الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
توطئة
رأيت أن أكتب هذه التوطئة للسفر الثانى من مخطوط عقد الجمان الخاص بالعصر الأيوبى والذى يغطى الفترة التى تبدأ من عام 579 هـ إلى عام 589 هـ.
ورؤيتى هذه راجعة إلى ما يلى:
أولاً: إن غالبية المحققين قد اعتادوا على كتابة مقدمة ودراسة أحياناً في بداية الجزء الأول فقط، ثم يعرضون بقية الأجزاء تباعاً، دون أن يخط قلمهم بشيء يتصل بهذه الأجزاء إلا أننى رأيت أنه من الأوفق كتابة هذه التوطئة لأن نسخة المخطوط الرئيسة التى اعتمدت عليها في تحقيق الجزء الأول تنتهى عند سنة 578 هـ، بينما النسخة الأخرى أي غير الرئيسة رقم 1584 تاريخ تتناول السفر الثانى الذى يبدأ بسنة 579 هـ وينتهى في سنة 589 هـ/ 1183 م - 1193 م. ولذلك اعتبرتها هى النسخة الرئيسة.
ثانياً: إن هذه الفترة لها من الأهمية ما ليس لغيرها نظراً لشهودها أحداثاً جساماً ومعالم يتميز بها تاريخ المسلمين، بسبب ما حدث فيها من صد هجمة شرسة استهدفت قلب العالم الإسلامى مستتره وراء شعار الصليب والصليب منها براء.
ثالثاً: تميزت هذه الفترة بأخطر ما تعرض له العالم الإسلامى على المستويين الداخلى والخارجى، وإن كان الجانب الخارجى غير مقطوع الصلة بتداعيات الجانب الداخلى.
فالجانب الداخلى اتسم بالضعف والتفكك في العالم الإسلامى نتيجة لوجود خلافتين عباسية في بغداد، وفاطمية في القاهرة، مما أشعل الصراع بينهما فكرياً وعسكرياً، فالخلافة العباسية كانت تعتنق المذهب السنى، والخلافة الفاطمية كانت تعتنق المذهب الشيعى الباطنى. وكما هو واضح كان البون بين الجانبين شاسعاً، إذ لم يقتصر الصراع على الجانب الفكرى بل تعداه إلى الجانب العسكرى والسياسى، مما أدى إلى إضعاف كلا الجانبين، وأصبح العالم الإسلامى بذلك مهيئاً لتلقى الكوارث التى جاءت من قبل جيوش أوربا الطامعة في الثروة واغتصاب الأرض وانتهاك العرض.
رابعاً: بناء على ما تقدم نجد أن هذا السفر يتحدث عن البطل الذى كان العالم الإسلامى في انتظاره ليرأب الصدع الداخلى والخارجى في آن واحد خاصة أننا ألمحنا
إلى أن الجانبين غير مبتوتين عن بعضهما البعض، فكان صلاح الدين الأيوبى هو البطل الذى انفرد دون كثير من الأبطال بأنه كان ضرورة عصره إذ جاء في الوقت المناسب الذى يتطلبه العالم الإسلامى حينئذ.
فأول هدف حققه هو رأب الصدع الفكرى بالقضاء على الخلافة الفاطمية، وبذلك أعاد للعالم الإسلامى وحدته الفكرية متمثلة في إعادة السيادة إلى المذهب السنى. كما تمثلت في إعادة الوحدة السياسية لشرق العالم الإسلامى بقضائه على الحكام الصغار للدويلات المنفصلة عن بعضها البعض، بل التى كان يناوئ بعضها البعض.
وبتحقيق ذلك أصبح الجو مهيئاً لخوض معارك الجهاد ضد الغزاة الصليبيين، تلك المعارك التى انتهت بكسر شوكة الغزاة وبإعادة الهيبة والكرامة إلى المسلمين بفضل الجهاد الذى أوقف صلاح الدين حياته عليه، فلم يره الناس طوال حياته إلا راكباً سرج فرسه، وقد لبس ملابس الجندية، التى لم يخلعها إلا مرة واحدة قبيل وفاته في دمشق.
والآن أترك للقارئ أن يرى ما سجله العينى المؤرخ في هذا السفر الذى بين أيدينا، وما به من أحداث عظام رواها المؤرخ عن شهود عيان لهذه الحقبة أو عن كتب ألفت في هذه الفترة، وسجل أحداثها، وبذلك يكون العينى أقرب إلى الصواب فيما سجله.
ولا يفوتنى أن أتقدم بالشكر للزميلات الباحثات الفضليات بلجنة التاريخ بمركز تحقيق التراث اللاتى شاركن في إنجاز هذا العمل بكل إخلاص وتفان. وهن:
د. لبيبة إبراهيم مصطفى محمد أ. نعمات عباس محمد
أ. نفيسة محمد محمد صميدة أ. المرحومة / تماضر زكريا غنام
والسيدة / إيزيس سامح زكى التى قامت بالنسخ وشاركت في الفهارس.
والله من وراء القصد.
المحقق
دكتور/ محمود رزق محمود
في 8 ذو القعدة 1424 هـ
الموافق 1/ 1/ 2004
الهرم - الأريزونا
بسم الله الرحمن الرحيم
[
(1)
فصل فيما وقع من الحوادث في السنة التاسعة والسبعين بعد الخمسمائة
]
(*)
استهلت هذه السنة والخليفة هو الناصر لدين الله العباسى، والسلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب في الشرق؛ لأجل فتح البلاد التى ليست تحت يده.
ذكر فتوحات صلاح الدين رحمه الله في هذه السنة
منها فتح [آمد]
(2)
:
قال ابن كثير
(3)
: في الرابع عشر من محرم هذه السنة، تسلم السلطان صلاح الدين مدينة آمد وحِصْنَها صلحاً بعد قتال وحصار شديد، من يد صاحبها [ابن نيسان]
(4)
، بعد ما حمل ما أمكنه من حواصله وأمواله وأثقاله مدة ثلاثة أيام. ولما تسلم السلطان البلد وجد فيه شيئاً كثيراً من الحواصل وآلات الحرب والسلاح، حتى قيل إنه وجد برجاً مملوءاً بنصول النشاب، وبرجاً آخر فيه مائة ألف شمعة وأشياء يطول شرحها، ووجد فيها خزانة فيها ألف ألف مجلد، وأربعون ألف مجلد، فوهبها كلها للقاضى الفاضل، فانتخب منها حمل سبعين حماراً. ثم وهب السلطانُ البلد بما فيه لنور الدين محمد بن قرا أرسلان، وكان قد وعده بها، فقيل له: إن الحواصل لم تدخل في وعدك، فقال: لا نبخل بها عليه وقد صار من أصحابنا وأنصارنا، وكان في خزانتها ثلاثة آلاف ألف دينار
(5)
، فامتدحه الشعراء على ذلك وعلى حسن صنيعه الجميل. ومن أحسن ما قاله بعضهم في ذلك من جملة قصيدة له في السلطان:
(*) يوافق أولها 26 إبريل 1183 م.
(1)
ما بين الحاصرتين تالف من أثر الرطوبة في نسخة أ، والمثبت من نسخة "ب".
(2)
المثبت من نسخة به، وغير واضح في نسخة "أ".
(3)
البداية والنهاية، جـ 12، ص 344، طبعة دار الكتب العلمية، بيروت د. ت.
(4)
ما بين الحاصرتين ساقط من الأصل. والمثبت من أبى شامة: الروضتين، جـ 2 ق 1، ص 125؛ ابن الأثير، الكامل، جـ 10، ص 119. أما ابن كثير فقد ذكر أن اسمه "ابن بيسان"، جـ 12، ص 334.
(5)
اتفق العينى مع الروضتين في صحة الرقم، جـ 2 ق 1، ص 126، بينما ذكر ابن الأثير أنه "ما يزيد على ألف ألف دينار" الكامل، جـ 10، ص 120؛ وقد ذكره ابن كثير "ثلاثة آلاف" البداية والنهاية، جـ 12، ص 334.
قل للملوك تنحوا عن ممالككم
…
فقد أتى آخذ الدنيا ومعطيها
وفى المرآة
(1)
: وفى يوم الأحد عاشر المحرم تسلم السلطان آمد ودخل إليها، وجلس في دار الإمارة ثم سلمها وأعمالها إلى نورالدين محمد بن قرا أرسلان، وكان قد وعده بها لما جاء إلى خدمته، ولما أخذها صلاح الدين خرج الرئيس محمود بن على، ومحمد بن كيكلدى منها بأموالهما وحريمهما إلى الموصل، وأعانهما صلاح الدين بدواب تنقل بعض قماشهما، فحملا ما خف حمله، وعجزا عن حمل كثير من الذخائر والأسلحة.
وفى تاريخ المؤيد
(2)
: في العشر الأول من محرم هذه السنة، ملك صلاح الدين آمد بعد حصار وقتال، وسلمها إلى نور الدين محمد بن قرا أرسلان بن داود بن سقمان بن أرتق صاحب حصن كيفا.
وفى تاريخ ابن العميد
(3)
: وفى سنة تسع وسبعين وخمسمائة سار السلطان الملك الناصر صلاح الدين من مصر إلى الرها ففتحها، ثم سار إلى الموصل فنازلها، واستشفع صاحبها عز الدين مسعود بن مودود من الخليفة الناصر لدين الله، فشفع فيه الخليفة، فرحل صلاح الدين عن الموصل، ونزل على سنجار [3] فحاصرها، ثم تسلمها وأحسن إلى رعيتها، ثم توجه إلى حرزم
(4)
فأخربها، ثم كتب إلى الخليفة يطلب منه آمد. فأجابه الخليفة وبعث إليه بتقليدها، فوصل إليه التقليد في ذى الحجة من هذه السنة. ثم سار السلطان إلى آمد فنازلها لثلاث بقين من ذى الحجة، وفتحها بالأمان في العشر الأول من محرم سنة ثمانين وخمسمائة، وسلمها إلى نور الدين بن قرا أرسلان صاحب حصن كيفا
(5)
.
ومنها فتح عينتاب:
ولما فرغ صلاح الدين من أمر آمد، سار وقطع الفرات قاصداً حلب، واجتاز في طريقه بعينتاب وبها ناصح
(6)
الدين محمد بن خمارتكين، فنزل إليه وقام بالضيافة،
(1)
مرآة الزمان، جـ 8، ص 239.
(2)
أبو الفدا: المختصر، جـ 3، ص 66.
(3)
ورد هذا النص بتصرف في النويرى: نهاية الأرب، جـ 28، ص 382 - ص 383
(4)
حَرْزَمُ: بليدة بن ماردين ودنيسر من أعمال الجزيرة. ياقوت: معجم البلدان، جـ 2، ص 239.
(5)
ورد هذا الحدث بتصرف في الروضتين، جـ 12، ص 125 - ص 130.
(6)
"ناصر الدين" في الكامل، جـ 10، ص 120، المختصر، جـ 3، ص 66؛ نهاية الأرب، جـ 28، ص 384.
فأبقاها عليه. وجاءه ابن الساعاتى
(1)
الشاعر فأنشده هذه القصيدة:
ما بعد لقياك للعافين من أمل
…
ملك الملوك وهذى دولة الدول
(2)
من حاتم عندما كفَّاك واهبة
…
حتى غدا مثلاً ناهيك من مثل
من يطلق الألف بعد الألف في طلق
…
كم بين طل الندى والوابل الهطل
ذر الصوارم في أغمادها فلقد
…
جلوتها من برود الهام في حُلَل
ما خفت، مذ كنت، غير الله من أحد
…
لذاك خافك حتى النوم في المقل
فلو توخيت هدم السد معتزماً
…
لزال خوفاً وطوعاً أن تقول زل
فانهض
(3)
إلى حلب في كل سابغة
…
سروحها قلل تغنى عن القلل
بكر المعاقل ما خطبها مكاثرة
…
بكل أصمى أصم الكعب معتدل
فما سواك لها بعل وقد عطلت
…
فحلها وتلافيها من العطل
ومنها:
فليعلم القدس أي الفتح منتظر
…
حلوله وعلى الآفاق فليطل
وافاك يوسف يا بيت الخليل فلا
…
تأيس وأمل فيه صادق الأمل
وفى تاريخ المؤيد
(4)
: لما فتح صلاح الدين آمد، سار إلى الشام وقصد تل خالد، من أعمال حلب، وملكها، ثم سار إلى عينتاب وحصرها وبها [ناصرالدين]
(5)
محمد، أخو الشيخ إسماعيل، الذى كان خازن نور الدين محمود بن زنكى وصاحبه، وكان قد تسلم عينتاب من نور الدين، فبقيت معه إلى الآن، فحاصرها السلطان ودخلها بتسليم صاحبها إليه، فأقره السلطان عليها، وبقى في خدمة السلطان، ومن جملة أمرائه، ثم سار السلطان إلى حلب.
(1)
ابن الساعاتي، هو أبو الحسن على بن رستم بن هردوز الملقب بهاء الدين، توفى في القاهرة سنة 604 هـ. انظر وفيات الأعيان، جـ 3، ص 395 - ص 396 ترجمة رقم 478؛ شذرات الذهب، جـ 6، ص 13.
(2)
وردت بعض هذه الأبيات في الروضتين، جـ 2 ق 1، ص 140.
(3)
مرآة الزمان، جـ 8، ص 239.
(4)
المختصر، جـ 3، ص 66.
(5)
"ناصر" في المختصر، جـ 3، ص 66. والصحيح ما أثبتناه.
حيث يلقب محمد بن خمارتكين بناصح الدين أو بدر الدين كما ورد في زامباور: معجم الأسرات، جـ 1، ص 160 - 161. أما ناصر الدين فهو لقب منكورس بن خمارتكين.
ومنها فتح حلب:
ولما فرغ السلطان من أمر عينتاب سار إلى حلب وحصرها، وبها صاحبها عماد الدين زنكى بن مودود [4].
وقال ابن كثير
(1)
: سار السلطان في بقية المحرم إلى مدينة حلب فنازلها وحاصرها، وقاتله أهلها قتالاً [شديداً]
(2)
، وجرح أخو السلطان تاج الملوك بورى بن أيوب جرحاً بليغاً فمات منه بعد أيام، ثم اتفق الحال بين السلطان وبين صاحبها عماد الدين زنكى بن مودود بن زنكى بن آقسنقر على عوض أطلقه السلطان، وهو أن يرد عليه سنجار ويسلمه [حلب]
(3)
، فخرج عماد الدين زنكى وجاء إلى خدمة السلطان وعزاه في أخيه ونزل عنده في المخيم، ونقل أثقاله إلى سنجار، وزاده السلطان [الخابور]
(4)
والرقة ونصيبين وسروج
(5)
، واشترط عليه إرسال العسكر في الخدمة للغزاة، وودعه السلطان. وكان أهل حلب ينادون على عماد الدين زنكى:"يا حمار بعت حلب بسنجار"
(6)
. وكان تسلم السلطان حلب في صفر، وصعد إلى قلعتها يوم الاثنين السابع والعشرين من صفر، وعمل له الأمير طمان
(7)
وليمة عظيمة وكان يوماً مشهوداً، ثم أن السلطان رحمه الله أسقط عن حلب وعن سائر بلاد الجزيرة المكوس والضرائب، وكذلك عن بلاد الشام ومصر، ثم أرسل إلى عساكره ليجتمعوا إليه؛ ليتصدى لقتال الفرنج الملاعين؛ لأنهم عاثوا في البلاد يميناً وشمالاً في غيبة السلطان واشتغاله ببلاد الجزيرة. وكان السلطان قد بشر بفتح بيت المقدس حين فتح حلب، وذلك أن الفقيه مجد الدين بن جهبل الشافعى
(8)
رأي في تفسير أبى الحكم العربى عند قوله تعالى: {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ} الآية
(9)
، البشارة بفتح بيت المقدس في سنة ثلاث وثمانين
(1)
البداية والنهاية، جـ 12، ص 334.
(2)
"جيداً" في الأصل. والمثبت من ابن كثير: البداية والنهاية، جـ 12، ص 334 حيث ينقل العينى عنه.
(3)
"البلد" في الأصل. والمثبت من البداية والنهاية، جـ 12، ص 334 الذى ينقل العينى عنه.
(4)
"خابور" في الأصل والمثبت من البداية والنهاية، جـ 12، ص 334 وهو الصحيح.
(5)
سَرُوجُ: بلدة قريبة من حران من ديار مضر، ياقوت: معجم البلدان، جـ 3، ص 85.
(6)
ورد هذا القول في المختصر، جـ 3، ص 66.
(7)
"طهمان" في البداية والنهاية أما باقى المصادر فتذكر أنه طمان، وهو الأمير حسام الدين بن غازى بن يلمى بن تنجول من جبل سلور بحلب، توفى سنة 585 هـ. انظر: ابن خلكان: وفيات الأعيان، جـ 7، ص 170، ص 194؛ أبو المحاسن: النجوم، جـ 6، ص 109.
(8)
مجد الدين بن جهبل، هو طاهر بن نصر الله بن جهبل الكلابى، توفى بالقدس سنة 596 هـ؛ الذهبى: العبر، جـ 4، ص 292؛ الإسنوى: طبقات الشافعية، جـ 1، ص 181، دار الكتب العلمية، بيروت 1987؛ ابن خلكان: وفيات الأعيان، جـ 7، ص 343، ابن العماد الحنبلى، الشذرات، جـ 4، ص 324.
(9)
سورة الروم، آية رقم 1 - 2.
وخمسمائة، واستدل على ذلك بأشياء، فكتب في ورقة وأعطاها للفقيه عيسى الهكارى؛ ليبشر بها السلطان، فلم يتجاسر على ذلك؛ خوفاً من عدم المطابقة، فأعلم بذلك القاضى [محيى الدين بن الزكى]
(1)
فنظم معناها في قصيدة يقول فيها:
وفتحكم حلب الشهباء في صَفَرٍ
…
قضى لكم بافتتاح القُدس في رَجَب
وقدمها للسلطان فتشوقت همة السلطان إلى ذلك، فلما افتتحها كما سيأتى - إن شاء الله تعالى - أمر القاضى فخطب يومئذ وكان يوم الجمعة، ولما بلغه أن ابن جهبل هو الذى اطلع على ذلك أولاً، أمره أن يُدَرِّس فدَرَّس على الصخرة درساً عظيماً، وأجزل له العطاء وأحسن عليه الثناء
(2)
.
وفى تاريخ بيبرس: وفى هذه السنة سار صلاح الدين من تل خالد إلى حلب، واستدعى إليها العساكر من جميع الجهات، فاجتمع عليها خلق عظيم وتحقق عماد الدين أنه ليس له به قبل، فأشار إلى حسام الدين طمان أن يسفِّر له مع صلاح الدين في إعادة بلاده إليه وتسليم حلب منه، فرفع الحديث، وتقررت القاعدة. ولم يشعر أحد من [5] العسكر ولا من الرعية حتى تم الأمر واستعاض، فاستعلم العسكر من عماد الدين فأعلمهم وأذن لهم في تدبير أنفسهم، فأرسلوا عنهم وعن الرعية عز الدين جرديك، وزين الدين بلك، فاستحلفوا صلاح الدين على العسكر وعلى أهل البلد، وخرجت العساكر إلى خدمته بالميدان الأخضر فخلع عليهم، ونقل عماد الدين أقمشته وآلاته من القلعة، ثم نزل إلى السلطان، وسير معه في الميدان وأنزله عنده في الخيمة، وقدم له تقدمة سنية وخيلاً، وخلع على جماعة من أصحابه، وسار يومه إلى سنجار. وطلع صلاح الدين القلعة وتسلمها في صفر من هذه السنة
(3)
. ومدحه السعيد بن سناء الملك بقصيدة أولها
(4)
:
(1)
"فخر الدين بن الولى" في الأصل، والمثبت من البداية والنهاية، جـ 12، ص 334 - ص 335 حيث ينقل العينى عنه، ومحيى الدين بن الزكى: هو أبو المعالى محمد بن أبى الحسن على بن محمد بن يحيى القرشى الملقب بمحى الدين توفى سنة 598 هـ بدمشق ودفن بسفح جبل قاسيون. ابن خلكان: وفيات الأعيان، جـ 4، ص 229 - ص 236 ترجمة رقم 594.
(2)
ورد هذا النص بتصرف في البداية والنهاية، جـ 12، ص 335.
(3)
ورد هذا النص بتصرف في الكامل، جـ 10، ص 121 - ص 122؛ زبدة الحلب، جـ 3، ص 69؛ النوادر السلطانية، ص 59؛ الروضتين، جـ 2 ق 1، ص 137 - ص 138.
(4)
السعيد بن سناء الملك، هو السعيد أبو القاسم هبة الله بن الرشيد جعفر بن سناء الملك توفى سنة 608 هـ؛ العماد، الخريدة، قسم مصر، جـ 1، ص 64 - ص 99؛ وفيات الأعيان، جـ 6، ص 61 ترجمة رقم 777؛ الشذرات، جـ 5، ص 35.
بدولة الترك عزت [ملة]
(1)
العرب
…
وبابن أيوب ذلت شيعة الصُلب
[وافخر ففتحك]
(2)
ذا فخر لمفتخر
…
ذخرُ لمدخر كسب لمكتسب
بك العواصم طابت بعد ما خبثت
…
[بمالكيها]
(3)
ولولا أنت لم تطب
ومنها:
وافى الفرات فألقى فيه ذا لُجب
…
[يظل]
(4)
يهزأ من تياره اللجب
إلى بلاد أجابت قبل أن دعيت
…
للخاطبين ولولا الخوف لم تُجب
ثم استجابت فلا حصن بممتنعٍ
…
منها عليه ولا ملك بمحتجب
ومنها:
أتى إليها يقود البحر ملتطماً
…
[والبيض كالموج والبيضات كالحبب]
(5)
ومنها:
ولابن أيوب دانت كل مملكة
…
بالصفح والصلح أو بالحرب والحُرب
ومنها:
ففتحكم حلباً بالسيف في صفر
…
مبشر بفتوح القدس في رجب
وكان هذا الفأل صادقاً، واتفق فتوح القدس في شهر رجب على ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
وقيل إن هذه القصيدة للقاضى محيى الدين ابن القاضى زكى الدين قاضى القضاة بدمشق
(6)
.
(1)
"دولة" في الأصل؛ وفى الروضتين، جـ 2 ق 1، ص 141. والمثبت بين الحاصرتين من ديوان ابن سناء الملك، جـ 1، ص 9، طبعة أولى حيدر آباد 1958.
(2)
"فافتخر ففخرك" كذا في الأصل. والمثبت بين الحاصرتين من ديوان ابن سناء الملك، جـ 1، ص 15.
(3)
"لمالكيها" كذا في الأصل. وما بين الحاصرتين من ديوان ابن سناء الملك، جـ 1، ص 15.
(4)
"فظل" كذا في الأصل، وما بين الحاصرتين من ديوان ابن سناء الملك، جـ 1، ص 12.
(5)
"فالبيض أمواجه والبيض كالخيم" كذا في الأصل، وما بين الحاصرتين من ديوان ابن سناء الملك، جـ 1، ص 11.
(6)
هذا الشعر ورد في ديوان ابن سناء الملك ما عدا البيت الأخير، فقد ذكر ابن الأثير أن هذا البيت لمحى الدين بن الزكى، انظر: الكامل، جـ 10، ص 122.
وفى المرآة
(1)
: نازل صلاح الدين حلب في سادس عشر المحرم، ونزل بالميدان الأخضر، وباشر القتال بكرة وعشيا، وزحف يوماً أخوه تاج الملوك بورى فجاءه سهم في عينه فوقع مريضاً، فمات في الثالث والعشرين من صفر. ثم علم عماد الدين زنكى أنه لا طاقة له به، وقال لحسام الدين طُمان: أخرج إلى صلاح الدين وسله في الصلح. فخرج سراً ولم يعلم به أحد، فقرر الصلح وأن يرد عليه سنجار وأعمالها والخابور ونصيبين، وأنه يسلم إليه قلعة حلب، وعلم الناس، فأصبح، وخرجوا إلى صلاح الدين فخلع عليهم. وجعل أهل حلب تحت القلعة إجَّانة
(2)
. وثياباً وصابوناً، وصاحوا على عماد الدين [6]:
يا فاعل يا صانع انزل فاغسل الثياب مثل [المخانيث]
(3)
ما يصلح لك غير هذا، وعملوا فيه الأشعار وغنوا بها في الأسواق:
وبعتَ بسنجارَ خيرَ القلاع
…
ثَكَلْتُكَ من بائعٍ مشترِى
(4)
.
فلما كان اليوم الثالث والعشرون
(5)
من صفر توفى تاج الملوك أخو السلطان فحزن عليه حزناً عظيماً وجلس للعزاء وكان يبكى ويقول: "ما وفَّت حلب بشعرة من أخى"، وقيل إنه قال:"ما غلت حلب ببورى". والأول أليق بالسلطان؛ لأنه ما كان في البيت مثل بورى. وسار عماد الدين إلى سنجار وأقام السلطان بالمخيم غير مكترث بحلب؛ لما جرى عليه من وفاة أخيه، ثم صعد القلعة سلخ صفر فأنشده القاضى زكى الدين محمد ابن على القرشى قاضى قضاة دمشق أبياتاً منها:
[وفتحكم]
(6)
حلبًا بالسيف في صفر
…
مبشر بفتوح القدس في رجب
فعجب الناس من رمية من غير رام، فكان كما قال ولكن بعد أربع سنين. وهو الذى خطب بالقدس لما فتحه السلطان. وولى السلطان القضاء بحلب محيى الدين بن زكى الدين، والقلعة سيف الدين أركس، والديوان ناصح الدين إسماعيل بن العميد، وأعطى
(1)
نقل العينى هذا النص بتصرف من مرآة الزمان، جـ 8، ص 239.
(2)
الإِجَّانة: المِركَن وهو شبه لقن تُغسل أو تقصر فيه الثياب. والجمع: أجاجين. انظر: محيط المحيط.
(3)
"المخانثة" كذا في الأصل. والمثبت من مرآة الزمان، جـ 8، ص 240 حيث ينقل العينى عنه.
(4)
"كتلتك" في مرآة الزمان، جـ 8، ص 240. وقد اتفق نص العينى مع ما ورد في النجوم الزاهرة، جـ 6، ص 95.
(5)
ذكر سبط ابن الجوزى أن تاج الملوك توفى في العشرين من صفر سنة 579 هـ، بيد أن بقية المصادر ذكرت أنه توفى يوم 23 صفر، انظر: وفيات الأعيان، جـ 1، ص 292؛ النوادر السلطانية، ص 59 - 60؛ مفرج الكروب، جـ 2، ص 143 - 146.
(6)
"وفتحه" كذا في الأصل. والمثبت من مرآة الزمان، جـ 8، ص 240.
تل باشر وتل خالد لبدر الدين دُلدُرُمْ بن بهاء الدين بن ياروق
(1)
، وأعطى قلعة أعزاز لعلم الدين سليمان بن [جَنْدَر]
(2)
، ثم رحل عن حلب يوم السبت الثانى والعشرين من ربيع الآخر، ودخل دمشق ثالث جمادى الأولى
(3)
.
وفى تاريخ المؤيد
(4)
: لما استقر الصلح بين صلاح الدين وعماد الدين عمل عماد الدين دعوة للسلطان واحتفل، فبينما هم في سرورهم إذ جاء إنسان فَأَسَرَّ إلى السلطان بموت أخيه بورى فوجد عليه في قلبه وجداً عظيماً وأمر بتجهيزه [سراً]
(5)
. ولم يعلم السلطان في ذلك الوقت أحداً ممن كان في الدعوة بذلك لئلا يتنكد عليهم ما هم فيه، وكان يقول:"ما وقعت علينا حلب رخيصة بموت بورى". وكان هذا من السلطان من الصبر العظيم
(6)
.
ومنها فتح حارم:
ولما ملك السلطان حلب أرسل إلى حارم وبها سُرْخك الذى ولاه الملك الصالح بن نور الدين محمود في تسليم حارم، وجرت بينهما مراسلات فلم ينتظم بينهما حال، وكاتب سُرْخك الفرنج، فوثب عليه أهل القلعة وقبضوا عليه، وسلموا حارم إلى السلطان فتسلمها.
وفى تاريخ بيبرس: وكان السلطان قد أنفذ إلى حازم من يتسلمها، فدافع الوالى الذى بها، فسار بنفسه إليها فتسلمها وعاد إلى حلب.
(7)
(1)
في ابن الأثير، "وأقطع تل خالد لأمير يقال له داروم الياروقى، وهو صاحب تل باشر"، انظر: الكامل، جـ 10، ص 123.
(2)
"حيدر" كذا في الأصل، والمثبت من: الكامل، جـ 10، ص 123؛ وفيات الأعيان، جـ 7، ص 171؛ مرآة الزمان، جـ 8، ص 240.
(3)
ورد هذا النص بتصرف في: الكامل، جـ 10، ص 123؛ زبدة الحلب، جـ 3، ص 71؛ مرآة الزمان، جـ 8، ص 240.
(4)
المختصر، جـ 3، ص 66 - 67.
(5)
ما بين الحاصرتين إضافة من المختصر، جـ 3، ص 66.
(6)
انظر: المختصر، جـ 3، ص 66؛ كما ورد هذا النص بتصرف في: الكامل، جـ 10، ص 122.
(7)
انظر هذا الخبر في النوادر السلطانية، ص 60؛ الروضتين، جـ 2 ق 1، ص 153؛ زبدة الحلب، جـ 3، ص 70 - 71؛ الكامل، جـ 10، ص 122 - 123.
ذكر مسير السلطان صلاح الدين إلى دمشق
ولما أخذ السلطان حارم وعاد إلى حلب، رتب فيها ولده الظاهر غازى ومعه الأمير سيف الدين يزكج
(1)
، ثم رحل عنها وسار نحو دمشق.
وقال ابن كثير
(2)
: رحل السلطان من حلب [7] في أواخر ربيع الآخر بجيوشه وعساكره، وقد جعل فيها ولده الملك الظاهر غازى، وولى قضاءها لمحيى الدين بن الزكى، فاستناب له فيها نائباً
(3)
، ورجع هو مع السلطان في خدمته، فاجتاز بحماة ثم بحمص ثم على بعلبك، ثم دخل دمشق في ثالث جمادى الأولى في أبهة عظيمة، [وفي]
(4)
نيته الخروج سريعًا إلى قتال الإفرنج.
ذكر ما فعل السلطان صلاح الدين بعد دخوله دمشق
ولما دخل السلطان دمشق في التاريخ المذكور وأقام أياماً برز منها في أول جمادى الآخرة في جحافل قاصداً نحو القدس الشريف، فانتهى إلى بَيْسان
(5)
فنهبها وخربها وشن الإغارات على تلك النواحى، ثم سار ونزل على عين جالوت
(6)
وأرسل بين يديه سرية هائلة، فيها الأمير جرديك النورى في طائفة من النورية، وجاولى مملوك عمه أسد الدين شيركوه، فوجدوا جيش الكرك من الفرنج قاصدين إلى أصحابهم نجدة لهم، [فالتقوا]
(7)
معهم، فقتلوا من الإفرنج خلق كثيرًا وأسروا مائة أسير ولم يفقد من المسلمين سوى شخص واحد، ثم عادوا في آخر ذلك اليوم.
(8)
وبلغ السلطان أن الإفرنج قد اجتمعوا لقتاله وتصدى لهم [فنكصوا
(9)
] عنه، فقتل منهم خلقاً كثيراً، وجرح
(10)
مثلهم، فرجعوا ناكصين على أعقابهم خائفين منه غاية المخافة.
(1)
"يازكوج" ورد بهذا الرسم في: زبدة الحلب، جـ 3، ص 71، ص 72؛ الكامل، جـ 10، ص 204؛ وفيات الأعيان، جـ 7، ص 170 - 171؛ الروضتين، جـ 2 ق 1، ص 151؛ أما النوادر السلطانية فقد ورد الاسم فيه "يازكج".
(2)
نقل العينى هذا النص بتصرف من البداية والنهاية، جـ 12، ص 335.
(3)
هو زين الدين نبأ بن الفضل بن سليمان المعروف بابن البانياسى. انظر: الروضتين، جـ 2 ق 1، ص 151.
(4)
"ومن" في الأصل. والمثبت هو الصحيح.
(5)
بيسان: مدينة بالأردن بين حوران وفلسطين. انظر: معجم البلدان، جـ 1، ص 788.
(6)
عين جالوت: بليدة بين بيسان ونابلس من أعمال فلسطين. انظر: معجم البلدان، جـ 3، ص 760.
(7)
"فاتفقوا": في الأصل وهو خطأ. والمثبت هو الصحيح وفقاً للسياق.
(8)
وردت هذه الأحداث في الكامل جـ 10، ص 124؛ المختصر، جـ 3، ص 67؛ البداية والنهاية، جـ 12، ص 335.
(9)
"فنكلوا": في الأصل والمثبت من النوادر السلطانية، ص 63؛ الروضتين، جـ 2 ق 1، ص 163؛ البداية والنهاية، جـ 12، ص 335.
(10)
توجد كلمتان غير مقروءتين قبل هذه الجملة. والنص بدونهما صحيح كما في المصادر السابقة.
وفى تاريخ بيبرس: لما خرج السلطان من دمشق عبر نهر الأردن ورأى أهل تلك النواحى قد فارقوها خوفاً، فقصد بيسان فأخربها وأغار على ما هناك، فاجتمع الفرنج وجاءوا إلى قبالته فلما رأوا كثرة من معه من العسكر لم يقدموا عليه، فأقام عليهم وأحاطت بهم عساكره ترميهم بالسهام وتناوشهم القتال فلم يخرجوا، وأغار المسلمون على تلك الأعمال وتالوا منها ما لم يكونوا يطمعون فيه من الغنائم والنهب وعادوا، فأعطاهم دستوراً ليستريحوا، ودخل دمشق فأقام بها إلى شهر رجب من هذه السنة
(1)
.
وفى المرآة
(2)
: لما وصل السلطان إلى بيسان هرب أهلها، فقدم بين يديه جرديك النورى وجاولى الأسدى وجماعة من النورية، فجاءوا إلى عين جالوت والفرنج على الفولة
(3)
وصادفوا على عين جالوت طائفة من الإفرنج، فقتلوا منهم مقتلة عظيمة وأسروا مائة فارس. ورحل السلطان إلى الفولة يطلب المصاف، فتحصن الفرنج بالداخل
(4)
ولم يخرج منهم أحد، فرحل السلطان إلى الطور
(5)
لعله أن يخرج منهم أحد، فلما كان في الليل ساروا طالبين عكا، ورحل السلطان خلفهم يقاتل الساقة
(6)
، فقتل منهم جماعة، فدخلوا عكا وعاد السلطان على صعب
(7)
فنهب وأحرق وعاد إلى دمشق.
ذكر مسير السلطان إلى الكرك
وفى رجب من هذه السنة، سار السلطان إلى الكرك فحاصرها، وفى صحبته تقى الدين عمر ابن أخيه، وقد كتب إلى أخيه الملك العادل أبى بكر [8] ليحضر إليه؛ ليوليه حلب وأعمالها وفق ما كان طلبه منه، فحضر العادل إليه: واستمر الحصار على كرك مدة شهر رجب فلم يظفر منها بطلب، وبلغه أن الإفرنج كلهم اجتمعوا؛ ليمنعوا منه
(1)
انظر هذه الأحداث بالتفصيل في الكامل، جـ 10، ص 124؛ النوادر السلطانية، ص 63؛ الروضتين، جـ 2 ق 1، ص 163.
(2)
مرآة الزمان، جـ 8، ص 240.
(3)
الفُولة: بلدة بفلسطين من نواحى الشام. انظر: معجم البلدان، جـ 3، ص 924.
(4)
"الراحل" في الأصل. والمثبت من مرآة الزمان، جـ 8، ص 240. حيث ينقل العينى عنه.
(5)
الطور: جبل مشرف على نابلس بفلسطين. انظر: معجم البلدان، جـ 3، ص 557.
(6)
الساقة: جماعة كبيرة من العسكر، وراء العسكر الذى يقف فيه السلطان ويسمى الساقة أو الخلف، انظر: نظير سعداوى: جيش مصر في أيام صلاح الدين، ص 40.
(7)
"صيب" في مرآة الزمان، جـ 8، ص 240.
الكرك، فكر راجعاً إلى دمشق في منتصف شعبان، وسار معه أخوه العادل، وأرسل ابن أخيه الملك المظفر تقى الدين عمر إلى مصر، نائباً عنه، وفى صحبته القاضى الفاضل.
ووصل السلطان إلى دمشق وبعث أخاه العادل على مملكة حلب وأعمالها، واستقدم ولده الملك الظاهر إليه وكذلك نوابه ومن يعز عليه. وإنما أعطى السلطان صلاح الدين أخاه العادل حلب؛ ليكون قريبًا منه فإنه كان لا يقطع أمراً دون مشورته، واقترض
(1)
السلطان صلاح الدين من أخيه العادل مائة ألف دينار، وتألم الظاهر على مفارقة حلب، وكانت إقامته في حلب ستة أشهر، ولكنه لا يظهر ما في نفسه، ولكن يظهر ذلك على صفحات وجهه وفلتات لسانه.
(2)
وفى تاريخ بيبرس: لما توجه صلاح الدين إلى الكرك استدعى أخاه العادل أبا بكر من مصر، وكان قد أرسل إليه يطلب منه مدينة حلب وقلعتها فأجابه إلى ذلك وأمره أن يخرج معه بأهله وماله، فوافاه إلى الكرك في العسكر المصرى، فكثر جمعه وحصر الحصن من الربض
(3)
ونصب عليه المجانيق، ثم رحل عنه وعاد إلى دمشق واستصحب أخاه العادل معه، وسير ابن أخيه تقى الدين إلى مصر نائباً عنه، وأعطى أخاه العادل حلب وقلعتها وأعمالها ومنبج وأعمالها وسيره إليها، وأحضر ولده الظاهر منها إلى دمشق.
ذكر بقية الحوادث
منها: أن عز الدين مسعود صاحب الموصل قبض على نائبه مجاهد الدين قايماز وكان إليه الحكم في جميع البلاد، وكان الذى أشار عليه بذلك عز الدين محمود وشرف الدين [أحمد]
(4)
بن أبى الخير وهما من أكابر أمرائه لهوى أنفسهما، ولما أراد القبض عليه لم يقدم على ذلك لقوة مجاهد الدين، فأظهر أنه مريض وانقطع عن الركوب عدة
(1)
يذكر ابن العديم أن هذا المال الذى أخذه السلطان صلاح الدين من العادل هو ثمناً لحلب وذلك لحاجة السلطان للأموال من أجل إعداد وتجهيز الجيش، كما يذكر أن قيمته تبلغ ثلاثمائة ألف دينار مصرية. انظر: زبدة الحلب، جـ 3، ص 75.
(2)
انظر تفاصيل هذا الخبر في: الكامل، جـ 10، ص 124 - ص 125، طبعة بيروت؛ النوادر السلطانية، ص 63 - 64؛ الروضتين، جـ 2 ق 1، ص 166 وما بعدها؛ البداية والنهاية، جـ 12، ص 336.
(3)
الربض: ما حول المدينة من الخارج. ويذكر ياقوت أنه "قل ما تخلو مدينة من ربض". انظر: معجم البلدان، جـ 2، ص 750.
(4)
ما بين الحاصرتين إضافة من التاريخ الباهر، ص 183.
أيام فدخل إليه مجاهد الدين وحده، وكان لا يُمنع في الدخول عليه ولا على النساء، فلما دخل عليه قبض عليه وركب لوقته إلى القلعة واحتوى على الأموال التى لمجاهد الدين وخزائنه، وولى عز الدين محمود القلعة وجعل ابن صاحب العراق أمير حاجب، وكان تحت مجاهد الدين إربل وأعمالها، ومعه فيها يوسف بن زين الدين على، وهو صبى صغير ليس له من الحكم شيء، والحكم والعسكر إلى مجاهد الدين، وتحت حكمه أيضاً جزيرة ابن عمر، وهى لمعز الدين سنجر شاه بن غازى بن مودود، صبى صغير، وبيده أيضاً شهرزور [9] وأعمالها وبها نوابه، ودقوقا
(1)
وبها نائبه، وقلعة عقر الحميدية
(2)
ونائبه فيها، ولم يكن بقى لعز الدين صاحب الموصل بعد أن أخذ صلاح الدين البلاد الجزرية سوى الموصل، وكانت قلعتها بيد مجاهد الذين وهو على الحقيقة الملك، فلما قبض عليه عز الدين امتنع صاحب إربل والجزيرة من طاعته، وأرسل الخليفة
(3)
إلى دقوقا من حاصرها وأخذها، ولم يحصل لعز الدين مسعود مما كان بيد المجاهد قايماز غير شهرزور، وصارت إربل وجزيرة ابن عمر أضر شيء على صاحب الموصل، وأرسل صاحبها إلى صلاح الدين بالطاعة له والكون في خدمته.
وكان الخليفة الناصر لدين الله قد سير صدر الدين شيخ الشيوخ
(4)
ومعه بشير الخادم إلى صلاح الدين في الصلح مع عز الدين صاحب الموصل، فأجاب صلاح الدين إلى الصلح على أن تكون إربل والجزيرة معه، وتقرر الصلح. وإنما قوى طمع صلاح الدين في الموصل، لقبض صاحبها على مجاهد الدين، فلما تبين لعز الدين مسعود الضرر الذى ترتب على إمساك المجاهد قايماز، أمسك الذين أشاروا عليه باعتقاله، وأفرج عنه من الاعتقال، ثم رحل صلاح الدين عن الموصل
(5)
، ونازل سنجار على ما ذكرناه عن قريب.
(6)
(1)
دقوقاء: مدينة بين إربل وبغداد. معجم البلدان، جـ 2، ص 58.
(2)
عَقْر الحميدية: قلعة حصينة بالموصل. أبو الفدا: تقويم البلدان، ص 274.
(3)
يقصد بالخليفة "الناصر لدين الله".
(4)
شيخ الشيوخ: هو عبد الرحيم بن إسماعيل بن أبى سعد أحمد بن محمد النيسابورى، توفى سنة 580 هـ؛ انظر: الروضتين، جـ 2 ق 1، ص 135؛ النجوم الزاهرة، جـ 6، ص 98؛ مفرج الكروب، جـ 2، ص 162.
(5)
وردت هذه الأحداث بتصرف في الباهر، ص 183 - ص 184؛ الكامل، جـ 10، ص 126 - ص 128؛ زبدة الحلب، جـ 3، ص 76 - ص 77؛ النوادر السلطانية، ص 64 - ص 65.
(6)
وقد كان ابن شداد شاهد عيان للأحداث سابقة الذكر ويؤيد هذا قوله: "وكنا قد توسلنا إلى الخليفة الناصر لدين الله ........ وكنت مع القوم". انظر: النوادر السلطانية، ص 64 - ص 65.
ومنها: أنه سار أسطول من مصر في البحر، فلقوا بطسه فيها نحو من ثلاثمائة من الفرنج نجدة لفرنج الساحل، فقاتلوهم، فظفر بهم المسلمون وأخذوهم أسرى، فقتلوا بعضهم، وأبقوا بعضهم أسرى، وغنموا ما معهم وعادوا إلى مصر سالمين.
ومنها: أنه سارت جماعة كبيرة من الفرنج من نواحى الداروم
(1)
إلى نواحى مصر، ليغيروا وينهبوا، فسمع بهم المسلمون فخرجوا إليهم على طريق صدر
(2)
وأيلة، فانتزح الفرنج من بين أيديهم على ماء يقال له العُسيلة
(3)
وسبقوا المسلمين إليه، فأتاهم المسلمون وهم عطاش قد أشرفوا على الهلاك، فرأوا الفرنج قد ملكوا الماء، فأنشأ الله سحابة عظيمة بلطفه فمطروا منها حتى رَوُوا - وكان الزمان قيظًا والحر شديداً - وقاتلوا الفرنج فنصرهم الله عليهم، فقتلوهم ولم يسلم منهم إلا الشريد، وغنم المسلمون ما معهم من سلاح ودواب وعادوا منصورين قاهرين بفضل الله ورحمته.
(4)
ومنها: أن الخليفة أمر في ذى الحجة أن لا يستخدم في الديوان يهودى ولا نصرانى، ولا يستعمل بهم في عمل من الأعمال، فأنهى إليه أن ابن رُطينا ليس له نظير في الكتابة، فكتب على المطالعة "مات ابن رطينا إيش نعمل نبطل الديوان" فأسلم ابن رطينا يومئذ.
(5)
وفيها [10] حج بالناس ...............................................
(6)
ذكر من توفى فيها من الأعيان
الأبله الشاعر
(7)
: أبو عبد الله محمد بن بختيار بن عبد الله، المولّد، المعروف بالأبله البغدادى، الشاعر المشهور، أحد المتأخرين المجيدين، جمع في شعره بين الصناعة والرقة، وله ديوان شعر بأيدى الناس كثير الوجود، ومن شعره:
(1)
الداروم، قلعة بعد غزة للقاصد إلى مصر، الواقف فيها يرى البحر. انظر: معجم البلدان، جـ 2، ص 525.
(2)
صدر: قلعة خراب بين القاهرة وأيلة. ياقوت: معجم البلدان، جـ 2، ص 375.
(3)
العُسيلة: ماء في جبل القنان شرقى سميراء. انظر: معجم البلدان، جـ 3، ص 678.
(4)
انظر: الكامل، جـ 10، ص 120 - ص 121.
(5)
انظر: مرآة الزمان، جـ 8، ص 241.
(6)
بياض في الأصل بمقدار نصف سطر.
(7)
الأبله الشاعر: هو أبو عبد الله محمد بن بختيار بن عبد الله المولّد المعروف بالمولد الأبله البغدادى، توفى سنة 579 هـ وقيل 580 هـ. انظر: وفيات الأعيان، جـ 4، ص 463؛ شذرات الذهب، جـ 4، ص 266؛ النجوم الزاهرة، جـ 6، ص 95.
زار من أحيا بزَرْتَه
…
والدجي في لون طرته
قمرُ يَثْنى معانقُهُ
…
بانة في ثني بُرْدِته
بتُّ استجلى المُدام علَى
…
غِرّة الواشي وغُرَّته
يا لها من زَوْرةٍ قصُرت
…
فأماتت طول جَفْوَتِه
حين حلت عقد مصطبري
…
عقدت من سحر مقلته
آه من خصرٍ له وعلى
…
خصرٍ
(1)
من برْد ريقته
يا له في الحسن من صنم
…
كلُّنا في جاهليَّته
(2)
وفي المرآة
(3)
: وكأن الأبله يصحب حاجب الباب ابن الدوامي ويمدحه، خرج معه بستان بباب محول
(4)
، وكانت ليلة مقمرة فأخذ ينشد لابن الدوامي قصائد منها: زار من أحيي إلى آخره. فلما أنهاها قال له ابن الدوامي: يا حجة العرب هذه القصيدة لك. فقال: نعم. فصاح صائح من داخل البستان: يكذب ما هي له. فخاف ابن الدوامي وغلمانه وقاموا إلى الباب وهو مغلق فطافوا البستان فلم يروا أحدًا فعادوا وجلسوا، فقال له ابن الدوامي: أنشدنا أخرى، فأنشده، فقال: هذه لك؟ قال: نعم. فصاح ذلك الصوت بعينه: يكذب ما هي له. فقاموا وفتشوا فلم يجدوا
(5)
أحدًا. فقال: أنشدنا أخرى، فأنشده ثالثة، فقال: هذه لك؟ قال: نعم. فصاح ذلك الصوت بعينه: يكذب ما هي له. فقال الأبله: خبره ما هي لي، فلمن هي؟ فقال: لي. قال: ومن أنت؟ قال: شيطانك الذي أعلمك قول الشعر. فقال له: صدقت، والله يحفظك علىَّ ولا يفرق بيني وبينك.
قال: ابن الرومي الشاعر
(6)
: مرض الأبله، فدخلت عليه أعوده، فقال: ما بقيت أقدر أنظم شيئًا. قال: فقلت فما سببه؟ قال: إن تابعي قد مات. وتوفي بعد ذلك في جمادى الآخرة وترك ثلاثة آلاف دينار.
(1)
"رشفة" في وفيات الأعيان، ج 4، ص 463.
(2)
انظر هذه الأبيات في: وفيات الأعيان، ج 4، ص 463؛ مرآة الزمان، ج 8، ص 242.
(3)
مرأة الزمان، ج 8، ص 262 - ص 263.
(4)
باب محول: محلة كبيرة من محال بغداد كانت متصلة بالكرخ. معجم البلدان، ج 1، ص 451.
(5)
"يروا" في الأصل. والمثبت من مرآة الزمان، ج 8، ص 263 حيث ينقل العيني عنه.
(6)
هو ياقوت بن عبد الله الرومي، أبو الدر، الملقب مهذب الدين، من أهل بغداد. توفي في بغداد سنة 922 هـ. انظر: الزركلي: الأعلام، ج 9، ص 157.
قال السبط
(1)
: والدليل على صحة هذه الحكاية قول الشاعر:
إني وكل شاعر من البشر
…
شيطانه أنثى وشيطاني ذَكْر
ومن أبياته السائرة قوله:
لا يَعرف الشوق إلا من يكابده
…
ولا الصبابة إلا من يعانيها
(2)
.
وفي تاريخ ابن كثير
(3)
: وكانت [وفاته]
(4)
في سنة تسع وسبعين وخمسمائة ببغداد، ودفن بباب أبرز محاذى التاجية، وقيل في سنة ثمانين وخمسمائة. وكان له ميل إلى بعض أبناء البغاددة، فعبر على بابه [فوجد
(5)
] خلوة، فكتب على الباب: قال العماد الكاتب [11] أنشدينها:
دارك يا بدر الدجى جنة
…
بغيرها نفسي ما تلهو
وقد روُيْ في خبرٍ أَنُّه
…
أكثر أهل الجنة البُلْهُ
وإنما قيل له أبله؛ لأنه كان فيه طرف بَلهٍ، وقيل لأنه كان في غاية الذكاء، وهو من أسماء الأضداد. كما قيل للأسود: كافور.
(6)
وكان يتزيا بزى الجند.
الأمير شاهرمن: اسمه سقمان بن ظهير الدين بن إبراهيم بن سقمان القطبي، صاحب [خلاط]
(7)
، توفي في هذه السنة
(8)
وعمره أربع وستون سنة، وكان ملكه لها في سنة إحدى وعشرين وخمسمائة. وكان بكتمر
(9)
مملوك أبيه بميافارقين لما مات شاهرمن، فلما سمع بموته سار من ميافارقين ووصل إلى خلاط، وكان أكثر أهلها
(1)
انظر: مرآة الزمان، ج 8، ص 242 - ص 243.
(2)
وفيات الأعيان، ج 4، ص 414.
(3)
لم يرد هذا النص في ابن كثير كما أشار العيني، وإنما ورد في ابن الأثير، الكامل، ص 125؛ وفيات الأعيان، ج 4، ص 465.
(4)
ما بين الحاصرتين إضافة لتوضيح المعنى.
(5)
"فوجدها في الأصل. والمثبت من وفيات الأعيان، ج 4، ص 465.
(6)
ورد هذا النص بتصرف في وفيات الأعيان، ج 4، ص 465.
(7)
أخلاط في الأصل، والمثبت من: النوادر السلطانية، ص 69؛ المختصر، ج 3، ص 27. وخلاط: بلدة عامرة وهي قصبة أرمينية الوسطى. انظر: معجم البلدان، ج 2، ص 457.
(8)
أورد هذه الأحداث كل من ابن شداد، وأبو شامة، وابن واصل في حوادث سنة 581 هـ. انظر النوادر السلطانية، ص 69؛ مفرج الكروب، ج 2، ص 168؛ الروضتين، ج 2 ق 1، ص 204؛ الكامل، ج 10، ص 131.
(9)
بكتمر يسمى "سيف الدين بكتمر". انظر: الكامل، ج 10، ص 209؛ مفرج الكروب، ج 2، ص 168.
يريدونه، وكانت مماليك شاهر من متفقين معه، فأول وصوله استولى على خلاط وملكها، وجلس على كرسي شاهر من، واستقر في ملكه حتى قتل في سنة تسع وثمانين وخمسمائة كما سنذكره إن شاء الله
(1)
تعالى.
تاج الملوك بوري بن أيوب، أخو السلطان صلاح الدين يوسف أيوب، وكنيته أبو سعيد، ولد في ذي الحجة سنة ست وخمسين وخمسمائة، وكان الله تعالى قد جمع فيه مكارم الأخلاق، ولطف طباع، وكرمًا وشجاعة، وفضلًا وفصاحة. وكان أديبًا شاعرًا مترسلًا. وله ديوان شعر ذكره العماد في الخريدة وأثنى عليه وأنشد مقطعات من شعره.
منها: في شهر رمضان:
رمضان بل مرضان إلا أنهم
…
غلطوا إذن في قولهم وأساؤا
مرضان فيه تخالف فنهاره
…
سيل
(2)
وأما ليله استسقاء
وقال:
شربت من الفراتْ ونيل مصر
…
أحب إلىَّ من شط الفرات
ولي في مصر من أصبو إليه
…
ومن في قربه أبدًا حياتي
فقلت وقد ذكرت زمان وصلٍ
…
تمادي بعده روح الحياةِ
أرى ما أشتهيه يَفِرُّ منى
…
ومَنْ لا أشتهيه إلىَّ يأتي
وقال وقد بالغ:
يا غزالاً يميت طورًا ويحيى
…
وهو برء السقام سقم الصحيح
هذه المعجزات ليست لظبي
…
إنما هذه فعال المسيح
(3)
وقال ابن خلكان
(4)
: وكان بوري أصغر أولاد أبيه، كانت فيه فضيلة، وله ديوان شعر، فيه الغث والسمين، لكنه بالنسبة إلى مثله جيد.
(1)
ورد هذا النص يتصرف في المختصر، ج 2، ص 67.
(2)
وردت هذه الأبيات في مراة الزمان، ج 8، ص 241.
(3)
مرآة الزمان، ج 8، ص 241 - 242.
(4)
وفيات الأعيان، ج 1، ص 290 - ص 291 ترجمة رقم 121.
وله في أحد مماليكه وقد أقبل من جهة الغرب راكبًا فرسًا أشهب:-
أقبَلَ منْ أعشقهُ راكبًا
…
من [جهة
(1)
] الغرب على أشهبِ
فقلتُ سبحانَك يا ذا العُلى
…
أشرقَتِ الشمسُ من المغربِ
[12]
وله:
يا حياتي حين تَرْضي
…
ومَماتيِ حين تسْخَطْ
آهِ من ورد على [خدَّ
…
يك
(2)
] بالمِسْكِ مُنَقّط
بين أجفانك سُلْطا
…
ن على ضَعْفي مُسَلّط
قد تصبرت وإن بَرّ
…
حَ بي الشوق وأَفْرط
فلعل الدهْرَ يَوْمًا
…
بالتلاقي منكَ يَغْلَط
وله أشياء حسنة، وتوفي يوم الخميس الثالث والعشرين من صفر من هذه السنة على مدينة حلب، من جراحة أصابته، لما حاصرها أخوه السلطان صلاح الدين يوسف كما ذكرناه، وعمره ثلاث وعشرون سنة.
بُوري بضم الباء الموحدة، وسكون الواو، وكسر الراء وفي آخره ياء ساكنة، وهو اسم للذئب بلغة الترك.
(3)
*
(1)
"جانب" في الأصل. المثبت من ابن خلكان، وفيات الأعيان. ج 1، ص 291 حيث ينقل العينى عنه.
(2)
"خدك" في نسخة أ، ب. والمثبت من ابن خلكان حيث ينقل العيني عنه، وفيات الأعيان، ج 1، ص 291.
(3)
ورد هذا النص بتصرف في ابن خلكان: وفيات الأعيان، ج 1، ص 290 - 292 ترجمة 121؛ انظر: سبط ابن الجوزي: مرآة الزمان، ج 8، ص 241 - 242؛ ابن العماد: الشذرات، ج 4، ص 265؛ ابن كثير: البداية والنهاية، ج 12، ص 313.
(*) ويوجد بهامش الورقة 12 تعليق لعبد الله الحنفي نصه:
والصواب أن بوري بباء موحدة مفخمة تنقط على طريقة اللغة التركية بثلاث نقط من تحتها فهى به علم، فإن التلفظ بها غير التلفظ ببوري الذي ضبطه هو. ومن يعرف لسان الترك يتأمل هذا فيفهمه.
فصل فيما وقع من الحوادث في السنة الثمانين بعد الخمسمائة
(*)
استهلت هذه السنة والخليفة هو الناصر لدين الله، وأصحاب البلاد على حالهم غير أن صاحب ماردين وصاحب الغرب ماتا في هذه السنة.
ذكر وفاة صاحب ماردين
وهو قطب الدين إيلغازي
(1)
بن نجم الدين ألبي بن تمرتاش بن إيلغازي بن أرتق صاحب ماردين، وكان ملكًا جوادًا شجاعًا عادلًا منصفًا عاقلًا، توفي في جمادى الآخرة من هذه السنة. وكان
(2)
والده ألبي قد ملك في سنة سبع وأربعين وخمسمائة وبقي في ملك ماردين إلى مدة لم نقف على انتهائها، وملك بعده ابنه إيلغازي المذكور، واستمر فيها إلى أن مات في هذه السنة، وخلف أولادًا أطفالًا، فأقيم في الملك بعده ولده حسام الدين بولق أرسلان، وقام بتدبير المملكة وترتيبها مملوك والده نظام الدين ألبقش حتى كبر بولق أرسلان وكان به هرج وخبط، فمات. وأقام ألبقش بعده أخاه الأصغر ناصر الدين ارتق أرسلان بن إيلغازي ولم يكن له حكم بل الحكم إلى ألبقش وإلى مملوك الألبقش اسمه لؤلؤ، وكان قد تغلب على أستاذه ألبقش، بحيث كان لا يخرج ألبقش عن رأي لؤلؤ المذكور. ولم يكن لناصر الدين أرتق أرسلان صاحب ماردين في الحكم شيء، وبقي الأمر كذلك إلى سنة إحدى وستمائة فمرض ألبقش وأتاه ناصر الدين يعوده، فلما خرج من عنده خرج معه لؤلؤ فضربه ناصر الدين بسكين فقتله، ثم عاد إلى ألبقش فقتله وهو مريض، واستقل ناصر الدين أرتق أرسلان يملك ماردين من غير منازع.
وفي تاريخ بيبرس: لما مات قطب الدين إيلغازي، ملك بعده ابنه حسام الدين بولق
(3)
أرسلان وهو طفل، وقام بتربيته وتدبير ملكه نظام الدين ألبقش مملوك أبيه. وكان شاه أرمن - صاحب خلاط - خال قطب الدين فحكم في دولته، وأحسن ألبقش تربية الولد، وتزوج بأمه، فلما كبر الولد لم يمكنه البقش من المملكة لأنه كان أهوج. ولم يزل
(*) يوافق أولها 14 إبريل 1184 م.
(1)
انظر: شذرات الذهب، ج 4، ص 298، حوادث سنة 580 هـ؛ النجوم الزاهرة، ج، ص 97.
(2)
وردت هذه الأحداث في الكامل، ج 10، ص 129؛ المختصر، ج 3، ص 68.
(3)
"يولق" كذا في زبدة الحلب، ج 3، ص 82؛ مفرج الكروب، ج 2، ص 165.
الحال كذلك إلى أن مات الولد المذكور، وكان له أخ صغير أصغر منه أسمه قطب الدين، فرتبه ألبقش مكانه والله أعلم.
(1)
ذكر وفاة صاحب الغرب
هو أبو يعقوب يوسف ابن السلطان عبد المؤمن [13] بن على القيسي الكومي
(2)
، توفي في هذه السنة، وذلك أنه سار في هذه السنة إلى بلاد الأندلس، وعبر البحر في جمع عظيم من عساكره وقصد بلاد الإفرنج، فحصر شنترين
(3)
من غرب الأندلس، وأصابه مرض فمات منه في ربيع الأول من هذه السنة، وحمل في تابوت إلى مدينة إشبيلية
(4)
وكانت مدة مملكته اثنتين وعشرين سنة وشهورًا
(5)
. وكان فقيهًا حافظًا متفننًا
(6)
؛ لأن أباه هذبه وقرن به وبإخوته أكمل رجال الحرب والمعارف، فنشأوا في ظهور الخيل بين أبطال الفرسان، وفي قراءة العلم بين أفاضل العلماء. وكان ميله إلى الحكمة والفلسفة أكثر من ميله إلى الأدب وبقية العلوم، وكان جمّاعًا متّاعًا ضابطًا لخراج مملكته، عارفًا بسياسة رعيته. وكان ربما يحضر حتى لا يكاد يغيب، ويغيب حتى لا يكاد يحضر، وله في غيبته نواب وخلفاء وحكام قد كان يفوِّض الأمور إليهم لما علم من صلاحهم لذلك. والدنانير اليوسفية المغربية منسوبة إليه.
ثم إنه لما تمهدت له الأمور واستقرت قواعد ملكه، استرجع بلاد المسلمين من أيدي الإفرنج، لعنهم الله، وكانوا قد استولوا عليها. فاتسعت مملكته بالأندلس، وصارت سراياه تصل مغيرة إلى باب طليطلة
(7)
، وهي كرسي بلادهم وأعظم قواعدهم، ثم إنه حاصرها، فاجتمع الإفرنج كافة عليه، واشتد الغلاء في عسكره، فرجع عنها، وعاد
(1)
ورد هذا الحدث بتصرف في الكامل، ج 10، ص 129؛ المختصر، ج 3، ص 68.
(2)
هو أبو يعقوب يوسف بن أبي محمد عبد المؤمن بن على القيسي الكومى صاحب المغرب. انظر: وفيات الأعيان، ج 7، ص 130 - ص 138.
(3)
شنترين: كلمتان مركبة من شئت كلمة ورين كلمة. مدينة متصلة الأعمال بأعمال باجة في غربي الأندلس ثم غربي قرطبه وعلى نهر تاجة، ياقوت: معجم البلدان، ج 2، ص 327.
(4)
إشبيلية: مدينة كبيرة، بها قاعدة ملك الأندلس وسريره وهى غربي قرطبة. انظر: معجم البلدان، ج 1، ص 275.
(5)
"وشهرا" في الكامل، ج 10، ص 127.
(6)
"متقننًا" كذا في وفيات الأعيان، ج 7، ص 130.
(7)
طليطلة: مدينة كبيرة ذات خصائص محمودة بالأندلس، وكانت قاعدة ملوك القرطبيين وكرسي بلادهم وموضع قرارهم. انظر: معجم البلدان، ج 3، ص 545؛ وفيات الأعيان، ج 7، ص 131.
إلى مراكش
(1)
. وفي سنة خمس وسبعين قصد بلاد إفريقية وفتح مدينة قفصه، ثم دخل جزيرة الأندلس فحاصر مدينة شنترين شهرًا وذلك في سنة ثمانين وخمسمائة، وكان معه جمع كثيف، فأصابه مرض فمات منه في ربيع الأول كما ذكرنا. وشَنْتَرين بفتح الشين المعجمة وسكون النون وفتح التاء المثناة من فوق وكسر الراء وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره نون، وهي مدينة في غرب الأندلس
(2)
. قال ابن حوقل في كتاب المسالك والممالك: إن شنترين على البحر المحيط وبها يقع العنبر، ولا يعلم ببلد الروم والمحيط عنبر يقع في غير هذا الموضع. ويقع بشنترين في وقت من السنة دابة تحك الحجارة في وسط البحر، فيقع بها وبره في لين الخز ولون الذهب، فيجمع منه ما يُغْزَل وينسج ثيابًا، ويتلون الثوب ألوانًا. وكان ملوك بني أمية بالأندلس يحجرون عليه فلا ينقل ولا يشترى، ويزيد الثوب على ألف دينار لعزته وحسنه.
(3)
وقال ابن خلكان
(4)
: حكي لي بعض الفضلاء من أهل الأندلس أنه رأى قطعة من هذه الثياب هناك، وأراد أن يصفها لي فما قدر [أن]
(5)
يعبر عنها، ثم قال: لكنها أرفع وأنعم من نسج العنكبوت. .
ذكر تولية ابنه يعقوب
ولما مات أبو يعقوب يوسف
(6)
المذكور، مات من غير وصية بالملك لأحد من أولاده، فاتفق رأي الموحدين على تمليك يعقوب ولده فملكوه، فقام بالملك أحسن قيام، وأقام راية الجهاد، وأحسن السيرة في الناس، وكان دينًا مقيمًا للحدود، فاستقامت له الأحوال وانقادت إليه الأندلس بأسرها مع سعة أقطارها، وشَحْن ثغورها بالرجال،
(1)
مرَّاكُشُ: مدينة بالمغرب وأجلها، وبها سرير ملك بني عبد المؤمن، وهي في البر الأعظم بينها وبين البحر عشرة أيام في وسط بلاد البربر. انظر: معجم البلدان، ج 4، ص 478.
(2)
ورد هذا النص بتصرف في وفيات الأعيان، ج 7، ص 131 - ص 138.
(3)
ابن حوقل: كتاب صورة الأرض، ص 110، ط. ليدن 1928 م. كما ورد هذا النص في وفيات الأعيان، ج 7، ص 138.
(4)
وفيات الأعيان، ج 7، ص 138.
(5)
ما بين الحاصرتين إضافة من وفيات الأعيان، ج 7، ص 138.
(6)
هو أبو يوسف يعقوب بن أبي يعقوب يوسف بن أبي محمد عبد المؤمن بن على القيسي الكومي صاحب بلاد المغرب توفي سنة 590 هـ. انظر: وفيات الأعيان، ج 7، ص 3 - ص 19.
وأصلح أحوالها [14] وعاد إلى مراكش. وكان عادلاً دينًا محبًا للعلماء، فاستقامت له الأحوال إلى أن توفاه الله تعالى، وكانت كنيته أبا يوسف
(1)
قال ابن كثير: ملكوه في الوقت الذي مات فيه أبوه، لئلا يكونوا بغير ملك يجمع كلمتهم لقربهم من العدو، فقام بالملك أحسن قيام.
(2)
ذكر غزوة صلاح الدين يوسف الكرك مرة أخرى ثانية
وذلك لأنه رأى أن فتحها الآن أنفع للمسلمين؛ فإن الفرنج الذين فيها يقطعون الطريق على الحجيج والتجار في البراري والبحار، فأرسل إلى العساكر الحلبية والجزرية والمصرية. فقدم تقي الدين عمر من مصر، وكان نائبه فيها كما ذكرنا، ومعه القاضي الفاضل. وجاء من حلب الملك العادل أبو بكر أخوه. وقدمت ملوك الجزيرة وسنجار وتلك النواحي والأقطار [كلها]
(3)
وأخذها كلها مع جيشه، فسار بهم إلى الكرك فأحدقوا بها في رابع عشر جمادى الأولى من هذه السنة، وركَّب عليها المجانيق وكانت تسعة، وأخذ في حصارها وضيق على أهلها، واشتد القتال فملك المسلمون الربض وبقي الحصن، وله خندق عمقه ستون ذراعًا، فألقي فيه الأحجار والأخشاب والأتربة. ورأي الفرنج شدة القتال وعرفوا عجزهم عن حفظ الحصن، فأرسلوا إلى ملكهم وفرسانهم يستمدونهم فاجتمعوا من كل مكان. فلما بلغ صلاح الدين خبر مسيرهم رحل عن الكرك إلى طريقهم، ليقاتلهم ويعود بعد أن يهزمهم إلى الكرك، فقرب منهم ولم يمكنه الدنو منهم لضيق الأرض وصعوبتها، وانتظر خروجهم من ذلك المكان فلم يخرجوا. فرحل وسار إلى مدينة نابلس، ونهب كل ما على طريقه من البلاد، فلما وصل إلى نابلس أحرقها وأخربها، وقتل وأسر وسبي
(4)
. وسار إلى سبسطية
(5)
، وبها مشهد
(1)
ورد هذا النص بتصرف في الكامل، ج 10، ص 129.
(2)
نقل العينى هذا النص بتصرف من البداية والنهاية، ج 12، ص 336.
(3)
"كله" في الأصل.
(4)
الكامل، ج 10، ص 127 - ص 128؛ كما ورد هذا النص بإطناب في الروضتين نقلاً عن العماد الأصفهاني، انظر: الروضتين، ج 2 ق 1، ص 178 - ص 183؛ البداية والنهاية، ج 12، ص 339.
(5)
سبسطية: بلدة من نواحي فلسطين بينها وبين البيت المقدس يومان وبها قبر زكريا ويحيى عليهما السلام. انظر: معجم البلدان، ج 3، ص 33.
زكريا عليه السلام، وكان فيها جماعة أسرى من المسلمين فاستنقذهم، وكان بها الأقساء
(1)
والرهبان وعندهم الودائع، فطلبوا الأمان، فأمَّنهم على أن يطلقوا من عندهم من الأسرى، ثم سلك الغور وطلع على عقبة فيق
(2)
، وعاد على دمشق.
وفي تاريخ بيبرس: لما فرغ من سبسطية رحل إلى جينين
(3)
، فنهبها وعاد إلى دمشق، وبث سراياه يمينًا وشمالاً يغنمون ويخربون
(4)
وفي تاريخ ابن كثير
(5)
: لما كان صلاح الدين على الكرك، بلغه أن الفرنج قد اجتمعوا له كلهم فارسهم وراجلهم، ليمنعوا منه الكرك، فانشمر عنها، وقصدهم ونزل على حُسبان
(6)
تجاههم، ثم صار إلى ماء عين، فانهزمت الفرنج قاصدين إلى الكرك فأرسل وراءهم من قتل منهم مقتلة عظيمة. وأمر السلطان للجيوش بالإغارة على السواحل الخلوها من المقاتلة، فنهبوا نابلس وما حولها من القرى
(7)
والرساتيق
(8)
، ثم عاد السلطان إلى دمشق وأذن للعساكر بالانصراف إلى بلدانهم. وأمر ابن أخيه تقي الدين عمر - الملك المظفر - أن يعود إلى مصر بعسكره، وكذلك أمر لأخيه العادل أن يعود إلى حلب. وأقام السلطان بدمشق ليؤدي فرض الصيام، وقدمت على السلطان خلع الخليفة فلبسها، وألبس أخاه الملك العادل، وابن عمه ناصر الدين محمد بن شيركوه، [15] ثم خلع السلطان خلعة على نور الدين بن قرا أرسلان
(9)
صاحب حصن كيفا وخِرْت برْت وآمد التي أطلقها له السلطان.
(1)
الأقساء: جمع قس. الفيروزبادي، القاموس المحيط مادة "قسيس".
(2)
عقبة فيق، ينحدر جزء منها إلى غور الأردن، وجزء آخر يشرف على طبرية وبحيرتها، انظر: معجم البلدان، ج 3، ص 932.
(3)
جينين: بلدة حسنة بين نابلس وبيسان من أرض الأردن بها عيون ومياة. معجم البلدان، ج 2، ص 180.
(4)
ورد هذا النص بتصرف في الكامل، ج 10، ص 128.
(5)
البداية والنهاية، ج 12، ص 339.
(6)
حُسبان: بضم الحاء وسكون السين المهملتين وفتح الباء الموحدة، قاعدة البلقاء، وهي بلدة صغيرة ولها واد به أشجار. أبو الفدا: تقويم البلدان، ص 227 - ص 228.
(7)
"القرايا" في الأصل. والمثبت من البداية والنهاية، ج 12، ص 336.
(8)
الرساتيق، القرى والمزارع.
(9)
"ناصر الدين بن قرا أرسلان صاحب حصن كيفا وآمد"، في البداية والنهاية، ج 12، ص 336. والصحيح ما ذكره أبو شامة "نور الدين محمد بن قرا أرسلان بن داود بن سليمان بن أرتق صاحب حصن كيفا وخرت برت. انظر: الروضتين، ج 2 ق 1، ص 197؛ النوادر السلطانية، ص 97؛ مرآة الزمان، ج 8، ص 244.
وفي المرآة
(1)
: وكان عند صلاح الدين رسل الخليفة؛ شيخ الشيوخ عبد الرحيم، ويشير الخادم، وكانا مريضين فطلبا العود إلى بغداد فأذن لهما، فمات بشير [بالسخنة]
(2)
وشيخ الشيوخ بالرحبة.
وذكر في النوادر السلطانية
(3)
: أن دخول السلطان صلاح الدين إلى دمشق كان يوم السبت سابع جمادى الأخرى من سنة ثمانين وخمسمائة. وفي هذا الشهر وصل رسل الخليفة ومعهم الخلع. وفيه أيضًا وصلت رسل ابن زين الدين مستصرخًا إلى السلطان، يخبرون أن عسكر الموصل وعسكر قزل نزلوا على إربل مع مجاهد الدين قايماز، وأنهم نهبوا وأحرقوا، وأنه نصر عليهم وكسرهم.
ذكر بقية الحوادث
ومنها أنه وقع الصلح بين صلاح الدين وصاحب طرابلس، وذلك قبل مسيره إلى الكرك. ومنها أنه خرج على بن إسحاق
(4)
المعروف بابن [غانية]
(5)
وهو من أعيان الملثمين الذين كانوا ملوك المغرب، وهو حينئذ صاحب جزيرة ميورقة
(6)
إلى بجاية فملكها. وسبب ذلك أنه لما سمع بوفاة يوسف بن عبد المؤمن عمَّر أسطوله فكان عشرين قطعة، فسار في جموعه فأرسى في ساحل بجاية، وخرجت خيله ورجاله من الشواني، وكانوا نحو مائتي فارس من الملثمين وأربعة آلاف راجل، فدخل بجاية بغير قتال لأن واليها كان قد سار قبل ذلك بأيام إلى مراكش، ولم يترك فيها جيشًا ولا ممانعًا لعدم عدو يحفظها منه. فجاءها الملثم ولم يكن في حسابهم أنه يُحَدِّث نفسه بذلك، فأرسى بها ووافقه جماعة من بقايا دولة بني حماد وصاروا معه وقويت نفسه بهم، فسمع به والى بجاية، فعاد من طريقه ومعه من الموحدين ثلاثمائة نفر، وجمع من العربان التي في
(1)
أوجز العينى كتابة هذا النص من مرآة الزمان، ج 8، ص 244، إلا أن النص ورد مفصلاً في الكامل، ج 10، ص 129 - ص 130.
(2)
"بالسبخة" في الأصل، والمثبت من الروضتين، ج 2، ص 185. والسُخْنّة بلدة في برية الشام بين تدمر وعُرض. انظر: معجم البلدان، ج 3، ص 52.
(3)
نقل العيني هذا النص بتصرف من النوادر السلطانية، ص 66 - ص 67.
(4)
هو على بن سحق بن حَمّو الميورقي بن على، ويعرف بابن غانية الصنهاجي صاحب ميورقة، منورقة، ويابسة، توفي سنة 580 هـ. انظر: وفيات الأعيان، ج 7، ص 18.
(5)
"عائشة" كذا في الأصل وما بين الحاصرتين من الكامل، ج 10، ص 128.
(6)
ميورقه: جزيرة في شرقي الأندلس. معجم البلدان، ج 4، ص 720.
تلك الجهات نحو ألف فارس والتقوا فهزمهم الملثم، فساروا إلى مراكش، واستقر الملثم في بجاية، وجمع جيشه وخرج إلى أعمال بجاية، فأطاعه جميعها إلا [قسنطينية]
(1)
الهواء فحاصرها، وجاء جيش من الموحدين من مراكش إلى بجاية في البر والبحر، وكان بها يحيى وعبد الله أخوا علي ابن إسحاق الملثم، فخرجا منها هاربين ولحقا بأخيهما فرحل [عن قسنطينية]
(2)
وسار إلى إفريقية. وكان سبب إرسال الجيش من مراكش أن والى بجاية وصل إلى يعقوب بن يوسف صاحب الغرب، وعرَّفه ما جرى ببجاية واستيلاء الملثمين عليها وخوفه عاقبة التواني، فجهز العساكر في البر في عشرين ألف فارس، والأسطول في البحر في خلق عظيم، فاستعادوها
(3)
.
ومنها أن في هذه السنة كتب زين الدين بن نجية الواعظ كتابًا من مصر إلى صلاح الدين يشوقه إليها، وكان السلطان بدمشق. قال:"أدام الله أيام مولانا السلطان الملك الناصر، وقرنها بالتأييد والنصر والتسديد، أقوى ما يشتاق مولانا إلى مصر ونيلها [16] وخيرها وسلسبيلها، ودار ملكه ودارة فلكه، وبحرها وخليجها، ونشرها وأريجها، ومقسم مقاسمها وأنيس إيناسها، وقصور معزها ومنازل عنها، وجيزتها وجزيرتها، وبركها وبركتها، وتعلق القلوب بَقْليوبها، واستلاب النفوس لأسلوبها، وملتقى البحرين ومرتقى الهرمين، وروضة جنانها وجنة رضوانها، ومشاهدها ومجامعها، ومساجدها وجوامعها، ونواظر بساتينها، ومناظر ميادينها، وساحات سواحلها، وآيات فضائلها"
(4)
.
وذكر ابن نجية كلامًا طويلاً من هذا الجنس. فكتب إليه السلطان: "ورد كتاب الفقيه زين الدين أدام الله توفيقه، لا ريب أن الشام أفضل، وأن أجر ساكنه أجزل، وأن القلوب إليه أميل، وأن زلاله البارد [أَعَلُّ]
(5)
وأنهل، وأن الهواء في صيفه وشتائه أعدل،
(1)
"قسطينة" في الأصل. والمثبت هو الصحيح. وقسنطينية هي آخر مملكة بجاية وأول مملكة إفريقيا ويقال لها قسنطينية الهواء. انظر أبو الفدا: تقويم البلدان، ص 138 - ص 139؛ معجم البلدان، ج 4، ص 399، ط. دار صادر، بيروت.
(2)
"إلى قسطينة" كذا في الأصل. والمثبت من الكامل، ج 10، ص 129؛ معجم البلدان، ج 4، ص 369 ..
(3)
ابن الأثير، الكامل، ج 10، ص 128 - ص 129.
(4)
يشير العماد الأصفهاني إلى أن خطاب زين الدين الواعظ وقع في يده ولكن فقد منه، بدليل قوله "ولو ظفرت به الأوردته بلفظه وجلوته بوعظه لكنني فقدته فعزمت معانيه وأحكمت مبانيه" انظر: الروضتين، ج 2 ق 1، ص 189؛ كما وردت هذه الرواية بتصرف في مرآة الزمان، ج 8، ص 263.
(5)
"أعلا" في الأصل. والمثبت من الروضتين، ج 2 ق 1، ص 190.
وأن الجمال فيه أجمل والجمال به أكمل
(1)
، وأن القلب به أروح والروح به أقبل. ودمشق فعاشقها مستهام، وما على محبّها ملام، وما في ربوتها ريبة، ولكل نور فيها شيبه
(2)
]. وساجعاتها على منابر الورق خطباء تطرب، وهزاراتها وبلابلها تُعجم وتُعرب، وكم فيها من جواري ساقيات وسوائي جاريات، وثمار بلا أثمان، وروح وريحان، وفاكهة ورمان، وخيرات حسان، وكون الله أقسم به فقال {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ}
(3)
يدل على فضله المكنون. وقال صلى الله عليه وسلم "الشام صفوة الله من بلاده فشوق إليها خيرته من عباده"
(4)
. وعامة الصحابة رضي الله عنهم اختاروا المقام بالشام. وفتح دمشق بكر الإسلام، وما تُنكر أن الله ذكر مصر ولكن على لسان فرعون بقوله "أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ
(5)
" لكن خرج هذا مخرج العتب له والذم، ألا ترى أن يوسف عليه السلام البعاد نقل منها إلى الشام، ثم المقام بدمشق أقرب إلى الرباط، وأوجب للنشاط. وأين قطوم المقطم من سناء سنير [وأين ذرا منف من ذروة الشرف المنيف]
(6)
، وأين لبانة
(7)
لبنان من الهرمين، وهل هما إلا مثل السلعتين. وهل للنيل من طول نيله وطول ذيله برد [بردي]
(8)
في نفع العليل، وما لذاك الكثير طلاوة هذا القليل. وإن فاخرنا بالجامع وقبة النسر ظهر بذلك قِصَرُ القصر، ولو كان لهم مثل [باناس]
(9)
لما احتاجوا إلى قياس المقياس.
