الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وبعد:
فإن المتأمل لكثير من القضايا التي تشهدها ساحتنا الإسلامية سواء على المستوى العقدي أو التشريعي أو الفكري أو النفسي أو الاجتماعي يقف على حاجة المسلم الماسة إلى تأصيل شرعي لموقف المسلم منها في ضوء القرآن وصحيح السنة، ومن القضايا التي برزت على الساحة الإسلامية قضية (التكفير)، وقد كثر الخوض فيه قديما وحديثا، وهو مضلة أفهام ومزلة أقدام، قد يفضي إلى التناحر والشقاق واستحلال الحرام باسم الدين. وقد انقسم الناس فيه إلى طرفين ووسط؛ طرف يعتقد أن التكفير شرط فيه الاستحلال أو الجحود فمن أتي بأي معصية ما لم يستحلها لا يكفر حتى وإن كانت هذه المعصية كفرا منصوصا عليه، وقد يحكمون على الأعمال الكفرية بأنها غير مكفرة وأنها من المعاصي التي هي دون الكفر، وقابلهم في تطرفهم طائفة أخرى تكفر بالشبهات وتتصيد
الزلات والعثرات، وينصب أحدهم نفسه بلا أهلية معتبرة شرعا قاضيا يحكم على من يشاء بما شاء، فيكفر ويخرج من أراد من حظيرة الإسلام، غير مكترث لخطورة هذا الأمر عليه وعلى المجتمع وعلى وحدة الصف الإسلامي، والحق وسط بين هؤلاء وهؤلاء، كوسطية أهل السنة والجماعة بين الفرق المائلة يمينا أو يسارا عن الصراط، ولهذا لم يترك السلف (تكفير المسلمين) مع خطورته حمى مستباحا لكل أحد، بل درسوه وأصلوه وضبطوه، وقد جاء هذا البحث (ضوابط التكفير في ضوء السنة النبوية) إسهاما في تناول هذه القضية تناولا تأصيليا من خلال حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، أضف إلى الآتي:
1.
إن فتنة التكفير التي مزقت جسد الأمة الإسلامية هي أول البدع والفتن ظهورا في الإسلام، وهي منبع لكثير من الانحرافات العقائدية و السلوكية و الخلقية و النفسية التي عانت منها الأمة المسلمة على مدى أربعة عشر قرنا، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " أول البدع ظهورا في الإسلام وأظهرها ذما في السنة والآثار: بدعة الحرورية المارقة؛ فإن أولهم قال للنبي صلى الله عليه وسلم في وجهه: اعدل يا محمد
فإنك لم تعدل
(1)
، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلهم وقتالهم وقاتلهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.
والأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم مستفيضةٌ بوصفهم وذمهم»
(2)
.
2.
خطورة التكفير سواء على من يلقي هذا الحكم بلا أهلية معتبرة شرعا، أو على المجتمع حين تستباح الحرمات وتسفك الدماء باسم الدين.
3.
التأصيل الشرعي لقضية التكفير وتنقيتها من غلو الخوارج وتفريط المرجئة.
4.
ضبط التكفير بالضوابط الشرعية التي جاءت في كتاب الله وصحيح سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
5.
تسلل هذه الفتة إلى مجتمعنا بفئاته وشرائحه المختلفة يحتم علينا أن نسهم في تحصين المجتمع منها من خلال التأصيل الشرعي و الفهم الصحيح المسألة التكفير.
6.
حصر ضوابط التكفير من خلال استقراء نصوص الكتاب
(1)
أخرجه بهذا اللفظ ابن ماجة (1/ 61) وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجة (1/ 244). وأخرجه البخاري كتاب استتابة المرتدين/ باب من ترك قتال الخوارج للتألف (6/ 2450) 6534، ومسلم كتاب الزكاة (3/ 93)2496.
(2)
الفتاوى (19/ 71).
والسنة يشكل حصانة فكرية للمجتمع من فتنة
التكفير
7.
خدمة موضوعات الاعتقاد حديثيا.
هذا وقد قسمت البحث إلى تمهيد ومبحثين وخاتمة.
التمهيد، ويشتمل على تعريف الكفر لغة واصطلاحا، والإشارة إلى خطورة التكفير
المبحث الأول: ضوابط عامة في التكفير في ضوء السنة النبوية:
1.
التكفير حكم شرعي، وحق لرب العالمين.
2.
أهلية المكفِّر.
3.
الحكم بالظاهر.
4.
التفريق بين التكفير المطلق، وتكفير المعين.
المبحث الثاني: ضوابط تكفير المعين في ضوء السنة النبوية
(الشروط والموانع).
1.
العلم شرط ومانعه الجهل.
2.
القصد شرط ومانعه الخطأ.
3.
الإرادة شرط ومانعها الإكراه.
4.
عدم التأويل شرط ومانعه التأويل.
التمهيد
الكفر في لغة العرب، الستر والتغطية، وسموا الزراع كفارا، لسترهم البذور بالتراب، ومنه قوله تعالى:{كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} [الحديد: 20]، وسمي الكافر كافرا لأن الكفر غطى قلبه كله، أو لأنه ستر نعم الله عليه. ويأتي الكفر بمعنى الجحود، يقال: كافرني فلان حقي، إذا جحده، ورجل كافر: جاحد لنعم الله، ومنه قوله تعالى:{وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ} [القصص: 48] أي: جاحدون.
وأما الكفر في الاصطلاح، فنقيض الإيمان بالله، وهو نوعان:
كفر أكبر مخرج من الملة: وهو كل كفر أخرج صاحبه من دائرة الإيمان، وقضت النصوص الشرعية بأن صاحبه خالد مخلد في النار، وهو المقصود من البحث، وله ستة أنواع:
تكذيب، وجحود، وعناد، وإعراض، ونفاق، وشك.
وكفر أصغر لا يخرج من الملة، وهو كل ما أطلق عليه الشارع كلمة الكفر، وقامت الأدلة على أنه لم يرد الكفر الأكبر المخرج من الملة، وإنما أراد الشارع التهديد والزجر.
والتكفير رمي المسلم الذي شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا
رسول الله بالكفر بالله ورسوله، وإخراجه من نور الإيمان والهدى إلى ظلمة الكفر والجهل، ومن سبيل الله إلى سبل الشيطان، وإخراجه من جماعة المسلمين، وانتفاء ولايته على ذريته، وتحريم زوجته عليه، وسقوط إرثه، وعدم حل ذبيحته، وعدم جواز تغسيله، والصلاة عليه إذا مات، و أنه لا يدفن في مقابر المسلمين، وعدم جواز الاستغفار له، وما إلى ذلك من أحكام امتلأت بها كتب الفقه والعقائد، ولذا وقف الإسلام منه موقفا شديدا محذرا من عاقبة إطلاقه، و خطورة التساهل مع المتولين كبره. يقول شيخ الإسلام: «ولا يجوز تكفير المسلم بذنب فعله ولا بخطأ أخطأ فيه كالمسائل التي تنازع فيها أهل القبلة فإن الله تعالى قال: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 285] وقد ثبت في الصحيح أن الله تعالى أجاب هذا الدعاء وغفر للمؤمنين خطأهم
(1)
. والخوارج المارقون الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم قاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالبٍ أحد الخلفاء الراشدين. واتفق على قتالهم أئمة الدين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم. ولم يكفرهم علي ابن
(1)
أخرجه مسلم كتاب الإيمان (1/ 80، 81) 344، 345.
أبي طالب وسعد بن أبي وقاصٍ وغيرهما من الصحابة بل جعلوهم مسلمين مع قتالهم، ولم يقاتلهم علي حتى سفكوا الدم الحرام وأغاروا على أموال المسلمين، فقاتلهم لدفع ظلمهم وبغيهم لا لأنهم كفارٌ، ولهذا لم يسب حريمهم ولم غنم أموالهم، وإذا كان هؤلاء الذين ثبت ضلالهم بالنص والإجماع لم يكفروا مع أمر الله ورسوله بقتالهم، فكيف بالطوائف المختلفين الذين اشتبه عليهم الحق في مسائل غلط فيها من هو أعلم منهم؟»
(1)
. وقد كثر الكلام حول التكفير، ولحظ المسارعة فيه، والجرأة عليه، مع أن الخوض فيه دحض مزلة، خصوصا ونحن نرى بعض صغار السن، زادهم من العلم: قيل وقال: ولا يظهر عليهم أثر علم ولا التزام سنة؛ يخوضون في مثل هذه المسائل التي لو عرضت على عمر لجمع لها أهل بدر!.
(2)
وقد جاء هذا البحث متناولا ضوابط التكفير في ضوء السنة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم، مبينا أنه لا ينبغي الخوض في التكفير من قبل أن يقف المؤمن على أصوله، ويتحقق من شروطه وموانعه، وإلا أورد نفسه المهالك، وباء بغضب من الله.
(1)
مجموع الفتاوى (3/ 282).
(2)
حتى لا تبوء بها الشيخ السحيم بتصرف.
المبحث الأول ضوابط عامة في التكفير في ضوء السنة النبوي
الضابط الأول التكفير حكم شرعي، وحق لله رب العالمين
(التكفير حكم شرعي، وحق محض للرب سبحانه وتعالى، لا تملكه هيئة من الهيئات، أو جماعة من الجماعات، ولا اعتبار فيه لذوق أو عقل، ولا دخل فيه لحماسة طاغية، أو عداوة ظاهرة، ولا يحمل عليه ظلم ظالم تمادى في ظلمه وغيه، وإنما لا يكفر إلا من كفره الله ورسوله)
(1)
.
يقول شيخ الإسلام: "وهذا بخلاف ما كان يقوله بعض الناس، كأبي إسحاق الإسفراييني ومن اتبعه، يقولون: لا يكفر إلا من يكفر. فإن التكفير ليس حقا لهم، بل هو حق الله، وليس للإنسان أن يكذب على من يكذب عليه، ولا يفعل الفاحشة بأهل من فعل الفاحشة بأهله، بل لو استكرهه رجل على اللواطة، لم يكن له أن يستكرهه على ذلك،
(1)
التكفير في ضوء السنة النبوية لباسم الجوابرة (58).
ولو قتله بتجريع خمر أو تلوط به لم يجز قتله بمثل ذلك، لأن هذا حرام لحق الله تعالى، ولو سب النصارى نبينا، لم يكن لنا أن نسب المسيح، والرافضة إذا كفروا أبا بكر و عمر فليس لنا أن نكفر عليا».
(1)
الضابط الثاني أهلية المكفر
التكفير حكم شرعي، و مسألة كبرى لا يتصدى لها إلا الأئمة الكبار و أهل العلم الذين أمر الله بسؤالهم والرد إليهم، حين قال:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] وهذا الضابط سيتناول المؤهل لإصدار حكم التكفير.
أ. تعريف الأهلية:
يقال: أهلٌ لكذا: أي مستوجب له؛ الواحد والجمع في ذلك سواء.
ويقال: هو أهل ذاك، وأهل لذاك، ويقال: هو أهلة ذلك، وأهله لذلك الأمر تأهيلا، وأهله: رآه له أهلا، واستأهله: استوجبه
(2)
.
ب. شروط المكفر:
لابد أن يكون المكفر عالما مجتهدا، لأن التكفير يقوم على أدلة شرعية إما قرآنية معلومة الثبوت أو حديثية لا يستطيع القطع بثبوتها
(1)
منهاج السنة النبوية (5/ 244)
(2)
لسان العرب: مادة (أهل).
