المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌مقدمة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من - شرح نواقض الإسلام - البراك

[عبد الرحمن بن ناصر البراك]

فهرس الكتاب

‌مقدمة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، القائل سبحانه وتعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً بَعِيدًا (136)} [النساء]، والقائل:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيم (54)} [المائدة]، والقائل:{وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون (217)} [البقرة]، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد القائل:«من بدل دينه فاقتلوه»

(1)

.

أما بعد:

فهذا شرح لرسالة الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، الموسومة ب «نواقض الإسلام» للشيخ عبد الرحمن بن ناصر البراك، ألقاه في مسجد الخليفي بمدينة الرياض.

(1)

رواه البخاري (3017) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

ص: 5

وكان‌

‌ المنهج الذي سُلك في إخراج الشرح

كما يلي:

1 -

مراجعة النص والتأكد منه.

2 -

تهيئته وتنسيقه ليتناسب مع الطباعة.

3 -

عزو الآيات إلى أماكنها من المصحف.

4 -

تخريج الأحاديث وذلك باختصار، فإن كان الحديث في الصحيحين أو أحدهما اكتفي بذلك؛ وإن كان في غيرهما، فإنه يقتصر في الغالب على الكتب الستة، مع ذكر كلام المحدثين في صحة الحديث وضعفه، ولا يستقصى ذلك.

5 -

مقابلة المتن على طبعة جامعة الإمام محمد بن سعود.

6 -

قراءة الشرح على الشيخ؛ لتعديل أو حذف أو إضافة أو إصلاح ما يراه مناسبًا.

وختامًا نسأل الله سبحانه وتعالى أن نكون قد وفقنا لإخراجه بصورة مرضية، كما نسأله سبحانه وتعالى أن ينفع بهذا الشرح عموم المسلمين.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

* * * * * * *

ص: 6

‌مقدمة الشارح

الحمد لله وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فهذه رسالة «نواقض الإسلام» للإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب، إمام الدعوة السلفية في القرن الثاني عشر للهجرة النبوية، وهو علم من أعلام الإسلام، وقد عرفه العدو والصديق، المؤمن والكافر؛ لأنه قام بأمر عظيم ألا وهو الدعوة إلى التوحيد، وإلى السنة في وقت دَرَس فيه كثير من معالم التوحيد في كثير من العالم الإسلامي، وفشت فيه البدع وأنواع الشرك، وإن كان العالم الإسلامي فيه علماء وصلحاء وعباد على المنهج الصحيح، وكثير منهم يعرف الحق، ويعرف أن ما عليه كثير من المسلمين من البدع والمحدثات وأنواع الشرك باطل، لكن لا يتهيأ له الدعوة إلى التغيير؛ إما لتقصير منه وفتور، أو لعوائق تعتريه عن القيام بالدعوة والصدع بحقيقة الإسلام التي يجهلها جمهور الناس وهي تخالف ما نشأوا عليه من الشرك والبدعة.

ولكن الله سبحانه وتعالى قد ضمن حفظ هذا الدين، فرسالة محمد صلى الله عليه وسلم هي الرسالة الخالدة؛ لأنه خاتم النبيين، فلا نبي بعده، ولا بد أن تبقى

ص: 7

حجة الله على الثقلين إلى أن تقوم الساعة، وهذا تحقق بحفظ الله لكتابه العزيز وحفظه لسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فالرسول ما مات إلا وقد تلقى عنه أصحابه كتاب الله وسنته القولية والفعلية والتقريرية، وشهدوا سيرته صلى الله عليه وسلم، وقد أمرهم بالبلاغ، ففي خطبة حجة الوداع يقول:«فليبلغ الشاهد منكم الغائب»

(1)

، ويقول:«بلغوا عني ولو آية»

(2)

، وقد بلغ هو، وقام أصحابه بالبلاغ والدعوة والجهاد، كما جاهد الرسول صلى الله عليه وسلم في سبيل الله، وقاتل الكفار حتى دخل الناس في دين الله أفواجًا، قال تعالى:{إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْح (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)} [النصر]، قال ابن عباس رضي الله عنهما؛ لما سأله عمر رضي الله عنه عنها:«أَجَلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَعْلَمَهُ إِيَّاهُ قَالَ مَا أَعْلَمُ مِنْهَا إِلا مَا تَعْلَمُ»

(3)

.

ثم حمل هذا الدين التابعون وتابعو التابعين ومن بعدهم على مر القرون، فلم يزل «في كل زمان فترة بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى

ويُبصرون بنور الله أهل العمى»، كما قال الإمام أحمد في خطبة كتابه «الرد على الزنادقة والجهمية»

(4)

، وجاء في الحديث المشهور «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها

(1)

رواه البخاري (105)، ومسلم (1218) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه وغيره.

(2)

رواه البخاري (3461) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.

(3)

رواه البخاري (3627) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

(4)

الرد على الزنادقة والجهمية ص 55.

ص: 8

دينها»

(1)

وهذا ما حدث، فلم يزل في هذه الأمة من يدعو إلى الله ويبين شرعه وما جاء به خاتم النبيين وإمام المرسلين صلى الله عليه وعليهم أجمعين، ومن أعلام هؤلاء الدعاة الشيخ محمد بن عبد الوهاب فقد جعل الله في قلبه همة عالية للدعوة إلى التوحيد والسنة، وبيان بطلان البدع والمحدثات والخرافات، والاعتقاد أن الأولياء أو من تُدَّعى ولايته ينفعون ويضرون ويُدعون ويُستغاث بهم؛ أحياءً أو أمواتًا.

وقد أكرم الله الشيخ محمد بن عبد الوهاب بالنهوض بهذه الدعوة، وقيض الله له الإمام محمد بن سعود رحمهما الله، فسانده على ذلك فظهرت هذه الدعوة، وانتشرت، وانتفع بها أهل هذه البلاد أولًا ثم بقية أرجاء الجزيرة، وسرت آثارها إلى العالم الإسلامي؛ شرقًا وغربًا، وشمالًا وجنوبًا، ولا نزال - ولله الحمد - نتفيأ ونتمتع وننعم بآثار هذه الدعوة، فأفضل العالم الإسلامي مجتمعًا هو هذا المجتمع - ولله الحمد -؛ لأن‌

‌ أكثر العالم الإسلامي قد أثرت فيه الخرافة والبدعة

والشرك والقبورية، وأظهر ما يكون هذا في طائفتين:

الرافضة والصوفية.

فالصوفية القبورية يقيمون القباب والمساجد على الأضرحة ويحجون إليها ويطوفون بها ويستغيثون بمن في تلك القبور في الرخاء والشدة.

(1)

أخرجه أبو داود (4291) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه؛ وصححه الألباني في «السلسلة الصحيحة» (599).

ص: 9

والرافضة هم أصل هذا الباطل، وهم أغلظ شركًا وبدعة، فهم شر طوائف الأمة؛ اجتمعت فيهم شرور سائر الفرق.

