

رجال السند:

عفان بن مسلم بن عبد الله البصري، أبو عثمان من شيوخ الإمام أحمد،

إمام ثقة، وحماد ابن سلمة، وثابت البناني، تقتان تقدما.

الشرح:

لا مزيد على ما قال أنس بن مالك رضي الله عنه خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(1)

كتب قبالته في هامش (ت) بلغ العرض والسماع أول، أحمد بن محمد بن عبد الرحيم.

(2)

رجاله ثقات، وأخرجه ابن ماجة حديث (1631) بنحوه، وصححه الألباني.

ص: 202

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

91 -

(15) حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُطِيعٍ، ثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الْجَلِيلِ، عَنْ أَبِي حَرِيزٍ الأَزْدِيِّ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ لِلنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: " [يَا رَسُولَ اللَّهِ

(1)

إِنَّا نَجِدُكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَائِماً عِنْدَ رَبِّكَ وَأَنْتَ مُحْمَارَّةٌ وَجْنَتَاكَ مُسْتَحْي مِنْ رَبِّكَ مِمَّا أَحْدَثَتْ أُمَّتُكَ مِنْ بَعْدِكَ ".

رجال السند:

عبد الله بن مطيع البكري، أبو محمد البغدادي، لابأس به، وهشيم بن بشير الواسطي، أبو معاوية السلمي، إمام ثقة، وأبو عبد الجليل عبد الله ابن ميسرة الحارثي، أبو ليلى الكوفي، يدلسه هشيم بالكنى؛ لأنه شيعي ضعيف، وأبو حريز عبد الله بن حسين الأزدي البصري، شيعي ضعيف.

الشرح:

الرواية في سندها ضعيفان، وعبد الله بن سلام رضي الله عنه من كبار علما أهل الكتاب، شهد له النبي عز وجل بالجنة، أخبر بما علم من ذكره في كتبهم، ولا ريب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يستحيي من ربه رغم أنه عز وجل قال:{وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى}

(2)

، فيرضيه في ذاته وفي مصير أمته صلى الله عليه وسلم، ولا يسوؤه ربه عز وجل مما أحدثت أمته من بعده.

قوله: «مما أحدثت أمتك من بعدك» ليس رسول الله صلى الله عليه وسلم مسئولا عما أحدث أمته لا في الدنيا ولا في الآخرة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم مكلف بالبلاغ وليس بالهداية، وقد

(1)

ما بين المعقوفين كتب لحقا في (ت) وليس في (ك).

(2)

الآية (5) من سورة الضحى.

ص: 203

بلغ الرسالة وأدى الأمانة، ولذلك يقول لمن يذادون ويمنعون من أمته عن الحوض بعد أن بين له أنهم أحدثوا بعده:«سحقا سحقا لمن غيّر بعدي»

(1)

، ولكن الله عز وجل كرمه وأمته بالشفاعة العظمى صلى الله عليه وسلم، والخبر في سنده أبو عبد الجليل ضعيف يدلسه هشيم؛ وأبو حريز، صدوق يخطئ، ولم يدرك الصحابة، ففي الإسناد انقطاع، ولو صح فمراد ابن سلام رضي الله عنه أنه وجد مذكورا في التوراة هذا الوصف.

ما يستفاد:

* علم عبد الله بن سلام رضي الله عنه بما ورد في كتب أهل الكتاب في شأن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

* أنه رضي الله عنه لم يخبر بغيب بل بما علم من كتب أهل الكتاب.

* حياء رسول الله عز وجل لا حدود له مع الناس، فكيف به مع ربه ورب الناس جل جلاله، وقد استحى من مراجعة ربه في تخفيف الصلاة عن أمته، وقد فرضت خمسين صلاة في اليوم والليلة، فلما فرضت خمس صلوات، لم يراجع ربه رغم نصح موسى عليه السلام بذلك.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

92 -

(16) أَخْبَرَنَا الْقَاسِمُ بْنُ كَثِيرٍ، قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ شُرَيْحٍ،

(1)

البخاري حديث (6584) ومسلم حديث (249).

ص: 204

يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ الْقُرَشِيِّ، عَنْ أَبِي فَرْوَةَ

(1)

مَوْلَى أَبِي جَهْلٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِنَّ هَذِهِ السُّورَةَ لَمَّا أُنْزِلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا}

(2)

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَيَخْرُجُنَّ مِنْهُ أَفْوَاجاً كَمَا دَخَلُوهُ أَفْوَاجاً

(3)

.

رجال السند:

القاسم بن كثير شيخ القراء، أبو العباس القرشي، صدوق، وعبد الرحمن ابن شريح المعافري، أبو شريح لابأس به، وأبو الأسود محمد بن عبدالرحمن القرشي، يتيم عروة ثقة، من صغار التابعين، إمام ثقة، وأبو فروة، مولى أبي جهل.

الشرح:

تقدم أن المراد" بنصر الله" نصره لرسوله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم على الكفار، و " الفتح " فتح مكة.

قوله: «ليخرجنّ منه أفواجا كما دخلوه أفواجا» .

من أسباب الخروج من الدين كثرة الفتن، وعدم الاعتصام منها بكتاب الله

(1)

في الأصل (قرة) وهو خطأ وأبو قرة هو نوفل بن فروة الأشجعي، لم يرد في ترجمته أنه مولى. انظر (أسد الغابة 5/ 46، والإصابة 10/ 196).

(2)

الآيتان (1، 2) من سورة النصر.

(3)

سنده حسن، وأبو الأسود هو يتيم عروة، والخبرمن رواية صحابي عن صحابي، وانظر: القطوف رقم (38/ 91).

ص: 205

-عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فتعود الغربة في الدين «بدأ الإسلام غريبا، وسيعود كما بدأ غريبا، فطوبى للغرباء»

(1)

، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«يأتي على الناس زمان الصابر فيهم على دينه كالقابض على الجمر»

(2)

، ويموت المؤمنون، ويبقى شرار الناس وهذا معنى" لا تقوم الساعة وفي الأرض من يقول: الله، الله " أي: من يذكر بطاعة الله عز وجل؛ لأنه إذا كان فيها من يذكر بتقوى الله وطاعته، فالحياة يبقى فيها الصلاح، فإذا خلت الأرض من الصالحين لم يبق إلا الأشرار فتقوم الساعة، قال النبي صلى الله عليه وسلم:«لا تقوم الساعة، إلا على شرار الناس»

(3)

.

ما يستفاد:

* فيه بشارة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم بالنصر على الكفار، وبفتح مكة، وكان ما وعد الله عز وجل.

* فيه بشارة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم بدخول العرب وغيرهم الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.

* فيه الحدث على التمسك بالإسلام عقيدة ومنهجا.

* فيه إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم بخرج أناس كثيرون من دين الإسلام، وقد خلوا فيه، وهم شرار الناس الذين ستقوم عليهم القيامة.

* بيان أن بقاء المؤمنين في الأمة فيه صلاح دنيا وآخرتهم، وبذهابهم

يذهب الخير والبركة ولا يبقى إلا شرار الناس الذين خرجوا من الدين أفواجا.

(1)

مسلم حديث (232).

(2)

مسلم حديث (2260).

(3)

مسلم حديث (2949).

ص: 206

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

93 -

(17) ثم قال:

(1)

أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرٍ الْمِصْرِيُّ، عَنْ سُلَيْمَانَ أَبِى أَيُّوبَ الْخُزَاعِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأُمَوِيِّ، عَنْ مَعْرُوفِ بْنِ خَرَّبُوذَ الْمَكِّيِّ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ قَالَ: دَخَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الأَهْتَمِ عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ مَعَ الْعَامَّةِ، فَلَمْ يُفْجَأْ عُمَرُ إِلاَّ وَهُوَ بَيْنَ يَدَيْهِ يَتَكَلَّمُ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: " أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ غَنِيًّا عَنْ طَاعَتِهِمْ، آمِناً لِمَعْصِيَتِهِمْ، وَالنَّاسُ يَوْمَئِذٍ فِي الْمَنَازِلِ وَالرَّأْىِ مُخْتَلِفُونَ، فَالْعَرَبُ بِشَرِّ تِلْكَ الْمَنَازِلِ: أَهْلُ الْحَجَرِ وَأَهْلُ الْوَبَرِ وَأَهْلُ الدَّبَرِ يُحْتَازُ دُونَهُمْ طَيِّبَاتُ الدُّنْيَا وَرَخَاءُ عَيْشِهَا، لَا يَسْأَلُونَ اللَّهَ جَمَاعَةً، وَلَا يَتْلُونَ لَهُ كِتَاباً، مَيِّتُهُمْ فِي النَّارِ، وَحَيُّهُمْ أَعْمَى نَجِسٌ، مَعَ مَا لَا يُحْصَى مِنَ الْمَرْغُوبِ عَنْهُ، وَالْمَزْهُودِ فِيهِ، فَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَنْشُرَ عَلَيْهِمْ رَحْمَتَهُ بَعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ، حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ،

(2)

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ، وَعَلَيْهِ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، فَلَمْ يَمْنَعْهُمْ ذَلِكَ أَنْ جَرَحُوهُ فِي جِسْمِهِ

(3)

وَلَقَّبُوهُ في اسْمِهِ، وَمَعَهُ كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ نَاطِقٌ، لَا يُقَدَّمُ إِلاَّ بِأَمْرِهِ، وَلَا يُرْحَلُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ، فَلَمَّا أُمِرَ بِالْعَزْمَةِ، وَحُمِلَ عَلَى الْجِهَادِ، انْبَسَطَ لأَمْرِ اللَّهِ لَوَثُهُ

(4)

، فَأَفْلَجَ

(5)

اللَّهُ

(1)

ليست في (ك) والمراد الدارمي.

(2)

مقتبس من الآية (128) من سورة التوبة.

(3)

علق في هامش (ك) نفسه، وكتب صح.

(4)

أي ما كان ملتفا مطويا. قال في (الصحاح 2/ 461) لاث العمامة على رأسه، يلوثها لوثا، أي عصبها وانظر (النهاية 4/ 275).

(5)

أي قومها وأظهرها، انظر:(الصحاح 2/ 256).

ص: 207

حُجَّتَهُ، وَأَجَازَ كَلِمَتَهُ، وَأَظْهَرَ دَعْوَتَهُ، وَفَارَقَ الدُّنْيَا تَقِيًّا نَقِيًّا، ثُمَّ قَامَ بَعْدَهُ أَبُو بَكْرٍ فَسَلَكَ سُنَّتَهُ وَأَخَذَ سَبِيلَهُ، وَارْتَدَّتِ الْعَرَبُ أَوْ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ

سبحان الله وبحمده

سبحان الله العظيممِنْهُمْ، فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُمْ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلاَّ الَّذِي كَانَ قَابِلاً، انْتَزَعَ السُّيُوفَ مِنْ أَغْمَادِهَا، وَأَوْقَدَ النِّيرَانَ فِي شُعُلِهَا، ثُمَّ رَكِبَ بِأَهْلِ الْحَقِّ أَهْلَ الْبَاطِلِ، فَلَمْ يَبْرَحْ يُقَطِّعُ أَوْصَالَهُمْ، وَيَسْقِى الأَرْضَ دِمَاءَهُمْ، حَتَّى أَدْخَلَهُمْ فِي الَّذِي خَرَجُوا مِنْهُ، وَقَرَّرَهُمْ بِالَّذِي نَفَرُوا عَنْهُ، وَقَدْ كَانَ أَصَابَ مِنْ مَالِ اللَّهِ بَكْراً يَرْتَوِي عَلَيْهِ وَحَبَشِيَّةً أَرْضَعَتْ وَلَداً لَهُ، فَرَأَى ذَلِكَ عِنْدَ مَوْتِهِ غُصَّةً فِي حَلْقِهِ فَأَدَّى ذَلِكَ إِلَى الْخَلِيفَةِ مِنْ بَعْدِهِ، وَفَارَقَ الدُّنْيَا تَقِيًّا نَقِيًّا عَلَى مِنْهَاجِ صَاحِبِهِ، ثُمَّ قَامَ بَعْدَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَمَصَّرَ الأَمْصَارَ، وَخَلَطَ الشِّدَّةَ بِاللِّينِ، وَحَسَرَ عَنْ ذِرَاعَيْهِ وَشَمَّرَ عَنْ سَاقَيْهِ، وَأَعَدَّ

(1)

لِلأُمُورِ أَقْرَانَهَا وَلِلْحَرْبِ آلَتَهَا، فَلَمَّا أَصَابَهُ قَيْنُ

(2)

الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَمَرَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَسْأَلُ النَّاسَ هَلْ يُثْبِتُونَ قَاتِلَهُ؟ فَلَمَّا قِيلَ: قَيْنُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ اسْتَهَلَّ يَحْمَدُ رَبَّهُ أَنْ لَا يَكُونَ أَصَابَهُ ذُو حَقٍّ فِي الْفَيْءِ، فَيَحْتَجَّ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ إِنَّمَا اسْتَحَلَّ دَمَهُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ حَقِّهِ، وَقَدْ كَانَ أَصَابَ مِنْ مَالِ اللَّهِ بِضْعَةً وَثَمَانِينَ أَلْفاً فَكَسَرَ لَهَا رِبَاعَهُ

(3)

وَكَرِهَ بِهَا كَفَالَةَ أَوْلَادِهِ، فَأَدَّاهَا إِلَى الْخَلِيفَةِ مِنْ بَعْدِهِ، وَفَارَقَ الدُّنْيَا تَقِيًّا نَقِيًّا عَلَى مِنْهَاجِ صَاحِبَيْهِ، ثُمَّ يَا عُمَرُ إِنَّكَ بَنيَّ الدُّنْيَا وَلَدَتْكَ مُلُوكُهَا، وَأَلْقَمَتْكَ ثَدْيَيْهَا وَنَبَتَّ فِيهَا تَلْتَمِسُهَا مَظَانَّهَا، فَلَمَّا وُلِّيتَهَا أَلْقَيْتَهَا حَيْثُ أَلْقَاهَا اللَّهُ، هَجَرْتَهَا وَجَفَوْتَهَا، وَقَذَرْتَهَا إِلاَّ مَا تَزَوَّدْتَ مِنْهَا، فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَلَا بِكَ حَوْبَتَنَا وَكَشَفَ بِكَ

(1)

العبد، والأمة: قينة.

(2)

العبد، والأمة: قينة.

(3)

جمع: رَبْع، وهو دار الإقامة. (الفائق 2/ 32) أي باعها بثمن بخس.

ص: 208

كُرْبَتَنَا، فَامْضِ وَلَا تَلْتَفِتْ، فَإِنَّهُ لَا يَعِزُّ عَلَى الْحَقِّ شَيْءٌ، وَلَا يَذِلُّ عَلَى الْبَاطِلِ شَيْءٌ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ. قَالَ أَبُو أَيُّوبَ: فَكَانَ عُمُرُ بْنُ عَبْدِالْعَزِيزِ يَقُولُ فِي الشَّيْءِ قَالَ لِيَ ابْنُ الأَهْتَمِ: امْضِ وَلَا تَلْتَفِتْ

(1)

.

رجال السند:

أبو بكر المصري، لم يتميز من هو شيخ الدارمي ممن يكنون بابي بكر، وسليمان بن الحكم أبو أيوب الخزاعي، ويحيى بن سعيد بن أبان الأموي، أبو أيوب ثقة، ومعروف بن خربوذ المكي، مولى عثمان، لابأس به، وخالد ابن معدان إمام ثقة تقدم، وعبد الله بن الأهتم: لقب، واسمه سمي ابن سنان التميمي، أبو معمر المنقري، لم يكن راويا، كان خطيبا واعظا، وعمر بن عبد العزيز الخليفة الرشد الخامس.

الشرح:

قوله: " بنيّ الدنيا " أي دنياك مبنية، باعتباره سليل الخلافة العباسية، ولا مزيد على هذه البلاغة والبيان، إنها موعظة تقرع قلوب المؤمنين.

(1)

في سنده يحي بن سعيد بن العاص، صدوق يغرب، ومعروف، صدوق ربما وهم، وهي موعظة عظيمة حسنة مقبولة، وانظر: القطوف رقم (39/ 92).

ص: 209

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

15 -

‌ بابٌ

(1)

مَا أَكْرَمَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ مَوْتِهِ

(2)

94 -

(1) ثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، ثَنَا سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ، ثَنَا عَمْرُو بْنُ مَالِكٍ النُّكْرِىُّ قَالَ: ثَنَا أَبُو الْجَوْزَاءِ: أَوْسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قُحِطَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ قَحْطاً شَدِيداً، فَشَكَوْا إِلَى عَائِشَةَ فَقَالَتْ: انْظُرُوا قَبْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَاجْعَلُوا مِنْهُ كِوًى إِلَى السَّمَاءِ حَتَّى لَا يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّمَاءِ سَقْفٌ. قَالَ: فَفَعَلُوا فَمُطِرْنَا مَطَراً حَتَّى نَبَتَ الْعُشْبُ، وَسَمِنَتِ الإِبِلُ، حَتَّى تَفَتَّقَتْ مِنَ الشَّحْمِ، فَسُمِّىَ عَامَ الْفَتْقِ

(3)

.

رجال السند:

أبو النعمان عارم إمام ثقة تقدم، سعيد بن زيد الجهضمي، أخو حماد بن زيد الأزدي، ليس بهبأس، وعمرو بن مالك النكري، أبو يحيى البصري، صدوق له أوهام، وليس هذا من حديث ابنه يحيى عنه، وأبو الجوزاء أوس ابن عبد الله الربعي، من فقهاء التابعين، إمام ثقة.

الشرح:

قوله: " ثنا أبو النعمان " في (ت، ك) أخبرنا أبو مران عيسى بن عمر السمرقندي قال: ثنا أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي السمرقندي،

(1)

كتب قبالته في (ت) بلغت مقابلة بالأصل المقروء على ابن اللتي، وفي (ك) بلغ الثاني على العجلوني قراءة.

(2)

كتب قبالة هذا الباب في الهامش (بلغت مقابلة على الأصل المقروء على ابن اللتي).

(3)

فيه سعيد بن زيد بن درهم، وشيخه عمرو: كلاهما صدوق له أوهام، ولذلك ضعفه الألباني.

ص: 210

ثنا أبو النعمان.

قوله: «قحط أهل المدينة قحطا شديدا» .

المراد أجدبت الأرض ولم ينزل الغيث، فهلك الضرع والزرع، ولا ريب أن حياة الناس لا تقوم إلا على المواشي، والزراعة.

قوله: «فشكوا إلى عائشة فقالت: انظروا قبر النبي صلى الله عليه وسلم فاجعلوا منه كوا إلى السماء، حتى لا يكون بينه وبين السماء سقف» .

شكوا الشدة إلى أم المؤمنين رضي الله عنها لمكانها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أبيها أبو بكر رضي الله عنه، ولفقهها متوسمين إرشادهم بما لا يخالف الشرع، فاجتهدت في الفتوى، والمجتهد إن أصاب فله أجران؛ أجر الاجتهاد، وأجر الإصابة، وإن أخطأ له أجر الاجتهاد، وخطؤه مغفور.

قوله: «فقالت: انظروا قبر النبي صلى الله عليه وسلم فاجعلوا منه كوا إلى السماء، حتى لا يكون بينه وبين السماء سقف» .

أم المؤمنين لم تأمر بمخاطبة الرسول صلى الله عليه وسلم بشيء، بل أمرتهم رضي الله عنها بفعل وهو أن يفتحوا في السقف فتحات بحيث لا يحجب قبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن السماء، وهذا اجتهاد منها في الاستشفاع برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته، بغير دعائه، ولا مخاطبته بطلب.

قوله: «ففعلوا» المراد فعلو ما أمرتهم به أم المؤمنين من فتح كوًا في السقف.

قول: «فمطرنا مطرا حتى نبت العشب وسمنت الإبل، حتى تفتقت من الشحم فسمي عام الفتق» .

ص: 211

المراد أن أسنمة الإبل تنفطر وتنشق من كثر السمن، والمسألة فيها الخلاف بين العلماء شديد، فقد طعن العلماء في صحة هذه الرواية وتكلموا في بعض رواتها، من غير طريق الدارمي هذه فإن سندها حسن، ولا سبيل إلى الطعن في رواتها، ولكن أن هذا واقعة عين لا تقوى على رد عدم جواز الاستشفاع برسول الله صلى الله عليه وسلم، وما ذكر عن عمر رضي الله عنه أن خازنه على الطعام قال: " أصاب الناس قحط في زمن عمر، فجاء رجل إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، استسق لأمتك فإنهم قد هلكوا، فأتي الرجل في المنام فقيل له: ائت عمر فأقرئه السلام، وأخبره أنكم مستقيمون وقل له: عليك الكيس، عليك الكيس.

فأتى عمر فأخبره فبكى عمر ثم قال: " يا رب لا آلو إلا ما عجزت عنه "

(1)

.

هذه قصة فيها نظر، إن عرفنا خازن عمر على الطعام، واسمه مالك بن عياض، سكت عنه الإمامان، ووثقه ابن حبان، ولكن من الرجل الذي ذهب إلى قبر الرسول صلى الله عليه وسلم؟، وهل توقف القحط بعد ذلك في عهد عمر رضي الله عنه؟، ومتى كان عام الرمادة الذي اشتد فيه القحط والشدة، حتى علا وجوه الناس مثل الرماد من الجوع، ولماذا لا يذهب إلى القبر بنفسه رضي الله عنه، ويخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو الذي سماه الفاروق، ولم لمّا احتاج الناس إلى طلب السقيا نادى عمر رضي الله عنه العباس وقال:" اللهم إنا كنا إذا قحطنا على عهد نبيك صلى الله عليه وسلم واستسقينا به فسقيتنا، وأنا نتوسل إليك اليوم بعم نبيك صلى الله عليه وسلم فاسقنا "

(2)

. وقد

(1)

ابن أبي شيبة حديث (32002).

(2)

ابن خزيمة حديث (2861).

ص: 212

يقال: فبمن نستسقي اليوم إذا أصابنا القحط، بالرجل الصالح المستقيم المزكى، فيدعوا كما دعا العباس والناس يؤمنون، وإلا بالتوسل إلى الله عز وجل فقد قال:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}

(1)

.

ما يستفاد:

* جواز طلب الفتوى من المرأة العالمة.

* قد يصيب الناس قحط وشدة ليذكروا ربهم، ويحاسبوا أنفسهم.

* أن القحط سبب للتوبة والاستغفار، وقد دعا نوح قومه فقال: {فَقُلْتُ

اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا}

(2)

.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

95 -

(2) أَخْبَرَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ:" لَمَّا كَانَ أَيَّامُ الْحَرَّةِ لَمْ يُؤَذَّنْ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثاً وَلَمْ يُقَمْ، وَلَمْ يَبْرَحْ سَعِيدُ ابْنُ الْمُسَيَّبِ الْمَسْجِدَ، وَكَانَ لَا يَعْرِفُ وَقْتَ الصَّلَاةِ إِلاَّ بِهَمْهَمَةٍ يَسْمَعُهَا مِنْ قَبْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم " فَذَكَرَ مَعْنَاهُ

(3)

.

رجال السند:

مروان بن محمد الطاطري، أبو بكر أو عبد الرحمن، إمام ثقة، أخطأ ابن حزم في تضعيفه، وسعيد بن عبد العزيز التنوخي، أبو محمد أو عبدالعزيز

(1)

ابن خزيمة حديث (2861).

(2)

الآيتان (10، 11) من سورة نوح.

(3)

ورجاله ثقات.

ص: 213

الدمشقي، شيخ العلم بعد الأوزاعي، إمام ثقة.

الشرح:

قوله: «لما كان أيام الحرة لم يؤذّن في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثا ولم يقم» . كانت واقعة الحرة بقيادة مسلم بن عقبة، في سنة ثلاث وستين من الهجرة، وكان سببها مطالبة بعض أهل المدينة، خرجوا يريدون خلع يزيد بن معاوية، فأرسل إليهم جيشا قوامه اثنى عشر ألفا، فجرى في المدينة قتال وخوف، وتفصيل ذلك في كتب السنة وغيرها.

قوله: «ولم يبرح سعيد بن المسيب المسجد» .

هو سعيد بن المسيِّب بن حزن بن أبي وهب المخزومي القرشي، أحد الفقهاء السبعة، اتفق علماء الحديث على أن مرسلاته أصح المراسيل، توفي رحمه الله سنة ثلاث وتسعين من الهجرة.

روى أبو حازم عن سعيد نفسه ما يؤيد هذه الرواية قال: قال: " سمعت سعيد ابن المسيب يقول: لقد رأيتني ليالي الحرة وما في المسجد أحد من خلق الله غيري. وإن أهل الشام ليدخلون زمرا زمرا، يقولون: انظروا إلى هذا الشيخ المجنون.

وما يأتي وقت صلاة إلا سمعت أذانا في القبر ثم تقدمت فأقمت فصليت وما في المسجد أحد غيري"

(1)

.

قوله: «وكان لا يعرف وقت الصلاة إلا بهمهمة يسمعها من قبر النبي صلى الله عليه وسلم» .

(1)

الطبقات الكبرى ط العلمية 5/ 100.

ص: 214

بينت رواية أبي حازم أنه الأذان، وليس ذلك بغريب على من في القبر، ولا على من في المسجد، فالله عليم بفضل كل منهما، فكانت هذه كرامة الله عز وجل لسعيد الهارب من الفتنة، أن يذكره الله عز وجل فيسمع الأذان من قبر المصطفى صلى الله عليه وسلم.

ما يستفاد:

* بيان ما تجلبه دعوى نقض البيعة من بعض الناس من الشر والفتنة، ولقد جلب دعاتها شرا على الناس عظيما في المدينة.

* لم يكن الخروج على يزيد مشروعا، فلم لديه كفر بواح يقتضي ذلك.

* اعتزال سعيد بن المسيب الفتنة وهو من الفقها المعتبرين يؤيد عدم جواز الخروج.

* بيان كرامة الله عز وجل لعباده الصالحين.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

96 -

(3) حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِى خَالِدٌ - هُوَ ابْنُ يَزِيدَ - عَنْ سَعِيدٍ - هُوَ ابْنُ أَبِي هِلَالٍ - عَنْ نُبَيْهِ بْنِ وَهْبٍ: أَنَّ كَعْباً دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ فَذَكَرُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ كَعْبٌ: مَا مِنْ يَوْمٍ يَطْلُعُ إِلاَّ نَزَلَ سَبْعُونَ أَلْفاً مِنَ الْمَلَائِكَةِ حَتَّى يَحُفُّوا بِقَبْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَضْرِبُونَ بِأَجْنِحَتِهِمْ وَيُصَلُّونَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى إِذَا أَمْسَوْا عَرَجُوا وَهَبَطَ مِثْلُهُمْ فَصَنَعُوا مِثْلَ

ص: 215

ذَلِكَ، حَتَّى إِذَا انْشَقَّتْ عَنْهُ الأَرْضُ خَرَجَ فِي سَبْعِينَ أَلْفاً مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَزِفُّونَهُ

(1)

.

رجال السند:

عبد الله بن صالح كاتب الله صدوق تقدم، والليث بن سعد: إمام تقدم، وخالد ابن يزيد أبو العلاء ثقة تقدم، وسعيد بن أبي هلال ثقة رد تضعيف ابن حزم، ونبيه بن وهب بن عثمان المدني، إمام ثقة.

الشرح:

هذه الرواية هي آخر ما ورد من كتاب فضائل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وسبق أن قلت عند أول رواية الدارمي في هذا المسند: لم يهتم الرعيل الأول من الأئمة المؤلفين كثيرا بذكر تصنيف الكتب وما يندرج تحتها من أبواب، ولا الأبواب وما يندرج تحتها من فصول، وكذلك الفصول وما يندرج تحتها من مباحث، وعلى ذلك شوش الدارمي رحمه الله، فتارة يذكر الباب ويسميه كما هنا، وتارة يذكره منكّرا فيقول: باب، ولا يسميه، وتارة يقول: كتاب، وأخرى: ومن كتاب، وما بدأ به هنا منه ما يندرج تحت كتاب علامات النبوة، ومنه ما يكون تحت كتاب الفضائل.

(1)

ت: وفي سنده خالد بن يزيد الجهني: مقبول، وهو موقوف على كعب الأحبار، وهو من رواة الإسرائيليات، ولم أقف عليه عند غير الدارمي، ولا نشك في أن نبينا صلى الله عليه وسلم حقيق بذلك، ولكن لا نجزم بصحة الخبر، والله أعلم.

ص: 216

قوله: «أن كعبا» هو كعب بن ماتع الحميري أبو إسحاق، مشهور بكعب الأحبار ثقة مخضرم، أدرك عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره، أسلم في خلافة عمر ابن الخطاب رضي الله عنه، من أهل اليمن سكن الشام، مات في خلافة عثمان رضي الله عنه،

وقد زاد على المائة، روايته عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلة.

قوله: «دخل على عائشة» .

يفيد أن روايته عنها موصولة وليست مرسلة.

قوله: «فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم» يفيد أن معه غيره في الدخول على أم المؤمنين رضي الله عنها تسمعهم من وراء حجاب.

قوله: «فقال كعب: ما من يوم يطلع إلا نزل سبعون ألفا من الملائكة حتى يحفوا بقبر النبي صلى الله عليه وسلم، يضربون بأجنحتهم ويصلون على رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا أمسوا عرجوا وهبط مثلهم فصنعوا مثل ذلك، حتى إذا انشقت عنه الأرض خرج في سبعين ألفا من الملائكة يزفونه» .

هذا لا غرابة فيه بالنسبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو أهل لهذا التكريم، ولكن من أين هذا لكعب؟! ولم يدرك رسول الله عز وجل فيقال رواه عنه، لا سبيل لعلم كعب هذا إلا أن يكون من علم أهل الكتاب، فنحن لا ننكر فضل المصطفى صلى الله عليه وسلم، وتكريم الله عز وجل له، ولكن نطلب المصدر الذي استقى من كعب رحمه الله

ص: 217

هذا، فليس الا الاسرائيليات، ولاسيما أنه لم يسند قوله هذا إلى أحد. والعجب أن أهل العلم رحمهم الله عز وجل تناقلوه من رواية كعب، ورووه ودونوه في مصنفاتهم، ولم أقف على من استفهم عن مصدر علم كعب رحمه الله بهذا، فإن كان من أهل الكتاب وكعب منهم قبل الإسلام، فأمرنا ألا نصدق ولا نكذب.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

16 -

‌ بابٌ اتِّباعِ السّنَّةِ

(1)

97 -

(1) أَخْبَرَنَا أَبُو عَاصِمٍ، أَنَا ثَوْرُ بْنُ يَزِيد قَالَ: حَدَّثَنِى خَالِدُ بْنُ مَعْدَانَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ عِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ قَالَ: صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الْفَجْرِ ثُمَّ وَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً، ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَأَنَّهَا مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَأَوْصِنَا. فَقَالَ:«أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ كَانَ عَبْداً حَبَشِيًّا، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافاً كَثِيراً، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْمُحْدَثَاتِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ» وَقَالَ أَبُو عَاصِمٍ مَرَّةً: «وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ»

(2)

.

رجال السند: أبو عاصم الضحاك بن مخلد النبيل، إمام ثقة جليل، وثور ابن يزيد الحمصي، أبو يزيد الرحبي، إمام ثقة، وخالد بن معدان ثقة

(1)

كتب قبالته في (ت) بلغ العرض.

(2)

في إسناد عبد الرحمن بن عمرو بن عبسة السلمي، مقبول. والخبرأخرجه الترمذي حديث (2676) وقال: حسن صحيح، وأبو داود حديث (4607) وابن ماجه حديث (43) وصححه الألباني عندهما.

ص: 218

تقدم، وعبد الرحمن بن عمرو بن عبسة، عبسة السلمي، له حديث الموعظة هذا.

الشرح:

قوله: «صلى لنا رسول الله جل جلاله صلاة الفجر، ثم وعظنا» .

ورد أيضا في بعض الروايات صلى بنا، وكلاهما جائز، أي: إماما في صلاة الفجر، حدد العرباض رضي الله عنه أنه كان بعد الفجر.

قوله: «موعظة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب» .

المراد أنه صلى الله عليه وسلم أقبل عليهم بوجهه وألقى عليهم موعظة ظهر فيها بيانه صلى الله عليه وسلم، وأبلغ في الإنذار، فذرفت العيون من بلاغتها، وخافت القلوب من وعيدها، وقد استمال قلوبهم ببلاغته صلى الله عليه وسلم، وقد أعطي جوامع الكلم في حديثه وخطبه. قوله:«قال قائل» .

القائل هم الصحابة رضي الله عنهم، يدل على هذا تأثرهم وبكاؤهم وخوفهم، وهذا تؤيد رواية "فقلنا: يا رسول الله! إن هذه موعظة مودع، فما تعهد إلينا؟ "

(1)

.

قوله: «كأنها موعظة مودع فأوصنا» .

استشعر ذلك القائل أو القائلون من بلاغة الموعظة، والتركيز أعلى مور بكت منه عيونهم، وخافت منها قلوبهم أن ذلك يشير إلى دنو الأجل، أنه أنهم لما رأوا حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذكر أمور هالتهم وأخافتهم، فشبهوه صلى الله عليه وسلم براحل أوصى أهله بماينفعهم وحذرهم مما يهلهم، فبادروا إلى طلب الوصية، ومعلوم أن الوصية لا يترك فيها أمر ذو بال.

(1)

الاعتصام للشاطبي 1/ 64.

ص: 219

قوله: «أوصيكم بتقوى الله» .

بدأ الوصية بتقوى الله عز وجل؛ لأنها رأس كل أمر، وفيها جماع الخير والبركة

والرزق، والفكاك من شر وبلاء، قال تعالى:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ (3) وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا}

(1)

.

فأي خير يتمناه المسلم في الدنيا بعد هذا، فتقوى الله عز وجل هي الطريق الصحيح في الدنيا ومنها إلى الجنة، والتقوى المراد أن تحرص على الحلال فيما تأتي من مطعم ومشرب، وبيع وشراء، وأن تعاشر بالحلال، وتتعامل بالمعروف، وأن تذر الحرام مما سلف ذكره، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«الحلال بين، والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهة، فمن ترك ما شبه عليه من الإثم، كان لما استبان أترك، ومن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم، أوشك أن يواقع ما استبان، والمعاصي حمى الله من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه»

(2)

.

قوله: «والسمع والطاعة» .

المراد لولاة الأمر، وهما طرفان يشد بعضهما بعضا، ولاة الأمور في السياسة الشرعية، وهم العلماء لهم بيان ما تدل عليه النصوص من الكتاب والسنة من المصالح الدينية والاجتماعية والاقتصادية، والطرف الثاني ولي الأمر في السياسة العامة، وهو رأس الهرم في الدولة له حق الطاعة كما هو للعلماء، ولذلك جمع بين السمع والطاعة تأكيداً للاعتناء بهذا المقام، ولأهمية

(1)

الآيات (2 - 4) من سورة الطلاق.

(2)

البخاري حديث (2051) ومسلم حديث (ذ 599).

ص: 220

طاعة أولياء الأمور؛ لأنها حجاب المصالح ورعاية العدل في الحقوق والوجبات قال عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}

(1)

.

وهذا ربط عظيم بين ثلاث طاعات مفروضة بالنص من الله عز وجل ليس فيها مجال للاجتهاد، ولا ينفك بعضها عن بعض، فمن أطاع الله عز وجل فهو باللزوم يطيع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أطاع الرسول لزوما يطيع الله عز وجل، ومن عصى الله عز وجل فقد عصى الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن عصى الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو عاص لله عز وجل، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع الأمير فقد أطاعني، ومن عصى الأمير فقد عصاني»

(2)

، ثم لم يعد الفعل {وَأَطِيعُوا} فلم يقل: وطيعوا أولي الأمر منكم بل قال عز وجل: {وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} لأن طاعة ولي الأمر مرتبطة بطاعة الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، فجرى العطف بدون ذكر الفعل، ليعلم أنه لا طاعة لولي الإمر إلا إذا أطاع الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم.

قوله: «وإن كان عبدا حبشيا» .

المراد وجوب طاعة من يوليهم ولي الأمر على جهات الدولة، فطاعتهم واجبهم تنفيذا لطاعة ولي الأمر، وإن كان المولّى عبدا، لذلك قال أبو ذر رضي الله عنه:" إن خليلي أوصاني أن أسمع وأطيع، وإن كان عبدا مجدّع الأطراف" أي: وإن حقيرا في نظر الآخرين، وهذه مبالغة في وجوب الطاعة، وقد

(1)

من الآية (59) من سورة النساء.

(2)

أحمد حديث (7434).

ص: 221

يذكر المثل للشيء بما لم يكن موجودا، وقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلا لأجر من بنى لله مسجداً فقال:«ولو مثل مفحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة»

(1)

، ومعلوم أن قدر مفحص قطاة لا يمكن أن يستوعب قدم إنسان، وضرب مثلا لقوة العدل والجزم فيه فقال:«وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها»

(2)

.

وبعد أن ربط الله الطاعات الثلاث لزوما بين ما يجب على أولياء الأمور فيما لو وقع الخلاف بينهم في أمر ما فقال عز وجل: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}

(3)

، أمر تعالى بالرد إلى كتابه وسنة رسوله في حال التنازع في أي أمر كان سواء بين المسلمين، أو بينهم وبين ولاة الأمر؛ فذلك الرد علامة الإيمان الصحيح، قال عز وجل:{إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}

(4)

، في ذكر الإيمان باليوم الآخر نوع وعيد بعقاب المسيء، وبين تعالى أن ذلك الرد الذي أمر به فيه الخير والنظر الصائب، لا ما يختاره العباد فقال:{ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}

(5)

.

قوله: «فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا» .

(1)

ابن ماجه حديث (738).

(2)

البخاري حديث (3475) ومسلم (1688).

(3)

من الآية (59) من سورة النساء.

(4)

من الآية (59) من سورة النساء.

(5)

من الآية (59) من سورة النساء.

ص: 222

فيه إشارة إلى أن بعضهم سيدرك هذا الخلاف قبل موته، وهذا ما حدث فعلا، فأول الخلاف كان في عهد عثمان رضي الله عنه، وأخذ في الاتساع ولاسيما في عهد علي رضي الله عنه، وتنامت الفرق الضالة بعد ذلك، وهي في ازدياد إلى يومنا هذا، وإلى أن تقوم الساعة وهذا من بعض معجزات نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إذا أخبر أصحابه رضي الله عنهم بما يكون بعده من الاختلاف، وغلبة المنكر، ولم يذكر ذلك على التفصيل مع علمه به ولو شاء لسمى الأعيان، وإنما حذر منه على العموم، وقد بين ذلك لبعض الصحابة رضي الله عنهم كأبي هريرة رضي الله عنه «حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين: فأما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم»

(1)

، وقد اختص حذيفة رضي الله عنه فذكر له بعض المنافقين. قوله:«فعليكم بسنتي» .

المراد تمسكوا بها، وهي طريقته بينة الأحكام في الحلال والحرام، والتوحيد وما يجب التمسك به في الطريق إلى الجنة من الأقوال والأفعال.

قوله: «وسنة الخلفاء الراشدين المهديين» .

المراد بالراشد من عرف الحق والتزمه، والخلفاء الراشدون هم أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي رضي الله عنهم، وصفهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالرشد، وبالاهتداء؛ استمعوا الحق فعرفوه والتزموه، وهم مبشرون بالجنة.

قوله: «عضوا عليها بالنواجذ» .

النواجذ: هي الأنياب، وليست الثنايا، وهذا مبالغة في شدة التمسك بسنته صلى الله عليه وسلم، وسنة الخلفاء الراشدين، لأن في ذلك جماع الخير والفلاح.

(1)

البخاري (120).

ص: 223

قوله: «وإياكم والمحدثات» .

والمحدث من الأمور في الدين ما خالف الكتاب والسنة، وما لا أصل له في الشرع، وجامعها البدع، وذلك من الخديعة للأمة، قال رسول الله

صلى الله عليه وسلم: «الخديعة في النار، من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد»

(1)

.

قوله: «وقال أبو عاصم» هو النبيل إمام ثقة تقدم.

قوله: «فإن كل بدعة ضلالة» .

وصف النبي صلى الله عليه وسلم كل البدع بأنها ضلال؛ لأن المبتدع يرجع إلى الاختلاف الذي تقدم تحذير الرسول صلى الله عليه وسلم منه، والاختلاف سبب التفرق المذموم وشتات الأمر، فلا يكون شيء من البدع حسنا؛ فكل بدعة ضلالة، وإن رآها الناس حسنة، ومن ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمدا صلى الله عليه وسلم خان الرسالة؛ إذ لم يؤدها كما أمر، وهذا باطل في حقه صلى الله عليه وسلم، وأخبر الله عز وجل بكمال الدين قبل موته صلى الله عليه وسلم بثلاثة أشهر في حجة الوادع فقال:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}

(2)

، ولو لم يكمل النبي صلى الله عليه وسلم الرسالة كما أمره الله عز وجل لما جاء هذا النص الكريم.

ما يستفاد:

* أن من أسباب ترقيق القلوب المبالغة في الترغيب والترهيب، وهو أساس في الموعظة.

(1)

البخاري ما حديث (2141) ومسلم حديث (1718).

(2)

من الآية (3) من سورة المائدة.

ص: 224

* أن الإصغاء في المواعظ يفيد في استنتاج بعض ما يرمي إليه الواعظ، فقد فهم الصحابة رضي الله عنهم من مبالغته في الموعظة أنه صلى الله عليه وسلم يودعهم.

* جواز طلب الزياد في النصيحة ولو وجد في الموعظة ما يخيف ويرعب.

* الموعظة اشتملت على إخبار بغيب، مما يقع بعد موته صلى الله عليه وسلم، وهو ما عاينه بعض الصحابة رضي الله عنهم في عهد عثمان رضي الله عنه، وما بعده.

* أن تقوى الله عز وجل من أعظم ما يحرص عليه المسلم؛ لأنها سفينة النجاة في الدنيا والآخرة.

* أن في الطاعة لله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم وأولوا الأمر سعادة الدنيا والآخرة.

* أن الصبر على التمسك بالسنة عاقبته حميدة رغم الشدة في ذلك، لذلك مثّل لها بالعض الشدي بالنواجذ: وهي الأنياب، لأهمية الصبر عليها.

* العمل بأقوال الخلفاء الراشدين واعتبارها سنة، وذلك لمعرفتهم الحق والتزامه.

* الحذر من مخالفة الكتاب والسنة، وعدم الإحداث في الدين ما ليس منه.

* أن من يبتدع في الدين فقد ضل طريق المؤمنين.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

98 -

(2) أَخْبَرَنَا أَبُو الْمُغِيرَةَ، ثَنَا الأَوْزَاعِيُّ، عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: كَانَ مَنْ مَضَى مِنْ عُلَمَائِنَا يَقُولُونَ: الاِعْتِصَامُ بِالسُّنَّةِ نَجَاةٌ، وَالْعِلْمُ يُقْبَضُ قَبْضاً سَرِيعاً، فَنَعْشُ الْعِلْمِ ثَبَاتُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَفِي ذَهَابِ الْعِلْمِ ذَهَابُ ذَلِكَ كُلِّهِ

(1)

.

(1)

رجاله ثقات، وانظر: القطوف رقم (43/ 97).

ص: 225

رجال السند:

أبو المغيرة عبد القدوس بن الحجاج الحمصي، يمني من خولان، إمام

ثقة، والأوزاعي

(1)

عبد الرحمن بن عمرو إمام ثقة تقدم، ويونس بن يزيد الأيلي، هو أبو يزيد مولى معاوية، راوية الزهري، إمام ثقة، والزهري محمد بن مسلم إمام ثقة تقدم.

الشرح:

قوله: «كان من مضى من علمائنا يقولون: الاعتصام

» هذا قول الزهري رحمه الله عز وجل وهو محمد بن مسلم، كان رأسا في التمسك بالكتاب والسنة، ومحاربة ما خالفهما، وفي رواية قال: بلغنا عن رجال وصفهم بأنهم من أهل العلم، وهذا يؤيد أنهم من المعروفين بالعلم، والاستقامة على السنة.

يؤيد هذا قولهم: «الاعتصام بالسنة نجاة» .

وهذا أصله قول الله عز وجل: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}

(2)

، وهو منهج السلف رحمهم الله عز وجل؛ لأن حبل الله القرآن، والسنة النبوية، ولذلك لم يسم هذا المنهج مذهبا في الإسلام في الصدر الأول؛ لأنه هو الإسلام كله، وكل كل لا يتجزأ، ولا يجوز أن تفترق فيه الأمة، وقد بسطنا القول في المراد بمنهج السلف في كتابنا " الهادي والمهتدي".

(1)

في (ت) عن يحي بتئ أبي عمرو ويونس ..

(2)

من الآية (103) من سورة آل عمران.

ص: 226

قوله: " فَنَعْشُ " النعش: من أسماء السرير في بعض حالاته: وهي حين يكون عليه الميت، وإذا كان للملك فيقال: عرش، وإذا كان للعرس فأريكة، وللثياب فهو النضد (فقه اللغة 1/ 54).

قوله: «والعلم يقبض قبضا سريعا» .

المراد بموت العلماء الربانيين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إن الله لا ينتزع العلم من الناس انتزاعا، ولكن يقبض العلماء فيرفع العلم معهم، ويبقي في الناس رؤوسا جهالا، يفتونهم بغير علم، فيضلون ويضلون»

(1)

.

قوله: «فنعش، العلم ثبات الدين والدنيا» .

ثبت أن قوله: " فنعش" تصحيف تقدم بيانه في التعليق، والمراد بالعلم: العلم الشرعي المترتب عليه الثواب والعقاب، وهو ثبات الناس على الحق في اعتقادهم وعبادتهم ومعاملاتهم، فالدين المراد به ما يتعلق بالآخرة، والدنيا ما يتعلق بالحياة، وقد وصف ذلك بالثبات لشدة الارتباط بما يتعلق بالمعاد والمعاش، والمصالح فيهما.

قوله: «وفي ذهاب العلم ذهاب ذلك كله» .

المراد أن ذهاب العلم بموت العلماء الربانيين ذهاب للدين والدنيا، فذهاب العلماء يورث في الناس رؤوسا جهالا، يفتونهم بغير علم، فيضلون ويضلون.

ما يستفاد:

* المعتصمون بالكتاب والسنة هم العلماء الربانيون حقا.

(1)

مسلم حديث (2673).

ص: 227

* التنبيه على وجوب التمسك بالسنة، وهي ما صح من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أو فعله أو تقريره.

* أن بقاء العلماء الربانيون في الأمة ضمان لهم بإذن الله عز وجل من جهلاء الناس، وهذا يلزم منه توقير العلماء.

* أن ذهاب العلم يكون بموت العلماء.

* أن الجهل يقود إلى الضلال، والقول على الله جل جلاله بالباطل.

* أن من يفتي بغير علم خطر على الأمة؛ لأنه يقودها إلى الضلال عما شرع الله عز وجل.

* أن العلم بالشرع أساس قيام الدين، وصلاح الدنيا.

* أن الدين وصلاح الدنيا يذهب بذهاب العلماء.

* أن الضلال والفساد والفتن تكون ظاهر بفتاوى الجهال.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

99 -

(3) أَخْبَرَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ، ثَنَا الأَوْزَاعِيُّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِى عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الدَّيْلَمِيِّ قَالَ: بَلَغَني أَنَّ أَوَّلَ الدِّينِ تَرْكاً السُّنَّةُ، يَذْهَبُ الدِّينُ سُنَّةً سُنَّةً كَمَا يَذْهَبُ الْحَبْلُ قُوَّةً قُوَّةً

(1)

.

رجال السند:

أبو المغيرة تقدم آنفا، والأوزاعي تقدم، ويحيى بن أبي عمرو الشيباني، أبو زرعة الحمصي، ابن عم الأوزاعي إمام ثقة، وعبد الله بن فيروز الديلمي، أبو بشر من كبار التابعين ثقة.

(1)

رجاله ثقات، وانظر: القطوف رقم (44/ 98).

ص: 228

الشرح:

قوله: «إن أول الدين تركا السنة» المراد أن السنة تترك بقيام البدعة؛

لأن كل ما قامت بدعة ماتت سنة، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد»

(1)

، وقال صلى الله عليه وسلم:«وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة»

(2)

.

قوله: «يذهب الدين سنة سنة، كما يذهب الحبل قوة قوة» .

المراد أنه يضعف بظهور ما يبتدع شيئا فشيئا، كضعف قوة الحبل، حتى يَخْلَق ويَرِم، ويذهب الدين كلية بتوالي موت العلماء الربانين سنة بعد سنة.

ما يستفاد:

* علاوة على ما سبق، فيه بيان أن النجاة في التمسك بالسنة.

* وأن الهلاك في البدع ومحدثات الأمور.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

100 -

(4) أَخْبَرَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ، ثَنَا الأَوْزَاعِيُّ، عَنْ حَسَّانَ قَالَ: مَا ابْتَدَعَ قَوْمٌ بِدْعَةً فِي دِينِهِمْ إِلاَّ نَزَعَ اللَّهُ مِنْ سُنَّتِهِمْ مِثْلَهَا، ثُمَّ لَا يُعِيدُهَا إِلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ

(3)

.

(1)

البخاري ما حديث (2141) ومسلم حديث (1718).

(2)

في إسناد عبد الرحمن بن عمرو بن عبسة السلمي، مقبول. والخبرأخرجه الترمذي حديث (2676) وقال: حسن صحيح، وأبو داود حديث (4607) وابن ماجه حديث (42، 43، 44) وأحمد حديث (17142، 17145) قال ابن عبد البر: هو حديث جيد من صحيح حديث الشاميين (جامع بيان العلم وفضله 2/ 223).

(3)

رجاله ثقات، وانظر: القطوف رقم (45/ 99).

ص: 229

رجال السند:

أبو المغيرة، والأوزاعي، تقدما وكلاهما إمام ثقة، وحسان بن عطية

المحاربي، إمام ثقة، أثنى عليه الأوزاعي.

الشرح:

قوله: «ما ابتدع قوم بدعة في دينهم، إلا نزع الله من سنتهم مثلها» .

هذا يؤيد ما تقدم ذكره، من شدة خطر البدع؛ لأنها إحداث بسم الدين ما هو باطل وغير مشروع.

قوله: «ثم لا يعيدها إليهم إلى يوم القيامة» .

المراد أن الباطل حل محلها وتشرّب الجهال العمل به، فلا يقبلون العمل بالسنة وإن دُعُوا إليها؛ لأن البدع منبعها الأهواء والرغبات الباطلة.

ما يستفاد:

* بيان أن السنة والبدعة عدوان لدودان لا يجتمعان أبدا، وانظر ما سبق.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

101 -

(5) أَخْبَرَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، ثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ قَالَ: مَا ابْتَدَعَ رَجُلٌ بِدْعَةً إِلاَّ اسْتَحَلَّ السَّيْفَ

(1)

.

رجال السند:

مسلم بن إبراهيم الفراهيدي، إمام ثقة تقدم، ووهيب بن خالد بن عجلان الباهلي، إمام ثقة، يملي من حفظه، وكان عالما بالرجال، وأيوب

(1)

رجاله ثقات، وانظر: القطوف رقم (46/ 100).

ص: 230

السختياني، إمام ثقة تقدم، وأبو قلابة عبد الله بن زيد الجرمي، عالم بالقضاء، فارٌّ منه، إمام ثقة، قال أيوب: كان والله من الفقهاء ذوي الألباب.

الشرح:

قوله: «ما ابتدع رجل بدعة إلا استحل السيف» .

المراد استحل قتل من خالفه في بدعته، وسفك دماء الناس بسبب باطل دعا إليه، ولذلك أدب عمر رضي الله عنه صبيغا لما قَدِمَ الْمَدِينَةَ، وجعل يسأل عن متشابه القران، فاستدعاه عمر رضي الله عنه، هلّ ما في رأسه من ضلال، حتي قال: يا مير المؤمنين حسبك، قد ذهب الذي كنت أجد، وستأتي قصته عند الدارمي لا حقا.

ما يستفاد:

* أن البدعة استحلال للدماء والأعراض والأموال.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

102 -

(6) أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، ثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ

(1)

، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ قَالَ: " إِنَّ أَهْلَ الأَهْوَاءِ أَهْلُ الضَّلَالَةِ، وَلَا أَرَى مَصِيرَهُمْ إِلاَّ النَّارَ، فَجَرِّبْهُمْ فَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْهُمْ يَنْتَحِلُ قَوْلاً - أَوْ قَالَ حَدِيثاً - فَيَتَنَاهَى بِهِ الأَمْرُ دُونَ السَّيْفِ، وَإِنَّ النِّفَاقَ كَانَ ضُرُوباً، ثُمَّ تَلَا:{وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ}

(2)

، {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا

(1)

في الأصل (يزيد) وهو خطأ.

(2)

الآية (75) من سورة التوبة.

ص: 231

هُمْ يَسْخَطُونَ}

(1)

، {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ}

(2)

، فَاخْتَلَفَ قَوْلُهُمْ وَاجْتَمَعُوا في الشَّكِّ وَالتَّكْذِيبِ، وَإِنَّ هَؤُلَاءِ اخْتَلَفَ قَوْلُهُمْ وَاجْتَمَعُوا فِي السَّيْفِ، وَلَا أَرَى مَصِيرَهُمْ إِلاَّ

(3)

النَّارَ".

قَالَ حَمَّادٌ: ثُمَّ قَالَ أَيُّوبُ عِنْدَ ذَا الْحَدِيثِ، أَوْ عِنْدَ الأَوَّلِ: وَكَانَ وَاللَّهِ مِنَ الْفُقَهَاءِ ذَوِي الأَلْباب. يَعْنِي أَبَا قِلَابَةَ

(4)

.

رجال السند:

سليمان بن حرب بن بجيل أزدي، أبو أيوب البصري، إمام ثقة، وحماد ابن زيد، وأيوب السختياني، وأبو قلابة الجرمي، أئمة ثقات تقدموا.

الشرح:

قوله: «إِنَّ أَهْلَ الأَهْوَاءِ أَهْلُ الضَّلَالَةِ» لتركهم السنة، وأخذهم البدعة، ولذلك قال:«وَلَا أَرَى مَصِيرَهُمْ إِلاَّ النَّارَ» ويؤيد هذا قول الله عز وجل: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ}

(5)

.

قوله: «فَجَرِّبْهُمْ فَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْهُمْ يَنْتَحِلُ قَوْلاً - أَوْ قَالَ حَدِيثاً - فَيَتَنَاهَى بِهِ الأَمْرُ دُونَ السَّيْفِ» ؛ لأنهم زنادقة، لم يعجبهم شرع الله، فانتحلوا من

(1)

الآية (58) من سورة التوبة.

(2)

من الآية (61) من سورة التوبة.

(3)

في (ت) إلى، وهو خطأ.

(4)

رجاله ثقات، وانظر: القطوف رقم (47/ 101) وهذا الحديث نهاية النقص من المخطوطة (ل) وهو من أولها.

(5)

من الآية (50) من سورة القصص.

ص: 232

البدع ما أضلوا به وأضلوا، وذكر من أهل الأهواء المنافقين، والنفاق أنواع، ثم أورد رحمه الله ما يدينهم من الكتاب وتَلَا: الآيات قال الله عز وجل {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ}

(1)

{وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ}

(2)

، {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ}

(3)

، فَاخْتَلَفَ قَوْلُهُمْ وَاجْتَمَعُوا في الشَّكِّ وَالتَّكْذِيبِ، وَإِنَّ هَؤُلَاءِ اخْتَلَفَ قَوْلُهُمْ وَاجْتَمَعُوا فِي السَّيْفِ، وَلَا أَرَى مَصِيرَهُمْ إِلاَّ النَّارَ". قَالَ حَمَّادٌ: ثُمَّ قَالَ أَيُّوبُ عِنْدَ ذَا الْحَدِيثِ، أَوْ عِنْدَ الأَوَّلِ: وَكَانَ وَاللَّهِ مِنَ الْفُقَهَاءِ ذَوِي الأَلْباب. يَعْنِي أَبَا قِلَابَةَ

(4)

.

فالمراد أن الأهواء منها الحسن والقبيح، فالحسن ما وافق الشرع، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به»

(5)

.

والقبيح: ما خالف الشرع ورد العمل به، ومن كان هذا حاله فإنه يهوي في نار جهنم.

(1)

الآية (75) من سورة التوبة.

(2)

الآية (58) من سورة التوبة.

(3)

من الآية (61) من سورة التوبة.

(4)

رجاله ثقات، وانظر: القطوف رقم (47/ 101) وهذا الحديث نهاية النقص من المخطوطة (ل) وهو من أولها.

(5)

السنة لابن أبي عاصم حديث (15).

ص: 233

ما يستفاد

* التحذير من البدع فأكثر ما تكون الأهواء في العبادات.

* الأصل في العبادة التوقيف، والحضر فلا يزاد فيها، ولا ينقص منها.

* عدم جواز التقرب إلى الله بعمل لا يوافق الكتاب والسنة. * ضلال من لم تكن السنة منهجه، يؤيد عذا قوله عز وجل:{قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}

(1)

.

* أن في عمل المبتدع تهمة للنبي عز وجل بأنه لم يبلغ الدين كما أراد الله عز وجل.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

17 -

‌ بابٌ التَّوَرُّعِ عَنِ الْجَوَابِ فِيمَا لَيْسَ فِيهِ كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ

103 -

(1) أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ عَامِرٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَحُذَيْفَةَ:" أَنَّهُمَا كَانَا جَالِسَيْنِ فَجَاءَ رَجُلٌ فَسَأَلَهُمَا عَنْ شَيْءٍ، فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ لِحُذَيْفَةَ: لأَيِّ شَيْءٍ تُرَى يَسْأَلُونِي عَنْ هَذَا؟، قَالَ: يَعْلَمُونَهُ ثُمَّ يَتْرُكُونَهُ، فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ ابْنُ مَسْعُودٍ فَقَالَ: مَا سَأَلْتُمُونَا عَنْ شَيْءٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ نَعْلَمُهُ أَخْبَرْنَاكُمْ بِهِ، أَوْ سُنَّةٍ مِنْ نَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرْنَاكُمْ بِهِ، وَلَا طَاقَةَ لَنَا بِمَا أَحْدَثْتُمْ "

(2)

.

(1)

الآيتان (103، 104) من سورة الكهف.

(2)

رجاله ثقات، لكن عامر الشعبي لم يسمع من ابن مسعود. انظر (المراسيل لابن أبي حاتم ص 160) وانظر: القطوف رقم (48/ 102).

ص: 234

رجال السند:

عمرو بن عون الواسطي، أبو عثمان السلمي، إمام ثقة، حافظا لحديث شيخه خالد بن عبد الله المزني، أبو الهيثم أو محمد، إمام ثقة، وعطاء ابن السائب صدوق تقدم، وعامر الشعبي، من كبار التابعين، رأى الجم الغفير من الصحابة رضي الله عنه، إمام ثقة جليل.

الشرح:

قوله: «ابْنِ مَسْعُود، وَحُذَيْفَةَ» .

ابن مسعود هو الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وحذيفة هو ابن اليمان رضي الله عنه، أمين سر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قوله: «أَنَّهُمَا كَانَا جَالِسَيْنِ فَجَاءَ رَجُلٌ فَسَأَلَهُمَا عَنْ شَيْءٍ» .

المراد سألهما عن أمر ليس في كتاب الله عز وجل ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قوله: «لأَيِّ شَيْءٍ تُرَى يَسْأَلُونِي عَنْ هَذَا؟» .

استفسار ابن مسعود رضي الله عنه من حذيفة رضي الله عنه يدل على استغراب ابن مسعود لما سئل عنه، وأنه لم يكن موافقا للشرع، ولذلك قال ابن مسعود رضي الله عنه:«مَا سَأَلْتُمُونَا عَنْ شَيْءٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ نَعْلَمُهُ أَخْبَرْنَاكُمْ بِهِ، أَوْ سُنَّةٍ مِنْ نَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرْنَاكُمْ بِهِ» .

المراد إذا كان ما تسألون جوابه في كتاب الله عز وجل أو في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أجبناكم بما في الكتاب والسنة.

قوله: «وَلَا طَاقَةَ لَنَا بِمَا أَحْدَثْتُمْ» .

المراد المسائل الشاذة؛ لأن ذلك مدعاة لكثرة إيرادها، والتعمية على العلماء، وقد ورد النهي عن الأسئلة عما سكت عنه الشرع، قال الله عز وجل: {يَاأَيُّهَا

ص: 235

الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا}

(1)

، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ عَلَيْكُمْ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَحَرَّمَ حُرُمَاتٍ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً بِكُمْ فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا»

(2)

، أما ما يرد من الأسئلة عن أشياء ظهرت في المجتمع ويطلب النظر في إيجاد حكم شرعي لها لعدم وجود النص من الكتاب والسنة، فإن اجتهاد العالم فيها مطلوب بما لا يكون بدعة في الدين؛ لأنه قد كمل ولا مجال في الزيادة ولا النقص، وقد اجتهد ابن مسعود وقال برايه وسيأتي ذكر ذلك عند الدارمي لاحقا.

ما يستفاد:

* وجوب عدم الخروج عن الكتاب والسنة في معرفة العبادة والحلال والحرام.

* الحذر من الأسئلة المشوشة والشاذة.

* جواز الاجتهاد فيما لا نص فيه مما يتعلق يستجد في المجتمع المسلم وإيجاد الحكم بجواز من عدمه، كما حدث مي قيادة المرأة للسيارة مثلا.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

104 -

(2) أَخْبَرَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، ثَنَا الْمَسْعُودِيُّ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنِ النَّزَّالِ بْنِ سَبْرَةَ قَالَ: " مَا خَطَبَ عَبْدُ اللَّهِ خُطْبَةً بِالْكُوفَةِ إِلاَّ شَهِدْتُهَا، فَسَمِعْتُهُ يَوْماً وَسُئِلَ عَنْ رَجُلٍ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ ثَمَانِيَةً وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، قَالَ: هُوَ كَمَا قَالَ.

(1)

من الآية (101) من سورة المائدة.

(2)

معجم ابن المقرئ حديث (471).

ص: 236

ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ كِتَابَهُ وَبَيَّنَ بَيَانَهُ، فَمَنْ أَتَى الأَمْرَ مِنْ قِبَلِ وَجْهِهِ فَقَدْ بُيِّنَ لَهُ، وَمَنْ خَالَفَ فَوَ اللَّهِ مَا نُطِيقُ خِلَافَكَمْ "

(1)

.

رجال السند:

أَبُو نُعَيْمٍ، الفضل بن دكين إمام ثقة تقدم، والْمَسْعُودِيُّ: هو عبد الرحمن

ابن عبد الله بن عتبة ثقة تغير، وليس هذا بعد التغير، وعَبْدُ الْمَلِكِ بْنِ مَيْسَرَةَ الهلالي، أبو يزيد العامري، إمام ثقة، والنَّزَّالِ بْنِ سَبْرَةَ الهلالي، كوفي من كبار التابعين، إمام ثقة.

الشرح:

قوله: «مَا خَطَبَ عَبْدُ اللَّهِ خُطْبَةً بِالْكُوفَةِ إِلاَّ شَهِدْتُهَا» .

هذا حرص من النزال التابعي رحمه الله على سماع كلام الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود فقيه الصحابة رضي الله عنه.

قوله: «فَسَمِعْتُهُ يَوْماً وَسُئِلَ عَنْ رَجُلٍ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ ثَمَانِيَةً وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، قَالَ: هُوَ كَمَا قَالَ» .

المراد أنها طلقت، وهذا طلاق بدعي؛ لأنه ثلاث بلفظ واحد في مجلس واحد بدعي، فثمان من باب أولى، والعجيبب من أهل البدع أنهم يشددون بها على أنفسهم، ويتركون ما جعله الله لهم رحمة، قال الله عز وجل:{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}

(2)

.

(1)

سنده حسن، وانظر: القطوف رقم (49/ 103).

(2)

من الآية (229) من سورة البقرة.

ص: 237

فالآية توضح أن الطلاق مرتان فقط، وليس الأمر كذلك بل المراد الطلاق الذي يمكن للزوج أن يراجع امرأته فيه، فإن له أن يطلق مرة واحدة في طهر لم يجامع فيه، وله حق المراجعة قبل الخروج من العدة، وله أن يطلق مرة ثانية، وله حق المراجعة كما في المرة الأولى، فإن طلق الثالثة فلا رجعة له؛ لأنه أبان امرأته بالطلقة الثالثة، ولذلك علل الطلاق الرجعي بقوله تعالى:{لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا}

(1)

، المراد أن يحدث الرغبة في عدم الطلاق، والعودة إلى الوئام حسن العشرة، ولاسيما إذا كان بين الزوجين أطفال، فالطلاق البدعي يدمر هذه الفرصة، فضلا عن أنه عدول عن الشرع إلى الهوى، ولذلك قال ابن مسعود رضي الله عنه:«إِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ كِتَابَهُ وَبَيَّنَ بَيَانَهُ، فَمَنْ أَتَى الأَمْرَ مِنْ قِبَلِ وَجْهِهِ فَقَدْ بُيِّنَ لَهُ، وَمَنْ خَالَفَ فَوَ اللَّهِ مَا نُطِيقُ خِلَافَكَمْ» .

المراد من طبّق حكم الله في الواقعة وتحري حكم الشرع فقد أصاب؛ لأن الله عز وجل بين له الحق في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، أما من ركب هواه وخالف الشرع فقد تعدى حدود الله عز وجل، وظلم نفسه، فأنى يجد في الخلاف حلا.

ما يستفاد:

* أن الطلاق بثلاث أو أكثر في مجلس واحد وبلفظ واحد بدعة منكرة تصادم الكتاب والسنة.

* أن الفقه الصحيح ما وافق الكتاب والسنة.

(1)

من الآية (1 من سورة الطلاق).

ص: 238

* عدم جواز الاجتهاد مع النص.

* أن الرحمة والخير فيما شرع الله عز وجل.

* أن الضرر والمشقة في مخالفة الشرع.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

105 -

(3) أَخْبَرَنَا أَبُو الْوَلِيدِ الطَّيَالِسِيُّ، ثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ

ابْنُ مَيْسَرَةَ قَالَ: " سَمِعْتُ النَّزَّالَ بْنَ سَبْرَةَ قَالَ: شَهِدْتُ عَبْدَ اللَّهِ وَأَتَاهُ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ فِي تَحْرِيمٍ، وَمَنْ خَالَفَ فَوَ اللَّهِ مَا نُطِيقُ خِلَافَكُمْ "

(1)

.

رجال السند:

أَبُو الْوَلِيدِ الطَّيَالِسِيُّ، وشُعْبَةُ وعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَيْسَرَةَ، جميعهم ثقات تقدموا.

الشرح: انظر السابق.

ما يستفاد: انظر السابق.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

106 -

(4) أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، ثَنَا حَفْصٌ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ:" أَنَّهُ كَانَ لَا يَقُولُ بِرَأْيِهِ إِلاَّ شَيْئاً سَمِعَهُ "

(2)

.

رجال السند:

عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ الأشج، أبو سعيد الكندي، إمام ثقة، وحَفْصٌ بن غياث النخعي، أبو عمر الكوفي، القاضي المحدث، إمام ثقة، وأَشْعَثُ في هذ لطيفة: وهي أن حفصا يروي عن ثلاثة كلٌّ اسمه أشعث، وكلهم يروي عن

(1)

رجاله ثقات، وانظر: القطوف رقم (50/ 104).

(2)

رجاله ثقات، أشعث هو ابن عبد الملك صاحب ابن سيرين، وانظر: القطوف رقم (51/ 105).

ص: 239

محمد بن سيرين، ولحل هذا أن أشعث بن عبد الملك الحمراني إمام ثقة، وهو راوية ابن سيرين، ومن أثبت الناس فيه، وكان حفص إذا حدث عنه أطلقه، ولم ينسبه، وإذا حدث عن غيره نسب فيقول: أشعث الداني، أو أشعث بن سوار، وابْنُ سِيرِينَ، هو محمد، مولى أنس رضي الله عنه، من كبار التابعين، أدرك جملة من الصحابة رضي الله عنهم، إمام فقيه ثقة.

قوله: «أَنَّهُ كَانَ لَا يَقُولُ بِرَأْيِهِ إِلاَّ شَيْئاً سَمِعَهُ» .

المراد أنه يعتمد على الكتاب والسنة، وما سمع من الصحابة رضي الله عنهم، عين الصواب والعقل والورع، رحمه الله رحمة واسعة.

ما يستفاد:

* أن العاقل من الناس من يبتعد عن التبعات، ويولى قارها من تولى حارها.

* أن النجاة في الاعتماد على النص من الكتاب والسنة، أو من أقوال الصحابة رضي الله عنهم.

* أن القول بالرأي غير مأمون العاقبة.

* أن الورع من صفات الأخيار من العلماء.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

107 -

(5) أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، ثَنَا عَثَّامٌ، عَنِ الأَعْمَشِ قَالَ:" مَا سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ يَقُولُ بِرَأْيِهِ فِي شَيْءٍ قَطُّ "

(1)

.

رجال السند:

عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيد، هو الأشج تقدم، وعَثَّامٌ، هو ابن علي العامري، من رجال البخاري إمام ثقة، والأَعْمَشُ، هو سليمان بن مهران، إمام ثقة تقدم.

(1)

سنده حسن، وانظر: القطوف رقم (52/ 106).

ص: 240

الشرح:

قوله: «مَا سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ يَقُولُ بِرَأْيِهِ فِي شَيْءٍ قَطُّ» .

إبراهيم هو النخعي، إمام ثقة، وعدم قوله برأيه هو احتياط للنفس وورع، والاكتفاء بما في الكتاب والسنة، وأقوال من سبق من الأئمة الأعلام من

الصحابة وغيرهم.

ما يستفاد: انظر السابق.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

108 -

(6) أَخْبَرَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، ثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ:" مَا قُلْتُ بِرَأْيِي مُنْذُ ثَلَاثِينَ سَنَةً ".

قَالَ أَبُو هِلَالٍ: " مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً "

(1)

.

رجال السند:

أَبُو النُّعْمَانِ، الفضل بن دكين إمام ثقة تقدم، وأَبُو عَوَانَةَ الوضاح اليشكري إمام تقدم، وقَتَادَةَ، هو ابن دعامة السدوسي، إمام ثقة تقدم.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

109 -

(7) حَدَّثَنَا مَخْلَدُ بْنُ مَالِكٍ، ثَنَا حَكَّامُ بْنُ سَلْمٍ، عَنْ أَبِي خَيْثَمَةَ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ قَالَ:" سُئِلَ عَطَاءٌ عَنْ شَيْءٍ، فَقَالَ: لَا أَدْرِي. قَالَ قِيلَ لَهُ: أَلَا تَقُولُ فِيهَا بِرَأْيِكَ؟ قَالَ: إِنِّي اَسْتَحِي مِنَ اللَّهِ أَنْ يُدَانَ فِي الأَرْضِ بِرَأْيِي"

(2)

.

(1)

رجاله ثقات، وانظر: القطوف رقم (53/ 107).

(2)

رجاله ثقات، وانظر: القطوف رقم (54/ 108).

ص: 241

رجال السند:

مَخْلَدُ بْنُ مَالِكٍ، هو أبو جعفر الجمال الرازي، إمام ثقة، وحَكَّامُ بْنُ سَلْمٍ،

هو أبو عبد الرحمن الكناني الرازي، إمام ثقة، من رجال مسلم، وأَبو خَيْثَمَةَ، هو زهير بن معاوية مام ثقة تقدم، وعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ رُفَيْعٍ، هو المكي، أو الطائفي أبو عبد الله، إمام ثقة.

وعَطَاءٌ، هو ابن أبي رباح إمام ثقة تقدم.

الشرح:

قوله: «فَقَالَ: لَا أَدْرِي» .

هذا شأن أهل الورع البعد عن القول بالرأي، وإن كان لهم في القول به مندوحة، قال: الشَّعْبِيِّ: " لَا أَدْرِي نِصْفُ الْعِلْم "، وقد سُئل مالك عن أربعين مسألة، فقال في ست وثلاثين منها: لا أدري، وقيل: ثمان وأربعين مسألة فقال في اثنتين وثلاثين منها: لا أدري"، وسئل أبو يوسف القاضي عن مسألة فقال: " لا أدرى فقالوا له: ترتزق من بيت المال كل يوم كذا وكذا، ثم تقول: لا أدرى، فقال: إنما أرتزق بقدر علمي، ولو أعطيت بقدر جهلي لم يسعني مال الدنيا ".

قَولَه: «إِنِّي اَسْتَحِي مِنَ اللَّهِ أَنْ يُدَانَ فِي الأَرْضِ بِرَأْيِي» .

هذا غاية في الاحتياط والورع، أن يكون رأيه يعبد الله به في الأرض، وهذا فرار من التشريع والقول بغير ما أنزل الله، رحمة الله علينا وعليه رحمة واسعة.

ما يستفاد: انظر السابق.