ولا يمتلك أدوات فهمها فهما سليما إلا العلماء، وأما العوام فالواجب عليهم الرجوع إليهم في هذه المسائل وغيرها من مسائل العقائد والأحكام، يقول تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، ويقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم «
…
إن القرآن لم ينزل يكذب بعضه بعضا، بل يصدق بعضه بعضا فما عرفتم منه فاعملوا به وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه»
(1)
.
وأهل الأهواء من قديم الزمان يسلكون مسلكا مريبا في طعنهم العلماء، ويسقطون هيبتهم من النفوس حتى لا يرجع إليهم، كما سبق أن أسقطوا هيبة الأمراء، وقد قال ابن المبارك:«من استخف بالعلماء ذهبت آخرته، ومن استخف بالأمراء ذهبت دنياه، ومن استخف بالإخوان ذهبت مروءته»
(2)
.
(1)
أخرجه أحمد في مسنده (11/ 304) قال شعيب الأرنؤوط: صحيح. والطبراني في الأوسط (1/ 165).
(2)
رواه ابن المبارك في الزهد برقم (61) وأبو عمرو الداني في الفتن (2/ 62) وذكره الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (695) وانظر: التكفير في ضوء السنة لباسم الجوابرة (92).
ت. النصوص الواردة في أهلية المكفر:
أمر الله بسؤال أهل الذكر {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، قال الشيخ السعدي:(وهذه الآية وإن كان سببها خاصا بالسؤال عن حالة الرسل المتقدمين لأهل الذكر، وهم: أهل العلم؛ فإنها عامة في كل مسألة من مسائل الدين أصوله وفروعه، إذا لم يكن عند الإنسان علم منها، أن يسأل من يعلمه)
(1)
2.
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] قال الشيخ السعدي: «أمر بطاعة أولي الأمر وهم: الولاة على الناس، من الأمراء والحكام والمفتين، فإنه لا يستقيم للناس أمر دينهم ودنياهم إلا بطاعتهم والانقياد لهم، طاعة لله ورغبة فيما عنده، ولكن بشرط ألا يأمروا بمعصية الله، فإن أمروا بذلك فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. ولعل هذا هو السر في حذف الفعل عند الأمر بطاعتهم وذكره مع طاعة الرسول، فإن الرسول لا يأمر إلا بطاعة الله، ومن يطعه فقد أطاع الله، وأما أولو الأمر فشرط الأمر بطاعتهم أن لا يكون معصية» .
(2)
(1)
تفسير السعدي (ص 322).
(2)
تفسير السعدي (ص 183)
3.
{وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ} [النساء: 83] قال الشيخ السعدي:
(1)
4.
روى الإمام مسلم عن جندب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدث أن رجلا قال: والله لا يغفر الله لفلان، وإن الله تعالى قال: "من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان، فإني قد غفرت لفلان، وأحبطت عملك».
(2)
ربما نتعاظم جميعا ما قاله ذلك الرجل ونتساءل: من يستطيع أن يقول كما قال ذلك الرجل؟ ومن يستطيع أن يحجر واسعا؟ أو يحكم على مسلم بالخلود في النار؟
أقول: من يحمل راية التكفير الواسعة يستطيع أن يقول ذلك، بل
(1)
تفسير السعدي (ص 190).
(2)
(ص 1053) 2621 كتاب البر والصلة والآداب.
لا بد أن يقول ذلك؟ ومن يجرؤ على التكفير أو يتساهل في أمره فهو واقع في ذلك لا محالة: وكيف ذلك؟ وإذا حكم على معين بأنه كافر فقد حكم بأن الله لا يغفر له، وقد قال بلسان حاله إن لم يكن بلسان مقاله: والله لا يغفر الله لفلان. وهذا أمر بالغ الخطورة!!
(1)
ث. أقسام المكفرين:
القسم الأول: أن يكون المكفر من صلحاء الأمة متأولا مخطئا، وهو ممن يسوغ له التأويل:
فهذا وأمثاله ممن رفع عنه الحرج والتأثيم لاجتهاده، وبذل وسعه، كما في قصة حاطب بن أبي بلتعة ?، فإن عمر ? وصفه بالنفاق واستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وما يدريك أن الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم»
(2)
، ومع ذلك فلم يعنف عمر على قوله لحاطب: إنه قد نافق.
القسم الثاني: المكفر لأحد من هذه الأمة يستند في تكفيره له إلى نص وبرهان من كتاب الله وسنة رسوله،
وقد رأى كفرا بواحا،
(1)
(حتى لا تبوء بها) الشيخ السحيم.
(2)
أخرجه البخاري كتاب استتابة المرتدين/ باب ما جاء في المتأولين (6/ 2452) 6540، ومسلم كتاب فضائل الصحابة (7/ 167)، 2494.
كالشرك بالله، وعبادة ما سواه، والاستهزاء به تعالى، أو بآياته، أو رسله، أو تكذيبهم، أو كراهة ما أنزل الله من الهدى ودين الحق، أو جحود الحق، أو جحد صفات الله تعالى ونعوت جلاله ونحو ذلك:
فالمكفر بهذا وأمثاله مصيب مأجور، مطيع لله ورسوله، قال الله تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ} [النحل: 36] فمن لم يكن من أهل عبادة الله تعالى، وإثبات صفات كماله، ونعوت جلاله، مؤمنا بما جاءت به رسله، مجتنباً لكل طاغوت يدعو إلى خلاف ما جاءت به الرسل، فهو ممن حقت عليه الضلالة، وليس ممن هدى الله للإيمان به، وبما جاءت به الرسل عنه، والتكفير بترك هذه الأصول، وعدم الإيمان بها من أعظم دعائم.
القسم الثالث: من أطلق لسانه بالتكفير لمجرد عداوة،
أو هوى، أو المخالفة في المذهب، كما يقع لكثير من الجهال: فهذا من الخطأ البين، والتجاسر على التكفير، والتفسيق، والتضليل، لا يسوغ إلا لمن رأى كفرا بواحا عنده فيه من الله برهان.
والمخالفة في المسائل الاجتهادية، التي قد يخفي الحكم فيها
على كثير من الناس، لا تقتضي كفرا ولا فسقا، وقد يكون الحكم فيها قطعيا جليا عند بعض الناس، وعند آخرين يكون الحكم فيها مشتبها خفيا، والله لا يكلف نفسا إلا وسعها.
والواجب على كل أحد، أن يتقي الله ما استطاع، وما يظهر لخواص الناس من الفهوم والعلوم، لا يجب على من خفيت عليه عند العجز عن معرفتها، والتقليد ليس بواجب، بل غايته أن يسوغ عند الحاجة، وقد قرر بعض مشايخ الإسلام أن الشرائع لا تلزم إلا بعد البلوغ، وقيام الحجة، ولا يحل لأحد أن يكفر، أو يفسق بمجرد المخالفة للرأي والمذهب.
القسم الرابع: الذين يكفرون بما دون الشرك من الذنوب، كالسرقة، والزنا، وشرب الخمر:
وهؤلاء هم الخوارج، وهم عند أهل السنة أهل ضلال وبدعة، قاتلهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الحديث قد صح بالأمر بقتالهم، والترغيب فيه، وفيه:«أنهم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم» .
(1)
الضابط الثالث الحكم بالظاهر
اتفق أئمة أهل السنة والجماعة على قاعدة (من ثبت إسلامه فلا يزول بشك)؛ فكانوا أعظم الناس ورعا؛ لأن تكفير المسلم مسألة
(1)
الإتحاف في الرد على الصحاف [ص 27].
خطيرة، يجب عدم الخوض فيها دون دليل وبرهان، وينبغي الاحتراز من التكفير ما وجد إلى ذلك سبيلا، فباب التكفير باب خطير، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم أن يكفر أحدٌ أحدا دون برهان.
والأصل في المسلم السلامة من الفسق والكفر، فإذا تقرر هذا الأصل صار هو القدر المتيقن، و
…
(اليقين لا يزول بالشك) ولا يعدل عن هذا اليقين أو الأصل إلا بدليل صريح صحيح، أما الظن والتخمين فليس هذا مجاله أبدا. وإذا كانت هذه القاعدة تقرر أنه لا يجوز الحكم بنقض وضوء المسلم إلا بدليل، فكيف الحال عند الحكم بنقض إسلامه بالكلية؟!.
(1)
ويتفرع عن هذا الأصل حرمة دم المسلم وعرضه وماله، ودليله حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته يوم النحر في حجة الوداع أخرجه البخاري
(2)
ومسلم
(3)
في صحيحيهما: ( .. فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، فليبلغ الشاهد الغائب).
(4)
(1)
قواعد الأحكام (2/ 26)
(2)
كتاب الحج، باب الخطبة أيام منى (4/ 335)1741.
(3)
كتاب القسامة والمحاربين (3/ 2305)1679.
(4)
[وقفات تأصيلية](التكفير بين العلم والجهل) د. فهد بن سعد الزايدي الجهني.
وقبل الكلام على أدلة الحكم بالظاهر لابد أن نتعرف على معنى الظاهرة:
أ. تعريف الظاهرة
ظهر يظهر ظهورا فهو ظاهر، والظاهر خلاف الباطن.
(1)
ب. الحكم بالظاهر وأدلة ذلك
(2)
:
هذه من المسائل العظيمة في مذهب أهل السنة في الحكم على الناس، فلا تكون أحكامهم مبنية على ظنون وأوهام أو دعاوي لا يملكون عليها بينات، وهذه من رحمة الله وتيسيره على عباده ومن باب تكليفهم بما يطيقون ويستطيعون، وكل ما سبق المقصود به الحكم الدنيوي على الشخص بالإسلام أو الكفر، أما الحكم على الحقيقة فلا سبيل إليه، يقول الإمام الشاطبي الله رحمه الله مبينا أهمية هذا الأصل وخطورة إهماله: (إن أصل الحكم بالظاهر مقطوع به في الأحكام خصوصا، وبالنسبة إلى الاعتقاد في الغير عموما، فإن سيد البشر مع إعلامه بالوحي يجري الأمور على ظواهرها في المنافقين
(1)
لسان العرب: مادة (ظهر).
(2)
مستفاد من نواقض الإيمان الاعتقادية د. محمد الوهيبي (1/ 201)
وغيرهم، و إن علم بواطن أحوالهم، ولم يكن ذلك بمخرجه عن جريان الظواهر على ما جرت عليه. لا يقال: إنما كان ذلك من قبيل ما قال: (خوفا من أن يقول الناس أن محمدا يقتل أصحابه)
(1)
فالعلة أمر آخر لا ما زعمت، فإذا عدم ما علل به فلا حرج. لأنا نقول: هذا أدل الدليل على ما تقرر، لأن فتح هذا الباب يؤدي إلى أن لا يحفظ ترتيب الظواهر فإن من وجب عليه القتل بسبب ظاهر، فالعذر فيه ظاهر واضح، ومن طلب قتله بغير سبب ظاهر بل بمجرد أمر غيبي ريما شوش الخواطر وران على الظواهر، وقد فهم من الشرع سد هذا الباب جملة ألا ترى إلى باب الدعاوي المستند إلى أن «البينة على المدعي واليمين على من أنكر»
(2)
، ولم يستثن من ذلك أحدا حتى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتاج في ذلك إلى البينة، فقال من يشهد لي؟ حتى شهد له خزيمة بن ثابت
(3)
فجعلها
(1)
جزء من حديث، رواه البخاري، كتاب التفسير، باب قوله تعالى: {? ? ? ?
…
} الآية .. الفتح (8/ 648)4622.
(2)
أخرجه البخاري 8/ 398 في تفسير سورة الأحزاب.