ودعوة الحق محارَبةٌ من أعداء الإسلام، فالكفار من اليهود والنصارى والمنافقين والذين في قلوبهم مرض؛ كلهم خصوم لدعوة الحق من عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

ودعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب أثر من آثار تراث وعلم ودعوة الإمام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم رحم الله الجميع.

وقد مضى على الناس سنون - ولله الحمد - لا يجرأ أحد أن يتكلم في دعوة التوحيد ودعوة السنة، ولكن في السنوات الأخيرة أعلن بعض أعداء دعوة التوحيد والسنة حربًا سافرةً على هذه الدعوة، ورفعوا رؤوسهم وكشفوا عن عوارهم وباحوا بما تنطوي عليه ضمائرهم من الحقد الدفين، نسأل الله أن يرد كيدهم في نحورهم، وأن يحفظ على هذه البلاد ما أكرمها الله به من التوحيد والسنة.

وهذه الرسالة «نواقض الإسلام» ، رسالة صغيرة، وقد ضمنها الشيخ رحمه الله عشرة من النواقض سمَّاها «نواقض الإسلام» ، وقد تناولها بعض المشايخ المعاصرين بالشرح والبيان

(1)

- جزاهم الله خيرًا -.

ونواقض الإسلام هي: موجبات الكفر بعد الإسلام؛ لأنها تنقض إسلام العبد، وتصيره مرتدًا، وعند أهل العلم باب من أبواب الفقه

(1)

من الشروح المطبوعة: الإعلام بتوضيح نواقض الإسلام، تيسير ذي الجلال والإكرام بشرح نواقض الإسلام، التبيان في شرح نواقض الإسلام.

ص: 10

اسمه: «حكم المرتد» والمرتد عن الإسلام قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: «من بدل دينه فاقتلوه» .

(1)

والله تعالى ذكر الردة في كتابه في مواضع، قال تعالى:{وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة: 109]، كثير من اليهود والنصارى يودون أن يردوا المسلمين عن دينهم بقدر ما يستطيعون، لكن هيهات، إلا أنهم قد يسعون في ردة بعض الناس فيستجيب لدعوتهم.

وقال تعالى في المشركين: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: 217].

فلا يزال الكفار يقاتلون المسلمين من أجل أن يردوهم عن الإسلام؛ لأن هذه هي الكرامة التي أكرم الله بها المسلمين وفضلهم بها على غيرهم، فالكفار يحسدونهم على هذه النعمة.

وقال سبحانه وتعالى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاء} [النساء: 89]، يريدون أن يكفر المسلمون حتى يكونوا سواءً في الكفر؛ لأنه إذا ارتد المسلمون ساووا الكافرين بالكفر، وفاقهم الكافرون فيما أوتوا من الدنيا، وهذا مطلبهم، والواقع شاهد بهذا، فالآن أمم الكفر تعمل ليلًا ونهارًا - ولاسيما في هذه العصر - من أجل صدِّ المسلمين عن دينهم بشتى الطرق، وهذه غايتهم، وهي غاية إبليس؛ فغايته من الإنسان أن يكفر، وإذا لم يقوَ على هذا نزل لما دونها، وهي أن يجره إلى البدع ثم

(1)

تقدم في ص 5.

ص: 11

إلى كبائر الذنوب، كما ذكر العلامة ابن القيم في العقبات التي يطرد الشيطان الإنسان فيها واحدة بعد الأخرى

(1)

.

لكن الكفار قد لا يقوون على هذا من أول وهلة، فهم يسلكون لصد المسلمين عن دينهم أقرب الطرق، فيصدونهم بما يلقون إليهم من الشهوات التي تصرفهم عن طاعة ربهم وامتثال أوامره واجتناب نواهيه، والشبهات التي تحيرهم وتدخل الشك في دينهم.

وكثير من وسائل الإعلام الآن تقذف بهذا في بيوت أكثر الناس، فإنهم لا يألون المسلمين خبالًا، ويحرصون على إفساد عقائدهم وأخلاقهم.

ومن أقرب الطرق لإفساد مجتمعات المسلمين إفساد المرأة، لذا اشتد جهدهم على إفسادها وتضليلها؛ لأن المرأة إذا فسدت سرى فسادها إلى المجتمع.

واعلم أن‌

‌ أسباب الردة كلها ترجع إلى أمرٍ واحد هو مناقضتها للشهادتين.

فالإسلام مداره على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فالكافر إذا شهد أن لا إله إلا الله؛ ظاهرًا وباطنًا، وشهد أن محمدًا رسول الله؛ ظاهرًا وباطنًا صار مسلمًا، فإن شهد بذلك بلسانه فقط كان منافقًا، والمنافق من المسلمين في الدنيا وأحكامها.

(1)

مدارج السالكين (1/ 222).

ص: 12

و‌

‌شهادة أن لا إله إلا الله تتضمن الإيمان بالله في ربوبيته وإلهيته وأسمائه وصفاته،

فتوحيده في ربوبيته يكون بالإيمان بأنه لا رب غيره، وفي إلهيته بالإيمان بأنه لا إله سواه، ولا معبود بحق إلا هو، وفي صفاته باعتقاد أنه المنفرد في صفاته، فلا شبيه له في شيء من صفاته سبحانه وتعالى.

إذًا؛ شهادة أن لا إله إلا الله يناقضها الشرك بالله؛ لأنها كلمة التوحيد، كما أنها تقتضي العلم واليقين والانقياد والمحبة.

وشهادة أن محمدًا رسول الله تتضمن الإيمان بأن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم النبي العربي الأمي رسول الله إلى الثقلين: الجن والإنس، وأرسله {بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُون (33)} [التوبة].

وشهادة أن محمدًا رسول الله تقتضي تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم، والإيمان بكمال خُلُقه وكمال شريعته، قال تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، فهذه حقيقة الشهادتين.

وشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله تقتضي العلم بمعناهما وحقيقتهما والانقياد لما دلت عليه.

إذًا؛ جميع أسباب الردة التي نسميها في هذه الرسالة نواقض الإسلام مدارها على مناقضة الشهادتين.

ص: 13

ويمكن حصر النواقض في أصول:

1 -

الشرك.

2 -

والشك.

3 -

والإعراض.

4 -

والإباء والاستكبار.

5 -

والتكذيب.

6 -

والجحد.

7 -

والتنقص لله أو لآياته أو رسوله؛ والتنقص: الطعن في ذات الله تعالى أو في صفاته، أو الطعن في الرسول صلى الله عليه وسلم أو فيما جاء به.

8 -

النفاق بأنواعه.