ص: 242

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

110 -

(8) أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبَانَ قَالَ: أَخْبَرَنِي حَاتِمٌ - هُوَ ابْنُ إِسْمَاعِيلَ-

عَنْ عِيسَى، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: " جَاءَهُ رَجُلٌ يَسْأَلُهُ عَنْ شَيْءٍ، فَقَالَ: كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَقُولُ فِيهِ كَذَا وَكَذَا.

قَالَ: أَخْبِرْنِي أَنْتَ بِرَأْيِكَ. فَقَالَ: أَلَا تَعْجَبُونَ مِنْ هَذَا؟ أَخْبَرْتُهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَيَسْأَلُنِي عَنْ رَأْيِي، وَدِينِي عِنْدِي آثَرُ مِنْ ذَلِكَ، وَاللَّهِ لأَنْ أَتَغَنَّى أُغْنِيَّةً

(1)

أَحَبُّ إِلَىَّ مِنْ أَنْ أُخْبِرَكَ بِرَأْيي"

(2)

.

رجال السند:

إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبَان الوراق، أبو إسحاق، أو أبو إبراهيم الكوفي، إمام ثقة، من رجال البخاري، فيه تشيع، وحَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، ثقة صحيح الكتاب، وعِيسَى، هو ابن أبي عيسى، يعتبر بحديثه في الرقائق والفضائل، والشَّعْبِيُّ، هو عامر بن شراحيل، إمام من كبار التابعين.

الشرح:

قوله: «أَخْبِرْنِي أَنْتَ بِرَأْيِكَ» .

المراد أن رجلا سأل الشعبي فأجابه برأي ابن مسعود رضي الله عنه فيها، ثم سأل الرجل الشعبي عن رأيه فيها.

(1)

هكذا جاءت مصوبة في هامش (ت، ك) والمسمى هو أخلاط تنقع في أبوال الإبل وتترك حينا، ثم تطلى بها الإبل من الجرب، ويقال للرجل إذا كان جيد الرأي: عِنّية تشفي الجرب، وإنما سميت عنية لطول الحبس، وكل شيء حبسته طويلا فقد عنيته. (غريب الحديث 2/ 651) وفي بقية النسخ (أتغنىّ أغنيّة).

(2)

فيه عيسى الحنّاط: ضعفوه، وانظر: القطوف رقم (55/ 109).

ص: 243

فَقَالَ الشعبي لمن عنده: «أَلَا تَعْجَبُونَ مِنْ هَذَا؟ أَخْبَرْتُهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ

وَيَسْأَلُنِي عَنْ رَأْيِي».

المراد أنه أجابه برأي ابن مسعود وهو من أصحاب رسول الله عز وجل، ورأيه أولى وأقوى، هذا من جانب، ومن جانب آخر قال الشعبي رحمه الله:«دِينِي عِنْدِي آثَرُ مِنْ ذَلِكَ» .

المراد أن دينه في اتباع الصحابي أثر من مخالفته.

قوله: «وَاللَّهِ لأَنْ أَتَغَنَّى أُغْنِيَّةً» .

هذا خطأ، والصواب: جاء في هامش (ت، ك) بلفظ " وَاللَّهِ لأَنْ أَتَعَنَّى أُعْنِيَّةً" والمسمى هو أخلاط تنقع في أبوال الإبل وتترك حينا، ثم تطلى بها الإبل من الجرب، ويقال للرجل إذا كان جيد الرأي: عِنّية تشفي الجرب، وإنما سميت عِنّية لطول الحبس، وكل شيء حبسته طويلا فقد عنيته

(1)

.

قوله: «أَحَبُّ إِلَىَّ مِنْ أَنْ أُخْبِرَكَ بِرَأْيي» .

مراد الشعبي رحمه الله أنه لو حبس طويلا أحب إليه من ذلك، ولاسيما وقد قال من هو أفضل منه، وهذا دقة منه رحمه الله في الاتباع.

ما يستفاد:

انظر ما تقدم.

قال الدارمي رحمه الله تعالى: 111 - (9) أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبَانَ، ثَنَا حَاتِمٌ، عَنْ عِيسَى، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: " إِيَّاكُمْ وَالْمُقَايَسَةَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ

(1)

غريب الحديث 2/ 651.

ص: 244

لَئِنْ أَخَذْتُمْ بِالْمُقَايَسَةِ لَتُحِلُّنَّ الْحَرَامَ وَلَتُحَرِّمُنَّ الْحَلَالَ، وَلَكِنْ مَا بَلَغَكُمْ عَمَّنْ حَفِظَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَاعْمَلُوا بِهِ "

(1)

.

رجال السند:

إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبَان، وحَاتِمٌ، وعِيسَى، تقدموا آنفا.

الشرح:

قوله: «إِيَّاكُمْ وَالْمُقَايَسَة» .

المراد قياس أمر معلوم على أمر آخر معلوم، والسبب اشتراكهما في علة الحكم، والقياس الصحيح هو المصدر الرابع في الشرع؛ لأن الأول: الكتاب، والثاني: السنة، والثالث: الإجماع، والرابع القياس الصحيح، وليس القياس لكل أحد من العلماء؛ لأن له شروطه وأدواته المحددة عند العلماء العالمين به، والقياس الباطل ما افترقت فيه العلة وخالف المعقول، قال ابن سيرين رحمه الله:" أول من قاس إبليس وإنما عبدت الشمس والقمر بالمقاييس " وقال الحسن البصري رحمه الله: " قاس إبليس وهو أول من قاس ".

قوله: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَئِنْ أَخَذْتُمْ بِالْمُقَايَسَةِ لَتُحِلُّنَّ الْحَرَامَ وَلَتُحَرِّمُنَّ الْحَلَالَ» .

المراد أن قوما يقيسون بأهوائهم، ويقولون في الأمور بآرائهم، فيحلون ما حرم الله عز وجل ويحرمون ما أحل الله عز وجل {افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ}

(2)

.

(1)

فيه عيسى المذكور آنفا، وانظر: القطوف رقم (56/ 110).

(2)

من الآية (140) من سورة الأنعام.

ص: 245

قوله: «وَلَكِنْ مَا بَلَغَكُمْ عَمَّنْ حَفِظَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَاعْمَلُوا بِهِ» . أرشد إلى اتباع الصحابة رضي الله عنهم فيما يقولون؛ لأنهم حفظوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والعمل بذلك هو الطريق المستقيم.

ما يستفاد:

* التحذير من القياس الفاسد.

* لا يقبل القياس إلا من العلماء العالمين بطرقه وأدواته الصحيحة.

* التحذير من الأهواء؛ أبواب الضلال، قال الله عز وجل {وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ}

(1)

.

* لزوم ما كان عليه الرعيل الأول من الاعتصام بكتاب الله وسنة رسوله قولا وفعلا واعتقادا.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

112 -

(10) أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ عَامِرٍ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ: " جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ: إِنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ الْبَارِحَةَ ثَمَانِياً. قَالَ: بِكَلَامٍ وَاحِدٍ؟، قَالَ: بِكَلَامٍ وَاحِدٍ. قَالَ: فَيُرِيدُونَ أَنْ يُبِينُوا مِنْكَ امْرَأَتَكَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: وَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: إِنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ مِائَةَ طَلْقَةٍ. قَالَ: بِكَلَامٍ وَاحِدٍ. قَالَ: بِكَلَامٍ وَاحِدٍ. قَالَ: فَيُرِيدُونَ أَنْ يُبِينُوا مِنْكَ امْرَأَتَكَ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: مَنْ طَلَّقَ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ فَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ الطَّلَاقَ، وَمَنْ لَبَّسَ عَلَى نَفْسِهِ وَكَلْنَا بِهِ لَبْسَهُ، وَاللَّهِ لَا تُلَبِّسُونَ عَلَى

(1)

من الآية (119) من سورة الأنعام.

ص: 246

أَنْفُسِكُمْ وَنَتَحَمَّلُهُ نَحْنُ، هُوَ كَمَا تَقُولُونَ "

(1)

.

رجال السند:

سَعِيدُ بْنُ عَامِرٍ، هو أبو محمد الضبعي، إمام ثقة، وابْنُ عَوْنٍ، هو عبدالله ابن عون ابن أرطبان، أبو عون البصري، إمام ثقة، ومُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ، وعَلْقَمَةُ، إمامان ثقتان تقدما.

الشرح:

قوله: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ: إِنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ الْبَارِحَةَ ثَمَانِياً. قَالَ: بِكَلَامٍ وَاحِدٍ؟» .

تقدم البيان في الحديث رقم 103.

قوله: قَالَ: بِكَلَامٍ وَاحِدٍ. قَالَ: فَيُرِيدُونَ أَنْ يُبِينُوا مِنْكَ امْرَأَتَكَ؟! قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: وَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: إِنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ مِائَةَ طَلْقَةٍ، قَالَ: بِكَلَامٍ وَاحِدٍ، قَالَ: فَيُرِيدُونَ أَنْ يُبِينُوا مِنْكَ امْرَأَتَكَ؟ قَالَ: نَعَمْ».

المراد أن هذا طلاق بدعي لا يقع لمخالفته كتاب الله عز وجل، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومن العلماء من يوقعه عقوبة له، وهو آثم.

قوله: «فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: مَنْ طَلَّقَ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ فَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ الطَّلَاقَ» .

عبد الله هو ابن مسعود رضي الله عنه، والمراد ما تقدم بيانه في الحديث رقم 103.

قوله: «وَمَنْ لَبَّسَ عَلَى نَفْسِهِ وَكَلْنَا بِهِ لَبْسَهُ، وَاللَّهِ لَا تُلَبِّسونَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَنَتَحَمَّلُهُ نَحْنُ» .

(1)

رجاله ثقات، وانظر: القطوف رقم (57/ 111).

ص: 247

المراد من لبس بالبدع، وترك حكم الله عز وجل، وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم، فإنما يلبس على نفسه ويتحمل عقوبة ذلك، ولا نتحمل تلبيسه.

قوله: «هُوَ كَمَا تَقُولُونَ» .

المراد إيقاع الطلاق بالثلاث الأول، والزائد لغو يتحمل إثمه؛ لأنه اعتداء.

ما يستفاد: انظر ما سبق.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

113 -

(11) أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، ثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ قَالَ:" لأَنْ يَعِيشَ الرَّجُلُ جَاهِلاً بَعْدَ أَنْ يَعْلَمَ حَقَّ اللَّهِ عَلَيْهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَقُولَ مَا لَا يَعْلَمُ "

(1)

.

رجال السند:

سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، وحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، ثقتان تقدما، ويَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، هو ابن قيس الأنصاري، إمام ثقة، أخذ عن الفقهاء السبعة، والْقَاسِمُ، هو ابن محمد بن أبي بكر الصديق، إمام ثقة تقدم.

الشرح:

قوله: «لأَنْ يَعِيشَ الرَّجُلُ جَاهِلاً بَعْدَ أَنْ يَعْلَمَ حَقَّ اللَّهِ عَلَيْهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَقُولَ مَا لَا يَعْلَمُ» .

المراد أن يكون جاهلا بغير ما فرض الله عليه، فحق الله يجب ألا يجهله المسلم، وما عدا ذلك لا يضر عدم العلم به، وكان هذا خير؛ لأنه إذا قال ما لا يعلم كذب على الله عز وجل وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى الناس، وهو

(1)

رجاله ثقات، وانظر: القطوف رقم (58/ 112).

ص: 248

يتحمل الاثم في هذه الأمور، بالإضافة إلى إثم من تسبب في إضلاله بقوله.

ما يستفاد:

* حرمة القول على الله عز وجل، وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم بغير علم.

* اثم من يقع في ذلك، وتحمله آثام من عمل بقوله.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

114 -

(12) أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، ثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ قَالَ: سَمِعْت الْقَاسِمَ يُسْأَلُ قَالَ: " إِنَّا وَاللَّهِ مَا نَعْلَمُ كُلَّ مَا تَسْأَلُونَ عَنْهُ، وَلَوْ عَلِمْنَا مَا كَتَمْنَاكُمْ، وَلَا حَلَّ لَنَا أَنْ نَكْتُمَكُمْ "

(1)

.

رجال السند:

سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، وحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، وأَيُّوبُ، تقدموا وهم أئمة ثقات.

الشرح:

قوله: «إِنَّا وَاللَّهِ مَا نَعْلَمُ كُلَّ مَا تَسْأَلُونَ عَنْهُ» .

هذا تواضع من القاسم بن محمد بن أبي بكر، وإقرار بالحقيقة، وليس أحد من البشر يعلم كل شيء، حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أمره الله عز وجل أن يقول:{وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ}

(2)

؛ لأن مَنْ عَلِم الغيب يعلم كل شيء، وهذا لا حظ للبشر فيه، بل يعلمون شيئا، ويجهلون أشياء كثيرة، وهم يتفاضلون في العلم، لذلك قال الله عز وجل:

(1)

رجاله ثقات، وانظر: القطوف رقم (59/ 113).

(2)

من الآية (188) من سورة الأعراف.

ص: 249

{نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ}

(1)

.

قوله: «وَلَوْ عَلِمْنَا مَا كَتَمْنَاكُمْ» .

لأن العلم أمانة قال الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}

(2)

.

قوله: «وَلَا حَلَّ لَنَا أَنْ نَكْتُمَكُمْ» .

لأن الله عز وجل يقول: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ}

(3)

، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«من كتم علما تلجم بلجام من نار يوم القيامة»

(4)

.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

115 -

(13) أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ عَامِرٍ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ قَالَ:" سُئِلَ الْقَاسِمُ عَنْ شَيْءٍ قَدْ سَمَّاهُ، فَقَالَ: مَا أَضَطَرُّ إِلَى مَشُورَةٍ، وَمَا أَنَا مِنْ ذَا في شَيْءٍ"

(5)

.

رجال السند:

سَعِيدُ بْنُ عَامِرٍ، وابْنُ عَوْنٍ، ثقتان تقدما قريبا.

الشرح:

قوله: «سُئِلَ الْقَاسِمُ عَنْ شَيْءٍ قَدْ سَمَّاهُ» .

المراد أنه رحمه الله سئل مشورة في أمر ما.

(1)

من الآية (76) من سورة يوسف.

(2)

من الآية (58) من سورة النساء.

(3)

الآية (159) من سورة البقرة.

(4)

ابن حبان حديث (95).

(5)

رجاله ثقات، وانظر: القطوف رقم (60/ 114).

ص: 250

قوله: «فَقَالَ: مَا أَضَطَرُّ إِلَى مَشُورَةٍ» .

المراد ما اضطر السائل إلى مشورتي، أي: سيجد غيري، ما اضطرني إلى هذه المشورة

(1)

، المراد أي سبب يضطرني إلى هذه المشورة.

قوله: «وَمَا أَنَا مِنْ ذَا في شَيْء» .

لست من ذوي الرأي في هذه المشورة؛ لأنه لا علم لي فيها، وهذا من الورع وعدم القول فيما لا علم له فيه.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

116 -

(14) أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ يَحْيَى، قَالَ قُلْتُ لِلْقَاسِمِ: " مَا أَشَدَّ عَلَيَّ أَنْ تُسْأَلَ عَنِ الشَّيْءِ لَا يَكُونُ عِنْدَكَ وَقَدْ كَانَ أَبُوكَ إِمَاماً؟ قَالَ: إِنَّ أَشَدَّ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ مَنْ عَقَلَ عَنِ اللَّهِ أَنْ أُفْتِيَ عن

(2)

غَيْرِ عِلْمٍ أَوْ أَرْوِيَ عَنْ غَيْرِ ثِقَةٍ"

(3)

.

رجال السند:

مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، هو ابن أبي عطاء الثقفي، أبو يوسف صدوق يخطئ، وسُفْيَانُ بْنِ عُيَيْنَةَ، ويَحْيَى، هو ابن سعيد الأنصاري، أبو سعيد إمام ثقة تقدم، والْقَاسِمُ، هو ابن عبيد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، أبوه وجده صحابيان، كان شديد الورع، قليل الحديث.

(1)

الطبقات الكبرى 5/ 143.

(2)

علق عليه في (ت) بغير، وكلاهما يصح.

(3)

رجاله ثقات، وانظر: القطوف رقم (61/ 115).

ص: 251

الشرح:

قوله: «مَا أَشَدَّ عَلَيَّ أَنْ تُسْأَلَ عَنِ الشَّيْءِ لَا يَكُونُ عِنْدَكَ وَقَدْ كَانَ أَبُوكَ إِمَاماً؟» .

شق على يحيى أن يكون القاسم قليل الحديث، شديد الورع يهاب الفتيا، وهو ابن الصحابي الجليل عبد الله بن عمر، أحد المكثرين من رواية الحديث، وهذه مودة من يحيى لأن يكون عالما كأبيه.

قوله: «إِنَّ أَشَدَّ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ مَنْ عَقَلَ عَنِ اللَّهِ أَنْ أُفْتِيَ عن غَيْرِ عِلْمٍ أَوْ أَرْوِيَ عَنْ غَيْرِ ثِقَةٍ» .

هذه خشية ومراقبة للنفس، أن يقول على الله عز وجل، أو ينل القول عن غير ثقة، وهذا ملمح مهم ينبئ عن علم، لا كما توهم يحيى رحمه الله، فقد يتورع الرجل عن القول وهو يعلم فيه ما يقول، ولاسيما إذا وجد من العلماء من تصدر لذلك فقد كفي المؤنة لعدم احتياج الناس.

ما يستفاد:

* جواز الحث على إظهار العلم.

* الحث على الاقتداء بالعلماء، ومحاكاتهم في الخير.

* جواز أن يهاب المسلم من الفتيا والقضاء خشية الزلل.

* تحريم القول على الله بغير علم، عملا بقول الله عز وجل: {وَلَا تَقْفُ مَا

لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}

(1)

.

* عدم جواز الرواية عن غير ثقة، والثقة هو الصدوق فما فوق.

(1)

من الآية (36) من سورة الإسراء.

ص: 252

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

117 -

(15) أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ، أَنْبَأَنَا هُشَيْمٌ، عَنِ الْعَوَّامِ، عَنِ الْمُسَيَّبِ بْنِ رَافِعٍ قَالَ: " كَانُوا إِذَا نَزَلَتْ بِهِمْ قَضِيَّةٌ الَّتِيْ

(1)

لَيْسَ فِيهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَثَرٌ اجْتَمَعُوا لَهَا وَأَجْمَعُوا فَالْحَقُّ فِيمَا رَأَوْا فَالْحَقُّ فِيمَا رَأَوْا "

(2)

.

رجال السند:

عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ، الواسطي، أبو عثمان السلمي، إمام ثقة، تقدم، وهُشَيْمٌ، هو ابن بشير ثقة تقدم، والْعَوَّامُ، هو ابن حوشب الشيباني، أبو عيسى أمار بالمعروف، إمام ثقة، والْمُسَيَّبُ بْنُ رَافِعٍ، الأعمى أبو العلاء الكوفي، ثقة من كبار التابعين أدرك ثلة من الصحابة رضي الله عنهم.

الشرح:

قوله: «كَانُوا إِذَا نَزَلَتْ بِهِمْ قَضِيَّةٌ الَّتِيْ لَيْسَ فِيهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَثَرٌ اجْتَمَعُوا لَهَا وَأَجْمَعُوا فَالْحَقُّ فِيمَا رَأَوْا فَالْحَقُّ فِيمَا رَأَوْا» .

المراد أن الصحابة رضي الله عنهم بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وانقطاع الوحي، كانوا إذا حدثت المسألة ليس لها أثر من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، اجتمعوا لبحث أمرها، فإذا أجمعوا على رأي فهو الحق؛ وهذا التوكيد يفيد عدم الخروج عما قرروا ورأوا، وهذا هو الأجماع المصدر الثالث من مصادر التشريع؛ لأن الأمة لا تجتمع على ضلال، والمراد إجماع علمائها وفقهائها، فهم أهل الحل والعقد من

(1)

على حذف المضاف إليه: " أي قضية الحادثة التي".

(2)

رجاله ثقات، وانظر: القطوف رقم (62/ 116).

ص: 253

كل عصر، قال الله عز وجل:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}

(1)

، وقال عز وجل:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى}

(2)

، هاتان الآيتان قاطعتان على أن الأمة لا تجتمع على ضلال.

ما يستفاد:

* بيان أن للأمة إذا نزلت النازلة ليس فيها نص من كتاب ولا سنة، جاز لعلماء الأمة البحث في حكمها من حيث الجواز وعدمه.

* وجوب الأخذ بما يجمع عليه علماء الأمة في كل عصر.

* أن المراد إجماع أهل الحل والعقد في الأمة.

* أن إجماع الأمة من مصادر التشريع فيما لا نص فيه.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

118 -

(16) أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَنْبَأَنَا يَزِيدُ، عَنِ الْعَوَّامِ بِهَذَا

(3)

.

رجال السند:

عَبْدُ اللَّهِ، هو عبد الله بن محمد أبو بكر بن أبي شيبة، إمام ثقة، ويَزِيدُ، هو ابن هارون إمام حجة تقدم، والْعَوَّامُ، تقدم آنفا.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

(1)

من الآية (110) من سورة آل عمران.

(2)

من الآية (115) من سورة النساء.

(3)

رجاله ثقات، وانظر: القطوف رقم (63/ 117).

ص: 254

119 -

(17) أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُبَارَكِ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ الْحِمْصِيُّ، أَنَّ وَهْبَ بْنَ عَمْرٍو الْجُمَحِيَّ حَدَّثَهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَا تَعْجَلُوا بِالْبَلِيَّةِ قَبْلَ نُزُولِهَا، فَإِنَّكُمْ إِنْ لَا تَعْجَلُوهَا قَبْلَ نُزُولِهَا لَا يَنْفَكُّ الْمُسْلِمُونَ وَفِيهِمْ إِذَا هِيَ نَزَلَتْ مَنْ إِذَا قَالَ وُفِّقَ وَسُدِّدَ، وَإِنَّكُمْ إِنْ تَعْجَلُوهَا تَخْتَلِفْ بِكُمُ الأَهْوَاءُ فَتَأْخُذُوا هَكَذَا وَهَكَذَا» وَأَشَارَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَعَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ

(1)

.

رجال السند:

يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ، هو البكري أبو زكريا التنيسي، إمام ثقة، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُبَارَكِ، هو أبو عبد الله ثقة إمام تقدم، ويَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ، هو الحضرمي، ثقة إمام تقدم، وأَبُو سَلَمَةَ الْحِمْصِيُّ، هو عبد الرحمن بن ميسرة الحضرمي، تابعي مقبول، أرسل عن بعض الصحابة، ووَهْبُ بْنُ عَمْرٍو الْجُمَحِيَّ، وقد يكون عمير تصحف إلى عمرو، ووهب بن عمير صحابي أسلم بعد أن شهدا بدرا مشركا، توفي بالشام.

الشرح:

قوله: «لَا تَعْجَلُوا بِالْبَلِيَّةِ قَبْلَ نُزُولِهَا، فَإِنَّكُمْ إِنْ لَا تَعْجَلُوهَا قَبْلَ نُزُولِهَا لَا يَنْفَكُّ الْمُسْلِمُونَ وَفِيهِمْ إِذَا هِيَ نَزَلَتْ مَنْ إِذَا قَالَ وُفِّقَ وَسُدِّدَ، وَإِنَّكُمْ إِنْ تَعْجَلُوهَا تَخْتَلِفْ بِكُمُ الأَهْوَاءُ فَتَأْخُذُوا هَكَذَا وَهَكَذَا» وَأَشَارَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَعَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ».

(1)

رجاله ثقات عدا وهب بن عمرو: لم أقف عليه في الصحابة، وانظر: القطوف رقم (64/ 118).

ص: 255

تقدم نحو هذا برقم 102، والمراد المسائل الشاذة؛ لأن ذلك مدعاة لكثرة إيرادها، والتعمية على العلماء، وقد ورد النهي عن الأسئلة عما سكت عنه الشرع، قال الله عز وجل:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا}

(1)

، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ عَلَيْكُمْ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَحَرَّمَ حُرُمَاتٍ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً بِكُمْ فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا»

(2)

، أما ما يرد من الأسئلة عن أشياء ظهرت في المجتمع ويطلب النظر في إيجاد حكم شرعي لها لعدم وجود النص من الكتاب والسنة، فإن اجتهاد العالم فيها مطلوب بما لا يكون بدعة في الدين؛ لأنه قد كمل ولا مجال في الزيادة ولا النقص، قال النبي صلى الله عليه وسلم:«إن أعظم المسلمين جرما، من سأل عن شيء لم يحرم، فحرم من أجل مسألته»

(3)

.

فالسؤال عما لم يقع من النوازل منكر؛ لأن السؤال قبل النزول يستدعي الاجتهاد في أمر لم يقع، والاجتهاد إنما يكون بعد النزول؛ لأنه حينئذ ضرورة، ولا ضرورة قبل النزول؛ لأنه حينئذ ضرورة، ولا ضرورة قبل النزول؛ ولأنه مدعاة للخلاف والتنازع.

(1)

من الآية (101) من سورة المائدة.

(2)

معجم ابن المقرئ حديث (471).

(3)

البخاري حديث (7289).

ص: 256

ما يستفاد:

* النهي عن استباق النوازل بالسؤال عنها لما يترتب على ذلك من خلاف وتشويش.

* إذا ما وقعت نازلة لا نص في الكتاب والسنة يبن الحكم فيها فلعلماء

الأمة حق النظر، وإعلان ما يتقرر بشأنها.

* أن استعجال السؤال عن النوازل مدعاة للاختلاف والتفرق، وشتات الأمر.

* أن التوفيق مرتبط ببحث حكم النازلة بعد نزولها.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

120 -

(18) أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُبَارَكِ، ثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنِ الأَمْرِ يَحْدُثُ ليْسَ فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ فَقَالَ: «يَنْظُرُ فِيهِ الْعَابِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ»

(1)

.

رجال السند:

مُحَمَّدُ بْنُ الْمُبَارَكِ، ويَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ، وأَبُو سَلَمَةَ، ثقات تقدموا.

الشرح:

قوله: «سُئِلَ عَنِ الأَمْرِ يَحْدُثُ ليْسَ فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ» .

المراد النازلة التي لها حكم في كتب الله عز وجل، ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم:«يَنْظُرُ فِيهِ الْعَابِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» .

المراد يجتهد العدول من الأمة في الحكم الموافق لها، وهذا السؤال يحتمل فيه تعدد الواقعة فقد قال علي رضي الله عنه: " يا رسول الله، إن نزل بنا أمر ليس فيه

(1)

مرسل رجاله ثقات، وانظر: القطوف رقم (64/ 119).

ص: 257

بيان: أمر ولا نهي، فما تأمرنا؟ " قال:«تشاورون الفقهاء والعابدين، ولا تمضوا فيه رأي خاصة»

(1)

، ويحتمل أن يكون السائل علي رضي الله عنه أبهمه

الراوي.

ما يستفاد:

* وجوب تشاور العدول من الأمة من فقها وعباد في حكم النازلة.

* وجوب الأخذ بما يقررون في شأن النازلة.

* لا يجوز اعتبار الرأي المنفرد عن رأي العدول المؤمنين.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

121 -

(19) أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، ثَنَا مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ قَالَ: قَالَ الْقَاسِمُ: " إِنَّكُمْ لَتَسْأَلُونَا عَنْ أَشْيَاءَ مَا كُنَّا نَسْأَلُ عَنْهَا، وَتُنَقِّرُونَ عَنْ أَشْيَاءَ مَا كُنَّا نُنَقِّرُ عَنْهَا، وَتَسْأَلُونَ عَنْ أَشْيَاءَ مَا أَدْرِى مَا هِىَ، وَلَوْ عَلِمْنَاهَا مَا حَلَّ لَنَا أَنْ نَكْتُمَكُمُوهَا "

(2)

.

رجال السند:

أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، هو ابن يونس إمام ثقة تقدم، مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ، هو العنبري، أبو المثنى البصري، إمام ثقة، وابْنُ عَوْنٍ هو عبد الله إمام ثقة تقدم، والْقَاسِمُ، هو ابن محمد بن أبي بكر الصديق تقدم.

الشرح:

تقدم نحو هذا عن القاسم حديث 114، فأغنى عن الإعادة فلينظر.

(1)

الطبراني في الأوسط حديث (1618).

(2)

رجاله ثقات، وتقدم من طريق أخرى عن القاسم، برقم (113) وهذا الحديث نهاية السقط من المخطوطة (د).

ص: 258

ما يستفاد: انظر السابق.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

122 -

(20) أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ ابْنُ أَبِى حَبِيبٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الأَشَجِّ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: " إِنَّهُ سَيَأْتِي نَاسٌ يُجَادِلُونَكُمْ بِشُبُهَاتِ الْقُرْآنِ فَخُذُوهُمْ

(1)

بِالسُّنَنِ، فَإِنَّ أَصْحَابَ السُّنَنِ أَعْلَمُ بِكِتَابِ اللَّهِ عز وجل "

(2)

.

رجال السند:

عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، هو كاتب الليث، صدوق تقدم، واللَّيْثُ، هو ابن سعد إمام ثقة تقدم، ويَزِيدُ بْنُ أَبِى حَبِيبٍ، هو الأزدي، أبو رجاء المصري، من صغار التابعين، إمام ثقة، وعُمَرُ بْنُ الأَشَجِّ، تصحف اسم أبيه من عمر إلى عمرو، وهم فيه أخونا أحمد بن سعد الغامدي رحمه الله، في تحقيقه أصول الاعتقاد للالكائي، وعُمَرُ بْنُ. الْخَطَّابِ رضي الله عنه.

الشرح:

قوله: «إِنَّهُ سَيَأْتِي نَاسٌ يُجَادِلُونَكُمْ بِشُبُهَاتِ الْقُرْآنِ فَخُذُوهُمْ بِالسُّنَنِ، فَإِنَّ أَصْحَابَ السُّنَنِ أَعْلَمُ بِكِتَابِ اللَّهِ عز وجل» .

المراد من تحقق ظهورهم، من زمن بعد عمر رضي الله عنه وهم اليوم يعرفون بالقرآنيين، لا يعترفون بالسنة، وقد أخبر رسول الله بهذه النحلة الخبيثة مبينا أن السنة

(1)

في (ت) هكذا (القرآن هم) كأن الناسخ لم يتبين الكلمة فترك لها بياضا.

(2)

فيه عبد الله بن صالح كاتب الليث: المرجح أنه حسن الحديث، وهذا مما لم يغلط فيه إن شاء الله، فإنه لا يختلف في صحته، فأهل السنة أعلم بكتاب الله، وهم النقلة العدول، وله شواهد، وانظر: القطوف رقم (66/ 121).

ص: 259

قرينة الكتاب العزيز في الحجة والبرهان، فقال صلى الله عليه وسلم:«إني أوتيت الكتاب وما يعدله، يوشك شبعان على أريكته أن يقول: بيني وبينكم هذا الكتاب، فما كان فيه من حلال أحللناه، وما كان فيه من حرام حرمناه، ألا وإنه ليس كذلك»

(1)

، فوصى عمر رضي الله عنه أن تقام عليهم الحجة بما ثبت في السنة؛ أهلها أعلم بمقاصدها، ولذلك قال الإمام عبد الله بن المبارك رحمه الله:"بيننا وبين القوم القوائم " يعني الإسناد الصحيح.

ما يستفاد:

* التحذير من تتبع الشبهات وإثارتها.

* التمسك بالسنة وفهم مقاصدها.

* أن السنة وحي كالقرآن.

* التحذير من أهل البدع والأهواء.

* علماء السنة أعلم من غيرهم بكشف البدع وشبهات أهل الأهواء.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

123 -

(21) أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُيَيْنَةَ، ثَنَا عَلِىٌّ - هُوَ ابْنُ مُسْهِرٍ - عَنْ هِشَامٍ - هُوَ ابْنُ عُرْوَةَ - عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَوْفَلٍ، عَنْ عُرْوَةَ ابْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: " مَا زَالَ أَمْرُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مُعْتَدِلاً لَيْسَ فِيهِ، شَيْءٌ حَتَّى نَشَأَ

(1)

ابن حبان حديث (12).

ص: 260

فِيهِمُ الْمُوَلَّدُونَ أَبْنَاءُ سَبَايَا الأُمَمِ، أَبْنَاءُ النِّسَاءِ اللّاَتِي

(1)

سَبَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنْ غَيْرِهِمْ، فَقَالُوا فِيهِمْ بِالرَّأْي فَأَضَلُّوهُمْ "

(2)

.

رجال السند:

مُحَمَّدُ بْنُ عُيَيْنَةَ، هو الفزاري، أبو عبد الله الثغري، لابأس به تقدم، وعَلِىٌّ، هُوَ ابْنُ مُسْهِرٍ، ثقة له غرائب بعد أن أضر تقدم، وهِشَامٌ، هُوَ ابْنُ عُرْوَةَ، ابن الزبير بن العوام، أبو المنذر القرشي، إمام ثقة، ومُحَمَّدُ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَوْفَلٍ، يتيم عروة، يتيم عروة ثقة، من صغار التابعين، إمام ثقة تقدم، وعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، أحد الفقهاء السبعة إمام ثقة.

الشرح:

قوله: «مَا زَالَ أَمْرُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مُعْتَدِلاً لَيْسَ فِيهِ، شَيْءٌ» .

المراد مستقيما على التوراة، ولم يدخله التحريف.

قوله: «حَتَّى نَشَأَ فِيهِمُ الْمُوَلَّدُونَ أَبْنَاءُ سَبَايَا الأُمَمِ، أَبْنَاءُ النِّسَاءِ اللّاَتِي سَبَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنْ غَيْرِهِمْ، فَقَالُوا فِيهِمْ بِالرَّأْي فَأَضَلُّوهُمْ» .

المراد أنهم ليسوا منهم، باعتبار أنهم أبناء سبايا، تأثروا بأنساب أمهاتهم، فأحدثوا فيهم آراء مذمومة من عند أنفسهم، تنا قض التوراة، فأضلوهم عن الحق.

(1)

في (ت) التي، وعلق في (ك) في الأصل التي. وكتب في الهامش (بلغ العرض).

(2)

فيه محمد بن عيينة المصيصي: لابأس به، ويحمل أمره في هذا مثل على الصدق، وانظر: القطوف رقم (67/ 122).

ص: 261

أما من زعم أن أصحاب الرأي في الإسلام منهم كأبي حنيفة وغيره رحمهم الله، فلا دليل عليه، فالحمد لله لم يغيروا شيئا من كتاب الله عز وجل، وإن وقع منهم بعض الآراء فالسنة قائم عليهم، مفندة ما أخطأوا فيه.

ما يستفاد:

* التحذير من الغلو في الرأي؛ لأنه قد يجلب الفساد في الدين، لمناقضته الحق.

* التمسك بالكتاب والسنة حصن من الغلو، وبعد عن الضلال.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

18 -

‌ بابٌ كَرَاهِيَةِ الْفتْيَا

(1)

124 -

(1) أَخْبَرَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، ثَنَا حَمَّادُ بْنُ يَزِيدَ

(2)

الْمَنْقَرِي قال: حَدَّثَنِي أَبِى قَالَ: " جَاءَ رَجُلٌ يَوْماً إِلَى ابْنِ عُمَرَ، فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ لَا أَدْرِى مَا هُوَ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما: لَا تَسْأَلْ عَمَّا لَمْ يَكُنْ، فَإِنِّي سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضوان الله عليه يَلْعَنُ مَنْ سَأَلَ عَمَّا لَمْ يَكُنْ "

رجال السند:

مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، هو الفراهيدي إمام ثقة تقدم، وحَمَّادُ بْنُ يَزِيدَ الْمَنْقَرِي، هو أحد أفراد الدارمي، سكت عنه الإمامان، ووثقه ابن حبان، فلابأس به، وأَبُوه يزيد بن مسلم، لم يرو له في الستة، لم يذكر بجرح ولا تعديل، وليس ذلك ما نع من قبول هذا الخبر.

(1)

كتب قبالته أعلى الصفحة في (ك) بلغت القراءة على الشيخ، أيده الله رضي الله عنه.

(2)

صوب في هامش (ت) زيد، وقال في (ك): سويد، وصوبه في الهامش (يزيد) وهو كذلك، فليس هو حماد بن زيد الإمام.

ص: 262

الشرح:

قوله: «جَاءَ رَجُلٌ يَوْماً إِلَى ابْنِ عُمَرَ» .

المراد سأل سائل من الناس الصحابي الجليل عبد الله بن الخطاب رضي الله عنهما.

قوله: «جَاءَ رَجُلٌ يَوْماً إِلَى ابْنِ عُمَرَ، فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ لَا أَدْرِى مَا هُوَ» . الشيء الذي يعلمه الراوي يزيد بن مسلم هو أمر محدث لم يقع.

قوله: «فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما: لَا تَسْأَلْ عَمَّا لَمْ يَكُنْ، فَإِنِّي سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضوان الله عليه يَلْعَنُ مَنْ سَأَلَ عَمَّا لَمْ يَكُنْ» . حذر ابن عمر رضي الله عنها السائل عن ذلك، وأخبره أن الخليفة الراشد عمر رضي الله عنه يلعن السائل عن أمر لم يقع؛ سبب للاختلاف، والابتداع في الأقوال، وهذ من عمر رضي الله عنه حماية للكتاب والسنة، وعدم تجاوزهما إلى الكلام فيما لم يقع، فإذا ما وقع ففي الأمر سعة باجتماع العدول من المؤمنين وبحث الأمر والخروج بإجماع على ما يكون خيرا للأمة في دينها ودنياها. وهذه سنة من عمر رضي الله عنه بجواز لعن من يسأل عن أمور في الدين لم تقع، لمخالفة ذلك لنص الكتاب والسنة، وتقدم البيان قريبا فيما مضى، والخبر في سنده حماد بن يزيد بن مسلم المنقري: سكت عنه كل من الإمامين البخاري وأبو حاتم (التاريخ الكبير 3/ 21، والجرح والتعديل 3/ 151) ووالده يزيد سكت عنه البخاري (التاريخ الكبير 8/ 358) وذكرهما ابن حبان في (الثقات 6/ 219، 5/ 545) ويؤيده حديث أبي هريرة (ذروني ما تركتكم) أخرجه مسلم حديث (1337) وانظر: القطوف رقم (68/ 123).

ما يستفاد:

ص: 263

* عدم جواز السؤال عن حكم أمر ديني لم يقع.

* أن الجاهل بذلك يعلم ولا يعنف إلا مع الإصرار، هذا فعل ابن عمر رضي الله عنهما.

* أن لعن عمر رضي الله عنه لمن سأل إما أن يكون زجرا لتهويل الأمر، أو للمُصِرّ على السؤال وعدم انتهائه عن ذلك.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

125 -

(2) أَخْبَرَنَا الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ، أَنْبَأَ شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ:" بَلَغَنَا أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ الأَنْصَارِيَّ رضي الله عنه كَانَ يَقُولُ إِذَا سُئِلَ عَنِ الأَمْرِ: أَكَانَ هَذَا؟ فَإِنْ قَالُوا: نَعَمْ قَدْكَانَ، حَدَّثَ فِيهِ بِالَّذِي يَعْلَمُ وَالَّذِي يَرَى، وَإِنْ قَالُوا: لَمْ يَكُنْ، قَالَ: فَذَرُوهُ حَتَّى يَكُونَ "

(1)

.

رجال السند:

الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ، هو أبو اليمان، وشُعَيْبٌ، هو ابن أبي حمزة، والزُّهْرِيِّ، هو محمد ابن مسلم، الجميع ثقات تقدموا.

الشرح:

الصحابي الجليل زيد بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه، أبو خارجة أو سعيد الخزرجي، كتب للنبي صلى الله عليه وسلم، وقرأ عليه القرآن، واستخلفه عمر رضي الله عنه على المدينة لما حج.

قوله: «كَانَ يَقُولُ إِذَا سُئِلَ عَنِ الأَمْرِ: أَكَانَ هَذَا؟» .

هذا عمل بالسنة في ذلك فالنوازل لا يستعجل أهل السنة الكلام فيها قبل

حدوثها، وحاجة الناس إلى القول الفصل فيها.

(1)

رجاله ثقات، وفيه انقطاع بين الزهري وزيد رضي الله عنه، وانظر: القطوف رقم (69/ 124).

ص: 264

قوله: «فَإِنْ قَالُوا: نَعَمْ قَدْ كَانَ، حَدَّثَ فِيهِ بِالَّذِي يَعْلَمُ وَالَّذِي يَرَى» .

لأنها واقعة والعلماء رحمهم الله مأمورون ببحث أمرها أو في ضوء الكتاب والسنة، فإن وجدوا فيهما علم أخبروا الناس به، وبينوه لهم، وإلا اجتهدوا في الرأي، ونشروا للناس ما أجمعوا عليه، وما تبين لهم من الحق وحكم ما نزل، وهذا ما فعله زيد بن ثابت رضي الله عنه.

قوله: «وَإِنْ قَالُوا: لَمْ يَكُنْ، قَالَ: فَذَرُوهُ حَتَّى يَكُونَ» .

المراد أنه لم يخض في الأمر قبل نزوله، والتزم رضي الله عنه في ذلك السنن، وهو التوقف حتى يكون.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

126 -

(3) أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَنْبَأَ أَبُو هَاشِم

(1)

الْمَخْزُومِيُّ، ثَنَا وُهَيْبٌ، ثَنَا دَاوُدُ، عَنْ عَامِرٍ قَالَ: " سُئِلَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ رضي الله عنهما، عَنْ مَسْأَلَةٍ فَقَالَ: هَلْ كَانَ هَذَا بَعْدُ، قَالُوا: لَا، قَالَ: دَعُونَا حَتَّى يَكُونَ، فَإِذَا كَانَ تَجَشَّمْنَاهَا

(2)

لَكُمْ "

(3)

.

رجال السند:

إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، هو ابن راهويه إمام ثقة تقدم، وأَبُو هَاشِم الْمَخْزُومِيُّ، هو المغيرة بن سلمة القرشي، بصري إمام ثقة، ووُهَيْبٌ، هو ابن خالد إمام ثقة تقدم، ودَاوُدُ، هو ابن أبي هند الخراساني، أبو محمد البصري، إمام ثقة روى له البخاري تعليقا، وعَامِرٍ، هو الشعبي إمام ثقة تقدم.

(1)

في بعض النسخ الخطية" هشام"

(2)

جشمت الأمر: إذا تكلفته على مشقة (الصحاح 1/ 193).

(3)

رجاله ثقات، وانظر: القطوف رقم (70/ 125).

ص: 265

الشرح:

قوله: «سُئِلَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ رضي الله عنهما، عَنْ مَسْأَلَةٍ فَقَالَ: هَلْ كَانَ هَذَا بَعْدُ، قَالُوا: لَا» .

الصحابي الجليل عمار بن عامر، أبو اليقظان البدري، أمه الشهيدة سمية، فقد عذب معها، رضي الله عنهما، وجعل موعدنا معهما الجنة.

فكان على السنة إذا سئل النازلة سأل عن وقوعها.

قوله: «قَالَ: دَعُونَا حَتَّى يَكُونَ، فَإِذَا كَانَ تَجَشَّمْنَاهَا لَكُمْ» .

المراد أنه يأمرهم بعدم السؤال حتى تقع، فإذا وقعت تكلف البحث عن الحكم المناسب من الكتاب والسنة، أو يجتهد بما يراه حكما مناسبا للنازلة.

الشرح: انظر السابق.

ما يستفاد: انظر السابق.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

127 -

(4) أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ، ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ طَاووُسٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه عَلَى الْمِنْبَرِ: " أُحَرِّجُ بِاللَّهِ عَلَى رَجُلٍ يَسْأَلُ عَمَّا لَمْ يَكُنْ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ بَيَّنَ مَا هُوَ كَائِنٌ "

(1)

.

رجال السند:

مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ، هو ابن أبي خلف، إمام ثقة تقدم، وسُفْيَانُ، هو ابن

(1)

رجاله ثقات، وانظر: القطوف رقم (71/ 126).

ص: 266

عيينة، إمام ثقة تقدم، وعَمْرٌو، هو ابن دينار الجمحي، أبو محمد المكي، من التابعين الفضلاء، مفتي إمام ثقة، وطَاووُسٌ، هو ابن كيسان اليماني، أبو عبدالرحمن كان مقدما عند ابن عباس رضي الله عنهما، وهو إمام ثقة.

الشرح:

انظر ما تقدم عن ابن عمر وأبيه عمر رضي الله عنهما.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

128 -

(5) أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبي شَيْبَةَ، ثَنَا ابْنُ

(1)

فُضَيْلٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " مَا رَأَيْتُ قَوْماً كَانُوا خَيْراً مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ رضي الله عنهم، مَا سَأَلُوهُ إِلاَّ عَنْ ثَلَاثَ عَشَرَةَ مَسْأَلَةً

(2)

حَتَّى قُبِضَ، كُلُّهُنَّ في الْقُرْآنِ، مِنْهُنَّ {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ}

(3)

، {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ}

(4)

قَالَ: مَا كَانُوا يَسْأَلُونَ إِلاَّ عَمَّا يَنْفَعُهُمْ "

(5)

.

رجال السند:

عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبي شَيْبَةَ، إمام ثقة تقدم، ابْنُ فُضَيْلٍ، هو محمد

(1)

في (ت) أبو، وصوبت في الهامش.

(2)

هذا في القرآن، أما السنة فما أكثر ما سألوه صلى الله عليه وسلم وهو غير خاف.

(3)

من الآية (217) من سورة البقرة.

(4)

من الآية (222) من سورة البقرة.

(5)

رجاله ثقات، وقد سمع محمد بن فضيل من عطاء بعد الاختلاط، وانظر: القطوف رقم (72/ 127).

ص: 267

صدوق رمي بالتشيع تقدم، عَنْ عَطَاءٍ، هو ابن السائب، صدوق اختلط تقدم، سَعِيدٍ، هو جبير، شهيد الحجاج، إمام ثقة تقدم.

الشرح:

قوله: «ابْنِ عَبَّاسٍ» هو عبدالله بن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنمها، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، حبر الأمة رضي الله عنه.

قوله: «مَا رَأَيْتُ قَوْماً كَانُوا خَيْراً مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ رضي الله عنهم، مَا سَأَلُوهُ إِلاَّ عَنْ ثَلَاثَ عَشَرَةَ مَسْأَلَةً حَتَّى قُبِضَ، كُلُّهُنَّ في الْقُرْآنِ، مِنْهُنَّ {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ}

(1)

، {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ}

(2)

قَالَ: مَا كَانُوا يَسْأَلُونَ إِلاَّ عَمَّا يَنْفَعُهُمْ».

المراد في الفضل والسمت، والالتزام، ولذلك قللوا أسئلتهم في القرآن، استفسارا عن بعض الأحكام ليعلمون الحكم فيها، وليس المراد من هذا الحصر بل الإخبار ببعض ما سألوا عنه، وقد سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أمورا كثيرة، فهم وإن أكثروا السؤال لكن ليس فيما لم ينزل، بل في الضروري مما نزو في الكتاب، فلم يتوسعوا في تشقيق المسائل، وتفريع بعضها على بعض، واعتمدوا على الوحيين، ولا يسألون إلا على ما يعينهم في العمل بهما رضي الله عنهم.

(1)

من الآية (217) من سورة البقرة.

(2)

من الآية (222) من سورة البقرة.

ص: 268

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

129 -

(6) حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ

(1)

، أنْبَأَ ابْنُ عَوْنٍ، عَنْ عُمَيْر

(2)

بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: " لَمَنْ أَدْرَكْتُ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَكْثَرُ مِمَّنْ سَبَقَنِي مِنْهُمْ، فَمَا رَأَيْتُ قَوْماً أَيْسَرَ سِيرَةً وَلَا أَقَلَّ تَشْدِيداً مِنْهُمْ "

(3)

.

رجال السند:

عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ، هو ابن فارس، إمام ثقة، تقدم، وابْنُ عَوْنٍ، هو عبد الله إمام ثقة تقدم، وعُمَيْرُ بْنُ إِسْحَاق، هو أبو محمد مقبول سكن المدينة ثم مكة، تفرد ابن عون بالرواية عنه.

الشرح:

يذكر هذا التابعي أنه أدرك الكثرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويذكر أنهم رضي الله عنهم بعيدون عن الغلو والتكلف، الذي رآه في المعاصرين له، فنكر ما شاهد منهم، فكيف بمن بعدهم وهلم جرا إلى عصرنا هذا وما بعده من الزمان، اللهم أرزقنا الثبات على الحق.

ما يستفاد:

* حسن سيرة الصحابة رضي الله عنهم ومن اقتدى بهم.

* أن التيسير في الأمور مطلب شرعي.

(1)

هكذا في الأصول (عمير) وهو: عثمان بن عمر بن فارس العبدي. انظر (ترجمة عبد الله بن عون في تهذيب الكمال).

(2)

في الأصول الخطية (محمد) وهو خطأ. أنظر (ترجمة عبد الله بن عون).

(3)

في سنده عمير بن إسحاق: مقبول، ويشهد له ما تقدم في معناه، وانظر: القطوف رقم (73/ 128).

ص: 269

* أهمية البعد عن التكلف والغلو.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

130 -

(7) قال: أَخْبَرَنِي الْعَبَّاسُ بْنُ سُفْيَانَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ حُباب، أَخْبَرَنِي رَجَاءُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ:" سَمِعْتُ عُبَادَةَ بْنَ نُسَيٍّ الْكِنْدِيَّ، وَسُئِلَ عَنِ امْرَأَةٍ مَاتَتْ مَعَ قَوْمٍ لَيْسَ لَهَا وَلِىٌّ، فَقَالَ: أَدْرَكْتُ أَقْوَاماً مَا كَانُوا يُشَدِّدُونَ تَشْدِيدَكُمْ، وَلَا يَسْأَلُونَ مَسَائِلَكُمْ "

(1)

.

رجال السند:

الْعَبَّاسُ بْنُ سُفْيَانَ، هو الدبوسي من أفراد الدارمي، سكت عنه الإمامان، وثقه ابن حبان، فهو لابأس به، وزَيْدُ بْنُ حُباب، هو العكلي أبو الحسن، ثقة صاحب حديث، ورَجَاءُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، هو ابن مهران الفلسطيني، إمام ثقة، وعُبَادَةُ بْنُ نُسَيٍّ الْكِنْدِيَّ، هو أبو عمر الأردني، قاضي عبد الملك بن مروان على الأردن، ثم ولاه عمر بن عبد العزيز نائبا له عليها، إمام ثقة.

الشرح:

قوله: «سُئِلَ عَنِ امْرَأَةٍ مَاتَتْ مَعَ قَوْمٍ لَيْسَ لَهَا وَلِىٌّ، فَقَالَ: أَدْرَكْتُ أَقْوَاماً مَا كَانُوا يُشَدِّدُونَ تَشْدِيدَكُمْ، وَلَا يَسْأَلُونَ مَسَائِلَكُمْ» .

المراد أن هذا من الغلو، وليس في الأمر ما يشكل يقوم النساء على غسلها وتكفينها، ويقوم الرجال بدفنها، وكأنهم رأوا المعضلة في إدخالها القبر، ولا معضلة يقوم بذلك الصالح من أقاربها، وفي حالة عدم الأقارب يقوم به

(1)

في سنده العباس بن سفيان الدبوسي: ذكره ابن حبان في (الثقات 8/ 513) وانظر: القطوف رقم (74/ 129).

ص: 270

الصالح من المسلمين، فإذا لم يوجد نساء فقد قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما:" وجد الناس وهم صادرون من الحج امرأة ميتة بالبيداء، يمرون عليها ولا يرفعون لها رأسا، حتى مر بها رجل من بني ليث يقال له كليب ابن مسكين فألقى عليها ثوبه ثم استعان عليها من يدفنها، فدعا عمر عبد الله، فقال: " هل مررت بهذه المرأة الميتة؟ فقال: لا، فقال عمر: لو حدثتني أنك مررت بها لنكلت بك، ثم قام عمر بين ظهراني الناس فتغيظ عليهم فيها، وقال: لعل الله يدخل كليبا الجنة بفعله بها، فبينما كليب يتوضأ عند المسجد جاءه أبو لؤلؤة قاتل عمر رضي الله عنه فبقر بطنه

(1)

.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

131 -

(8) أَخْبَرَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ سُفْيَانَ، أنْبَأَ زَيْدُ بْنُ حُباب قال: أَخْبَرَنِي رَجَاءُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ قال: حَدَّثَنِي خَالِدُ بْنُ حَازِمٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ مُسْلِمٍ الْقُرَشِيِّ قَالَ: " كُنْتُ مَعَ ابْنِ مُحَيْرِيزٍ بِمَرْجِ الدِّيبَاجِ

(2)

فَرَأَيْتُ مِنْهُ خَلْوَةً، فَسَأَلْتُهُ عَنْ مَسْأَلَةٍ، فَقَالَ لِي: مَا تَصْنَعُ بِالْمَسَائِلِ؟، قُلْتُ: لَوْلَا الْمَسَائِلُ لَذَهَبَ الْعِلْمُ، قَالَ: لَا تَقُلْ ذَهَبَ الْعِلْمُ، إِنَّهُ لَا يَذْهَبُ الْعِلْمُ مَا قُرِئَ الْقُرْآنُ، وَلَكِنْ لَوْ قُلْتَ: يَذْهَبُ الْفِقْهُ ".

(1)

السنن الكبير للبيهقي حديث (6619).

(2)

قال ياقوت: واد عجيب المنظر نزه بين الجبال، بينه وبين المصيصة عشرة أميال، والمصيصة: مدينة على شاطئ جيحان، من ثغور الشام، بين أنطاكية وبلاد الروم، والمصيصة أيضا: قرية من قرى دمشق، قرب بيت لهيا (معجم البلدان 5/ 101، 145).

ص: 271

رجال السند:

الْعَبَّاسُ بْنُ سُفْيَانَ، هو الدبوسي من أفراد الدارمي لابأس به، زَيْدُ بْنُ حُباب، هو زيد بن الحباب العكلي الكوفي، وثقه العجلي وابن حبان وقال مرة: يخطئ ويعتبر بحديثه، ورَجَاءُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، هو ابن مهران إمام ثقة تقدم، وخَالِدُ بْنُ حَازِمٍ، هو الرملي، لم أقف على ترجمته، وهو مقحم في السند؛ لأن رجاء بن مهران يروي عن هشام مباشرة، وهِشَامُ ابْنُ مُسْلِمٍ الْقُرَشِيِّ، لم أقف على ترجمته.

الشرح:

قوله: «كُنْتُ مَعَ ابْنِ مُحَيْرِيزٍ» .

ابن محيريز هو عبد الله بن محيريز بن جنادة الجمحي، أبو محيريز القرشي، يتيم أبي محذورة، قدوة إمام ثقة.

قوله: «فَسَأَلْتُهُ عَنْ مَسْأَلَةٍ، فَقَالَ لِي: مَا تَصْنَعُ بِالْمَسَائِلِ؟ قُلْتُ: لَوْلَا الْمَسَائِلُ لَذَهَبَ الْعِلْمُ» .

القائل: هِشَامِ بْنِ مُسْلِمٍ الْقُرَشِيِّ، كأنه يسأل عن الفروع من المسائل الفقهية، أخذا من قوله صلى الله عليه وسلم:«خُذُوا الْعِلْمَ قَبْلَ أَنْ يَذْهَبَ» . قَالُوا: وَكَيْفَ يَذْهَبُ الْعِلْمُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَفِينَا كِتَابُ اللَّهِ؟ قَالَ: فَغَضِبَ، ثُمَّ قَالَ:«ثَكِلَتْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ أَوَلَمْ تَكُنِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمْ شَيْئًا؟ إِنَّ ذَهَابَ الْعِلْمِ أَنْ يَذْهَبَ حَمَلَتُهُ، إِنَّ ذَهَابَ الْعِلْمِ أَنْ يَذْهَبَ حَمَلَتُهُ» وسيأتي

عند الدارمي، وتقدم أن العلم يذهب بموت العلماء.

ص: 272

قوله: «فَسَأَلْتُهُ عَنْ مَسْأَلَةٍ، فَقَالَ لِي: مَا تَصْنَعُ بِالْمَسَائِلِ؟ قُلْتُ: لَوْلَا الْمَسَائِلُ لَذَهَبَ الْعِلْمُ، قَالَ: لَا تَقُلْ ذَهَبَ الْعِلْمُ، إِنَّهُ لَا يَذْهَبُ الْعِلْمُ مَا قُرِئَ الْقُرْآنُ، وَلَكِنْ لَوْ قُلْتَ: يَذهَبُ الْفِقْهُ» .

هذا قول ابن محيريز، ولا ريب أن القرآن وعاء العلم، فنظر إلى ذهاب الفقهاء العالمين بالكتاب والسنة؛ فإذا ذهبوا لم يبق الفقة وذهب الفقه المستنبط من الكتاب والسنة، وبقاءُ الجهلاء مع بقاء القرآن لا يملأ مكان الفقهاء، وهذا من علامات غربة الدين ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«سيأتي على أمتي زمان يكثر فيه القراء ويقل الفقهاء ويقبض العلم ويكثر الهرج ثم يأتي من بعد ذلك زمان يقرأ القرآن رجال من أمتي لا يجاوز تراقيهم ثم يأتي من بعد ذلك زمان يجادل المشرك بالله المؤمن في مثل مايقول»

(1)

، ضعغه الشيخ الألباني رحمه الله، ولكن مطابقته للواقع تقضي بصحته، فليس هو مما يقال بالرأي، فما أكثر القراء اليوم، وما أقل الفقهاء، وما أكثر من يجادل بالباطل، من المسلمين فضلا عن المشركين والملحدين، والخوارج خرجوا سابقا ولا حقا، والراوي الذي ضعف به لا يعلم الغيب حتى يأتي بهذه الرواية، والخبر في سنده خالد بن حازم، وهشام بن مسلم القرشي: لم أقف عليهما، وانظر: القطوف رقم (75/ 130).

ما يستفاد:

* أن بقاء الفقهاء العالمين بالكتاب والسنة ضمان الأمة من الجهل بالدين.

* أن العلم يذهب بذهاب الفقهاء العالمين بالكتاب والسنة.

(1)

الجامع الصغير حديث (7038).

ص: 273

* الحث على تعلم الفقه واستنباطه من الكتاب والسنة.

* الحث على ملازمة العالمين بالكتاب والسنة وأخذ الفقه منهم.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

132 -

(9) أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، ثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ دَاوُدَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ:" يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا لَا نَدْرِي لَعَلَّنَا نَأْمُرُكُمْ بِأَشْيَاءَ لَا تَحِلُّ لَكُمْ، وَلَعَلَّنَا نُحِرِّمُ عَلَيْكُمْ أَشْيَاءَ هِيَ لَكُمْ حَلَالٌ، إِنَّ آخِرَ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنَ آيَةُ الرِّبَا، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُبَيِّنْهَا لَنَا حَتَّى مَاتَ، فَدَعُوا مَا يَرِيبُكُمْ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكُمْ "

(1)

.

رجال السند:

سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، هو أبو أيوب، إمام ثقة تقدم، وحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، إمام ثقة تقدم، ودَاوُدُ، هو ابن أبي هند ثقة تقدم، والشَّعْبِيُّ، هو عامر إمام ثقة تقدم، ولم يدرك عمر رضي الله عنه.

الشرح:

قوله: «أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا لَا نَدْرِي لَعَلَّنَا نَأْمُرُكُمْ بِأَشْيَاءَ لَا تَحِلُّ لَكُمْ، وَلَعَلَّنَا نُحِرِّمُ عَلَيْكُمْ أَشْيَاءَ هِيَ لَكُمْ حَلَالٌ» .

هو عمر بن الخطاب الخليفة الراشد رضي الله عنه، وهذا احتياط منه رضي الله عنه، حتى لا يحمل اثم أحد قد يفهم غير مراد عمر رضي الله عنه، فكأنه يقول لهم: أنا لست معصوما من الخطأ؛ لأني بشر، فليتأمل السامع ما أقول وليعقله، ولا يكثر من السؤال؛

(1)

رجاله ثقات، والشعبي لم يدرك عمر رضي الله عنه (المراسيل لابن أبي حاتم ص 160) وما يتعلق بنزول الآية أخرجه البخاري حديث (4544).

ص: 274

لأن ما كل ما يسأل عنه نجد له جوابا، وربما أوقعتنا كثرة الأسئلة في الخطأ، ولو اجتهدنا نحرم حلالا، أو نحل حراما.

قوله: «إِنَّ آخِرَ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنَ آيَةُ الرِّبَا، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُبَيِّنْهَا لَنَا حَتَّى مَاتَ» .

المراد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي بعد نزول آية الربا بليال، على أكثر ما قيل: إحدى وعشرين ليلة، ولكن قول عمر هذا معارض بقول البراء رضي الله عنه: آخر سورة نزلت براءة، وآخر آية نزلت:{يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ}

(1)

، وقد جمع بينهما ابن حجر رحمه الله فقال: فيجمع بينه وبين قول بن عباس بأن الآيتين نزلتا جميعا فيصدق أن كلا منهما آخر بالنسبة لما عداهما ويحتمل أن تكون الأخرية في آية النساء مقيدة بما يتعلق بالمواريث مثلا بخلاف آية البقرة ويحتمل عكسه والأول أرجح لما في آية البقرة من الإشارة إلى معنى الوفاة المستلزمة لخاتمة النزول

(2)

، قال الله عز وجل:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}

(3)

، فما هو الذي بقي من الربا، ولم يبنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابن حزم رحمه الله: لم يرتض هذا القول من عمر رضي الله عنه وقال: " حاش لله من أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبين الربا الذي توعد فيه أشد الوعيد، والذي أذن الله تعالى فيه

(1)

من الآية (176) من سورة النساء.

وانظر البخاري حديث (4605).

(2)

فتح الباري 8/ 205.

(3)

الآية (278) من سورة البقرة.

ص: 275

بالحرب، ولئن كان لم يبينه لعمر فقد بينه لغيره، وليس عليه أكثر من ذلك، ولا عليه أن يبين كل شيء لكل أحد، لكن إذا بينه لمن يبلغه فقد بلغ ما لزمه تبليغه "

(1)

، وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم تحريم الربا قبل نزول هذه الآية بوقت طويل، في سورة البقرة، وآل عمران والنساء، قال عز وجل:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}

(2)

، وقال صلى الله عليه وسلم:«الرِّبَا سَبْعُونَ بابا أَهْوَنُهَا عِنْدَ اللَّهِ كَالَّذِي يَنْكِحُ أُمَّه»

(3)

.

قوله: «مَا يَرِيبُكُمْ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكُمْ» .

هذا القول من عمر رضي الله عنه مقبس من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الحلال بين، وإن الحرام بين، وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه، وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى، يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت، صلح الجسد كله، وإذا فسدت، فسد الجسد كله، ألا وهي القلب»

(4)

، ولذلك قال عمر رضي الله عنه:" تركنا تسعة أعشار الحلال مخافة الربا "

(5)

.

(1)

المحلى بالآثار 7/ 414.

(2)

الآية (130) من سورة آل عمران.

(3)

المنتقى لابن الجارود حديث (647).

(4)

مسلم حديث (1599).

(5)

مصنف عبد الرزاق حديث (14683).

ص: 276

ما يستفاد:

* اهتمام الراعي بالرعية، وتوجيههم إلى الخير.

* التحذير من الشبهات، وتحري الحق.

* تحريم الربا ما قل منه وما كثر.

* من التقوى والورع أن المسلم إذا استراب في شيء تركه.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

19 -

‌ بابٌ مَنْ هَابَ الْفُتْيَا وَكَرِهَ التَّنَطُّعَ وَالتَّبَدُّعَ

133 -

(1) أَخْبَرَنَا سَلْمُ بْنُ جُنَادَةَ، ثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ عَمِّهِ قَالَ:" خَرَجْتُ مِنْ عَنْدِ إِبْرَاهِيمَ، فَاسْتَقْبَلَنِي حَمَّاد، فَحَمَّلَنِي ثَمَانِيَةَ أَبْوَابٍ مَسَائِلَ، فَسَأَلْتُهُ فَأَجَابَنِي عَنْ أَرْبَعٍ، وَتَرَكَ أَرْبَعاً "

(1)

.

رجال السند:

سَلْمُ بْنُ جُنَادَةَ، هو ابن سلم، أبو السائب العامري، إمام ثقة، وابْنُ إِدْرِيس، هو عبد الله بن إدريس بن يزيد الأودي، أبو محمد الكوفي، طلبه الرشيد للقضاء فامتنع، إمام قدوة ثقة، وعَمُّه، هو داود بن يزيد بن عبد الرحمن الأودي، أبو يزيد الكوفي، ضعيف يقبل حديثه في الفضائل.

الشرح:

قوله: «خَرَجْتُ مِنْ عَنْدِ إِبْرَاهِيمَ، فَاسْتَقْبَلَنِي حَمَّاد» .

(1)

في سنده داود بن يزيد الأودي: ضعيف، ولروايته هذه شواهد منها قصة الإمام مالك في (40) مسألة سئل عنها، ومنها ما يأتي بعد.

ص: 277

القائل: داود بن يزيد، وإبراهيم هو النخعي إمام ثقة تقدم، وحماد هو ابن أبي سليمان الأصبهاني، أبو إسماعيل كوفي من فقهائها، ضعيف، وليس خبره هذا مما يُدفع بضعفه.

قوله: «فَحَمَّلَنِي ثَمَانِيَةَ أَبْوَابٍ مَسَائِلَ» .

المراد أن حماد بن أبي سليمان حمل داود ثمان مسائل ليعرضها على إبراهيم النخعي، وكان يكره السؤال عن المسائل، ولعلها مما أحدث الناس، ولذلك قال النخعي:" قد تكلمت ولو وجدت بداً ما تكلمت، وإن زماناً أكون فيه فقيه أهل الكوفة، لزمان سوء "

(1)

.

قوله: «فَسَأَلْتُهُ فَأَجَابَنِي عَنْ أَرْبَعٍ، وَتَرَكَ أَرْبَعاً» .

المراد أن إبراهيم أجاب عن أربع مسائل قد علم الحق فيها، وتورع عن أربع إذ لم يظهر له فيها قول، وهذا من كما الرجل ألا يجيب إلا بما علم، ويترك ما لا علم له به، فما أحوج الناس في هذا الزمان إلى الصدق والورع.

ما يستفاد:

* جواز نقل العلم من عالم إلى آخر.

* وجوب الأمانة في النقل.

* بيان مكانة النخعي العلمية وما يتمتع به من الثبات والورع.

* لا عيب على العالم إذا سئل فأن جاب عن شيء، وترك الإجابة عن شيء آخر.

(1)

فوائد ابن نصر رقد (118).

ص: 278

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

134 -

(2) أَخْبَرَنَا قَبِيصَةُ، أنْبَأَ سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبْجَرَ، عَنْ زُبَيْدٍ قَالَ:" مَا سَأَلْتُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ شَيْءٍ إِلاَّ عَرَفْتُ الْكَرَاهِيَةَ في وَجْهِهِ "

(1)

.

رجال السند:

قَبِيصَةُ، هو ابن عقبة بن محمد السوائي، أبو عامر الكوفي، سمع من سفيان وهو صغير واتقن، إمام ثقة، وسُفْيَانُ، هو الثوري، إمام ثقة، وعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبْجَرَ، هو عبد الملك بن سعيد بن حيان بن أبجر، من رجال مسلم، طبيب لا يأخذ أجرا، إمام ثقة، وزُبَيْدٌ، هو ابن الحارث اليامي، أبو عبد الرحمن الكوفي، رأى بعض الصحابة ولم يرو عنهم، إمام ثقة، لازم إبراهيم النخعي.

الشرح:

قوله: «مَا سَأَلْتُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ شَيْءٍ إِلاَّ عَرَفْتُ الْكَرَاهِيَةَ في وَجْهِه» .

هكذا كان السلف رحمهم الله يكرهون التظاهر بالعلم، والفتيا، ويطلبون السلامة من الفتاوى إلا لضرورة، يؤيد هذا قول إبراهيم لأبي حَصين، لما سأله:" ما كان بيني وبينك أحد تسأله غيري "

(2)

.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

135 -

(3) أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ، ثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ عُمَرَ ابْنِ أَبِي زَائِدَةَ قَالَ: " مَا رَأَيْتُ أَحَداً أَكْثَرَ أَنْ يَقُولَ إِذَا سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ: لَا

(1)

سنده حسن، وانظر: القطوف رقم (77/ 133).

(2)

العلم لزهير بن حرب رقم (131).

ص: 279

عِلْمَ

(1)

لِي بِهِ مِنَ الشَّعْبِيِّ "

(2)

.

رجال السند:

مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ، هو ابن أبي خلف إمام ثقة تقدم، وإِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، هو السلولي أبو عبد الرحمن الكوفي، وثقة العجلي، كتب عنه وقال: كان فيه تشيع، وعُمَرُ بْنُ أَبِي زَائِدَةَ، هو الوادعي، روايته في الصحيحين، ورمي بالقدر.

الشرح:

هذا منهج العلماء فيما سبق، وانظر ما تقدم.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

136 -

(4) أَخْبَرَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ قَالَ: سَمِعْتُهُ يَذْكُرُ قَالَ: "كَانَ الشَّعْبِيُّ إِذَا جَاءَهُ شَيْءٌ اتَّقَى، وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ يَقُولُ، وَيَقُولُ، وَيَقُولُ

(3)

قَالَ أَبُو عَاصِمٍ: كَانَ الشَّعْبِيُّ فِي هَذَا أَحْسَنَ حَالاً عِنْدَ ابْنِ عَوْنٍ مِنْ إِبْرَاهِيمَ "

(4)

.

رجال السند:

أَبُو عَاصِمٍ، هو الضحاك بن مخلد، إمام ثقة تقدم، وابْنُ عَوْنٍ، هو عبد الله إمام ثقة تقدم.

(1)

وقع في (ت) لا أعلم لي، وهو سبق قلم.

(2)

رجاله ثقات، وانظر: القطوف رقم (78/ 134).

(3)

أراد أنه يستجيب للسؤال.

(4)

رجاله ثقات، وانظر: القطوف رقم (79/ 135).

ص: 280

الشرح:

المراد أن الشعبي يتقي الفتيا، ولا يكثر، وأن إبراهيم يكثر القول، ولعل كلاهما قليل الفتيا، لكن ابن عون قارن بينهما فوجد القليل من إبراهيم كثيرا بالنسبة للشعبي، وتقدم آنفا أن إبراهيم النخعي كان شديد الكراهة للفتيا، وهو مشهور بالورع، مشهود له به.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

137 -

(5) أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، أنْبَأَ أَحْمَدُ بْنُ بَشِيرٍ، ثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ إِيَاسٍ قَالَ:" قُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: مَا لَكَ لَا تَقُولُ فِي الطَّلَاقِ شَيْئاً؟ قَالَ: مَا مِنْهُ شَيْءٌ إِلاَّ قَدْ سُئلْتُ عَنْهُ، وَلَكِنِّي أَكْرَهُ أُنْ أَحِلَّ حَرَاماً أَوْ أُحَرِّمَ حَلَالاً "

(1)

.

رجال السند:

عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، هو الأشج إمام ثقة تقدم، وأَحْمَدُ بْنُ بَشِيرٍ، هو المخزومي أبو بكر الكوفي، صدوق له أوهام، وشُعْبَةُ، هو ابن الحجاج، إمام ثقة، وجَعْفَرُ بْنُ إِيَاسٍ، هو ابن أبي وحشية، أبو بشر البصري، إمام ثقة.

الشرح:

قوله: «قُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ» .

سعيد بن جبير إمام ثقة تقدم.

قوله: «مَا لَكَ لَا تَقُولُ فِي الطَّلَاقِ شَيْئاً؟» .

كأنه رآه لا يفتي في الطلاق فسأله عن سبب توثقه.

(1)

سنده حسن، وانظر: القطوف رقم (80/ 136).

ص: 281

قوله: «قَالَ: مَا مِنْهُ شَيْءٌ إِلاَّ قَدْ سُئلْتُ عَنْهُ، وَلَكِنِّي أَكْرَهُ أُنْ أَحِلَّ حَرَاماً أَوْ أُحَرِّمَ حَلَالاً» .

أجاب سعيد رحمه الله وبيّن أنه لا يخفي عليه شيء من مسائل الطلاق، وأنه سئل عنها، ولكن منعه الورع من القول؛ لأن الطلاق أحكامة متعلقة بما يحل وما يحرم، وهو متعلق بأنساب الناس، وأعراضهم فتورع عن القول في ذلك أو الاكثار من القول فيه، ولاسيما والناس من الزمن القديم أحدثون من الطلاق ما يستدعي التورع، ومعلوم أن عمر رضي الله عنه قال:" إن الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم"

(1)

.

ما يستفاد

* جواز سؤال العالم عما يظن أنه مقصر فيه.