(3)
أما خزيمة فهو: خزيمة بن ثابت بن الفاكه بن ثعلبة بن ساعده، أبو عمار الأنصاري المدني، ذو الشهادتين شهد أحدا وما بعدها. استشهد مع علي رضي الله عنه يوم صفين، صحابي جليل وله أحاديث، انظر لترجمته: طبقات ابن سعد 4/ 378، أسد الغابة 2/ 133. والإصابة 3/ 930.
الله شهادتين
(1)
فما ظنك بأحاد الأمة، فلو ادعي أكذب الناس على أصلح الناس لكانت البينة على المدعي، واليمين على من أنكر وهذا من ذلك والنمط واحد، فالاعتبارات الغيبية مهملة بحسب الأوامر والنواهي الشرعية)
(2)
واستند أهل السنة في تقريرهم لهذا الأصل العظيم إلى أدلة كثيرة منها:
1.
قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [النساء: 94]
(1)
والقصة في هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاع فرسا من أعرابي فاستتبعه النبي صلى الله عليه وسلم ليقضيه ثمن فرسه فأسرع رسول الله صلى الله عليه وسلم المشي وأبطأ الأعرابي فطفق رجال يعترضون الأعرابي فيساومونه بالفرس ولا يشعرون أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاعه فنادى الأعرابي رسول صلى الله عليه وسلم فقال إن كنت مبتاعا هذا الفرس وإلا بعته فقام النبي صلى الله عليه وسلم حين سمع نداء الأعرابي فقال «أوليس قد ابتعته منك «فقال الأعرابي لا والله ما بعتكه فقال النبي صلى الله عليه وسلم «بلى قد ابتعته منك «فطفق الأعرابي يقول هلم شهيدا فقال خزيمة بن ثابت أنا أشهد أنك قد بايعته فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم على خزيمة فقال «بم تشهد؟ «فقال بتصديقك يا رسول الله فجعل النبي صلى الله عليه وسلم شهادة خزيمة بشهادة رجلين. أخرجه أبو داود (2/ 331)، والنسائي (7/ 301)، وأحمد (5/ 215). وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود 3607.
(2)
الموافقات للشاطبي 2/ 271، 272.
قال الشوكاني قال: (والمراد هنا: لا تقولوا لمن ألقى بيده إليكم واستسلم لست مؤمنا فالسلم والسلام كلاهما بمعنى الاستسلام، وقيل هما بمعنى الإسلام: أي لا تقولوا لمن ألقى إليكم التسليم فقال السلام عليكم: لست مؤمنا والمراد نهي المسلمين عن أن يهملوا ما جاء به الكافر مما يستدل به على إسلامه ويقولوا إنه إنما جاء بذلك تعوذا وتقية)
(1)
.
وقال الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله (فالآية تدل على أنه يجب الكف عنه والتثبت، فإذا تبين منه بعد ذلك ما يخالف الإسلام قتل، لقوله تعالى: {فَتَبَيَّنُوا} ولو كان لا يقتل إذا قالها لم يكن للتثبت معنى، إلى أن يقول: (وإن من أظهر التوحيد و الإسلام وجب الكف عنه إلى أن يتبين منه ما يناقض ذلك)
(2)
2.
واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، و أن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام،
(1)
فتح القدير 1/ 501.
(2)
كشف الشبهات 49.
وحسابهم على الله».
(1)
والشاهد من الحديث قوله (وحسابهم على الله) قال ابن رجب: (وأما في الآخرة فحسابه على الله عز وجل، فإن كان صادقا أدخله الله بذلك الجنة، و إن كان كاذبا فإنه من جملة المنافقين في الدرك الأسفل من النار)
(2)
. وقال الحافظ في الفتح: (أي أمر سرائرهم .. وفيه دليل على قبول الأعمال الظاهرة والحكم بما يقتضيه الظاهر)
(3)
وقال الإمام البغوي: (وفي الحديث دليل على أن أمور الناس في معاملة بعضهم بعضا إنما تجري على الظاهر من أحوالهم دون باطنها، و أن من أظهر شعار الدين أجري عليه حكمه، ولم يكشف عن باطن أمره، ولو وجد مختون فيما بين قتلى غلف، عزل عنهم في المدفن، ولو وجد لقيط في بلد المسلمين حكم بإسلامه)
(4)
.
(1)
رواه البخاري كتاب الإيمان، {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ} .. الآية (الفتح) 1/ 75، ومسلم كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا (لا إله إلا الله محمد رسول الله)(شرح النووي) 1/ 210.
(2)
جامع العلوم والحكم 83.
(3)
فتح الباري 1/ 77، وانظر شرح النووي 1/ 212، وجامع العلوم والحكم 83.
(4)
شرح السنة 1/ 70.
3.
واستدلوا أيضا بقصة أسامة ? المشهورة قال: "بعشنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية فصبحنا الحرقات من جهينة)
(1)
فأدركت رجلا فقال لا إله إلا الله فطعنته فوقع في نفسي من ذلك فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أقال لا إله إلا الله وقتلته قال: قلت: يا رسول الله إنما قالها خوفا من السلاح، قال: أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا، فما زال يكررها علي حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ»
(2)
،
(3)
والحديث فيه زجر شديد وتحذير من الإقدام على قتل من تلفظ بالتوحيد وتحذير صريح من تجاوز الظاهر والحكم على ما في القلب دون بينة، قال النووي رحمه الله: (وقوله صلى الله عليه وسلم أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا؟
الفاعل في قوله أقالها هو القلب
(4)
، ومعناه
(1)
الحرقات من جهينة: هم بطن من جهينة، وانظر في سبب تسميتهم الفتح 12/ 195.
(2)
حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ: (أي لم يكن تقدم إسلامي بل ابتدأت الآن الإسلام ليمحو عني ما تقدم) شرح النووي 2/ 104.
(3)
رواه مسلم، واللفظ له كتاب الإيمان، " باب تحريم قتل الكافر بعد قوله لا إله إلا الله "(مسلم بشرح النووي 2/ 99)، والبخاري، كتاب الديات "باب قول الله تعالى: {ومن احياها .. الآية) (الفتح 7/ 517، 12/ 191)، وانظر أحاديث شبيهة، مسلم بشرح النووي 2/ 98 - 101، "كتاب المغازي" باب بعث النبي صلى الله عليه وسلم أسامة.
(4)
أي أقالها خوفا من السلاح أم لا؟
أنك إنما كلفت بالعمل بالظاهر وما ينطق به اللسان، وأما القلب فليس لك طريق إلى معرفة ما فيه فأنكر عليه امتناعه من العمل بما ظهر باللسان، وقال أفلا شققت عن قلبه التنظر، هل قالها القلب واعتقدها وكانت فيه أم لم تكن فيه بل جرت على اللسان فحسب، يعني وأنت الست بقادر على هذا فاقتصر على اللسان فحسب ولا تطلب غيره)
(1)
وقال أيضا في تعليقه على قوله صلى الله عليه وسلم: "أفلا شققت عن قلبه؟» (وفيه دليل على القاعدة المعروفة في الفقه والأصول أن الأحكام فيها بالظاهر والله يتولى السرائر)
(2)
4.
ومن الأحاديث العظيمة في هذا الباب حديث جارية معاوية بن الحكم السلمي لما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أفلا أعتقها؟ قال: ائتني بها فأتيته بها فقال لها: أين الله؟ قالت: في السماء، قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، قال: أعتقها فإنها مؤمنة»
(3)
.
قال شيخ الإسلام في تعليقه على هذا الحديث: (
…
فإن الإيمان الذي علقت به أحكام الدنيا، هو الإيمان الظاهر وهو
(1)
مسلم بشرح النووي 2/ 104.
(2)
نفسه 2/ 107.
(3)
رواه مسلم كتاب المساجد، "باب تحريم الكلام في الصلاة" رقم 537.
الإسلام، فالمسمى واحد في الأحكام الظاهرة، ولهذا لما ذكر الأثرم لأحمد احتجاج المرجئة بقول النبي صلى الله عليه وسلم: " أعتقها فإنها مؤمنة» أجابه بأن المراد حكمها في الدنيا حكم المؤمنة، لم يرد أنها مؤمنة عند الله تستحق دخول الجنة بلا نار إذا لقيته بمجرد هذا الإقرار)
(1)
، (لأن الإيمان الظاهر الذي تجري عليه الأحكام في الدنيا لا يستلزم الإيمان في الباطن الذي يكون صاحبه من أهل السعادة في الآخرة)
(2)
ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يعامل المنافقين على ظواهرهم مع علمه بنفاق كثير منهم ليقرر هذا الأصل العظيم (فهم في الظاهر مؤمنون يصلون مع الناس ويصومون، ويحجون ويغزون والمسلمون يناكحونهم ويوارثونهم .. ولم يحكم النبي صلى الله عليه وسلم في المنافقين بحكم الكفار المظهرين للكفر، لا في مناكحتهم ولا موارثتهم ولا نحو ذلك، بل لما مات عبد الله بن أبي ابن سلول وهو من أشهر الناس بالنفاق ورثه ابنه عبد الله وهومن خيار المؤمنين، وكذلك سائر من كان يموت منهم يرثه ورثته المؤمنون، و إذا مات لأحدهم وارث ورثوه مع المسلمين .. لأن الميراث مبناه على الموالاة الظاهرة، لا على المحبة التي في القلوب، فإنه لو
(1)
الإيمان 398، وانظر 201، 202، 243.
(2)
نفسه 197.
علق بذلك لم تمكن معرفته، والحكمة إذا كانت خفية أو منتشرة علق الحكم بمظنتها، وهو ما أظهروه من موالاة المؤمنين .. وكذلك كانوا في الحقوق والحدود كسائر المسلمين)
(1)
الضابط الرابع التفريق بين التكفير المطلق و التكفير المعين
من أصول أهل السنة والجماعة، التفريق بين التكفير المطلق وتكفير المعين، لأنه من الممكن أن يقول المسلم قولا أو يفعل فعلا قد دل الكتاب والسنة وإجماع الأمة على أنه كفر وردة عن الإسلام، ولكن لا تلازم عندهم بين القول بأن هذا كفر، وبين تكفير الشخص بعينه.
(2)
فالتكفير المطلق: هو الحكم بالكفر على القول أو العمل، أو الاعتقاد الذي ينافي أصل الإسلام ويناقضه، وعلى فاعليها على سبيل الإطلاق، بدون تحديد أحد بعينه.
أما تكفير المعين: فهو الحكم على المعين بالكفر، الإتيانه بأمر يناقض الإسلام بعد استيفاء شروط التكفير فيه، وانتفاء موانعه.
(3)
(1)
الإيمان لابن تيمية 198.
(2)
الإيمان حقيقته، خوارمه، نواقضه عند أهل السنة والجماعة (107/ 1).
(3)
منهج ابن تيمية في مسألة التكفير لعبدالله المشعبي (1/ 193).
والحكم على الفعل الظاهر بأنه كفر متعلق ببيان الحكم الشرعي مطلقا، وأما الفاعل فلابد من النظر إلى قصده لما فعل والتبيين عن حاله في ذلك قبل الجزم، وليس المراد بالقصد هنا مجرد القصد إلى الفعل فإن هذا لا يتخلف عنه عمل أصلا خلا عمل المجنون والنائم وهو في حقيقته الإرادة الجازمة لتحقيق الفعل بحيث يكون الإنسان معها مخيرا أن يفعل الفعل وأن لا يفعله، وهذا القصد هو مناط ذالتكليف، وإنما المراد القصد هنا القصد بالفعل الذي هو غاية الفاعل من فعله والباعث له عليه، والدافع على تحقيقه ومراده به، ولهذا كان القصد بفعل هو حقيقة النية التي عليها الثواب والعقاب والمدح والذم، وهي المرادة في قول الرسول صلى الله عليه وسلم، "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى»
(1)
(2)
أ. نصوص تحذر من إطلاق تكفير المعين.