هذه هي جماع النواقض، وكلها ترجع إلى مناقضة شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فالتكذيب إما بوحدانية الله أو التكذيب بربوبيته أو التكذيب بإلهيته، أو الشك في ذلك، أو الإعراض عن دعوة الرسول بالقلب أو الإباء، فكثير من الكفار يعرف أن الرسول صلى الله عليه وسلم حق؛ كما قال سبحانه وتعالى:{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ} [البقرة: 146]، ويعرفون صدقه، ولكن يمنعهم من الانقياد لدعوته والاستجابة له: الكبر، كما جاء في قصة هرقل عظيم الروم عندما أعلن اعترافه بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ولكنه منعه عن الانقياد والاستجابة الكبر والبخل بملكه، وكذلك المقوقس رئيس القبط أظهر الاعتراف بصدقه صلى الله عليه وسلم، وامتنع عن

ص: 14

متابعته بخلًا بملكه مثل ما صنع هرقل فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم خبره؛ قال: «ضنَّ الخبيث بمُلكه، ولا بقاءَ لمُلكه»

(1)

.

والشيخ له تعبيرات جميلة ودقيقة، فتسميته رسالته ب «نواقض الإسلام» ، تشابه ما في أبواب الفقه «نواقض الوضوء» التي تبطل الطهارة؛ فالإسلام فيه طهر من جهة أنه عقد بين العبد وربه، فإذا شهد الإنسان الشهادتين فقد عقد مع ربه أن يوحده وأن يعبده وأن يتبع رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا أعظم العقود، وأسباب الردة نقض لهذا العقد؛ فكما أن نواقض الوضوء مفسدات تبطل الطهارة، كذلك هذه النواقض تُبطل الإسلام الذي يتضمن الطهارة الحقيقية المعنوية، فالتوحيد والإيمان طهر؛ ولهذا سمى الله المشركين نَجَس قال تعالى:{إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28]، والمؤمن قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم:«إن المؤمن لا ينجس»

(2)

.

(1)

الطبقات الكبرى لابن سعد (1/ 260)، ونصب الراية (4/ 422).

(2)

رواه البخاري (280) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 15

قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله:

بسم الله الرحمن الرحيم

اعلم أن نواقض الإسلام عشرة نواقض:

الأول: الشرك في عبادة الله تعالى، قال الله تعالى:{إِنَّ اللّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء} [النساء: 48]، وقال:{إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَار (72)} [المائدة]، ومنه الذبح لغير الله، كمن يذبح للجن أو للقبر.

يقول الشيخ رحمه الله: «اعلم أن نواقض الإسلام عشرة» ، لعله يريد: إن أهم نواقض الإسلام، أو أصول نواقض الإسلام عشرة، وإلا فنواقض الإسلام تفصيلًا كثيرة، والفقهاء في باب «حكم المرتد» ذكروا أمثلة كثيرة مما يوجب الردة والخروج عن الإسلام، ولكن الشيخ ذكر هذه العشرة؛ لأنها أصول أو جوامع لأسباب الردة، يقول الشيخ رحمه الله:

«الأول: الشرك في عبادة الله» : وذلك بصرف شيء من أنواع العبادة لغير الله، واتخاذ ند مع الله؛ كما قال صلى الله عليه وسلم:«مَنْ مات وهو يدعو من دون الله ندًّا دخل النار»

(1)

، وقال سبحانه وتعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلّهِ أَندَاداً و

(1)

رواه البخاري (4497) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

ص: 16

أَنتُمْ تَعْلَمُون (22)} [البقرة]، وهذا الشرك هو الشرك الأكبر؛ لأن الشرك في الشرع نوعان:

- شرك أكبر.

- وشرك أصغر.

والشرك الأكبر يناقض أصل التوحيد، ويشمل الشرك في الربوبية، وفي الإلهية وفي أسماء الله وصفاته، ولكن الشرك في العبادة هو الغالب على الأمم؛ قديمًا وحديثًا.

والشرك في العبادة أن يعبد غير الله مع الله، فالناس بالنسبة للاستسلام لله ثلاثة:

الأول: الموحد: وهو من استسلم لله بإفراده بالعبادة وحده لا شريك له.

الثاني: المشرك: وهو من استسلم له ولغيره، بأن عبده وعبد معه غيره.

الثالث: المستكبر: وهو من لم يستسلم لله أصلًا، بل استنكف عن عبادة الله.

قال تعالى: {وَمَنْ يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعًا (172)} [النساء]، وقال تعالى:{وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلُيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (173)} [النساء].

فالمسلم الموحد إذا أشرك ارتد عن الإسلام. أما من كان مشركًا من الأصل فهذا لا نسميه مرتدًا؛ لأنه لم يسلم أصلًا.

ص: 17

فالكافر عند أهل العلم نوعان:

الأول: كافر أصلي: مثل اليهودي أو النصراني أو البوذي أو غيرهم من طوائف الكفر.

الثاني: المرتد، وهو من أسلم ثم وقع في موجب من موجبات الردة والكفر.

وذكر الشيخ من أدلة هذا النوع قوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء} [النساء: 48]، وقوله سبحانه وتعالى:{إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَار (72)} [المائدة]، وقال سبحانه وتعالى:{وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِين (65)} [الزمر].

هذا هو الشرك الأكبر، وله ثلاث خصائص:

أولًا: أنه لا يغفر.

الثاني: أنه موجب للخلود في النار، وتحريم الجنة على صاحبه.

الثالث: أنه يحبط جميع الأعمال.

فمن عبد مع الله غيره، فكل عبادة يعبد الله بها فهي حابطة؛ بل إن عبادته لله لا تسمى عبادة، كما قال الشيخ في بعض مسائل كتاب التوحيد: أن من لم يأت به لم يعبد الله

(1)

.

(1)

كتاب التوحيد (9)، بمعناه.

ص: 18

ومن أمثلة الشرك «الذبح لغير الله» ، فالذبح لله تقربًا من أنواع العبادة، وقد قرن الله التقرب بالذبح إليه بالصلاة، قال تعالى:{قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِين (162)} [الأنعام]، وقال تعالى:{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَر (2)} [الكوثر]؛ فمن ذبح لغير الله يتقرب إليه كالذبح للجن، أو لصاحب قبر، أو لشجرة أو حجر كما هي طريقة أهل الجاهلية الأولى، فقد أشرك.

والشيخ نص على الذبح للجن؛ لأن بعض المسلمين يذبح للجن؛ لاعتقاده أنهم آذوه، فيريد أن يكف شرهم عنه بالذبح لهم، أو يذبح لهم بأمر بعض المضللين الخرافيين لأجل الاستشفاء، فالذبح لغير الله تقربًا إليه من أنوع الشرك في العبادة، كمن يصلي لغير الله، فمن صلَّى لصاحب قبر من نبي أو صالح أو أي معبود يتقرب إليه من دون الله، فقد أشرك.

* * * * * * *

ص: 19

قال الشيخ رحمه الله:

الثاني: من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم الشفاعة ويتوكل عليهم؛ كفر إجماعًا.