ونحن لا نجفو الوطن كما جفاه، ولا نأبى فضله كما أباه، وحب الوطن من الإيمان. ونحن لا ننكر أن إقليم مصر إقليم عظيم الشأن، ولكن نقول كما قال المجلس الفاضلي: دمشق تصلح أن تكون بستانًا لمصر، ولا شك أن أحسن ما في البلاد
(1)
"وأن الجمال فيه أكمل، والكمال فيه أجمل" في الروضتين ج 2 ق 1، ص 190.
(2)
"شبيبته" في الروضتين، ج 2 ق 1، ص 190.
(3)
سورة التين، آية رقم (1).
(4)
انظر: مسند أحمد بن حنبل، ج 2، ص 90، ص 118، ص 126، ص 129.
(5)
سورة الزخرف، آية رقم (51)
(6)
"واين دار منف من ذروة الشرف المتين" كذا في الأصل. والمثبت من الروضتين، ج 2 ق 1، ص 191.
(7)
البَانُ: ضرب من الشجر سَبْط القوام، واحدته بانة، وتُشَبَّهُ به الحِسان في الطول واللين. المعجم الوجيز، مادة (البان).
(8)
"بردا" في الأصل.
(9)
"بانياس" في الأصل. والمثبت من الروضتين، ج 2 ق 1، ص 191. وباناس: من أنهار دمشق، وهو أحد أفرع نهر بردي. انظر: معجم البلدان، ج 1، ص 330، ص 378، ط. دار صادر.
البستان. ولعل زين الدين يرجع إلى الحق ويوافق على ما هو الأحق
(1)
. وقال السبط
(2)
: عاتب السلطان على ابن نجية كون أصله ومنشأه بدمشق وفضل عليها مصر، [17] وليست من طارفه ولا من بلاده، وقد كان أولى أن يتشوق إلى السلطان من غير وصف لما فيه مضاهاة لوطنه وبلاده
(3)
.
وفيها
(4)
..................................
وفيها حج بالناس الأمير طاشتكين أميرًا على الركب العراقي من دار الخلافة.
ذكر من توفي فيها من الأعيان
شيخ الشيوخ صدر الدين [عبد الرحيم]
(5)
بن إسماعيل بن أبي [سعد]
(6)
أحمد، كان قد سافر من عند الخليفة إلى السلطان صلاح الدين يوسف في رسالة ومعه بشير الخادم، ليصلحا بين السلطان صلاح الدين وبين عز الدين مسعود صاحب الموصل، فلم ينتظم حال، فاتفق أنهما مرضا بدمشق وطلبا المسير إلى العراق وسارا في الحر، فمات بشير الخادم بالسخنة، ومات صدر الدين بالرحبة بمشهد البوق
(7)
. وكان أوحد زمانه جمع بين رئاستي الدين والدنيا.
شهاب الدين بشير الخادم مات في هذه السنة على ما ذكرناه الآن.
[قطب الدين]
(8)
إيلغازي صاحب ماردين، وقد مر ذكره عن قريب.
السلطان أبو يعقوب صاحب المغرب وقد ذكرناه أيضًا [ ....... ]
(9)
والله أعلم.
(1)
ورد هذا النص مفصلًا في الروضتين، ج 2 ق 1، ص 187 - ص 192.
(2)
مرآة الزمان، ج 8، ص 244.
(3)
انظر: مرآة الزمان، ج 8، ص 266؛ ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة، ج 6، ص 97.
(4)
بياض في الأصل بمقدار سطر.
(5)
"عبد الرحمن" في الأصل والكامل، والمثبت من الروضتين، ج 2 ق 1، ص 185. وعبد الرحيم هو شيخ الشيخ: صدر الدين عبد الرحيم بن إسماعيل بن أبي سعد أحمد بن محمد النيسابوري؛ ولد سنة 508 هـ، وتوفي سنة 580، وانظر أيضًا: النجوم الزاهرة، ج، ص 97.
(6)
"سعيد" في الأصل، والمثبت من الروضتين، ج 2 ق 1، ص 185، والنجوم الزاهرة، ج 6، ص 97.
(7)
"النوق" في الأصل. والمثبت من الكامل، ج 10، ص 130؛ مفرج الكروب، ج 2، ص 163؛ ويذكر أبو شامة عن ابن القادسي أنه "دفن في قبة إلى جنب قبر الشيخ موفق الدين محمد بن المتقنة "الرحبى"، انظر: الروضتين ج 2، ص 185.
(8)
هو قطب الدين إيلغازي الثاني بن ألبى، تولى حكم ماردين من 575 - 580 هـ انظر زامباور، معجم الأنساب، جـ 2، ص 345.
(9)
بياض في نسختى المخطوطة بمقدار كلمة واحدة.
فصل فيما وقع من الحوادث في السنة الحادية والثمانين بعد الخمسمائة
(*)
استهلت هذه السنة والخليفة هو الناصر لدين الله، والسلطان صلاح الدين مخيم بظاهر حماة، وكان بلغه في أواخر السنة الماضية أن صاحب الموصل نازل إربل، فبعث صاحبها يستصرخ بالسلطان، فركب من فوره إليه في جنوده وعساكره، فسار إلى بعلبك، ثم إلى حمص، ثم إلى حماة، فأقام بها أيامًا ثم سار إلى حلب وتلقاه أخوه العادل، واجتمعت إليه العساكر فخرج منها في صفر لقصد الموصل، فقطع الفرات من البيرة، وجاء إلى حران، فقبض على صاحبها مظفر الدين [كوكبرى]
(1)
بن زين الدين، وهو أخو زين الدين [يوسف]
(2)
صاحب إربل. وكان وصول السلطان إلى حران في الثاني والعشرين من صفر، وكان أمر لسيف الدين المشطوب
(3)
أن يسير في مقدمة العسكر إلى رأس عين، وكان قَبضُه على صاحب حران في السادس والعشرين من صفر، وذلك لشيء كان جرى منه وحديث كان بلّغه عنه رسوله، فأنكر عليه وأخذ منه قلعة حران والرُها، ثم اعتقله تأديبًا له إلى مستهل ربيع الأول، ثم أخرجه وخلع عليه وطيب قلبه، وأعاد عليه قلعة حران وبلاده التي كانت بيده، ولم يتخلف له سوى قلعة الرها ووعده بها.
(4)
وفي تاريخ ابن العميد: وكان صاحب حران مظفر الدين قد بذل خطه بخمسين ألف دينار يوم وصول السلطان إلى حران، فلم ير السلطان لذلك أثرًا فغضب عليه وقبض عليه واعتقله. ثم سار السلطان من حران في ثاني ربيع الأول إلى رأس عين، ووصل إليه في ذلك [اليوم]
(5)
رسول قليج أرسلان صاحب الروم يخبره بأن ملوك الشرق بأسرهم قد اتفقت كلمتهم على قصد السلطان إن لم يَعد [18] عن الموصل وماردين، وأنهم على
(*) يوافق أولها 4 إبريل 1185 م.
(1)
ما بين الحاصرتين إضافة من الكامل، ج 10، ص 131؛ ابن واصل: مفرج الكروب، ج 2، ص 165 للتوضيح.
(2)
ما بين الحاصرتين إضافه من الروضتين، ج 2 ق 1، ص 198 للتوضيح.
(3)
سيف الدين المشطوب، هو على بن أحمد بن أبي الهيجاء بن عبد الله الهكاري، توفي بنايلس سنة 588 هـ. انظر: وفيات الأعيان، ج 1، ص 182 - ص 183، الشذرات، ج 4، ص 294.
(4)
ورد هذا النص بتصرف في الكامل، ج 10، ص 131؛ ابن العديم: زبده الحلب، ج 3، ص 80 - ص 81؛ ابن شداد: النوادر السلطانية، ص 67 - ص 68؛ الروضتين، ج 2 ق 1، 198.
(5)
ما بين الحاصرتين ساقط من الأصل. والمثبت من الروضتين، ج 2 ق 1، ص 200.
عزم ضرب المصاف معه إن أصر على ذلك. فرحل السلطان يطلب دُنَيْسر
(1)
، فوصلها يوم السبت الثامن من ربيع الأول، وجاء إليه عماد الدين بن قرا أرسلان ومعه عسكر نور الدين صاحب ماردين، فالتقاهم السلطان وأكرمهم.
(2)
وقال ابن كثير
(3)
: فتلقاه الملوك من كل ناحية، وجاء إليه عماد الدين أبو بكر بن قرا أرسلان صاحب بلاد بكر وآمد، ثم بلغه موت أخيه ابن قرا أرسلان، فطلب دستورًا ليأخذ مملكته فأعطاء. ثم سار السلطان فنزل على الإسماعيليات قريبًا من الموصل، وذلك يوم الثلاثاء الحادي عشر من ربيع الأول، وكان يصل من العسكر كل يوم نوبة جريدة تحاصر الموصل، وجاء إليه هناك صاحب إربل زين الدين. وأرسل السلطان ضياء الدين بن كمال الدين الشهرزوري
(4)
إلى الخليفة، يعلمه بما عزم عليه من حصار الموصل، وإنما مقصوده ردّهم إلى طاعة الخليفة
(5)
ونصرة الإسلام. ثم سار السلطان ونزل على الموصل وهو نزوله الثاني عليها، فحاصرها وكان القتال يعمل كل يوم، ويخرج المواصلة إليه غزاة يقاتلون. وأرسل عز الدين مسعود صاحب الموصل والدته وابنة عمه نور الدين محمود بن زنكي، وغيرهما من النساء الأتابكيات وجماعه معهن، يطلبون منه ترك الموصل وما بأيديهم، فردّهم خائبين. واستقبح الناس ذلك من صلاح الدين لاسيما وفيهن بنت نور الدين، وضايق على أهل الموصل. فبينما هم في ذلك إذ بلغه وفاة شاهر من صاحب خلاط، وجاءته كتب مقدميها يطلبونه، فشاور الأمراء، فأشاروا عليه بقصد أخلاط لما رأوا أنهم لا طمع لهم في الموصل وقالوا: ما يفوت الموصل. فسار إلى خلاط وفي مقدمته ناصر الدين محمد بن شيركوه، وتقي الدين عمر، فوصلوا ميافارقين وبها بَرُنقش
(6)
مملوك صاحب آمد، فامتنع عليهم، وقال: أنا وصى يتامي أستاذي قطب الدين، وبعد هذا، فالأمر للخاتون والدتهم. فأرسل إليها صلاح الدين
(1)
"دُنُيْسِر" بلدة مشهورة من نواحي الجزيرة قرب مَاردين، ولها اسم آخر يقال لها "قوج حصارة" انظر: معجم البلدان، ج 2، ص 612.
(2)
ورد هذا الحدث في النوادر السلطانية، ص 68؛ الروضتين، ج 2 ق 1 ص 199.
(3)
البداية والنهاية، ج 12، ص 337 طبعة بيروت.
(4)
هو القاسم بن يحيى بن عبد الله الشهرزوري، توفي سنة 599 هـ، انظر: وفيات الأعيان، ج 4، ص 244 - ص 245.
(5)
الإمام" كذا في الأصل. والمثبت من البداية والنهاية، ج 12، ص 337 حيث ينقل العيني عنه.
(6)
"برنقش" في الكامل، ج 10، ص 134.
خادمًا، ووعدها أن يتزوجها ويزوج ابنه إحدى بناتها، فأجابت وسلمت إليه ميا فارقين، وأعطاها الهتَّاخ
(1)
، وأعطي برنقش جبل جور
(2)
.
وكان الحاكم على خلاط الوزير مجد الدين بن الموفق
(3)
، وهو الذي كاتب السلطان، فبعث إليه الفقيه عيسى ليكشف الحال فغالطه، وقال: في القلعة سيف الدين بكتمر وبها ابنة البهلوان زوجة شاهر من، وربما جاء البهلوان، فعاد الفقيه إلى السلطان بغير شيء. وجاء البهلوان بعساكر أذربيجان وهمدان فنزل قريبًا من خلاط، وأرسل إلى السلطان يقول: هذه البلاد لإبنتي، وهي في القلعة، والمصلحة أن تُبقى المودة بيننا ودوام الصداقة
(4)
. فرجع السلطان إلى الجزيرة، ورجع البهلوان إلى بلاده بعد أن حمل إليه سيف الدين بكتمر أموالًا وهدايا. وولي السلطان على ميا فارقين وديار بكر مملوكه سنقر الخلاطي، وعاد إلى الموصل، وهذه المرة الثالثة وهي الأخيرة، فنزل الإسماعيلية، [19] وقيل نزل على [كفر زَمَّار]
(5)
بدجلة، وكان الحر شديدًا، فأقام مدة، وعزم على أن يُشتي بذلك المكان. وفي هذه المنزلة أتاه سنجرشاه من الجزيرة، واستعد المواصلة للحصار، ومرض السلطان مرضًا شديدًا خِيفَ من غائلته، فرحل طالبًا حران وهو مريض، وكان يتجلد، ولم يركب في محفة، فوصل حران وهو شديد المرض، وبلغ غاية الضعف حتى أُيس منه ورُجِفَ بموته. وكان رحيله من كفر زَمَّار في مستهل شوال من هذه السنة. فوصل إليه أخوه الملك العادل من حلب ومعه أطباؤها.
وفي المرآة
(6)
: ولما كان السلطان على كفر زمار أشار أمراء عز الدين مسعود عليه بأن يُخرج إليه النساء الأتابكيات يتشفعن
(7)
. إليه، فخرجن ومعهن والدة عز الدين مسعود فأكرمهن ووعدهن الإحسان، وقرر عماد الدين الصلح وخطب للسلطان بالموصل، وأعطى
(1)
الهتَّاخ: قلعة حصينة في ديار بكر قرب ميافارقين. معجم البلدان، ج 4، ص 952.
(2)
جبل جور: اسم لكورة كبيرة متصلة بديار بكر من نواحي أرمينية وفيها قلاع وقرى. معجم البلدان، ج 2، ص 20.
(3)
هو مجد الدين بن الموفق بن رشيق. انظر: الروضتين، ج 2 ق 1، ص 205.
(4)
"الصدقه" كذا في الأصل، والمثبتا من مرآة الزمان، ج 8، ص 245.
(5)
"كفر رمان" كذا في الأصل، والمثبت من الروضتين، ج 2 ق 1، ص 207؛ النوادر السلطانية، ص 70؛ مفرج الكروب، ج 2، ص 170.
كفر زّمَّار: قرية من قرى الموصل. انظر: معجم البلدان، ج 4، ص 388.
(6)
مرآة الزمان، ج 8، ص 245.
(7)
"يشفعن" كذا في الأصل، والمثبت من مرآة الزمان، ج 8، ص 245 حيث ينقل العينى عنه.
لعز الدين شهرزور والبوازيج
(1)
، ووقف عليها قرية تعرف ببافيلا
(2)
. ورحل عن الموصل يريد الجزيرة ..
وقال العماد الكاتب
(3)
: وكان السلطان قد لازم قراءة القرآن في شهر رمضان، واشتد الحر، فمرض مرضًا شديدًا فتناثر رأسه ولحيته وقيل إنه شفى، وضعف ضعفًا خيف عليه منه وأرجف بموته، وأقام على نصيبين وقد آيسنا منه، ثم حُمل في محفة إلى حران فنزل بظاهرها، وبني دارًا أسماها دار العافية.
وفي تاريخ النويرى
(4)
: وجاءت رسل صاحب الموصل إلى السلطان وهو بحران بالإجابة إلى ما طلب؛ وهو أن يسلم صاحب الموصل إلى السلطان شهرزور وأعمالها، وولاية القرابلي، وجميع ما وراء الزاب، وأن يخطب للسلطان على جميع منابر الموصل وما بيده، وأن يضرب اسمه على الدراهم والدنانير. ورضى السلطان بذلك، وتقرر الصلح وأمنت البلاد. ثم رحل السلطان من حران وقد عوفي، وعاد إلى دمشق في السنة الآتية.
وقال ابن كثير
(5)
: ولما استقر الصلح بين صلاح الدين وبين المواصلة - كما ذكرنا - انقطعت خطبة السلاجقة والأرتقية بتلك البلاد كلها. قال: ولما جاء إليه أخوه العادل من حلب ورآه في غاية الضعف، أشار عليه بأن يوصي ويعهد، فقال: ما أبالي وأنا أترك من بعدي أبا بكر وعمر وعثمان وعليا، وأراد بأبي بكر أخاه العادل صاحب حلب، وأراد بعمر تقي الدين عمر صاحب حماة وهو إذ ذاك نائب
(6)
مصر وبها يقيم، وأراد بعثمان وعلى ابنيه الملك العزيز عثمان والملك الأفضل على. ونذر السلطان في ضعفه لئن شفاه الله تعالى من مرضه هذا ليصرفن همته كلها إلى قتال الفرنج الكفار، ولا يقاتل بعد ذلك مسلمًا، وليجعلن أكبر همته فتح بيت المقدس، ولو صرف في ذلك جميع ما
(1)
البوازيج: بلد قرب تكريت على فم الزاب الأسفل حيث يصب في دجلة، ثم أصبحت بعد ذلك من أعمال الموصل. انظر: معجم البلدان، ج 1، ص 750.
(2)
"بباقيلا" في مرآة الزمان، ج 8، ص 245.
(3)
انظر قول العماد في الروضتين، ج 2 ق 1 ص 208؛ ابن العديم: زبدة الحلب، ج 3، ص 83.
(4)
نقل العينى هذا النص بتصرف من النويري، نهاية الأرب، ج 28، ص 388، تحقيق محمد أمين، ومحمد حلمي أحمد؛ الروضتين، 2 ق 1، ص 208.
(5)
نقل العيني هذا النص بتصرف من البداية والنهاية، ج 12، ص 337.
(6)
"صاحب" كذا في الأصل. والمثبت من البداية والنهاية، ج 12، ص 337 حيث ينقل العيني عنه.
يملكه من الأموال والذخائر، وليقتلن البرنس صاحب الكرك
(1)
بيده؛ وذلك لأنه نقض العهد الذي عاهد السلطان عليه فغدر بقافلة تجار من مصر، فأخذ أموالهم وضرب رقابهم بين يديه صبرًا، وهو يقول: أين محمد كم ينصركم؟. وكان هذا النذر كله بإشارة القاضي الفاضل. ثم أن الله عز وجل بكرمه [20] وفضله عافاه مما كان ابتلاه به، فسارت البشائر بذلك في كل ناحية ودقت البشائر وزينت البلاد.
قال ابن كثير
(2)
: ثم ركب السلطان من حران بعد العافية فدخل حلب، ثم اجتاز بحماة وحمص حتى دخل دمشق، وكان دخوله حلب يوم الأحد الرابع عشر من المحرم سنة ثنتين وثمانين، وكان يومًا مشهودًا
(3)
، لشدة فرح الناس بعافيته ولقائه، فأقام بها أربعة أيام، ثم رحل في ثامن عشره نحو دمشق، فلقيه أسد الدين شيركوه بن ناصر الدين محمد بن شيركوه بتل السلطان ومعه أخته ومعه خدمة عظيمة، ومَنَّ عليه بحمص - موضع والده بحكم وفاته - ثم سار إلى دمشق فدخلها في الثاني من ربيع الأول من سنة ثنتين وثمانين وخمسمائة، وكان يومًا مشهودًا وصباحًا محمودًا
(4)
.
وفيها كان المنجمون بدمشق قد حكموا بأن يهب هواء مزعج برمل يهلك الناس، فحفروا أسراب، واختفوا فيها، فظهر كذب المنجمين
(5)
.
وفيها
(6)
............................
وفيها حج بالناس الأمير طاشتكين
(7)
.
ذكر من توفي فيها من الأعيان
السهيلي
(8)
أبو القاسم وأبو زيد عبد الرحمن ابن الخطيب أبي محمد عبد الله ابن الخطيب أبي عمر أحمد بن أبي الحسن أصبغ بن حسين بن سعدون بن رضوان بن
(1)
يقصد بذلك أرناط صاحب حصن الكرك.
(2)
نقل العينى هذا النص بتصرف من البداية والنهاية، ج 12، ص 337 - ص 338.
(3)
إلى هنا انتهى العيني من النقل عن البداية والنهاية، ج 12، ص 338.
(4)
ورد هذا النص بتصرف في الروضتين، ج 2 ق 1، ص 224 في حوادث سنة 582 هـ.
(5)
انظر: مرآة الزمان، ج 8، ص 246.
(6)
بياض في الأصل بمقدار نصف سطر.
(7)
انظر: النجوم الزاهرة، ج 9، ص 97.
(8)
انظر ترجمته في وفيات الأعيان، ج 3، ص 143 - 144: شذرات الذهب، ج 4، ص 271 - 272.
فتوح، وهو الداخل إلى الأندلس، الخثعمي السهيلي الإمام المشهور صاحب كتاب "الروض الأنف" في شرح السيرة لابن هشام، وله كتاب "التعريف والإعلام فيما أُبهم من القرآن من الأسماء والأعلام"، وله كتاب "نتائج الفكر" بمسألة رؤية الله في المنام، رؤية النبي عليه السلام، وغير ذلك. وقال ابن دحية أنشدني وقال له: ما سأل الله بها حاجة إلَّا أعطاها له، وكذلك من استعمل إنشادها.
يا من يرى ما في الضمير ويسمعُ
…
انت المُعَدّ لكل ما يُتَوَقَعُ
يا من يُرجَىَّ للشدائد كلها
…
يا من إليه المُشْتكى والمفْزَع
يا من خزائن رزقه في قول كُنْ
…
اُمْنُنْ فإنَّ الخير عندك أجمع
مالي سوى فَقْرِي إليك وسيلةٌ
…
فبالافتقار إليك فَقرى أدفع
مالي سوى قَرْعى لبابك حيلةٌ
…
فلئن رَدَدْتَ فأيَّ باب أقرَع؟
ومن الذي أدعو
(1)
وأهتف باسمه
…
إن كان فضلك عن فقيركَ يمنع؟
حاشى لمجْدِك أن يُقَنِّط عاصيًا
…
الفضلُ أجزلُ والمواهِبُ أوْسع
(2)
وأشعاره كثيرة وتصانيفه ممتعة. وكان ببلده يتسَّوغ بالعفاف ويتبلغ بالكفاف، حتى نمي خبره إلى صاحب مراكش فطلبه إليها وأحسن إليه، وأقبل بوجه الإقبال [عليه]
(3)
إليه، وأقام بها نحو ثلاثة أعوام. ومولده سنة ثمان وخمسمائة بمدينة مالقَة، وتوفي بحضرة مراكش يوم الخميس ودفن وقت الظهر السادس [21] والعشرين من شعبان سنة إحدى وثمانين وخمسمائة، وكان مكفوفًا.
والخَثْعَمي: نسبة إلى خثعم بن أنمار، وهي قبيلة كبيرة. والسهيلي: بضم السين المهملة نسبة إلى سُهيل، قرية بالقرب من مالَقة، سميت باسم الكوكب لأنه لا يُرى في جميع الأندلس إلا من جبل مطل عليها.
ومالقة: بفتح اللام مدينة كبيرة بالأندلس، وقال السمعاني: بكسر اللام، وهو غلط.
(1)
"أرجو" في البداية والنهاية، ج 12، ص 340.
(2)
وردت هذه الأبيات في البداية والنهاية، ج 12، ص 390؛ وفيات الأعيان، ج 3، ص 371؛ شذرات الذهب، ج 4، ص 271 ص 272.
(3)
"إليه" في الأصل. والمثبت من وفيات الأعيان، ج 3، ص 144.
الحافظ الأصبهاني
(1)
، أبو موسى محمد بن أبي بكر عمر بن أبي عيسى أحمد ابن عمر بن محمد بن أبي عيسى الأصبهاني المديني الحافظ المشهور؛ كان إمام عصره في الحفظ والمعرفة، وله في الحديث وعلومه تواليف مفيدة، وصنف كتاب "المغيث" في مجلد، كَمَّل به كتاب الغريبين للهروي، واستدرك عليه، وهو كتاب نافع، وله كتاب "الزيادات" في جزء لطيف جعله ذيلاً على كتاب شيخه أبي الفضل محمد بن طاهر المقدسي الذي سماه كتاب "الأنساب" وذكر من أهمله وما أقصر فيه. ورحل عن أصبهان في طلب الحديث ثم رجع إليها وأقام [بها]
(2)
. وكانت ولادته في ذي القعدة سنة إحدى وخمسمائة. وتوفي ليلة الأربعاء تاسع جمادى الأولى من هذه السنة. وولادته ووفاته بأصفهان.
والمَدِيْني بفتح الميم وكسر الدال نسبة إلى مدينة أصفهان، وقد ذكر السمعاني هذه النسبة إلى عدة مدن: أولهن مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، والثانية مرو، والثالثة نيسابور، والرابعة أصفهان، والخامسة مدينة المبارك بقزوين، والسادسة بخارى، والسابعة سمرقند، والثامنة نَسَف، وذكر أن النسبة إلى هذه المدن [كلها]
(3)
المديني. وقال: أكثر ما ينسب إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم "المدني".
الفقيه مهذب الدين عبد الله بن أسعد الموصلي، مدرس حمص، وكان بارعًا في فنون ولاسيما في الشعر والأدب. مات في هذه السنة، كذا ذكره ابن كثير
(4)
.
وقال ابن خلكان
(5)
: هو أبو الفرج عبد الله بن أسعد بن علي بن عيسى المعروف بابن الدهان الموصلي ويعرف بالحمصي أيضًا، الفقيه الشافعي المنعوت بالمهذب، كان فقيهًا فاضلًا، أديبًا شاعرًا، لطيف الشعر مليح السبك حسن المقاصد، غلب عليه الشعر فاشتهر به، وله ديوان صغير وكله جيد. وهو من أهل الموصل. ولما ضاقت به
(1)
انظر ترجمته في وفيات الأعيان، ج 4، ص 289؛ النجوم الزاهرة، ج 9، ص 101؛ شذرات الذهب، ج 4، ص 273.
(2)
ما بين الحاصرتين إضافة من وفيات الأعيان ج 4، ص 289 لتوضيح المعنى.
(3)
ما بين الحاصرتين إضافة من وفيات الأعيان، ج 4، ص 289.
(4)
البداية والنهاية، ج 12، ص 338.
(5)
انظر ترجمته في وفيات الأعيان، ج 3، ص 57 - 61.
الحال قصد الصالح بن رزيك وزير مصر ومدحه بالقصيدة الكافية، ثم تقلبت به الأحوال وتولى التدريس بمدينة حمص وأقام بها، فلهذا نسب إليها
(1)
.
وقال العماد الكاتب
(2)
: ولما وصل السلطان صلاح الدين إلى حمص وخيم بظاهرها، خرج إلينا أبو الفرج المذكور فقدمته إلى السلطان وقلت له: هو الذي يقول في قصيدته الكافية التي في ابن رزيك .........
(3)
.
[22]
أَأَمدحُ التُّركَ أبغي الفضلَ عِندهُمُ .... والشعرُ مازال عندَ التّركِ متروكا
(4)
قال: فأعطاه السلطان وقال: حتى لا يقول أنه متروك. ثم مدح السلطان بقصيدته العينية التي يقول فيها:
قل للبخيلة بالسلام تورعًا
…
كيف استبحتِ دمي ولم تتورَّعي
وزعمتِ أن تصلي بعام قابل
…
هيهاتِ أن أبقى إلى أن ترجعي
أبديعةَ الحسن التي في وجهها
…
دونَ الوجوه عناية
(5)
للمبدع
ما كان ضَرَّكِ لو غمزتِ بحاجبٍ
…
يومَ التفرقِ أو أشرتِ بأصبع
وتَيَقّني أني بحبِّكِ مغرم
…
ثم اصنعي ما شئت بي أن تصنعي
وله في غلام لسعته نحلة في شفته:
بأبي من لسعته
(6)
نحلة
…
آلمت أكرَمَ شيء وأجلّ
أَثّرَتْ لسعتها
(6)
في شفةٍ
…
ما براها الله إلا للقُبَلْ
حسبتْ أن بفيه بَيْتَها
…
إذ رأت ريقَتَهُ مثل العسَلْ
(7)
وتوفي بمدينة حمص في شعبان سنة إحدى، وقيل اثنتين وثمانين وخمسمائة، والأول أصح
(8)
.
(1)
وردت هذه الترجمة بتصرف في وفيات الأعيان، ج 3، ص 57 - ص 61؛ الخريدة، قسم الشام، ج 2، ص 279 - ص 294؛ السبكي: طبقات الشافعية، ج 4، ص 233؛ شذرات الذهب، ج 4، ص 270.
(2)
انظر هذا القول في الخريدة، قسم الشام، ج 2، ص 284.
(3)
بياض في الأصل بمقدار خمس كلمات.
(4)
ورد هذا البيت في وفيات الأعيان ج 3، ص 58.
(5)
"علامة" في وفيات الأعيان، ج 3، ص 59.
(6)
"لَسَبَتْهُ" في وفيات الأعيان، ج 3، ص 60. وهي مرادف لكلمة "لسعته".
(7)
انظر وفيات الأعيان، ج 3، ص 60؛ شذرات الذهب، ج 4، ص 271.
(8)
انظر وفيات الأعيان، ج 3، ص 60.
[ابن الصابوني]
(1)
أبو الثناء محمود بن أحمد بن على بن إسماعيل بن عبد الرحمن الملقب بجمال الدين المحمودي بن الصابوني
(2)
لأن جد أبيه [الأمه]
(3)
الشيخ أبا عثمان الصابوني كان أحد الأئمة المشاهير، وإنما يقال له المحمودي لصحبة جده للسلطان نور الدين محمود بن زنكي
(4)
. سار إلى مصر فنزلها، وكان السلطان صلاح الدين يكرمه وأوقف عليه وعلى ذريته أرضًا فهى لهم الآن. ذكر ابن كثير
(5)
وفاته في هذه السنة، رحمه الله.
الأمير ناصر الدين محمد بن أسد الدين شيركوه، صاحب حمص والرحبة، وهو ابن عم السلطان صلاح الدين، وزوج اخته ست الشام بنت أيوب. توفي بحمص، نقلته زوجته ست الشام إلى تربتها بالمدرسة الشامية البرانية، فقبره هو الأوسط بينها وبين أخيها الملك المعظم تورانشاه صاحب اليمن. وقد خلف ناصر الدين محمد من الأموال والذخائر شيئًا كثيرًا ينيف على ألف ألف دينار، وكانت وفاته يوم عرفة فجأة.
وقال النويري
(6)
: وفي هذه السنة ليلة عيد الأضحى، شرب بحمص صاحبها ناصر الدين محمد بن شيركوه بن شاذى فأصبح ميتًا. قيل إن السلطان دَسَّ عليه من سقاه سمًا، لما بلغه مكاتبته أهل دمشق في مرضه، ولما مات أقر السلطان حمص وما كان بيد محمد على ولده شيركوه بن محمد بن شيركوه، وعمره اثنتا
(7)
عشرة سنة. وخلّف ناصر الدين محمد شيئًا كثيرًا من الدواب والآلات وغيرها، فاستعرضها السلطان عند نزوله بحمص في عودته من حران، وأخذ أكثرها [23] ولم يترك إلا ما لا خير فيه.
(1)
ما بين الحاصرتين ساقط من الأصل. والمثبت من الروضتين، ج 2 ق 1، ص 221.
(2)
ابن الصابوني: هو محمود بن أحمد بن على بن أحمد بن على بن أحمد بن المحمودي، المعروف بابن الصابوني. الروضتين، ج 2 ق 1، ص 221؛ البداية والنهاية، ج 12، ص 338.
(3)
ما بين الحاصرتين مثبت من الروضتين، ج 2 ق 1، ص 221 للتوضيح.
(4)
هنا تضارب بين ما ورد في العيني الذي نقل عن ابن كثير، وبين ما ورد في الروضتين: "وكان جده صحب السلطان محمود بن محمد بن ملكشاه ونسبته بالمحمودي إليه، ودخل ابن الصابوني هذا دمشق زمن الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي ..... أبو شامة: الروضتين، ج 2 ق 1، ص 221.
(5)
البداية والنهاية، ج 12، ص 238؛ النجوم الزاهرة، ج 9، ص 99 - ص 100.
(6)
نقل العينى هذا النص بتصرف من نهاية الأرب، ج 28، ص 388، ص 389؛ انظر أيضًا، الروضتين، ج 2 ق 1، ص 217؛ النجوم الزاهرة، ج 6، ص 98.
(7)
اثني عشر كذا في الأصل والمثبت هو الصحيح.
وفي المرآة
(1)
: وكان السلطان صلاح الدين يخافه؛ لأنه كان يدعي أنه أحق بالملك منه، وكان بلغ السلطان عنه هذا، وكان قد فارق السلطان في حران وجاء إلى حمص وتوفي يوم عرفة. بقي يتناثر لحمه، وقيل إنه سُمَّ، وقيل مات فجأة.
نور الدين محمد بن قرا أرسلان بن داود، صاحب حصن كيفا وآمد، مات في هذه السنة، وملك بعده ولده سقمان، ولقبه قطب الدين، وكان صغيرًا فقام بتدبير دولته وزيرة القوام ابن سُماقا
(2)
الأسْعردي.
وفي تاريخ بيبرس: مات نور الدين محمد المذكور لما كان صلاح الدين محاصرًا للموصل، وخلف ولدين، فملك الأكبر منهما واسمه سقمان ولقبه قطب الدين، فلما بلغ أخاه وفاته سار ليملك بلاده فتعذر عليه أمرها، فسار إلى خِرْت برْت فملكها وهي بيد أولاده، ورجع صلاح الدين إلى ميافارقين فحضر إليه ولد نور الدين فأقره على ملك أبيه ومن جملته آمد. وكانوا خافوا أن يأخذها منهم فلم يفعل، وردهم إلى بلادهم وشرط عليهم أن يكونوا تحت أمره وطاعته، وجعل معهم من جهته أميرًا لقبه صلاح الدين من أصحاب والده.
الأمير الكبير سعد الدين مسعود بن معين الدين أنر، وكان من الأمراء الكبار أيام نور الدين محمود، وصلاح الدين يوسف، وهو أخو الست خاتون التي كان تزوجها نور الدين محمود، ثم تزوجها السلطان صلاح الدين يوسف، كما ذكرنا. توفي في دمشق في جمادى الأخرى من هذه السنة، من جرح أصابه وهو في حصار ميافارقين
(3)
.
الست خاتون عصمة الدين بنت معين الدين أنر، نائب دمشق وأتابك عساكرها من قبل نور الدين محمود كما تقدم. وقد كانت زوجة نور الدين كما تقدم، ثم خلف عليها من بعده صلاح الدين في سنة ثنتين وسبعين وخمسمائة، توفيت في هذه السنة، وكانت من أحسن النساء وأعفهن وأكثرهن صدقة؛ وهي واقفة الخاتونية الجوانية
(4)
(1)
مرآة الزمان، ج 8، ص 246.
(2)
هو قوام الدين أبو محمد عبد الله بن سماقة، انظر: الروضتين، ج 2 ق 1، ص 219.
(3)
انظر: وفيات الأعيان، ج 4، ص 115؛ الروضتين، ج 2 ق 1، ص 218؛ البداية والنهاية، ج 12، ص 338 - ص 339.
(4)
المدرسة الخاتونية الجوانية بمحلة حجر الذهب: أنشأتها خاتون بنت معين الدين أنر (عصمة) سنة 581 هـ بقرب حمام الشركسي، والرباط خارج باب النصر على نهر باناس. انظر: النعيمي: الدارس في أخبار المدارس، ج 1، ص 507 - ص 511.
بمحلة حجر الذهب، وخانقاه خاتون ظاهر باب النصر، في أول الشرف القبلي على [باناس]
(1)
ودفنت بتربتها في سفح قاسيون قريبًا من قبات الشركسية. ولها أوقاف كثيره. فأما الخاتونية البرانية
(2)
التي هي على القنوات بمحلة صنعاء الشام، ويعرف ذلك المكان الذي هي فيه بتل الثعالب، فهي من إنشاء الست زمرد خاتون بنت جاولي، وهي أخت الملك دُقاق لأمه، وكانت زوجة زنكي والد نور الدين صاحب حلب، وقد ماتت قبل هذا الحين كما تقدم
(3)
.
وفي المرآة
(4)
: ولها صدقات كثيرة، وبر عظيم بَنت بدمشق مدرسة لأصحاب أبي حنيفه رضي الله عنه في حجر الذهب، قريبة من حمام زَرْكش وتعرف بمدرسة خاتون، وكانت وفاتها في رجب، وبلغ السلطان صلاح الدين [24] وفاتها وهو مريض بحران؛ فتزايد مرضه، وحزن عليها وتأسف، وكان يُصْدِر عن رأيها.
(1)
"بانياس" في الأصل، والمثبت من الروضتين، ج 2 ق 1، ص 219. وانظر ما سبق ص 31، حاشية (7).
(2)
توجد المدرسة الخاتونية البرانية في غربي دمشق، بينها وبين قرية المزة، وقد بنيت سنة 557 هـ. انظر: الدارس، ج 1، ص 502 - 506.
(3)
انظر: الروضتين، ج 2 ق 1، ص 216؛ البداية والنهاية، ج 12، ص 339؛ النجوم الزاهرة، ج 99؛ ص 99؛ شذرات الذهب، ج 4، ص 272.
(4)
انظر: مرآة الزمان، ج 8، ص 246؛ الروضتين، ج 2 ق 1، ص 216.
فصل فيما وقع من الحوادث في السنة الثانية والثمانين بعد الخمسمائة
(*)
استهلت هذه السنة والخليفة هو الناصر لدين الله، والسلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب - صاحب مصر والشام وغيرهما - كان قد تعافى من مرضه ووجد نشاطًا، ورحل من البلاد الفراتية ووصل إلى حلب يوم الأحد الرابع عشر من محرم هذه السنة
(1)
. وكان يومًا مشهودًا لشدة فرح الناس بعافيته ولقائه، فأقام بها أربعة أيام، ثم رحل في ثامن عشر المحرم نحو دمشق. فلقيه أسد الدين شيركوه بن محمد بن شيركوه بتل السلطان
(2)
، ومعه أخته ومعه هدية هائلة، ومَنَّ عليه بحمص. فقام أيامًا يَعْتبر تركة أبيه، وكان قد خَلَّفَ أموالًا عظيمة وجواهر، ومناطق الذهب والفضة، فكان مبلغ التركة ألف ألف دينار. وكان القاضي نجم الدين بن عيسى حاضر القسمة، فقام يومًا فوقعت من تحت ذيله منطقة مجوهرة، فنسبه العادل إلى ما لا يليق به. وكان نجم الدين منزهًا عن ذلك لأنه كان غنيًا جوادًا شريف النفس، فحلف للعادل إنني ما علمت بها، وصدق، وإنما الحُساد وجدوا طريقًا للقول
(3)
.
ثم سار يطلب جهة دمشق، وكان دخوله إليها في ثاني ربيع الأول، وكان يومًا لم ير مثله فرحًا وسرورًا، ثم قرر في ملك دمشق ولده الأفضل عليا. ونزل العادل أبو بكر عن حلب لصهره زوج ابنته الملك الظاهر غازي ابن السلطان صلاح الدين، وأرسل السلطان أخاه العادل صحبة ولده عماد الدين عثمان، الملقب بالملك العزيز، على ملك مصر، ويكون العادل أتابكه، وله إقطاع عظيمة جدًا. وعزل عن نيابتها تقي الدين عمرُ، فعزم عمر على الدخول إلى بلاد إفريقية، فلم يزل السلطان يكاتبه ويتلطف به ويترقق له حتى أقبل بجنوده نحوه، فأكرمه وأقطعه حماة وبلادًا كثيرة معها، وقد كانت له قبل ذلك بسنين، وزاده على ذلك مدينة ميافارقين
(4)
.
(*) يوافق أولها 26 مارس 1186 م.
(1)
انظر زبدة الحلب، ج 3، ص 84.
(2)
تل السلطان: موضع بينه وبين حلب مرحلة نحو دمشق - انظر: معجم البلدان، ج 1، ص 867 ..
(3)
سبط ابن الجوزي، مرآة الزمان، ج 8، ص 248.
(4)
ورد هذا النص بتصرف في الكامل، ج 10، ص 139 - ص 140؛ البداية والنهاية، ج 12، ص 340، الروضتين، ج 2 ق 1، ص 229 - ص 230؛ المقريزي: السلوك، ج 1 ق 1، ص 91 - ص 92.
وقال النويري
(1)
: ولما بعث السلطان ولده الملك العزيز صحبة العادل إلى مصر، استدعى تقي الدين من مصر، بسبب أن السلطان تغيَّر عليه في الباطن؛ فإنه ظن أنه إنما أخرج ولده من مصر ليتملك مصر إذا مات السلطان. وقيل إنه توقف عن الحضور وقصد اللحوق بمملوكه قراقوش المستولى على بعض بلاد إفريقية وبرقه من المغرب، وبلغ السلطان ذلك فساءه، وأرسل يستدعيه ويلاطفه فحضر إليه، ولما حضر إليه زاده على حماة منبج، ومعرة النعمان، وكفر طاب، وميافارقين، وجبل جور بجميع أعمالها. واستقر الملك العادل أبو بكر والملك العزيز عثمان بمصر. ولما أخذ السلطان حلب من أخيه العادل أقطعه عوضها حران والرها
(2)
.
وفي تاريخ بيبرس
(3)
: سير السلطان صلاح الدين إلى ابن أخيه تقي الدين عمر يستدعيه من مصر إلى الشام، والسبب في ذلك أن صلاح الدين لما استنابه بمصر ضم إليه ولده الأفضل وكان أكبر ولده، فخاف صلاح الدين في مرضه أن يتولى تقي الدين البلاد ويحبس ولده الأفضل. [25] فأرسل في طلبه لهذا السبب، وأشار عليه بعض أمرائه أن يعزل العادل من حلب، فوقعت هذه الإشارة من نفسه موقعًا موافقًا لغرضه. فلما حضر أخوه العادل إليه أوصى صلاح الدين ولده الظاهر غازي أن يلتمس من عمه حلب ليهبها له، فسأله ذلك فأجابه عمه العادل لوقته، وكتب له بها فتسلمها واستقر بها وأولاده من بعده. وكان تقي الدين يومئذ بمصر، فبلغه أن صلاح الدين يريد عزله عنها، فأراد أن يهرب إلى الغرب فإن قراقوش فتح بالمغرب مدنًا كثيرة، فأشار عليه أمراء مصر أن لا يروح إلى الغرب، وأن يمضي إلى أخيه ويستعطفه، فتجهز وخرج من مصر. وسير صلاح الدين ولده العزيز صحبة عمه العادل إلى مصر، ورتب ولده الظاهر غازي بحلب عوضًا عن عمه العادل. ولما وصل تقي الدين إلى صلاح الدين أنعم عليه بميافارقين.
وفي النوادر السلطانية
(4)
: ولما تقرر الأمر المذكور بين هؤلاء الملوك قال العادل: اجتمعت بالملك العزيز والملك الظاهر وجلست بينهما وقلت للملك العزيز: أعلم
(1)
بالبحث لم نجد هذا القول في نهاية الأرب.
(2)
انظر: الكامل، ج 10، ص 139 - 140؛ كما ورد هذا النص بتصرف في النوادر السلطانية، ص 73 - 74؛ زبدة الحلب، ج 3، ص 89؛ المختصر، ج 3، ص 70. وقد ورد بالتفصيل في الروضتين، ج 2 ق 1، ص 230.
(3)
انظر: الكامل، ج 10، ص 139؛ الروضتين، ج 2 ق 1، ص 228 - ص 229.
(4)
انظر: النوادر، ص 72 - ص 73.
يامولاي أن السلطان قد أمرني أن أسير في خدمتك إلى مصر، وأنا أعلم أن المفسدين كثير، ولا يخلو غدًا ممن يقول عني ما لا يجوز ويخوفك مني، فإن كان لك عزم تسمع فقل لي حتى لا أجيء، فقال: لا أسمع. وكيف يكون ذلك؟ ثم التفتُ وقلتُ للملك الظاهر: أنا لا أعرف أن أخاك ربما يسمع
(1)
فيَّ أقوال المفسدين، وأنا فمالي إلا أنت، وقد قنعت منك بمنبج متى ضاق صدري من جانبه. فقال: مبارك، وذكر كل خير.
وذكر في النوادر أيضًا: أن الملك الظاهر سار إلى حلب حتى أتى العين المباركة، وسيَّر في خدمته شحنةً حسام الدين بشارة، وواليًا عيسى بن بلاشوا
(2)
، فنزل في يوم الجمعة بعين المباركة، وخرج الناس إلى لقائه في بكرة السبت تاسع جمادى الآخرة من هذه السنة، وصعد القلعة المحروسة صحوة النهار، وفرح الناس به فرحًا شديدًا
(3)
.
وأما تقي الدين، فإنه لما وصل سار السلطان إلى لقائه، فلقيه بمرج الصُفَّر في ثالث عشرى
(4)
شعبان من هذه السنة، وأعطاه حماة، وسار إليها، وكان قد عُقد بين الملك الظاهر وبعض بنات الملك العادل عقد نكاح فتمم ذلك ودخل بها يوم الأربعاء السادس والعشرين من شهر رمضان. ودخل الملك الأفضل على زوجته بنت ناصر الدين بن أسد الدين في شوال من هذه السنة.
وفيها حضر القمص
(5)
صاحب طرابلس إلى الملك الناصر صلاح الدين واتفق معه أن يفتح له جميع الساحل، وأطلق له الملك الناصر جميع الأسرى الذين كانوا عنده، وجرّد معه عسكرًا إلى الساحل، وفتح الطريق [29] من مصر إلى الشام وسار فيها التجار. ثم إن القمص المذكور نافق وأخذ قافلة من التجار ودخل بلاد الإفرنج، فحلف الملك الناصر لئن ظفر به ليقتلنّه بيده. وكان ذلك سبب فتوح الساحل
(6)
.
(1)
"سمع" كذا في الأصل. والمثبت عن النوادر السلطانية، ص 73 حيث ينقل عنه العيني.
(2)
"بلاشو" كذا في الأصل، والمثبت من النوادر السلطانية، ص 73 حيث ينقل العينى عنه؛ كذا في زبدة الحلب، ج 3، ص 89؛ أما ابن واصل: مفرج الكروب، ج 2، ص 179 فقد ذكره "بلاشق".
(3)
إلى هنا توقف العينى عن النقل من النوادر السلطانية، ص 72 - ص 73.
(4)
"الثلاث عشرة" في النوادر السلطانية، ص 74؛ واتفق مع العينى أبو شامة: الروضتين، ج 2 ق 1، ص 232؛ ابن واصل: مفرج الكروب، ج 2، ص 182.
(5)
القمص: يقصد به: ريموند بن ريمند الصنجيلي. انظر: الكامل، ج 10، ص 141.
(6)
ورد هذا النص بالتفصيل في الكامل، ج 10، ص 141 - ص 142؛ الروضتين، ج 2 ق 1، ص 244.
وفيها كانت فتنة بين التركمان والأكراد ببلاد الجزيرة، والموصل، وديار بكر، وخلاط، والشام، وشهرزور، وأذربيجان، وقتل فيها من الخلق ما لا يحصى، ودامت عدة سنين، وانقطعت الطرق ونهبت الأموال وأريقت الدماء. ثم إن مجاهد الدين قايماز نائب صاحب الموصل، جمع عنده رؤساء الأكراد والتركمان وأصلح بينهم، وخلع عليهم، وانقطعت الفتنة
(1)
.
وفيها دخل سيف الإسلام إلى مكة ومنع من الأذان بحي على خير العمل، وقتل جماعه من العبيد. كانوا يؤذون الناس، وأغلق أمير مكة باب البيت، وصعدوا إلى أبي قبيس، فأرسل إليه وطلب المفتاح من صاحب مكة، فأبى من انفاذه، فقال سيف الإسلام لرسوله: قل لصاحبك إن الله نهانا عن أشياء فارتكبناها، وقال النبي صلى الله عليه وسلم "لا تأخذوا المفتاح من بنو شيبة"
(2)
، فتأخذه ونستغفر الله تعالى، فبعث إليه المفتاح
(3)
.
وفيها قسم السلطان صلاح الدين البلاد بين أولاده وأهله برأي القاضي الفاضل، فإنه لما مرض أشاروا عليه بذلك.
وفيها ظهر الخلاف بين الإفرنج وتفرقت كلمتهم. وكان ذلك سببًا لسعادة الإسلام.
وفيها غدر إبرنس الكرك واسمه أرناط، وكان أخبث الإفرنج وأشرّهم، فقطع الطريق على قافلة جاءت من مصر إلى الشام وفيها خلق عظيم ومال كثير، فاستولى على الجميع قتلاً وأسرًا ونهبًا، فأرسل إليه السلطان يوبخه على ما فعل ويقول: أين العهود والمواثيق! رُدَّ ما أخذت. فلم يلتفت وشنّ الغارات على المسلمين وقتل منهم، فنذر السلطان دمه. وأقام السلطان بدمشق يجهز للقاء العدو، واستدعى العساكر من المشرق والمغرب.
وفيها في يوم عاشوراء فرش الرماد في الأسواق وعلقت المسوح، وناح أهل الكرخ، وخرج النساء حاسرات يلطمن وينحن من باب البدرية
(4)
إلى باب حجرة الخليفة، والخلع
(1)
ورد هذا النص باختصار في النوادر السلطانية، ص 71، وقد وردت هذه الفتنة بالتفصيل في الكامل في سنة 581 هـ، ج 10، ص 136؛ الروضتين، ج 2 ق 1، ص 261 - ص 242.
(2)
لم نجد الحديث بهذا اللفظ، وورد في تفسير ابن كثير ج 1 /ص 515 - ص 516، طبعة الحلبي - تفسير آية:(إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها)
…
ثم جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد فقام إليه على بن أبي طالب ومفتاح الكعبة في يده فقال: يا رسول الله اجمع لنا الحجابة مع السقاية صلى الله عليك. فقال رسول الله: صلى الله عليه وسلم أين عثمان بن طلحة؟ فدعي له، فقال له:"هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم وفاء وبر".
(3)
ورد هذا النص بتصرف في مرآة الزمان، ج 8، ص 268؛ الروضتين، ج 2 ق 1، ص 242.
(4)
باب البدرية ببغداد: يقع في السوق الأعظم ويسمى "الحريمي" يعني حريم دار الخلافة وهي قريب من ثلث الجانب الشرقي، وله أبواب كثيرة منها باب البدرية. انظر: صبح الأعشى، ج 4، ص 320، ص 331.
تُفاض عليهن وعلى المنشدين من الرجال. وتعدى الأمر إلى سبّ الصحابة أبي بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وعائشة رضي الله عنهم. وكان أهل الكرخ يصيحون ما بقي كتمان، وأقاموا امرأة يقال لها آمنة
(1)
من أهل الكرخ وكان ظهير الدين بن العطار قد كبس دار أبيها فأخرج منها كُتبًا في سب الصحابة، فقطع يديه ورجليه، ورجمه العوام حتى قتلوه. فقامت هذه المرأة على دكة تحت منظرة الخليفة في الريحانيين، وحولها ألوف من الرجال والنساء وهي تنشد أشعار العوني وغيرها، وتسب عائشة وتقول: العنوا راكبة الجمل، وتذكر حديث الإفك والنبي عليه السلام بأقبح الشناعات
(2)
، وكان كل ذلك منسوبًا إلى أستاذ الدار ابن الصاحب [27]
(3)
.
وفيها: حكم المنجمون في الآفاق بخراب العالم في جمادى الآخرة، وقالوا [تقترن]
(4)
الكواكب السيارة الشمس والقمر وزحل والمريخ والزهرة وعطارد والمشتري في برج الميزان أو السرطان، وتؤثر تأثيرًا يضمحل به العالم، وتهب سموم محرقة تحمل رملًا أحمر. فاستعد الناس وحفروا السراديب وجمعوا فيها الزاد. وقد انقضت المدة ولم يحدث شيء، وظهر كذب المنجمين
(5)
.
وقال العماد الكاتب: وكان المنجمون في جميع البلاد حكموا بخراب العالم في شعبان عند اجتماع الكواكب السبعة في الميزان بطوفان الريح في سائر البلاد، وذكر أن ناسًا من الجهلة تأهبوا لذلك بحفر مغارات وأسراب في الأرض خوفًا من ذلك.
قال العماد
(6)
: فلما كانت تلك الليلة التي أشاروا إليها وأجمعوا عليها، لم تر ليلة مثلها في ركودها وهدِّوها. وقد نظم الشعراء في تكذيب المنجمين في هذه الوقعة وغيرها أشعارًا حسنة؛ من ذلك قول عيسى بن مودود
(7)
:
(1)
"ابنة قرابا" كذا في مرآة الزمان، ج 8، ص 247.
(2)
ورد هذا النص بتصرف في مرآة الزمان، ج 8، ص 249 - ص 247.
(3)
استاذ الدار ابن الصاحب: هو مجد الدين أبو الفضل هبة الله بن على بن هبة الله بن محمد بن الحسن المعروف بابن الصاحب، قتل سنة 583 هـ. انظر: وفيات الأعيان، ج 6، ص 245.
(4)
"يقترن" في الأصل، والمثبت هو الصحيح، وهو كما في الروضتين، ج 2 ق 1، ص 236.
(5)
ورد هذا النص بتصرف في الكامل، ج 10، ص 142؛ البداية والنهاية، ج 12، ص 340؛ مرآة الزمان، ج 8، ص 247؛ الروضتين، ج 2 ق 1، ص 236 - ص 237.
(6)
ورد هذا الحدث بتصرف في الروضتين، ج 2 ق 1، ص 239 نقلًا عن العماد؛ ابن كثير، البداية والنهاية، ج 12، ص 340 - ص 341.
(7)
هو: عيسى بن مودود بن علي بن عبد الملك بن شعيب، الملقب فخر الدين صاحب تكريت. انظر: وفيات الأعيان، ج 3، ص 498 - ص 500.
مزق التقويم والزّيـ
…
ـج، فقد بان الخطأ
(1)
إنما التقويم والزّيـ
…
ـج هَباوٌ وهوا
قلت: للسبعة إبرا
…
مٌ، ومنعٌ، وعطا
ومتى ينزلْن في الميـ
…
ـزان يستولى الهوا
وتثير الرمل حتّى
…
يمتلى منه الفضا
(2)
ويعمّ الأرضَ جفٌّ
(3)
…
وخرابٌ، وبلا
ويصير القاع كالقُفِّ
(4)
…
وكالطّود القَوَا
(5)
[وحكمتم]
(6)
، فأبي الحا
…
كم إلّا ما يشا
ما أتي الشرع ولا جا
…
ءت بهذا الأنبيا
فبقيتم ضحكةً يضـ
…
ـحك منها العلما
حسبكم خبزيًا وعارًا
…
ماتقول الشعراء
(7)
فعلي اصطرلاب [بطليـ
…
ـموس]
(8)
والزيج العفا
(9)
وعليه الخزي ماجا
…
دت
(10)
على الأرض السما
(1)
"الخفا" في الروضتين، ج 2 ق 1، ص 238.
(2)
"الصفا" في البداية والنهاية، ج 12، ص 340 - ص 341، حوادث سنة 582 هـ.
(3)
"خسف" في الروضتين، ج 2 ق 1، ص 238؛ البداية والنهاية، ج 12، ص 341.
(4)
القُفُّ: ما ارتفع من الأرض وغلظ وهو دون الجبل - وجمعها قِفَاف. انظر: المصباح المنير: ج 1، مادة "قفف". الطبعة الثانية - بولاق 1906 م.
(5)
"العراء" في أبي شامة، الروضتين، ج 2 ق 1، ص 238؛ "العدا" في: البداية والنهاية، ج 12، ص 319. والقَوَاء: بالفتح والمد القفر. انظر: المصباح المنير، ج 1، مادة "قوي".
(6)
"حكم" في الأصل والمثبت من الروضتين، ج 2 ق 1، ص 238؛ البداية والنهاية، ج 12، ص 319.
(7)
ثبت العيني الهمزة في كلمة "الشعراء" ولم يثبتها في القوافي السابقة أو اللاحقة.
(8)
"بطلميوس" كذا في الأصل، والمثبت من البداية والنهاية، ج 12، ص 319؛ الروضتين، ج 2 ق 1 ص 238.
(9)
لفق العيني هذا البيت من بين بيتين من الشعر أثبتهما كل من ابن كثير في البداية والنهاية، ج 12، ص 73؛ أبو شامة في الروضتين، ج 2 ق 1، ص 238 والبيتان هما:
حسبكم خزيًا وعارًا ما تقول الشعرا
…
ما أطمعكم في الحكم إلا الأمراء
ليت إذ لم يحسنوا في الدين طغامًا أسا
…
فعلى اصطرلاب بطليموس والزيج العفاء
(10)
"جاءت في الروضتين، ج 2 ق 1، ص 238.
وقال أبو الغنائم
(1)
محمد بن المعلم الشاعر، في أبي الفضل المنجم وكان رئيس القوم:-
قل لأبي الفضل قولا يَعْرُب
(2)
…
مضى جمادي وجاءنا رجب
وما جرت زعزعة
(3)
كما حكموا
…
ولابدا كوكب له ذنب
كلا، ولا أظلمت ذُكَاءُ ولا
…
أبدت أذيً في قِرانها الشهب
يقضى عليها من ليس يعلم ما
…
يقضى عليه، هذا هو العجب!
قد بان كذب المنجمين، وفي
…
أي مقال قالوا [فما]
(4)
كذبوا
مدبر الأمر واحدٌ، وليس للسبـ
…
ـــــعة في كل حادث سبب
لا المشترى سالم، ولا زحل
…
باق، ولا زهرة، ولا قُطُبُ
تبارك الله؛ حصحص الحق وانجا
…
ب التمادي وزالت الرِّيب [28]
فليُبْطل المُدَّعون ما وضعوا
…
في كتبهم ولتُحَرّق الكتبُ
(5)
وفيها سار على بن إسحاق الملثم
(6)
إلى إفريقية بعد خروجه من بجاية، واجتمع إليه جماعة من العرب، وانضاف إليهم الترك الذين كانوا قد دخلوا من مصر مع شرف الدين قراقوش
(7)
، ودخل أيضاً من أتراك مصر مملوك لتقى الدين ابن أخي صلاح الدين اسمه بُوزابه، وكثر جمعهم وقويت شوكتهم. فلما اجتمعوا بلغت عدتهم مبلغاً كثيراً، وكلهم كاره لدولة الموحدين، فاتبعوا جميعهم على بن إسحاق الملثم؛ لأنه من بيت المملكة والرئاسة القديمة، ولقبوه أمير المسلمين. وقصدوا بلاد إفريقية فملكوها جميعاً شرقا وغرباً، إلا مدينتين؛ تونس والمهدية، فإن الموحدين أقاموا بها، وحفظوها على خوف وضيق وشدة.
(1)
هو نجم الدين أبو الغنائم محمد بن على بن فارس، المعروف بابن المعلم، الواسطى الهرثي. توفي سنة 592 هـ بالهُرث وهي قرية من أعمال نهر جعفر بينها وبين واسط نحو عشرة فراسخ. انظر: العماد: الخريدة، ج 2، قسم شعراء الشام، ص 134؛ وفيات الأعيان، ج 5، ص 5 - 9.
(2)
"معترف" كذا في الروضتين، ج 2 ق 1، ص 237.
(3)
"زعزعاً" في الروضتين، ج 2 ق 1، ص 237.
(4)
ما بين الحاصرتين ساقط من الأصل. ومثبت من الروضتين ج 2 ق 1، ص 237.
(5)
وردت هذه الأبيات في كل من مرأة الزمان، ج 8، ص 247 - 248؛ الروضتين، ج 2 ق 1، ص 237 - ص 238؛ النجوم الزاهرة، ج 6، ص 102.
(6)
ورد هذا الحدث في الكامل، ج 10، ص 136 - 138 في سنة 581 هـ.
(7)
شرف الدين قراقوش، هو أحد أصحاب تقي الدين عمر. انظر: المقريزي: السلوك، ج 1 ق 1، ص 82.
وانضاف إلى الملثم كل مفسد في تلك الأرض، ومن يريد الفتنة والنهب والشر. فخرَّبوا البلاد والحصون والقرى، وهتكوا الحُرَم، وقطعوا الأشجار. وكان الوالي على إفريقية عبد الواحد [بن عبد الله الهنتاتي]
(1)
، وهو بمدينة تونس، فأرسل إلى يعقوب صاحب المغرب وهو بمراكش يعلمه الحال.
وقصد الملثم جزيرة باشَوّ
(2)
، وهي بقرب تونس، تشتمل على قرى كثيرة فنازلها وأحاط بها، وطلب أهلها منه الأمان فأمنهم، فلما دخلها العسكر نهبوا ما فيها من الأموال والغلات والدواب، وسلبوا الناس حتى ثيابهم، وامتدت أيديهم إلى النسوان والصبيان، فقصدوا لضرورتهم مدينة تونس. فأما الضعفاء، فكانوا يستعطفون من الناس، وأما الأقوياء، فكانوا يخدمون ويعملون بما يقتاتون. ودخل عليهم الشتاء فأهلكهم البرد، ووقع فيهم الفناء، فمات منهم اثني عشر ألفاً، هذا من موضع واحد، فما الظن بالباقي؟.
ولما استولى الملثم على إفريقية قطع خطبة عبد المؤمن وأولاده وخطب للإمام الناصر لدين الله
(3)
، وأرسل إليه يطلب الخلع والأعلام السود. وقصد في هذه السنة مدينة قفصة فحصرها، فأخرج أهلها من بها من الموحدين، [من عساكر]
(4)
ولد عبد المؤمن، وسلموها إلى الملثم، ورتب فيها جنداً من الملثمين والأتراك، وحصنها بالرجال. وأما يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن فإنه لما وصله الخبر اختار من عسكره عشرين ألف فارس من الموحدين، وقصد قلة العسكر لقلة القوت في البلاد، ولما جرى فيها من التخريب وكان ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
وفيها .................................
(5)
وفيها حج بالناس من العراق طاشتكين، ومن الشام ست الشام وولدها حسام الدين اين لاجين وجماعة
(6)
من المعتبرين.
(1)
ما بين الحاصرتين إضافة من الكامل، ج 10، ص 136 للتوضيح. وهو عبد الواحد بن عبد الله أبو محمد المعروف بوامَجّورُ توفي سنة 583 هـ. انظر: ابن الأبار: الحلة السيراء، ج 2، ص 279 - ص 277، تحقيق حسين مؤنس، الطبعة الأولى سنة 1963.
(2)
باشو: مدينة: ضمن إقليم جزيرة شريك بالقرب من القيروان. ياقوت: معجم البلدان، ج 1، ص 470.
(3)
الناصر لدين الله: هو أحمد بن العباس بن المستضئ بأمر الله، ولد سنة 553 هـ، وتولى الحكم سنة 570 هـ وتوفي سنة 622 هـ.
(4)
ما بين الحاصرتين إضافة من الكامل، ج 10، ص 137، للتوضيح.
(5)
بياض في الأصل بمقدار نصف سطر.
(6)
ورد هذا النص بالتفصيل في الكامل، ج 10، ص 136 - ص 138.
ذكر من توفي فيها من الأعيان
أبو محمد
(1)
عبد الله بن أبي الوحش بَرّي بن عبد الجبار بن بَرّي المقدسي ثم المصرى؛ أحد أئمة اللغة [29] والنحو في زمانه، وعليه كان تعرض المسائل بعد ابن بابشاذ
(2)
، وكان كثير الاطلاع عالماً بهذا الشأن، مطرحاً للتكلف في كلامه، لا يعرج على الإعراب فيه إذا خاطب الناس، وله التصانيف المفيدة منها: الحواشي الفائقة على كتاب صحاح الجوهرى، أتى فيها بالعجائب والغرائب، واستدرك عليه فيها مواضع كثيرة، وهي دالة على سعة علمه وغزارة مادته وعظم اطلاعه. واشتغل عليه خلق كثير منهم: أبو موسى الجزُولي صاحب المقدمة في النحو. وكان عارفاً بكتاب سيبويه وعلله، وإليه كان التصفح في ديوان الإنشاء، لا يصدر كتاب من الدولة إلى ملك من ملوك النواحي إلا بعد أن يتصفحه ويصلح ما لعله فيه من خلل خفي. وهذه كانت وظيفة ابن بابشاذ. وولد بمصر في الخامس من رجب سنة تسع وتسعين وأربعمائة، وتوفي بها ليلة السبت السابعة والعشرين من شوال سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة. وبَرى بفتح الباء الموحدة وتشديد الراء المكسورة وبعدها ياء وهو اسم علم يشبه النسبة.
أبو السعود الحريمى الطاهري
(3)
؛ كان عطاراً فأقامه الله تعالى فانقطع إليه، وصحب الشيخ عبد القادر وأخذ عنه الطريق، وصار المشار إليه بعده. وكانت له كرامات وإشارات وقبول قائم عند الخاص والعام، وكان طريقته الفناء لا يأكل حتى يُطعم، ولا يشرب حتى يُسقى، ولا يلبس ثوباً حتى يجعل في عنقه. وكان بين يدي الله عز وجل بمنزلة الميت بين يدي الغاسل، لا يزال مستقبل القبلة على طهارة، لا يتكلم إلا جواباً. وكان حسن الأخلاق، كريم الطباع متواضعاً، توفي ليلة الأربعاء عاشر شوال، ودفن بمقابر باب حرب، وبنوا عليه قبة عالية، وقبره ظاهر يُزار. سمع الشيخ [عبد القادر]
(4)
وطبقته، وحَدَّث بشيء يسير، واشتغل بحاله عن الرواية رحمه الله رحمة واسعة.
(1)
انظر ترجمته في وفيات الأعيان، ج 3، ص 108 - 109؛ البداية والنهاية، ج 12، ص 341؛ النجوم الزاهرة، ج 6، ص 103 - 106؛ شذرات الذهب، ج 4، ص 273 - 276.
(2)
ابن بابشاذ/ هو أبو الحسن طاهر بن أحمد بن بابشاذ النحوي توفي سنة 469 هـ. وفيات الأعيان، ج 2، ص 515 - 117 ترجمة رقم 308.
(3)
انظر ترجمته في مرآة الزمان، ج 8، ص 269؛ شذرات الذهب، ج 4، ص 274.
(4)
"عبد القاهر" في الأصل، والمثبت من مرآة الزمان، ج 8، ص 249.
الحسن
(1)
بن على بن بركة بن عَبِيده بفتح العين، أبو محمد المُقْرِئ الكرخى النحوي؛ قرأ القرآن على أبي محمد النحوي، والنحو على أبي السعادات بن الشجري، وسمع الحديث على قاضى المارستان وغيره، واستفاد منه خلق كثير، وكانت وفاته في شوال:
وله شعر جيد منه في وصف المشيب هذه الأبيات:
وما شنآن الشيب من أجل لونه
…
ولكنه داع إلى الموتِ مسرعُ
إذا ما بدت منه الطليعة آذنت
…
بأن المنايا بعدها تتطلعٌ
فإن قصها المقراض جاءت بأختها
…
وتطلع يتلوها ثلاثٌ وأربعٌ
وإن خُضبت خال الخضاب لأنه
…
يغالب صنع الله واللهُ أصنعُ
ويضحي كريش الديك فيه تَلَمُّعُ
…
وأفظع ما يُكساه ثوبٌ ملمعُ
(2)
ابن رئيس الرؤساء
(3)
، واسمه على بن محمد بن عبد الله بن هبة الله بن المظفر ابن رئيس الرؤساء، أبي القاسم علي بن الحسن، ابن المسلمة، أبو نصر، ابن الوزير أبى الفرج الذي قتلته الباطنية في أيام المستضئ وهو خارج إلى مكة. ولما قُتِل أبوه دخل في طريقة التصوف، وبني رباطاً بالقصر من دار الخلافة للصوفية، ورتب فيه جماعة منهم، ولم يدخل في شيء من الولايات. وكان قد سمع ببغداد أبا الوقت، وأبا الفضل الأرموى وغيرهما، وسمع منه أبو القاسم البَندنجي وغيره. وخرج من بغداد ولم يعلم به أحد، فوصل إلى دمشق، فأكرمه صلاح الدين واحترمه، بحيث أن صلاح الدين كان إذا أكل طعاماً وأكل ابن الوزير معه غسل يده معه في الطشت، فحسده شمس الدين بن هبيرة، وبلغ السلطان فقال: هذا وزير ابن وزير ابن وزير - إلى أن انقطع نَفَسُهُ - مع الدين المتين والزهد في الدنيا وغيره. وأقام عند السلطان محترماً إلى أن توفي في جمادى الآخرة، ودفن بقاسيون، وصلى السلطان عليه، وقد بلغ أربعًا وأربعين سنة.
(1)
انظر ترجمته في مرآة الزمان، ج 8، ص 269؛ النجوم الزاهرة، ج 6، ص 104.
(2)
سبط ابن الجوزي، مرآة الزمان، ج 8، ص 269 - ص 250.
(3)
انظر ترجمته في وفيات الأعيان، ج 6، ص 241 - 242؛ مرآة الزمان، ج 8، ص 250.
البهلوان محمد بن أيلد كز
(1)
، الملقب شمس الدين، وكان حاكماً على العراق وأذربيجان والرى وأصفهان، وكان اسم الملك واقعاً على [طغرلبك]
(2)
بن أرسلان بن [طغرلبك]
(3)
بن ملكشاه، ولكنه كان تحت حِجْر البهلوان، ويأكل البلاد باسمه، وكان ظالماً فاتكاً. ولما احتضر أوصى إلى أخيه لأمه قِزل، ومات بهمذان، وخَلَّفَ ما لم يخلفه أحد من الأموال مما لا يحصى، وترك خمسة آلاف مملوك، وثلاثين ألف فرس وبغل و [جمل]
(4)
. وأقام أخاه مقامه.
وفي تاريخ بيبرس
(5)
: وفي أول هذه السنة توفي شمس الدين محمد البهلوان، وملك أخوه لأمه مظفر الدين قِزل. وكان البهلوان صاحب بلد الجبل وهمذان والرى وأصفهان وأذربيجان وأرَّان
(6)
وغيرها من البلاد، وكان عادلاً حسن السيرة ذا سياسة حسنة، وكانت تلك البلاد في أيامه آمنة والرعايا مطمئنة.
وكان السلطان طغرل بك بن أرسلان بن طغرل بن محمد بن ملكشاه معه ليس له إلا الخطبة فقط، وليس له من الأمر شيء، فلما مات البهلوان وملك أخوه قِزل أرسلان، كره طغرل مكان الحجر عليه، وخرج عن حكمه، وانضم إليه جماعة من الأمراء والجند البهلوانية، فاستولى على بعض البلاد، وجرت بينه وبين قِزل خطوب، ثم اتهم الأمراء البهلوانية بمباطنة قِزل أرسلان، فجمعهم وقتلهم، وقتل وزيره عز الدين، وأخاه صبرا، فنفرت منه قلوب خواصه، وانحازوا إلى قِزل أرسلان، وكان ذلك من أَكَدَّ أسباب استيلاء قِزل أرسلان وتمكنه.
قلت: قد اختلف كلام المؤرخين في سيرة البهلوان؛ فذكر صاحب المرآة
(7)
أنه كان ظالماً فاتكاً كما ذكرنا. وذكر بيبرس أنه كان عادلاً حسن السيرة. وكذلك ذكر المؤيد في
(1)
انظر: مرآة الزمان، ج 8، ص 250.
(2)
،
(3)
"طغريل" في الأصل. والمثبت بين الحاصرتين كما ورد في وفيات الأعيان، ج 5، ص 208، 209 في اسم أرسلان شاه بن طغرلبك بن محمد بن ملكشاه.
(4)
"جمال" في الأصل. والمثبت بين الحاصرتين من مرآة الزمان، ج 8، ص 250.
(5)
ورد هذا النص بتصرف في الكامل، ج 10، ص 140 - ص 141.
(6)
أرَّان: ولاية واسعة من أصقاع أرمينيا، بها بلاد كثيرة منها جَنْزة، وبَرْدْعَة، وشمكور، وبيلقان، وبين أذربيجان وآران نهر يقال له الرس. انظر: معجم البلدان، ج 1، ص 183.
(7)
سبط ابن الجوزي: مرآة الزمان، ج 8، ص 250.
تاريخه
(1)
. وابن كثير
(2)
أيضاً في تاريخه. وقِزل أرسلان اسمه عثمان، وهو بكسر القاف والزاي المعجمة، وفي آخره لام، ومعناه الأحمر. وأرسلان معناه الأسد، والبهلوان بفتح الباء الموحدة.
(1)
المختصر في أخبار البشر، ج 3، ص 70 - ص 71.
(2)
لم ترد أخبار قزل في البداية والنهاية وإنما وردت في الكامل ج 10، ص 140 - ص 141.
[31]
[
فصل فيما وقع من الحوادث في السنة الثالثة والثمانين بعد الخمسمائة
(*)
]
(1)
استهلت هذه السنة وكان أولها يوم السبت، وكان يوم النيروز
(2)
، وذلك أول سنة الفرس، واتفق أنه أول سنة الروم أيضاً، وهذا اليوم الذي نزلت فيه الشمس برج الحمل، وكذلك كان القمر في برج الحمل أيضاً.
قال ابن الأثير
(3)
: وهذا شيء يبعد وقوع مثله.
[ذكر غزوات صلاح الدين وفتوحاته]
(4)
كان السلطان رحمه الله قد جمع عساكره في آخر السنة الماضية، ولما استهلت هذه السنة - التي أولها يوم السبت - برز السلطان من دمشق في هذا اليوم، وقيل برز في أثناء الشهر، أعني محرم هذه السنة، فسار إلى رأس الماء
(5)
، فنزل ولده الأفضل هناك في طائفة من الجيش، وتقدم السلطان ببقية الجيش إلى بصرى، ثم خيم على قصر أبي سلامة ينتظر قدوم الحاج، وفيهم أخته ست الشام وابنها حسام الدين محمد بن عمر بن لاجين، ليَسلَموا من معرة إبرنس الكرك
(6)
.
وفي تاريخ بيبرس: وفي هذه السنة تقدم أمر صلاح الدين إلى جميع البلاد بأن يحضروا للغزاة في سبيل الله، فحضر من النجدات عسكر الموصل وعسكر ديار بكر مقدمهم الأمير زين الدين
(7)
صاحب حران، وعسكر الشام مقدمهم اين دَلْدُرم، وعسكر
(*) يوافق أولها 13 مارس 1187 م.
(1)
ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة أ، بسبب الرطوبة ومثبت في نسخة ب.
(2)
النيروز: كان النيروز القبطي من جملة المواسم، تعطل فيه الأسواق وتفرق فيه الكسوة لرجال الدولة وأسرهم، وأول من اتخذ النيروز خمشيد أحد ملوك الفرس الأول، ومعنى النيروز اليوم الجديد. المقريزي: الخطط، ج 2، ص 394 - 395.
(3)
ورد هذا النص بتصرف في الكامل، ج 10، ص 143.
(4)
ما بين الحاصرتين ساقط من نسخة أ بسبب الرطوبة. والمثبت من نسخة ب.
(5)
رأس الماء: ميدان فسيح للحرب في حوران على بعد نحو 20 ميلاً شمالي درعا. انظر: العماد الأصفهاني: الفتح القسى، تحقيق محمد محمود صبح، ص 59، حاشية هو القاهرة د. ت.
(6)
ورد هذا النص بتصرف في الكامل، ج 10، ص 143؛ الفتح القسى، ص 59؛ البداية والنهاية، ج 12، ص 341.
(7)
هو زين الدين أبو المظفر يوسف. انظر: وفيات الأعيان، ج 4، ص 114 - 115.
مصر وحلب وغيرها. وخرج من دمشق وقصد الكرك على ما نذكره عن قريب إن شاء الله
(1)
.
وفي المرآة
(2)
: خرج السلطان من دمشق غرّة المحرم بعساكر الشام، ونزل بُصرى يرتقب وصول الحاج، وقد كان بلغه أن إبرنس يرتقب وصولهم، فخاف من غدره، ووصل الحاج في أواخر المحرم، وخلا سرّ السلطان منهم، فسار إلى الكرك على ما نذكره.
وذكر صاحب النوادر السلطانية
(3)
: لما كان المحرم سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة عزم صلاح الدين على قصد الكرك، فسير إلى حلب من يستحضر العسكر، وبرز من دمشق في منتصف المحرم، فسار حتى نزل بأرض منيطرا
(4)
لاجتماع العساكر المصرية والشامية. وأمر العساكر المتواصلة إليه بشن الغارة على ما في طريقهم من البلاد الساحلية، ففعلوا ذلك، وأقام رحمه الله بأرض الكرك حتى وصل الحاج الشامي إلى الشام، وأمنوا غائلة العدو. ووصل قَفْل مصر الشتوى، ووصل معهم بيت الملك المظفر، وما كان له بالديار المصرية. وتأخرت عنه العساكر الحلبية بسبب اشتغالهم بالفرنج بأرض أنطاكية، وبلاد ابن لاون
(5)
؛ وذلك أنه كان قد مات - لعنه الله - ووصى لابن أخيه بالملك. وكان الملك المظفر بحماة، وبلغ الخبر السلطان، فأمرهم بالدخول إلى بلاد العدو وإخماد ثائرته، وكان وصول تقي الدين إلى حلب في [سابع عشر]
(6)
من محرم هذه السنة، فنزل دار عفيف الدين بن زريق وأقام بها إلى ثالث صفر، ثم انتقل [32] إلى دار طمان
(7)
. وفي تاسع صفر سار الملك المظفر بعسكر حلب إلى حارم وأقام بها، ليعلم العدو أن هذا الجانب ليس بمهمل. وعاد السلطان إلى الشام، وكان وصوله إلى السواد في خامس عشر ربيع الأول من هذه السنة.
(1)
ورد هذا النص بتصرف في الكامل، ج 10، ص 144؛ الفتح القسى، ص 61؛ النوادر السلطانية، ص 75؛ مفرج الكروب، ج 2، ص 187.
(2)
مرآة الزمان، ج 8، ص 250 - 251.
(3)
ابن شداد: النوادر السلطانية، ص 74 - ص 75.
(4)
"نيطرا" كذا في النوادر السلطانية. والمثبت من الأصل ومن معجم البلدان، ج 4، ص 673. وهو حصن بالشام قريب من طرابلس.
(5)
"ليون" كذا في الأصل، والمثبت من النوادر السلطانية، ص 74 حيث ينقل العينى عنه.
(6)
"السابع والعشرين" كذا في الأصل. والمثبت من النوادر السلطانية، ص 74 حيث ينقل العينى عنه.
(7)
"طمان" في الأصل؛ زبدة الحلب، ج 3، ص 91؛ مفرج الكروب، ج 2، ص 187، وفي النوادر السلطانية، ص 74 "كلمات" ويبدو أن هذا الخطأ مطبعي.