لما كان الأصل في المسلم العدالة، جاءت النصوص الشرعية بالتحذير من إطلاق الكفر على شخص بعينه ما لم تجتمع الشروط
(1)
أخرجه البخاري في كتاب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله (1/ 1) 1، ومسلم الإمارة (6/ 48)5036.
(2)
ضوابط التكفير عند أهل السنة والجماعة لعبد الله القرني ص 275.
وتنتفي الموانع، ومن الأحاديث المحذرة من تكفير المسلم:
1.
عن عبد الله بن عمر ? أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أيما رجل قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما»
(1)
.
وفي رواية عند ابن حبان عن أبي سعيد قال: قال رسول الله: «ما أكفر رجل رجلا قط إلا باء أحدهما بها إن كان كافرا وإلا كفر بتكفيره» .
(2)
وفي تأويل الحديث أوجه: أحدها: أنه محمول على المستحل لذلك وهذا يكفر.
والوجه الثاني: معناه رجعت عليه نقيصته لأخيه ومعصية تكفيره.
والثالث: أنه محمول على الخوارج المكفرين للمؤمنين وهذا الوجه نقله القاضي عياض خلاله عن الإمام مالك بن أنس.
(1)
أخرجه البخاري كتاب الأدب/ باب من أكفر أخاه بغير تأويل فهو كما قال (5/ 2246) 5753 و مسلم كتاب الإيمان (1/ 65)225.
(2)
صحيح ابن حبان (1/ 483)، وأخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار (2/ 202)، والخرائطي في مساوئ الأخلاق (1/ 20)، والأصبهاني في الحجة في بيان المحجة (2/ 452)، قال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: صحيح لغيره (3/ 35).
والوجه الرابع: معناه أن ذلك يؤول به إلى الكفر، وذلك أن المعاصي كما قالوا بريد الكفر ويخاف على المكثر منها أن يكون عاقبة شؤمها المصير إلى الكفر، ويؤيد هذا الوجه ما جاء في رواية لأبي عوانة الإسفرايني في كتابه المخرج على صحيح مسلم:«فإن كان كما قال وإلا فقد باء بالكفر» وفي رواية «إذا قال لأخيه يا كافر وجب الكفر على أحدهما»
(1)
.
الوجه الخامس: ورجح الحافظ ابن حجر معنى آخر، واستحسنه: أن من قال ذلك لمن يعرف منه الإسلام ولم يقم له شبهة في زعمه أنه كافر فإنه يكفر بذلك .. فمعنى الحديث فقد رجع عليه تكفيره، فالراجع التكفير لا الكفر، فكأنه كفر نفسه لكونه كفر من هو مثله، ومن لا يكفره إلا كافر يعتقد بطلان دين الإسلام، ويؤيده أن في بعض طرقه «وجب الكفر على أحدهما ".
(2)
2.
وجاء عند البخاري من حديث ثابت بن الضحاك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من حلف بملة غير الإسلام كاذبا فهو كما قال، ومن قتل نفسه بشيء عذب به في نار جهنم، ولعن المؤمن كقتله، ومن رمى مؤمنا
(1)
ينظر شرح النووي على مسلم (1/ 153).
(2)
فتح الباري 17/ 199
بكفر فهو كقتله»
(1)
3.
وعن جندب ? أن رسول الله حدث: «أن رجلا قال والله لا يغفر الله لفلان، وإن الله تعالى قال من ذا الذي يتألي
(2)
علي، أن لا أغفر لفلان، فإني قد غفرت لفلان وأحبطت عملك». أو كما قال
(3)
4.
وعن أبي ذر ? أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: " لا يرمي رجلٌ رجلا بالفسوق ولا يرميه بالكفر إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك»
(4)
.
وعن أبي ذر أيضا أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ليس من رجل ادعى لغير أبيه وهو يعلمه إلا كفر، ومن ادعي ما ليس له فليس منا وليتبوأ مقعده من النار، ومن دعا رجلا بالكفر أو قال عدو الله وليس كذلك
إلا حار
(5)
عليه»
(6)
.
(1)
كتاب الأدب/ باب من أكفر أخاه بغير تأويل فهو كما قال (5/ 2264)5754.
(2)
يتألى: يحلف والألية اليمين. شرح النووي على مسلم (16/ 174).
(3)
أخرجه مسلم كتاب البر والصلة والآداب (8/ 36)6847.
(4)
أخرجه البخاري كتاب الأدب/ باب ما ينهى من السباب واللعان (5/ 2247)5968.
(5)
حار عليه: رجع عليه، والحور الرجوع. إكمال المعلم شرح صحيح مسلم للقاضي عياض (1/ 224).
(6)
أخرجه مسلم كتاب الإيمان (1/ 75)226.
5.
وجاء عن معاذ بن جبل
(1)
، وحذيفة
(2)
? قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أخوف ما أخاف عليكم ثلاث: رجل قرأ كتاب الله حتى إذا رئيت عليه بهجته وكان ردءا للإسلام، أعاره الله إياه، اخترط سيفه فضرب به جاره، ورماه بالشرك، قلنا يا رسول الله الرامي أحق بها أم المرمي؛ قال الرامي»
(3)
.
ولما سئل علي بن أبي طالب ? عن أهل النهروان أمشركون هم؟ قال: «من الشرك فروا، فسئل: أمنافقون هم؟ قال:
(1)
أخرجه الطبراني المعجم الكبير (14/ 497)، وفي المسند الشاميين (2/ 254)، والفسوي في المعرفة والتاريخ (2/ 358). وابن أبي عاصم في السنة (1/ 24)، وفي الديات (1/ 91)، وعبد الأنصاري في ذم الكلام وأهله (1/ 102)، والأصبهاني في الحجة في بيان المحجة (2/ 452)، وقال الهيتمي في مجمع الزوائد (5/ 276): رواه الطبراني في الكبير والصغير بنحوه وفيه شهر بن حوشب وهو ضعيف يكتب حديثه. وعلق الشيخ حمود التويجري على كلام الهيتمي في إتحاف الجماعة (1/ 325) قال: قد وثقه أحمد وابن معين وحسبك بتوثيقها، ووثقه أيضا العجلي ويعقوب بن شيبة ويعقوب بن سفيان، وروى له البخاري تعليقا ومسلم، وصحح الترمذي حديثه. ويكفي هذا في قبول حديثه)
(2)
أخرجه ابن حبان (1/ 281)، والطحاوي في شرح مشكل الآثار (2/ 202)، وعبد الله الأنصاري في ذم الكلام واهله (1/ 103)، وابن عساكر في تبيين كذب المفتري (1/ 403)، والأصبهاني في الحجة في بيان المحجة (2/ 453)، ورواه البخاري مختصرا في التاريخ (4/ 301)، وقال ابن كثير في تفسيره: إسناد جيد (2/ 324).
(3)
صحح متن الحديث الألباني في الصحيحة (8/ 208).
المنافقون لا يذكرون الله إلا قليلا، وأولئك يذكرون الله صباح مساء، وإنما هم إخواننا بغوا علينا»
(1)
.
ب. أقوال أهل العلم في النهي عن تكفير المعين دون قيام حجة
قال شيخ الإسلام ابن تيمية الله رحمه الله: (وليس لأحد أن يكفر أحدا من المسلمين، وإن أخطأ وغلط؛ حتى تقام عليه الحجة، وتبين له المحجة، ومن ثبت إسلامه بيقين لم يزل ذلك عنه بشك؛ بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة، وإزالة الشبهة)
(2)
.
وقال أيضا: (إني من أعظم الناس نهيا عن أن ينسب معين إلى تكفير وتفسيق ومعصية، إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافرا تارة وفاسقا أخرى، وعاصيا أخرى)
(3)
وقال ابن أبي العز الحنفي: (و أما الشخص المعين، إذا قيل: هل تشهدون أنه من أهل الوعيد و أنه كافر؟ فهذا لا نشهد عليه إلا بأمر تجوز معه الشهادة، فإنه من أعظم البغي أن يشهد على معين أن الله لا يغفر له
(1)
أخرجه البيهقي (8/ 173)، وابن أبي شيبة (7/ 535) وإسناده صحيح.
(2)
مجموع الفتاوى (12/ 466).
(3)
مجموع الفتاوى (3/ 229).
ولا يرحمه بل يخلده في النار، فإن هذا حكم الكافر بعد الموت)
(1)
.
وجاء في بيان هيئة كبار العلماء حول الغلو والتكفير وما ينجم عنهما من الفساد:
(ولما كان مرد حكم التكفير إلى الله ورسوله لم يجز أن نكفر إلا من دل الكتاب والسنة على كفره دلالة واضحة، فلا يكفي في ذلك مجرد الشبهة والظن؛ لما يترتب على ذلك من الأحكام الخطيرة، وإذا كانت الحدود تدرأ بالشبهات، مع أن ما يترتب عليها أقل مما يترتب على التكفير، فالتكفير أولى أن يدرأ بالشبهات).
(2)
فتبين مما سبق أن أهل السنة يطلقون التكفير بالعموم، وكذلك الوعيد ولكن الحكم على المعين بالكفر والوعيد لابد فيه من الدقة والاحتياط للتأكد من توفر الشروط وانتفاء الموانع.
(فإن التكفير المطلق مثل الوعيد المطلق، لا يستلزم تكفير الشخص المعين حتى تقوم عليه الحجة التي تكفر تاركها، كما ثبت في
(1)
شرح العقيدة الطحاوية (1/ 316).
(2)
مجلة البحوث الإسلامية» العدد (56)، (ص 357 - 362) وكتاب الفتاوى الشرعية في القضايا العصرية جمع وإعداد محمد بن فهد الحصين 65 - 70، وينظر (حديث حول الأحداث ظاهرة الغلو والتكفير الأصول، والأسباب، والعلاج) للد. ناصر العقل ص 16.
الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي قال: (إذا أنا مت فاحرقوني ثم اسحقوني ثم ذروني في اليم؛ فو الله لئن قدر الله علي ليعذبني عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين، فقال الله له: ما حملك على ما فعلت؟ قال: خشيتك. فغفر له)
(1)
، فهذا الرجل اعتقد أن الله لا يقدر على جمعه إذا فعل ذلك أو شك وأنه لا يبعثه وكل من هذين الاعتقادين كفر يكفر من قامت عليه الحجة لكنه كان يجهل ذلك ولم يبلغه العلم بما يرده عن جهله وكان عنده إيمان بالله وبأمره ونهيه ووعده ووعيده فخاف من عقابه فغفر الله له بخشيته)
(2)
.
لكن ظن بعض المتوهمين بسبب قراءتهم لهذه النصوص وأمثالها أن أهل السنة لا يكفرون المعين، هكذا بالإطلاق، وظنهم هذا شبيه بظن من اعتقد أن أهل السنة يتساهلون في مسألة التكفير، والحق أن أهل السنة يكفرون المعين وذلك إذا قامت عليه الحجة، وزالت الشبهة وانتفت الموانع، وتيقنوا من إصراره وتكذيبه، فلا يمتعون من تكفير المعين مطلقا، بل من أتي بقول كفري يخرجه من الملة أو فعلٍ كفريٍ يخرجه من الملة أو اعتقاد كفري يخرجه من الملة أو شك وارتياب
(1)
أخرجه البخاري كتاب التوحيد/ باب قول الله تعالى: (يريدون أن يبدلوا كلام الله)(6/ 2725) 7067، ومسلم كتاب التوبة (8/ 97)7156.