وهذا في الحقيقة هو نوع من الشرك، فهو عند التحرير داخل في الأول، فالذي يدعو الموتى والغائبين، ويستغيث بهم في الرخاء والشدة ويتوكل عليهم في حوائجه، أو في نصره على الأعداء، أو في مغفرة ذنوبه، أو في نجاته من النار، أو في شفاء مريضه، أو في نجاته من كربته؛ زاعمًا أنه يفعل ذلك طلبًا لشفاعتهم، فإن هذا هو ما كان عليه المشركون؛ كما قال سبحانه وتعالى:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللّهِ} [يونس: 18]، وقال سبحانه وتعالى:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]؛ فهم إما أن يعبدوا الصالحين مباشرة، أو ما ينصبونه من تماثيل ترمز إليهم.

فمن تقرب إليهم معتقدًا أنهم ينفعون أو يضرون، وأنهم يدبرون هذا العالم ويتصرفون في هذا الوجود؛ فقد جمع بين نوعي الشرك في الربوبية والإلهية.

الشرك في الربوبية باعتقاد أنهم يدبرون أمر هذا العالم، وأنهم يملكون النصر على الأعداء، ومغفرة الذنوب، والنجاة من النار، وترتب

ص: 20

على ذلك الشرك في العبادة بالذبح لهم، والصلاة لهم، والتقرب إليهم بأنواع القربات.

والناقض الثاني الذي ذكره الشيخ وهو «من جعل بينه وبين الله وسائط» إلخ. من جنس ما كان عليه المشركون الأولون، ولا شك أن هذا النوع أهون ممن يعبد ما يعبده معتقدًا أنه ينفع ويضر، فيجمع بين الشركين، والله تعالى لم يجعل بينه وبين عباده واسطة في العبادة؛ بل أمر بأن يتوجهوا إليه بالعبادة وحده لا شريك له، لكنَّه جعل بينه وبين عباده واسطة في تبليغ شرعه وهم الرسل، فالرسل وسائط بين الله وبين عباده، فلا طريق للعباد إلى معرفة ربهم ومعرفة دينه وشرعه إلا طريق الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، فهم وسائط في تبليغ شرع الله، فهذه الواسطة حق، ومن اعتقد أنه يستغني عن وساطة الرسل في معرفة الله، ومعرفة دينه وما يقرب إليه؛ فهو كافر، والله أعلم.

ص: 21

قال الشيخ رحمه الله:

الثالث: من لم يكفر المشركين، أو شك في كفرهم، أو صحح مذهبهم؛ كفر.

«الثالث» من النواقض: «من لم يكفر المشركين» الذين يعبدون مع الله غيره، فيعبدون الأحجار والأشجار، أوالموتى، أو البقر، أو الصليب، أو المسيح وأمه؛ كما قال سبحانه وتعالى:{وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللّهِ} [المائدة: 116]، وقال سبحانه وتعالى:{لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة: 17]؛ فمن لم يكفر هؤلاء، فهو كافر. كمن يقول: إن اليهود والنصارى على دين صحيح، وهناك من الطوائف من يقول: إن عُبَّاد الأصنام على حق، وإن دينهم صحيح!! فمن لم يكفر من كفره الله ورسوله؛ كفر.

وقوله: «أو شك في كفرهم» كفر؛ لأن الشك في الحق كالتكذيب به، كأن يقول: والله لا ندري اليهود والنصارى على حق أم لا! أو يقول: لكلٍ أن يتدين بالدين الذي يناسبه.

وقوله: «أو صحح مذهبهم» ، كأن يقول: إنهم على دين صحيح، وأن الطرق إلى الله تنوعت؛ فكما أن المسلمين على دين صحيح فهم كذلك، أو قال: إنه دين صحيح في نظرهم، كما أن دين الإسلام صحيح في نظر المسلمين. فقائل هذا يجب أن يبين له أن كلامه باطل وأنه لم

ص: 22

يفهم في الحقيقة أحقية الإسلام، الذي هو دين الله في الواقع، وفي نفس الأمر ليس في نظرنا فقط؛ لأن مفهوم كلمة في «نظر المسلمين»؛ يعني: أنه حق في نظرنا، لكن الشيء إذا كان في نظرك حق قد يكون في نفس الأمر باطلًا، والإسلام ليس كذلك؛ بل هو دين الله الحق في الواقع، وفي نفس الأمر وفي نظر المسلمين - ولله الحمد -؛ بل وفي نظر كثير من الكفار الذين يعرفون الأمور، كما تقدم أنهم يعرفونه

(1)

، ولكن يمنعهم من الدخول في الإسلام الكبر والتعصب والتقليد.

وهناك دعوة معاصرة باطلة تعرف بالدعوة إلى وحدة الأديان الثلاثة: (الإسلام واليهودية والنصرانية) وتقول: إن الكل دين صحيح، وأن الإنسان لا ضير عليه أن يتدين باليهودية أوالنصرانية أوالإسلام.

وهذه دعوة باطلة تتضمن الكفر، ومن يعتقدها فهو كافر؛ لأنه مكذب لله ورسوله؛ لأن الله تعالى يقول:{لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة: 17]، ويقول:{لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} [المائدة: 73]، وقال تعالى في اليهود:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُون (61)} [البقرة] وقال سبحانه وتعالى: {فَلَمَّا جَاءهُم مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِين (89)} [البقرة] وهذا شامل لأولهم وآخرهم.

وهذه الدعوة تتضمن أن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ليست عامة للبشرية، بل - كما يقول بعض النصارى -: إنه رسول الله إلى العرب، والله

(1)

ص 14.

ص: 23

سبحانه وتعالى يقول: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِين (85)} [آل عمران]؛ فكل من لم يؤمن برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وتديَّن بدين غير الإسلام؛ فهو كافر، فلابد من التيقظ لهذه الدعوة، وعدم الاغترار بها؛ فالدين الحق هو دين الإسلام، نعم الرسل كلهم كان دينهم الإسلام، والذين كانوا متبعين لموسى عليه السلام ومتبعين لعيسى عليه السلام كانوا مسلمين، لكن الذين حرَّفوا وانحرفوا من أهل هاتين الملتين، وارتكبوا أنواعًا من الكفر؛ كفروا بعملهم هذا، كما كفروا بعدم اتباعهم لمحمد صلى الله عليه وسلم.

فالنصارى كفروا بعبادتهم للمسيح وأمه، وزعمهم أنه الله أو ابن الله، وكفروا ثانيًا بتكذيب محمد صلى الله عليه وسلم، ولو كانوا مستقيمين على دينهم الأول، ثم لم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم كانوا كفارًا، ومن مات منهم على ذلك فهو في النار، كما صح بذلك الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة؛ يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار»

(1)

.

ونلاحظ أن الناقض الأول والثاني يتعلقان بشهادة أن لا إله إلا الله، فهما يناقضان شهادة أن لا إله إلا الله. أما الثالث، فهو يناقض الشهادتين.

* * * * * * *

(1)

رواه مسلم (153) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 24

قال الشيخ رحمه الله:

الرابع: من اعتقد أن غير هدي النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من هديه، أو أن حكم غيره أحسن من حكمه؛ كالذي يفضل حكم الطواغيت على حكمه، فهو كافر.

