المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌كتاب النكاح. ‌ ‌تعريفه: لغة: القران، فكل قران بين شيئين يسمى نكاحاً. واصطلاحاً: عقد - شرح منهج السالكين وتوضيح الفقه في الدين - اللهيميد - جـ ٢

[سليمان بن محمد اللهيميد]

فهرس الكتاب

‌كتاب النكاح.

‌تعريفه:

لغة: القران، فكل قران بين شيئين يسمى نكاحاً.

واصطلاحاً: عقد يحل به استمتاع كل من الزوجين بالآخر وائتناسه به طلباً للنسل على الوجه المشروع.

م/ وهو من سنن المرسلين.

أي: أن الزواج من سنن المرسلين عليهم الصلاة والسلام.

قال تعالى (ولقد أرسلنا من قبلك رسلاً وجعلنا لهم أزواجاً وذرية).

وقال تعالى عن زكريا (رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء).

وعن سعيد بن جبير. قال: قال لي ابن عباس (هل تزوجت؟ قلت: لا، قال: تزوج فإن خير هذه الأمة أكثرها نساء) رواه البخاري.

• قوله (فإن خير هذه الأمة أكثرها نساء) قال الحافظ ابن حجر: قيل المعنى: خير أمة محمد من كان أكثر نساء من غيره ممن يتساوى معه فيما عدا ذلك من الفضائل، والذي يظهر أن مراد ابن عباس بالخير النبي صلى الله عليه وسلم، وبالأمة أخصاء أصحابه، وكأنه أشار إلى أن ترك التزويج مرجوح، إذ لو كان راجحاً ما آثر النبي صلى الله عليه وسلم غيره.

وقد جاءت الشريعة الإسلامية بالحث عليه والترغيب فيه لما فيه من المصالح العظيمة:

قال تعالى في عباد الرحمن (ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً).

وقال تعالى (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون).

وقال تعالى (وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله).

وعن أنس. قال (جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي؟ فلما أخبروا كأنهم تقالوها، .. فقال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبداً، وقال الآخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، .. فقال صلى الله عليه وسلم: ولكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني) متفق عليه

ص: 1

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

• قوله (ليس مني) أي ليس على طريقتي وسنتي في هذا الجانب، وليس المراد به إخراجه من الإسلام.

وعن معقل بن يسار. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (تزوجوا الولود الودود، فإني مكاثر بكم الأمم) رواه أبوداود.

وعند أحمد (إني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة).

وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء) متفق عليه.

وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (حبب إليّ من دنياكم النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة) رواه أحمد

وعن أبي ذر (أن ناساً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور، يصلون كما نصلي،

الحديث وفيه: وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا يا رسول الله: أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر) رواه مسلم.

(البضع) المراد به هنا الفرج ويراد به الجماع، فالجماع يكون عبادة ويثاب عليه المرء إذا قصد به إعفاف نفسه وغض بصره وإعفاف زوجته وطلب الذرية الصالحة.

وعن عبد الله بن عمرو. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (الدنيا متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة) رواه مسلم.

وعن أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) رواه مسلم.

ص: 2

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وعن أنس (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطوف على نسائه في ليلة واحدة وله تسع نسوة) رواه البخاري.

وقال ابن مسعود (لو لم يبق من الدهر إلا ليلة لأحببت أن يكون لي في تلك الليلة امرأة).

وقال أحمد بن حنبل (ليست العزوبة من أمر الإسلام في شيء، ومن دعاك إلى غير التزوج فقد دعاك إلى غير الإسلام.

• وللنكاح حكم عظيمة:

الحكمة الأولى: طلب النسل، لأنه ليس المقصود من الزواج التلذذ قضاء الوطر وإنما من مقاصده العظيمة طلب النسل.

الحكمة الثانية: الاستمتاع، استمتاع كل واحد من الزوجين بالآخر.

الحكمة الثالثة: تحصيل النسل لتكثير الأمة ولا ريب أن تكثير الأمة هو مصدر قوتها وعزتها وهيبتها بين الأمم فهذا مقصد عظيم من مقاصد الزواج وهو تكثير الأمة.

الحكمة الرابعة: حفظ المرأة والإنفاق عليها لأن الزواج يهيئ للمرأة حياة سعيدة كريمة في ظل الزوج.

الحكمة الخامسة: تحصين كل من الزوجين الآخر كما قال صلى الله عليه وسلم: فإنه أغض للبصر وأحصن لفرج، فما حفظ الفرج وغض البصر بمثل الزواج.

ص: 3

م/ وفي الحديث (يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاء).

ذكر المصنف رحمه الله حديث ابن مسعود (يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاء). ليستدل به على استحباب النكاح والحث عليه.

[الشباب] خص الشباب لأن الشباب هم مظنة الشهوة والرغبة في الزواج فلهذا خصهم بالذكر. [من استطاع] أي من قدر. [الباءة] اختلف في المراد بها هنا: فقيل: القدرة على الوطء. وقيل: القدرة على مؤن النكاح، وهو الصحيح لأمور ثلاثة:

أولاً: أن الخطاب إنما جاء للقادر على الجماع وهم الشباب أصلاً.

ثانياً: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في آخر الحديث (ومن لم يستطع فعليه بالصوم) لو فسرنا الباءة بالجماع يصير المعنى: ومن لم يستطع الجماع فعليه بالصوم ولا ريب أن الذي لا يستطيع الجماع لا معنى لكونه يؤمر بالصوم، ثالثاً: جاء في رواية عند النسائي (من كان ذا طول فليتزوج).

[فإنه] أي الزواج. [أغض للبصر] أي أن المتزوج أغض بصراً وأحصن فرجاً ممن لم يتزوج. [وأحصن للفرج] يعني أدعى إلى إحصان الفرج وإحصان الفرج منعه من الوقع في المحظور. [ومن لم يستطع] أي الباءة المذكورة في أول الحديث. [له وجاء] له: يعني الصوم، والوجاء: هو رض

الخصيتين، بحجر أو نحوه، لكنها إذا رضت العروق ضعفت الشهوة لأن الخصيتين هما اللتان تهيجان الشهوة لأنهما هما اللتان تصلحان المني فتزداد الشهوة وتقوى.

• الحديث يدل على مشروعية النكاح والحث عليه، واختلف في وجوبه عندما تتوفر الدواعي وتنتفي الموانع على قولين:

فقال بعض العلماء: إنه واجب.

وهو قول أهل الظاهر، كابن حزم وداود الظاهري.

قال تعالى: (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ) قالوا هذا أمر.

وقال تعالى: (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ) هذا أمر.

ولحديث الباب: (يا معشر الشباب .... فليتزوج) وهذا أمر ولا يوجد صارف يصرفه.

القول الثاني: أنه سنة مؤكدة غير واجب.

وهو مذهب جماهير العلماء ومنهم الأئمة الثلاثة، قال في المغني: وهو قول عامة الفقهاء.

ص: 4

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

و استدلوا بحديث الباب.

وجه الاستدلال: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أقام الصوم مقام الزواج، ومعلوم أن الصوم ليس بواجب، فدل على أن الزواج غير واجب، لأن القاعدة أن غير الواجب لا يقوم مقام الواجب، لأنه إذا قام مقام الواجب يصير واجباً.

والقول الأول قول قوي. [لكن أصحاب القول الثاني - وهم الجمهور - يقولون: إذا خاف على نفسه الزنا فإنه يجب النكاح].

ولهذا قال بعض العلماء: أن النكاح تجري فيه الأحكام الخمسة:

أولاً: مستحب، وهذا هو الأصل.

ثانياً: واجب، على من خاف الزنا بتركه، لأن ترك الزنا واجب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

ثالثاً: مكروه، إذا كان فقيراً لا شهوة له، لأنه سوف يرهق نفسه بالنفقات وليس لديه شهوة.

رابعاً: مباح، إذا كان غنياً لا شهوة له، لأنه قادر على الإنفاق، فهو قد ينفع المرأة بالإنفاق عليها.

خامساً: حرام، وذلك فيما إذا كان بدار حرب، لأنه قد يؤدي إلى أن يكون له أولاد، فيقتل أولاده أو يخطفون - ويحرم أيضاً إذا أراد أن يتزوج ثانية وهو يعلم أنه غير قادر على العدل.

• استدل بحديث الباب على تحريم الاستمناء.

هذه العادة قديمة معروفة في الجاهلية قبل الإسلام، فقد كانوا يجلدون عُمَيْرَة إذا خلوا بواد لا أنيس به.

كما قال الشاعر:

إذا ما خلوتَ بوادٍ لا أنيسَ به فاجْلدْ عُمَيْرةَ لا عيبٌ ولا حرجُ

وعميرة كناية عن الذكر.

ومعنى الاستمناء: هو استدعاء خروج المني بغير جماع، سواء كان باليد أو بغيرها.

وقد اختلف العلماء في حكمه:

القول الأول: أنه حرام.

وهذا مذهب جماهير العلماء.

لقوله تعالى (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ. إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ. فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُون).

فأوجب الله على المسلم أن يحفظ فرجه إلا من زوجته أو ما ملكت يمينه، فإذا تجاوز زوجته وملك يمينه إلى غيرهما فإنه من العادين.

ولحديث الباب، فالرسول صلى الله عليه وسلم أمر بالصيام، ولو كان الاستمناء جائزاً لأرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم.

ومن الأدلة: أن الله سبحانه وتعالى أباح للصحابة المتعة في أول الأمر، ثم نسخت بعد، وسبب إباحتها ما لقوه من شدة العزوبة في أسفارهم، وقد جعلها الله حلاً مؤقتاً لدفع حاجتهم، ولو كان الاستمناء مباحاً لبينه لهم، وهو أيسر وأقل مؤونة وأثراً.

ص: 5

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

القول الثاني: أنه مباح.

وهو قول لبعض أهل الظاهر.

لعدم الدليل المانع.

لكن يباح الاستمناء في حالتين:

الحالة الأولى: خوف الوقوع بالزنا.

الحالة الثانية: التضرر بحبس هذا الماء.

• حث النبي صلى الله عليه وسلم على الصيام لمن لا يستطيع على مؤن النكاح، لأمرين:

أولاً: لأن الصيام يورث التقوى. كما قال تعالى:} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ {.

ثانياً: لأن شهوة النكاح تابعة لشهوة الأكل، تقوى بقوته وتضعف بضعفه.

• استدل العلماء بهذا الحديث بأنه لا ينبغي أن يستقرض من أجل الزواج.

فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من لم يستطع فعليه بالصوم، ولم يقل: فليستقرض.

ويدل لذلك قوله تعالى (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ) فأمره الله بالتعفف حتى يغنيه الله، ولم يأمر بالاستدانة. [المراد بالتعفف: حفظ الفرج وغض البصر].

ص: 6

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

• هل يجوز استعمال دواء لدفع الشهوة؟

المسألة تنقسم إلى حالتين:

الحالة الأولى: أن يستعمل دواء لقطعها، فهذا حرام.

لأنه قد يقدر بعدُ فيندم.

الحالة الثانية: أن يستعمل دواء لتخفيفها.

فقيل: لا يجوز.

لأن النبي صلى الله عليه وسلم أرشد إلى الصيام لمن عجز عن مؤن النكاح، فهو العلاج النبوي، فلا يجوز غيره.

وقيل: يجوز. وهذا هو الصحيح.

• الحث على غض البصر وتحصين الفرج بكل مستطاع.

فائدة: وفي غض البصر فوائد:

أحدها: تخليص القلب من ألم الحسرة، فإن من أطلق نظره دامت حسرته.

ثانيها: أنه يورث القلب نوراً وإشراقاً يظهر في العين وفي الوجه.

ثالثها: أنه يورث حجة الفراسة.

فمن غض بصره عن المحارم عوضه الله سبحانه وتعالى إطلاق نور بصيرته.

رابعها: أنه يفتح له طرق العلم وأبوابه، ويسهل عليه أسبابه.

خامسها: أنه يورث قوة القلب وثباته وشجاعته، وفي الأثر: أن الذي يخالف هواه يفرق الشيطان من ظله.

سادسها: أنه يورث القلب سروراً وفرحة وانشراحاً أعظم من اللذة والسرور الحاصل بالنظر.

سابعها: أنه يخلص القلب من أسر الشهوة.

ص: 7

م/ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لأَرْبَعٍ لِمَالِهَا وَلِحَسَبِهَا وَلِجَمَالِهَا وَلِدِينِهَا فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ) متفق عليه.

ذكر المصنف رحمه الله حديث أبي هريرة (تنكح المرأة لأربع .... ) ليستدل به على استحباب نكاح المرأة ذات الدين.

[تنكح [أي يُرغب بالنكاح بها. [لأربع] أي لأربع خصال، واللام للتعليل، والمعنى الناس يراعون هذه الخصال، بعضهم يختار كذا وبعضهم يختار كذا، فالحديث سيق لبيان مراعاة الناس.

[ولحسبها] الحسب في الأصل الشرف بالآباء والأقارب، مأخوذ من الحساب، لأنهم كانوا إذا تفاخروا عدوا مناقبهم ومآثر آبائهم وقومهم وحسبوها، فيحكم لمن زاد على غيره. وقيل: المراد بالحسب هنا الفعال الحسنة. [لدينها] أي اللائق بذي الدين والمروءة أن يكون الدين مطمح نظره في كل شيء لا سيما فيما تطول صحبته. [فاظفر بذات الدين] احرص بالزواج بالمرأة ذات الدين، تكتسب بها مصالح الدنيا والآخرة [تربت يداك] لصقت يداك بالتراب، والعرب تعني به حصول الفقر - كلمة دعاء لا يراد معناها - يقصدون بها التحريض بها، واللوم من جهة أخرى.

• الحديث دليل على أن الرجال يكون اختيارهم للمرأة إما لمالها أو جمالها أو حسبها وآخر ذلك الدين

وهذا هو الواقع في هذا الزمان للأسف.

ص: 8

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

• الحديث دليل على الحرص على الزواج بذات الدين، وحث النبي صلى الله عليه وسلم على الزواج بذات الدين؛ لحكم:

أولاً: فهي تعين على طاعة الله.

ثانياً: تُصلح من يتربى علي يديها.

ثالثاً: ويأمن أولاده عندها.

رابعاً: تحفظ ماله وبيته في غيبته.

• فإن اجتمعت الصفات الأربع بالمرأة فهذا نور على نور، لكن قد يتعسر اجتماعها.

• كيفية العمل بهذا الحديث: يبدأ بالسؤال عن الصفات التي يرغب بها - يسأل مثلاً عن جمالها - فإذا تحقق سأل عن الدين، فان تحقق أقدم وإلا أحجم، بخلاف ما إذا سأل عن الدين أولاً وتحقق ثم سأل عن الجمال ولم يتحقق الجمال ثم أحجم، فيكون رد المرأة، مع أنها ذات دين والرسول صلى الله عليه وسلم يقول فاظفر بذات الدين تربت يداك.

• ينبغي للإنسان أن يحرص على قبول وصية النبي صلى الله عليه وسلم في الحرص على ذات الدين، قال تعالى (وإن تطيعوه تهتدوا).

• يستدل بهذا الحديث على أن مصاحبة أهل الدين والاستقامة خير وبركة لأنه يستفيد من أخلاقهم وطباعهم.

ص: 9

م/ وينبغي أن يتخير ذات الدين، والودود، الولود الحسيبة.

ذكر المصنف رحمه الله صفات المرأة التي يسن نكاحها. فقال:

ذات الدين.

وسبق دليل ذلك.

والودود، الولود الحسيبة.

لقوله صلى الله عليه وسلم: (تزوجوا الولود الودود، فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة). رواه أبو داود

(الودود) هي التي تحب زوجها. [قاله الخطابي]

(الولود) هي التي تكثر ولادتها. [قاله الخطابي]

• كيف يعرف كثرة ولادتها: ويعرف هذا الوصف في الأبكار من أقاربهن، إذ الغالب سراية طباع الأقارب بعضهن إلى بعض.

ومن الصفات: أن تكون بكراً.

لقوله صلى الله عليه وسلم لجابر: (هل تزوجت يا جابر؟ قال: نعم، قال: بكراً أم ثيباً؟ قال: بل ثيباً، قال: فهلا بكراً تلاعبها وتلاعبك). [وسيأتي الحديث إن شاء الله].

ص: 10

م/ وإذا وقع في قلبه خطبة امرأة فله أن ينظر منها ما يدعوه إلى نكاحها.

أي: إذا رغب أحدكم بامرأة فله رؤيتها.

• قوله (فله) يحتمل أن تكون اللام للإباحة ويحتمل أن تكون للاستحباب، وهذا هو الراجح.

لحديث أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ (جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ إِنِّى تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً مِنَ الأَنْصَارِ. فَقَالَ لَهُ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم (هَلْ نَظَرْتَ إِلَيْهَا فَإِنَّ فِى عُيُونِ الأَنْصَارِ شَيْئاً». قَالَ قَدْ نَظَرْتُ إِلَيْهَا) رواه مسلم.

وفي رواية (فَاذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا فَإِنَّ فِى أَعْيُنِ الأَنْصَارِ شَيْئاً).

[فإن في أعين الأنصار شيئاً] اختلف في المراد بقوله (شيئاً) فقيل: عمش، وقيل: صغر، قال الحافظ: الثاني وقع في رواية أبي عوانة في مستخرجه، فهو المعتمد.

ولحديث جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا خطب أحدكم المرأة، فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل قال: فخطبت جارية فكنت أتخبأ لها حتى رأيت منها ما دعاني إلى نكاحها). رواه أبو داود

وعن المغيرة بن شعبة قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له امرأة خطبتها، فقال: اذهب فانظر إليها فإنه أجدر أن يؤدم بينكما). رواه الترمذي.

فهذه الأحاديث دليل على استحباب النظر إلى المخطوبة لقوله (فاذهب فانظر إليها).

ولأن النبي صلى الله عليه وسلم علل الحكم بعلة تدل على الطلب وهي قوله (فإنه أحرى أن يُؤدم بينكما).

قال النووي: وهو مذهبنا ومذهب مالك وأبي حنيفة وسائر الكوفيين وأحمد وجماهير العلماء.

• متى يكون النظر؟ يكون قبل الخِطبة، من أجل أن يُقدِمَ أو يحجِم، ولا يكون بعد الخطبة، لأنه لو خطب امرأة ثم نظر إليها ولم تعجبه وتركها، فهذا يؤثر عليه وعليها.

• لكن اختلف العلماء ما الذي يباح للخاطب أن يرى من مخطوبته؟

فقيل: ينظر إلى الوجه والكفين فقط.

وهذا مذهب الشافعي.

قال النووي: ثم إنه يباح النظر إلى وجهها وكفيها فقط، لأنه يستدل بالوجه على الجمال أو ضده، وبالكفين على خصوبة البدن أو عدمها.

وقيل: ينظر إلى جميع بدنها.

وهو قول داود.

وقيل: ينظر إلى ما يظهر غالباً، كالوجه واليدين والرأس والرقبة والقدمين.

ورجح هذا القول الألباني، وهو الصحيح.

• لا يشترط رضا المخطوبة في النظر، وهذا مذهب جمهور العلماء، ينظر إليها ولو لم ترض.

ص: 11

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

لقوله صلى الله عليه وسلم (إذا خطب أحدكم امرأة، فلا جناح عليه أن ينظر إليها لخطبته وإن كانت لا تعلم). رواه أحمد

وحديث جابر - السابق وفيه (

فخطبت جارية، فكنت أتخبأ لها حتى رأيت منها ما دعاني إلى نكاحها وتزوجها، فتزوجتها).

• شروط النظر إلى المخطوبة:

أولاً: أن يغلب على ظنه الإجابة.

ثانياً: أن لا يقصد التلذذ، لأن المقصود الاستعلام لا الاستمتاع.

ثالثاً: أن لا يكون بخلوة، لأنها أجنبية عنه.

رابعاً: أن يكون عازماً على الخطبة.

خامساً: ألا تكون المرأة متجملة، لأمرين:

الأمر الأول: أنه تدليس بالنسبة للرجل، والأمر الثاني: أنه فتنة.

• الصورة لا تقوم مقام النظر، لأن التصوير حرام، ولأن الصورة لا تقوم مقام الحقيقة، فإن الصورة تجمل الإنسان أكثر مما هو عليه.

ص: 12

م/ ولا يحل للرجل أن يخطبَ على خِطبة أخيه المسلم حتى يأذن أو يترك.

أي: لا يجوز للرجل أن يخطب امرأة خطبها رجل آخر. [لا يحل: نفي الحل يستلزم الحرمة].

لحديث أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لَا يَخْطُبُ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ) رواه مسلم.

ولحديث ابن عُمَرَ عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لَا يَبِعِ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ وَلَا يَخْطُبْ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ إِلاَّ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ) متفق عليه.

ولحديث عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ قال: قال رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (الْمُؤْمِنُ أَخُو الْمُؤْمِنِ فَلَا يَحِلُّ لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَبْتَاعَ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ وَلَا يَخْطُبَ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ حَتَّى يَذَرَ) رواه مسلم.

فهذه الأحاديث تدل على تحريم أن يخطب المسلم على خطبه أخيه.

• دلت الأحاديث على أنه في حالتين يجوز أن يخطب الثاني وهما:

أ- إذا أذِن له لرواية [إلا أن يأذن له] ب- إذا ترك الخاطب الأول الخطبة لرواية [حتى يذر].

• أجمع العلماء على أن المخطوبة إذا ردت خاطبها كان للآخر أن يخطبها.

• اختلف العلماء إذا علم الخاطب الثاني أن فلاناً خطب من هؤلاء القوم، لكن لا يعلم هل ردوه أم قبلوه هل يخطب أم لا؟

قيل: يجوز أن يخطب، وقيل: لا يجوز، وهذا الصحيح لأمرين:

الأول: لأن هذا يعتبر خطبة على خطبة أخيه.

الثاني: لأنهم قد يكونون على وشك الموافقة.

• الحكمة من تحريم الخطبة على خطبة المسلم:

الحكمة الأولى: أن هذا التصرف من أسباب العداوة والبغضاء بين الناس.

الحكمة الثانية: أن هذا التصرف فيه ظلم للخاطب الأول وفيه تعد عليه لأن الحق له ما دام أنه هو الخاطب.

وفيه حكمة ثالثة ألمح إليها العلماء وهي: أن هذا التصرف فيه تزكية لنفس الإنسان إذا خطب علي خطبة أخيه كأنه يزكي نفسه بهذا التصرف ويذم غيره وكأن لسان حاله يقول أنا أولى من هذا الخاطب الأول ومعلوم أن تزكية النفس أمر مذموم.

وحديث عقبة ابن عامر رضي الله عنه إشارة إلى هذا المعني وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم (المؤمن أخو المؤمن فلا يحل للمؤمن أن يبتاع علي بيع أخيه ولا يخطب علي خطبة أخيه حتى يذر) هذا فيه إشارة إلي أن الأخوة الإيمانية تقتضي أن لا تكون سببًا في مثل هذا التصرف.

ص: 13

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

• اختلف العلماء هل يجوز أن يخطب على خطبة غير المسلم أم لا على قولين:

مثال: أن يخطب يهودي يهودية، فهل يجوز للمسلم أن يذهب ويخطب هذه اليهودية؟

القول الأول: أنه يجوز.

قال النووي: وبه قال الأوزاعي، ورجحه ابن المنذر والخطابي.

لقوله (على خِطبة أخيه) والكافر ليس أخاً للمسلم.

ويؤيده رواية (الْمُؤْمِنُ أَخُو الْمُؤْمِنِ فَلَا يَحِلُّ لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَبْتَاعَ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ وَلَا يَخْطُبَ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ حَتَّى يَذَرَ) قال الخطابي: قطع الله الأخوة بين الكافر والمسلم، فيختص النهي بالمسلم.

ولأن الكافر ليس له حرمة.

القول الثاني: أنه لا يجوز.

وبه قال جمهور العلماء.

لرواية (ولا يخطب الرجل على خطبة الرجل).

وأما التقييد (بأخيه) فيحمل على الغالب، فلا مفهوم له كقوله تعالى (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق).

وهذا القول هو الصحيح.

• يحرم أن تخطب المرأة على خطبة المرأة لنفس العلة.

مثال: امرأة عرضت نفسها على رجل، فلا يحل لامرأة أخرى أن تأتي وتعرض نفسها عليه وتزهده في التي قبلها.

• الجواب عن قصة فاطمة بنت قيس، أنها جاءت تستشير النبي صلى الله عليه وسلم لما خطبها ثلاثة: أبو جهم، ومعاوية، وأسامة، الجواب: أن تحمل هذه القصة على أن الواحد منهم لم يعلم بخطبة الآخر.

ص: 14

م/ ولا يجوز التصريح بخِطبة المعتدة مطلقاً، ويجوز التعريض في خطبة البائن بموت أو غيره، لقوله تعالى (وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ).

أي: يحرم ولا يجوز أن يصرح بخطبة المرأة المعتدة مطلقاً.

[والخِطبة بكسر الخاء طلب المرأة للزواج]، [والمعتدة: من لم يمض على وفاة زوجها أربعة أشهر وعشراً، وعلى طلاقها ثلاث حيضات إن لم تكن حاملاً.

• قوله (مطلقاً) أي سواء معتدة من وفاة [كالمتوفى عنها زوجها] أو من حياة. [المطلقة طلاقا بائناً].

• والتصريح: هو وعد المرأة بالنكاح أو طلب التزوج بها باللفظ الصريح، نحو أريد أن أتزوجك، أو زوجيني نفسك، أو فإذا انقضت عدتك تزوجتك، ونحو ذلك مما لا يحتمل غير النكاح.

• فيحرم التصريح بخطبة المعتدة لقوله تعالى (وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ) أي لا إثم عليكم أيها الرجال في التعريض بخطبة النساء المتوفى عنهن أزواجهن في العدة بطريق التلميح لا التصريح. فخص التعريض بنفي الحرج، وذلك يدل على وجود الحرج في التصريح، فيكون ذلك دليلاً على عدم جوازه، ولأن التصريح لا يحتمل غير النكاح، فلا يؤمن أن يحملها الحرص على النكاح على الإخبار بانقضاء عدتها قبل انقضائها.

• لكن يجوز التعريض بخطبة المعتدة البائن بموت زوجها، أو المطلقة ثلاثاً.

والتعريض خلاف التصريح نحو: إني في مثلك لراغب، أو إني أريد الزواج، أو وددتُ أنه يُيَسر لي امرأة صالحة، أو إذا انقضت عدتك فأعلميني ونحوها.

والدليل على جواز التعريض للبائن من زوجها بوفاته عنها: الآية السابقة (وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ).

• وقول المصنف (ويجوز التعريض في خطبة البائن بموت أو غيره) فيه أن المطلقة الرجعية [وهي من طلقت طلقة واحدة أو اثنتين] لا يجوز التعريض بخطبتها، لأنها زوجة حكمها حكم الزوجات.

ص: 15

م/ وينبغي أن يخطُبَ في عَقْدِ النكاح بخُطبة ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ (عَلَّمَنَا رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم اَلتَّشَهُّدَ فِي اَلْحَاجَةِ: إنَّ اَلْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، ومن سيئات أعمالنا، مَنْ يَهْدِهِ اَللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، ومن يضلل فلا هادي له، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَيَقْرَأُ ثَلَاثَ آيَاتٍ:

قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).

وقال تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً).

وقال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً. يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً).

{التشهد في الحاجة} وفي رواية (علمنا رسول الله خطبة الحاجة في النكاح وغيرهِ).

• الحديث دليل على استحباب تقديم هذه الخطبة على عقد النكاح. وهذه الخطبة سنة عند جماهير العلماء وليست واجبة، ومما يدل على عدم وجوبها: حديث الواهبة نفسها، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:

(زوجتكها بما معك من القرآن) ولم يذكر الخطبة.

• وهذه الخطبة قصد بها: إظهار النكاح وإشهاره، وبيان خطر هذا العقد.

• هذه الخطبة ليست خاصة بعقد النكاح بل هي عامة في النكاح وغيره.

• لم يرد عن أحد من السلف أنه كان يزيد على هذه الخطبة بشيء مما يزيده بعض الناس من الخطب المطولة إما في فضل النكاح أو في الترغيب في الطاعات أو الترهيب من المعاصي عند عقد النكاح، وهذه بدعة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:(من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد).

• عقد النكاح يصح في أي مكان، ولا يستحب أن يكون في المسجد كما يظن بعض العوام، والحديث الوارد في ذلك ضعيف.

ص: 16

م/ ولا يجب إلا بالإيجاب: وهو اللفظ الصادر من الولي، كقوله: زوجتُك أو أنكحتك، والقبول: وهو اللفظ الصادر من الزوج أو نائبه كقوله: قبلت هذا الزواج، أو قبلت، ونحوه.

أي: أن النكاح لا يجب ولا ينعقد إلا بالإيجاب والقبول، فمن أركان النكاح الإيجاب والقبول.

فالإيجاب: وهو اللفظ الصادر من الولي، كقوله: زوجتك أو أنكحتك.

والقبول: وهو اللفظ الصادر من الزوج أو نائبه كقوله: قبلت هذا الزواج، أو قبلت، ونحوه.

• وقد اختلف العلماء هل يشترط أن يكون الإيجاب والقبول بلفظ الإنكاح والتزويج أو لا يشترط على قولين:

القول الأول: أنه يشترط أن يكون الإيجاب والقبول بلفظ الإنكاح أو التزويج.

وهذا هو المذهب.

لأنهما اللفظان اللذان ورد بهما القرآن الكريم.

قال تعالى (فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا .. ).

وقال تعالى (وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ .... ).

القول الثاني: أنه لا يشترط، وأنه يجوز بغير لفظ الإنكاح والتزويج، فأي لفظ يدل على النكاح فإنه يجوز

وهذا قول جماهير العلماء، وهو اختيار ابن تيمية رحمه الله.

لقول النبي صلى الله عليه وسلم للذي طلب أن يزوجه الواهبة نفسها (ملكتكها بما معك من القرآن).

ولحديث أنس (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتق صفية وجعل عتقها صداقها) متفق عليه.

ولأن العبرة في العقود المعاني، لا بالألفاظ والمباني، فألفاظ البيع والشراء والإجارة والهبة والنكاح ليست ألفاظاً تعبدية لا يجوز تجاوزها إلى غيرها، وإنما المرجع فيها إلى ما تعارف الناس عليه.

وهذا القول هو الصحيح.

ص: 17

‌باب شروط النكاح

أي سيذكر المصنف رحمه الله في هذا الباب شروط النكاح.

الشروط جمع شرط وهو لغة العلامة، واصطلاحاً: ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم.

والفرق بين شروط النكاح (التي سيذكرها المصنف في هذا الباب) وبين الشروط في النكاح التي ستأتي فيما بعد من وجهين:

الأول: أن شروط النكاح من وضع الشرع لا يمكن إبطالها، والشروط في النكاح شروط وضعها العاقد ويمكن إبطالها.

الثاني: أن شروط النكاح يتوقف عليها صحته، والشروط في النكاح يتوقف عليها لزومه.

م/ ولا بد فيه من رضا الزوجين.

أي يشترط لصحة النكاح رضا الزوجين، فإن أكره الزوج على التزويج بامرأة لم يصح النكاح، وكذلك الحال بالنسبة للمرأة.

لحديث أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن، قالوا: يا رسول الله: كيف إذنها؟ قال: أن تسكت) متفق عليه.

[الأيم] هي الثيب التي فارقت زوجها بموت أو طلاق، وقد تطلق على من لا زوج لها.

وقياساً على البيع فإنه يشترط فيه الرضا فكذلك النكاح.

• وعليه فلا يجوز للأب أن يجبر ابنته البالغة على النكاح.

هذا القول هو الصحيح (وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم).

لقوله صلى الله عليه وسلم (لا تنكح البكر حتى تستأذن) وهذا عام، ولم يستثن منه الأب.

وعن ابن عباس. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( .. والبكر يستأذنها أبوها) رواه مسلم.

وعن خنساء بنت جذام (أن أباها زوجها وهي ثيب فكرهت ذلك فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فردّ نكاحها). رواه البخاري

قال ابن القيم (وهو الذي ندين الله به ولا نعتقد سواه، وهو الموافق لحكم الرسول وأمره ونهيه، وقواعد شريعته ومصالح أمته).

وقد ذهب بعض العلماء إلى أنه يجوز للأب أن يجبر ابنته البالغة على النكاح وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد.

واستدلوا بالحديث السابق (لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن) بالمفهوم، لأنه جعل الثيب أحق بنفسها من وليها، فدل على أن ولي البكر أحق بها منها.

وأما الاستئذان فهو تطييب لخاطرها.

والراجح أنه لا يجوز أن يجبرها.

ص: 18

م/ إلا الصغيرةَ فيُجْبِرُهَا أبوها.

ذكر المصنف رحمه الله من لا يشترط رضاهم، فذكر الصغيرة، فإن للأب أن يجبرها.

لقول عائشة (تزوجني النبي صلى الله عليه وسلم وأنا ابنة ست، وبنى بي وأنا ابنة تسع) متفق عليه. ومعلوم أنها لم تكن في تلك الحال ممن يعتبر إذنها.

قال القرطبي: هذا الحديث مستند الإجماع على أن الأب يجبر البكر الصغيرة على النكاح.

ص: 19

م/ والأمَة يجبِرُها سيدُها.

أي: والسيد يجبر أمته على الزواج، قال ابن قدامة: لا نعلم في هذا خلافاً، وذلك لأن منافعها مملوكة، والنكاح عقد على منفعتها، فأشبه عقد الإجارة، ولذلك ملك الاستمتاع بها.

ص: 20

م/ ولابد فيه من الولي، قال صلى الله عليه وسلم (لا نكاح إلى بولي) حديث صحيح، رواه الخمسة.

هذا الشرط الثاني من شروط النكاح وهو الولي (وهو من يتولى أمر المرأة)، وهذا مذهب جمهور العلماء، وأنه لا يجوز للمرأة أن تزوج نفسها.

والأدلة على شرطية الولي كثيرة.

قال تعالى (فَلا تَعْضُلُوهُن) فقد جاء في سبب نزولها ما رواه البخاري عن معقل بن يسار أنها نزلت فيه، قال: (زوجت أختاً لي من رجل فطلقها، حتى إذا انقضت عدتها جاء يخطبها، فقلت له: زوجتك وأفرشتك وأكرمتك فطلقتها، ثم جئت تخطبها، لا والله لا تعود إليك أبداً، وكان رجلاً لا بأس به، وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه، فأنزل الله هذه الآية: (

فَلا تَعْضُلُوهُنّ) فقلت: الآن أفعل يا رسول الله، قال:(فزوجها إياه).

قال الحافظ ابن حجر في شأن هذه الآية: وهي أصرح دليل على اعتبار الولي، وإلا لما كان لرفضه معنى، ولأنها لو كان لها أن تزوج نفسها لم تحتج إلى أخيها.

وقال تعالى (ولا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا .. ) فالذي يُنكح هو الولي، فالخطاب للأولياء.

وكذلك قول الشيخ الكبير لموسى (قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ).

وعن أبي موسى الأشعري. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا نكاح إلا بولي) رواه أبوداود.

وعن عائشة. قالت. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أيما امرأة نُكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل) رواه أبوداود

وقال صلى الله عليه وسلم (لا تزوج المرأة نفسها) رواه ابن ماجه.

وقول عمر لعثمان - بعد أن تأيمت حفصة - (إن شئت أنكحتك حفصة) رواه البخاري.

• وذهب بعض العلماء وهو مذهب الحنفية إلى أنه لا يشترط الولي، قالوا: قياساً على البيع.

والصحيح مذهب الجمهور، ويرجح ذلك عدة أمور:

أولاً: أن اشتراط الولي فيه صيانة للمرأة عما يشعر في وقاحتها وميلها إلى الرجال.

ثانياً: أن الرجال أقدر من النساء على البحث عن أحوال الخاطب، فإن المرأة قاصرة في فعلها وفي اختيارها، فقد لا توفق للرجل الكفء.

ثالثاً: أن اشتراط الولي فيه مزيد إعلان للنكاح.

رابعاً: أن ارتباط المرأة بالرجل الذي تختاره، ليس شأناً خاصاً بها، وإنما يهم الموضوع أباها وأخاها بل والأسرة بأكملها.

ص: 21

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وأما قياسهم على البيع فهذا قياس لا يصح لأمرين:

أولاً: هذا قياس باطل، لأنه في مقابلة النص.

ثانياً: لأن عقد النكاح أخطر من عقد البيع.

• شروط الولي:

أن يكون مكلفاً (بالغاً عاقلاً): لأن غير المكلف يحتاج من يتولى أمره فكيف يتولى أمر غيره.

قال ابن قدامة: وأما العقل فلا خلاف في اعتباره.

أن يكون ذكراً: فالمرأة لا تكون ولية في النكاح، لأنها هي بحاجة إلى ولي فكيف تتولى أمر غيرها.

أن يكون رشيداً: وهو معرفة الكفء ومصالح النكاح.

الأمانة: أي ائتمان الولي على موليته، فلا يزوجها إلا بكفء.

اتفاق الدين: فلا يكون الكافر ولياً في النكاح. كما قال تعالى (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض). لكن لو كان الولي مسلماً وابنته كافرة فإنه يعقد لها، والسبب: لأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه.

ص: 22

م/ وأولى الناس بتزويج الحرة أبوها وإن علا، ثم ابنها وإن نزل، ثم الأقرب فالأقرب من عصباتها.

شرع المصنف رحمه الله بذكر الولاية في النكاح، فذكر أن أولى الناس بتزويج الحرة أبوها، لأنه أكثر الناس حنواً وشفقة، وأكمل نظراً ورأفة، ويليه الجد، فإنه كالأب في مزيد حنوه ورأفته على بنات ابنه.

ثم ابنها: أي يلي الأب وإن علا في ولاية النكاح الابن وإن نزل، لأنه أولى بالميراث من غيره، فكذا في النكاح.

ثم الأقرب فالأقرب من عصباتها: أي يلي الابن في مرتبة الولاية الأقرب من العصبة، لأن مبنى الولاية على الشفقة والنظر، فيقدم الأخ من الأبوين، لكونه أقرب العصبات بعد عمودي النسب، ثم الأخ لأب، ثم بنو الإخوة لأبوين، ثم بنو الإخوة لأب، ثم الأعمام كذلك، ثم بنوهم.

يقدم في جهة الولاية الأبوة، ثم البنوة، ثم الأخوة، ثم العمومة.

أمثلة: لو كان للبنت ابن وأب، فالأب هو الذي يزوج، لو وجد ابن وأخ شقيق، فيقدم الابن.

ص: 23

م/ وفي الحديث المتفق عليه (لَا تُنْكَحُ الأَيِّمُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ وَلَا تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ). قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ إِذْنُهَا قَالَ (أَنْ تَسْكُتَ).

[الأيم] هي التي يموت زوجها، أو تبين منه وتنقضي عدتها، وأكثر ما تطلق على من مات زوجها. [قاله الحافظ ابن حجر]

[تُستأمر] أصل الاستئمار طلب الأمر، فالمعنى لا يعقد عليها حتى يطلب الأمر منها، وتؤخذ من قوله:(تستأمر) أنه لا يعقد إلا بعد أن تأمر بذلك.

[البكر] هي العذراء التي لم يسبق لها زواج ولا وطء، لكن خص العلماء بالبكر هنا البالغة التي تدرك أمور النكاح، وإنما حملت على البالغة لأن الشرع جعل لإذنها اعتباراً، ومعلوم أن الصغيرة [كمن عمرها ثمان أو تسع] لا تدرك مقاصد الزواج ولا تعرف صفات الأزواج.

[تستأذن] أي يطلب الإذن منها ليعقد لها وليها الزواج، والفرق بين الإذن والاستئمار: أن الاستئمار طلب الأمر، ومعلوم أن طلب الأمر لا بد أن يكون بالقول، أما الإذن فلا يشترط أن يكون بالقول بل يكون بالقول وقد يكون بالسكوت، واكتفي بالسكوت من البكر: لان البكر قد تستحي ولا تصرح فاكتفي منها بالسكوت بعكس الثيب فطلب منها أن تصدع برأيها ..

• الحديث دليل على أن المرأة الثيب لا تتزوج حتى تستأمر وتطلب ذلك.

وإذن المرأة في الزواج له أحوال:

أولاً: أن تكون البنت بكراً صغيرة [فهذه يجوز تزويجها من غير إذنها].

ثانياً: أن تكون ثيباً، فهذه لا بد من رضاها واستئمارها بذلك.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وأما البالغ الثيب فلا يجوز تزويجها بغير إذنها لا للأب ولا لغيره بإجماع المسلمين.

لحديث الباب.

ص: 24

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ثالثاً: البكر البالغ، فهنا اختلف العلماء على قولين:

القول الأول: لا يجب إذنها، وإنما يستحب، فيجوز للأب إجبارها.

وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد.

واستدلوا بحديث الباب بالمفهوم، لأنه جعل الثيب أحق بنفسها من وليها، فدل على أن ولي البكر أحق بها منها.

وأما الاستئذان فهو تطييب لخاطرها.

القول الثاني: يجب استئذانها ولا تجبر على النكاح.

وهذا مذهب أبي حنيفة والثوري وابن المنذر.

واستدلوا بالحديث (لا تنكح البكر حتى تستأذن) فعلق النبي صلى الله عليه وسلم النكاح على الإذن، فدل على أنه واجب.

ورواية (والبكر يستأذنها أبوها في نفسها) وهذا نص في محل النزاع.

وعن ابن عباس: (أن جارية أتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة، فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم. رواه أبو داود

ففي هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم ردّ نكاح البكر التي زوجها أبوها وهي كارهة، فدل على أن إذن البكر لا بد منه في النكاح، وهذا الحديث مختلف فيه، وقد صححه ابن القيم.

وهذا القول هو الراجح.

ورجحه ابن القيم، وقال: وهو الذي ندين الله به، ولا نعتقد سواه، وهو الموافق لحكم الرسول صلى الله عليه وسلم وأمره ونهيه وقواعد شريعته ومصالح أمته.

• أما غير الأب، فلا يجوز له أن يزوج البكر الكبيرة بالاتفاق.

ص: 25

م/ وقال النبي صلى الله عليه وسلم (أعلنوا النكاح).

ذكر المصنف رحمه الله حديث (أعلنوا النكاح) ليستدل به على أنه ينبغي إعلان النكاح.

• ومعنى إعلان النكاح: إظهاره ونشره.

وقال صلى الله عليه وسلم أيضاً (فصل ما بين الحلال والحرام الدف والصوت في النكاح) رواه الترمذي وحسنه وحسنه أيضاً الألباني.

• فالحديث دليل على وجوب إعلان النكاح وإشهاره.

• الحكمة من الأمر بإعلان النكاح لحكمتين:

الأولى: إظهار الفرح والسرور.

الثانية: من أجل التفريق بينه وبين نكاح السر.

ص: 26

م/ ومن إعلانهِ: شهادةُ عدلين.

ذكر المصنف رحمه الله بعض وسائل إشهار النكاح وإعلانه، فذكر من ذلك: الإشهاد على العقد.

والإشهاد على النكاح مختلف فيه:

فذهب أكثر العلماء أنه شرط لصحة النكاح. [فهو الشرط الثالث من شروط النكاح].

روي هذا القول عن عمر وعلي هو قول ابن عباس وسعيد بن المسيب وجابر بن زيد والحسن والنخعي وقتادة والثوري والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي [المغني].

لحديث جابر. قال: قال صلى الله عليه وسلم (لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل) رواه الدارقطني وهو ضعيف بزيادة وشاهدي عدل.

قال الترمذي: والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم من التابعين وغيرهم، قالوا: لا نكاح إلا بشهود، لم يختلفوا في ذلك من مضى منهم إلا قوماً من المتأخرين من أهل العلم.

وذهب بعض العلماء: إلى أنه إذا أعلن النكاح لا يشترط الشهادة.

وهذا قول مالك واختاره ابن تيمية وقالوا: إن زيادة وشاهدي عدل لا تصح.

قال ابن المنذر: لا يثبت في الشاهدين خبر.

والقول الأول أحوط.

• وعليه: فيكون حالة العقد في النكاح لا تخلو من الأمور التالية:

أولاً: أن يحصل إشهاد وإعلان، فهذا العقد صحيح بالاتفاق.

ثانياً: أن لا يحصل إشهاد ولا إعلان، فهذا لا يصح عند الجميع.

ثالثاً: أن يحصل إشهاد دون إعلان، فهذا يصح في قول الجمهور.

رابعاً: أن يحصل إعلان دون إشهاد، فهذا صحيح على رأي ابن تيمية، وغير صحيح على رأي الجمهور.

• صفات الشهود:

عدلين، ذكرين: فلا تصح شهادة الأنثى، ولا شهادة رجل وامرأتين.

ففي مصنف عبد الرزاق عن الزهري قال (مضت السنة أن شهادة المرأة لا تجوز في الحدود ولا في النكاح ولا في الطلاق).

ولأن هذا الأمر يطلع عليه الرجال.

مكلفين: أي عاقلين بالغين.

سميعين: فلو كانا أصمين لم تقبل شهادتهما، لأنهما لا يسمعان.

• يصح أن يكونا أخرسين، لأنه يمكنه أن يؤدي الشهادة بالإشارة.

ص: 27

م/ والضرب عليه بالدف ونحوه.

أي ومن وسائل إعلانه الضرب عليه بالدف.

قال البخاري في صحيحه: باب ضرب الدف بالنكاح والوليمة.

ثم ذكر حديث من طريق خالد بن ذكوان قال (قالت الربُّيّع بنت مُعَوِّذ بن عفراء: جاء النبي صلى الله عليه وسلم يدخل حين بُنيَ علي، فجلس على فراشي كمجلسكَ مني، فجعلتْ جويرياتٌ لنا يضربن بالدف ويَنْدُبْنَ من قُتلَ من آبائي يوم بدر، إذ قالت إحداهن: وفينا نبي يعلم ما في غدٍ، فقال: دعي هذه وقولي بالذي كنتِ تقولين) فأقر النبي صلى الله عليه وسلم الدف ولم ينكره.

ونقل الحافظ عن المهلب: في هذا الحديث إعلان بالدف وبالغناء المباح.

والدف: هو آلة مستديرة كالغربال.

ويشترط لكونه دفاً: أن يكون من وجهٍ واحد، من أجل ألا يكون صوته كثير (لا يكون من وجهين، لأنه حينئذ يكون طبلاً).

ولا يكون فيه جلاجل، لأنها من خصائص الطبل.

وعلى هذا: فضرب الدف في الزواج لا مانع منه شرعاً لكن لابد من ضوابط وقيود لئلا يساء استعماله:

أولاً: أن الضرب بالدف خاص بالنساء دون الرجال.

قال ابن تيمية: ولما كان الغناء والضرب بالدف والكف من عمل النساء كان السلف يسمون من يفعل ذلك مخنثاً، ويسمون الرجال المغنين مخانيث، وهذا مشهور في كلامهم.

وقال الحافظ ابن رجب: وإنما يباح الدف إذا لم يكن فيه جلجل ونحوه، مما يصوت عند أكثر العلماء، نص عليه الإمام أحمد وغيره من العلماء، كما كانت دفوف العرب على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد رخص في هذا الدف طائفة من متأخري أصحابنا مطلقاً في العرس وغيره للنساء دون الرجال.

وقال الحافظ ابن حجر: الأحاديث القوية فيها الإذن في ذلك للنساء فلا يلتحق بهن الرجال، لعموم النهي عن التشبه بهن.

ثانياً: أن يكون الضرب خفيفاً لا إزعاج فيه.

ثالثاً: ألا يكون مع الضرب بالدف غناء بقصائد تشتمل على أمور محرمة كالخلاعة والفساد وغيرها.

أما إذا اشتملت على قصائد حكم وأمور حماسية فهذا لا مانع منه.

رابعاً: ألا يطول الوقت، بحيث يكون إلى ساعة متأخرة من الليل حيث يترتب على ذلك مفاسد كترك صلاة الفجر.

ص: 28

‌باب الكفاءة في النكاح

م/ وليس لولي المرأة تزويجُها بغير كفءٍ لها.

أي: ولا يجوز لولي المرأة أن يزوجها بغير كفء، لأن الولاية أمانة، والأمين يجب عليه مراعاة الأصلح، وليس من الأصلح أن تزوج المرأة بغير كفء.

ص: 29

م/ فليس الفاجرُ كفؤاً للعفيفة.

أي: فلا يجوز أن تُزوج العفيفة بالفاجر، والمراد بالفاجر الزاني بدليل قوله: العفيفة.

فالكفاءة في الدين شرط وهذا القول هو الصحيح.

قال تعالى (الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ).

وهذه الآية للعلماء كلام كثير، رجح بعض العلماء المعاصرين معناها: أن المرأة إذا تزوجت الرجل الزاني، فإن كانت مستحلة للزنا فهي مشركة، وإن كانت تقر بتحريم الزنا لكن رضيتْ به فهي زانية، لأن الراضي كالفاعل، وكذا الرجل إذا تزوج امرأة يعلم أنها زانية، فإن كان مستحلاً له فهو مشرك، وإن كان مقراً بتحريم الزنا لكنه رضي فهو زان.

وقال صلى الله عليه وسلم (من أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) رواه الترمذي

ص: 30

م/ والعربُ بعضهم لبعض أكفاء.

ذكر المصنف رحمه الله حديث (العرب بعضهم أكفاء بعضهم) ليستدل به على اعتبار الكفاءة في النسب، لكن الحديث لا يصح بل هو ضعيف جداً، والمعنى الذي دل عليه الحديث غير صحيح، بل الصحيح أن الكفاءة في النسب ليست شرطاً وكذلك الكفاءة في الصنعة وفي اليسار.

لقوله تعالى (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ).

عن أبي هريرة. أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (يا بني بياضة، أنكحوا أبا هند، وانكحوا إليه، وكان حجاماً) رواه أبوداود

[بني بياضة] بطن من بطون الخزرج، إحدى قبيلتي الأنصار، [أنكحوا] أي: زوجوه بناتكم. [أبا هند] مولى فروة بن عمرو، واسمه عبد الله وكان حجاماً حجم النبي صلى الله عليه وسلم، كما جاء في رواية عند أبي داود. [وانكحوا له] أي: اخطبوا إليه بناته ولا تخرجوه منكم بسبب مهنة الحجامة.

فأمر النبي صلى الله عليه وسلم هذه القبيلة، وهي القبيلة القحطانية الأزدية العربية أن ينكحوا أبا هند، وهو أحد موالي بني بياضة المذكورين، وكان حجاماً والحجامة عند العرب صناعة دنيئة.

وعن فاطمة بنت قيس. أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها (أنكحي أسامة بن زيد) متفق عليه وكان مولى، فهو غير كفؤاً لها، لأنها قرشية وهو قد مسه الرق.

فالصواب من أقوال أهل العلم ما ذهب إليه الإمام مالك، واختار ذلك ابن عبد البر، وابن تيمية وابن القيم، وهو أن المعتبر في الكفاءة هو الدين، وليس النسب، فكل مسلم يعتبر كفؤاً للمسلمة إلا إذا كان فاسقاً.

ص: 31

م/ فإن عُدمَ وليها أو غاب غيبة طويلة أو امتنع من تزويجها كفؤاً: زوجها الحاكم، كما في الحديث (السلطان ولي من لا ولي له) أخرجه أصحاب السنن إلا النسائي.

أي: إذا لم يكن للمرأة ولي، أو غاب غيبة طويلة ولم يرتجى رجوعه، أو امتنع من تزويجها كفؤاً، فإنه في هذه الحالة يزوجها الحاكم. [القاضي في هذا الوقت].

لحديث عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (أَيُّمَا اِمْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا اَلْمَهْرُ بِمَا اِسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا، فَإِنِ اشْتَجَرُوا فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَه) أَخْرَجَهُ اَلْأَرْبَعَةُ إِلَّا النَّسَائِيَّ، وَصَحَّحَهُ أَبُو عَوَانَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ.

• فالحديث دليل على أن المرأة التي ليس لها ولي فإن وليها السلطان (القاضي)، فالقاضي يتولى عقد النكاح في مسائل متعددة، منها:

أولاً: أن تكون المرأة لا ولي لها مطلقاً.

ثانياً: إذا عضل الأقرب كالأب مثلاً [والعضل منع المرأة من التزويج] فقد ذهب بعض العلماء إلى أنه إذا عضل الولي الأقرب فإن الولاية تنتقل إلى السلطان وهذا قول الشافعي وأحمد.

وذهب بعض العلماء أنها تنتقل إلى الأبعد بشرط أن يكون كفؤاً للعقد.

ثالثاً: أن يمتنع جميع الأولياء عن تزويجها ويعضلونها.

رابعاً: إذا غاب الولي الأقرب غيبة منقطعة، فقيل: يزوجها السلطان ولا يزوجها الأبعد وهذا قول الشافعي، وقيل: يزوجها الولي الأبعد، وهذا قول أبي حنيفة وأحمد وهذا الصواب.

• قوله (أو غاب غيبة طويلة) ضابط الغيبة: هي المدة التي يفوت بها الخاطب الكفء.

ص: 32

م/ ولا بد تعيين من يقع عليه العقد، فلا يصح: زوجتك بنتي وله غيرها، حتى يميزها باسمها أو وصفها.

أي: ومن شروط النكاح تعيين الزوجين، وهو أن يكون كل واحد من الزوجين معروفاً معلوماً، [وهذا الشرط الرابع من شروط النكاح].

لأن النكاح عقد معاوضة أشبه البيع، ولأن مقصود النكاح العين، فلا يصح بدون التعيين كالبيع.

فلو قال الولي: زوجتك بنتي - ولم يحددها - وله غيرها لم يصح، وكذا لو قال: زوجتها ابنك.

• وقد ذكر المصنف رحمه الله طرق التعيين، فمنها:

بالتسمية: مثل أن يقول زوجتك ابنتي خديجة.

أو بوصفها بصفة تتميز عن غيرها: مثل أن يقول زوجتك ابنتي المدرّسة.

ومن طرق التعيين الإشارة: مثل أن يقول زوجتك ابنتي هذه.

ص: 33

م/ ولا بد أيضاً من عدم الموانع بأحد الزوجين، وهي المذكورة في باب المحرمات في النكاح.

أي: ومن شروط النكاح خلو الزوجين من الموانع، كأن تكون الزوجة في ذمة زوج أو كانت في العدة.

أو يكون الرجل متزوجاً أربع.

ص: 34

‌باب المحرمات في النكاح

م/ وهُنّ قسمان: محرمات إلى الأبد، ومحرمات إلى أمد.

المحرمات التي يحرم على الإنسان التزوج بهن قسمان:

القسم الأول: محرمات إلى الأبد. فلا تحل أبداً.

القسم الثاني: محرمات إلى أمد. أي إلى غاية، فمتى زال المانع فإنها تحل له.

ص: 35

م/ فالمحرمات إلى الأبد سبع من النسب وهن: الأمهات وإن علون .....

القسم الأول: المحرمات إلى الأبد وهن سبع:

قال تعالى (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ).

ص: 36

م/ الأمهات وإن علون.

لقوله تعالى (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ).

ويدخل فيهن: الأم والجدات، سواء كن من جهة الأب أو من جهة الأم.

ص: 37

م/ البنات وإن نزلن ولو من بنات البنت.

لقوله تعالى (وَبَنَاتُكُمْ).

ويدخل فيهن: بنات الصلب، وبنات الأبناء، وبنات البنات وإن نزلن.

ص: 38

م/ والأخوات مطلقاً.

لقوله تعالى (وَأَخَوَاتُكُمْ)، شقيقة كانت، أو لأب، أو لأم.

ص: 39

م/ وبناتهن. أي وبنات الأخوات.

لقوله تعالى (وَبَنَاتُ الْأُخْتِ).

• ويدخل فيهن: بنات الأخت الشقيقة، وبنات الأخت لأب، وبنات الأخت من الأم، وبنات أبنائهن وبنات بناتهن وإن نزلن.

ص: 40

م/ بنات الأخ:

لقوله تعالى (وَبَنَاتُ الْأَخِ).

ويدخل فيهن: بنات الأخ الشقيق، وبنات الأخ لأب، وبنات الأخ لأم، وبنات أبنائهم، وبنات بناتهن وإن نزلن.

ص: 41

م/ والعمات والخالات له أو لأحد أصوله.

لقوله تعالى (وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ).

• العمات جمع عمة، وهي أخت الأب أو الجد وإن علا، والخالات: جمع خالة، وهي أخت الأم، أو الجدة وإن علت.

قال ابن جرير (فكل هؤلاء اللواتي سماهن الله تعالى وبيّن تحريمهن محرمات غير جائز نكاحهن لمن حرّم الله ذلك عليه من الرجال بإجماع جميع الأمة لا اختلاف بينهم).

(وممن حكى الإجماع القرطبي والطحاوي وابن تيمية).

• أما بنات العمات والأعمام، وبنات الخالات والأخوال فلا يحرمن لقوله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ

) وحكم الأمَّة حكمه صلى الله عليه وسلم ما لم يدل دليل على تخصيصه.

قاعدة: قال السعدي في كتابة (نور البصائر): فالقرابات كلهن حرام، إلا بنات العم وبنات العمات، وبنات الأخوال، وبنات الخالات.

ص: 42

م/ وسبع من الرضاع نظير المذكورات.

أي ومن المحرمات تأبيداً المحرمات بالرضاع، وهن سبع نظير المحرمات بالنسب.

والدليل على التحريم بالرضاع قوله صلى الله عليه وسلم (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) متفق عليه.

قال ابن قدامة: ولا نعلم في هذا خلافاً.

• فتحرم عليك أمك من الرضاع، وأختك من الرضاع، وبنتك من الرضاع ..... الخ.

ص: 43

م/ وأربع من الصهر.

أي: ومما يحرم أبداً، المحرمات بالصهر، وهن أربع، ثلاث بمجرد العقد الصحيح.

• الصهر هو الاتصال بين إنسانين بسبب عقد النكاح، فليس هناك قرابة ولا رضاع ولكن سببه عقد النكاح.

ص: 44

م/ وهن: أمهات الزوجات وإن علون.

أي وما يحرم بسبب الصهر أم زوجتك وجدتها وإن علون، فيحرمن بمجرد العقد على البنت.

لقوله تعالى (وأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ).

مثلاً: زوجتك اسمها رقية ولها أم اسمها خديجة، فإنها لا تحل لك، لأنها أم زوجتك وكذلك جدتها وأم جدتها.

• وهذه تحرم بمجرد العقد.

ص: 45

م/ وبناتهن وإن نزلن، إذا كان قد دخل بأمهاتهن.

أي ومما يحرم من المصاهرة بنت زوجته، وهذه تحرم إذا دخل بأمها [وهو وطء الزوجة بنكاح صحيح].

وهذه هي الربيبة.

قال تعالى (وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ). [ومعنى دخلتم بهن: أي جامعتوهن].

مثال: لو كان لك زوجة ولها بنت من رجل آخر، فهذه البنت حرام عليك.

لكن لا يقع التحريم إلا بالدخول وهو الجماع، فإن حصل الفراق قبل الجماع فلا تحرم.

لقوله تعالى (وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ). {الربيبة بنت الزوجة} .

لكن الآية فيها قيدان:

اللاتي في حجوركم - أن تكون من نسائكم اللاتي دخلتم بهن.

لكن أكثر العلماء على أنه يشترط شرط واحد وهو الدخول {الجماع} ، وأما شرط كونها في الحجر فهذا شرط أغلبي.

ص: 46

م/ وزوجات الآباء وإن علون.

أي ومما يحرم بالمصاهرة زوجة الأب وجده وإن علا، وهذه تحرم بمجرد العقد، دخل بها أبوه أو لم يدخل.

قال تعالى (وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَاءَ سَبِيلاً).

فزوجة أبيك حرام عليك على التأبيد حتى لو مات أبوك عنها. وكذلك لو طلقها.

قال تعالى (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتاً وساء سبيلاً).

ص: 47

م/ وزوجات الأبناء وإن نزلن.

أي ومما يحرم بالمصاهرة زوجة ابنك.

قال تعالى (وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ).

أي أنه لو كان لابنك زوجة ثم طلقها فإنها لا تحل لك.

ص: 48

م/ والأصل في هذا قوله تعالى (حرمت عليكم .... ) وقوله صلى الله عليه وسلم (يحرم من الرضاع

).

ذكر المصنف رحمه الله الدليل على هذه النساء المحرمات.

فالمحرمات من النسب دليل ذلك قوله تعالى (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ .... ).

ودليل التحريم بالرضاع: قوله صلى الله عليه وسلم (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) متفق عليه.

معنى الحديث: ويحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب: من سببية والتقدير: ويحرم النكاح بسبب الرضاعة كما يحرم بسبب النكاح.

ص: 49

م/ وأما المحرماتُ إلى أمد.

بدأ المصنف رحمه الله بذكر المحرمات إلى أمد، والأمد الغاية، وهن نوعان:

الأول: المحرمات لأجل الجمع.

الثاني: المحرمات إلى أمد، وهن المحرمات لعارض قابل للزوال.

وبدأ المصنف رحمه الله بالنوع الأول.

تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها.

ص: 50

م/ فمنهن قوله صلى الله عليه وسلم (لَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا وَلَا بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا).

ذكر المصنف رحمه الله حديث أبي هريرة (لا يجمع بين المرأة وعمتها

) أي في الزواج، ليستدل به على تحريم الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها.

• الحديث دليل على تحريم أن يجمع الرجل في عصمته بين المرأة وعمتها، أو المرأة وخالتها.

قال النووي: في هذا دليل لمذهب العلماء كافة أنه يحرم الجمع بين المرأة وعمتها، وبينها وبين خالتها.

• فإن جمع بينهما:

• إن كان بعقد واحد بطلا.

• وإن كان كل واحدة بعقد، فنكاح الثاني مفسوخ باطل.

• وقد بين صلى الله عليه وسلم الحكمة من ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم:(إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم) رواه ابن حبان، وذلك لما يكون بين الضرائر من الغيرة.

فإذا طلقت المرأة وانتهت عدتها، حلت أختها وعمتها وخالتها، لانتفاء الضرر.

• ومثل ذلك الرضاع فأخت زوجتك من الرضاع لا تجمعها مع زوجتك.

كذلك عمة زوجتك من الرضاع لا يجوز، وكذلك خالة زوجتك من الرضاع لا يجوز.

• عمة الزوجة أو خالتها، هذه من المحرمات إلى أمد.

ص: 51

‌تحريم الجمع بين المرأة وأختها.

م/ مع قوله تعالى (وأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ).

ذكر المصنف رحمه الله الآية الدالة على تحريم الجمع بين الأختين في الزواج وهي قوله تعالى (وأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ).

• فالآية دليل على تحريم الجمع بين المرأة وأختها في الزواج.

قال ابن جرير: معناه: وحرم عليكم أن تجمعوا بين الأختين عندكم بنكاح.

قال ابن كثير: وقد أجمع العلماء من الصحابة والتابعين والأئمة قديماً وحديثاً على أنه يحرم الجمع بين الأختين في النكاح.

قال الحافظ ابن حجر: والجمع بين الأختين في التزويج حرام بالإجماع، سواء كانت شقيقتين أم من أب أم من أم، وسواء البنت من الرضاع.

ومن الأدلة على التحريم: حديث أُمِّ حَبِيبَة بِنْتِ أَبِى سُفْيَانَ قَالَتْ (دَخَلَ عَلَىَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ لَهُ هَلْ لَكَ فِي أُخْتِي بِنْتِ أَبِى سُفْيَانَ فَقَالَ «أَفْعَلُ مَاذَا». قُلْتُ تَنْكِحُهَا. قَالَ «أَوَتُحِبِّينَ ذَلِكَ». قُلْتُ لَسْتُ لَكَ بِمُخْلِيَةٍ وَأَحَبُّ مَنْ شَرِكَنِي فِي الْخَيْرِ أُخْتِي. قَالَ «فَإِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِى». قُلْتُ فَإِنِّى أُخْبِرْتُ أَنَّكَ تَخْطُبُ دُرَّةَ بِنْتَ أَبِى سَلَمَةَ. قَالَ «بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ». قُلْتُ نَعَمْ. قَالَ «لَوْ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِي فِي حَجْرِي مَا حَلَّتْ لِي إِنَّهَا ابْنَةُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ أَرْضَعَتْنِي وَأَبَاهَا ثُوَيْبَةُ فَلَا تَعْرِضْنَ عَلَىَّ بَنَاتِكُنَّ وَلَا أَخَوَاتِكُنَّ) رواه مسلم.

[انكح أختي] أي تزوج، جاء في رواية عند مسلم (انكح أختي عزة بنت أبي سفيان). [أو تحبين ذلك] استفهام تعجب من كونها تطلب أن يتزوج غيرها مع ما طبع عليه النساء من الغيرة. [لست لك بِمُخْلِيَة] أي لست بمنفردة بك، ولا خالية من ضرة. [وأحب من شاركني في الخير] المراد بالخير ذاته صلى الله عليه وسلم، فقد جاء في رواية:(وأحب من شركني فيك).

• فمن أسلم وتحته أختان خُيّر، فيمسك إحداهما ويطلق الأخرى لا محالة.

ص: 52

م/ ولا يجوز للحرِّ أن يجمعَ أكثر من أربع.

أي ويحرم على الرجل أن يجمع في عصمته أكثر من أربع زوجات في وقت واحد.

وقد حكى الإجماع على ذلك غير واحد، منهم (ابن حجر، وابن قدامة، وابن كثير).

قال تعالى (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ). أي إن شاء أحدكم اثنتين، وإن شاء ثلاثاً، وإن شاء أربعاً.

وقد بوب البخاري (باب لا يتزوج أكثر من أربع لقوله تعالى: مثنى وثلاث ورباع).

قال الحافظ ابن حجر: أما حكم الترجمة فبالإجماع إلا قول من لا يعتد بخلافه من رافضي ونحوه.

وعن ابن عمر (أن غيلان بن سلمة أسلم وله عشر نسوة في الجاهلية فأسلمن معه فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخير منهن) رواه الترمذي وفي إسناده ضعف.

• من خصوصيات النبي صلى الله عليه وسلم أن له أن يجمع أكثر من أربع.

ص: 53

م/ ولا للعبد أن يجمعَ أكثر من زوجتين.

أي: لا يجوز للعبد أن يجمع أكثر من اثنتين، لأنه قول عمر وعلي وغيرهما ولا مخالف لهما.

ص: 54

م/ وأما ملك اليمين: فله أن يطأ ما شاء.

قال تعالى (فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) ولم يقيد

قال تعالى (والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم .. ) ولم يحدد.

فيجوز أن يطأ من ملك اليمين ما أراد.

ص: 55

م/ وإذا أسلم الكافر وتحته أختان: اختار إحداهما.

أي: أن من أسلم وتحته أختان خُيّر فيمسك إحداهما ويطلق الأخرى لا محالة، وقد سبق أنه لا يجوز الجمع بين الأختين في النكاح.

وقد جاء في ذلك حديث - مختلف في صحته - عن اَلضَّحَّاكِ بْنِ فَيْرُوزَ الدَّيْلَمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ! إِنِّي أَسْلَمْتُ وَتَحْتِي أُخْتَانِ، فَقَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم " طَلِّقْ أَيَّتَهُمَا شِئْتَ) رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْأَرْبَعَةُ إِلَّا النَّسَائِيَّ، وَصَحَّحَهُ اِبْنُ حِبَّانَ، وَاَلدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَأَعَلَّهُ اَلْبُخَارِيُّ.

ص: 56

م/ أو عنده أكثر من أربع زوجات: اختار أربعاً، وفارق البواقي.

أي: إذا أسلم الكافر وعنده أكثر من أربع زوجات فإنه يختار أربعاً ويفارق البواقي، وقد سبق أنه لا يجوز للحر أن يجمع في عصمته أكثر من أربع.

وقد جاء في ذلك حديث: عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ (أَنَّ غَيْلَانَ بْنَ سَلَمَةَ أَسْلَمَ وَلَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ، فَأَسْلَمْنَ مَعَهُ، فَأَمَرَهُ اَلنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَتَخَيَّرَ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا) رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَاَلتِّرْمِذِيُّ، وَأَعَلَّهُ اَلْبُخَارِيُّ، وَأَبُو زُرْعَةَ، وَأَبُو حَاتِمٍ وغيرهم

ص: 57

م/ وتحرم المحرمِة حتى تحل من إحرامها.

بدأ المصنف رحمه الله بذكر المحرمات إلى أمد، وهن المحرمات لعارض قابل للزواج.

فمنها: المحرمة حتى تحل من إحرامها، أي: وتحرم المحرمة حتى تحلَّ من إحرامها {التحلل الثاني عند جمهور العلماء} .

لحديث عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلَا يُنْكَحُ وَلَا يَخْطُبُ) رواه مسلم.

[لا ينكح] أي لا يتزوج ويعقد. [المحرِم] أي حال إحرامه بحج أو عمرة.

[ولا يُنكِح] أي لا يعقد لغيره. [أو يخطب] أي يطلب زواج المرأة من نفسها أو من أهلها.

• الحديث دليل على أن المحرم منهي أن ينكح: أي يتزوج، أو يُنكِح: بضم الياء أي يعقد لغيره.

فالمحْرِم منهي ان يتزوج هو، أو يزوج غيره [كأن يكون ولياً في النكاح].

• الحكمة من النهي:

أولاً: إبعاد المحرم عن الترف في شهوات الدنيا وملذاتها [يتفرغ المحرم لما جاء من أجله].

ثانياً: سد الذريعة، لان الخطبة وسيلة إلى عقد النكاح، وعقد النكاح وسيلة للجماع المحرم في حال الإحرام.

• وذهب بعض العلماء إلى حديث ابن عباس (أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ).

والصواب الأخْذ بحديث عثمان [لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلَا يُنْكَحُ وَلَا يَخْطُبُ] وهو تحريم نكاح المحرم، وأما الجواب عن ما ورد عن ابن عباس:

أن ميمونة نفسها صاحبة القصة قالت (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَزَوَّجَهَا وَهُوَ حَلَالٌ) رواه مسلم.

أن أبا رافع كان السفير بينهما قال: كنت السفير بينهما فتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم وهو حلال.

وأن ابن عباس ربما لم يطلع ولم يعلم بالنكاح إلا بعد أن أحرم النبي صلى الله عليه وسلم، فظن أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو محرم.

• يجوز للمحرم أن يكون شاهداً لعقد النكاح، فالمحرّم هو أن يعقد هو أو يعقد لغيره أو يخطب.

ص: 58

م/ والمعتدة من الغير حتى يبلغ الكتاب أجله.

أي: ومن المحرمات إلى أمد، المرأة التي في عدتها من الغير، فلا يحل لأحد نكاحها حتى تنقضي عدتها.

لقوله تعالى (وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ) أي ولا تعقدوا عقد النكاح حتى تنتهي العدة

والمراد: ببلوغ الكتاب أجله: انقضاء العدة، وقد نقل ابن رشد الاتفاق على أن النكاح لا يجوز في العدة.

• قال ابن كثير: واختلفوا فيمن تزوج امرأة في عدتها، فدخل بها، فإنه يفرق بينهما، وهل تحرم عليه أبداً؟ على قولين: الجمهور على أنها لا تحرم عليه، بل له أن يخطبها إذا انقضت عدتها، وذهب الإمام مالك إلى أنها تحرم عليه على التأبيد.

ص: 59

م/ والزانية على الزاني وغيره حتى تتوب.