وفي يوم الخميس سابع عشره نزل بعشترا، ولقيه ولده الملك الأفضل ومظفر الدين وجميع العساكر.
وفي منتصف ربيع الآخر عرض السلطان العساكر على تل يعرف بتل تسيل، وتقدم إلى أرباب الميمنة بحفظ موضعهم، وإلى أصحاب الميسرة كذلك، وإلى أصحاب القلب بمثله. ثم ذكر صاحب هذا التاريخ
(1)
وقعة حطين، ولم يذكر ما جرى قبل هذه الوقعة من الأمور، ونحن نذكرها مفصلة بعون الله ولطفه.
ذكر محاصرة الكرك
لما قدم الحاج في أواخر صفر، نزل السلطان على الكرك، وقطع ما حوله من الأشجار ورعي الزروع وأكلوا الثمار، وجاءته العساكر المصرية فتلقاهم بالقريتين، واجتمع عنده خلق كثير من العرب والترك والكرد وغيرهم. وكذلك فعل بشوبك ما فعل بالكرك من المضايقة والمحاصرة، وإذهاب ضياء تلك الضياع، وإزالة نقاء تلك البقاع. وأقام على هذه الحالة في ذلك الجانب شهرين، والملك الأفضل ولده مقيم برأس الماء في جمع عظيم من العسكر، وتوافت الجيوش الشرقية فنزلوا عند الأفضل، وقعدوا ينتظرون الإشارة من السلطان
(2)
.
ذكر بعث الأفضل إلى أعمال طبرية سرية
ثم إن الملك الأفضل بعث سرية
(3)
نحو أعمال طبرية وأمرهم بالغارة على الغِرَّة، وجعل مقدمهم مظفر الدين بن زين الدين على كوجك، وجعل على عسكر دمشق قايماز النجمي، وعلى عسكر حلب دُلْدَّرم الياروقي، فساروا وصَبَّحوا صفورية
(4)
، فخرج إليهم الفرنج في جمع عظيم من الداوية. والإستبارية وغيرهما، فوقع حرب عظيم وكاد المسلمون أن ينهزموا وينفلوا، فثبت قايماز النجمي في صدورهم، وكذلك مظفر الدين
(1)
ابن شداد: النوادر السلطانية، ص 75.
(2)
ورد هذا النص بتصرف في كل من: الكامل، ج 10، ص 143 - ص 145؛ الروضتين، ج 2 ق 1، ص 247 - ص 248.
(3)
سرية: السرية قطعة من الجيش ما بين خمسة أنفس إلى ثلاثمائة أو هي من الخيل نحو أربعمائة، وجمعها سرايا. انظر: المعجم الوسيط مادة "سري".
(4)
صفورية: بلدة من نواحي الأردن بالشام، وهي قرب طبرية. انظر: معجم البلدان، ج 3، ص
402.
حمل عليهم من ناحية، ودُلدروم من ناحية، فقتلوا وغنموا وأسروا وسبوا ورجعوا سالمين غانمين. وجاء الخبر بالفتح والظفر للسلطان صلاح الدين وهو بالكرك، وكان هذا مقدمةً للفتح
(1)
.
وفي تاريخ بيبرس: ندب السلطان ولده الأفضل للغارة على عكا والسواحل، وسير صحبته مظفر الدين كوكبري، فلما وصلوا صفورية التقوا الفرنج ووقع القتال، فهزم الله عز وجل الإفرنج وقتلوا منهم جماعة كثيرة؛ منهم مقدم الإستبارية، وأسر الباقون. وسُيّرت البشائر إلى البلاد، ولما انتهى الخبر إلى السلطان، رجع عن الكرك ولحق بالعسكر الذي مع ولده الأفضل وقد تلاحقت إليه العساكر والنجدات.
وفي المرآة
(2)
: كان السلطان صلاح الدين قد أَمر ولده الأفضل عند مسيره إلى الكرك أن ينزل على رأس الماء بطائفة من العسكر، [33] ينتظر باقي العساكر الشرقية، فأنهض الأفضل منهم طائفة للغارة على طبرية، وجعل مقدم العساكر الشرقية مظفر الدين، وعلى عسكر الشام صارم الدين قايماز النجمي، فنازلوا طبرية، وتقدم بدر الدين دُلْدُرم مقدم عسكر حلب إلى طبرية، فخرج إليه مقدم الداوية والإستبارية ومعهم جماعة فقاتلوهم، فقتلهم دلدرم وأسر بعضهم، وسار إلى صفورية ففعل كذلك، وعاد بالأساري إلى الأفضل وهو على شعب الشقيفات
(3)
. وجاء السلطان تسيل، قرية غربي نوي، وصعد على تلها، وعرض العساكر وسَّرَّ بما رأي، واندفع يوم الجمعة السابع والعشرين من ربيع الأول نحو "فيق"
(4)
. ورحل الأفضل بالعساكر معه، فالتقوا على الأقحوانة، وكان يقصد المسير إلى العدو يوم الجمعة تبركاً بأدعية الخطباء، وخيم على ساحل البحيرة في اثني عشر ألفاً من الفرسان، وأما الرجالة فيقال أنهم كانوا في ثمانين ألفاً ما بين فارس وراجل، فنزلوا صفورية، وتقدم السلطان إلى طبرية.
(1)
ورد هذا النص بالتفصيل في الفتح القسى، ص 61 - ص 64؛ كما ورد هذا النص بتصرف في الكامل، ج 10، ص 145 - ص 146؛ زبدة الحلب، ج 3، ص 93 - ص 95؛ النوادر السلطانية، ص 77 - 78؛ مفرج الكروب، ج 2، ص 188.
(2)
انظر: مرآة الزمان، ج 8، ص 251.
(3)
"شعب الشهاب" في مرآة الزمان، ج 8، ص 251.
(4)
فيق: مدينة بالشام بين دمشق وطبرية، ويقال أفيق. انظر: معجم البلدان، ج 3، ص 932؛ تقويم البلدان، ص 236.
ذكر محاصرة طبرية وفتحها
لما تقدم السلطان إلى طبرية نصب عليها المجانيق ونقب أسوارها، ففتحها يوم الخميس "الرابع عشر"
(1)
من ربيع الآخر، وتمنعت القلعة عليه وبها زوجة القومص، وتقدم الفرنج فنزلوا لُوبيه
(2)
يوم الجمعة عند طلوع الشمس، وملك المسلمون عليهم الماء، وكان يوماً حاراً، والتهب الغور عليهم، وأضرم مظفر الدين النار في الزرع، وباتوا طول الليل والمسلمون حولهم. فلما طلع الفجر يوم السبت، قاتلوا إلى الظهر، ثم صعدوا
(3)
إلى تل حطين
(4)
على ما نذكر الآن.
وقعة حطين
وقال ابن كثير
(5)
: لما سار السلطان إلى طبرية فتحها، وقد كانت طبرية تقاسم بلاد حوران
(6)
والبلقاء وما حولها من الجولان
(7)
، وتلك الأراضي كلها بالنصف، فأراح الله المسلمين من تلك المقاسمة وتوفرت عليهم.
وقال العماد
(8)
: وكانت الست صاحبة طبرية قد حمتها، ونقلت إليها كل ما ملكته وحوته، فلما جاء إليها السلطان أمنها على أصحابها وأموالها، وخرجت بنسائها ورجالها، وسارت الست إلى طرابلس - بلد زوجها القومص - بمالها وحالها، وعادت طبرية آهلة آمنة بأهل الإيمان، ثم عين السلطان لولايتها صارم الدين قايماز النجمي وهو من أعيان الأمراء.
(1)
اتفق العينى مع سبط ابن الجوزي في تاريخ فتح طبرية. انظر: مرآة الزمان، ج 8، ص 251؛ أما ابن شداد، وابن العديم فقد ذكرا أن فتح طبرية كان يوم السبت الرابع والعشرين من ربيع الآخر، و أن تسلم قلعة طبرية كان يوم الأحد الخامس والعشرين من الشهر نفسه. انظر: النوادر السلطانية، ص 76، ص 79؛ زبدة الحلب، ج 3، ص 97.
(2)
لوبية: أرض بالقرب من طبرية. الفتح القسى، ص 88، حاشية 6.
(3)
مرآة الزمان، ج 8، ص 251.
(4)
حطين: قرية بين أرسوف وقيسارية وبها قبر شعيب عليه السلام وهي بين طبرية وعكا. معجم البلدان، ج 2، ص 291.
(5)
البداية والنهاية، ج 12، ص 343.
(6)
حوران: كورة واسعة من أعمال دمشق من جهة القبلة ذات قرى كثيرة ومزارع. معجم البلدان، ج 2، ص 358.
(7)
الجولان: قرية، وقيل: جبل من نواحي دمشق ثم من عمل حوران. معجم البلدان، ج 2، ص 159.
(8)
الفتح القسي، ص 85.
وقال ابن كثير
(1)
: ولما اجتمع السلطان بولده الأفضل خيم على عشترا، وسمع الفرنج بذلك، فاجتمعوا كلهم وتصالحوا فيما بينهم، ودخل بينهم قومص صاحب طرابلس الذي نقض العهد، وإبرنس الكرك في جمع عظيم، قيل: كانوا خمسين ألفاً. وقيل: ثلاثاً وستين ألفاً، وقد خوفهم القومص بأس المسلمين، فاعترض عليه إبرنس الكرك، فقال له:[لا أشك]
(2)
إنك تحب المسلمين وتخوفنا من كثرتهم، والنار لا تخاف من كثرة الحطب. فقال القوم لهم: ما أنا إلا واحد منكم، وسترون غب ما أقول لكم. وكانت طبرية لقومص، وكان قد هادن السلطان ودخل في طاعته - كما ذكرنا - فأرسلت الفرنج إليه والقسوس والبطرك ينهونه عن [34] موافقة السلطان.
وأصل ملك قومص طبرية أنه كان لطبرية ملك يقال له أماري بن فلك، هلك في آخر سنة تسع وستين وخمسمائة، وخلف ولداً مجذوماً قد سقطت أعضاؤه، فوضع الفرنج التاج على رأسه، ورضوا به مع عيبه، حتى لا يخرج الملك من بيتهم، فبقى بينهم زهاء عشر سنين ملكاً مطاعاً
(3)
، فلما أحس بهلاكه أحضر البطريق والقسوس وأكابر دولته، وكان له ابن أخت صغير، وقال لهم: يكون هذا ملكاً ولكن القومص يكفله إلى أن يكبر، فإذا كبر يستقل بالملك دونه. فلما سمع قومص الوصية بذلك قبلها وسكن بطبرية، وتزوجت أم الصغير بقومص، فأراد قومص أن يستبد بالملك فلم يوافقه الداوية، وقالوا يلزمك العمل بشروط الوصية، فكفل بالأمر وهو مغلوب، ورغب في مقاربة السلطان ومهادنته؛ ليتقوى بذلك على المُلك. فاشتد أمره إلى أن مات الصغير، فانتقل المُلك منه إلى أمه، وبطل ما كان في نية قومص من استبداده بالملك، فانتقل المُلك إليها واجتمع الفرنج عليها، فقالت لهم: زوجى أقدر على الملك وهو أحق به. وأخذت التاج من رأسها فوضعته على رأسه، ثم إن الملك الكبير طالب قومص بحساب ما تولاه، فاستنصر قومص عليه بالسلطان صلاح الدين، فهادنه وتقرب منه. ثم لما اجتمعت العساكر الإسلامية من الشامية والمصرية والجزرية، جاء الملك إلى قومص بنفسه وقبح له رأيه في مهادنته مع السلطان، ورجَّعه عن ذلك، حتى اتفقت الإفرنج كلهم على المسلمين
(4)
.
(1)
نقل العينى هذا النص بتصرف من البداية والنهاية، ج 12، ص 341 - ص 342.
(2)
"لاشك" في الأصل. والمثبت من البداية والنهاية، ج 12، ص 342، حيث ينقل العينى عنه.
(3)
ورد هذا النص يتصرف في الفتح القسى، ص 67 - ص 68.
(4)
ورد هذا النص بتصرف في الفتح القسي، ص 67 - ص 68.
ذكر وقعة حطين
ولما اجتمع الفرنج لملتقى السلطان بفارسهم وراجلهم وساروا إلى السلطان، ركب السلطان من عند طبرية وسار إليهم يوم السبت لخمس بقين من ربيع الآخر، والتقى الجمعان واشتد القتال، ولما رأى القومص شدة الأمر حمل على من قدامه من المسلمين، وكان هناك تقي الدين صاحب حماه فأخرج له وعطف عليهم، فنجا القومص ووصل إلى طرابلس وبقى مدة ومات غُبنًا لعنه الله. وأخذ المسلمون بالفرنج من كل ناحية وأبادوهم قتلاً وأسراً، وكان في جملة من أسر ملك الفرنج الكبير والبرنس أرناط صاحب الكرك وصاحب جُبيل وابن الهنفري ومقدم الداويه وجماعة من الاستباريه
(1)
، وما أصيب الفرنج من حين خرجوا إلى الشام وهي سنة إحدى وتسعين وأربعمائة إلى الآن بمصيبة مثل هذه الوقعة، وهي الوقعة العظيمة التي فتح الله بها الساحل وبيت المقدس.
وقال ابن الأثير
(2)
: وكان في جملة الأساري جميع ملوكهم سوي قومص صاحب طرابلس فإنه انهزم في أول الوقعة وأخذ صليبهم الأعظم عندهم، وهو الذي يزعمون أنه هو الذي صُلب عليه المصلوب، وقد غلفوه بالذهب ورصعوه باللآلى والجواهر النفيسة {وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26)}
(3)
.
وقال ابن واصل
(4)
: ذكر العماد أن السلطان الملك [35] الناصر خلص في هذه التوبة ثلاثين ألف أسير من المسلمين، وأسر من الكفار مائة ألف أسير، وكان يوماً عظيماً حتى إنه ذكر أن بعض الفلاحين رآه بعضهم وهو يقود نيفاً وثلاثين أسيراً من الفرنج، قد ربطهم بطنب خيمة، وباع بعضهم أسيراً بنعل لبسها في رجله.
وفي المرآة
(5)
: ولما فتح الله للمسلمين ونصرهم على الإفرنج جيء إلى السلطان بصليب الصلبوت، وهو مرصع بالجواهر واليواقيت في غلاف من ذهب، وهو عند
(1)
ورد هذا النص بتصرف في الكامل، ج 10، ص 146 - ص 148؛ الفتح القسي، ص 77 - ص 83؛ النوادر السلطانية، ص 75 - ص 78؛ الروضتين، ج 2 ق 1، ص 254 - ص 256.
(2)
نقل العيني هذا النص بتصرف من الكامل، ج 10، ص 147. ص 148.
(3)
"سورة الفرقان"، آية رقم (26).
(4)
نقل العين هذا النص بتصرف من مفرج الكروب، ج 2، ص 192، انظر: هذا الحدث بالتفصيل في الفتح القسي، ص 80 - ص 84؛ النوادر السلطانية، ص 77 - ص 78.
(5)
مرآة الزمان، ج 8، ص 251؛ الروضتين، ج 2 ق 1، ص 258.
النصارى مثل المسيح. والذي أسر الملك درباس الكردي، والذي أسر إبرنس إبراهيم غلام المهراني، فلما رآهم السلطان نزل وسجد شكراً لله تعالى، وجاء إلى خيمته فاستدعاهم فجلس الملك عن يمينه وإيرنس الكرك إلى جانب الملك، ونظر السلطان إلى الملك وهو يلهث عطشاً، فأمر له بقدح من ثلج وماء فشربه وسقي الإيرنس. فقال السلطان: ما أذنت لك بسقيه فلم سقيته؟ وكان السلطان قد نذر أن يقتل الإبرنس بيده، فقال له: يا ملعون يا غدار حلفت وغدرت ونكثت، وجعل يعدد عليه غدراته، ثم قام إليه فضربه بالسيف حلَّ كتفه، وتقدم المماليك وقطعوا رأسه وأطعموا جثته للكلاب، فلما رآه الملك قتيلاً خاف وطار عقله، فأمنه السلطان وقال: هذا غدار وكذاب غدر غير مرة
(1)
.
وقال ابن كثير
(2)
: ولما تمت الوقعة أمر السلطان بضرب مخيم عظيم وجلس فيه على سرير المملكة، وعن يمينه أسرّة وعن يساره مثلها، وجيء بالأسارى يسحبون في قيودهم فضربت أعناقهم، فيهم جماعة من مقدمي الداوية والإستبارية بين يديه صبراً ولم يترك منهم من كان يذكر الناس عنه ذكراً، ثم جيء بالملوك فأجلسوا عن يمينه ويساره على مراتبهم؛ فأجلس ملكهم الكبير عن يمينه، وتحته أرناط برنس الكرك، وبقية الملوك عن يساره. فجيء [إلى]
(3)
السلطان بشراب من الجلاب
(4)
مثلوج فشرب، ثم ناول الملك فشرب، ثم ناول أرناط فشرب، فغضب السلطان وقال: أنا سقيتك ولم آمرك أن تسقيه هذا لا عهد له عندي. ثم تحول السلطان إلى خيمة داخل الخيمة واستدعى أرناط، فلما أوقف بين يديه قام إليه بالسيف وقال: أنا أنوب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم دعاه إلى الإسلام، فامتنع، فقتله وأرسل برأسه إلى الملوك وقال إنَّ هذا تعرض نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتلته
(5)
. وقال العماد: قام السلطان فضرب عنقه بيده. قلت: إنما فعل ذلك بيده إقامة لنذره الذي نذر حين مرض كما ذكرناه، ثم قتل السلطان جميع من كان في
(1)
مرآة الزمان، ج 8، ص 252 - ص 261.
(2)
نقل العيني هذا النص بتصرف من البداية والنهاية، ج 12، ص 342.
(3)
ما بين الحاصرتين مثبت من البداية والنهاية، 12، ص 343.
(4)
الجلاب: ماء الورد، وهو فارسي معرب وفي Dozy أنه الماء ينقع فيه الزبيب .. Dozy: Supp. Dict. Ar. T.I P. 204.
(5)
نقل العين هذا النص بتصرف من الفتح القسي، ص 86 - ص 87.
الأسرى من الداوية والإستبارية صبراً، وأراح الله المسلمين من هذين الجنسين النجسين، ولم يُسلم ممن عرض عليه الإسلام منهم إلا القليل فيقال: إنه بلغ القتلى ثلاثين ألفاً، وكذلك الأسرى كانوا ثلاثين ألفاً، وكان جيش الإفرنج ثلاثة وستين ألفاً، فقتلهم ومن سلم منهم مع قلتهم [36] أكثرهم جرحي، فماتوا ببلادهم بعد رجوعهم، ثم أرسل برؤوس الأسرى ورؤوس أعيان القتلى وصليب الصلبوت صحبة القاضي ابن أبي عصرون إلى دمشق؛ ليُودعوا في قلعتها، فدخل بالصليب منكوساً بين يدي القاضي إلى دمشق، وكان يوماً مشهوداً
(1)
.
وذكر في النوادر
(2)
ما ملخصه: أن صلاح الدين اندفع قاصداً نحو بلاد العدو في وسط نهار الجمعة السابع عشر من ربيع الآخر من هذه السنة، وكان بلغه أنهم اجتمعوا بأسرهم في مرج صفورية بأرض عكا، فقصدوا نحو المصاف معهم، فسار ونزل من يومه على بحيرة طبرية عند قرية تسمى الصنبرة
(3)
، ورحل من هناك ونزل غربي طبرية على سطح الجبل، وكان نزوله يوم الأربعاء الحادي والعشرين من ربيع الآخر، ولما رآهم لا يتحركون نزل جريدة على طبرية، وترك الأطلاب على حالها قبالة وجه العدو. وزحف على طبرية فأخذها في ساعة من النهار، ثم التقى العسكران على سطح جبل طبرية الغربي منها، وذلك في آخر الخميس الثاني والعشرين من ربيع الآخر. وحال الليل بين الفريقين، فتبايتا على مصاف شاكين في السلاح إلى صبيحة الجمعة الثالث والعشرين منه، فركب العسكران وتصادما وذلك بأرض قرية تسمى اللُوبيا، فحال الليل بينهما أيضاً. ولما كان صباح السبت الرابع والعشرين منه، ووقع القتال نصرالله المسلمين بعونه ولطفه، فلم ينج منهم واحداً، واعتصمت طائفة أخرى بتل يقال له: تل حطين - وهي قرية. عنده قبر شعيب عليه السلام، ثم ذكر مثل ما ذكرنا. ثم قال: ولما كان يوم الأحد الخامس والعشرين من ربيع الآخر نزل السلطان على طبرية، وتسلم في بقية ذلك اليوم قلعتها وأقام بها إلى يوم الثلاثاء
(4)
.
وقال ابن الساعاتي الشاعر يمدح السلطان، ويذكر وقعة حطين وغيرها وهي هذه:
(1)
يبدو أن العيني كتب هذا الحدث بالنص من البداية والنهاية، ج 12، ص 342 - ص 343.
(2)
النوادر السلطانية، ص 75 - ص 76.
(3)
الصنبرة: موضع بالأردن مقابل لعقبة أفيق بينه وبين طبرية ثلاثة أميال. معجم البلدان، ج 3، ص 419.
(4)
ورد هذا النص بتصرف في النوادر السلطانية، ص 75 - ص 79.
جَلتْ عَزماتُك الفتحَ المُبِينَا
…
فَقَدْ قَرّتْ عُيونُ المؤْمِنينا
(1)
ردَدْتَ أخِيذَةَ الإسلام لَمّا
…
غدا صَرفْ الْقَضاء بها ضمينا
(2)
وهانَ بِكَ الصليبُ وكان قِدْمّاِ
…
يَعِزُّ على العَوالى أنْ يَهُونَا
ومنها:
وصرتَ بوجْنَةِ الأيام خَالاً
…
وفي جيد العُلا عِقْداً ثميناً
وما طبريةُ إلا هدىٌّ
…
تَرفَّعَ عَنْ أكُفِّ اللامِسِينا
فَضضت خِتَامَها قَسْراً ومَنْ ذَا
…
يَصُدُّ: الليث أنْ يَلجَ
(3)
العَرِينا
لقد أنكَحتها سُمْرَ المعالي
(4)
…
فكانَ نتاجها الحربَ الزَّيُونا
قسَتْ حتى رَأَتْ كُفْؤا فلانَتْ
…
وغايةُ كُلِّ قاس أنْ يَلِينَا
ومنها
يهُزّ مَعَاطِفَ القُدْسِ ابتِهَاجًا
…
ويَرْضَى عَنْك مكَّةُ والْحُجُونا
[37]
فلَو أنَّ الجمادَ يُطِيقُ نُطْقًا
…
لنادَتْكَ ادخُلُوها آمِنينَا
ومنها:
ففي بَيسان ذا قُوامِنْك بُؤْسَا
…
وفي صَفَد أَتَوْكَ مُصَفَّديِنا
(5)
لقد جَاءتْهُمُ الأحْداثُ جَمعاً
…
كأنّ صروفها كانت كمِينَا
ومنها:
وقَد جردَّتَ عَزْماً نَاصِرِياً
…
يُحدِّثُ عن سَنَاهُ طُور سِينَا
وأذْعَن كوْكَب لَمَّا تَهَاوَتْ
…
نجومُ مُلُوكِها لَك مُذْعِنِينَا
فكنت كيوسفَ الصديق لما
…
له هوت الكواكب ساجدينا
لقد فَضَلتَ قَوافِيك القَوافي
…
كما فضَلَ العبيرُ الياسَمِينا
فأحْسِنْ واثقا بالله صُنْعاً
…
فليسَ يضيعُ أجرُ المحْسنِيِنا
لقد أتْعَبْتَ مَن طَلَبَ المَعَالي
…
وحَاولَ أن يَسُوسَ المُسْلِمينا
(1)
"المِيننا" في الأصل. والمثبت من الروضتين، ج 2 ق 1، ص 275.
(2)
"سنينا" في الأصل. والمثبت من الروضتين، ج 2 ق 1، ص 275.
(3)
"يرد" في الأصل. والمثبت من الروضتين، ج 2 ق 1، ص 275.
(4)
"صُمَّ العوالي" في الروضتين، ج 2 ق 1، ص 275.
(5)
انظر هذه الأبيات في: الروضتين، ج 2 ق 1، ص 275 - ص 277.
ذكر فتح عكا
وفيها لغتان المد والنسبة إليها: عكَّاوي وعكة بالهاء.
ولما فرغ السلطان من أمر طبرية سار إلى عكا، فنزل عليها يوم الأربعاء سلخ ربيع الآخر ففتحها صلحًا يوم الجمعة، وأخذ ما كان بها من حواصل وأموال وذخائر ومتاجر، واستنقذ من كان بها من المسلمين فوجدوا بها أربعة آلاف أسير منهم، ففرج الله عنهم، وأمر بإقامة الجمعة بعكا فكانت أول جمعة أقيمت بالساحل بعد أن أخذه الفرنج من نحو تسعين سنة.
وقال العماد الكاتب: وكان السلطان جعل للفقيه ضياء الدين عيسى الهكاري كل ما يتعلق بالداوية من منازل وضياع، فأخذها بما فيها من غلال
(1)
ومتاع، ووهب عكا لولده [الملك]
(2)
الأفضل. وقال: ودخلناها يوم الجمعة مستهل جمادى الأولى فأقمنا بها الجمعة، وأعدنا الكنيسة العظمى [مسجداً]
(3)
جامعاً. وخطب جمال الدين عبد اللطيف، ابن الشيخ أبي النجيب السهروردي
(4)
، فإنه تولى بها القضاء والخطبة.
وفي المرآة
(5)
: نازل السلطان صلاح الدين عكا يوم الأربعاء سلخ ربيع الآخر وليس بها من يحميها؛ لأن وقعة حطين أبادتهم، وكانوا ثلاثين ألف فطلبوا منه الأمان على نفوسهم وما يقدرون على حمله فأمنهم، فدخلها يوم الجمعة غرة جمادى الأولى، وغنم المسلمون أموالًا لا تحصى. ولما دخلوا عكا ركز كل واحد رمحه على دار فأخذها وما فيها، ولم يحضر هذا الفتوح العادل سيف الدين
(6)
أخو السلطان، وكان بمصر، فجاء
(1)
"غلات" في الأصل. والمثبت من الفتح القسى، ص 90، حيث ينقل العينى عنه.
(2)
ما بين حاصرتين إضافة من الفتح القسى، ص 90، حيث ينقل العينى عنه.
(3)
ما بين حاصرتين ساقط من الأصل، والمثبت من الفتح القسى، ص 90، حيث ينقل العيني عنه.
(4)
السهروردي: وهو عبد اللطيف بن الشيخ أبي النجيب عبد القاهر بن عبد الله بن محمد بن عمويه. والسهروردي نسبة إلى سُهْرَورد وهي بليدة عند زنجان من عراق العجم، انظر: وفيات الأعيان، ج 3، ص 204 - 205؛ الشذرات، ج 4، ص 208.
(5)
نقل العينى هذا النص بتصرف من مرآة الزمان، ج 8، ص 252.
(6)
هو الملك العادل سيف الدين أبو بكر محمد بن أبي الشكر أيوب بن شاذي بن مروان - أخو السلطان صلاح الدين - توفي سنة 115 هـ. انظر: وفيات الأعيان، ج 5، ص 74 - 79.
ففتح في طريقه مجدل بابا
(1)
ويافا على ما نذكره، وحضره الملك العزيز
(2)
لأنه مقدم مع العسكر المصري، ومضى إلى مصر وما عاد، اجتمع بأبيه وفارق أباه في شعبان والسلطان على صور
(3)
.
وكتب العماد الكاتب إلى بغداد كتاباً أوله {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105)}
(4)
.
والحمد لله على إنجاز هذا الوعد، وعلى نصرته لهذا الدين الحنيف من قبل ومن بعد، وجعل من بعد عسر يسرا، وأحدث [زمن]
(5)
بعد أمر أمراً، وهوَّن الأمر الذي ما كان الإسلام يستطيع عليه صبراً، وخوطب [النبي]
(6)
بقوله: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37)}
(7)
فالأولى في عصر النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة، والأخرى في هذه الدولة التي عتق فيها من رق الكتابة والزمان كهيئته قد استدار، والحق ببهجته قد استنار، والكفر قد ردَّ ما عنده من الشعار، والخادم ينشرح
(8)
في هذا الفتح العظيم والنصر الكريم ما يشرح صدر المؤمنين، ويسوء وجوه الكافرين، ويورد من البشرى ما أنعم الله به من يوم الخميس الثالث والعشرين من ربيع الآخر سلخه، وتلك سبعة أيام وثمانية أيام حسوما، عدموا فيها نفوسا وجسوما، فأصبحوا وقد هَوَوْا في الهاوية كأنهم أعجاز نخل خاوية، وأصبحت البلاد إلى الإسلام ضاحكة كما كانت بالكفر باكية.
ففي يوم الخميس فتحت طبرية ويوم الجمعة والسبت كانت الكسرة التي ما أبقت منهم بقية، لا يقوم لهم بعدها قائمة، {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ}
(9)
وهي أم البلاد وأخت إرم ذات العماد، إلى غير ذلك من الكلمات.
(1)
مَجْدَل يَابَا: أو مجدل يابه، قرية قرب الرملة بفلسطين، بها حصن محكم. معجم البلدان، ج 4، ص 418 - 419.
(2)
الملكَ العزيز: هو عماد الدين أبو الفتح عثمان، ابن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب؛ كان نائباً عن أبيه في الديار المصرية لما كان أبوه بالشام، ولما توفي أبوه بدمشق استقل بملكتها باتفاق من الأمراء. توفي سنة 595 هـ. انظر: وفيات الأعيان، ج 3، ص 251 - 253.
(3)
صور: بلد مشرف على البحر المتوسط، يحيط بها البحر من جميع جوانبها إلا الرابع، وتقع إلى جهة الشرق من عكا. معجم البلدان، ج 3، ص 433 - 434.
(4)
سورة الأنبياء، آية رقم 105.
(5)
ما بين الحاصرتين ساقط من الأصل، والمثبت من مرآة الزمان، ج 8، ص 253، حيث ينقل العينى عنه.
(6)
"الدين" كذا في الأصل، والمثبت من مرآة الزمان، ج 8، ص 253.
(7)
سورة طه، آية رقم 37.
(8)
"ينشرح" في مرآة الزمان، ج 8، ص 253.
(9)
سورة هود، آية رقم 102.
ذكر فتح مجدل يابا
ثم إن السلطان رحمه الله أرسل أخاه الملك العادل فنازل مجدل يابا وفتحه عنوة بالسيف.
وقال ابن كثير
(1)
: وجاء العادل إلى السلطان بعد وقعة حطين وفتح عكا، ففتح بنفسه حصوناً كثيرة.
وقال العماد الكاتب
(2)
: ولما فتح السلطان مدينة عكا، أقام ببابها مخيماً، وعلى فتح سائر بلاد الساحل مصمماً، وقد كان كتب إلى أخيه الملك العادل سيف الدين أبي بكر وهو بمصر بما فتح الله له، فوصلت البشري بوصوله - أي بوصول العادل - باشراً، وللواء الحمد ناشرًا، وأنه فتح حصن مجدل يابا ومدينة يافا عنوة، واغتنمها غزوة، ثم إن السلطان فرق أمراءه إلى فتح بلاد، ففتح كل واحد منهم حصنًا أو قلعة على ما نذكره الآن إن شاء الله.
ذكر فتح ناصرة وصفورية
أرسل السلطان مظفر الدين كوكبوري إلى الناصرة [وصفورية]،
(3)
ومعه حسام الدين طمان، فاستباحا حماها واستبي دماءهما، ففتحهما وغنم ما فيهما من الأموال والذخائر، وجاء إلى السلطان والأساري بين يديه مقرنين في الأصفاد، مقادين في الأقياد.
وفي تاريخ المؤيد
(4)
: وفرق السلطان عسكره ففتحوا الناصرة وقيسارية وهيفاء
(5)
وصفورية ومعليا
(6)
والفولة وغيرها من البلاد المجاورة لعكا بالسيف، وغنموا وقتلوا وأسروا أهل هذه الأماكن
(7)
.
(1)
البداية والنهاية، ج 12، ص 343 - ص 344.
(2)
الفتح القسى، ص 90 - ص 91.
(3)
ما بين الحاصرتين إضافة لاستقامة النص.
(4)
المختصر في أخبار البشر، ج 3، ص 72.
(5)
هيفا: ويقصد بها حيفا. انظر: معجم البلدان، ج 2، ص 381. كذا في المختصر في أخبار البشر، ج 2، ص 72. ولعله يقصد حصن حيفا الواقع على ساحل البحر المتوسط قرب يافا. انظر: معجم البلدان، ج 2، ص 381.
(6)
"معلثا" في الأصل، والمختصر ج 3، ص 72. والمثبت من الفتح القسى، ص 98؛ الكامل، ج 10، ص 150، ومعليا، إحدى نواحي الأردن ببلاد الشام؛ معجم البلدان، ج 4، ص 578.
(7)
المختصر في أخبار البشر، ج 3، ص 72.
ذكر فتح قيسارية
أرسل السلطان بدر الدين دلدروم الياروقي وغرس الدين قليج وجماعة من الأمراء إلى قيسارية، فافتتحوها بالسيف، وغنموا وأسروا وسبوا
(1)
.
ذكر فتح نابلس
أرسل السلطان حسام الدين محمد بن عمر بن لاين على سمت نابلس، ووصل إلى سبسطية
(2)
[39] فتسلمها وتعجل مغنمها، فوجد مشهد زكريا النبي عليه السلام قد اتخذه القسوس كنيسة، وأعاده مشهداً، ورده مسجداً، ووضع فيه منبراً، ثم أناخ على نابلس وحاصرها وطال عليه حصارها، ولم يزل عليها مقيماً ولقتالها مديماً، إلى أن استأمنوا منه فأمنهم، ففتحوا له القلعة، وملكها حسام الدين. ثم إن السلطان استنابه على نابلس ومعاملتها
(3)
.
ذكر فتح الفُولة
(4)
وغيرها من البلاد
وكانت الفولة أحسن القلاع وأحصنها وأملأها بالرجال والعدد، وهي للداوية حصن حصين ومكان مكين، وكان فيها مشتاهم ومصيفهم، ومقراهم ومضيفهم. فلما أتفق يوم المصاف خرجوا بأجمعهم إلى مصرعهم، فلما كسروا وأسروا وخسروا، أسلموا الحصن بما فيه إلى السلطان، وكانت فيه ذخائر عظيمة، ثم تسلم السلطان جميع ما كان في تلك الناحية من البلاد مثل: دبورية
(5)
وجينين
(6)
وذَرْعين
(7)
والطور واللجون
(8)
وبَيْسان
(1)
ورد هذا النص بتصرف في الفتح القسى، ص 94.
(2)
سبسطية: بلدة من نواحي فلسطين بينها وبين البيت المقدس يومان وهي من أعمال نابلس. معجم البلدان، ج 3، ص 33.
(3)
الفتح القسي، ص 95 - ص 96؛ الروضتين، ج 2 ق 1، ص 285 - ص 286.
(4)
والفُولة: بالضم بلفظ واحدة الفول، وهي الباقلا بلدة بفلسطين من نواحي الشام. معجم البلدان، ج 3، ص 924.
(5)
تل دبورية: دبورية بليد قرب طبرية من أعمال الأردن. معجم البلدان، ج 2، ص 546.
(6)
جينين: بكسر الجيم وسكون ثانيه ونون مكسورة أيضًا وياء أخرى ساكنة أيضًا ونون أخرى، بليدة حسنة بين نابلس وبيسان من أرض الأردن بها عيون ومياه. معجم البلدان، ج 2، ص 180.
(7)
زرعين: موضع من نواحي الأردن. الفتح القسي، ص 97، حاشية 7.
(8)
اللجون: بلد بالأردن بينه وبين طبرية عشرون ميلاً، معجم البلدان، ج 4، ص 351.
والقيمون
(1)
وجميع ما للطبرية وعكا من الولايات، والزيب
(2)
والبعنة وإسكندرونة
(3)
ومنواث
(4)
وغير ذلك.
ذكر فتح تبنين
ولما خلصت تلك الممالك والأعمال للسلطان، رسم لابن أخيه الملك المظفر عمر ابن شاهنشاه بقصد حصن تبنين، وأن يتوكل على الله ويستعين.
قال العماد
(5)
: فوصلنا إلى تبنين في ثلاث مراحل، ونزلنا عليها بالنوازل وبسطنا من المجانيق عليها أيدي الغوائل. فلما آيسوا من الحياة وعاينوا الممات سألوا الأمان من السلطان، واستمهلوا خمسة أيام لينزلوا بأموالهم فأمهلوا، وأطلقوا أسارى المسلمين، فلما جلوا البقعة وأخلوا القلعة، سيرهم السلطان ومعهم من العسكر المنصور من أوصلهم إلى صور
(6)
، ورتب في الموضع مملوكه سنقر، ووصاه بتأنيس النافر، وتعكيس الكافر، وأن يصلح خندقها وسورها
(7)
.
وفي النوادر
(8)
: نزل السلطان عليها يوم الأحد حادي عشر جمادى الأولى، وهي قلعة منيعة، وكان بها رجال أبطال شديدون في دينهم، فاحتاجوا إلى معاناة شديدة، ونصره الله عليهم، وتسلمها يوم الأحد ثامن عشر الشهر المذكور عنوة، وأسر من بقي بها بعد القتل، ثم رحل منها إلى مدينة صيدا متوكلاً على الله
(9)
.
(1)
القيمون: حصن قرب الرملة من أعمال فلسطين. معجم البلدان، ج 4، ص 218.
(2)
الزيب: قرية كبيرة على ساحل بحر الشام قرب عكا. معجم البلدان، ج 2، ص 964 - ص 965.
(3)
إسكندرونة: مدينة في شرقي أنطاكية على ساحل البحر المتوسط. معجم البلدان، ج 1، ص 254.
(4)
منواث: بليدة بسواحل الشام قرب عكا. معجم البلدان، ج 4، ص 972.
(5)
الفتح القسى، ص 100.
(6)
"الصُورة" في الأصل. والمثبت من الفتح القسي، ص 101؛ الروضتين، ج 2 ق 1، ص 290 - ص 291.
(7)
نقل العينى هذا النص بتصرف من الفتح القسي، ص 100 - 101؛ انظر أيضًا: الروضتين، ج 2 ق 1، ص 291؛ مفرج الكروب، ج 2، ص 205 - 206.
(8)
النوادر السلطانية، ص 80؛ الروضتين، ج 2 ق 1 ص 291.
(9)
انظر: الفتح القسي، ص 101؛ الروضتين، ج 2 ق 1، ص 291. بينما يذكر ابن العديم أن السلطان تسلم صيدا يوم الأربعاء العشرين منه. انظر: زبدة الحلب، ج 3، ص 97.
ذكر فتح صيدا
نزل عليها السلطان بعسكره يوم الأربعاء الحادي والعشرين من جمادى الأولى، فجاء رسل صاحبها بمفاتيحها وفتحت أبوابها، ودخل فيها المسلمون، وأقيمت بها الجمعة والجماعة.
[ذكر فتح بيروت]
(1)
ثم رحل السلطان من صيدا إلى بيروت، فنزل عليها يوم الخميس الثاني والعشرين من جمادى الأولى، وتسلمها يوم الخميس التاسع والعشرين منه، وذلك بعد قتال عظيم وحصار شديد ونقب لأسوارها. وظهر في تلك الأيام خراب شديد من الداوية، فأخر الأمر [40] لما اشتد بهم الحال خرج أحد المقدمين يستدعى الأمان، فأمّنهم السلطان فنزلوا على الطاعة، وسلَّموا البلد في التاريخ المذكور.
وفي النوادر
(2)
: لما فرغ بال السلطان من هذا الجانب رأي قصد عسقلان
(3)
، ولم ير الاشتغال بصور بعد أن نزل عليها ومارسها في هذا الوقت؛ لأن العسكر كانوا تفرقوا في الساحل، وذهب كل إنسان يأخذ لنفسه شيئاً، وكانوا قد ضرسوا من القتال وملازمة الحرب، وكان قد اجتمع في صور كل فرنجى بقى في الساحل فرأى قصد عسقلان لأن أمرها كان أيسر.
وكان السلطان فتح جُبيل
(4)
يوم الثلاثاء السابع عشر
(5)
من جمادى الأولى، وكان صاحب جبيل اسمه أوْك وهو الذي سلم جبيل إلى السلطان وهو على بيروت.
(1)
انظر: الفتح القسى، ص 104 - 106؛ الكامل، ج 10، ص 151 - 152؛ النوادر السلطانية، ص 80؛ الروضتين، ج 2 ق 1، ص 292؛ مفرج الكروب، ج 2، ص 206.
(2)
النوادر السلطانية، ص 80.
(3)
عسقلان: هي مدينة بالشام من أعمال فلسطين على ساحل البحر بين غزة وبيت جبرين - يقال لها: عروس الشام، معجم البلدان، ج 3، ص 673 - 674.
(4)
جُبَيل: بلد مشهور في شرقي بيروت. انظر: معجم البلدان، ج 2، ص 32.
(5)
"سابع عشرى" في الفتح القسي، ص 108.
ذكر فتح عسقلان وغزة والداروم
نزل السلطان عليها يوم الأحد السادس عشر من جمادى الآخرة، واجتمع السلطان بأخيه العادل عليها، وامتنع أهلها أشد الامتناع، وقاتلوا قتالاً عظيما. فضيق السلطان عليها بالرجال والقتال، ونصب المجانيق ونقب الأسوار، فلما ضاق عليهم الحال رأسلهم الملك المأسور وقال: قد بان عُذركم حين نقب السور. فترددت بينهم الرسالات، فقال لهم الملك المأسور:[لا تخالفوا ما به]
(1)
أشير عليكم من الأمر، فاسمعوني وأطيعوني، واحفظوا رأسي فهو رأس مالكم، فإني إذا تخلّصت خلّصت، وإذا استُنقذت أنْقذت
(2)
. وخرج المقدمون منهم وشاوروا الملك، فسلموا عسقلان على خروجهم بأموالهم سالمين، وذلك يوم السبت لانسلاخ جمادى الآخرة
(3)
.
وممن استشهد على عسقلان من الأمراء الكبار إبراهيم بن حسين المهراني
(4)
، وهو أول أمير افتتح بالشهادة، وختم بالسعادة. وكان السلطان قد أخذ في طريقه إلى عسقلان الرملة، ويُبْني
(5)
، وبيت لحم
(6)
، والخليل
(7)
، وأقام بها حتى تسلم حصون الداوية، وغزة، والنطرون
(8)
، وبيت جبريل
(9)
. وكان قد استصحب معه مقدم الداوية، وشرط أنه إذا سَلَّمَ معاقلهم أطلقه، فسلم هذه المواضع الوثيقة.
ثم اجتمع بالسلطان ابنه الملك العزيز عثمان صاحب مصر على عسقلان، فقرت عينه بولده، واعتضد بعضده، وكان قد استدعى الأساطيل المنصورة فوافت، والحاجب
(1)
"لا تخافوا بما" كذا في الأصل. والمثبت بين الحاصرتين من الفتح القسى، ص 113.
(2)
انظر: الفتح القسى، ص 112.
(3)
ورد هذا النص بتصرف في الفتح القسي، ص 113؛ الكامل، ج 10، ص 153 - ص 154؛ النوادر السلطانية، ص 80؛ الروضتين، ج 1 ق 2، ص 296 - ص 297.
(4)
"الهمداني" في الأصل. والمثبت من الفتح القسى، ص 113؛ الكامل، ج 10، ص 154؛ الروضتين، ج 1 ق 2، ص 297؛ مفرج الكروب، ج 2، ص 210.
(5)
يُبْنَى: بليد قرب الرملة. انظر: معجم البلدان، ج 4، 1007.
(6)
بيت لحْم: بليد عامر قرب البيت المقدس، مكانها مهد عيسى عليه السلام، معجم البلدان، ج 1، ص 779.
(7)
الخَليلُ: اسم موضع وبلدة فيها حصن وعمارة وسوق بقرب البيت المقدس. معجم البلدان، ج 2، ص 468.
(8)
النطرون: اسم محرف للماطُرون وهو موضع بالشام قرب دمشق. معجم البلدان، ج 4، ص 395؛ الفتح القسي، ص 114، حاشية (5).
(9)
بيت جبريل: أو بيت جبرين، بليد بين بيت المقدس وغزة، بينه وبين القدس مرحلتان، كانت فيه قلعة حصينة خربها صلاح الدين لما استنقذ بيت المقدس من الإفرنج. معجم البلدان، ج 1، ص 776.
لؤلؤ
(1)
المقدم فيها، وغنم الجيش والمسلمون من هذه الأماكن، وسبوا شيئاً كثيراً لايُحد ولا يوصف، واستبشر الإسلام وأهله شرقاً وغرباً بهذا النصر العظيم والفتوحات الهائلة. وترك السلطان جيوشه ترتع في هذه الفتوحات والغنائم الكثيرة مدة شهور؛ ليستريحوا ويجمعوا أنفسهم وخيولهم؛ ليتأهبوا لفتح بيت المقدس الشريف، وأشاع في الناس أن السلطان على عزم فتح بيت المقدس، فقصده العلماء والصلحاء والمتطوعة من كل فج عميق، فعند ذلك قصد السلطان بيت المقدس بمن معه على
(2)
[41] ما نذكره إن شاء الله تعالى.
وفي تاريخ بيبرس: ولما فتح السلطان عكا فرق عساكره إلى جميع الحصون الساحلية، فتسلموها أولاً فأول
(3)
، ولم يعد للفرنج قدرة على الدفاع، ولا سبيل إلى الاجتماع. فتسلموا نابلس
(4)
وقيسارية
(5)
وصفورية
(6)
والناصرة
(7)
، واستخلف في عكا ولده الأفضل، ثم رحل فنزل على تبنين فحاصرها إلى أن تسلمها، ثم نزل على صيدا فتسلمها، ثم سار إلى بيروت فتسلمها، وتسلم أصحابه جبيل، ورحل إلى عسقلان فنازلها وتسلمها، ثم تسلم الرملة ثم الداروم
(8)
. ووصل إليه ولده العزيز من مصر وهو على عسقلان مهنئاً بالفتح، فأقام عليها إلى أن تسلم أصحابه غزة وبيت جبريل والنطرون بغير قتال، وكان بين فتوح عسقلان وبين أخذ الفرنج لها ثمان وأربعون
(9)
سنة.
(1)
الحاجب لؤلؤ: من كبار رجال الدولة الصلاحية، كان مقدم العسكر ضد الفرنج الذين أرسلهم أرناط صاحب حصن الكرك لحرب مكة والمدينة في البحر، وكان لؤلؤ شيخًا أرمنياً من خدام القصر، خدم مع صلاح الدين، وأخلص له، مات سنة 598 هـ. الشذرات، ج 4، ص 336 - 337؛ الفتح القسي، ص 115
(2)
نقل العينى هذا النص بتصرف من الفتح القسي، ص 114 - 115.
(3)
"فأولاً" كذا في الأصل. والمثبت هو الصواب.
(4)
نابلس: مدينة مشهورة بأرض فلسطين بين جبلين. وبينها وبين بيت المقدس عشرة فراسخ، معجم البلدان، ج 4، ص 724.
(5)
قيسارية: بلد على ساحل بحر الشام تُعَدُّ في أعمال فلسطين، بينها وبين طبرية ثلاثة أيام. معجم البلدان، ج 4، ص 214.
(6)
صَقُّورية: كورة وبلدة من نواحي الأردن بالشام وهي قرب طبرية. معجم البلدان، ج 3، ص 402.
(7)
الناصرة: قرية بينها وبين طبرية ثلاثة عشر ميلاً. معجم البلدان، ج 4، ص 729.
(8)
الداروم: بليدة بينها وبين غزة أربعة فراسخ. معجم البلدان، ج 2، ص 537.
(9)
في نهاية الأرب، ج 28، ص 402، "خمس وثلاثون سنة. فإن العدو استولى عليها في السابع والعشرين من جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعين وخمسمائة". انظر أيضًا: مفرج الكروب، ج 2، ص 210.
وفي المرآة: وكان بين أخذ الفرنج وبين خلاصها منهم خمس
(1)
وثلاثون سنة، لأنهم ملكوها في جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعين وخمسمائة. وفوض السلطان القضاء والخطابة إلى جمال الدين عبد الله بن عمر قاضي اليمن، وتسلم
(2)
السلطان هذه الأماكن المذكورة في أربعين يوماً، أولها ثامن عشرين جمادى الأولى، وآخرها ثامن رجب
(3)
.
وفي تاريخ المؤيد
(4)
: وفيها حضر المركيس في سفينة إلى عكا، ولم يعلم المركيس بذلك، واتفق هجوم الهواء، فراسل المركيس الملك الأفضل وهو بعكا، يقترح أمراً بعد آخر، والملك الأفضل يجيب المركيس إلى ذلك، إلى أن هب الهواء فأقلع المركيس إلى صور، واجتمع عليه الفرنج الذين بها، وملك صوراً. وكان وصول المركيس إلى صور، وإطلاق الفرنج الذين أخذ السلطان بلادهم بالأمان، وحملهم إلى صور، من أعظم أسباب الضرر التي حصلت حتى راحت عكا وقوى الفرنج بذلك.
ذكر فتح بيت المقدس شرفه الله واستنقاذه من أيدي النصاري بعد ثنتين وتسعين سنة
ولما فتح السلطان صلاح الدين رضي الله عنه ما حول بيت المقدس من الأماكن المباركة، أمر العساكر فاجتمعت والجيوش المتفرقة في البلدان للمغانم فائتلفت، وسار نحو البيت المقدس بتلك العساكر، فنزل غربي بيت المقدس يوم الأحد الخامس عشر من شهر رجب من هذه السنة، أعني سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، وقد حصنت الفرنج - لعنهم الله - الأسوار بالمقاتلة، وكانوا ستين ألف مقاتل دون بيت المقدس أو يزيدون، وكان صاحب البلد يومئذ رجلاً
(5)
يقال له: بالْيان بن بارزان
(6)
، ومعه من سلم من وقعة حطين من الداوية والإستبارية، فأقام السلطان بنزله المذكور خمسة أيام، ثم سلم إلى كل طائفة من الجيش المنصور ناحية من أبرجة السور، ثم تحول إلى ناحية الشمال؛
(1)
في الأصل ومرآة الزمان "خمسة". والصواب ما أثبتناه.
(2)
"سلم" في مرآة الزمان، ج 8، ص 253.
(3)
مرآة الزمان، ج 8، ص 253.
(4)
المختصر في أخبار البشر، ج 3، ص 72.
(5)
"رجل" في الأصل. والمثبت هو الصواب.
(6)
"بازراني" في الأصل، والمثبت من الفتح القسى، ص 117؛ نهاية الأرب، ج 28، ص 403، مفرج الكروب، ج 2، ص 217؛ الروضتين، ج 2 ق 1، ص 303،
لأنه رآها أوسع وأنسب للمجال، وقاتل الفرنج دون البلد قتالاً هائلاً، واستشهد بعض أمراء المسلمين، فحنق عند ذلك كثير من أمراء الإسلام (ص 62] واجتهدوا في القتال، وقد نصب المجانية والعرادات
(1)
، فبادر السلطان رحمه الله بأصحابه إلى الزاوية الشرقية الشمالية من السور فنقبها، فسقط ذلك الجانب وخَرَّ البرج برمته
(2)
.
وفي المرآة
(3)
: وكان المنجمون قد قالوا للسلطان تفتح القدس وتذهب عينك الواحدة فقال: رضيت أن أفتحه وأعمى. وكان قد نزل على غربيه أولاً، ثم انتقل إلى شماليه من باب العمود إلى برج الزاوية، ومن هذا المكان أخذه الفرنج وكان مشحوناً بالبطارقة من الخيالة والرجالة، بما يزيد على ستين ألفاً غير النساء والذرية، وقاتلوا قتالاً شديداً.
وفي تاريخ بيبرس: قتل في أول يوم عز الدين عيسى بن مالك
(4)
-[كان أبوه]
(5)
صاحب قلعة جعبر
(6)
- فحزن السلطان عليه.
وفي النوادر
(7)
: وكان نزول السلطان على القدس يوم الأحد الخامس عشر من رجب، فنزل بالجانب الغربي، ثم انتقل - لمصلحة رآها - إلى الجانب الشمالي، وكان انتقاله يوم الجمعة العشرين من رجب، ونصب عليه المنجنيقات وضايقه بالزحف والقتال وكثرة الرماة، حتى أخذ النقب في السور مما يلى وادي جهنم في قرية شمالية
(8)
. ولما شاهد الفرنج ذلك، قصد أكابرهم السلطان وتشفعوا إليه أن يعطيهم
(1)
العرادات: جمع عوادة وهي من آلات الحرب، وهي أصغر من المنجانيق، ترمي بالحجارة المرمى البعيد. انظر: محيط المحيط.
(2)
لمعرفة المزيد عن فتح بيت المقدس، انظر: الفتح القسى، ص 116 - ص 129؛ الروضتين ج 2 ق 1، ص 300 - ص 302، مفرج الكروب، ج 2، ص 211 - ص 217؛ نهاية الأرب، ج 28، ص 403 - ص 405.
(3)
انظر: مرآة الزمان، ج 8، ص 254.
(4)
"موسى" في الأصل. والمثبت من الكامل، ج 10، ص 155؛ وانظر: الروضتين، ج 2 ق 1، ص 309؛ مفرج الكروب، ج 2، ص 213. وهو عز الدين عيسى بن شهاب الدين بن مالك العقيلي.
(5)
ما بين الحاصرتين إضافة من الكامل، ج 10، ص 155، الروضتين، ج 2 ق 1، ص 309، "نقلًا عن الفتح القسي".
(6)
قلعة جَعْبَر: قلعة على الفرات مقابل صفين. وكانت تعرف أولاً بدوسر فتملكها رجل من بني نمير يقال له جعبر ابن مالك فنسبت إليه. معجم البلدان، ج 4، ص 164.
(7)
النوادر السلطانية، ص 81.
(8)
إلى هنا توقف العيني عن النقل من النوادر السلطانية، ص 81.
الأمان، فامتنع وقال: لا أفتحها إلَّا بالسيف عنوة، كما فتحتموها عنوة، ولا أترك بها أحداً من النصارى إلا قتلته كما قتلتم أنتم من المسلمين. فطلب صاحبها باليان بن بارزان من السلطان الأمان ليحضر عنده فأمنه، فلما حضر ترفق له وتشفع إليه بكل ممكن، فلم يجبه إلى الأمان لهم. فقالوا: لئن لم تعط الأمان رجعنا فقتلنا كل أسير من المسلمين بأيدينا، وهم قريب من أربعة آلاف أسير، وقتلنا زرارينا وخربنا الدور والأماكن الحسنة، وأتلفنا ما بأيدينا من الأموال، وألقينا قبة الصخرة، وبعد ذلك نقاتل قتال الموت فلا يقتل واحد منا حتى نقتل أعداداً منكم. فماذا يرتجي بعد هذا من الخير؟.
فلما سمع السلطان ذلك أجاب إلى الصلح، على أن يبذل كل رجل منهم عن نفسه عشرة دنانير، وعن المرأة خمسة دنانير، وعن كل صغير وصغيرة دينارين، وأن تكون الغلات والأسلحة والدور للمسلمين ويتحولوا منها إلى مأمنهم وهو مدينة صور، فكتب الصلح على ذلك، ومن لا يبذل ما شرط عليه إلى أربعين يوماً فهو أسير، فكان من أسر بهذا الشرط ستة عشر ألف إنسان من الرجال والنساء والولدان. ودخل السلطان والمسلمون البلد يوم الجمعة قبل وقت الصلاة بقليل، وذلك يوم السابع والعشرين من رجب
(1)
.
قال العماد
(2)
: وهو ليلة الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى إلى السموات العلى.
وقال الشيخ شهاب الدين أبو شامة
(3)
: وهذا أحد الأقوال في الإسراء والله أعلم. وكان في القدس بعض نساء الملوك من الروم، قد ترهبت ومعها من الأموال والجواهر والعبيد والخدم شيء كثير، فطلبت [43] الأمان لنفسها ولمن معها، فأمنها السلطان وسيرها إلى مأمنها. وخرجت زوجة الملك المأسور [كي]
(4)
، وهي ابنة الملك أماري، وكانت الأخرى قد ترهبت وتزهات، ومعها من الأموال والجواهر والخيول والخدم شيء كثير
(5)
. فخرجت واستأذنت السلطان في اجتماعها بزوجها، وكان محبوساً في برج نابلس، فأذن لها وسارت وأقامت عند زوجها حتى تخلص.
(1)
البداية والنهاية، ج 12، ص 345؛ كما ورد بتصرف في الروضتين، ج 2 ق 1، ص 310؛ النوادر السلطانية، ص 81 - ص 82؛ مفرج الكروب، ج 2، ص 214؛ الفتح القسي، ص 127 - ص 128.
(2)
نقل العينى هذا النص بتصرف من الفتح القسى، ص 130.
(3)
انظر: الروضتين، ج 2 ق 1، ص 301 - ص 312.
(4)
ما بين الحاصرتين زيادة من الروضتين للتوضيح. الروضتين، ج 2 ق 1، ص 312.
(5)
نقل العينى هذه العبارة بتصرف من الروضتين، ج 2 ق 1، ص 312؛ انظر أيضًا: الفتح القسى، ص 128 - ص 129.
وكان على رأس قبة الصخرة صليب كبير من الذهب، فتسلق المسلمون وقلعوه، والفرنج ينظرون إليهم، فصاح الناس كلهم صيحة كادت الأرض أن تميد بهم، أما المسلمون فصاحوا سروراً بالتكبير والتهليل، وأما الفرنج فصاحوا تغيناً وتوجعاً
(1)
.
وقال ابن كثير رحمه الله: ولم تتفق صلاة الجمعة يومئذ، يعني يوم دخولهم، خلافاً لبعضهم ممن زعم
(2)
أنها أقيمت يومئذ، وأن السلطان خطب بنفسه بالسواد يومئذ، والصحيح أن الجمعة لم يتمكن إقامتها
(3)
يومئذ لضيق الوقت، وإنما أقيمت في الجمعة المقبلة، وكان الخطيب القاضي محيي الدين بن على القرشي المعروف بابن الزكي كما نذكره قريباً.
ونظف المسجد لأقصى يومئذ مما كان فيه من الصلبان والرهبان والخنازير، وخربت دور الداوية كانوا قد ابتنوها غربي المحراب الكبير، وكانوا اتخذوا المحراب سرابا
(4)
ومستراحا
(5)
، فنظف المسجد من ذلك كله، وأعيد إلى ما كان عليه في الأيام الإسلامية والدولة المحمدية. وغسلت الصخرة بالماء الطاهر. وأعيد غسلها بماء الورد الفاخر، وأبرزت للناظرين، وقد كانت مستورة محجوبة
(6)
عن الزائرين
(7)
. وفي المرآة: ودخل السلطان الصخرة وغسلها بماء الورد، وقيل: غسلها بلحيته وهو يبكي. ومحى الصور منها.
وقد كان الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي رحمه الله قد عمل منبراً بحلب وتعب عليه مدة، وقال: هذا لأجل القدس الشريف، فأرسل السلطان صلاح الدين وأحضره من حلب، وجعله في الجامع الأقصى.
ولما كان في الجمعة الثانية، وأرادوا أن يقيموا به الجمعة، حضر المسلمون بالحرم الشريف من كل فج عميق، فاجتمع من الأعمال الإسلامية عدد لا يحصى، فلما أذن
(1)
في مفرج الكروب، ج 2، ص 217.
(2)
"خلافاً لمن زعم" في البداية والنهاية، ج 12، ص 345.
(3)
"لم يتمكنوا من إقامتها" في البداية والنهاية، ج 12، ص 345.
(4)
لم ترد كلمة سرابًا في المصادر المعاصرة التي بين أيدينا.
(5)
"مشتا" في البداية والنهاية، ج 12، ص 345، والمثبت كما في الفتح القسي، ص 137؛ الكامل، ج 10، ص 158.
(6)
"مخبوءة" في البداية والنهاية، ج 12، ص 345.
(7)
انظر: مرآة الزمان، ج 8، ص 254.
الظهر حضر السلطان بقبة الصخرة، وكان جماعة من الأكابر والعلماء قد رشحوا أنفسهم للخطبة في ذلك اليوم، وألفوا خطباً يخطبون بها، فلما كان وقت الخطبة رسم السلطان اللقاضي محيي الدين بن زكي الدين أن يخطب، فرقى المنبر بأهبة السواد العباسية، وخطب خطبة بديعة، ثم أن السلطان رحمه الله أقام حرمته فوق ما كانت
(1)
.
وفي المرآة
(2)
: وكان حضر مع السلطان هذا الفتح زهاء على عشرة آلاف عمامة من جميع الأجناس، وتطاول جماعة من الأعيان إلى الخطابة، فتذكر السلطان قول ابن زكي الدين:
وفتحه حلباً بالسيف في صفر
…
مبشر بفتوح القدس في رجب
قال القاضي الفاضل:
فقد أنطق الله السلطان بالغيب، فأعطاه الخطابة. وابن زكي الدين قاضي القضاة بدمشق.
وقال ابن القادسي في ذيله: إن صلاح الدين خطب بالبيت المقدس. وهو وَهْم منه.
ثم إن السلطان [44] فرق الأموال التي أخذها من الإفرنج، وكانت نيفاً وثلاثمائة ألف دينار، على العلماء والفقهاء والصوفية
(3)
.
ذكر ما فعله السلطان صلاح الدين بعد فتحة القدس
فمن ذلك تفرقته الأموال التي أخذها من الإفرنج كما ذكرنا، ومن ذلك أنه جلس بعد صلاة الجمعة بعد أن خطب الخطيب ودعى للخليفة العباسي وللسلطان الملك الناصر صلاح الدين، وسمع وعظ الشيخ زين الدين أبو الحسن علي بن نجا المصرى
(4)
،
(1)
انظر تفصيل ذلك في مفرج الكروب، ج 2، ص 218 - 228؛ البداية والنهاية، ج 12، ص 346.
(2)
مرآة الزمان، ج 8، ص 254.
(3)
مرآة الزمان، ج 8، ص 254.
(4)
زين الدين أبو الحسن علي بن إبراهيم بن نجا، ويعرف بابن نجية الفقيه الحنبلي، توفي سنة 599 هـ. انظر: الشذرات، ج 4، ص 340 - ص 341؛ النجوم الزاهرة، ج 6، ص 183.
لأنه بعد صلاة الجمعة جلس على كرسي للوعظ بإذن السلطان، فوعظ الناس وكان وقتاً مشهوداً، واستمر القاضي محيي الدين بن زكي الدين يخطب بالناس في أيام الجمع أربع جمع، ثم قرر السلطان للقدس خطيباً مستقراً. وأمر الفقيه ضياء الدين عيسى الهكاري فعمل حول الصخرة شبابيك من حديد، ورتب لها إماماً وراتباً، ووقف عليه رزقاً جيداً، وكذلك على إمام محراب الأقصى. وعمل للشافعية المدرسة الصلاحية
(1)
، ويقال لها الناصرية أيضاً، وكان موضعها كنيسة حنة
(2)
أم مريم عليها السلام، ووقف على الصوفية رباطاً كان دار البترك إلى جانب القمامة، وأجرى على الفقهاء والفقراء الجامكيات والجرايات. وأرصد الختم والربعات في أرجاء المسجد الأقصى، لمن يقرأ أو ينظر فيها من المقيمين والزائرين. وتنافس بنو أيوب فيما يفعلونه من الخيرات بالقدس الشريف للقادمين والظاعنين والقاطنين، وعزم السلطان على هدم قمامة، وجعلها دكاً لتنحسم مادة النصارى عن بيت المقدس، فقيل له: إن هؤلاء لا يتركون الحج إلى هذه البقعة ولو تركتها قاعاً صفصفاً، وقد فتح أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه القدس وترك القمامة على حالها. فتركها صلاح الدين أيضاً تأسياً بأمير المؤمنين، أحد الخلفاء الراشدين، ولم يترك بها من النصارى سوى أربعة أنفس يخدمونها، وحال بين النصارى وبينها، وهدم المقابر التي كانت لهم عند باب الرحمة
(3)
وعَقّى آثارها، وهدم ما كان هناك من القباب وعجل دمارها
(4)
.
ومن ذلك أن السلطان أمر للعماد الكاتب أن يكتب كتاباً إلى بغداد بالفتح، وكان القاضي الفاضل بدمشق مريضاً لم يحضر هذا الفتح، فكتب في أوله:{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ}
(1)
المدرسة الصلاحية (الناصرية): تقع بالقرب من البيمارستان الثوري، بناها نور الدين محمود بن زنكي، ونسبت إلى الملك صلاح الدين، فاتح بيت المقدس في سنة 569 هـ، انظر: الدارس، ج 1، ص 331.
(2)
كنيسة صند حنة: هذه الكنيسة يقال: إن فيها قبر حنا أم مريم عليها السلام، وقد صارت مدرسة أقامها صلاح الدين. انظر: المختصر في أخبار البشر، ج 3، ص 83، ويبدو أن كلمة صفد في تحريف للكلمة الفرنسية Saint بمعنى قديسية، انظر: الفتح القسى، ص 145، حاشية 3.
(3)
باب الرحمة: أحد أبواب المسجد الأقصى التي يدخل الناس منها وعددها عشرون باباً. معجم البلدان، ج 4، ص 598، [انظر المقدس].
(4)
نقل العينى هذا النص بتصرف من البداية والنهاية، ج 12، ص 397 - ص 398، الروضتين، ج 2 ق 1، ص 345 - ص 346.
آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}
(1)
إلى قوله: {مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا}
(2)
الحمد لله الذي أنجز لعباده الصالحين وعد الاستخلاف، وقهر بأهل التوحيد أهل الشرك والخلاف، وخص سلطان الديوان العزيز بهذه الخلافة، وبدل الأمن به من المخافة، وادخر هذا الفتح الأسني والنصر الأهني لخادم المقام النبوي، ومنحه أخلص أوليائه وأخص أصفيائه بعد أن انقرض من الملوك الماضية والقرون الخالية على حسرة تمنيه وفوات ترجيه، وتقاصرت عنه الهمم وتخاذلت عنه ملوك الأمم. فلله الحمد الذي حقق بفتحه ما كان في النفس، وبدل وحشة الكفر فيه [45] من الإسلام بالأنس، وجعل عز يومه ماحيًا ذل أمسه، وأسكنه العالم والفقيه، بعد البطرك والقس وعباد الصليب والشمس، وأخرج أهل يوم الجمعة من أهل يوم الأحد، وقمع من كان يقول بالتثليث أهل قل هو الله أحد. وقد فتح الخادم بأمر الله من الداروم إلى طرابلس، وجميع ما حوت مملكة الفرنج إلى نابلس، وغسلت الصخرة بدموع الباكين من المؤمنين، ونزع لباس البأس عنها بإفاضة ثواب المحسنين، ورجع الإسلام الغريب منه إلى داره، وطلع قمر الهدي من سراره، وعادت الأرض المقدسة إلى ما كانت عليه من التقديس، وأمنت المخاوف بها وفيها فصارت صباح السُرَي ومناخ التعريس
(3)
، وأقصى عن المسجد الأقصى الأقصون من الله الأبعدون، وتوافد إليه المصطفون المقربون، وخرس الناقوس برحيل المسيحيين، وخرج المفسدون بدخول المصلحين، وقال المحراب لأهله: مرحبًا وأهلًا، وشمل جماعة المسلمين ما جمع الله لهم فيه شملًا، ورفعت الأعلام الإسلامية على منبره، فأخذت من بِرِّه أوفي نصيب، وتلت بألسنة عربها {نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ}
(4)
، وغسلت الصخرة بدموع المتقين من دنس الكافرين، وبَعُد أهل الإلحاد من قربها بقرب الموحدين، وذكر بها ما نسي من عهد المعراج النبوي والإعجاز المحمدي، وعاد الإسلام بإسلام البيت المقدس إلى تقديسه، ورجع ببنائه من التقوى إلى تأسيسه، وذكر العماد فصولًا في هذا المعنى
(5)
.
(1)
سورة النور. آية رقم 55.
(2)
سورة النور، آية رقم 55.
(3)
"العريس" كذا في الأصل، والمثبت من مرآة الزمان، ج 8، ص 255؛ الروضتين، ج 2 ق 1، ص 324.
(4)
سورة الصف، آية 13.
(5)
انظر: مرآة الزمان، ج 8، ص 255 - ص 256.
نكتة غريبة
قال الشيخ شهاب الدين أبو شامة في الروضتين
(1)
: وقد تكلم شيخنا أبو الحسن علي بن محمد السخاوي في تفسيره فقال: وقع في تفسير أبي الحكم الأندلسي يعني ابن بَرّجان - في أول سورة الروم أخبارًا عن فتح بيت المقدس وأنه يُنزع من أيدي النصارى سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة. قال السخاوىّ: ولمُ أره أخذ ذلك من علم الحروف، وإنما أخذه فيما زعم من قوله [تعالى]
(2)
(3)
فبنى الأمر على التاريخ كما يفعله المنجمون، ثم ذكر أنهم يُغلبون في سنة كذا، ويَغلبون في سنة كذا على ما تقتضيه دوائر التقدير، ثم قال: وهذه نجابة وافقت إصابة إن صح أنه قال قبل وقوعه وكان في كتابه قبل حدوثه. قال: وليس هذا من قبيل علم الحروف ولا من باب الكرامات لأنها لا تنال بحساب. قال: وقد ذكر في تفسير سورة القدر إنه لو علم الوقت الذي نزل فيه القرآن لعلم الوقت الذي يرفع فيه
(4)
.
ذكر رحيل السلطان من القدس طالبًا صُور
لما قرر السلطان صلاح الدين أمور القدس الشريف، انفصل عنه في الخامس والعشرين من شعبان، وسار حتى أتى على عكا ثم سار منها إلى صُور، وكانت قد تأخرت [46] من بين تلك النواحي، وقد استحوذ عليها من بعد وقعة حطين رجل من التجار يقال مركيس، فحصنها وضبط أمرها وحفر حولها خندقًا من البحر إلى البحر، وجاء السلطان بجيشه فحاصرها مدةً وستدعى الأسطول من الديار المصرية في البحر فاحتاط بها برًا وبحرًا، فعدت الإفرنج في بعض الليالي علي خمس شواني من الأسطول، فملكتها، فأصبح المسلمون واجمين، وقد دخل البرد، وقلّت الأزواد، وكثرت الجراحات، وكَلَّ الأمراء من الحصارات، فسألوا من السلطان أن ينصرف بهم إلى
(1)
نقل العينى هذا النص حرفيًا من ابن كثير، عن أبي شامة على الرغم من أنه لم يذكر ابن كثير، يؤكد هذا أن ابن كثير هو الذي ذكر عبارة "نكتة غريبة" ولم ترد في الروضتين. انظر: البداية والنهاية، ج 12، ص 347 - ص 348؛ الروضتين، ج 2 ق 1، ص 357 - ص 358.
(2)
ما بين الحاصرتين مثبت من الروضتين، ج 2 ق 1، ص 358.
(3)
سورة الروم، آية رقم 1 - 4.
(4)
ورد هذا النص بتصرف في البداية والنهاية، ج 12، ص 347 - ص 348.
دمشق في هذا الوقت، حتى يستريحوا ثم يغدوا إليها بعد هذا الحين، فأجابهم على تمنع منه، وذلك أن السُور من الصور كان قد هدم أكثره، ولم يبق إلا الفرج والنجح، فتوجه إلى دمشق
(1)
.
وفي المرآة
(2)
: وفي شعبان سار السلطان إلى صور فوصلها غرة رمضان فوجدها مدينة حصينة، وهي في البحر مثل السفينة، والبحر المحيط بها من جوانبها، وليس لها طريق في البر إلا من مكان واحد فيه سبعة أبراج، وبها المركيس وكان شجاعًا حازمًا، وقد انضم إليه جميع من كان بالقدس والساحل من الفرنج
(3)
.
وفي النوادر
(4)
: قدم الملك الظاهر غازي ابن السلطان صلاح الدين صاحب حلب على أبيه، وهو على صور، في الثامن عشر من شهر رمضان، وسرّ بوصوله إليه سرورًا عظيمًا، وكان قد تركه بحلب ليسدّ ذلك الجانب لاشتغاله هو بأمر الساحل، وكان السلطان خلّف أخاه العادل في القدس؛ لتقرير قواعده، فاستدعاه، فوصل إليه في خامس شوال. وسيرَ من حاصر هُونين
(5)
، فسلمت بأمان في الثالث والعشرين من شوال، وكان السلطان قد قدم على الأصطول إنسانًا يقال له الفارس بدران، وكان ناهضًا جلدًا في البحر. وكان ريس البحريين يقال له: عبد المحسن، وكان قد أكد الوصية في أخذ الحذر منهم، فغفلوا عن أنفسهم في الليل، فخرج أصطول الكفار من صُور فكبسهم وأخذ المقدمين، وأخذوا منهم خمس قطع وقتلوا خلقًا كثيرًا من الأصطول الإسلامي، وذلك في السابع والعشرين من شوال، فلما علم السلطان ما تم على المسلمين ضاق صدره وأشار بالرحيل، ليأخذ العسكر جزءًا من الراحة ويستعدوا لهذا الأمر استعدادًا جديدًا، فرحل عنها بعد أن رمى المنجنيقات وسيرها وأحرق ما لا يمكن نقله، وكان رحيله يوم الأحد ثاني ذي القعدة، ففرق العساكر وأعطاهم دستورًا، وسار كل قوم إلى بلادهم، وأقام هو مع جماعة من خواصه بعكا حتى دخلت سنة أربع وثمانين وخمسمائة
(6)
(1)
ورد هذا النص بتصرف في الفتح القسي، ص 153 - ص 159؛ الكامل، ج 10، ص 159 - ص 160.
(2)
مرآة الزمان، ج 8، ص 256.
(3)
مرآة الزمان، ج 8، ص 256؛ زبدة الحلب، ج 3، ص 100؛ البداية والنهاية، ج 12، ص 349.
(4)
النوادر السلطانية، ص 83.
(5)
في الأصل "هورين" والتصحيح من النوادر السلطانية، ص 83؛ زبدة الحلب، ج 3، ص 101؛ الروضتين، ج 2 ق 1، ص 376، وهُونين: بلد في جبال عاملة تطل على نواحي مصر. معجم البلدان، ج 4، ص 996.
(6)
نقل العيني هذا النص بتصرف من النوادر السلطانية، ص 83 - 84.
وقال ابن كثير
(1)
: ولما وصل السلطان إلى عكا نزل بقلعتها، وأسكن ولده الأفضل برج الداوية، وولي نيابتها عز الدين جرديك، وقد أشار بعضهم على السلطان بتخريب عكا؛ خوفًا من عود الفرنج إليها، فكاد أن يفعل ولم يفعل، فليته فعل، بل وكل بعمارتها وتجديد محاسنها بهاء الدين قراقوش التقوى، ووقف دار الإستبار نصفين على الفقراء والفقهاء، [47] وجعل دار الأسقف مارستانا، ووقف على ذلك كله أوقافا دارة، وولي نظر ذلك لقاضيها جمال الدين ابن الشيخ أبى النجيب، وعاد إلى دمشق مؤيدًا منصورًا رحمه الله
(2)
.
ذكر ما جرى بعد دخول السلطان دمشق
ولما انفصل السلطان عن عكا وتوجه إلى دمشق، جاءته رسل الملوك بالتهاني من سائر الأقطار والأمصار بالتحف والهدايا
(3)
.
وفي المرآة
(4)
: ووصل إلى السلطان من بغداد تاج الدين أبو بكر أخو العماد الكاتب، فالتقاه السلطان وأكرمه، وكان معه رسالة تذكرة، مشحونة بالعتاب على أسباب منها: أن الخليفة عتبه لأجل ابن البوشنجي ويلقب بالرشيد، وكان صبيًا لا يؤبه إليه، فخرج إلى الشام واتصل بصلاح الدين، وقيل له: هذا من بيت كبير
(5)
، وكان أديبًا فأعجب السلطان، فسأله أن يبعثه إلى بغداد في رسالة، فبعثه، فشق على الخليفة وقال: ما كان عنده غير هذا، وقصر في حقه. فلما عاد إلى السلطان تكلم بكلمات وقال: ما التفت علىّ.
ومنها أن كل من هرب من بغداد ولجأ إلى السلطان يقبل عليه مثل: ميرك، وابن رئيس الرؤساء، وابن هبيرة، وابن أبي النجيب، وأمثالهم.
(1)
البداية والنهاية، ج 12، ص 349.
(2)
البداية والنهاية، ج 12، ص 349؛ الروضتين، ج 2 ق 1، ص 376 - ص 377.
(3)
لمعرفة المزيد من التفاصيل انظر: الفتح القسى، ص 181 - ص 182؛ البداية والنهاية، ج 12، ص 349؛ الروضتين، ج 2 ق 1، ص 378.
(4)
مرآة الزمان، ج 8، ص 256.
(5)
إلى هنا توقف العيني عن النقل من مرآة الزمان، ج 8، ص 256، وقد وجد تعليق في نسخة شيكاغو المطبوعة سنة 1907 أن هناك "سقط" سنتين. انظر: مرآة الزمان، ج 8، ص 256؛ كذلك وجد هذا "السقط" في نسخة حيدر آباد المطبوعة 130 هـ/ 1951، الطبعة الأولى، ج 8، ص 400. ومن الملاحظ أن العماد الأصفهاني ذكر سبب سفارة أخيه إلى السلطان بالتفصيل. انظر: الفتح القسي، ص 183 - ص 189.
ومنها مشاركته في لقب الخليفة بالناصر، وأشياء من هذا الجنس، ثم قال في آخره:"يمنّ علينا بفتح القدس، وهل فتحها إلا بعساكر الديوان وتحت راياته! ". فاستشاط السلطان غضبًا، وقد كان يرجو أن يأتيه كتاب الخليفة يشكره على ما فعل. ثم قال السلطان لأخى العماد: أما ابن البوشنجي فمن عندكم جاء، وقيل لي: إنه من بيت كبير. وصحبني وسألني إنفاذه إلى بغداد ليمَّن على أهله ويتجمل بكم، فما أمكنني رد سؤاله، وأما الذين التجؤا إلىَّ من أرباب البيوت فإن الإنسان قد يلتجيء إلى كوخ عجوز في البرية فتجيره من القتل، فأنا فعلت فعل العرب، وحفظت الذمام، وعرفت حق من قصدني ولجأ إلى، وصنتهم أيضًا عن ألسن الناس، فيصير ذلك عارًا عليكم. وأما مشاركتي في اللقب فوالله إنني ما اخترته ولا اقترحته، ولكن لما أَزلتُ دولة عدوّه القائمة من مائتي سنة
(1)
ويسير، وفعلت ما فعلت، لقبنى المستضيء بهذا اللقب، وكتبَ من بغداد إلى نور الدين بذلك، ولم يكن في زمانكم، ثم لو وقع هذا ففي عسكري عشرة آلاف تركماني وكردي لقب كل واحد صلاح الدين، فلمَ لا أُنكر عليه. وأما قوله: إنني فتحت القدسَ تحت راياته وعسكره، فأين راياته وعسكره! والله ما فتحته إلا بعساكري وتحت راياتي. وأوعد السلطانُ وأبرق، وتأكدت الوحشة بَينه وبين الخليفة باطنًا، وأمسك السلطان نفسه ظاهرًا، فكتب كتابًا إلى الخليفة يقول فيه: المحاققة توجب المفارقة، وإغلاق هذا الباب خير من فتحه، واندمال هذا الجرح خير وأولى من اتساعه وخرقه.
