الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
شرح
منهج السالكين
وتوضيح الفقه في الدين
للعلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي (1376 هـ)
(دورة ورثة الأنبياء)
دورة علمية نظمها مكتب الدعوة والإرشاد برفحاء
في تاريخ 25 - 10/ 29 - 10
1429 هـ
بقلم
سليمان بن محمد اللهيميد
السعودية - رفحاء
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
…
أما بعد:
فهذا شرح كتاب منهج السالكين في توضيح الفقه في الدين للعلامة عبد الرحمن السعدي رحمه الله،
قمت بشرحه في مدينة رفحاء ضمن الدورة العلمية الأولى التي أقامها مكتب الدعوة والإرشاد برفحاء.
أسال الله العظيم رب العرش العظيم أن يرزقنا العلم النافع، والعلم الصالح
أخوكم
سليمان بن محمد اللهيميد
السعودية - رفحاء
ترجمة مختصرة للمؤلف رحمه الله
هو أبو عبد الله، عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله آل سعدي.
ولد في عنيزة عام 1307 هـ، وتوفيت والدته وعمره أربع سنوات، ثم توفي والده وعمره سبع سنوات، فنشأ يتيم الأبوين، وكفلته زوجة والده، وأحبته كثيراً، فلما شبّ صار في بيت أخيه الأكبر: حمد الذي دفع به إلى حلقات العلم، وكفاه مؤونة العيش.
جلس للتدريس وعمره (23) مع عدم انقطاعه عن الطلب، ومن عام (1350 هـ) صار مرجع للناس في بلده في التدريس والفتيا.
و
من تلاميذه:
الشيخ عبد الله البسام، عضو هيئة كبار العلماء ومجمع الفقه الإسلامي.
والشيخ حمد القاضي.
والشيخ عبد الله بن عبد العزيز العقيل، عضو مجلس القضاء الأعلى سابقاً.
والشيخ علي بن حمد الصالحي.
والشيخ محمد بن صالح العثيمين، عضو هيئة كبار العلماء.
وغيرهم كثير.
له مؤلفات كثيرة منها:
تيسير الكريم المنان في تفسير كلام الرحمن (وهو أشهر كتبه).
القواعد الحسان لتفسير القرآن.
بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار في شرح جوامع الأخبار.
القول السديد في مقاصد التوحيد.
منهج السالكين وتوضيح الفقه في الدين (وهو هذا الكتاب).
وغيرها كثير.
مات رحمه الله قبيل فجر الخميس 23/ 6/ 1376 هـ عن (69) عاماً رحمه الله رحمة واسعة.
بسم الله الرحمن الرحيم
ابتدأ المؤلف كتابه بالبسملة:
أولاً: اقتداءً بكتاب الله العظيم.
ثانياً: تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم في مكاتباته ومراسلاته،
كما في كتابه إلى هرقل وفيه (بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن عبدالله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم).
ثالثاً: تبركاً بها.
م/ اَلْحَمْدُ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِ اَللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صلى الله عليه وآله وسلم. أَمَّا بَعْدُ:
اَلْحَمْدُ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ: بدأ المؤلف كتابه بالحمد لله لعدة أسباب.
أولاً: اقتداءً بكتاب الله، لأن أول سورة في القرآن مبدوءة بالحمد لله رب العالمين.
ثانياً: تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم فإنه كان يبدأ خُطَبه [الراتبة والعارضة] بالحمد لله.
الحمد لله نحمده: الحمد هو وصف المحمود بالكمال مع المحبة والتعظيم.
الحمد لله: الألف واللام للاستغراق، يعني جميع المحامد ثابتة لله، وفي الحديث قال صلى الله عليه وسلم (لك الحمد كله) متفق عليه. وكلمة (نحمده): جملة توكيد لقوله (الحمد لله).
ونستعينه: أي نطلب العون من الله تبارك وتعالى، كما قال تعالى (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ).
قال ابن كثير: أي لا نعبد إلا إياك، ولا نتوكل إلا عليك، وهذا هو كمال الطاعة، والدين كله يرجع إلى هذين المعنيين، ..... فالأول تبرؤ من الشرك، والثاني تبرؤ من الحول والقوة والتفويض إلى الله عز وجل.
قال ابن القيم: وكثيراً ما كنت أسمع شيخ الإسلام ابن تيمية يقول (إياك نعبد) تدفع الرياء (وإياك نستعين) تدفع الكبر.
• فعلى المسلم أن يستعين بالله دائماً وأبداً، بل أعظم الدعاء ما فيه طلب العون من الله.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقد قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ (إني أحبك في الله، فلا تدعن دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) رواه أبو داود.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: تأملت أنفع الدعاء: فإذا هو سؤال العون على مرضاته، ثم رأيته في الفاتحة في (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ).
ونستغفره: أي نطلب من الله مغفرة الذنوب، ومعناها: ستر الذنب والتجاوز عنه.
• والاستغفار يكون على وجهين:
الوجه الأول: طلب المغفرة بلفظ: اللهم اغفر لي، أو أستغفر الله.
الوجه الثاني: طلب المغفرة بالأعمال الصالحة التي تكون سبباً لذلك.
• وحينما نستغفر الله فلذنوبنا واستجابة لأمر الله تعالى.
قال سبحانه (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً)
وقال سبحانه (والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلى الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون).
وقال تعالى في الحديث القدسي (فاستغفروني أغفر لكم).
وقال تعالى (واستغفر لذنبك)، وقال تعالى {واستغفر الله إن الله كان غفوراً رحيماً} .
وقال سبحانه {فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً} ، وقال صلى الله عليه وسلم (إني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة) رواه مسلم، وقال صلى الله عليه وسلم (والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة) رواه البخاري.
ونتوب إليه: أي نرجع إلى الله عن ذنوبنا وتقصيرنا ونترك المعصية والذنوب إلى الطاعة.
وقد أمر الله بالتوبة وأثنى على أهلها.
فالتوبة سبب للفلاح، والفوز بسعادة الدارين، قال تعالى (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحون).
بالتوبة تكفر السيئات:
قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ).
بالتوبة تبدل السيئات حسنات:
قال تعالى (إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً)، وهذا من أعظم البشارة للتائبين.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والتوبة سبب للمتاع الحسن، ونزول الأمطار، وزيادة القوة، والإمداد بالأموال والبنين:
قال تعالى (وَأَنْ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ).
وقال تعالى على لسان هود (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ).
وقال على لسان نوح عليه السلام (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً (10) يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً).
والله يحب التوبة والتوابين:
قال تعالى (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ)
أن الله يفرح بتوبة التائبين:
كما قال صلى الله عليه وسلم (للهُ أفرحُ بتوبةِ عبده من أحدِكم سقط على بعيرهِ وقد أضله في أرضٍ فلاة) متفق عليه.
• وللتوبة لكي تصح شروطاً عند العلماء:
الشرط الأول: الإقلاع عن الذنب.
الشرط الثاني: أن يندم على فعلها.
الشرط الثالث: أن يعزم على أن لا يعود إليها أبداً.
الشرط الرابع: أن تكون في زمن تقبل فيه التوبة.
وذلك قبل طلوع الشمس من مغربها - وقبل حلول الأجل.
قال صلى الله عليه وسلم (إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر) رواه الترمذي.
الشرط الخامس: إن كانت تتعلق بحق آدمي فإنه يجب أن يرجعها إذا كانت مالاً، وأما إذا كانت غيبة فإنه يكفي الاستغفار له.
ونعوذ بالله من شرور أنفسنا: أي نعوذ ونعتصم ونلتجئ بالله من شرور أنفسنا، فالنفس لها شرور، كما قال تعالى (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي).
وفي الحديث عن عمران بن حصين. (أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أبا حصَيْناً كلمتين يدعو بهما: اللهم ألهمني رشدي، وأعِذني من شر نفسي) رواه الترمذي.
وفي حديث زيد بن أرقم - عند مسلم - قال (كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، .... ومن نفس لا تشبع).
ومن شرورها: التثبيط عن الطاعة والتكاسل عنها، أو الحث على المعصية.
وسيئات أعمالنا: فنتعوذ بالله من سيئات أعمالنا، لأن الأعمال السيئة لها تأثير سيء على الفرد والمجتمع.
قال تعالى (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ).
وقال تعالى (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ).
وقال تعالى (فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ).
وقال صلى الله عليه وسلم (ما منع قوم زكاةَ أموالهم إلا منعوا القطر من السماء) رواه ابن ماجه.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
من يهدى الله فلا مضل له: أي من قدّر الله هدايته فلن يستطيع أحد أن يضله كائناً من كان، وهذه الجملة توجب للإنسان أن لا يطلب الهداية إلا من الله، مع فعل الأسباب.
ومن يضلل فلا هادى له: أي فمن قدر الله أن يضله - لحكمته - فإنه لا يمكن أن يهديه أحد، وها هو عم النبي صلى الله عليه وسلم أبو طالب - لم يستطع النبي صلى الله عليه وسلم أن يهديه.
وقال تعالى (فمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولَئِكَ الَّذِينَ لمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ).
وأشهد أن لا إله إلا الله: أي أقر بقلبي ناطقاً بلساني إقرار مشاهد، أنه لا معبود حق إلا الله كما قال تعالى (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ) وقال تعالى (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ).
• لا يصح قول من قال: لا إله موجود إلا الله، لأن هناك آلهة تعبد من دون الله وتسمى آلهة كما قال تعالى (وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ).
وأن محمداً: هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم، خاتم النبيين.
عبده: فليس له من الربوبية والإلهية شيء، إنما هو عبد، جميع خصائص البشرية تلحقه ما عدا شيء واحد، وهو ما يعود بأسافل الأخلاق فهو ممنوع منه.
قال تعالى (قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله).
وقال تعالى (قل إني لا أملك لكم ضراً ولا رشداً).
فهو بشر مثلنا إلا أنه يوحى إليه، قال تعالى (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد).
وقد وصفه الله بالعبودية في أعلى المقامات:
في إسرائه، وفي حال قيامه بالدعوة، وفي حال التحدي مع الكفار أن يأتوا بمثل القرآن.
ويقول عليه السلام: (لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح). رواه البخاري
بل وصف الله تعالى الرسل في أعلى مقاماتهم، وفي سياق الثناء عليهم.
فقال تعالى في نوح عليه السلام (إنه كان عبداً شكوراً).
وقال في إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام (واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار).
وقال في عيسى بن مريم عليه السلام (إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل).
ورسوله: أي وأن محمداً رسول الله إلى كافة الورى، قال تعالى (محمد رسول الله) وقال تعالى (وما أرسلناك إلا كافة للناس) وقال تعالى (وأرسلناك للناس رسولاً وكفى بالله شهيداً).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر،
…
وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة). متفق عليه
• ومقتضى هذه الشهادة هو الإقرار باللسان، والإيمان بالقلب بأن محمد بن عبد الله القرشي رسول إلى جميع الخلق من الجن والإنس.
• ومقتضى هذه الشهادة أيضاً أن تصدق رسول الله فيما أخبر، وأن تتمثل أمره فيما أمر، وأن تجتنب ما عنه نهى وزجر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع.
صلى الله عليه وعلى آله وسلم: معنى صلاة الله على نبيه: أي ثناؤه عليه في الملأ الأعلى، كما قال أبو العالية: صلاة الله ثناؤه عليه عند الملائكة.
وعلى آله: المراد بالآل هنا جميع أتباعه على دينه من قرابتهِ وغيرهم كقوله تعالى في فرعون (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) أي أتباع فرعون، وإذا ذكرت الآل والصحب، صار المراد بالآل قرابتَه المؤمنين به، أما غير المؤمنين به فليسوا من آله، لأن الله قال عن نوح في ولده (إنه ليس من أهلك) وهو ابنه من صلبه.
أما بعد: هذه كلمة يؤتى بها عند الدخول في الموضوع الذي يقصد.
• قول بعضهم أنها تقال للانتقال من أسلوب إلى آخر (وهذا قول ضعيف).
م/ فَهَذَا كِتَابٌ مُخْتَصَرٌ فِي اَلْفِقْهِ، جَمَعْتُ فِيهِ بَيْنَ اَلْمَسَائِلِ وَالدَّلَائِلِ; وَاقْتَصَرْتُ فِيهِ عَلَى أَهُمِّ اَلْأُمُورِ، وَأَعْظَمِهَا نَفْعًا، لِشِدَّةِ اَلضَّرُورَةِ إِلَى هَذَا اَلْمَوْضُوعِ، وَكَثِيرًا مَا أَقْتَصِرُ عَلَى اَلنَّصِّ إِذَا كَانَ اَلْحُكْمُ فِيهِ وَاضِحًا; لِسُهُولَةِ حِفْظِهِ وَفَهْمِهِ عَلَى اَلْمُبْتَدِئِين لِأَنَّ اَلْعِلْمَ: مَعْرِفَةُ اَلْحَقِّ بِدَلِيلِهِ.
وَالْفِقْهَ: مَعْرِفَةُ اَلْأَحْكَامِ اَلشَّرْعِيَّةِ اَلْفَرْعِيَّةِ بِأَدِلَّتِهَا مِنْ اَلْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ، وَالْإِجْمَاعِ، وَالْقِيَاسِ اَلصَّحِيحِ. وَأَقْتَصِرُ عَلَى اَلْأَدِلَّةِ اَلْمَشْهُورَةِ; خَوْفًا مِنْ اَلتَّطْوِيلِ، وَإِذَا كَانَتِ اَلْمَسْأَلَةُ خِلَافِيَّةً، اِقْتَصَرْتُ عَلَى اَلْقَوْلِ اَلَّذِي تَرْجَّحَ عِنْدِي، تَبَعًا لِلْأَدِلَّةِ اَلشَّرْعِيَّة.
فهذا كتاب مختصر في الفقه: المختصر: ما قلّ لفظه وكثر معناه.
والفقه: الفقه لغة الفهم ومنه قوله تعالى (يفقهوا قولي) وسيأتي تعريفه.
جَمَعْتُ فِيهِ بَيْنَ اَلْمَسَائِلِ وَالدَّلَائِلِ: المسائل جمع مسألة: وهي ما يحتاج إلى برهان، والدلائل جمع دليل: وهذا يشمل - عند العلماء الدليل النقلي والدليل العقلي.
وَاقْتَصَرْتُ فِيهِ عَلَى أَهُمِّ اَلْأُمُورِ، وَأَعْظَمِهَا نَفْعًا، لِشِدَّةِ اَلضَّرُورَةِ إِلَى هَذَا اَلْمَوْضُوعِ: أي أنه لم يستوعب جميع المسائل والأحكام، وإنما اقتصر على أهمها، واختار المسائل التي يعظم نفعها لضرورتها، لأن هذا الكتاب ألفه للمبتدئين في العلم.
وَكَثِيرًا مَا أَقْتَصِرُ عَلَى اَلنَّصِّ إِذَا كَانَ اَلْحُكْمُ فِيهِ وَاضِحًا; لِسُهُولَةِ حِفْظِهِ وَفَهْمِهِ عَلَى اَلْمُبْتَدِئِين: وهذه طريقة جميلة نافعة، وهي أن يورد النص على أنه حكم ومسألة، وهذا فيه فائدتين:
أولاً: معرفة الحكم الشرعي، ثانياً: معرفة الدليل.
لأن العلم معرفة الحق بدليلة: معرفة الدليل مهم جداً لطالب العلم.
• وفي معرفة الحكم بدليله لطالب العلم فوائد: أولاً: أنه يطمئن للحكم الشرعي، ثانياً: أنه يكون معه حجة من الله، ثالثاً: أنه يستطيع إقناع غيرهِ، رابعاً: أنه يعبد اللهَ على بصيرة وبرهان.
والفقه: معرفةُ الأحكام الفرعية بأدلتها من الكتاب والسنة والإجماع والقياس الصحيح.
واصطلاحاً: معرفة الأحكام الشرعية العملية بأدلتها التفصيلية
معرفة: يشمل العلم والظن، لأن إدراك الأحكام الشرعية بعضه علمي وبعضه ظني.
فمعرفة الصلوات الخمس هذا علم، ومعرفة أن الوتر سنة على مذهب الجمهور، هذا ظن.
الأحكام الشرعية: المراد الأحكام المتلقاة من الشرع، خرج بذلك الأحكام العقلية، كمعرفة أن الكل أكبر من الجزء، وكمعرفة أن الواحد نصف الاثنين، والأحكام الحسية كمعرفة أن النار حارة، والعادية كنزول المطر بعد الرعد والبرق.
الفرعية: كالصلاة والحج والبيوع
…
الخ، فخرج بذلك المسائل العملية كالتوحيد.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
بأدلتها التفصيلية: احترازاً من أصول الفقه، لأن البحث في أصول الفقه في أدلة الفقه الإجمالية.
مثال: يشترط لصحة الوضوء النية لحديث: إنما الأعمال.
قراءة الفاتحة ركن في الصلاة لحديث: لا صلاة لمن لم يقرأ
…
وأما في أصول الفقه فمثال: كل من عمل عملاً ناقص الشروط فعمله باطل (هذا أصول الفقه).
الأمر يقتضي الوجوب وهكذا النهي، النسخ - القياس.
فالفقيه يبحث في الأدلة التفصيلية الجزئية، ليستنبط الأحكام المحددة المعينة منها، مستعيناً بالأدلة الإجمالية.
• فمراد المؤلف هنا بالفقه هو الفقه الاصطلاحي.
وأقتصر على الأدلة المشهورة خوفاً من التطويل: أي أنه سوف يقتصر على الدليل المعروف المشهور، فلا يأت بأدلة غير مشهورة التي يعرفها فقط طلاب العلم، لأن الكتاب مختصر.
وإذا كانت المسألة خلافية، اقتصرت على القول الذي ترجح عندي، تبعاً للأدلة الشرعية: أي إذا كانت المسألة فيها خلاف بين العلماء على عدة أقوال، فإنه سوف يقتصر على قول واحد، وهذا القول هو الراجح عنده الذي يؤيده الدليل، فليس هو مقلد لمذهب معين، أو لعالم معين، وإنما متبع للدليل.
م/ الأحكام الخمسة: اَلْوَاجِبُ: وَهُوَ مَا أُثِيبَ فَاعِلُهُ، وَعُوقِبَ تَارِكُهُ. وَالْحَرَامُ: ضِدَّهُ. وَالْمَكْرُوهُ: مَا أُثِيبَ تَارِكُهُ، وَلَمْ يُعَاقَبْ فَاعِلُهُ. وَالْمَسْنُونُ: ضِدَّهُ. وَالْمُبَاحُ: وَهُوَ اَلَّذِي فِعْلُهُ وتَرْكُهُ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ.
الأحكام الخمسة: أي الأحكام التكليفية.
ثم ذكرها فقال:
الواجب: وهو ما أثيب فاعله وعوقبَ تاركهُ: هذا تعريفه بالحكم لا بالحد، فإنه ليس الواجب هو: ما أثيب فاعله
…
، وإنما هذا حكم الواجب، وأما تعريفه بالحد: فهو ما أمر به الشارع على وجه الإلزام.
ما أمر به الشارع: خرج بقولنا ما أمر به الشارع: المحرم والمكره والمباح، فهذه الثلاثة غير مأمور بها.
• الشارع. هو الله أو رسوله صلى الله عليه وسلم. وقد قال تعالى (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً)، والرسول مبلغ عن الله سبحانه.
قولنا: على وجه الإلزام: خرج بذلك المندوب، لأنه مأمور به لكن ليس على وجه الإلزام.
حكم الواجب: هو ما ذكره المؤلف: يثاب فاعله امتثالاً ويستحق العقاب تاركه.
• فلا بد من قول (امتثالاً) لأنه لا ينال الأجر إلا إذا فعله امتثالاً لله تعالى.
الحرام: ضده يثاب تاركه ويعاقب فاعله: وهذا تعريف بالحكم لا بالحد، وأما تعريفه بالحد فهو: ما نهى عنه الشارع على وجه الإلزام بالترك، مثاله: كعقوق الوالدين وشرب الخمر، والأقوال: كالغيبة، والنميمة، والكذب.
ما نهى عنه الشارع: يخرج الواجب والمندوب.
على وجه الإلزام بالترك: خرج به المكروه.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أما حكمه فهو ما ذكره المؤلف: يثاب تاركه امتثالاً ويستحق العقاب فاعله.
فلابد من قيد (امتثالاً)، مثاله: رجل همّ بالمحرم لكنه تذكر عظمة الله وعقابه فتركه لذلك، فهذا يثاب.
عن ابن عباس رضي الله عنهما. عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى قال (إن الله كتب الحسنات والسيئات، ثم بيّن ذلك، فمن همّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن هم بها فعملها، كتبها عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن هم بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة) رواه البخاري ومسلم.
وفي رواية لمسلم (إنما ترك ذلك من جرائي) أي من أجلي.
مثل قصة الذي همّ بابنة عمه بسوء فتركها لله، فأجاب الله دعاءه وفرج همه فانفرجت الصخرة.
• لكن لو أن رجلاً تمنى المحرم، ولم يفعل أسبابه، فإن هذا يعاقب على النية.
دليل ذلك حديث أبي كبشة الأنماري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (
…
ورجل آتاه الله مالاً ولم يؤته علماً، فهو يخبط في ماله ينفقه في غير حقه، ورجل لم يؤته الله مالاً ولا علماً وهو يقول: لو كان لي مثل هذا عملتُ فيه مثل الذي يعمل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فهما في الوزر سواء). رواه ابن ماجه.
ثالثاً: رجل همّ بالمحرم وسعى في أسبابه ولكنه لم يتمكن ذلك، فهذا يعاقب عقوبة الفاعل.
دليل ذلك حديث أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قلت: يا رسول الله، هذا القاتل فما بال المقتول في النار؟ قال: إنه حريصاً على قتل صاحبه). متفق عليه.
المسنون: وهو ما أثيب فاعله ولم يعاقب تاركه: هذا تعريف بالحكم، أما تعريفه بالحد: فهو ما أمر به الشارع لا على وجه الإلزام كالسنن الرواتب.
وأما حكمه فكما ذكر المؤلف: يثاب فاعله امتثالاً ولا يعاقب تاركه، فلو فعله لا امتثالاً، فلا يثاب عليه.
مثاله: رجل اغتسل يوم الجمعة للتنظف فقط لا امتثالاً لأمر الله، فإنه لا يثاب.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ولا يعاقب تاركه لا في الدنيا ولا في الآخرة، أما في الآخرة فظاهر، فإن الله لا يعاقب على أمر رخص لعباده فيه، وأما في الدنيا فلا يعاقب عليه، فلا يعزره السلطان عليه، لأنه ليس واجب.
• والمسنون له فوائد، فهو يسد الخلل الذي يكون في الفرائض، كما في الحديث (أول ما يحاسب عليه العبد من أعماله صلاته، فإن صلحت، كتبت تامة، وإن نقصت، قال الله: انظروا لعبدي هل له من تطوع؟
…
الحديث).
وسبب لمحبة الله لحديث (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه
…
) رواه البخاري.
المكروه: ضده يثاب تاركه ولا يعاقب فاعله: وتعريفه بالحد: هو ما طلب الشارع تركه لا على وجه الجزم والإلزام.
قوله: لا على وجه الإلزام: يخرج به المحرم، فإنه مما طلب الشارع تركه على وجه الإلزام.
وأما حكمه فكما ذكره المؤلف: يثاب تاركه امتثالاً ولا يعاقب فاعله.
المباح: هو الذي فِعلهُ وتركُهُ على حدٍ سواء: وعرفه بعضهم بقوله: ما لا يتعلق به أمر ولا نهي لذاته كالاغتسال للتبرد والمباشرة ليالي الصيام.
م/ وَيَجِبُ عَلَى اَلْمُكَلَّفِ أَنْ يَتَعَلَّمَ مِنْه كُلَّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي عِبَادَاتِهِ وَمُعَامَلَاتِهِ.
أي أنه يجب على المكلف أن يتعلم من الفقه ما يحتاجه كأمور الطهارة والصلاة وغيرها، لأن تعلم الفقه ينقسم إلى قسمين:
فرض عين: وهو ما يحتاج إليه في عباداته ومعاملاته. كالطهارة والصلاة والحج إذا أراد الحج.
فرض كفاية: بقية المسائل، فهي فرض كفاية.
م/ قَالَ صلى الله عليه وسلم (مَنْ يُرِدِ اَللَّهَ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي اَلدِّينِ). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
هذا الحديث فيه الفضل الكبير في تعلم الفقه.
قال النووي: " فيه فضيلة العلم والتفقه في الدين والحث عليه، وسببه أنه قائد إلى تقوى الله ".
وقال ابن القيم: " وهذا يدل على أن من لم يفقهه في دينه لم يرد به خيراً، كما أن من أراد به خيراً فقّهه في دينه، ومن فقّهه في دينه فقد أراد به خيراً إذا أريد بالفقه العلم المستلزم للعمل ".
وقال ابن حجر: " ومفهوم الحديث: أن من لم يتفقه في الدين- أي تعلم قواعد الإسلام وما يتصل به من الفروع - فقد حرم الخير ".
فصل
م/ قال النبي صلى الله عليه وسلم (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان).
فَشَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ: عِلْمُ اَلْعَبْدِ وَاعْتِقَادِهِ وَالْتِزَامِهِ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ اَلْأُلُوهِيَّةَ وَالْعُبُودِيَّةَ إِلَّا اَللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.
فَيُوجِبُ ذَلِكَ عَلَى اَلْعَبْدِ: إِخْلَاصَ جَمِيعِ اَلدِّينِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَأَنْ تَكُونَ عِبَادَاتُهُ اَلظَّاهِرَةُ وَالْبَاطِنَةُ كُلُّهَا لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَأَنْ لَا يُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا فِي جَمِيعِ أُمُورِ اَلدِّينِ.
وَهَذَا أَصْلُ دِينِ جَمِيعِ اَلْمُرْسَلِينَ وَأَتْبَاعِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:(وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ).
هذا الحديث معناه: أن الإسلام بني على هذه الخمس، فهذه الخمس كالأركان والدعائم لبنيانه، والمقصود تمثيل الإسلام ببنيانه، ودعائمه هذه الخمس، فلا يثبت البنيان بدونها.
فأول هذه الأركان الشهادتين:
شهادة أن لا إله إلا الله: معناها لا معبود بحق إلا الله.
عِلْمُ اَلْعَبْدِ وَاعْتِقَادِهِ وَالْتِزَامِهِ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ اَلْأُلُوهِيَّةَ وَالْعُبُودِيَّةَ إِلَّا اَللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ:، فكل آلهة سوى الله باطلة ولا تستحق العبادة، لأنه هو الذي خلقنا ورزقنا وأوجدنا وأنعم علينا وكل خير في الوجود منه سبحانه وتعالى.
بل إنه سبحانه وبخ من عبد غيره، وأن هذه المعبودات ضعيفة لا تقدر على خلق أصغر الأشياء.
قال تعالى (أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ. وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ).
المعنى الإجمالي: قوله (أيشركون) الاستفهام للاستنكار والتوبيخ.
قال المفسرون في هذه الآية: هذا توبيخ وتعنيف للمشركين في عبادتهم مع الله تعالى ما لا يخلق شيئاً وهم يخلقون.
وقد بين الله تعالى في هذه الآية صفات هؤلاء المعبودين من دون الله، وهي أربعة:
أنهم لا يخلقون شيئاً - أنهم مخلوقون مربوبون - أنهم لا يستطيعون لهم نصراً - أنهم لا ينصرون أنفسهم.
وقال تعالى (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ. إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ).
معنى الآية: يخبر تعالى عن حال المدعوين من دونه ـ من الملائكة والأنبياء والأصنام وغيرها ـ مما يدل على عجزهم وضعفهم، وأنهم قد انتفت عنهم الأسباب التي تكون في المدعو، وهي:
الملك، وسماع الدعاء، والقدرة على الاستجابة، فمتى لم توجد هذه الشروط تامّة بطلت دعوته، فكيف إذا عدمت بالكلية.
وقال تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ).
فَـ: إذا علم العبد ذلك وأيقن به.
يُوجِبُ ذَلِكَ عَلَى اَلْعَبْدِ: إِخْلَاصَ جَمِيعِ اَلدِّينِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَأَنْ تَكُونَ عِبَادَاتُهُ اَلظَّاهِرَةُ وَالْبَاطِنَةُ كُلُّهَا لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَأَنْ لَا يُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا فِي جَمِيعِ أُمُورِ اَلدِّينِ.
وَهَذَا أَصْلُ دِينِ جَمِيعِ اَلْمُرْسَلِينَ وَأَتْبَاعِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:(وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ).
أي: فإذا علمت أن المستحق للعبادة هو الله سبحانه وتعالى، أوجب ذلك إخلاص الدين كله لله تعالى، ولا يشرك مع الله أحداً كائناً من كان.
قال تعالى (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) وقال تعالى (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ).
فمن أهم شروط قبول العمل أن يكون خالصاً لوجه تبارك وتعالى كما قال صلى الله عليه وسلم (إنما الأعمال بالنيات).
ولذلك قال تعالى (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ) لا إلى ملك أو حظ أو مال أو شهرة أو مدح أو شأن من شؤون الدنيا.
وهذا أصل جميع دين الرسل.
كما قال تعالى (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ).
وقال تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ).
وقال تعالى (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) قال ابن كثير: أي لا نعبد إلا إياك، ولا نتوكل إلا عليك، وهذا هو كمال الطاعة، والدين كله يرجع إلى هذين المعنيين، ..... فالأول تبرؤ من الشرك، والثاني تبرؤ من الحول والقوة والتفويض إلى الله عز وجل.
قال ابن القيم: "وكثيراً ما كنت أسمع شيخ الإسلام ابن تيمية يقول (إياك نعبد) تدفع الرياء (وإياك نستعين) تدفع الكبر".
م/ وَشَهَادَةُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اَللَّهِ: أَنَّ يَعْتَقِدَ اَلْعَبْدُ أَنَّ اَللَّهَ أَرْسَلَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم إِلَى جَمِيعِ اَلثَّقَلَيْنِ - اَلْإِنْسِ وَالْجِنِّ - بَشِيرًا وَنَذِيرًا، يَدْعُوهُمْ إِلَى تَوْحِيدِ اَللَّهِ وَطَاعَتِهِ، بِتَصْدِيقِ خَبَرِهِ، وَامْتِثَالِ أَمْرِهِ، وَاجْتِنَابِ نَهْيِهِ، وَأَنَّهُ لَا سَعَادَةَ وَلَا صَلَاحَ فِي اَلدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إِلَّا بِالْإِيمَانِ بِهِ وَطَاعَتِهِ، وَأَنَّهُ يَجِبُ تَقْدِيمُ مَحَبَّتِهِ عَلَى مَحَبَّةِ اَلنَّفْسِ وَالْوَلَدِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ.
وَأَنَّ اَللَّهَ أَيَّدَهُ بِالْمُعْجِزَاتِ اَلدَّالَّةِ عَلَى رِسَالَتِهِ، وَبِمَا جَبَلَهُ اَللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ اَلْعُلُومِ اَلْكَامِلَةِ، وَالْأَخْلَاقِ اَلْعَالِيَةِ، وَبِمَا اِشْتَمَلَ عَلَيْهِ دَيْنُهُ مِنْ اَلْهُدَى وَالرَّحْمَةِ وَالْحَقِّ، وَالْمَصَالِحِ اَلدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ
وَآيَتُهُ اَلْكُبْرَى: هَذَا اَلْقُرْآنُ اَلْعَظِيمُ، بِمَا فِيهِ مِنْ اَلْحَقِّ فِي اَلْأَخْبَارِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ.
شهادة أن محمداً رسول الله تتضمن عدة أمور لكي يحققها، فليست كلمة تقال أو تذاع:
فأول مقتضيات هذه الشهادة:
أولاً: الإيمان أن الله أرسله إلى جميع الثقلين يدعوهم إلى توحيد الله.
فمحمد صلى الله عليه وسلم دعوته عامة لكل البشر، ومن قال إنها خاصة للعرب فقط فهو كافر، ومن قال إنه ليس برسول فهو كافر.
والأدلة على رسالته وعلى عموم رسالته كثيرة جداً.
قوله تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً)
وقوله تعالى (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً).
وقوله تعالى (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً).
وقوله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار). رواه مسلم
وفي صحيح مسلم قال صلى الله عليه وسلم: (وأرسلت إلى الخلق كافة).
وجاء في صحيح مسلم: (وبعثت إلى كل أحمر وأسود).
ثانياً: وامتثال أمره وأنه لا سعادة ولا صلاح في الدنيا والآخرة إلا بالإيمان به وبطاعته.
كما أمرنا الله بذلك فقال (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).
وقال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ).
وقال تعالى (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقال تعالى (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا). فعلى قدر طاعتك للرسول صلى الله عليه وسلم تكون هدايتك.
وقال صلى الله عليه وسلم (من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني دخل النار) رواه البخاري.
وقال صلى الله عليه وسلم (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم).
ثالثاً: وأنه لا سعادةَ ولا صلاحَ في الدنيا والآخرة إلا بالإيمان به وبطاعته، كما قال تعالى (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ).
فكل ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم فهو خير في العاجل والآجل، وكل ما نهى عنه فهو شر في العاجل والآجل
رابعاً: وأنه يجب تقديم محبته على النفس والولد والناسِ أجمعين.
لحديث أنس. قال: قال صلى الله عليه وسلم (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده) متفق عليه.
فمن علامات الإيمان الكامل محبة النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من كل الناس حتى من النفس.
ولذا لما قال عمر للنبي صلى الله عليه وسلم: أنت أحبّ إليّ من كل شيء إلا من نفسي، فقال: لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك، فقال عمر: والله لأنت أحب إليّ من نفسي، قال: الآن يا عمر.
(الآن يا عمر) قال العيني: يعني كمل إيمانك.
فيجب تقديم محبة الرسول صلى الله عليه وسلم على النفوس، والأولاد، والأقارب، والأهلين، والأموال، والمساكن، وغير ذلك مما يحبه الإنسان غاية المحبة.
وقد توعد الله عز وجل من قدم شيئاً من الدنيا [من أهل أو ولد أو مال] على محبة الله ورسوله فقال سبحانه (قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ).
قال القرطبي في تفسيره: وفي الآية دليل على وجوب حب الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ولا خلاف في ذلك، وأن ذلك مقدم على كل محبوب.
• ومن أعظم ثمرات محبة النبي صلى الله عليه وسلم، أن ذلك من أسباب حلاوة الإيمان.
كما في الحديث السابق (ثلاث من كن فيه ...... ).
وأنه يحشر معه كما قال صلى الله عليه وسلم (المرء مع من أحب) متفق عليه.
م/ وأن اللهَ وَأَنَّ اَللَّهَ أَيَّدَهُ بِالْمُعْجِزَاتِ اَلدَّالَّةِ عَلَى رِسَالَتِهِ، وَبِمَا جَبَلَهُ اَللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ اَلْعُلُومِ اَلْكَامِلَةِ، وَالْأَخْلَاقِ اَلْعَالِيَةِ، وَبِمَا اِشْتَمَلَ عَلَيْهِ دَيْنُهُ مِنْ اَلْهُدَى وَالرَّحْمَةِ وَالْحَقِّ، وَالْمَصَالِحِ اَلدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ.
المعجزات: جمع معجزة وهي الأمر الخارق للعادة، ولو عبر المؤلف بالآية لكان أولى من التعبير بالمعجزات، لأمرين:
أولاً: أن هذا هو اللفظ الموافق للقرآن كما قال تعالى (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ) وقال تعالى (وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ) وقال صالح لقومه (هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً).
ثانياً: أن المعجزة هي الأمر الخارق للعادة، فتكون من النبي وغير النبي.
أي ونؤمن أن الله أيد النبي صلى الله عليه وسلم بالمعجزات كانشقاق القمر، وحادثة الإسراء والمعراج، وحنين الجذع، ونبع الماء من بين أصابعه الشريفة، وكلام الذراع، وتسبيح الطعام، وغير ذلك مما تواترت به الأخبار الصحيحة.
• ومعجزاته صلى الله عليه وسلم تنقسم إلى قسمين:
قسم منها ما يكون من قبيل المعجزة، وقسم منها ليس بمعجز.
المعجز منها: كالقرآن وكنبع الماء من بين أصابعه وتكثير الطعام وانقياد الشجر كما في حديث جابر عند مسلم. وغير ذلك مما نقل وعرف.
وغير المعجز: كما يعرف ذلك بوجه صلى الله عليه وسلم، كما قال ابن سلام فما أن رأيت وجهه عرفت أن وجه ليس بوجه كذاب) وكذا ما عرف عنه من الأمانة والصدق قبل أن يبعث وبعد ما بعث إلى ذلك من شمائله التي هي من دلائل نبوته كما قال تعالى (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ).
م/ وَآيَتُهُ اَلْكُبْرَى: هَذَا اَلْقُرْآنُ اَلْعَظِيمُ، بِمَا فِيهِ مِنْ اَلْحَقِّ فِي اَلْأَخْبَارِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ.
أعظم معجزات النبي صلى الله عليه وسلم هي: القرآن العظيم.
كما قال صلى الله عليه وسلم (مَا مِنَ الأَنْبِيَاءِ مِنْ نَبِىٍّ إِلاَّ قَدْ أُعْطِىَ مِنَ الآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِى أُوتِيتُ وَحْياً أَوْحَى اللَّهُ إِلَىَّ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعاً يَوْمَ الْقِيَامَةِ).
قال في الفتح: " أي إن معجزتي التي تحديت بها الوحي الذي أنزل عليّ، وهو القرآن، لما اشتمل عليه من الإعجاز الواضح، وليس المراد حصر معجزاته فيه، ولا أنه لم يؤت من المعجزات ما أوتي من تقدمه، بل المراد أن القرآن هو المعجزة العظمى التي اختص بها دون غيره ".
• من أهم الفروق بين معجزة القرآن العظيم، ومعجزات الأنبياء:
أولاً: أن معجزة القرآن الكريم مستمرة إلى يوم الدين، ومعجزات الأنبياء قد انقرضت بانقراض أعصارهم، فلم يشاهدها إلا من حضرها.
ثانياً: أن القرآن العظيم خارق للعادة في أسلوبه وبلاغته وإخباره بالمغيبات، فلا يمر عصر من الأعصار، إلا ويظهر فيه شيء مما أخبر به، ولا يوجد هذا في غيره من المعجزات.
ثالثاً: أن المعجزات الماضية كانت حسية، تُشاهد بالأبصار كناقة صالح، وعصا موسى، ومعجزة القرآن تشاهد بالبصيرة، فيكون من يتبعه لأجلها أكثر، لأن الذي يشاهد بعين الرأس ينقرض بانقراض مشاهدته، والذي يشاهد بعين العقل باقٍ، يشاهده كل من جاء بعد الأول مستمراً.
• ولذلك وقع التحدي في هذا القرآن على وجوه:
الوجه الأول: تحداهم بالقرآن كله.
كما قال تعالى (قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً).
الوجه الثاني: تحداهم أن يأتوا بعشر سور من مثله.
كما قال تعالى (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ).
الوجه الثالث: تحداهم أن يأتوا بسورة من مثله.
كما قال تعالى (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ).
كِتَابُ اَلطَّهَارَةِ
بدأ المؤلف بكتاب الطهارة.
أولاً: لأن الطهارة شرط لصحة الصلاة لقوله تعالى (إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا
…
).
ثانياً: أن الطهارة تخلية وتنظيف والتخلية قبل التحلية.
ثالثاً: لأجل أن يتذكر المتعلم بتطهير بدنه تطهير نيته وقلبه لله عز وجل.
تعريف الطهارة:
الطهارة لغة: النظافة والنزاهة عن الأقذار الحسية والمعنوية.
فالأقذار الحسية: كالبول ونحوه، والمعنوية: كالشرك والحسد والبغض وأمراض القلوب وكل خلق ذميم.
واصطلاحاً: ارتفاع الحدث وما في معناه وزوال الخبث.
الحدث: هو الوصف القائم بالبدن من المانع من الصلاة ونحوها مما يشترط له الطهارة، ويدخل في هذا الوصف البول والريح وأكل لحم الإبل.
وما في معناه: أي وارتفاع ما في معنى ارتفاع الحدث، كتجديد الوضوء، فهو طهارة، وكذا الأغسال المسنونة.
وزوال الخبث: أي النجاسة، فإذا وقعت على ثوبه نجاسه فطهرها، هذه تسمى طهارة.
م/ وَأَمَّا اَلصَّلَاةُ: فَلَهَا شُرُوطٌ تَتَقَدَّمُ عَلَيْهَا، فَمِنْهَا: اَلطَّهَارَةُ: كَمَا قَالَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (لَا يَقْبَلُ اَللَّهُ صَلَاةً بِغَيْرِ طَهُورٍ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. فَمَنْ لَمْ يَتَطَهَّرْ مِنَ اَلْحَدَثِ اَلْأَكْبَرِ وَالحَدَثِ الأَصْغَرِ وَالنَّجَاسَةِ فَلَا صَلَاةَ لَهُ.
الطهارة شرط من شروط الصلاة، فلا تصح الصلاة بدون وضوء للحديث الذي ذكره المؤلف.
ولقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ).
ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ).
قال النووي: " أجمعت الأمة على أن الطهارة شرط في صحة الصلاة ".
وقال رحمه الله: " وأجمعت الأمة على تحريم الصلاة بغير طهارة من ماء أو تراب، ولا فرق بين الصلاة المفروضة والنافلة".
• فمن صلى بغير وضوء ناسياً أو جاهلاً فصلاته باطلة يجب عليه أن يعيد الصلاة، حتى لو تذكر بعد مدة طويلة.
• وكذلك من انتقض وضوءه أثناء الصلاة، فإنه يجب عليه أن يخرج من الصلاة ولا يجوز له إكمالها، حتى ولو كان إماماً؛ فإنه يجب أن يقطع الصلاة - من غير تسليم - ويقدم أحداً يصلي بهم.
• لا فرق بين صلاة الفريضة والنافلة والجنازة.
خلافاً لمن قال: إنها - أي صلاة الجنازة - تصح بلا وضوء ولا تيمم.
قال ابن القيم: " صلاة الجنازة صلاة، لأن تحريمها التكبير وتحليلها التسليم ".
• الحدث الأكبر: هو ما يوجب الغسل، كالحيض، والجنابة، والنفاس.
• الحدث الأصغر: هو ما يوجب الوضوء، كالبول، والغائط، وسائر نواقض الوضوء.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
• وإن صلى وعليه نجاسة فلا تصح صلاته، لأن إزالة النجاسة شرط لصحة الصلاة، في ثوبه وفي بدنه وفي بقعته.
في بقعته:
لحديث أنس قال: (جاء أعرابي فبال في طائفة المسجد، فزجره الناس، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قضى بوله أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذنوب من ماء فأهريق عليه) متفق عليه بذنوب: الذنوب الدلو الملآن.
في ثوبه:
لحديث أبي سعيد الخدري: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خلع نعليه وهو يصلي لما أخبره جبريل أن فيهما أذى). رواه أبو داود
ولقوله تعالى: (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) على أن المراد بالثياب هنا الثياب المعروفة، واختاره الطبري.
في بدنه:
لحديث ابن عباس قال: (مرّ النبي صلى الله عليه وسلم على قبرين فقال: إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير
…
وأما أحدهما فكان لا يستنزه من بوله). متفق عليه.
وقال صلى الله عليه وسلم: (تنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه) رواه الدار قطني
وكذلك الأدلة على وجوب الاستنجاء والاستجمار، لأن ذلك تطهير للمحل الذي أصابته النجاسة.
فإن صلى وعليه نجاسة:
• فإن كان عامداً فصلاته باطلة، لأن إزالة النجاسة شرط لصحة الصلاة.
مثال: إنسان صلى وعلى ثوبه نجاسة يراها ويعلم بها، فصلاته باطلة.
• وإن صلى وعليه نجاسة وكان ناسياً أو جاهلاً فصلاته صحيحة، وهذا مذهب جمهور العلماء، وهو اختيار ابن تيمية.
كمن رأى نجاسة لكن نسي أن يغسلها قبل الصلاة، أو جهل أنها نجاسة.
لحديث أبي سعيد الخدري قال: (بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه إذ خلع نعليه فوضعهما على يساره، فخلع الناس نعالهم، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته قال: ما حملكم على إلقائكم نعالكم؟ قالوا: رأيناك ألقيت نعالك فألقينا نعالنا، قال: إن جبريل أتاني فأخبرني أن فيهما قذراً).
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعد أول صلاته التي صلاها مع وجود النجاسة في النعل، لأنه كان جاهلاً وجودها، فدل ذلك على أن من صلى بالنجاسة ناسياً أو جاهلاً فصلاته صحيحة. [قاله ابن قدامه]
م/ والطَّهَارَةُ نَوعَان: أَحَدُهُمَا الطَّهَارَةُ بِالمَاءِ، وَهِيَ الأَصْلُ.
الطهارة نوعان، بالماء وهي الأصل.
وطهارة بالتراب وهي التيمم، وهي بدل عنه إذا عدم الماء أو عجز عن استعماله (وستأتي مباحث التيمم).
والدليل على أن الماء هو الأصل قول الله تعالى ( .... أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا .. ) فنص على الماء أولاً، وعند فقده يرجع إلى التيمم بالتراب.
م/ فَكُلُّ مَاءٍ نَزَلَ مِنَ اَلسَّمَاءِ، أَوْ نَبَعَ مِنْ اَلْأَرْضِ، فَهُوَ طَهُورٌ، يُطَهِّرُ مِنَ اَلْأَحْدَاثِ وَالْأَخْبَاثِ. وَلَوْ تَغَيَّرَ لَوْنُهُ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ بِشَيْءٍ طَاهِرٍ، كَمَا قَالَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:(إِنَّ اَلْمَاءَ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ). رَوَاهُ أَهْلُ اَلسُّنَنِ وَهُوَ صَحِيحٌ.
فَإِنْ تَغَيَّرَ أَحَدُ أَوْصَافِهِ بِنَجَاسَةٍ فَهُوَ نَجِسٌ، يَجِبُ اِجْتِنَابُهُ.
ذكر المؤلف رحمه الله النوع الأول من أنواع الماء؛ وهو الطهور، لأن الماء ينقسم إلى قسمين - على القول الراجح - طهور ونجس، فلا يوجد قسم ثالث، فهو إما طهور أو نجس.
وما ذكره المؤلف هو القول الراجح من أقوال أهل العلم أن الماء ينقسم إلى قسمين (طهور ونجس) وهذا اختيار ابن تيمية وابن القيم.
لحديث: (إن الماء طهور) فهذا الحديث يحكم للماء بالطهورية، وأن الماء طهور، وهذا العموم خص منه بالإجماع: إذا وقعت فيه نجاسة فغيرت لونه أو طعمه أو ريحه فإنه نجس بالإجماع.
قال ابن المنذر: " أجمع أهل العلم على أن الماء القليل أو الكثير إذا وقعت فيه نجاسة فغيرت النجاسة الماء طعماً أو لوناً أو ريحاً أنه نجس ما دام كذلك ".
فمن أنواع الطهور:
النازل من السماء.
كما قال تعالى: (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ).
النابع من الأرض. كمياه العيون والآبار والأنهار والبحار.
لحديث أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في ماء البحر - (هو الطهور ماؤه الحل ميتته) رواه أبو داود.
ولحديث أبي سعيد قال: (قيل: يا رسول الله؛ أنتوضأ من بئر بضاعة [وهي بئر يلقى فيها الحيض ولحوم الكلاب والنتن] فقال صلى الله عليه وسلم: إن الماء طهور لا ينجسه شيء) رواه أبو داود وأحمد
وفي حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟
…
) متفق عليه.
قول المصنف (ولو تغير لونُه أو طعمُه أو ريحُه بشيءٍ طاهر) ظاهره ولو كثر هذا الطاهر الذي تغير به، لكن هذا مقيد بما إذا لم يغلب عليه، فإن غلب عليه التغير، بحيث سلبه اسم الماء المطلق فحينئذ ليس بماء.
مثال: عندنا إناء فيه ماء فوضع فيه إنسان شيء من الشاي فتغير لونه إلى أحمر - هنا تغير بشيء طاهر - فسلبه اسم الماء المطلق، هذا الماء لا يرفع الحدث ولا يزيل الخبث، لأنه انتقل من الماء المطلق ويسمى بما تغير فيه، فيسمى شاي.
قول المصنف (فإن تغيّر أحد أوصافه بنجاسة) سواء طعمه أو لونه أو ريحه، ولا يشترط اجتماع هذه الثلاث.
الطهور: هو الماء الذي لم تتغير أوصافه بحيث تسلبه الطهورية.
م/ والأَصْلُ فِي الأَشْياءِ الطَّهَارَة وَالإِبَاحَة.
فالأصل في الأشياء: كالمياه والأرض والثياب والحجارة؛ الأصل الطهارة والإباحة.
ففي الماء: فإذا وجد عندنا ماء ولا نعلم هل هو طاهر أو نجس، فالأصل الطهارة.
دليل هذه القاعدة:
قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً).
فساق الآية مساق الامتنان، وغايته الحل والإباحة، كما قال القرطبي.
قال في تفسير المنان: " وهذه هي نص الدليل القطعي على القاعدة المعروفة عند الفقهاء: أن الأصل في الأشياء المخلوقة الإباحة، والمراد إباحة الانتفاع بها أكلاً وشرباً ولباساً وتداوياً وركوباً وزينة ".
وقال صلى الله عليه وسلم: (ما أحله الله فهو حلال، وما حرمه فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو).
قال السعدي في منظومته:
والأصلُ في مياهنا الطهارةْ
…
والأرض والثياب والحجارةْ
قال صلى الله عليه وسلم: (إن الماء طهور لا ينجسه شيء).
ودليل طهارة الأرض قوله صلى الله عليه وسلم: (وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما مسلم أدركته الصلاة فعنده مسجده وطهوره). رواه مسلم
وكذلك الثياب: ودليل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته - رضوان الله عليهم - كانوا يلبسون الثياب التي يصنعها الكفار وينسجونها ولا يغسلونها، فدل ذلك على أن الأصل فيها الطهارة.
ويندرج تحت هذه القاعدة أشياء كثيرة:
المعاملات من بيع وإجارة ورهن، وكذلك الأطعمة من حيوانات ونباتات وزروع وثمار وطيور، والألبسة من قطن وصوف وشعر.
• أما العبادات فالأصل فيها المنع والحظر، لقوله تعالى (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ).
ولقوله صلى الله عليه وسلم (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) متفق عليه.
م/ فَإِذَا شَكَّ اَلْمُسْلِمُ فِي نَجَاسَةِ مَاءٍ أَوْ ثَوْبٍ أَوْ بُقْعَةٍ، أَوْ غَيْرِهَا: فَهُوَ طَاهِرٌ.
مثال: عنده ماء طاهر، وشك هل تنجس أم لا؛ فالأصل أنه طاهر.
مثال آخر: عنده ثوب طاهر، فشك هل أصابته نجاسة أم لا؛ فالأصل أنه طاهر.
مثال آخر: شك في بقعة هل أصابتها نجاسة؛ فالأصل أنها طاهرة. (جعلت الأرض مسجداً وطهوراً).
ودليل ذلك:
حديث عبد الله بن زيد قال: (شكى إلى النبي صلى الله عليه وسلم الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة، قال صلى الله عليه وسلم: لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً). متفق عليه
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا وجد أحدكم في بطنه شيئاً، فأشكل عليه أخرج منه شيء أم لا؛ فلا يخرجن من المسجد حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً). رواه مسلم
قال النووي: " هذا الحديث أصل من أصول الإسلام وقاعدة عظيمة من قواعد الفقه، وهي أن الأشياء يحكم ببقائها على أصولها حتى تتيقن خلاف ذلك ولا يضر الشك الطارئ عليها ".
وقال صلى الله عليه وسلم لمن شك في صلاته: (فليطرح الشك وليبن على اليقين).
وللقاعدة: [اليقين لا يزول بالشك]. الأصل بقاء ما كان على ما كان ما لم يتيقن ضد ذلك.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " الاحتياط بمجرد الشك في أمور المياه ليس مستحباً ولا مشروعاً، بل ولا يستحب السؤال عن ذلك، بل إن المشروع أن يبقى الأمر على الاستصحاب، فإن قام دليل على النجاسة نجّسناه، وإلا فلا يستحب أن يجتنب استعماله بمجرد احتمال النجاسة ".
م/ أَوْ تَيَقَّنَ اَلطَّهَارَةَ وَشَكَّ فِي اَلْحَدَثِ: فَهُوَ طَاهِرٌ; لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي اَلرَّجُلِ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَجِدُ اَلشَّيْءَ فِي اَلصَّلَاةِ: (لَا يَنْصَرِفْ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
مثال: الوضوء، فلو أن إنسان توضأ لصلاة العصر، ثم شك هل انتقض وضوءه أم لا، فإنه يعتبر نفسه متوضئاً ويبني على ذلك، لأنه الأصل المتيقن للحديث السابق.
لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا وجد أحدكم في بطنه شيئاً، فأشكل عليه أخرج منه شيء أم لا؛ فلا يخرجن من المسجد حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً). رواه مسلم والمراد حتى يتيقن.
وكذلك من شك في طلاق امرأته، فإنه يبني على الأصل المتيقن وهو بقاء الزوجة.
وكذلك من شك في حصول الرضاع بينه وبين امرأة أجنبية، فيبني على الأصل المتيقن وهو كونها أجنبية عنه.
وهذا مذهب جماهير العلماء، قال النووي:"ولا فرق بين حصول هذا الشك في نفس الصلاة وحصوله خارج الصلاة ".
• وإذا تيقن الحدث وشك في الطهارة فإنه يلزمه الوضوء بإجماع المسلمين. [قاله النووي]
مثال: إنسان أكل لحم إبل، فلما أذن العصر شك هل توضأ أم لا، فالأصل أنه على غير وضوء وأنه يلزمه الوضوء لأنه الأصل.
بَابُ اَلْآنِيَةِ
الآنية جمع إناء، كسقاء وأسقية، والإناء هو الوعاء، والمراد هنا: الآنية التي يكون فيها ماء الوضوء.
م/ وَجَمِيعُ اَلْأَوَانِي مُبَاحَةٌ.
أي جميع الأواني من خشب، أو جلود، أو صُفر، أو حديد، أو خزف، يباح اتخاذها واستعمالها.
• الاتخاذ: أن يقتنيه فقط، إما للزينة أو لاستعماله في حالة الضرورة، أو للبيع فيه والشراء.
• الاستعمال: فهو التلبس بالانتفاع فيه، فيستعمله فيما يناسبه.
والدليل على أن جميع الأواني مباحة دليل عام ودليل خاص.
أما الدليل العام فسبق أن الأصل في الأشياء الإباحة.
وأما الدليل الخاص:
فقد ثبت عن النبي (أنه صلى الله عليه وسلم اغتسل من جفنة). والجفنة: كالقصعة.
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه توضأ من توْر من صفر). رواه البخاري. التوْر: إناء يشرب فيه.
(وتوضأ من قربة). رواه البخاري ومسلم
(وتوضأ من إداوة). متفق عليه والإداوة: إناء صغير من جلد يتخذ للماء.
• وظاهر كلام المؤلف أنه لا فرق بين أن يكون الإناء ثميناً، أي غالي الثمن كالجواهر والياقوت، وهذا مذهب أكثر العلماء، وأنه يجوز اتخاذها واستعمالها وأنها لا تلحق بالذهب والفضة.
قال الصنعاني: " الأظهر عدم إلحاقه وجوازه على أصل الإباحة لعدم الناقل عنهما ".
لأن الأصل في الأشياء الإباحة.
وتخصيص النبي صلى الله عليه وسلم الذهب والفضة بالمنع يقتضي إباحة ما عداهما.
ولأن العلة في الذهب والفضة هي الخيلاء وهي غير موجودة هنا، إذ الجوهر ونحوه لا يعرفه إلا خواص الناس.
• يشترط في الإناء أن يكون طاهراً.
م/ إِلَّا آنِيَةَ اَلذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَمَا فِيهِ شَيْءٌ مِنْهُمَا، إِلَّا اَلْيَسِيرَ مِنْ اَلْفِضَّةِ لِلْحَاجَةِ; لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم (لَا تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ اَلذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلَا تَأْكُلُوا فِي صِحَافِهَا فَإِنَّهَا لَهُمْ فِي اَلدُّنْيَا، وَلَكُمْ فِي اَلْآخِرَةِ). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
أي إلا آنية الذهب والفضة فلا يجوز الأكل والشرب فيهما.
لحديث حذيفة الذي ذكره المؤلف.
ولحديث أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم). رواه مسلم
صحافهما: جمع صحيفة، وهي إناء من آنية الطعام، يقول أهل اللغة: إنها تشبع الخمسة من الرجال.
يجرجر في بطنه نار جهنم: الجرجرة هي صوت وقوع الماء وانحداره في الجوف؛ والمعنى: أن من شرب بآنية الفضة فكأنما يتجرع في بطنه نار جهنم.
• فلا يجوز الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة بالإجماع، بل هو من كبائر الذنوب.
وهل غير الأكل والشرب [كالاتخاذ والاستعمال] كالأكل والشرب أم لا؟
جمهور العلماء أن الاتخاذ والاستعمال كالأكل والشرب؛ فلا يجوز اتخاذ أو استعمال أواني الذهب والفضة [كأن يجعل عنده آنية ذهب أو فضة للزينة؛ مثل الإبريق أو غير ذلك].
لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر الأكل والشرب لأنه أغلب أنواع الاستعمال، وما غلب به الحكم لكونه أغلب؛ لا يقتضي تخصيصه به.
ولأن العلة التي من أجلها حرّم الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة موجودة في الاتخاذ والاستعمال.
وقيل: إن التحريم خاص بالأكل والشرب، وأن استعمال الأواني في غير الأكل والشرب كالتطيب والتكحل والوضوء والغسل ونحوها؛ فهو جائز.
واختار هذا القول الشوكاني والصنعاني.
وهؤلاء أخذوا بظاهر الحديث، قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن شيء مخصص وهو الأكل والشرب فيهما، فدل على أن ما عداهما جائز.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
• اختلف في العلة في النهي عن الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة:
فقيل: كسر قلوب الفقراء. وقيل: للخيلاء والإسراف. وقيل: التشبه بالمشركين، لقوله صلى الله عليه وسلم:(فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة).
وقيل: إن هذا ينافي العبودية، ولهذا علل النبي صلى الله عليه وسلم بأنها للكافر في الدنيا، إذ ليس لهم نصيب من العبودية التي ينالون بها في الآخرة نعيمها، فلا يصلح استعمالها لعبيد الله في الدنيا.
• استثنى المؤلف فقال: " إلا اليسير من الفضة للحاجة ".
أي إذا حدث مثلاً شق في إناء، فيجوز أن يسده ويرقعه بفضة.
للحديث الذي ذكر المؤلف (أن قدح النبي صلى الله عليه وسلم انكسر فاتخذ مكان الشعب سلسلة من فضة.
قدح: إناء يشرب فيه. انكسر: أي شق. مكان الشعب: أي مكان الصدع والشق. سلسلة: أي سلكاً من الفضة.
فالحديث يدل على جواز إصلاح الإناء المنكسر بسلسلة من الفضة عند الحاجة إلى ذلك.
إذاً الشروط:
أولاً: أن يكون ذلك من فضة، فلا يجوز من ذهب لأن الذهب أغلى وأشد تحريماً.
ثانياً: أن تكون يسيرة.
ثالثاً: أن تكون لحاجة.
بَابُ اَلِاسْتِنْجَاءِ وَآدَابِ قَضَاءِ اَلْحَاجَةِ
الاسجمار: إزالة النجو، وهو العذرة، وأكثر ما يستعمل في الاستنجاء بالماء.
والاستنجاء إزالة الخارج من السبيلين بماء أو حجر أو نحوه، ويسمى الثاني استجماراً من الجمار وهي الحجارة الصغيرة.
ويُذكر في هذا الباب آداب التخلي، أي ما ينبغي فعله حال الدخول والخروج وقضاء الحاجة وما يتعلق بذلك.
• والشريعة الإسلامية شريعة كاملة جاءت بالتعاليم العظيمة في جميع شؤون الحياة ومنها آداب قضاء الحاجة.
وقد ثبت في صحيح مسلم عن سلمان قال: قال لنا المشركون: إني أرى صاحبكم يعلمكم، حتى يعلمكم الخراءة، فقال: أجل؛ إنه نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول، أو أن نستنجي باليمين
…
).
م/ يُسْتَحَبُّ إِذَا دَخَلَ اَلْخَلَاءَ: أَنْ يُقَدِّمَ رِجْلَهُ اَلْيُسْرَى.
يسن لمن دخل الخلاء أن يقدم رجله اليسرى دخولاً، لأن القاعدة أن اليمين تقدم في كل ما هو من باب التكريم، واليسار ضد ذلك.
ويدل لهذه القاعدة:
حديث عائشة قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله). متفق عليه
وحديث أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا انتعل أحدكم فليبدأ باليمين وإذا خلع فليبدأ بالشمال) متفق عليه.
وحديث أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا توضأتم وإذا لبستم فابدؤا بميامنكم) رواه أبوداود.
قال النووي: " يستحب تقديم اليمين في كل ما هو من باب التكريم؛ كالوضوء والغسل والخروج من الخلاء، ويستحب تقديم اليسار ضد ذلك؛ كالاستنجاء ودخول الخلاء
…
".
م/ وَيَقُولَ: بِسْمِ اَللَّهِ
أي يسن أن يقول قبل دخول الخلاء (بسم الله) لحديث علي قال: قال صلى الله عليه وسلم: (ستر ما بين أعين الجن وعورات بني آدم إذا دخل الكنيف أن يقول: بسم الله). رواه الترمذي، وهو مختلف في صحته؛ فقد ضعفه الترمذي والنووي.
م/ اَللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ اَلْخُبْثِ وَالْخَبَائِثِ.
ويقول أيضاً: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث.
لحديث أنس قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء قال: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث) متفق عليه
• وهذا الحكم متفق على استحبابه.
• قوله (إذا دخل الخلاء) أي إذا أراد الدخول [قبل الدخول]، كما جاء عند البخاري في الأدب المفرد عن أنس قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يدخل الخلاء
…
)
• الخُبُث والخبائث: بضم الباء جمع خبيث؛ مثل سرير وسُرُر؛ وهم ذكران الشياطين، والخبائث جمع خبيثة؛ كصحيفة وصحائف، وهن إناث الشياطين، فكأنه استعاذ من ذكران الشياطين وإناثهم.
وقيل: الخُبْث؛ بإسكان الباء: الشر. والخبائث: الذرات الشريرة، فكأنه استعاذ من الشر وأهله.
قال الشيخ ابن عثيمين: " والتسكين أعم ".
الخلاء: المكان المعد لقضاء الحاجة، سمي بذلك لأنه يتخلى فيه، أي ينفرد.
• مناسبة هذا الدعاء عند دخول الخلاء، لأن هذه الأمكنة محتضرة تحضرها وتؤي إليها الشياطين كما في حديث زيد بن أرقم قال صلى الله عليه وسلم:(إن هذه الحشوش محتضرة، فإذا أتى أحدكم الخلاء فليقل: أعوذ بالله من الخبث والخبائث).
• ولا فرق في هذه الاستعاذة بين البنيان والصحراء، لأن المكان يصير مأوى للشياطبن بخروج الخارج، فإذا كان في الصحراء فإنه يقوله في الشروع عند تشمير الثياب، وهذا مذهب الجمهور [قاله ابن حجر].
• قوله (يقول) فيه أنه لا بد من القول باللسان.
م/ (وَإِذَا خَرَجَ قَدَّمَ اليُمْنَى).
لأنه سبق قاعدة أن ما كان من باب التكريم؛ فإنه يقدم فيه اليمنى، وما كان من باب الإهانة؛ فإنه يقدم فيه اليسار.
فعند الخروج من الخلاء يقدم الرجل اليمنى، لأن الخروج أكمل وأفضل.
م/ (وَقَالَ: غُفْرَانَكَ).
أي ويسن أن يقول بعد خروجه من الخلاء غفرانك.
لحديث عائشة قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج من الخلاء قال غفرانك). رواه أبو داود
الغائط: المكان الذي يتغوط فيه.
وإن كان في البر فعند مفارقته مكان جلوسه.
• والمغفرة: ستر الذنب والتجاوز عنه.
• اختلف العلماء في مناسبة قوله (غفرانك) هنا:
فقيل: لأنه ترك ذكر الله زمن لبثه على الخلاء تقصيراً منه، فتداركه بالاستغفار.
وهذا قاله البغوي والخطابي والنووي.
وقيل: لما تخفف من أذية الجسم تذكر أذية الإثم، فدعا الله أن يخفف عنه أذية الإثم، كما منّ عليه بتخفيف أذية الجسم
[قاله ابن القيم]، وهذا القول أنسب.
وقيل: أنه استغفر خوفاً من تقصيره في شكر نعمة الله تعالى التي أنعمها عليه، فأطعمه ثم هضمه، ثم سهّل خروجه، فرأى شكره قاصراً على بلوغ هذه النعمة، فتداركه بالاستغفار.
م/ (اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي أَذْهَبَ عَنِّي اَلْأَذَى وَعَافَانِي).
وهذا جاء في حديث أنس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج من الخلاء قال: الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني). رواه ابن ماجه
وهذا الحديث ضعيف لا يصح، وضعفه النووي.
• الأذى: أي ما يؤذيني من البول والغائط، عافاني: أي من انحباسهما المؤدي إلى المرض أو الهلاك.
م/ وَيَعْتَمِدُ فِي جُلُوسِهِ عَلَى رِجْلِهِ اَلْيُسْرَى، وَيَنْصِبُ اَلْيُمْنَى.
أي ويستحب أن يعتمد عند قضاء الحاجة على رجله اليسرى.
لحديث سراقة بن مالك قال: (علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخلاء أن نقعد على اليسرى وننصب اليمنى). رواه البيهقي وهو حديث ضعيف
وقالوا: إن ذلك يسهل خروج الخارج، وفيه أيضاً إكراماً لليمين.
لكن الحديث ضعيف، والحديث الضعيف لا تثبت به الأحكام الشرعية.
فإن ثبت من الناحية الطبية أن هذه الجلسة مفيدة صارت مطلوبة لا من جهة أنها من السنة، ولكن من جهة أنها من المصلحة، لأن كل ما فيه مصلحة فإنه مأمور به.
م/ وَيَسْتَتِر بِحَائِطٍ وَنَحْوِه.
أي ويسن أن يستتر ويختفي عن الناظرين بجدار أو جبل أو شجر أو نحو ذلك.
لحديث عبد الله بن جعفر قال: (كان أحبَّ ما استتر به رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجته هدف أو حائش نخل) رواه مسلم والمراد استتار بدنه كلِّه، فهذا أفضل.
وأما استتاره بالنسبة للعورة فهذا واجب.
هدفٌ: ما ارتفع من الأرض.
…
حائش نخل: حائط نخل.
م/ (وَيُبْعِدُ إِنْ كَانَ فِي الفَضَاء).
أي ويسن أن يبتعد عن العيون إذا كان في فضاء كصحراء ليس فيها جبال أو أشجار ساترة.
لحديث المغيرة بن شعبة قال: (فانطلق - أي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى توارى عنّي فقضى حاجته) متفق عليه
ولحديث المغيرة قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذهب إلى الغائط أبعد) رواه أبو داود وصححه النووي
ولحديث جابر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد البراز انطلق حتى لا يراه أحد). رواه أبو داود
• هذا إن كان في الصحراء، فإن كان في البنيان حصل المقصود بالبناء المعد لقضاء الحاجة.
م/ (ولَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يقْضِي حَاجَتَهُ فِي طَرِيق).
أي ويحرم عليه أن يقضي حاجته في طريق، وقد قيده كثير من العلماء بالطريق المسلوك المأتي.
لحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اتقوا اللعانين، قالوا: وما اللعانان يا رسول الله؟ قال: الذي يتخلى في طريق الناس أو في ظلهم). رواه مسلم
• اللعانين: أي الأمْريْن الجالبين للعن، الحاملين الناسَ عليه، وذلك أن من فعلهما لُعن وشُتم، لأن عادة الناس لعنه، وقد يكون اللاعن بمعنى الملعون: أي الملعون فاعلهما.
ولأن ذلك من إيذاء المسلمين بتنجيس من يمر به ونتنه واستقذاره، وفيه إضرار على المجتمع.
• قال العلماء: يدخل في ذلك كل ما يحتاج إليه الناس من الأفنية والحدائق والميادين العامة، وأماكن الاستراحة التي قد توجد على بعض الطريق.
م/ أَو مَحِلِّ جُلُوسِ النَّاس.
أي يحرم أن يقضي حاجته في مكان جلوس الناس، كالاستراحات والحدائق والميادين العامة.
لأن في ذلك إيذاء للمسلمين، وإيذاء المسلمين حرام.
م/ أَو تَحْتِ الأَشْجَارِ المُثْمِرَة.
أي ويحرم قضاء الحاجة تحت الأشجار المثمرة، للحديث السابق.
• قوله (المثمرة) يضاف لهذا القيد ثمرة مقصودة أو ثمرة محترمة.
فالمقصودة هي التي قصدها الناس ولو كانت غير مطعومة، فلا يجوز التبول تحتها أو التغوط.
والمحترمة كثمرة النخل، ولو كانت في مكان لا يقصده أحد، فلا يبول ولا يتغوط تحتها ما دامت مثمرة، لأن الثمر طعام محترم.
• قوله (تحتها) هذا يفيد أنه لا بد أن يكون قريباً منها، وليس بعيداً.
• ومن الأماكن التي لا يجوز قضاء الحاجة فيها الظل النافع، للحديث السابق.
فالمحرم هو التبول أو التغوط تحت الظل النافع الذي يستظل به الناس، لقوله (أو ظلهم).
وإضافة الظل في الحديث إليهم دليل على إرادة الظل المنتفع به، الذي هو محل جلوسهم، فلو بال أو تغوط في ظل لا يُجلس فيه فلا يقال بالتحريم.
م/ أَو فِي مَحلٍّ يُؤْذِي بِهِ النَّاس.
أي لا يجوز أن يبول أو يتغوط في أي مكان يؤذي به الناس، لأن إيذاء المسلمين حرام.
كالمساجد:
فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأعرابي لما بال في المسجد: (إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول أو القذر، وإنما هي لذكر الله والصلاة وقراءة القرآن). رواه مسلم
وكذلك المدارس:
فكل مجتمعات الناس لأمر ديني أو دنيوي لا يجوز للإنسان أن يتبول فيها أو يتغوط.
م/ وَلَا يَسْتَقْبِلُ اَلْقِبْلَةَ أَوْ يَسْتَدْبِرُهَا حَالَ قَضَاءِ اَلْحَاجَةِ.
لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: (إِذَا أَتَيْتُمُ اَلْغَائِطَ فَلَا تَسْتَقْبِلُوا اَلْقِبْلَةَ بِغَائِطٍ وَلَا بَوْلٍ، وَلَا تَسْتَدْبِرُوهَا، وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
أي من آداب قضاء الحاجة؛ أنه لا يجوز لقاضي الحاجة أن يستقبل القبلة أو يستدبرها حال قضاء الحاجة سواء في الفضاء أو البنيان.
والقول بالتحريم مطلقاً في الفضاء والبنيان هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم.
لحديث أبي أيوب قال: قال صلى الله عليه وسلم: (لا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها بغائط ولا بول ولكن شرقوا أو غربوا). متفق عليه
هذا خطاب لأهل المدينة ممن إذا شرقوا أو غربوا لا يستقبلون القبلة ولا يستدبرونها.
ولحديث سلمان قال: (لقد نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستقبل القبلة بغائط أو بول) رواه مسلم
لهذه الأحاديث ذهب ابن تيمية وابن القيم وابن العربي والشوكاني إلى تحريم الاستقبال والاستدبار في الفضاء والبنيان.
• وذهب جمهور العلماء إلى التفريق بين البنيان والفضاء، فقالوا: يجوز في البنيان ويحرم في الفضاء.
لحديث ابن عمر قال: (رقيت يوماً على بيت حفصة فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته مستقبل الشام مستدبر الكعبة) متفق عليه
قالوا: فهذا الحديث دليل على جوازه في البنيان.
والراجح القول الأول؛ وهو التحريم مطلقاً.
ويجاب عن حديث ابن عمر بعدة أجوبة:
أولاً: أن أحاديث النهي قول، وحديث ابن عمر فعل، والقول أقوى من الفعل.
ثانياً: يحتمل أنه خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم فلا يلحق به غيره.
ثالثاً: يحتمل أنه قبل النهي، فالنهي يترجح عليه.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
• حديث أبي أيوب في النهي عن استقبال القبلة حال قضاء الحاجة، دليل على جواز استقبال الشمس والقمر حال قضاء الحاجة، وقد ذهب بعض العلماء إلى أن استقبالهما مكروه قالوا:
لما فيها من نور الله.
ولحديث ورد: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يبول الرجل وفرجه بادٍ إلى الشمس أو القمر).
والصحيح أنه لا يكره.
1.
التعليل الذي ذكروه منقوض بسائر الكواكب.
2.
وأما الحديث باطل.
قال ابن حجر: " هذا حديث باطل لا أصل له "، وقال النووي:" هذا حديث باطل ".
وقال ابن القيم عن هذه المسألة: " فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينقل عنه في ذلك كلمة واحدة لا بإسناد صحيح ولا ضعيف ولا مرسل ولا متصل، وليس لهذه المسألة أصل في الشرع ".
وقال الشيخ السعدي رحمه الله: " والصحيح أنه لا يكره استقبال النيرين وقت قضاء الحاجة، والتعليل الذي ذكروه، وهو لما فيهما من نور الله تعالى، منقوض بسائر الكواكب، وعلة غير معتبرة ".
فائدة: قال ابن حجر: " لم يقصد ابن عمر الإشراف على النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الحالة، وإنما صعد السطح لضرورة كانت له، كما في الرواية الآتية: (فحانت منه التفاتة) كما في رواية البيهقي، نعم لما اتفقت له رؤيته في تلك الحالة عن غير قصد؛ أحب أن لا يخلي ذلك من فائدة، فحفظ هذا الحكم الشرعي ".
م/ فَإِذَا قَضَى حَاجَتَهُ اِسْتَجْمَرَ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ وَنَحْوِهَا، تُنَقِّي اَلْمَحَلَّ، ثُمَّ اسْتَنْجَى بِالمَاء وَيَكْفِي الاقْتِصَارُ عَلَى أَحَدِهِمَا.
ذكر المؤلف أن قاضي الحاجة له ثلاث حالات:
الحالة الأولى: أن يجمع بين الاستجمار والاستنجاء، فيستجمر أولاً ثم يستنجي.
قال النووي: " الذي عليه الجماهير من السلف والخلف أن الأفضل أن يجمع بين الماء والحجر، فيستعمل الحجر أولاً لتخف النجاسة وتقل مباشرتها بيده، ثم يستعمل الماء ".
وقال العيني: " مذهب جمهور السلف والخلف، والذي أجمع عليه أهل الفتوى من أهل الأمصار؛ أن الأفضل أن يجمع بين الماء والحجر، فيقدِّم الحجر أولاً ثم يستعمل الماء، فتخف النجاسة وتقل مباشرتها بيده، ويكون أبلغ في النظافة ".
الخلاصة: أن الجمع بين الحجر ثم الماء أفضل:
أولاً: لأنه أبلغ في النظافة.
ثانياً: ولأنه إذا استعمل الحجر أولاً خفف النجاسة وقلَّت مباشرتها باليد.
• لكن لم يثبت بهذه حديث.
الحالة الثانية: أن يقتصر على الماء، فهذا جائز.
لحديث أنس قال: (كان رسول صلى الله عليه وسلم يدخل الخلاء فأحمل أنا وغلام نحوي إداوة من ماء وعنزة فيستنجي بالماء) متفق عليه
إداوة من ماء: الإداوة هي الإناء الصغير من الجلد يُجعل للماء، غلام نحوي: أي مقارب لي بالسن.
الحالة الثالثة: أن يقتصر على الحجارة فقط، وهذا جائز.
لحديث سلمان قال: (نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار). رواه مسلم
ولحديث ابن مسعود قال: (أتى النبي صلى الله عليه وسلم الغائط، فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار، فوجدت حجرين ولم أجد ثالثاً، فأتيته بروثة، فأخذهما وألقى الروثة، وقال: هذا ركس). رواه البخاري
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
• وقد ذكر المؤلف أنه يشترط للاستنجاء بالأحجار أن تكون بثلاثة أحجار.
لحديث سلمان السابق (لقد نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار). رواه مسلم
ولحديث ابن مسعود السابق (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى الغائط فأمرني أن آتية بثلاثة أحجار
…
).
فلا يجوز أن تنقص عن ثلاثة أحجار.
• قوله (ثلاثة) ظاهره أنه لا بد من ثلاثة أحجار.
• قوله (ثلاثة) أخذ بظاهر الحديث بعض العلماء، وقالوا: لا بد من ثلاثة أحجار، فلا يجزئ حجر واحد له ثلاث شعب، فيمسح بكل شعبة مسحة.
وذهب أكثر العلماء أنه لا يلزم ثلاثة أحجار، وأنه لو استنجى بحجر له ثلاثة أحرف فمسح بكل حرف مسحة أجزأه.
قالوا: لأن العلة معلومة، وهي قصد الإنقاء وتطهير المحل، فإذا كان الحجر له ثلاث شعب غير متداخلة، واستجمر بكل جهة منه صح، وهذا القول هو الصحيح.
• قوله (ثلاثة أحجار) لا يجوز أقل من ثلاثة أحجار، حتى لو أراد أن يتبعه بالماء.
لأن بعض العلماء قال يجوز أن يقتصر على أقل من ثلاثة أحجار إذا أراد أن يتبعه بالماء، لأن الماء وحده كافٍ كما سبق في حديث أنس، والأخذ بظاهر الحديث أقوى؛ وهو أنه لا ينقص عن ثلاثة أحجار حتى لو أراد أن يتبع ذلك بالماء.
• قول المؤلف (تنقي المحل)
أي ينقي بهذه الثلاث محل الخارج، لأن هذا هو المقصود من الاستجمار، فإن كانت غير منقية لم يجزئ، كالحجر الأملس، أو الرطب ونحو ذلك.
م/ وَلا يَسْتَجْمِرُ بِالرُّوثِ وَالعِظَامِ، كَمَا نَهَى عَنْهُ النَّبِي صلى الله عليه وسلم، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا لَهُ حُرْمَةٌ.
ذكر المؤلف هنا الأشياء التي لا يصح الاستجمار بها، فذكر:
الروث والعظام.
لحديث سلمان قال: (نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستنجي برجيع أو عظم). رواه مسلم
وعن جابر قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُتمسح بعظم أو بعر). رواه مسلم
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (انبعث النبي صلى الله عليه وسلم وخرج لحاجته، فقال: أتبعني أحجاراً استنفض بها - أو نحوه - ولا تأتني بعظم ولا روث). رواه البخاري
وعن رويفع بن ثابت قال: (قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رويفع لعل الحياة ستطول بك بعدي،
…
فأخبر الناس أن من استنجى برجيع دابة أو عظم؛ فإن محمداً منه بريء). رواه ابو داود
• الحكمة:
في العظم؛ قال صلى الله عليه وسلم: (هي طعام إخوانكم من الجن).
وأما الروث؛ فللنجاسة.
ففي حديث ابن مسعود السابق: (
…
فألقى الروثة وقال: إنها ركس). ركس: أي نجس.
• (كل ما له حرمة).
ككتب فيها ذكر الله، وكتب حديث وفقه ونحوها، لما فيه من هتك الشريعة والاستخفاف بحرمتها.
وكذلك الطعام، لا يجوز الاستجمار به، لأنه كفر بالنعمة، وإذا كان طعام الجن محترم فطعام بني آدم أولى.
ومما لا يصح الاستجمار به الشيء النجس، لأن إزالة النجاسة لا تكون بالشيء النجس.
إِزَالَةُ اَلنَّجَاسَةِ وَالْأَشْيَاءِ اَلنَّجِسَةِ
النجاسة ضد الطهارة، وهي نوعان:
أولاً: نجاسة عينية:
وهي كل عين جامدة يابسة أو رطبة أو مائعة، وهذه لا تطهر بحال، وسميت عينية لأنها تدرك بالعين، كالبول ودم الحائض.
ثانياً: نجاسة حكمية:
وهي التي تقع على شيء طاهر فينجس بها، كالبول يقع على الثوب أو فراش ونحوهما، وهي المراد هنا.
وَيَكْفِي فِي غَسْلِ جَمِيعِ اَلنَّجَاسَاتِ عَلَى اَلْبَدَنِ، أَوْ اَلثَّوْبِ، أَوْ اَلْبُقْعَةِ، أَوْ غَيْرِهِا: أَنْ تَزُولَ عَيْنُهَا عَنْ اَلْمَحَلِّ.
أي أنه يكفي إذا وقعت نجاسة على البدن أو الثوب أو البقعة أو غيرها أن تغسل حتى تزول عينها عن المحل، ولا يشترط عدد معين للغسلات.
وما ذكره المؤلف هو القول الراجح، وهو اختيار ابن تيمية رحمه الله: أنه لا يجب العدد في غسل نجاسة غير الكلب، بل يكفي غسلة واحدة تذهب بعين النجاسة وأثرها، فإن لم تذهب زاد حتى يذهب أثرها ولو جاوز السبع سواء في الأرض أو الثوب أو الأواني.
لقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا أصاب إحداكن الدم من الحيضة فلتقرصه ثم لتنضحه بماءٍ، ثم لتصلي فيه) ولم يأمر فيه بعدد، ولو أراد لبيّنه كما في حديث الولوغ.
(وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يصب على بول الأعرابي سَجْل من ماء) ولم يأمر بالعدد.
ولأن المقصود إزالة النجاسة، فمتى زالت زال حكمها.
قال الشيخ السعدي مرجحاً هذا القول: " الصحيح في غسل النجاسات كلِّها غير الكلب: أنه يكفي فيها غسلة واحدة تذهب بعين النجاسة وأثرها، فإن لم تذهب زاد حتى يذهب أثرها، ولو جاوز السبع، وسواء كانت على الأرض أو الثياب أو البدن أو الأواني أو غير ذلك
…
إلى أن قال: لأن جميع النصوص الواردة في غسل النجاسات مطلقة لا قيد فيها ولا عدد، وذلك يدل على أن المقصود إزالتها فقط، وأن العدد فيها غير مقصود ".
ولأن غسل النجاسة لا يحتاج إلى نية، فلا يحتاج إلى عدد.
ولأنه لو لم تزل بسبع غسلات وجب الزيادة على ذلك بالاتفاق، فدل على عدم اعتبار السبع، إلا فيما جعله الشارع شرطاً فيه كنجاسة الكلب.
وذهب بعض العلماء إلى أن النجاسة تغسل سبعاً.
وهذا المشهور من المذهب.
لما روى ابن عمر قال: (أمرنا بغسل الأنجاس سبعاً) وهذا الأثر لا يصح ولا يحتج به، وقد ذكره ابن قدامة في المغني بدون إسناد.
م/ لِأَنَّ اَلشَّارِعَ لَمْ يَشْتَرِطْ فِي جَمِيعِ غَسْلِ اَلنَّجَاسَاتِ عَدَدًا إِلَّا فِي نَجَاسَةِ اَلْكَلْبِ، فَاشْتَرَطَ فِيهَا سَبْعَ غَسْلَاتٍ، إِحْدَاهَا بِالتُّرَابِ. [فِي اَلْحَدِيثِ اَلْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ]
أي إلا نجاسة الكلب فإنها تغسل سبع مرات، فلو أن الكلب ولغ في إناء فإنه يغسل سبع مرات إحداهن بالتراب.
لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات). متفق عليه ولمسلم: (أولاهن بالتراب).
طُهور: بضم الطاء؛ مُطَهِّر.
إذا ولغ: أي إذا شرب أو أدخل طرف لسانه وحركه، فالولوغ: أن يدخل لسانه في المائع فيحركه، فإن كان فارغاً قيل: لحسه.
• قوله المصنف (إحداها بالتراب) هذه جاءت في رواية، وجاء في رواية للترمذي (أخراهن) وعند مسلم (أولاهن بالتراب) وهذه الرواية أرجح الروايات لأسباب
أولاً: لكثرة رواتها.
ثانياً: ومن حيث المعنى: لأن تتريب الأولى يجعل ما بعدها من الماء مزيلاً لأثر التراب، بخلاف ما لو كان في السابعة مثلاً فإنه يحتاج إلى غسلة أخرى لتنظيفه.
• لا بد من التراب، فلا يقوم غير التراب مقام التراب، لأن الشارع نص عليه، ولأن في التراب مادة تقتل الجراثيم التي تخرج من لعاب الكلب.
• قوله (الكلب)(ال) في الكلب للاستغراق، فيشمل جميع أنواع الكلاب، وعليه فلا فرق بين الكلب المأذون فيه ككلب الصيد وحراسة الماشية والزرع، وغير المأذون فيه وهو ما عداها.
• ذهب جمهور العلماء إلى أن نجاسة الكلب لا بد فيها من سبع غسلات إحداهن بالتراب، سواء كانت نجاسته بولوغ، أو بول، أو روث، أو غيرها، والنبي صلى الله عليه وسلم نص على الولوغ لأنه هو الغالب، إذ أن الكلب لا يجعل بوله وروثه في الأواني، وما خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له.
وذهب بعض العلماء: أن الغسل سبعاً خاص بنجاسة الولوغ، أما بوله وروثه ودمه وعرقه؛ فكسائر النجاسات، وهذا قول الظاهرية، واختاره الشوكاني.
وقول الجمهور أحوط.
• ذهب بعض العلماء إلى أن الخنزير يقاس على الكلب فتغسل نجاسته سبعاً كالكلب.
لأن النص ورد في الكلب، والخنزير شرٌّ منه وأغلظ منه، لأن الشارع نص على تحريمه وحرمة اقتنائه، وإنما لم ينص الشارع عليه لأنهم لم يكونوا يعتادونه.
والصحيح أنه لا يقاس على الكلب لسببين:
الأول: لأن النص ورد في الكلب.
الثاني: أن الخنزير مذكور في القرآن وموجود في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يرد إلحاقه بالكلب.
ورجح هذا النووي، وقال:" واعلم أن الراجح من حيث الدليل أنه يكفي غسلة واحدة بلا تراب، وبه قال أكثر العلماء الذين قالوا بنجاسة الخنزير، وهذا هو المختار، لأن الأصل عدم الوجوب حتى يرد الشرع، لا سيما في هذه المسألة المبنية على التعبد ".
م/ وَالْأَشْيَاءُ اَلنَّجِسَةُ: بَوْلُ اَلْآدَمِيِّ، وَعُذْرَتُهُ.
ذكر المؤلف رحمه الله الأشياء النجسة، ومنها:
البول والغائط.
وهذه نجسة بالإجماع.
للأمر بالتنزه من البول والاستنجاء من الغائط.
ففي حديث الأعرابي أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يصب الماء على بول الأعرابي.
قال النووي: " فيه إثبات نجاسة بول الآدمي، وهو مجمع عليه ".
وقال الشوكاني: " واستدل بحديث الباب على نجاسة بول الآدمي، وهو مجمع عليه ".
ولحديث ابن عباس قال: (مرّ النبي صلى الله عليه وسلم على قبرين فقال: إنهما ليعذبان وما يعذبان بكبير
…
أما إحداهما فكان لا يستنزه من بوله). متفق عليه
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (استنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه). رواه الدار قطني
• ولذلك قال الفقهاء: يجوز للإنسان أن يبول قائماً بشرط أن يأمن الرشاش والناظر كما في حديث حذيفة (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى سباطة قوم فبال قائماً) متفق عليه.
وقالوا أيضاً: يستحب أن يطلب لبوله موضعاً رخواً ليناً حتى لا يرجع إليه رشاش البول.
م/ وَالدَّمُ، إِلَّا أَنَّهُ يُعْفَى عَنِ اَلدَّمِ اَلْيَسِيرِ.
وَمِثْلُهُ: اَلدَّمُ اَلْمَسْفُوحُ مِنْ اَلْحَيَوَانِ اَلْمَأْكُولَ، دُونَ اَلَّذِي يَبْقَى فِي اَللَّحْمِ وَالْعُرُوقِ. فَإِنَّهُ طَاهِرٌ.
ومن النجاسات الدم، والدم فيه تفصيل:
أولاً: الدم الخارج من الإنسان؛ إن كان من السبيلين - القبل والدبر - كدم الحيض، فلا خلاف في نجاسته.
لقوله صلى الله عليه وسلم لأسماء في دم الحيض يصيب الثوب: (تحته ثم تقرصه بالماء، ثم تنضحه، ثم تصلي فيه).
ثانياً: أما الخارج من غير السبيلين؛ كدم الرعاف والسن والجروح وغيرها؛ ففيه قولان:
القول الأول: أنه نجس فيجب غسله ويعفى عن يسيره.
وهذا قول الجمهور.
القول الثاني: أنه طاهر عدا دم الحيض.
وهذا قول الشوكاني والألباني والشيخ ابن عثيمين. قالوا:
أن الأصل في الأشياء الطهارة حتى يقوم دليل على النجاسة.
ولقصة الصحابي الذي رماه المشرك بثلاثة أسهم وهو قائم يصلي في الليل، فمضى في صلاته والدماء تسيل منه، وذلك في غزوة الرقاع.
وقال الحسن: (ما زال المسلمون يصلون في جراحاتهم).
وصلى عمر وجرحه يثعب دماً.
وهذا القول هو الراجح.
ثالثاً: الدم الخارج من حيوان نجس، كدم الكلب والخنزير؛ فهذا نجس قليله وكثيره لنجاسة عينه.
رابعاً: الدم الخارج من حيوان طاهر في الحياة بعد الموت، كالإبل، والبقر، والغنم، فهذا إن كان مسفوحاً - وهو الذي يسيل - فهو نجس، وإن كان مما يبقى في المذبح أو يكون على اللحم؛ فهو طاهر، لأن الله إنما حرم المسفوح، فما ليس بمسفوح فهو حلال.
خامساً: الدم الخارج من حيوان طاهر في الحياة وبعد الموت، فهذا طاهر، كدم السمك، لأن ميتته طاهرة.
م/ وَمِنَ اَلنَّجَاسَاتِ: بَوْلُ وَرَوَثُ كُلِّ حَيَوَانٍ مُحَرَّمٍ أَكْلُهُ.
أي أن بول وروث الحيوان غير المأكول [كالأسد والنمر وغيرها] نجس، وهذا مذهب جماهير العلماء.
قالوا: إن لحم هذا الحيوان خبيث، فكذلك بوله.
• قوله (كل حيوان محرم أكله) دليل على أن بول الحيوان غير محرم الأكل طاهر، وهذا مذهب الحنابلة [وسيأتي].
م/ وَالسِّبَاعُ كُلُّهَا نَجِسَةٌ.
السباع - كالأسد والنمر والذئب وغيرها - نجسة، فلو أن ذئباً شرب من إناء، وبقي بعد شربه شيء من الماء، فإنه نجس
لحديث ابن عمر قال، سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يسأل عن الماء يكون في الفلاة من الأرض وما ينوبه من السباع والدواب فقال (إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث) رواه أبو داود وهو حديث صحيح. [وما ينوبه: أي يرد عليه نوبة بعد أخرى]
قالوا: لو كانت طاهرة لم يحده بالقلتين.
قال المجد ابن تيمية في المنتقى: حديث ابن عمر في القلتين يدل على نجاستها، وإلا يكون التحديد بالقلتين في جواب السؤال عن ورودها على الماء عبثاً.
وقال صلى الله عليه وسلم في الحمر الأهلية يوم خيبر (إنها رجس).
وذهب بعض العلماء إلى طهارتها تمسكاً بالأصل.
وللحديث الذي رواه ابن ماجه (أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الحياض التي تكون بين مكة والمدينة وما يرد إليها من السباع فقال: لها ما شربت في بطونها، ولنا ما غبر طهور) أي ما بقي طهور.
وقالوا: إن معنى قوله (إنها رجس) أي المراد لحمها.
وذهب بعض العلماء إلى طهارة البغل والحمار واختار هذا القول ابن قدامة، ورجحه السعدي والشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين رحم الله الجميع.
قال في المغنى: " والصحيح عندي: طهارة البغل والحمار، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يركبها وتُركب في زمنه وفي عصر الصحابة، فلو كان نجساً لبيّن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، ولأنهما مما لا يمكن التحرز منهما لمقتنيهما، فأشبها السنور ".
وقال الشيخ السعدي: " والصحيح الذي لا ريب فيه أن البغل والحمار طاهران في الحياة كالهر، فيكون ريقهما وعرقُهُما طاهراً، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يركبهما كثيراً، ويركبان في زمنه، ولا يُمكن المستعمل لهما التحرز من ذلك، فلم يغسِل ما أصابه منهما، ولا أمر بذلك، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الهرة: إنها ليست بنجس، إنها من الطوافين عليكم والطوافات، فعلّل بكثرة طوفانها ومشقة التحرز منها، ومن المعلوم أن المشقة في الحمار والبغل أشد من ذلك، وقد اعتبر الشارع المشقة في أمور كثيرة من الشرع وعفا عنها، مع قيام المقتضي للمنع لأجل المشقة، وأما قوله صلى الله عليه وسلم: إنها رجس، فنعم هو كما قال صلى الله عليه وسلم: لحومها خبيثة وأكلها خبيث، والقدور التي تطبخ فيها أو تُباشر لحومها خبيثة، وأما العرق والريق والشعر، فلم يدل الحديث عليه بوجهٍ، فالنبي صلى الله عليه وسلم أمر باجتناب لحومها، وأخبر عن خبثها، ورخص في استعمالها وركوبها، ولم يأمر بالتحرز من ذلك، فهذا هو الصواب ".
• فقول المصنف (والسباع نجسة) نخرج الحمار الأهلي والبغل، وكذلك الهرة، لحديث أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الهرة (إنها ليست بنجس، إنها من الطوافين عليكم والطوافات) رواه أبو داود.
م/ وَكَذَلِكَ الْمَيْتَاتُ.
الميتات: جمع ميتة، وهي ما مات دون ذكاة شرعية.
فالميتة نجسة بالإجماع.
لقوله تعالى: (قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ). والرجس: النجس.
وقد نقل بعض العلماء الإجماع على ذلك.
م/ إِلَّا: مَيْتَةَ اَلْآدَمِيِّ.
فالآدمي لا ينجس بالموت.
لقوله تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) ومقتضى التكريم أنه لا يحكم بنجاسته، فجعله طاهراً حياً وميتاً.
وقال صلى الله عليه وسلم: (إن المسلم لا ينجس) وهذا عام، يتناول الحياة والممات.
ولأنه أمر بغسل الميت، ولو كان نجس العين لم يطهره الغسل.
وهذا القول هو المذهب ومذهب الشافعي، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
• ذهب بعض العلماء إلى أنه ينجس، لعموم الآية: (قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ
…
).
وقال بعض العلماء: الكافر ينجس دون المسلم، لقوله صلى الله عليه وسلم:(إن المسلم لا ينجس) فمفهومه المخالفة له أن غير المسلم ينجس.
ولقوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ).
لكن الجواب عن الآية: أن المراد (نجس) أي نجس الاعتقاد، بدليل أن الله أباح لنا أن نتزوج نساء أهل الكتاب، وأن نأكل طعامهم، فلو كان الكفار أنجاساً حساً لما جاز ذلك، ولأمر الناس أن يغسلوا أيديهم من عرقهم ورطوبتهم.
م/ وَمَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةً.
ومن الميتات الطاهرة: ما لا نفس له سائلة، أي لا دم له يسيل منه إذا خرج منه بجرح أو قتل، كالنملة، والعنكبوت، والذباب، والخنفساء، والعقرب، فإذا سقطت في مائع فماتت فإنها لا تنجسه.
لقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه ثم لينزعه، فإن في أحد جناحيه داءً، وفي الآخر شفاء). رواه البخاري
وجه الدلالة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بغمسه في الطعام، ومعلوم أنه يموت بذلك، ولا سيما إذا كان الطعام حاراً، فلو كان ينجسه لكان أمراً بإفساد الطعام.
وإذا كان سبب التنجيس هو الدم المحتقن في الحيوان بموته، وكان ذلك مفقوداً فيما لا دم له سائل، انتفى الحكم، وقد ورد النص في الذباب فيقاس عليه ما في معناه ما تقدم.
م/ وَالسَّمَكَ وَالْجَرَادَ.
فميتتة السمك والجراد طاهرة.
قال النووي: " فالسمك والجراد طاهران بالنصوص والإجماع ".
قال صلى الله عليه وسلم في البحر: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته).
وقال صلى الله عليه وسلم: (أحل لنا ميتتان: السمك والجراد) رواه أحمد وابن ماجه والصحيح أنه موقوف على ابن عمر وله حكم الرفع.
وعن عبد بن أبي أوفى قال: (غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات نأكل معه الجراد) متفق عليه
ولو كان نجساً لم يبح أكله.
م/ وَأَمَّا أَرْوَاثُ اَلْحَيَوَانَاتِ اَلْمَأْكُولَةِ وَأَبْوَالُهَا: فَهِيَ طَاهِرَةٌ.
أي أن أبوال وأرواث الحيوانات مأكولة اللحم طاهرة، وهذا مذهب الحنابلة وهو القول الصحيح.
لحديث أنس قال: (قدم أُناس من عُكْل أو عرينة، فاجتووا المدينة، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بلقاح وأن يشربوا من أبوالها وألبانها. متفق عليه
فالنبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالشرب من أبوال الإبل، ولم يأمرهم بغسل الأواني، ولو كانت نجسة ما أذن لهم بالشرب، ولأمرهم بغسل الأواني منها، وهذا نص.
ولحديث جابر بن سمرة: (أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتوضأ من لحوم الإبل؟ قال نعم. قال: أصلي في مرابض الغنم؟ قال نعم .... ) رواه مسلم
فالنبي صلى الله عليه وسلم أذن في الصلاة في مرابض الغنم، ومرابض الغنم لا تخلوا من البول والروث، فدل على طهارتها.
ولحديث ابن عباس قال: (طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على بعير يستلم الركن بمحجن). رواه مسلم
وجه الدلالة: إدخال البعير المسجد والطواف عليه؛ دليل على طهارة بوله، حيث لا يؤمن من بول البعير في أثناء الطواف، ولو كان نجساً لم يعرّض النبي صلى الله عليه وسلم المسجد للنجاسة.
وهذا القول هو الصحيح.
• وذهب بعض العلماء إلى نجاستها، لعموم الأدلة الدالة على نجاسة الأبوال.
كحديث: (مرّ النبي صلى الله عليه وسلم على قبرين فقال:
…
أما أحدهما فكان لا يستنزه من بوله
…
).
وحديث: (استنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه).
والجواب عن هذا: أن هذه أحاديث عامة، وأحاديث بول مأكول اللحم خاصة، والخاص يقضي على العام.
م/ وَمَنِيُ الآدَمِيُّ طَاهِر يَغْسِلُ رَطْبَهُ، وَيَفْرُكُ يَابِسَهُ.
وهذا مذهب الحنابلة والشافعية.
لحديث عائشة قالت: (كنت أفركه - أي المني - من ثوب النبي صلى الله عليه وسلم فيصلي فيه). رواه مسلم
وجه الدلالة: أن عائشة كانت تفركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فركاً، وهذا دليل على طهارته، إذا لو كان نجساً لوجب غسله كسائر النجاسات.
ولحديث ابن عباس قال: (سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن المني يصيب الثوب، فقال: إنما هو بمنزلة المخاط والبصاق، وإنما يكفيك أن تمسحه بخرقة أو بأذخرة). رواه الدار قطني.
قال ابن القيم: " إسناده صحيح ". قال البيهقي: " الصحيح أنه موقوف ".
وجه الدلالة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرنه بالمخاط والبصاق، وهذه الأشياء طاهرة بالإجماع.
وذهب بعض العلماء إلى نجاسته.
لحديث عائشة قالت: (كنت أغسل الجنابة من ثوب النبي صلى الله عليه وسلم فيخرج إلى الصلاة وإن بقع الماء في ثوبه). رواه البخاري
قالوا: إن غسل المني دليل على نجاسته، لأن الطاهر لا يُطهر.
والجواب عن هذا:
1 -
أن هذا الفعل محمول على الاستحباب جمعاً بين الأدلة.
2 -
أن الثوب قد يغسل من المخاط والبصاق وكل ما يستقذر، ولا يكون هذا كافياً في الدلالة على نجاسته، وقد حث الإسلام على النظافة.
• وعليه فلو صلى الإنسان وعلى ثوبه مني، فصلاته صحيحة.
م/ وبَوْلُ اَلْغُلَامِ اَلصَّغِيرِ، اَلَّذِي لَمْ يَأْكُلِ اَلطَّعَامَ لِشَهْوَةٍ: يَكْفِي فِيهِ اَلنَّضْحُ.
كَمَا قَالَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (يُغْسَلُ مِنْ بَوْلِ اَلْجَارِيَةِ، وَيُرَشُّ مِنْ بَوْلِ اَلْغُلَامِ). رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ
سبق أن البول نجس سواء كان بول كبير أو صغير، للأدلة الكثيرة على نجاسة الأبوال وأنه يجب غسله.
لكن يستثنى بول الغلام الصغير - فإنه وإن كان نجساً - لكنه خفف في طهارته، وهو النضح.
بول: يخرج الغائط، فلا بد من غسله.
الغلام: يخرج الجارية فيغسل بولها.
لم يأكل الطعام: اختلف العلماء في المراد بالطعام الذي لم يأكله:
فقيل: ما عدا اللبن. وقيل: لم يأكل شيئاً. وقيل: المراد بالطعام ما عدا اللبن الذي يرضعه، والتمر الذي يحنك به، والعسل الذي يلعقه للمداواة. ورجحه الحافظ ابن حجر.
وعليه؛ فإذا طعم وأكل الغلام؛ فإنه يغسل بوله.
• فإذا كان الغلام لم يأكل الطعام، وبال على ثوب؛ فإنه يكتفى فيه بالنضح.
النضح: أن يغمر بالماء، ولا يحتاج إلى مَرْس وعصر.
والدليل على هذا:
حديث أبي السمح قال: قال صلى الله عليه وسلم: (يغسل من بول الجارية ويرش من بول الغلام.) رواه أبو داود.
ولحديث أم قيس بنت محصن: (أنها أتت بابن لها لم يأكل الطعام، فأجلسه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجره فبال عليه، فدعا رسول الله بماء فنضحه عليه ولم يغسله) متفق عليه.
• فإذا تغذى بالطعام صار بوله كبول الكبير، فإنه يجب غسله.
• الحكمة من التفرقة بين بول الصبي والجارية:
قيل: قال الحافظ: إن النفوس أعلق بالذكور منها بالإناث، يعني فحصلت الرخصة في الذكور لكثرة المشقة.
وقيل: إن بول الأنثى أنتن وأثقل من بول الغلام.
وقيل: أن بول الغلام يجتمع فيكتفى برشه، وأما بول الجارية فينتشر فلا بد من غسله.
والله أعلم.
م/ وَإِذَا زَالَتْ عَيْنُ اَلنَّجَاسَةِ طَهُرَ اَلْمَحُلُّ وَلَمْ يَضُرَّ بَقَاءُ اَللَّوْنِ وَالرِّيحِ; لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لِخَوْلَةَ فِي دَمِ اَلْحَيْضِ يَكْفِيكِ اَلْمَاءُ، وَلَا يَضُرُّكِ أَثَرُهُ.
أي إذا زالت النجاسة لكن بقي لونها مثلاً أو ريحها فهذا لا يضر، والمؤلف استدل لهذه المسألة بحديث خولة قالت:(يا رسول الله ليس لي إلا ثوب واحد، وأنا أحيض فيه، قال: (فإذا طهرت فاغسلي موضع الدم ثم صلي فيه، قالت: يا رسول الله، إن لم يخرج أثره؟ قال: يكفيك الماء ولا يضرك أثره). رواه أبو داود وهو ضعيف.
فالثوب ونحوه إذا غسل من دم الحيض أو من أي نجاسة ثم بقي أثر لونه في الثوب أو البدن أنه لا يضر في كمال التطهير، أما إذا بقي شيء من جرمه فإنه لا يكفي.
بَابُ صِفَةِ اَلْوُضُوءِ
الوضوء: بالضم الفعل، وبفتحها الماء المتوضأ به، وإن أريد الفعل ضم الحرف الأول.
والوضوء لغة: النظافة والإنارة.
سمي بذلك: لأنه ينظف المتوضئ ويحسنه.
ففي الدنيا بإزالة الأوساخ والأقذار.
وفي الآخرة بالنور الذي يحصل منه، كما قال صلى الله عليه وسلم:(تدعون يوم القيامة غراً محجلين من أثر الوضوء).
واصطلاحاً: التعبد لله تعالى بغسل الأعضاء الأربعة على صفة مخصوصة.
والوضوء فضله عظيم:
كما قال صلى الله عليه وسلم: (الطهور شطر الإيمان). رواه مسلم
وقال صلى الله عليه وسلم: (من توضأ فأحسن الوضوء، خرجت خطاياه من جسده حتى تخرج من تحت أظفاره). رواه مسلم
وقال صلى الله عليه وسلم: (ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة إلى الصلاة، فذلكم الرباط فذلكم الرباط).
وعن عثمان قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ مثل وضوئي هذا، ثم قال: من توضأ هكذا، غفر له ما تقدم من ذنبه، وكانت صلاته ومشيه إلى المسجد نافلة). رواه مسلم
والوضوء كان مشروعاً في الأمم السابقة:
لقصة سارة مع الملك، أن سارة لما هم الملك بالدنو منها، قامت تتوضأ وتصلي.
ولقصة جُرَيْج الراهب أيضاً، قام فتوضأ وصلى، ثم كلم الغلام.
ولحديث: (هذا وضوئي ووضوء الأنبياء قبلي). رواه ابن ماجه قال ابن حجر: حديث ضعيف.
والذي اختصت به هذه الأمة هي الغرة والتحجيل.
لحديث أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إِنَّ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ، مِنْ أَثَرِ اَلْوُضُوءِ، فَمَنْ اِسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ.) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
م/ وَهُوَ: أَنْ يَنْوِيَ رَفْعَ اَلْحَدَثِ، أَوْ اَلْوُضُوءَ لِلصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا.
وَالنِّيَّةُ: شَرْطٌ لِجَمِيعِ اَلْأَعْمَالِ مِنْ طَهَارَةٍ وَغَيْرِهَا; لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّمَا اَلْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ اِمْرِئٍ مَا نَوَى). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
أي أن الوضوء لا يصح إلا بنية، فينوي رفع الحدث الذي حصل له، أو ينوي بوضوئه الوضوء للصلاة.
فلا بد للوضوء من نية.
للحديث الذي ذكره المؤلف (إنما الأعمال بالنيات
…
) فنفى أن يكون له عمل شرعي بدون النية، ولأنها طهارة عن حدث قلم تصح بغير نية كالتيمم أو عبادة، فافتقرت إلى النية كالصلاة.
ولأن الوضوء عبادة مستقلة، بدليل أن الله تعالى رتب عليه الفضل والثواب والأجر، ومثل هذا يكون عبادة مستقلة.
وهذا قول جمهور العلماء.
فلو توضأ بنية التبرد فإنه لا يجزئه، ويعتبر وضوءه باطلاً لفقده شرطاً وهو النية.
قول المصنف (أن ينوي رفع الحدث) أي إذا توضأ بنية رفع الحدث الذي حصل له، بسبب البول مثلاً، صح وضوءه.
وقوله (أو الوضوء للصلاة) أي نوي بوضوئه الصلاة، أو لمس المصحف، فإنه يرتفع حدثه، وإن لم ينو رفع الحدث، لأن الصلاة لا تصح إلا بعد رفع الحدث.
• والنية محلها القلب، والتلفظ بها بدعة.
قال ابن القيم رحمه الله: " النية هي القصد والعزم على فعل الشيء، ومحلها القلب لا تعلق لها باللسان أصلاً، ولذلك لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه التلفظ بالنية بحال، ولا سمعنا عنهم ذكر ذلك ".
قوله (رفع الحدث) خرج به طهارة الأنجاس، فلا يشترط لها النية، فلو علق إنسان ثوبه في السطح رجاء المطر حتى يغسله وزالت النجاسة طهُر، مع أنه ليس بفعله ولا نيته، وكذلك الأرض تصيبها النجاسة فينزل عليها ماء المطر فتطهر.
م/ ثُمَّ يَقُولَ: "بِسْمِ اَللَّهِ.
أي يسن أن يقول بسم الله قبل الوضوء، وهذا مذهب الجمهور.
وذهب بعض العلماء إلى وجوبها، لقوله صلى الله عليه وسلم:(لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله) رواه أبو داود، مختلف فيه.
والصحيح أنها سنة غير واجبة، لأمور:
أولاً: قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ
…
) فأمر الله بالغسل ولم يأمر بالتسمية، ولو كانت واجبة لأمر الله بها، كما أمر بها في الصيد والذكاة.
ثانياً: أن الصحابة وصفوا وضوء النبي صلى الله عليه وسلم وصفاً تاماً، ولم يذكر أحد منهم أنه سمى في أول وضوئه، فلو كان ذلك واجباً لا يصح الوضوء إلا به، لم يتركها النبي صلى الله عليه وسلم.
ثالثاً: أن الحديث مختلف في ثبوته، وقد قال الإمام أحمد: لا يثبت في هذا الباب شيء ولا يمكن إثبات واجب بحديث مختلف فيه، وقد حسنه بعض العلماء.
رابعاً: حديث عبد الله بن عمرو: (أن أعرابياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأل عن الوضوء
…
فذكر له النبي صلى الله عليه وسلم الوضوء ولم يذكر التسمية). رواه أبو داود
م/ وَيَغْسِلَ كَفَّيْهِ ثَلَاثًا.
أي ويسن أن يغسل كفيه ثلاثاً قبل بداية الوضوء.
لحديث عثمان رضي الله عنه: (أنه دعا بوضوء، فتوضأ فغسل كفيه ثلاث مرات، ثم مضمض
…
) متفق عليه
ولأن اليد آلة الغسل، وبها ينقل الماء، فكان الأليق تطهيرها احتياطاً لجميع الماء.
• وغسل الكفين في بداية الوضوء من سنن الوضوء.
قال النووي: " وهذا دليل على أن غسلهما في أول الوضوء سنة، وهو كذلك باتفاق العلماء ".
م/ ثُمَّ يَتَمَضْمَضَ وَيَسْتَنْشِقَ ثَلَاثًا، بِثَلَاثِ غَرْفَاتٍ.
المضمضة: هي إدارة الماء في الفم.
والاستنشاق: هو جذب الماء بالنفس من الأنف.
• فبعد غسل الكفين يبدأ بالمضمضة والاستنشاق.
لحديث عثمان رضي الله عنه وفيه: (
…
فغسل كفيه ثلاثاً، ثم مضمض واستنثر
…
).
• أن المضمضة تقدم على الاستنشاق.
• أن المضمضة والاستنشاق قبل غسل الوجه، وهذا سنة، فلو خالف وغسل وجهه ثم تمضمض واستنشق؛ فلا بأس.
• السنة أن يتمضمض ويستنشق ثلاثاً.
لحديث عبد الله بن زيد في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه: (
…
ثم أدخل يده في التوْر، فمضمض واستنشق واستنثر ثلاثاً). متفق عليه
• السنة أن يكون بثلاث غرفات من كف واحدة.
لحديث عبد الله بن زيد في صفة الوضوء: (ثم أدخل صلى الله عليه وسلم يده، فمضمض واستنشق من كف واحدة، يفعل ذلك ثلاثاً). متفق عليه
وعن علي رضي الله عنه في صفة الوضوء: (ثم تمضمض واستنثر ثلاثاً، يمضمض وينتثر من الكف الذي يأخذ منه الماء). رواه أبو داود
• وهذه الصفة هي أصح الصفات للأحاديث السابقة ..
قال النووي موضحاً هذه الصفة: " أن يأخذ غرفة ويتمضمض منها ثم يستنشق، ثم يأخذ غرفة ثانية يفعل بها كذلك، ثم ثالثة كذلك ".
قال ابن القيم: " وكان صلى الله عليه وسلم يصل بين المضمضة والاستنشاق فيأخذ نصف الغرفة لفمه ونصفها لأنفه ".
• ولم يجيء حديث صحيح في الفصل بين المضمضة والاستنشاق.
وأما حديث طلحة بن مصرف عن أبيه عن جده قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفصل بين المضمضة والاستنشاق). رواه أبو داود فهو حديث ضعيف
• وحكم المضمضة والاستنشاق أنهما من واجبات الوضوء، وهذا مذهب أحمد
لقوله صلى الله عليه وسلم: (أسبغ الوضوء، وخلل بين الأصابع وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً). رواه أبو داود
وفي رواية: (إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء ثم لينتثر). متفق عليه
وهذه أوامر تدل على الوجوب.
ولأن كل من وصف وضوء النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أنه تمضمض واستنشق، وأنه داوم عليهما، فهذا مما يدل على وجوبهما.
وذهب بعض العلماء إلى أنهما سنتان في الوضوء، وهو قول مالك والشافعي.
لأنه قال: (فاغسلوا وجوهكم) فالله أمر بغسل الوجه، وهو ما تحصل به المواجهة، دون باطنه وهو الفم والأنف.
واستدلوا بحديث عائشة: (عشرة من سنن المرسلين:
…
وذكر منها: المضمضة والاستنشاق).
والراجح الأول.
• لا يجب أن يزيل ما في فمه من بقايا الطعام.
• لا يجب عليه أن يزيل الأسنان المركبة.
م/ ثُمَّ يَغْسِلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا.
غسل الوجه من فروض الوضوء.
لقوله تعالى: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ).
وأجمع العلماء على ذلك.
• الوجه هو ما تحصل به المواجهة، وحده من منابت الشعر المعتاد على ما نزل من اللحية والذقن طولاً، ومن الأذن إلى الأذن عرضاً.
وغسله ثلاث مرات هذا من سنن الوضوء.
لحديث عثمان رضي الله عنه في صفة الوضوء: (ثم غسل وجهه ثلاثاً
…
).
• هل يغسل ما استرسل من اللحية.
قال بعضهم: لا يغسل قياساً على شعر المرأة الطويل أو ما استرسل من شعر الرأس فإنه لا يمسح، والصحيح أنه يغسل.
فالجواب عن قياس من منع أن يقال: إن اللحية المسترسلة يحصل بها المواجهة بخلاف الشعر المتدلي من الرأس فإنه ليس من الرأس إذ الرأس ما ترأس وارتفع.
م/ وَيَدَيْهِ إِلَى اَلْمِرْفَقَيْنِ ثَلَاثًا.
غسل اليدين إلى المرفقين من فروض الوضوء بالإجماع.
لقوله تعالى: (وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ).
المرفق: بكسر الميم، هو العظم الناتئ في آخر الذراع، وسمي بذلك لأنه يرتفق به في الاتكاء ونحوه. [قاله الحافظ]
• والسنة أن يكون الغسل ثلاث مرات.
لحديث عثمان في صفة الوضوء: (
…
ثم غسل يديه إلى المرفقين ثلاثاً).
• قوله (إلى المرفقين) دليل على أن المرفق يجب غسله مع اليد، وهذا مذهب الأئمة الأربعة.
لقوله تعالى: (وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ) أي مع المرافق.
وقد جاءت أحاديث تدل على دخول المرفق مع اليد.
عند الدار قطني بإسناد حسن من حديث عثمان في صفة الوضوء: (فغسل كفيه إلى المرفقين حتى مس أطراف العضدين).
وعن جابر: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا توضأ أدار الماء على مرفقه) لكن في إسناد ضعف.
وفي البزار والطبراني من حديث وائل بن حجر في صفة الوضوء: (وغسل ذراعيه حتى جاوز المرفق).
وفي الطحاوي والطبراني من حديث ثعلبة بن عباد عن أبيه مرفوعاً: (ثم غسل يديه حتى يسيل الماء على مرفقيه).
فهذه الأحاديث يقوي بعضها بعضاً [قاله الحافظ].
ومما يدل على دخولهما أنه لم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه أخل به ولو مرة واحدة فترك غسل المرفقين.
• يجب أن يغسل الكفين مع اليدين، فيجب أن يغسل يديه من أطراف الأصابع إلى المرفقين.
• يغسل الأقطع بقية المفروض.
مثال: لو قدر أنه قطع من نصف الذراع، فإنه يغسل بقية المفروض لقوله تعالى (فاتقوا الله ما ستطعتم).
ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» متفق عليه.
قال النووي: " إذا بقي من محل الفرض شيء فإنه يجب غسله بلا خلاف ".
م/ وَيَمْسَحَ رَأْسَهُ مِنْ مُقَدَّمِ رَأْسِهِ إِلَى قَفَاهُ بِيَدَيْهِ. ثُمَّ يُعِيدَهُمَا إِلَى اَلْمَحَلِّ اَلَّذِي بَدَأَ مِنْهُ مَرَّةً وَاحِدَةً.
ثم بعد غسل اليدين يمسح رأسه، وهو من فروض الوضوء.
لقوله تعالى: (وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ).
• قوله (مرة واحدة) فيه أن الرأس يمسح مرة واحدة، وهذا مذهب جمهور العلماء.
لحديث علي في صفة الوضوء: (ومسح برأسه واحدة). رواه أبو داود
حديث عثمان في الصحيحين في صفة الوضوء، وكذلك عبد الله بن زيد في الصحيحين لم يذكر أنه مسح رأسه ثلاثاً بخلاف بقية الأعضاء.
لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم سنة صحيحة أنه مسح رأسه ثلاث مرات.
وذهب بعض العلماء، وهو مذهب الشافعية أنه يشرع التثليث في مسح الرأس.
لحديث عثمان: (أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثاً ثلاثاً). رواه مسلم
والراجح الأول، ولأن المسح مبني على التخفيف فلا يقاس على الغسل.
قال أبو داود: " وأحاديث عثمان الصحاح كلها تدل على أنه مسح رأسه مرة ".
• قوله (ويمسح رأسه) أن الرأس يمسح ولا يغسل، فلو غسله بدلاً من المسح لكان مكروهاً.
وذهب بعض العلماء إلى أنه لا يجزئه، لأنه خلاف أمر الله ورسوله.
• قوله (ويمسح رأسه) أي أنه يجب أن يستوعب جميع الرأس ولا يجزئ أن يمسح بعضه، وهذا هو المذهب وهو الصحيح.
لأن هذا هو الذي ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه اقتصر على بعض الرأس.
ولأن الله تعالى ذكر مسح الرأس، ومسمى الرأس حقيقة هو جميع الرأس، فيقتضي وجوب مسح جميع الرأس.
قال ابن القيم رحمه الله: " لم يصح عنه حديث واحد أنه اقتصر على مسح بعض الرأس البتة ".
وذهب بعض العلماء إلى أنه يجزئ مسح بعض الرأس، واستدلوا بقوله تعالى:(وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ) قالوا: الباء للتبعيض.
والراجح الأول.
وأما الباء فليست للتبعيض وإنما هي للملاصقة.
قوله (ويمسح رأسه ثم يعيدهما إلى المحل
…
) هذه صفة مسح الرأس، وهي الثابتة في حديث عبد الله بن زيد في الصحيحين قال:(بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما على قفاه، ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه).
• والحكمة من مسح الرأس على هذه الصفة استيعاب جهتي الرأس بالمسح، لأن الشعر من جهة الوجه متجه إلى الوجه، ومن جهة المؤخر متجه إلى القفاء.
• وهذه الصفة يستوي فيها الرجل والمرأة، لأن الأصل في الأحكام الشرعية أن ما ثبت في حق الرجال ثبت في حق النساء إلا بدليل يخصص.
• لو مسح رأسه بغير يده، كأن يمسحه بخرقة ونحوها؟ فالجواب: أن ذلك يجزئ عنه لحصول المسح بذلك.
م/ ثُمَّ يَدْخُلَ سَبَّاحَتَيْهِ فِي صِمَاخَيْ أُذُنَيْهِ، وَيَمْسَحَ بِإِبْهَامَيْهِ ظَاهِرَهُمَا.
ذكر المؤلف هنا صفة مسح الأذنين.
وهي أن يدخل سباحتيه [أصبعيه السباحتين] في صماختي أذنيه لمسح باطنهما، ويمسح بإبهاميه ظاهرهما.
ولو مسحهما بغير الإبهام لجاز، لأن المقصود استيعاب المحل بالمسح، لكن العمل بالسنة أفضل، ليجعل له أجر الاقتداء
بالنبي صلى الله عليه وسلم.
والدليل على هذه الصفة:
حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، كيف الطهور؟ فدعا بماء فغسل كفيه ثلاثاً، ثم غسل وجهه ثلاثاً، ثم غسل ذراعيه ثلاثاً، ثم مسح برأسه فأدخل أصبعيه السباحتين في أذنيه، ومسح بإبهاميه على ظاهر أذنيه، ثم غسل رجليه ثلاثاً، ثم قال: هكذا الوضوء، فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم). رواه أبو داود
وفي حديث المقدام بن معد كرب قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح رأسه، ومسح أذنيه ظاهرهما وباطنهما). رواه أبو داود
• السباحتين: تثنية سباحة، وهي الإصبع التي بين الإبهام والوسطى، سميت بذلك لأنه يسبح بها، أو لأنه يشار بها عند السب.
إبهاميه: تثنية الإبهام، وهي الإصبع الغليظة الخامسة من أصابع اليد.
• ومسح الأذنين مع الرأس واجب، وهذا مذهب الحنابلة.
لقوله تعالى: (وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ) وقد جاء في الحديث: (الأذنان من الرأس) وهذا روي مرفوعاً لكن لا يصح، لكنه صح من قول ابن عمر رواه عبد الرزاق بسند صحيح، وإذا كانت الأذنان من الرأس فيكون الأمر بمسح الرأس أمراً بمسحهما.
ومن الأدلة قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا توضأ العبد فمضمض خرجت خطاياه من فيه،
…
فإذا مسح برأسه خرجت خطاياه من رأسه حتى تخرج من أذنيه). رواه مالك
فقوله: (حتى تخرج من أذنيه) دليل على أن الأذنين من الرأس، فتكون حكم مسحهما حكم مسح الرأس.
وذهب بعض العلماء إلى أن مسحهما سنة ليس بواجب.
لحديث عثمان في صفة الوضوء؛ حيث لم يذكر المسح على الأذنين.
وكذلك في حديث عبد الله بن زيد، لم يذكر المسح على الأذنين.
والراجح الأول.
• ويمسح أذنيه بفضل ماء رأسه، وليس في السنة ما يدل على أنه يأخذ ماءً جديداً.
م/ ثُمَّ يَغْسِلَ رِجْلَيْهِ مَعَ اَلْكَعْبَيْنِ ثَلَاثًا ثَلَاثًا.
ثم بعد مسح الرأس يغسل رجليه، وغسل الرجلين من فروض الوضوء بالإجماع.
لقوله تعالى: (وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ).
والكعبان: هما العظمان الناتئان اللذان بأسفل الساق من جانبي القدم.
• والسنة أن يغسلهما ثلاثاً.
لحديث عثمان في صفة الوضوء: (ثم غسل كلتا رجليه ثلاثاً
…
).
• جاء التحذير الشديد من التهاون في شيء من الرجل، فقد قال صلى الله عليه وسلم:(ويل للأعقاب من النار).
م/ هَذَا أَكْمَلُ اَلْوُضُوءِ اَلَّذِي فَعَلَهُ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم.
المؤلف رحمه الله لم يذكر أشياء تعتبر من سنن الوضوء التي فعلها النبي صلى الله عليه وسلم وأمر بها، لكي يكتمل الوضوء الكامل، منها:
البداءة باليمين.
فيسن أن يبدأ بيده التي قبل اليسرى ورجله التي قبل اليسرى.
لحديث عائشة قالت: (كان يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله) متفق عليه
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا توضأتم فابدأوا بميامنكم).
حديث عثمان في صفة الوضوء: (
…
ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاث مرات، ثم غسل يده اليسرى مثل ذلك، ثم مسح رأسه، ثم غسل رجله اليمنى إلى الكعبين ثلاث مرات، ثم غسل اليسرى مثل ذلك
…
).
قال النووي رحمه الله: أجمع العلماء على أن تقديم اليمين في الوضوء سنة، من خالفها فإنه فاته الفضل وتم وضوءه.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: " أما الوجه فالنصوص تدل على أنه لا تيامن فيه
…
والأذنان يمسحان مرة واحدة، لأنهما عضوان من عضو واحد ".
ومن ذلك قول الدعاء الوارد بعد الوضوء.
كما جاء في حديث عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما منكم من أحد يتوضأ فيسبغ الوضوء، ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء). رواه مسلم
وجاء في دعاء آخر، عن أبي سعيد مرفوعاً:(من توضأ ففرغ من وضوئه، فقال: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك، طبع عليها بطابع ثم رفعت تحت العرش، فلم تكسر إلى يوم القيامة). رواه الحاكم
واختلف في رفعه ووقفه، وعلى تقدير وقفه؛ فهذا مما لا مجال للرأي فيه، فله حكم الرفع.
• جاء عند الترمذي: (اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين) لكنها لا تثبت.
وجاء عند أبي داود: (
…
فأحسن الوضوء، ثم رفع نظره إلى السماء) لكنها ضعيفة.
• الأدعية أثناء الوضوء لا يصح منها شيء.
قال النووي: " وأما الدعاء على أعضاء الوضوء فلم يجيء منه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم ".
وقال ابن القيم: " وأحاديث الذكر على أعضاء الوضوء كلها باطلة، ليس منها شيء يصح ".
ومن ذلك السواك.
فهو من سنن الوضوء.
لحديث أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء) رواه أحمد.
ولحديث عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (السواك مطهرة للفم مرضاة للرب) رواه أحمد.
م/ وَالْفَرْضُ مِنْ ذَلِكَ: أَنْ يَغْسِلَ مَرَّةً وَاحِدَةً.
والواجب في الوضوء الغسلة الأولى فقط.
لقوله تعالى: (فاغسلوا) والغسل يصدق بواحدة.
• وأما الغسلة الثانية والثالثة فسنة.
فقد ثبت حديث عن ابن عباس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة). رواه البخاري
وثبت في حديث عبد الله بن زيد: (أنه صلى الله عليه وسلم توضأ مرتين مرتين). رواه البخاري
وثبت أنه صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثاً ثلاثاً كما في حديث عثمان في الصحيحين.
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه توضأ مخالفاً، فغسل وجهه ثلاثاً، ويديه مرتين، ورجله مرة، ففي حديث عبد الله بن زيد في صفة الوضوء: (
…
ثم أدخل يده فغسل وجهه ثلاثاً، ثم غسل يديه مرتين إلى المرفقين
…
). متفق عليه
وقد كره بعض العلماء أن يخالف بين الأعضاء في العدد.
والصواب أنه لا يكره، والأفضل أن يفعل هذا تارة وهذا تارة، ليكون عاملاً بالسنة كلها.
• أما الزيادة على الثلاث فلا يجوز، لحديث عبد الله بن عمرو:(أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثاً ثلاثاً، ثم قال: هكذا الوضوء فمن زاد فقد أساء وتعدى وظلم). رواه أبو داود
قال المباركفوري: " لا آمن إذا زاد في الوضوء أن يأثم ".
وقال أحمد وإسحاق: " لا يزيد على الثلاث إلا رجلاً مبتلى ".
م/ وَأَنْ يُرَتِّبَهَا عَلَى مَا ذَكَرَهُ اَللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: (يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى اَلصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى اَلْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى اَلْكَعْبَيْنِ).
الترتيب في الوضوء فرض من فروض الوضوء، وهو أن يأتي بفروض الوضوء مرتبة {يبدأ بالوجه، ثم غسل اليدين، ثم مسح الرأس، ثم غسل الرجلين} .
والدليل على أن الترتيب فرض:
الآية التي ذكرها المصنف: (يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى اَلصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى اَلْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى اَلْكَعْبَيْنِ).
وجه الدلالة: أن الله رتبها فيجب أن ترتب كما في الآية، وقد قال صلى الله عليه وسلم:(ابدؤوا بما بدأ الله به).
في الآية أيضاً قرينة تدل على ذلك: فإنه تعالى أدخل ممسوحاً بين مغسولين، والعرب لا تقطع النظير عن نظيره إلا لفائدة، والفائدة هنا الترتيب.
وكان صلى الله عليه وسلم وضوءه مرتباً متوالياً، ولم يخل به مرة واحدة البتة، فكل من وصف وضوء النبي صلى الله عليه وسلم حكاه مرتباً.
وعلى هذا القول فلو قدم عضواً على آخر لم يصح وضوءه، وهذا قول أحمد والشافعي.
وذهب بعض العلماء إلى أن الترتيب غير واجب، وهو قول مالك وأصحاب الرأي، لأن الله تعالى أمر بغسل الأعضاء، وعطف بعضها على بعض بواو الجمع، وهي لا تقتضي الترتيب، فكيف ما غسل كان ممتثلاً، والراجح الأول.
م/ وَأَنْ لَا يَفْصِلَ بَيْنَهَا بِفَاصِلٍ طَوِيلٍ عُرْفًا، بِحَيْثُ لَا يَنْبَنِي بَعْضُهُ عَلَى بَعْضِ، وَكَذَا كُلُّ مَا اِشْتُرِطَتْ لَهُ اَلْمُوَالَاةُ.
أي أنه من فروض الوضوء الموالاة، وهي: أن لا يؤخر غسل عضو حتى ينشف الذي قبله، فلا يؤخر غسل اليدين حتى ينشف الوجه، أو يؤخر مسح الرأس حتى تجف اليدان.
والدليل على فرضية الموالاة:
ما ورد عن عمر: (أن رجلاً توضأ فترك موضع ظفر على قدمه، فأبصره النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ارجع فأحسن وضوءك، فرجع ثم صلى). رواه مسلم
وعن خالد بن معدان عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلي وفي ظهر قدمه لمعةً قدر الدرهم لم يصبها الماء، فأمره أن يعيد الوضوء والصلاة). رواه أبو داود
فلو لم تجب الموالاة لأجزأ غسل اللمعة.
ولأن الوضوء عبادة واحدة، فلا يُبنى بعضها على بعض مع تفرق أجزائها، بل يجب أن يكون بعضها متصلاً ببعض.
وهذا القول هو الراجح.
وذهب بعض العلماء إلى أنها سنة غير واجبة.
لأن مواظبة النبي صلى الله عليه وسلم تدل على سنيتها، ومما يدل على عدم وجوبها: أن الله أمر بغسل هذه الأعضاء في الوضوء ولم يوجب الموالاة.
لكن الموالاة تسقط مع العجز.
فِي اَلْمَسْحِ عَلَى اَلْخُفَّيْنِ وَالْجَبِيرَةِ
المراد بالمسح هنا إمرار اليد المبلولة بالماء على خف مخصوص في زمن مخصوص.
والخف لغة: ما يلبس على الرجل من جلد.
واصطلاحاً: هو الساتر للكعبين فأكثر من جلد ونحوه.
فيدخل في ذلك: الشراب، وكل ما يلبس على الرجل مما يستفاد منه بالتسخين.
والمسح على الخف جائز عند عامة أهل العلم {قاله ابن قدامة} .
ونقل ابن المنذر عن ابن المبارك قال: ليس في المسح على الخفين عند الصحابة اختلاف.
وقال الحسن البصري: حدثني سبعون من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه مسح على خفيه.
وأدلة جوازه كثيرة وستأتي إن شاء الله.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ومنها هذه الأحاديث:
عن همام بن الحارث قال: (رأيت جرير بن عبد الله بال، ثم توضأ ومسح على خفيه، ثم قام فصلى، فسئل فقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع مثل هذا، قال إبراهيم النخعي: فكان يعجبهم هذا، لأن جريراً كان آخر من أسلم). متفق عليه
وعن حذيفة قال: (كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم فانتهى إلى سباطة قوم فبال قائماً، فتنحيت، فقال: ادنه، فدنوت حتى قمت عند عقبيه، فتوضأ فمسح على خفيه) متفق عليه
اختلف العلماء أيهما أفضل المسح أو الغَسل على قولين:
القول الأول. الغسل أفضل.
وهذا مذهب الشافعي، وذهب إليه جماعة من الصحابة منهم عمر بن الخطاب وابنه عبد الله وأبو أيوب الأنصاري. [ذكر ذلك النووي].
لأنه المفروض في كتاب الله.
ولأنه الغالب من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
…
[ذكر ذلك ابن قدامة].
القول الثاني: المسح أفضل.
وهذا مذهب أحمد.
قال النووي: " وذهب إليه الحكم وحماد ".
واختاره ابن المنذر، وقال:" والذي أختاره أن المسح أفضل، لأجل من طعن فيه من أهل البدع من الخوارج والروافض، قال: وإحياء ما طعن به المخالفون من السنن أفضل من تركه ".
والراجح أن الإنسان على حسب حاله.
واختاره ابن القيم في زاد المعاد، وقال:" ولم يكن يتكلف ضدّ حاله التي عليها قدماه، بل إن كانت في الخف مسح عليهما ولم ينزعهما، وإن كانت مكشوفتين غسل القدمين، ولم يلبس الخف ليمسح عليه، وهذا أعدل الأقوال في مسألة الأفضل من المسح والغسل ".
م/ فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ خُفَّانِ وَنَحْوُهُمَا مَسْحَ عَلَيْهِمَا إِنْ شَاءَ يَوْمًا وَلَيْلَةً لِلْمُقِيمِ - وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِلَيَالِيهنَّ لِلْمُسَافِرِ.
ذكر المؤلف رحمه الله الشرط الأول من شروط المسح على الخفين، وهو أن يكون في المدة المشروعة، وهي يوم وليلة للمقيم، وثلاثة أيام بلياليهن للمسافر.
لحديث علي قال: (جعل النبي صلى الله عليه وسلم للمقيم يوماً وليلة، وللمسافر ثلاثة أيام بلياليها). رواه مسلم
وعن صفوان بن عسال قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا كنا سفراً أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة ولكن بول وغائط ونوم). رواه الترمذي
• واختلف العلماء متى يبدأ المدة:
فقيل: من أول حدث بعد اللبس.
وهذا مذهب الجمهور.
واستدل هؤلاء بزيادة في حديث صفوان: (من الحدث إلى الحدث) قال النووي: هي زيادة غريبة ليست ثابتة.
ولأن الحدث هو سبب الوضوء، فعلق الحكم به.
وقيل: من حين لبس الخف.
وهذا محكي عن الحسن البصري.
وقيل: من أول مسح بعد الحدث.
وممن قال بهذا القول الأوزاعي، واختاره ابن المنذر.
واحتج هؤلاء بأحاديث التوقيت في المسح.
كحديث: (يمسح المسافر ثلاثة أيام) فهذا صريح في أن الثلاثة كلها للمسح، ولا يتحقق ذلك إلا إذا كان ابتداء المدة من المسح، ثم إنه ليس للحدث ذكر في شيء من الأحاديث.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
مثال: لو توضأ رجلاً لصلاة الفجر ولبس الخفين، وبقي على طهارته إلى الساعة الثامنة صباحاً ثم أحدث، ثم توضأ في الساعة الثانية عشرة ظهراً:
فالمذهب أن المدة تبتدئ من الساعة الثامنة.
وعلى القول الراجح تبدأ من الساعة الثانية عشرة إلى مثلها من اليوم الثاني إن كان مقيماً، ومن اليوم الرابع إن كان مسافراً، فالمقيم يمسح يوماً وليلة، أي أربعاً وعشرين ساعة، والمسافر ثلاثة أيام؛ أي اثنتين وسبعين ساعة، ولا عبرة بعدد الصلوات كما هو مشهور عند العامة.
قوله (ونحوهما) كاللفائف وغيرها مما يلف على الرجل، وهذا القول هو الصحيح، وهو اختيار ابن تيمية وابن القيم؛ أنه يجوز المسح على اللفائف.
لأن الغرض الموجود في المسح على الخفاف موجود في لبس اللفافة.
قال ابن تيمية: " والصواب أنه يمسح على اللفائف، وهي بالمسح أولى من الخف والجورب، فإن تلك اللفائف إنما تستعمل للحاجة في العادة، وفي نزعها ضرر، إما إصابة برد، وإما التأذي بالحفاء، وإما التأذي بالجرح، فإذا جاز المسح على الخفين والجوربين؛ فعلى اللفائف بطريق أولى ".
• من مسح وهو مقيم ثم سافر فإنه يتم مسح مسافر.
هذا مذهب الأحناف.
فلو مسح يوماً ثم سافر، فإنه يمسح يومين زيادة على اليوم، فيكون قد مسح ثلاثة أيام.
لأن رخص السفر قد حلت له.
• ومن مسح وهو مسافر ثم أقام، فإنه يمسح مسح مقيم، لأن رخص السفر قد انتهت بالوصول إلى بلده.
وهذا قول جمهور العلماء.
فلو مسح المسافر يوماً وليلة فما فوق ثم قدم بلده الذي يسكن فيه، فلا يجوز له في هذه الحالة المسح على الخفين بل ينزعهما.
م/ بِشَرْطِ أَنْ يَلْبَسَهُمَا عَلَى طَهَارَةٍ.
هذا هو الشرط الثاني من شروط المسح على الخفين؛ وهو أن يلبس الخف على طهارة، وهذا بالإجماع.
قال ابن قدامة: " لا نعلم في اشتراط تقدم الطهارة لجواز المسح على الخفين ".
وقال الشنقيطي: " أجمع العلماء في اشتراط الطهارة المائية للمسح على الخف ".
لحديث المغيرة بن شعبة قال: (كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم فتوضأ؛ فأهويت لأنزع خفيه، فقال: دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين). متفق عليه
وعليه فمن لبس الخف من غير طهارة وصلى؛ فإن صلاته باطلة وعليه الإعادة.
م/ وَلَا يَمْسَحَهُمَا إِلَّا فِي اَلْحَدَثِ اَلْأَصْغَرِ.
هذا هو الشرط الثالث من شروط المسح على الخفين، وهو أن المسح على الخفين خاص بالوضوء دون الغسل.
قال ابن قدامة: " لا يجزئ المسح في جنابة ولا غسل واجب ولا مستحب لا نعلم فيه خلافاً ".
قال الحافظ ابن حجر: " المسح على الخفين خاص بالوضوء لا مدخل للغسل فيه بإجماع ".
لحديث صفوان بن عسال قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا كنا سفراً أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة، ولكن من غائط وبول ونوم). رواه الترمذي
ولحديث أنس الذي ذكره المؤلف.
• هذه الشروط التي ذكرها المؤلف متفق عليها بين العلماء، وهناك شروط مختلف فيها:
فمنها: اشترط بعض الفقهاء أن يثبت الخف بنفسه، فإن كان لا يثبت إلا بشده فلا يجوز المسح عليه.
فلو لبس شراباً واسعاً، واحتاج إلى شده على الرِّجل وإلا سقط مع المشي لم يمسح عليه.
لكن الصواب أنه يمسح عليه، لأن اشتراط ثبوته بنفسه لا دليل عليه، فالنصوص الواردة في المسح على الخفين مطلقة، فإذا كان ينتفع به ويمشي؛ فلماذا لا يمسح عليه؟
ومنها: اشتراط أن يكون ساتراً لمحل الفرض (القدم) فلا يجوز المسح على مخرق أو شفاف.
قالوا: لأنه غير ساتر للقدم.
ولأن المنكشف من الرجل حكمه الغسل، والمستور حكمه المسح، والجمع بين المسح والغسل لا يجوز.
لكن الصحيح أن هذا ليس بشرط، وأنه يصح المسح على الخف المخرق والذي فيه شقوق ما دام يمكن متابعة المشي فيها، ويدل لذلك:
أولاً: أن نصوص المسح على الخفين مطلقة غير مقيدة بمثل هذه القيود، وما أطلقه الله ورسوله فليس لأحد تقييده.
ثانياً: أن الحكمة من مشروعية المسح التيسير على الناس ورفع الحرج، وذكر مثل هذه الشروط قد يضيق عليهم، ولا سيما المسافر إذا انخرق خفه، ولا يمكنه إصلاحه في السفر، فلو لم يجز المسح عليه لم يحصل مقصود الرخصة.
ثالثاً: أن أكثر الصحابة فقراء، وغالب الفقراء لا تخلوا خفافهم من شق وفتق، ولا سيما في الأسفار، فإذا كان هذا غالباً في الصحابة ولم يبين الرسول صلى الله عليه وسلم لهم دل على أنه ليس بشرط.
قال سفيان الثوري: "امسح عليهما ما تعلقت به رجلك، وهل كانت خفاف المهاجرين والأنصار إلا مخرقة مشققة مرقعة". رواه عبد الرزاق
وهذا القول اختيار ابن تيمية.
م/ فَإِنْ كَانَ عَلَى أَعْضَاءِ وَضُوئِهِ جَبِيرَةٌ عَلَى كَسْرٍ، أَوْ دَوَاءٌ عَلَى جُرْحٍ، وَيَضُرُّهُ اَلْغُسْلُ: مَسَحَهُ بِالْمَاءِ فِي اَلْحَدَثِ اَلْأَكْبَرِ وَالْأَصْغَرِ حَتَّى يَبْرَأَ.
• ذكر المؤلف هنا أحكام الجبيرة.
الجبيرة: هي ما يجبر به العظم المكسور من أعواد تشد عليه أو خرقة تلف عليه، ويدخل في ذلك الوسائل الطبية كالجبس على الكسور واللزقات على أجزاء من اليد أو على الجروح ونحو ذلك.
وقد ورد عدة أحاديث في المسح على الجبيرة لكنها فيها ضعف.
عن علي قال: (انكسرت إحدى زندي فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرني أن أمسح على الجبائر). رواه ابن ماجه وهو لا يصح. الزند: طرف الذراع في الكف.
حديث جابر في الرجل الذي شُجَّ فاغتسل فمات: (إنما كان يكفيه أن يتيمم، ويعصب على جرحه خِرقةً ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده). رواه أبو داود وفيه ضعف
فذهب بعض العلماء إلى المسح على الجبيرة عملاً بهذه الأحاديث، حيث أن بعضها يقوي بعضاً.
واختار هذا الشوكاني والصنعاني.
وذهب بعض العلماء إلى أنه لا يشرع المسح على الجبيرة، لأن الأحاديث في ذلك ضعيفة. لكن هذا قول ضعيف.
لأن العضو باقٍ فلا يسقط فرضه.
والصواب أنه يمسح على الجبيرة حتى لو كانت الأحاديث ضعيفة، فإن العضو إذا عجز عن تطهيره طهّره ببدله، وأقرب البدل هو المسح.
قياساً على مسح الخفين، فإن هذا عضو وجب غسله، وستر بما يسوغ ستره شرعاً، فجاز المسح عليه كالخفين.
وثبت عن ابن عمر موقوفاً: (أنه توضأ وكفه معصوبة، فمسح على العصائب وغسل سوى ذلك). رواه البيهقي
م/ مَسَحَهُ بِالْمَاءِ فِي اَلْحَدَثِ اَلْأَكْبَرِ وَالْأَصْغَرِ حَتَّى يَبْرَأَ.
أي الجبيرة يمسح عليها في الحدث الأصغر والأكبر، فإذا اغتسل مسح عليها، كما يمسح في الوضوء.
لأن في نزعها ضرر.
• وهذا من الفروق بين المسح على الخفين والمسح على الجبيرة، فالمسح على الخفين لا يجوز المسح عليها في الحدث الأكبر كما سبق.
• ونستفيد من كلام المؤلف حيث لم يذكر أن توضع الجبيرة على طهارة، بينما ذكر ذلك في المسح على الخفين، أن الجبيرة لا يشترط أن توضع على طهارة.
وهذا القول هو الراجح، وهو اختيار ابن تيمية.
وقياسها على الخفين في هذه المسألة قياس فاسد، فإن الجرح يقع فجأة، أي في وقت لا يعلم الماسح وقوعه فيه، فلو اشترطت الطهارة والحالة هذه لأفضى إلى الحرج والمشقة، وهما منتفيان شرعاً.
• والمشهور من المذهب أنه يشترط أن توضع على طهارة.
وقوله (حتى يبرأ)
أي أن الجبيرة يمسح عليها حتى يحصل البرء، لأن مسحها للضرورة فيتقدر بقدرها، بخلاف الخفين فيمسح عليهما للمقيم يوماً وليلة، فإذا برئ ما تحتها وجبت إزالتها.
وقوله (ويضر الغسل)
هذا يدل على أن المسح على الجبيرة يمسح عليها عند الحاجة، أما من غير حاجة فلا يجوز، بخلاف المسح على الخفين، فيجوز من غير حاجة.
قوله (ومسحها بالماء)
تمسح الجبيرة بالماء، ولا يحتاج إلى التيمم مع المسح، بل يكفي المسح على القول الراجح، لأن إيجاب طهارتين لعضو واحد مخالف للقواعد الشرعية.
م/ وَصِفَةُ مَسَحِ اَلْخُفَّيْنِ: أَنْ يَمْسَحَ أَكْثَرَ ظَاهِرَهُمَا.
ذكر المؤلف صفة المسح على الخفين؛ وهو أن المشروع هو مسح أعلى الخف.
لحديث علي قال: (لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح ظاهر خفيه). رواه أبو داود
• وأما مسح أسفل الخف فلا يشرع.
وأما حديث المغيرة قال: (إن النبي صلى الله عليه وسلم مسح أعلى الخف وأسفله) فهو حديث ضعيف رواه أبو داود وغيره.
قال ابن القيم: " لم يصح عنه أنه مسح أسفلهما ".
• لم يرد حديث في كيفية المسح على الخف، فلذلك يكفي المسلم والمسلمة إمرار اليد على القدم اليمين واليسرى بحيث يصدق عليه أنه مسح.
وقد ذهب بعض العلماء إلى أن الأفضل أن اليد اليمنى تمسح الرجل اليمنى واليد اليسرى تمسح الرجل اليسرى بنفس اللحظة.
لأن في حديث المغيرة: (فمسح عليهما) ولم يقل: بدأ باليمين.
• قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: " وكثير من الناس يمسح بكلا يديه على اليمين، وكلا يديه على اليسرى، وهذا لا أصل له فيما أعلم ".
م/ وَأَمَّا اَلْجَبِيرَةُ: فَيَمْسَحُ عَلَى جَمِيعِهَا.
أي أن المسح على الجبيرة يكون على جميع الجبيرة وليس على بعضها.
لأن الأصل أن البدل له حكم المبدل ما لم ترد السنة بخلافه، وهذا المسح بدل الغسل، فكما أن الغسل يجب أن يعمَّ العضو كله، فكذلك المسح يجب أن يعم جميع الجبيرة.
• وهذا من الفروق بين المسح على الجبيرة وبين المسح على الخفين.
• لم يذكر المؤلف رحمه الله مبطلات المسح على الخفين وهي:
خلع الخف.
لأن حكم الرجِل في الأصل الغَسل، وإنما انتقل إلى المسح بدلاً عن الغسل لتغطية القدم، فإذا خلع الخف فقد عاد حكمه إلى وجوب الغسل.
وهذا مذهب الإمام أحمد وإسحاق، ورجحه الشيخ ابن باز.
وذهب بعض العلماء إلى أن خلع الخف لا ينقض الوضوء، ورجح هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية.
لعدم الدليل على النقض.
قاس بعضهم بمن حلق رأسه بعد مسحه فإنه لا يجب عليه إعادة مسح الرأس، وهذا القياس كما قال الحافظ ابن حجر فيه نظر.
والراجح القول الأول.
بَابُ نَوَاقِضِ اَلْوُضُوءِ
أي مبطلات الوضوء.
ونواقض الوضوء تنقسم إلى قسمين:
1 -
قسم متفق عليه.
2 -
قسم مختلف فيه.
م/ وَهِيَ: اَلْخَارِجُ مِنْ اَلسَّبِيلَيْنِ مُطْلَقًا.
السبيلين: واحدهما سبيل، وهو الطريق، والمراد مخرج البول والغائط [القبل والدبر].
والخارج من السبيلين: كالبول، والغائط، والمني، والمذي، والريح.
البول والغائط:
قال تعالى: (أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ).
الريح:
لحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا وجد أحدكم في بطنه شيئاً فأشكل عليه أخرج منه شيء أم لا؟ فلا يخرجن حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً). رواه مسلم
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ). متفق عليه
وقال صلى الله عليه وسلم في المذي: (يغسل ذكره ويتوضأ).
قال ابن قدامة: " الخارج من السبيلين على ضربين: معتاد كالبول والغائط والمني والمذي والودي والريح، فهذا ينقض الوضوء إجماعاً ".
• الودي: عصارة تخرج بعد البول نُقط بيضاء في آخر البول.
• يستثنى من الخارج من السبيلين ممن حدثه دائم فلا يبطل وضوءه بالحدث الدائم للحرج والمشقة.
• الخارج النادر كالدم والدود والحصى، فهذا ينقض، لأنه خارج من مخرج الحدث، ولأنه لا يخلو من بّلةٍ تتعلق به.
م/ وَالدَّمُ اَلْكَثِيرُ وَنَحْوُهُ.
أي أنه إذا خرج من الإنسان دم؛ فإنه ناقض للوضوء، لكن قيده المؤلف بالكثير.
واختلف العلماء في قدر الكثير:
قيل: قدر الكف. وقيل: قدر الدرهم. وقيل: يرجع إلى العرف. وقيل: المعتبر أوساط الناس قلة وكثرة.
وذهب بعض العلماء إلى أن خروج الدم من غير السبيلين لا ينقض الوضوء قليلاً كان أو كثيراً، وهذا مذهب الشافعي، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية.
لأن الأصل بقاء الطهارة وعدم النقض.
وقال الحسن: (ما زال المسلمون يصلون في جراحاتهم). رواه ابن أبي شيبة
(وصلى عمر وجرحه يثعب دماً). رواه مالك.
(وأصيب عباد بن بشر بسهام وهو يصلي فاستمر في صلاته). رواه أبو داود
وعليه فخروج دم المتوضئ: الرعاف، أو سن، أو للتحليل، أو للتبرع، أو لغسيل الكلى، أو لغير ذلك، لا ينقض الوضوء.
م/ وَزَوَالُ اَلْعَقْلِ بِنَوْمٍ أَوْ غَيْرِهِ.
زوال العقل على نوعين:
1 -
زواله بالكلية، وهذا بالجنون.
2 -
زواله بمعنى تغطيته لوجود عارض لمدة معينة، كنوم أو إغماء، أو سكر ونحو ذلك.
فأما زواله بالجنون، أو الإغماء أو السكر، فهو ناقض للوضوء قليله وكثيره، وهذا بالإجماع، لأن هذا فقد للعقل، ولأنه لو نُبِّه لم ينتبه.
وهذا بالإجماع.
قال النووي: " اتفقوا على أن زوال العقل بالجنون والإغماء والسكر ينقض الوضوء سواء قل أو كثر ".
وأما النوم: فالمؤلف أطلق وظاهره أن النوم ناقض مطلقاً.
وهذا ذهب إليه بعض العلماء، ونسبه النووي للحسن. قال ابن المنذر:" وبه أقول ".
لحديث صفوان بن عسال وقد سبق: (
…
إلا من غائط وبول ونوم). فدل على أن النوم ناقض، كما أن الغائط والبول ناقضان.
وذهب بعض العلماء إلى أن النوم لا ينقض مطلقاً، ونسبه النووي إلى موسى وسعيد بن المسيب.
لحديث أنس قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم على عهده - ينتظرون العشاء حتى تخفق رؤوسهم، ثم يصلون ولا يتوضأون). رواه أبو داود
وعند البيهقي: (لقد رأيت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوقظون للصلاة حتى إني لأسمع غطيطاً، فيصلون ولا يتوضؤون).
والذي يظهر أن الراجح هو الجمع بين الأدلة، وهو أن النوم الكثير المستغرق الذي يزيل الشعور ناقض للوضوء، لحديث صفوان بن عسال.
وأما النوم اليسير الذي لا يشعر بمن حوله؛ فإنه لا يعتبر ناقضاً لفعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا تجتمع الأدلة.
لأن النوم ليس حدثاً في ذاته، وإنما هو مظنة للحدث بخروج الريح.
م/ وَأَكَلُ لَحْمِ اَلْجُزُورِ.
وهذا الناقض من مفردات مذهب الحنابلة، واختاره ابن المنذر، وذهب إليه أهل الحديث.
لحديث جابر بن سمرة قال: (أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: إن شئت، قال: أتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم). رواه مسلم
ولحديث البراء قال: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوضوء من لحوم الإبل؟ فقال: توضئوا منها، وسئل عن الصلاة في مبارك الإبل؟ فقال: لا تصلوا في مبارك الإبل). رواه أبو داود
قال ابن خزيمة: " لم أر خلافاً بين علماء الحديث أن هذا الخبر صحيح من جهة النقل لعدالة ناقليه ".
وذهب جمهور العلماء إلى أن لحم الجزور لا ينقض الوضوء.
لحديث جابر قال: (كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار). رواه أبو داود
ولحديث ابن عباس مرفوعاً: (الوضوء مما يخرج لا مما يدخل).
والراجح القول الأول، والجواب عن حديث جابر فهو عام، وأحاديث نقض الوضوء خاصة، والخاص يقضي على العام.
وأما حديث ابن عباس فالصحيح أنه موقوف.
قوله (وأكل لحم) يدل على أنه لا فرق بين قليله وكثيره، كما أنه يشمل المطبوخ والمشوي والنيء، لأنه لحم.
قوله (لحم جزور) المشهور من المذهب أن الحكم خاص باللحم وهو الهبر، بخلاف الكرش والكبد والشحم والأمعاء ونحوها، فإن هذه الأشياء لا تدخل تحت مسمى اللحم.
وهذا اختيار الأكثر، واختاره الشيخ محمد بن إبراهيم، والشيخ ابن باز.
وذهب بعض العلماء إلى أن الحكم عام، فالكل ينقض.
واختاره السعدي، والشيخ ابن عثيمين، واستدلوا:
1 -
أن اللحم في اللغة يشمل جميع الأجزاء، بدليل قوله تعالى:(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ) فلحم الخنزير يشمل كل ما في جلده.
2 -
أن في الإبل أجزاء كثيرة قد تقارب الهبر، ولو كانت غير داخلة؛ لبيَّن ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم لِعِلمهِ أن الناس يأكلون الهبر وغيره.
3 -
أنه ليس في شريعة محمد صلى الله عليه وسلم حيوان تتبعض أجزاؤه حلاً وحرمة، وطهارة ونجاسة، وسلباً وإيجاباً، وإذا كان كذلك فلتكن أجزاء الإبل كلها واحدة.
وهذا القول هو الراجح.
أما اللبن، فلا ينقض الوضوء، وهذا مذهب أكثر العلماء.
لأن الحديث إنما ورد في اللحم.
أن الأصل عدم النقض حتى يثبت أنه ناقض.
وأما حديث: (توضئوا من ألبان الإبل) فهو حديث ضعيف رواه ابن ماجه وغيره.
• واختلف في الحكمة من الوضوء من لحم الإبل:
فقيل: تعبدية.
قيل: معللة، وهي ما جاء في حديث البراء:(فإنها خلقت من الشياطين). رواه أبو داود
م/ وَمَسُّ اَلْمَرْأَةِ بِشَهْوَةٍ.
فمن مس امرأة بشهوة فإنه ينتقض وضوءه.
وهذا المذهب وهو قول مالك.
وذهب بعض العلماء إلى أن مس المرأة ينقض مطلقاً، وهو قول الشافعية.
لقوله تعالى: (أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ) قالوا: وحقيقة اللمس ملاقاة البشرتين، ويؤيد ذلك القراءة الأخرى (أو لمستم) بغير ألف.
والراجح أن مس المرأة لا ينقض الوضوء مطلقاً، سواء كان بشهوة أم لا، إلا إذا خرج منه شيء.
لحديث عائشة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قبّل بعض نسائه ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ). رواه أبو داود وفيه ضعف
وعنها قالت: (كنت أنام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجلاي في قبلته، فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي، فإذا قام بسطتهما
…
). متفق عليه
فقولها: (غمزني) دليل على أن لمس المرأة لا ينقض.
وعنها قالت: (فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فخرجت ألتمسه
…
فوجدته في المسجد يصلي وهو ساجد، وقدماه منصوبتان، قالت: فوقعت يدي على قدميه وهو ساجد
…
). رواه مسلم
وأما الآية فقد فسرها ترجمان القرآن ابن عباس بالجماع، واختاره ابن جرير.
ولأن الأصل براءة الذمة، فلا يجب الوضوء إلا بدليل.
ولأن النساء موجودات في البيوت وتعم البلوى بهن، ولو كان مسهن ناقضاً للوضوء لبينه الله تعالى.
م/ وَمَسُّ اَلْفَرْجِ.
هذا الناقض السادس من نواقض الوضوء، وهو مس الفرج، أي بدون حائل، لأن مع الحائل لا يسمى مساً.
وهذا هو المذهب ومذهب الشافعي.
لحديث بسرة بنت صفوان قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من مس الذكر فليتوضأ). رواه أبو داود
وذهب بعض العلماء إلى أن مس الذكر لا ينقض الوضوء.
لحديث طلق بن علي وفيه: (يا رسول الله؛ ما ترى في مس الرجل ذكره بعد ما توضأ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: هل هو إلا بضعة منك). رواه أبو داود، مختلف فيه
والراجح أن مس الذكر ينقض الوضوء، لأمور:
أولاً: أن حديث بسرة أقوى وأصح من حديث طلق. قال البخاري: " حديث بسرة أصح شيء في الباب ".
ثانياً: أن حديث بسرة له شواهد كثيرة تعضده رواها سبعة عشر صحابياً.
[عن أبي هريرة، وعن أم حبيبة، وعن زيد بن خالد].
ثالثاً: أن حديث بسرة ناسخ لحديث طلق، لأن حديثها متأخر، وطلق قدم المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يبنون المسجد في أول الهجرة.
ومن قال بالنسخ: ابن حبان، والطبراني، وابن العربي، والبيهقي، وابن حزم.
وهذا القول هو الراجح.
• هذا الحكم عام للرجال وللنساء، وجاء في حديث:(أيما امرأة مست فرجها فلتتوضأ).
• لا ينقض إذا مسه بذراعه.
م/ وَتَغْسِيلُ اَلْمَيِّتِ.
هذا الناقض السابع من نواقض الوضوء، وهو تغسيل الميت.
واستدلوا بما ورد عن عطاء أن ابن عمر وابن عباس كانا يأمران غاسل الميت بالوضوء.
وذهب بعض العلماء إلى أنه لا ينقض الوضوء.
وهو قول جمهور العلماء، واختاره ابن تيمية.
قال الموفق: " وهو الصحيح إن شاء الله ".
لأن الوجوب من الشرع، ولم يرد في هذا نص، ولا هو في معنى المنصوص عليه، فبقي على الأصل.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: " فالراجح أن تغسيل الميت لا ينقض الوضوء، وهو اختيار الموفق، وشيخ الإسلام، وجماعة من أهل العلم ".
وأمّا ما ورد عن هؤلاء الصحابة فإنه يحمل على الاستحباب.
م/ وَالرِّدَّةُ: وَهِيَ تُحْبِطُ اَلْأَعْمَالَ كُلَّهَا.
هذا الناقض الثامن من نواقض الوضوء، وهو الردة.
والردة: رجوع المسلم من الإسلام إلى الكفر، بفعل ناقض من نواقض الوضوء.
فإذا توضأ المسلم، ثم ارتد، فإنه يبطل وضوءه، لقوله تعالى:(لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) فالردة تحبط جميع الأعمال.
والراجح أن الردة لا توجب الوضوء، لأن الطهارة إذا وجدت فهي باقية لا تزول إلا بما دل الشرع على أنه ناقض، ولا دليل هنا.
وأما الآية فلا دليل فيها، لأن المشهور أن الإحباط مشروط بالموت على الردة، كما قال تعالى: (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ
…
).
بَابُ مَا يُوجِبُ اَلْغُسْلَ وَصِفَتِهِ
سيذكر المصنف في هذا الباب موجبات الغسل وصفته:
والغسل: بضم العين، وهو تعميم البدن بالماء.
م/ وَيَجِبُ اَلْغُسْلُ مِنَ: اَلْجَنَابَةِ: وَهِيَ: إِنْزَالُ اَلْمَنِيِّ بِوَطْءٍ أَوْ غَيْرِهِ.
الجنابة: هي إنزال المني، وسمي من عليه جنابة جنباً لأنه يتجنب الصلاة والعبادة، أو لأن المني بَعُدَ عن محله وانتقل.
الموجب الأول: إنزال المني، وقد قيده بعض الفقهاء أن يكون دفقاً بلذة.
قال تعالى: (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا).
وعن أم سلمة (أن أم سُليم قالت: يا رسول الله؛ إن الله لا يستحي من الحق؛ فهل على المرأة من غسل إن هي احتلمت؟ قال: نعم، إذا رأت الماء). متفق عليه
احتلمت: الاحتلام اسم لما يراه النائم من الجماع، فيحدث معه إنزال المني غالباً.
وعن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما الماء من الماء). متفق عليه
(إنما الماء) أي ماء الغسل. (من الماء) أي من المني.
قال النووي: " وقد أجمع المسلمون على وجوب الغسل على الرجل والمرأة بخروج المني ".
• قولنا: (خروج المني بلذة وتدفق) مفهومه أنه لو خرج بلا لذة ولا تدفق؛ فلا غسل عليه، وهذا في اليقظان واضح، وهو الراجح؛ أنه لا غسل عليه، فلو خرج منه لغير ذلك كبرد أو مرض ونحوهما فلا غسل عليه، بل يكون نجساً يغسل كغيره وليس منياً.
• وأما النائم فعليه الغسل مطلقاً، لأنه قد لا يحس به، وهذا يقع بكثرة، فإذا استيقظ الإنسان فوجد الأثر ولم يشعر باحتلام؛ فعليه الغسل، بدليل حديث أم سلمة حين سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل هل عليها من غسل؟ قال:(نعم، إذا هي رأت الماء)
فأوجب الغسل برؤية الماء ولم يشترط أكثر من ذلك، فدل على وجوب الغسل إذا استيقظ ووجد الماء.
وقول المصنف (بوطء وغيره) كالاستمناء.
قوله (إنزال المني) لا بد من إنزال المني، فلو أحس بانتقاله لكنه لم يخرج؛ فليس عليه غسل، وهذا مذهب الجمهور واختيار ابن تيمية ورجحه ابن قدامة.
لأن النبي صلى الله عليه وسلم علق الاغتسال على الرؤية بقوله: (إذا رأت الماء) فلا يثبت الحكم بدونه، ولو وجب الغسل بالانتقال لبينه النبي صلى الله عليه وسلم لدعاء الحاجة إلى بيانه.
م/ أَوْ بِالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ.
هذا الموجب الثاني لغسل الجنابة، وهو جماع الرجل المرأة، فإذا جامعها والتقى موضع الختان منه بموضع الختان منها - وهو كناية عن حصول الإيلاج - وجب الغسل.
لحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل). متفق عليه
زاد مسلم: (وإن لم ينزل).
• والمراد بشعبها الأربع: يداها ورجلاها، وهو كناية عن مكان الرجل من المرأة حال الجماع.
• فإذا حصل إيلاج وجب الغسل سواء أنزل أو لم ينزل.
• وهذا الحكم ذهب إليه الجمهور، بل حكاه بعضهم إجماعاً للصحابة، حكي ذلك عن النووي وابن العربي: أن الصحابة أجمعوا على وجوب الغسل من الإيلاج ولو لم ينزل لهذا الحديث الصحيح الصريح.
وقد كان فيه خلافاً لبعض الصحابة كأبي سعيد وزيد بن خالد ورافع بن خديج وداود الظاهري؛ أنه لا يجب الغسل إلا بالإنزال.
لحديث أبي سعيد الخدري: (إنما الماء من الماء) لكن هذا قول ضعيف.
والجواب عن حديث: (إنما الماء من الماء):
1 -
أنه منسوخ، وأن هذا كان في أول الإسلام ثم نسخ.
2 -
أن ذلك محمول على الاحتلام، وقد مال إليه الحافظ ابن حجر.
• الحكمة من الغسل من الجنابة: أن البدن بعد الجماع يصاب بالخمول والكسل والضعف، والاغتسال يعيد إليه نشاطه وحيويته وقوته.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم عن الوضوء بعد الجماع: (فإنه أنشط للعود).
م/ وَخُرُجُ دَمِ الحَيضِ وَالنِّفَاس.
هذا الموجب الثالث من موجبات الغسل، فإذا حاضت المرأة وانقطع حيضها، وجب عليها الغسل، وهذا بالإجماع.
قال تعالى: (وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ).
وقال صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت أبي حُبيش: (إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغتسلي وصلي). متفق عليه
وأجمع المسلمون على وجوب الغسل، وممن نقل الإجماع: النووي عن ابن المنذر، وابن حجر.
م/ وَمُوتُ غَيرِ الشَّهِيد.
هذا الموجب الرابع من موجبات الغسل، فإذا مات المسلم وجب على المسلمين غسله، والمراد وجوب ذلك على الأحياء، إذ لا وجوب بعد الموت.
لقوله صلى الله عليه وسلم للذي وقصته ناقته بعرفة: (اغسلوه بماء وسدر). متفق عليه
ولقوله صلى الله عليه وسلم: (اغسلنها) فهذه أوامر، والأمر للوجوب.
• ظاهر كلامه أنه لا فرق بين الصغير والكبير، أما السِّقط فإن نفخ فيه الروح غسِّل وصلي عليه، وهو ما تم له أربعة أشهر، وإلا فلا يغسل ولا يصلى عليه.
• قول المصنف (غير شهيد) أي يستثنى الشهيد، [شهيد المعركة]، فلا يغسل.