أي: ومن المحرمات إلى أمد الزانية حتى تتوب، فلا يجوز لأحد أن ينكحها على زان أو غيره إذا علم زناها

لقوله تعالى (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ). {الزنا فعل الفاحشة في قبل أو دبر}

قال السعدي: أي: وحُرّم عليهم أن يُنكحوا زانياً، أو يَنكحوا زانية ..... وهذا دليل صريح على تحريم نكاح الزانية حتى تتوب، وكذلك إنكاح الزاني حتى يتوب.

• وتحريم نكاح الزانية حتى تتوب، هو مذهب الإمام أحمد وجماعة من العلماء، وذهب بعض العلماء إلى الجواز لعموم قوله تعالى (وأحل لكم ما وراء ذالكم).

• قوله (حتى تتوب) الصحيح أن توبتها كغيرها، أن نعلم صلاح حالها وتبعد عن مكان الريب ورجحه ابن قدامة.

• قال بعض العلماء: إن توبتها أن تراود فتمتنع، لكن هذا القول ضعيف لأسباب ذكرها الشيخ ابن عثيمين رحمه الله منها: إنه بالمراودة قد تعود بعد أن تابت _ وأن هذا المراوِد لا يأمن على نفسه لو وافقته _ أن المراودة إما بخلوة وهذا حرام وإما بحضرة ناس فإنها لن تطيع.

ص: 60

م/ وتحرم مطلقتُه ثلاثاً حتى تنكح زوجاً غيره، ويطؤها ويفارقها وتنقضي عدتها.

أي: ومن المحرمات إلى أمد مطلقته ثلاثاً، فإنها تحرم عليه حتى تنكح زوجاً غير زوجها نكاحاً صحيحاً، ثم يطلقها بعد ذلك، فيجوز للأول إعادتها.

فمن طلق زوجته آخر ثلاث تطليقات، فإنها لا ترجع إليه إلا بشروط:

الشرط الأول: أن تنكح زوجاً غيره.

لقوله تعالى (فَإِنْ طَلَّقَهَا [يعني الثالثة] فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَه).

ولحديث عَائِشَةَ قَالَتْ جَاءَتِ امْرَأَةُ رِفَاعَةَ إِلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ كُنْتُ عِنْدَ رِفَاعَةَ فَطَلَّقَنِى فَبَتَّ طَلَاقِى فَتَزَوَّجْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزَّبِيرِ وَإِنَّ مَا مَعَهُ مِثْلُ هُدْبَةِ الثَّوْبِ فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ «أَتُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِى إِلَى رِفَاعَةَ لَا حَتَّى تَذُوقِى عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ» . قَالَتْ وَأَبُو بَكْرٍ عِنْدَهُ وَخَالِدٌ بِالْبَابِ يَنْتَظِرُ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ فَنَادَى يَا أَبَا بَكْرٍ أَلَا تَسْمَعُ هَذِهِ مَا تَجْهَرُ بِهِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم متفق عليه.

[فبت طلاقي] البت بمعنى القطع. يحتمل أنه قال لها: أنت طالق البتة، ويحتمل أنه طلقها الطلقة الأخيرة، وهذا الراجح، فقد جاء عند البخاري:(طلقني آخر ثلاث تطليقات) فيكون طلقها ثم راجعها ثم طلقها ثم راجعها ثم طلقها.

[عبد الرحمن بن الزَّبير] الزَّبِير: بفتح الزاي، بعدها باء مكسورة. [مثل هدبة الثوب] هدبة بضم الهاء وسكون الدال هو طرف الثوب، وأرادت أن ذكره يشبه الهدبة في الاسترخاء وعدم الانتشار. [عسيلته] العسيلة حلاوة الجماع الذي يحصل بتغييب الحشفة في الفرج، قال الجمهور: ذوق العسيلة كناية عن المجامعة، وهو تغييب حشفة الرجل في فرج المرأة.

ص: 61

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشرط الثاني: أن يجامعها في الفرج.

لقوله صلى الله عليه وسلم: (حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته) فعلق النبي صلى الله عليه وسلم الحل على ذواق العسيلة منها، ولا يحصل هذا إلا بالوطء في الفرج.

ولقوله (حتى تنكح زوجاً غيره) فالمراد بالنكاح هنا الوطء لدلالة حديث عائشة السابق.

وهذا مذهب جمهور العلماء أنه لا بد من الجماع، قال ابن المنذر: أجمع العلماء على اشتراط الجماع لتحل للأول، إلا سعيد بن المسيب. يعني أنه قال: يكفي العقد.

• يكفي لحلها لمطلقها ثلاثاً، تغييب حشفة الرجل في الفرج، ولا بد من انتشار الذكر.

• لا يشترط الإنزال، وهذا مذهب الجمهور خلافاً للحسن البصري.

الشرط الثالث: أن يكون النكاح صحيحاً.

فإن كان فاسداً كنكاح التحليل أو الشغار، فإنه لا يحلها وطئها.

ونكاح التحليل هو: أن يعمد الرجل إلى المرأة المطلقة ثلاثاً فيتزوجها ليحلها لزوجها الأول.

وهو حرام ولا تحل به المرأة لزوجها الأول.

لحديث ابن مسعود قال: (لعن رسول الله المحلل والمحلل له). رواه أحمد والترمذي

وسماه النبي صلى الله عليه وسلم تيساً مستعاراً.

فمتى نوى الزوج الثاني أنه متى حللها طلقها، فإنه لا تحل للأول، والنكاح باطل.

فالملعون على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم هو:

المحلل: هو الزوج الثاني إذا قصد التحليل ونواه، وكان عالماً.

والمحلل له: هو الزوج الأول، فيلحقه اللعن إذا كان عالماً.

(وستأتي المسألة إن شاء الله).

ص: 62

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

• لو وطأها الثاني بحيض أو نفاس أو إحرام، هل تحل؟

قيل: لا تحل بالوطء المحرَّم.

قالوا لأنه وطء حرام لحق الله، فلم يحصل به الإحلال.

وقيل: أنه يحلها.

وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي، ورجحه ابن قدامة في المغني، حيث قال: وظاهر النص حلها، وهو قوله تعالى (حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) وهذه قد نكحت زوجاً غيره، وأيضاً قوله صلى الله عليه وسلم:(حتى تذوق عسيلته ويذوق عسيلتك) وهذا قد وُجِد، ولأنه وطء في نكاح صحيح في محل الوطء على سبيل التمام فأحلها كالوطء الحلال، وهذا أصح إن شاء الله، وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي.

وهذا هو الصحيح.

• الحكمة من كون الزوج الأول لا يحل له نكاح مطلقته ثلاثاً حتى تنكح زوجاً غيره:

أولاً: تعظيم أمر الطلاق، حتى لا يكثر وقوعه، فإنه إذا علم أنه لا ترجع إليه بعد الثلاث حتى يتزوجها غيره، لم يستعجل بإيقاعه.

ثانياً: الرفق بالمرأة، فإن المرأة إذا طلقت ثلاثاً فإنها تتزوج غيره، وقد يكون خيراً من زوجها الأول فتسعد به.

ص: 63

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

مسائل لم يذكرها المصنف:

• لا يحل لكافر أن ينكح مسلمة، أياً كان نوع كفره، يهودياً أو نصرانياً أو مجوسياً.

لقوله تعالى (ولا تُنكحوا المشركين حتى يؤمنوا).

وقال تعالى (فإن علمتوهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن).

والنظر يقتضي ذلك: فإنه لا يمكن أن يكون للكافر سلطة على المسلم أو المسلمة.

• ولا يجوز للمسلم أن يتزوج كافرة إلا الحرة الكتابية.

لقوله تعالى (ولا تَنكحوا المشركات حتى يؤمنّ).

قال ابن كثير: هذا تحريم من الله عز وجل على المؤمنين أن يتزوجوا المشركات من عبدة الأوثان، ثم إن كان عمومها مراداً وأنه يدخل فيها كل مشركة من كتابية ووثنية فقد خص من ذلك نساء أهل الكتاب بقوله: (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين.

وقال تعالى (ولا تمسكوا بعصم الكوافر)(الكوافر) جمع كافرة.

أما الحرة الكتابية فيجوز، لقوله تعالى (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين)، (والمراد بالمحصنات هنا العفيفات).

• لا يجوز للحر المسلم أن يتزوج الأمة المسلمة إلا بشرطين:

الشرط الأول: أن يخاف العنت، وهو المشقة بعدم الزواج ويخشى الزنا.

الشرط الثاني: أن يعجز عن مهر الحرة.

قال تعالى (ومَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ

ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ).

والحكمة من أن الحر لا يتزوج أمة كما قال الإمام أحمد: لأنه إذا تزوج الأمة رق نصفه، أي صار رقيقاً، لأن الأولاد يكونون أرقاء تبعاً لأمهم.

ص: 64

م/ ويجوز الجمع بين الأختين بالملك، ولكن إذا وطئ إحِداهما لم تحل له الأخرى حتى يحرّم الموطوءة بإخراج عن ملكه، أو تزوجٍ لها بعد الاستبراء.

أي يجوز أن يجمع بين الأختين في الملك.

وقوله (بالملك) احترازاً من عقد النكاح. فلا يجوز الجمع كما تقدم.

قوله (ولكن إذا وطئ إحداهما .... ) يعني لو أنه ملك أختين (أمَتَيْن) فله أن يطأ أيهما شاء، لكن إن وطأ الأولى فلا يحل له أن يطأ الثانية حتى يخرج الأولى عن ملكه، لأنه لو وطأ الأولى ووطأ الثانية فإنه يكون قد جمع في ملكه بين أختين موطوءتين.

ص: 65

‌كتاب الرضاع

الرضاع لغة: مص الثدي.

واصطلاحاً: هو مص طفل صغير لبن امرأة أو شربه ونحوه.

• والتحريم بالرضاع ثابت بالكتاب والسنة والإجماع.

قال تعالى (وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة) ذكرهما في جملة المحرمات.

وعن عائشة. أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة) متفق عليه.

وعن ابن عباس. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب) متفق عليه.

وأجمع العلماء على التحريم بالرضاع. قاله في المغني.

م/ والرضاع المحرّم: ما كان قبل الفطام.

أي أن الرضاع يكون محرِّماً إذا ارتضع الطفل قبل الفطام، وهذا الشرط الأول من شروط الرضاع المحرم، وجمهور العلماء أن الرضاع المحرّم ما كان في الحولين.

لقوله تعالى (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة).

قال ابن كثير: هذا إرشاد من الله للوالدات أن يرضعن أولادهن كمال الرضاعة وهي سنتان، فلا اعتبار بالرضاعة بعد ذلك، ولهذا قال [لمن أراد أن يتم الرضاعة] وذهب أكثر الإئمة إلى أنه لا يحرم من الرضاع إلا ما كان دون الحولين، فلو ارتضع المولود وعمره فوقها لم يحرم.

ولحديث عَائِشَةُ قالت (دَخَلَ عَلَىَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعِنْدِى رَجُلٌ قَاعِدٌ فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَرَأَيْتُ الْغَضَبَ فِى وَجْهِهِ قَالَتْ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ أَخِى مِنَ الرَّضَاعَةِ. قَالَتْ فَقَالَ «انْظُرْنَ إِخْوَتَكُنَّ مِنَ الرَّضَاعَةِ فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ الْمَجَاعَةِ) متفق عليه.

فهذا دليل على أن الرضاعة المعتبرة التي يثبت بها الحرمة، وتحل بها الخلوة، هي حيث يكون الرضيع طفلاً يسد اللبن جوعته.

ومثله حديث أم سلمة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحرم من الرضاعة إلا ما فتق الأمعاء في الثدي، وكان قبل الفطام) رواه الترمذي وصححه.

قوله (الثدي) أي وقت الحاجة إلى الثدي، أي في الحولين.

وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا رضاع إلا ما شد العظم، وأنبت اللحم). رواه أبو داود

وذهب بعض العلماء إلى أن رضاع الكبير يُحَرّم.

وهذا قول عائشة ونصره ابن حزم.

لحديث عائشة قالت: (جاءت سهلة بنت سهيل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إني أرى في وجه حذيفة من دخول سالم [وهو حليفه] فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أرضعيه، قالت: وكيف أرضعه وهو رجل كبير، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: علمت أنه رجل كبير). رواه مسلم

قال النووي: قالت عائشة وداود: تثبت حرمة الرضاع برضاع البالغ، كما تثبت برضاع الطفل، لهذا الحديث.

والراجح مذهب الجمهور، وهو أن رضاع الكبير غير مؤثر.

وأما الجواب عن حديث سهلة، فقد أجاب العلماء بأجوبة:

أولاً: أن هذه الحادثة رخصة خاصة بسالم، فلا يتعداه إلى غيره، ولذلك فإن أمهات المؤمنين سوى عائشة، أبَيْن أن يعملن بهذه الحادثة، لأنهن كنا يرين أن ذلك رخصة لسالم.

ثانياً: أنه حكم منسوخ، وبه جزم المحب الطبري في أحكامه، وقرره بعضهم بأن قصة سالم كانت في أوائل الهجرة، والأحاديث الدالة على اعتبار الحولين من رواية أحداث الصحابة، فدل على تأخرها، وهو مستند ضعيف، إذ لا يلزم من تأخر إسلام الراوي، ولا صغره، أن لا يكون ما رواه متقدماً. [قاله في الفتح]

ثالثاً: قول الشوكاني، حيث قال: إن الرضاع يعتبر فيه الصغر إلا فيما دعت إليه الحاجة، كرضاع الكبير الذي لا يستغنى عن دخوله على المرأة، ويشق احتجابها منه، وإليه ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية، وهذا هو الراجح عندي، وبه يحصل الجمع بين الأحاديث، وذلك بأن تجعل قصة سالم المذكورة مخصصة لعموم:(إنما الرضاع من المجاعة)(ولا رضاع إلا في الحولين)(ولا رضاع إلا ما فتق الأمعاء).

ص: 66

م/ وهو خمس رضعات فأكثر.

هذا الشرط الثاني من شروط المحرّم وهو: أن يكون خمس رضعات فأكثر.

وهذه المسألة اختلف فيها العلماء على أقوال:

القول الأول: أن قليل الرضاع وكثيره محرِّم.

وهذا مذهب جمهور العلماء.

واستدلوا بالعمومات، كقوله تعالى: (وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ

) ففي هذه الآية علقت التحريم على مطلق الإرضاع، فحيث وجد وجد حكمه.

وعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب).

وعَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ رضي الله عنه (أَنَّهُ تَزَوَّجَ أُمَّ يَحْيَى بِنْتَ أَبِي إهَابٍ، فَجَاءَتْ أَمَةٌ سَوْدَاءُ، فَقَالَتْ: قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: فَأَعْرَضَ عَنِّي. قَالَ: فَتَنَحَّيْت، فَذَكَرْت ذَلِكَ لَهُ. قَالَ: كَيْفَ؟ وَقَدْ زَعَمَتْ أَنْ قَدْ أَرْضَعَتْكُمَا).

وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الزوج أن يترك زوجته لمجرد علمه بأنهما رضعا من ثدي واحد دون أن يسأل عن عدد الرضعات، فدل ذلك على أن مطلق الإرضاع يثبت به التحريم.

وعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الرضاعة من المجاعة). متفق عليه

القول الثاني: أن المحرم ثلاث رضعات.

وهو قول داود، وأبي ثور، وابن المنذر.

لحديث عَائِشَة قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَالْمَصَّتَانِ) رواه مسلم.

وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم صرح فيها أن المصة والمصتان لا تحرمان، فيكون ما فوقهما مُحرِّم، وهو الثلاث، لأن ذلك لو لم يكن محرماً لبينه النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 67

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

القول الثالث: أن المحرم خمس رضعات.

قال ابن قدامة: هذا هو الصحيح في المذهب، وروي هذا عن عائشة وابن الزبير وابن مسعود وعطاء وطاووس.

ورجحه الصنعاني والشوكاني.

عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ (كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ مِنَ الْقُرْآنِ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ. ثُمَّ نُسِخْنَ بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ فَتُوُفِّىَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُنَّ فِيمَا يُقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ) رواه مسلم.

وهذا القول هو الصحيح.

أما أدلة القول الأول: فهي عمومات، وقد قيدت بالسنة بعدد معين من الرضاعة، كما في حديث عائشة

وأما أدلة القول الثاني (لا تحرم المصة والمصتان): هذا الاستدلال بالمفهوم، وهو لا يعمل به إلا عند القائلين به، إلا إذا لم يكن هناك منطوق يعارضه، وقد جاء ما يعارضه مثل حديث عائشة المثبت للتحريم بخمس رضعات.

• مقدار الرضعة:

الرضعة: المراد بها الوجبة التامة التي يأخذها الطفل وإن تخللها تنفّس او انفصال من ثدي الى آخر أوجاء الطفل ما يلهيه، فالمراد: أن يترك الثدي عن ريٍ وطيب نفس. [هذا هو ضابط الرضعة].

فاذا جاءت امرأة ووضعت الطفل على حضنها ثم التقطم الثدي ثم تركه للتنفس ثم رجع أو أنها نقلته من ثدي الى آخر في الحال فهذه كلها رضعة واحدة، لأن ضابط الرجعة لم يرد لها دليل من الشرع فيرجع فيها الى اللغة والى العرف.

ففي اللغة: الرضعة اسم للمرة، وأما العرف، فان الناس لا يعدون الأكلة إلا الوجبة التامة وان تخللها ما تخللها.

وهذا قول الشافعي ونصره ابن القيم في زاد المعاد واختاره الشيخ السعدي.

وقيل: الرضعة أن يلتقم الطفل الثدي ثم يتركه سواء يتركه اضطراراً او اختياراً ولو للتنفس فهذه رضعة فلو عاد فرضعة ثانية.

ص: 68

م/ فيصير به الطفل وأولاده أولاداً للمرضعة وصاحب اللبن.

ذكر المصنف رحمه الله الحكم المترتب على الرضاع.

أي: إن الرضاع المحرّم يصير الطفل المرتضع ولداً للمرضعة في:

النكاح [في تحريم النكاح] والنظر [في جوازه] والخلوة [في جوازها] والمحرمية في السفر ونحوه، وولد من نُسبَ لبنها إليه، دون بقية الأحكام، فلا يصير ولداً لها في وجوب نفقتها عليه، وكونها ترثه ويرثها، والولاية في النكاح والمال، فهذه لا تترتب على الرضاع.

ص: 69

م/ وينتشر التحريم من جهة المرضعة وصاحب اللبن كانتشار النسب.

ذكر المصنف رحمه الله قاعدة من قواعد الرضاع:

فالقاعدة في الرضاع: أن الرضاع ينتشر إلى المرتضع وفروعه فقط دون أصول وحواشي المرتضع، فلا يتعدى التحريم إلى غير المرتضع ومن هو في درجته من إخوته وأخواته، ولا إلى من فوقه من آبائه وأمهاته، ومن في درجتهم من أعمامه وعماته وأخواله وخالاته.

وينتشر إلى أصول وفروع وحواشي المرضعة، فأولاد الزوج والمرضعة إخوة المرتضع وأخواته، وآباؤهما أجداده وجداته، وإخوة المرأة وأخواتها أخواله وخالاته، وإخوة صاحب اللبن وأخواته أعمامه وعماته.

مثال:

فإذا أرضعت المرأة طفلاً صار ولداً لها، وصار إخوة المرأة وأخواتها أخواله وخالاته، وإخوة الرجل وأخواته أعمامه وعماته.

فلا تحرم المرضعة على أبي المرتضع ولا أخيه، ولا تحرم أم المرتضع ولا أخته على أبيه من الرضاع ولا أخيه.

• إذا كان المرضع رجلاً فإنه لا يثبت به التحريم.

وهذا مذهب جمهور العلماء.

لقوله تعالى (وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم) ولفظ الأم لا يتناول إلا الإناث.

• إذا كانت المرضعة ميتة فإنه يثبت التحريم.

وهذا مذهب جمهور العلماء.

لعموم الأدلة، فهي لم تفرق بين لبن من هي على قيد الحياة ومن فقدت الحياة.

• لا يشترط أن يكون اللبن ناشئاً عن حمل.

وعليه فلو كانت بكراً ودر منها لبن فإنه يثبت به التحريم، وهذا مذهب جمهور العلماء.

لقوله تعالى (وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم .. ).

قال في المغني (ولأنه لبن فتعلق به التحريم كما لو ثاب بوطء).

وقيل: يشترط أن يكون اللبن ناشئاً عن حمل.

• يثبت التحريم سواء وصل اللبن للرضيع عن المص أو الوجور أو السعوط.

لعموم قوله تعالى (وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم .. ).

فلم تفرق الآية بين أن يكون الإرضاع عن طريق امتصاص الثدي أو غيره.

ولأن العلة في التحريم بالارتضاع هو وصول اللبن إلى جوف الرضيع فيتغذى به ويسد جوعه وذلك متحقق في الوجور والسعوط.

ص: 70

‌باب الشروط في النكاح

م/ وهي ما يشترطه أحد الزوجين على الآخر.

أي: أن الشروط في النكاح: هي ما كان من وضع العاقدين.

والفرق بينها وبين شروط النكاح:

أن شروط النكاح من وضع الشارع، والشروط في النكاح من وضع العاقد.

أن شروط النكاح يتوقف عليها صحة النكاح، وأما الشروط في النكاح فلا يتوقف عليها صحة النكاح وإنما يتوقف عليها لزومه.

شروط النكاح لا يمكن إسقاطها، والشروط في النكاح يمكن إسقاطها. (وقد تقدم ذلك).

ص: 71

م/ وهي قسمان.

أي أن الشروط في النكاح تنقسم إلى قسمين.

ص: 72

م/ صحيح.

هذا النوع الأول من أنواع الشروط، وهو: الشروط الصحيحة، وهو كل شرط لا يستلزم وقوعه في محرم.

• وليعلم أنه يجب الوفاء بالشروط وخاصة شروط النكاح.

قال تعالى:} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ {.

وقال تعالى:} وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً {.

وهناك حديث خاص في المسألة وهو حديث عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (إِنَّ أَحَقَّ الشَّرْطِ أَنْ يُوفَى بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ) متفق عليه.

[توفوا] أي تؤتوها وافية كاملة. [ما استحللتم به الفروج] أي أحق الشروط بالوفاء شروط النكاح، لأن أمره أحوط وبابه أضيق

فالحديث يبين أنه ينبغي لكل من الزوجين الوفاء بالشروط في النكاح، فأحق شرط يجب الوفاء به وأولاه، هو ما استحل به الفرج.

ثم ذكر المصنف رحمه الله بعض أنواع الشروط الصحيحة:

ص: 73

م/ كاشتراط أن لايتزوج عليها.

أي: كأن تشترط الزوجة أن لا يتزوج عليها، فهذا الشرط صحيح، فإن نكث بالشرط وتزوج عليها كان من حقها فسخ النكاح، لأنها إنما قبلت بالزواج منه على هذا الشرط.

وذهب بعض العلماء: إلى أن الزواج صحيح، وأن هذه الشروط ملغاة لا يلزم الزوج الوفاء بها.

وهو مذهب الشافعي وآخرين، واستدلوا:

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (المسلمون على شروطهم إلا شرطاً حرم حلالاً أو أحل حراماً)، قالوا: وهذا الشرط الذي اشترط يحرم الحلال، وهو التزوج والتسري وغير ذلك.

ولقوله صلى الله عليه وسلم (كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط) متفق عليه.

وقالوا: وهذا ليس في كتاب الله، لأن الشرع لا يقتضيه.

وقالوا: إن هذه الشروط ليست من مصلحة العقد ولا مقتضاه.

ص: 74

م/ أو لا يتسرى.

أي: ومن الشروط الصحيحة أن تشترط أن لا يتسرى عليها، أي: أن لا يطأ أمَة، فهذا شرط صحيح.

• والأمَة التي يطؤها تسمى سُريّة لأنها غالباً توطأ سراً، فتسمى سرية.

ص: 75

م/ ولا يخرجها من دارها أو بلدها أو زيادة مهر أو نفقة أو نحو ذلك.

هذه أيضاً أمثلة أخرى للشروط الصحيحة، فإذا اشترطت أن لا يخرجها من دارها أو بلدها، أو اشترطت زيادة في مهرها أو زيادة في نفقتها، صح الشرط، ووجب الوفاء به، للحديث السابق (إن أحق الشروط أن توفا به

).

• إن شرط أن يقسم لها أقل من ضرتها. فهذا يصح.

لحديث سودة (أنها جعلت يومها لعائشة على أن تبقى زوجة للرسول صلى الله عليه وسلم متفق عليه.

• إن شرط أن لا نفقة لها.

الصحيح أنه يصح، لأن المرأة قد ترغب بالزوج لدينه وخلقه ويكون هو فقير.

ص: 76

م/ ومنها شروط فاسدة.

هذا القسم الثاني من أقسام الشروط وهو الشروط الفاسدة، وهو أنواع كما سيأتي، فمنها شروط مبطلة للنكاح. ومنها ما ذكرها المصنف رحمه الله فقال:

ص: 77

م/ كنكاح المتعة، ورخص النبي صلى الله عليه وسلم في المتعة أولاً ثم حرمها.

أي من الشروط الفاسدة الباطلة نكاح المتعة.

المتعة: هي النكاح إلى أجل محدد بمهر.

قال ابن قدامة: معنى نكاح المتعة أن تزوج المرأة مدة، مثل أن يقول زوجتك ابنتي شهراً أو سنة.

وقال الحافظ ابن حجر: يعني تزويج المرأة إلى أجل، فإذا انقضى وقعت الفرقة.

• حكم نكاح المتعة.

حرام، وهو مذهب جماهير العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أهل الفقه والحديث.

قال الخطابي: تحريم المتعة كالإجماع إلا عن بعض الشيعة.

عن الرَّبِيعُ بْنُ سَبْرَةَ الْجُهَنِىُّ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عام الفتح فَقَالَ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّى قَدْ كُنْتُ أَذِنْتُ لَكُمْ فِى الاِسْتِمْتَاعِ مِنَ النِّسَاءِ وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ ذَلِكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْهُنَّ شَىْءٌ فَلْيُخَلِّ سَبِيلَهُ وَلَا تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً). وفي رواية (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهىَ يومَ الفتحِ عن مُتعَةِ النسَاء). رواه مسلم.

وعَنْ سَلَمَةَ بن الأَكْوَع قَالَ (رَخَّصَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ أَوْطَاسٍ فِى الْمُتْعَةِ ثَلَاثاً ثُمَّ نَهَى عَنْهَا). رواه مسلم

[عام أوطاس] أي سنة غزوة أوطاس، وأوطاس واد في الطائف، غزوة أوطاس في شوال سنة 8 هـ[فتح مكة في رمضان وأوطاس في شوال]

وعَنْ عَلِىِّ بْنِ أَبِى طَالِبٍ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ يَوْمَ خَيْبَرَ وَعَنْ أَكْلِ لُحُومِ الْحُمُرِ الإِنْسِيَّةِ)

• وقد كان هذا النكاح مباحاً في أول الإسلام، ثم نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم.

كما في حديث الباب [الربيع بن سبرة].

ص: 78

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

• وسبب إذن النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة بالاستمتاع بالنساء هو الحاجة والحرب.

• ففي حديث ابن مسعود قال (كنا نغزوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس معنا نساء، فقلنا ألا نختصي؟ فنهانا عن ذلك، ثم رخص لنا بعد أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل) متفق عليه.

• وذكر أبو ذر كما رواه عنه البيهقي بسند حسن: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم أذن لهم فيها لحربهم ولخوفهم).

وعن أبي جمرة قال (سمعت ابن عباس يُسأل عن متعة النساء فرخص، فقال مولى له: إنما ذلك في حال الشديد وفي النساء قلة؟ فقال: نعم)

• وفي حديث جابر وسلمة بن الأكوع قالا (كنا في جيشٍ فأتانا رسولُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنه قد أذن لكم أن تستمتعوا فاستمتعوا) رواه البخاري.

فقوله (في جيش) تدل على أن الحال حال غزو.

• ولحديث سبرة: (أن أباه حدثه أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، فقال: يا أيها الناس، إني قد كنت آذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة).

قال الحافظ ابن حجر بعد أن ذكر هذه الآثار: هذه أخبار يقوي بعضها بعضاً، وحاصلها أن المتعة إنما رخص فيها بسبب العزبة في حال السفر.

• وقد وقع الخلاف بين العلماء متى كان تحريم نكاح المتعة وهل حرمت ثم أبيحت ثم حرمت أو حرمت مرة واحدة على أقوال:

القول الأول: أن تحريمها كان عام خيبر.

وهذا قول الشافعي وغيره.

لحديث عَلِىِّ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ يَوْمَ خَيْبَرَ وَعَنْ أَكْلِ لُحُومِ الْحُمُرِ الإِنْسِيَّةِ).

ص: 79

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

القول الثاني: أنها حرمت عام الفتح.

ورجحه ابن القيم.

لحديث سبرة الماضي، فإن فيه التصريح أن التحريم كان عام الفتح.

والرواية الصحيحة عن سبرة أنها عام الفتح.

جاء في رواية لحديث سبرة: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها في حجة الوداع). رواه أبو داود

لكن هذه الرواية شاذة، كما قال البيهقي، ولذلك قال الحافظ ابن حجر: الرواية عنه بأنها في الفتح أصح وأشهر.

والراجح أنها حرمت عام الفتح كما قال ابن القيم.

• الحكمة من تحريم نكاح المتعة:

لأن المقصود من النكاح هو العشرة الدائمة، وبناء البيت والأولاد، وهذا لا يمكن مع النكاح المؤجل في الحقيقة، كأنه استئجار للزنا.

ص: 80

م/ والتحليل.

أي: ومن الشروط الفاسدة التي تبطل النكاح: نكاح التحليل.

ونكاح التحليل هو: أن يعمد الرجل إلى المرأة المطلقة ثلاثاً فيتزوجها ليحلها لزوجها الأول.

وهو حرام ولا تحل به المرأة لزوجها الأول.

لحديث ابن مسعود قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلل والمحلل له). رواه أحمد والترمذي

وسماه النبي صلى الله عليه وسلم تيساً مستعاراً.

فمتى نوى الزوج الثاني أنه متى حللها طلقها، فإنه لا تحل للأول، والنكاح باطل.

فالملعون على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم هو:

المحلل: هو الزوج الثاني إذا قصد التحليل ونواه، وكان عالماً.

والمحلل له: هو الزوج الأول، فيلحقه اللعن إذا كان عالماً.

قال ابن القيم: وسمعت شيخ الإسلام يقول: نكاح المتعة خير من نكاح التحليل من أوجه:

أحدها: أن نكاح المتعة كان مشروعاً في أول الإسلام، ونكاح التحليل لم يشرع في زمن من الأزمان.

الثاني: أن الصحابة تمتعوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن في الصحابة محلل قط.

الثالث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجيء عنه في لعن المستمتِع والمستمتَع بها حرف واحد، وجاء عنه في لعن المحلِلل والمحلَل له.

ص: 81

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الرابع: أن المستمتِع له غرض صحيح في المرأة، ولها غرض أن تقيم معه مدة النكاح، فغرضه المقصود بالنكاح مدة، والمحلل لا غرض له سوى أنه مستعار للضراب كالتيس، فنكاحه غير مقصود له، ولا للمرأة، ولا للولي، وإنما هو كما قال الحسن: مِسمار نار في حدود الله، وهذه التسمية مطابقة للمعنى.

الخامس: أن المستمتع لم يَحْتَل على تحليل ما حرم الله، فليس من المخادعين الذين يخادعون الله كأنما يخادعون الصبيان، بل هو ناكح ظاهراً وباطناً، والمحلل ماكر مخادع، متخذ آيات الله هزواً، ولذلك جاء في وعيده ولعنه ما لم يجيء في وعيد المستمتع مثله، ولا قريب منه.

السادس: أن الفِطَر السليمة، والقلوب التي لم يتمكن منها مرض الجهل والتقليد، تنفر من التحليل أشد نفار، وتُعيِّر به أعظم تعيير، حتى إن كثيراً من النساء تعيّر المرأة به أكثر مما تعيرها بالزنا.

السابع: أن المحلل من جنس المنافق، فإن المنافق يُظهِر أنه مسلم ملتزم لعقد الإسلام ظاهراً وباطناً، وهو في الباطن غير ملتزم به له، وكذلك المحلل يظهر أنه زوج، وأنه يريد النكاح، ويُسمِّي المهر، ويُشهِد على رضا المرأة، وفي الباطن بخلاف ذلك.

ص: 82

م/ والشغار.

أي: ومن الشروط الفاسدة التي تبطل النكاح: نكاح الشغار.

الشغار: بالتشديد والكسر من شغر الكلب برجله إذا رفعها، بال أو لم يبل، أو من شغر المكان من أهله، أو من شغرت القرية من أميرها.

واصطلاحاً: أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته وليس بينهما صداق، وسمي نكاح الشغار شغاراً: لأن المتزوجين يرفعان المهر بينهما، أو أنهما يخليان النكاح من المهر.

• نكاح الشغار حرام ويبطل النكاح.

عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الشِّغَارِ، وَالشِّغَارُ أَنْ يُزَوِّجَ الرَّجُلُ ابْنَتَهُ عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ ابْنَتَهُ وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا صَدَاقٌ) متفق عليه.

عن ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (لَا شِغَارَ فِى الإِسْلَامِ) رواه مسلم.

قال ابن عبد البر: أجمع العلماء على أن نكاح الشغار لا يجوز.

• اختلف العلماء إذا وقع نكاح الشغار على أقوال:

القول الأول: أن النكاح باطل، سواء وقع قبل الدخول أم بعده.

وهذا مذهب جمهور العلماء.

لحديث الباب، وفيما معناه من الآثار التي تدل على النهي عن نكاح الشغار، وأن النهي عن الشيء حكم بفساده وبطلانه.

القول الثاني: أنه إذا وقع على صورة الشغار، فهو صحيح، ويجب فيه مهر المثل.

وهذا مذهب أبي حنيفة، والراجح الأول.

ص: 83

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

• العلة من التحريم:

قال ابن القيم رحمه الله: واختلف في علة النهي: فقيل: هي جعل كل واحد من العقدين شرطاً في الآخر. وقيل: العلة التشريك في البُضع، وجعل بضع كل واحدة مهراً للأخرى، وهي لا تنتفع به، فلم يرجع إليها المهر، بل عاد المهر إلى الولي، وهو ملكه لبضع زوجته بتمليكه لبضع موليته، وهذا ظلم لكل واحدة من المرأتين، وإخلاء لنكاحهما عن مهر تنتفع به، وهذا هو الموافق للغة العرب ".

• ومن الحكم: أن الغالب أن الولي لا يختار الكفء لموليته، لأنه يريد شخصاً يزوجه ويبادله.

• اختلف العلماء لو سمى المهر: في هذه المسألة قولان للعلماء:

القول الأول: أنه يصح.

لتفسير نافع: (وليس بينهما صداق) فإذا جعل صداقاً فليس بشغار.

القول الثاني: أنه لا يصح ولو سمي مهراً.

وهذا القول هو الصحيح.

لما جاء أن العباس بن عبد الله بن العباس: (أنكح عبد الرحمن بن الحكم ابنته، وأنكحه عبد الرحمن ابنته، وكانا جعلا صداقاً، فكتب معاوية إلى مروان يأمره بالتفريق بينهما، وقال في كتابه: هذا الشغار الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه أبو داود وهو حديث حسن

فهذا معاوية قضى بالتفريق بين الزوجين الذين تزوجا بالشغار وكانا جعلا صداقاً.

• قال النووي: وأجمعوا على أن غير البنات من الأخوات، وبنات الأخ، والعمات، وبنات الأعمام، والإماء، كالبنات في هذا.

• قال بعض العلماء: إذا توفرت في هذا النكاح ثلاثة شروط فإنه يصح ولا محظور وهي:

رضا الزوجين، ومهر المثل، وأن يكون الزوج كفواً، وممن ذهب إلى هذا القول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله.

• لو اشترطت المرأة طلاق ضرتها فإن هذا شرط باطل.

لحديث أبي هريرة. قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسأل المرأة طلاق أختها لتكفئ ما في صحفتها، فإن الله عز وجل رازقها) متفق عليه.

وفي رواية: (لا تسأل المرأة طلاق أختها لتكفئ ما في إنائها).

وفي رواية (لا تشترط المرأة طلاق أختها) رواه أحمد.

ص: 84

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

[ولا تسأل المرأة] أي المرأة الأجنبية. [أختها] أي أختها في الدين، وفي التعبير باسم الأخت تشنيع لفعلها وتأكيد للنهي عنه، وتحريض لها على تركه. [لتكفئ ما في إنائها] هذا تمثيل لإمالة الضرة حق صاحبتها من زوجها إلى نفسها إذا سألت الطلاق.

• يحرم على المرأة [سواء الزوجة الأخرى أو أي امرأة] أن تطلب من الزوج أن يطلق زوجته.

لأن هذا عدوان على حقها.

• إذا وقع هذا الشرط فالشرط باطل ولا يصح، ورجح هذا القول في المغني وهو اختيار ابن تيمية وابن القيم.

إن شرطت الزوجة الجديدة أن يقسم لها أكثر من ضرتها.

فهذا شرط لا يصح.

لأنه متضمن للجور، وكذلك يتضمن إسقاط حق الغير بغير إذنه.

• إن شرط لا مهر لها.

قال بعض العلماء: يصح النكاح دون الشرط، واختار ابن تيمية أن هذا الشرط فاسد مفسد.

لقوله تعالى:} وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ {.

فشرط الله للحل أن تبتغوا بأموالكم، وما كان مشروطاً في الحل، فإن الحل لا يتم إلا به.

ولأنه إذا تزوجها بلا مهر، صار ذلك بمعنى الهبة، ومعلوم أن الهبة خاصة بالرسول صلى الله عليه وسلم.

ص: 85

‌باب العيوب في النكاح

العيوب: لغة جمع عيب وهو النقص.

واصطلاحاً: نقصٌ عقلي أو بدني في أحد الزوجين يمنع من تحصيل مقاصد النكاح أو التمتع بالحياة الزوجية.

• ذهب جمهور العلماء إلى ثبوت فسخ النكاح إذا وجد عيب بأحد الزوجين.

وذهب الحنفية إلى أن الزوج لا حق له في الفسخ إذا وجد زوجته معيبة، استغناءً بما جعل له الشرع من الطلاق، وستراً على المرأة، وتجنباً للتشهير بها، وأما الزوجة فيقولون: إن كانت عيوباً منفرة فلا فسخ لها، وإن كان العيب يمنع الوطء فلها الفسخ.

•‌

‌ اختلف العلماء في العيوب التي يفسخ بها النكاح.

بعض العلماء خصصها بعيوب معينة كعيوب الفرج والجذام والبرص والجنون، قالوا: لأن هذا هو المروي عن الصحابة فلا نتعداه لغيره.

ومنهم من عمم بكل عيب يصدق أنه عيب.

والأظهر في هذه المسألة ما ذكره ابن القيم: هو كل عيب يمنع استمتاع الزوجين أو ينفر عن كماله أو يخشى تعدية أو لا يحصل معه مقصود النكاح من الرحمة والمودة فإن هذا يثبت الخيار، وهذا قول شيخ الإسلام ابن تيمية واختيار الشيخ السعدي.

وعلى هذا: فالعمى عيب، وكذلك الخرس، وكذلك قطع أحد الأعضاء.

• الأصل في هذا الباب: ما ورد عن عمر، وابنه، وابن عباس وغيرهم. (لم يرد شيء مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

والقياس على العيوب في البيع.

وقد اتفق الأئمة الأربعة على ثبوت التفريق بالعيب بين الزوجين.

• و‌

‌العيوب ثلاثة أقسام:

قسم مشترك بين الزوجين.

وقسم مختص بالزوجة.

وقسم مختص بالزوج.

ص: 86

م/ إذا وجد أحد الزوجين بالآخر عيباً لم يعلم به قبل العقد كالجنون والجذام والبرص ونحوها، فله فسخ النكاح.

أي: إذا وجد أحد الزوجين بالآخر عيباً كالجنون والجذام والبرص فله فسح النكاح.

الجنون: وهو من العيوب المشتركة بين الزوجين، فإن كان في أحد الزوجين جنون ثبت الخيار للآخر، لأن النفس لا تسكن إلى مَنْ هذه حاله.

والجذام: بضم الجيم، وهو علة يحمر منها العضو ثم يسود ثم يتقطع ويتناثر، ويتصور ذلك في كل عضو، لكنه في الوجه أغلب.

والبرص: بفتح الباء والراء وهو بياض الجلد.

والقاعدة في ذلك ما ذكره ابن القيم: كل عيب ينفر منه الزوج الآخر لا يحصل به مقصود النكاح من الرحمة والمودة يوجب الخيار، وهو أولى من البيع، ومن تدبر مقاصد الشرع في مصادره وموارده وعدله وحكمته وما اشتمل عليه من المصالح لم يخف عليه رجحان هذا القول وقربه من قواعد الشرع.

• يثبت الخيار لمن لم يرض بالعيب من الزوجين ولو كان به عيب مثله أو مغاير له، لأن الإنسان لا يأنف من عيب نفسه.

• إذا رضي أحدهما بعيب الآخر، أو وجد منه دليل الرضى مع علمه بالعيب فلا خيار له بعد ذلك، لأن الحق له وقد أسقطه.

• لا يتم الفسخ إلا عند حاكم وذلك لسببين:

الأول: لقطع النزاع.

الثاني: ولأن بعض العيوب مختلف فيها وحكم الحاكم يرفع الخلاف.

ص: 87

م/ وإذا وجدتُه عنّيناً: أجل إلى سنة، فإن مضت وهو على حاله فلها الفسخ.

أي: وإذا وجدت المرأة الزوج عنيناً [وهو العاجز عن الجماع لمرضٍ أصابه أو لضعف خلقتهِ أو لكبرِ سنهِ] فإنه يؤجل سنة.

• فالعنين يؤجل سنة منذ رفعته للحاكم لا منذ دخوله عليها.

• الحكمة من تأجيله سنة: لتمر عليه الفصول الأربعة، فإن تعذر الجماع قد يكون لعارض حرارة فيزول في الشتاء، أو لبرودة فيزول في الصيف، أو يبوسة فيزول في الربيع أو رطوبة فيزول في الخريف، فإذا مضت الفصول فلم يزل علمَ أنه خِلْقة.

• وقد جاء التفريق بالعنة عن عمر وعثمان وابن مسعود وسمرة بن جندب ومعاوية بن أبي معاوية وغيرهم من الصحابة.

• الصحيح أن العقم عيب وهو عدم الولادة، فيثبت للمرأة الخيار إذا بان أن الزوج عقيماً، وهذا المروي عن عمر بن الخطاب ورجحه ابن القيم، وذلك لأن تحصيل الولد من أهم وأعظم مقاصد النكاح.

وأما إذا كانت الزوجة عقيمة:

فقيل: إنه ليس بعيب.

لأن الزوج بإمكانه أن يتزوج أخرى ويبقيها معه لمودته إياها، بل نقل القرطبي في تفسيره الإجماع على أن العقيم التي لا تلد لا تُرد، وهو ظاهر اختيار الشيخ محمد بن إبراهيم.

• الفرق بين الفسخ والطلاق من وجهين:

أولاً: أن الفسخ لا يحتسب من الطلاق.

ثانياً: أن عدة الفسخ تكون استبراء بحيضة وعدة الطلاق ثلاث حيض.

ص: 88

م/ وإذا وقع الفسخُ قبل الدخول فلا مهر.

أي: إذا وجد الزوج في زوجته عيباً من العيوب التي ينفسخ بها النكاح (كالجذام أو البرص أو غيرها)، فإن كان قبل الدخول بها فلا مهر لها.

مثال: إذا اتضح له قبل الدخول أن بها برصاً أو جذاماً ثم طلقها وحصل الفراق، فهنا لا مهر لها.

لأن الفُرقة جاءت من قِبلها، لأنها هي المتسببة في فسخ النكاح.

• فإن كان العيب في الزوج، وهي فسخت من أجل عيب الزوج:

القول الأول: لا مهر لها.

لأن الفرقة جاءت من قبلها، فهي التي طلبت الفسخ.

القول الثاني: لها نصف المهر، كالمطلقة قبل الدخول.

وهذا هو الصحيح، لأن الزوج هو السبب، وهذا هو مقتضى العدل.

ص: 89

م/ وبعده يستقر.

أي: ذا علم بالعيب بعد الدخول بها، فإن المهر يستقر للزوجة وتملكه، سواء كان العيب فيها أو فيه.

لقوله صلى الله عليه وسلم ( .... ولها المهر بما استحللت من فرجها).

لكن هل يضيع حق الزوج إذا كان العيب في الزوجة؟ المصنف رحمه الله يقول:

ص: 90

ويرجعُ على من غرّه.

أي: ويرجع الزوج على من غرّه إن كان هناك غروراً.

مثال: لو قال أحد للزوج، إن هذه الزوجة سليمة من العيوب، فتبين بها عيباً. فإنه يرجع على من غره.

سواء كان الذي غرّه أباها أو أخاها، أو الذي خطبها له ومدحها.

لقول عمر (

وهو على من غرّه منها) لكن بشرط أن يكون الولي عالماً بالعيب، فإن كان جاهلاً فلا غرم عليه.

القول الثاني: أنه لا يرجع على أحد (المهر يروح عليه).

وهذا قول أبي حنيفة والشافعي في الجديد، واختاره الشوكاني.

قالوا: لان المهر ثبت عليه بمسيسه إياها.

• فإن كان الغرور من المرأة، بمعنى أن المرأة فيها عيباً فسكتت كتمت؟ فإنه يرجع عليها.

• إذا لم يكن هناك غرور، فإنه لا يرجع على أحد.

ص: 91

م/ وإن عتقت وزوجها رقيق: خيرت بين المقام معه وفراقه لحديث عائشة الطويل في قصة بريرة (خيِّرت بريرة على زوجها حين عتقت) متفق عليه.

أي: وإن عتقت الأمَة وكان زوجها عبداً، فإن لها الخيار بين البقاء معه وبين فراقه.

والدليل على ذلك: ما ذكره المصنف رحمه الله حديث عائشة:

عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ (كَانَ فِى بَرِيرَةَ ثَلَاثُ قَضِيَّاتٍ أَرَادَ أَهْلُهَا أَنْ يَبِيعُوهَا وَيَشْتَرِطُوا وَلَاءَهَا فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ «اشْتَرِيهَا وَأَعْتِقِيهَا فَإِنَّ الْوَلَاءَ لِمَنْ أَعْتَقَ». قَالَتْ وَعَتَقَتْ فَخَيَّرَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا وكان زوجها عبداً. قَالَتْ وَكَانَ النَّاسُ يَتَصَدَّقُونَ عَلَيْهَا وَتُهْدِى لَنَا. فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ «هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ وَهُوَ لَكُمْ هَدِيَّةٌ فَكُلُوهُ) رواه مسلم.

قال ابن قدامة: ولأن عليها ضرراً في كونها حرة تحت العبد فكان لها الخيار، وهذا مما لا خلاف فيه.

• قال العلماء: ولا يحتاج الفراق إلى طلاق، لأن الأمر راجع إليها، والطلاق بيد الرجال.

• الحديث دليل على اعتبار الحرية في الكفاءة بين الزوجين، فعلى هذا فلا يكون العبد كفواً للحرة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم خيّر بريرة حين عتقت تحت عبد، وما خيرها إلا لفوات الكفاءة بينها وبين زوجها.

ولأن العبد منقوص بالرق ممنوع من التصرف بسبب اشتغاله بخدمه سيده.

• والكفاءة في الحرية ليست شرطاً لصحة النكاح، وإنما هي شرط للزومه، فيتوقف ذلك على رضا المرأة والأولياء.

• لو عتقت تحت حر، فهل لها الخيار؟ اختلف العلماء في ذلك والصحيح أنه لا خيار لها وهذا مذهب جمهور العلماء، لأنها كافأت زوجها في الكمال فلم يثبت لها الخيار.

ص: 92

‌باب الصداق

‌تعريفه:

هو ما تعطاه المرأة من المال، أو ما يقوم مقامه عوضاً عن عقد النكاح عليها.

•‌

‌ الحكمة من الصداق:

أن الصداق إظهار لشرف هذا العقد وأهميته.

أن فيه إعزاز للمرأة وتشريف لها.

أن فيه الدليل على الرغبة في الزوجة.

تمكين المرأة من تجهيز نفسها بما أحبت من لباس ونفقة وزينة.

• وللصداق عدة أسماء: فيسمى نِحلة كما قال تعالى (وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً).

ويسمى فريضة كما قال تعالى (وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً).

ويسمى أجراً كما قال تعالى (فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً).

ويسمى طوْلاً كما قال تعالى (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ).

• وهو واجب، ونقل ابن عبد البر إجماع أهل العلم على وجوبه.

لقوله تعالى (وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً).

ولأن الله تعالى قيّد الحل بقوله (أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ).

ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعذر الفقير الذي لم يجد خاتماً من حديد حتى ألزمه أن يعلمها من القرآن.

ولأن شرط إسقاطه يجعل العقد شبيهاً بالهبة، والزواج بالهبة من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 93

م/ وينبغي تخفيفه، عن عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم كَمْ كَانَ صَدَاقُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ (كَانَ صَدَاقُهُ لأَزْوَاجِهِ ثِنْتَىْ عَشْرَةَ أُوقِيَّةً وَنَشًّا. قَالَتْ أَتَدْرِى مَا النَّشُّ قَالَ قُلْتُ لَا. قَالَتْ نِصْفُ أُوقِيَّةٍ. فَتِلْكَ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ فَهَذَا صَدَاقُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لأَزْوَاجِهِ). رواه مسلم.

أي: يستحب تخفيف الصداق (ينبغي هنا المراد به الاستحباب).

• ذكر المصنف رحمه الله حديث عائشة - ليستدل به على استحباب تخفيف المهر، وتيسيره وعدم المغالاة فيه، لما في التيسير من المصالح العظيمة للزوجين والمجتمع بكامله.

عن عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم كَمْ كَانَ صَدَاقُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ (كَانَ صَدَاقُهُ لأَزْوَاجِهِ ثِنْتَىْ عَشْرَةَ أُوقِيَّةً وَنَشًّا. قَالَتْ أَتَدْرِى مَا النَّشُّ قَالَ قُلْتُ لَا. قَالَتْ نِصْفُ أُوقِيَّةٍ. فَتِلْكَ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ فَهَذَا صَدَاقُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لأَزْوَاجِهِ). رواه مسلم.

أوقِيَّة: الأوقية 40 درهماً.

[ونشاً] النَشّ نصف أوقية. [فتلك خمسمائة] يعني ذلك الصداق 500 درهم (1150) جرام (1725) ريالاً. [فهذا صداق رسول الله صلى الله عليه وسلم لأزواجه] قال القرطبي: هذا القول من عائشة إنما هو إخبار عن غالب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، لأن صفية من جملة أزواجه، وأصدقها نفسها، وزينب بنت جحش لم يُذكر لها صداق، وأم حبيبة بنت أبي سفيان أصدقها النجاشي أربعة آلاف درهم، فقد خرج هؤلاء من عموم قول عائشة، هذا باعتبار الأكثر.

ومن الأدلة على استحباب تخفيف المهر:

عن عقبة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (خير الصداق أيسره) رواه أبو داود.

• وتيسير الصداق فيه مصالح عظيمة منها:

أولاً: العمل بالسنة وامتثال ما أرشدت إليه.

ثانياً: تيسير سبل الزواج.

ثالثاً: أن تخفيفه من أسباب المحبة ودوام المودة.

رابعاً: أن تخفيف الصداق يسهل على الزوج مفارقة زوجته إذا ساءت العشرة، ولم يحصل توافق بينهما.

ص: 94

م/ (و أَعْتَقَ صَفِيَّةَ وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا).

ذكر المصنف رحمه الله حديث أنس - (أن النبي صلى الله عليه وسلم أَعْتَقَ صَفِيَّةَ وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا) ليستدل به على جواز أن يعتق الرجل أمَتَه ويجعله صداقها، وهذه المسألة اختلف العلماء فيها على قولين:

القول الأول: أنه يجوز.

قال ابن القيم: وهذا ظاهر مذهب أحمد وكثير من أهل الحديث.

للحديث الذي ذكره المصنف رحمه الله.

القول الثاني: لا يجوز.

قال ابن القيم: وهو قول الأئمة الثلاثة ومن وافقهم.

وأجابوا عن حديث الباب بأجوبة:

قالوا: أن هذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم.

ويجاب عنه: بأن دعوى الاختصاص تفتقر إلى دليل.

وذكروا عدة أجوبة عن حديث الباب، كلها ضعيفة.

والراجح القول الأول.

ص: 95

م/ وقال لرجل (التمس خاتماً من حديد) متفق عليه، فكل ما صح ثمناً وأجرة - وإن قل - صح صداقاً.

ذكر المصنف رحمه الله حديث سهل بن سعد في قصة المرأة الواهبة نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم، ونص الحديث:

عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِىِّ قَالَ (جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ جِئْتُ أَهَبُ لَكَ نَفْسِى. فَنَظَرَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَصَعَّدَ النَّظَرَ فِيهَا وَصَوَّبَهُ ثُمَّ طَأْطَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأْسَهُ فَلَمَّا رَأَتِ الْمَرْأَةُ أَنَّهُ لَمْ يَقْضِ فِيهَا شَيْئاً جَلَسَتْ فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ فَزَوِّجْنِيهَا. فَقَال «فَهَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَىْءٍ». فَقَالَ لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ «اذْهَبْ إِلَى أَهْلِكَ فَانْظُرْ هَلْ تَجِدُ شَيْئاً». فَذَهَبَ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ لَا وَاللَّهِ مَا وَجَدْتُ شَيْئاً. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «انْظُرْ وَلَوْ خَاتِماً مِنْ حَدِيدٍ». فَذَهَبَ ثُمَّ رَجَعَ. فَقَالَ لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا خَاتِماً مِنْ حَدِيدٍ. وَلَكِنْ هَذَا إِزَارِى - قَالَ سَهْلٌ مَا لَهُ رِدَاءٌ - فَلَهَا نِصْفُهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «مَا تَصْنَعُ بِإِزَارِكَ إِنْ لَبِسْتَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا مِنْهُ شَىْءٌ وَإِنْ لَبِسَتْهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ مِنْهُ شَىْءٌ». فَجَلَسَ الرَّجُلُ حَتَّى إِذَا طَالَ مَجْلِسُهُ قَامَ فَرَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُوَلِّياً فَأَمَرَ بِهِ فَدُعِىَ فَلَمَّا جَاءَ قَال (مَاذَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ). قَالَ مَعِى سُورَةُ كَذَا وَسُورَةُ كَذَا - عَدَّدَهَا. فَقَالَ «تَقْرَؤُهُنَّ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِكَ» . قَالَ نَعَمْ. قَالَ «اذْهَبْ فَقَدْ مَلَّكْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ).

وفي رواية (قَالَ: انْطَلِقْ فَقَدْ زَوَّجْتُكَهَا فَعَلِّمْهَا مِنَ الْقُرْآنِ).

[جاءته امرأة] قال الحافظ: لم أقف على اسمها. [جئت أهب لك نفسي] أي كأنها تقول: أتزوجك من غير صداق. [فصعّد النظر فيها وصَوَّبه] وهو بتشديد العين، والمراد أنه نظر أعلاها وأسفلها، وفي رواية (فقامت طويلاً) وفي رواية:(فلم يجبها شيئاً)[طأطأ رأسه] أي خفض رأسه وصمت ولم ينطق [فقال رجل] قال الحافظ: لم أقف على اسمه.

[انظر ولو خاتماً من حديد] لو: هنا للتقليل، أي انظر ولو كان الموجود خاتماً من حديد. [إن لم يكن لك بها حاجة فزوجنيها] جاء في رواية:(أنكحنيها). [لكن هذا إزاري فلها نصفه] والإزار هو ما يغطي النصف الأسفل من البدن. [قال سهل ماله رداء] الرداء ما وضع على الكتف (فهذه الجملة معترضة من سهل وليست من كلام الرجل). [بما معك من القرآن] الباء للمقابلة، ويكون زوّجه على ان يكون القرآن مهرها، ويؤيد هذا ما جاء في الرواية الأخرى (انْطَلِقْ فَقَدْ زَوَّجْتُكَهَا فَعَلِّمْهَا مِنَ الْقُرْآنِ).

ص: 96

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

• ذكر المصنف هذا الحديث ليستدل به على أن المهر يصح ولو كان قليلاً، ففيه رد على من قال إن أقله عشرة دراهم.

وقد اختلف العلماء في أقل الصداق، مع اتفاقهم على أنه لا حد لأكثره، كما نقل الإجماع القرطبي:

القول الأول: أقله عشرة دراهم.

وهذا مذهب أبي حنيفة.

لحديث جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يزوج النساء إلا الأولياء، ولا مهر أقل من عشرة دراهم). رواه الدار قطني وهو حديث ضعيف.

القول الثاني: أقله ربع دينار.

وهذا مذهب مالك.

قياساً على نصاب القطع في السرقة، وهذا قياس في مقابل النص.

القول الثالث: يصح الصداق بكل ما يسمى شيئاً ولو حبة شعير.

وهذا مذهب ابن حزم.

لقوله صلى الله عليه وسلم للرجل: (التمس شيئاً).

القول الثالث: كل ما صح العقد عليه بيعاً، أو إجارة، فإنه يصح أن يكون صداقاً، سواء كان عيناً أو منفعة.

فالعين مثل: أن يعطيها دراهم أو يعطيها متاعاً.

والمنفعة مثل: استخدامها إياه، أو تستوفي منه بغير الخدمة أن يبني لها بيتاً.

وهذا القول هو الصحيح.

ص: 97

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

• من فوائد الحديث: أنه دليل على جواز أن يكون تعليم القرآن مهراً، وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال:

القول الأول: أنه لا يجوز.

وهذا مذهب الحنفية والمالكية.

لقوله تعالى (أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ

).

وقال تعالى (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَات .... ).

فالفروج لا تستباح إلا بالأموال.

وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوج امرأة على سورة من القرآن، ثم قال:(لا تكون لأحد بعدك مهراً). رواه سعيد بن منصور ولا يصح

وقالوا: إن تعلم القرآن لا يقع إلا قربة، فلا يجوز أن يكون صداقاً كالصلاة.

القول الثاني: يجوز.

وهذا مذهب الشافعي، واختاره ابن القيم.

للحديث السابق (قَالَ: انْطَلِقْ فَقَدْ زَوَّجْتُكَهَا فَعَلِّمْهَا مِنَ الْقُرْآنِ).

والراجح - والله أعلم - أنه لا يصح جعل تعليم القرآن صداقاً إذا كان المال متيسراً على الزوج، فإن لم يتيسر المال صح جعله صداقاً، وهذا هو الذي يدل عليه حديث الباب، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم ما جعل تعليم القرآن صداقاً لهذا الرجل إلا حينما تعذر عليه المال ولم يجد شيئاً.

• يسن تسمية الصداق في العقد، وليست تسميته شرطاً، وهذا مذهب الجمهور.

لقوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} .

ص: 98

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وجه الدلالة: أن الله تعالى رفع الحرج عن الطلاق في النكاح الذي لم يسم فيه المهر، والطلاق لا يكون إلا في نكاح قد تم بعقد صحيح.

ولحديث ابن مسعود: (أنه قضى في رجل تزوج امرأة فمات عنها ولم يدخل بها ولم يفرض لها صداقاً، قال رضي الله عنه: لها الصداق كاملاً، وعليها العدة، ولها الميراث، فقام معقل بن يسار فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في بِرْوع بنت واشق بمثل ذلك).

وجه الدلالة: أن العقد صح مع عدم تسميته المهر، فلو لم يكن نكاحاً صحيحاً لما قضى النبي صلى الله عليه وسلم لبروع بالصداق.

• ويكون لها مهر المثل.

لكن الأفضل تسميته وتعجيله:

لقول النبي صلى الله عليه وسلم (التمس ولو خاتماً من حديد).

ولقوله صلى الله عليه وسلم لعلي - لما أراد أن يتزوج فاطمة - أعطها شيئاً، قلت (أي علي) ما عندي شيء، قال: فأين درعك الحطمية، قلت: هي عندي، قال: فأعطها إياها.

ولأنه أقطع للنزاع والخلاف.

ص: 99

م/ فِإن تزوجها ولم يسم لها صداقاً: فلها مهر المثل.

أي: إن تزوجها ودخل بها ولم يسم لها صداقاً فلها مهر مثلها، والمراد بمثلها: ما اعتاد الناس أن يدفعوه مهراً لأمثال هذه المرأة من قريباتها. (وهذه التي تسمى المُفَوَّضة).

ص: 100

م/ فإن طلقها قبل الدخول: فلها المتعة على الموسع قدره، وعلى المقتر قدره، لقوله تعالى (لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن

).

أي: وإن طلقها قبل أن يدخلها ولم يفرض لها مهر فيجب لها المتعة.

والمتعة: بضم الميم هي ما يعطيه الزوج لمن طلقها لجبر خاطرها المنكسر بألم الفراق.

• والحكمة من المتعة: تعويضاً لها عما فاتها من المهر، وجبراً لمصيبتها، وإحساناً إليها.

والدليل على ذلك الآية التي ذكرها المصنف رحمه الله وهي قوله تعالى (لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ) وقوله تعالى (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ).

فالراجح من أقوال أهل العلم: أن المتعة إنما تجب على المطلقة إذا لم يدخل بها ولم يفرض لها.

وجه الدلالة من الآية: ( .. ومتعوهن .. ) فأمر بالمتعة لا بغيرها، والأمر للوجوب، والأصل براءة ذمته من غيرها، والله عز وجل قسم المطلقات إلى قسمين: فأوجب المتعة لمن لم يسمِّ لها إذا طلقت قبل الدخول، ونصف المسمى لمن سميَ لها، وذلك يدل على اختصاص كل قسمٍ بحكمه.

وقد ذهب بعض العلماء إلى أن المتعة واجبة لكل مطلقة، سواء طلقت قبل الدخول أم بعده، وسواء فرض لها صداق أم لم يفرض.

وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وجماعة من أهل العلم.

لقوله تعالى (وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ) ولفظ المطلقات عام، وأكد ذلك بقوله (حقاً).

وذهب بعض العلماء إلى أن المتعة مستحبة لكل مطلقة.

لقوله تعالى ( ..... حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ)( .... حقاً على المحسنين) قالوا: ولو كانت واجبة لما خُص بها المحسنون والمتقون، بل كانت حقاً على كل أحد.

والراجح - والله أعلم - ما تقدم أن المتعة واجبة لمن طلقت قبل الدخول ولم يفرض لها مهر، وأما غيرها من المطلقات فالمتعة في حقها مستحبة.

• والمتعة تكون على قدر حال الزوج لقوله تعالى (عَلَى الْمُوسِعِ) الغني (قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ) الفقير (قَدَرُه).

ص: 101

م/ ويتقرر الصداق كاملاً بالموت أو الدخول.

أي: ويتأكد ويتقرر المهر كاملاً للزوجة إذا مات زوجها (سواء كان ذلك قبل الدخول أو بعده).

لحديث ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه {أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ اِمْرَأَةً، وَلَمْ يَفْرِضْ لَهَا صَدَاقًا، وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا حَتَّى مَاتَ، فَقَالَ اِبْنُ مَسْعُودٍ: لَهَا مِثْلُ صَدَاقِ نِسَائِهَا، لَا وَكْسَ، وَلَا شَطَطَ، وَعَلَيْهَا اَلْعِدَّةُ، وَلَهَا اَلْمِيرَاثُ، فَقَامَ مَعْقِلُ بْنُ سِنَانٍ الْأَشْجَعِيُّ فَقَالَ: قَضَى رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بِرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ - اِمْرَأَةٍ مِنَّا - مِثْلَ مَا قَضَيْتَ، فَفَرِحَ بِهَا اِبْنُ مَسْعُودٍ} رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْأَرْبَعَةُ.

فهذا الحديث دليل على أن المرأة تستحق كامل المهر بموت زوجها، فإن كان المهر مسمى فتستحقه كاملاً، وإن لم يسمى فإنه يفرض لها مثل صداق نسائها.

• ولعل هذا - والله أعلم - فيه جبر لخاطرها بما حصل من العقد دون الدخول بسبب الموت، وهو مصيبة بالنسبة لها، لما كانت ترجو من الخير وراء هذا الزواج.

• وهذا الحديث اشتمل على حكمين آخرين أيضاً هما:

أنه يجب عليها عدة الوفاة بالإجماع _ أربعة أشهر وعشرة أيام - وهذا مجمع عليه، لعموم الأدلة، مثل قوله تعالى (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) فهي عامة في المدخول بها وغير المدخول بها.

وأيضاً لها الميراث من زوجها الذي عقد عليها ثم مات، لأنها زوجة، والإرث يجب بمجرد العقد.

ص: 102

م/ والدخول.

أي: ويتقرر المهر كاملاً للزوجة بالدخول بالزوجة.

لقوله صلى الله عليه وسلم ( .... ولها المهر بما استحللت من فرجها).

• واختلف العلماء لو خلا بها ولم يمسها ثم طلقها، هل يتقرر لها المهر كاملاً أم لا؟ على قولين:

القول الأول: أن لها المهر كاملاً.

وهذا مذهب جمهور العلماء، ونقل ابن حزم ذلك عن الخلفاء الراشدين، وعن عدد من الصحابة، وذكر ابن قدامة - في المغني - إجماع الصحابة على ذلك.

والدليل على ذلك: ما ورد عن زرارة بن أوفى قال (قضى الخلفاء الراشدون المهديون: أن من أغلق باباً، أو أرخى ستراً فقد وجب المهر، ووجبت العدة) أخرجه البيهقي.

وعن عمر قال (إذا أُجيف الباب، وأرخيت الستور، فقد وجب المهر) أخرجه الدارقطني.

وعن علي قال (من أصفق باباً، وأرخى ستراً فقد وجب الصداق والعدة) أخرجه البيهقي.

كما استدلوا بقوله تعالى (وقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ) ووجه الاستدلال: أن الإفضاء أن يخلو بها وإن لم يجامعها.

ولأن المرأة سلمت المبدل، حيث رفعت الموانع، وذلك وسعها فيتأكد حقها في البدل.

ولأن وجوب إتمام المهر لا يتوقف على الاستيفاء، بل على التسليم.

القول الثاني: أنه لا يستقر المهر بالخلوة فحسب، بل لابد من الوطء.

وهذا قول مالك والشافعي في الجديد وداود وشريح.

قالوا: لأن الله قال (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ

) والمطلقة التي خلا بها من غير وطء مطلقة قبل المسيس، لأن المسيس هو الجماع.

ص: 103

م/ ويتنصف بكل فرقة قبل الدخول من جهة الزوج كطلاقه.

أي: وتستحق الزوجة نصف المهر إذا فارقها زوجها قبل الدخول، إذا كان الطلاق من قِبَلِه.

لقوله تعالى (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ) فدلت الآية على أن للزوجة المطلقة نصف الصداق المعين إذا طلقت قبل الجماع، ومعلوم أن الطلاق فرقة من جهة الزوج.

مثال: عقد على امرأة وأمهرها عشرة آلاف، وقبل الدخول طلقها، فلها خمسة آلاف ريال.

• قوله (من جهة الزوج) فلو كانت الفرقة من قِبل الزوجة فلا مهر لها كما سيأتي.

ص: 104

ويسقط بفرقة من قِبلها.

أي: ويسقط المهر ولا يصبح لها شيئاً إذا كانت الفرقة من قِبَلِها.

مثال: كرجل عقد على امرأة وأمهرها عشرة آلاف ريال، وبعد فترة طلبت الطلاق، فطلقها، فلا مهر لها، لأن الفرقة جاءت من جهتها.

ص: 105

م/ أو فسخهِ لعيبها.

أي: ويسقط المهر ولا يكون لها شيئاً إذا فسخ الزوج النكاح بسبب عيب فيها.

مثال: إنسان عقد على امرأة وقبل الدخول تبين أن فيها عيباً، ففسخ العقد، فليس لها مهر، لأن الفرقة جاءت من قِبلها.

• ضوابط في سقوط المهر أو تنصفه أو استقراره:

الضابط الأول: يسقط المهر في كل فرقة من قِبل الزوجة قبل الدخول.

الضابط الثاني: يتنصف المهر في كل فرقة من قبل الزوج قبل الدخول.

الضابط الثالث: يستقر المهر كاملاً بواحد من أمرين: الموت، وفي الفرقة بعد الدخول سواء كان منها أو منه.

ص: 106

م/ وينبغي لمن طلق زوجته أن يمتعها بشيء يحصل به جبر خاطرها، لقوله تعالى (وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ).

أي: وينبغي للزوج الذي طلق زوجته أن يمتع زوجته بشيء جبراً لخاطرها.

وقد تقدم أحكام المتعة ولمن تجب من المطلقات.

ص: 107

‌باب عشرة النساء

العِشرة بكسر العين هي الاجتماع، والمراد هنا: عشرة الرجال الأزواج، النساء: أي الزوجات، والمعنى: ما يكون بين الزوجين من الألفة والاجتماع والمعاملة.

ومدار هذا الباب على قوله تعالى (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ).

م/ يلزمُ كلَّ واحدٍ من الزوجين معاشرةُ الآخر بالمعروف، من الصحبةِ الجميلة، وكف الأذى.

أي: يجب على كل واحد من الزوجين معاشرة الآخر بما يقره الشرع والعرف من الصحبة والقيام بحقه وكف الأذى.

لقوله تعالى (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) أي: صاحبوهن وعاملوهن بالمعروف، فأدوا ما لهن، واصبروا على أذاهن وتقصيرهن.

قال تعالى (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) فبينت الآية أن الحقوق بين الزوجين متبادلة، فكما أن على المرأة حقاً لزوجها، فإن لها أيضاً عليه حقاً، إلا أن حق الرجل عليها أعظم وأعلى، لأن عليه الرعاية والكفاية والحماية.

• ينبغي أن ينوي كل واحد من الزوجين بالمعاشرة بالمعروف استجابة أمر الله.

ص: 108

م/ وألا يماطله بحقهِ.

أي: ويجب على كل واحد من الزوجين أن يؤدي حق الآخر ويقوم به مع قدرته على أدائه بلا مماطلة ولا كُرهٍ لأدائه، بل يؤديه ببشر وطلاقة.

كأن تقول المرأة: أريد كسوة فيقول إن شاء الله، ثم يماطل وتمضي الأيام ولم يأتي لها بشيء.

لأن المطل مع القدرة عليه حرام، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم (مطل الغني ظلم).

ص: 109

م/ ويلزمها طاعته في الاستمتاع.

أي: ويجب عليها طاعته للاستمتاع بها، والاستمتاع معناه: الوطء، لأن المقصود من النكاح الاستمتاع.

لحديث أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (إِذَا بَاتَتِ الْمَرْأَةُ هَاجِرَةً فِرَاشَ زَوْجِهَا لَعَنَتْهَا الْمَلَائِكَةُ حَتَّى تُصْبِحَ) وفي رواية: (حتى ترجع) متفق عليه.

وعنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ مَا مِنْ رَجُلٍ يَدْعُو امْرَأَتَهُ إِلَى فِرَاشِهَا فَتَأْبَى عَلَيْهِ إِلاَّ كَانَ الَّذِى فِى السَّمَاءِ سَاخِطاً عَلَيْهَا حَتَّى يَرْضَى عَنْهَا) رواه مسلم.