قوله رحمه الله: «كالذي يفضل حكم الطواغيت» ؛ الطواغيت الذين يحكمون بين الناس بموجب التقاليد والعادات التي يسمونها: «السلوم» ، وكل حكم يناقض شرع الله فهو باطل، ومن ذلك القوانين المخالفة لشرع الله ودينه الذي بعث به رسله، فإنها أحكام طاغوتية جاهلية، قال تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالاً بَعِيدًا (60)} [النساء]، وقال تعالى:{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُون (50)} [المائدة]؛ فمن فضلها على حكم الله ورسوله، أو سواها به، أو سوغ الحكم بها - ولو مع تفضيل حكم الله ورسوله -؛ فإنه كافر بالضرورة.

والهدي: معناه السيرة والطريقة، والذين يقولون: إن هدي غير الرسول صلى الله عليه وسلم أكمل من هديه؛ قولهم هذا يناقض شهادة أن محمدًا رسول الله؛ لأن شهادة أن محمدًا رسول الله تقتضي الإيمان بأنه رسول الله حقًا، وأن ما جاء به من عند الله، وأنه رسول الله إلى جميع الناس، وأنه

ص: 25

أكمل الناس هديًا، وأنه أعدل الناس حكمًا {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} [النساء]، كما أنها تقتضي الإيمان بوجوب اتباعه وطاعته في أمره ونهيه وتصديقه في كل ما أخبر به.

* * * * * * *

ص: 26

قال الشيخ رحمه الله:

الخامس: من أبغض شيئًا مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ولو عمل به؛ كفر.

وهذا في الحقيقة ضرب من النفاق، والبغض عمل قلبي، والمراد أنه يبغضه بغضًا دينيًا عقليًا، ويرى أنه شيء قبيح وبغيض، ويؤدِي بالضرورة إلى أن يبغض من يدعو إليه، ويمكن أن يُمثل لهذا بشخص يبغض الصلاة، فمن يبغضها لا يرى لها فضيلةً ولا نفعًا، ويرى أن هذه التصرفات من الوقوف والانحناء والركوع والسجود؛ أنها سفاهة وجهالة، فيبغضها، وبغضها يؤدي إلى بغض من يعملها.

أما من يؤمن بالله ورسوله، فإنه يؤمن بشريعة الصلاة، وأنها حق من عند الله، وأن في فعلها الأجر والثواب، ويحب أن يقيمها، ولكنه يجد مشقة في القيام للصلاة، فيكره القيام للصلاة الكراهة الطبيعية، لكنه لا يستجيب لهذه الكراهة، وإنما يعصي هواه، فهذا نوع آخر لا يدخل فيما نحن فيه؛ لأنَّ هذه كراهة طبيعية تضادَّها المحبة الإيمانية، فالجهاد كريه للنفوس؛ كما قال تعالى:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ} [البقرة: 216] والإنسان يكره الموت بطبعه، ويكره الجهاد لما فيه من مشقة ومخاطرة بالنفس، ولكن إذا صح وقوي الإيمان بالله، والإيمان بفضل الجهاد والشهادة في سبيل الله صار المرُّ حلوًا؛ ولهذا

ص: 27

الصادقون المجاهدون يخاطرون بأنفسهم؛ لأنهم باعوها لله: {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيم (111)} [التوبة]، فهذا عقد المبايعة، والمشتري هو الله، وهو مالك النفوس، لكنه تعالى كرمًا منه جعل بذل المؤمنين لأنفسهم بطوعهم واختيارهم، وبذلهم لأموالهم بيعًا، وسمَّى قبوله شراءً، والثمن الجنة.

فالمؤمنون المجاهدون يكرهون الموت، لكن يحبون ما يحبه الله، فالجهاد يحبه الله، فهم يحبونه ويستعذبونه؛ لأن الله سبحانه وتعالى يحبه، فتضمحل هذه الكراهة وتضعف حتى ما يحس الصادق بهذه الكراهة، وهذا يدل على قوة الإيمان وصدق الرغبة، وكذلك عند الصدقة والبذل لله، فكل أحد يكره إخراج الصدقة والمال، إلا إذا قوي إيمانه، فيصير في نفسه ارتياح يخرج به المال، وهو منشرح الصدر يتهلل، وهكذا سائر الأعمال الصالحة الشاقة مكروهة على النفوس بمقتضى الطبع، وهذه الكراهة هي المرادة في قوله صلى الله عليه وسلم:«حفت الجنة بالمكاره»

(1)

.

أما البغض الذي هو كفر ونفاق، فهو الذي يرى أنه إن صلى فهو عابث، لكنه يصلي رياءً؛ لأنه بين المسلمين فيخشى إن لم يصلِ أن يُشنِّعوا عليه، كما كان بعض المنافقين في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم يصلون ويجاهدون حتى إن أمرهم قد يخفى على بعضهم، بل خفي أمر بعضهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1)

رواه مسلم (2822) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

ص: 28

قال تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيم (101)} [التوبة]، فهذه فئة من المنافقين كانوا موغلين في التستر.

وهذا البغض المُخفى يسمَّى نفاقًا، لكن إذا أظهره وجهر به، وقال: أنا أبغض هذه الصلاة، انكشف الغطاء وباح بالنفاق، وصار مرتدًا؛ لأنه تكلم بالخبث والنفاق الذي في باطنه:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُم (28)} [محمد].

* * * * * * *

ص: 29

قال الشيخ رحمه الله:

السادس: من استهزأ بشيء من دين الرسول صلى الله عليه وسلم، أو ثواب الله أو عقابه؛ كفر، والدليل قوله تعالى:{قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُون (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة].

والاستهزاء: السخرية

(1)

. والاستهزاء والسخرية تنم وتدل على الاحتقار والكراهة، فالشيء المعظم محل للثناء والتبجيل والتعظيم والإشادة، والاستهزاء والسخرية إنما يكون بالشيء المهين عند الساخر، وهكذا كان أعداء الرسل يسخرون ويستهزؤن بأنبياء الله وبالمؤمنين:{إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُون (29)} [المطففين]، وقال تعالى:{وَلَقَدِ اسْتُهْزِاءَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ} [الأنعام: 10].

واليوم الموقف يتكرر، فقد نضحت ألسُن المنافقين في الصحف والإذاعات بالاستهزاء البيِّن والخفي بدين الله {{وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد: 30]، فهذا ضرب من النفاق.

وقد تجد شخصًا مسلمًا في الظاهر يصلي، ويصوم، ويتصدق، ويحج، لكن تأتي مواقف، تراه فيها يسخر ويستهزئ بالصلاة وفاعلها، فيقول: ما هذه الصلاة؟! الذي يصلي كأنه يلعب، فكلمة «يلعب» هذه لا تخرج من فم إنسان يؤمن بالله ورسوله.

(1)

لسان العرب (1/ 183).

ص: 30

أو يستهزئ بمناسك الحج، ويقول: ما فائدة هذا الدوران حول هذه البَنِيَّة، وما فائدة رمي هذا الحصى، هذا لعب! وهذا الكلام منه هو عين الكفر.