(2)
الاستقامة لابن تيمية (1/ 164)
يخرجه من الملة، فإنه بعد اجتماع الشروط وانتفاء الموانع يحكم عليه العالم أو القاضي بما يجب من الردة ومن القتل بعد الاستتابة في أغلب الأحوال.
المبحث الثاني ضوابط تكفير المعين في ضوء السنة النبوي (الشروط والموانع)
لا بد من قيام شروط وانتفاء موانع لتكفير المعين المكلف، وإليك بيانها
أولا: العلم شرط ومانعه الجهل:
المسلم لا يكفر بقول أو فعل أو اعتقاد إلا بعد أن تقام عليه الحجة، وتزال عنه الشبهة.
والعلم لغة: نقيض الجهل، وهو: إدراك الشيء على ما هو عليه إدراكا جازما.
(1)
واصطلاحا: قد قال بعض أهل العلم: هو المعرفة وهو ضد الجهل، وقال آخرون من أهل العلم: إن العلم أوضح من أن يعرف.
(2)
والجهل لغة: هو خلو النفس من العلم.
(3)
(1)
لسان العرب، (12/ 416) مادة (ع ل م).
(2)
كتاب العلم، 2 لابن عثيمين
(3)
انظر: لسان العرب (11/ 129). مادة (ج هـ ل).
واصطلاحاً: هو: فعل الشيء بخلاف ما حقه أن يفعل سواء اعتقد فيه اعتقادا صحيحا أو فاسدا.
(1)
أ. أدلة العذر بالجهل:
1.
قوله تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 165].
(2)
2.
حديث الرجل من بني إسرائيل الذي أمر أهله بإحراقه، وإليك نصه، عن أبي هريرة ? عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(1)
انظر: المفردات، ص 102
(2)
مجموع الفتاوى، (11/ 406).
"كان رجل يسرف على نفسه، فلما حضره الموت قال البنيه: إذا أنا مت فأحرقوني، ثم اطحنوني، ثم ذروني في الريح، فو الله لئن قدر الله علي ليعذبني عذابا ما عذبه أحدا، فلما مات فعل به ذلك، فأمر الله الأرض فقال: اجمعي ما فيك منه، ففعلت فإذا هو قائم، فقال: ما حملك على ما صنعت؟ قال: يا رب خشيتك، فغفر له».
(1)
قال الحافظ ابن عبد البر ?: (
…
و أما جهل هذا الرجل المذكور في هذا الحديث بصفة من صفات الله في علمه وقدرته، فليس ذلك بمخرجه من الإيمان .... ) ثم استدل على ذلك بسؤال الصحابة ? و عن القدر
(2)
ثم قال: (ومعلوم أنهم إنما سألوه عن ذلك وهم جاهلون به، وغير جائز عند أحد من المسلمين أن يكونوا بسؤالهم عن ذلك كافرين،
…
ولم يضرهم جهلهم به قبل أن يعلموه).
(3)
وقال الإمام ابن حزم ? بعدما ذكر الحديث:
(1)
أخرجه البخاري كتاب الأنبياء باب «أم حسبت أن أصحاب الكهف الرقيم» (8/ 592) 3481 واللفظ له، ومسلم كتاب التوبة (4/ 2109)2756.
(2)
من ذلك: عن عمران بن حصين قال قيل يا رسول الله أعلم أهل الجنة من أهل النار قال فقال «نعم» . قال قيل ففيم يعمل العاملون قال «كل ميسر لما خلق له» . صحيح مسلم كتاب القدر (8/ 48) 6907).
(3)
التمهيد، (18/ 46).
(
…
فهذا إنسان جهل إلى أن مات أن الله عز وجل يقدر
على جمع رماده وإحيائه، وقد غفر له لإقراره وخوفه وجهله).
(1)
3.
ومن الأحاديث أيضا ما رواه عبد الله بن أبي أوفى قال: لما قدم معاذ من الشام سجد للنبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما هذا يا معاذ؟» قال: أتيت الشام فوافقتهم يسجدون لأساقفتهم وبطارقتهم، فوددت في نفسي أن نفعل ذلك بك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«فلا تفعلوا، فإني لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لغير الله، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها» .
(2)
قال الإمام الشوكاني في التعليق على الحديث: «وفي هذا الحديث دليل على أن من سجد جاهلا لغير الله لم يكفر» .)
(3)
(1)
الفصل، (3/ 252).
(2)
أخرجه ابن ماجه (1/ 595) واللفظ له، وابن حبان (9/ 479) وأحمد بن حنبل (4/ 381)، والبيهقي في الكبرى (7/ 292) والشاشي في مسنده (3/ 231)، والبزار (2/ 133) قال البوصيري في مصباح الزجاجة (1/ 285): "هذا إسناد ضعيف الضعف علي بن زيد بن جدعان في إسناده علي بن زيد وهو ضعيف ولكن للحديث طرف آخر رواه أبو بكر بن أبي شيبة في مسنده هكذا بزيادة في أوله كما ذكره في زوائد المسانيد العشرة، وله شاهد من حديث طلق بن علي رواه الترمذي والنسائي ورواه الترمذي وابن ماجة من حديث أم سلمة»، وقال الألباني عن: حسن صحيح كما في صحيح سنن ابن ماجة (4/ 353) وينظر صحيح الترغيب والترهيب (2/ 197).
(3)
نيل الأوطار (6/ 234).
4.
حديث أبي واقد الليثي؟ قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين ونحن حديثو عهد بكفر وكانوا أسلموا يوم الفتح قال: فمررنا بشجرة قلنا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كمالهم ذات أنواط، وكان للكفار سدرة يعكفون حولها، ويعلقون بها أسلحتهم، يدعونها ذات أنواط، فلما قلنا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم قال:«الله أكبر، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف: 138] لتركبن سنن من كان قبلكم.»
(1)
قال الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: (
…
وكذلك لا خلاف في أن الذين نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم لو لم يطيعوه
(1)
أخرجه الترمذي (4/ 475)، وقال: هذا حديث حسن صحيح، والنسائي في الكبرى (6/ 346)، وأحمد (5/ 218)، وابن حبان (15/ 94)، والطيالسي (2/ 682) وابن أي شيبة (8/ 634)، وعبد الرزاق في المصنف (20763) وفي التفسير (2/ 415)، والحميدي (2/ 357)، وأبو يعلى (3/ 30)، والطبراني في الكبير (3/ 393، 394، 395، 396) والبيهقي في المعرفة (1/ 75)، والأزرقي في أخبار مكة (1/ 98)، والطبري في التفسير (13/ 81، 82)، وابن أبي حاتم في التفسير (6/ 166)، وابن أبي عاصم في السنة (76)، واللالكائي في اعتقاد أهل السنة (1/ 124)، والمروزي في السنة (1/ 61)، وعبد الله الأنصاري في ذم الكلام وأهله (3/ 110) وصححه الألباني كما في المشكاة (3/ 174) وظلال الجنة (1/ 31).
واتخذوا ذات أنواط بعد نهيه لكفروا، وهذا هو المطلوب، ولكن القصة تفيد أن المسلم بل العالم قد يقع
في أنواع من الشرك وهو لا يدري عنها فتفيد لزوم التعلم والتحرز
…
وتفيد أيضا أن المسلم المجتهد إذا تكلم بكلام كفر وهو لا يدري، فنبه على ذلك، فتاب من ساعته أنه لا يكفر، كما فعل بنو إسرائيل والذين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم».
(1)
ب. بعض المسائل المهمة
1.
مجرد النطق بالشهادتين كافي في الحكم بإسلام الشخص: قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «وقد علم بالاضطرار من دين الرسول صلى الله عليه وسلم، واتفقت عليه الأمة، أن أصل الإسلام، وأول ما يؤمر به الخلق: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، فبذلك يصير الكافر مسلما والعدو وليا، والمباح دمه وماله معصوم الدم والمال»
(2)
. يقول الحافظ ابن حجر: «
…
وفي حديث ابن عباس: (حديث بعث معاذ إلى اليمن من الفوائد: الاقتصار في الحكم بإسلام الكافر إذا أقر بالشهادتين».
(3)
"بعض الباحثين يخلطون بين الحكم الدنيوي والأخروي، فيظنون
(1)
كشف الشبهات، 45 - 46، للشيخ محمد بن عبد الوهاب.
(2)
ينظر: درء تعارض العقل (8/ 7).
(3)
فتح الباري (13/ 367).
أنه يلزم من الحكم بإسلام الشخص، الحكم له بالنجاة في الآخرة، أو يظنون أن الشروط التي ذكرها العلماء لكلمة التوحيد من العلم والإخلاص واليقين .. إلخ، لا يحكم بإسلام الشخص إلا بعد فهم هذه الشروط، ولكن الحقيقة أن مجرد النطق بكلمة التوحيد لا ينجي العبد عند الله إلا بالإتيان بشروطها.
أما بالنسبة للحكم الدنيوي فمجرد النطق كاف في الحكم بإسلام المرء حتى يتبين لنا ما يناقض ذلك بعد قيام الحجة وبذلك ندرك الخطأ الذي وقع فيه من يرى أن من يقعون في شيء من الشرك من نذر وذبح لغير الله وطواف على القبور ممن شهد بشهادة التوحيد كفار أصليون باعتبارهم لم يفهموا التوحيد.»
(1)
2.
قيام الحجة يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص: قال ابن تيمية رحمه الله: «وكثير من الناس قد ينشأ في الأمكنة والأزمنة الذي يندرس فيها كثير من علوم النبوات، حتى لا يبقى من يبلغ ما بعث الله به رسوله من الكتاب والحكمة، فلا يعلم كثيرا مما بعث الله به رسوله، ولا يكون هناك من يبلغه ذلك، ومثل هذا لا يكفر، ولهذا اتفق الأئمة على أن من نشأ ببادية بعيدة عن أهل العلم والإيمان، وكان حديث العهد بالإسلام، فأنكر هذه الأحكام الظاهرة المتواترة؛
(1)
نواقض الإيمان الاعتقادية للوهيبي (1/ 237).
فإنه لا يحكم بكفره حتى يعرف ما جاء به الرسول».
(1)
ويمكن أن يقاس على حديثي العهد بالإسلام و من نشأ ببادية بعيدة، من ينشأ في بلاد يكثر فيها الشرك والانحراف وتضعف بينهم دعوة التوحيد، قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب:«و إذا كنا لا نكفر من عبد الصنم الذي على قبر عبد القادر، والصنم الذي على قبر أحمد البدوي، وأمثالهما، لأجل جهلهم، وعدم من و ينبههم»
(2)
يقول الدكتور الوهيبي بعد نقله نصوصا لأهل العلم حول المسألة: «يمكن أن نستخلص من أقوال الأئمة السابقة ما يلي:
اتفاق الأئمة على أن حديث العهد بالإسلام أو من نشأ ببادية بعيدة يعذر بجهل الأحكام الظاهرة المتواترة
كوجوب الصلاة والزكاة وتحريم شرب الخمر .. الخ.
أن من أنكر هذه الأمور في دار إسلام وعلم ولم يكن حديث عهد بإسلام أنه يكفر بمجرد ذلك، وبذلك ندرك خطأ من يظن أن الجاهل لا يكفر مطلقا.