وقال السبط: وقد ذكر محمد بن القادسي قصة ابن البوشنجي فقال: كان [48] أمرد في دروب بغداد، فطلعت لحيته فخرج إلى الشام، فخدم يوسف بن أيوب، وسأله أن يرسله إلى الديوان في رسالة فأرسله، فقامت القيامة على الديوان، فلما عاد ابن البوشنجي إلى الشام أكثر كلامه، فما مضى إلا أسبوع حتى جاءته نشابة فذبحته، وكان ذلك عقوبة لما بسط به لسانه. قلت: وهذه من هنات ابن القادسيّ، فإنه كان عاميًا يتعمد المثالب، وقد أساء الأدبَ في مواضع منها قوله: كان أمرد في دروب بغداد.
ومنها قوله على السلطان يوسف بن أيوب، وما ذكره ببعض ألقابه.
(1)
من المعروف أن الدولة الفاطمية قامت في بلاد المغرب في ذي الحجة سنة تسع وتسعين ومائتين 299 هـ، وقد استمر مقامهم بمصر مائتي سنة وثماني سنين. انظر: الباهر، ص 157؛ وفيات الأعيان، ج 7، ص 158.
ومنها قوله: جاءته نشابة فذبحته. جعل الشهادة في سبيل الله عقوبة. وهذه الواقعة كانت في هذه السنة، وابن البوشنجي استشهد في سنة ست وثمانين وخمسمائة بعد أخذ الفرنج عكا من السلطان. ومن العجائب في هذه الواقعة أنني اجتمعت بشيخ دار الحديث المظفريّة بالموصل في سنة خمس وستمائة، وجرت مذاكرة في غزوات صلاح الدين، فقال: حضرت معه في مرج عكا والفرنج قد أخذوا عكا، فبينما أنا قاعد في سوق العسكر وإذا شابّ من أحسن الشباب قد جلس إلى جانبي، فذكرته فوجدته فاضلًا فصيحًا من أهل بغداد من بيت البوشنجي، قلت: فما اللقب؟ قال: يَقْبح بي أن ألقب نفسي، فأقسمت عليه فقال: يقال: الرشيد. فقلت: وما الذي جاء بك إلى هاهنا؟ فقًال: سمعت أن السلطان يعرف أقدار أولاد الناس ويحسن إليهم، ورغبت أيضًا في الشهادة، فأتيت إليه فأحسن إلىَّ وأكرمني وأعطاني، ثم قال: أخاف أن تنقضي هذه الغزوات وما تحصل لي شهادة، فأسأل الله تعالى أن يرزقني الشهادة، فقد تاقت نفسي إليها. قال: فدعوت الله أن يختار له ما فيه الخيرة، ثم قلت: يا سيّدي أنشدني شيئًا من شعرك، فقال: نعم. وأنشد هذه الأبيات:
قِفوا فاسألوا عن حال قلبي وضَعْفِه
…
فقد زاده الشوق الأسى فوق ضعفه
وقولوا لمن أجرى الشِفاءَ بوَصله
…
مريضك قد أشفي على الموت فاشْفِه
أخو سقم أجفاه إخفاؤه الهوى
…
نحولا ومَن يخفي المحبّةَ تُجفِه
وما شغفي بالدار إلّا لأهلها
…
وما جزعى بالجزع إلا لخشفِه
يَعِزُّ على قلبي المقام بذِي النقا
…
إذا لم يقم ذاك الغزالُ بحقْفِه
وما أمّ رِيم أشفقت منه فالتجت
…
إلى شامخ نادر من نحو كهفه
تَغارُ عليه من نسيم وَمرّة
…
وتُشْفِقُ من إيماض برقٍ وخطفِه
بأوجع مني قوم بانوا ورُبّما
…
يوجع يوم البَين إلفٌ لإلفِه
ثم قام من عندي باكيًا وقصد الفرنج فاستشهد، رحمه الله تعالى.
ذكرُ بَقِية الحَوادِثِ
منها إنه كانت وقعة عظيمة ببلاد الهند بين الملك شهاب الدين الغوري
(1)
صاحب [49] غَزْنة
(2)
، وبين ملك الهند الكبير واسمُه كَولَة
(3)
وكان شجاعًا شهمًا، فاقتتلوا والهند في عدد كثير، وكان معهم أربعة عشر فيلًا، فانهزمت ميمنة المسلمين ومَيسرتهم، فقيل للملك: انج بنفسك. فما زاده إلا إقدامًا، فحمل على الفِيلة فجرح بعضها، وجرح الفيل لا يندمل، فرماه بعض الفيّالة بحربة في ساعده، فخرجت من الجانب الآخر، فخرّ صريعًا، فحملت الهنود عليه ليأخذوه، فجاحف عنه أصحابه ليَحموه، فجرت عنده حرب لم يسمع بشدتها في حَرْب، فغلب المسلمون فخلّصوا ملكهم، واحتملوه علي كواهلهم في محفّة عشرين فرسخًا
(4)
، وقد نزف الدم، فلما تراجع إليه جيشه، أخذ في تأنيب الأمراء، وحلف ليأكلن كل أمير عليقة فرسه، وما أدخلهم غزنة إلا حُفَاة مشَاةً
(5)
.
وفي تاريخ بيبرس: وفي هذه السنة سارَ شهاب الدين الغُورى ملك غزنة إلى بلاد الهند، وقصد ولاية السوالك
(6)
، واسم ملكهم كَولة، فلما دخل المسلمون بلاده ملكوا مدينة تَبْرنده، وَسَرستي
(7)
وكوُه رام، فلما سمع ملكهم جمع العساكر وسار إلى المسلمين، فالتقوا وقامت الحرب على ساق، ثم ذكر مثل ما ذكرنا، إلى أن قال: فلما وصل إلى لَهَاوُور
(8)
أخذ الأمراء الغُورية وحَمَّلَهم الشعير على ظهورهم؛ نكالًا بما تخاذلوا وانهزموا، وقال لهم: ما أنتم أمراء، بل أنتم حمير، وأقام بها ليستريح الناس
(9)
.
(1)
الملك شهاب الدين الغوري: هو محمد غوري بن سام بن حسين. ت سنة 602 سعيد سليمان: تاريخ الدول الإسلامية، ص 594 - 597. القاهرة 1969 م.
(2)
غَزْنَةَ: مدينة عظيمة وولاية واسعة في طرف خراسان وهي الحد بين خراسان والهند. معجم البلدان، ج 3، ص 798.
(3)
كولة توفي سنة 588 هـ، انظر: الكامل، ج 10، ص 222؛ البداية والنهاية، ج 12، ص 374.
(4)
في الكامل "أربعة وعشرين" فرسخًا. ج 10، ص 164، والفرسخ ثلاثة أميال والميل أربعة آلاف ذراع. معجم البلدان، ج 1، ص 38.
(5)
نقل العينى هذا الخبر بتصرف من البداية والنهاية، ج 12، ص 349 - ص 350؛ الكامل، ج 10، أحداث 583 هـ، ص 164 - 230؛ وفي أحداث سنة 588 هـ، ص 221 - 222.
(6)
ذكر ابن الأثير أن السوالك هي بلاد أجمير وبالبحث في المصادر التي بين أيدينا لم نعثر لها على تعريف. انظر: الكامل، ج 10، ص 164. وأجمير: مدينة في إقليم راجبوتانا في شمال غربي الهند. راجع موقعها في إطلس تاريخ الإسلام، ط. الزهراء للإعلام العربي، الخرائط 111، 121، 122.
(7)
في الأصل "سرشتي" والتصحيح من ابن بطوطة الرحلة: ص 285. وسرسَتي: مدينة كبيرة بالهند كثيرة الأرز وأرزها طيب، ومنها يُحمل إلى حضرة دهلي، ولها مجبي كثير جدًا. ابن بطوطة: الرحلة، تحقيق طلال حرب، ص 285، طبعة دار الكتب العلمية - بيروت 1987 م.
(8)
لَهاووُر: مدينة كبيرة من بلاد الهند كثيرة الخيرات، ويقال لها أيضًا "لَوْهُور". تقويم البلدان، ص 358، ص 359.
(9)
ورد هذا النص بتصرف في الكامل، ج 10، ص 164.
ومنها أنه قوي أمر السلطان طغرل بن أرسلان شاه بن طغرل بك ابن السلطان محمد ابن السلطان ملكشاه ابن السلطان ألب أرسلان بن داود بن ميكائيل بن سلجوق، وكثر جمعهُ ومَلك كثيرًا من البلاد، وأرسل قزل أرسلان بن إلدِكز إلى الخليفة يستنجده ويخوفه من طغرل، ويبذل من نفسه الطاعة والتصرف على ما يختار الخليفة، وأرسل طغرل رسولًا إلى بغداد يقول: أريد أن يتقدم الديوان بعمارة دار السلطان لأسكنها إذا نزلت. فأكرم الإمام الناصر رسول قزل أرسلان، ووعده بالنجدة، ورَدّ رسول طغرل بغير جواب وأمر بنقض دار السلطنة، فهدمت إلى الأرض وعُفِيّ أثرها. وفي المرآة
(1)
: وفيها أخرب الخليفة دار السلطنة ببغداد التي عمرّها الديالمة والسلجوقية، وإنما قصد قطع الأطماع عنها.
ومنها أنه وصل يعقوب بن يوسف صاحب الغرب إلى مدينة تونس في العسكر الذي انتخبه، فأرسل ستة آلاف فارس مع ابن أخيه
(2)
إلى عليّ بن إسحق الملثم؛ ليقاتله، وكان بقَفصة، فساروا إليه فوافوه ومعهم الموحّدون وهو في جماعة من الترك، فلما التقوا انهزم الموحدون وقتل جماعة من مقدّميهم، فلما سمع يعقوب الخبر أقام بمدينة تونس إلى نصف رجب، ثم خرج فيمن معه من العساكر يطلب الملثم والأتراك، فوصل إليهم، فالتقوا بالقرب [من مدينة
(3)
] قابس، فاقتتلوا [50] فانهزم الملثم ومن معه، وأكثر الموحدون فيهم القتل حتى كادوا يفنونهم، فلم ينج منهم إلا القليل، فقصدوا البرّ. ورجع يعقوب من يومه إلى قابس ففتحها، وأخذ أهل قراقوش وأولاده وحملهم إلى مدينة مراكش، وتوجه إلى مدينة قفصة، فحصرها ثلاثة أشهر، وقطع أشجارها، وخرّب ما حولها، فسير إليه الترك الذين فيها يطلبون الأمان لأنفسهم ولأهل البلد، فأجابهم إلى ذلك وأخرجهم منها سالمين، وسيرهم إلى الثغور لما رأى من شجاعتهم
(4)
ونكايتهم في العدو، وتسلم البلد وقتل من فيه من الملثمين، وهدم أسوارَه. وظهر ما أنذر به المهدي بن تومرت، فإنه قال: إنها تخرب أسوارُها، وتقطع أشجارها.
(1)
ضمن السنتين الساقطتين من المتن.
(2)
ورد هذا النص بتصرف في الكامل، ج 10، ص 137، أحداث 581 هـ.
(3)
"بمدينة" كذا في الأصل. والمثبت من الكامل، ج 10، ص 137.
(4)
ورد هذا النص في الكامل ضمن أحداث سنة 581 هـ، ج 10، ص 136 - ص 138، كما ورد هذا النص بتصرف في نهاية الأرب، ج 28، ص 372.
فلما فرغ يعقوب من أمر قفصة، واستقامت إفريقية، عادوا إلى مراكش، فكان وصوله إليها في سنة أربع وثمانين وخمسمائة
(1)
.
ومنها أنه وقعت فتنة بعرفات يوم عرفة، وقتل شمس الدين محمد بن المقدم، أحد أكابر الأمراء الصلاحية، فإنه لما فتح القدس طلب دستورًا
(2)
ليحج ويحرم من القدس، ويجمع في سنة بين الجهاد والحج وزيارة الخليل والنبي صلى الله عليهما وسلم، فأذن له. وكان قد اجتمع في تلك السنة حاج عظيم بالشام، فأراد المذكور الرحيل قبل أمير الحاج العراقي، فضرب كؤساته
(3)
قبله، فسير له ينهاه عن الرحيل قبله، وكان أمير الركب العراقيّ طاشتكين
(4)
، فقال له: أنت ليس لك تعلّق معي، أنت أمير الحاج العراقي، وأنا أمير الحاج الشامي، وكل منّا يفعل ما يراه. وسار ولم يقف ولم يسمع قوله، فركب طاشتكين في أصحابه، وتبعه من غوغاء الحاج العراقىّ خلق كثير، فلما قربوا منهم خرج الأمر عن الضبط وعجزوا عن تلافيه، فهجم العراقيون على الشاميين وفتكوا بهم ونهبوا أموالهم، وخرج ابن المقدم ليكف أصحابه عن القتال، ولو أذن لهم لانتصف منهم، لكنه راقب الله تعالى، فجرح وأثخن بالجراحة، فأخذه طاشتكين إلى خيمته ليمرّضه ويستدرك الفارط، وسار من ليلته، فلما كان الغد مات بمنى ودفن بمقبرة المعلى
(5)
.
ومنها أن امرأة من سواد بغداد ولدت بنتًا لها أسنان
(6)
.
ومنها أن الخليفة الناصر قتل أستاداره مجد الدين أبا الفضل بن الصاحب، ولم يكن للخليفة معه حكم، وظهرت له أموال عظيمة فأخذ جميعها، واستوزر الخليفة أبا المظفر
(7)
عبيد الله بن يونس ولقبه جلال الدين، ومشي أرباب الدولة في ركابه حتى
(1)
الكامل، ج 10، ص 138.
(2)
يقصد بالدستور الإذن. انظر. Dozy: Supp. Dict. Ar
(3)
الكوسات: مفردها كوسة. وهي صنجة من نحاس تشبه الترس الصغير يدق بأحدها على الآخر بإيقاع مخصوص، والكوسى هو الذي يضرب بالكوسات. القلقشندي: صبح الأعشى، ج 4، ص 9، ص 13.
(4)
هو مجير الدين طاشتكين. الكامل، ج 10، ص 192 - ص 163؛ الروضتين، ج 2 ق 1، ص 386 - ص 387.
(5)
المعلى (المعلاة) موضع بين مكة وبدر. انظر: معجم البلدان، ج 4، ص 577.
(6)
البداية والنهاية، ج 12، ص 350.
(7)
"المطهر" في الأصل. والمثبت من زامباور: معجم الأسرات الحاكمة، ج 1، ص 10.
قاضي القضاة
(1)
، وكان ابن يونس من جهلة الناس، وكان يمشي ويقول: لعن الله طول العمر
(2)
.
وفيها مدح العماد الكاتب السلطان صلاح الدين، وذكر فتحه القدس بقصيدة، أولها قوله:
أطيب بأنفاس تطيب لكم نفسًا
…
وتعتاض من ذكراكُمُ وَحْشتى أُنسًا
وأسأل عنكم عافيات دوارسَا
…
غدت بلسانِ الحال ناطقةً خرسَا [51]
أرى حدثان الدهر ينسى حديثُه
…
وأما حديثُ الغَدر منكم فلا يُنْسَا
تزول الجبال الراسيات وثابتٌ
…
رَسيسُ غرام في فؤادي لكم أَرْسا
بكيت على مستودعات قلوبكم
…
كما قد بكتْ قدمًا على صَخْرها الخنسا
ومنها:
فلا تحبسوا عني الجميل فإنني
…
جعلت على حُبّى لكم مُهْجتي حَبَسا
رأيت صلاح الدين أشرفَ مَنْ غدا
…
وأفضل مَنْ أضحي وأكرم من أمسا
(3)
سجيته الحُسنى وشيمته الرِضى
…
وبطشه الكُبرى وعزته
(4)
القعسا
ومنها:
جنودُك أملاكُ السماء تَظنُّهم
…
عُدَاتك جِنّ الأرض في القتل لا الإنْسا
ومنها:
ولا يَستحق القُدس غيرُك في الوَرى
…
فأنت الذي منْ دونهم فتح القُدسا
ومن قبل فتح القدس كنت مقدسًا
…
فلا عدمت أَخلاقك الطهرَ والقدسا
وطهّرته من رجسهم بدمائهم
…
فأذهبتَ بالرجس الذي ذهب الرجسا
(1)
قاضي القضاة: علي بن أحمد بن علي بن محمد أبو الحسن بن الدامغاني الحنفي، قاضي القضاة ببغداد، ولد سنة 513 هـ، توفي سنة 583 هـ. ابن العماد: شذرات الذهب، ج 4، ص 276؛ البداية والنهاية، ج 12، ص 351؛ ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة، ج 6، ص 104 - ص 105.
(2)
انظر أبو الفداء: المختصر، ج 3، ص 76؛ البداية والنهاية، ج 12، ص 350.
(3)
تقديم وتأخير في كلمتي أشرف، وأفضل" انظر: الروضتين، ج 2، ص 101 طبعة وادي النيل 1287 هـ.
(4)
"عزمته" في الروضتين، ج 2، ص 101.
وعادت ببَيتِ الله أحكام دينه
…
فلا بَطركا أبَقيْتَ فيه ولا قَسّا
فَدمِّرْ على الباقين واجتثّ أصلهم
…
فإنك قد صيّرت دينارَهم فلسا
وبعد الفرنج الكُرجَ
(1)
فاقصد بلادَهم
…
بعَزمِك واملأ من دمائهم الرسَّا
وفيها: .............
(2)
وفيها حج بالناس من العراق طاشتكين، وكان أمير الركب الشامي شمس الدين محمد ابن المقدّم، وقُتل كما ذكرناه مفصلا، وكان في الحاج
(3)
القاضي بهاء الدين بن شداد، ولما عاد اتصل بخدمة السلطان صلاح الدين.
ذكرُ من توفي فيها منَ الأَعْيان
الشيخ عبد المغيث
(4)
بن زهير الحَرْبي، كان من صلحاء الحنابلة، وكان يُزار، وله مصنف في فضل يزيد بن معاوية أتى فيه بعجائب وغرائب، وقد ردّ عليه ابن الجوزي في هذا الكتاب، فأصاب وأجاد، ومن أحسن ما اتفق لعبد المغيث هذا أن بعض الخلفاء وأظنه الناصر
(5)
جاءه للزيارة مختفيًا، فعرفه الشيخ ولم يُعلمه أنه قد عرفه، فسأله الخليفة عن يزيد أيُلعَنُ أم لا؟ فقال: لا أُسوِّغ لعنته؛ لأني لو فتحت هذا الباب لَلَعن الناسُ خليفتنا، قال: ولم؟ قال: لأنه يفعل أشياء منكرة منها كذا وكذا، ثم شرع يعدّ على الخليفة ما يقع منه من المنكرات لينزجر عنها، فتركه الخليفة وخرج من عنده، وقد أثَّر كلامه له، ثم كانت وفاته في المحرم من هذه السنة
(6)
.
الشيخ علي بن خطاب بن طغر، الناسك، أحد الزهاد ذوى الكرامات، وكان مقامه بجزيرة ابن عمر
(7)
. قال ابن الأثير
(8)
: لم أر مثله في حسن [52] خلقه وسمته وكرمه وعبادته.
(1)
"الكرك" كذا في الروضتين، ج 2، ص 102.
(2)
فرغ بمقدار سطر في الأصل.
(3)
ذكر ابن شداد أنه حج في هذه السنة، انظر: النوادر السلطانية، ص 85.
(4)
انظر ترجمته في البداية والنهاية، ج 12، ص 350؛ الذهبي، العبر في خبر من غبر، ج 4، ص 249.
(5)
يقصد الخليفة الناصر لدين الله أحمد بن المستضيء بأمر الله، المتوفى عام 622 هـ. وقد سبق التعريف به في حاشية سابقة. انظر: السيوطي، تاريخ الخلفاء، ص 448 - 452.
(6)
شذرات الذهب، ج 4، ص 270؛ الكامل، ج 10، ص 165؛ البداية والنهاية، ج 12، ص 300؛ النجوم الزاهرة، ج 6، ص 106.
(7)
جزيرة ابن عمر: بلدة فوق الموصل، بينهما ثلاثة أيام. معجم البلدان، ج 2، ص 79.
(8)
نقل العينى هذا النص بتصرف من الكامل، ج 10، ص 165.
قَاضي القُضَاة ببغداد أبو الحسن علي
(1)
بن أحمد بن علي بن محمد الدامغاني الحنفي، كان عالمًا فاضلًا صائنًا كامل العقل عفيفًا نزِها جميل السيرة، محمود الأفعال، حسن المعرفة بالقضاء والأحكام، كريم الأخلاق، مهيبًا، وقورًا، جميلًا. سمع الحديث من أبي القاسم هبة الله، والأنماطي وغيرهما، وحدّث باليسير، ولي القضاء برَبْع الكَرْخ
(2)
بعد وفاة والده يوم الأحد منتصف جمادى الأولى سنة أربعين وخمسمائة، ولم يزل على ذلك إلى أن تولى قضاء القضاة يوم الاثنين منتصف ذي الحجة سنة ثلاث وأربعين، وخلع عليه بالديوان، وشافهه الخليفة بالولاية عوضا عن قاضي القضاة أبي القاسم علي بن الحسن الزينبي بحكم وفاته، وعمره إذ ذاك ثلاثون سنة، فلم يزل على قضاء القضاة إلى أن عزله المستنجد يوم الثلاثاء الرابع والعشرين من جمادى الأخرى سنة خمس وخمسين وخمسمائة. فكانت مدة ولايته إحدى عشرة سنة وستة أشهر، فلزم بيته بنهر القلائين
(3)
، منعكفًا على الاشتغال بالعلم، وكان يقول: أنا على ولايتي وكل القضاة نوابي؛ لأن القاضى إذا لم يظهر فسقه لا يجوز عزله. ثم أعيد بولاية جديدة يوم الأحد لثلاث عشرة ليلة خلت من ربيع الأول سنة سبعين وخمسمائة، واستمر على ذلك إلى أن توفي عشية يوم السبت الثامن والعشرين من ذي القعدة سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، وصلى عليه يوم الأحد بجامع القصر، وحمل إلى مقبرة الشوينزِيَّة
(4)
، فدفن عند جده لأمّه أبي الفتح، وكان مولده في سنة ثلاث عشرة وخمسمائة
(5)
.
(1)
انظر ترجمته في العبر في خبر من غبر، ج 10، ص 249.
(2)
ربع الكرخ: المقصود السوق الموجود بالكرخ. وهذه السوق قديمة حيث نقل أبو جعفر الأسواق من بغداد إلى باب الكرخ في سنة 157 هـ، وقد أمر ببنائها من ماله على يدي الربيع مولاه. انظر تفصيل ذلك في: الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد، المجلد الأول، ص 79؛ معجم البلدان، ج 4، ص 254 - 255. والرَّبْع - جمعها رباع بكسر أوله وآخره عين مهملة.
(3)
نهرُ القَلائين: جمع قَلَّاء، وهي محلة كبيرة ببغداد في شرقي الكرخْ، وفي غربيه الشونيزية، وفي قبليه نهر طابق. معجم البلدان، ج 4، ص 863؛ الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد، ج 1، ص 79.
(4)
مقبرة الشُّونيزية: وراء المحلة المعروفة بالتوثة بالقرب من نهر عيسى بن على الهاشمي، وهي مقبرة الصالحية ببغداد. تاريخ بغداد، المجلد الأول، ص 122؛ معجم البلدان، ج 4، ص 843.
(5)
راجع ترجمته في شذرات الذهب، ج 4، ص 279؛ النجوم الزاهرة، ج 6، ص 104 - 105.
الفقيه أبو الفتح نصر بن فتيان بن مطر الحنبلي المعروف بابن المنِّي
(1)
، كان زاهدًا عالمًا، عابدًا، مولده سنة إحدى وخمسمائة، وتوفي في خامس رمضان منها. وممن تفقه عليه من المشاهير: الشيخ موفق الدين بن قدامة، والحافظ عبد الغني، ومحمد بن خلف بن راجح، والناصح عبد الرحمن بن النجم بن عبد الوهاب، وعبد القادر ابن الشيخ عبد القادر وغيرهم
(2)
.
شيخ الفتيان ببغداد عبد الجبار بن صالح، من أهل باب الأزج
(3)
، لبس منه الإمام الناصر سراويل الفتوة
(4)
، وكان شيخ صالحًا يعمل في البساتين، وكانت له صومعة بباب كلواذا
(5)
يَتعبّد فيها، وحج في هذه السنة، وتوفي بمكة، فدفن بالمعلى
(6)
.
ابن نقطة
(7)
عبد الغني بن أبي بكر بن شجاع الزاهد، كانت له زاوية ببغداد يأوي إليها الفقراء، وكان ديّنا جوادًا، لم يكن ببغداد في عصره مَن يقاومه في التجريد، كان يفتح عليه قبل غروب الشمس بألف دينار، فيفرقها والفقراء صيام، فلا يدخر لهم منها شيئًا، ويقول: نحن لا نعمل بأجرة. يعني لا نصوم وندخر ما نفطر عليه، وكانت والدة
(8)
الخليفة الناصر تحسن الظن به، زوَّجته جارية من خواصها، ونقلت معها جهازًا يُساوي عشرة آلاف دينار، فما حال الحول وعنده منها سوى هاون
(9)
، فجاء فقير فوقف على الباب، وقال: لي ثلاثة أيام ما أكلت شيئًا. فأخرج إليه الهاون وقال: لا تشنع على الله،
(1)
"المثنى" كذا في الأصل، والمثبت من وفيات الأعيان، ج 3، ص 29؛ البداية والنهاية، ج 12، ص 351.
(2)
شذرات الذهب، ج 4، ص 279 - 277؛ البداية والنهاية، ج 12، ص 301؛ الذهبي: العبر، ج 4، ص 251.
(3)
باب الأزج: محلة كبيرة، ذات أسواق كثيرة، ومحال كبار في شرقي بغداد. معجم البلدان، ج 1، 232.
(4)
الفتوة: في اللغة صفة الفتى، واشتقت من الفتى، ومن مظاهرها الشجاعة والصبر عند الأزمات، وتغلب القوى الروحانية على الجسمانية، ومن مظاهرها أيضا الكرم والسخاء والمروءة
…
وقد ارتبطت فتوة القرن السادس الهجري بالخليفة العباسي الناصر لدين الله الذي رأى أن العالم الإسلامي يحتاج إلى تجديد قوته لمقاومة الصليبيين، ومن ثم أخذ الخليفة الناصر بمبدأ القوة واستقى فتوته من رئيس الفتيان في عصره الشيخ عبد الجبار يوسف المذكور في هذا النص. أنظر: ابن المعمار البغدادي، كتاب الفتوة، ص 5، تحقيق مصطفي جواد، طبعة 1958؛ المختصر، ج 3، ص 136؛ ابن خلدون، كتاب العبر، طبعة 1971، ج 3، ص 535.
(5)
كلواذا: ناحية بالجانب الشرقي من بغداد، ويقال: إنها سميت بذلك لأن الكلواذ هو تابوت تورية موسى عليه السلام، وأنه مدفون في هذا الموضع، ولذلك سميت كلواذا. انظر: معجم البلدان، ج 4، ص 301 - ص 302.
(6)
الذهبي: العبر، ج 4، ص 249.
(7)
انظر ترجمته في وفيات الأعيان، ج 4، ص 392؛ شذرات الذهب، ج 4، ص 278 - 279.
(8)
هي أم ولد تركية اسمها زمرد - انظر: السيوطي، تاريخ الخلفاء، ص 448.
(9)
الهاون: وعاء مجوف من الحديد أو النحاس يدق فيه. انظر: المعجم الوسيط.
كُلْ بهذا ثلاثين يومًا، وكان له أخ يقال له: أبو منصور بن نقطة مُزَكلِشْ ينشد في الأسواق ويُسحّر [53] الناس في رمضان، فقيل له: ألا تستحي؟! أخوك زاهد العراق وأنت تُزكلش في الأسواق. فقال مواليا:
قد خاب من شبه الجزعة إلى درة
…
وسَامَ قحبةَ إلى مستحسنة حرّة
أنا مغنى وخي زاهد إلى مَرّة
…
في الدار بيرين ذي حلوة وذي مُرة
وكانت وفاته يوم الثلاثاء الرابع من جمادى الآخرة، ودفن بزاويته.
ابن التعاويذي
(1)
الشاعر، أبو الفتح محمد بن عبيد الله بن عبد الله الكاتب المعروف بابْن التعاويذي، الشاعر المشهور، وكان أبوه مولى لابن
(2)
المظفر واسمه نُشتَكِين
(3)
، فسمي والده عبيد الله، وهو سبط أبي محمد المبارك بن المبارك بن على بن نصر السراج الجوهري الملقب جمال الدين، وإنما نسب إلى جده المذكور لأنه كفله صغيرة، ونشأ في حجره فنسب إليه.
وكان أبو الفتح
(4)
المذكور شاعر وقته، لم يكن فيه مثله، جمع شعره بين جزالة الألفاظ وعذوبتها، ورقة المعاني ودقتها، وكان كاتبًا بديوان المقاطعات
(5)
ببغداد، وعمي في آخر عمره سنة تسع وسبعين، وله في عَماه أشعار كثيرة، يرثى عينيه، ويندب زمان شبابه وتصرفه، وكان قد جمع ديوانه بنفسه قبل العمى، وصنف كتابًا سماه "الحجبة والحجاب" وهو قليل الوجود. وكانت ولادته في العاشر من رجب يوم الجمعة سنة تسع عشرة وخمسمائة، وتوفي في ثاني شوال سنة ثلاث أو أربع وثمانين وخمسمائة ببغداد، ودفن في باب أبرز. والتعاويذي نسبة إلى كتبه التعاويذ، وهي الحُروز
(6)
واشتهر
(7)
بها أبو محمد المبارك بن المبارك المذكور
(8)
.
(1)
انظر ترجمته في وفيات الأعيان، ج 4، ص 466 - ص 473.
(2)
"لبنى" كذا في الأصل. والمثبت من وفيات الأعيان، ج 4، ص 473.
(3)
نُشْتِكينْ: هو اسم أعجمي تسمى به المماليك. وفيات الأعيان، ج 4، ص 473.
(4)
في الأصل أبو الشيخ، والتصحيح من وفيات الأعيان، ج 4، ص 466.
(5)
ديوان المقاطعات: كان في العصر العباسي، وقد اختص بالإقطاعات الزراعية التي كان يوزعها الخليفة، وقد حل محله في العصر الأيوبي والمملوكي ديوان الإقطاع. انظر: المقريزي، السلوك، ج 1 ق 3، ص 841، ص 842، حاشية 8.
(6)
الحروز: مفرد الحِرْز، وهو العُوذة التي يتعوذ بها. المعجم الوجيز مادة حَرَزَ، ص 144.
(7)
"وأشهر" في الأصل. والتصحيح من وفيات الأعيان، ج 4، ص 473.
(8)
ورد هذا النص بتصرف في ابن خلكان، كما وردت به ترجمة لأبي محمد المبارك: وفيات الأعيان، ج 4، ص 466 - 473. انظر أيضا: شذرات الذهب، ج 4، ص 281؛ الروضتين، ج 2، ص 123.
أبو الفضل
(1)
أستادار بن الصاحب، واسمه هبةُ الله بن علىّ بن هبة الله الملقب بمجد الدين. ولاه المستضيء أستاذ الدار، وأقره الناصر وقربه تقريبًا زائدًا، فبسط يده في الأموال وسفك الدماء، وسبّ الصحابة ظاهرة، وبطر بطرًا شديدا، وكثرت السعايات فيه إلى الخليفة، وأشير عليه بقتله، فاستدعى يوم السبت تاسع عشر ربيع الأول إلى دار الخلافة، فعلم أنه مقتول، فاغتسل غسل الميت وودّع أهله، وخرج فمر على دار الطبل
(2)
قبيل الظهر، فقال لعريف الطبالين: دخل الوقت. فقال: قد قرب. فتطيّر، فلما حُصّل في بعض الدهاليز
(3)
وثب عليه ياقوت شحنة بغداد فقتله، وماجت بغداد، فأخرج رأسه فعلّق على باب النوبي، فسكن الناس. وعمره إحدى وأربعون سنة، ووجد في داره ما لم يُوجد في دور الخلفاء، فمن العين ألف ألف دينار وخمسمائة دينار، ومن الخيل والبغال [المماليك]
(4)
والجواهر والثياب مثل ذلك.
الأمير شمس الدين
(5)
بن محمد بن عبد الملك بن المقدم، أحد نواب السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب قتل في مكة في هذه السنة، وكان أمير الحاج على ما ذكرناه مفصلا.
وفي المرآة
(6)
: وهو الذي سلم سنجار إلى نور الدين، وصلاح الدين أعطاه بعلبك ثم عوضه عنها ببارين وغيرها، وصلاح الدين لما توجه إلى الشرق استنابه بالشام، وله المواقف المشهورة في الغزوات، وحضر حطين والقدس وعكا وفتوح الساحل، ولما حج وقع الحربُ [54] بينه وبين طاشتكين أمير حاج العراق، وقتل من الفريقين جماعة، ورماه مملوك طاشتكين بسهم فوقع في عينه فخرّ صريعًا، وجاء طاشتكين فحمله إلى
(1)
انظر ترجمته في وفيات الأعيان، ج 1، ص 245؛ الذهبي، العبر في خبر من غبر، ج 4، ص 251؛ الكامل، ج 10، ص 164.
(2)
دار الطبل: هي مكان الطبل. انظر: السلوك، ج 1 ق 1، ص 46؛ القلقشندي، صبح الأعشى، ج 4، ص 8 - ص 9.
(3)
الدهليز: المدخل بين الباب والدار. المعجم الوجيز، ص 236.
(4)
"الممالك" كذا في الأصل، والصحيح ما أثبتناه.
(5)
انظر ترجمته في الكامل، ج 10، ص 162 - ص 163؛ العبر في خبر من غبر، ج 4، ص 250؛ شذرات الذهب، ج 4، ص 276.
(6)
هذه الفقرة من السنتين الساقطتين من سبط ابن الجوزي، وقد وردت هذه الأحداث في الكامل، ج 10، ص 91، حوادث سنة 574 هـ.
مني، فتوفي يوم الخميس، يوم عيد الله الأكبر، وصلى عليه
(1)
بمسجد الخيف
(2)
، ودفن بالمعلى. ولما بلغ السلطان صلاح الدين خبره بكى بكاء عظيمًا، وحزن حزنًا كبيرا، وقال: قتلني الله إن لم أنتصر له، وتأكدت الوحشة بينه وبين الخليفة، فقال: أنا الجواب، ثم استعد للجواب.
الأميرُ محمود أخو جاولي، استشهد في هذه السنة، وسبب ذلك أن السلطان وكله بحصر قلعة كوكب
(3)
التي على الغور، وكانت فيها الإستبارية، وقد كانوا تمنعوا بشدتهم ومنعتهم، وكانت قلعتهم هذه منيعة عاليًا مرتفعًا، ولما ملك صلاح الدين الساحل، وهلك الباطل، وافتتحت طبريّة وأعمالها، تمنعت من ذلك قلعتان: قلعة صفد
(4)
بالداوية، وقلعة كوكب بالإستبارية، وتعذر فتحهما، ورتّب السلطان علي صفد جماعة يعرفون بالناصريّة ومقدمتهم مسعود الصلتي، ورتب على كوكب هذه محمودًا المذكور، وكان ديّنا صالحًا مشكور السيرة، فأقام بحصنٍ قريب من كوكب يُقال له: [عفربلا
(5)
]، وكان يَسْهر أكثر ليله متهجدًا، وقد جعل منزله مَسجدا. فلما كان آخر ليلة من شوال وكانت ليلة مظلمة مدلهمة، خرج أهل كوكب وقت السحر، ومضوا إليه والناسُ رقود والحراسُ هجُود، فما أحس محمود إلا وقد هجم الفرنج عليهم، فجاءتهم الشهادة، وبقي الأميرُ حتى استشهد محصورًا. وكان أمر الله قدرة مقدورا، ونقلوا إلى القلعة ما وجدوه من سلاح ومتاع وخيل وكراعة
(6)
، فلما عرف السلطان ما أصابهم ندب إلى الكوكب صارم الدين قايْماز النجْمي، فضايقها وحصرها، ولم يزل عليها مقيمة إلى أن يسّر الله بفتحها كما نذكره إن شاء الله تعالى
(7)
.
(1)
الكامل، ج 10، ص 162 - ص 163؛ البداية والنهاية، ج 12، ص 250؛ كما ورد هذا النص بالتفصيل في الروضتين، ج 2، ص 123؛ العبر في خبر من غبر، ج 4، ص 250؛ الفتح القسى، ص 188، ص 189.
(2)
الخيف: مسجد بمنى. معجم البلدان، ج 2، ص 508.
(3)
كَوْكَب: اسم قلعة على الجبل المطل على مدينة طبرية، حصينة رصينة تشرف على الأردن. معجم البلدان، ج 4، ص 328.
(4)
كانت صفد إحدى معاقل هيئة الفرسان الداوية، وهي مدينة في جبال عاملة المطلة على حمص بالشام وهي من جبال لبنان. انظر: معجم البلدان، ج 3، ص 399؛ السلوك، ج 1 ق 3، ص 545، حاشية 6.
(5)
"عقر بلًا" في الأصل. والتصحيح من ياقوت، وعَفْر بَلا: بلدة بغور الأردن، قرب بيسان وطبرية. معجم البلدان، ج 3، ص 688.
(6)
الكُرَاع: الخيل والبغال والحمير. محيط المحيط، مادة (كرع).
(7)
ورد هذا النص بتصرف في الكامل، ج 10، ص 162؛ الفتح القسي، ص 177 - ص 179؛ الروضتين، ج 2، ص 120.
فَصْلٌ فيما وقعَ من الحَوادِثِ في السنة الرابعة والثمانين بعد الخمسمائة
(*)
استهلت هذه السنة، والخليفة هو الناصر لدين الله، والسلطان صلاح الدين مقيم على عكا.
ذكر غزوات صلاح الدين وفتوحاته في هذه السنة
وسار السلطان من عكا في المحرم، وحاصر حصن كوكب، فرآه منيعًا صعبًا، ووقته مشغول بغيره، فوكل به الأمير قايماز النجمي في خمسمائة فارس يُضيّقون عليه المسالك، وكذلك بصفد، وكانت الداوية خمسمائة فارس مع طغرل الجاندار
(1)
، يمنعون وصول الميرة والتقاوي. وبعث إلى الكرك والشوبك جيشًا آخر يُحاصِرونهما، ويضيقون على أهليهما ليتفرّغ من أموره لقتال هذه الأماكن
(2)
وحصارها. وسار منها في ربيع الأول ودخل دمشق، ففرح الناس به، وكتب إلى ملوك الأطراف باجتماع العساكر، وأقام في دمشق خمسة أيام ثم خرج على ما نذكره، وفي المرآة
(3)
: وكان الذي أرسله صلاح الدين إلى الكرك والشوبك صهره، يُقال له [55] كوحَبَا. وفي النوادر: ولما خرج السلطان من دمشق نزل على بُحيرَة قَدَس غربيّ حمص، وأتته العساكر بها، وأولهم عماد الدين زنكي ابن مودود بن زنكي صاحب سنجار ونصيبين. ولما تكامل عسكره رحل ونزل تحت حصن الأكراد، وشنّ الغارات على بلاد الإفرنج، وسار من حصن الأكراد، فنزل على أنطرسوس
(4)
سادس جمادى الأولى، فوجد الفرنج قد أخلوا أنطرطوس، فسار إلى مرقب
(5)
، فوجدهم قد أخلوها أيضًا، فسار إلى صَوْب جبَلة
(6)
وأخذها في الثامن عشر من جمادى الأولى حال وصوله على ما نذكره
(7)
.
(*) يوافق أولها 2 مارس 1188 م.
(1)
الجاندار: كلمة فارسية مكونة من مقطعين "جان" بمعنى سلاح و"دار" معناه ممسك. انظر: السلوك، ج 1 ق 1، ص 162، حاشية 3، الطبعة الثانية.
(2)
ورد هذا النص بتصرف في الكامل، ج 10، ص 166؛ البداية والنهاية، ج 12، ص 351؛ الروضتين، ج 2، ص 126.
(3)
هذا النص من السنتين الساقطتين في المرآة.
(4)
أنطرسوس: بلد من سواحل بحر الشام، وهي آخر أعمال دمشق من البلاد الساحلية وأول أعمال حمص. معجم البلدان، ج 1، ص 388.
(5)
المرقب: قلعة حصينة تشرف على ساحل بحر الشام وعلى مدينة بلنياس، معجم البلدان، ج 4، ص 500.
(6)
جبلة: قلعة مشهورة بساحل الشام من أعمال حلب قرب اللاذقية. انظر: معجم البلدان، ج 2، ص 25.
(7)
ورد هذا النص بتصرف في البداية والنهاية، ج 12، ص 352.
وقال العماد الكاتب: وأشرفنا على جبلة يوم الجمعة
(1)
الثامن عشر، وتسلمنا الحصن في ذلك اليوم، وأقام السلطان بها أيامًا. وفي النوادر
(2)
: ولما كان مستهل ربيع الآخر نزل السلطان على تل قبالة حصن الأكراد، ثم سير إلى الملك الظاهر ولده، والملك المظفر بأن يجتمعا وينزلا على تيزِينَ قبالة أنطاكية لحفظ ذلك الجانب، فسارا حتى نزلا تيزين في هذا التاريخ، وسَارت عساكر الشرق حتى اجتمعت بالسلطان في هذه المنزلة
(3)
، فأقام في منزلته هذه ربيع الآخر أجمع، وصعد في أثنائه إلى حصن الأكراد، وحاصرها يومًا يحبسها به، فما رأى الوقت يحتمل حصاره. واجتمعت العساكر من الجوانب، وأغارَ على بلد طرابلس في هذا الشهر دفعتين، ودخل البلادُ مغيرًا ومختبرًا لمن بها من العساكر، وتقوية العساكر. ولما كان يوم الجمعة الرابع من جمادى الأولى، رحل على تعبية لقاء العدو، ورتّب الأطلاب وسارت الميمنة أولًا، ومقدّمها عماد الدين زنكي، والقلب في الوسط، والميسرة في الأخير ومقدّمها مظفر الدين بن زين الدين، وسار الثقل في وسط القلب حتى أتى المنزل، ثم رحل في صبيحة السبت، ونزل على العُريمة
(4)
فلم يقاتلها ولم يعرض لها، ولكن أقام عليها بقية يوم السبت، ورحل عنها يوم الأحد، ووصل إلى أنطرسوس
(5)
ضحوة نهار الأحد السادس من جمادى الأولى.
ذكر فتح أنطرسوس
ولما وصل إلى أنطرسوس في التاريخ المذكور، فوقف قبالتها ينظر إليها. وكان في عزمه الاجتياز، ثم اختار النزول، فأمر الميمنة والميسرة بالنزول على البحر من الجانبين، ونزل هو أيضًا في جانب آخر، فأحدقتها العساكر من البحر إلى البحر، وهي مدينة راكبة على البحر ولها بُرجان حصينان كالقلعتين، ثم أمر الناس بالزحف والقتال وشدّوا عليها جدًا، وما استتم نصب الخيم حتى صعد الناس السُورَ وأخذوها عنوة، وغنم العسكر جميع ما فيها، وخرج الناس والأسرى بأيديهم وأموالهم. وترك الغلمان نصب الخيم،
(1)
"الخميس" كذا في الأصل. والمثبت من الفتح القسي، ص 233، حيث ينقل العينى عنه؛ النوادر السلطانية، ص 89؛ الروضتين، ج 2، ص 127.
(2)
النوادر السلطانية، ص 86.
(3)
النوادر السلطانية، ص 86.
(4)
العريمة: بلد تتاخم الدهناء، وكان حصنًا قويًا من الحصون التي دخلت في نطاق نفوذ إمًارة طرابلس اللاتينية. انظر: الفتح القسى، ص 227، حاشية 2.
(5)
النوادر السلطانية، ص 87.
واشتغلوا بالنهب والكسب، وفي السلطان بقوله؛ فإنه كان قد عرض عليه الغداء فقال: نتغدى بأنطرسوس إن شاء الله. وعاد إلى خيمته فرحًا مسرورًا، ثم أمر بتخريب سُور البلد وتخريب بيعة عظيمة عندهم [56] كانوا يحجون إليها من أقطار بلادهم، وأمر بوضع النار في البلد فأحرق جميعه، فأقام عليهًا إلى الرابع عشر من جمادى الأولى، ثم سار يريد جبلة، وكان وصوله إليها في الثامن عشر من جمادى الأولى، الجمعة
(1)
.
ذكرُ فتح جبلة يوم الجمعة
ولما وصل السلطان إلى جبلة في التاريخ المذكور، أخذ البلد يوم وصوله، وكان فيها مسلمون يقيمون فيها، وقاض يحكم بينهم
(2)
.
وفي المرآة
(3)
: وكان قاضيها منصور بن ثبيل، فأرسل إلى السلطان يُشير عليه بقصدها، وقيل: إن القاضي والأعيان خرجوا إليه وهونوا عليه أمرها، وأخذ القاضي من السلطان أمانًا لأهل جبلة، وكان إبرنس
(4)
أنطاكية قد سلمها إلى القاضي ووثق به في حفظها، فنازلها وفتحها في التاريخ المذكور، وامتنع الحصن عليه يومًا، ثم سلموه إليه يوم السبت بالأمان بعون الله وفضله، وأقام عليها إلى الثالث والعشرين من الشهر المذكور. ثم سارَ عنها فَطلب اللاذقية.
ذكر فتح اللاذقية
(5)
نزل السلطان عليها يوم الخميس الرابع والعشرين من جمادى الأولى، وهي بلدة لها مينا وقلعتان متصلتان على تَل يشرف على البلد، فنزل رحمه الله مُحدقًا بالبلد، وأخذت العساكر منازلهم مستديرين على القلعتين من جميع نواحيها إلا من ناحية البلد، واشتد القتال وعظم الزحف، وأخذوا البلد دون القلعتين، وغنم الناس منه غنيمةً
(1)
ورد هذا النص بتصرف في النوادر السلطانية، ص 87 - ص 88؛ الكامل، ج 10، ص 197؛ الفتح القسى، ص 230.
(2)
النوادر السلطانية، ص 86 - ص 89.
(3)
من السنتين الساقطتين من المرآه.
(4)
يقصد بإبرنس أنطاكية في هذا الحدث "بيمند" انظر: الكامل، ج 10، ص 167؛ مفرج الكروب، ج 2، ص 256؛ الروضتين، ج 2، ص 127.
(5)
اللَّاذقيَّة: مدينة في ساحل بحر الشام تعد في أعمال حمص، وهي غربي جبلة. أنظر: معجم البلدان، ج 4، ص 338.
عظيمةً، فإنه كان بلد التجار: وفرق بين الناس الليل، وأصبحوا يوم الجمعة مقاتلين مجتهدين في النقوب من شمالي القلاع، وتمكن منها النقب حتى بلغ طوله ستين ذرًاعًا وعرضه أربعة أذرع، واشتد الزحف عليهم حتى صعدوا الجبل وقاربوا السور، وتواصل القتال حتى صاروا يتحاذفون بالحجارة بالأيدي، فلما رأوا ذلك استغاثوا وطلبوا الأمان عشيّة الجمعة الخامس [والعشرين]
(1)
من الشهر المذكور، وطلبوا قاضي جَبلَة، فدخل إليهم ليقرّر لهم قاعدة الأمان، فأجيبوا إلى ذلك، فدخل القاضي وقرر الحال معهم على أنهم يُطلَقُون بنفوسهم ونسائهم وذراريهم وأموالهم، عدا الغلال والذخائر وآلات السلاح والدواب، وأطلق لهم السلطان دوابًا يركبونها إلى مأمنهم. ثم رقي عليها العَلّم الإسلامي المنصور في بقية السبت السادس [والعشرين]
(2)
منه، وأقاموا عليها إلى يوم الأحد السابع والعشرين من جمادى الأولى
(3)
.
وقال العمادُ
(4)
رحمه الله: ولما رحل السلطان من جبلة أتى اللاذقية وفتحها في الرابع والعشرين من جمادى الأولى، وهي ثلاث قلاع متلاصقات على طول التل، فلما عرفوا أنهم مدركون طلبوا الأمان، وذلك يوم الجمعة الخامس والعشرين عشيةً، ودخل جماعة منهم في عقد الذمة، وانتقل الباقون إلى أنطاكية. ثم رتب السلطان جماعةٍ من خواص مماليكه، وأخرج من القلاع أهل الكفر وأسكنها أهل التوحيد، وولي بها سنقر الخِلاطي مملوكه، ثم ركب السلطان إلى البلد [57] وطافه، وهزّ إلى إحسانه أعطافه، ثم رحل نحو صهيون
(5)
.
ذكر فَتح صَهْيُون
ولما سار السلطان راحلًا من اللاذقية نزل على صهيون يوم الثلاثاء التاسع والعشرين من جمادى الأولى، واستدار العسكر بها من سائر نواحيها بكرة الأربعاء، ونصب عليها ستة مناجيق، وهي قلعة حصينة منيعة في طَرف جبل، خنادقها أودية هائلة واسعة
(1)
"عشر" كذا في الأصل. والمثبت من النوادر السلطانية؛ ص 89؛ الفتح القسي، ص 237.
(2)
"عشر" كذا في الأصل. والمثبت من النوادر السلطانية، ص 89؛ الفتح القسي، ص 237.
(3)
انظر: الفتح القسى، ص 230 - ص 290؛ النوادر السلطانية، ص 89 - ص 90؛ الكامل، ج 10، ص 167.
(4)
نقل العينى هذا النص بتصرف من الفتح القسي، ص 236 - 238.
(5)
صَهْيُون: حصن حصين من أعمال سواحل بحر الشام، من أعمال حمص. انظر: معجم البلدان، ج 3، ص 438.
عميقة، وليس لها خندق محفور إلا من جانب واحد، مقدار طوله ستون ذراعًا، وهي نَقْر في صَخر، ولها ثلاثة
(1)
أسوار: سوران دون رَبضها، وسورٌ دون القُلة
(2)
، وكان على قلتها علم طويل منصوب، فحين أقبل العسكر الإسلامي وقع. قال صاحب النوادر
(3)
: شاهدت ذلك حين وقع، فاستبشر المسلمون بذلك وعلموا أنه النصر والفتح، واشتد القتال عليها من سائر الجوانب، فضربها منجنيق ولده الملك الظاهر صاحب حلب، وكان قد لحقه قبيل فتح جَبَلة بجفله وعسكره، وحضر فتوحها. ولما كان بكرة الجمعة، ثاني جمادى الآخرة، عزم السلطان على الزحف، وركب وتقدم وأمر المنجنيقات بتواتر الضربات، وما كان ساعة إلا وقد رقى المسلمون على أسوار الريض، واشتد الزحف وهجم المسلمون الرَبض. وانضم من كان فيه إلى القلعة، وأستدار المقاتلة حول أسوار القلعة، فلما عاينوا الهلاك طلبوا الأمان، فبذل لهم السلطان الأمان، على أن يسلموا بأنفسهم وأموالهم ويؤخذ من الرجل منهم عشرة دنانير، وعن المرأة خمسة دنانير، وعن الصغير ديناران، وسلّمت القلعة. وأقام السلطان حتى تسلم قلاعًا غيرها، وهي بلاطنس
(4)
، وعيذو
(5)
، وقلعة الجماهر
(6)
وغير ذلك. وقال العماد
(7)
: وكان تسلم قلعة عيذو يوم السبت، وقلعة بلاطنس يوم الاثنين، وقرر في كل حصن من تسلمه، وما مكنوا من الخروج حتى أحضروا ما قرّر عليهم، وتولي جباية ذلك شجاع الدين طُغرل الجاندار. وقال العماد
(8)
: ثم سُلِّم حصْن صَهْيَون بجميع أعماله وسائر ما حواه من ذخائره وأماله إلى الأمير ناصر الدين مَنكورسْ بن خُمارْتكين
(9)
.
(1)
ورد في الفتح القسى، ص 241، إنها ذات أسوار خمسة، وكذا في الكامل، ج 10، ص 169.
(2)
القلة: هي رأس الجبل، وأعلى كل شيء. محيط المحيط، مادة (قَلَلَ).
(3)
نقل العينى هذا النص بتصرف من النوادر السلطانية، ص 90 - ص 91.
(4)
بلاطْنُسُ: حصن منيع بسواحل الشام، مقابل اللاذقية من أعمال حلب. معجم البلدان، ج 1، ص 710.
(5)
العيذر أو العين أو عيذون: قلعة بنواحي حلب. انظر: معجم البلدان، ج 3، ص 751.
(6)
الجماهر: ذكرها ياقوت الجماهرية. وهي حصن قرب جبلة من سواحل الشام. وجماهر الشيء معظمه. انظر: معجم البلدان، ج 2، ص 116.
(7)
الفتح القسي، ص 266؛ الكامل، ج 10، ص 169 - ص 170.
(8)
انظر: الفتح القسي، ص 243.
(9)
ناصر الدين منكورس بن خمارتكين: كان صاحب قلعة أبي قبيس، وكان أحد أصحاب صلاح الدين، سلمه صلاح الدين قلعة صهيون سنة 584 هـ وكذلك حصن برزية. المختصر في أخبار البشر، ج 3، ص 74؛ الروضتين، ج 2، ص 130.
ذكر فتح بكَاس
(1)
ولما رحل السلطان من صهيون ثالث جمادى الآخرة، وصل إلى قلعة بَكاس سادس جمادى الآخرة، وهي قلعة حصينة عَلى جانب العاصي، ولا نهر يخرج من تحتها، ونزل السلطان على العاصى
(2)
. قال النويري
(3)
: تسلمها يوم الجمعة تاسع الشهر المذكور، وكان أهلها [أخلوها
(4)
] قبل وصول السلطان وتحصّنوا بقلعة شُغْر
(5)
.
وفي النوادر
(6)
: صعد السلطان جريدة إلى القلعة، وهي على جبل مطل على العاصي، فأحدق بها من كل جانب، وقاتلها قتًالًا شديدا بالمنجنيقات والزحف إلى يوم الجمعة، ثم يسر الله فتحها عنوة، وأُسِر مَن فيها بعد قتل من قُتل منهم، وغنم جميع ما كان فيها.
ذكرُ فتْح شغْر
ولما تحصنت الفرنج بقلعة شغر، وهي قلعة شامخة منيفة، خيّم السلطان بخيمة خفيفة إلى الجبل لحصار القلعة، فحاصرها وأخذها بالأمان [58] في الثالث عشر من جمادى الآخرة يوم الثلاثاء، ثم سلم السلطان حصْن بَكاس وحصن شُغْر إلى غرس الدين قلب الساقي.
وفي النوادر
(7)
: وكان لبَكَاس قُلَيعةٌ تسمى الشُغر، قريبًا منها يعبر إليها بجسرٍ، وهي في غاية المتعة ليس إليها طريق، فسلطت عليها المنجنيقات من الجوانب، ورأوا أنهم لا ناصر لهم، فطلبوا الأمان وذلك في يوم الثلاثاء، وسألوا أن يؤخروا ثلاثة أيام لاستئذان مَنْ بأنطاكية، فأذن السلطان في ذلك، وكان تمام فتحها وصعود العلم السلطاني على قلتها يوم الجمعة السادس عشر منه بعون الله وفضله
(8)
.
(1)
وعن بَكَّاس انظر: معجم البلدان، ج 1، ص 704.
(2)
الفتح القسي، ص 245؛ النوادر السلطانية، ص 91؛ ابن العديم: زبدة الحلب، ج 3، ص 104؛ الروضتين، ج 2، ص 130.
(3)
النويري: ذكر محقق النويرى أن الكلام غير متصل، وأن هذا الحدث لم يرد في الأحداث التي حققها. نهاية الأرب، ج 28، ص 407، حاشية 3.
(4)
في الأصل "أخلاها". والمثبت لتصحيح المعنى.
(5)
الشُّغْر: قلعة حصينة مقابل قلعة بكاس على رأس جبلين بينهما واد كالخندق لهما. معجم البلدان، ج 3، ص 303.
(6)
النوادر السلطانية، ص 91.
(7)
"قليعة" كذا في الأصل، والمثبت من النوادر السلطانية، ص 91، حيث ينقل العينى عنه؛ الكامل، ج 10، ص 170؛ الفتح القسى، ص 245 - 246؛ الروضتين، ج 2، ص 130.
(8)
ورد هذا النص في الفتح القسي، ص 245 - 246؛ النوادر السلطانية، ص 91؛ الكامل، ج 10، ص 170؛ الروضتين، ج 2، ص 130.
ذكر فتح سَرمْانية
ولما فتح السلطان حصن شغر أرسل ولده الملك الظاهر صاحب حلب فحاصر سرمانية وأخذها بالأمان، وهدمَ الحصن وعفّى أثره.
وفي النوادر
(1)
: أرسل صلاح الدين ولده المذكور إلى قلعة تسمى سَرْمانية يوم السبت سابع عشر جمادى الأخرى، فقاتلها قتالًا شديدًا، وضايقها مضايقةً عظيمةً، وتسلمها يوم الجمعة الثالث والعشرين من الشهر المذكور، [فاتفقت]
(2)
فتوحات الساحل من جبلة إلى سرمانية في أيام الجُمع، وهي علامة قبول دعاء خطباء المسلمين، وسعادة السلطان رحمه الله، حيث يسّر له الفتوح في اليوم الذي يضاعف فيه ثواب الحسنات، وهذا من نوادر الفتوحات في الجُمع المتوالية، ولم يتفق مثلها في تاريخ. وكان في هذه الحصون المذكورة من أسرى المسلمين عدد لا يحصى، فأطلقوا وأعطوا النفقة والكسوة
(3)
.
ذكرُ فتح حِصْن بُرْزيَة
(4)
ثم سار السلطان من شغر إلى بُرزية، وهي قلعة حصينة في غاية القوة والمنعة على سن جبل شاهق، يضرب بها المثل في جميع بلاد الإفرنج والمسلمين، يحيط بها أودية من سائر جوانبها وذرع عُلُوِّ تَلها
(5)
، فكان خمسمائة ذراع ونيفًا وسبعين ذراعًا
(6)
.
وقال العماد
(7)
: وكان وصول السلطان إليها يوم السبت الرابع والعشرين من جمادي الآخرة، وملكها يوم الثلاثاء السابع والعشرين منه، قال: فأحدقنا بهًا وبالجبل ونصبنا عليها المجانيق في سفحها، ولما رأى السلطان أنه لا وصول إليها بالمجانيق، وأن الاشتغال به يُطيل الزمان مال إلى الزحْف، فقسم الناسَ ثلاثة أقسام، وجعل النوبة
(1)
النوادر السلطانية، ص 92.
(2)
"فاتفق" كذا في الأصل. والمثبت من النوادر السلطانية، ص 92.
(3)
ورد هذا النص بتصرف في النوادر السلطانية، ص 92؛ الفتح القسي، ص 297؛ الكامل، ج 10، ص 171؛ الروضتين، ج 2، ص 130؛ مفرج الكروب، ج 2، ص 264 - 265.
(4)
ذكر ياقوت أن هذا الحصن يسمى بَرْزُويَة بالفتح وضم الزاء وسكون الواو وفتح الياء والعامة تقول بَرْزُويَة. انظر: معجم البلدان، ج 1، ص 565.
(5)
"علوها" كذا في النوادر، ص 92؛ أما الفتح القسي، ص 248؛ فقد ورد فيه النص كالآتي:"وقيل قدر علو ثلثه".
(6)
النوادر السلطانية، ص 92.
(7)
الفتح القسى، ص 248.
الأولى لعماد الدين زنكي صاحب سنجار والملك العادل، وتقدم السلطان بنفسه في النوبة الثانية، واشتد القتال وضاق بها الحال، ولما أيقنوا بأنهم ملكوا طلبوا الأمان وكفّوا عنهم. وكانت زوجة صاحب حصن بُرزية أختَ زوجة الإبرنس صاحب أنطاكية، وقد سُبيُت وخُبّيَت، فما زال السلطان يطلبُها حتى أظهروها وأحضروها، فمنَّ عليها بالإعتاق، وحل عنها وعَن زوجها قيد الوثاق، وأحضر أيضًا ابنة لهما وزوجها وعدّةً من أصحابهم، وأدخلهم معها في الإطلاق، وسَيّرَ معهم إلى أنطاكية مَنْ أوفدهم على أهلهم، فسرت بأختها زوجة البرنس. وأنعم السلطان [59] بهذا الحصن على عز الدين المذكور عن قريب.
ذكْر فَتح قَلْعَة دَرْبِسَاك
(1)
ولمّا رحل السلطان من حصن برزية عبَر من عند شقيف دركوش
(2)
إلى شرقي العاصي، وجاء إلى جسر الحديد
(3)
وأقام هناك أيامًا حتى تلاحق به العسكر، ثم سار إلى دربساك ونزل عليها يوم الجمعة الثامن من شهر رجب، وهي قلعة منيعة مرتفعة، وهي عُش الداوية، وقاتلها قتالًا شديدًا وضايَقها مضايقةً عظيمةً، وأمر بالنقب تحت برج، وتمكن النقب منها حتى وقع، وحمَوه بالرجال المقاتلة، ووقف في الثغرة رجال يحمونها عن من يصعد فيها
(4)
. قال صاحب النوادر
(5)
: ولقد شاهدتهم وكلما قتل منهم رجل قام غيره مقامه، وهم قيام عوض الجدار مكشوفين، إلى أن اشتدّ بهم الأمرُ حتى طلبوا الأمان، فأمنهم السلطان وشرط عليهم أن ينزلوا بأنفسهم وبثياب أبدانهم لا غير. فعند ذلك رقي عليها العلم الإسلاميّ يوم الجمعة أيضًا الثاني والعشرين من رجب، وأعطاها لعلم الدين سليمان بن جندر
(6)
، ثم سار عنها بكرة السبت الثالث والعشرين
(7)
من رجب متوجهًا إلى بُغَراس.
(1)
دربساك: حصن قرب أنطاكية من أعمال حلب. انظر: معجم البلدان، ج 2، ص 647؛ السلوك، ج 1 ق 2، ص 551؛ زبدة الحلب، ج 3، ص 48، حاشية 4.
(2)
شقيف درْكْوش: قلعة من نواحي حلب قبلي حارم. انظر: معجم البلدان، ج 3، ص 309.
(3)
جسر الحديد: على نهر العاصي بالقرب من أنطاكية. انظر: الكامل، ج 10، ص 173.
(4)
وردت هذه الأحداث بتصرف في الفتح القسى، ص 255 - ص 256؛ النوادر السلطانية، ص 93؛ الكامل، ج 10، ص 173 - ص 174؛ الروضتين، ج 2، ص 133.
(5)
هنا يعتبر ابن شداد شاهد عيان على الأحداث بدليل قوله "شاهدتهم".
(6)
"ابن حيدر" كذا في الأصل، والمثبت من النوادر السلطانية، ص 93، وهو علم الدين سليمان بن جندر، كان من أكابر أمراء حلب ومن مشايخ الدولتين النورية والصلاحية توفي سنة 578 هـ. النجوم الزاهرة، ج 6، ص 113.
(7)
نقل العينى هذا النص بتصرف من النوادر السلطانية، ص 93.
ذِكرُ فَتح قلعةِ بْغرَاس
وهي قلعة منيعة على رأس جبل شامخ، قريبة من أنطاكية، كثيرة العُدّة والرجال، فنزل العسكرُ في مرج لها، وصعد السلطان في جريدة عسكره إلى الجبل، ووقف بإزاء الحصن ينصب عليه المجانيق من جميع جهاته، وعين يَزَكا
(1)
لجانب أنطاكية كيلا يحصل تشويش من جهة أنطاكية، فضرب اليزك على باب أنطاكية بحيث لا يقدر أحد أن يخرج منها.
قال صاحب النوادر
(2)
: وأنا كنت في اليَزك في بعض الأيام ولم يزل السلطان يقاتل أهل بغراس مقاتلة شديدة
(3)
حتى ضاق بهم الحال، فخرج مقدم الداوية يستأذن في الحضور، فأذن له، ولما حضر طلب الأمان فأمنهم السلطان على حكم دَربساك، ورقي العلم السلطاني عليها في الثاني من شعبان، ثم سلّم السلطان قلعة بغراس لعلم الدين سليمان آنفًا، فتسلّم الحصنين دريساك وبغراس، وكان علم الدين هذا صاحب أعزاز، وتسلمهما بذخائرهما، ووجد في بغراس خاصةً من الغلّة اثني عشر ألف غرارة
(4)
سوي ما فيها من سائر الأقوات
(5)
.
ذِكرُ مُهادَنة صاحب أَنطاكِية
ولما فرغ السلطان من أمر بغراس عزم على التوجه إلى أنطاكية، وكان الإبرنس
(6)
صاحبها عجل بإرسال أخي زوجته يَسأل من السلطان الهدنة والصلح على أن يطلق كل أسير عنده، فأجابه السلطان إلى ذلك، ووقع الصلح إلى ثمانية أشهر، وكان الإبرنس هذا من أعظم ملوك الإفرنج في هذه البلاد، وكان أهل طرابلس سلموا إليه طرابلس أيضًا بعد مَوت قومص صاحبها، وجعل الإبرنس ابنه في طرابلس
(7)
، وقال صاحب النوادر
(8)
:
(1)
يَزكَ: لفظ فارسي معناه الطلائع. انظر. Dozy: supp. Dict. Ar
وانظر: السلوك، ج 1، ص 105، حاشية 3.
(2)
يؤكد هنا ابن شداد على أنه ممن شارك في حصار قلعة بغراس بدليل قوله: "وأنا كنت في اليزك".
(3)
إلى هنا توقف العينى عن النقل من النوادر السلطانية، ص 093
(4)
الغرارة تساوي اثني عشر دينارا حينئذ، انظر: الفتح القسي، ص 259.
(5)
ورد هذا النص بتصرف في الفتح القسى، ص 257 - ص 259.
(6)
المقصود بالإبرنس هنا "بيمند"، الكامل، ج 10، ص 174.
(7)
ورد هذا النص بتصرف في الفتح القسى، ص 260 - ص 261؛ كما ذكر ابن الأثير هذه الأحداث بالتفصيل، الكامل، ج 10، ص 174، ص 175؛ وانظر أيضًا: مفرج الكروب، ج 2، ص 269 - ص 270.
(8)
النوادر السلطانية، ص 94.
وكانت هدنتهم إلى سبعة أشهر على أنه إن جاءهم من ينصرهم [60] وإلا سلّموا
(1)
البلد إلى السلطان رحمه الله.
ذكرُ رحيل السّلْطان مُتَوجّهًا إلى دمشْقَ
لما فرغ السلطان من أمْرِ بُغراس ومُهادنة صاحب أنطاكية، رحل قاصدًا الشامَ، فأتى حلب ودخلها في حادي عشر شعبان، ثم أعطى دستورًا للعسكر، وودع عماد الدين زنكي بن مودود بن زنكي بعد أن أنعم عليه بأنواع التحف والأمتعة الدواب، ويقال: إنما دخل السلطان حلب لأن ولده الملك الظاهر سأله ذلك، فأتاها وأقامَ بقلعتها ثلاثة أيام، وولده يقوم بالضيافة حق القيام، ولم يبق في العسكر إلا من ناله شيء من نعمته، وبالغ في ذلك حتى أشفق عليه والده، ثم سار السلطان من حلب في الرابع عشر من شعبان قاصدًا دمشق فاعترضه ابن أخيه الملك المظفر تقي الدين وأصعده إلى قلعة حماة، واصطنع له طعامًا حسنًا وأحضر له سماع الصوفية، وبات فيها ليلةً واحدةً، وأعطاه السلطان جبلة واللاذقية، ثم سار على طريق بعلبك حتى أتاها وأقام بمرجها يومًا، ودخل إلى حمامها، ثم سار منها حتى أتى دمشق قبل دخول رمضان بأيام يَسيرة فأقام بها حتى دخل رمضان، وما كان يرى بتبطيل وقته عن الجهاد مهما أمكنه، وكان قد بقي له من القلاع القريبة من حوران التي يخاف عليها من جانبها صَفد وكوكب، فرأى أن يُشغل الزمان بفتح المكانين في الصوم
(2)
. وقال ابن كثير
(3)
: ولما دخل السلطان دمشق أشاروا عليه بتفريق العسكر ليُريحوا ويَستريحوا. فقال السلطان: إن العمر قصير، والأجل غير مأمون، فخرج من دمشق لغزوته في أوائل رمضان يريد صفَد
(4)
.
ذكر فتح صَفد
ولما خرج من دمشق أتي علي صفد في أثناء شهر رمضان، وهي قلعة منيعة قد تقاطع حولها بالأودية، فأحدق العسكر بها، ونصَب عليها المجانيق، ولم يزل القتال متواصلًا بالنُوَب مع الصوم حتى سلموها بالأمان في الرابع عشر من شوال من هذه
(1)
"أسلموا" كذا في الأصل، والمثبت من النوادر السلطانية، ص 94. حيث ينقل العينى عنه.
(2)
ورد هذا النص بتصرف في النوادر السلطانية، ص 94؛ الفتح القسي، ص 263 - ص 265.
(3)
القول هنا لابن الأثير وليس لابن كثير. انظر: الكامل، ج 10، ص 175.
(4)
الكامل، ج 10، ص 175.
السنة
(1)
. وقال ابن كثير
(2)
: مازال السلطان عليها بالقتال والمضايقة حتى فتحها صلحًا في الثامن من شوال. ثم سلّمت القلعة إلى شجاع الدين طغرل الجاندار.
ذكر فتح قلعة كوكب
ولما فرغ السلطان من أمر صفد سار إلى كوكب وعليا الأمير قايماز النجمي، وقد ذكرنا أن السلطان خلاه عليها يُحاصرها، ونزل السلطان على سطح الجبل، وجرّد العسكر وأحدقوا بالقلعة وضايقوها بالكلية، وكانت الأمطار متواليةً، والوحول كثيرةً بحيث تمنع الماشي والراكب إلا بمشقة كبيرة، وعانى السلطان شدائدَ وأهولًا من شدّة الرياح وتراكم الأمطار، وكون العدو متسلطًا عليهم بعلوّ مكانه، وجرح خلق من العسكر، وقتل جماعة ولم يزل السلطان راكبًا مركب الجد حتى تمكن النقب [من]
(3)
سورها، ولما أحسّوا بالنقب وقد تمكن من [السور]
(4)
علموا أنهم مأخذون، فطلبوا الأمان، فأجابهم إلى ذلك وآمنهم وتسلمها [61] في منتصف ذي القعدة وسيَّر أهلها إلى صُورَ، وكان اجتماع هذه القلاع كلها في صور
(5)
. وقال ابن كثير: وكان حصن كوكب [معقل]
(6)
الإستبارية، كما أن صفد معقل
(7)
الداوية، وكانوا أبغض أجناس الإفرنج إلى السلطان، لا يكاد يترك منهم أحدا [إلا قتله]
(8)
إذا وقع من المأسورين
(9)
. ولما فتحت قلعة كوكب عرضها السلطان على جماعة فلم يقبلوها، فولاها قايماز النجمي عن كراهة
(10)
.
ذكر فتح الكرك
لما كان السلطان سار إلى البلاد الشمالية جعل على الكرك وغيرها مَنْ يحاصرها، وخلّى أخاه الملك العادل في تلك البلاد يُباشر ذلك، فأرسل أهل الكرك يطلبون الأمان،
(1)
نقل العينى هذا النص بتصرف من النوادر السلطانية، ص 95؛ الروضتين، ج 2، ص 135.
(2)
البداية والنهاية، ج 12، ص 352.
(3)
"على" كذا في الأصل. والمثبت من النوادر السلطانية، ص 96.
(4)
ما بين حاصرتين إضافة من النوادر السلطانية، ص 96.
(5)
ورد هذا الحدث بتصرف في الفتح القسي، ص 273 - 275؛ النوادر السلطانية، ص 99؛ الكامل، ج 10، ص 176 - ص 177.
(6)
"معدن" كذا في الأصل. والمثبت من البداية والنهاية، ج 12، ص 352.
(7)
"معدن" كذا في الأصل. والمثبت من البداية والنهاية، ج 12، ص 352.
(8)
ما بين حاصرتين إضافة من ابن كثير الذي ينقل عنه العين، انظر: البداية والنهاية، ج 12، ص 352.
(9)
إلى هنا توقف العينى عن النقل من البداية والنهاية، ج 12، ص 352.
(10)
الفتح القسي، ص 274.
فأمر العادل المباشرين لحصارها بأن يَتسلّموها، فتسلموا الكرك والشّوبك وغيرهما مما في تلك الجهات
(1)
. وقال العماد
(2)
: وكان الملك العادل مقيمًا بتبنين
(3)
بالعسكر، محترزًا على البلاد من غائلة الفرنج، مُقويا للأمراء المرتّبين على الحصون، وكَان صهره سَعد الدين كُمشْبَه [الأسدي]
(4)
بالكرك موكلًا، وبأهله مُنكلًا، فتوسلوا بالملك العادل حتى دخلوا في الحكم، وخرجوا على السَلْم
(5)
.
وكان فتح الكرك في أثناء شهر رمضان
(6)
.
وفي تاريخ بيبرس
(7)
. قد كان الملك الناصر صلاح الدين رتب على الكرك العساكر صحبة سَعد الدين كمشبه صهر الملك العادل، فحضروها ليلًا ونهارًا مدة حتى فنيت منها الأزواد، وأكل أهلها جميع الحيوان الذي عندهم، فأذعنوا للتسليم وسلّموا، وكفى الله المسلمين شرهم.
ذكر ما فعَل صَلاح الدّين بعد هَذه الفتوحات في هذه السنة
قد ذكرنا أنه لما فرغ من أمر بغراس ومُهادنة صاحب أنطاكية، توجه إلى دمشق، وجعل طريقه على حلب، كان معه الأمير مهنيّ أميرالمدينة وكُنيته أبو فليته الحُسَيني، وكان ميمون النقيبة مبارك الطلعة، وكان السلطان قد تيمّن بطلعته فما حضر معه بلدًا إلا فتحه، ثم جعل السلطان طريقه على المعرّة، فزار عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، والشيخ أبا زكرياء
(8)
المغربي.
(1)
تاريخ حلب، ج 3، ص 107.
(2)
الفتح القسي، ص 266.
(3)
تبنين: بلدة في جبال بني عامر، المطلة على بانياس، بين دمشق وصور. معجم البلدان، ج 1، ص 824.
(4)
ما بين الحاصرتين مثبت للتوضيح. الفتح القسى، ص 266.
(5)
ورد هذا النص بتصرف في الفتح القسى، ص 266 - 267؛ ولمزيد من التفاصيل راجع: النادر السلطانية، ص 103 - 115.
(6)
انظر: النوادر السلطانية، ص 90؛ الروضتين، ج 2، ص 136؛ السلوك، ج 1 ق 2، ص 101.
(7)
نهاية الأرب، ج 28، ص 410 - ص 411.
(8)
هكذا رسمها العيني، أما في المصادر المعاصرة فرسمت "زكريا". انظر: الفتح القسي، ص 263؛ وأبو زكريا المغربي هو الفقيه الصالح، كان مقيمًا عند قبر الخليفة عمر بن عبد العزيز وقد زاره السلطان سنة 584 هـ بعد مغادرته لحلب، وله كرامات ظاهرة، وكان مع صلاح الدين في الزيارة الأمير أبو فليتة قاسم بن المهنا الحسيني أمير المدينة المنورة. انظر: المختصر في أخبار البشر، ج 3، ص 75؛ الفتح القسي، ص 263، حاشية 3.
وقال العماد الكاتب
(1)
: ولما خرجنا من حلب قصد السلطان زيارة الشيخ الفقيه الزاهد التقى أبي زكرياء المغربي، وهو في مسجده عند قبر عمر بن عبد العزيز ومَشهده.
وفي تاريخ المؤيد
(2)
: جعل السلطان طريقه لما رحل من حلب على قبر عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، فزاره وزار الشيخ الصالح أبا زكرياء المغربي، وكان مقيمًا هناك، وكان من عباد الله الصالحين، وله كرامات ظاهرة.
وكان القاضي الفاضل مع السلطان في هذه المواقف المذكورة، فكتب عن السلطان إلى أخيه سيف الإسلام صاحب اليمن يَسْتدعيه إلى الشام لنصرة أهل الإسلام، فإنه قد عزم على حصار أنطاكية بنفسه، ويكون تقي الدين محاصرًا طرابلس إذا انسلخ هذا العام. ثم عزم القاضي الفاضل على الدخول إلى الديار المصرية، فسَار السلطان معه لتوديعه، ثم عدل السلطان إلى القدس الشريف
(3)
، فصلى فيه الجمعة وعيّد فيه عيد الأضحى. ثم سار ومعه أخوه الملك العادل إلى عسقلان، ثم أقطع أخاه الكرك عوضًا عن عسقلان، وأمره بالانصراف ليكون عونًا لابنه الملك العزيز في الديار المصريّة على حوادث الزمان، ثم عاد السلطان فأقام بمدينة [62] عكا حتى انسلخت هذه السَّنة.
وفي النوادر
(4)
: وكان دخول السلطان بيت المقدس وصحبته أخوه الملك العادل في ثامن ذي الحجة من هذه السنة، وصلّينا الجمعة في قبة الصخرة الشريفة، وصلينا صلاة العيد بها يوم الأحد، ثم عاد السلطان إلى خيمته وأقام بقية يومه. ثم سار يوم الاثنين الحادي عشر من ذي الحجة طالبا عسقلان؛ لينظر في أحوالها ويودّع أخاه، فأقام بها أيامًا يَلُمّ شعثها ويصلح أحوالها، وودع أخاه العادل وأعطاه الكرك وأخذ منه عَسقلان، ثم عاد يطلبُ عكا على طريق السّاحل، فأقامَ بها إلى أن مضى أكثر المحرّم من السنة الآتية
(5)
، ورتّب بها بهاء الدين قراقوش واليًا، وأمره بعمارة السُور والإطناب فيه، ومعه حسام الدين بشارة، ثم سار يُريد دمشق بعد وصول طائفة من عسكر مصر أودعهم في عكا بصدد
(1)
الفتح القسي، ص 263.
(2)
انظر: المختصر في أخبار البشر، ج 3، ص 75.
(3)
انظر هذه الأحداث في الفتح القسى، ص 274 - 275.
(4)
انظر: النوادر السلطانية، ص 96؛ الفتح القسي، ص 275؛ الروضتين، ج 2، ص 137.
(5)
أي سنة 585 هـ، انظر: الروضتين، ج 2، ص 137.
حفظها، ودخل دمشق في مستهل صفر من السنة الآتية على ما نذكره إن شاء الله تعالى
(1)
.
ذكرُ بقية الحوادث
منها أن طائفة من الرافضة بمصر
(2)
خرجت، يريدون أن يُعيدوا دولة الفاطميين الذين حكموا في الديار المصرية والشامية وغيرهما، واغتنموا غيبة الملك العادل عن مصر، واستخفوا أمر الملك العزيز عثمان ابن السلطان صلاح الدين، فبعثوا اثني عشر رجلًا ينادون في الليل: يا آل علىّ، [بنياتهم]
(3)
أن العامّة تجيبهم إلى ما عزموا عليه، فلم يلتفت إليهم أحد، فلما رأوا ذلك انهزموا فأُدركوا، وأخذوا، وقيّدوا، وحُبسوا. ولما بلغ أمرهم إلى السلطان ساءه ذلك. وكان القاضي الفاضل عنده بَعد ولم يفارقه لأجل سفره إلى مصر، فقال له: أيها الملك ينبغي أن تفرح ولا تحزن، فإنه لم يصغ إلى دعوة هؤلاء الجَهلة أحدٌ من رعيتك، ولا التفتوا إليهم، ولو أنك بعثتَ من قِبلك جواسيس يختبرون رعيتك لسرّك ما بلغك عنهم، فسرّي به عنه ذلك ورجع إلى قوله، ولهذا أرسله إلى مصر ليكون له عينًا وعونًا معينًا
(4)
.