فالاستهزاء بالله أو برسوله أو بالقرآن أو بشيء مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم؛ يدل على التكذيب، وإن لم يصرح بالتكذيب.

والذي يخالط الناس أو يقرأ ما يكتبون يجد من هذا شواهد كثيرة، ووسائل الإعلام مسرح وميدان للحن المنافقين:{وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُون (14)} [البقرة]، قولهم بين المؤمنين: نحن إخوانكم ونحن مؤمنون؛ هذا استهزاء بالمؤمنين {اللّهُ يَسْتَهْزِاءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُون (15)} [البقرة]، فحذارِ حذارِ من كلمة يفوه بها الإنسان لا يلقي لها بالًا يهوي بها في النار

(1)

، ويكتب الله بها عليه سخطه إلى يوم يلقاه.

وتقدم أن جميع أسباب الردة ترجع إلى أنها تناقض الشهادتين، والشهادتان تقتضيان تعظيم الله ورسوله وما جاء به، والاستهزاء ضد ذلك، وذكر الشيخ الدليل على هذا الناقض قوله تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُون (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَّعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِين (66)} [التوبة]، وهذه الآيات جاء في سبب نزولها؛ أن رجلًا قال في غزوة تبوك في مجلس: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب

(1)

أخرج البخاري (6478) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالًا يهوي بها في جهنم» .

ص: 31

بطونًا ولا أكذب ألسنًا ولا أجبن عند اللقاء؛ يعني: النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين! فسبُّوا الرسول صلى الله عليه وسلم، وخيار أصحابه بالجبن والكذب والشَرَهِ في الأكل، فأخبر الله رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فجاء هذا القائل ليعتذر، فوجد القرآن قد سبقه، فقال: يا رسول الله! إنما كنا نخوض ونلعب، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون»

(1)

.

فهذا الرجل كان مؤمنًا، أو كان عنده أصل الإيمان وإيمانه ضعيف؛ فكفر، أو كان منافقًا مظهرًا للإيمان، ثم باح بالكفر.

فالخطر عظيم، ويجب على المسلم أن يحبس لسانه، ولا يمزح في أمر الدين، وفيما يتعلق بالله وأسمائه وصفاته، وفيما يتعلق بالقرآن وبالسنة، وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن المزح معناه: الهزل ضد الجد، فالمزح والسخرية والضحك يكون فيما بين الناس في الأمور العادية. أما أن يتجاوز إلى الاستهزاء بالرب العظيم، أو برسوله الكريم، أو بدينه القويم؛ فهذا يخرج به الإنسان من الإسلام إلى الكفر.

* * * * * * *

(1)

جامع البيان (10/ 2/ 172).

ص: 32

قال الشيخ رحمه الله:

السابع: السحر ومنه الصرف والعطف، فمن فعله أو رضي به؛ كفر، والدليل قوله تعالى:{وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} [البقرة: 102].

هذا هو الناقض السابع من النواقض: السحر، والسحر من علم الشياطين، قال تعالى:{وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ} [البقرة: 102].

قال: «ومنه الصرف والعطف» ، والصرف: هو السحر الذي يقصد به تنفير الأحبة بعضهم عن بعض؛ كالتفريق بين الزوجين {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} ، وهذا صرف فيه تأثير على النفوس حتى ينصرف الزوج عن زوجته، أو الزوجة عن زوجها، أو ينصرف الأخ عن أخيه أو الولد عن أمه أو عن أبيه، أو الصديق عن صديقه.

وقد ذكر في الآية التفريق بين الزوجين؛ لأنه أكثر ما يُتعاطى، وإلا فغيره من أنواع الصرف يدخل في مضمون الآية.

ص: 33

والعطف: هي التولة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في حديث «إن الرقى والتمائم والتولة شرك»

(1)

.

قال الشيخ في كتاب التوحيد: «والتولة شيء يصنعونه يزعمون أنه يحبب المرأة إلى زوجها والرجل إلى امرأته»

(2)

.

وهذا التحبيب الذي ليس طبعيًا ولا عقليًا، ولا بالأسباب المعتادة، بل هو تأثير سحري، يجعل في المسحور حب مفرط، فيتصرف تصرفات يخرج بها عن حدود العقل والحياء والحشمة.

يقول الشيخ: «من عمله أو رضي به كفر» ؛ لأن من رضي بالكفر، فهو كافر.

وقد ذكر الله شأن السحر في مواضع من القرآن، منها قوله تعالى:{وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} الآية [البقرة: 102].

كما ذكر قصة سحرة فرعون في مواضع متعددة من القرآن، يقول سبحانه وتعالى:{قَالُوا يَامُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى (68)} [طه]، وفي الآية الأخرى يقول تعالى:{قَالَ أَلْقُوْا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءوا بِسِحْرٍ عَظِيم (116)} [الأعراف]، وفي هاتين الآيتين دلالة على أن سحرهم كان تخييليًا.

(1)

رواه أبو داود (3883) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وصححه الألباني في «السلسلة الصحيحة» (331).

(2)

كتاب التوحيد (30).

ص: 34

ولهذا يقال: إن السحر نوعان:

- سحر حقيقي: كالسحر الذي يفرق به بين الزوجين والصديقين ونحوهما.

- وسحر تخييلي: وهو الذي يخيل فيه على الأبصار، بحيث إن الإنسان المسحور يرى الأشياء على غير حقيقتها، فقد يرى - مثلًا - الحمار إنسانًا، أو الإنسان حيوانًا، أو الحصى ذهبًا، أو الحبال حيات تسعى كما فعل سحرة فرعون.

أما أن السحر يقلب الأعيان، فهذا لا يمكن، فالساحر لا يستطيع أن يقلب الإنسان حيوانًا، أو يقلب الحيوان إنسانًا، أو يقلب الذهب حجرًا، أو الحجر ذهبًا، يجب أن يُفهم هذا الأمر، وأنه لا يقدر على قلب الأعيان إلا الله الذي خلق كل شيء سبحانه وتعالى، والساحر إنما غايته عمل التخييل والتمويه على البصر قال تعالى:{سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءوا بِسِحْرٍ عَظِيم (116)} [الأعراف].

وكلا السحرين من علم الشياطين، وكلاهما كفر. قال سبحانه وتعالى:{وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69)} [طه]؛ فنفى الفلاح عن الساحر مطلقًا.

والسحر إنما كان كفرًا؛ لأنه يقوم على الشرك ولا ينفك عنه؛ لأن الساحر يتقرب إلى الشياطين، ويعبدهم، ويطيعهم؛ فيطيعونه ويعينونه على ما يريد من الفساد والإفساد.

ص: 35

فالساحر من المفسدين في الأرض؛ لأنه يفسد على الناس عقولهم ودينهم، وإذا فسد عقل الإنسان فسد دينه، فكم من إنسان - والعياذ بالله - ظُلم بالسحر فشقي في حياته فلم يستقم له دين ولا دنيا؟!