* التورع عن الفتيا، وتوخي الخذر فيما يترتب عليها.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

138 -

(6) أَخْبَرَنَا أَبُو نُعَيْمٍ

(2)

، ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي لَيْلَى يَقُولُ: " لَقَدْ أَدْرَكْتُ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ عِشْرِينَ [وَمِائَةً مِنَ الأَنْصَارِ وَمَا مِنْهُمْ]

(3)

أَحَدٌ يُحَدِّثُ بِحَدِيثٍ إِلاَّ وَدَّ أَنَّ أَخَاهُ كَفَاهُ الْحَدِيثَ، وَلَا يُسْأَلُ عَنْ فُتْيَا إِلاَّ وَدَّ أَنَّ أَخَاهُ كَفَاهُ الْفُتْيَا ".

(1)

مسلم حديث (1472).

(2)

في (ت) إبراهيم، وصوبه في الهامش.

(3)

ما بين المعقوفين سقط من (ت) واستدرك بهامشها.

ص: 282

رجال السند:

أَبُو نُعَيْمٍ، هو الفضل بن دكين، إمام ثقة تقدم، وسُفْيَانُ، هو الثوري، إمام ثقة تقدم، وعَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ، صدوق اختلط، سمع منه سفيان الثوري قبل ذلك تقدم، وعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى، من كبار التابعين ثقة تقدم.

الشرح:

قوله: «سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي لَيْلَى يَقُولُ: " لَقَدْ أَدْرَكْتُ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ» . المراد أن كل واحد منهم يطلب السلامة من الفتيا، ومن القول على الله عز وجل، وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم بغير علم، فقل من يسلم من خطر الفتيا، فلا يجرؤون عليها، ولا يتسارعون إليها، مع أنهم عاصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمعوا منه، وحصل لهم من العلم والفضل ما لم يحصل لغيرهم رضي الله عنهم، ومع ذلك تواضعوا وخاف كل منهم على نفسه رضي الله عنهم وأرضاهم، والخبر رجاله ثقات، وسماع عطاء من سفيان كان قبل الاختلاط، وانظر: القطوف رقم (81/ 137).

ما يستفاد:

* الحرص على النجاة من تحمل أعباء الفتيا.

* التواضع وعدم التظاهر بالعلم.

* علو المكانة لابن أبي ليلى بإدراكه مائة وعشرين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال الدارمي رحمه الله تعالى: 139 - (7) حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ الصَّفَّارُ، ثَنَا أَبُو بَكْرٍ، عَنْ دَاوُدَ قَالَ: "سَأَلْتُ الشَّعْبِيَّ كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ إِذَا سُئِلْتُمْ؟ قَالَ:

ص: 283

عَلَى الْخَبِيرِ وَقَعْتَ، كَانَ إِذَا سُئِلَ الرَّجُلُ قَالَ لِصَاحِبِهِ: أَفْتِهِمْ، فَلَا يَزَالُ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الأَوَّلِ "

(1)

.

رجال السند:

يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ الصَّفَّارُ، هو أبو يعقوب إمام ثقة، وأَبُو بَكْرٍ، هو ابن عياش، إمام ثقة، ودَاوُدُ، هو ابن أبي هند، إمام ثقة تقدم.

الشرح:

فيه التوكيد على ما تقدم من كراهتهم للفتيا، وتدافعهم لها، كل يريد الخلاص من تبعتها، وانظر ما تقدم.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

140 -

(8) أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَجَّاجِ قَالَ: سَمِعْتُ سُفْيَانَ، عَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَ: إِنَّ الْعَالِمَ يَدْخُلُ فِيمَا بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ عِبَادِهِ فَلْيَطْلُبْ لِنَفْسِهِ الْمَخْرَجَ

(2)

.

رجال السند:

أَحْمَدُ بْنُ الْحَجَّاجِ، هو البكري أبو العباس المروزي، أحد أفراد البخاري إمام ثقة، وسُفْيَانُ، هو ابن عيينة إمام ثقة تقدم، وابْنُ الْمُنْكَدِرِ، هو محمد إمام ثقة تقدم.

الشرح:

قوله: «إِنَّ الْعَالِمَ يَدْخُلُ فِيمَا بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ عِبَادِهِ فَلْيَطْلُبْ لِنَفْسِهِ الْمَخْرَجَ» . هذا

يدل على خطورة التصدر للفتيا، فمن أحال على غيره كما فعل الصحابة رضي الله عنهم يحيل بعضهم على بعض فقد طلب لنفسه السلامة من تبعة الفتيا، ومن

(1)

رجاله ثقات، وانظر: القطوف رقم (82/ 138).

(2)

رجاله ثقات، وانظر: القطوف رقم (83/ 139).

ص: 284

أفتى بما يتفق مع الكتاب والسنة، فقد خرج من العهدة، ومن يجشم عناءها وأفتي بالرأي فقد هلك وأهلك، وفي هذا جرأة على الله عز وجل وعلى رسوله، وقد لا يسلم من العذاب، وانظر ما تقدم.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

141 -

(9) أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ قُدَامَةَ، أنْبَأَ أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ مِسْعَرٍ قَالَ:" أَخْرَجَ إِلَيَّ مَعْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ كِتَاباً فَحَلَفَ لِي بِاللَّهِ إِنَّهُ خَطُّ أَبِيهِ، فَإِذَا فِيهِ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: وَالَّذِي لَا إِلَهَ إِلاَّ هُو، مَا رَأَيْتُ أَحَداً كَانَ أَشَدَّ عَلَى الْمُتَنَطِّعِينَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَمَا رَأَيْتُ أَحَداً كَانَ أَشَدَّ عَلَيْهِمْ مِنْ أَبِي بَكْر رضوان الله عليهٍ، وَإِنِّي لأَرَى عُمَرَ رضي الله عنه كَانَ أَشَدَّ خَوْفاً عَلَيْهِمْ أَوْ لَهُمْ "

(1)

.

رجال السند:

مُحَمَّدُ بْنُ قُدَامَةَ، هو الجوهري، ضعيف روى عنه البخاري في خلق أفعال العباد، وأَبُو أُسَامَةَ، هو حماد بن أسامة إمام ثقة حافظ، ومِسْعَرٌ، هو ابن كدام إمام ثقة تقدم.

الشرح:

قوله: «أَخْرَجَ إِلَيَّ مَعْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ كِتَاباً فَحَلَفَ لِي بِاللَّهِ إِنَّهُ خَطُّ أَبِيهِ» .

معن بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، جده ابن مسعود الصحابي رضي الله عنه، كنيته أبو القاسم قاضي الكوفة، إمام ثقة.

(1)

فيه محمد بن قدامة الجوهري: فيه لين، ويشهد له حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه (هلك المتنطعون) أخرجه مسلم حديث (2670) وانظر: القطوف رقم (84/ 140).

ص: 285

هذا الإمام رحمه الله وثق أن الكتاب خط أبيه عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود.

قوله: «فَإِذَا فِيهِ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: وَالَّذِي لَا إِلَهَ إِلاَّ هُو، مَا رَأَيْتُ أَحَداً كَانَ أَشَدَّ عَلَى الْمُتَنَطِّعِينَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» .

لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، وليس في التنطع والغلو رحمة، «هلك المتنطعون»

(1)

.

قوله: «وَمَا رَأَيْتُ أَحَداً كَانَ أَشَدَّ عَلَيْهِمْ مِنْ أَبِي بَكْر رضوان الله عليهٍ» . لأنه المتبع لرسول الله صلى الله عليه وسلم في كل صغيرة وكبيرة.

«وَإِنِّي لأَرَى عُمَرَ رضي الله عنه كَانَ أَشَدَّ خَوْفاً عَلَيْهِمْ أَوْ لَهُمْ» .

المراد أنه كان أشد خوفا على المتنطعين من الهلاك الذي أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ما يستفاد:

* أن الإسلام دين رحمة ويسر وسهوله.

* التحذير من الغلو التنطع فهو الهلاك.

* أهمية اتباع الكتاب والسنة.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

142 -

(10) أَخْبَرَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، أَنْبَأَ زَمْعَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حَاضِرٍ

(1)

مسلم حديث (2670).

ص: 286

الأَزْدِيِّ قَالَ: " دَخَلْتُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقُلْتُ: أَوْصِنِي. فَقَالَ: نَعَمْ، عَلَيْكَ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالاِسْتِقَامَةِ، اتَّبِعْ وَلَا تَبْتَدِعْ "

(1)

.

رجال السند:

أَبُو نُعَيْمٍ، هو الفضل بن دكين إمام ثقة تقدم، وزَمْعَةُ بْنُ صَالِحٍ، ضعفه الجمهور، وحديثه عند مسلم مقرون تقدم، وعُثْمَانَ بْنُ حَاضِرٍ الأَزْدِيِّ، هو أبو حاضر يماني ثقة.

الشرح:

قوله: «دَخَلْتُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقُلْتُ: أَوْصِنِي. فَقَالَ: نَعَمْ، عَلَيْكَ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالاِسْتِقَامَةِ، اتَّبِعْ وَلَا تَبْتَدِعْ» .

عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، سأله الأزدي أن يوصه، فأمره بتقوى الله عز وجل؛ لأنها جماع كل خير، وبالاستقامة في الأمور كلها ومن فعل ذلك فهو موعود من الله عز وجل بالأمان، قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}

(2)

، ثم أمره بالاتباع؛ لأن التقوى والاستقامة على الطاعات والبعد عن المعاصي كل ذلك لا يتم إلا بالاقتداء والاتباع، فالتقوى والاستقامة والاتباع هي جماع النجاة والفوز بوعد الله عز وجل.

(1)

فيه زمعة بن صالح: ضعيف، وللحديث شواهد كثيرة من الكتاب والسنة، وانظر: القطوف رقم (85/ 141).

(2)

الآية (30) من سورة فصلت.

ص: 287

ما يستفاد:

* جواز أن يطلب المسلم من الرجل الصالح الوصية في عمل الخير.

* أن أفضل ما يوصى به ثلاث: تقوى الله والاستقامة والاتباع.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

143 -

(11) أَخْبَرَنَا مَخْلَدُ بْنُ مَالِكٍ، أَخْبَرَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ:" كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ عَلَى الطَّرِيقِ مَا كَانَ عَلَى الأَثَرِ "

(1)

.

رجال السند:

مَخْلَدُ بْنُ مَالِكٍ، هو الجمال، إمام ثقة تقدم، والنَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، هو البصري أبو الحسن، راوية شعبة، مصنف لم يسبق فيما صنف، ولي قضاء مرو، إمام قدوة ثقة، وابْنُ عَوْنٍ، هو عبد الله إمام ثقة تقدم، وابْنُ سِيرِينَ، هو محمد من سادات التابعين.

الشرح:

«قوله: كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ عَلَى الطَّرِيقِ مَا كَانَ عَلَى الأَثَرِ» .

المراد أن الصحابة رضي الله عنهم، والتابعين رحمهم الله كانوا يرون المسلم على طريق الحق ما كان ملتزما بالأثر من الكتاب والسنة.

ما يستفاد:

* أن الالتزام بالأثر هو طريق الاستقامة، والنجاة من الغلو والبدع.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

144 -

(12) أَخْبَرَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا أَزْهَرُ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ،

(1)

رجاله ثقات، وانظر: القطوف رقم (86/ 142).

ص: 288

عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: " مَا دَامَ عَلَى الأَثَرِ فَهُوَ عَلَى الطَّرِيقِ"

(1)

.

رجال السند:

يُوسُفُ بْنُ مُوسَى، هو اليشكري، أبو غسان التستري، من أفراد الدارمي، صدوق، وأَزْهَرُ، هو الباهلي، أبو بكر السمان، راوية ابن عون، ثقة، وابْنُ عَوْنٍ، وابْنُ سِيرِينَ إمامان تقدما آنفا.

الشرح: انظر السابق.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

145 -

(13) أَخْبَرَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ، حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ قَالَ:" قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ قَبْلَ أَنْ يُقْبَضَ، وَقَبْضُهُ أَنْ يَذْهَبَ أَهْلُهُ، أَلَا وَإِيَّاكُمْ وَالتَّنَطُّعَ، وَالتَّعَمُّقَ، وَالتَّبَدُّعَ، وَعَلَيْكُمْ بِالْعَتِيقِ ".

رجال السند:

أَبُو الْمُغِيرَةِ، هو عبد القدوس الحمصي، والأَوْزَاعِيُّ، هو عبد الرحمن ابن عمرو، هما إما مان ثقتان تقدما، ويَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، هو الطائي، أبو نصر اليماني، إمام ثقة ربما دلس، وأَبو قِلَابَةَ، هو عبد الله بن زيد الجرمي، إمام ثقة تقدم.

الشرح:

رجاله ثقات، وأبو قلابة عبد الله بن زيد لم يرك ابن مسعود رضي الله عنه، ولروايته

شواهد كثيرة غير خافية، وانظر: القطوف رقم (88/ 144).

(1)

سنده حسن، وانظر: القطوف رقم (87/ 143).

ص: 289

والمراد بالعتيق ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، والصحابة من بعده رضي الله عنهم.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

146 -

(14) أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، وَأَبُو النُّعْمَانِ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ قَالَ:" قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: عَلَيْكُمْ بِالْعِلْمِ قَبْلَ أَنْ يُقْبَضَ، وَقَبْضُهُ أَنْ يُذْهَبَ بِأَصْحَابِهِ، وَعَلَيْكُمْ بِالْعِلْمِ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي مَتَى يُفْتَقَرُ إِلَيْهِ - أَوْ يُفْتَقَرُ إِلَى مَا عِنْدَهُ - وَإِنَّكُمْ سَتَجِدُونَ أَقْوَاماً يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَدْعُونَكُمْ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَقَدْ نَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، فَعَلَيْكُمْ بِالْعِلْمِ وَإِيَّاكُمْ وَالتَّبَدُّعَ، وَإِيَّاكُمْ وَالتَّنَطُّعَ، وَإِيَّاكُمْ وَالتَّعَمُّقَ، وَعَلَيْكُمْ بِالْعَتِيقِ "

(1)

.

رجال السند:

سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، وَأَبُو النُّعْمَان، وحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، وأَيُّوبُ، وأَبو قِلَابَةَ، جميعهم أئمة ثقات تقدموا.

الشرح:

قوله: «قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: عَلَيْكُمْ بِالْعِلْمِ قَبْلَ أَنْ يُقْبَضَ، وَقَبْضُهُ أَنْ يُذْهَبَ بِأَصْحَابِهِ» .

ابن مسعود، هو الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

وتقدم الكلام على هذا عند الحديث 97، وما بعده فأغنى عن الإعادة. قوله:«وَعَلَيْكُمْ بِالْعِلْمِ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي مَتَى يُفْتَقَرُ إِلَيْهِ، أَوْ يُفْتَقَرُ إِلَى مَا عِنْدَهُ» .

فيه الحث على طلب العلم فإن الإنسان لا يعلم متى العلم في بعض المسائل لذات نفسه، ولا يعلم متى يحتاج الناس ما عنده من العلم فيطلبونه.

(1)

رجاله ثقات، وانظر سابقه، وانظر: القطوف رقم (89/ 145).

ص: 290

قوله: «وَإِنَّكُمْ سَتَجِدُونَ أَقْوَاماً يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَدْعُونَكُمْ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَقَدْ نَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، فَعَلَيْكُمْ بِالْعِلْمِ» .

تقدم بيان نحو هذا عند الحديث 121، فأغنى عن الإعادة.

قوله: «وَإِيَّاكُمْ وَالتَّبَدُّعَ، وَإِيَّاكُمْ وَالتَّنَطُّعَ، وَإِيَّاكُمْ وَالتَّعَمُّقَ، وَعَلَيْكُمْ بِالْعَتِيقِ» .

تقدم البيان عند الحديث 140، فأغنى عن الإعادة.

والمراد «بِالْعَتِيقِ» القديم من العلم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

147 -

(15)

(1)

أَخْبَرَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، ثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، ثَنَا يَزِيدُ بْنُ حَازِمٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ: " أَنَّ رَجُلاً يُقَالُ لَهُ صَبِيغٌ

(2)

قَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَجَعَلَ يَسْأَلُ عَنْ مُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ عُمَرُ وَقَدْ أَعَدَّ لَهُ عَرَاجِينَ النَّخْلِ، فَقَالَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ صَبِيغٌ. فَأَخَذَ عُمَرُ عُرْجُوناً مِنْ تِلْكَ الْعَرَاجِينِ فَضَرَبَهُ وَقَالَ: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ عُمَرُ.

فَجَعَلَ لَهُ ضَرْباً حَتَّى دَمِيَ رَأْسُهُ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ حَسْبُكَ قَدْ ذَهَبَ

الَّذِى كُنْتُ أَجِدُ فِي رَأْسِي "

(3)

.

رجال السند:

أَبُو النُّعْمَانِ، الفضل بن دكين، وحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، هما إمامان ثقتان تقدما، ويَزِيدُ بْنُ حَازِمٍ، هو الأزدي، أبو بكر الجهضمي، أخو جرير الجهضمي،

(1)

كتب قبالته في (ت) آخر الجزء من الأصل.

(2)

ورد ت نسبته في الحديث (150) العراقي، وهو صبيغ مكبرا ومصغرا ابن عسل، بكسر العين المهملة اليربوعي، من بني تميم. أنظر (الشريعة للآجري ص 73).

(3)

رجاله ثقات، وانظر: القطوف رقم (90/ 146).

ص: 291

من أفراد الدارمي، إمام ثقة، وسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَار، هو الهلالي من فقهاء المدينة السبة، مدني تابعي إمام ثقة.

الشرح:

قوله: «أَنَّ رَجُلاً يُقَالُ لَهُ صَبِيغٌ قَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَجَعَلَ يَسْأَلُ عَنْ مُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ عُمَرُ وَقَدْ أَعَدَّ لَهُ عَرَاجِينَ النَّخْلِ، فَقَالَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ صَبِيغٌ. فَأَخَذَ عُمَرُ عُرْجُوناً مِنْ تِلْكَ الْعَرَاجِينِ فَضَرَبَهُ وَقَالَ: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ عُمَرُ. فَجَعَلَ لَهُ ضَرْباً حَتَّى دَمِيَ رَأْسُهُ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ حَسْبُكَ قَدْ ذَهَبَ الَّذِى كُنْتُ أَجِدُ فِي رَأْسِي» .

صبيغ هو ابن عِسْل اليربوعي، من بني تميم، وسيأتي عند المصنف أن عمرو بن العاص رضي الله عنه والي عمر رضي الله عنه على مصر شكا أمر صبيغ إلى عمر رضي الله عنه وقد ذكر له أنه يسأل عن تأويل القرآن.

ولقله أثار نوعا من المتشابه لا سبيل إلى تأويل، كمعرف وقت خروج الدابة وقيام الساعة، وما شابه ذلك، وإلا لما أدبه عمر رضي الله عنه وقسا عليه، ولو كان سؤاله عن المتشابه من نحو العام والخاص، والواجب والنفل وغير ذلك، لما عاقبه عمر على ذلك، وهذا يجب عقاب من تتبع المتشابه لإثارة الشبهات، وتقدم قول أبي قلابة رحمه الله:" ما ابتدع أحد بدعة إلا استحل السيف ".

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

148 -

(16) أَخْبَرَنَا أَبُو الْوَلِيدِ الطَّيَالِسِيُّ، ثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، وَيَزِيدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: تَلَا

ص: 292

رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}

(1)

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَاحْذَرُوهُمْ»

(2)

.

رجال السند:

أَبُو الْوَلِيدِ الطَّيَالِسِيُّ، وحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، إمامان ثقتان تقدما، وَيَزِيدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، هو التستري، أبو سعيد البصري، إمام ثقة، وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، هو التيمي ولي القضاء لابن الزبير، تابعي فقيه أدرك عددا من الصحابة، إمام ثقة، والْقَاسِمُ، هو ابن محمد إمام ثقة، ثبت سماعه من عائشة، ومن القاسم عن عائشة تقدم.

الشرح:

قوله: «إِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَاحْذَرُوهُمْ» .

لأن الله عز وجل أخبر عنهم فقال: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} فبين أنهم زائغون عن الحق، لذلك حذر منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانظر ما تقدم.

(1)

الآية (7) من سورة آل عمران.

(2)

رجاله ثقات، وأخرجه البخاري حديث (4547) مسلم حديث (2665) وانظر:(اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان حديث 1705).

ص: 293

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

149 -

(17) أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، ثَنَا حَفْصٌ

(1)

، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ شَقِيقٍ قَالَ:" سُئِلَ عَبْدُ اللَّهِ عَنْ شَيْءٍ فَقَالَ: إِنِّي لأَكْرَهُ أَنْ أُحِلَّ لَكَ شَيْئاً حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، أَوْ أُحَرِّمَ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ لَكَ "

(2)

.

رجال السند:

عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، هو ابن أبي شيبة، وحَفْصٌ، هو ابن غياث والأَعْمَشُ، وشَقِيقٌ، هو ابن سلمة، الجميع أئمة ثقات تقدموا.

الشرح:

قوله: «سُئِلَ عَبْدُ اللَّهِ عَنْ شَيْءٍ فَقَالَ: إِنِّي لأَكْرَهُ أَنْ أُحِلَّ لَكَ شَيْئاً حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، أَوْ أُحَرِّمَ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ لَكَ» .

عبد الله هو ابن مسعود رضي الله عنه، كره أن يدلي برأيه في مسألة ليس لها في كتاب الله عز وجل ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يدل على تحريمها أو تحليلها، أجاب السائل بهذا.

وقد سبق مثل هذا عن إبراهيم النخعي رحمه الله، وغيره فانظر ما تقدم.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

150 -

(18) أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْفَزَارِيِّ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ:

(1)

في الأصول الخطية (فيض) عدا (ك) وهامش (ت).

(2)

رجاله ثقات، وانظر: القطوف رقم (91/ 148).

ص: 294

لأَنْ أَرُدَّهُ بِعِيِّهِ

(1)

أَحَبُّ إِلَىَّ مِنْ أَنْ أَتَكَلَّفَ لَهُ مَا لَا أَعْلَمُ

(2)

.

رجال السند:

مُحَمَّدُ بْنُ عُيَيْنَةَ، هو الفزاري، أبو عبد الله الثغري، لابأس به، وأَبو إِسْحَاق الْفَزَارِيِّ، هو إبراهيم بن محمد بن الحارث، مصنف شديد على أهل البدع، إمام ثقة، وابْنُ عَوْن، هو عبد الله، وابْنُ سِيرِينَ، إمامان ثقتان تقدما، وحُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، هو الحميري فقيه البصرة، تابعي ثقة، أثنى عليه ابن سيرين.

الشرح:

قوله: «لأَنْ أَرُدَّهُ بِعِيِّهِ

(3)

أَحَبُّ إِلَىَّ مِنْ أَنْ أَتَكَلَّفَ لَهُ مَا لَا أَعْلَمُ».

المراد أنه يرد السائل عما ليس في كتاب الله عز وجل، ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بجهله، خير من يتجشم الإجابة بما لا يعلم، وهذا من التقوى والورع. وانظر ما سبق.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

151 -

(19)

(4)

أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ عَجْلَانَ عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ صَبِيغاً الْعِرَاقِيَّ جَعَلَ يَسْأَلُ عَنْ أَشْيَاءَ

(1)

العي: الجهل، ومنه (إنما شفاء العي السؤال) انظر (النهاية 3/ 334).

(2)

فيه محمد بن عيينة الفزاري: مقبول، وانظر: القطوف رقم (92/ 149).

(3)

العي: الجهل، ومنه (إنما شفاء العي السؤال) انظر (النهاية 3/ 334).

(4)

في (ك) ختم مستدير نص ما كتب فيه (وقف هذا للخير الحاج أحمد بن نعمان الوزير الأعظم).

ص: 295

مِنَ الْقُرْآنِ فِي أَجْنَادِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى قَدِمَ مِصْرَ، فَبَعَثَ بِهِ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَلَمَّا أَتَاهُ الرَّسُولُ بِالْكِتَابِ فَقَرَأَهُ فَقَالَ: أَيْنَ الرَّجُلُ؟ قَالَ: فِي الرَّحْلِ. قَالَ عُمَرُ: أَبْصِرْ

(1)

.

أَنْ يَكُونُ ذَهَبَ فَتُصِيبَكَ مِنْه

(2)

الْعُقُوبَةُ الْمُوجِعَةُ. فَأَتَاهُ بِهِ فَقَالَ عُمَرُ: تَسْأَلُ مُحْدَثَةً. فَأَرْسَلَ عُمَرُ إِلَى رَطَائِبَ

(3)

مِنْ جَرِيدٍ فَضَرَبَهُ بِهَا حَتَّى تَرَكَ ظَهْرَهُ دَبِرَةً

(4)

، ثُمَّ تَرَكَهُ حَتَّى بَرَأَ، ثُمَّ عَادَ لَهُ ثُمَّ تَرَكَهُ حَتَّى بَرَأَ، فَدَعَا بِهِ لِيَعُودَ لَهُ، قَالَ فَقَالَ صَبِيغٌ: إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ قَتْلِي فَاقْتُلْنِي قَتْلاً جَمِيلاً، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ أَنْ تُدَاوِيَنِي فَقَدْ وَاللَّهِ بَرَأْتُ. فَأَذِنَ لَهُ إِلَى أَرْضِهِ وَكَتَبَ إِلَى أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ: أَنْ لَا يُجَالِسَهُ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى الرَّجُلِ، فَكَتَبَ أَبُو مُوسَى إِلَى عُمَرَ: أَنْ قَدْ حَسُنَتْ هَيْئَتُهُ. فَكَتَبَ عُمَرُ أَنِ ائْذَنْ لِلنَّاسِ

بِمُجَالَسَتِهِ

(5)

.

(1)

أي كن شديد البُصر به، وارقبه، على حد قوله تعالى:{أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} الكهف: من الآية 26.

(2)

في (ت) صوبت في الهامش (مني) وكلاهما يصح، منه أي: بسببه، ومني أي: بسبب إهمالك إياه.

(3)

جمع رطيبة وهي: السعفة الخضراء.

(4)

أي جرح، والدبر: الجرح الذي يكون في ظهر البعير (النهاية 2/ 97).

(5)

فيه عبد الله بن صالح كاتب الليث، المرجح أنه حسن الحديث، هذا يوافق لمنهج أهل السنة، وانظر: القطوف رقم (93/ 150).

ص: 296

رجال السند:

عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، هو كاتب الليث صدوق، واللَّيْثُ، هو ابن سعد إمام ثقة تقدم، وابْنُ عَجْلَانَ، هو محمد بن عجلان القرشي، أبو عبد الله المدني، كان يفتي في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، إمام ثقة شبهه ابن المبارك بالياقوتة بين العلماء، ونَافِعٌ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ، إمام ثقة، وعبد الله هو ابن عمر رضي الله عنهما.

الشرح:

تقدم بعض هذه القصة برقم 101، 147، وهكذا يجب أن يعامل أهل الشبهات، حتى يطيح ما برؤوسهم، فيتوبون ويكفي الناس شرهم، فأين عمر في هذا الزمان، والله المستعان.

قوله: «أَنَّ صَبِيغاً الْعِرَاقِيَّ جَعَلَ يَسْأَلُ عَنْ أَشْيَاءَ مِنَ الْقُرْآنِ فِي أَجْنَادِ الْمُسْلِمِينَ» .

صبيغ تقدم أنه ابن عِسْل التميمي، العراقي: هذا يبين أنه بدأ إثارة الشبهات بين الجند في العراق.

قوله: «حَتَّى قَدِمَ مِصْرَ، فَبَعَثَ بِهِ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ» .

المراد أنه استمر فيما أثار حتى قدم مصر، وكان واليها من قبل عمر رضي الله عنه

عمرو بن العاص رضي الله عنه وهو أبو عبد الله السهمي، كان مرفقا لخالد بن الوليد في هجرته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وفي ولايته على مصر بعث بصبيغ إلى عمر بالمدينة، وكتب عمرو بأمره.

ص: 297

قوله: «فَلَمَّا أَتَاهُ الرَّسُولُ بِالْكِتَابِ فَقَرَأَهُ فَقَالَ: أَيْنَ الرَّجُلُ؟ قَالَ: فِي الرَّحْلِ. قَالَ عُمَرُ: أَبْصِرْ أَيَكُونُ ذَهَبَ فَتُصِيبَكَ مِنْه الْعُقُوبَةُ الْمُوجِعَةُ» .

قرأ عمر الكتاب وسأل عن الرجل، وحرز عليه المرسَل عليه، وتوعده بالعقوبة إن هرب صبيغ.

قوله: «فَأَتَاهُ بِهِ فَقَالَ عُمَرُ: تَسْأَلُ مُحْدَثَةً. فَأَرْسَلَ عُمَرُ إِلَى رَطَائِبَ مِنْ جَرِيدٍ فَضَرَبَهُ بِهَا حَتَّى تَرَكَ ظَهْرَهُ دَبِرَةً» .

وجاء الحارس بصبيغ، فأنكر عليه رضي الله عنه أن يثير المحدثات، ولو ترك هذا الأمر لفسد الدين، وتفرق الناس حسب الأهواء والمحدثات، لذلك عمر رضي الله عنه شدد عقوبة صبيغ؛ لأنه ممن أحدث وسأل عن الشبهات، فضربه عمر ضربا مبرحا بجريد نخل أخضر، فضربه حتى أدمي ظهره.

قوله: «ثُمَّ تَرَكَهُ حَتَّى بَرَأَ، ثُمَّ عَادَ لَهُ ثُمَّ تَرَكَهُ حَتَّى بَرَأَ، فَدَعَا بِهِ لِيَعُودَ لَهُ، قَالَ فَقَالَ صَبِيغٌ: إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ قَتْلِي فَاقْتُلْنِي قَتْلاً جَمِيلاً، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ أَنْ تُدَاوِيَنِي فَقَدْ وَاللَّهِ بَرَأْتُ» .

المراد أن هذه هي الجرعة الأولى من العقوبة، ولكن رحمة من عمر رضي الله عنه ترك صبيغا ليبرأ جرحه، فلما برأ استدعاه للجرعة الثانية، ولكن تبين أن الجرعة الأولى كانت علاجا ناجعا، لذلك تساءل صبيغ عن مراد عمر رضي الله عنه من استدعائه مرة أخرى فإن المراد القتل فالرحمة طلب، وإن كان الدواء

فالجرعة الأولى قد أزالت البلاء، والحمد لله.

قوله: «فَأَذِنَ لَهُ إِلَى أَرْضِهِ وَكَتَبَ إِلَى أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ: أَنْ لَا يُجَالِسَهُ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ» .

ص: 298

أدن عمر رضي الله عنه أن يعود إلى أرضه العراق، وكتب إلى واليه على الكوفة أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، وهو عبد الله بن قيس الصحابي الجليل، دعا له النبي صلى الله عليه وسلم، كتب إليه عمر رضي الله عنه لينفذ الجرعة الثالثة من العقوبة، ألا يجالسه أحد من المسلمين، ليشعره بفداحة ما أقدم عليه، وليكون للناس فيه عبرة.

قوله: «فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى الرَّجُلِ، فَكَتَبَ أَبُو مُوسَى إِلَى عُمَرَ: أَنْ قَدْ حَسُنَتْ هَيْئَتُهُ. فَكَتَبَ عُمَرُ أَنِ ائْذَنْ لِلنَّاسِ بِمُجَالَسَتِهِ» .

وفي الحقيقة هذه عقوبة ليست سهلة فقد تكون أشد من ضرب الجريد، فرق له أبو موسى رضي الله عنه وكتب لعمر رضي الله عنه بصلاح أمر صبيغ، فرد عمر رضي الله عنه بأن يسمح للناس بمجالسته، هذه هي الحكمة والجزم في دفع الشبهات عن الفرد والجماعة، فنعوذ بالله من البدع ومحدثات الأمور.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

152 -

(20) أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُونُسَ، ثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ ابْنُ أَبِي خَالِدٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَامِراً يَقُولُ: " اسْتَفْتَى رَجُلٌ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ فَقَالَ: يَا أَبَا الْمُنْذِرِ مَا تَقُولُ في كَذَا وَكَذَا؟، قَالَ يَا بُنَيَّ أَكَانَ الَّذِي سَأَلْتَنِي عَنْهُ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: أَمَّا لَا فَأَجِّلْنِي حَتَّى يَكُونَ فَنُعَالِجَ أَنْفُسَنَا حَتَّى نُخْبِرَكَ "

(1)

.

رجال السند:

أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُونُسَ، هو أبو عبد الله الكوفي ثقة متقن تقدم، وزُهَيْرٌ، هو ابن معاوية، أبو خيثمة، ثقة إمام تقدم، وإِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ هو

(1)

رجاله ثقات، وهو موصول بالذي بعده، فالمبهم هنا هو مسروق.

ص: 299

البجلي أبو عبد الله، سمع من بعض الصحابة رضي الله عنهم، كان محدث الكوفة في زمانه، إمام ثقة.

الشرح:

قوله: سَمِعْتُ عَامِراً يَقُولُ: " اسْتَفْتَى رَجُلٌ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ فَقَالَ: يَا أَبَا الْمُنْذِرِ مَا تَقُولُ في كَذَا وَكَذَا؟، قَالَ يَا بُنَيَّ أَكَانَ الَّذِي سَأَلْتَنِي عَنْهُ؟ قَالَ: لَا. عامر هو الشعبي، إمام ثقة تقدم، أبي بن كعب رضي الله عنه من فضلاء الصحابة رضي الله عنهم ولعل الرجل الذي استفتى أبيا رضي الله عنه يكون مسروق بن سعيد، كما توضحه الرواية التالية، ولم يجب أبي رضي الله عنه وسأل الرجل عن كينونة ما سأل عنه، فإن كان أجاب وإلا فهو محدث يجتنب الإجابة عنه.

قوله: «قَالَ: أَمَّا لَا فَأَجِّلْنِي حَتَّى يَكُونَ فَنُعَالِجَ أَنْفُسَنَا حَتَّى نُخْبِرَكَ» . لم يجب أبي رضي الله عنه وطلب تأجيل هذا حتى يحدث فيعالج القول فيه؛ لأن القول فيما لم يحدث استعجال لا مبرر له، وهو من الترف العلمي الذي لا مائدة منه، بل فيه ضرر ضياع الوقت، وإهدار الطاقة الفكرية، وهذا خاض بما يتعلق بالدين، أما ما يتعلق بأمور الدنيا فلا حرج في الإبداع والتطوير، وهو أمر محمود، لا يمنع منه الإسلام.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

153 -

(21) أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ، أَنْبَأَ أَبُو عَوَانَةَ، فَأَخْبَرَنَا عَنْ فِرَاسٍ، عَنِ عَامِرٍ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: " كُنْتُ أَمْشِي مَعَ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فَقَالَ فَتًى: يَا

ص: 300

عَمَّاهُ كَذَا وَكَذَا. قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي كَانَ هَذَا؟، قَالَ: لَا. قَالَ: فَأَعْفِنَا حَتَّى يَكُونَ "

(1)

.

رجال السند:

يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ، هو ابن أبي زياد، أبو محمد الشيباني، صهر أبي عوانة وراويته، إمام ثقة، وأَبُو عَوَانَةَ، هو الوضاح إمام ثقة تقدم، وفِرَاسٍ، هو ابن يحيى الهمداني، أبو يحيى الخارفي، من أصحاب عامر الشعبي، إمام ثقة، عَامِرٍ، هو الشعبي، ومَسْرُوقُ بن سعيد الأجدع الوادعي، من كبار التابعين، إمام ثقة.

الشرح:

قول: «أَبُو عَوَانَةَ، فَأَخْبَرَنَا عَنْ فِرَاسٍ» .

فيه لفت نظر إلى أن أبا عوانة لم يسمع هذا الحديث من فراس، مع أن سماع أبي عوانة من فراس ثابت، وروايته في الصحيحين. وأنظر السابق.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

154 -

(22) حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، ثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ قَالَ:

" كَانَ إِبْرَاهِيمُ، إِذَا سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُجِبْ فِيهِ إِلاَّ جَوَابَ الَّذِي سُئِلَ عَنْهُ "

(2)

.

رجال السند:

عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، هو الأشج، وأَبُو أُسَامَةَ، حماد بن أسامة، والأَعْمَشِ، أئمة ثقات تقدموا.

(1)

سنده حسن، وانظر: القطوف رقم (95/ 152).

(2)

رجاله ثقات، وانظر: القطوف رقم (96/ 153).

ص: 301

الشرح:

قوله: «كَانَ إِبْرَاهِيمُ، إِذَا سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُجِبْ فِيهِ إِلاَّ جَوَابَ الَّذِي سُئِلَ عَنْهُ» .

إبراهيم هو النخعي إمام ثقة، تقدم، كان رحمه الله لا يزد في الإجابة على ما سأل عنه، يجيب على قدر السؤال، ولا يسترسل، وهذا أسلم وأحوط عن الخطأ؛ من كثر كلامه كثر سقطه.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

155 -

(23) أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مَنْصُورٍ، ثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْوَلِيدِ، عَنْ وُهَيْبٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ:" أَنَّهُ كَانَ لَا يُفْتِي في الْفَرْجِ بِشَيْءٍ فِيهِ اخْتِلَافٌ ".

رجال السند:

الْحُسَيْنُ بْنُ مَنْصُورٍ، هو ابن جعفر بن عبد الله بن رزين السلمي أبو علي النيسابوري، لابأس به، والْحُسَيْنُ بْنُ الْوَلِيدِ، هو النيسابوري، أبو عبد الله وثَّقه الدار قطني، كان من أسخى الناس وأورعهم وأتقاهم وأغزاهم، ووُهَيْبٌ، هو ابن خالد بن عجلان، إمام ثقة، يملي من حفظه تقدم، وهِشَامٌ، هو ابن حسان أبو عبد الله البصري، ثبت في ابن سيرين، إمام ثقة، ومُحَمَّدُ ابْنُ سِيرِينَ، من سادات التابعين تقدم.

الشرح:

قول: «أَنَّهُ كَانَ لَا يُفْتِي في الْفَرْجِ بِشَيْءٍ فِيهِ اخْتِلَافٌ» .

يعني مسائل الطلاق؛ لأن الاحتياط فيما أصله التحريم واجب، تعظيما لشأن الفروج والأنساب. وانظر رقم (136)، وهذا ورع من ابن سيرين رحمه

ص: 302

الله؛ لأن قضايا الطلاق، والخلع، والإيلاء متعلقة بحل الفروج وتحريمها، ومتعلقة بالأنساب، فالعالم يخشى من الزلل فيحل ما حرم الله، أو يحرم ما أحل الله عز وجل، والخبر رجاله ثقات، وهنا تصرّف صاحب فتح المنان في إنهاء باب (19) بالأثر رقم (153) المقابل عنده باب (4) أثر (158) ونقل الآثار (154 - 158) التي تليه إلى باب (5) عنده الآثار (163 - 167) المقابل باب (20) عندنا، وانظر: القطوف رقم (97/ 154).

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

156 -

(24) أَخْبَرَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، ثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، حَدَّثَنَا الصَّلْتُ ابْنُ رَاشِدٍ قَالَ:" سَأَلْتُ طَاوُساً، عَنْ مَسْأَلَةٍ فَقَالَ لِى: كَانَ هَذَا؟، قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: آللَّهِ؟، قُلْتُ: آللَّهِ. قَالَ: إِنَّ أَصْحَابَنَا أَخْبَرُونَا عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّهُ قَالَ: " أَيُّهَا النَّاسُ لَا تَعْجَلُوا بِالْبَلَاءِ قَبْلَ نُزُولِهِ فَيُذْهَبَ بِكُمْ هَا هُنَا وَهَا هُنَا، وَإِنَّكُمْ إِنْ لَمْ تَعْجَلُوا بِالْبَلَاءِ قَبْلَ نُزُولِهِ لَمْ يَنْفَكَّ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَكُونَ

فِيهِمْ مَنْ إِذَا سُئِلَ سُدَّدَ، وَإِذَا قَالَ وُفِّقَ "

(1)

.

رجال السند:

مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، هو الفراهيدي، وحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، إمامان ثقتان تقدما، والصَّلْتُ بْنُ رَاشِدٍ، من أفراد الدارمي، سكت عنه الإمامان يروي عن طاوس ومجاهد، وثقه ابن معين.

الشرح: انظر ما سبق.

(1)

رجاله ثقات، وتقدم مرفوعا. انظر رقم (118) وانظر: القطوف رقم (58/ 155).

ص: 303

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

157 -

(25) أَخْبَرَنَا بِشْرُ بْنُ الْحَكَمِ، ثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَمْرِو ابْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما:" سَأَلْتُهُ عَنْ رَجُلٍ أَدْرَكَهُ رَمَضَانَانِ، فَقَالَ: أَكَانَ أَوْ لَمْ يَكُنْ؟، قَالَ: لَمْ يَكُنْ بَعْدُ، قَالَ: اتْرُكْ بَلِيَّتَهً حَتَّى تَنْزِلَ، قَالَ: فَدَلَّسْنَا لَهُ رَجُلاً فَقَالَ: قَدْ كَانَ. فَقَالَ: يُطْعِمُ عَنِ الأَوَّلِ فِيهِمَا ثَلَاثِينَ مِسْكِيناً، لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينٌ "

(1)

.

رجال السند:

بِشْرُ بْنُ الْحَكَمِ، هو بشر بن الحكم بن حبيب بن مهران العبدي أبو عبد الرحمن النيسابوري الفقيه الزاهد، والد عبد الرحمن بن بشر بن الحكم، وابن عم محمد بن عبد الوهاب بن حبيب الفراء، إمام ثقة، وعَبْدُ الْعَزِيزِ ابْنُ مُحَمَّدٍ، هو الدراوردي، لابأس به، أخذ عليه إذا حدث من حفظه تقدم، وعَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ، هو الأودي إمام ثقة، أحد تلاميذ معاذ، وابن مسعود رضي الله عنهما، ومن شيوخ الشعبي، وسعيد بن جبير وطبقتهما، قال:" صحبت معاذاً باليمن، فما فارقته حتى واريته في التراب بالشام، ثم صحبت بعده أفقه الناس عبد الله بن مسعود فسمعته يقول: عليكم بالجماعة، فإن يد الله على الجماعة " وأَبِوه، هو ميمون بن مهران أبو أيوب الجزري، الكوفي ثقة فقيه، ولي الجزيرة لعمر بن عبد العزيز، توفي سنة سبع عشرة ومائة من الهجرة.

(1)

سنده حسن، وانظر: القطوف رقم (99/ 156).

ص: 304

الشرح:

قوله: «عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: " سَأَلْتُهُ عَنْ رَجُلٍ أَدْرَكَهُ رَمَضَانَانِ، فَقَالَ: أَكَانَ أَوْ لَمْ يَكُنْ؟، قَالَ: لَمْ يَكُنْ بَعْدُ، قَالَ: اتْرُكْ بَلِيَّتَهً حَتَّى تَنْزِلَ، قَالَ: فَدَلَّسْنَا لَهُ رَجُلاً فَقَالَ: قَدْ كَانَ. فَقَالَ: يُطْعِمُ عَنِ الأَوَّلِ فِيهِمَا ثَلَاثِينَ مِسْكِيناً، لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينٌ» .

عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، متبع للصحابة قبله في عدم الإجابة عما لم يكن، ولكن الناس يلجؤون إلى الحيل، إذ دسوا عليه من يزعم أن ما سألوا عنه كان، فأجابهم رضي الله عنه على ما أظهروا، ولعل هذا كان منهم حرصا على سماع رأيه رضي الله عنه فيما زعموا أنه وقع.

قوله: «فَقَالَ: يُطْعِمُ عَنِ الأَوَّلِ فِيهِمَا ثَلَاثِينَ مِسْكِيناً، لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينٌ» . هذا لا يحمل إلا على أن الذي لم يصم رمضان الأول حتى دخل رمضان الذي بعده، أنه كان مريضا في رمضان الأول ولم يقدر على الصيام البتة، فهذا حاله ينطبق عليه وقول ابن عباس هذا.

أما من لم يصم رمضان لسفر أو مرض يرجى برؤه، فإن عليه القضاء قال الله عز وجل:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}

(1)

، ولا يجوز له الإطعام.

وأما لم يصم رمضان عامدا وهو مؤمن بفرضه وإنما تركه أشرا وبطرا تعمد ذلك ثم تاب عنه ونقل كافة من العلماء أن عليه القضاء؛ لأن الله عز وجل أوجب

(1)

من الآية (185) من سورة البقرة.

ص: 305

على المسافر والمريض في رمضان القضاء وهما معذوران، فإذا أوجب الله القضاء على المعذور فغيره من باب أولى.

ومنهم من قال: من لم يصم رمضان عمداً بغير عذر حتى خرج وقته مع علمه بوجوبه لا ينفعه قضاؤه ولا يقبل منه ولو صام الدهر؛ لأن العبادات المؤقتة بوقت محدود بداية ونهاية لا يصح أن تقع إلا في وقتها المحدود.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

158 -

(26) أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِمْرَانَ، ثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا الْعُمَرِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ جُرَيْجٍ قَالَ:" كُنْتُ أَجْلِسُ بِمَكَّةَ إِلَى ابْنِ عُمَرَ يَوْماً وَإِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ يَوْماً، فَمَا يَقُولُ ابْنُ عُمَرَ فِيمَا سُئِلَ لَا عِلْمَ لِي أَكْثَرُ مِمَّا يُفْتِي بِهِ "

(1)

.

رجال السند:

عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِمْرَانَ، هو أبو محمد الأصبهاني، ثقة تقدم، وإِسْحَاقُ بْنُ

سُلَيْمَانَ، هو الرازي ثقة، الْعُمَرِيُّ، عاصم بن محمد بن زيد بن عبد الله ابن عمر بن الخطاب العمري المدني، ثقة، وعُبَيْدُ ابْنُ جُرَيْجٍ، هو مولى بني تيم، وقيل: التميمي المدني، يعد في التابعين، عزيز الحديث، وثقه العجلي.

الشرح:

قزله: فَمَا يَقُولُ ابْنُ عُمَرَ فِيمَا سُئِلَ لَا عِلْمَ لِي أَكْثَرُ مِمَّا يُفْتِي بِهِ».

(1)

فيه عبد الله العمري: ضعيف، ولم يسمع من عبيد، بل بينهما سعيد المقبري، وانظر: القطوف رقم (100/ 157).

ص: 306

تقدم كثيرا عن بعض الصحابة رضي الله عنهم، وبعض التابعين رحمهم الله أنهم لا يكثرون القول، صيانة للدين، وبعدا عن الزلل، وانظر ما سبق.

قال الدارمي رحمه الله تعالى: 159 - (27) أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ:

قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: " تَعَلَّمُوا فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي مَتَى يُخْتَل

(1)

إِلَيْهِ "

(2)

.

رجال السند:

مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُف، هو الفريابي، وسُفْيَانُ، هو ابن عيينة، والأَعْمَشُ، هو سليمان، وأَبو وَائِلٍ، هو شقيق، جميعهم أئمة ثقات تقدموا.

الشرح:

قوله: «قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: " تَعَلَّمُوا فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي مَتَى يُخْتَل إِلَيْهِ» .

قوله: " يُخْتَل" في (ف) وفي (و) يختلف، وفي بقية الأصول الخطية (يختل) وهي متقاربة المعني، فيها معنى الذهاب خفية. انظر الفائق 1/ 354 والنهاية 2/ 9) فأبقيت على ما في الأصل.

وعبد الله هو ابن مسعود رضي الله عنه، وهذه وصية بطلب العلم لحاجت الطالب أولا، ثم إنه قد يحتاج الناس إلى علمه، فيترددون عليه لطلب ما عنده من العلم.

(1)

في (ف) وفي (و) يختلف، وفي بقية الأصول الخطية (يختل) وهي متقاربة المعني، فيها معنى الذهاب خفية. انظر الفائق 1/ 354 والنهاية 2/ 9) فأبقيت على ما في الأصل.

(2)

رجاله ثقات، وقد سقط من (ت) واستدرك في الهامش، وانظر: القطوف رقم (101/ 158).

ص: 307

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

20 -

‌ بابٌ الْفتْيَا وَمَا فِيهِ مِنَ الشّدَّة

160 -

(1) أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي

(1)

جَعْفَرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَجْرَؤُكُمْ عَلَى الْفُتْيَا أَجْرَؤُكُمْ عَلَى النَّارِ»

(2)

.

رجال السند:

إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، هو الرازي، أبو إسحاق التميمي، كبير في العلم والجلالة، إمام ثقة، وابْنُ الْمُبَارَكِ، هو عبد الله بن المبارك بن واضح المروزي، شيخ الإسلام، تناقل فضائله العلماء، إمام فقيه ثقة، وسَعِيدُ ابْنُ أَبِي أَيُّوبَ، هو الخزاعي أبو يحيى المصري، إمام ثقة، وعُبَيْدُ اللَّهِ ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، هو الأموي فقيه محدث جليل، أبو بكر إمام ثقة.

الشرح:

هذا مرسل تفرد به الدارمي، وعبيد الله هذا من صغار التابعين، ولم يذكر الواسطة بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعناه صحيح، فإن من يتساهل في الفتوى قد يوقعه ذلك في القول على الله عز وجل بغير علم، وهذا طريق إلى النار والعياذ بالله من ذلك.

قال الدارمي رحمه الله تعالى: 161 - (2) أَخْبَرَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ، ثنا الأَوْزَاعِيُّ، عَنْ عَبْدَةَ بْنِ أَبِى لُبابةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: " مَنْ أَحْدَثَ

(1)

كتبت لحقا في هامش (ت).

(2)

رجاله ثقات، وهو مرسل عبيد الله من صغار التابعين، وانظر: القطوف رقم (102/ 158).

ص: 308

رَأْياً لَيْسَ في كِتَابِ اللَّهِ، وَلَمْ يَمْضِ بِهِ سُنَّةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لَمْ يَدْرِ عَلَى مَا هُوَ مِنْهُ إِذَا لَقِيَ اللَّهَ عز وجل "

(1)

.

رجال السند:

أَبُو الْمُغِيرَةِ، هو عبد القدوس بن الحجاج، والأَوْزَاعِيُّ، هو عبد الرحمن ابن عمرو، هما إمامان ثقتان تقدما، وعَبْدَةُ بْنُ أَبِى لُبابةَ، هو الأسدي، أبو القاسم تابعي فقيه، ثقة إمام.

الشرح:

قوله: «مَنْ أَحْدَثَ رَأْياً لَيْسَ في كِتَابِ اللَّهِ، وَلَمْ يَمْضِ بِهِ سُنَّةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لَمْ يَدْرِ عَلَى مَا هُوَ مِنْهُ إِذَا لَقِيَ اللَّهَ عز وجل» .

هذا كلام نفيس مستنده قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما

ليس فيه، فهو رد»

(2)

، والمراد أنه عمل فاسد مردود على صاحبه غير مقبول، ومن لا يقبل عمله مصيره النار؛ لأنه أحدث أمرا ليس عليه حكم الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم:«من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد»

(3)

، صريحة في رد كل محدثة أيا كان فاعلها.

ما يستفاد:

* هذان الحديثان من أعظم قواعد الدين.

* وجوب محاربة البدع والمحدثات.

* أن كل قول لا يتفق مع الكتاب والسنة فهو باطل مردود.

(1)

رجاله ثقات، وانظر: القطوف رقم (103/ 160).

(2)

البخاري حديث (2697).

(3)

البخاري ما بعد حديث (2141) ومسلم حديث (1718).

ص: 309

* أن كل عمل لا يتفق مع الكتاب والسنة فهو فاسد مردود.

* أن من خالف الكتاب والسنة بارتكاب البدع والمحدثات مصيره النار.

* دعوة أهل البدع إلى التوبة وعدم تجاوز ما شرع الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم.

* وجوب إشاعة السنة وإبطال البدع.

* أن ما يقوم به العلماء والفقها من تفريع المسائل، واستنباطها من الكتاب والسنة ليس من المحدثات.

* جواز الاجتهاد من ذي القدرة العلمية فيما لا نص فيه، وليس هو من المحدثات.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

162 -

(3) أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ، ثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِى أَيُّوبَ، حَدَّثَنِى

بَكْرُ بْنُ عُمَرَ الْمُعَافِرِيُّ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَنْ أُفْتِيَ بِفُتْيَا مِنْ غَيْرِ ثَبْتٍ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى مَنْ أَفْتَاهُ»

(1)

.

رجال السند:

عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ، هو المقرئ ثقة تقدم، وسَعِيدُ بْنُ أَبِى أَيُّوبَ، هوالخزاعي إمام ثقة تقدم، وبَكْرُ بْنُ عُمَرَ الْمُعَافِرِيُّ، هو إمام جامع الفسطاط بمصر، إمام ثقة، وأَبِو عُثْمَانَ مُسْلِمُ بْنُ يَسَارٍ، هو الطنبذي، رضع مع الخليفة عبد الملك بن مروان، قليل الحديث، من رجال مسلم، يعتبر به.

الشرح:

(1)

فيه مسلم بن يسار الطنبذي: مقبول، وانظر: القطوف رقم (104/ 161).

ص: 310

قوله: «عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ أُفْتِيَ بِفُتْيَا مِنْ غَيْرِ ثَبْتٍ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى مَنْ أَفْتَاهُ» .

أبو هريرة رضي الله عنه، هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي الزهراني، أعلى المكثرين من الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قدم مع من قدم من قومه في السنة السابعة من الهجرة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في خيبر، فلحقو به هناك، وقسم لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، من غنائم خيبر ولم يدركوا قتالا معه.

قوله: «مَنْ أُفْتِيَ بِفُتْيَا مِنْ غَيْرِ ثَبْتٍ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى مَنْ أَفْتَاهُ» .

لأنه أضل من أفتى بجهله، فعليه وزر من أفتى، إذ قاده إلى عمل غير صحيح.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

163 -

(4) أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ، ثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِي سِنَانٍ،

عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: " مَنْ أَفْتَي بِفُتْيَا يُعَمَّى عَنْهَا فَإِثْمُهَا عَلَيْهِ

(1)

.

رجال السند:

مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ، هو ابن أبي خلف ثقة تقدم، وسُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، ثقة إمام تقدم، وأَبِو سِنَانٍ، هو ضرار بن مرة الكوفي، روى عن التابعين، ثقة إمام، وسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، هو شهيد الحجاج.

الشرح: انظر السابق.

(1)

رجاله ثقات، وانظر: القطوف رقم (105/ 152).

ص: 311

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

164 -

(5)

(1)

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّلْتِ، ثَنَا زُهَيْرٌ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ بُرْقَانَ، ثَنَا مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ قَالَ: " كَانَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه إِذَا وَرَدَ عَلَيْهِ الْخَصْمُ نَظَرَ في كِتَابِ اللَّهِ، فَإِنْ وَجَدَ فِيهِ مَا يَقْضِي بَيْنَهُمْ قَضَى بِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ في الْكِتَابِ، وَعَلِمَ مِنْ

(2)

رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في ذَلِكَ الأَمْرِ

(3)

سُنَّةً قَضَى بِهِ، فَإِنْ أَعْيَاهُ خَرَجَ فَسَأَلَ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ: أَتَانِي كَذَا وَكَذَا، فَهَلْ عَلِمْتُمْ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى في ذَلِكَ بِقَضَاءٍ؟ فَرُبَّمَا اجْتَمَعَ إِلَيْهِ النَّفَرُ كُلُّهُمْ يَذْكُرُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيهِ قَضَاءً، فَيَقُولُ أَبُو بَكْر رِضْوَانْ الله عَلَيْهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى جَعَلَ فِينَا مَنْ يَحْفَظُ عَنْ

(4)

نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم، فَإِنْ أَعْيَاهُ أَنْ يَجِدَ فِيهِ سُنَّةً مِنَ النبي صلى الله عليه وسلم جَمَعَ رُءُوسَ النَّاسِ وَخِيَارَهُمْ فَاسْتَشَارَهُمْ، فَإِنْ أَجْمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى أَمْرٍ قَضَى بِهِ "

(5)

.

رجال السند:

مُحَمَّدُ بْنُ الصَّلْتِ، هو ابن الحجاج أبو جعفر الكوفي، لقبه الأصم، إمام ثقة من رجال البخاري، وزُهَيْرٌ، هو ابن معاوية إمام ثقة تقدم، وجَعْفَرُ ابْنُ بُرْقَانَ، هو أبو عبد الله الجزري الرقي، إمام ثقة في غير الزهري، ومَيْمُونُ ابْنُ مِهْرَانَ، هو الجزري ثقة فقيه تقدم.

(1)

كتب قبالته في (ك: انظر الصفحة التي قبل هذه) وهويريد التنبيه إلى شأن الأحاديث الأربعة (انظر التعليق على حديث 154).

(2)

كتبت لحقا في (ك).

(3)

كتبت لحقا في هامش (ت).

(4)

في (ت) علي، بالياء.

(5)

رجاله ثقات، وانظر: القطوف رقم (106/ 163).

ص: 312

الشرح:

هذا هو المنهج الرصين، والصراط المستقيم، أن يبدأ بالنظر في حكم المسألة بكتاب الله عز وجل المصدر الأول للتشريع، ثم السنة النبوية المصدر الثاني، ثم سؤال من عنده علم فقد يكون عند غيره من علم الكتاب والسنة ما ليس عنده، ثم اجهاد وجوه العلماء والفقهاء لبحث ما لم يدل عليه كتاب ولاسنة، فما أجمعوا عليه فهو المصدر الثالث من التشريع، وما لم يجمع عليه، فالقياس مصيره، بالنظر في الأشباه والنظائر واستنتاج الحكم المناسب، صلى الله على نبينا محمد وآله، ورضي الله عن أبي بكر والصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

165 -

(6) أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، وَعَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ

ابْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي سُهَيْلٍ قَالَ: " كَانَ عَلَى امْرَأَتِي اعْتِكَافُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ في الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَسَأَلْتُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَعِنْدَهُ ابْنُ شِهَابٍ قَالَ: قُلْتُ: عَلَيْهَا صِيَامٌ، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: لَا يَكُونُ اعْتِكَافٌ إِلاَّ بِصِيَامٍ

(1)

، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: أَعَنِ النبي صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَعَنْ أَبِي بَكْرٍ رِضْوَانَ الله عَلَيْهِ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَعَنْ عُثْمَانَ رضي الله عنه؟ قَالَ: لَا، قَالَ عُمَرُ رحمه الله: مَا أَرَى عَلَيْهَا صِيَاماً، فَخَرَجْتُ فَوَجَدْتُ طَاوُساً، وَعَطَاءَ بْنَ أَبِي رَبَاحٍ فَسَأَلْتُهُمَا، فَقَالَ طَاوُسٌ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي

(1)

هذا رأي الزهري، والراجح ما ذهب إليه عمر بن عبد العزيز، وإن جمع بينهما فمن باب الاستحباب لا الوجوب.

ص: 313

الله عنهما لَا يَرَى عَلَيْهَا صِيَاماً إِلاَّ أَنْ تَجْعَلَهُ عَلَى نَفْسِهَا، قَالَ: وَقَالَ عَطَاءٌ: ذَلِكَ رَأْيِي"

(1)

.

رجال السند:

إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، هو أبو إسحاق التميمي إمام ثقة تقدم، وَعَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ، هو الكلابي أبو محمد النيسابوري، إمام مجاب الدعوة ثقة، وعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ، هو الدراوردي، إمام ثقة تقدم، وأَبِو سُهَيْلٍ، هو مالك ابن نافع الأصبحي، عم الإمام مالك، إمام ثقة.

الشرح:

قول: «كَانَ عَلَى امْرَأَتِي اعْتِكَافُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ في الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَسَأَلْتُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَعِنْدَهُ ابْنُ شِهَابٍ قَالَ: قُلْتُ: عَلَيْهَا صِيَامٌ، قَالَ ابْنُ

شِهَابٍ: لَا يَكُونُ اعْتِكَافٌ إِلاَّ بِصِيَامٍ».

هذا رأي الزهري رحمه الله، والصحيح أن الاعتكاف جائز بغير صيام، إلا أن يطوع المعتكف فيصوم من غير وجوب، قال: طاوس رحمه الله: " كان ابن عباس لا يرى على المعتكف صياما إلا أن يجعله على نفسه "، وقال عطاء رحمه الله:" وذلك رأيي فكان من حجتنا عليه - يعني الزهري- أن ابن عباس قد روينا عنه في هذا خلاف ذلك مما يحدثه عنه عطاء، ثم وجدنا عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: " الاعتكاف لا يكون إلا بصيام"، والصحيح عدم وجوب الصوم مع الاعتكاف يؤيد هذا ما يلي:

(1)

رجاله ثقات، وانظر: القطوف رقم (107/ 164).

ص: 314

قوله: «فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: أَعَنِ النبي صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَعَنْ أَبِي بَكْرٍ رِضْوَانَ الله عَلَيْهِ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَعَنْ عُثْمَانَ رضي الله عنه؟ قَالَ: لَا، قَالَ» .

هذا القول من عمر بن عبد العزيز رحمه فيه اتباع للمنهج الصحيح الذي تقدم ذكره عن أبي بكر، فسأل عمر رحمه الله الزهري رحمه الله عن مستنده فيما قال، أهو عن رسوا الله صلى الله عليه وسلم فقال الزهري: لا، ثم سأله أهو قول عن عمر رضي الله عنه الله عنه، فيؤخذ به؛ لأنه الخليفة الراشد المهدي، عملا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:«فإنه من يعش منكم يرى اختلافا كثيرا، وإياكم ومحدثات الأمور فإنها ضلالة فمن أدرك ذلك منكم فعليه بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ»

(1)

، وكذلك أبو بكر وعثمان رضي الله عنهما.

قوله: «قَالَ عُمَرُ رحمه الله: مَا أَرَى عَلَيْهَا صِيَاماً» .

هذا هو الصحيح مادامت المسألة ليس فيها شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن الخلفاء الراشدين فمن أين هذا للزهري رحمه الله، ومن أين هو لابن عباس رضي الله عنهما، في رواية عنه، إذن المسألة اجتهادية، تبقى على البراءة الأصلية إلا من اعتكف وتطوع بصوم فلا حرج.

قوله: «فَخَرَجْتُ فَوَجَدْتُ طَاوُساً، وَعَطَاءَ بْنَ أَبِي رَبَاحٍ فَسَأَلْتُهُمَا، فَقَالَ طَاوُسٌ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما لَا يَرَى عَلَيْهَا صِيَاماً إِلاَّ أَنْ تَجْعَلَهُ عَلَى نَفْسِهَا، قَالَ: وَقَالَ عَطَاءٌ: ذَلِكَ رَأْيِي» .

(1)

الترمذي حديث (2676).

ص: 315

هذا قول أبي سهيل ليستدل به على الصحيح، وللرد على الزهري رحمه الله فيما ذكر.

ما يستفاد:

* عدم جواز الاجتهاد مع النص، ولذلك سأل عمر بن عبد العزيز رحمه الله عن ذلك.

* جواز الاجتهاد فيما لا نص فيه، ولذلك اجتهد الزهري رأيه، وخالفه طاوس وعطاء رحمهما الله برواية عن ابن عباس رضي الله عنهما.

* الصحيح عدم ربط الاعتكاف بالصيام، وأنه يجوز بدونه.

* جواز التطوع بالصيام مع الاعتكاف.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

166 -

(7) حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، ثنَا أَبُو عَقِيلٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ الْجُرَيْرِيُّ، عَنْ أَبِى نَضْرَةَ قَالَ:" لَمَّا قَدِمَ أَبُو سَلَمَةَ الْبَصْرَةَ أَتَيْتُهُ أَنَا وَالْحَسَنُ، فَقَالَ لِلْحَسَنِ: أَنْتَ الْحَسَنُ؟، مَا كَانَ أَحَدٌ بِالْبَصْرَةِ أَحَبَّ إِلَيَّ لِقَاءً مِنْكَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّكَ تُفْتِي بِرَأْيِكَ، فَلَا تُفْتِ بِرَأْيِكَ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ سُنَّةٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ كِتَابٌ مُنَزَّلٌ "

(1)

.

رجال السند:

مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، هو الفراهيدي، إمام ثقة تقدم، أَبُو عَقِيلٍ، هو بشير ابن عقبة الناجي، إمام ثقة من رجال الصحيحين، وسَعِيدٌ الْجُرَيْرِيُّ، هو ابن

(1)

رجاله ثقات، وانظر: القطوف رقم (108/ 165).

ص: 316

إياس محدث البصرة، إمام ثقة، تغير قبل موته، وأَبِو نَضْرَةَ، هو المنذر ابن مالك البصري، تابعي ثقة، ولا حجة لمن ضعفه.

الشرح:

قوله: «لَمَّا قَدِمَ أَبُو سَلَمَةَ الْبَصْرَةَ أَتَيْتُهُ أَنَا وَالْحَسَنُ، فَقَالَ لِلْحَسَنِ: أَنْتَ الْحَسَنُ؟، مَا كَانَ أَحَدٌ بِالْبَصْرَةِ أَحَبَّ إِلَيَّ لِقَاءً مِنْكَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّكَ تُفْتِي بِرَأْيِكَ، فَلَا تُفْتِ بِرَأْيِكَ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ سُنَّةٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ كِتَابٌ مُنَزَّلٌ» .

القائل أبو نضرة، وأبو سلمة، هو ابن عبد الرحمن بن عوف الصحابي، وهو إمام ثقة تقدم، هو البصري من سادات التابعين رحمه الله، قال له أبو سلمة، لكونه من الفقهاء المقصودين من الناس، مع أن الحسن رحمه الله صاحب سنة والتزام، فوجهه إلى الاعتماد على الكتاب والسنة في الفتيا، ومعلوم أنه لا محيد عنهما لصاحب سنة كالحسن، ولكن إذا لم يكن في المسألة كتاب ولا سنة، فباب الاجتهاد مفتوح لمن تأهل كالحسن وأضرابه

من التابعين رحمهم الله عز وجل، وانظر السابق.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

167 -

(8) أَخْبَرَنَا عِصْمَةُ بْنُ الْفَضْلِ، ثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُباب، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عُقْبَةَ، حَدَّثَنَا الضَّحَّاكُ، عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ: " أَنَّ ابْنَ عُمَرَ لَقِيَهُ فِي الطَّوَافِ

ص: 317

فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا الشَّعْثَاءِ إِنَّكَ مِنْ فُقَهَاءِ الْبَصْرَةِ فَلَا تُفْتِ إِلاَّ بِقُرْآنٍ نَاطِقٍ أَوْ سُنَّةٍ مَاضِيَةٍ، فَإِنَّكَ إِنْ فَعَلْتَ غَيْرَ ذَلِكَ هَلَكْتَ وَأَهْلَكْتَ "

(1)

.

رجال السند:

عِصْمَةُ بْنُ الْفَضْلِ، هو النميري، أبو الفضل النيسابوري، لا يروي إلا عن ثقة، وهو إمام ثقة، وزَيْدُ بْنُ الْحُباب، هو العكلي الكوفي، وثقه العجلي وابن حبان وقال مرة: يخطئ ويعتبر بحديثه تقدم، ويَزِيدُ بْنُ عُقْبَةَ، هو أبو محمد العتكي، من أفراد الدارمي، سكت عنه الإمامان، وثقة ابن حبان، فلابأس به، والضَّحَّاكُ، هو الضبي، من أفراد الدارمي، سكت عنه البخاري، وجهّله أبو حاتم، وجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، هو الأزدي اليحمدي الزهراني، أبو الشعثاء مفتي البصرة، من تلاميذ ابن عباس الكبار، أثني عليه ابن عباس رضي الله عنهما فقال:" لو نزل أهل البصرة عند قول جابر بن زيد لأوسعهم عما في كتاب الله علما".

الشرح:

قوله: «أَنَّ ابْنَ عُمَرَ لَقِيَهُ فِي الطَّوَافِ فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا الشَّعْثَاءِ إِنَّكَ مِنْ فُقَهَاءِ

الْبَصْرَةِ فَلَا تُفْتِ إِلاَّ بِقُرْآنٍ نَاطِقٍ أَوْ سُنَّةٍ مَاضِيَةٍ، فَإِنَّكَ إِنْ فَعَلْتَ غَيْرَ ذَلِكَ هَلَكْتَ وَأَهْلَكْتَ».

ابن عمر، هو الصحابي الجليل عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، أسدى نصيحة لجابر بن زيد أبي الشعثاء ألا يفتي إلا معتمدا على

(1)

فيه يزيد بن عقبة الموزي: سكت عنه البخاري وأبو حاتم (التاريخ 8/ 44، والجرح والتعديل 9/ 283) وذكره ابن حبان في (الثقات 7/ 626) وانظر: القطوف رقم (109/ 166).

ص: 318

الدليل من الكتاب أو السنة، ونها عن الرأي، خوفا من الزلل وهذا غاية في الورع مع جواز الاجتهاد فيما لا نص فيه، فإن أصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر الاجتهاد، وخطأه مغفور، والاحتياط أولى، وانظر ما تقدم.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

168 -

(9) أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ حُرَيْثِ بْنِ ظُهَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ:" أَتَى عَلَيْنَا زَمَانٌ لَسْنَا نَقْضِي وَلَسْنَا هُنَالِكَ، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ قَدَّرَ مِنَ الأَمْرِ أَنْ قَدْ بَلَغْنَا مَا تَرَوْنَ، فَمَنْ عَرَضَ لَهُ قَضَاءٌ بَعْدَ الْيَوْمِ فَلْيَقْضِ فِيهِ بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ عز وجل، فَإِنْ جَاءَهُ مَا لَيْسَ في كِتَابِ اللَّهِ فَلْيَقْضِ بِمَا قَضَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنْ جَاءَهُ مَا لَيْسَ في كِتَابِ اللَّهِ وَلَمْ يَقْضِ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلْيَقْضِ بِمَا قَضَى بِهِ الصَّالِحُونَ، وَلَا يَقُلْ: إِنِّي أَخَافُ وَإِنِّي أُرَى، فَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ وَالْحَلَالَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَ ذَلِكَ أُمُورٌ مُشْتَبِهَةٌ، فَدَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ "

(1)

.

رجال السند:

مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُف، هو الفريابي، وسُفْيَانُ، هو ابن عيينة، والأَعْمَشُ، أئمة ثقات تقدموا، وعُمَارَةُ بْنُ عُمَيْرٍ، هو التيمي من صغار التابعين، ثقة، أخرج له الستة، وحُرَيْثُ بْنُ ظُهَيْرٍ، هو كوفي تابعي، تفرد عمارة بالرواية عنه، تابعه عبد الرحمن بن يزيد عند الدارمي حديث 173 الآتي، وعبد الله ابن مسعود رضي الله عنه.

(1)

فيه حريث: تابعي مجهول، وقد جاء عند المصنف من طريقين، رجال كل منهما ثقات، انظر رقم (172، 173).

ص: 319

الشرح:

قوله: «أَتَى عَلَيْنَا زَمَانٌ لَسْنَا نَقْضِي وَلَسْنَا هُنَالِكَ، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ قَدَّرَ مِنَ الأَمْرِ أَنْ قَدْ بَلَغْنَا مَا تَرَوْنَ» .

المراد أنه في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن أحد من الصحابة رضي الله عنهم يفتي غيره صلى الله عليه وسلم لارتباط ذلك بالوحي، فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم احتاج الناس الفتيا فكانت مقصورة على الكتاب والسنة، وبحذر شديد من القول بالرأي، فلما كثر الناس وجدت أمور طلب فيها القول بما يتمشى من الشرع.

قوله: «فَمَنْ عَرَضَ لَهُ قَضَاءٌ بَعْدَ الْيَوْمِ فَلْيَقْضِ فِيهِ بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ عز وجل، فَإِنْ جَاءَهُ مَا لَيْسَ في كِتَابِ اللَّهِ فَلْيَقْضِ بِمَا قَضَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنْ جَاءَهُ مَا لَيْسَ في كِتَابِ اللَّهِ وَلَمْ يَقْضِ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلْيَقْضِ بِمَا قَضَى بِهِ الصَّالِحُونَ، وَلَا يَقُلْ: إِنِّي أَخَافُ وَإِنِّي أُرَى، فَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ وَالْحَلَالَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَ ذَلِكَ أُمُورٌ مُشْتَبِهَةٌ، فَدَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ» .

قال هذا ابن مسعود رضي الله عنه، وهو المنهج الذي تقدم ذكره عن أبي بكر رضي الله عنه، على الترتيب الكتاب أولا، ثم السنة ثانيا، ثم ما رأى الصالحون وهو الإجماع، ثم حث على عدم التهيب مما كان في أول الأمر من التحذير من القول بالرأي، ففتح باب الاجتهاد، والنظر في المسائل، من ذوي العلم والتقوى، ثم اقتبس من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم " أن الحلال بين والحرام بين" لا يلتبس على الفهم العاقل، " وبينهما مشتبهات" قد تلتبس على الناظر، فإذا حصل الشك:" فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك" المراد أترك ما تشك فيه واعمل بما لا تشك فيه، والحمد لله على اليسر، تقدم برقم 163 - (5)، وانظر ما سبق.