ومنها أن في الثامن والعشرين من رمضان عزل إسفنديار عن كتابة الإنشاء، ورتب مكانه أبو الفضل بن القصاب، وخلع عليه ولقّب مؤيد الدين. قال ابن القادسي: كان إسفنديار من أهل الدين والعلم، فلما ولى لبس الحرير وتختم بالذهب، وكان يركب في غير شيء، ويدخل في دَرب دَرب ليصاخ بين يديه، بسم الله، بسم الله.
ومنها أن في شوال جلس ابن الجوزي في دار الوزير ابن حديدة ونسَبه إلى الأنصار، وقال في حديث السقيفة: إن أبا بكر رضي الله عنه قال للأنصار يوم السقيفة: "نحن الأمراء وأنتم الوزراء" ثم قال: "وما يصلح لدولة الإمام الناصر إلا الأنصار". وقرئ بين يديه في ذلك اليوم: "والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصًر". وقال كلام آخر في هذا المعنى.
(1)
انظر هذا الخبر في الفتح القسي، ص 209 - 210، ص 270 - 276؛ النوادر السلطانية، ص 96.
(2)
وردت أخبار خروج هذه الجماعة في الكامل، ج 10، ص 177 - 178؛ البداية والنهاية، ج 12، ص 331 حيث ينقل العيني هذا الخبر عن ابن كثير بتصرف؛ وكذا الروضتين، ج 2، ص 137 - 138.
(3)
"بناء على" في الأصل. والتصحيح من البداية والنهاية، ج 12، ص 353.
(4)
انظر تفاصيل هذا الخبر في الكامل، ج 10، ص 177 - ص 178؛ البداية والنهاية، ج 12، ص 303؛ الروضتين، ج 2، ص 137 - 138.
ومنها أن الخليفة جهز ابن يونس، وكان استوزره إلى همذان، فخرج نصف الليل ليلة الثلاثاء الثامن والعشرين من المحرّم من هذه السنة، قالوا: القمر بربع المريخ. وساق العساكر للقاء السلطان طغريل بن أرسلان بن طغريل السلجوقي [63] بالقرب من همذان، وكان طغريل قد بعث إلى الخليفة يَطلب السلطنة، فأخرج الأموال وجهز جيشًا عظيمًا، وقدم عليهم ابن يونس جلال الدين عبد الله، وكان في جملة الأمراء طغريل صاحب البصرة وأمير الحاج طاشتكين، فأنفا من تقديم ابن يونس عليهما، ولم يُقراه. فقال ابن يونس: والله لأرمينَّهم في المهالك. وسار إلى باب همذان، والتقوا هناك فقَصَّر طغريل وطاشتكين، والتقاهم السلطان فكسَرهم ومزقهم كل ممزّق، وقتلوا وأسروا، وأخذ الوزيرُ ابنُ يونس وكان محلوق الرأس، فأحضر بين يدي السلطان، فألبَسه طرطورًا أحمر فيه جلاجلَ وجَعل يَضحك عليه، ولم يصل إلى بغداد من العسكر إلا القليل؛ تقطعوا في الجبال وماتوا عطشًا وجوعًا
(1)
.
وفي تاريخ المؤيد
(2)
: وكانت ملاقاتهم بقرب همذان في الثامن من ربيع الأول. وفي تاريخ بيبرس: وأقبل طغربل فالتقاهم بمَرْج عند همدان، فلم يثبت له عسكر بغداد، فانهزموا.
وفيها .................
(3)
.
................
وفيها حج بالناس من العراق طاشتكين.
ذِكر مَنْ تُوفي في هذه السّنة من الأعيان
الحافظ أبو بكر محمد بن موسى بن عثمان بن حَازم الحازمي الهمذاني، صَاحب التصانيف على صغر سنه، منها:"العجالة في النسب"
(4)
، و "الناسخ والمنسوخ"
(5)
وغيرهما، وكان مولده سنة ثمان أو تسع وأربعين وخمسمائة، وتوفي في الثامن والعشرين
(1)
لمعرفة تفاصيل هذا الحدث انظر: الكامل، ج 10، ص 178.
(2)
المختصر في أخبار البشر، ج 3، ص 76.
(3)
بياض في المخطوطة بمقدار كلمتين ثم نصف سطر بعدها في لوحة 63 من النسخة المعتمد عليها كأصل في التحقيق.
(4)
"عجالة المبتدي في الأنساب". انظر: حاجي خليفة، كشف الظنون، ج 2، ص 1125.
(5)
الناسخ والمنسوخ. انظر: حاجي خليفة، كشف الظنون، ج 2، ص 1920.
من جمادى الأولى من هذه السنة ببغداد، ودفن في الشونيزية إلى جانب سمنون بن حمزة مقابل قبر جنيد رضي الله عنه، وفرّق كتبه على أصحاب الحديث، ونسبته إلى جدّه حازم بالحاء المهملة والزاي المعجمة
(1)
.
الشيخ محمد بن قائد الزاهد
(2)
، من أهل أوَانا
(3)
قرية بالدُجَيْلُ
(4)
، وكان صاحب كرامات وإشارات ومجاهدات ورياضات وكلام على الخواطر وبيان عما في الضمائر، وكان يجتمعُ عنده في المواسم خلق عظيم، وكان قد أُقعِد زمانًا، وكان يُحمل في محفة إلى الجامع يوم الجمعة، واستشهد في هذه السنة على يدي اثنين من الإسماعيلية أرسلهما سِنان
(5)
إليه في زىّ الصُوفية، وقتلا معه تلميذه عبد الحميد، وكان سبب ذلك أن شخصًا يُقال له زَرزُور أتى إلى جامع أُوانا فوعظ فيه وسبّ الصحابة، فبلغ الشيخ ذلك فأمر العوام فرجموه، وهرب إلى سنان مقدّم الإسماعيلية وحكى له ذلك، فأرسل سنان اثنين وأتيا وأقاما عند الشيخ بالرباط
(6)
تسعة أشهر يَصُومان ويصليان وهو لا يعرفهما، وكانا يتوقعان فرصةً، وقال الشيخ لأصحابه: يوم الأربعاء تَحْدُثُ ها هنا حادثة عظيمة. وكان عنده ودائع الناس فردّها على أصحابها، وقال لخادمه عبد الحميد: لك فيما يجري ها هنا نصيب.
ولما كان يوم الجمعة جاء أحد الاثنين إلى الرباط فأغلق بابه، وجاء الآخر إلى الشيخ فقال: يا سيدي ناولني يدك لأقبلها، فأعطاه يده فصافحه باليسار، فقال: ويحك أين اليمين؟!. فقال: هو ذا، فأخرج يده اليمنى وفيها السكين فضربه بها في جوفه،
(1)
انظر ترجمته في: وفيات الأعيان، ج 4، ص 294 - 295؛ الروضتين، ج 2، ص 137؛ شذرات الذهب، ج 4، ص 282؛ العبر في خبر من غبر، ج 4، ص 254.
(2)
هو محمد بن يوسف بن محمد بن قائد الملقب موفق الدين الإربلي. انظر ترجمته في المختصر في أخبار البشر، ج 3، ص 77 - ص 78.
(3)
أوَانَا: بليدة كثيرة البساتين والشجر، نزهة من نواحي دُجَيْل بغداد، بينها وبين بغداد عشرة فراسخ من جهة تكريت. معجم البلدان، ج 1، ص 395.
(4)
دُجَيْلُ: اسم نهر في موضعين، أحدهما مخرجه من أعلى بغداد، بين تكريت وبينها، مقابل القادسية دون سامرّا، فيسقي كورة واسعة وبلادًا كثيرة منها، أوانا وعُكبْرا والحظيرة وصريفين، ثم تصبُّ فضلته في دجلة أيضًا. معجم البلدان، ج 2، ص 555.
(5)
هو راشد الدين أبو الحسن سنان بن سليمان مقدم الإسماعيلية ت سنة 588 هـ. انظر ترجمته في شذرات الذهب، ج 4، ص 294 - 295.
(6)
الرباط: جمعها ربط. وهو دار يسكنها أهل طريق الله، وهو بيت الصوفية ومنزلهم، والمقيم في الرباط على طاعة الله ينتظر الصلاة بعد الصلاة، فالرباط جهاد النفس، والمقيم في الرباط مرابط مجاهد نفسه. انظر المقريزي: الخطط، ج 2، ص 427 (ط. بولاق).
وسقط ما في بطنه بين يديه ومات، وضرب الآخر عبد الحميد فقتله، فوقع الصائح وهربا، ومرابين البساتين على فلاح يسقى بُستانًا وبيده مَرٌّ
(1)
يعدل به [64] الماء. فرآهما مُريبين، فحمل على أحدهما فضربه بالمرّ، ففلق رأسه فوقع ميتًا، وحمل الآخر على الفلّاح فاتقاه بالمَرّ فقتله، ثم وقف الفلاح يفكر ويقول: لم قتلت هذين وعليهما زيّ الفقر؟! ثم أنه لما سمع الصياح والصراخ جاء إلى الرباط فسأل، مَن قتل الشيخَ؟ قالوا: كان عنده فقيران من صفتهما كذا وكذا، فقال: تعالوا فجاؤا، فرأوهما مقتولين، فتعجبوا وقالوا له: علمت الغيب. قال: لا والله، بل أُلهمت إلهامًا. فأحرقوهما. وكان والي "أُوانا" شخصًا يقال له: مسعود الخادم، غضب عليه الخليفة، فاستصفى أمواله ومات تحت الضرب، وألقى في دجلة، وكان عمر الشيخ حين قُتل قد جاوز التسعين والله أعلم.
خالص بن عبد الله، خادم الإمام الناصر ولقبه مجاهد الدين، مات في هذه السنة، وكان قريبًا من الخليفة، فسلم إليه مماليكه الخواص، وكان سليم الصدر ديّنا
(2)
.
صاحب تكريت عيسى بن مودود
(3)
، ويلقب بفخر الدين، كانت له أخوة على وأرغش وغيرهما، فاغتاله على فقتله، وأظهر أن غلمانه قتلوه، وكان حسَن السيرة جوادًا لا يدخر شيئًا، ولا يرد سائلًا، ولا يخيب قاصدًا، وكان فاضلًا، ومن شعره:
أرى الأيامَ محكوم عليها
…
ولا حكم لها فعلامَ عَتبُ
فلا تتوهمن الأمر سهلًا
…
والله إن الأمرَ صعب
قضاءُ الله مقدورٌ علينا
…
ولكن فيه للإنسان كسبُ
أُسَامَةُ بن مُنْقِذ
(4)
، وهو أبو المظفر أسامة بن مُرشد بن علي بن مقلد بن نصر بن منقذ الكناني الكلبي الشَّيْزري، الملقب مؤيد الدولة مجد الدين، من أكابر بني منقذ أصحاب قلعة شيزر وعلمائهم وشجعانهم، له تصانيف عديدة في فنون الأدب، وله ديوان
(1)
المَرُّ: آلة يعمل به الطين، وتقلب به الأرض. محيط المحيط، ج 2، ص 1965، مادة "مرر".
(2)
النجوم الزاهرة، ج 6، ص 107 - 108.
(3)
عيسى بن مودود هو: عيسى بن مودود بن علي بن عبد الملك بن شعيب، ويلقب بفخر الدين صاحب تكريت. انظر وفيات الأعيان، ج 3، ص 498 - ص 500.
(4)
وفيات الأعيان، ج 1، ص 195 - 199، ترجمة 84؛ النجوم الزاهرة، ج 6، ص 107؛ الروضتين، ج 2، ص 137.
شعر في جزءين ذكره ابن المستوفى
(1)
وأثنى عليه، وعدّه في جملة من ورد عليه وأورد له مقاطيع من شعره. وذكره العماد في الخريدة
(2)
، وقال بعد الثناء عليه سكن دمشق ثم انتقل إلى مصر، فبقى بها مؤمرًا يشار إليه بالتعظيم إلى أيام الصالح بن رُزيك، ثم عاد إلى الشام، وسكن دمشق، ثم رماه الزمان إلى حصن كيفا، فأقام بها حتى ملك السلطان صلاح الدين دمشق، فاستدعاه وقد شيّخ فجاوز الثمانين.
وقال العماد
(3)
: وقد كنت أتمنى أبدًا لقياه، حتى لقيته في صفر سنة إحدى وسبعين وسألته عن مولده، فقال: يوم الأحد السابع والعشرين من جمادى الآخرة سنة ثمان وثمانين وأربع مائة بقلعة شيزر. وتوفي ليلة الثلاثاء الثالث والعشرين من شهر رمضان سنة أربع وثمانين وخمسمائة بدمشق، ودفن من الغد بجبل قاسيون. وتوفي والده أبو أسامة مرشد سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة.
وقال ابن خلكان
(4)
: ورأيت ديوانه بخطه، ونقلت منه
(5)
:
لا تَستعرْ جَلَدا على هجرانهم
…
فقُواكَ تضعفُ
(6)
عن صُدودٍ دائمِ
واعلم بأنكَ إنْ رَجَعتَ إليهمُ
…
طوعًا وإلا عُدْتَ عَوْدةَ رَاغمِ [65]
وقال: ونقلت من خطه لنفسه، وقد قلع ضرسه، وقال: عملتهما ونحن بظاهر أخلاط، وهو معنى غريب يصلح أن يكون لغزًا في الضرس:
وصاحب لا أَملّ الدهْرَ صُحْبتَه
…
يَشْقى لِنفْعي ويَسعي سعي مُجتهدِ
لم أَلْقَه مُذ تَصاحَبْنا فحين بَدا
…
لناظِرَيَّ افترقنا فُرقةَ الأَبدِ
ورُوي: مذ وقعَت عَيْني عليه افترقنا فرقة الأبد
(7)
.
أبو محمد عبد الله بن علي بن عبد الله بن سويدة التكرِيتي
(8)
: كان عالمًا
(1)
ابن المستوفي هو صاحب كتاب "تاريخ إربل" انظر: المختصر في تاريخ البشر، ج 3، ص 777.
(2)
خريدة القصر وجريدة العصر، ج 1، ص 498 - ص 547، شعراء الشام.
(3)
خريدة القصر، ج 1، ص 499، شعراء الشام.
(4)
وفيات الأعيان، ج 1، ص 199.
(5)
وفيات الأعيان، ج 1، ص 195 - 199؛ شذرات الذهب، ج 4، ص 279 - 280.
(6)
"يضعف" كذا في الأصل. والمثبت من وفيات الأعيان، ج 1، ص 196؛ البداية والنهاية، ج 12، ص 354.
(7)
وفيات الأعيان، ج 1، ص 195 - ص 199؛ شذرات الذهب، ج 4، ص 279 - 280.
(8)
الكامل، ج 10، ص 179؛ البداية والنهاية، ج 12، ص 332.
بالحديث وله تصانيف حسنة، وهو شيخ ابن الأثير، وقد ذكره في هذه السنة وقال: توفي فيها شيخنا أبو محمد المذكور
(1)
.
علاء الدين يُتامِش
(2)
: توفي بمصر، وحمل تابوته إلى مشهد الحسين
(3)
بن على رضي الله عنهما.
الأخلاطيّة زوجة الإمام الناصر: توفيت في هذه السنة واسمها سلجوقي
(4)
خاتون بنت قليج أرسلان بن مسعود صاحب الروم
(5)
. وفي المرآة
(6)
: قدمت بغداد في سنة ثلاث وثمانين، وحجت وعادت إلى حصن كيفا، ومات زوجها فعادت إلى بغداد في سنة أربع
(7)
وثمانين، فتزوجها الخليفة
(8)
فحظيت عنده، فحكَّمها في داره، وفي الحرائر والدولة. فتوفيت يوم الاثنين ثاني ربيع الأول فجأة، وحزن عليها الخليفة حزنًا لم يحزن رجل على امرأته مثله، بحيث أقامت دورها ومقاصيرها سنين لم تفتح. وكانت كثيرة الصدقات والمعروف، وبنت تربةً عند عون ومعين الدين
(9)
، ودفنت بها، فبنى الخليفة إلى جانبها رباطًا للصوفية، ووقف على التربة وعليه أوقافًا عظيمةً، ونقل إلى التربة الكُتُب النفيسةَ، وأمر الناسَ بالتردد إلى تربتها في كل ليلة رجب ونصف شعبان، ويحضر الوزير وأرباب الدولة والوُعاظ والفقهاء والقراء، ويحضر الخليفة مختفيًا فيجلس في شباك، ويتكلم الوُعاظ وينشد الشعراء من وقت العصر إلى غروب الشمس، ويمضي الوزير وأرباب الدولة، ويبقى الوعاظ والقراء يعظون بطول الليل، فإذا كان وقت السحر فرقت فيهم الحلاوات الكثيرة، والخشانك
(10)
وغير ذلك. وعمل لها سبيلًا يخرج عنها في كل سنة تنفق فيه أموال كثيرة
(11)
.
(1)
انظر: الكامل، ج 10، ص 179.
(2)
"تنامش" في الكامل، ج 10، ص 179.
(3)
"الحسن" في الكامل، ج 10، ص 179. وهو خطأ.
(4)
"سلجوقة" في الكامل، ج 10، ص 179.
(5)
انظر ترجمتها في ابن الساعي الخازن البغدادي، نساء الخلفاء، دار المعارف بمصر (مجموعة ذخائر العرب 28)، (بدون) ص 17، ص 115 - ص 119.
(6)
هذا الخبر من أحداث السنتين الساقطتين من مرآة الزمان.
(7)
"أربعة" كذا في الأصل. والصحيح ما أثبتناه.
(8)
المقصود "الخليفة الناصر لدين الله أبو العباس أحمد".
(9)
المقصود مشهد "عون ومعين" ولدا على بن أبي طالب رضي الله عنه" انظر: ابن الساعي، نساء الخلفاء، ص 117.
(10)
الخشانك: انظر ما سبق ج 1، ص 115، حاشية (6).
(11)
ابن الساعي، نساء الخلفاء، ص 115 - ص 119.
فصل فيما وقع من الحوادث في السنة الخامسة والثمانين بعد الخمسمائة
(*)
استهلت هذه السنة والخليفة الناصر لدين الله، والسلطان صلاح الدين يوسف مقيم على عكّا، والأمر مستقيم. فوصل إليه جماعة من مصر، فأمرهم بالإقامة فيها محافظة على الحماية، وأمر بهاء الدين قراقوش بإتمام بناء السور، وولي الأمير حسام الدين بشارة بعكا واليًا، ثم خرج السلطان وسار على طبريّة ودخل دمشق مستهل صفر من هذه السنة
(1)
.
وفي تاريخ بيبرس
(2)
أن السلطان قدم عكا في أول هذه السنة، والصحيح أن السنة دخلت وهو مقيم على عكا.
وذكر صاحب النوادر
(3)
أنه كان مع السلطان، وأنه وصل إلى عكا في أواخر ذي الحجة من السنة الماضية، [66] وأنه أقام بعكا معظم المحرم من سنة خمس وثمانين وخمسمائة. ثم سار حتى دخل دمشق في مستهل صفر منها، وأقام حتى دخل ربيع الأول، وفيه جاء رسل الخليفة إليه كما نذكره إن شاء الله تعالى
(4)
.
ذكر خروج السُّلطان صَلاح الدين لأهل شقيف أرنون
قال ابن كثير
(5)
: أقام السلطان شهر صفر في دمشق، ثم خرج منها في ثالث ربيع الأول يوم الجمعة، وأتي مرج برغوث
(6)
وأقام به إلى يوم السبت حادي عشر الشهر، ثم رحل على سَمْت بَانياس
(7)
، وأتي مرج عيون وخيّم بقرب الشقيف، وذلك يوم الجمعة
(*) يوافق أولها 19 فبراير 1189 م.
(1)
الفتح القسى، ص 276؛ النوادر السلطانية، ص 96.
(2)
ورد هذا النص بتصرف في الفتح القسى، ص 276؛ الروضتين، ج 2، ص 138.
(3)
يعتبر ابن شداد شاهد عيان لهذا الحدث.
(4)
نقل العيني هذا النص بتصرف من النوادر السلطانية، ص 96 - ص 97.
(5)
لم يرد هذا النص في البداية والنهاية في أحداث سنة 585 وإنما ورد بتصرف في الكامل، ج 10، ص 180؛ النوادر السلطانية، ص 97؛ الفتح القسي، ص 285؛ الروضتين، ج 2، ص 139؛ مفرج الكروب، ج 2، ص 282 - ص 283؛ زبدة الحلب، ج 3، ص 108. ص 110.
(6)
مرج برغوث: هي جهة على الطريق بين دمشق وجسر يعقوب. انظر: السلوك، ج 1 ق 2، ص 585، حاشية 3.
(7)
ينقل العينى هذا النص بتصرف من الفتح القسى، ص 285.
سابع عشر ربيع الأول، وكان الشقيف في يد صاحب صيدا "أرناط"
(1)
، فنزل إلى خدمة السلطان وبذل له تسليم الشقيف بعد مدة ضربها، خديعةً منه. فلما بقي للمدة ثلاثة أيام استحضره السلطان، فقال له في التسليم، فقال: لا يوافقني عليه أهل الحصن، فأمسكه السلطان وبعث به إلى دمشق فحبس به، ثم تحول السلطان من مخيّمه إلى أعلى الجبل يوم الأربعاء الثامن من رجب لمحاصرة الحصن، ورتّب لها عدة من الأمراء وأمرهم بملازمته في الصيف والشتاء إلى أن تسلمه بعد سنة بحكم السَلْم، وأطلق صاحبه وأجرى عليه حكم الحِلْم.
وفي تاريخ بيبرس:
(2)
لما نزل إلى السلطان صاحب الشقيف، وهو أرناط صاحب صيدا، أظهر الطاعة والمودة وقال: أنا محبّ لك ومعترف بإحسانك، وأخاف أن يعرف المَركيسُ صاحب صُورَ ما بيني وبينك، فينال أولادي وأهلي منه أذىً فإنهم عنده، وأشتهي أن تمهلني حتى أتوصل إلى تخليصهم، وحينئذ أحضر أنا وإياهم إلى خدمتك ونسلم الحصنَ، وأكون في خدمتك ونقنع بما تعطنا من إقطاع، فظن صدقه فأجابه إلى ما سأل. وأقام بمرج عيون ينتظر الميعاد وهو قلق مُفكِرٌ لقرب المدة -أعنى مدة المهادنة- التي بينه وبين صاحب أنطاكية، فأمر تقي الدين ابن أخيه أن يسير فيمن معه من عساكره وعساكر الشرق، ويكون مقابل أنطاكية لئلا يغير صاحبها على بلاد الإسلام عند انقضاء مدّة الهدنة، وكان بلغه أن الفرنج اجتمعوا بمدينة صُور، وما يتصل بهم من الأمداد في البحر، وأن صاحب عَسقلان الذي كان أسَره ومَنّ عليه اجتمع مع المركيس بصُور، وأنهم خرجوا في خلق لا يحصى، وكان يخشى أن يترك الشقيف وراء ظهره ويتقدم إلى صور، وفيها الجموع المتوفرة فتقطع الميرة عنه، وكان أرناط صاحب الشقيف مجتهدًا في تحصينه وتحصيل ما يُقويه من الأقوات والسلاح، وبلغ ذلك الناصر، فأحضره قبل انقضاء المدة، فقال له: تُسَلم الحصن. فاعتذر، وذكر ما ذكرناه الآن
(3)
.
(1)
هو أرناط صاحب صيدا. انظر:
Reynold Garnier : Lord of Sidon and Beaufort
وعن سياسته لعقد هذه الهدنة راجع مفرج الكروب، ج 2، ص 282؛ وانظر
Runciman: History of the Crusades، v.2، p. 469 - 470
وهو رينالد ويعرف بريجنالد صاحب صيدا. انظر: الباز العريني الشرق الأوسط والحروب الصليبية، ص 870، القاهرة، 1963.
(2)
من الملاحظ أننا لم نحصل على تاريخ بيبرس، لهذا استعنا بالمصادر الأخرى وخاصة النويري، نهاية الأرب في فنون الأدب، ج 28، ص 413، حيث ينقل عن بيبرس في أغلب الأحيان.
(3)
الكامل، ج 10، ص 180 - ص 181؛ نهاية الأرب، ج 28، ص 413 - ص 414؛ الروضتين، ج 2، ص 140.
وقال صاحب النوادر
(1)
: نزل صاحب الشقيف بنفسه، فما حسسنا به إلا وهو قائم على باب خيمة السلطان، فأذن له، فدخل واحترمه وأكرمه، وكان من كبار الإفرنج وعقلائها، وكان يعرف بالعربية وعنده [67] إطلاع على شيء من التواريخ والأحاديث. قال: وبلغني أنه كان عنده مسلم يقرأ له ويُفهمه، وكان عنده تَأتَ
(2)
، فحضر بين يدي السلطان، وأكل معه الطعام، ثم خلابه وذكر أنه مملوكه، وأنه تحت طاعته وأنه يُسلم المكان إليه من غير تعب، واشترط أن يعطي موضعًا يسكنه بدمشق، فإنه بعد ذلك لا يقدر على مساكنة الإفرنج، وكان قد تردد إلى الخدمة ثلاثة أشهر من تاريخ اليوم الذي أتى إليه، وكان كل وقت يناظرنا في دينه، ونناظره في بطلانه، وكان حسن المحاورة، متأدبًا في كلامه.
ذكرُ مَا تجدَّد للسُّلطان مُدّة إقامته بمرج العُيُون من الأحوال
وبلغه أنه اجتمع من كان سلم من الإفرنج على ملكهم الذي خلص من الأسر، وقالوا: نحن في جمع خارج عن الحصر، وقد تواصلت إلينا أمداد البحر، فانهض بنا إلى إزالة هؤلاء عنّا، وجاء من كان بطرابلس وخيّموا على صُور، وجرت بين المركيس المقيم بها وبين الملك مراسلات، فلم يمكنه من دخول البلد ثم احتج بأنه من قَبَل الملوك الذين من وراء البحر، وأنه منتظر لما تُبرمونه من الأمر، ثم اتفقوا على أن يقيم المركيس بصور، وأنهم يجتمعون على حرب المسلمين، وقتالهم، ويتساعدون على رّمّ ما تشعث من أحوالهم، ويقصدون بلدًا إسلاميًا من الساحل، والمركيسُ يَمدهم من صُور بالمدَد بَعد المدَد، وبجميع ما يحتاجون إليه من الميرة والأسلحة والعُدَد، ووصل هذا الخبر يوم الاثنين السابع عشر من جمادى الأولى من اليزك، قالوا أن جمع الفرنج قد نهض كاليل المعتكر، وأنهم على قصد صيدا للحصر، فركب السلطان في الحال، فقبل وصول السلطان، اتقعت اليزكية بهم، فكسرتهم وأسروا منهم سبعة من سباعهم، واستشهد من المماليك الخواص أيبك الأخرش
(3)
، وقد كان شجاعًا شهمًا، وانفصلت الحرب قبل وصول السلطان.
(1)
النوادر السلطانية، ص 97 ويستشف من هذا النص أن بعض الأمراء الصليبيين في بلاد الشام قد تأثروا بالثقافة العربية الإسلامية، فأصبحوا بعضهم يحاول التحدث باللغة العربية.
(2)
تَأتَ: كرر التَّاءَ إذا تكلم، لعيب في نطقه. المعجم الوجيز، ص 71.
(3)
"الأخرس" في الأصل والمثبت من الفتح القسى، ص 290؛ النوادر السلطانية، ص 98.
وعاد السلطان إلى خيم ضربت له بقرب اليزك، وأقام إلى يوم الأربعاء تاسع [عشر]
(1)
الشهر، وركب في ذلك اليوم ليطلع من الجبل على القوم، ولم يكن له نية القتال، فلم يستصحب معه من يستظهر به من الرجال، وتبعه خلق كثير من غزاة البلاد بغير علمه؛ وظنوا أن السلطان إنما ركب للقتال وعلى عزمه، وكان الفرنج قد بصروا بالقوم، فطمعوا فيهم، [وأنفذ]
(2)
السلطان بعض الأمراء إلى الغزاة الرجالة ليعودوا، فما قبلوا، وحمل عليهم العدو فأسروهم وقتلوهم، وختم الله لهم بالشهادة، وحمل الحاضرون من الأمراء والعسكر على الإفرنج حملةً واحدةً، وتزاحموا على الجسر، فغرق منهم زهاء ثمانين في النهر. والحرب سجال، فيوم لنا، ويوم علينا، ولم يكن لأولئك الغرقاء
(3)
بقتال الفرنج دُرْبة. وممن لقي الله بالشهادة، وختم له بالسعادة، الأمير غازي بن سعد الدولة بن مسعود بن البَصّار
(4)
[68] وكان شابًا شجاعًا، فلم يُصِب الكفار من المسلمين منذ أصيبوا غير هذه الكرّة
(5)
.
وفي النوادر
(6)
: لما كان يوم الاثنين السَابع عشر من جمادى الأولى بلغ السلطان من جانب اليَزك أن الفرنج قد قطعوا الجسر الفاصل بين أرض صور وأرض صيدا، وهي الأرض التي نحن عليها، فركب السلطان وصاح الجاووش بالناس، فركب العسكر يُريدون نحو اليَزك، فوصل العسكر وقد انفصلت الوقعة، وذلك أن الفرنج عبر منهم جماعة الجسر، فنهض لهم اليزك الإسلاميّ، وكانوا في عدة وقوة، فقاتلوهم قتالًا شديدًا، وقتلوا منهم خلقًا كثيرًا، وجرّحوا أضعاف ما قتلوا، ورموا في النهر جماعة، فغرقوا، ولم يقتل من المسلمين إلا مملوك السلطان، يعرف بأيبك الأخرش، وكان شجاعًا باسلًا، مجربًا للحرب [فارسا]
(7)
، تقنطر به فرسُه، فلجأ إلى صخرة، فقاتل بالنشاب حتى فني، ثم
(1)
ما بين الحاصرتين مثبت من الفتح القسى، ص 290؛ النوادر السلطانية، ص 99.
(2)
"ونفذ" في الأصل والمثبت من الفتح القسى، ص 290.
(3)
"الغرباء" في الفتح القسي، ص 291.
(4)
"ابن البيطار" في الروضتين، ج 2، ص 141، أما بقية المصادر فقد اتفقت مع ما ورد في المتن.
(5)
نقل العيني هذه الأحداث من الفتح القسى، ص 289 - ص 291.
(6)
النوادر السلطانية، ص 98 - 99.
(7)
"ممارسا" كذا في الأصل والمثبت من النوادر، ص 99.
بالسيف حتى قتل جماعةً، ثم تكاثروا عليه فقتلوه، وَوَجَدَ السلطان عليه لمكان شجاعته، وعاد السلطان من الوقعة إلى مخيّم ضرب له قريب المكان، وأقام هناك إلى يوم الأربعاء تاسع عشر جمادى الأولى المذكور، وركب يتشوف على القوم -على عادته- فتبعه خلق عظيم من الرجَّالة والغزاة والسُوقة، وأمرَ السلطان بردهم، فلم يرتدوا، وذلك لأن المكان كان صعبًا ليس للرجالة فيه ملجأ، ثم هجم الرجالة على الجسر، وناوشوا العدوّ، وعبر منهم جماعة إليهم، وجرى بينهم قتال شديد، واجتمع من الفرنج خلق كثير، فحملوا عليهم حملة واحدةً على غِرةً من السلطان، فإنه كان بعيدًا منهم، ولم يكن معه عسكر، وأسروا من المسلمين جماعةً وقتلوا جماعةً، وعُدّ من كان قتل من الرجالة في ذلك اليوم، فكانوا مائة وثمانين نفرًا، وقتل من الفرنج أيضًا عدّة عظيمة، وغرق أيضًا منهم عدة، وكان ممن قتل منهم مقدّم الألمانية
(1)
، وكان عندهم عظيمًا.
ذكر مسير السُلطان جريدة إلى عكا
ولما رأى السلطان ما حلَّ بالمسلمين في تلك الوقعة النادرة، جمع أصحابه وشاورهم وقرّر معهم أن يهجم على الفرنج، ويعبُر الجسر ويقاتلهم ويستأصل شأفتهم، وكان الفرنج قد رحلوا عن صُور، ونزلوا قريب الجسر، وبين الجسر وصور مقدار فرسخ أو أزيد منه بشيء يسير، فلما صمم العزم على ذلك، أصبح في يوم الخميس السابع والعشرين من جمادى الأولى على ذلك، وركب وسار وتبعه الناس والمقاتلة والعساكر، ولما وصل أواخر الناس إلى أوائلهم وجدوا اليزك عائدا، وخيامهم قد قلعت، فسئلوا عن سبب ذلك، فذكروا أن الإفرنج رحلوا راجعين إلى صُور ملتجئين إلى سورها، معتصمين بقربها، ولما رأى السلطان ذلك منهم رأى أن يسير إلى عكا ليلحظ ما بُني من سورها، ويحث على الباقي، ويعود فراح على تبنين ولم يرجع على مرج عيون، فمضى إلى عكا ورتب أحوالها، وأمر بتتمة [69] عمارة سورها، وأمر بالاحتياط، ثم عاد إلى العسكر المنصور إلى مرج عيون، وأقام منتظرًا مهلة صاحب الشقيف
(2)
.
(1)
المقصود بمقدم الألمانية في هذا الحدث فردريك برباروسا إمبراطور الدولة الغربية. انظر المقريزي، السلوك، ج 1 ق 1، ص 129، حاشية 5.
(2)
انظر النوادر السلطانية، ص 100.
ذكر وقعة أخرى
ولما كان يوم السبت السادس من جمادى الآخرة بلغ السلطان أن جماعةً من رجَّالة العدو يتبسطون ويَصلون إلى تبنين
(1)
يحتطبون، وفي قلبه من ما جرى على رجالة المسلمين شيء عظيم، فرأى أن يقرر قاعدة وكمين يرتبه لهم ويأخذهم فيه، ثم بلغه أن وراءهم خيل يحفظونهم، فعمل كمينا يصلح للقاء الجميع، ثم أنفذ إلى عسكر تبنين وتقدم إليهم أن يخرجوا في نفر يسير مُتغيرين على تلك الرجالة، وأن خيل العدو إذا تبعتهم ينهزمون إلى جهة عيّنها لهم، وأن يكون ذلك صبيحة يوم الاثنين الثامن من جمادى الأخرى، وأرسل إلى عسكر عكا أن يسيروا حتى يكونوا وراء عسكر العدوّ حتى إن تحركوا في نصرة أصحابهم قصدوا خيمهم، وركب هو وجحفله سحر يوم الاثنين شاكين في السلاح متجردين، ليس معهم خيمة إلى الجهة التي عينها لهزيمة عسكر تبنين، وسار حتى قطع تبنين، ورتب العسكر ثمانية أطلاب، واستخرج من كل طُلْب عشرين فارسًا من الشجعان الجياد الخيل، وأمرهم أن يتراءوا للعدو حتى يظهروا إليهم ويُناوشوهم وينهزمون بين أيديهم حتى يصلوا إلى الكمين، ففعلوا ذلك، وظهر لهم من الفرنج معظم عسكرهم مقدّمهم الملك، [وكان]
(2)
قد بلغهم الخبرُ، فتعبوا تعبية القتال، وجرى بينهم وبين هذه السريّة اليسيرة قتال شديد، والتزمت السرية القتال، وأنفوا عن الانهزام بين أيديهم، وحملتهم الحميّة على مخالفة السلطان، واتصل الحرب بينهم إلى آخر النهار، ولم يرجع منهم أحد إلى العسكر ليخبرهم بما جرى.
واتصل الخبر بالسلطان في آخر الأمر وقد هجم الليل، فبعث إليهم بعوثا كثيرة، ولما علم الفرنج بأوائل المدد عادوا منهزمين ناكصين على أعقابهم بعد أن جرت مقتلة عظيمة من الجانبين، وكان القتلى من الفرنج على ما ذكر من حضر زهاء عشرة أنفس، ومن المسلمين ستة نفر اثنان من اليزك وأربعة من العرب، منهم الأمير زامل
(3)
، وكان شابا حسنًا، مقدِّم عشيرته، وكان سبب قتله أنه تقنطرت به فرسه، ففداه ابن عمه بفرسه، فتقنطرت به أيضا فرسُه، وأسر هو وثلاثة من أهله.
(1)
تبنين: بلدة في جبال بني عامر المطله على بانياس، بين دمشق وصور، معجم البلدان، جـ 1، ص 824.
(2)
"وكأنهم" كذا في الأصل والمثبت من النوادر السلطانية، ص 101.
(3)
زامل: هو زامل بن تبّل بن مرّ بن ربيعة أمير النقرة. انظر الفتح القسى، ص 294.
فلما بَصَر الفرنج بمدد العسكر قتلوهم خشية الاستنقاذ، وجرح خلق كثير من الطائفتين وخيل كثيرة، وكان للسلطان مملوك يسمّى أيبك [الساقي]
(1)
أثخن بالجراح حتى اندسّ بين القتلى وجراحاته تشخب دمًا، وبات ليلته أجمع على تلك الحالة إلى صبيحة يوم الثلاثاء، فتفقده أصحابُه فلم يجدوه، فَعرَّفوا السلطان فأنفذ من يكشف خبره، فوجدوه بين القتلى، فحملوه إلى المخيَّم، وعافاه الله، وعاد السلطان إلى المخيَّم يوم الأربعاء عاشر الشهر المذكور منصورا، فرحا مسرورا، جزاه الله خيرا
(2)
[70].
وقال ابن كثير
(3)
: وقتل مع زامل أمير العرب، الأمير حجىّ بن منصور بن ربيعة، والأمير مُطرف بن رفيع بن مُرّ بن ربيعة وآخر معهم
(4)
.
ذكر مسير الإفرنج إلى عكا والنزول عليها ورحيل السلطان إلى قِبَالتِهم
ولما وصل الخبر إلى السلطان أن العدو قد ركب نحو عكا، وذلك يوم الأربعاء ثامن رجب، وكان قد اجتمع بصور من أهل البلاد، التي أخذها السلطان بالأمان، خلق عظيم حتى صاروا في عالم لا يحصون كثرة، وأرسلوا إلى البحر يبكون ويستنجدون وصوّروا صورة المسيح وصورة عربيّ يضرب المسيح وقد أدماه، وقالوا: هذا نبي العرب يضرب المسيح، فخرجت النساء من بيوتهن ووصل من الفرنج في البحر عالم لا يحصون كثرة، وساروا إلى عكا من صور ونازلوها في منتصف رجب، وضايقوا عكا، وأحاطوا بسورها من البحر إلى البحر، ولم يبق للمسلمين إليها طريق فسار إليهم السلطان [ونزل]
(5)
قريبا من الإفرنج بمرج عكا على تل كيسان
(6)
.
(1)
ما بين الحاصرتين إضافة من الفتح القسي، ص 295.
(2)
ورد هذا النص في النوادر السلطانية، ص 100 - 101؛ الروضتين، جـ 2، ص 141.
(3)
بالبحث في البداية والنهاية لابن كثير لم نجد النص الذي ذكره العيني. ويبدو أن العيني أخطأ في نسبة النص إلى ابن كثير. فالنص من الفتح القسى، ص 294.
(4)
نقل العينى هذا النص بتصرف من الفتح القسى، ص 294.
(5)
"ونازل" في الأصل. والمثبت من النوادر السلطانية، ص 104.
(6)
انظر هذه الأحداث في الفتح القسى، ص 296؛ النوادر السلطانية، ص 104؛ ابن العديم: الزبدة، ج 3، ص 110؛ مفرج الكروب، ج 2، ص 288 - 289؛ نهاية الأرب، ج 28، ص 416.
وقال صاحب النوادر
(1)
: كتب السلطان إلى سائر أرباب الأطراف بأن يتقدموا إلى العساكر الإسلامية بالمسير إلى المخيّم، وقال: سار السلطان بالليل وأصبح صبيحة يوم الاثنين الثالث عشر من رجب سائرا إلى عكا من طبرية، إذ لم يكن ثمة طريق يتسع العسكر إلا هو، وسّير جماعةً على طريق تبنين يَستشرفون العدو، ويواصلون بأخبارهم، قال: وسرنا حتى أتينا الحُولة
(2)
منتصف النهار، فنزل بها ساعة ثم رحل، وسار طول الليل حتى أتى موضعا يقال له: مُنْية صبَاح يوم الثلاثاء الرابع عشر من رجب.
وفيه بلغنا أن الإفرنج نزلوا على عكا يوم الاثنين ثالث عشر من رجب.
وسار هو جريدة من المنية حتى اجتمع ببقية العسكر الذين كان أنفذهم على طريق تبنين بمرج صَفُورية، فإنه كان واعدهم إليه، ولم يزل حتى شارف العدوّ من الخروبة
(3)
وبعث بعض العسكر، فدخل عكا على غرة من العدو تقوية لمن فيها، ولم يزل يبعث [إليها]
(4)
بعثا بعد بعث حتى حَصَّل [فيها]
(5)
خلق كثير، وعدد وافر، ورتب العسكر، ميمنةً وميسرة وقلبا، وسار من الخروبة، وقد كان نزل عليها يوم الأربعاء خامس عشر الشهر، فسار منها حتى أتى تلا يقال له: تل كيسان في أوائل مرج عكا، فنزل عليه وأمر الناس أن ينزلوا على هذه التعبئة، وكان آخر الميسرة على طرف النهر الحلو، وآخر الميمنة يقارب تل العياضية
(6)
، واحتاط العسكر الإسلامي المنصور بالعدو المخذول، وأخذوا عليهم الطرق من الجوانب، وتلاحقت العساكر الإسلامية واجتمعت، ورتب اليزك الدائم والجاليش
(7)
في كل يوم مع العدو، وحُصر العدو في خِيامهم من كل جانب، بحيث لا يقدر أن يخرج منها واحد إلا ويجرح أو يقتل.
(1)
النوادر السلطانية، ص 104.
(2)
الحُولَة: اسم لناحيتين بالشام، إحداهما من أعمال حمص ثم من أعمال بَارين بين حمص وطرابلس، والأخرى كورة بين بانياس وصور من أعمال دمشق. معجم البلدان، ج 2، ص 366.
(3)
الخَرُّوبة: حصن بساحل الشام مشرف على عكا. معجم البلدان، جـ 2، ص 428.
(4)
ما بين الحاصرتين مثبت من النوادر، ص 104.
(5)
في الأصل "فيه" والتصحيح من النوادر السلطانية، ص 104.
(6)
تل العياضية: هو تل قبالة تل المصلبين، مشرف على عكا. النوادر السلطانية، ص 108.
(7)
الجاليش: راية عيمة في رأسها خصلة من الشعر تحمل في مواكب السلطان لا سيما المواكب الخاصة بالحرب. السلوك، ج 1 ق 2، ص 628، النجوم الزاهرة، ج 7، 101.
وكان معسكر العدوّ المخذول على شطر من عكا، وخيمة ملكهم على تل المصلبين
(1)
قريبا من باب البلد، وكان عدد راكبهم ألفي فارس، وعدد راجلهم ثلاثين ألفا، ومددهم من البحر لا ينقطع، وجرى بينهم وبَيْن اليزك مقاتلات عظيمة متواترة، والبُعوث تتواصل من المسلمين والملوك والأمراء من الأقطار متتابعة، فأول [71] من نزل واصلا الأمير الأجل الكبير [مظفر الدين بن زين الدين، ثم قدم بعده الملك المظفر]
(2)
تقي الدين صاحب حماة في جحفله، وتتابعت الأمراء والعساكر الإسلامية.
وفي أثناء هذا الحال توفي حسام الدين سنقر الخلاطي بإسهال شديد، فأسف عليه المسلمون أسفا شديدًا، فإنه كان شجاعا ديّنا، ثم أن الفرنج تكاثروا، واستفحل أمرهم واستداروا بعكا بحيث منعوا من الدخول والخروج منها، وذلك يوم الخميس سلخ رجب.
فلما رأى السلطان ذلك ضاق صدره، وثارت همته العالية لفتح الطريق إلى عكا؛ ليستمر السابلة
(3)
إليها بالميرة والنجدة، فاستحضر أمراءه وأصحاب الرأي، وشاورهم في مضايقة القوم، واتفقوا على أن يضايقوا بحيث ينفصل الأمر بالكلية، أويفتح الطريق إلى عكا
(4)
.
ذِكُر قيام الحرب لأجل فتح الطريق
ولما أصبح نهار الجمعة مستهل شعبان من هذه السنة، أصبح السلطان على عزم القتال، فرتب عسكره ميمنةً وميسرة وقلبا، واتفقوا على أن تكون الملاقاة وقت الصلاة والخطباء تخطب، وهو وقت قبول الدعوات، فحملوا حملات عظيمة، وهم كالسّور المحيط ما عليه متسلق، والمسلمون كالبنيان المرصوص ما فيه خلل، وكالحلقة المفرغة ما إليها مدخل، فلم يتحرك الملاعين من موضعهم، ودامت الحرب بينهم، وكلما قتل واحد وقف آخر مكانه، حتى دخل الليل وحجز بينهم، فأصبحوا يوم السبت على الحرب كما أمسوا، واشتدت الحرب أكثر مما كان، وأنفذ السلطان طائفة من شجعان المسلمين إلى البحر من شمالي عكا، فلم يكن هناك [للعدو]
(5)
خيم، لكن
(1)
"تل المصْلبة" في الفتح القسي، ص 305.
(2)
ما بين حاصرتين إضافة للإيضاح من: النوادر السلطانية، ص 105؛ الفتح القسي، ص 299.
(3)
السَّابلة: في اللغة الطريق المسلوك والمارُّون عليه. المعجم الوسيط، مادة س. ب. ل، ص 430.
(4)
ينقل العين هذا النص بتصرف من النوادر، ص 103 - 105؛ انظر أيضا، الفتح القسي، ص 296 - 303.
(5)
ما بين الحاصرتين مثبت من النوادر السلطانية، ص 106.
عسكرهم ممتدة من كل ناحية، فحمل المسلمون عليهم حملة صادقةً، فانهزموا إلى تَلّ المصلّبين نحو القبة، وأخلوا ذلك الجانب، وانفتح الطريق إلى عكا من [باب]
(1)
القلعة المسماة بقلعة الملك إلى باب قراقوش الذى جدده. وصار الطريق مهيعا
(2)
يمرّ فيه السوقي ومعه الحوائج، ويمر به الرجل الواحد والمرأة، واليزك بين الطريق وبين العدو.
ودخل السلطان رحمه الله في ذلك اليوم عكا، ورقي على السُور، ونظر إلى عسكر العدو، وفرح المسلمون بنصر الله، وخرج العسكر الذين كانوا بها إلى خدمة السلطان، ثم استدار العسكر الإسلامي حول العسكر الإفرنجي، وأحدقوا بهم من كل جانب
(3)
.
ذِكرُ الوقعة العُظمى
ولما كان يوم الأربعاء العشرين من شعبان
(4)
من هذه السنة، برزت الإفرنج بأجمعهم، وضربوا مع السلطان مصافًا، وحملوا على القلب، فأزالوه وأخذوا يقتلون في المسلمين إلى أن بلغوا خيمة السلطان، فانحاز السلطان إلى جانب، وانضاف إلى جماعة، وانقطع مدد الفرنج، واشتغلوا بقتال الميمنة، فصاح السلطان: يآل الإسلام، فركبت الناس بأجمعهم، وحمل السلطان على الفرنج الذين خرقوا القلب، وانعطف عليهم العسكر، فأفنوهم قتلًا، وكان كل واحد من المسلمين قتل أربعين أو خمسين من الفرنج، وكان قتلى الفرنج تقدير عشرة آلاف، ووصل المنهزمون من المسلمين بعضهم إلى طبرية، وبعضهم وصل إلى دمشق، ولم يكن وقف من المسلمين ثابتين غير نحو ألف نفس، فردّت مائة ألف. وجافت الأرض بعد هذه [72] الوقعة من قتلى الفرنج، فلحق السلطان مرض وحدث له قولنج، فأشار عليه الأمراء بالانتقال من ذلك الموضع، فوافقهم ورحل عن عكا رابع عشر رمضان إلى الخروبة، فلما رحل السلطان تمكن الفرنج حينئذ من حصار عكا، وانبسطوا في تلك الأرض، ولم يعلم السلطان أن ذلك كان من
(1)
"بين" كذا في الأصل والمثبت من النوادر السلطانية، ص 106.
(2)
مهيع: واسع. انظر ابن منظور: لسان العرب، مادة "هيع". جـ 10، ص 258.
(3)
ورد هذا النص بتصرف في النوادر السلطانية، ص 106؛ الفتح القسى، ص 300 - ص 303، الروضتين، جـ 2، ص 142 - ص 143.
(4)
اختلفت المصادر في تحديد تاريخ الوقعة، فقد ذكر ابن شداد أن الوقعة حدثت يوم الأربعاء الحادي والعشرون، كما ذكر ابن العديم أن الوقعة حدثت يوم الجمعة الثالث والعشرين، كما يبدو أن العيني هو أقرب إلى الصواب، فهو يتفق في التاريخ مع ابن الأثير والعماد الذي كان شاهد عيان على هذه الوقعة.
انظر النوادر السلطانية، ص 109؛ زبدة الحلب، جـ 3، ص 857؛ الكامل جـ 10، ص 186؛ الفتح القسى، ص 308.
أكبر المصالح للعدو المخذول، فإنهم اغتنموا هذه الفترة، فحفروا جول مخيّمهم خندقا يجمعُ جيشهم من البحر إلى البحر محدقًا، واتخذوا من ترابه سورًا شاهقًا، وجعلوا له أبوابا يخرجون منها إذا أرادوا، وتمكن الأمر وقوى الخطب
(1)
.
وقال صاحب النوادر
(2)
: مشاهدة عن أخبار هذه الوقعة العظيمة وملخصه أنه لما كان يوم الأربعاء الحادي والعشرين من شعبان تحركت عساكر الإفرنج، واصطفوا خارج خيامهم: قلبًا وميمنة وميسرةً، وفي القلب الملك وبين يديه الانجيل محمولا مستورًا بثوب أطلس مغطى، يمسكه
(3)
أربعة أنفس أربعة أطرافه، يسيرون بين يدي الملك.
وامتدت الميمنة في مقابلة الميسرة التي لعسكر الإسلام من أولها إلى آخرها، وكذا امتدت ميسرتهم في مقابلة ميمنة المسلمين إلى آخره، وملكوا رؤوس التلال، وكان طرف ميمنتهم إلى النهر، وطرف ميسرتهم إلى البحر. والسلطان رحمه الله رتب عسكره في مقابلتهم، فوقف هو في القلب، وفي الميمنة ولده الملك الأفضل، ثم ولده الملك الظافر، ثم عسكر المواصلة يقدمهم ظهير الدين بن البلنكري
(4)
، ثم عسكر ديار بكر في خدمة قطب الدين بن نور الدين صاحب الحصن، ثم حسام الدين بن لاجين صاحب نابلس، ثم الطواشي قايماز النجمي، وجموع عظيمة متصلين بطرف الميمنة، وكان في طرفها الملك المظفر تقي الدين بجحفله وعسكره، وهو يطل على البحر.
وأما أوائل الميسرة: فكان مما يلي القلب سيف الدين على [بن أحمد]
(5)
المشطوب من كبار ملوك الأكراد ومقدميهم، والأمير مجلي وجماعة المهرانية والهكَّارية، ومجاهد الدين يرنقش
(6)
مقدم عسكر سنجار -وجماعة من المماليك، ثم مظفر الدين بن زين الدين بجحفله وعسكره.
وأواخر الميسرة: كبار المماليك الأسدية، كسيف الدين بازكج، ورسلان بغا، وجماعة الأسدية الذين يُضرب بهم المثل.
(1)
ورد هذا النص بتصرف في الفتح القسى، ص 311 - ص 324؛ الكامل، جـ 10، ص 186 - ص 187.
(2)
النوادر السلطانية، ص 109.
(3)
"يمسك" كذا في الأصل، والمثبت من النوادر السلطانية، ص 109.
(4)
"البكنكري" في الروضتين، جـ 2، ص 144؛ "البلتكري" في مفرج الكروب، جـ 2، ص 295.
(5)
"سيف الدين على المشطوب على بن أحمد" كذا في الأصل. والمثبت من النوادر السلطانية، ص 110.
(6)
"برنقش" كذا في الأصل، والمثبت من النوادر السلطانية، ص 110.
وفي مقدم القلب الفقيه عيسى وجمعُه هذا، والسلطان يطوف على الأطلاب بنفسه يحثهم على القتال، ويدعوهم إلى النزال، ويرغبهم في نصرة دين الله.
ولم يزل القوم يتقدمون، والمسلمون يقدمون حتى علا النهار، ومضى منه مقدار أربع ساعات، وعند ذلك تحركت ميسرة العدو على ميمنة المسلمين، وأخرج لهم الملك المظفر الجاليش، وجرى بينهم قلبات كثيرة، وتكاثروا على الملك المظفر -وكان في طرف الميمنة على البحر- فتراجع عنهم شيئا، إطماعًا لهم لعلهم يبعدون عن أصحابهم، فينال منهم غرضا، فلما رآه السلطان قد تأخر ظن به ضعفا، فأمده بأطلابٍ عدةٍ من القلب حتى قوى جانبه، وتراجعت ميسرة العدو [73] واجتمعت على تَلّ مشرف على البحر.
ثم جاءت منهم حملة على عسكر ديار بكر، وكانت بهم غرة عن الحرب، فلم يصبروا وانكسروا كسرةً عظيمة، وسري كسرهم إلى انكسار معظم الميمنة، واتبع العدو المنهزمين إلى العياضيّة، وصعدت طائفة منهم إلى خيم السلطان، فقتلوا طشت دار
(1)
كان هناك. وفي هذا اليوم استشهد إسماعيل المكبِّس
(2)
وابن رواحة
(3)
. وأما الميسرة فإنها ثبتت، فإن الحملة لم تصادمها.
وأما السلطان فإنه أخذ يطوف الأطلاب يُنهضهم ويحثهم على الجهاد، وينادي فيهم "يأل الإسلام"، ولم يبق معه إلا خمسة أنفس، وهو يطوف على الأطلاب، ويتخارق الصفوف، ثم أوى إلى تحت التل الذي كان عليه الخيام. وأما المنهزمون، فإنهم بلغوا إلى الأُقحوانة
(4)
، فقطعوا جسر طبريّة، وقوم وصلوا إلى دمشق.
وأما المُتبعون فاتبعوهم إلى العياضيّة، ثم رجعوا عنهم، وقتلوا في الطريق جماعة من الغلمان والخاربنديّة
(5)
والساسة المنهزمين، ثم جاءوا على رأس السوق، فقتلوا
(1)
الطشت دار: هو غلام الطشت خاناه، والطشت خاناه هي بيت الطشت، وهي لفظه عامية وصوابه الطست. وهي كلمة معرفة عن الفارسية، وهي كل أنواع الأواني الخاصة بالسلطان. انظر القلقشندي، صبح الأعشى، جـ 4، ص 10 - ص 11.
(2)
هو: إسماعيل الصوفي الأرموي المكبس. الفتح القسى، ص 318.
(3)
هو: الحسين بن عبد الله بن رواحة بن إبراهيم بن عبد الله بن رواحة أبو علي الأنصاري الحموي ولد بحماة انظر، ياقوت: معجم الأدباء، جـ 10، ص 318، تحقيق، فريد رفاعي.
(4)
الأقحوانة: موضع بالأردن من أرض دمشق على شاطئ بحيرة طبرية. انظر: معجم البلدان، جـ 1، ص 334.
(5)
الخاربنديّة: لفظ فارسي يعني الحمّار أو المكاري.
جماعةً وقتل منهم جماعة أيضا فإن السوق كان فيه خلق عظيم، ولهم سلاح. ثم لما رأوا أن الميسرة الإسلامية ثابتة علموا أن الكسرة لم تتم، فعادوا منحدرين من التل يطلبون عسكرهم.
وأما السلطان فإنه كان واقفا تحت التلّ ومعه نفر يسير، وهو يجمع الناس ليُعودوا إلى الحملة على العدو، ولما رآهم نازلين من التل أرادُوا لقاءهم، فصبّرهم السُلطان إلى أن ولّوا ظهورهم، فحملوا عليهم، وعاد الملك المظفر بجمعه من الميمنة، وتراجع الناس من كل جانب، فنصر الله الإسلام، وظل الناس في قتل وضرب وجرح، إلى أن اتصل المنهزمون السالمون إلى عسكر العدو، ثم رجع الناس عنهم بعد صلاة العصر، يخوضون في القتلى وهم فرحون مسرورون. وعاد السلطان إلى خيمته في ذلك اليوم فرحا مسرورا، فافتقدوا المسلمين، فكان مقدارُ ما فقد من الغلمان والمجهولين مائة وخمسين نفرا، ومن المعروفين استشهد ظهير الدين -أخو الفقيه عيسى- وكان قد وقع من فرسه، وقتل عليه جماعة من أقاربه، وقتل أيضا الأمير مجليّ، هذا الذي قتل من المسلمين.
وأما من العدو فحرز سبعة آلاف نفر. قال الراوي
(1)
: ورأيتهم وقد حملوا إلى شاطئ النهر ليلقوا فيه، فحرزتهم دون سبعة آلاف.
ثم أن السلطان سارع في الكتب والرسل في رَدّ المنهزمين من المسلمين، حتى ردّوا البعض من عقبة فيق
(2)
. وكان الغلمان والحواشي نهبوا أموال الناس، فأمر السلطان بجمع ذلك كله، وأمر بالنداء بالوعيد والتهديد، فأحضروا شيئا كثيرا حتى صار بين يدي السلطان مثل التل، ثم أمر بردها على أصحابها، وصار مَن عرف شيئا وأعطي علامته أعطاه، وكان ذلك يوم الجمعة الثالث والعشرين من شعبان.
ثم تحول السلطان إلى موضع يقال له الخروبة، وهو موضع قريب من مكان الوقعة، ونزل هناك يوم السبت الرابع والعشرين منه، ثم في سلخ الشهر [74] جمع أعيان عسكره وقال: إن هؤلاء الكفار قد نزلوا في بلادنا، ووطئوا أرض الإسلام، ولا بد من الاهتمام بقلع هؤلاء، والله قد وجب علينا ذلك، وأنتم تعلمون أن هذه عساكرنا وليس وراءنا نجدة
(1)
يقصد بالراوي هنا ابن شداد.
(2)
عقبة أفيق، والعامة تقول فيق، وهذه العقبة ينزل منها إلى الأردن، وهي عقبة طويلة، معجم البلدان، ج 1، ص 332 - 333.
ننتظرها سوى الملك العادل، وهو واصل إن شاء الله، وهذا العدو إن بقي وطال أمره إلى أن ينفتح البحر جاءهم مدد عظيم، والرأي كل الرأي عندي مناجزتهم، فليتكلم كل منكم ما عنده في ذلك، وكان ذلك في ثالث عشر تشرين من الشهور الشمسية، فامتخضت الآراء، ثم اتفقت أن المصلحة تأخير العسكر إلى الخروبة لتتراجع أنفسهم إليهم، فقد أخذ منهم التعب، واستولى على نفوسهم الضجر، ولهم خمسون يوما تحت السلاح وفوق الخيل، والخيل قد ضجرت من عَرْك اللُّجم، وسئمت نفوسها ذلك، ويصل الملك العادل ويشاركنا في الرأي، فوافقهم السلطان على ذلك لكونه قد حصل له مرض من كثرة ما حمل على قلبه، وما عاناه من التعب وحمل السلاح، فأقام هناك منتظرا أخاه الملك العادل إلى يوم الاثنين عاشر رمضان
(1)
.
ثم أن السلطان أرسل إلى مصر يطلب أخاه العادل، ويستعجل الأصطول، فوصل إليه الأسطول في خمسين قطعة مع الأمير حسام الدين لؤلؤ، وكان مظفرا شجاعا، وظفر ببُطسة للفرنج، فأخذها ودخل بها إلى عكار، فقويت قلوب المسلمين لذلك، وكذلك وصل الملك العادل بعسكر مصر في منتصف شهر شوال
(2)
.
وقال العماد: وكان وصول الأصطول المنصور من مصر يوم الثلاثاء السادس عشر من ذي القعدة في المراكب المستعدة بالبأس والشدّة، وكانت عدته خمسين شينيًا، فأول ما ظفر الأسطول المنصور بشينيّ للفرنج عظيم الشأن، فقتل مقاتليه، فوقعت بُطسته الكبرى ببطسة كبيرة، تشتمل على ميرة لهم وذخيرة واسعة. وتفرقت سُفن الفرنج أيدي سبأ. وفي مدة هذا الحصار وصل إلى الإفرنج في مراكب ثلاثمائة امرأة إفرنجية مستحسنات الوجوه، اجتمعن من الجزائر، [وسبَّلن]
(3)
أنفسهنّ لله تعالي بزعمهن، والتزمن أن لا يمنعن أنفسهن ممن أرادَ وطأهن من مقاتلي الفرنج، وزعمن أن هذه قرْبة للمسيح ما فوقها قربة، لا سيما إذا أمكن ممن اجتمعت فيه عزيمة مع إقدام على القتال
(4)
.
(1)
ورد هذا النص بتصرف في النوادر السلطانية، ص 109 - 115؛ الفتح القسي، ص 322 - ص 326؛ الروضتين جـ 2، ص 146؛ مفرج الكروب، جـ 2، ص 305.
(2)
زبدة الحلب، ج 3، ص 116؛ الكامل، ج 10، ص 189.
(3)
"سيّبن" في الأصل. والمثبت من الفتح القسى، ص 347.
(4)
ورد هذا النص مفصل في الفتح القسى، ص 340 - 341، 347 - 349؛ الروضتين، جـ 2، ص 149؛ مفرج الكروب، جـ 2، ص 308.
ذكر وُصُول خبر ملك الأَلمان لعنه الله
وفي رمضان من هذه السنة وصل من حلب كتب من ولده الملك الظاهر غازي
(1)
، يخبر فيها أنه قد صح أن ملك الألمان قد خرج إلى القسطنطينية في عدّة عظيمة، قيل: مائتا ألف، وقيل: مائتان وستون ألفا، يريدون البلاد الإسلامية
(2)
وقيل: أنهم في ثلثمائة ألف مقاتل، وفيهم ستون ألف فارس مدرع مقنع، وجاءت كتب أيضا من صاحب قلعة الروم مقدّم الأرمن، يبدى نصيحة وإشفاقا وتخوفا على البلاد، واحتراما، ويقطع أن الواصلين في كثرة، وأن الناهضين إلى طريقهم في عثرة، وأبرق في كتبه وأرعد، وأبدع بخطابه [75] وأبعد
(3)
. ولا شك أنه إلى جنسه النجس مائل، وبملاءة أهل ملته قائل.
ولما وصل هذا الخبر كاد الناس يضطربون على أنهم يصدقون أو يكذبون، واشتد ذلك على السلطان وعظم عليه، ورأى استنفار الناس للجهاد، وإعلام الخليفة بذلك.
قال قاضي القضاه بهاء الدين أبو المحاسن يوسف بن رافع بن تميم صاحب النوادر: استندبنى السلطان لذلك، وأمرني بالمسير إلى صاحب سنجار، وصاحب الجزيرة، وصاحب الموصل، وصاحب إربل، واستدعائهم إلى الجهاد بأنفسهم وعساكرهم. وأمرني بالمسير إلى بغداد الإعلام الخليفة الناصر لدين الله. قال: وكان مسيري في الحادي عشر من رمضان من هذه السنة، ويسّر الله الوصول إلى الجماعة المذكورين، فأجابوا. وسار عماد الدين زنكي -صاحب سنجار- بعسكره وجمعه في تلك السنة
(4)
. وسار ابن أخيه - سنجر شاه -صاحب الجزيرة- بنفسه يجرّ عسكره. وسير صاحب الموصل عز الدين ابنه علاء الدين خُرّم شاه بمعظم عسكره، وسار صاحب إربل بنفسه وعسكره، قال: وحضرت الديوان [العزيز]
(5)
ببغداد، وأعلمت الخليفة بذلك، ووعد بكل جميل، ثم عدت إلى خدمة السلطان، وكان وصولي
(6)
إليه يوم الخميس خامس
(1)
هو: الملك الظاهر غياث الدين غازي بن السلطان الناصر صلاح الدين يوسف الأيوبي وكان نائبًا لأبيه في حلب. الروضتين، جـ 2، ص 225.
(2)
النوادر السلطانية، ص 115.
(3)
الفتح القسي، ص 331.
(4)
عماد الدين زنكي بن مودود الذي ولي سنجار في الفترة من 566 هـ - 594 هـ/ 1170 - 1197 م. أحمد السعيد سليمان، تاريخ الدول الإسلامية، ص 347.
(5)
"الديوان السعيد" كذا في العيني والمثبت من النوادر السلطانية، ص 115؛ الروضتين، جـ 2، ص 105؛ نهاية الأرب، جـ 28، ص 421؛ الفتح القسي، ص 332 - ص 337.
(6)
يعود الضمير هنا على ابن شداد.
ربيع الأول من سنة ست وثمانين وخمسماية، وكانت العساكر قد تجهزت فسبقتُهم وعرفته بأجابتهم بالسمع والطاعة، وتأهبهم للمسير، فسُرّ بذلك وفرح فرحا شديدا
(1)
. وانسلخت هذه السنة، والحال على ما هو عليه، ولا ملجأ من الله إلا إليه.
ذكر بقية الحوادث
منها أن في المحرّم أمر الخليفة أن يعهد إلى ولده أبي نصر محمد
(2)
، وأن أمير المؤمنين أنعم النظر للمسلمين بتفويض عهده والإمامة من بعده إلى ولده عُدة الدنيا والدين أبي نصر محمد، لِما علم من عقله الراجح، وهديه الواضح، وبعث الخليفة ضياء الدين عبد الوهاب بن على الصوفى، ويعرف بابن سكينة، نسخًا إلى صلاح الدين في الخطبة، وبعث إلى جميع الآفاق، فالتقاه السلطان وخطب له على المنابر، وكان الخطيب بدمشق عبد الملك بن زيد [الدولعي]
(3)
، وبعث السلطان جواب الرسالة مع ضياء الدين بن الشهروزي، وبعث معه بصليب كان على صخرة بيت المقدس، فجُعِلَ في باب النوبي تطأه الأقدام ويُهان وهو بحاله إلى هلم جرا.
وقال ابن كثير
(4)
: وفي صفر قدم من جهة الخليفة رسل يعلمون صلاح الدين بولاية العهد إلى عدّة الدين الملقب بالظاهر ابن الإمام الناصر لدين الله، فأمر السلطان لخطيب دمشق أن يخطب له بعد الخليفة، فخطب يوم الجمعة ثالث صفر، ونثر عليه الدنانير والدراهم، ثم جهز السلطان مع الرسل تحفا عظيمة وهدايا سنية، وأرسل بأساري من الفرنج على هيئتهم في حال حربهم، وأرسل بصليب الصلبوت فدفن تحت عتبة باب النوبي في دار الخلافة، فكان يُداس بعدما كان يقبل ويُباس، وصار يُبصق عليه بعدما كان يسجد عليه [76]، وكان هذا الصليب من نحاس مطليًا بالذهب.
ومنها أن الخليفة بني داره التي استجدها إلى جانب التاج، وسماها الدار البيضاء.
ومنها أنه تسلم نواب الخليفة قلعة تكريت، وكان قد حصرها العسكر مدة، ومات صاحبها عيسى بن مودود وولي مكانه أخوه أرغش، فقتله إخوته.
(1)
إلى هنا توقف العيني عن النقل من النوادر السلطانية ص 115.
(2)
هو: الظاهر بأمر الله أبو نصر محمد بن الناصر لدين الله. ت سنة 623 هـ. انظر ترجمته في السيوطي: تاريخ الخلفاء، ص 458 - 460.
(3)
"الدولي" في الأصل، والمثبت من وفيات الأعيان، ج 7، ص 203؛ البداية والنهاية، ج 12، ص 354.
(4)
ورد هذا النص بتصرف في البداية والنهاية، جـ 12، ص 354؛ الكامل، ج 10، ص 189.
ومنها أن السلطان صلاح الدين ولي دمشق بدر الدين مودود -أخا العادل لامّه- شحنكية دمشق.
ومنها أن في جمادى الأولى ولد للملك العزيز ولد سماه محمدًا، ولقبه ناصر الدين، وهو الذي اجتمع عليه أصحاب العزيز عند موته في سنة خمس وتسعين وخمسمائة.
ومنها أنه وصل إلى حضرة السلطان صلاح الدين من عند سلطان العجم ركن الدنيا والدين طُغْرل بن أرسلان بن طغرل بن محمد بن ملكشاه، أمير من خواصه يقال له أيلْدُكز أمير العلم. وضرب له من الخيم الخاصة سرادق، وقدمت إليه الضيافات، ومضمون رسالته: أنه خانته من أمرائه ومماليكه العامة والخاصة، وأن عمه -أخا أبيه من أمه- قد استولى على ممالكه، وضيّق عليه سعة مسالكه، وقد وصل إلى قرب إربل حد مملكتهم، وأراد الوصول إلى الموصل، لكنه نزل في بيوت عز الدين حسن بن يعقوب بن قفجاق، ينتظر منكم الإشفاق، وعز الدين حسن من خدم دولتكم الكريمة، والمستمسكين بعصمتكم الجسيمة. وأنا عنده مقيم، وعلى سنن الأمل مستقيم، فإن استقدمتْني إليك قدمت، وإن أمرت أمراء الأطراف بمشايعتي وجدت من النصر ما عدمت. وأردف رسولا برسول، وكرّر سؤالًا فيما التمسه من سؤل.
فاعتذر السلطان بما هو فيه من شغل الجهاد، فكتب إلى [زين]
(1)
الدين يوسف صاحب إربل
(2)
، وإلى حسين بن قفجاق، وإلى نائبه بشهرزور، بالتوفر على خدمته والارتياد لمصلحته وإشاعة معونته.
ثم ندب كبيرًا للسفارة بينه وبين مظفر الدين قزل أرسلان، وهو جمال الدين أبو الفتح إسمعيل بن محمد بن عبد كوُيه. ويسعى بينهما في المصلحة والمصالحة، فلم يزل إلى أن سهل الأمر فيما بينهما وكاد الصلح أن ينتظم، فعّنّ للسلطان طغرل أن ركب وقصد عمه قِزل بهمذان، من غير استيشاق بعهد، إخمادًا لنار الفتنة، فلما وصل إليه قبض عليه واعتقله، واستبد قزل بأمر الملك. وسيأتي ما جرى عليهما في موضعه إن شاء الله تعالى.
(1)
"بدر" في الأصل، والمثبت بين الحاصرتين من الفتح القسي ص 354.
(2)
"زين بن يوسف بن على بن بكتكين" في الفتح القسى، ص 354 - ص 455؛ العبر في خبر من غبر، جـ 4، ص 260.
وفيها ...................
.............................................................
(1)
وفيها حج بالناس طاشتكين، وحجت فيها أيضا والدة الخليفة الناصر، ومعها ألف وثمانمائة جمل عليها الزاد والماء والمال والثياب، وسار في خدمتها الخادم صندل وطاشكين وطغرل صاحب البصرة، وفعلت خيرًا كثيرًا.
ذكر من توفي فيها من الأعيان
أحمد بن عبد الرحمن بن وهبان، أبو العباس المعروف بابن أفضل الزمان. قال ابن الأثير
(2)
: وكان عالما متبحرًا في علوم كثيرة، في الفقه والأصول، والحساب، [77] والفرائض والنجوم والهيئة والمنطق وغيرها، وقد جاور بمكة وأقام بها إلى أن مات رحمه الله، وكان من أحسن الناس صحبة وخلقًا.
ابن أبي عصرون
(3)
هو: القاضي شرف الدين أبو سعد عبد الله بن محمد بن هبة الله ابن أبي عصرون. قال ابن خلكان: عبد الله بن أبي السري محمد بن هبة الله بن مطهر ابن علي بن أبي عُصْرون بن أبي السري التميمي الحديثي ثم الموصلي، الفقيه الشافعي الملقب شرف الدين، كان من أعيان الفقهاء وفضلاء عصره، وممن سار ذكره وانتشر أمره. وتفقه أولًا على القاضي المرتضي أبي محمد عبد الله بن القاسم الشهرزوري، وعلى أبي عبد الله الحسين بن خميس الموصلي، ثم على [أسعد]
(4)
الميهني وأخذ الأصول عن أبي الفتح بن برهان الأصولي، وقرأ الخلاف وغيره وتوجه إلى مدينة واسط وقرأ على قاضيها الشيخ أبي على الفارقي، وأخذ عنه فوائد (المهذب)، ودرس بالموصل في سنة ثلاث وعشرين وخمسمائه، وأقام بسنجار مدة ثم انتقل إلى حلب في سنة خمس وأربعين. ثم قدم دمشق إلى ملكها العادل نور الدين محمود بن زنكي في صفر سنة تسع وأربعين وخمسمائة، ودرس بالزاوية الغربية من جامع دمشق،
(1)
بياض بمقدار كلمتين وسطر.
(2)
الكامل، جـ 10، ص 190؛ البداية والنهاية، جـ 12، ص 356.
(3)
انظر ترجمته في الكامل، جـ 10، ص 189 - ص 190؛ البداية والنهاية، جـ 12، ص 355 - 356؛ وفيات الأعيان، جـ 3، ص 53 - ص 57، العبر، جـ 4، ص 256.
(4)
"أبي سعيد" كذا في الأصل، والمثبت من وفيات الأعيان، ج 3، ص 53.
وتولى أوقاف المساجد. ثم رجع إلى حلب وأقام بها. وصنف كتبًا كثيرة في المذهب منها: "صفوة المذهب في نهاية المطلب" في سبع مجلدات، و"كتاب الانتصار" في أربع مجلدات، وكتاب "المرشد" في مجلدين، وكتاب "الذريعة في معرفة الشريعة"، وصنف "التيسير" في الخلاف أربع مجلدات، وكتابا سماه "ما أخذ النظر"، و "مختصرًا في الفرائض"، وكتابا كبيرا سماه "المُغْرب في نصرة المذهب"
(1)
، ولم يكمله، ونهب فيما نهب له بحلب. فاشتغل عليه خلق كثير وانتفعوا به، وتعين بالشام وتقدم عند نور الدين صاحب الشام، وبنى له مدرسة بحلب، ومدارس بحماة وحمص وبعلبك وغيرها، وتولي القضاء بسنجار ونصيبين وحران وغيرها من ديار بكر، ثم عاد إلى الشام -إلى دمشق- في سنة سبعين وخمسمائة، وتولى القضاء بها في سنة ثلاث وسبعين عقيب انفصال القاضي ضياء الدين أبي الفضائل القاسم بن تاج الدين يحيى بن عبد الله بن القاسم الشهرزوري. ثم عَمىَ في آخر عمره قبل موته بعشر سنين، وابنه محمد ينوب عنه وهو باق على القضاء، وصنف جزءًا لطيفا في جواز قضاء الأعمى، وهو على خلاف مذهب الشافعي.
وقال ابن خلكان: ورأيت في كتاب "الزوائد" تأليف أبي الحسين العمراني صاحب كتاب "البيان" وجها أنه يجوز وهو غريب، ولم أره في غير هذا الكتاب. وقد ذكره ابن عساكر في "تاريخ دمشق"، وذكره العماد في "الخريدة" وأثنى عليه، وأورد له شيئًا من شعره: -
أؤمِّل أن أحيا ففي كل ساعة
…
تمرّ بي الموتي تهزّ نعوشها
وهل أنا إلا مثلهم غير أن لي
…
بقايا ليالٍ في الزمان أعيشها
وأورد له أيضا:
يا سائلي كيف حالي بعد فرقته قد
…
حاشاك مما بقلبي في تناسيكا
(2)
[78]
قد أقسم الدمع لا يجفو الجفون أسى
…
والنوم لا زارها حتى ألاقيكا
وكانت ولادته ليلة الاثنين [الثاني والعشرين]
(3)
من شهر ربيع الأول سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة بالموصل. وتوفي ليلة الثلاثاء الحادية عشرة من شهر رمضان سنة خمس وثمانين وخمسمائة بمدينة دمشق، ودفن بمدرسته التي أنشأها داخل البلد،
(1)
"الإرشاد المغرب في نصرة المذهب" ورد بهذا الاسم في وفيات الأعيان، ج 3، ص 54.
(2)
"تنائيكا" في وفيات الأعيان، جـ 3، ص 55.
(3)
"الحادي عشر" كذا في الأصل، والمثبت من وفيات الأعيان، ج 3، ص 55.
وهي معروفة به، والحديثي: نسبة إلى حديثة الموصل، وهي بليدة على دجلة بالجانب الشرقي قرب الزاب الأعلى، وهي غير الحديثة التي في الفرات التي يقال لها حديثة النوُّرة، وهي قلعة حصينة على فراسخ من الأنبار في وسط الفرات، والماء محيط بها.
الفقيه
(1)
ضياء الدين عيسى الهكاري، من أصحاب أسد الدين شيركوه، دخل معه إلى مصر وحظي عنده، ثم كان ملازمًا للسلطان صلاح الدين يوسف حتى توفي في ركابه، وكان ممن تفقه على الشيخ أبي القاسم البرزي الجذري. وكان الفقيه عيسى من الفضلاء النبلاء والأمراء الكبراء. وقال العماد
(2)
: توفي الفقيه عيسى بمنزلة الخروبة، سحرة يوم الثلاثاء تاسع ذي القعدة سنة خمس وثمانين وخمسمائه، وحمل من يومه إلى القدس، فدفن به، وكان من الأعيان ومن مقربي السلطان. وفي المرآة
(3)
: وكان لقبه ضياء الدين وحضر فتوح القدس والغزوات وكان صلاح الدين يحبه ويحسن الظن به ويستشيره، وكان الله قد أقامه لقضاء حوائج الناس ويفرج عن المكروبين مع الورع والعفة.
المبارك بن المبارك بن المبارك -ثلاث مرات- أبو طالب الكرجي
(4)
بالجيم صاحب الفقيه أبي الحسن بن الخلّ، قرأ القرآن وسمع الحديث وتفقه على شيخه ابن الخل، وكتب فأحسن وخلف أبي الحسن ابن البواب، وكان يُعلم أولاد الخليفة الخط -محمدًا ولى العهد، وعليًا- وخلف شيخه أبا الحسن ابن الخلّ في مدرسته بباب العامة التي بناها كمال الدين أبي طلحة، وأضيف إليه تدريس النظامية، وولي رباط الأخلاطية، وبنى له إلى جانبه دار فسكنها، وكان زاهدا عابدا ورعا، وكان الخليفة يدين له ويحسن الظن به، وكان يؤم برباط الأخلاطية، خرج من داره في ذي القعدة، فدخل الرباط ليصلى بهم العصر، فلما وقف في المحراب عرضت له سُعلة فتغير فحمل إلى داره، فتوفي وله نيف وثمانون سنة، وحضر جنازته جميع أرباب الدولة ولم يتخلف سوى الخليفة، وجاء الخليفة في آخر النهار فصلى عليه.