ومن العلماء من قال: إن السحر يختلف، فمنه ما هو كفر، ومنه ما ليس بكفر، وهذا مبني على أن من السحر ما لا يستلزم الشرك، ولكن ظاهر القرآن أن السحر كفر كله.

أما ما يلبس به الملبسون من بعض الأعمال الرياضية التي ترجع إلى خفة اليد بزعمهم، وسرعة الحركة، والسحر التمويهي: وهو ما يكون بتمويه بعض المواد بما يظهرها على غير حقيقتها، فهذا السحر سحر لغوي فقط، وليس من السحر الذي هو كفر، ولكنهم جعلوه وسيلة لترويج أعمال سحرية سحرًا حقيقيًا، كضرب الإنسان بالسيف من غير أن يقتله، وأكله الجمر، وبلعه الحيات، وثني الحديد بعينه مما يشتمل عليه ما يسمى ب «السِّرْك» .

* * * * * * *

ص: 36

قال الشيخ رحمه الله:

الثامن: مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين، والدليل قوله تعالى:{وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين (51)} [المائدة].

«الثامن» من النواقض: «مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين» معاونتهم على المسلمين بشتى طرق المعاونة، وشرها معاونتهم على قتال المسلمين، فالشيخ يقول: إنه من نواقض الإسلام، ويستدل على ذلك بقوله سبحانه:{وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين (51)} [المائدة]. وظاهره الإطلاق، وأن أي معاونة للكفار على المسلمين، فإنها كفر وردة، وناقض من نواقض الإسلام.

فأما إذا كانت المظاهرة للكفار على المسلمين نابعة عن بغضٍ للإسلام والمسلمين والرغبة في إذلال المسلمين؛ فهذا هو عمل المنافقين، قال تعالى:{أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُون (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُون (12)} [الحشر].

وأما إذا كانت المظاهرة ليست في أمور القتال، وإنما في أمر من الأمور التي قد تحقق للكفار مصلحة، وتكون هذه المعاونة لغرض

ص: 37

دنيوي، إما رغبة أو رهبة مع بغض الكفار والبراءة من دينهم؛ فهذه فيها نظر، ويمكن أن يُستدلَ على أن ذلك لا يكون كفرًا بقصة حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه؛ وذلك أن حاطبًا كان من المهاجرين، وكان ممن شهد بدرًا، وكان له بمكة أولاد ومال، ولم يكن من قريش أنفسهم؛ بل كان حليفًا لهم، فلما عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على فتح مكة حين نقض أهلها العهد، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بالتجهز لغزوهم، وقال:«اللهم عَمِّ عليهم خبرنا»

(1)

، فعمد حاطب فكتب كتابًا وبعثه إلى أهل مكة يعلمهم بما عزم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوهم ليتخذ بذلك عندهم يدًا، فأطلع الله تعالى على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم استجابة لدعائه، فبعث عليًا والزبير والمقداد قال:«انطلقوا حتى تأتوا روضة خَاخٍ، فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها» ، قال علي: فانطلقنا تعادَى بنا خيلنا حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالظعينة، فقلنا: أخرجي الكتاب، قالت: ما معي كتاب، قلنا: لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب، قال: فأخرجت الكتاب من عِقاصها

(2)

، فأخذنا الكتاب فأتينا به رسول الله، فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين بمكة يخبرهم ببعض أمر رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«يا حاطب ما هذا؟!»

(3)

، قال: لا تعجل علي، إني كنت امرأ ملصقًا في قريش ولم أكن من أنفسهم، وكان من معك من

(1)

رواه الطبراني في «الكبير» (1052) من حديث ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها، قال الهيثمي: وفيه يحيى بن سليمان بن نضلة، وهو ضعيف. مجمع الزوائد (10232).

(2)

أي: ضفائرها، لسان العرب (7/ 55).

(3)

لما بلغت في القراءة هذا الموطن؛ بكى الشيخ.

ص: 38

المهاجرين لهم قرابات يحمون أهليهم بمكة، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ فيهم يدًا يحمون بها قرابتي، وما فعلت ذلك كفرًا ولا ارتدادًا عن ديني، ولا رضًا بالكفر بعد الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إنه صدقكم» ، فقال عمر رضي الله عنه: دعني أضرب عنق هذا المنافق! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنه قد شهد بدرًا، وما يدريك لعل الله اطلع إلى أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» ، فأنزل الله قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيل (1)} [الممتحنة] إلخ السورة

(1)

، وقد ختمت السورة بمثل البداية قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُور (13)} [الممتحنة].

* * * * * * *

(1)

رواه البخاري (4890)، ومسلم (2494) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

ص: 39

قال الشيخ رحمه الله:

التاسع: من اعتقد أن بعض الناس يسعه الخروج عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى عليه السلام؛ فهو كافر.

«التاسع» من النواقض: «من اعتقد أن بعض الناس يسعه الخروج عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم» ، ومعنى هذا الاعتقاد: أن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ليست عامة لجميع الناس، فاليهود يسعهم الخروج عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، والنصارى يسعهم الخروج عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، أو كما يقول بعض الصوفية: إن العارف المحقق لا يلزمه العمل بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قد وصل إلى الله، وهو يتلقى المعرفة من الله بلا واسطة!

فمن زعم أن أحدًا يسعه الخروج عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه يمكنه التدين لله والوصول إلى رضاه من غير طريق الرسول صلى الله عليه وسلم، «كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى عليه السلام» فمن اعتقد ذلك «فهو كافر» ؛ لأن هذا يناقض شهادة أن محمدًا رسول الله؛ لأن شهادة أن محمدًا رسول الله تقتضي الإيمان بأنه رسول الله إلى الناس كافَّة، وأن أحدًا لا يسعه الخروج عن شريعته؛ إذ لا طريق إلى الله أبدًا منذ بعثه الله إلى أن تقوم الساعة إلا شريعته الخالدة المحفوظة، وقد سد الله كل طريق إلى الجنة، فلا يفتح إلا من طريقه، قال صلى الله عليه وسلم: «والذي نفس محمد بيده لا

ص: 40

يسمع بي أحد من هذه الأمة؛ يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار»

(1)

.

* * * * * * *

(1)

تقدم تخريجه في ص 24.

ص: 41

قال الشيخ رحمه الله:

العاشر: الإعراض عن دين الله تعالى؛ لا يتعلمه ولا يعمل به. والدليل قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُون (22)} [السجدة]، ولا فرق في جميع هذه النواقض بين الهازل والجاد، والخائف، إلا المكره، وكلها من أعظم ما يكون خطرًا، ومن أكثر ما يكون وقوعًا؛ فينبغي للمسلم أن يحذرها ويخاف منها على نفسه، نعوذ بالله من موجبات غضبه وأليم عقابه، وصلى الله على خير خلقه محمد وآله وصحبه وسلم.