لحديث جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ادفنوهم في دمائهم - يعني يوم أحد- ولم يغسلهم). رواه البخاري
قال الشيخ ابن عثيمين: " لأن التغسيل واجب ولا يترك إلا لمحرم ".
والمراد شهيد المعركة، وأما سائر ما يطلق عليهم اسم الشهيد كالمطعون والمبطون وغيرهم، فيغسلون إجماعاً.
م/ وَإِسَّلَام كَافِر.
هذا الموجب الخامس من موجبات الغسل، وهو إسلام الكافر.
وسواء كان الكافر أصلياً أو مرتداً.
الأصلي: من أصله كافر لم يدخل في الإسلام.
والمرتد: من ارتد وترك الإسلام ثم رجع إليه.
والدليل على أن إسلام الكافر موجب للغسل:
حديث أبي هريرة - في قصة ثمامة بن أثال عند ما أسلم -: (أمره صلى الله عليه وسلم أن يغتسل). رواه أبو داود
ولحديث قيس بن عاصم: (أنه أسلم فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يغتسل بماء وسدر). رواه أبو داود
قال الشوكاني: " والظاهر الوجوب، لأن أمر البعض قد وقع به التبليغ، ودعوى عدم الأمر لمن عندهم لا يصلح متمسكاً، لأن غاية ما فيها عدم العلم بذلك، وهو ليس علماً بالعدم ".
وهذا مذهب أحمد ورجحه ابن المنذر والشوكاني.
وذهب جمهور العلماء إلى أنه لا يجب الغسل على الكافر إذا أسلم وإنما يستحب.
واستدلوا على عدم الوجوب:
بأن العدد الكثير والجم الغفير أسلموا، فلو أمر كل من أسلم بالغسل لنقل نقلاً متواتراً أو ظاهراً، ولأمر به أمراً عاماً.
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذ إلى اليمن قال له: (ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله
…
) ولو كان الغسل واجباً لأمرهم به، لأنه أول واجبات الإسلام.
ويؤيد ذلك: أنه صلى الله عليه وسلم أمر قيساً أن يغتسل بماء وسدر، والسدر غير واجب.
وهذا القول هو الراجح جمعاً بين الأدلة.
م/ وَقَد أَمَرَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم بِالغُسْلِ مِنْ تَغْسِيلِ المَيِّت.
هذا الموجب السادس من موجبات الغسل، وهو الغسل من تغسيل الميت.
واستدلوا من قالوا بالوجوب بحديث أبي هريرة قال: قال صلى الله عليه وسلم: (من غسل ميتاً فليغتسل). رواه أبو داود
وذهب جماهير العلماء إلى أن الغسل من غسل الميت لا يجب، لأمور:
لحديث ابن عمر قال: (كنا نغسل الميت فمنا من يغتسل ومنا من لا يغتسل). رواه الدار قطني
ولحديث ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ليس عليكم في ميتكم غسل إذا غسلتموه، إن ميتكم يموت طاهراً وليس بنجس، فحسبكم أن تغسلوا أيديكم). حسنه الحافظ ابن حجر
وحديث: (من غسل ميتاً فليغتسل) حديث ضعفه جمع من العلماء.
• قال الفقهاء: " الغاسل هو من يقلبه ويباشره ولو مرة، لا من يصب الماء ونحوه ".
م/ وَأَمَّا صِفَةُ غَسْلِ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنَ اَلْجَنَابَةِ.
سيذكر المؤلف هنا صفة الاغتسال من الجنابة، والغسل من الجنابة ينقسم إلى قسمين:
الغسل الكامل المسنون، والغسل المجزئ.
سيذكر المؤلف أولاً الغسل الكامل، فقال:
م/ فَكَانَ يَغْسِلُ فَرْجَهُ أَوَّلًا.
لم يذكر المؤلف النية، لعله لأن الكتاب مختصر.
والنية لا بد منها، لقوله:(إنما الأعمال بالنيات).
فينوي رفع الحدث الأكبر، أو استباحة الصلاة أو القراءة أو نحو ذلك، فلو وقع الماء ولم ينو الغسل؛ أو اغتسل للتبرد ولم يكن قربة ولا عبادة؛ لا يرتفع حدثه.
• ولم يذكر المؤلف التسمية، وهي سنة قبل الاغتسال.
• ويسن أن يغسل كفيه قبل البداءة بالغسل، لأنها أداة غرف الماء.
لحديث عائشة قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة يبدأ فيغسل يديه، ثم يفرغ بيمينه على شماله فيغسل فرجه، ثم يتوضأ، ثم يأخذ الماء؛ فيدخل أصابعه في أصول الشعر، ثم حفن على رأسه ثلاث حفنات، ثم أفاض الماء على سائر جسده، ثم غسل رجليه). متفق عليه
فالمؤلف ذكر: ثم يغسل فرجه أولاً.
لحديث ميمونة في صفة غسل النبي صلى الله عليه وسلم من الجنابة قالت: (وَضَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وضوء الجنابة، فأكفأ بيمينه على يساره مرتين أو ثلاثاً، ثم غسل فرجه
…
).
وبدأ بغسل الفرج أولاً لأنه محل التلوث في الجنابة، فيزيل ما عليه من الأذى.
• ويسن بعد غسل فرجه أن يغسل يده بمنظف عقب الاستنجاء بها.
ففي حديث ميمونة: (ثم ضرب يده بالأرض أو الحائط مرتين أو ثلاثاً).
م/ ثُمَّ يَتَوَضَّأُ وُضُوءًا كَامِلًا.
أي يسن له أن يتوضأ قبل الغسل.
لحديث عائشة السابق: (
…
وتوضأ وضوءه للصلاة
…
).
قال الشوكاني: " قدّم غسل الأعضاء تشريفاً لها، ولتكمل لها الطهارتان ".
• وهذا الوضوء سنة بالإجماع، لأن الله أمر بالغسل ولم يذكر الوضوء، فليس واجباً لا قبل الغسل ولا بعده، بل إذا اغتسل كفى، لقوله تعالى:(وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) فلم يوجب علينا سوى أن نطهر، أي نَعُم البدن بالماء.
• وقول المؤلف: (وضوءاً كاملاً) أي مع غسل الرجلين لحديث عائشة السابق.
لكن جاء في حديث ميمونة: (
…
ثم تنحى فغسل رجليه
…
).
والصحيح أنه يتوضأ وضوءاً كاملاً مع الرجلين، لأن هذا الغالب من فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، لأن عائشة ذكرت غسل النبي صلى الله عليه وسلم للجنابة على سبيل الدوام، وأما حديث ميمونة فيحمل أن ذلك كان لحاجة، كما لو كانت الأرض رطبة، لأنه لو غسلهما لتلوثت رجلاه بالطين.
م/ ثُمَّ يَحْثِي اَلْمَاءِ عَلَى رَأْسِهِ ثَلَاثًا، يَرْوِيهِ بِذَلِكَ.
أي وبعد أن يتوضأ وضوءه للصلاة يحثي الماء على رأسه.
لحديث عائشة: (ثم يخلل بيده شعره، حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته أفاض عليه الماء ثلاث مرات).
وفي حديث ميمونة: (أفاض على ر أسه الماء).
ومثل ذلك ما جاء في حديث عائشة: (ثم يأخذ الماء فَيُدخل أصابعه في أصول الشعر، حتى أنه إذا رأى أنه قد استبرأ حفن على رأسه ثلاث حفنات).
ففيه استحباب أن يخلل شعر رأسه، وصفته إدخال الأصابع فيما بين أجزاء الشعر.
فائدة التخليل:
1 -
تسهيل إيصال الماء للشعر والبشرة.
2 -
مباشرة الشعر باليد ليحصل تعميمه.
3 -
تأنيس البشرة خشية أن يصيب بصبه دفعة واحدة آفة في رأسه.
ويستحب أن يبدأ بشقه الأيمن.
لحديث عائشة قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة دعا بشيء من الحلاب، فأخذ بكفيه، فبدأ بشعر رأسه الأيمن ثم الأيسر). متفق عليه
بشيء من الحلاب: إناء يسع قدر حلب ناقة.
م/ ثُمَّ يُفِيضُ المَاءَ عَلَى سَائِرِ جَسَدِه.
لحديث عائشة: (
…
ثم أفاض الماء على سائر جسده).
وفي حديث ميمونة: (ثم أفاض على رأسه الماء ثم غسل سائر جسده).
• وظاهره أنه ليس فيه تثليث، وأن التثليث خاص بغسل الرأس فقط مما سبق في حديث عائشة.
• وقول المصنف: (ثم يفيض الماء
…
) هذا دليل على أن الدلك غير واجب.
والدلك هو إمرار اليد على البدن مع الماء أو بعده، وهو غير واجب، وهذا مذهب الجمهور خلافاً لمالك.
لقول عائشة: (
…
ثم أفاض الماء على سائر جسده
…
).
وفي حديث ميمونة: (
…
ثم أفاض الماء على سائر بدنه).
لكن هو من سنن الاغتسال.
لحديث عبد الله بن زيد: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِثُلُثَي مُد فجعل يدلك ذراعيه). رواه أحمد
م/ ثُمَّ يَغْسِلُ رِجْلَيْهِ بِمَحَلٍّ آخَرَ.
سبق الكلام عليه.
م/ وَالْفَرْضُ مِنْ هَذَا: غَسْلُ جَمِيعِ اَلْبَدَنِ، وَمَا تَحْتَ اَلشُّعُورِ اَلْخَفِيفَةِ وَالْكَثِيفَةِ.
هذا هو صفة الغسل المجزئ.
أن يعمم بدنه بالماء مع المضمضة والاستنشاق.
لقوله تعالى: (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) ولم يذكر الله شيئاً سوى ذلك، ومن عمم بدنه بالغسل مرة صدق عليه أنه تطهر
بَابُ اَلتَّيَمُّمِ
التيمم لغة القصد، يقال تيمم الشيء وتيممه: أي قصده.
وشرعاً: مسح الوجه واليدين من الصعيد الطيب، بدلاً عن طهارة الماء عند تعذر استعماله.
وهو من خصائص هذه الأمة.
لقوله صلى الله عليه وسلم: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من قبلي
…
وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل) متفق عليه
وهو ثابت بالكتاب والسنة والإجماع.
قال تعالى: (فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً).
والسنة أحاديث كثيرة:
منها حديث عمران بن حصين قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فصلى بالناس، فإذا هو برجل معتزل فقال: ما منعك أن تصلي؟ قال: أصابتني جنابة ولا ماء، قال: عليك بالصعيد فإنه يكفيك). متفق عليه
وعن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الصعيد طهور المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته فإن ذلك خير). رواه أحمد
• وكانت مشروعيته في السنة السادسة في غزوة بني المصطلق، لما ضاع عقد عائشة.
ففي الصحيحين عن عائشة: (أنها استعارت من أسماء قلادة فهلكت، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجالاً في طلبها فوجدوها فأدركتهم الصلاة وليس معهم ماء، فصلوا بغير وضوء، فلما أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم شَكَوْا ذلك إليه، فقال: فأنزل الله آية التيمم). متفق عليه
م/ وَهُوَ اَلنَّوْعُ اَلثَّانِي مِنَ اَلطَّهَارَةِ.
تقدم النوع الأول وهو الطهارة بالماء، والدليل على أن التراب هو النوع الثاني قوله تعالى:(أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا) فنص أولاً على الماء، وعند تعذره يرجع إلى التيمم.
م/ وَهُوَ بَدَلٌ عَنِ اَلْمَاءِ إِذَا تَعْذَّرَ اِسْتِعْمَالُ اَلْمَاءِ لِأَعْضَاءِ اَلطَّهَارَةِ أَوْ بَعْضِهَا لِعَدَمِهِ.
المؤلف يريد أن يذكر هنا متى يجوز التيمم، وذكر رحمه الله أنه بدل عن الماء، ومن المعلوم أن البدل له حكم المبدل، فهذا يدل على أنه رافع ويقوم مقام الماء.
وهذا مذهب أبي حنيفة واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية
لقوله تعالى: (فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ). قالوا: هذا دليل على أن التيمم طهارة، فهو مطهر كما يطهر الماء بنص القرآن.
ولقوله صلى الله عليه وسلم: (وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً). قالوا:
هذا دليل على أن التراب طهور للمتيمم كما أن الماء طهور له إلا أن طهرة التراب مؤقتة.
أنه بدل، والقاعدة الشرعية:(أن البدل له حكم المبدل).
وهذا القول هو الصحيح.
وذهب بعض العلماء إلى أنه مبيح لا رافع وهذا مذهب الشافعي ونسبه النووي للجمهور.
لحديث أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الصعيد طهور المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجده فليمسه بشرته). رواه الترمذي. قالوا: ولو رفع الحدث لم يحتج الماء إذا وجده. والأول أصح.
وعليه:
إذا تيمم لنافلة فإنه يصلي به فريضة وغيرها من الصلوات، ولا يبطل بخروج الوقت، لأنه يقوم مقام الماء.
وإذا تيمم لمس المصحف صلى به نافلة.
• قوله: (إِذَا تَعْذَّرَ اِسْتِعْمَالُ اَلْمَاءِ لِأَعْضَاءِ اَلطَّهَارَةِ أَوْ بَعْضِهَا لِعَدَمِهِ) ذكر أن التيمم بدل عن الماء إذا تعذر استعماله لعدم، فهذا شرط التيمم: فقد الماء وتعذره.
وهذا شرط للتيمم بالإجماع.
فإذا كان غير واجد للماء لا في بيته، ولا في رحله إن كان مسافراً، ولا ما قرب منه؛ فإنه يشرع له التيمم.
لقوله تعالى: (فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا).
ولقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق: (الصعيد طهور المسلم
…
).
• إذا وجد الماء لكن بثمن زائد كثيراً:
قال بعض الفقهاء: يعدل إلى التيمم ولو معه قيمته.
وعللوا ذلك بأن هذه الزيادة تجعله في حكم المعدوم.
لكن الصواب إن كان قادراً على شرائه لوجود ثمنه عنده؛ فإنه يشتريه إذا لم يكن عليه ضرر.
لأن الله يقول: (فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً). والماء هنا موجود.
• لكن إن كان غير واجد الثمن، أو ليس معه إلا بعضه؛ فهو عادم للماء، ولا يلزمه الاقتراض، لما في ذلك من المنة.
م/ أَوْ خَوْفِ ضَرَرٍ بِاسْتِعْمَالِهِ.
هذه من الحالات التي يجوز فيها التيمم، وهي إذا خاف باستعمال الماء الضرر، فيخاف إذا استعمل الماء معه يزيد عليه مشقة
• وكما لو حصل برد شديد، وعَدِمَ ما يسخن به الماء، وخاف الضرر من البرد، لأنه داخل في عموم قوله تعالى:(وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى) ولقوله تعالى: (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ).
ولحديث أبي سعيد الخدري قال: (خرج رجلان في سفر فحضرت الصلاة وليس معهما ماء فتيمما صعيداً طيباً فصليا، ثم وجدا الماء في الوقت فأعاد أحدهما الصلاة بالوضوء ولم يعد الآخر، ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرا ذلك له فقال للذي لم يعد: (أصبت السنة وأجزأتك صلاتك) وقال للذي توضأ وأعاد: (لك الأجر مرتين).
أو خاف باستعماله ضرر رفيقه أو حرمته أو بهائمه.
ضرر رفيقه: أن يكون معه قليل ورفقة، فإن استعمل الماء عطش الرفقة وتضرروا، فهنا يتيمم ويدع الماء للرفقة.
أو حرمته: خاف باستعمال الماء ضرر امرأته.
أو ماله: كما لو كان معه حيوان، وإذا استعمل الماء تضرر أو هلك.
وقول المصنف: (أو بعضها) أي عدم الماء لبعض أعضاء الطهارة.
مثال: إنسان عنده ماء يكفي لغسل الوجه واليدين فقط.
فقيل: يجب أن يستعمل الماء أولاً ثم يتيمم.
لقوله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا).
ولقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم). متفق عليه
وليصدق عليه أنه عادم للماء إذا استعمله قبل التيمم.
وقيل: يتيمم ولا يلزم استعماله، وهذا اختيار المصنف.
والأول أرجح.
م/ فَيَقُومُ اَلتُّرَابُ مَقَامَ اَلْمَاءِ بِأَنْ: يَنْوِيَ رَفْعَ مَا عَلَيْهِ مِنْ اَلْأَحْدَاثِ.
فالتيمم يقوم مقام الماء، فإذا تيمم وكان عليه جنابة، فإن الجنابة ترتفع، وكذلك لو عليه أي حدث من الأحداث، فإن التيمم يرفعه.
فالتيمم بدل عن الماء والبدل له حكم المبدل.
فيجوز إذا تيمم لفريضة أن يصلي به فريضة أخرى، ولو تيمم لنافلة أن يصلي به فريضة، أو تيمم لقراءة قرآن كما سبق.
م/ ثُمَّ يَقُولَ: بِسْمِ اَللَّهِ.
أي يسن أن يقول قبل التيمم: بسم الله، وهذا سنة.
لأن التيمم بدل، والبدل له حكم المبدل.
م/ ثُمَّ يَضْرِبَ اَلتُّرَابَ بِيَدِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً.
أي أن التيمم ضربة واحدة.
لحديث عمار قال: (بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة فأجنبت، فلم أجد الماء، فتمرغت في الصعيد كما تمرغ الدابة، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فقال: إنما يكفيك أن تقول هكذا، ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة، ثم مسح الشمال على اليمين، وظاهر كفيه ووجه). متفق عليه
وذهب بعض العلماء إلى أن التيمم ضربتان: ضربة للوجه وضربة لليدين.
لحديث: (التيمم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين). رواه الدارقطني وهو ضعيف
وقول المصنف: (بيديه) المراد باليدين هنا الكفان.
لقوله تعالى: (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ).
واليد إذا أطلقت فهي عبارة عن الكف.
ويدل لذلك قوله تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) والمراد باليد هنا الكف، لأن القطع إنما يكون من الكف.
وفي حديث عمار السابق: (إنما يكفيك هكذا) ومسح وجهه وكفيه واحدة.
وقول المصنف: (يضرب التراب) اشترط بعض العلماء للتيمم أن يكون بتراب، وهذا قول الشافعي وأحمد.
لقوله صلى الله عليه وسلم: (وجعلت تربتها لنا طهوراً إذا لم نجد الماء). رواه مسلم
وفي حديث آخر: (وجعل التراب لي طهوراً) فقالوا: هذا مخصص لعموم: (وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً).
وقال بعض العلماء: لا يشترط التراب، بل يجوز التيمم بكل ما تصاعد على وجه الأرض من تراب أو رمل أو صخر؛ وسواء كان يابساً أم ندياً، واستدلوا:
بقوله تعالى: (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) والصعيد هو وجه الأرض كان عليه تراب أو لم يكن.
ولقوله صلى الله عليه وسلم: (حيثما أدركت رجلاً من أمتي الصلاة فعنده مسجده وطهوره) وهذا نص صريح في أن من أدركته الصلاة في أرض رملية فهي له طهور، أو في أرض حجرية فكذلك.
ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما سافر هو وأصحابه في غزوة تبوك؛ قطعوا تلك الرمال في طريقهم، لم يرد أنه حمل معه التراب، ولا أمر به، ولا فعله أحد من أصحابه.
م/ يَمْسَحُ بِهِمَا جَمِيعَ وَجْهِهِ وَجَمِيعَ كَفَّيْهِ. فَإِنْ ضَرَبَ مَرَّتَيْنِ فَلَا بَأْسَ.
أي لا بد من مسح جميع الوجه وجميع كفيه، لقوله تعالى:(فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وأيديكم منه).
ثم يمسح بيديه بعضها على بعض.
• فروض التيمم:
النية. قال ابن قدامة: " لا نعلم خلافاً في أن التيمم لا يصح إلا بنية ".
مسح الوجه واليدين إلى الكوعين.
الترتيب. لقوله تعالى: (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ) فبدأ بالوجه قبل اليدين.
ولأن التيمم مبني على الطهارة بالماء، والترتيب فرض فيها.
لم يذكر المؤلف مبطلات التيمم، وهي:
أولاً: وجود الماء.
فإذا تيمم لعدم وجود الماء بطل بوجوده.
ويبطل التيمم بوجود الماء حتى ولو وجده في أثناء الصلاة.
مثال: إنسان تيمم لعدم الماء، ثم صلى، وفي أثناء الصلاة وجد الماء، إما بنزول مطر أو قدوم شخص معه الماء، فهنا يبطل تيممه ويقطع الصلاة ويتوضأ ويعيد الصلاة.
وهذا القول هو الراجح.
لقوله تعالى: (فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا) وهذا واجد للماء فيبطل حكم التيمم.
ولقوله صلى الله عليه وسلم: (
…
فإذا وجد الماء فليتق الله وليمسه بشرته). رواه أبو داود
وهذا واجد للماء.
وهذا مذهب أبي حنيفة ورجحه ابن حزم.
وذهب بعض العلماء إلى أنه يكمل الصلاة ولا يقطعها.
والصحيح الأول.
• وأما التيمم لمرض لم يبطل بوجوده، لأنه يجوز أن يتيمم مع وجود الماء، ولكن يبطل بالبرء وزوال المبيح وهو المرض.
ثانياً: بمطلات الوضوء.
لأن البدل له حكم المبدل.
فائدة:
• التيمم يكون عن الحدث الأصغر والأكبر.
• التيمم صفة واحدة سواء في الحدث الأكبر أو الحدث الأصغر.
• ذهب جمهور العلماء إلى أن فاقد الماء يجوز له أن يجامع أهله ولو لم يكن معه ماء.
م/ وَمَنْ عَلَيهِ حَدَثٌ أَصَّغَر لَمْ يحِل لَهُ أَن يُصَلِّي.
أي أن من عليه حدث أصغر - والحدث الأصغر هو ما أوجب وضوءاً - فإنه لا يجوز له أن يصلي.
لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ
…
)
ولقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ).
وتحريم الصلاة على المحدث تعم الفرض والنفل، حتى صلاة الجنازة.
م/ وَلَا أَنْ يَطُوفَ بِالبِيت).
أي لا يحل له أن يطوف بالبيت حتى يتوضأ.
وهذا مذهب جمهور العلماء (كما قاله النووي).
لحديث عائشة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أول شيء بدأ به حين قدم مكة أن توضأ ثم طاف بالبيت). رواه مسلم
وذهب بعض العلماء ومنهم ابن تيمية إلى أنه لا يشترط الوضوء للطواف وإنما هو مستحب فقط.
قالوا: لأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بالطهارة للطواف، مع العلم أنه قد حج معه خلائق عظيمة، وقد اعتمر عمراً متعددة والناس يعتمرون معه، ولو كان الوضوء فرضاً للطواف لبيّنه النبي صلى الله عليه وسلم بياناً عاماً، ولو بيّنه لنقل ذلك المسلمون ولم يهملوه.
قال شيخ الإسلام: " والذين أوجبوا الوضوء للطواف ليس معهم حجة أصلاً، فإنه لم ينقل أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم لا بإسناد صحيح ولا ضعيف أنه أمر بالوضوء للطواف، ولكن ثبت في الصحيح أنه لما طاف توضأ، وهذا وحده لا يدل على الوجوب ".
وما رجحه ابن تيمية هو قول جماعة من السلف فقد روى ابن أبي شيبة عن شعبة بن الحجاج قال: (سألت حماداً ومنصوراً وسلمان؛ عن الرجل يطوف بالبيت من غير طهارة؟ فلم يروا به بأساً).
وأما حديث ابن عباس: (الطواف بالبيت صلاة)، فالجواب عنه:
أنه حديث موقوف عن ابن عباس كما رجحه النسائي والبيهقي وابن الصلاح والمنذري والنووي وابن تيمية.
وأيضاً معناه منتقض، لأن معناه أن جميع أحكام الصلاة تثبت للطواف إلا الكلام، ولا قائل بذلك، يجوز فيه الأكل والشرب والضحك، وليس فيه تكبير ولا تسليم ولا قراءة.
م/ وَلَا يَمَسّ المُصَّحَف.
أي لا يحل للمحدث أن يمس المصحف.
وهذا مذهب أكثر العلماء.
لقوله تعالى: (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) قالوا: فالمراد به القرآن الذي بين أيدينا (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ) المنزل هو القرآن.
ولحديث أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن كتاباً فيه: أن لا يمس أحد القرآن إلا طاهر). رواه مالك
قالوا: والمراد بطاهر؛ أي طاهر من الحدث.
والظاهر أن الاستدلال بالآية لا يتم، لأن المراد بالكتاب في هذه الآية - والله أعلم - الكتاب الذي بأيدي الملائكة.
قال الشوكاني: " وهو لا يتم إلا بعد جعل الضمير راجعاً إلى القرآن، والطاهر رجوعه إلى الكتاب، وهو اللوح المحفوظ، لأنه الأقرب، والمطهرون: الملائكة ".
فالاستدلال بالحديث أظهر.
وأن معنى: (إلا طاهر) إلا متوضئ، خلافاً لمن قال (إلا طاهر) المراد به المسلم دون المشرك، لكن الصحيح أن يحمل على المتوضئ:
أولاً: لأنه كثير في لسان الشرع إطلاق هذا اللفظ على المتوضئ.
ثانياً: لأن الصحابة فهموا ذلك وأفتوا به، بأنه لا يمس القرآن إلا على طهارة.
ثالثاً: لأنه لم يعهد على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعبر عن المؤمن بالطاهر، لأن وصفه بالإيمان أبلغ.
• المصحف: هو القرآن المكتوب من الفاتحة إلى سورة الناس، وهذا اللفظ كان معروفاً عند الصحابة.
قال ابن مسعود: " أديموا النظر في المصحف ".
• المس: هو إصابة الشيء وملامسته.
م/ وَيَزِيدُ مَنْ عَلَيهِ جَنَابَة أّنَّهُ لَا يَقرَأُ شَيئَاً مِنَ القُرْآن.
أي أنه لا يجوز للمحدث حدثاً أكبر أن يقرأ شيئاً من القرآن [غيباً].
وهذا مذهب جمهور العلماء.
لحديث علي قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرئنا القرآن على كل حال ما لم يكن جنباً). رواه الترمذي وأبو داود وحسنه الحافظ ابن حجر
ولحديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئاً من القرآن). رواه الترمذي وابن ماجه، وهو ضعيف بالاتفاق
وذهب بعض العلماء إلى أنه يجوز للجنب أن يقرأ القرآن.
وذهب إليه ابن عباس، فقد ذكر عنه البخاري في صحيحه تعليقاً مجزوماً بصحته، فقال:" لم ير ابن عباس بالقرآن للجنب بأساً ".
وجاء هذا القول عن سعيد بن المسيب.
وهذا مذهب داود الظاهري والطبري وابن حزم وابن المنذر في الأوسط.
لحديث عائشة قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه). رواه مسلم
والراجح الأول.
وأيضاً الجنب يمكنه التطهر متى شاء بالماء أو التراب، فليس له عذر في القراءة مع الجنابة.
م/ وَلَا يَلْبَث فِي المَسْجِد بِلَا وُضُوء.
أي لا يجوز للمحدث حدثاً أكبر أن يلبث في المسجد بلا وضوء.
لقوله تعالى: (وَلا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ) أي لا تقربوا مواضع الصلاة جنباً إلا عابري سبيل.
والمراد بعابر السبيل: المار في المسجد سواء لحاجة أو لغيرها.
فلو توضأ جاز له اللبث، وهذا مذهب أحمد واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية.
م/ وَتَزِيدُ الحَائِضُ وَالنُّفُسَاء.
أي يحرم بسبب الحيض والنفاس الأمور السابقة، وهي:
الصلاة، والطواف، ومس المصحف، وقراءة القرآن، واللبث في المسجد.
• لكن قراءة القرآن ذهب بعض العلماء إلى جوازها وأن الحائض لا تمنع منها.
لعدم الدليل.
وأما حديث: (لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئاً من القرآن) ضعيف بالاتفاق.
وقد كان النساء يحضن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلو كانت القراءة عليهن كالصلاة لكان هذا مما بينه النبي صلى الله عليه وسلم لأمته.
وهذا القول هو الصحيح، ولأن حدثها يطول بخلاف الجنب.
• وأما اللبث في المسجد فجمهور العلماء على تحريم ذلك.
لحديث عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب). رواه أبو داود
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر النساء بالخروج لصلاة العيد، وأمر الحيض أن يعتزلن المصلى.
ولحديث عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: (ناوليني الخمْرة من المسجد، فقلت: إني حائض. فقال صلى الله عليه وسلم: إن حيضتك ليست في يدك). رواه مسلم
فقولها (إني حائض) هذا دليل على أنه كان معروفاً أن الحائض لا تمكث في المسجد.
وذهب بعض العلماء إلى جواز المكث في المسجد.
لحديثَ عَائِشَةَ (أَنَّ وَلِيدَةً كَانَتْ سَوْدَاءَ لِحَىٍّ مِنَ الْعَرَبِ، فَأَعْتَقُوهَا، فَكَانَتْ مَعَهُمْ قَالَتْ فَخَرَجَتْ صَبِيَّةٌ لَهُمْ عَلَيْهَا وِشَاحٌ أَحْمَرُ مِنْ سُيُورٍ قَالَتْ فَوَضَعَتْهُ أَوْ وَقَعَ مِنْهَا، فَمَرَّتْ بِهِ حُدَيَّاةٌ وَهْوَ مُلْقًى، فَحَسِبَتْهُ لَحْماً فَخَطَفَتْهُ قَالَتْ فَالْتَمَسُوهُ فَلَمْ يَجِدُوهُ قَالَتْ فَاتَّهَمُونِى بِهِ قَالَتْ فَطَفِقُوا يُفَتِّشُونَ حَتَّى فَتَّشُوا قُبُلَهَا قَالَتْ وَاللَّهِ إِنِّى لَقَائِمَةٌ مَعَهُمْ، إِذْ مَرَّتِ الْحُدَيَّاةُ فَأَلْقَتْهُ قَالَتْ فَوَقَعَ بَيْنَهُمْ قَالَتْ فَقُلْتُ هَذَا الَّذِى اتَّهَمْتُمُونِى بِهِ - زَعَمْتُمْ - وَأَنَا مِنْهُ بَرِيئَةٌ، وَهُوَ ذَا هُوَ قَالَتْ فَجَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَسْلَمَتْ. قَالَتْ عَائِشَةُ فَكَانَ لَهَا خِبَاءٌ فِى الْمَسْجِدِ أَوْ حِفْشٌ قَالَتْ فَكَانَتْ تَأْتِينِى فَتَحَدَّثُ عِنْدِى قَالَتْ فَلَا تَجْلِسُ عِنْدِى مَجْلِساً إِلاَّ قَالَتْ وَيَوْمَ الْوِشَاحِ مِنْ أَعَاجِيبِ رَبِّنَا أَلَا إِنَّهُ مِنْ بَلْدَةِ الْكُفْرِ أَنْجَانِى قَالَتْ عَائِشَةُ فَقُلْتُ لَهَا مَا شَأْنُكِ لَا تَقْعُدِينَ مَعِى مَقْعَداً إِلاَّ قُلْتِ هَذَا قَالَتْ فَحَدَّثَتْنِى بِهَذَا الْحَدِيثِ).
فهذه المرأة ساكنة في المسجد، ومن المعلوم أن المرأة لا تخلو من الحيض كل شهر، فلم يمنعها النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينهها.
والراجح الأول، وأما قصة هذه المرأة فهي قضية عين لا عموم لها، ويحتمل أن هذه السوداء كانت عجوزاً قد يئست من الحيض.
م/ وَتَزِيدُ الحَائِضُ وَالنُّفُسَاءُ أَنَّهَا لَا تَصُوم.
فلا يجوز للحائض أن تصوم فرضاً أو نفلاً.
قال صلى الله عليه وسلم: (أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم). متفق عليه
ولحديث عائشة لما سئلت: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ قالت: (كنا نؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة). متفق عليه
قال النووي: " هذا الحكم متفق عليه، أجمع المسلمون على أن الحائض والنفساء لا يجب عليهما الصلاة ولا الصوم في الحال، وأجمعوا على أنه لا يجب عليها قضاء الصلاة، وأجمعوا على أنه يجب عليها قضاء الصوم ".
م/ ولَا يَحِلُّ وَطُؤُهَا.
أي يحرم على زوجها أن يجامعها في الفرج.
وهذا بالاتفاق.
قال تعالى: (وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ).
والمراد بالمحيض زمان الحيض ومكانه وهو الفرج.
وقال صلى الله عليه وسلم: (اصنعوا كل شيء إلا النكاح). النكاح: أي الجماع
وقال صلى الله عليه وسلم: (من أتى حائضاً أو امرأة في دبرها أو كاهناً فصدقه بما يقول؛ فقد كفر بما أنزل على محمد). رواه الترمذي
قال الشوكاني: " ولا خلاف بين أهل العلم في تحريم وطء الحائض، وهذا معلوم من ضرورة الدين ".
• أما المباشرة فيما فوق السرة وتحت الركبة؛ فهذا جائز بالاتفاق.
قال النووي: " وهو حلال باتفاق العلماء ".
• وأما ما بين السرة والركبة:
فقيل: إنه حرام. وقيل: إنه جائز.
والصحيح أنه جائز بشرطين:
أولاً: أن يتقي الفرج.
ثانياً: أن لا يخش أن يؤدي به ذلك إلى الوقوع في الحرام.
م/ وَلَا طَلَاقُهَا.
أي ويحرم طلاق الحائض.
لحديث ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهْىَ حَائِضٌ فِى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ [فَتَغَيَّظَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ لْيَتْرُكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِى أَمَرَ اللَّهُ عز وجل أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ)
الحديث دليل على تحريم الطلاق حال الحيض وفاعله عاصٍ لله إذا كان عالماً بالنهي، ويؤخذ هذا الحكم من وجهين:
أولاً: من قوله (فتغيظ رسول الله) ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يتغيظ إلا على أمرٍ محرم.
ثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر ابن عمر بإمساكها بعد المراجعة ثم تطليقها في الطهر - فدل على أن تطليقها في الحيض محرما، إذ لو لم يكن محرما لأقر النبي التطليق في الحيض - ويغني عن الطلقة التي تأتي في الطهر.
نقل جماعة من العلماء: الإجماع على أن الطلاق حال الحيض محرم: ابن المنذر - ابن قدامة - النووي.
وهذا التحريم خاص بالمدخول بها، أما غير المدخول بها فيجوز تطليقها مطلقاً حائضاً أو طاهراً، لأن غير المدخول بها ليس عليها عدة. [وهذا مذهب الأئمة الأربعة].
باب الحيض
تعريف الحيض.
لغة: السيلان، يقال: حاض الوادي إذا سال.
وشرعاً: سيلان دم طبيعي يأتي المرأة في أوقات معلومة عند بلوغها.
وهو شيء كتبه الله على بنات آدم، كما قال صلى الله عليه وسلم (هذا شيء كتبه الله على بنات آدم).
خلقه الله لحكمة غذاء الولد وتربيته.
م/ وَالْأَصْلُ فِي اَلدَّمِ اَلَّذِي يُصِيبُ اَلْمَرْأَةَ أَنَّهُ حَيْضٌ، بِلَا حَدٍّ لِسِنِّهِ، وَلَا قَدْرِهِ، وَلَا تَكَرُّرِهِ.
الأصل أن الدم الذي يخرج من المرأة في أوقات معلومة هو حيض.
• أنه دم أسود يعرف، بينما دم الاستحاضة دم أحمر.
• أنه دم منتن، أي له رائحة كريهة، وأما دم الاستحاضة فهو دم عادي ليس له رائحة.
• أن دم الحيض ثخين غليظ، ودم الاستحاضة رقيق ليس ثخيناً.
بلا حد لسنه: يريد المؤلف بهذا الرد على من قال إن الحيض له سن محددة كما قاله بعضهم: لا حيض دون تسع ولا بعد خمسين، واستدلوا: أن العادة أن لا تحيض قبل تسع ولا بعد خمسين سنة.
وذهب بعض العلماء وهو اختيار ابن المنذر وابن تيمية وجماعة من أهل العلم أنه لا حد لأقل سن الحيض ولا لأكثره، بل متى رأت المرأة الدم المعروف فهو حيض تثبت له أحكامه، وإن كانت دون تسع سنين أو فوق الخمسين أو الستين.
والدليل أن الله تعالى قال (وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ). فعلق أحكام الحيض على وجوده، ولم يحدد لذلك سناً معيناً.
وهذا القول هو الراجح.
وقول المصنف: (ولا قدْرهِ) أراد المؤلف بهذا الرد على من قال: إن أقله يوم وليلة وأكثره خمسة عشر يوماً، والراجح من أقوال أهل العلم أنه لا يتقدر أقل الحيض ولا أكثره، لأن الله قال (ولا تقربوهن حتى يطهرن) فجعل غاية المنع هي الطهر، ولم يجعل الغاية مضي يوم وليلة ولا خمسة عشر يوماً، وقال صلى الله عليه وسلم لعائشة لما حاضت (افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي حتى تطهري) فجعل غاية المنع الطهر، ولم يجعل الغاية زمناً معيناً، فدل هذا على أن الحكم يتعلق بالحيض وجوداً وعدماً.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " ومن ذلك اسم الحيض علق الله به أحكاماً متعددة في الكتاب والسنة، ولم يقدر لأقله ولا لأكثره ولا الطهر بين الحيضتين مع عموم بلوى الأمة بذلك واحتياجهم إليه ".
م/ إِلَّا إِنْ أَطْبَقَ اَلدَّمُ عَلَى اَلْمَرْأَةِ، أَوْ صَارَ لَا يَنْقَطِعُ عَنْهَا إِلَّا يَسِيرًا، فَإِنَّهَا تَصِيرُ مُسْتَحَاضَةً.
إذا استمر الدم مع المرأة وأصبح لا ينقطع عنها أو لا ينقطع عنها إلا يسيراً فإنها تصير مستحاضة.
الاستحاضة: استمرار الدم على المرأة بحيث لا ينقطع عنها أبداً، أو ينقطع عنها مدة يسيرة.
وهو دم طبيعي كما في الحديث: (إن ذلك عرق) فهو يختلف عن دم الحيض في طبيعته وفي أحكامه.
م/ فَقَدْ أَمَرَهَا اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ تَجْلِسَ عَادَتَهَا.
لحديث عائشة رضي الله عنها: (أن أم حبيبة بنت جحش شكت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الدم، فقال: امكثي قدر ما كنت تحبسك حيضتك، ثم اغتسلي، فكانت تغتسل لكل صلاة). رواه مسلم
وفي رواية قال لفاطمة بنت أبي حبيش (
…
ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنتِ تحيضين فيها، ثم اغتسلي وصلي) متفق عليه.
مثال: امرأة كان يأتيها الحيض ستة أيام من أول كل شهر، ثم طرأت عليها الاستحاضة، فصار الدم يأتيها باستمرار، فيكون حيضها ستة أيام من أول كل شهر وما عداها استحاضة.
م/ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا عَادَةٌ، فَإِلَى تَمْيِيزِهَا.
فإذا كانت المستحاضة ليس لها عادة كأن تكون مبتدئة، فإنها ترجع للتمييز، فيكون حيضها ما تميز بسواد أو غلظة.
لحديث عائشة. (أن فاطمة بنت أبي حبيش كانت تستحاض، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن دم الحيض دم أسود يعرف، فإذا كان كذلك فأمسكي عن الصلاة، فإذا كان الآخر فتوضئي وصلي) رواه أبو داود.
م/ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا تَمْيِيزٌ، فَإِلَى عَادَةِ اَلنِّسَاءِ اَلْغَالِبَةِ: سِتَّةِ أَيَّامٍ أَوْ سَبْعَةٍ.
إذا كانت المستحاضة ليس لها حيض معلوم ولا تمييز صالح بأن تكون الاستحاضة مستمرة من أول ما رأت الدم، فهذه تعمل بعادة غالب النساء فيكون حيضها ستة أيام أو سبعة.
لحديث حمنة بنت جحش قالت (يا رسول الله! إني استحاض حيضة كبيرة شديدة، فما ترى فيها قد منعتني الصلاة والصوم، فقال صلى الله عليه وسلم (إنما هذه ركضة من ركضات الشيطان، فتحيضي ستة أيام أو سبعة في علم الله تعالى، ثم اغتسلي). رواه أبو داود
لكن لو افترض أنه وجد عند المرأة صفتان (عادة وتمييز):
أ- فإذا كانت العادة موافقة للتمييز فهذه لا إشكال فيها.
ب- أن يكون عندها تمييز لكنه مختلف عن عادتها [عادتها ستة أيام من أول الشهر، والتمييز مختلف]:
اختلف العلماء أيهما تقدم:
القول الأول: تعمل بالتمييز.
قال في المعني: " وهو ظاهر مذهب الشافعي ".
لحديث عائشة: (
…
فإنه دم أسود يعرف
…
).
لأن صفة الدم أمارة قائمة به.
القول الثاني: أنها تعمل بالعادة.
وهذا المذهب.
لحديث أم حبيبة: (
…
امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك
…
).
وجه الدلالة: فردها إلى العادة بدون استفصال، وترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال.
ولأنه أسهل على المرأة، وأبعد عن الاضطراب، لأن الدم الأسود ربما يضطرب ويتغير وينتقل أخر الشهر أو أوله أو يتقطع فيكون يوماً أسود ويوم أحمر، فجلوسها أيام عادتها أسهل عليها وأضبط لها، لأن العادة لا تبطل دلالتها أبداً.
• أن المستحاضة حكمها حكم الطاهرات بالاتفاق.
• اختلف العلماء في حكم وطء المستحاضة على قولين:
القول الأول: يكره وطؤها إلا أن يخاف العنت.
وهذا مذهب الحنابلة.
لقول عائشة: (المستحاضة لا يغشاها زوجها).
ولأن بها أذى فيحرم وطؤها كالحائض.
القول الثاني: يجوز وطؤها مطلقاً.
وهذا قول أكثر الفقهاء.
لما روى أبو داود عن عكرمة عن حمنة بنت جحش: (أنها كانت مستحاضة، وكان زوجها يجامعها). قال النووي: إسناده صالح.
وقال عكرمة: " كانت أم حبيبة تستحاض وكان زوجها يغشاها ".
وقال الشيخ السعدي رحمه الله: " والصحيح أنه يجوز وطء المستحاضة ولو لم يخف العنت، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمنع عبد الرحمن بن عوف وغيره من وطء زوجاتهم المستحاضات، ولأن الاستحاضة دم عرق فلا يمنع الوطء، ولأن حكمها حكم الطاهرات في كل شيء فكذلك في حل الوطء ".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
• كيفية تطهير المستحاضة:
أ- يجب الوضوء عليها لكل صلاة.
لقوله صلى الله عليه وسلم: (
…
ثم توضئي لكل صلاة).
قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله: " معنى ذلك أنها لا تتوضأ للصلاة المؤقتة إلا بعد دخول وقتها، وأما إذا كانت الصلاة غير مؤقتة فإنها تتوضأ لها عند إرادة فعلها ".
ب- أنها إذا أرادت الوضوء فإنها تغسل أثر الدم وتعصب على الفرج خرقة ليستمسك الدم.
المؤلف لم يذكر أحكام النفساء:
تعريف النفاس:
هو دم يخرج من المرأة عند الولادة أو معها أو قبلها بيومين أو ثلاثة مع الطلق.
• وأحكامه هي أحكام الحيض فيما يجب ويحرم.
• اختلف العلماء في أقل النفاس:
فقيل: ليس لأقله حد.
وهذا المذهب وبه قال الثوري والشافعي وإسحاق وجمهور العلماء.
لأنه لم يرد في الشرع تحديده، فيرجع فيه إلى الوجود، وقد وجد قليلاً وكثيراً.
وهذا القول هو الصحيح.
(وقال بعضهم: أقله ساعة، وقيل: خمس وعشرون يوماً).
• اختلف العلماء في أكثر النفاس:
القول الأول: أكثره أربعون يوماً.
وهذا المذهب، وبه قال أكثر أهل العلم.
قال أبو عيسى الترمذي: " أجمع أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم، على أن النفساء تدع الصلاة أربعين يوماً إلا أن ترى الطهر قبل ذلك ".
قال الشوكاني: " والأدلة الدالة على أن أكثر النفاس أربعون يوماً متعاضدة بالغة إلى حد الصلاحية والاعتبار، فالمصير إليها متعين ".
لحديث أم سلمة رضي الله عنها قالت (كانت النفساء تقعد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم بعد نفاسها أربعين يوماً). رواه الخمسة إلا النسائي، واللفظ لأبي داود
وفي لفظ له: (ولم يأمرها النبي صلى الله عليه وسلم بقضاء صلاة النفاس). وصححه الحاكم
قال الشيخ ابن باز رحمه الله: " ومتى أكملت - أي النفساء - الأربعين وجب عليها الغسل وإن لم تر الطهر، لأن الأربعين هي نهاية النفاس في أصح قولي العلماء ".
القول الثاني: أكثره ستون يوماً.
وبه قال مالك والشافعي.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
القول الثالث: أنه خمسون.
وهو قول الحسن.
واختار ابن تيمية: أنه لا حد لأكثر النفاس.
والراجح الأول.
قال ابن قدامة: " ولأنه قول من سمينا من الصحابة ولم نعرف لهم مخالفاً في عصرهم فكان إجماعاً ".
• لا يثبت النفاس إلا إذا وضعت ما يتبين فيه خلق إنسان.
فلو وضعت سقطاً صغيراً لم يتبين فيه خلق إنسان، فليس دمها دم نفاس، بل هو دم عرق، فيكون حكمها حكم المستحاضات.
وأقل مدة يتبين فيها خلق إنسان ثمانون يوماً من ابتداء مدة الحمل.
• إذا طهرت قبل الأربعين وذلك بانقطاع الدم، اغتسلت وصلت وجوباً.
• أنه إذا انقطع دمها قبل الأربعين وطهرت، فإنه يجوز لزوجها أن يطؤها ولا يكره، وهذا مذهب جماهير العلماء.
لأن الكراهية تحتاج إلى دليل، ولا دليل على الكراهة، ولأن حكمها حكم الطاهرات في كل شيء، فكذا في الوطء.
• قال الشيخ ابن باز رحمه الله: " إذا طهرت النفساء في الأربعين فصامت أياماً، ثم عاد إليها الدم في الأربعين فإن صومها صحيح، وعليها أن تدع الصلاة والصيام في الأيام التي عاد فيها الدم ".
والله أعلم
أخوكم/ سليمان بن محمد اللهيميد
السعودية - رفحاء
بسم الله الرحمن الرحيم
شرح
منهج السالكين
وتوضيح الفقه في الدين
للعلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي (1376 هـ).
كتاب الصلاة
دورة علمية (ورثة الأنبياء)
في تاريخ 6/ 1 - 10/ 1
1430 هـ
بقلم
سليمان بن محمد اللهيميد
السعودية - رفحاء
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
…
أما بعد:
فهذا شرح كتاب منهج السالكين في توضيح الفقه في الدين [كتاب الصلاة] للعلامة عبد الرحمن السعدي رحمه الله،
قمت بشرحه في مدينة رفحاء ضمن الدورة العلمية الأولى التي أقامها مكتب الدعوة والإرشاد برفحاء.
أسال الله العظيم رب العرش العظيم أن يرزقنا العلم النافع، والعلم الصالح
أخوكم
سليمان بن محمد اللهيميد
السعودية - رفحاء
كتاب الصلاة
تعريفها:
لغة: الدعاء، ومنه قوله تعالى:{وصلّ عليهم إن صلاتك سكن لهم} أي ادع لهم.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا دعي أحدكم فليجب، فإن كان مفطراً فليطعم، وإن كان صائماً فليصلّ). أي فليدع لهم.
وشرعاً: هي عبادة ذات أقوال وأفعال مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم.
قال النووي: "الصلاة في اللغة الدعاء، وسميت الصلاة الشرعية صلاة لاشتمالها عليه، هذا هو الصحيح وبه قال الجمهور من أهل اللغة وغيرهم من أهل التحقيق".
حكمها:
واجبة بالكتاب والسنة والإجماع.
قال تعالى: {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً} . كتاباً: أي فرضاً. موقوتاً: أي بأوقات محددة.
وقال تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة
…
}.
وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بني الإسلام على خمس
…
وذكر منها: وإقام الصلاة
…
). متفق عليه
وأجمعت الأمة على وجوب خمس صلوات في اليوم والليلة.
• فرضت ليلة الإسراء والمعراج، فرضت أولاً خمسين ثم خففت إلى خمس.
قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله: "فرضت خمسين صلاة، لكن خففت فجعلت خمساً في الفعل وخمسين في الميزان، فكأنما صلى خمسين صلاة، وليس المراد تضعيف الحسنة بعشر أمثالها، لأنه لو كان المراد الحسنة بعشر أمثالها لم يكن لها مزية على غيرها من العبادات، إذ في كل عبادة الحسنة بعشر أمثالها، لكن الظاهر أنه يكتب للإنسان أجر خمسين صلاة بالفعل ".
عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أُتيت بالبراق فركبته
…
فأوحى الله إليّ ففرض علي خمسين صلاة في كل يوم وليلة
…
فلم أزل أرجع بين ربي تبارك وتعالى وبين موسى حتى قال: يا محمد، إنهن خمس صلوات كل يوم وليلة، لكل صلاة عشر، فذلك خمسون صلاة). رواه مسلم وعند النسائي:(فخمس بخمسين).
•
ولأهميتها:
فرضت من الله عز وجل إلى رسوله بدون واسطة، وفرضت في ليلة هي أفضل الليالي لرسول صلى الله عليه وسلم، وفرضت في أعلى مكان يصل إليه البشر، وفرضت خمسين أولاً، وهذا يدل على محبة الله لها وعنايته سبحانه وتعالى بها.
• الصلاة كانت مشروعة في الأمم الماضية.
قال تعالى: {يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين} .
قال شيخ الإسلام: "ومن كان قبلنا لهم صلاة، ليست مماثلة لصلاتنا في الأوقات، ولا في الهيئات".
• وهي ثاني أركان الإسلام بعد الشهادتين.
• وهي أول ما يحاسب عليه العبد من أعماله يوم القيامة.
• وهي عمود الدين.
م/ ومن شروطها دخول الوقت، والأصل فيه حديث جبريل: أنه أمّ النبي صلى الله عليه وسلم في أول الوقت، وآخره، وقال: يا محمد، الصلاة ما بين هذين الوقتين) رواه أحمد والنسائي والترمذي، و عن عبد الله بن عمرو: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وقت الظهر إذا زالت الشمس. وكان ظل الرجل كطوله. ما لم يحضر العصر. ووقت العصر ما لم تصفر الشمس. ووقت صلاة المغرب ما لم يغب الشفق. ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل الأوسط. ووقت صلاة الصبح من طلوع الفجر. ما لم تطلع الشمس. رواه مسلم
دخول الوقت شرط من شروط صحة الصلاة، فمن صلى قبل الوقت فصلاته غير صحيحة، سواء كان عالماً أو جاهلاً، والمراد بالوقت: الزمن المحدد لأداء الصلاة فيه.
قال تعالى (إنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً). (كتاباً) أي مفروضاً، (موقوتاً) أي محددة في أوقات.
قال في المغني: "أجمع المسلمون على أن الصلوات الخمس مؤقتة بمواقيت معلومة محددة".
وقد ذكر المؤلف حديث عبد ?الله بن عمرو وفيه أوقات الصلوات الخمس.
بداية وقت الظهر: إذا زالت الشمس بالإجماع.
قال ابن قدامة: "أجمع أهل العلم على أن أول وقت الظهر إذا زالت الشمس".
لحديث أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الظهر إذا زالت الشمس). متفق عليه، ولحديث ابن عمرو الذي ذكره المصنف.
ولحديث بريدة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما زالت الشمس أمر بلالاً فأذن ثم أمره فأقام الصلاة). رواه مسلم
نهاية وقتها: حين يكون ظل الشيء مثله، وبذلك قال جمهور العلماء من الصحابة والتابعين، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد.
لحديث عبد الله بن عمرو (
…
وكان ظل الرجل كطوله ما لم يحضر وقت العصر).
ولحديث أبي هريرة: (
…
ثم جاء الغد فصلى الظهر حين كان الظل مثله). رواه النسائي
• صلاة الظهر لها أسماء: تسمى الهاجرة: لحديث جابر قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهاجرة).
وسميت بالهاجرة لأن الناس يهجرون فيها السعي في أعمالهم نظراً لشدة الحر.
وتسمى الأولى: والسبب في ذلك أنها أول صلاة صلاها جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
بداية وقت العصر:
يدخل وقتها إذا صار ظل الشيء مثله يكون دخل وقت صلاة العصر، وخرج وقت صلاة الظهر.
لحديث عبد الله بن عمرو الذي ذكره المؤلف، يدل هذا على أنه إذا حضر وقت العصر خرج وقت الظهر.
نهاية وقتها: أنه ينتهي إذا اصفرت الشمس.
وهذا المذهب، لحديث عبد الله بن عمرو الذي ذكره المؤلف.
ولحديث أبي موسى قال: (وصلى العصر [أي الرسول] في اليوم الثاني والقائل يقول: قد احمرت الشمس). رواه مسلم
وذهب بعض العلماء إلى أن وقتها ينتهي حين يصير ظل الشيء مثليه.
وهذا قول الشافعي ومالك.
لحديث جابر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه جبريل فقال له: قم فصله ..... فصلى العصر حين صار ظل كل شيء مثله، ثم جاءه المغرب ..... ثم جاءه من الغد .... فصلى العصر حين صار ظل كل شيء مثليه). رواه النسائي والترمذي
والراجح القول الأول، لأن جعل وقتها إلى اصفرار الشمس أخذ بالزائد، والأخذ بالزائد أخذ بالزائد والناقص، والأخذ بالناقص إلغاء للزائد، وهذه الزيادة مقبولة لأمور:
أولاً: أن هذه الزيادة في صحيح مسلم، وحديث جابر في بعض السنن.
ثانياً: أن حديث عبد الله بن عمرو متأخر، وإمامة جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم كانت في أول الفرض بمكة.
ثالثاً: أنه اشتمل على زيادة لم ترد في حديث جابر، والأخذ بالزيادة لا ينافي ذلك.
رابعاً: أن حديث ابن عمرو قول، وحديث جابر فعل.
• معنى اصفرار الشمس: أن يرى الإنسان الصفرة أو الحمرة على الأرض أو الأبنية.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
• صلاة العصر هي الصلاة الوسطى التي جاء الأمر بالمحافظة عليها كما في قوله تعالى (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى).
بداية وقت صلاة المغرب: يبدأ وقتها إذا غربت الشمس بالإجماع.
وقد نقل الإجماع ابن قدامة والنووي وغيرهم.
لحديث جابر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي المغرب إذا وجبت). رواه مسلم
ولحديث أبي موسى: (أنه صلى الله عليه وسلم صلى المغرب حين وقعت الشمس). رواه مسلم
نهاية وقتها: إلى مغيب الشفق.
لحديث عبد الله بن عمرو (
…
ووقت المغرب ما لم يغب الشفق).
ولحديث عبد الله بن عمرو عند أبي داود: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا صليتم المغرب فإنه وقت إلى أن يسقط الشفق).
وقال بعض العلماء: أنه عقب غروب الشمس بقدر ما يتطهر ويستر عورته ويؤذن ويقيم ويصلي خمس ركعات، وهذا مذهب الشافعي. واستدلوا: أن جبريل عليه السلام صلاها بالنبي صلى الله عليه وسلم في اليومين لوقت واحد في بيان مواقيت الصلاة، وهو قول ضعيف، ويدل على أن وقت المغرب ليس بقصير:
حديث زيد بن ثابت: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في المغرب بطولي الطوليين). رواه البخاري
وهي سورة الأعراف كما جاء عند النسائي، ولا شك أن سورة الأعراف لا يمكن أن تقرأ إلا في وقت طويل.
• المقصود بالشفق الحمرة.
بداية وقت العشاء: من مغيب الشفق، وهذا بالإجماع، وقد نقل الإجماع ابن قدامة والنووي وغيرهم.
نهاية وقتها: أنه إلى نصف الليل.
وهذا مذهب أبي حنيفة وابن المبارك.
لحديث عبد الله بن عمرو (فإذا صليتم العشاء فإنه وقت إلى نصف الليل). رواه مسلم
ولحديث أنس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أخر ليلة العشاء إلى منتصف الليل). رواه البخاري
وهذا القول هو الصحيح.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
لكن هل هناك وقت ضرورة؟
اختلف العلماء:
القول الأول: أنه هناك وقت ضرورة يمتد إلى الفجر.
وهذا المذهب وبه قال الشافعي.
لحديث أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس في النوم تفريط، إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الأخرى) رواه مسلم قالوا: الحديث يدل على أن وقت كل صلاة يمتد إلى دخول وقت الصلاة الأخرى إلا صلاة الفجر، فإنها لا تمتد إلى الظهر، فإن العلماء أجمعوا على أن وقتها ينتهي بطلوع الشمس.
قال الحافظ: " عموم حديث أبي قتادة مخصوص بالإجماع في الصبح ".
القول الثاني: أنه ليس للعشاء وقت ضرورة، واختاره ابن حزم ورجحه الألباني، وهذا القول هو الصحيح.
والجواب عن حديث: (ليس في النوم تفريط
…
):
أنه ليس فيه بيان أوقات الصلاة، ولا سيق من أجل ذلك، وإنما فيها بيان إثم من يؤخر الصلاة حتى يخرجها عن وقتها مطلقاً سواء كان يعقبها صلاة أخرى، مثل العصر مع المغرب، أو لا، مثل الصبح مع الظهر.
فائدة الخلاف: لو طهرت حائض قبل الفجر، فعلى القول الراجح لا تصلي العشاء، وعلى القول الأول تصلي العشاء.
بداية وقت الفجر: يبدأ بطلوع الفجر الثاني بالإجماع، وحكى الإجماع ابن قدامة وغيره.
ففي حديث جبريل: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ثم صلى الفجر حين برق الفجر). رواه مسلم
نهاية وقتها: ينتهي بطلوع الشمس.
لحديث عبد الله بن عمرو.
م/ ويدرك وقت الصلاة بإدراك ركعة لقوله صلى الله عليه وسلم (من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة) متفق عليه.
أي: أن الوقت يدرك بإدراك ركعة قبل خروج الوقت، وهذا القول هو الصحيح، وهو مذهب مالك واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. للحديث الذي ذكره المصنف (من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك
…
).
وذهب بعض العلماء إلى أن الوقت يدرك بإدراك تكبيرة الإحرام، أي إذا كبر قبل خروج الوقت أدرك الوقت، قالوا: لأن إدراك جزء من الوقت كإدراك الكل، لكن هذا قول ضعيف.
• وكذلك الجماعة تدرك بإدراك ركعة، للحديث السابق.
لكن بماذا تدرك الركعة؟ الراجح أنها تدرك بإدراك الركوع، لحديث أبي بكرة (أنه انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو راكع فركع قبل أن يصل إلى الصف، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: زادك الله حرصاً ولا تعد) رواه البخاري.
وجه الدلالة: أن أبا بكرة أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وهو راكع فركع دون الصف، ولم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بقضائها، فدل على أن من أدرك الركوع فقد أدرك الركعة.
م/ ولا يحل تأخيرها أو تأخير بعضها عن وقتها لعذر أو غيره.
أي: يحرم تأخير الصلاة عن وقتها، لأنها مؤقتة بوقت محدد كما قال تعالى (إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً).
وقال تعالى (فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون). قال بعض العلماء: هم الذين يؤخرونها عن وقتها.
وقال تعالى (فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً).
[غياً] أي خسراناً، وقال ابن مسعود: واد في جهنم بعيد القعر خبيث الطعم.
قال بعض العلماء: إنما أضاعوا المواقيت. كما روي عن ابن مسعود.
وجبريل لما أمّ النبي صلى الله عليه وسلم في أول الوقت وفي آخره قال: يا محمد! الصلاة ما بين هذين الوقتين.
وأن الله أمر بأداء الصلاة في حال الخوف والشدة مع الإمكان أن تؤخر وتؤدى بخشوع وسكينة ومع ذلك لم يراع هذا، بل روعي أن تصلى في وقتها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وتأخير الصلاة عن وقتها حرام باتفاق العلماء، وذلك لأن فعل الصلاة في وقتها فرض، والوقت أوكد فرائض الصلاة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: فلا يجوز تأخير الصلاة عن وقتها لجنابة ولا حدث ولا نجاسة ولا غير ذلك، بل يصلي في الوقت بحسب حاله، فإن كان محدثاً وقد عدم الماء أو خاف الضرر باستعماله تيمم وصلى، وهذا لأن فعل الصلاة في وقتها فرض، والوقت أوكد فرائض الصلاة".
وقال رحمه الله: "ولهذا اتفق العلماء على أن الرجل إذا كان عرياناً مثل أن تنكسر بهم السفينة، أو تسلبه القطاع ثيابه، فإنه يصلي في الوقت عرياناً، والمسافر إذا عدم الماء يصلي بالتيمم في الوقت باتفاق العلماء، وإن كان يجد الماء، وكذلك إذا كان البرد شديداً فخاف إن اغتسل أن يمرض فإنه يتيمم ويصلي في الوقت ولا يؤخر الصلاة حتى يصلي بعد الوقت باغتسال وقد قال صلى الله عليه وسلم: الصعيد الطيب طهور المسلم ولو لم يجد الماء عشر سنيين، فإذا وجدت الماء فأمسه بشرتك فإن ذلك خير".
وقال رحمه الله: "ومن كان مستيقظاً في الوقت والماء بعيد منه لا يدركه إلا بعد الوقت فإنه يصلي في الوقت بالتيمم باتفاق العلماء، ومن ظنّ أن الصلاة بعد خروج الوقت بالماء خير من الصلاة في الوقت بالتيمم فهو ضال جاهل".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقال رحمه الله: "وهكذا المريض يصلي على حسب حاله في الوقت، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمران: صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً .... ، فالمريض باتفاق العلماء يصلي في الوقت قاعداً أو على جنب إذا كان القيام يزيد في مرضه، ولا يصلي بعد خروج الوقت قائماً، وهذا كله لأن فعل الصلاة في وقتها فرض، والوقت أوكد فرائض الصلاة".
• ومن صلى بعد الوقت متعمداً فقد اختلف العلماء:
القول الأول: أنه يقضيها.
لقوله صلى الله عليه وسلم (من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها).
قال النووي: "فيه وجوب قضاء الفريضة الفائتة، سواء تركها بعذر كنوم ونسيان أم بغير عذر، وإنما قيد في الحديث بالنسيان لخروجه على سبب، لأنه إذا وجب القضاء على المعذور، فغيره أولى بالوجوب، وهو من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى ".
القول الثاني: أنه لا يقضيها، وهذا مذهب أهل الظاهر، ورجحه شيخ الإسلام ابن تيمية.
قالوا: أنه لو صلى قبل الوقت فصلاته باطلة بالاتفاق، فكذلك لو صلاها بعد الوقت متعمداً فصلاته باطلة، ففي كلا الحالين قد تعدى حدود الله.
قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد). رواه مسلم وهذا القول هو الراجح.
• وقوله (أوتأخير بعضها) أي يحرم تأخير بعض الصلاة بحيث يؤخرها حتى إذا لم يبق من الوقت إلا مقدار ركعة صلى، لأن الواجب إيقاع الصلاة جميعها في الوقت.
م/ إلا إذا أخرها ليجمعَها مع غيرِها فإنه يجوز لعذر من: سفر أو مطر أو مرض أو نحوها.
أي يجوز تأخيرها في حالة جواز الجمع لعذر من سفر أو مرض أو نحوها، فيباح له التأخير، لأن وقت الثانية يصير وقتاً لهما
• وهذا الاستثناء يشبه أن يكون صورياً، لأنه إذا جاز الجمع صار وقت الصلاتين وقتاً واحداً، ولا يقال أخرها عن وقتها
• بعض العلماء استثنى حالة: وهي إذا كان منشغل بشرطها الذي يحصله قريباً.
مثال: إنسان انشق ثوبه فصار يخيطه، فحان خروج الوقت، فإن صلى قبل أن يخيطه صلى عرياناً، وإن انتظر حتى يخيطه صلى مستتراً، فقالوا: فهذا تحصيله قريب، فهنا يجوز أن يؤخرها عن وقتها.
لكن الصواب أنه لا يجوز أن يؤخر الصلاة مطلقاً، وأنه إذا خاف خروج الوقت صلى على حسب حاله وما عجز عنه من واجبات الصلاة يسقط عنه، ولأنه لو جاز انتظار الشرط ما صح أن يشرع التيمم.
م/ والأفضلُ تقديمُ الصلاة في أولِ وقتِها.
لقوله تعالى (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم
…
).
ولأن ذلك أسرع في إبراء الذمة.
ولحديث أبي برزة: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العصر ثم يرجع أحدنا إلى رحله في أقصى المدينة والشمس حية).
ولحديث أبي برزة فقد جاء في رواية: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الهجير التي تدعونها الأولى حين تدحض الشمس) متفق عليه
…
تدحض: تزول.
ونقل الإجماع على ذلك النووي.
عن جابر رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي المغرب إذا وجبت). متفق عليه
ولحديث رافع بن خديج: (كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم فينصرف أحدنا وإنه ليبصر مواقع نبله). متفق عليه
قال النووي: "معناه أنه يبكر بها في أول وقتها بمجرد غروب الشمس حتى ننصرف ويرمي أحدنا بالنبل عن قوسه ويبصر موقعه لبقاء الضوء".
م/ إلا العشاء إذا لم يشق.
أي: إلا العشاء بشرط عدم المشقة.
لحديث ابن عباس رضي الله عنه قال (أعتم النبي صلى الله عليه وسلم بالعشاء فخرج عمر فقال: رقد النساء والصبيان. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لولا أن أشق على أمتي أو على الناس لأمرتهم بهذه الصلاة هذه الساعة»). متفق عليه
وعن زيد بن خالد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة، ولأخرت العشاء إلى
ثلث الليل) رواه أبو داود.
قوله (أعتم) أي دخل في العتمة، وهي ظلمة الليل.
• السبب في أن الأفضل تأخير العشاء:
أن فيه انتظار للصلاة وفي الحديث (ولا يزال الإنسان في صلاة ما انتظر الصلاة).
أن تأخيرها يوافق هدأة الناس وسكونهم وهو أدعى للخشوع.
• سبب مراعاة النبي صلى الله عليه وسلم لحال الناس فيما يتعلق بصلاة العشاء:
أ - لتجتنب المشقة على الناس، خاصة النساء والصبيان.
ب - لأنه صلى الله عليه وسلم خشي أن تفرض عليهم في هذا الوقت فيشق على الأمة الالتزام بذلك.
م/ وإلا الظهرَ في شدةِ الحر لحديث (إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة، فإن شدة الحرّ من فيح جهنم).
أي: ومن الحالات التي يسن تأخير الصلاة عن أول وقتها، صلاة الظهر في شدة الحر والدليل ما ذكره المؤلف من قوله صلى الله عليه وسلم (إذا اشتد الحرّ فأبردوا بالصلاة، فإن شدة الحرّ من فيح جهنم). متفق عليه
وهذا مذهب جمهور العلماء: أنه يستحب الإبراد.
[فابردوا بالصلاة] أي أخروها عن ذلك الوقت وأدخلوا بها في وقت الإبراد، وهذا الزمان الذي يتبين فيه انكسار شدة الحر [فيح جهنم] شدة حرها وشدة غليانها.
• يكون الإبراد إلى قرب وقت العصر فهذا الذي يحصل به الإبراد، قال الشيخ ابن عثيمين:"فإذا قدرنا أن الشمس في أيام الصيف تزول الساعة [12] وأن العصر يؤذن الساعة الرابعة والنصف، يكون الإبراد إلى الساعة [4] تقريباً".
• اختلف العلماء في معنى كون شدة الحرّ من فيح جهنم. فقيل: أن في الكلام تشبيهاً، والمعنى أن شدة الحر تشبه نار جهنم، وهذا غير صحيح لأنه خلاف ظاهر الحديث، وقيل: إن شدة الحر فعلاً ليست من الشمس بل من النار، وهذا غير صحيح، لأنه مكابرة للحس والواقع، وقيل: إن لشدة الحر سببين: سبب شرعي، وسبب طبيعي، فالسبب الطبيعي من الشمس، والسبب الشرعي فهو من حر جهنم ووهجها ولا مانع من أن يتزامن السببان، وقيل: هو على ظاهره، قال النووي:"هو الصواب، لأنه ظاهر الحديث ولا مانع من حمله على حقيقته".
• ظاهر الحديث عدم الفرق بين الجماعة والمنفرد، وقال أكثر المالكية: الأفضل للمنفرد التعجيل.
قال الشوكاني: "والحق عدم الفرق، لأن التأذي بالحر الذي يتسبب عنه ذهاب الخشوع يستوي فيه المنفرد وغيره".
• قال ابن رجب في شرح البخاري: "اختلف في السبب الذي من أجله أمر بالإبراد: فمنهم من قال: هو حصول الخشوع فيها، فلا فرق بين من يصلي وحده أو في جماعة، ومنهم من قال: هو خشية المشقة على من بَعُدَ من المسجد بمشيه في الحرّ، ومنهم من قال: هو وقت تنفس جهنم، فلا فرق بين من يصلي وحده أو جماعة".
م/ وَمَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةٌ وَجَبَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا فَوْرًا مُرَتِّبًا.
أي: أنه من فاتته صلوات فإنه يجب عليه قضاؤها.
• فاتته: الفائتة كل عبادة خرجت عن وقتها سواء كانت نفلاً كالوتر، أو فرضاً كالصلوات الخمس.
وسمي قضاءً لأنه فعل العبادة بعد خروج وقتها، والدليل على أنه يجب قضاء الصلاة الفائتة:
حديث أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها) واللام للأمر والأمر للوجوب، فدل على وجوب المبادرة بقضاء الصلاة الفائتة. وربما يستدل لذلك بقوله تعالى (وأقم الصلاة لذكري) أي لتذكري.
ولأن هذا الإنسان الذي فاتته العبادة شغلت ذمته بها فوجب عليه قضاؤها، لأنها كانت ديناً عليه.
والنبي صلى الله عليه وسلم قضى صلاة الفجر حين نام عنها في السفر.
قال الشوكاني: "الحديثان يدلان على وجوب فعل الصلاة إذا فاتت بنوم أو نسيان، وهو إجماع".
• أن الصلاة الفائتة تقضى على صفتها، لأن القضاء يحكي الأداء.
• وقوله: (فوراً) أي يجب أن يقضيها مباشرة من حين أن يتذكرها.
للحديث السابق: (
…
فليصلها إذا ذكرها)، فهذا يدل على أنها تقضى فور الذكر.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
• فإن قال قائل: ما الجواب عن الحديث الذي فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم نام وأصحابه عن صلاة الفجر ولم يستيقظوا إلا بعد طلوع الشمس، فلم يصلها صلى الله عليه وسلم مباشرة بل قال:(تحولوا عن مكانكم الذي أصابتكم فيه الغفلة) وفي رواية: (أمر بالارتحال وقال: فإن هذا منزل حضرنا فيه الشيطان).
والجواب: أن هذا ليس فيه دلالة على التأخير المستمر، لأن حديث أنس: (من نام عن صلاة
…
) نص صريح في الوجوب على الفور، وأما هذا الحديث فمحمول على التأخير اليسير الذي لا يصير صاحبه مهملاً معرضاً عن القضاء، وخاصة أنه جاء في الحديث بيان السبب، هو:(أن هذا مكان حضرنا فيه الشيطان).
• وقوله (مرتبة) أي يجب قضاء الصلوات الفائتة مرتبة.
فإذا كان عليه خمس صلوات؛ بدأ بالظهر، ثم العصر، ثم المغرب، ثم العشاء، ثم الفجر.
والدليل على وجوب ذلك: حديث أنس السابق: (
…
فليصلها إذا ذكرها) فهذا يشمل عين الصلاة وكيفية الصلاة، وكذلك يشمل مكان الصلاة، وإذا شمل مكانها لزم أن يكون في موضعها الترتيبي، فمثلاً الظهر يصلها ما بين الفجر والعصر
ولحديث جابر: (أن عمر بن الخطاب جاء يوم الخندق بعد ما غربت الشمس، فجعل يسب كفار قريش؛ وقال: يا رسول الله، ما كدت أصلي العصر حتى كادت الشمس تغرب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والله ما صليتها، قال: فقمنا فتوضأ للصلاة فصلى العصر بعد ما غربت الشمس، ثم صلى بعدها المغرب). متفق عليه
وكان النبي صلى الله عليه وسلم في الجمع يجمع بين الصلاتين، فيبدأ بالأولى. ويمكن أن يستدل بحديث (صلوا كما رأيتموني أصلي).
• وظاهر كلام المصنف: (ومن فاتته صلاة وجب عليه قضاؤها) أنه لا فرق بين المعذور كالنائم والناسي، وغير المعذور، وهو المتعمد، وهذا مذهب جماهير العلماء؛ أن المتعمد بتأخير الصلاة فإنه يقضيها لكنه آثم (وسبقت المسألة وأن الراجح أنه لا يقضيها).
م/ فَإِنْ نَسِيَ اَلتَّرْتِيبَ أَوْ جَهِلَهُ، أَوْ خَافَ فَوْتَ اَلصَّلَاةِ، سَقَطَ اَلتَّرْتِيبُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اَلْحَاضِرَةِ.
ذكر المصنف الحالات التي يسقط فيها وجوب الترتيب.
فذكر منها: النسيان.
مثال: كما لو كان على الإنسان خمس صلوات، يبتدئ من الظهر، فنسي فبدأ من الفجر مع أنها هي الأخيرة، فهذا لا بأس لأنه ناس، وكذا لو بدأ بالعصر قبل الظهر ناسياً فإنه يصح لنسيانه.
لقوله تعالى: (رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا).
الحالة الثانية: الجهل.
مثال: لو أن إنساناً جاهلاً فبدأ بالعصر قبل الظهر ثم المغرب، فهذا لا شيء عليه لأنه جاهل.
وقد قال تعالى: (رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا).
وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) رواه ابن ماجه
الحالة الثالثة: أو خاف فوت الصلاة.
لعل المصنف يقصد خوف خروج وقت الحاضرة.
مثاله: كرجل ذكر فائتة وقد بقي على طلوع الشمس ما لا يتسع لصلاة الفائتة والفجر، فهنا يقدم الحاضرة وهي الفجر.
لأن الله أمر أن تصلى الحاضرة في وقتها، فإذا صليت غيرها أخرجتها عن وقتها.
ولأنك إذا قدمت الفائتة لم تستفد شيئاً، بل تضررت، لأنك إذا قدمت الفائتة صارت كلتا الصلاتين قضاء، وأما إذا بدأت بالحاضرة؛ صارت الحاضرة أداء، والثانية قضاء، وهذا أولى.
م/ وَمِنْ شُرُوطِهَا سَتْرُ العورة.
هذا الشرط الثالث من شروط صحة الصلاة، وهو ستر العورة. (أي تغطية العورة).
قال ابن عبد البر: "أجمع أهل العلم على فساد صلاة من صلى عرياناً وهو قادر على الاستتار".
قال تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ). والزينة المأمور بأخذها عند الصلاة قسمان:
زينة واجبة: هي ستر العورة كما سيأتي، وزينة مستحبة: وهي ستر ما زاد على العورة.
وقال صلى الله عليه وسلم: (إن كان واسعاً فالتحف به وإن كان ضيقاً فاتزر به). متفق عليه
ثم ذكر المصنف شروط الثوب الساتر فقال:
م/ بِثَوْبٍ مُبَاحٍ.
بشرط أن يكون الثوب الساتر مباحاً، فلا يجوز أن يكون محرماً.
والمحرم ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
محرم لعينه: كما لو صلى بثوب حرير [ومن المعلوم أن الحرير حرام للرجال] فلا تصح صلاته.
محرم لكسبه: كمن صلى بثوب مغصوب أو مسروق، فلا تصح صلاته.
محرم لوصفه: كمن صلى في ثوب مسبل.
وقد جاء في الحديث عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من اشترى ثوباً بعشرة دراهم وفيه درهم حرام لم يقبل الله له صلاة ما دام عليه) رواه أحمد وهو ضعيف
وذهب بعض العلماء إلى صحة الصلاة بالثوب المحرم مع الإثم، وهذا القول هو الصحيح.
لأن جهة الأمر والنهي مختلفة.
م/ لَا يَصِفُ اَلْبَشْرَةَ.
هذا الشرط الثاني للثوب الساتر، أن لا يصف البشرة، يعني لا يكون رقيقاً يصف البشرة، فإن كان رقيقاً يصف البشرة من احمرار أو اسوداد ونحو ذلك؛ فإنه لا يصح الستر به، لأنه لا يسمى ساتراً.
ولأن الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم (صنفان من أهل النار لم أرهما
…
نساء كاسيات عاريات) قال العلماء: يدخل في الكاسية العارية التي تلبس ثوباً تكتسي به لكنه عاري في نفس الوقت لخفته لكونه خفيفاً.
ومن الشروط التي لم يذكرها المؤلف:
أن يكون طاهراً، فإن كان نجساً فإنه لا تصح الصلاة به، لا لعدم الستر، ولكن لأنه لا يجوز حمل النجاسة في الصلاة.
وهذا أدلته أدلة اجتناب النجاسة، ومنها حديث أبي سعيد:(أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي ذات يوم بأصحابه، فخلع نعليه فخلع الناس نعالهم، فلما سلم سألهم لماذا خلعوا نعالهم، قالوا: رأيناك خلعت نعالك فخلعنا نعالنا، فقال: إن جبريل أتاني فأخبرني أن فيهما قذراً). رواه أبو داود
م/ وَالْعَوْرَةُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: مُغَلَّظَةٌ، وَهِيَ: عَوْرَةُ اَلْمَرْأَةِ اَلْحُرَّةِ اَلْبَالِغَةِ، فَجَمِيعُ بَدَنِهَا عَوْرَةٌ فِي اَلصَّلَاةِ إِلَّا وَجْهَهَا.
ذكر المؤلف عورة المرأة في الصلاة، وعورتها تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
أولاً: يجب على المرأة أن تستر شعر رأسها في الصلاة إجماعاً، نقله ابن قدامة في المغني، وأنه لو ظهر جميع شعر رأسها في الصلاة أنها تعيد هذه الصلاة، وكذلك رقبتها.
لحديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار). رواه أبو داود
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم نفى قبول صلاة المرأة إذا صلت مكشوفة الرأس إلا بخمار، وهذا يدل على وجوب ستر رأس المرأة في الصلاة، بل على اشتراطه، وإذا تقرر هذا الحكم في الرأس ففي البطن وغيره من سائر البدن أولى.
ثانياً: وأما وجه المرأة الحرة في الصلاة؛ فقد أجمع العلماء على جواز كشفه، وممن حكى الإجماع على ذلك ابن عبد البر وشيخ الإسلام ابن تيمية، وقال ابن قدامة:" لا نعلم فيه خلافاً بين أهل العلم ".
وأما الكفان والقدمان فقد اختلف العلماء في حكم سترهما في الصلاة على أقوال:
فقيل: يجب سترهما، وهذا المذهب.
لحديث: (المرأة عورة).
وجه الدلالة: أن هذا الحديث عام يقتضي ستر جميع بدن المرأة، وترك الوجه للحاجة، ففيما عداه يبقى على الدليل.
وقيل: لا يجب سترهما.
وهذا مذهب الحنفية واختاره ابن تيمية.
لعدم وجود دليل يوجب ذلك، ولأنهما من الأشياء التي يشق سترهما، ومن المعلوم أن في وقت النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن هناك توفر في الخفاف ولا القفازات.
• وقوله (الحرة) خرج بذلك الأمة، فإن عورتها من السرة إلى الركبة، وهذا مذهب جماهير العلماء، ونقل بعض العلماء الإجماع على ذلك، فقد قال ابن قدامة:"وصلاة الأمة مكشوفة الرأس جائز لا نعلم أحداً خالف في هذا إلا الحسن البصري".
• وقوله (البالغة) تخرج غير البالغة، فهذه كلها عورة إلا الرأس والكفين والقدمين، فلها أن تصلي في ثوبها دون أن تستر رأسها ما دام أنها لم تبلغ لمفهوم حديث عائشة:(لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار).
م/ وَمُخَفَّفَة وَهِيَ: عَوْرَةُ اِبْنِ سَبْعِ سِنِينَ إِلَى عَشْرٍ، وَهِيَ اَلْفَرْجَانِ.
أي: عورة ذكر من سبع إلى عشر سنوات، هي الفرجان، أي: إذا ستر قُبُله ودُبُرَه فقد أجزأ السترُ، ولو كانت فخذيه بادية.
م/ وَمُتَوَسِّطَةٌ: وَهِيَ عَوْرَةُ مِنْ عَدَاهُمْ، مِنْ اَلسُّرَّةِ إِلَى اَلرُّكْبَةِ.
المراد بهذه العورة من عدا ما مضى وهو الرجل من عشر فما فوق، فإن عورته من السرة إلى الركبة.
وهذا مذهب جمهور العلماء: أن العورة الفرجان والفخذ.
واستدلوا بأحاديث فيها مقال لكن يقوي بعضها بعضاً، وقد صححها ابن حبان والحاكم والذهبي وابن حجر والألباني.
كحديث محمد بن جحش قال: (مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على معمر وفخذاه مكشوفتان، فقال: يا معمر غط فخذك فإن الفخذ عورة). رواه أحمد وعلقه البخاري
وعن جرهد قال: (مرّ عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليّ بردة وقد انكشف فخذي فقال: غط فخذك فإن الفخذ عورة). رواه أحمد وأبو داود
وذهب بعض العلماء إلى أن الفخذ ليس بعورة.
لحديث عائشة: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جالساً كاشفاً عن فخذه، فاستأذن أبو بكر فأذن له وهو على حاله، ثم استأذن عمر فأذن له وهو على حاله، ثم استأذن عثمان فأرخى عليه ثيابه
…
). رواه مسلم
والجواب عن هذا الدليل:
أولاً: أن هذه حكاية فعل لا تنتهض على معارضة الأحاديث القولية الدالة على أن الفخذ عورة، لأنها تتضمن إعطاء حكم كلي، وإظهار شرعٍ عام، فكان العمل بها أولى.
قال الألباني: "وأدلة القائلين بأنه عورة؛ قولية من جهة، وحاضرة من جهة أخرى، ومن القواعد الأصولية التي تساعد على الترجيح بين الأدلة والاختيار بعيداً عن الهوى، قاعدتان: أن الحاضر مقدم على المبيح - والقول مقدم على الفعل لاحتمال الخصوصية وغيرها".
• وقول المصنف (من السرة إلى الركبة) ظاهره أن السرة والركبة ليسا من العورة، بل العورة ما بينهما، ويدل على أنهما ليسا من العورة: حديث (الفخذ عورة).
وحديث علي في قصة حمزة لما شرب الخمر وثمل شارفي جمل علي وطعنهما
…
في الحديث أن حمزة صعد النظر إلى سرة النبي صلى الله عليه وسلم، فدل على أن السرة ليست من العورة.
وأيضاً جاء في صحيح مسلم في قصة أبي بكر: (قد جاء وفد رفع ثوبه وأبدى ركبتيه فقال صلى الله عليه وسلم: أما صاحبكم فقد غافر).
وجاء في حديث: (ما بين السرة إلى الركبة عورة).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
• وقول المصنف: (من السرة إلى الركبة) ظاهره يدل على أنه لا يجب ستر أحد العاتقين، وهذا هو الصحيح خلافاً لبعض العلماء الذين قالوا: يجب على الرجل أن يستر أحد العاتقين في الفرض.
مثال: لو صلى سنة الظهر وقد ستر ما بين السرة والركبة ولم يستر أحد عاتقيه فصلاته صحيحة، وفي فرض الظهر لو أنه صلى وستر ما بين السرة والركبة ولم يستر أحد عاتقيه فصلاته غير صحيحة.
وهذا هو مذهب الحنابلة.
لحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء). متفق عليه
قالوا: فيجب على المصلي في صلاة الفرض أن يستر أحد عاتقيه، وخصوه بالفرض دون النفل لأن صلاة النفل مبناها على التخفيف.
وذهب جمهور العلماء إلى أنه لا يجب ستر العاتق في الصلاة.
واستدلوا بحديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن كان ضيقاً فاتزر به). متفق عليه
ومعنى ذلك أن جابر سوف يصلي وعاتقاه مكشوفتان.
وأما حديث أبي هريرة: (لا يصلي أحدكم وليس على عاتقه
…
) فمحمول على الاستحباب، ولأنه أبلغ في الزينة.
• والمراد بالثوب في قوله: (لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد
…
) الإزار الذي يكسوا أسفل جسم الإنسان، أو الرداء الذي يكسو أعلاه، ليس المراد به القميص.
• لا خلاف بين العلماء في جواز كشف الرجل عاتقيه خارج الصلاة.
• لا خلاف بينهم في مشروعية ستر العاتقين في الصلاة، وأن ذلك هو الأكمل والأفضل في حق المصلي [وإنما الخلاف في الوجوب كما سبق]
م/ وَمِنْهَا: اِسْتِقْبَالُ اَلْقِبْلَةِ.
أي ومن شروط الصلاة استقبال القبلة، فلا تصح بدونه، والمراد بالقبلة الكعبة، وسميت قبلة؛ لأن الناس يستقبلونها بوجوههم ويؤمونها ويقصدونها، والدليل على أن استقبال القبلة من شروط الصلاة:
قوله تعالى: (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ).
وقال صلى الله عليه وسلم للمسيء في صلاته: (إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة فكبر). متفق عليه
وأجمع المسلمون على أن استقبال القبلة من شروط الصلاة، وممن نقل الإجماع ابن عبد البر، والقرطبي.
• الحكمة من ذلك: أن يتجه الإنسان ببدنه إلى بيت الله، كما يتجه بقلبه إلى ربه في السماء.
• وكانت القبلة أولاً إلى بيت المقدس، ثم نسخت إلى الكعبة، وكان تحويل القبلة في شعبان في السنة الثانية.
ثم ذكر المصنف الحالات التي يسقط فيها استقبال القبلة:
م/ فَإِنْ عَجَزَ عَنْ اِسْتِقْبَالِهَا، لِمَرَضٍ أَوْ غَيْرِهِ سَقَطَ، كَمَا تَسْقُطُ جَمِيعُ اَلْوَاجِبَاتِ بِالْعَجْزِ عَنْهَا.
أي: من الحالات التي يسقط فيها استقبال القبلة إذا كان عاجزاً، مثل أن يكون مريضاً لا يستطيع الحركة وليس عنده أحد يوجهه إلى القبلة، فهنا يتجه حيث كان وجهه، ومثله المأسور والمصلوب إلى غير القبلة.
لقول الله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ). ولقوله تعالى: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا). ولقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)، ولأن هذا شرط عجز عنه فسقط.
ثم ذكر المصنف الحالة الثانية، لكنه ذكر الدليل الذي يدل عليها فقال:
م/ وَكَانَ النَّبِيُّ يُصّلِّي فِي السَّفَر النافلةَ على راحلته حيث توجهت به. متفق عليه، وفي لفظٍ: غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة.
أي: ومن الحالات التي يسقط فيها استقبال القبلة: المسافر المتنفل على راحلته.
المسافر: فلا يجوز للمقيم أن يصلي إلى غير القبلة، المتنفل: فلا يجوز في الفرض أن يصلي إلى غير القبلة.
على راحلته: فلا يجوز للمسافر النازل أن يتنفل إلى غير القبلة، فلا بد أن يكون مسافراً، ويصلي نافلة على راحلته.
والدليل على هذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في حديث الباب الذي ذكره المصنف.
ولحديث ابن عمر (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسبح على ظهر راحلته حيث كان وجهه، يومئ برأسه). متفق عليه
وعن جابر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي التطوع وهو راكب في غير القبلة). رواه البخاري.
وعن عامر بن ربيعة رضي الله عنه قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على راحلته حيث توجهت به). متفق عليه
زاد البخاري: (يومئ برأسه - ولم يكن يصنعه في المكتوبة).
• قال النووي: "جواز التنفل على الراحلة حيث توجهت به جائز بإجماع المسلمين".
• قوله (كان يسبح) قال الحافظ: "أي يصلي النافلة، والتسبيح حقيقة في قول: سبحان الله، فإذا أطلق على الصلاة فهو من باب إطلاق اسم البعض على الكل".
• وطريقة الصلاة على الراحلة: يومئ برأسه كما في الحديث السابق، وعند الترمذي:(يجعل السجود أخفض من الركوع).
قال الشوكاني: "الحديث يدل على أن سجود من صلى على الراحلة يكون أخفض من ركوعه، ولا يلزمه وضع الجبهة على السرج، ولا يبذل غاية الوسع في الانحناء، بل يخفض سجوده بمقدار يفترق فيه السجود عن الركوع".
قال المباركفوري: "كان السر فيما ذكر من جواز التطوع على الدابة في السفر؛ تحصيل النوافل على العبادة وتكثيرها تعظيماً لأجورهم رحمة من الله بهم".
إذاً الحكمة هي: حتى لا ينقطع المسافر عن العبادة، ولا المتعبد عن السفر.
• وهذه الأحاديث التي تدل على جواز ذلك؛ ظاهرها أنه لا يلزم افتتاح الصلاة إلى جهة القبلة، وهذا هو الصحيح.
وقد ذهب بعض العلماء إلى أنه يجب استقبال القبلة عند تكبيرة الإحرام.
لحديث أنس: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سافر، فأراد أن يتطوع استقبل بناقته القبلة فكبر ثم صلى حيث وجهه). رواه أبو داود
والراجح القول الأول، وهذا الحديث - إن صح - فهو محمول على الاستحباب، لأنه فعل والفعل يدل على الاستحباب.
قال ابن القيم بعد أن ذكر حديث أنس: "وفي الحديث نظر، وسائر من وصف صلاته صلى الله عليه وسلم على راحلته أطلقوا أنه كان يصلي عليها قبل أي جهة توجهت به، ولم يستثنوا من ذلك تكبيرة الإحرام ولا غيرها، كعامر بن ربيعة، وعبد الله بن عمر وجابر، وحديثهم أصح من حديث أنس هذا".
• الحديث دليل على استحباب التنفل، والصحيح من أقوال العلماء أن المسافر يصلي جميع النوافل ما عدا راتبة الظهر والمغرب والعشاء، فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان يوتر على بعيره في السفر، وثبت أنه صلى الله عليه وسلم صلى عام الفتح سنة الضحى.
وثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يدع سنة الفجر لا حضراً ولا سفراً.
م/ وَمِنْ شُرُوطِهَا: اَلنِّيَّةُ.
أي: ومن شروط الصلاة النية. وهي لغة: القصد، وشرعاً: العزم على فعل العبادة تقرباً إلى الله.
لقوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات)، والإنسان إذا أراد أن يصلي ينبغي أن ينوي: فعل الصلاة تقربا إلى الله - أن ينوي فعل هذه الصلاة تاسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم ونية تعيين هذه الصلاة هل هذه فريضة أم نافلة.
• والنية تتميز بها العبادات عن العادات، كما تتميز العبادات بعضها عن بعض، فإن الأعمال تتفق في كثير من الأحيان في مظهرها فلا تتميز إلا بالنية، فتتميز صلاة الظهر عن العصر، وراتبة الظهر عن صلاة الفجر إذا صلاهما منفرداً، ويتميز القضاء عن الأداء، وحج الفريضة عن النافلة.
• فيجب أن ينوي المصلي عين صلاة معينة كالظهر أو العصر، أو الوتر أو راتبة الفجر.
• إذا قطع النية في أثناء الصلاة بطلت، مثال: كرجل قام يتنفل، ثم ذكر أن له شغلاً، فقطع النية، فإن الصلاة تبطل، لقوله صلى الله عليه وسلم:(إنما الأعمال بالنيات) وهذا قد نوى القطع فانقطعت.
• إن تردد في القطع: كأن يسمع قارعاً يقرع الباب فتردد بين قطع الصلاة والاستمرار فيها: قيل: تبطل، لأن استمرار العزم شرط وقيل: لا تبطل بالتردد، وذلك لأن الأصل بقاء النية.
• لو انتقل بالنية من فرض إلى فرض: مثال: إنسان شرع يصلي العصر، ثم ذكر أنه صلى الظهر على غير وضوء، فنوى أنها الظهر؛ فلا تصح صلاة الظهر ولا العصر، فالعصر بطلت لأنه قطع النية، والظهر لم تنعقد لأنه لم يبدأ بها من أولها.
م/ وَتَصِحُّ اَلصَّلَاةُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ.
أي: الأصل أن الصلاة تصح في كل موضع من الأرض، ويدل لذلك حديث جابر في قوله صلى الله عليه وسلم: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي
…
وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً) وهذا من خصائص هذه الأمة، لأن الأمم السابقة لا تصح صلاتهم إلا في مواضع معينة.
لكن هناك مواضع مستثناة لا تصح بها، ذكرها المصنف منها، قال:
م/ إِلَّا: فِي مَحَلٍّ نَجِسٍ.
أي: فلا تصح الصلاة في محل ومكان نجس، وقد سبق أن من شروط الصلاة طهارة ثوب المصلي وبدنه وبقعته.
والدليل على أن الصلاة لا تصح إذا كانت البقعة نجسة:
لقوله تعالى (وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع والسجود).
ولحديث أنس قال: (جاء أعرابي فبال في طائفة من المسجد فزجره الناس، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قضى بوله أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذنوب من ماء فأهريق عليه). متفق عليه [بذنوب] الذنوب الدلو المليء بالماء.
• لكن لو حبسَ في مكان نجس؛ فإن صلاته صحيحة، لأنه مكره على المكث في هذا المكان، والإكراه حكمه مرفوع عن هذه الأمة.
م/ أَوْ مَغْصُوبٍ.
هذا هو الموضع الثاني الذي لا تصح الصلاة فيه على كلام المؤلف، وهو المغصوب. (كل ما أخذ من مالكه قهراً بغير حق).
والراجح - وقد سبقت المسألة - أن الصلاة في مكان مغصوب أو ثوب مغصوب صحيحة، لأن تحريمها لأمر خارج عن الصلاة.
م/ أَوْ فِي مَقْبَرَةٍ.
هذا هو الموضع الثالث الذي لا تصح فيه، وهو المقبرة، والمقبرة: موضع دفن الموتى.
والأدلة على عدم صحة الصلاة في المقبرة:
لحديث عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد). متفق عليه
ولحديث أبي مرثد الغنوي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها). رواه مسلم
فإذا نهي عن الصلاة إلى القبور؛ فالنهي عن الصلاة عندها من باب أولى. (لا تجعلوا بيوتكم قبورا)
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام). رواه الترمذي
• الحكمة من النهي عن الصلاة في المقبرة: هي الشرك، فإن الصلاة في المقبرة ذريعة إلى الشرك، لأن أول شرك حدث في العالم سببه تعظيم الصالحين والغلو فيهم، وكونه يصلي في المقابر فإن ذلك يؤدي إلى الغلو في هؤلاء الصالحين فيكون ذريعة إلى الشرك، وما ذهب إليه بعض العلماء إلى أن العلة هي النجاسة ربما تنبش القبور ويخرج منها صديد الأموات فينجس التراب، فهذه علة ضعيفة، لأمور:
أولاً: أن الأصل عدم النبش، ثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة إلى القبور، وهذا يدل على أن العلة تتعلق بخشية تعظيم المقبورين. ثالثاً: أن صلاة الجنازة تجوز في المقبرة، كما صلى عليه السلام على المرأة التي كانت تقم في المسجد، وهذا يدل على أن العلة ليست بنجاسة الأرض.
• لا فرق في ذلك بين صلاة الفرض والنفل.
• ذهب بعض العلماء إلى أنه إذا دفن فيه قبر أو قبران أن هذا جائز ولا بأس، والصحيح أنه لا يجوز ولو دفن فيه قبر واحد، لأن العلة هي خشية الوقوع في الشرك.
م/ أَوْ حَمَّامٍ.
هذا هو الموضع الرابع الذي لا تصح الصلاة فيه، وهو الحمام، والحمام: هو موضع الاغتسال بالماء الحار، ثم قيل لموضع الاغتسال بأي ماء كان.
والدليل حديث أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام). رواه الترمذي
• والعلة: قيل: لأنه مظنة النجاسة، وقيل: لأنه مأوى الشياطين، وفيه تكشف العورات.
• ويقاس على الحمام الكنيف، بل هو أولى، وكذا دورات المياه، لأنها مأوى للشياطين.
م/ أَوْ أَعْطَانِ إِبِلٍ.
هذا هو الموضع الخامس من المواضع التي لا تصح الصلاة فيه، وهو أعطان الإبل جمع عَطَن: هي مباركها وما تقيم فيه وتأوي إليه. والدليل على ذلك:
حديث جابر بن سمرة: (أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أصلي في مبارك الإبل؟ قال: لا). رواه مسلم
ولحديث البراء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تصلوا في مبارك الإبل فإنها خلقت من الشياطين). رواه أبو داود
وهذا هو المذهب، وذهب الجمهور إلى الكراهة، والراجح القول الأول.
• الحكمة من النهي عن ذلك: قيل: لنجاستها، لكن هذا ليس بصحيح، لأن الراجح أن أبوال وألبان الإبل طاهرة.
وقيل: لانها ربما تنفر وتشغله، وقيل: لأنها خلقت من الشياطين، وهذا الصحيح، لأنه هو الذي ورد به النص.
بَابُ صِفَةِ اَلصَّلَاةِ
ينبغي للمسلم أن يصلي كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي، فقد جاء في البخاري عن مالك بن الحويرث قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي) فالحديث دليل على الإقتداء به صلى الله عليه وسلم، وأنه ينبغي أن نصلي مثل ما كان يصلي في الأفعال والأقوال. وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم صفة الصلاة للأمة بالقول، وبالفعل، قال المصنف:
م/ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَأْتِيَ إِلَيْهَا بِسَكِينَةٍ وَوَقَارٍ.
أي يسن أن يذهب إلى الصلاة بسكينة ووقار [السكينة] التأني في الحركات واجتناب العبث [والوقار] في الهيئة؛ كغض البصر، وخفض الصوت، وعدم الالتفات.
لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة، وعليكم بالسكينة والوقار، ولا تسرعوا، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا). متفق عليه
والحكمة في عدم الإسراع: جاء في رواية مسلم: (فإن أحدكم إذا كان يعمد إلى صلاة فهو في صلاة) أي أنه في حكم المصلين.
• في الحديث النهي عن الإسراع، وهو عام في جميع الأحوال، ولا فرق بين أن يخاف فوات تكبيرة الإحرام أو فوات ركعة أو فوات الجماعة بالكلية أو يخاف شيئاً من ذلك، كما أنه لا فرق بين الجمعة وغيرها، لأن النصوص عامة ولم تستثن حالة واحدة.
م/ فَإِذَا دَخَلَ اَلْمَسْجِدَ قَالَ: بِاسْمِ اَللَّهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اَللَّهِ، اَللَّهُمَّ اِغْفِرْ لِي ذُنُوبِي وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ.
أي: يسن عند دخول المسجد أن يقول الدعاء الوارد في ذلك، وقد ذكر المصنف رحمه الله دعاء لكنه ضعيف.
والصحيح الوارد: هو ما رواه مسلم عن أبي حميد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا دخل أحدكم المسجد فليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج فليقل: اللهم إني أسألك من فضلك). وعند أبي داود: (فليسلم على النبي).
وعن عبد الله بن عمر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل المسجد قال: أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم). رواه أبو داود، وأما الحديث الذي ذكره المؤلف فهو ضعيف رواه أبو داود وغيره.
• هذا الدعاء سنة.
م/ وَيُقَدِّمُ رِجْلَهُ اليُمْنَى لِدِخُوْلِ المَسْجِدِ.
وقد سبقت القاعدة: (أن ما كان من باب التكريم يكون باليمين، وما كان ضد ذلك يبدأ به بالشمال.
لحديث عائشة قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله). متفق عليه
وعن أنس رضي الله عنه قال: (من السنة إذا دخلت المسجد أن تبدأ برجلك اليمين، وإذا خرجت أن تبدأ برجلك اليسرى). رواه الحاكم
وَاليُسْرَى لِلخُرُوْجِ مِنْهُ.
للقاعدة السابقة.
م/ وَيَقُوْلُ هَذَا الذِّكْر إِلَّا أَنَّهُ يَقُوْلُ " وَافْتَحْ لِي أَبُوَابَ فَضْلِكَ ".
أي: أنه عند خروجه من المسجد يقول (اللهم إني أسألك من فضلك).
• قال الشوكاني: "السر في تخصيص الرحمة بالدخول؛ والفضل بالخروج: أن الداخل مشتغل بتحصيل الثواب والقرب إلى جنته، وأما الخارج فساع في تحصيل الرزق الحلال".
م/ فَإِذَا قَامَ إِلَى اَلصَّلَاةِ قَالَ: "اَللَّهُ أَكْبَرُ".
أي: أن المصلي يبدأ صلاته بتكبيرة الإحرام: الله أكبر.
لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كبر في الصلاة سكت هنيهة). متفق عليه. [هنيهة] أي قليلاً.
وهي ركن من أركان الصلاة. لقوله صلى الله عليه وسلم للمسيء في صلاته: (إذا قمت إلى الصلاة فكبر). متفق عليه
ولحديث علي رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير). رواه الترمذي
• قوله: الله أكبر، فيه أنه لابد من قول الله أكبر فلا يجزئ غيرها.
لأن ألفاظ الذكر توقيفية، يُتوقف فيها على ما ورد به النص ولا يجوز إبدالها بغيرها.
وقد جاء في حديث رفاعة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقبل الله صلاة امرئ حتى يضع الوضوء مواضعه ثم يستقبل القبلة فيقول: (الله أكبر)، وكان صلى الله عليه وسلم يفتتح صلاته بـ (الله أكبر) ولم ينقل عنه عدول عن ذلك حتى فارق الدنيا، وهذا يدل على أنه لا يجوز العدل عنه.
• الحكمة من افتتاح الصلاة بهذا هو تعظيم الله، قال القاضي عياض:"استحضار المصلي عظمته من تهيأ لخدمته والوقوف بين يديه، ليمتلئ هيبة فيحضر قلبه ويخشع ولا يغيب ".
م/ وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ إِلَى حَذْوِ مَنْكِبَيْهِ، أَوْ إِلَى شَحْمَةِ أُذُنَيْهِ، فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ: عِنْدَ تَكْبِيرَةِ اَلْإِحْرَامِ، وَعِنْدَ اَلرُّكُوعِ، وَعِنْدَ الرَّفْعِ مِنْهُ، وَعِنْدَ القِيَامِ مِنَ التَّشَهُدِ الأَولِ، كَمَا صَحت بِذَلِكَ الأَحَادِيثُ عَنِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم.
أي: يسن للمصلي إذا أراد الصلاة أن يرفع يديه، ويكون رفعها إما إلى حذو منكبيه، أو إلى فروع أذنيه.
حذو الشيء: مقابله، فمعنى حذو منكبيه: مقابلهما، والمنكب: هو مجتمع عظم العضد والكتف.
ويرفعها في أربعة مواضع، وهي ما ذكرها المؤلف:
عند تكبيرة الإحرام، وعند الركوع، وعند الرفع منه، وعند القيام من التشهد الأول.
والدليل حديث ابن عمر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه حذو منكبيه إذا افتتح الصلاة، وإذا كبر للركوع، وإذا رفع رأسه من الركوع). متفق عليه
وجاء عند مسلم من حديث مالك بن حويرث نحو حديث ابن عمر، لكن قال: (
…
إلى فروع إذنيه
…
).
وأما الموضع الرابع [وهو عند القيام من التشهد] فدليله:
حديث ابن عمر: (أنه كان صلى الله عليه وسلم إذا دخل في الصلاة كبر ورفع يديه
…
وإذا قام من الركعتين رفع يديه، ورفع ابن عمر ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم. رواه البخاري
• وترفع الأيدي إما إلى حذو المنكبين لحديث ابن عمر السابق، أو إلى فروع أذنيه كما في حديث مالك بن الحويرث السابق.
فالأفضل للمصلي أن يفعل هذه مرة وهذه مرة، لأن السنة إذا وردت على وجوه متنوعة فالأفضل أن تفعل هذه مرة وهذه مرة، لفوائد: اتباعاً للسنة، وحضوراً للقلب، وإحياء السنة، وتأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم.
• وهذا الحكم عام للرجال والنساء، لعدم الدليل على تخصيصه بالرجل.
• إذا لم يتمكن من رفع كلتا يديه؛ فإنه يرفع إحدى اليدين ولو كانت إحدى يديه مريضة أو نحو ذلك فإنه يرفع اليد السليمة، وكذلك إذا لم يتمكن إلا من بعض الرفع؛ فإنه يأتي به إذا كان لا يستطيع أن يرفع إلى حذو منكبيه.
• الحكمة من رفع اليدين: قيل: إعظاماً لله، واتباعاً للرسول صلى الله عليه وسلم، وقيل: استكانة وانقياد، وقيل: هو إشارة إلى طرح أمور الدنيا والإقبال بالكلية على صلاته ومناجاته ربه.
م/ وَيَضَعُ يَدَهُ اَلْيُمْنَى عَلَى اَلْيُسْرَى.
أي: أن السنة أن يضع المصلي يده اليمنى على اليسرى في الصلاة ولا يرسلهما، وهذا مذهب جماهير العلماء.
لحديث وائل بن حجر (أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه حين دخل في الصلاة وكبر، ثم التحف ثوبه، ثم وضع اليمنى على اليسرى). رواه مسلم.
ولحديث هلب الطائي قال: (كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل يده اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة). رواه البخاري
• وقد ذهب بعض العلماء إلى أن السنة هو الإرسال، لكنه قول ضعيف.
• لم يذكر المؤلف صفة وضع اليدين: ولها صفتان:
الأولى: أن يضع اليد اليمنى على الكف اليسرى ورسغها وساعدها.
لحديث وائل بن حجر: (أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل في الصلاة وكبر
…
ثم وضع يده اليمنى على كفه اليسرى والرسغ والساعد). رواه أبو داود الرسغ: مفصل الكف عن الساعد.
الصفة الثانية: أن يقبض اليمنى على كوع اليسرى.
لحديث وائل قال: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان قائماً في الصلاة قبض بيمينه على شماله). رواه أبو داود
الكوع: مفصل الكف عن الذراع [الذي يلي الإبهام]، فهنا صفتان: قبض، ووضع.
م/ فَوْقَ سُرَّتِهِ، أَوْ تَحْتَهَا، أَوْ عَلَى صَدْرِهِ.
المصنف رحمه الله جعل الأمر بالاختيار، فإن شاء المصلي جعل يديه على سرته، وإن شاء تحتها، وإن شاء على صدره، فهو مخير، وهذا القول الذي ذكر المصنف - وهو أن المصلي مخير - هو قول الأوزاعي وابن المنذر.
قال ابن المنذر: "لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك شيء، فهو مخير".
وذهب بعض العلماء إلى أنه يضعها تحت سرته، وهذا المذهب.
لقول علي: (من السنة وضع الكف على الكف تحت السرة). رواه أبو داود وهو ضعيف
وذهب بعض العلماء إلى أنه يضعها على صدره، وهو قول إسحاق وجماعة.
لحديث وائل بن حجر قال: (صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم فوضع يده اليمنى على يده اليسرى على صدره). رواه ابن خزيمة، وهذا الحديث فيه ضعف؛ لكن له شواهد يتقوى بها، قال الشوكاني:"ولا شيء في الباب أصح من حديث وائل المذكور".
وهذا القول أرجح.
الحكمة من هذه الصفة: قال ابن حجر: "قال العلماء: الحكمة من هذه الهيئة أنها صفة السائل الذليل، وهو أمنع للعبث، وأقرب للخشوع".
م/ وَيَقُولُ: (سُبْحَانَكَ اَللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، وَتَبَارَكَ اِسْمُكَ، وَتَعَالَى جَدُّكَ، وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ) أَوْ غَيْرَهُ مِنْ اَلِاسْتِفْتَاحَاتِ اَلْوَارِدَةِ عَنْ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
أي: ثم بعد ذلك يستفتح الصلاة بأحد أدعية الاستفتاح التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فمنها: ما ذكره المصنف رحمه الله (سبحانك الله وبحمدك وتبارك .... ).
ومنها: حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: (كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا كَبَّرَ لِلصَّلَاةِ سَكَتَ هُنَيّهَةً، قَبْلَ أَنْ يَقْرَأَ، فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ: "أَقُولُ: اَللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ اَلْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، اَللَّهُمَّ نقِّنِي مِنْ خَطَايَايَ كَمَا يُنَقَّى اَلثَّوْبُ اَلْأَبْيَضُ مِنْ اَلدَّنَسِ، اَللَّهُمَّ اِغْسِلْنِي مِنْ خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
ومنها: (الله أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً وسبحان الله بكرة وأصيلاً)، استفتح به رجل من الصحابة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
(عجبت لها فتحت لها أبواب السماء) رواه مسلم.
ومنها: (الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه)، استفتح به رجل آخر فقال صلى الله عليه وسلم:(لقد رأيت اثني عشر ملكاً يبتدرونها أيهم يرفعها) رواه مسلم.
ومنها: حديث عَلِىِّ بْنِ أَبِى طَالِبٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ قَالَ «وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ اللَّهُمَّ أَنْتَ الْمَلِكُ لَا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ. أَنْتَ رَبِّى وَأَنَا عَبْدُكَ ظَلَمْتُ نَفْسِي وَاعْتَرَفْتُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي جَمِيعاً إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ وَاهْدِنِي لأَحْسَنِ الأَخْلَاقِ لَا يَهْدِى لأَحْسَنِهَا إِلاَّ أَنْتَ وَاصْرِفْ عَنِّى سَيِّئَهَا لَا يَصْرِفُ عَنِّى سَيِّئَهَا إِلاَّ أَنْتَ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ أَنَا بِكَ وَإِلَيْكَ تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ) رواه مسلم.
• اختلف العلماء في أفضلها:
فاختار بعض العلماء دعاء: (سبحانك اللهم
…
).
قال أحمد: "أما أنا فأذهب إلى ما روي عن عمر [سبحانك اللهم وبحمدك
…
]، ولو أن رجلاً استفتح ببعض ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من الاستفتاح لكان حسناً"، قال ابن القيم: "وإنما اختار الإمام أحمد هذا لعشرة أوجه:
منها: جهر عمر به يعلمه الصحابة، ومنها: اشتماله على أفضل الكلام بعد القرآن، وأفضل الكلام بعد القرآن: سبحان الله والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ومنها: أنه استفتاح أخلص للثناء على الله، وغيره متضمن للدعاء، والثناء أفضل من الدعاء.
وقيل: دعاء: اللهم باعد بيني وبين خطاياي، قال الشوكاني: ولا يخفى أن ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أولى بالإيثار والاختيار، وأصح ما روي في الاستفتاح حديث أبي هريرة ثم حديث علي.
واختار شيخ الإسلام أن العبادة إذا وردت على وجوه متنوعة فالأفضل تفعل هذه مرة وهذه مرة، وفي ذلك فوائد:
اتباعاً للسنة، وحضوراً للقلب، وإحياء السنة، وتأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم.
• أن دعاء الاستفتاح يكون بين التكبير والقراءة. أن دعاء الاستفتاح سنة لهذه الأحاديث (من السنن الفعلية).
• أن دعاء الاستفتاح يكون في الفرض والنفل، ويكون في الركعة الأولى فقط.
م/ ثُمَّ يَتَعَوَّذُ.
أي: يسن أن يقول بعد دعاء الاستفتاح (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم).
وجمهور العلماء على أنها سنة، لقوله تعالى:(فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ).
[أعوذ بالله] أي أستجير بجناب الله من الشيطان الرجيم أن يضرني في ديني أو دنياي [الشيطان] الشيطان في لغة العرب مشتق من شَطُنَ إذا بَعُدَ فهو بعيد بطبعه عن طباع البشر، وبعيد بفسقه عن كل خير.
• يقولها المصلي سراً، قال في المغني:"يسر الاستعاذة ولا يجهر بها لا أعلم فيه خلافاً".
واختلف العلماء هل يستعيذ كل ركعة أم يكفي في الركعة الأولى:
فقيل: يستعيذ في كل ركعة، لعموم قوله تعالى:(فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ).
وقيل: يكفي أن يستعيذ في الركعة الأولى.
للاستعاذة صيغ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وهذه أكثر ما ورد، أَعُوذُ بِاَللَّهِ اَلسَّمِيعِ اَلْعَلِيمِ مِنَ اَلشَّيْطَانِ اَلرَّجِيمِ، مِنْ هَمْزِهِ، وَنَفْخِهِ، وَنَفْثِهِ، همزه: هو الصرع والجنون الذي يصيب الإنسان، ونفخه: هو الكبر، لأن الشيطان ينفخ الإنسان حتى يتكبر. ونفثه: هو الشعر، وقيل هو السحر.
م/ وَيُبَسْمِلُ.
أي: وبعد أن يستعيذ يسن أن يبسمل يقول: [بسم الله الرحمن الرحيم]، وهذا قول جمهور العلماء.
لحديث أبي هريرة: (أنه صلى فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم حتى بلغ: ولا الضالين، حتى إذا أتم الصلاة قال: إني لأشبهكم صلاة برسول الله). رواه النسائي
• والأفضل أن يسر بها.
قال الترمذي: "وعليه العمل عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم من التابعين، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد".
لحديث أنس: (أنه صلى خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فكانوا يستفتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين). متفق عليه وفي رواية: (يسرون ببسم الله الرحمن الرحيم).
ولحديث عائشة قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح الصلاة بالتكبير والقراءة الحمد لله رب العالمين). رواه مسلم
ولحديث ابن عبد الله بن مغفل قال (سمعني أبي وأنا أقول: بسم الله الرحمن الرحيم، فقال: يا بني إياك والحدث في الدين، فإني صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر فلم يكونوا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم). رواه الترمذي
ولأن البسملة تقاس على التعوذ، ولم يثبت أنه كان صلى الله عليه وسلم يتعوذ جهراً، ولم يقل أحد من أهل العلم بمشروعية التعوذ جهراً.
وذهب بعض العلماء وهو مذهب الشافعية أنه يجهر بها.
لحديث أبي هريرة الذي سبق، وفيه: (أنه صلى فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم
…
حتى بلغ: ولا الضالين، قال: آمين، ثم قال: إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه النسائي
ولحديث ابن عباس قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم) رواه الدار قطني وهو ضعيف
والراجح الأول، لكن لو جهر أحياناً فلا بأس، ولذلك قال ابن القيم:"وكان صلى الله عليه وسلم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم تارة ويخفيها أكثر مما يجهر بها، ولا ريب أنه لم يكن يجهر بها دائماً في كل يوم خمس مرات أبداً حضراً وسفراً ويخفى ذلك على خلفائه الراشدين وعلى جمهور أصحابه وأهل بلده في الأعصار الفاضلة، هذا من أمحل المحال".
م/ وَيَقْرَأُ اَلْفَاتِحَةَ.
أي: وبعد ذلك يقرأ سورة الفاتحة، وهي ركن من أركان الصلاة، لقوله صلى الله عليه وسلم:(لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب). متفق عليه
• وسميت الفاتحة بهذا الاسم لأنه افتتح بها القرآن العظيم، ولأنه يفتتح بها الصلاة.
• وسيأتينا أن الراجح أنها ركن في حق الإمام والمأموم والمنفرد في الصلاة الجهرية والسرية.
• يسن أن يُؤَمِّنَ جهراً في الجهرية، فيقول: آمين بعد الفاتحة.
لحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أمن الإمام فأمنوا فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه). متفق عليه
فالإمام يقولها بعد قوله: ولا الضالين، وكذا المنفرد، وكذلك المأموم يقولها بعد قول الإمام: ولا الضالين، وهذا هو الصحيح لحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا قال الإمام: ولا الضالين، فقولوا: آمين فإنه من وافق تأمينه
…
).
ذهب بعض العلماء إلى وجوبه، وهو قول ابن حزم للأمر به (إذا أمن فأمنوا)، وذهب الجمهور إلى أنه سنة وهذا هو
الصحيح، لقوله صلى الله عليه وسلم:(إذا أمن الإمام فأمنوا) فالإمام لم يرد عليه أمر، وإذا كان ذلك لم يجب على الإمام فإنه لا يجب على المأموم، ولأن التأمين خارج عن الفاتحة، فليس هو من الفاتحة.
م/ وَيَقْرَأُ مَعَهَا، فِي اَلرَّكْعَتَيْنِ اَلْأُولَيَيْنِ مِنْ اَلرُّبَاعِيَّةِ وَالثُّلَاثِيَّةِ سُورَةً.
أي: يسن أن يقرأ مع الفاتحة سورة في الركعتين الأوليين من كل صلاة.
لحديث أبي قتادة قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الركعتين الأوليين من صلاة الظهر بفاتحة وسورة يطول الأولى ويقصر الثانية). متفق عليه
قال في المغني: "لا نعلم خلافاً أنه يسن قراءة سورة مع الفاتحة في الركعتين الأوليين من كل صلاة".
• قوله (سورة) فيه أن يستحب أن تكون السورة كاملة، وقد كره بعض العلماء قراءة مقدار من سورة طويلة.
والصحيح أنه لا بأس بذلك، لعموم قوله تعالى:(فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ).
وقال صلى الله عليه وسلم للمسيء في صلاته: (ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن).
ما رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في راتبة الفجر في الركعة الأولى (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ
…
البقرة) وفي الركعة الثانية (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ
…
آل عمران) وما ثبت في النفل ثبت في الفرض إلا بدليل.
• قوله (في الركعتين الأوليين) ظاهره أنه لا يقرأ في الركعة الثالثة والرابعة بعد الفاتحة شيئاً، وأنه يقتصر على الفاتحة.
وهذا يدل عليه حديث أبي قتادة الذي سبق وفيه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الركعتين الأوليين من صلاة الظهر بفاتحة الكتاب وسورة، وفي الركعتين الأخريين بأم الكتاب). متفق عليه
لكن جاء في حديث أبي سعيد عند مسلم قال: (كنا نَحْزُرُ قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهر والعصر فحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين من الظهر قدر (ألم السجدة) وفي الأخريين قدر النصف من ذلك).
كنا نحزر: بفتح النون وسكون الحاء وضم الزاي، ومعناه نخرص ونقدر ونقيس.
فهذا يدل على أنه يقرأ بفاتحة الكتاب وسورة في الركعتين الأخريين من الظهر، لأنه إذا كانت الركعة الثالثة قدر {15} آية فمعنى ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ سورة الفاتحة قدر ثمان آيات ويقرأ فيها أيضاً سورة مع الفاتحة قدر سبع آيات.
واختلف العلماء في الجمع بينه وبين حديث أبي قتادة السابق:
فمن العلماء من رجح حديث أبي قتادة على حديث أبي سعيد لأنه متفق عليه وحديث أبي سعيد في مسلم فقط.
ولأن حديث أبي قتادة جاء بصيغة الجزم، وحديث أبي سعيد قال (حزرنا قيامه) وفرق بين الجزم بالشيء وبين حزره وتقديره.
ومن العلماء من جمع بين الحديثين؛ وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم يفعل هذا أحياناً ويفعل هذا أحياناً، وهذا الصحيح لأمرين:
أولاً: أن القاعدة في الأصول أنه متى أمكن الجمع بين الدليلين فهو أولى من الترجيح، لأن الجمع عمل بكلا الدليلين.
ثانياً: أن الصلاة تتكرر في اليوم والليلة خمس مرات، وقد تنوعت كثير من أقوالها وأفعالها، فيكون تنوع مقدار القراءة من هذا الباب.
• أن السورة التي بعد الفاتحة يفتتحها بالبسملة، ولا تغني بسملة الفاتحة.
م/ فِي اَلْفَجْرِ: مِنْ طُوَالِ اَلْمُفَصَّلِ.
أي: يسن أن تكون السورة التي بعد الفاتحة في صلاة الفجر من طوال المفصل.
{طوال} بكسر الطاء، طوال المفصل من (ق) إلى عم، والمفصل من (ق) إلى الناس.
• سمي بذلك لكثرة الفواصل بين سوره بالبسملة.
لحديث سلمان بن يسار قال: (كان فلان يطيل الأوليين من الظهر، ويخفف العصر، ويقرأ في المغرب بقصار المفصل، وفي العشاء بوسطه، وفي الصبح بطواله، فقال أبو هريرة: ما صليت وراء أحدٍ أشبه صلاة برسول الله من هذا). أخرجه النسائي
{كان فلان} يريد به أميراً كان على المدينة.
(وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ في الفجر ق). رواه مسلم
وفي حديث أبي برزة الطويل وفيه: (وكان يقرأ بالستين إلى المائة). متفق عليه
م/ وَفِي المَغْرِبِ مِنْ قِصَارِ المُفَصَّلِ.
أي يسن أن تكون القراءة في صلاة المغرب بقصار المفصل.
وقصار المفصل من (الضحى) إلى (الناس)، لحديث سلمان بن يسار السابق وفيه:(وفي المغرب بقصاره).
ويسن أن يقرأ أحياناً ليست قليلة من أواسط المفصل، وربما قرأ ببعض الطوال.
عن جبير بن مطعم قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور). متفق عليه وهي من طوال المفصل.
وعن ابن عباس: (أن أم الفضل بنت الحارث سمعته يقرأ: (والمرسلات عرفاً) فقالت: يا بني، لقد ذكرتني بقرائتك هذه السورة، إنها لآخر ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها في المغرب). متفق عليه
قال ابن القيم: "أما المداومة على قصار المفصل دائماً فهو من فعل مروان بن الحكم، ولهذا أنكر عليه زيد بن ثابت، وقال: مالك تقرأ بقصار المفصل، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بطولى الطوليين الأعراف) ". رواه النسائي
م/ وَفِي البَاقِي مِنْ أَوَسَاطِهِ.
أي: يسن أن تكون القراءة في صلاة الظهر والعصر والعشاء من أواسط المفصل، وأواسط المفصل من (عم) إلى (الضحى)
أما العشاء ففي حديث معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له - حين أطال في صلاة العشاء - قال له: (إذا أممت الناس فاقرأ بالشمس وضحاها والليل إذا يغشى وسبح اسم ربك الأعلى). متفق عليه
وأما الظهر فيقرأ فيها بأواسط المفصل.
فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ فيها (والسماء والطارق)(والسماء ذات البروج)(والليل إذا يغشى). رواه أبو داود
وأما العصر فعامة أهل العلم على أنه يقرأ فيها بأواسط المفصل.
م/ وَيَجْهَرُ فِي القِرَاءَةِ لَيلاً وَيُسِرُّ بِهَا نَهَارًا، إِلَّا: اَلْجُمْعَةَ وَالْعِيدَ وَالْكُسُوفَ، وَالِاسْتِسْقَاءَ، فَإِنَّهُ يَجْهَرُ بِهَا.
أي: يسن الجهر في الصلوات الليلية كالمغرب والعشاء والفجر، ويسر في الصلوات النهارية كالظهر والعصر.
قال ابن قدامة: "الجهر في مواضع الجهر، والإسرار في مواضع الإسرار، مجمع على استحبابه، ولم يختلف المسلمون في موضعه".
م/ ثُمَّ يُكَبِّرُ لِلرُّكُوعِ.
أي: بعد فراغه من القراءة يركع مكبراً، {رافعاً يديه} وهذا هو الموضع الثاني الذي ترفع به الأيدي، وهو عند الركوع لحديث ابن عمر الذي سبق: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة وإذا كبر للركوع
…
).
(ويكبر) هذه تكبيرات الانتقال، وهي واجبة، وفي الحديث عن أبي هريرة قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يكبر في كل خفض
ورفع). متفق عليه
ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه أيضاً قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يكبر إلى الصلاة ويكبر إذا ركع
…
). متفق عليه
وقوله (ثم يكبر للركوع) يعني أن التكبير يكون في أثناء الهوى، فلا يكبر وهو قائم، ولا يكبر وهو راكع، لأن التكبير ذكر الانتقال، وذكر الانتقال يكون بين الركنين، يعني بين الركن الذي انتقل عنه والركن الذي انتقل إليه.
وقوله (ثم) عبر المصنف بـ (ثم) لأنها تفيد الترتيب والتراخي، فيدل على أنه يسكت سكتة بقدر ما يتراد إليه نفسه، لأنه صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من القراءة سكت سكتة.
ثم ذكر المصنف الركوع الموافق للسنة ما جمع صفات، فقال:
م/ وَيَضَعُ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ.
أي: ويضع المصلي يديه على ركبتيه كأنه قابض عليهما.
والمراد بيديه: الكفان، لأن اليد إذا أطلقت فهي الكف إلا بدليل.
• الدليل على هذه الصفة:
حديث أبي حميْد - في صفة الصلاة - (وكان إذا ركع أمكن يديه من ركبتيه
…
). رواه البخاري
ولأمره صلى الله عليه وسلم للمسيء في صلاته فقال: (إنها لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء
…
ثم يكبر ويضع يديه على ركبتيه). رواه أبو داود
ولحديث سعد بن أبي وقاص قال: (أمرنا أن نضع أيدينا على الركب). متفق عليه
• ولم يذكر المؤلف أنه يسن أن تكون مفرجتي الأصابع، أي مفرقاً بينها فلا يضمها.
لحديث وائل بن حجر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ركع فرّج بين أصابعه، وإذا سجد ضم أصابعه). رواه ابن خزيمة
م/ وَيَجْعَلُ رَأْسَهُ حِيَالَ ظَهْرِهِ.
أي: أنه يسن للراكع أن يمد ظهره ويجعل رأسه حيال ظهره فلا يرفعه ولا يخفضه.
لحديث عائشة قالت: (كان إذا ركع لم يشخص رأسه ولم يصوِّبه ولكن بين ذلك). رواه مسلم
لم يشخص: لم يرفعه. ولم يصوِّبه: لم ينزله ويخفضه، ولكن بين ذلك.
وفي حديث ابن عباس قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ركع بسط ظهره وسواه حتى لو صُبَّ الماء عليه استقر). رواه ابن ماجه
وقال صلى الله عليه وسلم للمسيء في صلاته: (فإذا ركعت فاجعل راحتيْك على ركبتيك، وامدد ظهرك ومكِّن الركوع). رواه أبو داود
هذا هو الركوع الكامل.
وأما الركوع المجزئ فاختلف العلماء فيه على قولين:
فقيل: أن ينحني بحيث تصل يداه إلى ركبتيه إذا كان وسط الخلقة.
وقيل: أن يكون إلى الركوع المعتدل أقرب منه إلى القيام المعتدل، وهذا أصح.
م/ وَيَقُولُ: (سُبْحَانَ رَبِّيَ اَلْعَظِيمِ) وَيُكَرِّرُهُ.
هذا هو الذكر المشروع في الركوع، وهو أن يقول: سبحان ربي العظيم.
لحديث حذيفة قال: (صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فافتتح البقرة
…
ثم ركع فجعل يقول: سبحان ربي العظيم
…
). رواه مسلم
ولحديث عقبة بن عامر قال: (لما نزلت (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجعلوها في ركوعكم، فلما نزلت (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) قال: اجعلوها في سجودكم). رواه أبو داود
ولحديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وأما الركوع فعظموا فيه الرب). رواه مسلم
• وهذا الذكر من واجبات الصلاة، وهذا مذهب الحنابلة خلافاً للجمهور. {وستأتي واجبات الصلاة}
• وهناك أدعية تقال أثناء الركوع:
منها: حديث عائشة قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه وسجوده: سبوح قدوس رب الملائكة والروح). رواه مسلم
ومنها: حديث عائشة أيضاً قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي). متفق عليه
ومنها: (سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة). رواه أبو داود
ومنها: حديث علي أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا ركع قال: (اللهم لك ركعتُ، وبك آمنتُ، ولك أسلمتُ، خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي). رواه مسلم
م/ ثُمَّ يَرْفَعُ رَأَسَهُ.
أي: يرفع رأسه وظهره من الركوع لقوله صلى الله عليه وسلم للمسئ في صلاته (ثم ارفع حتى تطمئن قائماً) متفق عليه.
م/ قَائِلاً.
أي: يكون القول في حال الرفع، فلا يقال قبله ولا يؤخر لما بعده.
م/ سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، إِنْ كَانَ إِمَامَاً أَوْ مُنْفَرِدَاً.
أي: يقول الإمام والمنفرد سمع الله لمن حمده، [سمع الله] أي استجاب لمن حمده.
• وقوله (إن كان إماماً ومنفرداً) هذا دليل على أن الإمام وكذلك المنفرد يجمع بين التسميع والتحميد، أما المأموم فلا يجمع بين التسميع والتحميد وإنما يقتصر على التحميد، وما ذهب إليه المؤلف هو مذهب الحنابلة، لحديث أبي هريرة قال: قال صلى الله عليه وسلم (إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا ربنا ولك الحمد) متفق عليه.
وذهب الشافعي إلى أن المأموم كذلك يجمع بين التسميع والتحميد لفعل النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنهم قَالَ (كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَامَ إِلَى اَلصَّلَاةِ يُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْكَعُ، ثُمَّ يَقُولُ: "سَمِعَ اَللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ" حِينَ يَرْفَعُ صُلْبَهُ مِنْ اَلرُّكُوعِ، ثُمَّ يَقُولُ وَهُوَ قَائِمٌ: "رَبَّنَا وَلَكَ اَلْحَمْدُ" ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَهْوِي سَاجِدًا ........ ) متفق عليه. وقد قال صلى الله عليه وسلم
(صلوا كما رأيتموني أصلي) رواه البخاري، والراجح ما ذكره المصنف رحمه الله ويكون فعل النبي صلى الله عليه وسلم عام مخصوص منه المأموم.
م/ وَيَقُولُ اَلْكُلُّ رَبَّنَا وَلَكَ اَلْحَمْدُ.
أي: يقول هذا الذكر بعد الرفع من الركوع، وهذا الذكر يقوله الكل: الإمام والمأموم والمنفرد.
لحديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنهم قَالَ (كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَامَ إِلَى اَلصَّلَاةِ يُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْكَعُ، ثُمَّ يَقُولُ:"سَمِعَ اَللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ" حِينَ يَرْفَعُ صُلْبَهُ مِنْ اَلرُّكُوعِ، ثُمَّ يَقُولُ وَهُوَ قَائِمٌ:"رَبَّنَا وَلَكَ اَلْحَمْدُ" ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَهْوِي
سَاجِدًا
…
) متفق عليه.
وقد ورد عدة صيغ:
منها ما ذكره المصنف: ربنا ولك الحمد لحديث أبي هريرة السابق، ولحديث أنس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم (إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا صلى قائماً فصلوا قياماً، ..... وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد) متفق عليه.
ومنها: ربنا لك الحمد [من غير واو].
لحديث أبي سعيد قال (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع قال: ربنا لك الحمد) رواه مسلم.
ومنها: اللهم ربنا لك الحمد.
لحديث أبي هريرة. قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قال: سمع الله لمن حمده قال: اللهم ربنا لك الحمد) متفق عليه.
ومنها: اللهم ربنا ولك الحمد.
لحديث أبي هريرة. قال (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قال: سمع الله لمن حمده قال: اللهم ربنا ولك الحمد) رواه البخاري.
والأفضل أن يأتي بهذا مرة، وبهذا مرة، ليكون متبعاً للسنة.
م/ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ، مِلْءَ اَلسَّمَاءِ، وَمِلْءَ اَلْأَرْضِ، وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ.
أي: يسن للمصلي أن يزيد في الرفع من ركوعه هذا الدعاء لحديث أَبِي سَعِيدٍ اَلْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ (كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ اَلرُّكُوعِ قَالَ: " اَللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ اَلْحَمْدُ مِلْءَ اَلسَّمَوَاتِ وَمِلْءَ اَلْأَرْضِ، وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ، أَهْلَ اَلثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ، أَحَقُّ مَا قَالَ اَلْعَبْدُ - وَكُلُّنَا لَكَ عَبْدٌ - اَللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا اَلْجَدِّ مِنْكَ اَلْجَدُّ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
{مِلْءَ اَلسَّمَوَاتِ وَمِلْءَ اَلْأَرْضِ} قال الخطابي: "هو تمثيل وتقريب، فالكلام لا يقدر بالمكاييل ولا تسعه الأوعية، والمراد تكثير القول لو قدر ذلك أجساماً ملأ ذلك كله". وقال النووي: "قال العلماء: معناه: حمداً لو كان أجساماً لملأ السموات والأرض". وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "الصحيح أن المعنى: أن الله محمود على كل مخلوق يخلقه، وعلى كل فعل يفعله ". {وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ} فيه إشارة إلى أن حمد الله تعالى لا منتهى له ولا يحصيه عاد، ولا يجمعه كتاب. {أَهْلَ اَلثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ} أي أنت أهل الثناء والمجد، والثناء: هو المدح بالأوصاف الكاملة، والمجد هو العظمة ونهاية الشرف. {أَحَقُّ مَا قَالَ اَلْعَبْدُ} أي ذلك أحق ما قال العبد، والمراد ما سبق من الثناء والمجد، أحق ما قال العبد: أي أصدقه وأثبته {وَكُلُّنَا لَكَ عَبْدٌ} فيه التنبيه على أنه تعالى مالك لجميع العباد. {اَللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ} إذا أردتَ إعطاءَه. {وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ} إذا أردت منعه، فما قدر سبحانه عطاءه وجِدَ، وما قدر منعه لا يوجد. {وَلَا يَنْفَعُ ذَا اَلْجَدِّ مِنْكَ اَلْجَدُّ} الجَد بفتح الجيم، هو الحظ والغنى و (من) بمعنى عند، والمعنى: لا ينفع صاحب الغنى عندك غناه ولا حظه، وإنما ينفعه العمل بطاعتك.
• هذا الذكر للإمام والمنفرد والمأموم في الفرض والنفل.
• من الأذكار التي تقال بعد الرفع من الركوع: ربنا ولك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، قالها رجل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد رأيت بضعة وثلاثين ملكاً يبتدرونها أيهم يكتبها أولاً. رواه البخاري.
• المشروع إطالة هذا الركن، وأنه بقدر الركوع، بخلاف كثير من الناس.
قال ابن القيم: "قال شيخنا: إن تقصير هذين الركنين مما تصرف فيه أمراء بني أمية في الصلاة، وأحدثوا فيه كما أحدثوا غير ذلك مما يخالف هديه صلى الله عليه وسلم، وربي في ذلك من ربي حتى ظن أنه من السنة".
فقد ثبت عند النسائي عن أنس قال: (إني لا آلو أن أصلي بكم كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا، قال ثابت: فكان أنس يصنع شيئاً لا أراكم تصنعونه، كان إذا رفع من الركوع انتصب قائماً يقول القائل قد نسي، وإذا رفع رأسه من السجود مكث حتى يقول القائل قد نسي).
• أين يضع يديه بعد الركوع؟
المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله: أنه مخير إما أن يرسلهما من على جنبيه أو أنه يضع اليمنى على اليسرى، والرأي الثاني: أنه يرسلهما ولا يضعهما، والرأي الثالث: أنه يضع يده اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة، ودليل ذلك حديث سهل بن سعد رضي الله تعالى عنهما أنه قال: كان الناس يأمرون أن يضع الرجل يده اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة، وهذا يشمل جميع الصلاة، فالصواب في هذه المسألة: أنه يضع يده اليمنى على اليسرى، هذا الصواب.
م/ ثُمَّ يَسْجُدُ عَلَى أَعْضَائِهِ اَلسَّبْعَةِ: كَمَا قَالَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظَمٍ: عَلَى اَلْجَبْهَةِ - وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى أَنْفِهِ - وَالْكَفَّيْنِ، وَالرُّكْبَتَيْنِ، وَأَطْرَافِ اَلْقَدَمَيْنِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
أي: ثم يسجد المصلي على أعضائه السبعة.
• والسجود ركن من أركان الصلاة لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث المسيء في صلاته (ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً).
• يسجد من غير رفع لليدين لحديث ابن عمر ( .... ولا يفعل ذلك في السجود).
• يجب أن يكون سجوده على الأعضاء السبعة، والسجود على هذه الأعضاء واجب لقوله (أمرت) هذا أمر من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، وهو أمر لأمته، وقد جاء في رواية: أمرنا.
• فلا بد من السجود عليها جميعاً فلا يجزئ السجود على بعضها.
وهذا مذهب الحنابلة، للحديث الذي ذكره المصنف، وذهب بعض العلماء إلى أنه يجوز السجود على الجبهة دون الأنف.
وهذا مذهب الشافعي وجماعة واستدلوا:
أن هذا هو السجود اللغوي [السجود في اللغة: هو وضع الجبهة على الأرض].
وجاء في حديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسجد على أعلى الجبهة) وهو ضعيف.
وذهب أبو حنيفة إلى أنه يجزئ السجود على الأنف فقط.
قال ابن المنذر رداً عليه: "وهو قول يخالف الحديث الصحيح"، والأول هو الراجح.
• ويجوز أن يسجد ولو على حائل منفصل، لأن السجود على حائل ينقسم إلى قسمين:
الأول: السجود على حائل منفصل عن المصلي، فهذا جائز.
كأن يسجد على فرشة أو سجادة، لحديث عائشة قالت:(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد على الخمرة).
الخمرة: هي السجادة، وسميت خمرة لأنها تخمر الوجه أي تغطيه.
لكن يستثنى من ذلك أن يخص جبهته بشيء يسجد عليه دون بقية بدنه، فهذا ينهى عنه لأمرين:
أولاً: أن في ذلك موافقة للرافضة وتشبهاً بهم، لأنهم يسجدون على قطعة من المدَر كالفخار، ثانياً: رفع التهمة، والذي ينبغي للمسلم اتقاء مواضع التهم.
الثاني: أن يسجد على حائل متصل به، فهذا يكره إلا لحاجة، كأن يسجد على شماغه أو بعضه.
لحديث أنس قال: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شدة الحر، فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكن جبهته من الأرض بسط ثوبه فسجد عليه). متفق عليه فقوله: (فإذا لم يستطع أحدنا) دليل على أنهم لا يفعلون ذلك مع الاستطاعة.
• لا يجب كشف شيء من هذه الأعضاء لو كان مستوراً، بل يسجد على العضو ولو مع الساتر، كشراب اليدين والرجلين،
لأمرين: الأول: أن مسمى السجود يحصل بوضع الأعضاء على الأرض دون كشفها.
الثاني: ما ذكره البخاري في صحيحه عن الحسن قال: (كان القوم يسجدون على العمامة - القلنسوة - ويداه في كمه)،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
• إذا عجز عن السجود ببعض الأعضاء فإنه يسجد على بقية الأعضاء لقوله تعالى (فاتقوا الله ما استطعتم).
• لم يذكر المصنف رحمه الله ماذا يقدم عند السجود، هل يقدم الركبتين أم اليدين، وقد اختلف العلماء في الأفضل على قولين:
القول الأول: أن السنة للمصلي أن يبدأ بركبتيه أولاً، ثم يديه.
وإلى هذا ذهب عامة أهل العلم، فهو مذهب أبي حنيفة والشافعي والمشهور عند أحمد، وإليه ذهب جماعة من الصحابة والتابعين. واستدلوا:
بحديث وائل بن حجر: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه) رواه أبو داود.
وهذا الحديث اختلف فيه العلماء، فضعفه جماعة: كالبيهقي، والمباركفوري، والألباني، وصححه جماعة: كالنووي، وابن القيم، والخطابي، وسبب ضعفه لوجود شريك بن عبد الله القاضي.
وشريك مختلف فيه بين أهل العلم، فهناك من وثقه، وهناك من ضعفه، وهناك من فصل، والأقرب أن هذا الحديث فيه ضعف، لكنه أقل من ضعف حديث أبي هريرة، لكن ما جاء في حديث وائل هو الثابت عن الصحابة كعمر وابن مسعود.
فقد أخرج ابن أبي شيبة عن عمر: (أنه يخر في صلاته بعد الركوع على ركبتيه كما يخر البعير ويضع ركبتيه قبل يديه).
ولحديث أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير) رواه أبو داود.
قالوا: والإبل في بروكها تبدأ باليد، فينبغي أن يبدأ المصلي بالرجِل.
ويشهد لهذا فعل بعض الصحابة وكبار التابعين، فهو المنقول عن عمر بن الخطاب، وابن مسعود، وإبراهيم النخعي، وأبي قلابة، والحسن، وابن سيرين.
قال الشيخ محمد بن عثيمين: "والبعير إذا برك يقدم يديه كما يعرفه من شاهده، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضع يديه قبل ركبتيه، لأنه إذا فعل ذلك صار كالبعير".
القول الثاني: أن السنة البدء باليدين ثم الركبتين.
وهو المشهور عن مالك. واستدلوا:
بحديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِذَا سَجَدَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَبْرُكْ كَمَا يَبْرُكُ اَلْبَعِيرُ، وَلْيَضَعْ يَدَيْهِ قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ) رواه أبو داود.
وبشهد له حديث ابن عمر، والراجح - والله أعلم - القول الأول.
• يستحب أن يضع راحتيه على الأرض مبسوطتين مضمومتي الأصابع مستقبلة القبلة حذو منكبيه.
لحديث (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتمد على كفيه ويبسطهما) رواه أبو داود.
ولحديث وائل بن حجر رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد ضم أصابعه) رواه الحاكم.
وعن البراء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا سجدت فضع كفيك، وارفع مرفقيك) رواه مسلم.
ولحديث أبي حميْد الساعدي وفيه (ثم سجد فأمكن أنفه وجبهته، ونحى يديه عن جنبيه، ووضع كفيه حذو منكبيه). رواه أبو داود
والحكمة في بسطهما مع ضمهما: ليحصل بذلك كمال استقبال القبلة بها، وهو أعون على تحملها في أثناء السجود.
• يكره أن يفترش المصلي ذراعيه حال السجود:
لحديث أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (اعتدلوا في السجود ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب). متفق عليه، لما في ذلك من التشبه بالحيوان، ولأنها هيئة الإنسان الكسلان.
م/ وَيَقُولُ: "سُبْحَانَ رَبِّيَ اَلْأَعْلَى.
أي: يقول في سجوده: سبحان ربي الأعلى.
لحديث حذيفة - وقد سبق - قال (صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فافتتح البقرة، فقلت يركع عند المائة ثم مضى، فقلت يصلي بها في الركعة فمضى ...... الحديث وفيه: ثم ركع فجعل يقول: سبحان ربي العظيم، .... ثم سجد فقال: سبحان ربي الأعلى) رواه مسلم.
• ووصف الرب بالعلو في هذه الحالة غاية في المناسبة، لأن الإنسان أذل ما يكون لربه وأخضع له حيث يضع أشرف شيء فيه وهو وجهه على التراب خشوعاً لربه واستكانة له، وخضوعاً لعظمته، وهو في ذلك أقرب ما يكون من ربه.
ويستحب أن يزيد: (سبوح قدوس رب الملائكة والروح) رواه مسلم. (سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي) متفق عليه.
(اللهم اغفر لي ذنبي كله، دقه وجله، وأوله وآخره، وعلانيته وسره) رواه مسلم.
• يستحب الإكثار من الدعاء في السجود: لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء) رواه مسلم. وفي رواية (فقمن أن يستجاب لكم) أي حري.
م/ ثُمَّ يُكَبِّرُ. وَيَجْلِسُ عَلَى رِجْلِهِ اَلْيُسْرَى، وَيَنْصِبُ اَلْيُمْنَى وَهُوَ اَلِافْتِرَاشُ.
أي: ثم بعد السجود يكبر المصلي ثم يجلس بين السجدتين.
• ويجلس مفترشاً. وهو: أن ينصب الرجل اليمنى ويفرش اليسرى.
لحديث عائشة رضي الله عنها قالت (وكان يفرش رجله اليسرى وينصب اليمنى) رواه مسلم.
• وهناك جلسة أخرى كما جاء في صحيح مسلم عن طَاوُوس قال (قُلْنَا لاِبْنِ عَبَّاسٍ فِى الإِقْعَاءِ عَلَى الْقَدَمَيْنِ فَقَالَ هِىَ السُّنَّةُ. فَقُلْنَا لَهُ إِنَّا لَنَرَاهُ جَفَاءً بِالرَّجُلِ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ بَلْ هِىَ سُنَّةُ نَبِيِّكَ صلى الله عليه وسلم.
والمراد بالإقعاء هنا: أن يجعل إليتيه على عقبيه بين السجدتين، وهذا هو مراد ابن عباس بقوله سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم.
فالحديث دليل على أن من السنة الجلوس على العقبين في الصلاة بين السجدتين.
وورد صريحاً: عند الطبراني في الكبير عن ابن عباس قال (من السنة في الصلاة أن تضع إليتيك على عقبيك بين السجدتين).
وهذا مذهب الشافعي.
تنبيهات:
ما ورد من النهي عن الإقعاء:
كحديث أبي هريرة رضي الله عنه (ونهاني خليلي صلى الله عليه وسلم عن إقعاء كإقعاء الكلب " رواه أحمد.
وحديث عائشة رضي الله عنها: " كان ينهى عن عقبة الشيطان) رواه مسلم، فالمراد به هو الذي يكون كأقعاء الكلب.
والإقعاء الذي صرح به ابن عباس، وغيره أنه من السنة هو وضع الإليتين على العقبين بين السجدتين والركبتان على الأرض
• الإقعاء المسنون يسن فعله بين السجدتين فقط لا كما يفعله بعض أهل البلدان المجاورة من الإقعاء في كل جلسات الصلاة فيقعون بين السجدتين وفي التشهد الأول والثاني و
…
و .. الخ.
• رد الألباني في صفة الصلاة على كلام ابن القيم حيث يقول بعد أن ذكر الافتراش بين السجدتين: (ولم يحفظ عنه صلى الله عليه وسلم في هذا الموضع جلسة غير هذه).
• الإقعاء المنهي عنه قال أحد العلماء في حكمه (مكروه باتفاق العلماء)(وسيأتي في مكروهات الصلاة).
• لا يشرع بين السجدتين الإشارة بسبابة اليد اليمنى (وهذا قول أكثر العلماء).
قالوا: تكون اليد اليمنى كاليد اليسرى مبسوطة مضمومة الأصابع موجهة إلى القبلة.
لأن الأحاديث كلها صريحة في أن الإشارة تكون في التشهد الأول والأخير كما سيأتي إن شاء الله في التشهد، ورجح هذا القول الشيخ ابن باز والشيخ الألباني رحمهما الله.
وقال بعض العلماء: تكون اليد اليمنى كالتشهد يقبض الخنصر والبنصر ويحلق الإبهام والوسطى ويرفع السبابة ويحركها عند الدعاء، لكن هذا القول ضعيف.
م/ وَيَفْعَلُ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ جِلْسَاتِ اَلصَّلَاةِ إِلَّا فِي اَلتَّشَهُّدِ اَلْأَخِيرِ فَإِنَّهُ يَتَوَرَّكُ: بِأَنْ يَجْلِسَ عَلَى اَلْأَرْضِ وَيُخْرِجُ رِجْلَهُ اَلْيُسْرَى مِنْ اَلْخَلْفِ اَلْأَيْمَنِ.
أي يجلس مفترشاً في جميع جلسات الصلاة [بين السجدتين، في التشهد الأول] لحديث عائشة السابق. فإنه يدل على أن الأصل في الجلوس في التشهد في الصلاة هو الافتراش.
وأخرجنا التشهد الأخير من الصلاة ذات التشهدين لحديث أَبِي حُمَيْدٍ اَلسَّاعِدِيِّ رضي الله عنه قَالَ: (رَأَيْتُ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إِذَا كَبَّرَ جَعَلَ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ، وَإِذَا رَكَعَ أَمْكَنَ يَدَيْهِ مِنْ رُكْبَتَيْهِ، ثُمَّ هَصَرَ ظَهْرَهُ، فَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ اِسْتَوَى حَتَّى يَعُودَ كُلُّ فَقَارٍ مَكَانَهُ، فَإِذَا سَجَدَ وَضَعَ يَدَيْهِ غَيْرَ مُفْتَرِشٍ وَلَا قَابِضِهِمَا، وَاسْتَقْبَلَ بِأَطْرَافِ أَصَابِعِ رِجْلَيْهِ اَلْقِبْلَةَ، وَإِذَا جَلَسَ فِي اَلرَّكْعَتَيْنِ جَلَسَ عَلَى رِجْلِهِ اَلْيُسْرَى وَنَصَبَ اَلْيُمْنَى، وَإِذَا جَلَسَ فِي اَلرَّكْعَةِ اَلْأَخِيرَةِ قَدَّمَ رِجْلَهُ اَلْيُسْرَى وَنَصَبَ اَلْأُخْرَى، وَقَعَدَ عَلَى مَقْعَدَتِهِ). أَخْرَجَهُ اَلْبُخَارِيُّ
فهو حديث صريح في التفريق بين التشهدين، وهذا مذهب أحمد والشافعي وأهل الحديث.
• الحكمة من التفريق بين التشهدين:
قيل: إزالة الشك واللبس الذي قد يحدث للمصلي.
وقيل: أن التشهد الأول قصير، بخلاف التشهد الثاني فهو طويل.
وجاء في حديث فيه نظر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا جلس في التشهد الأول فكأنه على الرضف) وهي الحجارة المحمية.
وقيل: أن التشهد الأول يعقبه حركة.
• أما إذا كانت صلاة ذات تشهد واحد كالجمعة والعيد والنوافل.
فقيل: يتورك، وهذا مذهب الشافعي، لأنه يسن تطويله.
وقيل: لا يشرع التورك، وهذا مذهب الحنابلة.
لأن حديث عائشة يدل على أن الأصل في الجلوس في التشهد في الصلاة هو الافتراش، وأخرجنا التشهد الأخير لحديث أبي حميد، وهذا هو الصحيح.
• ذكر المصنف صفة من صفات التورك وهي: بأن يجلس على الأرض ويخرج رجله اليسرى من الخلف.
والتورك له عدة صفات:
الأولى: أن يخرج الرِّجل اليسرى من الجانب الأيمن مفروشة، ويجلس على مقعدته على الأرض، وتكون الرِّجل اليمنى منصوبة. ودليلها حديث أبي حميد السابق.
الثانية: أن يفرش اليمنى، ويدخل اليسرى من بين فخذ وساق الرجل اليمنى. ودليل هذه الصفة:
حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَعَدَ فِى الصَّلَاةِ جَعَلَ قَدَمَهُ الْيُسْرَى بَيْنَ فَخِذِهِ وَسَاقِهِ وَفَرَشَ قَدَمَهُ الْيُمْنَى وَوَضَعَ يَدَهُ الْيُسْرَى عَلَى رُكْبَتِهِ الْيُسْرَى وَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُمْنَى وَأَشَارَ بِإِصْبَعِهِ) رواه مسلم
الثالثة: أن يفرش القدمين جميعاً، ويخرجهما من الجانب الأيمن. رواه أبو داود [زاد المعاد: 1/ 253] والممتع [3/ 300].
م/ وَيَقُولُ: "رَبِّ اِغْفِرْ لِي، وَارْحَمْنِي، وَاهْدِنِي، وَارْزُقْنِي، وَاجْبُرْنِي وَعَافِنِي".
أي: أن المصلي إذا جلس بين السجدتين يقول الدعاء الوارد وهو ما ذكره المصنف رحمه الله لحديث ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول بين السجدتين: رب اغفر لي) رواه أبوداود.
وإن زاد (وارحمني، واهدني، وارزقني، واجبرني، وعافني) فحسن.
• اغفر لي: المغفرة: طلب المغفرة من الله وهو ستر الذنب والتجاوز عنه [وارحمني] أي أسألك رحمتك التي بها يتم حصول المطلوب [واهدني] أي دلني وأرشدني لطريق الهداية [وعافني] دعاء يراد به طلب العافية من أمراض الأبدان والقلوب. [وارزقني] دعاء يراد به طلب الرزق وهذا يشمل ما يقوم به الدين من العلم والإيمان والعمل الصالح، وما يقوم به البدن من طعام وشراب ولباس وسكن. [واجبرني] دعاء بالجبر الذي حقيقته إصلاح العبد ودفع جميع المكاره عنه، والله يجبر ضعف الضعفاء من عباده، ويجبر كسر القلوب المنكسرة من أجله، الخاضعة لعظمته وجلاله. [وارفعني] دعاء بطلب الرفعة، وهذا شامل للرفعة في الدنيا بعلو المنزلة والذكر الحسن، والرفعة في الآخرة بعلو المنزلة في الجنة.
• هذا الذكر من واجبات الصلاة، والواجب أن يقال مرة واحدة والأكمل ثلاث مرات.
• زيادة (ولوالدي) في دعاء الجلوس بين السجدتين {رب اغفر لي} لا أصل لها.
م / ثُمَّ يَسْجُدُ اَلثَّانِيَةَ كَالْأُولَى.
أي كالسجدة الأولى في الهيئة والدعاء الوارد.
• قال العلماء: إنما شرع تكرار السجود في كل ركعة دون غيره، لأنه أبلغ ما يكون في التواضع، وأفضل أركان الصلاة الفعلية، وسرها الذي شرعت له.
م/ ثُمَّ يَنْهَضُ مُكَبِّرًا، عَلَى صُدُورِ قَدَمَيْهِ.
أي ينهض ويرفع رأسه من السجدة الثانية [مكبراً] دون رفع لليدين.
• قول المصنف (على صدور قدميه) فيؤخذ من هذا أنه لا يجلس جلسة الاستراحة.
• جلسة الاستراحة: هي جلسة خفيفة يفترش رجله اليسرى وينصب اليمنى بعد الركعة الأولى قبل أن ينهض للثانية، وبعد الركعة الثالثة قبل أن ينهض للرابعة.
وقد اختلف العلماء في حكمها على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنها مستحبة.
وهذا مذهب الشافعي.
قال النووي: "مذهبنا الصحيح المشهور أنها مستحبة، وبه قال مالك بن الحويرث وأبو حميد وأبو قتادة وجماعة من الصحابة، وأبو قلابة، وغيره من التابعين".
وَعَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ رضي الله عنه (أَنَّهُ رَأَى اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي، فَإِذَا كَانَ فِي وِتْرٍ مِنْ صَلَاتِهِ لَمْ يَنْهَضْ حَتَّى يَسْتَوِيَ قَاعِدًا). رَوَاهُ اَلْبُخَارِيُّ، وهو الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم:(صلوا كما رأيتموني أصلي).
القول الثاني: أنها غير مشروعة.
وهذا مذهب الجمهور.
قال النووي: "وقال كثيرون أو الأكثرون لا يستحب، بل إذا رفع رأسه من السجود نهض، حكاه ابن المنذر عن ابن مسعود وابن عباس وأبي الزناد ومالك والثوري وأصحاب الرأي وأحمد وإسحاق".
قال أحمد: "وأكثر الأحاديث على هذا ".
واستدلوا:
أنها لم تذكر في أكثر الأحاديث.
أنه ليس لها ذكر خاص.
أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما فعلها عندما كبر وحطمه الناس.
القول الثالث: سنة عند الحاجة وإلا فلا.
وهذا اختيار ابن قدامة والشيخ السعدي رحمه الله والشيخ ابن عثيمين.
قال الشيخ السعدي: "أصح الأقوال الثلاثة في جلسة الاستراحة استحبابها للحاجة إليها، واستحباب تركها عند عدم الحاجة إليها ".
قال في المغني: "وبهذا القول تجتمع الأدلة. والراجح أنها سنة مطلقاً".
• حكى بعض العلماء الإجماع على أنها ليست بواجبة.
• ليس لها ذكر، وصفة جلستها كالجلوس بين السجدتين (افتراش).
م/ وَيُصَلِّي اَلرَّكْعَةَ اَلثَّانِيَةَ كَالْأُولَى.
أي: ثم يصلي الركعة الثانية كالأولى في القيام، والركوع، والسجود، والجلوس، وما يقال فيها، لحديث المسئ في صلاته، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما وصف له الركعة الأولى قال (ثم افعل ذلك في صلاتك كلِّها).
لكن هناك أشياء تختلف فيها الركعة الثانية عن الأولى لم يذكرها المؤلف وهي:
دعاء الاستفتاح: فلا يشرع في الركعة الثانية، لأن الاستفتاح تفتتح به الصلاة.
والتحريم: أي تكبيرة الإحرام، فلا تعاد، لأنها للدخول في الصلاة، وهو منتفٍ هنا.
أن الركعة الأولى أطول من الثانية: لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطول في الأولى ما لا يطول في الثانية.
الاستعاذة: فلا تشرع في الثانية، وإنما يستعيذ في الركعة الأولى فقط ورجحه ابن القيم، قالوا: لأن الصلاة جملة واحدة، لم يتخلل القراءتين فيها سكوت، فالقراءة فيها كالقراءة الواحدة، وذهب بعض العلماء إلى أنه يتعوذ في كل قراءة لعموم قوله تعالى (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) والأول أرجح.
م/ ثُمَّ يَجْلِسُ لِلتَّشَهُّدِ اَلْأَوَّلِ.
أي: بعد الركعتين يجلس للتشهد الأول ويكون مفترشاً.
لحديث أبي حُميْد - في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم قال (وَإِذَا جَلَسَ فِي اَلرَّكْعَتَيْنِ جَلَسَ عَلَى رِجْلِهِ اَلْيُسْرَى وَنَصَبَ اَلْيُمْنَى) رواه البخاري.
• لم يذكر المصنف رحمه الله كيف تكون الأصابع
يضع اليد اليمنى على فخذه اليمنى، واليسرى على فخذه اليسرى.
وأما الأصابع:
فأصابع اليد اليمنى لها صفتان:
الصفة الأولى: أن يقبض الخنصر والبنصر والإبهام مع الوسطى ويشير بالسبابة.
الصفة الثانية: قبض الخنصر والبنصر والوسطى والإبهام والإشارة بالسبابة.
• وسبق أن الأفضل في العبادات المتنوعة أن تفعل هذه مرة وهذه مرة.
وَعَنْ اِبْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا قَعَدَ لِلتَّشَهُّدِ وَضَعَ يَدَهُ اَلْيُسْرَى عَلَى رُكْبَتِهِ اَلْيُسْرَى، وَالْيُمْنَى عَلَى اَلْيُمْنَى، وَعَقَدَ ثَلَاثَةً وَخَمْسِينَ، وَأَشَارَ بِإِصْبَعِهِ اَلسَّبَّابَةِ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ
وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: {وَقَبَضَ أَصَابِعَهُ كُلَّهَا، وَأَشَارَ بِاَلَّتِي تَلِي اَلْإِبْهَامَ} .
[عقد ثلاثاً وخمسين] صورته أن يقبض الخنصر والبنصر ثم يحلق بالإبهام مع الوسطى [التحليق] إشارة إلى الثلاثة، وقبض الخنصر والبنصر إشارة إلى الخمسين [السبابة] الإصبع التي تقع بين الوسطى والإبهام، سميت بذلك لأنهم كانوا يشيرون بها عند المخاصمة والسب. [وقبض أصابعه كلها] أي اليد اليمنى.
أما أصابع اليد اليسرى تكون مبسوطة مضمومة غير مفرجة، وأطرافها إلى القبلة، ولها صفتان:
الصفة الأولى: أن يجعل اليدين على الفخذين.
ففي حديث ابن عمر: (
…
ويده اليسرى على ركبته باسطها عليها).
الصفة الثانية: أن يجعل اليمنى على حرث الركبة اليمنى واليسرى يجعلها على الركبة اليسرى كالقابض.
كما جاء في حديث ابن الزبير: (
…
وأشار بإصبعه السبابة
…
ويلقم كفه اليسرى على ركبته).
الإلقام: العطف، يعطف أصابع اليد اليسرى على ركبته.
• ويسن أيضاً أن يشير بسبابته في التشهد.
لحديث ابن الزبير - السابق - (وأشار بأصبعه السبابة) رواه مسلم.
وفي حديث ابن عمر (وأشار بإصبعه التي تلي الإبهام) رواه مسلم.
لكن هل يحركها؟ اختلف العلماء في ذلك فقيل: يحركها، وقيل: لا يحركها، وقيل: كل ذلك جائز.
قال القرطبي: "اختلفوا في تحريك إصبع السبابة، فمنهم من رأى تحريكها، ومنهم من لم يره، وكل ذلك مروي في الآثار الصحاح المسندة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وجميعه مباح، واختاره الصنعاني".
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: " لكن دلت السنة على أنه يشير بها عند الدعاء فقط، لأن لفظ الحديث:
(يحركها يدعو بها) وقد ورد في الحديث نفي التحريك وإثبات التحريك، والجمع بينهما سهل، فنفي التحريك يراد به التحريك الدائم، وإثبات التحريك يراد به التحريك عند الدعاء ".
متى يشير؟
قيل: عند لفظ الجلالة، وقيل: عند قول لا إله إلا الله، وقيل: عند الدعاء، ورجحه الشيخ ابن عثيمين
م/ وَصِفَتُهُ: "اَلتَّحِيَّاتُ لِلَّهِ، وَالصَّلَوَاتُ، وَالطَّيِّبَاتُ، اَلسَّلَام عَلَيْك أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اَللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، اَلسَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اَللَّهِ اَلصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ".
أي: إذا جلس المصلي بعد الركعتين، فإنه يقول التشهد الأول وهو ما ذكره المصنف.
لحديث عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ (اِلْتَفَتَ إِلَيْنَا رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: " إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ، وَالصَّلَوَاتُ، وَالطَّيِّبَاتُ، اَلسَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ وَرَحْمَةَ اَللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، اَلسَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اَللَّهِ اَلصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ، وَلِأَحْمَدَ (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَّمَهُ اَلتَّشَهُّد، وَأَمَرَهُ أَنْ يُعَلِّمَهُ اَلنَّاسَ.
[التحيات لله] جمع تحية. قال الحافظ: " معناه السلام، وقيل: التحية، وقيل: العظمة ". وقال الخطابي والبغوي: "المراد بالتحيات أنواع التعظيمات". [والطيبات] كل ما طاب من قول أو فعل فهو لله، وأما بالنسبة للعباد فإنه لا يقبل إلا الطيب كما في الحديث:(إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً). [السلام عليك أيها النبي] الدعاء للنبي بالسلامة من كل آفة ومكروه، وهذا شامل من مخاوف الدنيا والآخرة. [ورحمة الله] دعاء له بالرحمة، وهو يتضمن الدعاء بحصول كل أمر مرغوب فيه. [وبركاته] جمع بركة، والبركة الخير الكثير المستمر، وبركات الله على نبيه تشمل حال حياته وحال مماته.
[السلام علينا] أي علينا معشر المصلين، وقيل: المصلون ومعهم الملائكة، وقيل: المراد جميع الأمة المحمدية وهذا أقرب
[عباد الله الصالحين] هذا تعميم. قال ابن حجر: "الأشهر في تعريف الصالح أنه القائم بما يجب عليه من حقوق الله وحقوق عباده".
• والتشهد الأول من واجبات الصلاة كما سيأتي إن شاء الله.
م/ ثُمَّ يُكَبِّرُ. وَيُصَلِّي بَاقِي صَلَاتِهِ بِالْفَاتِحَةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ.
أي: يكبر للقيام من التشهد الأول رافعاً يديه ويصلي الثالثة والرابعة كالثانية، لكن يقتصر فيهما بالفاتحة فقط، فلا يزيد عليها. [وقد سبقت المسألة وأنه يسن الزيادة أحياناً على الفاتحة].
م/ ثُمَّ يَتَشَهَّدُ اَلتَّشَهُّدَ اَلْأَخِيرَ وَهُوَ اَلْمَذْكُورُ.
أي يقول التشهد الأخير وهو ما سبق (التحيات لله والصلوات والطيبات .... ).
م/ وَيَزِيدُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ اَللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتُ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، فِي العَالَمِينَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.
أي في التشهد الأخير يزيد الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، لحديث كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ قال (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ عَلَيْنَا، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ عَلَّمَنَا اللَّهُ كَيْفَ نُسَلِّمُ عَلَيْكَ: فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ فَقَالَ: قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) متفق عليه.
[اللهم صل على محمد] معنى الصلاة من الله على النبي محمد صلى الله عليه وسلم: قيل: الرحمة، وهذا ضعيف. وقيل: أي ثناء الله عليه في الملأ الأعلى، كما قاله أبو العالية، وهو الصحيح. [آل محمد] آل النبي عليه الصلاة والسلام هم قرابته المؤمنون به، وقيل بأنهم أتباعه على دينه، والصواب: أنه يختلف باختلاف الصيغ فإذا قيل: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وعلى من صحبه وتبعه فيكون المراد بال آل هنا القرابة، وإذا قيل اللهم صل على محمد وعلى آل محمد نقول المراد بال آل هنا أتباعه على دينه، هذا هو الصواب، ويدخل في آل النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أزواجه لأن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من آله. [وبارك على محمد]: دعاء لمحمد بإنزال البركة على الرسول وعلى آله. [العالمين] جمع عالم، وهو كل من سوى الله، سموا بذلك لأنهم علم على خالقهم. [حميد] قال الخطابي:"الحميد هو المحمود الذي استحق الحمد بفعاله. [مجيد] المجد كمال العظمة والسلطان".
• الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير ركن على مذهب الحنابلة خلافاً لجمهور العلماء.
م/ أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَمِنْ عَذَابِ اَلْقَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ اَلْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَمِنْ فِتْنَةِ اَلْمَسِيحِ اَلدَّجَّالِ.
أي يسن للمصلي أن يقول بعد التشهد الأخير هذا الدعاء.
لحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا تشهد أحدكم التشهد الأخير فليستعذ بالله من أربع: من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال). متفق عليه
[إذا تشهد] أي قرأ التشهد. [من عذاب جهنم] الاستعاذة من عذاب جهنم تشمل أمرين: العذاب نفسه، والأسباب الموصلة إليها. [فتنة المحيا والممات] المحيا ما يحصل في حياة الإنسان من شبهات وشهوات، والممات: قيل ما يكون عند الاحتضار، وقيل ما يحصل بعد الموت من سؤال العبد في قبره.