ص: 320

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

169 -

(10) أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، ثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ ابْنِ أَبِي يَزِيدَ قَالَ:" كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِذَا سُئِلَ عَنِ الأَمْرِ فَكَانَ فِي الْقُرْآنِ أَخْبَرَ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْقُرْآنِ وَكَانَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَ بِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَعَنْ أَبِى بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَالَ فِيهِ بِرَأْيِهِ "

(1)

.

رجال السند:

عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، هو ابن أبي شيبة، وابْنُ عُيَيْنَةَ، هو سفيان، هما إمامان ثقتان تقدما، وعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي يَزِيدَ، هو مكي تابعي ثقة، خرج حديثه أصحاب الستة.

الشرح:

قوله: «كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِذَا سُئِلَ عَنِ الأَمْرِ فَكَانَ فِي الْقُرْآنِ أَخْبَرَ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْقُرْآنِ وَكَانَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَ بِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَعَنْ أَبِى

بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَالَ فِيهِ بِرَأْيِهِ».

ابن عباس، هو عبد الله رضي الله عنهما، وتقدم البيان أكثر من مرة أن هذا هو المنهج الصحيح، وعليه أهل السنة قاطبة، وانظر ما تقدم.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

170 -

(11) أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَلِىِّ بْنِ مُسْهِرٍ، عَنْ أَبِى إِسْحَاقَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ شُرَيْحٍ: " أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَتَبَ إِلَيْهِ: إِنْ جَاءَكَ شَيْءٌ في كِتَابِ اللَّهِ فَاقْضِ بِهِ وَلَا تَلْتَفِتْكَ عَنْهُ الرِّجَالُ، فَإِنْ جَاءَكَ مَا

(1)

رحاله ثقات، وانظر: القطوف رقم (110/ 168).

ص: 321

لَيْسَ في كِتَابِ اللَّهِ فَانْظُرْ سُنَّةً عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاقْضِ بِهَا، فَإِنْ جَاءَكَ مَا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ سُنَّةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم فَانْظُرْ مَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ فَخُذْ بِهِ، فَإِنْ جَاءَكَ مَا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَمْ يَكُنْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَتَكَلَّمْ فِيهِ أَحَدٌ قَبْلَكَ فَاخْتَرْ أَيَّ الأَمْرَيْنِ شِئْتَ: إِنْ شِئْتَ أَنْ تَجْتَهِدَ رَأْيَكَ ثُمَّ تَقَدَّمَ فَتَقَدَّمْ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَأَخَّرَ فَتَأَخَّرْ، وَلَا أَرَى التَّأَخُّرَ إِلاَّ خَيْراً لَكَ "

(1)

.

رجال السند:

مُحَمَّدُ بْنُ عُيَيْنَةَ، هو أخو سفيان لابأس به، وعَلِىُّ بْنُ مُسْهِرٍ، ثقة تقدما، وأَبِو إِسْحَاق، هو سليمان بن أبي سليمان، من صغار التابعين، من أصحاب الشعبي، إمام ثقة، والشَّعْبِيُّ، هو عامر، إمام ثقة تقدم، وشُرَيْحٌ، هو ابن الحارث بن قيس القاضي مفتي الكوفة، أبو مية قاضي عمر رضي الله عنه،

أقام على قضاء الكوفة ستين سنة، إمام ثقة.

الشرح:

قوله: «أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَتَبَ إِلَيْهِ: إِنْ جَاءَكَ شَيْءٌ في كِتَابِ اللَّهِ فَاقْضِ بِهِ وَلَا تَلْتَفِتْكَ عَنْهُ الرِّجَالُ، فَإِنْ جَاءَكَ مَا لَيْسَ في كِتَابِ اللَّهِ فَانْظُرْ سُنَّةً عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاقْضِ بِهَا، فَإِنْ جَاءَكَ مَا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ سُنَّةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم فَانْظُرْ مَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ فَخُذْ بِهِ، فَإِنْ جَاءَكَ مَا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَمْ يَكُنْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَتَكَلَّمْ فِيهِ أَحَدٌ قَبْلَكَ فَاخْتَرْ

(1)

في سنده محمد بن عيينة المصيصي: لابأس به، وانظر: القطوف رقم (111/ 169).

ص: 322

أَيَّ الأَمْرَيْنِ شِئْتَ: إِنْ شِئْتَ أَنْ تَجْتَهِدَ رَأْيَكَ ثُمَّ تَقَدَّمَ فَتَقَدَّمْ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَأَخَّرَ فَتَأَخَّرْ، وَلَا أَرَى التَّأَخُّرَ إِلاَّ خَيْراً لَكَ».

تقدم برقم 164، أن هذا هو المنهج الذي سار عليه أبو بكر رضي الله عنه، ومن بعده من الصحابة رضي الله عنهم، والتابعين رحمهم الله، فانظر ما سبق.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

171 -

(12) حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ، ثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ

(1)

، ابْنِ أَخِي الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، عَنْ نَاسٍ مِنْ أَهْلِ حِمْصَ مِنْ أَصْحَابِ مُعَاذٍ عَنْ مُعَاذٍ: " أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ قَالَ: «أَرَأَيْتَ إِنْ عَرَضَ لَكَ قَضَاءٌ كَيْفَ تَقْضِي؟» قَالَ: أَقْضِي بِكِتَابِ اللَّهِ. قَالَ: «فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟» قَالَ: فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ: «فَإِنْ لَمْ يَكُنْ في سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ؟» قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي لَا آلُو

(2)

، قَالَ: فَضَرَبَ صَدْرَهُ ثُمَّ قَالَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يُرْضِى رَسُولَ اللَّهِ»

(3)

.

رجال السند:

يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ، هو أبو محمد الشيباني، صهر أبي عوانة وراويته، إمام ثقة، وشُعْبَةُ، هو ابن الحجاج، إمام ثقة، ومُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ،

(1)

هكذا في جميع النسخ والصواب الحارث بن عمرو، كما في الرواية التالية.

(2)

أي لا أقصر في اجتهادي.

(3)

فيه مجهولون، أخرجه الترمذي حديث (1327) وقال: هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وليس إسناده عندي بمتصل. وأخرجه وأبو داود حديث (3592) وأحمد بسند ضعيف حديث (22060).

ص: 323

هو أبو عون الكوفي، ثقة، روايته في الستة عدا ابن ماجه، والْحَارِثُ ابْنُ عَمْرِو بْنِ أَخِي الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، هو الحارث وليس عمرو حصل قلب في اسمه، صححته الرواية التالية، والحارث لا يعرف بغير هذا الحديث، تفرد به عنه محمد بن عبيد الله، فهو مجهول.

الشرح:

قوله: «عَنْ نَاسٍ مِنْ أَهْلِ حِمْصَ مِنْ أَصْحَابِ مُعَاذٍ عَنْ مُعَاذٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ عَرَضَ لَكَ قَضَاءٌ كَيْفَ تَقْضِي؟، قَالَ: أَقْضِي بِكِتَابِ اللَّهِ. قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟، قَالَ: فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ في سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ؟، قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي لَا آلُو» .

هذه الرواية فيها مجاهيل، لكن ما تقدم يفيد بأنه المنهج الصحيح في مصادر الاستدلال، حسب ما ذكر عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، وهو منهج أبي بكر الصديق ومن بعده رضي الله عنهم، وانظر ما تقدم.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

172 -

(13) أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ، ثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ عُمَارَةَ ابْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ حُرَيْثِ بْنِ ظُهَيْرٍ قَالَ أَحْسَبُهُ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ قَالَ: " قَدْ أَتَى عَلَيْنَا زَمَانٌ وَمَا نُسْأَلُ وَمَا نَحْنُ هُنَاكَ

(1)

، وَإِنَّ اللَّهَ قَدَّرَ أَنْ بَلَغْتُ مَا تَرَوْنَ، فَإِذَا سُئِلْتُمْ عَنْ شَيْءٍ فَانْظُرُوا فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَفِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنْ لَمْ تَجِدُوهُ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ فَاجْتَهِدْ رَأْيَكَ، وَلَا تَقُلْ:

(1)

أي من كثرة العلم، يفسرها قوله بعد: أن بلغت ما ترون.

ص: 324

إِنِّي أَخَافُ وَأَخْشَى، فَإِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ وَالْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَ ذَلِكَ أُمُورٌ مُشْتَبِهَةٌ، فَدَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ "

(1)

.

رجال السند:

يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ، وشُعْبَةُ، وسُلَيْمَانُ، هو الأعمش، وعُمَارَةُ بْنُ عُمَيْرٍ، هم أئمة ثقات تقدموا، وحُرَيْثُ بْنُ ظُهَيْر، تابعي، تفرد عمارة بالرواية عنه تقدم.

الشرح: تقدم برقم 168، فأغنى عن الإعادة.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

173 -

(14) حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ، عَنْ أَبِى عَوَانَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ

عُمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ نَحْوَهُ

(2)

.

رجال السند:

يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ، وأَبو عَوَانَةَ، وسُلَيْمَانَ، وعُمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ، ثقات تقدموا، وعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ، هو ابن قيس النخعي، أبو بكر الكوفي، من أصحاب ابن مسعود رضي الله عنه، إمام ثقة، تابع حريث بن ظهير في روايته السابقة، وعَبْدُ اللَّهِ، هو ابن مسعود رضي الله عنه.

قال الدارمي رحمه الله تعالى: 174 - (15) أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، ثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ

(1)

تقدم برقم (167).

(2)

رجاله ثقات، وانظر سابقه.

ص: 325

بِنَحْوِهِ

(1)

.

رجال السند:

عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، هو ابن أبي شيبة، وجَرِيرٌ، هو ابن عبد الحميد، والأَعْمَشِ، هو سليمان، هم أئمة ثقات تقدموا، والْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، هو ابن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أبو عبد الرحمن قاضي الكوفة، تابعي روى عن بعض الصحابة رضي الله عنهم، إمام ثقة، روى له الستة غير مسلم، أَبِوهِ، هو عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، ثقة غير مكثر، تابع حريثا وعبد الرحمن ابن يزيد فيما تقدم عنهما، وعَبْدُ اللَّهِ، هو ابن مسعود رضي الله عنه.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

175 -

(16) حَدَّثَنَا هُارُونُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، عَنْ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ

قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: " أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ سَتُحْدِثُونَ وَيُحْدَثُ لَكُمْ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ مُحْدَثَةً فَعَلَيْكُمْ بِالأَمْرِ الأَوَّلِ" قَالَ حَفْصٌ: كُنْتُ أُسْنِدُ عَنْ حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، ثُمَّ دَخَلَنِي فِيهِ

(2)

شَكٌّ

(3)

.

رجال السند:

هُارُونُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، هو الأشعري، صدوق، وحَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، إمام ثقة، والأَعْمَشُ إمام ثقة تقدموا.

(1)

في (ك) كتب هذا السند لحقا في الهامش، وفيه عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود سمع من أبيه شيئا.

(2)

هكذا في الأصول الخطية، عدا (ت) منه، وصوبت في المتن (ك) في الهامش.

(3)

رجاله ثقات، وفيه انقطاع، بين الأعمش، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وانظر: القطوف رقم (112/ 174).

ص: 326

الشرح:

قوله: «قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: " أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ سَتُحْدِثُونَ وَيُحْدَثُ لَكُمْ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ مُحْدَثَةً فَعَلَيْكُمْ بِالأَمْرِ الأَوَّلِ" قَالَ حَفْصٌ: كُنْتُ أُسْنِدُ عَنْ حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، ثُمَّ دَخَلَنِي فِيهِ شَكٌّ» .

عبد الله هو ابن مسعود رضي الله عنه، أخبر بأن الناس سيحدثون أمورا في حياتهم الدينية، مما ليس له حكم في كتاب الله عز وجل، ولا في السنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا من أقوال الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، فيحدث لهم العلماء بالاجتهاد أحكاما. قوله:«قَالَ حَفْصٌ: كُنْتُ أُسْنِدُ عَنْ حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، ثُمَّ دَخَلَنِي فِيهِ شَكٌّ» .

حبيب هو ابن أبي ثلبت، أبو يحيى الكوفي، تابعي، إمام ثقة، وقول حفص هذا وهو ابن غياث توضحه رواية ابن أبي شيبة قال: حدثتا حفص، عن الأعمش، عن حبيب، عن أبي عبد الرحمن، قال: قال عبد الله: " إذا رأيتم المحدث فعليكم بالأمر الأول "

(1)

، والمراد بالأمر الأول ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، والصحابة من بعده رضي الله عنهم، وانظر ما تقدم عن ابن مسعود رضي الله عنه برقم 146.

قال الدارمي رحمه الله تعالى: 176 - (15) أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّلْتِ قَالَ: ثنا ابْنُ الْمُبَارَكِ: عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ

(2)

قَالَ: قَالَ عُمَرُ لأبْي

(3)

مَسْعُودٍ:

(1)

المصنف حديث (36024).

(2)

كتب لحقا في (ت).

(3)

في (ك، ف، و) لابن، وخطأ صوابه المثبت من (الأصل) و (ت) وهو أبو مسعود البدري رضي الله عنه وقد نبه عليه أبو عاصم أيضا.

ص: 327

أَلَمْ أُنْبَأْ

(1)

- أَوْ أُنْبِئْتُ

(2)

- أَنَّكَ تُفْتِي وَلَسْتَ بِأَمِيرٍ؟، وَلِّ حَارَّهَا مَنْ تَوَلَّى قَارَّهَا

(3)

.

[أي احمل ثقلك على من انتفع بك]

(4)

.

رجال السند:

مُحَمَّدُ بْنُ الصَّلْتِ، هو الأصم، إمام ثقة، وابْنُ الْمُبَارَكِ، هو عبدالله شيخ الإسلام إمام ثقة، ابْنِ عَوْنٍ، هو عبدالله إمام ثقة، مُحَمَّدٍ، هو ابن سيرين، من سادات التابعين تقدموا.

الشرح:

قوله: «قَالَ عُمَرُ لأبْي مَسْعُودٍ: أَلَمْ أُنْبَأْ - أَوْ أُنْبِئْتُ - أَنَّكَ تُفْتِي وَلَسْتَ بِأَمِيرٍ؟» .

(1)

هذا النص: في (ك) كتب في الهامش (في الأصل أنبئنا).

(2)

في (ك) كتب في الهامش (في الأصل أنبئنا).

(3)

رجاله ثقات، وفيه انقطاع بين ابن سيرين وعمر رضي الله عنه، وأخرجه مسلم من طريق الحسن حديث (1706) وأبو داود حديث (4480)، وانظر: القطوف رقم (113/ 175).

(4)

هكذا في الأصول الخطية، وحذفها صاحب فتح المنان من المتن، ونبه بقوله: وقع في نسخة (ل) و (ك) تفسير لمعنى قول عمر، فجاء فيها (أي: احمل. الخ) وما أظنه من قول المصنف، فإنه عادة ما يعقب الحديث بقوله: قال أبو محمد، أو قال عبد الله، لذلك لم أثبته عقب الحديث. (فتح المنان 2/ 188 تنبيه) ولم أر هذا مناسبا فالاعتماد على ما في الأصول أولى مع التنبيه في الهامش.

ص: 328

اسمه: عقبة بن عمرو بن ثعلبة بن أسيرة بن عسيرة الأنصاري البدري رضي الله عنه، ولم يشهد وقعة بدر على الصحيح، وإنما نزل ماء ببدر، فشهر بذلك، وكان ممن شهد بيعة العقبة، وكان شابا من أقران جابر في السن، سكن الكوفة، ولذلك حصل الاشتباه في خطاب عمر رضي الله عنه، له بابن مسعود رضي الله عنه، لورود كلمة" مسعود" فالبدري أبو مسعود، وعبد الله بن مسعود، هذا من وجه، ومن وجه آخر أنهما في الكوفة، ولكن أبا مسعود رضي الله عنه ليس له عمل في الكوفة من جهة عمر رضي الله عنه، وابن مسعود وولي بيت المال بالكوفة لعمر وعثمان رضي الله عنهما، ونقب بيت المال بالكوفة وعلى بيت المال ابن مسعود رضي الله عنه، وولي القضاء بالكوفة، وثبت بأنها لعمر وصدراً من خلافة عثمان، ثم صار في المدينة فمات بها ودفن بالبقيع رضي الله عنه، فهذا يرجح أن المنهي عن الفتوى هو أبو مسعود البدري، وليس ابن مسعود رضي الله

عنهما؛ لأن ابن مسعود ممكن من الفتوى لولايته القضاء.

قوله: «وَلِّ حَارَّهَا مَنْ تَوَلَّى قَارَّهَا» .

المراد اجعل شدة الفتيا وخطورتها على من تولى شدة بردها، فالعبار فيها تحذير للطرفين من تولي شدة حرها المكنى به عن شرها، ومن تولى شدة بردها لمن تولاها بأمر وتكليف على ما فيها من الخطورة والعناء، وكان ابن عمر رضي الله عنهما إذا سئل عن شيء فقال: لا أدري، ثم قال: أتريدون أن تجعلوا ظهورنا جسورا لكم في نار جهنم أن تقولوا أفتانا ابن عمر بهذا!

(1)

.

(1)

المعرفة والتاريخ (1/ 493.

ص: 329

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

21 -

‌ بابٌ منه

177 -

(1) أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ:" إِنَّ الَّذِي يُفْتِي النَّاسَ فِي كُلِّ مَا يُسْتَفْتَى فِيهِ لَمَجْنُونٌ "

(1)

.

رجال السند:

مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُف، هو الفريابي، وسُفْيَانُ، هو ابن عيينة، والأَعْمَشُ، هو سليمان، وأَبو وَائِلٍ، هو شقيق، جميعهم أئمة ثقات تقدموا، وابْنِ مَسْعُودٍ، هو عبد الله رضي الله عنه.

الشرح: انظر ما تقدم في التحذير من الفتيا.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

178 -

(2) أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ عَامِرٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ:" إِنَّمَا يُفْتِي النَّاسَ ثَلَاثَةٌ: رَجُلٌ إِمَامٌ أَوْ وَالِي، أَوْ رَجُلٌ يَعْلَمُ نَاسِخَ الْقُرْآنِ مِنَ الْمَنْسُوخِ - قَالُوا: يَا حُذَيفَةُ وَمَنْ ذَاكَ؟ قَالَ: عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - أَوْ أَحْمَقُ مُتَكَلِّفٌ"

(2)

.

رجال السند:

سَعِيدُ بْنُ عَامِرٍ، هو الضبعي، وهِشَامٌ، هو ابن حسان، ومُحَمَّدٌ، هو ابن سيرين، جميهم أئمة ثقات تقدموا، وحُذَيْفَةُ، هو ابن اليمان رضي الله عنه.

(1)

رجاله ثقات، وانظر: القطوف رقم (114/ 176).

(2)

رجاله ثقات، وانظر: القطوف رقم (116/ 177).

ص: 330

الشرح:

قوله: «إِنَّمَا يُفْتِي النَّاسَ ثَلَاثَةٌ: رَجُلٌ إِمَامٌ أَوْ وَالِي، أَوْ رَجُلٌ يَعْلَمُ نَاسِخَ الْقُرْآنِ مِنَ الْمَنْسُوخِ - قَالُوا: يَا حُذَيفَةُ وَمَنْ ذَاكَ؟ قَالَ: عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - أَوْ أَحْمَقُ مُتَكَلِّفٌ» .

جعل حذيفة بن اليمان رضي الله عنه المفتين ثلاثة أقسام، فمنهم من يفتي الناس بعلم وتقوى يتدرج وفق المنهج الصحيح بدأ بكتاب الله عز وجل، ثم السنة النبوية، ثم سؤال العلماء المعتبرين، فقد يكون عندهم من العلم ما ليس عنده، ثم الاجماع، ثم قياس الأشباه والنظائر، ومثل حذيفة رضي الله عنه للرجل الإمام الوالي بعمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال سعيد بن المسيب رحمه الله:" ما أعلم أحدا من الناس كان أعلم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من عمربن الخطاب "، وهذه شهادة حق تنطبق على عمر رضي الله عنه بعد وفاة أبي بكر، وقد كان أبو بكر رضي الله عنه أعلم، وقال عمرو بن ميمون رحمه الله:" ذهب عمر بثلثي العلم"، وسيأتي عند الدارمي رقم 361 قول إبراهيم النخعي رحمه الله:" ذهب عمر بتسعة أعشار العلم ".

والثاني: رجل عالم بالناسخ والمنسوخ من القرآن، وكذلك بالمحكم والمتشابه.

والثالث: جاهل لا يدري ما يقول، يفتي بغير علم.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

179 -

(3) أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ حُذَيْفَةَ قَالَ: قَالَ حُذَيْفَةُ رضي الله عنه: " إِنَّمَا يُفْتِى النَّاسَ أَحَدُ ثَلَاثَةٍ: رَجُلٌ عَلِمَ نَاسِخَ الْقُرْآنِ مِنْ مَنْسُوخِهِ، قَالُوا: وَمَنْ ذَاكَ؟

ص: 331

قَالَ: عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رِضْوَانُ الله عَلَيْهِ قَالَ: وَأَمِيرٌ لَا يَجِدُ بُدًّا أَوْ أَحْمَقُ مُتَكَلِّفٌ"

(1)

.

ثُمَّ قَالَ مُحَمَّدٌ: فَلَسْتُ بِوَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ، وَأَرْجُو أَنْ لَا أَكُونَ الثَّالِثَ.

رجال السند:

عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، هو الأشج، وأَبُو أُسَامَةَ، هو حماد بن أسامة، وهِشَامِ ابْنِ حَسَّانَ هو الأزدي القردوسي، أَبُو عَبد الله البَصْرِيّ، والقراديس ولد قردوس بن الحارث بن مالك بن فهم بن غنم بن دوس بن عدثان بن عَبدالله ابن زهران بْن عَبد اللَّهِ بْن مالك بن نصر بن الأزد بن الغوث، ومُحَمَّدٍ، هو ابن سيرين، هم أئمة ثقات تقدموا، وأَبو عُبَيْدَةَ بْنِ حُذَيْفَةَ، هو ابن اليمان تابعي كوفي ثقة.

الشرح: أنظر السابق.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

180 -

(4) أخبرنا محمد بن الصلت، ثنا ابن المبارك، عن ابن عون، عن محمد قال: قال عمر لأبي مسعود: " ألم أنبأ، أو أنبئت، أنك تفتي ولست بأمير؟، ولّ حارّها من تولى قارّها "

(2)

، وهذا الحديث سندا ومتنا

(1)

فيه أبو عبيدة بن حذيفة: مقبول، وقال العجلي: تابعي ثقة. (تاريخ الثقات ص 504 رقم 1992) وانظر: القطوف رقم (116/ 178).

(2)

تقدم برقم (175) ولعل سبب ذلك من الناسخ إذ ظن أنه مكرر خطأ، وفي نظري ليس الأمر كذلك، فهو إما لأنه ورد فيه مرة (قال عمر لأبي مسعود) وهو البدري، وأخرى (قال عمر لابن مسعود) فجاء في الأصول الخطية المذكورة مكررا لهذا. إما لأنه ورد في بابين الأول: باب الفتيا والشدة فيه. والثاني: باب. وذكر فيه ما يتعلق بالفتيا من وجه آخر.

واعتمادا على الأصول الخطية المذكورة رأيت إثباته مع التنبيه أولى من حذفه.

ص: 332

كتب في حاشية (ك) وعلق عليه (هذا الحديث تقدم في الباب الذي قبله، وكان في حاشية الأصل).

رجال السند: تقدموا سندا ومتنا برقم 176.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

181 -

(5) أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ مُسْلِمٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: مَنْ عَلِمَ مِنْكُمْ عِلْماً فَلْيَقُلْ بِهِ، وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ، فَلْيَقُلْ لِمَا لَا يَعْلَمُ: اللَّهُ أَعْلَمُ، فَإِنَّ الْعَالِمَ إِذَا سُئِلَ عَمَّا لَا يَعْلَمُ، قَالَ: اللَّهُ أَعْلَمُ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ سبحانه وتعالى لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ}

(1)

رجال السند:

جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، هو المخزومي، والأَعْمَشُ، هو سليمان، هما إمامان ثقتان تقدما، ومُسْلِمٌ، هو ابن صُبيح، أبو الضحى م صغار التابعين، إمام ثقة، روايته في الستة، ومَسْرُوقٌ، ابن الأجدع، إمام ثقة تقدم.

الشرح:

أنظر ما تقدم برقم 109، وما بعده فقد أغنى عن الإعادة.

(1)

الآية (86) من سورة ص.

ص: 333

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

182 -

(6) أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، ثَنَا حُمَيْدٌ، عَنْ أَبِى رَجَاءٍ، عَنْ أَبِي الْمُهَلَّبِ، أَنَّ أَبَا مُوسَى رضي الله عنه قَالَ في خُطْبَتِهِ:" مَنْ عَلِمَ عِلْماً فَلْيُعَلِّمْهُ النَّاسَ، وَإِيَّاهُ أَنْ يَقُولَ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ فَيَمْرُقَ مِنَ الدِّينِ، وَيَكُونَ مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ "

(1)

.

رجال السند:

يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، هو أبو خالد، ثقة إمام قدوة، وحُمَيْدٌ، هو ابن أبي حميد الطويل البصري، أبو عبيدة سمع من كبار التابعين، أدرك أنسا ولم يرو عنه إلا من طريق ثابت البناني، ثقة روايته في الستة، وأَبو رَجَاءٍ، هو سليما مولى أبي قلابة، ثقة، روى حديث العرنيين في الصحيحين، وأَبو الْمُهَلَّبِ، هو الجرمي عم أبي قلابة، ثقة، وأَبو مُوسَى، هو عبد الله بن قيس الأشعري رضي الله عنه.

الشرح:

قوله: «مَنْ عَلِمَ عِلْماً فَلْيُعَلِّمْهُ النَّاسَ، وَإِيَّاهُ أَنْ يَقُولَ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ فَيَمْرُقَ مِنَ الدِّينِ، وَيَكُونَ مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ» .

هذه نصيحة أبي موسى رضي الله عنه، في وجوب بث العلم للناس، والتحذير من القول بغير علم فإنه كذب على الله عز وجل، وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو طريق الهلاك، لخرج فاعله من الدين إلى الضلال المبين، لتكلفه القول بالباطل، وانظر ما تقدم برقم 113 ففيه إغناء عن التطويل.

(1)

سنده حسن، ولم أقف عليه عند غير المصنف.

ص: 334

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

183 -

(7) أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَطَاءِ ابْنِ السَّائِبِ، عَنْ أَبِى الْبَخْتَرِيِّ، وَزَاذَانَ قَالَا: قَالَ عَلِيٌّ رِضْوَانُ الله عَلَيِهِ: " وَا بَرْدَهَا عَلَى الْكَبِدِ إِذَا سُئِلْتُ عَمَّا لَا أَعْلَمُ أَنْ أَقُولَ: اللَّهُ أَعْلَمُ "

(1)

.

رجال السند:

عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ، هو الواسطي، وخَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، هو المزني، إمامان ثقتان تقدما، وعَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ، صدوق اختلط تقدم، وأَبو الْبَخْتَرِيُّ، هو سعيد بن فيروز الطائي، تابعي فقيه، أثني عليه حبيب بن أبي ثابت، إمام ثقة، وَزَاذَانُ، وهو البزاز أبو عمر ثقة قليل الحديث، كان من شيع علي رضي الله عنه، وعَلِيٌّ، هو ابن أبي طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، رابع الخلفاء الراشدين رضي الله عنه.

الشرح:

قوله: «وَا بَرْدَهَا عَلَى الْكَبِدِ إِذَا سُئِلْتُ عَمَّا لَا أَعْلَمُ أَنْ أَقُولَ: اللَّهُ أَعْلَمُ» . لما فيها من التواضع، والحرص على السلامة من القول على الله عز وجل، ورسوله صلى الله عليه وسلم بغير علم، والبعد عن إضلال السائل.

قال الدارمي رحمه الله تعالى: 184 - (8) أَخْبَرَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، ثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، وأَبو الْبَخْتَرِىِّ، عَنْ عَلِيٍّ كَرَمَ الله وَجْهَهُ قَالَ:" يَا بَرْدَهَا عَلَى الْكَبِدِ أَنْ تَقُولَ: لِمَا لَا تَعْلَمُ، اللَّهُ أَعْلَمُ "

(2)

.

(1)

رجاله ثقات، وفيه انقطاع بين أبي البختري سعيد بن فيروز وعلي رضي الله عنه، فحديثه عنه مرسل. انظر تهذيب الكمال 11/ 33) وانظر: القطوف رقم (118/ 182).

(2)

رزين لم أقف عليه، وفيه انقطاع، انظر سابقه.

ص: 335

رجال السند:

أَبُو نُعَيْمٍ، هو الفضل بن دكين، إمام ثقة تقدم، وشَرِيكٌ، هو ابن عبد الله النخعي، صدوق كثير الغلط بعد التغير، وعَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ، صدوق اختلط تقدم آنفا، وأَبو الْبَخْتَرِىِّ، تقدم آنفا إمام ثقة.

الشرح: انظر السابق.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

185 -

(9) أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، ثَنَا عُمَيْرُ بْنُ عَرْفَجَةَ، ثَنَا رَزِينٌ

أَبُو النُّعْمَانِ

(1)

، عَنْ عَلِىِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قَالَ:" إِذَا سُئِلْتُمْ عَمَّا لَا تَعْلَمُونَ فَاهْرَبُوا، قَالُوا: كَيْفَ الْهَرَبُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: تَقُولُونَ: اللَّهُ أَعْلَمُ "

(2)

.

رجال السند:

مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُف، هو الفريابي، إمام ثقة، وعُمَيْرُ بْنُ عَرْفَجَةَ، هو أبو عرفجة الفائشي الهمداني، من أفراد الدارمي، بثلاث روايات، سكت عنه الإمامان ووثقه ابن حبان فلابأس، ورَزِينُ أَبُو النُّعْمَانِ، لم أقف على ترجمته، ولعل الصواب أبو رزين، هو المعروف بالرواية عن علي رضي الله عنه.

الشرح:

لا ريب أن قول الرجل الله أعلم هروب من القول على الله ورسوله بغير علم.

(1)

هكذا في الأصول الخطية، ولم يتسر الوقوف على ترجمته، وفي الجرح والتعديل 9/ 371 أبو رزين روى عن على رضي الله عنه.

(2)

فيه من لم أعرف، والقول حسن وفيه حكمة، وانظر: القطوف رقم (120/ 184).

ص: 336

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

186 -

(10) أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ، ثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُسْلِمٍ الْبَطِينِ، عَنْ عَزْرَةَ التَّمِيمِيِّ قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ كَرَمَ اللهُ وَجْهَهُ: " وَا بَرْدَهَا عَلَى الْكَبِدِ. ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، قَالُوا: وَمَا ذَلِكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: أَنْ يُسْأَلَ الرَّجُلُ عَمَّا لَا يَعْلَمُ فَيَقُولُ: اللَّهُ أَعْلَمُ "

(1)

.

رجال السند:

مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ، هو الرازي وثقه ابن معين، وتكلم فيه آخرون تقدم، وجَرِيرٌ، هو ابن عبد الحميد، إمام ثقة تقدم، ومَنْصُورٍ، هو ابن المعتمر، إمام ثقة، أحد رجال أصح الأسانيد، ومُسْلِمُ الْبَطِينِ، هو ابن عمران أبو عبد الله الكوفي، إمام ثقة، روى له الستة، وعَزْرَةُ التَّمِيمِيِّ، هو ابن عبد الرحمن بن زرارة الخزاعي، الأعور، كوفي ثقة روى له مسلم، و عَلِيٌّ، هو ابن أبي طالب رضي الله عنه.

الشرح: أنظر ما تقدم برقم 183، 184.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

187 -

(11) أَخْبَرَنَا فَرْوَةُ بْنُ أَبِي الْمَغْرَاءِ، أَنْبَأَ عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ هِشَامِ ابْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: " أَنَّ رَجُلاً سَأَلَهُ عَنْ

(1)

فيه عزرة التميمي: قال الإمام مسلم: عزرة التميمي، عن علي لم يرو عنه إلا مسلم البطين (المنفردات والوحدان 1011) وانظر: القطوف رقم (121/ 185).

ص: 337

مَسْأَلَةٍ، فَقَالَ: لَا عِلْمَ لِي بِهَا، فَلَمَّا أَدْبَرَ الرَّجُلُ قَالَ (الرجل)

(1)

: نِعْمَ مَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ، سُئِلَ عَمَّا لَا يَعْلَمُ فَقَالَ: لَا عِلْمَ لِي بِهِ "

(2)

.

رجال السند:

فَرْوَةُ بْنُ أَبِي الْمَغْرَاءِ، هو صدوق، من شيوخ البخاري في الصحيح تقدم، وعَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، ثقة له غرائب بعد أن أضر تقدم، وهِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، هو ابن الزبير إمام ثقة تقدم، وأَبوه، عروة بن الزبير إمام ثقة تقدم.

الشرح:

قول لا أعلم أو لا أدري ونحوه فيما لا غلم به، هي حلية العالم، وانظر ما تقدم.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

188 -

(12) حَدَّثَنَا يَحْيَي بْنُ حَمَّادٍ، ثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ:" لَا أَدْرِي نِصْفُ الْعِلْمِ "

(3)

.

رجال السند:

يَحْيَي بْنُ حَمَّادٍ، هو صهر أبي عوانة وراويته، إمام ثقة تقدم، وأَبُو عَوَانَةَ، هو الوضاح إمام ثقة تقدم، ومُغِيرَةُ، هو ابن مقسم الكوفي، أبو هشام الضبي، من صغار التابعين، لم يروي عن أحد من الصحابة إمام ثقة دلس عن إبراهيم النخعي، والشَّعْبِيِّ، هو عامر إمام ثقة تقدم.

(1)

في (ت) ابن عمر، وهو خطأ.

(2)

سنده حسن، وانظر: القطوف رقم (122/ 186).

(3)

رجاله ثقات وانظر: القطوف رقم (123/ 187).

ص: 338

الشرح:

المراد أن العالم إذا سئل عن مسألة لا علم له بها، فلا يخجل أن يقول للسئل: لا أدري، ولا يقدح في علمه وفضله قول: لا أدري، لأنه خير من القول بغير علم.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

189 -

(13) أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ الْعُمَرِيُّ، عَنْ نَافِعٍ:" أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إِلَى ابْنِ عُمَرَ يَسْأَلُهُ عَنْ شَيْءٍ فَقَالَ: لَا عِلْمَ لِى. ثُمَّ الْتَفَتَ بَعْدَ أَنْ قَفي الرَّجُلُ فَقَالَ: نِعْمَ مَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ، سُئِلُ عَمَّا لَا يَعْلَمُ فَقَالَ: لَا عِلْمَ لِي. يَعْنِي ابْنُ عُمَرَ نَفْسَهُ "

(1)

.

رجال السند:

عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، هو القعنبي، أبو عبد الرحمن المدني، إمام ثقة قدوة،

لقب شيخ الإسلام، راوية الموطأ، وعَبْدُ اللَّهِ الْعُمَرِيُّ، هو عبد الله بن عمر ابن حفص بن عاصم، اختلف قول ابن معين فيه، فقال: ليس به بأس، وقال: ضعيف، تقبل روايته في مثل هذا، ونَافِعٍ مولى ابن عمر ثقة.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

190 -

(14) أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ، ثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مُغِيرَةَ قَالَ:" كَانَ عَامِرٌ إِذَا سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ يَقُولُ لَا أَدْرِي، فَإِنْ رَدُّوا عَلَيْهِ قَالَ: إِنْ حَلَفْتُ لَكَ بِاللَّهِ إِنْ كَانَ لِي بِهِ عِلْمٌ ".

(1)

فيه العمري: ضعيف، ويقويه ما قبله وانظر: القطوف رقم (124/ 188)

ص: 339

رجال السند:

مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ، هو الرازي وثقه ابن معين، وتكلم فيه آخرون تقدم، وجَرِيرٌ، هو ابن عبد الحميد، إمام ثقة تقدم، ومُغِيرَة، هو ابن النعمان النخعي ثقة، و عَامِرٌ، هو الشعبي إمام ثقة تقدم.

الشرح:

قد يكون في قول عامر الشعبي أراد به التعمية على السائل، والرغبة في عدم إجابته، وهو بهذا القول يؤكد علمه بما سئل عنه، فقوله:" إِنْ كَانَ لِي بِهِ عِلْمٌ " أراد أنه كان لي به علم، فلم يفقه السائل ما أراد عامر الشعبي، وأخذ بالظاهر، ويعارض هذا أن الحلف على نية المحلوف له، وليس على نية الحالف، والسياق يؤيد أن هذا على الحقيقة وهو فيما لا يعلم، والله أعلم.

والخبر في سنده محمد بن حميد الرازي: قال ابن حجر: حافظ ضعيف، وكان ابن معين حسن الرأي فيه، وانظر: القطوف رقم (125/ 189).

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

191 -

(15) أَخْبَرَنَا هَارُونُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، عَنْ حَفْصٍ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ:" مَا أُبَالِي سُئِلْتَ عَمَّا أَعْلَمُ أَوْ مَا لَا أَعْلَمُ، لأَنِّي إِذَا سُئِلْتُ عَمَّا أَعْلَمُ قُلْتُ: مَا أَعْلَمُ، وَإِذَا سُئِلْتُ عَمَّا لَا أَعْلَمُ قُلْتُ: لَا أَعْلَمُ "

(1)

.

(1)

سنده حسن، ولم أقف عليه عند غير المصنف.

ص: 340

رجال السند:

هَارُونُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، هو الأشعري صدوق تقدم، وحَفْصٌ، هو ابن غياث إمام ثقة، وأَشْعَثُ، هو الحمراني إمام ثقة، وهو راوية ابن سيرين، وابْنُ سِيرِينَ، هو محمد من سادات التابعين.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

192 -

(16) أَخْبَرَنَا هَارُونُ، عَنْ حَفْصٍ، عَنِ الأَعْمَشِ قَالَ:" مَا سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ يَقُولُ قَطُّ: حَلَالٌ وَلَا حَرَامٌ، إِنَّمَا كَانَ يَقُولُ: كَانُوا يَكْرَهُونَ وَكَانُوا يَسْتَحِبُّونَ "

(1)

.

رجال السند:

هَارُونُ، وحَفْصٍ، تقما آنفا، والأَعْمَشُ، إمام ثقة، وإبراهيمُ، هو النخعي إمام ثقة.

الشرح:

تعبير إبراهيم هذا فيه حيطة، وسلامة من الزلل، عملا بقوله عز وجل:{وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} الآية (116) من سورة النحل، وحاشاه رحمه الله من هذا ولكنه الورع، وطلب النجاة.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

(1)

سنده حسن، وانظر: القطوف رقم (126/ 191).

(2)

في (ت) تغيير.

ص: 341

22 -

‌ بابٌ تَغَيُّرِ

(2)

الزَّمَانِ وَمَا يَحْدُثُ فِيهِ

193 -

(1) أَخْبَرَنَا يَعْلَى، ثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ شَقِيقٍ قَالَ:" قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا لَبِسَتْكُمْ فِتْنَةٌ يَهْرَمُ فِيهَا الْكَبِيرُ، وَيَرْبُو فِيهَا الصَّغِيرُ، وَيَتَّخِذُهَا النَّاسُ سُنَّةً، فَإِذَا غُيِّرَتْ، قَالُوا: غُيِّرَتِ السُّنَّةُ؟ قَالُوا: وَمَتَى ذَلِكَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟، قَالَ: إِذَا كَثُرَتْ قُرَّاؤُكُمْ، وَقَلَّتْ فُقَهَاؤُكُمْ، وَكَثُرَتْ أُمَرَاؤُكُمْ، وَقَلَّتْ أُمَنَاؤُكُمْ، وَالْتُمِسَتِ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الآخِرَةِ "

(1)

.

رجال السند:

يَعْلَى، الطنافسي، والأَعْمَشُ، وشَقِيقٌ، راوية ابن مسعود، أئمة ثقات تقدموا.

الشرح:

قوله: «قَالَ عَبْدُ اللَّهِ» .

عبد الله هو ابن مسعود رضي الله عنه، وليس هذا مما يقال بالرأي؛ لأنه بما لم يحدث بعد، فلا بد أن يكون مبنيا على ما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم من أخبار الفتن، لذلك قال:«كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا لَبِسَتْكُمْ فِتْنَةٌ يَهْرَمُ فِيهَا الْكَبِيرُ، وَيَرْبُو فِيهَا الصَّغِيرُ، وَيَتَّخِذُهَا النَّاسُ سُنَّةً، فَإِذَا غُيِّرَتْ، قَالُوا: غُيِّرَتِ السُّنَّةُ؟» وقد وقع ما أخبر به رضي الله عنه ومرت عليه أزمان شاهد الناس ما أخبر به عيانا، ولزماننا هذا نصيب الأسد مما أخبر به رضي الله عنه، وما هذه الناشئة المتطرفة التي استباحت حتى قتل الآباء والأمهات، وسفكت الدماء، واستحلت الأعراض، إلا برهان على ما أخبر به رضي الله عنه، وانتشار البدع حتى أصبح من ينكرها ويدعو للسنة يرمى بعظائم الأمور، وعدم حب الأولياء وتقديس القبور، وينبز بألقاب منفرة

(1)

رجاله ثقات، وانظر: القطوف رقم (128/ 192).

ص: 342

كقولهم: وهابية وغير ذلك، والله المستعان. قوله:«قَالُوا: وَمَتَى ذَلِكَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟، قَالَ: إِذَا كَثُرَتْ قُرَّاؤُكُمْ، وَقَلَّتْ فُقَهَاؤُكُمْ، وَكَثُرَتْ أُمَرَاؤُكُمْ، وَقَلَّتْ أُمَنَاؤُكُمْ، وَالْتُمِسَتِ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الآخِرَةِ» .

وما أكثر القراء في هذا الزمان، وأقل الفقهاء الربانيين، وتشعبت الأمة حتى كثر أمراؤها على اختلاف مسمياتهم، وأين الأمناء اليوم؟! إن وجد منهم أحد فكالشعرة البيضاء في الثور الأسود، أما طلب الدنيا بعمل الآخرة فهو كارثة في الأمة وإن قل الممارسون لذلك، والفساد منتشر في الأمة عيانا بيانا، اللهم أصلح حال الأمة وردها إلى العمل بكتابك وسنة نبيك صلى الله عليه وسلم.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

194 -

(2) أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِى زِيَادٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ:" كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا لَبِسَتْكُمْ فِتْنَةٌ يَهْرَمُ فِيهَا الْكَبِيرُ، وَيَرْبُو فِيهَا الصَّغِيرُ، إِذَا تُرِكَ مِنْهَا شَيْءٌ قِيلَ، تُرِكَتِ السُّنَّةُ؟ قَالُوا: وَمَتَى ذَاكَ؟ قَالَ: إِذَا ذَهَبَتْ عُلَمَاؤُكُمْ، وَكَثُرَتْ جُهَلَاؤُكُمْ، وَكَثُرَتْ قُرَّاؤُكُمْ، وَقَلَّتْ فُقَهَاؤُكُمْ، وَكَثُرَتْ أُمَرَاؤُكُمْ، وَقَلَّتْ أُمَنَاؤُكُمْ، وَالْتُمِسَتِ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الآخِرَةِ، وَتُفُقِّهَ لِغَيْرِ الدِّينِ "

(1)

.

رجال السند:

عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ، هو أبو عثمان البزاز إمام ثقة، راوية خالد، وخَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، هو أبو الهيثم إمام ثقة، ويَزِيدُ بْنُ أَبِى زِيَادٍ، هو الهاشمي أبو عبد الله

(1)

فيه يزيد بن أبي زياد: ضعيف، وانظر السابق.

ص: 343

الكوفي ضعيف، وإِبْرَاهِيمُ، هو النخعي، وعَلْقَمَةُ، هو النخعي هما إمامان ثقتان تقدما، وعَبْدُ اللَّهِ، هو ابن مسعود رضي الله عنهما.

الشرح:

انظر ما تقدم برقم 193 فقد أغني عن الإعادة.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

195 -

(3) أَخْبَرَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ، ثَنَا الأَوْزَاعِيُّ قَالَ:" أُنْبِئْتُ أَنَّهُ كَانَ يُقَالُ: وَيْلٌ لِلْمُتَفَقِّهِينَ بِغَيْرِ الْعِبَادَةِ، وَالْمُسْتَحِلِّينَ الْحُرُمَاتِ بِالشُّبُهَاتِ "

(1)

.

رجال السند:

أَبُو الْمُغِيرَةِ، هو عبد القدوس بن الحجاج، والأَوْزَاعِيُّ، هو عبد الرحمن ابن عمرو، هما إما مان ثقتان تقدما.

الشرح:

قوله: «وَيْلٌ لِلْمُتَفَقِّهِينَ بِغَيْرِ الْعِبَادَةِ، وَالْمُسْتَحِلِّينَ الْحُرُمَاتِ بِالشُّبُهَاتِ» . المراد أنهم يظهرون للناس أنهم فقهاء طلبا للشهرة والمباهاة، وليس للطاعة والعمل بما علموا من الفقه، ويستخدمون الشبهات للتلبيس على الناس واستحلال

ما حرم الله عز وجل بالحيل، ولا فعل هذا إلا علماء السوء.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

196 -

(4) أَخْبَرَنَا صَالِحُ بْنُ سُهَيْلٍ مَوْلَى يَحْيَى بْنِ أَبِى زَائِدَةَ، ثَنَا يَحْيَى عَنْ مُجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِىِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: " لَا يَأْتِي عَلَيْكُمْ عَامٌ إِلاَّ وَهُوَ شَرٌّ مِنَ الَّذِى كَانَ قَبْلَهُ، أَمَا إِنِّي لَسْتُ أَعْنِي عَاماً أَخْصَبَ

(1)

رجاله ثقات، وانظر: القطوف رقم (130/ 194).

ص: 344

مِنْ عَامٍ، وَلَا أَمِيراً خَيْراً مِنْ أَمِيرٍ، وَلَكِنْ عُلَمَاؤُكُمْ وَخِيَارُكُمْ وَفُقَهَاؤُكُمْ يَذْهَبُونَ، ثُمَّ لَا تَجِدُونَ مِنْهُمْ خَلَفاً، وَيَجِيءُ قَوْمٌ يَقِيسُونَ الأُمُورَ بِرَأْيِهِمْ "

(1)

.

رجال السند:

صَالِحُ بْنُ سُهَيْلٍ مَوْلَى يَحْيَى بْنِ أَبِى زَائِدَةَ، هو أبو محمد النخعي لابأس به، ويَحْيَى، هو ابن زكريا ثقة صاحب سنة تقدم، ومُجَالِدٌ، هو ابن سعيد مقبول في المتابعات تقدم، والشَّعْبِىُّ، ومَسْرُوقٌ، هما إمامان ثقتان تقدما.

الشرح:

تقدم نحوه برقم 97، فأغنى عن الإعادة، وسيأتي برقم 246.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

197 -

(5) أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي خَلَفٍ، ثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ قَالَ:" سَمِعْتُ دَاوُدَ بْنَ أَبِي هِنْدٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ قَاسَ إِبْلِيسُ، وَمَا عُبِدَتِ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ إِلاَّ بِالْمَقَايِيسِ ".

رجال السند:

مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي خَلَفٍ، إمام ثقة تقدم، ويَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ، هو الطائفي أبو محمد أو زكريا الحذاء، شيخ صالح محله الصدق، ودَاوُدَ بْنَ أَبِي هِنْدٍ، وابْنِ سِيرِينَ، هما إمامان ثقتان تقدما.

الشرح:

تقدم نحوه برقم 111، فأغنى عن الإعادة، والخبر فيه يحي بن سليم: صدوق سيء الحفظ، وانظر: القطوف رقم (132/ 196).

(1)

فيه، صالح بن سهيل: مقبول، وانظر: القطوف رقم (131/ 195).

ص: 345

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

198 -

(6) أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنِ ابْنِ شَوْذَبٍ، عَنْ مَطَرٍ، عَنِ الْحَسَنِ: أَنَّهُ تَلَا هَذِهِ الآيَةَ {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}

(1)

" قَاسَ إِبْلِيسُ وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ قَاسَ"

(2)

.

رجال السند:

مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، هو ابن أبي عطاء الثقفي، أبو يوسف الصنعاني، ضُعّف في الأوزاعي ومعمرٌ، وابْنُ شَوْذَبٍ، هو عبد الله البلخي، أبو عبد الرحمن البصري ثقة، ومَطَرٌ، هو ابن طهمان الوراق، أبو رجاء السلمي، كاتب مصاحف، حديثه حسن، روى له مسلم، والْحَسَنُ، هو البصري.

الشرح:

تقدم نحوه برقم 110، ومثله برقم 196، فأغني عن الإعادة.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

199 -

(7) حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ، ثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِى خَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ أَنَّهُ قَالَ:" إِنِّي أَخَافُ أَوْ أَخْشَى أَنْ أَقِيسَ فَتَزِلَّ قَدَمِي"

(3)

.

(1)

الآية (12) من سورة الأعراف.

(2)

الأثر فيه مطر بن طهمان الوراق: صدوق كثير الخطأ، وانظر: القطوف رقم (133/ 197).

(3)

رجاله ثقات، وانظر: القطوف رقم (134/ 198).

ص: 346

رجال السند:

عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ، راوية أبي عوانه، وأَبُو عَوَانَةَ، هو الوضاح، وإِسْمَاعِيلُ ابْنُ أَبِى خَالِدٍ، هو البجلي، والشَّعْبِيُّ، هو عامر، ومَسْرُوقٌ، هو ابن الأجدع، جميعهم أئمة ثقات تقدموا.

الشرح: انظر السابق.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

200 -

(8) أَخْبَرَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ، ثَنَا أَبُو خَالِدٍ الأَحْمَرُ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ:" وَاللَّهِ لَئِنْ أَخَذْتُمْ بِالْمَقَايِيسِ لَتُحَرِّمُنَّ الْحَلَالَ، وَلَتُحِلُّنَّ الْحَرَامَ"

(1)

.

رجال السند:

صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ، هو المروزي، أبو الفضل من شيوخ البخاري في صحيحه، إمام ثقة، وأَبُو خَالِدٍ الأَحْمَرُ، هو سليمان بن حيان الأزدي ثقة روى حديثه الستة، وإِسْمَاعِيلُ، هو ابن أبي خالد، والشَّعْبِيُّ، هما إمامان ثقتان تقدما.

الشرح:

انظر السابق وما قبله، فقد أغنى عن الإعادة.

(1)

سنده حسن، وانظر: القطوف رقم (135/ 199).

ص: 347

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

201 -

(9) أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ بِشْرٍ، ثَنَا أَبِي، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ عَامِرٍ أَنَّهُ

(1)

كَانَ يَقُولُ: " مَا أَبْغَضَ إِلَىَّ أَرَأَيْتَ أَرَأَيْتَ، يَسْأَلُ الرَّجُلُ صَاحِبَهُ فَيَقُولُ أَرَأَيْتَ، وَكَانَ لَا يُقَايِسُ "

(2)

.

رجال السند:

الْحَسَنُ بْنُ بِشْرٍ، هو ابن أسلم البجلي، أبو علي الهمداني، روى له البخاري في الصحيح، صدوق، وأَبوه، هو بشر بن أسلم، من أفراد لدارمي، منكر الحديث، وليس هذا مما ينكر، وإِسْمَاعِيلُ، هو ابن أبي خالد، وعَامِرٌ، هو الشعبي، وهما إمامان ثقتان تقدما.

الشرح:

قوله: «مَا أَبْغَضَ إِلَىَّ أَرَأَيْتَ أَرَأَيْتَ، يَسْأَلُ الرَّجُلُ صَاحِبَهُ فَيَقُولُ أَرَأَيْتَ» . المراد أنه كان ينكر وبشدة من يسأل عن محدثات، ويطلب القول فيها بالرأي، وقد يجاب عن المسألة بما في الكتاب، أو السنة، فيعارض السائل ذلك بالرأي.

قوله: «وَكَانَ لَا يُقَايِسُ» .

المراد أن الشعبي رحمه الله كان لا يرى القياس، ويجافيه بشدة.

(1)

صوب في هامش الأصل، و (ت).

(2)

فيه بشر بن سلم: قال أبو حاتم: منكر الحديث (2/ 358) وذكره ابن حبان في (الثقات 8/ 143)، وانظر: القطوف رقم (136/ 200).

ص: 348

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

202 -

(10) أَخْبَرَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ، ثَنَا [يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنِ الزِّبْرِقَانِ قَالَ:" نَهَانِي أَبُو وَائِلٍ أَنْ أُجَالِسَ أَصْحَابَ أَرَأَيْتَ "

(1)

.

رجال السند:

صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ، هو المروزي، أبو الفضل إمام ثقة تقدم آنفا، ويَحْيَى ابْنُ سَعِيدٍ، هو القطان إمام في الجرح والتعديل ثقة، والزِّبْرِقَانُ، هو ابن عبد الله السراج، أبو بكر الكوفي، من أفراد الدارمي ثقة، وأَبُو وَائِلٍ، هو شقيق بن سلمة، إمام ثقة تقدم.

الشرح: انظر السابق.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

203 -

(11)[أَخْبَرَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ، ثَنَا]

(2)

ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ:" لَوْ أَنَّ هَؤُلَاءِ كَانُوا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَنَزَلَتْ عَامَّةُ الْقُرْآنِ يَسْأَلُونَكَ يَسْأَلُونَكَ "

(3)

.

رجال السند:

صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ، وابْنُ عُيَيْنَةَ، هو سفيان، وإِسْمَاعِيلُ، هو ابن أبي خالد والشَّعْبِيُّ، هم أئمة ثقات تقدموا.

(1)

رجاله ثقات، وانظر: القطوف. (137/ 201).

(2)

أستدرك في هامش (ت).

(3)

رجاله ثقات، وانظر: القطوف رقم (138/ 202).

ص: 349

الشرح:

تقدم بيان كره الشعبي رحمه الله للقياس برقم 200، وهذا توكيد منه رحمه الله على عدم رضاه عن أصحاب القياس، والمراد بالقياس هنا أنهم يسألون بعد ذكر الدليل من الكتاب والسنة، فيقولون: أرأيت لو كان كذا. والله أعلم.

قال الدارمي رجمه الله تعالى:

204 -

(12) أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبَانَ قال: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدٌ - هُوَ ابْنُ طَلْحَةَ - عَنْ مَيْمُونٍ أَبِي حَمْزَةَ قَالَ: قَالَ لِي إِبْرَاهِيمُ: " يَا أَبَا حَمْزَةَ وَاللَّهِ لَقَدْ تَكَلَّمْتُ، وَلَوْ وَجَدْتُ بُدًّا مَا تَكَلَّمْتُ، وَإِنَّ زَمَاناً أَكُونُ فِيهِ فَقِيهَ أَهْلِ الْكُوفَةِ زَمَانُ سُوءٍ"

(1)

.

رجال السند:

إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبَانَ، هو إمام ثقة تقدم، ومُحَمَّدُ بْنُ طَلْحَةَ، هو ابن مصرف اليامي، من رجال الصحيحين، روى عن أبيه صغيرا، فتكلموا في روايته عنه، لابأس به، ومَيْمُونُ أَبو حَمْزَةَ، هو من أصحاب إبراهيم ضعيف، وإِبْرَاهِيمُ، هو النخعي إمام ثقة.

الشرح:

انظر ما تقدم برقم 133، فقد أغني عن الإعادة.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

205 -

(13) أَخْبَرَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: قَالَ

عُمَرُ رضي الله عنه: " إِيَّاكَ وَالْمُكَايَلَةَ، يَعْنِي فِي الْكَلَامِ "

(2)

.

(1)

فيه ميمون أبو حمزة: ضعيف، ولم أقف عليه عند غير المصنف.

(2)

فيه انقطاع بين مجاهد وعمر رضي الله عنه.

ص: 350

رجال السند:

أَبُو نُعَيْمٍ، هو الفضل بن دكين، وسُفْيَانُ، هو ابن عيينة، ولَيْثٌ، هو ابن سعد، ومُجَاهِدٌ، هو ابن جبر، هم أئمة ثقات تقدموا، وعُمَرُ، هو ابن الخطاب رضي الله عنه.

الشرح:

قال عمر رضي الله عنه: في بعض خطبه: " إن أصحاب الرأي أعداء السنن، عميت عليهم فلم يعوها، وتفلتت منهم فلم يحفظوها، سئلوا فاستحيوا أن يقولوا: لا ندري، فعارضوها بالرأي، فإياكم وإياهم، فإن الله لم يقبض نبيه صلى الله عليه وسلم فانقطع وحيه حتى أغنى بالسنة عن الرأي، ولو كان الدين بالرأي لكان باطن الخف أحق أن يمسح من ظاهره، فإياكم وإياهم ".

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

206 -

(14) أَخْبَرَنَا حَجَّاجٌ الْبَصْرِيُّ، ثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْهُذَلِيُّ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: " شَهِدْتُ شُرَيْحاً وَجَاءَهُ رَجُلٌ مِنْ مُرَادٍ، فَقَالَ: يَا أَبَا

(1)

أُمَيَّةَ مَا دِيَةُ الأَصَابِعِ؟ قَالَ: عَشْرٌ عَشْرٌ، قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ أَسَوَاءٌ هَاتَانِ؟! جَمَعَ بَيْنَ الْخِنْصِرِ وَالإِبْهَامِ، فَقَالَ شُرَيْحٌ: يَا سُبْحَانَ اللَّهِ أَسَوَاءٌ أُذُنُكَ وَيَدُكَ؟! فَإِنَّ الأُذُنَ يُوَارِيهَا الشَّعْرُ وَالْكُمَّةُ

(2)

وَالْعِمَامَةُ فِيهَا نِصْفُ الدِّيَةِ، وَفي الْيَدِ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَيْحَكَ إِنَّ السُّنَّةَ سَبَقَتْ قِيَاسَكُمْ، فَاتَّبِعْ وَلَا تَبْتَدِعْ، فَإِنَّكَ لَنْ تَضِلَّ مَا أَخَذْتَ

(1)

في (ك) يا أمية، وصوبه في الهامش.

(2)

القلنسوة. انظر (الصحاح 2/ 411 واللسان 12/ 526).

ص: 351

بِالأَثَرِ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَقَالَ لِيَ الشَّعْبِيُّ: يَا هُذَلِيُّ لَوْ أَنَّ أَحْنَفَكُمْ

(1)

قُتِلَ وَهَذَا الصَّبِيُّ في مَهْدِهِ، أَكَانَ دِيَتُهُمَا سَوَاءً؟، قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَأَيْنَ الْقِيَاسُ؟! "

(2)

.

رجال السند:

حَجَّاجُ الْبَصْرِيُّ، هو ابن نصير، ضعيف، وأَبُو بَكْرٍ الْهُذَلِيُّ، هو متروك مختلف في اسمه، روى عنه الدارمي هنا واستشهد به فيما يأتي، والشَّعْبِيُّ، هو عامر إمام ثقة، وشُرَيْحٌ، هو القاضي إمام ثقة تقدم.

قول: «جَاءَهُ رَجُلٌ مِنْ مُرَادٍ، فَقَالَ: يَا أَبَا أُمَيَّةَ مَا دِيَةُ الأَصَابِعِ؟ قَالَ: عَشْرٌ عَشْرٌ» .

هذا الثابت في السنة، فقد سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الأصابع في دياتها فجعل في كل اصبع عشراً من الإبل، مع أنها مختلفة الجمال والمنفعة ولولا أن السنة جاءت بالتسوية لكان القياس أن يفاوت بين دياتها كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل أن يبلغه الحديث، فإن سعيد بن المسيب رحمه الله روى أن عمر، جعل في الإبهام خمس عشرة، وفي السبابة عشرا، وفي الوسطى عشرا، وفي البنصر تسعا، وفي الخنصر ستا، حتى وجدنا كتابا عند آل حزم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أن الأصابع كلها سواء فأخذ به»

(3)

.

«قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ أَسَوَاءٌ هَاتَانِ؟! جَمَعَ بَيْنَ الْخِنْصِرِ وَالإِبْهَامِ» .

(1)

مراده: الأحنف بن قيس السعدي.

(2)

فيه حجاج بن نصير: ضعيف، وشيخه أبو بكر الهذلي، أخباري متروك الحديث، وانظر: القطوف رقم (141/ 205)

(3)

عبد الرزاق حيث (17698) وابن أبي شيبة حديث (27004).

ص: 352

في هذا القول تعجب من أن يكون الأمر في دية الأصابع سواء، مع اختلافها في الجمال والمنافع، ولا عجب وقد حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو المشرع والآمر الناهي، وعلى الأمة السمع والطاعة.

وإن كان منكرا للحكم فالأمر جدا خطير، ولم يحمل شريح القاضي رحمه على هذا، ولذلك لم يعنفه، وحمله على التعجب لا الإنكار، بل على القياس؛ لأن ذلك تقتضي العقل والقياس، كما اجتهد عمر رضي الله عنه.

قوله: «فَقَالَ شُرَيْحٌ: يَا سُبْحَانَ اللَّهِ أَسَوَاءٌ أُذُنُكَ وَيَدُكَ؟! فَإِنَّ الأُذُنَ يُوَارِيهَا الشَّعْرُ وَالْكُمَّةُ وَالْعِمَامَةُ فِيهَا نِصْفُ الدِّيَةِ، وَفي الْيَدِ نِصْفُ الدِّيَةِ» .

بين القاضي شريح رحمه الله للسائل أن الأمر لا ينظر فيه إلا العقل والاختيار، إذا ما الشريعة قضت فيه بشيء، وضرب له أمثلا بالأذن واليد، ومساواتهما في الدية مع اختلاف المنافع، ففي كل منهما نصف الدية، من أن الأذن لا يظهر جمالها كاليد، فهي تغطى بالشعر، والقلنسوة: المسماة الطاقية، اليوم.

قوله: «وَيْحَكَ إِنَّ السُّنَّةَ سَبَقَتْ قِيَاسَكُمْ، فَاتَّبِعْ وَلَا تَبْتَدِعْ» .

أنكر عليه القياس، وترك ماعليه الناس من الاتباع، وعدم الابتداع، عملا بقوله صلى الله عليه وسلم:«فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْمُحْدَثَاتِ»

(1)

.

قول: «فَإِنَّكَ لَنْ تَضِلَّ مَا أَخَذْتَ بِالأَثَرِ» .

(1)

الترمذي حديث (2676).

ص: 353

هذا اقتباس من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به، كتاب الله، وأنتم تسألون عني، فما أنتم قائلون؟»

(1)

. قول: «قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَقَالَ لِيَ الشَّعْبِيُّ: يَا هُذَلِيُّ لَوْ أَنَّ أَحْنَفَكُمْ قُتِلَ وَهَذَا الصَّبِيُّ في مَهْدِهِ، أَكَانَ دِيَتُهُمَا سَوَاءً؟، قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَأَيْنَ الْقِيَاسُ؟!» . المراد الأحنف بن قيس رحمه الله: وهو الضحاك بن قيس بن معاوية بن حصين بن حفص بن عبادة بن النزال بن مرة بن عبيد بن مقاعس بن عمرو بن كعب بن سعد، وليس أبا حنيفة رحمه الله؛ لأنه مضرب المثل في الحلم، والحكمة والأناة، ومن حلم الأحنف: ما روي أنّ عمرو بن الأهتم جعل لرجل ألف درهم على أن يسفّه الأحنف؛ فأقبل الرجل عليه فسبّه سبّا ذريعا؛ والأحنف ساكت. فرجع الرجل يعضّ أنامله، ويقول: واسوأتاه؛ ما منعه من جوابي إلّا هواني عليه.

ولذلك أقام شريح القاضي رحمه الله المقارنة بينه وبين غلام صغير حجة على بطلان من يزعم القياس في الأمور، فإنه لا قياس بين الأحنف والغلام.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

207 -

(15) أَخْبَرَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ، ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: قَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ رضي الله عنه: " يُفْتَحُ الْقُرْآنُ عَلَى النَّاسِ حَتَّى تَقْرَأَهُ الْمَرْأَةُ وَالصَّبِىُّ وَالرَّجُلُ، فَيَقُولُ الرَّجُلُ: قَدْ قَرَأْتُ الْقُرْآنَ فَلَمْ أُتَّبَعْ

(2)

، وَاللَّهِ لأَقُومَنَّ بِهِ فِيهِمْ لَعَلِّي أُتَّبَعُ، فَيَقُومُ بِهِ فِيهِمْ فَلَا يُتَّبَعُ، فَيَقُولُ: قَدْ قَرَأْتُ الْقُرْآنَ فَلَمْ أُتَّبَعْ، وَقَدْ قُمْتُ بِهِ فِيهِمْ فَلَمْ أُتَّبَعْ، لأَخْتَصِرَنَّ فِي بَيْتِي مَسْجِداً لَعَلِّي أُتَّبَعُ، فَيَخْتَصِرُ فِي

(1)

مسلم حديث (1218).

(2)

أي يريد أن يكون متبوعا لا تابعا، فيمعن في تحصيل المطلوب حتى يضل.

ص: 354

بَيْتِهِ مَسْجِداً فَلَا يُتَّبَعُ، فَيَقُولُ: قَدْ قَرَأْتُ الْقُرْآنَ فَلَمْ أُتَّبَعْ، وَقُمْتُ بِهِ فِيهِمْ فَلَمْ أُتَّبَعْ، وَقَدِ اخْتَصَرْتُ فِي بَيْتِي مَسْجِداً فَلَمْ أُتَّبَعْ، وَاللَّهِ لآتِيَنَّهُمْ بِحَدِيثٍ لَا يَجِدُونَهُ في كِتَابِ اللَّهِ عز وجل، وَلَمْ يَسْمَعُوهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاللَّهِ لآتِيَنَّهُمْ بِحَدِيثٍ لَا يَجِدُونَهُ في كِتَابِ اللَّهِ عز وجل، وَلَمْ يَسْمَعُوهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَعَلِّي أُتَّبَعُ، قَالَ مُعَاذٌ: فَإِيَّاكُمْ وَمَا جَاءَ بِهِ، فَإِنَّ مَا جَاءَ بِهِ ضَلَالَةٌ "

(1)

.

رجال السند:

مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ، هو الطاطري، وسَعِيدٌ، هو ابن عبد العزيز التنوخي، شيخ العلم بعد الأوزاعي، هما إمامان ثقتان تقدما، ورَبِيعَةُ بْنُ يَزِيدَ، هو الإيادي أبو شعيب، روى حديثه الستة، إمام ثقة، ومُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ رضي الله عنه.

الشرح:

قوله: «يُفْتَحُ الْقُرْآنُ عَلَى النَّاسِ حَتَّى تَقْرَأَهُ الْمَرْأَةُ وَالصَّبِىُّ وَالرَّجُلُ» . صدق والله صاحب رسول الله معاذ رضي الله عنه، فإن كلام الله عز وجل القرآن فتح الله عز وجل به على عبادة من العرب والعجم، وقرأه الفئام من الصفار والكبار، نساءً ورجالا، ولم يخل زمان من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من قارئ لكتاب الله عز وجل من الرجال والنساء، والبنين والبنات، وقد مرت فترات قل فيها العلماء والقراء، ولاسيما في جزيرة العرب، ومنها المملكة العربية السعود، وكان عهد الملك عبد العزيز رحمه الله فتحا للقرآن فقد أننشأ المدارس وعلم الناس القرآن والتوحيد، حتى أصبحت المملكة العربية السعودة حرسها الله لا أمية فيها، فتحت المدارس لتعليم الكبار نساء ورجالا، وسأضرب بأسرتي، فقد كان

(1)

فيه انقطاع بين ربيعة ومعاذ رضي الله عنه، وانظر: القطوف رقم (142/ 206).

ص: 355

آبائي وأجدادي رحمهم الله أميون لا يقرؤون ولا يكتبون، سوى والدي، قرأ القرآن على عجل، واليوم والحمد لله أنجبت سبعة عشر ذكورا وإناثا كلهم جامعيون، وأحفادي منهم حتى هذه اللحظة بلغوا أكثر من أربعين يقرأون القرآن من الروضة إل الجامعة، فالحمد لله على هذه النعمة العظيمة.

قوله: «فَيَقُولُ الرَّجُلُ: قَدْ قَرَأْتُ الْقُرْآنَ فَلَمْ أُتَّبَعْ، وَاللَّهِ لأَقُومَنَّ بِهِ فِيهِمْ لَعَلِّي أُتَّبَعُ، فَيَقُومُ بِهِ فِيهِمْ فَلَا يُتَّبَعُ، فَيَقُولُ: قَدْ قَرَأْتُ الْقُرْآنَ فَلَمْ أُتَّبَعْ، وَقَدْ قُمْتُ بِهِ فِيهِمْ فَلَمْ أُتَّبَعْ، لأَخْتَصِرَنَّ فِي بَيْتِي مَسْجِداً لَعَلِّي أُتَّبَعُ، فَيَخْتَصِرُ فِي بَيْتِهِ مَسْجِداً فَلَا يُتَّبَعُ، فَيَقُولُ: قَدْ قَرَأْتُ الْقُرْآنَ فَلَمْ أُتَّبَعْ، وَقُمْتُ بِهِ فِيهِمْ فَلَمْ أُتَّبَعْ، وَقَدِ اخْتَصَرْتُ فِي بَيْتِي مَسْجِداً فَلَمْ أُتَّبَعْ، وَاللَّهِ لآتِيَنَّهُمْ بِحَدِيثٍ لَا يَجِدُونَهُ في كِتَابِ اللَّهِ عز وجل، وَلَمْ يَسْمَعُوهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَعَلِّي أُتَّبَعُ، قَالَ مُعَاذٌ: فَإِيَّاكُمْ وَمَا جَاءَ بِهِ، فَإِنَّ مَا جَاءَ بِهِ ضَلَالَةٌ» .

هذا لم أسمع بمثله في أهل السنة والحمد لله فهم لا يطلبون الشهرة بما هو حق، فبالأولى ما كان باطلا، ولكنه متحقق في الرافضة، فإن ما يقوم به الأئمة المضلون منهم عبر الفضائيات اليوم من الكذب على الله عز وجل وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته لتشيب لهوله الولدان، يتبارون في إضلال العامة منهم، بل وكثير من المتعلمين والمثقفين والإعلامية، لينالوا الشهرة في الزور، والحظ الحرام من شهوات الدنيا بجميع أشكالها، حتى الزنا جعلوه متعة، ولهم في ذلك الفتاوى الغريبة العجيبة، حتى العدة من الوقاع الحرام، أفتوا بأن لا عدة على المرأة منه، فتتزوج الثاني تلو الأول مباشرة، إباحية مطلقة،

ص: 356

فهل يستفيد الرافضة من قول معاذ رضي الله عنه، الجواب لا؛ لأن معاذا من الصحابة والصحابة عند الرافضة كفار مرتدون.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

23 -

‌ بابٌ فِي كَرَاهِيَةِ أَخْذِ الرَّأْي

208 -

(1) أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ - هُوَ ابْنُ مِغْوَلٍ - قَالَ: قَالَ لِيَ الشَّعْبِىُّ: " مَا حَدَّثُوكَ هَؤُلَاءِ عَنْ النبي صلى الله عليه وسلم فَخُذْ بِهِ، وَمَا قَالُوهُ بِرَأْيِهِمْ فَأَلْقِهِ فِي الْحُشِّ "

(1)

.

رجال السند:

مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُف، الفريابي إمام ثقة، ومَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ، هو البجلي، أبو عبد الله الكوفي إمام ثقة، روى حديثه الستة، الشَّعْبِىُّ، إمام ثقة.

الشرح:

قول: «مَا حَدَّثُوكَ هَؤُلَاءِ عَنْ النبي صلى الله عليه وسلم فَخُذْ بِهِ، وَمَا قَالُوهُ بِرَأْيِهِمْ فَأَلْقِهِ فِي الْحُشِّ» .

المراد أهل الرأي، وهذا على غرار ما سبق من الحذير من الرأي، وعدم التماس الأحكام من غير الكتب والسنة، ولا ينظر لما خالفهما.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

209 -

(2) قال: أَخْبَرَنَي الْعَبَّاسُ بْنَ سُفْيَانَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ حُباب قَالَ: " أَخْبَرَنَي رَجَاءُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَةَ بْنَ أَبِي لُبابةَ يَقُولُ: قَدْ رَضِيتُ

(1)

رجاله ثقات، وانظر: القطوف رقم (143/ 207) والحش: جمعه حشوش قال ابن الأثير: يعني الكنف ومواضع قضاء الحاجة، الواحد حش بالفتح (النهاية 1/ 390).

ص: 357

مِنْ أَهْلِ زَمَانِي هَؤُلَاءِ أَنْ لَا يَسْأَلُونِي وَلَا أَسْأَلَهُمْ، إِنَّمَا يَقُولُ أَحَدُهُمْ: أَرَأَيْتَ أَرَأَيْتَ "

(1)

.