[إلى فراشه] المراد بالفراش كناية عن الجماع. [لعنتها الملائكة] اللعن الطرد والإبعاد من رحمة الله، واختلف في المراد بالملائكة، وسيأتي، وهذه الرواية مطلقة لكن جاء في رواية (فبات غضبان عليها) ومعنى هذه الرواية مقيدة بما إذا غضب زوجها عليها، أما إذا لم يغضب او تنازل عن حقه فلن يكون هناك لعن. [حتى تصبح] والرواية الثانية (حتى ترجع)، والفرق بين الروايتين: ذكر الحافظ ابن حجر أن رواية (حتى ترجع) أكثر فائدة، لأن رواية (حتى تصبح) مقيدة بالليل [إذا امتنعت بالليل] لكن رواية حتى ترجع تشمل حتى لو دعاها بالنهار، وتحمل رواية (حتى تصبح) محمولة على الغالب، يعني غالباً أن الرجل يدعو زوجته ليلاً.

• الحديث يدل على أنه يحرم على المرأة أن تمتنع إذا دعاها زوجها إلى الفراش، ووجه التحريم: لعن الملائكة.

ومما يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا تقبل لهم صلاة، ولا يصعد لهم إلى السماء حسنة:

والمرأة الساخط عليها زوجها حتى يرضى). رواه ابن خزيمة

• وإنما صار هذا الترهيب والتهديد للمرأة اذا لم تلبي أمر زوجها:

لأن امتناعها يؤدي إلى الإضرار بالزوج، لأنه قد يؤدي به إلى الأمر المحرم، وما يسببه الامتناع من التوتر النفسي والغضب.

• يستثنى من ذلك:

إذا كان يضر بها أو يشغلها عن فرض.

يضرُّ بها:

مثال: لو فرض أنها حامل، والاستمتاع يشق عليها مشقة عظيمة، فإنه في هذه الحالة لا يجوز له أن يباشرها.

ص: 110

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أو يشغلها عن فرض:

مثال: كأن يطلب منها الجماع وهي لم تصل الفجر وقد بقي على طلوع الشمس زمناً قليلاً (كأربع دقائق مثلاً)، فهنا لا يجوز له أن يستمتع بها، لأنه يشغلها عن فرض وهي الصلاة.

• عقوبة المرأة إذا دعاها زوجها للفراش وامتنعت من غير سبب:

أولاً: لعنتها الملائكة حتى تصبح.

ثانياً: غضب الله حتى يرضى الزوج.

فقد قال صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده، ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشه، فتأبى عليه، إلا كان الذي في السماء ساخطاً عليها حتى يرضى عنها). رواه مسلم

• في الحديث عظم حق الزوج على زوجته.

وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها). رواه الترمذي

• هذا الحكم في حق الزوج القائم بحق زوجته، وأما إذا نشز ولم يقم بحقها، فلها الحق أن تقتصّ منه وألا تعطيه حقه كاملاً.

لقوله تعالى: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} .

• اختلف ما المراد بهؤلاء الملائكة:

فقيل: الحفظة.

وقيل: ملائكة السماء، للرواية الأخرى:(لعنتها الملائكة في السماء) وهذا هو الصحيح.

• قال العلماء: هذا اللعن مقيد بما إذا كان الزوج أدى حق الزوجة من نفقة ومسكن وكسوة، ثم دعاها وامتنعت، وهذا القيد مأخوذ من عمومات الشريعة، فأما إذا ظلمها ومنعها حقها وتعدى عليها، فإنه لا يلزمها السمع والطاعة لأنه لا بد من المعاوضة.

ص: 111

م/ وعدم الخروج والسفر إلا بإذنهِ.

أي: لا يجوز لها الخروج من بيته ولا السفر إلا بإذنه.

لحديث أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يحل لامرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه) متفق عليه، فإذا كان هذا في الصوم، فكيف بمن تسافر؟

• إذا سافرت المرأة بغير إذن زوجها، سقط حقها من القسم، وكذلك سقط حقها من النفقة.

لأن القسم للأنس، والنفقة للتمكين من الاستمتاع وقد منعت ذلك بالسفر. [قاله النووي]

• معنى قولنا (إن سافرت بغير إذنه فلا قسم) أي: لا يلزمه القضاء إذا رجعت.

• فإن سافرت بإذن زوجها لحاجتها، للتجارة مثلاً، أو للحج، أو للعمرة، أو لزيارة أقاربها، ففي هذه المسألة قولان:

القول الأول: لا قسْم لها ولا نفقة.

لأن النفقة في مقابل الاستمتاع، وقد تعذر بسبب من جهتها، فتسقط.

أما القسم فيسقط، لأنها اختارت ذلك بسفرها.

القول الثاني: لها النفقة.

لأنها سافرت بإذنه، فأشبه إذا سافرت معه، فهو الذي أسقط حقه في الاستمتاع.

وهذا الراجح.

• فإن سافرت بإذنه لحاجته فلها النفقة والقسم، مثلاً، له أم في المستشفى في بلد آخر، وسافرت بإذنه، فالحاجة له هو، ففي هذه الحال نقول: لها النفقة، لأن ذلك لحاجته.

ص: 112

م/ والقيام بالخَبز والعَجْن والطبخِ ونحوها.

أي: ويجب عليها القيام بخدمة الزوج من طبخ وعجن وغير ذلك مما تعارف عليه الناس، لأن ذلك من المعاشرة بالمعروف، فهي كالمشترطة في العقد.

• وما مشى عليه المصنف رحمه الله من وجوب خدمة المرأة لزوجها، هو القول الراجح، لأن هذا هو المعروف من عهد الصحابة حتى عهدنا هذا. (وقد ذهب بعض العلماء إلى أنه لا يجب على المرأة خدمة زوجها من طبخ وغسل وتنظيف ونحوه).

ص: 113

وعليه: نفقتُها وكِسوتُها بالمعروف.

أي: ويجب على الزوج النفقة على زوجته وكسوتها.

لقوله تعالى (لينفق ذو سعة من سعته).

ولقوله صلى الله عليه وسلم (

ولهن عليكم رزقهن وكِسوتُهُنّ بالمعروف) رواه مسلم.

قال النووي: وفيه وجوب نفقة الزوجة وكسوتها وذلك ثابت بالإجماع.

وعن حكيم بن معاوية عن أبيه قال: (قلت: يا رسول الله! ما حق زوجِ أحدِنا عليه؟ قال: تطعمها إذا أكلْتَ، وتكسوها إذا اكتسيت) رواه أبو داود.

وهذا كله مقيد بالسعة والمعروف كما قال تعالى (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ).

وقال صلى الله عليه وسلم (ولهن عليكم رزقهن وكِسوتُهُنّ بالمعروف).

• ويحرم وطؤها حال الحيض.

وهذا بالإجماع.

لقوله تعالى (وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ).

والمراد بالحيض: زمان الحيض ومكانه وهو الفرج.

وعن أنس. قال: قال صلى الله عليه وسلم (اصنعوا كل شيء إلا النكاح) رواه مسلم. أي: إلا الجماع في الفرج.

• ويحرم وطؤها في دبرها.

لقوله تعالى (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) والدبر ليس محلاً للحرث.

عن جَابراً قال (كَانَتِ الْيَهُودُ تَقُولُ إِذَا أَتَى الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ مِنْ دُبُرِهَا فِى قُبُلِهَا كَانَ الْوَلَدُ أَحْوَلَ فَنَزَلَتْ (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ).

[أتى امرأته] أي جامعها. [من دبرها] أي من جهة دبرها. [في قبلها] أي أن الوطء في القبل، لكن جاءها من خلفها. [كان الولد أحول] أي جاء الولد الذي ينتج عن الوطء أحولاً. [نساؤكم] أي زوجاتكم. [حرث لكم] أي إن النساء موضع إنبات الولد. [فأتوا حرثكم] أي واقعوا زوجاتكم في موضع الحرث. [أنى شئتم] أي من أي جهةٍ شئتم، مقبلة أو مدبرة أو على جنب أو غير ذلك. وليس المعنى: من أي مكان شئتم، حيث يستدل بها على وطء الدبر، فإن سبب النزول يرد هذا المعنى.

وقد جاءت الأدلة على تحريم وطء الدبر.

عن أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ملعون من أتى امرأة في دبرها) رواه أبوداود.

وعن ابن عباس. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا ينظر الله إلى رجل أتى رجلاً أو امرأة في دبرها) رواه الترمذي. [وهذا الأحاديث مختلف فيها لكن بعضها يقوي البعض].

وعن أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من أتى امرأة حائضاً أو امرأة في دبرها أو كاهناً فقد كفر بما أنزل على محمد) رواه الترمذي [مختلف في صحته].

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وطء المرأة في دبرها حرام بالكتاب والسنة، وهو قول جماهير السلف والخلف، بل هو اللوطية الصغرى.

وقال ابن القيم: أما الدبر: فلم يبح قط على لسان نبي من الأنبياء، ومن نسب إلى بعض السلف إباحة وطء الزوجة في دبرها فقد غلط عليه.

ص: 114

‌باب القسم بين الزوجات

القسْم بفتح فسكون، وهو بمعنى القسمة وهو العطاء، والمراد به هنا: القسْم بين الزوجات، وهو إعطاء المرأة حقها في البيتوتة عندها للصحبة والمؤانسة. (وقيل توزيع الزمان بين الزوجات).

م/ وعليهِ أن يعدلَ بين زوجاتهِ في القسْم والنفقةِ والكسوة، وما يَقْدِر عليه من العدل.

أي: ويجب على الزوج أن يسوي بين زوجاته في القسم، وذلك في المبيت والنفقة والكسوة.

لقوله تعالى (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) وليس مع الميل معروف.

ولحديث أبي هريرة - الذي ذكره المصنف - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان له امرأتان، فمال إلى إحداهما، جاء يوم القيامة وشقه مائل) رواه الترمذي.

(شقه مائل) أي نصفه مائل، قيل: بحيث يراه أهل العرصات ليكون هذا زيادة في التعذيب

قال ابن قدامة: لا نعلم بين أهل العلم في وجوب القسم، والتسوية بين الزوجات في القسم خلافاً.

• قوله (وفي النفقة والكسوة) الصحيح من أقوال أهل العلم: أنه يجب أن يعدل بين نسائه حتى في النفقة والكسوة كما ذكر المصنف رحمه الله وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.

لعموم قوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ).

ولحديث أبي هريرة السابق.

ولأن عدم العدل بين الزوجات في النفقة يوغر الصدور، ويثير الأحقاد، مما يؤثر على الحياة الزوجية ويعكر صفوها، (والعدل في النفقة أن يعطي كل واحدة ما يكفيها).

(وقد ذهب بعض العلماء إلى عدم وجوب العدل في النفقة بين الزوجات إذا كفّى كل واحدة وأعطى واحدة منهن زيادة، مثال: لو أعطى الأولى 100 وهو كفايتها، وأعطى الثانية 100 كفايتها وزادها 100، قالوا: لأنه أدى الواجب للأولى [وهو كفايتها] ولم يظلمها). والراجح وجوب العدل كما سبق في الأدلة.

• هل يجب عليه أن يسوي بين زوجاته في الوطء؟

لا يجب عليه، قال ابن قدامة: لا نعلم خلافاً بين أهل العلم في أنه لا تجب التسوية بين النساء في الجماع، وذلك لأن الجماع طريقه الشهوة والميل، ولا سبيل إلى إحداهما دون الأخرى.

ص: 115

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

لقوله تعالى (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ) أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: في الحب والجماع، وهو قول عَبِيدَة السلماني ومجاهد والحسن البصري والضحاك بن مزاحم.

لكن تستحب التسوية إن أمكن، لأنه أبلغ في العدل.

وقال ابن قدامة: وإن أمكنت التسوية بينهما في الجماع كان أحسن وأولى، فإنه أبلغ في العدل.

قال ابن القيم: إن ترك الجماع لعدم الداعي إليه من المحبة والانتشار فهو معذور، وإن وجد الداعي إليه، ولكنه إلى الضرة أقرب فليس بمعذور، وعليه أن يعدل.

• يقسم لحائض ونفساء ومريضة.

قال في المغني: لأن القسم للأنس، وذلك حاصل ممن لا يطأ.

وقد روت عائشة: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان في مرضه جعل يدور على نسائه ويقول: أين أنا غداً؟ أين أنا غداً؟). رواه البخاري

ومن الأدلة: ما رواه البخاري عن ميمونة قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يباشر امرأة من نسائه أمرها فاتزرت وهي حائض).

• وعماد القسْم بالليل لمن كان معاشه بالنهار.

قال في المغني: لا خلاف في هذا، وذلك أن الليل للسكن والإيواء، يأوي فيه الإنسان إلى منزله ويسكن إلى أهله، وينام في فراشه مع زوجته عادة، والنهار للمعاش والخروج والتكسب، إلا أن يكون ممن معاشه بالليل كالحراس ومن أشبههم، فإنه يقسم بين نسائه بالنهار، ويكون الليل في حقه كالنهار في حق غيره.

• إذا سافرت المرأة بغير إذن زوجها، سقط حقها من القسم والنفقة، لأن القسم للأنس، والنفقة للتمكين من الاستمتاع وقد منعت ذلك بالسفر. [قاله النووي]

ص: 116

م/ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ (مِنْ السُّنَّةِ إذَا تَزَوَّجَ الرجلُ الْبِكْرَ عَلَى الثَّيِّبِ: أَقَامَ عِنْدَهَا سَبْعاً ثُمَّ قَسَمَ. وَإِذَا تَزَوَّجَ الثَّيِّبَ: أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلاثاً ثم قسم) متفق عليه.

ذكر المصنف رحمه الله حديث أنس ليستدل به على أن الرجل إذا تزوج امرأة جديدة، فإنه يجلس عندها سبعاً إذا كانت بكراً، ويجلس عندها ثلاثاً إذا كانت الزوجة الجديدة ثيباً.

• وقول أنس (من السنة) المراد السنة الواجبة.

قال في المغني: متى تزوج صاحب النسوة امرأة جديدة قطع الدور وأقام عندها سبعاً إن كانت بكراً لا يقضيها للباقيات، وإن كانت ثيباً أقام عندها ثلاثاً ولا يقضيها.

وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد.

لحديث الباب.

مثال: رجل عنده زوجة اسمها فاطمة، ثم بعد ذلك تزوج امرأة أخرى اسمها عائشة وكانت بكراً، فنقول: يجلس عند عائشة سبع أيام ثم يقسم.

• الحكمة من ذلك:

أ- أن البكر تنفر من الرجل أكثر من نفور الثيب.

ب- أن رغبة الرجل في البكر أكثر من رغبته في الثيب.

ص: 117

م/ وقالت عائشة (كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفراً أقرعَ بين نسائهِ، فأيتَهُنَّ خرج سهْمُها خرج بها) متفق عليه.

ذكر المصنف رحمه الله حديث عائشة ليستدل به على أن الرجل إذا أراد السفر بإحدى نسائه أن يقرع بينهن، فمن خرجت لها القرعة سافر بها، لأن السفر ببعضهن من غير قرعة فيه تفضيل وميل، وهذا لا يجوز.

والقول بالوجوب هو الحق، وأنه يجب على الزوج أن يقرع بينهن.

• أما بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم فمن قال: بوجوب القسم عليه فالأمر واضح، ومن قال: إن القسم ليس واجباً عليه قال: إن هذه القرعة من مكارم أخلاقه، ولطف شمائله، وحسن معاملته.

• إن رضين بخروج إحداهن معه بلا قرعة فلا بأس، لأن الحق لهن، إلا أن لا يرضى الزوج، ويريد غير من اتفقن عليها، فيصار إلى القرعة، وكذا لو كان كثير الأسفار، وأراد أن يجعل لكل واحدة سفرة فإنه يجوز، لأن هذا حق متميز لا خفاء فيه.

• إذا سافر بإحدى نسائه لم يلزمه القضاء للحاضرات بعد قدومه، بل يبدأ قسماً جديداً، لأن عائشة لم تذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقضي للباقيات بعد قدومه.

• الحديث دليل على العمل بالقرعة، وقد ذكرت القرعة في موضعين من القرآن:

قال تعالى (فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ).

وقال تعالى (وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ).

وجاءت في أحاديث كثيرة: منها الحديث السابق.

وحديث (لو يعلمون ما في الصف الأول لكانت قرعة) رواه مسلم.

قال أبو عبيد: وقد عمل بالقرعة ثلاثة من الأنبياء: يونس، وزكريا، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

وقال الإمام أحمد: أقرع النبي صلى الله عليه وسلم في خمسة مواضع وهي في القرآن في موضعين.

والقرعة يعمل بها: عند التساوي في الاستحقاق وعدم إمكان الجمع، قال ابن القيم: الحقوق إذا تساوت على وجه لا يمكن التمييز بينها إلا بالقرعة صح استعمالها فيها.

ص: 118

م/ وإذا أسقطت المرأة حقها من القسْم أو من النفقة أو الكسوة بإذن الزوج جاز ذلك، وقد وهبت سودة يومها لعائشة فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم لعائشة يومها ويوم سودة.

أي: يجوز للمرأة أن تتنازل عن حقها في القسم والنفقة أو الكسوة، وقد ذكر المصنف رحمه الله الحديث الدال على ذلك:

عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ (مَا رَأَيْتُ امْرَأَةً أَحَبَّ إِلَىَّ أَنْ أَكُونَ فِى مِسْلَاخِهَا مِنْ سَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ مِنِ امْرَأَةٍ فِيهَا حِدَّةٌ قَالَتْ فَلَمَّا كَبِرَتْ جَعَلَتْ يَوْمَهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِعَائِشَةَ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ جَعَلْتُ يَوْمِى مِنْكَ لِعَائِشَةَ. فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْسِمُ لِعَائِشَةَ يَوْمَيْنِ يَوْمَهَا وَيَوْمَ سَوْدَةَ) متفق عليه.

فالحديث دليل على جواز تنازل المرأة من حقها في القسم ووهبها نوبتها لضرتها.

لكن اشترط العلماء: أن يرضى الزوج بذلك، لأن الأصل أن حق الزوج متعلق بالزوجة الواهبة، فليس لها أن تسقط حق زوجها إلا برضاه، وسودة وهبت يومها من النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة، وقد قبِلَ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فكان يقسم لعائشة يومين.

• فعلت سودة ذلك لأمور:

الأمر الأول: جاء عند البخاري (تبتغي بذلك رضا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الأمر الثاني: عند مسلم كما في الحديث السابق (لما كبرت سودة جعلت يومها لعائشة).

الأمر الثالث: خوفها أن يطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت عائشة (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفضل بعضنا على بعض في القسم من مكْثِه عندنا، .... ولقد قالت سودة حين أسنت، وفرقت أن يفارقها رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! يومي لعائشة، فقَبِل رسول الله صلى الله عليه وسلم منها) رواه أبو داود.

وقد جاء عند ابن سعد في الطبقات أوضح من هذا (قالت للرسول صلى الله عليه وسلم: إني أريد أن أبقى معك لأجل أن أبعث مع أزواجك يوم القيامة وإن يومي وهبته لعائشة).

ص: 119

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

• تصرفها يدل على أمرين:

الأول: على فقهها، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لو طلقها لم تبقى من أمهات المؤمنين ولم تكن من أزواجه في الدار الآخرة.

الثاني: وكونها اختارت عائشة بالذات، هذا يدل على محبتها للرسول صلى الله عليه وسلم وشفقتها عليه، لأنها تعلم أن عائشة أحب نسائه إليه، فكان اهداء قسْمها لعائشة مما يسر النبي صلى الله عليه وسلم.

• هل يجوز للواهبة الرجوع؟ الجمهور أنه يجوز أن ترجع.

• يجوز للمرأة أن تهب نوبتها للزوج فيتصرف فيها كيف يشاء، وللزوج أن يجعلها لمن شاء من زوجاته.

لكن إن شاء جعلها للجميع، ومعنى للجميع: بدل ما كان يقسم لأربع، يصير الآن يقسم لثلاث، فصار الجميع اسْتفدْن من حقوق هذه الليلة، بخلاف ما لو أعطيت لواحدة.

وله أن يخص به واحدة منهن، لكن كونه للجميع هذا أقرب للعدل وأبعد عن الميل.

ص: 120

‌باب النشوز

‌تعريفه:

لغة: مأخوذ من النشز وهو المكان المرتفع من الأرض، واصطلاحاً: معصية الزوجة الزوج فيما فرض الله عليها من طاعته.

م/ وإن حاف نشوزَ امرأتهِ، وظهرتْ منها قرائنُ معصيتهِ وعظَهَا.

أي: إذا خاف الرجل نشوز امرأته بأن ظهر منها قرائنه، كأن تمنعه حقه بأن لا تجيبه إلى الاستمتاع، أو تجيبه متبرمة متكرهة، فإنه: يعظها. (والوعظ التذكير بما يرغّب أو يخوف).

لقوله تعالى (وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ). بأن يذكرها بما يلين قلبها، ويصلح عملها من ثواب وعقاب، يخوفها بالله سبحانه وتعالى وأليم عقابه، ويذكرها بما أعد الله للمرأة العاصية لزوجها من أليم عقابه:

مثل قوله صلى الله عليه وسلم (إذا دعا الرجل زوجته إلى فراشه فأبت لعنتها الملائكة حتى تصبح) رواه مسلم.

ومثل: قوله صلى الله عليه وسلم (لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها) رواه أبوداود.

فإذا لم ينفع هذا العلاج ينتقل إلى الأمر الثاني وهو:

ص: 121

م/ فإن أصرت هجرها في المضجع.

هذا العلاج الثاني من علاج نشوز المرأة، وهو هجرها في المضجع.

لقوله تعالى (وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ).

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: وتركها في المضجع على ثلاثة أوجه:

أولاً: أن لا ينام في حجرتها، وهذا أشد شيء.

ثانياً: أن لا ينام على الفراش معها، وهذا أهون من الأول.

ثالثاً: أن ينام معها في الفراش، ولكن يلقيها ظهره ولا يحدثها، وهذا أهونها.

ويبدأ بالأهون فالأهون، لأن ما كان المقصود به المدافعة فالواجب البداءة بالأسهل فالأسهل.

• ويهجرها ما شاء حتى ترتدع وترجع.

ص: 122

م/ فإن لم ترتدع ضربها ضرباً غير مبرِّح.

أي: فإن لم ترتدع ولم ينفع معها الوعظ والهجر، ضربها.

لقوله تعالى (وَاضْرِبُوهُنَّ).

لكن اشترط المصنف رحمه الله في هذا الضرب أن يكون غير مبرحاً أي: غير شديد.

لقوله صلى الله عليه وسلم (إن لكم عليهن أن لا يُوطِئنَ فُرُشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلنَ فاضربوهن ضرباً غير مبرح) رواه مسلم

ولأن المقصود التأديب والزجر والإصلاح، لا الإيذاء والضرر والانتقام، ويتقي الوجه والمقاتل.

• هذه المراتب إذا كان الزوج قائماً بالحقوق، أما إذا لم يقم بحقوق الزوجة فلا يحل له أن يسلك هذه المراتب، ولهذا قال المصنف رحمه الله:

ص: 123

م/ ويُمنعُ من ذلك إن كان مانعاً لحقِّها.

أي: يمنع الزوج ولا يجوز له أن يستعمل هذه المراتب إذا كان مانعاً لحقها، وذلك بأن يمنع زوجته حقها من النفقة والقسْم، أو تجد منه إساءة خلق، أو أن يؤذيها، سواء كان بالضرب أو بغيره بلا سبب.

ص: 124

م/ وإن خيف الشقاق بينهُما: بعث الحاكم حكماً من أهله وحكماً من أهلها .......

ذكر المصنف رحمه الله إذا كان الشقاق بين الزوجين، وعدم قيام كل واحد بما يجب عليه، فإنه يبعث القاضي حكماً من أهلها وحكماً من أهله.

قال تعالى (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً).

فالحل يكون عند الحاكم، والحاكم حينئذ يقيم حكمين أحدهما من أقارب الزوج والآخر من أقارب الزوجة.

• والسر في اختيار كل واحد من الحكمين من أقارب الآخر: لأنهما أدري بحالهما وأعلم ببواطن الأمور، لأن الزوجين يفشيان لأقاربهما ما لا يفشيان لغيرهم.

• اختلف العلماء في الرجلين المبعوثين هل هما حكمان أم وكيلان للزوجين على قولين:

أحدهما: أنهما وكيلان. والثاني: أنهما حكمان، وهذا هو الصحيح.

ورجح هذا القول بان القيم وقال: العجب كل العجب ممن يقول: هما وكيلان لا حاكمان، والله تعالى قد نصبهما حكمين.

وعلى هذا القول فإنها يلزمان الزوج بدون إذنهما ما يريان فيه المصلحة من طلاق أو خلع.

لأن الله سمى كلاً منهما حكماً، والحكم هو الحاكم، ومن شأن الحاكم أن يلزم بالحكم، وقد روى ابن أبي شيبة هذا القول عن عثمان، وعلي، وابن عباس، والشعبي، وسعيد بن جبير، وهو قول مالك، واختار ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وقال: إنه الأصح، لأن الوكيل ليس بحَكَم، ولا يحتاج فيه إلى أمر الأئمة، ولا يشترط أن يكون من الأهل.

والله تعالى قال (إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً) والوكيلان لا إرادة لهما، وإنما يتصرفان بإذن موكليها، ولأن الوكيل لا يسمى حكماً في لغة القرآن ولا في لسان العرب.

• وعلى الحكمين المذكورين تقوى الله سبحانه وتعالى والنظر فيما يصلح شأنهما ودراسة قضيتهما من جميع الجوانب، وبعد ذلك يقرران ما يريانه من جمع أو تفريق.

ص: 125

‌باب الخلع

م/ وهو فراق زوجته بعوضٍ منها أو من غيرِها.

ذكر المصنف رحمه الله تعريف الخلع، وهو فراق الزوج زوجته بعوض منها أو من غيرها.

قوله (بعوض) يخرج ما إذا كان الفراق بغير عوض، كالفسخ لوجود عيب أو غيره.

قال بعضهم في تعريفه (بألفاظ معلومة) لأن المذهب أن الخلع له ألفاظ، إذا وقع بها صار خلعاً وإذا لم يقع بها صار طلاقاً، فيقولون:

o إذا وقع الخلع بلفظ صريح الطلاق أو كنايته ونواه طلاقاً، أو بلفظ الخلع ونواه طلاقا فهو طلاق بائن. كما لو قال: طلقتك بألف ريال، فهو طلاق، لو قال: الحقي بأهلك بألف، فهو طلاق، لو قال: خالعتك على ألف ونواه طلاق، فإنه يكون طلاقاً.

o وان وقع بلفظ الخلع ولم ينوه طلاقاً فهو خلع.

والقول الثاني وهو مذهب ابن عباس وهو اختيار ابن تيمية أن الخلع فسخ بكل حال من الأحوال، حتى لو وقع بلفظ الطلاق، ولهذا قال ابن عباس: كل ما أجازه المال فهو خلع، يعني كل شيء يدخله المال فهو خلع، فلو قال: طلقتك بألف، فهو خلع.

واحتجوا: لأن الله جعل الخلع فداء.

• والحكمة منه: تخليص الزوجة من الزوج على وجه لا رجعة له عليها إلا برضاها وعقد جديد، وسماه الله افتداء، لأن المرأة تفتدي نفسها من أسْر زوجها، كما يفتدي الأسير نفسه بما يبذله.

ص: 126

والأصل فيه قوله تعالى (وإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ).

ذكر المصنف رحمه الله الدليل على إباحة الخلع وهي قوله تعالى (وإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ)

(وإِنْ خِفْتُمْ) الخطاب في الآية لذوي السلطان من ولاة الأمر، أو لأقارب الزوجين.

(أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ) هي ما يجب لكل واحد منهما على الآخر.

(فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) أي: دفعته فداءً عن البقاء معه.

ومن السنة على جوازه:

حديث ابْنِ عَبَّاسٍ (أَنَّ امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ أَتَتِ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ مَا أَعْتُبُ عَلَيْهِ فِى خُلُقٍ وَلَا دِينٍ، وَلَكِنِّى أَكْرَهُ الْكُفْرَ فِى الإِسْلَامِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟ قَالَتْ نَعَمْ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «اقْبَلِ الْحَدِيقَةَ وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً).

[ثابت بن قيس] بن شماس الأنصاري الخزرجي، مشهور بخطيب الأنصار، أول مشاهده غزوة أحد، وقد بشره النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، قتل يوم اليمامة شهيداً سنة 12 هـ. [ما أعتب عليه] يعني ما ألوم عليه أي تصرف، وفي رواية (ما أعيب) العيب معناه الرداءة والنقص. [في خُلق ولا دين] أي لا أريد مفارقته

لسوء خلقه، ولا لنقصان دينه ولكن أكرهه بغضاً وقد جاء في رواية (لا أطيقه). [أكره الكفر في الإسلام] هذه الجملة فيها قولان للعلماء: القول الأول: الأخذ بظاهرها، والمعنى أنها خشيت من شدة بغضها أن يحملها ذلك الكفر لأجل أن ينفسخ النكاح، القول الثاني: أن المراد بالكفر كفران العشير والتقصير فيما يجب له بسبب شدة البغض له، وهذا أصح، وأما الذي قبله فما أبعده احتمالاً، في صحابيّة فاضلة، تكلم النبي صلى الله عليه وسلم بمثله ويسكت عنها، إن هذا لشيء بعيد، قال الطيبي: المعنى أخاف على نفسي في الإسلام ما ينافي حكمه، من نشوز وفرك وغيره، مما يقع من الشابة الجميلة المبغضة لزوجها إذا كان بالضد منها، فأطلقت على ما ينافي مقتضى الإسلام الكفر. [أتردين عليه حديقته] هذا استفهام حقيقي ولذلك قالت: نعم. (الاستفهام الذي يطلب به الجواب فيكون على معناه الحقيقي) والحديقة: هي البستان من النخيل وفي رواية عند البزار (وكان قد تزوجها على حديقة نخل) وعند أبي داود (فإني أصدقتها حديقتين). [اقبل الحديقة وطلقها] قيل: هذا أمر إيجاب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما نظر بحالها وواقعها أمَره أمْر إيجاب، وقيل: أمر إرشاد وإصلاح، والراجح القول الأول. [وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً] أي طلقة واحدة بائنة فليس له رجعة عليها إلا برضاها وعقد جديد.

ص: 127

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

• فالحديث دليل على مشروعية الخلع إذا وجدت أسبابه ودواعيه.

وقد أجمع العلماء على مشروعيته إلا بكر المزني فانه قال: لا يحل للرجل أن يأخذ من امرأته في مقابل فراقها شيئاً.

• ظاهر الحديث أن مجرد وقوع الشقاق من المرأة وحدها كافٍ في جواز الخلع. فلا يشترط أن سوء العشرة منهما معاً. وهذا قول جماهير العلماء.

لحديث الباب فهو نص صريح، فأمره بالخلع بمجرد أن سمع كلام زوجته.

وقيل: لابد أن يقع الشقاق منهما معاً.

وهؤلاء اخذوا بظاهر الآية (فإن خفتم ألا يقيما .... ) وهذا القول قال به داود الظاهري.

• الحديث دليل على أن الخلع لابد أن يكون على عوض لقوله (أتردين عليه حديقته) ولقوله تعالى (فيما افتدت به).

ثم إن أخْذ الزوج للفداء فيه إنصاف وعدل، لأنه هو الذي دفع المهر وقام بتكاليف الزواج، ثم قابلت هذا الزوجة بالجحود والنكران. فمن العدل أن يُعطَى ما أعطى.

وهو قول أبي حنيفة والشافعي والحنابلة.

وقيل: يصح بدون عوض ورضي بعدم بذل العوض صح.

اختارها الخرقي في مختصره وابن عقيل وهو قول مالك.

قالوا: إن الخلع قطع للنكاح فصح من غير عوض كالطلاق.

ولأن المقصود من الخلع تخليص الزوجة نفسها وقد حصل هذا بدون عوض، فيصح

ولأن العوض حق للزوج، فإذا أسقطه باختياره سقط.

واختاره ابن تيمية.

• اختلف العلماء هل الخلع فسخ أو طلاق؟ (هل العوض له تأثير أم لا)؟

القول الأول: أن الخلع طلاق (طلقة بائنة بينونة صغرى).

وهذا قول الجمهور من المالكية والحنفية والشافعية، واختاره محمد بن إبراهيم والشنقيطي وابن باز.

لرواية (اقْبَلِ الْحَدِيقَةَ وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً). فهذا نص على أن الخلع طلاق.

ص: 128

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

القول الثاني: أن الخلع فسخ وليس بطلاق.

وهو قول الشافعي في القديم والحنابلة واختاره ابن تيمية وابن القيم وابن عثيمين.

واختاره الصنعاني والشوكاني والسعدي.

لقوله تعالى (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ .... ) ثم ذكر الخلع فقال (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ..... ) ثم ذكر الطلقة الثالثة فقال (فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ). فلو كان الخلع طلاقاً لكانت هذه الطلقة هي الرابعة.

قالوا: وهذا هو الذي فهمه ابن عباس، فقد ورد عنه عند عبد الرزاق (أن إبراهيم بن سعد سأل ابن عباس عن رجل طلق زوجته تطليقتين ثم اختلعت منه؟ أيَنكِحُها؟ قال: نعم، ذكر الله الطلاق في أول الآية وفي آخرها والخلع بين ذلك).

ما جاء عند أبي داود (أن امرأة ثابت اختلعت منه فجعل النبي صلى الله عليه وسلم عدتها حيضة).

وجه الدلالة: أن الاعتداد بحيضة دليل على أن الخلع فسخ، لأن هذا غير معتبر بالطلاق، فلو كان طلاقاً لم يُكتفى بحيضة.

قالوا: إنه جاء في بعض الروايات ذكر الفراق وما شابهه، فقد جاء في رواية (فردت عليه [يعني حديقته] وأمره ففارقها) وعند أبي داود (قال: خذهما ففارقْها).

الراجح أنه فسخ.

ص: 129

م/ فإذا كرهت المرأةُ خلُق زوجها أو خَلْقَه، وخافت ألا تقيم حقوقه الواجبة بإقامتها معه، فلا بأس أن تبذل له عوضاً ليفارقها.

ذكر المصنف رحمه الله متى يباح الخلع، فقال:

(فإذا كرهت المرأةُ خُلُق زوجِها) الخُلُق بالضم هو الصورة الباطنة، فإذا كرهت الزوجة أخلاقه كأن تكون أخلاقه سيئة.

(أو خَلْقَه) والخلقة هي الصورة الظاهرة، فإذا كرهت الزوجة خلقَه بأن تكون صورته دميمة، فإنه في هذه الحالة يباح لها أن تخالع.

لحديث ابن عباس السابق، فإن امرأة ثابت بن قيس قالت (يَا رَسُولَ اللَّهِ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ مَا أَعْتُبُ عَلَيْهِ فِي خُلُقٍ وَلَا دِينٍ، وَلَكِنِّى أَكْرَهُ الْكُفْرَ فِى الإِسْلَامِ) وجاء في رواية (ولكني لا أطيقه).

(وخافت ألا تقيم حقوقه الواجبة بإقامتها معه، فلا بأس أن تبذل له عوضاً ليفارقها) أي: وإذا خافت المرأة ألا تقوم بالحقوق الواجبة عليها وهي (حدود الله) أي: شرائعه التي أوجبها الله عليها لزوجها، بسبب بغضها له فله فداء نفسها.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الخلع الذي جاء به الكتاب والسنة أن تكون المرأة كارهة للزوج تريد فراقه، فتعطيه الصداق أو بعضه فداء نفسها، كما يفتدي الأسير، وأما إذا كل منهما مريداً لصاحبه فهذا الخلع محرم في الإسلام.

ص: 130

م/ ويصح في كل قليل وكثير.

أي: ويصح الخلع في كل قليل وكثير، لقوله تعالى (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) قالوا: إن (ما) من صيغ العموم، لأنها اسم موصول تصدق على القليل والكثير.

واختلف العلماء في أخذ الزيادة على الصداق على أقوال:

القول الأول: يجوز للزوج أخذ الزيادة.

مثال: الصداق (10) آلاف، فخالعها على (20) ألفاً، فعلى هذا القول يجوز.

وهذا قول الجمهور.

واستدلوا بالآية (فلا جناح عليهما فيما افتدت به) قالوا: إن (ما) من صيغ العموم، لأنها اسم موصول تصدق على القليل والكثير.

وعللوا: قالوا إن عوض الخلع كسائر الأعواض الأخرى بالمعاملات، فعلى أي شيء وقع الاتفاق جاز.

القول الثاني: أنه لا يجوز الخلع بأكثر مما أعطاها.

وهذا القول قال به عطاء والزهري، وعلى هذا القول يرد ما أخذ من غير زيادة.

واستدلوا برواية عند ابن ماجه (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر ثابتاً أن يأخذ حديقته ولا يزداد).

القول الثالث: أن أخذ الزيادة مكروه ويصح الخلع.

وهذا مذهب الحنابلة.

واستدلوا بنفس أدلة القول الأول، لكنهم يرون أن أخذ الزيادة ليس من المروءة.

ولهذا قال ميمون بن مهران: مَن أخذ أكثر مما أعطى لم يسرّح بإحسان.

والراجح أن الزوجة إن بذلت له الزيادة ابتداءً جاز له أخذها، مع أن هذا ليس من مكارم الأخلاق، وأما إذا طلب هو الزيادة فإنه يمنع، لأمرين:

الأمر الأول: أن الزيادة ليس لها حد، والنفوس مجبولة على حب الطمع.

الأمر الثاني: أن إباحة الزيادة قد تغري الأزواج بالعضل.

ص: 131

ممن يصح طلاقه.

أي: أن الخلع يصح ممن يصح طلاقه، وهو كل مكلف مميز يعقل الطلاق، بأن يعلم أن النكاح يزول به، فالخلع مقيس على الطلاق في ذلك.

ص: 132

م/ فإن كان لغير خوف ألا تقيم حدود الله فقد ورد في الحديث: من سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس فحرام عليها الجنة.

أي: أن الخلع لا يجوز مع استقامة الحال.

• وقد اختلف العلماء في حكم الخلع إذا كانت الحالة مستقيمة؟ وإذا قيل بالخلع هل يقع أم لا؟

القول الأول: أن الخلع مكروه أو محرم ولكنه يقع.

وهذا قول الأكثر.

استدلوا على كراهته أو تحريمه:

مفهوم قوله تعالى (فان خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما) فان نفي الجناح وهو الإثم يدل على أنه يقع الإثم إذا كانت الحالة مستقيمة.

ولحديث ثوبان. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أيما امرأة سالت زوجها الطلاق من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة) رواه الترمذي.

أن الخلع في حال الاستقامة إضرار بالزوجين وإزالة لمصالح النكاح من غير حاجة وهدم لبيت الزوجية وتشتيت الأسرة.

القول الثاني: أن الخلع في حال استقامة الحال محرم ولا يقع.

هذا القول اختاره بعض الحنابلة ورجحه الشيخ ابن عثيمين رحمه الله.

لقوله تعالى (فإن خفتم .. ).

ولحديث ثوبان السابق. والله أعلم.

• ويحرم بالنسبة للرجل إذا عضلها ظلماً لتفتدي.

لقوله تعالى (ولا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ).

مثال: رجل عنده زوجة وملّ منها أو رغب عنها، فقال: لو طلقتها ذهب مالي، فبدأ يعضلها، وأصبح يقصر في حقوقها ويسيء في عشرتها، حتى تفتدي ويأخذ المال، فهذا حرام.

ص: 133

‌كتاب الطلاق

‌تعريفه:

لغة: التخلية. يقال: ناقة طالق أي مخلّاة.

واصطلاحاً: حل قيد النكاح أو بعضهِ [لأن النكاح ربط بين الزوجين] فإن كان بائناً فهو حل لكله، وإن كان رجعياً فهو لبعضه.

• و‌

‌الطلاق ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

‌النوع الأول: الطلاق البائن بينونة كبرى، وهو الطلاق الثلاث،

(المستكمل للعدد).

فإذا كان الرجل قد طلق زوجته مرتين سابقتين ثم طلقها الثالثة فنقول: إن هذا الطلاق بائن بينوة كبرى، فلا تحل له إلا بعد زوج.

‌النوع الثاني: طلاق بائن بينونة صغرى.

وهو الطلاق الذي لا يستطيع فيه المطلِّق ارجاع زوجته بإرادته المنفردة كما كان له ذلك في الطلاق الرجعي،

والفرق بينه وبين الطلاق البائن بينوة كبرى، أن في الطلاق البائن بينوة صغرى لا يمكن أن ترجع إليه إلا بعقد جديد، بخلاف البينوة الكبرى فإنها لا تحل إلا بعد زوج.

كالطلاق على عوض، والفسخ إذا حصل فسخ بموجب [فقد شرط أو وجود عيب]، والرجعية إذا خرجت من العدة، والطلاق قبل الدخول والخلوة.

‌النوع الثالث: الطلاق الرجعي.

وهو: إذا طلق دون مالَه من العدد، كأن يطلق مرة أو مرتين، وسمي رجعياً لأنه يستطيع فيه الزوج خلال فترة العدة التي يجب على المرأة أن تبقى في بيت زوجها مراجعتها وإعادة الحياة الزوجية.

ص: 134

م/ والأصل فيه: قوله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ).

أي: أن الأصل في جوازه الكتاب والسنة والإجماع.

قال تعالى (الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ).

وقال سبحانه (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ

).

وقال صلى الله عليه وسلم لابن عمر (

ثم إن شاء أمسك وإن شاء طلق .. ).

وفي سنن أبي داود (أن النبي صلى الله عليه وسلم طلق حفصة وراجعها).

وقد نقل ابن قدامة في المغني إجماع الناس على جواز الطلاق.

• الطلاق تجري فيه الأحكام التكليفية الخمسة:

يكره: إذا كان بلا سبب يدعوه إلى ذلك ولم تكن هناك حاجة إليه.

وقد جاء في الحديث (أبغض الحلال إلى الله الطلاق) رواه أبوداود وهو ضعيف.

وحديث جابر. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه، فأدناهم منزلة أعظمهم فتنة، فيجيء أحدهم فيقول: فعلت كذا وكذا، فيقول: ما صنعتَ شيئاً، قال: ثم يجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته، قال: فيدنيه منه ويقول: نعم أنت) رواه مسلم.

ولأنه به تزول المصالح المترتبة على النكاح. (من الولد، وكثرة النسل، والألفة، وعفة الزوجين).

ولما فيه من تشتيت الأسرة، وكسر قلب المرأة.

ويستحب: إذا كانت الزوجة مقصرة في حق الله، أو كان في دوام النكاح ضرر على المرأة أو لكونها غير راغبة في الزوج، فيؤجر الزوج في فراقها، في الحديث (لا تصاحب إلا مؤمناً ولا يأكل طعامك إلا تقي) وفي الحديث الآخر (من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه).

ص: 135

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ويحرم في ثلاث أحوال: (يحرم للبدعة).

الحالة الأولى: طلاقها في الحيض.

لحديث ابن عمر (أن النبي صلى الله عليه وسلم طلق زوجته وهي حائض فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بمراجعتها) متفق عليه.

الحالة الثانية: أن يطلقها في طهر مسها فيه.

الحالة الثالثة: أن يطلق الرجل زوجته ثلاث تطليقات بلفظ واحد.

ويباح: إذا كانت الزوجة فيها بعض القصور في أداء بعض حقه، وكذلك إذا ساءت العشرة بينهما ولم يستطع على الإصلاح، وإذا كان لا يستطيع الصبر على امرأته.

وهذا يدخل فيه كل ما يتصور منه القصور في النساء: الجسماني والخلقي والخَلقي، لكن يحث الزوج على إمساك المرأة وإن كانت سيئة الخلق وفيها شيء من القصور، فهذا خير من أن يطلقها، وقد قال تعالى:(فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً).

ويجب: في الإيلاء (وهو أن يحلف الزوج على ترك وطء زوجته أكثر من أربعة أشهر). [وسيأتي مباحثه].

فهنا تضرب له أربعة أشهر، فإن فاء ورجع عن يمينه يكفر عن يمينه والنكاح باق، وإن لم يرجع فإنه يقال له: إما أن ترجع أو تطلق، الطلاق هنا - إن لم يرجع - واجب، فيطلِّق عليه الحاكم، لأن فيه دفعاً للضرر الحاصل على الزوجة، وكذلك يجب الطلاق إذا كانت تفعل الفاحشة ولم يمكنه الإصلاح ويمنعها، لأنه لو لم يفعل صار ديوثاً.

• لا يكون الطلاق إلا بعد نكاح.

لقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ).

فذكر الله النكاح قبل الطلاق، فمن قال: إذا تزوجت فلانة فهي طالق فقوله لا يعتبر ولا تقع به طلقة ولا غيرها.

ولحديث المسور مرفوعاً (لا طلاق قبل نكاح) رواه ابن ماجه وحسنه ابن حجر.

• لا يصح الطلاق إلا من:

زوج: فغير الزوج لا يصح طلاقه، إلا إذا قام مقام الزوج بالوكالة.

عاقل: فالمجنون لا يصح طلاقه، لحديث:(رفع القلم عن ثلاث: وعن المجنون حتى يفيق).

بالغ: فالصبي الغير المميز لا يقع طلاقه بالاتفاق، أما المميز فيه قولان:

الجمهور على أنه لا يقع طلاقه.

لحديث: (رفع القلم عن ثلاثة:

وعن الصبي حتى يبلغ).

ص: 136

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

• طلاق السكران: له حالتان:

الحالة الأولى: أن يقع السكر عن غير عمد.

كأن يشرب الخمر يظنها عصيراً، فهذا لا يقع الطلاق بإجماع.

الحالة الثانية: أن يتعمد السكر، ففيه قولان:

القول الأول: يقع الطلاق.

وهذا المذهب.

قال في المغني: وهو مذهب سعيد بن المسيب، وعطاء، ومجاهد، ومالك، والشافعي، وأبي حنيفة.

لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى).

فنهاهم حال السكر من قربان الصلاة، وهذا يقتضي عدم زوال التكليف.

القول الثاني: لا يقع طلاقه.

وهو قول عثمان، ومذهب عمر بن عبد العزيز، واختاره ابن تيمية.

قال ابن المنذر: هذا ثابت عن أمير المؤمنين عثمان.

وهذا القول هو الصحيح الذي رجع إليه الإمام أحمد حيث كان يقول بطلاق السكران فرجع عنه.

لقوله تعالى: (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى).

فهذه الآية دلت على أن السكران غير مكلف، لأن الله أسقط الصلاة عنه حال السكر.

لقول علي (كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه والمغلوب على عقله) رواه البخاري.

ولأن السكران زائل العقل كالمجنون فهو لا يدري ما يقول.

ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤاخذ حمزة لما سكر فقال: وهل أنتم إلا عبيد أبي، وهذا القول هو الصحيح.

ص: 137

م/ وطلاقهن لعدتهن فسره حديث ابن عمر حيث طلق زوجته وهي حائض، فسأل عمر رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال (مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ لْيَتْرُكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِى أَمَرَ اللَّهُ عز وجل أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ). وفي رواية (مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ لْيُطَلِّقْهَا طَاهِراً أَوْ حَامِلاً). وهذا دليل على أنه لا يحل أن يطلقها وهي حائض، أو في طهر وطئ فيه إلا أن تبين حملُها.

أراد المصنف رحمه الله أن يبين أنه ينبغي أن تطلق المرأة لعدتها كما أمر الله بذلك في الآية السابقة (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ).

والتطليق للعدة: أن يطلقها وهي طاهر من الحيض، وأن يطلقها في طهر لم يجامعها فيه.

وقد دل حديث ابن عمر الذي ذكره المصنف رحمه الله على تحريم طلاق الزوجة وهي حائض.

• الحديث دليل على تحريم الطلاق حال الحيض وفاعله عاصٍ لله إذا كان عالماً بالنهي، ويؤخذ هذا الحكم من وجهين:

أولاً: أنه جاء في رواية في الحديث (فتغيظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يتغيظ إلا على أمرٍ محرم.

ثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر ابن عمر بإمساكها بعد المراجعة ثم تطليقها في الطهر، فدل على أن تطليقها في الحيض محرماً، إذ لو لم يكن محرماً لأقر النبي صلى الله عليه وسلم التطليق في الحيض ويغني عن الطلقة التي تأتي في الطهر.

وقد نقل جماعة من العلماء: الإجماع على أن الطلاق حال الحيض محرم (ابن المنذر - ابن قدامة - النووي).

وهذا التحريم خاص بالمدخول بها، أما غير المدخول بها فيجوز تطليقها مطلقاً حائضاً أو طاهراً، لأن غير المدخول بها ليس عليها عدة. [وهذا مذهب الأئمة الأربعة].

• ويسستثنى: ما إذا كان الطلاق على عوض (فيجوز أن يخالعها وهي حائض).

• اختلف العلماء في الحكمة من تحريم الطلاق حال الحيض:

قيل: هي خشية تطويل العدة على المرأة، لأن من المعلوم أن بقية الحيضة التي طلقت فيها غير داخلة في العدة.

ص: 138

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وقيل: إن الحيض حال نفرة وزهد وما يدري هذا الزوج الذي طلق حال الزهد أن يندم في زمان الطهر عند توقان النفس للجماع.

وقيل: إن الحكمة تعبدية.

• الحديث يدل على تحريم طلاق الزوجة وهي حائض، وهذا يسمى طلاق بدعي.

فالطلاق ينقسم إلى قسمين:

أولاً: الطلاق السني:

o أن يطلقها طاهراً غير حائض.

لقوله صلى الله عليه وسلم: (

فليطلقها قبل أن يمسها

).

o أو أن يطلقها حاملاً.

لقوله صلى الله عليه وسلم: (

فليطلقها حائلاً أو حاملاً).

o أو أن يطلقها مرة واحدة في طهر لم يجامعها فيه.

لقوله صلى الله عليه وسلم: (ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض وتطهر، ثم إن شاء طلقها قبل أن يمس).

ثانياً: الطلاق البدعي المحرم.

o أن يطلقها في الحيض.

لحديث الباب، فإن النبي صلى الله عليه وسلم تغيظ وأمر بمراجعتها.

o أن يطلقها في طهر مسها فيه.

لقوله صلى الله عليه وسلم: (مره فليراجعها، ثم يمسكها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك، وإن شاء طلق).

o أن يطلق امرأته ثلاث تطليقات بلفظ واحد.

• فطلاق الحائض حرام، لكن اختلف العلماء هل يقع أم لا؟ على قولين:

القول الأول: أنه يقع.

وهذا مذهب جماهير العلماء.

قال ابن قدامة: فإن طلقها للبدعة، وهو أن يطلقها حائضاً

وقع طلاقه في قول عامة أهل العلم.

لقوله تعالى (الطلاق مرتان .... ).

وقوله تعالى (فإن طلقها فلا تحل ..... ).

وجه الدلالة: أن الآيات عامة تدل على وقوع الطلاق في أي وقت ممن له حق وقوعه، فلم يفرق بين أن يكون الطلاق في حال الحيض أو الطهر، ولم يخص حالاً دون حال توجب حمل الآيات على العموم.

ص: 139

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ولحديث الباب، قال صلى الله عليه وسلم: (

مره فليراجعها

) فهذا دليل على أن الطلاق يقع، إذ لا تكون المراجعة إلا بعد الطلاق الذي يعتد به.

وروى البخاري عن سعيد بن جبير عن ابن عمر قال: (حسبت علي تطليقة).

وفي رواية للدار قطني: (أن عمر قال: يا رسول الله، فيحسب بتلك التطليقة؟ قال: نعم).

وعن نافع عن ابن عمر: (أنه طلق امرأته وهي حائض، فأتى عمر النبي صلى الله عليه وسلم وذكر ذلك له فجعلها واحدة) رواه الدار قطني

قال الحافظ في الفتح: وهو نص في موضع الخلاف، فيجب المصير إليه.

أن ابن عمر مذهبه الاعتداد بها، وهو صاحب القصة، وصاحب القصة أعلم.

القول الثاني: لا يقع.

وهذا قول الظاهرية، واختيار شيخ الإسلام، ونصره ابن القيم.

لقوله تعالى (فطلقوهن لعدتهن).

وجه الدلالة: أن المطلق في حال الحيض لا يكون مطلقاً للعدة، لأن الطلاق المشروع المأذون فيه أن يطلقها في طهر لم يمسها فيه، وما عدا هذا لا يكون طلاقاً للعدة في حق المدخول بها.

واستدلوا بما رواه أبو داود من حديث أبي الزبير عن ابن عمر - حديث الباب -: (أنه طلق امرأته وهي حائض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم

قال عبد الله: فردها عليّ ولم يرها شيئاً).

والجواب عن هذا:

أن قوله (ولم يرها شيئاً) بأنها لا تصح، فإن أبا الزبير خالف في روايته رواية الجمهور، وهي أكثر عدداً وأثبت حفظاً، فروايتهم أولى من روايته.

قال ابن عبد البر: قوله: (ولم يرها شيئاً) منكر، لم يقله غير أبي الزبير، وليس بحجة فيما خالفه فيه مثله، فكيف فيمن هو أثبت منه.

قال الخطابي: لم يرو أبو الزبير حديثاً أنكر من هذا.

المراد بالمراجعة هنا إمساكها على حالها، لان المراجعة لها معنى أعم من إعادة المطلقة.

ص: 140

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

والراجح القول الأول.

• قوله صلى الله عليه وسلم: (مره فليراجعها). قال النووي: أجمعوا على أنه إذا طلقها يؤمر برجعتها.

لكن هل الرجعة واجبة أم مستحبة؟

اختلف العلماء على قولين:

فقيل: مستحبة.

وهذا مذهب جمهور العلماء، كما نقله النووي والشوكاني.

قالوا: لأن ابتداء النكاح لا يجب، فاستدامته كذلك، فكان القياس قرينة على أن الأمر للندب.

وقيل: واجب.

فمن طلق زوجته وهي حائض وجب مراجعتها.

وهو قول جماعة من العلماء كداود وغيره.

للأمر به (مره فليراجعها).

وقالوا: لما كان الطلاق في حال الحيض محرماً كان استدامة النكاح واجبة.

وقالوا: لأن المراجعة تتضمن الخروج من المعصية.

والراجح الوجوب للأمر به في قوله (مره

).

• الحكمة من الأمر برجعتها وإعادتها إلى عصمتها:

قيل: لأجل أن يقع الطلاق الذي أذن الله فيه في زمن الإباحة (وهو زمن الطهر الذي لم يجامعها فيه).

وقيل: عقوبة المطلق الذي طلق في زمن الحيض، فعوقب بنقيض قصده.

وقيل: ليزول المعنى الذي حرم الطلاق في الحيض لأجله (وهو تطويل العدة).

• قوله: (ثم ليمسكها) هل يجوز أن يطلق في الطهر الذي يلي هذه الحيضة؟

جاء في رواية: (ثم ليمسكها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم إن شاء

).

في هذه الرواية أنه ينتظر إذا أراد أن يطلق إلى طهرتان.

وجاء في رواية: (مره فليراجعها، فإذا طهرت فأراد أن يطلقها فليطلقها).

ففي هذه الرواية أن للرجل أن يطلق امرأته في الطهر الأول بعد الحيضة التي طلقها فيها وراجعها، ولا يلزمه الانتظار إلى الطهر الثاني.

ص: 141

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وقد اختلف العلماء في هذه المسألة في الانتظار للطهر الثاني:

فذهب جماعة منهم: إلى وجوب الانتظار إلى الطهر الثاني.

منهم الإمام مالك، كما نقله عنه الصنعاني واستدل بالرواية الأولى.

وذهب جماعة من العلماء: إلى أن الانتظار إلى الطهر الثاني مستحب وليس بواجب.

وهذا مذهب أبي حنيفة وأحمد.

وهذا القول أصح.

لأننا إذا أخذنا بهذا القول عملنا بجميع الروايات.

• قوله صلى الله عليه وسلم: (وإن شاء طلق قبل أن يمس) هذا يدل على النوع الثاني من الطلاق البدعي المحرم، وهو الطلاق في طهر جامعها فيه.

والرواية الأخرى: (فليطلقها طاهراً) أي غير حائض، وفي رواية (من قبل أن يجامعها).

وجه التحريم: من المحتمل أن ينشأ من هذا الجماع حمل.

استثنى العلماء مسالة: وهي إذا ظهر حملها لرواية مسلم (أو حاملاً).

ولأنه إذا طلق وهي حامل فهذا دليل على رغبته بالطلاق.

اختلف العلماء في وقت الطهر (حتى تطهر) وقوله (ثم ليطلقها طاهراً) هل لابد من الاغتسال أم يكفي الطهر ولو لم تغتسل؟

فقيل: المراد بالطهر انقطاع الدم.

وهذا مذهب الشافعي وأحمد.

قالوا لأن انقطاع دم الحيض دليل على الطهر، وهي وإن لم تغتسل فهي في حكم الطاهرات بدليل أنها تصوم ولو لم تغتسل

وقيل: المراد بالطهر التطهر بالغسل.

وهذا قول المالكية.

واستدلوا برواية عند النسائي (فإذا اغتسلت من حيضتها الأخرى فلا يمسها حتى يطلقها).

قال ابن القيم: هذا مفسر لقوله (فإذا طهرت).

والراجح هو القول الثاني.

• الحديث دليل على إثبات الرجعة: وهي إعادة مطلقة غير بائن إلى عصمة النكاح بغير عقد. [وسيأتي البحث بها]

ص: 142

م/ ويقع الطلاق بكل لفظٍ دل عليه من صريح: لا يفهم منه سوى الطلاق، كلفظ (الطلاق) وما تصرف منه، وما كان مثلَه، وكناية: إذا نوى بها الطلاق، أو دلت القرينة على ذلك.

ذكر المصنف رحمه الله الألفاظ التي يقع بها الطلاق، وقد ذكر أن ألفاظ الطلاق تنقسم إلى قسمين:

القسم الأول: ألفاظ صريحة.

وهي الألفاظ الموضوعة له التي لا تحتمل غيره. (وهو لفظ الطلاق وما تصرف منه).

حكمه: يقع الطلاق بمجرد نطقه به ولو لم ينوه، لأنه فراق معلق على لفظ فحصل به، وليس عملاً يتقرب به الإنسان إلى ربه حتى نقول: إنما الأعمال بالنيات. [قاله الشيخ ابن عثيمين رحمه الله].

مثل: أنتِ طالق، أنتِ مطلقة، طلقتك، فلو قال رجل لزوجته: أنت طالق، فإنها تطلق ولو لم ينوه.

• لو قال الزوج: أنا أقصد بقولي: أنتِ طالق، طالق من وثاق، فهل يقبل؟ فيه تفصيل: أما حكماً فلا يقبل، بمعنى أن الزوجة لو حاكمته عند القاضي فلا يقبل، لأن هذا اللفظ صريح في الطلاق لا يحتمل غيره، لكن إن ديّنته الزوجة (وكلته إلى دينِه) فلا يقع في الظاهر، فلها ذلك (فالزوجة تخير) فإن كان زوجها معروفاً بالصدق فلتدينه، وإن كان معروفاً بالكذب والفجور فيجب أن تديّنه.

القسم الثاني: ألفاظ كنائية.

وهي الألفاظ التي تحتمل الطلاق وغيره.

مثال: كأن يقول الحقي بأهلك، أنت حرة، أنت خلية، اذهبي.

حكمه: لا يقع به الطلاق إلا مع نية أو قرينة.

فإنه إذا قال الحقي بأهلك فإنه يحتمل مجرد الطلب إليها أن تذهب إلى أهلها، ويحتمل إرادة الطلاق.

مع النية: أن يقول لها: الحقي بأهلك، وينوي أنه طلاق.

القرينة: كأن يكون جواباً لسؤالها [كأن تقول له طلقني فيقول: الحقي بأهلك] أو خصومة بين الزوجين، فهنا تكون الكناية مقام الصريح.

وذهب بعض العلماء إلى أن الكناية لا يقع بها الطلاق إلا بنية، حتى لو وقع جواباً لسؤالها أو في حالة خصومة لقوله صلى الله عليه وسلم (إنما الأعمال بالنية).

فائدة: والزوج إذا قال لزوجته: أنتِ طالق، فلا يخلو من ثلاث حالات:

الحالة الأولى: أن ينوي الطلاق، فيقع.

الحالة الثانية: أن ينوي غير الطلاق، كأن يقول: أنت طالق، وقال قصدي طالق من وثاق، فهنا لا يقبل حكماً.

الحالة الثالثة: ألا ينوي شيئاً، فالأكثر على وقوعه، لأنه أتى بلفظ صريح موضوع للطلاق.

ص: 143

م/ ويقع الطلاقُ منجزاً.

أي: ويقع الطلاق منجزاً، والطلاق المنجز هو الذي يقع في الحال، كأن يقول: هي طالق، فتطلق من الآن، أي: يقع الطلاق في الحال.

ص: 144

م/ أو معلقاً على شرط كقوله: إذا جاء الوقت الفلاني فأنت طالق، فمتى وجد الشرط الذي علق عليه الطلاق وقع.

ذكر المصنف رحمه الله تعليق الطلاق، وتعليق الطلاق ينقسم إلى أقسام:

أولاً: أن يكون تعليقاً محضاً. (سمي محضاً لأنه لا اختيار للزوج فيه).

كأن يقول: إذا طلعت الشمس فأنتِ طالق، فيقع الطلاق إذا طلعت الشمس. (فطلوع الشمس لا تملك منعه).

ومثله: إذا دخل رمضان فأنت طالق، وإذا غربت الشمس فأنت طالق.

ثانياً: أن يعلق الطلاق على فعل زوجته أو فعله هو، كأن يقول لزوجته: إن دخلت دار فلان فأنت طالق، أو ذهبت لبيت أختك فأنت طلاق:

أ- فهذه إن قصد إيقاع الطلاق بالفعل إذا حصل المعلق عليه فإن هذا الطلاق يقع عند حصول ما عُلق عليه قولاً واحداً بلا خلاف.

ب- وإن لم يقصد الطلاق ولكنه يريد بذلك حملها على فعل أو منعها من فعل، فهذه اختلف فيها العلماء على قولين:

القول الأول: يقع الطلاق إذا حصل المعلق عليه.

وهذا مذهب الأئمة الأربعة.

القول الثاني: أنه لا يقع الطلاق إذا حصل ما علق عليه، وإنما فيه كفارة يمين.

وهذا مذهب داود الظاهري وجماعة وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية.

ص: 145

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

• الشك في الطلاق له عدة صور:

الصورة الأولى: أن يشك في وقوع أصل الطلاق - يشك هل طلق أم لم يطلق: الأصل عدم الطلاق، لأن النكاح متيقن والطلاق مشكوك فيه والشك لا يعارض اليقين (اليقين لا يزول بالشك).

الصورة الثانية: أن يشك في عدد الطلاق، بأن يتيقن بأنه طلق امرأته لكنه شك هل طلقها واحدة أو اثنتين أو ثلاثة، فاليقين الأقل وهو واحدة، وما زاد على الواحدة مشكوك فيه.

الصورة الثالثة: أن يشك في وجود الشرط وعدمه، هل طلاق زوجته كان معلقا أو كان منجزاً، فالأصل عدم الشرط.

الصورة الرابعة: الشك في تحقق الشرط وجوداً أو عدماً، تيقن أنه طلق وأنه علق زوجته على شرط لكن يشك بحصول الشرط، كأن يقول: إن فعلتُ كذا فزوجتي طالق، وشك هل حصل الأمر أم لا، فالأصل عدم الوقوع.

الطلاق البائن والرجعي

سبق تعريف الطلاق البائن بنوعيه والطلاق الرجعي، وسيذكر المصنف رحمه الله بعض المسائل المتعلقة بهما، وقد تقدم أكثرها.

ص: 146

م/ ويملكُ الحرُّ ثلاث طلقات.

أي: من كان كله حر أو بعضه حر يملك ثلاث تطليقات، حرةً كانت زوجته أو أمَة، لأن الطلاق معتبر بالرجال.

والدليل على أنه يملك ثلاث تطليقات قوله تعالى (الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ .... إلى قوله تعالى (فَإِنْ طَلَّقَهَا) يعني الثالثة (فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ).

ج- وقوله (يملك الحر ثلاث تطليقات) مفهومه أن العبد ليس كذلك، فالعبد يملك تطليقتين، فقد ورد عن عمر أنه قال (ينكح العبد امرأتين، ويطلق تطليقتين) أخرجه الدارقطني، ولأن العبد على النصف من الحر، ولم يُجعل الطلاق طلقة ونصف لأن الطلاق لا يتنصف.

ص: 147

م/ فإذا تمت له لم تحل له حتى تنكح زوجاً غيره بنكاح صحيح ويطأها، لقوله تعالى (الطَّلاقُ مَرَّتَانِ ...... إلى قوله تعالى (فَإِنْ طَلَّقَهَا) يعني الثالثة (فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ).

ذكر المصنف رحمه الله متى تبين الزوجة بينونة كبرى، وهي إذا طلقها زوجها آخر ثلاث تطليقات، فلا تحل له بعد ذلك حتى تنكح زوجاً غيره نكاح رغبة ويجامعها الثاني، وقد تقدمت المسألة وشروط رجوعها لزوجها الأول في باب المحرمات في النكاح.

ص: 148

م/ ويقع الطلاق بائناً في أربع مسائل.

أي: ويقع الطلاق ويكون بائناً بينونة كبرى أو صغرى في مسائل سيذكرها المصنف رحمه الله منها.

ص: 149

م/ هذه منها.

أي: إذا طلقها زوجها الطلقة الثالثة فإنها تبين منه بينونة كبرى كما سبق.

ص: 150

م/ وإذا طلق قبل الدخول لقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا).

أي: إذا طلق الرجل زوجته قبل الدخول والخلوة بها، فإنها تبين منه، ولا تحل له إلا بعقد جديد برضاها، لأنه لا عدة عليها.

والدليل على ذلك الآية التي ذكرها المصنف رحمه الله فغير المدخول بها من حين ما يقول لها زوجها: أنت طالق؛ تبين منه.

ص: 151

م/ وإذا كان في نكاح فاسد.

أي: وتبين منه إذا كان في نكاح فاسد، لأن أصل هذا النكاح غير صحيح، وأمرنا له بالطلاق من باب الحيطة، كأن يتزوجها بلا ولي، فإنها تبين منه ولا رجعة له عليها.

ص: 152

م/ وإذا كان على عوض.

أي: وتبين الزوجة من زوجها إذا كان الطلاق على عوض، كالخلع، فإذا كان بعوض فلا للزوج الرجعة إلا بعقد جديد، لأن العوض فداء، فهي افتدت نفسها، ولو قلنا للزوج الرجوع لم يكن لهذا الفداء فائدة.

ص: 153

‌باب الرجعة

م/ وما سوى ذلك فهو رجعي.

أي: ما سوى ما مضى فإن الطلاق يكون رجعياً يحق للزوج ارجاع زوجته ولو كرهت.

تعريف الرجعة: إعادة مطلقة غير بائن إلى ما كانت عليه بغير عقد ما دامت في العدة (وسيأتي محترزات هذا التعريف بعد قليل).

مثال: رجل قال لزوجته أنت طالق، فتطلق، فله الحق ما دامت في العدة أن يراجعها، لكن لها شروط ستأتي أدلة مشروعية الرجعة:

قوله تعالى (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحاً). والمراد بالبعل هنا الزوج.

وقال تعالى (الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ). فقوله (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ) هو الرجعة مع المعروف (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) وهو تطليقها.

وفي قصة ابن عمر حينما طلق زوجته قال صلى الله عليه وسلم لعمر (مره فليراجعها).

وثبت في سنن أبي داود (أن النبي صلى الله عليه وسلم طلق حفصة ثم راجعها).

وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ثلاث جِدهن جد وهزلهن جد: النكاح والطلاق والرجعة) رواه أبوداود.

وأجمع العلماء على مشروعية الرجعة.

ص: 154

م/ يملك الزوج رجعةَ زوجتهِ ما دامت في العدة لقوله تعالى (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحاً).

أي: يملك الزوج إرجاع زوجته التي طلقها تطليقة واحدة أو اثنتين أن يرجعها لعصمته ولو لم ترضى بشرط أن يكون ذلك في العدة، وهذا أحد شروط إرجاع الزوجة الرجعية:

فالشرط الأول: أن يكون ذلك في العدة.

فإن راجعها بعد انتهاء العدة فلا رجعة، لقوله تعالى (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ). أي: في العدة.

فعلم من الآية أنه لا حق للأزواج بعد انتهاء العدة.

قال القرطبي: وأجمع العلماء على أن الحرّ إذا طلق زوجته الحرة، وكانت مدخولاً بها تطليقة أو تطليقتين أنه أحق برجعتها ما لم تنقض عدتها، وإن كرهت المرأة، فإن لم يراجعها المطلّق حتى انقضت عدتها فهي أحق بنفسها، وتصير أجنبية منه لا تحل له إلا بخطبة ونكاح مستأنف بولي، وهذا إجماع من العلماء.

الشرط الثاني: أن يكون الفراق بلا عوض، فإن كان بعوض (وهو الخلع) فلا رجعة إلا بعقد جديد، لأن العوض الذي دفعته فداء، تفدي نفسها منه.

الشرط الثالث: أن يكون مدخولاً بها (قد جامعها زوجها أو خلا بها) أما غير المدخول بها فلا رجعة، لأنها تبين بمجرد ما يقول لها: أنت طالق (تقدمت المسألة).

الشرط الرابع: أن يكون الطلاق دون ما له من العدد وهو ثلاثة، فإن كان آخر ما له من العدد فلا رجعة لقوله تعالى (الطَّلاقُ مَرَّتَانِ

إلى قوله تعالى (فَإِنْ طَلَّقَهَا) يعني الثالثة (فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ).

ص: 155

م/ والرجعية حكمها حكم الزوجات إلا في وجوب القسْم.

أي: أن المطلقة الرجعية - ما دامت في العدة - حكمها حكم الزوجات من وجوب النفقة والكسوة والمسكن، ويرث كل منهما صاحبه إذا مات في العدة.

لكن يستثنى شيء واحد ذكره المصنف رحمه الله فقال:

ص: 156

م/ إلا في وجوب القسْم.

أي: لو كان له زوجات أُخَر، فليس لها حق في القسْم، لأنها مطلقة.

ص: 157

م/ والمشروع إعلانُ النكاح والطلاق والرجعة والإشهاد على ذلك.

أي: ويشرع إعلان النكاح (وسبقت المسألة في كتاب النكاح).

قوله (والطلاق) أي ويشرع إعلان الطلاق لقوله تعالى (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ).

والحكمة والفائدة من الإشهاد على الطلاق:

أولاً: مسألة الإرث، فإن كان أشهد على الطلاق ثم مات بعد انقضاء العدة فإنها لا ترث.

ثانياً: أن هذه المرأة يمكن خطبتها. (وسبق من المعتدة التي تخطب تعريضاً).

ثالثاً: أن الطلاق إذا ثبت بالشهادة لا يتمكن الزوج من الإنكار.

قوله (والرجعة) أي: ويشرع الإشهاد على الرجعة، وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: أنه واجب.

وهو قول الشافعي في القديم وابن حزم ونقله ابن كثير عن عطاء.

لقوله تعالى (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ) والضمير يعود على الطلاق والرجعة.

ولما يترتب على ذلك من المصلحة، من عدم الإنكار، فإذا كان الزوج قد أشهد على الرجعة فلا تستطيع الزوجة أن تنكر.

القول الثاني: أنه مستحب.

وهذا قول الجمهور مالك وأبي حنيفة.

لحديث ابن عمر (مره فليراجعها) ولم يذكر الإشهاد والمقام مقام بيان.

والراجح القول بالاستحباب، والقول بالوجوب قول قوي:

أ- لأن فيه قطعاً للنزاع فيما لو ادعت الزوجة أنه لم يراجع.

ب- ولأن فيه احتياطا والنكاح ينبغي فيه الاحتياط.