«العاشر» من النواقض: «الإعراض عن دين الله تعالى؛ لا يتعلمه ولا يعمل به» .

من ضروب الكفر: كفر الإعراض، فمن الكفار من يعرض عن دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لا يصغي لها ولا يدري عنها، يُدعى فلا يُصغي، ولا يتفكر ولا يتأمل.

ثم إذا كان الإنسان مظهرًا للإسلام شاهدًا للشهادتين، لكنه أعرض عن دين الله، فلا يهمه حلال ولا حرام، ولا يعمل بشيء من دين الله، ولا يسأل عن شيء، فهو لا يصلي، ولا يصوم، ولا يحج، ولا يتصدق لله، ولا يذكر الله، ولا يتلو شيئًا من القرآن، ولا يترك الزنا خوفًا من

ص: 42

الله، ولا يترك شرب الخمر خوفًا من الله، فإن تركه؛ فإنما لأنه لا يتهيأ له، فهل يمكن أن يكون مسلمًا؟!

لا يمكن أبدًا؛ لأن هذا الإعراض الكلي مناقض للشهادتين، فلو كان صادقًا لعمل بشيء من دين الله.

والكلام على هذا غير الكلام على بعض الأعمال التي يختلف أهل العلم: هل تركها كُفْرٌ أم لا؟ كالصلاة مثلًا، فهذا موضوع آخر، فترك الصلاة فيه خلاف بين أهل العلم، ولا ريب أن الذي لا يصلي أبدًا، أو لا يصلي إلا مجاملة للناس؛ أنه كافر.

واستدل الشيخ لهذا الناقض بقوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُون (22)} [السجدة]، وفي الآية الثانية:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57)} [الكهف]، وقال سبحانه وتعالى:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنذِرُوا مُعْرِضُون (3)} [الأحقاف]، فهذا الذي يدَّعي الإسلام، ويشهد الشهادتين، ثم هو معرض كل الإعراض عن دين الله، هذا الإعراض يكذِّب ما يدعيه من شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وهذا النوع تجده إن عمل شيئًا، عمله نفاقًا، فإذا صار بين الناس وقاموا يصلون قام يصلي. أما إذا خلا، فلا يصلي ولا يصوم؛ لأن هذه أعمال لا يفعلها الإنسان خاليًا إلا إذا كان مؤمنًا بالله ورسوله، وبأنها أعمال صالحة تنفعه.

ص: 43

وقد ختم الشيخ هذه النواقض ببيان أنه لا فرق فيها بين الجاد والهازل، فمن عمل شيئًا من هذه الأمور، ولو كان غير جاد كما تقدم في الاستهزاء

(1)

، أو عملها خائفًا فإنه يكفر، إلا المكره؛ لقوله تعالى:{مَنْ كَفَرَ بِاللّهِ مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيم (106)} [النحل]؛ فمن أكره بالتهديد بالقتل، أو الضرب الموجع على أن يقول - مثلًا -: إن الرسول كذَّاب، وقال بلسانه ما يتخلص به من ذلك البلاء، وقلبه مطمئن بالإيمان؛ فليس بكافر.

والقلب لا يستطيع أحد أن يتسلط على ما فيه من اعتقاد ويكره على تركه، ولهذا جرت أحكام الدنيا على الظاهر، فالمنافق يعيش بين المسلمين منافقًا، وقلبه منطوٍ على الكفر، والمؤمن بين الكفار الذين لا يستطيع أن يتخلص من شرهم يعيش مؤمنًا بالله، وهو في ظاهره كافر؛ لأنه في بعض بلاد الكفر لا يسمحون لأحد من المؤمنين بإظهار الإسلام، كما فعلت الشيوعية، فكان من يحمل المصحف، أو يظهر الإسلام، مصيره إلى الشنق، أو الإحراق.

وقوله: «وكلها من أعظم ما يكون خطرًا ومن أكثر ما يكون وقوعًا» .

تأمل هذا في الواقع! فما أكثر الشرك بالله الواقع بين الناس؛ كعبادة القبور وغيرها، والسحر ما أكثره فيما بين الناس في سائر البلاد الإسلامية، وما أكثر المستهزئين بالله وآياته ورسوله، وما أكثر المعرضين

(1)

ص 30.

ص: 44

الذين ينتسبون للإسلام، ولكنهم لا يقيمون للإسلام وزنًا؛ لا علمًا، ولا عملًا، وليس معهم من الإسلام إلا مجرد الانتماء؛ كما يقال: إنه مكتوب في الهوية أنه مسلم، وما أكثر

فينبغي على المسلم أن يحذر من أسباب الردة القولية والفعلية والاعتقادية؛ لأن الردة والكفر قد تكون بالقول أو بالفعل أو بالاعتقاد.

فالمنافق كافر لما ينطوي عليه كفره من شك، أو إباء، أو تكذيب.

والذي بالعمل، كالسجود للصنم والذبح لغير الله.

والذي باللسان، كأن يكذب بشيءٍ مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، أو يستهزئ بشيءٍ مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن كان مصدقًا به في الباطن فهو كافر؛ لأن التصديق لا بد أن يتضمن الانقياد لما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام، والاستهزاء والسخرية والبغض لا تجتمع مع الانقياد، فأبو طالب عم الرسول صلى الله عليه وسلم كان مصدقًا بقلبه وأظهر التصديق بلسانه، وهو مع ذلك مظهر لإبائه، فلم ينفعه ذلك التصديق، فمات على ملة عبد المطلب، مع بذل الرسول عليه الصلاة والسلام النصح له إلى آخر رمق، فقد جاءه وهو يحتضر، فقال له:«يا عم، قل: لا إله إلا الله» ، فلم يزل يقول له:«قل: لا إله إلا الله» ، ومن عنده من جلساء السوء يقولون: أترغب عن ملة عبد المطلب

(1)

؟ فمات على قوله: هو على ملة عبد الطلب، نعوذ بالله من الخذلان.

(1)

رواه البخاري (1360) من حديث المسيب بن حزن رضي الله عنهما.

ص: 45

فعلى المسلم الإكثار من هذا الدعاء: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّاب (8)} [آل عمران]، وبما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يكثر من قوله:«يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك»

(1)

، وأن يسأل ربه الثبات وحسن الخاتمة، كما كان من دعاء الأنبياء:{تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِين (101)} [يوسف]، وهذا معناه: سؤال الله حسن الخاتمة ف «إنما الأعمال بالخواتيم»

(2)

.

نسأله سبحانه وتعالى أن يعصمنا من زيغ القلوب، كما نسأله سبحانه وتعالى أن يحسن لنا الخاتمة، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد.

* * * * * * *

(1)

رواه أحمد (3/ 112)، والبخاري في «الأدب المفرد» ، والترمذي (2140) - وقال: حسن -؛ وصححه الحاكم (1/ 526)، والضياء في «المختارة» (6/ 211) من حديث أنس رضي الله عنه.

(2)

رواه البخاري (6607) من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه.

ص: 46