" أن هناك أحكاما ظاهرة متواترة مجمع عليها، ومسائل خفية
(1)
مجموع الفتاوى (11/ 407).
(2)
مجموعة الشيخ فتاوى ومسائل (9/ 11).
غير ظاهرة ولكنها لا تعرف إلا من طريق الخاصة من أهل العلم؛ فهذه من أنكرها من العامة لا يكفر، ولكن من أنكرها من الخاصة يكفر إذا كان مثله لا يجهلها.
* أيضا يمكن أن يقاس على حديث العهد بالإسلام ومن نشأ ببادية بعيدة، من ينشأ في بلاد يكثر فيها الشرك والانحراف وتضعف بينهم دعوة التوحيد»
(1)
.
3.
كيفية قيام الحجة على المعين: لا بد من قيام حجة تنفي عن من تقام عليه أي شبهة أو تأويل، يقول ابن تيمية: وهكذا الأقوال التي يكفر قائلها قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق، وقد تكون عنده ولم تثبت عنده، أو لم يتمكن من فهمها، وقد يكون قد عرضت له شبهات يعذره الله بها، فمن كان من المؤمنين مجتهدا في طلب الحق وأخطأ، فإن الله يغفر له خطأه كائنا ما كان، سواء كان في المسائل النظرية أو العملية. هذا الذي عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وجماهير أئمة الإسلام، وما قسموا المسائل إلى مسائل أصول يكفر بإنكارها، ومسائل فروع لا يكفر بإنكارها».
(2)
(1)
نواقض الإيمان الاعتقادية (1/ 242).
(2)
مجموع الفتاوى (23/ 346).
ويقول الإمام بن حزم رحمه الله: «وكل ما قلناه فيه أنه يفسق فاعله أو يكفر بعد قيام الحجة، فهو ما لم تقم الحجة عليه، معذور مأجور و إن كان مخطئا، وصفة قيام الحجة عليه أن تبلغه فلا يكون عنده شيء يقاومها وبالله التوفيق»
(1)
ومن هنا يتبين دور العلماء في إقامة الحجة على الجاهل بحيث تنتفي عنه الشبه ويزول الجهل.
ثانيا: القصد شرط، ومانعه الخطأ:
من ضوابط تكفير المعين عند أهل السنة أن يكون من تلبس بالكفر مريدا له وقاصدا غير مخطئ.
القصد لغة: استقامة الطريق، قصد يقصد قصدا، فهو قاصد، وقوله تعالى:{وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} [النحل: 9] أي على الله تبيين الطريق المستقيم، والقصد العدل
(2)
.
و اصطلاحا. الإرادة.
(3)
(1)
الإحكام، (1/ 67)، لابن حزم.
(2)
لسان العرب، (3/ 303) مادة (ق ص د).
(3)
حاشية العطار، (2/ 59).
والخطأ لغة: ضد الصواب.
(1)
واصطلاحا: كل ما يصدر عن المكلف من قولٍ أو فعلٍ خال عن إرادته وغير مقترن بقصد منه.
(2)
أ. الأدلة على شرط القصد، والعذر بالخطأ:
1.
قوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة: 286] وثبت في الحديث الصحيح أن الله سبحانه استجاب لهذا الدعاء فقال: فقد فعلت.
(3)
2.
قوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: 5]
3.
حديث النعمان بن بشير عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الله أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاةٍ، فانفلتت منه، وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها، فأتى شجرة، فاضطجع في ظلها، قد أيس من راحلته، فبينا هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها، ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي
(1)
لسان العرب، (1/ 65 - 68) مادة (خ ط أ).
(2)
ينظر: المفردات، 102.
(3)
أخرجه مسلم كتاب الإيمان (1/ 80، 81) 344، 345.
وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح»
(1)
.
4.
قوله صلى الله عليه وسلم كما رواه ابن عباس: "إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه»
(2)
، قال الحافظ
ابن رجب في شرحه لهذا الحديث: "الخطأ: هو أن يقصد بفعله شيئا فيصادف فعله غير ما قصده، مثل أن يقصد قتل كافر فصادف قتله مسلما، والنسيان أن يكون ذاكرا الشيء فينساه عند الفعل، وكلاهما معفو عنه: يعني لا إثم فيه، ولكن رفع الإثم لا ينافي أن يترتب على نسيانه حكم، ولو قتل مؤمنا خطأ فإن عليه الكفارة والدية بنص الكتاب، وكذا لو أتلف مال غيره خطأ بظنه أنه مال نفسه .. "
(3)
5.
قوله صلى الله عليه وسلم: " إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، و إذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر»
(4)
، قال الحافظ الخطيب
(1)
رواه مسلم في كتاب التوبة (8/ 91)7136.
(2)
أخرجه بهذا اللفظ ابن ماجة (1/ 659)، والطبراني في الأوسط (8/ 161) وقال البوصيري عن هذا الإسناد: هذا إسناد صحيح إن سلم من الانقطاع، والظاهر أنه منقطع. مصباح الزجاجة (1/ 314)، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجة (5/ 45). والحديث مروي من طرق عن ابن عمر وأبي هريرة وأبي بكرة وعقبة بن عامر وأبي ذر وأبي الدرداء وثوبان ?.
(3)
جامع العلوم والحكم، 352.
(4)
رواه البخاري كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة/ باب أجر الحاكم إذا اجتهد (18/ 344) 7352، ومسلم في الأقضية (3/ 1342)1716.
(1)
يقول شيخ الإسلام: "وأما "التكفير"؛ فالصواب أنه من اجتهد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم وقصد الحق، فأخطأ لم يكفر، بل يغفر له خطؤه، ومن تبين له ما جاء به الرسول، فشاق الرسول من بعد ما تبين له الهدي، واتبع غير سبيل المؤمنين: فهو كافر، ومن اتبع هواه، وقصر في طلب الحق، وتكلم بلا علم فهو عاص مذنب، ثم قد يكون فاسقا، وقد تكون له حسنات ترجح على سيئاته.
(2)
وبعد إيراد الأدلة يتبين لنا إعذار المخطئ وأن حكمه حكم الجاهل و المتأول، فلا يكفر إلا بعد قيام الحجة عليه، وأنه إن كان مجتهدا فيما يسوغ فيه الاجتهاد فله أجر اجتهاده ولو أخطأ، أما إن لم يكن مجتهدا وأخطأ فيأثم لتفريطه.
(1)
الفقيه والمتفقه، (1/ 191).
(2)
مجموع الفتاوى، (12/ 180).
ثالثا: الإرادة شرط ومانعها الإكراه:
من شروط تكفير المعين عند أهل السنة أن يكون مريداً لفعله غير مكره عليه.
والإرادة لغة: المشيئة.
واصطلاحا: وفي استعمال الفقهاء هي " القصد»، أي اعتزام الفعل والاتجاه إليه
(1)
.
أما الإكراه لغة هو: القهر والإجبار بدون محبة ورضا واختيار.»
(2)
وفي الاصطلاح هو: "إلزام الغير بما لا يريده. أو " الإلجاء إلى فعل الشيء قهرا
(3)
.
أ. أنواع الإكراه:
قسم جمهور الأصوليين والفقهاء الإكراه إلى نوعين إكراه ملجئ وهو الإكراه التام، وإكراه غير ملجئ وهو الإكراه الناقص
الإكراه الملجيء (التام): وهو الذي يقع على نفس المكره: ولا يبقى للشخص معه قدرة ولا اختيار، كأن يهدد الإنسان بقتله أو بقطع عضو
(1)
الموسوعة الفقهية الكويتية _ (2/ 315).
(2)
انظر: لسان العرب 13/ 534.
(3)
انظر: فتح الباري 12/ 311، حاشية الشرقاوي على تحفة الطلاب 2/ 390.
من أعضائه كيده أو رجله، أو بضرب شديد يفضي إلى هلاكه أو بإتلاف جميع ماله، فمتى غلب على ظنه أن ما هدد به سيقع عليه، جاز له القيام بما دفع إليه بالتهديد، باعتباره في حالة ضرورة شرعية
(1)
.
بالإكراه غير الملجيء (الناقص): وهو التهديد أو الوعيد بما دون تلف النفس أو العضو، كالتخويف بالضرب أو القيد أو الحبس أو إتلاف بعض المال، وهذا النوع يفسد الرضا، ولكنه لا يفسد الاختيار لعدم الاضطرار إلى مباشرة ما أكره عليه لتمكنه من الصبر على ما هدد به
(2)
.
وقد يلحق بهذا النوع، التهديد بحبس الأب أو الابن أو الزوجة و الأخت والأم والأخ، وهناك نزاع في اعتبار هذا القسم من أقسام الإكراه،
(3)
والاستحسان يعده من الإكراه، لأن المكره يلحقه الغم
(1)
ينظر الإكراه وأثره في عقود المفاوضات المالية د. إبراهيم العروان، البدائع للكاساني 7/ 175 حاشية ابن عابدين 5/ 109، وينظر في الفرق بين الإكراه والضرورة، التشريع الجنائي 1/ 576، 577، والإكراه وأثره في التصرفات، د. محمد المعيني 37 - 44.
(2)
ينظر كشف الأسرار للبزودي 4/ 383، تبيين الحقائق المزيلعي 5/ 181، حاشية ابن عابدين 5/ 109.
(3)
ذهب بعض الأحناف إلى اعتبار هذا القسم نوعا ثالثا، أما بقية الفقهاء فقد أدخلوه في النوعين السابقين، ينظر كشف الأسرار 4/ 383، الإكراه وأثره في التصرفات د. عيسى شقرة 61.
والاهتمام والحزن والحرج إذا أصاب أحدا من محارمه مكروه، فيندفع إلى الإتيان بما أمر به كما لو وقع الضرر به أو أشد
(1)
.
قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: (وإن توعد بتعذيب ولده، فقد قيل ليس بإكراه لأن الضرر لاحق بغيره، والأولى أن يكون إكراها لأن ذلك عنده أعظم من أخذ ماله، والوعيد بذلك إكراه فكذلك هذا)
(2)
(3)
ب. الأدلة على شرط الإرادة، والعذر بالإكراه:
اتفق أئمة أهل السنة والجماعة على أن الإكراه على الكفر بضوابطه الشرعية وشروطه يعتبر من موانع التكفير في حق المعين، والأدلة على ذلك:
1.
قوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 106]
(1)
ينظر الإكراه وأثره في التصرفات، د. عيسي شقرة، 60، 61 وينظر في ترجيح ذلك المبسوط للسرخسي 24/ 143، 144.
(2)
المغني 7/ 120، ينظر في ذلك مغني المحتاج للشربيني 3/ 290، أسني المطالب 3/ 283 فتح الباري 12/ 324.
(3)
نواقض الإيمان الاعتقادية للوهيبي ج 2 ص 15 - 16.
والمشهور في سبب نزولها ما رواه أبو عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر عن أبيه قال: (أخذ المشركون عمار بن ياسر فلم يتركوه حتى سب النبي صلى الله عليه وسلم وذكر آلهتهم بخير، ثم تركوه، فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ما وراءك؟ قال: شر يا رسول الله، ما تركت حتى نلت منك، وذكرت آلهتهم بخير قال: (كيف تجد قلبك)، قال: مطمئنا بالإيمان، قال:(إن عادوا فعد)
(1)
.