رجال السند:

الْعَبَّاسُ بْنَ سُفْيَانَ، هو الدبوسي، لابأس به تقدم، وزَيْدُ بْنُ حُباب، هو العكلي أبو الحسن، ثقة تقدم، ورَجَاءُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، هو الفلسطيني، إمام ثقة تقدم، وعَبْدَةُ بْنُ أَبِي لُبابةَ، هو الأسدي ثقة إمام تقدم.

الشرح:

تقدم القول في هذا برقم 200، فأغني عن الإعادة، والمدار على عدم القول بالرأي.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

210 -

(3) قال: أَخْبَرَنَي الْعَبَّاسُ، بْنَ سُفْيَانَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ حُباب قَالَ:" أَخْبَرَنَي رَجَاءُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَةَ بْنَ أَبِي لُبابةَ يَقُولُ: قَدْ رَضِيتُ مِنْ أَهْلِ زَمَانِي هَؤُلَاءِ أَنْ لَا يَسْأَلُونِي وَلَا أَسْأَلَهُمْ، إِنَّمَا يَقُولُ أَحَدُهُمْ: أَرَأَيْتَ أَرَأَيْتَ "

(2)

.

الْعَبَّاسُ بْنُ سُفْيَان، وزَيْدُ بْنُ حُباب ورَجَاءُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ وعَبْدَةُ بْنُ أَبِي لُبابةَ،

تقدموا آنفا.

الشرح: انظر السابق، فهو نسخة منه.

(1)

فيه العباس بن سفيان الدبوسي: ذكره ابن حبان في (الثقات 8/ 513).

(2)

فيه العباس بن سفيان الدبوسي: ذكره ابن حبان في (الثقات 8/ 513).

ص: 358

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

211 -

(4) أَخْبَرَنَا عَفَّانُ، ثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، ثَنَا عَاصِمُ بْنُ بَهْدَلَةَ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْماً خَطًّا ثُمَّ قَالَ: «هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ» . ثُمَّ خَطَّ خُطُوطاً عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ ثُمَّ قَالَ: «هَذِهِ سُبُلٌ، عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ» ، ثُمَّ تَلَا {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} من الآية (153) من سورة الأنعام، والحديث سنده حسن، واخرجه أحمد حديث (4142) ومن حديث جابر، ابن ماجه المقدمة حديث (11) وصححه الألباني.

رجال السند:

عَفَّانُ، هو ابن مسلم وحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، هما إمامان ثقتان تقدما، وعَاصِمُ ابْنُ بَهْدَلَةَ، هو ابن أبي النجود، أبو بكر المقرئ، حجة في القراءة، صالح ثقة، وأَبو وَائِلٍ، هو شقيق، إمام ثقة تقدم، وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه.

الشرح:

في الآية الوصية العاشرة من الوصايا العشر في سورة الأنعام فقوله جل جلاله {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا} يدخل فيه كل ما أمر الله عز وجل به، وما نهى عنه، والشريعة جملة وتفصيلا هي الطريق المستقيم، ويجوز في إضافة الصراط أمران: إن كانت الإضافة إلى الرب عز وجل فباعتباره الشارع الحكيم فيما أمر وما نهى، فهو الآمر الكريم والنهي الحكيم.

ص: 359

وإن كانت الإضافة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فباعتباره سالك المنهج القويم، الداعي إلى النعيم المقيم، وهو منهج النبيين وغيرهم من الصالحين، قال تعالى:{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}

(1)

.

أما قوله: {فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} أمر تعالى باتباع صراطه وهو التزام ما شرع فعلا وتركا، وهذا هو الصراط المستقيم الذي لا يضل سالكه، ولا يهتدي تاركه، فالمطلوب إتباعه وحده، وترك ما سواه؛ لأنها طرق تنتهي بسالكيها إلى الهلكة والضياع، ولو ترك الناس الصراط المستقيم وأتوا من كل طريق سواه، واستفتحوا من كل باب فالطرق عليهم مسدودة، والأبواب دونهم مغلقة، إلا من ذلك الطريق الواحد فإنه متصل بالله موصل إليه تعالى، قال جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فخط خطا، وخط خطين عن يمينه، وخط خطين عن يساره، ثم وضع يده في الخط الأوسط، فقال:«هذا سبيل الله» ثم تلا هذه الآية: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا}

(2)

، وهذا فعله ابن مسعود رضي الله عنه لتتضح الصورة للمشاهدين له رضي الله عنه وقد فصلت القول في هذه الوصية في " أطيب النشر في تفسير الوصايا العشر " وباختصار في كتابي " رياض الأذهان في تفسير القرآن ".

(1)

من الآية (7) من سورة الفاتحة.

(2)

ابن ماجه حديث (11).

ص: 360

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

212 -

(5) أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، ثَنَا وَرْقَاءُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} قَالَ: الْبِدَعَ وَالشُّبُهَاتِ

(1)

.

رجال السند:

مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُف، هو الفريابي، إمام فقيه تقدم، ووَرْقَاءُ، هو ابن عمر اليشكري، أبو بشر الكوفي، وعن شيخه هذا أخذ تفسير مجاهد، أمام ثقة، وابْنُ أَبِي نَجِيحٍ، هو عبد الله بن أبي نجيح يسار المكي، أبو يسار الثقفي مولاهم، ثقة رمي بالقدر ربما دلس، وهو من أخص أصحاب مجاهد، إمام ثقة، ومُجَاهِدٌ، هو ابن جبر، إمام فقيه تقدم.

الشرح:

قوله: «{وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} قَالَ: الْبِدَعَ وَالشُّبُهَاتِ» .

هذا تحذير من البدع والشبهات، وانظر السابق ففيه بيان.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

213 -

(6) أَخْبَرَنَا الْحَكَمُ بْنُ الْمُبَارَكِ، أَنْبَأَ عَمْرُو بْنُ يَحْيَى قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: " كُنَّا نَجْلِسُ عَلَى باب عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَبْلَ صَلَاةِ الْغَدَاةِ، فَإِذَا خَرَجَ مَشَيْنَا مَعَهُ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَجَاءَنَا أَبُو مُوسَى الأَشْعَرِيُّ فَقَالَ: أَخَرَجَ إِلَيْكُمْ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ بَعْدُ؟ قُلْنَا: لَا، فَجَلَسَ مَعَنَا حَتَّى خَرَجَ، فَلَمَّا خَرَجَ قُمْنَا إِلَيْهِ جَمِيعاً، فَقَالَ لَهُ أَبُو مُوسَى: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، إِنِّي رَأَيْتُ فِي الْمَسْجِدِ آنِفاً أَمْراً أَنْكَرْتُهُ، وَلَمْ أَرَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ إِلاَّ خَيْراً، قَالَ: فَمَا هُوَ؟

(1)

سنده حسن وانظر: القطوف رقم (145/ 210).

ص: 361

فَقَالَ: إِنْ عِشْتَ فَسَتَرَاهُ، قَالَ: رَأَيْتُ فِي الْمَسْجِدِ قَوْماً حِلَقاً جُلُوساً يَنْتَظِرُونَ الصَّلَاةَ، فِي كُلِّ حَلْقَةٍ رَجُلٌ، وَفي أَيْدِيهِمْ " حَصًى"

(1)

فَيَقُولُ: كَبِّرُوا مِائَةً، فَيُكَبِّرُونَ مِائَةً، فَيَقُولُ: هَلِّلُوا مِائَةً، فَيُهَلِّلُونَ مِائَةً، وَيَقُولُ: سَبِّحُوا مِائَةً فَيُسَبِّحُونَ مِائَةً، قَالَ: فَمَاذَا قُلْتَ لَهُمْ؟ قَالَ: مَا قُلْتُ لَهُمْ شَيْئاً انْتِظَارَ رَأْيِكَ أَوِ انْتِظَارَ أَمْرِكَ، قَالَ: أَفَلَا أَمَرْتَهُمْ أَنْ يَعُدُّوا سَيِّئَاتِهِمْ، وَضَمِنْتَ لَهُمْ أَنْ لَا يَضِيعَ مِنْ حَسَنَاتِهِمْ، ثُمَّ مَضَى وَمَضَيْنَا مَعَهُ حَتَّى أَتَى حَلْقَةً مِنْ تِلْكَ الْحِلَقِ، فَوَقَفَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: مَا هَذَا الَّذِى أَرَاكُمْ تَصْنَعُونَ؟ قَالُوا: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَصًى نَعُدُّ بِهِ التَّكْبِيرَ وَالتَّهْلِيلَ وَالتَّسْبِيحَ، قَالَ: فَعُدُّوا سَيِّئَاتِكُمْ فَأَنَا ضَامِنٌ أَنْ لَا يَضِيعَ مِنْ حَسَنَاتِكُمْ شَيْءٌ

(2)

، وَيْحَكُمْ يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ مَا أَسْرَعَ هَلَكَتَكُمْ، هَؤُلَاءِ صَحَابَةُ نَبِيِّكُمْ رضي الله عنهم مُتَوَافِرُونَ، وَهَذِهِ ثِيَابُهُ لَمْ تَبْلَ وَآنِيَتُهُ لَمْ تُكْسَرْ، وَالَّذِي نَفْسِي فِي يَدِهِ إِنَّكُمْ لَعَلَى مِلَّةٍ هِيَ أَهْدَى مِنْ مِلَّةِ مُحَمَّدٍ، أَوْ مُفْتَتِحِوا

(3)

باب ضَلَالَةٍ، قَالُوا: وَاللَّهِ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، مَا أَرَدْنَا إِلاَّ الْخَيْرَ، قَالَ: وَكَمْ مِنْ مُرِيدٍ لِلْخَيْرِ لَنْ يُصِيبَهُ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدَّثَنَا: أَنَّ قَوْماً يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، وَايْمُ اللَّهِ مَا أَدْرِى لَعَلَّ أَكْثَرَهُمْ مِنْكُمْ، ثُمَّ تَوَلَّى عَنْهُمْ، فَقَالَ عَمْرُو بْنُ سَلِمَةَ: رَأَيْنَا عَامَّةَ أُولَئِكَ الْحِلَقِ يُطَاعِنُونَا يَوْمَ النَّهْرَوَانِ مَعَ الْخَوَارِجِ "

(4)

.

(1)

في (ت) حصاة.

(2)

علق في هامش (ك) شيئا، وهو خطأ.

(3)

في الأصول الخطية (مفتتحي) وهو خطأ.

(4)

فيه عمرو بن يحي بن عمرو بن سلمة الهمداني: ذكره ابن حبان في (الثقات).

8/ 480) وانظر: القطوف رقم (146/ 211).

ص: 362

رجال السند:

الْحَكَمُ بْنُ الْمُبَارَكِ، هو البلخي ثقة تقدم، وعَمْرُو بْنُ يَحْيَى، هو ابن عمرو بن سلمة بن الحارث الهمداني المازني، من أفراد الدارمي، وثقه ابن حبان، وأَبوه، هو يحيى بن عمرو من أفراد الدارمي، روى عنه شعبة والثوري، وهما لا يرويان إلا عن ثقة، وأَبوهِ، عمرو بن سلمة، كوفي تابعي، كان فصيح اللسان، أعجب بفصاحته معاوية رضي الله عنه، وثقة ابن حبان وابن حجر.

الشرح:

قوله: «كُنَّا نَجْلِسُ عَلَى باب عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَبْلَ صَلَاةِ الْغَدَاةِ، فَإِذَا خَرَجَ مَشَيْنَا مَعَهُ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَجَاءَنَا أَبُو مُوسَى الأَشْعَرِيُّ فَقَالَ: أَخَرَجَ إِلَيْكُمْ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ بَعْدُ؟ قُلْنَا: لَا، فَجَلَسَ مَعَنَا حَتَّى خَرَجَ، فَلَمَّا خَرَجَ قُمْنَا إِلَيْهِ جَمِيعاً» .

فعلوا هذا لمكانة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، صحابي جليل، من السابقين فضائله مدونة في مصادر السنة، وكان انتظارهم له قبيل صلاة الظهر، فلما نهضوا معه جاء الصحابي أبو موسى الأشعري، عبد الله بن قيس رضي الله عنه، وسألهم عن ابن مسعود أخرج للصلاة أم لا؟ قالوا: لا، فجلس معهم ينتظر خروجه، وهذا أيضا يظهر مكانة ابين مسعود رضي الله عنه.

قوله: «فَقَالَ لَهُ أَبُو مُوسَى: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، إِنِّي رَأَيْتُ فِي الْمَسْجِدِ آنِفاً أَمْراً أَنْكَرْتُهُ، وَلَمْ أَرَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ إِلاَّ خَيْراً، قَالَ: فَمَا هُوَ؟ فَقَالَ: إِنْ عِشْتَ فَسَتَرَاهُ، قَالَ: رَأَيْتُ فِي الْمَسْجِدِ قَوْماً حِلَقاً جُلُوساً يَنْتَظِرُونَ الصَّلَاةَ، فِي كُلِّ حَلْقَةٍ رَجُلٌ، وَفي أَيْدِيهِمْ " حَصًى" فَيَقُولُ: كَبِّرُوا مِائَةً، فَيُكَبِّرُونَ مِائَةً، فَيَقُولُ: هَلِّلُوا مِائَةً، فَيُهَلِّلُونَ مِائَةً، وَيَقُولُ: سَبِّحُوا مِائَةً فَيُسَبِّحُونَ مِائَةً» .

ص: 363

في هذا استفتاء فيما رأى أبو موسى وقد أنكره لحداثته، إذ لم يكن معهودا من قبل، وأقر بخيرية ما رأى، فيما ظهر له.

قوله: «قَالَ: فَمَاذَا قُلْتَ لَهُمْ؟ قَالَ: مَا قُلْتُ لَهُمْ شَيْئاً انْتِظَارَ رَأْيِكَ أَوِ انْتِظَارَ أَمْرِكَ، قَالَ: أَفَلَا أَمَرْتَهُمْ أَنْ يَعُدُّوا سَيِّئَاتِهِمْ، وَضَمِنْتَ لَهُمْ أَنْ لَا يَضِيعَ مِنْ حَسَنَاتِهِمْ» .

المراد أن ابن مسعود فهم أنه عمل محدث يجب إنكاره والتنبيه على عدم شرعيته، ولم يقل لهم أبو موسى رضي الله عنه رغم أنه أنكر صفته، ليسمع رأي فقيه الصحابة رضي الله عنه، فقال: لو أمرتهم أن يحصوا سيئاتهم، لعلهم يتداركون نها أو شيئا منه، وبينت لهم أن حسناتهم محفوظة؛ لأن الله عز وجل قال:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ}

(1)

، والمراد بالإيمان جميع الطاعات، ومنه ما صنع هؤلاء من الذكر، المحدثة طريقته، بل وحتى السيئات محصية على أصحابها قال عز وجل:{وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}

(2)

.

قوله: «ثُمَّ مَضَى وَمَضَيْنَا مَعَهُ حَتَّى أَتَى حَلْقَةً مِنْ تِلْكَ الْحِلَقِ، فَوَقَفَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: مَا هَذَا الَّذِى أَرَاكُمْ تَصْنَعُونَ؟ قَالُوا: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَصًى نَعُدُّ بِهِ التَّكْبِيرَ وَالتَّهْلِيلَ وَالتَّسْبِيحَ، قَالَ: فَعُدُّوا سَيِّئَاتِكُمْ فَأَنَا ضَامِنٌ أَنْ لَا يَضِيعَ مِنْ حَسَنَاتِكُمْ شَيْءٌ» .

(1)

من الآية (143) من سورة البقرة.

(2)

الآية (8) من سورة الزلزلة.

ص: 364

المراد أن الحلقات أكثر من واحدة، مضى إليها ابن مسعود ومن معه، فأنكر عليهم ما أحدثوا، فذكروا له أن يعدون الذكر بالحصى، لإحصاء عدد ما ذكرو الله عز وجل.

ولا ريب أن ما صنعوا لم يكن معهودا وأنه رأي جد في طريقة الذكر، ليس له أساس من كتاب ولا سنة.

قوله: «وَيْحَكُمْ يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ مَا أَسْرَعَ هَلَكَتَكُمْ، هَؤُلَاءِ صَحَابَةُ نَبِيِّكُمْ رضي الله عنهم مُتَوَافِرُونَ، وَهَذِهِ ثِيَابُهُ لَمْ تَبْلَ وَآنِيَتُهُ لَمْ تُكْسَرْ، وَالَّذِي نَفْسِي فِي يَدِهِ إِنَّكُمْ لَعَلَى مِلَّةٍ هِيَ أَهْدَى مِنْ مِلَّةِ مُحَمَّدٍ، أَوْ مُفْتَتِحِوا باب ضَلَالَةٍ» .

بين لهم ابن مسعود رضي الله عنه أنهم أسرعوا إلى المحدثات، فأسرعوا إلى الهلاك بمخالفتهم الهدي النبوي فيما صنعوا، وذلل على سرعة الانحراف عن الجادة مع وجود الكثرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يسترشدوهم فيما فعلوا، وليس موت رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم ببعيد، ولا زالت ثيابه لم تخلق، وآنيته سالمة من العطب، ثم وبخهم فقال: إما أنكم على طريقة هي أحسن من طريقة محمد صلى الله عليه وسلم، وأصحابه رضي الله عنهم، وحاشا أن يكونوا كذلك، أنهم افتتحوا بفعلهم باب ضلالة وهو الحق.

قوله: «قَالُوا: وَاللَّهِ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، مَا أَرَدْنَا إِلاَّ الْخَيْرَ، قَالَ: وَكَمْ مِنْ مُرِيدٍ لِلْخَيْرِ لَنْ يُصِيبَهُ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدَّثَنَا: أَنَّ قَوْماً يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، وَايْمُ اللَّهِ مَا أَدْرِى لَعَلَّ أَكْثَرَهُمْ مِنْكُمْ، ثُمَّ تَوَلَّى عَنْهُمْ، فَقَالَ عَمْرُو بْنُ سَلِمَةَ: رَأَيْنَا عَامَّةَ أُولَئِكَ الْحِلَقِ يُطَاعِنُونَا يَوْمَ النَّهْرَوَانِ مَعَ الْخَوَارِجِ» .

هذا يؤكد ما ذكر ابن مسعود من أنهم أسرعوا إلى الهلكة، وافتتحوا باب ضلالة، ولا ريب أنهم أرادوا الخير فلم يعرفوا طريقه المرسوم، فكانو من

ص: 365

الخوارج الذين مع الصحابة وغير من أهل السنة يوم وقعة النهروان وكان الذين خرجوا على علي بالنهروان أربعة آلاف في الحديد، فركبهم المسلمون فقتلوهم ولم يقتل من المسلمين الا تسعة رهط، وقال علي رضي الله عنه:" إن الله قد نصركم على المارقين " وكانت الوقعة سنة ثمان وثلاثين من الهجرة.

وقد أخبر رسو الله عن هذه الفئة المارقة فما روى سعيد الخدري رضي الله عنه، قال:" بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسِم قسْما، أتاه ذو الخويصرة، وهو رجل من بني تميم، فقال: يا رسول الله اعدل، فقال: «ويلك، ومن يعدل إذا لم أعدل، قد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل" فقال عمر: يا رسول الله، ائذن لي فيه فأضرب عنقه؟ فقال:«دعه، فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى رصافه فما يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى نضيه، - وهو قدحه -، فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى قذذه فلا يوجد فيه شيء، قد سبق الفرث والدم، آيتهم رجل أسود، إحدى عضديه مثل ثدي المرأة، أو مثل البضعة تدردر، ويخرجون على حين فرقة من الناس» قال أبو سعيد: فأشهد أني سمعت هذا الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشهد أن علي بن أبي طالب قاتلهم وأنا معه، فأمر بذلك الرجل فالتمس فأتي به، حتى نظرت إليه على نعت النبي صلى الله عليه وسلم الذي نعته "

(1)

.

(1)

البخاري حديث (3610) ومسلم حديث (1064)

ص: 366

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

214 -

(7) أَخْبَرَنَا يَعْلَى، ثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ حَبِيبٍ، عَنْ أَبِى عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ رضي الله عنه: " اتَّبِعُوا وَلَا تَبْتَدِعُوا فَقَدْ كُفِيتُمْ "

(1)

.

رجال السند:

يَعْلَى، هو الطنافسي، والأَعْمَشُ، وحَبِيبٌ، هو ابن أبي ثابت، وأَبو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، هو عبد الله بن حبيب السلمي، هم أئمة ثقات تقدموا، وعَبْدُ اللَّهِ، هو ابن مسود رضي الله عنه.

الشرح:

قوله: «اتَّبِعُوا وَلَا تَبْتَدِعُوا فَقَدْ كُفِيتُمْ» .

تقدم التحذير من البدع في روايات كثيرة، لشناعتها، وقبح مآلها، فاتباع الكتاب والسنة، وأقوال الصحابة رضي الله عنهم، فيه كفاية لمن بعدهم.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

215 -

(8) أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي خَلَفٍ، ثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ قَالَ: حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيِّ قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ أَفْضَلَ الْهَدْىِ

هَدْىُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ»

(2)

.

(1)

رجاله ثقات، وانظر:(أحاديث باب 19) وانظر: القطوف رقم (147/ 212).

(2)

سنده حسن، وأخرجه مسلم ضمن حديث طويل (867) وهذا طرف منه.

ص: 367

رجال السند:

مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي خَلَفٍ، هو السلمي إمام ثقة تقدم، ويَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ، هو الطائفي الحذاء، محله الصدق، وجَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، هو ابن علي بن الحسين بن علي ابن أبي طالب رضي الله عنهما، المعروف بالصادق، فقيه آل البيت إمام ثقة، وأَبوهِ، هو الباقر محمد بن علي بن الحسن، أبو جعفر إمام ثقة، لم يسمع من عائشة، والحسن، والحسين وجابر بن سمرة رضي الله عنهم، وجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه.

الشرح:

قوله: «خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ أَفْضَلَ الْهَدْىِ هَدْىُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم» .

السنة في هذا أن تبدأ الخطبة بالثناء على الله عز وجل بما هو أهله، ثم الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وأصحابه رضي الله عنهم، ولاريب أن أفضل الهدى هدى النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله عز وجل:{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}

(1)

، المراد يهدي بالقرآن والسنة والدعوة إليهما إلى طريف الفوز والفلاح.

قوله: «وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» .

المراد المحدث باسم الدين، فقد كمل الدين وتأسست الشريعة قبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله عز وجل:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}

(2)

، فمن زعم من الدين ما ليس في كتاب الله

(1)

من الآية (25) من سورة الشورى.

(2)

من الآية (3) من سورة المائدة.

ص: 368

-عز وجل، ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي منهج الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم فقد كذب الله عز وجل، ورسوله صلى الله عليه وسلم، وزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خان الأمة ولم يبلغ الرسالة كما أمره الله عز وجل، وتقدم المنهج في هذا من قول أبي بكر رضي الله عنه برقم 163، فانظره وما بعده.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

216 -

(9) أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْفَزَارِيِّ، عَنْ أَسْلَمَ الْمِنْقَرِيِّ، عَنْ بِلَادِ

(1)

بْنِ عِصْمَةَ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ - وَكَانَ إِذَا كَانَ عَشِيَّةُ الْخَمِيسِ لِلَيْلَةِ الْجُمُعَةِ قَامَ فَقَالَ -: «إِنَّ أَصْدَقَ الْقَوْلِ قَوْلُ اللَّهِ، وَإِنَّ أَحْسَنَ الْهَدْىِ هَدْىُ مُحَمَّدٍ، وَالشَّقِيُّ مَنْ شَقِيَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَإِنَّ شَرَّ الرَّوَايَا رَوَايَا الْكَذِبِ، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مَا هُوَ آتٍ قَرِيبٌ»

(2)

.

رجال السند:

مُحَمَّدُ بْنُ عُيَيْنَةَ، هو أخو سفيان لابأس به، وأَبو إِسْحَاقَ الْفَزَارِيِّ، هو

إبراهيم بن محمد، شديد على أهل البدع، إمام ثقة، وأَسْلَمُ الْمِنْقَرِيِّ، هو أبو سعيد، لم يرو عنه الدارمي سوى هذا، ولابأس به فيه، وبِلَادُ بْنِ

(1)

هكذا في الأصول الخطية، وقد ضبط في حاشية (ت) بلاز: بالزاي، وعلق عليه في بعض النسخ الخطية " بصار" وهو خطأ، صوابه ما أثبت، وأنظر (التقريب رقم 775).

(2)

فيه بلاز: مقبول، والخبرأخرجه البخاري من طريق أخرى، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حديث (7277، طرفه: 6098) وابن ماجه حديث (46) وفي إسناد عبيد ابن ميمون: مستور.

ص: 369

عِصْمَةَ، ويقال: بلاز بالزاي، وهو كوفي مقل، تفرد عنه المنقري بهذا، ولا يعرف له سواه. وعَبْدُ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ رضي الله عنه.

الشرح:

قوله: «إِنَّ أَصْدَقَ الْقَوْلِ قَوْلُ اللَّهِ» .

لا ريب في ذلك فالقرآن ما أنزل الله من الكتب السماوية هي القول: والقرآن كلام الله عز وجل منزل على محمد صلى الله عليه وسلم غير مخلوق، قال الله عز وجل:{وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا}

(1)

، وقال عز وجل:{وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا}

(2)

.

قوله: «وَإِنَّ أَحْسَنَ الْهَدْىِ هَدْىُ مُحَمَّدٍ» أنظر ما تقدم آنفا فقد أغنى عن الإعادة.

قوله: «وَالشَّقِيُّ مَنْ شَقِيَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ» .

المراد أن الله عز وجل كتب أنه من الأشقياء وهو في بطن أمه، «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكا فيؤمر بأربع كلمات، ويقال له: اكتب عمله، ورزقه، وأجله، وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فإن الرجل منكم ليعمل حتى ما يكون بينه وبين الجنة إلا ذراع، فيسبق عليه كتابه، فيعمل بعمل أهل النار، ويعمل حتى ما يكون بينه وبين النار إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة»

(3)

.

(1)

من الآية (87) من سورة النساء.

(2)

من الآية (122) من سورة النساء.

(3)

البخاري حديث (3208) ومسلم حديث (2646).

ص: 370

قوله: «وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلّ مَا هُوَ آتٍ قَرِيبٌ» .

انظر ما تقدم آنفا فقد أغنى عن الإعادة، ولا ريب أن كل ما قدر الله عز وجل اتيانه فلن يتأخر ولا يتقدم عما أجّل الله عز وجل له، قال الله عز وجل:{مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ}

(1)

، وقال عز وجل:{وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا}

(2)

، ومما هو آت البعث والنشور والقيامة والحساب، وكل إلى مصيره الجنة أو النار، نعوذ بالله من النار، ونسأله جل جلاله أن يجعل خير أيامنا يوم القدوم عليه، وأن يجعل ما بعده رحمة ومغفرة وفوزا بالجنة، ونجاة من النار، بفضله ورحمته وهو أرحم الراحمين.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

217 -

(10) أَخْبَرَنِى مُحَمَّدُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِى إِسْحَاقَ الْفَزَارِيِّ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ:" مَا أَخَذَ رَجُلٌ بِبِدْعَةٍ فَرَاجَعَ سُنَّةً"

(3)

.

رجال السند:

مُحَمَّدُ بْنُ عُيَيْنَةَ، هو أخو سفيان، وأَبو إِسْحَاقَ الْفَزَارِيِّ، تقما آنفا، ولَيْثٌ، هو ابن أبي سليم، كثير الغلط، ويحتمل منه هذا، واختلفوا في تحسن حديثه، وأَيُّوبُ، هو السختياني، وابْنُ سِيرِينَ، هو محمد، وهم أئمة ثقات تقدموا.

(1)

الآية (5) من سورة الحجر، والآية (43) من سورة المؤمنون.

(2)

من الآية (11) من سورة المنافقون.

(3)

فيه محمد بن عيينة: مقبول وانظر: القطوف رقم (148/ 212).

ص: 371

الشرح:

قوله: «مَا أَخَذَ رَجُلٌ بِبِدْعَةٍ فَرَاجَعَ سُنَّةً» .

لأن البدعة ترسخ في القلوب، لكونها نبعت من هوى، فتذهب السنة، وتبقى البدعة حية في نفس المبتدع، ولذلك كانت البدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

218 -

(11) أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَبِي أَسْمَاءَ، عَنْ ثَوْبَانَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:«إِنَّمَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الأَئِمَّةَ الْمُضِلِّينَ»

(1)

.

رجال السند:

سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، وحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، وأَيُّوبُ، هو السختياني، وأَبو قِلَابَةَ، عبد الله الجرمي، هم أئمة ثقات، وأَبو أَسْمَاءَ، هو عمرو بن مرثد الرحبي، تابعي إمام ثقة، وثَوْبَانَ رضي الله عنه، هو مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الشرح:

قوله: «إِنَّمَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الأَئِمَّةَ الْمُضِلِّينَ» .

هم أصحاب الأهواء؛ لأنهم يهجرون السنة، وينشرون البدعة باسم الدين؛ ولأنهم بها يستحلون السيف، والقتال ذودا عنها.

(1)

رجاله ثقات تكرر عند المصنف رقم (2756) وأخرجه والترمذي حديث (2229) وقال: حسن صحيح، وأبو داود ضمن حديث طويل (4252) وابن ماجه حديث (3952) وصححه الألباني عندهما.

ص: 372

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

219 -

(12) أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو الْوَلِيدِ الْهَرَوِيُ، ثَنَا مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ بْنِ عَمْرِو ابْنِ جَرِيرٍ، عَنْ حَيَّةَ بِنْتِ أَبِى حَيَّةَ، قَالَتْ: " دَخَلَ عَلَيْنَا رَجُلٌ بِالظَّهِيرَةِ فَقُلْتُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْتَ؟، قَالَ: أَقْبَلْتُ أَنَا وَصَاحِبٌ لِى في بُغَاءٍ

(1)

لَنَا، فَانْطَلَقَ صَاحِبِى يَبْغِى وَدَخَلْتُ أَنَا أَسْتَظِلُّ بِالظِّلِّ، وَأَشْرَبُ مِنَ الشَّرَابِ. فَقُمْتُ إِلَى لُبَيْنَةٍ حَامِضَةٍ - وَرُبَّمَا قَالَ - فَقُمْتُ إِلَى ضَيْحَةٍ

(2)

حَامِضَةٍ فَسَقَيْتُهُ مِنْهَا فَشَرِبَ وَشَرِب

(3)

، قَالَتْ: وَتَوَسَّمْتُهُ فَقُلْتُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ مَنْ أَنْتَ؟، قَالَ: أَنَا أَبُو بَكْرٍ. [قُلْتُ: أَنْتَ أَبُو بَكْرٍ]

(4)

صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الَّذِى سَمِعْتُ بِهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَتْ: فَذَكَرْتُ غَزْوَنَا خَثْعَماً وَغَزْوَةَ بَعْضِنَا بَعْضاً في الْجَاهِلِيَّةِ وَمَا جَاءَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الأُلْفَةِ وَأَطْنَابِ الْفَسَاطِيطِ - وَشَبَّكَ ابْنُ عَوْنٍ أَصَابِعَهُ، وَوَصَفَهُ لَنَا مُعَاذٌ، وَشَبَّكَ أَحْمَدُ - فَقُلْتُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ حَتَّى مَتَى تَرَى أَمْرَ النَّاسِ هَذَا؟ قَالَ: مَا اسْتَقَامَتِ الأَئِمَّةُ. قُلْتُ: مَا الأَئِمَّةُ؟، قَالَ: أَمَا رَأَيْتِ السَّيِّدَ يَكُونُ فِي الْحِوَاءِ فَيَتَّبِعُونَهُ وَيُطِيعُونَهُ، فَمَا اسْتَقَامَ أُولَئِكَ "

(5)

.

(1)

أي: طلب، قال ابن الأثير: ومنه حديث أبي بكر، أنه خرج في بُغاء إبل (النهاية 1/ 143).

(2)

اللبن الخاثر يصب فيه الماء ثم يخلط (النهاية 3/ 106).

(3)

هكذا في الأصول الخطية، وفي المطبوع (وشربت) ويمكن صحة ما في الأصول على إرادة أنه كرر الشرب، وهو الأولى في نظري.

(4)

استدركت في هامش (ت).

(5)

رجاله ثقات.

ص: 373

رجال السند:

أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو الْوَلِيدِ الْهَرَوِيُ، لم أقف على ترجمته وربما أنه الجويباري، جرحه النقاد، لم يرو له الدارمي سوى هذا، ومُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ، هو العنبري، وابْنُ عَوْنٍ، هو عبدالله، إمام ثقة تقدم، وعَمْرُو بْنِ سَعِيدٍ، هو الثقفي أبو سعيد البصري، ثقة من رجال مسلم، وأَبو زُرْعَةَ بْنُ عَمْرِو ابْنِ جَرِيرٍ، هو البجلي إمام ثقة، روى له الستة، وحَيَّةُ بِنْتِ أَبِى حَيَّةَ، هي معدودة في الصحابة رضي الله عنها.

الشرح:

قوله: «أَقْبَلْتُ أَنَا وَصَاحِبٌ لِى في بُغَاءٍ لَنَا، فَانْطَلَقَ صَاحِبِى يَبْغِى وَدَخَلْتُ أَنَا أَسْتَظِلُّ بِالظِّلِّ» .

أقبلا في البحث عن حاجة يبونها، وابتغاء الشيء طلبه والبحث عنه، وليس المراد البغاء من البغي، أو الفاحشة، وبقي أبو بكر رضي الله عنه في ظل شجرة حتى يعود صاحبه الذي ذهب يبحث حاجتهما.

قوله: «مَتَى تَرَى أَمْرَ النَّاسِ هَذَا؟ قَالَ: مَا اسْتَقَامَتِ الأَئِمَّةُ» .

المراد ذهاب الجاهلية، واجتمع الناس على الخير، ونبذ الفرقة والعدوان، فسألت المرأة أبا بكر عن بقاء الناس على هذا الخير الذي جاء محمد صلى الله عليه وسلم، فقال ما دامت الأئمة قائمة بالعدل، والمراد بالأئمة العلماء والأمراء، لأنهم إذا استقاموا على الحق، فالناس تبع لهم، وحادوا عن الحق فإن الطريق لا يستقيم بهم فيدخلون في طريق ذات عوج والناس تبع لهم، ولا ريب أن استقامة الناس لها تأثير أيضا في استقامة العلماء والأمراء، قال علي رضي الله عنه: " قلنا: يا رسول الله استخلف علينا فقال: إن يعلم الله فيكم خيرا يول عليكم خياركم، قال علي رضي الله عنه:

ص: 374

فعلم الله فينا خيرا فولى علينا أبا بكر رضي الله عنه

(1)

.

قوله: «قُلْتُ: مَا الأَئِمَّةُ؟، قَالَ: أَمَا رَأَيْتِ السَّيِّدَ يَكُونُ فِي الْحِوَاءِ فَيَتَّبِعُونَهُ وَيُطِيعُونَهُ، فَمَا اسْتَقَامَ أُولَئِكَ» .

المراد أأن المرأة سألت أبا بكر رضي الله عنه عن الأئمة؛ لأن هذا لا يعرفه العامة في الناس، فضرب لها مثلا بسيد القوم في مجتمع قومه كيف يتبعون قوله، ويطيعون أمره، فما استقام العلماء والأمر إلا تبعهم الناس، كان الوليد ابن عبد الملك صاحب بناء، واتخاذ للمصانع والضياع، وكان الناس يلتقون في زمانه، فإنما يسأل بعضهم بعضا عن البناء والمصانع، فولي سُلَيْمَان، فكان صاحب نكاح وطعام، فكان الناس يسال بعضهم بعضا عن التزويج والجواري، فلما ولي عمر بن عبد العزيز كانوا يلتقون فيقول الرجل للرجل: ما وردك الليلة؟، وكم تحفظ من القرآن؟، ومتى تختم؟، ومتى ختمت؟، وما تصوم من الشهر؟

(2)

.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

220 -

(13) أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّلْتِ، ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ،

(1)

الحاكم حديث (4698).

(2)

تاريخ الطبري (6/ 497.

ص: 375

عَنْ أَخٍ لِعَدِيِّ بْنِ أَرْطَاةَ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «إِنَّ أَخْوَفُ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ الأَئِمَّةَ الْمُضِلِّين»

(1)

.

رجال السند:

مُحَمَّدُ بْنُ الصَّلْتِ، هو الأصم إمام ثقة، وإِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، هو ابن إبراهيم ابن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، أبو إسحاق إمام ثقة، روى له الشيخان، وأَبوه، هو سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، قاضي المدينة من صغار التابعين، إمام ثقة، وأَخٌ لِعَدِيِّ بْنِ أَرْطَاةَ، هو زيد بن أرطاة، لم يلق أبا الدرداء، والواسطة بينهما جبير بن نفير، وأَبو الدَّرْدَاءِ، هو عويمر بن قيس الأنصاري رضي الله عنه.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

221 -

(14) أَخْبَرَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، ثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ بَيَانِ بْنِ بِشْرٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: " دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ رِضْوَانُ الله عَلَيْهِ عَلَى امْرَأَةٍ مِنْ أَحْمَسَ يُقَالُ لَهَا زَيْنَبُ، قَالَ: فَرَآهَا لَا تَتَكَلَّمُ، فَقَالَ: مَا لَهَا لَا تَتَكَلَّمُ؟ قَالُوا: نَوَتْ

(2)

حَجَّةً مُصْمِتَةً، فَقَالَ لَهَا: تَكَلَّمِي، فَإِنَّ هَذَا لَا يَحِلُّ، هَذَا مِنْ عَمَلِ الْجَاهِلِيَّةِ، قَالَ: فَتَكَلَّمَتْ فَقَالَتْ: مَنْ أَنْتَ؟، قَالَ: أَنَا امْرُؤٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، قَالَتْ: مِنْ أَيِّ الْمُهَاجِرِينَ؟، قَالَ: مِنْ قُرَيْشٍ؟ قَالَتْ: فَمِنْ أَيِّ قُرَيْشٍ أَنْتَ؟، قَالَ: إِنَّكِ لَسَئُولٌ، أَنَا أَبُو بَكْرٍ، قَالَتْ: مَا بَقَاؤُنَا عَلَى هَذَا الأَمْرِ الصَّالِحِ الَّذِي جَاءَ اللَّهُ

(1)

رجاله ثقات، وفيه انقطاع بين زيد بن أرطاة أخي عدي وبين أبي الدرداء رضي الله عنه بينهما جبير بن نفير، والخبرأخرجه أحمد حديث (27525) وفيه: حدثني أخ لعدي ابن أرطاة، عن رجل، عن أبي الدرداء.

(2)

كتبت لحقا في هامش (ت).

ص: 376

بِهِ بَعْدَ الْجَاهِلِيَّةِ؟ قَالَ: بَقَاؤُكُمْ عَلَيْهِ مَا اسْتَقَامَتْ بِكُمْ أَئِمَّتُكُمْ. قَالَتْ: وَمَا الأَئِمَّةُ؟ قَالَ: أَمَا كَانَ لِقَوْمِكِ رُؤَسَاءُ

(1)

وَأَشْرَافٌ يَأْمُرُونَهُمْ فَيُطِيعُونَهُمْ؟ قَالَتْ: بَلَى. قَالَ: فَهُمْ مِثْلُ أُولَئِكَ عَلَى النَّاسِ"

(2)

.

رجال السند:

أَبُو النُّعْمَانِ، محمد بن الفضل عام، وأَبُو عَوَانَةَ، هو الوضاح، هما إما مان ثقتان تقدما، وبَيَانُ بْنُ بِشْرٍ، هو الأحمسي، أبو بشر إمام ثقة، روى له الستة، وقَيْسُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، هو أبو عبد الله الكوفي، تابعي مخضرم، روي عن العشرة المبشرين بالجنة، إمام ثقة.

الشرح:

تقدمت رواية بالقصة ذاتها برقم 218، عن حية بنت أبي حية، وهنا سميت زينت، وقدر فرق بينهما البعض، ولكن القصة واحدة لا تحتمل التفريق، وإنما ذكر المرأة كل من روى القصة بما عنده في التسمية، وربما حصل الوهم لأحد الرواة، وما تقدم قريبا أغنى عن الإعادة فلينظر.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

222 -

(15) أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ وَاصِلٍ، عَنِ امْرَأَةٍ يُقَالُ لَهَا عَائِذَةُ قَالَتْ: " رَأَيْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ رضي الله عنه يُوصِي الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ وَيَقُولُ: مَنْ أَدْرَكَ مِنْكُنَّ مِنِ امْرَأَةٍ أَوْ رَجُلٍ فَالسَّمْتَ

(1)

في (ت) رئيسا، صوبت فوقها، ونبه في الحاشية إلى أنه في أخرى (رئيسا).

(2)

رجاله ثقات، أخرجه البخاري سندا ومتنا حديث (3834).

ص: 377

الأَوَّلَ، فَإِنَّا عَلَى الْفِطْرَةِ"

(1)

.

[قال عبد الله: السمت الطريق]

(2)

.

رجال السند:

عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، هو ابن أبي شيبة، إمام ثقة تقدم وعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، هو العنبري أبو سعيد البصري، انتهي إليه علم العلل والجرح والتعديل، إمام ثقة، وسُفْيَانُ، هو ابن عيينة إمام ثقة تقدم، ووَاصِلٌ، هو الأحدب، روايته في الستة إمام ثقة، وعَائِذَةُ، هي امرأة من بني أسد.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

223 -

(16) أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُيَيْنَةَ، أَنبأ عَلِيٌّ - هُوَ ابْنُ مُسْهِرٍ -، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ زِيَادِ بْنِ حُدَيْرٍ

(3)

قَالَ: قَالَ لِي عُمَرُ: " هَلْ تَعْرِفُ مَا يَهْدِمُ الإِسْلَامَ؟ قَالَ: قُلْتُ: لَا، قَالَ: يَهْدِمُهُ زَلَّةُ الْعَالِمِ، وَجِدَالُ الْمُنَافِقِ بِالْكِتَابِ، وَحُكْمُ الأَئِمَّةِ الْمُضِلِّينَ "

(4)

.

رجال السند:

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُيَيْنَةَ، أخو سفيان، لابأس به، زعَلِيُّ ابْنُ مُسْهِرٍ، ثقة، وأَبو إِسْحَاقَ، هو سليمان ثقة إمام، والشَّعْبِيُّ، هو عامر، إمام ثقة، وزِيَادُ

(1)

في سنده عائذة، أخرج ابن سعد حديثها، وذكر أنها من بني أسد، من طريق واصل وأثنى عليها خيرا (الطبقات 8/ 268) وانظر: القطوف رقم (150/ 220).

(2)

ما بين المعقوفين ليست في الأصول الخطية، وكتبت لحقا في حاشية (ت).

(3)

في (ك) علق في الهامش (في الأصل جبير).

(4)

فيه محمد بن عيينة، قال ابن حجر: مقبول، قلت: الصحيح أنه لابأس به، وهو في روايته هنا لم يخالف الثقات وانظر: القطوف رقم (151/ 221).

ص: 378

ابْنُ حُدَيْر، هو الأسدي، أبو المغيرة، أو عبد الرحمن، أخوه زيد، كاتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

الشرح:

قوله: «هَلْ تَعْرِفُ مَا يَهْدِمُ الإِسْلَامَ؟ قَالَ: قُلْتُ: لَا، قَالَ: يَهْدِمُهُ زَلَّةُ الْعَالِمِ، وَجِدَالُ الْمُنَافِقِ بِالْكِتَابِ، وَحُكْمُ الأَئِمَّةِ الْمُضِلِّينَ» .

الحقيقة أنها ثلاثة معاول تهدم الدين، فزلة العالم المعول الأول، فالعالم في ظاهر الأمر قدوة الناس، فإذا ضل الحق أضل معه أمة من الناس، وهذا من أخوف ما خافة الرسول صلى الله عليه وسلم على الأمة انظر ما تقدم برقم 218، ومن أسباب زلة العلم الغلو، واتباع الهوى، ولذلك خاطب الله أهل الكتاب فقال:{قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ}

(1)

، والمعول الثاني الجدال بالباطل، وهذا لا يفعله إلا المنافقون للتشكيك في الكتاب والسنة كما قال عمر رضي الله عنه فيما تقدم برقم 121 - (21) فانظره، والمعول الثالث: حكم العلماء والأمراء المضلين، فكل من لم يحكم بما أنزل فهو من الأئمة المضلين.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

224 -

(17) أَخْبَرَنَا هَارُونُ، عَنْ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، عَنْ لَيْثٍ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ مُحَمَّدِ ابْنِ عَلِىٍّ قَالَ: " لَا تُجَالِسُوا أَصْحَابَ الْخُصُومَاتِ، فَإِنَّهُمْ

(1)

الآية (77) من سورة المائدة.

ص: 379

يَخُوضُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ "

(1)

.

رجال السند:

هَارُونُ، هو الأشعري، صدوق، وحَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، إمام ثقة، ولَيْثٌ، هو ابن أبي سليم، كثير الخطأ، ويحمل منه هذا، والْحَكَمُ، هو ابن عتيبة، أبو محمد مفتي الكوفة، من كبار أصحاب إبراهيم النخعي، إمام ثقة يدلس، ومُحَمَّدُ بْنُ عَلِىٍّ الباقر، من ولدعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، إمام تقدم.

الشرح:

قوله: «لَا تُجَالِسُوا أَصْحَابَ الْخُصُومَاتِ، فَإِنَّهُمْ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ» . سبحان الله العظيم، هذا منطبق على الرافضة، في كل زمان، ولاسيما في هذا الزمان، فمن يشاهد ويسمع أئمة الضلال منهم عبر الفضائيات لا يشك في أنهم يخضون في آيات الله عز وجل، وينشرون عمدا كذبا على الله عز وجل وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

225 -

(18) أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مَنْصُورٍ، ثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ مُبَارَكٍ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: " سُنَّتُكُمْ وَالَّذِي لَا إِلَهَ إِلَا هُوَ بَيْنَهُمَا: بَيْنَ الْغَالِي وَالْجَافِي، فَاصْبِرُوا عَلَيْهَا رَحِمَكُمُ اللَّهُ، فَإِنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ كَانُوا أَقَلَّ النَّاسِ فِيمَا مَضَى، وَهُمْ أَقَلُّ النَّاسِ فِيمَا بَقِىَ، الَّذِينَ لَمْ يَذْهَبُوا مَعَ أَهْلِ الإِتْرَافِ فِي إِتْرَافِهِمْ، وَلَا مَعَ أَهْلِ الْبِدَعِ في بِدَعِهِمْ، وَصَبَرُوا عَلَى سُنَّتِهِمْ حَتَّى لَقُوا رَبَّهُمْ، فَكَذَلِكُمْ

(1)

فيه ليث بن أبي سليم: صدوق اختلط جدا، وهنا يتقوى بغيره الأثر رقم (409) وانظر: القطوف رقم (152/ 222).

ص: 380

إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَكُونُوا "

(1)

.

رجال السند:

الْحُسَيْنُ بْنُ مَنْصُورٍ، لابأس به، وأَبُو أُسَامَةَ

(2)

، حماد بن أسامة إمام ثقة، ومُبَارَكٌ، هو ابن فضالة البصري، أبو فضالة مولى عمر رضي الله عنه، كثير التدليس، ثقة إذا صرح بالسماع، استشهد به البخاري، والْحَسَنُ، هو ابن علي رضي الله عنه.

الشرح:

قوله: «سُنَّتُكُمْ وَالَّذِي لَا إِلَهَ إِلَا هُوَ بَيْنَهُمَا: بَيْنَ الْغَالِي وَالْجَافِي، فَاصْبِرُوا عَلَيْهَا رَحِمَكُمُ اللَّهُ، فَإِنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ كَانُوا أَقَلَّ النَّاسِ فِيمَا مَضَى، وَهُمْ أَقَلُّ النَّاسِ فِيمَا بَقِىَ، الَّذِينَ لَمْ يَذْهَبُوا مَعَ أَهْلِ الإِتْرَافِ فِي إِتْرَافِهِمْ، وَلَا مَعَ أَهْلِ الْبِدَعِ في بِدَعِهِمْ، وَصَبَرُوا عَلَى سُنَّتِهِمْ حَتَّى لَقُوا رَبَّهُمْ، فَكَذَلِكُمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَكُونُوا» .

هذه وصية من الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، مبينا أن أمرين أحلاهما مر لا يستساغ، بين قوم غلاة كالخوارج وغيرهم، وأناس مجافين للعمل بها، والدعوة إليها، والقليلون الذين يحافظون عليها، ويتمسكون بوصية الرسول صلى الله عليه وسلم «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ

الْمَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْمُحْدَثَاتِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ»، حث الحسن رضي الله عنه على التمسك بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، والبعد عن

(1)

فيه المبارك بن فضالة: صدوق يدلس، قال الذهبي: قال مبارك: جالست الحسن ثلاث عشرة سنة، وقال ابن معين: قد رأى - يعني الرسول صلى الله عليه وسلم (الميزان 4/ 351) وانظر: القطوف رقم (153/ 223).

(2)

في المطبوع (عن شريك عن المبارك).

ص: 381

الغلو والمجافاة، والحديث في إسناد عبد الرحمن بن عمرو بن عبسة السلمي، مقبول. والخبرأخرجه الترمذي حديث (2676) وقال: حسن صحيح، وأبو داود حديث (4607) وابن ماجه حديث (43) وصححه الألباني عندهما.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

226 -

(19) أَخْبَرَنَا مُوسَى بْنُ خَالِدٍ، ثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ عُمَارَةَ، وَمَالِكِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ:" الْقَصْدُ فِي السُّنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الاِجْتِهَادِ فِي الْبِدْعَةِ "

(1)

.

رجال السند:

مُوسَى بْنُ خَالِدٍ، هو الحلبي، أبو الوليد، صهر محمد بن يوسف الفريابي، أو أبي إسحاق الفزاري، صدوق روى حديثه مسلم في الصحيح، وعِيسَى ابْنُ يُونُسَ، هو ابن أبي إسحاق السبيعي، أبو عمرو، وهو أخو إسرائيل، إمام ثقة، روى له الستة، والأَعْمَشِ، هو سليمان إمام ثقة تقدم، وعُمَارَةَ، هو ابن عمير التيمي ثقة، وَمَالِكِ بْنِ الْحَارِثِ، هو السلمي، تابعي ثقة، وعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، هو النخعي من أصحاب ابن مسعود رضي الله عنه، إمام ثقة تقدم، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، هو ابن مسعود رضي الله عنه.

الشرح:

قوله: «الْقَصْدُ فِي السُّنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الاِجْتِهَادِ فِي الْبِدْعَةِ» .

(1)

سنده حسن، موسى بن خالد أبو الوليد الحلبي قال ابن حجر: مقبول، قلت: هو أفضل من ذلك، روى له مسلم.

ص: 382

الخير كل الخير في التمسك بالسنة لثبوتها عن المعصوم صلى الله عليه وسلم، ولو عد الله عز وجل بحب من اتبعه صلى الله عليه وسلم، قال عز وجل:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}

(1)

، بين الله عز وجل أن اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم من أبواب محبة الله للعبد، وليس المهم أن تحب الله عز وجل المهم أن يحبك الله؛ لأن الله عز وجل غني عن محبة العباد، والعباد هم المحتاجون لمحبة الله عز وجل، والبدعة في الدين ليس فيها خير، على الإطلاق، ولكن لعله أراد ما يسمى بالبدعة الحسنة، والبدعة الحسنة يجب أن يكون لها أصل في الشرع، كقول عمر رضي الله عنه لما جمع الصحابة على إمام في التراويح:" نعمت البدعة هذه؛ يعني أنها محدثة لم تكن"، وأصلها صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، توقف عنها حتى لا تفرض على الأمة، فهذه ليست بدعة، وليست مذمومة؛ لأن البدعة ما أحدث مخالفا لكتاب الله عز وجل أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو إجماع الأمة، فهذه البدعة ضلالة، والاجتهاد فيها يؤدي إلى النار.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

24 -

‌ بابٌ

(2)

الاِقْتِدَاءِ بِالْعُلمَاءِ

227 _

(1) أَخْبَرَنَا مَنْصُورُ بْنُ سَلَمَةَ الْخُزَاعِيُّ، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ:" لَقَدْ أَدْرَكْتُ أَقْوَاماً لَوْ لَمْ يُجَاوِزْ أَحَدُهُمْ ظُفْراً لَمَا جَاوَزْتُهُ، كَفى إِزْرَاءً عَلَى قَوْمٍ أَنْ تُخَالَفَ أَفْعَالُهُمْ "

(3)

.

(1)

من الآية (31) من سورة آل عمران.

(2)

في (ك) كتب قبالته بلاغ قراءة على الناقوسي، وفي (ت) بلغ العرض.

(3)

فيه ميمون أبي حمزة: ضعيف.

ص: 383

رجال السند:

مَنْصُورُ بْنُ سَلَمَةَ الْخُزَاعِيُّ، هو أبو سلمة البغدادي، حافظ رفيع، يؤخذ بقوله في الرجال، إمام ثقة، وشَرِيكٌ، هو بن عبد الله القاضي، إمام ثقة تقدم، وأَبو حَمْزَةَ، هو ميمون من أصحاب إبراهيم ضعيف، ويحتمل في هذا تقدم، وإِبْرَاهِيم، هو النخعي إمام ثقة تقدم.

الشرح:

قوله: «لَقَدْ أَدْرَكْتُ أَقْوَاماً لَوْ لَمْ يُجَاوِزْ أَحَدُهُمْ ظُفْراً لَمَا جَاوَزْتُهُ، كَفى إِزْرَاءً عَلَى قَوْمٍ أَنْ تُخَالَفَ أَفْعَالُهُمْ» .

المراد أنه أدرك جمعا من الصحابة رضي الله عنهم، شديدي الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يجاوز أحدهم الكتاب والسنة قيد ظفر، ثم يقزل إبراهيم رحمه الله: كفى حقارة للمرء، أن يخالف ما هم عليه من التمسك والاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم.

ما يستفاد:

* بيان حرص الصحابة رضي الله عنهم على الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم.

* بيان حرص إبراهيم ومن التابعين على الاقتداء بالصحابة.

* حقارة وازدرا من لا يقتدي بهم، ويسير على نهجهم.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

228 -

(2) أَخْبَرَنَا يَعْلَى، ثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ، عَنْ عَطَاءٍ: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا

ص: 384

الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}

(1)

قَالَ: " أُولُو الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ، وَطَاعَةُ الرَّسُولِ اتِّبَاعُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ "

(2)

.

رجال السند:

يَعْلَى، هو الطنافسي، إمام ثقة تقدم، وعَبْدُ الْمَلِكِ، هو ابن أبي سليمان ميسرة العرزمي، إمام ثقة، روى له مسلم، وعَطَاء هو ابن أبي رباح إمام ثقة تقدم.

الشرح:

قوله: «أُولُو الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ، وَطَاعَةُ الرَّسُولِ اتِّبَاعُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ» .

تقدم في حديث العرباض برقم 96 - (1) وفيه بيان ولم يرد عطاء رحمه الله استبعاد الأمراء من الطاعة؛ لأن الأمراء في ذلك الوقت كانوا علماء يعملون بالكاب والسنة، ليس فيهم لبراليين ولا علمانيين، ولهذا وجب بيان قول الله عز وجل:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}

(3)

بأنه ربط عظيم بين ثلاث طاعات مفروضة بالنص من الله عز وجل ليس فيها مجال للاجتهاد، ولا ينفك بعضها عن بعض، فمن أطاع الله عز وجل فهو بالزوم يطيع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أطاع الرسول لزوما يطيع الله عز وجل، ومن عصى الله عز وجل فقد عصى الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن عصى الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو عاص لله عز وجل، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى

(1)

من الآية (59) من سورة النساء.

(2)

سنده حسن، وانظر: القطوف رقم (155/ 226).

(3)

من الآية (59) من سورة النساء.

ص: 385

الله، ومن أطاع الأمير فقد أطاعني، ومن عصى الأمير فقد عصاني»

(1)

، ثم لم يعد الفعل {وَأَطِيعُوا} فلم يقل: وطيعوا أولي الأمر منكم بل قال عز وجل: {وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} ؛ لأن طاعة ولي الأمر مرتبطة بطاعة الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، فجرى العطف بد ذكر الفعل، ليعلم أنه لا طاعة لولي الإمر إلا إذا أطاع الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

229 -

(3) أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ قَالَ: " سَأَلْتُ ابْنَ شُبْرُمَةَ، عَنْ شَيْءٍ

(2)

وَكَانَتْ عِنْدِي مَسْأَلَةٌ شَدِيدَةٌ، فَقُلْتُ: رَحِمَكَ اللَّهُ انْظُرْ فِيهَا: قَالَ: إِذَا وَضَحَ لِيَ الطَّرِيقُ وَوَجَدْتُ الأَثَرَ لَمْ أَحْبِسْ"

(3)

.

رجال السند:

مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُف، هو الفريابي إمام ثقة، وإِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ هو العجلي، أبو إسحاق الخراساني، أثنى عليه العلماء، إمام ثقة، وابْنُ شُبْرُمَةَ، هو عبد الله أبو شبرمة، قاضي الكوفة، إمام ثقة روى له مسلم.

الشرح:

قوله: «إِذَا وَضَحَ لِيَ الطَّرِيقُ وَوَجَدْتُ الأَثَرَ لَمْ أَحْبِسْ» .

(1)

أحمد حديث (7434) بتصرف.

(2)

في (ت) مسألة، صوبت في الهامش.

(3)

سنده حسن.

ص: 386

أراد رحمه الله عز وجل الاتباع، فإذا بان له الدليل من الكتاب، أو من السنة، أو من أقوال الصحابة رضي الله عنهم فإنه يجيب السائل، ولا يحبس العلم عنه، أما إذا كان الرأي فلا جواب ولا بد من حبس اللسان عن القول بالرأي.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

230 -

(4) أَخْبَرَنَا عُثْمَانُ بْنُ الْهَيْثَمِ، ثَنَا عَوْفٌ، عَنْ رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ سُلَيْمَانُ ابْنُ جَابِرٍ مِنْ أَهْلِ هَجَرَ قَالَ: قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ وَعَلِّمُوهُ النَّاسَ، تَعَلَّمُوا الْفَرَائِضَ وَعَلِّمُوهُ النَّاسَ، تَعَلَّمُوا (الفَرَائِضْ)

(1)

وَعَلِّمُوهُ النَّاسَ، فَإِنِّي امْرُؤٌ مَقْبُوضٌ، وَالْعِلْمُ سَيُنْتَقَصُ وَتَظْهَرُ الْفِتَنُ، حَتَّى يَخْتَلِفَ اثْنَانِ فِي فَرِيضَةٍ لَا يَجِدَانِ أَحَداً يَفْصِلُ بَيْنَهُما».

رجال السند:

عُثْمَانُ بْنُ الْهَيْثَمِ، هو ابن جهم العبدي، أبو عمر البصري، من شيوخ البخاري، وعَوْفٌ، هو ابن أبي جميلة الأعرابي أبو سهل البصري، روى له الستة، رمي بالتشيع والقدر، ورَجُل يُقَالُ لَهُ: سُلَيْمَانُ بْنُ جَابِرٍ مِنْ أَهْلِ هَجَرَ مجهول، وابْنُ مَسْعُودٍ، هو عبد الله رضي الله عنه.

الشرح:

قوله: «تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ» .

المراد بالعلم الكتاب والسنة، وعلم الشريعة هو أفضل العلوم؛ لأنه حاكم على جميع العلوم الدنيوية، ما حل منها وما حرم، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1)

في (ت، ف، ك، و) القرآن، وليست في (د) ولم يكرر فيها، وقد رجحت ما في الأصل باعتبار التوكيد إلى أهمية علم الفرائض، ولأن القرآن تكفل الله بحفظه إلى أن يرث الأرض ومن عليها.

ص: 387

عن تعلم العلم الشرعي فقال: «لا تعلموا العلم، لتباهوا به العلماء، ولا لتماروا به السفهاء، ولا تخيروا به المجالس، فمن فعل ذلك، فالنار النار"

(1)

؛ لأنه لم يقصد به وجه الله عز وجل، وقال ابن مسعود رضي الله عنه:" لا تعلموا العلم لثلاث: لتماروا به السفهاء، أو لتجادلوا به الفقهاء، أو لتصرفوا به وجوه الناس إليكم، وابتغوا بقولكم عند الله، فإنه يبقى ويذهب ما سواه"

(2)

، وقال معاذ بن جبل رضي الله عنه:" تعلموا العلم فإن تعلمه خشية، وطلبه عبادة، ومدارسته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقه، وبذله لأهلة قربة، وهو الأنس في الوحدة، والصاحب في الخلوة "

(3)

، اللهم أعنا ولا تحرمنا هذا الفضل.

قوله: «وَعَلِّمُوهُ النَّاسَ» .

تقدم قول ابن مسعود رضي الله عنه برقم 145، وهذا أمر بنشر العلم الشرعي بأنواعه، وتعليمه للناس، وقد توعد الله عز وجل من كتم العلم وعلى عدم تعليمه للناس، فقال:{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} الآية (159) من سورة البقرة، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«من كتم علما تلجّم بلجام من نار يوم القيامة»

(4)

.

(1)

انظر جامع العلوم والحكم 1/ 78.

(2)

انظر جامع العلوم والحكم 1/ 78.

(3)

المجالس الوعظية في شرح أحاديث خير البرية 2/ 87.

(4)

ابن حبان حديث (95).

ص: 388

قوله: «تَعَلَّمُوا الْفَرَائِضَ وَعَلِّمُوهُ النَّاسَ» . المراد بالفرائض علم المواريث التي فرضها الله عز وجل، وبين أصولها في سورة النساء، الفرائض المنصوصة في القرآن ست النصف ونصفه ونصف نصفه والثلثان ونصفهما ونصف نصفهما، والمراد أن من أهلها من يستحقها بنص كتاب الله عز وجل.

قال ابن بطال رحمه الله: المراد بأولى رجل أن الرجال من العصبة بعد أهل الفرائض إذا كان فيهم من هو أقرب إلى الميت استحق دون من هو أبعد، والتفصيل في المولاة.

والفرائض جمع فريضة، وهي فعيلة بمعنى مفروضة مأخوذة من الفرض، وهو القطع، وخصت المواريث باسم الفرائض من قوله عز وجل:{نَصِيبًا مَفْرُوضًا}

(1)

، أي مقدارا معلوما، وقد وردت أحاديث كثيرة في الحث على تعلم علم الفرائض، وورد أنه أول علم يرفع.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألحقوا الفرائض بأهلها» والمراد بها الست المنصوص عليها، وعلى أهلها في القرآن «فما بقي فهو لأولى رجل ذكر» خص الذكر توكيدا، والعجب من زنادقة هذا العصر أن يسعوا لمساواة المرأة بالرجل في الميراث، وليس هذا شفقة منهم على المرأة، ولكن حربا على الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأولئك هم الخاسرون، في الدنيا والأخرة.

قوله: «فَإِنِّي امْرُؤٌ مَقْبُوضٌ» .

(1)

من الآية (7) من سورة النساء.

ص: 389

المراد الإخبار بأنه صلى الله عليه وسلم لن يبقى في الأمة يعلمهم الخير، ويحذرهم من الشر، لابد أن يأتيه الأجل صلى الله عليه وسلم، أو أن في هذا إشارة إلى قرب أجله، فقد تقدم برقم 78، 82، أن الله عز وجل خيرة صلى الله عليه وسلم.

قوله: «وَالْعِلْمُ سَيُنْتَقَصُ وَتَظْهَرُ الْفِتَنُ» .

تقدم برقم 97، وفي رواية العرباض رضي الله عنه برقم 96، فلينظر.

قوله: «حَتَّى يَخْتَلِفَ اثْنَانِ فِي فَرِيضَةٍ لَا يَجِدَانِ أَحَداً يَفْصِلُ بَيْنَهُما» .

قد مضى مثل هذا في أزمنة عديدة، وقبل حكم الملك عبد العزيز، يذكر لنا لأجداد أن الرجل كان يذهب من قرية إلى أخرى، يبحث عمن يقرأ له رسالة أو يكتب له رسالة أو وثيقة فلا يجد، وقد لا يجد في القبيلة إلا الرجل الواحد وعلى ضعف، ولا يمنع أن يكون في الأجيال القادمة.

أما المواريث فالمحاكم اليوم يعوزها من يعلم الفرائض، وتقسيم التركات، لقلة من يجيد هذا العلم.

هذا إن كان المراد به العموم فينبئ عن ضياع العلم الشرعي في الناس فلا يجد المختلفان في مسألة من يفصل بينهما، وإن كان المقصود خصوص علم المواريث فالجهل به هو في كثير من الناس اليوم، والحديث فيه الهجري: مجهول، وأخرجه ابن ماجه حديث (2719) وفيه حفص بْنُ عمر المذكور ضعفه ابن معين والبخاريّ والنسائيّ وأبو حاتم. وقال ابن حبان: لا يجور الاحتجاج به بحال: وقال ابن عديّ: قليل الحديث، وحديثه كما قَالَ البخاريّ، منكر، وضعفه الألباني.

ما يستفاد:

* أهمية تعلم العلم، فالضروري منه واجب تعلمه، وما زاد عن ذلك فمندوب.

ص: 390

* وجوب نشر العلم وتعليم الناس ما تصح به عبادتهم، وتصفوا عقيدتهم، ويعرفون الجلال والحرام في الجملة، وتفصيل ذلك مندوب.

* بيان أن العلم يقبض بقبض العلماء.

* أن العلم الشرعي سيقل في الناس حتى لا يجد الخصمان من يفصل بينهما.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

231 -

(5) أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، ثَنَا عُمَرُ بْنُ أَبِى خَلِيفَةَ قَالَ: سَمِعْتُ زِيَادَ بْنَ مِخْرَاقٍ ذَكَرَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ:" أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُعَاذَ ابْنَ جَبَلٍ وَأَبَا مُوسَى إِلَى الْيَمَنِ قَالَ: «تَسَانَدَا وَتَطَاوَعَا، وَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا» فَقَدِمَا الْيَمَنَ فَخَطَبَ النَّاسَ مُعَاذٌ، فَحَضَّهُمْ عَلَى الإِسْلَامِ وَأَمَرَهُمْ بِالتَّفَقُّهِ وَالْقُرْآنِ، وَقَالَ: إِذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ فَسَلُونِي أُخْبِرْكُمْ عَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ. فَمَكَثُوا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَمْكُثُوا فَقَالُوا لِمُعَاذٍ: قَدْ كُنْتَ أَمَرْتَنَا إِذَا نَحْنُ تَفَقَّهْنَا وَقَرَأْنَا أَنْ نَسْأَلَكَ فَتُخْبِرَنَا بِأَهْلِ الْجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ. فَقَالَ لَهُمْ مُعَاذٌ: إِذَا ذُكِرَ الرَّجُلُ بِخَيْرٍ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِذَا ذُكِرَ بِشَرٍّ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ "

(1)

.

رجال السند:

يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، هو الدورقي أبو يوسف القيسي، إمام ثقة صنف المسند، وعُمَرُ بْنُ أَبِى خَلِيفَةَ، هو أبو حفص العبدي، صالح الحديث، وزِيَادُ بْنُ مِخْرَاقٍ، هو المزني أبو الحارث البصري، إمام ثقة، وعَبْدُ اللَّهِ ابْنُ عُمَرَ،

(1)

فيه عمر بن أبي خليفة العبدي، إن لم يكن أبا مسلم العبدي، فلا أعرفه، وانظر: القطوف رقم (157/ 229).

ص: 391

هو الصحابي الجليل ابن عمر بن الخطاب، ومعاذُ، وأبو موسى رضي الله عنهما تقدما.

الشرح:

تقدم 229، الأمر بتعلم العلم آنفا، وفيه ذكرنا قول معاذ رضي الله عنه.

قوله: «إِذَا ذُكِرَ الرَّجُلُ بِخَيْرٍ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِذَا ذُكِرَ بِشَرٍّ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ» .

يؤيد هذا قول أنس بن مالك رضي الله عنه: " مروا بجنازة، فأثنوا عليها خيرا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«وجبت» ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شرا، فقال:«وجبت» فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما وجبت؟ قال: «هذا أثنيتم عليه خيرا، فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شرا، فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض»

(1)

.

ما يستفاد:

* أن من ثمرة التمسك بالكتاب والسنة الأعمال الخيرية.

* ومن ثمرة الأعمال الخيرية دخول الجنة.

* ومن ثمرة الأعمال الخيرية التعاون والتطاوع.

* أن من أساليب الدعوة الرفق والبشارة بالعاقبة الحسنة.

* أهمية البعد عن القسوة والغلظة والتنفير قال عز وجل: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ

لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}

(2)

.

(1)

البخاري حديث (1366).

(2)

البخاري حديث (1366).

ص: 392

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

232 -

(6) أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، ثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ أَبِي سَعِيدٍ يُحَدِّثُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: " قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَكْرَمُ؟ قَالَ: «أَتْقَاهُمْ» قَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ. قَالَ: «فَيُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ نَبِيُّ اللَّهِ ابْنُ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ خَلِيلِ اللَّهِ» قَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ. قَالَ: «فَعَنْ مَعَادِنِ الْعَرَبِ تَسْأَلُونِي؟، خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الإِسْلَامِ إِذَا فَقِهُوا»

(1)

.

رجال السند:

يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، هو الدورقي إمام ثقة تقدم، ويَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، إمام ثقة تقدم، وعُبَيْدُ اللَّهِ هو ابن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أبو عثمان العمري، إخوته عبد الله، وأبو بكر، وعاصم، إمام ثقة، وسَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ، يُحَدِّثُ، هو المقبري، إمام ثقة، لم يرو بعد التغير، وأَبوهُ، هو كيسان المقبري، أبو سعيد المدني، مولى أم شريك الزهرانية، تابعي روى له الستة، وأَبو هُرَيْرَةَ، هو عبد الرحمن ابن صخر رضي الله عنه.

الشرح:

قوله: «قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَكْرَمُ؟ قَالَ: «أَتْقَاهُمْ» .

(1)

رجاله ثقات، وللمقبري فيه شيخان: أبوه كيسان المقبري، والصحابي أبو هريرة رضي الله عنه، ورواه على الوجهين، أخرجه البخاري حديث (3353) ومسلم حديث (2378) وانظر:(اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان حديث 1537).

ص: 393

تبادر إلى ذهن رسول الله صلى الله عليه وسلم قول الله عز وجل: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}

(1)

.

قوله: «فَيُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ نَبِيُّ اللَّهِ ابْنُ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ خَلِيلِ اللَّهِ» .

ثم أجاب بأنه يوسف عليه السلام، لأنه سلالة أنبياء، فأبو يعقوب عليه السلام، وجده إسحاق عليه السلام، وجد أبيه إبراهيم الخليل عليه السلام.

قوله: «فَعَنْ مَعَادِنِ الْعَرَبِ تَسْأَلُونِي؟، خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الإِسْلَامِ إِذَا فَقِهُوا» .

ثم أجابهم بأن العرب معادن، وأن خيارهم قبل الإسلام هم خيارهم بعد الإسلام إذا فهموا شرع الله عز وجل وعملوا به.

ما يستفاد:

* بيان فضل التقوى، وأنها جماع الخير كله.

* أن يوسف عليه السلام وآباءه من أكرم الخلق على الله عز وجل.

* أن الناس يكونوا كراما بفقههم الإسلام والعمل به.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

233 -

(7) أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُسَامَةَ بْنِ الْهَادِ، عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ حُمَيْدِ ابْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ

(1)

من الآية (13) من سورة الحجرات.

ص: 394

يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْراً يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ»

(1)

.

رجال السند:

عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، هو كاب الليث صدوق تقدم، واللَّيْثُ، هو ابن سعد إمام ثقة تقدم، ويَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُسَامَةَ بْنِ الْهَادِ، هو ثقة تقدم، وعَبْدُ الْوَهَّابِ، هو ابن أبي بكر المدني، أحد القدماء من أصحاب الزهري، ثقة، وابْنُ شِهَابٍ، هو محمد بن مسلم، إمام ثقة تقدم، وحُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، هو ابن عوف، أخو أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، أبو هما الصحابي الجليل، ومُعَاوِيَةُ، هو ابن أبي سفيان رضي الله عنهما، أبو عبد الرحمن أول الملوك في الإسلام، كان من كتاب الوحي.

الشرح:

قوله: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْراً يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ» .

أو علامة الفقه المحافظة على الفرائض، والتقرب إلى الله عز وجل بالنوافل، وذلك يقود إلى الرغبة في الآخرة، وازهد في الدنيا، والفقه في الدين يعرف بما وعد الله عز وجل به الطائعين، وأوعد العاصين، ويعرف بعظيم نعم الله عز وجل على عباده فاشتدت خشيتهم من الله عز وجل، وراقبوه في السر والعلانية.

ما يستفاد:

* فضل العلماء على سائر الناس.

* فيه فضل الفقه في الدين على سائر العلوم.