ص: 158

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

• بما تحصل الرجعة؟

تكون بالقول، و هذا محل اتفاق بين العلماء.

واختلفوا في حصول الرجعة بالفعل وهو الوطء. يعني لو وطء زوجته الرجعية دون أن يتلفظ هل مجرد الوطء يكون رجعة قولان:

القول الأول: إن الرجعة لا تحصل بالفعل، فلا تحصل إلا بالقول.

وهذا قول الشافعي وهو قول ابن حزم.

لان إعادة الزوجية بعد الطلاق إنشاء للزواج من وجه، فلا بد من القول.

القول الثاني: إنها تحصل بالوطء.

وهذا قول مالك وأبي حنيفة.

لكن حصل بينهم اختلاف هل يشترط أن ينوي مراجعتها أو لا يشترط:

فقيل: لا تحصل بالوطء إلا مع النية

وهذا قول مالك وأحمد، لعموم (إنما الأعمال بالنيات).

وقيل: إن مجرد الوطء يكفي سواء نوى المراجعة أم لا.

وهو قول أبي حنيفة.

والراجح تحصل بالوطء مع نية المراجعة، واختاره ابن تيمية.

• إذا فرغت من عدتها ولم يرتجعها بانت منه.

وقد أجمع العلماء على أن المرأة إذا طلقها زوجها فلم يرتجعها حتى انقضت عدتها أنها تبين منه فلا تحل له إلا بنكاح جديد.

قال تعالى (وبعولتهن أحق بردهن) أي في العدة، فمفهوم الآية أنها إذا فرغت عدتها لم تبح إلا بعقد جديد بشرطه.

ص: 159

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أ- إذا طلق الزوج زوجته الرجعية ثم أرجعها فإنها تعود إليه بما بقي من طلاقها، بلا خلاف.

مثال: طلق رجل زوجته تطليقة واحدة، ثم راجعها بالعدة، فإنه يبقى له تطليقتان.

ب- وإذا طلقها تطليقة وخرجت من العدة، ثم تزوجها بعقد جديد فإنها أيضاً ترجع بما بقي لها من طلاقها.

مثال: رجل طلق زوجته تطليقة، ولم يرجعها حتى خرجت من العدة، ثم عقد عليها بعقد جديد، وتزوجها، فإنه يبقى له تطليقتان.

ج- وإذا طلقها تطليقة وخرجت من العدة، وتزوج زوج آخر، ثم هذا الزوج طلقها، ثم تزوجها زوجها الأول، فقولان للعلماء:

قيل: تعود إليه على ما بقي من الثلاث.

وهذا قول أكثر الصحابة، وهو قول مالك والشافعي وآخرين.

ولأن وطء الثاني لا يحتاج إليه في الإحلال للزوج الأول، فلا يغير حكم الطلاق.

قال الشيخ ابن عثيمين مرجحاً هذا القول: لأن نكاح الثاني إذا كان الزوج الأول لم يطلق ثلاثاً لا أثر له، لأنها تحل لزوجها الأول سواء تزوجت أم لم تتزوج.

وقيل: أنها ترجع إليه على طلاق ثلاث، فيكون الزوج الثاني قد هدم الطلاق.

وهذا قول ابن عمر وغيره.

والراجح الأول.

د- وإذا طلقها ثلاثاً فنكحت غيره ووطئها، ثم تزوجها الأول، فإنها تعود إليه بطلاق ثلاث إجماعاً.

ص: 160

م/ وفي الحديث (ثَلَاثٌ جِدُّهنَّ جِدٌّ، وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ: اَلنِّكَاحُ، وَالطَّلَاقُ، وَالرَّجْعَة) رَوَاهُ اَلْأَرْبَعَةُ إِلَّا النَّسَائِيَّ

ذكر المصنف رحمه الله حديث أبي هريرة. قال: قال صلى الله عليه وسلم (ثَلَاثٌ جِدُّهنَّ جِدٌّ، وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ: اَلنِّكَاحُ، وَالطَّلَاقُ، وَالرَّجْعَة) ليستدل به على وقوع طلاق الهازل.

[ثلاث] أي: ثلاث خصال. [هزلهن جد] الهزل: أن يقول أو يفعل شيئاً على سبيل اللعب والمزاح لا يريد حقيقته.

• الفرق بين الجاد والهازل: الجاد قصد اللفظ والحكم، والهازل: قصد اللفظ دون الحكم.

وقد اختلف العلماء هل يقع طلاق الهازل أم لا على قولين:

القول الأول: أنه يقع.

وهذا قول الأكثر، وهو قول الحنفية والشافعية.

فإذا تلفظ ولو هازلاً بصريح لفظ الطلاق فإن الطلاق يقع، لحديث الباب.

ولو قلنا لا يقع لصار مفسدة، وهي أن كل إنسان يطلق امرأته ثم يقول: إنه لم ينوِ.

القول الثاني: أن طلاق الهازل لا يقع.

وهو قول جماعة من العلماء.

واستدلوا بقوله تعالى (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) فدل على اعتبار العزم، والهازل لا عزم له.

قالوا: ولأن الهازل لم يرد الطلاق ولا نوى معناه، فكيف يترتب عليه مقتضاه؟

والراجح القول الأول.

ص: 161

م/ وفي حديث ابن عباس مرفوعاً (إِنَّ اَللَّهَ تَعَالَى وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي اَلْخَطَأَ، وَالنِّسْيَانَ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ). رَوَاهُ اِبْنُ مَاجَهْ

ذكر المصنف رحمه الله حديث ابن عباس عَنْ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِنَّ اَللَّهَ تَعَالَى وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي اَلْخَطَأَ، وَالنِّسْيَانَ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ) رَوَاهُ اِبْنُ مَاجَهْ، وَالْحَاكِم، ليستدل به على عدم وقوع طلاق المكره، وقد اختلف العلماء في وقوع طلاق المكره على قولين:

القول الأول: أنه لا يقع.

وهذا مذهب جماهير العلماء.

لقوله تعالى (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ) وجه الدلالة: أن الإنسان إذا أكره على الكفر وتلفظ به ظاهراً فلا يكون كافراً، وهذا في العقيدة، فلئلا يقع طلاقاً عند الإكراه على الطلاق من باب أولى وأحرى.

ولحديث الباب (

وما استكرهوا عليه).

ولحديث عائشة قالت. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (لا طلاق ولا عتاق في إغلاق) رواه أبو داود، والإغلاق هو الإكراه.

ولأن المكرَه لم يكن قاصداً وقوع الطلاق، وإنما قصد دفع الأذى والضرر عن نفسه.

القول الثاني: أنه يقع طلاقه.

وهذا مذهب الحنفية.

معللين ذلك بأنه طلاق من مكلف في محل يملكه فوقع.

والراجح الأول.

ص: 162

‌باب الإيلاء

م/ فالإيلاء أن يحلفَ على ترك وطء زوجتهِ أبداً أو مدة تزيد على أربعة أشهر.

الإيلاء لغة: الحلف.

واصطلاحاً: حلف زوج على ترك وطء زوجته أكثر من أربعة أشهر.

مثال: كأن يقول لزوجته: والله لا أطأكِ خمسة أشهر.

• فقوله (حلف) أن يحلف بالله أو بصفة من صفاته على ترك الوطء.

• فإن حلف على ترك الوطء بغير ذلك، مثل أن يحلف بالطلاق أو العتق كأن يقول: إن وطئتك فأنتِ طالق، أو فلله عليّ صوم شهر، فقد اختلف العلماء هل يكون مولٍ أم لا؟ والجمهور أنه يكون إيلاء، وقد روي عن ابن عباس أنه قال (كل يمين منعت جماعاً فهي إيلاء).

• وقوله (على ترك وطء) هذا الشرط الثاني، أن يحلف على ترك الجماع في القبل، فلو حلف أن لا يباشر زوجته لمدة سنة ونيته المباشرة دون الفرج، فليس بمولٍ.

• وقوله (زوجته) هذا الشرط الثالث، وهو أن يكون المحلوف عليها زوجته، سواء كانت مدخولاً بها أم غير مدخول، لقوله تعالى (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ) ولأن غير الزوجة لا حق لها في وطئه فلا يكون مولياً عنها، فلو حلف على ترك وطء أجنبية ثم نكحها لم يكن مولياً لذلك.

• قوله (أكثر من أربعة أشهر) هذا الشرط الرابع، وهو أن يحلف على ترك الوطء أكثر من أربعة أشهر، ولا خلاف في ذلك أنه إيلاء، فإن حلف على أربعة أشهر فما دونها لم يكن مولياً، ولا يتعلق به أحكام الإيلاء، لقوله تعالى (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ) فجعل الله للزوج تربص أربعة أشهر، فإذا حلف على أربعة أشهر فما دونها فلا معنى للتربص، لأن مدة الإيلاء تنقضي قبل ذلك أو مع انقضائه، وتقدير التربص بأربعة أشهر يقتضي كونه في مدة يتناولها الإيلاء، وهو ما كان أكثر من أربعة أشهر.

واختار بعض العلماء - ومنهم الشيخ ابن عثيمين رحمه الله أنه إذا حلف على ترك الوطء أربعة أشهر أو أقل فإنه يعتبر إيلاء، لأن الله قال (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ) فأثبت الله الإيلاء، لكن جعل المدة التي ينظرون فيها أربعة أشهر، فلو قال: والله لا أجامع زوجتي ثلاثة أشهر، فإن هذا مولٍ، لأنه حلف أن لا يجامعها، ولكننا لا نقول له شيئاً الآن، لأنه إذا تمت المدة انحلت اليمين.

• حكم الإيلاء:

إن كان فوق أربعة أشهر فإنه حرام

وإن كان دونها فهو جائز للمصلحة. وقد ثبت في البخاري عن أنس (أن النبي صلى الله عليه وسلم آلى من نسائه شهراً).

ومعنى إيلاء النبي صلى الله عليه وسلم هنا: اعتزال نساءه شهراً.

ص: 163

م/ فإذا طلبت الزوجة حقَّها من الوطء أُمِرَ بوطئِها.

أي: إذا طلبت الزوجة حقها من الوطء، فإنه يؤمر بذلك.

لأن في عدم ذلك إضراراً بالزوجة.

ص: 164

م/ وضربت له أربعة أشهر.

أي: إذا رفض الرجوع والفيئة للوطء، وطلبت المرأة حقها، فإن القاضي يضرب له أربعة أشهر.

لقوله تعالى (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

وقد اختلف العلماء متى تبدأ مدة الإيلاء؟

فقيل: تبدأ من المطالبة.

وقيل: تبدأ من الإيلاء، وهذا هو الصحيح.

لقوله تعالى (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ) فجعل الله التربص مقروناً بالوصف وهو الإيلاء، ويثبت هذا الوصف من اليمين، لأنه من حين أن يحلف يصدق عليه بأنه مولي.

مثال: فإذا آلى في اليوم (27) من شهر محرم، ولم تطالبه إلا في (27) من شهر ربيع الأول، فيكون مضى عليه شهران، فهل تبدأ المدة من (27) محرم أو من (27) ربيع الأول؟ تبدأ من (27) محرم ويكون بقي له شهرين.

ص: 165

م/ فإذا وطئ كفّر كفارة يمين.

أي: إذا مضت المدة وهي أربعة أشهر، ورجع وفاء وجامع، فإنه يكفر كفارة يمين عن يمنيه.

لقوله (فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(فَإِنْ فَاءُوا) أي رجعوا إليهن بالجماع.

• فإن وطئ في الدبر فما فاء، لأن الوطء في الدبر حرام، ولا يسمى جماعاً، لأنه لا يحصل به كمال الاستمتاع.

• أو بما دون الفرج كالفخذين فما فاء، لأن هذا ليس جماعاً تحصل به كمال اللذة.

ص: 166

م/ وإن امتنع ألزم بالطلاق.

أي: بعد مضي أربعة أشهر - إن لم يرجع للجماع - يأمره القاضي بالطلاق إذا طلبت الزوجة ذلك، لأن الحق لها، وأما إذا لم تطلب المرأة الطلاق فلا يجوز للحاكم أن يأمره.

• جمهور العلماء إلى أن الزوجة لا تطلق بمجرد مضي المدة، وإنما يخير بين الرجوع أو الطلاق إذا طلبت الزوجة، وذهب بعض العلماء إلى أنه بمجرد مضي المدة تطلق المرأة من زوجها، وهذا القول ضعيف.

فائدة: إن ترك الوطء إضراراً بها بلا يمين ولا عذر.

فقال بعضهم: يعتبر إيلاء، وهذا قول مالك.

وقال أبو حنيفة والشافعي، لا يكون مولياً، وهذا القول هو الصحيح.

وإنما يطالب بالمعاشرة بالمعروف وإلا تملك الفسخ أو الطلاق.

ص: 167

‌باب الظهار

م/ والظهار أن يقول لزوجته: أنت عليّ كظهر أمي ونحوه من ألفاظ التحريم الصريحة لزوجته.

ذكر المصنف رحمه الله تعريف الظهار، وهو أن يقول لزوجته: أنت عليّ كظهر أمي.

مثال: أن يقول الرجل لامرأته أنتِ عليّ كظهر أمي.

قال في المغني: وإنما خصوا الظهر بذلك من بين سائر الأعضاء، لأن كل مركوب يسمى ظهراً لحصول الركوب على ظهره في الأغلب، فشبهوا الزوجة بذلك.

• وقد ذكر المفسرون أن آيات الظهار نزلت في أوس بن الصامت الأنصاري الخزرجي، لما ظاهر من زوجته خولة بنت مالك بن ثعلبة، فأرادها فأبت عليه حتى تأتي النبي صلى الله عليه وسلم، فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم وجعلت تجادله، والنبي صلى الله عليه وسلم يحاورها، والله يسمع ذلك، فأنزل الله الآيات من أول سورة المجادلة.

قوله (من ألفاظ التحريم الصريحة) كقوله لزوجته: أنتِ عليّ كظهر أمي، وغير الصريح: كقوله: أنتِ عليّ حرام، وهذه سيأتي حكمها بعد قليل إن شاء الله.

• وتشبيه الزوجة بغير الأم كالعمة والخالة يعتبر ظهاراً.

وهذا قول أكثر العلماء، قال في المغني مرجحاً هذا القول:

(ولنا أنهن محرمات بالقرابة فأشبهن الأم، فأما الآية فقد قال فيها: وإنهم ليقولون منكراً من القول وزوراً، وهذا موجود في مسألتنا فجرى مجراه، وتعليق الحكم بالأم لا يمنع ثبوت الحكم في غيرها إذا كانت مثلها).

• إذا قال لزوجته أنتِ عندي أو مني كظهر أمي فإنه يعتبر ظهاراً.

لأنه بمنزلة [عليّ]، لأن هذه الألفاظ بمعناها.

• إذا قالت المرأة لزوجها أنتَ علي كظهر أبي فليس بظهار.

وهذا قول أكثر العلماء.

لأن الله خصه بالرجال دون النساء بقوله: (والذين يظاهرون منكم من نسائهم .. ).

لكن ماذا عليها: اختلف العلماء في ذلك: والراجح أنها عليها كفارة يمين.

• إذا ظاهر من أجنبية لم يتزوجها ثم تزوجها فإنه لا يكون ظهاراً.

لأن الله يقول (والذين يظاهرون من نسائهم) ولا تكون المرأة من نسائه إلا بالعقد.

ص: 168

م/ فهو منكر وزور.

ذكر المصنف رحمه الله حكم الظهار وأنه حرام، بالكتاب والإجماع.

لقوله تعالى (الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً). [منكراً] أي: حرام. [وزوراً] أي كذب، لأن إخبار الرجل عن زوجته أنها أمه كذب.

ولحديث ابن عباس (أن رجلاً ظاهر من امرأته، ثم وقع عليها، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني وقعتُ عليها قبل أن أكفرَ، قال: فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله) رواه أبو داود. وجه الدلالة على التحريم: أنه أمِر بالكفارة.

وقد نقل الصنعاني الإجماع على تحريمه.

ص: 169

م/ ولا تحرمُ الزوجة به.

أي: لا يصير الظهار طلاقاً.

لقوله تعالى (

فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا) ولو كان طلاقاً لم تحلها الكفارة.

وأيضاً لو جعلناه طلاقاً لكنا قد وافقنا حكم الجاهلية، لأنهم في الجاهلية يجعلون الظهار طلاقاً.

ص: 170

م/ لكن لا يحل له أن يمسها حتى يفعل ما أمره الله به في قوله (وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ...... فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً .... ).

أي: لا يجوز للمظاهر وطء زوجته حتى يخرج الكفارة لقوله تعالى (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا .. ) أي: من قبل أن يمس أحدهما الآخر بالجماع، فالإخراج شرط لحل الوطء.

ولحديث ابن عباس - السابق - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمظاهر (فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله به).

فإذا كفّر زال حكم التحريم.

• واختلف العلماء في غير الوطء كالقبلة والمداعبة وغيرها على قولين:

قيل: تحرم أيضاً.

أخذاً بعموم الآية.

والنظر يقتضي ذلك: فإن لفظ المظاهر يقتضي ذلك: فإنه قال لامرأته: أنت علي كظهر أمي، وهذا يقتضي المنع من الدواعي، لأن الدواعي محرمة عليه تجاه أمه، وقد شبه امرأته بأمه.

ولأن القبلة والمس ونحوهما من ذرائع الوطء.

وقيل: لا يحرم.

قالوا: لأن لفظ المسيس كناية عن الجماع، فيقتصر عليه.

والراجح الأول.

• فإذا جامعها في أثناء الشهرين نهاراً فإنه يستأنف الصيام من جديد وهذا بالإجماع، أما الجماع بالليل هل يقطع التتابع؟ قولان للعلماء:

قيل: يقطع التتابع.

لعموم الآية (

فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا). فالله أمر بصيام الشهرين خاليين من الوطء، فإن وطئ ليلاً لم يصدق أنه صام الشهرين خاليين من الوطء.

وقيل: إذا أصابها ليلاً أثم بوطئه قبل إتمام الصوم، لكن لا ينقطع التتابع.

وهذا قول الشافعي واختاره ابن المنذر وابن قدامة.

لأن وطء الليل لا يبطل الصيام، فلا يُوجب الاستئناف.

وقالوا: لأن التتابع في الصيام معناه: اتباع صيام يوم بالذي قبله، وهذا حاصل.

• قال السعدي: لعل الحكمة في وجوب الكفارة قبل المسيس، أن ذلك أدعى لإخراجها، فإنه إذا اشتاق إلى الجماع، وعلم أنه لا يمكّن من ذلك إلا بعد الكفارة بادر إلى إخراجها.

ص: 171

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

• ذكر الله كفارة الظهار وهي على الترتيب لا على التخيير.

تحرير رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً.

فأولاً: تحرير رقبة [أي تخليصها من الرق].

يشترط أن تكون الرقبة مؤمنة، وهذا مذهب جمهور العلماء.

حملاً للمطلق هنا على المقيد في آية القتل

ولحديث الجارية (قال لها رسول الله: أين الله؟ قالت: في السماء، فقال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، قال: أعتقها فإنها مؤمنة) رواه مسلم.

(فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) بأن كان لا يوجد عبيد للعتق، أو لا يملك ثمنها.

ثانياً: فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ.

• قال في المغني: أجمع العلماء على وجوب التتابع في الصيام في كفارة الظهار.

• فإن تخلل هذا القضاء شهر رمضان، فإنه يصوم رمضان ثم يكمل من اليوم الثاني من شوال.

• إن تخلله فطر واجب كعيد الفطر أو الأضحى أو أيام التشريق لم ينقطع.

• إن أفطر بعذر يبيح الفطر فإن التتابع لا ينقطع، أما إذا تحيل بالسفر على الفطر فإن التتابع ينقطع.

فالخلاصة: أن التتابع في الصيام لا ينقطع في ثلاث مسائل: إذا انقطع التتابع بصوم واجب كرمضان، وإذا انقطع لفطر واجب كالعيدين وأيام التشريق، وإذا انقطع التتابع لعذر يبيح الفطر في رمضان.

• إن أفطر لصوم مستحب انقطع التتابع.

• المذهب: المعتبر بالشهرين الأهلة إذا ابتدأ من أول الشهر سواء كان 30 يوماً أو كان 29 يوماً.

وإن ابتدأ من أثناء الشهر فالمعتبر العدد.

مثال: رجل صام من (1) محرم، وكان محرم (29) يوماً وكان مثلاً صفر (29) يوماً فإنه يجزئ ويكون صام (58) يوماً.

ص: 172

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

لكن إن صام من أثناء الشهر فالمعتبر العدد، فلو صام من اليوم (11) من محرم، فإنه ينقضي الشهر الأول (11) من صفر، ثم يشرع في (12) صفر وينقضي الشهر ب (12) من ربيع الأول. فيكون قد صام (60) يوماً.

والصحيح أن المعتبر بالشهرين الأهلة مطلقاً سواء صام من أول الشهر أو من أثنائه.

(فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ) على الصيام لمرض مستمر.

ثالثاً: فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً.

• يجزئ كل شيء يكون قوتاً للبلد، لأن الله تعالى قال (إطعام ستين مسكيناً) ولم يخصص من أي نوع، فيرجع ذلك إلى ما جرى به العرف. وهذا اختيار ابن تيمية.

• الواجب إطعام ستين مسكيناً لا يجزئ أقل من ذلك، فمن أطعم واحداً [60] يوماً لم يكن أطعم إلا واحداً فلم يمتثل الأمر.

• وقد دلت الآية على وجوب تقديم الكفارة بالعتق والصيام على المماسة، ولا خلاف في ذلك، أما وجوب تقديمها في الإطعام فلم يُذكر في الآية، ولهذا اختلف أهل العلم في ذلك:

فالأكثرون على وجوب تقديم الإطعام على المماسة، وأنه لا يجوز وطؤها قبل التكفير.

لعموم حديث ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمظاهر: فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله).

وقيل: يجوز الجماع قبل التكفير بالإطعام.

والأول أصح وأحوط.

ص: 173

م/ وسواء كان الظهار مطلقاً، أو مؤقتاً بوقت كرمضان ونحوه.

الظهار يكون مطلقاً ويكون مؤقتاً.

المؤقت: كأن يقول: أنتِ علي كظهر أمي شهر رمضان.

المطلق: الذي لم يؤقت، كأن يقول: أنتِ علي كظهر أمي.

ويكون أيضاً: منجّزاً ويكون معلقاً:

المنجّز: كأن يقول لزوجته: أنتِ علي كظهر أمي.

المعلق: إن فعلت كذا فأنتِ علي كظهر أمي.

فإذا قال: أنتِ علي كظهر أمي شهر رمضان، فهذا ظهار مؤقت، فإذا انتهى رمضان زال حكمه.

ص: 174

م/ وأما تحريم المملوكة والطعام واللباس وغيرها ففيه كفارة يمين لقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ

وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ).

أي: ومن حرم على نفسه شيئاً مباحاً كمملوكته أو طعاماً أو شراباً ففيه كفارة يمين.

كأن يقول: أَمَتي عليّ حرام.

أو قال: هذا الطعام عليّ حرام، أو قال: هذا الشراب علي حرام، أو قال: هذا الثوب علي حرام، أو قال: هذه السيارة حرام علي.

فكل من حرم شيئاً - سوى الزوجة - ففيه كفارة يمين، للآية التي ذكرها المصنف، وقد قال الله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ

) ثم قال تعالى (قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ) أي: بالتكفير.

• وأما إذا قال لزوجته: أنتِ علي حرام، فقد اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال كثيرة؟

القول الأول: يكون ظهاراً.

وهذا هو المشهور من المذهب، واختاره ابن تيمية والشنقيطي.

القول الثاني: أنه يمين مطلقاً، يكفرها بكفارة يمين.

القول الثالث: أنه لغو لا يترتب عليه شيء، واختاره الصنعاني.

القول الرابع: التفصيل على حسب نيته:

إن نوى الظهار فهو ظهار.

وإن نوى الطلاق فهو طلاق.

وإن نوى اليمين فهو يمين.

وإن لم ينو شيئاً ففيه كفارة يمين.

واختار هذا القول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله.

ص: 175

‌كتاب اللعان

‌تعريفه:

هو مشتق من اللعن، لأن كل واحد من الزوجين يلعن نفسه في الخامسة إن كان كاذباً.

واصطلاحاً: هو شهادات مؤكدات من الجانبين مقرونة بلعن من الزوج وغضب من الزوجة.

• وسببه أن يقذف الرجل زوجته بالزنا.

سواء قذفها بمعين كقوله: زنى بك فلان، أو بغير معين كقوله: يا زانية.

ص: 176

م/ وأما اللعان: فإذا رمى الرجل زوجته بالزنى فعليه حد القذف ثمانون جلدة إلا أن يقيم البينة: أربعة شهود فيقام عليها الحد، أو يلاعن فيسقط عنه حد القذف.

الاصل أن من قذف شخصاً بالزنا أن يأتي ببينة وإلا جلد ثمانين جلدة، لقوله تعالى (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً).

واللعان خارج عن هذا الأصل، لأن الزوج لا يمكن أن يقذف زوجته إلا وهو متأكد من ذلك، ولأنه لا يمكن أن يدنس فراشه.

• فالخلاصة: أن من قذف زوجته بالزنا فله أحوال:

أن يأتي ببينة فتحد ولا يحد.

أن تقر هي فتحد ولا يحد.

أن تنكر فهنا نقول له: إما أن تلاعن أو يقام عليك الحد: فإذا لا عن ولا عنت ثبت اللعان وله أحكام ستأتي إن شاء الله.

• فإن نكل الزوج عن اللعان فعليه حد القذف.

لقوله تعالى (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ).

• فإذا نكلت الزوجة فإنه يقام عليها حد الزنا.

لأن الملاعنة بمنزلة البينة، وقد قال الله تعالى (وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ) والعذاب هو الحد.

• الأصل في مشروعيته الكتاب والسنة.

ص: 177

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

قال تعالى (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ. وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ. وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ).

وعن ابن عباس (أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشريك بن سحماء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: البينة أو حد في ظهرك، فقال يا رسول الله: إذا راى أحدنا على امرأته رجلاً ينطلق يلتمس البينة؟ فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: البينة أو حد في ظهرك؟ فقال هلال: والذي بعثك بالحق إني لصادق فلينزلن ما يبرئ ظهري من الحد،، فنزل جبريل وأنزل عليه: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ

) حتى: (إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ)، فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليها فجاء هلال فشهد والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب؟ ثم قامت فشهدت، فلما كانت عند الخامسة وقفوها وقالوا: إنها الموجبة. قال ابن عباس: فتلكأت ونكصت حتى ظننا أنها ترجع ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم فمضت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أبصروها فإن جاءت به أكحل العينين فهو لشريك بن سحماء، فجاءت به كذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن) رواه البخاري.

• فإذا رمى الرجل زوجته بالزنا ولم تقر هي بذلك، ولم يرجع هو عن رميه فقد شرع الله لهما اللعان.

ص: 178

م/ وصفة العان: على ما ذكره الله في سورة النور (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ. وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ. وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ). فيشهد خمس شهادات بالله إنها لزانية، ويقول الخامسة: وأن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ثم تشهد هي خمس مرات بالله إنه لمن الكاذبين، وتقول في الخامسة: وأن غضب الله عليها إن كان من الصادقين.

ذكر المصنف رحمه الله الآية التي فيها صفة اللعان:

قال في المغني: وصفته: أن الإمام يبدأ بالزوج فيقيمه ويقول له قل أربع مرات: أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميت به زوجتي هذه من الزنا، ويشير إليها إن كانت حاضرة، وإن كانت غائبة أسماها ونسبها، فإذا شهد أربع مرات وقفه الحاكم وقال له: اتق الله فإنها الموجبة [عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة] وكل شيء أهون من لعنة الله، ويأمر رجلاً

فيضع يده على فيه حتى لا يبادر بالخامسة قبل الموعظة ثم يأمر الرجل فيرسل يده عن فيه، فإن رآه يمضي في ذلك قال له قل: وأن لعنة الله عليّ إن كنت من الكاذبين فيما رميت به زوجتي هذه من الزنا، ثم يأمر المرأة بالقيام ويقول لها: قولي: أشهد بالله أن زوجي هذا لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنا وتشير إليه، وإن كان غائباً أسمته ونسبته، فإذا كررت ذلك أربع مرات وقفها ووعظها كما ذكرنا في حق الزوج، ويأمر امرأة فتضع يدها على فيها، فإن رآها تمضي على ذلك قال لها قولي: وأن غضب الله عليّ إن كان زوجي هذا من الصادقين فيما رماني به من الزنا.

• الحكمة في كونها أربع شهادات: لأنها في مقابل أربعة شهود.

• الحكمة من ذكر الغضب في المرأة: لأنه اشد من اللعن، إذ اللعن أثر من آثار الغضب، لأن الرجل كما تقدم تدل القرائن في الغالب أنه لا يرم زوجته وهو كاذب، فجعل في جانبه اللعن لأنه أخف بخلاف المرأة، ولهذا غلظ عليها.

• يشترط في اللعان أن يكون بين زوجين.

لقوله تعالى (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ

).

قال في المغني: لا لعان بين غير زوجين، فإذا قذف أجنبية محصنة حد ولم يلاعن، وإن لم تكن محصنة عزر ولا لعان أيضاً، ولا خلاف في هذا.

• ويشترط في اللعان أن يقذف زوجته بالزنا.

فلو قال أتيت بشبهة، أو قبّلك فلان، فإن اللعان لا يثبت، لأن هذا لا يثبت به حد القذف.

• ويشترط فيه كذلك: أن يبدأ الزوج باللعان، فإن بدأت به هي لم يصح.

لأن لعان الرجل بينة لإثبات زناها، ولعان المرأة للإنكار، فقدمت بينة الإثبات كتقديم الشهود على الأيمان.

ولأن لعان المرأة لدرء العذاب عنها ولا يتوجه عليها ذلك إلا بلعان الرجل.

• لا بد من حضور اللعان الحاكم أو نائبه.

لحديث سهل بن سعد وفيه (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اذهب فأت بها فتلاعنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم .. ).

ص: 179

م/ فإذا تم اللعان.

أي: إذا تم اللعان بين الزوجين على الصفة المذكورة فيما سبق، فإنه يترتب عليه ما يلي:

ص: 180

م/ سقط عنه الحد.

أي: فيسقط عن الزوج الحد - وهو حد القذف - إذا كانت الزوجة محصنة (يعني عفيفة) والتعزير إن كانت غير محصنة.

ص: 181

م/ واندرأ عنها العذاب.

أي: ومما يترتب على اللعان أيضاً: أنه يدرأ عن الزوجة العذاب وهو الحد.

لقوله تعالى (وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ).

يدرأ: أي يدفع. العذاب: المراد به هنا الحد.

ص: 182

م/ وحصلت الفرقة بينهما والتحريم المؤبد.

أي: ومما يترتب على اللعان أن الفرقة بينهما تكون فرقة مؤبدة.

عن ابن عمر (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرّق بين رجل وامرأة قذفها وأحلفهما) متفق عليه.

وعنه قال (لاعن النبي صلى الله عليه وسلم بين رجل وامرأة من الأنصار وفرق بينهما) متفق عليه.

وعن علي وابن مسعود قالا (مضت السنة في المتلاعنين أن لا يجتمعا أبداً) أخرجه البيهقي.

ولأنه وقع بينهما من التباغض والتقاطع ما أوجب القطيعة بينهما بصفة دائمة.

• واختلف العلماء متى يقع التفريق، هل بمجرد قذف الرجل لامرأته؟ أم بعد حلفه وشهادته؟ أم بعد ملاعنتهما معاً؟

الجمهور على أن التفريق يقع بعد ملاعنتهما معاً للأحاديث السابقة.

وقال الشافعي: تحصل الفرقة بلعان الزوج وحده وإن لم تلتعن المرأة، والأول أصح.

• اختلف العلماء في اللعان هل هو في حد ذاته تفريق؟ أم يلزم حكم الحاكم (القاضي)؟

ذهب فريق من أهل العلم - كالإمام مالك وأهل الظاهر - إلى أن اللعان في حد ذاته موجب للفرقة، وهو قول الجمهور كما نقله النووي عنه.

لحديث سهل. أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (ذاكم التفريق بين كل متلاعنين) رواه مسلم.

بينما ذهب آخرون من أهل العلم كأبي حنيفة إلى أنه يلزم قضاء القاضي.

لحديث ابن عمر وفيه (ثم فرّق بينهما).

ص: 183

م/ وانتفى الولد إذا ذكر في اللعان.

أي: ومما يترتب على اللعان انتفاء الولد، وهذه المسألة اختلف العلماء فيها على قولين:

فقيل: أن الولد ينتفي بمجرد اللعان.

ويكون انتفاء الولد تبعاً للعان.

وقيل: لابد أن ينفيه، فإن لم ينفيه فالولد له.

واستدلوا بحديث (الولد للفراش) وهذا ولد على فراشه له.

والله أعلم.

ص: 184

‌كتاب العدد

م/ العدة تربص من فارقها زوجها بموتٍ أو طلاق.

العدد: تعريفها: جمع عدة، وهي شرعاً: تربص محدود شرعاً بسبب فرقة نكاح وما ألحق به، والمراد بالتربص الانتظار.

قوله (محدود شرعاً) أي: أن هذا التربص محدد من قبل الشرع، إما ثلاث حيض، وإما وضع الحمل، وإما ثلاثة أشهر ونحو ذلك.

قوله (بسبب فرقة نكاح) كما لو طلق الرجل زوجته.

قوله (وما ألحق به) كوطء الشبهة، فإنه على المذهب تجب فيه العدة.

• والعدة واجبة بالكتاب والسنة والإجماع.

قال تعالى (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) قال العلماء: هذا خبر بمعنى الأمر.

وقال تعالى (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) هذا بالنسبة للمفارقة في الحياة.

وأما بالنسبة للمفارقة للوفاة فقد قال الله تعالى (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً).

ومن السنة. قال صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس (اعتدي في بيت ابن أم مكتوم) متفق عليه.

وأجمعت الأمة على وجوب العدة في الجملة.

• الحكمة من العدة عدة أمور:

أ- استبراء رحم المرأة من الحمل لئلا يحصل اختلاط الأنساب.

ب- وكذلك إتاحة الفرصة للزوج المطلق ليراجع إذا ندم وكان الطلاق رجعياً.

ج- وتعظيم عقد النكاح وأن له حرمة.

ص: 185

م/ فالمفارقة بالموت إذا مات عنها تعتد على كل حال.

أي: أن المرأة إذا مات عنها زوجها فإنه يجب عليها العدة على كل حال، أي مدخولاً بها أو غير مدخول بها.

لقوله تعالى (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) والرجل إذا عقد على المرأة فإنها تعتبر زوجة.

مثال: رجل عقد على امرأة ولم يدخل بها، ثم مات عنها، فإنه يجب عليها العدة.

ص: 186

فإن كانت حاملاً فعدتها وضع جميع ما في بطنها لقوله تعالى (وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ).

بدأ المصنف رحمه الله بعدة الحامل (وتسمى أم المعتدات)، فمن مات عنها زوجها وهي حامل فعدتها وضع جميع حملها.

لقوله تعالى (وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ).

ولحديث سُبَيْعَةَ الأَسْلَمِيَّةِ (أَنَّهَا كَانَتْ تَحْتَ سَعْدِ بْنِ خَوْلَةَ، وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْراً - فَتُوُفِّيَ عَنْهَا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَهِيَ حَامِلٌ. فَلَمْ تَنْشَبْ أَنْ وَضَعَتْ حَمْلَهَا بَعْدَ وَفَاتِهِ، فَلَمَّا تَعَلَّتْ مِنْ نِفَاسِهَا: تَجَمَّلَتْ لِلْخُطَّابِ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا أَبُو السَّنَابِلِ بْنُ بَعْكَكٍ - رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ - فَقَالَ لَهَا: مَا لِي أَرَاك مُتَجَمِّلَةً؟ لَعَلَّكِ تُرَجِّينَ لِلنِّكَاحِ، وَاَللَّهِ مَا أَنْتِ بِنَاكِحٍ حَتَّى يَمُرَّ عَلَيْك أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ. قَالَتْ سُبَيْعَةُ: فَلَمَّا قَالَ لِي ذَلِكَ: جَمَعْتُ عَلَيَّ ثِيَابِي حِينَ أَمْسَيْتُ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ؟ فَأَفْتَانِي بِأَنِّي قَدْ حَلَلْتُ حِينَ وَضَعْتُ حَمْلِي، وَأَمَرَنِي بِالتَّزْوِيجِ إنْ بَدَا لِي) وفي رواية للبخاري (فوضعت بعد موته بأربعين ليلة) متفق عليه.

قال النووي: أخذ بهذا جماهير العلماء من السلف والخلف، فقالوا عدة المتوفى عنها زوجها بوضع الحمل حتى لو وضعت بعد موت زوجها بلحظة قبل غسله انقضت عدتها وحلت في الحال للأزواج، وهذا قول مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد.

وذهب بعض العلماء: إلى أنها تعتد بأقصى الأجلين، وهو قول ابن عباس وجماعة.

قال الحافظ: ومعناه أنها إن وضعت قبل مضي أربعة أشهر وعشر، تربصت إلى انقضائها ولا تحل بمجرد الوضع، وإن انقضت المدة قبل الوضع تربصت إلى الوضع.

مثال على هذا القول: رجل مات وزوجته حامل في الشهر الأول: عدتها: وضع الحمل.

مات عنها وهي في الشهر السابع، فعدتها - على هذا القول - أربعة أشهر وعشراً.

والراجح القول الأول وهو قول الجمهور.

• وقوله (جميع ما في بطنها) أي: لا تنقضي العدة حتى تضع جميع ما في بطنها، فلو كان في بطنها ثلاثة أولاد، وخرج الأول، فلا تنتهي العدة، ثم وضعت الثاني، فلا تنتهي العدة، فلا تنتهي حتى تضع جميع ما في بطنها.

• وهذا أيضاً يشمل الطفل الواحد، فلو خرج بعضه فإنه لا تنتهي العدة حتى يخرج كله.

• لابد أن تضع ما يتبين به خلق إنسان، بأن تتبين مفاصله ويداه ورجلاه ورأسه ولا عبرة بالخطوط، فإذا تميز بأن عرف رأسه وبانت رجلاه ويداه ووضعت فحينئذ تنقضي العدة.

• المدة التي يتبين فيها خلق إنسان: لا يتبين إلا بعد 81 يوماً. وقبل ذلك لا يمكن، وبعد (90) متيقن، وقبل (80) لا يمكن.

مثال: امرأة مات عنها زوجها وهي حامل ووضعت من شهرين: فلا تنتهي عدتها، لأنه في شهرين لا يتبين فيه خلق إنسان، وتعتد بأربعة أشهر وعشراً.

مثال آخر: امرأة مات عنها زوجها وهي حامل، فوضعت من ثلاثة أشهر، فهنا تنقضي عدتها، لأنه في هذه المدة يتبين فيه خلق إنسان.

ص: 187

م/ وهذا عام في المفارقة بموت أو حياة.

أي: أن وضع الحمل هو نهاية العدة للمرأة الحامل سواء مات عنها زوجها أو طلقها.

فالمرأة إذا طلقها زوجها وهي حامل فعدتها وضع الحمل.

للآية السابقة (وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ).

قال ابن قدامة: أجمع أهل العلم في جميع الأعصار على أن المطلقة الحامل تنقضي عدتها بوضع الحمل.

ص: 188

م/ وإن لم تكن حاملاً فعدتها أربعة أشهر وعشرة أيام.

أي: إذا كانت المرأة المتوفى عنها زوجها غير حامل فعدتها أربعة أشهر وعشرة أيام (سواء كان مدخولاً بها أم غير مدخول بها).

لقوله تعالى (والَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرا).

وقال صلى الله عليه وسلم (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج، أربعة أشهر وعشراً). متفق عليه

قال ابن قدامة: أجمع أهل العلم على أن عدة المرأة المسلمة غير ذات الحمل من وفاة زوجها أربعة أشهر وعشراً، مدخولاً بها أو غير مدخول بها.

والدليل على أن غير المدخول بها يشملها هذا الحكم:

ما رواه أهل السنن (أن ابن مسعود سئل عن رجل تزوج امرأة فمات عنها ولم يدخل بها، فقال: عليها العدة ولها الميراث، فشهد معقل ابن سنان أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في بروع بنت واشق بمثل ما قضى، ففرح ابن مسعود بذلك فرحاً شديداً).

وقد سبق أن هذا الحديث يدل على ثلاث مسائل:

المسألة الأولى: وجوب العدة على المرأة المتوفى عنها زوجها ولو قبل الدخول.

المسألة الثانية: أن المرأة التي مات عنها زوجها قبل الدخول عليها العدة.

المسألة الثانية: أن المرأة التي مات عنها زوجها لها الميراث ولو قبل الدخول.

ص: 189

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

• اختلف العلماء في المرأة يموت عنها زوجها وهو غائب، أو طلقها وهو غائب، من متى تبدأ العدة؟

فقيل: تعتد من يوم مات زوجها.

وهذا مذهب الجمهور.

لعموم الأدلة.

فلو فرض أنه طلقها، ولم تعلم، وحاضت حيضتين ثم علمت، فإنه يبقى عليها حيضة واحدة، وكذلك إذا مات عنها زوجها، ولم تعلم إلا بعد مضي شهرين، فإنه يبقى عليها شهران وعشرة أيام.

وقيل: تعتد من يوم يأتيها الخبر.

وبه قال الحسن وعمر بن عبد العزيز.

لأن العدة اجتناب أشياء وما اجتنبتها.

والراجح الأول.

• لو مات زوج الرجعية:

قال في المغني: وإذا مات زوج الرجعية استأنفت عدة الوفاة أربعة أشهر وعشراً بلا خلاف، لأن الرجعية زوجة يلحقها طلاقه وينالها ميراثه، فاعتدت للوفاة كغير المطلقة.

ص: 190

م/ وأما المفارقة في حال الحياة، فإذا طلقها قبل أن يدخل بها فلا عدة له عليها، لقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا).

أي: إذا فارق الرجل زوجته في الحياة بطلاق أو فسخ قبل الخلوة والدخول فلا عدة عليها للآية التي ذكرها المصنف رحمه الله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا).

قوله (المؤمنات) خرج مخرج الغالب، إذ لا فرق في الحكم بين المؤمنة والكتابية في ذلك بالإتفاق. [قاله ابن كثير].

قال ابن كثير: هذا أمر مجمع عليه بين العلماء أن المرأة إذا طلقت قبل الدخول بها لا عدة عليها، فتذهب وتتزوج من فورها متى شاءت، ولا يستثنى من هذا إلا المتوفى عنها زوجها، فإنها تعتد منه أربعة أشهر وعشراً، وإن لم يكن دخل بها بالإجماع أيضاً.

• من المسائل التي نستفيدها من الآية: إباحة طلاق المرأة قبل الدخول بها.

• استدل بهذه الآية بعض العلماء على أن الطلاق لا يقع إلا إذا تقدمه نكاح، لأن الله تعالى قال (إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ) فعقب النكاح بالطلاق، فدل على أنه لا يصح ولا يقع قبله، وهذا مذهب الشافعي وأحمد بن حنبل وطائفة كثيرة من السلف والخلف رحمهم الله. [قاله ابن كثير].

وقد سبقت المسألة ومثالها: أن يقول: إن تزوجت فلانة فهي طالق، ثم فيما بعد تزوجها، فلا تطلق.

ص: 191

م/ وإن كان قد دخل بها أو خلا بها، فإن كانت حاملاً فعدتها وضع حملها، قصرت المدة أو طالت.

أي: وعدة الزوجة المدخول بها أو خلا بها زوجها وطلقها زوجها وكانت حاملاً أن تضع حملها.

لعموم قوله تعالى (وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُن).

[وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ] أي: صاحبات الحمل. [أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُن] أي: انقضاء عدتهن بوضع الحمل.

ص: 192

م/ وإن لم تكن حاملاً، فإن كانت تحيض فعدتها ثلاث حيض كاملة، لقوله تعالى (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ).

أي: وإن كانت الزوجة غير حامل وطلقها زوجها وكانت ممن تحيض فعدتها ثلاث حيض كاملة.

لقوله تعالى (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) أي: ثلاث حيض.

[يَتَرَبَّصْنَ] ينتظرن، وهو خبر بمعنى الأمر، فدلت الآية على أن زمن العدة ثلاث حيض.

• اختلف العلماء في المراد بالقرء (ثلاثة قروء) على قولين:

قيل: المراد به الطهر.

وبه قال زيد بن ثابت، وابن عمر، وعائشة، والقاسم، والزهري، ومالك، والشافعي.

وقيل: المراد به الحيض.

وعلى هذا القول فلا تنقضي عدتها حتى تطهر من الحيضة الثالثة.

وهذا مذهب أبي حنيفة.

واستدلوا لذلك بما جاء في الحديث عن فاطمة بنت أبي حبيش، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها:(دعي الصلاة أيام أقرائك)، وهذا القول هو الصحيح.

ص: 193

م/ وإن لم تحيض - كالصغيرة، ومن لم تحض، والآيسة - فعدتها ثلاثة أشهر لقوله تعالى (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ).

ذكر المصنف رحمه الله عدة بعض النساء وهن: الصغيرة: التي لم يأتها الحيض بعد، أو البالغات اللائي لم يأتهن حيض بالكلية، والآيسة: وهي من أيست من الحيض.

فهذا النوع من المعتدات عدتهن ثلاثة أشهر، للآية التي ذكرها المصنف رحمه الله (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ)، فكل شهر مقابل حيضة.

• وقد اختلف العلماء في سن اليأس، فبعض العلماء يرى أنه سن الخمسين، وبعضهم: يرى أنه يختلف باختلاف النساء، وليس له سن معين تتفق فيه النساء، لأن اليأس ضد الرجاء، فإذا كانت المرأة قد يئست من الحيض لم ترج رجوعه فهي آيسة، سواء كان لها أربعون أو خمسون أو أقل من ذلك أو أكثر، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.

ص: 194

م/ فإن كانت تحيض وارتفع حيضها لرضاع أو نحوه انتظرت حتى يعود الحيض فتعتد به.

أي: فإن كانت مما تحيض لكن ارتفع حيضها بسبب معلوم كرضاع أو مرض أو غيرهما، كدواء يمنع نزول الحيض وقد تناولته، فإنها تبقى في عدتها حتى يعود الحيض فتعتد به وإن طال الزمن، لأنها مطلقة لم تيأس من الحيض، فلا تزال في عدة حتى يعود الحيض، أو تبلغ سن الإياس فتعتد عدته.

وذهب بعض العلماء إلى أنها تنتظر زوال ما رفع الحيض، كانتهاء الرضاع، أو الشفاء من المرض، فإن عاد الحيض عند زوال ما رفعه اعتدت به، وإلا اعتدت سنة، كالتي ارتفع حيضها ولم تدر سببه، واختار ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، وقال صاحب الإنصاف: وهو الصواب، وهذا هو اللائق بيسر الإسلام وسهولته، لأن القول الأول فيه مشقة عظيمة وحرج لا تأتي الشريعة بمثله.

ص: 195

م/ وان ارتفع ولا تدري ما رفعه، انتظرت تسعة أشهر احتياطاً للحمل، ثم اعتدت بثلاثة أشهر.

أي: من ارتفع حيضها ولا تدري سبب رفعه، فتعتد سنة، تسعة أشهر للحمل، لأنها غالب مدة الحمل، وثلاثة أشهر للعدة. لأنه يحتمل أن تكون حاملاً، فتعتد تسعة أشهر لأن هذا غالب الحمل، فإن مكثت تسعة أشهر وتبين أنها غير حامل، فإنها تعتد ثلاثة أشهر للحيض.

وهذا القول هو الصحيح في هذه المسألة وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: يعني امرأة من ذوات الحيض عمرها ثلاثون سنة، لم تبلغ سن اليأس، ارتفع حيضها، فطلقها زوجها، وهي في هذه الحال، فتعتد سنة، لأن ذلك هو الذي روي عن عمر، وقضى به الصحابة، هذا من حيث الاستدلال بالأثر، أما النظر فلاحتمال أنها حامل تعتد تسعة أشهر، لأن ذلك غالب الحمل، ولاحتمال أنها آيسة تعتد ثلاثة أشهر، لأن عدة الآيسة والتي لم تحض ثلاثة أشهر، فتعتد اثني عشر شهراً من فراق زوجها لها، وهذا من باب الاحتياط.

ص: 196

م/ وإذا ارتابت بعد انقضاء العدة لظهور أمارات الحمل لم تتزوج حتى تزول الريبة.

أي: لو أن المرأة اعتدت سنة وانتهت، وبعد السنة ظهر عندها ريبة في بطنها مما يشكك وجود حمل، فهنا لا تتزوج حتى تزول الريبة.

وتزول الريبة: إما بظهور الحمل، أو تيقن عدم الحمل، إما بكلام طبيب أو نزول حيض.

ص: 197

م/ وامرأة المفقود تنتظرُ حتى يحكمَ بموتهِ، بحسب اجتهاد الحاكم ثم تعتد.

أي: ومن المعتدات امرأة المفقود، وهو من خفي أمره فلم يعلم أحي هو أم ميت؟ لسفر أو أسر ونحوهما.

وما ذكره المصنف رحمه الله هنا هو القول الراجح الصحيح في هذه المسألة، وهو أنه يرجع في تقدير مدة الانتظار إلى اجتهاد الحاكم، لعدم الدليل على التحديد، لأنه إذا تعذر الوصول إلى اليقين، يُرجع إلى غلبة الظن في كل مسائل الدين، فيجتهد الحاكم في تقدير مدة الانتظار، ويختلف ذلك باختلاف الأزمنة والبلدان والأشخاص واختلاف وسائل البحث.

وقد ذهب بعض العلماء إلى أنه إذا كان ظاهر غيبته الهلاك انتظر به أربع سنين منذ فُقِد، وإن كان ظاهر غيبته السلامة انتظر به تمام تسعين سنة منذ ولد، لكن هذا القول ضعيف.

وهم استدلوا بآثار وردت عن الصحابة، لكن هذه الآثار قضايا أعيان، وقضايا الأعيان لا تقتضي العموم.

مثال: فمن فقد وعمره (80) سنة، فإن كان غالب سفره الهلاك انتظر أربع سنين، وإن كان غالب سفره السلامة انتظر عشر سنوات.

• فإذا حكم الحاكم وقضى بأنه ينتظر سنتين، فبعد مرور السنتين نحكم بموته، وبعد ذلك تعتد المرأة أربعة أشهر وعشراً، وبعد هذه العدة لها أن تتزوج.

ص: 198

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

• فإن تزوجت امرأة المفقود:

إن تزوجت امرأة المفقود بعد خروجها من العدة، ثم قدم زوجها الأول:

الحالة الأولى: إن كان قدومه قبل وطء الثاني فهي للأول. لماذا؟ قالوا: لأنه لما قدم الزوج الأول تبيّن أن نكاح الثاني باطل، لأنه نكاح امرأةٍ ذات زوج، ونكاح المرأة ذات الزوج باطل.

الحالة الثانية: أن يكون قدومه بعد وطء الثاني، فهو يخيّر الزوج الأول، فإن شاء استردها، وإن شاء أبقاها مع الزوج الثاني.

فإن استردها فهل يحتاج إلى تجديد عقد؟ الجواب: لا، لأنها زوجة له.

وإن اختار أن تبقى عند الثاني؟ فهل يحتاج الثاني إلى تجديد عقد؟ الجواب: لا يحتاج إلى تجديد عقد لأن هذا العقد صحيح في حكم الظاهر. وقيل: لابد من تجديد العقد، وهذا أقيس لأنه بقدوم الأول تبين أن نكاح الثاني باطل.

واختار شيخ الإسلام ابن تيمية أن الزوج الأول له الخيار حتى لو قبل الوطء، فإن اختار أن يأخذها فله ذلك وان اختار أن يتركها مع الثاني فله ذلك.

• بالنسبة لبعد الوطء واختار الزوج الأول أن يأخذها، فإنه لا يطأ حتى تعتد من الثاني.

• وإن اختار أن تبقى مع الثاني؟ المذهب لا يحتاج الثاني لتجديد عقد، وقيل: لابد من تجديد العقد، وهذا أصح.

• بالنسبة للصداق: إذا اختار أن تبقى مع الثاني؟ الزوج الأول يرجع للزوج الثاني، ويرجع بما أعطاها هو.

ويرجع الثاني على الزوجة عند بعض العلماء، وقيل: لا يرجع الثاني على المرأة إلا إذا كان منها غرور بحيث لم تعلمه بأنها امرأة مفقود، أما إذا أعلمته بأنها امرأة مفقود فلا يرجع، لأنه دخل على بينّة وبصيرة.

ص: 199

‌باب الإحداد

م/ ويلزم في مدة هذه العدة أن تُحد المرأة.

ذكر المصنف رحمه الله في هذا الباب أحكام الإحداد.

الإحداد لغة المنع، ومنه سمي البواب حداداً لمنعه الداخل. وشرعاً: تربص تجتنب فيه المرأة ما يدعو إلى جماعها أو يرغب في النظر إليها من الزينة وما في معناها مدة مخصوصة.

• وحكمه واجب على المرأة المتوفى عنها زوجها، سواء كانت مدخولاً بها أم لا.

لقوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً).

قال ابن كثير: هذا أمر من الله للنساء اللواتي يتوفى عنهن أزواجهن أن يعتدن أربعة أشهر وعشراً.

عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لا يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاثٍ، إلاَّ عَلَى زَوْجٍ: أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) متفق عليه.

وعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (لا تُحِدُّ امْرَأَةٌ عَلَى الْمَيِّتِ فَوْقَ ثَلاثٍ، إلا عَلَى زَوْجٍ: أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً، وَلا تَلْبَسُ ثَوْباً مَصْبُوغاً إلاَّ ثَوْبَ عَصْبٍ، وَلا تَكْتَحِلُ، وَلا تَمَسُّ طِيباً، إلاَّ إذَا طَهُرَتْ: نُبْذَةً مِنْ قُسْطٍ أَوْ أَظْفَارٍ).

فالحديث ظاهر في المنع من الإحداد على أحد فوق ثلاث إلا الزوج، فإنه يحد عليه أربعة أشهر وعشراً، ويدل لذلك رواية مسلم: (

إلا على زوجها فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشراً) فقوله صلى الله عليه وسلم: (فإنها تحد) خبر بمعنى الأمر.

• الحكمة من الإحداد:

أولاً: تعظيم خطر هذا العقد ورفع قدره.

ثانياً: تعظيم حق الزوج وحفظ عشرته.

ثالثاً: تطييب نفس أقارب الزوج ومراعاة شعورهم.

رابعاً: سد ذريعة تطلع المرأة للنكاح أو تطلع الرجال إليها.

خامساً: موافقة الطباعة البشرية.

ص: 200

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

• أن الإحداد خاص بالنساء. لقوله: (لا يحل لامرأة

).

ولإجماع المسلمين على أنه لا إحداد على الرجل.

• جواز إحداد المرأة على غير زوجها، كالأخ، أو الأب، أو أم، أو أي قريب - ثلاثة أيام فأقل، لكنه غير واجب.

فحديث الباب يدل على الجواز والإباحة.

قال الحافظ ابن حجر: وليس ذلك واجباً لاتفاقهم على أن الزوج لو طالبها بالجماع لم يحل لها منعه في تلك الحال.

• قوله صلى الله عليه وسلم (لامرأة

) تمسك بمفهومه الحنفية، فقالوا: لا يجب الإحداد على الصغيرة.

وذهب جمهور العلماء على وجوب الإحداد عليها، قالوا: أن التقييد بالمرأة خرج مخرج الغالب، واستدلوا أيضاً بحديث أم سلمة وفيه:(جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول، إن ابنتي توفي عنها زوجها، وقد اشتكت عينها أفنكحلها؟ قال: لا).

وجه الدلالة: قال القرطبي: ولم يسأل عن سنها حتى يبين الحكم، وتأخير البيان في مثل هذا لا يجوز.

• قوله صلى الله عليه وسلم (تؤمن بالله واليوم الآخر

) استدل به الحنفية بأن لا إحداد على الذمية، للتقييد بالإيمان.

وذهب جمهور العلماء إلى وجوب الإحداد على الكتابية.

لعموم الأدلة الموجبة للإحداد، فإن الأدلة لم تفرق بين مسلمة وكتابية.

وهذا القول هو الصحيح.

وأما المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: (تؤمن بالله واليوم الآخر

) الإغراء، أي إغراء المرأة على الفعل.

• يجب الإحداد على المجنونة، وهذا مذهب جماهير العلماء.

لعموم الأدلة الدالة على وجوب الإحداد.

ص: 201

م/ بأن تترك الزينة.

ذكر المصنف رحمه الله ما تجتنبه المحادة زمن إحدادها ومن ذلك: الزينة.

فيحرم على المحادة أن تلبس كل ما فيه زينة من الثياب.

لحديث أم عطية: (

ولا تلبس ثوباً مصبوغاً إلا ثوب عصْب). متفق عليه

وفي حديث أم سلمة عند أبي داود: (

ولا تلبس المعصفر من الثياب، ولا الممشَّقة

).

(الممشقة: المصبوغة بالمشق، بكسر الميم، وهو الطيب الأحمر).

• ذهب بعض العلماء إلى أن المحادة لا تلبس النقاب، لأن المعتدة من وفاة زوجها مشبهة بالمحْرِمَة، والمحرمة تمنع من ذلك، لكن هذا القول فيه بعد.

ص: 202

م/ والطيب.

أي: ومما يحرم على المحادة أن تتطيب.

قال ابن قدامة: ولا خلاف في تحريمه عند من أوجب الإحداد.

لحديث أم عطية: (

ولا تمس طيباً).

قال ابن قدامة: ولأن الطيب يحرك الشهوة، ويدعو إلى المباشرة.

• الأدهان غير المطيبة لا بأس أن تستعملها المحادة لأنها ليست طيباً، فلا يشملها النص.

• استثنى النبي صلى الله عليه وسلم الشيء اليسير عند الطهر للحاجة، لقوله (

إلاَّ إذَا طَهُرَتْ: نُبْذَةً مِنْ قُسْطٍ أَوْ أَظْفَارٍ).

ص: 203

م/ والحلي.

أي: ومما يحرم على المحادة لبس الحلي بأنواعه.

قال ابن المنذر: أجمعوا على منع المرأة المحادة من لبس الحلي.

لحديث أم سلمة عند أبي داود: (

ولا تلبس الحلي

).

• وهذا المنع شامل لما ظهر من الحلي وما استتر تحت الثياب.

• الحلي يشمل كل ما تتجمل به المرأة وتتحلى به من قرط أو سوار أو خاتم، سواء ذلك من فضة أو غيرها.

• ما كان بمعنى الذهب والفضة فله حكم الحلي، لأن قوله صلى الله عليه وسلم:(ولا الحلي) والحلي اسم يصدق على الذهب والفضة وغيره كاللؤلؤ والزمرد والألماس.

• إذا كانت المحادة متلبسة بشيء من الحلي قبل وفاة زوجها، فإن الواجب عليها إزالة ما يمكن إزالته منها.

ص: 204

م/ والتحسين بحناء ونحوه.

أي: ومما يحرم على المحادة الخضاب بالحناء ونحوه.

ففي حديث أم سلمة: (ولا تختضب

). رواه أبو داود

قال ابن القيم: فيحرم عليها الخضاب والنقش والحمرة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم نص على الخضاب منبهاً على هذه الأنواع التي هي أكثر زينة منه وأعظم فتنة، وأشد مضادة لمقصود الحداد.

• ومما تجتنبه أيضاً الكحل.

لحديث أم عطية: (

ولا تكتحل

). متفق عليه

وحديث أم سلمة قالت: (جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن ابنتي توفي عنها زوجها، وقد اشتكت عينها، أفنكحلها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا). متفق عليه، فلم يرخص لها النبي صلى الله عليه وسلم مع حاجتها إليه.

• اختلف العلماء في الكحل للضرورة:

قيل: لا يجوز الاكتحال مطلقاً لضرورة أم لغير ضرورة، وهذا قول ابن حزم.

لحديث أم سلمة الذي فيه منعه صلى الله عليه وسلم المحادة من الاكتحال مع حاجتها إليه.

وذهب جمهور العلماء: إلى جوازه إذا اضطرت إليه تداوياً لا زينة، فلها الاكتحال ليلاً لا نهاراً.

واستدلوا بحديث أم سلمة قالت: (

دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفي أبو سلمة، وقد جعلت علي صبْراً، فقال: ما هذا يا أم سلمة، فقلت: إنما هو صبر يا رسول الله ليس فيه طيب، فقال: إنه يشب الوجه، فلا تجعليه إلا بالليل وتنزعيه بالنهار). وهذا الحديث صححه بعضهم وضعفه بعضهم.

وهذا القول هو الصحيح.

ص: 205

م/ وأن تلزم بيتها الذي مات زوجها وهي فيه، فلا تخرج منه إلا لحاجتها نهاراً.

فيجب عليها لزوم بيت زوجها الذي توفي عنها وهي فيه، وهذا مذهب أكثر العلماء.

واستدلوا بحديث الفريعة بنت مالك: (جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خُدرة، فإن زوجها خرج في طلب أعبد له أبقوا [أي هربوا] حتى إذا كانوا بطرف القدوم لحقهم فقتلوه، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أرجع إلى أهلي

الحديث وفيه: قال لها: امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله، قالت: فاعتدت فيه أربعة أشهر وعشراً). رواه أبو داود

وذهب بعض العلماء: إلى أنه لا يلزمها لزوم بيت زوجها، بل تعتد حيث شاءت.

وهذا قول علي وابن عباس وجابر، وهو قول ابن حزم.

• خروج المحادة من منزلها له أحوال:

أولاً: أن يكون لضرورة، فيجوز ليلاً أو نهاراً.

مثل: إذا خيف هدم، أو عدو، أو حريق، أو كانت الدار غير حصينة يخشى فيها من اقتحام اللصوص، أو كانت بين فسقة تخاف على نفسها، فإن لها الانتقال.

ثانياً: الخروج المؤقت، فهذا جائز إذا كان لحاجة نهاراً.

وهذا مذهب جماهير العلماء.

واستدلوا بحديث الفريعة السابق، ووجه الدلالة فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليها خروجها من منزلها لما جاءته سائلة عن جواز انتقالها.

ثالثاً: إذا كان لغير حاجة ولا ضرورة، فلا يجوز.

• لو بلغها الخبر وهي في بيت غير بيتها، فذهب أكثر العلماء إلى أنه يجب عليها الاعتداد في المنزل الذي توفي زوجها وهي فيه، فإذا بلغها الخبر وهي في غيره وجب عليها الرجوع.

• إذا انتقلت المحادة لسبب من الأسباب، هل يلزمها المسكن الأقرب؟

الصحيح أن المحادة إذا انتقلت فلها أن تسكن حيث شاءت، ولا يلزمها في أقرب مسكن كما قال به بعض الفقهاء.

• إن تركت الإحداد أثمت وأتمت عدتها بمضي زمانها.

• أحدث بعض الناس أموراً في الإحداد لا أصل لها في الشرع، منها:

• التزام بعض النساء لباساً معيناً (كالأسود) للإحداد.

• امتناع المحادة من مشط شعرها.

• امتناع المحادة من الاغتسال للتنظف.

• امتناع المحادة عن العمل في بيتها من خياطة وغيرها.

• امتناع المحادة من البروز للقمر.

• امتناع المحادة من الظهور على سطح البيت.

ص: 206

م/ ولا تجب النفقة إلا للمعتدة الرجعية.

أي: ولا تجب النفقة على المعتدات إلا للزوجة الرجعية، فإنه يجب لها النفقة والسكنى لقوله تعالى (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ) فسمى الله المطلِّق بعلاً، والبعل الزوج.

ولأنها في حكم الزوجات، فتشملها النصوص من الكتاب والسنة التي تدل على وجوب النفقة على الزوجة.

وهذا الأمر مجمع عليه كما قال الإمام النووي رحمه الله.

وقال ابن عبد البر: لا خلاف بين علماء الأمة أن اللواتي لأزواجهن عليهن الرجعة لهن النفقة وسائر المؤنة على أزواجهن، حوامل كن أو غير حوامل، لأنهم في حكم الزوجات في النفقة والسكنى والميراث ما كنّ في العدة.

ص: 207

م/ أو لمن فارقها وزوجها في الحياة وهي حامل لقوله تعالى (وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ).

أي: ومما يجب لها النفقة المطلقة البائن [بفسخ أو طلاق] وهي حامل، لقوله تعالى (وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ).

قال ابن عبد البر: فإن كانت المبتوتة حاملاً فالنفقة لها بإجماع العلماء.

قال القرطبي: لا خلاف بين العلماء في وجوب النفقة والسكنى للحامل المطلقة ثلاثاً، أو أقل منهن حتى تضع حملها.

• وقد اختلف العلماء هل النفقة للحمل أو النفقة لها من أجل الحمل؟

والراجح أن النفقة للحمل ولها من أجله، لكونها حاملاً بولده، فهي نفقة عليه لا عليها لكونها زوجة، وعلى هذا القول تجب النفقة ولو كانت الزوجة ناشزاً، لأنه ولده فلزمته نفقته.

• ومفهوم كلامه أن المطلقة البائن غير الحامل لا نفقة لها، وهذه المسألة اختلف العلماء فيها على ثلاثة أقوال:

القول الأول: لا نفقة لها ولا سكنى.

وهذا مذهب الإمام أحمد، وهذا القول هو الصحيح.

عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ (أَنَّ أَبَا عَمْرِو بْنَ حَفْصٍ طَلَّقَهَا الْبَتَّةَ، وَهُوَ غَائِبٌ) وَفِي رِوَايَةٍ (طَلَّقَهَا ثَلاثاً - فَأَرْسَلَ إلَيْهَا وَكِيلَهُ بِشَعِيرٍ، فَسَخِطَتْهُ. فَقَالَ: وَاَللَّهِ مَا لَكِ عَلَيْنَا مِنْ شَيْءٍ: فَجَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: [لَيْسَ لَكِ عَلَيْهِ نَفَقَةٌ وَلا سُكْنَى] فَأَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ فِي بَيْتِ أُمِّ شَرِيكٍ، ثُمَّ قَالَ: تِلْكَ امْرَأَةٌ يَغْشَاهَا أَصْحَابِي، اعْتَدِّي عِنْدَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ. فَإِنَّهُ رَجُلٌ أَعْمَى، تَضَعِينَ ثِيَابَكِ، فَإِذَا حَلَلْتِ فَآذِنِينِي. قَالَتْ: فَلَمَّا حَلَلْتُ ذَكَرْتُ لَهُ: أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ وَأَبَا جَهْمٍ خَطَبَانِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَمَّا أَبُو جَهْمٍ: فَلا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ. وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ: فَصُعْلُوكٌ لا مَالَ لَهُ، انْكِحِي أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، فَكَرِهَتْهُ ثُمَّ قَالَ: انْكِحِي أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، فَنَكَحَتْهُ. فَجَعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً، وَاغْتَبَطَتْ بِهِ) متفق عليه.

فهذا الحديث نص في الباب.

القول الثاني: لها السكنى دون النفقة.

وهذا قول عائشة وهو مذهب عائشة وفقهاء المدينة السبعة.

واستدلوا بقوله تعالى (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُم).

لكن هذا القول ضعيف، لأن الآية جاءت في حكم الرجعية لا في حكم البائن، ويوضح ذلك قوله تعالى (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً)، وإحداث الأمر معناه تغيره نحو الزوجة ورغبته فيها في زمن العدة، وهو مستحيل في البائن.

القول الثالث: لها النفقة والسكنى.

وهذا مذهب أبي حنيفة، وهذا القول ضعيف.

ص: 208

‌باب الاستبراء

الاستبراء: لغة طلب البراءة.

واصطلاحاً: تربص يقصد منه العلم ببراءة الرحم.

م/ فلا يطؤها بعد زوج أو سيد حتى تحيض حيضة واحدة، وإن لم تكن من ذوات الحيض تستبرأ بشهر، أو وضع حملها إن كانت حاملاً.

أي: إذا اشترى أمَة أو وهبتْ له أو ملكها بعد زوج، فلا يجوز أن يجامعها حتى يستيرئها بحيضة، ليعلم براءة رحمها، لأنها قد تكون حاملاً من مالكها الأول، وإن كانت حاملاً فلا يطأها حتى تضع.

وقد جاء في الحديث عن رويفع بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسقي ماءه زرع غيره) رواه أبو داود. [لا يحل] أي: يحرم. [أن يسقي ماءه زرع غيره] أي: أن يطأ امرأة وهي حبلى من غيره.

وعن أبي سعيد. قال: قال صلى الله عليه وسلم في سبي أوطاس (لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة). رواه أبو داود قوله (فلا يطؤها

) ظاهره أن الاستبراء واجب مطلقاً، سواء ملك الأمة من طفل أو امرأة، وقد ذهب إلى ذلك بعض العلماء، وقالوا بوجوب الاستبراء مطلقاً لعموم الأدلة.

وذهب بعض العلماء إلى أنه لا يجب استبراء الأمة إذا ملكها من طفل أو امرأة، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم، لأن المقصود من الاستبراء العلم ببراءة الرحم، فحيث تيقنَ المالك براءة رحم الأمَة فله وطؤها ولا استبراء عليه.

• والاستبراء قد يكون في غير الإماء، فالمزني بها تستبرأ بحيضة وليس عليها عدة، وكذا الموطوءة بشبهة تستبرأ بحيضة على القول الراجح.

ص: 209

‌باب النفقات للزوجات والأقارب والمماليك.

‌تعريفها:

النفقات جمع نفقة: وهي كفاية من يمونه طعاماً وشراباً وكسوة وسكنى وعفافاً.

وأسباب النفقة ثلاثة: الزوجية _ والقرابة _ والملك.

• وبدأ المصنف رحمه الله بالنفقة على الزوجات لأمرين:

أولاً: لأنها أقوى النفقات.

ثانياً: لأنها معاوضة، فتطالب بها أو لها الفسخ.

م/ على الإنسان نفقة زوجتِه وكسوتها ومسكنها بالمعروف بحسب حال الزوج.

أي: يجب على الزوج أن ينفق على زوجته [من طعام وشراب] وكسوتها [من لباس ونحوه] ومسكنها.

قال ابن قدامة: (نفقة الزوجة واجبة بالكتاب والسنة والإجماع).

قال تعالى (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ).

وقال تعالى (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ).

وعن جابر. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس فقال (اتقوا الله في النساء

ولهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف) رواه مسلم.

وعن عائشة. قالت (دخلت هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله: إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بنيّ إلا ما أخذت من ماله بغير علمه، فهل عليّ في ذلك من جناح؟ فقال: خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك) متفق عليه.

وفي سنن أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن حق الزوجة على زوجها قال (أن تطعمها إذا طعمت وتكسوها إذا اكتسيت).

ومن جهة المعنى: أن المرأة محبوسة على الزوج بمنعها من التصرف والاكتساب للتفرغ لحقه، فلا بد أن ينفق عليها كالعبد مع سيده.

وقال ابن قدامة: اتفق أهل العلم على وجوب نفقات الزوجات على أزواجهن إذا كانوا بالغين إلا الناشزين، ذكره ابن المنذر وغيره.

وقال الحافظ ابن حجر: وانعقد الإجماع على الوجوب.

• والنفقة على الزوجة فضلها عظيم:

عن أبي مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أنفق الرجل على أهله يحتسبها فهو له صدقة). متفق عليه

وعن سعد بن أبي وقاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى ما تجعل في فيّ امرأتك). متفق عليه

• قوله (بحسب حال الزوج) أي أن المعتبر بالإنفاق حال الزوج لا حال الزوجة لقوله تعالى (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا) وهذا مذهب الشافعي وهو الصحيح، فالآية نص صريح في اعتبار النفقة بحال الزوج، فيجب العمل به.