• ذهب بعض العلماء إلى أن هذا الدعاء واجب، وهو قول ابن حزم، للأمر به بقوله (فليستعذ) والأمر للوجوب.
وذهب جماهير العلماء إلى أنه غير واجب، لحديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل:(ما تقول في صلاتك؟) قال: أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار، أما إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(حولها ندندن) رواه أبو داود [الدندنة] صوت لا يفهم معناه.
• هناك أدعية تقال غير هذا الدعاء لم يذكرها المصنف:
منها: ما جاءَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ اَلصِّدِّيقِ رضي الله عنه (أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتِي. قَالَ قُلْ: " اَللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلَا يَغْفِرُ اَلذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَارْحَمْنِي، إِنَّكَ أَنْتَ اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
ومنها: ما جاءَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه قَالَ: (إِنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَتَعَوَّذُ بِهِنَّ دُبُرَ اَلصَّلَاةِ: " اَللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ اَلْبُخْلِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ اَلْجُبْنِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ أُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ اَلْعُمُرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ اَلدُّنْيَا، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ اَلْقَبْرِ). رَوَاهُ اَلْبُخَارِيُّ
ومنها: ما جاءَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ: لَا تَدَعَنَّ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ أَنْ تَقُولُ: اَللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ). رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ بِسَنَدٍ قَوِيٍّ
وينبغي الاعتناء بهذا الدعاء لثلاثة أمور: لأنه وصية، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ فيه: إني أحبك، ولأنه دعاء جامع شامل.
ومنها: ما جاء عن عائشة. عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول (اللهم حاسبني حساباً يسيراً). رواه أحمد
م/ وَيَدْعُو اَللَّهُ بِمَا أَحَبَّ.
أي ويدعو في نهاية التشهد بما ورد في الكتاب والسنة، والوارد أفضل من غيره.
• وقوله (ويدعو بما أحب) هذا فيه موافقة لحديث ابن مسعود فإنه فيه (ثم ليتخير من الدعاء أعجبه، فيدعو). متفق عليه
قال الحافظ ابن حجر: "واستُدل به على جواز الدعاء في الصلاة بما اختاره المصلي من أمر الدنيا والآخرة ".
ولمسلم: (ثم ليتخير بعدُ من المسألة ما شاء أو أحب).
وفي هذا دليل على جواز الدعاء بحوائج الدنيا والآخرة، وهو اختيار المصنف رحمه الله، فقول بعض العلماء لا يجوز الدعاء بغير ما ورد من أمور الدنيا قول ضعيف، فيجوز أن يكون اللهم ارزقني مسكناً واسعاً ونحو ذلك.
م/ ثُمَّ يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ، وَعَنْ يَسَارِهِ "اَلسَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اَللَّهِ".
أي بعد التشهد والدعاء يسلم عن يمينه فيقول: السلام عليكم ورحمة الله، وكذا عن يساره.
• وسيأتي إن شاء الله أن السلام ركن من أركان الصلاة، لحديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(يجزئ عن أحدكم أن يقول عن يمينه وشماله: السلام عليكم). رواه مسلم
فقوله (يجزئ) هذا دال على أن ما دون التسليمتين لا يحصل بهما الإجزاء.
وصيغ السلام:
الأولى: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله.
لحديث ابن مسعود: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسلم عن يمينه: السلام عليكم ورحمة الله، حتى يرى بياض خده الأيمن، وعن يساره: السلام عليكم ورحمة الله، حتى يرى بياض خده الأيسر). رواه النسائي
وهذا أكثر ما نقل.
الثانية: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، السلام عليكم ورحمة الله [بزيادة: وبركاته عن الأولى].
لحديث وائل بن حجر قال: (صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم فكان يسلم عن يمينه: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وعن شماله: السلام عليكم ورحمة الله) رواه أبو داود
وقد اختلف العلماء في زيادة: (وبركاته):
بعضهم ضعفها، وبعضهم صححها، وإن طبقها أحياناً من أجل من صححها من العلماء فلا بأس.
الثالثة: السلام عليكم، السلام عليكم.
لحديث جابر بن سمرة قال: (صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكنا إذا سلمنا قلنا بأيدينا: السلام عليكم، السلام عليكم). رواه مسلم
• متى يبدأ التسليم؟
يبدأ التسليم مع الالتفات، ولا يبدأ التسليم وهو مستقبل القبلة، فالتسليم يبدأ مع الالتفات.
ويستحب أن يلتفت حتى يرى بياض خده، للحديث الذي سبق.
م/ وَالْأَرْكَانُ اَلْقَوْلِيَّةُ مِنْ اَلْمَذْكُورَاتِ.
سيذكر المصنف رحمه الله أركان الصلاة، والأركان منها أقوال ومنها أفعال، فسيذكر الآن الأركان القولية.
والأركان جمع ركن، وهو في اللغة جانب الشيء الأقوى.
والمراد هنا: أجزاؤها التي لا تتم الصلاة إلا بها.
م/ تَكْبِيرَةُ اَلْإِحْرَامِ.
وهذه ركن بالإجماع.
لقوله صلى الله عليه وسلم للمسيء في صلاته: (إذا قمت إلى الصلاة فكبر). متفق عليه
ولقوله صلى الله عليه وسلم: (تحريمها التكبير). رواه أبو داود
• والتحريم جعل الشيء محرماً، سميت بذلك لتحريمها الأشياء المباحة قبل الشروع.
م/ وَقِرَاءَةُ اَلْفَاتِحَةِ عَلَى غَيْرِ مَأْمُومٍ.
هذا الركن الثاني من أركان الصلاة، وهي قراءة الفاتحة.
لحديث عبادة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) متفق عليه، أي لا صلاة مجزئة.
• وقوله (لغير مأموم) أي أن المأموم لا تلزمه قراءة الفاتحة، وظاهر إطلاقه أنها لا تلزمه لا في السرية ولا في الجهرية، لحديث جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة).
وذهب بعض العلماء إلى أنها واجبة في السرية دون الجهرية، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية.
واستدلوا بحديث جابر السابق: (من كان له إمام
…
).
وبقوله تعالى: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) قالوا: هذا أمر بالاستماع والإنصات لمن يقرأ القرآن.
وقالوا: كيف يلزم المأموم بقراءة الفاتحة في الجهرية وقد سمعها من الإمام وأمّن عليها، والسامع المؤمن كالفاعل، بدليل قوله تعالى في قصة موسى وهارون:(وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ. قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) ومعلوم أن الداعي موسى بنص القرآن، وهارون كان يؤمّن فجعل الله دعوة موسى دعوة لهارون.
ولأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سكت ليمكن المأمومين من قراءة الفاتحة.
وذهب بعض العلماء إلى وجوب قراءة الفاتحة لكل مصل، في السرية والجهرية، للإمام والمنفرد، وهذا مذهب الشافعي واختاره البخاري والشوكاني والشيخ ابن باز وابن عثيمين.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
لحديث عبادة السابق: (لا صلاة لمن لم يقرأ
…
) وهذا النفي نفي للصحة.
ولحديث عبادة أيضاً قال: (كنا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الفجر فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فثقلت عليه القراءة، فلما فرغ قال: لعلكم تقرؤون خلف إمامكم، فقلنا نعم، قال: لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها). رواه أبو داود وأحمد
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج ثلاثاً غير تمام). رواه مسلم
والخداج: النقص.
وهذا القول هو الصحيح، والجواب عن أدلة القول السابق:
أما الآية فهي عامة وحديث عبادة خاص، والخاص يقضي على العام.
وأما حديث جابر: (من كان له إمام
…
) فحديث لا يثبت. قال ابن حجر: " كل طرقه معلولة ".
• تسقط الفاتحة في حق المأموم إذا جاء والإمام في الركوع، فإنه في هذه الحالة يكبر للإحرام ثم يركع، وتسقط عنه الفاتحة، لحديث أبي بكرة:(أنه انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو راكع فركع قبل أن يصل إلى الصف، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: زادك الله حرصاً ولا تعد) ولم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بقضاء الركعة، فدل على أنه معذور، لأنه لم يدرك محل القراءة وهو القيام.
م/ وَالتَّشَهُّدُ اَلْأَخِيرُ.
التشهد الأخير ركن من أركان الصلاة، وهذا مذهب الحنابلة والشافعية.
لحديث ابن مسعود قال: (كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد: السلام على الله السلام على جبريل وميكائيل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقولوا هكذا، فإن الله هو السلام، ولكن قولوا: التحيات لله والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله ....... ). رواه النسائي
والأصل أن التشهدين [الأول والثاني] كليهما فرض، لكن التشهد الأول لما تركه الرسول صلى الله عليه وسلم وجبره بسجود سهو، علم بذلك أنه من الواجبات، ويبقى التشهد الأخير على فرضيته ركناً.
• ولم يذكر المؤلف الجلوس من التشهد الأخير، فهذا أيضاً ركن من أركان الصلاة، فلو قرأ التشهد وهو قائم لم تصح صلاته، لأنه ترك ركناً.
م/ وَالسَّلَامُ.
وهذا أحد أركان الصلاة، والمشهور من مذهب الإمام أحمد أن كلا التسليمتين ركن.
لأن النبي صلى الله عليه وسلم واظب عليها وقال: (صلوا كما رأيتموني أصلي).
وفي حديث عائشة قالت: (كان صلى الله عليه وسلم يختم بالتسليم). متفق عليه و (ال) فيه للعهد الذهني، أي: التسليم المعهود، وهو السلام عليكم ورحمة الله، عن اليمين، السلام عليكم ورحمة الله عن الشمال.
ولحديث: (تحليلها التسليم) فقالوا المقصود بالتسليم التسليم المعهود من فعل النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يسلم عن يمينه وعن شماله.
ولحديث جابر بن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما يكفي أحدكم أن يضع يده على فخذه ثم يسلم عن يمينه: السلام عليكم ورحمة الله، وعن شماله: السلام عليكم ورحمة الله). رواه مسلم
فقوله (يكفي) دليل على أنه لا يكفي أقل من ذلك.
وذهب جمهور العلماء إلى أن الواجب هو التسليمة الأولى دون الثانية، لحديث عائشة:(أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسلم تسليمة واحدة) رواه أبو داود، لكن اقتصار النبي صلى الله عليه وسلم على تسليمة واحدة فيه أحاديث لا تصح، ضعفها ابن عبد البر وابن القيم، لكن ثبت ذلك عن بعض الصحابة.
م/ وَبَاقِي أَفْعَالِهَا: أَرْكَانٌ فَعِلْيَةٌ.
أي الباقي سوى ما مضى أركان فعلية.
كالقيام في الفرض، وهو ركن بالإجماع.
لقوله تعالى: (وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) وهذا أمر والأمر للوجوب.
وقال صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين: (صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً) رواه البخاري
• ويسقط القيام عند العجز عنه، أو في النافلة.
الركوع:
وهو ركن بالإجماع، قاله في المغني.
لقوله صلى الله عليه وسلم للمسيء في صلاته: (
…
ثم اركع حتى تطمئن راكعاً).
الرفع منه:
لحديث المسيء في صلاته قال له: (
…
ثم ارفع حتى تطمئن قائماً).
• يستثنى من هذا الركوع الثاني وما بعده في صلاة الكسوف فإنه سنة.
السجود:
وهو ركن بالإجماع.
لقوله صلى الله عليه وسلم للمسيء في صلاته: (ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً).
الجلوس بين السجدتين:
لقوله صلى الله عليه وسلم للمسيء في صلاته: (ثم ارفع حتى تطمئن جالساً).
الترتيب:
لأن الرسول صلى الله عليه وسلم علم المسيء في صلاته بقوله (ثم) وثم تدل على الترتيب.
ولمواظبة النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الترتيب.
• الترتيب: أي ترتيب الأركان: قيام، ثم رفع، ثم سجود، ....
مسألة: لم يذكر المؤلف [الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير هل هي ركن أم لا؟ وقد اختلف العلماء في حكمها:
القول الأول: أنها ركن.
وهذا المشهور من مذهب الحنابلة.
لحديث ابن مسعود في صحيح مسلم: (أنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أمرنا الله بالصلاة عليك فكيف نصلي؟ قال: قولوا اللهم صلِّ على محمد
…
) وهذا أمر، لكن هذا ليس أمراً ابتدائياً وإنما هو أمر للإرشاد؛ فلا يقتضي الوجوب.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
القول الثاني: أنها واجبة.
وهذا مذهب الشافعي.
قال الشوكاني: "إلى ذلك ذهب عمر وابنه وابن مسعود وجابر بن زيد والشعبي".
لقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً).
ولحديث فضالة بن عبيد قال: (سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يدعو في صلاته، لم يحمد الله، ولم يصلِّ على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: عَجِلَ هذا، ثم دعاه فقال: إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد ربه والثناء عليه، ثم يصلي على النبي، ثم يدعو بما شاء). رواه أبو داود وأحمد
القول الثالث: أنها سنة.
ورجح هذا القول ابن المنذر والشوكاني.
لعدم الدليل الذي يدل على الوجوب، والراجح القول بالوجوب.
م/ إِلَّا: اَلتَّشَهُّدَ اَلْأَوَّلَ، فَإِنَّهُ مِنْ وَاجِبَاتِ اَلصَّلَاةِ.
سيذكر المؤلف هنا واجبات الصلاة.
فذكر أن التشهد الأول من واجبات الصلاة.
لحديث عبد الله بن بحينة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم الظهر فقام في الركعتين الأوليين ولم يجلس، فقام الناس معه، حتى إذا قضى صلاته وانتظر الناس تسليمه، كبر وهو جالس فسجد سجدتين قبل أن يسلم فسلم). متفق عليه
وجه الدلالة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما نسيه لم يَعُد إليه وجبره بسجود السهو، ولو كان ركناً لم ينجبر بسجود السهو.
م/ وَالتَّكْبِيرَاتِ غَيْرَ تَكْبِيرَةِ اَلْإِحْرَامِ.
هذا الثاني من واجبات الصلاة.
وهو تكبيرات الانتقال، فهذه من واجبات الصلاة.
لقوله صلى الله عليه وسلم: (وإذا كبر فكبروا). متفق عليه، وهذا أمر والأمر للوجوب.
ولأنه شعار الانتقال من ركن إلى آخر.
ولمواظبة النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، فإنه صلى الله عليه وسلم كان يكبر في كل خفض ورفع، وقد قال صلى الله عليه وسلم:(صلوا كما رأيتموني أصلي).
• يستثنى من ذلك تكبيرة الإحرام، فإنها ركن كما سبق.
وتكبيرة المسبوق إذا أدرك إمامه راكعاً فإنها سنة، للاجتزاء عنها بتكبيرة الإحرام، وكذا الزوائد في العيد والاستسقاء فإنها سنة.
م/ وَقُول سُبحَان رَبِي العَظِيم فِي الرُكُوع.
هذا من واجبات الصلاة.
لحديث عقبة بن عامر قال: (لما نزلت: فسبح باسم ربك العظيم، قال صلى الله عليه وسلم: اجعلوها في ركوعكم، ولما نزلت: سبح اسم ربك الأعلى، قال صلى الله عليه وسلم: اجعلوها في سجودكم). رواه أبو داود
ولقوله صلى الله عليه وسلم: (وأما الركوع فعظموا فيه الرب). رواه مسلم
م/ و "سُبْحَانَ رَبِّي اَلْأَعْلَى" مَرَّةً فِي اَلسُّجُودِ.
هذا أيضاً من واجبات الصلاة، للحديث السابق.
م/ و "رَبِّ اِغْفِرْ لِي" بَيْنَ اَلسَّجْدَتَيْنِ مَرَّةً، مَرَّةً، وَمَا زَادَ فَهُوَ مَسْنُونٌ.
هذا أيضاً من واجبات الصلاة: أن يقول المصلي بين السجدتين رب اغفر لي.
لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، ولقوله صلى الله عليه وسلم:(صلوا كما رأيتموني أصلي).
والواجب مرة، وما زاد فهو أكمل.
م/ وَقَوْلَ: "سَمِعَ اَللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ" لِلْإِمَامِ وَالْمُنْفَرِدِ، و "رَبَّنَا لَكَ اَلْحَمْدُ" لِلْكُلِّ.
هذا أيضاً من واجبات الصلاة [التسميع والتحميد].
لقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد).
م/ فَهَذِهِ اَلْوَاجِبَاتُ تَسْقُطُ بِالسَّهْوِ، وَيَجْبُرُهَا سُجُودُهُ اَلسَّهْوَ، وَكَذَا بِالْجَهْلِ.
أراد المؤلف رحمه الله أن يبين الفرق بين الواجبات والأركان، فذكر أولاً الواجبات.
فالواجبات تسقط بالسهو، ويجبرها بسجود سهو.
فلو أنه ترك التشهد الأول ناسياً، فإنه لا يلزمه أن يأتي به، ويجبره بسجود سهو.
وكذا لو ترك [سبحان ربي العظيم] في الركوع ناسياً، فإنه لا يلزمه أن يأتي به، ويجبره بسجود سهو.
• وقوله (تسقط بالسهو) مفهومه لو تركها عمداً فإنه تبطل صلاته.
مثال: لو ترك التشهد الأول عمداً، فإن صلاته باطلة.
لو ترك سبحان ربي الأعلى عمداً، فإن صلاته باطلة.
م/ وَالْأَرْكَانُ لَا تَسْقُطُ سَهْوًا وَلَا جَهْلاً وَلَا عَمْدًا.
والأركان لا تسقط مطلقاً لا سهواً ولا جهلاً، بل لا بد أن يأتي بها ويسجد للسهو.
وهذا هو الفرق بين الواجبات والأركان، فالأركان لا بد أن يأتي بها المصلي لا تسقط أبداً.
مثال: إنسان ترك الركوع ناسياً، فلا بد أن يأتي بالركوع ويسجد للسهو، لأن الركوع ركناً من أركان الصلاة.
مثال: لو ترك قراءة الفاتحة ناسياً، فإنه يلزمه أن يأتي بها.
والدليل على أن الأركان لا تسقط حديث أبي هريرة قال (صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِحْدَى صَلَاتَىِ الْعَشِىِّ إِمَّا الظُّهْرَ وَإِمَّا الْعَصْرَ فَسَلَّمَ فِى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ أَتَى جِذْعاً فِى قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ فَاسْتَنَدَ إِلَيْهَا مُغْضَباً وَفِى الْقَوْمِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَهَابَا أَنْ يَتَكَلَّمَا وَخَرَجَ سَرَعَانُ النَّاسِ قُصِرَتِ الصَّلَاةُ فَقَامَ ذُو الْيَدَيْنِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقُصِرَتِ الصَّلَاةُ أَمْ نَسِيتَ فَنَظَرَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم يَمِيناً وَشِمَالاً فَقَالَ «مَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ». قَالُوا صَدَقَ لَمْ تُصَلِّ إِلاَّ رَكْعَتَيْنِ. فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَسَلَّمَ ثُمَّ كَبَّرَ ثُمَّ سَجَدَ ثُمَّ كَبَّرَ فَرَفَعَ ثُمَّ كَبَّرَ وَسَجَدَ ثُمَّ كَبَّرَ وَرَفَعَ) متفق عليه، فالنبي صلى الله عليه وسلم لما سلم من ركعتين في الظهر، وأخبر بذلك، قام وأتي بالركعتين وسجد للسهو بعد السلام.
م/ وَالْبَاقِي سُنَنُ أَقْوَالٍ وَأَفْعَالٍ مُكْمِلٍ لِلصَّلَاةِ.
أي: ما عدا الأركان والواجبات فهو سنن، وهي على نوعين، سنن قولية وسنن فعلية.
والسنة ما أمر به الشارع لا على وجه الإلزام، وحكمها: يثاب فاعلها امتثالاً ولا يعاقب تاركها.
أمثلة: دعاء الاستفتاح، رفع اليدين، البسملة، والتعوذ، قول آمين عند الانتهاء من قراءة الفاتحة، قراءة سورة أو بعض سورة بعد الفاتحة، ما زاد على الواحدة في تسبيح الركوع والسجود، الدعاء بعد الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير، رفع اليدين في المواضع الأربع التي سبقت، وضع اليد اليمنى على اليسرى على الصدر.
م/ وَمِنْ اَلْأَرْكَانِ اَلطُّمَأْنِينَةُ فِي جَمِيعِ أَرْكَانِهَا.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِذَا قُمْتَ إِلَى اَلصَّلَاةِ فَأَسْبَغِ اَلْوُضُوءَ، ثُمَّ اِسْتَقْبِلِ اَلْقِبْلَةَ فَكَبِّرْ، ثُمَّ اِقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنْ اَلْقُرْآنِ، ثُمَّ اِرْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ اِرْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا، ثُمَّ اُسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ اِرْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا، ثُمَّ اُسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا ثُمَّ اِفْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلَاتِكَ كُلِّهَا) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
من أركان الصلاة: الطمأنينة.
ويدل على ذلك: حديث المسيء في صلاته الذي ذكره المصنف: فإن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر على الصحابي سرعته، وقال:(إنك لم تصلِّ).
ولحديث أبي سعيد قال: قال صلى الله عليه وسلم: (أسوأ الناس سرقة الذي يسرق في صلاته، لا يتم ركوعها ولا سجودها ولا خشوعها). رواه أحمد
وعن حذيفة: (أنه رأى رجلاً لا يتم ركوعه ولا سجوده، فلما قضى صلاته دعاه، فقال له حذيفة: ما صليت، ولو مت على غير الفطرة التي فطر الله عليها محمداً). رواه البخاري.
• واختلف العلماء في مقدار الطمأنينة:
فقيل: السكون قليلاً، مقدار إذا ركع وسكن، فهذه طمأنينة.
وقيل: بقدر الذكر الواجب، وهذا الصحيح.
ليتمكن من الإتيان به، فيلبث في الركوع لبثاً أقله تسبيحة، وكذا في السجود، وكذا في الاعتدال.
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: (صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
ذكر المصنف رحمه الله حديث مالك بن الحويرث وله قصة، عن مالك بن الحويرث قال (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في نفر من قومي، فأقمنا عنده عشرين ليلة، وكان رحيماً رفيقاً، فلما رأى شوقنا إلى أهالينا، قال: ارجعوا فكونوا فيهم، وعلموهم، وصلوا، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم).
• الحديث دليل على أنه ينبغي الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم فيما يفعله من الصلاة، وهذا الحديث يدل على استحباب الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في جميع أفعال وأقوال الصلاة، فما دل الدليل على وجوبه فيجب، وما دل الدليل على استحبابه فيستحب.
• أن السنة تشريع، لأن أكثر أفعال وأقوال الصلاة من النبي صلى الله عليه وسلم لا من القرآن.
• لا بد من دراسة صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم لمن أراد الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم.
• فضل الرحلة في طلب العلم.
• حرص الصحابة على التعلم.
• بيان ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الشفقة والاهتمام بأمور الدين، كما قال تعالى:(لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ). وقال صلى الله عليه وسلم: (أنا نبي الرحمة).
• وجوب تعليم العلم ونشره.
م/ فإذا فرغ من صلاته:
أي: إذا سلم من صلاته المفروضة.
• سيذكر المصنف رحمه الله الأذكار التي تقال عقب السلام من الصلاة المفروضة.
م/ استغفر ثلاثاً وقال: اَللَّهُمَّ أَنْتَ اَلسَّلَامُ وَمِنْكَ اَلسَّلَامُ. تَبَارَكْتَ يَا ذَا اَلْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ.
لحديث ثَوْبَانَ رضي الله عنه قَالَ (كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا اِنْصَرَفَ مِنْ صَلَاتِهِ اِسْتَغْفَرَ اَللَّهَ ثَلَاثًا، وَقَالَ: " اَللَّهُمَّ أَنْتَ اَلسَّلَامُ وَمِنْكَ اَلسَّلَامُ. تَبَارَكْتَ يَا ذَا اَلْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ
ولحديث عائشة في صحيح مسلم: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سلم لم يقعد إلا مقدار ما يقول: استغفر الله ثلاثاً، اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام).
[السلام] اسم من أسماء الله، ومعناه: الذي سلم من كل عيب، وبرئ من كل آفة، [ومنك السلام] المراد بالسلام هنا: السلامة من الشرور والآفات، أي السلامة ترجى منك [الجلال] عظيم القدر. [الإكرام] هو المستحق أن يكرم وأن يُجل.
• مشروعية الاستغفار بعد كل عبادة كما قال تعالى (فإذا أفضتم من عرفات .... ) وقال تعالى (والمستغفرين بالأسحار) وأمر الله نبيه بالاستغفار بعد أداء الرسالة، والقيام بما عليه من أعبائها فقال في آخر سورة أنزلت عليه (إذا جاء نصر الله والفتح. ورأيت الناس
…
).
م/ لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد ...... الخ.
ثم يقول بعد الاستغفار هذا الدعاء.
لحديث أَبِى الزُّبَيْرِ قَالَ: كَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ يَقُولُ في دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ حِينَ يُسَلِّمُ (لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَا نَعْبُدُ إِلاَّ إِيَّاهُ لَهُ النِّعْمَةُ وَلَهُ الْفَضْلُ وَلَهُ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) وَقَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُهَلِّلُ بِهِنَّ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ) رواه مسلم
ومما يقوله أيضاً:
ما جاء في حديث الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا فَرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ وَسَلَّمَ قَالَ «لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلَا مُعْطِىَ لِمَا مَنَعْتَ وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ) رواه مسلم.
م/ سبحان الله والحمد لله والله أكبر ثلاثاً وثلاثين، ويقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، تمام المائة.
أي: ثم بعد ذلك يقول: يسبح ويكبر ويحمد الله، وقد وردت على عدة صيغ:
الأولى: ما ذكرها المصنف: سبحان الله 33، والحمد لله 33، والله أكبر 33، وتمام المائة: لا إله إلا الله .... الخ
لحديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (مَنْ سَبَّحَ اَللَّهَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَحَمِدَ اَللَّهِ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَكَبَّرَ اَللَّهُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، فَتِلْكَ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ، وَقَالَ تَمَامَ اَلْمِائَةِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ اَلْمُلْكُ، وَلَهُ اَلْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، غُفِرَتْ لَهُ خَطَايَاهُ، وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ اَلْبَحْرِ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ
الثانية: سبحان الله 33، والحمد لله 33، والله أكبر 34.
لحديث كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مُعَقِّبَاتٌ لَا يَخِيبُ قَائِلُهُنَّ - أَوْ فَاعِلُهُنَّ - دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ تَسْبِيحَةً وَثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ تَحْمِيدَةً وَأَرْبَعٌ وَثَلَاثُونَ تَكْبِيرَةً) رواه مسلم.
الثالثة: سبحان الله 10، والحمد لله 10، والله أكبر 10.
لحديث عبد الله بن عمرو قال. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (خلتان لا يحصيهما رجل مسلم إلا دخل الجنة، ألا وهما يسير ومن يعمل بهما قليل، يسبح الله دبر كل صلاة عشراً، ويحمده عشراً، ويكبره عشراً، قال رسول الله: فتلك خمسون ومائة باللسان، وألف وخمسمائة في الميزان) رواه الترمذي.
الرابعة: سبحان الله 25، والحمد لله 25، والله أكبر 25، لا إله إلا الله 25.
لحديث زيد بن ثابت قال: (أمرنا أن نسبح الله دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين ونحمده ثلاث وثلاثين ونكبره أربع وثلاثون، قال: فرأى رجل من الأنصار في المنام، فقال: أمركم رسول الله أن تسبحوا في دبر كل صلاة 33 وتحمدوا 33 وتكبروا 33، قال: نعم، قال: فاجعلوها خمساً وعشرين، واجعلوا التهليل معهن، فغدا على النبي صلى الله عليه وسلم فحدثه فقال: افعلوا) رواه الترمذي.
• ومما يقال بعد الصلاة آية الكرسي.
عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ قَرَأَ آيَةَ اَلْكُرْسِيِّ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ دُخُولِ اَلْجَنَّةِ إِلَّا اَلْمَوْتُ). رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ اِبْنُ حِبَّانَ، والحديث صحيح له طرق وشواهد.
دبر: أي بعد السلام من الصلاة، لأن ما قبل السلام ليس محلاً للقراءة. لم يمنعه: يعني أن المانع هو الموت.
• ومما يقرأ المعوذتين، لحديث عقبة بن عامر:(أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقرأ بالمعوذتين دبر كل صلاة). رواه أبو داود
م/ والرواتب المؤكدة التابعة للمكتوبات عشر: وهي المذكورة في حديث ابن عمر قال: حفظت عن رسول الله عشر ركعات: ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب في بيته، وركعتين بعد العشاء في بيته، وركعتين قبل الفجر) متفق عليه.
أي: والسنن الدائمة المصاحبة للفرائض عشر، هذا ما ذهب إليه المصنف رحمه الله بأنها عشر، والقول الثاني: أن السنن الراتبة ثنتا عشرة ركعة، بزيادة ركعتين قبل الظهر فتكون أربعاً، وهذا القول هو الراجح لحديث أُمِّ حَبِيبَةَ أُمِّ اَلْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنها قَالَتْ: سَمِعْتَ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: {مَنْ صَلَّى اِثْنَتَا عَشْرَةَ رَكْعَةً فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ بُنِيَ لَهُ بِهِنَّ بَيْتٌ فِي اَلْجَنَّةِ} رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِي رِوَايَةٍ (تَطَوُّعًا) وَلِلتِّرْمِذِيِّ نَحْوُهُ، وَزَادَ (أَرْبَعًا قَبْلَ اَلظُّهْرِ وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ اَلْمَغْرِبِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ اَلْعِشَاءِ وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ اَلْفَجْرِ).
وَلحديث عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم (كَانَ لَا يَدَعُ أَرْبَعًا قَبْلَ اَلظُّهْرِ وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ اَلْغَدَاةِ) رَوَاهُ اَلْبُخَارِيُّ.
• السنة أن جميع النوافل الأفضل أن تكون في البيت.
لقوله صلى الله عليه وسلم (صلوا أيها الناس في بيوتكم، فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة). متفق عليه
ولقوله صلى الله عليه وسلم (اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبوراً). متفق عليه
ولقوله صلى الله عليه وسلم (إذا قضى أحدكم صلاته في مسجده، فليجعل لبيته نصيباً من صلاته، فإن الله جاعل في بيته من صلاته خيراً). رواه مسلم
قال النووي مبيناً الحكمة: "لكونه أخفى وأبعد من الرياء، وأصون من المحبطات، وليتبرك البيت بذلك، وتنزل فيه الرحمة والملائكة، وينفر منه الشيطان".
• آكد هذه السنن راتبة الفجر، لقول عائشة: (لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم على شيء من النوافل أشد تعاهداً منه
…
)، ولمسلم:(ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها).
وفي رواية: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من النوافل أسرع منه إلى الركعتين قبل الفجر).
فائدة: قال ابن قدامة: كل سنة قبل الصلاة فوقتها من دخول وقتها إلى فعل الصلاة، وكل سنة بعدها فوقتها من فعل الصلاة إلى خروج وقتها.
فائدة: قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله: "إذا كان للصلاة سنتان قبلها وبعدها، وفاتته الأولى، فإنه يبدأ أولاً بالبعدية، ثم ما فاتته ".
مثال: دخل والإمام يصلي الظهر - وهو لم يصلّ راتبة الظهر - فإذا انتهت الصلاة يصلي أولاً الركعتين اللتين بعد الصلاة ثم يقضي الأربع التي قبلها.
بَابُ سُجُودِ اَلسَّهْوِ
أي السجود الذي سببه السهو، والسهو: الغفلة عن شيء من الصلاة.
وسجود السهو: سجدتان يأتي بهما المصلي لجبر الخلل في صلاته سهواً بزيادة أو نقصان أو شك.
• وحكمه واجب إذا حصل سببه، لقوله صلى الله عليه وسلم:(إن أحدكم إذا قام يصلي جاء الشيطان فلبس عليه، حتى لا يدري كم صلى، فإذا وجد ذلك أحدكم فليسجد سجدتين وهو جالس). متفق عليه
ولقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا شك أحدكم في صلاته فلا يدري كم صلى؟ ثلاثاً أم أربعاً؟ فليطرح الشك وليبن على ما استيقن ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم
…
). رواه مسلم
فهذه النصوص وعيرها تدل دلالة صريحة على أن الإمام أو المنفرد إذا سهى في الصلاة؛ فزاد أو نقص أو شك؛ وجب عليه أن يأتي بسجدتي السهو.
• لا يشرع سجود السهو للعمد، لأن ترك الركن أو الواجب عمداً مبطل للصلاة.
ولقوله صلى الله عليه وسلم: (
…
فإذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين) فعلق الأمر بالسجود بحصول النسيان.
• سجود السهو سجدتان إجماعاً.
• أجمع العلماء على أنه يكبر فيه.
• أجمع العلماء على أنه يستقبل القبلة.
م/ وَهُوَ مَشْرُوعٌ إِذَا: زَادَ اَلْإِنْسَانُ فِي صَلَاةٍ رُكُوعًا أَوْ سُجُودًا أَوْ قِيَامًا، أَوْ قُعُودًا، سَهْوًا.
فإذا زاد المصلي قياماً أو ركوعاً سهواً، فإن ذكر في أثناء قيامه؛ وجب عليه أن يجلس في الحال ويسجد للسهو بعد السلام.
مثال: رجل قام إلى خامسة في العشاء، فتذكر ذلك وهو في القيام أو هو راكع؛ فإنه يرجع ويجلس فوراً، لأن هذه زيادة.
الحالة الثالثة: إن علم بالزيادة بعد سلامه؛ فإنه يسجد للسهو بعد السلام.
مثال: رجل لما سلم من الصلاة ذكر أنه صلى خمساً، فهنا يسجد للسهو، ويكون بعد السلام.
لحديث ابن مسعود قال: (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خمساً، فقلنا: يا رسول الله، أزيد في الصلاة؟ قال: وما ذاك؟ قالوا: صليت خمساً، قال: إنما أنا بشر مثلكم أذكر كما تذكرون، وأنسى كما تنسون، ثم سجد سجدتين للسهو) وفي رواية: (بعد السلام والكلام).
م/ أَوْ نَقَصَ شَيْئًا مِنْ اَلْمَذْكُورَاتِ: أَتَى بِهِ وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ.
أي لو أن المصلي ترك ركناً من أركان الصلاة فإنه يأتي به ويسجد للسهو.
مثال: رجل قام إلى الرابعة في الظهر، ثم ذكر أنه نسي السجدة الثانية من الركعة الثالثة بعد أن شرع في القراءة، فهنا يقال له: ارجع واجلس بين السجدتين واسجد ثم أكمل، وذلك لأن ما بعد الركن المتروك يقع في غير محله لاشتراط الترتيب بين الأركان.
فإن وصل إلى محله من الركعة الثانية؛ فإنه لا يرجع، لأن رجوعه ليس له فائدة، لأنه إذا رجع فسيرجع على نفس المحل، فتكون الركعة الثانية هي الأولى، وتكون له ركعة ملفقة من الأولى ومن الثانية.
• فإن علم بالركن المتروك بعد السلام:
مثال: رجل صلى ولما فرغ من الصلاة ذكر أنه لم يسجد.
فالمذهب أنه كترك ركعة، فيأتي بركعة كاملة.
م/ أَوْ تَرَكَ وَاجِبًا مِنْ وَاجِبَاتِهَا سَهْوًا، فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَامَ عَنِ التَّشَهُدِ الأَوْلِ وَسَجَدَ.
المؤلف سيتكلم الآن عن ترك الواجبات.
فإن ترك واجباً من واجبات الصلاة نسياناً فإنه يسجد للسهو، ويكون قبل السلام، للحديث الذي ذكره المؤلف.
ونصه: عن عبد الله بن بحينة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم الظهر، فقام في الركعتين الأوليين ولم يجلس، فقام الناس معه، حتى إذا قضى الصلاة، وانتظر الناس تسليمه، كبر وهو جالس، وسجد سجدتين قبل أن يسلم، ثم سلم). متفق عليه
فهذا الحديث دليل على أن من ترك التشهد الأول [وهو من واجبات الصلاة، ويقاس عليه باقي الواجبات] فإنه يسقط ويجبره بسجود السهو قبل السلام.
أمثلة:
رجل ترك التشهد الأول حتى شرع في القراءة، فإنه لا يرجع إليه، ويأتي بسجود السهو قبل السلام.
رجل صلى ونسي: سبحان ربي العظيم، فإنه يسقط، ويأتي بسجود سهو قبل السلام.
قال العلماء:
إن ترك التشهد الأول، وذكره بعد شروعه بالقراءة، فهنا يحرم عليه الرجوع [ويسجد للسهو].
إن ترك التشهد الأول وذكره بعد قيامه وقبل شروعه بالقراءة، فهنا يكره رجوعه [ويسجد للسهو قبل السلام].
لأنه انتقل إلى الركن الذي يليه.
أما إذا ذكره قبل أن ينهض، أي قبل أن يفارق فخذاه ساقيه، فإنه يجلس ويتشهد وليس عليه شيء.
م/ أَوْ شَكَّ فِي زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ.
هذا السبب الثالث من أسباب سجود السهو، وهو الشك، فإذا شك المصلي فإنه يسجد للسهو.
مثال: إنسان يصلي العصر وشك هل هو في الركعة الثالثة أو الرابعة.، فهنا يسجد للسهو لشكه هذا.
لكن المصنف رحمه الله ذكر حديث أبي سعيد رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: (إذا شك المصلي في صلاته، فلم يدر كم صلى: أثلاثاً أم أربعاً؟ فليطرح الشك وليبن على ما استيقن ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم). رواه مسلم
فظاهر هذا الحديث أن المصلي إذا شك يسجد للسهو قبل السلام.
لكن الراجح من أقوال أهل العلم أن الشك ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: أن لا يترجح عنده شيء، فهنا يعمل بالأقل ويسجد للسهو قبل السلام.
مثال: رجل صلى وشك؛ هل هذه الركعة الثالثة أم الرابعة؟ ولم يترجح عنده شيء، فيجعلها هنا ثلاثاً ويأتي برابعة ويسجد للسهو قبل السلام.
للحديث السابق: (
…
فليطرح الشك وليبن على ما استيقن ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم).
القسم الثاني: إن ترجح عنده شيء، فإنه يعمل به ويسجد للسهو بعد السلام.
مثال: إنسان شك في صلاته، هل هذه الركعة الثالثة أم الرابعة، فإنه يجعلها الرابعة ويسجد للسهو بعد السلام.
لحديث ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب؛ فليتمَّ عليه، ثم ليسجد سجدتين). متفق عليه
وللبخاري: (فليتمَّ ثم يسلم ثم يسجد).
م/ وَلَهُ أَنْ يَسْجُدَ قَبْلَ اَلسَّلَامِ أَوْ بَعْدَهُ.
أي: أن المصنف رحمه الله يرى أن الإنسان مخير بسجود السهو، إن أحب سجد قبل السلام وإن أحب سجد بعده، وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال:
القول الأول: السجود للسهو محله قبل السلام.
وهذا مذهب الشافعي.
لحديث عبد الله بن بحينة السابق، الذي فيه:(أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك التشهد الأول وسجد للسهو قبل السلام).
ولحديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا شك أحدكم في صلاته، فلم يدر كم صلى
…
ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم).
وقالوا: إن سجود السهو إتمام للصلاة، وجبر للنقص الحاصل بها، فكان قبل السلام لا بعده.
القول الثاني: أن سجود السهو كله بعد السلام.
وهذا مذهب أبي حنيفة.
واستدلوا بحديث الباب.
ولحديث ابن مسعود في قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب
…
فليتم ثم يسلم ثم يسجد).
القول الثالث: التفريق، فما كان عن نقص قبل السلام، وما كان عن زيادة فبعد السلام.
وهذا مذهب مالك.
قال ابن عبد البر: " وبه يصح استعمال الخبرين جميعاً، وقال: واستعمال الأخبار على وجهها أولى من ادعاء النسخ ".
القول الرابع: أن سجود السهو قبل السلام إلا إذا سلم قبل إتمامها فهو بعد السلام، وهذا المشهور من المذهب.
باب سجود التلاوة
أي الذي سببه التلاوة.
م/ وَيُسَنُّ.
بين المصنف رحمه الله أن حكمه سنة، ولا خلاف في مشروعيته وسنيته.
لحديث ابن عمر قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ السورة التي فيها السجدة ونحن عنده، فيسجد ونسجد معه، فنزدحم حتى ما يجد أحدنا لجبهته موضعاً يسجد عليه). متفق عليه
قال النووي: " فيه إثبات سجود التلاوة، وقد أجمع العلماء عليه ".
وقد اختلف العلماء في وجوبه على قولين:
القول الأول: أنه واجب، وهذا مذهب الحنفية.
لقوله تعالى: (فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ). فذمهم على ترك السجود.
ولحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا قرأ ابن آدم السجدة اعتزل الشيطان يبكي ويقول: يا ويلي: أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار). رواه مسلم
فقوله: (أمر ابن آدم) والأمر للوجوب.
القول الثاني: أنه سنة غير واجب.
وهذا مذهب جمهور العلماء.
لحديث زيد بن ثابت قال: (قرأت على النبي صلى الله عليه وسلم النجم فلم يسجد بها). متفق عليه
وترْكه صلى الله عليه وسلم السجود لبيان الجواز، ورجح هذا الحافظ ابن حجر، وبه جزم الشافعي، ويحتمل أنه ترك السجود لأن زيداً هو القارئ ولم يسجد، ولو سجد لسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر هذا الجواب أبو داود والترمذي.
وصح أيضاً عن عمر: (أنه قرأ يوم الجمعة على المنبر سورة النحل حتى إذا جاء السجدة؛ نزل فسجد وسجد الناس معه، حتى إذا كانت الجمعة القابلة قرأها حتى إذا جاء السجدة قال: يا أيها الناس، إنا نمر بالسجود، فمن سجد فقد أصاب، ومن لم يسجد فلا إثم عليه، ولم يسجد عمر).
قال النووي: "وهذا الفعل والقول من عمر في هذا الموطن والمجمع العظيم، دليل ظاهر في إجماعهم على أنه ليس بواجب".
م/ لِلْقَارِئِ وَالْمُسْتَمِعِ.
أي سجود التلاوة سنة في حق القارئ والمستمع.
القارئ: هو من يقرأ القرآن.
والمستمع: هو الذي ينصت للقراءة.
دليل القارئ:
أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسجد إذا مرّ بآية سجدة.
ودليل المستمع:
لأن الصحابة كانوا يسجدون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
• ويفهم من كلام المؤلف رحمه الله أن السامع لا يسجد، والسامع هو: الذي يسمع الشيء دون أن ينصت إليه.
م/ فِي اَلصَّلَاةِ وَخَارِجِهَا.
أي أن سجود التلاوة سنة لمن يقرأ القرآن داخل الصلاة وخارجها، فإن كل ذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
خارج الصلاة:
فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث ابن عمر الذي سبق - (أنه يقرأ السورة التي فيها سجدة ونحن عنده فيسجد ونسجد معه
…
).
داخل الصلاة:
في حديث أبي هريرة قال: (سجدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في: إذا السماء انشقت، و: اقرأ باسم ربك الذي خلق). رواه مسلم
• قوله: (في الصلاة وخارجها) أما حكمه داخل الصلاة: فهو حكم الصلاة، يكبر في كل خفض ورفع، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكبر في كل خفض ورفع.
وأما خارج الصلاة: فقد اختلف العلماء:
فقيل: يكبر في أوله.
لحديث ابن عمر قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ علينا القرآن، فإذا مرّ بالسجدة كبر وسجد
…
) رواه أبو داود لكنه ضعيف
واختار هذا القول الشيخ ابن باز رحمه الله، وهو قول الحنفية.
وقيل: يكبر للسجود ويكبر للرفع منه. قالوا:
لأنه سجود منفرد، فشرع التكبير في ابتدائه والرفع منه كسجود السهو بعد السلام.
وقيل: لا يشرع في سجود التلاوة تكبير مطلقاً.
وهذا القول هو الراجح.
لعدم الدليل الصريح الصحيح في حديث، وحديث ابن عمر الذي فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكبر حديث ضعيف كما سبق.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
• ولم يذكر المصنف، ماذا يقول في سجود التلاوة؟
يقول: (سبحان ربي الأعلى) كالصلاة، لأن هذا يشمل سجود الصلاة وسجود التلاوة.
وإن زاد: (سجد وجهي للذي شق سمعه وبصره بحوله وقوته).
(اللهم أحطط بها عني وزراً، واكتب لي بها أجراً، واجعلها لي عندك ذخراً، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود) فحسن.
• اختلف العلماء: هل يشترط لسجود التلاوة ما يشترط لسجود الصلاة من طهارة واستقبال مثله أم لا، على قولين:
القول الأول: أن هذا شرط.
لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يقبل الله صلاة بغير طهور). قالوا: فيدخل في عمومه السجود.
وقياساً على سجود السهو.
القول الثاني: أنه لا يشترط.
وهذا اختيار بعض المحققين؛ كابن تيمية، والشوكاني.
لحديث ابن عباس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون من الجن والإنس). متفق عليه
ومعلوم أن الكافر لا وضوء له.
سجود التلاوة ليس بصلاة، لأن الصلاة الشرعية هي التي تفتتح بالتكبير وتختتم بالتسليم.
وكان ابن عمر يسجد على غير وضوء.
وهذا القول هو الراجح.
باب سجود الشكر
أي السجود الذي سببه شكر الله تعالى.
م/ وكذا إذا تجددت له نعمة، أو اندفعت عنه نقمة سجد لله شكراً.
سيتكلم المصنف رحمه الله هنا عن سجود الشكر. وحكمه كسجود التلاوة: أنه سنة.
عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم (كَانَ إِذَا جَاءَهُ أَمْرٌ يَسُرُّهُ خَرَّ سَاجِداً لِلَّهِ). رَوَاهُ اَلْخَمْسَةُ إِلَّا النَّسَائِيَّ
وعن عبد الرحمن بن عوف عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إني لقيت جبريل عليه السلام، فبشرني وقال: من صلى عليك صليت عليه، ومن سلم عليك سلمت عليه، فسجدت لله شكراً). رواه الحاكم
وَعَنْ اَلْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنهما (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ عَلِيًّا إِلَى اَلْيَمَنِ - فَذَكَرَ اَلْحَدِيثَ - قَالَ: فَكَتَبَ عَلِيٌّ رضي الله عنه بِإِسْلَامِهِمْ، فَلَمَّا قَرَأَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم اَلْكِتَابَ خَرَّ سَاجِدًا) رَوَاهُ اَلْبَيْهَقِيُّ، وَأَصْلُهُ فِي اَلْبُخَارِيِّ
ونقل فعله عن كثير من السلف:
فقد روي عن أبي بكر أنه سجد لما جاءه خبر فتح اليمامة وقتل مسيلمة الكذاب. رواه عبد الرزاق
وروي أن أمير المؤمنين عمر، سجد لما جاءه خبر بعض الفتوحات في عهده.
وسجد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب حين وجد ذا الثدية مع قتلى الخوارج بعد وقعت النهروان بينه وبينهم، لأنه عرف أنه على الحق، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن الخوارج أنهم شرّ الناس، وأن سيماهم أن منهم رجلاً ليس له ذراع، وعلى رأس عضده مثل ملحة الثدي.
وثبت أن كعب بن مالك سجد لما جاءته البشرى بتوبة الله عليه.
• وقد ذكر المصنف رحمه الله متى يشرع سجود الشكر، فذكر أنه يشرع عند تجد نعمة، أو اندفاع نقمة، سواء كانت هذه النعمة خاصة بالساجد، أم عامة لجميع المسلمين، وكذلك اندفاع نقمة خاصة أو كانت عامة عن المسلمين، فإنه يشرع السجود.
أمثلة: كأن ينجو من حريق، أو ينجو من حادث، أو ينتصر المسلمون على المشركين، أو تندفع نقمة عن المسلمين، أو يجد ضالته.
• لا يشرع السجود للنعم المستمرة - كنعمة الإسلام، ونعمة العافية، ونعمة الصحة، وغيرها - لأن نعم الله دائمة ولا تنقطع، فلو شرع السجود لذلك لاستغرق الإنسان عمره في السجود، وإنما يكون شكر هذه النعم وغيرها بالعبادة والطاعة لله تعالى ..
م/ وحكم سجود الشكر كسجود التلاوة.
أي أن حكم سجود الشكر كحكم سجود التلاوة، فسجود الشكر سنة كسجود الشكر، وسجود الشكر لا تشترط لها الطهارة كسجود التلاوة على القول الراجح.
وهذا قول ابن جرير، وابن حزم، وابن تيمية، وابن القيم، والشوكاني.
لعدم الدليل.
أن ظاهر حديث أبي بكرة وغيره من الأحاديث التي روي فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد فيها سجود الشكر، تدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يتطهر لهذا السجود.
قال ابن القيم: "وكانوا يسجدون عقبه، ولم يؤمروا بوضوء، ولم يخبروا أنه لا يفعل إلا بوضوء، ومعلوم أن هذه الأمور تدهم العبد وهو على غير طهارة، فلو تركها لفاتت مصلحتها".
لو كانت الطهارة وغيرها من شروط الصلاة واجبة لبينها النبي صلى الله عليه وسلم لأمته.
أن سجود الشكر يأتي فجأة، وقد يكون من يريد السجود على غير طهارة، وفي تأخير السجود بعد وجود سببه حتى يتوضأ، زوال لسرّ المعنى الذي شرع السجود لأجله.
وذهب بعض العلماء إلى أنه تشترط له الطهارة قالوا: أن السجود المجرد صلاة، لأنه سجود يقصد به التقرب إلى الله، فشرط له الوضوء، والراجح الأول.
• ليس لسجود الشكر تكبير لا في أوله ولا في آخره، لعد ثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم أو أحد من أصحابه.
• لا يجب لسجود الشكر ذكر معين، بل يستحب أن يأتي بذكر يناسب المقام، قال الشوكاني:"ينبغي أن يستكثر من شكر الله عز وجل، لأن السجود سجود شكر ".
• لا يجوز السجود للشكر إذا بشر بما يسره وهو في أثناء الصلاة، لأن سبب السجود في هذه الحالة ليس من الصلاة، وليس له تعلق بها، بخلاف سجود التلاوة.
باب مفسدات الصلاة ومكروهاتها
م/ تبطل الصلاة بترك ركن أو شرط وهو يقدر عمداً أو سهواً أو جهلاً إذا لم يأت به.
سيذكر المصنف رحمه الله في الباب ما يبطل وما يكره فيها، فذكر مما يبطل الصلاة:
إن ترك ركناً عمداً.
فلو أن شخصاً يصلي فترك السجود أو الركوع أو قراءة الفاتحة عمداً، فإن صلاته باطلة، لأنه ترك ركناً من أركان الصلاة.
إن ترك شرطاً عمداً.
فلو أن شخصاً صلى من غير وضوء عمداً، أو صلى لغير القبلة عمداً، فصلاته باطلة، لأن هذه من شروط الصلاة، والعبادة تبطل إذا فقد شرطها.
أو ترك ركناً أو شرطاً نسياناً أو جهلاً ولم يأت به فإن الصلاة تبطل.
لأنه سبق أن الركن لابد أن يأتي به (وسبق دليله وهو حديث ذي اليدين)، وكذلك الشرط إذا تركه نسياناً ولم يأت به فإن صلاته باطلة.
مثال: شخص يصلي وترك الركوع نسياناً ولم يأت به، فصلاته باطلة، لأن الركوع ركن من أركان الصلاة.
مثال آخر: شخص صلى ونسي الوضوء، ولم يعد الصلاة، فصلاته باطلة.
م/ وبترك واجب عمداً.
مثال: لو ترك التشهد الأول عمداً، فإن صلاته باطلة.
مثال آخر: لو ترك قول (سبحان ربي الأعلى) في السجود عمداً فصلاته باطلة.
وبالكلام عمداً.
أي: وتبطل الصلاة بالكلام عمداً.
قال النووي: "أجمع العلماء على أن الكلام فيها عامداً عالماً بتحريمه بغير مصلحتها وبغير انقاذ وشبهه مبطل للصلاة".
قال الحافظ ابن حجر: "أجمعوا على أن الكلام في الصلاة، من عالم بالتحريم عامد لغير مصلحتها أو إنقاذ مسلم مبطل للصلاة".
لحديث معاوية بن الحكم رضي الله عنه قال: (بينا أنا أصلي مع رسول الله، إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثكل أمياه! ما شأنكم تنظرون إلي، فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يُصَمِّتونني، لكني سكت، فلما صلى رسول الله، بأبي هو وأمي، ما رأيت معلماً قبلَه ولا بعدَه أحسن تعليماً منه، فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني وقال (إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح، والتكبير، وقراءة القرآن). رواه مسلم
ولحديث زيد بن أرقم أنه قال (إن كنا لنتكلم في الصلاة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يكلم أحدنا صاحبه في حاجته، حتى نزلت: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) فأمرنا بالسكوت، ونهينا عن الكلام). متفق عليه، واللفظ لمسلم
• قوله (عمداً) نخرج ما لو تكلم جاهلاً، فإن صلاته لا تبطل، وهذه المسألة اختلف العلماء فيها على قولين:
القول الأول: أن صلاته صحيحة.
وهذا مذهب الشافعي ورجحه شيخ الإسلام ابن تيمية.
لحديث معاوية بن الحكم السابق، حيث تكلم معاوية في الصلاة جاهلاً ولم يرد أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بالإعادة.
ولقوله تعالى (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا).
قال شيخ الإسلام: "الشرائع لا تلزم إلا بعد العلم بها، فلا يقضي ما لم يعلم وجوبه".
القول الثاني: أن صلاته باطلة.
وهذا مذهب أبي حنيفة.
واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم: (إن في الصلاة شغلاً)، والراجح القول الأول.
• وكذلك لو تكلم ناسياً، فإن صلاته لا تبطل على القول الراجح، وهذا مذهب الشافعي، ومالك، والجمهور.
لقوله تعالى: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} .
ولقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله عفا عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه). رواه ابن ماجه
م/ وبالقهقهة.
أي: وتبطل الصلاة بالقهقهة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: أما التبسم فلا يبطل الصلاة وأما إذا قهقه في الصلاة فإنها تبطل ولا ينتقض وضوءه عند الجمهور كمالك والشافعي وأحمد; لكن يستحب له أن يتوضأ في أقوى الوجهين لكونه أذنب ذنباً، وللخروج من الخلاف فإن مذهب أبي حنيفة ينتقض وضوؤه والله أعلم.
م/ وبالحركة الكثيرة عرفاً، المتوالية لغير ضرورة.
أي؛ ومن مبطلات الصلاة الحركة الكثيرة، لكن المؤلف قيدها بأمور:
أولاً: الكثيرة عرفاً، ثانياً: المتوالية، ثالثاً: لغير ضرورة.
أولاً: أن تكون كثيرة عرفاً، واختلف في العرف، فقيل: فما عُدّ في العرف كثيراً فهو كثير، وما عد قليلاً فهو قليل، وقيل: المرجع ما خيل للناظر أنه ليس في صلاة، والمعنى: إذا رأينا شخصاً يتحرك ويغلب على ظننا أنه ليس في صلاة، فهذا هو الضابط، وهذا أرجح.
ثانياً: أن تكون متوالية؛ فإن كانت غير متوالية فلا تبطل الصلاة، ثالثاً: لغير ضرورة؛ فإن كانت لضرورة فلا بأس.
وقد قسم العلماء الحركات في الصلاة إلى أقسام:
أولاً: الحركة الواجبة. هي التي يتوقف عليها صحة الصلاة، هذا هو الضابط لها والصور كثيرة منها:
مثال: لو أن رجلاً ابتدأ الصلاة إلى غير القبلة بعد أن اجتهد، ثم جاءه شخص وقال له القبلة على يمينك، فهنا الحركة واجبة، فيجب أن يتحرك إلى جهة اليمين.
ولو ذكر أن في غترته نجاسة وهو يصلي وجب عليه خلعها، لإزالة النجاسة.
والدليل: استدارة الصحابة إلى الكعبة لما أخبروا بتحويل القبلة إليها، وإدارة النبي صلى الله عليه وسلم ابن عباس من ورائه إلى يمينه لما وقف عن يساره.
ثانياً: الحركة المستحبة. هي التي يتوقف عليها كمال الصلاة، ولها صور عديدة منها:
مثال: لو تبين له أنه متقدم على جيرانه في الصف، فتأخره سنة.
ولو تقلص الصف حتى صار بينه وبين جاره فرجة، فالحركة هنا سنة.
ثالثاً: الحركة المباحة. هي الحركة اليسيرة للحاجة، أو الكثيرة للضرورة.
مثال: رجل يصلي في الظل فأحس ببرودة فتقدم، أو تأخر، أو تيامن، أو تياسر من أجل الشمس، فهذه مباحة.
فالأولى: كما في حديث أبي قتادة قال (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وهو حامل أمامة بنت زينب، فإذا سجد وضعها، وإذا قام حملها) متفق عليه.
والثانية: كما في حالة الخوف إذا لم يتمكنوا من أداء الصلاة على الوجه المطلوب، فإنهم يصلون وهم مشاة على أرجلهم، أو راكبون على خيولهم، قال تعالى (فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً).
ومن الحركة المباحة: أن يحك جسده أو يصلح إزاره إذا استرخى.
رابعاً: الحركة المكروهة. هي اليسيرة لغير حاجة، ولا يتوقف عليها كمال الصلاة، كما يوجد في كثير من الناس الآن كالنظر إلى الساعة، وأخذ القلم.
خامساً: الحركة المحرمة. هي الكثيرة المتوالية لغير ضرورة.
مكروهات الصلاة
أي: الأمور التي يكره للمصلي فعلها، والمكروه: ما أمر الشارع بتركه لا على وجه الإلزام.
م/ ويكره الالتفات في الصلاة.
أي: ويكره للمصلي أن يلتفت في صلاته.
لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة فقال: (هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد). رواه البخاري
[اختلاس] أي اختطاف بسرعة، [الالتفات] المراد بالرأس أو العنق [تحويل الوجه عن القبلة]، وأما الالتفات بالصدر حرام.
• إذا كان لحاجة فإنه لا بأس به، ومما يدل على ذلك:
حديث سهل بن الحنظلية قال: (ثوب في الصلاة - يعني صلاة الفجر - فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وهو يلتفت إلى الشعب) قال أبو داود: "وكان النبي صلى الله عليه وسلم أرسل فارساً إلى الشعب يحرس، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يلتفت إليه ويترقب قدومه".
وحديث أنس في مرض النبي صلى الله عليه وسلم وأنه خرج والمسلمون في صلاة الفجر وكشف الستر
…
فنظر إلى المسلمين وهم صفوف فتبسم صلى الله عليه وسلم فطفق أبو بكر يريد أن يتأخر
…
ونظر المسلمون إلى رسولهم حتى كادوا أن يفتتنوا.
وفي حديث جابر أنه قال: (اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم فصليت وراءه وهو قاعد فالتفت فرآنا قياماً
…
).
قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله: "ومن ذلك لو كانت المرأة عندها صبيها وتخشى عليه فصارت تلتفت إليه، فإن هذا من الحاجة ولا بأس به، لأنه عمل يسير يحتاج إليه الإنسان".
• الحكمة من النهي عن الإلتفات: قيل: لأنه ينافي الخشوع. وقيل: لأن فيه انصراف عن الله. ولا مانع من القولين.
• قال القرطبي: "سمي الإلتفات اختلاساً تصويراً لقبح تلك الفعلة بالمختلس، لأن المصلي يقبل عليه الرب سبحانه وتعالى والشيطان مرتصد له ينتظر فوات ذلك عليه، فإذا التفت اغتنم الشيطان الفرصة فسلبه تلك الحالة ".
م/ ويكره العبث.
أي؛ ويكره للمصلي العبث في صلاته، ومعنى العبث: اللعب والحركة التي ليست لها فائدة، سواء كان العبث
بيد أو رِجل أو لحية أو ثوب أو غير ذلك، لأن العبث ينافي الخشوع والإقبال على الله.
م/ ووضع اليد على الخاصرة.
أي: ويكره للمصلي أن يضع يده على خاصرته، وبذلك جزم أبو داود ونقله الترمذي عن بعض أهل العلم، وهذا
هو المشهور في تفسيره.
لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي الرجل مختصراً). متفق عليه واللفظ لمسلم
اختلف في حكمة النهي:
قيل: لأن إبليس أهبط مختصراً.
وقيل: لأن اليهود تكثر من فعله، فنهى عنه كراهة التشبه بهم، وفي البخاري عن عائشة:(أن ذلك فعل اليهود في صلاتهم) وقيل: لأنه راحة أهل النار، وقيل: لأنه صفة الزاجر حين ينشد، وقيل: لأنه فعل المتكبرين وقيل: لأنه فعل أهل المصائب. قال ابن حجر: "وقول عائشة أعلى ما ورد، ولا منافاة بين الجميع".
م/ وتشبيك أصابعه.
أي: ويكره للمصلي تشبيك أصابعه، ومعناه: إدخال بعضها في بعض.
لحديث أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا توضأ أحدكم في بيته ثم أتى المسجد كان في صلاة حتى يرجع، فلا يفعل هكذا، وشبك بين أصابعه) رواه الدارمي والحاكم.
وجه الدلالة: أنه إذا كان قاصداً المسجد للصلاة منهياً عن تشبيك الأصابع، فنهي المصلي حال الصلاة من باب أولى، لأن هذه الهيئة لا تلائم الصلاة، ولا تشاكل حال المصلي.
م/ وفرقعتها.
أي: ويكره للمصلي فرقعة أصابعه، ومعناه: شد الأصابع أو لَيّ مفاصلها حتى تُصَوِّت.
وهذه مكروهة لأنها عبث لا يليق بالمصلي، وهو دليل على عدم الخشوع، إذ لو خشع القلب لخشعت الجوارح وسكنت.
وقد ورد عن شعبة مولى ابن عباس قال (صليت إلى جنب ابن عباس، ففقعت أصابعي، فلما قضيت الصلاة قال: لا أمَّ لك، تفقع أصابعك وأنت تصلي) رواه ابن أبي شيبة.
م/ وأن يجلس فيها مقعياً كإقعاء الكلب.
أي: ويكره للمصلي أن يجلس مقعياً كإقعاء الكلب، وهو أن يلصق أليتيه بالأرض، وينصب ساقيه وفخذيه ويضع يديه على الأرض، لحديث أبي هريرة. (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن إقعاءٍ كإقعاء الكلب) رواه أحمد.
م/ وأن يستقبل ما يلهيه.
أي: ويكره للمصلي أن يصلي وأمامه شيء يلهيه.
لحديث عائشة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في خميصة لها أعلام، فنظر إلى أعلامها نظرة، فلما انصرف قال: اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم، وأتوني بأنبجانية أبي جهم فإنها ألهتني آنفاً عن صلاتي) متفق عليه.
وعن أبي هريرة. قال (كان قِرَامٌ لعائشة سترت به جانب بيتها، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: أميطي عنّا قِرَامك هذا فإنه لا يزال تصاويره تعرض لي في صلاتي). رواه البخاري
[قرام] ستر رقيق من صوف ذو ألوان [أميطي] أزيلي. [تعرض] تلوح. [خميصة] كساء مربع له أعلام. [الإنبجانية] كساء غليظ لا علم له. [إلى أبي جهم] خصه صلى الله عليه وسلم بإرسال الخميصة لأنه كان أهداها للنبي صلى الله عليه وسلم. [ألهتني] أي شغلتني.
فينبغي للمصلي أن يزيل كل ما يشغله عن صلاته، ولهذا يكره تزويق المساجد وزخرفتها.
م/ وأن يدخل فيها وقلبه مشتغل بمدافعة الأخبثين.
أي: ويكره للمصلي أن يدخل في صلاته وهو يدافع أحد الأخبثين (البول أو الغائط).
عن عائشة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (لا صلاة بحضرة طعام ولا وهو يدافعه الأخبثان) رواه مسلم.
والجمهور على أنه لو صلى فصلاته صحيحة مكروهة، وذهب بعض العلماء إلى بطلانها والأول أصح.
والحكمة: لأن ذلك يمنع الخشوع في الصلاة، ويمنع حضور القلب فيها.
• فإن خشي فوات الجماعة، فإنه يقضي حاجته ولو فاتته الجماعة، لأنه معذور.
• لو كان الإنسان حقن وليس عنده ماء يتوضأ به، فهل نقول: اقضِ حاجتك وتيمم للصلاة، أو نقول: صلِّ وأنت مدافع للأخبثين؟
فالجواب: نقول: اقضِ حاجتك وتيمم، ولا تصلِّ وأنت تدافع الأخبثين، وذلك لأن الصلاة بالتيمم لا تكره بالإجماع، والصلاة مع مدافعة الأخبثين منهيٌّ عنها مكروهة، ومن العلماء من حرمها وقال: إن الصلاة لا تصح مع مدافعة الأخبثين لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة بحضرة طعام، ولا وهو يدافعه الأخبثان)[قاله ابن عثيمين].
• لو كان حقناً وخشي إذا قضى حاجته وتوضأ أن يخرج الوقت؟ فهل يصلي في الوقت مع المدافعة، أو يتوضأ ويصلي ولو خرج الوقت؟ قولان للعلماء: قيل: يصلي ولو مع مدافعة الأخبثين حفاظاً على الوقت، ولا يجوز له تأخيرها، وهذا قول الجمهور، وقيل: أنه يقضي حاجته ويصلي ولو خرج الوقت، وهذا قول ابن حزم، وحكاه النووي عن بعض الشافعية، وهذا قول وجيه.
م/ أو بحضرة طعام يشتهيه.
أي: ويكره أن يصلي عند حضور الطعام.
لحديث عائشة - السابق - (لا صلاة بحضرة الطعام) رواه مسلم.
ولحديث أنس. قال: قال صلى الله عليه وسلم (إذا حضر العشاء وأقيمت الصلاة، فابدؤا بالعَشَاء) رواه مسلم.
وعن ابن عمر. قال: قال صلى الله عليه وسلم (إذا وُضِع عشاءُ أحدِكم وأقيمت الصلاة، فابدؤا بالعَشَاء، ولا يعجلنَّ حتى يَفرُغَ منه) رواه مسلم.
• الحكمة من هذا: هو أن المطلوب في الصلاة هو حضور القلب، والحاجة إلى الطعام تشغل القلب وتحول دون الخشوع في الصلاة.
• جمهور العلماء على أنه لو صلى في هذه الحال فصلاته مكروهة وتصح، وذهب بعض العلماء إلى بطلان الصلاة في هذه الحالة، ومذهب الجمهور أصح.
• ظاهر هذه الحديث أنه يقدم الطعام مطلقاً، لكن جمهور العلماء اشترطوا شروطاً لذلك:
أن يكون الطعام حاضراً -- وأن تكون نفسه تتوق إليه -- وأن يكون قادراً على تناوله شرعاً أو حساً.
الشرعي: كالصائم إذا حضر طعام الفطور عند صلاة العصر والرجل جائع جداً.
فنقول هنا: يصلي ولا يؤخر الصلاة.
الحسّي: كما لو قدّم له طعام حار ولا يستطيع أن يتناوله، فهنا نقول يصلي ولا تكره صلاته لأن انتظاره لا فائدة فيه.
قال بعض العلماء أنه يأكل مقدار ما يسد رمقه والصحيح أن له أن يشبع ويدل لذلك رواية (
…
ولا تعجلوا عن عشائكم). وفي رواية (ولا يعجل حتى يفرغ منه).
قال النووي: "في هذا دليل على أنه يأكل حاجته من الأكل بكماله هذا هو الصواب، وأما ما تأوله بعض أصحابنا على أنه يأكل لقماً يكسر بها شدة الجوع فليس بصحيح وهذا الحديث صريح في إبطاله ".
وكان ابن عمر يوضع له الطعام وتقام الصلاة فلا يأتيها حتى يفرغ وأنه ليسمع قراءة الإمام.
م/ ونهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يفترش الرجل ذراعيه في السجود.
أي: ويكره للمصلي أن يفترش ذراعيه حال السجود.
لحديث أنس قال: قال صلى الله عليه وسلم (اعتدلوا في السجود ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب) متفق عليه.
• الحكمة من النهي عن ذلك، لأنها تدل على الكسل والتهاون بالصلاة، وفيه تشبه بالكلب.
باب صلاة التطوع
صلاة التطوع: هي كل عبادة ليست واجبة.
والتطوع له فوائد:
أولاً: جبر ما يكون في المفروضة من نقص.
قال صلى الله عليه وسلم: (إن أول ما يحاسب به الناس يوم القيامة الصلاة، قال: يقول ربنا عز وجل لملائكته - وهو أعلم - انظروا في صلاة عبدي، أتمها أم نقصها، فإن كانت تامة، كتبت له تامة، وإن كان انتقص منها شيئاً، قال: انظروا، هل لعبدي من تطوع؟ فإن كان له تطوع قال: أتموا لعبدي فريضته من تطوعه). رواه أبو داود
ثانياً: من أسباب محبة الله.
قال صلى الله عليه وسلم: (قال الله تعالى:
…
لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه). رواه البخاري
ثالثاً: من أسباب دخول الجنة.
عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ كَعْبٍ الْأَسْلَمِيِّ رضي الله عنه قَالَ: {قَالَ لِي اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَلْ. فَقُلْتُ: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي اَلْجَنَّةِ. فَقَالَ: أَوَغَيْرَ ذَلِكَ?، قُلْتُ: هُوَ ذَاكَ، قَالَ: " فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ اَلسُّجُودِ} . رَوَاهُ مُسْلِمٌ
وجاء في رواية: (عليك بكثرة السجود، فإنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة). رواه مسلم
رابعاً: الحصول على الأجر المترتب عليها.
خامساً: ترويض النفس على الطاعة، وتهيئتها للفرائض.
سادساً: شغل الوقت بأفضل الطاعات.
سابعاً: الإقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم
-.
•
والتطوع ينقسم إلى قسمين:
أولاً: تطوع مطلق، وهو الذي لم يأتِ به الشارع بحد.
مثال: صدقة التطوع، لك أن تتبرع في سبيل الله بما شئت، ولك أن تتطوع بالصلاة في الليل والنهار مثنى مثنى.
ثانياً: التطوع المقيد، وهو ما حد له حد في الشرع، مثال: سنة الفجر.
م/ وآكدها: صلاة الكسوف.
أي: أن آكد صلاة التطوع صلاة الكسوف.
لأنه - كما قال المصنف - أن النبي صلى الله عليه وسلم فعلها وأمر بها. وخرج وأمر منادياً ينادي (الصلاة جامعة).
عَنِ اَلْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رضي الله عنه قَالَ (اِنْكَسَفَتِ اَلشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ، فَقَالَ اَلنَّاسُ: اِنْكَسَفَتِ اَلشَّمْسُ لِمَوْتِ إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم "إِنَّ اَلشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اَللَّهِ لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا، فَادْعُوا اَللَّهَ وَصَلُّوا، حَتَّى تَنْكَشِفَ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: {حَتَى تَنْجَلِي} وَلِلْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه (فَصَلُّوا وَادْعُوا حَتَّى يُكْشَفَ مَا بِكُمْ)
• ويلي الكسوف في الآكدية الوتر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم داوم عليه، وأمر به كما سيأتي.
• وفي قول المصنف رحمه الله وآكدها الكسوف، دليل على أن صلاة الكسوف سنة. وهذا مذهب جمهور العلماء وقد قال النووي: سنة مؤكدة بالإجماع.
لكن ذهب بعض العلماء إلى وجوبها، قال الشيخ الألباني: دعوى الاتفاق منقوضة، فقد قال أبو عوانة في صحيحه في [بيان وجوب صلاة الكسوف] ثم ساق بعض الأحاديث الصحيحة في الأمر بها كقوله: (فصلوا
…
).
قال ابن حجر: "فالجمهور على أنها سنة مؤكدة، وصرح أبو عوانة في صحيحه بوجوبها".
قال الشيخ الألباني: "وهو الأرجح دليلاً، وقال: إن القول بالسنية فقط فيه إهدار للأوامر الكثيرة التي جاءت عنه صلى الله عليه وسلم في هذه الصلاة دون أي صارف لها عن دلالتها الأصلية ألا وهو الوجوب ".
قال ابن القيم: "إن القول بالوجوب قول قوي".
وهذا الصحيح أنها واجبة، لكن على الكفاية.
م/ وتصلى على صفة حديث عائشة (أن النبي صلى الله عليه وسلم جهر في صلاة الكسوف في قراءته، فصلى أربع ركعات، وأربع سجدات) متفق عليه.
ذكر المصنف رحمه الله حديث عائشة المخرج في الصحيحين والذي فيه صفة صلاة الكسوف، وما ورد في حديث عائشة أصح ما ورد وأنها ركعتين في كل ركعة ركوعان.
وبهذا قال أحمد ومالك والشافعي وإسحاق وأبو ثور وداود.
واختاره ابن تيمية والصنعاني والسعدي.
قال ابن تيمية: "قد روي في صفة صلاة الكسوف أنواع، لكن الذي استفاض عند أهل العلم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورواه البخاري ومسلم من غير وجه، وهو الذي استحبه أكثر أهل العلم كمالك والشافعي وأحمد، أنه صلى بهم ركعتين في كل ركعة ركوعان".
وقال الشيخ السعدي: " والصحيح صلاة الكسوف حديث عائشة الثابت في الصحيحين، أنه صلى في كل ركعة بركوعين وسجودين، وأما ما سواه من الصفات، فإنه وهْم من بعضهم واهٍ كما قال الأئمة: الإمام أحمد، والبخاري، وغيرهما ".
وقال الشوكاني: "حكى النووي عن ابن عبد البر أنه قال: أصح ما في الباب ركوعان، وما خالف ذلك فمعلل أو ضعيف، وكذا قال البيهقي".
ونقل ابن القيم والشافعي وأحمد والبخاري، أنهم كانوا يعدون الزيادة على الركوعين في كل ركعة غلطاً من بعض الرواة.
لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل الكسوف إلا مرة واحدة يوم مات ابنه إبراهيم.
• أن الحكمة من الكسوف والخسوف هو تخويف العباد.
عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ - عُقْبَةَ بْنِ عَمْرٍو الأَنْصَارِيِّ الْبَدْرِيِّ - رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِمَا عِبَادَهُ، وَإِنَّهُمَا لا يَنْخَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ. فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهَا شَيْئًا فَصَلُّوا، وَادْعُوا حَتَّى يَنْكَشِفَ مَا بِكُمْ) متفق عليه.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
• يسن عند حصول الكسوف:
أولاً: الصلاة، لقوله صلى الله عليه وسلم: (فصلوا
…
)، ثانياً: الدعاء، لقوله: (فادعوا
…
)، ثالثاً: التكبير، لقوله: (وكبروا
…
)، رابعاً: الصدقة، لقوله: (وتصدقوا
…
)، خامساً: العتاقة، عن أسماء قالت:(لقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالعتاقة في كسوف الشمس). رواه البخاري
• قوله في الحديث (فإذا رأيتموها) فيه دليل على أن صلاة الكسوف تصلى عند رؤية الكسوف أو الخسوف، وعليه لو حال دونه غيم أو قتر ولم تره، فإنه لا يصلى، وكذلك لو طلعت الشمس والقمر خاسف، فإنه لا يصلى، لأنه ذهب سلطانه، وكذلك إذا غابت الشمس كاسفة، فإنه لا يصلى، لأن سلطانها قد ذهب.
• أن بداية صلاة الكسوف من حدوث الكسوف إلى التجلي، لقوله (حتى ينجلي ما بكم).
• فإذا فرغ من الصلاة قبل التجلي: فقيل: يصلون مرة ثانية. وقيل: يشتغلون بالدعاء والذكر والتسبيح، وهذا القول هو الصحيح.
• فإن تجلى الكسوف أثناء الصلاة أتمها خفيفة، لأن السبب الذي شرعت له الصلاة قد زال، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(صلوا حتى ينكشف ما بكم).
• ويسن أن ينادى لها الصلاة جامعة، لحديث عبد الله بن عمرو قال (كسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنودي: الصلاة جامعة) رواه البخاري.
• وفي قول عائشة (أن النبي صلى الله عليه وسلم جهر في صلاة الكسوف) دليل على أنه يسن الجهر في صلاة الكسوف [سواء كسوف الشمس أو خسوف القمر] وهذا مذهب الحنابلة وهو الصحيح.
م/ وصلاةُ الوتر سنة مؤكدة، داوم عليها النبي صلى الله عليه وسلم حضراً وسفراً وحث الناس عليها.
صلاة الوتر: هي الصلاة المتطَوَّع بها لتوتر صلاة الليل.
وحكمها - كما قال المصنف رحمه الله سنة مؤكدة، لفعل النبي صلى الله عليه وسلم ومواظبته عليه حضراً وسفراً وحث الناس عليه.
لقول صلى الله عليه وسلم (أوتروا قبل أن تصبحوا) وقال أبو هريرة (أوصاني خليلي بثلاث: وأن أوتر قبل أن أرقد
…
).
وذهب بعض العلماء إلى وجوبه وهو مذهب الحنفية.
لحديث أَبِي أَيُّوبَ اَلْأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (اَلْوِتْرُ حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِخَمْسٍ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِثَلَاثٍ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِوَاحِدَةٍ فَلْيَفْعَلْ) رَوَاهُ اَلْأَرْبَعَةُ إِلَّا اَلتِّرْمِذِيَّ، وَصَحَّحَهُ اِبْنُ حِبَّانَ، وَرَجَّحَ النَّسَائِيُّ وَقْفَهُ
وَعَنْ عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (اَلْوِتْرُ حَقٌّ، فَمَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنَّا). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ بِسَنَد لَيِّنٍ، وَصَحَّحَهُ اَلْحَاكِمُ
وجمهور العلماء على أنه ليس بواجب واستدلوا:
بحديث بعث معاذ إلى اليمن، وفيه: (فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة
…
).
قال الشوكاني: "وهذا من أحسن ما يستدل به، لأن بعث معاذ كان قبل وفاته صلى الله عليه وسلم بيسير".
ومن الأدلة الدالة على عدم الوجوب ما اتفق عليه الشيخان من حديث طلحة بن عبيد الله قال: (جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل نجد
…
وفيه: قال صلى الله عليه وسلم: خمس صلوات في اليوم والليلة، قال: هل علي غيرها: قال: لا، إلا أن تطوع) متفق عليه.
…
وَلحديث عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قَالَ (لَيْسَ اَلْوِتْرُ بِحَتْمٍ كَهَيْئَةِ اَلْمَكْتُوبَةِ، وَلَكِنْ سُنَّةٌ سَنَّهَا رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَاَلتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ
ولحديث ابن عمر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوتر على بعيره) وهذا دليل على أن الوتر ليس بواجب، إذ لو كان واجباً لم يصله على الراحلة.
قال النووي: "وأما الأحاديث التي احتجوا بها فمحمولة على الاستحباب والندب المتأكد، ولا بد من هذا التأويل للجمع بينها وبين الأحاديث التي استدللنا بها".
وهذا القول هو الصحيح.
م/ وأقلُهُ ركعة.
أي: أقل الوتر ركعة واحدة، لأنه يحصل بها الوتر.
لحديث ابن عمر. قال: قال صلى الله عليه وسلم (الوتر ركعة من آخر الليل) رواه مسلم.
وعنه (أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن صلاة الليل، فقال صلى الله عليه وسلم: صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى) متفق عليه.
وقوله (الوتر ركعة) هذا إذا كانت مفصولة، فأما إذا اتصلت بغيرها كما لو أوتر بخمس أو سبع أو تسع فالجميع وتر
كما ثبت بالأحاديث الصحيحة.
• وقوله (أقله ركعة) دليل على أنه لا يكره أن يوتر بركعة، وهذا مذهب الجمهور، لحديث ابن عمر. قال: قال صلى الله عليه وسلم: (فإذا خفت الصبح فأوتِر بركعة) رواه مسلم، وأيضاً لحديث أبي أيوب قال: قال صلى الله عليه وسلم (الوتر حق، فمن أحب أن يوتر بخمس فليفعل، ..... ، ومن أحب أن يوتر بواحدة فليفعل) رواه أبو داود.
وقال أبو حنيفة: "لا يصح الإيتار بواحدة ولا تكون الركعة الواحدة صلاة فقط، والأحاديث الصحيحة ترد عليه". [قاله النووي]
م/ وأكثره: إحدى عشرة ركعة.
أي: أكثر الوتر إحدى عشرة ركعة. لحديث عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: {مَا كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلَا فِي غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً) متفق عليه.
والأفضل مثنى مثنى: أي يصليها اثنتين اثنتين، لحديث ابن عمر. قال: قال صلى الله عليه وسلم (صلاة الليل مثنى مثنى) متفق عليه ولحديث عائشة قالت (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى الفجر إحدى عشرة ركعة، يسلم بين كل ركعتين، ويوتر بواحدة) رواه مسلم.
م/ ووقتُهُ من صلاةِ العشاء إلى طلوع الفجر.
أي: ووقت الوتر من صلاة العشاء إلى طلوع الفجر، فإذا طلع الفجر انتهى وقته.
لحديث خَارِجَةَ بْنِ حُذَافَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم {إِنَّ اَللَّهَ أَمَدَّكُمْ بِصَلَاةٍ هِيَ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ حُمُرِ اَلنَّعَمِ " قُلْنَا: وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اَللَّهِ? قَالَ: " اَلْوِتْرُ، مَا بَيْنَ صَلَاةِ اَلْعِشَاءِ إِلَى طُلُوعِ اَلْفَجْرِ} . رَوَاهُ اَلْخَمْسَةُ إِلَّا النَّسَائِيَّ وَصَحَّحَهُ اَلْحَاكِمُ
قال ابن المنذر: "أجمع أهل العلم على أن ما بين العشاء إلى طلوع الفجر وقت للوتر".
قال صلى الله عليه وسلم (أوتروا قبل أن تصبحوا). رواه مسلم
وقال صلى الله عليه وسلم (فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة، فأوترت له ما قد صلى). رواه مسلم
اختلف العلماء لو جمعت العشاء مع المغرب، متى يصلي الوتر؟
فقيل: يصليه بعد العشاء ولو جمعت جمع تقديم، وهذا مذهب الحنابلة والشافعية ورجحه ابن حزم.
وقيل: لا يدخل إلا بعد وقت العشاء، والراجح الأول.
م/ والأفضل أن يكونَ آخرَ صلاتهِ، كما قال صلى الله عليه وسلم (اجعلوا آخرَ صلاتِكم بالليلِ وتراً) متفق عليه، وقال صلى الله عليه وسلم (مَنْ خَافَ أَنْ لَا يَقُومَ مِنْ آخِرِ اَللَّيْلِ فَلْيُوتِرْ أَوَّلَهُ، وَمَنْ طَمِعَ أَنْ يَقُومَ آخِرَهُ فَلْيُوتِرْ آخِرَ اَللَّيْلِ، فَإِنَّ صَلَاةَ آخِرِ اَللَّيْلِ مَشْهُودَةٌ، وَذَلِكَ أَفْضَلُ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ
أي: أن الأفضل أن يكون الوتر هو آخر صلاته، لقوله صلى الله عليه وسلم (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً) رواه مسلم.
ولحديث جابر الذي ذكره المصنف رحمه الله (مَنْ خَافَ أَنْ لَا يَقُومَ مِنْ آخِرِ اَللَّيْلِ فَلْيُوتِرْ أَوَّلَهُ، وَمَنْ طَمِعَ أَنْ يَقُومَ آخِرَهُ فَلْيُوتِرْ آخِرَ اَللَّيْلِ، فَإِنَّ صَلَاةَ آخِرِ اَللَّيْلِ مَشْهُودَةٌ، وَذَلِكَ أَفْضَلُ).
ففي هذا الحديث بيان أن الوتر يجوز أول الليل، ويجوز آخر الليل، وأما الأفضل فله حالتان:
الأولى: أن من يخشى أن لا يقوم من آخر الليل فالأفضل له أن يوتر أوله، كما أوصى بذلك أبا هريرة.
الثانية: من طمع أن يقوم آخر الليل، فالأفضل أن يجعله آخر الليل، وذلك لأن صلاة آخر الليل مشهودة، تشهدها الملائكة، ولأن الصلاة في آخر الليل هي وقت النزول الإلهي وإجابة الدعاء.
• لو أوتر أول الليل، ثم نام، واستيقظ آخر الليل، فله أن يتنفل على القول الراجح، ولا يعيد الوتر لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا وتران في ليلة)، ولا ينقض الوتر (نقضه يصلي ركعة تشفع لصلاته).
وقد اختلف العلماء فيمن نسي الوتر حتى طلع الفجر هل يقضيه أم لا على أقوال:
فقيل: يصليه بعد طلوع الفجر، وقبل صلاة الصبح، لحديث أبي سعيد قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم {مَنْ نَامَ عَنْ اَلْوِتْرِ أَوْ نَسِيَهُ فَلْيُصَلِّ إِذَا أَصْبَحَ أَوْ ذَكَرَ} . رَوَاهُ اَلْخَمْسَةُ إِلَّا النَّسَائِيَّ
وهذا القول مروي عن جماعة من الصحابة والتابعين، وهو قول الإمام مالك.
وقيل: يقضيه شفعاً نهاراً، لحديث عائشة:(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غلبه نوم أو وجع عن قيام الليل، صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة). رواه مسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم الليل إحدى عشرة ركعة.
وقيل: يقضيه نهاراً وتراً. للحديث السابق (مَنْ نَامَ عَنْ اَلْوِتْرِ أَوْ نَسِيَهُ فَلْيُصَلِّ إِذَا أَصْبَحَ أَوْ ذَكَرَ) ولأن القضاء يحكي الأداء، وبه قال طاووس ومجاهد والشعبي.
وقيل: يقضيه إذا تركه نوماً أو نسياناً إذا استيقظ أو إذا ذكر في أي وقت كان، ليلاً أو نهاراً.
للحديث السابق (مَنْ نَامَ عَنْ اَلْوِتْرِ أَوْ نَسِيَهُ فَلْيُصَلِّ إِذَا أَصْبَحَ أَوْ ذَكَرَ).
ولعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها) فهذا عام يدخل فيه كل صلاة فرض أو نافلة، وهو في الفرض أمر فرض، وفي النفل أمر ندب،
وهذا مذهب ابن حزم. وهو الراجح.
صلاة الاستسقاء
الاستسقاء: طلب نزول المطر عند التضرر بفقده.
وأما حكمها فقد قال المصنف رحمه الله.
م/ وصلاة الاستسقاء سنة إذا اضُطرّ الناسُ لفقدِ الماء.
أي: أن صلاة الاستسقاء حكمها سنة عند وجود سببها وهو: تأخر نزول المطر وجدب الديار وهذا قول أكثر العلماء.
قال ابن قدامة: "صلاة الاستسقاء سنة عند الحاجة إليها سنة مؤكدة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعلها وكذلك خلفاؤه، وهذا قول سعيد بن المسيب وداود ومالك والشافعي".
عن عبد الله بن زيد قال (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المصلى يستسقي، فاستسقى واستقبل القبلة، وقلب رداءه وصلى ركعتين) متفق عليه.
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: (خَرَجَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُتَوَاضِعًا، مُتَبَذِّلًا، مُتَخَشِّعًا، مُتَرَسِّلًا، مُتَضَرِّعًا، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، كَمَا يُصَلِّي فِي اَلْعِيدِ، لَمْ يَخْطُبْ خُطْبَتَكُمْ هَذِهِ). رَوَاهُ اَلْخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ اَلتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو عَوَانَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ
وقال أبو حنيفة: "لا تسن صلاة الاستسقاء ولا الخروج إليها، لأن النبي صلى الله عليه وسلم استسقى على المنبر يوم الجمعة ولم يخرج ولم يصل ".
وقول الجمهور هو الصحيح، فقد ثبتت الأحاديث في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الاستسقاء ركعتين.
م/ وتفعل كصلاة العيد في الصحراء.
أي: أن صلاة الاستسقاء صفتها كصلاة العيد، فتسن في الصحراء.
م/ ويخرج إليها متخشعاً متذللاً متضرعاً.
أي: ويسن أن يخرج لصلاة الاستسقاء متخشعاً متذللاً متضرعاً.
لحديث ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ (خَرَجَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُتَوَاضِعًا، مُتَبَذِّلًا، مُتَخَشِّعًا، مُتَرَسِّلًا، مُتَضَرِّعًا، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، كَمَا يُصَلِّي فِي اَلْعِيدِ، لَمْ يَخْطُبْ خُطْبَتَكُمْ هَذِهِ). رواه أبوداود.
[متخشعاً]: التذلل ورمي البصر إلى الأرض وخفض الصوت وسكون الأعضاء [متذللاً] التذلل الخضوع والتذلل إلى الله وإظهار الذل، وهو الهوان، وهو أشد من التواضع. [متضرعاً] التضرع الابتهال إلى الله في الدعاء مع حضور القلب وامتلائه بالهيبة والخوف من الله.
• أن يكون متواضعاً، متخشعاً، متذللاً، لأنه يوم استكانة وخضوع، واستحب الفقهاء أن يخرج أهل الدين والشيوخ
م/ فيصلي ركعتين.
أي أن صلاة الاستسقاء ركعتان، قال النووي: بإجماع المثبتين لها.
قال ابن قدامة: "لا نعلم بين القائلين بصلاة الاستسقاء خلافاً في أنها ركعتان".
كما في حديث ابن عباس السابق (خَرَجَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُتَوَاضِعًا، مُتَبَذِّلًا، مُتَخَشِّعًا، مُتَرَسِّلًا، مُتَضَرِّعًا، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، كَمَا يُصَلِّي فِي اَلْعِيدِ .... ).
وصفة الصلاة كصلاة العيد، يكبر في الأولى بعد التحريمة والاستفتاح ستاً، وفي الثانية خمساً، يقرأ في الأولى بعد الفاتحة بالأعلى، وفي الثانية بعد الفاتحة بالغاشية.
م/ ثم يخطب خُطبةً واحدة.
أفاد المؤلف أن الخطبة بعد الصلاة، وأنها خطبة واحدة، وقد اختلف العلماء متى الخطبة على أقوال:
القول الأول: أن الخطبة قبل الصلاة. (كالجمعة).
روي ذلك عن عمر، وابن الزبير، وعمر بن عبد العزيز، وذهب إليه ابن عبد البر.
لحديث عائشة السابق (
…
فقعد على المنبر، فكبر وحمد الله، ثم قال: إنكم شكوتم
…
ثم نزل فصلى) فهو نص أنه خطب قبل الصلاة.
ولحديث عبد الله بن زيد، وفيه: (
…
فحول ظهره إلى الناس واستقبل القبلة يدعو ثم حول رداءه ثم صلى ركعتين).
القول الثاني: أن الخطبة بعد الصلاة. (كالعيد).
وهذا مذهب الجمهور، المالكية والشافعية والحنابلة، قال النووي: وبه قال الجماهير.
لحديث ابن عباس وقد سبق: (خرج متضرعاً
…
فصلى كما يصلي العيد).
القول الثالث: أنه مخير، واختار هذا الشوكاني، لورود الأخبار بكلا الأمرين.
م/ ويكثر فيها: الاستغفار، وقراءة الآيات التي فيها الأمر به.
أي يسن أن يكثر في الخطبة من الاستغفار، ويقرأ الآيات التي فيها الأمر به، فيقول: اللهم اغفر لنا، اللهم إنا نستغفرك، لأن الاستغفار سبب لحصول الخيرات والبركات.
كما قال تعالى (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً. وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً).
وقال تعالى (فاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ).
وقال تعالى (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً).
م/ ويلح في الدعاءِ ولا يستبطئ الإجابة.
أي: أنه يسن للخطيب أن يدعو في خطبته ويلح في الدعاء، لأن الإلحاح في الدعاء سبب للاستجابة.
لحديث أبي هريرة. قال: قال صلى الله عليه وسلم (يستجاب لأحدكم ما لم يَعْجَل، يقول: قد دعوت ربي، فلم يُستجبْ لي) متفق عليه.
وفي رواية لمسلم (لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدعُ بإثم
…
، مالم يستعجل، قيل: يا رسول الله! ما الاستعجال؟ قال: يقول: قد دعوتُ، وقد دعوتُ، فلم أر من يَستجبْ لي، فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء)
وعنه. قال: قال صلى الله عليه وسلم (لا يقل أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت، .. ليعزم المسألة فإن الله لا مُكرِه له) متفق عليه.
م/ وينبغي قبلَ الخروجِ إليها، فعلُ الأسباب التي تدفع الشر وتنزل الرحمة كالاستغفار.
أي: وينبغي قبل الخروج لصلاة الاستسقاء أن يحرص المسلم على فعل الأسباب التي تدفع الشر وتنزل الرحمة كالاستغفار.
كما سبق في الآيات الماضية.
م/ والتوبة.
أي وينبغي له أن يتوب إلى الله من المعاصي والذنوب، فإن ما وقع من شر وبلاء إلا بسبب الذنوب والمعاصي كما قال تعالى (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ).
وقال تعالى (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ).
وقال تعالى (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً).
م/ والخروج من المظالم.
أي: وترك المظالم، وهذا من عطف الخاص على العام، وذلك لأن الخروج من المظالم من التوبة.
والمظلمة تشمل المظلمة في حق الله، والمظلمة في حق العباد.
أمثلة مظالم في حق الله: عدم إخراج الزكاة، أو عدم إخراج كفارة عليه.
أمثلة مظالم في حق العباد: عدم إرجاع حقوق الناس، وأكل أموال الفقراء والمساكين والناس بأي طريق محرم، وعدم إعطاء العمال أجورهم وغيرها.
وأيضاً ترك التشاحن فإن التشاحن سبب لرفع الخير كما في حديث عبادة (أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج ليخبر بليلة القدر وإنه تلاحى فلان وفلان وإنها رفعت وعسى أن يكون خيراً ..... ).
والإحسان إلى الخلق.
لأن الإحسان إلى الناس كالصدقة سبب لرحمة الله كما قال تعالى (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)، والمراد بالصدقة هنا الصدقة المستحبة، أما الصدقة الواجبة (وهي الزكاة) فهذه لابد من إخراجها في وقتها، لأن منعها سبب لمنع القطر من السماء، كما قال صلى الله عليه وسلم (وما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء)
مسائل:
يستحب للإمام و للمأمومين أن يحولوا أرديتهم في الاستسقاء، وهذا قول أكثر العلماء، وبه قال المالكية والشافعية والحنابلة.
فقد جاء في مسند أحمد من حديث عبد الله بن زيد: (
…
ثم تحول إلى القبلة، وحول رداءه فقلبه ظهْراً لبطن وتحول الناس معه). هذا إسناد حسن من أجل محمد بن إسحاق، وقد صرح التحديث فانتفت شبهة تدليسه.
أن ما ثبت في حقه صلى الله عليه وسلم ثبت في حق غيره ما لم يقم دليل على اختصاصه، ولأن العلة واحدة وهي التفاؤل.
الحكمة من تحويل الرداء: التفاؤل بتغير الحال من قحط إلى مطر - التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم - كأن العبد يعاهد ربه بأن يقلب حاله من المعصية إلى الطاعة.
• لا يستحب صيام ذلك اليوم، وقول بعضهم يستحب قول ضعيف، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بذلك، وهذا إحداث في الدين
أوقات النهي
م/ وأوقات النهي عن النوافل المطلقة: من الفجر إلى أن ترتفع الشمس قيد رمح، ومن صلاة العصر إلى الغروب، ومن قيام الشمس في كبد السماء إلى أن تزول.
سيتكلم المصنف رحمه الله عن أوقات النهي عن الصلاة.
الأصل في صلاة التطوع أنها مشروعة دائماً، لعموم قوله تعالى) يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون).
وعن ربيعة بن كعب رضي الله عنه قال (قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم سل. فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة؟ قال: أو غير ذلك؟ قلت: هو ذاك. قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود) رواه مسلم.
لكن هناك أوقاتاً نهى الشارع عن الصلاة فيها، وهي:
أ- بعد صلاة الفجر إلى طلوع الشمس قيد رمح.
ب- وعند قيامها حتى تزول.
ج- ومن بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس.
لحديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ (شَهِدَ عِنْدِي رِجَالٌ مَرْضِيُّونَ - وَأَرْضَاهُمْ عِنْدِي عُمَرُ - أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ الصَّلاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَبَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ).
ولحديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قالَ (لا صَلاةَ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَرْتَفِعَ الشَّمْسُ، وَلا صَلاةَ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغِيبَ الشَّمْسُ) متفق عليه.
ولحديث عقبة بن عامر: (ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيهن، أو أن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تزول الشمس، وحين تتضيف الشمس للغروب) رواه مسلم.
وحكم الصلاة في هذه الأوقات أنها مكروهة وهذا مذهب الجمهور، وادعى النووي الاتفاق على ذلك.
وقال بعض العلماء بالجواز، قال الحافظ: وبه قال داود وغيره من أهل الظاهر، وبذلك جزم ابن حزم. قالوا: أن أحاديث النهي منسوخة، والراجح قول الجمهور.
متى يبدأ وقت النهي؟ هل يبدأ بعد دخول الوقت أو بعد الصلاة؟
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أما العصر فيبدأ بعد الصلاة بلا خلاف، لحديث أبي سعيد (لا صلاة بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس).
وأما الفجر فقد اختلف العلماء:
فقيل: إن النهي يبدأ بطلوع الفجر، وهذا مذهب الحنفية والحنابلة، لحديث:(لا صلاة بعد الفجر إلا سجدتين). رواه أبو داود
القول الثاني: أن النهي يبدأ بعد صلاة الفجر، وهذا مذهب جمهور العلماء، فقد ثبت في صحيح مسلم تعليق الحكم بنفس الصلاة:(لا صلاة بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس).
وعن عمرو بن عبسة السلمي أنه قال: (قلت: يا رسول الله، أي الليل أسمع؟ قال: جوف الليل الآخر فصلّ ما شئت فإن الصلاة مشهودة مكتوبة حتى تصلي الصبح)، فهذا نص في أنه يصلي في آخر الليل إلى أن يصلي الفجر.
وهذا القول هو الصحيح، وعليه فالوقت الذي بين الأذان والإقامة ليس وقت نهي، لكن لا يشرع فيه سوى ركعتي الفجر ولهذا خففهما النبي صلى الله عليه وسلم.
الحكمة من النهي عن الصلاة في هذه الأوقات:
قال ابن القيم: "
…
وكان من حكمة ذلك أنها وقت سجود المشركين للشمس، وكان النهي عن الصلاة لله في ذلك الوقت سداً لذريعة المشاركة الظاهرة ".
• وقول المصنف (النوافل المطلقة) دليل على أن النوافل التي لها سبب لا تدخل تحت النهي، وهذه المسألة اختلف فيها العلماء (هل تفعل الصلوات ذات السبب في وقت النهي أم لا، تحية المسجد، صلاة الكسوف، سنة الوضوء، صلاة الاستخارة) على قولين:
القول الأول: أنه لا يجوز.
وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد.
لعموم الأدلة التي تنهى عن الصلاة في وقت النهي (لا صلاة بعد الصبح .... ) (لا صلاة بعد العصر
…
).
القول الثاني: يجوز في أوقات النهي فعل ماله سبب.
وهذا مذهب الشافعي، ورجحه كثير من المحققين كابن تيمية وابن القيم.
لحديث بلال: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام، فإني سمعت دف نعليك أمامي في الجنة؟ فقال بلال: ما عملت في الإسلام عملاً أرجى عندي من أني أتطهر طهوراً من ليل أو نهار إلا صليت بهذا الطهور ما شاء الله). متفق عليه
فدل على أنه يصلي ركعتي الوضوء في أي وقت، ولم ينكر عليه.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
حديث (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين) متفق عليه.
أن أحاديث النهي عامة، وأحاديث ذوات السبب خاصة، والخاص مقدم على العام.
أن الصلوات ذات السبب مقرونة بسبب فيبعد أن يقع فيها الاشتباه في مشابهة المشركين، لأن النهي عن الصلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها لئلا يتشبه المصلي المسلم بالمشركين، فإذا كانت الصلاة لها سبب معلوم، كانت المشابهة بعيدة.
أن في بعض ألفاظ أحاديث النهي: (لا تتحروا الصلاة).
والذي يصلي لسبب لا يقال أنه يتحرى، بل يقال صلى لسبب، وهذا القول هو الراجح.
• هناك صلوات تفعل في أوقات النهي؟
أولاً: قضاء الفرائض، كأن ينسى الإنسان الصلاة الفريضة ويتذكرها وقت النهي، فإنه يجب أن يصليها.
لقوله صلى الله عليه وسلم: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها).
ولأن الفرائض من أوجب الواجبات، وهي دين فوجب أداؤه على الفور من حين أن يعلم به.
ثانياً: إعادة الجماعة.
بحيث إذا أتى مسجد جماعة ووجدهم يصلون وقد صلى، يستحب له أن يصلي معهم ولو كان وقت نهي.
لحديث يزيد بن الأسود: (أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ هو برجلين لم يصليا فدعا بهما فجيء بهما ترعد فرائصهما، فقال لهما: ما منعكما أن تصليا معنا؟ قالا: قد صلينا في رحالنا، قال: فلا تفعلا إذا صليتما في رحالكما ثم أدركتما الإمام ولم يصلِّ فصليا معه، فإنها لكما نافلة). رواه أبو داود
باب صلاة الجماعة والإمامة
سيذكر المصنف رحمه الله في هذا الباب الأحكام المتعلقة بصلاة الجماعة وأحكام الإمامة.
م/ وهي فرض عين.
بين المصنف رحمه الله حكم صلاة الجماعة وأنها فرض، وما ذكره المصنف رحمه الله هو القول الصحيح من أقوال أهل العلم في حكم صلاة الجماعة، وهذا وهو مذهب الحنابلة، ورجحه ابن خزيمة، وابن المنذر، وابن حبان.
لقوله تعالى (وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَك).
وجه الدلالة: أن الله أمر بإقامة صلاة الجماعة وهم في حالة الحرب والخوف، ولو كانت الجماعة سنة كما يقول بعضهم لكان أولى الأعذار بسقوطها عند الخوف، وإذا وجبت في حال الخوف، ففي حال الأمن من باب أولى.
وَلحديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِحَطَبٍ فَيُحْتَطَبَ، ثُمَّ آمُرَ بِالصَّلَاةِ فَيُؤَذَّنَ لَهَا، ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا فَيَؤُمَّ اَلنَّاسَ، ثُمَّ أُخَالِفُ إِلَى رِجَالٍ لَا يَشْهَدُونَ اَلصَّلَاةَ، فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُم) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
قال ابن دقيق العيد: "فمن قال بأنها واجبة على الأعيان، قد يحتج بهذا الحديث، فإنه إن قيل بأنها فرض كفاية فقد كان هذا الفرض قائماً بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه، وإن قيل: إنها سنة، فلا يقتل تارك السنن، فيتعين أن تكون فرضاً على الأعيان".
ولحديث أبي هريرة. قال (أَتَى اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ أَعْمَى فَقَالَ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ! لَيْسَ لِي قَائِدٌ يَقُودُنِي إِلَى اَلْمَسْجِدِ، فَرَخَّصَ لَهُ، فَلَمَّا وَلَّى دَعَاهُ، فَقَالَ: "هَلْ تَسْمَعُ اَلنِّدَاءَ بِالصَّلَاةِ? " قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: "فَأَجِبْ") رَوَاهُ مُسْلِم.
قال ابن قدامة: "وإذا لم يرخص للأعمى الذي لم يجد قائداً، فغيره من باب أولى".
ولحديث اِبْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، عَنْ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مَنْ سَمِعَ اَلنِّدَاءَ فَلَمْ يَأْتِ فَلَا صَلَاةَ لَهُ إِلَّا مِنْ عُذْرٍ) رَوَاهُ اِبْنُ مَاجَهْ، وَاَلدَّارَقُطْنِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَإِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، لَكِنْ رَجَّحَ بَعْضُهُمْ وَقْفَه.
وعن ابن مسعود قال: (من سرّه أن يلقى الله غداً مسلماً فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى لهن، فإن الله شرع لنبيكم سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته، لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم
…
ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف). رواه مسلم
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فهذا الصحابي يحكي إجماع الصحابة على أن ترك صلاة الجماعة في المسجد من علامات النفاق.
وذهب بعض العلماء: إلى أنها سنة، وهو مذهب المالكية.
لحديث ابن عمر. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة) متفق عليه
وجه الدلالة: لأن الحديث فيه المفاضلة بين أجر صلاة الجماعة وصلاة المنفرد، فدل على أن صلاة المنفرد صحيحة ويثاب عليها.
وذهب بعضهم إلى أنها فرض كفاية، واستدلوا بأدلة القائلين بالوجوب العيني، وصرفها من فرض العين إلى فرض الكفاية حديث ابن عمر:(صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة). فإنه يفيد صحة صلاة المنفرد، فيبقى الوجوب المستفاد منها وجوباً كفائياً.
والراجح القول الأول، أنها فرض عين، وأن من صلى في بيته من غير عذر فصلاته صحيحة مع الإثم.
• ويجب فعلها في المسجد، قال ابن القيم:"والذي ندين الله به أنه لا يجوز لأحد التخلف عن الجماعة في المسجد إلا من عذر، والله أعلم بالصواب".
وقال الشيخ السعدي: "والصواب وجوب فعلها في المسجد، لأن المسجد شعارها، ولأنه صلى الله عليه وسلم همّ بتحريق المتخلفين عنها ولم يستفصل، هل كانوا يصلون في بيوتهم جماعة أم لا، ولأنه لو جاز في غير المسجد لغير حاجة، لتمكن المتخلف عنها والتارك لها من الترك، وهذا محذور عظيم".
• قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الأعمى (هل تسمع النداء) دليل على أن من سمع النداء فعليه الإجابة إذا كان منزله بعيداً، وأنه إذا لم يسمع النداء فله رخصة أن يصلي في بيته، المعول عليه في سماع النداء بدون مكبر الصوت، لأمرين:
الأول: أن مكبر الصوت لا ينضبط، فقد يكون قوياً فيرسل لمسافات بعيدة جداً.
ثانياً: أنه لو علق الأمر بمكبر الصوت، لحصل للناس مشقة، لأن مكبر الصوت ينادي من مسافة بعيدة.
م/ للصلوات الخمس.
أي: أن الجماعة واجبة للصلوات الخمس، حتى ولو كانت مقضية دون غيرها من السنن.
لعموم الأدلة.
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لما نام عن صلاة الفجر هو وأصحابه في سفر كما في حديث أبي قتادة، أمر بلالاً فأذن ثم صلى سنة الفجر ثم صلى الفجر كما يصليها عادة جماعة، وجهر بالقراءة.
وعلى هذا فإذا نام قوم في السفر، ولم يستيقظوا إلا بعد طلوع الشمس، فإنهم يفعلون كما يفعلون في العادة تماماً.
• فلا تجب الجماعة للنوافل، لكنها من حيث مسنونية الجماعة لها وعدم مسنونيتها قسمان:
القسم الأول: ما تسن له الجماعة، وهي صلاة الكسوف، والاستسقاء، والعيد.
القسم الثاني: ما يفعل على الانفراد فهذا لا تسن له الجماعة، كالراتبة مع الفرائض، والنوافل المطلقة وهي ما يتطوع به في الليل والنهار.
لكن لا بأس أن يفعلها في جماعة أحياناً، لكن بشرط ألا يتخذ ذلك عادة.
لأنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى مع ابن عباس، وابن مسعود، وحذيفة، وذلك في قيام الليل.
م/ على الرجال.
أي: أن وجوب صلاة الجماعة واجب على الرجال، فلا تجب على النساء.
لكن اختلفوا في حكمها للمرأة: فقيل: سنة، وبه قال الشافعية والحنابلة.
لحديث أم ورقة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: (انطلقوا إلى الشهيدة فزوروها، وأمر أن يؤذن لها وتقام وتؤم أهل دارها في الفرائض). رواه أبو داود
وقيل: مكروهة، وهو قول الحنفية.
قالوا: لأن المرأة ليست من أهل الاجتماع، ولأن هذا غير معهود في أمهات المؤمنين، والصحيح أنها مباحة.
م/ حضراً وسفراً.
أي: أن صلاة الجماعة واجبة حتى في السفر، وهذا هو المذهب.
لقوله تعالى (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة .... ) فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم إذا كان فيهم في الجهاد أن يقيم لهم الصلاة جماعة، ومن المعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقاتل إلا في سفر.
ولعموم الأدلة الدالة على وجوب الجماعة، فإنها لم تفرق بين الحضر والسفر.
وذهب بعض العلماء إلى عدم وجوبها في السفر، والأول أرجح.
م/ وأقلها إمام ومأموم.
أي: أن أقل عدد تحصل به الجماعة اثنان، إمام ومأموم.
لحديث ابن عمر. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (صَلَاةُ اَلْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ اَلْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
قال ابن قدامة: "تنعقد الجماعة باثنين فصاعداً لا نعلم فيه خلافاً".
وأمّ صلى الله عليه وسلم ابن عباس مرّة. وأمّ حذيفة مرّة. وابن مسعود مرّة.
م/ وكلما كان أكثر فهو أحب إلى الله.
أي: وكلما كثر العدد كان أفضل وأحب إلى الله لحديث أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (صَلَاةُ اَلرَّجُلِ مَعَ اَلرَّجُلِ أَزْكَى مِنْ صَلَاتِهِ وَحْدَهُ، وَصَلَاتُهُ مَعَ اَلرَّجُلَيْنِ أَزْكَى مِنْ صَلَاتِهِ مَعَ اَلرَّجُلِ، وَمَا كَانَ أَكْثَرَ فَهُوَ أَحَبُّ إِلَى اَللَّهِ عز وجل رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ اِبْنُ حِبَّانَ
…
[أزكى] أكثر أجراً.
م/ صَلَاةُ اَلْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ اَلْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ذكر المصنف رحمه الله حديث ابن عمر الدال على فضل صلاة الجماعة، وأنها تفضل على صلاة الفذ (المنفرد) بسبع وعشرين درجة.
[الفذ] المنفرد. [درجة] جزء، بمعنى واحد. [الجماعة] اختلف في المراد بالجماعة: فقيل: المراد مطلق الجماعة في أي مكان، وقيل: بل المراد جماعة المسجد لا جماعة البيوت، وهذا أقرب.
• جاء في رواية (بخمس وعشرين درجة) واختلف العلماء في الجمع بينهما.: فقيل: أن ذكر القليل لا ينافي ذكر الكثير. وقيل: أنه أخبر بالخمس وعشرين، ثم أعلمه الله بزيادة الفضل بالسبع وعشرين، وهذا أرجحها.
وقيل: السبع وعشرين مختصة بالجهرية، والخمس وعشرين مختصة بالسرية. وقيل: السبع وعشرين مختصة بالفجر والعشاء والخمس وعشرين بغيرها. وقيل: بإدراكها كلها أو بعضها. وقيل: الفرق بحال المصلي، كأن يكون أعلم أو أخشع.
م/ وقال صلى الله عليه وسلم (إذا صليتما في رحالكما، ثم أتيتما مسجد جماعة، فصليا معهم، فإنها لكم نافلة) رواه أهل السنن.
ذكر المصنف رحمه الله حديث يَزِيدَ بْنِ اَلْأَسْوَدِ رضي الله عنه {أَنَّهُ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ اَلصُّبْحِ، فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا هُوَ بِرَجُلَيْنِ لَمْ يُصَلِّيَا، فَدَعَا بِهِمَا، فَجِيءَ بِهِمَا تَرْعَدُ فَرَائِصُهُمَا، فَقَالَ لَهُمَا: "مَا مَنَعَكُمَا أَنْ تُصَلِّيَا مَعَنَا? " قَالَا: قَدْ صَلَّيْنَا فِي رِحَالِنَا. قَالَ: "فَلَا تَفْعَلَا، إِذَا صَلَّيْتُمَا فِي رِحَالِكُمْ، ثُمَّ أَدْرَكْتُمْ اَلْإِمَامَ وَلَمْ يُصَلِّ، فَصَلِّيَا مَعَهُ، فَإِنَّهَا لَكُمْ نَافِلَةٌ"} . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَاللَّفْظُ لَهُ، وَالثَّلَاثَةُ، وَصَحَّحَهُ اَلتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ
[ترعد] أي ترتجف وترتعد. [فرائصهما] الفرائص جمع فريصة، وهي اللحمة التي بين الجنب والكتف، تهتز عند الفزع والخوف. [رحالنا] الرحل هو المنزل الذي ينزله الإنسان [ولم يصلّ] أي لم ينتهي من الصلاة.
الحديث ذكره المصنف رحمه الله ليبين على أن من صلى في جماعة أو منفرداً، ثم دخل مسجد ووجدهم يصلون، فإنه يسن له أن يدخل معهم ويصلي، ويدل لذلك: ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأبي ذر حين أخبره عن الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها، قال له:(صلّ الصلاة لوقتها، فإن أدركتك الصلاة معهم فصلّ ولا تقل إني صليت فلا أصلي). رواه مسلم، والأمر في الحديث للاستحباب.
• قوله (
…
فصليا معه
…
) هذا يشمل جميع الصلوات: الفجر، والظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء لعموم الحديث، لكن استثنى بعض العلماء صلاة المغرب، وقالوا: لا تعاد، وهذا مذهب المالكية والحنابلة، قالوا: لأن في إعادتها تصير شفعاً، وهي إنما شرعت لتوتر عدد ركعاتها اليوم والليلة، لكن هذا القول ضعيف، والصحيح أن المغرب تعاد كغيرها من الصلوات، وهذا المذهب عند الشافعية، لعموم حديث الباب، فإنه لم يفرق بين صلاة وصلاة.
وذهب بعض العلماء إلى أن الفجر والعصر لا تعاد، وهذا مذهب الحنفية، قالوا: لأن المعادة نافلة، والتنفل لا يجوز بعد الصبح والعصر، إذ هو وقت نهي لا يتنفل فيه، لذا لا تعادان، وهذا قول ضعيف، والصحيح الأخذ بعموم الحديث أن جميع الصلوات تعاد.
م/ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِنَّمَا جُعِلَ اَلْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وَلَا تُكَبِّرُوا حَتَّى يُكَبِّرَ، وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَلَا تَرْكَعُوا حَتَّى يَرْكَعَ، وَإِذَا قَالَ سَمِعَ اَللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا: اَللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ اَلْحَمْدُ، وَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا، وَلَا تَسْجُدُوا حَتَّى يَسْجُدَ، وَإِذَا صَلَّى قَائِمًا فَصَلُّوا قِيَامًا، وَإِذَا صَلَّى قَاعِدًا فَصَلُّوا قُعُودًا أَجْمَعِينَ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَهَذَا لَفْظُه. وَأَصْلُهُ فِي اَلصَّحِيحَيْنِ.
[ليؤتم به] أي يقتدي به، كما جاء عند البخاري:(فلا تختلفوا عليه) والمراد الاقتداء به بالأفعال الظاهرة لا النيات. [وسيأتي شرح ذلك]
[كبر فكبروا] أي بعد تكبيره، كما قال:(ولا تكبروا حتى يكبر). (لا نكبر قبله - أن نبادر بالتكبير بعده).
• الحديث فيه بيان الحكمة من الإمام، وهي الاقتداء به.
• قوله (ليؤتم به) اختلف في المراد: فقيل: ليقتدى به في الأفعال والنيات، وقيل: ليقتدى به في الأفعال الظاهرة دون النية، وهذا مذهب الشافعي. وهذا هو الصحيح.
أولاً: لقوله صلى الله عليه وسلم: (فإذا ركعوا فاركعوا
…
) فهذا تفسير من النبي صلى الله عليه وسلم للاقتداء.
ثانياً: أنه ثبت في وقائع عن النبي صلى الله عليه وسلم الاختلاف في النية بين الإمام والمأموم، ففي إحدى صيغ صلاة الخوف صلى النبي صلى الله عليه وسلم بطائفة ركعتين، ثم ذهبت، ثم جاءت الطائفة الأخرى التي لم تصلّ، فصلى بها النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا اختلاف بالنية.
• الحديث دليل على وجوب متابعة الإمام، والمأموم مع الإمام له حالات:
الأولى: المسابقة.
وهي أن يركع قبل إمامه، أو يسجد قبل إمامه، فهذه حرام بالاتفاق.
قال صلى الله عليه وسلم: (أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار). متفق عليه
قوله: (رأس حمار): قيل: يقع على الحقيقة. وقيل: يحتمل أمر معنوي كالبلادة، ورجحه ابن دقيق العيد، وقال:" ومما يرجح هذا المجاز بأن التحويل بالصورة لم يقع مع كثرة رفع المأمومين قبل الإمام ".
وقال صلى الله عليه وسلم: (فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود).
• فإن سبق إمامه إلى ركن من الأركان، كأن يركع قبله، أو يسجد قبله فالصحيح أن صلاته باطلة إن كان عامداً، وهذا اختيار ابن تيمية، فإن سبق ناسياً أو جاهلاً: فصلاته صحيحة، وعليه أن يرجع ليأتي به وبما بعده.
• أما المسابقة بالأقوال فلا يضر إلا بشيئين: بتكبيرة الإحرام مطلقاً، سواء كان عامداً أو ناسياً أو جاهلاً [فإن كبر قبل إمامه تكبيرة الإحرام لم تنعقد صلاته] وكذلك التسليم (فإن كان عمداً بطلت صلاته، وإن لم يكن عمداً لم تبطل ويلزمه أن يسلم بعد إمامه).
الثانية: الموافقة. كأن يركع معه، أو يسجد معه، فإن وافقه بتكبيرة الإحرام لم تصح صلاته.
لأن الإمام لا يدخل في الصلاة إلا بعد تكبيرة الإحرام، فإن وافقته في التكبير، فإنك تكون دخلت مع إمام لم يكن إماماً حتى الآن، فتكون صلاته باطلة.
أما في غير تكبيرة الإحرام، كأن يركع معه، فهذه مكروهة عند الفقهاء.
ثالثاً: التخلف. أن يتأخر عن إمامه، كأن يركع الإمام وهو لا يزال واقف، حتى يرفع الإمام من الركوع، ثم يركع المأموم.
إن كان بعذر: كانقطاع مكبر الصوت، فإنه يأتي بما تخلف به ويتابع الإمام، إلا أن يصل الإمام إلى المكان الذي هو فيه، فإنه لا يأتي به، ويبقى مع الإمام، ويصبح له ركعة ملفقة من ركعتي إمامه.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
إن كان بغير عذر: فالصحيح أنها تبطل صلاته.
رابعاً: المتابعة. وهي أن يأتي بأفعال الصلاة بعد إمامه، وهذا هو السنة.
• قوله: (ليؤتم به
…
) استدل به من قال: لا يجوز أن يقتدي المفترض بالمتنفل، وقد اختلف العلماء في هذه المسالة، هل يجوز أن يصلي المفترض خلف المتنفل على قولين:
القول الأول: أنه لا يجوز.
وبه قال الحسن البصري والزهري، وهو مذهب الحنفية والمالكية والحنابلة.
لقوله صلى الله عليه وسلم: (إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه).
وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الاختلاف على الإمام، وكون المأموم مفترض، والإمام متنفل، اختلاف بينهما فلا يجوز.
القول الثاني: أنه يجوز.
وبه قال طاووس وعطاء والأوزاعي، وهو مذهب الشافعي، واختاره ابن قدامة وابن تيمية.
لحديث جابر قال (كان معاذ يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم العشاء الآخرة، ثم يرجع فيؤم قومه).
فإن معاذاً كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم العشاء، ثم يرجع إلى قومه فيصلي بهم تلك الصلاة. وقد جاء في رواية عند الدار قطني:(هي له نافلة، ولهم فريضة).
ولأنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في بعض أنواع صلاة الخوف، أنه كان يصلي بطائفة صلاة تامة ويسلم بهم، ثم تأتي الطائفة الثانية فيصلي بهم). رواه النسائي
وهنا تكون الصلاة الأولى للرسول صلى الله عليه وسلم فرضاً، والثانية نفلاً.
وهذا القول هو الصحيح.
وعليه: لو أن رجلاً يريد أن يصلي السنة ركعتين، فجاء آخر وقال: أصلي معك الفجر، فصلى الإمام السنة، وصلى المأموم الفجر، فإن هذا يصح.
وأما الجواب عن حديث: (فلا تختلفوا عليه): المقصود لا تختلفوا عليه في الأفعال الظاهرة لا النيات، كما سبق شرحه في حديث سبق.
باب الإمامة
المراد بالإمامة هنا إمامة الصلاة.
م/ وقال صلى الله عليه وسلم (يَؤُمُّ اَلْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اَللَّهِ، فَإِنْ كَانُوا فِي اَلْقِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ، فَإِنْ كَانُوا فِي اَلسُّنَّةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً، فَإِنْ كَانُوا فِي اَلْهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ سِلْمًا -وَفِي رِوَايَةٍ: سِنًّا- وَلَا يَؤُمَّنَّ اَلرَّجُلُ اَلرَّجُلَ فِي سُلْطَانِهِ، وَلَا يَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ) رَوَاهُ مُسْلِم
ذكر المصنف رحمه الله في هذا الباب من الأولى بالإمامة، وقد ذكر حديث أبي مسعود رضي الله عنه الذي رواه مسلم في صحيحه وفيه من أولى الناس بالإمامة.
وهذه المراتب التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم عند التنازع، كأن يحضر جماعة ليصلوا، أو يتنازع عدة أشخاص في إمامة مسجد، فإنه بهذه المرجحات.
• فالحديث دليل على أن أولى الناس بالإمامة أقرؤهم لكتاب الله. واختلف بالمراد بالأقرأ على قولين:
القول الأول: أنه الأكثر حفظاً.
لحديث عمرو بن سلَمة: (
…
فنظروا فلم يكن أحداً أكثر قرآناً منّي، فقدموني وأنا ابن ست أو سبع سنين) رواه البخاري وهذا إشارة إلى سبب تقديمهم له مع كونهم أشرف منه، ولقوله صلى الله عليه وسلم (فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكثركم قرآناً) أخرجه البخاري.
القول الثاني: الأحسن قراءة، قالوا: لأن هذا هو الموافق للغة، والصحيح الأول.
• فإن كانوا في القراءة سواء، فالأفقه لقوله (فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة) والمراد في أحكام الصلاة.
• فإن كانوا في الفقه سواء فأقدمهم هجرة.
قال النووي: "قال أصحابنا: يدخل فيه طائفتان: إحداهما: الذين يهاجرون اليوم من دار الكفر إلى دار الإسلام، فإن الهجرة باقية إلى يوم القيامة عندنا وعند جماهير العلماء.
الطائفة الثانية: أولاد المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا استوى اثنان في الفقه والقراءة، وأحدهما من أولاد من تقدمت هجرته، والآخر من أولاد من تأخرت هجرته، قدم الأول".
قال بعض العلماء: لأنه أسبق إلى الخير، وأقرب إلى معرفة الشرع ممن تأخر في بلاد الكفر.
• فإن استويا فالأكبر سناً، فابن الثلاثين يقدم على ابن العشرين أو ابن خمس وعشرين، ولقوله صلى الله عليه وسلم (وليؤمكم أكبركم)، فإن قيل: كيف قدم الأكبر سناً هنا؟
لأنهم كانوا متساوين في باقي الخصال، لأنهم هاجروا جميعاً، وأسلموا جميعاً، وصحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولازموه عشرين ليلة، فاستووا في الأخذ عنه، ولم يبق ما تقدم به إلا السن، وقد جاء عند أبي داود:(وكنا متقاربين).
• ثم الأقدم إسلاماً لقوله (فأقدمهم سِلماً) أي إسلاماً، فيقدم على من بعده، لأن تقدم الإسلام فيه مزية وفضيلة، فهو أفضل وأقرب إلى معرفة دين الله.
• الحديث دليل أن صاحب البيت والمجلس وإمام المسجد أحق من غيره، وإن كان ذلك الغير أفقه وأقرأ.
لقوله صلى الله عليه وسلم: (ولا يؤمنّ الرجلُ الرجلَ في سلطانه) وعند أبي داود: (أو في بيته).
فإمام المسجد الراتب أحق من غيره ولو كان غيره أقرأ. لحديث (ولا يؤمنّ الرجل
…
) وإمام المسجد سلطان في مسجده.
ولأننا لو قلنا أن الأقرأ أولى حتى ولو كان للمسجد إمام راتب، لحصل بذلك فوضى، وكان لهذا المسجد في كل صلاة إمام.
م/ وينبغي أن يتقدم الإمام.
أي: ينبغي أن يكون الإمام قدام المأمومين، لأن ذلك هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وبتقدمه تتميز إمامته، ولأنه لا يمكن أن يقتدى به إلا بتقدمه.
م/ وأن يتراص المأمومون.
أي: وينبغي للمأمومين أن يتراصوا فيما بينهم وَحديث أَنَسٍ، عَنْ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (رُصُّوا صُفُوفَكُمْ، وَقَارِبُوا بَيْنَهَا، وَحَاذُوا بِالْأَعْنَاقِ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ اِبْنُ حِبَّانَ.
[رصوا صفوفكم] من الرص، يقال رص العنان يرصيه رصاً إذا ألصق بعضه ببعض، ومنه قوله تعالى:} كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ {ومعناه تضاموا وتلاصقوا حتى يتصل ما بينكم. [وقاربوا بينها] أي بين الصفوف.
• وقد اختلف العلماء في حكم تسوية الصفوف على قولين:
القول الأول: أنه واجب.
وهذا مذهب ابن حزم، واختاره ابن تيمية والشيخ ابن عثيمين.
لقوله: (رصوا
…
) وهذا أمر والأمر يقتضي الوجوب.
ولقوله صلى الله عليه وسلم: (سووا صفوفكم، فإن تسوية الصفوف من تمام الصلاة). متفق عليه
ولقوله صلى الله عليه وسلم: (لتسوون صفوفكم، أو ليخالفن الله بين وجوهكم). متفق عليه قال الألباني: "فإن هذا التهديد لا يقال فيما ليس بواجب كما لا يخفى".
ولقوله صلى الله عليه وسلم: (أقيموا صفوفكم وتراصوا، فإني أراكم من ورائي ظهري). رواه البخاري
القول الثاني: أنه سنة مؤكدة غير واجب.
وهذا مذهب جمهور العلماء.
لقوله صلى الله عليه وسلم: (
…
فإن تسوية الصفوف من تمام الصلاة) وفي رواية: (من كمال الصلاة) وفوت الكمال لا يستلزم البطلان، والراجح القول الأول
م/ ويكملون الأول فالأول.
ويكملون الصف الأول فالأول، فلا يصف في الصف الثاني حتى يكتمل الأول، ولا يصف في الصف الثالث حتى يكتمل الثاني وهكذا.
لحديث جابر قال: قال صلى الله عليه وسلم (ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؟ ..... الحديث وفيه: يتمون الصف الأول فالأول) رواه مسلم.
م/ ومن صلى فذاً ركعة خلف الصف لغير عذر أعاد صلاته.
أي أن من صلى فذاً (منفرداً) لوحده خلف الصف من غير عذر فصلاته باطلة.
وما ذهب إليه المصنف رحمه الله هو القول الصحيح في هذه المسألة التي اختلف العلماء فيها على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن صلاته باطلة سواء وجد فرجة أم لا.
وهذا مذهب الإمام أحمد، وبه قال إبراهيم النخعي، والحسن بن صالح، وأحمد، وإسحاق بن راهوية، وابن المنذر، وابن خزيمة. واستدلوا:
بحديث وَابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ] اَلْجُهَنِيِّ]رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (رَأَى رَجُلًا يُصَلِّي خَلْفَ اَلصَّفِّ وَحْدَهُ، فَأَمَرَهُ أَنْ يُعِيدَ اَلصَّلَاةَ) رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَاَلتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَصَحَّحَهُ اِبْنُ حِبَّانَ
وعن علي بن شيبان قال: (قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلينا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قضى رسول الله صلاته، إذا رجل فرد فوقف عليه نبي الله حتى قضى الرجل صلاته، ثم قال له نبي الله: استقبل صلاتك، فإنه لا صلاة لمنفرد خلف الصف). رواه ابن حبان، وابن ماجه، قال البوصيري: إسناده صحيح.
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم حين أمر الرجل أن يعيد الصلاة لم يستفصل هل وجد فرجة أم لا.
القول الثاني: تصح صلاته بعذر أو بغير عذر.
وهذا مذهب جماهير العلماء.
لحديث أنس قال (فصففت أنا واليتيم وراءه (أي النبي صلى الله عليه وسلم والعجوز من ورائنا)، فدل الحديث على صحة وقوف المرأة منفردة خلف صف الرجال، فإذا جاز للمرأة أن تقف خلف الصف وحدها، جاز للرجال كذلك.
ولحديث ابن عباس - الذي سيذكره المصنف بعد قليل - أنه وقف عن يسار رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤتماً به، فأداره من خلفه حتى جعله عن يمينه، فقد صار ابن عباس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الإدارة ولم يؤمر بالإعادة.
والراجح ما ذكره المصنف رحمه الله أن صلاته باطلة إلا إذا كان لعذر، كأن يجد الصفوف مكتملة ولم يجد مكاناً فإنه يصح في هذه الحالة، لأن الواجبات تسقط مع العجز.
ورجحه ابن تيمية وقال: "والأظهر صحة صلاته في هذا الموضع، لأن جميع واجبات الصلاة تسقط بالعجز "
وقال ابن القيم: "إن الرجل إذا لم يجد خلف الصف من يقوم معه، وتعذر عليه الدخول في الصف، ووقف فذاً صحت صلاته للحاجة، وهذا هو القياس المحض، فإن واجبات الصلاة تسقط بالعجز عنها".
واختاره الشيخ السعدي، وقال:" وهذا القول هو الموافق لأصول الشريعة وقواعدها ".
• والصحيح أنه لا يشرع أن يسحب أحداً من الصف لأمور:
1.
أن الحديث الذي فيه الأمر لمن لم يجد فرجة أن يسحب أحداً، حديث ضعيف لا يصح.
2.
ظلم للرجل المجذوب.
3.
قطع الصف، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:(من قطع صفاً قطعه الله).
4.
التشويش على الصف.
• وقوله (ركعة) فيه أن الفذية تكون إذا رفع الإمام رأسه من الركوع، ولم يدخل مع هذا الفذ أحد، فإن دخل معه أحد قبل أن يرفع الإمام رأسه فقد زالت فذيته.
م/ وَعَنْ اِبْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ (صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ، فَأَخَذَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِرَأْسِي مِنْ وَرَائِي، فَجَعَلَنِي عَنْ يَمِينِهِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
المصنف رحمه الله ذكر حديث ابن عباس، ليستدل به على مسائل:
• فالحديث دليل على أن المأموم الواحد يقف عن يمين الإمام.
قال ابن قدامة: "وإذا كان المأموم واحداً ذكراً، فالسنة أن يقف عن يمين الإمام رجلاً كان أو غلاماً".
وقال النووي: "وأما الواحد فيقف عن يمين الإمام عند العلماء كافة".
لحديث ابن عباس الذي ذكره المصنف، ولحديث جابر قال (قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي، فجئت فقمت عن يساره، فأخذ بيدي فأدارني حتى أقامني عن يمينه، ثم جاء جبار بن صخر فأخذ بأيدينا جميعاً فدفعنا حتى أقامنا خلفه). رواه مسلم
• واختلف العلماء لو وقف المأموم عن يسار الإمام، هل تصح صلاته أم لا؟ على قولين:
القول الأول: لا تصح صلاته، وهذا المذهب.
لحديث الباب، قالوا: أن النبي صلى الله عليه وسلم أدار ابن عباس من يساره إلى يمينه، فدل على أن اليسار غير موقف للمأموم الواحد، فإذا وقف فيه بطلت صلاته.
القول الثاني: تصح صلاته، وهذا مذهب جماهير العلماء، ورجحه الشيخ السعدي.
لحديث ابن عباس وجابر السابقين.
وجه الدلالة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمرهما باستئناف الصلاة، ولو لم يكن موقفاً لأمرهما الرسول صلى الله عليه وسلم باستئناف الصلاة.
وكون النبي صلى الله عليه وسلم ردّ جابر وجبار وابن عباس، لا يدل على عدم الصحة، بدليل ردّ جابر وجبار إلى ورائه، مع صحة صلاتهما عن جانبه.
• ذكر بعض العلماء أنه إذا صلى مع الإمام واحد، فإنه يشرع له أن يتأخر المأموم قليلاً ليكون الإمام متقدم، لكن هذا القول ضعيف.
قال الألباني: "إن الرجل إذا ائتم بالرجل وقف عن يمين الإمام، والظاهر أنه يقف محاذياً له لا يتقدم ولا يتأخر، لأنه لو كان وقع شيء من ذلك لنقله الراوي، لا سيما وأن الاقتداء به من أفراد الصحابة قد تكرر".
• أنه لا يشترط لصحة الإمامة أن ينوي الإمام قبل الدخول في الصلاة أنه إمام.
وهذا مذهب الشافعي.
لحديث زيد بن ثابت قال (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اتخذ حجرة من حصير في رمضان، فصلى فيها ليالي، فصلى بصلاته ناس من أصحابه فلما علم بهم جعل يقعد، فخرج إليهم، فقال: قد عرفت الذي رأيت من صنيعكم، فصلوا أيها الناس في بيوتكم، فإن أفضل
…
).
ولحديث ابن عباس الذي ذكره المصنف، فالنبي صلى الله عليه وسلم دخل في صلاته منفرداً، ثم دخل معه ابن عباس فصار إماماً له من أثناء الصلاة.
• جواز صلاة التطوع جماعة إذا لم يتخذ عادة. [وسبقت المسألة]
• أنه لو وقف المأموم الواحد عن يسار الإمام، فإنه يشرع أن يجعله عن يمينه.
• السنة إذا أراد الإمام أن يحرك من وقف عن يساره أن يحركه من ورائه، وليس من الأمام.
م/ وقال صلى الله عليه وسلم (إِذَا سَمِعْتُمْ اَلْإِقَامَةَ فَامْشُوا إِلَى اَلصَّلَاةِ، وَعَلَيْكُمْ اَلسَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ، وَلَا تُسْرِعُوا، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
ذكر المصنف رحمه الله حديث أبي هريرة (إِذَا سَمِعْتُمْ اَلْإِقَامَةَ فَامْشُوا إِلَى اَلصَّلَاةِ ..... ) وقد سبق شرحه وما يتعلق بآداب المشي إلى الصلاة في أول كتاب الصلاة، وذكره المصنف رحمه الله هنا ليستدل به على مسألة من قال: إن ما يدركه المأموم - مع إمامه - هو أول صلاته، وهذه مسألة خلافية: ما الذي يدركه المأموم مع الإمام، هل هو أول صلاته أم آخرها؟
القول الأول: أن ما يدركه المأموم مع إمامه هو أول صلاته، وما يقضي هو آخرها.
قال النووي: "وبهذا قال الشافعي وجمهور العلماء من السلف والخلف".
لقوله: (فأتموا
…
) فهذا دليل على أن ما يقضيه هو آخر صلاته، لأنه وصفه بالإتمام.
وعليه: فلو دخل مع الإمام في الركعة الثالثة فإنه يدخل وتصير له الأولى، ويقرأ دعاء الاستفتاح، ويقرأ بعد الفاتحة سورة.
م/ وفي الترمذي (إذا أتى أحدكم الصلاة والإمام على حال، فليصنع كما يصنع الإمام).
ذكر المصنف رحمه الله هذا الحديث الذي رواه الترمذي عن علي، والحديث في إسناده ضعف، فإن فيه الحجاج بن أرطاة، وأعله بعضهم بأن ابن ليلى لم يسمع من معاذ.
• الحديث يدل على أن المصلي إذا دخل المسجد، ووجد الإمام يصلي، فإنه يدخل معه على حسب حاله.
فإذا دخل ووجد الإمام يقرأ الفاتحة، فإنه يدخل معه ويسكت، وإن أدركه قائماً، أو راكعاً، اعتد بتلك الركعة، وإن أدركه قاعداً أو ساجداً، لم يعتد به.
ودليل الحالة الأولى قوله صلى الله عليه وسلم: (من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة).
ودليل الحالة الثانية قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا جئت ونحن سجود فلا تعتدها شيئاً). رواه ابن خزيمة
• خطأ ما يفعله بعض الناس، أنه إذا جاء والإمام ساجد انتظر حتى يقوم، وهذا خطأ منتشر، وما يدري الإنسان ربما تكون هذه السجدة سبباً لمغفرة الذنوب.
باب صلاة أهل الأعذار
صلاة المريض
م/ والمريض يعفى عنه حضور الجماعة.
أي: أن من كان مريضاً فإنه يجوز له التخلف عن صلاة الجماعة في المسجد ويدل لهذا:
لقوله تعالى (فاتقوا الله ما استطعتم).
وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» متفق عليه.
وقال ابن مسعود (ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق أو مريض) رواه مسلم.
المقصود بالمرض الذي يشق معه الحضور، بخلاف المرض الخفيف كصداع في الرأس يسير ونحوه.
م/ وإذا كان القيامُ يزيدُ مرضه صلى جالساً.
ذكر المصنف رحمه الله في هذا الباب كيفية صلاة المريض، فذكر رحمه الله أنه يجب أن يصلي قائماً إذا كان يستطيع لأن القيام ركن في الفريضة، لقوله تعالى:(وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ).
ولقوله في حديث عمران (صلّ قائماً، فإن لم تستطع فصل جالساً، فإن لم تستطع فعلى جنب) رواه البخاري.
• قوله (إذا كان القيام يزيد مرضه) أي إذا لم يستطع أن يصلي قائماً ولو كهيئة الراكع، أو كان معتمداً على عصا أو عمود أو جدار فإنه يصلي جالساً، وكذلك إذا يلحقه بالقيام مشقة شديدة، كأن يتألم ألماً شديداً.
• وقوله (صلى جالساً) لم يبين صفة القعود، فدل على أنه كيف قعد جاز، سواء تربع أو افترش.
وقد ذهب بعض العلماء إلى أن التربع أفضل، وهذا مروي عن ابن عمر وأنس، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد.
لحديث عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ (رَأَيْتُ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي مُتَرَبِّعًا) رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ اِبْنُ خُزَيْمَةَ
وقيل: أن الافتراش أفضل، وهذا مذهب الشافعي.
لأن عائشة وصفت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم جالساً ولم تذكر كيفية قعوده، وقيل: أنه مخير. وهذا مروي عن عروة وابن المسيب. قالوا: أنه لم يثبت شيء في ذلك، فالإنسان إذاً مخير، ولأن عائشة وصفت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم جالساً ولم تذكر كيفية قعوده، والراجح الأول، لأن في التربع أريح وأطمن، وليحصل التفريق بين قعود القيام والقعود الذي في محله.
فالخلاصة: في حال التشهد والجلوس يجلس مفترشاً إذا كان لا يشق عليه، وفي حال القيام يجلس متربعاً.
• اختلف العلماء إذا كان المريض: إن ذهب للمسجد صلى قاعداً، وإن صلى في بيته صلى قائماً، فأيهما أفضل؟
قيل: يخير بينهما، وقيل: يصلي في بيته قائماً، لأن القيام ركن.
وقيل: بل يذهب للمسجد، وإن استطاع القيام صلى قائماً وإلا صلى جالساً.
لأن الإنسان مأمور بحضور الجماعة، وصلاته جالساً لا بأس بها لأنه معذور.
ولقول ابن مسعود: (ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين).
وهذا القول هو الصحيح، واختاره الشيخ السعدي حيث قال: أنه يحضر الجماعة ويصلي جالساً، لأن مصالح حضور الجماعة لا يوازيها شيء من المصالح، وأيضاً إذا وصل محل الجماعة وصار عاجزاً عن القيام لم يكن واجباً عليه، وكان جلوسه في حقه بمنزلة القيام في حق القادر، فقد حصّل مصالح الجماعة ولم تفته مصلحة القيام.
م/ فإن لم يُطقْ فعلى جنب.
أي: إذا لم يستطع أن يصلي جالساً صلى على جنبه، وهذه هي المرتبة الثالثة، لحديث عمران السابق (
…
فإن لم تستطع فصل جالساً، فإن لم تستطع فعلى جنب).
• وظاهر الحديث يدل على أنه مخير بين الجنب الأيمن والأيسر، والأفضل أن يفعل ما هو أيسر له، فإن تساويا فالأيمن أفضل.
• ويومئ برأسه إلى الصدر، يومئ قليلاً في الركوع، ويومئ أكثر في السجود.
• فإن لم يستطع أن يصلي على جنب فإنه يصلي مستلقياً، ويكون على ظهره ورجلاه إلى القبلة، لأن فيه نوع استقبال، ولأن هذا أقرب ما يكون إلى صفة القائم، إذ لو قام تكون القبلة أمامه.
• وتكون صلاته بالإيماء، فإذا صلى جالساً واستطاع أن يسجد على الأرض سجد وإلا أومأ إيماءً، فإن كان على جنبه أو مستلقياً فإن الإيماء يكون بالرأس إلى الصدر، لأن الإيماء إلى الأرض فيه نوع التفات عن القبلة، فيومئ برأسه إلى صدره قليلاً للركوع، ويؤمئ أكثر للسجود.
• اختلف العلماء إذا عجز عن الإيماء برأسه: فقيل: يومئ بالعين، فيغمض قليلاً للركوع، فإذا قال: سمع الله لمن حمده فتح طرفه فإذا سجد أغمض أكثر، لأن العقل باقي، وقيل: تسقط عنه الصلاة، لعجزه عنها، وهذا اختيار ابن تيمية وقال: هذا القول أصح في الدليل، لأن الإيماء بالعين ليس من أعمال الصلاة، ولا يتميز فيه الركوع من السجود، ولا القيام من القعود، وقيل: تسقط الأفعال دون الأقوال، ورجح هذا القول الشيخ ابن عثيمين وقال:(تسقط عنه الأفعال لأنها هي التي كان عاجزاً عنها، وأما الأقوال فإنها لا تسقط عنه، لأنه قادر عليها وقد قال الله {فاتقوا الله ما استطعتم} فنقول: كبر واقرأ وانو الركوع فكبر وسبح تسبيح الركوع، ثم انو القيام وقل: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد، ثم انو السجود .. إلى آخره).
• قال الشيخ ابن عثيمين: "وأما الإشارة بالإصبع كما يفعله بعض المرضى فليس بصحيح، ولا أعلم له أصلاً من الكتاب والسنة ولا من أقوال أهل العلم".
باب الجمع
الجمع: هو ضم إحدى الصلاتين إلى الأخرى. والصلاتان التي يصح جمعهما (المغرب والعشاء، والظهر والعصر).
• والجمع له أسباب كثيرة منها ما ذكره المصنف وهو المرض إذا كان يشق عليه فعل كل صلاة في وقتها فقال:
م/ وإن شق عليه فعلُ كل صلاةٍ في وقتها فله الجمع بين الظهر والعصر، وبين العشائين في وقت إحداهما.
أي: يجوز للمريض الذي يشق عليه أن يفعل كل صلاة في وقتها - إما لشدة مرضه، أو صعوبة الوضوء لكل صلاة، أو يتأثر بالقيام والقعود إذا فرق بين الصلاتين والمشقات متعددة - أن يجمع بين الصلوات.
ودليل ذلك: ما رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس قال (جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، من غير خوف ولا مطر، فقال سعيد: سألت ابن عباس لم فعل ذلك، قال: أراد أن لا يحرج أمته) متفق عليه.
فهذا يدل على أن المكلف متى لحقه حرج في ترك الجمع جاز له أن يجمع، ويؤيد ذلك عمومات الشريعة في التيسير ورفع الحرج عن الأمة.
وإذا كان الجمع يجوز للمسافر لتعب السفر ومؤونته تخفيفاً وتيسيراً عليه، فالمريض أولى بذلك.
• وقوله (بين الظهر والعصر) يدل على أن الجمعة لا تجمع مع العصر، لأن الجمعة صلاة مستقلة منفردة بأحكامها، لم يرد ما يدل على جمعها مع العصر.
• وقوله (بين العشاءين) أي المغرب والعشاء، وهو من باب التغليب كالقمرين والعمرين، وأما الفجر فلا تجمع لما قبلها ولا لما بعدها لانفصال وقتها.
• وقوله (في وقت إحداهما) أي: إما في وقت الظهر - وهو جمع تقديم - أو في وقت العصر - وهو جمع تأخير، والأفضل يفعل الأرفق والأسهل به.
• ثم ذكر المصنف رحمه الله السبب الثاني من أسباب الجمع وهو السفر فقال:
م/ وكذا المسافر يجوز له الجمع.
أي: ويجوز للمسافر أن يجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء.
لحديث ابن عمر قال (كان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع بين المغرب والعشاء إذا جدّ به السير) متفق عليه.
[جد به السير] أي اشتد به السير وأسرع للأمر الذي يريده.
وعن ابن عباس قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع بين صلاة الظهر والعصر إذا كان على ظهر سير، ويجمع بين المغرب والعشاء) رواه البخاري.
لحديث أنس رضي الله عنه قال (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر ثم نزل يجمع بينهما، فإذا زاغت قبل أن يرحل صلى ثم ركب) متفق عليه.
وَعَنْ مُعَاذٍ رضي الله عنه قَالَ: (خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَكَانَ يُصَلِّي اَلظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا، وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا) رَوَاهُ مُسْلِمٌ
• والجمع قسمان:
القسم الأول: قسم متفق عليه بين العلماء، وهو الجمع بعرفة ومزدلفة.
القسم الثاني: مختلف فيه، وهو الجمع للسفر، ومذهب جمهور العلماء على جوازه.
قال في المغني: "وهو قول أكثر أهل العلم".
قال البيهقي: "الجمع بين الصلاتين بعذر السفر من الأمور المشهورة المستعملة ما بين الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين ". فهو قول الشافعي وأحمد، واستدلوا، بالأحاديث الماضية.
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم جمع في عرفة ومزدلفة.
وعن ابن عباس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا مطر، قيل لابن عباس: ما أراد بذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أمته). رواه مسلم
• ذهب بعض العلماء إلى أن الجمع خاص بمن جدّ به السير.
لحديث ابن عمر، وفيه:(رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع بين المغرب والعشاء إذا جدّ به السير).
وذهب الأكثر إلى جوازه للجادّ بالسير والمقيم، وهذا هو الصحيح لحديث معاذ السابق (خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَكَانَ يُصَلِّي اَلظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا، وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا) رَوَاهُ مُسْلِمٌ
لكن بالنسبة للنازل إن صلى كل صلاة في وقتها فهو أفضل إن لم يكن محتاجاً للجمع، فإن احتاج المسافر إلى النوم والاستراحة أو الأكل أو نحو ذلك، فلا بأس بالجمع، لأن المسافر وإن كان نازلاً قد يعرض له أحوال يحتاج معها إلى الجمع بين الصلاتين.
قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله: "الأفضل للمسافر النازل أن لا يجمع، وإن جمع فلا بأس، وفي حق السائر مستحب".
• الأفضل في الجمع فعل الأرفق بالمسافر من تقديم وتأخير، لقوله تعالى:} يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ {.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والجمع إنما شرع رفقاً بالمكلف، فما كان هو أرفق فهو أفضل.
• لم يذكر المصنف رحمه الله شروط الجمع، فمن شروطه:
أولاً: الترتيب.
بأن يبدأ بالأولى ثم الثانية، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(صلوا كما رأيتموني أصلي).
ولأن الشرع جاء بترتيب الأوقات والصلوات، فوجب أن تكون كل صلاة في المحل الذي رتبها الشارع فيه.
• بعض العلماء قال: يشترط له النية، أي لا بد أن ينوي عند افتتاح الأولى.
مثال: دخل في الصلاة الأولى وهو لا ينوي الجمع، ثم في أثناء الصلاة بدا له أن يجمع.
مثال آخر: إنسان صلى الأولى، وبعدما سلم نوى الجمع.
وقال بعض العلماء لا يشترط للجمع نية، وهذا هو الراجح، ورجحه النووي وابن حجر.
لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما جمع بأصحابه لم يعلمهم بأنه سيجمع قبل الدخول، بل لم يكونوا يعلمون أنه سيجمع حتى قضى الصلاة الأولى.
قال ابن تيمية: "إن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان يصلي بأصحابه جمعاً وقصراً لم يكن يأمر أحداً منهم بنية الجمع والقصر، بل خرج من المدينة إلى مكة يصلي ركعتين من غير جمع، ثم صلى بهم الظهر بعرفة ولم يعلمهم أنه يريد أن يصلي العصر بعدها، ثم صلى بهم العصر، ولم يكونوا نووا الجمع، وهذا جمع تقديم".
فهذا القول هو الراجح أنه لا يشترط نية الجمع عند إحرام الأولى، والذي يشترط هو وجود سبب الجمع عند الجمع
• وبعض العلماء قال: يشترط الموالاة، بأن لا يفرق بين الصلاة تفريقاً كثيراً.
وذهب بعض العلماء إلى أنه لا يشترط، واختاره ابن تيمية، فيجوز مثلاً أن يصلي الظهر، ثم يتوضأ ويستريح، ثم يصلي العصر، لأن الجمع هو من باب ضم الصلاة إلى الأخرى في الوقت لا في الفعل، فإذا جاز الجمع صار الوقتان وقتاً واحداً.
وهذا هو الراجح.
فائدة: أن الصلاة الجمع تصلى بأذان واحد وإقامتين. [وسبقت المسألة]
فائدة: رجل مسافر نوى جمع التأخير، ولكنه قدم إلى بلده قبل خروج وقت الأولى.
لا يجوز له أن يجمع الأولى إلى الثانية، لأن العذر انقطع وزال، فيجب أن يصليها في وقتها.
باب القصر
م/ ويسن له القصر للصلاة الرباعية إلى ركعتين.
سيتكلم المصنف رحمه الله عن قصر الصلاة في السفر، وهو قصر الصلوات الرباعية (الظهر والعصر والعشاء) إلى ركعتين.
• والقصر مشروع بالكتاب والسنة والإجماع.
وظاهر الآية أن القصر مقيد بحال الخوف، إلا أن السنة بينت المراد من الآية، وهو أن القصر مشروع في الأمن والخوف في حال السفر، ففي صحيح مسلم عن يعلى بن أمية قال:(قلت لعمر: (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) وقد أمن الناس، فقال: عجبتُ مما عجبتَ منه، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته). رواه مسلم
وعن ابن عمر قال: (صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان لا يزيد في السفر على ركعتين، وأبا بكر، وعمر، وعثمان كذلك) متفق عليه.
وفي لفظ مسلم: (صحبت النبي صلى الله عليه وسلم فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وصحبت أبا بكر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وصحبت عمر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، ثم صحبت عثمان فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله) وفي رواية: (ومع عثمان صدراً من خلافته ثم أتم).
وأجمع أهل العلم على مشروعية القصر في السفر الطويل.
• وقوله (يسن) دليل على أن القصر حكمه سنة، وهذا قول أكثر العلماء، أن القصر سنة مؤكدة لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه صلى الله عليه وسلم كان في أسفاره يقصر الرباعية ولا يتمها.
لقوله تعالى: (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا)، قالوا إن نفي الجناح يفيد أنه رخصة.
ولحديث عمر السابق: (صدقة تصدق الله بها عليكم).
وقال بعض العلماء: إن القصر واجب، وهذا مذهب أبي حنيفة، ونصره ابن حزم، واختاره الصنعاني.
لقول عائشة (أَوَّلُ مَا فُرِضَتْ اَلصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ، فَأُقِرَّتْ صَلَاةُ اَلسَّفَرِ وَأُتِمَّتْ صَلَاةُ اَلْحَضَرِ). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وَلِلْبُخَارِيِّ: (ثُمَّ هَاجَرَ، فَفُرِضَتْ أَرْبَعًا، وَأُقِرَّتْ صَلَاةُ اَلسَّفَرِ عَلَى اَلْأَوَّلِ) فهذا يدل على أن صلاة السفر مفروضة ركعتين.
قال الشوكاني: "وهو دليل ناهض على الوجوب، لأن صلاة السفر إذا كانت مفروضة ركعتين، لم يجز الزيادة عليها، كما أنها لا تجوز الزيادة على أربع في الحضر ".
ولحديث يعلى ابن أمية السابق، وفيه:(صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته) فقوله: (فاقبلوا) هذا أمر، والأمر يقتضي الوجوب.
وتوسط شيخ الإسلام ابن تيمية، فقال:"إن القصر سنة، والإتمام مكروه، لأنه خلاف هدي النبي صلى الله عليه وسلم الدائم".
قال ابن تيمية: "المسلمون نقلوا بالتواتر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصلّ في السفر إلا ركعتين، ولم ينقل عنه أحد أنه صلى أربعاً قط ".
• إذا علمنا أن القصر مشروع كما سبق، فهناك حالات يتم بها المسافر:
الحالة الأولى: إذا ذكر صلاة حضر في سفر.
مثال: رجل مسافر، وفي أثناء السفر تذكر أنه صلى الظهر في بلده من غير وضوء، فإنه يجب أن يعيدها أربعاً.
قال ابن قدامة: "بالإجماع حكاه الإمام أحمد، وابن المنذر، لأن الصلاة تعين عليه فعلها أربعاً، فلم يجز له النقصان من عددها".
الحالة الثانية: إذا صلى المسافر خلف المقيم.
قال ابن قدامة: "المسافر متى ائتم بمقيم وجب عليه الإتمام، سواء أدرك جميع الصلاة أو ركعة، أو أقل".
لما روي عن ابن عباس: (أنه قيل له: ما بال المسافر يصلي ركعتين في حال الانفراد، وأربعاً إذا ائتم بمقيم؟ فقال: تلك السنة). رواه أحمد، وأصله في مسلم بلفظ: (كيف أصلي إذا كنت بمكة إذا لم أصلِّ مع الإمام، فقال: ركعتين، سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم، وهذا اختيار الشيخ ابن عثيمين رحمه الله، وذهب بعض العلماء إلى أن المسافر إذا أدرك من صلاة المقيم ركعتين يجزيان.
الحالة الثالثة: إذا نوى الإقامة أكثر من أربع أيام، (وهذه مسألة خلافية) فأكثر العلماء إذا نوى إقامة أربعة أيام فأكثر انقطع ترخصه.
وهذا مذهب جماهير العلماء، وبه قال المالكية والشافعية والحنابلة، ورجحه الشيخ ابن باز رحمه الله.
لحديث أنس، حيث أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم مكة صبيحة رابعة من ذي الحجة، فأقام بها الرابع والخامس والسادس والسابع، وصلى الصبح في يوم الثامن ثم خرج إلى منى.
قالوا: فيجوز لمن كانت إقامته كإقامة النبي صلى الله عليه وسلم أن يقصر الصلاة، وقالوا: وإقامة النبي صلى الله عليه وسلم بالأبطح في عام حجة الوداع معلومة البداية والنهاية.
وعلى هذا القول: لو سافر شخص للرياض وهو ينوي أن يجلس أسبوعاً، فإنه لا يقصر ولا يترخص برخص السفر.
وذهب بعض العلماء: أن مرجع ذلك إلى العرف، فإنه يقصر ولو طالت المدة ما لم يجمع الإقامة.
ورجحه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وقال:"للمسافر القصر والفطر ما لم يجمع على الإقامة والاستيطان، والتمييز بين المقيم والمسافر بنية أيام معلومة يقيمها ليس هو أمراً معلوماً لا بشرع ولا عرف".
ورجح هذا القول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله، ولا شك أن قول الجمهور أحوط وأبرأ للذمة.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
مسألة:
أن المسافر إذا أقام ولا يعرف متى ينقضي عمله، فإنه يقصر ولو طالت المدة، وهذا مذهب جماهير العلماء
فقد (أقام النبي صلى الله عليه وسلم تسع عشرة يقصر الصلاة) رواه البخاري عن ابن عباس. (وأقام بتبوك عشرين يوماً يقصر الصلاة) رواه أحمد وأبو داود.
وعن نافع قال: (أقام ابن عمر بأذربيجان ستة أشهر يصلي ركعتين، وقد حال الثلج بينه وبين الدخول). رواه البيهقي
وعن علي قال: (إن قلت أخرج اليوم أو غداً، فأصلي ركعتين). رواه عبد الرزاق
ولأن ذلك لا يعد لبثاً.
وعليه نقول: أنه يصح لمن سافر وهو لا ينوي الإقامة أصلاً، ثم اقتضت أحواله أن يقيم إقامة غير محدودة النهاية، أن له الفطر ما أقام أبداً، كما هو فعل النبي صلى الله عليه وسلم في تبوك، وعام الفتح، فإنها تعتبر إقامة طارئة، وغير مقصودة من قبل، بل اقتضتها مصالح الجهاد، ومتطلبات الفتح، فهي إقامة غير معلومة البداية وغير محددة النهاية، ولأن هذا السفر من أجل الجهاد ومنازلة الأعداء والكر والفر (فلا تعارض بينها وبين ما ورد في حجة الوداع، فإنها إقامة مقصودة قاطعة للسفر).
• وقوله (يسن له) أي المسافر، وفي هذا دليل ليس للقصر إلا سبب واحد وهو السفر:
قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله: "القصر ليس له إلا سبب واحد فقط وهو السفر، فغير المسافر لا يقصر، حتى المريض مرضاً شديداً لا يمكن أن يقصر إلا إذا كان في غير بلده".
• ويقصر المسافر إذا خرج من بنيان بلده.
لقوله تعالى (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) ولا يكون ضارباً في الأرض حتى يخرج، وقبل مفارقته لا يكون ضارباً فيها.
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان يقصر إذا ارتحل.
قال أنس: (صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم الظهر بالمدينة أربعاً، وبذي الحليفة ركعتين). متفق عليه
ولحديث أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: (كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا خَرَجَ مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَمْيَال أَوْ فَرَاسِخَ، صَلَّى رَكْعَتَيْنِ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ قال النووي: " وأما حديث أنس فليس معناه أن غاية سفره كانت ثلاثة أميال، بل معناه أنه كان إذا سافر سفراً طويلاً فتباعد ثلاثة أميال قصر ".
فهذا دليل على أنه لا يجوز القصر حتى يفارق بنيان بلده.
وهذا مذهب جماهير العلماء: أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد.
• من شروط القصر أن يقطع المسافر المسافة التي يعتبر بها مسافراً، واختلف العلماء في المسافة التي يعتبر بها المسافر إذا قطعها مسافراً على أقوال:
القول الأول: أن أقل مسافة للقصر هي مرحلتان لسير الإبل المحملة. [أربعة برد، تقريباً 83 كيلو]
وهذا مذهب الأكثر، فهذا مذهب أحمد والشافعي ومالك وإسحاق وأبو ثور.
لحديث ابن عباس حديث الباب: (يا أهل مكة لا تقصروا الصلاة في أقل من أربعة برد) رواه الدارقطني وهو ضعيف.
وعن عطاء بن أبي رباح: (أن ابن عمر وابن عباس كان يصليان ركعتين، ويفطران في أربعة برد فما فوق ذلك). رواه البيهقي، قال النووي:" بإسناد صحيح ". وذكره البخاري في صحيحه معلقاً ".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
القول الثاني: أنه لا حد للسفر بالمسافة، فكل ما عد سفراً فهو سفر.
واختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية، ورجحه ابن قدامة في المغني.
قال ابن تيمية: "الفرق بين السفر الطويل والقصير، لا أصل له في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل الأحكام التي علقها الله بالسفر مطلقة".
• وقوله (الرباعية) دليل على أن التي تقصر الصلوات الرباعية، وقد نقل الإجماع في ذلك ابن حزم في المحلى، وابن قدامة في المغني نقلاً عن ابن المنذر.
فالمغرب لا تقصر لأنها وتر النهار، فلو قصرت منها ركعة لم يبق منها وتراً، ولو قصرت ركعتان فإنه إجحاف بها بذهاب أكثرها، وأما الصبح فتبقى على ما هي عليه، لأن قصرها إلى واحدة إجحاف بها.
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ (أَوَّلُ مَا فُرِضَتْ اَلصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ، فَأُقِرَّتْ صَلَاةُ اَلسَّفَرِ وَأُتِمَّتْ صَلَاةُ اَلْحَضَرِ). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ زَادَ أَحْمَدُ: {إِلَّا اَلْمَغْرِبَ فَإِنَّهَا وِتْرُ اَلنَّهَارِ، وَإِلَّا اَلصُّبْحَ، فَإِنَّهَا تَطُولُ فِيهَا اَلْقِرَاءَةُ} .
فائدة: إذا أذن المؤذن وهو في البلد، ثم سافر، هل يقصر أم لا؟
الجواب: نعم يقصر ويجمع، لأن العبرة بفعل الصلاة لا بالوقت.
باب صلاة الخوف
الخوف ضد الأمن، والمراد بهذا الباب: كيفيتها، والأصل في مشروعيتها قوله تعالى (وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ
…
) الآية، وأول غزوة صلاها فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم هي غزوة عُسفان وكانت قبل خيبر.
ومشروعية صلاة الخوف تخفيف من الله تعالى على عباده ورحمة بهم، وتحصيل لمصلحتي الصلاة في وقتها جماعة، وأخذ الحذر من العدو، وهذا يدل على أهمية صلاة الجماعة، وكمال دين الإسلام بأخذ الحذر وتفويت الفرصة على الأعداء.
م/ وتجوز صلاة الخوف على كل صفة صلاها النبي صلى الله عليه وسلم.
هذه قاعدة في كل عبادة وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم على صفات متعددة، وهذا قول أصحاب الحديث كأحمد وغيره.
م/ فمنها.
أي: من صفاتها، وهذه الصفة التي سيذكرها المصنف رحمه الله خاصة بما إذا كان العدو في غير جهة القبلة
م/ حديث صَالِحِ بْنِ خَوَّاتٍ، (عَمَّنْ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ ذَاتِ اَلرِّقَاعِ صَلَاةَ اَلْخَوْفِ: أَنَّ طَائِفَةً صَلَّتْ مَعَهُ وَطَائِفَةٌ وِجَاهَ اَلْعَدُوِّ، فَصَلَّى بِاَلَّذِينَ مَعَهُ رَكْعَةً، ثُمَّ ثَبَتَ قَائِمًا وَأَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ اِنْصَرَفُوا فَصَفُّوا وِجَاهَ اَلْعَدُوِّ، وَجَاءَتِ اَلطَّائِفَةُ اَلْأُخْرَى، فَصَلَّى بِهِمْ اَلرَّكْعَةَ اَلَّتِي بَقِيَتْ، ثُمَّ ثَبَتَ جَالِسًا وَأَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ سَلَّمَ بِهِمْ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
ذكر المصنف رحمه الله حديث صالح بن خوات، وهذا الحديث اختاره الإمام أحمد رحمه الله لأنه أشبه بكتاب الله وأحوط بجند الله وأسلم للصلاة من الأفعال، وهذه صلاته صلى الله عليه وسلم بذات الرقاع.
صفة هذه الصلاة: يقسم الإمام الجند طائفتين، طائفة تصلي معه، وأخرى تحرس المسلمين عن هجوم العدو، فيصلي بالطائفة الأولى ركعة، ثم إذا قام إلى الركعة الثانية أتموا لأنفسهم (والإمام قائم) ثم يذهبون ويقفون أمام العدو، وتأتي الطائفة التي كانت تحرس وتدخل مع الإمام في الركعة الثانية، فيصلي بهم الركعة التي بقيت له، ثم يجلس للتشهد قبل أن يسلم الإمام تقوم الطائفة الثانية وتكمل الركعة التي بقيت لها وتدرك الإمام في التشهد فيسلم بهم.
هذه هي الصفة الموافقة لظاهر القرآن، لقوله تعالى:
(وإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ) أي: في حال مواجهتهم الكفار في القتال.
(فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ) أي: أردت أن تصلي بهم إماماً.
(فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ) أي: يصلون، وطائفة قائمة بإزاء العدو، كما يدل عليه سياق الآيات.
(وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ) أي: وليحملوها في الصلاة.
(فَإِذَا سَجَدُوا) أي: أكملوا صلاتهم، وعبر بالسجود عن الصلاة، لأنه ركن فيها، بل هو أعظم أركانها، وبه تنتهي الركعة.
(فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ) أي: من خلفكم تجاه العدو.
(وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا) أي: تدخل معك في الصلاة أولاً، لكونهم أمام العدو.
(فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ) أي: ما بقي من صلاتك، وهو ركعة بعد انصراف الطائفة الأولى، وهذا دليل على أن الإمام يبقى
(وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ) أي: وليأخذوا تيقظهم واحترازهم مع أسلحتهم، لما عسى أن يحدث من العدو.
من شرط تطبيق هذه الصفة: أن تكون الطائفة التي في وِجَاه العدو قادرة على حفظ الطائفة التي تصلي.
خالفت هذه الصفة الصلاة من أوجه:
أ- انفراد الطائفة الأولى عن الإمام قبل سلامه، لكنه لعذر.
ب- الطائفة الثانية قضت ما فاتها قبل سلام الإمام.
قال بعض العلماء: ولو فعل هذه الصفة والعدو اتجاه القبلة لجاز، ولكن الصحيح أنها لا تجوز، ولذلك لأن الناس يرتكبون فيها ما لا يجوز بلا ضرورة.
لم يذكر المصنف كيفية الصلاة إذا كان العدو في جهة القبلة.
وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ (شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ اَلْخَوْفِ، فَصَفَّنَا صَفَّيْنِ: صَفٌّ خَلْفَ رَسُولِ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْعَدُوُّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ اَلْقِبْلَةِ، فَكَبَّرَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَكَبَّرْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ رَكَعَ وَرَكَعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ اَلرُّكُوعِ وَرَفَعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ اِنْحَدَرَ بِالسُّجُودِ وَالصَّفُّ اَلَّذِي يَلِيهِ، وَقَامَ اَلصَّفُّ اَلْمُؤَخَّرُ فِي نَحْرِ اَلْعَدُوِّ، فَلَمَّا قَضَى اَلسُّجُودَ، قَامَ اَلصَّفُّ اَلَّذِي يَلِيهِ
…
) فَذَكَرَ اَلْحَدِيثَ. وَفِي رِوَايَةٍ: (ثُمَّ سَجَدَ وَسَجَدَ مَعَهُ اَلصَّفُّ اَلْأَوَّلُ، فَلَمَّا قَامُوا سَجَدَ اَلصَّفُّ اَلثَّانِي، ثُمَّ تَأَخَّرَ اَلصَّفُّ اَلْأَوَّلِ وَتَقَدَّمَ اَلصَّفُّ اَلثَّانِي
…
) فَذَكَرَ مِثْلَهُ. وَفِي آخِرِهِ: (ثُمَّ سَلَّمَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَسَلَّمْنَا جَمِيعًا). رَوَاهُ مُسْلِمٌ
فهذه الصفة التي في هذا الحديث إذا كان العدو في جهة القبلة، وصفتها:
أن يصف القائد الجيش صفين فيصلي بهم جميعاً يكبر ويركع ويرفع بهم جميعاً، فإذا سجد سجد معه الصف الأول وبقي الصف الثاني واقفاً يحرس، فإذا قام الإمام والصف الأول من السجود سجد الصف الثاني، فإذا قاموا من السجود تقدموا في مكان الصف الأول وتأخر الصف الأول إلى مكانهم فيركع الإمام بهم جميعاً ويرفع بهم ثم يسجد هو والصف الذي يليه، فإذا جلسوا للتشهد سجد الصف المتأخر ثم سلم بهم جميعاً.
ولو صلى بكل طائفة صلاة صح.
لحديث جابر (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بطائفة من أصحابه ركعتين ثم سلم، ثم صلى بآخرين أيضاً ركعتين ثم سلم). رواه النسائي
م/ وإذا اشتد الخوف.
أي: وإذا اشتد الخوف وتواصل الطعن والضرب والكر والفر ولم يمكن تفريق القوم.
م/ صلوا رجالاً.
أي: ماشين على أرجلهم.
م/ وركباناً.
أي: على الخيل والإبل وسائر المركوبات.
م/ إلى القبلة وإلى غيرها.
أي: فيسقط الاستقبال في هذه الحالة كما قال تعالى (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً).
وهذا على قول من يقول لا يجوز تأخير الصلاة عن وقتها، وهو قول أكثر العلماء، ونسبه ابن كثير للجمهور للآية السابقة، وقال آخرون: يجوز تأخيرها عن وقتها إذا اشتد الخوف، ولم يمكن المصلي أن يتدبر ما يقول، واستدلوا بتأخير الرسول صلى الله عليه وسلم الصلاة في غزوة الخندق، والجمهور يستدلون بأن صلاة الخوف لم تكن مشروعة في غزوة الخندق، لما تقدم أنها شرعت في غزوة عسفان، وهي بعد الخندق.
م/ يومئون بالركوع والسجود.
أي: يومئون بالركوع والسجود، إيماء على قدر طاقتهم، لأنهم لو تمموا الركوع والسجود كانوا هدفاً لأسلحة العدو، ويكون سجودهم أخفض من ركوعهم، ولا يلزمهم السجود على ظهر المركوب.
باب صلاة الجمعة
الجُمعة بضم الجيم والميم، اختلف في سبب تسمية الجمعة بهذا الاسم:
فقيل: لأن الله تعالى جمع فيه خلق آدم، وقد جاء حديث عند أحمد، ورجحه الحافظ ابن حجر والشوكاني.
وقيل: لاجتماع الناس فيها في المكان الجامع لصلاتهم، وقيل: لأن الله تعالى جمع فيه آدم مع حواء في الأرض.
وقيل: لما جمع فيه من الخير.
وهو من أفضل الأيام عند الله تعالى كما في حديث أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة: فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا يوم الجمعة) متفق عليه.
م/ كل من لزمته الجماعة لزمته الجمعة إذا كان مستوطناً ببناء.
سيذكر المصنف رحمه الله من تجب عليهم الجمعة، وذكر أن كل من وجب عليه الجماعة وجب عليه الجمعة وتلزم:
المسلم، فلا تجب على الكافر بالإجماع، ولا تصح منه، ولا تقبل منه.
لقوله تعالى: (وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ).
ولا يلزمه قضاؤها إذا أسلم.
لقوله تعالى: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ).
ولحديث: (الإسلام يهدم ما قبله).
ولأن في قضائها مشقة عظيمة.
المكلف (بالغ، عاقل)، فغير البالغ وغير العاقل لا تلزمه.
لقوله صلى الله عليه وسلم: (رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون حتى يفيق، وعن الصبي حتى يبلغ
…
). رواه أبو داود
ولأنهما ليسا أهلاً للتكليف.
لكن يجب على ولي الصبي أمره بها لسبع سسنين وضربه عليها لعشر لدخول الجمعة في عموم قوله صلى الله عليه وسلم (مروا أبناءكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر) رواه أبو داود.
الذكر، فالمرأة لا تجب عليها الجمعة.
لحديث طارق قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الجمعة حق واجب إلا على أربعة: مجنون، أو امرأة، أو صبي، أو مريض). رواه أبو داود
وقال صلى الله عليه وسلم: (وبيوتهن خير لهن). رواه أبو داود، ولأن المرأة ليست من أهل الاجتماع.
قال ابن المنذر: "أجمعوا على أنه لا جمعة على النساء، وأجمعوا على أنهن إذا حضرن فصلين الجمعة أن ذلك يجزئ عنهن".
حر: فلا تجب على العبد، وهذا مذهب جمهور العلماء لحديث طارق بن شهاب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا أربعة: عبد مملوك، أو امرأة، أو صبي، أو مريض) رواه أبو داود، ولأن العبد مشغول بخدمة سيده.
وقيل: تجب مطلقاً، وهو قول داود الظاهري، واختاره ابن تيمية، قالوا لأن حق الله أولى، وهو داخل تحت قوله تعالى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا .. )، وقيل: تجب إذا أذن سيده، وهذا الراجح.
مستوطن ببناء، فلا تجب على مسافر.
قال ابن قدامة: "إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسافر فلا يصلي الجمعة في سفره، وكان في حجة الوداع يوم عرفة يوم جمعة فصلى الظهر والعصر جمعاً بينهما ولم يصلِّ جمعة، والخلفاء الراشدون كانوا يسافرون في الحج وغيره فلم يصلِّ أحد منهم الجمعة في سفره، وكذلك غيرهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم".
(أما إذا كان الإنسان مستقراً في بلد ويسمع نداء الجمعة فيجب عليه أن يجيب ويصلي).
م/ ومن شروطها: فعلها في وقتها.
أي: يشترط لصحة صلاة الجمعة شروطاً منها فعلها في وقتها لقوله تعالى (إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً) فلا تصح قبل الوقت ولا بعدها، واختلفوا في بداية وقتها، مع اتفاقهم على أن آخر وقتها كالظهر:
القول الأول: أن وقتها كالظهر [بعد الزوال].
وهذا مذهب الجمهور.
قال النووي: "قال مالك، وأبو حنيفة، والشافعي، وجماهير العلماء من الصحابة والتابعين وممن بعدهم، لا تجوز الجمعة إلا بعد زوال الشمس".
لحديث أنس بن مالك قال: (إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الجمعة حين تميل الشمس). رواه البخاري
وسلمة بن الأكوع قال: (كنا نجَمّع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا زالت الشمس).
ولحديث عائشة قالت: (كان الناس مهنة أنفسهم، وكانوا إذا راحوا للجمعة راحوا في هنيهم، فقيل لهم: لو اغتسلتم).
وجه الدلالة: أن الرواح ما بعد الزوال.
القول الثاني: يجوز قبل الزوال (من ارتفاع الشمس قيد رمح).
وهذا من مفردات المذهب.
لحديث سهل بن سعد: (ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة).
قال الشوكاني: "وجه الاستدلال به أن الغداء والقيلولة محلها قبل الزوال، وفي الحديث أنهم كانوا يصلون الجمعة قبلها".
الغداء: هو طعام أول النهار، قال ابن قتيبة:" لا يسمى غداء ولا قائلة إلا بعد الزوال ".
فكانوا يبدؤون بصلاة الجمعة قبل القيلولة.
ولحديث عبد الله بن سبدان قال: (شهدت الجمعة مع أبي بكر فكانت خطبته وصلاته قبل نصف النهار، ثم شهدتها مع عمر، فكانت صلاته وخطبته على أن أقول انتصف النهار، ثم شهدتها مع عثمان، فكانت صلاته وخطبته إلى أن أقول زال النهار، فما رأيت أحداً عاب ذلك ولا أنكره). رواه الدارقطني
وعن جابر قال (إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الجمعة، ثم نذهب إلى جمالنا فنريحها حتى تزول الشمس، يعني النواضح). رواه مسلم
وجه الدلالة: أن جابراً ذكر أنهم يصلون الجمعة ثم يذهبون إلى جمالهم فيريحونها عند الزوال، فدل على أنهم يصلون قبله.
القول الثالث: أنه يبدأ من الساعة السادسة، قبل الزوال بساعة.
وهذه رواية عن أحمد، اختارها ابن قدامة صاحب المغني، واختارها الشيخ ابن عثيمين.
لحديث أبي هريرة: (من راح في الساعة الأولى
…
إلى أن قال: ثم الخامسة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة .. )
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: " فيكون حضور الإمام على مقتضى الحديث الساعة السادسة ".
م/ وأن تكون بقرية.
أي: أن تكون الجمعة في قرية، فنخرج بذلك أهل الخيام وبيوت الشعر ونحوهم، فلا تصح منهم الجمعة، لأن ذلك لم يقصد للاستيطان غالباً، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر قبائل العرب حول المدينة بإقامة الجمعة، لأنهم ليسوا مستوطنين، بل يتبعون الماء والكلأ.
م/ وأن يتقدمها خطبتان.
أي: ويقدم الإمام قبل الصلاة خطبتين، فإن لم يقدم الإمام خطبتين لم تصح، وهذا مذهب الشافعي وأحمد.
لقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) فأمر الله عباده المؤمنين إذا أُذنَ لصلاة الجمعة أن يبادروا بالمضي (إلى ذكر الله) والمراد: الخطبة والصلاة على قول كثير من المفسرين، والأمر بالسعي يدل على وجوبه إذ لا يجب السعي لغير واجب.
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم واظب عليهما، ولم ينقل أنه ترك خطبة الجمعة.
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب الإنصات لهما، وحذر من الكلام والإمام يخطب، ووجوب الإنصات يدل على وجوبهما.
وذهب بعض العلماء إلى أنه تجزئ خطبة واحدة، وعزاه الشوكاني للجمهور.
م / وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اَللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ (كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا خَطَبَ، احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ، وَعَلَا صَوْتُهُ، وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ، حَتَّى كَأَنَّهُ مُنْذِرُ جَيْشٍ يَقُولُ: صَبَّحَكُمْ وَمَسَّاكُمْ، وَيَقُولُ: "أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ خَيْرَ اَلْحَدِيثِ كِتَابُ اَللَّهِ، وَخَيْرَ اَلْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ، وَشَرَّ اَلْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ).
وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ كَانَتْ خُطْبَةُ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ اَلْجُمُعَةِ (يَحْمَدُ اَللَّهَ وَيُثْنِي عَلَيْهِ، ثُمَّ يَقُولُ عَلَى إِثْرِ ذَلِكَ، وَقَدْ عَلَا صَوْتُهُ) وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: (مَنْ يَهْدِهِ اَللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ).
[احمرت عيناه] هذه حالات تعتري الخطيب الناصح المتحمس. [علا صوته] ارتفع. [اشتد غضبه] قوي. [كأنه منذر] الإنذار الإخبار مع التخويف. [صبحكم] نزل بكم العدو صباحاً. [هدي] ضبط بضم الهاء وفتح الدال (هُدَى) فيكون المعنى: الدلالة والإرشاد، وضبط بفتح الهاء وسكون الدال (هَدْي) فيكون المعنى أحسن الطرق. [محدثاتها] جمع محدثة، والمراد كل ما أحدث في الدين. [ضلالة] الضلالة ضد الهداية.
• ذكر المصنف رحمه الله هذا الحديث ليبين فيه صفة الخطيب وما ينبغي أن يكون عليه عند إلقاء الخطبة.
• ففيه أنه يستحب للخطيب أن يضخم أمر الخطبة ويرفع صوته، ويحرك كلامه، ويظهر غاية الغضب والفزع، لأن تلك الأوصاف إنما تكون عند اشتدادهما ". [قاله الشوكاني].
• وفيه دليل على أنه يستحب للخطيب أن يرفع بالخطبة صوته. [قاله الصنعاني].
وقد ذهب أصحاب الأئمة الأربعة إلى أن رفع الصوت بالخطبة زيادة على القدر الواجب حسب الطاقة سنة من سنن الخطبة، لهذا الحديث، ولحديث النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يقول: (أنذركم النار، أنذركم النار، حتى لو أن رجلاً كان بالسوق لسمعه من مقامي هذا، قال: حتى وقعت خميصة كانت على عاتقه عند رجليه). رواه أحمد
ولأن رفع الصوت بالخطبة أبلغ في إعلام الناس، فيتحقق المقصود بها.
• وفي الحديث استحباب قول: (أما بعد) في الخطب، وكان هدي النبي صلى الله عليه وسلم أن يقولها.
• وفيه أنه ينبغي أن يكون مضمون الخطبة: الثناء على الله وحمده، وبيان العقيدة الصحيحة، والتحذير من البدع، والدعوة إلى السنة، وفيها الترغيب والترهيب.
• وفي الحديث دليل على استحباب حمد الله في الخطبة.
وعن عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (إِنَّ طُولَ صَلَاةِ اَلرَّجُلِ، وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهِ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ
ذكر المصنف رحمه الله حديث عمار بن ياسر، الذي رواه مسلم، ولفظ الحديث: عن أبي وائل قال: (خطبنا عمار فأوجز وأبلغ، فلما نزل قلنا: يا أبا اليقظان، لقد أبلغت وأوجزت، فلو كنت تنفست؟ فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه، فأطيلوا الصلاة، واقصروا الخطبة، وإن من البيان لسحراً).
لو تنفست: أي لو أطلت قليلاً. مئنة: بفتح الميم، ثم همزة مكسورة، ثم نون مشدودة، أي علامة. إن من البيان: من هنا تبعيضية.
• الحديث دليل على مشروعية قصر خطبة الجمعة وعدم إطالتها، قال في الإنصاف:" بلا نزاع ".
ومما يدل على ذلك أيضاً:
حديث عبد الله بن أبي أوفى قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطيل الصلاة ويقصر الخطبة). رواه النسائي
وعن جابر بن سمرة قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يطيل الموعظة يوم الجمعة، وإنما هنّ كلمات يسيرات). رواه أبو داود
قال الصنعاني: "وإنما كان قصر الخطبة علامة على فقه الرجل، لأن الفقيه هو المطلع على حقائق المعاني، وجوامع الألفاظ، فيتمكن من التعبير بالعبارة الجزلة المفيدة، ولذلك كان من تمام هذا الحديث: (فأطيلوا الصلاة واقصروا الخطبة
…
) ".
وأيضاً في إطالة الخطبة إصابة الملل للناس، والملل من أسباب إذهاب الفائدة من الموعظة.
• قوله: (فأطيلوا الصلاة) قال النووي: " وليس الحديث مخالفاً للأحاديث الصحيحة المشهورة، والأمر بتخفيف الصلاة، لقوله صلى الله عليه وسلم في الرواية الأخرى:(وكانت صلاته قصداً) لأن المراد بالحديث الذي نحن فيه أن الصلاة تكون طويلة بالنسبة إلى الخطبة لا تطويلاً يشق على المأمومين، وهي حينئذٍ قصد، أي معتدلة، والخطبة قصد بالنسبة إلى وضعها.
• ينبغي أن يكون الخطيب حكيماً، يعرف سنة النبي صلى الله عليه وسلم في الخطبة.
• ذم التطويل في الموعظة والإكثار منها، وقد قال ابن مسعود:(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة مخافة السآمة علينا). متفق عليه
م/ ويستحب أن يخطب على منبر.
لحديث أُمِّ هِشَامٍ بِنْتِ حَارِثَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: (مَا أَخَذْتُ: "ق وَالْقُرْآنِ اَلْمَجِيدِ"، إِلَّا عَنْ لِسَانِ رَسُولِ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَؤُهَا كُلَّ جُمُعَةٍ عَلَى اَلْمِنْبَرِ إِذَا خَطَبَ اَلنَّاسَ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ
قال النووي: "فيه استحباب اتخاذ المنبر، وهو سنة مجمع عليها".
ولحديث ابن عمر وأبي هريرة، وقد سبق: (أنهما سمعا من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على أعواد منبره
…
).
قال عنه النووي: "فيه استحباب اتخاذ المنبر".
ولحديث جابر قال: (كان جذع يقوم إليه النبي صلى الله عليه وسلم، فلما وضع له المنبر سمعنا للجذع مثل أصوات العشار، حتى نزل النبي صلى الله عليه وسلم فوضع يده عليه). رواه البخاري
ولحديث جابر قال: (جاء رجل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب على المنبر يوم الجمعة يخطب
…
). رواه مسلم
ولأن الخطبة على المنبر أبلغ في إعلام الحاضرين الذي يتحقق به مقصود الخطبة.
ولأن الإمام إذا كان على منبر شاهده الناس، وإذا شاهدوه كان أبلغ في وعظهم.
م/ فإذا صعد أقبل على الناس فسلم عليهم.
أي: ويستحب للخطيب إذا صعد على المنبر أقبل على الناس بوجهه وسلم عليهم، لحديث جابر (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صعد المنبر سلم) رواه ابن ماجه وفيه ضعف.
ويسن أيضاً أن يسلم قبل صعوده المنبر، لعموم الأدلة التي تحث على السلام.
م/ ثم يجلس ويؤذن المؤذن.
أي: ويستحب جلوس الخطيب إلى فراغ الأذان لحديث ابن عمر قال (كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب خطبتين، كان يجلس إذا صعد المنبر حتى يفرغ المؤذن ثم يقوم فيخطب، ثم ..... ) رواه أبوداود وفيه ضعف.
م/ ثم يقوم فيخطب ثم يجلس ثم يخطب الخطبة الثانية ثم تقام الصلاة.
أي: يستحب للخطيب بعد ذلك أن يقوم ويخطب ثم يجلس بين الخطبتين ثم يقوم يخطب الثانية.
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رضي الله عنهما قال (كَّان اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ قَائِمًا، ثُمَّ يَجْلِسُ، ثُمَّ يَقُومُ فَيَخْطُبُ قَائِمًا، فَمَنْ أَنْبَأَك أَنَّهُ كَانَ يَخْطُبُ جَالِسًا، فَقَدْ كَذَبَ). أخْرَجَهُ مُسْلِمٌ
ولحديث ابن عمر قال (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة قائماً ثم يجلس ثم يقوم، كما تفعلون اليوم) متفق عليه.
• ففي هذه الأحاديث استحباب الجلوس بين الخطبتين، وقد اختلفوا في حكم هذه الجلسة على قولين:
القول الأول: أنه سنة، وهذا مذهب جماهير العلماء.
قال في المغني: "ويستحب أن تجلس بين الخطبتين جلسة خفيفة وليست واجبة في قول أكثر أهل العلم".
للأحاديث السابقة، وهو واضح الدلالة.
القول الثاني: أنها واجبة، وهو قول الشافعي.
لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجلسها وقد قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي)، والراجح القول الأول.
• واختلف العلماء في مقدار الجلسة بين الخطبتين:
فقيل: بقدر قراءة سورة الإخلاص، وبه قال الشافعية، وقيل: بقدر قراءة ثلاث آيات، وقيل: بقدر الجلسة بين السجدتين، والراجح أن التقييد ليس عليه دليل، وأنه لا تقدير لها، وأنها جلسة خفيفة للاستراحة والفصل بين الخطبتين.
• الحكمة من الجلوس بين الخطبتين: قيل: للفصل بين الخطبتين، وقيل: للراحة، ورجح الحافظ ابن حجر القول الأول.
• وفي الأحاديث السابقة مشروعية أن يكون الخطيب قائماً، ولأن خطبته وهو قائم أشد في وعظه، وأبلغ في إيصال الكلام، لا سيما عند عدم مكبرات الصوت، وقد اختلف في وجوبه:
القول الأول: أنه واجب، وبهذا قال أكثر المالكية.
للأحاديث السابقة، فإنه يدل على مواظبة النبي صلى الله عليه وسلم على القيام حال الخطبة.
القول الثاني: أن القيام سنة، وبهذا قال الحنفية والحنابلة وبعض المالكية، واستدلوا:
أن رجالاً أتوا سهل بن سعد الساعدي وقد اقتادوا في المنبر ممَّ عوده؟ فسألوه، فقال: (إني لأعرف مما هو، الحديث
…
أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فلانة - امرأة سماها سهل - مري غلامك النجار أن يعمل لي أعواداً أجلس عليهن إذا كلمت الناس
…
). متفق عليه
الشاهد قوله: (أجلس عليهن
…
)، لكن يحتمل أن تكون الإشارة إلى الجلوس أول ما يصعد، وبين الخطبتين.
ولحديث أبي سعيد الخدري قال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس ذات يوم على المنبر وجلسنا حوله
…
). رواه البخاري، وهذا يجاب عنه أنه في غير خطبة الجمعة.
م/ ثم تقام الصلاة فيصلي فيهم ركعتين.
وهذا بالإجماع، قال ابن المنذر: أجمع المسلمون على أن صلاة الجمعة ركعتان.
م/ يجهر فيهما بالقراءة، يقرأ في الأولى بـ (سبح) وفي الثانية بـ (الغاشية) أو بـ (الجمعة والمنافقين).
أي: يسن للإمام أن يقرأ في صلاة الجمعة في الركعة الأولى (سبح) وفي الثانية (الغاشية) أو في الأولى (الجمعة) وفي الركعة الثانية بـ (المنافقين).
عن النعمان بن بشير قال (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في العيدين وفي الجمعة يقرأ: بسبح اسم ربك الأعلى، وهل أتاك حديث الغاشية) رواه مسلم.
وعن ابن عباس قال (كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في صلاة الجمعة سورة الجمعة والمنافقين) رواه مسلم.
• الحكمة من قراءة سورة الجمعة، قال النووي:"اشتمالها على وجوب الجمعة وغير ذلك من أحكامها، وغير ذلك مما فيها من القواعد والحث على التوكل والذكر وغير ذلك".
وقراءة سورة المنافقين لتوبيخ حاضريها منهم وتنبيههم على التوبة وغير ذلك مما فيها من القواعد، لأنهم ما كانوا يجتمون في مجلس أكثر من اجتماعهم فيها.
وأما سبح والغاشية فلما فيهما من التذكير بأحوال الآخرة والوعد والوعيد وغير ذلك مما جاء فيهما.
م/ ويستحب لمن أتى الجمعة أن يغتسل.
أي: ويسن لمن أراد أن يحضر لصلاة الجمعة أن يغتسل.
لحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم). أخرجه السبعة
ولحديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل). متفق عليه
ولحديث سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من طهر ويدهن من دهنه أو يمس من طيب بيته ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين ثم يصلي ما كتب له ثم ينصت إذا تكلم الإمام إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى) رواه البخاري.
ولحديث أوس بن أوس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (من غسل واغتسل وبكر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنى من الإمام ولم يلغو، واستمع، كان له بكل خطوة أجر سنة صيامها وقيامها) رواه أبو داود.
• وظاهر كلام المصنف رحمه الله أن الغسل للجمعة سنة ليس بواجب، وهذا مذهب جماهير العلماء، واستدلوا على عدم وجوبه:
حديث سمرة قال: قال صلى الله عليه وسلم من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل) رواه أبوداود وفيه ضعف.
فدل على اشتراك الغسل والوضوء في أصل الفضل وعدم تحتيم الغسل.
ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من توضأ ثم أتى الجمعة، فاستمع وأنصت، غفر له
…
) رواه مسلم وهذا أقوى ما استدلوا به.
(وبحديث الرجل الذي دخل (وهو عثمان) وعمر يخطب، وقد ترك الغسل فأنكر عليه عمر). رواه مسلم
قال النووي: "أن الرجل فعله وأقره عمر ومن حضر ذلك الجمع وهم أهل الحل والعقد، ولو كان واجباً لما تركه ولألزموه به".
وبحديث عائشة قالت: (كان الناس ينتابون الجمعة من منازلهم ومن العوالي، فيأتون في العباءة، فيصيبهم الغبار والعرق، فيخرج منهم الريح، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم إنسان منهم وهو عندي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو أنكم تطهرتم ليومكم هذا) متفق عليه.
وذهب بعض العلماء إلى وجوبه لحديث أبي سعيد وحديث ابن عمر، قالوا: فهي دليل على الوجوب.
اختلف العلماء في وقت الاغتسال؟ على ثلاثة أقوال:
قيل: يشترط الاتصال بين الغسل والرواح، وإليه ذهب مالك، وقيل: لا يشترط، لكن لا يجزئ فعله بعد الصلاة، ويستحب تأخيره إلى الذهاب، وهذا مذهب الجمهور، قالوا: لأن الغسل لإزالة الروائح الكريهة، والمقصود عدم تأذي الآخرين، وقيل: أنه لا يشترط تقديم الغسل على صلاة الجمعة، بل لو اغتسل قبل الغروب أجزأ عنه، وإليه ذهب داود ونصره ابن حزم، والراجح القول الثاني (مذهب الجمهور)، وادعى ابن عبد البر الإجماع على أن من اغتسل بعد الصلاة لم يغتسل للجمعة.
م/ ويتطيب.
أي: ويستحب لمن أتى الجمعة أن يتطيب.
لحديث سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من طهر ويدهن من دهنه أو يمس من طيب بيته ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين ثم يصلي ما كتب له ثم ينصت إذا تكلم الإمام إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى) رواه البخاري.
م/ ويلبس أحسن ثيابه.
لقوله صلى الله عليه وسلم (ما على أحدكم إن وجدتم أن يتخذ ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوبي مهنته) رواه أبو داود.
م/ ويبكر إليها ماشياً.
لحديث أوس بن أوس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (من غسل واغتسل وبكر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنى من الإمام ولم يلغو، واستمع، كان له بكل خطوة أجر سنة صيامها وقيامها) رواه أبو داود.
م/ وفِي "اَلصَّحِيحَيْنِ: (إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ: أَنْصِتْ يَوْمَ اَلْجُمُعَةِ وَالْإِمَامِ يَخْطُبُ، فَقَدْ لَغَوْتَ).
ذكر المصنف رحمه الله حديث أبي هريرة الذي في الصحيحين ليبين فيه حكم الكلام أثناء خطبة الجمعة.
أنصت: أي اسكت، قال الحافظ ابن حجر:" قال ابن خزيمة: "المراد بالإنصات السكوت عن مكالمة الناس دون ذكر الله، وتعقب بأنه يلزم منه جواز القراءة والذكر حال الخطبة، فالظاهر أن المراد السكوت مطلقاً، ومن فرق احتاج إلى دليل ".
فقد لغوت: أي وقعت في اللغو، قال ابن المنير:" اتفقت أقوال المفسرين على أن اللغو ما لا يحسن من الكلام ".
• في الحديث دليل على تحريم الكلام أثناء الخطبة، وهذا مذهب الجمهور، من الحنفية والمالكية والحنابلة، وبه قال ابن حزم.
قال النووي: "ففي الحديث النهي عن جميع أنواع الكلام حال الخطبة، ونبه بهذا على ما سواه، لأنه إذا قال: أنصت، وهو في الأصل أمر بمعروف، وسماه لغواً، فغيره من باب أولى".
وَلحديث ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ تَكَلَّمَ يَوْمَ اَلْجُمُعَةِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَهُوَ كَمَثَلِ اَلْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا، وَاَلَّذِي يَقُولُ لَهُ: أَنْصِتْ، لَيْسَتْ لَهُ جُمُعَةٌ) رَوَاهُ أَحْمَدُ، بِإِسْنَادٍ لَا بَأْسَ بِهِ.
وتحريم الكلام من وجهين:
الأول: أنه شبه المتكلم بالحمار، ومعلوم أن ذلك صفة ذم ونقص لا يوصف بها تارك الندب.
الثاني: نفي أن يكون له جمعة، وقد علمنا أنها جمعة، فلما استعار له لفظ نفي الإجزاء وعدم الصحة، دلّ على تأكيد منعه وشدة تحريمه.
• قوله في الحديث (والإمام يخطب) جملة حالية تدل على أن التحريم حال الخطبة فقط، أما ما قبل الخطبة وما بعدها وما بين الخطبتين جائز.
لما رواه ثعلبة بن مالك القرضي: (أنهم كانوا في زمان عمر بن الخطاب يصلون الجمعة حتى يخرج عمر، فإذا خرج وجلس على المنبر وأذن المؤذن، قال ثعلبة: جلسنا نتحدث، فإذا سكت المؤذنون وقام عمر يخطب أنصتنا فلم يتكلم منّا أحد).
قال ابن شهاب: " فخروج الإمام يقطع الصلاة، وكلامه يقطع الكلام.، قال في الغني: " وهذا يدل على شهرة الأمر بينهم ".
ولأن النهي عن الكلام إنما هو لأجل الإنصات واستماع الخطبة، فيقتصر على حالة الخطبة.
فائدة: قوله (لا جمعة له) قال الشوكاني: "قال العلماء: معناه لا جمعة له كاملة، للإجماع على إسقاط فرض الوقت عنه".
• قوله (كمثل الحمار يحمل أسفاراً) شبه من لم يمسك عن الكلام بالحمار الحامل للإسفار بجامع عدم الانتفاع.
م/ ودَخَلَ رَجُلٌ يَوْمَ اَلْجُمُعَةِ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ. فَقَالَ:"صَلَّيْتَ? " قَالَ: لَا. قَالَ: "قُمْ فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ"} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ذكر المصنف رحمه الله حديث جابر الذي في الصحيحين ليستدل به على مسألة صلاة الركعتين عند دخول المسجد والخطيب يخطب يوم الجمعة.
• الحديث دليل على مشروعية صلاة ركعتين لمن دخل المسجد والإمام يخطب، وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: أن ذلك مشروع، وهذا مذهب الشافعي وأحمد.
قال النووي: "هذه الأحاديث صريحة في الدلالة لمذهب الشافعي وأحمد وإسحاق وفقهاء المحدثين، أنه إذا دخل الجامع يوم الجمعة والإمام يخطب، له أن يصلي ركعتين تحية المسجد". ولحديث جابر، فهو نص.
القول الثاني: لا يشرع له ذلك، وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك.
لحديث عبد الله بن بسر: (أن رجلاً دخل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فقال: اجلس فقد آذيت). رواه أبو داود
وللأمر بالإنصات للإمام.
وأجابوا عن حديث الباب، وأمره لسليك أن يقوم ويصلي ركعتين بأجوبة:
الأول: أنه كان عرياناً، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالقيام ليراه الناس ويتصدقوا عليه.
قال النووي: " وهذا تأويل باطل يرده صريح قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب، فليركع ركعتين) وهذا نص لا يتطرق إليه تأويل، ولا أظن عالماً يبلغه هذا اللفظ صحيحاً فيخالفه ".
الثاني: أن هذا خاص به، ويدل عليه أنه جاء في آخر الحديث:(لا تعودنّ لمثل هذا) عند ابن حبان.
قال الحافظ: " وكله مردود، لأن الأصل عدم الخصوصية ".
وأما الجواب عن حديث عبد الله بن بسر: (اجلس فقد آذيت):
فقد أجيب عنه: يحتمل أنه ترك أمره بالتحية قبل مشروعيتها، ويحتمل أن يكون قوله له:(اجلس) أي بشرطه، وقد عرف قوله للداخل:(فلا يجلس حتى يصلي ركعتين) فمعنى قوله: (اجلس) أي لا تتخطَ.
أو ترك أمره بالتحية لبيان الجواز، فإنها ليست واجبة.
ويحتمل أنه صلى التحية في مؤخر المسجد، ثم تقدم ليقرب من سماع الخطبة.
• يستحب تخفيف هاتين الركعتين. لقوله صلى الله عليه وسلم: (
…
وليتجوز فيهما).
باب صلاة العيدين
الإضافة هنا من إضافة الشيء إلى سببه، أي الصلاة التي سببها العيد، والمراد بالعيد: عيد الفطر من رمضان وهو أول يوم من شوال، وعيد الأضحى، وهو العاشر من ذي الحجة، وسمي كل منهما عيداً، لأنه يعود ويتكرر كل عام.
م/ أمر النبي صلى الله عليه وسلم الناس بالخروج إليها حتى اَلْعَوَاتِقَ، وَالْحُيَّضَ فِي الْعِيدَيْنِ; يَشْهَدْنَ الْخَيْرَ وَدَعْوَةَ اَلْمُسْلِمِينَ، وَيَعْتَزِلُ اَلْحُيَّضُ اَلْمُصَلَّى) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
ذكر المصنف رحمه الله حديث أم عطية الذي أخرجه البخاري ومسلم ونصه: عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ (أُمِرْنَا أَنْ نُخْرِجَ اَلْعَوَاتِقَ، وَالْحُيَّضَ فِي الْعِيدَيْنِ; يَشْهَدْنَ الْخَيْرَ وَدَعْوَةَ اَلْمُسْلِمِينَ، وَيَعْتَزِلُ اَلْحُيَّضُ اَلْمُصَلَّى) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
[العواتق] جمع عاتق، وهي الأنثى التي قاربت البلوغ. [ذوات] صاحبات. [الخدور] جمع خدر، وهو يجعل في ناحية البيت للبكر تستتر به. [الحيّض] جمع حائض، والمراد التي أصابها الحيض.
• وذكره المصنف رحمه الله ليبين حكم صلاة العيد، ومذهب الحنابلة أنها فرض كفاية، لحديث أم عطية هذا، فإن فيه الأمر بالخروج لصلاة العيد، والأمر يقتضي الوجوب، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أمر النساء فالرجال من باب أولى، لكنها لا تلزم جميع أهل البلد - فليست فرض عين على كل أحد - للأدلة التي تفيد أنه لا واجب إلا الصلوات الخمس:
كحديث أنس في قصة الأعرابي لما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يجب عليه من الصلاة فأجابه صلى الله عليه وسلم (الصلوات الخمس) فقال: هل علي غيرها، قال: لا، إلا أن تطوع) متفق وعليه.
وكحديث طلحة بن عبيد الله (أن أعرابياً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام، فأخبره أن عليه خمس صلوات في اليوم والليلة إلا أن تطوع).
والنبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً إلى اليمن سنة تسع لم يذكر له إلا الصلوات الخمس.
وذهب بعض العلماء إلى أنها فرض عين، وهذا مذهب أبي حنيفة ورجحه ابن تيمية وابن القيم والشوكاني لحديث أم عطية السابق، فإن فيه الأمر بها والأمر يقتضي الوجوب.
قال الشوكاني: لأنه قد انضم إلى ملازمته صلى الله عليه وسلم لصلاة العيد على جهة الاستمرار وعدم إخلاله بها، والأمر بالخروج إليها، بل ثبت أمره صلى الله عليه وسلم بالخروج للعواتق والحيض وذوات الخدور، وبالغ في ذلك حتى أمر من لها جلباب أن تلبس من لا جلباب لها .. ومن مقويات القول بأنها فرض إسقاطها لصلاة الجمعة، والنوافل لا تسقط الفرائض في الغالب.
وذهب بعضهم إلى أنها سنة مؤكدة، وبه قال مالك وأكثر أصحاب الشافعي وداود وجماهير العلماء.
واستدلوا بحديث طلحة السابق: (أن أعرابياً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام، فأخبره أن عليه خمس صلوات في اليوم والليلة إلا أن تطوع)، ولقوله صلى الله عليه وسلم: (خمس صلوات كتبهن الله على العبد في اليوم والليلة
…
).
ولحديث بعث معاذ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (
…
فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة) ولم يذكر صلاة العيد، ومن المعلوم أن بعث معاذ كان في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فلو كانت واجبة لذكرها لمعاذ، والراجح قول الحنابلة.
• يسن خروج النساء لصلاة العيد ويتأكد لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك غير متطيبات، ولا لابسات ثياب زينة أوفتنة لقوله صلى الله عليه وسلم:
(وليخرجن تفلات). رواه أبو داود [تفلات] أي غير متطيبات.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "أمرهن بالخروج للعيد، لعله - والله أعلم - لأسباب:
أحدها: أنه في السنة مرتين بخلاف الجمعة والجماعة.
الثاني: أنه ليس له بدل خلاف الجمعة والجماعة فإن صلاتها في بيتها الظهر هو جمعتها.
الثالث: أنه خروج إلى الصحراء لذكر الله، فهو شبيه بالحج من بعض الوجوه".
م/ ووقتها من ارتفاع الشمس قيد رمح إلى الزوال.
أي: ووقت صلاة العيد من بعد ارتفاع الشمس قيد رمح إلى الزوال.
لأن هذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم، ولأن ما قبل ذلك وقت نهي.
م/ والسنة فعلها في الصحراء.
أي: والسنة أن تصلى صلاة العيد في الصحراء، وينبغي أن تكون قريبة من البلد حتى لا يشق على الناس.
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى فأول شيء يبدأ به الصلاة، ثم ينصرف ويقوم مقابل الناس والناس جلوس على صفوفهم).
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: (كان رسول صلى الله عليه وسلم يغدو إلى المصلى في يوم العيد والعنزة تحمل بين يديه، فإذا بلغ المصلى نصبت بين يديه فيصلي، وذلك أن المصلى كان فضاء ليس فيه شيء يستتر فيه) رواه الشيخان
قال النووي: "هذا دليل لمن قال باستحباب الخروج لصلاة العيد إلى المصلى، وأنه أفضل من فعلها في المسجد، وعلى هذا عمل الناس في معظم الأمصار".
قال الحافظ ابن حجر: "واستدل به على استحباب الخروج إلى الصحراء لصلاة العيد، وأن ذلك أفضل من صلاتها في المسجد لمواظبة النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك مع فضل مسجده".
ولأن ذلك أوقع لهيبة الإسلام وأظهر لشعائر الدين، ولا مشقة في ذلك لعدم تكررها بخلاف الجمعة.
أن هذا الحكم حتى في المدينة، فإنه يشرع لأهل المدينة الخروج إلى المصلى.
قال الموفق: "ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج إلى المصلى ويدع مسجده، وكذلك الخلفاء بعده، ولا يترك النبي صلى الله عليه وسلم الأفضل مع قربه، ويتكلف فعل الناقص مع بعده، ولا يشرع لأمته ترك الفضائل، ولأننا قد أمرنا باتباع النبي صلى الله عليه وسلم والاقتداء به، ولا يجوز أن يكون المأمور به هو الناقص، والمنهي عنه هو الكامل، ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى العيد بمسجده إلا من عذر، ولأن هذا إجماع المسلمين، فإن الناس في كل عصر ومصر يخرجون إلى المصلى، فيصلون العيد في المصلى مع سعة المسجد وضيقه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في المصلى مع شرف مسجده، وصلاة النفل في البيت أفضل منها في المسجد مع شرفه".
استثنى جمهور العلماء مكة المكرمة، فقالوا: تصلى في المسجد الحرام، والحكمة والله أعلم أن الصلاة في الصحراء في مكة ضيقة، لأنها جبال وأودية، فيشق على الناس أن يخرجوا، فلهذا كانت صلاة العيد في المسجد الحرام.
م/ وتعجيل الأضحى.
أي: ويسن تعجيل صلاة عيد الأضحى والمبادرة بها، لأجل أن يتمكن الناس من ذبح أضاحيهم.
م/ وتأخير الفطر.
أي: ويسن تأخير صلاة عيد الفطر ليتمكن الناس من إخراج صدقاتهم.
م/ والفطرُ - في الفطر خاصة قبل الصلاة - بتمرات وتراً.
أي: ويسن أن يأكل قبل الذهاب لصلاة عيد الفطر تمرات وتراً.
لحديث أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ (كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يَغْدُو يَوْمَ اَلْفِطْرِ حَتَّى يَأْكُلَ تَمَرَاتٍ وتراً) أَخْرَجَهُ اَلْبُخَارِيُّ.
ولحديث بريدة قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يخرج يوم الفطر حتى يفطر، ولا يطعم يوم النحر حتى يصلي). رواه أحمد والترمذي.
• أن هذا الحكم خاص في عيد الفطر دون عيد الأضحى، فلا يأكل حتى يأكل من أضحيته.
• الحكمة من ذلك: لأن يوم الفطر يوم حرم فيه الصيام عقيب وجوبه، فاستحب تعجيل الفطر لإظهار المبادرة إلى طاعة الله تعالى وامتثال أمره في الفطر على خلاف العادة.
• الحكمة من استحباب التمر فيه: لما في الحلو من تقوية البصر الذي يضعفه الصوم، ولأن الحلو مما يوافق الإيمان ويعبر به المنام ويرقق القلب، ولهذا استحب أن يفطر الصائم على التمر.
• الحكمة من جعلها سبعاً: استناداً لحديث: (من تصبح بسبع تمرات لم يصبه سم ولا سحر).
م/ وأن يتنظف ويتطيب لها ويلبس أحسن ثيابه.
أي: ويسن له إذا خرج لصلاة العيد أن يتنظف ويتطيب ويلبس أحسن ثيابه.
لحديث ابن عمر رضي الله عنه قال (وجد عمر حلة من إستبرق تباع في السوق، فأخذها فأتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله: ابتع هذه فتجمل بها للعيد والوفد، فقال: (إنما هذه لباس من لا خلاق له) متفق عليه، فهذا يدل على أن التجمل للعيد عندهم كان مشهوراً.
وقد قال الحافظ ابن حجر: "روى ابن أبي الدنيا والبيهقي بإسناد صحيح إلى ابن عمر (أنه كان يلبس أحسن ثيابه في العيد).
ولأنه يوم يجتمع فيه الناس، فينبغي أن يكون المصلي على أحسن هيئة إظهاراً لنعمة الله تعالى على عبده".
م/ ويذهب من طريق ويرجع من طريق.
أي: ويسن عند ذهابه لصلاة العيد أن يذهب مع طريق ويرجع مع طريق آخر.
لحديث جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ (كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا كَانَ يَوْمُ اَلْعِيدِ خَالَفَ اَلطَّرِيقَ) أَخْرَجَهُ اَلْبُخَارِيُّ
• أن هذا الحكم للإمام والمأموم، وهذا مذهب أكثر العلماء، وذهب بعض العلماء أنه خاص بالإمام، والأول أصح.
• اختلف ما الحكمة من مخالفة الطريق: قيل: ليشهد له الطريقان. وقيل: ليسوي بينهما في المزية والفضل. وقيل: لإظهار شعائر الإسلام فيهما. وقيل: لإظهار ذكر الله. وقيل: ليغيظ المنافقين أو اليهود. وقيل: ليرهبهم بكثرة من معه، ورجحه ابن بطال. وقيل: حذراً من كيد الطائفتين أو إحداهما. وقيل: ليصل رحمه. وقيل: ليزور أقاربه. وقيل: كان في ذهابه يتصدق، فإذا رجع لم يبق معه شيء فيرجع في طريق أخرى لئلا يرد من سأله، قال الحافظ: وهذا ضعيف جداً. وقيل: لتخفيف الزحام، ورجح ابن القيم: أنه يشمل الجميع.
• هل يسن فعل ذلك في الذهاب لصلاة الجمعة؟ قولان للعلماء: قيل: يسن ذلك، قياساً على العيد، وقيل: لا يسن ذلك، وهذا هو الصحيح، لأن الحديث جاء في العيد ولم يرد في الجمعة، ولو كان يفعل ذلك في الجمعة لنقل إلينا.
والقاعدة: أن كل شيء وجد سببه في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، فلم يحدث له أمراً، فإن من أحدث له أمراً فإحداثه مردود عليه.
م/ فيصلي بهم ركعتين.
أي: فيصلي الإمام بالناس ركعتين، وهذا بالإجماع.
لحديث ابْنِ عَبَّاسٍ (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى يَوْمَ اَلْعِيدِ رَكْعَتَيْنِ، لَمْ يُصَلِّ قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا) أَخْرَجَهُ اَلسَّبْعَةُ.
م/ بلا أذان ولا إقامة.
أي: لا يشرع لصلاة العيد أذان ولا إقامة.
لحديث جابر بن عبد الله قال: (شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم العيد فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بلا أذان ولا إقامة) متفق عليه
وعن جابر بن سمرة قال: (صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العيد غير مرة ولا مرتين، بلا أذان ولا إقامة) رواه مسلم
قال في المغني: "لا نعلم في هذا خلافاً ممن يعتد به".
• واختلف العلماء: هل ينادى لها: الصلاة جامعة؟ على قولين: قيل: ينادى لها بالصلاة جامعة، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة، قياساً على الكسوف، وقيل: لا يشرع ذلك بل هو بدعة، وهذا مذهب المالكية.
لأن العيد وقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم مرات كثيرة ولم يكن ينادى لها، وأي شيء وقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يفعله فتركه سنة.
وأما قول أصحاب القول الأول: قياساً على الكسوف، فهذا قياس خطأ، لأن الكسوف يأتي بغتة من غير أن يشعر الناس، بخلاف العيد.
م/ يكبر في الأولى: سبعاً بتكبيرة الإحرام، وفي الثانية: خمساً سوى تكبيرة القيام، يرفع يديه مع كل تكبيرة، ويحمد الله ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بين كل تكبيرتين.
سيذكر المصنف رحمه الله صفة صلاة العيد، وأنه يكبر في الأولى سبعاً مع تكبيرة الإحرام، وفي الثانية خمساً سوى تكبيرة القيام ..... الخ.
لحديث عَمْرِوِ بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ نَبِيُّ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (اَلتَّكْبِيرُ فِي اَلْفِطْرِ سَبْعٌ فِي اَلْأُولَى وَخَمْسٌ فِي اَلْآخِرَةِ، وَالْقِرَاءَةُ بَعْدَهُمَا كِلْتَيْهِمَا) أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ.
وَنَقَلَ اَلتِّرْمِذِيُّ عَنِ اَلْبُخَارِيِّ تَصْحِيحَهُ، صحح هذا الحديث جمع من الحفاظ، كالبخاري وابن المديني، وحسنه الحافظ ابن حجر والعراقي.
وعن عائشة (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكبر في الفطر والأضحى، في الأولى سبع تكبيرات، وفي الثانية خمساً) رواه أبوداود.
وروى مالك في الموطأ بسند صحيح عن نافع قال: (صليت العيدين وراء أبو هريرة فكان يكبر الأولى سبعاً والثانية خمساً قبل أن يقرأ) وجاء نحو هذا عن ابن عباس موقوفاً رواه ابن أبي شيبة وسنده صحيح.
• وقوله (يرفع يديه مع كل تكبيرة) لحديث وائل بن حجر قال (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه مع التكبير) رواه أبوداود
• وقوله (ويحمد الله ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بين كل تكبيرتين) قال بعض العلماء: يقول: الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً، وصلى الله على محمد)، وهذا ذكر يحتاج إلى نقل، لأنه ذكر محدد بعبادة ولم ينقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول ذلك، والأمر في ذلك واسع إن سكت فهو خير وإن كبر فهو خير. [قاله الشيخ ابن عثيمين]
م/ ثم يقرأ الفاتحة وسورة.
أي: ثم يقرأ الإمام الفاتحة وسورة بعد الفاتحة، والمصنف رحمه الله لم يذكر هذه السورة، لكن السنة أن تكون في الركعة الأولى سبح، وفي الركعة الثانية الغاشية، أو يقرأ ب (ق) و (اقتربت الساعة).
لحديثَ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ قَالَ (كَانَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي اَلْأَضْحَى وَالْفِطْرِ بِـ (ق)، وَ (اقْتَرَبَتْ)) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ
وفي حديث النعمان بن بشير قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في العيدين وفي الجمعة بـ (سبح اسم ربك الأعلى) و
(هل أتاك حديث الغاشية) وربما اجتمعا في يوم واحد فقرأ بهما) رواه مسلم.
م/ يجهر بالقراءة فيها.
قال ابن قدامة: لا نعلم فيه خلافاً.
م/ فإذا سلم خطب بهم خطبتين كخطبتي الجمعة.
أي: سلم الإمام من صلاة العيد خطب بهم خطبتين، ففيه أن صلاة العيد تكون قبل الخطبة.
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ (كَانَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ: يُصَلُّونَ الْعِيدَيْنِ قَبْلَ اَلْخُطْبَةِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
قال ابن قدامة: وخطبة العيد بعد الصلاة لا نعلم فيه خلافاً بين المسلمين".
وقال الحافظ ابن حجر: "وعليه جميع فقهاء الأمصار، وعده بعضهم إجماعاً".
• قوله (خطبتين) هذا قول الأكثر، أن لها خطبتين.
لحديث جابر قال: (شهدت مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم العيد، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة، بلا أذان ولا إقامة، ثم قام متوكئاً على بلال فأمر بتقوى الله، وحث على طاعته ووعظ الناس، ثم مضى حتى أتى النساء فوعظهن).
قالوا: فظاهر هذا أنه خطب خطبتين، لكن هذا فيه نظر، لأن وعظه للنساء ليست خطبة أخرى، وإنما ربما لبعد النساء، أو تذكيرهن بأمور تخصهن.
واستدلوا بحديث جابر قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فطر أو أضحى، فخطب قائماً ثم قعد قعدةً ثم قام). رواه ابن ماجه وهو منكر في إسناده إسماعيل بن مسلم لا يحتج به، وقالوا: قياساً على الجمعة.
والقول الثاني: أن خطبة العيد خطبة واحدة.
لظاهر النصوص ومنها حديث الباب (كَانَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ: يُصَلُّونَ الْعِيدَيْنِ قَبْلَ اَلْخُطْبَةِ) فظاهره أنها خطبة واحدة.
م/ إلا أنه يذكر في كل خطبة الأحكام المناسبة للوقت.
أي: أن الإمام يشرع له أن يذكر في الخطبة الأحكام المناسبة للوقت، ففي عيد الأضحى: يرغبهم في الأضحية ويحثهم عليها ويبين أحكامها.
وأما في خطبة عيد الفطر: فقد قال بعض الفقهاء: يشرع أن تكون عن زكاة الفطر وأحكامها، ويبين لهم ما يخرجون، لكن هذا القول ضعيف، لأن وقت زكاة الفطر مضى وانتهى، فالأولى أن يكون بيان ذلك في آخر جمعة من رمضان لحصول الفائدة.
فالأفضل أن تشتمل الخطبة على وعظ الناس وتذكيرهم بأوامر الله ونواهيه، وتحذيرهم من المنكرات والمحدثات التي انتشرت في بلاد المسلمين.
م/ ويستحب التكبير المطلق ليلتي العيد، وفي كل عشر ذي الحجة، والمقيد: عقيب المكتوبات من صلاة فجر يوم عرفة إلى عصر آخر أيام التشريق وصفته: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، ولله الحمد.
قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله: "التكبير المطلق يكون في موضعين:
الأول: ليلة عيد الفطر، من غروب الشمس إلى انقضاء صلاة العيد.
الثاني: عشر ذي الحجة من دخول الشهر، إلى فجر يوم عرفة، والصحيح أنه يمتد إلى غروب الشمس من آخر يوم من أيام التشريق.
التكبير المطلق المقيد من انتهاء صلاة عيد الأضحى إلى عصر آخر أيام التشريق.
التكبير الجامع بين المطلق والمقيد من طلوع الفجر يوم عرفة إلى انتهاء صلاة عيد الأضحى، والصحيح أنه إلى غروب الشمس من آخر يوم من أيام التشريق.
والفرق بين التكبير المطلق والتكبير المقيد، أن المطلق مشروع في كل وقت لا في أدبار الصلوات، فمشروعيته مطلقة، ولهذا سمي مطلقاً.
وأما المقيد فمشروع أدبار الصلوات فقط. [مجموع الفتاوى 16/ 266].
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد
الشيخ/ سليمان بن محمد اللهيميد
بسم الله الرحمن الرحيم
شرح
منهج السالكين
وتوضيح الفقه في الدين
للعلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي (1376 هـ).
كتاب الجنائز والزكاة والصيام
دورة ورثة الأنبياء [مكتب والدعوة والإرشاد برفحاء]
دورة علمية في تاريخ 25 - 10/ 29 - 10
1429 هـ
بقلم
سليمان بن محمد اللهيميد
السعودية - رفحاء
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
…
أما بعد:
فهذا شرح كتاب منهج السالكين في توضيح الفقه في الدين للعلامة عبد الرحمن السعدي رحمه الله،
قمت بشرحه في مدينة رفحاء ضمن الدورة العلمية الأولى التي أقامها مكتب الدعوة والإرشاد برفحاء.
أسال الله العظيم رب العرش العظيم أن يرزقنا العلم النافع، والعلم الصالح
أخوكم
سليمان بن محمد اللهيميد
السعودية - رفحاء
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
الجنائز: جمع جنازة بالفتح والكسر، وهو الميت، وقيل: الجَنازة بفتح الجيم للميت، وبكسرها للنعش وعليه الميت
• وذكر الجنائز في آخر كتاب (الصلاة) لأن الصلاة على الميت أهم ما يفعل به، وانفع ما يكون له، لأن فائدتها أخروية، وهي الدعاء له والشفاعة، لعل الله تعالى أن يرحمه ويتجاوز عنه، وإلا فحقه أن يذكر بين الوصايا والفرائض.
• يسن الإكثار من ذكر الموت، لحديث أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اَللَّذَّاتِ: اَلْمَوْتِ) رَوَاهُ اَلتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ
[أكثروا] أي في نفوسكم، وفيما بينكم. [هاذم] بالذال أي قاطع. [اللذات] أي لذات الدنيا.
• ففي هذا الحديث استحباب الإكثار من ذكر الموت، في نفس الإنسان، وفيما بينه وبين الناس.
• في أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإكثار من ذكر الموت فوائد:
أولاً: أنه يرقق القلب، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:(كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكر الآخرة) وفي رواية: (وترق القلب وتدمع العين).
ثانياً: أنه يزهد في هذه الدنيا الفانية ويهون مصائبها.
كما قال الحسن: (من أكثر من ذكر الموت هانت عليه مصائب الدنيا).
ثالثاً: يرغب في الآخرة ويحث على الاجتهاد إليها.
روي أن الحسن البصري دخل على مريض يعوده، فوجده في سكرات الموت، فنظر إلى كَربه وشدة ما نزل به، فرجع إلى أهله بغير اللون الذي خرج به من عندهم، فقالوا له: الطعام فلم يأكل وقال: فوالله لقد رأيت مصرعاً لا أزال أعمل له حتى اللقاء.
رابعاً: يردع عن فعل المعاصي والمنكرات.
خامساً: أن ذكره موعظة وعبرة.
سادساً: أن الإكثار من ذكره استعداد له قبل حلوله بالأعمال الصالحة.
سابعاً: القناعة بالقليل من الدنيا.
• يسن عيادة المريض وقد جاءت أحاديث كثيرة في فضل عيادة المريض منها:
عن أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنَّ الله عز وجل يَقُولُ يَوْمَ القيَامَة (يَا ابْنَ آدَمَ مَرضْتُ فَلَم تَعُدْني، قال: يا ربِّ كَيْفَ أعُودُكَ وأنْتَ رَبُّ العَالَمين؟ قال: أمَا عَلْمتَ أنَّ عَبْدي فُلَاناً مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ، أمَا عَلمتَ أنَّك لو عُدْته لوجدتني عنده؟ يا ابن آدم أطعمتك فلم تطعمني، قال: يا رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين، قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟ يا ابن آدم استسقيتك فلم تسقني، قال: يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، أما علمت أنك لو سقيته لو جدت ذلك عندي؟) رواه مسلم.
وعن ثوبان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ المسلم إذا عاد أخاه المسلم لم يزل في خُرْفَةِ الجنة حتى يرجع» قيل: يا رسول الله وما خُرْفَةُ الجنة؟ قال: «جَنَاها» رواه مسلم. «جَنَاها» : أي واجتنى من الثمر.
وعن علي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (ما من مسلم يعود مسلماً غدوة إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي، وإن عاده عشيةً إلا صلى عليه سبعون ألف ملكٍ حتى يصبح، وكان له خريف في الجنة) رواه الترمِذِي وقال: حديث حسن.
وعن أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من عاد مريضاً، نادى منادٍ من السماء: أن طبت وطاب ممشاك وتبوأت من الجنة منزلاً) رواه الترمذي.
ولعيادة المريض فوائد: منها: يؤدي حق أخيه المسلم - أنه لا يزال في خرفة الجنة - أن في ذلك تذكيراً للعائد بنعمة الله عليه في الصحة - أن فيها جلباً للمحبة والمودة.
• وقد اختلف العلماء في حكمها على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنها سنة مؤكدة.
وهذا قول جمهور العلماء.
للأحاديث الكثيرة التي سبقت في فضلها.
القول الثاني: أنها فرض كفاية.
وهذا اختيار ابن القيم رحمه الله، وهذا القول هو الراجح.
لحديث البراء بن عازبٍ رضي الله عنهما قال (أمرنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بِسَبعٍ: «بِعَيادَةِ الَمرِيضِ. وَاتِّباع الجَنائز، وَتشْميت العَاطس، ونصرِ الضَّعِيف، وَعَوْن المظلوم، وإفْشاءِ السَّلام، وإبرارِ المقسم) متفق عليه.
ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (حَقُّ الْمُسلِمِ عَلَى الْمُسلِمِ خَمْسٌ، رَدُّ السَّلام. وَعِيادَةُ المَريض، وَاتباعُ الجنائز، وإجابة الدَّعوة. وتشميت العاطس) متفق عليه.
وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم (عُودُوا المَرِيضَ، وَأَطْعِمُوا الجَائعَ، وفَكُّوا العَاني) رواه البخاري. (العَاني) الأسِيرُ.
• وتذكيره بالتوبة، لأنها واجبة على كل حال وتتأكد في حق المريض، وهو أحوج إليها من غيره، فَيُذكَّر التوبة من المعاصي، والخروج من مظالم العباد برد أموالهم وتحللهم من أعراضهم، لكن لا يواجهه بذلك ابتداء، بل يمهد لكلامه بمقدمة مناسبة.
م/ قَالَ النبي صلى الله عليه وسلم (لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ذكر المصنف رحمه الله حديث أبي سعيد في قوله صلى الله عليه وسلم (لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ) ليستدل به على استحباب تلقين المحتضر كلمة التوحيد.
[لقنوا] التلقين أن يقول الشيء ليتبعه غيره، فالمعنى اذكروا لا إله إلا الله ليتبعكم عليها الميت. [موتاكم] أي من حضره الموت.
• في الحديث استحباب تلقين الميت عند احتضاره: لا إله إلا الله، وهذا الأمر في الحديث للاستحباب لا للوجوب، حيث لم يقل أحد من العلماء بالوجوب.
• الحكمة من تلقين الميت الشهادة، أنه ورد في الحديث:(من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة). رواه أبو داود
• كيفية التلقين:
قال بعض العلماء:
o إن كان المحتضر قوي الإيمان فإنه يؤمر بها، لحديث الباب.
ولحديث أنس: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد رجلاً من الأنصار، فقال: قل: لا إله إلا الله
…
). رواه أحمد
o وأما إذا كان المحتضر متأثراً مضطرباً، فإنها تذكر عنده.
o وأما إذا حضر المؤمن احتضار الكافر، فإنه يأمره بها، لقوله صلى الله عليه وسلم لعمه (يا عم، قل لا إله إلا الله).
• عدد مرات التلقين:
يلقن مرة واحدة لحصول المقصود، وحتى لا يضجره فيقول: لا أقول، أو يتكلم بغيرها مما لا يليق، لضيق حاله وشدة كربه.
فإذا قاله مرة واحدة لا تكرر عليه إلا أن يتكلم بعده بكلام آخر فيعاد التعريض به ليكون آخر كلامه.
قال القرطبي: " فإذا تلقنها المحتضر وقالها مرة فلا تعاد عليه لئلا يضجره، وقد كره أهل العلم الإكثار عليه من التلقين والإلحاح عليه إذا هو تلقنها، أو فُهم عنه ذلك ".
وقال النووي: "وأجمع العلماء على هذا التلقين، وكرهوا الإكثار عليه والموالاة، لئلا يضجر بضيق حاله، وشدة كربه، فيكره ذلك بقلبه، ويتكلم بما لا يليق".
• استحباب الحضور عند المحتضر وتذكيره الشهادة، وكذلك تذكيره الوصية والتوبة.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
• اختلف العلماء في حكم تلقين الميت بعد دفنه (وهو أن يقوم الملقن عند رأسه بعد تسوية التراب عليه ويقول: يا فلان اذكر ما خرجت عليه من الدنيا شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله
…
) على أقوال:
القول الأول: أنه مستحب.
وهذا قول المالكية والشافعية والحنابلة.
لحديث أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا مات أحد من إخوانكم فسويتم التراب على قبره، فليقم أحدكم على رأس قبره ثم ليقل: يا فلان، فإنه يسمعه ولا يجيبه، ثم يقول: يا فلان بن فلانة، فإنه يستوي قاعداً، ثم يقول: اذكر ما خرجت عليه من الدنيا: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأنك رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً ومحمد نبياً، وبالقرآن إماماً) رواه الطبراني.
هذا الحديث لا يصح، قال النووي:"إسناده ضعيف"، قال ابن الصلاح:"ليس إسناده بالقائم"، وضعفه ابن مفلح في الفروع، وقال ابن القيم:"لا يصح رفعه، وضعفه العراقي".
القول الثاني: أنه مكروه وبدعة.
وهو اختيار ابن القيم.
لأنه لم يكن من هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يثبت من فعله ولا من قوله، فيكون فعله مكروهاً غير مشروع.
القول الثالث: أنه مباح.
وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، ووصف هذا القول بأنه أعدل الأقوال.
ولعل مستنده أن حديث التلقين بعد الدفن لم يثبت، ولم يرد النهي عنه، فيكون مباحاً لدخوله في عموم الدعاء بالثبات المأمور به.
والراجح القول الثاني، وأنه بدعة.
قال ابن القيم: "ولم يكن [أي النبي صلى الله عليه وسلم يجلس يقرأ عند القبر، ولا يلقن الميت كما يفعله الناس اليوم ".
م/ وقال (اقْرَؤُوا عَلَى مَوْتَاكُمْ يس) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ.
ذكر المصنف رحمه الله حديث معقل بن يسار - الذي رواه أبوداود والنسائي، ليستدل به على استحباب قراءة سورة يس عند المحتضر.
وهذا الحديث ضعيف، قال الحافظ في التلخيص:"وأعله ابن القطان بالاضطراب وبجهالة أبي عثمان وأبيه، نقل أبو بكر بن العربي عن الدارقطني أنه قال: هذا حديث ضعيف الإسناد، مجهول المتن، ولا يصح في الباب حديث".
[موتاكم] أي المحتظر، وليس المراد الميت.
• الحديث ذكره المصنف رحمه الله ليستدل به على استحباب قراءة سورة يس عند المحتضر، لكن كما سبق أن الحديث ضعيف، وعليه فلا يشرع قراءتها عند المحتضر، لأن الأحكام الشرعية لا تثبت بالأحاديث الضعيفة.
• الحكمة من قراءتها عند من استحب ذلك، لما فيها من التوحيد والمعاد والبشرى بالجنة، كما قال تعالى
(يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين)، وقوله تعالى (إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون) فتستبشر الروح بذلك فتحب لقاء الله فيحب الله لقاءها.
م/ وتجهيز الميت بغسلهِ وتكفينه والصلاة عليه وحمله ودفنه: فرض كفاية.
أي: أن هذه الأمور الأربعة المتعلقة بالميت فرض كفاية، إذا قام بها من يكفي سقط الإثم عن الباقين.
ودليل غسله: قوله صلى الله عليه وسلم في الذي وقصته الناقة (اغسلوه بماء وسدر) متفق عليه. وهذا أمر والأمر للوجوب، لكنه وجوب كفائي، لأن المقصود أن يحصل تغسيله، لا أن يراد من كل واحد من المخاطبين ذلك.
وقال صلى الله عليه وسلم في ابنته زينب لما ماتت (اغسلنها ثلاثاً، أو خمساً أو سبعاً، أو أكثر من ذلك) متفق عليه.
ودليل تكفينه: قوله صلى الله عليه وسلم (وكفنوه في ثوبيه) متفق عليه.
ودليل الصلاة عليه: فعله صلى الله عليه وسلم فقد كان صلى الله عليه وسلم يصلي على الأموات باستمرار.
ولحديث زيد بن خالد (أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم توفي يوم خيبر، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: صلوا على صاحبكم. فتغيرت وجوه الناس لذلك، فقال: إن صاحبكم غل في سبيل الله، ففتشنا متاعه فوجدنا خرزاً من خرز اليهود لا يساوي درهمين) رواه أبو داود.
وقال صلى الله عليه وسلم (قد تُوفيَ اليوم رجل صالح من الحبش، فهلمَّ فصلوا عليه) متفق عليه.
وصلى على المرأة التي رجمت.
ودليل دفنه: قوله تعالى (ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ) فأكرم الله الميت بدفنه، فلم يلق للسباع والطيور، ولأن في تركه هتكاً لحرمته، وأذى للناس به.
وقال تعالى (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتاً. أَحْيَاءً وَأَمْوَاتاً) ومعنى (كفاتاً) أي: ستراً لهم في محياهم ومماتهم، يستترون بها في الحياة في الدور والقصور، وفي الموت في القبور في بطن الأرض.
م/ وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أَسْرِعُوا بِالْجَنَازَةِ، فَإِنْ تَكُ صَالِحَةً فَخَيْرٌ تُقَدِّمُونَهَا إِلَيْهِ، وَإِنْ تَكُ سِوَى ذَلِكَ فَشَرٌّ تَضَعُونَهُ عَنْ رِقَابِكُمْ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ذكر المصنف رحمه الله حديث أبي هريرة الذي أخرجه البخاري ومسلم (أَسْرِعُوا بِالْجَنَازَةِ، فَإِنْ تَكُ صَالِحَةً فَخَيْرٌ تُقَدِّمُونَهَا إِلَيْهِ، وَإِنْ تَكُ سِوَى ذَلِكَ فَشَرٌّ تَضَعُونَهُ عَنْ رِقَابِكُمْ) وجاء عند البخاري (إذا وضعت الجنازة، واحتملها الرجال على أعناقهم فإن كانت صالحة قالت قدموني قدموني، وإن كانت غير صالحة قالت يا ويلها أين تذهبون بها، يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان لو سمعه لصعق)، ليستدل به على استحباب الإسراع بالجنازة.
• الحديث دليل على استحباب الإسراع بالجنازة، قال في المغني:" لا نعلم فيه خلافاً بين الأئمة ".
وقال النووي: "واتفق العلماء على استحباب الإسراع بالجنازة إلا أن يخاف من الإسراع انفجار الميت أو تغيره ونحوه فيتأنى "(ذهب ابن حزم إلى وجوب الإسراع للأمر بذلك).
• اختلف في الإسراع المستحب:
قيل: المراد الإسراع بحملها إلى قبرها، ورجحه القرطبي والنووي.
لقوله (تضعونه عن رقابكم).
وقيل: المراد الإسراع بتجهيزها وغسلها ودفنها (وهذا القول أعم).
ويستدل لهذا القول: بما أخرجه الطبراني بإسناد حسن عن ابن عمر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم (إذا مات أحدكم فلا تحبسوه وأسرعوا به إلى قبره).
ولحديث (لا ينبغي لجيفة مسلم أن يبقى بين ظهراني أهله).
• الحكمة من الإسراع بالميت.
أولاً: اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم.
ثانياً: في تأخيره حرمان له عن الخير إن كان من الصالحين ففي الحديث (فإن كانت صالحة قالت قدموني قدموني).
ثالثاً: أن إكرام الميت دفنه.
• ما يفعله بعض الناس - في هذا الزمن - من تأخير دفن الجنازة يوماً كاملاً أو يومين خلاف السنة، بحجة انتظار أقاربه ليشهدوا جنازته.
• لا بأس بالتأخير القليل لمصلحة تكثير المصلين، كأن يموت في الصباح فينتظر به إلى الظهر.
• كيفية المشي بالميت؟
أولاً: أن يمشى به خطوة خطوة.
فهذا بدعة مكروهة مخالفة للسنة ومتضمنة التشبه بأهل الكتاب. [قاله ابن القيم].
ثانياً: أن يسرع به إسراعاً كثيراً يخشى على الجنازة أو يشق على الحاملين فهذا لا يجوز.
ثالثاً: أن يمشي به بين السرعة والبطء، وهذا هو السنة.
قال ابن تيمية: "كان الميت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يخرج به الرجال يحملونه إلى المقبرة لا يسرعون ولا يبطئون بل عليهم السكينة ولا يرفعون أصواتهم لا بقراءة ولا بغيرها وهذه هي السنة باتفاق المسلمين".
م/ وقال صلى الله عليه وسلم: (نَفْسُ اَلْمُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ، حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ) رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَاَلتِّرْمِذِيُّ.
ذكر المصنف رحمه الله حديث أَبِي هُرَيْرَةَ (نَفْسُ اَلْمُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ، حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ) رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَاَلتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ. [نفس المؤمن] يعني روحه، [معلقة بدينه] الدين كل ما ثبت في الذمة. ليستدل به على المبادرة بقضاء دين الميت.
• الحديث دليل على أنه يجب المبادرة لقضاء دين الميت من قِبل الورثة إذا ترك الميت مالاً، فما يفعله بعض الورثة من تأخير السداد، جناية في حق الميت، لأن نفسه معلقة حتى يسدد عنه.
• قوله (معلقة بدينه) قيل: لا تفرح بما لها من النعيم حتى يقضى عنه الدين.
• المبادرة لسداد الدين في الحياة، وذلك لسببين:
لأن نفس المؤمن معلقة بدينه.
ولأن كثيراً من الورثة لا يحرصون على سداد دين ميتهم مع أنه ترك مالاً.
• قال الصنعاني في هذا الحديث: "وهذا الحديث من الدلائل على أنه لا يزال الميت مشغولاً بدينه بعد موته، ففيه حث على التخلص منه قبل الموت، وأنه أهم الحقوق، وإذا كان هذا في الدين المأخوذ برضا صاحبه، فكيف بما أخذ غصباً ونهباً وسلباً".
• حديث الباب محمول على من مات وترك ديناً وترك مالاً.
• قوله (بدينه) يشمل دين الله، ودين الآدمي، دين الله: ككفارة عتق رقبة، أو إطعام ستين مسكيناً، أو زكاة لم يؤدها، لقوله صلى الله عليه وسلم:(دين الله أحق بالقضاء).
م/ والواجب في الكفن: ثوب يستر جميعه، سوى رأس المحرم، ووجه المحرمة.
أي: أن الواجب في الكفن ثوب واحد يستر جميع البدن، لأن به يحصل المقصود من الستر.
• الأفضل في الكفن أن يكون بثلاثة أثواب.
وهذا مذهب جماهير العلماء.
لحديث عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: (كُفِّنَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ سَحُولِيَّةٍ مِنْ كُرْسُفٍ، لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَةٌ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ولأن الله لم يكن ليختار لنبيه صلى الله عليه وسلم إلا الأفضل.
• الأفضل أن يكون الكفن لونه أبيض لحديث عائشة السابق.
ولحديث (إن من أفضل ثيابكم البياض فالبسوها وكفنوا بها موتاكم) رواه الترمذي.
قال النووي: "مجمع عليه " أي على استحبابه.
• فإن ضاق الكفن ولم يوجد كفن يستر جميع البدن ستر رأسه وجعل على رجليه حشيشاً.
لحديث خَبَّابِ بْنِ الأَرَتِّ قَالَ (هَاجَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِى سَبِيلِ اللَّهِ نَبْتَغِى وَجْهَ اللَّهِ فَوَجَبَ أَجْرُنَا عَلَى اللَّهِ فَمِنَّا مَنْ مَضَى لَمْ يَأْكُلْ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئاً مِنْهُمْ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ. قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ شَىْءٌ يُكَفَّنُ فِيهِ إِلاَّ نَمِرَةٌ فَكُنَّا إِذَا وَضَعْنَاهَا عَلَى رَأْسِهِ خَرَجَتْ رِجْلَاهُ وَإِذَا وَضَعْنَاهَا عَلَى رِجْلَيْهِ خَرَجَ رَأْسُهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «ضَعُوهَا مِمَّا يَلِى رَأْسَهُ وَاجْعَلُوا عَلَى رِجْلَيْهِ الإِذْخِرَ». وَمِنَّا مَنْ أَيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ فَهُوَ يَهْدِبُهَا).
[فَمِنَّا مَنْ مَضَى لَمْ يَأْكُلْ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئاً] قال النووي: معناه لم يوسع عليه الدنيا ولم يعجل له شيء من جزاء عمله. [وَمِنَّا مَنْ أَيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ] أي: أدركت ونضجت. [فَهُوَ يَهْدِبُهَا] بفتح أوله وسكون الهاء أي يقطفها ويجنيها، وهذا استعارة لما فتح عليهم من الدنيا.
قال ابن قدامة: "فإن لم يجد إلا ما يستر العورة سترها لأنها أهم في الستر بدليل حال الحياة".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
• ذهب بعض العلماء إلى أن المرأة تكفن في خمسة أثواب، قال ابن المنذر:"اختلفوا في عدد كفن المرأة، فقال كثيرون: تكفن في خمسة أثواب، كذلك قال النخعي والشعبي ومحمد بن سيرين وبه قال الأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي".
واستدلوا بحديث ليلى بنت قانف الثقفية قالت (كنت فيمن غسل أم كلثوم، بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم عند وفاتها، فكان أول ما أعطانا رسول الله صلى الله عليه وسلم الحقاء ثم الدرع ثم الخمار ثم الملحفة ثم أدرجت بعد في الثوب الآخر، قالت: ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس عند الباب معه كفنها، يناولنا ثوباً ثوباً). رواه أبو داود وهو ضعيف لا يصح
وجاء في حديث أم عطية رواية عند الجوزقي من طريق إبراهيم بن حبيب بن الشهيد عن هشام بن حسان عن حفصة عن أم عطية قالت (وكفناها في خمسة أثواب، وخمرناها كما نخمّر الحي) قال الحافظ في الفتح: "وهذه الزيادة صحيحة الإسناد".
وقالوا: بأن المرأة تزيد على الرجل في اللباس في الحياة فكذلك بعد الموت.
وذهب بعض العلماء إلى أن المرأة كالرجل، إذ لا دليل على التفريق، والأصل تساوي الرجال والنساء بالأحكام إلا ما خصه الدليل، ورجحه الألباني.
• قوله (سوى رأس المحرم وجه المحرمة) لحديث ابن عباس في الذي وقصته ناقته بعرفة فمات، قال صلى الله عليه وسلم (اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه ولا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً) متفق عليه.
م/ وصفة الصلاة عليه: أن يقوم فيكبر.
أي: يكبر التكبيرة الأولى، وتكبيرات الجنائز كلها أركان، لأنها بمنزلة الركعات.
فيقرأ الفاتحة.
أي: بعد التكبيرة الأولى يقرأ الفاتحة، وذلك بعد التعوذ والبسملة.
والدليل على ذلك: ما ورد عن طلحة بن عبد الله بن عوف قال (صليت خلف ابن عباس على جنازة فقرأ بفاتحة الكتاب وسورة، وجهر حتى أسمعنا، فلما فرغ أخذت بيده فسألته فقال: إنما جهرت لتعلموا أنها سنة) رواه البخاري، فقوله (لتعلموا أنها سنة) أي طريقة مأخوذة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وليس المراد ما يقابل الواجب.
• وقراءة الفاتحة ركن - هذا القول هو الصحيح - لأن صلاة الجنازة صلاة، فقد سماها النبي صلى الله عليه وسلم صلاة، فقال حينما قدمت لهم جنازة (صلوا على صاحبكم) ولما مات النجاشي قال (صلوا عليه)، فإذا كانت صلاة فإنها تدخل في عموم الأدلة القاضية بوجوب قراءة الفاتحة في كل صلاة كحديث عبادة بن الصامت قال النبي صلى الله عليه وسلم (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) متفق عليه. (وهو مذهب الشافعية والحنابلة).
وذهب بعض العلماء إلى أنه لا تشرع قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة.
وهذا قول الحنفية والمالكية.
لحديث أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء) رواه أبو داود.
وذهب بعض العلماء إلى استحباب قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة.
وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، لعدم ورود دليل يدل على وجوبها، ولأن المقصود الأكبر من صلاة الجنازة هو الدعاء للميت، والراجح الوجوب.
• وعلم من كلام المصنف رحمه الله أنه لا استفتاح في صلاة الجنازة، قالوا: لأن مبناها على التخفيف.
م/ ثم يكبر ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم.
أي: فيكبر التكبيرة الثانية فيصلي على النبي صلى الله عليه وسلم كما يصلي عليه على أي صفة، وإن صلى عليه كما يصلي عليه في التشهد فحسن.
م/ ثم يكبر ويدعو للميت.
أي: يكبر الثالثة ويدعو بعدها للميت، والأفضل أن يكون بالمأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإن لم يعرفه فبأي دعاء دعا جاز
• وينبغي أن يُخلص الدعاء فيها للميت ويخصه، لحديث أبي هريرة. قال: قال صلى الله عليه وسلم (إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء) رواه أبوداود، والإخلاص له: أن لا يُدعى لغيره.
• ثم ذكر المصنف رحمه الله الدعاء الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم في الدعاء للميت فقال:
م/ فيقول: اللهم اغفر لحينا وميتنا، وصغيرنا وكبيرنا، وشاهدنا وغائبنا ......
هذا الدعاء من الأدعية الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الدعاء للميت، وقد رواه أبو داود في سننه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ:
(كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا صَلَّى عَلَى جَنَازَةٍ يَقُولُ: "اَللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنَا، وَمَيِّتِنَا، وَشَاهِدِنَا، وَغَائِبِنَا، وَصَغِيرِنَا، وَكَبِيرِنَا، وَذَكَرِنَا، وَأُنْثَانَا، اَللَّهُمَّ مَنْ أَحْيَيْتَهُ مِنَّا فَأَحْيِهِ عَلَى اَلْإِسْلَامِ، وَمَنْ تَوَفَّيْتَهُ مِنَّا فَتَوَفَّهُ عَلَى اَلْإِيمَانِ، اَللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ، وَلَا تُضِلَّنَا بَعْدَهُ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
{اَللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنَا، وَمَيِّتِنَا} أي: اغفر لجميع أحيائنا وأمواتنا معشر المسلمين {وَشَاهِدِنَا} أي: حاضرنا {اَللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ} أي: أجر تجهيزه والصلاة عليه، وتشييعه ودفنه، وأجر صبرنا على المصيبة فيه. {وَلَا تُضِلَّنَا بَعْدَهُ] وفي رواية: ولا تفتنا بعده، أي: بتسليط الشيطان علينا حتى ينال منا مطلوبه، وهذا شامل لفتنة الشبهات وفتنة الشهوات.
• ثم ذكر المصنف رحمه الله دعاء آخر في الدعاء للميت في صلاة الجنازة فقال:
م/ اللهم اغفر له، وارحمه، وعافه، واعف عنه، وأكرم نزله .....
هذا الدعاء رواه الإمام مسلم في صحيحه عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ (صَلَّى رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى جَنَازَةٍ، فَحَفِظْتُ مِنْ دُعَائِهِ: "اَللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، وَارْحَمْهُ وَعَافِهِ، وَاعْفُ عَنْهُ، وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ، وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُ، وَاغْسِلْهُ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ، وَنَقِّهِ مِنْ اَلْخَطَايَا كَمَا نَقَّيْتَ اَلثَّوْبَ اَلْأَبْيَضَ مِنَ الدَّنَسِ، وَأَبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ، وَأَهْلًا خَيْرًا مِنْ أَهْلِهِ، وَأَدْخِلْهُ اَلْجَنَّةَ، وَقِهِ فِتْنَةَ اَلْقَبْرِ وَعَذَابَ اَلنَّارِ، قال عوف: فتمنيت أن لو كنت أنا الميت، لدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك الميت) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
[اغفر له] المغفرة الستر مع التجاوز. [ارحمه] صفة تقتضي الإنعام والإكرام والإحسان بالمرحوم.
[عافه] العافية من المؤذيات في القبر ووحشته وظلمته وعذاب القبر. [واعف عنه] تجاوز عما فعله حال الدنيا. [أكرم نزله] النزل ما يهيأ للضيف. [مدخله] مكان الدخول وهو القبر. [نقه] خلصه.
[أهلاً خيراً من أهله] عوضه عن أهله أهلاً في الجنة. وقيل: تبديل أوصاف، أي زوجته تكون أحسن في الجنة بالأخلاق والجمال.
م/ وإن كان صغيراً قال بعد الدعاء العام: اللهم اجعله فرطاً لوالديه وذخراً وشفيعاً مجاباً، اللهم ثقِّل به موازينهما، وأعظم به أجورهما، واجعله في كفالة إبراهيم، وقهِ برحمتك عذاب الجحيم.
• أنه لم يثبت دعاء خاص للطفل، لكن ورد حديث المغيرة قال صلى الله عليه وسلم:(والطفل يدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة).
قال الشوكاني: "إذا كان المصلى عليه طفلاً، استحب أن يقول المصلي: اللهم اجعله لنا سلفاً وفرطاً وأجراً، روي ذلك عن البيهقي من حديث أبي هريرة".
[فرطاً] الفرط بالتحريك هو الذي يتقدم الواردين على الماء، يهيئ لهم ما يحتاجون إليه من الأرسال والدلاء، والمراد هنا: شافعاً يشفع لوالديه وللمؤمنين المصلين عليه. [سلفاً] سلف الرجل: آباؤه المتقدمون.
م/ ثم يكبر ويسلم.
أي: ثم يكبر الرابعة فيسلم، لحديث عائشة (وكان يختم الصلاة بالتسليم) فهو دليل بعمومه، ولأنها افتتحت بالتكبير فتختتم بالتسليم ..
• وظاهر كلام المصنف رحمه الله أنه لا يدعو بعد الرابعة، وقيل: يشرع الدعاء بعد الرابعة.
• وقوله (ويسلم) أي تسليمة واحدة، لحديث أبي هريرة (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى على جنازة فكبر عليها أربعاً، وسلم تسليمة واحدة) أخرجه الدارقطني والحاكم.
ولو سلم تسليمتين جاز، لحديث ابن مسعود قال (ثلاث خلال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعلهن، تركهن الناس، إحداهن: التسليم على الجنازة مثل التسليم في الصلاة) رواه البيهقي، قال النووي: إسناد جيد.
• أكثر ما ورد هو التكبير أربع تكبيرات.
ولذلك ذهب جمهور العلماء: أنه لا يزاد على أربع تكبيرات.
قال الترمذي: "العمل عليه عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم يرون التكبير على الجنازة أربع تكبيرات، وهو قول سفيان الثوري ومالك بن أنس وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق".
وقال ابن المنذر: "ذهب أكثر أهل العلم إلى أن التكبير أربع".
قال ابن عبد البر: "وانعقد الإجماع بعد ذلك على أربع".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
واستدلوا:
كما في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَعَى اَلنَّجَاشِيَّ فِي اَلْيَوْمِ اَلَّذِي مَاتَ فِيهِ، وَخَرَجَ بِهِمْ إلى الْمُصَلَّى، فَصَفَّ بِهِمْ، وَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعًا) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وعن أبي وائل قال: (كانوا يكبرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعاً وخمساً وستاً وسبعاً، فجمع عمر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ كل رجل منهم بما رأى، فجمعهم عمر على أربع تكبيرات). رواه البيهقي وحسنه الحافظ
ورجح الجمهور ما ذهبوا إليه بمرجحات:
أولاً: أنها ثبتت من طريق جماعة من الصحابة أكثر عدداً ممن روى منهم الخمس.
ثانياً: أنها في الصحيحين.
ثالثاً: أنه أجمع على العمل بها الصحابة.
رابعاً: أنها آخر ما وقع منه صلى الله عليه وسلم كما في حديث ابن عباس بلفظ: (آخر ما كبر رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجنائز أربع) لكنه ضعيف لا يصح كما قال البيهقي والحافظ ابن حجر.
القول الثاني: أنه لا بأس بالزيادة على ذلك.
لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كبر خمساً كما في حديث زيد بن أرقم. فعَنْ عَبْدِ اَلرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: (كَانَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ يُكَبِّرُ عَلَى جَنَائِزِنَا أَرْبَعًا، وَإِنَّهُ كَبَّرَ عَلَى جَنَازَةٍ خَمْسًا، فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُكَبِّرُهَا). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه (أَنَّهُ كَبَّرَ عَلَى سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ سِتًّا، وَقَالَ: إِنَّهُ بَدْرِيٌّ) رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَأَصْلُهُ فِي "اَلْبُخَارِيِّ" وهذا القول هو الصحيح.
وخاصة إذا كان من أهل العلم والفضل، أو من كان له أثر كبير في الأمة، فلا مانع أن يكبر عليه خمساً أو ستاً.
م/ وقال النبي صلى الله عليه وسلم (مَا مِنْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ يَمُوتُ، فَيَقُومُ عَلَى جَنَازَتِهِ أَرْبَعُونَ رَجُلًا، لَا يُشْرِكُونَ بِاَللَّهِ شَيْئًا، إِلَّا شَفَّعَهُمْ اَللَّهُ فِيهِ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ
ذكر المصنف رحمه الله حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: سَمِعْتُ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (مَا مِنْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ يَمُوتُ، فَيَقُومُ عَلَى جَنَازَتِهِ أَرْبَعُونَ رَجُلًا، لَا يُشْرِكُونَ بِاَللَّهِ شَيْئًا، إِلَّا شَفَّعَهُمْ اَللَّهُ فِيهِ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ، ليستدل به على استحباب تكثير المصلين على الجنازة.
وفي حديث عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما من ميت يصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون له إلا شفعوا فيه) رواه مسلم.
قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله: " ومعلوم أن المصلين على الجنازة يشفعون إلى الله لهذا الميت، فهم يسألون من الله له المغفرة والرحمة، والدعاء للميت في الجنازة أوجب ما يكون في الصلاة، بل هو ركن لا تصح صلاة الجنازة إلا به ".
• وإذا قل العدد استحب أن يصفوا ثلاثة صفوف لحديث مالك بن هبيرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما من مسلم يموت فيصلي
عليه ثلاثة صفوف من المسلمين إلا فقد أوجب) رواه أبو داود.
• الحديث دليل على استحباب تكثير المصلين على الميت، وأن من صلى على جنازته أربعون رجلاً [بالشرط المذكور] فإن الله يقبل شفاعتهم فيه.
• في حديث عائشة (يَبْلُغُونَ مِائَةً) وفي حديث ابن عباس (أَرْبَعُونَ رَجُلاً)، وجاء عند الترمذي (ما من ميت يموت فيقوم عليه ثلاثة صفوف من المسلمين إلا وجب) والجمع:
قال القاضي: "قيل هذه الأحاديث خرجت أجوبة للسائلين سألوا عن ذلك فأجاب كل واحد عن سؤاله".
وقال النووي: "ويحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بقبول شفاعة مائة فأخبر به، ثم بقبول شفاعة أربعين فأخبر به، ثم ثلاثة صفوف وإن قل عددهم فأخبر به، وحينئذ كل الأحاديث معمول بها وتحصل الشفاعة بأقل الأمرين من ثلاثة صفوف وأربعين".
• يشترط لشفاعتهم عدم الشرك بالله سواء الشرك الأكبر أو الأصغر، فالمشرك الأكبر لا تصح صلاته، والمشرك الأصغر لا تقبل شفاعته.
• وفيه التحذير من الشرك، وفيه فضل التوحيد بالله.
م/ وقال صلى الله عليه وسلم (مَنْ شَهِدَ اَلْجنَازَةَ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا فَلَهُ قِيرَاطٌ، وَمَنْ شَهِدَهَا حَتَّى تُدْفَنَ فَلَهُ قِيرَاطَانِ". قِيلَ: وَمَا اَلْقِيرَاطَانِ? قَالَ: "مِثْلُ اَلْجَبَلَيْنِ اَلْعَظِيمَيْنِ) متفق عليه.
ذكر المصنف رحمه الله حديث أبي هريرة في قوله صلى الله عليه وسلم (مَنْ شَهِدَ اَلْجِنَازَةَ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا فَلَهُ قِيرَاطٌ، وَمَنْ شَهِدَهَا حَتَّى تُدْفَنَ فَلَهُ قِيرَاطَان .... ) ليستدل به على فضل شهود الجنازة واتباعها.
• أن اتباع الجنائز على مرتبتين:
الأولى: اتباعها من عند أهلها حتى الصلاة عليها.
الثانية: إتباعها من عند أهلها حتى يفرغ من دفنها.
وهذه المرتبة الثانية أفضل لحديث الباب حيث يحصل على قيراطين.
• (كان ابن عمر يصلي عليها ثم ينصرف، فلما بلغه حديث أبو هريرة قال: أكثر علينا أبو هريرة، فأرسل خباباً إلى عائشة يسألها عن قول أبي هريرة ثم يرجع إليه فيخبره ما قالت، وأخذ ابن عمر قبضة من حصى المسجد يقلبها في يده حتى رجع إليه الرسول، وقال: قالت عائشة: صدق أبو هريرة، فضرب ابن عمر بالحصى الذي كان في يده الأرض ثم قال فرطنا في قراريط كثيرة).
• أن هذا الفضل في اتباع الجنائز إنما هو للرجال دون النساء، لقول أم عطية (نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا) فيحرم على المرأة اتباع الجنائز، وهذا مذهب أحمد، ورجحه ابن تيمية وابن القيم.
لنهي النبي صلى الله عليه وسلم، والأصل في النهي أنه للتحريم.
وأما قول أم عطية (ولم يعزم علينا) فهذا اجتهاد منها وتفقه، والعبرة بكلام النبي صلى الله عليه وسلم، أو لعل المراد بقولها:(ولم يعزم علينا) لعلها تريد لم يؤكد النهي.
ويرجح هذا القول: أن في اتباع النساء للجنائز عدة أضرار:
أولاً: مخالطة الرجال.
ثانياً: جزع المرأة وعدم صبرها.
ثالثاً: أنها فتنة.
• قوله (من شهدها حتى تدفن) ظاهره أن حصول القيراط متوقف على فراغ الدفن، وقيل: يحصل بمجرد الوضع في اللحد، لرواية عند مسلم (حتى توضع في اللحد)، وقيل: عند انتهاء الدفن قبل إهالة التراب.
لرواية (حتى توضع في القبر) والله أعلم.
م/ (ونهى النبي صلى الله عليه وسلم أَنْ يُجَصَّصَ الْقَبْرُ، وَأَنْ يُقْعَدَ عَلَيْهِ، وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ).
ذكر المصنف رحمه الله حديث جابر قال (نهى النبي صلى الله عليه وسلم أَنْ يُجَصَّصَ الْقَبْرُ، وَأَنْ يُقْعَدَ عَلَيْهِ .. ) ليستدل به على أمور محرمة تفعل في القبر.
• الحديث دليل على تحريم تجصيص القبر لهذا الحديث.
• والحكمة من النهي: سد ذريعة الشرك، ولما في ذلك من تعظيم القبور والمباهاة فيها، وهذا باب قد يصل بصاحبه إلى الإخلال بالتوحيد، وأن التجصيص والأبنية إنما هو للزينة ولإحكام البناء، ولا حاجة للميت في قبره للزينة، أن في ذلك خيلاء وإسراف، وفي ذلك تضييعاً للمال، ويلحق بالتجصيص كل ما شابهه من تلوين القبر أو تزويق أو تخليق أو جعل الرخام عليه.
• الحديث دليل على تحريم الجلوس على القبر، لأنه نهي والأصل في النهي التحريم، وما يدل على التحريم حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه، فتخلص إلى جلده، خير له أن يجلس على قبر). رواه مسلم
• الحديث دليل على تحريم البناء على القبور لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، والأصل في النهي التحريم.
• الحكمة من ذلك: أن ذلك وسيلة إلى عبادتها، وأن هذا من فعل عباد القبور والروافض، سد باب الشرك، أن ذلك إسرافاً وتضييعاً للمال.
م/ كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا فَرَغَ مِنْ دَفْنِ الْمَيِّتِ وَقَفَ عَلَيْهِ وَقَالَ: (اِسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُمْ وَسَلُوا لَهُ التَّثْبِيتَ، فَإِنَّهُ الْآنَ يُسْأَلُ). رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ
ذكر المصنف رحمه الله حديث عُثْمَانَ رضي الله عنه قَالَ (كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا فَرَغَ مِنْ دَفْنِ الْمَيِّتِ وَقَفَ عَلَيْهِ وَقَالَ: "اِسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُمْ وَسَلُوا لَهُ التَّثْبِيتَ، فَإِنَّهُ الْآنَ يُسْأَلُ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ ليستدل به على استحباب الدعاء للميت بعد دفنه.
• الحديث دليل على استحباب الدعاء للميت بعد دفنه بهذا الدعاء الوارد.
• أنه لا تشرع الموعظة عند القبر، حيث أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد عنه ذلك ولم يفعل، وإنما الوارد هو الدعاء له بالثبات والاستغفار، وهذا هو الصحيح، فلم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من الصحابة الوعظ عند القبر.
وقد ورد حديث البراء قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلى القبر ولمّا يلحد، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله كأنما على رؤوسنا الطير، فقال: استعيذوا بالله من عذاب القبر
…
). رواه أبو داود
فهذا يدل على جواز الموعظة عند القبر في بعض الأحيان وليس ذلك سنة راتبة، بل إن قول البراء في الحديث (ولمّا يلحد) دليل على أن الوعظ كان لعارض وهو تأخر دفن الميت، لأن القبر لم يجهز، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم موعظة أصحابه إلى أن يُنتهى من تجهيز القبر.
• أن الدعاء ينفع الميت، وهو أفضل ما يقدم للميت، قال النووي: " أجمع العلماء على أن الدعاء للأموات ينفعهم ويصلهم ثوابه، قال تعالى:(وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ) وقال صلى الله عليه وسلم:
(اللهم اغفر لحينا وميتنا).
• إثبات سؤال القبر، وأن العبد إذا وضع في قبره يسأل ويفتن، وفتنة القبر: هي سؤال الملكين الميت عن ربه ودينه ونبيه.
وفتنة القبر ثابتة بالكتاب والسنة:
قال تعالى: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ).
وعن البراء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (المسلم إذا سئل في القبر يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فذلك قوله:
(يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة).
وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما في حديث صلاة الكسوف، وفيه: قال صلى الله عليه وسلم: (وأنه قد أوحي إلي أنكم تفتنون في القبور قريباً أو مثل فتنة
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
المسيح الدجال
…
). متفق عليه
وعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: (اللهم إني أعوذ بك من الكسل والهرم، والمأثم والمغرم، ومن فتنة القبر وعذاب القبر
…
). متفق عليه
وعن عائشة رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (فبي تفتنون وعني تسألون). رواه أحمد
وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: (استغفروا لأخيكم وسلوا له التثبيت، فإنه الآن يسأل). رواه أبو داود
• من يقوم بالفتنة؟
الذي يقوم بالفتنة في القبر، هما: منكر ونكير.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا قبر الميت، أو قال: أحدكم، أتاه ملكان أسودان أزرقان يقال لأحدهما المنكر والآخر النكير، فيقولان: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: ما كان يقول: هو عبد الله ورسوله، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله .............. ) رواه الترمذي
• الذين لا يفتنون:
أ- الأنبياء.
لأن الأنبياء يُسأل عنهم، فيقال للميت: من نبيك؟.
ب- الشهداء.
عن رشد بن سعد عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله، ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهيد؟ قال:(كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة). رواه النسائي
ج- الصديق.
قيل: لا يسأل.
إذا كان الشهيد لا يفتن، فالصديق أجل خطراً وأعظم أجراً أن لا يفتن.
لأنه مقدم ذكره في التنزيل على الشهداء.
وقد صح في المرابط الذي هو دون الشهيد أنه لا يفتن، فكيف بمن هو أعلى رتبة منه ومن الشهيد.
وقيل: يسأل.
قال ابن القيم: " الأحاديث الصحيحة ترد هذا القول وتبين أن الصديق يسأل في قبره كما يسأل غيره " والله أعلم
وهذا القول هو الراجح.
د- المرابط.
قال صلى الله عليه وسلم: (رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله، وأجري عليه رزقه، وأمن الفتان). رواه مسلم عن سلمان
م/ ويستحب تعزية المصاب بالميت.
أي: يستحب تعزية المصاب بالميت، قال ابن قدامة: لا نعلم في ذلك خلافاً.
والتعزية: هي أن يسلى أهل الميت، بما يحملهم على الصبر بوعد الأجر، ويرغبهم في الرضا بالقضاء والقدر، ويدعو للميت المسلم.
والأدلة على مشروعيتها:
قوله تعالى (وتعاونوا على البر والتقوى).
وثبتت التعزية من فعله صلى الله عليه وسلم: عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ كُنَّا عِنْدَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ إِحْدَى بَنَاتِهِ تَدْعُوهُ وَتُخْبِرُهُ أَنَّ صَبِيًّا لَهَا - أَوِ ابْناً لَهَا - فِى الْمَوْتِ فَقَالَ لِلرَّسُولِ: ارْجِعْ إِلَيْهَا فَأَخْبِرْهَا إِنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ وَلَهُ مَا أَعْطَى وَكُلُّ شَىْءٍ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى فَمُرْهَا فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ» فَعَادَ الرَّسُولُ فَقَالَ إِنَّهَا قَدْ أَقْسَمَتْ لَتَأْتِيَنَّهَا. قَالَ فَقَامَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم وَقَامَ مَعَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَانْطَلَقْتُ مَعَهُمْ فَرُفِعَ إِلَيْهِ الصَّبِىُّ وَنَفْسُهُ تَقَعْقَعُ كَأَنَّهَا فِى شَنَّةٍ فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ مَا هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ فِى قُلُوبِ عِبَادِهِ وَإِنَّمَا يَرْحَم اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ) متفق عليه
عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَبِى سَلَمَةَ وَقَدْ شَقَّ بَصَرُهُ فَأَغْمَضَهُ ثُمَّ قَالَ (إِنَّ الرُّوحَ إِذَا قُبِضَ تَبِعَهُ الْبَصَرُ». فَضَجَّ نَاسٌ مِنْ أَهْلِهِ فَقَالَ «لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ بِخَيْرٍ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ يُؤَمِّنُونَ عَلَى مَا تَقُولُونَ». ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لأَبِى سَلَمَةَ وَارْفَعْ دَرَجَتَهُ فِى الْمَهْدِيِّينَ وَاخْلُفْهُ فِى عَقِبِهِ فِى الْغَابِرِينَ وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ وَافْسَحْ لَهُ فِى قَبْرِهِ. وَنَوِّرْ لَهُ فِيهِ) رواه مسلم.
• وقوله (ويعزى المصاب) قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "ولم يقل تعزية القريب ...... فكل مصاب ولو بعيداً يُعزى، وكل من لم يصب ولو قريباً فإنه لا يعزى، من أصيب فعزه، ومن لم يصب فلا تعزه".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
• ليس للتعزية دعاء محدد، فلو عزاه بأي صيغة جاز، قال النووي:"فأما لفظ التعزية فلا حجر فيها، فبأي لفظ عزاه حصلت". وقال الشوكاني: "فكل ما يجلب للمصاب صبراً يقال له تعزية بأي لفظ كان، ويحصل به للمعزي الأجر المذكور في الأحاديث".
ومن الصيغ: إِنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ وَلَهُ مَا أَعْطَى وَكُلُّ شَىْءٍ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى فَمُرْهَا فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ.
كما سبق في قوله صلى الله عليه وسلم لابنته في وفاة ابنها، قال النووي:"وهذا الحديث أحسن ما يعزى به".
ومنها: (اتقي الله واصبري) متفق عليه.
ومنها: (اللهم اغفر لأبي سلمة وارفع درجته في المهديين وأخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين، وأفسح له في
قبره ونور له فيه) رواه مسلم.
وإن قال: عظم الله أجركم، أو أحسن الله مصابكم، فكله جائز.
• ليس للتعزية وقت محدد، بل يعزى المصاب ما دام أن المصيبة قائمة، لأن التعزية للتقوية والتسلية، والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، وذهب بعض العلماء إلى أن مدة التعزية ثلاثة أيام وهو قول ضعيف، وحديث لا عزاء فوق ثلاث، لا أصل له، قاله الألباني.
م/ وبكى النبي صلى الله عليه وسلم على الميت وقال: إنها رحمة.
ذكر المصنف رحمه الله قطعة من حديث أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: (كُنَّا عِنْدَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ إِحْدَى بَنَاتِهِ تَدْعُوهُ وَتُخْبِرُهُ أَنَّ صَبِيًّا لَهَا - أَوِ ابْناً لَهَا - في الْمَوْتِ فَقَالَ لِلرَّسُولِ: ارْجِعْ إِلَيْهَا فَأَخْبِرْهَا إِنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ وَلَهُ مَا أَعْطَى وَكُلُّ شيء عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى فَمُرْهَا فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ» فَعَادَ الرَّسُولُ فَقَالَ إِنَّهَا قَدْ أَقْسَمَتْ لَتَأْتِيَنَّهَا. قَالَ فَقَامَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم وَقَامَ مَعَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَانْطَلَقْتُ مَعَهُمْ فَرُفِعَ إِلَيْهِ الصَّبِىُّ وَنَفْسُهُ تَقَعْقَعُ كَأَنَّهَا فِى شَنَّةٍ فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ مَا هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ فِى قُلُوبِ عِبَادِهِ وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ). متفق عليه، ليستدل به على جواز البكاء على الميت من غير نياحة، وقد جاءت أحاديث كثيرة تدل على الجواز:
فقد بكى لما مات ابن ابنته: كما في حديث أسامة السابق.
وبكى لما ماتت ابنته: كما في حديث أنس قال (شهدتُ بنتاً للرسول صلى الله عليه وسلم تدفن، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس عند القبر، فرأيت عينيه تدمعان) رواه البخاري.
وبكى لما زار سعد بن عبادة: كما في حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ (اشْتَكَى سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ شَكْوَى لَهُ فَأَتَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعُودُهُ مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَسَعْدِ بْنِ أَبِى وَقَّاصٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ وَجَدَهُ فِى غَشِيَّةٍ فَقَالَ «أَقَدْ قَضَى». قَالُوا لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَبَكَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا رَأَى الْقَوْمُ بُكَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَكَوْا فَقَالَ «أَلَا تَسْمَعُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُ بِدَمْعِ الْعَيْنِ وَلَا بِحُزْنِ الْقَلْبِ وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا - وَأَشَارَ إِلَى لِسَانِهِ - أَوْ يَرْحَمُ) متفق عليه.
وبكى لما مات ابنه إبراهيم: كما في حديث أنس قال (دخلنا مع النبي صلى الله عليه وسلم على ابنه إبراهيم وهو يجود بنفسه، فجعلت عينا رسول الله تذرفان، فقال له عبدالرحمن بن عوف وأنت يا رسول الله! فقال: يا ابن عوف، إنها رحمة، ثم أتبعها بأخرى، فقال: إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون) رواه البخاري.
ومنها: بكاؤه صلى الله عليه وسلم لما نعى جعفر وأصحابه. متفق عليه.
بل ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إلى استحباب البكاء على الميت إذا كان رحمة له.
قال رحمه الله: " .... لكن البكاء على الميت على وجه الرحمة حسن مستحب، وذلك لا ينافي الرضا بخلاف البكاء عليه لفوات حظ فيه، وبهذا يعرف معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم لما بكى على الميت وقال (هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ فِى قُلُوبِ عِبَادِهِ وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ) فإن هذا ليس كبكاء من يبكي لحظه لا لرحمة الميت ".
م/ مع أنه لعن النائحة والمستمعة.
أي: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لعن النائحة على الميت، وكذلك المستمعة، ففي حديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ (لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اَلنَّائِحَةَ، وَالْمُسْتَمِعَةَ). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ
النائحة: هي التي تبكي بصراخ وجزع. (والمستمعة) أي التي تقصد سماع النياحة، ففيه أن المستمعة للنياحة راضية بذلك، فهي آثمة، فلا يجوز الجلوس مع أهل المنكر إلإ بالإنكار عليهم أو القيام عنهم، قال تعالى:(وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ).
ومن الأدلة على تحريم النياحة:
عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية) متفق عليه.
وعن أبي مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب
…
والنياحة، وقال: النائحة إذا لم تتب قبل موتها، تقام عليها يوم القيامة سربال من قطران ودرع من جرب) رواه مسلم.
[إذا لم تتب] أي تقلع [تقام يوم القيامة] تبعث من قبرها. [سربال] أي قميص. [ودرع من جرب] أي: يسلط على أعضائها الجرب والحكة بحيث يغطي بدنها تغطية الدرع وهو القميص.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (اثنتان في الناس هم بهما كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت) رواه مسلم.
م/ وقال (زوروا القبور، فإنها تذكر الآخرة) رواه مسلم.
ذكر المصنف رحمه الله حديث بُرَيْدَةَ بْنِ الْحُصَيب الْأَسْلَمِيِّ رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم (كنتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا، فإنها تذكر الآخرة) رَوَاهُ مُسْلِمٌ، ليستدل به على استحباب زيارة القبور للرجال.
وهذا مذهب جماهير العلماء، أن زيارة القبور للرجال مستحبة، بل نقل بعضهم الإجماع كالنووي.
ولحديث أبي هريرة قال: (زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه، فبكى وأبكى من حوله فقال: استأذنت في أن أستغفر لها فلم يؤذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكر الموت). رواه مسلم
فهذا دليل على استحباب زيارة القبور من فعل النبي صلى الله عليه وسلم ومن أمره.
• الحكمة من زيارة القبور:
أولاً: العبرة والاتعاظ، فقد جاء في رواية (تذكر الآخرة)(تذكر الموت)(وتزهد في الدنيا وترق القلب).
ثانياً: انتفاع الميت بالدعاء والاستغفار له.
ثالثاً: الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم.
• قال شيخ الإسلام: "وأما الزيارة البدعية فهي التي يقصد بها أن يطلب من الميت الحوائج، أو يطلب منه الدعاء والشفاعة، أو يقصد الدعاء عند قبره لظن القاصد أن ذلك أجوب للدعاء، فالزيارة على هذه الوجوه كلها مبتدعة".
• ليس لزيارة القبور وقت معين، وقد ذهب بعض العلماء إلى أن الأفضل في زيارة القبور أن يكون يوم الجمعة، واستدل هؤلاء بحديث:(من زار قبر والديه أو أحدهما في كل جمعة مرة غفر له وكتب باراً). وهو حديث ضعيف وقالوا: إن الموتى يعلمون بزوارهم يوم الجمعة.
لكن الصحيح أن زيارة القبور ليس لها وقت معين لا يوم ولا وقت، بل ظاهر الأحاديث التي فيها الأمر بزيارة القبور، لم تحدد زمناً ولا وقتاً، وأما الحديث فضعيف لا يصح، ومثل هذا الحديث لا يصلح الاعتماد عليه ولا العمل به مطلقاً.
وأما قولهم إن الموتى يعلمون بزوارهم يوم الجمعة، فهذا القول لا دليل عليه سوى بعض الأخبار والمنامات، ومن المقرر عند أهل العلم أن الاحتجاج بالمنامات لا يصح لإثبات الأحكام الشرعية.
• وقوله (فزوروها) استدل به من قال بجواز زيارة النساء للقبور.
وهذا مذهب الجمهور، قال النووي:"بالجواز قطع الجمهور".
واستدلوا بحديث أنس قال: (أتى النبي صلى الله عليه وسلم على امرأة تبكي عند قبر، فقال لها: اتقي الله واصبري
…
).
قال الحافظ: "وموضع الدلالة من الحديث أنه صلى الله عليه وسلم لم ينكر على المرأة قعودها عند القبر، وتقريره حجة".
وبحديث بريدة (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها).
وجه الدلالة: أن الخطاب عام، فيدخل فيه النساء، قال الحافظ:"هو قول الأكثر، ومحله إذا أمنت الفتنة".
وبحديث عائشة الطويل، وفيه: (قالت: كيف أقول لهم يا رسول الله؟ قال: قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين
…
). رواه مسلم قالوا: وتعليم النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة هذا الدعاء يدل على جواز زيارة المقابر للنساء.
القول الثاني: أنها مكروهة، وهذا مذهب الحنابلة.
لحديث أم عطية: (نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا).
قالوا: والزيارة من جنس الاتباع، فيكون كلاهما مكروهاً غير محرم.
القول الثالث: أنها حرام.
وهذا اختيار ابن تيمية وتلميذه ابن القيم.
لحديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَعَنَ زَائِرَاتِ الْقُبُورِ) أَخْرَجَهُ اَلتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ
ولأن سد الذرائع مقدم على جلب المنافع.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وأما الإجابة عن أدلة من قال بالإباحة:
أما حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ بامرأة تبكي عند قبر فقال: اتقي الله واصبري
…
) فيجاب عنه:
أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقرّ المرأة على فعلها، بل أمرها بتقوى الله التي هي فعل ما أمر به وترك ما نهى عنه، ومن جملتها النهي عن زيارة القبور، ففي هذا إنكار قعودها عند القبر، وإذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال.
قال ابن ابن القيم: "احتج به على جواز زيارة النساء للقبور، فإنه صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليها الزيارة وإنما أمرها بالصبر، ولو كانت حراماً لبيّن لها حكمها، وأجيب عن هذا بأنه صلى الله عليه وسلم قد أمرها بتقوى الله والصبر، وهذا إنكار منه لحالها من الزيارة والبكاء".
أن هذه القضية لا يعلم هل كانت قبل أحاديث المنع من زيارة النساء للقبور أو لا؟ وهي إما أن تكون دالة على الجواز فلا دلالة على تأخرها عن أحاديث المنع، أو تكون دالة على المنع بأمرها بتقوى الله فلا دلالة فيها، وعلى الجواز على التقديرين لا تعارض أحاديث المنع، ولا يمكن دعوى نسخها بها.
أما قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها) فيجاب عنه:
• أنه خطاب للرجال دون النساء، فإن اللفظ لفظ مذكر وهو مختص بالذكور بأصل الوضع فلا يدخل فيه النساء، وهذا هو المذهب الصحيح المختار في الأصول.
وعلى هذا فالإذن لا يتناول النساء فلا يدخلن في الحكم الناسخ.
• أن الخطاب إن كان متناولاً للنساء بطريق التبع والتغليب، فإن للعلماء في ذلك قولين:
قيل: إن ذلك يحتاج إلى دليل منفصل، وحينئذٍ فيحتاج تناول ذلك للنساء إلى دليل منفصل، وقيل: إنه يحمل على ذلك عند الإطلاق، وعلى هذا فيكون دخول النساء بطريق العموم ضعيف، والعام لا يعارض الأدلة الخاصة المستفيضة في نهي النساء عن زيارة القبور، بل ولا ينسخها عند جمهور العلماء، حتى ولو علم تأخر العام وتقدم الخاص، فكيف إذا لم يعرف أن هذا العام بعد الخاص إذ قد يكون نهي النساء عن زيارة القبور بعد الإذن للرجال في زيارة القبور، بل هذا هو الأقرب.
أما حديث عائشة: (قولي: السلام على أهل الديار
…
) فيجاب عنه:
• بأن الحديث لا دلالة فيه على جواز زيارة القبور للنساء، لأن الحديث إنما سيق لتعليم السلام على أهل القبور دون إباحة الزيارة للنساء، وقد تمر المرأة على أهل القبور في مسير لها من غير قصد الزيارة فتحتاج إلى التسليم عليهم، فلا يلزم من تعليمه لهن إباحة الزيارة قصداً.
• أن هذا التعليم من النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة يحتمل أن يكون قبل النهي الأكيد والوعيد الشديد لزوّارات القبور.
م/ وينبغي لمن زارها أن يقول: السلام عليكم أهل دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لا حقون ....
ذكر المصنف رحمه الله الدعاء الذي يقال عند زيارة القبور، وهو رحمه الله ذكر دعاء لكنه في الواقع مجمع من عدة أحاديث، ولذلك سأذكر كل دعاء لوحده بالحديث الذي ذكر به.
منها: حديث بريدة قال (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقول قائلهم: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية رواه مسلم
جاء في رواية: (أنتم لنا فرط، ونحن لكم تبع، أسأل الله لنا ولكم العافية). رواه مسلم
ومنها: حديث عائشة في حديث لها طويل قالت: (قلت: كيف أقول لهم يا رسول الله؟ قال: قولي السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منّا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون). رواه مسلم
ومنها: حديثها الثاني قالت (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما كان ليلتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقول: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وأتاكم ما توعدون غداً مؤجلون، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد). رواه مسلم
م/ وأي قربة فعلها وجعل ثوابها لحي أو ميت مسلم نفعَه ذلك.
المراد بالقربة ما يُتقرب به إلى الله تعالى من الطاعات مثل الدعاء، والاستغفار، والصدقة، والصلاة، والصوم، والحج، وقراءة القرآن وغير ذلك، فلا فرق بين القربة البدنية والمالية.
قوله (فعلها) أي: فعلها شخص مسلم سواء كان من أقارب الميت أو من غيرهم.
قوله (نفعه) أي: يصل ثوابها إليه بكرم الله ورحمته.
وهذا ما ذهب إليه المؤلف هو أحد الأقوال في المسألة: وهو أن جميع القرب تُهدى للأموات ويصل ثوابها إليهم، وهذا مذهب الحنابلة.
واستدلوا بالقياس على ما ثبت في الشرع.
والقول الثاني في المسألة: أنه لا يهدى للأموات إلا ما دل الدليل على جواز إهدائه، لأن وصول الثواب إلى الأموات من الأمور التوقيفية التي لا مجال للرأي فيها، وإنما يعمل فيها بما يقتضيه الدليل.
وقد ورد النص في أمور ينتفع بها الميت:
منها: الدعاء، وهذا بالإجماع.
قال تعالى (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ).
وقال صلى الله عليه وسلم (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: .... وذكر منها أو ولد صالح يدعو له) رواه مسلم.
وصلاة الجنازة، فإن أهم ما فيها الدعاء للميت.
والأدعية التي سبقت التي تقال في صلاة الجنازة للميت.
وكذا الدعاء له بعد الدفن، كما في سنن أبي داود من حديث عثمان قال (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال: استغفروا لأخيكم، واسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل).
وكذلك الدعاء لهم عند زيارة قبورهم.
ومنها: الصدقة.
لحديث عائشة قالت (أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أمي افتُلتتْ نفسُها، وأظنها لو تكلمت تصدقت، فهل لها أجر إن تصدقتُ عنها، قال: نعم) متفق عليه.
وعن عبد الله بن عباس (أن سعد بن عبادة توفيت أمه وهو غائب عنها، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن أمي توفيت وأنا غائب عنها، فهل ينفعها إن تصدقتُ عنها، قال: نعم) رواه البخاري.
ومنها: الصوم.
لحديث عائشة. قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من مات وعليه صيام صام عنه وليه) متفق عليه.
ومنها: الحج.
لحديث ابن عباس (أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمي نذرتْ أن تحج فلم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟ قال: نعم، حجي عنها، أرأيتِ لو كان على أمكِ دينٌ أكنتِ قاضيتَه؟ اقضوا الله، فالله أحق بالوفاء) رواه البخاري.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ومنها: الدين.
فقد أجمع المسلمون على أن قضاء الديْن من ذمةِ الميت يسقطه، ولو كان من أجنبي، ومن غير تركته.
وقد دل على ذلك حديث أبي هريرة. عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن توفيَ من المؤمنين فترك ديْناً فعليّ قضاؤه، ومن ترك مالاً فلورثته) متفق عليه.
واختلفوا في العبادات البدنية كالصلاة وقراءة القرآن وغيرها:
فقال بعض العلماء بالجواز.
كما ذكر ذلك المؤلف رحمه الله.
واستدلوا بالقياس على ما ثبت في الشرع.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه لا يصل شيء من ذلك.
لأن ذلك لم يكن من فعل السلف، فلم يكن السلف إذا قرأ أحدهم القرآن أهدى ثوابه لميته، أو صلى تطوعاً أهدى ذلك للأموات، أو صام تطوعاً وأهدى ذلك للأموات، فالأفضل والأولى الاقتصار على ما ورد به النص.
وهذا القول هو الراجح.
كتاب الزكاة
مقدمة:
تعريفها:
لغة: النماء والزيادة.
وشرعاً: هي نصيب مقدر شرعاً في مال معين يصرف لطائفة مخصوصة.
وسميت زكاة:
لأنها تزكي المال، وتزكي صاحب المال، وتطهر نفس الغني من الشح والبخل، وتطهر نفس الفقير من الحسد والضغينة، وتسد حاجة الإسلام والمسلمين.
كما قال تعالى (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها).
وقال صلى الله عليه وسلم (ما نقصت صدقة من مال) رواه مسلم.
ومن حِكمِها: تطهير أصحاب الأموال من الشح والبخل، تقوية روابط المجتمع، تزيد المحبة والمودة بين أفراد المجتمع، وأيضاً فيها امتحان للنفس، لأن المال محبوب للنفس، والنفس تبخل به، إعانة الضعفاء وكفاية أصحاب الحاجة، وتكفر الخطايا وتدفع البلاء، ومجلبة للمحبة.
• حكمها: واجبة بالكتاب والسنة والإجماع.
قال تعالى (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة).
وقال تعالى (وقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ).
وقال تعالى (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ).
ولحديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة
…
) متفق عليه.
ولحديث بعث معاذ إلى اليمن وفيه: (وأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة، تؤخذ من أغنيائهم فترد إلى فقرائهم) متفق عليه.
وأجمع المسلمون على وجوبها، فمن جحد وجوبها وهو ممن عاش بين المسلمين فإنه كافر، لأنه مكذب لله ولرسوله ولإجماع المسلمين.
• إذا تركها تهاوناً وكسلاً:
فالصحيح أنه لا يكفر، وهذا مذهب للجمهور:
لحديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ذكر عقوبة من لم يؤد الزكاة قال (
…
فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار) رواه مسلم، وهذا يدل على أنه لا يكفر، إذ لو كان كافراً ما كان له سبيل إلى الجنة.
• وتؤخذ منه قهراً، ولكن هل تبرأ ذمته؟ اختلف العلماء على قولين:
القول الأول: أن الإمام إذا أخذ الزكاة قهراً بلا نية من المزكي فإنها تجزئ عن صاحبها.
وهذا قول الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة.
قالوا: أن للإمام ولاية في أخذها، ولذلك يأخذها من الممتنع اتفاقاً، ولو لم تكن مجزئة لما أخذها.
القول الثاني: أن الإمام إذا أخذ الزكاة قهراً بلا نية من المزكي فإنها لا تجزئ عن صاحبها باطناً، وإن أجزأت ظاهراً، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية.
لأن الزكاة عبادة، يشترط لصحتها نية التعبد لله تعالى، فلا تسقط مع القدرة عليها، وهذا القول أصح.
•
مناسبة كتاب الزكاة بعد كتاب الصلاة لأربعة أسباب:
أولاً: لأن الزكاة قرينة الصلاة في كثير من المواضع.
ثانياً: لأنها تأتي بعد الصلاة في الأهمية.
ثالثاً: شدة حاجة المكلف إليها.
رابعاً: اقتداء بحديث ابن عمر (بني الإسلام على خمس
…
وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة
…
).
عقوبة تارك الزكاة:
عقوبة أخروية، وعقوبة دنيوية:
العقوبة الأخروية:
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مُثّل له يوم القيامة شجاعاً أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة، ثم يأخذ بلهزمتيه - يعني بشدقيه - ثم يقول: أنا كنزك، أنا مالك) متفق عليه.
[الشجاع] الحية الذكر. [الأقرع] الذي لا شعر له لكثرة سمه وطول عمره. [الزبيبتان] نقطتان سوداوان فوق العينين وهو أخبث الحيات.
العقوبة الدنيوية:
عن ابن عمر قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم (
…
وما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء» رواه ابن ماجه.
فرض الزكاة:
أصل فرضها في مكة - كما قاله ابن كثير - لقوله تعالى (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) وقال تعالى (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ). وهذه آيات مكية.
وأما فرضها بتقدير الأنصبة والمقادير فهو في المدينة في السنة الثانية.
م/ وهي واجبة على كل مسلمٍ.
بدأ المؤلف رحمه الله بذكر شروط الزكاة العامة، فذكر الشرط الأول وهو: الإسلام.
فالكافر لا تجب عليه ولا تصح منه، لقوله تعالى (وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله).
ولحديث ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذاً إلى اليمن. الحديث فيه (
…
فادعهم إلى التوحيد، فإن هم أجابوك فأعلمهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم) متفق عليه.
• ولا يطالب بها إذا أسلم.
لقوله تعالى (قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف).
م: حر.
هذا الشرط الثاني، أن يكون حراً، فلا تجب على العبد، لأنه لا يملك، لأن المال الذي بيده لسيده.
م/ ملَكَ نصاباً.
هذا الشرط الثالث، وهو أن يملك نصاباً. فلا بد أن يكون عند الإنسان مال يبلغ النصاب الذي قدره الشرع، وهو يختلف باختلاف الأموال، فإن لم يكن عند الإنسان نصاب فإنه لا زكاة فيه.
• النصاب: هو القدر الذي رتب الشارع وجوب الزكاة عليه.
ودليل هذا الشرط أدلة كثيرة:
عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ليس فيما دون خمس أواق صدقة، وليس فيما دون خمس ذود صدقة) متفق عليه. [
أواق] جمع أوقية وهي تعادل أربعين درهماً [ذود] ليس له مفرد من لفظه، ويطلق على الثلاث من الإبل إلى العشر.
وفي حديث أنس (في كل أربعين شاة شاة).
م/ ولا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول.
هذا الشرط الرابع، بأن يمر عليها حول وهي في حوزة مالكها (أي: أن يتم على المال بيد صاحبه سنة كاملة).
لحديث علي قال: قال صلى الله عليه وسلم (لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول) رواه أبوداود [وهو مختلف بين رفعه ووقفه].
والأقوى أنه موقوف على أبي بكر وعثمان وعلي وابن عمر وعائشة كما ذكر ذلك الدارقطني وابن عبد الحق وابن حجر.
ويغني عن هذا الأثر - المختلف فيه - السنة الفعلية، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث عماله على الصدقة كل عام ثم عمل بذلك الخلفاء بما عملوه من سنته، بل بعضهم من السعاة كعمر.
ومن النظر: اشتراطه فيه رفق بالمالك ليتمالك النماء فيواسي منه، لأنها لو وجبت في كل شهر لكان ذلك ضرراً في المالك أو بأصحاب الأموال، ولو وجبت في السنتين أو الثلاث أو أكثر لكان ذلك ضرراً على أهل الزكاة.
• وهذا الشرط خاص بالأنعام [وهي الإبل والبقر والغنم] و السلع التجارية والنقود.
• اعتبر الحول في النعم، لأنها مرصدة للدر والنسل، والحول مظنة النماء، فيكون إخراج الزكاة من الريع فيكون أسهل وأيسر.
• لم يذكر المصنف رحمه الله التكليف [بأن يكون بالغاً عاقلاً] لأن القول الراجح أن الزكاة تجب في مال الصبي والمجنون، وهذا مذهب أكثر العلماء.
لعموم الأدلة التي تدل على وجوب الزكاة في مال الأغنياء ولم تستثن.
وقوله تعالى (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم
…
) وكل الأغنياء من عاقل ومجنون، وصغير وكبير، محتاج إلى طهارة الله لهم وتزكيته إياهم.
ولحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من ولي يتيماً له مال فليتجر به ولا يتركه حتى تأكله الصدقة). رواه الترمذي
ولأن المعنى الذي فرضت من أجله الزكاة وهو شكر الله جل وعلا وطهارة المال، يسري على مال الصبي والمجنون، إذ هما بحاجة إلى شكر الله وطهارة أموالهم أسوة بغيرهم من الأغنياء.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وأيضاُ فإن المقصود من الزكاة سد خلة الفقير من مال الغني، وذلك لأمرين: الأمر الأول: شكراً لله تعالى على نعمة المال، الأمر الثاني: تطهيراً للمال، ومالهما قابل لأداء القربات منه، وهو محل للشكر ومحل للتطهير.
ولأن الزكاة واجب مالي، فتجب في مالهما كغيرهما من ذوي اليسار.
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث سعاته لقبض الزكاة ولم يقل لهم لا تأخذوا الزكاة من مال المجانين والصبيان مع كثرة وجود ذلك.
أن هذا قول أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقد قال بوجوبها: عمر وعلي وعائشة وابن عمر وجابر ولا يعلم لهم مخالف.
قال عمر: اتجروا في أموال اليتامى ولا تأكلها الصدقة.
وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا تجب الزكاة في مال الصبي والمجنون.
لقوله صلى الله عليه وسلم: (رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون حتى يصحو، وعن الصبي حتى يبلغ
…
).
وقالوا: إن الأمر بأخذ الزكاة من الأغنياء للتطهير والتزكية، والصبي والمجنون ليسا في حاجة إلى ذلك، لأن التطهير إنما يكون من الذنوب ولا ذنب لهما.
والراجح القول الأول.
والجواب عن حديث (رفع القلم عن ثلاثة:
…
) أن هذا الحديث في العبادات البدنية، لضعف عقله وبدنه بخلاف المالية، فإن مالَه كمالِ غيره (مالٌ نامٍ تام الشروط لا مانع منه).
مسألة مهمة: الأجرة هل يشترط لها الحول أم لا؟ كأجرة العقارات على سبيل المثال؟
كما لو كان لشخص عقار، فأجر هذا العقار فهل هذه الأجرة يشترط في وجوب الزكاة فيها الحول أم لا؟ اختلف العلماء فيها على ثلاثة أقوال:
القول الأول: انها تجب بعد مضي حول على العقد.
وهذا مذهب الحنابلة والشافعية.
مثال: رجل أجر عقاره في (1 محرم) من عام 24 - إذا جاء (1 محرم) من عام 25 وجبت الزكاة من غير فرق بين أن يكون قبض الزكاة عند العقد أو بعد مرور شهر أو مرور شهرين أو مرور سنة.
لكنه لا يلزمه إخراج الزكاة إلا إذا قبضها.
دليلهم يقولون لأنه بالعقد صار مستحقاً للزكاة، فكأنه صار مالكاً لها في ذلك الوقت.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
القول الثاني: تجب بعد مضي حول على القبض
وهذا مذهب أبي حنيفة
بمعنى انه لو استهلكها بعدما قبضها فإنه لا زكاة فيها.
لعموم الأدلة كحديث (لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول).
ومن النظر: قالوا لأنه قبل القبض غير قادر على الاستفادة من هذا المال، فكأن هذا المال غير نامٍ.
القول الثالث: لا يشترط الحول أصلاً وإنما يخرج الزكاة وقت القبض، متى قبض الأجرة أخرج زكاتها.
اختيار ابن تيمية وجمع من المعاصرين.
لأن أجرة العقار بمنزلة الثمرة الحادثة.
والقول الثاني هو الراجح. والله أعلم.
• يستثنى مما لا يشترط له حولان الحول ما ذكره المصنف رحمه الله بقوله:
م/ الخارج من الأرض.
فالخارج من الأرض من الحبوب والثمار، لا يشترط له مضي عام كامل، بل يجب إخراج زكاتها عند حصادها واستخراجها من الأرض.
لقوله تعالى (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ).
م/ وما كان تابعاً للأصل، كنماء النصاب، وربح التجارة، فإن حولَهما حول أصلهما.
أي: ومما لا يشترط له حولان الحول:
نماء النصاب: فحول النتاج حول الأمهات.
مثال: لو كان عند شخص (120) من الغنم ففيها شاتان، وقبل تمام الحول بشهر ولدت مائة، فأصبح له (220) ففيها ثلاث شياه، مع أن أولادها لم يتم لها إلا شهر (أي لم يحول عليه الحول)، لكن تجب فيه الزكاة لأن حوله حول أصله.
مثال آخر: لو أن إنساناً عنده أربعون شاة، فأنتجت هذه الأربعون حتى أصبحت مائة وإحدى وعشرين شاة، فهنا يجب إخراج زكاتها وهي شاتان، مع أن النماء لم يحل عليه الحول، وذلك لأن النماء يتبع الأصل.
ربح التجارة: فإن حوله حول أصله.
مثال: لو فتح إنساناً محلاً في شهر محرم ورأس ماله خمسة آلاف، ثم إنه ربح في شهر محرم خمسة آلاف، وفي شهر صفر خمسة آلاف، وفي شهر ربيع خمسة آلاف، ولما انتهت السنة فإذا معه خمسون ألفاً، ففي هذه الحالة يزكي عن الخمسين ألفاً، لأن الربح فرع والفرع تبع للأصل.
مثال آخر: إنسان عنده أرض تساوي خمسين ألفاً، وقبل تمام السنة صارت تساوي مائة ألف، فإنه هنا يزكي عن المائة ألف، مع أن الخمسين الثانية لم يحل عليها الحول، لكنه ربح الخمسين الأولى فيتبع الأصل، لأن الربح فرع والفرع تبع للأصل.
م/ ولا تجب الزكاة إلا في أربعة أنواع: السائمة من بهيمة الأنعام.
أي: أن الأموال التي تجب فيها الزكاة هي أربعة أنواع فقط أولها:
السائمة من بهيمة الأنعام: هي: الإبل والبقر والغنم.
ودليل وجوب الزكاة فيها قوله صلى الله عليه وسلم (ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي زكاتها إلا جاءت يوم القيامة أعظم ما كانت وأسمن تنطحه بقرونها).
• يشترط أن تكون سائمة:
السائمة لغة: الراعية، ومنه قوله تعالى (ومنه شجر فيه تسيمون).
وأما في الشرع: فهي المكتفية بالرعي المباح أكثر العام.
والدليل على أنه يشترط أن تكون سائمة: حديث أنس في الكتاب الذي كتبه أبو بكر في الصدقات: (وفي الغنم في سائمتها في كل أربعين شاة شاة).
وَعَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (فِي كُلِّ سَائِمَةِ إِبِلٍ: فِي أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ .... ) رواه أحمد.
فذكْر السوم في الحديث يدل بمفهومه على أن المعلوفة لا زكاة فيها، لأن ذكْر السوم لا بد له من فائدة يعتد بها، صيانة لكلام الشارع عن اللغو.
فلا تجب الزكاة في بهيمة الأنعام إلا إذا كانت سائمة أكثر الحول ترعى الكلأ المباح، بأن ترعى سبعة أشهر - مثلاً - ويعلفها خمسة أشهر، واعتبر الأكثر، لأن له حكم الكل، وهذا بخلاف المعلوفة فلا زكاة فيها، لأنها تكثر مؤنتها، فيشق على النفوس إخراج الزكاة منها، بخلاف السائمة.
مثال: شخص عنده أغنام، ثمانية أشهر لا يعلفها [في البر] وأربعة أشهر يعلفها، فهذه زكاتها زكاة بهيمة الأنعام.
• الحكمة من اشتراط السوم: الرفق بالمالك.
• أحوال السائمة:
أولاً: أن تسوم الحول فهذه فيها زكاة.
ثانياً: أن ترعى أكثر الحول ففيها الزكاة وهذا المذهب.
رابعاً: أن تكون راعية أقل من النصف فهذه لا زكاة فيها.
• (إذاً يشترط لزكاة بهيمة الأنعام: أن تكون سائمة وأن ترعى الحول كله أو أكثره).
م/ والخارج من الأرض.
هذا النوع الثاني من أنواع الأموال التي فيها الزكاة.
والدليل على وجوب الزكاة فيها قوله تعالى (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ). [وسيأتي تفصيلها إن شاء الله].
م/ والأثمان.
هذا هو النوع الثالث من الأنواع التي فيها الزكاة وهي الأثمان وتشمل: الذهب والفضة والأوراق النقدية التي تنوب عنها، وتشمل أيضاً الأسهم والسندات.
والدليل على وجوب الزكاة فيها قوله تعالى (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ).
وقال صلى الله عليه وسلم (مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ لَا يُؤَدِّى مِنْهَا حَقَّهَا إِلاَّ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ صُفِّحَتْ لَهُ صَفَائِحَ مِنْ نَارٍ فَأُحْمِىَ عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ فَيُكْوَى بِهَا جَنْبُهُ وَجَبِينُهُ وَظَهْرُهُ كُلَّمَا بَرَدَتْ أُعِيدَتْ لَهُ فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ فَيُرَى سَبِيلُهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ) رواه مسلم.
وتجب الزكاة فيها بشرطين: مضي حول كامل، وبلوغ النصاب [وسيأتي تفصيلها إن شاء الله].
• لكن اختلف العلماء في الذهب المباح المستعمل الذي تستعمله المرأة هل فيه زكاة أم لا على قولين:
القول الأول: أنه فيه الزكاة:
وبه قال عمر بن الخطاب، وعبد الله بن عمرو، وعائشة، وسعيد بن جبير، وابن المسيب، وجابر بن زيد، وميمون بن مهران، ومحمد بن سيرين، ومجاهد، والزهري، وعطاء بن أبي رباح، وعبد الله بن شداد، ومكحول، وعلقمة، والأسود، وإبراهيم، وابن المبارك، وابن شبرمة، والطحاوي، وابن حزم، وابن المنذر، والصنعاني.
وهو مذهب أبي حنيفة.
ورجحه الشيخ ابن باز، والشيخ ابن عثيمين رحمهما الله تعالى.
ورجحه احتياطاً: الخطابي، والشنقيطي، وأبو بكر الجزائري، وصالح البليهي. أدلتهم:
قوله تعالى: (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم).
والمراد بكنز الذهب والفضة: عدم إخراج ما يجب فيهما من زكاة وغيرها من الحقوق، والآية عامة في جميع الذهب والفضة، لم تخصص شيئاً دون شيء، فمن ادعى خروج الحلي المباح المستعمل من هذا العموم فعليه الدليل.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ما ثبت في حديث مسلم من قوله صلى الله عليه وسلم: (ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي فيها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح
…
). والحديث عام.
حديث الباب: (عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده).
قال ابن حجر: "إسناده قوي". وقال النووي: "إسناده قوي". وقال ابن الملقن: " إسناده صحيح ".
وقال الشنقيطي: "أقل درجاته الحسن". وقال الألباني: "إسناده حسن".
ولحديث عائشة قالت: (دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يدي فتختان من ورق فقال: ما هذا يا عائشة؟ فقلت: صنعتهن أتزين لك يا رسول الله، فقال: أتؤدين زكاتهن؟ قلت: لا، قال: هو حسبكِ من النار). رواه أبو داود والحاكم قال النووي: " إسناده حسن ". وصححه الألباني.
القول الثاني: أنه لا زكاة فيه.
وبه قال ابن عمر، وجابر، وأنس، وابن مسعود، وأسماء، وعمرة بنت عبد الرحمن، والحسن البصري، وطاووس، والشعبي، وابن المسيب.
وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد. أدلتهم:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه في قوله صلى الله عليه وسلم: (ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة).
قال النووي: " هذا الحديث أصل في أن أموال القنية لا زكاة فيها ".
وحديث جابر رضي الله عنه في قوله صلى الله عليه وسلم: (ليس في الحلي زكاة). رواه البيهقي
وهذا مختلف فيه: فقد ذكر الشيخ البسام: أنه صححه: أبو زرعة، وابن الجوزي، والمنذري، وابن دقيق العيد.
وضعفه: البيهقي، وقال: باطل لا أصل له. وضعفه الألباني.
وروي هذا القول عن جمع من الصحابة.
فقد جاء عن جابر (أنه سئل: أفي الحلي زكاة؟ قال: لا، قيل: وإن بلغ عشرة آلاف؟ قال: كثير) أخرجه
عبد الرزاق.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وعن نافع (أن ابن عمر كان يحلي بناته وجواريه الذهب ثم لا يخرج من حليهن الزكاة) أخرجه مالك، قال الشنقيطي: هذا الإسناد في غاية الصحة.
وعن أنس (أنه سئل عن الحلي؟ فقال: ليس فيه زكاة) أخرجه البيهقي.
أنه كان للصحابة أموال من الحلية ما هو معروف ولم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم أمرهم بالزكاة في ذلك.
أجاب هؤلاء عن أدلة القول الأول:
أ. أن الآية والحديث، هذه عمومات، ولهذا العموم أدلة تخصص معناه وتقيد اطلاقه.
ب. أما الأحاديث التي فيها الأمر بإخراج الزكاة (كحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وغيره) ففيها ضعف
قال الترمذي: "ليس يصح في هذا الباب شيء، ورجح النسائي إرسال حديث عمرو بن شعيب".
قال ابن عبد البر: "لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء في الذهب".
أجاب أصحاب القول الأول عن أدلة القول الثاني:
أن حديث (ليس في الحلي زكاة) ضعيف.
وعلى فرض صحته: فأنتم لا تقولون به، حيث أنهم يوجبون الزكاة في الذهب إذا أعد للنفقة والأجرة.
والراجح القول الأول، والله أعلم.
م/ وعروض التجارة.
هذا هو النوع الرابع من الأموال التي تجب فيها الزكاة وهي عروض التجارة: وهي ما أعد لبيع وشراء لأجل الربح من الحيوانات والأقمشة والسيارات والمواد الغذائية ومواد البناء ونحو ذلك.
والدليل على وجوب الزكاة فيها عموم قوله تعالى (خذ من أموالهم صدقة) وقوله (والذين في أموالهم حق معلوم، ومال التجارة أعم الأموال فكانت أولى بالدخول.
وقال تعالى (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض).
ولقوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ لما بعثه إلى اليمن ( .. أعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم).
فقوله (في أموالهم) وعروض التجارة مال.
وعن سمرة بن جندب قال (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نخرج الصدقة من الذي نعده للبيع) رواه أبو داود (وهذا الحديث مختلف في صحته).
ولأن غالب أموال الناس عروض تجارة، فلو قيل بعدم وجوب الزكاة فيها لسقطت الزكاة في جزء كبير من أموال المسلمين، وهذا يخالف مقصد الشريعة من شرعية الزكاة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "الأئمة الأربعة وسائر الأمة على وجوب الزكاة في عروض التجارة".
• سمي بذلك لأنه يُعرض ليباع ويشترى، أو لأنه يعرض ثم يزول ويفنى
• وتجب الزكاة في العروض بشرطين: مضي حول كامل، وبلوغ النصاب [وسيأتي تفصيلها إن شاء الله].
زكاة السائمة
أي: في هذا الباب سيذكر المصنف رحمه الله ما يتعلق بزكاة السائمة، وهي التي ترعى العشب ونحوه مما لم يزرعه الآدمي حولاً كاملاً أو أكثر الحول.
• وقد سبق أن السوم شرط في وجوب زكاة بهيمة الأنعام (وهذا مذهب جماهير العلماء).
• والسائمة التي تجب فيها الزكاة هي: الإبل والبقر والغنم، وما عداها لا تجب فيه الزكاة إلا إذا كانت عروض تجارة.
نصاب الإبل
م/ وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ أَبَا بَكْرٍ اَلصِّدِّيقَ رضي الله عنه كَتَبَ لَهُ (هَذِهِ فَرِيضَةُ اَلصَّدَقَةِ اَلَّتِي فَرَضَهَا رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى اَلْمُسْلِمِينَ، وَاَلَّتِي أَمَرَ اَللَّهُ بِهَا رَسُولَهُ فِي أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ مِنَ اَلْإِبِلِ فَمَا دُونَهَا اَلْغَنَمُ فِي كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ، فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ إِلَى خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ فَفِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ أُنْثَى فَإِنْ لَمْ تَكُنْ فَابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٍ فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَثَلَاثِينَ إِلَى خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ فَفِيهَا بِنْتُ لَبُونٍ أُنْثَى، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَأَرْبَعِينَ إِلَى سِتِّينَ فَفِيهَا حِقَّةٌ طَرُوقَةُ اَلْجَمَل فَإِذَا بَلَغَتْ وَاحِدَةً وَسِتِّينَ إِلَى خَمْسٍ وَسَبْعِينَ فَفِيهَا جَذَعَةٌ فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَسَبْعِينَ إِلَى تِسْعِينَ فَفِيهَا بِنْتَا لَبُونٍ، فَإِذَا بَلَغَتْ إِحْدَى وَتِسْعِينَ إِلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَفِيهَا حِقَّتَانِ طَرُوقَتَا اَلْجَمَلِ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ، وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إِلَّا أَرْبَعٌ مِنَ اَلْإِبِلِ فَلَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا).
نصاب الإبل:
• الحديث دليل على وجوب الزكاة في الإبل كما سبق.
• أن الزكاة في الإبل يجب إذا بلغت خمساً، ويدل لذلك قوله صلى الله عليه وسلم (وليس فيما دون خمس ذوْدِ صدقة).
• أن من عنده أقل من خمس لا زكاة فيها - وإن كانت سائمة - إلا إذا شاء ربها.
• جدول نصاب الإبل:
نصاب الإبل من 5 - 120 كالتالي:
5 -
9: شاة واحدة.
10 -
14: شاتين.
15 -
19: 3 شياه.
20 -
24: 4 شياه.
25 -
35: بنت مخاض.
36 -
45 بنت لبون.
46 -
60 حقة.
61 -
75 جذعة.
[76 - 90] بنتا لبون.
[91 - 120] حقتان.
وعلى هذه المقادير انعقد الإجماع. ثم بعد: 120، في كل خمسين حقة، وفي كل أربعين بنت لبون.
130: فيها حقة واحدة وبنتا لبون.
…
150: فيها 3 حقاق.
بنت اللبون: هي أنثى الإبل تمت لها سنتان وسميت بذلك لأن أمها قد ولدت وأصبحت ذات لبن غالباً.
بنت مخاض: أنثى الإبل ولها سنة واحدة، وسميت بذلك لأن الغالب أن أمها حامل.
حقة: الأنثى لها ثلاث سنوات سميت بذلك لأنها استحقت أن يطرقها الفحل.
جذعة: أنثى الإبل وتمت لها: 4 سنوات.
نصاب الغنم
م/ وَفِي صَدَقَةِ اَلْغَنَمِ في سَائِمَتِهَا إِذَا كَانَتْ أَرْبَعِينَ إِلَى عِشْرِينَ وَمِائَةِ شَاةٍ شَاةٌ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ إِلَى مِائَتَيْنِ فَفِيهَا شَاتَانِ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى مِائَتَيْنِ إِلَى ثَلَاثمِائَةٍ فَفِيهَا ثَلَاثُ شِيَاهٍ فَإِذَا زَادَتْ عَلَى ثَلَاثِمِائَةٍ فَفِي كُلِّ مِائَةٍ شَاةٌ، فَإِذَا كَانَتْ سَائِمَةُ اَلرَّجُلِ نَاقِصَةً مِنْ أَرْبَعِينَ شَاةٍ شَاةً وَاحِدَةً فَلَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ، إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا).
نصاب الغنم:
• الحديث دليل على وجوب الزكاة في الغنم.
• أجمع العلماء على أن أول نصاب الغنم: 40.
• جدول نصاب الغنم:
40 -
120: شاة، 121 - 200: شاتان، 201 - 399: ثلاث شياه.
ثم في كل (100) شاة، فمثلاً: 400 - 499 أربع شياه، 500 - 599 خمس شياه.
م/ وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ خَشْيَةَ اَلصَّدَقَةِ.
أي: أنه يحرم أن يجمع بين متفرق، أو يفرق بين مجتمع خشية الصدقة.
مثال: شخص عنده [40] شاة، فلما علم بقدوم المصدق فرقها، جعل [20] في جهة، و [20] في جهة، فهذا أمر محرم، لأنه فرق من أجل الهروب من الزكاة.
مثال: ثلاث أشخاص عند كل واحد [40] شاة، تجب على كل واحد شاة، فلما علموا بقدوم المصدق، جمعوها في مكان واحد، من أجل أن يكون فيها شاة واحدة، لأنه يصير مجموعها [120] فعلوا ذلك حيلة للتخلص من الزكاة، فهذا أمر محرم.
• الحيل التي تؤدي إلى إبطال الحقوق أو تخفيفها محرمة في الشريعة، وقد مسخ الله تلك القرية قردة لما تحايلوا على ارتكاب المحرم كما قال تعالى (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ).
• فائدة: لو كان مال الرجل نفسه متفرق:
مثال: شخص عنده (20) شاة في رفحاء، و (20) شاة في الرياض، فالصحيح أن عليه الزكاة، لأن المالك واحد.
(وَمَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ).
أي: أن الخلطة مؤثرة وتجعل المالين مال واحد.
للحديث الذي ذكره المصنف رحمه الله (وَمَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ).
مثال: عندي غنم، وأنت عندك غنم، والثالث عنده غنم، والرابع عنده غنم، وخلطناها جميعاً، فتجعل المالين كالمال الواحد، لكن تكون الخلطة مؤثرة بشروط:
الشرط الأول: أن يكون الخليطان من أهل الزكاة (بأن يكونا مسلمين حرين، فلو كان أحدهما مسلم والآخر ذمي، فإنه لا أثر لخلطة غير المسلم، لأن الزكاة غير واجبة على الذمي أصلاً.
الشرط الثاني: أن يختلطا في نصاب، بأن يكون مجموع ماليهما يبلغ نصاباً (كأربعين من الغنم).
الشرط الثالث: أن تكون الخلطة في السائمة (وهذا المشهور من مذهب الحنابلة) فلو اختلطا في زرع أو في عروض أو أثمان فإنه لا أثر لهذه الخلطة.
الشرط الرابع: أن يختلطا في الأوصاف التي ذكرها العلماء، وهي:
الاشتراك في الفحل: أي فحل المالين واحد، فلو كان مال زيد له فحل ومال عمرو له فحل فالخلطة غير مؤثرة.
الاتفاق في المسرح: أي يسرحن جميعاً ويرجعن جميعاً.
المحلب: أي المكان الذي تحلب فيه يكون واحداً.
المرعى: أي يكون المرعى لها جميعاً فليس غنم هذا في شعبة الوادي الشرقية، والثاني في الشعبة الغربية.
المراح: أي يكون المراح جميعاً، فلا يكون غنمي لها مراح وحدها، وغنمك لها مراح وحدها.
فهذه إذا اشتركت في هذه الأشياء الخمسة، فإن الخلطة هنا تصير المالين كالمال الواحد، وأما إذا تميز مال كل منهما عن الآخر في شيء من هذه الأوصاف فإنه لا يحصل تمام الارتفاق، وإذا لم يحصل تمام الارتفاق فإنه لا يكون مالهما كالمال الواحد.
الشرط الخامس: أن يختلطا في جميع الحول - وهذا الشرط بالإجماع - فلو اختلطا في بعض الحول أو افترقا في بعض الحول فإنه لا أثر لهذه الخلطة، لأن إيجاب الزكاة معلقة بالخلطة، فإذا عدمت الخلطة عدِم وجوب الزكاة، وإذا عدم في بعض الحول سقطت الزكاة.
• ذكرتُ قبل قليل أن الخلطة مؤثرة في السائمة فقط على ما هو المشهور من مذهب الحنابلة، وذهب بعض العلماء إلى أن الخلطة تؤثر في جميع الأموال، فلو خلط شخصان ماليهما - ومال كل واحد منهما لا يبلغ نصاباً - لكنهما يبلغان نصاباً إذا اجتمعا، فإن الخلطة تكون مؤثرة وتجب الزكاة على هذا القول، قياساً على السائمة بجامع الارتفاق، والله أعلم.
نصاب البقر
م/ وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَهُ إِلَى اَلْيَمَنِ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ ثَلَاثِينَ بَقَرَةً تَبِيعًا أَوْ تَبِيعَةً، وَمِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةً) رواه أهل السنن.
ذكر المصنف رحمه الله حديث معاذ ليستدل به على مقدار نصاب البقر.
• الحديث دليل على وجوب الزكاة في البقر، وهذا ثابت بالسنة والإجماع:
لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم، لا يؤدي زكاتها، إلا جاءت يوم القيامة أعظم ما كانت وأسمنه تنطحه بقرونها
…
).
وللحديث الذي ذكره المصنف رحمه الله
قال النووي: "هو أصح حديث في زكاة البقر"، قال ابن قدامة:"فلا أعلم خلافاً في وجوب الزكاة في البقر".
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وإنما لم يذكر زكاة البقر في كتاب أبي بكر، لقلة البقر في الحجاز، فلما بعث معاذاً إلى اليمن ذكر له حكم البقر لوجودها عندهم".
• الحديث دليل على أن نصاب البقر يبدأ من ثلاثين بقرة، فلا زكاة فيما أقل من ذلك.
قال ابن قدامة: "ولا زكاة فيما دون الثلاثين من البقر، وهو قول جمهور الفقهاء".
• أن في كل ثلاثين بقرة تبيع أو تبيعة، وفي كل أربعين مسنة.
30: تبيع أو تبيعة
…
40: مسنة
60: تبيعان
…
70: مسنة وتبيعة
80: مسنتان
…
وهكذا.
• يشترط في زكاة بهيمة الأنعام السوم، كما سبق في الحديث الماضي، والسوم: هو رعي أكثر الحول.
صدقة الأثمان
م/ وأما صدقة الأثمان، فليس فيها شيء حتى تبلغ مائتي درهم، وفيها ربع العشر.
• الأثمان: جمع ثمن والمراد الذهب والفضة وما قام مقامهما.
نصاب الذهب والفضة.
نصاب الفضة (200) درهم (خمس أواق)، وفيها ربع العشر.
عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ليس فيما دون خمس أواق صدقة) متفق عليه.
[أواق] جمع أوقية، قال في الفتح: ومقدار الأوقية في هذا الحديث أربعون درهماً بالاتفاق.
قال النووي: " فنصاب الفضة خمس أواق، وهي مائتا درهم بنص الحديث والإجماع، وأما الذهب فعشرون مثقالاً والمعول فيه على الإجماع ".
نصاب الذهب (20) مثقالاً.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "والنصاب (أي الذهب) 85 جرام، فما دون ذلك ليس فيه زكاة، وما بلغ (85) جرام ففيه
الزكاة، ونزكيه بقدر قيمته ونأخذ ربع عشر قيمته، وذلك بأن نقسم القيمة على (40) فما خرج فهو الزكاة، مثال: إذا كان الحلي يساوي (40. 000) فزكاته (1000) وعلى هذا نقيس ".
• التعامل الآن بالأوراق النقدية، نصابها: معتبرة بالفضة، 200 درهم هي 140 مثقالاً، = 56 ريالاً عربياً من الفضة، فإذا أردت أن تعرف مقدار الزكاة فاعرف مقدار الريال العربي من الفضة.
نسال عن قيمة الريال العربي بالفضة، فإذا كانت قيمته 10 فالنصاب 560، فمن ملك 560 ريالاً وجب فيها الزكاة.
كم الريال العربي من الفضة ثم اضربه 56.
نصاب الخارج من الأرض
م/ وأما صدقة الخارج من الأرض من الحبوب والثمار فقد قال صلى الله عليه وسلم (ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة) والوسق ستون صاعاً، فيكون النصاب للحبوب والثمار: 300 صاع بصاع النبي صلى الله عليه وسلم.
نصاب الخارج من الأرض:
• الحديث دليل على أن نصاب الخارج من الأرض (5) أوسق، يساوي: 300 صاع للحديث الذي ذكره المصنف رحمه الله، فليس فيما دون 300 صاع صدقة.
• اتفق العلماء على وجوب الزكاة في أصناف أربعة: الحنطة والشعير والزبيب والتمر، واختلفوا في غيرها.
• واختلف العلماء في ضابط الثمار والزرع التي فيها الزكاة:
فقيل: لا تجب إلا في الأصناف الأربعة السابقة.
وبهذا قال جماعة من أهل العلم منهم الحسن البصري، واختاره الشوكاني والألباني.
لحديث عَنْ أَبِي مُوسَى اَلْأَشْعَرِيِّ; وَمُعَاذٍ رضي الله عنهما; أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُمَا: (لَا تَأْخُذَا فِي اَلصَّدَقَةِ إِلَّا مِنْ هَذِهِ اَلْأَصْنَافِ اَلْأَرْبَعَةِ: اَلشَّعِيرِ، وَالْحِنْطَةِ، وَالزَّبِيبِ، وَالتَّمْرِ). رَوَاهُ اَلطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ
وهذا الحديث يؤيده أحاديث أخرى مرسلة:
عن مجاهد قال: (لم تكن الصدقة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلا في هذه الأربعة: البر، والشعير، والتمر، والزبيب). رواه البيهقي
وقال الحسن: (لم يفرض رسول الله صلى الله عليه وسلم الصدقة إلا في عشرة أصناف: البر من الشعير، والتمر، والزبيب، والذرة، والإبل
…
). رواه البيهقي
قال الشوكاني: " فهي تنتهض بتخصيص العمومات، مثل: (وآتوا حقه يوم حصاده) فالحق ما ذهب إليه الثوري والحسن البصري والنخعي، والحسن بن صالح في وجوبها في هذه الأربعة، وأما زيادة الذرة فهي ضعيفة، لكن يعضد زيادة: والذرة، مرسل الحسن البصري ومجاهد ".
وقيل: تجب في كل ما يقتات ويدخر.
وهذا مذهب المالكية والشافعية.
كالحنطة، والشعير، والأرز، والذرة، بخلاف الجوز واللوز والفستق، هذه تدخر لكنها لا تقتات.
وكذلك الفواكه كالتفاح والرمان والكمثرى لا زكاة فيها، لأنها لا تدخر.
وقالوا: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقصد التعيين، بل قصد التعليل، وأن ما وافق هذه الأصناف في هذه العلة فإنه يلحق به في إيجاب الزكاة.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقيل: تجب في كل ما يكال ويدخر.
واختاره الشيخ ابن سعدي والشيخ ابن باز رحم الله الجميع.
وقيل: تجب في كل خارج من الأرض.
وهذا مذهب أبي حنيفة.
لعموم قوله تعالى: (وآتوا حقه
…
).
والراجح القول الثاني أو القول الثالث.
• أنه لا زكاة في الخضروات، كالتفاح والبرتقال والموز والمشمش، لأنها ليست مدخرة وليست مكيلة، ومثل هذه الأشياء إنما هي ذات منفعة عاجلة، والحاجة إليها مؤقتة، وليست من الغذاء الضروري، وإنما هي للتمتع والتفكه، فهي مأكولات الأغنياء دون الفقراء.
• قوله (الخارج من الأرض) فيه أن من شروط وجوب زكاة الخارج من الأرض:
o أن يكون خارجاً من الأرض.
فلو أن إنساناً اشترى طناً من البر، فهذا لا تجب فيه الزكاة إلا إذا أراده عروض تجارة، لأنها ليست خارجة من الأرض.
o أن تبلغ النصاب.
وقد سبق وهو [خمسة أوسق]. الوسق: 60 صاعاً = 300 صاع.
فإذا أخرج من الأرض (بر أو شعير أو ذرة
…
) 300 صاع، فتجب فيها الزكاة.
مقدار ما يخرج من الخارج من الأرض
م/ وقال صلى الله عليه وسلم (فِيمَا سَقَتِ اَلسَّمَاءُ وَالْعُيُونُ، أَوْ كَانَ عَثَرِيًّا: اَلْعُشْرُ، وَفِيمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ: نِصْفُ اَلْعُشْرِ) رَوَاهُ اَلْبُخَارِيّ
[السماء] المراد بذلك المطر. [العيون] هي الينابيع التي تنبع من الأرض أو من سفوح الجبال. [أو كان عَثرياً] بفتح العين قال الخطابي: "هو الذي يشرب بعروقه من غير سقي". [بالنضح] سقي الزرع بالماء الذي ينضحه [يخرجه] الناضح، وهو البعير. [بعلاً] البعل: الأشجار التي تشرب بعروقها من الأرض. [السواني] جمع سانية، وهي الدابة من الإبل أو البقر أو الحمر ذاهبة وآيبة تخرج الماء من البئر.
• في الحديث وجوب العشر فيما سقي بماء السماء والأنهار ونحوها فيما ليس فيه مؤونة كثيرة، ونصف العشر فيما سقي بالنواضح وغيرها مما فيه مؤونة كثيرة، وهذا متفق عليه. [شرح النووي].
• إن وجد ما يسقى بالنضح تارة وبالمطر تارة، فإن كان ذلك على جهة الاستواء وجب ثلاثة أرباع العشر، وهو قول أهل العلم.
قال ابن قدامة: "لا نعلم فيه خلافاً".
• ضابط المؤونة: المقصود بالمؤونة هي مؤونة استخراج الماء لا تصريفه، لأنه حتى الذي يسقى بلا مؤونة يحتاج إلى تصريف الماء بين الأحواض.
ولا يؤثر في المؤونة حفر الأنهار والسواقي وتنقيتها، لأن هذا لابد منه، فهو كحرث الأرض.
الخلاصة:
أولاً: ما سقي بلا مؤونة فيه العشر، كالذي ينبت على الأنهار والأمطار.
ثانياً: ما سقي بمؤونة فيه نصف العشر، المقصود بالمؤونة: ما سقي بالرشاشات والآبار والمكائن.
ثالثاً: ما سقي نصفه بمؤونة والنصف الآخر بلا مؤونة فيه ثلاثة أرباع العشر.
• وقت وجوب الزكاة في الحبوب والثمار: إذا اشتد الحب وبدا صلاح الثمر، وهو أن يحمر أو يصفر كما جاء في الحديث.
• فائدة هذا القول: أنه لو تلف قبل البدو ولو بفعل المالك فإنه لا زكاة عليه.
• لماذا جعل الشارع بدو الصلاح وقتاً لوجوب الزكاة؟ لأن هذا الوقت هو الذي يقصد فيه الأكل من الثمار والاقتيات منها.
زكاة عروض التجارة
م/ وأما عروض التجارة: وهو كل ما أعد للبيع والشراء لأجل الربح، فإنه يقوم إذا حال الحول بالأحظ للمساكين من ذهب أو فضة، ويجب فيه ربع الشعر.
• عروض التجارة كل ما أعد للبيع والشراء.
• كيفية زكاة عروض التجارة: تقوّم عند تمام الحول ولا يعتبر ما اشتريت به بل العبرة بقيمتها الحالية.
• اختلف العلماء هل يجوز إخراج زكاة العروض من أعيانها؟
مثال: إنسان عنده محل لبيع الأقشمة، فهل يجوز أن يخرج زكاته من هذه الأقمشة؟
القول الأول: أنه لا يجوز، وأنه يجب إخراج زكاتها من قيمتها.
وهذا مذهب جماهير العلماء من المالكية والشافعية والحنابلة.
قالوا: لأن عروض التجارة معتبرة بالقيمة، فوجب أن يكون المُخرَج منها.
القول الثاني: أنه يجوز.
وهذا اختيار ابن تيمية.
قالوا: أنه ساوى الفقراء بنفسه، فهو يملك عروض فأعطاهم منها.
وبقول معاذ لأهل اليمن (ائتوني بعرض ثياب، خميص أو لبيس في الصدقة مكان الشعير والذرة).
لان المقصود من الزكاة سد خلة الفقراء، وإذا كان الأصلح والأنفع للفقير أن يأخذ هذا العرض، فإن هذا يوافق المقصود من الزكاة.
وقالوا: إن إخراج العين هو الأصل، لأن هذا مال تجب الزكاة فيها فجاز إخراجها منه كسائر الأموال.
والراجح الأول، وهو أن الأصل إخراج القيمة في عروض التجارة، لأنه أنفع للمستحق غالباً.
زكاة الدين
م/ ومن كان له دين ومال لا يرجو وجوده كالذي على مماطل أو معسر لا وفاء له فلا زكاة فيه.
ذكر المصنف رحمه الله زكاة الديون، والديون تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: أن يكون الدين مما لا يرجو وجوده، كأن يكون عند مماطل أو يكون عند معسر لا وفاء له، فهذا لا زكاة فيه كما قال المصنف رحمه الله.
لأنه يجب إنظار المعسر إلى الميْسرة بنص القرآن، ولو وجبت الزكاة على صاحب المال في هذه الحال، فإن ذلك سيخالف
المقصود من إمهال المعسر، لأنه يترتب على ذلك أن يضيق صاحب الدين على المعسر.
وذهب بعض العلماء إلى أنه يزكيه إذا قبضه لعام واحد، وهذا قول المالكية، واختاره الشيخ ابن عثمين رحمه الله.
وقيل: لا يزكيه بل يستقبل به حولاً جديداً، وهذا اختيار المصنف السعدي رحمه الله كما ذكره هنا، وهذا القول هو الراجح، لعدم تمام الملك، ولأنه غير مقدور على الانتفاع به، بل يستقبل به حولاً جديداً.
• والمماطل هو: من يؤخر السداد الذي عليه بغير حق.
م/ وإلا ففيه الزكاة.
أي كان عند مليء باذل فتجب فيه الزكاة.
• المليء: هو القادر على السداد بقوله وبماله وببدنه.
[بقوله] أن يكون مقراً به [بماله] بأن يكون باذلاً لا جاحداً، [ببدنه] بأن يحضر إذا طلب حضوره.
الدليل على أنه تجب فيه الزكاة:
لأن هذا الرجل قادر على قبضه والانتفاع به، وهو مملوك له، فلزمته زكاته كسائر أمواله، لأن الدين الذي عند المليء كالدراهم التي في جيبك.
لكن اختلفوا في الوقت الذي تخرج فيه الزكاة؟
القول الأول: زكاته لا تلزمه حتى يقبضه، فإذا قبضه أدى زكاته ما مضى من السنين.
قالوا: هذا المروي عن بعض الصحابة كعلي.
ولأن هذا الدين ثابت في الذمة، فلا يلزمه إخراجه قبل القبض كما لو كان على غير مليء.
ولأن الزكاة تجب على طريق المواساة، وليس من المواساة أن يخرج زكاة مالٍ لا ينتفع به.
القول الثاني: أنه يجب عليه أن يخرج زكاته في كل حول ولو لم يكن هذا المال عنده.
وهذا مذهب الشافعي، والقول الأول أقوى (وإن شاء أدى زكاته مع زكاة ماله فلا بأس لأنه أسرع في إبراء الذمة).
• مسألة:
من كان عليه دين وعنده مال زكوي فهل تجب في هذا المال زكاة أم لا، اختلف العلماء:
القول الأول: أن الديْن يمنع الزكاة.
وهذا قول الجمهور.
واستدلوا بقول عثمان: (هذا شهر زكاتكم فمن كان عليه دين فليؤده).
وقالوا: إن هذا الشخص المدين (الذي دينه أكثر من ماله) مما يحل له أخذ الزكاة، فيكون فقيراً فلا تجب عليه الزكاة.
وقالوا: إن الزكاة وجبت مواساة للفقراء وشكراً لنعمة الغنى، وهذا المدين محتاج إلى قضاء دينه كحاجة الفقير، وليس من الحكمة تعطيل حاجة هذا المالك لحاجة غيره.
القول الثاني: أن الدين لا يمنع الزكاة.
واختاره الشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين.
لعموم الأدلة في وجوب الزكاة في كل مال بلغ النصاب.
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث السعاة إلى أصحاب المزارع ولم يستفصل عليه الصلاة والسلام، مع أن الغالب أن عليهم ديون، وهذا القول هو الصحيح.
مثال: إنسان عنده (20. 000) ريال وعليه دين (30. 000) ريال، فهل الـ (20. 000) التي عنده فيها زكاة أم لا؟
م/ ويجب الإخراج من وسط المال، ولا يجزئ من الأدون، ولا يلزم الخيار إلا أن يشاء ربها.
أي: أن الواجب في إخراج الزكاة أن يكون من وسط المال، فلا يجوز إخراج الرديء.
لقوله تعالى (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ).
وفي حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا يخرج في الصدقة هرمة ولا ذات عوار ولا تيس إلا أن يشاء المصدق)
[الهرمة] الكبيرة وسقطت أسنانها. [ذات عوار] يعني معيبة، كالعوراء البين عورها، والعمياء.
ولأن في ذلك إضراراً بالفقراء.
• ولا يلزم الخيار إلا أن يشاء ربها، أي: لا يجب إخراج الخيار وهو الأجود والأعلى إلا إذا شاء ربها صاحبها.
لقوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ (إياك وكرائم أموالهم) متفق عليه.
ولأن في ذلك إضراراً بصاحب المال.
{كرائم} جمع كريمة، وهي النفيسة الجامعة للكمال الممكن في حقها من غزارة لبن، وجمال صورة، وكثرة لحم وصوف، وهي التي تتعلق نفس صاحبها.
• إلا إذا شاء صاحبها أن يخرج كريمة فله الخيار.
م/ وحديث أبي هريرة مرفوعاً (في الركاز الخمس) متفق عليه.
[الركاز] ما وجد في دِفن الجاهلية، ويعرف أنه من الجاهلية إما باسم مَلِك من ملوكهم، أو ذكر تاريخ يدل على السنة أو نحو ذلك من العلامات.
• الحديث دليل على وجوب الخمس في الركاز للحديث الذي ذكره المصنف رحمه الله.
• أن الركاز لواجده لأنه أحق به، ولفعل عمر وعلي، فإنهما دفعا باقي الركاز لواجده.
• أن الركاز ليس له نصاب، فيزكى قليله وكثيره.
• وقت إخراج زكاته من حين العثور عليه، فلا ينتظر دوران الحول عليه.
• مصرفه يكون لمصالح المسلمين العامة [بيت المال] ولا يخص به الأقسام الثمانية.