قال الحافظ ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} : (فهو استثناء ممن كفر بلسانه ووافق المشركين بلفظة مكرها، لما ناله من ضرب وأذى، وقلبه يأبى ما يقول وهو مطمئن بالإيمان بالله ورسوله»
(2)
. وقال الإمام الشوكاني: {وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} أي اعتقد وطابت به نفسه، واطمأن إليه
(3)
إذا لابد من طمأنينة القلب بالإيمان، وبغض وكراهية الكفر،
(1)
رواه الطبري في تفسيره (17/ 304)، وابن سعد في الطبقات (3/ 249) والبيهقي في الكبرى (8/ 208) والحاكم في المستدرك (2/ 389)، وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، وذكر ابن حجر له طرقا أخرى مرسلة ثم قال: وهذه المراسيل تقوي بعضها ببعض (الفتح 12/ 312).
(2)
تفسير ابن كثير 2/ 587.
(3)
فتح القدير 3/ 196.
وهذا شرط مجمع عليه)
(1)
(2)
.
2.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه)
(3)
.
ت. شروط الإكراه
ليس كل من ادعى الإكراه يقبل منه، بل لابد من شروط يجب توافرها ليكون الإكراه معتبرا ومؤثرا فيما يقدم عليه المكلف من أقوال أو أفعال أوترك، وهذه الشروط هي:
(1)
اشترط بعض الفقهاء للنطق بكلمة الكفر، أن يكون الإكراه تاما (ملجئا)، واشترط آخرون التعريض والتورية بالكفر حال الإكراه، ولم يسندوا كلامهم بأدلة معتبرة، ينظر بعض هذه الأقوال في بدائع الصنائع 7/ 177 حاشية ابن عابدين 6/ 134، أحكام القرآن لابن العربي 3/ 1178 وأحكام الجصاص 3/ 192، 194، والإكراه وأثره في التصرفات، د. عيسي شقرة 115 - 118، والإكراه وأثره في الأحكام د. عبد الفتاح الشيخ 63 - 66.
(2)
نواقض الإيمان الاعتقادية وضوابط التكفير للدكتور محمد الوهيبي ج 2 ص 17 - 18.
(3)
من حديث ابن عباس، أخرجه ابن حبان (16/ 202)، والبيهقي في الكبرى (7/ 356)(10/ 60) وفي المعرفة (12/ 2299 (15/ 327) والطبراني في الكبير (9/ 340)، والصغير (2/ 52)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (3/ 95)، وابن حزم في الأحكام (5/ 713)، وحسن إسناده النووي في الأربعين ح 39، وصححه الألباني في المشكاة لطرقه (3/ 372). والحديث مروي من طرق عن ابن عمر وأبي هريرة وأبي بكرة وعقبة بن عامر وأبي ذر وأبي الدرداء وثوبان رضي الله عنهم.
1.
أن يكون المكره قادرا على تحقيق ما أوعد به، لأن الإكراه لا يتحقق إلا بالقدرة، فإن لم يكن قادرا لم
يكن للإكراه معنى ولا اعتبار.
2.
أن يكون المكره عاجزا عن الدفع عن نفسه بالهرب أو الاستغاثة أو المقاومة ونحو ذلك.
3.
أن يغلب على ظنه وقوع الوعيد، إن لم يفعل ما طلب منه
(1)
.
لكن ينبغي أن نعلم، أنه وإن جاز قول الكفر أو فعله بسبب الإكراه إلا أن الصبر أفضل وأعظم أجرا، قال ابن بطال رحمه الله:(أجمعوا على أن من أكره على الكفر واختار القتل، أنه أعظم أجرا عند الله ممن اختار الرخصة)
(2)
.
ويقول الإمام ابن العربي رحمه الله: (إن الكفر وإن كان بالإكراه جائزا عند العلماء فإن من صبر على البلاء ولم يفتتن حتى قتل فإنه شهيد، ولا خلاف في ذلك، وعليه تدل آثار الشريعة التي يطول سردها
…
)
(3)
.
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله: (والأفضل والأولى أن يثبت
(1)
نواقض الإيمان الاعتقادية للوهيبي (2/ 15).
(2)
فتح الباري 12/ 317، وانظر تفسير القرطبي 10/ 188.
(3)
أحكام القرآن 3/ 1179.
المسلم على دينه ولو أفضى إلى قتله)
(1)
.
واستدلوا لذلك بأحاديث كثيرة:
من أشهرها حديث خباب بن الأرت ? وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: (قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار، فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد من دون لحمه وعظمه، فما يصده ذلك عن دينه)
(2)
قال الإمام القرطبي رحمه الله: (فوصفه صلى الله عليه وسلم هذا عن الأمم السالفة على جهة المدح لهم، والصبر على المكروه في ذات الله، وأنهم لم يكفروا في الظاهر، وتبطنوا الإيمان ليدفعوا العذاب عن أنفسهم، وهذه حجة من آثر الضرب والقتل والهوان على الرخصة
…
)
(3)
.
ويتأكد الصبر حق من يقتدي به العوام ويتبعونه في تصرفاته وأقواله، وفي هذا المعنى قول إمام أهل السنة أحمد بن حنبل رحمه الله حين سئل عن العالم وهل يأخذ بالتقية قال:(إذا أجاب العالم تقية، والجاهل يجهل فمتى يتبين الحق؟)
(4)
(1)
تفسير ابن كثير 2/ 588، وانظر المغني 8/ 146، وأحكام القرآن للجصاص 3/ 192.
(2)
رواه البخاري، كتاب الإكراه/ باب من اختار الضرب والقتل والهوان على الكفر (17/ 364)6943.
(3)
تفسير القرطبي 10/ 188.
(4)
ينظر: نواقض الايمان للوهيبي ج 2 ص 18
رابعا: عدم التأويل شرط ومانعه التأويل:
التأويل في اللغة: مادة (أول) في كل استعمالاتها اللغوية تفيد معنى الرجوع، والعود.
(1)
والتأويل اصطلاحا: للتأويل في اصطلاح العلماء ثلاثة معان:
الأول: أن يراد بالتأويل حقيقة ما يؤول إليه الكلام، وهذا هو المعنى الذي يراد بلفظ التأويل في الكتاب والسنة، كقوله تعالى:{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف: 53]، ومنه قول عائشة ?:(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا ولك الحمد: اللهم اغفر لي، يتأول القرآن)
(2)
.
الثاني: يراد بلفظ التأويل: (التفسير) وهو اصطلاح كثير من المفسرين.
الثالث: أن يراد بلفظ (التأويل): صرف اللفظ من المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح لدليل يقترن به
(3)
، وهذا التأويل الذي
(1)
لسان العرب 11/ 32 - 34 مادة (أ و ل)
(2)
رواه البخاري الأذان، باب التسبيح والدعاء في السجود (2/ 228) 817، ومسلم، الصلاة (2/ 50)1113.
(3)
مجموع الفتاوي 4/ 68 - 70، وينظر 3/ 54 - 68، 5/ 28 - 36، 13/ 277 - 313، الصواعق المرسلة 1/ 175 - 233، شرح الطحاوية 231 - 236.
عناه أكثر من تكلم من المتأخرين في مسألة الصفات والقدر ونحوها.
وهو من أعظم أصول الضلال والانحراف حيث صار ذريعة لغلاة الجهمية والباطنية والمتصوفة في تأويل التكاليف الشرعية على غير مقصودها أو إسقاطها أو تأويل جميع الأسماء والصفات.
ومعنى التأويل المقصود هنا هو: التلبس والوقوع في الكفر متأولا من غير قصد لذلك.
(1)
أ.
أنواع التأويل
• المتأول المعذور بخطئه: المجتهد إذا أصاب فله أجران. وإن اجتهد وأخطأ فله أجر واحد، والمتأول مجتهد. فهل هو مأجور معذور في خطئه دائما وأبدا؟
بين أيدينا عدد من النصوص يفهم منها:
أن المتأول المخطئ يعذر إذا كان الحامل له على تأويله دليل مسوغ في الظاهر. وإن كان خاطئا في حقيقة الأمر. وقد عقد البخاري بابا فيما جاء في المتأولين في كتاب «استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم» في صحيحه، وذكر فيه أربعة أحاديث تدل على الحالة التي يعذر فيها المتأول ولا يؤاخذ فيها بخطئه. فذكر:
(1)
الإيمان حقيقته، خوارمه، نواقضه عند أهل السنة والجماعة لعبد الرحمن المحمود ص 127.
1.
حديث إنكار عمر بن الخطاب على هشام بن حكيم قراءته سورة الفرقان على غير ما أقرأه إياها رسول الله
صلى الله عليه وسلم وتكذيبه له في أنه سمعها من الرسول صلى الله عليه وسلم
(1)
.
ووجه الشاهد في الحديث: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم ينكر على عمر تكذيبه لهشام بن حكيم وقسوته عليه بجره من تلابيبه، لأن عمر كان معذورا، لظنه أن القرآن لا تتعدد وجوه قراءته.
فعمر أخذ بظاهر الحال فكان تأويله سائغا قال ابن حجر: "ومناسبته للترجمة من جهة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤاخذ عمر بتكذيب هشام، ولا بكونه لببه بردائه، وأراد الإيقاع به، بل صدق هشاما فيما نقله، وعذر عمر إنكاره، ولم يزد على بيان الحجة في جواز القراءتين»
(2)
.
2.
وحديث تأويل الصحابة للظلم في قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82]، على عمومه وأن ذلك شق عليهم حتى فسره لهم الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه الشرك كما في آية لقمان {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13].
(1)
صحيح البخاري بشرح العسقلاني 12/ 216.
(2)
المرجع السابق 12/ 323.
والشاهد في الحديث: هو أن الصحابة كانوا معذورين في فهمهم حين حملوا الظلم على إطلاقه وعمومه وهو كل المعاصي لأنه هو المعنى الظاهر المألوف في لسان العرب. فكان تأويلا سائغا وإن كان خاطئا في حقيقة الأمر. ولذلك لم ينكر صلى الله عليه وسلم عليهم فهمهم ذلك.
(1)
.
3.
وحديث عتبان بن مالي يقول: " غدا علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رجل: أين مالك بن الدخشن؟ فقال رجلٌ منا: ذلك منافقٌ لا يحب الله ورسوله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا تقولوه يقول لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله» قال: بلى. قال: " فإنه لا يوافي عبد يوم القيامة به إلا حرم الله عليه النار».
والشاهد في الحديث: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يؤاخذ القائلين في حق مالك بن الدخشن بما قالوا حيث وصفوه بالنفاق بل بين أن إجراء أحكام الإسلام على الظاهر دون ما في الباطن
(2)
.
4.
الحديث الذي طلب فيه عمر بن الخطاب من رسول صلى الله عليه وسلم أن
(1)
فتح الباري 12/ 318.
(2)
المصدر السابق.
يضرب عنق حاطب بن أبي بلتعة بعد أن أرسل إلى قريش يخبرهم بمسير الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم لفتح مكة، فطلب عمر ضرب عنقه قائلا:«أنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين» وفي بعض الروايات وصفه بالنفاق وفي بعضها الآخر بالكفر
(1)
.
والشاهد في الحديث: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم ينكر ولم يؤاخذ عمر بإغلاظه القول لحاطب بسبب مكاتبته قريشا، ووصفه له بالخيانة، بل عذره لأن ظاهر الحال كان يدل على ذلك
(2)
فإن التجسس على الجيش المسلم بما يؤدي إلى إفشال خطته بالكامل والإيقاع به لا يفعله عادة إلا منافق أو كافر خائن، فلذلك لم يوبخ الرسول صلى الله عليه وسلم عمر على قوله وهمه بقتله.
أقوال العلماء في التأويل الذي يعذر به صاحبه:
1.