وعلى هذا القول: فإذا كان فقيراً فليس لها إلا نفقة فقير، وإذا كان غنياً ألزم بنفقة غني ولو كانت الزوجة فقيرة.

وذهب بعض العلماء إلى أن المعتبر حال الزوجة وهو قول مالك وأبي حنيفة لقوله صلى الله عليه وسلم لهند (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف)، وعلى هذا القول: فإذا كانت فقيرة، فليس لها إلا نفقة فقيرة ولو كان زوجها من أغنياء العالم.

ص: 210

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وقال بعضهم: المعتبر بحالهما، والراجح الأول.

• قوله (بالمعروف) لقوله صلى الله عليه وسلم لهند (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف).

فأمرها أن تأخذ الكفاية بالمعروف، ولم يقدر لها نوعاً ولا قدراً، ولو تقدر ذلك بشرع أو غيره لبين لها القدر والنوع كما بين فرائض الزكاة والديات.

وفي خطبة النبي صلى الله عليه وسلم قال (ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف).

قال الحافظ ابن حجر عند شرحه لحديث هند: وفيه وجوب نفقة الزوجة، وأنها مقدرة بالكفاية، وهو قول أكثر العلماء.

وذهب الشافعي إلى أنها مقدرة بالأمداد فعلى الموسر كل يوم مدان والمتوسط مد ونصف والمعسر مد، وهذا القول ضعيف.

• إذا اعسر الزوج عن نفقة زوجته واختارت فراقة فإنه يفرق بينهما.

وهذا مذهب جمهور العلماء.

أ- لحديث أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أفضل الصدقة ما ترك غنى، واليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول) رواه البخاري.

تقول المرأة: إما أن تطعمني وإما أن تطلقني، .. فقيل: سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: لا، هذا من كيس أبي هريرة.

ب- وعن سفيان عن أبي الزناد قال (سألت سعيد بن المسيب عن الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته أيفرق بينهما؟ قال: نعم، قلت: سنة، قال: سنة) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه.

ج- وقياساً على الرقيق والحيوان، قالوا: إن من أعسر بالإنفاق عليه أجبر على بيعه اتفاقاً.

وذهب بعض العلماء إلى أنه لا يفرق بينهما، لأنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فرق بين رجل وامرأته بسبب الإعسار، وقال ابن القيم: ولم تزل الناس تصيبهم الفاقة بعد اليسار ولم ترفعهم أزواجهم إلى الحكام ليفرقوا بينهم وبينهن.

ص: 211

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

• لا نفقة على الناشز.

فلا نفقة للناشز ما دامت قائمة على نشوزها.

قال ابن قدامة في المغني: معنى النشوز: معصيتها لزوجها فيما له عليها مما أوجبه له النكاح .. فمتى امتنعت من فراشه أو خرجت من منزله بغير إذنه أو امتنعت من الانتقال معه إلى مسكن مثلها أو السفر معه فلا نفقة لها ولا سكنى في قول عامة أهل العلم.

• حديث هند وبعض فوائده:

عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ (دَخَلَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ - امْرَأَةُ أَبِي سُفْيَانَ - عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ، لا يُعْطِينِي مِنْ النَّفَقَةِ مَا يَكْفِينِي وَيَكْفِي بَنِيَّ، إلاَّ مَا أَخَذْتُ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ. فَهَلْ عَلَيَّ فِي ذَلِكَ مِنْ جُنَاحٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: خُذِي مِنْ مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ مَا يَكْفِيكِ وَيَكْفِي بَنِيكِ). متفق عليه

بعض فوائده:

1 -

وجوب إنفاق الزوج على زوجته، كما تقدم.

2 -

أن نفقة الزوجة مقدرة بالكفاية لا بالأمداد، لقوله:(بالمعروف)، كما تقدم.

وهذا مذهب الجماهير من العلماء.

لحديث الباب وفيه: (خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك

).

وذهب الشافعي إلى أنها مقدرة بالأمداد، لكن هذا قول ضعيف.

ولذا قال النووي: وهذا الحديث - حديث هند - يرد على أصحابنا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن تأخذ الكفاية بالمعروف ولم يقدر لها نوعاً ولا قدراً.

ص: 212

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

3 -

أنه لا يجوز للمرأة إذا أُذن لها بالأخذ من مال زوجها للنفقة أن تأخذ ما خرج عن العادة والعرف.

4 -

استدل بحديث هند على جواز الحكم على الغائب.

قال ابن القيم: ولا دليل فيه، لأن أبا سفيان كان حاضراً في البلد لم يكن مسافراً، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يسألها البينة ولا يُعطى المدعي بمجرد دعواه، وإنما كان هذا فتوى منه صلى الله عليه وسلم.

5 -

استدل بالحديث على مسألة الظفر، وهي: أن للإنسان أن يأخذ من مال غريمه إذا ظفر به بقدر حقه الذي جحده إياه.

قال ابن القيم: ولا يدل لثلاثة أوجه:

أحدها: أن سبب الحق ها هنا ظاهر، وهو الزوجية، فلا يكون الأخذ خيانة في الظاهر، فلا يتناوله قول النبي صلى الله عليه وسلم:(أد الأمانة إلى من أئتمنك ولا تخن من خانك) ولهذا نص أحمد على المسألتين مفرقاً بينهما فمنع من الأخذ في مسألة الظفر، وجوّز للزوجة الأخذ، وعمل بكلا الحديثين.

الثاني: أنه يشق على الزوجة أن ترفعه إلى الحاكم، فيُلزمه بالإنفاق أو الفراق، وفي ذلك مضرة عليها مع تمكنها من أخذ حقها.

الثالث: أن حقها يتجدد كل يوم، فليس هو حقاً واحداً مستقراً يمكن أن تستدين عليه، أو ترفعه إلى الحاكم بخلاف حق الدين.

6 -

قال ابن القيم: وفي حديث هند دليل على جواز قول الرجل في غريمه ما فيه من العيوب عند شكواه، وأن ذلك ليس بغيبة، ونظير ذلك قول الآخر في خصمه: يا رسول الله، إنه فاجر ولا يبالي ما حلف به.

7 -

وقال رحمه الله: وفيه دليل على تفرد الأب بنفقة أولاده ولا يشاركه فيها الأم وهذا إجماع من العلماء إلا قول شاذ لا يلتفت إليه، وأن على الأم من النفقة بقدر ميراثها.

8 -

أن الإنفاق في الزوجية من جانب واحد للزوج على زوجها.

9 -

ذم الشح، وأنه يمنع الإنسان ما وجب عليه.

10 -

جواز سماع كلام الأجنبية للحاجة.

ص: 213

م/ وعلى الإنسان نفقة أصوله وفروعه الفقراء إذا كان غنياً، وكذلك من يرثه بفرض أو تعصيب.

ذكر المصنف رحمه الله في هذا الباب النفقة على الأقارب.

الأقارب: جمع قريب، وهو الاتصال بين شخصين بولادة قريبة أو بعيدة.

ذكر المصنف رحمه الله شروط النفقة على الأقارب.

فقال (إذا كان غنياً).

فهذا الشرط الأول: غنى المُنفِق، فإن كان فقيراً فإنه لا يلزمه الإنفاق.

• والمراد بالغنى هنا: أن يفضل عن قوت نفسه وزوجته ورقيقه يوم وليلته.

والدليل على هذا الشرط قوله صلى الله عليه وسلم (ابدأ بنفسك) رواه مسلم.

ولقوله صلى الله عليه وسلم (لا ضرر ولا ضرار).

• وذكر الشرط الثاني فقال (

وفروعهِ الفقراء).

فالشرط الثاني: عجز المنفَق عليه [أن يكونوا فقراء]، بأن يكون معدماً عاجزاً عن التكسب.

• فالمراد بالفقر هنا: فقر مال [بأن لا يجد مالاً]، وفقر عمل [إما لكونه ضعيفاً لا يستطيع العمل، وإما لكونه لا يجد عملاً].

• فإن كان غنياً بماله أو بكسبه فإنه لا نفقة له، لأنه إن كان غنياً بماله فالمال عنده، وإن كان غنياً بكسبه فإننا نلزمه بأن يكتسب.

• ثم ذكر رحمه الله الشرط الثالث بقوله (وكذلك من يرثه بفرض أو تعصيب

).

فالشرط الثالث: أن يكون المنفِق وارثاً للمنفَق عليه بفرض أو تعصيب.

سوى عمودي النسب فلا يشترط.

ص: 214

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

والدليل على وجوب نفقة القريب الذي يرثه المنفِق بفرض أو تعصيب قوله تعالى (وعلى الوارث مثل ذلك).

ولأن بين المتوارثين قرابة تقتضي كون الوارث أحق بمال الموروث من سائر الناس.

الراجح أنه تجب النفقة على الوارث برحم، كالخال والخالة، لأنه يرث بالرحم وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية. [ذوو الأرحام من الأصول: كل ذكر بينه وبين المنفِق أنثى كأب الأم، وذوو الأرحام من الفروع: هم كل من بينه وبين المنفِق أنثى كابن البنت].

مثال: ابن أختٍ غني له خال فقير، وهذا الخال ليس له أحد يرثه سوى ابن أخته، الراجح يجب الإنفاق عليه لأنه يرث.

أمثلة:

رجل عنده أب فقير وجد فقير، فيجب أن ينفق على أبيه، لأنه ابنه ووارثه، ويجب أن ينفق على جده مع أنه لا يرثه في هذه الصورة.

رجل غني، وأبُ أمهِ فقير، فإنه يجب أن ينفق عليه مع أنه لا يرثه، لأنه من عمودي النسب.

رجل غني له ابن عم فقير، وليس هناك غيرهما من القرابة، فتجب عليه النفقة، لأنه يرثه بالتعصيب.

ابن أخت غني وخاله فقير، فعلى المذهب لا يجب عليه النفقة، وعلى القول الراجح تجب النفقة.

• لا يشترط أن يكون المنفَق عليه وارثاً للمنفِق.

اتفاق الدين بين المنفق وبين المنفق عليه.

لأن الله قطع الموالاة بين الكافرين والمسلمين.

وهناك قول آخر في المسألة أن هذا شرط إلا في عمودي النسب، فالأب ينفق عليه وإن كان كافراً، والولد ينفق عليه وإن كان كافراً، أما الأخ فلا ينفق عليه إلا أن يكون مسلماً، وقيل: أن هذا لا يشترط مطلقاً لعموم قوله تعالى: (وَإِنْ

جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً)، وهكذا قوله:(وبالوالدين إخساناً) وقوله: (وآت ذا القربى حقه) فالأدلة عامة، نعم لو كان من المحاربين للإسلام فإنه لا ينفق عليه لأن الحربي المقصود اتلاف نفسه لا إبقاؤه.

ص: 215

م/ وإن طلب التزويج زوّجه وجوباً.

أي: ويجب على المنفِق إعفاف من تجب له النفقة من الآباء والأجداد والأولاد وغيرهم، ويكون الإعفاف بزوجة حرة أو سُريّة تُعفه، لأن ذلك مما تدعو حاجته إليه ويستضر بفقده.

وكذلك يجب على السيد إعفاف مملوكه إذا طلب ذلك، فإن لم يقدر فإنه يبيعه على من يقدر على تزويجه.

وكذلك إذا طلبت الأمة التزويج فإنه عليه أن يطأها، أو يزوجها، أو يبيعها على من يمكنه أن يعفها.

النفقة على المماليك

ص: 216

م/ وفي الحديث (للمملوك طعامه وكسوته، ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق).

ذكر المصنف رحمه الله النفقة على المملوك.

فيجب أن ينفق على مملوكه.

للحديث الذي ذكره المصنف رحمه الله (للمملوك طعامه وكسوته

).

ولقوله تعالى (وابن السبيل وما ملكت أيمانكم).

وعن أبي ذر. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (هم أخوانكم وخولكم - أي خدمكم - جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم) متفق عليه. [خولكم] أي خدمكم، سموا بذلك لأنهم يتخولون الأمور أي يصلحونها.

• ويحرم أن يكلفه ما لا يطيق.

للحديث السابق (ولا يكلف ما لا يطيق).

ص: 217

‌النفقة على البهائم

م/ وعلى الإنسان أن يقيت بهائمه طعاماً وشراباً ولا يكلفها ما يضرها، وفي الحديث (كفى بالمرء إثماً أن يحبس عمن يملك قوته).

أي: ويجب على الإنسان نفقة بهائمه بالمعروف من علفها وسقيها وما يصلحها ويقيها من البرد والحر.

عن أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (عذبت امرأة في هرة حبستها حتى ماتت، لا هي أطعمتها إذ هي حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض) رواه مسلم.

فدل هذا الحديث على وجوب النفقة على الحيوان المملوك، لأن السبب في دخول تلك المرأة النار ترك الهرة بدون إنفاق.

وللحديث الذي ذكره المصنف رحمه الله (كفى بالمرء إثماً أن يحبس عمن يملك قوته).

• قوله (ولا يكلفها ما يضرها) لما في ذلك من الضرر عليها.

• إذا عجز مالك البهيمة عن الإنفاق عليها فإنه يخير بين:

بيعها، أو يؤجرها، أو يذبحها إن كانت مما تؤكل.

لأن بقاءها مع عدم الإنفاق عليها ظلم، والظلم تجب إزالته.

وإن كانت لا تؤكل ولا تشترى وهو عاجز عن الإنفاق عليها فإنه يسيبها.

لحديث جابر (أنه كان يسير على جمل له قد أعْيا، فأراد أن يسيبَه، .... ) متفق عليه.

ص: 218

‌باب الحضانة

م/ هي حفظ الطفل عما يضره والقيام بمصالحه.

ذكر المصنف رحمه الله تعريف الحضانة وأنها: حفظ الطفل عما يضره، والقيام بمصالحه في سن معينة.

وهي من محاسن الشريعة الإسلامية وعنايتها ورعايتها بالضعفاء والمحتاجين، لأن المقصود منها أمور ثلاثة:

الأول: القيام بمؤن المحضون من طعامه وشرابه ولباسه ومضجعه وتنظيف جسمه.

الثاني: حفظه عما يؤذيه برعاية حركاته وسكناته في منامه ويقظته.

الثالث: تربيته بما يصلحه، سواء كان ذلك في دينه أو دنياه.

وسبب الحضانة: الفراق بين الزوجين، فان الحضانة لا يأتي موضوعها الا إذا حصل نزاع بين الزوجين بطلاق أو غيره وبينهما أطفال.

ص: 219

م/ وهي واجبة على من تجب عليه النفقة.

لأنه يهلك بتركه فيجب حفظه عن الهلاك كما يجب الإنفاق عليه وإنجاءه من المهالك.

• شروط الحضانة:

الأول: أن يكون الحاضن مسلماً، فلا حضانة لكافر.

أ- لقوله تعالى (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً).

ب- ولأن الفاسق لا حضانة له [عند الجمهور] فالكافر من باب أولى.

ج- ولأن الفتنة بالأب الكافر أو الأم الكافرة عظيمة جدا فإن ذلك فتنة عن دينه وقد قال صلى الله عليه وسلم[فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه] ولا سيما بعد تمييزه أي حيث صار الطفل مميزاً وأصبح يتلقى ويتعلم ويتربى.

وذهب الحنفية إلى أن الذمية أحق بحضانة ولدها المسلم وعللوا ذلك أن الحضانة مبنية على الشفقة والأم مسلمة أو ذمية أتم شفقة على طفلها من غيره.

الثاني: وأن يكون عدلاً فلا حضانة لفاسق.

وهذا مذهب جماهير العلماء أنه لا حضانة لفاسق.

أ- لأنه لا يوثق بحضانته.

ب- ولأن في الحضانة ذريعة إلى إفساد الطفل وتربيته على مساوئ الأخلاق.

واختار ابن القيم واختاره الشيخ السعدي: أن الفاسق له حق في الحضانة، قالوا: وعليه العمل المستمر في الأعصار والأمصار وأن الحضانة تكون للوالد أباً كان أو أماً وإن كان فاسقاً، ولأن الناس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لم يكونوا يخلون من الفسق ومع ذلك لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم نزع الحضانة من أحد ممن ثبت فسقه وللو كان هذا ثابتاً لنقل إلينا نقلاً بيناً.

الثالث: ولا لمن فيه رق.

فالحضانة لا تكون لمن فيه رق وهذا مذهب جمهور العلماء.

لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمرأة [أنت أحق به ما لم تنكحي]، فأسقط حقها بالنكاح وذلك لحق الزوج فإن المرأة تنشغل بحق زوجها فكانت أحق به ما لم تنكح، وكذلك الرقيق مشغول بحق سيده ولا شك أن شغله في حق سيده أعظم من شغل المرأة بحق زوجها.

واختار ابن القيم: أن له حقاً في الحضانة، إذ لا دليل على إسقاط حقه عنها، ولأنه أشفق من غيره.

ص: 220

م/ ولكن الأم أحق بولدها ذكراً كان أو أنثى إن كان دون سبع.

أي: إذا كان المحضون دون سبع سنوات فالأم أحق به من الزوج مالم تتزوج وكانت صالحة للحضانة.

لحديث عبد الله بن عمرو. (أن امرأةً قالت: يا رسول الله! إن ابني هذا كان بطني له وِعاء، وثديي له سِقاء، وحجري له حِوَاء، وإن أباه طلقَني وأراد أن ينتزعَه مني، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنت أحق به ما لم تنكحي) رواه أبوداود.

[بطني له وعاء] الوِعاء هو الإناء وقصدت أن بطنها أيام حمله كان وعاء لهذا الطفل. [وحجري له حِوَاء] الحواء: أي: مكاناً له يحميه ويحفظه.

قال في المغني: وجملته أن الزوجين إذا افترقا ولهما ولد طفل، فأمه أولى الناس بكفالته إذا كملت الشرائط فيها ذكراً كان أو أنثى، وهذا قول يحيي الأنصاري والزهري والثوري ومالك والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي ولا نعلم أحداً خالفهم.

• وهذا التفصيل من الشارع الحكيم راعى فيه حق الطفل وحق الزوج الجديد، فالأم قبل الزواج متفرغة للطفل وإصلاح شؤونه فحقه علينا باق، أما بعد الزواج فإنها ستهمل أحد الحقين إما حق زوجها وهو آكد وإما أن تعتني بزوجها فتهمل الطفل الذي يحتاج إلى العناية الدائمة.

• الحديث دليل على أن الأم إذا تزوجت سقطت حضانتها للحديث السابق: أنت أحق به ما لم تنكحي.

وقد التمس الفقهاء عدة حكم لسقوط حضانتها إذا تزوجت:

أولاً: لأنها قد تكون مشغوله عن الولد بمعاشرة الزوج الجديد.

ثانياً: أن هذا الصغير قد يلحقه شيء من الجفاء والغلظة من قِبَل الزوج الجديد، وهذا يؤثر على الطفل.

• متى يسقط حقها من الحضانة إذا تزوجت؟

فقيل: يسقط حقها من الحضانة بمجرد العقد.

وهذا مذهب الجمهور

فإذا عقد على المرأة ونازعها زوجها سقط حقها من الحضانة.

قالوا: لأنها قد تكون مشغولة بمهام زوجها ومتطلبات الحياة الزوجية الجديدة.

وقيل: إن الحضانة لا تسقط إلا بالدخول.

وهذا قول المالكية.

قالوا: إن الدخول هو الأمر الذي تنشغل به الأم عن طفلها.

والراجح القول الأول.

• قوله في الحديث (ما لم تنكحي) ظاهره: سواء تزوجت قريباً للمحضون أو بعيداً.

لكن ذهب بعض العلماء إلى أنها إذا تزوجت بقريب من الطفل المحضون فلا تسقط حضانتها، لأن القريب له حق في الحضانة وله شفقة تحمله على رعاية الطفل.

• اختار ابن القيم واختاره أيضاً الشيخ السعدي أن الأم أحق بالحضانة إذا رضي الزوج، وذلك لأن حقها سقط لحق الزوج الجديد، فإذا رضي بإسقاط حقه في حضانة هذه المرأة فلا وجه لإسقاط حقها.

ص: 221

م/ فإذا بلغ سبعاً، فإن كان ذكراً خيّر بين أبويهِ فكان مع من اختار.

أي: إذا بلغ المحضون سبع سنوات [وهو سن التمييز]، فإن كان ذكراً خير بين أبويه.

لحديث أبي هريرة. (أن امرأة قالت يا رسول الله! إن زوجي يريد أن يذهب بابني وقد نفعني وسقاني من بئر أبي عنبة، فجاء زوجها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا غلام! هذا أبوك وهذه أمك، فخذ بيد أيهِما شئت، فأخذ بيد أمِه فانطلقتْ به) رواه أبوداود.

وهذا قول الشافعي وأحمد وإسحاق، واختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم.

• والتخيير له شرطان أساسيان:

أولاً: أن يكون أبواه صالحين للحضانة، بحيث تتحقق مصلحة الطفل عند أي واحد منهما.

ثانياً: أن يكون الغلام عاقلاً، فإن كان معتوهاً فحضانته لأمهِ مطلقاً، لأن الأم أشفق وأصبر وأقوم لمصالحه من أبيه، لأنه يحتاج إلى مزيد صبر وتحمل.

• قال العلماء: إذا كان بين الأبوين فرق فلا اعتبار باختيار الطفل في هذه الحالة، لأن الطفل قد يؤثر البطالة واللعب، فربما يختار من يجد عنده اللعب والتساهل والعبث، فلا يعرف مصلحة نفسه.

• قالوا: وإن خير فلم يختر فإنه يقرع بينهما. أو اختارهما معاً، فإنه يقرع بينهما.

• قال العلماء: إذا اختار الطفل أباه كان عنده ليلاً ونهاراً، من أجل أن يحفظه ويعلمه ويؤدبه ولكن لا يجوز له أن يمنعه من زيارة أمهِ، وأما إذا اختار أمه فإنه يكون عندها بالليل ويكون عند أبيه بالنهار، من أجل أن يحفظه ويعلمه ويؤدبه.

• إذا مرض الطفل المميز - ذكراً كان أو أنثى - فإن أمه هي التي تمرضه ولو لم تكن هي الحاضنة.

ص: 222

م/ وإن كانت أنثى فعند من يقوم بمصلحتِها من أمِها وأبيها.

وأما الأنثى فإذا بلغت سبع سنوات، فاختلف العلماء عند من تكون؟

القول الأول: أنها تكون عند أبيها.

وهذا مذهب الحنابلة.

لأنه أحفظ لها، بشرط حفظها والعناية بها، ولا يتركها عند ضرة تسيء لها، وإلا فلا حضانة له.

القول الثاني: أنها تكون عند أمها. [قال بعضهم: حتى تبلغ، وبعضهم قال حتى تتزوج].

وهذا قول مالك وأبي حنيفة ورجحه ابن القيم.

لأن الأم أعلم بما يصلح ابنتها وأقوم بتربيتها وتعليمها ما تحتاج إليه من شؤون النساء.

القول الثالث: أنها تخير كالغلام.

وهذا قول الشافعي.

والراجح الله أعلم.

ص: 223

م/ ولا يترك المحضون بيد من لا يَصونه ويصلحه.

لفوات المقصود من الحضانة، لأن المقصود من الحضانة رعاية المحضون وتربيته وإصلاحه والقيام عليه بما ينفعه في الدنيا والآخرة.

ص: 224

‌كتاب الأطعمة

‌مقدمة

الطعام في اللغة يطلق في الغالب على ما يؤكل، وقد يطلق على ما يشرب بقلة كقوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ). وقال صلى الله عليه وسلم في زمزم (إنها طعام طُعْم).

الأصل في الأطعمة الحل.

لقوله تعالى (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً).

قال في تفسير المنار: وهذه نص الدليل القطعي على القاعدة المعروفة عند الفقهاء: أن الأصل في الأشياء المخلوقة الإباحة، والمراد إباحة الانتفاع بها أكلاً وشرباً ولباساً وتداوياً وركوباً وزينة.

وقال تعالى (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ).

دلت هذه الآية على أن الأصل في المطاعم والملابس وأنواع التجملات الإباحة، لأن الاستفهام في (مَن) للإنكار، ومن هذا يعلم أن هذه الآية تدل على أن الأصل في هذه الأشياء التي هي من أنواع الزينة وكل ما يتجمل به ومن الطيبات من الرزق هو الحل.

وقال تعالى (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ).

وجه الدلالة: أنه إذا كان ما في الأرض مسخراً لنا، جاز استمتاعنا به، وهذا معنى الإباحة.

وقال صلى الله عليه وسلم (إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدوداً فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها) رواه الدار قطني.

ص: 225

م/ وهي نوعان حيوانٌ وغيرُه.

اعلم أن الأطعمة نوعان:

حيوانية: والحيوان بري وبحري.

غير حيوانية: مثل النبات والثمار والجامدات والمائعات.

ثم ذكر المصنف رحمه الله ضابطاً لكل نوع فقال:

ص: 226

م/ فأما غير الحيوان - من الحبوب والثمار وغيرها - فكلُه مباح.

لأن الأصل في الأطعمة الحل كما سبق.

ص: 227

لكن يستثنى منها:

م/ إلا ما فيه مضرة كالسمِ ونحوه.

أي: يستثنى من هذا النوع السم، فهو حرام.

فهذا الضابط الأول: ألا يكون مضراً، كالسم ونحوه، فإنه حرام.

والدليل على تحريم ما فيه مضرة قوله تعالى (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) وقال تعالى (ولا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ).

والنهي عن قتل النفس نهي عن أسباب القتل. ولذا عُدّ من أطعم السم لغيره قاتلاً.

ومثل السم الدخان، حيث أثبتت التجارب أنه مضر بالصحة، وفيه أيضاً إضاعة للمال.

ما كان مضراً سواء كان ضرره عاماً أو خاصاً، العام كالسم، والخاص: أكل ما فيه مضرة لهذا الشخص بعينه، كما لو كان أكله لهذا الطعام يسبب له مرضاً أو هلاكاً. وإن كان هذا الطعام لو أكله غيره لم يتضرر.

وينبغي أن يضاف ضابطاً آخر، وهو: أن لا يكون نجساً، فإن كان نجساً فإنه حرام كالدم والميتة.

والدليل على تحريم ما فيه نجاسة قوله تعالى (قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ).

ص: 228

م/ والأشربةُ كلها مباحة.

والدليل على الإباحة ما تقدم من الأدلة على أن الأصل في ذلك الإباحة.

ص: 229

م/ إلا ما أسكر، فإنه يحرم كثيرُه وقليلُه لحديث (كل مسْكر حرام).

يستثنى من الأشربة المسكر فيحرم شربه.

ضابط الإسكار: إذهاب العقل على وجه اللذة والطرب، ولهذا قال عمر (الخمر ما خامر العقل) أي ما غطاه.

والدليل على تحريم شرب المسكر:

قال تعالى (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).

وقال صلى الله عليه وسلم (كل مسكر خمر، وكل خمر حرام).

وقال صلى الله عليه وسلم (لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه) رواه أبوداود.

وقال صلى الله عليه وسلم (من شرب الخمر في الدنيا ثم لم يتب منها حرمها في الآخرة) متفق عليه.

وقال صلى الله عليه وسلم (مدمن الخمر إن مات لقي الله كعابد وثن) رواه أحمد.

وقال صلى الله عليه وسلم (كل مسكر حرام، وما أسكر منه الفَرَق فملء الكف منه حرام) رواه أبوداود.

[الفرق] إناء يسع 3 آصع.

وقال صلى الله عليه وسلم (ما أسكر كثيره فقليله حرام).

معنى هذا الحديث: أن هذا الشراب لو أكثرت منه سكرت وإذا لم تكثر منه لم تَسْكر، فالقليل منه حرام.

مثال: لو شربت منه قارورة سكرت، ولو شربت فنجان لم تسكر - فنقول شرب الفنجان حرام.

ص: 230

م/ وإن انقلبتِ الخمرَ خلاً حلّت.

أي: إذا انقلبت الخمر بنفسها وصارت خلاً فإنها تحل.

واعلم أن انقلاب الخمر خلاً ينقسم إلى قسمين:

القسم الأول: أن تخلل بنفسها بدون فعل آدمي فإنها تطهر.

قال النووي: وأجمعوا على أنها إذا انقلبت بنفسها خلاً طهرت، وقد حكي عن سحنون أنها لا تطهر، فإن صح عنه فهو محجوج بإجماع من قبله.

القسم الثاني: أن تخلل بفعل آدمي كما لو تخللت بأن أضاف إليها إنسان شيئاً، أو نقلها من الشمس إلى الظل أو العكس، فقد اختلف العلماء:

القول الأول: لا يجوز ولا تطهر.

وهذا مذهب جمهور العلماء.

لحديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: (سُئِلَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ اَلْخَمْرِ تُتَّخَذُ خَلًّا? قَالَ: "لَا"). أَخْرَجَهُ مُسْلِم

وفي رواية عند أبي داود وأحمد: (أن أبا طلحة سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أيتام ورثوا خمراً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أهرقها، قال: أفلا أجعلها خلاً؟ قال: لا).

ووجه الاستدلال:

أنه لو كان هناك طريق للانتفاع لتطهير الخمر لأرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم حفظاً للأموال، وأيضاً كما في الرواية الأخرى:(كانت لأيتام) والأيتام أولى بحفظ أموالهم، فلو كان تخليلها جائزاً لأرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم.

وكذلك قوله (أهرقها) دليل على أنه لا يجوز تخليلها، لأنه يجب إراقتها ولا يجوز اقتناؤها.

القول الثاني: يكره تخليلها.

وهذا ذهب إليه بعض السلف كسفيان وابن المبارك.

والراجح الأول.

ص: 231

م/ والحيوان قسمان: بحري، فيحل كل ما في البحر حياً وميتاً لقوله تعالى (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ).

أي: أن الحيوانات تنقسم إلى قسمين كما سبق بحري وبري.

أما البحري: فهو حلال كله.

والمراد بالبحري: ما لا يعيش إلا في البحر بحيث لو خرج من البحر لهلك.

قال تعالى (أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم وللسيارة) قال ابن عباس: صيد البحر ما أخذ حي، وطعامه ما أخذ ميتاً.

وعن أبي هريرة. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في البحر (هو الطهور ماؤه الحل ميتته) رواه أبوداود.

وهذا دليل على حل جميع حيوان البحر سواء أخذ حياً أو ميتاً.

فكلب البحر حلال، وخنزير البحر حلال.

ص: 232

م/ وأما البري فالأصل فيه الحل.

لما سبق أن الأصل في الأشياء الحل.

ص: 233

م/ إلا ما نص عليه الشارع فمنها: ما في حديث ابن عباس (كل ذي ناب من السباع فأكله حرام).

أي: يستثنى من حيوانات البر: كل ذي ناب من السباع فهو حرام كالذئب والأسد والنمر والفيل وغيرها من السباع.

لحديث أبي ثعلبة الخشني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع) متفق عليه.

وعن ابن عباس. قال (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل ذي ناب من السباع، وعن كل ذي مخلب من الطير) رواه أبو داود.

وعن أبي هريرة. قال: قال صلى الله عليه وسلم (كل ذي ناب من السباع فأكله حرام) رواه مسلم.

والحكمة من النهي عن أكلها: قال ابن القيم: السبع إنما حرم لما فيه من القوة السبعية التي تورث المتغذي بها شبهها، فإن الغاذي شبيه بالمغتذي.

ص: 234

م/ (ونهى عن كل ذي مخلب من الطير) رواه مسلم.

أي: ومما يحرم من حيوانات البر: كل ذي مخلب من الطير مثل: العقاب، والبازي، والصقر، والشاهين، والحدأة.

لحديث ابن عباس - الذي ذكره المصنف - (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل ذي مخلب من الطير). رواه مسلم

ص: 235

م/ (ونهى عن لحوم الحمُر الأهلية) متفق عليه.

ومما يحرم من الحيوانات البرية: الحمر الأهلية (الإنسية).

لحديث أنس قال (لَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ، أَمَرَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَبَا طَلْحَةَ، فَنَادَى: إِنَّ اَللَّهَ وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ لُحُومِ اَلْحُمُرِ] اَلْأَهْلِيَّةِ]، فَإِنَّهَا رِجْس) مُتَّفَقٌ عَلَيْه.

وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل لحوم الحمر الأهلية). متفق عليه

وعن علي رضي الله عنه قال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن متعة النساء يوم خيبر، وعن لحوم الحمر الإنسية). متفق عليه

وعن ابن أبي أوفى قال: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر). رواه البخاري

فهذه الأحاديث فيها النهي الصريح عن لحوم الحمر الأهلية.

قال ابن القيم: أحاديث النهي عن أكل لحوم الحمر الأهلية رواها عن النبي صلى الله عليه وسلم علي، وجابر، والبراء، وابن أبي أوفى، و .... ، والعرباض، وأبو ثعلبة، وابن عمر، وأبو سعيد، وسلمة، ....

العلة في النهي عنها:

قيل: لحاجتهم إليها.

فقد جاء في حديث ابن عمر: (

وكان الناس قد احتاجوا إليها).

لكن يرد هذا القول حديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لحوم الحمر وأذن في لحوم الخيل) فلو كان النهي من أجل أنها حمولة الناس لكان النهي عن لحوم الخيل أولى.

وقيل: لأنها كانت تأكل العذرة.

وقيل: إنه إنما حرمت لأنها رجس في نفسها.

قال ابن القيم: وهذا أصح العلل، فإنها هي التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بلفظه في الصحيحين.

أما الحمر الوحشية فهي حلال.

فقد جاء في حديث جابر قال: (أكلنا زمن خيبر الخيل وحمر الوحش، ونهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن الحمار الأهلي). رواه مسلم

وفي حديث أبي قتادة قال: (قلت: يا رسول الله، أصبت حمار وحش وعندي منه فاضلة، فقال للقوم: كلوا، وهم محرمون). متفق عليه

فقد أمر صلى الله عليه وسلم الصحابة بالأكل من حمار الوحش وهم محرمون، وهذا دليل على حله.

ص: 236

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

هناك بعض الحيوانات اختلف العلماء في حلها وحرمتها:

منها: الضب.

والراجح أنه حلال وهو قول جمهور العلماء.

لحديث ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ (دَخَلْتُ أَنَا وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْتَ مَيْمُونَةَ، فَأُتِيَ بِضَبٍّ مَحْنُوذٍ فَأَهْوَى إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ، فَقَالَ بَعْضُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ: أَخْبِرُوا رَسُولَ اللَّهِ بِمَا يُرِيدُ أَنْ يَأْكُلَ فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ، فَقُلْتُ: أَحَرَامٌ هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لا، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي، فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ، قَالَ خَالِدٌ: فَاجْتَرَرْتُهُ، فَأَكَلْتُهُ. وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَنْظُرُ) متفق عليه.

وجه الدلالة: إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لخالد على أكله، وإقرار النبي صلى الله عليه وسلم دليل على الجواز.

وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الضب لست آكله ولا أحرمه).

وفي رواية عند مسلم عن ابن عمر قال: (سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الضب فقال: لست بآكله ولا محرمه).

وفي رواية عند مسلم عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كلوا فإنه حلال، ولكنه ليس من طعامي).

وهذا نص صريح على عدم الحرمة الشرعية، وإشارة إلى الكراهة الطبيعية.

في الحديث بيان علة عدم أكل النبي صلى الله عليه وسلم من الضب، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:(لم يكن بأرض قومي).

قال ابن حجر: وقد ورد سبب آخر أخرجه مالك من مرسل سليمان بن يسار، فذكر نص حديث ابن عباس وفي آخره:(قال النبي صلى الله عليه وسلم: كلا - يعني لخالد بن الوليد، وعباس - فإنني يحضرني من الله حاضرة).

قال المازري: يعني الملائكة، وكان للحم الضب ريحاً فترك أكله لأجل ريحه، وهذا إن صح يمكن ضمه إلى الأول ويكون لتركه الأكل من الضب سببان.

ومنها: الضبع.

اختلف العلماء في حل أكله على قولين:

القول الأول: أنه حرام.

وهو قول الحنفية وجماعة من العلماء.

واستدلوا بعموم حديث (نهى عن كل ذي ناب من السباع). قالوا: والضبع لها ناب تصيد به فتدخل تحت الحديث.

القول الثاني: أنها حلال.

وهو قول الشافعية والحنابلة.

لحديث ابن أبي عمار، قلت لجابر:(الضبع صيد هي؟ قال: نعم، قلت: آكلها؟ قال: نعم، قلت له: أقاله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم) رواه الترمذي.

ص: 237

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ولفظ أبي داود عن جابر قال (هو صيد ويجعل فيه كبش إذا أصابه المحرم).

وجه الدلالة من الحديث: أن جعل الضبع صيداً.

قال ابن القيم: فإنه صلى الله عليه وسلم إنما حرم ما اشتمل على الوصفين، أن يكون له ناب وأن يكون من السباع العادية بطبعها كالأسد والذئب والنمر والفهد، وأما الضبع فإنما فيها أحد الوصفين؛ وهو كونها ذات ناب وليست من السباع العادية، ولا ريب أن السباع أخص من ذوات الأنياب، والسبع إنما حرم لما فيه من القوة السبعية التي تورث المتغذي بها شبهها، فإن الغاذي شبيه بالمتغذي، ولا ريب أن القوة السبعية في الذئب والأسد والنمر والفهد ليست في الضبع حتى تجب التسوية بينهما في التحريم، ولا تعد الضبع من السباع لغة ولا عرفاً.

وهذا القول هو الصحيح.

ومنها: الخيل.

حلال عند جماهير العلماء.

عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنها قَالَتْ: (نَحَرْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَسًا فَأَكَلْنَاهُ). وَفِي رِوَايَةٍ (وَنَحْنُ بِالْمَدِينَةِ).

عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما: (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ، وَأَذِنَ فِي لُحُومِ

الْخَيْلِ) متفق عليه.

وذهب بعض العلماء إلى أنها حرام.

وهذا مذهب أبي حنيفة، والأشهر عند مالك.

لقوله تعالى: (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً).

وجه الدلالة:

أن اللام في قوله (لتركبوها) للتعليل، فدل على أنها لم تخلق لغير ذلك، لأن العلة المنصوصة تفيد الحصر،

وعطف البغال والحمير على الخيل، فدل على اشتراكهما معهما في حكم التحريم.

ولحديث خالد بن الوليد قال: (غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر، فأتت اليهود فشكوا أن الناس قد شرعوا إلى حظائرهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا لا تحل أموال المعاهدين إلا بحقها، وحرام حمر الأهلية وخيلها وبغالها وكل ذي ناب من السباع). رواه أبو داود

لكن هذا الحديث شاذ منكر، لأن سياقه أن خالد شهد خيبر وهو خطأ، فإنه لم يسلم إلا بعدها.

وقال النووي: واتفق العلماء من أئمة الحديث وغيرهم على أنه حديث ضعيف.

وأما الجواب عن الآية: فإنها نزلت في مكة اتفاقاً، والإذن في أكل لحوم الخيل يوم خيبر، كان بعد الهجرة من مكة بأكثر من ست سنين.

ص: 238

م/ (ونهى عن قتل أربع من الدواب: النملة، والنحلة، والهدهد، والصرد) رواه أبو داود.

من الأشياء التي يحرم أكلها: ما نهى الشرع عن قتله، فكل شيء نهى الشرع عن قتله فأكله حرام.

للحديث الذي ذكره المصنف: (ونهى عن قتل أربع من الدواب: النملة

).

التعليل: لأنا لو قتلناه لوقعنا فيما نهى الشارع عنه.

ولأنه لو كان حلال الأكل لما نهىَ عن قتله.

وأيضاً من القواعد: كل حيوان أمر الشارع بقتله فهو محرم الأكل.

لأنه لو كان الانتفاع بأكلها جائزاً لما أذن صلى الله عليه وسلم بقتلها.

ولما فيها من الإيذاء والتعدي.

الحيوانات التي أمر بقتلها: قال صلى الله عليه وسلم (خمس يقتلن في الحل والحرم: الحية والغراب الأبقع والحدأة والفأر والكلب العقور) متفق عليه.

وكذلك الوزغ (فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلها) متفق عليه.

ص: 239

م/ وجميع الخبائث محرمة كالحشرات ونحوها.

لأنها مستخبثة، وقد قال تعالى (ويحرم عليهم الخبائث).

كالخنافس والذباب والصراصير والعقارب والحيات والوزغ.

قال الشنقيطي: هذه خبائث لا يكاد طبع سليم يستسيغها، فضلاً عن أن يستطيبها، والذين يأكلون مثل هذه الحشرات من العرب إنما يدعوهم لذلك شدة الجوع.

حكم ما تولد بين نوعين:

ما تولد بين نوعين حلالين: فهذا حلال ولا إشكال.

ما تولد بين نوعين محرّمين، فهذا محرم ولا إشكال.

ما تولد بين نوعين أحدهما محرم والآخر مباح: فهذا محرم.

كالبغل فإنه تولد من الفرس والحمار، فهذا حرام وهو قول الجماهير.

لأنه اجتمع فيه حل (نظراً إلى الفرس) وحرمة (نظراً إلى الحمار) فيغلب جانب الحرمة احتياطاً.

ص: 240

م/ (ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الجلالة وألبانها) حتى تحبس وتُطعم الطاهر ثلاثاً.

الجلالة: هي التي أكثر علفها النجاسة.

حكمها: يحرم أكلها لظاهر النهي في الحديث، لكن لكي تحل: تحبس ويطعم الطاهر.

واختلف في مقدار حبسها لكي تحل:

فقيل: تحبس ثلاثة أيام، سواء كانت طائراً أو بهيمة، وكان ابن عمر إذا أراد أكلها حبسها ثلاثاً.

وقيل: التفصيل: فيحبس الطائر ثلاثاً والشاة سبعاً وما عدا ذلك يحبس أربعين يوماً.

والراجح: أنها لا تتقدر، بل متى غلب على الظن ذهاب أثر النجاسة عنها حلت، لأن التحديد لا دليل عليه، والمقصود زوال المحذور.

قال السرخسي من الحنفية: الأصح أنها تحبس إلى أن تزول الرائحة المنتنة، لأن الحرمة لذلك، وهو شيء محسوس، ولا يتقدر بالزمان لاختلاف الحيوانات في ذلك، فيصار فيه إلى اعتبار زوال المضر، فإذا زال بالعلف الطاهر حل تناوله والعمل عليه بعد ذلك.

الحكمة في النهي عن أكل لحم الجلالة:

الحكمة - والله أعلم - ترفع الإسلام بأهله عن تناول الخبائث ولو من طريق غير مباشر، لما لذلك من تأثير سيء على صحة الإنسان وسلوكه، لأن المتغذي يشبه ما تغذى به فينتقل الخبث من المأكول إلى الآكل ويكتسب من أخلاقه. [أحكام الأطعمة للشيخ صالح الفوزان حفظه الله].

ص: 241

‌باب الذكاة

‌تعريفها:

لغة: تمام الشيء، ومنه الذكاء في الفهم إذا كان تام العقل.

وشرعاً: ذبح أو نحر الحيوان المأكول البري بقطع حلقومه ومريئه أو عقر ممتنع.

والذكاة شرط لحل الحيوان المباح.

أجمع العلماء على أنه لا يحل الحيوان المأكول اللحم غير السمك والجراد إلا بذكاة.

لقوله تعالى (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ) فاشترط الله الذكاة.

والحكمة منها: تطييب الحيوان المذكى، فالحيوان إذا أسيل دمه فقد طِيْب، لأنه يسارع إليه التجفف.

والميتة إنما حرمت لاحتقان الرطوبات والفضلات والدم الخبيث فيها، والذكاة لما كانت تزيل ذلك الدم والفضلات كانت سبب الحل.

م/ إلا السمك والجراد.

أي: أن السمك وكذا حيوانات البحر لا تحتاج إلى ذكاة، لأن ميتته حلال، لحديث أبي هريرة. أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في البحر (هو الطهور ماؤه الحل ميتته) رواه أبوداود.

وكذا الجراد، لا يحتاج إلى تذكية، لأن ميتته حلال، لقوله صلى الله عليه وسلم (أحلت لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان: فالحوت والجراد ..... ) رواه أحمد، والراجح أنه حديث موقوف لكن له حكم الرفع.

ص: 242

م/ ويشترط في الذكاة: أن يكون المذكي مسلماً أو كتابياً.

بدأ المصنف رحمه الله بذكر شروط الذكاة، فذكر الشرط الأول: وهو أن يكون المذكي مسلماً أو كتابياً.

أما المسلم فظاهر.

ولو امرأة أو أعمى تحل تذكيتهم.

عن كعب بن مالك (أن امرأة ذبحت شاة بحجر فسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأمر بأكلها) رواه البخاري.

وفي رواية (أن جارية لكعب بن مالك كانت ترعى غنماً بسلع فأصيبت شاة منها فأدركتها فذبحتها بحجر فسئل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كلوها) متفق عليه.

قال الشيخ ابن عثيمين في فوائد هذا الحديث:

إحداها: إباحة ذبيحة المرأة.

الثانية: إباحة ذبيحة الأمة.

الثالثة: إباحة ذبيحة الحائض لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستفصل.

الرابعة: إباحة الذبح بالحجر.

الخامسة: إباحة ذبح ما خيف عليه الموت.

السادسة: حل ما يذبحه غير مالكه بغير إذنه.

السابعة: إباحة ذبحه لغير مالكه عند الخوف عليه.

ص: 243

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وأما الكتابي:

(وهو اليهودي والنصراني) فتحل بالكتاب والسنة والإجماع.

قال تعالى (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ) قال ابن عباس: طعامهم ذبائحهم.

وعن أنس. (أن امرأة يهودية أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة فأكل منها) رواه أحمد.

وعنه أيضاً (أن يهودياً دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خبز وشعير وإهالة سنخة فأجابه) رواه أحمد.

[الإهالة السنخة] الشحم المذاب إذا تغيرت رائحته.

قال شيخ الإسلام: ومن المعلوم أن حل ذبائحهم ونسائهم ثبت بالكتاب والسنة والإجماع.

فغير الكتابي لا تحل ذبيحته: كالمجوسي والوثني والمرتد والعلماني والرافضي وغيرهم من المشركين.

اختلف العلماء: هل يشترط لحل ما ذكاه الكتابي أن يكون أبواه كتابيين أو أن المعتبر هو بنفسه؟ الصحيح أن ذلك ليس بشرط وأن المعتبر هو بنفسه، فإذا كان كتابياً حل ما ذكاه وإن كان أبواه أحدهما من غير أهل الكتاب، كأن يكونا من الوثنيين أو المجوس.

وهذا مذهب المالكية والحنفية.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وهذا القول هو الثابت عن الصحابة رضي الله عنهم ولا أعلم في ذلك بينهم نزاعاً.

الشرط الثاني (ولم يذكره المصنف رحمه الله: أن يكون عاقلاً.

وهذا قول جماهير العلماء.

لأن الذكاة يعتبر لها قصد كالعبادة، ومن لا عقل له لا يصح منه القصد، فيصير ذبحه كما لو وقعت الحديدة بنفسها على حلق الشاة فذبحتها.

فلا تصح تذكية المجنون والسكران أو الطفل غير المميز لعدم إمكان القصد منهم.

ص: 244

م/ وأن يكون محدّد.

ذكر المصنف رحمه الله الشرط الثالث من شروط الذكاة: وهو أن يكون الذبح بمحدد ينهر.

لحديث أبي يعلى شداد بن أوس. قال: قال صلى الله عليه وسلم (إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحدّ أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته) رواه مسلم.

ولأن الذبح بغير المحدد فيه إيلام للبهيمة، بخلاف المحدد ففيه إراحة لها وتعجيل بزهوق النفس.

فكل ما أنهر الدم فإن التذكية به صحيحة مجزئة كالحديد والحجر والخشب.

فإن ذبحها بغير محدد لم تحل: مثل أن يقتلها بالخنق أو بالصعق الكهربائي أو بالصدم أو بضرب الرأس ونحوه حتى تموت.

ص: 245

م/ وأن ينهِر الدم.

ذكر المصنف رحمه الله الشرط الرابع من شروط الذكاة: وهو إنهار الدم.

لحديث رافع بن خديج. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل، ليس السن والظفر، أما السن فعظم وأما الظفر فمدى الحبشة) متفق عليه.

• يستثنى السن والظفر فلا يجوز التذكية بهما.

للحديث السابق (ليس السن والظفر، أما السن فعظم وأما الظفر فمدى الحبشة) متفق عليه.

لا فرق في السن والظفر أن يكونا متصلين أو منفصلين من آدمي أو غيره لظاهر حديث رافع بن خديج السابق، وهذا مذهب جمهور العلماء.

وقالت الحنفية: تجوز الذكاة بالسن والظفر المنفصلين، وإنما تحرم الذكاة بهما إذا كانا متصلين، وأجابوا عن حديث رافع السابق، بأن المراد به النهي عن الذبح بالسن القائم والظفر القائم، لأن الحبشة إنما كانت تفعل لإظهار الجلادة وذلك بالقائم لا بالمنزوع.

والصحيح مذهب جمهور العلماء وهو عدم صحة التذكية بالسن والظفر مطلقاً لعموم الحديث.

قال في المغنى رداً عليهم: ولنا عموم حديث رافع، ولأن مالم تجز الذكاة به متصلاً لم تجز به منفصلاً.

قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله: والأقرب عندي أن الأصل في ذلك أن الحبشة كانوا يذبحون بأظافرهم فنهى الشارع عن ذلك لأنه يقتضي مخالفة الفطرة من وجهين:

أحدهما: أنه يستلزم توفير الأظافر ليذبح بها وهذا مخالف للفطرة التي هي تقليم الأظافر.

الثاني: أن في القتل بالظفر مشابهة لسباع البهائم والطيور التي فضلنا عليها ونهينا عن التشبه بها.

ص: 246

م/ وأن يقطعَ الحلقوم والمريء.

هذا الشرط الرابع من شروط الذكاة: قطع ما يجب قطعه.

فإن في رقبة الحيوان أربعة عروق:

الحلقوم: وهو مجرى النفس خروجاً ودخولاً.

المريء: وهو مجرى الطعام والشراب.

والودجان: وهما عرقان غليظان محيطان بالحلقوم والمريء.

إذا قطع هذه الأشياء الأربعة حلت المذكاة بإجماع العلماء.

ثم اختلفوا إذا قطع بعض هذه الأربعة هل يجزئ أم لا؟

القول الأول: لا بد من قطع الأربعة، فلا يكفي قطع بعضها فقط.

واختاره ابن المنذر.

القول الثاني: لا بد من قطع ثلاثة بدون تعيين.

وهذا مذهب أبي حنيفة (وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية).

القول الثالث: أنه لا بد من قطع ثلاثة معينة وهي: الحلقوم والودجان.

وهذا مذهب مالك.

القول الرابع: أنه لابد من قطع اثنين معينين وهما: المريء والحلقوم.

وهذا مذهب الحنابلة.

وسبب الخلاف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (ما أنهر الدم ..... ) ولم يحدد، فلذلك اختلفوا.

والراجح الله أعلم.

ص: 247

م/ وأن يُذكر اسم الله عليه.

هذا الشرط الخامس من شروط الذكاة: وهو التسمية على الذبيحة.

وقد اختلف العلماء في حكم التسمية على الذبيحة على ثلاثة أقوال:

القول الأول: أنها شرط لا تسقط مطلقاً، حتى لو تركها نسياناً أو جاهلاً فلا تحل.

وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وقال: وهذا أظهر الأقوال، فإن الكتاب والسنة قد علقا الحل بذكر اسم الله عليه في غير موضع.

واستدلوا بقوله تعالى (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) قالوا: وهذا عام، ففيه النهي عن الأكل مما لم يذكر اسم الله عليه، وتسميته فسقاً.

وبحديث رافع بن خديج. قال: قال صلى الله عليه وسلم (ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل) متفق عليه.

فقرن بين إنهار الدم وذكر اسم الله على الذبيحة في شرط الحل، فكما أنه لو لم ينهر الدم ناسياً أو جاهلاً لم تحل الذبيحة، فكذلك إذا لم يسم، لأنهما شرطان قرن بينهما النبي صلى الله عليه وسلم في جملة واحدة، فلا يمكن التفريق بينهما إلا بدليل.

القول الثاني: أنها واجبة في حال الذكر دون حال النسيان.

وهذا قول الحنفية والمالكية والمشهور في مذهب الحنابلة.

لقوله صلى الله عليه وسلم (إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) رواه ابن ماجه.

القول الثالث: أنها سنة مطلقاً.

وهذا مذهب الشافعي.

واستدلوا بحديث (ذبيحة المسلم حلال وإن لم يذكر اسم الله) وهو حديث ضعيف.

والصحيح الأول وأنها لا تسقط مطلقاً، واختاره ابن عثيمين رحمه الله.

• يشترط أن يكون بلفظ: بسم الله.

فلو قال: بسم الرحمن أو باسم رب العالمين:

فقيل: لا يجزئ، وهذا قول الشافعية والحنابلة.

ص: 248

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

لأن إطلاق التسمية ينصرف إلى: بسم الله.

وقيل: يجزئ، وهذا مذهب الحنفية والمالكية.

قالوا: المراد بالتسمية ذكر الله من حيث هو، لا خصوص: بسم الله، وهذا الراجح.

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: ويعتبر أن تكون التسمية على ما أراد ذبحه، فلو سمى على شاة ثم تركها إلى غيرها أعاد التسمية، وأما تغيير الآلة فلا يضر، فلو سمى وبيده سكين ثم ألقاها وذبح بغيرها فلا بأس.

أما في الصيد، لو سمى على صيد فأصاب غيره حل، مثال: أرسل كلبه على أرنب، ثم إن الكلب صاد غزالاً فإنه يحل.

والفرق: أن التسمية في باب الصيد تقع على الآلة، والتسمية في باب الذكاة تقع على عين المذبوح.

• وقت التسمية: وقتها عند الجميع وقت الذبح، لأنه لا يتحقق معنى ذكر اسم الله تعالى على الذبيحة إلا إذا كان وقت الذبح، ويجوز تقديمها عليه بزمن يسير لا يمكن التحرز منه.

• من الشروط: أن يقصد التذكية.

لأن الله تعالى قال (إلا ما ذكيتم) فأضاف الفعل إلى المخاطبين.

• فلو لم يقصد التذكية لم تحل الذبيحة: مثل أن تصول عليه البهيمة فيذبحها للدفاع عن نفسه فقط.

ص: 249

م / وكذلك يشترط في الصيد.

أي: وكذلك الشروط السابقة التي تشترط للذكاة، تشترط أيضاً في الصيد.

ص: 250

م/ إلا أنه يحل بعقْره في أي موضع من بدنه، ومثل الصيد ما نفر وعُجِز عن ذبحه.

أي: أن في الصيد يجوز بعقره في أي موضع من بدنه.

• يجوز إنهار الدم من الحيوان في أي موضع منه في حالات:

الحالة الأولى: في حالة الصيد.

الحالة الثانية: أن يكون المذكى غير مقدور عليه، مثل أن يهرب أو يسقط في بئر أو في مكان سحيق لا يمكن الوصول إلى رقبته أو نحو ذلك، فيكفي في هذه الحال إنهار الدم في أي موضع كان من بدنه حتى يموت.

لحديث رافع بن خديج (أنهم مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة فأصابوا إبلاً وغنماً فندّ منها بعير فرماه رجل فحبسه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن لهذه الإبل أوابد كأوابد الوحش، فإذا غلبكم منها شيء فاصنعوا به هكذا). رواه البخاري

[فندّ] أي شرد وهرب. [الأوابد] النفور والتوحش، قال ابن الأثير: " الأوابد جمع آبدة، وهي التي قد تأبّدتْ أي توحشت ونفرت من الإنس.

ففي هذا الحديث: أن الحيوان الذي هرب ولا يمكن إدراكه من الإبل أو البقر أو الغنم أو غيرها من الحيوانات المستأنسة، فإنه يكفي إنهار دمه من أي مكان من بدنه.

• قال النووي: قال أصحابنا وغيرهم: الحيوان المأكول الذي لا تحل ميتته ضربان:

مقدور على ذبحه ومتوحش، فالمقدور عليه لا يحل إلا بالذبح في الحلق واللبة كما سبق، وهذا مجمع عليه

وأما إذا توحش إنسي، بأن ند بعير أو بقرة أو فرس أو شردت شاة أو غيرها، فهو كالصيد، فيحل بالرمي إلى غير مذبحه، وبإرسال الكلب وغيره من الجوارح عليه، وكذا لو تردى بعير أو غيره في بئر، ولم يمكن قطع حلقومه ومريئه، فهو كالبعير الناد في حله بالرمي ".

ثم قال النووي: قال أصحابنا: وليس المراد بالتوحش مجرد الإفلات، بل متى تيسر لحوقه بعد ولو باستعانة بمن يمسكه ونحو ذلك، فليس متوحشاً ولا يحل حينئذٍ إلا بالذبح في المذبح.

ص: 251

م/ وعن رافع بن خديج مرفوعاً (مَا أَنْهَرَ الدَّمَ، وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَكُلُوهُ، لَيْسَ السِّنَّ وَالظُّفْرَ، وَسَأُحَدِّثُكُمْ عَنْ ذَلِكَ، أَمَّا السِّنُّ: فَعَظْمٌ، وَأَمَّا الظُّفْرُ: فَمُدَى الْحَبَشَةِ) متفق عليه.

ذكر المصنف رحمه الله حديث رافع بن خديج، وقد سبقت مباحثه.

ففيه أن من شروط التذكية إنهار الدم كما سبق.

ومن شروطها التسمية وأنها شرط كما سبق.

وفيه التحريم بالتذكية بالظفر سواء كان متصلاً أو منفصلاً.

وفيه بيان العلة من تحريم الذبح بالظفر.

وفيه تحريم الذبح بالعظم.

• علل النبي صلى الله عليه وسلم منع الذكاة بالسن بأنه عظم.

فاختلف العلماء: هل الحكم خاص في محله وهو السن، أو عام في جميع العظام؟

القول الأول: أنه خاص في محله وهو السن، وأما ما عداه من العظام فتحل الذكاة به.

وهذا مذهب أبي حنيفة وأحمد.

لأن النبي صلى الله عليه وسلم لو أراد العموم لقال غير العظم والظفر، لكونه أخصر وأبين، والنبي صلى الله عليه وسلم أعطي جوامع الكلم ومفاتيح البيان.

ولأننا لا نعلم وجه الحكمة في تأثير العظم، فكيف نعدي الحكم مع الجهل.

القول الثاني أن الحكم عام في جميع العظام.

وهذا قول الشافعي.

لعموم العلة، لأن النص على العلة يدل على أنها مناط الحكم متى وجدت وجد الحكم.

وهذا القول أحوط.

ص: 252

م/ ويباح صيدُ الكلبِ المعلم.

أي: أن صيد الكلب إذا كان معلماً حلال لقوله تعالى (وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ) وقال صلى الله عليه وسلم (إذا أرسلت كلبك المعلم

).

فالآلة في الصيد نوعان:

الأولى: محددة كالرماح والسهام وما جرى مجراها مما يجرح بحده كرصاص البنادق المعروفة اليوم.

لا بد إذاً أن تكون الآلة ذات حد وأن تجرح.

لحديث عدي بن حاتم. قال: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد المعراض؟ فقال: إذا أصبت بحده فكل، وإذا أصبت بعرضه فلا تأكل فإنه وقيذ) متفق عليه.

[المعراض] بكسر الميم عصا رأسها محددة، فلا يحل ما قتل بثقله وكذا ما قتله بعصا والشبكة والفخ).

فلو ضرب الطير بعصا فقتله لم يحل، لأنه ليس بجرح.

النوع الثاني: الجارحة.

لقوله تعالى (وما علمتم من الجوارح) وهي نوعان:

ما يصيد بنابه: كالكلب والفهد.

وما يصيد بمخلبه كالصقر والبازي.

فيشترط في النوعين: التعليم، وهذا الشرط لا خلاف فيه لقوله تعالى (وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله).

ص: 253

م/ بأن يسترسل إذا أرسل، وينزجر إذا زجر، وإذا أمسك لا يأكل.

ذكر المصنف رحمه الله صفة تعليم كلب الصيد.

كيفية التعليم:

النوع الأول وهو ما يصيد بنابه فإن تعليمه يتبين بأمور:

1 -

أن بسترسل إذا أرسله صاحبه في طلب الصيد.

يعني لا يذهب بنفسه إذا رأى الصيد، وإنما إذا أمره صاحبه.

2 -

أن ينزجر إذا زجره [وهذا يكون لأحد غرضين: يكون لطلب وقوفه وكفه عن العدو _ أو لإغراء الجارح بزيادة العدو في طلب الصيد].

3 -

أن لا يأكل من الصيد، فإن أكل فليس بمعلم.

لقوله صلى الله عليه وسلم (إذا أرسلت كلابك المعلمة وذكرت اسم الله فكل مما أمسكن عليك إلا أن يأكل الكلب فلا تأكل فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه).

• استثنى بعض العلماء الكلب الأسود فقالوا: لا يجوز الاصطياد به، قالوا: لأنه كلب يحرم اقتناؤه فلم يبح صيده كغير المعلم، ولأنه شيطان.

• اختلف العلماء هل يجوز الاصطياد بالكلب الأسود:

فقيل: لا يجوز لأنه شيطان كما في الحديث ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتله.

وقيل: يجوز لعموم حديث: إذا أرسلت كلبك المعلم. والله أعلم.

وأما تعليم الطير فإنه يكون بأمرين:

أن يسترسل إذا أرسل - أن ينزجر إذا زجر.

• واختلف هل يشترط أن لا يأكل أم لا على قولين، والله أعلم.

ص: 254

م/ ويسمي صاحبُها عليها إذا أرسلَها.

أي: ويسمي صاحبها عند إرسال الآلة، سواء كانت الآلة محددة كالسهم ونحوه، أو كانت جارحة كالكلب لقوله صلى الله عليه وسلم (إذا أرسلت كلبك المعلّم وذكرت اسم الله عليه).

فإذا كان عنده كلب يريد أن يرسله، فإنه يقول بسم الله، ثم يرسله، وإن كانت الآلة سهماً فإنه يسمى عند إرسال السهم.

• وسبق أن التسمية شرط لصحة الذكاة. فالتسمية في الذكاة والصيد شرط.

ص: 255

م/ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ المُعَلَّم فَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَمْسَكَ عَلَيْكَ فَأَدْرَكْتَهُ حَيّاً فَاذْبَحْهُ، وَإِنْ أَدْرَكْتَهُ قَدْ قَتَلَ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ فَكُلْهُ.

وإن وجدت مع كلبك كلباً غيره وقد قتله فلا تأكل، فإنك لا تدري أيهما قتله؟

وإن رَمَيْتَ بسَهْمِكَ فَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَفِيهِ ((وَإِنْ غَابَ عَنْكَ يَوْماً أَوْ يَوْمَيْنِ)).

وَفِي رِوَايَةٍ ((الْيَوْمَيْنِ وَالثَّلاثَةَ فَلَمْ تَجِدْ فِيهِ إلاَّ أَثَرَ سَهْمِكَ فَكُلْ إنْ شِئْتَ، فَإِنْ وَجَدْتَهُ غَرِيقاً فِي الْمَاءِ فَلا تَأْكُلْ، فَإِنَّكَ لا تَدْرِي: الْمَاءُ قَتَلَهُ، أَوْ سَهْمُكَ؟) متفق عليه.

هذا الحديث فيه فوائد:

• الحديث دليل على جواز الصيد.

والصيد: هو اقتناص حيوان حلال متوحش طبعاً غير مقدور عليه.

والصيد له ثلاث حالات:

الأولى: يباح إذا قصد منه دفع الحاجة والانتفاع بلحمه.

الثانية: يكره إذا كان القصد منه التلهي به واللعب والمفاخرة.

لأنه يشغل عما هو أنفع منه من الأعمال الدينية والدنيوية.

الثالثة: يحرم إذا ترتب عليه ظلم للناس بالعدوان على زروعهم وبساتينهم وأموالهم.

فإن قيل: ما الجواب عن حديث: (من اتبع الصيد غفل). رواه الترمذي

فالجواب: المراد الإكثار منه حتى يشغله.

• قوله (فذكرت اسم الله) دليل على مشروعية التسمية عند الصيد (لابد أن تكون التسمية مقارنة للإرسال).

قال النووي: وقد أجمع المسلمون على التسمية عند الإرسال.

واختلفوا في حكمها: وقد سبقت المسألة.

• قوله (إذا أرسلت) فيه أنه يشترط أن يكون الصائد له عقل يميز.

فمن شروط الصيد: أن يكون الصائد من أهل الذكاة، وذلك بأن يتوفر فيه الشرطان:(العقل والدين).

فالعقل يعني به أن يكون مخيراً غير سكران ولا مجنون، لأنه لا قصد لهما (وكذلك إذا كان طفل دون التمييز).

والدين يعني به أن يكون مسلماً أو كتابياً، فلا يحل صيد الوثني والمجوسي والمرتد.

• قوله (كلبك) فيه نوع من أنواع آلة الصيد، وآلة الصيد نوعان:

أولاً: ما يرمى به الصيد من كل محدد.

كالرماح والسيوف والسهام وما جرى مجراها مما يجرح بحده كرصاص البنادق اليوم.

ثانياً: الجوارح، وهي الكواسر من السباع، كالكلاب والطير.

لقوله: (يَسْأَلونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ).

(وهو نوعان: ما يصيد بنابه: كالكلب والفهد، وما يصيد بمخلبه: الصقر والبازي).

• قوله (كلابك المعلمة) فيه دليل أنه يشترط في إباحة صيد الكلب أن يكون معلماً، وهذا الشرط لا خلاف فيه.

ص: 256

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وكيفية التعليم:

بالنسبة ما يصيد بنابه كالكلاب، فيتبين تعلمه بأمور:

أولاً: أن يسترسل إذا أرسله صاحبه في طلب الصيد.

ثانياً: أن ينزجر إذا زجره [وهذا يكون لأحد غرضين: يكون بطلب وقوفه وكفه عن العدو، ويكون الزجر لإغراء الجارح بزيادة العدو في طلب الصيد].

وهذان الشرطان اتفقت المذاهب الأربعة على اعتبارهما.

ثالثاً: أن لا يأكل من الصيد إذا أمسكه، فإن أكل لم يبح.

وقد اختلفوا في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: يشترط أن لا يأكل من الصيد، فإن أكل لم يبح.

وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد.

قال النووي: وبه قال أكثر العلماء.

لحديث الباب وهو نص، وفيه:(ألا يأكل الكلب، فإن أكل فلا تأكل، فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه).

ولقوله تعالى: (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) وهذا مما لم يمسك علينا بل على نفسه.

القول الثاني: أنه يحل.

وهو قول مالك.

واستدلوا بحديث أبي ثعلبة قال: (يا رسول الله، إن لي كلاباً مكلبة، فأفتني في صيدها؟ قال: كل مما أمسكن عليك، قال: وإن أكل منه؟ قال: وإن أكل منه). رواه أبو داود، وقال الحافظ: لا بأس بسنده.

ص: 257

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

والراجح القول الأول.

وأما الجواب عن حديث أبي ثعلبة:

o أن حديث عدي مقدم عليه، لأنه أصح.

o ومنهم من حمل حديث أبي ثعلبة على ما إذا أكل منه بعد أن قتله وخلاه وفارقه ثم عاد فأكل منه، فهذا لا يضر.

o وأيضاً رواية عدي صريحة مقرونة بالتعليل المناسب للتحريم، وهو خوف الإمساك على نفسه متأيّدة بأن الأصل في الميتة التحريم.

وأما تعليم الطير فإنه يتبين بأمور:

أولاً: أن يسترسل إذا أرسل.

ثانياً: أن ينزجر إذا زجر.

ثالثاً: واختلفوا هل يشترط أن لا يأكل أم لا؟

قيل: يشترط، وهذا مذهب الشافعي قياساً على جارحة الكلب.

وقيل: لا يشترط، وهذا قول الحنفية والحنابلة. والله أعلم.

• قوله (إذا أرسلت كلبك المعلم) في إطلاقه دليل لإباحة الصيد بجميع أنواع الكلاب المعلمة من الأسود وغيرها.

وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: يجوز الاصطياد بجميع الكلاب المعلمة من الأسود وغيرها.

قال النووي: وبه قال مالك والشافعي وأبو حنيفة وجماهير العلماء.

لعموم النص: (إذا أرسلت كلبك المعلم).

القول الثاني: يحرم الصيد بالكلب الأسود البهيم.

قال النووي: وبه قال الحسن البصري والنخعي وقتادة وأحمد وإسحاق.

لأنه شيطان.

ص: 258

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

والأول أرجح.

• قوله (إذا أرسلت

) فيه دليل على أنه يشترط لحل الصيد أن يرسل الآلة قاصداً للصيد.

لأن الكلب أو البازي آلة، والذبح لا يحصل بمجرد الآلة بل لا بد من الاستعمال، وذلك فيهما: بالإرسال مع القصد.

• إذا استرسل الكلب بنفسه فقتل صيداً، لم يحل لفقدان الشرط، وهو الإرسال، لأن الإرسال يقوم مقام التذكية.

• إذا استرسل الكلب بنفسه على صيد فزجره صاحبه وسمى فزاد في عدوه وقتل، فهل يحل؟

قيل: يحل.

وهو مذهب الحنفية والحنابلة.

قالوا: لأن زجره أثّر في عدوه فصار كما لو أرسله.

وقيل: لا يحل.

وهو مذهب الشافعي.

لاجتماع الاسترسال المانع والإغراء المبيح، فتغلب جانب المنع.

والراجح الأول.

• تحريم صيد الكلب غير المعلم.

ص: 259

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

• ذهب جماهير العلماء إلى أنه إذا اصطاد بالمعراض فقتل الصيد بحد حل، وإن قتله بعرضه لم يحل، لحديث الباب.

• قوله (فإن أمسك عليك فأدركته حياً فاذبحه) هذا تصريح بأنه إذا أدرك ذكاته وجب ذبحه ولم يحل إلا بالذكاة، قال النووي: وهو مجمع عليه.

• قوله (وإن وجدت مع كلبك كلباً غيره، وقد قتل فلا تأكل، فإنك لا تدري أيهما قتله).

قال النووي: فيه بيان قاعدة مهمة، وهي أنه إذا حصل الشك في الذكاة المبيحة للحيوان، لم يحل، لأن الأصل تحريمه، وهذا لا خلاف فيه، وفيه تنبيه على أنه لو وجده حياً وفيه حياة مستقرة، فذكاه حل ولا يضر كونه اشترك في إمساكه كلبه وكلب غيره، لأن الاعتماد حينئذٍ في الإباحة على تذكية الآدمي لا على إمساك الكلب.

• قوله (وإن وجدته غريقاً في الماء فلا تأكل) قال النووي: هذا متفق على تحريمه.

وجاء السبب في نفس الحديث: (فإنك لا تدري الماء قتله، أو سهمك).

• قوله (فإن غاب عنك يوماً أو يومين فلم تجد فيه إلا أثر سهمك فكل إن شئت) في هذا دليل لمن يقول: إذا أثر جرحه فغاب عنه فوجده ميتاً وليس فيه أثر غير سهمه حل، وهذا قول بعض العلماء.

وقيل: يحرم.

وقيل: يحرم في الكلب دون السهم.

قال النووي: الأول أقوى وأقرب إلى الأحاديث الصحيحة.

• جواز اقتناء الكلب المعلم للصيد.