(1)
انظر ترجمته في الكامل، جـ 10، ص 190؛ الفتح القسى، ص 355؛ النوادر، ص 116؛ وفيات الأعيان، ج 3، ص 497 - 498.
(2)
الفتح القسي، ص 355.
(3)
هذه السنة ساقطة من مرآة الزمان، جـ 8.
(4)
"الكَرْخي" في الكامل، جـ 10، ص 190؛ البداية والنهاية، جـ 12، 356؛ العبر، جـ 4، ص 257؛ النجوم الزاهرة، جـ 6، ص 111.
الأمير
(1)
موسك بن جَكو والد الأمير عماد الدين داود بن موسك، ابن خال السلطان صلاح الدين، حفظ القرآن وسمع الحديث، وكان محسنًا إلى الناس يقضي حوائجهم ويتلطف بهم وكان ملازما للسلطان في غزواته لم يتخلف عنه في شيء منها وكان دينا صالحا جوادا مرض بمرج عكا مرضًا شديدا فأمره السلطان أن يمضي إلى دمشق يتطب فجاء إلى دمشق، فتوفي بها ودفن بقاسيون رحمه الله، وكانت وفاته في شعبان من هذه السنة.
الأمير
(2)
حسام الدين طُمان صاحب الرقة [79] النوري، كان شجاعا جوادا محسنا محبا للخير كثير الصدقات مائلا إلى العلماء والفقهاء، بني مدرسة بحلب لأصحاب أبي حنيفة رضي الله عنه. وكان السلطان صلاح الدين يحبه ويعتمد عليه، ولما احتضر والسلطان في مقابلة الإفرنج طلب حصانه وزرديته ليركب ويشهد من حرصه على الغزاة، فلم يقدر لضعفه، فجعل يبكي ويتأسف على موته على فراشه، وكان من شجعان المسلمين. توفي في ليلة النصف من شعبان، ودفن في تل العياضية وحزن السلطان والمسلمون عليه.
الأمير سنُقر الخلاطي، توفي ليلة الاثنين السابع والعشرين من رجب من هذه السنة، وذلك أيضًا حين كان السلطان على عكا رحمه الله.
أبو طالب
(3)
محمود بن علي ابن أبي طالب بن عبد الله ابن أبي الرجا التميمي الأصبهاني، المعروف بالقاضي، صاحب الطريقة في الخلاف، وصنف فيه التعليقة التي شهدت بفضله وتبريزه على أكثر نظرائه، وجمع فيها بين الفقه والتحقيق، وكان عمدة المدرسين في إلقاء الدروس عليها، ومن لم يذكرها [فإنما]
(4)
كان لقصور فهمه عن إدراك دقائقها، واشتغل عليه خلق كثير وانتفعوا به، وصاروا علماء ومشاهير. وكان له في الوعظ اليد الطولى، وكان متفننًا في العلوم، ودرس بأصبهان مدة، وتوفي في شوال من هذه السنة.
(1)
الفتح القسى، ص 355 - ص 356؛ السلوك، جـ 1، ص 103 حاشية 5.
ويذكر المقريزي أنه صاحب قنطرة الموسكي على الخليج الكبير بالقاهرة، انظر: الخطط، ج 3، ص 38، ط الساحل، لبنان؛ ابن تغري بردي، النجوم، جـ 6، ص 110.
(2)
وفيات الأعيان، ج 7، ص 170 - ص 194؛ النجوم الزاهرة، ج 6، ص 109.
(3)
وفيات الأعيان، جـ 5، ص 174؛ شذرات الذهب، جـ 5، ص 284؛ طبقات الشافعية، جـ 4، ص 304.
(4)
"إنما": كذا في الأصل والمثبت من وفيات الأعيان، جـ 5، ص 174.
الإربلي
(1)
الشاعر وهو: محمد بن يوسف بن محمد بن قائد، الملقب موفق الدين الإربلي الشاعر المشهور، وكان إماما مقدمًا في علم العربية، ومن أعلم الناس بالعروض وأحذقهم بنقد الشعر وأعرفهم بجيده من رديئه. واشتغل بعلوم الأوائل، وحل كتاب إقليدس، وهو شيخ أبي البركات ابن المستوفي صاحب "تاريخ إربل"، أقام بشهرزُور مدة ثم رحل إلى دمشق، ومدح السلطان صلاح الدين، رحمه الله، ذكر النويري وغير وفاته في هذه السنة، وكان أبوه محمد تاجرًا يتردد إلى البحرين
(2)
لتحصيل اللآلي من المغاصات.
(1)
انظر ترجمته في وفيات الأعيان، جـ 5، ص 9 - ص 12.
(2)
البحرين: اسم جامع لبلاد على ساحل بحر الهند، بين البصرة وعمان، قيل هي قصبة هَجَر، وقيل هَجَر قصبة البحرين. انظر: معجم البلدان، جـ 2، ص 506 - 507.
فصل فيما وقع من الحوادث في السنة السادسة والثمانين بعد الخمسمائة
استهلت هذه السنة والخليفة هو الناصر لدين الله، السلطان صلاح الدين مقيم بعسكره بمنزلة الخروبة، وكل من الملك العادل والملك الأفضل والملك المظفر في خيمته المضروبة، وعكا محصورة، وجموع الفرنج على
(1)
حصارها محشورة، وهلك من الفرنج المحاصرين في الوقائع خلق كثير لأن القتال لم ينقطع والتواقع لم يرتفع.
ذكر وقعة الرمل
(2)
كان السلطان صلاح الدين رحمه الله يركب أحيانا للصيد، ولكن لا يبعد من المخيّم، وركب يوما في صفر على عادته، فتصيد وطال له الصيد فأبعد. واليزك على الرمل وساحل البحر من الميسرة، على حذرهم واحتياطهم، فإذا الفرنج خرجوا في عدد لا يحصى وقت العصر، فتسامع المسلمون بهم فزحفوا إليهم، وحملوا عليهم، وطردوهم إلى خيامهم من خلفهم وأمامهم. ولم يزل بينهم حملة وردة ورمية حتى فنى النشاب، فلما علم الفرنج بذلك حملوا حملة واحدة ردوا بها المسلمين إلى النهر، فثبت من العادلية [80] في وجوه القوم صف مرصوص البنيان، فوقع بينهم قتال عظيم، واستشهد جماعة من الشجعان، وذلك لأنهم ردّوا الفرنج إليهم فلقوا فرسانا، وصرعوا شجعانا
(3)
"، ونزلوا واشتغلوا بالغنيمة، فحملت الفرنج عليهم حملة منكرة فأشغفتهم عن الوثوب والانتهاض، وأظلم الليل، وافترق الفريقان عن قتلى، وكان ممن استشهد من المسلمين الحاجب أيدغمش المجدي رحمه الله ومملوك للسلطان كان يدعي أرغش وكان خيرًا صالحًا. ومن عجائب هذه الوقعة أن مملوكًا للسلطان يسمي سراسنقر كان من الأبطال المشهورين، عثر به جواده فصار راجلًا، فقبض عليه من أسرة وسحبه من شعره، وجاء آخر وسَلَّ سيفه عليه ليضربه، فضرب يد قابض شعره فسيّبه. واشتدّ يعدو وهم يعدون وراءه ليقتلوه، وفاتهم بعون الله تعالى
(4)
.
(1)
"الى" في الفتح القسي، ص 356.
(2)
عن وقعة الرملة انظر: الفتح القسى، ص 357 - 358؛ النوادر السلطانية، ص 116؛ الكامل، جـ 10، ص 191؛ ابن واصل: مفرج الكروب، ج 2، ص 311 - 312؛ الروضتين، جـ 2، ص 151 - 152.
(3)
"قلعوا فرسانا وصرعوا أقرانا" في الفتح القسى، ص 357؛ الروضتين، ج 2، ص 152.
(4)
ينقل العيني هذه الحادثة بتصرف عن الفتح القسى، ص 357 - 358؛ النوادر، ص 117.
ذكر فتح شقيف أرنون
(1)
وفي يوم الأحد خامس عشر ربيع الأول تَسَلَّم صلاح الدين بالأمان شقيف أرنون، وكان الحصار مستمرًا عليه من السنة الماضية، وكان السلطان حَبس صاحبها أرناط في دمشق على ما فصلناه. فلما تسلَّم السلطان شقيف أرنون أفرج عن أرناط، وصار إلى صور وكان هذا من أدهى الإفرنج، وأخبرهم بأيام الناس، وربما قرأ في كتب الحديث وتفسير القرآن، ومع هذا كان غليظ الجلد كافر القلب، قبحه الله.
وفي النوادر
(2)
: لما كان التاريخ المذكور علم الفرنج المستحفظون بالشقيف أنه لا عاصم لهم من أمر الله، وأنهم [إن]
(2)
أخذوا عنوة [ضُربت رقابهم]
(2)
، [فطلبوا]
(3)
الأمان. وكانوا علموا من حال صاحبهم أنه قد عُذِّب أشد العذاب، فاستقرت القاعدة على أن [الشقيف يُسلَّم]
(4)
، [و]
(4)
يطلق صاحبهم وجميع من فيه من الفرنج، ويترك ما فيه من أنواع المال والذخائر، فآمنهم السلطان على ذلك، وسَلَّموا الشقيف، وعاد صاحبهم والفرنج الذين كانوا به إلى صور.
ذكر حال عكا وكيفية الوصول إليها
كان السلطان قد قوّى عكا بتسيير الغلات والأقوات إليها، وملأها بالذخائر والأسلحة. ثم انقضى الشتاء، وانفتح البحر، وحان زمان القتال، كتب السلطان إلى العساكر يستدعيهم من الأطراف، ولما تواصل أوائل العساكر وقوى جيش الإسلام، رحل السلطان رحمه الله نحو العدو فنزل بتل كيسان، وذلك في الثامن عشر من ربيع الأول من هذه السنة، ورتب عساكره
(5)
.
وكان خبر البلد قد انقطع من السلطان وامتنع عليه دخول البلد والمدد، فعند ذلك انتدب العوّامون بالسباحة، وكانوا يحملون نفقات الأجناد على أوساطهم، ويخاطرون
(1)
عن فتح شقيف أرنون انظر: الفتح، ص 359؛ النوادر، ص 117 - 118؛ الروضتين، ج 2، ص 152؛ البداية والنهاية، ج 12، ص 357.
(2)
ما بين الحاصرتين إضافة من النوادر، ص 117. حيث ينقل العينى عنه.
(3)
"طلبوا" في الأصل. والمثبت من النوادر السلطانية، ص 117.
(4)
ما بين الحاصرتين مثبت من النوادر السلطانية، ص 117.
(5)
نقل العيني هذا الخبر بتصرف عن الفتح القسي، ص 360؛ النوادر، ص 118.
بأنفسهم، ويحملون كتبًا وطيورًا، ويعودون بكتب وطيور. وكان أهل عكا يكتبون إلى السلطان ويكتب السلطان إليهم على أجنحة الحمام. وتعرف الأحوال بذلك
(1)
.
وقال ابن كثير
(2)
: فلما انحسر الشتاء، وانكسر البرد، وانتشى الربيع، أمر السلطان باجتماع العساكر، وكانوا قد تفرقوا فتوافوا، فكان أول من وصل الملك المجاهد [81] أسد الدين شيركوه
(3)
بن محمد بن شيركوه صاحب حمص والرحبة، وسابق الدين عثمان
(4)
صاحب شيزر، وعز الدين إبراهيم [بن المقدم]
(5)
. ووفد معهم جموع من الأجناد والأعيان وحشود من العرب والتركمان. ثم رحل السلطان ونزل على تل كيسان في التاريخ المذكور، وترتبوا في النزول ميمنة وميسرة وقلبًا، وكان الملك الأفضل في أول الميمنة، وأخوه الملك الظافر
(6)
في أول الميسرة.
ذكر وصول رسول الخليفة
لما كان يوم الاثنين السادس عشر من ربيع الأول من هذه السنة وصل رسول من بغداد من عند الخليفة الناصر، وهو الشريف فخر الدين نقيب مشهد باب التين ببغداد، وذلك في جواب رسالته مع ضياء الدين الشهرزوري، وأرسل الخليفة معه أحمالا من النفط والرماح الخطية ومعه نفاطة متقنون لهذه الصناعة غاية الإتقان، ومرسوم بعشرين ألف دينار وذلك في رفقة من الديوان العزيز يتضمن الإذن للسلطان في أن يقترض عشرين ألف دينار، ينفقها في الجهاد، ويحيل بها على الديوان العزيز، فقبل السلطان جميع ما وصل مع الرسول، واستعفي عن الرقعة. وفي المرآة
(7)
: ومع الرسول توقيع بعشرين ألف دينار تقترض من التجار على الخليفة، فشق على السلطان وقال: أنا في يوم واحد أخرج
(1)
نقل العيني هذا الخبر بتصرف عن الفتح القسي، ص 360.
(2)
البداية والنهاية، جـ 12، ص 357.
(3)
هو: شيركوه بن محمد بن شيركوه صاحب حمص، أعطاه صلاح الدين حمص بعد وفاة والده محمد بن شيركوه سنة 581 هـ. فأقام بها وحفظ المسلمين من الفرنج وخونة العرب. ومات بها سنة 637 هـ. انظر: وفيات الأعيان، ج 2، ص 480 - 481.
(4)
هو الأمير عثمان بن الداية، صاحب شيزر وقلعة جعبر، وتل باشر.
(5)
ما بين الحاصرتين إضافة من الفتح القسى، ص 362.
(6)
هو: خضر بن صلاح الدين الأيوبي، ولد بالقاهرة سنة 568 هـ وتوفي بحران 627 هـ. انظر: وفيات الأعيان، جـ 6، ص 204 - ص 206.
(7)
مرآة الزمان، جـ 8، ص 257.
مثل هذا وأضعافه وما أنا مضرور، ورد عليه جميع ما جاء به، فأشار عليه بعض أصحابه بأخذ النفط للغزاة، فأخذه ورد التوقيع وقال: يرحم الله العاضد وصل إليَّ منه في عشرين يوم بمقام الفرنج على دمياط ألف ألف دينار ومثلها عروض.
ذكر وصول الأمراء
وفي يوم الثلاثاء [ثاني عشرين]
(1)
من ربيع الآخر قدم عماد الدين زنكي بن مودود بن زنكي، صاحب سنجار بمن استنهضه من العساكر في جمع عظيم، ولقبه السلطان وأكرمه غاية الإكرام، ورتب له العسكر في لقائه، فكان أول من لقيه من العسكر المنصور قضاته وكتابه، ثم لقيه أولاده بعد ذلك، ثم لقيه السلطان، ثم سار به حتى أوقفه على العدو، ثم عاد معه إلى خيمته، وأنزله عنده، وكان صنع له سماطا لأتعابه، فحضر هو وجميع أصحابه، وكان قد بالغ في إكرامه حتى بسط له طراحة مستقلة إلى جانبه، وبسط له ثوبا أطلس عند دخوله، ثم ضربت له خيمته على طرف الميسرة عند جانب النهر. وقدَّم إليه عشرة من الخيول العربية، وخمسة عشر بقجة قماش، ثم وصل من بعده ابن أخيه معز الدين سنجر شاه بن غازي بن مودود صاحب الجزيرة بعساكره الكثيرة، وذلك يوم الأربعاء سابع جمادي [الأول]
(2)
. ولقيه السلطان وأكرمه وأنزله في خيمة ضرّبت له إلى جانب عمه عماد الدين.
ثم وصل الملك السعيد علاء الدين خرمّ شاه ابن صاحب الموصل عز الدين مسعود ابن مودود، وذلك يوم الجمعة تاسع جمادى الأولى. وكان أبوه أرسله نائبًا عنه مقدما على عسكره، ففرح السلطان بقدومه، وتلقاه من بُعد، وأنزله عنده في خيمة ضُربت له بين خيام ولديه الملك الأفضل والملك الظاهر، وقدّم له تحفًا سنية
(3)
.
وكان ابنه الملك الظاهر غازي صاحب حلب، والملك مظفر الدين بن علي كوجك صاحب حران، قدما قبل احتراق الأبراج التي صنعتها الإفرنج.
(1)
"الثاني عشرة" كذا في الأصل والمثبت من النوادر السلطانية ص 121؛ الروضتين، جـ 2، ص 153.
(2)
"الأخرى" كذا في الأصل والمثبت من النوادر السلطانية، ص 121؛ الفتح القسى، ص 381؛ الروضتين، جـ 2، ص 153.
(3)
الفتح القسى، ص 381 - 382؛ النوادر السلطانية، ص 122.
وقضيتها أن البحر لما انفتح تواترت الإفرنج والنصارى من كل جزيرة، ينصرون أصحابهم، ويمدوّنهم بالقوة والميرة، وعملت الإفرنج ثلاثة أبرجة من خشب وحديد، عليها جلود مسقاة [82] بالخل والخمر، لئلا يعمل فيها النفط والنار، وطموا خندق عكا، وسحبوا الأبراج على العجل إلى السور، فأقبلت أمثال الجبال فأشرفت على البلد، وفي كل برج خمسمائة مقاتل، فأيس المسلمون من البلد وقد حيل بينهم وبين السلطان، وركب السلطان والعساكر واجتهدوا في الوصول إلى البلد فلم يقدروا ورماهم الزراقون الذين في البلد بالنفط فلم يحترق منها شيء
(1)
. فأهم أمرها المسلمين وكانوا عليها حنقين، فأعمل السلطان حيلهُ وفكره في إحراقها وإهلاكها فاستحضر النفاطين ووعدهم الأموال الجزيلة، فانتدب شاب نحاس من دمشق يعرف بعلي [ابن]
(2)
عريف
(3)
النحاسين، والتزم بإحراقها وإهلاكها، فأخذ النفط الأبيض وخلط إليه أدوية عرفها، وغلاه في ثلاثة قدور من النحاس حتى صار نارا تأجج، ورمي كل برج منها بقدر من تلك القدور بالمنجنيق من داخل عكا، فأحرق الأبراج الثلاثة -بإذن الله تعالى- حتى صارت نارًا لها ألسنة في الجو متصاعدة، فصرخ المسلمون صرخة واحدة بالتهليل والتكبير، واحترق في كل برج من مقاتليهم سبعون
(4)
كفورا. {وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا}
(5)
وذلك يوم الاثنين [الثاني] والعشرين من ربيع الأول من هذه السنة
(6)
. وكانت الفرنج قد تعبوا فيها سبعة أشهر، فاحترقت في يوم واحد.
وفي المرآة
(7)
: وكان هذا الشاب بعكا ليس له في الديوان اسم، وكان عارفا بالنفط والحريق، وقال لقراقوش انصب لي منجنيقًا فأنا أحرق هذه الأبراج. وقال له: قد عجز الصُناع فمن أنت؟ فقال: انظروا [لقد عملت قدور الله تعالى]
(8)
وأنا وما أريد منكم
(1)
نقل العينى هذا النص عن مرآة الزمان، ج 8، ص 257؛ الفتح القسى، ص 370 - 372؛ زبدة الحلب، ج 3، ص 117؛ مفرج الكروب، ج 2، ص 315 - 316.
(2)
ما بين الحاصرتين إضافة من الفتح القسى، ص 370.
(3)
العريف: هو: النقيب، وهو دون الرئيس.
(4)
"سبعين" كذا في الأصل.
(5)
سورة: الفرقان الآية: رقم 26.
(6)
تفصيل هذا الخبر في الفتح القسي، ص 370 - 375، انظر أيضًا البداية والنهاية، ج 12، ص 357 - ص 358.
(7)
مرآة الزمان، جـ 8، ص 257.
(8)
ما بين الحاصرتين إضافة من المرآة لسياق الكلام، ج 8، ص 257.
شيء، وما يضركم أن أرمي بها في سبيل الله، فإن نفعت وإلا فاحسبني واحدًا منهم. فقال قراقوش: ما يضرنا ذلك، ثم نصب له المنجنيق وكان قد هيأ تلك القدور فرمي قدرة واحدة في برج فاحترق بمن فيه، ثم فعل ذلك بالثاني، والثالث، "فكبر المسلمون وسمع السلطان وكبروا العساكر"
(1)
وفرح قراقوش والأمراء وطموه بالخلع والأموال، فلم يأخذ شيئًا وقال: أنا فعلت هذا لله تعالى ولم آخذ عليه شيئًا في الدنيا، وكان السلطان أيضًا قد عرض عليه العطية السنية فامتنع من قبولها، وقال إنما عملت هذا ابتغاء وجه الله تعالى فلا أريد منكم جزاء ولا شكورا.
ذكر وصول الأصطول من مصر
كان السلطان قد أمر بتعمير أصطول آخر من مصر، تصل فيه الميرة، والذخيرة والعدد الكثيرة. فلما كان ظهر يوم الخميس ثامن جمادى الأول، ظهر الأصطول فركب السلطان في جحافله ليشغل الفرنج عن قتال الأصطول، وعمّر الفرنج أيضًا أصطولا، وصفّ شوانيه على البحر عرضا وطولا، وأرادوا أن يلاقوا الأصطول المنصور، فجاءت مراكب الموحدين ونطحت مراكبهم وطحنتها، وأخذ المسلمون لهم مركب وأخذ الإفرنج للمسلمين مركبا وكان التقصير من الرؤساء. واتصل الحرب في البرّ إلى حين غروب الشمس، وعاد المسلمون مسرورين وقتل من الإفرنج عدد كثير لعنهم الله.
وقال القاضي بهاء الدين
(2)
[83] رحمه الله: التقى الأصطولان في البحر والعسكران في البرّ، واضطرمت نار الحرب، وباع كل فريق روحه براحته الأخروية، ورجح حياته الأبدية على حياته الدنياوية، وجرى بين الأصطولين قتال شديد، انقشع عن نصرة الأصطول الإسلامي وأخذ منه شيني، وقتل من فيه ونهب جميع ما فيه وظفر [من]
(3)
العدو أيضا بمركب كان واصلا من قسطنطينية، ودخل الأصطول [المنصور]
(4)
إلى عكا واتصل القتال بين العسكرين من خارج البلد إلى أن حجز بينهما الليل، وقد قتلوا من الإفرنج خلقًا كثيرا؛ لأنهم قاتلوا في ثلاثة مواضع في البحر والبر من داخل عكا.
(1)
عن تفاصيل هذه الأبراج انظر مرآة الزمان، ج 8، ص 257 - 258؛ الكامل، ج 10، ص 192 - 193.
(2)
النوادر السلطانية، ص 122 - 123؛ الفتح القسى، ص 385: الروضتين جـ 2، ص 154؛ البداية والنهاية، جـ 12، ص 336؛ مفرج الكروب، جـ 2، ص 317.
(3)
ما بين الحاصرتين مثبت من النوادر السلطانية، ص 122.
(4)
"المصري" كذا في الأصل والمثبت من النوادر، ص 122؛ الروضتين، ص 154.
ذكر قصة ملك الألمان
صح الخبر أن ملك الألمان عبر من قسطنطينية الخليج، وأنه وصل بجمعه إلى مضايق صعب عليه العبور، فقيل إنهم أقاموا في قفار ومواضع صعبة شهرا، عدموا فيها الطعام ولم يجدوا بها إلا ضُرًا، وكان التركمان الأوجية
(1)
على طريقهم يمنعون من تشريقهم، فاضطروا إلى المقام بغير زاد، فصاروا يذبحون خيولهم ويأكلونها، ويكسرون قنطارياتهم لفقدان الحطب ويشعلونها، فترجلت منهم ألوف، وكان ذلك في البرد الشديد وزمان الثلج والجليد، وعدموا دواب لحمل الأثقال، ونقل عُدد الرجال فدفنوا من ذلك شيئا كثيرا، وأحرقوا منها، وكان ظنهم أنهم إذا عادوا أخذوا ما دفنوه، فأخذ المسلمون ما دفنوه وكانوا في عدد كثير، فما أثر فيهم ذلك ولا صدهم عن مقصدهم، وما زالو يسيرون حتى بلغوا إلى بلاد صاحب الروم قُونية وغيرها. وهو قليج أرسلان بن مسعود بن قليج أرسلان بن قتلمش بن سلجوق
(2)
.
وفي المرآة
(3)
: وكانوا في ستمائة ألف مقاتل جاءوا من إفرنجة، فخاف منهم ملك القسطنطينية، فقالوا له لا تخف نحن ما جينا إلا لنخلص القدس وصليب الصلبوت ونهلك بلاد المسلمين
(4)
.
وكان بين السلطان صلاح الدين وبين ملك قسطنطينية مراسلة ومكاتبة، وكان وصل منه رسول إلى السلطان بمرج عيون في رجب سنة خمس وثمانين وخمسمائة، في جواب رسول كان أنفذه السلطان إليه بعد تقرير القواعد وإقامة قانون الخطبة في جامع في قسطنطينية، وكانت الخطبة أقيمت وأكرم الرسول إكرامًا زائدًا، وكان السلطان قد أنفذ مع الرسول خطيبًا ومنبرًا وجمعا من المؤذنين والقراء، وكان يوم دخولهم القسطنطينية يوما عظيمًا، ولما رقى الخطيب المنبر، حضر هناك جمع كثير من التجار والمسلمين المقيمين بها، وأقام الخطيب الدعوة العباسيّة، وبعد ذلك كله جاء رسول صاحب القسطنطينية
(1)
التركمان الأُوجيُّة أو الأوج: صنف من الأتراك الخزلجية فيما وراء سيحون يسكنون قرية صغيرة، انظر معجم البلدان، جـ 1، ص 397.
(2)
نقل العينى هذا النص بتصرف من النوادر السلطانية ص 123 - ص 124؛ الفتح القسى ص 389؛ الكامل، جـ 10، ص 193 - 194؛ الروضتين، جـ 2، ص 154 - ص 155؛ مفرج الكروب، جـ 2، ص 318.
(3)
مرآة الزمان، جـ 8، ص 258.
(4)
انظر النوادر السلطانية، ص 132 - 133.
الذي ذكرناه الآن، ومعه ترجمان يترجم [عنه] وهو شيخ [84] حسّن الوجه وعليه زيّهم الذي يختص بهم، ومعه كتاب مختوم بالذهب، دون عرض كتاب بغداد، مترجمًا في ظاهره وباطنه بسطرين، بينهما فرجة
(1)
، وضع فيها الختم من الذهب المطبوع كما يطبع الخاتم في الشمع، وعلى الختم صورة الملك وصورة السطرين المذكورين:"من إيثاكيوس الملك المؤمن بالمسيح الإله المتوج من الله المنصور العالى أبدا، أقعقوس المدبر من الله القاهر الذي لا يغلب، ضابط الروم بذاته أنكليوس إلى النسيب سلطان مصر صلاح الدين".
وأما الذي في باطن الكتاب، فإنه كان يتضمن إظهار المحبة والمودة، ثم ذكر خبر ملك الألمان وقال:"لا تحمل على قلبك منهم، فإن إدبارهم على قدر نيتهم وآرائهم. وأنهم قد خسروا كثيرا من الأموال والدواب والرجال، وبلغوا بالشدة وقد تخلصوا من أيدي أجناد بلادي بالغضب، وقد ضعفوا بحيث أنهم لا يصلون إلى بلادك، وإن وصلوا كانوا ضعافًا في شدة بعد شدة". وأكرم السلطان رسوله، وأقام بحقه كما هو العادة بين الملوك
(2)
.
ووصل أيضا كتاب إلى السلطان من مقدم الأرمن، وهو صاحب قلعة الروم التي على طرف الفرات. وصورته: "الكتاب الداعي المخلص [الكاغيكوس]
(3)
: مما أطالع به علوم مولانا ومالكنا السلطان الناصر جامع كلمة الإيمان، رافع علم العدل والإحسان، صلاح الدنيا والدين، سلطان الإسلام والمسلمين، أدام الله إقباله، وضاعف جلاله، وصان مهجته وكماله، وبلغه نهاية آماله بعظمته وجلاله:[من]
(4)
أمر ملك الألمان فإنه دخل بلاد الهنكر
(5)
غضبًا، وأذعن له ملك الهنكز، ودخل تحت طاعته، وأخذ من ماله ورجاله ما اختار، ثم إنه دخل أرض مقدم الروم، وفتح البلاد ونهبها، وأقام بها وأجلاها، وأحوج ملك الروم إلى أن أطاعه وأخذ رهائنه، ولده وأخاه وأربعين نفرًا من خلصانه وأخذ
(1)
الفرجة: الخلل بين الشيئين. والفرجة بضم الفاء، الخصاصة بين الشيئين، انظر: ابن منظور: لسان العرب، جـ 3، ص 165، ص 166 مادة "فرج".
(2)
انظر النوادر السلطانية، ص 132 - ص 133.
(3)
"الكاغيوس" كذا في الأصل والمثبت من النوادر السلطانية، ص 124؛ الروضتين جـ 2، ص 155.
(4)
"ما" كذا في الأصل والمثبت بين الحاصرتين من النوادر السلطانية، ص 124.
(5)
بلاد الهنكر: هي بلاد هنغريا أو المجر الحالية؛ مفرج الكروب، جـ 2، ص 320، حاشية 3.
منه خمسين قنطارا ذهبا، وخمسين قنطارًا فضة، وثيابًا طُلسًا مبلها عظيما، واغتصب المراكب وعاد بها إلى هذا الجانب، وصحبته الرهائن إلى أن دخل حدود بلاد الملك قليج أرسلان، ورد الرهائن، وبقى سائرًا ثلاثة أيام وتركمان الأوج يلقونه بالأغنام والأبقار والخيل والبضائع، فداخلهم الطمع، وجمعوا من جميع البلاد، ووقع بينهم وبين التركمان، وضايقهم التركمان ثلاثة وثلاثين يوما، ثم ذكر ما وقع بينه وبين قليج أرسلان على ما نذكره إن شاء الله تعالى
(1)
.
ذكر ما جرى بينهم وبين قليج أرسلان
ولما وصلوا إلى بلاد قليج أرسلان وكان محكومًا عليه من ولده قطب الدين ملكشاه، وهو يدبر أمره، عارضهم وتعرض لقتالهم وطاردهم ليضيق عليهم، ثم اندفع من بين أيديهم ودخلوا قونية واعتصم قليج أرسلان بقلعتها، وتراسل هو وملك الألمان، [85] واتفقا بالمواثيق والأيمان على أن يُوافقه على العبور إلى الأقاليم الشامية والبلاد الإسلامية، وعلى أن يسير من بلاده إلى بلاد لافون ملك الأرمن، وأعطاه عشرين مقدمًا من أكابر أمرائه ليكونوا معه حتى يصل إلى الماء، وأمر الناس بمبايعتهم على ما يسومونه، وأقام لهم الأسواق فساروا في رفق ورفاهية، ولما وصل الملعون إلى بلاد الأرمن غدر بالرهائن وساقهم محمولين مع الظعائن
(2)
، واحتج عليهم بأن التركمان سرقوا منهم في طريقه
(3)
.
وفي تاريخ بيبرس: ولما قربوا من قونية خرج إليهم قطب الدين ملكشاه بن قليج أرسلان ليمنعهم، فلم يمكنه ذلك لكثرتهم، فراسله ملك الألمان فأرسل إليه هدية وهادنه وطلب منه من يسير معه إلى بيت المقدس، ثم سار إلى بلاد الأرمن
(4)
. وفي المرآة
(5)
: ولما دخلوا بلاد قليج أرسلان لم يكن لديهم طاقة، فاحتاج إلى مسالمتهم وكتب إلى السلطان يعتذر بالعجز عنهم، وساروا طالبين الشام ووقع فيهم الوباء وندوابهم.
(1)
النوادر السلطانية، ص 124 - ص 125؛ الروضتين، جـ 2، ص 155.
(2)
الظعائن: جمع ظعينة وهي الراحلة يرتحل عليها، والهودج. انظر: المعجم الوسيط.
(3)
النوادر السلطانية ص 125 - ص 126؛ مفرج الكروب، جـ 2، ص 320؛ الروضتين، جـ 2، ص 155.
(4)
الكامل، جـ 10، ص 194 - 195؛ نهاية الأرب، جـ 28، ص 423.
(5)
مرآة الزمان، جـ 8، ص 258.
وذكر في النوادر
(1)
: ولما قربوا من قونية جمع قطب الدين بن قليج أرسلان العساكر وقصده وضرب معه مصافًا عظيمًا، فظفر به الملك
(2)
وكسره كسرة عظيمة، وسار حتى أشرف على قونية، فخرج إليه جموع كثيرة من المسلمين، فردهم مكسورين وهجم قونية بالسيف، وقتل منهم عالما عظيما من المسلمين، وأقام بها خمسة أيام، فطلب منه قليج أرسلان الأمان، فأمّنه واستقرت بينهم قاعدة أكيدة، وأخذ منه [رهائن]
(3)
، عشرين من أكابر دولته. وأشار على الملك أن يجعل طريقه على طرسوس والمصيصة، ففعل ذلك وقبل منه
(4)
.
ذكر وصول ملك الألمان إلى بلاد الأرمن
وصل إلى الأرمن وملكها يومئذ لافون بن اصطفان بن ليفون
(5)
فأظهر له الطاعة، ومشى في خدمته إلى أن قرب من طرسوس. وفي المرآة
(6)
: ووصلوا إلى نهر طرسوس فتحصن منه ابن ليفون بقلعة من قلاعه لأنه أرمني وهم روم. قلت التوفيق بين الكلامين، إنه تحصن منه أولا، خوفًا، ثم طلب منه الأمان فأمنه، ونزل إلى خدمته وأقام بواجبه.
(7)
ذكر هلاك ملك الألمان
لما وصل ملك الألمان إلى طرسوس اجتاز هناك بنهر شديد الجرية، فدعته نفسه الخبيثة أن يسبح فيه، فنزله وصار فيه، فحمله الماء إلى جذم شجرة هناك، ففشخت
(8)
رأسه، وأخذت أنفاسه وراحت روحه إلى الهاوية، وأراح الله المسلمين منه، وكان شيخًا مسنًا.
(1)
النوادر السلطانية، ص 125.
(2)
يقصد به ملك الألمان.
(3)
ما بين الحاصرتين إضافة من ابن شداد لاستقامة النص. انظر النوادر السلطانية، ص 125.
(4)
النوادر السلطانية، ص 125.
(5)
ليفون بن اصطفان بن ليفون: هو ليو الثاني بن ستيفان بن ليو الأول. انظر رنسمان، تاريخ الحروب الصليبية، ص 238 - ص 839، ترجمة السيد الباز العريني.
(6)
النوادر السلطانية، ص 123.
(7)
ورد هذا النص بتصرف في مرآة الزمان جـ 8، ص 258.
(8)
ورد هذا الحدث بتصرف في النوادر السلطانية، ص 123؛ البداية والنهاية، جـ 12، ص 336؛ مفرج الكروب، جـ 2، ص 319.
وفي تاريخ بيبرس
(1)
: ثم سار إلى أنطاكية، وكان في طريقهم نهر فنزلوا عنده، فعبر الملك النهر ليغتسل، فمرض فمات وكفى الله شره [86].
وفي المرآة: أراد الملك أن يسبح في نهر طرسوس وكان ماؤه باردا، فنهره وقالوا لا تفعل، فأنت متعوب، فقال لا بدّ من ذلك، فسبح فيه، فأخذته الحمى، فأقاموا على النهر بسببه، فأوصى إلى ولده الذي كان في صحبته، ومات، فسلقوه في خلّ وحملوا
(2)
عظامه ليدفنوها في القدس. وذكر صاحب النوادر
(3)
. نزل على شط بعض الأنهار، فأكل خبزًا ونام ساعة، وانتبه، فتاقت نفسه إلى الاستحمام في الماء البارد، ففعل ذلك وخرج، وكان من أمر الله أن تحرك عليه مرض عظيم من الماء البارد فمكث أياما قلائل ومات، ولما شاهد لافون ملك الأرمن هذا، هرب وتحصّن في بعض حصونه واحتمى هناك.
ذكر إقامة ابن المَلك مقامَه
ولما هلك اللعين المذكور أقيم ولده الأصغر في الملك بعده، وقد تمزق شملهم وتفرق جمعهم
(4)
.
وفي المرآة
(5)
: ولما مات اختلفوا على ولده؛ لأنه كان له أخ أكبر منه، وكانوا يميلون إليه، فتأخر عنه أكثرهم، ودخل أنطاكية في جيش قليل. وفي تاريخ بيبرس
(6)
: وكان معهم ولده فصيروه ملكا عليهم، فاختلفوا عليه ومال بعضهم إلى أخيه، فسار فيمن بقى معه وعرض جماعته، فكانوا نيفا وأربعين ألفا، ووقع فيهم الوباء، وتخطفهم عسكر حلب وغيرهم، ثم ساروا إلى طرابلس، فلم يبق منهم سوى ألف، ثم ركبوا البحر وقصدوا عكا، ثم أجمعوا على العود إلى بلادهم في البحر، فغرق بهم المركب ولم ينج منهم أحد. وأرسل قليج أرسلان صاحب الروم يُعلم السلطان صلاح الدين بذلك، وبلغ الفرنج هلاكهـ فأشعلوا النيران حزنا عليه
(7)
.
(1)
ورد هذا النص في الكامل، جـ 10، ص 194؛ وانظر أيضًا نهاية الأرب، جـ 28، ص 424.
(2)
"جعلوا" في مرآة الزمان، جـ 8، ص 258.
(3)
النوادر السلطانية، ص 125.
(4)
ورد هذا النص بتصرف في النوادر السلطانية، ص 124، الروضتين، جـ 2، ص 155،
(5)
مراة الزمان، جـ 8، ص 258.
(6)
ورد هذا النص في الكامل، جـ 10، ص 194 - ص 195.
(7)
لمعرفة المزيد من التفاصيل عن هذا الحدث انظر: الكامل، جـ 10، ص 194 - 195.
وفي تاريخ ابن كثير
(1)
: وأما ولد ملك الألمان، فإنه مرض أياما في بلد الأرمن، وهلك أصحابه جوعا ووقع الموت في خيلهم، وحُمل الملك وهو مريض، وساروا أمامه في ثلاث نوب لكثرتهم، ومعظم رجّالتهم حاملون العَصِىَّ وركاب حمير، وهم غير عارفين بالطريق، والناسُ يلتقطونهم ويتخطفونهم، ووصلوا إلى أنطاكية، وضاق بالإبرنس صاحب أنطاكية ذرعا، فلم يجد عندهم مرعى، وطلب منه القلعة، فأخلاها له، ونقل ماله إليها، وسأله أن يجعل طريقه على حلب، فخاف وأبدى الخلاف، وقبل وصوله إلى أنطاكية فلّت جموعه وجنوده، وبليت بحشد التركمان حشوده، واجتازت الفرقة الأولى منهم على بغراس من تحت قلعتها، فخرج رجالها عليهم، على قلتهم، فأسروا منهم أكثر من مائتي أسير وقيل أنهم حسبوا، أن بغراس باقية على حالها مع الداوية، فجاؤا إليها سحرا بأحمالهم وأموالهم السنيّة، فلم يشعر وَاليها إلا بالبغال على الباب واقفة، فخرج إليها وتسلمها بغير طعن ولا ضرب، وتخلى عنها أصحابها لما عرفوا الحال، ولم يعرّجوا على حرب.
وهلك بأنطاكية الكُند الكبير [87]، مقدم العسكر، وحصل للإبرنس صاحب أنطاكية أموال كثيرة من الذخائر المودعة وغيرها، ثم سار هؤلاء الملاعين على طريق الساحل، فخرجت عليهم خيل اللاذقية وجبلة وسقتهم أنواع العذاب، فجدّوا في السير حتى وصلوا إلى طرابلس، وقد نقص نصفهم، وخاف الملك من المسير على الطريق، لما افترق جموعه، فركب البحر في عدد يسير لا يزيد على ألف، واختلط مع الإفرنج على عكا، فسقط اسمه وبطل حكمه، وكذلك شأن من يكفر بالله. وقال ابن كثير: وصل ملك الألمان في [خمسة آلاف]
(2)
مقاتل، وإن ملوك الإفرنج كلهم كرهوا قدومه عليهم، لما يخافون من سطوته وزوال دولتهم بدولته، ولم يفرح به إلا المركيس صاحب صور الذي [أنشأ]
(3)
هذه الفتنة، وأثار هذه المحنة لعنه الله، فإنه تقوى به وبكيده، وكان خبيرا
(1)
انظر البداية والنهاية، جـ 12، ص 363؛ الفتح القسي، ص 395؛ زبده الحلب؛ جـ 3، ص 115، مفرج الكروب، ص 323 ص 324.
(2)
"خمسمائة ألف" كذا في الأصل، والمثبت من البداية والنهاية جـ 12، 358؛ كما ذكر العماد في نصه "وحذرهم من شاهدهم في الطريق بخمسة عشر ألفًا، وسمعنا في حذرهم بالقليل والكثير خلقًا" انظر: الفتح القسي، ص 424.
(3)
"حرك" كذا في الأصل والمثبت من البداية والنهاية، جـ 12، ص 358 حيث ينقل عنه.
بالحروب والقتال، وقد أحدث
(1)
أشياء كثيرة من آلات الحرب، لم تخطر ببال أحد، منها أنه نصب دبابات أمثال الجبال تسير بعجل، ولها زلوم من حديد ينطح السور، فيكسر ويلثم جوانبه، فمنَّ الله العظيم بإحراقها وإتلافها وأراح الله المسلمين من
(1)
شرها.
ذكر مسير العساكر إلى أطراف البلاد التي في طريق ملك الألمان
لما تحقق السلطان صلاح الدين رحمه الله وصول ملك الألمان إلى بلاد لافون -ملك الأرمن- وقربه من البلاد الإسلامية، جمع أمراء دولته وأرباب الآراء، وشاورهم في ماذا يصنع، فاتفق الرأي على أن بعض العسكر يسير إلى البلاد المتاخمة لطريق عسكر العدو الواصل، وأن يقيم هو رحمه الله على منازلة العدو باقي العسكر المنصور. فكان أول من سار صاحب منبج، وهو ناصر الدين بن تقي الدين، ثم عز الدين بن المقدم، صاحب كفرطاب وبعرين وغيرهما، ثم مجد الدين صاحب بعلبك، ثم سابق الدين صاحب شيزر، ثم اليَارُوقية من جملة عسكر حلب، ثم عسكر حماة، وسار ولده الملك الأفضل إلى دمشق لمرض عرض له، ثم بدر الدين شحنة دمشق لمرض عرض له أيضًا، وسار بعد ذلك ولده الملك الظاهر إلى حلب لحفظ الطرق وكشف الأخبار، وسار بعد ذلك الملك المظفر لحفظ ما يليه من البلاد
(2)
، وكان آخر من سافر ليلة السبت [التاسع]
(3)
من جمادى الأخرى من سنة ست وثمانين وخمسمائة.
ولما سارت هذه العساكر خفَّتْ ميمنة السلطان، فإن معظم من سار كانوا منها. فأمر السلطان أخاه الملك العادل أن ينتقل إلى منزلة تقي الدين في طرف الميمنة، وكان عماد الدين زنكي في طرف [الميسرة]
(4)
، ووقع في العسكر مرض عظيم، فمرض مظفر الدين ابن زين الدين صاحب حران وشفي، ومرض بعده الملك الظافر ولد السلطان وشفي، ومرض خلق كثير من الأكابر وغيرهم، [88] إلا أن المرض كان سليمًا بحمد الله، وكان
(1)
البداية والنهاية، جـ 12، ص 358.
(2)
النوادر السلطانية، ص 126، الروضتين، جـ 2، ص 157.
(3)
"التاسع عشر" كذا في الأصل، والمثبت من الفتح القسى، ص 394؛ النوادر السلطانية، ص 126 - ص 127.
(4)
"الميمنة" كذا في الأصل. والمثبت من النوادر السلطانية، ص 127؛ الروضتين، جـ 2، ص 157؛ مفرج الكروب، جـ 2، ص 324.
المرض عند العدوّ أكثر وأعظم مع كونه مقرونا بموتان عظيم، وأقام السلطان رحمه الله مصابرًا على ذلك، مرابطًا للعدو.
وفي تاريخ ابن كثير
(1)
: عزم السلطان على استقبالهم بالردّ، وصدّهم عن القصر، ثم ثبت عزمه على أن يعود الذين لهم بلاد على طريق هؤلاء الملاعين، فأول من سار ناصر الدين محمد والد الملك المظفر صاحب منبج، ثم فلان وفلان على ما ذكرنا الآن. ثم رحل الملك المظفر تقي الدين لحفظ ثغر اللاذقية وجبلة، وكان هو آخر من سَار ليلة السبت التاسع من جمادى الآخرة، ورتب السلطان منازل العساكر الحاضرة على ما ذكرنا، وتقدم بهدم سُور طبرية، وهدم يافا وأرسوف وقيسارية، وهدم سُور صيدا وجُبيل
(2)
، ونقل أهلها إلى بيروت.
وفي المرآة
(3)
: وانقطعت أخبار عكا عن السلطان، فندب أقوامًا للسباحة وأعطاهم المال في أوساطهم والطيور في أعناقهم ليردوا الأخبار، فعلم بذلك الفرنج، فاحترزوا بشباك نصبوها في المينا، فإذا جاء سابح وقع فيها، فامتنع الناس. وبعث قراقوش يشكو قلة الميرة، فرتب لهم السلطان بُطسة كبيرة، وجعل فيها نصارى من أهل بيروت كانوا قد أسلموا، فقال لهم ارفعوا الصلبان على البطسة كأنكم قاصدون الفرنج، ففعلوا ذلك، فخرج إليهم الإفرنج في الشواني، فقالوا: نراكم قاصدين البلد، فقالوا: وما أخذتموه بعد؟ قالوا: لا. فقالوا: وراءنا بطسة أخرى ردوها عن البلد، فذهبوا عنهم، فردوا القلوع إلى البلد ودخلوا إلى المينا
(4)
، وكبر المسلمون وامتاروا أياما
(5)
.
ذكر الوقعة العادلية
ولما كان يوم الأربعاء العشرين من جمادى الآخرة من هذه السنة، علم عدو الله أن العساكر تفرقت في أطراف البلاد للعدو، وأن ميمنة السلطان قد خفت، أجمع رأيهم على أنهم يهجمون على طرف الميمنة بغتة. فخرجوا ظهيرة يوم الأربعاء، وامتدوا ميمنة
(1)
بالبحث ثبت أن العيني لم ينقل هذا الحديث عن ابن كثير، وإنما نقله بتصرف من الفتح القسي، ص 393 - ص 394.
(2)
جبيل: بلد مشهور في شرقي بيروت. معجم البلدان، ج 2، ص 32.
(3)
مرآة الزمان، جـ 8، ص 258؛ الفتح القسي، 393.
(4)
"الميني" في الأصل، والتصحيح من مرآة الزمان، جـ 8، ص 258.
(5)
مرآة الزمان، جـ 8، ص 258 - 259.
وميسرة وقلبا، وانبثوا في الأرض، وكانوا عددا عظيمًا، واستخفوا طرف الميمنة، وكان في طرفها مخيم الملك العادل، فلما بصر الناس بهم خرجوا من خيامهم كالأسود من أجسامها، وركب السلطان صلاح الدين رحمه الله ونادى مناديه: يآل الإسلام، وركبت الجيوش وطلبت الأطلاب، وكان السلطان أول راكب. وقال قاضي القضاة بهاء الدين: ولقد رأيته وقد ركب من خيمته وحوله نفر يسير من خواصه، والناس لم يستتم ركبوهم، وهو كالفاقدة ولدها الشاكلة، ثم ضرب الكوس، فأجابته كوسات الأمراء من أماكنها، وركب الناس.
وأما الفرنج -لعنهم الله- فإنهم سارعوا في القصد إلى الميمنة، حتى وصلوا قبل استتمام العساكر حتى وصلوا إلى مخيم الملك العادل، ودخلوا في وطاقه
(1)
، وامتدت أيديهم في السوق [89] وأطراف الخيم بالنهب والغارة، وقيل وصلوا إلى الخيمة الخاص وأخذوا من شرابخاناته
(2)
شيئا.
وأما الملك العادل فإنه لما علم بذلك، ركب وخرج من خيمته، واستركب من يليه من الميمنة، كالطواشي قايماز النجمي، ومن يجرى مجراه من أسود الإسلام، ووقف وقوف مخادع حتى يوغل بهم طمعهم في [المخيم]
(3)
، واشتغلوا بالنهب في الأقمشة والفواكه والمطاعم، فعند ذلك صاح العادل بالناس، وحمل بنفسه يقدمه ولده الكبير شمس الدين، وحمل بحملته، وهجموا على العدو هجمة الأسود على فرائسها، وأمكنهم الله منهم، ووقعت الكسرة، فعادوا يشتدون نحو خيامهم، هاربين على أعقابهم، [وسيف الله]
(4)
يلتقط الأرواح من الأشباح، ويفصل بين الأجساد والرؤوس، ويفرق بين الأبدان والنفوس. ولما بصر السلطان بذلك، نادي في الناس: يآل الإسلام وأبطال الموحدين، هذا عدو الله قد أمكن الله منه، وقد داخلهم الطمع حتى غشوا خيامكم، فكان من المبادرين إلى إجابته جماعة من مماليكه وخاصته، ثم طُلب عسكر الموصل يقدمهم علاء الدين ولد عز الدين، ثم عسكر مصر يقدمهم سنقر الحلبي،
(1)
الوطاق: لفظ معرب، وأصله بالتركية أوتاق أو أطاق أو أوتاع، ومعناها الخيمة أو مجموعة الخيام، أو العسكر أو الفرقة. انظر: Dozy: Supp. Dict. Ar.
(2)
الشرابخاناه: بيت الشراب، ويحوي مختلف أنواع الأشربة -ومنها الأدوية- التي يحتاج إليها السلطان، فضلًا عن الأواني النفيسة المصنوعة من الصيني الفاخر. القلقشندي: صبح الأعشى، ج 4، ص 10.
(3)
"الخيم" كذا في الأصل، والمثبت من النوادر السلطانية، ص 129.
(4)
"سيف الإسلام" كذا في الأصل. والمثبت من النوادر السلطانية، ص 129.
وتتابعت العساكر، وتجاوبت الأبطال، ووقف السلطان في القلب، فعند ذلك قامت الحرب على سوقها
(1)
. قال الراوى
(2)
: فلم يكن [إلا]
(3)
ساعة حتى رأينا القوم صرعي {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ}
(4)
، وامتدوا مطرحين، أولهم من خيام الملك العادل، وآخرهم عند خيامهم، وكانت المسافة بين المضربين فرسخًا، وربما زادوا على ذلك، وقتلى الإفرنج مطروحون فيها ولم ينج منهم إلا النادر.
قال قاضي القضاة بهاء الدين: ولقد خُضتُ في تلك الدماء بدابتي، فاجتهدتُ أن أعُدَّهم فما قدرت على ذلك لكثرتهم، وشاهدت فيهم امرأتين مقتولتين. وحكي لي من شاهد منهم أربع نسوة يقاتلن وأسرت منهم اثنتان. وأسر من الرجال في ذلك اليوم نفر يسير، فإن السلطان [[كان] أمر [الناس]]
(5)
أن [لا يستبقوا أحدًا]
(6)
، هذا كله في الميمنة وبعض القلب.
وأما الميسرة فما اتصل الصائح بهم إلا وقد نجز الأمر. وكانت هذه الوقعة فيما بين الظهر والعصر، وانفصلت الحرب بعد العصر، ولم يفقد من المسلمين في هذا اليوم سوى عشرة أنفس، غير معروفين. وأما أهل عكا فإنهم كانوا يشاهدون الوقعة من أعالي السور، فخرجوا إلى مخيم العدو، وجرى بينهم مقتلة عظيمة، وكانت النصرة للمسلمين، فأخذوا جمعا من النسوان والأقمشة حتى القدور وفيها الطعام. واختلف الناس في عدد القتلى منهم، فقيل: كانوا ثمانية آلاف، وقيل: سبعة آلاف.
وقال قاضي القضاة بهاء الدين: ولقد شاهدتُ منهم خمسة صفوف أولها عند خيمة العادل، وآخرها [90] عند خيامهم. ولقد رأيتُ إنسانا عاقلًا جنديا "يسعى"
(7)
بين الصفوف من القتلى ويعدهم، فقلت له: كم عددت؟ فقال: إلى هاهنا أربعة آلاف ونيفا وستين قتيلًا. وكان قد عد صفين، وهو في الصف الثالث، لكن ما مضى من الصفوف كان أكثر عددا من الباقي.
(1)
"وقامت سوق الحرب" في النوادر السلطانية، ص 130.
(2)
يقصد ابن شداد.
(3)
ما بين حاصرتين إضافة من النوادر السلطانية، ص 130.
(4)
سورة الحاقة، آية رقم 7.
(5)
ما بين الحاصرتين إضافة من النوادر السلطانية، ص 130.
(6)
في الأصل "لا يستبقى أحد"، والمثبت من النوادر، ص 130.
(7)
ما بين الحاصرتين إضافة من النوادر السلطانية، ص 131 لتوضيح المعنى.
ولما كان يوم الخميس الحادي والعشرين من جمادى الآخرة، ورد في عصره نجّاب من حلب، ومعه كتاب يتضمن أن جماعة عظيمة من العدو الشمالي، خرجوا لنهب أطراف البلاد الإسلامية، ونهض العسكر الإسلامي في حلب، وأخذوا عليهم الطريق، فلم ينج منهم أحد إلا من شاء الله عز وجل، فضربت البشائر، ولم يُر يوم أحسن منه. وجاء في بقية ليلة ذلك اليوم من اليزك قايماز الحرَّاني، وذكر أن العدو قد سأل [من جانب السلطان](2) مَنْ يصل إليهم، ليسمع منهم حديثا في سؤال الصلح، لضعفٍ حلَّ بهم، ولم يزل أعداء الله من ذلك الوقت مكسورين الجناح، منهاضين الجانب، حتى وصل إليهم كُنْد يقال له: كُنْدهِري.
ذكر وصول الكُنْدهُرِي
هذا كان ملكا من ملوك الفرنج ومن أعيانهم، وصل في البحر في مراكب عدة، ومعه من الأموال والذخائر والمير والأسلحة والرجال عدد عظيم، فقوى بوصوله جأش الإفرنج، وحدثتهم نفوسهم بكبس العسكر الإسلامي ليلًا، وكثر هذا الحديث على ألسنة المستأمنين والجواسيس. فجمع السلطان الأمراء وأرباب الرأي واستشارهم فيما يفعل، وكان آخر الرأى أنهم يوسعون الحلقة، ويتأخرون عن العدو، رجاء أن يخرجوا ويبعدوا عن خيامهم فيُمكِّن الله منهم، ووافقهم السلطان على ذلك. فرحل إلى جبل الخَروبّة بالعساكر بأسرها، وذلك في يوم الأربعاء السابع والعشرين من جمادى الآخرة من هذه السنة، وترك بقية من العسكر في تلك المنزلة كاليَزَك، مقدار ألف فارس، يتناوبون لحفظ النوبة. هذا والكتب متواصلة من عكا على أجنحة الطيور وأيدى السُّبَاح، والمراكب اللطاف تخرج ليلًا وتدخل سرقة منهم.
وكان الكندهري المذكور، قد أنفق على منجنيق كبير عظيم الشكل -على ما نقل الجواسيس والمستأمنون- ألفًا وخمسمائة دينار، وأعدَّه ليقدمه على البلد. ولما رأى المسلمون أنهم سلطوا على البلد المنجنيقات من كل جانب، وتناوبوا عليها بحيث لا يتعطل رميُها لا ليلا ولا نهارا، وذلك في أثناء رجب من هذه السنة، "وضايقوا على البلد، حركتهم النخوة الإسلامية"
(1)
. واتفقوا على أنهم يخرجون فارسهم وراجلهم على
(1)
الجملة بين الأقواس وردت في النوادر السلطانية، ص 134 كالأتي:
"ولما رأى أهل البلد ما نزل بهم من مضايقة العدو وتعلق طمعه بهم، حركتهم النخوة الإسلامية".
غرة وغفلة منهم. وكان مقدم العسكر الأسفهسلار
(1)
الكبير حسام [91] الدين أبو الهيجاء المقدم في الكرم والشجاعة، ووالي البلد وحارسه الأمير الكبير بهاء الدين قراقوش، وفتحوا الأبواب وخرجوا دفعة واحدة من كل جانب. ولم يشعر الفرنج إلا والسيف فيهم حاكم، وسهم قضاء الله فيهم نافذ. وتقدموا إلى أن ولجوا في خيامهم، ولما رأوهم كذلك ذهلوا عن المنجنيقات وحراستها، فوصلت إليها شهب الزّراقين والنفاطين، حتى اضطرمت فيها النيران، وأحرقت منها ما شيدته الأعداء في المدة الطويلة في أقرب آن. وقتل منهم في ذلك اليوم سبعون فارسا، وأسر خلق عظيم، وكان في جملة الأسرى رجل مذكور فيهم، ظفر به شخص من آحاد الناس ولم يعلم بمكانته، ولما انفصل الحرب سأل الفرنج عليه هل هو حيّ أم لا؟ فعرف الذي [هو]
(2)
عنده أنه رجل كبير، وخاف أن يُغلب عليه ويؤخذ منه، فسارع إلى قتله، فقتله، وبذل الفرنج فيه أموالًا عظيمة، ولم يزالوا يسألون ذلك حتى رموا إليهم رأسه
(3)
، فضربوا بنفوسهم الأرض، وحثوا على رؤوسهم ووجوههم التراب، ووقعت عليهم بسبب ذلك خمدة عظيمة، واستخفَّهم المسلمون بعد ذلك، فهجموا عليهم من كل جانب، ولاسيما العرب، فإنهم يدقون فيهم من كل ناحية يسرقون وينهبون ويأسرون ويقتلون، فانحلت عزيمتهم وضعفت قواهم، ولاسيما لما أحرق المسلمون ذلك المنجنيق العظيم، الذي صنعه الكندهري كما ذكرنا.
ذكر وصول البُطَسَ من مصر
كتب الأمير بهاء الدين قراقوش متولي عكا إلى السلطان في العشر الأول
(4)
من شعبان من هذه السنة، أنه لم يبق عندهم من المؤنة إلا ما يكفيهم إلى ليلة النصف، فلما وصل الكتاب إلى السلطان أسّره في نفسه، ولم يُبده لأحد خوفا من شيوع ذلك، فيبلغ إلى العدو، فيقفوا على المسلمين وتضعف القلوب. وكان قد كتب إلى أمير الأسطول بالديار المصرية ليتقدم بميرة إلى عكا، فوصلت ثلاث بُطَس ليلة النصف، فيها من الميرة ما يكفي أهل البلد طول الشتاء، وهي في صحبة الأمير لؤلؤ الحاجب، فلما
(1)
الأسفهسلار: هو مقدم العساكر. انظر: صبح الأعشى، جـ 3، ص 483، جـ 6، ص 7 - ص 8.
(2)
ما بين الحاصرتين إضافة من ابن شداد حيث ينقل العينى عنه. انظر: النوادر السلطانية، ص 134.
(3)
"جثته" في النوادر السلطانية، ص 134.
(4)
"الأوسط" في النوادر السلطانية، ص 138.
أشرفت على الناس، تقدم إليها أسطول الفرنج ليحاجز عن البلد ويُتلِف البُطَسَ، فاقتتلوا في البحر قتالا عظيما، والمسلمون في البر يبتهلون إلى الله تعالى عز وجل، والفرنج أيضا يصرخون في البر والبحر، وقد ارتفع الضجيج، فنصر الله المسلمين وسلمت مراكبهم، وطابت الريح للبُطَس فسارت، فأحرقت المراكب الإفرنجية المحيطة بالميناء
(1)
، ودخلت البلد سالمة وفرح بها أهل البلد والجيش فرحا عظيما. وكان السلطان رحمه الله قد جهز قبل هذه الثلاث بُطَسٍ المصريات بُطْسةً عظيمة من بيروت، فيها أربعمائة غرارة [92] قمح، وشيء كثير من الجبن والبصل والشحم والقديد والنُشّاب والنفط، وكانت هذه البطسة من بُطَسِ الفرنج المغنومة، وأمر من فيها من التجار أن [يتزيوا]
(2)
بزي الفرنج، حتى أنهم حلقوا لحاهم وشدّوا الزنانير، واستصحبوا معهم في البطسة شيئا من الخنازير، وقدموا بها على مراكب الفرنج، فاعتقدوا أنهم منهم، وهي سائرة كأنها السهم إذا خرج من الرميّة، فحذرهم الفرنج غائلة المِينَاء من ناحية المسلمين، فاعتذروا بأنهم مغلوبون معها، والريح قوية لا يمكنهم أن يقفوا ولا ينصرفوا، وما زالوا كذلك حتى ولجوا الميناء وأفرغوا ما كان معهم من الميرة، والحرب خُدْعة. قال صاحب النوادر
(3)
: وكان ذلك في العشر الأخير من رجب.
ذكر احتراق بُطسَة عظيمة للفرنج
كان ميناء عكا يكتنفها بُرجان، يقال لأحدهما برج الذُبّان، فاتخذ الفرنج بطسةً عظيمة لها خرطوم وفيه حركات، إذا أرادوا أن يضعوه على شيء من الأسوار أو الأبرجة، كلبوه فيصل إلى ما أرادوه، فعظم أمر هذه البطسة على المسلمين، ولم يزالوا في أمرها محتالين حتى أرسل اللهُ عليها شواظًا من نار فأحرقها وغَرّقها، وذلك أن الافرنج أعدُّوا فيها نفطا كثيرا وحطبا جزلا، وأخرى خلفها فيها حطب محض، حتى إذا أراد المسلمون المجاحفة
(4)
عن الميناء بمراكبهم، أرسلوا النفط على تلك البُطسة الحطبية، فاحترقت وهي سائرة بين طس المسلمين، فتحرقها، وبطسة أخرى لهم فيها مقاتلةٌ تحت قبو قد
(1)
"الميني" كذا في الأصل والصحيح هو المثبت.
(2)
"يتزايوا" كذا في الأصل والمثبت من النوادر، ص 135.
(3)
النوادر السلطانية، ص 135.
(4)
المجاحفة: جحف بمعنى مال. انظر المعجم الوسيط، مادة "جحف".
أحكموه فيها، فلما أرسلوا النفط على برج الذُبّان انعكس الأمر عليهم -بقدرة الرحمن- وذلك لشدة الهواء تلك الليلة، فما تعدت النار بطستهم، فاحترقت، وتعدى الحريق إلى الأخرى، فغرقت، ووصل إلى بُطسة المقاتلة، فتلفت وهلكت بمن فيها، فأشبهوا بمن سلف من الكفار
(1)
. كما قال تعالى {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ}
(2)
.
ذكرُ قصة عيسى العوَّام رحمه الله
وكان عوام قيم في العوم، يقال له عيسى، وكان يدخل إلى عكا بالكتب والنفقات على وسطه ليلا، على غرةٍ من الإفرنج، وكان يغوص ويخرج من الجانب الآخر من مراكب العدو، وكان ذات ليلة شدّ على وسطه ثلاثة أكياس، فيها ألف دينار وكُتب مشمعة للعسكر، فنزل في البحر، فجرى عليه أمر أهلكه، وأبطأ خبره عن المسلمين، وذلك لأن عادته أنه إذا دخل البلد أرسلوا طيرا يُعرف بوصوله، فلم يجئ الطير فتحققوا أنه هلك. ولما كان بعد أيام بينما الناس على طرف البحر في البلد، إذا البحر قد قذف إليهم ميتًا غريقا، فتسارعوا إليه، فأخرجوه، فوجدوه عيسى العوام، ووجدوا على وسطه الذهب [93] والكتب المشمّعة، وكان الذهب نفقة المجاهدين، فما رُؤي مَن أَدّى الأمانة في حال حياته وقدر اللهُ له أداءها بعد وفاته إلا هذا الرجل، وكان ذلك في العشر الأخير من رجب من هذه السنة
(3)
.
ذكر اشتداد الحصار على عكا
وفي ثالث رمضان من هذه السنة، اشتد الحصار من الإفرنج للبلد حتى نزلوا إلى الخندق، فبرز إليهم أهل البلد، فقتلوا منهم خلقا كثيرا، وتمكنوا من حريق الكبش الذي اتخذوه لحصار الأسوار، وسرى حريقه إلى السَفُّود
(4)
، فارتفعت له لهبة عظيمة في عنان
(1)
ورد هذا الخبر في النوادر السلطانية، ص 138 - 139 الفتح القسى، ص 419 - 420، ص 427 - 428؛ البداية والنهاية، ج 12، ص 338؛ مفرج الكروب، ج 2، ص 334.
(2)
سورة "الحشر" الآية 2.
(3)
ورد هذا النص بتصرف في النوادر السلطانية، ص 135 - ص 136؛ الفتح القسى، ص 423؛ الروضتين، جـ 2، ص 162، نسخة وادي النيل 1278 هـ.
(4)
السَفُّود: حديدة ذات شُعَب معقفة. انظر ابن منظور: لسان العرب، مادة "سفد".
السماء، ثم اجتذبه المسلمون إليهم بكلاليب من جديد في سلاسل، فحصَّلوه عندهم. وألقوا عليه الماء البارد فبرد بعد أيام، فكان فيه من الحديد مائة قنطار بالدمشقي
(1)
.
وقال العماد
(2)
الكاتب رحمه الله: وعمل الفرنج دبابةً هائلة، في رأسها شكل عظيم يقال له الكبش، وله قرنان في طول رمحين كالعمودين العظيمين الغليظين. وهذه الدبابة في هيئة الخربشت
(3)
الكبير، وقد سقفوها مع كبشها بأعمدة الحديد، ولبَّسوا رأس الكبش بعد الحديد بالنحاس. فحاصل الكلام أبطل المسلمون سعيهم في ذلك، وأحرقوها كما ذكرنا، ولله الحمد.
وفي أثناء ذلك حصل للسلطان سوء مزاج من كثرة ما يكابده من الأمور التي هي أَمرُّ من الأُجاج، فطمع العدو المخذول في الإسلام، فتجرد منهم جماعة للقتال، وثبت آخرون على الحصار، وأقبلوا في عدد كثير وعدد غزير، وكانوا صوروا القدس في ورقة عظيمة، وصوّروا فيه صورة القمامة التي إليها يحجون ويُعظمون شأنها، وفيها قبر المسيح الذي دفن فيه بعد صلبه على زعمهم الفاسد، وذلك القبر أصل حجهم وهو الذي يعتقدون نزول النور عليه في كل سنة في عيد من أعيادهم، فصوروا القبر، وصوروا عليه فرسًا عليه فارس مسلم راكب عليه وقد وطئ قبر المسيح، وقد بال الفرسُ على القبر، وأظهروا هذه الصورة وراء البحر في الأسواق والمجامع، والقسوس يحملونها رؤوسهم مكشفة وعليهم المسُوح، وينادون بالويل والثبور، فهاج بذلك خلائق لا يحصون، ولما كثروا على المسلمين، رتّب السلطان الجيش ميمنة وميسرة وقلبا وجناحين.
فلما رأى الفرنج ذلك فروا من موقف الحرب، فقتل منهم خلق كثير وجمّ غفير، ولما دخل فصل الشتاء وانشمرت مراكبُ الإفرنج عن البلد، خوفا من الهلاك؛ بسبب اغتلام البحر، سأل من في البلد من المسلمين السلطان، أن لا يخرجهم ويريحهم مما هم فيه من الحصر العظيم، والمقاتلة ليلا ونهارًا، وأن يرسل إلى البلد بدلهم، فَرقٌ لهم السلطان، وعزم على ذلك. وكانوا قريبا من عشرين ألف مسلم ما بين أمير ومأمور، فجهز
(1)
ورد هذا النص بتصرف في كل من النوادر السلطانية، ص 142؛ الروضتين، جـ 2، ص 163؛ البداية والنهاية، ص 338. والقنطار الدمشقي مائة رطل. انظر الروضتين، جـ 2، ص 163 طبعة وادي النيل.
(2)
الفتح القسى، ص 432 - ص 435.
(3)
الخربشت: بمعنى الخيمة وهي كلمة فارسية. انظر: محمد التونجي، المعجم الذهبي، ص 235.
جيشا آخر غيرهم، قالوا: ولم يكن ذلك [94] برأي جيد، ولكن ما قصد السلطان إلا خيرًا؛ لأن هؤلاء الذين يدخلون البلد جُدد الهمّ، ولهم قوة العزم، وكانوا في راحة بالنسبة إلى أولئك، ولكن أولئك كانت لهم خبرة بالبلد والقتال، وكانوا قد تمرنوا على ما هم فيه من المصابرة للأعداء برًا وبحرًا. وجهزت لهؤلاء الداخلين سبع بُطسٍ فيها ميرة تكفيهم سنة كاملة، فقدر الله تعالى أنها لما توسطت البحر واقتربت من ميناها، هاجت ريح عظيمة في البحر، فتلعبت بتلك البطس على عظمها، فاختبطت واضطربت وتصادمت، وغرقت وغرق من فيها من البحارة جميعهم وما فيها من الميرة، فدخل بسبب ذلك وهن عظيم على المسلمين، واحتدّ مرض السلطان، وازداد مرضا إلى مرضه، وكان ذلك عنوانًا على أخذ البلد، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وذلك في ذي الحجة من هذه السنة، وكان المقدم على الداخلين إلى عكا الأمير سيف الدين على بن أحمد بن المشطوب
(1)
.
وذكر صاحب
(2)
النوادر: أن دخوله كان يوم الأربعاء السادس عشر من محرم سنة سبع وثمانين وخمسمائة، وفي ذلك اليوم خرج المقدم الذي كان بها، وهو الأمير حسام الدين أبو الهيجاء وأصحابه ومَنْ كان بها من الأمراء، ودخل مع المشطوب خلق كثير من الأمراء وأعيان الناس.
ذكر بقية الحوادث في هذه السنة
منها أن في يوم الخميس السادس عشر من رمضان من هذه السنة، وصل كتاب على جناح طير من حماة، وكان قد جاء إليها من حلب، يذكر فيه أن الإبرنُس -صاحب أنطاكية- خرج بعسكره نحو القرى الإسلامية، لشن الغارة عليها، فبصرت به العساكر ونواب الملك الظاهر غازي -ولد السلطان- فكمنت الكمناء، وخرجوا عليهم، فلم يشعر الإبرنس بهم إلا والسيف قد وقع، فقُتل من عسكره خمسة وسبعون نفرًا، وأُسر خلق كثير، واستعصم هو بنفسه في موضع يسمى شيحا، حتى اندفعوا وساروا إلى بلدهم
(3)
.
(1)
ورد هذا النص بتصرف في الفتح القسي ص 458 - ص 459؛ البداية والنهاية، جـ 12، ص 356 - ص 357.
(2)
النوادر السلطانية، ص 152 - ص 153.
(3)
ود هذا النص بتصرف في النوادر السلطانية، ص 143 - 144: الفتح القسى، ص 436؛ الروضتين، جـ 2، ص 164؛ مفرج الكروب، جـ 2، ص 337.
ومنها أن في أثناء العشر الأخير
(1)
من رمضان، ألقت الريح بطستين فيهما رجال وصبيان ونساء وميرة عظيمة وغنم كثيرة، وكانوا قاصدين نحو العدو، فغنمها المسلمون، وكانوا قد ظفروا ببركوس
(2)
للمسلمين، فيه نفقة ورجال، أرادوا الدخول إلى البلد، فأخذوه، فوقع الظفر بهاتين [البطستين]
(3)
جبرًا عن ذلك.
ومنها أنه قوي عزم الإفرنج على الخروج إلى جهة المسلمين، وتغيّر مزاج السلطان بحمي صفراوية، فاقتضى الحال أن انتقلوا في عشية الاثنين تاسع رمضان من هذه السنة فنزلوا على أعلى جبل شفرعم
(4)
و رؤوس التلال، للاستعداد للشتاء، والراحة والاستراحة عن الرحل.
وفي ذلك الزمان مرض زين الدين يوسف بن زين الدين -صاحب إربل- مرضا شديدا بحُمتين مختلفتين
(5)
، وأستأذن في الرواح، فلم يؤذن [95] له، ثم استأذن في الانتقال إلى الناصرة فأذن له في ذلك، وأقام بالناصرة أيامًا وهو مريض، فاشتد به الأمر إلى ليلة الثلاثاء الثامن والعشرين
(6)
من رمضان من هذه السنة، ثم توفي إلى -رحمة الله- وعنده أخوه مظفر الدين، وحزن الناس عليه لشبابه وغربته. وأنعم السلطان على أخيه مظفر الدين ببلدة إربل، واستنزله على بلاده التي كانت في يده، وهي حران والرها وما يتبعهما من البلاد والأعمال، وضم إليه شهرزور أيضا، واستدعى الملك المظفر تقي الدين عمر ابن أخيه شاهنشاه ليكون نازلا مكانه، وأقام مظفر الدين كوكبوري بن زين الدين على بالمعسكر المنصور إلى قدوم تقي الدين، وقدم ضاحي النهار الثالث من شوال من هذه السنة، وفي صحبته مُعزّ الدين سنجرشاه بن سيف الدين غازي بن مودود
(1)
"الأوسط" في النوادر السلطانية، ص 143؛ الروضتين، جـ 2، ص 164؛ مفرج الكروب، جـ 2، ص 337.
(2)
بركوس: جمعها براكيس، وهي نوع من السفن التي كانت تستخدم في الحروب في العصور الوسطى، وهي أصغر حجما من البطسة، انظر محيط المحيط، جـ 1، ص 87؛ النوادر السلطانية، ص 143، حاشية 6؛ الروضتين، جـ 2، ص 187، ابن مماتي، قوانين الدواوين ص 340.
(3)
ما بين الحاصرتين إضافة من النوادر السلطانية، ص 144، لاستقامة النص؛ الروضتين، جـ 2، ص 164؛ مفرج الكروب جـ 2، ص 337.
(4)
شفرعم: قرية كبيرة بينها وبين عكا بساحل الشام ثلاثة أميال وكان بها منزل صلاح الدين يوسف بن أيوب، انظر: معجم البلدان، جـ 3، ص 304، ص 305.
(5)
"مختلفتي الأوقات" كذا في النوادر السلطانية، ص 144.
(6)
"الثامن عشر" في النوادر السلطانية، ص 144؛ الكامل، جـ 10، ص 199.
ابن زنكي صاحب الجزيرة
(1)
إذ ذاك. ثم تكرر سؤال معز الدين هذا في طلب الدستور، والسلطان يعتذر إليه بأن رسل العدو متكررة في معنى الصلح، فلا يجوز أن تنقض العساكر حتى يتبين على ماذا ينفصل الحال من سلم أو حرب، وهو لا يألو جهدا في طلب الدستور إلى أن كان يوم عيد الفطر من هذه السنة، وحضر سحرة ذاك اليوم في باب خيمة السلطان، فاستأذن في الدخول، فلم يؤذن له، وكرر الاستئذان، فأذن له، فدخل، واستأذن في الرواح شفاها، فذكر له السلطان وجوها تمنع من الرواح، فانكب على يده وقبلها كالمودع له ونهض من ساعته وسار، وأمر أصحابه أن أكفئوا القدور وفيها الطعام، وأقلعوا الخيام، وتبعوه على ذلك، فلما بلغ السلطان ذلك، كتب إليه: إنك قد قصدت الانتماء إلىَّ ابتداءً، وراجعتني في ذلك مرارًا، وأظهرت الخيفة على نفسك وبلدك من أهلك، فقبلتك وآويتك ونصرتك، فبسطت يدك في أموال الناس ودمائهم وأعراضهم، فنفذت إليك ونهيتك عن ذلك مرارا، فلم تنته، فاتفق وقوع هذه الواقعة للإسلام، فدعوناك، فأتيت بعسكر قد عرفته وعرفه الناس، وأقمت هذه المدة وقلقت هذا القلق، وانصرفت عن غير طيب نفس، وغير فصل حال مع العدو، فانظر لنفسك وانظر
(2)
- من تنتمي إليه غيرى، احفظ نفسك ممن يقصدك فما بقى لي إلى جانبك التفات وسَلَّم الكتاب إلى نجاب، فلحقه قريبًا من طبرية، فقرأ الكتاب ولم يلتفت إليه، وسار على وجهه.
وكان الملك المظفر تقي الدين قد استدعي إلى الغزاة -كما ذكرنا الآن- فلقيه في عقبة فيق، وهو مُحِثُّ وليست عليه أمارات حسنة، وسأله عن حاله، ففهم من كلامه أنه سار والسلطان غير راض عليه، فقال له: "المصلحة أن ترجع
(3)
[96] إلى الخدمة وتلازمها إلى أن يأذن لك السلطان، فأنت صبيّ لا تعلم عائلة هذا الأمر، فلم يلتفت إليه، وأصر على الرواح، فخشن عليه الملك المظفر وقال:"ترجع من غير اختيار". وكان تقي الدين شديد البأس، مقداما على الأمور، فلما علم معز الدين أنه قابضه إن لم يرجع
(1)
الجزيرة يقصد بها جزيرة ابن عمر.
(2)
"أبصر"كذا في النوادر السلطانية، ص 145.
(3)
ورد هذا النص بتصرف في الفتح القسى، ص 439؛ النوادر السلطانية، ص 140 - ص 146؛ مفرج الكروب، جـ 2، ص 340 - ص 341؛ الروضتين، جـ 2، ص 165.
باختياره، رجع معه حتى أتى العسكر، وخرج الملك العادل إلى لقاء الملك المظفر، فدخلا على السلطان، وسألاه الصفح عنه، فعفى عنه، وطلب أن يقيم في جوار تقي الدين، خشية على نفسه، فأذن له في ذلك وأقام في جواره إلى حين ذهابه.
وكذلك عماد الدين صاحب سنجار كان قد أصر على الرحيل، ودخل على السلطان فقبل يده، وسار من ساعته، فكتب السلطان وراءه كتابا وكتب بيده في ظهره:
"من ضاع مثلي من يديـ
…
ــــــــــــه فليت شعري ما استفادا"
فوقف عماد الدين عليه، وانقطعت مراجعته بالكلية.
ومنها أنه تواصلت الأخبار بضعف العدو المخذول، ووقع الغلاء في بلادهم وعسكرهم، حتى أن الغرارة من القمح بلغت في أنطاكية ستة وتسعين دينارا صورية، ولا يزيدهم ذلك إلا صبرا وإصرارا وعنادا.
ومنها أنهم لما ضاق بهم الأمر وعظم الغلاء، خرج منهم خلق عظيم مستأمنين من شدة الجوع
(1)
، وقد ذكرنا أن السلطان كان قد عرض له مرض فطمعوا بذلك، وظنوا أنه لا يستطيع النهوض، فخرجوا يوم الاثنين الحادي عشر من شوال من هذه السنة، بخيلهم ورجلهم متحملين أزوادًا وخيما، وكان خروجهم إلى الآبار التي استحدثها المسلمون تحت تل العجول
(2)
لما كانوا نازلين عليه، فأخذوا معهم عليق أربعة أيام، فأخبر السلطان بخروجهم على هذا الوجه، فأمر اليزك أن ينزاحوا من بين أيديهم إلى تل كيسان، وكان اليزك على تل العياضية، وكان نزول العدو على الآبار بعد صلاة العصر من اليوم المذكور، وباتوا تلك الليلة واليزك حولهم جميع الليل، فلما طلع الصبح جاء من أخبره السلطان رحمه الله بأنهم قد تحركوا للركوب، وكان رحمه الله قد أمر الثقل في أول الليل أن يسيروا إلى الناصرة والقيمون
(3)
، فرحل الثقل وبقى الناس، وأمر العساكر أن يركبوا ميمنة وميسرة وقلبا تعبئة للقتال، وركب السلطان وصاح الجاووش بالناس، فركبوا
(1)
انظر تفاصيل هذا الحدث في النوادر السلطانية، ص 146 - 147؛ الروضتين، ج 2، ص 165.