(1)

فيه عبد الله بن صالح: صدوق، وليس كثير الغلط كما قيل، ثبت في كتابه، وهذا مما هو ثبت فيه، أخرجه البخاري حديث (71، 3116) ومسلم حديث (1037) وانظر: (اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان حديث 615).

ص: 395

* فيه إنما ثبت فضل الفقه؛ لأنه يقود إلى خشية الله عز وجل، والتزام طاعته، وتجنب معاصيه.

* ويقود إلى الزهد في الدنيا وحب الآخرة.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

234 -

(8) أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْراً يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ»

(1)

.

رجال السند:

سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، هو الضبي، إمام ثقة تقدم، وإِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ، هو ابن كثير الأنصاري، أبو إسحاق الزرقي، مقرئ ومحدث، إمام ثقة، وعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، هو الفزاري أبو بكر المدني، إمام ثقة، وأَبوهِ، هو سعيد بن أبي هند، روى عن بعض الصحابة، إمام ثقة، وابْنِ عَبَّاسٍ، هو عبد الله حبر الأمة رضي الله عنه.

الشرح: انظر السابق.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

235 -

(9) أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَنْبَأَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ جَبَلَةَ بْنِ عَطِيَّةَ، عَنِ ابْنِ مُحَيْرِيزٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

يَقُولُ: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْراً يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ»

(2)

.

(1)

رجاله ثقات، وأخرجه الترمذي حديث (2645) وقال: هذا حديث حسن صحيح، وانظر السابق.

(2)

رجاله ثقات، وتقدم برقم (231).

ص: 396

رجال السند:

يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، إمام ثقة، تقدم، وحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، إمام ثقة تقدم، وجَبَلَةَ بْنُ عَطِيَّةَ، هو الفلسطيني، ثقة روى له النسائي، وابْنُ مُحَيْرِيزٍ، هو عبدالله إمام ثقة، ومُعَاوِيَةُ، هو ابن أبي سفيان رضي الله عنهما.

الشرح: انظر ما تقدم آنفا.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

236 -

(10) أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ الزَّهْرَانِيُّ، أَنبَأَ إِسْمَاعِيلُ - هُوَ ابْنُ جَعْفَرٍ - ثَنَا عَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرٍو، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه، أَنَّهُ شَهِدَ خُطْبَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي يَوْمِ عَرَفَةَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: «أيُّهَا النَّاسُ إِنِّي وَاللَّهِ لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَلْقَاكُمْ بَعْدَ يَوْمِي هَذَا بِمَكَانِي هَذَا، فَرَحِمَ اللَّهُ مَنْ سَمِعَ مَقَالَتِي الْيَوْمَ فَوَعَاهَا، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ وَلَا فِقْهَ لَهُ، وَلَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ، وَاعْلَمُوا أَنَّ أَمْوَالَكُمْ وَدِمَاءَكُمْ

(1)

حَرَامٌ، عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ هَذَا الْيَوْمِ فِي هَذَا الشَّهْرِ فِي هَذَا الْبَلَدِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ الْقُلُوبَ لَا تَغِلُّ عَلَى ثَلَاثٍ: إِخْلَاصِ الْعَمَلِ لِلَّهِ، وَمُنَاصَحَةِ أُولِى الأَمْرِ، وَعَلَى لُزُومِ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ»

(2)

.

(1)

في (ك) وأولادكم، وضبب عليه، وصوب.

(2)

فيه عبد الرحمن بن معاوية بن الحويرث: روى عنه شعبة، ويقويه ما بعده.

ص: 397

رجال السند:

سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ الزَّهْرَانِيُّ، هو أبو الربيع، إمام ثقة، وإِسْمَاعِيلُ هُوَ ابْنُ جَعْفَرٍ، أبو إسحاق الزرقي، إمام ثقة تقدم آنفا، وعَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرٍو، هو ميسرة ليس بهبأس، صاحب مراسيل، وعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحُوَيْرِثِ، هو عبد الرحمن بن معاوية بن الحويرث الأنصاري، أبو الحويرث المدني، رمي بالإرجاء، روى عنه شعبة وهولا يروي إلا عن ثقة، ومُحَمَّدُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، هو أبو سعيد المدني، عالم بحديث قريش، إمام ثقة، وأَبُوه، هو جبير بن مطعم بن عدي، من أنسب قريش لها وللعرب، من الطلقاء الذين حسن إسلامهم رضي الله عنه.

الشرح:

قوله: «أيُّهَا النَّاسُ إِنِّي وَاللَّهِ لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَلْقَاكُمْ بَعْدَ يَوْمِي هَذَا بِمَكَانِي هَذَا، فَرَحِمَ اللَّهُ مَنْ سَمِعَ مَقَالَتِي الْيَوْمَ فَوَعَاهَا» .

حج رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة واحدة حجة الفريضة في السنة العاشرة من الهجرة، وخطب الناس في عرفات الخطبة المشهورة، وكانت خطبة جامعة مانعة

(1)

، بدأها بالنبؤة بأنه قد يلحق بالرفيق الأعلى قبل أن يعود لعرفات مرة أخر، وهو الذي حدث فقد يوفي صلى الله عليه وسلم في يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول في السنة الحادية عشرة من الهجرة، بعد عودته من الحج، بثلاثة أشهر صلى الله عليه وسلم، وفي الخطبة دعا بالرحمة لكل من سمع خطبته في ذلك اليوم المشهود، وفهم ما فيها من المقاصد.

(1)

انظر البخاري حديث (105) وأطرافه، ومسلم حديث (1679).

ص: 398

قول: «فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ وَلَا فِقْهَ لَهُ» .

قال مالك رحمه الله: " ليس العلم بكثرة الرواية، وإنما هو نور يضعه الله عز وجل في القلوب، يعنى بذلك فهم معانيه واستنباطه. فمن أراد التفهم فليُحضر خاطره، ويفرّغ ذهنه، وينظر إلى نشاط الكلام، ومخرج الخطاب، ويتدبر اتصاله بما قبله، وانفصاله منه، ثم يسأل ربه أن يلهمه إلى إصابة المعنى، ولا يتم ذلك إلا لمن علم كلام العرب، ووقف على أغراضها في تخاطبها وأُيد بجودة قريحة، وثاقب ذهن، ألا ترى أن عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما فهم من نشاط الحديث في نفس القصة أن الشجرة هي النخلة، لسؤاله صلى الله عليه وسلم لهم عنها حين أتى بالجُمّار، وقوى ذلك عنده بقوله:{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ}

(1)

. وقال العلماء: هي النخلة، شبهها الله عز وجل بالمؤمن

(2)

.

قول: «وَلَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ» .

هذا حث على أن ينقل الرجل ما يسمع من الخير بدقة، ولو لم يفهم مقاصده، فقد يجد من هو أعلم به فيبين له ما نقل، والمهم في النقل أن يكون بأمانة من غير زيادة ولا نقص.

قوله: «وَاعْلَمُوا أَنَّ أَمْوَالَكُمْ وَدِمَاءَكُمْ حَرَامٌ، عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ هَذَا الْيَوْمِ فِي هَذَا الشَّهْرِ فِي هَذَا الْبَلَدِ» .

(1)

الآية (24) من سورة إبراهيم.

(2)

شرح صحيح البخاري لابن بطال 1/ 157، بتصرف.

ص: 399

هذا تعظيم للحقوق الشخصية فلأموال محرم أخذها بالباطل، قال تعالى:{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}

(1)

، أيا كان الباطل ربا أو رشوة، أو سرقة، أو اختلاس، أو مال يتيم، وغير ذلك كثير.

ثم حرم الدماء، قال الله عز وجل:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}

(2)

، وقال صلى الله عليه وسلم:«لا يحل دم امرئ مسلم، يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمارق من الدين التارك للجماعة»

(3)

.

ثم ضرب مثلا لشدة التحريم، بحرمة يوم عرفة، وبحرمة شهر ذي الحجة، وحرمة بلد الله الحرام مكة، وما حرم على المحرم والمقيم.

قوله: «وَاعْلَمُوا أَنَّ الْقُلُوبَ لَا تَغِلُّ عَلَى ثَلَاثٍ: إِخْلَاصِ الْعَمَلِ لِلَّهِ، وَمُنَاصَحَةِ أُولِى الأَمْرِ، وَعَلَى لُزُومِ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ» .

المراد لا تحقد فلا تتوانا عن الإخلاص لله عز وجل في القول والعمل، في السر والعلن، وكذلك لا تتوانا عن مناصحة أولي الأمر من العلماء والأمراء، ولاسيما من رزقه الله عز وجل منهم قربا وحظوة، قال تميم الداري رضي الله عنه: قال: «الدين النصيحة» قلنا: لمن؟، قال: «لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة

(1)

من الآية (188) من سورة البقرة.

(2)

من الآية (93) من سورة النساء.

(3)

البخاري حديث (6878) ومسلم حديث (1676).

ص: 400

المسلمين وعامتهم»

(1)

، والمراد بلزوم جماعة المسامين عدم الشذوذ عن رأي العلماء والأمراء ووحدة المسلمين، فإن دعوتهم الناس إلى الخير واجتماع الكلمة على البر والتقوى يحيط خيرها وبركتها من ورائهم من الرعية.

ما يستفاد:

* فيه إشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم نعى للأمة نفسه، ولذلك توفي بعد عودته من الحج بأشهر صلى الله عليه وسلم.

* تحقق دعوته صلى الله عليه وسلم لمن سمع مقالته ووعاها وأداها كما سمع.

* حرص الصحابة رضي الله عنهم على نقل ما سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن اليوم نعيش مع أخباره كأننا نسمعها منه صلى الله عليه وسلم.

* بيان أن الفقه في الدين من مسالك الخير.

* وجوب التفقه والحث على استنباط معاني الحديث.

* أهمية نقل النص بأمانة ولو لم يدرك الناقل المعاني، فسيجد الأفقه.

* بيان حرمة الأموال والأنفس، وأن إثمها كرمة يوم عرفة في شهر الحجة المحرم، وكرمة البلد الحرام مكة حرسها الله عز وجل.

* وجوب إخلاص الأعمال لله عز وجل وحده لا شريك له.

* وجوب مناصحة أولي الأمر وإظهار ما لهم من الطاعة المشروعة.

* وجوب لزوم جماعة المسلمين في المنشط والمكره.

(1)

مسلم حديث (55).

ص: 401

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

237 -

(11) أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ، ثَنَا مُحَمَّدٌ - هُوَ ابْنُ إِسْحَاقَ - عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْخَيْفِ مِنْ مِنًى فَقَالَ: «نَضَّرَ اللَّهُ عَبْداً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا، ثُمَّ أَدَّاهَا إِلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَا فِقْهَ لَهُ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ، ثَلَاثٌ لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ الْمُؤْمِنَ: إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ، وَطَاعَةُ ذَوِى الأَمْرِ، وَلُزُومُ الْجَمَاعَةِ، فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تَكُونُ مِنْ وَرَائِهِمْ»

(1)

.

رجال السند:

أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ، هو الوهبي أبو سعيد الحمصي، ثقة لم يرو الشيخان حديثه، ومُحَمَّدُ ابْنُ إِسْحَاقَ، هو إمام السير صدوق تقدم، والزُّهْرِيُّ، هو محمد ابن مسلم إمام ثقة ومُحَمَّدُ بْنُ جُبَيْرِ ابْنِ مُطْعِمٍ، وأَبُوه رضي رضي الله عنه تقدما آنفا.

الشرح:

قول: «بِالْخَيْفِ مِنْ مِنًى» .

هو المسجد المعروف اليوم، وقبل الإسلام يقال له: خيف بني كنانة، وهو المكان الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراد قدوم مكة:«منزلنا غدا، إن شاء الله، بخيف بني كنانة، حيث تقاسموا على الكفر»

(2)

، والمراد بالتقاسم على الكفر تحالف بني كنانة مع قريش على محاربة بني هاشم، ومقاطعتهم

(1)

سنده حسن، أخرجه الترمذي حديث (2656) وقال: حسن صحيح، وأبو داود حديث (3660) وابن ماجه المقدمة حديث (3056) وصححه الألباني عندهما، هذا الحديث رواه (14) صحابيا، انظر (فتح المنان 2/ 323).

(2)

البخاري حديث (1589) ومسلم حديث (1314).

ص: 402

فلا يؤوهم ولا يبايعوهم، كأن هذا التصرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه إعلام للمتحالفين بنصر الله له صلى الله عليه وسلم، بأن عاد إليهم في عزة ومنعة ونزل المكان الذي ظلم فيه بنوا هاشم.

قوله: «نَضَّرَ اللَّهُ عَبْداً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا، ثُمَّ أَدَّاهَا إِلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَا فِقْهَ لَهُ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ» .

تقدم آنفا المراد، وبين هنا أن الناقل للرواية لا يكون فقيها، فينقلها إلى من هو أفقه منه بدلائل الرواية ومقاصدها.

قوله: «ثَلَاثٌ لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ الْمُؤْمِنَ: إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ، وَطَاعَةُ ذَوِى الأَمْرِ، وَلُزُومُ الْجَمَاعَةِ، فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تَكُونُ مِنْ وَرَائِهِمْ» .

تقدم البيان أنفا.

ما يستفاد:

* فيه دعاء الرسول بالحُسن والبهاء والنضارة في وجوه نقلة السنة النبوية، وهذا مشاهد فيمن يقيم السنة وينشرها على الوجه الصحيح، وهذا في نظري هو المراد، وقيل: من النظر أن الله ينظر إلى النقلة الأمناء، وصحح القولين بعض العلماء رحمهم الله عز وجل، وانظر السابق.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

238 -

(12) أَخْبَرَنَا عِصْمَةُ بْنُ الْفَضْلِ، ثَنَا حَرَمِيُّ بْنُ عُمَارَةَ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَمَرَ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: خَرَجَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ رضي الله عنه مِنْ عِنْدِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ بِنِصْفِ النَّهَارِ، قَالَ: فَقُلْتُ: مَا خَرَجَ هَذِهِ السَّاعَةَ مِنْ عِنْدِ مَرْوَانَ إِلاَّ وَقَدْ سَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ، فَأَتَيْتُهُ فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: نَعَمْ سَأَلَنِي عَنْ حَدِيثٍ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً

ص: 403

سَمِعَ مِنَّا حَدِيثاً فَحَفِظَهُ فَأَدَّاهُ إِلَى مَنْ هُوَ

(1)

أَحْفَظُ مِنْهُ، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ، لَا يَعْتَقِدُ قَلْبُ مُسْلِمٍ عَلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ إِلاَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ» قَالَ: قُلْتُ: مَا هُنَّ؟ قَالَ: «إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ، وَالنَّصِيحَةُ لِوُلَاةِ الأَمْرِ، وَلُزُومُ الْجَمَاعَةِ، فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ، وَمَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ نِيَّتَهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتْ الدُّنْيَا

(2)

نِيَّتَهُ فَرَّقَ اللَّهُ عَلَيْهِ شَمْلَهُ وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلاَّ مَا قُدِّرَ لَهُ».

قَالَ: وَسَأَلْتُهُ عَنْ صَلَاةِ الْوُسْطَى قَالَ: «هِيَ الظُّهْرُ»

(3)

.

رجال السند:

عِصْمَةُ بْنُ الْفَضْلِ، هو النميري لا يروي إلا عن ثقة، وهو إمام ثقة، وحَرَمِيُّ بْنُ عُمَارَةَ، هو ابن أبي حفصة البصري، روى حديث الستة عدا الترمذي، صدوق، وشُعْبَةُ، إمام ثقة تقدم، وعَمَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، هو ابن عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ثقة، ليس له رواية في الصحيحين، وعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ، هو الأموي، لم يرو له الشيخان، مقل صاحب إحسان، وعِتق، لابأس به، أَبوه، هو أبان بن عثمان بن عفان رضي الله عنه، وأبان أمه بنت جندب الدوسي

(4)

، وابنه عبد الرحمن كان واليا على المدينة، فقيه يعلم القضاء، لابأس به، وزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ رضي الله عنه، أما مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ، هو ابن

(1)

في (ت) هو فيه أفقه منه.

(2)

كتبت لحقا في (ك).

(3)

سنده حسن، وأخرجه أحمد: انظر السابق.

(4)

انظر كتابي " الجوس في المنسوب إلى دوس ص 57 ".

ص: 404

أبي العاص بن أمية بن عبد شمس، بويع سنة أربع وستين في النصف من ذي القعدة، انظر ترجمته في كتابي "عش مع الخلفاء والملوك ".

الشرح:

تقدم بيان أكثر هذا آنفا.

قوله: «وَمَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ نِيَّتَهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ» .

المراد أن من كانت الآخرة همه بالاجتهاد في طلبها جعله الله عز وجل قانعا بالكفاف من الدنيا، وحل غناه في قلبه، فلا يتعب في طلب الزيادة، وجمع له أموره المتفرقة، بأن جعله مجموع الفكر طيب الخاطر، وهيأ له الأسباب من حيث لا يشعر، وأتاه ما قسم له منها وهي ذليلة حقيرة تابعة له، لا يحتاج في طلبها إلى سعي كثير ومجاهدة؛ لأنه رضي بالكفاف منها، بل تأتيه هينة لينة على رغم أنف أربابها الذين فتنوا بجمعها، والسعي في طلبها.

«وَمَنْ كَانَتْ الدُّنْيَا نِيَّتَهُ فَرَّقَ اللَّهُ عَلَيْهِ شَمْلَهُ وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلاَّ مَا قُدِّرَ لَهُ» .

المراد من كان همه الدنيا بمتاعها وشهواتها لا ينظر إلى سواها، جعل الله عز وجل فقره أمام ناظريه لا يفارقه الشعور بأنه فقير ولو جمع الأموال الكثيرة، فيكون فيه شبه بنار جهنم التي لا تقف من التهام كل شيء؛ لأن الله عز وجل انتزع من قلبه القناعة ولو كثر ماله فلا يساوره إلا النقص فيسعى للمزيد، فيتفرق عليه أمره ولا يطيب خاطره، ولن يجديه سعيه في الدنيا فلا يأخذ منها لإ ما قدر له، وقد يكون المقدر له الشيء الكثير الذي لا يحصى وهذا بلاء عظيم لمن لم يوفقه الله عز وجل إلى الشكر على نعمة المال، ولم يسلم من

ص: 405

هذا البلاء قارون وقد قص الله خبر أمواله، ومعصيته لربه الذي أنعم عليه بها، ومن أنعم الله عليه بالدنيا وشكر فإنه مبشر بقول الرسول صلى الله عليه وسلم:«يا عمرو إني أريد أن أبعثك على جيش، فيُغَنّمك الله، وأرغب لك رغبة من المال صالحة، قلت: إني لم أسلم رغبة في المال، إنما أسلمت رغبة في الإسلام فأكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا عمرو نعم المال الصالح للمرء الصالح»

(1)

.

ما يستفاد:

* أهمية الاهتمام بالآخرة فهي دار المقر والخلود.

* أن من اهتم بالآخرة أغناه الله عز وجل عن الدنيا بقناعة القلب وراحة النفس.

* أنه عز وجل يجمع للعبد شتات فكرة، وطيب نفسه بتوجهه إلى العمل للآخرة.

* أن العبد لا يتخلف عنه ما قسم الله عز وجل من رزق في دنياه.

* خطورة الاهتمام بالدنيا وشهواتها.

* أن من كانت الدنيا همه اشتد نهمه بها، وانتزع الله عز وجل القناعة من قلبه،

وليس له إلا ما قسم الله له.

* أن العبد قد يبتلى بانفتاح الدنيا وانبساطها له، كما حدث لقارون وغيره.

* أن انبساط الدنيا للعبد الصالح يعين على الطاعة والإحسان.

قال الدارمي رحمه الله تعالى: 239 - (13) أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ مُوسَى، ثَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ الْقُرَشِيُّ، أنَبأَ إِسْرَائِيلُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زُبَيْدٍ الْيَامِيِّ،

(1)

الأدب المفرد (299).

ص: 406

عَنْ أَبِي

(1)

الْعَجْلَانِ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رِضْوَانُ الله عَلَيَهِ قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثاً فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَهُ، فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ، ثَلَاثٌ لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ: إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ، وَالنَّصِيحَةُ لِكُلِّ مُسْلِمٍ، وَلُزُومُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ دُعَاءَهُمْ مُحِيطٌ مِنْ وَرَائِهِمْ»

(2)

.

رجال السند:

يَحْيَى بْنُ مُوسَى، هو البلخي أبو زكريا السختياني، ثقة روى له البخاري في الصحيح، وعَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ الْقُرَشِيُّ، هو أبو سعيد الكوفي، ثقة روى له الستة عدا البخاري روى له تعليقا، وإِسْرَائِيلُ، هو ابن يونس إمام ثقة، تقدم، وعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زُبَيْدٍ الْيَامِيِّ، هو من أفراد الدارمي، سكت عنه الإمامان ووثقه ابن حبان فلابأس به، وأَبو الْعَجْلَانِ، هو المحاربي تابعي

ثقة روى له البخاري في الأدب، وأَبو الدَّرْدَاءِ، هو عويمر رضي الله عنه.

الشرح:

تقدم برقم 235، فأغني عن الإعادة فانظره.

(1)

المحاربي تابعي روى عن ابن عمر وغيره.

(2)

فيه عبد الرحمن بن زبيد اليامي: سكت عنه البخاري، وأبو حاتم (التاريخ 5/ 286 والجرح والتعديل 5/ 235) وذكره ابن حبان في (الثقات 7/ 67) وأبو العجلان مقبول، وانظر: ما تقدم، والقطوف رقم (158/ 237).

ص: 407

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

25 -

‌ بابٌ اتِّقَاءِ الْحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالتَّثَبُّتِ فِيهِ

240 -

(1) أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى، ثَنَا هُشَيْمٌ، أنبأ أَبُو الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَذَبَ عَلَىَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»

(1)

.

(1)

رجاله ثقات، أخرجه ابن ماجه حديث (33) وصححه الألباني، وهو من أصح الصحيح فقد أخرجه أحمد عن ستة عشر صحابيا: عن علي رضي الله عنه حديث (584، 1057) وعن عبد الله بن الزبير، عن أبيه حديث (1413) وهو في البخاري حديث (107) وعن ابن عباس رضي الله عنه حديث (2675، 2974) وعن ابن مسعود رضي الله عنه حديث (3694، 3801، 3814، 3847، 4156، 4338،) وعن عبد الله بن عمرو ابن العاص رضي الله عنه حديث (6486، 7006) وهو في البخاري حديث (3461) وعن أبي هريرة رضي الله عنه حديث (9316، 9350، 10055، 11092) وهو في البخاري حديث (110، 6197) ومسلم حديث (3) وانظر: (اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان حديث 3) وعن أبي سعيد رضي الله عنه حديث (11343، 11350، 11404، 11424) وعن أنس رضي الله عنه حديث (11942، 12110، 12154، 12701، 12763، 13099، 13188، 13331، 13960، 13979) وهو في البخاري حديث (108) ومسلم (2) وانظر: (اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان حديث 2) وعن جابر رضي الله عنه وهي رواية المصنف حديث (14254) وعن قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري رضي الله عنه حديث (15481) وعن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه حديث (16506) وعن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه حديث (16916) وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه حديث (17431) وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه حديث (18140، 18202) وهو في البخاري حديث (1291) ومسلم حديث (4) وانظر: (اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان حديث 4) وعن زيد بن أرقم رضي الله عنه حديث (19266) وعن خالد بن عرفطة رضي الله عنه حديث (22501) ولخطورة الكذب على رسول الله أوردت هذا ليحذر المسلم هذا الخطر العظيم.

ص: 408

رجال السند:

مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى، أبو جعفر من أعلم الناس بحديث هشيم، إمام ثقة، يعرف بابن الطباع، وهو أخوا إسحاق، وهُشَيْمٌ، هو بشير إمام ثقة تقدم، وأَبُو الزُّبَيْرِ، هو محمد بن مسلم بن تدرس، إمام ثقة يدلس تقدم، وجَابِرٌ، هو ابن عبدالله رضي الله عنه.

الشرح:

قوله: «مَنْ كَذَبَ عَلَىَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» .

هذا تحذير للأمة بأسرها من الكذب عليه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا ينطق عن الهوى؛ ولأنه المشرّع صلى الله عليه وسلم، ووهذا بمعنى الدعاء منه صلى الله عليه وسلم على من كذب عليه، كأنه قال: من كذب علي متعمدا بوأه الله مقعده من النار، ثم أخرج الدعاء عليه مخرج الأمر له به، أي: فليتخذ مقعدا في النار، وهذا كثير في كلام العرب.

فإن قيل: ذلك عام في كل كذب في أمر الدين، وغيره أو في بعض الأمور؟، فالجواب أن العلماء رحمهم الله اختلفوا في ذلك، فقال بعضهم: معناه الخصوص في الدين، والمراد: من كذب عليه في الدين، فنسب إليه تحريم حلال، أو تحليل حرام متعمدا، فإنه يدخل النار، ولذلك كره الصحابة رضي الله عنه الإكثار من الحديث خشية الزلل، وخوفا من هذا الوعيد، وقد كره الإكثار من الرواية عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقال:" أقلوا الحديث عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأنا شريككم" ومعناه وأنا أيضا أقل الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما كره

ص: 409

ذلك لما يخاف على المكثر من دخول الوهم عليه، فيكون متكلفا في الإكثار، فلا يعذر في الوهم

(1)

.

والذي أراه أن الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم حرام في كل أمر، وإن كان في الدين أشد تحريما، وفي غيره انتهاك لإجلال رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينسب إليه ما لم يقل.

ما يستفاد:

* أن هذا الحديث من جوامع الكلم.

* تحريم الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن عقابه النار.

* وجوب التثبت فالرواية وعدم التساهل في النقل.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

241 -

(2) أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى، ثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ عَبْدِ الأَعْلَى، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَنْ كَذَبَ عَلَىَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»

(2)

.

رجال السند:

مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى، هو إمام ثقة تقدم آنفا، وأَبُو عَوَانَةَ، إمام ثقة تقدم، وعَبْدُ الأَعْلَى، هو عامر، ضعفه الجمهور، وسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، هو إمام ثقة تقدم، وابْنُ عَبَّاسٍ، هو عبد الله رضي الله عنه.

الشرح: تقدم آنفا فأغني عن الإعادة فانظره.

(1)

انظر شرح صحيح البخاري لابن بطال 1/ 185، بتصرف.

(2)

رجاله ثقات، وانظر السابق. 11

ص: 410

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

242 -

(3) أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قال: حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قال: حَدَّثَنِي يَزِيدُ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رضي الله عنهما، عَنِ الزُّبَيْرِ رِضْوَانُ الله عَلَيْهِ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ

(1)

: «مَنْ حَدَّثَ عَنِّي كَذِباً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»

(2)

.

رجال السند:

عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، كاتب الليث، صدوق تقدم، واللَّيْثُ، هو ابن سعد إمام ثقة، ويَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، هو ابن أسامة ثقة تقدم، وعُمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ عُرْوَةَ، هو ابن الزبير إمام ثقة تقدم، وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُرْوَةَ، وعَبْدُ اللَّهِ ابْنُ الزُّبَيْرِ رضي الله عنه، والزُّبَيْرُ، هو ابن العوام رضي الله عنه.

الشرح: تقدم برقم 240، فأغنى عن الإعادة فانظره.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

243 -

(4) أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنِي الصَّبَّاحُ بْنُ مُحَارِبٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَعْلَى بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»

(3)

.

(1)

في (ك) ضبب على الحديث وقال: (هذا ليس في الأصل، في نسخة أخرى).

(2)

فيه عبد الله بن صالح كاتب الليث: ثبت في كتابه، والخبرأخرجه البخاري حديث (107) وانظر: رقم 238.

(3)

فيه عمر بن عبد الله بن يعلى: هو وأبوه ضعيفان، والخبرصحيح أنظر سابقه.

ص: 411

رجال السند:

مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ، هو الرازي وثقه يحيى بن معين، وتكلم فيه آخرون تقدم، والصَّبَّاحُ بْنُ مُحَارِبٍ، هو التيمي روى له ابن ماجه، صدوق، وعُمَرُ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَعْلَى بْنِ مُرَّةَ، هو ضعيف روى له أبو داود وابن ماجه، وليس له عند الدارمي إلا هذا، وأَبُوه، هو عبد الله بن يعلى الثقفي، من أفراد الدارمي، وليس له رواية في الستة، ضُعّف، وجَدُّه، هو يعلى بن مرة بن وهب الثقفي رضي الله عنه.

الشرح: انظر ما تقدم آنفا.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

244 -

(5) أَخْبَرَنَا أَسَدُ بْنُ مُوسَى، ثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَتَّابٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه يَقُولُ: لَوْلَا أَنِّي أَخْشَى أَنْ أُخْطِئَ لَحَدَّثْتُكُمْ بِأَشْيَاءَ سَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَوْ قَالَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وَذَاكَ أَنِّى سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»

(1)

.

رجال السند:

أَسَدُ بْنُ مُوسَى، هو ابن إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك بن مروان، جده

الخليفة، إمام ثقة لا يلتفت لقول ابن حجر فيه، ولا ما قاله ابن حزم، وهو المعروف بأسد السنة، وشُعْبَةُ، إمام ثقة، وعَتَّابٌ، قيل: هو مولى هرمز أو مولى ابن هرمز، أو هو ابن هرمز، روى له ابن ماجه، وثقه ابن معين، وأَنَسُ ابْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه.

(1)

سنده حسن، وأخرجه البخاري حديث (108) ومسلم المقدمة حديث (2).

ص: 412

الشرح: تقدم برقم 240 - (1) فأغنى عن الإعادة فانظره.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

245 -

(6) أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَبأ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَعَنِ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، والتَّيْمِيِّ، وَعَنْ عَتَّابٍ مَوْلَى ابْنِ هُرْمُزَ: سَمِعُوا

(1)

أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ كَذَبَ عَلَىَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»

(2)

.

رجال السند:

مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، هو الرقاشي إمام ثقة تقدم، وأَبُو دَاوُدَ، هو الطيالسي إمام ثقة تقدم، وشُعْبَةُ، إمام ثقة تقدم، وعَبْدُ الْعَزِيزِ، هو ابن صهيب البصري، تابعي ثقة، مقل روى له الستة، وحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، هو أبو إسماعيل أفقه أصحاب إبراهيم النخعي، سأله عن مسائل كثيرة، إمام ثقة، والتَّيْمِيُّ، هو سليمان بن طرخان إمام ثقة تقدم، وعَتَّابٌ مَوْلَى ابْنِ هُرْمُزَ، تقدم آنفا.

الشرح: انظر السابق.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

246 -

(7) أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ، ثَنَا مُحَمَّدٌ - هُوَ ابْنُ إِسْحَاقَ -، عَنْ مَعْبَدِ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ أَبِى قَتَادَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ:

(1)

ثلاثتهم رووا الحديث عن أنس، ولذلك وضع لكل منهم رقما في مطبوعة (فتح المنان 2/ 348) والخبرصحيح، أنظر ما سبق.

(2)

رجاله ثقات، وتقدم تخريجه برقم (238).

ص: 413

«أَيُّهَا النَّاسُ إِيَّاكُمْ وَكَثْرَةَ الْحَدِيثِ عَنِّي، فَمَنْ قَالَ عَلَيَّ فَلَا يَقُلْ إِلاَّ حَقًّا- أَوْ إِلاَّ صِدْقاً -، وَمَنْ قَالَ عَلَىَّ مَا لَمْ أَقُلْ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»

(1)

.

رجال السند:

أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ، هو الوهبي ثقة تقدم، ومُحَمَّدٌ بْنُ إِسْحَاقَ، صدوق تقدم، واحتمال تدليسه هنا منتف بروايته عند أحمد، ومَعْبَدُ بْنُ كَعْبٍ، هو ابن مالك تابعي روى له الشيخان، لابأس به، وأَبو ثقَتَادَةَ، هو ابن رِبْعي الأنصاري رضي الله عنه.

الشرح: انظر ما تقدم.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

247 -

(8) أَخْبَرَنَا هَارُونُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ عَاصِمٍ

الأَحْوَلِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيِرِينْ

(2)

، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»

(3)

.

رجال السند:

هَارُونُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، هو الأشعري إمام ثقة تقدم، وإِبْرَاهِيمُ بْنُ سُلَيْمَانَ، هو المؤدب صدوق يغرب تقدم، وعَاصِمٌ الأَحْوَلِ، هو ابن سليمان، أبو عبد

(1)

فيه معبد بن كعب السلمي: مقبول، وأرى أنه لابأس به، والخبرصحيح، أنظر ما تقدم.

(2)

في الأصول الخطية (نشر) بالنون المفتوحة، كما في (ت).

(3)

سنده حسن، وتقدم تخريجه، انظر رقم (238).

ص: 414

الرحمن البصري، إمام ثقة، ومُحَمَّدُ بْنُ سِيِرِينْ

(1)

، من سادات التابعين، وأَنَسٍ رضي الله عنه.

الشرح: تقدم برقم 240، فأغنى عن الإعادة فانظره.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

26 -

‌ بابٌ فِي ذَهَابِ الْعِلمِ

248 -

(1) أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، أَنَبأ هِشَامٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعاً يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ، وَلَكِنْ

(2)

قَبْضُ الْعِلْمِ قَبْضُ الْعُلَمَاءِ، فَإِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِماً، اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوساً جُهَّالاً فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا»

(3)

.

رجال السند:

جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، هو المخزومي، إمام ثقة تقدم، وهِشَامٌ، هو ابن عروة، إمام ثقة فقيه تقدم، وأَبوه، هو عروة بن الزبير، إمام ثقة تقدم، وعَبْدُ اللَّهِ ابْنُ عَمْرٍو، هو ابن العاص رضي الله عنهما.

الشرح:

تقدم برقم 98، فأغني عن الإعادة فلينظر.

(1)

في الأصول الخطية (نشر) بالنون المفتوحة، كما في (ت).

(2)

كتبت لحقا في (ت).

(3)

رجاله ثقات، وأخرجه البخاري حديث (100) ومسلم حديث (2673) وانظر:(اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان حديث 1712).

ص: 415

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

249 -

(2) أَخْبَرَنَا مُوسَى بْنُ خَالِدٍ، أَنَبأ مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنِ الْحَجَّاجِ، عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ الْقَاسِمِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:«خُذُوا الْعِلْمَ قَبْلَ أَنْ يَذْهَبَ» . قَالُوا: وَكَيْفَ يَذْهَبُ الْعِلْمُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَفِينَا كِتَابُ اللَّهِ؟ - قَالَ: فَغَضِبَ، لَا يُغْضِبُهُ اللَّهُ ثُمَّ - قَالَ:«ثَكِلَتْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ أَوَلَمْ تَكُنِ التَّوْرَاةُ وَالإِنْجِيلُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمْ شَيْئاً؟ إِنَّ ذَهَابَ الْعِلْمِ أَنْ يَذْهَبَ حَمَلَتُهُ، إِنَّ ذَهَابَ الْعِلْمِ أَنْ يَذْهَبَ حَمَلَتُهُ»

(1)

.

رجال السند:

مُوسَى بْنُ خَالِدٍ، هو صهر محمد بن يوسف الفريابي، صدوق تقدم، ومُعْتَمِرُ

ابْنُ سُلَيْمَانَ، هو ابن طرخان إمام صدوق تقدم، والْحَجَّاجِ، هو ابن أرطاة النخعي، أبو أرطاة الكوفي، قاضي البصرة فقيه مفتي يدلس ويرسل، صدوق في غير التدليس والإرسال، وعَوْفُ بْنُ مَالِكٍ، هو هكذا في الأصول الخطية والمطبوع " عوف بن مالك" وهو أبو الأحوص، وقد قال أبو عاصم: هو الوليد بن أبي مالك، تصحف اسمه في النسخ الخطية إلى عوف بن

(1)

فيه الحجاج بن أرطاه: صدوق كثير الخطأ والتدليس، ويقويه ما قبله وما بعده، مما هو في معناه.

والخبرأخرجه الطبراني في الكبير حديث (7906) وشاهده عند ابن ماجه المقدمة من حديث زياد بن لبيد حديث (228) والترمذي من حديث أبي الدرداء بقصة زياد حديث (2653).

ص: 416

مالك

(1)

، ولا أراه أصاب، فاحتمال التصحيف بين الاسمين بعيد، ورواية أبي الأحوص عوف بن مالك، عن أبي عبد الرحمن القاسم بن عبد الرحمن الشامي صاحب أبي أمامة ممكنة، والْقَاسِمُ أَبو عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، هو ابن عبد الرحمن صاحب أبي أمامة، تابعي قيل: أدرك أربعين من أصحاب بدر رضي الله عنهم، وأَبو أُمَامَةَ، هو صدي ابن عجلان، آخر من مات من الصحابة بالشام رضي الله عنه.

الشرح:

قوله: «خُذُوا الْعِلْمَ قَبْلَ أَنْ يَذْهَبَ» .

تقدم نظير هذا برقم 98، وفيما تقدم آنفا، فأغني عن الإعادة فلينظر. قوله:«قَالُوا: وَكَيْفَ يَذْهَبُ الْعِلْمُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَفِينَا كِتَابُ اللَّهِ؟» .

تفصيل هذا فيما قال أبو أمامة رضي الله عنه: " لما كان في حجة الوداع قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يومئذ مردف الفضل بن عباس على جمل آدم فقال: يا أيها الناس خذوا من العلم قبل أن يقبض العلم، وقبل أن يرفع العلم، وقد كان أنزل الله عز وجل {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ}

(2)

، قال: فكنا قد كرهنا كثيرا من مسألته، واتقينا ذاك حين أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم، قال: فأتينا أعرابيا فرشوناه برداء قال: فاعتم به حتى رأيت حاشية البرد خارجة من حاجبه الأيمن.

(1)

فتح المنان 2/ 359.

(2)

الآية (101) من سورة المائدة.

ص: 417

قال: ثم قلنا له: سل النبي صلى الله عليه وسلم "، قال: فقال له: " يا نبي الله، كيف يرفع العلم منا وبين أظهرنا المصاحف وقد تعلمنا ما فيها، وعلمنا نساءنا وذرارينا وخدمنا؟ " قال: فرفع النبي صلى الله عليه وسلم رأسه وقد علت وجهه حمرة من الغضب قال: فقال: «أي ثكلتك أمك وهذه اليهود والنصارى بين أظهرهم المصاحف لم يصبحوا يتعلقون بحرف مما جاءتهم به أنبياؤهم، ألا وإن من ذهاب العلم أن يذهب حملته» ثلاث مرار.

قوله: «قَالَ: فَغَضِبَ» .

هو ما ذكر آنفا من أمر الحمرة التي علت وجهه صلى الله عليه وسلم؛ لأن وجود الكتاب بعد ذهاب العلماء العارفين به لا يجدي شيئا.

قوله: «لَا يُغْضِبُهُ اللَّهُ» .

هذا دعاء من أبي أمامة رضي الله عنه بأن لا يغضب الله نبيه صلى الله عليه وسلم؛ لأن في غضبه هلاك الأمة.

قوله: «ثَكِلَتْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ» .

هذا دعاء بفقد أمهاتهم لهم؛ لأن الأم الثكلى من فقدت ولدها، وليس المراد حقيقة الدعاء، بل ذلك عادة في العرب، لا يقصد به الهلاك.

قوله: «أَوَلَمْ تَكُنِ التَّوْرَاةُ وَالإِنْجِيلُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمْ شَيْئاً؟» .

في هذا ابطال استدلالهم ببقاء كتاب الله فيهم وهو القرآن؛ لأن وجود كتاب الله عز وجل لا ينفع إذا لم يوجد من يتعلم أحكامه ومقاصده، ويعلمها للناس، فالتوراة والإنجيل بقيت في بني إسرائيل، بعد ذهاب العلماء العارفين بها فلم يغن بقاؤها في الجاهلين بها شيئا.

ص: 418

قوله: «إِنَّ ذَهَابَ الْعِلْمِ أَنْ يَذْهَبَ حَمَلَتُهُ، إِنَّ ذَهَابَ الْعِلْمِ أَنْ يَذْهَبَ حَمَلَتُهُ» . تقدم بيان هذا برقم 97، 248، فأغني عن الإعادة فلينظر.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

250 -

(3) حَدَثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، ثَنَا ثَابِتُ بْنُ يَزِيدَ، ثَنَا هِلَالٌ - هُوَ ابْنُ خَباب - قَالَ: سَأَلْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ قُلْتُ: " يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مَا عَلَامَةُ هَلَاكِ النَّاسِ؟، قَالَ: إِذَا هَلَكَ عُلَمَاؤُهُمْ "

(1)

.

رجال السند:

أَبُو النُّعْمَان، هو محمد بن الفضل عارم، إمام ثقة تقدم، وثَابِتُ بْنُ يَزِيدَ، هو الأحول أبو يزيد البصري، من صغار التابعين إمام ثقة، وهِلَالُ بْنُ خَباب، هو أبو العلاء ثقة مأمون تقدم، وسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، إمام ثقة شهيد.

الشرح:

قوله: «مَا عَلَامَةُ هَلَاكِ النَّاسِ؟، قَالَ: إِذَا هَلَكَ عُلَمَاؤُهُمْ» .

العلماء يهلكون بالموت وتقدم البيان برقم 97 - (2) فيذهب العلم، ويبقي في الناس رؤوسا جهالا، يفتونهم بغير علم، فيضلون ويضلون، وهنا يهلك الناس بالجهل.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

251 -

(4) أَخْبَرَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، ثَنَا مَسْعُودُ بْنُ سَعْدٍ الْجُعْفِيُّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ سَلْمَانَ قَالَ: " لَا يَزَالُ النَّاسُ

(1)

سنده حسن، وانظر: القطوف رقم (160/ 250).

ص: 419

بِخَيْرٍ مَا بَقِىَ الأَوَّلُ حَتَّى يَتَعَلَّمَ أَوْ يُعَلِّمَ الآخِرَ، فَإِذَا هَلَكَ الأَوَّلُ قَبْلَ أَنْ يُعَلِّمَ أَوْ يَتَعَلَّمَ الآخِرُ هَلَكَ النَّاسُ "

(1)

.

رجال السند:

مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، هو النهدي إمام ثقة تقدم، ومَسْعُودُ بْنُ سَعْدٍ الْجُعْفِيُّ، هو أبو سعيد أو سعد الكوفي، إمام ثقة روى له النسائي، وعَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ، صدوق تقدم، وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رُبِيِّعَةَ، ذُكر في الصحابة، وسَلْمَانُ، هو الفارسي رضي الله عنه.

الشرح:

هذا على غرار ما تقدم يبين أهمية العلماء الربانيين في تعليم الناس العلم، فإدا أخذ الناس العلم فقهوا وحفظوا ما ورثوا من العلم، وهكذا يعلم السابق اللاحق، ويبقى العلم ما بقي العلماء، فإذا هلك السابق قبل تعليم اللاحق هلك الناس بالجهل، وانظر السابق.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

252 -

(5) أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّلْتِ، ثَنَا أَبُو كُدَيْنَةَ، عَنْ قَابُوسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ:" هَلْ تَدْرُونَ مَا ذَهَابُ الْعِلْمِ؟ قُلْنَا: لَا، قَالَ: ذَهَابُ الْعُلَمَاءِ "

(2)

.

(1)

ت: رجاله ثقات، ونأسف لسقوط هذا الأثر من القطوف، وكان يجب أن يأخذ الرقم (160/ 250).

(2)

فيه قابوس بن أبي ظبيان الجنبي: فيه لين، ويقويه ما تقدم، وانظر: القطوف رقم (160/ 250).

ص: 420

رجال السند:

مُحَمَّدُ بْنُ الصَّلْتِ، هو الأصم، إمام ثقة تقدم، وأَبُو كُدَيْنَةَ، هو يحيى بن المهلب البجلي، ثقة روى له البخاري في الصحيح، وقَابُوسُ، هو ابن أبي ظبيان حصين الجنبي، يعتبر بحديثه، وأَبوه، هو حصين بن جندب، ثقة صدوق، وابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما.

الشرح:

تقدم بيان هذا برقم 98، 249، فأغني عن الإعادة فلينظر.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

253 -

(6) أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَسْعَدَ، ثَنَا أَبُو بَكْرٍ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: " قَالَ حُذَيْفَةُ رضي الله عنه: أَتَدْرِي كَيْفَ يَنْقُصُ الْعِلْمُ؟ قَالَ قُلْتُ: كَمَا يَنْقُصُ الثَّوْبُ وَكَمَا (يَقْشُو)

(1)

. الدِّرْهَمُ، قَالَ: لَا، وَإِنَّ ذَلِكَ لَمِنْهُ، قَبْضُ الْعِلْمِ قَبْضُ الْعُلَمَاءِ "

(2)

.

رجال السند:

مُحَمَّدُ بْنُ أَسْعَدَ، هو التغلبي أبو سعيد الكوفي، لين، وأَبُو بَكْرٍ، هو ابن عياش ثقة تقدم، وعَاصِمٌ، هو ابن أبي النجود ثقة تقدم، وأَبو وَائِلٍ، هو شقيق ثقة تقدم، وحُذَيْفَةُ رضي الله عنه.

تقدمت الآثار في ذهاب العلم بقبض العلماء العارفين به فانظر رقم 97، 246، وما بعده ففيه غناء عن الإعادة.

(1)

أي: يقلّ، ويندر تداوله.

(2)

فيه محمد بن أسعد المصيصي: ليّن، وانظر: القطوف رقم (161/ 251).

ص: 421

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

254 -

(7) أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّلْتِ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ

(1)

أَبِي الأَسْوَدِ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ أَبِى الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قَالَ:" مَا لِي أَرَى عُلَمَاءَكُمْ يَذْهَبُونَ، وَجُهَّالَكُمْ لَا يَتَعَلَّمُونَ؟ فَتَعَلَّمُوا قَبْلَ أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ، فَإِنَّ رَفْعَ الْعِلْمِ ذَهَابُ الْعُلَمَاءِ "

(2)

.

رجال السند:

مُحَمَّدُ بْنُ الصَّلْتِ، هو الأصم، إمام ثقة تقدم، ومَنْصُورُ بْنُ أَبِي الأَسْوَدِ، هو شيعي كبير، قال ابن معين لابأس به، وحُصَيْنٌ، هو أبو الهذيل إمام ثقة تقدم، وسَالِمُ بْنُ أَبِي الْجَعْدِ، الكوفي، ثقة يدلس تقدم، وأَبو الدَّرْدَاءِ، هو عويمر بن زيد رضي الله عنه.

الشرح:

قوله: «مَا لِي أَرَى عُلَمَاءَكُمْ يَذْهَبُونَ، وَجُهَّالَكُمْ لَا يَتَعَلَّمُونَ؟!» هذا حث

على اغتنام وجود العلماء وأخذ العلم عنهم.

قوله: «فَتَعَلَّمُوا قَبْلَ أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ، فَإِنَّ رَفْعَ الْعِلْمِ ذَهَابُ الْعُلَمَاءِ» .

لأن العلم يرفع بقبض العلماء، ثم لا يبقى إلا الجهال فيضل الناس، وانظر ما تقدم برقم 97، 246،.

(1)

في المطبوع (عن أبي الأسود).

(2)

رجاله ثقات، وفيه انقطاع بين سالم بن أبي الجعد وأبي الدرداء رضي الله عنه، وانظر: القطوف رقم (162/ 252).

ص: 422

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

255 -

(8) أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَسَدٍ أَبُو عَاصِمٍ، ثَنَا عَبْثَرٌ، عَنْ بُرْدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قَالَ:" النَّاسُ عَالِمٌ وَمُتَعَلِّمٌ، وَلَا خَيْرَ فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ "

(1)

.

رجال السند:

أَحْمَدُ بْنُ أَسَدٍ أَبُو عَاصِمٍ هو البجلي، جده لأمه مالك بن مغول، من أفراد الدارمي، سكت عنه الإمامان، ووثقه ابن حبان فلابأس به، وعَبْثَرٌ، هو ابن القاسم الزبيدي، أبو زبيد الكوفي، إمام ثقة روى له الستة، وبُرْدٌ، هو ابن سنان الدمشقي، أبو العلاء ثقة رمي بالقدر، وسُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى، هو الأشدق مفتي دمشق، فقيه محله الصدق، وأَبو الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه.

الشرح:

قوله: «النَّاسُ عَالِمٌ وَمُتَعَلِّمٌ، وَلَا خَيْرَ فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ» .

المراد أن أحوال الناس ثلاث أناس تحملوا العلم الشرعي، فعلِموا وعلّموا، وأناس توجهوا لطلب العلم على يدي العلماء وتفقهوا في الدين، وأناس

رعاع اتخذوا الجهل مطية فلا خير فيهم.

قال الدارمي رحمه الله تعالى: 256 - (9) أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَسَدٍ أَبُو عَاصِمٍ، ثَنَا عَبْثَرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاء رضي الله عنه قَالَ:

(1)

رجاله ثقات، وفيه انطاع، انظر: ما قبل السابق، وانظر: القطوف رقم (163/ 253).

ص: 423

" مُعَلِّمُ الْخَيْرِ وَالْمُتَعَلِّمُ فِي الأَجْرِ سَوَاءٌ، وَلَيْسَ لِسَائِرِ النَّاسِ بَعْدُ خَيْرٌ "

(1)

.

رجال السند:

أَحْمَدُ بْنُ أَسَدٍ أَبُو عَاصِمٍ، وعَبْثَرٌ، تقدما آنفا، والأَعْمَشُ، هو سليمان بن مهران إمام ثقة تقدم، وسَالِمٌ، هو ابن أبي الجعد ثقة يدلس، وأَبو الدَّرْدَاء رضي الله عنه.

الشرح:

قوله: «مُعَلِّمُ الْخَيْرِ وَالْمُتَعَلِّمُ فِي الأَجْرِ سَوَاءٌ» .

المراد أن للمعلم أجر تعليم الخير، والمراد مطلق الخير، وكل ما ينفع الناس، في الدين والدنيا، وكذلك المتعلم له أجر طلب تعلم الخير ولاسيما العلم الشرعي، وكل ما فيه منفعة، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك الله به طريقا من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السموات، ومن في الأرض، والحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد، كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا، ولا درهما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر»

(2)

.

قوله: «وَلَيْسَ لِسَائِرِ النَّاسِ بَعْدُ خَيْرٌ» .

المراد ليس وراء العلم والمتعلم من الناس إلا الهالك من الناس بسبب الجهل.

(1)

رجاله ثقات، وفيه انطاع، انظر ما قبل السابق، وانظر: القطوف رقم (164/ 254).

(2)

أبو داود حديث (3641).

ص: 424

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

257 -

(10) أَخْبَرَنَا قَبِيصَةُ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ:" اغْدُ عَالِماً أَوْ مُتَعَلِّماً أَوْ مُسْتَمِعاً، وَلَا تَكُنِ الرَّابِعَ فَتَهْلِكَ "

(1)

.

رجال السند:

قَبِيصَةُ، هو أبو عامر إمام ثقة تقدم، وسُفْيَانُ هو الثوري إمام ثقة تقدم، وعَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ، صدوق تقدم، والْحَسَنُ، هو البصري إمام ثقة تقدم، وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه.

الشرح:

لأن الثلاثة في طريق مستقيم والرابع من سلك طريق الجهل وذلك نهايته الهلاك.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

258 -

(11) أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ، أَنَبأَ خَالِدٌ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ،

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: قَالَ سَلْمَانُ رضي الله عنه: " لَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا بَقِيَ الأَوَّلُ حَتَّى يَتَعَلَّمَ الآخِرُ، فَإِذَا هَلَكَ الأَوَّلُ قَبْلَ أَنْ يَتَعَلَّمَ الآخِرُ هَلَكَ النَّاسُ"

(2)

.

(1)

والخبر في سنده انقطاع بين الحسن وابن مسعود رضي الله عنه، وانظر: القطوف رقم (165/ 255) وانظر السابق.

(2)

رجاله ثقات، وتقدم برقم (249) وانظر: القطوف رقم (166/ 256).

ص: 425

رجال السند:

عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ، هو أبو عثمان البزاز إمام ثقة، راوية خالد تقدم، وخَالِدٌ، هو ابن عبد الله أبو الهيثم إمام ثقة تقدم، وعَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ، صدوق تقدم، وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبِيعَةَ، هو السلمي خال عمرو بن عتبة بن فرقد السلمي، ثقة قليل الحديث، وسَلْمَانُ، هو الفارسي رضي الله عنه.

الشرح:

قوله: «لَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا بَقِيَ الأَوَّلُ حَتَّى يَتَعَلَّمَ الآخِرُ، فَإِذَا هَلَكَ الأَوَّلُ قَبْلَ أَنْ يَتَعَلَّمَ الآخِرُ هَلَكَ النَّاسُ» .

تقدم نحو هذا عن سلما نفسه برقم 249، فأغنى عن الإعادة.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

259 -

(12) أَخْبَرَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، وَعُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ قَالَا: ثَنَا ابْنُ عَوْنٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنِ الأَحْنَفِ قَالَ: قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: " تَفَقَّهُوا قَبْلَ أَنْ تُسَوَّدُوا "

(1)

.

رجال لسند:

وهب بن جرير، هو ابن حازم أبو العباس الجهضمي الأزدي، إمام حافظ، بصري أكثر عنه أحمد في المسند، وكان صاحب سنة، روى له الستة، وَعُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ، هو ابن فارس، إمام ثقة، تقدم، وابْنُ عَوْنٍ، هو عبد الله إمام ثقة، تقدم، ومُحَمَّدٌ، هو ابن سيرين من سادات التابعين، والأَحْنَفُ، هو ابن قيس، ثقة مخضرم تقدم، وعُمَرُ، هو ابن الخطاب رضي الله عنه.

(1)

أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب (15) تعليقا.

ص: 426

الشرح:

هذا أمر من عمر رضي الله عنه بأن يطلب الرجل الفقه في الدين قبل أن يطلب السيادة؛ لأن ذلك يكسبه حكمة ورأيا حسنا، فيكون في السيادة ذا مكانة كريمة، وخلق حسن وتواضع وحلم وأناه، ومن فرط في العلم في الصغر استحيا من طلبه في الكبر.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

260 -

(13) أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَنَبأ بَقِيَّةُ، حَدَّثَنِي صَفْوَانُ بْنُ رُسْتُمَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ رضي الله عنه قَالَ:" تَطَاوَلَ النَّاسُ فِي الْبِنَاءِ فِي زَمَنِ عُمَرَ، فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: يَا مَعْشَرَ الْعُرَيْبِ، الأَرْضَ الأَرْضَ، إِنَّهُ لَا إِسْلَامَ إِلاَّ بِجَمَاعَةٍ، وَلَا جَمَاعَةَ إِلاَّ بِإِمَارَةٍ، وَلَا إِمَارَةَ إِلاَّ بِطَاعَةٍ، فَمَنْ سَوَّدَهُ قَوْمُهُ عَلَى الْفَقْهِ كَانَ حَيَاةً لَهُ وَلَهُمْ، وَمَنْ سَوَّدَهُ قَوْمُهُ عَلَى غَيْرِ فِقْهٍ كَانَ هَلَاكاً لَهُ وَلَهُمْ "

(1)

.

رجال السند:

يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، إمام ثقة تقدم، وبَقِيَّةُ، هو ابن الوليد مدلس معروف بالراية عن الضعفاء والمجاهيل، ثقة إذا حدث عن الثقات تقدم، وصَفْوَانُ ابْنُ رُسْتُمُ، من أفراد الدارمي ليس له غير هذا عنده، سكت عنه الأئمة وجرحه الأزدي، وجرحه غير معتمد، وعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَيْسَرَةَ، هو الحضرمي، تابعي مقبول، وتَمِيمُ الدَّارِيِّ رضي الله عنه.

(1)

فيه صفوان: سكت عنه البخاري (التاريخ 4/ 309) وفيه انقطاع بين بقية وتميم، وعبد الرحمن مقبول، وانظر: القطوف رقم (167/ 258).

ص: 427

الشرح:

قوله: «تَطَاوَلَ النَّاسُ فِي الْبِنَاءِ فِي زَمَنِ عُمَرَ، فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: يَا مَعْشَرَ الْعُرَيْبِ، الأَرْضَ الأَرْضَ» .

هذا في عهد عمر رضي الله عنه وهو في القرن الأول خير القرون على الإطلاق، ولأن ذلك من علامات الساعة، قال للناس:«الأرض الأرض» .

أي: تساووا في البنيان والزموا القرب من الأرض، وعدم التسابق في الارتفاع؛ لأن التطاول تفاعل وتسابق في علو البناء، فلو رأى عمر ما نحن فيه اليوم من التطاول الذي لم يخطر على قلب عمر رضي الله عنه أنه بهذه الصورة، وليس هذا حرام ولكنه من علامات الساعة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان»

(1)

، المراد العرب؛ لأن هذا الوصف ينطبق عليهم فغالب ما يملكون الغنم، والإبل، وعبر عن ذلك بالشاء لكثرتها، ولأنها ملك الغالب منهم، وسبحان الله مَنْ مِنْ العرب اليوم ولاسيما في الجزيرة لا يملك من البنيان الدورين والثلاثة وما فوق، وقد خرجت في نزهة قبل أربعين سنة إلى بير يهوب، وهو يبعد عن المدينة في ذلك الوقت ما يقارب (20 كم) وهو اليوم حي من أحياء المدينة الحديثة، وقد كان بنيان المدينة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجاوز المسجد النبوي اليوم على أكثر تقدير، وكان إلى جنوب غرب المسجد النبوي، يوجد مصلى العيد، وهو المعروف اليوم بمسجد الغمامة، فانظر إلى أي مدى وصل البنيان في المدينة، وليس هذا ممنوع ولكن فيه صدق التوسع والتطاول في البنيان.

(1)

مسلم حديث (8).

ص: 428

قوله: «إِنَّهُ لَا إِسْلَامَ إِلاَّ بِجَمَاعَةٍ» .

لأن الله عز وجل قال: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}

(1)

، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«يد الله مع الجماعة»

(2)

.

لأن الله عز وجل قال: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}

(3)

؛ لأنه لا إسلام بدون جماعة، ولا جماعة بدون طاعة الله عز وجل، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا تنازعوا في ذلك فشلوا، ولذلك حذرهم من الخلاف والتنازع فإن ذلك سبب الفشل، وذهاب الهيبة وضعف القوة، وهذا جالب للهزيمة، وسوء العاقبة في الدنيا والآخرة، وأمرهم بالصبر؛ لأنه تعالى عون الصابرين. قوله:«وَلَا جَمَاعَةَ إِلاَّ بِإِمَارَةٍ» لأن الله عز وجل قال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}

(4)

. وأولي الأمر هم العلماء والأمراء.

قوله: «وَلَا إِمَارَةَ إِلاَّ بِطَاعَةٍ» .

لأن الله عز وجل قال: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}

(5)

، لأنه لا إمارة مسلمة بدون طاعة الله عز وجل، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم إذا تنازعوا في ذلك فشلوا، ولذلك حذرهم

(1)

من الآية (103) من سورة آل عمران.

(2)

الترمذي حديث (2166).

(3)

الآية (46) من سورة الأنفال.

(4)

من الآية (59) من سورة النساء.

(5)

الآية (46) من سورة الأنفال.

ص: 429

من الخلاف والتنازع فإن ذلك سبب الفشل، وذهاب الهيبة وضعف القوة، وهذا جالب للهزيمة، وسوء العاقبة في الدنيا والآخرة، وأمرهم بالصبر؛ لأنه تعالى عون الصابرين؛ ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع الأمير فقد أطاعني، ومن عصى الأمير فقد عصاني»

(1)

، وشدد في طاعة الأمير، قال أبو ذر رضي الله عنه:«إن خليلي أوصاني أن أسمع وأطيع، وإن كان عبدا مجدع الأطراف»

(2)

.

وتقدم برقم 96 - (1) القول في بعض فقرات حديث العرباض رضي الله عنه الربط بين الطاعات الثلاث.

قوله: «فَمَنْ سَوَّدَهُ قَوْمُهُ عَلَى الْفَقْهِ كَانَ حَيَاةً لَهُ وَلَهُمْ» .

المراد من جعله قومه سيدا عليهم فهو بين أمرين: هذا الأول وهو أن يكون ذا حظ من العلم والفقه في دين الله عز وجل، ففي سيادته على قومه حياة طيبة لهم في دينهم ودنياهم؛ لأنها لا تستقيم إلا بالعلم والفقه في الدين.

قوله: «وَمَنْ سَوَّدَهُ قَوْمُهُ عَلَى غَيْرِ فِقْهٍ كَانَ هَلَاكاً لَهُ وَلَهُمْ» .

هذا هو الأمر الثاني: أن يجعله قومه سيدا عليهم وهو على جهل في دين الله عز وجل؛ لأنه سيقودهم إلى المهالك انطلاقا من جهله، ولا ريب أن حال الأمة اليوم خير شاهد على هذا، فقد كثر الفساد في الأرض، وعم البلاء المسلمين بسبب عدم فقه من ساد عليهم، وهذا بلاء لا ينكشف إلا بالرجوع إلى منهج الكتاب والسنة وربط الطاعات الثلاث بعضها ببعض، فهي كل

(1)

أحمد حديث (7434).

(2)

مسلم حديث (1837).

ص: 430

لا يتجزاء، والفلاح في الدارين مربوط بذلك المنهج الواقي من الجهل وعمى البصيرة.

ما يستفاد:

* بيان أن التطاول في البنيان من علامات الساعة، وليس من المحرمات. * فطنة عمر رضي الله عنه وحذقه في رعاية الأمة والحث على ما هو خير.

* الحث على ملازمة جماعة المسلمين، فإن الإسلام مرتبط بوحدتهم على الوحيين.

* الحث على إقامة ولي لأمر المسلمين عملا بنص الوحيين، فلا جماعة مسلمة إلا بولي أمر مسلم.

* وجوب طاعة الأمير ما أطاع الله عز وجل، ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

* يجب على الأمة تنصيب من هو صالح لدينها ودنياه، ورأس ذلك الفقه في دين الله عز وجل، لأن ذلك يجلب الخير للأمة في دينها ودنياها.

* الحذر من تنصيب الجاهل بدين الله عز وجل؛ لأن ذلك يجلب الفساد في

الأرض، وسبب في هلاك الأمة في الدنيا والآخرة.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

27 -

‌ بابٌ الْعَمَلِ بِالْعِلْمِ وَحُسْنِ النِّيَّةِ فِيه

261 -

(1) أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُبَارَكِ، أَخْبَرَنَا بَقِيَّةُ، حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صُهَيْبٍ، أَنَّ الْمُهَاصِرَ بْنَ حَبِيبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنِّى لَسْتُ كُلَّ كَلَامِ الْحَكِيمِ أَتَقَبَّلُ، وَلَكِنِّى أَتَقَبَّلُ هَمَّهُ وَهَوَاهُ، فَإِنْ

كَانَ هَمُّهُ وَهَوَاهُ فِي طَاعَتِي جَعَلْتُ صَمْتَهُ حَمْداً لِي وَوَقَاراً

ص: 431

وَإِنْ لَمْ يَتَكَلَّمْ»

(1)

.

رجال السند:

مُحَمَّدُ بْنُ الْمُبَارَكِ، القلانسي، ثقة إمام تقدم، وبَقِيَّةُ، هو ابن الوليد ثقة إذا حدث عن ثقة تقدم، وصَدَقَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صُهَيْبٍ، هو السمين أبو محمد أو معاوية، ضعيف يعتبر بحديته، والْمُهَاصِرُ

(2)

بْنُ حَبِيبٍ، هو الزبيديُّ، أخو ضمرة بن حبيب، وهو من أفراد الدارمي لابأس به.

الشرح:

قوله: «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنِّي لَسْتُ كُلَّ كَلَامِ الْحَكِيمِ أَتَقَبَّلُ، وَلَكِنِّى أَتَقَبَّلُ هَمَّهُ وَهَوَاهُ، فَإِنْ كَانَ هَمُّهُ وَهَوَاهُ فِي طَاعَتِي جَعَلْتُ صَمْتَهُ حَمْداً لِي وَوَقَاراً وَإِنْ لَمْ يَتَكَلَّمْ» .

هذا حديث ضعيف، ولم يرد من وجه صحيح، فلا تنشط النفس للقول به، وهو يعارض ما ورد في فضل كثرة الذكر والدعاء، والثناء على الله عز وجل.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

262 -

(2) أَخْبَرَنَا مَخْلَدُ بْنُ مَالِكٍ، عَنْ حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ لَيْثِ بْنِ

(3)

سَعْدٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ أَبِي الزَّاهِرِيَّةِ يَرْفَعُ الْحَدِيثَ: «إِنَّ اللَّهَ قَالَ

(1)

فيه صدقة بن عبد الله بن صهيب: ضعيف، وانظر: القطوف رقم (168/ 259).

(2)

في الأصول الخطية (المهاجر) وهو خطأ، وانظر ترجمته في (الجرح والتعديل 8/ 439) وذكره ابن حبان في الثقات 7/ 525).

(3)

في (ت) عن.

ص: 432

أَبُثُّ الْعِلْمَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ حَتَّى يَعْلَمَهُ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ وَالْعَبْدُ وَالْحُرُّ وَالصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ، فَإِذَا فَعَلْتُ ذَلِكَ بِهِمْ أَخَذْتُهُمْ بِحَقِّي عَلَيْهِمْ»

(1)

.

رجال السند:

مَخْلَدُ بْنُ مَالِكٍ، هو الجمال إمام ثقة تقدم، وحَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، هو المصيصي أبو محمد إمام ثقة تقدم، ولَيْثُ بْنُ سَعْدٍ، إمام ثقة تقدم، ومُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، هو قاضي الأندلس، صدوق له أوهام تقدم، وأَبو الزَّاهِرِيَّةِ، هو حُدَير بن كريب الحضرمي، تابعي ثقة كان أميّا لا يكتب، روى له مسلم.

الشرح:

قوله: «إِنَّ اللَّهَ قَالَ أَبُثُّ الْعِلْمَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ حَتَّى يَعْلَمَهُ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ

وَالْعَبْدُ وَالْحُرُّ وَالصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ، فَإِذَا فَعَلْتُ ذَلِكَ بِهِمْ أَخَذْتُهُمْ بِحَقِّي عَلَيْهِمْ».

الشرح:

في الحلية قال: " بلغني في بعض الكتب " وهذا سند قوي ولو لم يرفعه فمعناه صحيح؛ لأنه يوافق الواقع ولاسيما في هذا الزمان تنافس الناس في طلب العلم للدنيا وليس للعمل به، فتجد من تخرج من الشريعة ولا يعرف أحكام الطهارة بتفاصيلها، وإذا تأملت كثرة من قرأ القرآن وجدتهم متدثرين ببعض المعاصي، أقلها حلق اللحية وإسبال الإزار، والتدخين، والتعامل بالربا

(1)

رجاله ثقات، ولم أقف على رفعه موصولا، ولعل الصواب ما أورده أبو نعيم وأبو عمر بن عبد البر وفيه " بلغني في بعض الكتب أن الله تعالى يقول " انظر (الحلية 6/ 100 ترجمة أبي الزاهرية حدير بن كريب رقم 338) وهذا كلام حسن وما نحن فيه من انتشار العلم يطابق ذلك، كثر العالمون وقلّ العاملون، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

ص: 433

والرشوة والاختلاس، ومن النساء الكاسيات العاريات، والمتبرجات المزاحمات للرجال في الطرقات والأسواق، وترك المحرم في الأسفار، وقد كان عدم وجود المحرم في الحج يعتبر من عدم الاستطاعة، فهل ينطبق هذا على زماننا وما بعده؟!.

ما يستفاد:

* مطابقة هذا الخبر للواقع، فقد انتشر العلم الشرعي وغيره بما يفوق الخيال.

* ومن مطابقة الخبر للواقع تعلم جميع فئات المجتمع.

* أن من حق الله عز وجل العمل بما علموا ولاسيما العلم الشرعي.

* أن العلم حجة الله على المتعلم فيما يعمل من خير أوشر.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

263 -

(3) أَخْبَرَنَا مَخْلَدُ بْنُ مَالِكٍ، حَدَّثَنَا مَخْلَدُ بْنُ حُسَيْنٍ، عَنْ هِشَامٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ:" مَنْ طَلَبَ شَيْئاً مِنْ هَذَا الْعِلْمِ فَأَرَادَ بِهِ مَا عِنْدَ اللَّهِ يُدْرِكْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَمَنْ أَرَادَ بِهِ الدُّنْيَا فَذَاكَ وَاللَّهِ حَظُّهُ مِنْهُ "

(1)

.

رجال السند:

مَخْلَدُ بْنُ مَالِكٍ، هو المتقدم آنفا، ومَخْلَدُ بْنُ حُسَيْنٍ، هو المهلبي، أبو محمد البصري، أزدي لا يأكل إلا الحلال المحض، إمام ثقة، وهِشَامٌ، هو ابن حسان إمام ثقة تقدم، والْحَسَن، هو البصري.

(1)

رجاله ثقات، وانظر: القطوف رقم (170/ 261).

ص: 434

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

264 -

(4) أَخْبَرَنَا يَعْلَى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ، ثَنَا ابْنُ عَوْنٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عِيسَى قَالَ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ:" لَا تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ لِثَلَاثٍ: لِتُمَارُوا بِهِ السُّفَهَاءَ، وَتُجَادِلُوا بِهِ الْعُلَمَاءَ، وَلِتَصْرِفُوا بِهِ وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْكُمْ، وَابْتَغُوا بِقَوْلِكُمْ مَا عِنْدَ اللَّهِ فَإِنَّهُ يَدُومُ وَيَبْقَى، وَيَنْفَدُ مَا سِوَاهُ "

(1)

.

رجال السند:

يَعْلَى، هو الطنافسى إمام ثقة تقدم، ومُحَمَّدُ بْنُ عَوْنٍ، هو الخراساني أبوعبد الله ضعيف، وإِبْرَاهِيمُ بْنُ عِيسَى، هو اليشكري سكت عنه الإمامان ووثقه ابن حبان فلابأس، وابْنُ مَسْعُودٍ، هو عبد الله رضي الله عنه.

الشرح:

قوله: «لَا تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ لِثَلَاثٍ: لِتُمَارُوا بِهِ السُّفَهَاءَ» .

هذا النهي عن تعلم العلم الشرعي لهذه الثلاث مقتبس من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تعلموا العلم، لتباهوا به العلماء، ولا لتماروا به السفهاء، ولا تخيروا به المجالس، فمن فعل ذلك، فالنار النار»

(2)

؛ لأن من طلب العلم لمجادلة العلماء فقد أخطأ طريق الإخلاص، وطلب الشهرة، فعاقبته خطيرة؛ من الرياء أن يفعل ذلك لغير الله عز وجل، ولأن السفهاء لا يجلون العلم، ولا

(1)

في سنده محمد بن عون الخراساني: متروك، وإبراهيم هو اليشكري، قال أبو حاتم: شيخ بصري متعبد، محله الصدق (الجرح والتعديل 2/ 117) وذكره ابن حبان في (الثقات 6/ 20) وانظر: القطوف رقم (171/ 262) وهذا كلام لا مخالفة فيه للشرع وهو من القبول بمكان.

(2)

انظر جامع العلوم والحكم 1/ 78.

ص: 435

يحترمون العلماء، وهذا من أخلاق الجاهلية فقد نهى الله عز وجل المؤمنين عن سب آلهة المشركين؛ لأنهم سفهاء لا يتورعون عن سب الله عز وجل فقال:{وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ}

(1)

، فالجاهل لا يجادل؛ لأنه فاقد الأهلية لذلك.

قوله: «وَتُجَادِلُوا بِهِ الْعُلَمَاءَ» .

المراد لا تتعلموا العلم لتجادلوا العلماء، بالباطل لإظهار القدرة على الرد ولو بصرف الحق إلى الباطل؛ ولأن ذلك يجعل السامع شاكا فيما يسمع أهو حق أو باطل، وقد نهى الله عز وجل عن مجادلة العلماء إلا بالحسنى فقال عز وجل:{وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ}

(2)

، فإذا كان هذا في حق علماء اليهود والنصارى فهو في حق العلماء من المسلمين أولى، ويستوي النهي عن مجادلة اليهود بالقسوة والعنف، بل بالرفق واللين الصفة التي هي أحسن، مع بيان الحجج والبراهين على النهج القويم، مع مجادلة العلماء من المسلمين، وذلك أدعى إلى قبول الحق والدخول في دين الإسلام، وإقناع المجادل بما هو حق، وأجاز الله عز وجل الرد بعنف وإغلاظ على المجادلين إذا أغلظوا وأوغلوا في المجادلة، ولم يتأدبوا في الحوار سواء كانوا من أهل الكتاب أو من المسلمين.

قوله: «وَلِتَصْرِفُوا بِهِ وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْكُمْ» .

(1)

من الآية (108) من سورة الأنعام.

(2)

من الآية (46) من سورة العنكبوت.