• قال الحافظ ابن حجر: استدل به على طهارة سؤر كلب الصيد دون غيره من الكلاب، للإذن في الأكل من الموضع الذي أكل منه، ولم يذكر الغسل، ولو كان واجباً لبينه لأنه وقت الحاجة إلى البيان.

وقال بعض العلماء: يعفى عن عض الكلب ولو كان نجساً لهذا الحديث.

وهذا الصحيح أنه معفو عنه.

• قوله (ما أمسك عليك) استدل به على أنه لو أرسل كلبه على صيد فاصطاد غيره حل، للعموم الذي في قوله (ما أمسك) وهذا قول الجمهور.

وقال مالك: لا يحل.

ص: 260

م/ إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحدّ أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته) رواه مسلم.

ذكر المصنف رحمه الله حديث أبي يعلى شداد بن أوس (إن الله كتب الإحسان

) ليستدل به على بعض الآداب المتعلقة بالذكاة.

كتب: فرض. الإحسان على كل شيء: أي في كل شيء تعملونه. فإذا قتلتم: أي أردتم قتل من يجوز قتله. فأحسنوا القتلة: أي هيئة القتل، وإحسانها: اختيار أسهل الطرق وأخفها إيلاماً. وإذا ذبحتم: أي أردتم ذبح ما يحل ذبحه من الحيوان.

فأحسنوا الذبحة: أي هيئة الذبح، بأن يكون بسكين حادة، وأن يعجل إمرارها.

وليحد: أي ليسن. شفرته: أي السكين.

• الأمر بالإحسان في كل شيء كما قال تعالى (وأحسنوا إن الله يحب المحسنين) وقال تعالى (إن الله يأمر بالعدل والإحسان).

وهذا الأمر بالإحسان قد يكون واجباً: كالإحسان إلى الوالدين والأرحام، وقد يكون مستحباً: كصدقة التطوع.

• الإحسان هو بذل جميع المنافع من أي نوع كان لأي مخلوق يكون، ولكنه يتفاوت بتفاوت المحسَن إليهم، وحقهم ومقامهم، وبحسب الإحسان، وعظم موقعه، وعظيم نفعه، وبحسب إيمان المحسن وإخلاصه، والسبب الداعي إلى ذلك.

• لا يجوز الذبح بآلة كآلة.

(أي غير حادة قد استعملت مراراً وتكراراً حتى صارت لا تنهر الدم إنهاراً تاماً).

لقوله صلى الله عليه وسلم: (وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته) رواه مسلم.

• فقوله (وليحد أحدكم شفرته) هذا أمر والأمر يقتضي الوجوب.

ولأن في الذبح بالآلة الكآلة إيلام للبهيمة بدون فائدة.

• يكره أن يحدها والحيوان يبصره.

فيكره حد السكين ونحوها والحيوان يبصره.

وقد ورد في حديث في مسند أحمد (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن تحد الشفار وأن توارى عن البهائم) وفيه ضعف.

الشفار جمع شفرة وهي السكين.

ولأن في ذلك أذية للحيوان.

• الأفضل أن توجه للقبلة.

لحديث جابر قال (ضحى النبي صلى الله عليه وسلم يوم عيد بكبشين فقال حين وجههما .. ) رواه ابن ماجه وفيه مقال.

• يحرم أن يكسر العنق قبل أن يذبح.

فلو أن رجلاً كسر عنقها وفيها حياة أو سلخها وفيها حياة فإن هذا حرام.

لحديث (إن الله كتب الإحسان على كل شيء .. وفيه: وليرح ذبيحته).

ص: 261

م/ وقال صلى الله عليه وسلم (ذَكَاةُ اَلْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمّهِ) رواه أحمد.

ذكر المصنف رحمه الله حديث أبي سعيد في قوله صلى الله عليه وسلم (ذَكَاةُ اَلْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمّهِ) ليستدل به على أن ذكاة الجنين ذكاة أمه.

واختلف في معنى الحديث:

فقيل: أن ذكاة الجنين كذكاة أمه. (أن صفة ذكاة الجنين كصفة تذكية أمه).

وقالوا: إن الجنين إذا ذكيت أمه وخرج ميتاً ولم يذك صار حراماً.

وقيل: إن ذكاة الجنين ذكاة أمه (فذكاة أمه كافية) وهذا القول هو الصحيح.

• وهذا الحكم إذا خرج ميتاً أو فيه حياة غير مستقرة، أما إذا خرج حياً فلا بد من تذكيته.

ص: 262

‌باب الأيْمان والنذور

‌تعريف الأيمان:

الأيمان جمع يمين وهي: توكيد الشيء بذكر اسم الله أو صفة لله.

قال الجوهري: سميت اليمين بذلك لأنهم كانوا إذا تحالفوا ضرب كل امرئ منهم بيمينه على يمين صاحبه.

والأصل في مشروعيتها الكتاب والسنة والإجماع.

قال تعالى (قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ).

وقال تعالى (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ).

كما أن الله عز وجل أمر نبيه بالقسم في ثلاثة مواضع من كتابه.

فقال تعالى (وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ).

وقال تعالى (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ).

وقال تعالى (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ).

وأما من السنة فأحاديث كثيرة:

منها قوله صلى الله عليه وسلم (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت) متفق عليه.

وكان أكثر قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم (ومقلب القلوب) رواه البخاري.

قال ابن قدامة: وأجمعت الأمة على مشروعية اليمين وثبوت أحكامها.

ص: 263

• أحرف القسم ثلاثة هي: الباء، والواو، والتاء.

الباء: مثال (أقسم بالله لأفعلن .. ).

الواو: مثال (والله لأفعلن)(والرحمن لأفعلن). وهي أكثر شيوعاً في الاستعمال من الباء.

التاء: مثال: قوله تعالى (تالله لأكيدن أصنامكم) وهي لا تدخل إلا على لفظ الجلالة.

• الأصل أن الأفضل عدم الإكثار من الحلف.

قال تعالى (وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ).

فقد ورد في تفسير هذه الآية جملة أقوال منها المراد بحفظ اليمين عدم الإكثار منها.

وقال تعالى (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ).

قال القرطبي: الحلاف: كثير الحلف.

وقد بوب الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله في كتاب التوحيد باب (ما جاء في كثرة الحلف).

ومناسبة الباب لكتاب التوحيد: أن كثرة الحلف بالله يدل على أنه ليس في قلب الحالف من تعظيم الله ما يقتضي هيبة الحلف به، وتعظيم الله من تمام التوحيد.

وجاء في الحديث قال صلى الله عليه وسلم (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته) متفق عليه.

• الحكمة من مشروعيتها: التأكيد، وذلك إما لحمل المخاطب على الثقة بكلام الحالف وأنه لم يكذب فيه إن كان خيراً، ولا يخلفه إن كان وعداً أو وعيداً أو نحوهما، وإما لتقوية عزم الحالف نفسه على فعل شيء يخشى إحجامها عنه، أو ترك شيء يخشى إقدامها عليه.

ص: 264

• أيمان الرسول صلى الله عليه وسلم:

ومقلب القلوب:

عن ابن عمر. قال (كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم، لا ومقلب القلوب) رواه البخاري.

والله:

قال صلى الله عليه وسلم (ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه فوالله إني لأعلمهم بالله وأشدهم خشية).

ورب الكعبة:

قال أبو ذر (انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول في ظل الكعبة: هم الأخسرون ورب الكعبة).

وأيم الله:

قال صلى الله عليه وسلم (وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها).

وأيم الذي نفس محمد بيده:

قال صلى الله عليه وسلم (وأيم الذي نفس محمد بيده لو قال: إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرساناً أجمعون).

والذي نفس محمد بيده:

قال صلى الله عليه وسلم (والذي نفس محمد بيده إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة).

والذي لا إله غيره:

قال صلى الله عليه وسلم (فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها .. ).

ص: 265

م/ لا تنعقدُ اليمين إلا بالله، أو اسم من أسمائه، أو صفة من صفاته.

أي: أن اليمين التي تجب فيها الكفارة إذا حنث هي:

اليمين بالله: كأن يقول: أقسم بالله.

أو باسم من أسماء الله: كأن يقول: والخالق، ورب العالمين، والرازق.

أو صفة من صفاته: كأن يقول: أقسم بعزة الله _ أو بوجه الله.

قال تعالى (فبعزتك لأغوينهم أجمعين).

وحديث أنس مرفوعاً (وفيه قول النار: قط قط وعزتك) رواه البخاري.

وفي حديث أبي هريرة. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (لما خلق الله الجنة والنار، أرسل جبريل إلى الجنة فقال: انظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها، فنظر إليها فرجع فقال: وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها). متفق عليه

وفي حديث أبي هريرة مرفوعاً، وفيه قول الذي يخرج من النار:(وعزتك لا أسألك غيرها). متفق عليه

• استثنى الشيخ ابن عثيمين رحمه الله الصفات الخبرية [وهي التي بالنسبة لنا أبعاض وأجزاء] كالوجه، واليد، والأصبع ونحوها فلم يجوز الإقسام بها ما عدا الوجه قال: لأنه يعبر به عن الذات).

• يجوز الحلف بالمصحف.

لأن القرآن كلام الله، وكلام الله تعالى صفة من صفاته لذلك يجوز القسم به.

• الحلف بآيات الله ينقسم إلى قسمين:

الآيات الكونية: كالليل والنهار، والشمس والقمر، والجبال والأشجار، فهذا لا يجوز الحلف بها لأنها قَسَم بالمخلوق.

الآيات الشرعية: كالقرآن فهذا يجوز.

ص: 266

م/ والحلف بغير الله شرك، لا تنعقد به اليمين.

أي: أن الحلف بغير الله حرام وشرك.

عن ابن عمر. (أن النبي صلى الله عليه وسلم أدرك عمر بن الخطاب وهو يسير في ركب يحلف بأبيه فقال: ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت) متفق عليه.

قال عمر (فوالله ما حلفت بها منذ سمعت النبي ذاكراً أو آثراً).

[ذاكراً] أي عامداً [آثراً] أي حاكياً عن الغير.

وعن ابن عمر. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك) رواه أبوداود.

وعن أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم ولا بالأنداد، ولا تحلفوا إلا بالله، ولا تحلفوا إلا وأنتم صادقون) رواه أبوداود.

قال ابن عبد البر: لا يجوز الحلف بغير الله إجماعاً.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: وأما الحلف بغير الله من الملائكة والأنبياء والمشايخ والملوك وغيرهم فإنه منهي عنه غير منعقد باتفاق الأئمة.

قال ابن حجر: قال العلماء: السر في النهي عن الحلف بغير الله أن الحلف بالشيء يقتضي تعظيمه، والعظمة في الحقيقة لله وحده.

• ولا تنعقد هذه اليمين التي بغير الله، فلو حلف بالملك أو بالصنم أو بالنبي فإن هذه اليمن غير منعقدة.

• إشكال، فإن قيل: ما الجواب عن حديث طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ يَقُولُ: (جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ ثَائِرُ الرَّأْسِ نَسْمَعُ دَوِىَّ صَوْتِهِ وَلَا نَفْقَهُ مَا يَقُولُ حَتَّى دَنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنِ الإِسْلَامِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِى الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ. فَقَالَ هَلْ عَلَىَّ غَيْرُهُنَّ قَالَ: لَا. إِلاَّ أَنْ تَطَّوَّعَ، وَصِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ. فَقَالَ هَلْ عَلَىَّ غَيْرُهُ فَقَالَ: لَا. إِلاَّ أَنْ تَطَّوَّعَ. وَذَكَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الزَّكَاةَ فَقَالَ: هَلْ عَلَىَّ غَيْرُهَا قَالَ: لَا. إِلاَّ أَنْ تَطَّوَّعَ، قَالَ: فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلَا أَنْقُصُ مِنْهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَفْلَحَ [وأَبِيهِ] إِنْ صَدَقَ) رواه مسلم.

قد أجاب العلماء عن هذا بعدة أجوبة:

قيل: يحتمل أن هذا قبل النهي، وقيل: إن هذا ليس حلفاً وإنما كلمة جرت عادة العرب أن تدخلها في كلامها غير قاصدة حقيقة الحلف وإلى هذا جنح البيهقي والنووي.

ص: 267

م/ ولا بد أن تكون اليمين الموجبة للكفارة على أمر مستقبل، فإن كانت على ماضٍ - وهو كاذب عالماً - فهي اليمين الغموس.

أي: أن اليمين التي توجب الكفارة لها شروط، من هذه الشروط أن تكون على أمر مستقبل.

مثال: كأن يقول: والله لأسافرنّ غداً، أو يقول: والله لا أدخل دار فلان.

• فإن كانت على أمر ماضي وهو عالم كاذب فهذه اليمين الغموس.

فاليمين الغموس: هي التي يحلف فيها على أمر ماض كاذباً عالماً.

مثال: أن يقول والله ما قرأت هذا الكتاب، وهو قد قرأه.

• سميت بذلك لأنها تغمس صاحبها في الإثم ثم في النار.

• وهي من كبائر الذنوب:

لحديث عبد الله بن عمرو. عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، واليمين الغموس) رواه البخاري.

وقيل: هي التي يقتطع فيها مال امرئ مسلم للحديث الوارد في ذلك.

ص: 268

م/ وإن كان يظن صدق نفسه فهي من لغو اليمين، كقوله: لا والله، وبلى والله، في عرض حديثه.

هذا النوع الثاني من أنواع اليمين: وهي لغو اليمين.

المقصود بها ما يجري على لسان المتكلم بلا قصد كقول الرجل في معرض كلامه: لا والله لن أذهب، بلى والله سأذهب ونحو ذلك. فهذه لا كفارة فيها.

قال تعالى (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ).

قالت عائشة. (هي قول الرجل: لا والله، وبلى والله) رواه البخاري.

فلغو اليمين أن يتلفظ بالقسم وهو لا ينوي ولا يريد القسم.

ص: 269

م/ وإذا حنث في يمينه - بأن فعل ما حلف على تركه، أو ترك ما حلف على فعله - وجبت عليه الكفارة.

هذا هو القسم الثالث من أنواع اليمين وهي اليمن المنعقدة، وهي التي تجب فيها الكفارة.

تجب الكفارة بشروط:

الشرط الأول: الحنث.

وهو: أن يفعل ما حلف على تركه، أو يترك ما حلف على فعله مختاراً.

مثال: لو أن رجلاً قال: والله لأصومن غداً، فلما جاء الغد صام، فإنه لا كفارة عليه لأنه لم يحنث.

الشرط الثاني: أن يحلف مختاراً.

فإن كان مكرهاً فلا تنعقد يمينه وهذا مذهب الجمهور.

لقوله صلى الله عليه وسلم (إن الله رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) رواه ابن ماجه.

الشرط الثالث: القصد.

لأنه لا مؤاخذة إلا بقصد ونية، ولذلك أسقط الله تبارك وتعالى الكفارة في لغو اليمين.

الشرط الرابع: أن تكون على مستقبل.

فلا كفارة على أمر ماض، لأنه إن كان صادقاً فالأمر ظاهر [قد برت يمينه] وإن كان كاذباً فهو آثم

[وهي اليمين الغموس كما سبق].

الشرط الخامس: العقل

فإن كان مجنوناً فلا يعتد بيمينه، لأنه لا قصد له، ولحديث (رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون حتى يفيق).

الشرط السادس: البلوغ

الصبي لا يخلو من حالين:

إن كان غير مميز فلا عبرة بيمينه.

أن يكون مميزاً لكنه لم يبلغ، فالراجح لا تجب عليه الكفارة إذا حنث.

الشرط السابع: ذاكراً.

فلو حنث ناسياً فلا شيء عليه، كأن يقول: والله لا أسافر إلى مكة، ثم نسي فسافر إلى مكة، فإنه لا يحنث، لكن لا تنحل يمينه بل لا تزال باقية.

ص: 270

م/ وجبت عليه الكفارة: عتق رقبة أو إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم، فإن لم يجد صام ثلاثة أيام.

كفارة اليمين تتمثل فيما يلي: إطعام عشرة مساكين أو أو كسوتهم أو تحرير رقبة، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام.

قال تعالى (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ).

• فالثلاثة الأولى على التخيير (إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة).

فإن لم يجد فإنه ينتقل لصيام ثلاثة أيام، فلا يجوز أن يصوم وهو قادر على الإطعام أو الكسوة أو العتق.

• كفارة اليمين واجبة إذا حنث الحالف، لقوله صلى الله عليه وسلم (

وكفر عن يمينك).

• وقت وجوبها هو الحنث [وهو فعل ما حلف على تركه، أو ترك ما حلف على فعله].

• يجوز دفع الكفارة قبل الحنث ويجوز تأخيرها عنه.

لرواية ( .. وليكفر وليأت الذي هو خير) وفي رواية (فكفر عن يمينك ثم ائت الذي هو خير).

وجاء في رواية تأخير الكفارة ( .. إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها).

• الصحيح أنه لا يجزئ إخراج القيمة في الكفارة، لقوله تعالى (فكفارته إطعام عشرة مساكين

).

• كيفية الإطعام:

أن يصنع طعاماً ويدعو إليه عشرة مساكين فيعشيهم أو يغديهم، أو أن يعطي كل واحد بنفسه.

• يجب استيعاب العشرة، فلا يجوز أن يعطي خمسة مساكين مرتين، لأن الله نص على عدد عشرة.

• لم يرد تحديد كم الإطعام فيرجع فيه إلى العرف.

• الذي يجزئ في الكسوة: قيل: ما يجزئ في الصلاة كالقميص أو الإزار والرداء، وقيل: يرجع فيه إلى العرف لأنه لم يرد تحديده في الشرع وهذا الراجح.

• يشترط في عتق الرقبة أن تكون مؤمنة لقوله صلى الله عليه وسلم (أعتقها فإنها مؤمنة) رواه مسلم.

• يجب التتابع في الصوم، لقراءة ابن مسعود (فصيام ثلاثة أيام متتابعة).

ص: 271

م/ وَعَنْ عَبْدِ اَلرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم (وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ، فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْراً مِنْهَا، فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ، وَائْتِ اَلَّذِي هُوَ خَيْر) متفق عليه.

ذكر المصنف رحمه الله حديث عبد الرحمن بن سمرة، ليستدل به على أن من حلف على يمين، ثم رأى غيرها خيراً فإن الأفضل أن يكفر عن يمينه ويأت الذي هو خير.

فالمسألة لها [3] أحوال:

الأولى: أن يكون الحنث خير، فإنه يحنث.

لحديث الباب (فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ، وَائْتِ اَلَّذِي هُوَ خَيْر).

مثال: قال والله لا أدخل دار خالي، فهنا نقول الأفضل أن يحنث ويدخل دار خاله ويكفر عن يمينه.

ثانياً: أن يكون عدم الحنث خير، فإنه لا يحنث.

ثالثاً: أن يتساوى الأمران، فالأفضل أن لا يحنث.

ص: 272

م/ وفي الحديث (مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَقَالَ: إِنْ شَاءَ اَللَّهُ، فَلَا حِنْثَ عَلَيْه) رواه الخمسة.

ذكر المصنف رحمه الله حديث ابن عمر في قوله صلى الله عليه وسلم (من حلف على يمين فقال: إن شاء الله .. ) ليستدل به أن من قال في يمينه إن شاء الله لم يحنث.

مثال: قال والله لا ألبس هذا الثوب إن شاء الله ثم لبسه، فليس عليه شيء لأنه قال إن شاء الله.

• والأفضل لكل حالف أن يعلق يمينه بالمشيئة لأن في ذلك فائدتين:

الأمر الأول: تيسير الأمر كما قال تعالى (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً).

الأمر الثاني: أن الإنسان إذا حنث لم تلزمه الكفارة.

• يشترط في الاستثناء أن يكون بلسانه فلو استثنى بقلبه لم ينفعه بالإجماع.

وأن يكون متصل بيمينه حقيقة وحكماً:

حقيقة: والله لا أكلم فلاناً اليوم إن شاء الله [هذا اتصال حقيقي].

حكماً: لو قال والله لا ألبس هذا الثوب - فأخذه عطاس وجلس ربع ساعة وهو يعاطس - فلما هدأ قال: إن شاء الله [هذا اتصال حكماً لأنه منعه مانع من اتصال الكلام].

• إذا كرر اليمين فلها أحوال:

الحالة الأولى: إذا كرر اليمين على شيء واحد.

كأن يقول: والله لا آكل هذا الخبز، والله لا آكل هذا الخبز.

فهذه تعتبر يميناً واحدة ولا تجب فيها إلا كفارة واحدة وهذا قول أكثر العلماء.

الحالة الثانية: تكرار اليمين على أشياء مختلفة.

كأن يقول: والله لا آكل اليوم، والله لا أشرب اليوم، والله لا أسافر اليوم.

فهذه إن كفر عن الأولى ثم حنث في الثانية تلزمة كفارة ثانية.

فإن لم يكفر عن الثانية (هذا موضع خلاف) والراجح قول الجمهور بكل يمين كفارة إن حنث فيها.

الحالة الثالثة: أن يكون المحلوف عليه متعدد واليمين واحدة.

كأن يقول: والله لا أكلت، ولا شربت ولا لبست، فحنث في الجميع.

فهذه تلزمه كفارة واحدة، لأن اليمين واحدة والحنث واحد.

ص: 273

م/ ويرجع في الأيْمان إلى نية الحالف.

أراد المصنف رحمه الله هنا أن يبين ما يُنزّل عليه القَسم، فيرجع في تحديد المراد منه إلى نية الحالف، لكن بشرط أن يحتملها اللفظ.

والدليل قوله تعالى (ولَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ).

وقال صلى الله عليه وسلم (إنما الأعمال بالنيات) متفق عليه.

لكن بشرط أن يحتملها اللفظ، بأن يكون هذا اللفظ يمكن أن يراد به ما نواه الحالف، فإن لم يمكن لم يقبل.

مثال ما يحتمله اللفظ:

والله لا أنام الليلة إلا على فراش ليّن، فخرج وذهب ونام في الصحراء على الرمل، فلما قيل له: كفّر، قال: لا أكفر، لأني نويت بالفراش الأرض، فهنا يصح، لأن اللفظ يحتمله، قال تعالى (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً) والرمل لين، فلا شيء عليه.

مثال آخر: قال: والله لأبيتنّ اليلة على وتد، فذهب إلى جبل وبات عليه، فقلنا له: كفّر، فقال: لقد بت على الوتد، وقد أردت بالوتد الجبل، فهنا لا شيء عليه لأن اللفظ يحتمله.

ومثله: لو نوى بالسقف السماء ونحو ذلك، قدمت نيته على عموم لفظه. لو حلف ألا ينام إلا تحت سقف، ثم خرج إلى البر ووضع فراشه ونام، وليس فوقه إلا السماء، فقيل له: عليك أن تكفر، لأنك لم تنم تحت سقف، فقال: أردت السماء، فهذا يصح لقوله تعالى (وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً).

• أما إذا كان اللفظ لا يحتمله فلا يقبل:

مثال: قال: والله لا أشتري اليوم خبزاً، فذهب واشترى خبزاً، فقيل له: كفر عن يمينك، فقال: لا، لأني أردت بقولي: والله لا أشتري اليوم خبزاً، يعني والله لا أكلم فلاناً، فهذا لا يصح، لأن اللفظ لا يحتمله.

ص: 274

م/ ثم إلى السبب الذي هيّج اليمين.

فإن عدمت النية يرجع إلى سبب اليمين وما هيّجها، فتحمل اليمين عليه.

مثال: قيل لرجل: إن ابنك يصاحب الأشرار، فقال: والله لا أكلمه ما حييت، فجاءه شخص وقال: إن ابنك يصاحب الأخيار وليس الأشرار، فكلمه أبوه، فليس على الوالد كفارة، لأنه عندما حلف، كان سبب اليمين، من أجل أن ابنه يصاحب الأشرار، فلما ظهر أنه يصاحب الأخيار علم أنه لم يكن قصده الحلف المطلق، وإنما الحلف المقيد ولم يتحقق هذا الشرط، فكأنه قال: إن كان ابني مصاحباً للأشرار فلا أكلمه، وهو وإن لم يقل هذا الشرط بلفظه فهو مضمر له في نفسه.

مثال آخر: قال والله لا أكلم زيداً لشربه الخمر، فكلمه وقد تركه، لم يحنث، لدلالة الحال على أن المراد ما دام على ذلك، وقد انقطع ذلك.

ص: 275

م/ ثم إلى التعيين.

أي إذا عدم السبب فإننا نرجع إلى التعيين، فإذا قصد عين الشيء المحلوف عليه [قصد ذاته] فإننا نرجع إلى ذلك.

فإذا حلف ألا يأكل من لحم هذه السخلة ثم إن السخلة أصبحت شاة فلا يأكل من لحمها، لأنها نفس العين التي حلف عليها.

وكذلك لو قال: والله لا ألبس هذا الثوب، ثم إن هذا الثوب شقق وأصبح سراويل، فإنه لا يلبسه، لأنه عيّن الثوب.

• إلا إذا نوى أنه ما دام على تلك الصفة فهو نيته كما سبق: أن النية هي المرجع الأول، فلو قال، أنا قلت: والله لا ألبس هذا القميص، ولم أقصد عين القميص لكن قصدي صفته، أي: لا ألبسه ما دام قميصاً، فشققه وجعله سراويل، فلا يحنث.

ص: 276

م/ إلا في الدعاوى ففي الحديث (اليمين على نية المستحلف) رواه مسلم.

ذكر المصنف رحمه الله حديث أبي هريرة (اليمين على نية المستحلف) ليستدل به على أن اليمين المطلوبة من الحالف في الدعاوى يجب أن تكون على نية المحلّف، ولا ينفع فيها نية الحالف إذا نوى بها غير ما أظهر، وهذا بإجماع العلماء.

يعني: أنك إذا حلفت لشخص وأظهرت خلاف الواقع من باب التورية، فاليمين على حسب نية المستحلف.

مثال: إذا ادعى عليك شخص مائة ريال، وأنت تعلم أنه صادق، فقلت: والله ما عندي لك مائة، تريد أن (ما) بمعنى (الذي)، يعني: الذي عندي لك مائة، هو سيفهم النفي وأنت الآن تثبت أن له عندك مائة، لكن نيتك غير معتبرة، بل النية على حسب ما يصدقك به صاحبك، ولا يبرأ الإنسان عند الله ولا ينفعه هذا التأويل، أما عند القاضي فإنه يبرأ ظاهراً لأن القاضي يقضي بنحو ما يسمع.

ص: 277

‌باب النذر

‌تعريفه:

لغة: الإيجاب.

واصطلاحاً: إلزام المكلف نفسه شيئاً يملكه غير محال.

قوله (شيئاً يملكه) فإن نذر شيئاً لا يملكه لا يلزمه الوفاء به لحديث عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا وفاء بنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك العبد).

م/ وعقد النذر مكروه وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن النذر وقال (إنه لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل)

ذكر المصنف رحمه الله أن النذر مكروه، وهذه المسألة اختلف فيها العلماء على أقوال:

القول الأول: أنه حرام.

وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.

لحديث ابن عمر. (عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن النذر) متفق عليه.

وعن أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تنذروا، فإن النذر لا يغني من القدر شيئاً، وإنما يستخرج به من البخيل) متفق عليه.

والنذر منهي عنه.

القول الثاني: أنه مكروه.

وهذا قول أكثر العلماء.

للأحاديث السابقة في النهي عنه، قالوا: والصارف عن التحريم أن الله أثنى على الموفين فقال (يوفون بالنذر).

القول الثالث: أنه مستحب، والذي ورد النهي عنه هو نذر المجازاة.

ونذر المجازاة هو: أن يعلق فعل الطاعة على وجود النعمة أو دفع النقمة كما لو قال: إن شفى الله مريضي فلله عليّ أن أصوم شهراً، قالوا: هذا هو المنهي عنه، أما ماعدا ذلك كما لو قال: لله عليّ أن أصوم شهراً، فهذا مستحب.

واختار هذا القول النووي.

والأرجح أنه مكروه مطلقاً.

• لا ينعقد ولا يصح إلا بالقول.

قال النووي (الصحيح بالاتفاق أنه لا يصح إلا بالقول، ولا تنفع النية وحدها، وليس له صفة معينة، بل كل ما دل على النذر فهو نذر مثل: لله علي عهد

، ولله على نذر

).

فلو نذر بقلبه فهذا لا عبرة به، فلو نوى إن شفى الله مريضه أن يصوم شهراً، فلا يلزمه شيء ما دام أنه لم يتلفظ به.

• لا يصح إلا من بالغ عاقل.

لقوله صلى الله عليه وسلم (رفع القلم عن ثلاثة .. وذكر: الصبي حتى يبلغ والمجنون حتى يفيق).

• يصح النذر من الكافر.

لحديث عمر قال: (قلت يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام، قال: فأوف بنذرك) متفق عليه.

فإن وفى به حال كفره برئت ذمته، وإن لم يف به لزمه أن يوفي به بعد إسلامه.

ص: 278

م/ فإذا عقد على بر، وجب عليه الوفاء لقوله صلى الله عليه وسلم (من نذر أن يطيع الله فليطعه).

ذكر المصنف رحمه الله النوع الأول من أنواع النذر، وهو نذر الطاعة، وحكمه يجب الوفاء به، سواء كان مطلقاً أو معلقاً.

للحديث الذي ذكره المصنف رحمه الله في قوله صلى الله عليه وسلم (من نذر أن يطيع الله فليطعه) رواه البخاري.

مثال المطلق: لله عليّ أن أصلي ركعتين.

مثال المعلق: إن شفى الله مريضي فلله علي نذر أن أصوم شهر.

ص: 279

م/ وإن كان النذر مباحاً، أو جارياً مجرى اليمين - كنذر اللجاج والغضب - أو كان نذر معصية: لم يجب الوفاء به، وفيه كفارة يمين إذا لم يوف به، ويحرم الوفاء به في المعصية.

ذكر المصنف رحمه الله بقية أنواع النذر:

النوع الثاني: النذر المباح.

كأن يقول الرجل: لله علي نذر أن ألبس هذا الثوب.

فهنا يخير بين فعله وبين كفارة اليمين.

فنقول هو بالخيار: إن شئت البس الثوب وإن شئت كفر.

النوع الثالث: نذر اللجاج والغضب. [اللجاج: الخصومة].

أي النذر الذي سببه الخصومة أو المنازعة، وهو تعليق نذره بشرط يقصد المنع منه أو الحمل عليه أو التصديق أو التكذيب.

فهذا يخير بين فعله أو كفارة يمين.

[أن يقصد المنع منه] كأن يقول: لله علي نذر أن أصوم سنة إن فعلت كذا.

[أن يقصد الحمل عليه] كأن يقول: إن لم أصل في الجماعة في المسجد فلله علي صوم سنة.

[أو تصديق خبره] كرجل قيل له - لما أخبر بخبر - أنت كاذب، فقال: إن كنت كاذباً فلله علي صوم سنة.

[أو تكذيبه] كأن يقول السامع: إن كنت صادقاً فلله علي أن أصوم سنة.

فإذا كان المراد منه المنع أو الحمل على الفعل أو التصديق أو التكذيب فقد جرى مجرى اليمين فيخير بين فعله وبين كفارة اليمين.

فإذا قال مثلاً: إن زرت فلاناً فعليّ صيام سنة، فنقول: إن شئت أن تزوره وعليك كفارة يمين وإن شئت ألا تزوره.

مثال آخر: لو قال: إن لم أسافر اليوم إلى مكة فعليّ صيام شهر، ولم يسافر، فحكمه هنا حكم اليمين، فهو مخير، إن سافر فلا شيء عليه، وإن لم يسافر فعليه كفارة يمين.

ودليل ذلك: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (من نذر في غضب فعليه كفارة يمين) رواه أبوداود.

لكن الحديث إسناده ضعيف لكنه ثابت عن عمر، وعن عائشة كما في موطأ مالك.

النوع الرابع: نذر المعصية.

وهذا لا يجوز الوفاء به.

للحديث الذي ذكره المصنف رحمه الله (ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه).

مثال: رجل قال: لئن حدث كذا وكذا فلله علي نذر أن أشرب الخمر، فهذا لا يجوز أن يشرب الخمر.

ص: 280

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

لكن هل عليه كفارة يمين؟ قولان للعلماء:

القول الأول: أنه عليه الكفارة.

وهذا قول المذهب.

لحديث عائشة. قالت: قال صلى الله عليه وسلم (لا نذر في معصية الله وكفارته كفارة يمين) رواه أبوداود، واحتج به أحمد وكذا إسحاق وصححه الطحاوي.

القول الثاني: أنه لا كفارة عليه.

وهذا قول جماهير العلماء.

لحديث عائشة - السابق - ( .. ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه)، قالوا: لو كانت الكفارة واجبة لذكرها النبي صلى الله عليه وسلم، فدل ذلك على عدم وجوبها.

والراجح القول الأول.

• إن نذر صيام أيام لم يلزمه التتابع إلا بشرط أو نية.

فإذا قال: لله علي نذر أن أصوم ثلاثة أيام، لم يلزمه التتابع، فيجوز أن يصومها متتابعة أو متفرقة.

• إلا أن يشترط أو ينوي.

يشترط: كأن يقول لله علي أن أصوم ثلاثة أيام متتابعة فهنا يلزمه التتابع.

ينوي: كأن يقول لله علي أن أصوم ثلاثة أيام، وينوي أنها متتابعة فيلزمه التتابع.

• من نذر صوم شهر معيناً لزمه التتابع. كأن يقول: لله علي نذر أن أصوم شهراً، فيلزمه التتابع، وذلك لأن هذا هو مقتضى إطلاق اللفظ.

وذهب بعض العلماء إلى أنه لا يلزمه التتابع إلا بنية أو شرط.

وهذا القول هو الصحيح لقوله تعالى في الكفارة (فصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ) فلو كان إطلاق الشهر يقتضي التتابع لما احتيج أن يقيده الله تعالى بالتتابع.

إذا نذر شخص الصلاة في أحد المساجد الثلاثة لزمه الوفاء بنذره.

لحديث أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا) متفق عليه.

• لو نذر الصلاة في المسجد الأقصى جاز أن يصليها في المسجد الحرام أو المسجد النبوي.

• لو نذر الصلاة في المسجد النبوي جاز أن يصليها في المسجد الحرام ولم يجز أن يصليها في المسجد

الأقصى.

• لو نذر أن يصلي في المسجد الحرام فإنه لا يجوز له أداؤها إلا فيه لعدم جواز الانتقال من الأفضل إلى المفضول.

ص: 281

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ويدل لذلك:

ما جاء في حديث جابر (أن رجلاً قام يوم الفتح فقال يا رسول الله! إني نذرت لله إن فتح عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس ركعتين، قال: صل ههنا، ثم أعاد عليه، فقال: صل ههنا، ثم أعاد عليه، فقال: شأنك إذاً) رواه أبوداود.

• مسألة نقل النذر، هذه المسألة لها ثلاث حالات:

الحالة الأولى: أن ينقله من المفضول إلى الفاضل: فهذا لا بأس به.

مثال: لو نذر أن يصوم يوم الثلاثاء، ثم صام يوم الإثنين، فهنا لا يحنث، لأنه نقل نذره من مفضول إلى فاضل، فهو أتى بالمفضول وزيادة.

الحالة الثانية: أن ينقله من مساوٍ إلى مساو: فهذا تلزمه كفارة يمين.

مثال: لو نذر أن يصوم يوم الأربعاء فصام يوم الثلاثاء.

الحالة الثالثة: أن ينقل من فاضل إلى مفضول.

مثال: لو نذر صيام يوم الإثنين، ثم صام يوم الثلاثاء، فليس له ذلك، وعليه أن يصوم يوم الإثنين، لأن النذر لم يقع موقعه.

ص: 282

‌كتاب الجنايات

‌تعريفها:

لغة: جمع جناية وهي التعدي على مال أو عرض أو بدن كما قال صلى الله عليه وسلم (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم

).

واصطلاحاً: هي التعدي على البدن خاصة بما يوجب القود أو الدية.

فالسرقة (اصطلاحاً) لا تسمى جناية، والتعدي على العرض لا تسمى جناية على هذا الاصطلاح.

م/ القتل بغير حق ينقسم إلى ثلاثة أقسام.

ذكر المصنف رحمه الله أن القتل ينقسم إلى ثلاثة أقسام، وهذا الذي ذهب إليه المصنف رحمه الله هو الصحيح من أقوال أهل العلم، أن القتل ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

قتل عمد، وقتل شبه عمد، وقتل خطأ.

وعلى هذا التقسيم أكثر العلماء.

ويدل لهذا التقسيم قوله صلى الله عليه وسلم (ألا إن دية الخطأ وشبه العمد ما كان بالعصا والسوط، مائة من الإبل، منها أربعون في بطون أولادها) رواه أبوداود.

ويدل عليه حديث أبي هريرة قال (اقتتلت امرأتان من هذيْل، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقضى أن دية جنينها غرة عبد أو أمَة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها) متفق عليه.

فالحديث يدل على أن القتل في هذه الحال كان شبه عمد، ولم يكن عمداً، لأنه لا ذكر للقصاص فيه، ولم يكن خطأ، لأن الضرب على ذلك الوجه لا يكون خطأ.

وذهب الإمام مالك إلى أن القتل ينقسم إلى قسمين: خطأ وعمد.

واستدلوا: بأنه لم يذكر في القرآن إلا العمد والخطأ. فالعمد في قوله تعالى (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً) والخطأ في قوله تعالى (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا).

ص: 283

م/ أحدها: العمد العدوان: وهو: أن يقصد بجناية تقتل غالباً.

ذكر المصنف رحمه الله تعريف القتل العمد وهو: أن يقصد بجناية تقتل غالباً.

وعرفه بعضهم بقوله: أن يقصد من يعلمه آدمياً معصوماً فيقتله بما يغلب على الظن موته به.

قوله (أن يقصد) أي لا بد أن يكون للقاتل قصداً، وأما الصغير والمجنون فعمدهما خطأ، لأنها ليس لهما قصد صحيح.

قوله (من يعلمه آدمياً) فلا يظنه صيداً ولا هدفاً ولا غير ذلك.

قوله (معصوماً) أي معصوم الدم فليس من المحاربين للإسلام.

(والآدمي المعصوم أربعة أصناف: المسلم والذمي والمستأمن والمعاهد).

قوله (فيقتله بما يغلب على الظن موتُه به) لا بد أن تكون الجناية بما يغلب على الظن أنها تقتل، مثل أن يضربه بسيف أو يرميه بسهم ونحو ذلك مما يغلب على الظن أنه يقتله به.

• لو ادعى القاتل أنه لم يقصد القتل؟ الجواب: لا يقبل قوله إلا ببينة.

• من صور القتل العمد:

أن يضربه بمحدد: وهو ما يقطع ويدخل في البدن كالسيف والسكين.

أن يضربه بحجر كبير ونحوه: أي بمثقل، لا بحجر صغير، لأن الحجر الصغير لا يقتل غالباً.

أن يلقيه من شاهق أو في نار أو يلقي عليه حائط.

أن يخنقه بحبل.

أو يقتله بسحر يقتل غالباً، قال في المغني (فيلزمه القود لأنه قتله بما يقتل غالباً فأشبه ما لو قتله بسكين).

أن يقتله بسم: بأن يطعمه السم.

• وعمد الصبي والمجنون خطأ.

وهذا باتفاق أهل العلم، فإذا قتل الصبي متعمداً وكذلك المجنون فهو في حكم الخطأ.

لأنهما لا قصد لهما.

(ففيه الدية والكفارة، فالدية تكون في مال العاقلة، والكفارة تكون في مالهما).

ص: 284

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

• وقتل العمد ذنب عظيم وجرم كبير.

قال تعالى (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً)

وقال تعالى (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ).

وقال تعالى (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ

).

وقال تعالى (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً).

وعن ابن مسعود. قال: قال صلى الله عليه وسلم (أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء) متفق عليه.

وقال صلى الله عليه وسلم (لقتل المؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا) رواه الترمذي.

وقال صلى الله عليه وسلم (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض) متفق عليه.

وعن ابن مسعود. قال (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك؟ قال: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك

) متفق عليه.

وقال صلى الله عليه وسلم (لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً) رواه البخاري.

وقال صلى الله عليه وسلم (أكبر الكبائر: الإشراك بالله، وقتل النفس، .... ) رواه البخاري.

• معنى قوله تعالى (أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً).

قيل: المعنى من قتل نبياً أو إمام عادل فكأنما قتل الناس جميعاً، ومن أحياه بأن شد عضده ونصره فكأنما أحيا الناس جميعاً.

وقيل: من قتل نفساً واحدة وانتهك حرمتها فهو مثل من قتل الناس جميعاً.

وقيل: المعنى فكأنما قتل الناس جميعاً عند المقتول، ومن أحياها واستنقذها من هلكة فكأنما أحيا الناس جميعاً عند المستنقذ، وقيل غير ذلك.

قال ابن القيم: إن هذا تشبيه ولا يلزم من التشبيه أن يكون المشبه مثل المشبه به في كل شيء، فإن من المعلوم قطعاً أن إثم من قتل مائة أعظم من إثم من قتل نفساً واحدة، فليس المراد التشبيه في مقدار الإثم والعقوبة وإنما كون كل منهما:

1 -

عاص لله ولرسوله، مخالف لأمره متعرض لعقوبته.

2 -

أنهما سواء في استحقاق القصاص.

3 -

أنهما سواء في الجرأة على سفك الدم الحرام.

4 -

أن كلاً منهما يسمى فاسقاً عاصياً بقتله نفساً واحدة.

ص: 285

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

• القاتل عمد مسلم وليس بكافر، لكنه مسلم ناقص الإيمان، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة.

لقوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ).

وقال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ) والشاهد قوله (من أخيه) فأثبت الله له وصف الأخوة وهي الأخوة الإيمانية مع أنه قاتل.

وقال تعالى (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا .... ) فسمى الله الفئة العادلة والفئة الباغية مؤمنين.

• فإن قيل ما الجواب عن قوله تعالى (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً)؟

فالجواب:

قيل: المراد من استحل ذلك، وهذا قول ضعيف، لأن المستحل كافر سواء قتل أم لم يقتل.

وقيل: المراد بالخلود هنا المكث الطويل وليست الإقامة الأبدية.

وقيل: إن هذه النصوص خرجت مخرج الزجر والتغليظ ولا يراد حقيقة التخليد.

وقيل: إن هذا جزاؤه وهو يستحق هذا الوعيد، ولكن الله تكرم على عباده الموحدين ومنّ عليهم بعدم الخلود في النار.

وقيل: هذا وعيد، وإخلاف الوعيد لا يذم بل يمدح، والله تعالى يجوز عليه إخلاف الوعيد ولا يجوز عليه خلف الوعد، والفرق بينهما، أن الوعيد حقه فإخلافه عفو وهبة، وذلك موجب كرمه، والوعد حق عليه أوجبه على نفسه، والله لا يخلف الميعاد.

• اختلف العلماء إذا أذِنَ المجني عليه للجاني بقتله، فهل هذا من العمد؟

ص: 286

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

القول الأول: هذا قتل عمد ويجب فيه القود.

وهذا قول المالكية.

قالوا: بأنه إذْنٌ في غير محله، فكأنه غير موجود، لأن الإنسان لا يملك نفسه فضلاً عن أن يأذن لغيره أن يقتله.

القول الثاني: شبه عمد.

وهذا قول الأحناف.

قالوا: إن قصد الاعتداء والقتل موجود، ولكن وجود الإذن شبهة تمنع من إلحاقه بالقتل العمد.

القول الثالث: أن هذا القتل فيه الإثم، ولا قصاص فيه ولا دية.

وهذا قول الشافعية والحنابلة.

قالوا: لأن القصاص والدية شرعاً لحق المجني عليه وقد تنازل عن حقه. والراجح الأول

ص: 287

م/ فهذا يخيّر الولي فيه بين القتل والدية، لقوله صلى الله عليه وسلم (من قُتِل له قتيل فهو بخير النظرين: إما أن يقتل وإما أن يفدي) متفق عليه.

يجب بالقتل العمد القود أو الدية. يخير الولي بينهما.

فيخير الولي بين القصاص أو الدية، إن شاء اقتص وإن شاء أخذ الدية وإن شاء عفا إلى غير شيء.

لحديث أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من قتل له قتيل فهو بخير النظرين: إما أن يُودَ وإما أن يقاد) متفق عليه.

وفي حديث آخر (

فأهله بين خيرين: إن أحبوا قتلوا، وإن أحبوا أخذوا الدية) رواه أبوداود.

• والعفو مجاناً أفضل.

لقوله تعالى (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ).

وقال صلى الله عليه وسلم (ما عفا رجل عن مظلمة إلا زاده الله بها عزاً) رواه مسلم.

وعن أنس. قال (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع إليه شيء فيه قصاص إلا أمر فيه بالعفو) رواه أبوداود.

• وإن صالح القاتل عن القود بأكثر من الدية جاز.

مثال: إذا كانت الدية مثلاً مائة ألف، فقال الولي: أنا لا أقبل إلا مائتي ألف، أو مليون مثلاً فرضي القاتل بذلك فله الحق بذلك.

لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (من قتل متعمداً دفع إلى أولياء المقتول فإن شاؤوا قتلوا وإن شاؤوا أخذوا الدية، .. وما صولحوا عليه فهو لهم) رواه الترمذي.

ص: 288

م/ الثاني: شبه العمد وهو: أن يتعمد الجناية عليه بما لا يقتل غالباً.

ذكر المصنف رحمه الله النوع الثاني من أنواع القتل، وهو شبه العمد وتعريفه: أن يقصد جناية لا تقتل غالباً في غير مقتل.

كمن ضربه في غير مقتل بسوط أو عصا صغيرة.

• قلنا (في غير مقتَل) لأن الضرب بمقتل ولو كان بشيء صغير حقير فإنه يعتبر قتل عمد كالقلب أو من النخاع.

• سمي بذلك: لتردده بين هذين النوعين (الخطأ والعمد).

• فالفرق بين القتل العمد وشبه العمد:

أنهما يشتركان في قصد الجناية، ويختلفان في الآلة التي حصلت الجناية بها.

• وأذكر الآن الفرق بين القتل العمد وبين شبه العمد:

أولاً: أن القصد في القتل العمد هو إزهاق روح المجني عليه، أما في شبه العمد فالقصد هو الضرب دون القتل، فيقصد الجاني ضرب المجني عليه بما لا يقتل غالباً.

ثانياً: الآلة.

أن الآلة المستخدمة في القتل العمد يغلب على الظن موت المجني عليه بها، كأن يقتله بسيف أو سكين أو بخنجر كبير يقتل غالباً، أما في شبه العمد فإن الآلة فيه لا تقتل غالباً كأن يضربه بخشبة صغيرة.

ثالثاً: الموجَب.

موجب القتل العمد هو القود أو الدية، والقود هو قتل القاتل لمن قتله، وأما موجب قتل شبه العمد فهو الدية.

رابعاً: الدية.

الدية في القتل العمد تجب في مال القاتل فلا تحملها العاقلة، قال ابن قدامة: أجمع أهل العلم على أن دية العمد تجب في مال القاتل لا تحملها العاقلة، أما الدية في شبه العمد فلا تجب في مال القاتل، بل تحملها العاقلة. (وسيأتي تعريف العاقلة).

ص: 289

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

خامساً: تأجيل الدية.

ذهب جمهور العلماء إلى أن الدية في القتل العمد تجب حالة غير مؤجلة أو مقسطة إلا برضا ولي الدم، لأن الجاني قد ارتكب جريمة القتل باختياره والواجب فيه القصاص حالاً، والدية بدل القصاص فتكون حالة، وأما دية شبه العمد فإنها مؤجلة، قال ابن قدامة: .... ولا أعلم في أنها تجب مؤجلة خلافاً بين أهل العلم.

وذلك تخفيفاً على الجاني، لأنه لم يقصد القتل، وصفة التأجيل أنها توزع على ثلاث سنين، في كل سنة ثلثها.

سادساً: الكفارة.

ذهب جمهور العلماء إلى أنه لا يجب في القتل العمد كفارة، لأن القتل العمد أعظم من أن تمحوها الكفارة، أما القتل شبه

العمد فقد ذهب أكثر الفقهاء إلى وجوب الكفارة على القاتل.

سابعاً: العقاب الأخروي.

فإن الله توعد قاتل العمد بقوله (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً)، وأما شبه العمد، فهو وإن كان القاتل آثماً فإنه لا يدخل في هذا الوعيد.

ص: 290

م/ الثالث: الخطأ، وهو أن تقع الجناية منه بغير قصد بمباشرة أو سبب.

هذا النوع الثالث من أنواع القتل وهو: قتل الخطأ. وهو: أن يفعل ماله فعله، مثل أن يرمي صيداً أو هدفاً فيصيب آدمياً معصوماً لم يقصده فيقتله.

بمباشرة: كأن يرمي صيداً فيصيب آدمياً.

بسبب: كأن يحفر حفرة في طريق الناس فيقع فيها إنسان.

وأما ما يوجب فقد قال المصنف رحمه الله:

ص: 291

م/ ففي الأخير لا قود.

أي: في الأخير - وهو قتل الخطأ - لا قود، وهذا بالإجماع.

وكذلك في قتل شبه العمد، لا قود فيه، وإنما القود - وهو القصاص - في قتل العمد فقط.

ص: 292

بل: الكفارة في مال القاتل والدية على عاقلته وهم عصباته.

ذكر المصنف رحمه الله ما يوجبه قتل الخطأ وكذلك القتل شبه العمد وأنه يوجب أمران:

الأول: الكفارة.

كما قال تعالى (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا).

(وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً) أي: يمتنع شرعاً أن يقتل المؤمن أخاه عمداً، لكن قد يقتله عن طريق الخطأ (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) أي: ومن قتل مؤمناً خطأ فعليه كفارة: تحرير وتخليص رقبة مؤمنة من الرق وإعتاقها، ويجب أن تكون مؤمنة (وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ) الدية: ما يعطى عوضاً عن دم القتيل إلى أوليائه جبراً لقلوبهم وعوضاً عما فاتهم من قريبهم (إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا) أي: يعفوا عن الدية.

الثاني: الدية وتكون على عاقلة القاتل.

لقوله تعالى ( .... وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا).

والدية تكون على العاقلة:

والعاقلة: وهم عصبته والمراد بالعصبة بالنفس، فيدخل فيهم: آباؤه وأبناؤه وإخوته وعمومتهم وبنوهم.

وسميت بذلك: لأن الإبل تجمع فتعقل بفناء أولياء المقتول لتسلم إليهم، ثم كثر الاستعمال حتى أطلق العقل على الدية، إبلاً أو نقداً، وقيل سموا عاقلة لأنهم يمنعون عن القاتل من أن يعتدي عليه أحد.

• ويشمل القريب والبعيد منهم، فكلهم يشتركون في العقْل.

• وحاضرهم وغائبهم.

• ولا عقل على رقيق:

أولاً: لأنه ليس من أهل النصرة، ثانياً: أنه لا مال له، لأن مال المملوك لسيده.

• ولا على غير مكلف كالصغير والمجنون.

لقوله صلى الله عليه وسلم (رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق) رواه أبو داود.

ولأنهما ليسا من أهل النصرة.

• ولا على فقير، لأنه ليس عنده مال.

• ولا على أنثى، لأنها ليست من أهل النصرة.

ص: 293

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

• ويجتهد الحاكم في تحميل كل منهم ما يناسبه، فيحمل الأقرب أكثر من الأبعد، والغني أكثر ممن دونه وهكذا، ولو اتفقت العاقلة فيما بينهم على تقدير معين جاز، لأن الأمر راجع إليهم.

• والمذهب: أن الجاني ليس عليه شيء من الدية ولو كان غنياً، والقول الآخر في المذهب: أنه يحمل مع العاقلة، لأنهم حملوا بسببه، ولا ينافي ذلك أن الشارع جعل الدية على العاقلة، فإنها من باب التحمل، وهذا اختيار الشيخ السعدي رحمه الله.

• لا تحمل العاقلة قتل العمد كما تقدم.

• القتل من حيث ما يوجبه ويترتب عليه ينقسم إلى أقسام:

القسم الأول: قتل يوجب القود فقط، وهو القتل العمد.

القسم الثاني: قتل يوجب الكفارة والدية، وهو قتل شبه العمد والخطأ.

القسم الثالث: قتل يوجب الكفارة فقط وهذا له صور:

الصورة الأولى: إذا قتل في صف كفار من ظنه حربياً فبان مسلماً ففيه الكفارة.

الصورة الثانية: وإذا قتل مسلم ورثته كفار وهم أعداء لنا، لقوله تعالى (فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ). والمعنى: وإن كان القتيل من قوم كفار محاربين فعلى قاتله عتق رقبة مؤمنة فقط، ولم يذكر الدية، لأنه لا دية على القاتل، لأن أهل المقتول كفار محاربون، لا عهد لهم ولا ذمة، وقد يتفقون بها على حرب المسلمين، ولأنه مؤمن وهم كفار، والكافر لا يرث المؤمن.

ص: 294

‌شروط القصاص

م/ ويشترط في وجوب القصاص:

سيذكر المصنف رحمه الله شروط القصاص.

هذه الشروط إذا فقد منها شرط سقط حد القصاص.

ص: 295

م/ كون القاتل مكلفاً.

هذا الشرط الأول: أن يكون القاتل مكلفاً (عاقلاً بالغاً).

لقوله صلى الله عليه وسلم (رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق .. ).

وأما الصبي والمجنون فحكم قتلهما قتل خطأ لأن عمدهما خطأ لكونهما لا يصح منهما قصد صحيح.

• اختلف العلماء في حكم جناية السكران على قولين:

القول الأول: أنه يقتص منه.

وهذا قول الجمهور.

أن الصحابة أقاموا سكره مقام قذفه، فأوجبوا عليه حد القذف، فقد جاء في الموطأ (أن عمر استشار الناس في شأن شارب الخمر فقال علي: يا أمير المؤمنين، إن الشارب إذا سكر هذي، وإذا هذي افترى وحد المفتري ثمانون جلدة، أرى أن تجلده ثمانين جلدة، فأعجب ذلك عمر وجعل عقوبته ثمانين جلدة) فإذا وجب حد القذف على الشارب فالقصاص المتمحض حق آدمي أولى.

ولأن في ذلك سداً للذريعة، إذ لو لم يجب القصاص والحد لأفضَى إلى أن من أراد أن يعصي الله شرب ما يسكره ثم قتل وزنى وسرق ولا يلزمه عقوبة، فيصير عصيانه سبباً لسقوط العقوبة عنه.

القول الثاني: أنه لا يقتص منه.

وهذا وجه في مذهب الحنابلة.

قياساً على المجنون، فإن كلاً منهما زائل العقل.

ولما ثبت في صحيح البخاري (أن حمزة قال للنبي صلى الله عليه وسلم وهو ثمل: وهل أنتم إلا عبيد أبي) ولم يقم النبي صلى الله عليه وسلم عليه حد الردة.

والراجح القول الأول.

وأما قياسه على المجنون، فهذا قياس مع الفارق، فإن السكران فقد عقله باختياره عصياناً بخلاف المجنون.

وأما قصة حمزة، فهذا كان قبل تحريم الخمر، فلا يصح الاستدلال به، وبأنه قول والقتل فعل، والفعل أشد.

ص: 296

م/ والمقتول معصوماً.

هذا الشرط الثاني: أن يكون المقتول معصوماً، فإن كان حربياً أو مرتداً فلا ضمان فيه.

والعلة في ذلك: لأن القصاص شرع لحفظ الدم المعصوم دون الدم المهدر.

ص: 297

م/ ومكافئاً للجاني في الإسلام والرق والحرية، فلا يقتل مسلم بكافر ولا الحر بالعبد.

هذا الشرط الثالث: أن المساواة بين القاتل والمقتول في الإسلام والحرية والرق.

في الإسلام: فلا يقتل مسلم بكافر.

لما ثبت في البخاري مرفوعاً في صحيفة علي (لا يقتل مسلم بكافر).

ولحديث علي مرفوعاً (المؤمنون تتكافأ دماؤهم ..... ولا يقتل مؤمن بكافر) رواه أبوداود.

فهذا يدل على أن غير المؤمن لا يكافئ المؤمن.

ولأن المسلم أعلى وأكرم عند الله من الكافر، والإسلام يعلو ولا يُعلى عليه كما قال تعالى (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) وقال تعالى (َفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لا يَسْتَوُونَ).

وهذا مذهب جماهير العلماء: لا يقتل مسلم بكافر.

وذهب الحنفية إلى أنه يقتل المسلم بالذمي خاصة.

واستدلوا بالعمومات الدالة على أن النفس بالنفس كقوله تعالى (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ).

وبحديث ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه صلى الله عليه وسلم أقاد مسلماً بذمي، وقال: أنا أحق من وفى بذمته).

والراجح قول الجمهور، وأما الحديث (أنه صلى الله عليه وسلم أقاد مسلماً بذمي

) فهو حديث ضعيف جداً.

• ولا حر بعبد، وهذا مذهب جمهور العلماء.

لحديث روي عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه (لا يقتل حر بعبد) رواه الدارقطني لكنه ضعيف.

وعن علي (من السنة: أن لا يقتل حر بعبدٍ) أخرجه ابن أبي شيبة وسنده لا يصح.

ولأن العبد لا يكافئ الحر، فإنه منقوص بالرق.

ص: 298

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وذهب بعض العلماء إلى أن الحر يقتل بالعبد.

وهو قول داود الظاهري وبعض السلف.

لعموم الأدلة في وجوب القصاص، كقوله تعالى (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ).

ولقوله صلى الله عليه وسلم (المؤمنون تتكافأ دماؤهم) رواه أبوداود.

فدل الحديث على أن دماء المؤمنين متكافئة، وأن العبرة بأصل الإيمان، وليست العبرة بالحرية أو الرق.

وهذا قول قوي، لقوة أدلته.

• اما الكافر فيقتل بالمسلم، وهذا بالاتفاق.

• والعبد يقتل بالحر، وهذا بالاتفاق.

• والرجل بالمرأة والمرأة بالرجل.

قال في المغني (هذا قول عامة أهل العلم).

لقوله تعالى (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ).

ولحديث أنس (أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل يهودياً بجارية قتلها على أوضاح لها) متفق عليه.

ص: 299

م/ وألا يكون والداً للمقتول، فلا يقتل الأبوان بالولد.

هذا الشرط الرابع: وهو أن يكون الجاني غير الأصل، فلا يقتل الوالد بولده.

وهذا مذهب جماهير العلماء.

لحديث عمر. قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يقاد الوالد بالولد) رواه الترمذي.

ولأن الأب سبب لوجود الولد فلا يكون الولد سبباً لإعدامه.

ولعموم الأدلة الموجبة لبر الوالدين، والإحسان إليهما.

• قوله (فلا يقتل الأبوان بالولد) دليل على أنه لا يجب القصاص على الأصل، سواء كان الأب أو الأم، وهذا مذهب جماهير العلماء.

وذهب بعض العلماء إلى أنه يجب القصاص عليهما.

وهذا قول داود الظاهري وابن المنذر.

لعموم الأدلة في وجوب القصاص من القاتل، وعدم ورود ما يقوَى على تخصيصها.

وقالوا: وأما التعليل بأن الوالد سبب إيجاد الولد فلا يكون سبباً في إعدامه، فهو مردود، فإن الولد لم يكن سبباً في إعدامه، بل هو سبب إعدام نفسه.

وقول الجمهور أرجح.

• ويقتل الولد بوالده، قال في المغني: هذا قول عامة أهل العلم لعموم الأدلة الدالة على وجوب القصاص).

شروط استيفاء القصاص

سيذكر المصنف رحمه الله الشروط التي إذا توفرت يتم استيفاء القصاص.

الشروط الماضية - شروط القصاص - وهي الشروط التي يثبت بها القصاص.

ص: 300

م/ ولابد من اتفاق الأولياء المكلفين.

هذا الشرط الأول: وهو اتفاق جميع الأولياء المشتركين في استحقاق القصاص على استيفائه.

لأنه حق لجميعهم فلم يكن لبعضهم الاستقلال به.

• فإذا عفا أحد الأولياء سقط القصاص وانتقل الأمر إلى الدية.

• إن كان فيهم غائب انتظر قدومه.

• الذين لهم حق في استيفاء القصاص هم الورثة، ويدل لذلك قوله صلى الله عليه وسلم (من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين) رواه أبوداود وأصله في الصحيحين، فقوله [أهله] أي ورثته.

الشرط الثاني: أن يكون مستحقه مكلفاً.

فإن كان غير مكلف بأن يكون صبياً أو مجنوناً فإنه لا يستوفى، ويحبس القاتل حتى يبلغ الصبي ويعقل المجنون.

لأن القصاص ثبت لما فيه من التشفي والانتقام، ولا يحصل ذلك باستيفاء غير مستحقه.

وهذا هو المذهب وهو قول الشافعي.

وذهب بعض العلماء إلى أنه يجوز للأب والجد أن يستوفيا القصاص نيابة عن موليهما الصغير والمجنون.

وهذا قول بعض الحنفية، لأن ولايتهما ولاية نظر ومصلحة، فهما مخوّلان لطلب القصاص.

والأول أظهر.

ص: 301

م/ والأمن من التعدي في الاستيفاء.

هذا الشرط الثالث: الأمن من التعدي في الاستيفاء.

فلو كان الجاني حاملاً لم يجز استيفاء القصاص منها حتى تضع ولدها ويستغني عنها.

ص: 302

م/ وتقتل الجماعة بالواحد.

أي: يجب القصاص بقتل القاتل ولو كان القاتل اثنين فأكثر، وهذا قول الجمهور.

لعموم الأدلة على مشروعية القصاص.

عن ابن عمر قال (قتل غلام غيلة، فقال عمر: لو اشترك فيه أهل صنعاء لقتلتهم به) رواه البخاري.

وسداً للذريعة، فإنه لو لم يقتل الجماعة بالواحد لأدّى ذلك إلى سقوط القصاص بهذه الحيلة، فكل من أراد قتل شخص تعاون مع آخرين ليسقط عنه القصاص، فيؤدي ذلك إلى إسقاط حكمة الردع والزجر.

• شرط القصاص منهم جميعاً: أن يكون فعل كل واحد منهم يصلح لقتله لو انفرد، كأن يصوّب ثلاثة أشخاص مسدساً ضد شخص واحد ويقتلونه في آن واحد.

وهذا الحكم: حيث كان فعل كل واحد منهم يوجب القصاص لو انفرد، كأن يجتمعوا على ضربه بسيوف، كل واحد لو انفردت ضربته لقتلت غالباً.

• وإن اختار الولي الدية، فإنها تجب دية واحدة على الجميع، وذلك لأن النفس واحدة والقتل واحد فلم يجب إلا دية واحدة.

• إذا أكره مكلف مكلفاً آخر على قتل معصوم، فللعلماء في هذه المسألة عدة أقوال:

القول الأول: أن القصاص عليهما (على المكرِه والمكرَه).

وهذا قول مالك وأحمد.

لأن المكرِه تسبب إلى قتله بشيء يُفضي إليه غالباً، فوجب عليه القصاص، كما لو ألسعه حية، أو ألقاه إلى أسد في زريبة، وأما المكرَه - بفتح الراء - فلأنه قتل شخصاً ظلماً لاستبقاء نفسه، أشبه ما لو قتله في المخمصة ليأكله.

القول الثاني: أن القصاص على المكرَه - بفتح الراء - دون المكرِه.

وهذا قول للشافعية وبعض الحنفية.

لأن المكرَه مباشر، وليس له أن يقتل غيره لاستبقاء نفسه.

القول الثالث: أن القصاص على المكرِه - بكسر الراء -.

وهذا قول أبي حنيفة.

لأنه هو الملجئ لغيره، والمكرَه مضطر، ولولا إكراه ذلك ما قتله.

لكن هذا تعليل ضعيف.

ص: 303

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

والراجح أن القصاص عليهما أو على المكرَه.

• إذا أمسك إنسان إنساناً ليقتله آخر، فلا خلاف في وجوب القصاص على القاتل، وأما الممسك الذي أمسكه ليقتله القاتل، فقد اختلف العلماء على أقوال:

القول الأول: لا قصاص على الممسك.

وهذا قول أبي حنيفة والشافعي.

لأنه غير قاتل.

القول الثاني: القصاص عليهما جميعاً.

وهذا قول مالك.

لأنه لو لم يمسكه ما قدر على قتله، وبإمساكه تمكن من قتله، فالقتل حاصل بفعلهما فيكونان شريكان فيه. القول الثالث: أن القاتل يقتل ويمسك الممسك حتى يموت.

وهذا المشهور من مذهب الحنابلة.

لحديث ابن عمر. عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إذا أمسك الرجل الرجل وقتله الآخر، يقتل الذي قتل، ويحبس الذي أمسك) رواه الدارقطني وروي موصولاً ومرسلاً.

وهذا الراجح.

• إذا أمر شخص آخر بقتل إنسان، وكان هذا المأمور صغيراً أو مجنوناً أو جاهلاً بالتحريم فالقصاص على الآمر.

لأنه توصل إلى قتله بشيء يقتل غالباً، والصبي والمجنون والجاهل بالتحريم بمنزلة الآلة، كما لو أنهشه حية فقتلته.

• وأما إذا كان المأمور كبيراً عاقلاً عالماً بالتحريم فالقصاص على القاتل بلا خلاف.

• وإذا اشترك فيه اثنان لا يجب القوَد على أحدهِما منفرداً لأبوة أو غيرها فالقود على الشريك وعلى الثاني نصف الدية.

مثاله: لو اشترك أب وأجنبي في قتل الولد، فالأجنبي يقتل بالولد، والأب لا يقتل بولده، فيكون القود على الشريك، والثاني (وهو الأب) لا قود عليه، لوجود المانع وهو الأبوة، وإذا نفذنا القصاص على الأجنبي فإن الأب يكون عليه نصف الدية، لأن الدية تتبعض، والقصاص لا يتبعض.

مثال آخر: رقيق وحر اشتركا في قتل رقيق، فالحر لا يقتل بالرقيق، والرقيق يقتل به، ففي هذه الحال يقتل الرقيق ولا يقتل الحر، ولكن عليه نصف ديته، أي نصف قيمته.

• لا يستوفى القصاص إلا بحضرة سلطان أو نائبهِ.

لافتقاره إلى اجتهاده، وخوف الحيْف.

لأن أولياء المقتول ربما يعتدون عليه بالتمثيل أو بسوء القتل أو بغير ذلك بسبب الغيظ الذي في قلوبهم عليه.

ص: 304

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

• يجوز أن يستوفي القصاص أولياء المقتول لكن بشروط:

أن يحسن القصاص - ويأمن عدم التجاوز - وبحضور السلطان أو نائبه.

• لا يستوفى القصاص إلا بآلة ماضية، أي: حادة.

فلا يجوز بالآلة الكالة، لقوله صلى الله عليه وسلم (إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة) رواه مسلم

لأنه إسراف في القتل، وإذا قتلنا بها فإننا لم نحسن إليه.

• هل يشترط أن يكون القتل بالسيف، اختلف العلماء في ذلك على قولين:

القول الأول: يشترط أن يكون بسيف.

وهذا المشهور من المذهب.

لحديث ابن مسعود مرفوعاً (لا قود إلا بالسيف) رواه الطبراني وهو ضعيف.

ولأنه أمضى ما يكون من الآلات التي يقتل بها.

القول الثاني: أن الجاني يقتل بمثل ما قتل به ولا يتعين السيف.

وهذا قول مالك والشافعي وجمهور العلماء واختاره ابن تيمية رحمه الله.

لقوله تعالى (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ).

ولقوله تعالى (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ).

وعن أنس (أن جارية وجد رأسها قد رُض بين حجرين، فسألوها، من صنع بك هذا؟ فلان؟ فلان؟ حتى ذكروا يهودياً، فأومأت برأسها، فأُخذَ اليهودي فأقر، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرض رأسه بين حجرين) متفق عليه.

وهذا القول هو الصحيح.

وعليه: لو قتله بالرصاص فإننا نقتله بالرصاص، وإن قتله بأن رماه من شاهق، فإننا نرميه من شاهق.

لكن يستثنى ما لو قتله بوسيلة محرّمة فإننا لا نقتله بها، مثل أن يقتله باللواط أو بالسحر أو يقتله بإسقاء الخمر حتى يموت.

• تتعين الدية في حالات:

الأولى: إذا اختارها، فلو قال: رجعت إلى الدية، نقول: لا قصاص، لأنك باختيارك الدية سقط القصاص.

الثانية: إذا هلك الجاني، فإذا مات القاتل فهنا تتعين الدية.

الثالثة: إذا عفا عن القصاص.

ص: 305

‌باب الديات

الدية: جمع دية: وهي المال المؤدى إلى المجني عليه أو لوليه بسبب الجناية.

فقوله (المؤدى إلى المجني عليه) هذا فيما إذا كانت الجناية فيما دون النفس.

(أو وليه) فيما إذا كانت الجناية بالنفس - وفيما إذا كانت الجناية فيما دون النفس لكن المجني عليه غير مكلف (كأن يكون صغيراً أو مجنوناً).

• والدية واجبة.

قال تعالى (ومن قتل مؤمناً خطأً فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله .. ).

وفي الحديث (من قتل له قتيل فهو بخير النظرين: إما أن يفدي وإما أن يقتل).

• فإن كانت الجناية عمداً محضاً فإن الدية تكون على الجاني.

لأن الأصل: أن من أتلف شيئاً فعليه ضمانه.

ولأن الجاني في العمد غير معذور فلا يناسبه التخفيف.

• وإن كانت الجناية شبه عمد أو خطأ، فعلى عاقلته.

ففي الخطأ على العاقلة بالإجماع.

ولأن الخطأ يكثر وقوعه، فلو أوجبنا الدية على الجاني لأجحف ذلك في ماله.

• وفي شبه العمد، على العاقلة أيضاً على القول الصحيح، وهو المذهب.

ص: 306

لما ثبت في الصحيحين لحديث أبي هريرة. قال (اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلها وما في بطنها، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم أن دية جنينها عبداً أو أمة وقضى بدية المرأة على عاقلتها) متفق عليه

وذهب ابن تيمية إلى أن الدية في شبه العمد على الجاني، لأن الجاني في القتل شبه العمد ليس بمعذور فلا يناسبه التخفيف.

• كل من أتلف إنساناً بمباشرة أو سبب لزمته ديته.

مثال المباشرة: أن يأخذ الإنسان آلة تقتل، فيقتل بها هذا الإنسان، سواء عمداً أو خطأ، أو يلقيه من شاهق.

مثال السبب: أن يحفر حفرة في طريق الناس، فيقع فيها إنساناً، فهذا لم يباشر لكنه تسبب، فيكون عليه الضمان.

• من أمر شخصاً مكلفاً أن ينزل بئراً أو يصعد شجرة فهلك به لم يضمنه.

مثال: أمر شخصاً مكلفاً أن ينزل بئراً، فلما نزل زلت قدمه فسقط في البئر فمات، فلا ضمان على الآمر، لأن النازل بالغ عاقل، إلا إذا كان الآمر يعلم أن في البئر ما يكون سبباً للهلاك ولم يخبره، فعليه الضمان، لأنه غره، وكذلك لو كان في البئر حية.

ص: 307

‌باب موجب القصاص فيما دون النفس

أي: فكما أن القصاص يكون بالنفس يكون فيما دونها لقوله تعالى (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ).

• فمن أقيدَ بأحد في النفس أقيدَ به في الطرف والجراح ومن لا فلا.

الطرف: هو الأعضاء والأجزاء من البدن، كاليد، والرجل، والعين، والأنف، والأذن، والسن، والذكر.

والجراح: هي الشقوق في البدن: مثل جرح يد إنسان أو ساقه، أو فخذه، أو صدره، أو ظهره.