(2)
"تل العجل" كذا في الأصل. والمثبت من الكامل، جـ 10، ص 479؛ ابن العديم: زبدة الحلب، جـ 3، ص 202، حاشية 5، حيث ذكر أن تل العجول واقع بين عكا والعائلية.
(3)
القيمون: حصن قرب الرملة من أعمال فلسطين. معجم البلدان، ج 4، ص 218.
وساروا حتى وقف بتل من جبال الخروبة، وابتدأت الميمنة بالمسير فساروا حتى بلغ آخرها الجبل، وسارت الميسرة حتى بلغ آخرها إلى النهر وقرب البحر
(1)
.
وكان في الميمنة ولده الملك الأفضل صاحب دمشق، وولده الملك الظاهر غازي صاحب حلب، وولده الملك الظافر صاحب بصري، وولد عز الدين صاحب الموصل، علاء الدين خرم شاه، ثم الملك العادل أخوه في طرفها، ويليه قريب منه حسام الدين بن لاچين، والطواشي قايماز النجمي، وعز الدين جُرديك النوري [97]، وحسام الدين بشارة صاحب "بانياس"
(2)
، وبدر الدين دُلْدَروم -صاحب تل باشر- اليارُوقي، وجمع كثير من الأمراء، وكان في الميسرة عماد الدين زنكي صاحب سنجار، وابن أخيه مُعز الدين صاحب الجزيرة، وفي طرفها الملك المظفر تقي الدين ابن أخيه، وسيف الدين على بن المشطوب وجميع المهرانية، والهكارية، وخُشْتَرين وغيرهم من الأمراء الأكراد، وفي القلب الحلقة السلطانية. وأمر السلطان أن يخرج من كل عسكر جمع من الجاليش، ليدوروا حول العدو واليزك معهم، وأخفى بعض الأطلاب وراء التلال عساهم يجدون غرة من العدو، ولم يزل عدو الله يسير والناس يقاتلونهم من جميع جوانبهم. ولم يزالوا سائرين حتى نزلوا على تل هناك، وضربوا خيامهم ممتدة منه إلى النهر، وجرح منهم في ذلك اليوم خلق عظيم، وقتل أيضا خلق، وكانوا إذا جرح واحد منهم حملوه، وإذا قتل واحد منهم دفنوه وهم سائرون، حتى لا يظهر قتيل ولا جريح.
وكان نزولهم يوم الثلاثاء بعد الظهر، وتراجعت العساكر عنهم إلى مواطن المصابرة ومواقف الحراسة، وتقدم السلطان إلى الميسرة أن تستدير بهم بحيث يقع آخرهم على البحر، والميمنة تستدير بالنهر من الجانب الشرقي، والجاليش يقاتلونهم ويرمونهم بالنشاب، بحيث لا ينقطع النشاب عنهم أصلا. وبات الناس تلك الليلة على هذا المثال. وسار السلطان إلى رأس جبل الخروبة الذي كان نازلا عليها في العام الماضي، فنزل في خيمة لطيفة والناس حوله في خيم لطاف بمرأى [من]
(3)
العدو، وأخبارهم تتواصل إليه في كل ساعة إلى الصبح.
(1)
يتفق وصف العيني للميمنة والميسرة مع العماد في الفتح القسي، ص 447. أما ابن شداد في النوادر السلطانية، ص 147، فيذكر "أن الميسرة آخرها الجبل، والميمنة آخرها النهر وقريب البحر".
(2)
"نابلس" في الأصل. والمثبت من النوادر السلطانية، ص 147؛ الفتح القسي، ص 442.
(3)
ما بين الحاصرتين إضافة من النوادر السلطانية، ص 148.
ولما كان الصبح يوم الأربعاء وصل من خَبَّرهم أنهم تحركوا للركوب عند الصبح، فركب السلطان وذلك في صبيحة يوم الأربعاء الثالث عشر من شوال، ورتب الأطلاب وسار حتى أتي أقرب جبال الخروبة إليهم، بحيث يشاهد جميع أحوالهم، وكان السلطان رحمه الله ملتاث
(1)
المزاج، ضعيف القوة، قوى القلب. ثم بعث إلى العساكر وأمرهم بالمقاتلة والمضايقة والحملة عليهم من كل جانب، وأمر الأطلاب أن تحتاط بهم بحيث أن لا تكون قريبة ولا بعيدة، ليكونوا ردًا للمقاتلة إلى أن تضاحي النهار. وسار العدو على شاطئ النهر من الجانب الغربي يطلبون جهة خيمهم، والقتال يشتد عليهم من كل جانب، فاشتدوا في قتالهم من سائر الجوانب إلا من جانب النهر، والتحم القتال، فصرع منهم خلق عظيم، وهو يدفنون قتلاهم ويحملون جرحاهم، وقد جعلوا راجلهم سورًا لهم، فضرب الناس بالزنبورك
(2)
والنشاب حتى لا يتركون أحدا يصل إليهم، وخيالتهم [98] يسيرون في وسطهم، بحيث لم يظهر منهم أحد في ذلك اليوم أصلا، والكوسات تخفق، والبوقات تنعر، والأصوات بالتهليل والتكبير [ترتفع]
(3)
، هذا والسلطان يمد الجاليش بالأطلاب والعساكر التي عنده، حتى لم يبق معه إلا نفر يسير، وَعَلَمُ الفرنج مرتفع على عجلة هو مغروس فيها، وهي تسحب بالبغال، وهم يَذبون عن العَلَمِ، وهو عال جدًا كالمنارة، خرقته بياض مُلمّع بحمرة على شكل الصلبان، ولم يزالوا سائرين على هذا الوجه حتى وصلوا وقت الظهيرة إلى قبالة جسر دَعّوق، وقد ألجمهم العطش، وأخذ منهم التعب وأثخنتهم الجراح، واشتد بهم الأمر. ولقد قاتل المسلمون في ذلك اليوم قتالا شديدا، وأعطوا الجهاد حقه، وهجموا عليهم هجوما عظيما، واستداروا بهم كالحلقة، وهم لا يظهرون من رجالتهم، ولا يحملون، وجُرح في ذلك اليوم جماعة منهم إيَاز الطويل، رحمه الله، وجرح جراحات متعددة، وهو من فرسان الإسلام وشجعانه، ولم يزل الناس حولهم في ذلك اليوم حتى نزلوا ظهيرة ذلك النهار عند جسر دَعوق، وقطعوا الجسر وأخربوه، خوفا من عبور الناس إليهم، ورجع السلطان إلى تل الخروبة، وأقام عليهم يزكًا يحرسهم، وبات وأخبارهم تتواتر عليه حتى الصباح، وعزم في
(1)
ملتاث: الالتياث، الاختلاط والالتفاف. انظر ابن منظور، لسان العرب، ج 3، ص 8 - 9. مادة "ليث".
(2)
الزنبورك: جمعها زنبوركات. لعلها السهام أو نوع منها.
(3)
ما بين الحاصرتين إضافة من النوادر السلطانية، ص 149 حيث ينقل العيني عنه.
تلك الليلة على كبس بقيتهم في الخيم، وكتب إلى البلد -أعني عكا- يعرّفهم بذلك حتى يخرجوا هم من جانب، وعسكر السلطان من جانب، فلم يصل من أهل البلد كتاب، فرجع عن ذلك العزم بسبب تأخير الكتاب.
ولما كان صباح الخميس رابع عشر شهر شوال، وصل من أخبر أن العدو في الحركة للرحيل، فركب السلطان وطلّب الأطلاب، وكفّ الناس عن القتال خشية أن يغتالوا، وأوقف الأطلاب في الجانب الشرقي من النهر يسيرون قبالة العدو. وكان ممن جرح من مُقَدّميهم في هذه السرية الكُنْدُهْرِي، والمركيس، وتخلّف ابنُ ملكِ الألمان في الخيم مع جمع كثير منهم، ولما دخل العدو إلى خيمهم كان لهم بها أطلاب مستريحة، فخرجت على اليزك الإسلامي وحملت عليهم، وانتشب القتال بين اليزك وبينهم، وجرى فيه قتال عظيم قتل فيه من العدو وجُرح خلق عظيم، وقتل من المسلمين ثلاثة نفر، وقتل منهم شخص كبير فيهم مقدّم عندهم، وكان على حصان عظيم ملبس بالزرد إلى حافره، وكان عليه لُبْس لم يُر مثله، وطلبوه من السلطان بعد انفصال الحرب فدفع إليهم جثته، وطلب رأسه فلم يُوجد. وعاد السلطان إلى مخيّمة، وأعيد الثقل إلى مكانه، وعاد كل قوم إلى منزلتهم.
ولما كان [99] يوم الجمعة الثاني والعشرين من شوال من هذه السنة، رأى السلطان أن يضع للعدو كمينا، فأخرج جمعا من كماة العسكر وشجعانهم وأبطالهم، وأمرهم أن يسيروا في الليل ويكمنوا في سفح تل شمالي عكا بعيدًا من عسكر العدو، وأمرهم أن يظهر منهم نفر يسير، ويقصدونهم في خيمهم حتى إذا خرجوا انهزموا بين يديهم نحو الكمين، ففعلوا ذلك، وساروا حتى أتوا التل المذكور ليلا، فكمنوا تحته، ولما علا نهار السبت الثالث والعشرين من شوال، خرج منهم نفر يسير على خيل جياد، وساروا حتى أتوا مخيّم العدو ورموهم بالنشاب، فانتحى منهم مقدار مائتي فارس، وخرجوا إليهم شاكين في السلاح على خيل جياد، بعُدّة تامة وليس معهم راجل واحد، وداخلهم الطمع فيهم لقلتهم فانهزموا بين أيديهم، وهم يقاتلونهم حتى أتوا موضع الكمين، فخرج عليهم أبطال الموحدين، وصاحوا فيهم صيحة رجل واحد، وهجموا عليهم هجوم الأُسْد على فريستها، فثبتوا وصبروا وقاتلوا قتالا شديدا، ثم ولوا منهزمين، فمكّن الله
المسلمين منهم، ووقعوا فيهم ضربًا بالسيف حتى هلك منهم جمع عظيم، واستسلم الباقون للأسر فأسروهم، وأخذوا خيلهم وعُدَدهم. وجاء البشير إلى السلطان، فارتفعت الأصوات بالتهليل والتكبير، وركب [السلطان]
(1)
لملاقاتهم.
قال قاضي القضاة بهاء الدين
(2)
: وكنت في خدمته حتى أتي تل كيسان، واعتبر الأسارى، وكان فيهم مقدم عسكر الإفرنسيس، وخازن الملك أيضا، ثم نزل السلطان في مخيمة فرحا مسرورا، وأمر مناديا فنادى:"ألا من كان عنده أسير فليحضر به"، فأحضر الناس أسراهم، وأكرم المقدمين منهم، وأليس مقدم عسكر الإفرنسيس فروة خاصًا، وأمر لكل واحد من الباقين بفروة خرجية، فإن البرد كان شديدًا وكانوا عرايا موتي من البرد، وأحضر لهم طعاما فأكلوه، وأمر لهم بخيمة نصبت قريبا من خيمته، وكان يكارمهم في كل وقت ويحضر المقدم على الخوان في بعض الأوقات، ثم أمر بتقييدهم وحملهم إلى دمشق، وأذن لهم أن يُراسلوا أصحابهم، وأن يُحضروا لهم من عسكرهم ما يحتاجون إليه من الثياب وغيرها، ففعلوا ذلك وساروا إلى دمشق وحُبسوا هناك.
ومنها أن في اليوم السابع من ذي الحجة من هذه السنة سقطت قطعة من سور عكا، وهي قطعة عظيمة. وفي النوادر
(3)
: كان ذلك ليلة السبت السابع من ذي الحجة، فوقعت بثقلها على الباشورة
(4)
فهدمت أيضا منها قطعة عظيمة، فداخل العدو الطمع، وجاؤا إلى البلد كقطعة الليل المدلهم من كل جانب، فقام أهل البلد [100] بهمم عالية فقتلوا منهم جماعة، وجرحوا خلقا عظيما حتى آيسوا من أن ينالوا شيئا من البلد، ووقف المسلمون في موضع القطع كالسَّد، وجمعوا جميع مَنْ في البلد من البنائين والصناع، ووضعوهم في ذلك المكان وحموهم بالنشاب والجُروخ
(5)
والمناجيق، فما مرت إلا ليال يسيرة حتى فرغوا من بنائها بأحسن مما كان.
(1)
ما بين الحاصرتين مثبت من النوادر السلطانية، ص 151.
(2)
نقل العينى هذا النص بتصرف من النوادر السلطانية، ص 151.
(3)
ورد هذا الحدث في النوادر، ص 153؛ الروضتين ج 2، ص 181.
(4)
الباشورة جمع بواشير - الحائط الظاهري من الحصن يختفي وراءه الجند عند القتال. النوادر السلطانية، ص 153 حاشية 3.
(5)
الجروخ جمع جرخ، وهي آلة حادة حربية تستعمل لرمي السهام والنفوط والحجارة، ويقال لمستخدمها من الجند "جرخي" انظر المقريزي: السلوك، جـ 1، ص 1003، حاشية 1.
ومنها أنه وقع وباء عظيم في الجيشين، المسلمين والكافرين، وكان السلطان يقول في ذلك:
اقتلوني ومالكا
…
واقتلوا مالكا معي
ومنها أن في شهر ذي الحجة قدم القاضي الفاضل من الديار المصرية على السلطان، وكان قد طال شوق كل منهما إلى صاحبه، فأفضى كل واحد منهما إلى الآخر ما كان يُسره ويكتمه من الآراء التي فيها مصالح المسلمين. وقدم وزير الصدق على السلطان الموفق قدس الله روحهما.
ومنها أن في يوم الاثنين الثاني والعشرين من ذي الحجة عاد المستأمنون من الفرنج الذين أنهضهم السلطان في براكيس، ليغزوا في البحر ويكونوا أيضا جواسيس للمسلمين، فرجعوا وقد غنموا، وذكروا أنهم وقعوا بحراقة كبيرة ومعها براكيس وفيها تجار معهم أموال لا تحصى، فأسروا التجار وأخذوا الأموال وجذبوها إلى الساحل، فأنعم السلطان عليهم بهذه الأكساب، فلما رأوا ذلك من السلطان أسلم أكثرهم، وكانوا قد أحضروا برسم الهدية مائدة فضة عظيمة، وعليها مكية بقيمة غالية، ومعها طبق يماثلها في الوزن، وكل فضتها قاربت قنطارا، فقال السلطان: خذوها فأنتم بها أولى
(1)
.
وقال صاحب النوادر: وكان قد استأمن من الفرنج خلق عظيم أخرجهم الجوع إلينا، وقالوا للسلطان:"نحن نخوض البحر في براكيس، ونكسب من العدو، فيكون المكسب بيننا وبين المسلمين" فأذن لهم في ذلك، وأعطاهم برا كيس، فساروا، ثم ذكر البقية مثل ما ذكرنا. قلت: البراكيس جمع بركُوس، وهو المركب الصغير
(2)
.
ومنها أن في الرابع والعشرين من ذي الحجة أخذ من الفرنج بَركُوسان فيهما نيف وخمسون نفرا. وفي الخامس والعشرين منه أخذ أيضا بركوس، وأخذ فيها من الفرنج مقدمون ورؤوس وهم نيف وعشرون، منهم أربعة خيالة، ومعهم ملوطة مكللة باللؤلؤ بأزرار من الجواهر قيل أنها من ثياب ملك الألمان، وأسر فيها رجل كبير قيل أنه [ابن اخته]
(3)
وهو كبير الشأن.
(1)
ورد هذا النص بتصرف في الفتح القسى، ص 460 - ص 461.
(2)
ورد هذا النص بتعرف في النوادر السلطانية، ص 154.
(3)
"اخيه" كذا في الأصل والتصحيح من الفتح القسى، ص 461؛ النوادر السلطانية، ص 154.
ومنها أنه لما هجم الشتاء، وهاج البحر، آمنت أهل عكا من أن يبالغ في الحصار، وذلك من شدة الأمطار وتواترها، فعند ذلك أذن السلطان رحمه الله للعساكر الإسلامية في العود إلى بلادهم، ليستريحوا ويُريحوا خيولهم إلى وقت العمل، فكان أول من سار عماد الدين صاحب سنجار، لما كان عنده من القلق في طلب الدستور، وكان مسيره يوم الاثنين الخامس عشر من شوال، وسار عقيبه في ذلك اليوم ابن أخيه سنجر شاه [101] صاحب الجزيرة، وذلك بعد أن أفيض عليهما من التشريف والأنعام والتحف بما لم ينعم بها على غيرهما.
وسار علاء الدين ابن صاحب الموصل في مستهل ذي القعدة من هذه السنة
(1)
مشرّفا مكرما، معه التحف والطرائف. وتأخر من العساكر الملك المظفر تقي الدين إلى أن دخلت سنة سبع وثمانين، وتأخر أيضا ولد السلطان الملك الظاهر غازي صاحب حلب، إلى أن سار إلى حلب ضاحي نهار الأربعاء تاسع المحرم في السنة الآتية، وسار الملك المظفر في ثالث صفر من السنة الآتية، وهي سنة سبع وثمانين.
ثم اشتغل السلطان بإدخال البدل في البلد
(2)
، وأخرج من كان بها من الأمراء الذين طال شكواهم إلى السلطان من طول الحصار، وملازمة القتال ليلا ونهارا، وأمر السلطان بإدخال المير والذخائر والنفقات والعدد إليها، وكان المقدم بها يومئذ الأمير حسام الدين أبو الهيجاء، فخرج هو وأصحابه ومن كان بها من الأمراء، وكان مقدم الداخلين من الأمراء الأمير سيف الدين على [بن]
(3)
المشطوب، وكان دخولهم في يوم الأربعاء السادس عشر من المحرم من السنة الآتية، وأخذ كل أمير معه ميرة سنة كاملة. وانتقل الملك العادل بعسكره إلى حَيْفا على شاطئ النهر، وهو الموضع الذي تحمل منه المراكب وتدخل إلى البلد وإذا خرجت تخرج إليه، فأقام ثمة يحث الناس على الدخول ويحرس المير والذخائر، لئلا يتطرق إليها من العدو من يتعرض لها، وكان مما دخل إليها سبع بُطس مملوءة ميرةً وذخائر ونفقات، كانت وصلت من مصر، وكان السلطان قد عبأها في مدة مديدة، وكان دخولها يوم الاثنين الثاني من ذي الحجة من هذه السنة أعني ست وثمانين.
(1)
ورد هذا الخبر في النوادر السلطانية، ص 152 - 153.
(2)
يقصد بالبلد هنا إمارة عكا.
(3)
ما بين حاصرتين مثبت من الكامل، جـ 10، ص 199.
ولما علم العدو بذلك وهم المقاتلون من جانب البحر، اجتمعوا في خلق عظيم، وزحفوا على البلد من جانب البر زحفةً عظيمةً، وقاربوا الأسوار، وصعدوا في سلم واحد، فاندق بهم السلم، فتداركهم أهل البلد، فقتلوا منهم خلقا عظيما، وعادت بقيتهم خائبين خاسرين. وأما البطس فإن البحر هاج هيجا عظيما، فضرب بعضها ببعض على الصخر، فهلكت وهلك جميع ما كان فيها، وهلك فيها خلق كثير، قيل: كانت عدتهم ستين نفرا، وكانت فيها ميرة عظيمة لو سلمت لكانت كفت البلد سنة كاملة، ودخل على المسلمين بذلك وهن عظيم، وخزى السلطان خزيًا شديدا، وكان ذلك أول علامة أخذ البلد والظفر به.
ذكر الحوادث التي وقعت في بلاد الشرق
(1)
منها أنه كانت الحرب بين غياث الدين وسلطان شاه أخي خوارزم شاه، فإن سلطان شاه كان قد تعرض إلى بلاد غياث الدين [102] ومعز الدين ملكى الغورية، [فتجهز]
(2)
غياث الدين، وخرج من فيروزكوه
(3)
إلى خراسان، وبقي يتردد بين بلادها، فتصافا واقتتلا، فانهزم سلطان شاه، وأخذ غياث الدين بعض بلاده، وعاد إلى غزنة
(4)
.
ومنها أن عسكر الخليفة الناصر لدين الله تسلموا حديثة عانة
(5)
، بعد حصار شديد
(6)
.
ومنها أن عز الدين
(7)
صاحب الموصل حصر الجزيرة
(8)
أربعة أشهر، فاستقر الصلح على أن يكون لعز الدين نصف الجزيرة وأعمالها، ويكون لسنجر شاه نصفها
(9)
.
(1)
وردت هذه الأحداث في الكامل، انظر جـ 10، ص 200.
(2)
"فتهجر" في الأصل والمثبت من الكامل جـ 10، ص 200.
(3)
فيروزكوه أو بيروزكوه: هي قاعدة جبال الغور، وهي قلعة حصينة دار مملكة الغور، والغور بلاد بين هراة وغزنة. انظر: معجم البلدان، ج 3، ص 930؛ أبو الفدا: تقويم البلدان، ص 467.
(4)
ورد هذا الحدث بتصرف في الكامل، جـ 10، ص 200.
(5)
حديثة عانة: هي الحديثة التي تقع على الفرات تحت عانة وهي من بلاد الجزيرة. أبو الفدا: تقويم البلدان، ص 86 - ص 87.
(6)
الكامل، جـ 10، ص 200.
(7)
هو عز الدين مسعود بن مودود بن زنكي. الكامل، جـ 10، ص 202.
(8)
يقصد بالجزيرة هنا "جزيرة ابن عمر" انظر الكامل، جـ 12، ص 25، ومن الملاحظ أن هذا الحدث ذكره ابن الأثير في حوادث عام 587 هـ، وهو من المعاصرين لهذه الأحداث في الزمان والمكان.
(9)
تقل العيني هذا النص بتصرف من الكامل، جـ 10، ص 202 - ص 203.
ومنها أنه كان عبور تقي الدين الفرات وملكهـ حران وغيرها من البلاد الجزرية ومسيرة إلى خلاط وموتة. وذلك أن صلاح الدين عمه أقطعه إياها بعد أخذها من مظفر الدين، مضافا إلى ما كان بيده من الشام، وقرر معه أن يقطعه للجند ليتقوى على الإفرنج، فلما عبر الفرات سار إلى ميافارقين، وكانت له، فتجدد طمعه إلى غيرها من البلاد المجاورة لها، فقصد مدينة حاني
(1)
من ديار بكر، فحصرها وملكها، فلما سمع سيف الدين بكتمر صاحب خلاط جمع عسكره، فكانت أربعة آلاف نفس من الفرسان، فاقتتلوا، فلم تقف عسكر خلاط لتقى الدين بل انهزموا قدامه، فتبعهم، فسار إلى خلاط فحاصرها، ولم يبلغ منها غرضا، فعاد عنها وقصد منَازكرْد
(2)
، وضيق على أهلها، فمرض تقي الدين، فمات، واستقر ولده بحماة، ورجع عسكره إلى ميافارقين، وعاد بكتمر إليها، وقوى أمره وانتزح عنه ضده
(3)
.
ومنها أن في سابع المحرم منها دخل ألب أرسلان ابن السلطان طغريل إلى بغداد، وهو صبي صغير وعليه كفمن وبيده سيف مشهور كأنه يطلب عفو الخليفة، وجاء فنزل بباب النوبي وباس العتبة، فبكى أهل بغداد ورق له الخليفة وأنزله دار ابن العطار مقابل المخزن، وأكرمه وأحسن نُزله وعفى عن جرائم أبيه وما فعل بابن يونس، واستدعاه إلى باب الحجرة وخلع عليه خلعه السلطنة وطوقه بطوق من ذهب، واجتمع بولي العهد أبي نصر محمد.
ومنها أن الخليفة بني دار الفلك، ورتب فيها ابنه السيد العلوي، ويقال لها بيت الجدود.
وفيها حج بالناس من بغداد طاشتكين
(4)
.
(1)
"جاني" في الأصل والتصحيح من أبي الفدا، تقويم البلدان، ص 274، وهي مدينة من مدن ديار بكر.
(2)
مَنازكرْد أو منازجرد أو ملازجرد أو ملازكرت بلدة مشهورة بين خلاط وبلاد الروم، انظر: معجم البلدان، جـ 4، ص 648؛ تقويم البلدان، ص 394 - ص 395.
(3)
ورد هذا النص في الكامل، جـ 10، ص 203 - 204. أحداث سنة 587 هـ.
(4)
مرآة الزمان، جـ 8، ص 263.
ذكر من توفى فيها من الأعيان
قاضى القضاة محيى الدين محمد بن محمد بن عبد الله، أبو حامد قاضى القضاة بالموصل ابن قاضى القضاة كمال الدين الشهرزورى الشافعى
(1)
دخل بغداد للاشتغال فتفقه على الفقيه أبى منصور بن الرزاز وتميز، ثم أصعد إلى الشام، وولى قضاء دمشق نيابة عن والده، ثم انتقل إلى حلب وحكم بها نيابة عن أبيه أيضاً في شهر رمضان سنة خمس وخمسين وخمسمائة، وبه عزل ابن أبى جرادة المعروف بابن العديم [103]، وبعد وفاة والده انتقل إلى الموصل وتولى قضاءها، ودرس بمدرسة والده، وبالمدرسة النظامية بالموصل، وتمكن عند صاحب الموصل عز الدين مسعود بن قطب الدين مودود بن زنكى، واستولى على جميع الأمور، وتوجه من جهته رسولا إلى بغداد مرارا، وكان محيى الدين جواداً سرياً، قيل إنه أنعم في بعض رسالته إلى بغداد بعشرة آلاف دينار أميرية، على الفقهاء والأدباء والشعراء والمحاويج. ويقال إنه في مدة حكمه بالموصل لم يعتقل غريما على دينارين فما دونهما، بل كان يوفيهما عنه، ويحكى عنه مكارم كثيرة ورئاسة ضخمة، وكان من النجباء عريقا في النجابة تام الرئاسة، كريم الأخلاق رقيق الحاشية، له في الأدب مشاركة حسنة، وله أشعار جيدة، فمن ذلك ما قاله في وصف جرادة وهو تشبيه غريب:
لها فخذا بَكرٍ وسَاقا نعامةٍ
…
وقادِمتا نسَرٍ وجؤجؤ
(2)
ضَيْغمٍ
حبتها أفاعي الرمل بطناً وأنعمت
…
عليها جياد الخيل بالرأس والفمِ
(3)
وله في وصف نزول الثلج من الغيم:
ولما شاب رأس الدهر غيظاً
…
لما قاساه من فقد الكرام
أقام يُميط عنه الشيب غيظا
…
ويَنثُر ما أماط على الأنام
(4)
(1)
العماد الأصفهاني، الخريدة، جـ 2، ص 329 - ص 336؛ الذهبى، العبر، جـ 4، ص 259؛ وفيات الأعيان، جـ 4 ص 246، ص 248؛ البداية والنهاية، جـ 12، ص 341.
(2)
الجُؤْجُؤ: مجتمع رؤوس عظام الصدور، وصدر السفينة والجمع جَاجئَ. المعجم الوجيز، ص 95.
(3)
وفيات الأعيان، جـ 4، ص 246 - ص 247.
(4)
ذكر ابن خلكان بيت الشعر هكذا
أقام يميط هذا الشيب عنه
…
وينثر ما أماط على الأنام
انظر، وفيات الأعيان جـ 4، ص 247
وكانت ولادته سنة عشر وخمسمائة تقريبا، وقال العماد الكاتب في الخريدة مولده سنة تسع عشرة من شعبان وتوفى سحرة يوم الأربعاء رابع عشر جمادى الأولى سنة [ستة و]
(1)
ثمانين وخمسمائة بالموصل ودفن بداره بمحلة القلعة ثم نقل إلى مدينة الرسول عليه السلام. وذكر ابن الدُبَيْثى
(2)
في تاريخه: أنه نقل إلى تربة عملت له ظاهر البلد. وقال ابن خلكان: حققت ذلك فوجدتُه كما قال ابن الدُبيثى وتربته خارج باب الميدان، بالقرب من تربة قضيب البان صاحب الكرامات.
أبو نصر العتابى، صاحب الزيادات، أحمد بن محمد بن عُمر أبو نصر العتابى البخارى وقيل أبو القاسم الإمام العلامة الزاهد، من أكابر الحنفية الذين سار ذكرهم، وله تصانيف منها، الزيادات الكتاب المشهور، رواها عنه جماعة منهم، حافظ الدين وشمس الأئمة الكَرْدرى وغيرهما، وله جوامع الفقه أربع مجلدات، وشرح الجامع الكبير وشرح الجامع الصغير وغيرها، توفى يوم الأحد وقت الظهر ....
(3)
سنة ست وثمانين وخمسمائة ببخارى، ودفن بكلاباذ
(4)
بمقبرة القضاة السبعة، أحدهم أبو زيد الدَبُوسى. والعتابى نسبة إلى أشياء منها إلى عتَّاب بن أسيد، ومنها إلى العتابيين محلة ببغداد، ومنها إلى محلة يقال لها دار عتاب كذا قاله السمعاني]
(5)
.
مسعود بن على بن عبيد الله أبو الفضل بن نادر
(6)
الصفار الأديب الفاضل، ولد سنة خمسة عشر وخمسمائة، وبرع في الأدب وكتب خطا حسنا نحو من مائة ربعة ومصحف [104]، وأخذ اللغة عن ابن الجو اليقى وغيره، ومن شعره:
تولوا فأولوا الجسم من بعدهم ضنا
…
وحرًا شديدًا في الحشا يَتزايَد
وزاد بلائى بالذين أحبهم
…
وللناس فيما يدّعون مقاصد
وسمع قاضى المارستان وغيره وكان ثقة، توفى في المحرم ودفن بباب حرب
(7)
.
(1)
ما بين الحاصرتين سقط من الناسخ، والإضافة من وفيات الأعيان، جـ 4، ص 247.
(2)
ابن الدبيثى: هو أبو عبد محمد بن أبى المعالى سعيدى أبى طالب يحيى بن أبى الحسن على الحجاج. الفقيه الشافعى المؤرخ الواسطى، وفيات الأعيان، جـ 4، ص 394 - ص 661.
(3)
بياض في الأصل بمقدار كلمتين.
(4)
كلاباذ: محلة ببخارى. معجم البلدان، جـ 4، ص 293،
(5)
انظر وفيات الأعيان، جـ 4، ص 389.
(6)
"نادب" كذا في الأصل والتصحيح من مرآة الزمان، جـ 8، ص 260؛ النجوم، جـ 6، ص 111؛ العبر، جـ 4، ص 260.
(7)
مرآة الزمان، جـ 8، ص 260؛ النجوم، جـ 6، ص 111؛ العبر، جـ 4، ص 260؛ شذرات الذهب، جـ 4، 287.
الأمير زين الدين يوسف بن زين الدين على كُوجك بن بكتكين صاحب أربل، وهو أخو مظفر الدين بن زين الدين، كان عند السلطان صلاح الدين في هذه السنة على الخروبة، فمرض في رمضان فارتحل من الخروبة إلى الناصرة، فأقام يمرّض نفسه، وكان عنده أخوه مظفر الدين يمرضه، فيقال أنه سقاه سما فمات، وظهرت على مظفر الدين أمارات ذلك، فإنه لم يكترث لموته ولا تأسف عليه، وبلغ السلطان فحزن عليه وبكى لأنه كان صاحبه ومصافيه وشاكره وداعيه، وحزن المسلمون عليه لمكان عفته وشبابه وغربته. وقال العماد
(1)
: أتينا مظفر الدين نعزيه ظنا منا أنه قد حزن الأخ على أخيه، فكأننا جئنا نهنيه، وإذا به مشغول عن العزاء بحيازة أمواله وأسبابه والقبض على عماله وكتابه، ثم أرسل مظفر الدين إلى السلطان يطلب منه إربل وينزل عن حران والرّها، فأجابه إلى ذلك وسأله كتابا إلى صاحب إربل في هذا المعنى وأضاف إليه شهرزور وأعمالها
(2)
.
قال ابن كثير
(3)
: وارتجع ما كان بيد مظفر الدين، وهو حران والرها وشُميساط وأعطاها الملك المظفر تقى الدين عُمر زيادة على ما بيده وهو ميّافارقين، ومن الشام حماة ومَعرّة النعمان وسليمة ومنيج وقلعة نجم وجبلة واللاذقية وبلاطنس بكسرآئيل
(4)
.
الأمير سوار استشهد على عكا في هذه السنة، وكان من مماليك السلطان الخواص، وقال العماد
(5)
: استشهد على عكا سبعة من الأمراء من جملتهم سوار المذكور، وكذلك استشهد عدة من الأكراد الشجعان، وقال استشهد في اليوم التاسع من جمادى الأولى من هذه السنة القاضى المرتضى بن قريش الكاتب، وكان قاضيا بنايلس حاكما حاذقا فاضلا ورعا رحمه الله.
(1)
انظر قول العماد في أبى شامة، الروضتين، جـ 2، ص 164.
(2)
مرآة الزمان، جـ 8، ص 260 - ص 261.
(3)
ورد هذا النص بتصرف في البداية والنهاية، جـ 12، ص 361.
(4)
"بكراسك" كذا في الأصل، ويبدو أنها خطأ من الناسخ، والتصحيح من معجم البلدان، جـ 1، ص 706.
(5)
الفتح القسى، ص 463، ص 464، ولمعرفة المزيد عن وفاة القاضى المرتضى، انظر الروضتين، جـ 2، ص 182.
الأمير قزل بن ألد كز
(1)
صاحب العراق، أخو البهلوان كان قد استولى على أذربيجان وغيرها، وهو الذى حجز على طغربل السلجوقى، وكان فاسقا فاتكا، نام ليلة وهو سكران فأصبح مذبوحا، وقيل قتلته خاتون زوجته.
ملك الألمان الذى أقبل في مائتى ألف مقاتل، وقيل في ثلاثمائة ألف مقاتل كما ذكرنا، وقد أهلكه الله بالغرق كفرعون كما ذكرناه مفصلا
(2)
.
ابن ملك الألمان الذى تولى بعد هلاك أبيه على طرسوس، هلك في آخر هذه السنة لعنه الله.
وقال العماد
(3)
: هلك ابن ملك الألمان بعلة الخوف، ولعله من [عرض]
(4)
الجوف في ثانى عشر ذى الحجة من هذه السنة، وأدرك أباه في الدرك الأسفل من النار وأبصر [105] في جهنم مصائر أمثاله من الكفار، وزاد بهلاكه ألم الألمانية، وانسد بموته فرج الافرنجية، وتبعه في السفر إلى سقر كندُ كبيرٌ يقال له كُند "تيباط"
(5)
دافع القدر فما قدر. وهلك منهم بالأمراض المختلفة العدد الكثير لعنهم الله تعالى.
(1)
ومن الملاحظ أن كلاً من ابن خلكان والذهبى وابن العماد الحنبلى ذكروا وفاة قزل هذا في أوائل شعبان سنة سبع وثمانين، وفيات الأعيان جـ 5، ص 209، ترجمة رقم 255؛ العبر، جـ 4 ص 272؛ شذرات الذهب؛ جـ 4، ص 289 - ص 290.
أما العينى فقد اعتمد على سبط ابن الجوزى الذى ذكره في وفيات سنة 586 هـ انظر مرآة الزمان، جـ 8، ص 260.
(2)
البداية والنهاية، جـ 12، ص 363.
(3)
الفتح القسى، ص 460.
(4)
"مرض" كذا في الأصل والمثبت من فتح الفتح القسى، ص 460.
(5)
الفتح القسى، ص 459 - 460، الروضتين، جـ 2، ص 181 - ص 182.
فصل فيما وقع من الحوادث في السنة السابعة والثمانين بعد الخمسمائة
استهلت هذه السنة والخليفة هو الناصر لدين الله، والسلطان صلاح الدين يوسف ابن أيوب مقيم على عكا، والحصار مستمر على حاله من الجانبين، وقد استكمل دخول البدل إلى البلد، والملك العادل أخو السلطان مخيم إلى جانب البحر ليتكامل دخولهم ودخول ميرتهم.
ذكر وقعات متعددة في هذه السنة بين المسلمين والإفرنج
الأولى: وقعت في مستهل ربيع الأول منها، خرج المسلمون من عكا فهجموا على مخيم الإفرنج فقتلوا منهم خلقاً كثيراً، ونهبوا شيئاً كثيراً، وسبُوا اثنتى عشرة امرأة.
الثانية: وقعت في ثالث ربيع الأول بينهم وبين يزك السلطان. وذلك أنه خرج إليهم من الإفرنج خلق عظيم، وجرى بينهم وقعة شنيعة قتل فيها من الإفرنج جماعة، وقتل منهم رجل كبير على ما قيل، ولم يُفقد من المسلمين إلا خادم كان للسلطان، سمى قراقوش، وكان شجاعاً عظيماً له وقعات كثيرة عظيمة، استشهد في ذلك اليوم. وفى بعض التواريخ ولم يقتل من المسلمين في هذه الوقعة سوى طواشى صغير عثر به فرسُه
(1)
.
الثالثة: وقعة أسد الدين شيركوه
(2)
بن ناصر الدين محمد بن أسد الدين شيركوه الكبير، صاحب حمص. وكان من حديثه أن السلطان رحمه الله كان قد رسم له أن يأخذ حذره من الفرنج بطرابلس، ويأخذ بحراسة المسلمين والفلاحين من تلك الناحية، وأنه قيل له أن أهل طرابلس قد أخرجوا دشارهم
(3)
وخيلهم وأبقارهم إلى مرج هناك،
(1)
نقل العينى هذا الخبر بتصرف عن الفتح القسى، ص 470؛ البداية والنهاية، جـ 12، ص 364.
(2)
أسد الدين شيركوه بن ناصر الدين محمد بن أسد الدين شيركوه، توفى بحمص سنة 637 هـ، ودفن في تربته داخل البلد، انظر: وفيات الأعيان، جـ 2، ص 48.
(3)
الدشار: ويقال الجشار. وهى جشارات، وجشير، وهى الخيل والأبقار التى تساق مع الجيش، وهو أيضاً مكان رعى الماشية من خيل وغيرها. السلوك، جـ 1 ق 2، ص 490، حاشية 2؛ جـ 1 ق 3، ص 909، حاشية 1؛ Dozy: Supp. Dict. Ar.
فخرج أسد الدين على غرة منهم، وهجم على دشارهم، فأخذ منها أربع مائة رأس من الخيل، ومائة رأس من البقر، فهلك من الخيل أربعون، وسلم الباقى، وعاد إلى البلد ولم يفقد من أصحابه أحد، ولكن قتل منهم جماعة. ووصل الكتاب بذلك إلى السلطان في الرابع من صفر من هذه السنة.
وفى ليلة هذا اليوم ألقت الريح مركباً لهم على الساحل فكسرته، وكان فيه خلق كثير منهم، فبصر بهم المسلمون، فوثبوا عليهم وأخذوهم على آخرهم
(1)
.
وقال القاضى بهاء الدين
(2)
: ولقد حضرت وقد عرض منهم على السلطان خمسة عشر نفراً.
الرابعة: وقعة الملك العادل أخى السلطان. وذلك أنه بلغ السلطان يوم السبت تاسع ربيع الأول منها، أن العدو يخرجون طائفة بعد طائفة ويتفسحون لبعد المسلمين عنهم، فاقتضى رأيه أن أنفذ أخاه الملك العادل، وفى خدمته خلق كثير من العساكر، وأمره أن يكمن [للعدو]
(3)
وراء التل الذى كانت فيه [106] الوقعة المعروفة به، وسار هو فكمن وراء تل العياضية. وكان معه من كبار أهله: الملك المظفر
(4)
تقى الدين، وابنه ناصر الدين
(5)
محمد، والملك الأفضل ولده. ومعه من صغار أولاده: الملك الأشرف محمد، والملك المعظم تورانشاه
(6)
، والملك الصالح إسماعيل. وكان من المعممين
(7)
: القاضى الفاضل، والديوان، وقاضى القضاة بهاء الدين
(8)
.
(1)
النوادر السلطانية، ص 155؛ الفتح القسى، ص 469؛ الروضتين، جـ 2، ص 182 - 183.
(2)
هنا يؤكد ابن شداد على أنه شاهد عيان على هذا الحدث. انظر: النوادر السلطانية، ص 155.
(3)
ما بين الحاصرتين إضافة من ابن شداد لاستقامة النص. انظر: النوادر السلطانية، ص 155.
(4)
الملك المظفر تقى الدين عمر بن نور الدولة شاهنشاه بن أيوب صاحب حماة، ابن أخى السلطان صلاح الدين. توفى سنة 587 هـ. انظر: وفيات الأعيان، جـ 3، ص 456 - 458.
(5)
الملك المنصور ناصر الدين أبو المعالى محمد بن عمر، توفى بحماة سنة 617 هـ. انظر: وفيات الأعيان، جـ 3، ص 457.
(6)
هو الملك المعظم أبو منصور تورانشاه، فخر الدين ابن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، ولد في مصر في ربيع الأول سنة 577 هـ، ومات سنة 658 هـ. راجع ما سبق في عقد الجمان، جـ 1، ص 309 - 310.
(7)
"المتعممين" في الأصل. والتصحيح من النوادر السلطانية، ص 155.
(8)
ذكر ابن شداد أنه كان في الصحبة في ذلك اليوم. انظر النوادر السلطانية، ص 165 - 166.
وركب جماعة من الشجعان على الخيول الجياد وناوشوا العدو و باسطوه، فلم يخرج في ذلك اليوم أحد، وكأنه كان قد وشى إليهم بجلية الأمر. إلا أنه حصل في ذلك اليوم نوع نصرة للمسلمين، فإنه وصل في أثناء ذلك اليوم خمسة وأربعون نفراً من أسارى الإفرنج، فإنهم كانوا قد أسروا في بيروت وسُيّروا إلى السلطان رحمه الله.
قال قاضى القضاة بهاء الدين رحمه الله: ولقد شاهدتُ من السلطان في ذلك اليوم رقة قلب ورحمة لم يُر أعظم منها؛ وذلك أنه كان في الأسرى شيخ كبير طاعن في السن، لم يبق في فمه ضِرس، ولا له قوة إلا مقدار ما يتحرك بها لا غير، فقال للترجمان: سَلْه ما الذى حمله على المجئ وأنت في هذا السن؟ وكم من هاهنا إلى بلاده؟ فقال: أما بلادى فبينى وبينها مسيرة عدة أشهر، وأما مجيئى فإنما كان للحج إلى القمامة. فَرَقَّ له السلطان ومَنَّ عليه، وأطلقه وأعاده راكباً على فرس إلى عسكر العدو. ولقد سأل من السلطان أولاده الصغار، أن يأذن لهم من قبل في قتل الأسرى، فلم يأذن لهم. قال القاضى بهاء الدين: فسألتُه عن سبب المنع، وكنتُ حاجبهم فيما طلبوه، فقال: لأن
(1)
لا يعتادوا من الصغر سفك الدماء. ولقد جرت وقعات أخرى في هذه الأيام إلى أن أخذوا عكا من المسلمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله
(2)
.
ذكر وصول ملك الإفرنسيس
واسمه فيليب
(3)
، وكان وصوله في الثانى عشر
(4)
من ربيع الأول يوم السبت في ست بُطْشٍ ملعونة مشحونة بعبدة الصليب، وحين وصل إليهم لم يبق لأحد من ملوكهم حكم، وذلك لعظمته عندهم. وكان الإفرنج كل وقت يتواعدون المسلمين بقدومه، ولاسيما لليزك ومن يقاربهم من المسلمين، وكان هذا الملعون من كبار ملوكهم لا يتقدم عليه أحد.
(1)
"لئلا" في النوادر السلطانية، ص 156؛ الفتح القسى، ص 471.
(2)
ورد هذا النص بتصرف في النوادر السلطانية، ص 155 - 156؛ الفتح القسى، ص 470 - 471؛ الروضتين، جـ 2، ص 182 - 183.
(3)
الملك فيليب أغسطس ملك فرنسا. انظر: السيد الباز العرينى: الشرق الأوسط والحروب الصليبية، ص 922، القاهرة 1963 م.
(4)
"الثامن عشر" في الأصل والتصحيح من الفتح القسى، ص 474؛ الروضتين، جـ 2، ص 183؛ النويرى: نهاية الأرب، جـ 28، ص 430؛ البداية والنهاية، جـ 12، ص 342.
ولما قدم، كان معه من الميرة ما يحتاج إليه هو وأصحابه، وكذلك من الخيل والسلاح. وكان قد صحب معه من بلاده بازًا
(1)
عظيماً عنده، هائل الخلقة أبيض اللون، نادر الجنس، وكان يعزه ويحبه حباً عظيماً، فانفلت من يده وطار، وهو يدعوه فلا يجيب حتى سقط على سور عكَّا، فأمسكه أهلها وأرسلوه إلى السلطان رحمه الله وكان لقدومه استبشار عظيم بالظفر به، وتفاءلوا بذلك وبذل الفرنج فيه ألف دينار فلم يجابوا
(2)
.
ذكر قدوم كند فرند
(3)
قدم هذا اللعين بعد ملك الإفرنسيس [107] وهو أيضاً من أكابر ملوكهم، وكان مقدماً عظيماً عندهم مذكوراً، وكان حاصر حماة وحارم في عام الرملة
(4)
.
ثم وصلت سفن من ملك الإنكتار - لعنه الله - واسمه جبلرت، ولم يجئ هو لاشتغاله بجزيرة قبرس.
وقال العماد الكاتب: وصل الخبر أن ملك الإنكتار
(5)
وصل إلى جزيرة قبرس في السادس والعشرين من ربيع الآخر في جمع عظيم، وتقدمته إلى الجزيرة مراكب وشوانى على قصد الجزيرة، فخرج صاحب قبرس إليها واستولى عليها، وغنم أموالها، وصدم رجالها.
فلما وصل مكث متحيرا واشتغل بالقتال، وأنفذ إلى الإفرنج الذين على عكا يطلب منهم نجدة، فأنفذوا له جفرى -أخا الملك العتيق
(6)
- في جموع كثيرة، وامتدت
(1)
الباز: جمع أبواز نوع من الصقور، ينتمى إلى الفصيلة الصقرية، وله مهارة فائقة في الصيد. انظر: المعجم الوسيط، ص 79.
(2)
انظر: النوادر السلطانية، ص 156 - 157؛ الفتح القسى، ص 474 - 475؛ الروضتين، جـ 2، ص 183؛ النويرى: نهاية الأرب، جـ 28، ص 430؛ البداية والنهاية، جـ 12، ص 342.
(3)
"كند فرير" في النوادر السلطانية، 157؛ الروضتين، جـ 2، ص 183.
(4)
كانت وقعة الرملة عام 573 هـ.
(5)
الإنكتير في الفتح القسى، ص 477، وملك الإنكتير ليجرت هو Richard قلب الأسد ملك انكلترا ابن هنرى الثامن، وقد تم الصلح بينه وبين صلاح الدين سنة 1189 م بعد مراسلات عدة. انظر: رانسمان، تاريخ الحروب الصليبية، جـ 3، ص 89 وما بعدها.
(6)
الملك العتيق هو: "كى" كما جاء في كتب المؤرخين العرب وهو Guy of Lusignan king of Jerusalem وقد أسره صلاح الدين يوم حطين وفك أسره بعد أن أقسم أن لا يحاربه. الفتح القسى، ص 477، حاشية 4.
الحروب بينهم، ثم تراسلوا في الصلح. واجتمع صاحب الجزيرة يملك الإنكتار، وحمل له هدايا وتحفاً. ووسع له الأزواد وبذل له الأمداد
(1)
.
وقال صاحب النوادر
(2)
: وكان ملك الإنكتار هذا شديد البأس بينهم، عظيم الشجاعة، قوى الهمة، له وقعات عظيمة، وجسارة على الحرب، ولكنه دون ملك الإفرنسيس في الملك والمرتبة، ولكنه أكثر مالاً منه، وأشهر في الحرب والشجاعة، وكان الفرنج على عكا منتظرين ما يكون بين الطائفتين منهم.
ولما كان يوم الأحد سلخ ربيع الآخر من هذه السنة، وصلت كتب من بيروت تخبر أنه قد أخذ من مراكب الإنكتار، القاصدة نحو عسكر العدو، خمس مراكب وطرادة، فيها خلق كثير من الرجال والنساء والميرة والأخشاب والآلات وغير ذلك، وفيها أربعون فرساً. وكان ذلك فتحاً عظيماً، استبشر به المسلمون.
ذكر وصول العساكر الإسلامية
لما انفتح البحر وطاب الزمان، وجاء أوان عود العساكر إلى الجهاد من الطائفتين، قدم من العساكر الإسلامية خلق كثير، فكان أول من قدم علم الدين سليمان بن جندر، من أمراء الملك الظاهر غازى
(3)
ولد السلطان صاحب حلب، وكان شيخاً كبيراً مذكوراً، له وقائع، ذو رأى حسن، والسلطان يحترمه ويكرمه لقدم صحبته. ثم قدم بعده مجد الدين بن عز الدين فروخشاه بن شاهنشاه صاحب بعلبك، وتتابعت بعد ذلك العساكر الإسلامية من كل صوب
(4)
.
ذكر زحف العدو إلى عكا
لما كان يوم الخميس الرابع من جُمادى الأولى من هذه السنة، زحف العدو إلى البلد ونصبوا عليه مناجيق سبعاً
(5)
. ووصلت كتب عكا بالاستنفار العظيم، والتماس شغل العدو عنهم.
(1)
ينقل العينى بتصرف من الفتح القسى، ص 477 - 478؛ البداية والنهاية، جـ 12، ص 364.
(2)
ينقل العيني بتصرف من النوادر السلطانية، ص 157 - 158؛ الفتح القسى، ص 478.
(3)
هو أبو الفتح غازى ابن السلطان صلاح الدين الملقب الملك الظاهر غياث الدين صاحب حلب، كانت ولادته بالقاهرة سنة 568 هـ، وتوفى بقلعة حلب سنة 613 هـ. انظر: وفيات الأعيان، جـ 4، ص 6 - 10.
(4)
ينقل العينى هذا النص بتصرف من النوادر السلطانية، ص 156.
(5)
النويرى: نهاية الأرب، جـ 28، ص 430.
فأعلم السلطان العساكر بالعزم على الرحيل إلى مضايقة العدو، فسار حتى وقف على الخروبة، ورتب العساكر ميمنة وميسرة وقلباً، ثم أنفذ من كشف حال العدو وحال خنادقهم، هل فيها كمين لهم أم لا؟ فعادوا وأخبروا بخلوها عن الكمين. فسار بنفسه ومعه نفر يسير من مماليكه حتى أتى خنادقهم، وصعد تلاً كان يعرف بتل الفضول، وهو قُريب العدو مشرف على خيامهم، وشاهد المنجنيقات وما يعمل منها وما هو بطال، ثم عاد سائرا إلى مخيمه
(1)
[108].
قال قاضى القضاة بهاء الدين: وأنا في خدمته وفى صبيحة هذه الليلة، أتاه اللصوص برضيع له ثلاثة أشهر، قد أخذوه من أمه وسرقوه
(2)
.
ذكر قضية الرضيع
وذلك أنه كان للمسلمين لصوص يدخلون إلى خيام العدو فيسرقون منهم ما قد روا عليه، وكان من قضيتهم أنهم أخذوا ذات ليلة طفلاً رضيعاً له ثلاثة أشهر، وكانوا سرقوه من مهده وعرضوه على السلطان، وكانوا كل ما يأخذونه يعرضونه عليه، فيخلع عليهم ويعطيهم ما أخذوه. ولما علمت أمه بذلك وجدت عليه وجدة شديداً، وباتت تلك الليلة مستغيثة بالويل والثبور، حتى وصل خبرها إلى ملوكهم فقالوا لها:"إن سلطان المسلمين رحيم القلب، وقد أذنا لك في الخروج إليه، فاخرجى واطلبيه منه، فإنه يرده عليك". فخرجت وهى تستغيث إلى يزك المسلمين، فأخبرتهم بواقعتها بترجمان كان يترجم عنها، فأطلقوها وأنفذوها إلى السلطان، فأتته وهو راكب على تل الخروبة.
قال قاضى القضاة بهاء الدين
(3)
: وأنا في خدمته، وفى خدمته خلق عظيم، فبكت بكاء شديدًا ومرغت وجهها في التراب، فسأل عن قصتها، فأخبروه، فرقَّ لها ودمعت عينه، وأمر بإحضار الرضيع، فمضوا فوجدوه قد بيع في السوق، فأمر بدفع ثمنه إلى
(1)
انظر: الفتح القسى، ص 478 - 479؛ الروضتين، جـ 2، ص 184.
(2)
انظر: النوادر السلطانية، ص 158.
(3)
انظر: النوادر السلطانية، ص 158 - 159؛ الفتح القسى، ص 480 - 481؛ الروضتين، جـ 2، ص 184؛ البداية والنهاية، جـ 12، ص 342.
المشترى، وأخذه منه، ولم يزل واقفاً حتى أحضر الطفل، وسلّم إليها، فأخذته وبكت بكاء شديدًا وضمته إلى صدرها، والناس ينظرون إليها ويبكون، فأرضعته ساعة. ثم أمر بها السلطان فحُملت على فرس، وألحقت بعسكرهم. فانظر إلى هذه الرحمة الشاملة والشفقة الكاملة، وانظر إلى شهادة الأعداء له بالرقة والكرم والرأفة والرحمة.
ومليحة شهدتْ لها ضرَّاتها
…
والحسن ليس لحقه من ناكرٍ
قال قاضى القضاة بهاء الدين: وفى ذلك اليوم وصل ظهير الدين بن البلنكرى، وكان مقدماً من أمراء الموصل، وصل مفارقاً لهم طالباً خدمة السلطان. ولما عاد السلطان إلى مخيمه، لم يمكث إلا ساعة حتى وصل إليه الخبر بتجديد الزحف على عكا، فعاد وركب من ساعته وسار نحو البلد، فوصل وقد انفصل الحرب بدخول الليل بين الطائفتين
(1)
.
ذكر كيفية أخذ العدو مدينة عكا من يد السلطان قسراً
لما كان صبيحة يوم الثلاثاء التاسع من جمادى الأولى، بلغ السلطان أن الإفرنج قد ضايقوا البلد، وركَّبوا عليه المناجيق، فأمر الجاووش أن يصيح بالناس، وركب وركب لركوبه العسكر فارسهم وراجلهم، وسار حتى أتى الخروبة.
وقوى اليزك بتسيير جماعة من العسكر إليهم، فلم يخرج العدوّ، واشتد زحفهم على البلد، فضايقهم السلطان مضايقة عظيمة حتى قاتلهم قتالاً شديدًا. وهجم عليهم في خنادقهم، ولم يزل كذلك حتى عادوا عن الزحف ظهيرة نهار [109] الثلاثاء المذكور. وعاد السلطان إلى خيمة لطيفة ضربت له هناك يستظل بها من الشمس، فنزل لصلاة الظهر والاستراحة ساعة، وقوّىَ اليزك، وأمر الناس بالعود إلى المخيم لأخذ شيء من الراحة. فبينما هو كذلك إذ وصل من اليزك من أخبر أن القوم قد عادوا إلى الزحف، لما أحسوا بانصراف السلطان عنهم، أشد ما كانوا أولاً، فأمر العسكر بالعود إلى جهة العدو أطلابا أطلابا. وبات هو رحمه الله وجميع العسكر على تعبئة القتال.
(1)
ورد هذا النص بتصرف في النوادر السلطانية، ص 158 - 159.
ثم سار العسكر في أواخر ليلة الأربعاء عاشر جمادى الأولى، إلى تل العياضية قبالة العدوّ، وضربت له خيمة لطيفة، وأمر الناس أن ينزلوا على التل حوله على العادة في منازلهم العام الماضى، لكن جرائد، مع بقاء الثقل على الخروبة، ونازل العدوّ في ذلك اليوم مُجمعين على القتال الشديد على البلد من جميع جوانبه، والسلطان يدور بين الأطلاب ويحثهم على الجهاد ويرغبهم فيه.
ولما رأى العدوّ تلك المنازلة خافوا من الهجوم على خيمهم، فتراجعوا عن الزحف، واشتغلوا بحفظ الخنادق، وحراسة الخيام. ولما رأى السلطان فتورهم عن الزحف، عاد إلى خيمته في تل العياضية، ورتب على خنادقهم من يخبر بحالهم ساعة فساعة. ثم أنهم بالغوا في مضايقة البلد، ومبالغتهم في طم خندقه بالأتربة وغير ذلك، حتى بموتى دوابهم، ونصبوا المجانيق والدبابات والسلالم، وجُلَّ همتهم في طم خندق البلد، ألقوا فيه كل شيء حتى آل أمرهم أنهم كانوا يلقون فيه موتاهم، وكان إذا جرح منهم واحد جراحة مثخنة مؤيسة ألقوه فيه.
وأما أهل البلد فإنهم انقسموا أقساماً؛ قسم ينزلون إلى الخندق ويقطِّعون الموتى والدواب التى يلقونها فيه [قطعاً، ليسهل نقلها]
(1)
، وقسم ينقلون ما يقطعون إلى البحر ويلقونه فيه، وقسم يَذُبُّون عنهم ويدافعون حتى يتمكنوا من ذلك، وقسم في المنجنيقات وحراسة الأسوار، ومع هذا يداخلهم التعب والنصب، وتكاثرت شكايتهم من ذلك، وقد ابتلوا ببلية لم يبل بمثلها أحد. هذا والسلطان رحمه الله لا يقطع الزحف عنهم، والمضايقة على خنادقهم بنفسه وخواصه وأولاده ليلاً ونهاراً، فحصلت هذه الأمور الشديدة ليلاً ونهاراً إلى أن وصل ملك الإنكتار
(2)
.
ذكر وصول ملك الإنكتار
وقد وصل هذا اللعين يوم السبت الثالث عشر من جمادى الأولى، بعد مصالحته لصاحب قبرس كما ذكرنا. وكان في جمع عظيم في خمسة وعشرين شينيا، مملوءة بالرجال والسلاح والعدو، وأظهر الإفرنج بقدومه سروراً عظيماً وفرحوا فرحاً شديدًا، حتى
(1)
ما بين الحاصرتين مثبت من الروضتين، جـ 2، ص 184 لتوضيح المعنى.
(2)
ورد هذا النص بتصرف في النوادر السلطانية، ص 159 - 161؛ الروضتين، جـ 2، ص 184.
أنهم أوقدوا تلك الليلة نيراناً عظيمة في خيامهم
(1)
، وبلى الثغر منه بلاء لا يشبه ما قبله فعند ذلك حركت الكوسات
(2)
في البلد، وكانت علامة بينهم وبين السلطان، فحرك السلطان أيضاً كوساته، واقترب من البلد ليشغلهم عنه، وقد أحاطوا به من كل مكان ونصبوا عليه سبع مجانيق وهى تضرب البلد [110] ليلاً ونهاراً، ولاسيما على برج من جهة البر، حتى أثرت فيه أثراً بيناً. وشرعوا في ردم الخندق، بما أمكنهم من دواب ميتة ومن قتل منهم ومن مات أيضاً. وقاتلهم أهل البلد وهم ينقلون ما ألقوا فيه إلى البحر
(3)
.
ذكر ما جرى على البطسة الإسلامية
ولما كان السادس عشر من جمادى الأولى من هذه السنة، وصلت بطسة عظيمة للمسلمين من بيروت، مشحونة بالآلات والأسلحة، والمير والرجال، والأبطال المقاتلة وكان السلطان قد أمر بتعبئتها في بيروت وتسييرها، ووضع فيها من المقاتلة خلقاً عظيماً، حتى تدخل البلد مراغمة للعدو، وكانت عدة رجالها ستمائة وخمسين
(4)
رجلاً، فاعترضها ملك الإنكتار اللعين في عدة [شوان]
(5)
. وكان الملعون واقفاً في البحر في أربعين مركباً لا يترك شيئاً يصل إلى البلد بالكلية، فاحتاطوا بتلك البطسة من جميع جوانبها، واشتدوا في قتالها.
وجرى القضاء والقدر بأن وقف الهواء، فقاتلوا قتالاً شديدًا، وقتل من العدوّ خلق عظيم، وأحرقوا من شوانيهم شينياً كبيراً فيه خلق كثير، فهلكوا عن آخرهم، وتكاثروا على أهل البطسة، وكان مقدمهم رجلاً جيداً شجاعاً مجرباً في الحرب. فلما رأى أمارات الغلبة عليهم، ورأى أنهم لابد أن يقتلوا، قال:"والله لا نُقْتَل في أيديهم ولا نموت إلا عن عز، ولا نسلم إليهم من هذه البطسة شيئاً". فوقعوا في البطسة من جوانبها
(1)
ورد هذا النص بتصرف في النوادر السلطانية، ص 161؛ الفتح القسى، 484 - 485.
(2)
الكوسات مفرد كوسه، من رسوم السلطان وآلاته، وهى صنوجات من نحاس شبه الترس الصغير، يدق بأحدها على الآخر بإيقاع مخصوص، ويتولى ذلك الكوسى. انظر: صبح الأعشى، جـ 4، ص 9، 13.
(3)
ورد هذا النص بتصرف في البداية والنهاية، جـ 12، ص 342؛ النوادر السلطانية، ص 161؛ الفتح القسى، ص 484 - 485؛ النويرى: نهاية الأرب، جـ 28، ص 431 - 432.
(4)
اختلفت المصادر في ذكر عدد رجال البطسة: "سبعمائة" في الفتح القسى، ص 486؛ الكامل، جـ 10، ص 204. "ستمائة مقاتل" في البداية والنهاية، جـ 12، ص 342.
(5)
"شوانى" في الأصل. والمثبت هو الأصح لغة، وهو كما في النوادر السلطانية، ص 161.
بالمعاول
(1)
ولم يزالوا كذلك حتى فتحوا فيها من كل جانب مثل الأبواب، فامتلأت ماءً، وغرق كل مَنْ فيها وما فيها [مِنَ]
(2)
الالآت والمير وغير ذلك. ولم يظفر العدوّ منها بشيء أصلاً، وكان اسم المقدم يعقوب، من أهل حلب.
وتلقف العدوّ بعض من كان فيها، وخلَّصوه من الغرق، ومثلوا به وأنفذوه إلى البلد، ليخبروهم بالواقعة. وحزن الناس لذلك حزناً شديدًا، فإنا لله وإنا إليه راجعون
(3)
.
ذكر حريق الدبابة الكُفْرِية
وكان من لطف الله تعالى، أنه جبر المسلمين بأن مكنهم - في اليوم الذى جرى على البطسة الإسلامية ما ذكرناه - على حريق دبابة، كان الفرنج قد اصطنعوها، وكانت هائلة عظيمة أربع طبقات: الأولى من الخشب، والثانية من الرصاص، والثالثة من الحديد، والرابعة من النحاس، وكانت مشرفة على السور وفيها المقاتلة. وقد قلق أهل البلد منها وخافوا خوفاً شديدًا، بحيث أن أنفسهم حدثتهم من خوفهم من شرها أن يطلبوا الأمان من الفرنج ويُسلموا البلد، وكانوا قد قرَّبوها من السور بحيث لم يبق بينها وبين السور إلا مقدار خمسة أذرع، على ما يشاهد برأى العين.
وأخذ أهل البلد بتواتر ضربها بالنفط ليلاً ونهاراً، حتى قدر الله حريقها واشتعال النار فيها، وظهرت لها ذؤابة نار نحو السماء، وارتفعت الأصوات بالتكبير والتهليل، ورأى [111] المسلمون ذلك جبراً لذلك الوهن، ونعمة بعد نقمة
(4)
.
ذكر عدَّة وقعات بينهم وبين المسلمين من داخل وخارج
الأولى: كانت يوم الجمعة
(5)
التاسع عشر من جمادى الأولى، فإنهم زحفوا على البلد زحفاً عظيماً، وضايقوه مضايقة شديدة، وكان قد استقر بينهم وبين المسلمين أن متى زحف العدوّ عليهم دقوا كوسهم، فضربوا كوسهم، فأجابه كُوس السلطان رحمه الله
(1)
المعاول: ومفردها مِعْول، وهو آلة من الحديد ينقر بها الصخر، انظر: المعجم الوجيز، ص 442.
(2)
ما بين الحاصرتين إضافة من النوادر السلطانية، 161 لتوضيح النص.
(3)
ينقل العينى هذا النص بتصرف من النوادر السلطانية، ص 161 - 162؛ الفتح القسى، ص 486؛ البداية والنهاية، جـ 12، ص 343.
(4)
نقل العينى هذا النص من النوادر السلطانية، ص 162؛ الفتح القسى، ص 486؛ البداية والنهاية، جـ 12، ص 343.
(5)
"يوم السبت" في الفتح القسى؛ ص 488.
- وركب العساكر، وضايقهم السلطان من خارج، وزحف عليهم حتى هجم المسلمون عليهم في خيامهم، وتجاوزوا خنادقهم، وأخذوا القدور من أثافيها
(1)
. وحضر من الغنيمة المأخوذة عند السلطان شيء.
ولم يزل القتال يعمل حتى أيقن العدوّ أنهم قد هُجم عليهم وأُخذوا، فتراجعوا عن قتال البلد، وشرعوا في قتال العسكر، وانتشب الحرب بينهم، ولم تزل حتى قام قائم الظهيرة، وغشى الناس من الحر أمرٌ عظيم من الجانبين، فتراجعت الطائفتان إلى خيامهم، وقد أخذ منهم التعب والحر، وانقضى القتال في ذلك اليوم
(2)
.
الثانية: كانت يوم الاثنين الثالث والعشرين من جمادى الأولى، فدقوا الكوس على عادتهم، فجاوبه كوس السلطان، وثار القتال بين الطائفتين، ولَجّ العدوّ في مضايقة البلد ثقةً منهم أن المسلمين لا يهجمون على خيامهم، وأنهم يهابونهم. فكذَّب العسكر ظنونهم وهجموا على الخيام أيضاً ونهبوا منها، فتراجعوا إلى قتال المسلمين، ولُحق من المسلمين جماعة عظيمة داخل خنادقهم وأسوارهم، وجرت بينهم وقعة عظيمة قتل فيها اثنان من المسلمين، وجرحت جماعة، وقتل جماعة من الإفرنج.
وقال قاضى القضاة بهاء الدين: أعجب ما في هذه الوقعة أنه كان وصل ذلك [اليوم]
(3)
رجل كبير مذكور من أهل مازندران
(4)
يريد الغزاة، فوصل والحرب قائمة، فلقى السلطان واستأذنه في الجهاد، وحمل حملة عظيمة استشهد فيها في تلك الساعة. ولما رأى الإفرنج دخول المسلمين إلى خنادقهم وتوغلهم إلى داخل أسوارهم، حركتهم الحمية، وبعثتهم النخوة، فخرجوا إلى ظاهر أسوارهم، وحملوا على المسلمين حملة الرجل الواحد فثبت المسلمون لهم ثباتاً
(5)
عظيماً، لم يتحركوا عن أماكنهم. والتحم القتال من الجانبين، وصبر المسلمون صبر الكرام، ودخلوا في الحرب بالاقتحام.
(1)
أثافيها: جمع أثفية، وهى الحجر يوضع عليها القدر. انظر: المعجم الوجيز، ص 6.
(2)
انظر: النوادر السلطانية، ص 162؛ الفتح القسى، ص 488 - 489.
(3)
ما بين الحاصرتين مثبت من النوادر السلطانية، ص 163 لاستقامة المعنى.
(4)
مَازَنْدَرَان: اسم لولاية طبرستان، وذكر ياقوت أنه اسم محدث لها وأنه لم يره مذكوراً في كتب الأوائل. انظر: معجم البلدان، جـ 5، ص 41. ط. دار صادر. بيروت.
(5)
"ثبوتًا" في النوادر السلطانية، ص 163.
ولما رأى الإفرنج صبرهم وثباتهم، أنفذوا رسولاً في غضون ذلك، فبلغ الرسول أولاً إلى الملك العادل، فأخذه وأتى به إلى خدمة السلطان ومعه الملك الأفضل أيضاً. ومضمون رسالته: أن ملك الإنكتار يطلب الاجتماع بالسلطان، فأجاب السلطان في الحال بأن الملوك لا يجتمعون إلا عن قاعدة، ولا تحسن الحرب بعد الاجتماع والمؤاكلة، وإذا أراد ذلك فلابد من تقرير قاعدة قبل هذه الحالة، بترجمان يوثق به في الوسط، فإذا استقرت القاعدة وقع الاجتماع بعد ذلك إن شاء الله تعالى وتعظم
(1)
.
[112]
الثالثة: كانت يوم السبت الثامن والعشرين من جمادى الأولى، فخرج فارسهم وراجلهم على المسلمين من جانب البحر شمالى البلد، ولما علم السلطان ذلك ركب، وركب العسكر وانتشب القتال بينهم، وقتل من المسلمين بدوىّ وكردىّ، وقتل من العدوّ جماعة وأسر آخرون
(2)
، منهم واحد بلبسه وفرسه، ومثل بين يدى السلطان، ولم يزل القتال يعمل إلى أن حجز الليل بينهم
(3)
.
الرابعة: كانت يوم الأحد التاسع والعشرين من جمادى الأولى، فخرج منهم رجالة كثيرة على شاطئ النهر الحلو، فلقيهم طائفة من اليزَك وجرى بينهم قتال عظيم، ووصلت رجالة المسلمين، والتحم الحرب فأسروا مسلماً وقتلوه وحرقوه، وأسر المسلمون منهم واحداً فقتلوه وحرقوه.
قال القاضى بهاء الدين
(4)
: ولقد رأيت النارين تشتعلان في زمان واحد. ثم مرض ملك الإنكتار مرضاً شديدًا أشفى فيه على الهلاك، وجُرح الإفرنسيس. وفارقهم المركيس وسار إلى بلده صُورَ خوفاً منهم أن يخرجوا مُلكها من يده، وبعث ملك الإنكتار إلى السلطان رحمه الله يذكر أن عنده جوارح قد جاء بها من البحر، وهو على نيّة إرسالها إليه، ولكنها قد ضعفت وهو يطلب لها دجاجاً وطيراً ليتقوى بذلك. فعرف السلطان أنه إنما يطلب ذلك لنفسه بتلطف وحيلة، فأرسل إليه بشيء كثير من ذلك، كرماً منه وسجية وحشمة. ثم أرسل يطلب فاكهة وثَلْجاً، فأرسل إليه أيضاً، فلم يُفد معه
(1)
نقل العينى هذا الحدث من النوادر السلطانية، ص 163؛ الفتح القسى، ص 490.
(2)
"وأسر وأحد بلبسه وفرسه" في النوادر السلطانية، ص 163؛ الفتح القسى، ص 493.
(3)
نقل العينى هذا النص من النوادر السلطانية، 163؛ الفتح القسى، ص 492 - 493.
(4)
لمزيد من التفاصيل عن هذا الخبر انظر: النوادر السلطانية، ص 163 - 164؛ الفتح القسى، ص 493 - 494.
الإحسان، بل لما عوفى عاد إلى شر مما كان عليه، واشتد الحصار ليلاً ونهاراً
(1)
، وأرسل مَنْ بالبلد يقولون:"إن لم تعملوا معنا شيئاً غداً، وإلا طلبنا من الإفرنج أماناً"، فشق ذلك على السلطان أمراً عظيماً، وذلك لأنه قد سَيّر إليها أسلحة الشام والديار المصرية وسائر السواحل، وما كان من غنيمة وقعة حطين، ومن بيت المقدس وهى مشحونة بذلك، فعزم السلطان على مهاجمة العدوّ. فلما أصبح ركب في جيشه، وهذه هى الوقعة الخامسة، ورأى السلطان أن الإفرنج قد ركبوا من وراء خندقهم، والرجالة منهم قد ضربوا سوراً حول الفرسان وهم قطعة من حديد لا ينفذها شيء، فأحجم عنهم لما يعلم من نكول جيشه، ولكنه ما رجع إلا عن قتال إلى أن حجز الليل
(2)
.
ذِكرُ قدُوم بقية عسكر المسلمين
ولما كان يوم الثلاثاء
(3)
سلخ جمادى الأولى، قدم من عسكر سنجار مقدّمهم مجاهد الدين بُرُنقش
(4)
، فلقيه السلطان، فاحترمه وأكرمه، وكان ديناً عاقلاً محباً للغزو. وأنزله السلطان في الميسرة، وذلك بعد أن أنزله في خيمته، وفرح بقدومه فرحاً شديدًا، ثم قدم بعد ذلك قطعة عظيمة من عسكر مصر وفيهم: علم الدين كُرجى، وسيف [113] الدين سنقر
(5)
الدوادار. ثم قدم بعد ذلك علاء الدين ابن صاحب الموصل في عسكرهم، فلقيه السلطان بالخروبة، ونزلوا هناك إلى بكرة الغد من اليوم الثانى من شهر جمادى الأخرى، ثم أصبح سائراً حتى أتى بجحفله قبالة العدوّ، [فعرض]
(6)
عسكره هناك، وأنزله السلطان في خيمته، وحمل له من التحف ما يليق بكرمه، وأنزله في الميمنة. وفى يوم الجمعة ثالث جمادى الأخرى
(7)
قدمت طائفة من عسكر مصر أيضاً، واشتد مرض ملك الإنكتار بحيث شغل الفرنج مرضه، وكان ذلك جبراً عظيماً ولطفاً جسيماً من الله تعالى، فإن البلد ضعف من كان فيه ضعفاً عظيماً، واشتد بهم الخناق
(1)
ورد هذا النص بتصرف في النوادر السلطانية، ص 165 - 166؛ مفرج الكروب، جـ 2، ص 355؛ نهاية الأرب، جـ 28، ص 431 - 432.
(2)
البداية والنهاية، جـ 12، ص 343؛ النوادر السلطانية، 165 - 166.
(3)
"يوم الاثنين" في الفتح القسى، ص 495.
(4)
"مجاهد الدين يرنقش" في النوادر السلطانية، ص 164؛ الفتح القسى، ص 495.
(5)
"سيف الدين سنقر الدورى" في الفتح القسى، ص 495، الروضتين، جـ 2، ص 186.
(6)
"فأعرض" كذا في الأصل والتصحيح من النوادر السلطانية، ص 164.
(7)
"يوم الجمعة رابع جمادى الآخرة" في الفتح القسى، ص 496.
شدة عظيمة، وهدمت المنجنيقات من السور مقدار قامة الرجل، ومع هذا فاللصوص يدخلون عليهم في خيامهم، ويسرقون أقمشتهم وتفوسهم، ويأخذون الرجال بأن يجئ جماعة إلى واحد منهم وهو نائم، ويضعون على حلقه السكين ثم يوقظونه، ويقولون له بالإشارة:"إن تكلمت ذبحناك" ويحملونه ويخرجون به إلى عسكر المسلمين، وجرى ذلك مراراً عديدة
(1)
.
ذكر قوة زحفهم على البلد لعنهم الله
ولم يزالوا يُوالون على الأسوار بالمنجنيقات المتواصلة الضرب، بتثقيل أحجارها حتى خلخلوا أسوار البلد وأضعفوا بنيانها، وأنهك التعب والسهر أهل البلد لقلة عددهم، وكثرة الأعمال عليهم، حتى إن جماعة منهم [بقوا]
(2)
ليالى عدة لا ينامون أصلاً، لا ليلاً ولا نهاراً، والخلق الذين عليهم عدد كثير يتناوبون على القتال. ولما أحسوا بضعف المسلمين، شرعوا في الزحف من كل جانب، وانقسموا أقساماً، وتناوبوا فرقاً، كلما تعبت طائفة استراحت وقام غيرهم مقامهم، وشرعوا في ذلك شروعاً عظيماً براجلهم وفارسهم، وذلك في اليوم السابع من جمادى الآخرة من هذه السنة، هذا مع عمارتهم أسوارهم الدائرة على خنادقهم بالرجالة والمقاتلة ليلاً ونهاراً.
فلما علم السلطان بذلك، ركب، وركب العسكر بأسرهم، وجمع الراجل والفارس، ووعدهم، ورغبهم، وزحف على خنادق القوم حتى دخل فيها العسكر عليهم، وجرى في ذلك اليوم قتال عظيم من الجانبين، والسلطان رحمه الله كالوالدة الثكلى، [يتحرك]
(3)
بفرسه من طُلْب إلى طُلْب، ويحثُّ الناس على الجهاد. والملك العادل رحمه الله حمل بنفسه في ذلك اليوم مرتين، والسلطان يطوف بين الأطلاب، وينادى بنفسه: يا آل الإسلام، وعيناه تذرفان بالدمع، وكلما نظر إلى عكا، وما حلَّ بها من البلاء، وما يجرى على ساكنيها من المصاب العظيم، اشتدَّ في الزحف، والحث على القتال، ولم يطعم في ذلك اليوم طعاماً ألبتة، وإنما شرب بعض شروب كان يشير بها الطبيب.
(1)
ورد هذا النص بتصرف في النوادر السلطانية، ص 164 - 165؛ الفتح القسى، ص 495 - 496.
(2)
"بَلوْا" كذا في الأصل. والتصحيح من النوادر السلطانية، ص 166.
(3)
"يحرك" كذا في الأصل والتصحيح من النوادر السلطانية، ص 166.
وقال قاضى [114] القضاة بهاء الدين رحمه الله: وتأخرتُ عن حضور هذا الزحف لما عرانى مرض مشوَّش لمزاجى، وكنت في الخيمة المضروبة في تل الغياضية وأنا أشاهد الجميع، ولما هجم الليل عاد السلطان إلى الخيمة بعد عشاء الآخرة، وقد أخذ منه التعب والحزن، فنام لا عن غفو، ولما كان وقت السحر أمر بدق الكوسات فركب وركبت العساكر من كل جانب، وأصبحوا على ما أمسوا عليه.
وفي هذا اليوم وصلت مطالعة من البلد يقولون فيها: "إنا قد بلغ بنا العجز إلى غاية فما بعدها إلا التسليم، ونحن في الغد - يعنى يوم الأربعاء الثامن من جمادى الآخرة - إن لم تعملوا معنا شيئاً نطلب الأمان ونسلم البلد، ونشترى مجرد رقابنا". وكان هذا أعظم خبر ورد على المسلمين وأنكاه في قلوبهم، فإن عكا كانت قد احتوت على جميع سلاح الساحل والقدس ودمشق وحلب ومصر وجميع البلاد الإسلامية، واحتوت على كبار من أمراء الإسلام وشجعانهم، كسيف الدين المشطوب، وبهاء الدين قراقوش، وغيرهما. وكان قراقوش [ملزماً] بحراستها
(1)
منذ نزل العدوّ المخذول عليها، وحصل للسلطان من ذلك أمر عظيم، وخيف على مزاجه التشوش، وهو لا يقطع ذكر الله والرجوع إليه في جميع ذلك، وهو صابر محتسب ملازم مجتهد. ثم صاح في العسكر منادى في جهته، فركبت الأطلاب واجتمع الراجل والفارس، واشتد الزحف في ذلك اليوم، ولم يساعده العسكر في ذلك اليوم على الهجوم عليهم، فإن الرجالة من الإفرنج وقفوا كالسور المحكم البناء بالسلاح والزنبورك
(2)
، والنشاب من وراء أسوارهم، وهجم عليهم بعضهم من بعض الأطراف، فثبت المسلمون وذبّوا غاية الذب. ولم يزل الحرب يعمل بينهم بقتل وجرح حتى حجز الليل بين الطائفتين
(3)
.