قال ابن حجر في بيان ضابط التأويل المردود الذي يعذر صاحبه ولا يذم: «قال العلماء. كل متأول معذور بتأويله ليس بآثم إذا كان تأويله سائغا في لسان العرب، وكان له وجه في العلم» .
(3)
وهو ما نصت عليه اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية بقولها: «إن المخطئ المعذور من أخطأ في المسائل النظرية الاجتهادية، لا من أخطأ فيما ثبت بنص صريح، ولا
(1)
المصدر السابق.
(2)
المصدر السابق.
(3)
المصدر السابق.
فيما هو معلوم من الدين بالضرورة».
(1)
2.
يقول الإمام ابن حزم رحمه الله: (ومن بلغه الأمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من طريق ثابتة، وهو مسلم، فتأول في خلافه إياه، أو رد ما بلغه بنص آخر، فلما لم تقم عليه الحجة في خطئه في ترك ما ترك، وفي الأخذ بما أخذ، فهو مأجور معذور، لقصده إلى الحق، وجهله به، وإن قامت عليه الحجة في ذلك، فعاند، فلا تأويل بعد قيام الحجة).
(2)
3.
وقرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مواضع، واستدل بقصة الرجل من بني إسرائيل، وقدامة بن مظعون وغيرها، قال رحمه الله: (والتكفير هو من الوعيد، فإنه وإن كان القول تكذيبا لما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم فقد يكون الرجل حديث عهد بإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة، ومثل هذا لا يكفر بجحد ما يجحده حتى تقوم عليه الحجة، وقد يكون الرجل لم يسمع تلك النصوص، أو سمعها ولم تثبت عنده، أو عارضها عنده معارض آخر أوجب تأويلها، وإن كان مخطئا، وكنت دائما أذكر الحديث الذي في الصحيحين في الرجل الذي قال: (إذا أنا مت فأحرقوني، ثم أسحقوني، ثم ذروني في اليم، فو الله لأن قدر الله على ليعذبني عذابا ما عذبه أحدا من العالمين، ففعلوا به
(1)
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء لأحمد الدويش 2/ 39.
(2)
الدرة فيما يجب اعتقاده لابن حزم 414.
ذلك، فقال الله له ما حملك على ما فعلت، قال: خشيتك، فغفر اله)
(1)
فهذا الرجل شك في قدرة الله، وفي إعادته إذا ذري، بل اعتقد أنه لا يعاد، وهذا كفر باتفاق المسلمين، لكن كان جاهلا لا يعلم ذلك، وكان مؤمنا يخاف الله أن يعاقبه، فغفر له بذلك، والمتأول من أهل الاجتهاد الحريص على متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم أولى بالمغفرة من مثل هذا)
(2)
، وقال أيضا:(إن القول قد يكون كفرا كمقالات الجهمية الذين قالوا: إن الله لا يتكلم ولا يرى في الآخرة، ولكن قد يخفى على بعض الناس أنه كفر فيطلق القول بتكفير القائل، كما قال السلف: من قال القرآن مخلوق فهو كافر، ومن قال: إن الله لا يرى في الآخرة فهو كافر، ولا يكفر الشخص المعين حتى تقوم عليه الحجة كما تقدم، كمن جحد وجوب الصلاة، والزكاة، واستحل الخمر والزنا وتأول، فإن ظهور تلك الأحكام بين المسلمين أعظم من ظهور هذه، فإن كان المتأول المخطئ في تلك لا يحكم بكفره إلا بعد البيان له واستتابته كما فعل الصحابة في الطائفة الذين استحلوا الخمر)
(3)
، ففي غير ذلك
(1)
مضى تخريجه.
(2)
مجموع الفتاوى 3/ 231.
(3)
كقدامة ابن مظعون وأصحابه رضي الله عنهم، أخرجه النسائي في الكبرى (3/ 253)، والبيهقي في الكبرى (8/ 315)، وعبد الرزاق في مصنفه (9/ 240) وأبو نعيم الأصبهاني في تثبيت الإمامة وترتيب الخلافة (1/ 127)، و ابن شبة النميري في تاريخ المدينة النبوية (2/ 65)،
أولى وأحرى
…
)
(1)
(2)
•
المتأول غير المعذور بخطئه
وأما إن لم يكن للمتأول حجة ظاهرة على تأويله بأن أول القطعيات التي لا يعذر بجهلها أمثاله، فإنه يأثم وقد يكفر بتأويله حسب حاله، لأنه لا خلاف بين المسلمين أن الرجل لو أظهر إنكار الواجبات الظاهرة المتواترة، والمحرمات الظاهرة، ونحو ذلك فإنه يستتاب وإلا قتل كافرا مرتدا. خلافا للمرجئة الذين يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب كما لا ينفع مع الكفر طاعة
(3)
.
قال شارح الطحاوية: «إن الرجل يكون مؤمنا باطنا وظاهرا لكن تأول تأويلا أخطأ فيه، إما مجتهدا وإما مفرطا مذنبا، فلا يقال: إن إيمانه حبط لمجرد ذلك، إلا أن يدل على ذلك دليل شرعي، بل هذا من جنس قول الخوارج والمعتزلة (أي تكفيره مطلقا) ولا نقول لا يكفر (كالمرجئة).
بل العدل هو الوسط: وهو: أن الأقوال الباطلة المبتدعة المحرمة المتضمنة نفي ما أثبته الرسول أو إثبات ما نفاه أو الأمر بما نهى عنه أو النهي عما أمر به: يقال فيها الحق، ويثبت لها الوعيد الذي دلت عليه النصوص، ويبين أنها كفر ويقال: من قالها فهو كافر
…
(1)
مجموع الفتاوى 7/ 619.
(2)
نواقض الإيمان للدكتور محمد الوهيبي ج 2 ص 23 - 33.
(3)
شرح العقيدة الطحاوية-بتحقيق الألباني - ص 316.
وأما الشخص المعين إذا قيل: هل تشهدون أنه من أهل الوعيد وأنه كافر؟ فهذا لا نشهد عليه إلا بأمر تجوز معه الشهادة، فإنه من أعظم البغي أن يشهد على معين أن الله لا يغفر له، ولا يرحمه بل يخلده في النار فإن هذا حكم الكافر بعد الموت، لكن هذا التوقف في أمر الآخرة لا يمنعنا أن نعاقبه في الدنيا لمنع بدعته وأن نستتيبه فإن تاب وإلا قتلناه ..
إذا كان القول في نفسه كفرا: قيل أنه كفر والقائل له يكفر بشروط وانتفاء موانع، ولا يكون ذلك إلا إذا كان منافقا زنديقا. فلا يتصور إن يكفر أحد من أهل القبلة المظهرين للإسلام إلا من يكون منافقا زنديقا»
(1)
.
فالمتأول قد يكفر ولا يعذر بجهله أو خطأه في اجتهاده، ويحكم على قوله بالكفر ويقال: من قال به فهو كافر، إلا أنه لا يكفر ولا يحكم عليه بالخلود في النار ولكنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل وأمره إلى الله.
وقد أورد شارح الطحاوية أدلة على ذلك منها:
1.
استتابة الصحابة لقدامة بن مظعون لما شرب الخمر بعد تحريمها هو وطائفة، متأولين قوله تعالى:{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [المائدة: 93].
(1)
المصدر السابق.
فاتفق عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وسائر الصحابة على أنهم إن اعترفوا بالتحريم جلدوا حد الخمر وإن أصروا على استحلالها قتلوا أي ردة.
وهذا الذي اتفق عليه الصحابة هو متفق عليه بين أئمة الإسلام
(1)
.
فعمر والصحابة لم يعذروا هؤلاء في جهلهم بتحريم الخمر ولا في تأويلهم. لأن ذلك كان قد عرف واشتهر واستقر. ولم يكونوا حديثي عهد بالإسلام، فلا عبرة بما يطرأ لهم من شبهة إن أصروا على استحلالها.
فمن حمل النصوص على معان بعيدة غير مرادة للشارع وأصر عليها بعد بيان الحجة فإنه يكفر إن أدى ذلك إلى استحلال المحرمات المتواترة أو إنكار الواجبات المتواترة.
وخلاصة القول في حكم المتأول المخطئ:
1.
أن تأويله إذا كان له وجه في اللغة سائغ أو دلت عليه القرائن وظاهر الحال، فإن صاحبه معذور غير آثم، وإن كان تأويله خطأ في نفس الأمر.
2.
أنه آثم موزور إن تكلف التأويل بدون مسوغ من اللغة أو قرائن الحال.
(1)
المرجع السابق.
3.
أنه قد يكفر إذا تأول النصوص بما يؤدي إلى استحلال المحرمات المتواترة أو إنكار الواجبات المتواترة والتي لا يعذر بجهلها أمثاله.
4.
أن الأقوال المبتدعة المحرمة المتضمنة إثبات ما نفاه النص أو نفي ما أثبته، أو الأمر بما نهى عنه أو النهي عما أمر به؛ يثبت لها الوعيد الثابت بالنصوص ويقال فيها: من قال بها فهو كافر مطلقا من غير تعيين.
هـ. وأن هذا التوقف في حكم المعين بالنسبة إلى أمر الآخرة لا يمنعنا من إجراء أحكام الدنيا عليه من استتابته، فإن تاب و إلا قتل.
6.
أنه لا يشترط في المتأول المخطئ في القطعيات قصد
الخروج من الإسلام بل قد يكفر ويخرج من الملة دون قصد منه، مع اعتقاده في الإسلام إجمالا.
الخاتمة
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وبعد أن من الله علي بإتمام هذا البحث، فإن من أهم النتائج والتوصيات:
1.
بيان وسطية أهل السنة والجماعة بين غلو الخوارج
وتفريط المرجئة في مسألة التكفير.
2.
التكفير حكم شرعي، وحق لرب العالمين، لا يجوز لعوام المسلمين الخوض فيه، لأنه مدحضة مزلة، وإنما يقوم به أهل العلم الراسخين
3.
التفريق بين التكفير بالوصف، والتكفير بالشخص.
4.
الاحتياط في تكفير المعين، وخطورة تكفيره دون بينة.
هـ. الأصل في المسلم العدالة، ولا يكفر إلا بعد اجتماع شروط التكفير من العلم والقصد والإرادة وعدم التأويل، وانتفاء الموانع من الجهل والخطأ والإكراه والتأويل.
6.
إدراج مباحث التكفير، ومنهج أهل السنة والجماعة فيه، وتطبيقاته في مناهج التعليم العام، والتعليم العالي ولغير المختصين
كأن يفرد في أحد وحدات مقرر الثقافة الإسلامية.
7.
طباعة أبحاث التكفير بعد تيسيرها وتقريبها للعوام، وتوزيعها في أماكن التجمعات كالمستشفيات والمطارات، وتنزيلها على الشبكة العنكبوتية لتثقيف المجتمع بكافة شرائحه بمسائل التكفير، وتحصين المجتمع من فكر الجماعات المكفرة.
08 تبني الحملات التثقيفية في أساط الشباب داخل الجامعات وخارجها لمناقشة قضايا التكفير والإجابة على الشبهات حول هذه القضية، على أن يكون الطرح جاذبا حواريا.
9.
إقامة المسابقات حول كتب التكفير عند أهل السنة والجماعة ورصد جوائز قيمة للفائزين.
10.
عقد البرامج الإعلامية من قبل المختصين الشرعيين المناقشة مسائل التكفير والتسويق الجيد لهذه البرامج
هذا وصلى الله وسلم على نبينا محمد.