فالقصاص في الطرف والجروح فرع عن القصاص في النفس، فلو أن حراً قطع يد عبد، فإنه لا يقطع الحر، لأن الحر لا يقتل بالعبد، ولو أن مسلماً قطع يد كافر، فلا يقطع به المسلم، لأن المسلم لا يقتل بكافر، فإذا لم يقتص به في كله لا يقتص به في جزئه.

• ولا يجب إلا بما يوجب القود في النفس وهو أن يكون عمداً، فلا قود في الخطأ ولا في شبه العمد.

فإذا قطع أحد يد أحد عمداً وعدواناً، قطعنا يده وإلا فلا، فإن قطع يده خطأ فإنه لا يقطع.

• والقصاص فيما دون النفس نوعان: في الطرف، وفي الجراح:

الأولى في الطرف:

فتؤخذ العين بالعين: أي: اليمنى باليمنى واليسرى باليسرى.

والأذن بالأذن: اليمنى باليمنى واليسرى باليسرى.

والسن بالسن: الثنية بالثنية، والرباعية بالرباعية، والعليا بالعليا، والسفلى بالسفلى.

والجَفْن بالجفن: وهو غطاء العين، الأيمن بالأيمن، والأعلى بالأعلى، والأيسر بالأيسر.

والشّفه بالشفة: وهي حافة الفم. العليا بالعليا والسفلى بالسفلى.

واليد باليد: اليمنى باليمنى واليسرى باليسرى.

والرجل بالرجل: اليمنى باليمنى واليسرى باليسرى.

والإصبع بالإصبع: فالإبهام بالإبهام، والأيمن بالأيمن.

والخصية بالخصية: اليمنى باليمنى واليسرى باليسرى.

والأصل في ذلك قوله تعالى (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ).

ص: 308

• ويشترط للقصاص في الطرف ثلاثة شروط: [هذه شروط زائدة عما سبق من الشروط الأربعة].

الأول: الأمن من الحيف.

وذلك بأن يكون القطع من مفصل أو له حد ينتهي إليه، فإن لم يكن كذلك لم يجز القصاص.

فلو أن رجلاً قطع يد رجل من نصف الذراع فلا يقتص منه، لأن القطع ليس من مفصل، لعدم إمكان المماثلة.

الشرط الثاني: التماثل بين عضوي الجاني والمجني عليه في الاسم والموضع.

في الموضع: يمين بيمين، وفي الاسم: خنصر بخنصر، فلا تؤخذ يمين بيسار ولا يسار بيمين من الأيدي والأرجل والأعين والآذان ونحوها، ولا تؤخذ خنصراً ببنصر.

لأن كل واحد منها يختص باسم، وله منفعة خاصة، فلا تماثل.

• لا يجوز ولو تراضيا بذلك.

الشرط الثالث: استواء العضوين من الجاني والمجني عليه في الصحة والكمال.

فلا يؤخذ يد صحيحة بيد شلاء، أو رجل صحيحة برجل شلاء، ولا تؤخذ عين صحيحة بعين قائمة - وهي التي بياضها وسوادها صافيان غير أنها لا تبصر - لعدم التساوي، ولا يؤخذ لسان ناطق بلسان أخرس.

مثال: إذا كانت يد الجاني سليمة، ويد المجني عليه مشلولة، فإنه لا يؤخذ يد الجاني بيد المجني عليه، فلا قصاص، لأن يد الجاني أكمل.

وإذا كانت عين الجاني صحيحة، وعين المجني عليه قائمة، فلا قصاص، لعدم التساوي.

• ويؤخذ العضو الناقص بالعضو الكامل، فتؤخذ الشلاء بالصحيحة، وناقصة الأصابع بكاملة الأصابع، لأن المقتص يأخذ بعض حقه فلا حيف، وإن شاء أخذ الدية بدل القصاص.

• وأما القصاص في الجراح:

فيقتص في كل جرح ينتهي إلى عظم، لإمكان الاستيفاء فيه بلا حيف ولا زيادة.

وذلك كالموضحة: وهي التي توضح العظم في الرأس والوجه خاصة، فإذا جنى شخص على آخر عمداً، وكشط جلد رأسه ولحمه حتى وصل إلى العظم فإنه يقتص منه، لأنه جرح ينتهي إلى عظم.

وكذلك جرح العضد والساق والفخذ والقدم.

لأن الذي لا ينتهي إلى عظم فلا يمكن القصاص منه.

فلا قصاص في الهاشمة: هي الجرح الذي يبرز العظم ويهشمه، فهذه لا قصاص فيها.

ولا في المنقِّلَة: وهي التي تهشم الرأس وتنقل العظام.

ولا في المأمومة: هي الشجة التي تصل إلى جلدة الدماغ.

ص: 309

‌مقدار الديات

الديات جمع دِيَة، وهي: المال المؤدَّى إلى المجني عليه أو وليه بسبب الجناية كما سبق.

فقوله (المؤدى إلى المجني عليه) هذا فيما إذا كانت الجناية فيما دون النفس.

(أو وليه) فيما إذا كانت الجناية بالنفس - وفيما إذا كانت الجناية فيما دون النفس لكن المجني عليه غير مكلف (كأن يكون صغيراً أو مجنوناً).

• والأصل في وجوبها الكتاب والسنة والإجماع.

قال تعالى (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ

).

وأما في السنة: فورد عدة أحاديث سبق بعضها.

وأجمع العلماء على وجوبها.

م/ والديات للنفس وغيرها قد فصلت في حديث عمرو بن شعيب (أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن وفيه: أن من اعتبط مؤمناً قتلاً عن بينة فإنه قود إلا أن يرضى أولياء المقتول .... الحديث).

ذكر المصنف رحمه الله حديث عمرو بن شعيب (أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن وفيه: أن من اعتبط مؤمناً قتلاً عن بينة فإنه قود إلا أن يرضى أولياء المقتول

الحديث) وقد رواه النسائي في الكبرى والحاكم وصححه، وقد صححه قوم وضعفه آخرون، قال ابن عبد البر: هذا كتاب مشهور عند أهل السير، معروف عن أهل العلم معرفة تغني عن الإسناد، لأنه أشبه التواتر، لتلقي الناس له بالقبول والمعرفة.

[من اعتبَط مؤمناً]: أي: قتله من غير موجِب، أي: قتله ظلماً، [عن بيّنة]: أي: قامت البيّنة على معرفة القاتل، [فإنه قود]: أي فحكمه القصاص.

• الحديث دليل على ثبوت القصاص إذا قُتِل المسلم عمداً وعدواناً إلا أن يرضى أولياء المقتول بالدية، وقد سبق حديث أبي هريرة (ومن قُتِل له قتيلٌ فهو بخير النظرين إما أن يودَى وإما أن يُقاد) متفق عليه.

• الحديث دليل على أن القود لا يجب إلا بالقتل العمد.

لقوله تعالى (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ).

ولقوله صلى الله عليه وسلم (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس

) متفق عليه.

• أن القصاص يسقط إذا عفا ورثة المقتول، إما أن يعفو مجاناً، أو يعفو إلى دية، أو بالمصالحة بأكثر من الدية.

• الحديث دليل على أن الدية الكاملة في النفس هي مائةٌ من الإبل.

ص: 310

م/ وإنَّ في النفسِ: الديةَ مائةً من الإبل.

الحديث دليل على أن دية النفس مائة من الإبل، والمراد دية الحر المسلم، ويشهد لهذا حديث القسامة وفيه ( .... فوداه النبي صلى الله عليه وسلم بمائةٍ من إبل الصدقة).

فقوله (الحر) نخرج العبد المملوك فديته قيمته.

وقوله (المسلم) نخرج الكافر فديته تختلف كما سيأتي.

• وهذا يشمل الصغير والكبير والعاقل والمجنون والعالم والجاهل.

وتكون في العمد وشبه العمد مغلظة: (خمس وعشرون بنت مخاض، وخمس وعشرون بنت لبون، وخمس وعشرون حقة، وخمس وعشرون جذعة).

وفي القتل الخطأ تكون مخففة (عشرون بنت لبون، وعشرون بنت مخاض، وعشرون حقة، وعشرون جذعة، وعشرون بنت مخاض).

• أما المرأة فديتها على النصف من دية الرجل المسلم.

قال القرطبي في تفسيره: وأجمع العلماء على أن دية المرأة على النصف من دية الرجل.

فائدة: قاعدة: دية المرأة على النصف من الرجل وهذا فيما فوق الثلث، أما ما دون الثلث فيستوي فيه الذكر والأنثى.

مثال: ثلث الدية 33 بعيراً وثلث، مثال: لو قطع أصبعاً من امرأة ففيها عشر من الإبل، وكذا لو قطع إصبعاً من رجُل فيه عشر من الإبل.

مثال: لو أتلف سناً من امرأة ففيه خمس من الإبل، وكذا لو أتلف سناً من رجُل فيه خمس كذلك.

مثال: لو قطع 4 أصابع من امرأة فيه 20 من الإبل، نصف الرجل لأنها فوق الثلث.

• دية الكتابي.

دية الحر الكتابي نصف دية المسلم. (فتكون ديته خمسين من الإبل).

لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بأن عَقْل أهل الكتاب نصف عقل المسلمين) رواه أبوداود.

ومعنى (عَقْل أهل الكتاب) أي: ديتهم، وسميت عقْلاً، لأن من عادتهم أن دافع الدية يأتي بالإبل إلى بيت من هي له، ويعقلها.

• ونساؤهم على النصف من ذلك، فدية الكتابيات كاليهودية والنصرانية نصف دية الرجال منهم، وهذا مجمع عليه، فتكون ديتها خمساً وعشرين من الإبل.

• دية المجوسي والوثني.

ص: 311

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

دية المجوسي والوثني ثمانمائة درهم.

(المجوسي) هو الذي لا كتاب له (والوثني) هو عابد الأوثان.

هذا قضاء عمر وعلي وابن مسعود.

ودية الجنين - ذكراً أو أنثى - عُشْرُ دية أمهِ غُرة.

فإذا جنى الإنسان على الجنين أو على أمه وسقط ميتاً فإن ديته عشْر ديةِ أمه، يعني: خمس من الإبل، (فأمه إذا كانت حرة مسلمة فديتها خمسون من الإبل، عُشْرُها: خمس من الإبل).

لحديث أبي هريرة قال (اقتتلت امرأتان من هذيْل، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقضى أن دية جنينها غرة عبد أو أمَة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها) متفق عليه

لكن هذا مشروط بشرطين:

الأول: أن يتبين في الجنين خلْق إنسان، فإن لم يتبين فيه خلق إنسان فالجناية هدر.

مثال: لو جُنيَ على امرأةٍ وفي بطنها جنين لم يخلّقْ (كما لو كان له شهران) فالجناية هدر لا يجب فيها شيء. [يتبين فيه خلْق إنسان بعد [81] يوماً].

الثاني: أن لا يخرج حياً، فإن خرج حياً فمات فتجب الدية كاملة.

ص: 312

م/ وفي الأنف إذا أوعِبَ جدْعاً: الدية، وفي اللسان الدية، وفي الذَّكَر الدية.

[إذا أُوعِبَ جَدْعَاً] بضم الهمزة بمعنى: اسْتُوعِب جدعه فقطع واستأصل بأكمله.

• الحديث دليل على أن ما في الإنسان منه شيء واحد ففيه الدية كاملة كالأنف واللسان والذكر.

أما الأنف فقد أجمع العلماء على وجوب الدية كاملة باستئصالهِ، ويشهد لهذا حديث عبد الله بن عمرو وفيه (

وقضى النبي صلى الله عليه وسلم في الأنف إذا جُدعَ الدية كاملة) رواه أبو داود، ولأن الأنف عضو فيه جمال ظاهر، ومنفعة كاملة، فمن جنى عليه، فقد جنى عليه وعلى منفعته.

وكذا اللسان: فقد أجمع العلماء على أن وجوب الدية كاملة في قطع لسان الكبير الناطق، ويشهد لهذا شيئان:

الأول: ما روي عن علي أنه قال (في اللسان الدية).

الثاني: ما ورد في مرسل سعيد بن المسيب (أن السنة قد مضت أن في اللسان الدية).

وكذا الذكر: فقد أجمع العلماء على وجوب الدية كاملة.

ص: 313

م/ وفي الشفتين الدية.

الحديث دليل على أن في الشفتين الدية وهذا أمر مجمع عليه أيضاً.

ص: 314

م/ وفي البيضتيْن الدية.

[وفي البيضتين الدية] أي: الخصيتين.

الحديث دليل على أن في البيضتين الدية، وقد أجمع العلماء على ذلك.

ولأنهما فيهما منفعة ظاهرة.

ص: 315

م/ وفي الصلب الدية.

[وفي الصُّلْب] هو عظم من لدن الكاهل إلى العجْب بأسفل البدن (العمود الفقري).

الحديث دليل على وجوب الدية في كسر الصلب إذا لم يَجبُر، وهذا قول الجمهور.

ولأن الصلب عضو ليس في البدن مثله، وفيه جمال ومنفعة.

ص: 316

م/ وفي العينين الدية.

الحديث دليل على وجوب الدية كاملة في إتلاف العينين، وقد أجمع العلماء على ذلك.

ويشهد له حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعاً (

وقضى في العين نصف العقْل خمسون من الإبل) رواه أبو داود.

ص: 317

م/ وفي الرِّجِل الواحدة نصف الدية.

• الحديث دليل على وجوب نصف الدية في قطع الرجِل الواحدة، وقد أجمع العلماء على أن في الرجلين الدية كاملة، وفي الرجل الواحدة نصف الدية.

• والموجِب للدية في الرجل هو القطع من مفصل الكعب وما زاد على هذا فهو موضع خلاف بين العلماء هل فيه الدية أو مع الدية حكومة.

ص: 318

م/ وفي المأمومة ثلُث الدية.

[وفي المأمومة] هي الشجة التي بلغت إلى أم الدماغ، وأم الدماغ جلدة رقيقة فوق الدماغ.

الحديث دليل على أن في المأمومة ثلث الدية. (ثلاث وثلاثون بعيراً وثلث البعير) وثلث البعير لا يتبعض فيؤخذ من الدراهم.

ص: 319

م/ وفي الجائفَةِ ثلث الدية.

[وفي الجائفة] وهي: التي تصل إلى جوف البطن، وعلى هذا فهي خاصة بالبطن، وقيل: هي التي تصل إلى جوف العضو المجوف كالبطن والصدر والظهر والورك وغيرها مما له جوف.

الحديث دليل على أن في الجائفة ثلث الدية.

(هذا ما لم يصل إلى الموت، فإن وصل إلى الموت ففيه الدية كاملة).

ص: 320

م/ وفي المنقّلة خمس عشرة من الإبل.

[وفي المُنَقِّلَة] وهي: الشجة التي تكسر العظم وتزيله وتنقله عن مكانه.

الحدث دليل على أن في المنقلة (15) خمس عشرة من الإبل، وقد أجمع العلماء على هذا.

ص: 321

م/ وفي كلِ إصبع من أصابع اليد والرجِل عشرٌ من الإبل.

الحديث دليل على أن كل إصبع من أصابع اليدين أو الرجلين عشر من الإبل، وعلى هذا: فإن في الأصابع الدية، ولو قطع أصابع اليدين والرجلين فديتان.

• ومن هذا نستفيد أن الدية غير مقدّرة بالنفع، ولو كانت مقدرة بالنفع لكان نفع الخنصر من الرجِل لا يساوي شيئاً لنفع الإبهام من اليد، (فالخنصر من الرجل فيه كما في الإبهام من اليد).

ص: 322

م/ وفي السن خمسٌ من الإبل.

الحديث دليل على أن دية السن خمس من الإبل، ففي كل سن خمس من الإبل ولو اختلفت منافعها.

• وعلى هذا فيكون في جميع الأسنان (160) بعيراً.

ص: 323

م/ وفي الموضِحَة خمسٌ من الإبل.

[وفي الموضِحَة] هي الجَرْحَة التي تبرز العظم وتزيل عنه اللحم.

الحديث على أن في الموضحة خمس من الإبل.

ص: 324

م/ وإن الرجل يقتل بالمرأة.

الحديث دليل على أن الرجل يقتل بالمرأة، وقد سبقت المسألة وأدلتها.

• استنبط العلماء من هذا الحديث: قاعدة: أن ما في الإنسان منه شيء واحد ففيه الدية كاملة، وما في الإنسان منه شيئان ففيه الدية وفي كل واحد منهما نصف الدية:

فالأنف واللسان والذّكَر: دية.

وفي العينين والأذنين والشفتين واللحيين وثديي المرأة، واليدين والرجْلين والأليتين فيهما الدية، وفي أحدهما نصفها.

ص: 325

‌كتاب الحدود.

‌تعريف الحدود:

جمع حد والحد لغة: الحجز والفصل.

واصطلاحاً: عقوبة مقدرة شرعاً لمنع الجناة من العود إلى المعاصي وزجر غيرهم وتكفير ذنب صاحبها.

قوله (مقدرة شرعاً) خرج به العقوبة التي قدرها القاضي كالتعزير.

•‌

‌ فالحكمة من الحدود:

‌أولاً: ردع العصاة ومنع انتشار الفساد.

‌ثانياً: التكفير والتطهير للعاصي.

م/ لا حدّ إلا على مكلف.

أي: أن الحد لا يجب إلا على مكلف وهو البالغ العاقل.

قال في الشرح: أما البلوغ والعقل فلا خلاف في اعتبارهما في وجوب الحد وصحة الإقرار.

لحديث (رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق).

وفي حديث ابن عباس - في قصة ماعز - (أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل قومه: أمجنون هو؟ قالوا: ليس به بأس.

وفي رواية (أنه سأل عنه، أمجنون هو؟ قالوا: ليس به بأس).

ولأنهما لا قصد لهما.

ص: 326

م/ ملتزم.

أي: ملتزم لأحكام المسلمين، وهو المسلم والذمي.

ودليل ذلك حديث ابن عمر (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجم اليهوديين لما زنيا) متفق عليه.

ص: 327

م/ عالم بالتحريم.

هذا الشرط الثالث: وهو أن يكون عالماً بالتحريم.

فإن كان جاهلاً، كحديث عهد بالإسلام، أو ناشئ في بادية بعيدة عن المسلمين فلا حدّ عليه، لأن الحد يدرأ بالشبهة، والجهل بالشبهة.

وقد قال تعالى (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا). جاء في الحديث عن الله تعالى (قد فعلت).

وقال عمر وعلي وعثمان (لا حد إلا على من علمه).

• لا يشترط أن يكون عالماً بالعقوبة.

فلو سرق - وهو يعلم أنه حرام - لكنه لا يعلم أن في السرقة قطع اليد، فإنه يقام عليه الحد.

قال ابن القيم في فوائد حديث ماعز: فيه أن الجهل بالعقوبة لا يسقط الحد إذا كان عالماً بالتحريم، فإن ماعزاً لم يعلم أن عقوبته القتل، ولم يُسقط هذا الجهل الحد عنه.

ص: 328

م/ لا يقيمه إلا الإمام أو نائبه.

لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقيم الحد في حياته وخلفاؤه بعده.

ولأن إقامة الحد من غير الإمام أو نائبه فيها مفاسد.

ولأجل أن يؤمن الحيْف في استيفائه.

ولا يلزم حضور الإمام: لقوله صلى الله عليه وسلم (واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها).

وأمر برجم ماعز ولم يحضر.

• وينبغي للإمام أن ينوي بإقامة الحد أموراً ثلاثة:

أولاً: الامتثال لأمر الله عز وجل في إقامة الحدود.

ثانياً: أن ينوي رفع الفساد.

ثالثاً: أن ينوي إصلاح الخلق.

ص: 329

م/ إلا السيد، فإن له إقامته بالجلْد خاصة على رقيقهِ.

أي: أن السيد له أن يقيم الحد على رقيقه إذا كان الحد جلداً.

لحديث أبي هريرة. قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (إذا زنت أمَةُ أحدكم فتبين زناها فليجلدها الحدّ

) متفق عليه.

وعن علي. قال: قال صلى الله عليه وسلم (أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم) رواه أبو داود وفي سنده ضعف، وقد أخرجه مسلم موقوفاً على علي، وظاهره أن للسيد إقامة حد السرقة والشرب.

والأظهر: أن الحد الذي يجوز للسيد أن يقيمه على عبده هو الحد الذي ليس فيه إتلاف عضو ولا نفس وهو الجلد، لأنه أقرب إلى التأديب، وللسيد تأديب رقيقه.

ص: 330

م/ وحد الرقيق في الجلد: نصف حد الحر.

أي: أن الرقيق إذا زنا فإنه يجلد خمسين لقوله تعالى (فَإِذَا أُحْصِنَّ) يعني الإماء (فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ) وإذا ثبت التنصيف في حق الأَمَة فإنه يقاس عليها الرقيق.

فوائد:

• لا يقام الحد في المسجد.

وهذا قول أكثر العلماء.

لحديث ابن عباس. أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا تقام الحدود في المساجد ولا يقتل والد بولده) رواه الترمذي.

ويمكن أن يستدل أيضاً:

بحديث ابن عمر. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من سمع رجلاً ينشد ضالة في المسجد فليقل: لا رده الله عليك، فإن المساجد لم تبن لهذا) رواه مسلم.

• ويضرب الرجل قائماً والمرأة جالسة.

o يضرب الرجل قائماً:

لقول علي (لكل موضع من الجسد حظ إلا الوجه والفرج).

ولأن قيامه وسيلة إلى إعطاء كل عضو حظه من الضرب.

o والمرأة جالسة، لأنه أستر لها.

o وتشد عليها ثيابها: لأنه ربما مع الضرب تضطرب وتتحرك وتنفك ثيابها.

o وتمسك يداها: لئلا تكشف.

وجاء في حديث عمران بن حصين قال (فأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم فشكت عليها ثيابها ثم أمر بها فرجمت). رواه مسلم

• ويكون الجلد بسوط.

بسوط: لقوله صلى الله عليه وسلم (إذا شرب فاجلدوه) والجلد إنما يفهم من إطلاقه الضرب بالسوط.

ص: 331

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

• ويكون بسوط لا جديد ولا خَلَق.

لأن الجديد يجرح الجلد، والقديم: لا يحصل به التأديب المطلوب.

قال علي (ضرب بين ضربين، وسوط بين سوطين) يعني وسطاً.

• ولا يمد ولا يربط ولا يجرد.

لا يمد: أي على الأرض.

ولا يربط: أي لا يقيد.

ولا يجرد من ثيابه.

قال ابن مسعود (ليس في ديننا مد ولا قيد ولا تجريد).

وجلد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من ثبت عليه جريمة فلم ينقل عن أحد منهم شيء من ذلك.

• ويجب أن يُتقَى الوجه والرأس والفرج والمقاتل كالقلب والكبد.

الوجه: لقوله صلى الله عليه وسلم (إذا ضرب أحدكم فليتقي الوجه) متفق عليه.

تتقى هذه: لأنها مقاتل وليس القصد قتله، وإنما المقصود هو التأديب.

ص: 332

‌حد الزنا

م/ وهو فعل الفاحشة في قُبُل ودبر.

ذكر المصنف رحمه الله تعريف الزنا فقال: وهو فعل الفاحشة في قُبُل ودبر وزاد بعضهم: من آدمي.

قوله (في قُبُل) المراد تغييب الحشفة أو قدرها، أي: تغييب الزاني حشفته، والحشفة: القسم المكشوف من رأس الذكر بعد الختان.

قوله (ودبر) أي: تغييب الحشفة في دبر امرأة أجنبية، فإن هذا يعتبر زنا.

قال ابن قدامة: والوطء في الدبر مثله - أي مثل الوطء في القبل - في كونه زنا.

وهذا مذهب الجمهور (أي وطء المرأة في دبرها يعتبر زنا).

قوله (من آدمي) احترازاً من غير الآدمي، بأن يطأ بهيمة فلا يعتبر زنا، لا لغة ولا شرعاً، ولا يجب فيه الحد، بل يعزر على القول الراجح، لأنه فعل محرماً مجمعاً عليه، فاستحق العقوبة.

• والزنا حرام بالكتاب والسنة والإجماع.

قال تعالى: (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً).

وقال تعالى: (وَلا تَقْرَبُوا الزنا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً).

وعن ابن مسعود قال: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الذنب أعظم؟ فقال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك. قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك. قلت: ثم أي؟ قال: أن تزني بحليلة جارك). متفق عليه

حليلة جارك: زوجة جارك.

وقال صلى الله عليه وسلم (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن).

قال ابن القيم: ومن خاصيته أنه يوجب الفقر، ويقصر العمر، ويكسو صاحبه سواد الوجه وثوب المقت بين الناس.

ومن خاصيته أيضاً: أنه يشتت القلب، ويمرضه إن لم يمته، ويجلب الهم والحزن والخوف، ويباعد صاحبه من الملك، ويقربه من الشيطان.

ص: 333

م/ فحد الزنا إن كان محصناً - وهو الذي تزوج ووطئها وهما حران مكلفان - يرجم حتى يموت.

أي: أن حد الزاني إذا كان محصناً الرجم حتى الموت [وسيأتي بعد قليل من هو المحصن].

قال ابن قدامة: وجوب الرجم على الزاني المحصن رجلاً كان أو امرأة، وهذا قول عامة أهل العلم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء الأمصار في جميع الأعصار، ولا نعلم فيه خلافاً إلا الخوارج.

• والرجم ثابت بالكتاب والسنة والإجماع.

في الكتاب: الآية المنسوخة: (والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة

).

وعن عمر بن الخطاب قال: (إن الله بعث محمداً بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان فيما أنزل الله عليه آية الرجم، قرأناها ووعيناها وعقلناها، فرجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: ما نجد الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، وإن الرجم في كتاب الله على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء، إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف). متفق عليه

ورجم النبي صلى الله عليه وسلم ماعزاً: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: (أَتَى رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ - فَنَادَاهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي زَنَيْتُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ. فَتَنَحَّى تِلْقَاءَ وَجْهِهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي زَنَيْت، فَأَعْرَضَ عَنْهُ حَتَّى ثَنَّى ذَلِكَ عَلَيْهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ. فَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ: دَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: أَبِكَ جُنُونٌ؟ قَالَ: لا. قَالَ: فَهَلْ أُحْصِنْت؟ قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: اذْهَبُوا بِهِ فَارْجُمُوهُ) متفق عليه.

o ورجم اليهوديين: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ: (إنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرُوا لَهُ: أَنَّ امْرَأَةً مِنْهُمْ وَرَجُلاً زَنَيَا. فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ، فِي شَأْنِ الرَّجْمِ؟ فَقَالُوا: نَفْضَحُهُمْ وَيُجْلَدُونَ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلامٍ: كَذَبْتُمْ، فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ، فَأَتَوْا بِالتَّوْرَاةِ فَنَشَرُوهَا، فَوَضَعَ أَحَدُهُمْ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ فَقَرَأَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا. فَقَالَ

لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلامٍ: ارْفَعْ يَدَك. فَرَفَعَ يَدَهُ، فَإِذَا فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ، فَقَالَ: صَدَقَ يَا مُحَمَّدُ، فَأَمَرَ بِهِمَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَرُجِمَا. قَالَ: فَرَأَيْت الرَّجُلَ: يَجْنَأُ عَلَى الْمَرْأَةِ يَقِيهَا الْحِجَارَةَ) متفق عليه.

ص: 334

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

o ورجم المرأة الأسلمية: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ رضي الله عنهما، أَنَّهُمَا قَالا:(إنَّ رَجُلاً مِنَ الأَعْرَابِ أَتَى رَسُولَ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْشُدُك اللَّهَ إلاَّ قَضَيْتَ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ. فَقَالَ الْخَصْمُ الآخَرُ - وَهُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ - نَعَمْ، فَاقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ، وَأْذَنْ لِي. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: قُلْ، فَقَالَ: إنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفاً عَلَى هَذَا، فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ، وَإِنِّي أُخْبِرْت أَنَّ عَلَى ابْنِي الرَّجْمَ، فَافْتَدَيْت مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ وَوَلِيدَةٍ، فَسَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ فَأَخْبَرُونِي أَنَّمَا عَلَى ابْنِي جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَأَنَّ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا الرَّجْمَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ، الْوَلِيدَةُ وَالْغَنَمُ رَدٌّ عَلَيْك وَعَلَى ابْنِك جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ. وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ - لِرَجُلٍ مِنْ أَسْلَمَ - إلى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا، فَغَدَا عَلَيْهَا، فَاعْتَرَفَتْ، فَأَمَرَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرُجِمَتْ) متفق عليه.

• فالمحصن إذا زنى فإنه يرجم.

كما قال عمر: (إن الرجم حق على من زنا وقد أحصن).

وقال صلى الله عليه وسلم (لا يحل دم مسلم إلا بإحدى ثلاث:

والزاني الثيب).

• فمن هو المحصن؟

ذكر المصنف رحمه الله من هو المحصن بقوله: [وهو الذي تزوج ووطئها وهما حران مكلفان].

• شروط الإحصان:

الشرط الأول: تزوج ووطئها.

فلابد من الوطء في القبل.

لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الثيب بالثيب) والثيابة تحصل بالوطء في القبل.

ولا خلاف في أن عقد النكاح الخالي من الوطء لا يحصل به إحصان، سواء حصلت به خلوة أو وطء دون الفرج، أو الدبر أو لم يحصل شيء من ذلك، لأن هذا لا تصير به المرأة ثيباً ولا تخرج عن حد الإبكار.

وأيضاً قول المصنف رحمه الله (تزوج ووطئها) يتضمن الشرط الثاني وهو:

الشرط الثاني: أن يكون في النكاح.

لأن النكاح يسمى إحصاناً، بدليل قوله تعالى (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ) يعني المتزوجات.

ولا خلاف بين أهل العلم في أن الزنا، ووطء الشبهة لا يصير الواطئ به محصناً.

وأيضاً يستفاد من قول المصنف (تزوج ووطئها) الشرط الثالث:

ص: 335

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشرط الثالث: أن يكون النكاح صحيحاً.

احترازاً من النكاح الباطل.

الشرط الرابع: الحرية.

وهي شرط في قول أهل العلم كلهم إلا أبا ثور.

خامساً: البلوغ، العقل.

فلو وطئ وهو صغير أو مجنون ثم بلغ أو عقل لم يكن محصناً.

• والراجح من أقوال أهل العلم أن الإسلام ليس شرطاً في الإحصان.

فالذمي يحصن الذمية، وإذا تزوج المسلم ذمية فوطئها صارا محصنين.

وهذا مذهب الشافعي وأحمد، ورجحه ابن القيم.

ويدل عليه حديث رجم النبي صلى الله عليه وسلم لليهوديين كما سبق.

• فلو عقد على امرأة وباشرها لكنه لم يجامعها، ثم زنى، فإنه لا يرجم، وهي لو زنت فإنها لا ترجم، إلا إذا كانت قد تزوجت من زوج قبله وحصل الجماع، فإنها ترجم.

• لو تزوجها وهي صغيرة لم تبلغ وجامعها، ثم زنى فإنه لا يرجم، لأنه ليس بمحصن، لأنها لم تبلغ.

• لو تزوج مجنونة وجامعها، ثم زنى، فإنه لا يرجم، لأنه ليس بمحصن.

• لا يشترط للإحصان استمرار.

فلو أن رجلاً تزوج ثم بعد ذلك طلق، فإن زنى فإنه يعتبر محصناً.

وكذلك لو أن امرأة مطلقة، فإنها تعتبر محصنة، فلو زنت فإنها ترجم.

• اختلف العلماء فيمن وجب عليه الرجم، هل يجلد أولاً أم لا؟

ص: 336

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

القول الأول: أن الزاني المحصن يرجم فقط ولا يجلد.

وهذا مذهب جمهور العلماء.

لحديث أبي هريرة في المرأة الأسلمية (فإن اعترفت فارجمها) ولم يذكر الجلد.

والنبي صلى الله عليه وسلم رجم ماعزاً ولم يجلده.

ورجم الغامدية ولم يجلدها.

ورجم اليهوديين ولم يجلدهما.

ولأن الحد الأصغر ينطوي في الحد الأكبر، وذلك إنما وضع للزجر، فلا تأثير للزجر بالضرب مع الرجم.

القول الثاني: الجمع بين الجلد والرجم، فيجلد مائة ثم يرجم.

وهذا القول مروي عن علي وابن عباس.

لحديث عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خذوا عني خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم). رواه مسلم

والراجح القول الأول.

وأما الجواب عن حديث عبادة: أنه منسوخ.

فإن الأدلة التي بها الرجم فقط كلها متأخرة عن حديث عبادة، ويدل لذلك قوله صلى الله عليه وسلم:(قد جعل الله لهن سبيلاً) فهو دليل على أن حديث عبادة هو أول نص ورد في الزنا.

ص: 337

م/ وإن كان غير محصن: جلد مائة جلدة، وغرّب عن وطنه عاماً.

ذكر المصنف رحمه الله حد الزاني الغير المحصن وهو الجلد 100 جلدة والتغريب.

أما الجلد فلا خلاف فيه. لقوله تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ).

وعليه تغريب عام بالنسبة للذكر، وهذا قول أكثر العلماء من المالكية والشافعية والحنابلة.

ولحديث عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خذوا عني خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة). رواه مسلم

(خذوا عني) أي: تلقوْا عني حكم حد الزنا (خذوا عني) التكرار للتوكيد. (قد جعل الله لهن سبيلاً) الضمير يعود على النساء الزواني (سبيلاً) السبيل: هو الخلاص من إمساكهن بالبيوت، وقد كانت الزانية تحبس في بيتها حتى تموت أو يجعل لها سبيلاً كما قال تعالى (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) فبيّن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث أن السبيل المراد بالآية: هو الحد الذي جاء بيانه بالنسبة للبكر وللثيب. (البكر بالبكر) أي: البكر يزني بالبكر. [البكر الشاب الذي لم ينكح والشابة التي لم تُنكح]. (جلد مائة) أي: عليهما جلد مائة.

ولقوله صلى الله عليه وسلم (وعلى ابنِك جلد مائة وتغريب عام).

وذهب الحنفية إلى أن الزاني البكر لا يغرّب إلا إذا رأى الإمام.

واستدلوا بالآية (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) فقالوا: إن الحد هو الجلد ولم تذكر الآية التغريب.

والراجح مذهب الجمهور.

ص: 338

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

• واختلف العلماء هل تغرب المرأة إذا زنت وهي غير محصنة على أقوال:

القول الأول: تغرب مع محرمها.

وهذا قول الشافعية والحنابلة.

لعموم حديث عبادة السابق.

القول الثاني: لا تغرب.

وهذا قول المالكية.

للأحاديث الناهية عن سفر المرأة بدون محرم، فتغريب المرأة بدوم محرَم يخالف ما يقتضيه الحديث.

وتغريبها مع محرمها فيه عقوبة له بدون ذنب، واختار هذا القول ابن قدامة في المغني.

القول الثالث: أن التغريب ليس من تمام الحد، وإنما هو عقوبة تعزيرية راجعة إلى رأي الإمام حسب المصلحة.

والراجح إن وجد محرم متبرعاً بالسفر معها فإنها تغرب عملاً بأحاديث التغريب، وإن لم يوجد فلا تغرب عملاً بأحاديث النهي عن السفر بدون محْرَم.

• فوائد التغريب:

أولاً: أنه يبتعد عن محل الفاحشة لئلا تحدثه نفسه بالعودة إليها.

ثانياً: أن التغريب يكون منشغل البال غير مطمئن.

ص: 339

م/ ولكن بشرط أن يقرّ به أربع مرات.

ذكر المصنف رحمه الله بما يثبت الزنا، فذكر أنه يثبت بالإقرار.

وقد رجم النبي صلى الله عليه وسلم بالإقرار كما سبق في حديث أبي هريرة في قوله صلى الله عليه وسلم (وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ - لِرَجُلٍ مِنْ أَسْلَمَ - عَلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا، فَغَدَا عَلَيْهَا، فَاعْتَرَفَتْ، فَأَمَرَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرُجِمَتْ). متفق عليه

لكن ذكر المصنف رحمه الله أنه يشترط أن يقر أربع مرات.

وقد اختلف العلماء في هذه المسألة، هل يشترط أن يقر أربع مرات أم يكفي مرة واحدة؟ على قولين:

القول الأول: لا بد أن يقر أربع مرات.

وهذا مذهب الحنابلة.

لحديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: (أَتَى رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ - فَنَادَاهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي زَنَيْتُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ. فَتَنَحَّى تِلْقَاءَ وَجْهِهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي زَنَيْت، فَأَعْرَضَ عَنْهُ حَتَّى ثَنَّى ذَلِكَ عَلَيْهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ. فَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ: دَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: أَبِكَ جُنُونٌ؟ قَالَ: لا. قَالَ: فَهَلْ أُحْصِنْت؟ قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: اذْهَبوا بِهِ فَارْجُمُوهُ) متفق عليه، وهذا الرجل هو ماعز.

وجه الدلالة: النبي صلى الله عليه وسلم لم يقم عليه الحد حتى شهد أربع مرات.

القول الثاني: يثبت الزنا بإقراره مرة واحدة، ولا يشترط التكرار أربعاً.

وهذا مذهب مالك والشافعي ورجحه الشوكاني.

ص: 340

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

واستدلوا بأدلة:

بحديث: (واغدوا يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها) ولم يذكر تكراراً.

وأن النبي صلى الله عليه وسلم رجم اليهوديين، ولم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم كرر عليهما الإقرار.

والنبي صلى الله عليه وسلم رجم امرأة من جهينة ولم تقر إلا مرة واحدة. رواه مسلم

قالوا: فلو كان تربيع الإقرار شرطاً لما تركه النبي صلى الله عليه وسلم في مثل هذه الواقعات التي يترتب عليها سفك الدماء وهتك الحرم.

وأجاب هؤلاء عن قصة جابر [في مجيء ماعز]:

قال الشوكاني: وظاهر السياقات مشعر بأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما فعل ذلك في قصة جابر لقصد التثبت، كما يشعر بذلك قوله:(أبك جنون) ثم بسؤاله بعد ذلك لقومه، فتحمل الأحاديث التي فيها التراخي عن إقامة الحد بعد صدور الإقرار مرة على من كان أمره ملتبساً في ثبوت العقل واختلاله والصحو والسكر ونحو ذلك، وإقامة الحد بعد الإقرار مرة واحدة على من كان معروفاً بصحة العقل وسلامة إقراره عن المبطلات.

• ويشترط أن يصرخ بذكْر حقيقة الوطء.

فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لماعز (أنكْتَها؟ قال: نعم، قال: حتى غاب ذلك منك في ذلك منها؟ قال: نعم، قال: كما يغيب الميل في المكحلة أو الرِّشاء في البئر؟ قال: نعم، قال: فهل تدري ما الزنا؟ قال: نعم، أتيت منها حراماً ما يأتي الرجل من امرأته حلالاً).

وفي حديث ابن عباس: (فقال: أنكتها؟ قال: نعم، قال: أتدري ما الزنا؟ قال: نعم، أتيت منها حراماً ما يأتي الرجل من امرأته حلالاً، قال: فما تريد بهذا القول؟ قال: تطهرني، فأمر به فرجم).

وهناك تعليل: لأنه ربما يظن ما ليس بزنا زناً موجباً للحد، فاشترط فيه التصريح.

ص: 341

م/ أو يشهد عليه أربعة عدول يصرحون بشهادتهم.

ذكر المصنف رحمه الله الأمر الثاني الذي يثبت به الزنا: وهو شهادة أربعة رجال.

فالشهود لا بد أن يكونوا أربع رجال يشهدون بأنهم رأوا الزنا نفسه، ولا تقبل شهادة النساء.

قال تعالى: (لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ).

واشترط المصنف رحمه الله لهؤلاء الشهود شروطاً:

o أن يكونوا عدولاً: قال ابن قدامة: فلا خلاف في اشتراطها.

o وأن يكونوا أحراراً: فلا تقبل شهادة العبد، قال ابن قدامة: ولا نعلم في هذا خلافاً.

o وهل يشترط أن يكون مجيء الشهود كلهم في مجلس واحد؟

المذهب: يشترط أن يكون في مجلس واحد دون الحضور، وقيل: لا يشترط، لأن النصوص عامة.

o ويشترط: أن يصرحوا بشهادتهم، فيصرحون بالزنا فيقولون: رأينا ذكره في فرجها، فلو قالوا: رأيناه عليها متجردين فلا يقبل.

فوائد عامة:

• اختلف العلماء هل يحفر للمرجوم أم لا؟ على أقوال:

القول الأول: أنه يحفر له.

فقد جاء في رواية لمسلم من حديث بريدة: (فلما كان الرابعة حفر له حفرة ثم أمر به فرجم).

فذهب بعض العلماء إلى أنه يحفر للمرجوم لهذه الرواية.

ص: 342

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

القول الثاني: أنه لا يحفر له.

لحديث اليهوديين حيث لم يحفر لهما.

ولحديث: (واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها) ولم يذكر حفراً، وهذا يدل على عدم الحفر.

القول الثالث: يحفر للمرأة دون الرجل.

والراجح القول الثاني، وهو أنه لا يحفر للمرجوم.

وأما رواية: (فحفر له) في قصة ماعز، فأكثر الروايات في قصة ماعز على عدم الحفر، ومن ثَمّ حكم بعض العلماء على هذه الرواية بالشذوذ.

• اختلف العلماء: هل المقر بالزنا إذا رجع عن إقراره يقبل أم لا؟ على قولين:

القول الأول: أن المقر بالزنا إذا رجع، فإنه يقبل رجوعه ولا يقام عليه الحد.

وهذا قول أكثر العلماء.

لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما عند أبي داود: (هلا تركتموه لعله يتوب فيتوب الله عليه).

فقالوا: هذا دليل على جواز رجوع المقر، وأنه إذا رجع في إقراره حرم إقامة الحد عليه.

القول الثاني: لا يقبل الرجوع عن الإقرار.

وهذا مذهب الظاهرية.

قالوا: لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لأنيس: (واغد إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها) ولم يقل ما لم ترجع.

قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله: وأما قولكم إن ماعزاً رجع عن إقراره، فإن ماعزاً لم يرجع عن إقراره أبداً، وهربه لا يدل على رجوعه إطلاقاً، نعم ماعز هروبه قد يكون عن طلب إقامة الحد عليه، فهو في الأول يريد أن يقام عليه الحد، وفي الثاني أراد أن لا يقام عليه الحد وتكون التوبة بينه وبين الله، ولهذا قال:(ألا تركتموه يتوب فيتوب الله عليه) فدل هذا على أن حكم الإقرار باقي، فنحن نقول إن قصة ماعز ما فيها دليل إطلاقاً على رجوع الإقرار، ولكن فيها دليل على أنه رجع عن إقامة طلب الحد عليه، ولهذا إذا جاءنا رجل يقر بأنه زنى ويطلب إقامة الحد، ولما هيأنا الآلة لنقيم عليه الحد وآتينا بالحصى لأجل أن نرجمه، فلما نظر إلى الحصى قال: دعوني أتوب إلى الله، ما ذا نقول له؟ يجب أن ندعه يتوب إلى الله، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:(هلاّ تركتموه يتوب فيتوب الله عليه) حينئذٍ ندعه يتوب فيتوب الله عليه.

وأما لو قال: إنه ما زنى، فلا يقبل، لأن هذا الرجل يريد أن يدفع عن نفسه وصفاً ثبت عليه بإقراره.

• من زنى بذات محرم فإنه يقتل بكل حال.

لحديث البراء. قال (لقيت خالي أبا بردة ومعه الراية فقال: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه أن أقتله وآخذ ماله) رواه أحمد.

وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من وقع على ذات محرم فاقتلوه) رواه ابن ماجه.

(وقال بعض العلماء حده حد الزاني).

• إذا زنى الحر المحصن والحرة المحصنة رجما حتى يموتان ويغسلان ويكفنان ويصلى عليهما ويدفنان.

• من أتى بهيمة فإنه يعزر ويؤدب ولا يقتل.

وقيل: يقتل لحديث (من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوها معه). {ضعفه بعض العلماء} .

قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله: (إن الحديث لا يقوى على استباحة دم الفاعل لما فيه من الشبه).

ص: 343

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وقال: قتل البهيمة المفعول بها فيه ثلاث فوائد:

الزجر، أن لا تحمل بحمل يكون فيه شبه من بني آدم ومن البهائم، أن لا يُعير بها.

• لا حدّ على مكرهة في قول عامة أهل العلم، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم (عفي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) رواه ابن ماجه.

• اختلف العلماء إذا أكْرِه الرجل على الزنا؟

القول الأول: أن عليه الحد.

وهذا المذهب.

قالوا: لأن الوطء لا يكون إلا بانتشار، والإكراه ينافيه، فإذا وجد الانتشار انتفى الإكراه فيلزمه الحد.

القول الثاني: لا حد عليه.

وهذا قول الشافعي واختاره ابن المنذر.

للحديث السابق، ولأن الحدود تدرأ بالشبهات، والإكراه شبهة فيمنع الحد.

وهذا القول هو الراجح.

• اختلف العلماء في إقامة الحد بالقرينة الظاهرة (الحمل) على قولين:

القول الأول: إقامة حد الزنا بالحبل بشرط أن لا تدع شبهة موجبة لدرء الحد كدعوى أنها مكرهة.

وهذا قول عمر وهو مذهب مالك.

لقول عمر (الرجم حق على من زنا إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف).

فجعل عمر مجرد وجود الحمل موجباً لإقامة حد الزنا كإيجابه بالبينة أو الاعتراف.

قال ابن القيم: وقد حكم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب والصحابة معه برجم المرأة التي ظهر بها حمل ولا زوج لها ولا سيد.

ولأن وجود الحمل أمارة ظاهرة على الزنا أظهر من دلالة البينة، وما يتطرق إلى دلالة الحمل يتطرق مثله إلى دلالة البينة وأكثر.

القول الثاني: أنها لا تحد بمجرد الحبل.

وهذا مذهب الحنفية والشافعية ورجحه الشوكاني.

لحديث (ادفعوا الحدود ما وجدتم لها مدفعاً) رواه ابن ماجه.

قالوا: والشبهة هنا متحققة من وجوه متعددة:

فيحتمل أنه من وطء إكراه، والمستكرهة لا حد عليها.

ويحتمل أنه من وطء رجل واقعها في نوم وهي ثقيلة النوم.

ص: 344

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ويحتمل أنه من وطء شبهة.

ويحتمل أنه حصل الحبل بإدخال ماء الرجل في فرجها إما بفعلها أو بفعل غيرها.

والراجح القول الأول.

• حكم اللواط:

قال في المغني: أجمع أهل العلم على تحريم اللواط، وقد ذمه الله في كتابه وعاب على من فعله، وذمه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الله تعالى (وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ).

وقد نقل الذهبي الاتفاق عل أنه من كبائر الذنوب.

• وجريمة اللواط لم يعملها أحد من العالمين قبل قوم لوط، وقد ذكر الله تعالى السور التي فيها عقوبة اللوطية وما حل بهم من البلاء في عشر سور من القرآن الكريم.

• قال ابن القيم: لم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قضى في اللواط بشيء، لأن هذا لم تكن تعرفه العرب، ولم يرفع إليه صلى الله عليه وسلم، ولكن ثبت عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال:(اقتلوا الفاعل والمفعول به).

• وقد اختلف العلماء في عقوبة اللواط على أقوال:

القول الأول: أنه عقوبته كالزاني (الرجم إن كان محصناً والجلد لغير المحصن).

قال ابن القيم: وذهب الحسن وعطاء وسعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي، وقتادة، والأوزاعي والشافعي في ظاهر مذهبه والإمام أحمد في الرواية الثانية عنه إلى أن عقوبته وعقوبة الزنا سواء.

قالوا: لأن الله سماه فاحشة (أتأتون الفاحشة) كما سمى الزنا فاحشة في قوله (وَلا تَقْرَبُوا الزنا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً) واشتراكهما في الاسم يدل على اشتراكهما في الحكم.

ولأن كلاً منهما إيلاج محرم في فرج محرم، فيعطى حكمه.

القول الثاني: أن عقوبته القتل مطلقاً (محصناً أم غير محصن).

ص: 345

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وهو رواية عن الإمام أحمد، قال ابن القيم: إنها أصح الروايتين، وهو مذهب مالك.

قال ابن القيم: فذهب أبو بكر الصديق وعلي وخالد بن الوليد وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عباس وجابر بن زيد وعبد الله بن معمر والزهري وربيعة الرأي ومالك وإسحاق بن راهوية

إلى أن عقوبته أغلظ من عقوبة الزنا، وعقوبته القتل بكل حال، محصناً كان أو غير محصن.

لحديث ابن عباس. قال: قال صلى الله عليه وسلم (مَنْ وَجَدتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَومِ لُوطٍ فَاقتُلُوا الفَاعِلَ وَالمَفْعُولَ به) رواه أبو داود والترمذي.

قال ابن القيم: إن الإمام أحمد احتجَّ بهذا الحديث.

وقد نقل ابن قدامة وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وغيرهم إجماع الصحابة على قتله، يقول ابن القيم: اتفق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتله، ولم يختلف فيه منهم رجلان، وإنما اختلفت أقوالهم في صفة قتله، فظن بعض الناس أن ذلك اختلاف منهم في قتله، فحكاها مسألة نزاع بين الصحابة رضي الله عنهم، وهي بينهم مسألة إجماع لا مسألة نزاع.

القول الثالث: أن فيه التعزير.

وهذا مذهب أبي حنيفة، قالوا: لأنه معصية من المعاصي لم يُقدِّر الله ولا رسوله فيه حداً مقدراً فكان فيه التعزير.

والراجح أن عقوبته القتل مطلقاً.

• واختلف الصحابة في كيفية قتله:

فقيل: يحرق. وهذا قول أبي بكر وعلي وابن الزبير.

قال ابن القيم: حرق باللوطية أربعة من الخلفاء: أبو بكر الصديق، وعلي، وعبد الرحمن بن الزبير، وهشام بن عبد الملك.

وقيل: يرجم بالحجارة حتى الموت. وهو قول عمر وعلي وابن عباس.

ص: 346

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وقيل: يرمى من أعلى بناء في البلد ثم يتبع بالحجارة. وهو مروي عن أبي بكر وابن عباس.

والأظهر أن ذلك راجع إلى اجتهاد الإمام، حسب مصلحة الردع والزجر.

• من زنى بذات محرم (كعمته أو خالته) فجمهور العلماء أن حكمه حكم الزنا (يرجم إن كان محصناً، ويجلد ويغرب إن كان غير محصن).

استدلالاً بالأدلة العامة في حكم الزاني، وأنها تشمل بعمومها من زنا بأجنبية أو بذات محرم.

وذهب بعض العلماء إلى أنه يقتل بكل حال واختاره ابن القيم.

لحديث البراء قال (لقيت خالي أبا بردة ومعه الراية، فقال: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه أن أقتله وآخذ ماله) رواه النسائي وأحمد.

وفي سنن ابن ماجه من حديث ابن عباس. قال: قال صلى الله عليه وسلم (من وقع على ذات محرم فاقتلوه).

قال ابن القيم: إنه مقتضى حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ص: 347

‌حد القذف

‌تعريفه:

لغة: الرمي.

واصطلاحاً: الرمي بالزنا وباللواط ونحوه مثل قول: يا زاني، يا لوطي.

وحكمه: حرام ومن كبائر الذنوب.

قال تعالى (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ).

وقال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ).

وقال صلى الله عليه وسلم (اجتنبوا السبع الموبقات: .. وذكر منها: وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات) متفق عليه.

وقال ابن قدامة: وهو محرم بإجماع الأمة.

م/ ومن قذف بالزنا محصناً أو شهد عليه به ولم تكمل الشهادة: جلد ثمانين جلدة.

أي: إذا قذف المكلف المختار محصناً جلد ثمانين جلدة.

فيشترط في القاذف: التكليف وهو البالغ العاقل المختار. (سواء كان ذكراً أو أنثى)، فلو أن امرأة قذفت رجلاً فإنه يقام عليها الحد.

أ- ودليل ذلك قواعد الشريعة المأخوذة من النصوص العامة، كحديث (رُفِعَ القَلَمُ عَنْ ثَلاثَة).

ب- وحديث (إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيهِ).

ج- ولأن القذف جناية، وفعل الصبي والمجنون لا يوصف بأنه جناية.

د- فإذا كان القاذف صبياً أو مجنوناً أو مكرهاً فلا حد عليه، لأن العقل مدار التكليف ومناطه، والمجنون لا يعتد بكلامه، فلا يؤثر قذفه، فإن كان الصبي مراهقاً بحيث يؤذي قذفه فإنه يعزر تعزيراً مناسباً، لكن لا يُحدّ ما دام أنه لم يبلغ.

هـ- فإذا قذف المكلف محصناً - وسيأتي تعريف المحصن - جلد ثمانين جلدة للحر.

لقوله تعالى (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ. إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

ص: 348

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فتضمنت هذه الآية ثلاثة أحكام في القاذف:

الأول: جلده ثمانين جلدة.

الثاني: رد شهادته أبداً.

الثالث: فسقه.

• في قوله تعالى (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ

) هذا الاستثناء يرفع الحكم الأخير، ولاشك في ذلك، وهو الفسق، فإذا تابوا زال عنهم وصف الفسق إلى العدالة، وهل يرجع الاستثناء إلى ما قبل الأخير وهو أنه إذا تاب قبلت شهادته؟ فيه تفصيل:

o إذا أقيم عليه الحد ولم يتب فإنه لا تقبل شهادته.

o وأما بعد توبته، فقد اختلف العلماء على قولين:

القول الأول: لا تقبل شهادة المحدود في قذف ولو تاب.

وهذا قول أبي حنيفة.

أ- واستدلوا بقوله تعالى (وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً .. ) وجه الدلالة: بأن الله أبّد المنع من قبول شهادتهم، وحكم عليهم بالفسق، ثم استثنى التائبين من الفاسقين، وبقي المنع من قبول الشهادة على إطلاقه وتأبيده.

ب- ولأن رد شهادة القاذف ولو تاب عقوبة من تمام الحد، فلا تسقط هذه العقوبة بالتوبة.

القول الثاني: قبول شهادة القاذف إذا تاب.

وهذا قول الشافعي وأحمد ومالك.

أ- واستدلوا بالاستثناء في آية القذف وهو قوله تعالى (

إلا الذين تابوا .. ) عائد إلى الجملتين المتعاطفتين قبله في قوله تعالى (وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ).

ب- ولأن الصحابة قبلوا شهادة القاذف كما ذكر ذلك ابن القيم.

ج- وقال ابن القيم: وأعظم موانع الشهادة: الكفر والسحر وقتل النفس وعقوق الوالدين والزنا، ولو تاب من هذه الأشياء قبلت اتفاقاً، والتائب من القذف أولى بالقبول.

د- ولعموم قوله صلى الله عليه وسلم (التائب من الذنب كمن لا ذنب له).

وهذا القول هو الصحيح.

ص: 349

م/ أو شهد عليه به ولم تكمل الشهادة: جلد ثمانين جلدة.

أي شهد عليه بالزنا، ولم تكمل الشهادة، بحيث لم يكن الشهود أربعة أو كانوا كلهم أو بعضهم غير عدول ونحو ذلك، فإنه يجلد ثمانين جلدة، وهو حد القذف، لقوله تعالى:(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ).

ص: 350

م/ وقذف غير المحصن فيه التعزير.

أي: إذا قذف المكلف شخصاً غير محصن فإنه يعزر، والتعزير هو التأديب، وليس له قدر معين - وستأتي مباحثه إن شاء الله.

ص: 351

م/ والمحصن: هو الحر البالغ المسلم العاقل العفيف.

ذكر المصنف رحمه الله تعريف المحصن، الذي يجب بقذفه الجلد 80 جلدة.

فهو:

الحر: فلو قذف عبداً فلا حد عليه، لأن الإحصان يطلق على الحرية كما في قوله تعالى (فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ) أي: الحرائر، فالرقيق ليس محصناً بهذا المعنى على قول الجمهور، وقالت الظاهرية: يقام الحد على قاذف العبد لعموم قوله صلى الله عليه وسلم (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام) ولم يفرق في ذلك بين الحر والعبد.

البالغ: بأن يكون المقذوف بالغاً، فإن كان صبياً لم يجب الحد على القاذف وإنما يعزّر، لأن زنا الصبي لا يوجب عليه الحد فلا يجب الحد بالقذف كزنا المجنون، وقيل: لا يشترط البلوغ، وهذا قول مالك، لأنه حر عاقل عفيف يتعيّر بهذا القول الممكن صدقه فأشبه الكبير، والأول أظهر، وهو أن من قذف غير بالغ لا يُحد، ولكنه يعزر.

المسلم: فالكافر ليس بمحصن، فمن أشرك بالله فلا حد على قاذفه على قول الجمهور.

أ- لقوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ).

ب- ولأنه لا يتورع عن الزنا، إذ ليس هناك ما يردعه عن ارتكاب الفاحشة.

ج- ولأن عِرْض الكافر لا حرمة له، كالفاسق المعلن لا حرمة لعرضه، بل الكافر أولى، لزيادة الكفر على المعلن بالفسق، فلو قذف كافراً فلا حد عليه.

العاقل: بأن يكون المقذوف عاقلاً، فإن كان مجنوناً لم يجب الحد على القاذف ولكنه يعزز.

العفيف: أي: أن يكون عفيفاً عن الزنا لقوله تعالى (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ) أي: العفيفات عن الزنا، وقال تعالى (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا) أي: عفت.

فمن قذف المعروف بفجوره أو المشتهر بالعبث والمجون فلا يحد، لأن القذف إنما شرع لحفظ كرامة الإنسان الفاضل، ولا كرامة للفاسق الماجن، لكن كما سبق في قذف غير المحصن التعزير.

أمثلة: مكلف قذف صغيراً فلا حد عليه، امرأة بالغة قذفت رجلاً بالغاً فإنه يقام عليها الحد، حر قذف عبداً فلا يقام عليه الحد، مكلف عاقل قذف مجنوناً فلا يقام عليه الحد.

ص: 352

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

• اختلف العلماء هل حد القذف من حقوق الله أم من حقوق الآدميين على قولين:

القول الأول: أنه من حقوق الله.

وهذا قول الحنفية ورجحه ابن حزم.

القول الثاني: أنه من حقوق المقذوف.

وهذا قول المالكية والشافعية واختاره ابن تيمية، وهذا الراجح.

• فائدة الخلاف:

إذا قلنا إنه حق للمقذوف ترتب عليه عدة أمور:

أولاً: أنه يسقط بعفوه.

ثانياً: أنه لا يقام عليه الحد حتى يطالب به.

ثالثاً: ولا يقام للولد على والده، وهذا المذهب قال ابن قدامة: مبيناً العلة: ولنا أنه عقوبة تجب حقاً لآدمي، فلا يجب للولد على الوالد كالقصاص.

وذهب بعض العلماء إلى أنه يقام عليه الحد واختاره ابن المنذر لعموم الآية.

وإذا قلنا إنه حق لله ترتب عليه:

أولاً: لا يسقط بالعفو إذا بلغ الإمام.

ثانياً: يقام عليه الحد بدون طلب.

• صريح القذف وكنايته:

الصريح ما لا يحتمل غيره، مثل: يا زاني، يا لوطي.

والكناية: تحتمل القذف وغيرها، مثل: يا قحبة، يا فاجرة، يا خبيثة.

فإن فسر الكناية بغير القذف قُبِل مع يمينه، فلو قال: أردت بالقحبة العجوز، وأردت بقولي يا خبيثة خبيثة العمل، ففي هذه الحال يقبل ولا يقام عليه الحد ولكن يعزر لإساءته للمخاطب.

ص: 353

‌باب التعزير.

م/ والتعزير واجب في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة.

التعزير: لغة: التأديب.

واصطلاحاً: هو التأديب في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة.

(لا حد فيها) فالزنا لا تعزيز فيه، لأن فيه حداً، وكذلك السرقة.

(ولا كفارة) مثل الوطء في نهار رمضان، لا تعزير فيه لأن فيه كفارة.

• لا حد لأقل التعزير.

قال ابن قدامة (لأنه لو تقدر لكان حداً).

واختلف في أكثره: والصحيح أنه لا حد لأكثره، بل هو مفوض إلى رأي الحاكم حسب المصلحة وهذا اختيار ابن تيمية ويدل لذلك:

أقضية النبي صلى الله عليه وسلم في التعزيز، ثم أقضية الصحابة في التعازير حسب المصلحة.

فعزم صلى الله عليه وسلم على التعزير بتحريق البيوت على المتخلفين على حضور الجماعة.

وأخبر عن تعزيره مانع الزكاة بأخذ شطر ماله.

وعزر بالهجر ومنع قربان النساء.

وكذلك أصحابه تنوعوا في التعزيرات بعده:

فكان عمر يحلق الرأس وينفي، ويضرب حوانيت الخمارين.

فإن قيل: ما الجواب عن حديث: (لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله).

الجواب: أن الحديث محمول على التأديب الصادر من غير الولاة، كتأديب الأب لولده ونحوه.

قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله (الصحيح أن المراد بالحد هنا حكم الله عز وجل، وقد سمى الله أحكامه حدوداً فقال: (وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه).

ص: 354

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

• بعض الأمثلة لما يجب التعزير بها:

الاستمناء باليد، إتيان البهيمة، مساحقة النساء.

حد السرقة

تعريفها: لغة: مأخوذة من الاستخفاء والتستر.

وشرعاً: أخذ المال على وجه الخفية والاستتار.

وحكمها حرام.

قال تعالى (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).

وقال تعالى (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ).

وقال صلى الله عليه وسلم (لا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن) متفق عليه.

وقال صلى الله عليه وسلم (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكن هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا) متفق عليه.

وقال صلى الله عليه وسلم (لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده). متفق عليه

وقد اختلف العلماء في معنى الحديث (لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده):

قال جماعة: المراد بها بيضة الحديد، وحبل السفينة، وكل واحد منهما يساوي أكثر من ربع دينار، وأنكره المحققون وضعفوه.

وقيل: المراد التنبيه على عظم ما خسر، وهي يده في مقابلة حقير من المال وهو ربع دينار، فإنه يشارك البيضة والحبل في الحقارة.

وقيل: أراد جنس البيض وجنس الحبل.

وقيل: إنه إذا سرق البيضة فلم تقطع جره ذلك إلى سرقة ما هو أكثر منها فقطع، فكانت سرقة البيضة هي سبب قطعه.

• ولا تقطع يد السارق إلا بشروط ذكرها المصنف رحمه الله فقال:

ص: 355

م/ (ومن سرق

).

ذكر المصنف رحمه الله الشرط الأول من شروط القطع وهو: أن يكون هناك عملية سرقة.

وهي أخذ مال الغير من مالكه ونائبه على وجه الاختفاء، ويدخل في ذلك الطرار وهو النشال وهو الذي يدخل يده في جيب شخص آخر ليأخذ ما فيه خفية أو يشقه.

• فلا قطع على المنتهب: وهو الذي يأخذ المال على وجه الغنمة معتمداً على قوته.

ولا على المختلس: وهو الذي يأخذ المال خطفاً.

ولا على الغاصب: وهو الذي يأخذ المال قهراً بغير حق.

لقوله صلى الله عليه وسلم (ليس على خائن ولا متتهب ولا مختلس قطع) رواه أبوداود.

• واختلف في جاحد العارية هل تقطع يده أم لا؟ على قولين:

القول الأول: أن جاحد العارية تقطع يده.

وهذا مذهب الحنابلة، واختاره ابن حزم وابن القيم.

عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها (أَنَّ قُرَيْشاً أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ، فَقَالُوا: مَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالُوا: وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إلاَّ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ، فَقَالَ: أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ؟ ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ، فَقَالَ: إنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَأَيْمُ اللَّهِ: لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا).

وَفِي لَفْظٍ لمسلم (كَانَتْ امْرَأَةٌ تَسْتَعِيرُ الْمَتَاعَ وَتَجْحَدُهُ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَطْعِ يَدِهَا) وهذه الرواية صريحة في أن جاحد العارية يجب عليه القطع.

ص: 356

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

القول الثاني: أن جاحد العارية لا قطع عليه.

وهذا مذهب جمهور العلماء: المالكية، والحنفية، والشافعية، واختاره ابن قدامة.

أ- لحديث جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس على خائن ولا منتهب ولا مختلس قطع). رواه أبو داود

وجاحد العارية خائن للأمانة فلا قطع عليه.

ب- أن شرط السرقة الأخذ من الحرز وهتكه، وليس في جحد العارية هتك لحرز فلا قطع عليه.

ج- أن جاحد العارية غير السارق في المعنى، لأن السارق يأخذ المال خفية بخلاف الجاحد، فإنه مؤتمن خائن لأمانته، والقطع واجب على السارق لا على الجاحد.

وأجابوا على رواية: (كانت تستعير المتاع فتجحده) بأجوبة:

أن هذه المرأة لم تقطع لجحدها العارية، وإنما قطعت لكونها قد سرقت، ويدل على ذلك أمران:

أولاً: الروايات الأخرى: (أن قريشاً أهمتهم المرأة المخزومية التي سرقت

).

ثانياً: أن الروايات في قصة المخزومية قد عللت سبب قطعها بالسرقة، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم

وقال: لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)، فهذا دليل على أن قطعها كان لسرقتها.

o أن الرواية التي فيها استعارتها للمتاع، وجحدها له، هذا لأنها كانت معروفة بهذه الصفة فسميت بها في هذه الرواية.

قال القرطبي: يترجح أن يدها قطعت على السرقة لا لأجل جحد العارية من أوجه: أحدها: قوله في آخر الحديث التي ذكرت فيه العارية: (لولا أن فاطمة سرقت) فإن فيه دلالة قاطعة على أن المرأة قطعت في السرقة، إذ لو كان قطعها لأجل الجحد لكان ذكر السرقة لاغياً، ولقال: لو أن فاطمة جحدت العارية.

o أن رواية (القطع في العارية) ضعيفة. [لكن هذا فيه نظر].

والراجح القول الثاني.

ص: 357

م/ ربع دينار من الذهب أو ما يساويه من المال.

ذكر المصنف رحمه الله الشرط الثاني من شروط القطع في السرقة: وهو أن يكون المسروق نصاباً.

والنصاب الذي تقطع به اليد ربع دينار فصاعداً عند الجمهور.

لحديث عائشة. قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تقطع اليد إلا في ربع دينار فصاعداً) متفق عليه.

وهذا الحديث مقيد للآية (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا .. ).

• فإذا سرق ربع دينار أو قدره من العروض قطع.

وأما حديث (أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع في مجنٍّ قيمته ثلاثة دراهم) رواه مسلم، فهذا محمول على أن ثلاثة الدراهم تساوي ربع دينار في ذلك الوقت.

ص: 358

م/ من حرزه.

ذكر المصنف رحمه الله الشرط الثالث من شروط القطع في السرقة: أن يكون من حرز.

• فإن سرق من غير حرز فلا قطع.

• وحرز المال ما العادة حفظه فيه [حرز كل شيء ما حفظ فيه عادة]، ويختلف باختلاف الأموال والبلدان وعدل السلطان وجوره، فحرز النقود غير حرز الماشية، وكذا حرز الأطعمة والأمتعة وغيرها.

• والدليل على اشتراط الحرز:

أ- لدخوله في مفهوم السرقة لغة.

ب- ولقوله صلى الله عليه وسلم في سارق التمر (ومن خرج بشيء منه بعد أن يُؤوِيَه الجرِين فبلغ ثمن المِجَنِّ فعليه القطع) رواه أبو داود، لأنه قبل أن يؤويه الجرين ليس في حرز، [والجرين: هو الذي يُجمع فيه التمر لييبس].

• ومن الشروط التي لم يذكرها المصنف رحمه الله:

أن يكون المسروق مالاً محترماً:

المال المحترم: مثل الثياب والطعام والدراهم والكتب وغيرها.

فلا قطع في سرقة آلة لهو كالمزمار والعود والربابة لتحريمها.

وانتفاء الشبهة. [والشبهة: هي كل ما يمكن أن يكون عذراً للسارق في الأخذ].

فلو سرق الابن من مال أبيه فلا قطع، لوجود شبهة إنفاق، لأن نفقة كل واحد منهما تجب في مال الآخر.

ولو سرق الأب من مال ابنه فلا قطع، لوجود شبهة، وهي شبهة التملك والتبسط به.

فالأصول والفروع لا يقطع بعضهم بالسرقة من مال بعض.

وذهب بعض العلماء: إلى أن كل قريب سرق من قريبه يقطع، إلا الأب إذا سرق من مال ولده فلا يقطع.

لعموم الأدلة الدالة على وجوب القطع، واستثني الأب لحديث (أنت ومالك لأبيك).

وهذا مذهب الشافعي.

وذهب بعض العلماء: أن من وجبت نفقته لم يقطع بالسرقة منه وإلا قطع.

وهذا القول فيه قوة وكذلك الذي قبله.

ص: 359

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

• ولا يقطع أحد من الزوجين بسرقتهِ من مال الآخر.

لأن كل منهما يرث صاحبه بغير حجب، ويتبسط في مال الآخر عادة، فأشبه الوالد والولد.

وقيل: يقطع لعموم الآية.

وقيل: يقطع الزوج ولا تقطع الزوجة، لأن لها النفقة في مال زوجها.

• اختلف العلماء هل يشترط في السرقة مطالبة المسروق منه بماله على قولين:

القول الأول: اشتراط ذلك.

وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد.

لحديث صفوان بن أمية (أنه نام على ردائه في المسجد، فأخذ من تحت رأسه، فجاء بسارقه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمر بقطعه، فقال صفوان: لم أرد هذا؟ ردائي عليه صدقة، فقال صلى الله عليه وسلم: هلاّ كان قبل أن تأتيني به). رواه أبوداود

القول الثاني: لا تشترط المطالبة.

وهذا مذهب مالك، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية.

لقوله تعالى (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) فليس فيها اشتراط مطالبة المسروق منه بماله المسروق.

وهذا القول هو الصحيح، لما في ذلك من حفظ الأموال واستتاب الأمن.

ص: 360

م/ قطعت يده اليمنى من مفصل الكف وحُسمت.

• قطعت يده اليمنى.

لقوله تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) ففي قراءة ابن مسعود: (فاقطعوا أيمانهما).

• من مفصل الكف.

لأن الله أطلق: (أيديهما) ولم يقيد، واليد عند الإطلاق تحمل على الكف.

• ثم حسمت:

أي حسم الدم أي قطعه، وذلك بأن يغلى زيت أو دهن أو نحوهما، ثم تغمس فيه وهو يغلي، فإذا انغمست فيه وهو يغلي تسددت أفواه العروق.

وإنما وجب حسمها: لأنها لو تركت لنزف الدم ومات.

ص: 361

م/ فإن عاد قطعت رجله اليسرى من مفصل الكعب وحسمت، فإن عاد حُبس ولا يقطع غير يد ورجل.

أي: فإن سرق بعد ذلك قطعت رجله اليسرى، وإذا سرق ثالثاً، فالمصنف رحمه الله يقول: حبِس، أي يحبس ولا يقطع، لأن في قطع اليدين تعطيلاً لمنفعة الجنس.

وذهب جمهور العلماء أنه تقطع يده اليسرى، ثم إذا سرق في الرابعة قطعت رجله اليمنى ثم إذا سرق بعد الرابعة يعزر ويحبس.

• وتثبت السرقة بشهادة عدلين، أو الإقرار ويكفي مرة واحدة.

فتثبت السرقة بشهادة عدلين اثنين، وهذا متفق عليه عند أهل العلم كما حكاه ابن رشد وابن قدامة.