ص: 436

أي: لا تتعلموا العلم من أجل المباهاة به، لكسب الشهرة، ولفت أنظار الناس وهذا منهج أهل البدع يجادلون دفاعا عن البدع لإبهار الناس بها واعتناقها، وبذلك افترقت الأمة فرقا كثيرة بسبب البدع ولاسيما في الاعتقاد حتى كفّر بعضهم بعضا، ولم ينج منهم إلا فرقة واحدة من لم يبتدع في دين الله عز وجل، وسار على السنن، وهم من قال عنهم الرسول صلى الله عليه وسلم:«لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس»

(1)

؛ لأنهم لم يحيدوا عن منهج الكتاب والسنة، وفي رواية الثلاث وسبعين فرقة قال صلى الله عليه وسلم عن الفرقة الناجية لمّا قيل له: من هم يا رسول الله؟: «من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي»

(2)

.

قوله: «وَابْتَغُوا بِقَوْلِكُمْ مَا عِنْدَ اللَّهِ فَإِنَّهُ يَدُومُ وَيَبْقَى» .

أمرهم بإخلاص أقوالهم وأعمالهم لله عز وجل، ولا يطلب بها الدنيا، ولاسيما

طلب العلم الشرعي، وتعليم الناس، ودعوتهم إليه؛ لأنه يدوم في الدنيا ما دام مبنيا على الإخلاص لله عز وجل، ويبقى ثوابه في الآخرة، ولذلك ربط رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاح الأعمال وفسادها بالنية والقصد من ذلك فقال صلى الله عليه وسلم:«إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو إلى امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه»

(3)

، قال معاذ بن جبل رضي الله عنه: " تعلموا العلم فإن تعلمه خشية، وطلبه عبادة، ومدارسته

(1)

مسلم حديث (1037).

(2)

الحجة في بيان المحجة (1/ 119.

(3)

البخاري حديث (1) ومسلم حديث (1907).

ص: 437

تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقه، وبذله لأهلة قربة، وهو الأنس في الوحدة، والصاحب في الخلوة "

(1)

.

قوله: «وَيَنْفَدُ مَا سِوَاهُ» .

المراد أن من طلب بالعلم عرضا من الدنيا فإن حصل له مطلوبه منها فإنه ينفد ويزول، ولا يبقى إلا ما كان مقصودا به وجه الله عز وجل، وقد يجمع الله عز وجل للمخلص بين الأمرين، اللهم أعطنا ولا تحرمنا فضلك العظيم.

ما يستفاد:

* وجوب الإخلاص في الأقوال والأعمال.

* أهمية طلب العلم الشرعي وتعليمه.

* حرمة مجادلة السفهاء؛ لأن ذلك يفضي إلى منكر، كسَبّ الدين أو العلماء وغير ذلك.

* حرمة مجادلة العلماء لدفع الحق وإظهار الباطل، كما حدث في فتنة

القول بخلق القرآن.

* حرمة تعلم العلم الشرعي للمباهاة أو لعرض من الدنيا، أو للشهرة واستجلاب تعظيم الناس.

* أن ما يقصد به وجه الله يدوم في الدنيا وتكون عاقبته حميدة في الآخرة.

* أن العرض من الدنيا والجاه فيها والشهرة لا تدوم لأحد وأنها الحظ الزائل.

(1)

المجالس الوعظية في شرح أحاديث خير البرية 2/ 87.

ص: 438

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

265 -

(5) وَبِهَذَا الإِسْنَادِ قَالَ: " كُونُوا يَنَابِيعَ الْعِلْمِ مَصَابِيحَ الْهُدَى أَحْلَاسَ الْبُيُوتِ، سُرُجَ اللَّيْلِ، جُدُدَ الْقُلُوبِ، خُلْقَانَ الثِّيَابِ، تُعْرَفُونَ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ وَتَخْفَوْنَ عَلَى أَهْلِ الأَرْضِ"

(1)

.

رجال السند: تقدموا آنفا.

الشرح:

قوله: «كُونُوا يَنَابِيعَ الْعِلْمِ مَصَابِيحَ الْهُدَى» .

القائل الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، هذا القول من أثمن النصائح؛ لأن من يرغب في الحكمة والحلم والأناة فعليه بتعلم العلم الشرعي؛ لأن فيه خير الكلام كلام الله عز وجل، وفيه خير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم؛ ولأن من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين، ومن يرد الرفعة فعليه بالعلم قال الله عز وجل:{يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}

(2)

،

وبهذا يكونوا مناهل العلم لأخذهم بأسباب الفقه فيه، ووعوه فأصبحوا كالمصابيح يضيئون للناس الطريق إلى الجنة.

قوله: «أَحْلَاسَ الْبُيُوتِ» .

فيه إشارة إلى الهروب من الفتن القليل منها والكثير، وملازمة البيوت اكتفاء بما مَنْ الله عليهم من العلم، ولا يفهم من هذا الانقطاع عن تعليم الناس

(1)

انظر سابقه، وانظر: القطوف رقم (172/ 263).

(2)

من الآية (11) من سورة المجادلة.

ص: 439

الخير ودعوتهم إليه، بل المراد البعد عن كل ما يشغل عن ذلك. قوله:«سُرُجَ اللَّيْلِ، جُدُدَ الْقُلُوبِ» .

فيه إشارة إلى العبادة فيه فكأنهم بها يضيئون لياليهم بالصلاة والتلاوة والذكر والدعاء، وبذلك تتجدد قلوبهم بعمل الخير.

قوله: «خُلْقَانَ الثِّيَابِ» .

فيه إشارة إلى الزهد في الدنيا، وليس ذلك تحريم ما أحل الله من متاعها وشهواتها، وترك ذلك من الزهد والورع، قال الله عز وجل:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ}

(1)

، فقد أمر الله عز وجل نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم أن يسأل على سبيل التوبيخ والإنكار عمن حرم ما أحل الله عز وجل لعباده، وهذا السؤال لا يتطلب جوابا، وإنما المراد منه التوقيف على سوء فعل من يقول هذا أو يعتقده، لكن لا بد أن يشترط فيه أن يكون من الحلال، وغير المستقذر، والمراد بزينة الله جل جلاله ما حسنته الشريعة وأقرته، وزينة الدنيا كل ما اقتضته الشهوة وطلب العلو في الأرض، كالمال والبنين وهي الزينة التي فضل الشرع عليها زينة الله عز وجل، ثم أمر رسوله مرة أخرى أن يبين زينة الله عز وجل لمن هي فقال:{قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ}

(2)

، والمراد أن يخبر صلى الله عليه وسلم أن هذه الطيبات الموجودات هي في الحياة الدنيا للذين آمنوا وإن كانت أيضا لغيرهم معهم، وهي يوم القيامة خالصة

(1)

من الآية (32) من سورة الأعراف.

(2)

من الآية (32) من سورة الأعراف.

ص: 440

لهم أي: لا يشركهم أحد في استعمالها في الآخرة، وهذه إشارة إلى نعيم الجنة، وامتن الله عز وجل على عباده ببيان الدلائل لذوي العقول من عباده.

قوله: «تُعْرَفُونَ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ» .

المراد بعلمهم وطاعتهم وزهدهم عرفهم الملائكة من أهل أسماء، قال زر ابن حبيش وهو ثقة كثير الحديث: " أتيت رجلا يدعى صفوان بن عسال: فقعدت على بابه، فخرج فقال: ما شأنك؟ قلت: أطلب العلم.

قال: إن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يطلب

(1)

.

قوله: «وَتَخْفَوْنَ عَلَى أَهْلِ الأَرْضِ» .

المراد لقلة اختلاطهم بالعامة، واجتنابهم الفتن، واشتغالهم بالعلم والطاعة، اللهم ثبتنا على ما يرضيك.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

266 -

(6) أَخْبَرَنَا أَبُو عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَارَةَ بْنِ حَزْمٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ

(2)

قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَطْلُبُ

هَذَا الْعِلْمَ أَحَدٌ لَا يُرِيدُ بِهِ إِلاَّ الدُّنْيَا إِلاَّ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ

(3)

عَرْفَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»

(4)

.

(1)

انظر النسائي حديث (158). بتصرف.

(2)

هو أبو طوالة عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر بن حزم.

(3)

كتبت لحقا في هامش (ت).

(4)

أخرجه أبو داود عن أبي طوالة عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر الأنصاري، عن سعيد بن يسار، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حديث (3664) وكذلك ابن ماجة حديث (252) وصححه الألباني عندهما.

ص: 441

رجال السند:

أَبُو عَاصِمٍ، هو النبيل إمام ثقة تقدم، ومُحَمَّدُ بْنُ عُمَارَةَ بْنِ حَزْمٍ، هو الأنصاري صدوق، وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، هو ابن معمر بن حزم الأنصاري، أبو طوالة قاضي المدينة، إمام ثقة.

الشرح:

قوله: «لَا يَطْلُبُ هَذَا الْعِلْمَ أَحَدٌ لَا يُرِيدُ بِهِ إِلاَّ الدُّنْيَا إِلاَّ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ

(1)

عَرْفَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».

هذه الرواية مرسلة، وصلها أحمد بلفظ:«من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا، لم يجد عرف الجنة يوم القيامة»

(2)

.

الشرح: هذا وعيد شديد يؤيد ما تقدم، فلينظر.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

267 -

(7) أَخْبَرَنَا مُجَاهِدُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ، عَنْ مَالِكِ

ابْنِ مِغْوَلٍ قَالَ: " قَالَ رَجُلٌ لِلشَّعْبِيِّ: أَفْتِنِي أَيُّهَا الْعَالِمُ. فَقَالَ: الْعَالِمُ مَنْ يَخَافُ اللَّهَ "

(3)

.

رجال السند: مُجَاهِدُ بْنُ مُوسَى، هو الخوارزمي أبو علي ثقة تقدم، وعَبْدُ اللَّهِ ابْنُ نُمَيْرٍ، هو أبو هشام الكوفي همداني إمام ثقة، ومَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ، سكت عنه الإمامان، ووثقة ابن حبان فلابأس به، والشَّعْبِيُّ، هو عامر إمام ثقة.

(1)

كتبت لحقا في هامش (ت).

(2)

أحمد حديث (8457).

(3)

سنده حسن، وانظر: القطوف رقم (173/ 265).

ص: 442

الشرح:

قوله: «أَفْتِنِي أَيُّهَا الْعَالِمُ» .

هذا من الأدب مع العلماء أن يثنى عليه بما ظهر من أحسن صفاته، ولا شك أن العلم من أحسن الصفات، ولكن الشعبي رحمه الله منعه ورعه من قبول هذا الوصف، وإن كان من صفاته، ومشهود له به، ولو استبدل السائل ذلك بالدعاء لكان أطيب ولا يرد، كقوله: أحسن الله إليك ونحوه. قوله: «الْعَالِمُ مَنْ يَخَافُ اللَّهَ» .

هذا من ورع الشعبي رحمه الله، وعدم قبول التزكية، ولا ريب أنه ممن يخاف الله عز وجل، ولكنه أراد أن يعلم من بحضرته التواضع والورع.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

268 -

(8) أَخْبَرَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ، ثَنَا عُمَرُ بْنُ مَزْيَدٍ

(1)

، عَنْ أَوْفي بْنِ دَلْهَمٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنْ عَلِىٍّ قَالَ: " تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ تُعْرَفُوا بِهِ، وَاعْمَلُوا بِهِ تَكُونُوا مِنْ أَهْلِهِ، فَإِنَّهُ سَيَأْتِي بَعْدَ هَذَا زَمَانٌ لَا يَعْرِفُ فِيهِ تِسْعَةُ عَشَرَائِهِمُ الْمَعْرُوفَ، وَلَا يَنْجُو مِنْهُ إِلاَّ كُلُّ نُوَمَةٍ، فَأُولَئِكَ أَئِمَّةُ الْهُدَى، وَمَصَابِيحُ الْعِلْمِ، لَيْسُوا بِالْمَسَايِيحِ

(2)

، وَلَا الْمَذَايِيعِ الْبُذُرِ "

(3)

.

قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: نُوَمَةٌ: غَافِلٌ عَنِ الشَّرِّ، الْمَذَايِيعُ الْبُذُرِ: كَثِيرُوا الْكَلَامِ.

(1)

في المطبوع (يزيد).

(2)

أي: الذين يسعون بالشر والنميمة. (النهاية 2/ 432).

(3)

رجاله ثقات، وفيه اقطاع بين أوفي بن دلهم وعلي رضي الله عنه.

ص: 443

رجال السند:

عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ، هو ابن فارس ثقة تقدم، وعُمَرُ بْنُ مَزْيَدٍ، هو أبو المنبه، وقد قيل: اسمه عمر بن منبه السعدي، من أفراد الدارمي، ثقة، وأَوْفى بْنُ دَلْهَمٍ، هو بصري صدوق، عَلِىُّ، هو ابن أبي طالب رضي الله عنه، وهو منقطع أوفى بلغه عن علي.

الشرح:

قوله: «تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ تُعْرَفُوا بِهِ» .

هذا تأييد لما تقدم من قول ابن مسعود رضي الله عنه.

قوله: «وَاعْمَلُوا بِهِ تَكُونُوا مِنْ أَهْلِهِ» .

لأن العمل بالعلم يهدي إلى الحق، وبه يكون من أهل العلم الملتزمين بنهج الكتاب والسنة.

قوله: «فَإِنَّهُ سَيَأْتِي بَعْدَ هَذَا زَمَانٌ لَا يَعْرِفُ فِيهِ تِسْعَةُ عَشَرَائِهِمُ الْمَعْرُوفَ» .

هذا واقع في كثير من العالم الإسلامي، كثيرون الذين يجهلون المعروف وهو ما يعرفه الشرع، والمنكر ما أنكره الشرع.

قوله: «وَلَا يَنْجُو مِنْهُ إِلاَّ كُلُّ نُوَمَةٍ، فَأُولَئِكَ أَئِمَّةُ الْهُدَى، وَمَصَابِيحُ الْعِلْمِ» . المراد لا يسلم من الجهل بما هو معروف في الشرع، إلا كل غافل عن الجهل المحدق بالكثيرين؛ وهذا تذكير بأهمية الاشتغال بالعلم ليهتدي بهم من تعلم على أيديهم.

قوله: «لَيْسُوا بِالْمَسَايِيحِ، وَلَا الْمَذَايِيعِ الْبُذُرِ» .

أي: ليسوا من الذين يسعون بالشر والنميمة، ولا يكثرون الكلام فيما لا فائدة فيه.

ص: 444

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

269 -

(9) أَخْبَرَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: ثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ رضي الله عنه: " اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ بَعْدَ أَنْ تَعْلَمُوا، فَلَنْ يَأْجُرَكُمُ اللَّهُ عز وجل بِالْعِلْمِ حَتَّى تَعْمَلُوا "

(1)

.

رجال السند:

مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ، هو الطاطري إمام ثقة تقدم، وسَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، هو التنوخي إمام ثقة تقدم، ويَزِيدَ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ، هو أخو عبد الرحمن ابن يزيد، ثبت في مكحول، وخلفه في الفتوى والفقه، إمام ثقة، لم يدرك معاذا، ومُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ رضي الله عنه.

الشرح:

قوله: «اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ بَعْدَ أَنْ تَعْلَمُوا» .

هذا المراد به التهديد على غرار قوله تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ

شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}

(2)

، فكان معاذا رضي الله عنه أراد يبين للناس أن الأجر على طلب العلم مرتبط بالنية والعمل به.

قوله: «فَلَنْ يَأْجُرَكُمُ اللَّهُ عز وجل بِالْعِلْمِ حَتَّى تَعْمَلُوا» .

كأن معاذا رضي الله عنه أراد وعيدا ليبين أن العلم بدون عمل لا أجر فيه، حتى يعمل به فينال الأجر من الله عز وجل، ومعلوم أن من لم يعمل بما علم من الحق فيه شبه من اليهود، وسيعاقب على ذلك؛ لأن العالم يسأل عن علمه ماذا عمل

(1)

رجاله ثقات، وفيه انقطاع بين يزيد ومعاذ.

(2)

من الآية (29) من سورة الكهف.

ص: 445

به، وأن من لم يعمل بعلمه هو والجاهل سواء أو هو من السفهاء، إذ لم ينتفع بعلمه وكان حجة عليه، فليس هو من أهله على الحقيقة.

ما يستفاد:

* وجوب العمل بالعلم وإخلاصه لله عز وجل، وأن من لم يعمل بعلمه ففيه شبهٌ من اليهود والنصارى.

* الوعيد لمن لا يعمل بعلمه.

* أن أجر العلم مرتبط بالنية والقصد.

* أن العالم يسأل عن علمه ما ذا عمل به.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

270 -

(10) أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَالِدِ بْنِ حَازِمٍ، ثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مَزْيَدٍ قَالَ:" سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ، يُحَدِّثُ عَنْ سَعْدٍ: أَنَّهُ أَتَى ابْنَ مُنَبِّهٍ فَسَأَلَهُ عَنِ الْحَسَنِ، وَقَالَ لَهُ: كَيْفَ عَقْلُهُ؟، فَأَخْبَرَهُ ثُمَّ قَالَ: إِنَّا لَنَتَحَدَّثُ أَوْ نَجِدُهُ فِي الْكُتُبِ: أَنَّهُ مَا آتَى اللَّهُ عَبْداً عِلْماً فَعَمِلَ بِهِ عَلَى سَبِيلِ الْهُدَى فَيَسْلُبَهُ عَقْلَهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ "

(1)

.

رجال السند:

عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَالِدِ بْنِ حَازِمٍ، هو الرملي أحد أصحاب مالك، مقلّ وليس بهبأس، والْوَلِيدُ بْنُ مَزْيَدٍ، هو أبو العباس البيروتي، ثبت في الأوزاعي، إمام ثقة، وعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ، هو الداراني أبو عتبة، أخو يَزِيدَ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ، إمام ثقة روى له الستة.

(1)

سنده حسن، وانظر: القطوف رقم (175/ 268).

ص: 446

قوله: «سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ، يُحَدِّثُ عَنْ سَعْدٍ: أَنَّهُ أَتَى ابْنَ مُنَبِّهٍ» .

خالف أيوب بن سويد الرملي الوليدَ فقال: " حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن أخيه، يزيد قال: لقيت وهب بن منبه بالموسم فقال لي: ألك عهد بالحسن بن أبي الحسن؟ فقلت له: نعم، فقال: هل أنكرتم من عقله شيئا؟، فقال: لا،

(1)

.

والجواب عن هذا أن الوليد صرح بالسماع من عبد الرحمن بن يزيد، وهو يحدث عن سعد، ثم وقع ليزيد بن يزيد أخو عبد الرحمن أن لقي وهب بن منبه في الموسم فسأله عن الحسن البصري، فصار لعبد الرحمن شيخان في الرواية رجل يقال له: سعد، ووهب بن منبه، واتضح بذلك مخالفة أيوب للوليد.

قوله: «يُحَدِّثُ عَنْ سَعْدٍ: أَنَّهُ أَتَى ابْنَ مُنَبِّهٍ فَسَأَلَهُ عَنِ الْحَسَنِ» .

سعد المذكور مجهول، يؤيد هذا قول البيهقي رحمه الله:" عن رجل يقال له سعد "

(2)

.

والحسن هو البصري رحمه الله.

قوله: «وَقَالَ لَهُ: كَيْفَ عَقْلُهُ؟» .

المراد بعد أن كبر سنه، هل تغير عقله بسبب ذلك.

(1)

الزهد لأحمد حديث (1522).

(2)

شعب الإيمان حديث (1740).

ص: 447

قوله: «فَأَخْبَرَهُ ثُمَّ قَالَ: إِنَّا لَنَتَحَدَّثُ أَوْ نَجِدُهُ فِي الْكُتُبِ: أَنَّهُ مَا آتَى اللَّهُ عَبْداً عِلْماً فَعَمِلَ بِهِ عَلَى سَبِيلِ الْهُدَى فَيَسْلُبَهُ عَقْلَهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ» .

هذا ثناء على الحسن رحمه الله أنه من العلماء العاملين بعلمهم، ومن كان هذا حاله على سبيل الهدى فإنه وإن كبر سنه فإن الله عز وجل يحفظ قواه العقلية، وهذا رد جميل، ولكنه ليس مطردا في كل أحد، ولعله أراد نفي ذهاب العقل، ولكن كم من العلماء العاملين من قيل عنه: تغير بأخرة، أي: أصابه ضعف الذاكرة، فقلّ حفظه، وقد قال الله عز وجل:{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا}

(1)

.

وكم من عالم طال عمره وحفظه الله من ذلك.

وفيما قال إشارة إلى أهمية العلم والعمل به.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

271 -

(11) أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبَانَ، عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: حَدَّثَنِي

يُونُسُ بْنُ سَيْفٍ

(2)

الْحِمْصِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو كَبْشَةَ السَّلُولِيُّ قَالَ: " سَمِعْتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه يَقُولُ: إِنَّ مِنْ أَشَرِّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَالِماً لَا يَنْتَفِعُ بِعِلْمِهِ "

(3)

.

(1)

من الآية (70) من سورة النحل، ومن الآية (5) من سورة الحج.

(2)

كتب في هامش (ت) يوسف بن سيف.

(3)

فيه عبد الغفار بن القاسم أبو مريم الأنصاري: ليس بثقة، قال علي بن المديني: كان يضع الحديث (الميزان 3/ 354) والمعنى صحيح لا غبار عليه، وانظر: القطوف رقم (176/ 269).

ص: 448

رجال السند:

إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبَانَ، إمام ثقة تقدم، وابْنُ الْقَاسِمِ بْنِ قَيْسٍ، هو عبد الغفار ابن القاسم، أبو مريم الغفاري، شيعي ضعيف، ليس له عند الدارمي سوى هذا، ويقبل لكونه في الترغيب، ويُونُسُ بْنُ سَيْفٍ الْحِمْصِيُّ، هو الكلاعي صالح الحديث، وأَبُو كَبْشَةَ السَّلُولِيُّ، اسمه كنيته، تابعي ثقة، وأَبو الدَّرْدَاءِ، هو عويمر رضي الله عنه.

الشرح:

«قوله: إِنَّ مِنْ أَشَرِّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَالِماً لَا يَنْتَفِعُ بِعِلْمِهِ» .

هذا تحذير من عدم العمل بالعلم؛ لأن العالم يسأل عن علمه يوم القيامة ما ذا عمل به، ولأن خطره يَلْحق من يقتدي به من الناس، فيكون قدوة في ترك العمل بما علم. وهذا يؤكد ما سبق في أهمية العمل بالعلم.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

272 -

(12) أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ، أَنْبَأَنَا أَبُو قُدَامَةَ، عَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ

قَالَ: قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه: " مَنْ يَزْدَدْ عِلْماً يَزْدَدْ وَجَعاً ".

وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: "مَا أَخَافُ عَلَى نَفْسِي أَنْ يُقَالَ لِي مَا عَلِمْتَ؟ وَلَكِنْ أَخَافُ أَنْ يُقَالَ لِي مَاذَا عَمِلْتَ؟ "

(1)

.

(1)

سنده حسن، وفيه انقطاع بين ملك بن دينار وأبي الدرداء، وانظر: القطوف رقم (177/ 270).

ص: 449

رجال السند:

عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ، هو الواسطي إمام ثقة تقدم، وأَبُو قُدَامَةَ، هو الحارث ابن عبيد الإيادي، من شيوخ عبد الرحمن بن مهدي أثنى عليه، صدوق روى له مسلم في الصحيح، والبخاري في الشواهد، ومَالِكُ بْنُ دِينَارٍ، هو أبو يحيى البصري، تابعي زاهد ورع، إمام ثقة، وأَبُو الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه.

الشرح:

قوله: «مَنْ يَزْدَدْ عِلْماً يَزْدَدْ وَجَعاً» .

لأنه ازداد فهما للمسئولية العلمية، وما يترتب عليها من الثواب والعقاب، قال الله عز وجل:{وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ}

(1)

، فالآية فيها بيان أن كل الأمثال في القرآن الكريم المراد منها تنبيه الناس ليتعظوا منها؛ لأنها تقرب لهم ما حدث بالأمم حتى كأنه رأي العين لمن يتدبر الأمور فيها ويعقل مراميها، ولا يكون ذلك إلا للعالمين المتبصرين.

قَوله: «مَا أَخَافُ عَلَى نَفْسِي أَنْ يُقَالَ لِي مَا عَلِمْتَ؟ وَلَكِنْ أَخَافُ أَنْ يُقَالَ

لِي مَاذَا عَمِلْتَ؟».

هذا فهم أبو الدرداء رضي الله عنه، فالله عز وجل لم يوجب على الناس أن يكونوا علماء، بعد أن أو جب عليهم معرفته وتوحيده جل جلاله، فلم يخف أبو الدرداء رضي الله عنه أن يسأل لِمَ لَمْ تكن عالما؟، وإنما خاف أن يقال ماذا علمت؛ لأن من لوازم العلم العمل، ومن لوازم العمل الخوف والخشية، قال الله عز وجل: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ

(1)

الآية (43) من سورة العنكبوت.

ص: 450

مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}

(1)

؛ لأنهم اعتبروا بما علموا، واستيقنوا قيام الحجة بذلك، فحصّلوا الخشية من الله عز وجل؛ لأن خشية من يعلم ذلك ويؤمن به أعظم من خشية من لا يعلم.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

273 -

(13) أَخْبَرَنَا هَارُونُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، عَنْ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ جُرَيْجٍ يَذْكُرُ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ

(2)

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: "تَدَارُسُ الْعِلْمِ سَاعَةً مِنَ اللَّيْلِ خَيْرٌ مِنْ إِحْيَائِهَا "

(3)

. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: " إِنِّي لأُجَزِّئُ اللَّيْلَ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ، فَثُلُثٌ أَنَامُ، وَثُلُثٌ أَقُومُ، وَثُلُثٌ أَتَذَكَّرُ أَحَادِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "

(4)

.

رجال السند:

هَارُونُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، هو الأشعري صدوق تقدم، وحَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، إمام

ثقة تقدم، وابْنُ جُرَيْجٍ، هو عبد الملك بن عبد العزيز، ثبت في عطاء بن أبي رباح، إمام ثقة يدلس ويرسل، روى له الستة، والواسطة بينه وبين ابن عباس هو عطاء بن أبي رباح، وهو إمام ثقة، وابْنُ عَبَّاسٍ، هو عبد الله رضي الله عنهما.

قوله: «تَدَارُسُ الْعِلْمِ سَاعَةً مِنَ اللَّيْلِ خَيْرٌ مِنْ إِحْيَائِهَا» .

(1)

من الآية (28) من سورة فاطر.

(2)

الذي حدثه هو عطاء.

(3)

سنده حسن، وقد تبين من رواية البيهقي في المدخل أن الواسطة بين ابن جريج وابن عباس هو عطاء، وانظر: القطوف رقم (178/ 271).

(4)

موصول بالسند السابق.

ص: 451

لما في ذلك من النفع العام، وإحياء الليل قاصر أجره على المحيي.

قوله: «وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: إِنِّي لأُجَزِّئُ اللَّيْلَ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ، فَثُلُثٌ أَنَامُ، وَثُلُثٌ أَقُومُ، وَثُلُثٌ أَتَذَكَّرُ أَحَادِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» . هو موصول بالسند السابق، وأسنده الدارقطني رحمه الله عن أبي هريرة بلفظ " لأن أجلس ساعة فأفقه أحب إلي من أن أحيي ليلة إلى الغداة "

(1)

، وهذا منهج أبي هريرة رضي الله عنه، وحبذا العمل لمن أعانه الله ووفقه.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

274 -

(14) أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ:" مَنِ ابْتَغَى شَيْئاً مِنَ الْعِلْمِ يَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ آتَاهُ اللَّهُ مِنْهُ مَا يَكْفِيهِ"

(2)

.

رجال السند:

الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ، هو العبدي أبو علي المؤدب، إمام لابأس به، وجَرِيرٌ، هو ابن عبد الحميد إمام ثقة تقدم، الْحَسَنُ بْنُ عَمْرٍو، هو الفقيمي أخو

الفضيل، إمام ثقة، وإِبْرَاهِيمُ، هو النخعي إمام ثقة تقدم.

الشرح:

قوله: «مَنِ ابْتَغَى شَيْئاً مِنَ الْعِلْمِ يَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ آتَاهُ اللَّهُ مِنْهُ مَا يَكْفِيهِ» . المراد من طلب العلم بإخلاص حقق الله عز وجل له من العلم بقدر اهتمامه ورغبته، ولذلك تفاوتت درجات الناس في تحصيل العلم، وتراهم يتفاوتون في الأعمال، وقد عاصرت نخبة من العلماء في الجامعة الإسلامية كان منهم

(1)

الدارقطني حديث (3085).

(2)

سنده حسن، وانظر: القطوف رقم (179/ 272).

ص: 452

جبال في العلم، وكان شرازهم في العلم والعمل شيخنا عبد العزيز ابن باز رحمه الله، وكان يثني على شيخنا محمد الأمين الشنقيطي مؤلف أضواء البيان رحمه الله، وقد ذكرت شيوخي الذين تعلمت منهم من الابتدائي حتى حصلت على شهادة العالمية العالية" الدكتوراه" وهم متفاوتون في العلم والعمل، وذلك في كتابي" ظروف وحروف" رحمهم الله جميعا، وجمعني بهم في الفردوس الأعلى من الجنة، إنه على كل شيء قدير.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

28 -

‌ بابٌ مَنْ هَابَ الْفُتْيَا مَخَافَةَ السَّقَطِ

275 -

(1) أَخْبَرَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، ثَنَا ثَابِتُ بْنُ يَزِيدَ، حَدَّثَنَا عَاصِمٌ قَالَ: سَأَلْتُ الشَّعْبِيَّ، عَنْ حَدِيثٍ فَحَدَّثَنِيهِ، فَقُلْتُ: إِنَّهُ يُرْفَعُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:" لَا، عَلَى مَنْ دُونَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَحَبُّ إِلَيْنَا، فَإِنْ كَانَ فِيهِ زِيَادَةٌ أَوْ نُقْصَانٌ كَانَ عَلَى مَنْ دُونَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم "

(1)

.

رجال السند:

أَبُو النُّعْمَانِ، هو محمد بن الفضل عارم إمام ثقة تقدم، ثَابِتُ بْنُ يَزِيدَ، هو

الأحول إمام ثقة تقدم، وعَاصِمٌ، هو ابن سليمان إمام ثقة تقدم، والشَّعْبِيُّ، هو عامر إمام ثقة تقدم.

الشرح:

قوله: «فَقُلْتُ: إِنَّهُ يُرْفَعُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: " لَا، عَلَى مَنْ دُونَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَحَبُّ إِلَيْنَا، فَإِنْ كَانَ فِيهِ زِيَادَةٌ أَوْ نُقْصَانٌ كَانَ عَلَى مَنْ دُونَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم» . المراد أن الحديث الذي حدثه ليس مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، بل موقوف على

(1)

رجاله ثقات، وانظر: القطوف رقم (180/ 273).

ص: 453

من دون النبي صلى الله عليه وسلم، وقد نحا الشعبي رحمه الله إلى هذا حماية لجناب النبي صلى الله عليه وسلم من أن يكون في المروي زيادة في اللفظ، أونقصان منه، فحمْله على من هو دون النبي صلى الله عليه وسلم أولى.

قال الخطيب رحمه الله: اختلاف الروايتين في الرفع والوقف لا يؤثر في الحديث ضعفا، لجواز أن يكون الصحابي يسند الحديث مرة ويرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ويذكره مرة أخرى على سبيل الفتوى ولا يرفعه، فيحفظ الحديث عنه على الوجهين جميعا، وقد كان سفيان بن عيينة يفعل هذا كثيرا في حديثه، فيرويه تارة مسندا مرفوعا، ويقفه مرة أخرى قصدا واعتمادا، وإنما لم يكن هذا مؤثرا في الحديث ضعفا، مع ما بيناه؛ لأن إحدى الروايتين ليست مكذبة للأخرى، والأخذ بالمرفوع أولى

(1)

.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

276 -

(2) أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عِيسَى، ثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَبِي هَاشِمٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةِ. فَقِيلَ لَهُ: أَمَا

تَحْفَظُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثاً غَيْرَ هَذَا؟، قَالَ: بَلَى وَلَكِنِّي أَقُولُ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ عَلْقَمَةُ: أَحَبُّ إِلَيَّ "

(2)

.

رجال السند: إِسْحَاقُ بْنُ عِيسَى، هو ابن الطباع أبو يعقوب البغدادي أخو محمد صدوق، وحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، هو الجهضمي إمام ثقة تقدم، وأَبو هَاشِمٍ، هو يحيى الرماني، واسطي ثقة، وإِبْرَاهِيمُ، هو النخعي تقدم.

(1)

الكفاية في علم الرواية 1/ 417.

(2)

سنده حسن، وأخرجه البخاري من حديث أنس رضي الله عنه حديث (2207).

ص: 454

الشرح:

قوله: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةِ» .

المحاقلة هي: بيع الحنطة في سنبلها بحنطة صافية، وهي المحاقلة، مأخوذة من الحقل وهو الحرث، وأجمعوا على تحريم ذلك، وقيل هي: بيع الزرع قبل بدو صلاحه، وقيل: بيع الزرع في سنبله بالحنطة، وقيل: المزارعة على نصيب معلوم بالثلث أو الربع أو أقل من ذلك أو أكثر، وقيل اكتراء الأرض بالحنطة.

والمزابنة هي: مشتقة من الزبن وهو المخاصمة والمدافعة، وهي بيع ثمر النخل بالتمر كيلاً. وبيع الزبيب بالعنب كيلاً، وعن كل ثمر بخرصه، وقد أتفق العلماء على تحريم بيع الرطب بالتمر في غير العرايا، وأنه رباً. وأجمعوا أيضاً على تحريم بيع العنب بالزبيب.

«فَقِيلَ لَهُ: أَمَا تَحْفَظُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثاً غَيْرَ هَذَا؟، قَالَ: بَلَى وَلَكِنِّي أَقُولُ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ عَلْقَمَةُ: أَحَبُّ إِلَيَّ» .

هذا تحفّظ من إبراهيم النخعي رحمه الله، من الزلل فيما ينسب للرسول صلى الله عليه وسلم فيتوقى ذلك بأن يقول: قال عبد الله بن مسعود، أو قال علقمة بن قيس.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

ص: 455

277 -

(3) أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ: " كَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه إِذَا حَدَّثَ بِحَدِيثٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: هَذَا أَوْ نَحْوَهُ، أَوْ شِبْهَهُ

(1)

أَوْ شَكْلَهُ "

(2)

.

رجال السند:

مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، هو ابن أبي عطاء، ضُعّف في الأوزاعي ومعمرٌ تقدم، والأَوْزَاعِيُّ، إمام ثقة تقدم، وإِسْمَاعِيلُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، هو ابن أبي المهاجر ثقة مأمون، وأَبُو الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه.

الشرح:

هذا يؤيد ما تقدم وهو من الاحتراز في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتحفظ من الزلل.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

278 -

(4) أَخْبَرَنَا أَسَدُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ يَزِيدَ قَالَ:" كَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه إِذَا حَدَّثَ حَدِيثاً قَالَ: اللَّهُمَّ إِلاَّ هَكَذَا، أَوْ كَشَكْلِهِ "

(3)

.

رجال السند:

أَسَدُ بْنُ مُوسَى، هو أسد السنة إمام ثقة تقدم، ومُعَاوِيَةُ، هو ابن صالح صدوق، ورَبِيعَةُ بْنُ يَزِيدَ، هو أبو شعيب إمام ثقة تقدم، وأَبُو الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه.

(1)

في (ك) أو سبيه به، وزاد في هامش (ك) أو مثله بدلا من (شكله).

(2)

فيه محمد بن كثير بن أبي عطاء الثقفي: صدوق كثير الغلط، وفيه انقطاع بين إسماعيل وأبي الدرداء.

(3)

سنده حسن، وفيه انقطاع بين ربيعة وأبي الدرداء رضي الله عنه، وانظر: القطوف رقم (183/ 276).

ص: 456

الشرح: انظر السابق.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

279 -

(5) حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ عَوْنٍ، عَنْ مُسْلِمٍ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيَّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ: " كُنْتُ لَا تَفُوتُنِي عَشِيَّةُ خَمِيسٍ إِلاَّ آتِي فِيهَا

(1)

عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ، فَمَا سَمِعْتُهُ يَقُولُ لِشَيْءٍ قَطُّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ حَتَّى كَانَتْ ذَاتَ عَشِيَّةٍ فَقَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: فَاغْرَوْرَقَتَ

(2)

عَيْنَاهُ وَانْتَفَخَتْ أَوْدَاجُهُ

(3)

، فَأَنَا رَأَيْتُهُ مَحْلُولَةً أَزْرَارُهُ. قَالَ: أَوْ مِثْلُهُ أَوْ نَحْوُهُ أَوْ شَبِيهٌ بِهِ "

(4)

.

رجال السند:

عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ، هو ابن فارس إمام ثقة تقدم، وابْنُ عَوْنٍ، إمام ثقة تقدم، ومُسْلِمٌ أَبو عَبْدِ اللَّهِ، هو البطين إمام ثقة تقدم، وإِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ، هو ابن

يزيد بن شريك، إمام ثقة مات في سجن الحجاج، وأَبِوه هو يزيد بن شريك التيمي، مخضرم من كبار التابعين، من أصحاب ابن مسعود، ثقة إمام روى له الستة، وعَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ، هو الأودي أبو عبد الله، مخضرم ثقة لازم معاذا ثم ابن مسعود، وعَبْدُ اللَّهِ ابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه.

الشرح: انظر ما تقدم.

(1)

استدركت في هامش (ت).

(2)

في الأصول (فاغرورقتا) وصوبت في هامش (ت) والمعنى: غرقتا بالدمع (النهاية (3/ 361).

(3)

واحدها ودج، وهي ما أحاط بالعنق من العروق (النهاية 5/ 165).

(4)

أخرجه ابن ماجة: المقدمة، حديث (23).

ص: 457

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

280 -

(6) أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَنْبَأَ أَشْعَثُ، عَنِ الشَّعْبِيِّ وَابْنِ سِيرِينَ:" أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ رضي الله عنه كَانَ إِذَا حَدَّثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الأَيَّامِ تَرَبَّدَ وَجْهُهُ وَقَالَ: هَكَذَا أَوْ نَحْوَهُ، هَكَذَا أَوْ نَحْوَهُ "

(1)

.

رجال السند:

يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، وأَشْعَثُ بن سوار، والشَّعْبِيُّ، وَابْنُ سِيرِينَ، هم أئمة ثقات تقدموا، وابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه.

الشرح:

قوله: «إِذَا حَدَّثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الأَيَّامِ تَرَبَّدَ وَجْهُهُ» .

المراد في المغازي والسيرة، يتغير وجهه، إما تذكرا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كان صاحبه ورفيقه، وإما خوفا من الزلل، وإما لهما، وكل ذلك يليق بالهيبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم حيا وميتا.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

281 -

(7) أَخْبَرَنَا سَهْلُ بْنُ حَمَّادٍ، ثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا تَوْبَةُ الْعَنْبَرِيُّ قَالَ: قَالَ

لِيَ الشَّعْبِيُّ: " أَرَأَيْتَ فُلَاناً الَّذِي يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَعَدْتُ مَعَ ابْنِ عُمَرَ سَنَتَيْنِ أَوْ سَنَةً وَنِصْفاً فَمَا سَمِعْتُهُ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا إِلاَّ هَذَا الْحَدِيثَ "

(2)

.

(1)

فيه أشعث بن سوار: ضعيف، وانظر سابقه.

(2)

سنده حسن، ويأتي نحوه عن مجاهد رحمه الله، أنظر رقم (289). والمراد بالحديث حديث الضب أخرجه مسلم حديث (1950، 1951).

ص: 458

رجال السند:

سَهْلُ بْنُ حَمَّادٍ، هو أبو عتاب العنقزي، لابأس به من رجال مسلم في صحيحه، وشُعْبَةُ، إمام ثقة تقدم، وتَوْبَةُ الْعَنْبَرِيُّ، هو ثقة من أصحاب الشعبي، روى حديثه الشيخان في الصحيح، والشَّعْبِيُّ، غني عن التعريف تقدم كثيرا.

الشرح:

قوله: «أَرَأَيْتَ فُلَاناً الَّذِي يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَعَدْتُ مَعَ ابْنِ عُمَرَ سَنَتَيْنِ أَوْ سَنَةً وَنِصْفاً فَمَا سَمِعْتُهُ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا إِلاَّ هَذَا الْحَدِيثَ» .

المراد حديث الضب، والذي يقول ذلك هو الحسن البصري رحمه الله، إتحاف المهرة لابن حجر

(1)

، وفي هذا نظر؛ لأن الشعبي والحسن رحمهما الله قرينان تابعيان كبيران، عالمان جليلان، ومعلوم أن ابن عمر رضي الله عنهما من الكثرين في رواية الحديث، استغرب أن يجالسه الشعبي سنتين ولا يسمع منه إلا حديث الضب، وأيضا استغرب الانكار على الحسن وهو من هو في العلم وقرين الشعبي، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمدا، فليتبوأ مقعده من النار»

(2)

، فإن كان إنكار الشعبي رحمه الله على الحسن كثرة

(1)

/ 485.

(2)

البخاري حديث (3461).

ص: 459

الإرسال، فكذلك الشعبي رحمه الله لم يسلم من ذلك، ولهما العذر بما سبق بيانه في حكم من تعمد الإرسال.

ولعل ما ذكر الشعبي رحمه الله كان عقب وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كان عمر شديد على من ينقل شيئا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، خوفا التصرف في الألفاظ، وقصة عمر مع أبي موسى الأشعر في الاستئذا، واختبار أبي هريرة معروفة

(1)

.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

282 -

(8) أَخْبَرَنَا أَسَدُ بْنُ مُوسَى، ثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي السَّفَرِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ:" جَالَسْتُ ابْنَ عُمَرَ سَنَةً فَلَمْ أَسْمَعْهُ يَذْكُرُ حَدِيثاً عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "

(2)

.

رجال السند:

أَسَدُ بْنُ مُوسَى، هو أسد السنة، وشُعْبَةُ، هو بن الحجاج، هما إمامان ثقتان تقدما، وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي السَّفَرِ، هو الهمداني من أصحاب الشعبي، ثقة غير مكثر، وروى له الشيخان، والشَّعْبِيُ تقدم آنفا. وانظر السابق.

قال الدارمي رحمه الله تعالى: 283 - (9) أَخْبَرَنَا عَاصِمُ بْنُ يُوسُفَ، ثَنَا أَبُو بَكْرٍ، عَنْ أَبِي حَصِينٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ ثَابِتِ بْنِ قُطْبَةَ الأَنْصَارِيِّ قَالَ:" كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُحَدِّثُنَا فِي الشَّهْرِ بِالْحَدِيثَيْنِ أَوِ الثَّلَاثَةِ "

(3)

.

(1)

مسلم حديث (2153).

(2)

سنده حسن.

(3)

فيه ثابت بت قطبة: سكت عنه أبو حاتم (الجرح والتعديل 2/ 457) وذكره ابن حبان في (الثقات 4/ 92).

ص: 460

رجال السند:

عَاصِمُ بْنُ يُوسُفَ، هو أبو عمرو اليربوعي، لابأس به روى حديثه الشيخان، وأَبُو بَكْرٍ، هو ابن عياش ثقة تقدم، وأَبو حَصِينٍ، هو عثمان ابن عاصم الكوفي، ثبت في عمرو بن مرة، إمام ثقة، والشَّعْبِيُّ، إما ثقة تقدم، وثَابِتُ ابْنُ قُطْبَةَ الأَنْصَارِيِّ، من أصحاب ابن مسعود، ثقة من أفراد الدارمي، ولم يرو له أصحاب الستة.

الشرح:

المراد أنه يُقِل الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خوف الزلل بزيادة أو نقص، وإن لم يكن، فالمراد التخول بالموعظة، ليكون ذلك أيسر لحفظ السامع ووعيه لما سمع.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

284 -

(10) أَخْبَرَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ، أَنْبَأَ يُونُسُ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُبَيْدٍ قَالَ: مَرَّ بِنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ فَقُلْنَا: حَدِّثْنَا بِبَعْضِ مَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: وَأَتَحَلَّلُ

(1)

.

رجال السند:

عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ، هو ابن فارس إمام ثقة تقدم، ويُونُسُ، هو ابن يزيد الأيلي، أبو يزيد القرشي، لابأس به، روى له الستة، وعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُبَيْدٍ،

(1)

فيه عبد الملك بن عبيد: سكت عنه أبو حاتم (الجرح والتعديل 5/ 358) وذكره ابن حبان في (الثقات 5/ 120).

ص: 461

هو من أفراد الدارمي، سكت عنه الإمامان ووثقه ابن حبان فلابأس، وأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه.

المراد بقوله: " وَأَتَحَلَّلُ ".

يكون في حل من عهدة النقل، والتحفظ من الزيادة أو النقص.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

285 -

(11) حَدثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، ثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ: كَانَ أَنَسٌ رضي الله عنه قَلِيلَ الْحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ إِذَا حَدَّثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

(1)

.

رجال السند:

سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، هو ابن بجيل، وحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، وابْنُ عَوْنٍ، ومُحَمَّدٌ، هو ابن سيرين، هم أئمة ثقات تقدموا، وأَنَسٌ، هو ابن مالك رضي الله عنه.

تقدم ذكر أن هذا من التحفظ والحرص من النقص أو الزيادة.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

286 -

(12) أَخْبَرَنَا عُثْمَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ، ثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ

مُحَمَّدٍ قَالَ: " كَانَ أَنَسٌ رضي الله عنه إِذَا حَدَّثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثاً قَالَ: أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "

(2)

.

رجال السند: عُثْمَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ

(3)

، هو ابن أبي شيبة إمام ثقة، وإِسْمَاعِيلُ، هو ابن مقسم يعرف بابن عليه، أبو بشر الأسدي، إمام ثقة روى له الستة،

(1)

رجاله ثقات.

(2)

رجاله ثقات، وانظر سابقه.

(3)

في (ت، ك) عمر.

ص: 462

وأَيُّوبُ، هو السختياني إمام ثقة تقدم، ومُحَمَّدُ، هو ابن سيرين تقدم آنفا، وأَنَسٌ رضي الله عنه. وتقدم بيان السبب في قوله: أو كما قال صلى الله عليه وسلم.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

287 -

(13) حَدثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، ثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ:" حَدَّثَنِي السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ سَعْدٍ رضي الله عنه إِلَى مَكَّةَ فَمَا سَمِعْتُهُ يُحَدِّثُ حَدِيثاً عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ "

(1)

.

رجال السند:

سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، وحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، ويَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، هم أئمة ثقات تقدموا، والسَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ صحابي ذكر في أسد الغابة، والإصابة، وهو صحابي صغير ابن صحابيين حج به أبوه وأمه مع النبي، صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، وهو ابن سبع سنين، ويقال: ابن عشر سنين

(2)

، سَعْدٌ، هو ابن

أبي وقاص رضي الله عنه.

الشرح: انظر ما تقدم وكله من التحفظ.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

288 -

(14) أَخْبَرَنَا سَهْلُ بْنُ حَمَّادٍ، ثَنَا شُعْبَةُ، ثَنَا بَيَانٌ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ قَرَظَةَ بْنِ كَعْبٍ: " أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه شَيَّعَ الأَنْصَارَ حِينَ خَرَجُوا مِنَ الْمَدِينَةِ فَقَالَ: أَتَدْرُونَ لِمَ شَيَّعْتُكُمْ؟ قُلْنَا: لِحَقِّ الأَنْصَارِ، قَالَ: إِنَّكُمْ تَأْتُونَ قَوْماً

(1)

رجاله ثقات، وأخرجه ابن ماجة: المقدمة، حديث (29).

(2)

انظر الإصابة في تمييز الصحابة (3/ 22) وأسد الغابة (2/ 401) عمدة القاري شرح صحيح البخاري (14/ 120).

ص: 463

تَهْتَزُّ أَلْسِنَتُهُمْ بِالْقُرْآنِ اهْتِزَازَ النَّخْلِ

(1)

، فَلَا تَصُدُّوهُمْ بِالْحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا شَرِيكُكُمْ، قَالَ: فَمَا حَدَّثْتُ بِشَيْءٍ وَقَدْ سَمِعْتُ كَمَا سَمِعَ أَصْحَابِي"

(2)

.

رجال السند:

سَهْلُ بْنُ حَمَّادٍ، هو العنقزي لابأس به تقدم، وشُعْبَةُ، إمام ثقة تقدم، وبَيَانٌ، هو ابن بشر إمام ثقة تقدم، والشَّعْبِيُّ، إمام ثقة تقدم، وقَرَظَةُ بْنُ كَعْبٍ، هو أبو عمرو الأنصاري صحابي، كان ممن فتح الري رضي الله عنه، وعُمَرَ، هو ابن الخطاب رضي الله عنه.

الشرح:

هذا رأي عمر في نقل السنة كان شديد التحفظ على الرواية، والحاجة إلى

العناية بالقرآن وفهمه، أولى من مزاحمة السنة له في ذلك الوقت، وطمأنهم بأنه شريك لهم فيما نهاهم عنه، حتى لا يقع في أنفسهم التأثم من عدم الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

289 -

(15) أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَنْبَأ أَشْعَثُ

(3)

، عَنِ الشَّعْبيِّ، عَنْ قَرَظَةَ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: " بَعَثَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رِضْوَانُ الله عَلَيْهِ رَهْطاً مِنَ الأَنْصَارِ إِلَى الْكُوفَةِ فَبَعَثَنِي مَعَهُمْ، فَجَعَلَ يَمْشِي مَعَنَا حَتَّى أَتَى صِرَارَ -

(1)

هكذا في هامش الأصل وعليها الرمز (ح) وفي (ت) وفي صلب الأصل" النخل" ولا أراه صوابا فتشبيه حركة الألسنة بحركة النحل أولى، وتؤيده رواية المصنف رقم (5).

(2)

رجاله ثقات، وانظر: القطوف رقم (187/ 286).

(3)

في (ك) علق في الهامش" شعيب".

ص: 464

وَصِرَارُ مَاءٌ فِي طَرِيقِ الْمَدِينَةِ -، فَجَعَلَ يَنْفُضُ الْغُبَارَ عَنْ رِجْلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّكُمْ تَأْتُونَ الْكُوفَةَ فَتَأْتُونَ قَوْماً لَهُمْ أَزِيزٌ بِالْقُرْآنِ فَيَأْتُونَكُمْ، فَيَقُولُونَ: قَدِمَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ قَدِمَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ فَيَأْتُونَكُمْ فَيَسْأَلُونَكُمْ عَنِ الْحَدِيثِ، فَاعْلَمُوا أَنَّ أَسْبَاغَ الْوُضُوءِ ثَلَاثٌ، وَثِنْتَانِ تُجْزِيَانِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّكُمْ تَأْتُونَ الْكُوفَةَ فَتَأْتُونَ قَوْماً لَهُمْ أَزِيزٌ بِالْقُرْآنِ، فَيَقُولُونَ: قَدِمَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ قَدِمَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ فَيَأْتُونَكُمْ يَسْأَلُونَكُمْ عَنِ الْحَدِيثِ، فَأَقِلُّوا الرِّوَايَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا شَرِيكُكُمْ فِيهِ، قَالَ قَرَظَةُ: وَإِنْ كُنْتُ لأَجْلِسُ فِي الْقَوْمِ فَيَذْكُرُونَ الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنِّي لَمِنْ أَحْفَظِهِمْ لَهُ، فَإِذَا ذَكَرْتُ وَصِيَّةَ عُمَرَ رِضْوَانُ الله عَلَيْهِ سَكَتُّ ".

قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: " مَعْنَاهُ عِنْدِي الْحَدِيثُ عَنْ أَيَّامِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْسَ السُّنَنَ وَالْفَرَائِضَ"

(1)

.

(1)

فيه أشعث بن سوار: ضعيف ويتقوى بما سبق. وقول أبي محمد الدارمي يزيل توهم إطلاق المنع من الحديث، بل المراد ما يخص أيام الرسول صلى الله عليه وسلم فالناس عهدهم بالنبوة قريب، ويتشوفون إلى الحديث عن أحداثها، أما ما يتعلق بالحلال والحرام والفرائض والسنن فلا يمنعه عمر رضي الله عنه.

ص: 465

رجال السند:

يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، وأَشْعَثُ، والشَّعْبيُّ، هم أئمة ثقات تقدموا قريبا، وقَرَظَةَ ابْنِ كَعْبٍ رضي الله عنه.

الشرح:

انظر السابق، وقول الدارمي:«مَعْنَاهُ عِنْدِي الْحَدِيثُ عَنْ أَيَّامِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْسَ السُّنَنَ وَالْفَرَائِضَ» .

المراد نهي عمر رضي الله عنه ليس المراد منه النهي عن أحاديث السنن والفرائض، فذاك أمر مطلوب ومن أجله بعثهم عمر رضي الله عنه، يؤيد هذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا رضي الله عنه إلى اليمن قال:«إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله فإذا عرفوا الله فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم وإذا فعلوها فأخبرهم أن الله فرض عليهم زكاة تؤخذ من أموالهم فترد على فقرائهم فإذا أطاعوا بهذا فخذ منهم وتوق كرائم أموال الناس»

(1)

، إذن عمر رضي الله عنه أراد نهيهم عن الحديث عن الغزوات، ولا ريب أن ذلك يصرف عن الأهم، وقد أحسن الدارمي رحمه الله في هذا البيان، وسيأتي مزيد بيان في باب البلاغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

290 -

(16) أَخْبَرَنَا مُجَاهِدُ بْنُ مُوسَى، ثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ

مِغْوَلٍ، عَنِ الشَّعْبيِّ، عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ:" قَالَ عَبْدُ اللَّهِ رضي الله عنه: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ ارْتَعَدَ، ثُمَّ قَالَ: نَحْوَ ذَلِكَ، أَوْ فَوْقَ ذَلِكَ "

(2)

.

رجال السند:

مُجَاهِدُ بْنُ مُوسَى، هو الخوارزمي ثقة تقدم، وابْنُ نُمَيْرٍ، هو عبد الله إمام ثقة تقدم، ومَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ، سكت عنه الإمامان، ووثقة ابن حبان فلابأس به، والشَّعْبيُّ، تقدم آنفا، وعَلْقَمَةُ، هو ابن قيس إمام ثقة تقدم، قَالَ: وعَبْدُ اللَّه، ابن مسعود رضي الله عنه.

(1)

ابن حبان حديث (156).

(2)

رجاله ثقات، وانظر الآثار (275 - 278).

ص: 466

الشرح:

تقدم نحو هذا وذلك من هيبة النقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

291 -

(17) أَخْبَرَنَا بِشْرُ بْنُ الْحَكَمِ، ثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ:" صَحِبْتُ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما إِلَى الْمَدِينَةِ، فَلَمْ أَسْمَعْهُ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِحَدِيثٍ إِلاَّ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأُتِيَ بِجُمَّارٍ، فَقَالَ: «إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَراً مِثْلَ الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ» فَأَرَدْتُ أَنْ أَقُولَ: هِيَ النَّخْلَةُ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا أَنَا أَصْغَرُ الْقَوْمِ فَسَكَتُّ، فَقَالَ عُمَرُ رِضْوَانُ الله عَلَيْهِ: وَدِدْتُ أَنَّكَ قُلْتَ وَعَلَىَّ كَذَا "

(1)

.

رجال السند:

بِشْرُ بْنُ الْحَكَمِ، هو إمام ثقة تقدم، وسُفْيَانُ، هو ابن عيينة إمام ثقة تقدم، وابْنُ أَبِي نَجِيحٍ، هو عبد الله إمام ثقة تقدم، ومُجَاهِدٌ، هو ابن جبر إمام فقيه تقدم، وابْنُ عُمَرَ، هو عبد الله ابن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم.

الشرح:

قوله: «فَأُتِيَ بِجُمَّارٍ، قَالَ: «إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَراً مِثْلَ الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ» فَأَرَدْتُ أَنْ أَقُولَ: هِيَ النَّخْلَةُ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا أَنَا أَصْغَرُ الْقَوْمِ فَسَكَتُّ، فَقَالَ عُمَرُ رِضْوَانُ الله عَلَيْهِ: وَدِدْتُ أَنَّكَ قُلْتَ وَعَلَىَّ كَذَا».

(1)

رجاله ثقات، وأخرجه البخاري حديث (72) ومسلم حديث (64) واللفظ المتفق عليه من حديث ابن عمر أيضا: البخاري حديث (61) ومسلم حديث (2811) وأنظر: (اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان حديث 1792).

ص: 467

الجمار هو قلب النخل لونه ابيض كالشحم، يستخرج ويوكل وفيه حلاوة، ذكرها مثلا للمسلم لطيبها ومنافعها للناس، عرف ابن عمر أنها النخلة ومنعه من قول ذلك احترامه لمن هو أكبر سنا، وتمنى أبوه عمر رضي الله عنه أن لو قال ذلك لما فيه من ذكاء وفطنة مع صغر سن ابن عمر رضي الله عنهما.

ما يستفاد:

* جواز أكل الجمار، وهو قلب النخلة.

* النخلة شجرة طيبة ومنافعها كثيرة ولذلك شُبه الرجل المسلم بها.

* ذكرها الله عز وجل مثلا للكلمة الطيبة فقال: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا}

(1)

، فكذلك الرجل المسلم ينبغي له أن يكن

كالنخلة شجرة طيبة.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

292 -

(18) أَخْبَرَنَا بِشْرُ بْنُ الْحَكَمِ، ثَنَا خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ الْهَدَادِيّ، حَدَّثَنَا صَالِحٌ الدَّهَّانُ قَالَ: مَا سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ زَيْدٍ يَقُولَ قَطُّ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِعْظَاماً وَاتِّقَاءً أَنْ يَكْذِبَ عَلَيْهِ

(2)

.

رجال السند: بِشْرُ بْنُ الْحَكَمِ، هو ثقة تقدم آنفا، وخَالِدُ بْنُ يَزِيدَ الْهَدَادِيّ لابأس به، وصَالِحٌ الدَّهَّانُ، هو ابن إبراهيم، من أفراد الدارمي، لابأس به، وجَابِرُ ابْنُ زَيْدٍ، هو أبو الشعثاء إمام ثقة تقدم.

(1)

الآيتان (24، 25) من سورة إبراهيم.

(2)

سنده حسن، وانظر: القطوف رقم (188/ 290).

ص: 468

الشرح:

المراد أن أبا لشعثاء لم يقل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تحفظا من الزلل، وإعظاما للقول عليه صلى الله عليه وسلم.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

293 -

(19)

(1)

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَا رَوْحٌ، عَنْ كَهْمَسِ بْنِ الْحَسَنِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ قَالَ: جَاءَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه إِلَى كَعْبٍ يَسْأَلُ عَنْهُ، وَكَعْبٌ فِي الْقَوْمِ، فَقَالَ كَعْبٌ: مَا تُرِيدُ مِنْهُ؟ فَقَالَ: أَمَا إِنِّي لَا أَعْرِفُ لأَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَكُونَ أَحْفَظَ لِحَدِيثِهِ مِنِّى، فَقَالَ كَعْبٌ:

أَمَا إِنَّكَ لَنْ تَجِدَ طَالِبَ شَيْءٍ إِلاَّ سَيَشْبَعُ مِنْهُ يَوْماً مِنَ الدَّهْرِ، إِلاَّ طَالِبَ عِلْمٍ، أَوْ طَالِبَ دُنْيَا، فَقَالَ: أَنْتَ كَعْبٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: لِمِثْلِ هَذَا جِئْتُ

(2)

.

رجال السند:

مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، هو الرقاشي إمام ثقة تقدم، ورَوْحٌ، هو ابن عبادة القيسي، أبو محمد إمام حافظ ثقة مصنف، روى له الستة، وكَهْمَسُ بْنُ الْحَسَنِ، هو القيسي ثقة، وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَقِيقٍ، هو العقيلي، أبو عبد الرحمن، ثقة جاور أبا هريرة سنة، وأَبُو هُرَيْرَةَ، هو عبد الرحمن بن صخر رضي الله عنه، و كَعْبٍ، هو ابن ماتع إمام عالم تقدم.

(1)

من هنا بداية السقط من (ت، ك) وذلك عدد أربعة أحاديث متوالية، وقد جعلتها برقم متكرر.

(2)

ت: وأخرجه الحاكم حديث (313) وقال الذهبي: فيه انقطاع.

ص: 469

الشرح:

قوله: «أَمَا إِنَّكَ لَنْ تَجِدَ طَالِبَ شَيْءٍ إِلاَّ سَيَشْبَعُ مِنْهُ يَوْماً مِنَ الدَّهْرِ، إِلاَّ طَالِبَ عِلْمٍ، أَوْ طَالِبَ دُنْيَا، فَقَالَ: أَنْتَ كَعْبٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: لِمِثْلِ هَذَا جِئْتُ» .

هذا صحيح، في كل مناحي الحياة وشهواتها عدا شهوة طلب العلم، وشهوة طلب الدنيا المال، قال الله عز وجل:{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}

(1)

؛ المذكور في الآية متاع متملك، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «منهومان لا يشبعان طالبهما: طالب علم،

وطالب الدنيا»

(2)

، وقال صلى الله عليه وسلم:«لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب»

(3)

.

ما يستفاد:

* الحرص على تعلم العلم والتوسع في طلبة والتكثر منه.

* الحذر من التمادي في طلب الدنيا، والغفلة عن الآخرة.

(1)

من الآية (14) من سورة آل عمران.

(2)

المعجم الكبير حديث (10388).

(3)

البخاري حديث (6436) ومسلم حديث (1048).

ص: 470

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

294 -

(20) أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، نَا يَحْيَى بْنُ أَبِي بُكَيْرٍ، نَا شِبْلٌ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ طَاوُسٍ قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟ قَالَ: «مَنْ جَمَعَ عِلْمَ النَّاسِ إِلَى عِلْمِهِ، وَكُلُّ طَالِبِ عِلْمٍ غَرْثَانُ

(1)

إِلَى عِلْمٍ»

(2)

.

رجال السند:

يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، هو الدورقي إمام ثقة تقدم، ويَحْيَى بْنُ أَبِي بُكَيْرٍ، هو العبدي، ثقة تقدم، وشِبْلٌ، هو ابن عباد مقرئ مكة تلا على بن كثير، ثقة قيل: إنه يرى القدر، وعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، إمام ثقة تقدم، وطَاوُسٌ، هو ابن كيسان إمام ثقة تقدم.

الشرح:

مراد طاوس رحمه الله أن طالب العلم لا يقف في طلبه عند حد، وعليه

طرق أبواب العلماء والاستزادة مما لديهم، ولذلك كثر الترحال في القرون الأولى، حتى إن الرجل ليرحل في طلب الحديث الواحد، وذكر طاوس رحمه الله أن طالب العلم جائع للعلم، ولا يشبع منه.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

295 -

(21) أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ عَامِرٍ، عَنِ الْخَلِيلِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ مُعَاوِيَةَ ابْنِ قُرَّةَ قَالَ: " كُنْتُ فِي حَلْقَةٍ فِيهَا الْمَشْيَخَةُ وَهُمْ يَتَرَاجَعُونَ، فِيهِمْ عَائِذُ بْنُ عَمْرٍو، فَقَالَ شَابٌّ فِي نَاحِيَةِ الْقَوْمِ: أَفِيضُوا فِي ذِكْرِ اللَّهِ بَارَكَ اللَّهُ فِيكُمْ،

(1)

أي: جائع (النهاية 3/ 269).

(2)

رجاله ثقات.

ص: 471

فَنَظَرَ الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ: فِي أَيِّ شَيْءٍ رَآنَا؟ ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ: مَنْ أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قُمْ لَئِنْ عُدْتَ، لَنَفْعَلَنَّ وَلَنَفْعَلَنَّ "

(1)

.

رجال السند:

سَعِيدُ بْنُ عَامِرٍ، هو الضبعي إمام ثقة تقدم، والْخَلِيلُ بْنُ مُرَّةَ، هو البصري جرحه ابن حبان، وقال ابن شاهين: ثقة، قال أحمد بن صالح: ما رأيت أحدا يتكلم فيه ورأيت أحاديثه عن قتادة ويحيى بن أبي كثير صحاحا، وانما استغنى عنه البصريون؛ لأنه كان خاملا، ولم أر أحدا تركه وهو ثقة، ومُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ، هو ابن إياس بن هلال المزني ثقة عالم.

الشرح:

قوله: «وَهُمْ يَتَرَاجَعُونَ، فِيهِمْ عَائِذُ بْنُ عَمْرٍو» .

المراد يتدارسون العلم، وعائذ بن عمرو، هو المزني رضي الله عنه، وكان من أصحاب الشجرة، قال الحسن البصري رحمه الله: وكان من خيار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، روى ثابت البناني" أن أبا برزة كان يلبس الصوف، فقال له رجل: إن أخاك عائذ بن عمرو يلبس الخز وهو يرغب عن لباسك، قال: ويحك ومن مثل عائذ ليس مثله!، ثم أتى عائذا فقال: إن أخاك أبا برزة يلبس الصوف وهو يرغب عن لباسك، قال: ويحك ومن مثل أبي برزة ليس مثله!، فمات أحدهما فأوصى أن يصلي عليه الآخر

(2)

.

(1)

فيه الخليل بن مرة: ضعيف.

(2)

الطبقات الكبرى 4/ 224.

ص: 472

قوله: «فَقَالَ شَابٌّ فِي نَاحِيَةِ الْقَوْمِ: أَفِيضُوا فِي ذِكْرِ اللَّهِ بَارَكَ اللَّهُ فِيكُمْ، فَنَظَرَ الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ: فِي أَيِّ شَيْءٍ رَآنَا؟ ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ: مَنْ أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قُمْ لَئِنْ عُدْتَ، لَنَفْعَلَنَّ وَلَنَفْعَلَنَّ» .

لعل الشاب كان يرى الذكر أفضل من تدارس العلم، ولم يفقه أن تدارسه من الذكر، فأنكر عليه القوم وتوعدوه.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

296 -

(22) أَخْبَرَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى، أَنَا أَبُو عَامِرٍ، نَا قُرَّةُ بْنُ خَالِدٍ، عَنْ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: " نِعْمَ الْمَجْلِسُ، مَجْلِسٌ تُنْشَرُ فِيهِ الْحِكْمَةُ، وَتُرْجَى فِيهِ الرَّحْمَةُ "

(1)

.

رجال السند:

يُوسُفُ بْنُ مُوسَى، هو اليشكري صدوق تقدم، وأَبُو عَامِرٍ، هو عبد الملك ابن عمرو إمام ثقة، وقُرَّةُ بْنُ خَالِدٍ، هو أبو خالد السدوسي، إمام فقيه، وعَوْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، هو ابْن عتبَة بْن مَسْعُود الْهُذلِيّ، أبو عبد الله ثقة روى له مسلم، وهو أَخُو عبيد اللَّه بن عَبْد الله أحد الفقهاء السبعة، وعَبْدُاللَّهِ، هو ابن مسعود رضي الله عنه.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

29 -

‌ بابٌ مَنْ قَالَ الْعِلْمُ الْخَشْيَةُ وَتَقْوَى اللَّهِ

297 -

(1) أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قال: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ: جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قَالَ:

(1)

فيه عون بن عبد الله، لم يسمع من جد أبيه: عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

ص: 473

" كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَشَخَصَ بِبَصَرِهِ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ قَالَ: «هَذَا أَوَانُ يُخْتَلَسُ الْعِلْمُ مِنَ النَّاسِ حَتَّى لَا يَقْدِرُوا مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ» فَقَالَ زِيَادُ بْنُ لَبِيدٍ

(1)

الأَنْصَارِيُّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ يُخْتَلَسُ مِنَّا وَقَدْ قَرَأْنَا الْقُرْآنَ؟ فَوَ اللَّهِ لَنَقْرَأَنَّهُ وَلَنُقْرِئَنَّهُ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا، فَقَالَ:«ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا زِيَادُ، إِنْ كُنْتُ لأَعُدُّكَ مِنْ فُقَهَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، هَذِهِ التَّوْرَاةُ وَالإِنْجِيلُ عِنْدَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَمَاذَا تُغْنِى عَنْهُمْ؟» قَالَ جُبَيْرٌ: فَلَقِيتُ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ: " أَلَا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ؟ فَأَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي قَالَ، قَالَ: صَدَقَ أَبُو الدَّرْدَاءِ، إِنْ شِئْتَ لأُحَدِّثَنَّكَ بِأَوَّلِ عِلْمٍ يُرْفَعُ مِنَ النَّاسِ، الْخُشُوعُ، يُوشِكُ أَنْ تَدْخُلَ مَسْجِدَ الْجَمَاعَةِ فَلَا تَرَى فِيهِ رَجُلاً خَاشِعاً "

(2)

.

رجال السند:

عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، هو كاتب الليث صدوق، ومُعَاوِيَةُ، هو ابن صالح صدوق، وعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، هو أبو حمير الحضرمي، تابعي إمام ثقة، روى له مسلم في الصحيح، وأَبوه: جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، هو ثقة من كبار التابعين، أَبو الدَّرْدَاءِ، هو عويمر رضي الله عنه.

(1)

قال بن حجر: رواية النسائي لبيد بن زياد وهو مقلوب ولزياد بن لبيد ذكر في ترجمة عكرمة بن أبي جهل (الإصابة 2/ 586).

(2)

فيه عبد الله بن صالح: أرجح أنه حسن الحديث، أخرجه الترمذي حديث (2653) وقال: هذا حديث حسن غريب.

وشاهده من حديث أبي أمامة.

ص: 474

الشرح:

تقدم برقم 248، من حديث أبي أمامة رضي الله عنه، وتم شرحه فأغنى عن الإعادة فلينظر.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

298 -

(2) حدثنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، ثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، ثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ جَمِيلٍ الْكِنَانيُّ، ثَنَا مَكْحُولٌ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الآيَةَ {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}

(1)

إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَرَضِيهِ وَالنُّونَ فِي الْبَحْرِ، يُصَلُّونَ عَلَى الَّذِينَ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ الْخَيْرَ»

(2)

.

رجال السند:

يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، هو الدورقي إمام ثقة تقدم، ويَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، هو الواسطي إمام ثقة تقدم، والْوَلِيدُ بْنُ جَمِيلٍ، الْكِنَانيُّ، هو أبو الحجاج الفلسطيني، لابأس به، مَكْحُولٌ، هو إمام ثقة تقدم.

الشرح:

قوله: «فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الآيَةَ {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}

(3)

».

(1)

من الآية (28) من سورة فاطر.

(2)

هذا مرسل سنده حسن، أخرجه الترمذي موصولا من حديث أبي أمامة رضي الله عنه حديث (2685) وقال: هذا حديث حسن غريب.

(3)

من الآية (28) من سورة فاطر.

ص: 475

تقدم برقم 254، نحو هذا، ثم بين فضل العالم المتفقه في دين الله عز وجل على المشتغل بالعبادة س وى العلم كفضل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أدنا رجل من المسلمين، بل ورد " كفضلي على أمتي " وهذا يبين أهمية العلم وأيد هذا بقول الله عز وجل:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}

(1)

، لأنهم اعتبروا بما عرفوا من الدلائل على الخالق جل جلاله، وعلموا قيام الحجة بها، فحصّلوا الخشية من الله عز وجل؛ لأن خشية من يعلم ذلك ويؤمن به أعظم من خشية من لا يعلم.

قوله: «إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَهْلَ سَمَاوَاتِهِ» .

الصلاة من الله عز وجل البركة والرحمة والمغفرة، ومن الملائكة الدعاء، والمراد عموم أهل السماء.

قوله: «وَأَرَضِيهِ وَالنُّونَ فِي الْبَحْرِ، يُصَلُّونَ عَلَى الَّذِينَ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ

الْخَيْرَ». المراد عموم من في الأرض، وهذا إكرام للعالم بما أنزل الله عز وجل، والمراد بالنون الحوت ذكر المفرد وأراد به الجنس، وقد وردت التسميتان في القرآن الكريم في قصة يونس عليه السلام فقال عز وجل:{وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ}

(2)

، أي: صاحب النون وهو الحوت، وقال عز وجل:{فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ}

(3)

، وقد ورد ذكر سوى الحوت النملة في جحرها رواه الترمذي

(4)

.

(1)

من الآية (28) من سورة فاطر.

(2)

من الآية (87) من سورة الأنبياء.

(3)

الآية (142) من سورة الصافات.

(4)

حديث (2685).

ص: 476

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

299 -

(3) أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَسَدٍ أَبُو عَاصِمٍ، ثَنَا يَحْيَى بْنُ يَمَانٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ رَجُلٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ:" لَا يَكُونُ الرَّجُلُ عَالِماً حَتَّى لَا يَحْسُدَ مَنْ فَوْقَهُ، وَلَا يَحْقِرَ مَنْ دُونَهُ، وَلَا يَبْتَغِىَ بِعِلْمِهِ ثَمَناً "

(1)

.