باب زكاة الفطر
المراد بزكاة الفطر:
الصدقة التي يخرجها المسلم عن نفسه أو عن غيره في نهاية شهر رمضان لتزكية صومه.
• وقد أضيفت إلى الفطر كما في حديث ابن عمر الآتي. لكونها تجب بالفطر من رمضان، قال الحافظ:"ويؤيده قوله في بعض طرق الحديث: زكاة الفطر من رمضان".
م/ عَنِ اِبْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ (فَرَضَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ اَلْفِطْرِ، صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ: عَلَى اَلْعَبْدِ وَالْحُرِّ، وَالذَّكَرِ، وَالْأُنْثَى، وَالصَّغِيرِ، وَالْكَبِيرِ، مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ، وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ اَلنَّاسِ إِلَى اَلصَّلَاةِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ذكر المصنف رحمه الله حديث ابن عمر (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر
…
) ليبين فيه حكم زكاة الفطر.
• الحديث دليل على وجوب زكاة الفطر لقوله (فرض).
• أنها واجبة على كل مسلم، لقوله (من المسلمين) قال الحافظ: وهو أمر متفق عليه.
ولأنها طهرة والكافر ليس مكاناً للطهرة.
• أن مقدارها صاع، سواء من البر أو غيره، لقوله صلى الله عليه وسلم (صاعاً).
• أنها واجبة على الصغير والكبير، والجمهور قالوا: تجب فطرة الصغير في ماله، والمخاطب بإخراجها وليه، إن كان للصغير مال وإلا وجبت على من تلزمه نفقته.
• أن من حكم هذه الزكاة اغتناء الفقراء في يوم العيد، لئلا يبتذلوا أنفسهم بالسؤال.
م / وتجبُ لنفسه.
أي: تجب زكاة الفطر على الشخص عن نفسه، فمن كان ينفق على نفسه وجبت عليه زكاة الفطر، ولو كان صغيراً لغناه بمال أو كسب، ويخرجها أبوه عنه.
ولمن تلزمه مؤنته.
أي: تلزم الشخص فطرة من يمونه، أي ينفق عليه، كالزوجة والأم والأب والابن والبنت وغيرهم ممن ينفق عليهم، لحديث ابن عمر. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( .... أدوا الفطرة عمن تمونون) ولكنه حديث ضعيف والصواب وقفه.
وعلى هذا فالصحيح أن زكاة الفطر واجبة على الإنسان بنفسه، فتجب على الزوجة بنفسها، وعلى الأب بنفسه، وعلى الولد بنفسه، إن كان له مال، فإن لم يكن له مال فعلى من تلزمه نفقته.
لأن حديث ابن عمر المتقدم دليل واضح على أن الفطرة فرض على كل مسلم في نفسه (على الذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين)، و (على) تفيد الوجوب، لكن لو تبرع الأب بإخراجها عن أسرته برضاهم فلا بأس بذلك.
• يستثنى من ذلك العبد فلا زكاة عليه، وإنما تجب على سيده، لحديث أبي هريرة. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (ليس في العبد صدقة إلا صدقة الفطر) متفق عليه.
إذا كان ذلك فاضلاً عن قوت يومه وليلته.
هذا شرط لوجوب الزكاة، وهو أن يكون غنياً، والغني في باب زكاة الفطر كونه واجداً قوت يومه وليلته ومن يمون لقوله صلى الله عليه وسلم (ابدأ بمن تعول) رواه البخاري.
وهذا أمر لابد، لأن المقصود من زكاة الفطر إغناء الفقير في ذلك اليوم.
• ظاهر كلام المصنف أنه إذا تم الشرطان وجبت زكاة الفطر حتى ولو لم يصم لمرض أو عذر.
وذهب سعيد بن المسيب، والحسن البصري أنها لا تجب إلا على من صام رمضان، واستُدِلّ لهما بحديث ابن عباس الآتي بلفظ (صدقة الفطر طهرة للصائم).
قال في الفتح: "وأجيب بأن ذكر التطهير خرج مخرج الغالب".
• أن زكاة الفطر أنها لا تجب على الجنين، ونقل ابن المنذر الإجماع على ذلك، وكان أحمد يستحبه ولا يوجبه، وكان عثمان يخرجها عنه.
م/ صاع من تمر أو شعير أو أقط أو زبيب أو بر، والأفضل فيها الأنفع.
هذا قدر الواجب في زكاة الفطر، ونوع ما تخرج منه.
فالقدر فيها: صاع [والصاع كيلوين وربع كيلو] كما في حديث ابن عمر السابق.
• والنوع الذي تخرج منه ما ذكره المصنف رحمه الله: التمر والشعير والزبيب والإقط.
لحديث أبي سعيد قال (كنا نخرج زكاة الفطر صاعاً من طعام، أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من تمر، أو صاعاً من أقط، أو صاعاً من زبيب) متفق عليه.
فيخير في إخراج زكاة الفطر بين هذه المذكورات.
• ذهب بعض العلماء إلى أنها لا تجزيء إلا من الأصناف التي وردت في الحديث (صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من أقط، أو صاعاً من زبيب) ولو لم تكن قوتاً.
والصحيح أن الإنسان يخرجها من قوت بلده، ولو من غير هذه الأصناف، وإنما نص النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الأصناف لأنها هي القوت المتداولة عندهم بالمدينة.
• اختلف الفقهاء في إخراج القيمة عن زكاة الفطر، فذهب جمهور العلماء من المالكية والشافعية والحنابلة إلى أنه لا يجوز إخراج القيمة.
لعدم ورود النص في ذلك، مع أن النقود كانت في عهده صلى الله عليه وسلم، ولم يثبت أنه جوز لأحد من الصحابة إخراجها قيمة.
وذهب الحنفية إلى أنه يجوز إخراج القيمة، بل هو أولى، ليتيسر للفقير أن يشتري أي شيء يريده في يوم العيد، لأنه قد لا يكون محتاجاً للحبوب، بل محتاج إلى ملابس أو لحم أو غير ذلك، وقول الجمهور أصح.
م/ ولا يحل تأخيرها عن يوم العيد، وقد فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين، فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات) رواه أبو داود.
ذكر المصنف رحمه الله -حديث ابن عباس (فرض رسول الله صدقة الفطر .... ) ليبين وقت إخراجها، والحكمة منها.
وزكاة الفطر لها أوقات:
أولاً: الاستحباب.
وهو يوم العيد قبل الصلاة.
لحديث ابن عمر السابق ( ..... وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ اَلنَّاسِ إِلَى اَلصَّلَاةِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ثانياً: وقت جواز.
قبل العيد بيوم أو يومين.
لقول نافع: (كانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو يومين). رواه البخاري
ثالثاً: وقت تحريم.
بعد صلاة العيد لغير عذر.
للحديث الذي ذكره المصنف: عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ (فَرَضَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ اَلْفِطْرِ; طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنَ اَللَّغْوِ، وَالرَّفَثِ، وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ، فَمَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ اَلصَّلَاةِ فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ، وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ اَلصَّلَاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنَ اَلصَّدَقَات) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ اَلْحَاكِمُ.
(المذهب وقت الكراهة سائر يوم العيد إلى الغروب، والتحريم بعد غروب الشمس من يوم العيد).
• اتفق الفقهاء على أن زكاة الفطر لا تسقط بخروج وقتها، لأنها وجبت في ذمته لمستحقيها، فهي دين لهم لا يسقط إلا بالأداء، أما حق الله في التأخير عن وقتها فلا يجبر إلا بالاستغفار والندم.
• في الحديث الحكمة من زكاة الفطر: طهرة للصائم، وطعمة للمساكين.
[طهرة للصائم] أي تطهيراً لنفس من صام رمضان من اللغو. [اللغو] هو الكلام الذي لا فائدة فيه. [الرفث] قال ابن الأثير: " الرفث هنا الفحش من الكلام ".
صدقة التطوع
الصدقة: ما يدفعه الإنسان للفقراء والمساكين بنية التقرب إلى الله.
م/ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِى ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ الإِمَامُ الْعَادِلُ وَشَابٌّ نَشَأَ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِى الْمَسَاجِدِ وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِى اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إِنِّى أَخَافُ اللَّهَ. وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ يَمِينُهُ مَا تُنْفِقُ شِمَالُهُ وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِياً فَفَاضَتْ عَيْنَاه).
ذكر المصنف رحمه الله حديث أبي هريرة الذي فيه فضل الصدقة.
وصدقة التطوع فضلها عظيم، وقد جاءت النصوص الكثيرة من الكتاب والسنة في فضلها:
ومن فضائلها:
أنها برهان على صدق إيمان صاحبها.
لحديث (والصدقة برهان) رواه مسلم.
قال ابن رجب: "وأما الصدقة فهي برهان،
…
فكذلك الصدقة برهان على صحة الإيمان".
أنها تطهير للنفس.
كما قال تعالى (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم).
مضاعفة الحسنات:
كما قال تعالى (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء).
مغفرة الذنوب:
وفي الحديث (والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار) رواه الترمذي.
درجة البر (الجنة) تنال بالإنفاق:
كما قال تعالى (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون).
وكان ابن عمر إذا أعجبه شيء من ماله تصدق به.
أمان من الخوف يوم الفزع الأكبر:
كما قال تعالى (الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون).
صاحب الصدقة موعود بالخير الجزيل والأجر الكبير:
كما قال تعالى (وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه). أي يخلفه عليكم في الدنيا بالبذل، وفي الآخرة بالجزاء والثواب.
أنها تزيد المال ولا تنقصه:
لحديث (ما نقصت صدقة من مال) رواه مسلم.
أنها تظلل صاحبها يوم القيامة.
لحديث (العبد في ظل صدقته يوم القيامة) رواه أحمد.
سبب في مجاورة النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة:
لحديث (كافل اليتيم له أو لغيره أنا وهو كهاتين في الجنة) متفق عليه.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أنها من صفات المتقين:
قال تعالى (ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ).
سبب لدعاء الملائكة.
قال صلى الله عليه وسلم (ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً) متفق عليه.
أن الله يربي الصدقة.
كما قال تعالى (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ).
وقال صلى الله عليه وسلم (إن الله يربي الصدقة كما يربي أحدكم فلوه) متفق عليه.
أن الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه.
قال صلى الله عليه وسلم (من نفّس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه) رواه مسلم.
أنها علاج لقسوة القلب.
جاء في الحديث (أن رجلاً اشتكى إلى النبي صلى الله عليه وسلم قسوة قلبه فقال: أطعم المسكين وامسح رأس اليتيم) رواه أحمد.
• قال السمرقندي: "عليك بالصدقة بما قلّ أو كثر، فإن في الصدقة عشر خصال محمودة خمس في الدنيا وخمس في الآخرة.
أما التي في الدنيا:
فأولها: تطهير المال كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (ألا إن البيع يحضره اللغو والحلف والكذب، فشوبوه بالصدقة).
والثاني: أن فيها تطهير البدن من الذنوب، كما قال الله تعالى (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ..... ).
الثالث: أن فيها دفع البلاء والأمراض، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (داووا مرضاكم بالصدقة).
والرابع: أن فيها إدخال السرور على المساكين، وأفضل الأعمال إدخال السرور على المؤمنين.
والخامس: أن فيها بركة في المال وسعة في الرزق، كما قال تعالى (ومَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ).
وأما الخمس التي في الآخرة:
فأولها: أن تكون الصدقة ظلاً لصاحبها في شدة الحر.
والثاني: أن فيها خفة الحساب.
والثالث: أنها تثقل الميزان.
والرابع: جواز على الصراط.
والخامس: زيادة الدرجات في الجنة".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
• الأفضل أن تكون سراً إلا لمصلحة:
الأفضل في الصدقة سواء كانت واجبة أو تطوعاً أن تكون سراً، لحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: وذكر منها: ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه» متفق عليه.
• المقصود المبالغة في إخفاء الصدقة بحيث أن شماله مع قربها من يمينه وتلازمهما لو تصور أنها تعلم بما عملت ما فعلت اليمين لشدة إخفائها).
• صدقة التطوع لها وقتان:
o وقت استحباب: وهو في كل وقت.
o وقت تأكد الاستحباب: وله أوقات مثل: وقت الحاجة والشدة والمجاعة والنكبات.
o في العشر الأواخر من رمضان (لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان أجود ما يكون في رمضان).
o في عشر ذي الحجة لحديث (ما من أيام العمل فيهن أحب إلى الله من هذه العشر- يعني عشر ذي الحجة - قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله .. الحديث) رواه البخاري.
ومن الصدقات المؤكدة:
o على الجار: لحديث: «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه» متفق عليه.
o الصدقة عند الكسوف: لقول النبي صلى الله عليه وسلم لما كسفت الشمس: «صلوا وادعوا وتصدقوا» رواه البخاري.
باب أهل الزكاة
المراد بأهل الزكاة، أهلها الذين يستحقونها، التي جاءت نصوص الكتاب والسنة ببيانهم.
م/ لا تدفع الزكاة إلا للأصناف الثمانية الذين ذكرهم الله بقوله (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).
ذكر المصنف رحمه الله الآية التي فيها أهل الزكاة وهم:
لِلْفُقراء: هم من لم يجدوا شيئاً أو يجدون نصف الكفاية (هم أشد حاجة من المساكين).
وَالْمَسَاكِينِ: وهم الذين يجدون نصف الكفاية أو أكثرها، سموا بذلك لأن الفقر أسكنهم.
وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا: وهم جباتها وحفاظها، وهم السعاة الذين يبعثهم الإمام لأخذ الصدقات من الأغنياء.
(لا يشترط أن يكونوا فقراء، بل يعطون ولو كانوا أغنياء، لأنهم يعملون لمصلحتها، فهم يعملون للحاجة إليهم، وفي الحديث: لا
تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: للعامل عليها .. ).
العامل يشترط فيه شروط:
• أن يكون مسلماً، لأنها ضرب من الولاية.
• أن يكون مكلفاً (بالغاً عاقلاً).
• أن يكون أميناً، قال تعالى (إن خير من استأجرت القوي الأمين).
• أن يكون أهلاً للعمل.
وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ: جمع مُؤَّلف، من التأليف، وهو جمع القلوب، والمراد به: السيد المطاع في عشيرته كما ذهب إليه بعض العلماء.
(لا يشترط أن يكون سيداً مطاعاً في قومه كما ذهب إليه بعض العلماء، لأن الحكمة المتحققة في السيد المطاع متحققة في غيره).
أقسامهم:
o أن يكون كافراً يرجى إسلامه فيعطى (لا بد من قرائن تدل على رغبته في الإسلام).
o أن يكون كافراً يخشى شره فهذا يعطى إذا كان له سلطة ونفوذ.
o أن يرجى بعطيته قوة إيمانه، كأن يكون حديث عهد بإسلام.
• هذا الصنف - المؤلفة قلوبهم - منهم من يعطى للحاجة إليه، كمن يعطى لكف شره، ومنهم من يعطى لحاجة نفسه، كمن يعطى لقوة إيمانه ورجاء إسلامه.
• وسهم المؤلفة قلوبهم باقٍ بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم على القول الراجح - وهذا مذهب أكثر العلماء، لوجود العلة.
وَفِي الرِّقَابِ: ويشمل صور:
• إعطاء المكاتب: وهو الرقيق الذي اشترى نفسه من سيده، فهذا يعطى من الزكاة ليكون حراً.
• أن يشترى من أموال الزكاة أرقاء يعتقون.
• فكاك الأسير المسلم، فيعطى الأسير من الزكاة لفكاكه من الأسر، لأن في ذلك فك رقبةٍ من الأسر، فهو كفك رقبة من الرق، ولأن في ذلك إعزازاً للدين.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الغارمون: هو من عليه دين.
وهو ينقسم إلى قسمين:
o من تدين لمصلحة نفسه كأن يستدين لزواج أو غيره، فهذا يعطى إذا كان فقيراً.
o من تدين لإصلاح ذات البين، فهذا يعطى من الزكاة ولو كان غنياً، مثاله: كانت هناك عداوة وفتنة بين جماعتين، فدخل زيد للإصلاح بينهم، لكن لا يتمكن من الصلح بينهم إلا ببذل مال، فيقول: أنا ألتزم لكل واحد منكما بمبلغ وقدره كذا من أجل الصلح، فيوافقون على ذلك، فهذا الرجل يعطى من الزكاة ما يدفعه في هذا الإصلاح، فيعطى هذا المبلغ الذي اشترطه على نفسه.
في سبيل الله:
وهم الغزاة المتطوعة ويشمل أيضاً ما يتعلق بالجهاد كآلات الحرب، وكل ما يتعلق بالجهاد.
• (قول بعض العلماء: إن (في سبيل الله) يشمل أيضاً جميع القرب كعمارة المساجد والطرق وغيرها، هذا القول ضعيف والصحيح أنه
مقصور بالمجاهدين الغزاة، لأن كثيراً من الناس لو علموا لبنوا المساجد وتركوا كثيراً من المستحقين).
ابن السبيل:
وهو المسافر الذي انقطع به الطريق (يعطى ما يوصله إلى حاجته ويرده إلى بلده).
• (يشترط أن يكون السفر مباحاً، لأننا لو قلنا يجوز في سفر المعصية لكان ذلك من باب التعاون على الإثم).
• (لا يشترط أن يكون فقيراً، حتى لو كان غنياً في بلده).
م/ ويجوز الاقتصار على واحد منهم لقوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ (فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم) متفق عليه.
أي: أنه يجوز أن يدفع الزكاة لصنف واحد من هؤلاء الثمانية ولا يجب أن يعممهم، وهذا القول هو الصحيح من أقوال أهل العلم.
للحديث الذي ذكره المصنف (
…
صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم) والفقراء صنف واحد من الأصناف الثمانية.
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم (أمر بني زُرَيْق بدفع صدقتهم إلى سلمة بن صخر) رواه ابن خزيمة.
وقال صلى الله عليه وسلم لقَبِيصة (أقم يا قبيصة حتى تأتينا الصدقة، فنأمر لك بها) رواه مسلم.
وذهب الشافعية إلى أنه يجب التعميم وإعطاء كل صنف من الأصناف الثمانية الثمن من الزكاة المجتمعة، واستدلوا بالآية (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ
…
). والصحيح القول الأول.
مسائل مهمة:
• يجب أخراج الزكاة على الفور، فلا يجوز تأخيرها عن وقت وجوبها.
لأن الله أمر بإيتاء الزكاة، والأمر يقتضي الفور، وأيضاً فإن حاجة الفقراء ناجزة، وحقهم في الزكاة ثابت، فيكون تأخيرها عنهم منعاً لحقهم في وقته.
• هناك حالات يجوز فيها تأخير الزكاة عن وقت وجوبها، وهذه الحالات:
أولاً: إذا كان في تأخير إخراجها مصلحة للفقير، مثال: أكثر الناس يخرجون زكاتهم في شهر رمضان رغبة في حصول الأجر، لكن في بعض الأيام الأخرى كأيام الشتاء التي لا توافق رمضان قد يكون الفقراء أشد حاجة، فلو أخرها المزكي إلى هذا الوقت جاز ذلك، لأن في ذلك مصلحة لمستحقيها.
ثانياً: أن لا يتمكن من إخراجها عند حلول الحول، كأن يكون هذا المال في ذمة موسر.
ثالثاً: إذا كان يتضرر بإخراجها في وقتها، كأن يخشى أن يرجع عليه الساعي مرة أخرى، أو يكون المزكي بين قوم لصوص ويخشى على نفسه وماله وعياله إن أخرجها نظروا إليه فيعلمون أن معه مالاً فيسطون عليه، فهنا يجوز له تأخيرها إلى حين زوال الضرر.
• فإن أخر الزكاة عن وقت الوجوب فتلفت فله حالتان:
الحالة الأولى: إن أخرها ثم تلف المال بسبب تفريطه أو بتعدٍ منه على المال فهنا لا تسقط الزكاة.
الحالة الثانية: وإن أخرها ثم تلف المال من غير تعد ولا تفريط منه فإنها تسقط عنه.
• إن تلف المال قبل وقت الوجوب سقطت الزكاة.
• يجوز تعجيل الزكاة إذا كمل النصاب.
لحديث علي (أن النبي صلى الله عليه وسلم تعجل من العباس صدقة سنتين). وهذا قول الجمهور.
ولأن في تعجيل الزكاة مصلحة لأهلها، وتأخيرها إلى حلول الحول من باب الرفق بالمالك، فإن أداها قبل تمام الحول عن رضا منه فلا مانع.
واختلف في التعجيل: فقيل: لا يجوز تعجيلها أكثر من عام، وقيل: يجوز لعامين وهذا الصحيح.
• فإن عجل إخراج زكاته فأعطاها لغير مستحقيها لم يجزئه ولو صار عند الوجوب من أهلها.
لأنه وقت الدفع ليس مستحقاً لها.
• وإن تعجل إخراج زكاته فأعطاها لمستحقها [لفقير أو مسكين]، ثم مات بعد أن قبضها أو استغنى بعد أن قبضها فإنها تجزئ، لأنه أداها إليه وهو من أهلها (فالعبرة بحال الإعطاء).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
• لا يجوز إبراء المدين من الزكاة:
مثال: إنسان يريد من عمرو ألف ريال، وعليه زكاة ألف ريال، فقال لعمرو: أبرأتك من الدين الذي عليك مقابل الزكاة الذي علي.
هذا لا يجوز:
o لأن الزكاة أخذ وعطاء، وهذا ليس فيه أخذ ولا عطاء.
o وهذا أيضاً من باب إخراج الرديء عن الطيب، لأن الأموال الحاضرة أجود من المؤجلة.
o وأيضاً أن الغالب أن الذي يدفع هذا، لا يفعله إلا وقد يئس منه.
قال الشيخ ابن باز رحمه الله: "لا يجوز إسقاط الدين عن أحد من الناس بنية الزكاة"(فتاوى مجلة الدعوة: 3/ 132)
مسالة: نقل الزكاة:
o لا خلاف في مشروعية تفريق الزكاة في بلد المال الذي وجبت فيه الزكاة.
o أيضاً لا خلاف في جواز نقلها إذا استغنى أهل بلد المال.
واختلفوا في نقلها إذا لم يستغن أهل بلد المال؟
القول الأول: يجب تفرقتها في بلد المال، وإن نقلها إلى بلد آخر أثم وأجزأته.
وهذا مذهب الحنابلة والشافعية.
واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ ( ..... صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم) أي فقراء أهل اليمن.
وقالوا: إن زياد بن أبيه لما بعث عمران بن حصين ساعياً في الزكاة، فلما قدم عليه عمران، قال له: أين المال، قال عمران: أللمال بعثتني؟ ثم قال: أخذناها من حيث كنا نأخذها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضعناه فيما كنا نضعه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي أنه صرفها في أهلها.
وقالوا: إن عمر لما بعث له معاذ زكاة أهل اليمن عاتبه على ذلك وقال له: لم أبعثك جابياً، فقال له معاذ: لم أبعث إليك شيئاً وأنا أجد من يأخذه [يعني من أهل اليمن].
القول الثاني: يجوز النقل للمصلحة الشرعية [كقرابة محتاجين، أو من هم أشد حاجة من أهل بلد المال].
وهذا قول الحنفية واختاره ابن تيمية.
واستدلوا بالعمومات (إنما الصدقات للفقراء .... ) قالوا: إن الله لم يفرق بين فقراء وفقراء.
وبحديث معاذ ( .... فترد في فقرائهم) قالوا المراد بالفقراء هنا فقراء المسلمين.
وبقوله صلى الله عليه وسلم لقَبِيصة بن المخارق - وقد تحمل حمالة وقدم على النبي صلى الله عليه وسلم يريد منه العون على هذه الحمالة - قاله له
(أقم عندنا حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها) فدل على أن الصدقات تأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم[هذا من أقوى الأدلة].
وهذا القول وجيه، وإنما قيدوه بالمصلحة جمعاً بين الأدلة.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
• والأفضل أن يفرقها في فقراء بلده وفي ذلك فوائد:
أنه أيسر، وأقل خوفاً، وأن أهل بلده أقرب الناس إليه والقريب له حق، وأيضاً أن فقراء بلده تتعلق أطماعهم به وبما عنده من المال، وأيضاً أنه إذا أعطى أهل بلده صار بينه وبينهم مودة ورحمة.
• والأفضل أن يفرقها بنفسه.
لينال أجر القيام بتفريقها، وليبرئ ذمته بيقين، ويدفع عن نفسه المذمة ولا سيما إذا كان غنياً مشهوراً، وربما ينال دعوة صادقة من فقير، وربما يعطيها للفقير وهو في وقت كربة فيتذكرها الفقير ويدعو له كل ما تذكره، لكن يجوز أن يوكل من يدفعها عنه.
• يجب إخراج الزكاة بنية.
فتجب النية على المخرج، لأن إخراج المال يكون للزكاة ويكون للصدقة، ولا يحدد نوع الإخراج إلا النية.
• إذا دفع الزكاة لمن يظنه أنه من أهلها، ثم بان أنه غنياً، فإنها تجزئه.
لحديث أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (قَالَ رَجُلٌ لأَتَصَدَّقَنَّ اللَّيْلَةَ بِصَدَقَةٍ فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِى يَدِ زَانِيَةٍ فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ تُصُدِّقَ اللَّيْلَةَ عَلَى زَانِيَةٍ. قَالَ اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى زَانِيَةٍ لأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ. فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِى يَدِ غَنِىٍّ فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ تُصُدِّقَ عَلَى غَنِىٍّ. قَالَ اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى غَنِىٍّ لأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ. فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدِ سَارِقٍ فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ تُصُدِّقَ عَلَى سَارِقٍ. فَقَالَ اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى زَانِيَةٍ وَعَلَى غَنِىٍّ وَعَلَى سَارِقٍ. فَأُتِىَ فَقِيلِ لَهُ أَمَّا صَدَقَتُكَ فَقَدْ قُبِلَتْ أَمَّا الزَّانِيَةُ فَلَعَلَّهَا تَسْتَعِفُّ بِهَا عَنْ زِنَاهَا وَلَعَلَّ الْغَنِىَّ يَعْتَبِرُ فَيُنْفِقُ مِمَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ وَلَعَلَّ السَّارِقَ يَسْتَعِفُّ بِهَا عَنْ سَرِقَتِه) متفق عليه.
ولأنه فعل ما استطاع عليه، والله لا يكلف نفساً إلا وسعها.
باب من لا تحل لهم الزكاة
م/ ولا تحل الزكاة لغني، ولا لقوي مكتسِب.
أي: لا يجوز دفع الزكاة لغني بكسب أو مال، قال ابن قدامة:"ولا خلاف في هذا".
[القوي] سليم الأعضاء [المكتسب] الذي يستطيع أن يتكسب بصنعة أو وظيفة.
لقوله صلى الله عليه وسلم (إن الصدقة لا تحل لغني ولا لذي مرةٍ سوي) رواه مسلم.
وعن عبيد بن عدي (أن رجلين أخبراه أنهما أتيا النبي صلى الله عليه وسلم يسألانه من الصدقة، فقلب فيهما البصر ورآهما جلْدَيْن فقال: إن شئتما أعطيتكما ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب) رواه أحمد.
وأيضاً لآية الصدقة (إنما الصدقات للفقراء .. ) فمفهومه أنها لا تحل لغني.
ولأن أخذ الغني منها يمنع وصولها إلى أهلها، ويخل بحكمة وجوبها وهو إغناء الفقراء بها.
• ضابط الغنى: هو من يكون له كفاية على الدوام، إما بصناعة أو بكسب أو أجرة من عقار.
م/ ولا لآل محمد وهم بنو هاشم ومواليهم.
قال ابن قدامة: "لا نعلم خلافاً في أن بني هاشم لا تحل لهم الصدقة المفروضة".
• المراد ببني هاشم: آل علي، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل العباس، وآل الحارث.
لحديث عبد المطلب بن ربيعة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس) رواه مسلم.
وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال (أَخذ الحسنُ بنُ عليٍّ رضي الله عنهما تَمْرةً مِنْ تَمرِ الصَّدقَةِ فَجعلهَا في فِيهِ فقال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: «كُخْ كُخْ، إِرْمِ بِهَا، أَما علِمْتَ أَنَّا لا نأْكُلُ الصَّدقةَ؟) متفق عليه.
وفي روايةٍ: «إنا لا تَحِلُّ لنَا الصَّدقةُ» وقوله: «كِخْ كِخْ» يُقالُ بإسكان الخَاءِ، ويُقَالُ بكَسرِهَا مع التَّنْوِينِ وهيَ كلمةُ زَجْر للصَّبِيِّ عن المُسْتَقذَرَاتِ، وكَانَ الحسنُ رضي الله عنه صبِياً.
قال النووي: "قوله: إنما هي أوساخ الناس: تنبيه على العلة في تحريمها على بني هاشم، وأنها لكرامتهم وتنزيههم عن الأوساخ، ومعنى أوساخ الناس أنها تطهير لأموالهم ونفوسهم كما قال تعالى: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) فهي كغسالة الأوساخ".
• قوله (إن الصدقة) الصدقة لفظ يشمل الواجبة وهي الزكاة، ويشمل التطوع، ولكن يحدد المعنى هنا التعليل وهو قوله: إنما هي أوساخ الناس، فهذا يعني أن المراد بها الزكاة.
• لكن ينبغي أن يكون ذلك إذا كان بنو هاشم يأخذون الخُمس من بيت مال المسلمين، أما عند عدمه وكونهم فقراء فإنهم يأخذون منها، وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية [الجمهور لا يجوز لهم أخذ الزكاة حتى ولو منعوا من الخُمُس، قالوا: إنها محرمة عليهم في الأصل فلا تنقلب حلالاً، وقالوا: إن الصدقة حرمت عليهم لشرفهم، وهذا المعنى لا يزول بمنع الخمس].
• اختلف العلماء هل يعطى الهاشمي من صدقة التطوع؟ قولان، والراجح أنه يجوز إعطاؤهم من صدقة التطوع.
م/ ولا لمن تجب عليه نفقته حال جريانها.
فمن لزمته نفقته فلا يجوز دفع الزكاة إليه، فإذا لزمته نفقة خاله أو خالته أو عمه أو أخيه، لكونهم محتاجين وهو غني يستطيع الإنفاق عليهم، فإنه لا يعطيهم من الزكاة.
ولأنه بدفع الزكاة إليهم يجلب إلى نفسه نفعاً، ويسقط عن نفسه فرضاً وهو وجوب النفقة عليه.
وذهب بعض العلماء إلى أن الزكاة تدفع إلى الأقارب مطلقاً - ما عدا الأصول والفروع - واستدلوا:
بحديث (الصدقة على ذي الرحم ثنتان: صدقة وصلة) رواه الترمذي، فإنه لم يفرق بين فريضة ونافلة، ولم يفرق بين وارث وغيره.
وآية الزكاة تشمل القريب بعمومها، ولم يرد مخصص صحيح يخرجه، بخلاف الزوج والأصول والفروع، فقد خصصوا منها بالإجماع، قال الشوكاني:"الأصل عدم المانع، فمن زعم أن القرابة أو وجوب النفقة مانعان فعليه الدليل ولا دليل " والله
أعلم.
• أما الأصول والفروع، فهؤلاء لا يجوز دفع الزكاة إليهم (الوالدين والأولاد).
وحكى ابن المنذر الإجماع على أنه لا يجوز دفع الزكاة إليهم.
لأن الأصل والفرع يجب النفقة لهما بكل حال إذا كانوا فقراء وهو غني، فلا يعطيهم من الزكاة، ولأن دفع الزكاة إليهم تغنيهم عن نفقته، وتسقطها عنه فيعود نفع الزكاة إليه [كما لو قضى ديْن نفسه].
• وقد أجاز شيخ الإسلام ابن تيمية دفع الزكاة إلى الأبوين وإن علو، وإلى الولد وإن سفل إذا كانوا فقراء وهو عاجز عن نفقتهم، لأنه يصبح هو الآن كالأجنبي، واختار هذا القول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله.
م/ ولا لكافر.
أي: لا يجوز دفع الزكاة لكافر.
قال ابن قدامة: "لا نعلم خلافاً في أن زكاة الأموال لا تعطى لكافر".
لكن يستثنى إذا كان مؤلفاً فإنه يعطى.
مسألة: دفع الزكاة للزوجة والعكس.
أولاً: دفع الزوج إلى زوجته:
قال ابن المنذر: "أجمع أهل العلم على أن الزوج لا يعطي زوجته من زكاته، وذلك لأن نفقتها واجبة عليه فيستغنى بها عن أخذ الزكاة فلم يجز دفعها إليها".
واختلف العلماء هل يجوز للزوجة أن تعطي زوجها الفقير من الزكاة على قولين:
القول الأول: لا يجوز.
لقوة الصلة بينهما، لأن الرجل من امرأته كالمرأة من زوجها فيشبه الأصل مع الفرع.
القول الثاني: يجوز، وهذا مذهب الشافعي واختاره الشوكاني.
لعموم آية (إنما الصدقات للفقراء
…
).
ولقوله صلى الله عليه وسلم لزينب امرأة ابن مسعود (زوجك وولدك أحق من تصدقت به عليهم) رواه البخاري.
قال ابن قدامة مرجحاً هذا القول: ولأنه لا تجب نفقته فلا يمنع دفع الزكاة إليه كالأجنبي.
م/ فأما صدقة التطوع فيجوز دفعُها إلى هؤلاء وغيرهم.
أي: يجوز دفع صدقة التطوع للأصناف الثمانية وإلى غيرهم كالهاشمي والعبيد وغيرهم لقوله صلى الله عليه وسلم (كل معروف صدقة) لكن على القريب أفضل فهي صدقة وصلة كما في الحديث السابق (الصدقة على ذي الرحم ثنتان: صدقة وصلة).
• أما صدقة الفريضة فلا يجوز صرفها إلا لمن عينه الله في كتابه وهم الأصناف الثمانية كما سبق.
م/ ولكن كلما كانت أنفع نفعاً عاماً أو خاصاً فهي أكمل.
أي: أن صدقة التطوع كلما كانت أعظم نفعاً فهي أفضل، لأن الحكمة منها هو سد حاجة المعوزين والمحتاجين.
• وعليه ينبغي للمتصدق أن يحرص ويجتهد في البحث عن المحتاجين والفقراء.
م / وقال النبي صلى الله عليه وسلم (مَنْ سَأَلَ اَلنَّاسَ أَمْوَالَهُمْ تَكَثُّرًا، فَإِنَّمَا يَسْأَلُ جَمْرًا، فَلْيَسْتَقِلَّ أَوْ لِيَسْتَكْثِرْ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وقال لعمر (ما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه وما لا فلا تتبعه نفسك).
ذكر المصنف رحمه الله هذه الأحاديث ليبين تحريم سؤال الناس إلا لضرورة، ومن الأدلة على تحريم سؤال الناس:
قوله صلى الله عليه وسلم (مَا يَزَالُ اَلرَّجُلُ يَسْأَلُ اَلنَّاسَ حَتَّى يَأْتِيَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ لَيْسَ فِي وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْم) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
قال صلى الله عليه وسلم: (من يكفل لي أن لا يسأل الناس شيئاً وأتكفل له بالجنة). رواه أبو داود
[تكثراً] لتكثير ماله مما يجتمع عنده. [جمراً] ما يعاقب عليه بالنار. [مزعة] أي قطعة. [المشرف] الذي يستشرف بقلبه، والسائل الذي يسأل بلسانه.
• قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "سؤال المخلوقين فيه ثلاث مفاسد:
مفسدة الافتقار إلى غير الله وهي نوع من الشرك.
ومفسدة إيذاء المسؤول وهي نوع من ظلم الخلق.
وفيه ذل لغير الله وهو ظلم للنفس، فهو مشتمل على أنواع الظلم الثلاثة".
• وقال رحمه الله: "أعظم ما يكون العبد قدراً وحرمة عند الخلق: إذا لم يحتج إليهم بوجه من الوجوه. كما قيل: احتج إلى من شئت تكن أسيره، واستغن عمن شئت تكن نظيره، وأحسن إلى من شئت تكن أميره، ومتى احتجت إليهم - ولو في شربة ماء - نقص قدرك عندهم بقدر حاجتك إليهم، وهذا من حكمة الله ورحمته، ليكون الدين كله لله، ولا يشرك به شيئاً".
…
كتاب الصوم
مقدمة:
•
تعريفه:
لغة الإمساك.
وشرعاً: هو التعبد لله بالإمساك عن الأكل والشرب وسائر المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.
• فرض في السنة الثانية من الهجرة.
قال ابن القيم: "وكان فرضه في السنة الثانية من الهجرة، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد صام تسع رمضانات".
•
مراحل فرضية رمضان:
صيام رمضان فرض على ثلاث مراحل:
أولاً: صيام عاشوراء.
لحديث عائشة قالت (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بصيام يوم عاشوراء، فلما فرض رمضان كان من شاء صام ومن شاء أفطر) رواه البخاري.
ثانياً: مرحلة التخيير بين الصيام والفدية.
قال تعالى (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيراً فهو خير له وأن تصوموا خير لكم).
ثالثاً: فرض الصيام على التعيين.
قال تعالى (فمن شهد منكم الشهر فليصمه).
•
فضائل الصيام:
أولاً: الصوم جُنّة من النار.
قال صلى الله عليه وسلم (الصيام جُنة يستجن بها العبد من النار) رواه أحمد.
وقال صلى الله عليه وسلم (ما من عبد يصوم يوماً في سبيل الله إلا باعد الله بذلك وجهه عن النار سبعين خريفاً) متفق عليه.
(جنة) ستر من النار.
…
(سبعين خريفاً) أي مسيرة سبعين عاماً.
ثانياً: الصيام طريق إلى الجنة.
عن أبي أمامة قال (قلت: يا رسول الله، دلني على عمل أدخل به الجنة؟ قال: عليك بالصوم فإنه لا مِثل له) رواه النسائي.
ثالثاً: الصوم فضله عظيم اختص الله به.
عن أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به) متفق عليه.
م / الأصل فيه: قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).
ذكر المصنف رحمه الله الآية التي هي أصل في وجوب صيام شهر رمضان، فصوم رمضان واجب بالكتاب والسنة والإجماع.
قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).
(كتب) أي فرض (كما كتب على الذين من قبلكم) تسلية للمؤمنين وإشعار لهم بأن الله قد فرض هذا الأمر على من قبلهم من الأمم (لعلكم تتقون) فيه بيان الحكمة من مشروعية الصيام وهي تقوى الله.
وعن ابن عمر. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (بني الإسلام على خمس ....... وذكر منها: وصوم رمضان) متفق عليه
وأجمع المسلمون على وجوب صيام رمضان. (قاله ابن قدامة).
(من أنكر وجوبه كفر لأنه أنكر أمراً معلوماً بالضرورة من الدين، وأما من تركه تهاوناً وكسلاً فالصحيح أنه لا يكفر وهذا مذهب الجمهور).
م / ويجب صيام رمضان على كل مسلم.
أي: فلا يجب على الكافر ولا يصح منه، والدليل على تخصيصه بالمسلمين:
قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ
…
)، فالخطاب جاء للمؤمنين، والمراد بالمؤمنين مطلق أهل الإيمان، أي يا معشر المسلمين.
وقال تعالى (وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ) فإذا كانت النفقة لا تقبل مع الكفر مع أن نفعها متعد، فما كان نفعه قاصراً كالصيام من باب أولى ألا يقبل.
ولأن الكافر ليس أهلاً للعبادة.
• وإذا أسلم أثناء رمضان لزمه الصيام من حين أسلم.
م/ بالغ.
فالصغير لا يجب عليه الصوم.
لحديث علي. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (رفع القلم عن ثلاثة: .. عن الصغير حتى يبلغ) رواه أبو داود.
ولأنه ليس أهلاً للتكليف. [رفع القلم] كناية عن سقوط التكليف
• (علامات البلوغ: بلوغ السن وهو: 15 سنة، أو إنبات شعر العانة، أو إنزال المني، وتزيد الأنثى الحيض).
م/ عاقل:
فلا يجب الصوم على المجنون ولا يصح منه.
لحديث علي السابق ( .... وعن المجنون حتى يصحو .. ).
ولأنه ليس أهلاً للتكليف.
• (ومثله المعتوه والمهذري وكل من ليس له عقل ولا يطعم عنه).
م/ قادر على الصوم.
أي: بأن يكون قادراً على الصوم، فإن كان عاجزاً بأن يكون مريضاً فلا يجب عليه الصوم.
لقوله تعالى (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها).
والعجز ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: عجز طارئ يرجى برؤه: فهذا يفطر ويقضي.
قال تعالى (فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر).
القسم الثاني: عجز دائم لا يرجى برؤه: فهذا يفطر ويطعم.
لقول ابن عباس في قوله تعالى (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) ليست بمنسوخة، هي للكبير الذي لا يستطيع الصوم) رواه البخاري.
م/ برؤية هلاله، أو أكمال شعبان ثلاثين يوماً.
أي: أن صوم رمضان يجب بأمرين:
الأمر الأول: برؤية الهلال.
لحديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا شعبان ثلاثين يوماً) متفق عليه.
• قوله: (إذا رأيتموه) سواء كانت الرؤية بالرؤية المجردة أو بالواسطة كالمنظار أو آلة رصد فإنه يعتبر ذلك موجباً لثبوت شهر رمضان.
• وأيضاً يستفاد من قوله: إذا رأيتموه: أنه لا عبرة في الحساب ولا يصح الاعتماد عليه وهذا مذهب الأئمة الأربعة.
الأمر الثاني: إكمال شهر شعبان 30 يوماً.
قال في المغني: "لأنه يتيقن به دخول شهر رمضان ولا نعلم فيه خلافاً".
مسألة: صيام يوم الشك، أن يحول غيم أو قتر دون الهلال ليلة الثلاثين من شعبان.
حكم صومه حرام، ونسبه النووي لجمهور العلماء.
لحديث عمار قَالَ (مَنْ صَامَ اَلْيَوْمَ اَلَّذِي يُشَكُّ فِيهِ فَقَدْ عَصَى أَبَا اَلْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم وَذَكَرَهُ اَلْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا، وَوَصَلَهُ اَلْخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ اِبْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ.
ولحديث: (فإن غم عليكم فاقدروا له) وفي رواية: (فأكملوا شعبان ثلاثين يوماً).
وهذه مفسرة لرواية (فاقدروا له) أن معنى اقدروا له تمام العدد ثلاثين يوماً.
وذهب بعض العلماء إلى وجوب صومه، وهذا مذهب الحنابلة.
لقوله صلى الله عليه وسلم: (فاقدروا له).
ومعنى (اقدروا له) أي ضيقوا، من قوله تعالى (ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما أتاه الله).
والتضييق أن يجعل شعبان [تسـ 29 ـعة وعشرون] يوماً، والراجح القول الأول.
م/ ويصام برؤية عدل لهلاله.
أي: يقبل شخص واحد يُخبِر برؤية هلال رمضان، سواء كان ذكراً أم أنثى، بشرط أن يكون عدلاً، والعدل: من استقام في دينه ومروءته، والمعني: أن يكون موثوقاً بخبره لأمانته وبصره، أما من لا يوثق بخبره لكونه معروفاً بالكذب أو بالتسرع أو كان ضعيف البصر بحيث لا يمكن أن يراه فلا يثبت الشهر بشهادته.
والدليل على أنه يقبل شخص واحد:
حديث اِبْنِ عُمَررَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ (تَرَاءَى اَلنَّاسُ اَلْهِلَالَ، فَأَخْبَرْتُ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنِّي رَأَيْتُهُ، فَصَامَ، وَأَمَرَ اَلنَّاسَ بِصِيَامِهِ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ اِبْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ.
وَعَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إِلَى اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: (إِنِّي رَأَيْتُ اَلْهِلَالَ، فَقَالَ: " أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ? " قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: " أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اَللَّهِ? " قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: " فَأَذِّنْ فِي اَلنَّاسِ يَا بِلَالُ أَنْ يَصُومُوا غَدًا"). رَوَاهُ اَلْخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ اِبْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ.
الحديثان يدلان على أنها تقبل شهادة الواحد في دخول رمضان.
قال الترمذي: "والعمل عليه عند أكثر أهل العلم". وقال النووي: "وهو الأصح، لأنه خبر ديني لا تهمة فيه وأحوط للعبادة".
• يشترط في الشاهد شروطاً:
أن يكون مسلماً: فلا تقبل شهادة الكافر لأمور:
أولاً: لحديث الأعرابي السابق: أتشهد أن لا إله إلا الله ....
ثانياً: أن الله رد شهادة الفاسق من المسلمين، ومن باب أولى رد شهادة الكافر.
ثالثاً: لأن الغالب فيه الكذب، والمتهم لا تقبل شهادته.
رابعاً: قوله تعالى (ممنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ) والكافر ليس بمرضي.
أن يكون بالغاً عاقلاً:
عاقل: فالمجنون لا تقبل.
بالغ: الصبي لا يخلو من حالين:
الأول: أن يكون غير مميز (لا يقبل قوله).
الثاني: أن يكون مميز (وهذا محل خلاف)، والأكثر على أنه لا يقبل قوله، لأنه لا يوثق بخبره، فلا بد من البلوغ.
م/ ولا يقبل في بقية الشهور إلا عدلان.
وهذا قول أكثر العلماء، أنه لابد من شاهدين.
م/ ويجب تبيت النية لصيام الفرض.
أي: يجب تبييت النية من الليل لصيام الفرض، كرمضان، وقضاء رمضان، والنذر.
لحديث حَفْصَةَ أُمِّ اَلْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنها، عَنِ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مَنْ لَمْ يُبَيِّتِ اَلصِّيَامَ قَبْلَ اَلْفَجْرِ فَلَا صِيَامَ لَهُ) رَوَاهُ اَلْخَمْسَةُ، وَمَالَ النَّسَائِيُّ وَاَلتِّرْمِذِيُّ إِلَى تَرْجِيحِ وَقْفِهِ، وَصَحَّحَهُ مَرْفُوعًا اِبْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ.
وَلِلدَّارَقُطْنِيِّ: (لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يَفْرِضْهُ مِنَ اَللَّيْلِ)، اختلف في هذا الحديث بين الرفع والوقف، وجاء موقوفاً عن ابن عمر كما عند مالك في الموطأ، ولا يعلم لحفصة ولا لابن عمر مخالف من الصحابة.
• فمن نوى صوم الفرض من بعد صلاة الصبح فلا يصح، وتصح النية في أي جزء من أجزاء الليل.
م/ أما النفل فيجوز بنية من النهار.
أي: أن صوم النفل (كصيام الإثنين والخميس، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر) يجوز أن ينويه من النهار.
لحديث عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ (دَخَلَ عَلَيَّ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ. فَقَالَ: " هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ? " قُلْنَا: لَا. قَالَ: " فَإِنِّي إِذًا صَائِمٌ).
• يشترط إذا نوى الصوم من النهار أن لا يكون قد أكل شيئاً من بعد الفجر.
• وهل يشترط أن يكون قبل الزوال؟ ظاهر كلام المؤلف أنه لا يشترط، وأنه يجوز ولو نوى بعد الزوال، وذهب أكثر العلماء إلى أنه يشترط أن تكون النية قبل الزوال، والأول أرجح.
• إن نوى الصوم أثناء النهار، هل يكتب له أجر الصوم يوماً كاملاً أو يكتب له من نيته؟ قولان للعلماء:
قيل: أنه يكتب له أجر اليوم الكامل.
قالوا: لأن الصوم الشرعي لا بد أن يكون من أول النهار.
وقيل: لا يثاب إلا من وقت النية فقط.
فإذا نوى عند الزوال فأجره على هذا القول نصف يوم.
لحديث (إنما الأعمال بالنيات) وهذا أول النهار لم ينو الصوم فلا يكتب له الأجر كاملاً، وهذا القول هو الراجح.
من يباح لهم الفطر في رمضان
م/ والمريض الذي يتضرر بالصوم، والمسافر: لهما الفطر والصيام.
ذكر المصنف رحمه الله من يباح لهم الفطر في رمضان وهما:
المريض الذي يضره المرض.
لقوله تعالى (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ). في الآية مقدر وهو (فأفطر) فعدة من أيام أخر.
وقال تعالى (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا).
الأول: المرض ينقسم إلى قسمين:
أولاً: أن يضره الصيام، فهنا يحرم صومه.
لقوله تعالى (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ).
وقال تعالى (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ).
• (فإن كان صيامه مع المرض يؤدي إلى التلف أو غلب على ظنه أنه لو صام أن يتلف أو يحصل له فوات عضو، فإنه في هذه الحالة يحرم صومه).
ثانياً: أن يشق عليه الصوم، فهنا يكره صومه.
لأن ذلك يتضمن إكراهاً بنفسه. ولأنه ترك تخفيف وقبول رخصة الله لحديث (إن الله يحب أن تؤتى رخصه).
• (تأخير البرء بسبب الصيام يوجب الترخيص، لأن تأخير البرء ضرر).
الثاني: المسافر.
فالمسافر يجوز له الفطر، وهذا جائز بالكتاب والسنة والإجماع.
قال تعالى: (فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر). تقدير الآية: (فمن كان منكم مريضاً أو على سفر- فأفطر - فعدة من أيام أخر).
ومن السنة أحاديث كثيرة، ومنها:
حديث جَابِر بْنِ عَبْدِ اَللَّهِ رضي الله عنهما; (أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ عَامَ اَلْفَتْحِ إِلَى مَكَّةَ فِي رَمَضَانَ، فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ كُرَاعَ الْغَمِيمِ، فَصَامَ اَلنَّاسُ، ثُمَّ دَعَا بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ فَرَفَعَهُ، حَتَّى نَظَرَ اَلنَّاسُ إِلَيْهِ، ثُمَّ شَرِبَ، فَقِيلَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: إِنَّ بَعْضَ اَلنَّاسِ قَدْ صَامَ. قَالَ: "أُولَئِكَ اَلْعُصَاةُ، أُولَئِكَ اَلْعُصَاةُ").
وحديث أنس قال: (كنا نسافر مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم). متفق عليه
وَعَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيِّ رِضَى اَللَّهُ عَنْهُ; أَنَّهُ قَالَ (يَا رَسُولَ اَللَّهِ! أَجِدُ بِي قُوَّةً عَلَى اَلصِّيَامِ فِي اَلسَّفَرِ، فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ? فَقَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم " هِيَ رُخْصَةٌ مِنَ اَللَّهِ، فَمَنْ أَخَذَ بِهَا فَحَسَنٌ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصُومَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
• فإن صام المسافر فإنه جائز، قال ابن قدامة:"وهذا قول أكثر العلماء"، وقال النووي:"وهو قول جماهير العلماء وجميع أهل الفتوى لأحاديث الباب وغيرها كثيرة".
لحديث أنس قال (كنا نسافر فلا يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم) متفق عليه.
ولحديث أبي الدرداء قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان في حر شديد حتى إن كان أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر، وما فينا صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحة) متفق عليه.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
• اختلف الجمهور القائلون بجواز الصوم في السفر أيهما أفضل الصوم أم الفطر؟
القول الأول: الفطر أفضل.
وهو قول أحمد وإسحاق.
عملاً بالرخصة.
ولحديث: (ليس من البر الصيام في السفر).
ولحديث (هي رخصة من الله فمن أخذ بها فحسن ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه).
القول الثاني: الصوم أفضل لمن قوي عليه من غير مشقة.
ونسبه ابن حجر إلى الجمهور. واستدلوا:
بحديث أبي الدرداء قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان في حر شديد، حتى إن كان أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر وما فينا صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحة). متفق عليه
القول الثالث: هو مخير مطلقاً.
القول الرابع: أفضلهما أيسرهما.
واختاره ابن المنذر.
لقوله تعالى: (يريد بكم اليسر).
والراجح قول الجمهور.
• لكن إذا كان هناك مشقة محتملة فالأفضل الفطر.
لحديث: (ليس من البر الصيام في السفر).
وإذا كان الصوم يشق عليه مشقة غير محتملة فهنا يجب الفطر.
لقوله تعالى: (ولا تقتلوا أنفسكم).
وأما إذا كان لا يشق عليه فالأفضل الصوم كما سبق من مذهب الجمهور.
لأنه فعل الرسول صلى الله عليه وسلم.
أسرع في إبراء الذمة.
أسهل على المكلف.
يدرك الزمن الفاضل وهو رمضان.
م/ والحائض والنفساء يحرم عليهما الصيام وعليهما القضاء.
أي: لا يجوز للحائض والنفساء الصوم فرضه ونفله، ويجب عليهما قضاء رمضان، فإذا حاضت المرأة أو نُفِست في جزء من النهار فسد صوم ذلك اليوم ولو قبل الغروب بلحظة، ووجب عليها القضاء إن كان فرضاً.
قال النووي: "أجمع المسلمون على أن الحائض والنفساء لا تجب عليهما الصلاة والصوم في الحال، وأجمعوا على أنه يجب عليهما قضاء الصوم".
لحديث مُعَاذَةَ قَالَتْ: (سَأَلْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها فَقَلتُ: مَا بَالُ الْحَائِضِ تَقْضِي الصَّوْمَ، وَلا تَقْضِي الصَّلاةَ؟ فَقَالَتْ: أَحَرُورِيَّةٌ أَنْتِ؟ فَقُلْتُ: لَسْتُ بِحَرُورِيَّةٍ، وَلَكِنِّي أَسْأَلُ. فَقَالَتْ: كَانَ يُصِيبُنَا ذَلِكَ، فَنُؤَمرُ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ، وَلا نُؤَمرُ بِقَضَاءِ الصَّلاةِ).
ولحديث أبي سعيد قال: قال صلى الله عليه وسلم (أليس إذا حاصت لم تصل ولم تصم، قلنا: بلى) متفق عليه.
• هل تؤجر الحائض على ترك الصيام والصلاة؟ قولان للعلماء:
القول الأول: أنها تؤجر، لأنها تركتهما تعبداً لله.
القول الثاني: لا تؤجر، والصحيح الأول.
م/ والحامل والمرضع إذا خافتا على ولديهما: أفطرتا وقضتا، وأطعمتا عن كل يوم مسكيناً.
أي: أن الحامل والمرضع إذا خافتا على ولديهما أفطرتا وقضتا وأطعمتا عن كل يوم مسكيناً؟
هذا ما ذهب إليه المصنف رحمه الله وإفطار الحامل والمرضع له أحوال:
أولاً: إن خافتا على أنفسهما فقط؛ فحكمهما حكم المريض يفطران ويقضيان فقط.
قال في المغني "إن الحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما إذا صامتا فلهما الفطر و عليهما القضاء، لا نعلم فيه خلافاً لأنهما بمنزلة المريض الخائف على نفسه".
ثانياً: إن خافتا على أنفسهما وولديهما جميعاً؛ فعليهما القضاء فقط (نفس الحالة السابقة).
ثالثاً: إن خافتا على ولديهما فقط:
فقيل عليهما القضاء والكفارة، وهو ما ذكره المصنف رحمه الله وهذا المشهور من المذهب.
لما رواه أبو داود بإسناد حسن عن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى: (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) قال فيها: (نسخت هذه الآية وبقيت للشيخ الكبير والعجوز والحامل والمرضع إذا خافتا أفطرتا وأطعمتا عن كل يوم مسكيناً).
وقيل: عليهما القضاء فقط من غير الكفارة. وهذا هو القول الراجح. لحديث أنس بن مالك الكعبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (إن الله تبارك
وتعالى وضع عن المسافر شطر الصلاة، وعن الحامل والمرضع الصيام) رواه الترمذي.
فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر الكفارة، والأصل براءة الذمة.
م/ والعاجز عن الصوم لكبر أو مرض لا يرجى برؤه فإنه يطعم عن كل يوم مسكيناً.
سبق أن العجز عن الصيام ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: عجز طارئ يرجى برؤه: فهذا يفطر ويقضي.
القسم الثاني: عجز دائم لا يرجى برؤه: فهذا يفطر ويطعم.
لقول ابن عباس في قوله تعالى (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) ليست بمنسوخة، هي للكبير الذي لا يستطيع الصوم) رواه البخاري.
وَعَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: (رُخِّصَ لِلشَّيْخِ اَلْكَبِيرِ أَنْ يُفْطِرَ، وَيُطْعِمَ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا، وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ) رَوَاهُ اَلدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَاهُ.
• كيفية الإطعام:
o أن يدعو مساكين بعدد الأيام في آخر الشهر للغداء إن كان بعد رمضان أو على العشاء فيعشيهم.
o أو أن يوزع طعاماً ويعتني بطبخه ويجعل معه أدم.
ويجب أن يطعم عن كل يوم مسكيناً لا أن يطعم طعام ثلاثين مسكيناً.
فلو قال: سأخرج طعاماً يكفي ثلاثين مسكيناً لستة فقراء، لا يجزئ.
المفطرات
م/ ومن أفطر فعليه القضاء فقط، إذا كان فطره بأكل أو بشرب أو قيء عمداً، أو حجامة، أو إمناء بماشرة.
ذكر المصنف رحمه الله المفطرات التي تفطر الصائم، وأن من فعلها عالماً عامداً فعليه القضاء مع الإثم وليس هناك كفارة.
• قوله (بأكل أو بشرب).
هذا المفطّر الأول.
قال ابن قدامة: "وهذا لا خلاف أن من تعمده يفطر ويجب عليه الإمساك والقضاء".
لقوله تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْل).
ولقوله صلى الله عليه وسلم (يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي)
ومن الأدلة قوله صلى الله عليه وسلم (مَنْ نَسِيَ وَهُوَ صَائِمٌ، فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ، فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اَللَّهُ وَسَقَاهُ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وأجمع العلماء على أن الفطر بالأكل والشرب ".
• لا فرق بين أن يدخل هذا الطعام عن طريق الفم أو عن طريق الأنف، لأن الأنف منفذ يصل إلى المعدة كما قال صلى الله عليه وسلم للقيط بن صبرة (بالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً).
• ويلحق بذلك الإبر المغذية لأنها تقوم مقام الأكل.
• قوله (أو قيء عمداً).
هذا المفطر الثاني وهو القيء عمداً. (أن يتقيأ الإنسان ما في بطنه حتى يخرج من فمه).
لحديث أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ ذَرَعَهُ اَلْقَيْءُ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَمَنْ اسْتَقَاءَ فَعَلَيْهِ اَلْقَضَاءُ) رَوَاهُ اَلْخَمْسَةُ. [استقاء] طلب إخراج القيء من جوفه باختياره، [ذرعه] أي غلبه وقهره.
وقد حكاه ابن المنذر بالإجماع على أن القيء عمداً يفطر.
وقال ابن مسعود وعكرمة وربيعة والقاسم: " إنه لا يفسد الصوم سواء كان غالباً أو مستمرحاً ما لم يرجع فيه القيء باختياره "[نقله الشوكاني عنهم]
واستدلوا:
أن الحديث لا يصح، ولم يثبت دليل أن القيء مفطر، ولو كان مفطراً لبينه النبي صلى الله عليه وسلم بياناً عاماً.
واستدلوا بحديث: (ثلاث لا يفطرن: القيء، والحجامة، والاحتلام). وهو حديث ضعيف رواه الترمذي وغيره
• الحكمة من الإفطار بالقيء أنه إخراج ما يضعف بدنه، قاله ابن تيمية.
• والقيء عمداً يشمل ما إذا كان قيئه بالفعل كجذبه بيده، أو بالشم كأن يشم شيئاً له رائحة كريهة نفّاذة ليقيء بها، أو بالنظر كأن يتعمد النظر لشيء قبيح يقيئ به.
• قوله (أو حجامة).
هذا المفطر الثالث من مفطرات الصوم وهو الحجامة، وما ذكره المصنف رحمه الله وهو أن الحجامة تفطر، هو مذهب الحنابلة واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَتَى عَلَى رَجُلٍ بِالْبَقِيعِ وَهُوَ يَحْتَجِمُ فِي رَمَضَانَ. فَقَالَ: أَفْطَرَ اَلْحَاجِمُ وَالْمَحْجُوم) رَوَاهُ اَلْخَمْسَةُ إِلَّا اَلتِّرْمِذِيَّ، وَصَحَّحَهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ
وذهب جمهور العلماء إلى أن الحجامة لا تفطر.
لحديث ابن عباس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم، واحتجم وهو صائم). رواه البخاري.
ولما رواه أبو داود بسند صحيح عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الحجامة للصائم، وعن المواصلة ولم يحرمهما إبقاءً على أصحابه). قال الحافظ: " إسناده صحيح ".
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (رخص للصائم بالحجامة والقبلة). وسنده صحيح إلى أبي سعيد وله حكم الرفع
وأجاب هؤلاء عن حديث (أفطر الحاجم والمحجوم) بأجوبة:
أنه منسوخ، قال ابن عبد البر وغيره:"فيه دليل على أن حديث (أفطر الحاجم والمحجوم) منسوخ، لأنه جاء في بعض طرقه أن ذلك كان في حجة الوداع"، وسبق ذلك الشافعي.
وقال ابن حزم: " صح حديث (أفطر الحاجم والمحجوم)، بلا ريب، لكن وجدنا من حديث أبي سعيد (رخص النبي صلى الله عليه وسلم في الحجامة للصائم) وإسناده صحيح فوجب الأخذ به، لأن الرخصة إنما تكون بعد العزيمة، فدل على نسخ الفطر بالحجامة سواء كان حاجماً أو محجوماً ".
وهذا القول هو الراجح، ويتفرع على هذا أن سحب الدم للتحليل أو التبرع لا يفطر مطلقاً، سواء كان كثيراً أم قليلاً.
• أما الرعاف وخروج الدم من الجرح والسن إذا لم يبلعه فهذا لا يفطر مطلقاً، سواء كان كثيراً أم قليلاً، لأنه خرج بغير اختياره، والأصل صحة الصوم إلا بدليل صحيح يدل على فساده.
• قوله (أو إمناء بماشرة).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
هذا هو المفطر الرابع وهو الاستمناء بمباشرة، والمباشرة: التقاء البشرتين، ويستعمل في الجماع سواء أولج أو لم يولج، وليس الجماع مراداً هنا، وإنما المراد أن يقبل زوجته مثلاً فينزل منياً.
قال ابن قدامة في المغني: "القبلة لا تخلو من أمور:
• أن لا تنزل فلا يفسد صومه، قال: لا نعلم فيه خلافاً، لحديث عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ (كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُ وَهُوَ صَائِمٌ، وَيُبَاشِرُ وَهُوَ صَائِمٌ، وَلَكِنَّهُ أَمْلَكُكُمْ لِإِرْبِهِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
• أن يمني فيفطر بغير خلاف".
• اختار شيخ الإسلام أن نزول المذي لا يفطر، عملاً بالأصل، ولأن قياسه على المني لا يصح لظهور الفروق بينهما.
والدليل على أن تعمد الاستمناء بمباشرة مفسد للصوم، أن هذا من الشهوة التي تنافي الصوم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه (يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي) رواه ابن خزيمة.
ومثله الاستمناء بيده فإن هذا مفسد للصوم.
• وأما إذا احتلم في نهار رمضان فإنه يغتسل وصومه صحيح ولا يضره لأنه ليس باختياره).
• وأيضاً لو كرر النظر متعمداً فأنزل منياً فإنه يفسد صومه، لأنه إنزال بفعلٍ يتلذذ به يمكن التحرز منه، وأما إذا لم يكرر النظر فإنه لا يفطر ولو أنزل - وهذا المذهب - لعدم إمكان التحرز منه.
م/ إلا من أفطر بجماع فإنه يقضي ويعتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً.
هذا المفطر الخامس وهو الجماع في الفرج في نهار رمضان.
لحديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ (جَاءَ رَجُلٌ إِلَى اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: هَلَكْتُ يَا رَسُولَ اَللَّهِ. قَالَ: " وَمَا أَهْلَكَكَ? " قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى اِمْرَأَتِي فِي رَمَضَانَ، فَقَالَ: " هَلْ تَجِدُ مَا تَعْتِقُ رَقَبَةً? " قَالَ: لَا. قَالَ: " فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ? " قَالَ: لَا. قَالَ: " فَهَلْ تَجِدُ مَا تُطْعِمُ سِتِّينَ مِسْكِينًا? " قَالَ: لَا، ثُمَّ جَلَسَ، فَأُتِي اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ. فَقَالَ: " تَصَدَّقْ بِهَذَا "، فَقَالَ: أَعَلَى أَفْقَرَ مِنَّا? فَمَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا أَهْلُ بَيْتٍ أَحْوَجُ إِلَيْهِ مِنَّا، فَضَحِكَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ، ثُمَّ قَالَ: "اذْهَبْ فَأَطْعِمْهُ أَهْلَك) متفق عليه.
• الحديث دليل أن من جامع في الفرج فأنزل أو لم ينزل أو دون الفرج فأنزل أنه يفسد صومه إذا كان عامداً. قال ابن قدامة: "لا نعلم بين أهل العلم خلافاً".
• الحديث دليل على أن الوطء للصائم في نهار رمضان من الفواحش الكبار المهلكات، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقره على أن فعله هذا مهلك.
• الحديث دليل على أن الوطء عمداً يوجب الكفارة المغلظة، وهي على الترتيب:
عتق رقبة مؤمنة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً، وهذا مذهب جمهور العلماء على أنها على الترتيب لا على التخيير.
• تجب الكفارة إذا جامع في نهار رمضان فقط، فلو أن رجلاً جامع زوجته وهو يصوم رمضان قضاءً، فلا كفارة عليه، وذلك لأن وجوب الكفارة من أجل انتهاك الصوم في زمن محترم، وهو شهر رمضان.
قال ابن قدامة: "ولا تجب الكفارة في قول أهل العلم وجمهور الفقهاء".
• اختلف العلماء هل (المرأة) عليها كفارة أم لا؟
القول الأول: ليس عليها كفارة.
وهو قول الشافعية، واستدلوا:
قال ابن حجر: "واستدلوا بإفراده بذلك على أن الكفارة عليه وحده دون الموطوءة، وكذا قوله في المراجعة (هل تستطيع) و (هل تجد) وغير ذلك
…
واستدل الشافعية - أيضاً - بسكوته صلى الله عليه وسلم عن إعلام المرأة بوجوب الكفارة مع الحاجة".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
القول الثاني: عليها الكفارة.
وهو مذهب الجمهور.
لأن الأصل تساوي الرجال والنساء في الأحكام إلا ما خص بدليل.
قال ابن حجر: "ثم إن بيان الحكم للرجل بيان في حقها لاشتراكهما في تحريم الفطر وانتهاك حرمة الصوم كما لم يأمره بالغسل، والتنصيص على الحكم في حق بعض المكلفين كاف عن ذكره في حق الباقين".
وهذا القول هو الصحيح أن على المرأة الكفارة إلا إذا كانت مكرهة فلا شيء عليها.
وأما الجواب عن قول أصحاب القول الأول (وقت الحاجة):
قال الحافظ ابن حجر: "وأجيب ممتنع الحاجة إذ ذاك لأنها لم تعترف ولم تسأل، واعتراف الزوج عليها لا يوجب عليها حكماً ما لم تعترف".
قوله (فإنه يقضي) - المصنف رحمه الله يقول أن على المجامع متعمداً ذاكراً قضاء هذا اليوم، وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: أنه لا يقضي هذا اليوم.
وهذا اختيار ابن حزم وشيخ الإسلام ابن تيمية.
لأنه لم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالقضاء.
القول الثاني: يجب عليه قضاء هذا اليوم.
وهذا مذهب جمهور العلماء. واستدلوا.
بحديث أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من ذرعه القيء فلا قضاء عليه، ومن استقاء فعليه القضاء) وجه الاستدلال: أن من استقاء عامداً وجب عليه القضاء بنص هذا الحديث، فيكون حكم المجامع في وجوب القضاء مثل حكمه.
واستدلوا أنه جاء عند أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المجامع بالقضاء فقال له (صم يوماً مكانه) وهذه الزيادة مختلف في صحتها وضعفها ابن تيمية، وممن أثبتها الحافظ ابن حجر، وبين أن لها أصلاً كما في الفتح.
واستدلوا: أن الصوم إذا شغلت به الذمة لم تبرأ إلا بالأداء، فإذا فات وقته وجب القضاء.
واستدلوا بحديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (فاقضوا الله الذي له، فإن الله أحق بالوفاء) رواه البخاري.
م/ وقال النبي صلى الله عليه وسلم (مَنْ نَسِيَ وَهُوَ صَائِمٌ، فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ، فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اَللَّهُ وَسَقَاه) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ذكر المصنف رحمه الله حديث أبي هريرة ليستدل به على أن الصائم إذا أكل أو شرب أو فعل مفطراً من المفطرات ناسياً فلا شيء عليه وجاء في رواية للحاكم (مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ نَاسِيًا فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَلَا كَفَّارَةَ).
وهذا مذهب جمهور العلماء، وأبو حنيفة والشافعي وأحمد.
وذهب بعض العلماء إلى أنه يفسد الصوم ويجب القضاء، وهو مذهب المالكية، واعتذروا عن العمل بالحديث بأنه لم يرد في الحديث تعيين رمضان فيحمل على التطوع، ويرد هذا، رواية الحاكم:(من أفطر في رمضان ناسياً فلا قضاء ولا كفارة).
• أنه لا فرق بين قليل الأكل وكثيره، لما أخرجه أحمد عن أم إسحاق:(أنها كانت عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتي بقصعة من ثريد فأكلت معه، ثم تذكرت أنها كانت صائمة فقال لها ذو اليدين: الآن بعد ما شبعتِ؟ فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: أتمي صومك فإنما هو رزق ساقه الله إليك)، قال الحافظ ابن حجر:"وفي هذا رد على من فرق بين قليل الأكل وكثيره".
• هل يجب على من رأى من يأكل ويشرب في نهار رمضان أن يذكره أم لا؟ قولان للعلماء:
القول الأول: أنه يجب تذكيره.
واختار هذا القول الشيخ ابن باز وابن عثيمين.
لقوله صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه). رواه مسلم
القول الثاني: أنه لا يجب تذكيره.
لأنك تعلم علم اليقين أنه أكل أو شرب نسياناً ولم يرتكب حينئذٍ منكراً، وإنما أطعمه الله وسقاه، والأول أرجح.
م/ وقال: (لَا يَزَالُ اَلنَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا اَلْفِطْرَ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ذكر المصنف رحمه الله حديث سهل بن سعد (لا يزال الناس بخير .... ) ليستدل به على استحباب تعجيل الفطر.
• الحديث يدل على أدب من آداب الإفطار، وهو تعجيله والمبادرة به حين حلول وقته.
ومعنى التعجيل: أنه بمجرد غياب قرص الشمس من الأفق يفطر.
• أن في تعجيل الفطر ثمرات عظيمة:
o في تعجيل الإفطار اتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان يعجل الإفطار.
عن عبد الله بن أبي أوفى قال: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر وهو صائم، فلما غابت الشمس قال لبعض القوم: يا فلان، قم فاجدح لنا [أي اخلط السويق بالماء] فقال: يا رسول الله، لو أمسيت، قال: انزل فاجدح لنا، قال: إن عليك نهاراً قال: انزل فاجدح لنا، فنزل فجدح لهم، فشرب النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: إذا رأيتم الليل قد أقبل من ههنا أفطر الصائم) متفق عليه
o تعجيل الفطر من أخلاق الأنبياء.
قال أبو الدرداء: (ثلاث من أخلاق الأنبياء: تعجيل الإفطار، وتأخير السحور، ووضع اليمين على الشمال في الصلاة). رواه الطبراني
o أن في تعجيل الفطور علامة أن الناس بخير.
للحديث الذي ذكره المصنف.
o في تعجيل الفطور مخالفة لليهود والنصارى.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يزال الدين ظاهراً ما عجل الناس الفطر، لأن اليهود والنصارى
يؤخرون). رواه أبو داود
o في تعجيل الفطور تيسير على الناس، وبعد عن التنطع، وقد امتثل هذا الأدب الصحابة.
قال البخاري: " أفطر أبو سعيد حين غاب قرص الشمس ".
وقال عمرو بن ميمون: (كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أسرع الناس إفطاراً، وأبطأهم سحوراً). رواه عبد الرزاق
• يفطر الصائم أول ما تغرب الشمس، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أقبل الليل من ههنا، وأدبر النهار من ههنا، وغربت الشمس فقد أفطر الصائم).
قوله (فقد أفطر الصائم): قال ابن حجر: "أي دخل في وقت الفطر، ويحتمل أن يكون معناه: فقد صار مفطراً في الحكم لكون الليل ليس ظرفاً للصيام الشرعي، وقد رد ابن خزيمة هذا الاحتمال، وأومأ إلى ترجيح الأول".
قال ابن حجر: "ولا شك أن الأول أرجح".
م/ وقال (تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي اَلسَّحُورِ بَرَكَة) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ذكر المصنف رحمه الله حديث أبي هريرة (تسحروا .... ) ليستدل به على استحباب السحور.
• الحديث دليل على استحباب السحور، قال في المغني:"ولا نعلم فيه خلافاً "[أي في استحبابه].
وقال ابن المنذر: "وأجمعوا على أن السحور مندوب إليه".
وقال البخاري: "باب بركة السحور من غير إيجاب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه واصلوا ولم يذكر السحور".
ويشير البخاري إلى حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال في الصوم فقال رجل من المسلمين: إنك تواصل يا رسول الله؟ قال: وأيكم مثلي؟ إني يطعمني ربي ويسقيني، فلما أبوا أن ينتهوا عن الوصال واصل بهم يوماً ثم يوماً، ثم رأوا الهلال فقال: لو تأخر لزدتكم، كالتنكيل لهم حين أبوا أن ينتهوا).
• قوله (بركة) البركة في السحور تحصل بجهات متعددة:
o اتباع السنة.
o مخالفة أهل الكتاب، ففي صحيح مسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة
السحر).
o أن السحور يعطي الصائم قوة لا يمل معها الصيام.
o أنه يكون سبباً للانتباه من النوم في وقت السحر الذي هو وقت الاستغفار والدعاء، وفيه ينزل الرب جل وعلا إلى السماء الدنيا.
o مدافعة سوء الخلق الذي يثيره الجوع.
o الزيادة في النشاط.
o ويسن تأخير السحور، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر). متفق عليه
زاد أحمد (وأخروا السحور).
وعن أنس عن زيد بن ثابت أنه قال: (تسحرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم قام إلى الصلاة، قلت: كم كان بين الأذان والسحور؟ قال: قدر خمسين آية). متفق عليه
فهذا الحديث يدل على أنه يستحب تأخير السحور إلى قبيل الفجر، فقد كان بين فراغ النبي صلى الله عليه وسلم ومعه زيد من سحورهما، ودخولهما في الصلاة، قدر ما يقرأ الرجل خمسين آية من القرآن، قراءة متوسطة لا سريعة ولا بطيئة، وهذا يدل على أن وقت الصلاة قريب من وقت الإمساك.
والمراد بالأذان الإقامة، سميت أذاناً لأنها إعلام بالقيام إلى الصلاة.
م/ وقال صلى الله عليه وسلم (إِذَا أَفْطَرَ أَحَدُكُمْ فَلْيُفْطِرْ عَلَى تَمْرٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيُفْطِرْ عَلَى مَاءٍ، فَإِنَّهُ طَهُورٌ) رَوَاهُ اَلْخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ اِبْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ.
ذكر المصنف رحمه الله حديث (إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر .... ) ليستدل به على استحباب الفطر على تمر.
• ففي هذا الحديث استحباب الفطر على رطب، فإن لم يجد فتمر، فإن لم يجد فماء.
• هذا الأمر بالحديث للاستحباب، ويدل لذلك حديث ابن أبي أوفى قال: (سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صائم، فلما غربت الشمس قال: انزل فاجدح لنا، قال: يا رسول الله، لو أمسيت
…
).
قوله (فاجدح) بالجيم ثم بالحاء، والجدح تحريك السويق ونحوه بالماء بعود يقال له المجدح.
قال ابن حجر: "وشذ ابن حزم فأوجب الفطر على التمر وإلا فعلى الماء".
• الحكمة من الفطر على التمر:
قال ابن القيم رحمه الله: "وكان يحض على الفطر بالتمر، فإن لم يجد فعلى الماء، هذا من كمال شفقته على أمته ونصحهم، فإن إعطاء الطبيعة الشيء الحلو مع خلو المعدة، أدعى إلى قبوله، وانتفاع القوى به،
…
وأما الماء فإن الكبد يحصل لها بالصوم نوع يبس، فإذا رطبت بالماء كمل انتفاعها بالغذاء بعده، ولهذا كان أولى بالظمآن الجائع، أن يبدأ قبل الأكل بشرب قليل من الماء، ثم يأكل بعده".
وقال الشوكاني: "وإنما شرع الإفطار بالتمر لأنه حلو، وكل حلو يقوي البصر الذي يضعف بالصوم، وهذا أحسن ما قيل في المناسبة وبيان وجه الحكمة".
م/ وقال صلى الله عليه وسلم (مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ اَلزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ، وَالْجَهْلَ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ). رَوَاهُ اَلْبُخَارِيُّ.
ذكر المصنف رحمه الله حديث (من لم يدع قول الزور
…
) ليستدل به على تحريم قول الزور والكذب في رمضان.
(لم يدع) لم يترك. (قول الزور) الكذب. (الجهل) السفه. (والعمل به) أي بمقتضاه.
• الحديث دليل على تحريم هذه الأشياء في نهار رمضان، وهي حرام في رمضان وغير رمضان لكنها في رمضان أشد تحريماً
• الحديث دليل على أن هذه الأفعال تنقص ثواب الصوم، ومثلها الغيبة والنميمة وغيرها.
• أن هذه الأفعال لا تبطل الصوم، وذهب ابن حزم إلى أنه يبطله كل معصية، قال ابن حجر:"وأفرط ابن حزم فقال: يبطله كل معصية من متعمد لها ذاكر لصومه، سواء كانت فعلاً أو قولاً، وجمهور العلماء على أنها لا تفطر الصائم".
• آيات الحكمة من الشرائع، وأن فيها تهذيب النفوس، وتقويم الأخلاق، واستقامة الطبائع.
• المقصود من شرعية الصيام تقوى الله، كما قال تعالى (كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون). فبين الله تعالى أن الحكمة من الصيام تقوى الله، وهي فعل الأوامر وترك النواهي.
ولهذا قال ابن القيم: "ففي الحديث الصحيح (من لم يدع قول الزور
…
) وفي الحديث (رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش) فالصوم هو صوم الجوارح عن الآثام، وصوم البطن عن الشراب والطعام، فكما أن الطعام والشراب يقطعه ويفسده، فهكذا الآثام تقطع ثوابه وتفسد ثمرته، فتصيره بمنزلة من لم يصم ".
• قوله (فليس لله حاجة) قال ابن حجر: " فلا مفهوم له، فإن الله لا يحتاج إلى شيء، وإنما معناه فليس لله إرادة في صيامه، فوضع الحاجة موضع الإرادة.
م/ وقال صلى الله عليه وسلم (مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ذكر المصنف رحمه الله حديث (من مات وعليه صيام
…
) ليستدل به على مشروعية الصيام عن الميت من قبل وليه.
• وهذا الأمر بالحديث بالصيام ليس للوجوب عند جمهور العلماء، وبالغ إمام الحرمين ومن تبعه فادّعوا الإجماع على ذلك.
قال الحافظ ابن حجر: " وفيه نظر، لأن بعض أهل الظاهر أوجبه، فلعله لم يعتد بكلامهم على قاعدته ".
الدليل على أنه غير واجب قوله تعالى: (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى).
• اختلف العلماء في الصوم الذي يقضى عن الميت:
القول الأول: أنه يقضى عنه النذر فقط.
وهو قول أحمد وإسحاق.
حملاً للعموم الذي في حديث عائشة على المقيد في حديث ابن عباس.
القول الثاني: يصام عن الميت النذر والواجب بأصل الشرع.
وهذا مذهب أبي ثور، وأهل الحديث، ونصره ابن حزم، واختاره الشيخ السعدي.
للحديث الذي ذكره المصنف: (من مات وعليه صيام
…
).
القول الثالث: لا يصام عن الميت مطلقاً.
وهذا مذهب الجمهور.
لقول ابن عباس: (لا يصلِّ أحد عن أحد، ولا يصم أحد عن أحد). أخرجه النسائي
ولقول عائشة: (لا تصوموا عن موتاكم، وأطعموا عنهم). أخرجه عبد الرزاق. قالوا:
فلما أفتى ابن عباس وعائشة بخلاف ما روياه، دلّ ذلك على أن العمل على خلاف ما روياه.
قال ابن حجر: " وهذه قاعدة لهم معروفة، إلا أن الآثار المذكورة عن عائشة وعن ابن عباس فيها مقال، وليس فيها ما يمنع الصيام إلا الأثر الذي عن عائشة وهو ضعيف جداً، والراجح أن المعتبر ما رواه لا ما رآه ".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والراجح القول الثاني، وأنه يصام عنه الواجب بأصل الشرع والنذر.
• أجاب الجمهور عن حديث عائشة:
قالوا المراد بقوله (صام عنه وليه) أي يفعل عنه ما يقوم مقام الصوم وهو الإطعام.
قال الشوكاني: " وهو عذر بارد لا يتمسك به منصف في مقابلة الأحاديث الصحيحة".
ومن جملة أعذارهم: أن عمل أهل المدينة على خلاف ذلك.
قال الشوكاني: " وهو عذر أبرد من الأول ".
• متى يكون عليه صيام؟ يكون عليه صيام إذا تمكن منه فلم يفعل، أما إذا لم يتمكن فليس عليه صيام.
مثال: إنسان نذر أن يصوم [3] أيام، ثم مات من يومه، فهذا ليس عليه شيء لأنه لم يتمكن منه.
مثال آخر: إنسان مرض في: 20 رمضان فأفطر، وتواصل به المرض شهر شوال وشهر ذي القعدة، ثم مات، فهذا ليس عليه صوم، فلا يقضى عنه، لأنه لم يمر عليه أيام يتمكن منها القضاء.
• اختلف في المراد بالولي:
فقيل: كل قريب، وقيل: الوارث خاصة، وقيل: عصبه، والأول أرجح.
صيام التطوع
م/ (سئل رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ. قَالَ: " يُكَفِّرُ اَلسَّنَةَ اَلْمَاضِيَةَ وَالْبَاقِيَةَ).
ذكر المصنف رحمه الله حديث أبي قتادة (أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن صيام يوم عرفة .... ) ليستدل به على استحباب صيامه.
• الحديث دليل على استحباب صيام يوم عرفة لغير الحاج.
أما الحاج: فالأفضل عدم صومه.
لحديث أم الفضل بنت الحارث (أن ناساً تماروا بين يديها يوم عرفة في رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم: صائم، وقال بعضهم: ليس بصائم، فأرسلت إليه بقدح من لبن وهو واقف على بعيره بعرفات، فشربه النبي صلى الله عليه وسلم. متفق عليه
وقال ابن عمر: (حججت مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يصمه - يعني يوم عرفة - ومع أبي بكر فلم يصمه، ومع عمر فلم يصمه، ومع عثمان فلم يصمه، وأنا لا أصومه ولا آمر به ولا أنهى عنه). رواه الترمذي
وجاء في حديث ضعيف: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم عرفة بعرفة). رواه أبو داود. وضعفه ابن القيم
• الحكمة من استحباب فطره للحاج:
قال ابن القيم: " قالت طائفة: ليتقوى على الدعاء، وهذا قول الخرقي وغيره.
وقال غيرهم - منهم شيخ الإسلام ابن تيمية - الحكمة فيه أنه عيد لأهل عرفة، فلا يستحب صومه لهم"، قال: " والدليل عليه الحديث الذي في السنن عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام منى، عيدنا أهل الإسلام) قال شيخنا: وإنما يكون يوم عرفة عيداً في حق أهل عرفة لاجتماعهم فيه، بخلاف أهل الأمصار فإنهم إنما يجتمعون يوم النحر، فكان هو العيد في حقهم " [زاد المعاد 1/]
• التكفير يقع للصغائر دون الكبائر، وهذا مذهب جمهور العلماء.
لقوله تعالى: (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم).
ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما لم تغش الكبائر). رواه مسلم، فإذا كانت الصلوات الخمس لا تقوى على تكفير الكبائر، فمن باب أولى صيام عرفة.
• إن قيل: لم كان عاشوراء يكفر سنة، ويوم عرفة يكفر سنتين؟
قيل: فيه وجهان: أحدهما/ أن يوم عرفة في شهر حرام، وقبله شهر حرام، وبعده شهر حرام، بخلاف عاشوراء.
الثاني/ أن صوم يوم عرفة من خصائص شرعنا، بخلاف عاشوراء، فضوعف ببركات المصطفى. [بدائع الفوائد]
م/ (وَسُئِلَ عَنْ صِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ. قَالَ: " يُكَفِّرُ اَلسَّنَةَ اَلْمَاضِيَةَ) رواه مسلم.
ذكر المصنف رحمه الله حديث أبي قتادة (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن صيام يوم عاشوراء
…
) ليستدل به على استحباب صيام عاشوراء.
• الحديث دليل على استحباب صيام يوم عاشوراء (وهو اليوم العاشر من محرم).
• اختلف في يوم عاشوراء، هل كان صومه واجباً أم تطوعاً؟
قال ابن القيم: "فقالت طائفة: كان واجباً، وهذا قول أبي حنيفة، وقال أصحاب الشافعي: لم يكن واجباً وإنما كان تطوعاً. والراجح أنه كان واجباً ".
• حالات صيام عاشوراء:
أ. إفراده.
ويحصل به التكفير، فلا يشترط أن يصوم التاسع معه، ولا يكره إفراده، لأن النبي صلى الله عليه وسلم صام العاشر وأمر به، ويحصل بصيامه الأجر المترتب على ذلك.
ب. أن يصوم يوماً قبله، وهذا أفضل.
وعلى هذا جاءت أكثر الأحاديث.
فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لئن بقيت إلى قابل لأصومنَّ التاسع). رواه مسلم
وقد روى عبد الرزاق بسند صحيح عن ابن عباس أنه قال (صوموا التاسع مع العاشر).
(حديث: صوموا يوماً قبله وبعده - وكذلك حديث: صوموا يوماً قبله أو بعده، ضعيفة لا تصح).
ج. سبب صيام عاشوراء:
ما جاء في حديث ابن عباس قال: (قدم النبي صلى الله عليه وسلم فرأى اليهود تصوم عاشوراء، فقال: ما هذا؟ قالوا: يوم نجى الله نبيه موسى وبني إسرائيل من عدوهم، فصامه موسى. فقال: أنا أحق بموسى منكم، فصامه وأمر بصيامه). متفق عليه
م/ (وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ اَلِاثْنَيْنِ، قَالَ: " ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ، وَبُعِثْتُ فِيهِ، أَوْ أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهِ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ذكر المصنف رحمه الله حديث أبي قتادة (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن صيام يوم الإثنين .... ) ليستدل به على استحباب صيام يوم الإثنين.
• الحديث دليل أنه يستحب صيام يوم الاثنين لأن في ذلك اليوم امتن الله على المسلمين بثلاث منن عظام، وهي: ولادة النبي صلى الله عليه وسلم ـ وبعثته صلى الله عليه وسلم رسولاً ـ وإنزال القرآن الكريم في هذا اليوم.
وهناك علة أخرى: وهي ما جاءت في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (تعرض الأعمال كل إثنين وخميس، فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم). رواه الترمذي وأحمد
م/ وقال (مَنْ صَامَ رَمَضَانَ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ اَلدَّهْرِ). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ذكر المصنف رحمه الله حديث أبي أيوب (من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال
…
) ليستدل به على استحباب صيام ست أيام من شوال.
• الحديث دليل على أنه يستحب صيام ست من شوال، وبالاستحباب قال الجمهور، وهو مذهب السلف والخلف.
وقال مالك وأبو حنيفة: " يكره ذلك حتى لا يظن وجوبها "، وقال مالك:"ما رأيت أحداً من أهل العلم يصومها ".
قال النووي رداً عليهم: " وقولهم قد يظن وجوبها، ينتقض بصوم عرفة وعاشوراء وغيرها من الصوم المندوب ".
وقال الشوكاني رداً عليهم: "وهو باطل لا يليق بعاقل، فضلاً عن عالماً نصب مثله في مقابلة السنة الصحيحة الصريحة، وأيضاً يلزم مثل ذلك في سائر أنواع الصوم المرغب فيها، ولا قائل بها".
وأحسن ما اعتذر به عن مالك: ما قاله شارح موطئه أبو عمر بن عبد البر: " أن هذا الحديث لم يبلغ مالكاً، ولو بلغه لقال به ".
• قوله (من صام رمضان) أي كاملاً، فلا يصح صيام ست من شوال إلا باستكمال رمضان، وأما الذي عليه بقية من رمضان فلا يصدق في حقه أنه صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال.
• هذه الأيام تجوز متفرقة ومتتابعة.
قال في سبل السلام: " واعلم أن أجر صومها يحصل لمن صامها متفرقة أو متوالية، ومن صامها عقيب العيد أو في أثناء الشهر.
• الأفضل أن تكون عقيب العيد مباشرة لعدة اعتبارات:
• المسارعة في فعل الخير.
• المسارعة إليها دليل على الرغبة في الصيام والطاعة.
• أن لا يعرض له من الأمور ما يمنعه من صيامها إذا أخرها.
• أن صيام ستة أيام بعد رمضان كالراتبة بعد فريضة الصلاة، فتكون بعدها.
• أن صيام الست من شوال كصيام الدهر، والمراد بالدهر العام.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قال النووي: " قال العلماء: وإنما كان ذلك كصيام الدهر، لأن الحسنة بعشر أمثالها، فرمضان بعشرة أشهر، والستة بشهرين، وقد جاء في هذا حديث مرفوع في كتاب النسائي ".
اختلف العلماء في صيام التطوع وعليه صيام واجب:
القول الأول: يجوز.
وهذا مذهب الأئمة الثلاثة، وقاسوه على صلاة التطوع قبل صلاة الفرض في وقتها.
القول الثاني: يحرم.
وهذا المشهور من المذهب، والصحيح الأول وهو الجواز.
• إن أخر صيام الستة من شوال بلا عذر، فإنه لا يقضيها لأنه تركها بلا عذر، وإن أخرها بعذر كمرض أو حيض فقولان للعلماء:
قيل/ يقضيها. وقيل/ لا يقضيها. وهذا أرجح. لأنها مؤقتة بوقت وقد مضى هذا الوقت.
م/ وَقالْ أَبِو ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: (أَمَرَنَا رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَصُومَ مِنْ اَلشَّهْرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ: ثَلَاثَ عَشْرَةَ، وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ وَخَمْسَ عَشْرَةَ) رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَاَلتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ اِبْنُ حِبَّانَ.
ذكر المصنف رحمه الله حديث أبي ذر (أَمَرَنَا رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَصُومَ مِنْ اَلشَّهْرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ
…
) ليستدل به على استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وأن الأفضل أن تكون: 13 - 14 - 15.
• الحديث دليل على أنه يستحب للإنسان أن يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، وقد جاءت الأحاديث بذلك:
ففي حديث عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (صوم ثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر كله). متفق عليه
وقد أوصى بذلك بعض الصحابة:
منهم أبو هريرة رضي الله عنه فقد قال: (أوصاني خليلي بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام). متفق عليه
ومنهم أبو الدرداء فقد قال: (أوصاني خليلي بثلاث لن أدعهن ما عشت: بصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وصلاة الضحى وبأن لا أنام حتى أوتر). رواه مسلم
ومنهم أبو ذر كما عند الترمذي.
• فمن أي الشهر صامها (أوله، أو أوسطه، أو آخره) أجزأ.
وقد روى مسلم في صحيحه عن معاذة قالت: (قلت لعائشة: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم ثلاثة أيام من كل شهر؟ قالت: نعم، قلت لها: من أي الأيام؟ قالت: لم يكن يبالي من أي أيام الشهر يصوم).
وقد استحب أكثر أهل العلم أن تكون الأيام البيض [13، 14، 15]، لورود أحاديث في الأمر بها:
كحديث الذي ذكره المصنف رحمه الله.
وحديث جرير عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صيام ثلاثة أيام من كل شهر صيام الدهر، أيام البيض صبيحة ثلاث عشر، وأربع عشر، وخمس عشر). رواه النسائي، قال المنذري:" إسناده جيد ". وقال الحافظ: " إسناده صحيح ".
باب الصوم المنهي عنه
م/ (ونهى عَنْ صِيَامِ يَوْمَيْنِ: يَوْمِ اَلْفِطْرِ وَيَوْمِ اَلنَّحْرِ). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
ذكر المصنف رحمه الله حديث أبي سعيد (نهى صلى الله عليه وسلم عَنْ صِيَامِ يَوْمَيْنِ: يَوْمِ اَلْفِطْرِ وَيَوْمِ اَلنَّحْرِ) ليستدل به على تحريم صيام يومي العيد.
• الحديث دليل على تحريم صيام يومي العيد.
قال النووي: "أجمع العلماء على تحريم صوم هذين اليومين بكل حال، سواء صامهما عن نذر، أو تطوع، أو كفارة".
وقال ابن قدامة: "أجمع أهل العلم أن صوم يومي العيد منهي عنه، محرم في التطوع والنذر المطلق والقضاء والكفارة".
• لو نذر صيامهما، فهل يصح نذره؟
لا يصح نذره، ولا ينعقد، ولا يجوز الوفاء به.
لأنه نذر معصية، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:(من نذر أن يعص الله فلا يعصه). متفق عليه
• قال الشوكاني: "والحكمة في النهي عن صوم العيدين: أن فيه إعراضاً عن ضيافة الله تعالى لعباده، كما صرح بذلك أهل الأصول".
م/ وقال (أَيَّامُ اَلتَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ، وَذِكْرٍ لِلَّهِ عز وجل) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ذكر المصنف رحمه الله حديث نبيْشة قال: قال صلى الله عليه وسلم (أَيَّامُ اَلتَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ، وَذِكْرٍ لِلَّهِ عز وجل ليستدل به على النهي عن صومها.
أيام التشريق هي الأيام التي بعد يوم النحر، وهي [11، 12، 13] من ذي الحجة. سميت بذلك: لأن لحوم الأضاحي تشرق فيها، أي تنشر في الشمس، وقيل: لأن الهدي لا ينحر حتى تشرق الشمس.
• اختلف العلماء في صيام أيام التشريق:
القول الأول: المنع مطلقاً.
قال في الفتح: "وعن علي وعبد الله بن عمرو المنع مطلقاً، وهو المشهور عن الشافعي".
• لحديث الباب [حديث نبيشة].
• وعن كعب بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيام منى أيام أكل وشرب). رواه مسلم
القول الثاني: لا يصح صومها إلا للمتمتع والقارن إذا لم يجد الهدي.
ونسبه ابن حجر [لابن عمر، وعائشة، وعبيد بن عمير].
لحديث عَائِشَة وَابْنِ عُمَر رضي الله عنهما قَالَا (لَمْ يُرَخَّصْ فِي أَيَّامِ اَلتَّشْرِيقِ أَنْ يُصَمْنَ إِلَّا لِمَنْ لَمْ يَجِدِ اَلْهَدْيَ) رَوَاهُ اَلْبُخَارِيُّ، وقد أخرجه الدار قطني والطحاوي بلفظ:(رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم للمتمتع إذا لم يجد الهدي أن يصوم أيام التشريق).
وهذا القول هو الصحيح، ورجحه الشوكاني وقال:"وهو أقوى المذاهب".
م/ وقال (لَا يَصُومَنَّ أَحَدُكُمْ يَوْمَ اَلْجُمُعَةِ، إِلَّا أَنْ يَصُومَ يَوْمًا قَبْلَهُ، أَوْ يَوْمًا بَعْدَهُ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ذكر المصنف رحمه الله حديث (لَا يَصُومَنَّ أَحَدُكُمْ يَوْمَ اَلْجُمُعَةِ ..... ) ليستدل به على النهي عن إفراد يوم الجمعة بالصوم.
• الحديث دليل على النهي عن إفراد يوم الجمعة بالصيام.
• الحديث يدل على جواز الصيام، وزوال النهي بأمرين:
o أن يوافق يوم الجمعة صيام معتاد، كأن يصوم يوماً ويفطر يوماً، فصادف يوم صيامه يوم الجمعة.
o إذا لم يفرده بالصيام، بل جمع معه غيره.
• اختلف العلماء في النهي، هل هو للتحريم أم للكراهة؟
القول الأول: الكراهة، وهو مذهب الأكثر.
والصارف عن التحريم أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز صيامه إذا صيم يوماً قبله أو بعده.
القول الثاني: التحريم.
لأن الأصل في النهي التحريم، والراجح الأول.
• اختلف في سبب النهي عن إفراده:
فقيل: لئلا يضعف عن العبادة، ورجحه النووي.
قال في الفتح: " وتعقب ببقاء المعنى المذكور مع صوم غيره معه ".
وقال ابن القيم: " ولكن يشكل عليه زوال الكراهة بضم يوم قبله أو بعده إليه ".
وقيل: سداً للذريعة من أن يلحق بالدين ما ليس منه، ويوجب التشبه بأهل الكتاب في تخصيص بعض الأيام بالتجرد من الأعمال الدنيوية ". [قاله ابن القيم]
وقيل: لكونه يوم عيد والعيد لا يصام، ورجحه الحافظ ابن حجر، وقال: "ورد فيه صريحاً حديثان:
أحدهما/ رواه الحاكم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: (يوم الجمعة يوم عيد، فلا تجعلوا يوم عيدكم يوم صيامكم إلا أن تصوموا يوماً قبله أو بعده).
والثاني/ رواه ابن أبي شيبة بإسناد حسن عن علي قال: (من كان منكم متطوعاً من الشهر فليصم يوم الخميس ولا يصم يوم الجمعة، فإنه يوم طعام وشراب وذكر) ".
م/ وقال (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه).
ذكر المصنف رحمه الله حديث (من صام رمضان
…
) ليستدل به على فضل صيام رمضان.
[إيماناً] بوعد الله تعالى. [واحتساباً] أي محتسباً للثواب عندالله، فيطلب ثواب الله ويبتغي مرضاته لا بقصد آخر من رياء أو مدح أو ثناء.
• الحديث دليل على فضل صيام رمضان، وأنه سبب لمغفرة الذنوب.
ولصيام رمضان فضائل:
أولاً: أن صومه سبب لمغفرة الذنوب.
لحديث الباب.
• وغفران الذنوب بصيام رمضان مشروط بأمرين:
1 -
أن يكون الحامل على الصوم هو الإيمان والتصديق بثواب الله.
2 -
احتساب العمل عند الله تعالى والإخلاص فيه.
ثانياً: تفتح فيه أبواب الجنة وتغلق أبواب النار.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين) متفق عليه
صفدت الشياطين: أي المردة منهم، فقد جاء عند ابن خزيمة بلفظ:(إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن، ويقال: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر).
ثالثاً: فيه ليلة القدر.
قال تعالى (ليلة القدر خير من ألف شهر).
• المقصود بغفران الذنوب الصغائر، وأما الكبائر فلا تكفرها إلا التوبة.
• جواز قول رمضان من دون شهر رمضان، لقوله صلى الله عليه وسلم: (من صام رمضان
…
).
وقد كره بعض السلف أن يقال رمضان، واعتمدوا على حديث ضعيف:(لا تقولوا رمضان، فإن رمضان من أسماء الله تعالى، ولكن قولوا شهر رمضان)، لكن هذا القول ضعيف.
م/ وقال (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه).
ذكر المصنف رحمه الله حديث (من قام ليلة القدر
…
) ليستدل به على فضل ليلة القدر وفضل قيامها.
وقد ورد لليلة القدر فضائل عديدة:
أولاً: قيامها سبب لمغفرة الذنوب، كما في الحديث الذي ذكره المصنف.
ثانياً: أنزل فيها القرآن.
قال تعالى (إنا أنزلناه في ليلة القدر).
ثالثاً: أنها مباركة.
قال تعالى (إنا أنزلناه في ليلة مباركة).
رابعاً: أنها سلام.
قال تعالى (سلام هي حتى مطلع الفجر).
• اختلف لماذا سميت ليلة القدر بذلك:
فقيل: لأن الله يقدر فيها الأرزاق والآجال وحوادث العام، كما قال تعالى (فيها يفرق كل أمر حكيم).
وعزاه النووي للعلماء حيث صدر كلامه فقال: "قال العلماء: سميت ليلة القدر لما تكتب فيها الملائكة من الأقدار
وقيل: سميت بذلك لأنها ليلة عظيمة وذات شرف، من قولهم لفلان قدر عند فلان، أي: منزلة وشرف".
ويدل لذلك قوله تعالى (ليلة القدر خير من ألف شهر).
وقيل: سميت بذلك لأنها تكسب من أحياها قدراً عظيماً، ويدل لذلك قوله صلى الله عليه وسلم:(من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه).
• اختلف العلماء في تحديد ليلة القدر على أقوال كثيرة ذكرها الحافظ ابن حجر في فتح الباري.
ويمكن تقسيم هذه الأقوال إلى:
أ. هناك أقوال مرفوضة. كالقول بإنكارها من أصلها أو رفعها.
ب. هناك أقوال ضعيفة. كالقول بأنها ليلة النصف من شعبان.
ج. هناك أقوال مرجوحة. كالقول بأنها في رمضان في غير العشر الأخيرة منه.
د. القول الراجح. أنها في العشر الأواخر من رمضان، وآكدها أوتارها.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قال ابن حجر: "وأرجاها عند الجمهور ليلة سبع وعشرين".
الدليل على أن أوتار العشر آكد:
حديث عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان). رواه البخاري ومسلم
وفي رواية: (في الوتر من العشر الأواخر).
ولحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أرى رؤياكم في العشر الأواخر فاطلبوها
في الوتر منها). رواه مسلم
وآكد هذه الأوتار ليلة سبع وعشرين، الأدلة:
كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه[المحدث الملهم] وحذيفة بن اليمان [صاحب السر] لا يشكون أنها ليلة سبع
وعشرين.
ما رواه مسلم عن أبي بن كعب أنه كان يقول: (والله الذي لا إله إلا هو، إنها لفي رمضان ـ يحلف ما
يستثني ـ ووالله إني لأعلم أي ليلة هي، هي الليلة التي أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيامها، وهي ليلة سبع وعشرين). قال ابن رجب: "ومما استدل به من رجح أنها ليلة سبع وعشرين الآيات والعلامات التي رؤيت فيها قديماً
وحديثاً".
• الحكمة من إخفائها:
قال الحافظ ابن حجر في الفتح: "قال العلماء: الحكمة في إخفاء ليلة القدر، ليحصل الاجتهاد في التماسها، بخلاف ما لو عينت لها لاقتصر عليها".
• علامات ليلة القدر:
أ. جاء في صحيح مسلم عن أبي بن كعب: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر من أماراتها أن تطلع الشمس في صبيحة يومها بيضاء لا شعاع لها).
ب. ما جاء في حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليلة القدر ليلة طلقة لا حارة ولا باردة، تصبح الشمس يومها حمراء ضعيفة). رواه ابن خزيمة
وذكر بعض العلماء علامات أخرى: زيادة النور في تلك الليلة، طمأنينة القلب وانشراح الصدر من المؤمن.
بعض العلامات التي لا أصل لها:
قال الحافظ: " وذكر الطبري عن قوم أن الأشجار في تلك الليلة تسقط إلى الأرض ثم تعود إلى منابتها وأن كل شيء يسجد فيها ".
أ. ذكر بعضهم أن المياه المالحة تصبح في ليلة القدر حلوة، وهذا لا يصح.
ب. ذكر بعضهم أن الكلاب لا تنبح فيها ولا ترى نجومها، وهذا لا يصح.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
• يسن لمن علمها أن يقول الدعاء الوارد.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: (قلت: يا رسول الله، أرأيت إن علمت أي ليلة القدر ما أقول فيها؟ قال: قولي اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني). رواه الترمذي
فوائد:
أ- روى عبد الرزاق في مصنفه أن التابعي الجليل مكحول الدمشقي كان يرى ليلة القدر ثلاث وعشرين.
ب- قال الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية في ترجمة أبو زيد الأنصاري: " يقال أنه كان يرى ليلة القدر "
ج- قال النووي في المجموع: " ويسن لمن رآها كتمها ".
• اختلف العلماء هل يحصل الثواب المرتب عليها لمن اتفق له أنه قامها وإن لم يظهر له شيء، أو يتوقف ذلك على
كشفها؟
ذهب إلى الأول الطبري وابن العربي وجماعة.
وإلى الثاني ذهب الأكثر، ويدل له ما وقع عند مسلم من حديث أبي هريرة بلفظ:(من يقم ليلة القدر فيوافقها).
وفي حديث عبادة بن الصامت عند أحمد: (من قامها إيماناً واحتساباً ثم وفقت له).
قال النووي: " معنى يوافقها: أي يعلم أنها ليلة القدر فيوافقها ".
باب الاعتكاف
م/ (وكان صلى الله عليه وسلم كَانَ يَعْتَكِفُ اَلْعَشْرَ اَلْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ، حَتَّى تَوَفَّاهُ اَللَّهُ، ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ذكر المصنف رحمه الله حديث عائشة (كان صلى الله عليه وسلم كَانَ يَعْتَكِفُ اَلْعَشْرَ اَلْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ، حَتَّى تَوَفَّاهُ اَللَّهُ، ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ) ليستدل به على مشروعية الاعتكاف.
• الاعتكاف لغة: الإقامة، يقال: عكف بالمكان إذا أقام فيه، ومنه قوله تعالى:(ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون).
وشرعاً: لزوم المسجد بنية مخصوصة لطاعة الله.
الحديث دليل على مشروعية الاعتكاف في رمضان، وحكمه سنة للرجل والمرأة سواء.
قال تعالى (وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود).
نقل عن الإمام مالك أنه قال: (تأملت أمر الاعتكاف وما ورد فيه كيف أن المسلمين تركوه مع أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتركه، فرأيت أنهم إنما تركوه لمشقة ذلك عليهم).
قال الزهري: "عجباً للمسلمين تركوا الاعتكاف مع أن النبي صلى الله عليه وسلم ما تركه منذ قدم المدينة حتى قبضه الله".
ويجب بالنذر: قال الحافظ: "وليس واجباً إجماعاً إلا على من نذره".
لحديث عمر أنه قال: (يا رسول الله إني نذرت أني أعتكف ليلة في المسجد الحرام، فقال: أوف بنذرك). متفق عليه
ولحديث عائشة: (من نذر أن يطيع الله فليطعه).
• آكد الاعتكاف في رمضان، وأفضله العشر الأواخر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكفها حتى توفاه الله عز وجل.
• اتفقوا على أنه لا حد لأكثره. [قاله في الفتح]، واختلفوا في أقله:
والأقرب يوم أو ليلة، ولعله يستأنس بما تقدم من إذن النبي صلى الله عليه وسلم لعمر أن يعتكف ليلة في المسجد الحرام وفاء بنذره.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
• مبطلاته:
o الجماع.
قال ابن المنذر: "وأجمعوا على أنه من جامع امرأته وهو معتكف عامداً لذلك في فرجها أنه يفسد اعتكافه".
وقال الحافظ ابن حجر: "واتفقوا على فساده بالجماع".
قال تعالى: (ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد).
نقل ابن المنذر الإجماع على أن المراد بالمباشرة في الآية الجماع.
o الخروج بجميع بدنه بلا عذر.
فهذا يبطل اعتكافه باتفاق الأئمة.
لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: (السنة للمعتكف أن لا يخرج لحاجة إلا لما لا بد له). رواه أبو داود
• يشترط لصحة الاعتكاف المسجد، لقوله تعالى (ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد).
خروج المعتكف ينقسم إلى أقسام:
أولاً: الخروج بجميع البدن بلا عذر، فهذا يبطل الاعتكاف باتفاق الأئمة.
ثانياً: خروج بعض المعتكف، فهذا لا يبطل الاعتكاف.
ثالثاً: الخروج لما لا بد منه كالغائط والبول.
قال ابن المنذر: "واجمعوا على أن للمعتكف أن يخرج عن معتكفه للغائط والبول".
لحديث عائشة (وكان - أي النبي صلى الله عليه وسلم لا يخرج إلا لحاجة الإنسان) أي البول والغائط.
قال الشوكاني: "وقع الإجماع على استثنائهما".
رابعاً: الخروج للأكل والشرب - ليس له ذلك إلا إذا لم يكن هناك من يأتيه به، وهذا مذهب الجمهور.
خامساً: الخروج لصلاة الجمعة - إذا تخلل الاعتكاف جمعة وهو معتكف في مسجد غير جامع وجب عليه الخروج لصلاة الجمعة إذا كان من أهلها.
سادساً: الخروج لقربة من القرب كعيادة مريض وصلاة جنازة - فهذا يجوز إذا اشترط ذلك.
قال القرطبي: "أجمع العلماء على أن الاعتكاف لا يكون إلا في مسجد".
وقال في المغني: "لا نعلم فيه خلافاً".
لكن اختلفوا ما هو ضابط المسجد:
فقيل: لا يصح إلا في المساجد الثلاثة.
لحديث حذيفة مرفوعاً: (لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة). رواه سعيد بن منصور
وقيل: يصح في كل مسجد سواء أقيمت فيه الجماعة أم لا. وقيل: لا يصح إلا في مسجد جماعة.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قال شيخ الإسلام: "وهو قول عامة التابعين، ولم ينقل عن صحابي خلافه، إلا قول من خص الاعتكاف بالمساجد الثلاثة أو مسجد جماعة، وهذا القول هو الصحيح".
ولأن اعتكاف الرجل في مسجد لا تقام فيه الجماعة يفضي إلى أحد أمرين:
إما ترك الجماعة الواجبة - وإما خروجه إليها فيتكرر ذلك منه كثيراً.
وأما الجواب عن حديث حذيفة: أنه حديث لا يصح، وعلى فرض صحته فهو محمول على الاعتكاف الأكمل.
• أن المرأة يشرع لها الاعتكاف كالرجل، ويصح اعتكافها في كل مسجد، ولو لم تقم فيه الجماعة، سوى مسجد بيتها، وهذا مذهب الجمهور.
• لعموم قوله تعالى: (ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد).
• ولحديث عائشة وفيه: (استئذان أزواجه صلى الله عليه وسلم أن يعتكفن في المسجد فأذن لهن). متفق عليه
وأجاز الحنفية للمرأة أن تعتكف في مسجد بيتها، وهو المكان المعد للصلاة فيه.
وهذا قول ضعيف، لأن موضع صلاتها في بيتها ليس بمسجد.
شروط اعتكاف المرأة:
إذن الزوج، وإذا أمنت الفتنة، وأن تكون طاهرة.
• أن اعتكاف العشر الأواخر من رمضان آكد من العمرة في رمضان، والجمع بينهما أكمل، فإن كان لا بد لأحدهما دون الآخر، فالاعتكاف أفضل لوجوه:
أ. أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر ولم يعتمر.
ب. أن الاعتكاف يعتبر في بعض البلاد من السنن المهجورة، فكان إحياؤه أولى من العمرة في رمضان.
ج. ولأن الاعتكاف في العشر يفوت وقته بخلاف العمرة.
م/ وقال صلى الله عليه وسلم (لَا تُشَدُّ اَلرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ، وَمَسْجِدِي هَذَا، وَالْمَسْجِدِ اَلْأَقْصَى) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ذكر المصنف رحمه الله حديث (لَا تُشَدُّ اَلرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ
…
) ليستدل به على أنه يجوز شد الرحل لأحد هذه المساجد للصلاة بها أو للاعتكاف.
[لا تشد] تشد بضم الدال [الرحال [جمع رحل وهو للبعير كالسرج للفرس، وشده كناية عن السفر، لأنه لازمه غالباً. [الأقصى] سمي بذلك لبعده عن المسجد الحرام في المسافة، وقال الزمخشري: سمي أقصى لأنه لم يكن حينئذ وراءه مسجد.
• الحديث دليل على استحباب شد الرحال والسفر لقصد هذه المساجد الثلاثة، المسجد الحرام _ والمسجد النبوي _ والمسجد الأقصى.
والمصنف رحمه الله ذكر هذا الحديث في باب الاعتكاف ليستدل به على أنه يجوز أن يرحل الإنسان ويشد رحله ويسافر ليعتكف في أحد هذه المساجد الثلاثة دون غيرها، فلو قال: أنا هذا العام سأعكتف بالمسجد الحرام، فإن هذا جائز ولا بأس، لأنه يجوز شد الرحل لهذه المساجد الثلاثة.
وهذه المساجد الثلاثة تتميز بمزايا:
أولاً: استحباب شد الرحال والسفر إليها للعبادة فيها [كما في الحديث الذي ذكره المصنف] وبالنسبة للمسجد الحرام فالسفر له واجب وغيره مستحب، قال ابن القيم:"وليس على وجه الأرض بقعة يجب على كل قادر السعي إليها، والطواف بالبيت الذي فيه غيرها".
ثانياً: أن هذه المساجد أفضل البقاع.
ثالثاً: مضاعفة الصلاة فيها، فالمسجد الحرام بمائة ألف صلاة، والمسجد النبوي بألف صلاة، والمسجد الأقصى بخمسمائة صلاة، وقيل: بمائتين وخمسين صلاة.
رابعاً: أن هذه المساجد بناها أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
فالكعبة المشرفة بناها إبراهيم وإسماعيل، والمسجد الأقصى بناه يعقوب، ومسجد المدينة بناه النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
ولكل مسجد فضائل خاصة نذكرها إن شاء الله في موضعها.
• تحريم شد الرحال لغير هذه المساجد الثلاثة.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
• تحريم شد الرحال لزيارة القبور، وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
فقيل: يجوز. وقيل: لا يجوز.
وهذا هو الصحيح، واختاره ابن تيمية رحمه الله.
لحديث الباب وهذا عام يشمل كل شيء من المساجد والمشاهد لمن زارها تعبداً وتقرباً ما عدا المساجد الثلاثة المذكورة بالحديث.
ولأن السفر إلى قبور الأنبياء والصالحين لم يكن موجوداً في الإسلام وقت القرون الثلاثة - قرن الصحابة والتابعين
وأتباعهم - التي أثنى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان هذا السفر جائزاً فلا بد أن يقع من أحدهم، ولم يحدث هذا السفر إلا بعد القرون الثلاثة المفضلة.
• أن شد الرحال إلى مقابر الأنبياء والصالحين يؤدي إلى اتخاذها أعياداً واجتماعات عظيمة، كما هو مشاهد.
ولا فرق بين شد الرحال إلى قبر الرسول صلى الله عليه وسلم أو إلى غيره.
زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم لها أحوال:
أولاً: تستحب زيارة قبره صلى الله عليه وسلم لمن بالمدينة.
ثانياً: تستحب زيارة قبره لمن زار مسجده.
ثالثاً: السفر وشد الرحل لقصد زيارة القبر فقط دون المسجد، وهذه وقع فيها خلاف بين العلماء والصحيح أنه لا يجوز وغير مشروع ورجحه ابن تيمية.
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد
…
).
واستدل من قال بالجواز بأحاديث وردت في فضل زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، لكن هذه الأحاديث كلها ضعيفة ولا يصح منها شيء كما ذكر ذلك ابن تيمية رحمه الله.
ومن هذه الأحاديث:
(من زارني بعد مماتي فكأنما زارني في حياتي).
(من زارني بعد مماتي كنت له شفيعاً يوم القيامة).
أن السفر للتجارة وطلب العلم وزيارة القريب أو الأخ في الله، فهذا جائز، ولا يدخل في النهي باتفاق العلماء، لأمرين:
الأمر الأول: أن المسافر في هذه الحالات وما شابهها لم يقصد المكان لذاته، بل المراد ذلك المطلوب حيثما كان.
الأمر الثاني: أنه ورد أدلة تدل على جواز ذلك، فهي مخصصة لعموم هذا الحديث، كقوله تعالى:(وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ).
وكحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن رجلاً زار أخاً له في الله في قرية أخرى
…
). رواه مسلم
؛؛ والله أعلم؛؛
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
بسم الله الرحمن الرحيم
شرح
منهج السالكين
وتوضيح الفقه في الدين
للعلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي (1376 هـ).
كتاب الحج
دورة علمية في تاريخ 24 - 11/ 29 - 11
1429 هـ
بقلم
سليمان بن محمد اللهيميد
السعودية - رفحاء
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
…
أما بعد:
فهذا شرح كتاب منهج السالكين في توضيح الفقه في الدين للعلامة عبد الرحمن السعدي رحمه الله،
قمت بشرحه في مدينة رفحاء ضمن الدورة العلمية الأولى التي أقامها مكتب الدعوة والإرشاد برفحاء.
أسال الله العظيم رب العرش العظيم أن يرزقنا العلم النافع، والعمل الصالح.
أخوكم
سليمان بن محمد اللهيميد
السعودية - رفحاء
كتاب الحج
لغة: القصد، يقال حج كذا بمعنى قصد.
واصطلاحاً: التعبد لله بأداء المناسك على صفة مخصوصة في وقت مخصوص.
م/ وَالأَصْلُ فِيهِ قُولُهُ تَعَالَى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلِيهِ سَبِيلاً).
وحكمه واجب بالكتاب والسنة والإجماع:
قال تعالى (وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (بني الإسلام على خمس: وذكر منها: حج البيت من استطاع إليه سبيلاً).
وأجمعت الأمة على وجوبه، وأجمعت الأمة على كفر من جحد وجوبه.
واختلفوا فيمن تركه تهاوناً وكسلاً هل يكفر أم لا على قولين:
القول الأول: أنه يكفر.
وهذا مذهب ابن عمر وسعيد بن جبير وهو أحد القولين عن ابن عباس.
واستدلوا بقوله تعالى ( .. ومن كفر .. ) والكفر هنا الكفر الأكبر.
ولحديث علي. قال: قال صلى الله عليه وسلم (من ملك زاداً وراحلة فلم يحج، مات يهودياً أو نصرانياً) رواه الترمذي وهو ضعيف.
القول الثاني: أنه لا يكفر.
وهذا مذهب جمهور العلماء، وهو الصحيح.
وأما الجواب عن الآية (ومن كفر) قالوا: من قال إن الحج ليس بفرض فهذا هو الكافر، وقيل: أي من زعم بأنه مخير بين الفعل والترك فهذا هو الكافر.
وهو واجب في العمر مرة واحدة:
قال النووي: أجمعوا على أنه لا يجب الحج ولا العمرة في عمر الإنسان إلا مرة واحدة إلا أن ينذر فيجب الوفاء بالنذر بشرطه.
لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أيها الناس إن الله قد فرض عليكم الحج فحجوا: فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قالها ثلاثاً: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم) رواه مسلم، وفي رواية:(الحج مرة، وما زاد فهو تطوع).
وفضله عظيم وأجره كبير:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (والحج المبرور ليس جزاء إلا الجنة) متفق عليه.
• قال العلماء: الحج المبرور هو الذي جمع أوصافاً، أن يكون خالصاً لله - وأن يجتنب المحظور - وأن يكون بمال حلال.
وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه) متفق عليه
[فلم يرفث] أي الجماع ومقدماته، [ولم يفسق] الفسوق: جميع أنواع المعاصي من قول أو فعل.
• لو اقتصر الحاج على الواجبات دون المستحبات مع تركه المحرمات والمكروهات فهل يكون حجه مبروراً؟ الجواب: نعم، لكن يزداد براً بفعل المستحبات.
• اختلف العلماء فيما إذا حج بمال حرام، فجمهور العلماء أن ذلك يجزئ وهو غير مبرور.
م/ وَالِاسْتِطَاعَةُ: أَعْظَمُ شُرُوطِهِ، وَهِيَ: مِلْكُ اَلزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ.
ودليلها قوله تعالى (وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً).
وقد فسر المصنف الاستطاعة بالزاد والراحلة، وهذا ما عليه جمهور العلماء.
لحديث أنس (أن النبي صلى الله عليه وسلم فسرها لما قيل له ما السبيل يا رسول الله؟ قال: الزاد والراحلة) رواه الدارقطني والحاكم وهذا الحديث مختلف في صحته، وله طرق كثيرة، قال الشوكاني:"ولا يخفى أن هذه الطرق يقوي بعضها بعضاً فتصلح للاحتجاج بها". وقال الشنقيطي: "حديث الزاد والراحلة لا يقل بمجموع طرقه عن درجة القبول والاحتجاج ".
وقد ذكر الترمذي أن أكثر أهل العلم على العمل بها، وقد روى ابن جرير بسنده عن ابن عباس في تفسير السبيل أنه قال: أن يصح بدن العبد، ويكون له ثمن زادٍ وراحلة من غير أن يجحف به، وسنده صحيح.
والمراد بالزاد: ما يتزود به، وهو في الأصل الطعام الذي يُتخذ للسفر، والمراد هنا: ما يحتاج إليه في ذهابه ورجوعه من مأكول ومشروب وكسوة، والراحلة: الناقة التي تصلح لأن يرحل عليها.
لكن اشترط المصنف لذلك شرطاً؛ فقال:
م/ بَعْدَ ضَرُورَاتِ اَلْإِنْسَانِ وَحَوَائِجِهِ اَلْأَصْلِيَّةِ.
أي أن تكون الراحلة والزاد فاضلةً وزائدة عن حاجاته الضرورية التي يحتاجها له ولعياله، وكذلك ما يتعلق بالسكن والخادم وكذلك الديون.
ودليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم (ابدأ بنفسك ثم بمن تعول).
وقال صلى الله عليه وسلم (كفى بالمرء إثماً أن يُضيعَ من يقوت).
ولأن ذلك مقدم على الدين فكان تقديمه على الحج من باب أولى.
• وحج المدين له أحوال:
أولاً: أن تكون قيمة الحج تغطي ديونه فيجب عليه والحالة هذه أن يقضي الديون، فيكون في هذه الحالة غير مستطيع للحج فيسقط عنه.
ثانياً: أن تكون قيمة الحج لا تغطي الديون ولكنها تخفف شيئاً كثيراً، فالأولى أن يدفع قيمة الحج للغرماء.
ثالثاً: أن تكون قيمة الحج لا تغطي شيئاً بالنسبة للديون، قيل: إنه يحج لأن الحج مجلبة للرزق كما في حديث [تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب .... ].
وقيل: بل يسدد دينه ولا يحج لخطر الدين لو كان قليلاً.
• إذا تُبرع له بمال هل يلزمه أخذه؟ الجواب: لا يلزمه لأنه قد يكون فيه منَّة من الناس، وإن أخذه جاز ولكن لا يجب عليه.
• هل يجوز أخذ المال من أجل الحج؟ قال ابن تيمية رحمه الله: يأخذ ليحج لا يحج ليأخذ.
وعليه:
• فمن كان قادراً بماله و بدنه: فهذا يلزمه أن يحج بنفسه، ومن ليس عنده مال ولا راحلة فلا يجب عليه الحج.
• ومن كان قادراً بماله دون البدن: كأن يكون مريض: فهذا يقسمه العلماء إلى نوعين:
الأول: مرض يرجى برؤه: فإنه يصبر حتى يزول مرضه وتسقط الفورية عنه لعجزه.
الثاني: مرض لا يرجى برؤه: فإنه يجب أن يقيم من يحج عنه.
لحديث ابن عباس رضي الله عنهما (أن امرأة خثعمية سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إن فريضة الله على عباد في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: نعم) متفق عليه.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وهذا الحديث فيه فوائد:
أولاً: جواز حج المرأة عن الرجل.
ثانياً: أن من لا يستطيع الحج لمرض لا يرجى زواله وكان قادراً مالياً فإنه يجب عليه أن ينيب من يحج عنه.
واشترط بعض العلماء أن يقيم عنه نائباً من بلده، فإن كان هذا المريض الذي لا يستطيع الحج من الرياض فإنه يجب أن يخرج نائباً من الرياض، والصحيح أنه لا يلزم، لأمرين:
أولاً: أن السفر إلى مكة ليس مقصوداً لذاته.
ثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز النيابة في الحج ولم يشترط أن يكون من بلده، ولو كان شرطاً لبيّنه.
ويشترط أيضاً أن يكون هذا النائب قد حج عن نفسه، لحديث ابن عباس (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: لَبَّيْكَ عَنْ شُبْرُمَةَ، قَالَ:" مَنْ شُبْرُمَةُ? " قَالَ: أَخٌ [لِي]، أَوْ قَرِيبٌ لِي، قَالَ:" حَجَجْتَ عَنْ نَفْسِكَ? " قَالَ: لَا. قَالَ: "حُجَّ عَنْ نَفْسِكَ، ثُمَّ حُجَّ عَنْ شُبْرُمَةَ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ اِبْنُ حِبَّانَ، وَالرَّاجِحُ عِنْدَ أَحْمَدَ وَقْفُهُ، وهذا الصحيح أنه موقوف كما حكم بوقفه ابن المنذر وغيره، والصحيح أنه موقوف، لكن ما دل عليه هذا الموقوف هو الصحيح، لوجوه:
أولاً: أنه قول صحابي لم يثبت خلافه.
ثانياً: أنه الأصل، فالأصل أن يحج الإنسان عن نفسه قبل أن يحج عن غيره.
ثالثاً: أن الله قد خاطب هذا المكلف وأمره أن يؤدي هذا الفرض، فكيف يذهب يؤدي فرض غيره، والله قد خاطبه بنفسه (ولله على الناس .... ).
م/ وَمِنْ اَلِاسْتِطَاعَةِ: أَنْ يَكُونَ لِلْمَرْأَةِ مَحْرَمٌ إِذَا اِحْتَاجَ لِسَفَرٍ.
من شروط وجوب الحج على المرأة أن يكون لها محرم، وهذا شرط للوجوب، فإن لم يكن لها محرم فلا يجب عليها الحج لأنها غير مستطيعة.
لأن الله يقول (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً). قال الإمام أحمد: المحرَم من السبيل.
• ولو ماتت وهي قادرة بمالها لكنها لم تجد محرماً فلا يجب إخراج الحج من تركتها، لأن الحج لم يجب عليها.
والدليل على أنه لابد من المحرَم:
لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يقول (لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم، فقام رجل فقال: يا رسول الله إن امرأتي خرجت حاجة، وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا، فقال: انطلق فحج مع امرأتك) متفق عليه.
• فالمرأة لا يجوز لها أن تسافر لحج أو غيره إلا مع محرم لها، سواء كانت كبيرة أو صغيرة، جميلة أو قبيحة، معها نساء أو لوحدها، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجل: انطلق فحج مع امرأتك ولم يستفصل.
وقد ذهب بعض العلماء إلى أنه للمرأة أن تحج فرضها مع النساء الثقات لكن هذا القول ضعيف.
• هل يجب على زوجها أن يحج معها أم لا؟ قولان للعلماء:
قيل: يجب على الزوج السفر مع امرأته إذا لم يكن لها غيره، للحديث السابق في قول النبي صلى الله عليه وسلم للرجل (انطلق فحج مع امرأتك).
وقيل: لا يجب، وهذا أصح، لكن لا يجوز له أن يمنعها عن حج الفرض، وأما حديث (انطلق فحج
…
) فهذا لأنها شرعت في الحج.
• شروط المحرم:
أن يكون مسلماً: فإن كان كافراً فليس بمحرم، (أما الأب الكافر فإنه محرم لابنته المسلمة بشرط أن يؤمن عليها).
أن يكون بالغاً: فالصغير لا يكفي أن يكون محرماً؛ لأن المقصود من المحرم حماية المرأة وصيانتها، ومن دون البلوغ لا يحصل منه ذلك.
أن يكون عاقلاً: فالمجنون لا يصح أن يكون محرماً ولو كان بالغاً، لأنه لا يحصل من المجنون حماية المرأة وصيانتها.
م/ وَحَدِيثُ جَابِرٍ فِي حَجِّة اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَشْتَمِلُ عَلَى أَعْظَمِ أَحْكَامِ اَلْحَجِّ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اَللَّهِ رضي الله عنهما.
حديث جابر أخرجه مسلم في كتاب الحج رقم (1218) وقد وصف جابر في هذا الحديث صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم منذ خروجه.
قال النووي: " حديث جابر، وهو حديث عظيم حوى على جمل من الفوائد، ونفائس من مهمات القواعد، وهو من أفراد مسلم لم يروه البخاري في صحيحه، ورواه أبو داود كرواية مسلم، قال القاضي: وقد تكلم الناس على ما فيه من الفقه، وأكثروا، وصنف فيه أبو بكر ابن المنذر جزءاً كبيراً، وخرج فيه من الفقه مائة ونيفاً وخمسين نوعاً، ولو تقصى لزيد على هذا القدر قريب منه "[انتهى كلامه].
م/ أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَكَثَ فِي اَلْمَدِينَةِ تِسْعَ سِنِينَ لَمْ يَحُجَّ ثُمَّ أَذَّنَ فِي اَلنَّاسِ فِي اَلْعَاشِرَةِ: أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ حَاجٌّ.
أذن في الناس: أي أعلم الناس.
أي أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد هجرته لم يحج إلا حجة واحدة وهي حجة الوداع في السنة العاشرة، وأما الأحاديث الواردة أنه صلى الله عليه وسلم حج حجتين بعد الهجرة كلها منكرة، وجزم بنكارتها الإمام البخاري، وأحمد، والترمذي وطائفة من المحدثين.
• وقد فرض الحج في السنة التاسعة، وفرض بقوله تعالى (وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) وهذه الآية نزلت في السنة التاسعة وحج النبي صلى الله عليه وسلم في السنة العاشرة من الهجرة.
وذهب بعض العلماء إلى أنه فرض في السنة السادسة، وقال بعضهم في السنة الثامنة، والصحيح أنه فرض في السنة التاسعة في قوله تعالى (ولِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ).
فإن قيل: لماذا لم يحج النبي صلى الله عليه وسلم في السنة التاسعة؟
فالجواب:
أولاً: بسبب كثرة الوفود، ولذلك تسمى السنة التاسعة سنة الوفود.
ثانياً: لأنه من المتوقع أن يحج في السنة التاسعة المشركون.
• وفي هذه السنة - السنة التاسعة - بعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر ليحج بالناس، فعن أبي هريرة. قال (بعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر ليحج بالناس قبل حجة الوداع، فبعثني أبو بكر: أن أنادي في الناس: أن لا يحج بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان) متفق عليه.
• أنه يستحب للإمام إيذان الناس وإعلامهم بالأمور المهمة والعظيمة ليتأهبوا لها.
م/ فَقَدِمَ اَلْمَدِينَةَ بَشَرٌ كَثِيرٌ كُلُّهُمْ يَلْتَمِسُ أَنْ يَأْتَمَّ بِرَسُولِ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَيَعْمَلُ مِثْلَهُ فَخَرَجْنَا مَعَهُ.
أي أن حجة النبي صلى الله عليه وسلم كانت في السنة العاشرة، وتسمى (حجة الوداع) وسميت بذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم ودع فيها الناس.
• قوله (فقدم المدينة بشر كثير) ذكر بعض أهل السير: أن الذين قدموا مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجته نحو من مائة وعشرين ألفاً.
• قوله (فخرجنا معه) كان خروجه من المدينة في الخامس والعشرين من ذي القعدة في يوم السبت، وقدم مكة يوم الأحد رابع ذي الحجة، فيكون صلى الله عليه وسلم مكث في الطريق ثمان ليال.
• وفي هذا دليل على حرص الصحابة على العلم بأفعال النبي صلى الله عليه وسلم لاتباعه والتأسي به عليه السلام، ويستفاد من ذلك الحث على صحبة أهل العلم والفضل في الأسفار ولا سيما في الحج، لما في ذلك من الخير الكثير من الاستفادة من علمهم وأخلاقهم، إضافة إلى حفظ الوقت وصرفه فيما ينفع ويفيد.
• وفي هذا دليل على أن الحج على الفور، ولذلك الصحابة بادروا ولم يؤخروا الحج إلى قابل، وعلى هذا فلا يجوز للإنسان المستطيع أن يتهاون به.
لقوله صلى الله عليه وسلم (إن الله قد فرض عليكم الحج فحجوا) وهذا أمر والأمر يقتضي الوجوب.
وقال صلى الله عليه وسلم (من أراد الحج فليعجل، فإنه قد يمرض المريض وتضل الراحلة، وتكون الحاجة) رواه أحمد وصححه الألباني.
وقد قال تعالى (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم
…
).
وذهب بعض العلماء إلى أن الحج على التراخي وليس على الفور وقالوا: إن الحج فرض في السنة السادسة ولم يحج النبي صلى الله عليه وسلم إلا في السنة العاشرة، لكن هذا القول ضعيف، والحج إنما فرض في السنة التاسعة وحج النبي صلى الله عليه وسلم في السنة العاشرة لوجود المشركين في السنة التاسعة ولانشغاله بالوفود في هذه السنة كما تقدم.
م/ حَتَّى إِذَا أَتَيْنَا ذَا الْحُلَيْفَةِ.
ذو الحليْفة: هو ميقات أهل المدينة، وهو من المواقيت المكانية.
وأهل العلم يقسمون المواقيت إلى قسمين: مواقيت مكانية، ومواقيت زمانية.
المواقيت المكانية: هي الأماكن التي يحرم منها الحاج. وقد بيّنها النبي صلى الله عليه وسلم.
عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَقَّتَ لِأَهْلِ اَلْمَدِينَةِ: ذَا الْحُلَيْفَةِ، وَلِأَهْلِ اَلشَّامِ: اَلْجُحْفَةَ، وَلِأَهْلِ نَجْدٍ: قَرْنَ اَلْمَنَازِلِ، وَلِأَهْلِ اَلْيَمَنِ: يَلَمْلَمَ، هُنَّ لَهُنَّ وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِهِنَّ مِمَّنْ أَرَادَ اَلْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ، حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
[وقت] حدد. [ذا الحليفة] مكان معروف بينه وبين مكة مائتا ميل غير ميلين. قال النووي: وهي أبعد المواقيت من مكة، بينهما نحو عشر مراحل، وهي قريبة من المدينة. [الجحفة] قال الحافظ: هي قرية خربة بينها وبين مكة خمس مراحل أو ستة ". قال النووي: سميت بذلك لأن السيل اجتحفها.
[يلملم] وهو جبل من جبال تهامة على مرحلتين من مكة. [قرن المنازل] على نحو مرحلتين من مكة، وهو أقرب المواقيت إلى مكة.
قال ابن قدامة بعد ما ذكر المواقيت: أجمع أهل العلم على أربعة منها، وهي: ذو الحليفة، وقرن، والجحفة ويلملم واتفق أئمة النقل على صحة الحديث عن رسول الله فيها
…
ثم قال: فأما ذات عرق فميقات أهل المشرق في قول أكثر أهل العلم.
وقد اختلف فيمن وقت ذات عرق؟
فقيل: الذي وقته رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لحديث عَائِشَةَ رضي الله عنها (أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَقَّتَ لِأَهْلِ اَلْعِرَاقِ ذَاتَ عِرْقٍ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ.
وهو حديث ضعيف أنكره أحمد واعتبره من منكرات أفلح بن حميْد، وقال ابن خزيمة: قد روي أخبار في ذات عرق أنه ميقات أهل العراق، ولا يثبت عند أهل الحديث منها شيء.
وقيل: الذي وقته عمر.
لحديث ابن عمر قال: (لما فتح هذان المصران أتوا عمر فقالوا: يا أمير المؤمنين، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حد لأهل نجد قرناً، وإنه جور عن طريقنا إن أردنا أن نأتي قرناً شق علينا، قال: فانظروا حذوها من طريقكم، قال: فحد له ذات عرق). رواه البخاري
ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي حدده لاشتهر ذلك كما اشتهر تحديد المواقيت الأخرى، وأيضاً لو وقع تحديدها لما احتاج عمر إلى تحديدها لأهل العراق.
وقيل: وقته عمر والنص لم يبلغه فجاء على وفق توقيته.
وعمر معروف بموافقاته الكثيرة.
والقول الثاني أصح.
• يجب الإحرام من هذه المواقيت لمن أراد الحج أو العمرة ويحرم عليه أن يتعداها.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
لقول ابن عمر (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة، .... ) فقوله (فرض) يدل على الوجوب، ولحديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (يهل أهل المدينة من ذي الحليفة،
…
) وهذا خبر بمعنى الأمر أي:
ليهل.
• فإن تعداها من غير إحرام ولم يرجع فعليه دم، وهذا قول جمهور العلماء (وذهب بعض العلماء إلى أنه يأثم إذا تجاوز الميقات لكن لا دم عليه، وهذا اختيار الشوكاني وجماعة من المتأخرين، لأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم لزوم الدم).
• هذه المواقيت لأهلها ولمن مرّ عليها من غير أهلها ممن أراد الحج أو العمرة.
فمن سلك طريقاً فيها ميقات فهو ميقاته، فإذا مرّ أحد من أهل نجد ميقات أهل الشام فإنه يحرم منه، ولا يكلف أن يذهب إلى ميقات أهل نجد.
• من كان منزله دون الميقات فميقاته من مكانه الذي هو ساكن فيه، لقوله صلى الله عليه وسلم:(ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ)، كأهل جدة.
• أن من تجاوز هذه المواقيت بلا نية النسك ثم طرأ العزم على نية النسك فإنه يحرم من حيث أراد النسك، لقوله صلى الله عليه وسلم:(ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ).
• أن الإحرام قبل الميقات مخالف لهدي النبي صلى الله عليه وسلم، فيكره أن يحرم قبل الميقات، وخير الهدي هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه صلى الله عليه وسلم أحرم من ذي الحليفة ولم يحرم من المدينة
• أن ميقات أهل مكة من مكة للحج، لقوله:(حتى أهل مكة من مكة).
فمن حج من مكة فمنها حتى لو من غير أهلها، وأما العمرة فمن الحل، وهذا مذهب الأئمة الأربعة.
قال ابن قدامة: " لا نعلم في هذا خلافاً ".
لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عبد الرحمن بن أبي بكر أن يخرج بعائشة إلى الحل لتحرم منه.
وقولنا (من الحل) أفضل من قولنا (من التنعيم)، لأن الحل يشمل كل الحل، التنعيم وغيره.
• المواقيت الزمانية:
قيل: شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة وهذا المذهب، وقيل: أشهر الحج ثلاثة: شوال وذو القعدة وشهر ذي الحجة كاملاً لأن الله يقول (الحج أشهر معلومات) وأشهر جمع، وأقل الجمع ثلاثة في اللغة، وما يضعف القول الأول أن من أيام الحج (11، 12، 13) من ذي الحجة يفعل فيها الحج الرمي والمبيت، فكيف نخرجها من أشهر الحج؟
واختلف العلماء هل ينعقد الحج لو أحرم قبل أشهره:
قيل: ينعقد وهذا مذهب الجمهور، وقيل: لا ينعقد ورجحه الشوكاني وهذا الصحيح.
م/ فَوَلَدَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ.
وهي زوجة أبي بكر الصديق، ولدت له محمداً في الميقات، وكانت قبل ذلك تحت جعفر بن أبي طالب وأولاده منها، وبعد وفاة أبي بكر تزوجها علي بن أبي طالب.
م/ فَأَرْسَلَتْ إِلَى رَسُولِ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم: كَيْفَ أَصْنَعُ? قَالَ: اِغْتَسِلِي، وَاسْتَثْفِرِي بِثَوْبٍ.
الاستثفار: أن تشد المرأة على وسطها شيئاً ثم تأخذ خرقة عريضة تجعلها في محل الدم وتشدها من ورائها وقدامها ليمتنع الخارج، وفي معناها الوسائل المعروفة الآن عند النساء.
• استحباب الاغتسال عند الإحرام.
قال ابن قدامة: "يستحب لمن أراد الإحرام أن يغتسل قبل إحرامه لما روى زيد بن ثابت: أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم تجرد لإهلاله واغتسل، رواه الترمذي، وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أسماء بنت عميس وهي نفساء أن تغتسل عند الإحرام، ولأن هذه العبادة يجتمع لها الناس فيسن لها الاغتسال كالجمعة، وليس واجباً في قول عامة أهل العلم ".
فالغسل سنة لكل مريد الإحرام، من صغير وكبير، من رجل أو امرأة، للجنب وغير الجنب.
وحديث (تجرد صلى الله عليه وسلم لإهلاله واغتسل) فيه ضعف، لكن جاء ما يغني عنه، وهو ما رواه الحاكم عن ابن عمر قال (من السنة أن يغتسل إذا أراد أن يحرم وإذا أراد أن يدخل مكة) وقول الصحابي من السنة له حكم الرفع.
• فالحائض والنفساء لا يمنعها حيضها ولا نفاسها من الإحرام، ولا من الحج، وتصنع كما يصنع الحاج، غير أنها لا تطوف بالبيت (فالنبي صلى الله عليه وسلم أمرها بالاغتسال للإحرام وليس لرفع الحدث، لأن الحدث لا يزال باقياً.
• ومن سنن الإحرام: التنظف (أخذ ما ينبغي أخذه كشعر العانة والإبط والشارب والأظافر).
قال ابن قدامة معللاً: " لأن الإحرام يمنع قطع الشعر، وقلم الأظافر، فاستحب فعله قبله لئلا يحتاج إليه في إحرامه فلا يتمكن منه، فإذا كانت أظفاره طويلة أو شعره طويل فإنه يسن إزالتها، وإلا فلا يستحب ".
ومنها: الطيب.
لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: (طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم ولحله قبل أن يطوف) متفق عليه، وخاصة في الرأس والوجه لقول عائشة (كنت أرى وميص المسك في مفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا يدل على التطيب بالرأس وجاء أيضاً في أنه طيب اللحية كما في صحيح مسلم.
أما تطييب ثوب الإحرام حرام، ولا يجوز لبسه إذا طيبه لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تلبسوا ثوباً مسه الزعفران ولا الورس.
م/ وَأَحْرِمِي.
أطلق لها النبي صلى الله عليه وسلم الإحرام، وقد أحرم الناس من ذي الحليفة على وجوه ثلاثة، منهم من أحرم بالحج، ومنهم من أحرم بالعمرة، ومنهم من أحرم بالحج والعمرة.
عن عائشة. قالت (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع، فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بعمرة وحج، ومنا من أهل بالحج) متفق عليه.
• يستحب للمحرم أن يذكر نسكه عند إحرامه، فالقارن يقول: لبيك عمرة وحجاً، والمفرد يقول: لبيك حجاً، والمتمتع يقول: لبيك عمرة (وإن قال: لبيك عمرة متمتعاً بها إلى الحج).
م/ فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي المَسْجِد.
أي صلى صلاة الظهر في مسجد ذي الحليفة.
ولذلك استحب أهل العلم أن يكون الإحرام عقب صلاة فرض كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
• فإن لم يكن وقت صلاة فرض، هل يسن أن يصلي ركعتين للإحرام؟
ذهب بعض العلماء إلى أن للإحرام سنة تخصه.
واستدلوا أن النبي صلى الله عليه وسلم أهل دبر صلاة.
وذهب بعض العلماء، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية إلى أن ركعتي الإحرام لا أصل لمشروعيتها، وأنه ليس للإحرام سنة تخصه.
وهذا القول هو الراجح، وأن السنة أن يحرم عقب صلاة فرض أو نفل.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: " وعليه نقول: إن كان ممن يصلي سنة الوضوء فإنه بعد الاغتسال يصلي سنة الوضوء بنية سنة الوضوء، وإن كان في وقت صلاة كصلاة الظهر مثلاً نقول الأفضل أن تمسك حتى تصلي الظهر ثم تحرم بعد الصلاة، وكذا صلاة العصر أو غيرها ".
م/ ثُمَّ رَكِبَ اَلْقَصْوَاءَ.
القصْواء - بفتح القاف - وهي الناقة التي قطع طرف أذنها، وناقة النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن مقطوعة الأذن، وإنما لقبها به حباً، وله ناقة تسمى العضباء.
م/ حَتَّى إِذَا اِسْتَوَتْ بِهِ نَاقَتُهُ عَلَى اَلْبَيْدَاءِ.
أي حتى علت به على البيداء، والبيداء جبل صغير طرف ذي الخليفة.
م/ أَهَلَّ بِالتَّوْحِيدِ: "لَبَّيْكَ اَللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ اَلْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ"، وَأَهَلَّ اَلنَّاسُ بِهَذَا اَلَّذِي يُهِلُّونَ بِهِ، فَلَمْ يَرُدَّ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِمْ شَيْئًا مِنْهُ، وَلَزِمَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَلْبِيَتَهُ.
[أهلَّ] رفع صوته بالتلبية، وهذه كلمات عظيمة، وسماها جابراً توحيداً لأنها تضمنت التوحيد والإخلاص [لبيك] إجابة لك بعد إجابة، وإقامة على طاعتك دائمة، والمراد بالتثنية التأكيد، فإن قال قائل: أين النداء من الله حتى يجيبه المحرم؟ الجواب هو قوله تعالى (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ). [رجالاً] على أقدامهم [ضامر] البعير الذي أتعبه السفر [فج عميق] طريق بعيد، [لا شريك لك] أي في كل شيء، فلا شريك لك في ملكك، ولا شريك لك في ألوهيتك، ولا شريك لك في أسمائك وصفاتك، [إن الحمد] أي لك الحمد على كل حال، والحمد وصف المحمود بالكمال محبة وتعظيماً، [والنعمة] أي الفضل والإحسان، كله لك، لأن الله وحده المحمود والمنعم، [والملك] أي ملك الخلائق وتدبيرها لك وحدك.
• مشروعية التلبية عند الدخول في الإحرام، لأنها شعار الحج والعمرة.
• استدل بهذا الحديث على أن المحرم يلبي إذا استوت به راحلته على البيداء.
وذهب بعض العلماء إلى أنه يلبي إذا استوت به راحلته.
لحديث اِبْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ (أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استوت به راحلته قائمة) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
وهذا القول هو الصحيح، وأما حديث جابر _ أنه لبى على البيداء - فيحمل على أن جابراً لم يسمع التلبية إلا حين استوت راحلة النبي صلى الله عليه وسلم على البيداء.
فالأفضل للمحرم أن يكون إحرامه بعد ركوب الدابة أو السيارة، حتى يفرغ من شؤونه في الأرض من اغتسال وطيب ونحو ذلك، ويكون قد تهيأ بذلك التهيؤ الكامل، بخلاف ما إذا أحرم في الأرض فقد ينسى شيئاً.
• يستحب رفع الصوت بالتلبية.
لحديث خَلَّادِ بْنِ اَلسَّائِبِ عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (أَتَانِي جِبْرِيلُ، فَأَمَرَنِي أَنْ آمُرَ أَصْحَابِي أَنْ يَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالْإِهْلَالِ) رَوَاهُ اَلْخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ اَلتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ.
ولحديث ابن عمر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل أي الحج أفضل؟ فقال: العج والثج). رواه ابن ماجه
[العج] رفع الصوت بالتلبية. [الثج] ذبح الدماء.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وعن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلم يلبي إلا لبى ما على يمينه وشماله من حجر أو شجر أو مدر). رواه الترمذي
قال أبو بكر بن عبد الله المزني: (كنت مع ابن عمر فلبى حتى أسمع ما بين الجبلين). رواه أبو بكر وابن أبي شيبة وصححه الحافظ
• أن رفع الصوت خاص بالرجال، أما المرأة فالمستحب عدم رفع صوتها إلا عند محارمها فلا مانع حينئذ أن ترفع الصوت، وأما ابن حزم فيرى أن المرأة ترفع صوتها بالتلبية كالرجل تماماً، وقال: لم يرد دليل على التخصيص.
• الأفضل التزام تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم لقول جابر (ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلبيته).
لكن يجوز الزيادة على التلبية، لأنه صلى الله عليه وسلم كان يسمع الناس يزيدون فأقرهم ولم ينكر ذلك، فدل على جواز ذلك.
وكان من تلبيته صلى الله عليه وسلم: لبيك إله الحق.
وبعضهم يقول: لبيك ذا المعارج، لبيك ذا الفواصل.
(وكان ابن عمر يزيد فيها: لبيك وسعديك، والخير بيديك، والرغباء إليك والعمل) رواه مسلم.
وروى أحمد في مسنده عن جابر قال (أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
فذكر تلبية النبي صلى الله عليه وسلم وقال: والناس يزيدون: ذا المعارج).
• لا تشرع التلبية لغير المحرم في الأمصار، لعدم الدليل، فيكره أن يلبي غير المحرم وهذا قول مالك وهو الصحيح، لأن التلبية من شعائر الحج وليست بعبادة مستقلة بنفسها، وقد قال بعض العلماء باستحباب التلبية للحلال، لكنه قول ضعيف.
• في اختلاف تلبية الصحابة دليل على أنهم لم يكونوا يلبون التلبية الجماعية، فإن الصحابة كان كل يلبي بتلبية، وأيضاً بعضهم يكبر، فقد قال أنس (حججنا مع النبي صلى الله عليه وسلم منا المكبر ومنا المهل) متفق عليه، فالتلبية الجماعية بصوت واحد غير مشروعة.
• ويسن الاشتراط لمن خاف أن لا يكمل حجه بسبب مرض أو وجع.
الاشتراط: أن يقول المحرم: إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
اختلف العلماء:
فقيل: مستحب لكل أحد.
وهو قول عمر وعلي والشافعي، وهذا مذهب الحنابلة، ورجحه ابن حزم.
لحديث عائشة قالت: (دخل النبي صلى الله عليه وسلم على ضباعة بنت الزبير فقالت: يا رسول الله، إني أريد الحج وأنا شاكية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: حجي واشترطي أن محلي حيث حبستني). متفق عليه
وقيل: غير مشروع.
لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله ولم ينقل عنه.
وقيل: يستحب للخائف فقط.
وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو الصحيح جمعاً بين الأدلة.
فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله وقد حج واعتمر أربع عمر، ولم يعلمه الصحابة، وإنما علمه ضباعة لأنها مريضة.
فائدة الاشتراط:
قال ابن قدامة: " ويقيد هذا الشرط بشيئين:
أحدهما: أنه إذا عاقه عائق من عدو أو مرض أو ذهاب نفقة ونحوه له التحلل.
الثاني: أنه متى حل بذلك فلا دم عليه ولا صوم ".
مسألة: هل من خشيت الحيض لها أن تشترط: قولان للعلماء.
ومما يقوي أنه ليس لها الاشتراط:
أولاً: أن هذا السبب مما انعقد سببه وقام مقتضاه.
ثانيا: أن نساء من الصحابة وهن نفساء ولم يعلمهن النبي صلى الله عليه وسلم الاشتراط.
ثالثا: أن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم ولا يمكن الحاقة بالأمر العارض.
م/ قَالَ جَابِرٌ: لَسْنَا نَنْوِي إِلَّا اَلْحَجَّ، لَسْنَا نَعْرِفُ اَلْعُمْرَةَ.
العرب في الجاهلية لم يكونوا يعرفون العمرة في أشهر الحج، وليس مراد الراوي - هنا - أنهم لا يعرفون العمرة إطلاقاً، بل كانوا يعرفون العمرة، وقد اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم قبل حجته هذه عدة مرات، إلا أن مراد الراوي هنا (لسنا نعرف العمرة) أي لسنا نعرف العمرة في أشهر الحج، لأنها كانت من عظائم الأمور في الجاهلية، ولهذا لما جاء الإسلام أبطل هذا الحكم.
• والعمرة تعريفها لغة: الزيارة.
واصطلاحاً: زيارة البيت تعبداً لله على وجه مخصوص.
• أجمع العلماء على مشروعية العمرة.
واختلفوا هل هي واجبة أم لا على قولين:
القول الأول: أنها واجبة.
لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: (قلت يا رسول الله! على النساء جهاد؟ قال: نعم، عليهن جهاد لا قتال فيه، الحج والعمرة) رواه ابن ماجه.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: " فقوله (عليهن) ظاهرة في الوجوب، لأن (على) من صيغ الوجوب كما ذكر ذلك أهل أصول الفقه ".
ولحديث عمر رضي الله عنهما في سؤال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام وفيه (وأن تحج وتعتمر) رواه ابن خزيمة. [وقد حكم بعض العلماء بشذوذ رواية: وأن تعتمر].
ولحديث أبي رَزين العُقيْلي حين أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة، قال صلى الله عليه وسلم (حج عن أبيك واعتمر) رواه الترمذي.
القول الثاني: أنها غير واجبة.
لحديث جابر مرفوعاً (سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن العمرة: أواجبة هي؟ قال: لا، وأن تعتمر خير لك) لكن هذا الحديث لا يصح مرفوعاً، والراجح وقفه.
قالوا: والأصل براءة الذمة حتى يثبت الدليل.
• يسن المتابعة بين العمر:
لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما» رواه مسلم.
ولحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد» رواه النسائي.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "المتابعة بين العمرتين جاءت به السنة، ولكن هذه المتابعة ينبغي أن تكون مقيدة بما جاء عن السلف، والسلف رحمهم الله لم يكن من عملهم أن تكون العمرة كل يوم ".
وقد قال بعض العلماء: أن يكون بين العمرة والعمرة مدة بقدر ما ينبت الشعر ويمكن حلقه.
م/ حَتَّى إِذَا أَتَيْنَا اَلْبَيْتَ مَعَهُ.
[أتينا البيت] أي الكعبة.
يسن دخول البيت بالرجل اليمنى قائلاً الدعاء الوارد عند دخول المسجد، كبقية المساجد، (اللهم صل على محمد، اللهم افتح لي أبواب رحمتك).
وأما ما قاله بعض الفقهاء أنه يسن إذا رأى البيت أن يرفع يديه ويقول: اللهم زد هذا البيت تشريفاً وتكريماً وتعظيماً وبراً، أو: اللهم أنت السلام ومنك السلام حينا ربنا بالسلام، فهذا قول ضعيف، لأن هذه الآثار كلها لا تصح، فلا يعتمد عليها في إثبات حكم شرعي (فلا يصح ذكر ولا دعاء عند رؤية البيت) وجابر الذي نقل حجة النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر شيء من هذه الأذكار.
• أن تحية البيت الطواف، فإن أول شيء بدأ به النبي صلى الله عليه وسلم الطواف.
وهذا فيمن دخل المسجد للطواف، أما إذا دخل المسجد للجلوس أو الصلاة فإنه يصلي ركعتين تحية المسجد كغيره من المساجد، وأما حديث (تحية البيت الطواف) فهو حديث لا يصح.
م/ اِسْتَلَمَ اَلرُّكْنَ.
[الركن] أي الحجر الأسود، وسمي ركناً لأنه في ركن الكعبة.
يسن للمحرم أن يبدأ بالحجر الأسود فيقصده ويبدأ الشوط منه.
• يسن استلام الحجر الأسود.
أ- أن يستلم الحجر ويقبله، وهذا أعلاها [والمسح يكون بيد اليمنى لأن اليد اليمنى تقدم للتعظيم].
عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه (أَنَّهُ قَبَّلَ اَلْحَجَرَ [اَلْأَسْوَدَ] فَقَالَ: إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [هذا من فقه عمر: أن تقبيل الحجر اتباعاً لله ولرسوله]
ب- إن لم يتمكن، استلمه بيده وقبل يده.
عن نافع قال: (رأيت ابن عمر استلم الحجر بيده، ثم قبل يده، وقال: ما تركته منذ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله). متفق عليه
ج- أن يستلمه بشيء في يده، ويقبل ذلك الشيء.
لحديث عامر بن واثلة قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت ويستلم الحجر بمحجن معه ويقبل المحجن). رواه مسلم
…
[المحجن] هو عصا محنية الرأس.
د- إن لم يستطع أشار إليه واكتفى بذلك.
• أن استلام الحجر الأسود وتقبيله تعظيماً لله تعالى واتباعاً للرسول صلى الله عليه وسلم لا لكونه حجراً أو محبة له.
• ويشرع استلام الركن اليماني.
لحديث ابنِ عُمَر قَالَ (لَمْ أَرَ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَلِمُ مِنْ اَلْبَيْتِ غَيْرَ اَلرُّكْنَيْنِ اَلْيَمَانِيَيْنِ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
قال النووي: " أجمعت الأمة على استحباب استلام الركنين اليمانيين، واتفقت الجماهير على أنه لا يمسح الركنين الآخرين ".
قال شيخ الإسلام: " لا يستلم إلا الركنيين اليمانيين دون الشاميين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم إنما استلم اليمانيين خاصة لأنها على قواعد إبراهيم ".
• عند استلام الركن اليماني لا يقل شيئاً لا تكبير ولا غيره، لأن ذلك لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم.
• إن لم يتمكن من استلام الركن اليماني، لم تشرع الإشارة إليه بيده.
• يسن عند استلام الحجر قول: الله أكبر.
لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم على بعير، كلما أتى على الركن أشار إليه بشيء في يده وكبر) رواه البخاري.
الإشارة تكون باليد اليمنى دون اليدين جميعاً.
• وأما قول (بسم الله) فلم ينقل من ذكر صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول (بسم الله) لكن صح ذلك عن ابن عمر كما عند الإمام أحمد أنه (يستلم الحجر ويقول: بسم الله: الله أكبر).
• في استلام الحجر الأسود فضل عظيم، فقد قال صلى الله عليه وسلم (إن استلام الركنين يحطان الذنوب) رواه أحمد.
• إن مشروعية تقبيل الحجر الأسود مشروطة بعدم إيذاء الناس بالمزاحمة والمدافعة، فإنه في هذه الحالة ترك الاستلام أفضل.
• في آخر شوط عند الانتهاء لا يستلم ولا يقبل الحجر الأسود ولا يكبر لأنه انتهى طوافه.
• هل يشرع تقبيل الحجر الأسود في غير نسك من حج أو عمرة؟ الجمهور على المنع.
م/ فَطَافَ.
يبدأ المحرم بالطواف مبتدئاً من الحجر الأسود جاعلاً البيت عن يساره لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، فإن كان متمتعاً فطوافه لعمرته، وإن كان مفرداً أو قارناً فهو طواف القدوم.
• يجب أن يكون الطواف سبعة أشواط، فمن ترك شيئاً ولو يسيراً من شوط من السبعة لم يصح، لأنه لم يأت بالعدد المعتبر.
• لو شك هل طاف ستة أو سبعاً فإنه يبني على اليقين إلا إذا غلب على ظنه شيء فإنه يعمل به، فإن غلب على ظنه أنه طاف ستة يجعلها ستة ويأتي بسابع.
• يحرم أن يطوف عريان لقوله صلى الله عليه وسلم (ولا يطوف بالبيت عريان) متفق عليه.
• قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وليس له-أي الطواف- ذكر مخصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم لا بأمره ولا بقوله ولا بتعليمه، بل يدعو بسائر الأدعية الشرعية، وأما تخصيص كل شوط بدعاء معين فهذا لا أصل له.
• إذا قطع طوافه فريضة أو جنازة صلى وأكمل من حيث وقف.
• الأفضل أن يطوف على وضوء لفعل النبي صلى الله عليه وسلم ففي حديث عائشة رضي الله عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم أول شيء بدأ به حين قدم مكة أنه توضأ ثم طاف بالبيت) متفق عليه.
وهذا قول جماعة من أئمة السلف. فقد روى ابن أبي شيبة عن شعبة بن الحجاج قال (سألت حماداً ومنصوراً وسليمان عن الرجل يطوف بالبيت على غير طهارة؟ فلم يروا به باساً.
وقد ذهب كثير من العلماء إلى أنه لا بد من الوضوء للطواف، لفعل النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث السابق ولحديث ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً (الطواف بالبيت صلاة) لكن هذا الحديث لا يصح مرفوعاً، ولذلك ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية إلى صحة الطواف بغير طهارة.
• يسن في هذا الطواف الاضطباع (وهو أن يجعل وسط ردائه تحت عاتقه الأيمن، وطرفيه على عاتقه الأيسر فيكون العاتق الأيمن مكشوفاً).
لحديث يعلي بن أمية رضي الله عنه قال (طاف النبي صلى الله عليه وسلم مضطبعاً ببرد أخضر) رواه أبو داود.
• الاضطباع يكون في طواف القدوم في كل الأشواط السبعة.
• الحكمة منه أنه يعين على سرعة المشي.
• لا يسن الاضطباع في غير طواف القدوم، وما يفعله كثير من الحجيج حيث يضطبعون من حين الإحرام إلى أن يخلعوا فإنه خطأ ومخالف للسنة، ولهذا قال العلماء: يستحب له أن يزيل الاضطباع مباشرة قبل ركعتي الطواف.
• يسن أن يدعو بين الركنين بما جاء في الحديث (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار) ولا تشرع الزيادة على ذلك كقول كثير من الناس: وأدخلنا الجنة مع الأبرار، يا عزيز يا غفار، لأن ذلك لا أصل له.
م/ فَرَمَلَ ثَلَاثًا وَمَشَى أَرْبَعًا.
ويسن في هذا الطواف - طواف القدوم - الرمل، قال النووي:"قال العلماء: الرمل هو إسراع المشي مع تقارب الخطا ".
لفعل النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث جابر هذا.
وهو مستحب في الأشواط الثلاثة الأول، والمشي في الأربعة الباقية.
قال في المغني: " وهو سنة في الأشواط الثلاثة الأول من طواف القدوم، ولا نعلم فيه بين أهل العلم اختلافاً، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رمل ثلاثاً ومشى أربعاً ".
• الحكمة: كما في حديث ابن عباس: (إظهار القوة والجلد للمشركين).
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ (لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ مَكَّةَ. فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: إنَّهُ يَقْدَمُ عَلَيْكُمْ قَوْمٌ وَهَنَتْهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ. فَأَمَرَهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَرْمُلُوا الأَشْوَاطَ الثَّلاثَةَ، وَأَنْ يَمْشُوا مَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ، وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ أَنْ يَرْمُلُوا الأَشْوَاطَ كُلَّهَا: إلاَّ الإِبْقَاءُ عَلَيْهِمْ) متفق عليه.
فإن قيل: ما الحكمة في الرمل بعد زوال علته التي شرع من أجلها؟
الجواب: أن بقاء حكم الرمل مع زوال علته، لا ينافي أن لبقائه علة أخرى، وهي أن يتذكر به المسلمون نعمة الله عليهم حيث كثرهم وقواهم بعد القلة والضعف.
ومما يؤيده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل في حجة الوداع بعد زوال العلة المذكورة.
• والرمل يكون من الحجر إلى الحجر.
لحديث ابن عمر: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل من الحجر إلى الحجر).
وهذا يقدم على حديث ابن عباس، لأن:
حديث ابن عباس كان في عمرة القضاء في ذي القعدة عام سبع، وأما حديث ابن عمر:(أن النبي صلى الله عليه وسلم رمل من الحجر إلى الحجر) كان في حجة الوداع، فيكون هذا ناسخاً للمشي بين الركنين الثابت في حديث ابن عباس، لأنه متأخر عنه.
• أن الرمل خاص بالرجال.
• وليس الرمل هو هز الكتفين كما يفعله بعض الجهلة [قاله الشيخ ابن عثيمين].
م/ ثُمَّ نَفَذَ إِلَى مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ فَقَرَأَ: وَاِتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى. فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، فَجَعَلَ اَلْمَقَامَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اَلْبَيْتِ، وفي رواية [أنه قرأ في الركعتين:(قل هو الله أحد) و (قل يا أيها الكافرون).
أي: إذا فرغ من طوافه سوى رداءه فوضعه على كتفه ثم صلى ركعتي الطواف خلف المقام في أي وقت كان طوافه، يقرأ في الأولى بعد الفاتحة (قل يا أيها الكافرون) وفي الثانية (قل هو الله أحد) كما جاء عند مسلم.
…
[والمقام] هو الحجر الذي قام عليه إبراهيم حين ارتفع بناؤه للبيت وشق عليه تناول الحجارة].
قال النووي: " هذا دليل لما أجمع عليه العلماء أنه ينبغي لكل طائف إذا فرغ من طوافه أن يصلي خلف المقام ركعتي الطواف ".
• لا يلزم أداء هاتين الركعتين خلف المقام، فلو صلاهما في أي مكان من الحرم أو خارجه جاز.
• المشروع في هاتين الركعتين التخفيف وليس قبلهما دعاء ولا بعدهما دعاء.
• إذا دار الأمر بين أن يصلي قريباً من المقام مع كثرة حركته، كرد المارين بين يديه، وبين أن يصلي بعيداً عن المقام ولكن بطمأنينة، فالأفضل الثاني، لأن ما يتعلق بذات العبادة أولى بالمراعاة بما يتعلق بمكانها.
• يستحب إذا جاء المقام أن يقرأ (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) ولا يطيل بعدهما الجلوس.
• هل تجزئ سنة راتبة عنهما أو صلاة مكتوبة؟ هذا موضع خلاف والصحيح أنها لا تجزئ، لأنهما سنة مستقلة بنفسها.
م/ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى اَلرُّكْنِ وَاسْتَلَمَهُ.
أي إذا صلى ركعتين عاد إلى الحجر الأسود فاستلمه بيده إن تيسر له ذلك، وإلا تركه ومضى.
قال بعض العلماء: وظاهر ذلك أنه لا يسن تقبيله ولا الإشارة إليه.
قال الشيخ ابن عثيمين: "بعد أن يصلي ركعتين يستلم الركن مرة ثانية كالمودع للبيت في هذا العمل
ولم ترد السنة بالتقبيل في هذا الموضع ولم ترد أيضاً بالإشارة ".
وعلى هذا فلا تقبيل ولا إشارة، فان تيسر لك أن تستلمه فهو سنة وإلا فدعه.
وهذا فيمن خرج ليسعى، أما من طاف ولا يريد السعي [كطواف الوداع مثلاً أو طواف الإفاضة لمن سعى بعد طواف القدوم] فإنه لم يرد أن النبي صلى الله عليه وسلم رجع إلى الركن فاستلمه.
مسألة:
جاء عند الإمام أحمد (ثم ذهب إلى زمزم فشرب منها وصب على رأسه) فيسن بعد صلاة الركعتين أن يذهب إلى زمزم ويشرب ويصب على رأسه.