فلا تثبت عقوبة القطع بشهادة رجل واحد، ولا بشهادة النساء.

وتثبت بالإقرار، وهل يشترط أن يكون مرتين أم يكفي مرة واحدة، الصحيح أنه يكفي الإقرار مرة واحدة، وهذا مذهب جماهير العلماء.

قياساً على القصاص وحد القذف، فإنه يكفي فيه الإقرار مرة واحدة.

وذهب الحنابلة إلى أنه لابد من الإقرار مرتين.

ص: 362

‌حد الحرابة

م/ قال تعالى (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ) وهم الذين يخرجون على الناس، ويقطعون الطريق عليهم بنهب أو قتل:

فمن قتل منهم وأخذ مالاً: قُتِل وصُلب.

ومن قَتَل: تحتم قتله.

ومن أخذ مالاً: قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى.

ومن أخاف الناس: نُفيَ من الأرض.

ذكر المصنف رحمه الله حكم قطاع الطريق، لأن هذه الآية نزلت في قطاع الطريق.

تعريفهم: هم قوم خرجوا على الإمام بلا تأويل مطلقاً، سواء كان لهم منعة أم لم يكن لهم منعة، يسلبون أموال الناس ويسفكون دماءهم ويهتكون أعراضهم في العراء أو في البنيان.

• وسميت هذه الجريمة حرابة ومحاربة لما فيها من سلب الأموال أو الأرواح، ولما فيها من مخالفةٍ وعصيان لأمر الله تعالى.

الأصل في حكمهم: الآية التي ذكرها المصنف رحمه الله:

قال تعالى (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ)

هذه الآية في قول ابن عباس وكثير من العلماء نزلت في قطاع الطريق من المسلمين.

واختلف في هذه الآية هل هي على التخيير أم الترتيب:

فقيل: على التخيير (فالإمام يخير بين القتل أو الصلب أو النفي) لأن أو تقتضي التخيير.

وقيل: ليست على التخيير ويكون حكمهم كالتالي:

إذا قتلوا وأخذوا المال، فإنهم يقتلون ويصلبون.

وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال، فإنهم يقتلون ولا يصلبون.

وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم (اليد اليمنى والرجل اليسرى).

وإن لم يقتلوا ولم يأخذوا مالاً نفوا.

هذا الترتيب في حكمهم هو قول جمهور العلماء.

• إذا أخذ مالاً ولم يقتل قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى، ويقطعان معاً، لأن الله قال (أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ) والواو للجمع والاشتراك.

• فإذا لم يقتل ولم يسرق فإنه ينفى، فلا يُترك يأوي إلى بلد، وهذا قول الحنابلة لظاهر الآية (أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ).

وذهب بعض العلماء - وهو قول الحنفية والشافعية - أن النفي هو السجن.

وذهب بعض العلماء - وهو قول لمالك واختاره ابن جرير والشنقيطي - أنه ينفى إلى بلد آخر ويُسجن فيه، ولا يزال منفياً حتى تظهر توبته.

• إذا قتل فإنه يتحتم قتله، فيقام عليه القصاص، وليس فيه خيار لأولياء المقتول، لأن القتل هنا ليس قصاصاً، ولكنه حد، فلا يجوز العفو عنه، وآية المحاربة بينت أن عقوبة القتل عقوبة تثبت جزاء المحاربة لله تعالى، وما كان كذلك فهو حق لله تعالى لا يجوز إسقاطه، ولأن ضرر هذه الجريمة ضرر عام للمجتمع بأسره غير مختص بالمجني عليه.

• إذا قتل وأخذ المال فإنه يقتل ويصلب، لقوله تعالى (أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا).

والصلب: أن يربط على خشبة لها يدان معترضتان وعود قائم.

قيل: يقتل ثم يصلب، وقيل: بل يصلب قبل القتل، والله أعلم.

والراجح في مدة الصلب، أنه يصلب حتى يشتهر أمره، لأن المقصود يحصل به.

وهذا الترتيب على مذهب الجمهور كما سبق، وذهب مالك إلى أن تعدد العقوبات هنا يقصد به التخيير، وأن الإمام مخير، لأن لفظة (أو) للتخيير، والله أعلم.

ص: 363

‌باب البغاة

م/ من خرج على الإمام يريد إزالته عن منصبه فهو باغ.

ذكر المصنف رحمه الله تعريف البغاة، لكنه مختصر.

والبغاة جمع باغ، وهو لغة: الظلم ومجاوزة الحد، سموا بذلك لظلمهم وعدولهم عن الحق.

واصطلاحاً: هم الخارجون على الإمام بتأويل سائغ ولهم شوكة.

سموا بغاة لعدولهم عن الحق وما عليه أئمة المسلمين.

• فإن اختل شرط من ذلك بأن لم يخرجوا على إمام أو خرجوا على إمام بلا تأويل أو بتأويل غير سائغ أو كانوا جمعاً يسيراً لا شوكة لهم فقطاع طريق.

• يشترط في الخارجين على الإمام لكي يكونوا بغاة شروط:

أولاً: أن يكونوا مسلمين.

قال تعالى (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا

).

فإذا خرج على الإمام ذميون أو مستأمنون فلا يعتبرون بغاة ولهم أحكامهم الخاصة.

ثانياً: أن يكون لهم منعة وشوكة.

وهو أن يكون للبغاة منعة وقوة وشوكة يحتاج معها الإمام إلى إعداد جيش لقتالهم.

ثالثاً: أن يكون لهم تأويل سائغ.

والدليل على ذلك: هو ما حصل من الخارجين على علي رضي الله عنه من أهل الجمل وصفين، وذلك بأن قالوا إن علياً يعرف قتلة عثمان ويقدر عليهم ولا يقتص منهم لمواطأته إياهم، وهذا تأويل اعتقدوا به على جواز الخروج على الإمام وهو علي بن أبي طالب.

ولا بد أن يكون التأويل سائغاً يصلح أن يعتمد عليه.

وقد ذكر ابن تيمية في تفريقه بين البغاة والخوارج بأن قتال أهل الجمل وصفين علياً كان بسبب اعتمادهم على تأويل سائغ.

أما المارقون من الخوارج فقاتلهم علي بسب تأويلهم الفاسد.

• ويعتبرون بغاة ولو كان الإمام ظالماً جائراً ما لم يحدث كفراً، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: مذهب أهل الحديث ترك الخروج بالقتال على الملوك البغاة، والصبر على ظلمهم إلى أن يستريح برٌ أو يُستراح من فاجر، ويدل لذلك قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ).

فهذه الآية دلت على وجوب طاعة ولي الأمر ولم تشترط عدالته.

ص: 364

م/ وعلى الإمام مراسلة البغاة، وإزالة ما ينقمون عليه مما لا يجوز وكشف شبههم.

ذكر المصنف رحمه الله موقف الإمام من البغاة:

وهو أن يراسلهم فيسألهم ما ينقمون منه، لأن علياً أرسل ابن عباس إلى الخوارج الذين خرجوا عليه ليناظرهم، فناظرهم فرجع كثير منهم إلى الحق.

• فإن ذكروا مظلمة أزالها.

لقوله تعالى (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا)، لأن إزالة المظلمة وسيلة إلى الصلح المأمور به.

• ويكشف ما يدعونه من شبهة، لأن في كشف شبهتهم رجوعاً إلى الحق.

لأن الله أمر بالإصلاح أولاً، والإصلاح إنما يكون بمراسلتهم وكشف شبهتهم وإزالة ما يدعونه من مظلمة.

ص: 365

م/ فإن انتهوا كف عنهم وإلا قاتلهم.

أي: انتهوا ورجعوا إلى صوابهم فهذا المطلوب، وإلا قاتلهم وجوباً لدفع شرهم.

لقوله تعالى (فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ).

ولدفع شرهم وأذاهم على المسلمين.

وللحفاظ على وحدة الدولة الإسلامية وعزتها.

ص: 366

م/ وعلى رعيته: معونته على قتالهم.

أي: ويجب على رعية الإمام مساعدته وتأييده على قتال البغاة.

لأن الصحابة قاتلوا مانعي الزكاة مع أبي بكر، وقاتلوا الخوارج مع علي.

ولأنهم لو تركوا معونة الإمام لقهره أهل البغي وظهر الفساد في الأرض.

ص: 367

م/ وإن قُتِل الدافع كان شهيداً.

الدافع: هو الذي يقاتل مع الإمام، لأن الإمام يلزمه قتال هؤلاء البغاة حتى يكف شرهم.

ص: 368

• فإذا قُتلَ هذا الدافع كان شهيداً لأنه قتل مظلوماً، فهو يقاتل مع أهل الحق ضد أهل البغي.

م/ ولا يتّبع لهم مدبر، ولا يجهز على جريح، ولا يغنم لهم مال، ولا يسبى لهم ذرية، ولا ضمان على أحد الفريقين فيما أتلف حال الحرب من نفوس وأموال.

[لا يتبع لهم مدبر] أي: لا يقاتَل مدبرهم، والمدبر: من ولى دبره وهرب. [ولا يجهز على جريح] أي: لا يقتل لهم جريح. [ولا يسبى لهم ذرية] الذرية النساء والصبيان، والسبي الأخْذ.

ذكر المصنف رحمه الله كيفية قتال أهل البغي، وأن قتالهم يختلف عن قتال الكفار، فإن قتالهم يختلف عن قتال غيرهم، من حيث القصد والهدف:

لأن القصد من قتالهم ردهم إلى الطاعة وردعهم عن التمرد ودرء الفتنة، لأنهم مسلمون.

• الفرق بين قتالهم وقتال المشركين:

أولاً: أن القصد من قتالهم ردعهم بخلاف المشركين.

ثانياً: عدم جواز الإجهاز على جريح البغاة بعكس جريح المشركين فإنه يجوز الإجهاز عليه.

ثالثاً: أنه لا يقتل أسير البغاة بخلاف أسير المشركين فإنه يجوز قتله.

رابعاً: لا يتبع مدبرهم.

خامساً: أن أموال البغاة لا يجوز قسمتها ولا تسبى ذريتهم، لأنهم لم يكفروا ببغيهم وقتالهم، بخلاف أموال المشركين فإنها غنيمة للمسلمين.

سادساً: أنه لا ينصب عليهم المنجنيق ومثله في عصرنا الحاضر المدافع والقنابل والطيارات.

سابعاً: لا تحرق مساكن البغاة ولا مصانعهم ولا يقطع نخيلهم وأشجارهم ولا يقطع الماء عنهم، بخلاف المشركين فإنه يستعمل معهم الوسائل المؤدية إلى استسلامهم والنصر عليهم.

ص: 369

‌باب حكم المرتد.

م/ والمرتد هو: من خرج عن دين الإسلام إلى الكفر بفعل أو قولٍ أو اعتقاد أو شك.

ذكر المصنف رحمه الله تعريف المرتد.

فالمرتد لغة: هو الراجع. واصطلاحاً: هو الراجع عن دين الإسلام إلى الكفر.

• وحكم المرتد كافر يقتل كفراً لا حداً.

أ- قال تعالى (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).

ب- وعن ابن عباس. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من بدل دينه فاقتلوه) رواه البخاري.

ج- وعن ابن مسعود. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة) متفق عليه.

د- وقال صلى الله عليه وسلم (أيما رجل ارتد عن الإسلام فادعه فإن تاب وإلا فاضرب عنقه، وإيما امرأة ارتدت عن الإسلام فادعها فإن عادت وإلا فاضرب عنقها) سنده حسن كما قال الحافظ ابن حجر.

وهذا يدل على أن المرأة كالرجل وهو قول أكثر العلماء.

ص: 370

م/ وقد ذكر العلماء رحمهم الله تفاصيل ما يخرج به العبد من الإسلام، وترجع كلها إلى جحد ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم أو جحد بعضه غير متأول في جحد البعض.

الردة تحصل بارتكاب ناقض من نواقض الإسلام سواء كان جاداً أو هازلاً أو مستهزئاً.

لقوله تعالى (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ. لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ).

ونواقض الإسلام كثيرة:

الشرك بالله: كمن دعا غير الله من الموتى والأولياء والصالحين، أو ذبح لقبورهم، أو نذر لها.

من جحد بعض الرسل أو بعض الكتب الإلهية.

وكذلك من جحد الملائكة أو من جحد البعث بعد الموت فقد كفر لأنه مكذب لله ولرسوله.

وكذلك من سب الله تعالى أو سب نبياً من أنبيائه فقد كفر.

وكذلك من ادعى النبوة فقد كفر لأنه مكذب لقوله تعالى (ولكن رسول الله وخاتم النبيين).

والأمثلة كثيرة جداً. فعلى المسلم أن يعرفها حتى يتجنبها.

ص: 371

م/ فمن ارتد: استتيب ثلاثة أيام، فإن رجع وإلا قتل بالسيف.

بعد أن اتفق أهل العلم على وجوب قتل المرتد، اختلفوا في وجوب استتابته على قولين:

القول الأول: أنه يستتاب وإلا قتل.

وهذا مذهب أكثر أهل العلم.

قال ابن قدامة: أنه لا يقتل حتى يستتاب ثلاثاً، هذا قول أكثر أهل العلم.

لأن الردة تكون عن شبهة، وهي لا تزول في الحال.

القول الثاني: أنه لا يجب استتابته.

وهذا قول الحسن وطاووس وأهل الظاهر.

لقوله صلى الله عليه وسلم (من بدل دينه فاقتلوه) ولم يذكر الاستتابة.

والراجح أن الأمر راجع إلى رأي الإمام ينظر حسب المصلحة.

ص: 372

كتاب القضاء والدعاوى والبينات وأنواع الشهادات

سيذكر المصنف رحمه الله في هذا الباب: أحكام القضاء والدعاوى والبينات.

القضاء، لغة: إحكام الشيء والفراغ منه.

واصطلاحاً: تبيين الحكم الشرعي والإلزام به، وفصل الخصومات.

(تبيين الحكم الشرعي) جنس يشمل القاضي والمفتي.

(والإلزام به) هذا قيد يخرج المفتي، لأنه لا يلزم بالحكم الشرعي.

(وفصل الخصومات) فيه بيان الغرض من القضاء وهو قطع الخصومة بين المتخاصمين.

• والدعاوى: جمع دعوى، وهي: أن يضيف الإنسان إلى نفسه حقاً على غيره.

• والإقرار: أن يضيف الإنسان حقاً لغيره على نفسه.

• والبينات: جمع بينة، وهي: ما يظهر به الحق ويبين به، كالشهود وغيرهم.

ص: 373

‌كتاب القضاء

والأصل في مشروعيته الكتاب والسنة والإجماع والعقل.

أ- قال تعالى (يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ).

ب- وقال سبحانه (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ).

ج- وعن عمرو بن العاص. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر) متفق عليه.

وأجمع المسلمون على مشروعية نصب القضاء والحكم بين الناس.

د- وعقلاً: لأن القضاء من ضرورات الاجتماع، به ينتشر العدل، ويعم الأمن، ويُدفع القوي عن الضعيف، ويُنصف المظلوم من الظالم، لولا الفضاء لعمت الفوضى، واختل الأمن، وفسد النظام.

• والقضاء ورد فيه ترغيب وترهيب:

الترغيب:

عن أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله .. ).

الترهيب:

عن بريدة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (القضاة ثلاثة: واحد في الجنة واثنان في النار، فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به، ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار) رواه أبوداود.

وعن أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من ولي القضاء فقد ذبح بغير السكين) رواه أبوداود.

ص: 374

م/ والقضاء لابد للناس منه، فهو فرض كفاية.

ذكر المصنف رحمه الله حكم القضاء، وأنه فرض كفاية.

أ- لأن أمر الناس لا يستقيم بدونه.

ب- وكان صلى الله عليه وسلم يتولاه بنفسه، وبعث علياً إلى اليمن قاضياً، وبعث معاذاً قاضياً.

ج- ولعموم قوله صلى الله عليه وسلم (لا يحل لثلاثة يكونون بفلاة من الأرض إلا أمروا عليهم أحدهم).

قال الإمام أحمد: لا بد للناس من حاكم، أتذهب حقوق الناس؟

ص: 375

م/ يجب على الإمام نصب من يحصل فيه الكفاية ممن له معرفة بالقضاء بمعرفة الأحكام الشرعية وتطبيقها على الوقائع الجارية بين الناس.

أي: يجب على الإمام أن ينصب في كل قطْرٍ قاضياً أو أكثر يفصل بين المتنازعين.

أ- لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث علياً قاضياً، وبعث معاذاً قاضياً أيضاً.

ب- ولأنه المسؤول الأول عن أمور المسلمين، فيلزمه أن يقوم بذلك بنفسه أو بتعيين من ينوب عنه في القيام بهذا العمل.

ويجب عليه أن ينصب أفضل من يجد علماً، والمراد بالعلم: معرفة الأحكام الشرعية وتطبيقها على الوقائع بين الناس.

ص: 376

م/ وعليه أن يولي الأمثل فالأمثل في الصفات المعتبرة في القاضي.

(وعليه) أي: يجب عليه، أي على الإمام، أن يولي الأمثل فالأمثل حسب الصفات المعتبرة التي تنبغي أن توجد في القاضي:

كالورع: وهو ترك ما يضر في الآخره.

وتقوى الله:

أ- لأنها هي وصية الله للأولين والآخرين كما قال تعالى (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ).

ب- ولأن في تقوى القاضي لله تيسيراً لأموره وتسهيلاً لمهمته.

ج- ولأن في تقوى القاضي سبباً لمعرفة الحق ومعرفة المحق لقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ).

• هناك شروط للقاضي ينبغي توفرها:

أن يكون مسلماً.

فلا يُولّى الكافر.

أ- لقوله تعالى (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً).

ب- ولأن الكفر يقتضي إذلال صاحبه، والقاضي يجب احترامه، وبينهما منافاة.

ج- ولأن الإسلام شرط في الشهادة، فلأن يكون شرطاً في القضاء بطريق الأولى.

أن يكون بالغاً عاقلاً.

لأنه بفواتهما تفوت القوة التي هي أحد ركني الكفاءة، ولأنهما هما بأنفسهما يحتاجان إلى ولي، فلا يمكن أن يكونا وليين على غيرهما.

أن يكون ذكراً.

أ- لحديث أبي بكرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) رواه البخاري.

ب- ولأن المرأة ناقصة العقل، وقليلة الرأي، وليست أهلاً لحضور محافل الرجال ورؤية الخصوم.

أن يكون حراً.

وهذا مذهب جمهور العلماء، يشترط أن يكون حراً.

أ- قالوا: لأن القضاء منصب شريف، فلا يجوز أن يتولاه عبد، كالإمامة العظمى.

ب- ولأن العبد في أعين الناس ممتهن، والقاضي موضوع للفصل بين الخصوم، فحال الرقيق ينافي حال الولاية.

ج- ولأنه مشغول بخدمة سيده.

وذهب بعض العلماء إلى جواز أن يكون الرقيق قاضياً، وهذا قول ابن حزم، ورجحه الشيخ ابن عثيمين، لعموم الأدلة، بشرط أن يأذن له سيده.

أن يكون عدلاً.

ص: 377

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فلا يجوز تولية فاسق.

أ- لأن الله يقول (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا) والحاكم يجيء بقول، فلا يجوز قبوله مع فسقه.

ب- ولأن الفاسق لا يجوز أن يكون شاهداً، فلأن لا يجوز أن يكون قاضياً بطريق الأولى.

ج- ولأنه لا يؤمن أن يحيف لفسقه.

• والعدل هنا: من كان قائماً بالواجبات، مبتعداً عن المحرمات، بعيداً عن الريب، ظاهر الأمانة، مأموناً في الغضب والرضا.

أن يكون بصيراً.

ليعرف المدعي من المدعى عليه، والمقر والمقر له، والشاهد من المشهود عليه.

وقيل: لا يشترط، بل يصح قضاء الأعمى، ونسبه ابن قدامة لبعض الشافعية.

لعدم المانع من قضائه، فإن الأعمى يدرك بحسه السمعي أكثر مما يدرك البصير.

أن يكون متكلماً.

لأن الأخرس لا يمكنه النطق بالحكم، ولا يفهم جميع الناس إشارته.

وقيل: يصح قضاء الأخرص، لأنه يمكن إيصال الحكم إلى الخصمين عن طريق الكتابة أو الإشارة المفهومة.

• وهذه الشروط معتبرة حسب الإمكان، فإذا تعذر وجود من تتوافر فيه جميع هذه الشروط ولي الأفضل من الموجودين.

• تفيد ولاية القاضي:

الفصل بين الخصوم - أخذ الحق لبعضهم من بعض - النظر في أموال غير المرشدين - وإقامة الحدود - الحجر على من يستوجبه لسفه أو فلس - تزويج من لا ولي لها، وغيرها مما استحدث الآن.

• للقاضي آداب ينبغي أن يتحلى بها:

ينبغي أن يكون قوياً من غير عنف، ليناً من غير ضعف، لا يطمع القوي في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله، ويكون حليماً متأنياً ذا فطنة وتيقظ لا يؤتى من غفلة ولا يخدع لغرة.

قال علي: لا ينبغي أن يكون القاضي قاضياً حتى يكون فيه خمس خصال: عفيف، حليم، عالم بما كان قبله، مستشير ذوي الألباب، لا يخاف في الله لومة لائم.

• يجب على القاضي أن يعدل بين الخصمين في لحظه ولفظه.

لحظه: أي النظر، فلا ينظر إلى أحد الخصمين نظرة غضب وللآخر نظرة رضا.

لفظه: أي كلامه، فلا يلين لأحدهما ويغلظ للآخر.

ص: 378

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

لقوله تعالى (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ).

وقال تعالى (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا).

• ويحرم عليه أن يقضي لأحد الخصمين قبل أن يسمع كلام الآخر.

لحديث علي. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا تقاضى إليك رجلان فلا تقض للأول حتى تسمع كلام الآخر، فسوف تدري كيف تقضي) رواه أبوداود.

• ويحرم عليه أن يقضي وهو غضبان.

لحديث أبي بكرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يقضين حاكم بين اثنين وهو غضبان) متفق عليه.

• ومثله الحاقن أو في شدة جوع أو عطش أو همٍ أو ملل).

• الحكمة من النهي: لأن الغضب يمنع من تصور المسألة أولاً ثم تطبيق الحكم الشرعي عليها.

• لو خالف وحكم وهو غضبان فقد اختلف العلماء هل ينفذ حكمه، فقيل: لا ينفذ مطلقاً، وقيل: ينفذ إن أصاب الحق وإن لم يصب الحق لا ينفذ، وهذا الصحيح.

• ويحرم عليه أخذ رشوة.

وهي المال المدفوع من أحد الخصمين سواء كان محقاً أو مبطلاً.

لحديث عبد الله بن عمرو. قال (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي) رواه الترمذي.

ولأضرارها الكبيرة، منها:

أولاً: أن فيها فساد الخلق.

ثانياً: أنها سبب لتغيير حكم الله.

ثالثاً: أن فيها ظلماً وجوراً.

رابعاً: أن فيها أكلاً للمال بالباطل.

خامساً: أن في الرشوة ضياع الأمانات.

• أخذ الرشوة له صورتان:

الصورة الأولى: أن يأخذ من أحد الخصمين ليحكم له بباطل.

الصورة الثانية: أن يمتنع من الحكم بالحق لمستحقه حتى يعطيه.

ص: 379

م/ ويتعين على من كان أهلاً، ولم يوجد غيره، ولم يشغله عما هو أهم منه.

ذكر المصنف رحمه الله متى يكون القضاء فرض عين، وذلك بأمور:

أولاً: إذا طلب منه، فإذا لم يطلب منه فلا يكون فرض عين عليه، لأن المسؤول عن تولية القضاة هو الإمام.

ثانياً: ولم يوجد أهلٌ يوثق به، فإن وجِد لم يتعين.

ثالثاً: ولم يشغله عما هو أهم، فإن كان يشغله عن تعليم الناس والتصنيف وغيرها من نفع الناس فالأولى أن لا يكون قاضياً.

ص: 380

‌باب البينات

م/ قال النبي صلى الله عليه وسلم (البينة على المدعي، واليمين على من أنكر).

ذكر المصنف رحمه الله حديث ابن عباس (البينة على .... ) وقد رواه البيهقي وهو حديث صحيح، لأنه من الأحاديث المهمة في باب البينات، ولهذا قال السعدي رحمه الله: هذا الحديث عظيم القدر، وهو أصل من أصول القضايا والأحكام، فإن القضاء بين الناس إنما يكون عند التنازع، هذا يدعي على هذا حقاً من الحقوق، فينكره، وهذا يدعي براءته من الحق الذي كان ثابتاً عليه، فبين صلى الله عليه وسلم أصلاً بفض نزاعهم، ويتضح به المحق من المبطل، فمن ادعى عيناً من الأعيان، أو ديناً، أو حقاً من الحقوق وتوابعها على غيره، وأنكره ذلك الغير، فالأصل مع المنكر، فهذا المدعي إن أتى ببينة تثبت ذلك الحق، ثبت له، وحُكمَ له به، وإن لم يأت ببينة، فليس له على الآخر إلا اليمين.

أن البينة على المدعي، أي يقيم المطالب الدليل على صدقه ويُظهر الحجة، ومن البينة الشهود، الذين يشهدون على صدقه.

• الحكمة في كون البينة على المدعي، لأنه يدعي أمراً خفياً بحاجة إلى إظهار، والبينة دليل قوي لإظهار ذلك.

• أنه إذا لم يجد المدعي بينة ولا شهوداً، فإن القاضي يطلب من المدعَى عليه أن يحلف أن ما ادعاه عليه المدعي غير صحيح ويكون الحكم له بيمينه.

ويجب الحذر من الأيمان الكاذبة، فقد جاء الوعيد في ذلك:

قال صلى الله عليه وسلم (من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة، قيل: يا رسول الله وإن كان شيئاً يسيراً، قال: وإن كان قضيباً من أراك) متفق عليه.

• بين صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الحكم، وبين الحكمة في هذه الشريعة الكلية، وأنها عين صلاح العباد في دينهم ودنياهم، وأنه لو يعطى الناس بدعواهم لكثر الشر والفساد، ولادعى رجال دماء قوم وأموالهم.

• البدء بالمدعي في الحكم.

• أن الشريعة جاءت لحماية أموال الناس ودماءهم.

ص: 381

م/ وقال صلى الله عليه وسلم (إنما أقضي بنحو ما أسمع).

ذكر المصنف رحمه الله حديث أبي هريرة. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنكم تختصمون إليّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قطعت له من حق أخيهِ شيئاً، فإنما أقطع له قطعة من النار) متفق عليه، ليستدل به على أن القاضي يحكم بما ظهر له على حسب ما سمع.

[إنكم تختصمون إليّ] أي: تتحاكمون إلي. [ولعل] لعل هنا بمعنى عسى. [ألحن بحجته من بعض] أفطن وأبلغ في حجته من الآخر. [فمن قطعت له من حق أخيهِ شيئاً] معنى قطعت له: أي: أعطيته بهذا الحكم. [فإنما أقطع له قطعة من النار] إذا كان الذي قضيت له بحسب الظاهر، لا يستحقه باطناً فهو عليه حرام. [قطعة من النار] أي: يؤول به إلى النار.

• وهذا الحديث فيه فوائد:

o الحديث دليل على أن القاضي يقضي ويحكم على حسب ما يسمع من الخصمين، لأنه مأمور بالحكم بالظاهر، والإثم والتبعة على من كسب القضية بأمر باطل.

o الحديث دليل على أن حكم القاضي لا يغير حكماً شرعياً في الباطن فلا يحل حراماً.

مثال: لو شهدا شاهدا زور لإنسان بمال، فحكم القاضي بهذا المال لهذا الشخص فإنه لا يحل له بناء على هذه الشهادة، وهذا مذهب جماهير العلماء، وعلى هذا فيكون قضاء القاضي نافذاً ظاهراً لا باطناً.

وجه الدلالة: لأنه توعد من حكم له بأنه يقتطع له قطعة من نار.

ص: 382

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

o أن القاضي لا يجوز له أن يقضي بعلمه، وهذه مسألة اختلف العلماء فيها على قولين:

القول الأول: لا يجوز أن يقضي بعلمه بل لابد من البينة.

وهذا قول مالك وأحمد ونصره ابن القيم.

لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث الباب: (فأقضي له نحو ما أسمع) فدل على أنه يقضي فيما يسمع لا فيما يعلم.

القول الثاني: يجوز ذلك.

وهو قول أبي يوسف وأبي ثور واختاره المزني وهو قول الظاهرية.

واستدلوا بحديث عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ (دَخَلَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ - امْرَأَةُ أَبِي سُفْيَانَ - عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ، لا يُعْطِينِي مِنْ النَّفَقَةِ مَا يَكْفِينِي وَيَكْفِي بَنِيَّ، إلاَّ مَا أَخَذْتُ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ. فَهَلْ عَلَيَّ فِي ذَلِكَ مِنْ جُنَاحٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: خُذِي مِنْ مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ مَا يَكْفِيكِ وَيَكْفِي بَنِيكِ) متفق عليه.

فحكم لها من غير بينة ولا إقرار لعلمه بصدقها.

وقالوا: إن علم القاضي أقوى من الشهادة، لأن علمه يقين، والشهادة قد تكون كذباً.

والراجح الأول.

قال ابن قدامة: فأما حديث أبي سفيان فلا حجة فيه لأنه فتيا لا حكم، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم أفتى في حق أبي سفيان من غير حضوره، ولو كان حكماً عليه لم يحكم عليه في غيبته.

o أن حكم القاضي لا يحلل حراماً ولا يحرم حلالاً.

o عقوبة من أخذ مالاً بدون حق أنه يقتطع قطعة من النار.

o أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب.

قال تعالى: (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ).

o أن الرسول يجوز عليه في أمور الأحكام ما يجوز على غيره، لأنه صلى الله عليه وسلم يحكم على الناس بأمور الظاهر.

o مشروعية وعظ الخصوم وتحذيرهم من عاقبة الكذب.

ص: 383

م/ فمن ادعى مالاً ونحوه فعليه البينة إما شاهدان أو رجل وامرأتان أو رجل ويمين المدَّعَى لقوله تعالى تعالى (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ) وقد قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالشاهد مع اليمين) وهو حديث صحيح.

أي: أن من ادعى مالاً ونحوه على شخص فعليه البينة (أي: يطالب أن يقيم المطالب الدليل على صدقه ويُظهر الحجة) وهي البينة، وهي كما قال المصنف رحمه الله إما شاهدان أو رجل وامرأتان أو رجل ويمين المدعي، وسبق الحكمة في كون البينة على المدعي: لأنه يدعي أمراً خفياً بحاجة إلى إظهار، والبينة دليل قوي لإظهار ذلك.

ففي الأموال وما يقصد به المال كالبيع والأجل: رجلان أو رجل وامرأتان.

للآية (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ).

• ويجوز بشاهد مع يمين المدعي للحديث الذي ذكره المصنف (قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالشاهد مع اليمين).

وهذا مذهب جمهور العلماء: أن القاضي يقضي بالشاهد واليمين (مالك والشافعي وأحمد) وقضى به عدد من الصحابة ومنهم الخلفاء الأربعة.

وذهب بعض العلماء إلى أنه لا يقبل القضاء بالشاهد واليمين وهذا مذهب أبي حنيفة وأصحابه وهو قول الشعبي والنخعي والأوزاعي.

واستدلوا بقوله تعالى (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ) فهذه الآية نص صريح في اشتراط عدد الشهود.

واستدلوا بحديث (البينة على المدعي

) فهذا الحديث يبين أن اليمين على المدعى عليه، وأنتم تجعلون اليمين على المدعي، وهذا مخالفة لهذا الحديث.

واستدلوا بحديث الأشعث (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: شاهداك أو يمينه، ليس لك إلا ذاك). فالنبي صلى الله عليه وسلم نفى أن يستحق المدعي شيئاً بغير الشاهدين، فدل على أنه لا يحكم للمدعي بيمينه مع شاهده.

والراجح القول الأول.

ص: 384

م/ فإن لم يكن له بينة، حلف المدَّعَى عليه وبرئ.

أي: فإن لم يكن للمدعِي بينة - لا رجلان، ولا رجل وامرأتان، ولا رجل ويمين - فإن القاضي يطلب من المدعى عليه أن يحلف على البراءة فيقول: والله ما له عندي شيء، ويبرأ.

ص: 385

م/ فإن نكل عن الحلف قضيَ عليه بالنكول، أو ردت على المدَّعي، فإذا حلف مع نكول المدعّى عليه أخذ ما ادعى به.

أي: فإذا نكل (والنكول: هو الامتناع عن اليمين) وامتنع المدعى عليه من الحلف، فهنا اختلف العلماء:

فقيل: يقضى عليه بالنكول بمجرد رفضه الحلف ولا ترد على المدعي.

مثال: ادعى زيد على عمرو (100) ريال، فقيل لزيد: هات البينة، فقال: ليس عندي بيّنة، وطلب أن يحلف المُنكر - الذي هو عمرو - فقال عمرو: لا أحلف، فعلى هذا القول: يحكم عليه بالنكول ولا نقول لزيد - المدعي - احلف أنك تطلبه كذا وكذا.

لقوله صلى الله عليه وسلم (البينة على المدعي واليمين على من أنكر) فلم يجعل في جانب المدعي إلا البينة.

وقيل: أن اليمين ترد على المدعي (وهو طالب الحق)، وهو إن كان صادقاً في دعواه فالحلف لا يضره، وإن كان كاذباً فقد يهاب الحلف ولا يحلف.

[الشرح الممتع: 15/ 321].

وفي هذه الحالة: إذا حلف أخذ ما ادعى به واستحق المتنازع عليه.

واستدل أصحاب هذا القول بحديث ابن عمر (أن النبي صلى الله عليه وسلم رد اليمين على طالب الحق) رواه الدارقطني وهو حديث ضعيف. [معنى رد الحق: تنقل من المدعَى عليه إلى المدعِي].

ولأنه إذا رفض المدعي عليه أن يحلف ظهر صدق المدعي، فقوي جانبه، فتشرع اليمين في حقه كما كانت تشرع في حق المدعى عليه قبل نكولهِ. [اليمين في حق من جانبه أقوى دائماً].

ص: 386

م/ ومن البينة: القرينة الدالة على صدق أحد المتداعيين، مثل: أن تكون العين المدعى بها بيد أحدهما، فهي له بيمينه، ومثل: أن يتداعى اثنان مالاً لا يصلح إلا لأحدهما، كتنازع نجار ونحوه بآلة نجارة، وحداد ونحوه بآلة حدادة ونحو ذلك.

البينة في اللغة: الدليل والحجة

واصطلاحاً: قيل هي الشهادة والشهود. قال تعالى (واستَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِن رِجَالِكُمْ)

وفي الصحيحين (شاهداك أو يمينه).

وقيل: هي اسم جامع لكل ما يبيّن الحقّ ويظهره، فكل وسيلة في إثبات الحقّ وإظهاره أمام القاضي فهي بينة ورجحه ابن القيم، كالشهود، أو قرينة حالية، أو براءة أصلية.

• فمن البينة الشهود، وسيأتي في الباب القادم ما يتعلق بالشهادة، مثال: ادعى عمرو على زيد بمال، فيطالب عمرو بالبينة وهي الشهود.

ومنها: القرينة - كما ذكره المصنف - والقرينة: كل أمرٍ يحتف بالقضية بحيث يرجح أحد الجانبين أو الآخر.

ومن أمثلة القرائن: ما جاء في قصة سليمان عليه السلام حينما اختصمت إليه امرأتان صغرى وكبرى:

عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (بَيْنَمَا امْرَأَتَانِ مَعَهُمَا ابْنَاهُمَا جَاءَ الذِّئْبُ فَذَهَبَ بِابْنِ إِحْدَاهُمَا. فَقَالَتْ هَذِهِ لِصَاحِبَتِهَا إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ أَنْتِ. وَقَالَتِ الأُخْرَى إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ. فَتَحَاكَمَتَا إِلَى دَاوُدَ فَقَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى فَخَرَجَتَا عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ عليهما السلام فَأَخْبَرَتَاهُ فَقَالَ ائْتُونِى بِالسِّكِّينِ أَشُقُّهُ بَيْنَكُمَا. فَقَالَتِ الصُّغْرَى لَا يَرْحَمُكَ اللَّهُ هُوَ ابْنُهَا. فَقَضَى بِهِ لِلصُّغْرَى». قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَاللَّهِ إِنْ سَمِعْتُ بِالسِّكِّينِ قَطُّ إِلاَّ يَوْمَئِذٍ مَا كُنَّا نَقُولُ إِلاَّ الْمُدْيَة) متفق عليه.

فحكم سليمان بالابن للصغرى لقرينة أنها قالت: هو ابنها، حيث أدركتها شفقت الأمومة.

وفي قصة يوسف عليه السلام (إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ. وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ) فالقرينة: أنه إذا قدّ من دبر، فإنه حاول أن يهرب ولكن تحاول الإمساك به، وإن كان قد من قبل فإنها تحاول أن تدافع عن نفسها.

ومن القرائن ما ذكره المصنف رحمه الله: أن تكون العين المدعى بها بيد أحدهما، فهي له بيمينه.

كما لو جاء رجل إلى زيد وقال له: هذه الساعة التي بيدكَ لي، فهنا القرينة تدل على أنها لزيد، لأن الساعة بيده، فيحلف زيد وتكون له.

ومثل: أن يتداعى اثنان مالاً لا يصلح إلا لأحدهما، كتنازع نجار ونحوه بآلة نجارته.

كما لو ادعى رجل ليس بنجار، على رجل آخر نجار، وقال: إن هذا المنشار [آلة لقطع الخشب] لي، وهو ليس بنجار، فهنا القرينة تدل على أن المنشار ليس له، لأنه ليس بنجار، فهنا يحكم القاضي بالآلة للنجار مع يمينه.

• وهذا إن لم يوجد لمن كانت العين بغير يده بيّنة، فإن وجدت له بينة فهي له، لأن البينة أقوى من القرينة، وإن لم توجد لكليهما بينة فالعين المتنازع عليها لمن هي بيده بيمينه.

ص: 387

‌باب الشهادة

لغة: الحضور والعلم والإعلام.

واصطلاحاً: إخبار بحق يعلمه للغير على الغير.

قولنا (يعلمه) فلا بد من علمه بالشيء، فلا يمكن أن يشهد بالظن.

•‌

‌ والشهادة تنقسم إلى قسمين:

تحمل، وأداء.

التحمل: ويكون ذلك بشهود الواقعة (التزام الإنسان بالشهادة).

وأداء: ويكون ذلك عند الحاكم وهو الإخبار عن الواقعة المشهود بها.

مثال: لو أردت أن أبيع بيتي على شخص، وقلت لشخصين تعالا فاشهدا، فهذا يسمى تحملاً، ولو وصل الأمر إلى القاضي بسبب عيب أو غير ذلك، وطلب منهما الشهادة عنده، فشهادتهما تسمى أداءً.

• بيّن المصنف حكمهما فقال:

ص: 388

م/ وتحمل الشهادة في حقوق الآدميين: فرض كفاية.

أي: أن تحمل الشهادة في حقوق الآدميين فرض كفاية (إذا قام به من يكفي سقط الإثم عن الباقي).

لقوله تعالى (وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا) أي: إذا دعوا.

وعلى هذا فإذا طلب منك شخص أن تشهد على إقرار دين بحق له، فالشهادة فرض كفاية، إن قام بها من يكفي سقطت عن الباقي وإلا وجبت عليك.

• فإن لم يوجد إلا من يكفي تعين عليه (فرض عين).

مثال: دعاك شخص لتشهد على إقرار زيد بحق له، وليس في المكان غيرك، فيجب أن تجيب، لأنه لايوجد من يقوم بالكفاية. [الشرح الممتع].

ص: 389

م/ وأداؤها فرض عين.

أي: وأداء الشهادة - على من تحملها - عند القاضي فرض عين.

لقوله تعالى (ولا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ)، [وإنما خص القلب بالإثم لأنه موضع العلم بها].

ولأن الشهادة أمانة فلزم أداؤها كسائر الأمانات.

ولأن امتناعه من أداء الأمانة التي تحملها قد يكون سبباً في ضياع الحقوق.

لكن بشرط أن يدعى إليها، فإن لم تطلب منه الشهادة فلا تجب، إلا في حالة واحدة وهي: إذا كان صاحب الحق لا يعلم عن هذه الشهادة، أو نسي البينة، ففي هذه الحال تتعين الشهادة.

مثاله: تبايع رجلان، وكان هناك رجل ثالث أو رابع يسمعان هذا العقد، ثم إنه حصل منازعة عند القاضي بين هذين المتبايعين، فهنا صاحب الحق لا يعلم بشهادة الشهود، فيجب عليهما أن يأتيا ويشهدا.

وكذلك لو أن صاحب الحق نسي الشاهد، فهنا يجب أن يأتي ويشهد.

إذاً: لا يجب أداء الشهادة إلا إذا دعي إليها كما سبق، لكن هل يستجب أن يأتي ويشهد بدون أن يدعى أم لا؟ اختلف العلماء:

القول الأول: أنه مذموم.

لحديث عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (إِنَّ خَيْرَكُمْ قَرْنِى ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ). قَالَ عِمْرَانُ فَلَا أَدْرِى أَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ قَرْنِهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً «ثُمَّ يَكُونُ بَعْدَهُمْ قَوْمٌ يَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ وَيَخُونُونَ وَلَا يُؤتمَنُونَ وَيَنْذُرُونَ وَلَا يُوفُونَ وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ).

ولأن الذي يبادر للشهادة قبل أن يُسألها قد يتهم بأنه متحيزاً للمشهود له.

القول الثاني: أن ذلك محمود.

لحديث زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِىِّ أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ الشُّهَدَاءِ الَّذِى يَأْتِى بِشَهَادَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا) رواه مسلم.

والصحيح التفصيل: إن كان المشهود له لا يعلم بالشهادة، فإن الشاهد يؤديها وإن لم يسألها، وإن كان المشهود له عالماً ذاكراً فإنه لا يشهد حتى تطلب منه الشهادة.

• ويحرم كتمان الشهادة.

لقوله تعالى (ولا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ).

وإنما خص القلب بالإثم لأنه موضع العلم بها.

ص: 390

م/ ويشترط أن يكون الشاهد عدلاً ظاهراً وباطناً، والعدل: هو من رضيه الناس لقوله تعالى (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ).

ذكر المصنف رحمه الله شرطاً من شروط الشاهد: وهو أن يكون عدلاً.

لأن غير العدل لا يؤمن أن يشهد على غيره بالزور.

والعدل عرفه المصنف بقوله (من رضيه الناس) للآية (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ) وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فكل مرضيٍّ عند الناس يطمئنون لقوله وشهادته فهو مقبول، واختاره الشيخ السعدي كما هنا، وقال في كتاب (بهجة قلوب الأبرار): وهذا أحسن الحدود، ولا يسع الناس العمل بغيره.

وقيل: العدالة: هي الصلاح في الدين: بفعل الأوامر واجتناب النواهي. واستعمال المروءة بفعل ما يزينه وترك ما يشينه.

• ومن شروط من تقبل شهادته:

البلوغ:

لقوله تعالى (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ) والصبي لا يسمى رجلاً.

ولأن الصبي لا يقبل قوله على نفسه، فلأن لا يقبل قوله على غيره بطريق الأولى.

والمراد هنا أنه لا يقبل أداؤه للشهادة، أما لو تحملها وهو صغير وعَقَل ما تحمله، وشهد به بعد بلوغه صحت

شهادته.

واختلف في شهادتهم في الأمور التي لا يطلع عليها إلا الصبيان غالباً، كالذي يقع بينهم من القتل أو

الجراحات.

القول الأول: أن شهادتهم لا تقبل مطلقاً.

وهذا هو المذهب، وهو قول أبي حنيفة والشافعي.

القول الثاني: أن شهادتهم تقبل فيما لا يطلع عليه إلا الصبيان كالجراح إذا شهدوا قبل الافتراق عن الحال التي تجارحوا عليها.

وهذا قول في مذهب مالك واختاره الشيخ ابن عثيمين رحمه الله.

حفظاً للدماء التي تقع بينهم، فإنهم في غالب أحوالهم يخلُونَ بأنفسهم، وقد يسطوا بعضهم على بعض، فلو لم يقبل قول بعضهم على بعض لأهدرت دماؤهم.

قال الشيخ ابن عثيمين: وقال بعض العلماء: بل شهادة الصبيان فيما لا يطلع عليه إلا الصبيان غالباً مقبولة، إذا لم يتفرقوا، وما قاله هؤلاء أصح.

ص: 391

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

العقل:

قال في المغني: ولا تقبل شهادة من ليس بعاقل إجماعاً قاله ابن المنذر.

لحديث (رفع القلم عن ثلاثة:

وعن المجنون حتى يعقل

) لأن من لا عقل له لا يمكنه تحمل الشهادة ولا أداؤها.

الكلام:

فلا تصح شهادة الأخرس.

قالوا: لأن الشهادة يعتبر فيها اليقين، وذلك لا يحصل مع فقد الكلام.

وذهب بعض العلماء إلى أن شهادة الأخرس تقبل فيما طريقه الرؤية إذا فُهمتْ، وهذا الصحيح.

الإسلام.

فلا تقبل شهادة الكافر.

أ- لقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا).

ب- وإذا كان الفاسق يجب علينا اليقين في خبره، فما بالك بالكافر (فالكافر محل الخيانة).

ج- وقال تعالى (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ).

د- وقال تعالى (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ) والكافر ليس منا، ولا ممن نرضاه.

(لكن شهادة الكفار بعضهم على بعض تقبل).

الحفظ.

فلا تقبل شهادة المغفل المعروف بكثرة النسيان والغلط. لأنه لا يوثق بقوله.

• لو كان كثير النسيان والغفلة، فقيد الشهادة فقال: أنا لا أذكر ولكن قيدت كل ما شهدت به في كتاب عندي، فإن الراجح له أن يشهد بذلك ما دام أنه كتب شهادته بخطه، سواء تذكرها أم لم يتذكرها، ما دام يعلم أن هذا خطه.

ص: 392

م/ ولا يجوز أن يشهد إلا بما يعلمه.

أي: فلا يجوز أن يشهد بالقرينة أو بغلبة الظن بل لا بد بما يعلمه يقيناً.

أ- لقوله تعالى (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ).

ب- ولأن الشهادة خبر عن أمر واقع فلا بد أن يعلم هذا الأمر الواقع.

ج- وقد جاء في الحديث عن ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل: ترى الشمس؟ قال: نعم، قال: على مثلها فاشهد أو دع) رواه ابن عدي وهو ضعيف، لكن معناه صحيح، فهو يدل على أنه لا يجوز للشاهد أن يشهد إلا على ما يعلمه يقيناً، كما تُعلم الشمس بالمشاهدة.

د- ويؤيد ذلك قوله تعالى (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) فإن معنى الآية: النهي عن أن يقول الإنسان ما لا يعلم أو يعمل بما لا علم له به.

ثم ذكر المصنف رحمه الله طرق العلم فقال:

ص: 393

م/ برؤية.

أي: رؤية المشهود به.

كما سبق لقوله تعالى (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ).

• قال الشيخ ابن عثيمين: لا يشترط علم المشهود عليه بوجود الشاهد، فلو أن صاحب الحق أتى بالمطلوب في مكان وجعل واحداً يشهد مختبئاً، فإن ذلك يجوز، لأن هذا الذي عليه الحق إذا كان منفرداً صاحب الحق أقر له وإذا كان عنده أحد أنكر، فتحيّل صاحب الحق وفعل ذلك، وهذه حيلة لكنها حيلة جائزة للتوصل للحق.

ص: 394

م/ أو سماع من المشهود عليه.

هذه الطريقة الثانية: وهي السماع من المشهود عليه مثل: أن يسمعه وهو يطلق امرأته أو يسمعه وهو يبيع أو ينكح، أو يسمعه يقر أن لفلان عليه ديناً، أو استأجر منه داره أو اشترى منه سيارة وما أشبه ذلك.

ص: 395

م/ أو استفاضة يحصل بها العلم في الأشياء الني يُحتاج فيها إليها، كالأنساب ونحوها.

هذه الطريقة الثالثة من طرق العلم: وهي الاستفاضة، وهي انتشار الخبر وشيوعه بأن يشتهر المشهود به بين الناس فيتسامعون به بإخبار بعضهم بعضاً، فيشهد الشاهد على واقعة لم يشهدها ببصره ولم يدركها بسمعه

• والاستفاضة لا تقبل إلا فيما يتعذر علمه في الغالب بدونها، كالنسب والولادة والموت والرضاع.

لأنه لو منع من الشهادة بالاستفاضة فيما ذكر لوقع الناس في حرج عظيم، لأن مثل هذه الأمور تتعذر الشهادة عليها في الغالب بمشاهدة أسبابها.

ص: 396

‌باب موانع الشهادة.

قد يكون الشاهد صالحاً لتحمل الشهادة وأدائها أمام القضاء ولكن هناك مانع يمنع القاضي من قبول شهادته من هذه الموانع:

م/ مظنة التهمة: كشهادة الوالدين لأولادهم وبالعكس.

ذكر المصنف رحمه الله أن من موانع الشهادة شهادة الأصول لفروعهم والعكس، فلا تقبل شهادة والد لولده، ولا ولد لوالده.

والسبب: التهمة، لأن الإنسان متهم إذا شهد لأصله، أو شهد لفرعه، فإنه قد يحابي أصوله أو فروعه، وهذا مذهب جمهور أهل العلم.

وذهب بعض العلماء إلى قبول شهادة الوالد لولده والعكس، وهذا قول الظاهرية.

لأنهما عدلان من رجالنا، فيدخلان في عموم الآيات والأخبار.

وقد ذكر ابن القيم أن الشهادة لا ترد بسبب القرابة لعدم الدليل، وإنما ترد بوجود التهمة، فالتهمة وحدها مستقلة بالمنع، سواء كان قريباً أو أجنبياً، وقال: هذا هو الصواب.

والراجح قول الجمهور.

ص: 397

م/ وأحد الزوجين للآخر.

أي: فلا يقبل شهادة أحد الزوجين لصاحبه.

للتهمة، لأن شهادة الزوج لزوجته متهم بها، وكذلك العكس.

ص: 398

م/ والعدو على عدوه للحديث (لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا ذي غمر على أخيه، ولا تجوز شهادة القانع لأهل البيت) رواه أحمد وأبو داود.

أي: ومن موانع الشهادة: العداوة، فلا تقبل شهادة العدو على عدوه.

• والعدو هو: الذي يفرح لحزنه ويحزن لفرحه. [هذا ضابط العدو].

للحديث الذي ذكره المصنف رحمه الله (لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا ذي غمر على أخيه، ولا تجوز شهادة القانع لأهل البيت) رواه أحمد وأبو داود.

[خائن] الخائن هو من يخون فيما اؤتمن عليه [ذي غِمْر] أي: ذي حقد وشحناء، وهي بكسر الغين وسكون الميم، ويجوز فتحمها. قال الخطابي: هو الذي بينه وبين الشهود عداوة ظاهرة.

وإنما ردت شهادة العدو على عدوه، لئلا يتخذ ذريعة إلى بلوغ غَرضه من عدوه بالشهادة الباطلة.

والحديث دليل على أن الخائن لا تقبل شهادته، لانتفاء العدالة.

ومن موانع الشهادة: أن التابع لأهل البيت - وهم الخدم - لا تجوز شهادتهم لهم.

عدد الشهود

بيان عدد الشهود في الشهادة وهو يختلف باختلاف المشهود به:

أولاً: يكون في الزنا أربعة رجال ولا يقبل فيها النساء، وكذلك اللواط.

قال في المغني: (أجمع المسلمون على أنه لا يقبل في الزنا أقل من أربعة شهود وقد نص الله تعالى عليه بقوله سبحانه: (لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ).

وجمهور العلماء على أنه يشترط أن يكونوا رجالاً أحراراً فلا تقبل شهادة النساء ولا العبيد.

ص: 399

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

لقوله تعالى (لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ).

وقال تعالى (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ).

ثانياً: ما يثبت إلا بثلاثة رجال.

إذا ادعى - من عرف بالغنى - بالفقر فلا تقبل هذه الدعوى إلا إذا شهد ثلاثة.

لحديث قبيصة. أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (يَا قَبِيصَةُ إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَحِلُّ إِلاَّ لأَحَدِ ثَلَاثَةٍ: رَجُلٍ تَحَمَّلَ حَمَالَةً فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَهَا ثُمَّ يُمْسِكُ، وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ اجْتَاحَتْ مَالَهُ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَاماً مِنْ عَيْشٍ - أَوْ قَالَ سِدَاداً مِنْ عَيْشٍ - وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ حَتَّى يَقُومَ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِى الْحِجَا مِنْ قَوْمِهِ لَقَدْ أَصَابَتْ فُلَاناً فَاقَةٌ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَاماً مِنْ عَيْشٍ - أَوْ قَالَ سِدَاداً مِنْ عَيْشٍ - فَمَا سِوَاهُنَّ مِنَ الْمَسْأَلَةِ يَا قَبِيصَةُ سُحْتاً يَأْكُلُهَا صَاحِبُهَا سُحْتاً). رواه مسلم

ثالثاً: وفي النكاح والطلاق والرجعة وبقية الحدود - غير الزنا واللواط - كالقذف والسرقة والقصاص والخمر: اثنان ولا تقبل شهادة النساء.

رابعاً: وفي الأموال وما يقصد به المال كالبيع والأجل والرهن: رجلان أو رجل وامرأتان.

لقوله تعالى (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ).

خامساً: ما يقبل فيها شهادة امرأة واحدة: كالرضاع والولادة والبكارة، ومثل هذه الأمور التي لا يطلع عليها إلا النساء غالباً.

لحديث عُقْبَةُ بْنُ الْحَارِثِ (أَنَّهُ تَزَوَّجَ أُمَّ يَحْيَى بِنْتَ أَبِي إِهَابٍ قَالَ: فَجَاءَتْ أَمَةٌ سَوْدَاءُ فَقَالَتْ: قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا. فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فَأَعْرَضَ عَنِّى، قَالَ: فَتَنَحَّيْتُ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، قَالَ: وَكَيْفَ وَقَدْ زَعَمَتْ أَنْ قَدْ أَرْضَعَتْكُمَا؟ فَنَهَاهُ عَنْهَا). رواه البخاري

ص: 400

م/ وفي الحديث (من حلف على يمين يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فاجر فيها: لقي الله وهو عليه غضبان) متفق عليه.

الحديث فيه الوعيد الشديد على من يحلف بالله كاذباً ليقتطع مال أخيه، وأن هذا الحلف الكاذب يعتبر من كبائر الذنوب، وقد جاء في رواية (فقد أوجب الله له النار، وحرم عليه الجنة).

• أن الإنسان قد يستحق بدعواه شيئاً بيمينه، وله صورتان:

الصورة الأولى: دعوى ما ليس له.

فيأتي ويحلف ويأتي بالشاهد ويحلف معه وهو يعلم أنه كاذب، فهنا اقتطع حقاً، لأنه استباح ماله بيمين كاذبة.

الصورة الثانية: إنكار ما يجب عليه.

بأن يكون على شخص حق ثم ينكره، وليس للمدعي بيّنة، فهنا سوف يُحلّف المدعى عليه ويُخلى سبيله، فيكون قد اقتطع مال امرئ مسلم بغير حق.

ص: 401

‌باب القسمة

القِسمة: بكسر القاف اسم يطلق على التفريق، والمراد هنا: تمييز الحقوق وإفراز الأنصباء.

وهذا الباب له تعلق بموضوعات كثيرة كالأضحية والفرائض والشركة والوصايا، لكن ذكروه في أبواب القضاء، لأن القاضي لا يستغني عن القاسم للحاجة إلى قسمة المشتركات.

والأصل فيها الكتاب والسنة والإجماع والمعنى.

قال تعالى (وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ).

وأجمع المسلمون على جواز القسمة في الجملة.

والمعنى: لأن الحاجة داعية إليها، لتمييز حقوق الشركاء بعضهم عن بعض، ليتصرف كل منهم في حقه ببيع أو عمارة أو نحو ذلك.

ص: 402

وهي نوعان، حيث قال المصنف رحمه الله:

م/ وهي نوعان: قسمة إجبار، فيما لا ضرر فيه ولا رد عوض، كالمثليات والدور الكبار والأملاك الواسعة.

وقسمة تراض، وهي ما فيه ضرر على أحد الشركاء في القسمة، أو فيه رد عوض، فلا بد فيها من رضا الشركاء كلهم.

ذكر المصنف رحمه الله أن القسمة تنقسم إلى قسمين:

القسم الأول: قسمة إجبار، وهي ما لا ضرر في قسمته على أحد الشركاء ولا رد عوض في قسمته من أحد الشركاء على الآخر.

كالأرض الواسعة، والدار الكبيرة، والدكاكين الواسعة، والسيارات الجديدة من جنس واحدة.

سميت قسمة إجبار، لأن الممتنع من القسمة يجبر إذا طلب الشريك القسمة، لأنه يتضمن إزالة الضرر الحاصل بالشركة، وحصول النفع للشريكين، لأن نصيب كل واحد منهما إذا تميز كان له أن يتصرف فيه بحسب اختياره، ويمكنه من إحداث الغرس أو البناء، وذلك لا يمكن مع الاشتراك.

قال الشيخ ابن عثيمين: سميت قسمة إجبار، لأنها لا تتوقف على رضا الشركاء، بل يُجبر من امتنع، وضابطها: كل قسمة ليس فيها ضرر ولا رد عوض.

مثال: البستان: أي: البستان الكبير، الذي إذا قسم لا يتضرر أحد بقسمته، بحيث لو قسمناه ما تنقص قيمته أو يفوت الانتفاع.

القسم الثاني: قسمة تراض. وهي ما فيه ضرر على أحد الشركاء بالقسمة، أو فيه رد عوض من أحد.

فهذه لا ينفذ القسم إلا برضا الشركاء.

اختلف العلماء في المراد بالضرر المانع من القسمة:

فقيل: ألا ينتفع أحدهم بنصيبه إذا قسم.

لأن ذلك ضرر شديد يفضي إلى إضاعة المال، فيكون منهياً عنه.

ص: 403

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

مثال: أرض مشتركة بين شخصين مساحتها أربعة وعشرون متراً، وقيمتها ستة آلاف، لأحدهما سدس، وللآخر خمسة أسداس، إذا قسمناها أسداساً فإن صاحب السدس لا ينتفع بسدسه، لأن السدس عبارة عن أربعة أمتار، فعلى هذا القول: تكون القسمة قسمة تراض. وعلى القول الثاني الآتي: هي قسمة إجبار.

وقيل: الضرر هو نقص القيمة.

ففي المثال السابق تكون القسمة قسمة إجبار، لأن السدس (وهو أربعة أمتار) لم تنقص قيمته.

فهذا السدس الذي قسم لو بيع يساوي ألفاً، ولو بيعت الأرض جميعاً تساوي ستة آلاف.

قوله (أو رد عوض) مثاله: أرض بين شريكين لا يمكن أن تتعدل بأجزاء ولا قيمة، إلا برد عوض، يعني مثلاً فيها جبال، فيها أودية، فيها أشجار، لا يمكن أن نعدلها أبداً بالسهام، إن قسمناها نصفين صارت هذه الأرض أحسن من هذه، فلا تتعدل إلا إذا جعلنا للناقص عوضاً عن الكامل، فهذه - أيضاً - قسمتها قسمة تراض، إذا رضي الطرفان وإلا تبقى وتباع جميعاً. [الشرح الممتع: 371 - 15].

(وإن طلب أحدهم فيها البيع: وجبت إجابته) أي: إذا قالوا: إذا قسمناها تضررنا، أو كان نصيب أحدهم لا يساوي شيئاً وطلب البيع فإنهم يجبرون والحالة هذه على بيعها.

(وإن أجروها: كانت الأجرة فيها على قدر ملكهم فيها) أي: إذا أجروا هذه الأرض مزرعة، أو أجروا هذا الدكان الصغير مثلاً، تكون الأجرة على قدر ملكهم، فهذا له الربع، وهذا له ثلاثة الأرباع.

ص: 404

‌باب الإقرار

ختم المصنف رحمه الله الكتاب بباب الإقرار، تفاؤلاً بالإقرار بالشهادة عند الوفاة لقوله صلى الله عليه وسلم (من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة) رواه أبو داود.

م/ وهو اعتراف الإنسان بحق عليه.

الإقرار: هو اعتراف الإنسان بما عليه لغيره من حقوق، وقد دل عليه الكتاب والسنة والإجماع.

قال تعالى (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ).

وقال صلى الله عليه وسلم (واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها

).

وحديث ماعز، فإن النبي صلى الله عليه وسلم حدّه بإقراره.

وكذلك الغامدية حدها الله لما اعترفت بالزنا.

وأجمع المسلمون على صحة الإقرار.

وهو أقوى الأدلة لإثبات دعوى المدعى عليه، ولهذا يقولون: إنه سيد الأدلة.

ص: 405

م/ بكل لفظ دالٍ على الإقرار.

أي: أن الإقرار يصح بكل لفظ دال عليه.

ص: 406

م/ بشرط كون المقر مكلفاً.

أي: يشترط لصحة الإقرار شروطاً: ذكر منها المصنف رحمه الله أن يكون المقر مكلفاً، أي: بالغاً عاقلاً.

لحديث (رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق،

).

ولأنه قول ممن لا يصح تصرفه فلم يصح، كفعله.

فلا يصح من صبي، ولا من مجنون.

فلا يصح الإقرار من السكران لأنه لا عقل له، ولذلك لم يؤاخذ النبي صلى الله عليه وسلم عمه حمزة حينما قال له: هل أنتم إلا عبيد أبي.

ومن الشروط: أن يكون المقر مختاراً.

فلا يصح الإقرار من مكره.

لأن الله رفع حكم الكفر عن المكره لقوله تعالى (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان).

ولعموم قوله صلى الله عليه وسلم (إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه) رواه ابن ماجه.

وقال تعالى (إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم). فكل العقود لا بد فيها من التراضي.

• فإن ادعى الإكراه فإنه لا يقبل إلا ببينة، كأن يظهر عليه أثر ضربٍ أو حبس.

ومن الشروط: ألا يكون محجور عليه.

فالمحجور عليه لحظ الغير لا يصح إقراره في أعيان ماله، ويصح في ذمته ويطالب بذلك بعد فك الحجر.

ص: 407

م/ وهو من أبلغ البينات.

أي: أن الإقرار أبلغ وأقوى الأدلة لإثبات دعوى المدعى عليه، ولهذا يقولون: إنه سيد الأدلة، وهو أقوى من الشهادة.

لأنه اعتراف ممن عليه الحق، فلا يحتمل الشبهة.

ص: 408

م/ ويدخل في جميع أبواب العلم من العبادات والمعاملات والأنكحة والجنايات وغيرها.

أي: أن الإقرار يدخل في جميع أبواب العلم، وليس مقتصراً على أبواب الحدود، بل هو عام في جميع الأبواب.

كمن يقر بأنه علم باباً من الفقه.

العبادات: كأن يقر بأنه توضأ على صفة معينة، أو صلى أربعاً، أو صام أياماً، أو أدى زكاة في مال معين.

المعاملات: كأن يقر أنه هو الذي أتلف مال فلان، أو يقر بأنه هو وهب فلان مالاً، ويقر بأن فلاناً يطلبه مبلغاً من المال.

والأنكحة: كأن يقر أنه زوج فلاناً ابنته، وكأن يقر أن المهر مقداره كذا.

والجنايات: كأن يقر أنه قتل فلاناً، أو يقر بأنه ضرب فلاناً.

ص: 409

م/ وفي الحديث (لا عذر لمن أقر).

ذكر المصنف رحمه الله حديث (لا عذر لمن أقر) لكنه حديث لا يصح.

قال السخاوي: قال شيخنا - يعني ابن حجر - لا أصل له، وليس معناه على إطلاقه صحيحاً.

• فإذا أقر المقر فإنه يحكم القاضي عليه، ولا يجوز الرجوع عنه إلا ببينة إذا كان في حق من حقوق الآدميين.

• فالمرء مُؤاخذ بإقراره، فإن المرء إذا كان عاقلاً كامل الأهلية فإنه مُواخذ بما يقر به، ولو أنه أنكر بعد ذلك فلا عبرة بإنكاره، فمن أقر على نفسه إقرارًا صحيحًا في هذه الحالة يلزم بذلك، وهذا محل اتفاق من أهل العلم فيما يتعلق بالعقود والحقوق الواجبة عليه بإنشاء العقود، فلو أنه مثلاً أقر بمال أو ببيع ثم أنكر بعد ذلك فإنه يلزمه ذلك ولا ينفعه إنكاره.

ص: 410

م/ ويجب على الإنسان أن يعترف بجميع الحقوق التي عليه للآدميين ليخرج من التبعة بأداء أو استحلال.

أي: يجب على الإنسان أن يبادر أن يقر بما عليه من حقوق للآدميين، حتى يسلم من إثمها وذلك يكون بأمرين:

إما بأدائها إلى أصحابها - أو باستحلالهم من ذلك.

فإن حقوق الآدميين مبناها على المشاحاة.

عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لأَخيه مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَىْءٍ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ الْيَوْمَ، قَبْلَ أَنْ لَا يَكُونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ) رواه البخاري.

[منْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لأَخيه] اللام في قوله (له) بمعنى (على) أي: من كانت عليه مظلمة لأخيه، وقد جاء في رواية عند البخاري (من كانت عنده مظلمة لأخيه) وللترمذي (رحم الله عبداً كانت له عند أخيه مظلمة).

[مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَىْءٍ] أي: من الأشياء، وهو من عطف العام على الخاص، فيدخل فيه المال بأصنافه والجراحات حتى اللطمة ونحوها، وعند الترمذي (من عرض أو مال).

[فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ] أي: يستبرئ ذمته منه بأدائه أو بعفوه.

[الْيَوْمَ] أي: في الدنيا.

[قَبْلَ أَنْ لَا يَكُونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ] وذلك في يوم القيامة.

[وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ] أي: صاحب المظلمة.

ص: 411

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

[فَحُمِلَ عَلَيْهِ] أي: على الظالم.

ففي هذا الحديث أنه يجب على الإنسان أن يرد ما عليه من حقوق الآدميين، قبل أن يموت وينتقل إلى دار

الآخرة فتكون عليه وتؤخذ من حسناته إن كان له عمل صالح، فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه.

وقد جاء في الحديث عن أَبي هريرة رضي الله عنه أَن رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قال (أَتَدْرُون من الْمُفْلِسُ؟ قالُوا: الْمُفْلسُ فِينَا مَنْ لا دِرْهَمَ لَهُ وَلا مَتَاعَ. فقال: إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقيامةِ بِصَلاةٍ وَصِيَامٍ وزَكَاةٍ، ويأْتِي وقَدْ شَتَمَ هذا، وقذَف هذَا وَأَكَلَ مالَ هَذَا، وسفَكَ دَم هذَا، وَضَرَبَ هذا، فيُعْطَى هذَا مِنْ حسَنَاتِهِ، وهَذا مِن حسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حسناته قَبْلَ أَنْ يقْضِيَ مَا عَلَيْهِ، أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرحَتْ علَيْه، ثُمَّ طُرِح في النَّارِ). رواه مسلم

وعن أُمِّ سَلَمةَ أَن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال (إِنَّمَا أَنَا بشَرٌ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحنَ بحُجَّتِهِ مِنْ بَعْض، فأَقْضِي لَهُ بِنحْو ما أَسْمَعُ فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بحَقِّ أَخِيهِ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ) متفق عليه. «أَلْحَنَ» أَيْ: أَعْلَم.

وعن أَبي قَتَادَةَ الْحارثِ بنِ ربعي رضي الله عنه عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: (أَنَّهُ قَام فِيهمْ، فذَكَرَ لَهُمْ أَنَّ الْجِهادَ فِي سبِيلِ اللَّه، وَالإِيمانَ بِاللَّه أَفْضلُ الأَعْمالِ، فَقَامَ رَجلٌ فقال: يا رسول اللَّه أَرَأَيْت إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللَّه، تُكَفِّرُ عنِي خَطَايَايَ؟ فقال لَهُ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: نعَمْ إِنْ قُتِلْتَ فِي سَبِيلِ اللَّه وأَنْتَ صَابر مُحْتَسِبٌ، مُقْبِلٌ غيْرَ مُدْبرٍ، ثُمَّ قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: كيْف قُلْتَ؟ قال: أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيل اللَّه، أَتُكَفرُ عني خَطَاياي؟ فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: نَعمْ وأَنْت صابِرٌ مُحْتَسِبٌ، مُقبِلٌ غَيْرَ مُدْبِرٍ، إِلاَّ الدَّيْن فَإِنَّ جِبْرِيلَ قال لِي ذلِكَ). رواه مسلم

فحقوق العباد يجب أن يتحلل منها في الدنيا قبل أن يحاسب عليها في الآخرة.

وحقوق العباد تنقسم إلى أقسام:

القسم الأول: أن تكون في النفس.

مثل أن يكون قد جنى عليه، أو ضربه حتى جرحه، أو قطع عضواً من أعضائه، فإنه يتحلل منه بأن يُمكّن صاحب الحق من القصاص، أو بذل الدية إذا لم يكن القصاص.

القسم الثاني: أن تكون في المال.

فإنه يعطيه ماله ويرجع لصاحبه، فإن كان صاحبه قد مات فإنه يسلمه إلى ورثته، فإن لم يعرف مكانه فإنه يتصدق به عنه.

القسم الثالث: وإن كانت المظلمة في العرض كسب أو شتم، فاختلف العلماء في كيفية التحلل منه على قولين:

القول الأول: اشتراط الإعلام والتحلل.

واحتج أصحاب هذا القول: بأن الذنب حق آدمي، فلا يسقط إلا بإحلاله منه وإبرائه.

القول الثاني: إنه لا يشترط الإعلام بما نال من عِرضه وقذفه واغتيابه، بل يكفي توبته بينه وبين الله، وأن يذكر المغتاب والمقذوف في مواضع غيبته وقذفه بضد ما ذكره به من الغيبة، فيبدِّل غيبته بمدحه والثناء عليه.

ص: 412

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وهذا اختيار أبي العباس ابن تيمية.

واحتج أصحاب هذه المقالة: بأن إعلامه مفسدة محضة، لا تتضمن مصلحة، فإنه لا يزيده إلا أذى وخنقاً وغماً، وقد كان مستريحاً قبل سماعه.

قالوا: وربما كان إعلامه به سبباً للعداوة والحرب بينه وبين القائل.

وقالوا: إن الفرق بين ذلك وبين الحقوق المالية وجنايات الأبدان من وجهين:

أحدهما: أنه قد ينتفع بها إذا رجعت إليه، فلا يجوز إخفاؤها عنه، فإنه محض حقه، فيجب عليه أداؤه إليه، بخلاف الغيبة والقذف، فإنه ليس هناك شيء ينفعه يؤديه إليه.

الثاني: أنه إذا أعلمه بها لم تؤذه، ولم تهج منه غضباً ولا عداوة، بل ربما سرّه ذلك وفرح به.

وهذا القول الثاني هو الراجح والله أعلم بالصواب.

تم الشرح بفضل الله وتوفيقه

يوم الجمعة 14/ 2/ 1431 هـ الساعة الثانية ظهراً في منزلي في مدينة رفحاء/ السعودية

رحم الله المصنف الشيخ السعدي رحمة واسعة

اللهم إنا نسألك علماً نافعاً وعملاً صالحاً

اللهم اجعل هذا العلم حجة لنا لا حجة علينا

أخوكم/ سليمان بن محمد اللهيميد

السعودية - رفحاء

ص: 413