رجال السند:

أَحْمَدُ بْنُ أَسَدٍ أَبُو عَاصِمٍ، سكت عنه الإمامان، ووثقه ابن حبان فلابأس به تقدم، ويَحْيَى بْنُ يَمَانٍ، هو الكوفي أبو زكريا المقرئ، أكثر عن الثوري صدوق روى له مسلم في الصحيح، وسُفْيَانَ، هو الثوري إمام ثقة تقدم، ولَيْثُ، هو ابن سعد إمام ثقة تقدم، ورَجُلٍ، مجهول، وابْنُ عُمَرَ، هو عبد الله رضي الله عنهما.

الشرح:

قول: «لَا يَكُونُ الرَّجُلُ عَالِماً حَتَّى لَا يَحْسُدَ مَنْ فَوْقَهُ» .

هذه أركان السيادة فطالب العلم على الحقيقة لا يحسد من فوقه في العلم وغيره، والحسد لا يكون في الغالب إلا بين ذوي المهنة الواحدة، يتغايرون فيها سلبا وإيجابا، والحسد خلق ذميم؛ وهو تمني زوال النعمة عن الغير، وإن سعى في زوالها فقد بغى، والبغي حرام، فإذا كان التمني مجرد خاطرة نفس ولم يعمل على إظهارها فذلك معفو عنه، مالم يسعى في تحقيق ذلك، وقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إياكم والحسد، فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل

(1)

فيه يحي بن يمان: صدوق يخطئ كثيرا، وليث بن أبي سليم صدوق اختلط جدا، والواسطة بينه وبين ابن عمر غير معروف، وانظر: القطوف رقم (189/ 293).

ص: 477

النار الحطب»

(1)

، ومعناه صحيح في الترهيب منه؛ لأنه خلق ذميم، قال صلى الله عليه وسلم: «لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا

»

(2)

.

قوله: «وَلَا يَحْقِرُ مَنْ دُونَهُ» .

والمراد العموم ومن فوقه أيضا، وذكر من هو دونه؛ لأنه أدعى للاستصغار، واحتقار الناس خلق سيء، لا يليق بأحد، ولا يفعله إلا اللؤماء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله، ولا يحقره»

(3)

.

قوله: «وَلَا يَبْتَغِىَ بِعِلْمِهِ ثَمَناً» .

لأن طلب العلم لابد أن يبنى على نية خالصة لله عز وجل، وإن حصل له من الدنيا شيء فهو تبع لقصده فلا حرج فيه مع الإخلاص، ومن طلب به الدنيا واستشرف به لها فقد خرج عن القصد، ولم يكن من ذوي العلم الحقيقي الذي يلازم التقوى والخوف من الله عز وجل.

ما يستفاد:

* الحرص على تعلم العلم، والتخلق بأخلاق العلماء.

* الحث على التواضع، والحذر من الحسد.

* الحذر من استصغار الناس، فإن أكرم الناس أتقاهم.

* وجزب الإخلاص في طلب العلم، وآلا يقصد به متاع الدنيا وشهواتها.

* لا حرج فيما يكون من الدنيا بغير استشراف مع القصد الحسن.

(1)

أبو داود حديث (4903).

(2)

مسلم حديث (2564).

(3)

مسلم حديث (2564).

ص: 478

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

300 -

(4) أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ مِسْعَرٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الأَعْلَى التَّيْمِيَّ يَقُولُ: مَنْ أُوتِىَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَا يُبْكِيهِ، لَخَلِيقٌ أَنْ لَا يَكُونَ أُوتِيَ عِلْماً يَنْفَعُهُ، لأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَعَتَ الْعُلَمَاءَ

(1)

ثُمَّ قَرَأَ [القرآن {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} إلى قوله: {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ}]

(2)

.

رجال السند:

سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، هو سعدويه إمام ثقة تقدم، وأَبو أُسَامَةَ، هو حماد بن

أسامة إمام ثقة تقدم، مِسْعَرُ، هو ابن كدام إمام ثقة تقدم، وعَبْدُ الأَعْلَى التَّيْمِيُّ، هو من أفراد الدارمي، سكت عنه الإمامان، ووثقه ابن حبان فلابأس.

الشرح:

قوله: «مَنْ أُوتِىَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَا يُبْكِيهِ، لَخَلِيقٌ أَنْ لَا يَكُونَ أُوتِيَ عِلْماً يَنْفَعُهُ» ؛ لأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَعَتَ الْعُلَمَاءَ ثُمَّ قَرَأَ القرآن {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} إلى قوله: {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ} كأنه لم يتأثر بعلمه؛ لأن الله عز وجل يقول: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}

(3)

، فالعلم يقتضي الخشية،

(1)

فيه عبد الأعلى التيمي سكت عنه البخاري وأبو حاتم (التاريخ 6/ 72 والجرج والتعديل 6/ 28) وذكره ابن حبان (الثقات 7/ 131)، وانظر: القطوف رقم (190).

(2)

ما بين المعقوفين سقط من الأصل ومن (ت) واستدرك في هامش (ت).

(3)

من الآية (28) من سورة فاطر.

ص: 479

والخشية تقتضي الخوف، والخوف يُدمع العين، وقد وصف الله عز وجل العلماء فقال:{إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا}

(1)

.

ما يستفاد:

* أن من علامة العلم النافع خشوع العالم وبكاؤه.

* أن العلم غير النافع يورث القسوة.

* أن من صفات العلماء الخشية والخوف عند تلاوة القرآن.

* أن من علامة تأثر القارئ أن يخر ساجدا باكيا داعيا ربه عز وجل.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

301 -

(5) أَخْبَرَنَا عِصْمَةُ بْنُ الْفَضْلِ، ثَنَا زَيْدُ بْنُ حُباب، عَنْ مُبَارَكِ ابْنِ فَضَالَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ الْعُمَرِيِّ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ قَالَ:" لَا تَكُونُ عَالِماً حَتَّى تَكُونَ فِيكَ ثَلَاثُ خِصَالٍ: لَا تَبْغِي عَلَى مَنْ فَوْقَكَ، وَلَا تَحْقِرُ مَنْ دُونَكَ، وَلَا تَأْخُذُ عَلَى عِلْمِكَ دُنْيَا "

(2)

.

رجال السند:

عِصْمَةُ بْنُ الْفَضْلِ، هو النميري إمام ثقة تقدم، وزَيْدُ بْنُ حُباب، هو العكلي ثقة تقدم، ومُبَارَكِ بْنُ فَضَالَةَ، هو البصري كثير التدليس، ثقة إذا صرح

(1)

الآيات من (7 - 9) من سورة الإسراء.

(2)

سنده حسن، وانظر: القطوف رقم (191/ 295).

ص: 480

بالسماع، وعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْعُمَرِيِّ، هو أبو عثمان إمام ثقة تقدم، وأَبو حَازِمٍ، هو سلمة بن دينار تابعي ثقة تقدم.

الشرح:

انظر السابق برقم 297 - (3) وما بعده فإنه يغني عن الإعادة.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

302 -

(6) أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَسَدٍ، ثَنَا عَبْثَرٌ، عَنْ بُرْدِ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى الدِّمَشْقِيِّ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: " لَا تَكُونُ عَالِماً حَتَّى تَكُونَ مُتَعَلِّماً، وَلَا تَكُونُ بِالْعِلْمِ عَالِماً حَتَّى تَكُونَ بِهِ عَامِلاً، وَكَفي بِكَ إِثْماً أَنْ لَا تَزَالَ مُخَاصِماً

(1)

، وَكَفي بِكَ إِثْماً أَنْ لَا تَزَالَ مُمَارِياً

(2)

، وَكَفي بِكَ

كَاذِباً أَنْ لَا تَزَالَ مُحَدِّثاً فِي غَيْرِ ذَاتِ اللَّهِ عز وجل "

(3)

.

رجال السند:

أَحْمَدُ بْنُ أَسَدٍ، وعَبْثَرٌ، وبُرْدُ بْنُ سِنَانٍ، وسُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى الدِّمَشْقِيُّ، تقدموا في رقم 253، وهو سند حسن، وأَبو الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه.

الشرح:

لاريب أن طريق العلم التعلم، وأن طريق كثرة العلم العمل به وتعليمه الناس، وهو الشيء الذي يزيد بالإنفاق منه ولا ينقص، والمخاصمة بالعلم هي:

(1)

أي: مجادلا، أنظر (لسان العرب 12/ 180 - 181).

(2)

أي: مجادلا، والمماراة: المجادلة، ويقال للمناظرة: مماراة؛ لأن كل واحد منهما يستخرج ما عند صاحبه ويمتريه، كما يمتري الحالب اللبن من الضرع (النهاية 4/ 322).

(3)

سنده حسن، وفيه انقطاع بين سليمان وأبي الدرداء رضي الله عنه، وانظر: القطوف رقم (192/ 296).

ص: 481

المجادلة بالباطل، ودحض الحق، أما لنصرة الحق ورد الباطل فهي المحاورة، والمخاصمة مذمومة؛ المخاصم لا يطلب الحق، وهو عكس المحاور، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم» . المراد بالمواعظ والتعليم، وليس كل من حدث في غير ذات الله كاذبا ولا ظالما، فهمنا من الحديث في المنافع المباحة وتعليم الناس ما ينفعهم فيها، فمن يحدث بها وبالأخبار الصادقة ليس كاذبا ولا ظالما، ورحم الله أبا الدرداء فما كان همه إلا الآخرة، والحديث أخرجه البخاري حديث (2457) ومسلم حديث (2668).

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

303 -

(7) أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ، ثَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ أَخِيهِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عِمْرَانَ الْمِنْقَرِيِّ قَالَ: " قُلْتُ لِلْحَسَنِ يَوْماً فِي شَيْءٍ قَالَهُ: يَا أَبَا سَعِيدٍ لَيْسَ هَكَذَا يَقُولُ الْفُقَهَاءُ، فَقَالَ: وَيْحَكَ

(1)

وَرَأَيْتَ أَنْتَ فَقِيهاً قَطُّ، إِنَّمَا الْفَقِيهُ الزَّاهِدُ فِي الدُّنْيَا، الرَّاغِبُ فِي الآخِرَةِ، الْبَصِيرُ بِأَمْرِ دِينِهِ، الْمُدَاوِمُ عَلَى عِبَادَةِ رَبِّه عز وجل "

(2)

.

رجال السند:

الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ، هو أبو علي المؤدب، إمام لابأس به، الْمُبَارَكُ بْنُ سَعِيدٍ، هو أبو عبد الرحمن الكوفي، أخو سفيان الثوري، ثقة، وسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ،

(1)

قال ابن الأثير: كلمة ترحّم وتوجّع، تقال لمن وقع في هلكة لا يستحقها، وقد يقال بمعنى المدح والتعجب (النهاية 5/ 235) وانظر (الصحاح 2/ 718).

(2)

سنده حسن، وانظر: القطوف رقم (193/ 297).

ص: 482

إمام ثقة تقدم، وعِمْرَانُ الْمِنْقَرِيُّ، هو ابن مسلم أبو بكر البصري، لابأس به روى له الشيخان، واِلْحَسَنِ، هو البصري من سادات التابعين.

الشرح:

هذه رواية المنقري لم يذكر ما قال الحسن، وكان الرد من الحسن رحمه الله عنيفا؛ لأن رد المنقري رحمه كان فيه إعلاء لمن وصفهم بالفقهاء، ولم يكن تعبيره ألطف، وعنفه الحسن رحمه الله حين قال: ورأيت أنت فقيها قط، أي: أنت لم تر فقيها على الإطلاق، ثم ذكر الحسن من يستحق في نظره أن يوصف بالفقه، وهو الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة، البصير بأمر دينه، المداوم على عبادة ربه عز وجل، وصدق الحسن رحمه الله إذا اجتمعت هذه الصفات في شخص فهو الفقيه حقا، ولكن المنقري رحمه الله أراد من خالف الحسن رحمه الله في المسألة المذكورة له.

وقد وردت رواية أخرى عن الحسن قال مطر الوراق: " سألت الحسن عن مسألة، فقال فيها، فقلت: يا أبا سعيد يأبى عليك الفقهاء ويخالفونك، فقال: ثكلتك أمك مطر، وهل رأيت فقيها قط؟ وهل تدري ما الفقيه؟ الفقيه الورع الزاهد الذي لا يسخر ممن أسفل منه، ولا يهمز من فوقه، ولا يأخذ على علم علمه الله حطاما "

(1)

، وفي رواية أخرى بين مطر المسألة فقال: " يا أبا سعيد إن امرأة جعلت على نفسها إن قدم زوجها أن تصوم من يومها شهرا

(1)

أخلاق العلماء للآجري 1/ 73.

ص: 483

فقدم في أول يوم من رمضان. فقال الحسن: صامت شهرها ووُفّي نذرها. قال مطر: إن بعض الفقهاء يقول غير هذا، .. "

(1)

.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

304 -

(8) أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ، ثَنَا النَّضْرُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْبَجَلِيُّ، عَنْ مِسْعَرٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: قِيلَ لَهُ: " مَنْ أَفْقَهُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ؟ قَالَ: أَتْقَاهُمْ لِرَبِّهِ عز وجل "

(2)

.

رجال السند:

الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ، إمام لابأس به تقدم آنفا، والنَّضْرُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْبَجَلِيُّ، إمام مسجد الكوفة، يقبل حديثه في الترغيب والترهيب، ومِسْعَرُ، ابن كدام إمام ثقة تقدم، وسَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، هو ابن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، إمام ثقة تقدم.

(1)

ذم من لا يعمل بعلمه لابن عساكر 1/ 39.

(2)

فيه إسماعيل البجلي: ليس بالقوي، وانظر: القطوف رقم (194/ 298).

ص: 484

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

305 -

(9) أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ، ثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ:" إِنَّمَا الْفَقِيهُ مَنْ يَخَافُ اللَّهَ تَعَالى "

(1)

.

رجال السند:

الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ، تقدم آنفا، والْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ، هو الجعفي أبو عبد الله المقرئ ثقة تقدم، عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، كثير الغلط، واختلفوا في تحسن حديثه تقدم، عَنْ مُجَاهِدٍ، هو ابن جبر إمام ثقة تقدم.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

306 -

(10) أَخْبَرَنَا إِسْمَاعيلُ بْنُ أَبَانَ، عَنْ يَعْقُوبَ الْقُمِّيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي لَيْثُ بْنُ أَبِى سُلَيْمٍ، عَنْ يَحْيَى - هُوَ ابْنُ عَبَّادٍ - عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قَالَ:" إِنَّ الْفَقِيهَ حَقَّ الْفَقِيهِ مَنْ لَمْ يُقَنِّطِ النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَلَمْ يُرَخِّصْ لَهُمْ فِي مَعَاصِي اللَّهِ، وَلَمْ يُؤَمِّنْهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَلَمْ يَدَعِ الْقُرْآنَ رَغْبَةً عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ، إِنَّهُ لَا خَيْرَ فِي عِبَادَةٍ لَا عِلْمَ فِيهَا، وَلَا عِلْمَ لَا فَهْمَ فِيهِ، وَلَا قِرَاءَةَ لَا تَدَبُّرَ فِيهَا "

(2)

.

رجال السند:

إِسْمَاعيلُ بْنُ أَبَانَ، هو الوراق إمام ثقة تقدم، يَعْقُوبُ الْقُمِّيُّ، هو ابن عبد الله ابن سعد الأشعري، أبو الحسن، من رجال الشيعة لابأس به، ولَيْثُ ابْنُ أَبِى سُلَيْمٍ، مختلف في تحسين حديثة، يقبل في مثل هذا، ويَحْيَى بْنُ عَبَّادٍ، هو الأنصاري أبو هبيرة الكوفي، تابعي ثقة روى له مسلم في الصحيح، وعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه.

الشرح:

قوله: «الْفَقِيهَ حَقَّ الْفَقِيهِ مَنْ لَمْ يُقَنِّطِ النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ» .

أي: لا يجعل الناس ييأسون من رحمة الله عز وجل وقد كرر في كتابه العزيز أنه غفور رحيم (52) مرة، وهذه بشارة لكل مسلم؛ ولأنه عز وجل حكى قول إبراهيم:

(1)

سنده حسن، وانظر: القطوف رقم (195/ 299).

(2)

سنده حسن، وفيه انقطاع بين يحي بن عباد، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وانظر: القطوف رقم (196/ 300).

ص: 485

{وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ}

(1)

؛ ولأنه قال عز وجل: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}

(2)

، ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إن الله لما قضى الخلق، كتب عنده فوق عرشه: إن رحمتي سبقت غضبي»

(3)

؛ ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «جعل الله الرحمة مائة جزء، فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءا، وأنزل في الأرض جزءا واحدا، فمن ذلك الجزء يتراحم الخلق، حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها، خشية أن تصيبه»

(4)

، ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفسا، فسأل عن أعلم أهل الأرض فدل على راهب، فأتاه فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفسا، فهل له من توبة؟ فقال: لا، فقتله، فكمل به مائة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدل على رجل عالم، فقال: إنه قتل مائة نفس، فهل له من توبة؟ فقال: نعم، ومن يحول بينه وبين التوبة؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا، فإن بها أناسا يعبدون الله فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك، فإنها أرض سوء، فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائبا مقبلا بقلبه إلى الله، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيرا قط، فأتاهم ملك في صورة

(1)

من الآية (56) من سورة الحجر.

(2)

الآية (53) من سورة الزمر.

(3)

البخاري حديث (7322).

(4)

البخاري حديث (6000).

ص: 486

آدمي، فجعلوه بينهم، فقال: قيسوا ما بين الأرضين، فإلى أيتهما كان أدنى فهو له، فقاسوه فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد، فقبضته ملائكة الرحمة»

(1)

، قال قتادة: فقال الحسن ذكر لنا، أنه لما أتاه الموت نأى بصدره.

اللهم إنا لا نثق بأعمالنا فليس لنا إلا رحمتك وعفوك وكرمك، يا ذا الجلال ولإكرام. قوله:«وَلَمْ يُرَخِّصْ لَهُمْ فِي مَعَاصِي اللَّهِ» .

المراد المتساهل في الفتوى، فيقع الناس بسبب ذلك في المعاصي، وإذا كان الله عز وجل غفورا رحيما فإنه قال في كتابه العزيز: شديد العقاب (16) مرة، وقال عز وجل:{أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}

(2)

، فيجب على العالم أن يحتاط من ذلك، ومن يأمن مكر الله وهو على معصية صغرت أو كبرت؟!، وقد رخص علماء الرافضة في ترك صوم رمضان بالخروج لعدة كيلوات كل يوم ليأكل ويشرب ويعود للبيت ولا حرج عليه، وفتاواهم في المتعة تحليل حرام، ومن تابع فتاواهم في الفضائيات يسمع من الكذب والزور ما لا يخطر على قلوب كثير من الفساق فضلا عن غيرهم.

قوله: «وَلَمْ يُؤَمِّنْهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ» .

(1)

مسلم حديث (2766).

(2)

الآية (99) من سورة الأعراف.

ص: 487

لأن الله عز وجل قال: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}

(1)

، فالذي يؤمن الناس من عذب الله عز وجل ليس من العلماء؛ لأن العالم يخاف الله عز وجل فهو لا يأمن على نفسه فكيف يؤمن غيره من عذاب الله عز وجل؟!، وقد يستغرب بعض الناس أن يكون في المسلمين من يؤمن الناس من عذاب الله، فنقول خذا مثلا حيا من فتاوى علماء الرافضة في ترك صوم رمضان بالخروج لعدة كيلوات ليأكل ويشرب ويعود للبيت ولا حرج عليه، وفتاواهم في المتعة تحليل حرام، وإعطاء صكوك دخول الجنة، فهل يأمن العلماء والعامة منهم عذاب الله؟!، اشتغل علماء الرافضة بتأويل القرآن، بما يوافق هواهم، فكذبوا الله ورسوله، وكذبوا على آل البيت، ومن أقوالهم أن فاطمة رضي الله عنها، ولدت قبل أبيها صلى الله عليه وسلم، وأن نوجا عليه السلام استغاث بعلي، وأن آل البيت معصومون ويعلمون ما كان وما يكون وما هو كائن، وهذا من أقل زورهم فضلوا وأضلوا أتباعهم.

قوله: «وَلَمْ يَدَعِ الْقُرْآنَ رَغْبَةً عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ» .

الذين وقعوا في هذا هم أصحاب البدع والتصوف الغالي، والرافضة يهونون

من شأن القرآن فتجد من علمائهم حسب زعمهم من لا يحسن قراءة الآية الواحدة، ويسخر ممن يحفظ القرآن من أهل السنة متناسيا أو متأولا بالباطل قول الله عز وجل:{بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ}

(2)

، وسبحان الله حينما نسمع كلام من يزعمون أنهم علماء من الرافضة عبر

(1)

من الآية (28) من سورة فاطر.

(2)

من الآية (49) من سورة العنكبوت.

ص: 488

الفضائيات نتذكر هذه الآية ولا سيما قوله عز وجل في آخرها: {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ} فهم يجحدون آيات الله عز وجل بتأويل دلالاتها، وربما كان تحريف اليهود والنصارى أقل خطرا منهم.

وقد حكى الله عز وجل قول الرسول صلى الله عليه وسلم عن القرآن فقال: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30)}

(1)

، ذكر الله عز وجل قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الدنيا وتشكّيه ما يلقى من قومه من عدم قبول القرآن وهجر الإيمان به، وهو تنبيه للمؤمنين على كثرة تلاوة القرآن وتدبره؛ لأنه من أجل العبادات، فلا يهجر ويشتغل بغيره، وهجر القرآن يشمل عدم الإيمان به، وعدم تلاوته، وعدم العمل بما أحل وما حرم، والدعوة إليه.

قوله: «إِنَّهُ لَا خَيْرَ فِي عِبَادَةٍ لَا عِلْمَ فِيهَا» .

لأن العبادة مرتكز صحتها العلم بفروضها وواجباتها وسننها، العلم ثمرته العبادة؛ لأن العلم شجرة والعمل به ثمرة.

قوله: «وَلَا عِلْمَ لَا فَهْمَ فِيه» .

لأن الله عز وجل ذكر أن فيما خلق دلائل وبراهين لقوم يعقلون أي: يفهمون المراد على الوجه الصحيح، وقد أثبت ذلك ونفاه عن غيرهم، فالعلم من غير فهم عدم.

قوله: «وَلَا قِرَاءَةَ لَا تَدَبُّرَ فِيهَا» .

المراد أن الأصل في القراءة الفهم ومعرفة مرامي الآيات في الحلال والحرام والترغيب والترهيب والعبرة مما قص الله عز وجل في كتابه العزيز، ولقد رأيت

(1)

الآية (30) من سورة الفرقان.

ص: 489

بعض القراء لو سئل بعد تمامه عن السورة التي قرأها لما عرف، وذلك من سرعة قراءته وعدم تدبر ما قرأ.

ما يستفاد:

* تحريم تقنيط الناس من رحمة الله عز وجل،

* الترغيب في التوبة وتأنيس الناس برحمته وعفوه.

* تحريم الترخيص فيما حرم الله عز وجل وهو ما يفعله الرافضة اليوم.

* تحريم تأمين الناس من العذاب على المعصية وإن صغرت، قال ابن عباس رضي الله عنهما: لا صغيرة مع إصرار ولا كبيرة مع استغفار.

* العناية بالتعليم ولاسيما العلم الشرعي.

* التحذير من هجر القرآن، والعدول عنه إلى غيره من العلوم.

* الترغيب في تلاوة القرآن وتدبر معانيه ودلالاته.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

307 -

(11) أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبَّادٍ قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ: " الْفَقِيهُ حَقُّ الْفَقِيهِ الَّذِي لَا يُقَنِّطُ النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَلَا يُؤَمِّنُهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَلَا يُرَخِّصُ لَهُمْ فِي مَعَاصِي اللَّهِ، إِنَّهُ لَا خَيْرَ فِي عِبَادَةٍ لَا عِلْمَ فِيهَا، وَلَا خَيْرَ فِي عِلْمٍ لَا فَهْمَ فِيهِ، وَلَا خَيْرَ فِي قِرَاءَةٍ لَا تَدَبُّرَ فِيهَا "

(1)

.

(1)

سنده حسن، وانظر: القطوف رقم (197/ 301).

ص: 490

رجال السند:

أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ، إمام لابأس به تقدم، وإِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، هو ابن عليه إمام ثقة تقدم، لَيْثٍ، هو ابن أبي سليم كثير الغلط، واختلفوا في تحسين حديثه ويقبل في مثل هذا تقدم، يَحْيَى بْنُ عَبَّادٍ، هو ابن عبد الله بن الزبير بن العوام، مات قديما وهو ابن ست وثلاثين، ثقة وكانت له مروة، ولم يدرك عليا، وعَلِيٌّ، هو ابن أبي طالب رضي الله عنه.

الشرح: تقدم آنفا برقم 304، فأغنى عن الإعادة.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

308 -

(12) أَخْبَرَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ حَازِمٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي جَرِيرُ بْنُ زَيْدٍ، أَنَّهُ سَمِعَ تُبَيْعاً يُحَدِّثُ عَنْ كَعْبٍ قَالَ:" إِنِّي لأَجِدُ نَعْتَ قَوْمٍ يَتَعَلَّمُونَ لِغَيْرِ الْعَمَلِ، وَيَتَفَقَّهُونَ لِغَيْرِ الْعِبَادَةِ، وَيَطْلُبُونَ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الآخِرَةِ، وَيَلْبَسُونَ جُلُودَ الضَّأْنِ وَقُلُوبُهُمْ أَمَرُّ مِنَ الصَّبْرِ، فَبِي يَغْتَرُّونَ، أَوْ إِيَّايَ يُخَادِعُونَ، فَحَلَفْتُ بِي لأُتِيحَنَّ لَهُمْ فِتْنَةً تَتْرُكُ الْحَلِيمَ فِيهَا حَيْرَانَ "

(1)

.

رجال السند:

أَبُو النُّعْمَانِ، هو المعروف بعارم، وحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، ويَزِيدُ بْنُ حَازِمٍ، أئمة ثقات تقدموا في رقم 146، قَالَ: عَمِّي جَرِيرُ بْنُ زَيْدٍ، هو الأزدي أبو سلمة البصري صدوق، وتُبَيْعٌ، هو ابن عامر الحميري، تابعي كان له علم

(1)

سنده حسن، وكعب يروي أشياء من علم أهل الكتاب، ولا أستبعد أن هذا منها، والسياق يؤيد، وانظر: القطوف رقم (198/ 302).

ص: 491

بالتوراة استفاده من زوج أمه كعب الأحبار، صدوق لم يرو له الدارمي غيرها.

الشرح:

قوله: «إِنِّي لأَجِدُ نَعْتَ قَوْمٍ يَتَعَلَّمُونَ لِغَيْرِ الْعَمَلِ، وَيَتَفَقَّهُونَ لِغَيْرِ الْعِبَادَةِ، وَيَطْلُبُونَ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الآخِرَةِ، وَيَلْبَسُونَ جُلُودَ الضَّأْنِ وَقُلُوبُهُمْ أَمَرُّ مِنَ الصَّبْرِ» .

هذا قول كعب الأحبار وقد علم هذا من الكتب الأولى، والموصوفون هم من بني إسرائيل، وهو لائق بهم، يؤيد هذا قول وهب: قال اللَّه عز وجل فيما يعيب به بنى إسرائيل: «تفقهون لغير الدين، وتعلمون لغير العمل، وتبتاعون الدنيا بعمل الآخرة»

(1)

، وفي هذا تحذير للأمة مما وقع فيه بنوا إسرائيل، ولم يسلم من هذا من لم يسلمه الله عز وجل، نسأل الله الحفظ والتوفيق. قوله:«فَبِي يَغْتَرُّونَ، أَوْ إِيَّايَ يُخَادِعُونَ، فَحَلَفْتُ بِي لأُتِيحَنَّ لَهُمْ فِتْنَةً تَتْرُكُ الْحَلِيمَ فِيهَا حَيْرَانَ» .

القائل هو الله عز وجل، وأراد أنهم مغترون بإمهال الله عز وجل، فأمنوا مكره ولا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون، أو يخادعون الله عز وجل بأعمالهم وما يخدعون إلا أنفسهم، فحلف بذاته جل جلاله، ليجعلهم في فتنة تجل العاقل الحكيم حيران في دفعها والخلاص منها، وفي هذا تحذير للأمة من ذلك والسالم من سلمه الله عز وجل.

(1)

الكشاف 1/ 69.

ص: 492

ما يستفاد:

* الحذر من تعلم شرع الله عز وجل لغير العمل به.

* الحذر من التفقه في شرع الله لغير الله عز وجل.

* الحذر من طلب الدنيا بعمل الآخرة.

* الحذر من خداع الناس بأن يظهر لهم خلاف ما يبطن.

* الحذر من الاغترار بحلم الله عز وجل وإمهاله.

* الحذر من توهم خداع الله جل جلاله، فإنه بكل شيء عليم.

* توقي الفتن بطاعة الله عز وجل والاستقامة على دينه.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

309 -

(13) أَخْبَرَنَا بِشْرُ بْنُ الْحَكَمِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عبد الصمد الْعَمِّيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ، عَنْ هَرِمِ بْنِ حَيَّانَ أَنَّهُ قَالَ:" إِيَّاكُمْ وَالْعَالِمَ الْفَاسِقَ. فَبَلَغَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ فَكَتَبَ إِلَيْهِ وَأَشْفَقَ مِنْهَا: مَا الْعَالِمُ الْفَاسِقُ؟، قَالَ: فَكَتَبَ إِلَيْهِ هَرِمٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَاللَّهِ مَا أَرَدْتُ بِهِ إِلاَّ الْخَيْرَ، يَكُونُ إِمَامٌ يَتَكَلَّمُ بِالْعِلْمِ وَيَعْمَلُ بِالْفِسْقِ، فَيُشَبِّهُ عَلَى النَّاسِ فَيَضِلُّوا "

(1)

.

رجال السند:

بِشْرُ بْنُ الْحَكَمِ، هو أبو عبد الرحمن النيسابوري إمام ثقة تقدم، وعَبْدُ الْعَزِيزِ

ابْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ الْعَمِّيُّ، هو أبو عبد الصمد إمام ثقة روى له الستة، وأَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ، هو عبد الملك بن حبيب البصري، تابعي إمام ثقة، هَرِمُ

(1)

رجاله ثقات، وانظر: القطوف رقم (199/ 303).

ص: 493

ابْنُ حَيَّانَ، هو العبدي عامل عمر بن الخطاب، تابعي بصري إمام ثقة، من أفراد الدارمي.

الشرح:

شك عمر رضي الله عنه في هذه المقولة وخشي أن يلحقه منها شيء، ولاسيما وهو عالم، شديد المحاسبة لنفسه ولغيره رضي الله عنه، فاستفسر عن المراد فبين له هرم رحمه الله أنه لم يقصد سوى من حذر منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال:«إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين»

(1)

.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

310 -

(14) أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ ابْنِ مُطَرِّفٍ، وَعَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى الْمُهَاجِرِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ:" مَنْ أَرَادَ أَنْ يُكْرِمَ دِينَهُ فَلَا يَدْخُلْ عَلَى السُّلْطَانِ، وَلَا يَخْلُوَنَّ بِالنِّسْوَانِ، ولَا يُخَاصِمَنَّ أَصْحَابَ الأَهْوَاءِ "

(2)

.

رجال السند:

سَعِيدُ بْنُ الْمُغِيرَة، هو المصيصي أبو عثمان، كان من خيار الناس ثقة، والْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، هو القرشي أبو العباس دمشقي كثير التدليس والتسوية، ثقة إذا سلم من ذلك، ومُحَمَّدُ بْنُ مُطَرِّفٍ، هو أبو غسان الليثي المدني لابأس به، وَعَبْدِ الْعَزِيزبْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى الْمُهَاجِرِ لابأس به، وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه.

(1)

أحمد حديث (22393).

(2)

رجاله ثقات.

ص: 494

الشرح:

قوله: «مَنْ أَرَادَ أَنْ يُكْرِمَ دِينَهُ فَلَا يَدْخُلْ عَلَى السُّلْطَانِ» .

المراد السلطان الجائر المعروف بالظلم والطغيان؛ لأن في الدخول عليه وحضور مجلسه تزكية له، إلا لمن كان ناصحا أمينا، أما من عرف الصلاح والعدل فالدخول عليه وحضور مجلسه فيه خير؛ لأنه يغلق الباب على الفساق ومن لا يرجى منهم خير، وقد كان الصحابة يدخلون على الخلفاء الراشدين، لمشورة أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر، كذلك من بعدهم من الخلفاء والملوك والأمراء، لا مانع من دخول العالم الناصح الأمين. قوله:«وَلَا يَخْلُوَنَّ بِالنِّسْوَانِ» .

لأن الخلوة بغير ذات المحرم حرام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يخلون رجل بامرأة، ولا تسافرن امرأة إلا ومعها محرم» ، فقام رجل فقال: يا رسول الله، اكتتبت في غزوة كذا وكذا، وخرجت امرأتي حاجة، قال:«اذهب فحج مع امرأتك»

(1)

، ولأن ذلك من الشبهات وخطورة الخلوة بالمرأة الأجنبية وذلك فرصة للشيطان لإثارة ما بين الرجل والمرأة من الميل إلى ما حرم الله عز وجل، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء"

(2)

، ولذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرخص للرجل المكتتب في الخروج للجهاد في سبيل الله عز وجل لما أخبر أن امرأته ستحج، وأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يترك ما عزم عليه من الخروج ويحج مع امرأته، ومن هنا أخذ بعض العلماء رحمهم الله أن

(1)

البخاري حديث (3006) ومسلم حديث (1341).

(2)

البخاري حديث (5096) ومسلم حديث (2740).

ص: 495

عدم المحرم من عدم الاستطاعة، واختلفوا في المرأة إذا كانت موسرة ولم يكن لها المحرم، هل تحج؟، فقال بعض أهل العلم: لا يجب عليها الحج؛ لأن المحرم من السبيل لقول الله عز وجل {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}

(1)

؛ لأن الاستطاعة في حق النساء الزاد والراحلة والمحرم، فقالوا: إذا لم يكن لها محرم فلا تستطيع الحج، وقال بعض أهل العلم: إذا كان الطريق آمنا فإنها تخرج مع الناس في الحج، وفي هذا رفق وسعة وقال به الإمام مالك والشافعي رحمهما الله، ولاسيما في هذا الزمان، يسرت الرواحل، واتسعت مساحة الرفقة الآمنة، ولكل قاعدة شذوذ.

قوله: «وَلَا يُخَاصِمَنَّ أَصْحَابَ الأَهْوَاءِ» .

لأن أصحاب البدع اعتمدوا الهوى في دين الله عز وجل، ولم يلتزموا نهج الكتاب والسنة، وتقدم قول ابن مسعود رضي الله عنه في الإنكار على بدعة عد التسبيح بالحصى برقم 211 - (5).

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

311 -

(15) أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ عَامِرٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ يُونُسَ قَالَ:"كَتَبَ إِلَيَّ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ: إِيَّاكَ وَالْخُصُومَةَ وَالْجِدَالَ فِي الدِّينِ، لَا تُجَادِلَنَّ عَالِماً وَلَا جَاهِلاً، أَمَّا الْعَالِمُ فَإِنَّهُ يَخْزُنُ عَنْكَ عِلْمَهُ وَلَا يُبَالِي مَا صَنَعْتَ، وَأَمَّا الْجَاهِلُ فَإِنَّهُ يُخَشِّنُ بِصَدْرِكَ وَلَا يُطِيعُكَ "

(2)

.

(1)

من الآية (97) من سورة آل عمران.

(2)

رجاله ثقات.

ص: 496

رجال السند:

سَعِيدُ بْنُ عَامِرٍ، هو الضبعي، إمام ثقة تقدم، وإِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، هو ابن علية غمام ثقة تقدم، ويُونُسُ، هو ابن عبيد بن دينار البصري، أبو عبد الله تابعي إمام ثقة، ومَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ، هو الجزري ثقة فقيه تقدم.

الشرح:

قوله: «إِيَّاكَ وَالْخُصُومَةَ وَالْجِدَالَ فِي الدِّينِ» .

نهى عن هاتين الخلتين؛ لأنها ممقوتة وليس في العلم خصومة، وإنما بيان الحق، واجتناب الباطل، ولا جدال في الدين؛ لأنه مبني على البرهان الصحيح من الكتاب والسنة.

قوله: «لَا تُجَادِلَنَّ عَالِماً وَلَا جَاهِلاً، أَمَّا الْعَالِمُ فَإِنَّهُ يَخْزُنُ عَنْكَ عِلْمَهُ وَلَا يُبَالِي مَا صَنَعْتَ، وَأَمَّا الْجَاهِلُ فَإِنَّهُ يُخَشِّنُ بِصَدْرِكَ وَلَا يُطِيعُكَ» .

لأن العالم يكتشف جهل المجادل من منطقه، فيكف عن مجاراته ويحتفظ بما لديه من علم صحيح.

أما الجاهل يجابه بسفالة واحتقار، ولو احتملت جهله لم يطعك، وما أكثر الجهلاء اليوم بأخلاق العلم والعلماء.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

312 -

(16) أَخْبَرَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ، ثَنَا الأَوْزَاعِيُّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِى كَثِيرٍ

ص: 497

قَالَ: "قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ عليهما السلام لاِبْنِهِ: دَعِ الْمِرَاءَ فَإِنَّ نَفْعَهُ قَلِيلٌ وَهُوَ يُهَيِّجُ الْعَدَاوَةَ بَيْنَ الإِخْوَانِ "

(1)

.

رجال السند:

أَبُو الْمُغِيرَةِ، هو عبد القدوس الخولاني، إمام ثقة تقدم، والأَوْزَاعِيُّ، هو عبد الرحمن بن عمرو، إمام ثقة تقدم، ويَحْيَى بْنُ أَبِى كَثِيرٍ، هو أبو نصر اليماني، إمام ثقة ربما دلس وتقدم السند عن أبي قلابة برقم 144، سُلَيْمَانُ ابْنُ دَاوُدَ عليهما السلام، هما نبيان كريمان.

الشرح:

قوله: «دَعِ الْمِرَاءَ فَإِنَّ نَفْعَهُ قَلِيلٌ» .

المراء هو الجدال والتخاصم في الآراء، والتمسك بوجهة النظر المجردة عن الدليل الصحيح، وهذا لا ريب ضرره أكثر من نفعه.

«وَهُوَ يُهَيِّجُ الْعَدَاوَةَ بَيْنَ الإِخْوَانِ» .

هذا حق وكم من طلبة علم كانوا إخوة فشانهم الجدل، وفرقتهم الخصومة، واشتغلوا بتتبع بعضهم والبحث عن العثرات، والتشهير، فكثر جدلهم في ذلك والنكير.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

313 -

(17) أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي حَكِيمٍ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ رحمه الله يَقُولُ:

(1)

رجاله ثقات، وفيه انقطاع بين يحي وسليمان عليه السلام، وانظر: القطوف رقم (202/ 306).

ص: 498

" مَنْ جَعَلَ دِينَهُ غَرَضاً لِلْخُصُومَاتِ أَكْثَرَ التَّنَقُّلَ ".

رجال السند:

يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ، هو أبو زكريا التنيسي، إمام ثقة تقدم، وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ، هو الأودي، أبو محمد إمام قدوة ثقة تقدم، وإِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي حَكِيمٍ، هو العدني كاتب عمر بن عبد العزيز، الأودي، أبو محمد الكوفي، طلبه الرشيد للقضاء فامتنع، إمام قدوة ثقة، ثقة قليل الحديث، وعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، هو الخليفة رحمه الله.

الشرح: في سنده يحي بن حسان: مقبول، وهو هنا من القبول ضد الرد. وقوله:(أكثر التنقل) أي: التردد بين الآراء، وهذا تفسير الدارمي له في الأثر التالي، وانظر: القطوف رقم (203/ 307).

قوله: «مَنْ جَعَلَ دِينَهُ غَرَضاً لِلْخُصُومَاتِ أَكْثَرَ التَّنَقُّلَ» .

المراد أن الدين يستقى من الكتاب والسنة، ومن اشتغل بالآراء والخصومات فيها فإنه يكثر التنقل بين الآراء، فتتجاذبه الأهواء، وهذا من أسباب كثرة الملل والنحل.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

314 -

(18) أَخْبَرَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ، ثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ:" كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ: إِنَّهُ مَنْ تَعَبَّدَ بِغَيْرِ عِلْمٍ كَانَ مَا يُفْسِدُ أَكْثَرَ مِمَّا يُصْلِحُ، وَمَنْ عَدَّ كَلَامَهُ مِنْ عَمَلِهِ قَلَّ كَلَامُهُ إِلاَّ فِيمَا يَعْنِيهِ، وَمَنْ جَعَلَ دِينَهُ غَرَضاً لِلْخُصُومَاتِ كَثُرَ تَنَقُّلُهُ "

(1)

.

(1)

رجاله ثقات، وانظر: القطوف رقم (204/ 308).

ص: 499

رجال السند:

مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ، هو الطاطري غمام ثقة تقدم، وسَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، هو شيخ العلم بعد الأوزاعي، إمام ثقة تقدم، وعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، هو الخليفة رحمه الله.

الشرح:

قوله: «إِنَّهُ مَنْ تَعَبَّدَ بِغَيْرِ عِلْمٍ كَانَ مَا يُفْسِدُ أَكْثَرَ مِمَّا يُصْلِحُ» .

يؤيد هذا قوله صلى الله عليه وسلم: «فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الآيَةَ {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}

(1)

إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَرَضِيهِ وَالنُّونَ فِي الْبَحْرِ، يُصَلُّونَ عَلَى الَّذِينَ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ الْخَيْرَ»

(2)

، وانظر ما تقم برقم 247.

قوله: «وَمَنْ عَدَّ كَلَامَهُ مِنْ عَمَلِهِ قَلَّ كَلَامُهُ إِلاَّ فِيمَا يَعْنِيهِ» .

يؤيد هذا قول الله عز وجل: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا}

(3)

، وقوله صلى الله عليه وسلم: "

ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت "

(4)

.

قوله: «وَمَنْ جَعَلَ دِينَهُ غَرَضاً لِلْخُصُومَاتِ كَثُرَ تَنَقُّلُهُ» .

(1)

من الآية (28) من سورة فاطر.

(2)

هذا مرسل سنده حسن، أخرجه الترمذي موصولا من حديث أبي أمامة رضي الله عنه حديث (2685) وقال: هذا حديث حسن غريب.

(3)

الآية (36) من سورة الإسراء.

(4)

البخاري حديث (6081) ومسلم حديث (74).

ص: 500

تقدم البيان آنفا.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

315 -

(19) أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ بُرْقَانَ، عَنْ عُمَرَ ابْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ:" سَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ شَيْءٍ مِنَ الأَهْوَاءِ، فَقَالَ: عَلَيْكَ بِدِينِ الأَعْرَابِيِّ وَالْغُلَامِ في الْكُتَّابِ، وَالْهَ عَمَّا سِوَى ذَلِكَ "

(1)

.

قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ

(2)

: كَثُرَ تَنَقُّلُهُ أَيْ يَنْتَقِلُ مِنْ رَأْي إِلَى رَأْيٍ.

رجال السند:

مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، هو الفريابي، سُفْيَانَ، هو ابن عيينة، هما إمامان ثقتان تقدما، وجَعْفَرِ بْنِ بُرْقَانَ، هو الجزري الرقي، إمام ثقة في غير الزهري، وعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، هو الخليفة رحمه الله.

الشرح:

قوله: «عَلَيْكَ بِدِينِ الأَعْرَابِيِّ» .

لبعدهم عن المدن سلموا من الأهواء، وبقوا على الفطرة، والتوحيد الخالص، يؤيد هذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:«يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن»

(3)

؛ لأن في ذلك البقاء على الفطرة، والبعد عن الفتن، والأهواء من أعظم الفتن، والفطرة تعين على التأمل والاهتداء ومعرفة الحق، سأل الأصمعي أعرابيا قائلا: بم عرفت ربك؟، فقال البعرة تدل على البعير، وأثر الأقدام يدل على المسير،

(1)

سنده حسن، وانظر: القطوف رقم (205/ 309).

(2)

في (ت) أبو بكر، وفي الحاشية (محمد).

(3)

البخاري حديث (19).

ص: 501

فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، ألا تدل على اللطيف الخبير، نعم هذا ليس لكل أحد، ولكن العقلاء لهم حدس ونظر، ولهذا لما سمع بعض العرب قارئا يقرأ:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ}

(1)

؛ " والله غفور رحيم ".

قال: ليس هذا كلام الله، فقال القارئ: أَتُكَذِّبُ بكلام الله تعالى؟، فقال: لا، ولكن ليس هذا بكلام الله تعالى، فعاد إلى حفظه وقرأ:{وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} فقال الأعرابي: صدقت: عزَّ، فحكمَ، فقطعَ، ولو غفر ورحِمَ لما قطع.

قوله: «وَالْغُلَامِ في الْكُتَّابِ» .

كذلك؛ لأنه على الفطرة، وسلامة الذهن، فيلقى العلم في الكتاب شيئا فشيئا، بعيدا عن التقعر في الألفاظ، وفلسفة الأفكار.

«وَالْهَ عَمَّا سِوَى ذَلِكَ» .

أله فعل أمر بمعنى أترك، وهذا اللفظ لا زال حيا في كلام أبناء زهران، فيقال لشخص أُمر بعمل ما: إِلْه، أي: أترك فعل ما أُمرت به، فقوله:«وَالْهَ عَمَّا سِوَى ذَلِكَ» أي: أترك ما سوى ذلك من الآراء والأهواء، وكن على الفطرة؛ لأنها لا تخالف الشرع، إلا بتدخل مفسد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه، أو يمجسانه»

(2)

.

(1)

من الآية (38) من سورة المائدة.

(2)

البخاري حديث (1358) ومسلم حديث (2658).

ص: 502

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

30 -

‌ بابٌ فِي اجْتِنَابِ الأَهْوَاءِ:

316 -

(1) أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ قَالَ:" قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رحمه الله: إِذَا رَأَيْتَ قَوْماً يَنْتَجُوْنَ بِأَمْرٍ دُونَ عَامَّتِهِمْ فَهُمْ عَلَى تَأْسِيسِ الضَّلَالَةِ "

(1)

.

وقوله " ينتجون " من النجوى، ومنه لا ينتجى اثنان دون صاحبهما، أي لا يتشاوران منفردين عنه من النجوى، ومنه لا ينتجى اثنان دون صاحبهما،

أي لا يتشاوران منفردين عنه

(2)

.

رجال السند:

مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، هو ابن أبي عطاء صدوق يخطئ تقدم، والأَوْزَاعِيُّ إمام ثقة تقدم، وعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، هو الخليفة رحمه الله.

الشرح:

قوله: «إِذَا رَأَيْتَ قَوْماً يَنْتَجُوْنَ بِأَمْرٍ دُونَ عَامَّتِهِمْ» .

من النجوى وهي التشاور والتباحث بسر عن الآخرين، وليس المراد عامةالناس، بل المراد عامة العلماء والعقلاء أهل الحل والعقد، فمن ينفرد عنهم من أفراد أو جماعة فهم فيأمر مريب لمفارقتهم علماء القوم وعقلائهم، والتناجي دونهم، وفي ذلك ريبة، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يتناجى

اثنان دون واحد»

(3)

.

(1)

فيه محمد بن كثير الثقفي، صدوق كثير الغلط، وهو هنا محمول على عدم الغلط، وانظر: القطوف رقم (206/ 310).

(2)

(النهاية 5/ 25).

(3)

أحمد حديث (5425).

ص: 503

قوله: «فَهُمْ عَلَى تَأْسِيسِ الضَّلَالَةِ» .

وهذا موطن الريبة؛ لأنهم لو كانوا يتناجون في خير ونفع للأمة لما انخنسوا وتناجوا سرا، ولأعلنوا ذلك، ومثال هذا في هذا الزمان، الأحزاب التي تتصارع على الحكم، وقد سمعت أن دولة عربية في ما يزيد على (150) حزبا رسميا، فرقتهم الأهواء، والاتجاهات الفكرية والسياسية.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

317 -

(2) أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ قَالَ: قَالَ إِبْلِيسُ لأَوْلِيَائِهِ: " مِنْ أَيِّ شَيْءٍ تَأْتُونَ بَنِى آدَمَ؟، فَقَالُوا: مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، قَالَ: فَهَلْ تَأْتُونَهُمْ مِنْ قِبَلِ الاِسْتِغْفَارِ؟، فَقَالُوا: هَيْهَاتَ ذَاكَ شَيْءٌ قُرِنَ بِالتَّوْحِيدِ، قَالَ: لأَبُثَّنَّ فِيهِمْ شَيْئاً لَا يَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ مِنْهُ، قَالَ: فَبَثَّ فِيهِمُ الأَهْوَاءَ "

(1)

.

رجال السند:

إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْحَاقَ، هو البناني أبو إسحاق، ثقة إلا عن ابن المبارك فقد روى عنه غرائب، وابْنُ الْمُبَارَكِ، هو عبد الله إمام ثقة من شيوخ الإسلام تقدم، والأَوْزَاعِيُّ إمام ثقة تقدم.

الشرح:

قوله: «قَالَ إِبْلِيسُ لأَوْلِيَائِهِ: " مِنْ أَيِّ شَيْءٍ تَأْتُونَ بَنِى آدَمَ؟، فَقَالُوا: مِنْ

كُلِّ شَيْءٍ».

(1)

سنده حسن إلى الأوزاعي، وانظر: القطوف رقم (207/ 311).

ص: 504

يؤيد هذا ما حكى الله عز وجل من قوله: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}

(1)

، فهو وأعوانه يسلكون كل سبيل لإضلال بني آدم عليه السلام.

قوله: «قَالَ: فَهَلْ تَأْتُونَهُمْ مِنْ قِبَلِ الاِسْتِغْفَارِ؟، فَقَالُوا: هَيْهَاتَ ذَاكَ شَيْءٌ قُرِنَ بِالتَّوْحِيدِ» .

هذا باب لا يدخل منه الشيطان؛ لأن الموحدين هم من قال الله عز وجل عنهم: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ}

(2)

من قوله: «قَالَ: لأَبُثَّنَّ فِيهِمْ شَيْئاً لَا يَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ مِنْهُ، قَالَ: فَبَثَّ فِيهِمُ الأَهْوَاءَ» . وهذا ما تحقق لإبليس اللعين فقد كثرت الفرق الضالة بسبب الأهواء، واستحل الحرام بسبب الأهواء، وسفكت الدماء بسبب الأهواء، وأصحابها لا يستغفرون الله منها، بل يرون في ذلك الفوز بالجنة والنجاة من النار.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

318 -

(3) أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ الْمُحَارِبِيِّ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ:" مَا أَدْرِي أيَّ النِّعْمَتَيْنِ عَلَىَّ أَعْظَمُ؟، أَنْ هَدَانِي لِلإِسْلَامِ، أَوْ عَافَانِي مِنْ هَذِهِ الأَهْوَاءِ "

(3)

.

(1)

الآية (17) من سورة الأعراف.

(2)

الآية (42) من سورةالحجر.

(3)

رجاله ثقات.

ص: 505

رجال السند:

إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْحَاقَ، هو البناني ثقة تقدم آنفا، والْمُحَارِبِيُّ، هو عبد الرحمن ابن محمد ثقة مدلس تقدم، الأَعْمَشُ، هو سليمان بن مهران إمام ثقة تقدم، ومُجَاهِدٌ، هو ابن جبر إمام ثقة تقدم.

الشرح:

قوله: «مَا أَدْرِي أيَّ النِّعْمَتَيْنِ عَلَىَّ أَعْظَمُ؟، أَنْ هَدَانِي لِلإِسْلَامِ، أَوْ عَافَانِي مِنْ هَذِهِ الأَهْوَاءِ» .

قول مجاهد رحمه الله اعتراف بنعمتين عظيمتين: نعمة الهداية للإسلام، والسلامة من نواقضه، ونعمة المعافاة من الأهواء والآراء الضالة، ولعظم النعمتين لم يتسن له ترجيح احاهما على الأخرى، وفي نظري أن الهداية للإسلام أعظم؛ لأنها السبب في المعافاة من الأهواء، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له

»

(1)

.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

319 -

(4) أَخْبَرَنَا مُوسَى بْنُ خَالِدٍ، ثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ مُسْلِمٍ الأَعْوَرِ، عَنْ حَبَّةَ بْنِ جُوَيْنٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا - أَوْ قَالَ: - قَالَ عَلِيٌ رضي الله عنه: " لَوْ أَنَّ رَجُلاً صَامَ الدَّهْرَ كُلَّهُ وَقَامَ الدَّهْرَ كُلَّهُ، ثُمَّ قُتِلَ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ لَحَشَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ مَنْ يُرَى أَنَّهُ كَانَ عَلَى هُدًى "

(2)

.

(1)

مسلم حديث (867).

(2)

فيه مسلم بن كيسان الأعور: ضعيف يقوى بما بعده، وقوله (مع من يرى أنه كان على هدى) أي مع صاحبه الذي اقتدى به في عمله وسيرته.

ص: 506

رجال السند:

مُوسَى بْنُ خَالِدٍ، هو أبو الوليد الحلبي صدوق تقدم، وعِيسَى بْنُ يُونُسَ، هو ابن أبي إسحاق السبيعي إمام ثقة تقدم، والأَعْمَشُ، هو سليمان إمام ثقة تقدم، ومُسْلِمُ الأَعْوَرِ، هو ابن كيسان الضبي، تابعي ضعيف، ليس له عند الدارمي سوى هذا، وحَبَّةُ بْنُ جُوَيْنٍ، هو أبو قدامة العرني، من شيعة علي رضي الله عنه، مختلف في توثيقه وتضعيفه، وعَلِيٌ، هو ابن أبي طالب رضي الله عنه، وتقدم هذا السند برقم 224،.

الشرح:

مراد علي بن أبي طالب رضي الله عنه الرجل مع من ساير وعاشر، ولذلك كلف المسلم أن يقول في كل ركعة:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}

(1)

، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«الرجل على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل»

(2)

، وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:" اعتبروا الرجل بمن يصاحب، وإنما يصاحب الرجل من هو مثله "

(3)

.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

320 -

(5) أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ هَارُونَ - هُوَ ابْنُ الْمُغِيرَةِ - عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ أَبِى صَادِقٍ قَالَ: قَالَ سَلْمَانُ رضي الله عنه:

(1)

الآيتان (6، 7) من سورة الفاتحة.

(2)

أبو داود حديث (833).

(3)

شعب الإيمان حديث (8993).

ص: 507

" لَوْ وَضَعَ رَجُلٌ رَأْسَهُ عَلَى الْحَجَرِ الأَسْوَدِ فَصَامَ النَّهَارَ، وَقَامَ اللَّيْلَ لَبَعَثَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ هَوَاهُ "

(1)

.

رجال السند:

مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ، هو الرازي وثقه يحيى بن معين، وتكلم فيه آخرون، وهَارُونُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، هو البجلي أبو حمزة الرازي، وثقه النسائي، وشُعَيْبٌ، هو ابن خالد البجلي الرازي، لابأس به، وسَلَمَةُ بْنٌ كُهَيْلٍ، أبو يحيى الحضرمي، تابعي ثقة روى له الستة، وأَبو صَادِقٍ، هو عبد الله ابن ناجذ، تابعي صدوق، وسَلْمَانُ، هو الفارسي رضي الله عنه، ولم يلقه عبد الله.

الشرح: انظر قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه، تقدم آنفا.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

321 -

(6) أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّلْتِ، حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ - هُوَ ابْنُ أَبِى الأَسْوَدِ - عَنِ الْحَارِثِ بْنِ حَصِيرَةَ، عَنْ أَبِي صَادِقٍ الأَزْدِيِّ، عَنْ رَبِيعَةَ ابْنِ نَاجِدٍ قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ

(2)

. كرم الله وجهه: " كُونُوا فِي النَّاسِ كَالنَّحْلَةِ فِي الطَّيْرِ، إِنَّهُ لَيْسَ مِنَ الطَّيْرِ شَيْءٌ إِلاَّ وَهُوَ يَسْتَضْعِفُهَا، وَلَوْ يَعْلَمُ الطَّيْرُ مَا فِي أَجْوَافِهَا مِنَ الْبَرَكَةِ لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ بِهَا، خَالِطُوا النَّاسَ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَأَجْسَادِكُمْ، وَزَايِلُوهُمْ

(1)

فيه محمد بن حميد الرازي: ضعيف يقويه ما تقدم.

(2)

كتبت لحقا في (ك).

ص: 508

بِأَعْمَالِكُمْ وَقُلُوبِكُمْ، فَإِنَّ لِلْمَرْءِ مَا اكْتَسَبَ، وَهُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ مَنْ أَحَبَّ "

(1)

.

رجال السند:

مُحَمَّدُ بْنُ الصَّلْتِ، هو الأصم، إمام ثقة تقدم، ومَنْصُور بْنُ أَبِى الأَسْوَدِ، هو شيعي كبير، قال ابن معين: لابأس به تقدم، والْحَارِثُ بْنُ حَصِيرَةَ، هو أبو النعمان الأزدي، قيل: شيعي محترق، روى له البخاري في الأدب المرد، وفي الخصائص النسائي، وقال ابن معين: لابأس به، وأَبو صَادِقٍ الأَزْدِيِّ، هو تابعي صدوق تقدم آنفا، ورَبِيعَةُ بْنُ نَاجِدٍ، هو أخو أبي صادق، وثقه العجلي، وعَلِيٌّ، هو أبي طالب رضي الله عنه.

الشرح:

لم يرد علي رضي الله عنه مجالسة أهل الأهواء، وإنما أراد عامة الناس الذين يمكن وعظهم وتعليمهم الخير، فمخالطتهم بالألسنة المراد به دعوتهم إلى الخير وتعليمهم الهدى، وبالأجساد التواضع لهم فإنه أدعى لقبول الدعوة، وفي قوله:«فَإِنَّ لِلْمَرْءِ مَا اكْتَسَبَ» المراد ما اكتسب من خير أو شر يحاسب عليه، قال عز وجل:{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}

(2)

، وفي قول: «وَهُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ

(1)

فيه الحارث بن حصيرة الأزدي: قال أبو حاتم: لولا أن الثوري روى عن الحارث ابن حصيرة لترك حديثه (الجرح والتعديل 3/ 72 - 73) وقال ابن عدي: وهو من المحترقين بالكوفة بالتشيع (الكامل 2/ 607).

(2)

الآيتان (7، 8) من سورة الزلزلة.

ص: 509

مَنْ أَحَبَّ» تحذير العوام من مجالسة أهل الأهواء حتى لا يصيبهم ما هم فيه من الضلال، ولعل المراد بقوله:«وَزَايِلُوهُمْ بِأَعْمَالِكُمْ وَقُلُوبِكُمْ» من كان قادرا على دفع شبهاتهم، ورد باطلهم، وقد ناظر ابن عباس رضي الله عنهما الخوارج بأمر علي رضي الله عنه فرجع نحو نصفهم، ثم قاتل من بقي وغلبهم.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

322 -

(7) أَخْبَرَنَا الْوَلِيدُ بْنُ شُجَاعٍ قَالَ: حَدَّثَنِي بَقِيَّةُ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: " نِعْمَ وَزِيرُ الْعِلْمِ

(1)

الرَّأْيُ الْحَسَنُ "

(2)

.

رجال السند:

الْوَلِيدُ بْنُ شُجَاعٍ، هو أبو همام الكوفي، من رجال مسلم في الصحيح، لابأس به حفظ حديثا كثيرا، وبَقِيَّةُ، هو ابن الوليد التميمي، مدلس معروف بالراية عن الضعفاء والمجاهيل، تقبل روايته بشرط أن يصرح بالسماع، فهو ثقة إذا حدث عن الثقات، وقال حدثنا أو أخبرنا، والأَوْزَاعِيُّ، والزُّهْرِيُّ، إمامان ثقتان تقدما.

الشرح:

قوله: «نِعْمَ وَزِيرُ الْعِلْمِ الرَّأْيُ الْحَسَنُ» .

وصف الرأي الحسن بأنه وزير العلم إشادة وتعظيما، والمراد بالرأي الحسن المستند إلى الكتاب والسنة، المنبثق منهما، الموافق لمنهجهما، وما خالف

(1)

كتبت لحقا في (ت).

(2)

سنده حسن، ولا يضر تدليس بقية هنا، وانظر: القطوف رقم (212/ 316).

ص: 510

الكتاب أو خالف السنة، أو خالفهما معا فلا خير فيه، بل هو مردود على قائله.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

323 -

(8) أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، ثَنَا زَائِدَةُ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ مُسْلِمٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ:" كَفي بِالْمَرْءِ عِلْماً أَنْ يَخْشَى اللَّهَ، وَكَفي بِالْمَرْءِ جَهْلاً أَنْ يُعْجَبَ بِعِلْمِهِ "

(1)

.

قَالَ: وَقَالَ مَسْرُوقٌ: " الْمَرْءُ حَقِيقٌ أَنْ تَكُونَ لَهُ مَجَالِسُ يَخْلُو

(2)

فِيهَا، فَيَذْكُرُ ذُنُوبَهُ فَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ "

(3)

.

رجال السند:

أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، هو ابن يونس التميمي، ثقة متقن، وزَائِدَةُ، هو ابن قدامة الثقفي، إمام ثقة، والأَعْمَشُ، إمام ثقة، ومُسْلِمٌ، هو ابن صبيح ثقة، ومَسْرُوق، هو ابن سعيد إمام ثقة، والجميع تقدموا.

الشرح:

قوله: «كَفي بِالْمَرْءِ عِلْماً أَنْ يَخْشَى اللَّهَ» لأن الله عز وجل قال: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}

(4)

.

(1)

من الآية (28) من سورة فاطر.

(2)

في (ك) علق في الهامش (في الأصل خلوا) هكذا بواو الجماعة، ولعله أراد (يخلو) أي بنفسه.

(3)

رجاله ثقات، وانظر: القطوف رقم (214).

(4)

رجاله ثقات، وانظر: القطوف رقم (213/ 317).

ص: 511

قوله: «وَكَفي بِالْمَرْءِ جَهْلاً أَنْ يُعْجَبَ بِعِلْمِهِ» .

لأنه جهل نعمة الله عز وجل عليه، واغتر بعلمه، وجهل أن سبب هلاك قارون إنكاره نعمة الله عليه فقال:{إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي}

(1)

.

قوله: «الْمَرْءُ حَقِيقٌ أَنْ تَكُونَ لَهُ مَجَالِسُ يَخْلُو فِيهَا، فَيَذْكُرُ ذُنُوبَهُ فَيَسْتَغْفِرُ

اللَّهَ».

منها ما أرشد إليه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: «خصلتان لا يحصيهما عبد إلا دخل الجنة، وهما يسير ومن يعمل بهما قليل، يسبح الله أحدكم في دبر كل صلاة عشرا، ويحمده عشرا، ويكبره عشرا، فتلك خمسون ومائة باللسان، وألف وخمسمائة في الميزان، وإذا أوى إلى فراشه يسبح ثلاثا وثلاثين، ويحمد ثلاثا وثلاثين، ويكبر أربعا وثلاثين، فتلك مائة باللسان، وألف في الميزان "، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فأيكم يعمل في يوم وليلة ألفين وخمسمائة سيئة؟ "

(2)

، وعن أبي هريرة؛ أنه قال:" من سبح دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين، وكبر ثلاثا وثلاثين، وحمد ثلاثا وثلاثين، وختمالمائة بلا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، غفرت ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر"

(3)

، وهذا له حكم الرفع؛ لأنه ليس مما يقال بالرأي.

(1)

من الآية (78) من سورة القصص.

(2)

ابن حبان حديث (2018).

(3)

الموطأ حديث (714/ 231).

ص: 512

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

31 -

‌ بابٌ مَنْ رَخَّصَ فِي الْحَدِيثِ إِذَا أَصَابَ الْمَعْنَى

(1)

324 -

(1) أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي خَلَفٍ، حَدَّثَنِي مَعْنٌ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ

الأَسْقَعِ قَالَ: " إِذَا حَدَّثْنَاكُمْ بِالْحَدِيثِ عَلَى مَعْنَاهُ فَحَسْبُكُمْ "

(2)

.

رجال السند:

مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي خَلَفٍ، ثقة إمام تقدم، ومَعْن، هو ابن عبد الرحمن ابن عبد الله بن مسعود إمام ثقة تقدم، ومُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، هو ابن حدير، صدوق له أوهام، والْعَلَاءُ بْنُ الْحَارِثِ، هو الحضرمي أبو وهب، عالم الشام بعد مكحول، فقيه ثقة، ومَكْحُولٍ، إمام ثقة تقدم، ووَاثِلَةَ بْنِ الأَسْقَعِ، هو الصحابي الجليل رضي الله عنه، كان من أصحاب الصفة رضي الله عنهم.

الشرح:

قوله: «إِذَا حَدَّثْنَاكُمْ بِالْحَدِيثِ عَلَى مَعْنَاهُ فَحَسْبُكُمْ» .

فيه جواز رواية الحديث بالمعنى الذي يرادف الألفاظ، ولا يصرف الحديث عن معناه الأصلي.

(1)

كتب قبالته في (ت) بلغ العرض.

(2)

سنده حسن، وفيه انقطاع بين مكحول وواثلة رضي الله عنه، وانظر: القطوف رقم (215/ 318).

ص: 513

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

325 -

(2) أَخْبَرَنَا عَاصِمُ بْنُ يُوسُفَ، ثَنَا فُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ:" أَنَّهُ كَانَ إِذَا حَدَّثَ لَمْ يُقَدِّمْ وَلَمْ يُؤَخِّرْ، وَكَانَ الْحَسَنُ إِذَا حَدَّثَ قَدَّمَ وَأَخَّرَ"

(1)

.

رجال السند:

عَاصِمُ بْنُ يُوسُفَ، هو اليربوعي، لابأس به تقدم، وفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ،

هو التميمي، أبو علي الخراساني، إمام ثقة قدوة، وهِشَامٌ، هو ابن حسان إمام ثقة تقدم، وابْنُ سِيرِينَ، هو محمد من سادات التابعين تقدم.

الشرح:

قوله: «أَنَّهُ كَانَ إِذَا حَدَّثَ لَمْ يُقَدِّمْ وَلَمْ يُؤَخِّر» .

المراد أنه على مذهب من لا يجيز الرواية بالمعنى، ويلتزم رواية النص بحروفه من غير زيادة ولا نقص، ولا تقديم ولا تأخير.

قوله: «وَكَانَ الْحَسَنُ إِذَا حَدَّثَ قَدَّمَ وَأَخَّر» .

المراد أنه يجيز الرواية بالمعنى، ويجيز التقديم في النص والتأخير، والزيادة والنقص بما لا يغير المعنى، مستنيرا بأسلوب قصص الأنبياء في القرآن من حيث التطويل والاختصار، والتقديم والتأخير، والمعنى واحد لم يتغير.

قال الدارمي رحمه الله تعالى: 326 - (3) أَخْبَرَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَنْبَأَ جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ قَالَ:

(1)

رجاله ثقات، وانظر: القطوف رقم (216/ 319).

ص: 514

" كَانَ الْحَسَنُ

(1)

يُحَدِّثُ بِالْحَدِيثِ الأَصْلُ وَاحِدٌ وَالْكَلَامُ مُخْتَلِفٌ "

(2)

.

رجال السند:

مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، هو الفراهيدي إمام ثقة تقدم، وجَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، إمام ثقة تقدم، والْحَسَنُ، هو البصري إمام ثقة.

الشرح:

قوله: «الأَصْلُ وَاحِدٌ وَالْكَلَامُ مُخْتَلِفٌ» .

المراد أنه يروي الحديث بالمعنى، فيستبدل الفظة بما يرادفها في اللفظ فلا يتغير المعنى.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

327 -

(4) أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَد، ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سُوقَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِىِّ بْنِ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ، عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَثَلُ الْمُنَافِقِ مَثَلُ الشَّاةِ بَيْنَ الرَّبِيضَيْنِ

(3)

أَوْ بَيْنَ الْغَنَمَيْنِ

(4)

» فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: " لَا إِنَّمَا قَالَ كَذَا وَكَذَا.

(1)

في (ك) علق (في الأصل الحسين) وهو خطأ.

(2)

رجاله ثقات، وقوله (والكلام مختلف) أراد أنه يروي بالمعنى.

(3)

قال ابن الأثير: وفيه (مثل المنافق كمثل الشاة بين الربضين) وفي رواية: بين الربيضين) الربيض: الغنم نفسها، والربض: موضعها الذي تربض فيه، أراد أنه مذبذب كالشاة الواحدة بين قطيعين من الغنم، أو بين مربضيهما (النهاية 2/ 185).

(4)

رجاله ثقات.

ص: 515

قَالَ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَزِدْ فِيهِ وَلَمْ يُنْقِصْ مِنْهُ، وَلَمْ يُجَاوِزْهُ وَلَمْ يُقَصِّرْ عَنْهُ "

(1)

.

رجال السند:

مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَد، هو ابن أبي خلف إمام ثقة تقدم، وسُفْيَانُ، هو ابن عيينة إمام ثقة تقدم، ومُحَمَّدُ بْنُ سُوقَةَ، هو الغنوي أبو بكر الكوفي، إمام ثقة روى له الستة، ومُحَمَّدُ بْنُ عَلِىِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، هو الباقر إمام ثقة تقدم، وعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ، هو ابن قتادة أبو عاصم المكي، إمام ثقة روى له الستة، وعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما.

الشرح:

فيه أن عبيد الله يرى جواز الرواية بالمعنى، ولا يرى ذلك ابن عمر رضي الله عنهما.

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

328 -

(5) أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، ثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ قَالَ: " كَانَ الشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالْحَسَنُ يُحَدِّثُونَ بِالْحَدِيثِ مَرَّةً هَكَذَا وَمَرَّةً هَكَذَا

(2)

، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ فَقَالَ: أَمَا إِنَّهُمْ لَوْ حَدَّثُوا بِهِ كَمَا سَمِعُوهُ كَانَ خَيْراً لَهُمْ "

(3)

.

(1)

أي: أنه كان يرى التقيد بالألفاظ في الأداء، ويمنع الرواية بالمعنى.

(2)

أي مرة باللفظ المسموع، ومرة بمعناه.

(3)

رجاله ثقات، وانظر: القطوف رقم (218/ 322).

ص: 516

رجال السند:

عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، هو الأشج إمام ثقة تقدم، وابْنُ عُلَيَّةَ، هو إسماعيل إمام ثقة تقدم، وابْنُ عَوْنٍ، هو عبد الله إمام ثقة تدم، والشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالْحَسَنُ، هم أئمة ثقات تقدموا.

الشرح:

المراد أن الثلاثة رحمهم الله يرون جواز الرواية على الأصل، وجوازها بالمعنى، ولا يرى ابن سيرين رحمه الله، جواز الرواية بالمعنى، ولذلك قال:" أَمَا إِنَّهُمْ لَوْ حَدَّثُوا بِهِ كَمَا سَمِعُوهُ كَانَ خَيْراً لَهُمْ ".

قال الدارمي رحمه الله تعالى:

329 -

(6) أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، ثَنَا عَثَّامٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ عُمَارَةَ

ابْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ قَالَ:" إِنِّي لأَسْمَعُ الْحَدِيثَ لَحْناً فَأَلْحَنُ اتِّبَاعاً لِمَا سَمِعْتُ "

(1)

.

رجال السند:

مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، هو ابن كريب أبو كريب الكوفي، إمام ثقة روى له الستة، وعَثَّامٌ، هو ابن علي إمام ثقة تقدم، والأَعْمَشُ، هو سليمان إمام ثقة تقدم، وعُمَارَةُ بْنُ عُمَيْرٍ، هو التميمي ثقة تقدم، وأَبو مَعْمَرٍ، هو عبد الله ابن سخبرة، أزدي تابعي إمام ثقة.

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، فقد تم بفضله وعونه الجزء الأول من شرح مسند الدارمي، بعد صلاة المغرب ليلة الثلاثاء 8/ 3/ 1439 هـ

(1)

سنده حسن، وانظر: القطوف رقم (219/ 323).

ص: 517

في منزلي بالمدينة النبوية على ساكنها نبينا محمد أفضل الصلاة والسلام، وصاحبيه المجاورين له أبي بكرو عمر عليهما سلام الله ورضوانه.

ويلي هذا الجزء الثاني أوله: 32 - بابٌ فِي فَضلِ الْعِلمِ وَالْعَالِمِ

(1)

330 -

(1).

(1)

كتب قبالته في (د) ما نصه (بلغ السماع في الأول بقراءة كاتبه محمد بن أحمد المظفري، على الشيخ العلامة أمين الدين إمام جامع الغمري، فسمعه صالح بن أبي الطاهر القادري، وأجاز المستمع مرويه بتاريخ، ثامن رمضان سنة أربعين وسبعمائة، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

ص: 518