م/ ثُمَّ خَرَجَ مِنَ الْبَابِ إِلَى الصَّفَا فَلَمَّا دَنَا مِنَ الصَّفَا قَرَأَ (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ)«أَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ» . فَبَدَأَ بِالصَّفَا فَرَقِىَ عَلَيْهِ حَتَّى رَأَى الْبَيْتَ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَوَحَّدَ اللَّهَ وَكَبَّرَهُ وَقَالَ «لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كَلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ أَنْجَزَ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ» . ثُمَّ دَعَا بَيْنَ ذَلِكَ قَالَ مِثْلَ هَذَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ نَزَلَ إِلَى الْمَرْوَةِ حَتَّى إِذَا انْصَبَّتْ قَدَمَاهُ فِي بَطْنِ الْوَادِي سَعَى حَتَّى إِذَا صَعِدَتَا مَشَى حَتَّى أَتَى الْمَرْوَةَ فَفَعَلَ عَلَى الْمَرْوَةِ كَمَا فَعَلَ عَلَى الصَّفَا.
أي: بعد أن ينتهي من الطواف وركعتي الطواف يذهب إلى الصفا.
• استحباب قراءة هذه الآية (إن الصفا والمرة من شعائر)، وفي ذلك فوائد:
أولاً: اقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم.
ثانياً: امتثالاً لأمر الله.
ثالثاً: وليشعر نفسه أنه إنما سعى لأنه من شعائر الله.
• قوله (قرأ إن الصفا والمرة من شعائر الله) حين دنا الصفا وليس إذا صعد.
• ولا يقال هذا الذكر إلا إذا أقبل على الصفا من بعد الطواف - فلا يقال بعد ذلك - لا عند المروة ولا عند الصفا في المرة الثانية، لأنه ليس ذكراً يختص بالصعود وإنما هو ذكر يبين أن ابتداء الإنسان من الصفا إنما هو بتقديم الله له.
• قوله (فقرأ إن الصفا والمروة من شعائر الله): يحتمل أنه قرأ الآية كلها، وكان السلف يعبرون ببعض الآية عن جميعها، ويحتمل انه لم يقرأ إلا هذا فقط الذي هو محل الشاهد، وهذا هو المتعين، لأن الأصل أن الصحابة ينقلون كل ما سمعوه، وإذا لم يقل (حتى ختم الآية) فإنه يقتصر على ما نقل فقط.
• البداءة بالسعي من الصفا، فلو بدأ بالمروة لم يعتد بالشوط الأول، والبدء بالصفا هو تفسير لقوله تعالى {إن الصفا والمروة من شعائر الله} فقد بدأ بما قدم الله ذكره.
• استحباب رقي الصفا واستقبال القبلة حينما يطلع عليه (وليس هو واجب، الواجب هو حدود العربيات)
• استحباب رفع اليدين عند الصعود على الصفا، وصفة رفعهما كصفة رفعهما عند الدعاء.
• يستحب على الصفا أن يوحد الله ويكبره ويقول: (لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كَلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ أَنْجَزَ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ». ثُمَّ دَعَا بَيْنَ ذَلِكَ قَالَ مِثْلَ هَذَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ). [أنجز وعده] أي: بإظهار هذا الدين، وكون العاقبة للمتقين. [ونصر عبده] أي: نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم[وهزم الأحزاب] أي: غلبهم وكسرهم [وحده] أي: بلا قتال من الناس.
• أنه يستحب الدعاء فيما بين ذلك، وصفة هذا: أن يذكر الله أولاً، ثم يدعو، ثم يذكر الله ثانياً، ثم يدعو، ثم يذكر الله ثالثاً، ثم ينزل من الصفا.
• بعد الذكر والدعاء يتجه إلى المروة.
• إذا حاذى العلم الأخضر هرول حتى العلم الثاني، والهرولة خاصة بالرجال.
• لا تشترط الطهارة للسعي.
• السعي بين الصفا والمروة سبعة أشواط، الذهاب شوط والرجوع شوط آخر.
• يقول في سعيه ما أحب من ذكر ودعاء وقرآن، وإن دعا في السعي بقوله (رب اغفر وارحم، إنك أنت الأعز الأكرم) فلا بأس لثبوت ذلك عن ابن مسعود وابن عمر.
• إذا كان في آخر شوط من السعي أتمه بصعوده المروة، ولا يقف للدعاء ولا للذكر، لأن العبادة قد انتهت.
• وإذا كان الحاج متمتعاً قصر من شعره، وإنما يقصر هنا ليبقى شعر للحج.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (
…
ومن لم يكن أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة وليقصر وليحلل ثم يهل بالحج).
• أما في غير هذه الحالة فالحلق أفضل من التقصير في حق الرجال (لأن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا للمحلقين ثلاثاً).
ففي حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (اللهم ارحم المحلقين، قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال في الثالثة والمقصرين) متفق عليه.
ولأنه فعل النبي صلى الله عليه وسلم ولأن الحلق أبلغ تعظيماً لله.
• أما المرأة تقصر من شعرها مقدار أنملة: فالمشروع للمرأة التقصير دون الحلق، قال ابن قدامة:"لا خلاف في هذا".
• التقصير لابد أن يعم جميع الرأس، وهذا القول هو الصحيح من أقوال العلماء.
لقوله تعالى (مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ) ومن المعلوم أن الإنسان إذا قصر من رأسه ثلاث شعرات من جانب الرأس ما يعد أنه مقصر.
فقول من يقول أنه يكفي ثلاث شعرات فهو قول مرجوح.
• الحلق أو التقصير من واجبات الحج كما سيأتي إن شاء الله.
• من أسرار الحلق أو التقصير أن فيهما كمال الخضوع والتذلل لله تعالى، وإظهار العبودية والانقياد لطاعته.
• وأما القارن والمفرد فإنه يبقى على إحرامه ولا يتحلل، والأفضل له أن يتحلل بعمرة إذا لم يسق الهدي.
م/ حَتَّى إِذَا كَانَ آخِرُ طَوَافِهِ عَلَى اَلْمَرْوَةِ، فَقَالَ:(لَوْ أَنِّي اِسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اِسْتَدْبَرْتُ لَمْ أَسُقْ اَلْهَدْيَ، وَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ لَيْسَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيُحِلَّ وَلْيَجْعَلْهَا عُمْرَةً) فَقَامَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ، أَلِعَامِنَا هَذَا، أَمْ لِأَبَدٍ? فَشَبَّكَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَصَابِعَهُ وَاحِدَةً فِي اَلْأُخْرَى، وَقَالَ: دَخَلَتْ اَلْعُمْرَةُ فِي اَلْحَجِّ - مَرَّتَيْنِ - لَا، بَلْ لِأَبَدِ أَبَدٍ.
فيه دليل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم حج قارناً، وهذا هو الراجح من أقوال أهل العلم أنه حج قارناً.
وهذا مذهب أحمد ورجحه ابن القيم وساق أدلة كثيرة عليه.
منها: حديث حفصة. قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: (ما شأن الناس حلوا ولم تحل أنت من عمرتك؟ قال: إني لبدت رأسي، وقلدت هديي، فلا أحل حتى أنحر) وهذا يدل على أنه في عمرة معها حج.
وقال صلى الله عليه وسلم كما في حديث جابر هذا - (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي وجعلتها عمرة) وهذا صريح في أنه استمر في حجه ولم يحل إلا يوم النحر.
قال الإمام أحمد: " لا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارناً ".
أجمع العلماء على أن الصحابة الذين مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع قد فسخوا حجهم إلى عمرة بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وفي حديثَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ صَبِيحَةَ رَابِعَةٍ. فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً. فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الْحِلِّ؟ قَالَ: الْحِلُّ كُلُّهُ).
• والراجح أن هذا الحكم لهم ولمن بعدهم أيضاً، لكنه واجب على الصحابة في تلك السنة استجابة لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال ابن القيم: " واختصاص وجوبه بالصحابة، هو الذي كان يراه شيخنا قدس الله روحه، يقول: إنهم قد فرض عليهم الفسخ لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم به، وحتمه عليهم وغضبه عندما توقفوا في المبادرة إلى امتثاله، وأما الجواز والاستحباب فللأمة إلى يوم القيامة، وهذا القول أصح ".
م/ وَقَدِمَ عَلِىٌّ مِنَ الْيَمَنِ بِبُدْنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فَوَجَدَ فَاطِمَةَ - رضى الله عنها - مِمَّنْ حَلَّ وَلَبِسَتْ ثِيَاباً صَبِيغاً وَاكْتَحَلَتْ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهَا فَقَالَتْ إِنَّ أَبِى أَمَرَنِى بِهَذَا. قَالَ فَكَانَ عَلِىٌّ يَقُولُ بِالْعِرَاقِ فَذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُحَرِّشاً عَلَى فَاطِمَةَ لِلَّذِى صَنَعَتْ مُسْتَفْتِياً لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا ذَكَرَتْ عَنْهُ فَأَخْبَرْتُهُ أَنِّى أَنْكَرْتُ ذَلِكَ عَلَيْهَا فَقَالَ «صَدَقَتْ صَدَقَتْ.
[صبيغاً] ثوباً منمقاً.
…
[محرشاً] التحريش الإغراء والمراد هنا أن يذكر له ما يقتضي عتابها.
حينما قدم علي من اليمن وجد زوجته فاطمة قد حلت وتجملت، فأنكر عليها، لأنه لم يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لها، وأنه أمر كل من لم يسق الهدي أن يتحلل.
• وسبب إنكار علي، لأنهم كانوا يرون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور.
فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم علياً أن فاطمة صادقة في كلامها وأنه أمرها بالإحلال.
م/ مَاذَا قُلْتَ حِينَ فَرَضْتَ اَلْحَجَّ? " قَالَ: قُلْتُ: اَللَّهُمَّ إِنِّي أُهِلُّ بِمَا أَهَلَّ بِهِ رَسُولُكَ. قَالَ: فَإِنَّ مَعِيَ اَلْهَدْيَ فَلَا تَحِلُّ). قَالَ: فَكَانَ جَمَاعَةُ اَلْهَدْيِ اَلَّذِي قَدِمَ بِهِ عَلِيٌّ مِنْ اَلْيَمَنِ، وَاَلَّذِي أَتَى بِهِ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِائَةً. قَالَ: فَحَلَّ اَلنَّاسُ كُلُّهُمْ، وَقَصَّرُوا، إِلَّا اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَمَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ.
قوله [فكان جَمَاعَة] أي مجموع.
• فيه جواز أن يهل الإنسان بما أهل به فلان، لكن لابد أن تعلم بماذا أحرم فلان قبل أن تطوف ليقع طوافه بعد تعيين النسك.
• قوله (فحل الناس كلهم وقصروا إلا النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان معه هدي) قال النووي: "قوله: وقصروا: فإنما قصروا ولم يحلقوا مع أن الحلق أفضل لأنهم أرادوا أن يبقى شعر يحلق في الحج، فلو حلقوا لم يبق شعر، فكان التقصير هنا أحسن ليحصل في النسكين إزالة شعر".
• وسيأتي إن شاء الله أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر (63) وأعطى علياً الباقي لينحرها.
• فيه كرم النبي صلى الله عليه وسلم حيث أهدى (100) بدنة عن (700) شاة وكثير من الناس يتهرب من هدي شاة واحدة، حتى إنه ليختار النسك المفضول على النسك الفاضل تفادياً للهدي. فيحرم بإفراد من أجل أنه لا هدي فيه على المتمتع.
م/ فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ اَلتَّرْوِيَةِ تَوَجَّهُوا إِلَى مِنًى فَأَهَلُّوا بِالْحَجِّ.
[يوم التروية] هو اليوم الثامن من ذي الحجة. قال النووي: "وسمي بذلك لأن الناس كانوا يتروون فيه من الماء، أي يحملونه معهم من مكة إلى عرفات ليستعملوه في الشرب وغيره"[توجهوا إلى منى] توجهوا من الأبطح، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نزل هناك.
في هذا اليوم يسن للمحلين الإحرام بالحج، عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه (أقيموا حلالاً حتى إذا كان يوم التروية فأهلوا بالحج) متفق عليه.
• أنه يسن للمحلين بمكة أن يدفعوا إلى منى في اليوم الثامن.
• أن أعمال الحج تبتدئ من اليوم الثامن.
• أن الإنسان يحرم يوم التروية من مكانه.
وقد قال بعض الفقهاء: أنه يحرم من الحرم تحت الميزاب، وهذا غلط وبدعة، فلم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عهد عن أحد من الصحابة أنه فعله.
• يسن أن يفعل الحاج عند إحرامه هذا ما يفعله عند الإحرام من الميقات من الغسل والتنظف والتجرد من المخيط ويهل بالحج بعدها قائلاً: لبيك حجاً.
عن جابر رضي الله عنه قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أحللنا أن نحرم إذا توجهنا إلى منى فأهللنا بالأبطح) رواه مسلم.
وإنما أهلوا من الأبطح لأنه مكان نزولهم. (والأبطح: هو مسيل فيه دقاق الحصى يقع شرقي مكة، فأحرم النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المكان ومعه أصحابه قبل الزوال، ثم توجهوا إلى منى وكان ذلك يوم الخميس.
م/ وَرَكِبَ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى بِهَا اَلظُّهْرَ وَالْعَصْرَ، وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالْفَجْرَ.
السنة أن يخرج الحاج إلى منى يوم الثامن فيصلي بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر قصراً من غير جمع، وهذا مستحب بإجماع العلماء.
• الأفضل أن تكون صلاة الظهر في اليوم الثامن في منى.
• أن الصلاة في منى تكون قصراً من غير جمع.
• أنه يسن المكث في منى حتى تطلع الشمس.
• أن الذين يذهبون إلى عرفات من ليلتها قد خالفوا السنة، وكذلك من لم يحرم اليوم الثامن، وهو وإن كان جائزاً لكنهم حرموا أنفسهم السنة.
• فإذا صادف يوم التروية يوم جمعة، فأيهما أفضل، أن يصلي الحاج في المسجد الحرام ثم يخرج إلى منى، أو أن يخرج إلى منى (ضحى) ويصلي الظهر في منى؟ الثاني أفضل، لأن بقاءك في منى عبادة، وأنت أيها الحاج لم تأت من بلادك إلا لأجل هذه العبادة.
م/ ثُمَّ مَكَثَ قَلِيلًا حَتَّى طَلَعَتْ اَلشَّمْسُ، وَأَمَرَ بِقُبَّةٍ مَنْ شَعَرٍ تُضْرَبُ لَهُ بِنَمِرَةَ فَسَارَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَا تَشُكَّ قُرَيْشٌ إِلَّا أَنَّهُ وَاقِفٌ عِنْدَ اَلْمَشْعَرِ اَلْحَرَامِ، كَمَا كَانَتْ قُرَيْشٌ تَصْنَعُ فِي اَلْجَاهِلِيَّةِ. فَأَجَازَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم، حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ، فَوَجَدَ اَلْقُبَّةَ قَدْ ضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ، فَنَزَلَ بِهَا.
(أجاز) تعدى (حتى أتى عرفة) قال النووي: "المراد قارب عرفات، فإن نمرة ليست من عرفات". [القبة] قال ابن الأثير: "القبة من الخيام بيت صغير مستدير".
يسن الخروج إلى عرفة من منى إذا طلعت الشمس من يوم عرفة وهو يلبي أو يكبر. [عرفة: مشعر خارج حدود الحرم، لأنها واقعة في الحل، وهي اسم لمكان الوقوف في الحج، سميت عرفة لارتفاعها على ما حولها].
• إن تيسر له النزول بنمرة نزل إلى زوال الشمس [ونمرة قرية قرب عرفة وليست من عرفة]، وهذا النزول نزول نسك، بناءً على أن الأصل التعبد في جميع أعمال الحج إلا ما قام الدليل على أنه ليس كذلك، وإلا ذهب إلى عرفات واستقر بها ولو قبل الزوال.
• قوله (ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر ..... فأجاز) أي جاوز المزدلفة ولم يقف بها، بل توجه إلى عرفات، وقريش لحميتها الجاهلية وتعصبها لا تقف يوم عرفة إلا في مزدلفة، تقول نحن أهل الحرم فلا نخرج إلى الحل، وبقية الناس يقفون في عرفة، لكن النبي صلى الله عليه وسلم جدد الحج على مشاعر إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
• قوله (حتى أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة) نمرة ليست من عرفة، فاختلف الشراح في معنى قوله (حتى أتى عرفة فوجد القبة .... بنمرة) لأنها توهم أن نمرة من عرفة، فقيل: المعنى أي قد قارب عرفة، وقيل: أن مراد جابر أن منتهى سيره عرفة، وأنه لم يفعل كما تفعل قريش في الجاهلية، فتنتهي بمزدلفة وتقف فيه يوم عرفة، وفيه طريقة إلى عرفة نزل بنمرة، وهذا أصح.
م/ حَتَّى إِذَا زَاغَتِ الشَّمْسُ أَمَرَ بِالْقَصْوَاءِ فَرُحِلَتْ لَهُ فَأَتَى بَطْنَ الْوَادِى فَخَطَبَ النَّاسَ وَقَالَ: إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِى شَهْرِكُمْ هَذَا فِى بَلَدِكُمْ هَذَا أَلَا كُلُّ شَىْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَىَّ مَوْضُوعٌ وَدِمَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ وَإِنَّ أَوَّلَ دَمٍ أَضَعُ مِنْ دِمَائِنَا دَمُ ابْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ كَانَ مُسْتَرْضِعاً فِى بَنِى سَعْدٍ فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ وَأَوَّلُ رِباً أَضَعُ رِبَانَا رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ فَاتَّقُوا اللَّهَ فِى النِّسَاءِ فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللَّهِ وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَداً تَكْرَهُونَهُ. فَإِنْ فَعَلْنَ ذَلِكَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْباً غَيْرَ مُبَرِّحٍ وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ كِتَابَ اللَّهِ. وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّى فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ». قَالُوا نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ. فَقَالَ بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا إِلَى النَّاسِ «اللَّهُمَّ اشْهَدْ اللَّهُمَّ اشْهَدْ» . ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.
[القصواء] لقب لناقته التي حج عليها، [فرحلتْ له] أي جعل عليها الرحل، [بطن بالوادي] وادي عرنة الذي فيه مقدمة المسجد، لأن المسجد بعضه في عرفة وبعضه خارج عرفة، وبطن الوادي موضع متسع، ولذا خصه النبي صلى الله عليه وسلم بخطبته.
فيه استحباب الخطبة للإمام ليعلم الناس صفة الوقوف ويذكرهم بعظم هذا اليوم.
• وقد خطب صلى الله عليه وسلم خطبة عظيمة بين فيها أحكام مهمة وعظيمة:
[إِنَّ دِمَاءَكُمْ] أي قتل المسلم بغير حق.
[وَأَمْوَالَكُمْ] أي أخذ مال المسلم بغير حق.
[حَرَامٌ عَلَيْكُمْ] حرام ولا يجوز، ثم أكد هذا التحريم بقوله:
[كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا] لأن هذا اليوم هو يوم عرفة فهو يوم حرام لأنه من أيام الحج.
[فِى شَهْرِكُمْ هَذَا] أي شهر ذي الحجة، لأنه من الأشهر الحرم، لا يجوز فيه سفكُ الدم، مُعَظَّم حتى عند العرب في الجاهلية.
[فِى بَلَدِكُمْ هَذَا] مكة، البلد الحرام، البلد الأمين.
إذاً: دم المسلم وماله حرام كحرمة هذا اليوم وكحرمة هذا الشهر وكحرمة هذا البلد الأمين.
أما دم المسلم: فقد جاءت النصوص الكثيرة في حرمته وأنه من أكبر الكبائر.
قال تعالى: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً).
وقال تعالى: (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً).
وقال تعالى: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً).
وعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أكبر الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، واليمين الغموس). رواه البخاري
وعن بريدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقتل مؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا). رواه النسائي
وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يزال المرء في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً). رواه البخاري
وأما ماله فقد جاءت النصوص أيضاً بتحريم أكل مال المسلم بغير حق.
قال تعالى (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ).
وقال صلى الله عليه وسلم (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه) رواه أحمد.
وجاء في رواية [وأعراضكم] وقد جاءت أيضاً النصوص الكثيرة بتحريم عرض المسلم.
كأحاديث تحريم الغيبة، وتحريم النميمة، وكذلك النصوص التي تنهى عن قذف المحصنات.
كما قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
[أَلَا كُلُّ شَىْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَىَّ مَوْضُوعٌ] وهذا فيه إبطال لجميع أمورِ الجاهلية، جميع الخرافات والعادات والتقاليد الجاهلية المخالِفة لِشرعِ الله موضوعة وباطلة. [لطم الخدود، شق الجيوب، الميسر، الخمر، التبرج وغيرها].
• وقد جرت العادة عند الناس أن الشيء المهان يقال: تحت القدم.
[وَدِمَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ] يعني ساقطة باطلة، أسقط صلى الله عليه وسلم أيضًا دماءَ الجاهلية، الدماء التي كانت في الجاهلية، موضوعة، ما يأتي شخصٌ الآن يُطالِب بدم، الدم موضوع، فدماء الجاهلية باطلة وساقطة، لا قيمة لها ولا أثرَ لها.
[وَإِنَّ أَوَّلَ دَمٍ أَضَعُ مِنْ دِمَائِنَا] أي: من دماء بني هاشم، من رهط النبي صلى الله عليه وسلم.
[دَمُ ابْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ] هذا مِن أبناء عمومةِ الرسول عليه الصلاة والسلام.
[كَانَ مُسْتَرْضِعاً فِى بَنِى سَعْدٍ فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ] هذا كان ولدًا صغيرًا رضيعًا في بني سعد - بنو سعد قبيلة جهة الطائف - كانت هناك مُقاتَلة بين بني سعد وهُذيل، فأصابَ هذا الولدَ القرشيَّ الهاشميَّ الصغيرَ أصابه حجرٌ فقُتِل، إذًا الآن قريش تطالِب بدمه مِن هذيل، النبيّ صلى الله عليه وسلم وَضَعَ دمَه، إذًا يا قريش يا بني هاشم! لا تطالِبوا بدم هذا الولد، وَضَعه النبيُّ عليه الصلاة والسلام.
[وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ] أي ساقط باطل، فأسقط النبي صلى الله عليه وسلم ربا الجاهلية، أي الزيادات بغير حق، لأن الإسلام لا ربا فيه، لكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسقط الديون لأنها حق لصاحبها، لا تسقط إلا بإسقاط صاحبها لها.
[وَأَوَّلُ رِباً أَضَعُ رِبَانَا رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ] العباس بن عبد المطلب هو عمُّ رسولِ الله، والعباس كان تاجرًا وثريًا وعنده أموال وكان يُدايِن الناس، يعطي قروضًا، ويأخذ على هذه القروض فوائد، فالنبي صلى الله عليه وسلم وَضَع تلك الفوائد، ربا العباس موضوع، ساقط.
• وفي فعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا فائدة ذكرها الإمام النووي، حيث قال رحمه الله:" وفيه أن الإمام وغيره مما يأمر بمعروف أو ينهى عن منكر ينبغي أن يبدأ بنفسه وأهله فهو أقرب إلى قبول قوله وإلى طيب نفس من قرب عهده بالإسلام، فالمراد بالوضع الإبطال ".
ولذلك يَذْكُرون عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان إذا أراد أن يأمُرَ بأمْر؛ يجمع أهلَ بيتِه مِن أبنائه وأحفاده وبناته، ويقول: إني عزمتُ أن آمُرَ الناسَ بأمْرٍ، وإن الناس ينظرون إليكم كما يَنظرُ الطيرُ إلى اللحم، فمَن بلغني عنه أنه خالَف أمري؛ فإني أُضاعف عليه العقوبة.
[فَاتَّقُوا اللَّهَ فِى النِّسَاءِ] بعدما عظَّم الدماء والأعراض والأموال ووَضَعَ أمورَ الجاهلية؛ أوصى بالنساء، هذه الخطبة هي خطبةُ العدْلِ والإنصاف، أوصى بالنساء لأن النساء يَقَع الظلمُ عليهن كثيرًا خاصة في الجاهلية، المرأة ضعيفة يقع الظلم عليها كثيرًا مِن الرجل، لذلك النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أوصى بها، أوصى بالنساء، أي لا تظلمونهن ولا تضيعوا حقوقهن.
قال تعالى (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وعن أبي هريرة. قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم (استوصوا بالنساء خيراً) متفق عليه.
وعنه قال: قال صلى الله عليه وسلم (خياركم خياركم لنسائهم) رواه الترمذي.
[فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللَّهِ] هذه أمانة عندك، أنت مؤتمَنٌ عليها، إياك أن تضيعها، أخذْتَها بأمانة الله، هي أمانة عندك، والواجبُ على الرجل أن يَحفظ الأمانة، كما قال صلى الله عليه وسلم (استوصوا بالنساء خيراً، فإنما هنّ عوانٍ عندكم) رواه الترمذي [عوان عندكم] أي أسيرات، قال النووي:"شبه رسول الله صلى الله عليه وسلم المرأة في دخولها تحت حكم الزوج بالأسير".
[وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ] أي بدينه وشرعه، ولم يكن ذلك حرامًا، ولم يكن ذلك زنا ولا سِفاحًا، وإنما هو نكاحٌ شرعي؛ بشريعة الله بكلمة الله، فأنتم اتقوا الله، طالما أن الله عز وجل جعل هذه المرأةَ أمانةً عندك، وأباحها لك بدِينِه وشرعه؛ إذًا يجب عليك أن تشكرَ هذه النعمة وأن تتقي الله فيها.
[وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ] أي: من حقوقكم عليهن.
[أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَداً تَكْرَهُونَهُ] المراد بالفراش ما هو أعم من فراش النوم، فيدخل في ذلك فراش البيت وإدخال أحد بيته وهو يكرهه، والمعنى: لا يحل للمرأة أن تأذن لأحد - رجلاً كان أو امرأة، من محارمها أو من غيرهم - في دخول بيت زوجها إلا بإذنه، لأن البيت لا يدخل إلا بإذن صاحبه.
[فَإِنْ فَعَلْنَ ذَلِكَ] أي: أدخلْنَ في بيوتكم من تكرهونه.
[فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْباً غَيْرَ مُبَرِّحٍ] أي لزوجها أن يضربها تأديباً على ما مضى، والضرب يكون غير مبرح: أي ليس بشديد ولا شاق ولا جارح لجسدها. بل هو ضرب خفيف يحصل به التأديب.
[وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ] هذا من حقوق الزوجة على زوجها.
[رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ] الرزق: يعني النفقة، الكسوة: ما يستر به ظاهر البدن بالمعروف يعني: المرجِع في ذلك إلى العُرف، بحسَب يُسْر الزوجِ وعُسْرِه لقوله تعالى (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ) وبحسب المعروفِ عند الناس، وهذا يختلف باختلاف الزمان واختلاف المكان،
هذا فيه دليل على وجوب نفقة الزوج على زوجته، وهذا بالإجماع.
• وأنه لا نفقة للزوج على زوجته، فلو كان الرجل فقيراً وزوجته غنية، فإنه لا يجب على الزوجة أن تنفق عليه.
[وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ كِتَابَ اللَّهِ] هذا فيه فضل الاعتصام بالقرآن الكريم، فهو عصمة لمن اعتصم به في الدنيا والآخرة كما قال تعالى (فمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ). وقال تعالى (إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى) أي: لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة.
بل جاء التهديد فيمن أعرض عن هذا القرآن فقال تعالى (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى).
[وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّى فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ قَالُوا نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ.] يسألون الناس يوم القيامة عن النبي صلى الله عليه وسلم إقامة للحجة عليهم، وإلا فالرب سبحانه وتعالى يعلم أنه رسوله صلى الله عليه وسلم بلغ البلاغ المبين.
ونحن نشهد أنه صلى الله عليه وسلم بلغ ونصح وأدى الأمانة.
[فَقَالَ بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا إِلَى النَّاسِ «اللَّهُمَّ اشْهَدْ اللَّهُمَّ اشْهَدْ] عليهم، أنّي قد بلَّغْتُ وأدَّيتُ ونصحتُ، وهم شهدوا بذلك.
• وفيه دليل لأهل السنة على صفة العلو لله سبحانه وتعالى.
م/ ثُمَّ أَذَّنَ بِلَالٌ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى اَلظُّهْرَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى اَلْعَصْرَ، وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا.
• استحباب جمع العصر مع الظهر في عرفات وهذا الجمع مجمع عليه، بأذان واحد وإقامتين.
• الحكمة من جمع التقديم هنا: ليتفرغ الناس للدعاء، وأيضاً لو تفرقوا لفاتت الجماعة، وصلى كل إنسان لوحده.
• أن الخطبة يوم عرفة قبل الأذان، لقوله:(ثم أذن ثم أقام).
• أنه لا تشرع للمسافر أن يصلي راتبة الظهر، لقوله:(ولم يصلّ بينهما).
• أنه لا تشرع الجمعة للمسافر.
م/ ثُمَّ رَكِبَ حَتَّى أَتَى اَلْمَوْقِفَ، فَجَعَلَ بَطْنَ نَاقَتِهِ اَلْقَصْوَاءِ إِلَى الصَّخَرَاتِ وَجَعَلَ حَبْلَ اَلْمُشَاةِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَاسْتَقْبَلَ اَلْقِبْلَةَ، فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفَاً حَتَّى غَرُبَتِ الشَّمْسُ وَذَهَبَتْ الصُّفْرَةُ قَلِيلاً حَتَّى غَابَ القُرْصُ.
[فلم يزل واقفاً] المراد بالوقوف هنا المكث، لا الوقوف على القدمين
أي: ثم ركب من مكان خطبته وصلاته حتى أتى الموقف، وهو عند الجبل المعروف في شمال عرفة، وتسميه العامة جبل الرحمة.
• وعرفة كلها موقف، [لقوله صلى الله عليه وسلم: وقفت ههنا وعرفة كلها موقف] لكن يجب على الواقف أن يتأكد من حدودها، وهي علامات يجدها من يطلبها، لأنها واضحة، ومن وقف خارجها لم يصح حجه لأن الحج عرفة.
• ووقت الوقوف: من زوال الشمس: لأن النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أصحابه لم يقفوا إلا بعد الزوال.
وذهب بعض العلماء إلى أن بداية الوقوف من طلوع الفجر يوم عرفة لحديث عروة بن المضرس قال (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالموقف - يعني بجمْع - قلت: جئت يا رسول الله من جبلي طيء، أكللت مطيتي، وأتعبت نفسي، والله ما تركت من جبل إلا وقفت عليه، فهل لي من حج؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَنْ شَهِدَ صَلَاتَنَا هَذِهِ -يَعْنِي: بِالْمُزْدَلِفَةِ- فَوَقَفَ مَعَنَا حَتَّى نَدْفَعَ، وَقَدْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلاً أَوْ نَهَارًا، فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ وَقَضَى تَفَثَهُ) رَوَاهُ اَلْخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ اَلتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، قالوا: فقوله (أو نهاراً) يشمل ما قبل الزوال وما بعده.
والراجح قول الجمهور، والجواب عن حديث عروة بن مضرس بأن المراد بـ (بالنهار) فيه خصوص ما بعد الزوال، بدليل فعل النبي صلى الله عليه وسلم وفعل خلفائه من بعده.
وأما نهايته: فطلوع الفجر يوم النحر، لقوله صلى الله عليه وسلم (الحج عرفات - ثلاثاً - فمن أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك) رواه أبو داود.
قال جابر: (لا يفوت الحج حتى يطلع الفجر من ليلة جمع). [قاله في المغني]
• ينبغي للحاج أن يتفرغ للدعاء في يوم عرفة، وينبغي أن يكون حال الدعاء مستقبل القبلة وإن كان الجبل خلفه أو يمينه أو شماله، لأن السنة استقبال القبلة، ويرفع اليدين، ولا يزال هكذا ذاكراً ملبياً داعياً راجياً من الله أن يجعله من عتقائه الذين يباهي بهم الملائكة كما في الحديث:(ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة، وأنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: (ماذا أرادوا هؤلاء).
• قال شيخ الإسلام: "لم يعين النبي صلى الله عليه وسلم لعرفة دعاء خاصاً ولا ذكراً خاصاً، بل يدعو بما شاء من الأدعية ".
• وجوب البقاء بعرفة إلى غروب الشمس، لأن هذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم ولأن الدفع قبل الغروب من أعمال الجاهلية التي جاء الإسلام بمخالفتها.
م/ حَتَّى غَابَ القُرْصُ وَأَرْدًفَ أُسَامَةُ وَدَفَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ شَنَقَ لِلْقَصْوَاءِ اَلزِّمَامَ حَتَّى إِنَّ رَأْسَهَا لَيُصِيبُ مَوْرِكَ رَحْلِهِ وَيَقُولُ بِيَدِهِ اَلْيُمْنَى: (أَيُّهَا اَلنَّاسُ، اَلسَّكِينَةَ، اَلسَّكِينَةَ) كُلَّمَا أَتَى حَبْلًا مِنْ اَلْحِبَالِ أَرْخَى لَهَا قَلِيلًا حَتَّى تَصْعَدَ، حَتَّى أَتَى اَلْمُزْدَلِفَةَ./ فَصَلَّى بِهَا اَلْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ، وَلَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا شَيْئًا.
[شنق للقصواء الزمام] هو الخيط الذي يشد إلى الحلقة التي في أنف البعير. [مَورِك رحله] هو الموضع الذي يجعل عليه الراكب رجله إذا مل من الركوب. [كلما أتى حبلاً] هو التل اللطيف من الرمل الضخم، والمعنى إذا أتى حبلاً من حبال الرمل أرخى لناقته قليلاً من أجل أن تصعد [المزدلفة] وتسمى جمعاً.
يستحب الدفع من عرفة إلى مزدلفة بعد غروب الشمس (وهذا من واجبات الحج).
• استحباب أن يكون بسكينة وهدوء.
• لا يلزم من إرداف أسامة أن يكون أفضل من غيره.
• يسن أن يجمع بين المغرب والعشاء إذا وصل إلى مزدلفة.
• أن يصليهما بأذان واحد وإقامتين، وأيضاً لفعل النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة.
• أنه لا يصلي بينهما نافلة.
• لو صلى في الطريق أجزأه ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم (جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً) وذهب ابن حزم إلى أنه لو صلى في الطريق لم يجزئه لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأسامة بن زيد (الصلاة أمامك)، لكن هذا قول ضعيف، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لأسامة (الصلاة أمامك) لأنه لو وقف ليصلي وقف الناس، ولو أوقفهم في هذا المكان لكان في ذلك مشقة عليهم.
• يجب أن يصلي في الطريق، وذلك إذا خشي خروج وقت العشاء بمنتصف الليل.
• ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بال وتوضأ وضوءاً خفيفاً، لحديث أسامة بن زيد قال (دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرفة حتى إذا كان بالشعب نزل فبال ثم توضأ، فقلت له الصلاة يا رسول الله؟ قال: الصلاة أمامك) متفق عليه.
فهل يسن للإنسان أن ينزل في أثناء الطريق وفي المكان الذي نزل فيه الرسول صلى الله عليه وسلم إن كان سار معه ويبول ويتوضأ وضوءاً خفيفاً؟ الجواب: لا يسن هذا، لأن هذا وقع اتفاقاً، بمقتضى الطبيعة حيث احتاج أن يبول فنزل فبال.
• إذا وصل مزدلفة في وقت المغرب فما المشروع في حقه؟ قيل: يؤخر الصلاة لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: يقدم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم من حين وصل إلى مزدلفة صلى.
قال الشيخ ابن عثيمين: " قد يقال: روى البخاري عن ابن مسعود أنه قدم مزدلفة العشاء أو قريباً من العشاء، فأذّن وصلى المغرب، ثم دعا بعشائه فتعشى، ثم أذن فصلى العشاء، وهذا يدل على أنه رضي الله عنه لما وصل في هذا الوقت رأى أن لا يجمع، وبناء على هذا نقول: من وصل مبكراً فليصل ثم لينتظر حتى يأتي العشاء فيؤذن ويصلي العشاء، فإن قال الحاج: الراحة لي والأسهل عليّ أن أصلي المغرب من حين أن أصِل وأصلي معها العشاء وأستريح، نقول: ذلك جائز ولا بأس به ".
م/ ثُمَّ اِضْطَجَعَ حَتَّى طَلَعَ اَلْفَجْرُ.
أي يسن أن ينام حتى يصبح.
• لكن يستثنى الوتر فإنه يصليه ولا يتركه لأسباب: أولاً: لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يدعه لا سفراً ولا حضراً، حتى كان صلى الله عليه وسلم يوتر على راحلته في السفر، ثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به أمراً عاماً بدون استثناء، ثالثاً: أن عدم النقل ليس نقلاً للعدم، فإما أن يكون جابر سكت عن ذكره لأنه لا يدري، ولهذا لم ينف الوتر كما نفى التنفل في قوله [ولم يسبح بينهما] رابعاً: أن يكون ترك ذكره للعلم به، ولأنه ليس من المناسك، والحديث في سياق المناسك.
• وكذلك يشرع قيام الليل، وقد ثبت عن أسماء، فقد ثبت عنها (أنها نزلت ليلة جمع بالمزدلفة، فقامت تصلي، فصلت ساعة، ثم قالت: يا بني هل غاب القمر؟ قلت: لا، فصلت ساعة، ثم قالت: هل غاب القمر؟ قلت: نعم، قالت: ارتحلوا، فارتحلنا ومضينا حتى رمت الجمرة
…
) متفق عليه.
• هل يجوز أن يدفع من مزدلفة قبل الفجر؟ قال بعض العلماء يجوز بعد منتصف الليل للضعفة من النساء والصبيان والكبار والعاجزين والمرضى، وقال بعض العلماء: إن المعتبر غروب القمر، ولذلك كان من فقه أسماء أنها تنتظر حتى إذا غاب القمر دفعت، وغروب القمر يكون بعد مضي ثلثي الليل تقريباً.
لحديث عائشة قالت (كانت سودة امرأة ضخمة ثبطة، فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تفيض من جمْع بليل فأذن لها) متفق عليه.
وعن ابن عباس قال (أنا ممن قدم النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المزدلفة في ضعفة أهله) متفق عليه.
• أما غير الضعفاء والعاجزين فالجمهور على أنه يجوز أن يدفع آخر الليل، وقال بعض العلماء لا يجوز ورجحه بعض المحققين، لكن الصحيح الجواز، والأحوط البقاء حتى صلاة الصبح.
• والمبيت بمزدلفة واجب من واجبات الحج، إذا تركه عمداً فحجه صحيح مع الإثم وعليه دم.
م/ وَصَلَّى الفَجْرَ حِينَ تَبَيَّنَ لَهُ الصُّبْحَ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ.
يسن في صلاة الفجر في مزدلفة المبادرة بها في أول وقتها، مبادرة تكون غير معتادة، ولعل هذه المبادرة ليتسع وقت الذكر والدعاء بعد الصلاة.
م/ ثُمَّ رَكِبَ القَصُّوَاءَ حَتَّى أَتَى المَشْعِرَ الحَرَامَ.
[المشعر الحرام] هو جبل صغير بمزدلفة والآن المسجد المبني في مزدلفة على المشعر الحرام.
• فيه أنه يسن للحاج في مزدلفة بعد صلاة الصبح أن يأتي المشعر الحرام فيرقي عليه ويستقبل القبلة ويذكر الله ويهلله ويدعو كما قال تعالى (فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ)، وإن لم يتيسر له الذهاب إلى المشعر الحرام دعا في مكانه لقوله صلى الله عليه وسلم (وقفت ههنا وجمع كل موقف) رواه مسلم.
• على الحاج أن يحذر من تضييع هذه الدقائق الغالية.
• يبقى للدعاء والذكر حتى يسفر جداً.
م/ فَدَفَعَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ.
يسن للحاج أن يدفع من مزدلفة إلى منى قبل طلوع الشمس من يوم العيد.
قال ابن قدامة: " لا نعلم خلافاً في أن السنة الدفع قبل طلوع الشمس ".
قال ابن القيم: " أجمع المسلمون على أن الإفاضة من مزدلفة قبل طلوع الشمس سنة ".
لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، ومخالفة لأهل الجاهلية.
وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ (إِنَّ اَلْمُشْرِكِينَ كَانُوا لَا يُفِيضُونَ حَتَّى تَطْلُعَ اَلشَّمْسُ، وَيَقُولُونَ: أَشْرِقْ ثَبِيرُ وَأَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَالَفَهُمْ، ثُمَّ أَفَاضَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ اَلشَّمْسُ) رَوَاهُ اَلْبُخَارِيُّ.
[لا يفيضون] أي من جمع كما جاء في رواية [أشرق] أي من الإشراق، أي أدخل في الشروق، والمعنى: لتطلع عليه الشمس، [ثبير] جبل معروف هناك، وهو على يسار الذاهب إلى منى، وهو أعظم جبال مكة، [ثم أفاض] أي النبي صلى الله عليه وسلم، والدليل على أن المراد هو النبي صلى الله عليه وسلم: ما جاء في رواية أبي داود الطيالسي: (فخالفهم النبي صلى الله عليه وسلم فأفاض) وفي حديث جابر عند مسلم: (
…
فدفع قبل أن تطلع الشمس).
• ففي هذا الحديث أن السنة في الإفاضة من مزدلفة قبل طلوع الشمس.
لفعل النبي صلى الله عليه وسلم ومخالفة المشركين، فإنهم كانوا يبقون في مزدلفة صبح يوم النحر حتى تشرق الشمس، ثم يفيضون إلى منى، ففي هذا الحديث تأكد الإفاضة من مزدلفة وقت الإسفار قبل طلوع الشمس.
• أن من تأخر عامداً فقد أساء وخالف هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وأما من تعذر عليه ذلك بعد أن أخذ في الإفاضة ولكن عاقه المسير لشدة زحام، أو خلل في مركوبه، أو نحو ذلك فهو معذور.
م/ وَأَرْدَفَ اَلْفَضْلَ بْنَ اَلْعَبَّاسِ .... حَتَّى أَتَى بَطْنَ مُحَسِّرٍ فَحَرَّكَ قَلِيلًا.
في هذا كيفية الدفع من مزدلفة، وأنه إذا مر بوادي محسر حرك دابته قليلاً، وهذه هي السنة فيمن أتى بطن محسر، وكذا سيارته إن أمكن، وإن كان ماشياً أسرع (وادي محسر هو وادٍ بين مزدلفة ومنى لا من هذه ولا من هذه).
واختلف العلماء لماذا أسرع في وادي محسر:
قيل: هذا أمر تعبدي. وقيل: لأن الله أهلك فيه أصحاب الفيل فينبغي للإنسان أن يسرع إذا مرّ بأراضي العذاب.
وهذا تعليل عليل لأمرين:
أ- لأن أصحاب الفيل لم يهلكوا هنا، بل في مكان يقال له [المُغَمّس] حول الأبطح.
ب- أنه لا يشرع الإسراع للذاهب، ولا يشرع الإسراع لغير القادم من مزدلفة، فلو كان على ما ذكروا لشرع الإسراع لكل من مرّ به، وهم لا يقولون بهذا.
وقيل: لأنهم كانوا في الجاهلية يقفون في هذا الوادي ويذكرون أمجاد آبائهم، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يخالفهم، كما خالفهم في الخروج من عرفة، وفي الإفاضة من مزدلفة. والله أعلم.
م/ ثُمَّ سَلَكَ اَلطَّرِيقَ اَلْوُسْطَى اَلَّتِي تَخْرُجُ عَلَى اَلْجَمْرَةِ اَلْكُبْرَى، حَتَّى أَتَى اَلْجَمْرَةَ اَلَّتِي عِنْدَ اَلشَّجَرَةِ فَرَمَاهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ مِنْهَا مِثْلُ الخَذْف.
فيه أن السنة للحاج إذا وصل إلى منى أن يبدأ برمي جمرة العقبة، وقد سماها جابر الكبرى، وسماها بذلك باعتبار ما قبلها من الجمرتين الصغرى والوسطى، ولأنها تنفرد بالرمي يوم العيد.
• فيرمي جمرة العقبة بسبع حصيات.
• المقصود من الرمي إقامة ذكر الله، والاقتداء برسول الله، وتحقيق التذلل.
• أن وقت رمي جمرة العقبة يوم النحر بعد طلوع الشمس، وهذا هو الأفضل، ففي حديث جابر قال
(رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر ضحى، وأما بعد ذلك فإذا زالت الشمس) رواه مسلم، وأما أهل الأعذار إذا وصلوا في آخر الليل ووصلوا إلى منى فإنهم يرمون، وهذا هو الصحيح من أقوال أهل العلم، فكل من جاز له الدفع من مزدلفة جاز له الرمي وإلا لما استفاد شيئاً.
• في حديث ابن مسعود كيفية رمي جمرة العقبة فعَنْه رضي الله عنه (أَنَّهُ جَعَلَ اَلْبَيْتَ عَنْ يَسَارِهِ، وَمِنًى عَنْ يَمِينِهِ، وَرَمَى اَلْجَمْرَةَ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ وَقَالَ: هَذَا مَقَامُ اَلَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ اَلْبَقَرَةِ) متفق عليه.
واتفقوا على أنه من حيث رماها جاز، قال النووي:" وأجمعوا على أنه من حيث رمى جمرة العقبة جاز، سواء استقبلها، أو جعلها عن يمينه، أو عن يساره، أو رماها من فوقها، أو أسفلها".
• وتكون الحصى بمثل حصى الخذف - وهي بالخاء المعجمة - وقدر حصى الخذف أكبر من حبة الحمص قليلاً، فلا يجوز أن يرمي بالحجر الكبير فيؤذي المسلمين، ولا بالصغير الذي لا يمكن رميه.
• السنة أن يكبر مع كل حصاة، لحديث جابر هذا، وَلحديث اِبْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما (أَنَّهُ كَانَ يَرْمِي اَلْجَمْرَةَ اَلدُّنْيَا، بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ عَلَى أَثَرِ كُلِّ حَصَاةٍ .... هكذا رأيت رسول الله يفعله) متفق عليه.
• ويكون الرمي بحصى متعاقبات، فلو رمى السبع جميعاً مرة واحدة لم يجزئه إلا عن واحدة.
• قوله (رمى) نستفيد أنه لابد من الرمي، فلو وضع الحصى وضعاً لم يجزئه.
• لم يذكر جابر من أين أخذ النبي صلى الله عليه وسلم حصى جمرة العقبة، وهذا يدل على أنه ليس لذلك مكان معين،
بعضهم قال أن النبي صلى الله عليه وسلم التقطها من منى، وبعضهم قال إنه التقطها من موقفه الذي رمى فيه، وبعضهم قال إنه التقطها من طريقه لحديث الفضل وفيه (حتى إذا دخل محسراً وهو من منى، قال: عليكم بحصى
الخذف
…
) وبهذا جزم ابن القيم، والمقصود أنه ليس للحصى مكان معين، وأما ما يعتقده بعض العوام أن المستحب أن يُلتقط الحصى من مزدلفة فهذا لا أصل له فضلاً على أن يكون واجباً.
• أنه لا يغسل الحصى، فإن غسْله - كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - بدعة.
• ما يذكر أن الرمي إغاظة للشيطان فهذا لا أصل له.
• يقطع الحاج التلبية عند رمي جمرة العقبة - وهذا مذهب جمهور العلماء - لحديث ابن عباس وأسامة قالا (لم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يلبي حتى رمى جمرة العقبة) رواه البخاري.
• لا يقف بعد جمرة العقبة للدعاء، وقد علل بعض العلماء السبب بعدة علل، قيل: لضيق المكان، وقيل: لأنها انتهت العبادة، وقيل: لأنها ليست من منى.
م/ ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى المَنْحَرِ فَنَحَرَ ثَلَاثاً وَسِتِينَ بِيَدِهِ، ثُمَّ أَعْطَى عَلِيَّاً فَنَحَرَ مَا غَبَرَ، وَأَشْرَكَهُ فِي هَدِيِهِ، ثُمَّ أَمَرَ مِنْ كُلِّ بَدَنَةٍ بِبِضْعَةٍ فَجُعِلَت فِي قِدْرٍ، وَطُبِخَت، فَأَكَلَا مِنْ لَحْمِهَا وَشَرِبَا مِنْ مَرَقِهَا.
فيه دليل على أنه يسن للحاج بعد الرمي أن ينحر هديه.
• الهدي على المتمتع والقارن، أما المتمتع بنص القرآن قال تعالى (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي)، وأما القارن فوجوب الهدي عليه هو مذهب جمهور العلماء، قياساً على المتمتع.
• ودم التمتع والقران دم نسك وعبادة، فهو دم شكر حيث حصل للعبد نُسُكان في سفر واحد ودم واحد. ولهذا كان دم المتعة والقران مما يؤكل منه ويهدى ويتصدق - فليس هو دم جبران -، وأما دم المحظور لا يؤكل منه ولا يهدى، فهو يصرف على الفقراء.
• فإن عدم الهدي فقد قال تعالى (فإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ). فعليه - كما أخبر الله - صيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم.
• ومعنى لا يجد الهدي: أن لا يوجد هدي في الأسواق، أو أن يوجد بهيمة أنعام لكنه لا يملك الثمن.
• بالنسبة لصيام الثلاثة أيام في الحج، متى يصومها؟ الصحيح أن يبدأ من حين إحرامه بالعمرة، ويكون آخرها آخر أيام التشريق، والأفضل أن تصام أيام التشريق [11، 12، 13] لقول عائشة وابن عمر قالا (لم يرخص في أيام التشريق أن يُصمن إلا لمن لم يجد الهدي) رواه البخاري، فظاهر هذا النص أن الصحابة كانوا يصومونها في أيام التشريق، وصومها في أيام التشريق صوم لها في أيام الحج، لأن أيام التشريق أيام حج.
• لكن هل يلزم التتابع؟ إن ابتدأها في أول يوم من أيام التشريق لزم التتابع، لأنه لا يجوز أن تؤخر عن أيام التشريق، وأما إذا صامها قبل أيام التشريق فيجوز أن يصومها متفرقة.
فائدة:
لم يذكر جابر الحلق في هذه الرواية، لكن جاء عند أحمد من حديث جابر (
…
نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلق) وفي حديث أنس (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى منى، فأتى الجمرة فرماها، ثم أتى منزله بمنى ونحر، ثم قال للحلاق: خذ، وأشار إلى جانبه الأيمن ثم الأيسر، ثم جعل يعطيه الناس).
وهذا يدل على أن السنة أن يكون الحلق بعد النحر (رمي، نحر، حلق).
وقد سبق مباحث الحلق وأنه لابد من تعميم الرأس، وأن الحلق أفضل من التقصير.
• النبي نحر (63) بيده وهذه حكمة فإنه على قدر عمره.
• جواز التوكيل في ذبح الهدي.
• تأكد الأكل من الهدي، لأنه صلى الله عليه وسلم أمر من كل بدنة بقطعة.
م/ ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَفَاضَ إِلَى البَيْت.
[فأفاض] أي: طاف طواف الإفاضة.
فيه دليل على استحباب طواف الإفاضة بعد الرمي والنحر والحلق إن تيسر، وإلا فالأمر فيه سعة.
• وهذا الطواف ركن من أركان الحج بالإجماع قال تعالى (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ).
• السنة أن يكون هذا الطواف يوم العيد اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم.
• للحاج تأخيره، لكن لا يجوز عن ذي الحجة.
فإن كان متمتعاً أتى بالسعي بعد الطواف، لأن سعيه الأول كان للعمرة، فالمتمتع عليه طوافين وسعيين، فيطوف طواف العمرة ويسعى، ويطوف طواف الحج ويسعى.
وأما القارن والمفرد: فإن كانا قد سعيا بعد طواف القدوم (وهو أفضل لفعل النبي صلى الله عليه وسلم لم يعيدا السعي مرة أخرى، لحديث جابر قال (لم يطف النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه الذين بقوا على إحرامهم
…
)
• أعمال يوم العيد الأفضل ترتيبها كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم:
رمي، ثم نحر، ثم حلق، ثم طواف، ثم سعي، فإن أخل بترتيبها ولو متعمداً فلا شيء عليه، وهذا قول جمهور العلماء.
لحديث عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ عَمْرِوِ بْنِ اَلْعَاصِ رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَفَ فِي حَجَّةِ اَلْوَدَاعِ، فَجَعَلُوا يَسْأَلُونَهُ، فَقَالَ رَجُلٌ: لَمْ أَشْعُرْ، فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ. قَالَ: " اِذْبَحْ وَلَا حَرَجَ " فَجَاءَ آخَرُ، فَقَالَ: لَمْ أَشْعُرْ، فَنَحَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ، قَالَ: " اِرْمِ وَلَا حَرَجَ " فَمَا سُئِلَ يَوْمَئِذٍ عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ وَلَا أُخِّرَ إِلَّا قَالَ: " اِفْعَلْ وَلَا حَرَجَ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله: " لو قدم السعي على الطواف في يوم النحر جاز، خلافاً لأكثر أهل العلم ".
م/ فَصَلَّى بِمَكَّةَ الظُّهْرَ.
في حديث جابر هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر يوم النحر بمكة، وجاء في الصحيحين عن ابن عمر (أنه صلاها بمنى) والجمع: أن يقال أن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بمكة، ثم خرج إلى منى فوجد بعض أصحابه لم يصلّ، فصلى بهم إماماً، فتكون صلاته في منى معادة، كما وقع له في بعض حروبه.
م/ فَأَتَى بَنِي عَبْدِ اَلْمُطَّلِبِ، يَسْقُونَ عَلَى زَمْزَمَ، فَقَالَ:(اِنْزِعُوا بَنِي عَبْدِ اَلْمُطَّلِبِ، فَلَوْلَا أَنْ يَغْلِبَكُمْ اَلنَّاسُ عَلَى سِقَايَتِكُمْ لَنَزَعْتُ مَعَكُمْ، فَنَاوَلُوهُ دَلْوًا فَشَرِبَ مِنْهُ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
[فأتى عبد المطلب يسقون على زمزم] قال النووي: " معناه أتاهم بعد فراغه من طواف الإفاضة ".
• لأنهم كانوا مسؤولين عن السقاية، السقاية هذه مِن الأعمال التي كانت تقوم بها قريش في الجاهلية، وفي تلك السَّنة التي حج فيها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان المسؤولُ عن السقاية العباس بن عبد المطلب، هو المسؤول، ولذلك استأذن النبيَّ عليه الصلاة والسلام أن يبيتَ في مكة، وأن يترك المبيت في (مِنى) لياليَ التشريق مِن أجل سقاية الحجيج في مكة، فالنبي عليه الصلاة والسلام بعدما طاف طوافَ الإفاضة وصلى بمكة:
[أَتَى بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يَسْقُونَ عَلَى زَمْزَمَ،] قال النووي: "معناه يغرفون بالدلاء ويصبونه في الحياض ونحوها ويسبلونه للناس".
[فَقَالَ: انْزِعُوا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ] النَّزْع هنا معناه: اسْتَقُوا بالدِّلاء وانْزِعُوها بالرِّشاء، هكذا قال النووي، يعني: اجتهدوا في سقاية الناس، وانزِعوا الماءَ مِن البئر.
[فَلَوْلَا أَنْ يَغْلِبَكُمْ النَّاسُ عَلَى سِقَايَتِكُمْ؛ لَنَزَعْتُ مَعَكُمْ] قال النووي: "معناه لولا خوفي أن يعتقد الناس ذلك من مناسك الحج ويزدحمون عليه بحيث يغلبونكم ويدفعونكم عن الاستقاء لاستقيت معكم لكثرة فضيلة هذا الاستقاء ".
وفي قوله [لَنَزَعْتُ مَعَكم] وهذا يَدُلُّك على تواضع النبي عليه الصلاة والسلام لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مَنَعَهُ مِن المشاركة معهم في هذا العمل العظيم وهذا الشرف، خدمة الحجيج شرف، كانت الناس تَظن أنه شرف مِن قديم، مِن الجاهلية، فهذا شرف عظيم أن تخدم ضيوفَ الرحمن وحُجاجَ البيت الحرام، والنبي عليه الصلاة والسلام أراد أن يشارك في هذا العمل الجليل، ولكن خشي أن يَغلب الناسُ بني عبد المطلب على هذا الشرف، على سقايتهم.
[فَنَاوَلُوهُ دَلْوًا فَشَرِبَ مِنْهُ] ناولوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم دلوًا فشرب منه. انتهى الحديث.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
مسألة:
متى يحصل التحلل الأول؟
يحصل التحللُ الأول باثنين مِن حلقٍ ورميٍ وطواف.
هذا الذي عليه جمهور الفقهاء: أن التحلل الأول يحصل باثنين مِن ثلاثة: الرمي، الحلق، الطواف.
إذا فعلتَ اثنين من هذه؛ تحلَّلتَ التحللَ الأول يعني: إذا رميتَ وحلقتَ؛ تحللتَ التحللَ الأول.
ومعنى التحلل الأول: يَحِلُّ لك كلُّ شيءٍ مِن محظورات الإحرام إلا النساء.
يعني: تحلق شَعرَك، تُقلِّم أظافرك، تُغَطّي رأسك، تلبس الثياب، وتضع الطيب، كل شيء مِن محظورات الإحرام يحل لك إلا النساء.
وذهب بعضُ المحققين مِن أهل العلم إلى أن التحللَ الأول يحصل برمي جمرة العقبة فقط، ذهب إلى هذا بعضُ المحققين، وصححه الإمامُ الفقيه الحنبلي شيخُ المذهب ابنُ قدامة رحمه الله في كتابه "المغني"، أنه يحصل برمي جمرة العقبة فقط.
والأحوط الأول.
أما التحلل الثاني:
فمعناه: أنه يَحِلُّ لك كلُّ شيء حتى النساء، حتى الوطء يحلّ، هذا الفرق بين التحلل الأول والتحلل الثاني: يحصل بالثلاثة، مع السعي إذا كان الإنسان عليه سعي.
يعني الإنسان إذا رمى وحلق وطاف؛ تحلل التحلل الأكبر، حَلَّ له كلُّ شيء.
البيات في منى {أيام التشريق} :
يرجع الحاج بعد الطواف والسعي إلى منى فيمكث فيها بقية يوم العيد وأيام التشريق ولياليها.
يلزمه المبيت ليلة الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر إن تأخر.
قال النووي: "سميت بذلك - أي أيام التشريق - لتشريق الناس لحوم الأضاحي فيها، وهي تقديمها ونشرها في الشمس ".
الرمي أيام التشريق:
يرمي الجمرات الثلاث في كل يوم من أيام التشريق كل واحدة بسبع حصيات.
(يرمي الجمرة الأولى ثم يتقدم فيقوم مستقبل القبلة قياماً طويلاً فيدعو رافعاً يديه، ثم يرمي الجمرة الوسطى ثم يأخذ ذات الشمال فيقوم مستقبل القبلة قياماً طويلاً فيدعو وهو رافع يديه، ثم يرمي جمرة العقبة فينصرف ولا يقف للدعاء).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
يكون الرمي أيام التشريق بعد الزوال:
عن جابر قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي يوم النحر ضحى، وأما بعد ذلك فبعد الزوال). رواه مسلم
وعن ابن عمر قال: (كنا نتحين زوال الشمس فإذا زالت الشمس رمينا). رواه البخاري
قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله: "ومما يدل على أنه لا يجزئ الرمي قبل الزوال: أنه لو كان الرمي قبل الزوال جائزاً لفعله النبي صلى الله عليه وسلم لما فيه من فعل العبادة في أول وقتها من وجه؛ ولما فيه من التيسير على العباد من وجه آخر؛ ولما فيه من تطويل الوقت من وجه ثالث، فلما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعتمد أن يؤخر حتى تزول الشمس مع أنه أشق على الناس؛ دلّ هذا على أنه قبل الزوال لا يجزئ، ويدل لذلك أيضاً أن الرسول صلى الله عليه وسلم من حين أن تزول الشمس يبادر بالرمي قبل أن يصلي الظهر، وكأنه يترقب بفارغ الصبر زوال الشمس ليرمي ثم يصلي الظهر ".
وقال بعض العلماء: يجوز مطلقاً وهو قول عطاء، وقال بعضهم: يجوز يوم النفر الأول وهو قول أبي حنيفة.
يجوز الرمي بالليل:
وقد قال بعض السلف (كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمون ليلاً) رواه ابن أبي شيبة.
• المذهب أن الترتيب في رمي الجمرات - بأن يرمي الأولى ثم الوسطى ثم العقبة - شرط، وقال بعض العلماء: الترتيب واجب ليس بشرط، بمعنى أن الإنسان يأثم بتركه، ولكن إن نسي أو جهل يصح، وهذا القول أرجح والأول أحوط.
• المبيت بمنى ليالي التشريق واجب من واجبات الحج. وسيأتي دليله.
• إذا رمى الجمار في اليوم الثاني عشر فقد انتهى من واجب الحج، فهو بالخيار إن شاء بقي في منى لليوم الثالث عشر ورمى الجمار بعد الزوال، وإن شاء نفر منها.
قال تعالى: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى
…
).
والتأخر أفضل:
لأنه فعل النبي صلى الله عليه وسلم، ولأنه أكثر عملاً.
• لكن إذا غربت الشمس في اليوم الثاني عشر قبل نفره من منى فلا يتعجل حينئذ، لأن الله قال: (فمن تعجل في يومين
…
) فقيد التعجيل في اليومين ولم يطلقه، فإذا انتهت اليومان فقد انتهى وقت التعجيل، واليوم ينتهي بغروب شمسه).
• إذا تأخر الحاج إلى الغروب يوم الثاني عشر بغير اختياره، مثل: أن يتأهب للسفر ويشد رحله فيتأخر خروجه من منى بسبب زحام السيارات أو نحو ذلك فإنه ينفر ولا شيء عليه لو غربت عليه الشمس قبل أن يخرج من منى).
• يخطئ بعض الناس في قوله تعالى: (فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه
…
) حيث ظنوا أن يوم الثاني عشر هو اليوم الحادي عشر وظنوا أن اليوم الأول هو يوم العيد، وليس الأمر كذلك، إنما اليومان هما: الحادي عشر والثاني عشر).
• إذا نفر الحاج من منى وانتهت أعمال الحج، وأراد السفر إلى بلده، فإنه لا يخرج حتى يطوف طواف الوداع).
م/ وَكَانَ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُ اَلْمَنَاسِكَ، وَيَقُولُ لِلنَّاسِ:(خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ)، فَأَكْمَلُ مَا يَكُونُ مِنْ اَلْحَجِّ: اَلِاقْتِدَاءُ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيهِ وَأَصْحَابِهِ رضي الله عنهم.
هذا الحديث رواه مسلم عن جابر قال (رَأَيْتُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم يَرْمِى عَلَى رَاحِلَتِهِ يَوْمَ النَّحْرِ وَيَقُولُ (لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ فَإِنِّى لَا أَدْرِى لَعَلِّى لَا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِى هَذِهِ).
قال النووي: " فيه إشارة إلى توديعهم وإعلامهم بقرب وفاته صلى الله عليه وسلم، وحثهم على الاعتناء بالأخذ عنه وانتهاز الفرصة من ملازمته، وتعلم أمور الدين، وبهذا سميت حجة الوداع ".
• يستحب للحاج أن يقتدي بالرسول صلى الله عليه وسلم في جميع أفعال الحج حتى المسنونة، لأنه هو الأسوة والقدوة، كما قال تعالى (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ).
وهذا أيضاً من علامة محبته صلى الله عليه وسلم واتباعه (وإن تطيعوه تهتدوا).
م/ وَلَوْ اِقْتَصَرَ اَلْحَاجُّ عَلَى: اَلْأَرْكَانِ اَلْأَرْبَعَةِ اَلَّتِي هِيَ: اَلْإِحْرَامُ.
ذكر المصنف أركان الحج:
الأركان: جمع ركن، والركن جانب البيت الأقوى.
قال شيخ الإسلام: " أركان الحج هي أبعاضه وأجزاؤه التي لا يتم إلا بها ".
الأول: الإحرام: (وهو نية الدخول في النسك).
وهو ركن بالإجماع، لحديث عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات).
م/ وَالْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ.
وقد أجمع العلماء على أنه ركن من أركان الحج، وأنه لا يصح الحج بدونه.
لقوله صلى الله عليه وسلم: (الحج عرفة).
• أنه يجزئ الوقوف بعرفة ولو جزءاً يسيراً.
• أن من وقف ولو لحظة في عرفة فقد تم حجه، لكن لا بد أن يكون أهلاً للوقوف:
مسلم: وعلى هذا فلو كان لا يصلي، ووقف بعرفة، وبعد الدفع منها صلى، فلا يصح حجه، لأنه حين الوقوف ليس أهلاً للحج.
عاقلاً: فإن كان مجنوناً لم يصح وقوفه، وغير سكران، وغير مغمي عليه.
• لا خلاف في أن آخر الوقوف طلوع فجر يوم النحر.
قال جابر: (لا يفوت الحج حتى يطلع الفجر من ليلة جمع). [قاله في المغني]
م/ وَالطَّوَافُ.
أي طواف الإفاضة.
قال في المغني: " وهو ركن لا يتم الحج إلا به لا نعلم فيه خلافاً ".
قال تعالى (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ).
• هذا الطواف الأفضل أن يكون يوم العيد بعد الرمي والنحر والحلق، ويجوز فعله في أيام التشريق.
م/ وَالسَّعْيُ.
وهو ركن عند جمهور العلماء.
لقوله تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ).
وقال صلى الله عليه وسلم: (اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي). رواه أحمد
م/ وَالْوَاجِبَاتِ اَلَّتِي هِيَ: اَلْإِحْرَامُ مِنْ اَلْمِيقَاتِ.
ذكر المصنف واجبات الحج وذكر الأول: وهو الإحرام من الميقات، فيجب على الحاج أو المعتمر أن يحرم من الميقات، ولا يجوز أن يتجاوزه بغير إحرام إذا أراد الحج أو العمرة.
لقوله صلى الله عليه وسلم: (يهل أهل المدينة
…
) وهذا خبر بمعنى الأمر.
وقال ابن عمر: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة
…
). رواه البخاري.
م/ وَالْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ إِلَى اَلْغُرُوبِ.
لفعل النبي صلى الله عليه وسلم مع أنه لو دفع بالناس قبل الغروب لكان أرفق ومع ذلك وقف إلى الغروب.
ولأن الدفع قبل الغروب فيه مشابهة لأهل الجاهلية لأنهم يدفعون قبل الغروب. [الممتع: 7].
فتأخير النبي صلى الله عليه وسلم الدفع إلى ما بعد غروب الشمس ثم مبادرته به قبل أن يصلي المغرب مع أن وقت المغرب قد دخل، يدل على أنه لا بد من البقاء إلى هذا الوقت، وكأنه عليه الصلاة والسلام ممنوع حتى تغرب الشمس.
م/ وَالْمَبِيتُ لَيْلَةَ اَلنَّحْرِ بِمُزْدَلِفَةَ.
فالمبيت بمزدلفة من واجبات الحج، وهذا قول الأكثر.
لقوله تعالى (فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ).
وقال صلى الله عليه وسلم (وقفت ههنا وجمْع كلها موقف) رواه مسلم.
وذهب بعض العلماء إلى أن ذلك سنة، وذهب بعضهم إلى أنه ركن.
م/ وَلَيَالِي أَيَّامِ اَلتَّشْرِيقِ بِمِنًى.
أي: ومن واجبات الحج المبيت بمنى ليالي التشريق.
لحديث اِبْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما (أَنَّ اَلْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ اَلْمُطَّلِبِ رضي الله عنه اِسْتَأْذَنَ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَبِيتَ بِمَكَّةَ لَيَالِيَ مِنًى، مِنْ أَجْلِ سِقَايَتِهِ، فَأَذِنَ لَهُ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
فالعباس استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذن له، ولو لم يكن واجباً ما احتاج إلى الاستئذان.
• المراد بالمبيت: الإقامة بمنى أكثر الليل.
• رخص النبي صلى الله عليه وسلم في عدم المبيت في منى لصاحب سقاية الحاج ولرعاة الإبل، كما في حديث عَاصِمِ بْنِ عَدِيٍّ رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرْخَصَ لِرُعَاة اَلْإِبِلِ فِي اَلْبَيْتُوتَةِ عَنْ مِنًى، يَرْمُونَ يَوْمَ اَلنَّحْرِ، ثُمَّ يَرْمُونَ اَلْغَدِ لِيَوْمَيْنِ، ثُمَّ يَرْمُونَ يَوْمَ اَلنَّفْرِ) رَوَاهُ اَلْخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ اَلتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ.
• هل يعذر لغير هؤلاء؟
قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله: " ومثل ذلك في وقتنا الحاضر رجال المرور، والأمن، ومن ذلك الأطباء، فإنه يسمح لهم في ترك المبيت، فكل من يشتغل بمصلحة عامة يعذر في ترك المبيت قياساً على السقاية والرعاية ".
م/ وَرَمْيُ اَلْجِمَارِ.
لقوله صلى الله عليه وسلم (إنما جعل الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله) رواه الترمذي.
لأنه عمل يترتب عليه الحل فكان واجباً ليكون فاصلاً بين الحل والإحرام.
م/ وَالْحَلْقُ أَوْ اَلتَّقْصِيرُ.
لأن الله جعله وصفاً في الحج والعمرة فقال: (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ)
لم يذكر المؤلف السابع: وهو طواف الوداع، وهو من واجبات الحج.
عَنْ اِبْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ (أُمِرَ اَلنَّاسُ أَنْ يَكُونَ آخِرَ عَهْدِهِمْ بِالْبَيْتِ، إِلَّا أَنَّهُ خَفَّفَ عَنِ الْحَائِضِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وفي رواية (لا ينصرفنّ أحدكم حتى يكون آخر عهده بالبيت).
فإن قيل: قد يكون الأمر للاستحباب:
يقال: هذا لا يصح لوجهين:
الأول: أن الأصل في الأمر الوجوب، إلا بدليل.
الثاني: أنه قال: خفف عن الحائض، والتخفيف لا يقال إلا في مقابل الإلزام.
• سقوط طواف الوداع عن الحائض، ومثل الحائض النفساء.
• قوله (لا ينصرفن
…
) دليل على أن من كان من أهل مكة فإنه لا يجب عليه طواف وداع، لأنه لن ينفر من مكة.
• قوله (لا ينصرفن
…
) دليل على أنه يجب أن يكون طواف الوداع هو آخر شيء يفعله في مكة، فإن طاف واشتغل بتجارة أو إقامة فإنه يعيد الطواف.
• في المغني: إذا طاف للوداع، ثم اشتغل بتجارة أو إقامة، فعليه إعادته.
وبهذا قال عطاء ومالك والثوري والشافعي وأبو ثور.
لحديث الباب.
فائدة: أجمع العلماء على أن المعتمر إذا اعتمر ثم خرج مباشرة، أنه لا يجب عليه طواف وداع، كأن يقدم مكة فيطوف ويسعى ويحلق ثم يخرج مباشرة، فهذا لا طواف عليه.
• رخص العلماء له في الأشياء التي يفعلها وهو عابر وماش، مثلاً يشتري حاجة في طريقه، أو أن ينتظر رفقته متى جاءوا ركب ومشى، ومثله لو تغدى أو تعشى.
• قول بعض الفقهاء: تقف الحائض والنفساء على باب المسجد
…
، هذا فيه نظر، فقد انعقد سببه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يندب إليه، فلما حاضت صفية قال:(فلتنفر) فقد خفف عنها النبي صلى الله عليه وسلم طواف الوداع، ولم يشرع لها الدعاء عند الباب.
• اختلف العلماء في طواف الوداع للعمرة على قولين.
القول الأول: أنه سنة.
وهذا قول جمهور العلماء، وحكاه ابن عبد البر إجماعاً.
لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر الذين حلوا من عمرتهم في حجة الوداع بطواف الوداع إذا خرجوا من مكة.
وأنه صلى الله عليه وسلم أمر المحلين بمكة في حجة الوداع أن يتوجهوا من منازلهم إلى منى ثم إلى عرفة، ولم يأمرهم بطواف وداع.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ولأن الأحاديث لم تأت إلا بأمر الحاج به، ففي حديث ابن عمر المخرّج عند ابن خزيمة (أمر الحاج .. ) وكذلك رواية ابن عباس عند الشافعي، فتخصيصه بالحاج يدل على أن المعتمر على خلافه.
قال الشيخ ابن باز: " المعتمر لا وداع عليه في أصح قولي العلماء ".
القول الثاني: أنه يجب على المعتمر وداع.
وبه قال الثوري.
قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله: " وهذا القول هو الراجح،
…
وقال: طواف الوداع واجب على كلِّ إنسان مغادر مكة وهو حاج أو معتمر، للأدلة التالية:
عموم قوله: (لا ينفر واحد حتى يكون آخر عهده بالبيت).
وهذا شامل (واحدٌ) نكرة في سياق النفي، أو في سياق النهي، فتعم كل من خرج.
أن العمرة كالحج، سماها النبي صلى الله عليه وسلم حجاً أصغر، كما في حديث عمرو بن حزم المشهور الذي تلقته الأمة بالقبول:(والعمرة هي الحج الأصغر).
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ليعلى بن أمية: (اصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك).
فإذا كنت تصنع طواف الوداع في حجك، فاصنعه في عمرتك، ولا يخرج من ذلك إلا ما أجمع العلماء على خروجه، مثل: الوقوف بعرفة، والمبيت بمزدلفة، والمبيت بمنى، ورمي الجمار، فإن هذا بالإجماع ليس مشروعاً في العمرة ".
والراجح أن طواف الوداع للعمرة سنة.
لكن ينبغي للإنسان أن يفعله خروجاً من الخلاف وأبرأ للذمة. والله أعلم.
م/ وَالْفَرْقُ بَيْنَ تَرْكِ اَلرُّكْنِ فِي اَلْحَجِّ وَتَرْكِ اَلْوَاجِبِ: أَنَّ تَارِكِ الرُّكْنِ لَا يَصِح حَجَّهُ حَتَّى يَفْعَلْهُ عَلَى صِفَتِهِ الشَّرْعِيَةِ، وَتَارِكِ الوَاجِبِ حَجَّهُ صَحِيح وَعَلِيهِ إِثم وَدَم لِتَرْكِهِ.
إذا ترك الحاج ركن من أركان الحج:
فإن كانت الإحرام - وهي النية -لم ينعقد نسكه لحديث (إنما الأعمال بالنيات).
وإن ترك ركناً من أركان الحج - غير النية - لم يتم حجه حتى يأتي به، فإذا كان الركن مما يفوت فالحج لاغ، كما لو ترك الوقوف بعرفة حتى خرج فجر يوم العيد.
فإن ترك واجباً فعليه دم.
عن ابن عباس قال: (من نسي من نسكه شيئاً أو تركه فليهرق دماً). رواه مالك
هذا الدم جبران لا شكران، وعليه فيجب أن يتصدق بجميعه على فقراء الحرم ويذبح في الحرم ويوزع في الحرم. (وهذا ما عليه جماهير العلماء).
م/ وَيُخَيَّرُ مَنْ يُرِيدُ اَلْإِحْرَامِ بَيْنَ اَلتَّمَتُّعِ -وَهُوَ أَفْضَلُ- وَالْقِرَانِ وَالْإِفْرَادِ.
أي: أن الحاج يخير بين هذه الأنساك الثلاثة.
قال ابن قدامة: " أجمع أهل العلم على جواز الإحرام بأي الأنساك الثلاثة ".
واختلفوا في الأفضل على أقوال:
فقيل: القران أفضل.
وهذا قول الثوري وأبو حنيفة وإسحاق، ورجحه النووي والمزني. قالوا:
إن الله اختاره لنبيه صلى الله عليه وسلم، حيث أن النبي حج قارناً، وما كان الله ليختار لنبيه إلا الأفضل.
وقيل: التمتع أفضل.
وهذا مذهب الحنابلة.
لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة). متفق عليه
فهو صلى الله عليه وسلم تأسف على فواته، وأمر أصحابه أن يفعلوه.
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه لما طافوا بالبيت أن يحلوا بالبيت ويجعلوها عمرة.
وقيل: التمتع أفضل الأنساك إلا لمن ساق الهدي فإن القران في حقه أفضل.
وهذا اختيار شيخ الإسلام وهو الراجح.
م/ فَالتَّمَتُّعُ هُوَ: أَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجُّ، وَيَفْرُغُ مِنْهَا، ثُمَّ يُحْرِمُ بِالْحَجِّ مِنْ عَامِهِ.
ذكر المؤلف تعريف التمتع، ومن هذا التعريف نعرف أنه لا يكون متمتعاً إلا إذا جمع هذه الأوصاف:
أ- أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج.
ب- أن يفرغ من العمرة بالطواف والسعي والتقصير.
ج- أن يحرم بالحج من عامه.
مثال: لو أن شخصاً اعتمر في رمضان، ثم جلس في مكة وأراد أن يحج من نفس العام، فإنه لا يكون متمتعاً، لأن العمرة لم تقع في أشهر الحج.
• أشهر الحج تبدأ من شوال.
م/ وَعَلَيْهِ دَمٌ إِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ حَاضِرِي اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ.
المتمتع يجب عليه هدي بنص القرآن والسنة.
والمؤلف يقول: وعليه دم، أي هدي، وهو دم شكران. [جمع الله له في سفر واحد بين نسكين].
قال تعالى {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} .
ولحديث ابن عمر ( .... وَمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْدَى فَلْيَطُفْ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَلْيُقَصِّرْ وَلْيَحْلِلْ، ثُمَّ لِيُهِلَّ بِالْحَجِّ وَلْيُهْدِ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ هَدْياً فَلْيَصُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةً إذَا رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ) متفق عليه.
• يشترط لوجوب الهدي على المتمتع أن لا يكون من حاضري المسجد الحرام بالإجماع.
قال تعالى: { .... ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام} .
واختلف ما المراد بحاضري المسجد الحرام بعد الاتفاق على أن أهل الحرم داخلون في ذلك:
فقيل: المراد بهم أهل الحرم خاصة دون غيرهم.
وقيل: هم أهل الحرم ومن بينه وبين مكة مسافة دون القصر.
وقيل: هم أهل الحرم ومن كان داخلاً في مسمى مكة.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والراجح أنهم أهل الحرم وأهل مكة.
• يشترط في الهدي ما يشترط في الأضحية من اعتبار السن، والسلامة من العيوب، وهذا قول أكثر العلماء.
• يشترط في هدي المتعة أن يذبح في الوقت الذي يذبح فيه الأضاحي وهو يوم العيد وأيام التشريق.
• يشترط أن يذبح في الحرم، فلو ذبحه خارج الحرم كعرفة لم يجزئ حتى لو دخل به إلى منى، وكذلك تفريقه لا بد أن يكون في الحرم.
• دم التمتع دم نسك وعبادة، فهو دم شكر حيث حصل للعبد نُسُكان في سفر واحد ودم واحد. ولهذا كان دم المتعة مما يؤكل منه ويهدى ويتصدق - فليس هو دم جبران -، وأما دم المحظور لا يؤكل منه ولا يهدى، ولكن يصرف على الفقراء.
• فإن عدم الهدي فقد قال تعالى (فإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ). فعليه - كما أخبر الله - صيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم.
• ومعنى لا يجد الهدي: أن لا يوجد هدي في الأسواق، أو أن يوجد بهيمة أنعام لكنه لا يملك الثمن.
• بالنسبة لصيام الثلاثة أيام في الحج، متى يصومها؟ الصحيح أن يبدأ من حين إحرامه بالعمرة، ويكون آخرها آخر أيام التشريق، والأفضل أن تصام أيام التشريق [11، 12، 13] لقول عائشة وابن عمر قالا (لم يرخص في أيام التشريق أن يُصمن إلا لمن لم يجد الهدي) رواه البخاري، فظاهر هذا النص أن الصحابة كانوا يصومونها في أيام التشريق، وصومها في أيام التشريق صوم لها في أيام الحج، لأن أيام التشريق أيام حج.
• لكن هل يلزم التتابع؟ الجواب: إن ابتدأها في أول يوم من أيام التشريق لزم التتابع، لأنه لا يجوز أن تؤخر عن أيام التشريق، وأما إذا صامها قبل أيام التشريق فيجوز أن يصومها متفرقة.
م/ وَالْإِفْرَادُ هُوَ: أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ مُفْرِدًا.
أن يحرم بالحج مفرداً فيقول: لبيك حجاً.
م/ وَالْقِرَانُ: أَنْ يُحْرِمَ بِهِمَا مَعًا. أَوْ يَحْرُمُ بِالْعُمْرَةِ، ثُمَّ يُدْخِلُ اَلْحَجَّ عَلَيْهَا قَبْلَ اَلشُّرُوعِ فِي طَوَافِهَا. وَيُضْطَرُّ اَلْمُتَمَتِّعِ إِلَى هَذِهِ اَلصِّفَةِ إِذَا خَافَ فَوَاتَ الوَقُوْف بِعَرَفَةَ إِذَا اشْتَغَلَ بِعُمْرَتِهِ، وإِذَا حَاضَتِ المَرْأَةُ أَو نَفَسَتِ، وَعَرَفَتْ أَنَّهَا لَا تَطْهُر قَبْلَ وَقْتِ الوَقُوْفِ بِعَرَفَةَ.
القران هو: يعني أن يقول: لبيك اللهم حجًا وعمرة، أو لبيك اللهم عمرةً في حج، أو عمرةً وحجًا.
والصفة الثانية قال المصنف:
[أو يحرم بالعمرة، ثم يدخل الحج عليها قبل الشروع في طوافها] يعني أن يقول في الميقات: لبيك اللهم عمرة، وقبل الشروع في طوافها- يعني في طواف العمرة - يُدخِل عليها الحج، قال في الميقات مثلاً: لبيك اللهم عمرة، لَمّا دخل مكة وقبل أن يطوف طواف العمرة قال: لبيك اللهم حجًا وعمرة، أو لبيك اللهم حجًا، فأدخل الحج في العمرة، وهذا جائز، ولكن يَشترط العلماء: قبل الشروع في طوافها، لأنه إذا ابتدأ في الطواف؛ انتهى، ما يُمكِنه أن يُدخِل الحج، لأنه قد شرع في العمرة.
وهذه حصلت لعائشة - كما في الصحيحين - أنها كانت متمتعة وأنها أحرمت بعمرة فلما دخلت مكة أصابها الحيض، فأرشدها النبي صلى الله عليه وسلم أن تحول حجها إلى قران.
وقوله (ويضطر المتمتع إلى هذه الصفة) أي الصفة الثانية وهي: أن يدخل الحج على عمرته بأن ينتقل من التمتع إلى القران في حالتين.
الحالة الأولى: إذا خاف فوات الوقوف بعرفة إذا اشتغل بعمرته: هذه الحالة الأولى مثالها:
هذا متمتع أحرم بعمرة، لما وصل مكة؛ وصلها في يوم عرفة، والناسُ في الموقف، ممكن أن نقول: وصلها مثلاً بالليل، في ليلة النحر، - الإنسان له إلى طلوع الفجر - هذا وصل مثلاً في الليل - في ليلة النحر - وصل إلى مكة، متمتعًا يقول: لبيك اللهم عمرة، الآن الواجب عليه أن يعتمر، لكن خشي لو أنه طاف وسعى وقَصَّر واشتغل بالعمرة: أن تَفوتَ عليه عرفة، بأن يطلع الفجر مِن يوم النحر وأن يفوت عليه الوقوفُ، فماذا يفعل؟ يُدخِل الحج (لبيك اللهم حجًا) وينطلق إلى عرفة. الآن إذا أدْخَلَ الحج هل يجب عليه أن يطوف؟ لا يجب، لأن الطواف يكون حينئذ طوافَ قدوم، وطوافُ القدوم ما حُكمُه؟ سُنّة، ولا بأس لو تركه الإنسان، فهذا الآن المتمتع بعمرة إذا وصل مكة وخشي أن الوقوفَ بعرفة يَفُوته، فحينئذ يترك العمرة؟ ويَنتقل من العمرة إلى القِران، يتحوّل، يقول: لبيك اللهم حجًا يُضيف الحجَّ إلى العمرة وينطلق إلى عرفات، حتى يُدركَ وقت الوقوف.
الحالة الثانية: إذا حاضت المرأة أو نفست، وعرفت أنها لا تطهر قبل وقت الوقوف بعرفة.
كذلك المرأة إذا دخلت مكة وهي متمتعة، يعني بعمرة، ثم أصابها الحيض أو النفاس، وخشيت أنها لو انتظرت حتى تطهر أن الوقوف بعرفة يفوتها، هي الآن متمتعة، الواجب عليها أن تأتي بهذه العمرة، لأنها قالت في الميقات:"لبيك اللهم عمرة"، يجب عليها أن تطوف وتسعى وتقصِّر، لكن لَمّا دخلتْ مكة أصابها الحيض، ما تستطيع الآن أن تطوف ولو جلست حتى ينقطع الحيض وتغتسل وتصلي وتطوف وتأتي بهذه العمرة؛ أن يفوت عليها الوقوف بعرفة، لو صبرتْ لأداء العمرة يفوت عليها الوقوف بعرفة، لأن الوقوف بعرفة - مثلاً - لم يَبْقَ عليه إلا ثلاثة أيام، وحيضُها يَمتدّ مثلاً إلى خمسة أو ستة أيام، إذًا؛ فماذا تفعل في هذه الحالة؟ تُدخِل الحج، تنتقل من التمتع إلى القِران، تقول:"لبيك اللهم حجًا"، فإذا أدخلت الحج أصبح هذا الطواف في حقها الآن ليس لازمًا ولا واجبًا، لأنه طواف قدوم، تتركه وتذهب إلى عرفة.
م/ وَالمُفْرِدُ وَالقَارِنُ فِعْلُهُمَا وَاحِد، وَعَلَى القَارِنِ هَدِيٌّ دُوْنَ المُفْرِدِ.
أعمال القارن والمفرد سواء إلا في شيئين:
أولاً: في التلبية: القارن يقول: لبيك حجاً وعمرة، والمفرد يقول: لبيك اللهم حجاً.
ثانياً: القارن عليه هدي والمفرد ليس عليه هدي.
وبوجوب الهدي على القارن قال جمهور العلماء، إما بالقياس على المتمتع، أو لدخوله في عموم قوله تعالى (فمن تمتع) وقد أطلق الصحابة لفظ التمتع على نسك النبي صلى الله عليه وسلم وهو قارن.
مَحْظُورَاتُ اَلْإِحْرَامِ
هي ما يمنع منه المحرم بحج أو عمرة، وقد عرفت بالتتبع والاستقراء.
م/ حَلْقَ اَلشَّعْرِ.
هذا المحظور الأول من محظورات الإحرام، لا يجوز للمحرم أن يأخذ شيئاً من شعر رأسه.
قال تعالى (ولا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ).
وعن كعب بن عجرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: لعلك يؤذيك هوام رأسك؟ قال: نعم يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم احلق رأسك وصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين أو انسك شاة» متفق عليه.
• وألحق جمهور العلماء شعر بقية الجسم الذراع والساق والإبط بشعر الرأس).
• اختلف العلماء متى تجب الفدية؟ قيل: إذا حلق ثلاث شعرات وقيل: إذا حلق أربع، الصحيح أنه إذا حلق من شعر رأسه ما يحصل به إماطة الأذى، فلو حلق شعرة واحدة متعمداً من غير عذر فهو آثم لكن ليس عليه فدية.
• هل تغطية الوجه من المحظورات؟ قولان للعلماء: قيل: من المحظورات لحديث الذي وقصته الناقة وفيه (ولا تخمروا رأسه ولا وجهه) رواه مسلم.
وقيل: إنه ليس من المحظورات، وهذا المذهب، وقالوا إن زيادة (ولا وجهه) زيادة شاذة أعرض عنها البخاري، وكذلك ورد عن بعض الصحابة تغطية الوجه.
م/ وَتَقْلِيمَ اَلْأَظْفَارِ.
هذا هو المحظور الثاني، لا يجوز للمحرم أن يقص أظافره سواء الرجلين أو اليدين المرأة أو الرجل.
قال في الشرح: "أجمع العلماء على أن المحرم ممنوع من تقليم أظافره إلا من عذر".
قياساً على حلق الرأس.
• لا فرق بين أظافر اليدين والرجلين، للمرأة والرجل.
م/ وَلُبْسَ اَلْمِخْيَطِ، إِنْ كَانَ رَجُلاً.
هذا هو المحظور الثالث، لا يجوز للمحرم أن يلبس مخيطاً (والمراد بالمخيط: هو ما خيط على قدر البدن أو على جزء منه أو عضو من أعضائه، كالقميص، والسراويل، والفنايل والخفاف، والجوارب وشراب اليدين و الرجلين).
لحديث ابن عمر رضي الله عنهما (أن رجلاً قال يا رسول الله ما يلبس المحرم من الثياب؟ قال: لا يلبس القميص ولا العمائم، ولا السراويلات، ولا البرانس، ولا الخفاف، ولا يلبس شيئاً مسه زعفران أو ورس) متفق عليه.
القميص: هو ما يلبس على هيئة البدن وله أكمام كثيابنا هذا اليوم، يشمل ما كان بمعناه كالفنيلة والكوت والثياب.
السراويل: ويلحق بها كل ما يلبس على أسفل البدن.
البرانس: هو ثوب رأسه منه ملصق به يلبسه الآن المغاربة، ويلحق به العباءة.
العمائم: وتشمل كل ما غطى به الرأس مثل الطاقية والغترة.
الخفاف: هو ما يلبس على الرجل.
وما عدا ذلك فهو حلال مثل: (الساعة، والخاتم، ونظارة العين، وسماعة الأذن، ووعاء النفقة).
• هذا المحظور - كما قال المؤلف - خاص بالرجل، فللمرأة أن تلبس من الثياب ما تشاء غير أن لا تتبرج بالزينة، ولا تلبس القفازين وهما شراب اليدين، ولا تتنقب لقوله صلى الله عليه وسلم (ولا تتنقب المحرمة ولا تلبس القفازين).
• م/ وَتَغْطِيَةَ رَأْسِهِ إِنْ كَانَ رَجُلاً.
هذا هو المحظور الرابع، لا يجوز للمحرم أن يغطي رأسه بملاصق. (حكاه ابن المنذر إجماعاً).
للحديث السابق (لا يلبس المحرم القميص ولا العمائم).
قولنا: بملاصق: كالطاقية والغترة.
• ستر الرأس للمحرم ينقسم إلى أقسام:
أولاً: أن يغطي رأسه بما يلبس عادة كالطاقية والغترة والعمامة فهذا حرام بالنص والإجماع.
ثانياً: أن يستظل بالشجرة أو الحائط أو السقف أو الخيمة فهذا لا بأس به، فقد قال جابر في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم (وأمر بقبة من شعر فضربت له بنمرة فنزل بها .. ) رواه مسلم.
ثالثاً: أن يغطي رأسه بالحناء والكتم فهذا جائز لحديث ابن عمر قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يهل ملبداً) متفق عليه.
رابعاً: أن يظلل رأسه بتابع له كالشمسية ومحمل البعير فهذا محل خلاف والصحيح جوازه.
م/ وَالطِّيبَ رَجُلاً وَامْرَأَةٌ.
هذا هو المحظور الخامس، لا يجوز للمحرم أن يتطيب وهو محرم.
للحديث السابق وفيه (ولا يلبس من الثياب شيئاً مسه زعفران أو ورس). [الزعفران] طيب [الورس] نبت أصفر يصبغ الثياب وله رائحة طيبة.
وقال صلى الله عليه وسلم في المحرم الذي وقصته ناقته (لا تمسوه بطيب).
• شم الطيب له أحوال:
الحال الأولى: أن يشمه بقصد التلذذ [فهذا من محظورات الإحرام].
الحال الثانية: أن يشمه بغير قصد، كما لو مر بسوق العطارين وشم الطيب [هذا ليس من محظورات الإحرام].
الحال الثالثة: شم الطيب ليرى جودته من عدمها [المذهب أنه من المحظورات، واختار ابن القيم أنه ليس من المحظورات].
• الطيب يشمل الطيب في رأسه وفي لحيته وفي صدره وفي ثوبه وغيره من الأماكن).
• قال النووي في سبب تحريم الطيب على المحرم: " لأنه داعية إلى الجماع، ولأنه ينافي تذلل الحاج ".
م/ وَكَذَا يَحْرُمُ عَلَى اَلْمُحْرِمِ: قَتْلُ صَيْدِ اَلْبَرِّ اَلْوَحْشِيِّ اَلْمَأْكُولِ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ، وَالْإِعَانَةُ عَلَى قَتْلِهِ.
هذا هو المحظور السادس: لا يجوز للمحرم أن يقتل الصيد حال إحرامه.
قال تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ).
وقال تعالى (وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرماً).
الصيد المحرّم على المحرِم ما جمع ثلاثة أشياء ذكرها المؤلف:
أن يكون مأكولاً: فإذا كان غير مأكول فليس عليه فدية.
أن يكون برياً (وضده البحري): قال في الشرح: "أما صيد البحر فلا يحرم على المحرم بغير خلاف".
قال تعالى (أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم وللسيارة) البحري: هو ما لا يعيش إلا في البحر.
أن يكون وحشياً: فما ليس بوحشي لا يحرم على المحرم أكله ولا ذبحه كبهيمة الأنعام والخيل والدجاج.
إذاً الشروط: أن يكون الصيد: مأكولاً - برياً - متوحشاً. (كالحمامة، والضبع، والغزال، والأرنب)
• لا يحرم حيوان إنسي وهذا بالإجماع لأنه ليس بصيد، كالإبل والبقر والغنم.
• المحرِم لا يجوز له أن يُعِيْنَ على قتل الصيد، ولا يجوز له أن يدلّ عليه، لحديث أبي قتادة رضي الله عنه في "الصحيحين" وفيه أنه قال عليه الصلاة والسلام (هل أشار إليه إنسانٌ أو أَمَرَه بشيء؟ قالوا: لا، قال:((فكلوا)، أبو قتادة كان مع بعض الصحابة كانوا مُحْرِمين، أبو قتادة ما كان محرِمًا، فصاد لهم هذا الصيد فأكلوا منه، ثم تَحَرَّجُوا مِن كونهم أكلوا مِن صيدٍ وهم مُحْرِمون، فسألوا النبيَّ عليه الصلاة والسلام، فقال لهم عليه الصلاة والسلام (هل أشار إليه إنسانٌ أو أَمَرَه بشيء؟ يعني: هل أحد منكم أعان أبا قتادة على صيد هذا الحمار الوحشي، أعانه في شيء، أشار إليه في شيء، دلّه على شيء؟ قالوا: لا، قال:((فكلوا))، إذًا: المحرِم يجوز له أن يأكل الصيد بشرط:
أن لا يكون هذا الصيد صاده مُحْرِمٌ آخر، أو أعانه مُحْرِمٌ، أو أشار إليه مُحْرِمٌ، أو صِيد لأجله .. صِيد لأجل مُحرِم.
أما إذا كان هناك شخص ليس مُحْرِمًا وصاد صيدًا وقدّم منه شيئًا إلى مُحْرِم؛ فلا بأس أن يأكل، النبي صلى الله عليه وسلم قال (فكلوه)
• لو صاد المحرم الصيد فإنه ليس له أكله، لأن هذا محرم لحق الله.
• الصيد الذي صاده المحرم حرام عليه وعلى غيره، لأنه بمنزلة الميتة.
م/ وَأَعْظَمُ مَحْظُورَاتِ اَلْإِحْرَامِ: اَلْجِمَاعُ; لِأَنَّهُ مُغَلَّظٌ تَحْرِيمُهُ مُفْسِدٌ لِلنُّسُكِ، مُوجِبٌ لِفِدْيَةٍ بَدَنَةٍ.
هذا هو المحظور السابع، وهو الجماع في الفرج، وهو أعظم المحظورات وأشدها خطراً.
وهو محرم بنص القرآن الكريم، قال تعالى:(فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق) فسر ابن عباس الرفث بالجماع.
فإن كان قبل التحلل الأول فإنه يترتب عليه أمور:
الإثم: لأنه عصى الله في قوله (فلا رفث).
فساد النسك: لقضاء الصحابة بذلك.
وجوب المضي فيه: فعليه إتمامه وليس له الخروج منه لقوله تعالى: (وأتموا الحج والعمرة لله).
وجوب القضاء من العام القادم.
عليه الفدية: وهي بدنة تذبح في القضاء ويوزعها على المساكين في مكة أو في مكان الجماع.
وأما إذا كان بعد التحلل الأول:
الإثم، فساد الإحرام: فيجب عليه أن يخرج إلى الحل ليحرم منه (يعني يخلع ثيابه (ثياب الحل) ويلبس إزاراً ورداءاً ليطوف طواف الإفاضة محرماً، لماذا؟ لأنه فسد ما تبقى من إحرامه فوجب عليه أن يجدده).
(التحلل الأول يحصل بعد الرمي والحلق ورجحه الشيخ ابن عثيمين، وقيل: يحصل التحلل الأول بالرمي وحده.
ولم يذكر المؤلف (عقد النكاح) وهو من محظورات الإحرام.
يحرم على المحرم ولا يصح ولا فدية فيه، لحديث عثمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا ينكح المحرم ولا ينكح و لا يخطب» رواه مسلم.
• يحرم عقد النكاح على الذكور والإناث، سواء كان المحرم الولي أو الزوج أو الزوجة، فالحكم يتعلق بهؤلاء الثلاثة).
• لو عقد لرجل محرم على امرأة حلال فالنكاح لا يصح، ولو عقد لرجل محل على امرأة والولي محرم لا يصح).
• فاعل المحظور لا يخلو من ثلاث حالات:
الأولى: أن يفعل المحظور بلا حاجة ولا عذر فهذا آثم وعليه فديته.
الثانية: أن يفعله لحاجة متعمداً. فهذا ليس عليه إثم وعليه فديته. قال تعالى:} فمن كان منكم مريضاً أو به أذىً من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك {.
فلو احتاج لتغطية رأسه من أجل برد أو حر يخاف منه جاز له تغطيته وعليه الفدية على التخيير.
الثالثة: أن يفعله وهو معذور بجهل أو نسيان أو إكراه. فهذا لا إثم عليه ولا فدية. قال تعالى:} ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا {.
بَابُ الفِدِيَةِ
الفدية ما يعطى لفداء شيء، وهي ما افتدى الإنسان نفسه بفعل محظور أو ترك واجب.
م/ وَأَمَّا فِدْيَةُ اَلْأَذَى: إِذَا غَطَّى رَأْسَهُ، أَوْ لَبِسَ اَلْمَخِيطَ، أَوْ غَطَّتْ اَلْمَرْأَةُ وَجْهَهَا، أَوْ لَبِسَتِ اَلْقُفَّازَيْنِ، أَوْ اِسْتَعْمَلَا اَلطِّيبَ، فَيُخَيَّرُ بَيْنَ: صِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، أَوْ إِطْعَامِ سِتَّةِ مَسَاكِينَ، أَوْ ذَبْحِ شَاةٍ.
فدية محظورات الإحرام تنقسم إلى أقسام:
القسم الأول: ما لا فدية فيه [وهو عقد النكاح].
القسم الثاني: ما فديته فدية أذى وهي صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين، أو ذبح شاة.
وهي التي ذكرها المؤلف: تغطية الرأس، أو لبس المخيط، أو تغطية المرأة وجهها أو لبست قفازين، أو استعمال الطيب.
كما قال تعالى (فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك).
[صيام] مجمل بينه الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه ثلاثة أيام [صدقة] مجملة، بينها الرسول صلى الله عليه وسلم بأنها إطعام ستة مساكين [نسك] ذبيحة.
وعن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال (حملت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي فقال: ما كنت أرى الوجع بلغ ما أرى؟ أتجد شاة؟ فقلت: لا. قال: فصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع) متفق عليه.
القسم الثالث: ما فديته مغلظة: وهو الجماع في الحج قبل التحلل الأول. [وسبق].
القسم الثالث: ما فديته الجزاء أو مثله وهو قتل الصيد كما سيذكره المؤلف.
م/ وَإِذَا قَتَلَ اَلصَّيْدَ خُيِّرَ بَيْنَ: ذَبْحِ مِثْلِهِ - إِنْ كَانَ لَهُ مِثْلٌ مِنَ اَلنَّعَمِ. وَبَيْنَ تَقْوِيمِ اَلْمِثْلِ بِمَحَلِّ اَلْإِتْلَافِ، فَيَشْتَرِي بِهِ طَعَامًا فَيُطْعِمَهُ، لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدُّ بُرٍّ،، أَوْ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ غَيْرِهِ، أَوْ يَصُومُ عَنْ إِطْعَامِ كُلِّ مِسْكِينٍ يَوْمًا.
فدية قتل الصيد يخير بين هذه الأمور الثلاثة التي ذكرها المؤلف:
مثال: المحرم إذا قتل حمامة فإنه مثلها شاة، فنقول المحرم مخير: إما أن يذبح شاة ويتصدق بها على فقراء الحرم لقوله تعالى (هدياً بالغ الكعبة).
أو يقوّم الشاة بدراهم [يقومها في محل الإتلاف مثلا الشاة قيمتها 300] ويشتري بها طعاماً، فيطعم كل مسكين مداً من البر، وإذا كان الطعام من غير البر يعطي الفقير مدين [يعني نصف صاع].
أو يصوم عن كل مسكين يوماً. ال 300 يطعم بها 100 مسكين، يصوم 100 يوم.
ومثل ذلك النعامة قضى بها الصحابة بعير.
قال تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً).
• يشترط أن المثل للصيد يذبح بالحرم ويوزع على فقراء الحرم. وأما الصيام ففي أي مكان.
م/ وَأَمَّا دَمُ اَلْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ فَيَجِبُ فِيهِمَا مَا يُجْزِئُ فِي اَلْأُضْحِيَّةِ. فَإِنْ لَمْ يَجِدْ صَامَ عَشَرَةَ أَيَّامٍ: ثَلَاثَةً فِي اَلْحَجِّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَصُومَ أَيَّامَ اَلتَّشْرِيقِ عَنْهَا وَسَبْعَةً إِذَا رَجَعَ.
أي أن الهدي الذي على المتمتع وعلى القارن يجب أن تتوفر فيه شروط الأضحية [وستأتي إن شاء الله] كأن تكون سليمة من العيوب، وبلغت السن المعتبرة، وتكون من بهيمة الأنعام، وفي الوقت المحدد.
وقد سبق شرح من لم يجد الهدي صام عشرة أيام [سبق شرحها].
م/ وَكَذَلِكَ حُكْمُ: مَنْ تَرَكَ وَاجِبًا.
يعني مَن ترك واجبًا مِن واجبات الحج، كمَن تَرَك الإحرامَ من الميقات، أو ترك الوقوف بعرفة إلى غروب الشمس، أو ترك المبيتَ بمزدلفة، أو ترك رمي جمرة العقبة، أو ترك الحلق، أو ترك رمي الجمار أيام التشريق، أو ترك المبيت ليالي التشريق بـ (مِنى)، أو ترك طواف الوداع، ترك واجبًا من واجبات الحج لعذر، لأن - كما قلنا - المؤمن ما يكون ولا يقع منه أن يترك واجبًا هكذا بدون عذر، وإنما ترك الواجب لعذر، فإنّ هذا عليه دم - كما عليه أكثر العلماء -.
يقول المؤلف: إذا عجز عن هذا الدم يصوم عشرةَ أيام، قياساً على دمِ المتعة والقِران.
وهذا القياس فيه نظر، ولذلك ذهب بعض العلماء إلى أنه ليس عليه شيء إنْ قَدِرَ على الدم فبها ونعمت، وإنْ لم يَقْدِر؛ سقط عنه.
م/ وَكُلُّ هَدْيٍ أَوْ إِطْعَامٍ يَتَعَلَّقُ بِحَرَمٍ أَوْ إِحْرَامٍ: فَلِمَسَاكِينِ اَلْحَرَمِ مِنْ مُقِيمٍ وَأُفُقِيٍّ.
[الأفقي] من غير أهل الحرم لكنه فقير.
أي: لو أن محرماً عليه هدي بسبب ترك واجب، أو فعل محظور، فإنه يكون لفقراء الحرم ولا يأكل منه.
م/ وَيُجْزِئُ اَلصَّوْمُ بِكُلِّ مَكَانٍ.
الصومُ هنا في كفارات الإحرام، كشخص عليه فدية أذى - وفدية الأذى كما هو معلوم: إما ذبح شاة، أو إطعام ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع، أو صيام ثلاثة أيام - واختار صيام ثلاثة أيام، فهذا الصوم يجوز بكل مكان.
وكذلك الصوم على المتمتع والقارِن إذا لم يجد هديًا يصوم عشرة أيام، ثلاثة في الحج، فهذا الصوم يجوز في كل مكان.
م/ وَدَمُ اَلنُّسُكِ -كَالْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ- وَالْهَدْيِ، اَلْمُسْتَحَبُّ: أَنْ يَأْكُلُ مِنْهُ وَيُهْدِي وَيَتَصَدَّقُ.
وهذا دم الشكران: [الهدي، الأضحية، العقيقة] مِن السُّنّة أن يأكل منه كما أكل النبيُّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم مِن هَدْيه، كما تقدم.
م/ وَالدَّمُ اَلْوَاجِبُ لِفِعْلِ اَلْمَحْظُورِ، أَوْ تَرْكِ اَلْوَاجِبِ -وَيُسَمَّى دَمَ جُبْرَان- لَا يَأْكُلُ مِنْهُ شَيْئًا، بَلْ يَتَصَدَّقُ بِجَمِيعِهِ; لِأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى اَلْكَفَّارَاتِ.
لأنه لِجَبر خللٍ ونقصٍ حَصَلَ منك، فتتركه كلَّه لله، لأنه كالكفارات، والكفارة لا يأكلُ الإنسانُ منها شيئًا، لأنها لله سبحانه وتعالى.
مثال: شخص لم يطف الوداع فعليه دم [لأنه ترك واجباً] هذا الدم لا يأكل منه.
مثال آخر: شخص لم يبت بمزدلفة فعليه دم [لأنه ترك واجباً] هذا الدم لا يأكل منه.
مثال آخر: إنسان حلق شعره، فهذا محظور واختار أن يذبح دماً، فإنه لا يأكل من هذا الدم.
م/ وَشُرُوطُ اَلطَّوَافِ مُطْلَقًا: اَلنِّيَّةُ.
النية شرط لجميع العبادات، فلو طاف ولم ينو لم يصح طوافه.
مثال: فلو أن رجلاً جعل يدور حول الكعبة يتابع مديناً له يطلبه ديناً مثلاً، فإنه لا يصح طوافه لأنه لم ينو.
م/ وَالِابْتِدَاءُ بِهِ مِنْ اَلْحَجَرِ.
يبدأ الشوط من الحجر، والمراد به الحجر الأسود، فمن الحجر الأسود إلى الحجر الأسود شوط كامل، فلو نقص لم يصح كما سبق.
م/ وَيُسَنُّ أَنْ يَسْتَلِمَهُ وَيُقَبِّلَهُ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَشَارَ إِلَيْهِ، وَيَقُولُ عِنْدَ ذَلِكَ: بِسْمِ اَللَّهِ اَللَّهُ أَكْبَرُ، اَللَّهُمَّ إِيمَانًا بِكَ، وَتَصْدِيقًا بِكِتَابِكَ، وَوَفَاءً بِعَهْدِكَ، وَاتِّبَاعًا لِسُنَّةِ نَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.
تقدم شرحه بالتفصيل
م/ وَأَنْ يَجْعَلَ اَلْبَيْتَ عَنْ يَسَارِهِ.
وهذا بالإجماع لحديث جابر (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة أتى الحجر فاستلمه ثم مشى على يساره .. ) رواه مسلم.
وقد ذكر بعض العلماء تعليلات لذلك:
قيل: أن القلب باليسار وهو بيت تعظيم الله ومحبته، فصار من المناسب أن يجعل عن يساره ليقرب محل ذكر الله، وقيل: أن الحركة إذا جعل البيت عن يساره يعتمد فيها الأيمن على الأيسر، فيعلو الأيمن على الأيسر.
م/ وَيُكَمِّلُ اَلْأَشْوَاطَ اَلسَّبْعَةَ.
سبق شرحه، وأنه لو نقص خطوة واحدة من أوله أو آخره لم يصح طوافه.
م/ وَأَنْ يَتَطَهَّرَ مِنْ اَلْحَدَثِ وَالْخَبَثِ.
أي: يشترط لصحة الطواف أن يكون طاهراً من الحدث الأكبر [وهو ما أوجب غسلاً كالجنابة] ومن
الحدث الأصغر [وهو ما أوجب وضوءاً].
أما الطهارة من الحدث الأكبر فهذا لابد منه.
أما الطهارة من الحدث الأصغر فهذه شرط عند جمهور العلماء لحديث عائشة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أول شيء بدأ به حين قدم مكة أن توضأ ثم طاف بالبيت). رواه مسلم.
ولحديث ابن عباس. قال: قال صلى الله عليه وسلم (الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله أباح فيه الكلام) رواه الترمذي.
وذهب بعض العلماء ومنهم ابن تيمية إلى أنه لا يشترط الوضوء للطواف وإنما هو مستحب فقط.
قالوا: لأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بالطهارة للطواف، مع العلم أنه قد حج معه خلائق عظيمة، وقد اعتمر عمراً متعددة والناس يعتمرون معه، ولو كان الوضوء فرضاً للطواف لبيّنه النبي صلى الله عليه وسلم بياناً عاماً، ولو بيّنه لنقل ذلك المسلمون ولم يهملوه.
قال شيخ الإسلام: " والذين أوجبوا الوضوء للطواف ليس معهم حجة أصلاً، فإنه لم ينقل أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم لا بإسناد صحيح ولا ضعيف أنه أمر بالوضوء للطواف، ولكن ثبت في الصحيح أنه لما طاف توضأ، وهذا وحده لا يدل على الوجوب ".
وما رجحه ابن تيمية هو قول جماعة من السلف فقد روى ابن أبي شيبة عن شعبة بن الحجاج قال:
(سألت حماداً ومنصوراً وسلمان؛ عن الرجل يطوف بالبيت من غير طهارة؟ فلم يروا به بأساً).
وأما حديث ابن عباس: (الطواف بالبيت صلاة)، فالجواب عنه:
أنه حديث موقوف عن ابن عباس كما رجحه النسائي والبيهقي وابن الصلاح والمنذري والنووي وابن تيمية
وأيضاً معناه منتقض، لأن معناه أن جميع أحكام الصلاة تثبت للطواف إلا الكلام، ولا قائل بذلك، يجوز فيه الأكل والشرب والضحك، وليس فيه تكبير ولا تسليم ولا قراءة.
• وكذلك يشترط لصحة الطواف أن يكون طاهراً من الخبث: مِن النجاسات، في ثوبه وفي بدنه، ليس عليه نجاسة لا في الثوب ولا في البدن.
لأن الله أمر بتطهير بيته للطائفين والقائمين كقوله تعالى (وطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ .... ) فإذا أمر بتطهير المكان (أي مكان الطائف الذي هو منفصل عنه) فتطهير ملابسه المتصلة به من باب أولى.
م/ وَالطِّهَارَةُ فِي سَائِرِ اَلْأَنْسَاكِ -غَيْرَ اَلطَّوَافِ- سُنَّةٌ غَيْرُ وَاجِبَةٍ.
فلا تجب الطهارة للسعي، ولا للوقوف بعرفة، ولا لمزدلفة، ولا لرمي الجمار، فلو وقف بعرفة وهو محدث فلا بأس، ولو رمى الجمار وهو محدث فلا بأس، ولو وقف في مزدلفة وهو محدث فلا بأس.
م/ وَسُنَّ أَنْ يَضْطَبِعَ فِي طَوَافِ القُدُوْم: بِأَنْ يَجَعَلَ وَسَطَ رِدَائِهِ تَحْتَ عَاتِقِهِ الأَيمَن، وَطَرَفَهُ عَلَى عَاتِقِهِ الأَيسَر.
سبق شرحه
م/ وَأَنْ يَرْمُلَ فِي اَلثَّلَاثَةِ الأَشْوَاطِ اَلْأُوَلِ مِنْهُ، وَيَمْشِيَ فِي اَلْبَاقِي. وَكُلُّ طَوَافٍ سِوَى هَذَا لَا يُسَنُّ فِيهِ رَمَلٌ وَلَا اِضْطِبَاعٌ.
سبق شرحه
م/ وَشُرُوطُ اَلسَّعْيِ: اَلنِّيَّةُ.
كما سبق في الطواف، لحديث (إنما الأعمال بالنيات).
م/ وَتَكْمِيلُ السَّبَعَة.
كما سبق في الطواف، فلا يصح إذا كان ناقصاً.
م/ وَالِابْتِدَاءُ مِنْ اَلصَّفَا.
لقوله تعالى (إن الصفا والمروة من شعائر الله)، فلو ابتدأ من المروة، فإن هذا الشوط يعتبر لاغياً.
م/ وَالْمَشْرُوعُ: أَنْ يُكْثِرَ اَلْإِنْسَانُ فِي طَوَافِهِ وَسَعْيِهِ وَجَمِيعِ مَنَاسِكِهِ مِنْ ذِكْرِ اَللَّهِ وَدُعَائِهِ; لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم
(إِنَّمَا جُعِلَ اَلطَّوَافُ بِالْبَيْتِ، وَبِالصَّفَا وَاَلْمَرْوَةِ، وَرَمْيُ اَلْجِمَارِ لِإِقَامَةِ ذِكْرِ اَللَّهِ).
فالمقصود من الحج وغيرها من العبادات هو إقامة ذكر الله تبارك وتعالى، وهذا يدل على فضل ذكر الله والإكثار منه، لأن جميع العبادات - من صلاة وصوم وحج وزكاة وغيرها - الهدف منها إقامة ذكر الله.
وقد أمر الله بذكر الله مطلقاً فقال تعالى (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ).
وقال تعالى (وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً).
وقال تعالى (وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ).
فينبغي للحاج أن ينشغل بذكر الله من تسبيح وتهليل وتكبير واستغفار وتحميد وقراءة قرآن، ولا ينبغي أن
يضيع وقته كما هو حال كثير من الحجاج، بالقيل والقال وشراء الأغراض، بل بعضهم بالغيبة والكلام المحرم.
م/ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ (لَمَّا فَتَحَ اَللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ، قَامَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي اَلنَّاسِ، فَحَمِدَ اَللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: " إِنَّ اَللَّهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ اَلْفِيلَ، وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ كَانَ قَبْلِي، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةٌ مِنْ نَهَارٍ، وَإِنَّهَا لَنْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ بَعْدِي، فَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، وَلَا يُخْتَلَى شَوْكُهَا، وَلَا تَحِلُّ سَاقِطَتُهَا إِلَّا لِمُنْشِدٍ، وَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ اَلنَّظَرَيْنِ " فَقَالَ اَلْعَبَّاسُ: إِلَّا اَلْإِذْخِرَ، يَا رَسُولَ اَللَّهِ، فَإِنَّا نَجْعَلُهُ فِي قُبُورِنَا وَبُيُوتِنَا، فَقَالَ: " إِلَّا اَلْإِذْخِرَ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
[فتح مكة] أي عام 8 هـ[حبس عن مكة الفيل] أي منعه من الإنبعاث، وفيه إشارة إلى القصة المشهورة للحبشة في غزوهم مكة لهدم البيت ومعهم فيلة، ويتقدمهم فيل عظيم، فنسبوا إليه، فحمى الله تعالى بيته منهم وأبطل كيدهم. [وإنها لم تحل لأحد قبلي] أي ما أحل الله لأحد من الأنبياء وأممهم أن يدخل مكة بقتال أبداً لأن مكة معظمة.
[وإنما أحلت لي ساعة من نهار] المراد بالساعة اللحظة من الزمن، والمراد فتح مكة، وهي ساعة الفتح من طلوع الشمس إلى صلاة العصر.
[فلا ينفر صيدها] قال النووي: "يحرم التنفير وهو الإزعاج عن موضعه. قال العلماء: يستفاد من النهي عن التنفير تحريم الإتلاف بالأولى". [ولا يختلى شوكها] وفي رواية: (ولا يختلى خلاها) المراد بالإختلاء القطع. [الإذخر] قال في الفتح: "نبت معروف عند أهل مكة، طيب الريح، قضبانه دقيقة تجتمع في أصل مندفن في الأرض ".
• الحديث دليل على تحريم القتال في مكة، لقوله:(ولن تحل لأحد بعدي).
لكن إذا قوتل الإنسان فله أن يقاتل، لقوله تعالى (ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم).
• الحديث دليل على تحريم قطع شجر مكة، والمراد جميع الحرم وإن كان مؤذياً كالشوك، تأكيداً لحرمة هذا المكان.
قال في المغني: " أجمع أهل العلم على تحريم قطع شجر الحرم، وإباحة أخذ الأذخر وما أنبته الآدمي من البقول والزروع ".
واختلفوا في الشجر الذي أنبته الآدمي:
فالجمهور على الجواز، وذهب الشافعية إلى المنع، ورجحه ابن قدامة، والأول أصح.
• الحديث دليل على تحريم تنفير الصيد في مكة وقتله من باب أولى.
فائدة:
لو دخل إنسان بصيد من خارج الحرم فهل يحرم أم لا؟ يعني لو أن إنساناً صاد غزالاً من الميقات وهو لم يحرم، ثم دخل به إلى مكة.
المذهب يرى أنه يجب أن يطلقه.
ولكن الصحيح أنه لا يجب أن يطلقه ويكون ملكاً له، لأنه ليس من صيد الحرم.
• عرفة ليست من الحرم، لذلك لا بأس بقتل الصيد فيها.
• الحديث دليل على تحريم سفك الدماء في مكة.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
واختلفوا في إقامة الحدود في مكة:
فقيل: يحرم ويضيق عليه حتى يخرج.
لقوله تعالى: {ومن دخله كان آمناً} .
وقيل: يجوز.
وهذا مذهب مالك والشافعي.
لعموم النصوص الدالة على استيفاء الحدود بالقصاص في كل زمان ومكان.
والنبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة.
وهذا القول هو الصحيح.
• الحديث دليل على تحريم التقاط لقطة مكة إلا لمن أراد أن يعرفها دائماً، ولعل الحكمة من ذلك - والله أعلم - زيادة الأمن على الأموال بمكة، فإن الناس لا يلتقطون اللقطة إذا علموا أنهم لا يملكونها بالتعريف، فإذا تركوها عاد صاحبها فوجدها.
• الحديث دليل على أن لقطة الحرم لا تحل إلا لمن يريد أن ينشدها على الدوام، فمن أخذها للتملك بعد الإنشاد فهذا حرام.
فلقطة الحرم لها ثلاث أحوال:
أولاً: أن يأخذها للتملك من الآن، فهذا حرام.
ثانياً: أن يأخذها للتملك بعد الإنشاد، فهذا حرام.
ثالثاً: أن يأخذها للإنشاد، فهذا حلال.
أما لقطة غير الحرم فيجوز أن يتملكها بعد الإنشاد الشرعي.
• الحديث دليل على أن من قتل له قتيل عمداً فهو مخير بين القصاص أو أخذ الدية.
• يستثنى من شجر الحرم ونباته الإذخر، لحاجة الحرم إليه.
م/ وقَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (اَلْمَدِينَةُ حَرَمٌ مَا بَيْنَ عَيْرٍ إِلَى ثَوْرٍ) رواه مسلم
[عْير وثوْر] جبلان معروفان عند أهل المدينة.
• الحديث دليل على تحريم المدينة فلا يقطع شجرها في حرمها ولا يقتل الصيد ولا ينفر.
وهذا مذهب جماهير العلماء.
للحديث الذي ذكره المصنف (المدينة حرم ما بين
…
).
• ينبغي معرفة حدود حرم المدينة لما يترتب على ذلك من حصول البركة بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم، وتحريم الصيد، ومنع الدجال منها، وكونها لا يدخلها الطاعون إلى ذلك مما ثبت بالأحاديث الصحيحة، أما مضاعفة الصلاة فهي خاصة بالمسجد النبوي دون غيره من مساجد المدينة.
فائدة:
أنه لا يوجد حرم في الدنيا إلا حرم مكة والمدينة فقط.
وأما المسجد الأقصى فليس بحرم، لهذا يجب تصحيح العبارة المشهورة عند الناس [ثالث الحرمين] يقصدون المسجد الأقصى.
قال ابن تيمية: " ليس في الدنيا حرم لا بيت المقدس ولا غيره إلا هذان الحرمان، والحرم المجمع عليه حرم مكة وأما المدينة فلها حرم أيضاً عند الجمهور كما استفاضت بذلك الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ".
م/ وقَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (خَمْسٌ مِنَ اَلدَّوَابِّ كُلُّهُنَّ فَاسِقٌ، يُقْتَلْنَ فِي [اَلْحِلِّ وَ] اَلْحَرَمِ: اَلْغُرَابُ، وَالْحِدَأَةُ، وَالْعَقْرَبُ، وَالْفَأْرَةُ، وَالْكَلْبُ اَلْعَقُورُ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
[خمس] ذكر الخمس يفيد نفي الحكم عن غيرها، لكنه ليس بحجة عند الأكثر، وعلى تقدير اعتباره فيمكن أن يكون قاله صلى الله عليه وسلم أولاً ثم بين بعد ذلك أن غير الخمس تشترك معها في هذا الحكم، فقد ورد زيادة (الحية) وهي سادسة كما في حديث ابن عمر عن الصعب وابن مسعود عند مسلم. [فواسق] قال النووي:" تسمية هذه الخمس فواسق تسمية صحيحة جارية على وفق اللغة، فإن أصل الفسق لغة الخروج، فوصفت بذلك لخروجها عن حكم غيرها من الحيوان في تحريم قتله أو حل أكله أو خروجها بالإيذاء أو الإفساد ". [الحدأة] طائر معروف يختطف الأموال الثمينة [الغراب] هذا مطلق أياً كان لونه، وذهب بعض العلماء إلى تقييده بما جاء عند مسلم عن عائشة بلفظ:(الأبقع) وهو الذي في ظهره أو بطنه بياض، فحمل الإمام ابن خزيمة المطلق على المقيد، وقال:" لا يقتل إلا الغراب الأبقع ". لكن قال ابن قدامة: " الروايات المطلقة أصح. وقد اعتذر ابن بطال وابن عبد البر عن قبول هذه الروايات بأنها لم تصح، لأنها من رواية قتادة وهو مدلس، لكن الحافظ تعقب ذلك بان شعبة لا يروي عن شيوخه المدلسين إلا ما هو مسموع لهم، وهذه الزيادة من رواية شعبة، بل صرح النسائي بسماع قتادة ".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
• جواز قتل الخمسة المذكورة في الحديث في الحل والحرم، وهو موضع اتفاق بين العلماء.
واختلف العلماء هل يتعدى القتل إلى غيرها من المؤذيات أم لا؟
فقيل: لا يتعدى إلى غيرها.
وهذا مذهب أبي حنيفة وأهل الظاهر.
لأنها هي التي ورد بها النص.
وقيل: بل يتعدى إلى غيرها من كل مؤذ.
وهذا مذهب جمهور العلماء.
وأن ما جاء في الحديث على سبيل المثال.
قال ابن القيم: " إنما اختصت هذه بالذكر لينبه بها على ما في معناها، وأنواع الأذى مختلفة، فيكون ذكر نوع منها منبهاً على جواز قتل ما فيه ذلك النوع
…
".
وقال الشيخ ابن عثيمين: " والتنبيه بهذه الأمثلة يدل على أن ما كان مثلها في الحكم وما كان أشد منها فهو أولى منها بالحكم، ولهذا أخذوا قاعدة من ذلك، وقالوا: يسن قتل كل مؤذٍ ".
• مشروعية قتل كل ما فيه أذية من الحيوانات، كالذئب، والأسد، والفهد، والنمر.
• استدل بالحديث على تحريم أكل المذكورات في الحديث، لأن ما أمر بقتله فإنه يحرم أكله.
فائدة: أقسام الحيوانات من حيث القتل وعدمه:
• قسم أمر بقتله.
مثل الخمس في حديث الباب، ومثل الوزغ.
• قسم منهي عن قتله (النملة، والنحلة، والهدهد، والصرد).
• قسم سكت عنه (كالذباب، والصراصير، والجعلان
…
).
فهذه إن آذت قتلت، وإن لم تؤذ: فقيل يجوز قتلها، وقيل يكره، وهذا الأقرب.
لأن الله خلقها لحكمة، فلا ينبغي أن تقتل.
انتهى كتاب الحج ولله الحمد والمنة
باب الهدي والأضحية والعقيقة
الهدي: بكسر الدال هو ما يذبح في الحرم تقرباً إلى الله تعالى وإحساناً إلى الفقراء، وهو أنواع:
واجب: وهو هدي التمتع والقران.
مستحب: وهو ما يهدى إلى بيت الله الحرام تقرباً إلى الله.
والأضحية: ما يذبح من بهيمة الأنعام أيام الأضحى بسبب العيد تقرباً إلى الله. [وسيأتي تعريف العقيقة].
•
وهي مشروعة بالكتاب والسنة والإجماع:
قال تعالى (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) قال ابن كثير: "الصحيح أن المراد بالنحر ذبح المناسك، وهو ذبح البدن ونحوها ".
وقال تعالى (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ) المنسك المراد به هنا هو الذبح الذي يتقرب به إلى الله تعالى.
وقد ذكر ابن كثير عند هذه الآية أن هذه الآية تدل على أن ذبح المناسك مشروعة في جميع الملل.
وأما السنة:
فالأحاديث كثيرة وسيأتي بعضها في الشرح ومنها:
حديث البراء رضي الله عنه قال (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأضحى بعد الصلاة، فقال: من صلى صلاتنا ونسك نسكنا فقد أصاب النسك، ومن نسك قبل الصلاة فلا نسك له). متفق عليه
وأجمع المسلمون على مشروعيتها. قال في المغني: " أجمع المسلمون على مشروعية الأضحية ".
قال ابن القيم: " فإنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يدع الأضحية ".
•
الحكمة من مشروعيتها:
أولاً: تعظيم الله بذبح الأضاحي تقرباً إليه. (اراقة الدماء بنية الأضحية هذا من تعظيم الله).
ثانياً: إظهار شعائر الله تعالى.
ثالثاً: التوسعة على الأهل والفقراء والإهداء للجيران والأقرباء.
•
ذبح الأضحية أفضل من التصدق بثمنها،
لأمرين:
أولاً: أن إراقة الدم والذبح عبادة مقصودة، فإخراج القيمة فيه تعطيل لهذه الحكمة العظيمة.
ثانياً: أن الأضحية سنة النبي صلى الله عليه وسلم وعمل المسلمين إلى يومنا هذا، ولم ينقل أن أحداً منهم أخرج القيمة.
ثالثاً: اقتداء بأبينا إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
م/ تَقَدَّمَ مَا يَجِبُ مِنَ اَلْهَدْيِ، وَمَا سِوَاهُ سُنَّةٌ، وَكَذَلِكَ اَلْأُضْحِيَّةُ و اَلْعَقِيقَةُ.
أراد المصنف أن يبين أن الأضحية حكمها سنة، وكذلك العقيقة.
بعد أن أجمع المسلمون على مشروعية الأضحية [كما سبق] اختلفوا في وجوبها على قولين:
القول الأول: أنها واجبة. وهذا مذهب أبي حنيفة واختيار ابن تيمية رحمه الله.
لقوله تعالى (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) أن الله أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالنحر، والأمر يفيد الوجوب.
ولحديث أبي هريرة رضي الله عنهم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من كان له سعة ولم يضح فلا يقربن مصلانا) رواه أحمد وابن ماجه. صححه الحاكم وحسنه الألباني، وروي موقوفاً على أبي هريرة. ورجحه الترمذي والطحاوي والبيهقي وابن عبد الهادي والحافظ ابن حجر في الفتح.
وجه الدلالة: أنه قد خرج مخرج الوعيد على ترك الأضحية، والوعيد إنما يكون على ترك الواجب، مما يدل على أن الأضحية واجبة.
ولحديث جندب قال: قال صلى الله عليه وسلم (من ذبح قبل الصلاة فليذبح شاة مكانها، ومن لم يكن يذبح فليذبح على اسم الله) متفق عليه، فلو لم تكن الأضحية واجبة لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإعادة الذبح لمن ذبح قبل الصلاة.
القول الثاني: أنها غير واجبة.
وهذا مذهب الجمهور. [وقد قال كثير من أصحاب القول يقولون: يكره للقادر تركها].
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
لحديث أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يأخذ شيئاً من شعره وأظفاره) رواه مسلم.
قال الإمام الشافعي: " هذا دليل أن التضحية ليست بواجبة، لقوله صلى الله عليه وسلم (وأراد)، فجعله مفوضاً إلى إرادته ولو كان واجباً لقال صلى الله عليه وسلم (فلا يمس من شعره وبشره حتى يضحي) ".
قال ابن قدامة: "علقه على الإرادة، والواجب لا يعلق على الإرادة، فلو كانت واجبة لاقتصر على قوله: "إذا دخل العشر فلا يمس من شعره وبشره شيئا" ".
عن جابر رضي الله عنهم قال (صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عيد الأضحى فلما انصرف أتي بكبش فذبحه و قال: " بسم الله والله أكبر، اللهم هذا عني وعمن لم يضح من أمتي)
فالنبي صلى الله عليه وسلم ضحى عن أمته فهي تجزئ عمن تمكن منها ومن لم يتمكن منها.
ما أخرجه البيهقي عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهم أنهما كانا لا يضحيان السنة والسنتين مخافة أن يرى ذلك واجباً، مما يدل على أنهما لم يكونا يريان الوجوب. والراجح مذهب الجمهور.
وأما أدلة أصحاب القول الأول:
أما الآية فهي محتملة لوجوب النحر يوم العيد، وتحتمل معنى آخر كوضع اليدين عند النحر في الصلاة، ولو سلم أن المقصود بالنحر الذبح فالآية تدل على وقت النحر لا وجوبه.
وقيل: المراد بالآية تخصيص الرب سبحانه وتعالى بالنحر له لا لغيره.
وأما الحديث، فقال عنه ابن قدامة:" ضعفه أصحاب الحديث، ولو صح فيحمل على تأكيد الاستحباب كقوله صلى الله عليه وسلم (غسل الجمعة واجب على كل محتلم) ".
أما الحديث الآخر فلا يدل على وجوب الأضحية ابتداء، بل يدل على وجوب الأضحية إذا نوى أن يضحي وذبح قبل الصلاة فقد انقلب التطوع إلى فرض.
فبهذا يظهر رجحان مذهب الجمهور.
م/ وَلَا يُجْزِئُ فِيهَا إِلَّا: اَلْجَذَعُ مِنْ اَلضَّأْنِ، وَهُوَ: مَا تَمَّ لَهُ نِصْفُ سُنَّةٌ، وَالثَّنِيُّ، مِنْ اَلْإِبِلِ: مَا لَهُ خَمْسُ سِنِينَ، وَمِنْ اَلْبَقَرِ: مَا لَهُ سَنَتَانِ، وَمِنْ اَلْمَعْزِ: مَا لَهُ سَنَةٌ.
قوله (ولا يجزئ فيها) أي الأضحية والعقيقة والهدي.
أما الهدي والأضحية فيشترط فيها الشروط التي سيذكرها المؤلف بالإجماع، أما العقيقة ففيها خلاف سيأتي إن شاء الله.
• ذكر المصنف الشرط الأول من شروط الأضحية، وهو أن تبلغ السن المعتبرة. بأن يكون ثنياً إن كان من الإبل أو البقر أو المعز، وجذعاً إن كان من الضأن
م/ أَرْبَعٌ لَا تَجُوزُ فِي اَلْأَضَاحِيِّ اَلْعَوْرَاءُ اَلْبَيِّنُ عَوَرُهَا، وَالْمَرِيضَةُ اَلْبَيِّنُ مَرَضُهَا، وَالْعَرْجَاءُ اَلْبَيِّنُ ظَلْعُهَا، وَالْكَبِيرَة اَلَّتِي لَا تُنْقِي. صَحِيحٌ رَوَاهُ اَلْخَمْسَةُ.
ذكر المصنف رحمه الله الشرط الثاني من شروط الأضحية، وهي أن تكون سليمة من العيوب.
والعيوب تنقسم إلى قسمين:
عيوب غير مجزئة - وعيوب مجزئة لكنها مكروهة.
العيوب الغير المجزئة ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في حديث البراء الذي ذكره المصنف:
العوراء البين عورها: هي التي انخسفت عينها أو برزت.
المريضة البين مرضها: هي التي ظهر عليها آثار المرض، مثل: الحمى التي تقعدها عن المرعى، والجرب الظاهر المفسد للحمها، أو المؤثر على صحتها.
(إن كان فيها فتور أو كسل يمنعها من المرعى والأكل، أجزأت لكن السلامة منها أولى).
العرجاء البين عرجها: وهي التي لا تستطيع معانقة السليمة في المشي.
(فإن كان فيها عرج يسير لا يمنعها من معانقة السليمة أجزأت والسلامة منها أولى).
الكسيرة التي لا تنقي: يعني الهزيلة التي لا مخ فيها.
(فإن كانت هزيلة فيها مخ أو كسيرة فيها مخ أجزأت).
هذه الأربع المنصوص عليها وعليها أهل العلم، قال في المغني:"لا نعلم خلافاً في أنها تمنع الإجزاء".
ويلحق بهذه الأربع ما كان في معناها أو أولى:
العمياء: فهي أولى بعدم الإجزاء من العوراء البين عورها.
الزمنى: وهي العاجزة عن المشي لعاهة، لأنها أولى بعدم الإجزاء من العرجاء البين عرجها.
مقطوعة إحدى اليدين أو الرجلين: لأنها أولى بعدم الإجزاء من العرجاء البين عرجها.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
القسم الثاني: عيوب مجزئة لكنها مكروهة.
العضباء: وهي مقطوعة القرن أو الأذن.
المقابلة: وهي التي شقت أذنها من الأمام عرضاً.
المدابرة: وهي التي شقت أذنها من الخلف عرضاً.
الشرقاء: وهي التي شقت أذنها طولاً.
الخرقاء: وهي التي خرقت أذنها.
من الشروط التي لم يذكرها أن تكون الأضحية من بهيمة الأنعام.
ذهب عامة الفقهاء إلى أنه لا تجزئ الأضحية إلا من بهيمة الأنعام وهي (الإبل والبقر والغنم).
وذلك لقوله سبحانه وتعالى: {ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام} ولم تنقل الأضحية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير بهيمة الأنعام.
قال النووي: "وكل هذا مجمع عليه ".
• وأفضل بهيمة الأنعام: الإبل ثم البقر ثم الغنم.
ومن الشروط التي لم يذكرها المؤلف: أنه لابد أن تكون في الوقت المحدد للذبح.
أول وقتها بعد صلاة العيد، والأفضل أن يؤخر حتى تنتهي الخطبة. لحديث البراء رضي الله عنه قال:(إن أول ما نبدأ في يومنا هذا أن نصلي ثم ننحر، فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا، ومن نحر قبل الصلاة فإنما هو طعام قدمه لأهله ليس من النسك في شيء). متفق عليه
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقال جندب بن سفيان رضي الله عنه: (صلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر ثم خطب ثم ذبح). رواه البخاري
وفي حديث آخر قال جندب (شهدت الأضحى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قضى صلاته بالناس قال: من ذبح قبل الصلاة فليذبح شاة مكانها، ومن لم يكن ذبح فليذبح على اسم الله) متفق عليه.
واختلف إلى متى يستمر:
قيل: إلى آخر يومين بعده يعني يوم العيد واليوم الحادي عشر واليوم الثاني عشر (وهذا مذهب الحنابلة).
وقيل: يستمر إلى 3 أيام بعد يوم العيد، فتكون أيام الذبح 4 يوم العيد و 3 أيام بعده وهذا الأقرب وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم فينتهي بغروب شمس اليوم 13 من ذي الحجة.
قال ابن القيم: "وقد قال علي بن أبي طالب: أيام النحر: يوم الأضحى، وثلاثة أيام بعده، وهو مذهب إمام أهل البصرة الحسن، وإمام أهل الكوفة عطاء بن أبي رباح، وإمام أهل الشام الأوزاعي، وإمام فقهاء أهل الحديث الشافعي، واختاره ابن المنذر، ولأن الثلاثة تختص بكونها: أيام منى، وأيام النحر، وأيام التشريق، ويحرم صيامها، فهي إخوة في هذه الأحكام، فكيف تفترق في جواز الذبح بغير نص ولا إجماع» ". [زاد المعاد 2/ 291]
جاء في حديث عند أحمد: (كل أيام التشريق ذبح) لكن مختلف في صحته.
• إذا كان المضحي في مكان لا يُصلى فيه العيد كالبادية، فإن وقت الأضحية يبدأ فيما يمضي من قدر صلاة العيد.
م/ وَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ كَرِيمَةً، كَامِلَةَ اَلصِّفَاتِ وَكُلَّمَا كَانَتْ أَكْمَل فَهِيَ أَحَبُ إِلَى اللهِ، وَأَعْظَمُ لِأَجْرِ صَاحِبُهَا.
الأفضل من كل جنس أسمنه، وأكثره لحماً، وأكمله خلقة، وأحسنه منظراً، فكلما كانت البهيمة أكمل خلقة كانت أعظم أجراً وثواباً.
(ومن يعظم شعائر الله) تعظيمها استسمانها واستحسانها.
واختار ابن تيمية أن الأفضل الأكثر ثمناً.
مثال: خروف قيمته 600 وخروف قيمته 1000 هذا أعظم أجراً وثواباً وأكثر تعظيماً لشعائر الله.
عن أنس رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضحي بكبشين أملحين أقرنين، ويسمي ويكبر ويضع رجله على صفاحهما) وفي لفظ: (ذبحهما بيده). متفق عليه، وفي لفظ (سمينين) وهذا عند أبي عوانة.
ولمسلم يقول (بسم الله والله أكبر).
وعن عائشة رضي الله عنها: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بكبش أقرن يطأ في سواد، ويبرك في سواد، وينظر في سواد، وأخذ الكبش فأضجعه ثم ذبحه ثم قال: بسم الله، اللهم تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد، ثم ضحى به). رواه مسلم.
[بكبشين] تثنية كبش والكبش فحل الضأن في أي سن كان، [أقرنين] أي لكل واحد منهما قرنين كبيرين معتدلين. [صفاحهما] الصفاح هي الجوانب والمراد الجانب الواحد، والمعنى: أي على صفاح كل واحد منهما. [الأملح] ما خالط بياضه سواد والأبيض أكثر. [يطأ في سواد] يعني أن قوائمه فيها سواد [يبرك في سواد] يعني بطنه وما حواليه فيه سواد. [ينظر في سواد] يعني ما حول عينيه أسود.
وعن أبي داود عن جابر رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين موجوءين)، [موجوءين] أي خصيين.
قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله: " والكبش الخصي أفضل من حيث أنه أطيب لحماً في الغالب ".
وعند أبي داود أيضاً من حديث أبي سعيد رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين فحيلين). [الكبش الفحيل] هو القوي في الخلقة.
م/ وَقَالَ جَابِر (نَحَرْنَا مَعَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم عَامَ الحُدَيبِيَّةِ البَدَنَة عَنْ سَبْعَة، وَالبَقَرَة عَنْ سَبْعَة) رواه مسلم.
الاشتراك في الأضحية ينقسم إلى قسمين:
اشتراك في الملك - واشتراك في الثواب.
أما الاشتراك الملك: أن يشترك شخصان فأكثر في أضحية فهذا يجوز في الإبل والبقر للحديث الذي ذكره المصنف.
يعني لو كان هناك سبعة أبيات اشتركوا في بدنة فنقول بأن هذا مجزئ ولا بأس به.
والبقرة أيضاً من البدن فلو كان هناك سبعة أبيات اشتركوا في بقرة وذبحوها أضحية فإنها تجزئ.
وأما الاشتراك في الغنم فلا يجوز: بأن يشترك بيتان في التضحية بشاة واحدة فإنه لا يصح.
لأن الأضحية عبادة ولم ترد إلا على هذا الوجه عن كل بيت أضحية مستقلة.
وهل يصح أن يشترك أهل البيت الواحد في أضحية؟
هذا موضع خلاف بين أهل العلم رحمهم الله:
مثال: نحن في البيت نشترك في أضحية أنا وأخي، أدفع أنا 400 وأخي يدفع 400، هذا موضع خلاف:
قيل: لا يجوز.
لان الأضحية قربة وعبادة فلا يجوز ايقاعها إلا على الوجه المشروع زمناً وعدداً وكيفية.
ولو كان التشريك في الملك جائزا - في غير الإبل والبقر - لفعله الصحابة - فإنهم كانوا أحرص الناس على الخير، وفيهم فقراء كثيرون لا يستطيعون الأضحية كاملة - لو فعلوها لنقل عنهم.
وقيل: يجوز، وهو ظاهر كلام ابن القيم، والراجح عدم الجواز.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الاشتراك في الثواب:
أن يكون مالك الأضحية واحداً ويشَرّك غيره من المسلمين في ثوابها فهذا جائز، وللإنسان أن يُشَرّك معه من شاء مهما كثر الأشخاص وفضل الله واسع.
عن عائشة (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذبح أضحيته قال: تقبل من محمد ومن آل محمد .... )
وعند أحمد (أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أحدهما عنه وعن أهله والآخر عن أمته جميعاً).
وفي حديث أبي سعيد (يضحي بكبشين أحدهما عنه والآخر عمن لم يضح من أمته).
بابه واسع وأمره واسع.
• تجزئ الشاة الواحدة عن الرجل وعن أهل بيته.
ويدل لذلك ما روته عائشة كما في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بالأضحية وقال: (يا عائشة هلمي المدية ثم قال: اشحذيها، ثم قال: بسم الله اللهم تقبل عن محمد وآل محمد ومن أمة محمد، ثم ضحى) فهذا يدل على أن الأضحية بالشاة الواحدة تجزئ عن الرجل وعن أهل بيته.
وأيضاً حديث أبي رافع رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أحدهما عنه وعن آل محمد والآخر عن أمة محمد.
وأيضاً حديث أبي أيوب رضي الله تعالى عنه قال: كان الرجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته فيأكلون ويطعمون، وهذا الحديث أخرجه ابن ماجه.
• لو كان عنده أكثر من بيت كما لو كان له زوجتان أو ثلاث وعنده بيوت متعددة فإن ظاهر السنة أنه يكتفي بشاة واحدة لأن النبي صلى الله عليه وسلم عنده تسعة أبيات ومع ذلك لم يعدد النبي صلى الله عليه وسلم الأضحية.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
مسائل:
سئل فضيلة الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
فضيلة الشيخ: إذا كان الأب له أولاد وبعضهم متزوج، هل تكفي أضحية الأب عن الأبناء مع أن لهم زوجات، أم يذبح الوالد عن نفسه والولد عن نفسه والزوجة عن نفسها وكذلك كل من كان له مرتب؟ ما نصيحتك لمن كانوا عائلة في بيت واحد؟
الجواب: "إذا كانوا عائلة في بيت واحد كفتهم أضحية واحدة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بأضحية واحدة عنه وعن أهل بيته، وكان نساؤه اللاتي معه تسع نساء، ومع ذلك ضحى عنهن بأضحية واحدة، أما إذا كان هؤلاء الأبناء كل واحد في بيت منفردٍ عن الآخر، فإن على كل واحد منهم أضحية، ولا تكفي أضحية الوالد عنهم".
أولاً: يجوز الذبح ليلاً من غير كراهة.
وقد ذهب بعض العلماء إلى كراهته واستدلوا بحديث رواه الطبراني.
والصحيح أنه لا يكره وهو قول الجماهير لعدم الدليل على الكراهة، وأما الحديث الوارد فهو لا يصح وقد عزاه الهيثمي للطبراني وقال: فيه راوٍ متروك.
ثانياً: أن الأفضل في الأضحية الإبل ثم البقر ثم الغنم، وهذا مذهب جماهير العلماء.
لحديث أبي هريرة. قال: قال صلى الله عليه وسلم (من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، ومن راح في
الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً .. ) متفق عليه.
قال النووي: "وفيه أن التضحية بالإبل أفضل من البقرة، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قدَّمَ الإبل، وجعلَ البقرة في الدرجة الثانية ".
قالوا: ولأن الأضحية ذبح يتقرب به إلى الله - وما دام أن المقصود هو التقرب فالبدنة أفضل.
قالوا: ولأنها أغلى ثمناً وأكثر لحماً وأنفع للفقراء.
قال ابن قدامة: " ولأنه ذبح يتقرب به إلى الله تعالى، فكانت البدنةُ فيه أفضل، كالهدي فإنه قد سلَّمَه ". ولأنها أكثر ثمناً ولحماً وأنفع.
ثالثاً: السنة أن يسمي ويقول الله أكبر.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
التسمية على الذبيحة شرط لا تصح بدونها، أما التكبير فهو سنة.
عن أنس رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضحي بكبشين أملحين أقرنين، ويسمي ويكبر ويضع رجله على صفاحهما) وفي لفظ: (ذبحهما بيده). متفق عليه.
وفي رواية يقول (بسم الله، الله أكبر).
رابعاً: الأفضل أن يتولى ذبحها بنفسه إذا كان يجيد التذكية بنفسه.
ويدل لهذا أن النبي صلى الله عليه وسلم ذبح ثلاث وستين بيده، ثم أمر علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أن يكمل الباقي.
وأيضاً إذا تولاها بنفسه الذبح هذا عبادة وقربة من أجل العبادات فيكون فعل هذه العبادة.
يعني إذا تولاها بنفسه يكون استفاد ثلاث فوائد:
الفائدة الأولى: الإقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم.
الفائدة الثانية: فعل هذه العبادة.
الفائدة الثالثة: أنه يطمئن إلى فعل هذه العبادة بشروطها الشرعية.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "في إرسال الضحايا للخارج تفويت لمصالح عظيمة:
أولاً: إخفاء شعيرة من شعائر الله في بلادك وهي: الأضحية.
ثانياً: يفوتك التقرب إلى الله تعالى بذبحها؛ لأن المشروع في الأضحية أن يباشر الإنسان ذبحها بيده، فإن لم يحسن فقال العلماء: يحضر ذبحها، وهذا يفوته.
ثالثاً: يفوتك ذكر اسم الله عليها؛ لأن الأضحية إذا كانت عندك في البلد، فأنت الذي تذكر اسم الله عليها، وقد أشار الله إلى هذه الفائدة بقوله: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فتذهب أضحيتك إلى مكان بعيد لا تدري هل يذكر اسم الله عليها أم لا، وتحرم نفسك من ذكر اسم الله عليها.
رابعاً: يفوتك أن تأكل منها، لأنها إذا كانت في البوسنة والهرسك و الشيشان و الصومال وغيرها هل يمكن أن تأكل منها؟! لا. يفوتك الأكل منها وقد قال الله عز وجل:(فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ)(فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ) فبدأ بالأكل، ولهذا ذهب بعض علماء المسلمين إلى أن الأكل من الأضحية واجب، كما تجب الصدقة يجب الأكل، وهذا قطعاً يفوت إذا ضحيت في غير بلادك.
خامساً: أنه يفوتك التوزيع المطلوب؛ لأن المطلوب في الأضحية أن تأكل وتهدي وتتصدق، وهذا يفوت، إذا وزعت هناك لا ندري أتوزع صدقة على الفقراء، أم هدية على أغنياء، أم هدية على قوم ليسوا بمسلمين؟
سادساً: أنك تحرم أهل بلدك من الانتفاع بهذه الأضاحي، أن تقوم بالإهداء إلى جيرانك وأصحابك من الأضحية، وبالصدقة على فقراء بلدك، لكن إذا ذهبت هناك فات هذا الشيء.
سابعاً: أنك لا تدري هل تذبح هذه على الوجه الأكمل أو على وجه خلاف ذلك، ربما تذبح قبل الصلاة، وربما تؤخر عن أيام التشريق، وربما لا يسمِ عليها الذابح، كل هذا وارد، لكن إذا كانت عندك ذبحتها على ما تريد، وعلى الوجه الأكمل، ولهذا ننصح بألا تدفع الدراهم ليضحى بها خارج البلاد، بل تضحى هنا، وننصح -أيضاً- بأن من عنده فضل مال فليتصدق به على إخوانه المحتاجين في أي بلاد من بلاد المسلمين، ولتكن الأضحية له من غير غلو ولا تقصير". أ. هـ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
خامساً: يجوز للمرأة أن تذبح الذبيحة.
فقد جاء في صحيح البخاري (أن جارية لكعب بن مالك كانت ترعى غنماً بسلع، فأصيبت شاة منها، فأدركتها فذكتها بحجر، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كلوها).
قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله: "وفي هذا الحديث فوائد سبعة:
إحداها: إباحة ذبيحة المرأة.
الثانية: إباحة ذبيحة الأمة.
الثالثة: إباحة ذبيحة الحائض، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستفصل.
الرابعة: إباحة الذبح بالحجر.
الخامسة: إباحة ذبح ما خيف عليه الموت.
السادسة: حل ما يذبحه غير مالكه بغير إذنه.
السابعة: إباحة ذبحه لغير مالكه عند الخوف عليه ".
خامساً: إذا دخلت العشر وأراد أحد أن يضحي فإنه يجب أن يمسك عن الأخذ من شعره وأظفاره.
عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا رأيتم هلال ذي الحجة - وفي لفظ: إذا دخلت العشر - وأراد أحدكم أن يضحي، فليمسك عن شعره وأظفاره). رواه مسلم
وفي رواية: (لا يمس من شعره ولا بشره شيء).
• اختلف العلماء في النهي، هل هو للتحريم أم للكراهة، واختار الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله أن النهي للتحريم لأنه أصل في النهي).
• قال النووي: "والحكمة في النهي أن يبقى كامل الإجزاء ليعتق من النار، وقيل: التشبه بالمحرم، قال أصحابنا: هذا غلط لأنه لا يعتزل النساء، ولا يترك الطيب واللباس وغير ذلك مما يتركه المحرم) ".
سادساً: الأضحية عن الميت استقلالاً.
• اختلف العلماء فيها على قولين:
القول الأول: أنها مشروعة.
لأنها نوع من الصدقة فما دام أن الصدقة تصح عن الميت بالإجماع فلتكن الأضحية تصح عن الميت كذلك.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
القول الثاني: غير مشروعة.
لأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ضحى عن الأموات وقد ماتت زوجته خديجة وهي أحب النساء ومات عمه حمزة وهو أحب أعمامه إليه ولم ينقل أنه ضحى عن واحد منهما.
• وأما إذا أوصى الميت بأضحية بثلث ماله فانه يجب على القائم على الوصية أن ينفذها.
فوائد:
أولاً: لا يصح حديث في فضل الأضحية.
قال الإمام ابن العربي المالكي: " ليس في فضل الأضحية حديثٌ صحيحٌ، وقد روى الناس فيها عجائب لم تصح، منها قوله: (إنها مطاياكم إلى الجنة ".
ثانياً: اختلف العلماء في الأضحية للحاج على قولين:
الأول: ذهب جمهور أهل العلم، بما فيهم الشافعية والحنابلة والظاهرية، إلى أن الأضحية مشروعة في حق جميع الناس، أهل البوادي والحضر، المقيم والمسافر والحاج سواء، وبه قال الإمام البخاري.
وقال الإمام الشافعي: "الأضحية سنة على كل من وجد السبيل من المسلمين، من أهل المدن والقرى وأهل السفر والحضر والحاج بمنى وغيرهم، من كان معه هدي ومن لم يكن معه هدي ".
لعموم الأدلة الواردة في الأضحية وأنها تشمل جميع الناس بدواً وحضراً، المقيم والمسافر فيها سواء.
القول الثاني: أنه ليس على الحاج أضحية، وهذا مذهب مالك ورجحه الشنقيطي رحمه الله.
يرى الإمام مالك أن الحاج إنما هو مخاطب في الأصل بالهدي، فإذا أراد أن يضحي جعله هدياً، والناس غير الحاج إنما أمروا بالأضحية، ليتشبهوا بأهل منى فيحصل لهم حظ من أجرهم.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقال الشيخ العلامة محمد الأمين الشنقيطي، بعد أن ذكر الخلاف في المسألة - مرجحاً مذهب الإمام مالك ما نصه:" أظهر القولين دليلاً عندي في هذا الفرع قول مالك وأصحابه وإن خالفهم الجمهور، وأن الأضحية لا تسن للحاج بمنى، وأن ما يذبحه هدي لا أضحية، وأن الاستدلال بحديث عائشة المتفق عليه المذكور آنفاً لا تنهض به الحجة على مالك وأصحابه، ووجه كون مذهب مالك أرجح في نظرنا هنا مما ذهب إليه جمهور أهل العلم، هو أن القرآن العظيم دالٌ عليه، ولم يثبت ما يخالف دلالة القرآن عليه، سالماً من المعارض من كتاب أو سنة، ووجه دلالة القرآن على أن ما يذبحه الحاج بمنى هدي لا أضحية، هو ما قدمناه موضحاً لأن قوله تعالى: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ. لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا) فيه معنى أذن في الناس بالحج: يأتوك مشاةً وركباناً لحكم. منها: شهودهم منافع لهم، ومنها: ذكرهم اسم الله عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ عند ذبحها تقرباً إلى الله، والذي يكون من حكم التأذين فيهم بالحج، حتى يأتوا مشاةً وركباناً، ويشهدوا المنافع ويتقربوا بالذبح، إنما هو الهدي خاصة دون الأضحية لإجماع العلماء على أن للمضحي: أن يذبح أضحيته في أي مكان شاءه من أقطار الدنيا، ولا يحتاج في التقرب بالأضحية، إلى إتيانهم مشاة وركباناً من كل فج عميق، فالآية ظاهرة في الهدي، دون الأضحية، وما كان القرآن أظهر فيه وجب تقديمه على غيره ".
باب العقيقة
تعريفها:
هي الذبيحة التي تذبح عن المولود يوم سابعه.
م/ وَتُسَنُّ اَلْعَقِيقَةُ فِي حَقِّ اَلْأَبِ.
قول المصنف (وتسن العقيقة): دليل على أن العقيقة حكمها سنة، وقد اختلف العلماء في حكمها على قولين:
القول الأول: أنها واجبة.
وهو قول الحسن البصري وهو قول الظاهرية.
لحديث سلمان بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (مع الغلام عقيقة، فأهريقوا عنه دماً وأميطوا عنه الأذى) رواه البخاري. أميطوا الأذى: المقصود بإماطة الأذى هنا حلق الرأس وتطييبه بطيب طيب.
ولحديث سمرة قال: قال صلى الله عليه وسلم (كل غلام مرتهن بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه ويسمى فيه) رواه أبو داود
فقوله مرتهن يدل على الوجوب لأن الرهن شيء لازم.
القول الثاني: أنها مستحبة غير واجبة.
وهذا مذهب الجمهور.
لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في العقيقة (من أحب منكم أن ينسك عن ولده فليفعل: عن الغلام شاتان مكافئتان، وعن الجارية شاة) رواه أبو داود
قال الشوكاني: " احتج الجمهور بقوله صلى الله عليه وسلم «من أحب أن ينسك عن ولده فليفعل
…
» وذلك يقتضي عدم الوجوب لتفويضه في الاختيار ".
• قوله (في حق الأب).
العق مطلوب من والده، فهو المخاطب به في الأحاديث النبوية، لكن يصح ذلك من غيره، فيجوز أن يتبرع بالعقيقة أحد أقاربه وأحبابه كجده أو عمه أو خاله.
• وقد سبق قول المصنف (وكذلك الأضحية والعقيقة لا يجزئ فيها إلا الجذع من الضان وهو ما تم
…
) فالمصنف يرى أنه يشترط في العقيقة ما يشترط في الأضحية، وهذه المسألة اختلف العلماء فيها على قولين:
القول الأول: يشترط في العقيقة ما يشترط في الأضحية.
قالوا: قياساً على الأضحية بجامع أن كلاً منهما نسك مشروع.
وعلى هذا القول: يشترط في العقيقة أن تكون سليمة من العيوب، وأن تبلغ السن المعتبرة.
القول الثاني: لا يشترط في العقيقة ما يشترط في الأضحية.
وهو قول جماعة من العلماء ورجحه الشوكاني.
وهذا الصحيح.
• الحكمة من العقيقة:
لأنها مظهر من مظاهر الشكر على نعم الله على الوالدين ومنها نعمة هذا المولود الذي يؤمل بره ونفعه.
م/ عَنْ اَلْغُلَامِ شَاتَانِ، وَعَنْ اَلْجَارِيَةِ شَاةٌ.
وهذا ما عليه جمهور العلماء.
لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في العقيقة (من أحب منكم أن ينسك عن ولده فليفعل: عن الغلام شاتان مكافئتان، وعن الجارية شاة) رواه أبو داود
ولحديث عائشة (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم: أن يعق عن الغلام شاتان مكافئتان، وعن الجارية شاة) رواه الترمذي.
• وقوله في هذه الأحاديث (شاة) ذهب بعض العلماء إلى أنه لا يجزئ في العقيقة غير الشاة، لأن الأحاديث وردت بذكر الشاة.
وذهب جمهور العلماء إلى أنه يجزئ في العقيقة الإبل والبقر والغنم لكن الشاة أفضل.
وهؤلاء الذين قالوا بالجواز قالوا لا يجوز إلا أن يخرجه كاملاً، فلا يجوز الاشتراك في العقيقة.
فلا يجوز أن يأتي سبعة ويشتركون في بقرة، وواحد منهم يريد أن يكون نصيبه عقيقة عن بنت.
م/ قَالَ صلى الله عليه وسلم: (كُلِّ غُلَامٍ مُرْتَهَنٌ بِعَقِيقَتِهِ، تُذْبَحُ عِنْدَ يَوْمِ سَابِعِهِ، وَيُحْلَقُ وَيُسَمَّى) صَحِيحٌ، رَوَاهُ اَلْخَمْسَةُ.
ذكر المصنف رحمه الله الحديث الدال على وقت العقيقة.
فأفضل وقت لذبح العقيقة هو اليوم السابع.
• اليوم السابع هو اليوم الذي قبل الولادة، فإذا ولد يوم السبت تذبح يوم الجمعة، وإذا ولد يوم الخميس تذبح يوم الأربعاء، وهكذا).
• فإن فات الذبح في اليوم السابع ففي الرابع عشر، فإن فات ففي إحدى وعشرين، روي ذلك عن عائشة، قال الترمذي:"العمل عليه عند أهل العلم، يستحبون أن يذبح عن الغلام العقيقة اليوم السابع، فإن لم يتهيأ اليوم السابع ففي الرابع عشر، فإن لم يتهيأ عق عنه في يوم إحدى وعشرين، ثم لا تعتبر الأسابيع بعد ذلك فيعق في أي يوم شاء".
• قوله في الحديث (كل غلام) أريد به مطلق المولود ذكراً كان أو أنثى.
قوله (مرتهن بعقيقته) اختلف في معناها على أقوال:
قيل: الإمساك عن تفسيرها لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفسرها ولا يجوز القول على الله بغير علم فهو مرتهن فالله أعلم بكيفية هذا الارتهان، اختاره ابن باز رحمه الله.
وقيل: إن نشأة المولود الصحيحة وكمال الانتفاع به رهينة بالعقيقة كما أن الرهن لا ينتفع به كمال الانتفاع إلا بعد فكه، قالوا: هكذا المولود لا يتم الانتفاع به كمال الانتفاع حتى يفك عنه هذه الرهينة التي هي العقيقة.
وقيل: أن المولود مرهون ومحبوس لا يشفع لوالديه يوم القيامة حتى يعق عنه وهذا مروي عن الإمام أحمد
وقد قال به قبله عطاء الخُراساني ومحمد بن مطرف.
وضعف ابن القيم هذا المعنى، وضعفه كذلك الشيخ ابن باز رحم الله الجميع.
والراجح هو الإمساك.
م/ وَيَأْكُلُ مِنْ اَلْمَذْكُورَاتِ، وَيُهْدِي، وَيَتَصَدَّقُ.
السنة أن يأكل من الأضحية ومن الهدي ويهدي للأقارب ويتصدق على الفقراء.
قال تعالى: {فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير} .
وجاء في الحديث عند أحمد (كلوا وأطعموا وادخروا).
فللمضحي أن يتصدق في الثلث، ويهدي الثلث، هذا هو الأفضل، وإن فعل غير ذلك جاز.
• وقالت الظاهرية: بوجوب الأكل.
م/ وَلَا يُعْطِي اَلْجَازِرَ أُجْرَتَهُ مِنْهَا بَلْ يُعْطِيهِ هَدِيَّةً أَوْ صَدَقَةً.
لحديث علي قال (أمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أقوم على بدنهِ، ....... وأن لا أعطي الجزار منها شيئاً وقال: نحن نعطيه من عندنا) متفق عليه.
فلا يجوز أن يعطي الجزار شيئاً، لأمرين:
أولاً: للحديث السابق.
ثانياً: لأنه رجوع فيما أخرجه لله عز وجل.
فوائد:
أولاً: حديث (كل غلام مرتهن بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه ويسمى فيه) يدل على أن تسمية المولود تكون في اليوم السابع، وهذا إن لم يكن هيئ الاسم من قبل، فإن كان الاسم مهيأ ومعروف من قبل فإنه يسمى يوم الولادة، لحديث:«أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أهله فقال: «ولد لي الليلة ولد سميته على اسم أبي إبراهيم» .
ثانياً: لا بأس بكسر عظام العقيقة:
لأنه لم يصح في المنع شيء، وهذا مذهب الإمام مالك.
• ذهب بعض العلماء إلى أن عظام العقيقة لا تكسر، واستدلوا ببعض الآثار التي لا تصح، كقول عائشة: السنة فيها أنها لا يكسر لها عظم.
تم الشرح
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد
بسم الله الرحمن الرحيم
شرح
منهج السالكين
وتوضيح الفقه في الدين
للعلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي (1376 هـ).
كتاب البيوع
دورة ورثة الأنبياء [مكتب والدعوة والإرشاد برفحاء.
دورة علمية في تاريخ: 7/ 5/ 1430 هـ إلى 11/ 5/ 1430 هـ
باب شروط البيع - باب الربا - بعض البيوع المحرمة - بيع الأصول والثمار - باب الخيار - باب السلم
باب الرهن - باب الضمان والكفالة - باب الحجْر - باب الحوالة - باب الصلح - باب الوكالة - باب المساقاة والمزارعة
باب الشركة - باب إحياء الموات - باب جعالة - باب الإجارة - باب اللقطة واللقيط - باب المسابقة والمغالبة - باب الغصب
باب العارية - باب الوديعة - باب الشفعة.
بقلم
سليمان بن محمد اللهيميد
السعودية - رفحاء
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
…
أما بعد:
فهذا شرح كتاب منهج السالكين في توضيح الفقه في الدين للعلامة عبد الرحمن السعدي رحمه الله،
قمت بشرحه في مدينة رفحاء ضمن الدورة العلمية الأولى التي أقامها مكتب الدعوة والإرشاد برفحاء.
أسال الله العظيم رب العرش العظيم أن يرزقنا العلم النافع، والعلم الصالح
وهذه المذكرة تتضمن كتاب البيوع كاملاً
أخوكم
سليمان بن محمد اللهيميد
السعودية - رفحاء
كتاب البيع
مقدمة:
تعريف البيع:
لغة: أخذ شيء وإعطاء شيء، وسمي بيعاً من الباع، لأن كلاً من الآخذ والمعطي يمد يده.
واصطلاحاً: هو مبادلة مال بمال على التأبيد غير ربا وقرض.
قولنا (على التأبيد) احترازاً من الإجارة، فالإجارة مبادلة مال بمال ولكن ليس على سبيل التأبيد.
مثال: كأن أشتري منك هذا البيت لمدة سنة، هذا ليس بيعاً لكن إجارة.
قولنا (غير ربا) فإنه ليس من البيع لقوله تعالى (وحرم الربا)، مع أنه مبادلة.
مثال: كأن أعطيك ريال بريالين.
أن التفريق بينهم في الحكم دليل على التفريق بينهما في الحقيقة، فإن حقيقة البيع غير حقيقة الربا لأن الله فرق بينهما.
قولنا (وقرض) فالقرض لا يسمى بيعاً، وإن كان فيه مبادلة، لأن القصد من القرض الإرفاق والإحسان، والبيع القصد منه المعاوضة.
المال يطلق على كل شيء له قيمة سواء كان نقداً {كالذهب والفضة} أو كان منقولاً {كالكتب والأقلام والثياب .. } وهكذا الدواب والبهائم، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: ما من صاحب مال لا يؤدي زكاتها .. ثم ذكر الذهب والفضة والإبل والبقر والغنم، فاعتبر الإبل والبقر والغنم مالاً، وفي حديث الأعمى {أمسك عليك مالك} وقد كان له واد من الغنم).
قال العلماء: سمي المال مالاً لأن النفس تميل إليه.
والبيع جائز بالكتاب والسنة والإجماع والقياس:
قال تعالى (وأحل الله البيع).
وقال تعالى (وأشهدوا إذا تبايعتم) فهذا دليل على مشروعيته، لأن الله سبحانه وتعالى لا يأمر بالإشهاد إلا على أمر مباح.
وقال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) فمنع سبحانه من البيع قبل الصلاة بعد الأذان للجمعة وفي أثنائها، ثم أذِنَ فيه بعد الصلاة، والأمر إذا جاء بعد نهي فهو إباحة.
وقال صلى الله عليه وسلم (البيعان بالخيار) متفق عليه.
وقال صلى الله عليه وسلم (رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى) رواه البخاري.
عن رفاعة. (أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل أي الكسب أطيب؟ قال (عمل الرجل بيده وكل بيع مبرور) رواه البزار.
وعن حكيم بن حزام (أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنه يأتيني الرجل يريد البيع ليس عندي فأذهب إلى السوق فأشتريه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تبع ما ليس عند) رواه الترمذي، فدل بمفهومه على جواز بيع ما عنده.
وأجمع المسلمون على جوازه، قال ابن قدامة: وأجمع المسلمون على جواز البيع في الجملة.
والحكمة تقتضبه: وذلك لأن مصالح الناس تحتاج إلى البيع، فقد يكون عند رجل دراهم وليس عنده لباس أو طعام، أو صاحب طعام ونحوه في حاجة إلى دراهم، فيتوصل كل منهم إلى مقصوده بواسطة البيع، وهذا من رحمة الله بعباده.
البيع له صيغتان:
صيغة قولية _ وصيغة فعلية
الصيغة القولية (وهي الإيجاب والقبول).
الإيجاب: اللفظ الصادر من البائع أو من يقوم مقامه كالوكيل.
والقبول: اللفظ الصادر من المشتري.
مثال: يقول البائع بعتك هذه السيارة {هذا إيجاب} ، فيقول المشتري قبلت {هذا قبول} .
الصيغة الفعلية (وتسمى المعاطاة).
وهي أن يدفع المشتري الثمن ويدفع البائع السلعة بدون لفظ بينهما.
(كما يحصل في الأسواق الحديثة حيث تأتي وتأخذ السلعة وتعطيه الثمن).
وقد اختلف العلماء في صحة البيع بهذه الصيغة:
والراجح أنه يصح البيع بهذه الصيغة (وهذا مذهب المالكية والحنابلة واختاره النووي).
لأن الله قال (وأحل الله البيع) فأطلق الله، ولم يقل أحل البيع بصورة كذا، أو بصورة كذا.
(هناك أقوال أخرى في المسألة: قيل: لا يصح البيع بهذه الصيغة وهذا مذهب الشافعي، وقيل: يصح في الأشياء اليسيرة دون الأشياء النفيسة).
المعاطاة لها صور:
{من الطرفين} كأن يكون السعر مكتوب على السلعة، فيأخذ المشتري السلعة ويعطي البائع القيمة.
{من المشتري} أن يقول البائع للمشتري خذ هذه بعشرة (إيجاب) فأخرج المشتري العشرة وأعطاه إياها ولم يقل قبلت.
{من البائع} أن يقول المشتري أعطني هذه بعشرة، فأخذها صاحب المحل وأعطاه إياها ولم يقل بعت.
م/ الأصل فيه الحل، قال تعالى (وأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا).
أي: أن الأصل في البيع الحل، فكل صورة من صور البيع يدعى أنها حرام فعلى المدعي البينة أي الدليل، فإذا شككنا في بيع هل هو حلال أو حرام، فالأصل أنه حلال. (وهذا ضابط مهم).
واستدل الشيخ لهذا بالآية (وأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ) أي جعله حلالاً مأذوناً فيه (وَحَرَّمَ الرِّبا) أي جعله حراماً ممنوعاً.
م/ فجميع الأعيانِ من عقارٍ وحيوان وأثاث وغيرها.
فجمع الأعيان من عقار: كالأراضي والدور والدكاكين. [ضابط العقار: ما لا يُنقل].
وحيوان: المراد به الحيوان الذي يباح الانتفاع به، ويخرج بذلك الكلب لأنه لا يجوز بيعه.
وأثاث: مثل الأواني والفرش وغير ذلك كالسيارات والمواد الغذائية والأدوات المدرسية وغيرها.
م/ يجوز إيقاع العقود عليها إذا تمت
شروط البيع.
أي: يجوز بيعها إذا تمت شروط البيع.
العقد معناه: الالتزام بين طرفين بنوع من التصرف.
قوله (إذا تمت شروط البيع) وهي سبعة عرفت بالتتبع والاستقراء لنصوص الشريعة، والمقصود من هذه الشروط تحصين البيع من أمور ثلاثة:[الظلم، والغَرر، والربا] وهذه الشروط بعضها في البائع والمشتري، وبعضها في المعقود عليه، وبعضها في الثمن.
الشرط الأول: الرضا.
م/ فمن أعظم الشروط الرضا: لقوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ).
هذا الشرط الأول من شروط البيع: وهو الرضا، وهو أن يتراضيا البائع والمشتري، والمعنى: أن يأتيا بالبيع اختياراً.
دليل هذا الشرط: الآية التي ذكر المصنف رحمه الله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ) بأي طريق باطل من كذب وغش وخداع (إِلَّا أَنْ تَكُونَ) هذه الأموال (تِجَارَةً) أي معاوضة بالبيع والشراء فهذه حلال لكم (عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ) أي: صادرة عن تراض منكم.
وعن أبي سعيد. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنما البيع عن تراض) رواه ابن حبان.
وقال صلى الله عليه وسلم (لا يحل مال امرئ مسلمٍ إلا عن طيبِ نفسٍ منه) ومن المعلوم أنه إذا لم يحصل رضا لم يحصل طيب نفس.
ومن النظر: لأنه لو قلنا لا يشترط الرضا لأدى ذلك إلى العدوان والفوضى، فكل من أراد مال غيره يأخذه قهراً ويعطيه ثمنه، وهذا فتح لباب الفوضى والعدوان.
• فإن أكره البائع أو المشتري على البيع لم يصح، لعموم الأدلة الدالة على أن المكره لا يؤاخذ ولا يترتب على عقوده شيء كما قال تعالى (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ).
مثال: لو أن سلطاناً أرغم شخصاً على أن يبيع هذه السلعة لفلان فباعها فإن البيع لا يصح لأنها صدرت عن غير تراض.
• لو كان الإكراه بحق فإنه يجوز، مثال: كمن كان مديناً وطالبه الغرماء بالسداد وعنده سلع، فيجبره القاضي على البيع لسداد ديونه، فإن أبى أن يبيع باع الحاكم أمواله وسدد.
مثال آخر: أن يضطر رجل إلى طعام وهو عند هذا الشخص ولا يريد بيعه فإنه يجبر على أن يبيعه.
الشرط الثاني: أن يكون مقدوراً على تسليم المبيع.
م/ وأن لا يكون فيها غررٌ وجهالة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر. رواه مسلم.
هذا هو الشرط الثاني من شروط البيع: ألا يكون فيها [أي البيوع] غرر وجهالة، وهي ما يعبر به في بعض كتب الفقه الأخرى: أن يكون مقدوراً على تسليمه.
لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر، وغير المقدور على تسليمه فيه غرر [فهو شبيه بالمعدوم]. لأنه لا يدرى هل يتمكن من إمساكه أم لا.
ولأن قبض المبيع واستيلاء العاقد عليه هو المقصود من البيع، وعلى هذا لا يجوز بيع غير المقدور على تسليمه لفوات الغرض المقصود، ولأنه غرر.
• الغرر: قال ابن تيمية: هو ما تردد بين السلامة والعطب، ومعنى هذا: ما كان متردداً بين أن يسلم للمشتري فيحصل المقصود بالعقد، وبين أن يعطب فلا يحصل المقصود بالعقد، وقال ابن القيم: الغرر ما تردد بين الحصول والفوات. (الذي لا يدري حصوله، هل يحصل ام لا) كبيع جمل شارد.
• الجهالة: هو ما علم حصوله وجهلت صفته. مثال: قال المشتري: أشتري منك هذا الكتاب بالمال الذي في جيبي (هذا يسمى جهالة لأننا علمنا حصوله لكننا لا ندري مقدار الدراهم).
• والنهي عن بيع الغرر أصل عظيم في باب البيع يدخل تحته مسائل كثيرة، قال النووي: النهي عن بيع الغرر أصل عظيم من أصول كتاب البيوع، ويدخل فيه مسائل كثيرة غير منحصرة كبيع الآبق والمعدوم والمجهول وما لا يقدر على تسليمه.
قاعدة مهمة: كل معاملة محرمة إنما تحرم لواحد من أمور أربعة: إما لوجود الربا فيها، وإما لما فيها من الميسر [إما غانماً أو غارماً]، وإما لما فيها من الظلم والتغرير والخداع، وإما هذا العقد يتضمن ترك واجب أو فعل محرم [مثل البيع بعد نداء الجمعة الثاني، أو باع سلاحاً في فتنة، أو باع عنباً لمن يتخذه خمراً].
ثم ذكر المصنف رحمه الله أمثلة لبيع الغرر فقال:
م/ فيدخلُ فيه بيعُ الآبق والشارد.
بدأ المصنف رحمه الله بذكر أمثله على هذا الشرط، فمن ذلك:
بيعُ الآبق: أي العبد الهارب من سيده، فلا يجوز بيعه، لأنه غرر، لأنه لا يدرى هل يتمكن من إمساكه أم لا.
وأيضاً هو داخل في الميسر أيضاً [لأنه دائر بين المغنم والمغرم]، لان البائع لن يبيعه بسعر مثله، لأنه آبق، ومن المعلوم أنه لا يمكن أن يباع الآبق بمثل سعر غير الآبق، وكذلك المشتري إذا حصل على العبد فهو غانم، وان لم يحصل فهو غارم، وهذا هو الميسر.
والشارد: أي البعير الشارد، فلا يجوز بيع الجمل الشارد لأنه غرر.
• وكذلك طير حمام في الهواء لا يجوز بيعه، لأنه غير مقدور على تسليمه، لكن إذا كان يألف المكان والرجوع إليه فهل يجوز بيعه؟ قولان:
القول الأول: المنع مطلقاً، وهذا المذهب.
والقول الثاني: الجواز، واختاره ابن عقيل، وهو الأظهر، فإن رجع إلى مكانه فذاك، وإلا فللمشتري الفسخ.
م/ وأن يقولَ بِعتُكَ إحْدى السلعتين.
أي: لا يجوز أن يقول البائع للمشتري بعتك إحدى السلعتين، مثال: عنده كيس قهوة، وكيس أرز، فقال: بعتك إحدى الكيسين ب 300 ريال، هذا لا يجوز، لأن هذا جهالة، لأنهما مختلفان، قيمة القهوة غير قيمة الأرز.
مثال آخر: إذا قال: بعتك إحدى السيارتين، فهذا لا يجوز، لأن هذا فيه جهالة وغرر.
• والمصنف رحمه الله ينبغي أن يقيد ما قاله بالسلعتين (المختلفتين)، أما إذا كانت السلعتان متفقتين فهذا لا يؤثر، فلو كان عنده - مثلاً - عشر أكياس قهوة من نوع واحد، وقال بعت عليك واحد منها ب 300 ريال صح البيع، لأن الأكياس ليست مختلفة ولا متفاوتة.
مثال آخر: إنسان عنده سيارتان من نوع واحد وبصفة واحدة فقال بعتك إحدى السيارتين، فإن هذا يجوز، لأن الإبهام لا يؤثر.
م/ أو بمقدارِ ما تبلغُ الحصاةُ من الأرضِ ونحوهِ.
أي لا يجوز بيع تستعمل فيه الحصاة، وهذا من إضافة المصدر إلى نوعه، هذا يسمى بيع الحصاة، وهو حرام.
لحديث أبي هريرة. قال (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحصاة) رواه مسلم.
أمثلة:
كأن يقول: أي ثوب وقعت عليه هذه الحصاة فهو لك بكذا، فهذا ممنوع لأنه بيع مجهول، فقد يقع على نفيس فيتضرر البائع أو رخيص فيتضرر المشتري.
أو يقول البائع: خذ هذه الحصاة وارم بها فإلى أي مدى وصلت من الأرض فهي عليك بخمسين.
فهذا لا يجوز لأنه غرر، فقد تقع الحصاة قريباً فيتضرر المشتري أو بعيداً فيتضرر البائع وفيها جهالة أيضاً.
• الإسلام حرم بيع الغرر والجهالة لأنه يورث الخصومة والنزاع.
الشرط الثالث: العلم بالمبيع برؤية أو صفة.
م/ أو ما تحملُ بهِ أمتَه أو شجرتَه.
هذا هو الشرط الثالث: وهو العلم بالمبيع برؤية أو صفة، فالرؤية فيما يعلم بالرؤية، والصفة فيما يعلم بالصفة، والشم فيما يعلم بالشم.
لأن جهالة البيع غرر، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الغرر.
• العلم بالصفة: يعني أن يصف له السلعة وإن لم يحضرها، ويشترط لذلك شرطان: أن يكون المبيع مما يمكن ضبطه وتحديده بالصفة، الشرط الثاني: أن يذكر ما يختلف به الثمن غالباً؟
ذكر المصنف رحمه الله أمثلة يحرم فيها البيع لجهالة البيع.
• أو ما تحملُ بهِ أمتُه.
مثال: عنده أَمَة يطأها فقال بعتك حمل هذه الأَمَة، هذا لا يجوز لأنه بيع معدوم، لو قدرنا أنه سيوجد فهو مجهول العاقبة: لا ندري هل هو متعدد أولا، وهل هو ذكر أم أنثى.
أو شجرته.
مثال: عنده نخلة: فقال بعتك ثمرة نخلتي، والنخلة حتى الآن لم تثمر نقول هذا لا يجوز.
لأنه بيع معدوم فيدخل في حديث (لا تبع ما ليس عندك).
وفيه غرر: لأن الشجرة قد لا تُطْلِع.
وفيه جهالة: لأن حمْل الشجرة قد يكون كثيراً وقد يكون قليلاً، وقد يكون جيداً وقد يكون رديئاً (وهذا جهالة)
م/ أو ما في بطنِ الحامل.
أو ما في بطن حمل الدابة.
مثال: قال بعتك ما في بطن هذه الشاة، لا يجوز لأنه غرر، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر، فإنه لا يدرى هل هو ذكر أو أنثى، وهل هو حي أو ميت، وقد يكون واحداً أو أكثر.
• وكذلك لا يجوز بيع لبن في ضرع.
• وكذلك لا يجوز بيع عبد من عبيده، مثال: عندي عشرة عبيد، فقلت: بعت عليك واحداً منهم بمائة، فلا يصح، لأن فيه غرر، لأن العبيد يختلفون، ومثل ذلك الغنم.
• كل بيع يتضمن الغرر أو الجهالة فهو حرام لأمرين:
الأمر الأول: إبعاد الناس عن أكل الأموال بالباطل، والثاني: إبعاد الناس عن الشقاق والنزاع.
• يستثنى من ذلك: بيع حمل الشاة وهي حامل، فإنه هذا يجوز، لأن الحمل ثبت تبعاً (ويثبت تبعاً ما لا يثبت اسستقلالاً).
الشرط الرابع: أن يكون الثمن معلوماً قدره.
م/ وسواءٌ كان الغررُ في الثمن أو المثمن.
هذا الشرط الرابع: أن يكون الثمن معلوماً قدره.
[المثمن] تقدم أنه لا بد أن يكون معلوماً فلا يصح بيع آبق [الثمن] أي لابد أن يكون معلوماً وهو المال.
• يشترط أن يكون الثمن (وهو المال) معلوماً قدره، وهل هو حال أو مؤجل، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر، وإذا كان الثمن مجهولاً حصل الغرر والخداع، والثمن أحد العوضين، فالجهل به غرر كالجهل بالمبيع.
مثال: لو قال اشتريت منك هذه السلعة بما في جيبي من الدراهم، فهذا لا يجوز.
• فلا يجوز البيع بما ينقطع به السعر، وهو ما تقف عليه المساومة، لأنه مجهول، فقد يقف السعر على ثمن كثير أو قليل فيحصل الغرر.
والقول الثاني: أنه يصح البيع بما ينقطع به السعر، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، لأن الإنسان يطمئن ويقول: لي أسوة بالناس آخذه بما يأخذ به غيري.
الشرط الخامس: أن يكون العاقد مالكاً للشيء أو مأذوناً فيه.
م/ وأن يكونَ العاقدُ مالكاً للشيءِ أو مأذوناً له فيه.
هذا الشرط الخامس: وأن يكون العاقد [البائع والمشتري] مالكاً للشيء أو مأذوناً فيه.
فلا يجوز للإنسان أن يبيع ملك غيره، فلو باع إنسان سيارة غيره، فإن البيع لا يصح.
لحديث حكيم بن حزام. (أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله فقال: إنه يأتيني الرجل يسألني البيع ليس عندي فأبيعه منه ثم أبتاعه من السوق. فقال: لا تبع ما ليس عندك) رواه أحمد، أي لا تبع ما ليس في ملكك أو تحت تصرفك.
ولأن بيع ما لا يملك تصرف في مال الغير، والتصرف في مال الغير حرام وظلم ومن أكل المال بالباطل وقد قال صلى الله عليه وسلم (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه).
ولأننا إذا قلنا بجواز بيع الإنسان لملكِ غيره أدى ذلك إلى أن يستحل المال فيأكل المال المدفوع في مقابل ذلك المملوك بدون وجه حق.
• إذا كان المبيع ليس عنده وقت العقد فإن البيع لا يصح (كما يفعله بعض التجار يبيع السلعة قبل أن يملكها، فهذا لا يجوز، وكذلك يفعله كثير من البنوك).
• قوله (أو مأذوناً له فيه) كالوكيل والوصي والولي والناظر، لأن هؤلاء الأربعة هم الذين يقومون مقام المالك.
الوكيل: وهو من أذن له بالتصرف في حال الحياة (كأن يقول له: وكلتك تبيع سيارتي، يصح).
الوصي: هو الذي يتصرف عن الإنسان بعد موته.
الولي: هو الذي يتولى مال اليتيم.
الناظر: هو المسؤول عن الوقف.
مسألة: بيع الفضولي:
هو الذي يبيع ملك غيره بغير إذنه أو يشتري له بغير إذنه.
فقيل: لا يصح تصرف الفضولي، وهذا مذهب الشافعي لحديث حكيم بن حزام السابق، ولأنه قد باع ما ليس عنده، وباع ملك غيره وليس مالكاً للمعقود عليه ولا مأذوناً له فيه، وقيل: يصح إذا أجازه صاحب الحق، وهذا مذهب المالكية _ لحديث عروة. (أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه ديناراً يشتري له به شاة فاشترى له به شاتين فباع إحداهما بدينار فجاءه بدينار وشاة، فدعا له بالبركة في بيعه) رواه البخاري وجه الدلالة: أنه لما اشترى الشاة ثبتت ملكية الشاة للنبي صلى الله عليه وسلم، فجاء وتصرف فيها وباع، فلما باعها أصبح في هذه الحالة تصرفه تصرفاً فضولياً).
الشرط السادس: أن يكون العاقد جائز التصرف.
م/ وهو بالغ رشيد.
هذا الشرط السادس: أن يكون العاقد جائز التصرف. (وهو: الحر، البالغ، العاقل، الرشيد).
الحر: فالمملوك لا يجوز بيعه ولا شراؤه {أي أنه لا يبيع ولا يشتري} إلا بإذن سيده، لأن العبد لا يملك، فما في يد العبد ملك لسيده.
البالغ: فالصغير دون التمييز لا يصح بيعه بالإجماع لأنه لا يتأتى منه القصد.
وأما المميز دون البلوغ فمحل خلاف بين العلماء على قولين:
قيل: يصح تصرفه، وقيل: لا يصح، لكن لوليه أن يأذن له بالتصرف في الأشياء اليسيرة ليتدرب وهذا القول هو الصحيح.
العاقل: فالمجنون لا يصح بيعه لعدم العقل الذي يحصل به التراضي والقصد.
الرشيد: وهو الذي يحسن التصرف في ماله، وضده السفيه فلا يصح تصرفه.
والدليل على هذا الشرط قوله تعالى (وابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ).
(وابْتَلُوا الْيَتَامَى) أي اختبروهم، كأن يعطيه مال وينظر كيف يتصرف فيه (حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ) هذا الشرط الأول وهو البلوغ (فَإِنْ آنَسْتُمْ) علمتم (مِنْهُمْ رُشْداً) هذا الشرط الثاني، والرشد حسن التصرف (فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ) وأما قبل البلوغ وقبل الرشد لا يدفع إليهم أموالهم.
باب الربا
م/ ومن شروط البيع: أن لا يكون فيه ربا.
أي: ومن شروط البيع عدم الربا، لأن الربا حرام بالكتاب والسنة والإجماع.
قال تعالى (وأحل الله البيع وحرم الربا).
وصرح الله تعالى بأنه يمحق الربا فقال سبحانه (يمحق الله الربا) أي: يذهبه بالكلية من يد صاحبه أو يحرمه بركة ماله فلا ينتفع به.
وأخبر تعالى بأن آكل الربا لا يقوم من قبره يوم القيامة إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس فقال سبحانه (الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس).
وأخبر تعالى أن المتعامل بالربا محارب لله فقال تعالى ( ...... وذروا ما بقي من الربا فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله).
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (اجتنبوا السبع الموبقات: .. وذكر منها .. أكل الربا) متفق عليه.
وعن جابر. قال (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكِلَه وكاتبه وشاهديه، وقال: هم سواء) رواه مسلم.
قال ابن قدامه: أجمعت الأمة على أن الربا محرم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ولم يأت بعد الشرك وعيد كما جاء في الربا.
• الحكمة من تحريم الربا:
1_
انتهاك حرمة مال المسلم بأخذ الزائد من غير عوض.
2_
الإضرار بالفقير، لأن الغالب غنى المقرض وفقر المستقرض فلو مُكّن الغني من أخذ أكثر من المثل أضر بالفقير.
3_
انقطاع المعروف والإحسان الذي في القرض.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
• تعريف الربا.
الربا: لغة الزيادة.
واصطلاحاً: مبادلة الربوي بجنسه، أو تأخير القبض فيما يلزم فيه التقابض من الربويات.
• وهو ينقسم إلى قسمين:
ربا الفضل: وهو الزيادة في مبادلة مال ربوي بمال ربوي من جنسه.
كمبادلة صاع بر بصاعين من البر، لوجود الزيادة في أحد العوضين.
أو مبادلة مائة غرام من الذهب بمائة وعشرة وإن اختلفا في الجودة.
ربا النسيئة: وهو تأخير القبض عند مبادلة الربوي بالربوي سواء كان من جنسه أو من غير جنسه إذا اتحدا في العلة.
مثال: كبر ببر أو بشعير بعد شهر، أو ريالات بريالات بعد أسبوع.
وقد يجتمع ربا الفضل مع ربا النسيئة عند مبادلة الربوي بربوي من جنسه مع تأخير القبض.
كمائة بمائة وعشرة بعد شهر. [فهنا الجنس واحد وهو الريالات وجد التفاضل 100 بـ 110 فهذا ربا الفضل، ووجد التأخير إلى شهر فهذا ربا النسيئة.
ربا القرض. (سيذكره المصنف رحمه الله فيما بعد).
م/ عن عبادة بن الصامت. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الذهبُ بالذهبِ، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعيرُ بالشعير، والتمرُ بالتمر، والملح بالملح، مثلاً بمثلاً وسواء بسواء، يداً بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد) رواه مسلم.
هذه هي الأموال الربوية (أي التي يجري فيها الربا).
قوله (الذهب بالذهب) أي بيع الذهب بالذهب، (مِثلاً بمثل) أي في الوزن ليس في الصفة، أي لا يزيد أحدهما على الآخر، صاع بر بصاع بر، 100 جرام ذهب بـ 100 جرام ذهب، (سواء سواء) السواء: هو المثل والنظير، أي مثلاً بمثل، وجمعَ مع ما قبله للتوكيد والمبالغة في الإيضاح (يداً بيد) أي: متقابضين في مكان التبايع قبل أن يتفرقا (فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم) أي من حيث الكمية متساوياً ومتفاضلاً، لا من حيث التقابض [كصاع بر بصاعين شعير، أو 100 جرام من الفضة ب 20 جرام من الذهب] وهذا الإطلاق مقيد بما بعده، وهو قوله (إذا كان يداً بيد).
• فهذه الأصناف الستة أجمع العلماء على جريان الربا فيها.
وهل يجري في غيرها؟
أكثر العلماء على أن الربا يتجاوز هذه الأصناف الستة إلى غيرها مما شاركها في العلة.
قاعدة الربا من حديث عبادة السابق:
قاعدة (1): إذا بيع الربوي بجنسه مشاركاً له في العلة فلا بد من شرطين:
المماثلة (في الوزن) __ التقابض في مجلس العقد.
مثال: ذهب بذهب [لا بد من شرطين: تقابض - مماثلة].
فضة بفضة [لا بد من شرطين: تقابض - مماثلة].
بر ببر [لا بد من شرطين: تقابض - مماثلة].
قاعدة (2) إذا بيع الربوي بغير جنسه لكنه مشارك له في العلة فيشترط شرط واحد وهو: القبض.
مثال: ذهب بفضة يشترط شرط واحد التقابض. [لأن الذهب غير جنس الفضة لكنه مشارك له في العلة كما سيأتي].
مثال: باع 10 آصع من البر بـ 100 صاع من الشعير يجوز بشرط واحد وهو التقابض. [لأن التمر غير جنس الشعير لكنه مشارك له في العلة].
ومثل: بيع الريالات بالدولارات، فكلاهما اتحدا في العلة (وهي الثمنية) لكن اختلفت في الجنس (هذه ريالات وهذه دولارات) فإنه يجوز بشرط التقابض.
لقوله صلى الله عليه وسلم (فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد).
قاعدة (3) إذا بيع الربوي بغير جنسه ولم يكن مشاركاً له في العلة فإنه لا يشترط شيء، يجوز التفاضل والتفرق.
مثال: ذهب بشعير، يجوز مطلقاً من غير شروط.
مثال: فضة ببر يجوز مطلقاً من غير شروط.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
• اتفق العلماء على أن هذه الأصناف الستة يجري فيها الربا كما سبق، وهل يجري في غيرها مما هو مثلها، اختلف العلماء:
القول الأول: أن الربا مقصور على الأصناف الستة لا يتعداها إلى غيرها.
وهذا قول طاووس وقتادة والظاهرية واختاره الصنعاني.، وهذا القول ضعيف.
القول الثاني: أنه يلحق بها ما شاركها في العلة، وهذا مذهب جماهير العلماء.
واستدلوا بحديث معمر بن عبد الله أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (الطعام بالطعام مثلاً بمثل
…
) ولفظ (الطعام) أعم من الأصناف الأربعة المذكورة في حديث عبادة.
واستدلوا أيضاً بالمعنى، وذلك أن ما وافقها في العلة يجب أن يأخذ حكمها، مراعاة لمقصود الشارع في التحريم، فما دام أن العلة واضحة وموجودة في غير هذه الأصناف فليحكم بالإلحاق، لأن الشرع لا يفرق بين متماثلين، كما لا يجمع بين مختلفين، قالوا: وقد اقتصر الحديث على الأصناف الستة من باب الاكتفاء بالأشياء التي لا يستغني عنها الناس عادة.
ثم اختلف هؤلاء في علة التحريم على أقوال:
أرجحها: أن العلة في الذهب والفضة مطلق الثمنية، أي أنهما أثمان للأشياء، وهذا قول المالكية واختاره ابن تيمية وابن القيم.
وعلى هذا: فيجري الربا في كل ما اتخذه الناس عملة وراج رواج النقدين، مثل الأوراق النقدية الآن، وعلى هذا فلا يجوز بيع (15) ريالاً سعودياً ورقاً بـ (16) ريالاً سعودياً ورقاً، ويجوز بيع بعضها ببعض من غير جنسها إذا كان يداً بيد، كما لو باع ورق نقد سعودي بليرة سورية أو لبنانية أو كويتية، لأن العملات الورقية أجناس متعددة بتعدد جهات إصدارها
وأما علة التحريم في الأصناف الأربعة فقد اختلف العلماء على أقوال:
القول الأول: أن العلة هي الطعم مع الكيل. (إذاً يلحق بها كل مكيل ومطعوم).
ورجح هذا القول ابن قدامة واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية.
وعلى هذا القول: الأرز يجري فيه الربا، لأنه مطعوم ومكيل، وكذلك: الذرة والدهن والعدس واللحم ونحوها، ولا يجري في مطعوم لا يكال كالرمان والسفرجل والبيض والأترج والتفاح، والأشنان مكيل لكنه غير مطعوم فلا يجري فيه الربا.
واستدل هؤلاء بأن الأصناف الأربعة المذكورة في حديث عبادة مطعومة مكيلة، فيلحق بها كل ما كان كذلك.
القول الثاني: أن العلة هي الاقتيات والادخار.
أي كون الطعام قوتاً يقتات به الناس غالباً، ويدخره مدة من الزمن فلا يفسد، وعلى هذا القول فيجري الربا في الأرز والقمح والذرة ونحوها.
وهذا مذهب مالك واختاره ابن القيم، وهو الراجح والله أعلم.
واستدل هؤلاء بحديث عبادة، قالوا: إن الأصناف المذكورة في حديث عبادة يجمعها وصف الاقتيات والادخار.
والله أعلم.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أمثلة:
سيارة بسيارتين: لا ربا.
بيضة ببيضتين: لا ربا. لأنها ليست قوتاً ولا مدخراً.
أرز بكيسين أرز: ربا، لأن الأرز ربوي فهو قوت ويدخر، فلابد فيه من شرطين (التماثل - التقابض).
ثوب بثوبين: لا ربا.
برتقالة ببرتقالتين: لا ربا، لأنه ليس قوتاً.
مسألة مهمة: جودة أحد الجنسين لا تبرر زيادة أحدهما على الآخر.
عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة. (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلاً على خيبر، فجاءه بتمر جنيب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكلّ تمر خيبر هكذا، فقال: لا يا رسول الله، إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين والثلاثة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تفعل، بع الجمْع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيباً) متفق عليه.
(الجنيب) التمر الطيب، (الجمْع) الرديء.
قال الشوكاني: والحديث يدل على أنه لا يجوز بيع رديء الجنس بجيده متفاضلاً، وهذا أمر مجمع عليه.
• أرشد النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث إلى الطريقة السليمة البعيدة عن الربا، التي يسلكها من أراد أن يستبدل التمر الجيد بالتمر الرديء، وذلك بأن يبيع التمر الرديء بدراهم ويشتري بالدراهم تمراً جيداً، وهذه الطريقة تتبع في كل ربوي يراد استبداله بربوي أحسن منه، لأن الجودة في أحد الجنسين لا تبرر الزيادة إذا بيع أحدهما بالآخر).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
مسألة: كيفية التوبة من الربا:
التائب من الربا له حالان:
الحالة الأولى: أن يكون الربا في ذمم الناس ولم يقبضه بعد، فهنا يقتصر على رأس ماله ولا يأخذه لقوله تعالى (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ).
الحالة الثانية: أن يكون قد قبض الربا فهذا على 3 أقسام:
القسم الأول: أن يقبضه معتقداً حله لكونه مما اختلف فيه، فهذا لا شيء فيه، فيملكه ويدخل في ملكه.
القسم الثاني: أن يقبضه جاهلاً فهنا حكمه حكم الأول، فلا يلزمه إخراجه.
القسم الثالث: أن يقبضه معتقداً تحريمه، فهذا لا يدخل في ملكه ويجب عليه إخراجُه عن ملكه.
لكن إن قلنا يخرجه من ملكه، فهل نقول يرده إلى صاحبه الذي أخذه منه أو لا؟ فيه تفصيل:
إن كان قد قبضه من صاحبه بغير اختيار صاحبه ولا رضا منه فهنا يجب رده إليه، وان كان قد قبضه من صاحبه برضا واختيار فلا يرده عليه لئلا يجمع له بين العِوَض والمعوَّض، وإنما يخرجها صدقة تخلصاً منها.
م/ والجهلُ بالتماثلِ كالعلمِ بالتفاضل.
المراد بالتماثل: التساوي فيما يشترط فيه التساوي.
متى يشترط التساوي؟ إذا بيع ربوي بجنسه. (كذهب بذهب، أو بر ببر)، فإذا بعنا ربوي بربوي من جنسه ونجهل تماثلهما فهذا كعلمنا بتفاضلهما [يعني أنه حرام].
مثال: إنسان عنده كومة تمر فقال لشخص آخر، أريد أن أبيع عليك هذه الكومة بـ (30) كيلو من التمر. هذا لا يجوز لأن هذه الصبرة قد جُهِل كيلها، والقاعدة أن الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل.
لأن الكومة قد تكون (30) وقد تكون أقل، وقد تكون أكثر.
م/ كما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيعِ المزابنة وهو شراء التمر بالتمر في رؤوس النخل. متفق عليه.
المزابنة: بضم الميم، وهي مأخوذة من الزبن، وهو الدفع الشديد، وعرفه بقوله: وهو شراء التمر بالتمر في رؤوس النخل.
الدليل على تحريم المزابنة:
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ (نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْمُزَابَنَةِ: أَنْ يَبِيعَ ثَمَرَ حَائِطِهِ، إنْ كَانَ نَخْلاً: بِتَمْرٍ كَيْلاً. وَإِنْ كَانَ كَرْماً: أَنْ يَبِيعَهُ بِزَبِيبٍ كَيْلاً، أَوْ كَانَ زَرْعاً: أَنْ يَبِيعَهُ بِكَيْلٍ طَعَامٍ. نَهَى عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ) متفق عليه.
المزابنة هي: بيع التمر على النخل بتمر مجذوذ (بيع معلوم بمجهول من جنسه).
مثال: أن يبيع رطباً على رؤوس النخل (وهو لا يعلم كيله) بتمر في الزنبيل، فهذا لا يجوز.
مثال آخر: رجل عنده شجر من الأعناب، وآخر عنده أكياس من الزبيب، فقال أحدهما للآخر: نتبايع هذه الأشجار من الأعناب بهذه الأكياس من الزبيب، فهذا لا يجوز.
• الحكمة من النهي: مظنة الربا لعدم التساوي.
أ- لأن بيع تمر بتمر يشترط فيه التساوي، والتساوي هنا معدوم.
لأنه لو فرضنا أن أكياس الزبيب معلومة المقدار، لكن أشجار العنب غير معلومة المقدار.
ب - حصول الغرر به، وكل ما حصل به غرر فهو غير صحيح.
م/ ورخص في بيع العرايا بخرصِها، فيما دون خمسة أوسق، للمحتاج إلى الرطب، ولا ثمنَ عندَه يشتري به بخرصها. رواه مسلم
يستثى من المزابنة بيع العرايا: وهي بيع التمر بالرطب على رؤوس النخل.
صورتها: أن يكون عند شخص تمر من العام الماضي جاف، وجاء التمر الجديد ولكنه فقير ليس عنده دراهم، فابأحت الشريعة لهذا الشخص أن يشتري بهذا التمر الذي عنده رطباً.
• من المعلوم أن بيع الرطب بالتمر (وهو المزابنة) لا يجوز، لأن الرطب ينقص إذا جف، وبيع التمر بالتمر يشترط فيه شرطان: التساوي - والتقابض، والتساوي هنا معدوم.
لكن استثني من بيع المزابنة العرايا، وصورتها:
أن يخرص الخارص نخلات فيقول: هذا الرطب الذي عليها إذا يبس يجيء منه ثلاثة أوسق من التمر مثلاً، ويتقابضان في المجلس، فيسلم المشتري التمر، ويسلم بائع الرطب الرطب بالنخلة.
(الخرص: يخرص اذا كان تمراً، فيجيء الخارص إلى النخل فيقول: أتوقع أن هذه النخلة إذا جفت إن كان كيلا يأتي 290 صاع - يخرص الرطب إذا كان تمراً).
• والدليل على استثناء العرايا من المزابنة:
عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ لِصَاحِبِ الْعَرِيَّةِ: أَنْ يَبِيعَهَا بِخَرْصِهَا) وَلِمُسْلِمٍ (بِخَرْصِهَا تَمْراً، يَأْكُلُونَهَا رُطَباً).
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ فِي بَيْعِ الْعَرَايَا فِي خَمْسَةِ أَوْسُقٍ أَوْ دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ).
• فأفادت هذه الأحاديث جواز بيع العرايا، وهذا مذهب أكثر العلماء، وخالف أبو حنيفة وقال: لا يجوز، لكن الصحيح مذهب الجمهور.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
• اشترط العلماء لحل العرايا شروطاً:
الشرط الأول: أن تباع النخلة بخرصها، ولا بد أن يكون من عالم به.
فلا يجوز أن يأتي أي أحد من الناس، لا بد أن يكون الخارص خبيراً.
الشرط الثاني: أن يكون فيما دون خمسة أوسق، وهذه لها أحوال:
أولاً: الزيادة على خمسة أوسق، لا يجوز بلا خلاف.
ثانياً: أقل من خمسة أوسق، يجوز.
ثالثاً: في خمسة أوسق، هذه فيها خلاف:
قيل: لا يجوز.
وهذا مذهب الحنابلة، والشافعية، ورجحه ابن المنذر. قالوا:
الأصل أن بيع التمر بالرطب حرام، وتبقى الخمسة مشكوكاً فيها، والأصل المنع.
وقيل: يجوز.
عملاً برواية الشك (خمسة أوسق أو دون خمسة أوسق). [الوسق 60 صاعاً = 300 صاعاً].
والراجح الأول.
الشرط الثالث: أن يكون المشتري محتاجاً إلى الرطب، فإن لم يكن محتاجاً فإنها لا تجوز.
لأن بيع العرايا رخص فيه للحاجة، فإذا لم يحتج للرطب فلا يجوز البيع.
الشرط الرابع: أن لا يكون عنده دراهم.
فإذا كان عنده دراهم فلا تجوز له العرايا. لأنه يستطيع أن يشتري من السوق.
الشرط الخامس: التقابض بين الطرفين.
لأن الأصل في بيع التمر بالتمر أنه لا بد من شرطين: التساوي والتقابض.
فالتساوي عرفنا أنه رخص فيه، ويبقى التقابض على الأصل لم يرخص فيه.
بعض أنواع البيوع المحرمة.
م/ ومن الشروط: أن لا يقعَ العقدُ على محرمٍ شرعاً.
أي: من شروط البيع أن لا يقع العقد على محرم شرعاً، والمحرم شرعاً أنواع، إما لمحرم لذاته، أو محرم لغيره، وهذا الشرط يعبر عنه الفقهاء بقولهم: أن تكون العين مباحة النفع من غير حاجة.
- المحرم لعينه كما قال المصنف رحمه الله:
م/ كما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الخمر والميتة والأصنام. متفق عليه.
فهذه لا يجوز العقد عليها، لأن من شروط العقد أن تكون العين مباحة وهذه العين ليست بمباحة، فلا يجوز بيع الخمر ولا الأصنام ولا الميتة، ويدخل في ذلك كل محرم كبيع الكلاب، وآلات اللهو لا يجوز بيعها، وآلات التصوير.
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ عَامَ الْفَتْحِ (إنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالأَصْنَامِ) متفق عليه.
الخمر: كل ما أسكر العقل، وسميت خمراً لأنها تخمر العقل، أي تغطيه. الميتة: بفتح الميم، وهي ما زالت عنه الحياة بدون ذكاة شرعية. الخنزير: حيوان نجس قبيح الشكل. الأصنام: جمع صنم، وهو ما كان منحوتاً على شكل صورة.
• تحريم بيع الخمر، وهذا بالإجماع، وكذلك شربها واقتنائها، وقد حكى غير واحد من العلماء الإجماع على تحريم بيعها كابن المنذر والنووي.
عن أنس قال (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر عشرة: عاصرها، ومعتصرها، وشاربها، وحاملها، والمحمولة إليه، وساقيها وبائعها، وآكل ثمنها، والمشتري لها، والمشتراة له). رواه أبو داود
الحكمة من تحريمها: لما تسببه من العداوة والبغضاء، ولأنها مفسدة للعقل.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
• تحريم بيع الميتة بجميع أجزائها، وهذا بالإجماع كما حكاه ابن المنذر، فالميتة يحرم أكلها، ويحرم أيضاً بيعها.
• الميتة: كل ما مات من غير ذكاة شرعية، مثل ما مات حتف أنفه كشاة سقطت من جبل فماتت، ما ذكي ذكاة شرعية ولكن كان المذكي غير أهل أو فقد شرط من شروط الذكاة مثل: من ذبح من لا يصلي، فهذه ميتة، لان المذكي ليس أهلا للذكاة، وكذا لو ذكى مجوسي، أو فقد شرط: مثل ذكى بغير تسمية، فإنها لا تحل وتعتبر ميتة.
يستثنى من ذلك: ميتة السمك، والجراد. فقد قال صلى الله عليه وسلم لما سئل عن البحر:(هو الطهور ماؤه الحل ميتته).
والجراد لما في الحديث: (أحلت لنا ميتتان: السمك والجراد) وهذا موقوف على ابن عمر، وهو الأصح، وله حكم الرفع.
• والحكمة من تحريمها: لأنها طعام خبيث مضر بالبدن.
• تحريم بيع الأصنام. (وهو كل ما عبد من دون الله).
قال ابن القيم: تحريم بيع الأصنام أعظم تحريماً وإثماً وأشد منافاة للإسلام من بيع الميتة والخنزير.
• الحكمة من تحريمها: لأنه ذريعة للشرك ومفسدة للأديان.
• تحريم بيع الخنزير، قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن بيع الخنزير وشراؤه محرم.
وقال ابن القيم: وأما تحريم بيع الخنزير، فيتناول جملته، وجميع أجزائه الظاهرة والباطنة.
وقال: والخنزير أشد تحريماً من الميتة.
لأن فيه مضار كبيرة، وهو ينقل أمراضاً لجسم الإنسان، وأيضاً له تأثير سيء على العفة والغيرة على الأعراض.
م/ وإما لما يترتب عليه من قطيعةِ المسلم، كما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن البيعِ على بيعِ المسلم والشراء على شرائه والنجش. متفق عليه.
من البيوع المحرمة: بيع المسلم على بيع أخيه، وهذا المحرمات ليست محرمات لذاتها، لأنها في الأصل مباحة، لكن حرمت من أجل ما تسببه من قطيعة المسلم والتحاسد والعداوة والنزاع بين الناس.
الأدلة على تحريم هذا البيع:
حديث أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يبيع الرجل على بيع أخيه .. ) متفق عليه
وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يبع بعضكم على بيع بعض) رواه مسلم.
وعن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (المؤمن أخو المؤمن، فلا يحل للمؤمن أن يبتاع على بيع أخيه) رواه مسلم.
مثاله:
أن يشتري شخص من إنسان سلعة بـ (10) ثم يأتيه آخر ويقول: أعطيك مثلها بـ (9)، أو يقول أعطيك أحسن منها بـ (10).
ومثل البيع الشراء:
مثال: علمتُ أن زيداً باع على عمرو بيته بـ (100)، فذهبت إلى زيد وقلت له: أنت بعت بيتك على عمرو بـ (100)، أنا سأعطيك (120).
• الحكمة من النهي: حصول التحاسد والتباغض.
• العقد لا يصح:
لأن النهي عائد إلى العقد نفسه (وهذا مذهب الحنابلة واختاره ابن حزم وابن تيمية).
• هل يجوز البيع على بيع الكافر؟ فيه قولان للعلماء، أرجحها أنه لا يجوز، وأما قول الرسول صلى الله عليه وسلم (لا يبع المسلم على بيع المسلم) إنما هو بناء على الأغلب.
• (مثال: اشترى مسلم من كافر سلعة، فلا يجوز أن يذهب البائع المسلم ويقول له: أنا أعطيك السلعة بأقل).
النجش:
من البيوع المحرمة: النجش، وهو أن يزيد في السلعة وهو لا يريد شراءها.
وهو حرام.
لحديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لا تَلَقَّوْا الرُّكْبَانَ، وَلا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ. وَلا تَنَاجَشُوا. وَلا يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ
…
) متفق عليه.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ولحديث ابن عمر (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النجش). متفق عليه
ثانياً: ما هدف الناجش؟
1 -
أن ينفع البائع.
2 -
أن يضر المشتري.
3 -
أو الأمرين جميعاً.
4 -
أو مجرد العبث.
ثالثاً: لو وقع البيع فإن البيع صحيح عند أكثر العلماء.
لأن المنهي عنه هو الفعل لا العقد.
رابعاً: من وقع عليه النجش فإن له الخيار إذا زاد الثمن عن العادة.
الخيار بين: أن يرد السلعة ويأخذ الثمن (الفسخ)، أو يبقيها بثمنها الذي استقر عليه العقد.
مسألة: قال العلماء: يستثنى من ذلك مسألتان:
المسألة الأولى: مسألة المزايدة: وهي أن يعرض البائع سلعته في السوق، ويتزايد المشترون فيها، فتباع لمن يدفع الأكثر، وهو المعروف بـ (بيع المزاد العلني)(الحراج).
لأن السلعة معروضة للزيادة، ولأن البائع لم يركن لمشترٍ معين.
بيع المناقصة: كأن تقول مؤسسة نريد عشر سيارات، ولا يذكرون السعر، تأتي شركة تقول عندي سيارات ب (100) وتقول شركة ثانية نفس السيارات 90.
لأن أصل الشركة لما نزلت المناقصة تريد أقل ما يكون من الأسعار.
م/ ومن ذلك:
ومن ذلك: أي مما حرم لعارض.
م/ نهيُه صلى الله عليه وسلم عن التفريقِ بين ذي الرحم في الرقيق.
أي مما يحرم من البيع التفريق بين ذي الرحم وولدها، كالتفريق بين الوالدة وولدها.
لحديث أبي أيوب. قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (من فرق بين والدةٍ وولدَها فرّق الله بين أحبتِه يوم القيامة) رواه أحمد.
فهذا الحديث يدل على تحريم التفريق بين الوالدة وولدها في البيع، ونحوه كالهبة والقسمة وغيرهما، وأن الأرقاء لا يفرق بينهم، بل يباعون جميعاً أو يبقون جميعاً، حرصاً على بقاء الرحم والتعاطف بينهما.
كأن يبيع الأم على شخص، ويبع ولدها الصغير على شخص آخر.
• قوله (في الرقيق) لأنه من المعلوم أن الحر لا يجوز بيعه، وإنما الذي يجوز بيعه هو الرقيق.
• هذا الحكم خاص بالصغير، وأما البالغ الذي يكتفي بنفسه يجوز تفريقه عن أمه، وهذا مذهب الشافعي، لما ورد أن سلمة بن الأكوع (أتى أبا بكر بامرأة وابنتها، فنفّله أبو بكر ابنتها
…
) رواه مسلم.
ولأن الولد بعد البلوغ يصير مستقلاً بنفسه، والعادة التفريق بين الأحرار، فإن المرأة تزوج ابنتها.
مثال: فلو كانت الأم معها ابن عمره (17) عاماً، فإنه يجوز أن تباع الأم لشخص، ويباع الابن لشخص آخر.
م/ ومن ذلك: إذا كان المشتري تعلم منه أنه يفعلُ المعصية بما اشتراه، كاشتراء الجوز والبيض للقمار، أو السلاح للفتنة، وعلى قطاع الطريق.
ومن ذلك: أي البيع المحرم لعارض.
الأصل أن هذه الأشياء - البيض، والجوز، والسلاح - بجوز بيعها، لكن إن كنتَ تعلم أن هذا الشخص المشتري سوف يستعمل هذه الأشياء بالمعصية، فإن البيع لا يجوز.
لقوله تعالى (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان).
لأنه إعانة على الإثم والعدوان.
(فكل ما يتوصل به إلى محرم فهو حرام).
• هذا البيع يدخل تحت قاعدة (كل عقد يتضمن ترك واجب أو فعل محرم فهو حرام).
• قوله (أن تعلم .. ) فإن كنت تعلم أنه يستعمله في المعصية فلا يجوز، وكذلك إذا كان يغلب على ظنك أنه يستعمله في الحرام فلا يجوز.
• كيف أعلم أنه يريد هذه الأشياء للمعصية؟ الجواب: إما بقرينة الحال، وإما بقرينة المقال.
قرينة الحال: جاء شخص يشتري جوز، وهو معروف وأصدقاؤه يتعاطون القمار، فهنا يغلب على الظن أنه يريد الشراء لأجل القمار.
شخص عرف للتعرض للناس في الطرق، فجاء يريد شراء سلاح، فقرينة الحال أن هذا الشخص سوف يستعمل هذا السلاح بالإضرار بالمسلمين.
وكذلك لو وقع قتال فتنة (وهو الذي يكون بين المسلمين) فجاء شخص من هؤلاء الذين يتقاتلون يريد أن يشتري سلاحاً فلا يجوز البيع عليه.
• كذلك لا يصح بيع عصير على من يتخذه خمراً.
ومثله قرينة المقال: وهي قليلة لكن قد توجد.
• أما مع الشك فالأصل الجواز.
م/ ونهيه صلى الله عليه وسلم عن تلقي الجَلَب فقال: لا تلقوا الجلَب، فمن تلقي فاشترىَ منه، فإذا أتى سيدُه بالسوق فهو بالخيار. رواه مسلم.
ذكر المصنف رحمه الله حديث (لا تلقوا الجلب
…
) ليستدل به على بيع محرم وهو تلقي الجلب (وهو تلقي الركبان).
• الركبان: المراد بهم القادمون من السفر بالسلع لبيعها في أسواق البلد.
تلقي الجلب: استقبال القادمين الذين يحملون البضائع والأقوات لشرائها منهم قبل أن يبلغوا السوق.
• الحديث دليل على النهي عن تلقي القادمين لبيع سلعهم والشراء منهم قبل أن يصلوا إلى السوق.
لحديث ابن عباس. قال: قال صلى الله عليه وسلم (لا تَلَقَّوْا الرُّكْبَانَ
…
) متفق عليه.
وللحديث الذي ذكره المصنف.
• هذا النهي للتحريم وعليه جمهور العلماء، لأن الأصل في النهي التحريم.
• الحكمة من النهي:
لأن فيه ضرراً على الركبان، وعلى أهل البلد.
أما الركبان فإن المتلقي لهم سيأخذ السلعة بثمن أقل من ثمن السوق، لأن صاحب السلعة لا يعرف الأسعار، فيشتري منه المشتري برخص، ويؤيد هذا حديث أبي هريرة الذي ذكره المصنف حيث أثبت الخيار للبائع لا لأهل السوق.
قال النووي: "سبب التحريم إزالة الضرر عن الجالب وصيانته عن الخديعة".
وأما أهل البلد فإن من تلقى هؤلاء فسوف يشتري منهم برخص، ويكون شراؤه سبب لرفع الأسعار، بخلاف ما لو هبطوا بها الأسواق، فإنه سوف يحصل منهم تنشيط لأهل البلد وربما نزلت الأسعار مع كثرة ما جلب.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
• هل البيع صحيح أم فاسد؟ اختلف العلماء على قولين:
القول الأول: البيع صحيح.
وهذا مذهب الجمهور ورجحه الحافظ ابن حجر والشوكاني.
لقوله صلى الله عليه وسلم (
…
فمن تلقاه فاشترى منه فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار).
قالوا: ثبوت الخيار للسيد فرع عن صحة البيع، ولو كان فاسداً لم يجعل للبائع الخيار.
ولأن النهي لا يرجع إلى نفس العقد، وإنما يعود إلى أمر خارج عن المنهي عنه، وهو الإضرار بالركبان، وهذا لا يقتضي الفساد.
القول الثاني: أن البيع فاسد.
قال الشوكاني: "وقال به بعض المالكية وبعض الحنابلة".
لأنه بيع منهي عنه، والنهي يقتضي الفساد.
والراجح الأول.
• إذا قدم الراكب السوق، وعلم أنه قد غبن، فله الخيار.
لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تلقوا الجلب، فمن تلقى فاشترى منه فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار). رواه مسلم
[سيده: المراد به البائع الجالب للسلعة].
م/ قال: من غشنا فليس منا.
ذكر المصنف رحمه الله حديث أبي هريرة قال: قال صلى الله عليه وسلم (من غشنا فليس منا) رواه مسلم، وجاء في رواية (من غش فليس مني) وهذا اللفظ أعم، لأن لفظ (من غشنا) معشر المسلمين.
الغش: لغة مأخوذ من الغَشَش وهو المشرب الكدِر، والمراد به عند الفقهاء: هو كتم عيب المبيع. والمراد بالعيب كل وصف يعلم من حال آخذه أنه لو اطلع عليه لم يأخذه بذلك الثمن الذي بذله.
مثال: كأن يكون في السلعة عيب فيكتمها البائع ولا يخبر به، وهذا غش.
• الحديث دليل على تحريم الغش في البيع والشراء، وأن الواجب على من يتعاطى البيع والشراء أن يتقي الله، وأن ينصح في المعاملة، وأن يحذر الخيانة والغش، وأن يبين عيب السلعة ويحرم كتمه.
وقد ثبت في الحديث عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ. (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ عَلَى صُبْرَةِ طَعَامٍ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلاً فَقَالَ «مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ». قَالَ أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ «أَفَلَا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ كَىْ يَرَاهُ النَّاسُ مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّى) رواه مسلم.
وقد قال صلى الله عليه وسلم عن البائع والمشتري (فإن صدقا وبيّنا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما).
ففي هذا الحديث وجوب الصدق والبيان في البيع والشراء.
فالصدق: أي فيما يصفان السلعة به من الصفات المرغوبة.
والبيان: أي فيما يصفان به السلعة من الصفات المكروهة.
مثال: لو باع شخص سيارة وقال: هذه السيارة جديدة ونظيفة، ومدحها بما ليس فيها، فهذا كذب.
مثال: وإذا باع السيارة وفيها عيب ولم يخبره بالعيب، فهذا كتم ولم يبيّن.
فالصدق والبيان سبب لحلول البركة، والكذب والكتمان سبب لمحق بركة البيع.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
• مسألة البراءة من العيب:
اختلف العلماء إذا اشترط البائع البراءة من جميع العيوب على أقوال:
فقيل: يبرأ البائع ويسقط المشتري من خيار العيب وهذا قول الحنفية، وقيل: أن هذا الشرط لا ينفع والبيع معه صحيح وهذا مذهب المالكية والحنابلة.
والراجح - في هذه المسألة - ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو أن البائع يبرأ إلا أن يكون علم العيب فكتمه.
قال شيخ الإسلام: والصحيح في مسألة البيع بشرط البراءة من كل عيب والذي قضى به الصحابة وعليه أكثر أهل العلم أن البائع إذا لم يكن علم بذلك العيب فلا رد للمشتري.
وقال ابن القيم: والصحيح في هذه المسألة ما جاء عن الصحابة، فإن عبد الله بن عمر باع زيد بن ثابت عبداً بشرط البراءة بثمانمائة درهم، فأصاب به زيد عيباً، فأراد رده على ابن عمر فلم يقبله، فترافعا إلى عثمان، فقال عثمان لا بن عمر: تحلف أنك لم تعلم بهذا العيب؟ فقال: لا، فرده عليه، فباعه ابن عمر بألف وخمسمائة درهم، ذكره الإمام أحمد وغيره، وهذا اتفاق منهم على صحة البيع وجواز شرط البراءة، واتفاق من عثمان وزيد على أن البائع إذا علم بالعيب لم ينفعه شرط البراءة.
م/ ومثلُ الربا الصريح: أ- التحيلُ عليه بالعينة: بأن يبيعَ سلعةً بمائة إلى أجل، ثم يشتريها من مشتريها بأقلَّ منها نقداً، أو بالعكس.
ذكر المصنف رحمه الله مسألة العينة وهي: مثل أن يكون محتاج إلى دراهم فلا يجد من يقرضه، فيقوم ويشتري من شخص سلعة بثمن مؤجل، ثم يبيعها على صاحبها الذي اشتراها منه بثمن أقل منه نقداً.
• سميت بذلك لأن البائع رجع إليه عين ماله.
وقد اختلف العلماء في حكمها على قولين:
القول الأول: أنها جائزة.
وهذا مذهب الشافعي.
لعموم قوله تعالى (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْع).
القول الثاني: أنها حرام.
وهذا مذهب جماهير العلماء من الحنفية والمالكية والحنابلة.
لقوله صلى الله عليه وسلم (إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم) رواه أبو داود.
ولأنها حيلة على الربا كما قال المصنف، وهذا القول هو الراجح.
• قوله (يشتريها من مشتريها) أي أن البائع يشتريها من مشتريها، فمفهومه: أنه لو اشتراها من غيره جاز.
مثال: إنسان اشترى سيارة من تاجر بثمن مؤجل (مثلاً 50 ألف أقساط) ثم قام هذا المشتري وباعها على شخص آخر، فيجوز للبائع (وهو التاجر) أن يشتريها من هذا الشخص الآخر، لأن به يزول المحذور.
• قوله (بأقل منها) مفهومه أنه لو اشتراها بأكثر أو بمثل سعرها جاز، وهو لن يشتري بمثل سعرها أو أكثر إلا إذا كانت السلع قد زادت.
فالمحذور في العينة: أنها وسيلة من وسائل الربا، حيث باع دراهم حالة بدراهم مؤجلة بينهما وسيلة التي هي السيارة.
• أما إذا باعها على واحد ثالث (غير التاجر) فهذه مسألة التورق وهي جائزة - على القول الراجح - لأن الأصل في المعاملات الحل.
م/ أو بالعكس.
عكس مسألة العينة: أن يبيع السلعة نقداً بـ 100 ثم يشتريها ممن اشتراها بأكثر منه مؤجل.
مثاله: بعثك بيتي (80) ألف نقداً، ثم اشتريته منك (100) ألف مؤجلة (عكس مسألة العينة).
مثال آخر: أن يشتري شخص سيارة بـ (50 ألف) نقداً، ثم يأتي البائع ويشتري هذه السيارة 70 مؤجلة.
وقد اختلف العلماء في هذه الصورة هل هي جائزة أم لا؟
القول الأول: الجواز إذا لم تكن حيلة.
قالوا: لأن الأصل حل البيع، وحرمت العينة بالنص، ولأنه ليس فيها محذور شرعي.
واختار هذا الموفق ابن قدامة إذا لم يكن هذا مواطأة واتفاق بينهما.
القول الثاني: إنها حرام. وهو ما اختاره المصنف رحمه الله، وهو قول الحنفية والحنابلة.
لأن المقصود بالمنع هو سد ذريعة الربا.
م/ أو التحيل على قلبِ الديْن.
وهذا من أشد أنواع الربا، وهو ربا الجاهلية.
مثاله: أن الرجل يكون له على الرجل المال المؤجل فإذا حل الأجل قال له: أتقضي أم تربي فإن وفاه وإلا زاد هذا في الأجل وزاد هذا في المال فيتضاعف المال والأصل واحد.
أو يقول المدين: أخّر عني ديني وأزيدك على مالك، فيفعلان ذلك.
وهذا من أشد الربا، لقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).
قال ابن الجوزي: قال أهل التفسير: هذه الآيات نزلت في ربا الجاهلية، قال سعيد بن جبير: كان الرجل يكون له على الرجل المال، فإذا حل الأجل، فيقول أخّر عني وأزيدك على مالك، فتلك الأضعاف المضاعفة.
وقال زيد بن أسلم رحمه الله: كان ربا الجاهلية أن يكون للرجل على الرجل الحق إلى أجل، فإذا حلَّ الحق قال لغريمه: أتقضي أم تربي؟
فإن قضاه أخذه وإلا زاده في حقه وأخَّر عنه الأجل.
وهذا النوع من الربا مجمع على تحريمه بل إنه معلوم من دين الإسلام بالضرورة.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: هذا الربا مجمع على تحريمه وبطلانه، وتحريمه معلوم من دين الإسلام كما يعلم تحريم الزنا والسرقة.
• الحيلة: التوصل إلى أمر محرم بفعلٍ ظاهره الإباحة، والحيل حرام لقوله صلى الله عليه وسلم (لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل) ولأن المتحيل فيه نوع استهزاء بالله تعالى.
كل من تحيل لارتكاب محرم [إما بإسقاط واجب أو فعل محرم] فقد ارتكب مفسدتين:
الأولى: مفسدة التحايل. الثانية: مفسدة فعل المحرم.
إسقاط واجب: سافر من أجل أن يفطر، [فعل محرم] قلب الدين كما سبق.
• وهذا ما تفعله بعض البنوك الآن، في البطاقات الائتمانية (فيزا) ويسحب بها وهو ليس عنده رصيد ويعطون فترة مجانية السماح (45) يوماً، فإذا سدد في هذه المدة لم يحتسبوا عليه فوائد ربوية، فإذا تأخر عن السداد احتسبوا عليه فوائد ربوية، هذا نفس ربا الجاهلية.
م/ أو التحيل على الربا بقرض، بأن يقرضه ويشترط الانتفاع بشيء من ماله أو إعطاءه عن ذلك عوضاً، فكل قرض جر نفعاً فهو ربا.
ربا القرض: هو أن يقرض شخصاً مالاً ويشترط الانتفاع بشيء.
سمي بذلك: لان فيه زيادة بدون مقابل وهي المنفعة.
• فإذا شرط المقرض زيادة أو منفعة فإنه حرام.
قال ابن المنذر: "أجمعوا على أن المسلف إذا شرط على المستسلف زيادة أو هدية فأسلف في ذلك أن أخْذه الزيادة على ذلك ربا".
وقال الشوكاني: "وأما إذا كانت الزيادة مشروطة فتحرم اتفاقاً".
لأن القرض عقد إرفاق وهو قربة، فإذا أخذ عليه الزيادة لم يكن إرفاقاً ولا قربة. بل يكون بيعاً ورباً صريحاً.
• والمنفعة قد تكون بدنية، أو مالية، أو عين.
مثال البدنية: أن يقول أقرضتك ألف ريال بشرط أن تشتغل عندي يوماً واحداً.
مثال المالية: أقرضتك ألف ريال بشرط أن تعطيني ساعتك
مثال عين: أقرضتك ألف ريال بشرط أن أن أسكن بيتك يوم واحد.
كل قرض جر منفعة فهو ربا، وقد ورد هذا مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم رواه الحارث بن أبي أسامة، لكنه لا يصح، قال ابن حجر: وإسناده ساقط.
• وأما إذا كانت الزيادة غير مشروطة فلا بأس، بل تعتبر من حسن القضاء.
ويدل لذلك:
حديث أبي رافع (أن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف من رجل بكراً، فقدمت على النبي صلى الله عليه وسلم إبل الصدقة، فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره، فرجع إليه أبو رافع فقال: يا رسول الله! لم أجد فيها إلا خياراً رباعياً، فقال: أعطه، فإن خير الناس أحسنهم قضاء) رواه مسلم.
(خياراً رباعياً) الرباعي ما دخل في السنة السابعة، لأنها زمن ظهور رباعيته.
(إن أهدى المقترض هدية للمقرض فإن كانت بعد الوفاء فجائز، وإن كانت قبل الوفاء فلا يجوز إلا أن تكون قد جرت العادة بينهما بمثل هذا، فكان بينهما تهاد قبل الاستقراض، لأن جريان العادة بذلك بينهما قرينة ظاهرة على أنه لم يرد مجازاته على قرضه).
م/ وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع التمر والرطب؟ فقال: أينقصُ إذا جفَّ؟ قالوا: نعم، فنهى عن ذلك. رواه الخمسة.
ذكر المصنف رحمه الله حديث سعد بن أبي وقاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم (سئل عن اشتراء الرطب بالتمر، فقال: أينقُصُ الرطبُ إذا يبِس؟ قالوا: نعم، فنهي عن ذلك) رواه الخمسة.
• الحديث دليل على تحريم بيع أحد نوعي الجنس بالآخر، وأحدهما رطب والآخر يابس، مثل بيع الرطب بالتمر، وبيع العنب بالزبيب، لأن أحدهما أزيد من الآخر قطعاً، فإن الرطب إذا يبس نقص كثيراً، فلا يحصل التساوي.
• قول النبي صلى الله عليه وسلم (أينقص الرطب إذا يبس) هذا السؤال لا يقصد منه المعرفة، لأن مسألة نقصان الرطب إذا يبس جلية مستغنية عن الاستكشاف، لأن من المعلوم لكل عاقل أن الرطب ينقص إذا يبس، لزوال الرطوبة الموجبة لزيادته وثقله، وإنما قصد النبي صلى الله عليه وسلم بيان مناط الحكم ووجه العلة بتحريم البيع، وهذا يحصل به اقتناع السائل بوقوفه على علة النهي.
م/ ونهى عن بيع الصُبرة من التمر لا يعلم مكيلها، بالكيل المسمى بالتمر. رواه مسلم.
ذكر المصنف رحمه الله حديث جابر قال (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الصُّبْرَةِ من التمر لا يُعلمُ مكِيلُها بالكيل المسى من التمر) رواه مسلم ليستدل به على تحريم بيع الصبرة من التمر - وهي الكومة - التي لا يعلم كيلها بتمر آخر علم كيله، لأن الصبرة يُجهل كيلها ومقدارها، فالتساوي غير معلوم، وذلك مظنة الزيادة، فيكون ربا، لأن بيع التمر بالتمر يشترط فيه التساوي وهذا غير متحقق هنا، وهذا ربا.
باب بيع الأصول والثمار.
الأصول:
جمع أصل وهو ما يبنى عليه غيره، والمراد بها الأرض أو الدار أو الشجر. (والفقهاء يقصدون ما الذي يتبع البائع وما الذي يتبع المشتري منها).
إن كان هناك شرط وجب العمل به - إن شرط البائع أو المشتري - أن هذا يتبعه وجب العمل به لحديث (المسلمون على شروطهم).
إن لم يكن هناك شرط: فالبيع يشمل الأشياء المتصلة دون المنفصلة
فبيع الدار: يشمل الجدران والأبواب والنوافذ.
ولا يشمل المنفصلة: كأواني الطبخ والرفوف والمكيفات.
• يستثنى المفاتيح لانها منفصلة ويشملها البيع.
والثمار:
المراد بها ثمر النخل أو التين أو العنب أو غيرها.
م/ قال صلى الله عليه وسلم: مَنْ بَاعَ نَخْلاً قَدْ أُبِّرَتْ فَثَمَرُتهَا لِلْبَائِعِ، إلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ. متفق عليه.
[نخلاً] أي أصول النخل. [أبرت] التأبير هو التلقيح، وهو وضع طلع الفحل من النخل بين طلع الإناث. [المبتاع] المشتري.
• الحديث دليل على أن من اشترى نخلاً بعد التأبير فثمرتها للبائع، وهذا مذهب جماهير العلماء.
لحديث الباب، فهو صريح بذلك، فهو يدل على أن ثمرة النخل المبيع يكون للبائع بعد التأبير ما لم يشترطه المبتاع.
مثال: إنسان باع مزرعة فيها (100) نخلة، وهذا النخل فيه الطلع، فالثمرة تكون للبائع.
والحكمة: لأن البائع عمل في هذه الثمرة عملاً يصلحها، لأن التأبير يصلح الثمرة، فلما عمل فيها عملاً يصلحها، تعلقت بها وصار له تأثير فيها، وبذلك جعلها الشارع له.
• أنه لو باعها قبل التأبير فثمرتها للمشتري لمفهوم الحديث.
• أنه لو اشترط المشتري أن تكون له الثمرة بعد التأبير فإنه يصح، لقوله:(إلا أن يشترط المبتاع).
• هل يجوز للبائع إبقاء الثمرة على رؤوس الشجر إلى وقت الجذاذ؟
قيل: للبائع إبقاؤها إلى الجذاذ.
وهذا مذهب جمهور العلماء.
وقيل: يجب على البائع قطع ثمرته من أصل المبيع في الحال.
وإليه ذهب الحنفية.
• جواز الشروط في البيع، لكن بشرط ألا تخالف الشريعة.
لقوله صلى الله عليه وسلم: (كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط). متفق عليه
• هذا الحكم في هذا الحديث إنما هو لعام واحد، وأما السنوات القادمة فهي للمشتري.
• أن من باع عبداً وقد جعل بين يديه مالاً يتصرف فيه، فالمال للبائع إلا أن يشترطه المشتري مع الصفقة، أو يشترط بعضه، فيدخل مع المبيع.
م/ وكذلك سائرُ الأشجار إذا كان ثمره بادياً.
مثل التفاح والبرتقال والتين والعنب والرمان، قياساً على النخل.
كما لو باعه شجر برتقال أو عنب أو غيرها فالثمر يكون للبائع إلا إذا اشترط المشتري.
• قوله (إذا كان ثمره بادياً) لما كانت سائر الأشجار لا تؤبر علق الحكم بظهور الثمر.
إذا باع الأشجار بعد أن بدا الشجر (ظهر التفاح - ظهر التين) تكون الثمرة للبائع إلا أن يشترطها المبتاع، وهذا ينزل منزلة التأبير، أما إذا لم تظهر الشجرة ثم باع الأشجار فإن الثمرة تكون للمشتري.
م/ ومثلُه إذا ظهرَ الزرع الذي لا يحصَدُ إلا مرةً واحدة، فإن كان يحصد مراراً فالأصول للمشتري والجزةُ الظاهرة عند البيع للبائع.
إذا ظهر الزرع: أي نبت.
قسم المؤلف رحمه الله الزرع إلى قسمين:
القسم الأول: زرع يحصد مرة واحدة. (كالشعير والبر) فإنه يكون للبائع إلا أن يشترطه المشتري.
ويكون على البائع سقيه، لأنه ملكه استمرّ عليه، لأن هذا الزرع هو ثمرة الأرض، وهي ثمرة ظاهرة كالنخل المؤبر، وهذا القياس واضح جداً.
فإذا باع إنسان أرضاً بها زرع، وهذا الزرع قد نبت فإنه يكون للبائع لأن نفسه قد تعلقت به.
والمراد بالزرع الذي تكون ثمرته للبائع: الزرع الذي لا يحصد إلا مرة واحدة مثل البر والشعير كما سبق.
القسم الثاني: زرع يحصد مراراً، فهنا الأصول تكون للمشتري والجزة الظاهرة عند البيع للبائع.
كالعدس والبرسيم والكراث والبقدونس والنعناع والجرجير والكراث والبرسيم ظهر، نقول الجزة الظاهرة للبائع، لأنه كالثمر المؤبر، فأعطي حكمه.
بيع الثمار قبل بدو صلاحها
م/ نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلاحُهَا. نَهَى الْبَائِعَ وَالْمُشْتَرِيَ. متفق عليه.
وسئل عن صلاحِها؟ فقال: حتى تذهب عاهتُه، وفي لفظ (حتى تحمارّ أو تصفارّ).
ذكر المصنف رحمه الله هذا الحديث الذي فيه النهي عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، وهذا النهي للتحريم.
• الحكمة في النهي قبل بدو صلاحها: أنه في بيع الثمرة قبل بدو صلاحها عرضة للآفات، لأن فيه غرراً وخطراً ظاهراً يفضي إلى المفاسد الكثيرة بين المسلمين من إيقاع التشاحن والتشاجر وأكل مال الغير بغير حق.
فالبائع إذا باع قبل بدو الصلاح وتعجل البيع فإنه ستقل قيمتها عما لو أخر البيع إلى ما بعد الصلاح والنضج فيكون في ذلك خسارة عليه.
وأما المشتري: ففي ذلك حفظ لماله من الضياع والمخاطر والتغرير، لأن الثمرة قد تتلف وتنالها الآفات قبل الانتفاع بها فيذهب ماله، فنهي عن ذلك تحصيناً للأموال من الضياع وحفظاً للحقوق، وقطعاً للمخاصمات والمنازعات بين المتبايعين.
فالخلاصة في الحكمة من النهي: قطع النزاع، انها قبل بدو صلاحها لا منفعة فيها للمشتري فيكون البائع أكل مال أخيه، أنها قبل بدو الصلاح معرضة للآفات.
• متى يبدو صلاحها: له علامات:
العلامة الأولى: ذهاب عاهته (الآفة التي تتلف الثمرة أو تعيبها).
العلامة الثانية: أن يحمر أو يصفر (هذا بالنسبة للنخل).
أما غير النخل: فالعنب بلونه وفي رواية (أن يتموه).
أما بقية الثمار فعلامة صلاحها أن يطيب أكلها.
وأما الحب حتى يشتد: والاشتداد معناه القوة والصلابة.
قمح لم يسنبل لا يجوز بيعه.
• هل يستثنى شيء؟ قسم ابن قدامة بيع الثمر قبل بدو صلاحه إلى أقسام، فقال رحمه الله:
لا يخلو بيع الثمرة قبل بدو صلاحها من ثلاثة أقسام:
أحدها: أن يشتريها بشرط التبقية، فلا يصح البيع إجماعاً، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها نهى البائع والمشتري، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
القسم الثاني: أن يبيعها بشرط القطع في الحال، فيصح بالإجماع، لأن المنع إنما كان خوفاً من تلف الثمرة وحدوث العاهة عليها قبل أخذها، وهذا مأمون فيما يقطع فصح بيعه كما لو بدا صلاحه.
القسم الثالث: أن يبيعها مطلقاً، ولم يشترط قطعاً ولا تبقية، فالبيع باطل، وبه قال مالك والشافعي، وأجازه أبو حنيفة.
ثم قال مرجحاً رأي الجمهور في حكم هذا القسم الأخير: ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق النهي عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها فيدخل فيه محل النزاع.
• لو باع البستان جميعاً:
فقيل: لا بد أن يكون اللون في كل شجرة لوحدها.
وقيل: إذا بيع البستان وفيه نخلة واحدة ملونة لكنها صفقة واحدة صح البيع.
وقيل: إن كان النوع واحداً جاز وإلا فلا.
مثال: هناك خمسة أنواع من الثمر [سكري، خلاص، برحي،
…
] من كل نوع خمس نخلات، صلح من النوع الأول نخلة، فيكون صلاحاً لها وللأربعة التي من نوعها سواء بيعت لوحدها أو مضمومة مع الأربع.
• إذا أفردت كل نخلة لوحدها بعقد، فالواجب اعتبار كل نخلة لوحدها.
لأنه صار كل نخلة لها حكم خاص.
الخلاصة:
أ- إذا بيع كل نخلة لوحدها فالواجب اعتبار كل نخلة لوحدها.
ب- إذا بيع النخل جميعاً صفقة واحدة، فإنه إذا لون من كل نوع واحدة صار صلاحاً لها ولسائر النوع الذي في البستان.
ج- وهل يعتبر صلاحاً للنوع الآخر إذا بيع صفقة واحدة؟
المذهب يعتبرون كل نوع على حدة.
وقيل: إذا بدا صلاح نخلة واحدة فإنه صلاح لجميع الأنواع.
وضع الجوائح
م/ وقال صلى الله عليه وسلم: لو بعتَ من أخيك ثمراً فأصابته جائحة، فلا يحلُّ لك أن تأخذَ منه شيئاً، بم تأخذُ مالَ أخيك بغير حق. رواه مسلم.
ذكر المصنف رحمه الله حديث جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لو بعت من أخيك ثمراً فإصابته جائحة ...... ) ليستدل به على مسألة عند الفقهاء تسمى: وضْع الجوائح.
تعريف الجوائح: جمع جائحة وهي: كل آفة لا صنع للآدمي فيها، فيدخل في ذلك المطر الشديد، والحر والبرد، والريح، والجراد، والغبار المفسد ونحو ذلك من الآفات السماوية.
مثالها: إنسان باع على أخيه ثمر عنب فقدر أنه جاء حر شديد فتلف هذه العنب أو مطر مصحوباً ببرد فأتلفه.
هذه جائحة، وكان المشتري قد دفع القيمة واشترى الثمرة بعد بدو الصلاح، الحديث يدل على أنها تذهب من مال البائع. ولا تذهب على المشتري فيرجع على البائع ويأخذ ماله.
وجه الاستدلال:
أولاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم نفى حل أخذ شيء من مشتري الثمرة إذا أصابتها جائحة.
ثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم أكّد حرمة أخذ مال المشتري بصيغة الاستفهام الإنكاري، ووصفه بأنه غير حق.
ثالثاً: أنه أمر أمراً صريحاً بوضع الجوائح، والأمر يقتضي الوجوب.
والقول بوضع الجوائح هو قول جماهير العلماء.
• إذا كانت الآفة بفعل الآدمي فيطالب به الجاني.
• السرقة لا تعتبر جائحة على القول الراجح.
• لا فرق بين قليل الجائحة وكثيرها، لأن الأحاديث في وضع الجائحة عامة.
• لو فرط المشتري وتأخر في جذاذ النخل - مثلاً - عن وقته المعتاد فأصابته جائحة بمطر - مثلاً - فهو من ضمانه لا من ضمان البائع، لتفريطه بترك نقل الثمرة في وقت نقلها مع قدرته.
• لو حصل التلف بفعل آدمي فإن المشتري بين الإمضاء ومطالبة المتلف بالبدل، وبين الفسخ ومطالبة البائع بما دفعه.
باب الخيار
الخيار: هو طلب خير الأمرين من إمضاء البيع أو فسخه.
وهناك تعريف آخر: هو حق العاقد في فسخ العقد أو إمضائه لظهور مسوغٍ شرعي أو بمقتضى اتفاق عقدي.
قوله (لظهور مسوغ شرعي) مثل العيب، أو الغبن، أو التدليس، أو زيادة الناجش ونحوها.
م/ إذا وقع العقدُ صار لازماً إلا بسبب من الأسباب الشرعية.
أي: إذا وقع عقد البيع، فإنه يكون لازماً ثابتاً، ولا يمكن فسخه إلا برضا من الطرفين، وهذا بخلاف العقد الجائز فإنه يجوز فسخه ولو بدون رضا أحد الطرفين.
• العقود من حيث اللزوم وعدمه تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
أ_ عقد لازم من الطرفين، كالبيع، والإجارة، والنكاح، والمساقاة، والمزارعة (معنى اللزوم: أي كل واحد منهما لا يملك إلا الفسخ).
ب _ وعقد جائز من الطرفين، مثل الوكالة، والجعالة (يعني لكل واحد من المتعاقدين أن يفسخ ولو بدون رضا الطرف الآخر). إلا إذا تضمن ضرراً على الطرف الآخر.
ج _ وعقد جائز من طرف ولازم من طرف كالرهن.
م/ إلا بسبب من الأسباب الشرعية.
فمن الأسباب التي لا يلزم فيها البيع، ما ذكره المصنف رحمه الله بقوله:
خيار المجلس
م/ فمنها: خيار المجلس. قال النبي صلى الله عليه وسلم (إذَا تَبَايَعَ الرَّجُلانِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا وَكَانَا جَمِيعاً، أَوْ يُخَيِّرُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ. فَتَبَايَعَا عَلَى ذَلِكَ. فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ).
[البيعان] أي البائع والمشتري، وأطلق عليهما ذلك من باب التغليب. [بالخيار] الخيار هو طلب خير الأمرين من إمضاء العقد أو فسخه. [ما لم يتفرقا] أي بأبدانهما على القول الراجح. [وجب البيع] ثبت البيع، المراد بالمجلس: مجلس البيع
• في هذا الحديث إثبات خيار المجلس (وهو الخيار الذي يثبت للمتعاقدين ما داما في المجلس، أي مجلس البيع ما داما مجتمعين).
وإلى هذا ذهب جماهير العلماء، كالشافعي وأحمد. قال ابن قدامة: وهو مذهب أكثر أهل العلم.
للحديث الذي ذكره المصنف رحمه الله (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا
…
).
وذهب الإمام مالك وجماعة إلى أنه لا خيار للمجلس، بل يلزم العقد بالإيجاب والقبول.
وقد أجاب هؤلاء عن حديث الباب بأجوبة كثيرة كلها ضعيفة.
ولذلك قال النووي: وهذه الأحاديث الصحيحة ترد على هؤلاء، وليس لهم عنها جواب صحيح.
• المراد بقوله: (ما لم يتفرقا) أي بأبدانهما ويدل لذلك قوله (ما لم يتفرقا وكانا جميعاً) فهذا يدل على أن التفرق بالأبدان.
قال بعض العلماء: المراد بالتفرق، تفرق الأقوال، وهذا ضعيف.
• ضابط التفرق، لم يحدد، فيرجع فيه إلى العرف، والقاعدة:[كل ما ورد مطلقاً في لسان الشارع، ولم يحدد، فإنه يرجع إلى تحديده إلى العرف].
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أمثلة:
• إذا كانا في بيت، فبخروج أحدهما منه.
• إذا كانا في غرفة، فبخروج أحدهما منها.
• الحكمة من خيار المجلس:
أن الإنسان قبل أن يملك الشيء تتعلق به نفسه تعلقاً كبيراً، فإذا ملَكه زالت تلك الرغبة، لذلك شرع خيار المجلس.
• يثبت البيع إذا تفرقا بأبدانهما بعد البيع.
• إذا أسقط المتبايعان خيار المجلس بعد العقد، أو شرطا أن لا خيار بينهما، صح ولزم البيع بمجرد العقد، لأن الحق لهما في خيار المجلس وقد أسقطاه.
إذاً يسقط خيار المجلس:
• إن نفياه قبل ثبوته [قلت أبيعك هذه الساعة بـ 100 على أن لا خيار لك، قال: قبلت] أو أسقطاه بعد ثبوته [قلت بعتك هذه الساعة قال: قبلت، وهما الآن ما زالا في المجلس وكل واحد له الخيار، فقلت له: دعنا نلزم البيع ونسقط الخيار بيننا، فوافق، فهنا أسقطاه بعد ثبوته]، لأن الخيار لهما فيسقط بإسقاطه.
• إن أسقط أحدهما بقي خيار الآخر، بأن قال: أسقطت خياري، فإنه يبقى خيار الآخر.
• يثبت خيار المجلس في البيع، والإجارة.
فإذا اتفقت أنا وأنت على أن أؤجرك بيتي لمدة سنة، فما دمنا في المجلس فلكل واحد منا الخيار، لأن الإجارة كالبيع، فهي عقد معاوضة.
• يحرم لأحد المتبايعين أن يقوم خشية الاستقالة.
لقوله صلى الله عليه وسلم: (ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله). رواه أبو داود
• ما الجواب عن فعل ابن عمر: أنه كان إذا بايع رجلاً فأراد أن لا يقيله قام فمشى هنيّة ثم رجع إليه؟
الجواب:
أ- هذا اجتهاد منه، مدفوع بالحديث المتقدم الذي ينهى عن ذلك.
ب- أو يحمل على أنه لم يبلغه الخبر.
خيار الشرط.
ومنها: خيار الشرط: إذا شرط الخيار لهما أو لأحدهما مدة معلومة، قال النبي صلى الله عليه وسلم (المسلمون على شروطهم إلا شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً) رواه أهل السنن.
ومنها: أي ومن أنواع الخيار، خيار الشرط: وهو أن يشترطا المتبايعان في العقد مدة معلومة ولو طويلة.
• دليله: عموم قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود).
والحديث الذي ذكره المصنف رحمه الله (المسلمون على شروطهم) رواه أحمد.
مثاله: بعتك سيارتي هذه على أن لنا الخيار لمدة {5} أيام.
• الحكمة من هذا الخيار: المشاورة والتجربة والنظر والفحص وتقليب السلعة في تلك المدة هل هي صالحة أو لا، فالمشتري قد يشتريها لكنه لا يدري هل تناسبه أم لا؟ وكذلك البائع يشترط الخيار لأنه قد يكون محتاجاً للسلعة فيبيع الأرض مثلاً على خيار ثلاثة أيام أو أربعة أو أكثر، فربما تظهر حاجته إليها وعدم استغنائه إليها.
قوله (مدة معلومة) فلا بد أن تكون المدة معلومة فلو كانت مجهولة لم تصح.
مثال: بعتك بيتي على أن لي الخيار حتى أشتري بيتاً، هذا لا يجوز هذا فيه جهالة ويحصل فيه نزاع.
• يصح خيار الشرط ولو كانت المدة طويلة ما دامت المدة معلومة، وهذا القول الصحيح، وهذا هو المذهب.
لعموم قول الرسول صلى الله عليه وسلم (المسلمون على شروطهم) ولأن هذه المدة المشترطة مدة ملحقة بالعقد فكان تقديرها إلى العاقدين كالأجل، ولأن الحاجة إلى النظر والتروي قد لا يكفيها ثلاثة أيام أو قريباً منها، لأن من السلع ما يحتاج فيه العاقد إلى التروي والمشاورة أكثر من ثلاثة أيام، لاسيما في العقارات والبساتين والصفقات الكبيرة.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وعند المالكية أن المدة ثلاثة أيام لكن يزيد عليها قليلاً بقدر الحاجة كيومين ونحوها، ولا تزيد عند أبي حنيفة والشافعي على ثلاث ليال.
• يبطل خيار الشرط: إذا مضت مدة الخيار، وإذا أسقطاه.
مثال: إذا قدر أنهما تبايعا على أن يكون الخيار لمدة {10} أيام، وبعد مضي {5} أيام اتفقا على إلغاء الشرط، فإن هذا يجوز ويسقط الشرط لأن الحق لهما.
• النماء المنفصل والمتصل زمن الخيار للمشتري.
النماء المنفصل {أي من المبيع} للمشتري.
مثال: باع إنسان شاة واشترط هذا المشتري الخيار {7} أيام، اللبن نماء منفصل، فهو للمشتري.
وكذلك النماء المتصل للمشتري على القول الراجح لأنه حصل بسببه.
مثال: اشتريت عبداً واشترطت الخيار لمدة {6} أشهر، فعلمته الكتابة والقراءة في هذه المدة، فقال البائع رجعت عن بيع العبد {العبد الآن يكتب وقد زادت قيمته والكتابة نماء متصل} فيأخذ البائع العبد وتقدر قيمته وهو لا يعرف القراءة والكتابة، وقيمته وهو متصف بهذه الزيادة، والفرق بين القيمتين للمشتري.
• لا يجوز تصرف أحدهما في المبيع زمن الخيار، لأن تصرف أحدهما في المبيع يستلزم سقوط حق الآخر لكن يستثنى من ذلك: إذا أذن صاحب الحق.
• إذا مات أحدهما زمن الخيار فإنه لا يبطل خياره وينتقل الملك إلى الورثة.
خيار الغبن
م/ ومنها: إذا غبن غبناً يخرج عن العادة، إما بنجش، أو تلقي الجلب أو غيرهما.
ومنها: أي ومن أنواع الخيار، خيار الغبن، وهو أن يغبن في المبيع غبناً يخرج عن العادة، ففي هذه الحالة له الخيار.
• لا بد أن يكون الغبن يخرج عن العادة.
• قيده بعضهم بالخمس وبعضهم بالثلث والصحيح أنه راجع للعرف.
• يثبت الخيار بالغبن بحالات ذكرها المصنف رحمه الله:
الأولى: الغبن بزيادة الناجش.
(سبق تعريفه).
مثال: رجل اشترى سلعة وزاد ثمنها بسبب النجش هي تساوي {10} ووصلت {15} بسبب النجش.
فللمشتري الخيار، لأنه زيد عليه على وجه محرم.
الثانية: تلقي الجلب (الركبان).
(سبق البحث فيه).
وأنه لا يجوز أن يتلقاهم ويشتري منهم، هؤلاء إن غبنوا فلهم الخيار.
خيار التدليس
ومنها: خيار التدليس: بأن يدلس البائع على المشتري ما يزيد به الثمن، كتصرية اللبن في ضرع بهيمة الأنعام، قال صلى الله عليه وسلم: لا تُصَرُّوا الْغَنَمَ. وَمَنْ ابْتَاعَهَا فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ، بَعْدَ أَنْ يَحْلُبَهَا. وَإِنْ رَضِيَهَا أَمْسَكَهَا، وَإِنْ سَخِطَهَا رَدَّهَا وَصَاعاً مِنْ تَمْرٍ) متفق عليه، وَفِي لَفْظٍ (هُوَ بِالْخِيَارِ ثَلاثَاً).
ومنها: ومن أنواع الخيار، خيار التدليس، وهو عدم إخراج الشيء على حقيقته (أو إظهار المبيع بصورة أحسن مما هي عليه).
له صورتان:
• أن يظهر الشيء على وجه أكمل مما كان عليه. (وهذا من باب الزيادة في الثمن). كتسويد شعر الجارية.
• أو أن يظهر الشيء على وجه كامل وفيه عيب. (وهذا من باب كتمان العيب فله علاقة بالخيار المتقدم).
• الفرق بينه وبين العيب: أن العيب وجود صفة نقص، وأما التدليس فوات صفة كمال.
أمثلة:
ومن التدليس: تصرية بهيمة الأنعام، وهو حبس اللبن في الضرع ليراها من يشتريها فيظن أنها كثيرة اللبن.
وقد ذكر المصنف حديث أبي هريرة في قوله صلى الله عليه وسلم (لا تصروا الغنم .... ).
وكانوا يجمعون لبنها في ضرعها ليظن من رآها أنها كثيرة اللبن، فيشتريها بزيادة، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك لأن ذلك غش وخداع وتدليس وإيذاء للحيوان.
وقد قال صلى الله عليه وسلم (من غشنا فليس منّا)، وفي رواية (من غش فليس مني) وهذا الرواية أعم.
• أن من اشتراها بعد التصرية فهو بالخيار ثلاثة أيام إذا علم بالتصرية.
الخيار بين أمرين:
• أن يمسكها بلا أرش.
• وإن شاء ردها إلى البائع وصاعاً من تمر.
• يردها ويرد معها صاعاً من تمر. (مقابل هذه الحلبة التي احتلبها).
وهذا مذهب الشافعي وأحمد، لوروده في الحديث:(وصاعاً من تمر).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقال مالك: يرد صاعاً من قوت البلد، والنبي صلى الله عليه وسلم ذكر التمر لأنه كان غالب قوت الحجاز.
والراجح الأول.
• والمصراة قد تكون من البقر أو الإبل أو الغنم، والجميع يمكن تصريته.
• هذا التمر عوض عن اللبن الذي كان في ضرعها، ولذلك لو علم أنها مصراة قبل أن يحلبها فإنه يردها ولا شيء معها، لأن الصاع وجب مقابل هذا اللبن، ولذلك جاء عند البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من اشترى غنماً مصراة فاحتلبَها فإن رضيَهَا أمسكها، وإن سخِطَها ففيها حلبتها صاع من تمر) فجعل الصاع مقابل الحلبة
• قدر النبي صلى الله عليه وسلم بالصاع، مع أن اللبن قد يكون كثيراً، وقد يكون قليلاً قطعاً للنزاع.
• ومن أمثلة التسويد: كتسويد شعر الجارية ليظن من رآها أنها شابة، فهنا للمشتري الخيار بين الرد أو الإمساك، لأنه يكون أضاف صفة كمالية لكن لا وجود لها في الأصل في هذا المبيع.
خيار العيب
م/ وإذا اشترى معيباً لم يعلم عيبَه فله الخيار، بين ردهِ وإمساكهِ.
ذكر المصنف رحمه الله هنا خيار العيب، وهو ما ينقص قيمة المبيع. (وقيل ما عده التجار المعتبرون في عرفهم منقصاً).
• إذا علم بالعيب بعد البيع فالمشتري بالخيار: إما الإمساك، أو الرد على البائع.
مثال: اشترى إنسان سيارة، فوجد فيها عيباً، فنقول أنت بالخيار: إما أن تمسكها أو تردها.
• الأرش: هو قسط ما بين قيمة الصحة والعيب. (أو قيمة هذا العيب وهو قسط ما بين قيمته صحيحاً ومعيباً).
مثال: اشتريت سيارة بعشرة آلاف، فوجدت فيها عيباً، فصارت قيمتها بالعيب سبعة آلاف ريال، فيصير قيمة العيب ثلاثة آلاف ريال وهذا هو الأرش.
• وقول المصنف رحمه الله (بين ردهِ وإمساكِه) ظاهره أنه لو أمسكها فإنه يمسكها من غير أرش.
وقد اختلف العلماء في هذ المسألة:
القول الأول: أن له الأرش إن أمسك السلعة.
وهذا المذهب.
قالوا: إن الثمن في مقابل المبيع عيناً وصفة، ولذلك العين الرديئة لها ثمن، والعين السليمة لها ثمن.
القول الثاني: أنه لا أرش، فلا يجبر البائع على دفع الأرش إذا أمسك المشتري.
وهذا ما مشى عليه المصنف هنا، وهو اختيار ابن تيمية رحمه الله.
لأن الأرش معاوضة جديدة لا يجبر عليها البائع إلا باختياره ورضاه.
القول الثالث: التفصيل: إن كان البائع مدلساً (عالماً بالعيب وكتمه) فإن المشتري يثبت له الأرش، وأما إذا كان لا يعلم بالعيب فلا أرش، لأن البائع دخل في هذا العقد على بينة، لأنه يعلم أن المشتري سوف يطالبه بالنقص، وهذا القول هو الراجح.
• قوله (لم يعلم عيبَه) مفهومه أنه لو علم فلا خيار له، لأنه دخل على بصيرة من الأمر ورضي بالعيب.
• لو اختلف البائع والمشتري فيمن حدث عنده العيب؟
مثال: لو اشترى سيارة، وبعدما ذهب بها رجع وقال: السيارة فيها عيب، فقال البائع: العيب حدث عندك؟ وقال المشتري بل العيب من عندك؟
مثاله: باعه عبداً ثم ادعى المشتري أن به عيباً (هو عرج مثلاً).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
اختلف العلماء:
القول الأول: القول قول المشتري.
لان الأصل عدم قبض الجزء الفائت بالعيب.
وهذا المذهب
القول الثاني: أن القول قول البائع.
لحديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إذا اختلفا المتبايعان وليس بينهما بينة، فالقول قول البائع).
أن الأصل السلامة.
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (البينة على المدعي واليمين على من أنكر)(فالمدعي هنا المشتري فليأت ببينة).
أن دعوى المشتري وجود العيب تستلزم استحقاق الفسخ والأصل عدم الفسخ.
وهذا القول هو اختيار ابن تيمية وهو الراجح.
م/ فإن تعذر ردهُ تعين أرشُه.
أي، فإن تعذر رد المبيع فهنا يتعين الأرش.
مثال: اشترى سيارة، ثم احترقت هذه السيارة، ثم تبين له بعد ذلك أن هذه السيارة التي احترقت كانت معيبة (كما لو اخبره شخص بأنها مصدومة) فان للمشتري على البائع الأرش، وليس له الرد، لأن السيارة قد احترقت، فله الأرش لتعذر الرد.
خيار اختلاف المتبايعين في الثمن.
م/ وإذا اختلفا في الثمنِ تحالفا، ولكلٍ منهما الفسخ.
ما ذكره المصنف رحمه الله هو خيار اختلاف المتبايعين في الثمن (في قدر ثمن المبيع)
مثال: اشتريت هذه الساعة منك، فلما جئت لأنقده الثمن، أعطيته (100) ريال، فقال البائع: أنا بعتها عليك بـ (120) ريال، والمشتري يقول اشتريتها بـ (100) والبائع يقول بعتها بـ (120) فمن القول قوله؟
يقول المصنف: تحالفا؟ لماذا؟
وكيفية الحلف: نص الفقهاء أنه يبدأ بيمين البائع لأن القاعدة في الأيمان أنه يبدأ بيمين أقوى المتداعيين، وأقواهما البائع لأن المبيع يرد عليه.
يحلف البائع بالنفي والإثبات، يبدأ بالنفي لأن الأصل في اليمين أنها للنفي، يحلف فيقول والله ما بعت الكتاب بـ (100) والله لقد بعته بـ (120) ثم يقول المشتري والله ما اشتريت الكتاب بـ (120) والله لقد اشتريته بـ (100) ثم يفسخ العقد إذا لم يرض بقول صاحبه، فترد البسيارة للبائع والثمن للمشتري.
وما ذكره المصنف رحمه الله هذا هو المشهور من المذهب.
واستدلوا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم (إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة ولا بينة لأحدهما تحالفا) هذا الحديث بهذا اللفظ لا أصل له.
وقالوا: لأن كلا منهما مدعٍ ومنكر، والقاعدة أن اليمين على المنكر، البائع يدعي أن القيمة 120 وينكر أن القيمة 100 - والمشتري يدعي أن القيمة 100 وينكر أن القيمة 120، فهنا يتحالفا ويفسخ العقد.
القول الثاني في المسألة: أن القول قول البائع، أو يترادان البيع (يعني إذا رضي المشتري بقول البائع فذاك وإلا فسخ البيع من غير بينة ولا شيء).
وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
لحديث ابن مسعود. قال: قال صلى الله عليه وسلم (إذا اختلف المتبايعان وليس بينهما بينة، فالقول قول البائع، أو يترادان) رواه أبوداود وأحمد.
ولان البائع لم يرض بإخراج هذا المبيع عن ملكه إلا بهذا الثمن، فكيف نجبره على قبول ما هو أقل.
• وإذا اختلفا في قدر الثمن والسلعة تالفة (كما لو اشترى شاة، فماتت، ثم جاء لينقد البائع المبلغ، فأعطاه (500) ريال، فقال البائع: لا، أنا بعتها عليك: 600 ريال.
فقيل: يتحالفان، وقيل: القول قول المشتري وهذا هو الصحيح، لأن المشتري معه الأصل. (البائع يقول بعتها 120، والمشتري يقول اشتريتها: 100، فهم إذاً اتفقوا على (100) واختلفوا في الزائد وهو (20)، والذي ينكر الزيادة هو المشتري، والقول قول المنكر مع يمينه (وهذه قاعدة: أن القول قول المنكر مع يمينه)، وهناك قاعدة ثانية (أن القول قول الغارم مع يمينه) والغارم هنا هو المشتري.
باب الإقالة
م/ وقال صلى الله عليه وسلم (من أقال مسلماً بيعتَه أقال الله عثرتَه) رواه أبوداود وابن ماجه.
الإقالة: هي أن يرضى أحد المتبايعين بفسخ العقد إذا طلبه صاحبه.
مثال: اشتريتُ منك سيارة بـ (20) ألف، وبعدما أخذتها، أحببت أن أرد السيارة، فرجعت للبائع وطلبت منه أن أرجع السيارة ويعطيني ما دفعت، فوافق البائع.
حكمها للمقيل (البائع) سنة، لحديث أبي هريرة - الذي ذكره المصنف، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من أقال مسلماً بيعته أقال الله عثرته) رواه أبوداود.
وعند ابن ماجه ( .. أقال الله عثرته يوم القيامة). {عثرته} أي غفر الله زلته وخطيئته.
ولأن ذلك من الإحسان والله يقول (وأحسنوا إن الله يحب المحسنين).
هي فسخ لا عقد جديد.
ومعنى الفسخ: أن العقد الأول يكون ثابتاً، ويكون الفسخ من حين الإقالة.
وعلى هذا فما حصل من نماء بين الإقالة والعقد يكون للمشتري، وما حصل من عيب يكون عليه.
• هل تصح الإقالة بعوض؟ مثال: اشتريت من أحمد بيته بنصف مليون، بعد يومين تندمت على الشراء، فجئت إليه وقلت: أنا تندمت على الشراء، أقلني، أريد فسخ البيع، فقال البائع (وهو أحمد) لا، فالبيع تم ولا أريد الإقالة، إلا أن تعطيني عشرة آلاف، اختلف العلماء على قولين:
القول الأول: أن الإقالة لا تجوز بعوض.
وهذا مذهب الحنابلة.
لأن العقد إذا ارتفع بفسخه رجع كل من المتبايعين بما كان له، فلم تجز الزيادة على الثمن.
القول الثاني: أنها تجوز بعوض.
وهذا القول روي عن أحمد.
وهذا الأقرب، وذلك لأن الإقالة لما كانت فسخاً للعقد، فإن هذا العوض بمثابة الصلح بينهما.
باب السلم
م/ يصح السلمُ في كلِ ما ينضبِط بالصفة إذا ضبطه بجيمع صفاته التي يحتلف بها الثمن، وذكر أجله، وأعطاه الثمن قبل التفرق، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ، وَهُمْ يُسْلِفُونَ فِي الثِّمَارِ: السَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ وَالثَّلاثَ. فَقَالَ: مَنْ أَسْلَفَ فِي شَيْءٍ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ، وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ، إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ.
والسلم: هو: عقد على موصوف في الذمة مؤجل، بثمن مقبوض في مجلس العقد.
[عقد على موصوف] خرج به العقد على معين، فليس بسلم. [مؤجل] لا بد أن يكون هناك تأجيل. [بثمن مقبوض في مجلس العقد] لا بد أن يقبض الثمن كاملاً في مجلس العقد.
• وهو ثابت بالكتاب والسنة والإجماع.
قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوه).
وأما السنة: فللحديث الذي ذكره المصنف رحمه الله عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ
(قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ، وَهُمْ يُسْلِفُونَ فِي الثِّمَارِ: السَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ وَالثَّلاثَ. فَقَالَ: مَنْ أَسْلَفَ فِي شَيْءٍ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ، وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ، إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ).
[في كيل معلوم] أي إذا كان مما يكال كالتمر [وزن معلوم] إذا كان مما يوزن كالتوت.
قال ابن المنذر: "أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن السلم جائز".
وقال الحافظ في الفتح: "واتفقوا على مشروعيته إلا ما حكي عن ابن المسيب".
مثاله: أن أعطي رجل 100 ريال، على أن يعطيني بعد سنة 100 كيلو من الأرز.
• الحكمة منه:
من أجل التوسعة، لأن الإنسان يحتاج إلى نقود وعنده تمر أو صنعة تتأخر، فيحتاج إلى شراء أدوات لصنعته أو ثمرته.
فالزارع يبدأ زرعه في شهر ربيع الثاني مثلاً، ولا يحصده إلا في شهر شعبان أو بعده، ففي هذه المدة هو بحاجة إلى دراهم لشراء البذور أو نفقة عماله أو عياله، أو آلاته، وأنت عندك دراهم لست بحاجة إليها، فتقول له: أنا أشتري منك براً بأنقص من قيمته [مثلاً يساوي الصاع ريالين، وأنت تقول: أشتريه الآن بريال] فكل منكما انتفع، فالأول احتاج المال وأخذه، والثاني اشتراه رخيصاً.
• قوله (يصح السلمُ في كلِ ما ينضبطُ بالصفة) هذا ضابط فقهي، كل ما ينضبط يصح فيه السلم، هذا الشرط الأول، ففي المكيل بمقدار المكيل وفي الموزون بمقدار الوزن، وفيما عدا ذلك بالأوصاف.
لأن ما لا يمكن ضبطه بالصفة يؤدي إلى التنازع والخصام بين المُسلِم والمُسلَم إليه.
لو قال المزارع للتاجر: أنا بحاجة إلى نقود للقيام على مزرعتي وأنا أريد أن اتفق معك على عقد سلم، فأعطيك 100 كيلو من السكري الذي صفته كذا وكذا مقابل عشرة آلاف ريال، فيسلم المبلغ الآن والتمر إذا جاء وقته سلمه إليه، (يحدد موعد معين أو إلى موسم التمر).
والسبب: لئلا يكون سبب نزاع عند التسليم، فقد يقول التاجر: أنا ما أردت هذا، ويقول المسلم (المزارع) هذا الموجود، فيحصل نزاع.
مثلا: أريد ألف إبريق مثل هذا الإبريق، أو 100 سطل مثل هذا السطل.
• فما لا يمكن ضبطه بالصفة فلا يصح السلم فيه، مثل الفواكه والبرتقال، لأنها تختلف بالكبر والصغر فلا يمكن ضبطها بالصفة.
• قوله (وذِكْر أجلهِ) هذا الشرط الثاني، لابد أن يكون الأجل معلوماً.
لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث (إلى أجل معلوم) كشهر أو شهرين أو أكثر أو أقل بحسب الاتفاق.
فلا يصح أن يكون مجهولاً. لو قال: أسلمت إليك مائة درهم بمائة صاع من البر إلى مقدم زيد، فهذا لا يجوز، لأن مقدم زيد غير معلوم.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
• واختلف العلماء لو قال: إلى الجذاذ أو إلى الحصاد على قولين:
القول الأول: لا يصح.
وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي.
قالوا: لأن ذلك يختلف ويقرب ويبعد فلا يجوز.
القول الثاني: أنه يصح.
وهذا مذهب مالك واختيار ابن تيمية.
قالوا: إنه أجل يتعلق بوقت من الزمن يعرف في العادة، لا يتفاوت فيه تفاوتاً كثيراً، فأشبه إذا قال: إلى رأس السنة، وهذا القول هو الصحيح.
• اختلف العلماء في الإسلام في الحيوانات على قولين؟ مثال: أن أعطيك ألف ريال على أن تعطيني بعد سنة 20 رأس من الغنم صفتها كذا وكذا.
القول الأول: لا يصح السلم في الحيوان.
وهذا قول أصحاب الرأي.
لحديث ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن السلم في الحيوان) رواه الحاكم والدارقطني وهو ضعيف.
وقالوا: لأن الحيوان يختلف اختلافاً متبايناً فلا يمكن ضبطه.
القول الثاني: أنه يصح السلم في الحيوان.
وهذا قول جمهور العلماء. (مالك والشافعي وأحمد).
قالوا: قياساً على القرض، فقد روى مسلم عن أبي رافع (أن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف من رجل بكراً، فقدمت إبل الصدقة، فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بَكره، فرجع إليه أبو رافع فقال: لم أجد فيها إلا خياراً رباعياً، فقال: أعطوه، فإن خير الناس أحسنهم قضاء).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وهذا القول هو الصحيح.
• قوله (وأعْطاهُ الثمن قبل التفرق) هذا الشرط الثالث من شروط السلم، وهو أن يكون الثمن مقبوضاً في مجلس العقد، وهذا موضع إجماع بين العلماء.
لقوله صلى الله عليه وسلم (من أسلف في شيء فليسلف
…
) والإسلاف التقديم، سمي سلفاً لما فيه من تقديم رأس المال.
ولأنه يصير من بيع الديْن بالديْن.
• فإذا تفرقا قبل قبضه بطل.
• من الشروط التي لم يذكرها المصنف رحمه الله أن يكون المسلم فيه عام الوجود.
قال ابن قدامة: "لا نعلم فيه خلافاً".
وذلك لأنه إذا كان كذلك أمكن تسليمه عند وجوب تسليمه (أن القدرة على التسليم شرط، ولا يتحقق إلا إذا كان عام الوجود).
مثال: لو أسلم إليه (100) ريال بمائة كيلو عنب يحل في وسط الشتاء، لم يجز، لأن المسلَم فيه لا يوجد وقت حلول الأجل، إلا إذا أريد عنب يحفظ في برادات صح، لوجوده في زماننا هذا، ومثله السلم في الرطب إلى وسط الشتاء.
• هل يشترط كون المسلَم فيه موجوداً حال السلم أم لا؟ الصحيح - وهو قول أكثر العلماء - أنه لا يشترط، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وهم يسلفون السنة والسنتين، فقال: من أسلف فليسلف في كيل معلوم ........ ) ولم يذكر الوجود، ولو كان شرطاً لذكره، ولنهاهم عن السلف سنتين.
ولأنه ليس وقت وجوب التسليم.
م/ وقال صلى الله عليه وسلم (من أخذَ أموال الناسِ يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله) رواه البخاري.
ذكر المصنف رحمه الله حديث أبي هريرة في قوله صلى الله عليه وسلم (من أخذَ أموال الناسِ يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله) ليستدل به على جزاء من أخذ أموال الناس يريد أداها أو إتلافها.
• قوله (من أخذَ أموال الناسِ) هذا عام في أخذ الأموال عن طريق القرض، أو البيع إلى أجل، أو الشركة، أو العارية، أو أي معاملة من وجوه المعاملات الأخرى.
• قوله (يريد أداها) أي: عند أخذه لها كانت نيته الوفاء والأداء مما يرزقه الله تعالى.
• قوله (أدى الله عنه) تأدية الله عنه يشمل تيسيره تعالى لقضائها في الدنيا بأن يعينه الله يوسع رزقه، ويسوق له من المال ما يقضي به دينَه لحسن نيته، ويشمل أداءها عنه في الآخرة بإرضائه غريمه بما شاء الله، فإن فاته الأول في دار الدنيا لم يفته الثاني - إن شاء الله - في الدار الآخرة لحسن نيته.
• قوله (ومن أخذها يريد إتلافه) أي: عند أخذه لها لم تكن نيته الوفاء، بل يريد إتلاف ما أخذ على صاحبه، وهو يشمل ما إذا إدّان وليس عنده نية الوفاء، أو أخذها بلا حاجة وإنما يريد إتلافها على صاحبها.
• قوله (أتلفه الله) في الدنيا بإتلاف الشخص نفسه وإهلاكه، ويدخل فيه إتلاف ماله وجاهه وطيب عيشه وتضييق أموره وتعسير مطالبه.
• الحديث فيه الترغيب في حسن النية عند الاستدانة من الناس.
وللمدين حالات:
الحالة الأولى: إذا أخذ الدين بنية عدم الوفاء، فإنه آثم سواء مات ولم يوفه أو أعسر في حياته، فإنه يؤاخذ يوم القيامة، لأنه غير معذور بالاستدانة، ولأنه قصد استهلاك مال المسلم بغير وجه حق، وهذا من أكل أموال الناس بالباطل، وقد قال الله تعالى (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ
…
).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ومما يدل على ذلك أيضاً حديث أَبي هُرِيْرَةَ رضي الله عنه عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال (مَنْ كَانتْ عِنْدَه مَظْلمَةٌ لأَخِيهِ، مِنْ عِرْضِهِ أَوْ مِنْ شَيْءٍ، فَلْيتَحَلَّلْه مِنْه الْيوْمَ قَبْلَ أَنْ لا يكُونَ دِينَارٌ ولا دِرْهَمٌ، إنْ كَانَ لَهُ عَملٌ صَالحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقدْرِ مظْلمتِهِ، وإنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سيِّئَاتِ صاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ) رواه البخاري
وعنه. قال: قال صلى الله عليه وسلم (أَتَدْرُون من الْمُفْلِسُ؟ قالُوا: الْمُفْلسُ فِينَا مَنْ لا دِرْهَمَ لَهُ وَلا مَتَاعَ. فقال (إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقيامةِ بِصَلاةٍ وَصِيَامٍ وزَكَاةٍ، ويأْتِي وقَدْ شَتَمَ هذا، وقذَف هذَا وَأَكَلَ مالَ هَذَا، وسفَكَ دَم هذَا، وَضَرَبَ هذا، فيُعْطَى هذَا مِنْ حسَنَاتِهِ، وهَذا مِن حسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حسناته قَبْلَ أَنْ يقْضِيَ مَا عَلَيْهِ، أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرحَتْ علَيْه، ثُمَّ طُرِح في النَّارِ) واه مسلم.
وعن أَبِي هريرة رضي الله عنه أَن رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قال (لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقيامَةِ حَتَّى يُقَادَ للشَّاةِ الْجَلْحَاء مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاء) رواه مسلم.
فهذه الأحاديث تبين عظمة حقوق الغير، سواء كانت في النفس، أو في العرض، أو في المال، وأن من ظلم مسلماً في شيء منها فإنه مؤاخذ به يوم القيامة، وأن الله يقتص منه لخصمه، وأن هذا الأمر سبب عظيم لدخول النار كما نصت عليه الأحاديث.
الحالة الثانية: إذا كان الدين في مباح وبنيته الوفاء، فإن مات قبل الوفاء من غير تقصير منه، فإن الله يقضي عنه دينه يوم القيامة، فيعوض دائنيه فضلاً منه وتكرماً، وأما المدين فلا مؤاخذة عليه لعدم تقصيره أو تفريطه.
قال ابن حجر: "من مات قبل الوفاء بغير تقصير منه كأن يُعسر مثلاً ........ وكانت بنيته وفاء دينه، ولم يوفَ عند في الدنيا، .... الظاهر أنه لا تبِعة عليه والحالة هذه في الآخرة، بحيث يؤخذ من حسناته لصاحب الدين، بل يتكفل الله عنه لصاحب الدين، كما دل عليه حديث الباب".
وقال ابن عبد البر: "ومن أدَان في حق واجب لفاقة أو عسرة، ومات ولم يترك وفاء، فإن الله لا يحبسه عن الجنة - إن شاء الله - لأن على السلطان فرضاً أن يؤدي عنه دينه، إما من جملة الصدقات، أو من سهم الغارمين، أو من الفيء الراجع على المسلمين من صنوف الفيء".
باب الرهن والضمان والكفالة
م/ وهذه وثائق بالحقوق الثابتة.
أي هذه عقود توثقة، لأن صاحب الدين يحتاج إلى توثيق حقه ودينه ليضمن حقه، فالرهن والضمان والكفالة عقود ليوثق صاحب الدين دينه. (وكذلك الكتابة والشهادة). (تسمى عقود التوثيق).
مثال: كأن أبيع منزلي على شخص إلى أجل، فأطلب رهناً لأضمن حقي، أو أطلب ضماناً أو أطلب كفيلاً.
تعريف الرهن: هو توثقة دينٍ بعين يمكن استيفاؤه أو بعضه منها أو من بعضها.
فإذا كان الرهن أكثر من الدين فإنه يمكن استيفاء الدين من بعضها.
وإذا الدين أكثر من العين المرهونة فإنه يمكن استيفاء بعضه منها.
وإذا كان الدين بقدر العين فإنه يمكن استيفاؤه كله منها.
• الحكمة منه: توثقة الدين، فكما أن الدين يوثق بالشهود طمأنينة لقلب الدائن حفاظاً لحقه فكذلك يوثق بالرهن.
• والرهن جائز بالكتاب والسنة والإجماع:
قال تعالى (وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتباً فرهان مقبوضة).
وعن عائشة. (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشترى من يهودي طعاماً ورهنه درعاً من حديد) متفق عليه
وقال ابن قدامة: أجمع المسلمون على جواز الرهن.
• الرهن جائز في الحضر والسفر.
م/ فالرهن يصح بكلِ عينٍ يصح بيعُها.
أي: فكل ما جاز بيعه جاز رهنه، وما لا يصح بيعه لا يصح رهنه.
لأن الرهن إذا كان مما لا يصح بيعه - كالخمر، والكلب والوقف - فإنه لا يمكن الاستيفاء منه إذا تعذر السداد.
مثال: أقرضت شخصاً (100) ريال، وقلت له أعطني رهناً، فقال: أعطيك كلب صيد، فهذا لا يجوز، لأن الكلب لا يجوز بيعه، لأن مقصود الرهن لا يحصل منه.
• يصح رهن السيارات والساعات والفرش والطاولات وكل شيء يجوز بيعه.
• لا يصح رهن المجهول، وكذلك لا يصح رهن الوثائق الرسمية كبطاقة الأحوال وجواز السفر ونحوهما، لأن هذه الوثائق الرسمية لا يمكن بيعها عند تعذر استيفاء الديْن.
م/ فتبقى أمانة عند المرتهن لا يضمنها إلا إذا تعدى أو فرط كسائر الأمانات.
أي: تكون العين المرهونة أمانة عند المرتهن، لا يضمنها إلا إذا تعدى أو فرط، فإذا احترقت أو سرقت من غير تعد ولا تفريط فإنه لا يضمنها.
مثال: إنسان أخذ السيارة رهناً، لكن قدر أنها سرقت، فلا يضمنها لأنه لم يتعد ولم يفرط.
مثال آخر: إنسان أخذ كتاباً رهناً، ووضع الكتاب في مكان آمن مع كتبه، لكن هذا الكتاب سرق، فإنه لا يضمن لأنه لم يتعد ولم يفرط.
• التعدي: أن يفعل ما لا يجوز، والتفريط: أن يترك ما يجب (في الحفظ).
• فإن فرط أو تعدى فإنه يضمن.
مثال: أخذ كتاباً رهناً ووضعه في الحوض، فجاء المطر فأتلفه، فهنا يضمن الكتاب لأنه مفرط.
مثال آخر: أخذ السيارة رهناً، فاستعملها ففعل حادثاً فيها، فإنه يضمن، لأنه تعدى، لأن هذه السيارة أمانة عنده، والأمانة صفتها لا تستعملها ولا تقصر في حفظها.
• قاعدة (كل من قبض مال غيره بإذن من الغير أو من الشارع فهو أمانة عنده فلا يضمن إلا بتعد أو تفريط).
م/ فإن حصل الوفاءُ التام انفكَ الرهن.
معنى الوفاء التام: تسديد المبلغ بكامله، فإذا سدد المبلغ كاملاً انفك الرهن.
ومعنى: انفك الرهن: أن يسلمه المرتهن إلى الراهن (وهو صاحبه الأصلي).
م/ وإن لم يحصل.
أي: إن لم يحصل الوفاء التام، وهذا تحته صورتان:
الصورة الأولى: لم يحصل الوفاء أصلاً.
الصورة الثانية: أو حصل الوفاء وبقي بقية.
م/ وطلب صاحب الحق بيع الرهن وجب بيعه والوفاء من ثمنه، وما بقي من الثمن بعد وفاء الحق فلربه.
أي: إذا لم يحصل الوفاء من الراهن وطلب صاحب الحق وهو المرتهن بيع الرهن وجب بيعه، والذي يقوم ببيعه هو القاضي.
فالخلاصة: إذا حل الدين ولم يحصل الوفاء، وطلب صاحب الحق بيع الرهن:
فإن كان الراهن أذن للمرتهن في بيعه باعه ووفى دينه.
وإن لم يأذن فإنه ترفع القضية للحاكم فيجبره الحاكم على أمرين: وفاء الدين أو بيع الرهن، فإن أبى فإنه يبيعه الحاكم ويوفي دينه.
• لو قال صاحب الرهن للمرتهن إذا حل الأجل ولم أوفك فالرهن لك ووافق على ذلك المرتهن، فهل يجوز أم لا؟ قولان للعلماء:
القول الأول: أنه لا يجوز.
لحديث (لا يغلق الرهن على صاحبه) رواه الدارقطني.
وهذا مذهب أبي حنيفة.
القول الثاني: أنه يجوز.
وهذا اختيار ابن القيم وهو الصحيح.
لقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ).
ولحديث (المسلمون على شروطهم إلا شرطاً حل حراماً أو حرم حلالاً).
وأما حديث (لا يغلق الرهن على صاحبه .. ) فمعناه:
أولاً: أن المرتهن يأخذ الرهن ويستعمله فيأخذ أجرته إن كان يؤجر ومنافعه إن كان ينتفع به ولا يكون للراهن منها شيء، وهذا إغلاق، لأنك حِلت بينه وبين صاحبه.
ثانياً: أنه إذا حل الدين ولم يوفِ الدين أخذه المرتهن رغماً عن أنف الراهن سواء كان ذلك بقدر الدين أو بأقل أو بأكثر، وهذا إغلاق، لأنك منعتَ صاحبه منه، وكلا الصورتين حرام وأكل للمال بالباطل.
م/ وما بقي من الثمن بعد وفاء الحق فلربه.
أي: ما بقي من ثمن (الرهن) بعد بيعه وأخذ المرتهن يرجع لربه وصاحبه وهو الراهن.
مثال: الدين 50 ألف، والرهن سيارة، فلما حل الأجل لم يسدد الراهن، فهنا تباع السيارة، فلما بعناها وجدناها تساوي 60 ألف، يأخذ المرتهن 50 ألف ويرجع الباقي - وهو عشرة آلاف - للراهن.
• فإن كانت السيارة تساوي 40 ألف، تبقى عشرة آلاف ديناً على الراهن.
م/ وإن أتلف الرهنَ أحدٌ فعليه ضمانُه.
فعليه ضمانه: إما بالمثل إن كان له مثل كما لو كان الرهن (50) كيساً من الأرز نوع معين، فهنا يضمن (50) كيس من الأرز.
وإما بالقيمة: إذا لم يمكن التضمين بالمثل.
م/ ونماؤهُ تبع له.
أي: ونماء الرهن تبع للرهن.
فالرهن إذا كان له نماء، فهذا النماء يكون للراهن، لكن هذا النماء يكون تبعاً للرهن.
مثال: لو كان الرهن شاة، فهذه الشاة في مدة الرهن جاءت بولد، فهذا الولد تبع للشاة (وتكون ملك للراهن) لكن يكون الولد يكون تبع الرهن، فليس للراهن أن يأتي للمرتهن ويقول سلم لي الولد، أنا رهنت الشاة ولم أرهن الولد، الجواب: لا، نماء الرهن تبع له، لأن هذا فرع عن أصل، والفرع تبع للأصل.
ومؤنتُه على ربهِ.
أي: ومؤنة الرهن على ربه وهو الراهن (المدين). من مأكل ومشرب وحفظ وصيانه، لأن المال ماله.
لو فرض أن الرهن شاة، فطعامها وشرابها وحفظها على الراهن وليس على المرتهن شيء، لأن المال ماله فوجب عليه حفظه.
م/ وليس للمرتهن الانتفاعُ به إلا بإذن الآخر أو بإذن الشارع في قوله صلى الله عليه وسلم (الظهرُ يركب بنفقتهِ إذا كان مرهوناً، ولبن الدر يُشربُ بنفقتهِ إذا كان مرهوناً، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة) رواه البخاري.
أي: يحرم على المرتهن أن ينتفع بالرهن، وهذه المسألة تنقسم إلى قسمين:
الأولى: ما لا يحتاج إلى مؤنة كالدار والمتاع ونحوه، فهذا لا يجوز الانتفاع به بغير إذن الراهن.
قال ابن قدامة: لا نعلم في هذا خلافاً.
كالسيارة، فلا يجوز أن ينتفع المرتهن بها إلا بإذن من الراهن.
الثانية: إذا كان مركوباً أو محلوباً، فإنه يجوز للمرتهن الانتفاع إذا قام بنفقته ولو لم يأذن المالك، ويكون الانتفاع بقدر النفقة (وهذا مراد المصنف رحمه الله بقوله: بإذن من الشارع).
كأن يكون الرهن دابة (بعيراً) واحتاج المرتهن إلى الركوب، فإنه يركبه ولو لم يستأذن من الراهن، لأن الشارع هو الذي أذن له، لأن الشارع جعل الانتفاع مقابل النفقة.
وهذا مذهب الحنابلة.
لحديث أبي هريرة - الذي ذكره المصنف - (الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهوناً، ولبن الدَّرِّ يُشرب بنفقته إذا كان مرهوناً، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة) رواه البخاري.
مسألة: هل القبض شرط للزوم أم لا؟ مثاله: قلت لشخص: بعتك سيارتي بشرط أن ترهنني هذه الساعة، قال: قبلت (ولم يقبض المرتهن الساعة).
القول الأول: أن قبض الرهن شرط للزوم.
وهذا مذهب أكثر العلماء.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وعلى هذا القول: فإن للراهن أن يتصرف بالرهن (وهو الساعة كما في المثال السابق) بيعاً أو هبة لأنه لم يقبضه.
لقوله تعالى (فرهان مقبوضة). وعلى هذا الرهان التي لم تقبض لا أثر لها ولا تنفع.
واستدلوا بحديث النبي صلى الله عليه وسلم (الظهر يُركب بنفقته إذا كان مرهوناً ..... ) فالحديث ظاهر في صورة ما إذا قبض المرتهن الرهن.
وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم مات ودرعه مرهونة عند يهودي أقبضه أياه، فالرسول صلى الله عليه وسلم أقبض اليهودي الدرع، ولو لم يكن القبض شرطاً لما أقبضه إياه.
القول الثاني: أن القبض ليس شرطاً للزوم، بل يلزم الرهن بمجرد عقد الرهن.
وعلى هذا القول فلا يجوز للراهن أن يتصرف فيه، ولو تصرف فيه فإن تصرفه غير صحيح.
وهذا مذهب المالكية وهو اختيار ابن تيمية رحمه الله.
لعموم قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) وعقد الرهن تام بالاتفاق فيجب الوفاء به.
ولقوله تعالى (وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولاً). والعقد عهد وقد تعاقدا على الرهن فيجب الوفاء به.
ولحديث (المسلمون على شروطهم) وجه الاستدلال: أنه لما شرط عليه الرهن وقَبِل هذا الرهن فإنه يجب العمل بمقتضاه، ومقتضاه عدم التصرف فيه بغير إذن المرتهن.
ولقوله تعالى (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ) وهذا دليل على أنه إذا حصل الائتمان لم يلزم القبض اكتفاء بالائتمان عليه، ولهذا أكد الله تعالى على المؤتمن أن يؤدي أمانته حيث أمره بالأداء وبتقوى الله.
فهذا المرتهن الذي شرط الرهن وتركه عند الراهن قد ائتمنه عليه وتركه عنده، وإذا كان قد ائتمنه عليه فإنه يجب الوفاء بما يقتضيه الرهن وهو أن يبقى عنده أمانة.
وقالوا: إن القول باشتراط القبض يؤدي إلى الخصومة والنزاع وفتح باب التحايل، لأن هذا الشخص إذا عقد العقد وعلم أن الرهن لا يلزم إلا بالقبض فإنه سيعقد هذا العقد ويتحايل في تأخير قبض الرهن ثم بعد ذلك يتصرف فيه ببيع أو غيره، فينشأ عن ذلك النزاع والخصومة.
وهذا القول هو الراجح، وأما الجواب عن الآية (فرهان مقبوضة .. ) فقالوا: إن الله لم يذكر في الآية القبض على وجه الإطلاق، وإنما ذكره في حال معين وهو السفر، فهنا لا يمكن التوثقة إلا برهن مقبوضة، لأنك إذا لم تقبض الرهن وليس بينكما مكاتبة صار ذلك عرضة بأن يجحدك الراهن، ومما يدل على ذلك بقية الآية (فإن أمن بعضكم بعضاً فليؤد الذي أؤتمن أمانته) فهذا يدل على أنه إذا حصل الائتمان بيننا فإننا يجب أن نعتمد على أداء الأمانة سواء حصل القبض أم لم يحصل، وإلا لكانت هذه الجملة لا معنى لها.
باب الضمان والكفالة
م/ والضمانُ أن يضمنَ الحق عن الذي عليه.
ذكر المصنف رحمه الله تعريف الضمان، وهو لغة: مشتق من الضِّمْن، ضمن الشيء ضمناً.
وشرعاً: أن يضمنَ الحق عن الشخص الذي عليه الحق.
أو التزام الإنسان نفسه ما وجب أو ما قد يجب على غيره.
مثال ما وجب: أن ترى شخصاً ممسكاً بشخص يريد أن يحاكمه ويدفعه إلى ولاة الأمور لأنه يطلبه مال، فتأتي أنت وتقول لهذا الطالب أنا ضامن فلان.
مثال ما يجب: أن يقول لك شخص إني أريد أن أشتري من فلان سيارة وهو لا يعرفني، فأريدك أن تضمنني في قيمتها.
وهو ثابت بالكتاب والسنة والإجماع:
قال تعالى (ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم) أي ولمن جاء بصواع الملك الذي فقد (حِملُ بعير) أي: ما يحمله من الطعام (وأنا به زعيم) أي كفيل ضامن.
وعن أبي أمامة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الزعيم غارم) رواه أبوداود.
ولحديث جابر قال (كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يصلي على رجل عليه ديْن، فأتيَ بميّت، فسأل عنه (هل عليه دين؟ قالوا: نعم، ديناران، قال: صلوا على صاحبكم؟ فقال أبو قتادة: هما عليّ يا رسول الله، فصلى عليه .. ) رواه أبو داود.
قال ابن قدامة: أجمع المسلمون على جواز الضمان.
• فالضمان بالنسبة للمضمون عنه والمضمون له جائز، فيجوز للإنسان أن يطلب شخصاً يضمنه، ويجوز للبائع أن يطلب من المشتري ضامناً.
وأما بالنسبة للضامن فهو مستحب، لأنه من الإحسان، والله تعالى يقول (وأحسنوا إن الله يحب المحسنين) لكن هذا مقيد بقدرة الضامن على الوفاء، فإن لم يكن قادراً على الوفاء لم يستحب الضمان في هذه الحال، لأن فيه ضرراً عليه، ولا ينبغي لمسلم أن يتحمل عن غيره ما فيه ضرر عليه.
• وأركانه ثلاثة: ضامن، ومضمون عنه، ومضمون له.
الضامن: هو المتحمل.
المضمون عنه: هو المتحمل عنه. (وهو المشتري).
المضمون له: المالك له. (وهو البائع).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
• شروط الضمان:
أولاً: أن يكون من جائز التصرف: لأن الضمان تبرع بالتزام حق مالي فلا يصح إلا ممن يجوز تصرفه في ماله. (تقدم تعريف جائز التصرف وهو: البالغ العاقل الحر الرشيد).
ثانياً: رضا الضامن، لأن الضمان تبرع بالتزام الحق، فاعتبر له الرضا
ثالثاً: أن يكون الدين معلوماً أو مآله إلى العلم. مثاله: أن يقول الضامن: أنا أضمن دين هذا الشخص وكان الدين الذي عليه ألف ريال.
لكن لو قال: للناس أنا ضامن لكل ما يشتريه هذا الشخص، فهذا فيه جهالة يحدث بسببها النزاع، وكل ما يؤدي إلى الجهالة والنزاع فإنه لا يصح.
• واختلف العلماء هل لصاحب الحق مطالبة من شاء منهما، أو لا يطالب الضامن إلا إذا تعذر مطالبة المضمون عنه على قولين:
القول الأول: أن لصاحب الحق مطالبة من شاء منهما.
وهذا مذهب الجمهور.
قالوا: لأن الحق ثابت في ذمتهما فله مطالبة من شاء منهما.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (الزعيم غارم) والزعيم هو الضمين، والغُرم: أداء شيء يلزمه.
القول الثاني: لا يجوز لصاحب الحق أن يطالب الضامن إلا إذا تعذر مطالبة المضمون عنه.
وهذا القول هو الصحيح وقوى هذا القول ابن القيم واختاره الشيخ السعدي رحمه الله.
لأن الضامن محسن وقد قال الله تعالى (ما على المحسنين من سبيل) فليس لنا عليه من سبيل وهو محسن إلا أن يتعذر الحق.
ولأن المضمون أصل والضامن فرع، وإذا أمكن الرجوع إلى الأصل فإنه يُستغنى به عن الفرع.
ولأنه من المستقبح أن يطالب الضامن بالحق الذي هو على غيره مع القدرة على استيفاء الحق ممن هو عليه.
• هل يجوز أخذ الأجر على الضمان؟ مثال: ذهبت إلى زيد وقلت له: أريدك أن تضمنني عند فلان؟ فقال زيد: لا مانع عندي، لكن أضمنك بألف ريال.
الجواب: لا يجوز أخذ الأجر على الضمان لأمرين:
الأمر الأول: أن الضمان من باب الإحسان والمعروف الذي يُبذل ابتغاء وجه الله.
الأمر الثاني: أن أخْذ العوض يستلزم أن يربح فيما إذا وفىّ عن المضمون عنه ثم أخذ الحق منه، فيصير كالقرض الذي جر نفعاً.
• الضمان عقد لازم، فليس للضامن أن يرجع عن ضمانه، فلا يملك الرجوع.
م/ والكفالة: أن يلتزم بإحضار بدن الخصم.
ذكر المصنف رحمه الله تعريف الكفالة وهي: أن يلتزم بإحضار بدن الخصم.
• فهي ضمان لإحضار بدن من عليه ديْن.
مثال: رجل أقرض شخصاً مائة ريال، فجاء رجل فكفل الرجل، فلما حل الأجل جاء الغريم إلى الكفيل وقال: أعطني حقي، فقال الكفيل: خذ هذا المكفول.
• وعلى هذا فالفرق بين الضمان والكفالة: أن الضمان يتعلق بالأموال، والكفالة تتعلق بالأبدان.
والدليل على الكفالة:
قوله تعالى عن يعقوب (قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ).
وقال صلى الله عليه وسلم (الزعيم غارم) والزعيم لفظ عام يطلق على الكفيل وعلى الضمين، ومعنى (غارم) أي ملزم نفسه بما ضمن.
• الفرق بين الضمان والكفالة:
أولاً: أن الضمان يتعلق بالدين والكفالة تتعلق بالبدن.
ثانياً: أن الكفيل يبرأ بموت المكفول أو تلف العين المكفول بها، والضامن لا يبرأ بموت المضمون.
ثالثاً: أن الكفالة تصح مؤقتة ولا يصح الضمان مؤقتاً.
رابعاً: أنه يصح ضمان دين الميت دون كفالته.
• لا تصح الكفالة في الحدود:
وهذا مذهب أكثر العلماء.
لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا كفالة في حد) رواه البيهقي وهو ضعيف.
ولأنه حد لا يمكن استيفاؤه من الكفيل إذا تعذر عليه إحضار المكفول له.
• وتنقلب الكفالة إلى ضمان إذا تعذر إحضار المكفول مع حياته، فإن الكفيل يضمن ما عليه من دين لقول النبي صلى الله عليه وسلم: الزعيم غارم.
م/ فكلٌ منهُما:
أي الضامن والكفيل.
ضامن.
فالضامن ضامن للحق (المال)، والكفيل ضامن للبدن.
م/ إلا.
أي: إلا في حالات لا يضمن، وهذه الحالات ذكرها المصنف رحمه الله بقوله:
إن قام بما التزمَ به.
أي إن قام المضمون عنه بما التزم به من الحق أو سلم المكفول نفسه، فهنا ينتهي الضمان.
فإذا قضى المضمون الدين الذي عليه فقد برئ الضامن.
م/ أو أبرأه صاحب الحق.
أي: إذا أبرأ صاحب الحق (وهو المضمون له) أبرأ الضامن فهنا يبرأ الضامن ويبقى الحق على المضمون.
كأن يقول التاجر: أبرأتك يا ضامن، وأكتفي بصاحب الحق.
لأنه أبرأه من الضمان فقط (يعني من الوثيقة) أما الدين فهو متعلق بصاحب الحق.
م/ أو برئ الأصيل.
أي: إذا أبرأ التاجر المضمون عنه (وهو من عليه الحق) فإنه ذمة الضامن تبرأ.
لأنه إذا برئت ذمة المضمون عنه لم يبق هناك شيء يضمن، ولأنه إذا برئ الأصل برأ الفرع.
• لكن لو أبرأ الضامن فإنه لا يبرأ المضمون عنه، لأن الأصل لا يبرأ ببراءة التبع، والقاعدة: إذا برئَ الأصل برئ الفرع لا العكس.
• إذا استوفى المضمون له من الضامن فإنه يرجع على المضمون عنه إذا نوى.
وهذه المسألة له أحوال:
إذا نوى الرجوع فإنه يرجع.
إذا نوى التبرع (يعني أداه بنية أنه متبرعاً عنه) فهذا لا يرجع، قال في الإنصاف: بلا نزاع، لأنه متطوع بذلك فأشبه الصدقة.
أن يقضي عنه ولم ينو تبرعاً ولا رجوعاً، بل ذَهَل عن قصد الرجوع وعدمه، فالراجح أنه يرجع.
• أما الكفيل فإنه يبرأ بالأحوال التالية:
أن يُسلم الكفيل.
بموت المكفول، لأن إحضاره في هذه الحالة متعذر.
بإبراء المكفول له (صاحب الحق).
إذا سلم المكفول نفسه.
• (إذا برئ المكفول برئ الكفيل لا عكس).
باب الحجر لفلَسٍ أو غيرِه
الحجر لغة: المنع.
وشرعاً: منع الإنسان من التصرف في ماله إما لمصلحته أو لمصلحة الغير.
وينقسم إلى قسمين:
الأول: حجر لمصلحة الغير:
فيمنع الإنسان من التصرف في ماله فقط، فإذا كان الإنسان مدين، وديْنه أكثر من ماله، حُجر عليه لمصلحة الغرماء، ويمنع من التصرف في ماله فقط، فلا يبيع ولا يشتري ولا يرهن ولا يهب، أما في الذمة فلا بأس، فلو استدان من غيره شيء فإن له ذلك.
الثاني: حجر لمصلحة المحجور عليه
(كالحجر على السفيه والمجنون والصغير).
والمصنف رحمه الله ذكر النوعين، وبدأ بالحجر على المفلس، فقال:
م/ ومن له الحق فعليه أن يُنظِر المعسر.
أي: إذا كان المدين معسراً لا يستطيع ولا يملك السداد، فإنه يجب على صاحب الحق أن ينظره ويحرم مطالبته.
لقوله تعالى (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ). أي وإن وُجِدَ ذو عسرة (فنظرة) أي فعليكم نظرة إلى ميسرة.
المعسر: هو الذي لا شيء عنده يسدد الدين. فهذا يجب انظاره ويحرم حبسه.
م/ وينبغي أن يُيَسِّر على الموسر.
أي: يستحب لصاحب الحق أن ييسر على الموسر إما بوضع بعض الدين وأن يحط منه أو إنظاره.
فالتيسير على الموسر يكون بأمرين:
أولاً: بالحط والوضع عن بعض الدين.
ثانياً: إنظاره وتأجيله.
مثال: الدين قدره ألف ريال، فيحط منه فيقول أعطني 800 ريال، فهذا يكفيني.
وقد جاءت الأدلة على استحباب التيسير على الموسر.
عن أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة) رواه مسلم.
وعَنْ أبي قَتَادَةَ رضي الله عنه قَالَ: سمِعْتُ رسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقُولُ (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُنَجِّيَهُ اللَّه مِنْ كُرَبِ يَوْمِ القِيَامَةِ، فَلْيُنَفِّسْ عَنْ مُعْسِرٍ أوْ يَضَعْ عَنْهُ) رواهُ مسلمٌ.
وعنْ أبي هُريرةَ رضي الله عنه أنَّ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (كَانَ رجلٌ يُدايِنُ النَّاسَ، وَكَان يَقُولُ لِفَتَاهُ: إذا أَتَيْتَ مُعْسِراً فَتَجاوزْ عَنْهُ، لَعلَّ اللَّه أنْ يَتجاوزَ عنَّا فَلقِي اللَّه فَتَجاوَزَ عنْهُ) متفقٌ عَليهِ.
وعنْ أبي هُريرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم (من أَنْظَر مُعْسِراً أوْ وَضَعَ لَهُ، أظلَّهُ اللَّه يَوْمَ القِيامَةِ تَحْتَ ظِلِّ عَرْشِهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إلاَّ ظِلُّهُ) رواهُ الترمذيُّ وقَال حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
م/ ومن عليه الحق فعليه الوفاء كاملاً بالقدر والصفات.
ذكر المصنف رحمه الله الحالة الثانية من حالات المدين، وهو أن يكون عنده مال يستطيع الوفاء، فهذا يجب عليه السداد ويحرم أن يماطل بالحق الذي عليه.
(بالقدر) يعني بالعدد، فالدين ألف يسدده ألف. (والصفات) أي بأن يؤدي الحق الذي عليه بالصفة التي أخذها.
لقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) وهذا يشمل أصل العقد ووصفه، أي فكما أنه يجب الوفاء بأصل العقد فكذلك يجب الوفاء بصفة العقد.
م/ قال صلى الله عليه وسلم (مطل الغني ظلم).
ذكر المصنف رحمه الله حديث أبي هريرة (مطل الغني ظلم) ليستدل به على تحريم المماطلة بالسداد.
(المطل) المنع، يعني منع ما يجب على الإنسان دفعه من دين. (الغني) القادر على الوفاء.
• فالحديث دليل على تحريم المماطلة بالحق، لقوله (ظلم)، فإذا كان ظلم وجب أن يزال، فإن أبى حبس بطلب صاحب الدين لأن الحق له.
وقال صلى الله عليه وسلم (لي الواجد يحل عرضه وعقوبته) رواه أبوداود.
(لي) يعني مطل.
(الواجد) القادر على الوفاء.
(عرضه) أي لصاحب الدين أن يذمه ويصفه بسوء القضاء. (عقوبته) حبسه.
• مفهوم الحديث أن مطل غير الغني ليس بظلم.
باب الحوالة
ثم ذكر المصنف رحمه الله الحديث الذي يتعلق بالحوالة وأحكامها، لأنه يرى أن ذلك من التيسير.
م/ قال صلى الله عليه وسلم (وإذا أحيل بدينِهِ على مليء فليحتل) والمليء هو القادر على الوفاء، الذي ليس مماطلاً، ويمكن تحضيره لمجلس الحكم.
الحوالة هي: نقل الحق من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه.
مثال: زيد يطلب عمر مائة ريال، وعمر يطلب خالد مائة ريال، فجاء زيد إلى عمر وقال أعطني حقي فقال عمر: إن لي حقاً عند خالد هو مائة درهم وقد أحلتك عليه.
إذاً تحول الحق من ذمة عمر إلى ذمة خالد.
• والحوالة من عقود الإرفاق، فيها إرفاق للطالب والمطلوب، أما الطالب فوجه الإرفاق في حقه أنه ربما يكون المطلوب ذا صلة بالطالب بقرابة أو غيره فيشق عليه أن يطالبه، فيحيل المطلوب على الثالث فيكون إرفاقاً بالمحيل {الطالب} .
أما بالنسبة للمطلوب فلأن الطالب قد يكون سيء المعاملة بالنسبة للمطلوب يضايقه ويكثر الترداد عليه فيتخلص منه بالتحويل إلى ذمة الآخر فيكون إرفاقاً بالمطلوب).
• أركانها:
محيل: وهو من عليه الحق وله حق.
محال: وهو من له الحق.
محال عليه: وهو المطلوب للمحيل.
• هل يجب على من أحيل بحقه أن يتحول أم لا، اختلف العلماء على قولين:
القول الأول: أنه يجب أن يتحول إذا كان على مليء.
وهذا مذهب الحنابلة.
لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ( .. فليحتل .. ) وهذا أمر والأمر للوجوب.
القول الثاني: أنه لا يجب بل يستحب.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وهذا مذهب جمهور العلماء.
وقالوا: الحديث محمول على الاستحباب، لأن حقه في ذمة المحيل فلا يجوز نقله إلى غيره بغير رضاه.
والقول الأول هو الصحيح: وهو أنه يجب أن يتحول، لكن بشرط أن يكون على ملئ لقوله صلى الله عليه وسلم (على مليء)
• تعريف المليء؟ هو القادر على الوفاء بماله وبقوله وببدنه.
بماله: يكون عنده القدرة على الوفاء، أي: أن يكون عنده مال.
بقوله: ألا يكون مماطلاً.
ببدنه: معناه أن يمكنَ محاكمته شرعاً وعادة (يمكن إحضاره لمجلس الحكم)، فإن لم يمكن إحضاره لمجلس الحكم، فإن المحال لا يلزمه قبول الحوالة.
مثال: كأن يقول أحلتك على أبيك، فإنه هنا لا يلزمه قبول الحوالة لأنه لا يمكن شرعاً إحضار الأب لمجلس لقضاء وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (أنت ومالك لأبيك).
وكذلك لو أحاله على أمير البلد، فإنه لا يلزمه قبول الحوالة، لأن أمير البلد لا يمكن إحضاره لمجلس الحكم عادة.
• فقوله (على مليء) مفهومه أنه لو أحيل على غير ملئ لا يلزمه الحوالة وذلك لأمرين:
الأمر الأول: لمفهوم الحديث ( .. على ملئ) فمفهومه أنه لو أحيل على غير ملئ فلا يلزمه القبول.
الأمر الثاني: لأن في ذلك ضرراً عليه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (لا ضرر ولا ضرار).
• أما المحيل فيشترط رضاه، قال الشوكاني: ويشترط في صحة الحوالة رضا المحيل بلا خلاف.
لأن الديْن عليه فلا يلزمه أن يسدد عن طريق الحوالة.
• أما المحال عليه فلا يعتبر رضاه، والسبب: لأن للمحيل أن يستوفي الحق بنفسه أو بوكيله، وقد أقام المحال مقام نفسه بالقبض، فلزم المحال عليه الدفع إليه كالوكيل.
• إذا تمت الحوالة ماذا يترتب عليها:
إذا تمت الحوالة بأن تمت شروطها، نقلت الحق من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه، ويبرأ المحيل براءة كاملة، قال الموفق: وهو قول عامة الفقهاء.
وعلى هذا فلو قدر أن المحال عليه افتقر بعد تمام الحوالة، فإن المحال لا يرجع على المحيل، لأن الحق انتقل انتقالة كاملة من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه.
الحجر لمصلحة الغير
م/ وإذا كانت الديونُ أكثر من مالِ الإنسان وطلب الغرماء أو بعضهم من الحاكم أن يحجر عليه: حجر عليه، ومنعه من التصرف في جميع ماله.
ذكر المصنف رحمه الله الحالة الثالثة من حالات المديون: وهي إذا كانت ديونه أكثر من ماله.
فإذا كانت ديون الإنسان أكثر من ماله فإنه يحجر عليه، إذا طلب الغرماء ذلك [الغرماء] أصحاب الديون.
• ومعنى الحجر: منع الإنسان من التصرف في جميع ماله (كما قال المصنف رحمه الله).
وينقسم إلى قسمين:
الأول: حجر لمصلحة الغير: (وهم الغرماء) وهو الذي بدأ المصنف رحمه الله بذكره.
الثاني: وحجر لمصلحة المحجور عليه:
(كالحجر على السفيه والمجنون والصغير).
• بدأ المصنف رحمه الله بالقسم الأول وهو الحجر لمصلحة الغرماء، فيمنع الإنسان من التصرف في ماله فقط، فإذا كان الإنسان مدين، وديْنه أكثر من ماله، حُجر عليه لمصلحة الغرماء، ويمنع من التصرف في ماله فقط، فلا يبيع ولا يشتري ولا يرهن ولا يهب، أما في الذمة فلا بأس، فلو استدان من غيره شيء فإن له ذلك.
والدليل على الحجر حديث كعب بن مالك عن أبيه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حجر على معاذ ماله وباعه في دين كان عليه) رواه الدارقطني.
ولأن في الحجر عليه حماية لحق الدائن، وحماية لذمة المدين، لئلا تبقى ذمته مشغولة بالدين.
م/ ثم يصفي ماله.
أي: أن يباع ما وراءه، فإذا كان عنده دكان تباع البضاعة التي فيه، وإذا كان عنده عقار فإنه يباع.
• البيت الذي يسكنه والسيارة التي يركبها لا تباع، لأن هذه بمثابة الأمور الضرورية.
م/ ويقسمه على الغرماء بقدر ديونهِم.
كيفية التوزيع: أن يُنسب الموجود من مال المفلس إلى الدين ونعطي كل واحد من الغرماء بقدر نسبته.
مثال: إذا كان رجل عليه دين، ومحمد يطلبه {2000} وخالد {3000} وأحمد {5000} المجموع: 10000، ولم نجد عنده إلا {5000} فيكون التوزيع كالتالي.
ننسب {5000} إلى {1000} ، يخرج النصف فيصير محمد له: 1000، وخالد: 1500 وأحمد: 2500.
مثال آخر: الديون خمسمائة ألف، كل واحد من الغرماء الخمسة له مائة ألف، فلما أحصينا مال المفلس فإذا هو مائة ألف، انسب الموجود من مال المفلس إلى مال الديون يساوي الخمس، فنعطي كل واحد من الغرماء الخمس (فيأخذ كل واحد منهم عشرون ألفاً).
• قال ابن قدامة: ويستحب أن يحضر المفلس البيع لمعان أربعة: أحدهما: ليحصي ثمنه ويضبطه، الثاني: أنه أعرف بثمن متاعه وجيده ورديئه، فإذا حضر تكلم وعرف الغبن من غيره، الثالث: أن تكثر الرغبة فيه، فإن شراءه من صاحبه أحب إلى المشتري، الرابع: أن ذلك أطيب لنفسه وأسكن لقلبه.
• قال الفقهاء: يستحب إظهار الحجر الذي إعلانه في أماكن مشهورة واستحب إظهاره لفائدتين:
الفائدة الأولى: ليظهر من له دين عند هذا الرجل.
الفائدة الثانية: لتجتنب معاملته كيلا يستضر الناس بضياع أموالهم عليه.
م/ ولا يقدم منهم.
أي لا يقدم صاحب دين على آخر، فلا يقدم السابق على اللاحق، أو صاحب الكثير على القليل. فلا فرق بين هؤلاء.
فلو واحد دينه مائة ألف، والثاني دينه خمسة آلاف، كل واحد من هؤلاء يأخذ الخمس.
م/ إلا صاحبُ الرهن برهنهِ.
قبل نبدأ بقسمة مال المفلس على الغرماء، نبدأ بصاحب الرهن.
م/ وقال صلى الله عليه وسلم (من أدركه ماله بعينهِ عند رجل قد أفلس فهو أحق به من غيره) متفق عليه.
هذه الحالة الثانية التي يقدم فيها أحد الغرماء على البقية، وهو من وجد ماله بعينه عند من أفلس.
مثال: شخص باع على المفلس عشرة أكياس من الأرز وأفلس المشتري وحجر عليه الحاكم، ولكن جاء صاحب الأرز ووجد العشرة الأكياس موجودة ولم تتغير ولم يقبض من ثمنها شيئاً، فلصاحب الأكياس العشرة أنت أحق بها، خذ الأكياس وأمرك قد انتهى.
لحديث الباب الذي ذكره المصنف رحمه الله (مَنْ أَدْرَكَ مَالَهُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ رَجُلٍ - أَوْ إنْسَانٍ - قَدْ أَفْلَسَ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ).
بعينه: أي لم يتغير ولم يتبدل. فهو أحق به من غيره: أي كائناً من كان وارثاً وغريماً.
قد أفلس: المفلس شرعاً: ما تزيد ديونه على موجوده، سمي مفلساً لأنه صار ذا فلوس بعد أن كان ذا دراهم ودنانير، إشارة إلى أنه صار لا يملك إلا أدنى الأموال وهي الفلوس، أو سمي بذلك لأنه يمنع التصرف إلا في الشيء التافه كالفلوس، لأنهم ما كانوا يتعاملون بها إلا في الأشياء الحقيرة، أو لأنه صار إلى حالة لا يملك فيها فلساً.
• في هذا الحديث يخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من باع متاعه [كسيارة، أو ثوباً، أو غيره] لأحد مؤجلاً، أو ودعه، فأفلس المشتري، بأن كان ماله لا يفي بديونه، فللبائع أخذ متاعه إذا وجد عينه، بأن كان بحالة لم تتغير صفاته بما يخرجه عن اسمه، ولم يقبض من ثمنه شيئاً، فحينئذٍ يكون أحق به من الغرماء.
وهذا مذهب جمهور العلماء من المالكية والشافعية والحنابلة: أن من وجد عين ماله عند من أفلس، فهو أحق به من غيره.
قال ابن عبد البر: وممن قال بهذا الحديث، واستعمله وأفتى به، فقهاء المدينة، وفقهاء الشام، وفقهاء البصرة، وجماعة من أهل الحديث.
لحديث الباب.
• نستفيد من الحديث أن تقديم صاحب السلعة على غيره يكون بشرط: أن يجد ماله بعينه، أي لم يتغير ولم يتبدل، فإن تغير فهو أسوة الغرماء.
مثال: باع رجل على رجل بعيراً، ثم أفلس هذا الرجل، لكن البعير سمنت أكثر، فهنا لا يستحق هذا المال، بل يكون أسوة الغرماء.
كذلك إذا قبض من ثمنه شيئاً، فإنه في هذه الحالة لا حق له، ويكون أسوة الغرماء.
فقد جاء في رواية: (أيما رجل باع متاعاً فأفلس الذي ابتاعه ولم يقبض البائع من ثمنه شيئاً فوجده بعينه فهو أحق به).
فمفهومه أنه إذا قبض من ثمنه شيئاً كان أسوة الغرماء.
• اختلف العلماء إذا مات المفلس، هل يكون الرجل أحق بماله أو يكون أسوة الغرماء؟
فقال بعض العلماء: هو أحق بماله.
وهذا مذهب الشافعي.
قال الحافظ ابن حجر: واحتج الشافعي بحديث أبي هريرة قال: (قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أيما رجل مات أو أفلس فصاحب المتاع أحق بمتاعه إذا وجده بعينه) وهو حديث حسن يحتج بمثله، أخرجه أحمد وأبو داود.
وقيل: بل يكون أسوة الغرماء.
وهذا مذهب مالك وأحمد.
وفرقوا بين الفَلَس والموت: بأن الميت خربت ذمته فليس للغرماء محل يرجعون إليه فاستووا في ذلك بخلاف المفلس.
وبعضهم استدل بقوله: (من أدرك ماله بعينه عند رجل) وبعد موته لا يكون أدركه عند هذا الرجل، وإنما أدركه عند الورثة.
النوع الثاني: الحجر لحظ المحجور عليه
م/ ويجب على ولي الصغير والسفيه والمجنون: أن يمنعهم من التصرف في مالهم الذي يضرهم قال تعالى (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً).
السفيه: الذي لا يحسن التصرف في ماله بأن يبذل ماله في حرام أو في غير فائدة.
الصغير: هو من لم يبلغ.
المجنون: من لا عقل له.
فهؤلاء يمنعون من التصرف في المال والذمة.
لقوله تعالى (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً). وهذا خطاب للأولياء، والسفيه كل من لا يحسن التصرف، فيدخل في عموم الآية الصغير والمجنون.
• قوله (أموالكم) أي أموال السفهاء وليست أموال الأولياء، لكن أضاف أموالهم إلى الأولياء، لأمرين:
الأمر الأول: لأنها تحت نظرهم وتصرفهم، الأمر الثاني: إشارة إلى أنها مثل أموالهم في وجوب العناية بها.
• الحكمة من هذا الحجر: حفظ مال المحجور عليه.
م/ وعليه: ألا يقربَ مالَهم إلا بالتي هي أحسن من: حفظه، والتصرف النافع لهم، وصرف ما يحتاجون إليه منه.
ذكر المصنف رحمه الله ثلاثة أنواع مما يجب على الولي أن يفعله في مال من تحت يدهِ.
من حفظهِ: أي حفظ المال من السرقة، ولا يعرضه للضياع بقرض أو نحوهِ.
التصرف النافع لهم: إما بتجارة أو بيع أو شراء.
صرف ما يحتاجون إليه منه: يعني ينفق عليهم بالمأكل والملبس والمسكن.
م/ ووليُهم أبوهم الرشيد.
أي: وولي الصغير والسفيه والمجنون هو الأب الرشيد.
• فإن كان الأب سفيهاً فليس له ولاية، لماذا؟ لأن السفيه يحتاج إلى ولاية فكيف يكون ولياً على غيره؟
م/ فإن لم يكن:
أي: فإن لم يكن أب أصلاً، أو كان الأب غير رشيد.
م/ جعل الحاكمُ الوكالة لأشفقِ من يجدهُ من أقاربهِ وأعرفهم وآمنهم.
أي: جعل واختار الحاكم لولاية هؤلاء أشفق من يجده من أقاربه، لأن الأقارب غالباً أشفق من غير الأقارب، وأعرفهم بحالهِ والنظر له.
وآمنهم: المراد الأمن على الصغير أو السفيه وعلى المال.
م/ ومن كان غنياً فليتعفف، ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف (وهو الأقل من أجرة مثلهِ أو كفايته).
أي ومن كان من الأولياء غنياً فالأولى والأفضل أن يتعفف ولا يأخذ شيئاً من مال السفيه أو مال الصغير أو المجنون.
• المراد بالغني هنا: من عنده مال تحصل به الكفاية.
وأما من كان فقيراً فليأكل بالمعروف.
• قوله (فليأكل .. ) هذا أمر إباحة، وإذا أكل فلا يرد بدل ما أكل، لأنه مقابل القيام.
• قوله (وهو الأقلُّ من أجرةِ مثلهِ أو كفايتهِ) هذا تفسير من المصنف رحمه الله لقوله (بالمعروف)
مثال: هذا الشخص (فرضاً أنه الأخ) لو رأينا أجرة المثل وجدناها ألف، وسألناه عما يكفيه فقال: يكفيني خمسمائة، فعلى رأي المصنف أنه يعطى خمسمائة.
لأننا لو أعطيناه الألف صار غنياً والغني يتعفف.
العكس: لو كانت الأجرة 500 والكفاية 1000، فعلى كلام المصنف نعطيه أجرته.
والصحيح أننا نأخذ بظاهر القرآن (فليأكل بالمعروف) وهو: أنه إذا كان الولي فقيراً فعليه أن يأكل بالمعرف، سواء كان ما يأكله بقدر أجرتهِ أو أكثر.
باب الصلح
الصلح لغة: قطع النزاع.
واصطلاحاً: عقد يتوصل به إلى توفيق بين متخاصمين.
فالصلح عقد وُضعَ لرفع المنازعة بعد وقوعها بالتراضي، كالإصلاح بين قبيلتين، أو بين زوجين، أو بين مسلمين وأهل حرب، أو بين متخاصمين في مال، وهذا هو المراد بهذا الباب دون ما تقدم.
وقد رغّب الإسلام في الصلح وحث عليه، لما فيه من حسم النزاع وسلامة القلوب وبراءة الذمم.
فقال تعالى (والصلح خير).
وقال تعالى (فأصلحوا بينهما).
وقال تعالى (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ).
وحث عليه النبي صلى الله عليه وسلم قولاً وفعلاً، فمن الفعل أنه صلى الله عليه وسلم خرج إلى بني عمرو ابن عوف في قباء ليُصلح بينهم، ومن القول حديث أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا: بلى، قال: إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة) رواه أبو داود.
• الصلح ينقسم إلى قسمين:
النوع الأول: الصلح مع الإقرار. النوع الثاني: الصلح على الإنكار.
ذكر المصنف رحمه الله أمثلة على النوع الأول وهو أن يقر الطرفان بالحق ثم يتصالحا عليه، فهذا حكمه حكم البيع.
مثال: اذا أقر أحمد لخالد أن في ذمته له ألف ريال، فأسقط خالد 500 ريال منها، فهنا أقرا جميعا بالحق
فهنا صالحه عن الحق بجنسه.
يصالحه بالحق بغير جنسه: إذا أقر له بألف ريال فصالحه عنها بسيارة فهنا صالحه عن الحق بغير جنسه.
م/ قال النبي صلى الله عليه وسلم (الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً حرم حلالاً أو أحل حراماً) رواه أبوداود والترمذي.
هذا ضابط فقهي: وهو أن الصلح جائز بين المسلمين.
• (بين المسلمين) على سبيل التغليب.
• (إلا صلحاً حرم حلالاً أو أحل حراماً) فهذا صلح لا يجوز، لأنه مضادة لله ولرسوله
أمثلة:
كما لو صالحت المرأة زوجها على ألا يطلقها. فهذا صلح حرم حلالاً، لأن الطلاق حلال.
كمن صالح امرأة على مال لكي تقر له بالزوجية (هذا صلح لا يجوز، لأنه صلح يحل حراماً).
وكرجل حصل بينه وبين زوجته شقاق ونزاع، فقالت: أصالحك وأصير لك امرأة طيبة بشرط أن تطلق زوجتك فلانة، فهذا حرام (لأنه أحل حراماً) فهي تريد أن تصالحه على إحلال أمر محرم (لأنها تريد منه أن يطلق زوجته الأخرى وهذا محرم).
م/ فإذا صالحَه عن عين بعين أخرى أو بدين جاز.
أي: إذا أقر له بدين فصالحه عنها بعين أو بدين جاز.
صالحه عن عين بعين أخرى: مثال: قال أنت عندك لي شاة، أعطني بدلها عناقاً، فهذا جائز إذا تراضياً.
• أو صالحه عن عين بدين: مثال: قال: أنت عندك لي عشرة أكياس من الأرز، أعطني عنها ألف ريال بعد سنة، هذا عين بدين، فهذا جائز.
م/ وإن كان له عليه دينٌ فصالحه عنه بعين أو بدين قبضه قبل التفرق جاز.
أي: وإن كان له عليه دين فصالحه بعين جاز:
مثال: عنده له عشرة آلاف فصالحه عنه بعين بسيارة.
أو صالحه بدين: مثل أنت عندك لي عشرة أكياس بر أصالحك عنها بخمسين (غير موجودة).
م/ أو صالحه على منفعة في عقارهِ.
كأن يطلبه ديناً، فصالحه على أن يسكن داره شهراً.
عنده له ألف ريال وصالحه بدل الألف أن يسكن داره شهراً.
أو غيرهِ معلومة.
يعني غير العقار. مثال: قال له: أنت عندك لي ألف ريال، أصالحك بدلها أن تسقي إبلي عشرين يوماً.
• قوله (معلومة) هذا يرجع إلى المنفعة، فلو قال: تسكن داري، ولم يحدد المدة لا يجوز، أو قال: تسقي إبلي ولم يحدد المدة فإنه لا يجوز.
م/ أو صالح عن الديْن المؤجل ببعضِه حالاً.
هذه تسمى عند العلماء مسألة (ضع وتعجل).
مثالها: أنا أطلب شخصاً ألف ريال تحل بعد ستة أشهر، بعد مضي ثلاثة أشهر، قلت له: أعطني الآن: 500 وأسقط الباقي عنك، فتصالحا على ذلك.
هذه المسالة اختلف العلماء في حكمها على قولين:
القول الأول: أنها جائزة.
وهو قول ابن عباس كما قال ابن القيم، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، وهو ما اختاره المصنف رحمه الله كما هنا.
لحديث ابن عباس. (أن النبي صلى الله عليه وسلم حين أمر بإخراج بني النضير من المدينة، جاءه أناس منهم فقالوا: إن لنا ديوناً لم تحل؟ فقال: ضعوا وتعجلوا) رواه الدارقطني.
حيث أذن النبي صلى الله عليه وسلم فيه لأصحاب الحقوق أن يضعوا من ديونهم مقابل التعجيل بالوفاء فدل ذلك على جوازه.
وهذا الحديث مختلف فيه فصححه بعضهم كابن القيم وضعفه بعض العلماء كالبيهقي والدارقطني، لكن قد صح موقوفاً على ابن عباس، فقد سئل عن الرجل يكون له الحق على الرجل إلى أجل، فيقول: عجل لي وأضع عنك؟ فقال: لا بأس بذلك. أخرجه عبدالرزاق.
وقالوا: لا محذور شرعي في هذا التصرف، لأن الأجل حق للمدين وقد أسقطه برضاه، والدين حق للدائن وقد أسقط جزءاً منه برضاه، والإنسان لا يمنع من إسقاط حقه أو بعضه.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وفيها مصلحة للطرفين: أما المدين فيخفف عنه من دينه، وأما صاحب الدين فيأخذ حقه قبل وقته، والشارع له تطلع إلى براءة ذمم المكلفين من الديون.
القول الثاني: أن ذلك لا يصح.
وهذا مذهب المالكية والشافعية والظاهرية.
لحديث المقداد بن الأسود (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له - لما وضع عن رجل دينه وتعجّله - أكلتَ ربا يا مقداد وأطعمته) أخرجه البيهقي وهو ضعيف جداً.
قالوا: قياساً على تأجيل الدين الحال مقابل الزيادة عليه بجامع الاعتياض عن الأجل في كل منهما، لأنه إذا تعجل البعض وأسقط الباقي فقد باع الأجل بالقدر الذي أسقطه.
والقول الأول هو الراجح.
قال ابن القيم: هذا - أي الوضع من الدين للتعجيل - عكس الربا، فإن الربا يتضمن الزيادة في أحد العوضين في مقابلة الأجل، وهذا يتضمن براءة ذمته من بعض العوض في مقابلة سقوط الأجل، فسقط بعض العوض في مقابلة سقوط بعض الأجل، فانتفع به كل واحد منهما، ولم يكن هنا رباً لا حقيقة ولا لغة ولا عرفاً.
• النوع الثاني: الصلح على إنكار.
أن يدعي شخص على آخر ديناً أو عيناً فينكر المدعَى عليه ثم يتصالحان على شيء معين. فهي في حق المدعِي في حكم البيع، لأنه يأخذ المال عوضاً عن حقه، وفي حق المدعى عليه إبراء. لأنه يدفع هذا العوَض من أجل قطع الخصومة والنزاع وافتداء ليمينه.
مثال: ادعى محمد على إبراهيم أن الأرض التي بيد ابراهيم له، فقال ابراهيم: ليس لك (أنكر أن يكون له) لكن من أجل ألا يرفع الأمر إلى المحاكم وخوفاً من اليمين وقطعاً للخصومة قال: خذ هذه 5000 آلاف لك، فتصالحا على ذلك، فهذا في حق محمد بيع وفي حق إبراهيم إبراء.
-قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: لكن الصلح في هذه المسألة في حق الكاذب منهما غير صحيح، وتصرفه في العوض الذي أخذه تصرف باطل، وحسابه على الله، ولا يحل له ما اصطلحا عليه، لأنه مبطل، أما في الدنيا فالصلح صحيح.
م/ أو كان له عليه دين لا يعلمان قدرَه فصالحه على شيء. صح ذلك.
مثال: زيد وعمرو بينهما دين، ولكن كل منهما لا يعلم مقدار الدين، فتصالحا على شيء معين، فزيد يقول أذكر أني أخذت منك دراهم لكن لا أذكر كم، وعمرو يقول أذكر أني أعطيتك دراهم، لكن لا أذكر كم هي؟ فتصالحا على ألف ريال وينتهي الأمر بذلك.
• قوله (لا يعلمان قدرَهُ) مفهومه أنه إذا كان أحدهما يعلم قدر الدين ولكنه أخفى وجحد فإنه لا يصح في حقه باطناً.
م/ وقال صلى الله عليه وسلم (لا يَمْنَعَنَّ جَارٌ جَارَهُ: أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَةً فِي جِدَارِهِ).
ذكر المصنف رحمه الله حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لا يَمْنَعَنَّ جَارٌ جَارَهُ: أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَةً فِي جِدَارِهِ، ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: مَا لِي أَرَاكُمْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ؟ وَاَللَّهِ لأَرْمِيَنَّ بِها بَيْنَ أَكْتَافِكُمْ).
[جار] الجار المراد به هنا الملاصق [خشبة] أي من خشب سقفه الذي يسقف به داره. [في جداره] الضمير يعود على الجار [عنها] الضمير يعود إلى السنة المذكورة في كلامه [معرضين] أي غير مسارعين للعمل بها وتضييعها.
• في هذا الحديث نهى الجار أن يمنع جاره أن يضع خشبة على جدار جاره.
وهذا الحكم اختلف فيه العلماء:
تحرير محل النزاع:
أولاً: لا يدخل في هذا النزاع الانتفاع الذي ينتج عنه إلحاق ضرر بجدار الجار كتهديمه أو وهنه، فذلك غير جائز، لحديث:(لا ضرر ولا ضرار).
ثانياً: كذلك لا يدخل في هذا النزاع الانتفاع الذي ليس له به حاجة، فليس للجار أن يضع خشبة على جدار جاره إن كان به غنية عن ذلك، لأنه انتفاع بملك غيره بغير إذنه من غير حاجة، فلم يجز.
الخلاف وقع:
في الانتفاع غير المضر بالجار، وهو الذي يحتاج إليه المنتفع لتسقيف بيته أو قيام بنائه.
فهذا اختلف فيه العلماء على قولين:
القول الأول: لا يجوز وضع الخشب على حائط الجدار إلا بإذنه، وإن لم يأذن فلا يجز، لكن يستحب له بذله.
وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك، والقول الجديد عند الشافعية. واستدلوا:
بعموم الآيات التي تنهى عن الظلم والتعدي على أموال الآخرين وحقوقهم.
كقوله تعالى:} وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً {.
وبالأحاديث التي تنهى عن أخذ أموال الآخرين ظلماً وعدواناً.
كقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه).
وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن دماؤكم وأموالكم عليكم حرام).
القول الثاني: أنه يجب على الجار أن يبذل حائطه لجاره مع الحاجة وقلة الضرر، وأنه يجبر على ذلك إذا امتنع.
وهذا مذهب الحنابلة، وبه قال أبو ثور، وإسحاق، وابن حزم.
واستدلوا بالحديث الذي ذكره المصنف رحمه الله (لا يمنعن .. ).
وجه الدلالة: أنه نهي صريح عن منع الجار من الانتفاع بجدار جاره، وظاهر النهي يقتضي التحريم، وبالتالي فلا يجوز للجار منع جاره من الانتفاع بجداره عند الحاجة.
وهذا القول هو الصحيح.
وأما الجواب عن أدلة أصحاب القول الأول:
أنها نصوص عامة، وحديث: (لا يمنع
…
) خاص، والخاص يقضي على العام.
باب الوكالة
تعريفها:
لغة: التفويض.
واصطلاحاً: الوكالة: هي استنابة جائز التصرف مثله فيما تدخله النيابة.
وهذا التعريف يدل على أن الموكِل لابد أن يكون جائز التصرف فلا تصح الوكالة من صبي أو مجنون
ولابد أن يكون الوكيل جائز التصرف.
• وهي جائزة بالكتاب والسنة والإجماع:
قال تعالى (واخلفني في قومي وأصلح).
وقال تعالى _ عن سليمان أنه قال للهدهد _ (اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم).
وقال تعالى (والعاملين عليها).
وعن أبي هريرة في قصة العسيف (الأجير) قال النبي صلى الله عليه وسلم (واغد يا أنيْس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها) متفق عليه.
وأجمعت الأمة على جواز الوكالة في الجملة.
والنظر يقتضي جوازها: لأنها من مصلحة العباد، فكم من إنسان لا يستطيع أن يعمل أعماله بنفسه، فمن رحمة الله وحكمته أن أباح لهم الوكالة.
م/ كان النبي صلى الله عليه وسلم يوكلُ في حوائجهِ الخاصة، وحوائج المسلمين المتعلقة به.
أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل الوكالة، وهذا يدل على جوازها.
فمن ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى عروة البارقي دينار ليشتري له به شاة، ففي صحيح البخاري عن عروة بن أبي الجعد (أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه ديناراً ليشتري به له شاةً، فاشترى له به شاتين، فباع إحداهما بدينار وجاء بدينار وشاةٍ، فدعا له بالبركة في بيعه، وكان لو اشترى الترابَ لربح فيه) رواه البخاري.
وكتوكيله لعلي في ذبح باقي هديه: ففي صحيح مسلم عن جابر. (أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر ثلاثاً وستين، وأمر علياً أن يذبح الباقي .. ).
وكتوكيله في إقامة الحدود: ففي الصحيحين عن أبي هريرة - في قصة العسيف (الأجير) - قال النبي صلى الله عليه وسلم (واغدُ يا أنيْس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها).
وكتوكيله صلى الله عليه وسلم الصحابة في قبض الزكاة: ففي الصحيحين عن أبي هريرة. قال (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر على الصدقة ....... ).
ووكل أبا بكر أن يصلي بالناس في مرض موته صلى الله عليه وسلم: ففي الصحيحين عن عائشة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: مروا أبا بكر فليصل بالناس) متفق عليه.
ووكل أبا هريرة في حفظ الصدقة: ففي صحيح البخاري عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ (وَكَّلَنِى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ، فَأَتَانِى آتٍ فَجَعَلَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ، فَأَخَذْتُهُ، وَقُلْتُ وَاللَّهِ لأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ إِنِّى مُحْتَاجٌ ..... ).
م/ فهي عقد جائز من الطرفين.
أي أن الوكالة عقد جائز، والعقد الجائز هو الذي يملك كل واحد من المتعاقدين فسخه بدون رضا الآخر، ولا إذنه أيضاً.
لأنها من جهة الموكِل إذن، ومن جهة الوكيل بذل نفع وكلاهما غير لازم.
• قوله (من الطرفين) أي الوكيل أو الموكِل.
لكن تلزم في حالتين:
الحالة الأولى: إذا كان هناك ضرر في فسخ الوكالة كأن يكون فسخ الوكالة بشيء يتضرر به الموكِل
الحالة الثانية: إذا كانت الوكالة بجعل (أي بمقابل).
• مبطلات الوكالة:
1_
موت أحدهما، لأنه إذا مات الموكل انتقل المال إلى ورثته، فلابد من تجديد الوكالة إذا شاؤوا أن يستمروا مع الوكيل، أما الوكيل فتبطل بموته، لأن الموكل إنما رضيه بعينه، فإذا مات فإن المعقود عليه قد زال وفات، فتبطل بذلك الوكالة.
2_
بجنون أحدهما. (لأن المجنون ليس له أهلية التصرف).
3_
فسخ أحدهما.
• لكن اختلف العلماء لو تصرف الوكيل قبل أن يعلم بفسخه؟ فما حكم تصرفه؟ مثال: وكلت هذا الرجل على أن يبيع بيتي ثم في اليوم الثاني أشهدت رجلين أني فسخت وكالته، ثم باع البيت في اليوم الثالث ولم يعلم بالفسخ؟ اختلف العلماء على قولين:
القول الأول: أنه لا ينفذ تصرفه فالبيع باطل.
وهذا مذهب الشافعي والحنابلة واختاره ابن تيمية.
وعلى هذا القول فالبيع غير صحيح، لأنه فسخ الوكالة قبل البيع.
القول الثاني: أن تصرفه نافذ ويشترط أن يعلم الوكيل بالوكالة.
وهذا مذهب أبي حنيفة.
قالوا: لأن تصرفه مستند إلى إذن سابق لم يعلم بإزالته فكان تصرفاً صحيحاً، وهذا القول هو الصحيح.
م/ تدخل في جميع الأشياء التي تصح النيابةُ فيها.
هذا ضابط فقهي: تجوز الوكالة في كل أمر تجوز فيه النيابة.
م/ من حقوق الله: كتفريق الزكاة.
أي: فتجوز الوكالة في تفريق الزكاة، كأن أعطي شخصاً ألف ريال وقال له: خذ هذه الألف زكاة مالي ووزعها على الفقراء
م/ والكفارة ونحوها.
كشخص عليه كفارة يمين، وقال لشخص: هذه 50 ريالا تشتري بها طعاماً وتوزعها على عشرة مساكين
م/ ومن حقوق الآدميين، كالعقود والفسوخ وغيرها.
تنقسم الوكالة في حقوق الآدميين من حيث التوكيل إلى قسمين:
الأول: قسم يصح التوكيل فيه:
مثل العقود: البيع، والشراء، والإجارة، والقرض والنكاح.
كأن أقول لشخص: وكلتك تبيع سيارتي.
الشراء: كأن أقول لشخص: وكلتك تشتري لي سيارة.
الإجارة: كأن أقول لشخص: وكلتك تستأجر لي بيتاً.
والفسوخ: كالطلاق، والخلع، والعتق، والإقالة.
الطلاق: كأن أقول لشخص: يا فلان وكلتك أن تطلق زوجتي (وتكون الفائدة - أنه يثبت طلاقها عند المحكمة).
الخلع: كأن أقول لشخص: وكلتك مخالعة زوجتي (الخلع مفارقة الزوجة على عوض).
العتق: كأن أقول لشخص: وكلتك تعتق عبدي فلان.
الإقالة: اشتريت من فلان سيارة ثم لم تعجبني السيارة، فرجعت إليه وقلت: أريد أن تقيلني البيع، فقال: نعم، فلو وكلت إنساناً في الإقالة يجوز سواء من البائع أو من المشتري.
فهذه الأمور (كالطلاق .. ) يصح التوكيل فيها لأن المقصود إيجاده بقطع النظر عن الفاعل.
الثاني: قسم لا يصح التوكيل فيه مطلقاً:
الظهار، واللعان، والأيْمان.
لأنها تتعلق بنفس الشخص، فالوكيل لا يستطيع أن يفعلها.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الظهار: فلو وكل شخصاً في الظهار من امرأته، فذهب الرجل إلى المرأة، وقال لها: أنتِ على زوجك كظهر أمه عليه، فهذا لا يجوز ولا يثبت الظهار.
اللعان: وهو ما يكون بين الزوج وزوجته - إذا رماها بالزنا - ولم تعترف، فإنه يقام بينهما لعان (وهو أيمان مؤكدة بشهادات، فيقسم الرجل ثم الزوجة، فهنا لا يجوز للزوج أن يوكل أحداً غيره لإقامة اللعان، لأنها تتعلق بالشخص نفسه. - أن الوكيل لا يصح أن يضيف اللعنة إلى نفسه.
الأيْمان: أي لا يجوز أن يوكل شخصاً يذهب عنه إلى القاضي ليؤدي اليمين عنه، لأنها تتعلق بالشخص نفسه.
أولاً: لأنها تتعلق بنفس الشخص كما سبق.
ثانياً: ولأن الإنسان يهاب يمين نفسه ولا يهاب يمين غيره.
• وكذلك: القسم بين الزوجات لا تجوز الوكالة فيها، لأنها تطلب من الشخص نفسه.
• والظهار لا يجوز التوكيل فيه الأمور:
أولاً: لأنه يتعلق بنفس الشخص كما سبق.
ثانياً: أن الموكل لا يملك ذلك، بل هو حرام عليه، فكيف يصح ذلك من الوكيل.
ثالثاً: أن في قبول الوكيل هذا العمل الموكل فيه من باب التعاون على الإثم والعدوان وقد نهى الله عن ذلك.
م/ وما لا تدخله النيابة من الأمور التي تتعين على الإنسان وتتعلق ببدنه خاصة، كالصلاة والطهارة والحلف والقسم بين الزوجات ونحوها لا تجوز الوكالة فيها.
ذكر المصنف رحمه الله الأمور التي لا تدخلها النيابة.
بالنسبة لحقوق الله تنقسم إلى 3 أقسام:
الأول: قسم تدخله النيابة مطلقاً: مثل: العبادات المالية كالزكاة والفدية والكفارة.
الزكاة: كأن أعطي شخص ألف ريال زكاة مالي، وأقول له وزعها على الفقراء.
فيصح أن يوكل عنه من يذبح أضحيته أو ينحر هديه كما ثبت في مسلم من توكيل النبي صلى الله عليه وسلم علياً بذلك.
ويصح أن يوكل من يفرق صدقته أو زكاته.
ويصح أن يوكل من يكفر عنه كفارة مالية ونحو ذلك من العبادات المالية.
الثاني: قسم لا تدخله النيابة مطلقاً:
مثل: الصلاة، والصوم، والتيمم. لأنها تتعلق بنفس الفاعل، فلا يصح أن يوكل بها غيره.
الصلاة: كأن أقول لشخص: اذهب وصلِ عني صلاة الظهر، فهذا لا يجوز.
الصوم: كأن أقول لشخص: علي يوم قضاء من رمضان، أريدك أن تصومه عني، فهذا لا يجوز.
الوضوء: كأن أقول لشخص: الجو بارد وأريدك أن تتوضأ عني، فهذا لا يجوز.
الثالث: قسم فيه تفصيل:
وهو الحج في الفرض: فالذي لا يستطيع أن يحج عجزاً مستمراً فإنه يجوز له أن يوكل وإلا فلا يجوز.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
لحديث ابن عباس. قال (جاءت امرأة من خثعم فقالت: يا رسول الله! إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: نعم، وذلك في حجة الوداع) متفق عليه
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: الحج كغيره من العبادات، والأصل فيه عدم جواز التوكيل، لأنه عبادة، والأصل في العبادة أنها مطلوبة من العابد، ولا يقوم غيره مقامه فيها، وحينئذ نقول: الحج وردت النيابة فيه عن صنفين من الناس:
الأول: من مات قبل الفريضة، فإنه يحج عنه، لأنه ثبت ذلك بالسنة.
الثاني: من كان عاجزاً عن الفريضة عجزاً لا يرجى زواله، فهذا جاءت به السنة، وسبق دليلها.
• يجوز التوكيل في الحدود في إثباتها واستيفائها.
بإثباتها: مثل أن يقول الحاكم لشخص: اذهب إلى فلان ليقر بما يقتضي الحد.
في استيفائها: بأن يكون المذنب قد اعترف وثبت الحد، فيوكل الحاكم من يقيم هذا الحد.
والدليل على جواز ذلك: ما سبق من حديث أبي هريرة - في قصة العسيف (الأجير) - قال النبي صلى الله عليه وسلم (واغدُ يا أنيْس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها). (فإن اعترفت) هذا إثبات (فارجمها) هذا استيفاء.
م/ ولا يتصرف الوكيل في غير ما أذن له فيه نطقاً أو عرفاً.
الوكيل لا يتصرف إلا فيما أذن له، إن كان هناك نطق يتقيد بالنطق، وإن كان هناك عرف يتقيد بالعرف.
مثال النطق: قال له اقبض ديني من فلان، فذهب إلى الشخص وقبض منه الدين، فلما قبض الدين تصرف فيه بتنمية، هذا لا يجوز، لأنك لا تتصرف إلا ما أذن لك فيه نطقاً.
• ليس للوكيل أن يُوكِّل فيما وُكلَ فيه.
كأن أوكل شخصاً ليشتري لي سيارة، فيذهب هو ويوكل آخر، هذا لا يجوز.
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إن دماءكم وأعراضكم وأموالكم عليكم حرام) والتوكيل بغير إذن تعد على مال الغير.
ولأن تصرف الوكيل مستفاد بالإذن، فوجب أن يقتصر في تصرفه على ما أُذِن فيه، فإذا وكّل غيره فمعناه أنه وكل غيره أن يتصرف في ملك الغير.
وأيضاً: يقال: إن الموكِّل قد يرضى أن يتصرف في ملكه فلان، ولا يرضى أن يتصرف في ملكه فلان.
• يستثنى من ذلك حالات:
الحالة الأولى: أن يجعل الموكل ذلك للوكيل (يعني يسمح له).
مثال: أقول وكلتك أن تبيع سيارتي ولك أن توكل من شئت، أو من تثق به.
الحالة الثانية: أن يكون العمل مما يرتفع الوكيل عن مثله كالأعمال الدنيئة في حق أشراف الناس المرتفعين عن فعلها في العادة، فهنا يجوز التوكيل. (وهذا اختيار ابن القيم).
الحالة الثالثة: إذا كان يعجز عن القيام بمثله عادة.
مثال: وكلت رجلاً أن يصعد بحجر كبير إلى السطح، لأنك تريد أن تبني به السطح، وهو رجل ضعيف لا يقوى على ذلك، فهل له أن يوكل من يحمل الحجر إلى فوق؟ الجواب نعم، لأن مثله يعجز عنه.
م/ ويجوز التوكيل بجعلٍ أو غيره.
الجعل: ما يعطاه الإنسان على أمر يفعله.
مثال: لو قال بع منزلي بمليون ولك عشرة آلاف ريال.
أو قال: بع منزلي بمليون ولك ما زاد.
قوله (بجعل) ولم يقل بأجرة لأن الوكالة عقد جائز والاجارة عقد لازم، فلو قال: بأجرة انقلبت الوكالة إلى عقد لازم بسبب الأجرة، والجعالة عقد لازم.
م/ وهو كسائر الأمناء، لا ضمان عليهم إلا بالتعدي أو التفريط.
الوكيل أمين: لأن استلم العين بإذن من الموكِل.
وعليه: فلا يضمن إذا تلفت العين بيده إلا إذا تعدى أو فرط.
مثال: الوكيل وكل شخصاً في شراء ساعة، فاشترى الساعة ثم وضعها في بيته على رف يتناوله الصبيان، فأخذ الصبيان الساعة وخربوها، فإنه يضمن لأنه مفرط.
مثال آخر: وكلته أن يشتري لي ساعة فاشتراها، ثم إنه لبس هذه الساعة واستعملها، فجاءها شيء وكسرها، فإنه يضمن، لأنه تعدى.
مثال آخر: وكلته أن يشتري لي ساعة، فاشتراها، ثم وضعها في مكان آمن تحفظ بمثله الساعات، ثم سرقت، فإنه لا يضمن، لأنه لم يتعد ولم يفرط.
• الأمين: هو كل من كان المال بيده بإذن من الشارع أو بإذن من المالك فهو أمين، ومن كان في يده بغير إذن من الشارع أو من المالك فليس بأمين.) فولي اليتيم أمين، لأذن الشرع له، ناظر الوقف أمين، لأنه بإذن من الواقف.
• الأمين إذا تعد أو فرط يزول إئتمانه، فتنتقل يده من الأمانة إلى الخيانة.
مسألة: ويقبل قول الوكيل في نفي التفريط لكن مع يمينه. (لأن كل من قلنا إن القول قوله فيما يتعلق بحق العباد فلابد فيه من اليمين، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: البينة على المدعي واليمين على من أنكر).
فلو قال الموكل للوكيل: لقد فرطت في حفظها، قال الوكيل: لم أفرط، فإنه يقبل قوله مع يمينه لأمرين:
الأمر الأول: أن الأصل عدم التفريط.
الأمر الثاني: أن الموكل قد ائتمنه على ذلك، وإذا ائتمنه فإنه لا يصح أن يعود فيُخَوِّنَه بدون سبب أو ثبوت شرعي.
م/ ويقبل قولهم في عدم ذلك باليمين.
يقبل قول الأمناء (كالوكيل، والمودع) في عدم ذلك: أي أنه لم يفرط ولم يتعدى باليمين: أي يحلف بالله أنه لم يتعدى ولم يفرط.
• فيقبل قول الوكيل في نفي التفريط لكن مع يمينه. (لأن كل من قلنا إن القول قوله فيما يتعلق بحق العباد فلابد فيه من اليمين، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: البينة على المدعي واليمين على من أنكر).
فلو قال الموكل للوكيل: لقد فرطت في حفظها، قال الوكيل: لم أفرط، فإنه يقبل قوله مع يمينه لأمرين:
الأمر الأول: أن الأصل عدم التفريط.
الأمر الثاني: أن الموكل قد ائتمنه على ذلك، وإذا ائتمنه فإنه لا يصح أن يعود فيُخَوِّنَه بدون سبب أو ثبوت شرعي.
م/ ومن ادعى الرد من الأمناء فإن كان بجعل لم يقبل قوله إلا ببينة، وإن كان متبرعاً قبل قوله بيمينه.
أي: إذا ادعى الرد أحد الأمناء (كالوكيل، أو الولي) فإن كان بجعل لم يقبل قوله إلا بيمينه.
مثال: أعطيت شخص وديعة، ثم جئت وقلت له أعطني وديعتي، فقال: أعطيتك إياها، فما الحكم؟
المصنف رحمه الله يفصل:
إن كان بجعل يقبل قول الموكِل ولا يقبل قول الوكيل إلا ببينة، لأن الوكيل بجعل قبض العين لحظ نفسه فهو كالمستعير الذي قبض العين لحظ نفسه فلا يقبل قوله إلا ببينة.
وقيل: يقبل قول الوكيل وهذا قول المالكية والشافعية، وقالوا: إن الوكيل أمين ولو كان بجعل، فيقبل قوله في الرد كما يقبل قوله في التلف وهذا أصح.
• وإن كان متبرعاً قبِلَ قوله بيمينه، لأنه قبض المال لحظ مالكه.
باب الشركة
تعريفها:
اجتماع في تصرف، يعني أن يتعاقد شخصان في شيء يشتركان فيه. (وتسمى هذه شركة عقود).
م/ صلى الله عليه وسلم (أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه، فإن خان خرجت من بينهما) رواه أبوداود.
ذكر المصنف رحمه الله حديث أبي هريرة. قال: قال صلى الله عليه وسلم (أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه، فإن خان خرجت من بينهما) ليستدل به على جواز الشركة (والحديث فيه ضعف).
م/ فالشركة بجميع أنواعها كلها جائزة.
أي: أن الشركة جائزة بالكتاب والسنة والإجماع.
قال تعالى (وإن كثيراً من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض .. ).
وقال سبحانه (ضرب لكم مثلاً من أنفسكم هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواء).
وقال صلى الله عليه وسلم (أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه، فإن خان خرجت من بينهما) رواه أبوداود.
م/ ويكون الملك فيها والربح بحسب ما يتفقان عليه.
الملك: فليس هناك مبلغ محدد للملك. (رأس المال حسب ما يتفقان عليه).
الربح: على حسب ما يتفقان عليه.
بشرط ذكره المصنف بقوله:
م/ إذا كان جزءاً مشاعاً معلوماً.
(المشاع: الربع، والثلث).
كأن يقول: لي ربع الربع ولك ثلاث أرباع يصح، أو قال: الربح بيننا فإنه يصح، أو قال: لك ثلث الربح ولك الثلثان.
• فإن قال أحدهما لك من الربح (100) درهم، فإنه لا يصح، لأنه ربما لا تربح إلا هذا الربح فيبقى الثاني لا ربح له.
• إن لم يذكرا الربح فإنه لا يصح، لأمرين:
الأمر الأول: أن الربح هو المقصود في الشركة فلا يجوز الإخلال به.
الأمر الثاني: أن عدم ذكر الربح يبقى مجهولاً، وهذا يؤدي إلى النزاع.
الخسارة على قدر المال:
مثال: جاء أحدهما بـ {200} والآخر {100} وخسرا، وعند التصفية أصبح المال
{150} ، فيكون على صاحب {200} خسارة {100} وعلى صاحب {100} خسارة {50} .
م/ فدخل في هذا: شركة العِنان وهي أن يكون من كلٍ منهما مالٌ وعمل.
بدأ المصنف رحمه الله يذكر أنواع الشركات: فذكر أولاً: شركة العِنان.
تعريفها: أن يشتركان اثنان فأكثر في مال يتجران فيه ويكون الربح بينهما بحسب ما يتفقان عليه (ففيها مال وعمل بدني).
• وهذا النوع من الشركات جائز بالإجماع.
مثال: رجل عنده {100} ريال، وآخر عنده {100} ، فاتفقا على أن يفتحا محلاً لهذا المال، وصار كل واحد منهما يعمل بهذا المحل.
• سميت بذلك: لأنهما يتساويان في المال والتصرف كالفارسين إذا استويا بين فرسيهما وتساويا في السير، فإن عنانيهما يكون سواء.
• هذا النوع هو السائد بين الناس: لأنه لا يشترط فيها المساواة لا في المال ولا في التصرف، فيجوز أن يكون أحد الشريكين أكثر من الآخر.
• يشترط لهذه الشركة أن يكون المال معلوماً: لأن المجهول لا يمكن الرجوع إليه عند الفسخ.
• ينفذ تصرف كل واحد منهما بالمالين: بحكم الملك في نصيبه وبحكم الوكالة في نصيب شريكه.
• يشترط أن يكون لكل واحد منها جزءاً معلوماً من الربح مشاعاً كما سبق.
م/ وشركة المضاربة: بأن يكون من أحدهما المال ومن الآخر العمل.
هذا النوع الثاني من أنواع الشركات وهي المضاربة: وهي أن يدفع رجل ماله إلى آخر يتجر له فيه على أن ما حصل من الربح بينهما حسب ما يشترطانه. (أحدهما منه المال والآخر منه العمل).
مثال: أعطى عمر زيداً {100} ريال ليتجر بها على أن يكون الربح بينهما.
• الناس بحاجة إلى هذه الشركة، حيث أن الأموال لا تنمو إلا بالتنقيب والتجارة وليس كل من يملكها يحسن العمل بها، وكذلك هناك من يحسن العمل لكن لا مال له فكانت الحاجة لصالح الطرفين.
• وإن قال رب المال اتجر به والربح بيننا فنصفان.
• وإن قال اتجر به ولي ثلاثة أرباع أو الثلث صح، لأنه متى علم نصيب أحدهما أخذه والباقي للآخر.
• ولا يضارب العامل بمال لآخر إلا بشرطين:
الأول: إن رضي الأول.
الثاني: إن لم يضر بالأول.
مثال: أعطيتك مبلغاً من المال على أن تتجر به بالكتب، فأخذتها وضاربت، ثم عقد هذا الرجل عقد مضاربة مع رجل آخر في نفس السلعة، فهذا العقد يضر بالأول، لأن السلعة إذا كثرت رخصت.
لكن إن رضي الأول جاز.
• إن فسدت شركة المضاربة: فقيل: المال كله لرب المال، وللعامل أجرة المثل، وقيل: أن للعامل سهم المثل، فيقال: لو اتجر الإنسان بهذا المال كم يعطى في العادة؟ فقالوا - مثلاً - يعطى نصف الربح، فيكون له نصف الربح، وهكذا، وهذا القول هو الصحيح، لأن العامل إنما عمل على أنه شريك لا على أنه أجير.
م/ وشركة الوجوه بما يأخذان بوجوههِما من الناس.
هذا النوع الثالث من أنواع الشركات: وهو شركة الوجوه، والمراد بالوجوه هنا: الجاه والمنزلة، وهي شركة تقوم على اشتراك رجلين أو أكثر ولا مال لهم على أن يشتروا بوجوههم.
• سميت بذلك: لبنائها على وجاهة كل منهما ومكانته عند الناس.
ويكون الربح بينهما على ما اشترطاه من تساو أو تفاضل، لأن أحدهما قد يكون أوثق عند التجار.
م/ وشركة الأبدان: بأن يشتركا بما يكتسبان بأبدانهِما من المباحات من حشيشٍ ونحوه، وما يتقبلانه من الأعمال.
هذا النوع الرابع من أنواع الشركات وهي شركة الأبدان، وهي أن يشتركان فيما يكتسبان بأبدانهما. (يسميها الفقهاء شركة الأعمال).
عادة تكون هذه الشركة بين الحدادين والنجارين وأمثالهم ممن يعملون بالبدن.
• تصح مع اختلاف الصنائع، كحداد ونجار مثلاً.
• إن مرض أحدهما فالكسب الذي عمله أحدهما بينهما: لأن الأصل الشركة.
• وإن طالبه الصحيح أن يقيم مقامه لزمه: لأنهما دخلا على أن يعملا، فإذا تعذر عليه العمل بنفسه لزمه أن يقيم مقامه.
م/ وشركة المفاوضة: وهي الجامعةُ لجميع ذلك.
هذا النوع الخامس من أنواع الشركات وهو شركة المفاوضة، وهي: أن يفوض كل واحد من الشريكين الآخر في مال الشركة في غيبته وحضوره شراء وبيعاً ومضاربة وتوكلاً وغيرها.
م/ وكلها جائزة.
أي: الشركات كلها مباحة.
م/ ويفسدها إذا دخلها الظلم والغرر لأحدهما.
أي: إذا كان في الشركة ظلم أو غرر فإنها لا تصح.
أمثلة:
قال أحدهما: أشترط ربح شهر رمضان يكون لي، هذا لا يجوز لأن غرر.
أو قال: أشترط ربح إحدى السلعتين، فهذا لا يجوز لأنه غرر.
لو عملا في ملابس وأحذية، فقال أحدهما: ربح الملابس لي، وربح الأحذية لك، فهذا لا يجوز لأنه غرر.
أو قال أحدهما أنا لي ألف ريال من الربح ولك فهذا لا يجوز.
باب المساقاة والمزارعة
م/ المساقاة على الشجر: بأن يدفعها للعامل، ويقوم عليها، بجزء مشاع معلوم من الثمرة.
والمزارعة: بأن يدفعَ الأرض لمن يزرعها بجزء مشاع معلوم من الزرع.
ذكر المصنف رحمه الله تعريف المساقاة والمزارعة.
المساقاة: لغة مشتقة من السقي لأن السقي هو أهم الأعمال الذي يستفيد منها التمر، وتعريفها كما ذكره المصنف رحمه الله أن يدفع الرجل شجره إلى آخر ليقوم بسقيه وعمل سائر ما يحتاج إليه بجزء معلوم من ثمره مشاع.
مثال: إنسان عنده أرض وعليها أشجار من نخيل وأعناب ورمان وغيرها، فأعطاها شخصاً ينميها بجزء من الثمرة.
المزارعة: مأخوذة من الزرع، وهي دفع أرض لمن يزرعها بجزء معلوم مما يخرج منها.
مثالها: إنسان عنده أرض بيضاء وليس فيها زرع، فأعطاها فلاحاً يزرعها وله نصف الزرع - مثلاً - فهذا يجوز.
ف
المساقاة لابد أن تكون على شجر: نخل تين عنب رمان فيدفعها للعامل ويقوم عليها بجزء مشاع معلوم، فلو أعطى أرضاً لإنسان ليغرسها بمساقاة فلا يصح، فلا بد أن يكون على شجر موجود.
-مشاع معلوم: كالثلث أو الربع من الثمرة، كأن أقول: هذه 100 شجرة تين تقوم بسقيها والقيام عليها ولك ربع الثمرة.
فلو قال لي ثمرة هذا العام ولك ثمرة العام القادم لا يصح.
ولو قال لي ثمرة الجانب الشرقي ولك ثمرة الجانب الغربي لا يصح.
لو قال ساقيتك على أن لك الثلث، فإنه يجوز، ويكون لصاحب الأرض الثلثان.
فإن كانت على ثمرة معينة لا تصح، كأن أقول هذه (100) شجرة تقوم بسقيها ولي ثمر 30 شجرة
م/ وعامل النبي صلى الله عليه وسلم أهلَ خيبر بشطرِ ما يخرج منها من تمر أو زرع. متفق عليه
ذكر المصنف رحمه الله الدليل على جواز المساقاة والمزارعة وهو معاملة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل خيبر.
-كان المسلمون مشغولين بالجهاد وليس عندهم الفراغ حتى يقوموا على أرض خيبر وشجرها، واليهود فارغون لهذا، وهم أبصر بهذا العمل من المسلمين، فلهذا اقتضت المصلحة الشرعية بقاءهم في ذلك الوقت وإن كانوا أعداء، واستمروا على ذلك إلى أن أخرجهم عمر في خلافته بسبب أحداث أحدثوها.
فالحديث ذكر المصنف رحمه الله ليستدل به على جواز المزارعة والمساقة.
فقوله (من زرع) دليل على جواز المزارعة.
قوله (من تمر) وفي رواية لمسلم (ونخل وشجر) دليل على جواز المساقاة.
وعامل النبي صلى الله عليه وسلم أهلَ خيبر: المعاملة: التعامل مع الغير، وخيبر: بلدة زراعية شمال المدينة، كان يسكنها طائفة من اليهود، فتحت في المحرم سنة سبع من الهجرة.
بشطرِ ما يخرج منها: الشطر المراد هنا النصف، والمعنى: أنه عاملهم بنصف ما يخرج من ثمرها وزرعها مقابل عملهم ونفقتهم، والنصف الآخر للمسلمين لكونهم أصحاب الأصل.
- وجواز المساقاة والمزارعة من محاسن الإسلام، فإن كثيراً من أهل النخيل والشجر يعجزون عن عمارته وسقيه، ولا يمكنهم الاستئجار عليه، وكثير من الناس لا شجر لهم ويحتاجون إلى الثمر، ففي تجويزها دفع الحاجتين وتحصيل لمصلحة الفئتين.
م/ وقال رافع بن خديج (وكَانَ النَّاسُ يُؤَاجِرُونَ عَلَى عَهْدِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمَاذِيَانَاتِ وَأَقْبَالِ الْجَدَاوِلِ وَأَشْيَاءَ مِنَ الزَّرْعِ فَيَهْلِكُ هَذَا وَيَسْلَمُ هَذَا وَيَسْلَمُ هَذَا وَيَهْلِكُ هَذَا فَلَمْ يَكُنْ لِلنَّاسِ كِرَاءٌ إِلاَّ هَذَا فَلِذَلِكَ زُجِرَ عَنْهُ. فَأَمَّا شَىْءٌ مَعْلُومٌ مَضْمُونٌ فَلَا بَأْسَ بِهِ).
ذكر المصنف رحمه الله حديث رافع بن خديج، وفيه المزارعة الفاسدة.
عَلَى الْمَاذِيَانَاتِ: بذال مكسورة وهي مسايل الماء، وقيل: ما ينبت حول السواقي.
وَأَقْبَالِ الْجَدَاوِلِ: الأقبال: الأوائل، والجداول جمع جدول وهو النهر الصغير.
وَأَشْيَاءَ مِنَ الزَّرْعِ: أي: وقطعة أو جهة من الزرع تكون مختارة طيبة.
فَلَمْ يَكُنْ لِلنَّاسِ كِرَاءٌ إِلاَّ هَذَا: أي: ولم يكن لأهل المدينة طريقة لتأجير الأراضي الزراعية إلا هذه الطريقة المشتملة على الجهالة والغرر والمخاطرة.
فَأَمَّا شَىْءٌ مَعْلُومٌ مَضْمُونٌ فَلَا بَأْسَ بِهِ: أي: فأما كراء الأرض للزراعة بأجر معلوم مضمون من الذهب والفضة ونحوهما، فهذا جائز ولا بأس به، لعدم الجهالة والغرر.
الحديث دليل على جواز المزارعة الصحيحة، وهي السالمة من الغرر والجهالة، كأن أقول زارعتك ولك الثلث ولي الثلثان، أو أقول لي نصف ولك النصف.
أما المزارعة الفاسدة فهي المشتملة على غرر وظلم وجهالة، كأن أقول زارعتك ولي الجانب الشرقي، أو أقول زارعتك ولي ما عند الماء، فهذا لا يجوز لأنه غرر وجهالة، وهذا هو الذي ورد النهي عنه.
• الفرق بين المزارعة والإجارة: أن المزارعة من جنس الشركة، ويستويان في الغنم والغرم، فهي كالمضاربة، لأن كلاً منهما له جزء مشاع معلوم إن جاد الزرع كثر، وإن كان رديئاً قلّ.
م/ وعلى كلٍ منهما ما جرت العادة به.
أي: وعلى كل من العامل وصاحب الأرض ما جرت العادة به، لأنه لم يرد فيه نص (بأن على العامل كذا وعلى صاحب الأرض كذا) فيكون المرجع فيه إلى العرف، فالمعروف عرفاً كالمشروط شرطاً.
• العرف يدل على أن على العامل الحرث والسقي والتسميد وقطع الأغصان الرديئة، وإصلاح طرق الماء ونحو ذلك.
وعلى رب المال ما يحفظ الأصل كبناء حائط، أو بناء ما انهدم منه، وحفر البئر، وإحضار آلة رفع الماء.
• وما يلزم العامل ورب الأرض مما ليس فيه نص، فيرجع فيه إلى العرف، فما تعارف عليه الناس أنه من اختصاص العامل لزمه، أو من اختصاص رب الأرض لزمه، فإن لم يكن هناك عرف معلوم فعلى ما تشارطاه.
• واختلف العلماء هل يشترط أن يكون البذر من رب الأرض أم لا على قولين:
القول الأول: أنه يشترط.
وهذا المذهب.
قياساً على المضاربة.
القول الثاني: أنه لا يشترط، فيجوز من رب الأرض ويجوز من العامل.
ورجح هذا القول ابن قدامة وابن القيم.
لحديث (أنه صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر ..... ) ولم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم البذر على المسلمين.
وقد ذكر ابن القيم أن الحديث دليل على عدم اشتراط كون البذر من رب الأرض، وإنما يجوز أن يكون من العامل، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان ينقل البذر إليهم من المدينة قطعاً.
وهذا القول هو الراجح.
م/ والشرط الذي لا جهالة فيه.
أي: إذا تشارطا على شرط معين لا جهالة فيه فلا بأس.
مثال: اشترط العامل أن يحرث الأرض بحراثة المالك، فوافق المالك، فلا بأس به.
لو شرط المالك أن العامل يأتي بالبذر، صح.
م/ ولو دفع دابة إلى آخر يعمل عليها وما حصل بينهما جاز.
تسمى عند العلماء المؤاجرة.
مثال: كأن أقول لشخص: خذ هذا الحمار واشتغل عليه بالسوق وما حصل بيننا
مثال آخر: شخص عنده سيارة وقال لآخر: خذها اشتغل بها واعمل عليها وما حصل من ربح بيننا.
وهذا جائزة: لأن هذه الأشياء عين تنمو بالعمل عليها، فجاز العقد عليها ببعض نمائها.
باب إحياء الموات
م/ هي الأرض البائرة التي لا يعلم لها مالك.
ذكر المصنف رحمه الله تعريف إحياء الموات. والمَوَات بفتح الميم والواو الأرض التي لا مالك لها من الآدميين ولا ينتفع بها أحد.
وهذا معنى قول المصنف رحمه الله البائرة: المتروكة التي لم تزرع.
التي لا يعرف لها مالك: هذا شرط الموات، أن تكون الارض التي يراد إحياؤها لا يعلم لها مالك معين.
تعريف الموات عند الفقهاء: هي الأرض المنفكة عن الاختصاصات وملك معصوم.
المنفكة عن الاختصاصات: أي التي لا يختص بها واحد بعينه، كالأرض الخراب الدارسة التي لا يملكها أحد ولا يتعلق بها مصلحة عامة.
فالأرض التي فيها مصلحة لأهل البلد فلا يجوز إحياؤها، كأن تكون الأرض مدفن الأموات لأهل البلد، أو كانت هذه الأرض يستنبطون منها الملح أو يأخذون منها الحجارة أو غير ذلك فلا يجوز إحياؤها.
وملك معصوم: أي: ما جرى عليه ملك معصوم بشراء أو عطية أو غيرها، فلا يملك بالإحياء لأنه ملك لصاحبه.
إذاً يشترط لإحياء الأرض الموات شرطان:
الأول: ألا يكون لها مالك معين.
الثاني: ألا تكون من اختصاصات البلد.
ذكر المصنف رحمه الله بما يحصل الإحياء فقال:
م/ فمن أحياها بحائط.
ذكر رحمه الله أن الإحياء يحصل بالتحويط، أي يبني جداراً منيع يحيط بها ويحميها، ويكون كما جرت به عادة أهل البلد، ومعنى منيع: ألا يدخل إلى ما وراءه إلا بباب.
م/ أو حفر بئراً.
هذا الأمر الثاني مما يحصل به الإحياء، وهو حفر بئر في الأرض الموات ووصل إلى الماء، فهذا يكون إحياء.
م/ أو إجراء ماء إليها.
هذا الأمر الثالث مما يكون به الإحياء، وهو سوق الماء وإجراؤه إلى الأرض الموات من عين أو نهر ونحوهما.
• سقيها بماء المطر لا يكون إحياء.
م/ أو منع ما لا تزرع معه.
هذا الأمر الرابع ما يحصل به الإحياء، وهو قلع الأشجار والأحجار المانعة من زرعها وسقيها، ويزيل عنها ما لا يمكن زرعها معه.
مثال: فيها أشجار وحشائش لا يمكن زرعها معها فجاء بجرافه وقلعها فهذا احياء.
م/ ملكها بجميع ما فيها.
أي: إذا فعل بها ما مضى من الإحياء فقد ملك الأرض ومنافعها ومعادنها الباطنة ملكاً له شرعاً لحديث عائشة. عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من أعمرَ أرضاً ليست لأحد فهو أحق) رواه البخاري.
وعن سعيد بن زيد. عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من أحيا أرضاً ميتةً فهي له، وليس لعرق ظالم حق) رواه أبو داود
• هل يشترط إذن الإمام لإحياء الموات؟ اختلف العلماء على قولين:
القول الأول: أنه لا يشترط.
وهذا مذهب الجمهور.
للحديث السابق (من أحيا أرضاً ميتة ..... ) فالرسول صلى الله عليه وسلم حكم بملكية الموات لمن أحياه ولم يذكر إذن الإمام.
واستدلوا - أيضاً - بأن الأرض الموات ليست ملكاً لبيت المال، بل هي مال مباح، كالاحتشاش والاحتطاب، والمباح لمن سبقت يده إليه، وقد سبقت اليد إليه بالإحياء، فهو لمن أحياه.
القول الثاني: أنه يشترط إذن الأمام.
وهذا مذهب أبي حنيفة. وذلك لأمرين:
الأول: أن الأرض الموات في سلطان الإمام ويعتبر بولايته على البلدان واضع اليد عليها، فلا يُستولى على ما تحت يده إلا بإذنه.
الثاني: أن الإحياء من غير إذن الإمام قد يدفع إلى التزاحم والنزاع.
والصحيح الأول أنه لا يشترط، لكن في هذا الزمان ينبغي أن يكون بإذن الإمام لما يترتب من عدم الإذن المفاسد والنزاعات والخصومات.
م/ إلا المعادن الظاهرة.
أي: ولا يملك بالإحياء المعدن الظاهر، وهي التي لا تحتاج إلى عمل، بل يتوصل إليها بلا مؤنة، كالملح والجص والكحل، فهذه لا يجوز إقطاعها، بل الناس فيها شركاء، كالكلأ ومياه الأودية.
التحجير
م/ وإذا تحجر مواتاً: بأن أدار حوله أحجاراً، أو حفر .. أحق بها ولا يملكها حتى يحييها فهو أحق بها.
التحجير: هو أن يشرع في الإحياء ولا يتمه.
والفرق بينه وبين الإحياء: أن المحيي يملك ما أحياء - وأما المتحجر فهو أحق بالأرض من غيره.
مثال: لو جاء إنسان إلى هذه الأرض وأدار حولها أحجاراً، فهذا تحجير وليس إحياء.
مثال: لو بنى حول الأرض جداراً قصيراً، فهذا يقال له تحجير ولا يقال له إحياء.
مثال آخر: أو حفر بئراً للوصول إلى الماء (والماء 100 متر) فلما حفر 70 متراً توقف، فهذا يسمى تحجيراً ولا يسمى إحياء.
م/ أو أقطِعَ أرضاً فهو أحق بها.
يعني: إذا أقطعه الإمام أرضاً فهو أحق بهذه الأرض من غيره، لكن ليس له أن يتصرف بها.
والإقطاع 3 أنواع:
الأول: إقطاع تمليك: أن يملّك الإمام أو نائبه أحداً من المسلمين أرضاً (كأراضي المنح في هذا الوقت).
الثاني: إقطاع إرفاق: أن يعطيه أرضاً يرتفق بها (كالأراضي التي تعطى للباعة يبيعون عليها بضاعتهم) كأسواق الجمعة الموجودة الآن.
الثالث: إقطاع استغلال: أن يقطع ولي الأمر أو نائبه أحداً من المسلمين أرضاً يستغلها بالزراعة - مثلاً - ثم إن شاء رجع وإن شاء ملكه إياها.
- فمن اقطع أرضاً - غير إقطاع التمليك - فهو أحق بها من غيره، لكن ليس له أن يتصرف بها، ولهذا قال:
م/ ولا يملكها حتى يحييها بما تقدم.
أي: لا يملكها بهذا التحجير (فليس له أن يبيع ولا يهب ولا أن يتصرف)، حتى يحييها بما يحصل به الإحياء كما تقدم.
وهذا الفرق بين الإحياء والتحجير كما سبق.
باب الجعالة
م/ وهي جعْل مال معلوم لمن يعمل له عملاً معلوماً أو مجهولاً.
ذكر المصنف رحمه الله تعريف الجعالة، وهي عند الفقهاء: أن يجعل جائز التصرف شيئاً معلوماً لمن يعمل له عملاً معلوماً أو عملاً مجهولاً مدة معلومة أو مجهولة.
وهي جائزة بالسنة والإجماع.
عن أبي سعيد الخدري (أن قوماً لدغ رجل منهم، فأتوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: هل منكم من راق؟ فقالوا: لا حتى تجعلوا لنا شيئاً، فجعلوا لهم قطيعاً من الغنم، فجعل رجل منهم يقرأ بفاتحة الكتاب ويرقي ويتفل حتى برأ، فأخذوا الغنم .. ) رواه البخاري ومسلم.
مثال: إنسان قال من خاط لي هذا الثوب فله 100 ريال، الـ 100 هذا مال معلوم، والثوب عمل معلوم.
مثال: إنسان قال من رد سيارتي المسروقة فله ألف ريال.
المال معلوم وهو ألف ريال، العمل مجهول (فهذا الشخص الذي ذهب يبحث عن السيارة قد يجدها وقد لا يجدها).
• فالعمل في الجعالة لا يشترط أن يكون معلوماً (يجوز يكون معلوماً ويجوز أن يكون مجهولاً).
• فالذي يشترط في الجعالة: أن يكون الجعل (وهو المال) معلوماً.
مثال: من رد ضالتي فله {100} ريال، فلو قال: من رد ضالتي فله مال فإنه لا يصح.
والسبب: لأن عقد الجعالة عقد جائز، بإمكان الإنسان أن يفسخ العقد بعكس الإجارة فهي عقد لازم.
• توافق الاجارة: لابد أن يكون المال معلوماً.
م/ فمن فعل ما جُعِل عليه فيهما: استحق العوض وإلا فلا.
• (من فعل ما جُعل له الجعل) فإن كان ذلك بعد علمه بقول صاحب العمل {من فعل كذا فله كذا وكذا} فهذا يستحق الجعل كاملاً.
• وإن وجدها قبل الإعلان: لم يستحق شيئاً، لأنه لم يعمل لي.
إن علم بالإعلان في أثناء الطلب: استحق بقسطه.
مثال: إذا قال أنا كنت أطلبها منذ يومين، فسمعت بالإعلان، وبعد سماعي بالإعلان طلبتها يومين آخرين
فهنا يستحق نصف الجعل.
-إذا وجدها جماعة فإنهم يستحقون الجعل كلا بقسطه.
مثال: قال من وجد ضالتي فله {100} ريال، فذهب عشرة يطلبونها ووجدوها جميعاً، فإنه يقسط الجعل بينهم.
باب الإجارة
م/ وهي جعل مال معلوم لمن يعمل له عملاً معلوماً.
ذكر المصنف رحمه الله تعريف الإجارة، وقد عرفها الفقهاء: لغة: مشتقة من الأجر وهو العوض. قال تعالى (لو شئت لاتخذت عليه أجراً).
وشرعاً: عقد على منفعة مباحة من عين معينة أو موصوفة في الذمة مدة معلومة، أو على عمل معلوم بعوض معلوم.
• وهي جائزة بالكتاب والسنة والإجماع.
قال تعالى (قالت إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين).
(وقد استأجر النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يدله الطريق في سفره للهجرة) رواه البخاري.
وعن أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى (ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حراً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يوفه أجره) رواه البخاري.
• هناك شروط للإجارة لم يذكرها المؤلف:
منها: أنه يشترط معرفة المنفعة المعقود عليها.
لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر.
مثال: استأجرت منك هذا البيت للسكنى {يصح} .
مثال: استأجرتك أن تدلني على طريق مكة {يصح} .
ومنها: معرفة الأجرة (يعني تكون معلومة).
قال في المغني (لا نعلم فيه خلافاً).
فلو استأجرت منك هذا البيت ببعض ما في يدي من الدراهم لم يصح.
لو استأجرت منك هذا البيت بما تلده هذه الفرس لم يصح.
ومنها: تكون المنفعة مباحة ..
فلا تصح على نفع محرم كالزنا والغناء، وجعل داره كنيسة أو لبيع الخمر.
لقوله تعالى (ولا تعاونوا على الإثم والعدوان).
النفع إما أن يكون:
مباحاً: مثال: استأجرت بيتاً لأسكنه {يصح لأن سكنى البيت مباح} .
حراماً: مثال: استأجرت دكاناً لبيع الدخان {لا يصح لأن بيع الدخان محرم} .
مكروهاً: مثال: أن يستأجر شخصاً ليحلق له قزع. {يصح مع الكراهة، لأن القزع مكروه} .
م/ فمن فعل ما جعل عليه فيهما: استحق العوض وإلا فلا، إلا إذا تعذر العمل في الإجارة، فإنه يتقسط العوض.
أي: أن من قام بالعمل في الجعالة (وسبق ما يستحق) والإجارة استحق العوض كاملاً، لكن في الإجارة إذا تعذر العمل، فإنه يتقسط العوض.
• إن انفسخت الإجارة فلها أحوال:
أولاً: إن كان الفسخ بسب من المستأجر لزمته الأجرة كاملة.
ثانياً: وإن كان الفسخ بسبب من المؤجر (وهو المالك) لم يلزمه شيء.
ثالثاً: وإن كان الفسخ بسبب غيرهما (كما لو انهدمت الدار) لزم المستأجر القسط من الأجرة.
• يجب إعطاء الأجير أجره كاملاً، ولهذا ذكر المصنف حديث أبي هريرة.
م/ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (قَالَ اللَّهُ: ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، رَجُلٌ أَعْطَى بِى ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيراً فَاسْتَوْفَى مِنْهُ، وَلَمْ يُعْطِ أَجْرَهُ). رواه البخاري.
ذكر المصنف رحمه الله حديث أبي هريرة ( ....... وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيراً فَاسْتَوْفَى مِنْهُ، وَلَمْ يُعْطِ أَجْرَهُ) لبيان إثم من منع العامل أجرته.
(ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) أي: ثلاثة أنفس، وذكر هؤلاء الثلاثة ليس للتخصيص، لأن الله تعالى خصم لجميع الظالمين، ولكن لما أراد التشديد على هؤلاء صرح بهم.
(رَجُلٌ أَعْطَى بِى ثُمَّ غَدَرَ) أي: أعطى يمينه بي، أي عاهد عهداً وحلف عليه بالله ثم نقضه.
(وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ) أي: باع إنساناً على أنه عبد مع أنه في الواقع ليس رقيقاً وإنما هو حر فأكل ثمنه.
(وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيراً فَاسْتَوْفَى مِنْهُ) أي: فحصل من الأجير على العمل الذي استأجره من أجله.
(وَلَمْ يُعْطِ أَجْرَهُ) أي: لم يعطه عوضه وأجرته مقابل هذا العمل.
فهذا الحديث دليل على تحريم أكل أجرة العامل وعدم إعطائها إياه بعد استيفاء العمل، وهذا من كبائر الذنوب.
والجعالة أوسع من الإجارة، لأنها تجوز على أعمال القرب، ولأن العمل فيها يكون معلوماً ومجهولاً، ولأنها عقد جائز بخلاف الإجارة.
هذا ضابط فقهي (الجعالة أوسع من الإجارة)، والفر ق بين الجعالة والإجارة في أمور:
أولاً: أن الجعالة تجوز على أعمال القرب بخلاف الإجارة.
القرب جمع قُربة: وهو ما يتقرب به إلى الله تعالى كالأذان وتعليم القرآن والحج ونحوها.
لو قال شخص من حج عن ميتي فله ألف (هذه جعالة).
أما الإجارة فلا تجوز على أعمال القرب، لأن الأصل أن أعمال القرب لا تقع إلا قربة لله تعالى وأخذ الأجرة عليها ينافيها.
فلو أجرة شخصاً يؤذن بالمسجد بمائة ريال، فإن هذا لا يجوز.
ثانياً: أن العمل في الجعالة قد يكون معلوماً وقد يكون مجهولاً، وفي الإجارة لابد أن يكون معلوماً.
مثال في الجعالة: من رد بعيري فله ألف ريال (هنا العمل - وهو رد البعير - مجهول) مثال آخر: من يبني لي هذا الجدار فله ألف ريال (هنا العمل - وهو بناء الجدار - معلوم).
أما في الإجارة فلابد أن يكون العمل معلوماً.
ثالثاً: أن الجعالة عقد جائز بخلاف الإجارة فإنها عقد لازم.
فالإجارة عقد لازم من الطرفين، لقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) وقال صلى الله عليه وسلم (المسلمون على شروطهم)، وأما الجعالة فهي عقد جائز، لايلزم بالشروع فيه.
وقد سبق أن العقود تنقسم إلى 3 أقسام:
عقد لازم من الطرفين: (وهو الذي لا يمكن فسخه إلا بسبب شرعي أو تراض من الطرفين.
كالبيع والإجارة.
عقد جائز من الطرفين. (والعقد الجائز هو الذي يملك كل واحد من المتعاقدين فسخه بدون رضا الآخر ولا إذنه): كالوكالة والجعالة.
عقد لازم من طرف واحد: كالرهن.
كما تقدم بخلاف الإجارة.
رابعاً: من الفروق أن المدة في الجعالة لا يشترط العلم بها، أما بالنسبة للإجارة فلا بد أن تكون المدة معينة فلا يقول: استأجرت منك هذه الدار بالف ويسكت، لابد من تحديد مدة تنتهي بها الإجارة
م/ وتجوز إجارة العين المؤْجَرة لمن يقوم مقامه لا بأكثر منه ضرراً.
يعني: لو استأجرتُ منك بيتاً لمدة خمس سنوات، وسكنت فيه لمدة سنة وانتهى غرضي منه، يجوز أن
أؤجر هذا البيت لشخص لمدة أربع سنوات.
• يجوز أن أؤجرها بأكثر من أجرة الأصل، وهذا مذهب جماهير العلماء، لعموم الأدلة القاضية بجواز التأجير والإجارة، ولأن الأصل في العقود الصحة.
• لكن ذكر المصنف رحمه الله أنه لا يجوز أن يؤجرها لشخص أكثر منه ضرراً.
مثال: لو استأجرها شخص للسكنى ثم أجرها على آخر لتكون مستودع له فهذا لا يجوز، لأن المستودع أكثر ضرراً.
م/ ولا ضمان فيهما بدون تعد ولا تفريط.
أي: لا يضمن المستأجر ما تلف بيده بدون تعد ولا تفريط، لأنه أمين (استلم العين بإذن من صاحبها) فلا يضمن إلا إذا تعدى وفرط.
مثال: استأجرت شخصاً يسقي لي أرضي، فبدأ بالعمل وأخذ الحراثة يحرث بها، فانكسرت الحراثة، فإنه لا يضمن لأنه لم يفرط ولم يتعد.
م/ وفي الحديث (أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه) رواه ابن ماجه.
ذكر المصنف رحمه الله حديث ابن عمر (أعطوا الأجير أجره ...... ) ليستدل به على وجوب المبادرة بإعطاء الأجير أجرته فور انتهائه من عمله الذي استؤجر عليه، وعدم تأخيرها أو المماطلة في أدائها وذلك لأمرين:
أولاً: أن هذا العامل لم يعمل هذا العمل إلا من أجل الحاجة لهذه الأجرة.
ثانياً: أن نفسه تائقة إلى أخذ عوض عمله وجهده.
وقوله في الحديث (قبل أن يجف عرقه) كناية عن سرعة إعطائه حقه وعدم تأخيره.
باب اللقطة واللقيط
تعريف اللقَطَة:
هي المال يوجد بالطريق ونحوه لا يعرف صاحبه.
وشرعاً: مال ضل عن صاحبه.
واللقيط: هو طفل ضل لا يعرف نسبه ولا رقه، نُبِذ.
لا يعرف نسبه: لأنه لو عرف نسبه ليس بلقيط.
ولا رقه: لأنه إذا علمنا رقه فليس بلقيط، لأنه مال فيكون لبيت مال المسلمين.
م/ وهي على ثلاثة أضرب.
أي: إن اللقطة باعتبار الشيء الملقوط هل يملك أو لا؟ وهل يُعرّف أو لا؟ ثلاثة اضرب:
م/ ما تقل قيمتُه، كالسوط والرغيف ونحوهمِا، فيُملك بلا تعريف.
هذا هو الضرب الأول، وهو ما تقل قيمته، ولا تتبعه همة أوساط الناس، أي لا يهتم الناس إذا فقد.
ومثّل المصنف رحمه الله لهذا الضرب بالسوط والرغيف، ومثل ذلك القلم إذا كان رخيصاً كقلم الرصاص، فهذا النوع يملك بلا تعريف، أي يملكه واجده بمجرد التقاطه، ويباح له الانتفاع به، ولا يحتاج إلى تعريف.
لحديث أنس. (أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بتمرةٍ في الطريق، فقال: لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها) رواه البخاري ومسلم.
فهذا دليل على أن التمرة ونحوها مما لا تتبعه همة أوساط الناس، إذا وجدها الإنسان ملقاة في الطريق يأخذها ويأكلها إن شاء، لأنه صلى الله عليه وسلم ذكر أنه لم يمتنع من أكلها إلا تورعاً، خشية أن تكون من الصدقة التي حرمت، لا لكونها مرمية في الطريق فقط، مما يدل على أنه ليس لها حكم اللقطة.
قال الحافظ ابن حجر: قوله (لأكلتها) ظاهر في جواز أكل ما يوجد من المحقرات ملقى في الطرقات، لأنه صلى الله عليه وسلم ذكر أنه لم يمتنع من أكلها إلا تورعاً لخشية أن تكون من الصدقة التي حرمت عليه، لا لكونها مرمية في الطريق فقط، فلو لم يخش ذلك لأكلها، ولم يذكر تعريفاً، فدل على أن مثل ذلك يملك بالأخذ ولا يحتاج إلى تعريف.
قال في الشرح: لا نعلم خلافاً بين أهل العلم في إباحة اليسير والانتفاع به.
• لكن يشترط في هذا القسم أن لا يكون عالماً بصاحبه.
م/ الضوال التي تمتنع من صغار السباع، كالإبل، فلا تملك بالالتقاط مطلقاً.
صغار السباع: كالذئب والثعلب ونحوها.
هذا الضرب الثاني: أي: أن ما يمتنع من صغار السباع لا يملك بالتقاطه، لأنه يحرم أخذه، ولو عرّفه لم يملكه، لأنه متعدٍ بأخذه.
والذي يمتنع من صغار السباع: إما لضخامته {كالإبل، والخيل، والبقر، والبغال} ، وإما لطيرانه {كالطيور} ، وإما لسرعة عدوها {كالظباء} ، وإما لدفعها عن نفسها بنابها {كالفهد} .
والدليل على تحريم أخذه حديث زيد بن خالد - الذي سيذكره المصنف بعد قليل - أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن ضالة الإبل؟ فقال: مالك ولها، معها سقاؤها وحذاؤها، ترد الماء، وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها).
• يستثنى من ذلك ما إذا وجد الضالة في مهلكة لا ماء فيها ولا مرعى أو أرض مسبغة، أو قريباً من دار الحرب يخاف عليها من أهلها، فإنه يردها أو يأخذها بقصد الإنقاذ لا الالتقاط، ولا ضمان عليه، لأن فيه إنقاذها من الهلاك، أشبه تخليصها من حريق ونحوه.
م/ والثالث: ما سوى ذلك.
أي: الضرب الثالث من أقسام اللقطة ما عدا ما ذكر من القسمين المتقدمين وهما: ما تقل قيمته، وضوال الحيوان.
فيدخل في هذا القسم ما يهتم به الناس مما ليس بحيوان كالدراهم والأمتعة، ويدخل فيه ما لا يمتنع من صغار السباع مثل الغنم والعجاجيل.
هذا القسم، قال فيه المصنف رحمه الله:
م/ فيجوز التقاطه.
أي: هذا القسم يجوز أخذه.
لكن هل الأفضل الالتقاط أم عدمه؟ اختلف العلماء في ذلك.
القول الأول: الأفضل الالتقاط.
وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي.
واستدلوا بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ( .... وقد جاء في هذا الحديث أسئلة عن الضالة، وفيه قال صلى الله عليه وسلم: وسئل عن الضالة فقال: لك أو لأخيك أو للذئب، اجمعها إليك حتى يأتيَ باغيها) رواه أحمد
فقالوا: فقوله (اجمعها .. ) دليل على استحباب التقاط القطة.
وقالوا: إن الواجب على المسلم حفظ مال أخيه، وفي التقاط اللقطة حفظ لمال أخيك.
القول الثاني: الترك الأفضل.
وهذا قول الإمام أحمد وجماعة من السلف.
قالوا: لأنه إذا التقط اللقطة يكون قد عرضه للحرام، لأنه قد يقصر في حقها وفي تعريفها.
القول الثالث: أنه مخير.
وهذا مذهب المالكية.
لحديث زيد بن خالد - الآتي - فإن ظاهره أن الملتقط مخير.
والراجح التفصيل:
إن أمِنَ من نفسه الخيانة، ووثق بأنه سيحفظها ويعرفها التعريف الشرعي، فالأفضل الالتقاط، لأن في ذلك حفظ مال الغير.
وإن عرف من نفسه الخيانة، أو سيعجز عن تعريفها أو سيفرط فيها فالأولى هنا الترك، لما في ذلك من تضييع مال غيره وتعريض نفسه للوقوع في الحرام.
م/ ويملكه إذا عرّفه سنة كاملة.
أي: يملك هذه اللقطة بعد تعريفها سنة كاملة، فيجب أن يعرفها وينشدها سنة كاملة.
• فالتعريف لمدة سنة واجب: لقوله صلى الله عليه وسلم (ثم عرفها سنة).
• والتعريف: هو أن ينادي في الموضع الذي وجدها فيه، وفي مجامع الناس.
• وكيفيته: في الأسبوع الأول من التقاطها ينادي كل يوم، لأن مجئ صاحبها في ذلك الأسبوع أحرى، ثم بعد الأسبوع ينادي عليها على حسب عادة الناس في ذلك.
قال ابن قدامة: إذا ثبت هذا، فإنه يجب أن تكون هذه السنة تلي الالتقاط، وتكون متوالية في نفسها، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بتعريفها حين سئل عنها، والأمر يقتضي الفور، ولأن القصد بالتعريف وصول الخبر إلى صاحبها، وذلك يحصل بالتعريف عقيب ضياعها متوالياً، لأن صاحبها في الغالب إنما يتوقعها ويطلبها عقب ضياعها، فيجب تخصيص التعريف به.
• ويذكر الملتقط جنسها لا غير، فيقول من ضاع له ذهب مثلاً، من ضاع له ثياب.
لأنه لو وصفها لعلم من يسمعها فلا تبقى دليلاً على ملكها.
• فإذا عرف سنة كاملة فإنه يمتكلها قهراً.
سواء كان الملتقط غنياً أو فقيراً، لكنه ملك مقيد بما إذا جاء صاحبها.
لحديث زيد ( .. ثم عرفها سنة، فإن لم تعرف فاستنفقها ولتكن وديعة .. ).
• لكن يجب عليه قبل أن يتصرف فيها ضبط صفاتها، بحيث لو جاء صاحبها في أي وقت ووصفها ردها عليه إن كانت موجودة أو ردّ بدلها إن لم تكن موجودة، لأن ملكه لها مراعى يزول بمجيء صاحبها.
ثم ذكر المصنف رحمه الله حديث زيد بن خالد ليستدل به على أحكام اللقطة.
م/ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِىِّ أَنَّهُ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَهُ عَنِ اللُّقَطَةِ فَقَالَ «اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلاَّ فَشَأْنَكَ بِهَا» . قَالَ فَضَالَّةُ الْغَنَمِ قَالَ «لَكَ أَوْ لأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ» . قَالَ فَضَالَّةُ الإِبِلِ قَالَ «مَا لَكَ وَلَهَا مَعَهَا سِقَاؤُهَا وَحِذَاؤُهَا تَرِدُ الْمَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا) متفق عليه.
معاني الكلمات:
اعْرِفْ عِفَاصَهَا: العفاص هو الوعاء الذي تكون فيه النفقة.
وَوِكَاءَهَا: الوِكاء هو الخيط الذي يشد به العفاص.
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بمعرفة ذلك لأمرين:
الأمر الأول: لأجل أن يميزها من بين ماله، فلا تلتبس بماله.
الأمر الثاني: لأجل أن يعرف صدق واصفها من كذبه.
ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً: هذا أمر بالتعريف، وسبق معنى التعريف.
فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا: جاء في رواية (فأدِّها إليه) وذلك بعد معرفة صفاتها.
وَإِلاَّ فَشَأْنَكَ بِهَا: أي: وإن لم يأت صاحبها فتصرف فيها.
قَالَ فَضَالَّةُ الْغَنَمِ: أي: ما حكمها؟ الضالة: أكثر ما يطلق على الحيوان، والضال: المال الضائع.
قَالَ: لَكَ أَوْ لأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ: أو هنا للتقسيم والتنويع، أي أن الشاة لا تخرج عن هذه الأقسام الثلاثة، فهي إما لك: أيها المخاطب تأخذها وتنتفع بها. أو لأخيك: المراد أخوة الدين.
قَالَ فَضَالَّةُ الإِبِلِ: أي ما حكمها؟
قَالَ: مَا لَكَ وَلَهَا: هذا استفهام إنكاري، والمعنى: مالك ولها، لماذا تأخذها والحال أنها مستقلة بأسباب تمنعها من الهلاك، بدليل قوله (معها سقاؤها وحذاؤها ...... ). ويدل على أن هذا الاستفهام إنكاري ما جاء في رواية ( ..... فغضب النبي صلى الله عليه وسلم حتى احمرت وجنتاه أو احمر وجهه فقال: مالك ولها).
مَعَهَا سِقَاؤُهَا: السقاء هو جوفها الذي يحمل الماء.
وَحِذَاؤُهَا: الحذاء هو خفها.
قال العلماء: وفي هذا تنبيه من النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن الإبل غير محتاجة إلى الحفظ بما ركب الله في طباعها من الجلادة على العطش وتناول الماء بغير تعب لطول عنقها وقوتها على المشيء.
حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا: أي صاحبها الذي أضلها.
• الحديث دليل على اباحة التقاط اللقطة وأخذ الضالة ما لم تكن إبلاً، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أجاب السائل على سؤاله وأمره بمعرفة العفاص والوكاء، ولو كان الالتقاط منهياً ما أجابه النبي صلى الله عليه وسلم.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
• الحديث دليل على أن واجد اللقطة مطالب بمعرفة جميع صفاتها.
• الحديث دليل على وجوب تعريف اللقطة سنة كاملة كما سبق.
• إذا عرفها اللاقط حولاً، فلم يعرف مالكها صارت من مال الملتقط حكماً [أي قهراً] سواء كان غنياً أو فقيراً.
لقوله صلى الله عليه وسلم: (فإن لم تعرف فاسْتنْفقها) وفي رواية: (ثم عرفها سنة، فإذا جاء صاحبها وإلا شأنك بها). أي إن جاء صاحبها فأدها إليه، وإن لم يجيء فشأنك بها.
وفي رواية: (فإن جاء صاحبها وإلا استمتع بها).
• واختلف العلماء فيما إذا تصرف في اللقطة بعد تعريفها سنة، ثم جاء صاحبها، هل يضمنها له أم لا؟
الجمهور على وجوب الرد إن كانت العين موجودة، أو البدل إن كانت استهلكت.
لقوله صلى الله عليه وسلم في رواية: (ولتكن وديعة عندك).
وجاء عند مسلم: (فاعرف عفاصها ووكاءها ثم كلها، فإن جاء صاحبها فأدها إليه).
قال ابن حجر: فإن ظاهر قوله: (فإن جاء صاحبها
…
) بعد قوله: (كلها) يقتضي وجوب ردها بعد أكلها، فيحمل على رد البدل.
قال ابن حجر: وأصرح من ذلك رواية أبي داود: (فإذا جاء باغيها فأدها إليه، وإلا فاعرف عفاصها ووكاءها ثم كلها فإن جاء باغيها فأدها إليه) فأمر بأدائها إليه قبل الإذن في أكلها وبعده، وهي أقوى حجة للجمهور.
والحديث دليل أيضاً على أنه يدفعها إليه من غير إشهاد ولا بينة، لأن وصفها يكفي، ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمر بذلك.
• تصرف الملتقط في اللقطة: له أحوال:
أولاً: أثناء الحول، لا يجوز أن يتصرف فيها، لأنها ليست ملكاً له.
ثانياً: بعد الحول، فله أن يتصرف فيها، لكن بعد أن يعرف صفاتها، من أجل إذا جاء صاحبها دفعها إليه.
• إذا جاء من يدعي اللقطة، وعرف صفاتها، فإنها تدفع إليه دون بينة.
لأن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق وقال: (فإذا جاء أحد يخبرك بعددها ووعائها ووكائها، فادفعها إليه).
قال ابن المنذر: " هذا الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبه أقول ".
• أجرة التعريف على ربّ اللقطة.
هذا القول هو الصحيح، لأن التعريف من مصلحته.
اللقيط
تعريفه: هو طفل ضل لا يعرف نسبه ولا رقه نبذ.
لا يعرف نسبه: لأنه لو عرف نسبه ليس بلقيط.
ولا رقه: لأنه إذا علمنا رقه فليس بلقيط، لأنه مال فيكون لبيت مال المسلمين.
م/ والتقاط اللقيط، والقيام به: فرض كفاية.
أي: إن أخذ اللقيط والقيام عليه فرض كفاية (إذا قام به من يكفي سقط الإثم عن الباقي).
لأنه آدمي محترم.
قال في المغني ( .. وجوبه على الكفاية إذا قام به واحد سقط عن الباقين، فإن تركه الجماعة أثموا إذا علموا فتركوه مع إمكان أخذه).
• وحكم اللقيط حر مسلم.
في قول عامة أهل العلم.
لأن الأصل في الآدميين الحرية.
مسلم: وهذا إذا كان في دار إسلام خالصة أو بالأكثرية.
لقوله صلى الله عليه وسلم (كل مولود يولد على الفطرة .. ) متفق عليه.
(واختلف إن وجد في دار كافرة: فقيل: يعتبر كافر تبعاً للدار، وقيل: يعتبر مسلم.
والراجح: والله أعلم).
م/ فإن تعذر بيت المال فعلى من علم بحاله.
كيف ينفق على اللقيط؟
إن وجد معه شيء صرف عليه منه، وكذلك ما وجد منه قريباً أو متصلاً به.
فإن لم يكن معه شيء من ذلك فإنه ينفق عليه من بيت المال. (كما هو الحال الآن).
فإن تعذر بيت المال فعلى من علم بحاله من المسلمين، لأنه طفل مسلم يجب حفظه ورعايته.
• وتكون حضانته لواجده بشرط أن يكون أميناً.
لأن عمر أقر اللقيط في يد أبي جميلة حين علم أنه رجل صالح.
• وميراثه لبيت المال.
وهذا قول أكثر العلماء.
(وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية إلى أن ميراثه لملتقطه لحديث واثلة بن الأسقع. قال: قال رسول الله: المرأة تحوز ثلاثة مواريث: عتيقها ولقيطها وولدها الذي لا عنت عليه) رواه أبو داود.
باب المسابقة والمغالبة.
المسابقة والسبْق - بسكون الباء - بمعنى واحد وهو: المسابقة وبلوغ الغاية قبل غيره.
والسبَق - بفتح الباء - العوض والجعل، وهو ما يتراهن عليه المتسابقون، فمن سبق أخذه.
م/ وهي ثلاثة أنواع.
أي: أن المسابقات والمغالبات بالنسبة إلى أخذ العوض ثلاثة أنواع.
م/ نوع يجوز بعوض وغيره: وهي مسابقة الخيل والإبل والسهام.
هذا النوع الأول، وهو ما يجوز بعوض وبغير عوض وهي المسابقة على الخيل والإبل والسهام، فهي يجوز فيها العوض ومن غير عوض.
لحديث أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا سبَق إلا في خف، أو نَصْلٍ، أو حافر) رواه أحمد وأبو داود.
لا سبَق: بفتح الباء وهو العوض ما يجعل من الجوائز للسابق.
ومعنى الحديث: أي لا أخذ عوض إلا في هذه الثلاثة، وأنه اذا حصل سباق في غير هذه الثلاثة فإنه يجوز لكن بدون عوض، ويكون أكل المال بهذه الثلاثة مستثى من جميع أنواع المغالبات.
إلا في خف: هذا كناية عن الإبل لانها هي ذات الخف.
أو نَصْل: هي حديدة السهم والرمح.
أو حافر: كناية عن الخيل لأنها هي ذات الحافر.
• وإنما جاز العوض في هذه الثلاثة، لأن في بذل الجعل عليها ترغيب في الجهاد وتحريض عليه.
• أما أخذ العوض في المسابقة على غير هذه الثلاثة (كالبغال والحمير) ففيها قولان:
القول الأول: المنع.
وهذا مذهب المالكية والحنابلة وقول ابن حزم وكثير من السلف والخلف.
لان غير هذه الثلاثة لا يساويها فيما تضمنته من الفروسية، وتعلم أسباب الجهاد.
ولأن هذه الثلاثة هي التي عهدت عليها المسابقة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يسابق قط على بغل ولا على حمار مع وجودها عندهم.
القول الثاني: الجواز. في كل ذات حافر من البغال والحمير.
وهذا مذهب الحنفية والشافعية.
لأنها ذوات حوافر، وقد يحتاج إلى سرعة سيرها ونجائها، لأنها تحمل أثقال العساكر، وتكون معها في المغازي.
والقول الأول أرجح.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
• اشترط جمهور العلماء وجود محلل إذا كان الجعل من الطرفين، لإخراج العقد من صورة القمار.
والمحلل: اسم فاعل من حلل: جعله حلالاً، لأنه حلل الجعل بدخوله، والمقصود به هنا: الفرس الثالث من خيل الرهان، وذلك بأن يضع الرجلان رهنين بينهما، ثم يأتي رجل سواهما فيرسل معهما فرسه، ولا يضع رهناً.
واستدلوا بحديث أبي هريرة. قال: قال صلى الله عليه وسلم (من أدل فرساً بين فرسين - وهو لا يأمن أن يسبق - فلا بأس، وإن أمن فهو قمار) رواه أبو داود (وهو حديث ضعيف).
والصحيح أنه لا يشترط وجود محلل وهذا اختيار ابن تيمية وابن القيم، لأمور:
أولاً: عدم ثبوت الحديث في ذلك.
ثانياً: لو كان المحلل شرطاً لصرح به.
وعلى هذا فإخراج الجعل من الطرفين قمار في الأصل، ولكنه في هذه المسألة ليس قماراً محرماً، بل هو مستثنى منه، لأن فيه مصلحة، وهي التمرن على آلات القتال، وهي مصلحة عظيمة تنغمر فيها المفسدة التي تحصل بالميسر.
• اختلف العلماء في المسابقات العلمية فجمهور العلماء على المنع للحديث (لا سبق
…
) فالحديث فيه الحصر، وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم إلى جوازه، لقيام الدين بالجهاد والعلم،
قال ابن القيم: فإذا جازت المراهنة على آلات الجهاد، فهي في العلم أولى بالجواز.
• القمار: قيل: كل لعب على مال يأخذه الغالب من المغلوب، أو هو الذي لا يخلو أن يكون الداخل فيه غانماً إن أخذ أو غارماً إن أعطى.
م/ ونوع يجوز بلا عوض ولا يجوز بعوض وهي: جميع المغالبات بغير الثلاثة المذكورة.
هذا النوع الثاني وهو ما يجوز بلا عوض ويحرم بعوض، وهذا هو الأصل، وهو الأغلب، ويدخل في هذا المسابقة على الأقدام والمصارعة وحمل الأثقال، فهذا يحرم أخذ المال فيه حتى لا يتخذ عادة وصناعة ومتجراً، وأبيح بدون مال لما فيه من إجمام للنفس وترويح لها، وتقوية للبدن.
عن عائشة قالت (كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فسابقته على رجلي، فلما حملت اللحم سابقته فسبقني فقال: هذه بتلك السبقة) رواه أبوداود.
وعن ركانة (أنه صارع النبي صلى الله عليه وسلم فصرعه النبي صلى الله عليه وسلم رواه أبوداود.
وهذا النوع لا يجوز بعوض من الطرفين: لأن في بذل السبق من المسابقين قمار، لأن كل واحد من المتسابقين يجوز أن يذهب ماله إلى صاحبه.
• لو كان الجعل من الإمام فإنه يجوز من غير خلاف.
قال النووي: فأما المسابقة بعوض فجائزة بالإجماع لكن بشرط أن يكون العوض من غير المتسابقين.
وقال الصنعاني: فإذا كان الجعل من غير المتسابقين كالإمام يجعله للسابق حل ذلك بلا خلاف.
ويدل ذلك حديث ابن عمر (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل وأعطى السابق) رواه أحمد.
• إذا كان الجعل من أحد المتسابقين وصورته: أن يقول أحد المتسابقين للآخر: سابقني فإن سبقتني فأعطيك سبقاً وجعْلاً مقداره كذا، ولا يُخرج الآخر شيئاً من ماله البتة.
وهذه الصورة جمهور العلماء على جوازها لانتفاء شبهة القمار.
م/ وبغير النرد والشطرنج فتحرم مطلقاً وهو النوع الثالث.
هذا النوع الثالث من المسابقات: وهو ما لا يجوز مطلقاً لا بعوض ولا بغير عوض.
من أمثلتها:
النرد.
فإذا كان اللعب بها على مال للغالب فهي حرام بالاتفاق، وإذا كان بغير مال فحرام عند جماهير العلماء.
لحديث بريدة. أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من لعب بالنردشير فكأنما غمس يده في لحم خنزير ودمه) رواه مسلم.
قال النووي: هذا الحديث حجة للشافعي والجمهور في تحريم اللعب بالنرد.
ولحديث أبي موسى. قال: قال صلى الله عليه وسلم (من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله) رواه أبوداود.
قال بعض العلماء: أخبر أن من لعب بها عاص لله، وذلك يقتضي النهي عن اللعب، وهذا عام في اللعب بها على أي وجه كان من قمار أو غيره.
واللعب بها يجر إلى مفاسد:
منها: المقامرة بها.
ومنها: أن لعبها ولو بغير مال يفضي إلى إِلف النفوس لها والمداومة عليها.
ومنها: أن النفوس مجبولة على حب الغلبة والرفعة، وكثرة المغالبة تؤدي إلى التحاسد والتباغض والتظالم.
ومنها: قالت طائفة من العلماء بأن أصل وضعه كان مبنياً على نفي القدر وإحياء سنة المجوس.
يقول ابن تيمية: قيل: الشطرنج مبني على مذهب القدر، والنرد مبني على مذهب الجبر، فإن صاحب النرد يرمي ويحسب بعد ذلك، وأما صاحب الشطرنج فإنه يقدر ويفكر ويحسب حساب النقلات قبل النقل.
• الشطرنج:
إذا كان على مال فمحرم بالإجماع، وأما بغير مال فجماهير العلماء على تحريمها.
وقد جاءت أحاديث في تحريمها لا يصح منها شيء.
لكن صح عن علي أنه مر بقوم يلعبون الشطرنج فقال: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون.
وعن مالك قال (بلغنا عن ابن عباس أنه ولي مال يتيم فأحرقها).
قال الذهبي: ولو كان اللعب بها حلالاً لما جاز له أن يحرقها لكونها مال اليتيم، ولكن لما كان اللعب بها حراماً أحرقها، فتكون من جنس الخمر إذا وجد في مال اليتيم وجبت إراقته.
وقياساً على النرد.
باب الغصب
م/ وهو الاستيلاء على مال الغير بغير حق.
ذكر المصنف رحمه الله تعريف الغصب: وهو عند الفقهاء: هو الاستيلاء على حق الغير قهراً بغير حق.
الاستيلاء: أي: إن الغصب تصرف فعلي، يقوم على الاستيلاء الذي ينبني على القهر والغلبة.
قهراً: خرج به لو استولى عليه خلسة أو سرقة، فإن هذا لا يعد غصباً اصطلاحاً.
فالسارق: هو من يأخذ المال خفية، والمختلس: هو من يأخذ الشيء جهاراً بحضرة صاحبه في غفلة منه.
بغير حق: خرج به الاستيلاء بحق، كاستيلاء الحاكم على مال المفلس ليوفي الغرماء.
م/ وهو محرم لحديث (من اقتطع شبراً من الأرض طوقه الله به يوم القيامة من سبع أرضين) متفق عليه.
أي: أن حكم الغصب حرام.
قال تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل).
وقال صلى الله عليه وسلم (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا).
وقال صلى الله عليه وسلم (من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه من سبع أرضين) متفق عليه.
وأجمع العلماء على تحريم الغصب في الجملة. (قاله ابن قدامة).
م/ وعليه ردهُ.
أي: أن الواجب في المال المغضوب، أنه يلزم الغاصب رده إن كان باقياً وقَدِر على رده.
قال ابن قدامة: بغير خلاف نعلمه.
• ويجب رده بزيادته سواء كانت متصلة أو منفصلة.
مثال الزيادة المتصلة: غصب عناقاً صغيرة ثم كبرت وسمنت، فيجب عليه أن يردها بزيادتها.
مثال الزيادة المنفصلة: غصب شاة حاملاً فولدت عنده، فيجب عليه أن يردها بزيادتها.
• وكذلك يلزمه نقيضه:
فلو أن هذه البهيمة هزلت وقل لحمها وجب عليه أرشها فيضمن النقص.
م/ ولو غرم أضعافه.
أي: يجب رده ولو غرم أضعاف، فلو لم يتمكن من رده إلا أن يخسر الغاصب قيمته عشر مرات، فإنه يجب رده ولو غرم.
لقوله صلى الله عليه وسلم (ليس لعرق ظالم حق) رواه أحمد.
م/ وعليه نقصه.
أي: وإن كان المغصوب حصل له نقص عند غاصبه فعليه أرش النقص، فإذا غصب أرضاً وغرس فيها فعليه أرش نقصها إن نقصها الغرس.
ومثل ذلك: ثوب تخرق، وبناء تهدم، وإناء تكسّر.
ومثل ذلك: لو غصب أمَة شابة وبقيت عنده لمدة شهرين وأتاها ما يوحشها فابيض شعرها، كانت بالأول تساوي: 100 ريال، والآن تساوي: 50 ريالاً، فإنه يلزمه ضمان الخمسين، لأنها نقصت تحت استيلاء الغاصب، فوجب عليه الضمان، ولو ماتت عليه الضمان أيضاً.
لأنه نقْص حصل في يد الغاصب فوجب ضمانه.
• ما نقص بسعر هل يضمن؟
مثال: غصب شاة تساوي 200 ريال، وبقيت عنده ولم يلحقها نقص في ذاتها ولا عيب، ولكن القيمة نقصت فصارت تساوي: 100، فردها الغاصب على صاحبها، فهل يضمن المائة؟
قيل: لا يضمن.
لأنه رد العين بذاتها لم تتغير.
وقيل: يضمن، واختاره ابن تيمية.
وهذا القول هو الصحيح.
م/ وأجرتُه مدة بقائه بيده.
أي: وإن غصب شيئاً له أجرة، كالعقار، والدواب ونحوها فعليه أجرة مثله، سواء استوفى المنافع أو تركها حتى ذهبت.
لأنها تلفت في يده العادية، فكان عليه عوضها.
فلو غصب أرضاً فعليه أجرتها منذ غصبها إلى وقت تسليمها.
م/ وضمانه إذا تلف مطلقاً.
أي: ويجب ضمانه إذا تلف مطلقاً، سواء تعدى أو فرط أو لم يتعدى ولم يفرط، لأن يده يد ظالم.
فإن كان مثلياً وجب ضمانه بمثله، وإن لم يكن له مثل ففي قيمته.
• المثلي: ما له نظير أو مقارب من معدود أو مكيل أو موزون أو مصنوع أو غير ذلك (وهذا قول ابن تيمية).
بدليل حديث أَنَس رضي الله عنه (أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ، فَأَرْسَلَتْ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ خَادِمٍ بِقَصْعَةٍ فِيهَا طَعَامٌ فَضَرَبَتْ بِيَدِهَا، فَكَسَرَتِ الْقَصْعَةَ، فَضَمَّهَا، وَجَعَلَ فِيهَا الطَّعَامَ وَقَالَ «كُلُوا». وَحَبَسَ الرَّسُولَ وَالْقَصْعَةَ حَتَّى فَرَغُوا، فَدَفَعَ الْقَصْعَةَ الصَّحِيحَةَ وَحَبَسَ الْمَكْسُورَةَ) رواه البخاري.
ولأن الضمان بالشبيه والمقارب يجمع الأمرين وحصول مقصود صاحبه.
مثال: فناجين القهوة يضمنها بفناجين قهوة مثلها.
فإذا لم يكن ضمانه بالمثلي ضمنه بقيمته.
م/ وزيادته لربه.
أي: وزيادة المغصوب لصاحبها وهو المغصوب منه كما سبق.
فلو غصب عناقاً صغيرة ثم كبرت وسمنت، فيجب عليه أن يردها بزيادتها.
فلو غصب شاة حاملاً فولدت عنده، فيجب عليه أن يردها بزيادتها.
م/ وإن كانت أرضاً فغرس أو بنى فيها فلربه قلعُه لحديث (ليس لعرق ظالم حق) رواه أبوداود.
أي: من غصب أرضاً فبنى فيها أو غرس زرعاً ألزِم قلع البناء والغرس.
لحديث عروة بن الزبير قال (قال رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: إن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أرض غرَسَ أحدهما فيها نخلاً، والأرض لآخر، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأرض لصاحبها، وأمر صاحب النخل أن يُخرج نخلَه منها، وقال: ليس لعرقٍ ظالم حق) رواه أبوداود وحسنه الحافظ ابن حجر.
قال أبو عبيد: فهذا الحديث مفسر للعرق الظالم، وإنما صار ظالماً لأنه غرس في الأرض وهو يعلم أنها ملك لغيره، فصار بهذا الفعل ظالماً غاصباً، فكان حكمه أن يقلع ما غرس.
• أما إذا زرع فيها الغاصب: خُيِّرَ مالكها بين أخذ الزرع ويدفع نفقته للغاصب، وبين تركه إلى الحصاد بأجرة مثله، لأن الغاصب شغلها بماله، فملَك صاحبها أخذ الأجرة.
والقول بالتفريق بين الغرس فيقلع، والزرع فيبقى هو الأظهر من قولي أهل العلم، لأن الزرع مدته تطول ولا يعلم متى ينقلع من الأرض، بخلاف الزرع.
م/ ومن انتقلت إليه العين من الغاصب وهو عالم فحكمه حكم الغاصب.
أي: لو اشترى شخص بيتاً وهو يعلم أنه مغصوب، فهو شريك للغاصب، لأنه يعتبر شاركه في الغصب، لأن هذه العين ليس ملكاً له وإنما هي مغصوبة.
باب العارية
م/ العارية: إباحة المنافع.
ذكر المصنف رحمه الله تعريف العارية، هي عند الفقهاء: دفع عين لمن ينتفع بها مجاناً ويردها.
قوله (لمن ينتفع بها) يخرج البيع، لأنه تمليك.
قوله (مجاناً) يخرج به الإجارة، لأنها تمليك المنفعة بمال.
قوله (ويردها) فيه إشارة إلى أن العارية إنما تكون حال حياة المعير، فيخرج بذلك الوصية بالمنفعة، لأنها تمليك بعد الوفاة.
من أمثلة العارية: أن يعيره كتاباً ليقرأ فيه، أو شيئاً من متاع البيت ليستخدمه، أو سيارة يركبها.
• وهي مشروعة بالكتاب والسنة والإجماع.
قال تعالى (ويمنعون الماعون) أي المتاع يتعاطاه الناس بينهم، فقد ذكر جمهور المفسرين أن المراد بـ (الماعون) ما يستعيره الجيران بعضهم من بعض من الأواني أو الأمتعة، قال ابن مسعود (كنا نعد الماعون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عارية الدلو والقدر) رواه أبو داود.
وقال تعالى (العارية مؤداة) رواه أبوداود.
وعن أنس قال (كان فزع بالمدينة، فاستعار النبي صلى الله عليه وسلم فرساً من أبي طلحة .... ) متفق عليه.
(واستعار النبي صلى الله عليه وسلم من صفوان بن أمية أدراعاً) رواه أبوداود.
وأجمع المسلمون على جواز العارية.
(أما بالنسبة للمعير فهي مباحة).
• تجوز إعارة كل عين ينتفع بها منفعة مباحة.
(كالدار، والعبيد، والجواري، والثياب، والحلي للبس).
(ينتفع) فلا يجوز إعارة ما لا نفع فيه.
(مباح) فلا يجوز إعارة المحرم مثل آلات اللهو.
ثم ذكر المصنف رحمه الله حكم العارية بالنسبة للمعير.
م/ وهي مستحبة لدخولها في الإحسان والمعروف، قال صلى الله عليه وسلم (كل معروف صدقة).
ذكر المصنف رحمه الله حكم العارية:
بالنسبة للمعير سنة وقربة.
لقوله تعالى (وتعاونوا على البر والتقوى).
وقال تعالى (وأحسنوا إن الله يحب المحسنين).
ولأن فيها عوناً للمسلم، وقضاء حاجته، والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه.
(أما بالنسبة للمستعير فهي مباحة).
م/ وإن شرط ضمانها ضمنها، أو تعدى أو فرط ضمنها وإلا فلا.
ذكر المصنف رحمه الله مسألة ضمان العارية، فذكر أن العارية تضمن في حالتين:
الحالة الأولى: إن شرط المعير ضمان العارية فإنها تضمن.
لقول الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود).
ولقوله تعالى (وأوفوا بالعهد).
ولقوله صلى الله عليه وسلم (المسلمون على شروطهم).
ولقوله صلى الله عليه وسلم لصفوان لما استعار منه دروعاً يوم حنين فقال: أغصب يا محمد؟ قال: (بل عارية مضمونة) رواه أبو داود. د
ومعنى (بل عارية مضمونة) المعنى: أي أستعيرها منك متصفة بأنها مضمونة لا عارية مطلقة عن الضمان، فهو دليل على ضمانها عند الشرط، لأن المستعير تعهد بذلك.
وهذا القول هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية.
الحالة الثانية: إذا فرط أو تعدى.
كأن أعطيه كتاباً ليقرأ فيه، فوضعه في حوش البيت فسرق فإنه يضمن، لأنه فرط فلم يحفظه في حرزه.
لكن لو وضعه في مكان محرز فجاء سارق فسرقه فإنه لا يضمن، لأنه ليس متعدياً ولا مفرطاً.
والدليل على أنه يضمن إذا تعدى أو فرط:
لأنه بتعديه أو تفريطه زال ائتمانه، فصار غير أمين، فيجب عليه الضمان.
وما ذكره المصنف رحمه الله أن العارية لا تضمن إلا بالشرط أو التعدي والتفريط هو القول الراجح، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، واختاره الصنعاني.
وذهب بعض العلماء - وهو المذهب - أن العارية مضمونة مطلقاً سواء فرط وتعدى أو لم يفرط ولم يتعدى واستدلوا بحديث سمرة بن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (على اليد ما أخذت حتى تؤديه) رواه أبو داود
• مؤنة رد العارية على المستعير.
لقوله تعالى (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها).
وقال صلى الله عليه وسلم (أد الأمانة إلى من ائتمنك) رواه أبوداود.
أن هذا المستعير قبض العين لمصلحته الخاصة.
لأن المعير محسن.
أننا لو ألزمنا المعير بموؤنة الرد فيه سد باب العارية.
• لا يجوز للمستعير أن يعير العارية: لأن المستعير يملك الانتفاع.
• ولا يؤجرها: لأن المستعير لا يملك النفع وإنما أذن له بالانتفاع.
باب الوديعة
تعريفها:
لغة: من ودع الشيء إذا تركه، سميت بذلك لأنها متروكة عند المودع.
وشرعاً: اسم للمال المودَع عند من يحفظه بلا عوض.
وعلى هذا فالشرط في الوديعة أن تكون على سبيل التبرع، فخرج بذلك الأجير على حفظ المال.
وهي ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع.
قال تعالى (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها).
وعن أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك) رواه أبوداود.
وأجمع علماء كل عصر على جواز الإيداع والاستيداع.
م/ من أودع وديعة: فعليه حفظها في حرز مثلها.
ذكر المصنف رحمه الله ما الواجب على من أودع عنده وديعة، وأنه يجب عليه:
أولاً: حفظها، ثانياً: في حرز مثلها.
لقال تعالى (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها) ولا يمكن أداؤها إلا بحفظها.
(حرز مثلها) المكان الذي تحفظ فيه عادة. فالغنم مثلاً تحفظ في الأحواش، الذهب في الصناديق.
• إذا دفع المودَع الوديعة لأجنبي فتلفت فإنه يضمن: لأنه خالف المودِع، فإنه أمره أن يحفظها بنفسه ولم يرض لها غيره.
• لكن هل يسن للمودَع قبول الوديعة؟
الجواب: أنه يستحب أن يقبلها إذا علم من نفسه أنه ثقة على حفظها.
لأن في ذلك ثواباً جزيلاً.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( .. والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه) رواه مسلم.
وقال تعالى (وأحسنوا إن الله يحب المحسنين).
ولأن ذلك من باب إعانة المسلم.
م/ ولا ينتفع بها بغير إذن ربها.
أي: أنه يجب على المودَع أن يحفظ الوديعة في حرز مثلها، ولا يجوز أن يستعملها بغير إذن صاحبها.
لأنها أمانة.
وعلى هذا: فإن تلفت عنده بغير تعد ولا تفريط فلا ضمان عليه لأنه أمين، والأمين لا يضمن إلا بتعد وتفريط.
وأما إذا تعدى أو فرط فإنه يضمن.
أمثلة للتعدي والتفريط:
أن يحفظها بدون حرزها، كأن يحفظ الدراهم في السيارة بدلاً من الصندوق، فإنه يضمن، لأنه فرط حيث لم يحفظها في حرز مثلها.
أن يستعملها بغير إذن صاحبها، كأن يستعمل السيارة أو الدابة أو يقرأ الكتاب، فإنه يضمن، لأن فعله هذا تعدٍّ يستوجب الضمان.
أن يتصرف في الوديعة بإجارة أو إعارة أو رهن أو إقراض ونحو ذلك، فإنه يضمن إذا كان بغير إذن المودِع.
باب الشفعة
م/ وهي استحقاق الإنسان انتزاع حصة شريكه من يد من انتقلت إليه ببيع ونحوه.
ذكر المصنف رحمه الله تعريف الشفعة فقال: وهي استحقاق الإنسان انتزاع حصة شريكه من يد من انتقلت إليه ببيع ونحوه.
وهي ثابتة بالسنة والإجماع.
عن جابر. قال (قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة) متفق عليه.
وأجمع العلماء على جواز الشفعة في الجملة، كما حكاه ابن المنذر وغيره.
مثال الشفعة: زيد وعمرو شريكان في أرض، فباع عمرو نصيبه على خالد، فنقول لزيد أن ينتزع نصيب عمرو من خالد بالثمن الذي استقر عليه العقد.
وقوله (ببيع) أي: أن الشفعة تثبت بالبيع، وهذا بالإجماع.
• واختلف العلماء هل تثبت بالهبة.
فقيل: لا تثبت بالهبة لأنها انتقلت بغير عوض مالي.
وهذا مذهب جمهور العلماء.
وقيل: تثبت بذلك.
لأن الضرر حاصل بالشريك الجديد، وهذا أرجح.
م/ وهي خاصة في العقار الذي لم يقسم لحديث جابر قال (قضى النبي صلى الله عليه وسلم في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة) متفق عليه.
ذكر المصنف رحمه الله أن الشفعة خاصة بالعقارات، وهذا لا خلاف فيه، واختلف العلماء في الشفعة للجار على أقوال:
القول الأول: لا تثبت الشفعة للجار.
وهذا قول جمهور العلماء.
لحديث جابر السابق (قضى النبي صلى الله عليه وسلم في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود .... ).
وجه الاستدلال: أن الحديث دل على إثبات الشفعة في غير المقسوم، ونفيها بعد القسمة لوقوع الحدود وتصريف الطرق، والحدود بين الجارين واقعة، والطرق مصروفة، فتكون الشفعة منتفية.
قالوا: ولأن الشفعة تثبت للشريك نظراً لوجود الضرر اللاحق بالشركة، أما إذا قسمت الأرض فلا شفعة لانتفاء الضرر.
القول الثاني: تثبت الشفعة للجار مطلقاً.
وهذا قول أبي حنيفة.
لحديث أبي رافع قال: قال صلى الله عليه وسلم (الجار أحق بصقبه) رواه البخاري. الصقب بفتح الصاد والقاف هو القرب والملاصقة.
القول الثالث: أن الشفعة تثبت للجار إذا كان له مع جاره مرافق مشتركة من طريق واحد، أو حوش، أو مسيل، أو بئر مشتركة، ولا تثبت إذا لم يكن شيء من ذلك.
وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم.
لحديث جابر. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الجار أحق بشفعة جاره ينتظر بها وإن كان غائباً إذا كان طريقهما واحداً) رواه أبوداود.
قالوا: ولأن الاشتراك في المرافق كالاشتراك في الملك بسبب كثرة المخالطة، ووجود الضرر بين الشركاء، وقد يؤدي ذلك إلى حصول النزاع فيما بينهم، والشفعة شرعت لإزالة الضرر.
وهذا القول هو الراجح.
• في قوله في حديث جابر (قضى النبي صلى الله عليه وسلم في كل ما لم يقسم
…
) استدل به بعض العلماء على أن الشفعة لا تثبت في المنقولات، كالسيارات، والكتب، والحيوانات ونحوها.
وجه الدلالة: قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم قصر الشفعة على ما هو عقار وليس بمنقول، بقرينة وقوع الحدود وتصريف الطرق، وهذا مما يختص بالعقار.
وقالوا: ولأن الضرر في المنقول ضرر يسير، ثم هو عارض لا يتأبد.
القول الثاني: أن الشفعة تثبت في المنقول ولا تختص بالعقار.
وهذا قول الظاهرية واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم والشيخ ابن باز.
لعموم (قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل شيء) فإنه يتناول العقار والمنقول.
ولأن حق الشفعة لم يثبت إلا لدفع الضرر، والضرر كما يوجد ويتوقع في العقار، كذلك يوجد ويتوقع في المنقول، بل قد يكون في المنقول أشد.
وهذا القول هو الراجح.
م/ ولا يحل التحيل لإسقاطها، فإن تحيل لم تسقط لحديث (إنما الأعمال بالنيات).
أي: يحرم أن يتحيل لإسقاط الشفعة. [سبق تعريف الحيلة].
والتحيل لإسقاط حق حرام.
عن أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل) رواه ابن بطة.
وقد مسخ الله قرية تحايلوا فجعلهم قردة.
من صور التحيل: أن يظهر الشريك والمشتري أن البيع بثمن كبير.
مثال: أن يبيعه بعشرة آلاف، ويقول أنني بعتها بخمسين ألف، فإن الشريك الآن لن يطالب بالشفعة، لأنه إذا طالب سوف يأخذها بالثمن الذي استقر عليه العقد.
والله تعالى أعلم
بسم الله الرحمن الرحيم
شرح
منهج السالكين
وتوضيح الفقه في الدين
للعلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي (1376 هـ).
من كتاب النكاح إلى نهاية الكتاب (الإقرار)
(لا أسمح باختصارها أو حذف شيء منها أو أي تصرف فيها)
بقلم
سليمان بن محمد اللهيميد
السعودية - رفحاء
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
…
أما بعد:
فهذا شرح كتاب منهج السالكين في توضيح الفقه في الدين للعلامة عبد الرحمن السعدي رحمه الله،
قمت بشرحه في مدينة رفحاء ضمن الدورة العلمية الأولى التي أقامها مكتب الدعوة والإرشاد برفحاء.
أسال الله العظيم رب العرش العظيم أن يرزقنا العلم النافع، والعلم الصالح
وهذه المذكرة تتضمن من كتاب النكاح إلى نهاية الكتاب
أخوكم
سليمان بن محمد اللهيميد
السعودية - رفحاء
باب الوقف
م/ وهو تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة.
ذكر المصنف رحمه الله تعريف الوقف فقال: هو تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة.
مثال: أن يقول هذا بيتي وقف على الفقراء، فأصل البيت محبوس (ثابت لا يباع ولا يوهب ولا يورث)، لا يمكن أن يتصرف فيه ببيع ولا هبة ولا غير ذلك، ومنفعته مطلقة للفقراء، فكل من كان فقيراً استحق هذا الوقف.
• تسبيل المنفعة: أي الغلة الناتجة عن ذلك الأصل كالثمرة والأجرة.
م/ وهو أفضل القرب وأنفعها.
ذكر المصنف رحمه الله أن الوقف من أفضل القرب إلى الله وأجل الطاعات التي حث الله عليها ووعد بالثواب الجزيل، لأنه صدقة ثابتة دائمة في وجوه البر والخير، ولأنه إحسان إلى الموقوف عليه، إما لحاجتهم كالفقراء والأيتام والأرامل، أو للحاجة إليهم، كالمجاهدين والمعلمين والمتعلمين ونحوهم، وفيه إحسان للواقف، حيث يجري عليه ثواب وقفه بعد انقطاع أعماله ورحيله عن هذه الدار.
لقوله تعالى (وافعلوا الخير).
وذكر المصنف رحمه الله الحديث الدال على فضله:
م/ عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو ولد صالح يدعو له، أو علم ينتفع به) رواه مسلم.
وجه الدلالة: أن العلماء فسروا الصدقة الجارية بالوقف.
[إذا مات الإنسان انقطع عمله] يعني بزوال التكليف بالموت وخروجه من دار العمل إلى البرزخ، وليس البرزخ مكاناً للعمل، ومعنى انقطع عمله: يعني انقطع ثوابه. [إلا من ثلاثة] إلا من ثلاثة أشياء، فإن ثوابها يدوم للإنسان بعد موته لدوام أثرها.
[صدقة جارية] المراد بها الصدقة المتصلة التي استمر نفعها كوقف العقارات والكتاب والمصاحف والأواني ونحو هذا مما يستمر نفعه ببقاء عينه. [أو علم ينتفع به] قوله (ينتفع به) هذا قيد، فهذا يخرج العلم الذي لا نفع فيه، أو العلم الذي فيه مضرة كعلم النجوم يتعلمه، وكذا العلوم المفسدة للدين والأخلاق فلا تدخل في الحديث. والمراد بالعلم الذي ينتفع به ما يلي: العلم الذي علمه الطلبة المستفيدين المستعدين للعلم - العلم الذي ينشره بين الناس - الكتب التي ألفها في نفع المسلمين، قال العلماء: والكتب أعظمها أثراً لطول بقائها. [أو ولد صالح يدعو له] المراد بالصلاح الاستقامة على طاعة الله، (الحديث يشمل ولد الصلب وولد الولد، ويشمل الذكر والأنثى)، وصْف الولد بالصلاح: ليكون دعاؤه مجاباً فينتفع والده بدعائه، وفائدة التقييد بالولد - مع أن دعاء غير الولد ينفع - هو تحريض الولد على الدعاء لوالديه.
• الحديث دليل على أن الإنسان إذا مات انقطع أجر عمله، لأن الله جعل الدنيا دار تزود وعمل، إلا من هذه الأشياء الثلاثة فإنها تبقى ويبقى أثرها وثوابها بعد موت الإنسان، ومن هذه الثلاثة:
الصدقة الجارية، والمراد بها عند العلماء: الوقف، وهذا يدل على صحة الوقف وعظيم ثوابه عند الله تعالى بسبب بقاء نفعه ودوام ثوابه.
وهذه الأشياء الثلاثة إنما بقيت للإنسان بعد موته لأنها من آثار عمله.
وقال جابر: لم يكن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عنده مقدرة إلا وقف.
• المقصود من الوقف أمران:
الأمر الأول: الأجر الحاصل للواقف.
الأمر الثاني: نفع الموقوف عليه في عين الوقف أو غلته.
مثال: قلت هذا البيت وقف على زيد من الناس - لو أراد أن يسكنه فهنا انتفع بعين الوقف، ولو أجر الناظر البيت وأعطاه الغلة فهنا انتفع بغلته.
م/ إذا كان على جهة بر، وسلِم من الظلم.
أي: يشترط في الوقف أن يكون على جهة بر وطاعة، كالمساجد، والفقراء، واليتامى ونحوها.
لأن المقصود به التقرب إلى الله، كبناء مسجد أو مدرسة علمية، أو داراً ريعها للفقراء.
لو قال: هذا وقف على الأغنياء، فإنه لا يصح، لأنهم ليسوا محلاً للقربة.
• أما إذا كان على معين فإنه لا يشترط أن يكون على بر [لكن يشترط ألا يكون إثم].
مثال: وقفت هذا البيت على فلان الغني، فإنه يصح، لأنه ليس على جهة.
• ومما يشترط في الوقف: أن يكون مما ينتفع به انتفاعاً مستمراً مع بقاء عينه.
فإذا كان لا ينتفع به على سبيل الدوام فلا يصح وقفاً.
مثال: الطعام، لا يصح وقفه، لأنه ينفد.
مثال: قلت: هذه الخبز وقف لله تعالى على الجائعين، فهذا لا يصح وقفاً، وتكون صدقة.
لو وقّف حماراً مقطع الأرجل، فإنه لا يصح، لأنه لا ينتفع به.
الوقف الجائز: مثل العقارات والكتب والأواني، مثال: هذه الأواني وقف يوضع بها الطعام للفقراء.
مثال آخر: أن يقول: هذا السلاح وقف على المجاهدين في سبيل الله.
م/ عن ابن عمر قَالَ (أَصَابَ عُمَرُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ، فَأَتَى اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَأْمِرُهُ فِيهَا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ! إِنِّي أَصَبْتُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ لَمْ أُصِبْ مَالًا قَطُّ هُوَ أَنْفَسُ عِنْدِي مِنْهُ. قَالَ: " إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا، وَتَصَدَّقْتَ بِهَا ". قَالَ: فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ، [غَيْرَ] أَنَّهُ لَا يُبَاعُ أَصْلُهَا، وَلَا يُورَثُ، وَلَا يُوهَبُ، فَتَصَدَّقَ بِهَا فِي اَلْفُقَرَاءِ، وَفِي اَلْقُرْبَى، وَفِي اَلرِّقَابِ، وَفِي سَبِيلِ اَللَّهِ، وَابْنِ اَلسَّبِيلِ، وَالضَّيْفِ، لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ، وَيُطْعِمَ صَدِيقاً غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ مَالً. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: {تَصَدَّقْ بِأَصْلِهِ، لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ، وَلَكِنْ يُنْفَقُ ثَمَرُهُ).
ذكر المصنف رحمه الله حديث عمر حينما أوقف أرضاً بخيبر، ليستدل به على بعض أحكام الوقف.
[أَصَابَ عُمَرُ أَرْضًا فَأَتَى اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَأْمِرُهُ فِيهَا} أي يستشيره في التصرف في هذه الأرض.
{أَنْفَسُ عِنْدِي مِنْه} أي أعز وأجود، لأن النفيس هو الشيء الجيد المغتبط به.
{إِنْ شِئْتَ حَبَّسْتَ أَصْلَهَا} بتشديد الباء ويجوز التخفيف، وأصل الحبس لغة المنع.
{وَتَصَدَّقْتَ بِهَا} أي وتصدق بغلتها وبريعها أو بمنفعتها وقد جاء في رواية عند النسائي: احبس أصلها وسبّل ثمرها.
[فَتَصَدَّقَ بِهَا فِي اَلْفُقَرَاءِ] وهو من لا يقدر على نصف كفايته وكفاية عائلته لا بماله ولا بكسبه.
[وَفِي اَلْقُرْبَى] أي الأقارب، والمراد بهم قرابة عمر.
[وَفِي اَلرِّقَابِ] جمع رقبة، والمراد هنا فك الإنسان من الرق أو الأسر، والمعنى: أنه يشترى من غلة الوقف رقاباً فيعتقون، أو يعان المكاتبون الذين كاتبوا أسيادهم على مقدار من المال يعتقون بدفعه.
[وَفِي سَبِيلِ اَللَّهِ] اختلف في معناه فقيل: المراد به الجهاد فيشمل شراء الأسلحة وأدوات الحرب ونحو ذلك، وقيل: أن المراد قي سبيل الله، كل ما أعان على اعلاء كلمة الله ونشر دينه ونفع المسلمين، وعلى هذا التفسير يدخل فيه أبواب كثيرة جداً
فيدخل فيه إعانة المجاهدين، وبناء المساجد والمدارس ودور الرعاية والمستشفيات ويدخل أيضاً شراء الكتب وتوزيعها أو المساهمة بطبعها، ورعاية الأيتام والمعوقين والأرامل.
[وَابْنِ اَلسَّبِيلِ] أي المسافر الذي انقطع به السفر ولم يستطع مواصلة السفر، فهذا يعطى من ريع الوقف ما يوصله إلى بلده.
[وَالضَّيْفِ] هو من ينزل بالقوم يريد القراء.
[لا جُنَاحَ] أي لا حرج ولا إثم.
[عَلَى مَنْ وَلِيَهَا] أي قام بحفظها وإصلاحها (أي الأرض).
[أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا] أي يأخذ من ريعها ما يحتاج إليه من طعام أوكسوة أو مركب.
[بِالْمَعْرُوفِ] هذا قيد، فأخْذه مقيد بالمعروف، وهو ما جرى به العرف وأقره الشرع.
[وَيُطْعِمَ صَدِيقاً] قيل: المراد صديق الناظر، وهذا الأقرب لرواية البخاري (أو يوصل صديقه) وقيل: المراد صديق الواقف، وهذا فيه بُعد.
[غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ مَالاً] التمول: اتخاذ المال أكثر من حاجته، والمراد: أن الناظر يأكل من الوقف لكن لا يتملك منه شيئاً، فلا يأخذ - مثلاً - من الوقف ألف ريال، (500) يأكلها، و (500) يودعها في رصيده.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
• هذا الحديث أصل عظيم في باب الوقف.
• الحديث دليل على فضل الوقف وأنه من الصدقات الجارية والإحسان المستمر.
• الحديث دليل على أنه ينبغي أن يكون الوقف من أطيب المال وأحسنه طمعاً في ثواب الله، قال تعالى (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ).
• الحديث دليل على أنه ينبغي للإنسان أن يستشير غيره لاسيما ذو الفضل وأهل الدين والعلم.
• الحديث دليل على أن لفظ التحبيس صريح في الوقف فلا يحتاج إلى أمر زائد من نية أو قرينة لفظية، فإذا قال: حبست هذه الأرض، أو حبست هذا البيت، صار وقفاً.
• الحديث دليل على أنه لا يجوز التصرف بالوقف لا ببيع ولا بإرث ولا بهبة.
• الحديث دليل على أن للواقف أن يشترط في وقفه شروطاً ما لم تخالف الشرع.
• الحديث دليل على وجوب العمل بشرط الواقف ما لم يخالف الشرع كما سيأتي.
• الحديث دليل على أن الوقف عقد لازم بمجرد القول، فلا يملك الواقف الرجوع فيه، وهذا قول الجمهور من العلماء.
وجه الاستدلال من وجهين:
الوجه الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عمر أن يحبّس الأصل، والحبس هو المنع، والقول أن الوقف عقد جائز ينافي التحبيس.
الوجه الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أحكام الوقف فقال (تَصَدَّقْ بِأَصْلِهِ، لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ .... ).
وقال أبو حنيفة: إن الوقف عقد جائز، فللواقف أن يرجع في وقفه متى شاء.
واستدل بحديث ابن عباس. أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لما نزلت سورة النساء وفرض فيها الفرائض (المواريث) قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا حبس عن فرائض الله) رواه الطحاوي وسنده ضعيف.
والصحيح القول الأول.
• اختلف العلماء في حكم بيع الوقف على أقوال ثلاثة؟
القول الأول: أنه لا يجوز بيعه بحال.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وهذا مذهب مالك والشافعي.
لحديث الباب (غير أنه لا يباع أصلها).
القول الثاني: أنه يجوز بيع الوقف والرجوع فيه.
وهذا مذهب أبي حنيفة. وهو قول ضعيف.
القول الثالث: أنه لا يجوز بيعه ولا إبداله إلا إذا تعطلت منافعه بالكلية ولم يمكن الانتفاع به ولا تعميره أو إصلاحه.
وهذا قول الإمام أحمد وهو اختيار ابن تيمية وتلميذه ابن القيم.
لو كان الوقف بيتاً فانهدمت، أو كان مسجداً ورحل عنه أهل القرية فعلى هذا القول أنه يجوز بيعه وإبداله بشيء آخر يستمر فيه نفعه للواقف.
لما ورد عن عمر (كتب إلى سعد - لما بلغه أن بيت المال الذي في الكوفة قد نَقَب - تهدم - قال عمر: انقل المسجد الذي بالتمّارين، واجعل بيت المال في قِبلة المسجد، فإنه لا يزال في المسجد مصلٍّ) أخرجه الطبراني، وكان هذا بمشهد من الصحابة ولم يظهر خلافه فكان إجماعاً [قاله في المغني].
ويؤيد هذا أن بقاء العين بلا منفعة لا فائدة فيه، وحرمان له من ثوابه.
• الحديث دليل على أنه يشترط للواقف أن يشترط الاستفادة من وقفه.
م/ وأنفعه: أفضله للمسلمين.
أي: أفضل الوقف ما كان أكثر نفعاً، وهو يختلف باختلاف الزمان والمكان، ولذلك ينبغي للواقف أن يستشير من يثق بدينه وعلمه وخبرته واطلاعه.
م/ وينعقد بالقول الدال على الوقف.
أي: وينعقد الوقف بالقول، والقول ينقسم إلى قسمين:
صريح: وهي ما لا يحتمل إلا الوقف، فيكفي فيه اللفظ، فبمجرد ما يتلفظ باللفظ الصريح تثبت هذه العين وقفاً وهي:
وقّفتُ، وحبّستُ، وسبّلتُ.
مثال: وقفت داري هذه على طلاب العلم [تصير وقفاً بمجرد نطقه بذلك].
مثال: حبّست سيارتي على طلاب العلم [تصير وقفاً بمجرد نطقه بذلك].
الثانية: الكناية: وهي ما يحتمل الوقف وغيره، فلا يكفي فيه اللفظ، بل يشترط انضمام أمر زائد إليه.
والكناية هي: تصدقت، حرمت، أبدت.
فهذه لا تنعقد بها الوقف إلا بثلاثة شروط:
1 -
النية:
مثال: قال تصدقت بداري، وينوي أنها وقف، فإنها تصير وقفاً، لأنه نوى بذلك.
لأن قوله [تصدقت بداري] لفظ مشترك، فيحتمل أن تكون الصدقة التي ليست هي بوقف، ويحتمل أنه يريد وقفاً، فلما كان لفظاً مشتركاً اشتُرِط فيه النية.
2 -
أن يقترن بها أحد الألفاظ الصريحة أو الباقي من ألفاظ الكناية.
فإذا تلفظ بلفظ من ألفاظ الكناية، وضم إليها لفظاً من الألفاظ الباقية، فحينئذ يزول الإشكال ويكون وقفاً.
مثال: إذا قال تصدقت بداري صدقة موقوفة [تصير وقفاً].
مثال: قال تصدقت بهذه الدار صدقة محبسة [تصير وقفاً].
مثال: قال حرمت داري تحريماً مؤبداً أو تحريماً موقوفاً [تصير وقفاً].
3 -
أن ينضم إلى هذا اللفظ [الذي هو الكناية] ما يدل على الوقف.
كأن يقول: تصدقت بداري صدقة لا تباع فقوله [لا تباع] يدل على أن قوله تصدقت يريد بذلك الوقف، لأن الذي لا يباع هو الوقف.
أو قال: تصدقت بداري هذه صدقةً لا تورث [فإنه يصير وقفاً] لأن الذي لا يُورث هو الوقف.
• وينعقد القول بالصيغة الفعلية، مثال: أن يبني مسجداً ويأذن للناس في الصلاة فيه، فهذا يكون وقفاً، لأن هذا الفعل منه يدل على ذلك، ولا يشترط أن يقول هذا وقف، لأن فعله يدل على ذلك.
م/ ويُرجع في مصارف الوقف وشروطه إلى شرط الواقف حيث وافق الشرع.
أي: ويرجع في الوقف، وتحديد مصارفه وشروطه إلى لفظ الواقف وما حدده إذا لم يخالف الشرع.
لأن عمر وقف وقفاً وشرط فيه شروطاً، ولو لم يجب اتباع شرطه لم يكن فيه فائدة.
ولأن الواقف إنما رضي بإخراج هذا الموقوف عن ملكه بهذا الشرط فيجب أن يتبع
مثال: لو قال: أوقفت داري على أولادي وأولاد أولادي، فهنا جمع بين أولاده وأولاد أولاده، فيكون ريع الوقف لهم جميعاً، لأن هذا شرْطه.
مثال: لو قال: هذا وقف على زيد وعمرو والمقدم زيد، فيعمل بشرطه، فإنه قد شرط التقديم لزيد، فيعطى زيد من الريع وما يكفيه، فإن فضل شيء فهو لعمرو، وإن لم يفضل شيء فلا شيء له.
مثال: هذا وقف على أولاد فلان، والناظر عليه فلان، فيجب العمل بشرطه.
• الشرط المخالف للشرع لا يجوز الوفاء به.
هذا البيت وقف يصرف ريعه على أهل الموسيقى - حرام لأنها ليست جهة بر.
م/ ولا يباع إلا أن تتعطل منافعه، فيباع فيجعل في مثله أو بعض مثله.
أي: لا يجوز بيع الوقف لقوله صلى الله عليه وسلم لعمر (تَصَدَّقْ بِأَصْلِهِ، لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ، وَلَكِنْ يُنْفَقُ ثَمَرُهُ) هذا لفظ البخاري.
• لكن استثنى المصنف رحمه الله إذا تعطلت منافعه، كدار انهدمت، أو أرض خربت وعادت مواتاً ولم تمكن عمارتها، أو مسجد انتقل أهل القرية عنه، أو محل بيع قلّ العائد منه.
وما ذكره المصنف رحمه الله من أنه يجوز بيع الوقف إذا تعطلت منافعه هو قول الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم. (وقد سبقت المسألة)
ودليل ذلك ما روي أن عمر كتب إلى سعد لما بلغه أنه قد نُقِبَ بيت المال الذي في الكوفة (أن انقل المسجد الذي بالتمّارين، واجعل بيت المال في قِبلة المسجد، فإنه لا يزال في المسجد مصلٍّ) أخرجه الطبراني.
وكان هذا بمشهد من الصحابة ولم يظهر خلافه فكان إجماعاً. [قاله في المغني].
ويؤيد ذلك أن بقاء العين بلا منفعة لا فائدة فيه للواقف، وحرمان له من ثوابه، وإذا كان المقصود من الوقف الانتفاع على الدوام، فإن ذلك يتم في عين أخرى، وبقاء الأول بلا نفع تضييع للغرض وتفويت له
وذهب بعض العلماء إلى أنه لا يجوز بيعه مطلقاً، وهذا قول المالكية والشافعية لحديث عمر (تَصَدَّقْ بِأَصْلِهِ، لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ، وَلَكِنْ يُنْفَقُ ثَمَرُهُ).
وقال أبو حنيفة: يجوز بيعه والرجوع فيه، لأنه صدقة من الصدقات.
وما ذهب إليه المصنف رحمه الله ورجحه شيخ الإسلام هو الصحيح.
باب الهبة
م/ وهي من عقود التبرعات.
ذكر المصنف رحمه الله أن الهبة والعطية والوصية من عقود التبرعات.
لأن العقود تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
عقود تبرعات: كالقرض، والهبة، والوصية.
عقود معاوضات (كالبيع، والإجارة).
عقود توثيقات (كالرهن، والضمان).
م/ فالهبة: التبرع بالمال في حال الحياة والصحة.
ذكر المصنف رحمه الله تعريف الهبة فقال: التبرع بالمال في حال الحياة والصحة، ويضاف للتعريف: بلا عوض. (تمليك في الحياة بلا عوض).
قوله (التبرع بالمال في حال الحياة) فيه بيان وقت الهبة، وهذا يخرج الوصية، لأن الوصية بعد الموت.
قوله (بلا عوض) أي بلا مقابل، وهذا يخرج البيع، لأنه تمليك بعوض معلوم.
م/ والعطية: التبرع به في مرض موته المخوف.
ذكر المصنف رحمه الله تعريف العطية والوصية وسيأتي بعد قليل إن شاء الله.
م/ فالجميع داخل في الإحسان والبر.
أي: كل من الهبة والعطية والوصية داخل في الإحسان المأمور به.
قال تعالى (وأحسنوا إن الله يحب المحسنين).
• الهبة: حكمها بالنسبة للواهب مستحبة.
لقوله تعالى (إن الله يحب المحسنين).
وقال صلى الله عليه وسلم (تهادوا تحابوا) رواه البخاري في الأدب المفرد.
وقال صلى الله عليه وسلم (لو أهدي إليّ ذراع أو كراع لقبلت) متفق عليه.
وأما بالنسبة للموهوب: فالسنة أن يقبل الهدية ولا يردها، لأن هذا هديه صلى الله عليه وسلم.
عن عائشة. قالت (كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ويثيب عليها) رواه البخار ي.
• تنعقد الهبة بالإيجاب [وهو اللفظ الصادر من الواهب] والقبول [وهو اللفظ الصادر من الموهوب له].
• كل ما جاز بيعه جازت هبته، وما لا يجوز بيعه لا تجوز هبته.
• يشترط لقبول الهدية شروطاً:
أولاً: ألا يكون أهدى له حياء وخجلاً.
فإذا علم أنه وهب له حياء وخجلاً فلا يجوز له أن يقبلها.
ثانياً: ألا يتضمن محذوراً شرعياً.
كما لو وقعت موقع الرشوة، أو السكوت عن حق أو الدفاع عن باطل.
ثالثاً: ألا تكون محرمه.
(لعينها) مثل: الخنزير، والميتة، والدم.
(أو لحق الغير) مثل: المغصوب، والمسروق، والمختلس.
• أما المحرم لكسبه فإنه يجوز قبولها، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قبل هدية اليهودية، مع أن اليهود كانوا يتعاملون بالربا.
م/ وبعد تقبيض الهدية وقبولها لا يحل الرجوع فيها لحديث (العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه) وفي الحديث الآخر (لا يحل لرجل مسلم أن يعطي العطية ثم يرجع فيها، إلا الوالد فيما يعطي ولده) رواه أهل السنن.
أي: وبعد قبض الهبة، لا يجوز للواهب أن يرجع في هبته.
لحديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه) رواه البخاري ومسلم
فإذا عاد الواهب في هبته بعد قبضها كان بمنزلة الكلب الذي يعود في قيئه.
[العائد في هبته] الراجع في هبته التي أعطاها وأقبضها للموهوب له. (وهذا هو المشبه)[كالكلب يقيء] هذا هو المشبه به، والقيء: إخراج ما بداخله. [ثم يعود في قيئه] أي ثم يعود فيما تقيأه فيأكله. الغرض من هذا التشبيه: هو تقبيح حال المشبّه والتنفير منه، هنا وقع التقبيح من وجهين:
أولاً: التشبيه بالكلب.
ثانياً: التشبيه بالكلب الذي يقي ثم يعود في قيئه.
• الحديث دليل على تحريم العوْدة في الهبة والرجوع فيها، لأن هذا الرجوع يدل على الدناءة وعلى لؤم الطبع، لأن الرجوع يدل على أن الواهب تعلقت نفسه بهذه الهبة، وأنها لم تطب نفسه بها.
وجه الدلالة من الحديث: أنه عُرف من الشرع أنه لا يستعمل هذا الأسلوب إلا في مقام الزجر الشديد والتنفير من الفعل.
• اختلف العلماء في حكم الرجوع في الهبة على قولين:
القول الأول: تحريم الرجوع في الهبة.
وهذا مذهب جمهور العلماء للحديث السابق، واستثنوا الوالد كما سيأتي.
القول الثاني: جواز الرجوع في الهبة.
وهذا مذهب أبي حنيفة، وهو قول ضعيف.
• تحريم الرجوع في الهبة محمول على الهبة التي تم قبضها من المتهب، قالوا: لأن القيء في الحديث بمنزلة إقباض الهبة.
أما إذا لم تقبض فإنها تكون غير لازمة، لكن الحنابلة يرون كراهة الرجوع ولو كانت لم تقبض، وشيخ الإسلام ابن تيمية يرى تحريم الرجوع في الهبة ولو لم تقبض، لان هذا من إخلاف الوعد، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول (آية المنافق ثلاث: وإذا وعد أخلف .. ) فدل هذا على إن إخلاف الوعد حرام.
• يستثنى من ذلك الوالد، فإنه يجوز له أن يرجع في الهبة.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وهذا مذهب جمهور العلماء.
عن ابن عباس - الذي ذكره المصنف - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يحل للرجل أن يعطي العطية فيرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده) رواه أبو داود.
• جواز رجوع الوالد في هبته لولده، لكن بشرط ألا يؤدي الرجوع إلى التفضيل.
مثال: أعطى أولاده كل واحد ألف ريال، ثم رجع إلى واحد منهم وأخذ الألف، فهذا رجوع في الهبة، لكن يترتب عليه التفضيل، فهذا الرجوع حرام لأنه يؤدي إلى محذور.
• يشترط لرجوع الوالد في هبته شروطاً:
الشرط الأول: أن لا يسقط حقه: كما لو قال: وهبتك هذه السيارة ولن أرجع فيها.
الشرط الثاني: أن تكون الهبة باقية في ملك الابن: فلو أن الأب وهب ابنه سيارة ثم الابن وهبها أو باعها، فالأب في هذه الحالة لا يملك الرجوع، لأنه يلزم من رجوعه إبطال حق الغير.
الشرط الثالث: ألا يكون ما وهبه له نفقة: فلو أعطاه {100} ليشتري ثوباً، فهنا ليس للأب أن يرجع في هبته.
• المشهور من المذهب أن الرجوع في الهبة جائز للأب خاصة دون الأم، لأن الأب هو الذي يتملك من مال ولده دون الأم.
وذهب بعض العلماء إلى العموم، وقالوا: لا فرق بين الأب والأم، لأن في الحديث (إلا الوالد
…
) والأم لا شك أنها والدة.
باب العطية
م/ ويجب فيها العدل بين أولاده لحديث (اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم) متفق عليه.
أي ويجب على الوالد أن يعدل بين أولاده في العطية، وقد ذكر المصنف رحمه الله الحديث الدال على وجوب العدل في العطية بين الأولاد.
عن النعمان بن بشير (أن أباه أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني نحلت ابني هذا غلاماً كان لي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكُلَّ ولَدِكَ نَحلْتَه مثلَ هذا؟ فقال: لا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (فارْجِعْهُ) وفي لفظ (فانطلق أبي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليُشهِدَه على صدقتي، فقال: أفعلتَ هذا بولدِكَ كلِّهم؟ قال: لا، قال: اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم، فرجع أبي، فرد تلك الصدقة) متفق عليه.
وفي رواية لمسلم (قال: فأشْهِد على هذا غيري) ثم قال (أيسُرُّكَ أن يكونوا لك في البرِّ سواء؟ قال: بلى. قال: فلا إذاً).
[أن أباه] أبو النعمان هو بشير بن سعد الأنصاري الخزرجي شهد العقبة ثم بدراً وما بعدها. [إني نحلت] أي أعطيتُ. [ابني هذا] يعني النعمان. [غلاماً كان لي] الغلام يطلق على الصبي الذي دون البلوع ويطلق على الخادم ويطلق على العبد الرقيق وهو المراد هنا [أكلَّ ولَدك نحلتَه] أي: أكل أولادك أعطيتهم مثل ما أعطيت النعمان؟ وهذا الاستفهام حقيقي، قصد به النبي الاستخبار
{لا} لم أفعل ذلك بكل أولادي. {فارْجِعْه} أي الغلام، والمعنى: ارتجع الغلام الذي أعطيت ولدك، لأنه سيترتب على هذه العطية مفاسد من القطيعة والعقوق والبغضاء. [ليشهده على صدقتي] المراد بها النحلة. [واعدلوا بين أولادكم] في البر والعطاء والإحسان حتى في القُبَل. [فأشهد على هذا غيري] هذا أمر، وهذا الأمر أمر تهديد، لأنه صلى الله عليه وسلم امتنع من المباشرة لهذه الشهادة وعللها كما في رواية أنها شهادة جور فقال (لا أشهد على جوْر).
• الحديث دليل على وجوب العدل بين الأولاد في الهبة وتحريم التفضيل بين الأولاد، فإذا أعطى بعض الأولاد مبلغاً من المال وجب أن يعطي البقية مثلهم، ويدل على التحريم عدة أمور:
أولاً: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أنكر على بشير هذا التصرف.
ثانياً: أن الرسول صلى الله عليه وسلم سماه جوراً، ومعلوم أن الجور ظلم ومحرم.
ثالثاً: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر برد الغلام ولم يقره على هذه العطية.
رابعاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم امتنع من الشهادة، فلو كان هذا أمراً جائزاً لم يمتنع النبي صلى الله عليه وسلم من الشهادة عليه.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
• مفاسد التفضيل:
أولاً: وقوع العقوق والقطيعة من الأبناء الذين لم يعطَوا.
ثانياً: أن هذا سبب لوجود العداوة والبغضاء بين الأولاد بعضهم مع بعض.
• ظاهر الحديث أن التفضيل ممنوع مطلقاً سواء وجد سبب يقتضي التفضيل أم لا؟
لعموم الحديث وعدم الاستفصال.
أن المعنى الذي يحصل من التفضيل موجود ولو وجد سبب في التفضيل. [وهو القطيعة والبغضاء].
وهذا قول ابن حزم.
وذهب بعض العلماء أنه يجوز التفضيل إذا وجد سبب يقتضيه، كأن يخص الأب أحد أولاده بالعطية لحاجته أو لمرضه أو لكونه أعمى أو لكثرة عياله أو لاشتغاله بطلب العلم أو نحو ذلك.
واختار هذا ابن قدامة وابن تيمية.
• اختلف العلماء في كيفية التسوية بين الأولاد المأمور بها شرعاً على قولين:
القول الأول: أن المراد بالتسوية أن يكون للأنثى مثل ما للذكر.
فإذا أعطى الذكر 100 ريال، فإنه يعطي البنت 100 ريال.
وهذا قول الجمهور، واستدلوا بدليلين:
ففي بعض روايات حديث النعمان بن بشير أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال (سووا بينهم) قالوا والمراد بالسوية أن يكون ذكرهم وأنثاهم سواء.
ولحديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (سووا بين أولادكم في العطية، فلو كنتُ مفضلاً أحداً لفضلت النساء) أخرجه البيهقي وابن عدي.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
القول الثاني: أن المساواة تكون على قدر الإرث (للذكر مثل حظ الأنثيين).
وهذا قول الإمام أحمد وهو اختيار ابن تيمية وابن القيم والشيخ ابن باز.
أن ما أعطاه هذا الولد، هو حظه لو مات الواهب.
وفيه اقتداء بقسمة الله وهو الحكم العدل.
وهذا القول هو الراجح، لأن الذكر أحوج من الأنثى.
• هل الأم كالأب في التسوية بين أولادها في العطية؟
ذهب بعض العلماء أن الأم كالأب في وجوب التسوية بين الأولاد في العطية، وذلك لأمرين:
الأمر الأول: عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم (اتقوا الله واعدلوا .. ) فكما أن الأب والد فكذلك الأم والدة.
الأمر الثاني: أن ما يحصل في تخصيص الأب بعض أولاده من المفاسد حاصل بتخصيص الأم.
• الواجب على الأب إذا فضل أحد أولاده بهبة ثلاثة أمور:
أولاً: الرجوع في الهبة: فإذا أعطى مثلاً ابنه محمداً سيارة ولم يعط الآخر، فإنه يرجع على محمد ويأخذ منه السيارة. ثانياً: أو يعطي الآخر مثل ما أعطى الأول. ثالثاً: أو يعطي العطية ويقسمها بينهم.
فهو مخير بين أحد هذه الأمور الثلاثة.
• لو فضل الأب أحد أولاده بهبة ثم مات قبل التسوية فإنها لا تثبت.
لأنها جور (وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية).
وعلى هذا: فيجب على الابن أن يرد هذه الهبة في التركة أو يأخذ الأولاد مثل ما أخذ قبل القسمة.
م/ وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ويثيب عليها.
ذكر المصنف رحمه الله حديث عائشة ليستدل به على مشروعية الهدية.
الحديث دليل على مشروعية قبول الهدية وعدم ردها إلا لعذر شرعي. لأمرين:
الأمر الأول: أن قبول الهدية هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم.
الأمر الثاني: أن في قبولها فوائد متعددة منها: إرضاء المهدي، وجبر خاطره، وتقديراً لهديته، والنظر إليها بعين الاعتبار، ولأن في ردها: مخالفة للسنة، وفيه كسر لقلب المهدي وإساءة إليه.
وقد قال صلى الله عليه وسلم (تهادوا تحابوا) رواه البخاري في الأدب المفرد.
وقال صلى الله عليه وسلم (لو أهدي إليّ ذراع أو كراع لقبلت) متفق عليه.
• لا خلاف بين العلماء في مشروعية قبول الهدية، وإنما وقع الخلاف هل قبولها واجب أم لا، على قولين:
القول الأول: أن قبولها ليس بواجب.
للأحاديث السابقة، وهذه سنة فعلية، والفعل لا يدل على الوجوب وإنما يدل على الاستحباب.
القول الثاني: أن قبولها واجب.
وهذا قول ابن حزم.
لحديث ابن مسعود. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أجيبوا الداعي، ولا تردوا الهدية) رواه ابن أبي شيبة وأحمد.
ولحديث عمر. (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيني العطاء، ..... فقال: إذا جاء من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه، وما لا فلا تتبعه نفسك) متفق عليه.
• هل الهدية تقتضي الإثابة؟
الأصل أن الهدية لا تقتضي ثواباً، فلا يلزم من أهديَ له شيء أن يثيب من أهداه، لكن يستحب أن يثيب عليها لفعل النبي صلى الله عليه وسلم.
لا حرج على من أثيب على هديته أن يقبل المكافأة لان النبي صلى الله عليه وسلم كان يثيب.
م/ وللأب أن يتملك من مال ولده ما شاء، ما لم يضره أو يعطيه لولد آخر، أو يكون بمرض موت أحدهما لحديث (أنت ومالك لأبيك).
أي: ويجوز للأب أن يتملك من مال ابنه ما شاء للحديث الذي ذكره المصنف رحمه الله (أنت ومالك لأبيك).
• لكن لتملك الأب من مال ولده شروط هي:
• أن لا يضر الولد.
لحديث (لا ضرر ولا ضرار) رواه ابن ماجه.
فلو كان الابن ليس عنده إلا سيارة يركبها، أو بيت يسكنه مثلاً، فليس للأب أن يتملكها، ويترك ولده بدون سيارة لحديث (لا ضرر ولا ضرار).
• أن لا يكون وسيلة للتفضيل.
فإذا كان الأب يمنع أن يخصص أحد أولاده من ماله، فكذلك يمنع كونه يتملكه من ابنه زيد ويعطيه عمراً، فهذا ممنوع من باب أولى.
• أن لا يكون في مرض أحدهما المخوف.
لأن الإنسان إذا مرض مرضاً مخوفاً لا يملك من ماله إلا الثلث، فهذا هو الذي يملك أن يتبرع به، وعلى هذا إذا مرض الأب مرضاً مخوفاً فليس له أن يتملك الآن، كذلك الابن إذا مرض مرضاً مخوفاً فليس للأب أن يتملك، لأننا لو قلنا يتملك، لكان تملك مال غيره، لأن هذا المال للورثة لانعقاد سبب الإرث.
باب عطية المريض
م/ والعطية: التبرع به في مرض موته المخوف، والعطية والوصية من الثلث فأقل لغير وارث.
ذكر المصنف رحمه الله أحكام عطية المريض مرضاً مخوفاً.
تصرفات المريض وتبرعاته:
• ما يتعلق بتصرفات المريض:
كل تصرفات المريض صحيحة ما دام أن عقله باقٍ، يملك أن يبيع ويملك أن يشتري أن يزارع أو يشارك.
• ما يتعلق بالتبرعات:
المرض ينقسم إلى 3 أقسام:
القسم الأول: المرض غير المخوف.
هذا حكمه حكم الصحيح، فللإنسان أن يتبرع من كل ماله.
فله أن يتبرع بجميع ماله، له أن يتبرع لأولاده.
القسم الثاني: المرض مرضاً مخوفاً (يخشى منه الهلاك).
ومن كان في حكمه كالواقف بين الصفين، ومن قدم ليقتل قصاصاً وكراكب البحر حال هيجانه.
فهذا ليس له من ماله تبرعاً إلا الثلث (كأنه مات).
وحكمه حكم الوصية: فلا تجوز بزيادة على الثلث ولا لوارث بشيء ولو أقل من الثلث إلا بإجازة الورثة.
لحديث ابن عمر (أن رجلاً أعتق ستة مملوكين عند موته لم يكن له مال غيرهم، فدعا بهم النبي صلى الله عليه وسلم فجزأهم أثلاثاً، فأعتق اثنين وأرق أربعة) رواه مسلم.
باب الوصايا
الوصايا جمع وصية هي الأمر بالتبرع بالمال بعد الموت، أو الأمر بالتصرف بعد الموت.
قوله (بعد الموت) احترازاً من الهبة، فإنها تبرع في حال الحياة.
مثال تبرع بمال: أوصيت لفلان بعد موتي بـ (100) ريال.
مثال التصرف: وصيي على أولادي الصغار فلان.
م/ وعن ابن عمر مرفوعاً (ما حق امرئ مسلم له شيء يريدُ أن يوصي فيه، يبيت ليلتين إلا ووصيتُه مكتوبة عنده) متفق عليه.
ذكر المصنف رحمه الله حديث ابن عمر (ما حق امرئ مسلم له شيء يريدُ أن يوصي فيه، يبيت ليلتين إلا ووصيتُه مكتوبة عنده) ليستدل به على مشروعية الوصية، والمبادرة بكتابة الوصية.
[ما حق امرئ] ما الحزم والاحتياط للمسلم إلا أن تكون وصيته مكتوبة عنده. [مسلم] هذا الوصف خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له، فإن وصية الكافر جائزة عند أهل العلم. [له شيء] جاء في رواية في غير الصحيحين بلفظ (له مال). يتناول المال والقرض والكفارات والدين. [يبيت] جاء عند أحمد (حق على كل مسلم ألا يبيت .... ). [ليلتين] عند مسلم (يبيت ثلاث ليال). [مكتوبة] سواء كتبها بنفسه أو كتبها له غيره.
• والوصية مشروعة بالكتاب والسنة والإجماع.
قال تعالى (من بعد وصية يوصي بها أو دين).
قال تعالى (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية).
وعن ابن عمر - الذي ذكره المصنف - (ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي به يبيت ليلة أو ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده) متفق عليه.
وقد أجمع العلماء في جميع الأمصار والأعصار على جواز الوصية [قاله ابن قدامة].
• والحكمة من مشروعيتها: فلأمور جليلة، ومقاصد شريفة، تجمع بين مصالح العباد في الدنيا، ورجاء الثواب والدرجات العلى في الآخرة، ففي الوصية يصل الموصي رحمه وأقرباءه الذين لا يرثون، ويُدخل السعة على المحتاجين، ويخفف الكرب على اليتامى والمساكين. وفي الوصية مصلحة للموصي حيث جعل الإسلام له جزءاً من ماله يبقى ثوابه عليه بعد وفاته، وبهذا يتدارك ما فاته من أعمال البر والإحسان في حياته.
• لكن اختلف العلماء هل هي واجبة أم مستحبة؟
القول الأول: أنها غير واجبة إلا من عليه حقوق للناس.
وهذا قول أكثر العلماء.
القول الثاني: أنها واجبة.
وهو قول داود الظاهري وابن حزم.
لقوله تعالى (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً ...... ).
قالوا: معنى كتب يعني فرض.
ولحديث الباب، وجه الدلالة: قالوا معناه: ليس من حق المسلم أن يبيت ليلتين إلا وقد أوصى، ويؤيد معنى الحديث رواية عند الدارقطني (لا يحل لمسلم أن يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والأرجح القول الأول.
• الحديث دليل على استحباب الوصية لمن ترك مالاً كثيراً.
لقوله ( ..... وله شيء يريد .. ).
ولقوله تعالى (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية .. )، والمراد بالخير المال الكثير.
• والوصية تجري فيها الأحكام التكليفية الخمسة:
تستحب: لمن ترك خيراً وهو المال الكثير، كما سبق.
وتحرم: بأكثر من الثلث لغير وارث لحديث سعد (الثلث والثلث كثير).
وإنما مُنع الموصي من الزيادة على الثلث لأمرين:
الأمر الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأذن لسعد إلا بالثلث، فدل على أن الثلث هو النهاية وما زاد فهو ممنوع منه.
الأمر الثاني: أن ما زاد على الثلث داخل في المضارة التي قال الله فيها (من بعد وصية يوصي بها أو دين غير مضار).
وتحرم أيضاً لوارث بشيء. لقوله صلى الله عليه وسلم (إن الله أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث) رواه أبو داود.
تكره: وصية فقير وورثته محتاجون، لأن هذا يضر بالورثة.
لقوله صلى الله عليه وسلم لسعد ( .. إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس).
تجب: على من عليه دين، وفي ذمته حقوق ولديه أمانات وعهد، فإنه يجب أن يوضح ذلك كله بالكتابة الواضحة الجلية، التي تحدد الديون إن كانت حالة أو مؤجلة.
تجوز: بكل ماله، لمن لا وارث له، وهذا مذهب جمهور العلماء.
وهذا يفهم من حديث سعد، لأن النبي صلى الله عليه وسلم منع من الزيادة على الثلث لحق الورثة، فدل على أن من ليس له ورثة، فلا مانع أن يزيد على الثلث، بل لا مانع أن يوصي بماله كله، لزوال المانع.
• الحث على المبادرة لكتابة الوصية لثلاثة أمور: بياناً لها، وامتثالاً لأمر الشرع، واستعداداً للموت.
الحديث دليل على أن الكتابة تكفي لإثبات الوصية والعمل بها ولا يحتاج إلى إشهاد.
• مقدار ما يوصي به، اختلف العلماء في المستحب في الوصية، هل الثلث أو ما دون الثلث على قولين:
القول الأول: أن المستحب في الوصية ما دون الثلث (بالربع أو بالخمس).
وهذا قول ابن عباس.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قال ابن عباس (لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الثلث والثلث كثير). رواه البخاري
وجاء عن أبي بكر أنه أوصى بالخمس وقال: (رضيت لنفسي ما رضيه الله لنفسه).
يشير إلى قوله تعالى (واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه).
وبه قال الإمام أحمد والشافعي وإسحاق.
القول الثاني: أن المستحب هو الثلث.
وهذا قول جماعة من الحنابلة.
واستدلوا بحديث (إن الله تصدق بثلث أموالكم عند وفاتكم).
والأول أرجح، لأن حديث سعد نص واضح على أن الأفضل ما دون الثلث لأمرين:
الأمر الأول: لأنه قال: والثلث كثير.
الأمر الثاني: لأنه قال: إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس).
• الأفضل أن تصرف الوصية في أعمال البر، وأولاها القرابة الذين لا يرثون إذا كانوا فقراء.
• الوصية لا تنفذ إلا بعد موت الموصي.
وللموصي الرجوع قبل الموت.
ويجوز تغييرها لأنها لا تثبت إلا بعد الموت.
• مبطلات الوصية:
أولاً: برجوع الموصي.
ثانياً: بموت الموصَى له، لأن حقه في الوصية ما يكون إلا بعد موت الموصي.
ثالثاً: تلف العين الموصى بها.
مثال: أوصيت لفلان بهذا البعير، ثم مات قبل موت الموصي، ثم مات الموصِي، فهنا الموصى له ليس له شيء.
رابعاً: بقتل الموصَى له الموصِي.
والقاعدة الفقهية تقول (من تعجل شيئاً قبل أوانه على وجه محرم عوقب بحرمانه).
خامساً: برد الموصَى له للوصية بعد موت الموصي.
قال ابن قدامة: لا نعلم فيه خلافاً لأنه أسقط حقه.
• إذا كانت الوصية على غير معين أو غير محصور فإنه لا يشترط القبول.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فتثبت الوصية بمجرد موت الموصي.
مثال: أوصى بدراهم لبناء المساجد، فهنا لا يشترط قبول من مدير الأوقاف، لأن المساجد جهة وليست ذات ملك.
وكذلك لو أوصى بدراهم للفقراء، لا يشترط قبول جميع الفقراء، لأنه لا يمكن حصرهم.
أما إذا كانت الوصية على معين فإنه يشترط القبول.
• ومن وصيَ بشيء لم يصر وصياً في غيره، مثال: أوصى لشخص بثلث ماله يصرفه إلى الفقراء.
هذا الوصي لا يكون وصياً في تزويج بناته.
• يخرج الواجب كله من دين وحج وغيره من كل ماله بعد موته وإن لم يوص به.
مثال: رجل لما مات وجدنا عنده {5} آلاف، وعليه دين {1000} ريال، وزكاة {2000} ريال، وحج {200} .
فهنا تؤدى هذه الأشياء وتسقط الوصية، والورثة من باب أولى.
• يشترط القبول من الموصَى له بعد الموت لا قبله، فقبْل الموت لا يصح، لأن سبب الملك متأخر، إذ أن سبب الملك لا يثبت إلا بعد موت الموصي.
• الفرق بين الوصية والوقف:
o أن الوصية لا تنفذ إلا بعد الموت، وللموصِي الرجوع قبل الموت، أما الوقف فيكون منجزاً.
o أن الوصية لا تكون إلا في الثلث فأقل، أما الوقف فينفذ في المال كله.
o أن الوصية لا يوصي بها للورثة، أما الوقف فيجوز على الورثة.
م/ وينبغي لمن ليس عنده شيء يحصل فيه إغناء ورثته أن لا يوصي، بل يدع التركة كلها لورثته، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس) متفق عليه.
أي: ينبغي لمن كان ماله قليلاً لا يحصل به إغناء ورثته ألا يوصي، ويترك المال كله لورثته.
وقد ذكر المصنف رحمه الله الحديث الذي يدل على ذلك، وقد سبقت المسألة.
عن سعْدِ بْنِ أبي وَقَّاصٍ قال (جَاءَنِي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَعُودُنِي عَامَ حَجَّة الْوَداعِ مِنْ وَجعٍ اشْتدَّ بِي فَقُلْتُ: يا رسُول اللَّهِ إِنِّي قَدْ بلغَ بِي مِن الْوجعِ مَا تَرى، وَأَنَا ذُو مَالٍ وَلَا يَرثُنِي إِلاَّ ابْنةٌ لِي، أَفأَتصَدَّق بثُلُثَيْ مالِي؟ قَالَ: لا، قُلْتُ: فالشَّطُر يَا رسوُلَ الله؟ فقالَ: لا، قُلْتُ فالثُّلُثُ يا رسول اللَّه؟ قال: الثُّلثُ والثُّلُثُ كثِيرٌ أَوْ كَبِيرٌ، إِنَّكَ إِنْ تَذرَ وَرثتك أغنِياءَ خَيْرٌ مِن أَنْ تذرهُمْ عالَةً يَتكفَّفُونَ النَّاس، وَإِنَّكَ لَنْ تُنفِق نَفَقةً تبْتغِي بِهَا وجْهَ الله إِلاَّ أُجرْتَ عَلَيْهَا حَتَّى ما تَجْعلُ في في امْرَأَتكَ) متفق عليه.
فتكره الوصية لمن كان ماله لا يكفي لورثته، وقد جاء في الحديث (ابدأ بمن تعول).
كتاب العتق
م/ وهو تحرير الرقبة وتخليصها من الرق.
العتق لغة: على معان منها الخلوص ومنه سمي البيت العتيق بهذا الاسم لخلوصه من أيدي الجبابرة.
تخليص الرقبة من الرق، والأصل فيه الكتاب والسنة والإجماع.
قال تعالى (فتحرير رقبة مؤمنة) وقال تعالى (أو فك رقبة) أي عتق رقبة.
وأما السنة ففي العتق أحاديث كثيرة: منها ما هو في فضله والحث عليه، ومنها ما هو في أحكامه وما يتعلق به، وسيأتي الحديث في فضله.
وقد أجمعت الأمة على حصول القربة بالعتق.
م/ وهو من أفضل العبادات لحديث (أَيُّمَا امْرِئٍ مُسْلِمٍ أَعْتَقَ اِمْرَأً مُسْلِماً، اِسْتَنْقَذَ اَللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنْهُ مِنَ النَّارِ") مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وسئل النبي صلى الله عليه وسلم أَيُّ اَلرِّقَابِ أَفْضَلُ? قَالَ: أَعْلَاهَا ثَمَنًا، وَأَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا) متفق عليه.
ذكر المصنف رحمه الله هذه الأحاديث ليستدل بها على فضل العتق.
فذكر الحديث الأول وهو من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (أَيُّمَا امْرِئٍ مُسْلِمٍ أَعْتَقَ اِمْرَأً مُسْلِماً، اِسْتَنْقَذَ اَللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنْهُ مِنَ النَّار) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَلِلتِّرْمِذِيِّ وَصَحَّحَهُ; عَنْ أَبِي أُمَامَةَ (وَأَيُّمَا امْرِئٍ مُسْلِمٍ أَعْتَقَ اِمْرَأَتَيْنِ مُسْلِمَتَيْنِ، كَانَتَا فِكَاكَهُ مِنَ النَّارِ).
وَلِأَبِي دَاوُدَ: مِنْ حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ مُرَّةَ (وَأَيُّمَا اِمْرَأَةٍ أَعْتَقَتْ اِمْرَأَةً مُسْلِمَةً، كَانَتْ فِكَاكَهَا مِنْ اَلنَّارِ).
[أيما أمرى مسلم] هذا لفظ مسلم ولفظ البخاري (أيما رجل). [مسلم] يخرج الكافر، [أعتق امرءاً مسلماً] هذا قيد في الرقبة المعتقة، فهذه الفضيلة لا تنال إلا بعتق الرقبة المسلمة. [استنقذ الله منه] أي وقى وأنقذ وخلص. [بكل عضو منه] أي من المعتَق [عضواً منه] أي من المعتِق. [فكاكه] أي: خلاصه.
• الحديث دليل على فضل عتق الرقاب وتخليصها من الرق وأن ذلك من أجل الطاعات وأعظم القربات، لأنه من أسباب العتق من النار.
وهذا الفضل - والله أعلم - لكون الرقيق قبل العتق كان في حكم المعدوم، إذ لا تصرف له في نفسه، بل هو يُتصرف فيه.
• الحديث دليل على أن إعتاق كامل الأعضاء أفضل من عتق ناقصها، ليحصل الاستيعاب المستفاد من قوله صلى الله عليه وسلم (استنقذ الله من كل عضو منه
…
).
• الحديث دليل على أن عتق الذكر أفضل من عتق الأنثى، لأنه جعل عتق الأنثى على النصف من عتق الذكر.
فالرجل إذا اعتق الذكر أو اعتق امرأتين كان فكاكه من النار، وذلك لأن جنس الرجال أفضل من جنس النساء، ولأن عتق الذكر فيه من المنافع ما ليس في عتق الأنثى من الجهاد وتولي القضاء وتولي الإمامة ونحو هذا.
• والحديث الثاني الذي ذكره المصنف رحمه الله حديث أبي ذر:
عن أبي ذر. قال (سئل النبي صلى الله عليه وسلم أَيُّ اَلرِّقَابِ أَفْضَلُ? قَالَ: أَعْلَاهَا ثَمَنًا، وَأَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا) متفق عليه
[أي الرقاب أفضل؟] المراد بالرقبة الرقيق، وسمي رقبة لأنه بالرق كالأسير المربوط في رقبته، والمعنى: أي المماليك أحب في العتق إلى الله. [أعلاها ثمناً] أي: أكثرها ثمناً [وأنفسها عند أهلها] أي: أكرمها عند أهلها وأغلاها عندهم.
• الحديث دليل على أن أفضل الرقاب التي يراد إعتاقها ما كان أكثرها قيمة وأكثرها نفاسة عند أهلها لحسن أخلاقها وكثرة
منافعها، والنفس إذا جادت بالنفيس دل هذا على قوة إيمانها لقوله تعالى (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون).
م/ ويحصل العتق: بالقول: وهو لفظ العتق وما في معناه.
أي: ويحصل العتق بالصيغة القولية، وهي نوعان: صريح وكناية.
الصريح: ما لا يحتمل إلا العتق، مثل: أعتقتك، حررتك، أنت عتيق، أنت حر.
الكناية: كل لفظ يحتمل المعنى وغيره. أي: يحتمل العتق ويحتمل غيره.
والفرق بينهما: أن الصريح لا يحتاج إلى نية، والكناية يحتاج إلى نية، فإذا قال السيد لعبده: لا سبيل لي عليك، اذهب، فهذا يحتمل: أن المعنى لا سبيل لي عليك في هذا المذهب الذي قلت لك فيه: اذهب، ويحتمل: لا سبيل لي عليك مطلقاً، يعني فأنت حر.
م/ وبالملك، فمن ملك ذا رحِم محرَّمٍ من النسب عتق عليه.
أي: ويحصل العتق بملك ذا رحم، لحديث سَمُرَةَ رضي الله عنه أَنَّ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ، فَهُوَ حُرّ) رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْأَرْبَعَةُ وَرَجَّحَ جَمْعٌ مِنَ الْحُفَّاظِ أَنَّهُ مَوْقُوف.
[من ملك] عام يدخل فيه من ملك ذا رحم بالشراء أو بالهبة أو بالغنيمة أو أي نوع من أنواع الملك [ذا رحِم] الرحم اسم لكل من بينك وبينه قرابة نسب توجب تحريم النكاح، ولهذا قال العلماء: ذو الرحم: هو القريب الذي يحرم نكاحه لو كان أحدهما رجلاً والآخر أنثى .. كالأخ والعم والخال وابن الأخ. [فهو حر] أي يعتق على مالكه بسبب ملكه له.
• الحديث دليل على أن ملك من بينه وبينه رحِم محرمة للنكاح فإنه يعتق عليه بمجرد ملكهِ له فيكون حراً، فإذا ملك أباه أو أمه أو أخته أو خالته، ملكها بشراء أو بهبة أو بغنيمة فإنه بمجرد دخوله في ملكه فإنه يعتق عليه، فيدخل في الحديث الآباء وإن علوا، والأبناء وإن نزلوا، والإخوة والأخوات وأولادهم، والأخوال والخالات، والأعمام والعمات لا أولادهم، لأنهم ليسوا من ذي الرحِم المحرّم.
م/ وبالتمثيل بعبده بقطع عضو من أعضائه أو تحريقه.
أي: ويحصل بالتمثيل بعبده، كإنسان عنده عبد فحل، وخاف على أهله منه فخصاه، أي: قطع خصيتيه، فإنه يعتق عليه، وكذلك لو غضب على عبده فقطع شحمة أذنه فإنه يعتق.
م/ وبالسراية، لحديث (مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ، فَكَانَ لَهُ مَالٌ يَبْلُغُ ثَمَنَ اَلْعَبْدِ، قُوِّمَ قِيمَةَ عَدْلٍ، فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ، وَعَتَقَ عَلَيْهِ اَلْعَبْدُ، وَإِلَّا فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَق).
وفي لفظ (وَإِلَّا قُوِّمَ عَلَيْهِ، وَاسْتُسْعِيَ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ).
أي: ويحصل العتق بالسراية، وقد ذكر المصنف رحمه الله الحديث الدال على ذلك وهو حديث ابن عمر.
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ، فَكَانَ لَهُ مَالٌ يَبْلُغُ ثَمَنَ اَلْعَبْدِ، قُوِّمَ قِيمَةَ عَدْلٍ، فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ، وَعَتَقَ عَلَيْهِ اَلْعَبْدُ، وَإِلَّا فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ) مُتَّفَقٌ عَلَيْه.
وَلَهُمَا: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه (وَإِلَّا قُوِّمَ عَلَيْهِ، وَاسْتُسْعِيَ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْه).
اختلف في رواية (وَاسْتُسْعِيَ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْه) هل هي من كلام النبي صلى الله عليه وسلم أو مدرجة من كلام أبي هريرة؟
وقد رجح البخاري ومسلم بأنها غير مدرجة حيث أدخلا الحديث في كتابيهما، وكذا ابن دقيق العيد وابن عبد الهادي.
[من أعتق شركاً له] الشِرْك: الحصة والنصيب. [في عبد] اسم للمملوك الذكر. [فكان له مال] الضمير يعود على من أعتق نصيبه. [يبلغ ثمن العبد] أي: قيمة بقية العبد، والمراد: مالاً يعتق منه، والمعنى: إذا كان شخص مشترك بين أربعة، فأعتق واحد منهم نصيبه وهو الربع [وكان العبد قيمته: 4000 مثلاً] وبقي ثلاثة أرباع، ولكن هذا المعتِق كان غنياً يملك 3 آلاف وأكثر، فإن الشرع يلزمه بعتق الباقي، ويدفع [3000 ريال] لأصحاب الحصص. [قوِّم عليه قيمة عدل] أي: قدر هذا العبد تقديراً عادلاً لا زيادة فيه ولا نقصان، فيقدر العبد كاملاً لا عتق فيه، وتعرف قيمة حصص الذين لم يعتقوا نصيبهم. [وأعطى شركاءه] أي: المعتِق أعطى الشركاء نصيبهم ويعتق عليه العبد كاملاً. وهذا خبر بمعنى الأمر. [وعتَقَ عليه العبد] أي: صار جميع العبد حراً. [وإلا فقد عتق منه ما عتق] أي: وإن لم يكن للمعتِق نصيبه مالٌ يكفي بعتق باقي العبد، فإنه يعتق من العبد ما عتق، ويبقى الباقي على ما هو ويكون العبد مبعضاً. [واستسعي عليه] أي: ألزم العبد بالاكتساب وتحصيل ما يفك باقيه من الرق، وقيل معنى استسعي: أي أن يخدم سيده الذي لم يعتقه بقدر ماله من الرق. [غير مشقوق عليه] أي: لا يكلف المملوك ما يشق عليه في الكسب والتحصيل وهذا على المعنى الأول، أو لا يكلف ما لا يستطيع من الخدمة على المعنى الثاني.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
• الحديث دليل على جواز عتق العبد المشترك من بعض الشركاء، وأن من أعتق نصيبه من عبد مشترك بينه وبين غيره، لزمه عتق باقيه وخلاصه كله من ماله إذا كان غنياً قادراً على دفع قيمة أنصباء الشركاء الذين لم يعتقوا نصيبهم، لان تبعيض العتق مع القدرة يضر بالعبد ولا تتم به المصلحة.
• الحديث دليل على أنه إذا كان الذي أعتق نصيبه فقيراً غير قادر على دفع أنصباء شركائه، فإنه يعتق من العبد ما قدر عليه، ويبقى رقيقاً فيما بقي من نصيب الشركاء.
• اختلف العلماء فيما إذا أعتق الشريك نصيبه من عبد بينه وبين غيره وعجز عن عتق باقيه على قولين:
القول الأول: أنه ينفذ العتق في نصيب المعتِق ولا يطالب المعتَق بالاستسعاء.
وهذا قول مالك والشافعي وهو قول أبي عبيد.
لرواية (فقد عَتَقَ منه ما عتق).
وأما لفظ (واستسعي) أنها من كلام الراوي وليست من كلام النبي صلى الله عليه وسلم.
القول الثاني: أن الشريك إذا أعتق نصيبه استسعي العبد وطلب منه أن يعمل لتحصيل نصيب بقية الشركاء.
وهذا مذهب أبي حنيفة، واختار هذا القول ابن تيمية وابن القيم، وهؤلاء أثبتوا لفظ (واستسعي .... ).
وهذا القول هو الراجح.
م/ فإن علق عتقه بموته فهو المدبّر، يعتق بموته إذا خرج من الثلث، عَنْ جَابِر (أَنَّ رَجُلًا مِنْ اَلْأَنْصَارِ أَعْتَقَ غُلَامًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ، لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ: "مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنِّي? " فَاشْتَرَاهُ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اَللَّهِ بِثَمَانِمَائَةِ دِرْهَمٍ) مُتَّفَقٌ عَلَيْه.
وَفِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ: فَاحْتَاجَ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ (وَكَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ، فَبَاعَهُ بِثَمَانِمَائَةِ دِرْهَمٍ، فَأَعْطَاهُ وَقَالَ (اِقْضِ دَيْنَكَ).
ذكر المصنف رحمه الله المدبر، وعرفه بقوله: إذا علق عتقه بالموت.
أن يقول لرقيقه: أنت حر بعد موتي، فهذا هو المدبَّر، فعتقه معلق بالموت، فلا يعتق إلا إذا مات مدبِّرُه.
وسمي تعليق العتق بالموت تدبيراً، لأمرين:
أولاً: لأن الرقيق يعتق بعدما يُدْبِر سيده، أي يموت.
ثانياً: أو لأن فاعله دبّر أمر دنياه (لأنه استفاد من هذا العبد في حال الحياة بالخدمة) ودبر أمر آخرته
(لأنه لما جعل عتقه بعد موته حصل له ثواب العتق).
ثم ذكر المصنف رحمه الله حديث جابر، لأن فيه بعض أحكام المدبر:
عَنْ جَابِر (أَنَّ رَجُلًا مِنْ اَلْأَنْصَارِ أَعْتَقَ غُلَامًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ، لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ اَلنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ: "مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنِّي? " فَاشْتَرَاهُ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اَللَّهِ بِثَمَانِمَائَةِ دِرْهَمٍ) مُتَّفَقٌ عَلَيْه. وَفِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ: فَاحْتَاجَ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ (وَكَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ، فَبَاعَهُ بِثَمَانِمَائَةِ دِرْهَمٍ، فَأَعْطَاهُ وَقَالَ (اِقْضِ دَيْنَكَ).
[غلاماً له] أي عبداً رقيقاً له. [عن دبر] أعتقه بعد موته.
• الحديث دليل على مشروعية التدبير وهو عتق العبد بالموت وعلى صحته.
• اختلف العلماء في التدبير هل يكون من الثلث أو من رأس المال؟ الجمهور قالوا: يحسب عتقه من الثلث قياساً على الوصية، بجامع النفوذ بعد الموت.
• الحديث دليل على جواز بيع العبد المدبر قبل موت سيده، لكن ظاهر الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم باع هذا العبد لما علم حاجة صاحبه.
والقول: أن العبد المدبر لا يباع إلا من حاجة هو قول الحسن وجماعة.
وقيل: يجوز بيعه مطلقاً سواء كان لحاجة أو لغير حاجة وهذا قول الشافعي.
لأنه شبيه بالوصية، ومن المعلوم أن الموصي يجوز له الرجوع بالوصية في حياته.
وقيل: لا يجوز بيع المدبر، وهذا قول ابن عمر وسعيد بن المسيب وهو قول أبي حنيفة ومالك.
لعموم (أوفوا بالعقود) وهذا عقد بينه وبين رقيقه في أنه يعتق بعد موته.
وقالوا: لأن المدبر استحق العتق بموت سيده فصار شبيهاً بأم الولد. والراجح القول بالجواز.
• الحديث دليل على أنه ينبغي لمن ليس عنده سعة في الرزق وأموره ضيقة أن يهتم بنفسه أولاً وبمن يعول.
باب الكتابة
م/ والكتابة: أن يشتري الرقيق نفسه من سيده بثمن مؤجل بأجلين فأكثر، قال تعالى (فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً) يعني: صلاحاً في دينهم وكسباً.
ذكر المصنف رحمه الله أحكام الكتابة، وقد عرفها بقوله: أن يشتري الرقيق نفسه
…
الخ.
فالمكاتب: هو شراء العبد نفسه من سيده بأن يقع بين الرقيق وسيده عقد اتفاق على أن الرقيق يدفع لسيده مبلغاً من المال وتكون هذه المال نجوماً موزعة على مدد معينة. فإذا أداها العبد لسيده عتق العبد وصار حراً.
والأصل فيه الكتاب والسنة والإجماع.
(وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً).
ومن السنة أحاديث، كحديث عائشة في قصة بريرة وغيرها.
وأجمع العلماء على مشروعية الكتابة.
فتستحب الكتابة إذا طلب العبد ذلك من رقيقه لقوله تعالى (فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً) لكن الله اشترط أن يعلم أسيادهم فيهم خيراً، وهو الصلاح في الدين والقدرة على الاكتساب، لأنه لو كان غير صالح في دينه ازداد بعد عتقه فساداً، ويخشى أن يميل بعاطفته إلى الكفر، ولو كان غير قادر على الاكتساب كمريض صار كَلاًّ على الناس.
م/ فإن خيف منه الفساد بعتقه أو كتابته، أو ليس له كسب، فلا يشرع عتقه ولا كتابته.
أي: أن المكاتب إذا كان في عتقه ضرر فإنه لا يشرع كتابته أو عتقه.
لأن الله تعالى يقول (فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً) فشرط للكتابة أن يعلم أسيادهم فيه خيراً.
• وقد اختلف العلماء في حكم مكاتبة العبد إذا طلب العبد ذلك وكان له قدرة على الكسب وفيه صلاح على قولين:
القول الأول: أن يجب إجابته لذلك.
وهذا قول جماعة من السلف والظاهرية، لظاهر الآية (فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً).
القول الثاني: أنه لا يجب، وأن الأمر للاستحباب.
وهذا مذهب جمهور العلماء، واستدلوا:
بأن العبد مال السيد، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه) رواه أحمد.
وهذا هو الصحيح.
م/ ولا يعتق المكاتَب إلا بالأداء لحديث (المكاتب عبد ما بقي عليه من كتابته درهم) رواه أبو داود.
أي: أن العبد الذي كاتب سيده لا يعتق ما دام بقي شيء من مال كتابته.
واستدل المصنف رحمه الله بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. قال: قال صلى الله عليه وسلم (المكاتب عبد ما بقي عليه من كتابته درهم) رواه أبو داود.
• فهذا الحديث يدل على أن المكاتب لا يعتق ويكون له حكم الأحرار حتى يؤدي ما عليه من مال الكتابة، فإن بقي عليه شيء ولو قليلاً فهو عبد، تجري عليه أحكام الرقيق، وهذا مذهب جمهور العلماء.
م/ وعن ابن عباس مرفوعاً وعن عمر موقوفاً (أيما أمَة ولدت من سيدها فهي حرة بعد موته) أخرجه ابن ماجه، والراجح الموقوف على عمر رضي الله عنه.
ذكر المصنف رحمه الله حديث ابن عباس، ليستدل به على أحكام أم الولد.
وأم الولد: هي التي ولدت لسيدها في ملكه (أن يطأ سيد أمته فتضع ما يتبين فيه خلق إنسان سواء وضعته حياً أو ميتاً) فإنها تعتق بموته من رأس ماله.
والحديث الذي ذكره المصنف رحمه الله لا يصح مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، لكن صح موقوفاً من كلام عمر كما رواه البيهقي.
الحديث دليل على أن السيد إذا وطئ أمته صارت أم ولد، بشرط أن تضع ما يتبين فيه خلق إنسان سواء ولدته حياً أو ميتاً، وتكون حرة بعد موت سيدها وتعتق عتقاً قهرياً من رأس المال.