ومن الغرائب أن امرأة منهم واقفة داخل سورهم عليها ملوطة
(4)
خضراء، ولم تزل ترمى المسلمين بقوس من خشب حتى خرجت جماعة منهم، فتكاثرت عليها
(1)
"ملازما" كذا في الأصل، والمثبت من النوادر السلطانية، 167.
(2)
الزنبورك - ج: زنبوركات - قد يعنى نوعا من القسى التى ترمى عنها السهام؛ وقد تعنى نوعا من السهام ذاتها، عن هذه الاختلافات، راجع: الفتح القسى، ص 168؛ الروضتين، جـ 2، ص 119؛ النوادر السلطانية، ص 148 - 149؛ حاشية 1.
(3)
ورد هذا النص بتصرف في النوادر السلطانية، ص 166 - 167؛ الفتح القسى، 495 - 597؛ الروضتين، جـ 2، ص 186.
(4)
ملوطة: وجمعها ملاليط، وهى الجبة الحرير.
Dozy. Supp. Dict. Arabe vetements، P. 412.
المسلمون الذين دخلوا أسوارهم، فقتلوها وأخذوا قوسها، وحملوه إلى السلطان، فتعجب من ذلك عجباً عظيماً
(1)
. وكذلك كان هناك إفرنجى راجل صعد سور خندقهم، وإلى جانبه جماعة يناولونه الحجارة، وهو يرميها على المسلمين الذين يلاصقون سور خندقهم، ولقد حكى من كان من الداخلين سورهم، أنه وقع فيه زهاء خمسين سهماً وحجراً، وهو يتلقاها، ولا يمنعه ذلك عما هو بصدده من الذبِّ والقتال، حتى ضربه مسلم تراق بقارورة نفط فأحرقه
(2)
".
ولما اشتد زحفهم على البلد، وتكاثروا عليه من كل جانب، وقلت رجال البلد، ضعفت نفوسهم لما رأوا الهلاك حقيقة، واستشعروا الضعف والخذلان، وتمكن العدوّ من الخنادق فملأوها، وتمكنوا من سور البلد الباشورة، فنقبوا وأشعلوا فيه النار، ووقعت بَدَنَة
(3)
من الباشورة، ودخلوا فيها وقتل منهم فيها زهاء مائة وخمسين نفساً؛ وكان منهم ستة أنفس من كبارهم، فقال لهم واحد منهم:"لا تقتلونى [115] حتى أُرحِّل الفرنج عنكم بالكلية"، فبادر رجل من الأكراد فقتله، وقتل الخمسة الباقية. وفى غد ذلك اليوم نادى الفرنج:"احفظوا هؤلاء الستة فإنا نُطلقكم كلُّكم بهم" فقالوا: "قد قتلناهم"، فحزنوا لذلك حزناً عظيماً، وبطلوا عن الزحف بعد ذلك ثلاثة أيام.
ذكر خروج سيف الدين المشطوب إليهم
ولما قتل المسلمون الستة المذكورين، اشتد حنق الفرنج عليهم جداً، وجاء الليل فحال بين الفريقين، ولما أصبح الصباح خرج أمير المسلمين بالبلد سيف الدين أحمد ابن على المشطوب، فاجتمع يملك الإفرنج الافرنسيس وطلب منه الأمان على أنفسهم ويتسلمون منه البلد، فلم يجبه إلى ذلك، وقال: بعدما سقط السور جئت تطلب الأمان. فأغلظ له الأمير سيف الدين في الكلام، ورجع إلى البلد في حالٍ الله بها عليم. ولما أخبر أهل البلد بذلك خافوا خوفاً شديدًا، وأرسلوا إلى السلطان يُعلمونه
(4)
بذلك، وقال
(1)
ورد هذا النص بتصرف في النوادر السلطانية، ص 167؛ الروضتين، جـ 2، ص 186.
(2)
الروضتين، جـ 2، ص 186.
(3)
بدَنة: اصطلاح معمارى وهو ما يعبر عنه بكتف البناء الفتح القسى، ص 505، حاشية 1.
(4)
ورد هذا النص بتصرف في النوادر السلطانية، 168؛ الفتح القسى، ص 505؛ الروضتين، جـ 2، ص 186؛ نهاية الأرب، جـ 28، 432 - 433.
صاحب النوادر
(1)
: ولما جرى ذلك أخذ جماعة من أهل البلد بَركُوسًا، وهو مركب صغير، وركبوا فيه ليلاً خارجين إلى العسكر الإسلامى، وذلك في ليلة الخميس التاسع من جمادى الآخرة من هذه السنة، وكان فيهم من المعروفين [عز الدين]
(2)
أرسل، وابنُ الجاولى الكبير، وسنقر الوُشاقى؛ فأما أَرْسل وسنقر فإنهما لمّا وصلا العسكر تغيّبا ولم يُعرف لهما مكان، خشيةً من نقمة السلطان رحمه الله، وأما ابن الجاولى فإنه ظفر به ورُمى في الزَرْدخاناه.
وفى سحرة تلك الليلة، ركب السلطان مُشعرًا أنه يريد [كبس]
(3)
القوم، ومعه المساحى وآلات طمّ الخنادق، فما ساعده العسكر على ذلك، وتخاذلوا عن ذلك، وقالوا:"تخاطر بأهل الإسلام كلهم، ولا مَصلحةَ في ذلك". وفى ذلك اليوم خرج من ملك الإنكتار ثلاثة رسل فطلبوا فاكهة وثلجاً، وذكروا أن مقدم الإستبارية يخرج في الغد - يعنى يوم الجمعة - فيتحدث معكم في الصلح، فأكرمهم السلطان. ودخلوا سوق العسكر، وتفرجوا فيه، وعادوا تلك الليلة إلى عسكرهم. وفى ذلك اليوم تقدم صارم الدين قايماز النجمى حتى يدخل هو وأصحابه إلى أسوارهم عليهم، وترجَّل جماعة من أمراء الأكراد كالجناح وأصحابه، وهو أخو المشطوب، وزحفوا حتى بلغوا أسوار الفرنج، ونصب قايماز [النجمى]
(4)
علمه بنفسه على سورهم، وقاتل قطعةً من النهار، وفى ذلك اليوم وصل عز الدين جُرْديك النورى، وسوق الزحف قائم، فترجَّل هو وجماعته، وقاتل قتالاً شديدًا، واجتهد الناس في ذلك اليوم اجتهاداً عظيماً.
ولما كان يوم الجمعة العاشر من جمادى الآخرة، خرج منهم ثلاثة رسل واجتمعوا بالملك العادل، وتحدثوا معه ساعةً زمانيةً، وعادوا إلى أصحابهم، ولم ينفصل الحال في ذلك اليوم.
ولما كان يوم السبت الحادى عشر من جمادى الآخرة، لبست الإفرنج بأسرهم لباس الحرب، وتحركوا حركة عظيمةً واصطفوا، وتصرّم هذا النهار [116] ولم ينفصل الحال.
(1)
ورد هذا النص بتصرف في الفتح القسى، ص 505، النوادر السلطانية، ص 168؛ البداية والنهاية، جـ 12، ص 343.
(2)
ما بين الحاصرتين مثبت من الروضتين، جـ 2، ص 187 لتوضيح النص.
(3)
كبسة: في الأصل والتصحيح من النوادر السلطانية، ص 168.
(4)
ما بين الحاصرتين إضافة من النوادر، ص 169.
ولما كان يوم الأحد الثانى عشر من جمادى الآخرة، وصل من البلد كتب يقولون فيها: "إنا قد [تبايعنا]
(1)
على الموت، فلا نزال نقاتل حتى نقتل، ولا نسلّم هذا البلد ونحن أحياء، فانظروا أنتم كيف تصنعون في شغل العدوّ عنا، ولا تخضعوا لهؤلاء الملاعين، وبالله المستعان. فلما سمع السلطان هذا الخبر حطّ منديله على عينيه وبكى بكاء شديدًا. وقال إنا لله وإنا إليه راجعون. وفى يوم الثلاثاء الرابع عشر من جمادى الآخرة قدمَ الأمير سابق الدين صاحب شيزر. وفى يوم الأربعاء خامس عشره قدم بدر الدين دُلدرم ومعه تركمان كثير، وكان السلطان قد أنفذ إليه ذهباً كثيراً أنفق فيهم. وقدم في يوم الخميس سادس عشر أسد الدين شيركوه
(2)
، ومع هذا اشتد الحال على أهل البلد، فأرسل السلطان إليهم أن يخرجوا من البلد في البحر، ولا يتأخروا من هذه الليلة، فتشاغل كثير منهم في جمع الأمتعة والأسلحة، وتأخروا عن المسير في تلك الليلة. فما أصبح الخبر إلا عند الإفرنج من مملوكين صغيرين، سمعا بما رسم به السلطان، فهربا إليهم، فأخبراهم بذلك، فاحتفظوا على البحر احتفاظاً عظيماً، فلم يتمكن أحد من أهل البلد أن يتحرك بحركة ولا خرج منها شيء بالكلية. فلما أصبح السلطان بعث إلى ملوك الإفرنج يطلب منهم الأمان لأهل البلد، على أن يُطلق عدتهم من الأسرى الذين تحت يده من النصارى، ويزيدهم على ذلك صليب الصلبوت
(3)
. فأبوا إلا أن يُطلق كل أسير تحت يده، ويُعيد إليهم جميع البلاد الساحلية التى أخذت منهم، وبيت المقدس. فأبى السلطان من ذلك. وترددت المراسلات في ذلك والحصار يتزايد على أسوار البلد، وقد تهدّم شيء كثير منها، وكلما يتهدم شيء يُعيد المسلمون عوضَه، وصَبروا على ذلك صبراً عظيماً.
ولما كان يوم الجمعة السابع عشر من جمادى الآخرة، صالحهم أهل البلد على أنهم يُسلمون البلد وجميع ما فيه من العدد والآلات والمراكب، ومائتى ألف دينار، وألف وخمسمائة أسير مجاهيل الأحوال، ومائة أسير معيّنين، وصليب الصلبوت، على أن يخرجوا بأنفسهم سالمين، وما معهم من الأموال والأقمشة المختصة بهم وذراريهم ونساءهم، وضمنوا للمركيس اللعين بعشرة آلاف دينار لأنه كان واسطةً، ولأصحابه أربعة
(1)
"بايعنا" كذا في الأصل والتصحيح من النوادر السلطانية، ص 169.
(2)
النوادر السلطانية، ص 169 - 170.
(3)
البداية والنهاية، جـ 12، ص 344.
آلاف دينار. واستقرت القاعدة على ذلك بينهم وبين الإفرنج. ولما وقف السلطان على ذلك أنكر إنكاراً عظيماً، وجمع أرباب المشورة من أرباب دولته، وعرّفهم بذلك، وعزم على أن يكتب في تلك الليلة مع القوَّام وينكر عليهم المصالحة على هذا الوجه، فما أحسوا بذلك إلا وقد ارتفعت أعلام الكفر وصلبانه على أسوار البلد، وذلك في ظهيرة يوم الجمعة المذكور الآن. وصاح الإفرنج [117] صيحة واحدةً، وعظمت المصيبة على المسلمين، واشتدّ حرب الموحدين، ووقع في العسكر الصياح والعويل والبكاء والنحيب، ودخل المركيسُ اللعينُ البلد ومعه أربعة أعلام للملوك، فنصب علماً على القلعة، وعلما على مئذنة الجامع، وعلماً على برج الداويّة، وعلماً على برج القتال عوضاً عن علم الإسلام. وتحيّز المسلمون الذين بها إلى ناحية من البلد معتقلين مضيقاً عليهم، وقد أسرت النساء والأبناء وغنمت منهم الأموال، وقيدت الأبطال، وأهينت الرجال. ولما رأى السلطان ذلك رأى أن التأخر عن تلك المنزلة التى هو فيها مصلحة، فإنه لم يبق وجه في المضايقة، فأمر بنقل الأثقال ليلاً إلى المنزلة التى كان عليها أولاً بشفرعم
(1)
، وأقام هو جريدة في مكانه لينظر ماذا يكون من أمر العدوّ وحال أهل البلد، فانتقل الناس في تلك الليلة إلى الصباح. وفى ذلك اليوم خرج ثلاثة نفر ومعهم [أقوش]
(2)
حاجب بهاء الدين قراقوش - وكان لسانه - مستنجزين ما وقع عليه [عهد]
(3)
الصلح من المال والأسرى، فأقاموا ليلةً ثم ساروا إلى دمشق يبصرون الأسرى، وكان مسيرهم يوم الثلاثاء الحادى والعشرين من جمادى الآخرة.
ولما كان يوم الخميس سلخ جمادى الآخرة، خرج الفرنج من جانب البحر شمالى البلد، ومن جانب القبة، وانتشروا انتشاراً عظيماً راجلهم وفارسهم، وضربوا أطلاباً للقتال، فأخبر اليَزك بذلك للسلطان، فدقوا الكوسات وركب السلطان وأنفذ إلى اليزك [وقواه]
(4)
برجال كثيرة، وتوقف هو حتى ركبت العساكر الإسلاميّة واجتمعوا، فوقع بين اليَزك وبين الإفرنج وقعة عظيمة وقتال شديد قبل اتصال العساكر باليَزك، فقتل اليزك منهم زهاء خمسين نفراً وجرح خلق عظيم. وفى ذلك اليوم وصل رسل الإفرنج الذين
(1)
شفرعم: قرية كبيرة بينها وبين عكا بساحل الشام ثلاثة أميال. معجم البلدان، جـ 3، ص 304 - 305.
(2)
"أقواس" كذا في الأصل، والمثبت من النوادر السلطانية، ص 172.
(3)
ما بين الحاصرتين إضافة من النوادر السلطانية، ص 172.
(4)
"وقواهم" في الأصل. والمثبت من النوادر السلطانية، ص 172.
مضوا إلى دمشق لتفقد حال أسراهم، ووصل معهم من أعيان أسراهم أربعة نفر، ثم لم تزل الرسل تتردد بين الطائفتين حتى كان يوم الجمعة تاسع رجب من هذه السنة.
وفى ذلك اليوم خرج حسام الدين حسين بن باريك المهرانى، ومعه اثنان من أصحاب ملك الإنكتار، فأخبر أن ملك الفرنسيس سَار إلى صُور، وطلبوا أن يشاهدوا صليب الصلبوت، وأنه هل هو في العسكر أو حُمل إلى بغداد؟ فأحضر صليب الصلبوت، فلما رأوه سجدوا له، وألقوا أنفسهم إلى الأرض، ومرغوا وجوههم في التراب، وبعثوا يطلبون من السلطان ما أحضره من المال والأسرى والصليب، فامتنع السلطان إلا أن يُرسلوا إليه مَنْ بأيديهم من الأسارى أو يبعثوا إليه برهائن عنده على ذلك، فقالوا: لا، ولكن ترسل ذلك وترضى بأمانتنا، ففهم منهم أنهم يريدون الغدر والمكر، فلم يرسل ذلك إليهم. وأمر برد الأسارى إلى دمشق [118] وبالصليب معهم مهاناً، ولما رأوا ذلك أخرجوا خيامهم إلى ظاهر خنادقهم مُبرزّين، وذلك في نهار الأربعاء الحادى والعشرين من رجب من هذه السنة، وكان الذى برز ملك الإنكتار ومعه خلق عظيم من الخيّالة والرجّالة، وأحضروا ثلاثة آلاف من المسلمين في صعيد واحد، فأوقفوهم وهم موثوقون في الحبال وحملوا عليهم حملة الرجل الواحد، فقتلوهم صبراً ضرباً وطعناً، وذلك يوم الثلاثاء السابع والعشرين من رجب
(1)
.
وقال صاحب النوادر: وكانوا قدموا خيامهم حتى توسطوا المرج بين تل كيسان وتل العياضية، وكان اليزك الإسلامى قد تأخر
(2)
إلى تل كيسان، ولما كان يوم الخميس التاسع والعشرين من رجب ركبت الإفرنج بأسرهم وقلعوا خيامهم، وحملوها على دوابهم، وساروا حتى قطعوا النهر إلى الجانب الغربى وضربوا الخيام على طريق عسقلان، وأظهروا العزم على المسير على شاطئ البحر، ولم يستبقوا من المسلمين إلا من كان أميراً أو سريًّا، أو من كان له صنعة وهم يحتاجون إليها، أو امرأة أو صبياً، ثم رحلوا نحو عسقلان
(3)
.
(1)
ورد هذا النص بتصرف في النوادر السلطانية، ص 170 - 174؛ الروضتين، جـ 2، ص 189.
(2)
"تأخروا" كذا في الأصل والتصحيح من النوادر السلطانية، ص 174.
(3)
ورد هذا النص بتصرف في ابن شداد، النوادر السلطانية، ص 174 - 175.
ذكر رحيل الإفرنج صَوْب عَسْقلان
لما كان يوم الأحد مستهل شعبان من هذه السنة، اشتعلت نيران الإفرنج في سُحرة ذلك اليوم، وكانت عادتهم أنهم إذا أرادوا الرحيل أشعلوا النيران، ولما أخبر السلطان بذلك أمر أن لا يبقى أحد إلا على ظهر مركبه، فهلك من الناس في ذلك اليوم قماش كثير ولاسيما من السوقة لقلّة الظهر. ثم سارت الإفرنج في ذلك اليوم قاصدين عسقلان، وركب السلطان أيضاً بعساكره وهم يُسايرونهم ويُعارضونهم منزلة منزلة ومرحلةً مرحلةً، وكانت مدة إقامة السلطان على عكا صابراً مرابطاً سبعةً وثلاثين شهراً، وجملة من قتل من الفرنج في هذه المدة خمسون ألفاً، وسار السلطان حتى أتى القيمون
(1)
عصر ذلك النهار، فنزل وقد ضرب له دهليز وشقة دائرة حوله لاغير، واستحضر الجماعة وأكلوا شيئاً، واستشارهم فيما يفعل، فاتفقوا على أنهم يرحلون بكرة غد، وقد رتَّب حول الفرنج يَزَكا يبيتون حولهم ويرتبون أمرهم. ولما كان صباح الاثنين الثانى من شعبان أرحل السلطان الثقل وأقام هو يترصد أخبار العدوّ، فلم يصل إليه شيء من خبرهم حتى [علا]
(2)
النهار، ثم سار في إثر الثقل حتى أتى قريةً يقال لها الصبّاغين، فجلس ساعةً يترقب أخبارهم فلم يأت خبرٌ، فسار حتى أتى منزلة يقال لها عيون الأساود.
قال قاضى القضاة بهاء الدين
(3)
رحمه الله: ولما بلغنا المنزل رأى السلطان خيماً فسأل عنها، فقيل أنها خيم الملك العادل، فعدل إليه، فأقام عنده ساعةً ثم أتى خيمته، وفُقِدَ الخبز في هذا المنزل بالكلية. وغلا الشعير حتى بلغ الربع بدرهم، وبلغ الرطل من البقسماط بدرهمين. ثم ركب السلطان وسار إلى موضع يسمى الملاحة يكون منزلاً [119] للعدو إذا رحلوا من حَيْفا، وكان السلطان قد سبق لتفقد المكان، وأنه هل يصلح للمصاف أم لا، وتفقد أراضى قيسارية بأسرها إلى الشعراء، وعاد إلى المنزل بعد دخول وقت العشاء.
(1)
القيمون: حصن قرب الرملة من أعمال فلسطين، انظر: معجم البلدان، جـ 4، ص 218.
(2)
"على" في الأصل، والمثبت هو الصحيح.
(3)
انظر: النوادر السلطانية، ص 176.
قال قاضى القضاة بهاء الدين
(1)
: وكنت في خدمته وسألته عما بلغه من خبر العدوّ، فقال: وصل إلينا من أخبرنا من أصحابنا أنهم ما رحلوا من حَيفا إلى عصر يومنا هذا - يعنى يوم الاثنين ثانى شعبان. وبات تلك الليلة وأصبح مقيماً بتل الزلزلة ينتظر العدوّ، ونادى بالعرض، فركب الناس على ترتيب المصاف ميمنةً وميسرة وقلباً، ثم عاد إلى الخيمة، وعاد الناس وقد علا النهارُ، ثم صلى السلطان الظهر، وجلس يُطلق أثمان الخيول المجروحة وغيرها إلى عشاء الآخرة؛ من مائة دينار إلى مائة وخمسين وزائداً وناقصاً، ثم اتفق الرأى على رحيل الثقل في عصر ذلك اليوم إلى مجدل يابا
(2)
. ونزل الثقل بالمجدل بكرة النهار، وأقام هو بالمنزل جريدة إلى الصباح، ثم رحلوا إلى جهة العدوّ، فرحل الثقل من وقت العشاء ولم يبق مع السلطان إلا خف من الأقمشة، وبات في منزله إلى الصباح يوم الأربعاء الرابع من شعبان.
ثم ركب وسار إلى رأس النهر الجارى إلى قيسارية
(3)
، ونزل جريدة هناك. وبلغ الرطل من البقسماط إلى أربعة دراهم، والربع من الشعير إلى درهمين ونصف، ولم يوجد الخبز أصلاً، ونزل في خيمته قريب صلاة الظهر، وأكل شيئاً وصلى الظهر، وركب إلى طريق العدو، فلم يعد إلى أن دخل وقت العصر، فجلس ساعةً ثم ركب في آخر نهار الأربعاء المذكور، ولما نزل أتى باثنين من الفرنج قد أخذهما اليزك، فأمر بضرب رقابهما، وأصبح مقيماً بتلك المنزلة ثم ركب في وقت عادته، وأشرف على قيسارية وقد وصله الخبر بأن العدوّ لم يرحل بعد من الملّاحة، وأحضر عنده اثنان أيضاً. فقُتلا أشر قتلة. ثم أحضر بين يديه منهم فارس مذكور، وسأل عنه عن أحوال القوم وعن السعر، فأخبر بالترجمان أن أول يوم من رحيلنا من عكا كان الإنسان يشبع بستة قراطيس
(4)
، فلم يزل السعر يَغلو حتى صار يشبع بثمانية قراطيس. وسأله عن سبب تأخرهم في المنازل فقال: لانتظارهم وصول المراكب بالرجال والميرة. وسأل عن القتلى والجرحى في يوم رحيلهم، فقال: كثير. وسأل عن الخيل التى هلكت في ذلك، فقال: مقدار أربع مائة فرس. ثم أمر يضرب عنقه.
(1)
انظر: النوادر السلطانية، ص 154 - 176.
(2)
مجدل يابا أو مجدليابة: قرية من قرى الرملة. انظر: معجم البلدان، جـ 5، ص 57 (ط دار صادر - بيروت).
(3)
قيسارية: بلد على ساحل بحر الشام تعد من أعمال فلسطين بينها وبين طبرية ثلاثة أيام. انظر: معجم البلدان، جـ 4، ص 421 - 422 (دار صادر - بيروت).
(4)
قراطيس: جمع قرطاس، وهى ورقة تلفت على هيئة القمع ليوضع فيها الحَبُّ ونحوه، المعجم الوجيز، ص 498.
ثم ركب السلطان بعد صلاة العصر يوم الخميس خامس شعبان إلى أن نزل وأتى باثنين، فأمر بقتلهما، وذكر له في وقت السحر أن العدو تحركوا نحو قيسارية وقارب أوائلهم البلد، فرحل إلى تلّ قريب من التلّ الذى كانوا عليه، وضربت الخيام، ومضى السلطان يرتاد الأراضى الكائنة في طريق العدو لينظر أيها تصلح للمصاف، ونزل قريب الظهر، واستدعى أخاه الملك العادل، وعلم الدين سليمان [120] بن جندر، وأخذ رأيهما. ثم صلى الظهر، وركب للتشوف على العدو وتنسم أخبارهم، وأتاه اثنان منهم قد أُخِذا، فأمر بقتلهما، ثم باثنين آخرين كذلك، وذلك في يوم الجمعة سادس شعبان. وجئ باثنين آخرين في آخر النهار فقتلا أيضاً، ثم لما أصبح نادى الجاووش
(1)
لعرض أجناد الحلقة
(2)
لاغير. فركب إلى جهة العدو، ووقف على تلول مُشرفة على قيسارية، وكان الإفرنج قد وصلوا إليها يوم الجمعة، ولم يزل يعرض هناك إلى أن علا النهار، ثم نزل وأكل شيئاً ثم ركب إلى أخيه وعاد بعد صلاة الظهر، فصلى الظهر ثم أتى بأربعة عشر من الإفرنج وامرأة فرنجّية بينهم أسيرة، وهى بنت فارس مشهور، ومعها أسيرة مسلمة قد أخذتها فأُطلقت المسلمة، ودفع الباقون إلى الزرْدخاناه
(3)
، وهؤلاء أوتى بهم من بيروت، أخذوا في مركب من جملة عدد كثير، فقتلوا في نهار السبت سابع شعبان.
ولما كان صبيح يوم الأحد الثامن من شعبان، ركب السلطان على عادته ثم نزل، فجاء من أخبر أن العدوّ على حركة، وأتى ثانى آخر وأخبر أنهم ساروا، فأمر بالكوس فَدُقّ، وركب وركب الناس معه وساروا.
(1)
الجاووش: هو الجاويش. وجمعها الجاوشية. ويقال له أيضاً الشاويش. وهى لفظ تركى. وكان الجاويشية في نظام دولة المماليك بمصر أربعة من جند الحلقة، ووظيفتهم السير أمام السلطان أو النائب في مواكبة للنداء وتنبيه المارة. انظر: القلقشندى: صبح الأعشى، جـ 4، ص 47، 48، 239.
(2)
أجناد الحلقة: هم فرقة من الجيوش النظامية وكانت تتكون من محترفى الجندية من مماليك السلاطين السابقين وأولادهم. وهى أقرب الفئات إلى نظام الجيش الثابت في العصور الحديثة ومرتباتها كانت تصرف من ديوان الجيش. وكانت عدتهم قديما أربعة وعشرين ألف جنديًّا.
انظر: خليل بن شاهين الظاهرى: زبدة كشف الممالك، ص 116؛ محمد قنديل البقلى: التعريف بمصطلحات صبح الأعشى، ص 16.
(3)
الزردخاناه: دار السلاح، وهى كلمة فارسية مركبة. وهى تشتمل على أنواع السلاح من السيوف والقسى والنشاب والرياح والدروع. وتعني أيضاً السجن المخصص للمجرمين من الأمراء وأصحاب الرواتب. والمعنى الثانى هو المقصود هنا في النص. انظر القلقشندى: صبح الأعشى، جـ 4، ص 11؛ Dozy: Supp. Dict. Arab
قال القاضى بهاء الدين
(1)
: وكنتُ في خدمته حتى أتى بمن معه إلى عسكر العدو، فصف الأطلاب حوله، وأمر بقتالهم، وأخرج الجاليش، وكان النشاب بينهم كالمطر، وكان على الفرنج الكبورة
(2)
الثخينة والزرديات السابغة المحكمة، بحيث يقع النشاب ولا يؤثر، وهم يرمون بالزَنبورك فتجرح خيول المسلمين.
قال القاضى: ولقد شاهدتهم وينغرز نشابة في ظهر واحد منهم ونشابتان وثلاثة إلى عشرة وأكثر، وهو يسير على هيئته من غير انزعاج. وكانوا قد انقسموا ثلاثة أقسام: الأول الملك العتيق جُفرى وأهل الساحل معه في المقدمة، والإنكتارُ والفرنسيسيّة معه في الوسط، وأصحاب طبرية وطائفة أخرى في الساقة، وفى وسط القوم برج على عجلة كالمنارة عليها علمهم، وسوق الحرب قائمة بين الطائفتين، وهم يسيرون سيراً [رفقاً]
(3)
، ومراكبهم تسير في مقابلتهم في البحر إلى أن أتوا المنزل ونزلوا، وكانت منازلهم قريبة لأجل رجالتهم، فإن المستريحين منهم كانوا يحملون أثقالهم وخيمهم على ظهورهم لقلة الظهر بينهم. فانظر إلى هؤلاء الأشقياء وإلى صبرهم على هذه الأعمال من غير أجر ومن غير دنيا ودين، وكان منزلهم ذلك قاطع نهر قيسارية
(4)
.
ولما كانت صبيحة الاثنين التاسع من شعبان وصل من أخبر أنهم ركبوا سائرين، فركب السلطان أول الصبح وطلب الأطلاب وأخرج من كل طلب جاليشاً، وسار يطلب القوم وهم سائرون على عادتهم ثلاثة أطلاب، ثم لم يزل المسلمون يعكرون عليهم ويحملون عليهم إلى أن أتوا إلى نهر يقال له نهر [121] القصب
(5)
، فنزلوا عليه وقد قام قائم الظهيرة. وفى ذلك اليوم قتل من فرسان الإسلام وشجعانهم أياز الطويل من مماليك السلطان، ودفن على تل مشرف على البركة، ونزل السلطان بالثقل على البركة، وهو
(1)
انظر: النوادر السلطانية، ص 179.
(2)
الكبورة: عباءة خشنة بيضاء اللون غالبًا، يلبسها رجال الدين والعسكريون على السواء. انظر: ماير: الملابس المملوكية، 95.
(3)
"رفيعًا" كذا في الأصل والمثبت من النوادر السلطانية، ص 179 حيث ينقل العينى عنه.
(4)
نهر قيسارية: أحد أفرع نهر الأردن وتعتبر قيسارية نقطة مصبه في البحر المتوسط.
انظر حسين مؤنس: أطلس تاريخ الإسلام، خريطة 132، ص 266.
(5)
نهر القصب: لم نعثر عليه في المصادر التى بين أيدينا.
موضع تجتمع فيه مياه كثيرة، وأقام هناك إلى بعد صلاة العصر، ثم رحل وأتى نهر القصب فنزل عليه، وكان المسلمون يشربون من أعلاه والإفرنج من أسفله، وليس بينهم إلا مسافة يسيرة. وبلغ الربع من الشعير في هذه المنزلة إلى أربعة دراهم، والخبز كثير موجود، والرطل منه بنصف درهم. وأقام السلطان ينتظر رحيل الفرنج حتى يرحل في مقابلتهم، وباتوا تلك الليلة هناك، ووقع حرب بين طائفتين منهم ومن المسلمين، فقتل من الفرنج جماعة، ومن المسلمين اثنان، وأسر منهم ثلاثة، فسأل السلطان عنهم، فأخبروا أن ملك الإنكتار كان قد حضر عنده بعكا اثنان بدويان، فأخبرا بقلة عدد العسكر الإسلامى، ولما جرى بالأمس ما جرى طلب البدويين فضرب أعناقهما، وأخبروا أن المجروحين منهم كانوا زهاء ألف نفس والمقتولين جماعة.
ولما كان ظهر يوم الثلاثاء العاشر من شعبان رأى السلطان التقدم على العدوّ، فدق الكوس، ورحل ودخل في شعرا أرسوف
(1)
حتى توسطها إلى تل عند قرية تسمى دير الراهب
(2)
، فنزل هناك، وأقام ينتظر بقية العساكر إلى صباح الأربعاء الحادى عشر من شعبان، وجاء من أخبار العدو أنهم مقيمون على نهر القصب، وأنه لحقهم نجدة من عكا في ثمانى بُطس كبار، ويزك الإسلام حولهم يواصلون بالأخبار التى تتجدد، وجرى بين اليزك وحَشّاشة الإفرنج قتال، وجرحت جماعة من الطائفتين.
وكان مقدم اليزك علم الدين سليمان بن جندر، فأرسلوا
(3)
إليه من يسمع كلامه
(4)
، وحاصل سؤالهم الاستئذان بالاجتماع بالملك العادل، فأذن له السلطان في المضى إليهم، فجاء إلى اليزك، وبلغ الخبر إلى ملك الإنكتار فاجتمعا بنجوة من أصحابهما، وكان يترجم بينهما ابن الهَنفرى، وهو من فرنج الساحل، من كبارهم.
(1)
أرسون: مدينة على ساحل بحر الشام بين قيسارية ويافا. ياقوت: معجم البلدان، جـ 1، ص 151 - 152 (ط دار صادر - بيروت).
(2)
دير الراهب: قرية من قرى أرسوف كما يفهم من سياق النص.
(3)
الضمير هنا عائد على المسلمين الموجودين باليزك.
(4)
الضمير هنا عائد على العدو. وقد اختصر العينى عبارة ابن شداد اختصارًا أضر بسياق المعنى. أما عبارة ابن شداد فهى أكثر وضوحًا "أن العدوّ طلب من اليزك من يتحدث معه، وكان مقدم اليزك علم الدين سليمان، فإنها كانت نوبته، فلما مضى إليهم من سمع كلامهم، كان كلامهم طلب الملك العادل حتى يتحدثوا معه". ابن شداد: النوادر السلطانية، ص 160 (دار الفرجاني).
قال قاضى القضاة
(1)
: ورأيته يوم الصلح وهو شاب حسن، إلا أنه محلوق اللحية على شعارهم. وكان كلام الرسول في الصلح طلبُ عَودِ البلاد إليهم كما كانت، وأن المسلمين ينصرفون إلى بلادهم، فلما سمع العادل هذا الكلام أغلظ في الجواب، وجرت منافرة اقتضت أنهم رحلوا.
أما الإفرنج فإنهم نزلوا على موضع يسمى البركة، مشرف على البحر. وأصبح السلطان في صبيحة يوم الجمعة الثالث عشر من شعبان في قرية تسمى بركة، وأقام مُطَلَّب الأطلاب متطلعاً إلى أخبار الإفرنج، فأحضر عنده اثنان منهم قد مسكهما اليَزك، فأمر بضرب أعناقهما.
ذكر وقعة أرسُوف
ولما كان يوم السبت الرابع عشر من شعبان، [122] بلغ السلطان أنهم قد تحركوا للرحيل نحو أرسوف، فركب ورتّب الأطلاب للقتال، وعزم في ذلك اليوم على مصافة القوم، وأخرج من كل طُلب جاليشًا، وسار الإفرنج حتى قاربوا شعراء أرسوف وبَساتينها، وأطلق عليهم الجاليش النشاب، ولزّتهم الأطلاب من كل جانب، والتحم القتال، واضطرمت نارها من الجانبين، وقتل منهم طائفة وجرح آخرون، واشتدوا في السير لعلهم يبلغون المنزلة فينزلون، واشتد بهم الأمرُ، والسلطان رحمه الله يطوف من الميمنة إلى الميسرة ويحث الناس على الجهاد.
وقال قاضى القضاة بهاء الدين
(2)
: لقيتُه مراراً وليس معه إلا صَبِيَّان بجنيبين
(3)
لا غير، ولقيتُ أخاه وهو على مثل حاله والنشاب يتجاوزهما. ولم يزل الأمر يشتد بالإفرنج، وطمع فيهم المسلمون طمعاً عظيماً، حتى وصل أوائل راجلهم إلى بساتين أرسوف، ثم اجتمعت الخيالة وتواضعوا على الحملة، فحملوا حملةً واحدة من الجوانب كلها؛ فحملت طائفة على الميمنة، وطائفة على الميسرة، وطائفة على القلب، فاندفع الناس بين أيديهم.
(1)
انظر النوادر السلطانية، ص 160.
(2)
نقل العينى هذا الحدث من النوادر السلطانية، ص 183 - 185.
(3)
الجَنِيب: جمعها جُنُبٌ. وهو المَقُودُ إلى الجَنْب من الخيل. المعجم الوجيز، ص 119.
قال قاضي القضاة
(1)
: واتفق أني كنتُ في القلب، ففرّ القلب فرارًا عظيمًا، فنويت التحيز إلى الميسرة، وكانت أقرب إلىَّ، فوصلتها وقد انكسرت كسرةً عظيمةً، ثم نويت التحيز إلى الميمنة، فرأيتها وقد فرت أشدّ فرارًا من الكل، ثم نويت التحيّز إلى [طُلُب]
(2)
السلطان، وكان ردْءًا
(3)
للأطلاب كلها كما جرتَ عادته بذلك، فأتيتُه ولم يبق معه إلا سبعة عشر مقاتلًا لا غير، لكن الأعلام كلها باقية والكُوساتُ تدق لا تفتر. ثم وقف الإفرنج خوفًا من الكمين، وقاتلوا وهم واقفون، ثم حملوا
(4)
حملة ثانية، ففروا
(5)
وهم يقاتلون في فرارهم، ثم وقفوا وحملوا حملة ثالثة حتى بلغوا إلى [رؤوس]
(6)
روابي هناك وأعالي تلول، ووقفوا هناك.
وأما المسلمون بعد أن فرّوا، فكان كل من رأى طُلب السلطان واقفًا والكوسات تدق، يستحي أن يتجاوزه، ويخاف غائلة ذلك ويعود إلى الطُلب، فاجتمع عند الطلب خلق عظيم، ووقف الإفرنج قبالتهم على [رؤوس]
(7)
التلال والرّوابي، والسلطان رحمه الله واقف في طلبه لا يتحرك، حتى رجعت الناس بأسرهم. وخاف الإفرنج أن يكون في الشعراء كمين، فتراجعوا يطلبون المنزلة، وعاد السلطان إلى تل في أوائل الشعراء، ونزل عليه بلا خيمة.
وقال قاضي القضاة: ولقد كنتُ في خدمته وأسلّيه وهو لا يقبل، وظللت عليه بشيء
(8)
، وأُحضر بين يديه شيء من الطعام، فتناول شيئًا يسيرا، وبعث الناس خيولهم للسقي، فإن الماء كان بعيدًا، وجلس ينتظر الناس حتى يعودوا من السقي، والجرحى يحضرون [123] بين يديه وهو يداويهم ويحملهم. وقتل في ذلك اليوم رجّالة كثيرة، وجرحت جماعة من الطائفتين. وكان ممن ثبت في هذه الوقعة الملك العادل، والطواشي قايماز النجمي، والملك الأفضل - ولد السلطان - صدم في ذلك اليوم وانفتح دمل كان في وجهه، وسال منه دم كثير على وجهه وهو صابر محتسب. وثبت أيضًا في
(1)
انظر النوادر السلطانية، ص 183 - 184.
(2)
ما بين الحاصرتين مثبت من النوادر السلطانية، ص 184.
(3)
رِدْءًا: دَعَمه وقوّاه. المعجم الوجيز، ص 260.
(4)
الضمير هنا عائد على الإفرنج.
(5)
الضمير هنا عائد على المسلمين.
(6)
،
(7)
في الأصل "رؤس".
(8)
يذكر ابن شداد إنه منديل. انظر النوادر السلطانية، ص 184.
ذلك اليوم طُلب الموصل ومقدمه علاء الدين، وشكره السلطان على ذلك. وتفقد الناس بعضهم بعضا، فَوُجد وقد استشهد جماعة من العسكر عرف منهم: أمير شكار مُوَسّك، وكان رجلًا شجاعًا معروفًا، وقايماز العادلي وكان مذكورًا، وأبغوش وكان شجاعًا، أسف السلطان عليه. وجرح خلق كثير وخيول كثيرة، وقتل من العدو جماعة وأسر واحد فَأُحِضر، فأمر السلطان بضرب عنقه، وأخذت منهم خيول أربعة، ثم أمر السلطان أن يتقدم الثقل إلى العوجاء
(1)
، وكان الإفرنج نزلوا على قبلي أرسوف، ونزل الثقل قاطع النهر المعروف بالعوجاء في منزلة خضرة على جانب النهر.
ووصل السلطان في آخر النهار، وازدحم الناس على القنطرة، ونزل السلطان على تل مشرف على النهر ولم يعبر الخيمة، وأقام السلطان إلى سحرة ليلة الأحد الخامس عشر من شعبان من هذه السنة، ثم دَقّ الكوس وركب، وركب الناس، وسار راجعًا إلى جهة العدو حتى وصل إلى أرسوف، وصَفّ الأطلاب للقتال رجاء خروج الإفرنج ومسيرهم حتى يصاد مهم، فلم يرحل الملاعين في ذلك اليوم لما نالهم من التعب والجراحات، فأقام السلطان قبالتهم إلى آخر النهار، ثم عاد إلى منزلته التي بات بها، فبات بها ليلة الاثنين السادس عشر.
ولما كان يوم الاثنين دَقّ الكوس وركب، وركبت الناس، وسار نحوهم. وبلغ إليه خبرهم أنهم رحلوا طالبين جهة يافا، وسار حتى قاربهم جدًا، ورتب الأطلاب ترتيب القتال، وأخرج الجاليش، وأحدق العسكر الإسلامي بالقوم، وألقوا عليهم من النشاب ما كاد أن يسد الأفق، وقاتلوهم قتالًا عظيمًا، والملاعين لم يحملوا بل حفظوا نفوسهم وساروا مصطفين على عادتهم حتى أتوا نهر العوجاء، وهو النهر الذي كان منزل المسلمين أعلاه، فنزلوا في أسفله، وعبر بعضهم النهر، وأقام الباقون من الجانب الشرقي.
وعاد السلطان أيضًا إلى الثقل، ونزل في خيمته وأكل الطعام، ثم أتي بأربعة من الإفرنج وقد أخذتهم العرب، ومعهم امرأة، [فدفعوا]
(2)
إلى الزردخاناه، وأقام السلطان
(1)
العوجاء: نهر بين أرسوف والرملة من أرض فلسطين من السواحل. انظر: معجم البلدان، ج 4، ص 167، (ط. دار صادر - بيروت).
(2)
"فرفعوا" كذا في الأصل. والمثبت بين الحاصرتين من النوادر السلطانية، ص 185.
بقية اليوم في تلك المنزلة، وكتب الكتب إلى الأطراف باستحضار بقية العساكر، وحَضَرَ من أخبره أنه قتل من الإفرنج يوم أرسوف خيول كثيرة، وأن العرب تتبعوها فعدوها فزادت على مائة، وجرح أيضًا من خيل المسلمين شيء كثير، ثم أمر السلطان برحيل [124] الجمال إلى الرملة، وبات في تلك المنزلة.
ولما كان يوم الثلاثاء السابع عشر من شعبان، صلى الصبح ورحل، ورحل معه الثقل الصغير، وسار يريد الرملة، وأتي باثنين من الإفرنج فأمر بضرب أعناقهما. وجاء خبر من اليزك بأن الإفرنج رحلوا قاصدين يافا، وسار السلطان إلى الرملة ونزل في الثقل الكبير، وأتي باثنين من الإفرنج أيضًا فسألهما عن أحوال القوم، فذكرا أنهم ربما يقيمون في يافا أيامًا، وفي أنفسهم عمارتها وإشحانها بالرجال والعُدَد
(1)
.
فأحضر السلطان أرباب المشورة وشاورهم في أمر عسقلان، هل تخرب أم تبقى؟ واتفق الرأي على أن يتخلف الملك العادل ومعه طائفة من العسكر قريبًا من العدو لأجل الأخبار، وأن يسير السلطان إلى عسقلان ويخرِّبها خشية من أن يتولاها الإفرنج فيأخذوا من بها من المسلمين، ويأخذوا بها القدس الشريف، ويقطعوا بها طريق مصر، فعند ذلك أمر السلطان برحيل الثقل الجمالي من أول الليل، وأمر ولده الملك الأفضل أن يسير عقيب الثقل في نصف الليل.
ثم سار السلطان في سحرة يوم الأربعاء الثامن عشر من شعبان، ووصل إلى يُبْنَي
(2)
فنزل بها، وأخذ الناس راحة، ثم رحل وسار حتى أتي أرض عسقلان بعد صلاة العصر، وقد ضربت خيمته بعيدًا منها شمالي البلد في أرض طيبة، فبات بها مهمومًا بسبب تخريب عسقلان، وما نام تلك الليلة إلا قليلًا
(3)
.
قال قاضي القضاة بهاء الدين: فطلبني في تلك الليلة وقت السحر، وشرع في حديث عسقلان وتخريبها، وأحضر ولده الملك الأفضل وشاوره في ذلك وقال: والله لإن أفقد أولادي بأسرهم أَحبّ إلىَّ من أن أهدم منها حجرًا واحدًا، ولكن إذا قضى الله بذلك وعيّنه لحفظ مصلحة المسلمين فكيف أصنع
(4)
؟.
(1)
النوادر السلطانية، ص 186.
(2)
يُبْنَي: بليد قرب الرملة. انظر: معجم البلدان، جـ 5، ص 428 (ط دار صادر - بيروت).
(3)
انظر أخبار تخريب عسقلان في الكامل جـ 10، ص 207 - 209.
(4)
نقل العينى هذا الخبر من الروضتين، جـ 2، ص 192.
ذكر تخريب عسقلان
(1)
ثم استخار السلطان، فأوقع الله في قلبه أن المصلحة في تخريبها لعجز المسلمين عن حفظها عن الإفرنج، فاستحضر الوالى بها - يُدْعي قيصر - من كبار مماليكهـ وذوي الآراء منهم، فأمره أن يضع فيها المعاول، وذلك في سحرة ليلة الخميس التاسع عشر من شعبان، وقسم السور على الناس، وجعل لكل أمير وطائفة من العسكر بدنة معلومة، وبرجًا معلومًا يخربونه، ودخل الناس البلد ووقع فيه الضجيج والبكاء، وكانت بلدة نضرة حسنة خفيفة على القلب، محكمة الأسوار، عظيمة البناء، مرغوبًا في سكنها، فلحق الناس حزن عظيم، وعظم عويل أهلها وبكاؤهم على مفارقة أوطانهم، وشرعوا في بيع ما لا يمكن حمله، وبيع ما يساوي عشرة دراهم بدرهم واحد، ورمي الناس أقمشتهم بالثمن البخس حتى بيع [اثنا]
(2)
عشر طيرًا من الدجاج بدرهم واحد. واختبط البلد، وخرج أهله إلى العسكر بذراريهم ونسائهم خشية [125] أن يهجم الإفرنج البلد، وبذلوا في الكرى أضعاف ما يُساوي، فقوم إلى مصر، وقوم إلى الشام، وقوم يمشون لم يقع لهم كراء، وجرت أمور كثيرة وبليَّة عظيمة لعلها لم يكن مثلها. وكان السلطان بنفسه وولده الملك الأفضل يستعملان الناس في التخريب والحث عليه، خشية أن يسمع الإفرنج فيحضرون ولا يمكن تخريبها، وبات الناس على أشد حال من التعب والنصب.
وفي تلك الليلة، حضر من الملك العادل مَنْ أخبر أن الإفرنج تحدثوا معه في الصلح، وأن ابن الهنفري جاء إليه وتحدث معه في ذلك. فرأى السلطان أن ذلك مصلحة لما رأى في أنفس الناس من الضجر والملالة من القتال والمصابرة، وكثرة ما علاهم من الديون، وكتب إليه يسمح له في الحديث في ذلك، وفوَّض أمر ذلك إليه. وأصبح يوم الجمعة العشرين من شعبان على الإصرار على التخريب واستعمال الناس فيها. وأباح لهم الهُرْي
(3)
الذي كان ذخيرة في البلد، للعجز عن نقله وضيق الوقت والخوف من لحوق الإفرنج. وأمر بتحريق البلد، فأضرمت النيران في البيوت والآدر، فاضطرمت النيران فيها، وأرمي الناس غالب أقمشتهم للعجز عن نقلها.
(1)
عن تخريب عسقلان انظر: النوادر، ص 187 - 188؛ الكامل، جـ 10، ص 207 - 209؛ النجوم الزاهرة، جـ 6، ص 46 - 47.
(2)
"اثني" كذا في الأصل. والصحيح لغويًا ما أثبتناه.
(3)
الهُرْي: جمع الأهراء، وهي حواصل لخزن أنواع الغلال المتنوعة. وتعرف الأهراء في مصطلحنا الحديث بالشونة. انظر: صبح الأعشى، جـ 4، ص 33؛ ابن مماتي: قوانين الدواوين، ص 350.
وفي أثناء ذلك الأخبار تتواتر من جانب الإفرنج بعمارة يافا، وأن كل وقت يجري بينهم وبين اليزك وقعات.
قال قاضي القضاة بهاء الدين: ولم يزل التخريب والتحريق يعملان في عسقلان وأسوارها إلى سلخ شعبان من هذه السنة، وكانت عظيمة البناء بحيث أن بعض سوره كان عرضه تسعة أذرع، وفي مواضع عشرة أذرع، وذكر بعض الحجارين للسلطان - وأنا حاضرٌ - أن عرض السور الذي ينقبون فيه مقدار رمح. قال القاضي: ووصل في أثناء ذلك جرديك بكتاب فيه أن الإفرنج قد تفسحوا وصاروا يخرجون من يافا ويغيرون على البلاد القريبة منها، فلو تحرك السلطان لعله يبلغ عرضه منهم في غِرّتهم، فعزم السلطان على الرحيل، وعلى أن يُخَلِّف حجارين في عسقلان. ومعهم مَنْ يحميهم حتى يستقصوا في التخريب. ثم رأى أن يتأخر إلى أن يحرق البُرج المعروف بالإستبار، وكان برجًا مشرقًا على البحر كالقلعة المنيعة.
ثم أصبح السلطان يوم الاثنين مستهل رمضان من هذه السنة، أمر ولده الملك الأفضل أن يُباشر ذلك بنفسه وخواصه. قال القاضي: ولقد رأيته يحمل الخشب هو وخواصه لتحريق البرج، ولم يزل الناس ينقلون الأخشاب ويحشونها في البرج حتى أمتلأ، ثم أطلقت فيها النار، وبقيت النار تشتعل فيها يومين وليلتين.
ثم
(1)
رحل السلطان ليلة الثلاثاء الثاني من رمضان من نصف الليل، ووصل إلى يُبْنَي ضحوة نهار الثلاثاء، ونزل في خيمة أخيه الملك العادل واستخبر منه الأخبار، ثم قام ونزل في خيمته، [126] وبات تلك الليلة في تلك المنزلة.
ذكر رحيل السلطان إلى الرملة
ولما أصبح السلطان يوم الأربعاء الثالث من رمضان
(2)
، رحل إلى جهة الرملة، فسار حتى أتاها ضحوة النهار ونزل بالثقل الكبير هناك نزول إقامة، ورتب العسكر ميمنة وميسرة وقلبًا، ومد السماط للناس، ثم أخذ بعض راحة. ثم ركب بين الصلاتين
(3)
وسار إلى لدّ، فرآها ورأى بيعتها وعِظَم بنائها، فأمر بتخريبها وتخريب قلعة الرملة أيضًا، ووقع
(1)
انظر: النوادر السلطانية، ص 189.
(2)
انظر تفاصيل تلك الخبر في الروضتين، جـ 2، ص 192؛ الكامل، جـ 10، ص 209.
(3)
"الصلوتين" في الأصل. وفي النوادر السلطانية، ص 189 "صلاتي الظهر والعصر".
الخراب في الموضعين في ذلك اليوم، وفرق الناس لتخريب المكانين، وأباح ما فيهما من التبن والشعير في الأهراء
(1)
السلطانية، وأمر من كان بهما من المقيمين بالانتقال إلى المواضع العامرة، وما كان بقي في المكانين إلا نفر يسير، ثم عاد السلطان إلى خيمته.
ولما أصبح يوم الخميس الرابع من رمضان، أقام [الحجارون]
(2)
في المكانين، ورتب عندهم من يستخدمهم في ذلك، وهو يتردد إليهم في الأصائل، ثم وقع له أن يسير خفية في نفر يسير ليشاهد أحوال القدس الشريف، وخلف أخاه العادل في العسكر يحث الناس على الخراب، فسار من أول الليل حتى أتي بيت نوبة فبات بها حتى أتى الصبح وصلى، وسار حتى أتى القدس الشريف في يوم الجمعة خامس رمضان المذكور، وصلى الجمعة. وأقام ذلك اليوم يتفقد أحوال الناس وأحوال القدس في عمارته وميرته وعدته وغير ذلك، وظفر بنفر من النصارى معهم كتب إلى الإفرنج، فضرب أعناقهم. ولم يزل مقيمًا في القدس إلى يوم الاثنين الثامن من رمضان. ولما كان يوم الاثنين خرج قاصدًا العسكر بعد صلاة الظهر، فبات في بيت نوبة
(3)
.
ذكر مجيء معز الدين صاحب ملطية
وفي يوم الاثنين المذكور وصل صاحب ملطية معز الدين قيصر شاه بن قليج أرسلان وافدًا على السلطان، مستنصرًا [به]
(4)
على إخوته وأبيه؛ لأنهم كانوا قصدوا أخذ بلده منه، فلقيه الملك العادل عند لُدّ، واحترمه وأكرمه، ثم لقيه بعده الملك الأفضل ولد السلطان، وضربت خيمتُه قريبًا من لُدّ.
وفي تاريخ النويري
(5)
: وسبب قدومه أن والده فرّق مملكته على أولاده وأعطى ولده هذا ملطية، ثم تغلب بعض إخوته على أبيه وألزمه أن يأخذ ملطية من أخيه المذكور، فخاف من ذلك، فسار إلى السلطان ملتجئًا إليه فأكرمه السلطان وزوجه بابنة أخيه الملك العادل. وعاد معز الدين إلى ملطية في ذي القعدة وقد انقطع طمع أخيه فيه.
(1)
الأمراء السلطانية: هي الأماكن التي تخزن بها الغلال والأتبان الخاصة بالسلطان، احتياطا لحالات الطوارئ. انظر: خليل بن شاهين الظاهري، زبدة كشف الممالك، 122 - 123.
(2)
"الحجارين" كذا في الأصل. والصحيح لغويًا ما أثبتناه.
(3)
انظر تفاصيل تلك في الكامل، جـ 10، ص 212؛ الروضتين، جـ 2، ص 192.
(4)
ما بين الحاصرتين إضافة من النوادر السلطانية، ص 190، للإيضاح.
(5)
ورد هذا الخبر في الكامل، جـ 10، ص 212.
وقال ابن الأثير
(1)
: ولما ركب السلطان صلاح الدين ليُودع معزّ الدين قيصرشاه المذكور، ترّجل معز الدين له، فترجّل السلطان صلاح الدين رحمه الله، ولما ركب عضده قيصر شاه وركبه، وكان علاء الدين [خرمشاه]
(2)
بن عز الدين مسعود صاحب الموصل مع السلطان إذ ذاك، فسوى ثياب السلطان، فقال بعض الحاضرين في نفسه: ما بقيت تبالي يا ابن أيوب بأى موتة تموت، يُركِبكَ مَلكٌ سجلوقي، ويُصلح قماشك مَلِكٌ أتابكيٌ زنكي
(3)
. [127]
وفي يوم قدوم معز الدين وصل الخبر إلى العسكر أن جماعة من الحشاشين من الإفرنج خرجوا يحشّون، فحمل عليهم اليزك الإسلامي، ووصل الخبر إلى عسكرهم فخرجت في نصرتهم جماعة، وجرى بينهم وبين اليزك قتال، وذكر بعض الأسرى أنه كان معهم ملك الإنكتار، وأن شخصًا من المسلمين قصد طعنه، فحال بينه وبينه فرنجي، فَقُتِلَ الفرنجى وجرح هو
(4)
.
ذكر عود السلطان إلى العسكر
ولما كان يوم الثلاثاء تاسع رمضان المذكور، وصل السلطان إلى العسكر، ولقيه الناس مستبشرين بقدومه، وأقام يحثُّ على الخراب. ولم تزل أخبار العدو عنده، ولم تزل تقع بين اليزك وبين الإفرنج وقعات، ويسرق العرب من خيولهم وبغالهم ورجالهم
(5)
. وفي أثناء ذلك اليوم وصل رسول من المركيس، يذكر أنه يصالحهم بشرط أن يعطي صيدا وبيروت، على أن يجاهر الفرنج بالعداوة، ويقصد عكا ويحاصرها ويأخذها منهم. فأجاب السلطان وسير إليه العدل النجيب، وكان المركيس هذا خبيثًا ملعونًا، وكان لما استشعر من الإفرنج أَخْذِ بلده صور منه، استعصم بها وانحاز عن الفرنج، ولذلك أجاب السلطان إلى كلامه وسير العدل النجيب مع رسوله يوم الجمعة ثاني عشر رمضان، واشترط عليه أن يبدأ بمجاهرة عداوة القوم، وحصار عكا وأخذها، وإطلاق من بها مَنْ الأسرى، وكذلك مَنْ كان بصور من الأسرى، فإذا فعل ذلك يُسَلِّم إليه صيدا وبيروت
(6)
.
(1)
انظر: الكامل، جـ 10، ص 212.
(2)
ما بين الحاصرتين إضافة من الكامل، جـ 10، ص 212.
(3)
نقل العيني هذا الخبر بتصرف من الكامل، جـ 10، ص 212.
(4)
نقل العين هذا الخبر من النوادر السلطانية، ص 190.
(5)
نقل العيني هذا الخبر من النوادر السلطانية، ص 190.
(6)
نقل العيني هذا الخبر من النوادر السلطانية، ص 190.
ولما كان يوم السبت الثالث عشر من رمضان، تأخر السلطان بالعسكر إلى الجبل ليتمكن الناس من إنفاد دوابهم إلى العلوفة، فإنهم كانوا على الرملة قريبين من الإفرنج، فنزل السلطان على تل بجبل النطرون
(1)
بالثقل الكبير وجميع العسكر ما عدا اليزك، وذلك بعد خراب الرملة ولُدّ، ويوم نزوله هناك أمر بتخريب النطرون، وكانت قلعة منيعة
(2)
.
وفي السابع عشر من رمضان جاء الخبر من اليزك بأخبار طيبة؛ منها خبر هلاك الإفرنسيس، وكان موته في أنطاكية عن مرض عرض له.
ومنها أن ملك الإنكتار عاد إلى عكا، وذلك لما صح عنده مراسلة المركيس إلى السلطان فيما ذكرنا
(3)
.
ذكر مسير الملك العادل إلى القدس
وفي يوم الجمعة التاسع عشر من رمضان، اقتضى الحال تَفَقُّد أحوال القدس والنظر في عمائره، فتعين لذلك الملك العادل، فسار إليه وعاد منه إلى العسكر يوم الأحد الحادي والعشرين من رمضان.
وفي أثناء هذه الأيام وصل كتاب من الملك المظفر تقي الدين، يخبر أن قزل أرسلان صاحب ديار العجم قفز عليه أصحابه فقتتلوه، وكان قتله في أوائل شعبان من هذه السنة
(4)
.
وفي هذا اليوم وصلت مراكب للعدو، قيل: إنها وصلت من عكا، وإن ملك الإنكتار فيها بجماعة عظيمة [128] وقصده عمارة عسقلان، وقيل: قصده أخذ القدس
(5)
.
ووصل جماعة من الأساري كانوا في عكا أخذهم اليزك في موضع يقال له: الزيب
(6)
. ووصل رسول قزل أرسلان، كان قد سيره قبل موته، ورسول ابن أخيه أينانج،
(1)
النطرون: مدينة قرب الرملة بجنوب فلسطين، واسمها أيضًا "أطرون". معجم البلدان، جـ 1، ص 310.
(2)
تقل العيني هذا الخبر من النوادر السلطانية، ص 191.
(3)
انظر هذه الأخبار في: النوادر السلطانية، ص 190 حيث نقل العينى عنه.
(4)
لمزيد من التفاصيل عن هذا الخبر، انظر: النوادر السلطانية، ص 192.
(5)
انظر هذا الخبر في: النوادر السلطانية، ص 192 - 193.
(6)
الزيب: مكان شمال عكا. انظر: مفرج الكروب، جـ 2، ص 349.
ورسول من ملك الإنكتار، ومعه حصان إلى الملك العادل في مقابل هدية كان أحضرها إليه. ووصل خبر وفاة حسام الدين بن لاجين بدمشق بسبب مرض عرض عليه، فحزن عليه السلطان. ووصل كتاب من سأمه يذكر فيه أن الإبرنس صاحب أنطاكية - لعنه الله - أغار على جبلة واللاذقية، وأنه كسر كسرة عظيمة، وقتل منه جماعة وعاد إلى أنطاكية مخذولًا
(1)
.
ووصل رسول من ملك الإنكتار يقول: "خربت البلاد وهلك المسلمون والإفرنج، وتلفت الأموال، وقد بلغ الأمر غايته وما تم شيء من الوسط سوى القدس والصليب والبلاد. أما القدس فإنه متعبدنا ما تفرغ
(2)
عنه ولو لم يبق منا أحد. وأما البلاد فيعاد إلينا من حد الأردن، وأما الصليب فإنه خشبة، لا مقدار لها عندكم وهو عندنا عظيم، فيمن السلطان بهذه الأشياء علينا، ونصطلح ونستريح من هذا العناء الدائم.
ولما وقف السلطان على هذا أجاب بأن القدس لنا كما هو لكم، بل هو أعظم عندنا مما هو عندكم، فإنه مَسْرى نبينا صلى الله عليه وسلم، ومجمعُ الملائكة، فلا يُتصور أن نتركه، ولا نقدر على التلفظ بذلك بين المسلمين. وأما البلاد فهي لنا في الأصل واستيلاؤكم عليها طارئٌ لضَعْفِ مَنْ كان بها من المسلمين في ذلك الوقت، وأما الصليب فحرقه عندنا قربة عظيمة لا يجوز لنا أن نفرط فيها إلا لمصلحة راجعة إلى الإسلام
(3)
.
ذكر هروب شيركوه بن باخل الكردي من عكا
وكان أسيرًا فيها، ووصل إلى عسكر الإسلام في أواخر يوم الجمعة السادس والعشرين من رمضان، وكان من الأمراء، من الأكراد الزرزارين
(4)
، وأخبر أنه هرب ليلة الأحد الحادي والعشرين من رمضان، وكان ادخر له حبلا في مخدة، وكان الأمير حسين بن باريك ادخر له حبلًا في بيت الطهارة، فاتفقا على الهروب، ونزلا من طاقة كانت في
(1)
نقل العينى هذه الأخبار من النوادر السلطانية، ص 193.
(2)
في النوادر، ص 194 (ما نزل عنه).
وتَفَرَّغَ عنه تعني تَخَلّى عنه. انظر: المعجم الوجيز، ص 468 مادة (فرغ).
(3)
نقل العيني هذا الخبر بتصرف من النوادر السلطانية، ص 194.
(4)
الأكراد الزرزارية: يسكنون في ملازكرد والرستاق، ومرت، وجبل جنجرين المشرف على أُشْنُه من ذات اليمين من جبال الأكراد. وهؤلاء الأكراد ممن تكرَّد من العجم، ولهم عدد جَمُّ. وجبلهم في غاية العلوّ والشهوق في الهواء، شديد البرد. انظر مزيد من التفاصيل عنهم في القلقشندي: صبح الأعشى، جـ 4، ص 376.
بيت الطهارة، وانحدرا من السور الأول، وعَبَر شيركوه من الباشورة
(1)
، وكان ابن باريك حالة نزوله انقطع به الحبل، ونزل شيركوه سليمًا، وأنه أتى إليه وحركه فلم يتحرك، فخاف إن مكث أُخذ، فتركه وانصرف واشتد هربًا في قيوده حتى أتي تل العياضية وقد طلع الصبح، فكمن في الجبل حتى علا النهار وكسر قيوده، وسار فستر الله عليه حتى أتى العسكر في الوقت المذكور، وأخبر أن سيف الدين بن المشطوب
(2)
ضُيّق عليه، وقطعوا عليه قطيعة عظيمة من خيل وبغال وأموال، وأن ملك الإنكتار أتي عكا وأخذ كل مَنْ كان له بها؛ مِنْ خَدَمِهِ ومماليكهـ وأقمشته، ولم يَخّل له فيها شيئًا، وأن فلاحي الجبل يُمدّونه بالميرة مَدًا عظيمًا. وأن طغرل [129] السلاحدار أخذ خواصّ مماليك السلطان، فهربوا قبل هروب شيركوه
(3)
.
ذكر بقية الأخبار
منها أن يوم الاثنين التاسع والعشرين من رمضان، استدعى الملك العادل قاضي القضاة بهاء الدين وأحضر جماعة من الأمراء؛ علم الدين سليمان، وسابق الدين، وعز الدين بن المقدم، وحسام الدين بشارة، وقال لهم: إن ملك الإنكتار أرسل إليه يقول له: إن العادل يتزوج بأخته، وكان قد استصحبها معه من صقلية، وكانت زوجة صاحبها ومات عنها، وأن يكون مستقرها بالقدس، وإن أخاها يعطيها بلاد الساحل التي في يده من عكا إلى يافا وعسقلان وغير ذلك، ويجعلها ملكة الساحل، وإن السلطان يُعطى الملك العادل جميع ما في يده من بلاد الساحل، ويجعله ملك الساحل، ويكون ذلك مضافًا إلى ما في يده من البلاد والإقطاعات، وإنه يسلم إليهم صليب الصلبوت، وتكون القرايا للداوية والإستبار، وأنا أفك أساراكم وأنتم تفكون أسارانا، فإذا استقر الصلح على هذا يرحل ملك الإنكتار إلى بلاده في البحر، وينفصل الأمر
(4)
. قال القاضي: حمل الملك العادل هذه الرسالة علينا، وجعلني المتكلم فيها.
(1)
الباشورة: جمعها بواشير: وهو الحائط الظاهري، أو ما يُري منه. انظر: محيط المحيط: Dozy : Supp. Dict. Arab
(2)
في الأصل "سيف الدين بن المشطوب" وهو خطأ. فهو الأمير سيف الدين علي بن أحمد الهكاري، المعروف بالمشطوب. انظر: الكامل، جـ 10، ص 205 - 206، ط دار صادر - بيروت؛ النوادر، ص 195.
(3)
نقل العينى هذا الحدث بتصرف من النوادر السلطانية، ص 195.
(4)
نقل العيني هذا الحدث بتصرف من النوادر السلطانية، ص 195.
قال القاضي: فلما حضرنا عند السلطان عرضت عليه هذا الحديث، فبادر إلى الرضى بهذه القاعدة معتقدًا أن ملك الإنكتار لا يوافق على ذلك أصلًا، وأن هذا منه هُزْؤٌ ومكر. قال: ثم عدنا إلى الملك العادل وعَرَّفناه بذلك
(1)
.
ولما كان يوم الأربعاء الثاني من شوال، سار ابن النحّال رسولًا من جانب العادل والسلطان أيضًا إلى ملك الإنكتار، فلما عرف بقدومه أنفذ إليه من قال له: إن الملكة أخت الملك عرض عليها أخوها حديث النكاح، فسخطت من ذلك وغضبت، وأنكرت أن يكون ذلك إنكارًا شديدًا، وحلفت أنه لا يكون أصلًا. ثم قال أخوها: إن كان الملك العادل يتنصّرُ فأنا أتمم ذلك. فعاد الرسول بذلك وأخبر العادل والسلطان به، وتحقق ما قاله السلطان
(2)
.
ومنها أن في يوم السبت خامس شوال وصل الخبر من الأصطول الإسلامي أنه استولى على مراكب الإفرنج، وفيها مركب يعرف بالمسطح، قيل: إنه كان فيه خمسمائة نفر وأكثر، وإنه قتل منهم خلق عظيم، واستبقى منهم أربعة أنفس وهم كبار مذكورون، فسُرَّ المسلمون بذلك وضربت البشائر
(3)
.
ومنها أن في يوم الأحد سادس شوال جمع السلطان أكابر الأمراء وأرباب الآراء من دولته وشاورهم في أن الإفرنج قد أجمعوا على الخروج، وأنه كيف يصنع في ذلك؟ فاتفقت آراؤهم على الإقامة في منزلتهم بعد تخفيف الأثقال، فإن خرجوا لاقوهم.
وفي عشية هذا اليوم استأمن من الإفرنج اثنان فارسان، وأخبرا أنهم على عزم الخروج يوم الثلاثاء، وأنهم زهاء عشرة آلاف فارس، ولكن لا يُعرف قصدهم. ثم جاء أسير مسلم هرب منهم وأخبر أنهم قد أظهروا الخروج إلى الرملة، ثم يتفقون فيها على موضع يقصدونه. ولما تحقق السلطان ذلك [130] أمر بتجهّز العسكر وشدّ الرايات، وإنه يقف قبالتهم إن خرجوا. وسار يوم الاثنين
(4)
حتى أتي قِبلي كنيسه الرملة، فخيم هناك
(1)
نقل العينى هذا الحدث بتصرف من النوادر السلطانية، ص 195.
(2)
نقل العينى هذا الحدث بتصرف من النوادر السلطانية، ص 196.
(3)
نقل العينى هذا الحدث بتصرف من النوادر السلطانية، ص 196.
(4)
الموافق السابع من شوال. انظر: النوادر السلطانية، ص 196 - 197.
وبات ليلته. ولما كانت صبيحة يوم الثلاثاء [الثامن]
(1)
من شوال رتب الأطلاب للقتال، وسلّم اليزك للملك العادل، وتبعه مَنْ يُريد الغزاة، وكان وصل جماعة من الروم يريدون الغزاة فخرجوا في جملة من خرج، فلما وصلوا إلى خيام الإفرنج هجم عليهم المماليك السلطانية
(2)
، ورموا عليهم النشاب، وقامت الإفرنج وركبوا وصاحوا صيحة الرجل الواحد، وحملوا في جمع كثير، [فنجا]
(3)
من سبق به جواده، وظفروا بجماعة قتلوا منهم ثلاثة نفر على ما قيل، ونقلوا خيامهم إلى يازور
(4)
، وأقام السلطان بلقاء منازلهم إلى الصباح
(5)
.
ولما كان يوم الجمعة الحادي عشر من شوال، ركب السلطان نحوهم فأشرف عليهم ثم عاد. قال القاضي: ثم استدعاني وجماعة من الأمراء، وأمر الناس بإبعادهم عن الخيمة، فأخرج كتابًا من قبائه وفضّه، ووقف عليه، وبدرت
(6)
دموعه وغلبة البكاء والنحيب حتى وافقه الآخرون على ذلك، مِنْ غير علم السبب. ثم ذكر أن الملك المظفر قد توفي إلى رحمة الله، وأمر بكتم ذلك عن الناس؛ لئلا يصل الخبر إلى العدو، وكانت وفاته في تاسع عشر رمضان يوم الجمعة على ما نذكره إن شاء الله
(7)
.
ومنها أن في يوم السبت الثاني عشر من شوال، وصل من دمشق كتاب من النواب بها، وفي طيِّه كتاب من بغداد من الديوان العزيز النبوى، يتضمن فصولًا ثلاثة: الأول: الإنكار على الملك المظفر في مسيره إلى بكتمر. والثاني: الإنكار على مظفر الدين في مسك حسن بن قفجاق، والأمر بإعادته إلى الكرخاني
(8)
. والثالث: فيه الأمر بإحضار
(1)
ما بين الحاصرتين إضافة للإيضاح.
(2)
المماليك السلطانية: هم مماليك السلاطين السابقين، وفي عصر صلاح الدين كانت المماليك السلطانية تتكون من بقايا المماليك النورية المنسوبة إلى نور الدين محمود، والمماليك الأسدية المنسوبة إلى أسد الدين شيركوه مسلم صلاح الدين. وهؤلاء التفوا حول صلاح الدين وأصبحوا هم والمماليك الصلاحية المنسوبة إلى صلاح الدين الأيوبي - عصب الجيش الأيوبي وقوته الثابتة زمن صلاح الدين. انظر: نظير سعداوي: جيش مصر في أيام صلاح الدين، ص 24 - 26.
(3)
في الأصل "فنجي". والمثبت بين الحاصرتين هو الصحيح.
(4)
بازُور: بليدة بسواحل الرملة من أعمال فلسطين بالشام. انظر: معجم البلدان، ج 5، ص 425، طبعة دار صادر - بيروت.
(5)
نقل العينى هذه الأحداث بتصرف من النوادر السلطانية، ص 197.
(6)
بدرت: أي سألت. انظر: المعجم الوجيز، ص 40.
(7)
نقل العيني هذا الخبر بتصرف من النوادر السلطانية، ص 197 - 198.
(8)
عن تفاصيل ما حدث بين مظفر الدين والكرخاني، انظر: النوادر السلطانية، ص 198.
القاضي الفاضل إليهم
(1)
ليُقال له أشياء. فأجاب السلطان عن الأول بأنا لم نأمره بذلك. وعن الثاني بأن ابن قفجاق لا يخفى ما تصدى له من الفساد في الأرض. وعن الثالث بأنه
(2)
كثير الأمراض وقوته تضعف عن الحركة
(3)
.
ومنها أن في السادس عشر من شوال أمر السلطان لحلقة بالكمين للعدوّ في بطون أودية هناك، واستصحبوا جمعًا من العرب، فلما استقر الكمين في موضعه ظهرت العرب في مناوشتهم، وكان منهم جماعة تخرج للاحتشاش والاحتطاب فنزل عليهم العرب، ووقع الحرب وقام الصياح، فركب جماعة من خيالة الإفرنج وانهزمت العرب بين أيديهم إلى جهة الكمين، فخرج الكمين ووقع الصياح وانهزموا بين أيديهم نحو خيامهم، ثم ركب منهم خلق عظيم فالتحم القتال، وقتل جمع من الطائفتين، وأُسرت جماعة من العدو وأُخذت منهم خيول كثيرة، وانفصل الحرب قبيل الظهر من نهار الأربعاء السادس عشر من شوال. واستشهد في هذه الوقعة أبان المهراني وكان شجاعًا معروفًا، وجاولي غلام الغيدى، وصرع أياز المعظمي، وجرح عدّة جماعة، وقتل من العدو زهاء ستين نفرة، وأسر فارسان معروفان، واستأمن اثنان بخيولهما وعدتهما.
ومنها أنه وصل في بقية هذا اليوم رسول من عند ملك الإنكتار إلى الملك العادل يعتب عليه من جهة الكمين، وأنه [131] يطلب الاجتماع به فأذن له
(4)
.
ولما كان يوم الجمعة الثامن عشر من شوال، سار الملك العادل ومعه من الأطعمة والتجملات والتحف مما تحمل من ملك إلى ملك، وجاء إليه ملك الإنكتار في خيمته فأكرمه العادل واحترمه، ووصل معه أيضًا من طعامهم الذين يختصون به، فأتحف به الملك العادل على وجه المطايبة، فتناول منه العادل، وتناول هو وأصحابه من طعام العادل، وقدَّم إليه ما كان حمله معه، وتحادثا معظم ذلك النهار، وتفاصلا عن تواد ومطايبة.
(1)
أي إلى الديوان العزيز ببغداد.
(2)
الضمير عائد على القاضي الفاضل.
(3)
نقل العيني تفاصيل رد السلطان على كتاب الخليفة بتصرف من النوادر السلطانية، ص 198 - 199.
(4)
نقل العينى هذه الأحداث بتصرف من النوادر السلطانية، ص 200.
ومنها أن في يوم السبت التاسع عشر من شوال، حضر صاحب صيدا بين يدي السلطان ومعه جماعة، وأكرمه السلطان إكراما عظيما، وقدم بين يديه طعامًا، ولما رفع الطعام "خلا"
(1)
بهم، وكان من حديثه أن السلطان يصالح المركيس صاحب صور، وقد انضم إليه جماعة من أكابر الإفرنج، وكان من شرط الصلح معه إظهار عداوته للإفرنج البحريّة، وبذل له السلطان موافقة على ذلك.
ومنها أن في عشية ذلك اليوم، وصل رسول ملك الإنكتار وهو ابن الهنفرى، وهو من أكابرهم وملوكهم، ومن أولاد ملوكهم، وفي صحبته شيخ كبير ذكروا أن عمره مائة وعشرون سنة، فأحضره السلطان، وكانت رسالته أن الملك يقول:"إني أحب صداقتك ومودّتك، وأنت قد ذكرت أنك أعطيت هذه البلاد الساحلية لأخيك، فأريد أن تكون حكمًا بيني وبينه، وتقسم البلاد بيني وبينه، ولابد أن يكون لنا علقة بالقدس، ومقصودي أن تقسم البلاد بحيث لا يكون عليك لوم من المسلمين، ولا علىَّ لوم من الإفرنج"، فأجابه في الحال بوعد جميل، ثم أذن لهم بالعود في الحال.
قال قاضي القضاة بهاء الدين رحمه الله: ثم التفتَ إلىَّ السلطانُ في المجلس وقال لي: "متى صالحناهم لم نأمن غائلتهم، فإني لو حدث بي حادث الموت لا تكاد تجتمع هذه العساكر، وتقوى الإفرنج، والمصلحة الثبات على الجهاد حتى نخرجهم من الساحل أو يأتينا الموت". هذا كان رأيه وغرضه رحمه الله
(2)
.
ولما كان يوم الاثنين "الحادي والعشرين
(3)
" من شوال، جمع السلطان الأمراء الكبار وأرباب المشورة في الدولة، وذكر لهم القاعدة التي التمسها المركيس واستقر الأمر من جانبه عليها، وهي أخذ صيدا، وأن يكون معنا على الفرنج، ويقاتلهم ويجاهرهم بالعداوة، وذكر لهم القاعدة التي التمسها ملك الإنكتار؛ وهي أن يكون له من القرايا الساحلية مواضع معينة، وتكون لنا الجبليات بأسرها، وتكون القرى كلها مناصفة، وعلى
(1)
في الأصل "خلى"، والتصحيح من النوادر السلطانية، ص 202.
(2)
نقل العيني هذا القول بتصرف من النوادر السلطانية، ص 202 - 203.
(3)
"حادي عشر في النوادر السلطانية، ص 203. وهو سهو من الناسخ.
هذين القسمين يكون لهما "قُسوس"
(1)
في "بيع
(2)
" القدس الشريف وكنائسه، وشرح لهم السلطان هاتين القاعدتين، وأخذ رأيهم في ترجيح أحد القسمين وهما من جانب ملك الإنكتار ومن جانب المركيس. فرأى أرباب الرأى أنه إن كان صلح فليكن مع ملك الإنكتار، فإن مصافاة الفرنج للمسلمين بحيث يخالطونهم بعيدة [132]، وصحبتهم غير مأمونة. وانفض الناس، وبقى الأمر مترددًّا في الصلح، والرسل تتواصل في تقرير قواعد الصلح؛ وهي أن ملك الإنكتار كان قد بذل أخته للملك العادل بطريق التزويج، وأن تكون البلاد الساحلية والفرنجية لهما، أما الفرنجية فلها من جانب الملك، وأما الإسلامية فللملك العادل من جانب السلطان. وكان آخر رسائلهم من الملك أن قال: "إن معاشر دين النصرانية أنكروا علىَّ كون أختي تحت مسلم بدون مشاورة الباب، وهو كبير دين النصرانية ومقدمه، وها أنا أسير إليه رسولا يعود في ستة أشهر، فإن أذن في ذلك فبها ونعمت، وإلا زوجتك ابنة أختي، وما أحتاج في ذلك إلى إذن الباب".
هذا كله وسوق الحرب قائم والقتال عمال، وصاحب صيدا يركب مع الملك العادل في الأحيان، ويشرف على الإفرنج وقتال المسلمين لهم، وكلما رآه الإفرنج مع الملك العادل تحركوا للصلح؛ خوفًا من انكسار الشوكة لهم. ولم يزل الحال كذلك إلى يوم الجمعة الخامس والعشرين من شوال، ففي يوم الجمعة أصبح السلطان عازمًا على الرحيل، وسار إلى تل الجزر لارتياد المنزل، فنزلت الناس كلهم مع السلطان، ولما عرف الإفرنج بعود السلطان رحلوا عائدين، وأقام السلطان بتل الجزر، ثم وصل إلى جهة القدس الشريف، ورحل الإفرنج إلى بلادهم. واشتد الشتاء وعظمت الأمطار، وأعطى السلطان دستورًا للعسكر، وأقام بالقدس في هذا الشتاء أجمع، ونزل السلطان في دار القساقس قريبًا من القمامة، وكان نزوله في ذي القعدة من هذه السنة، وشرع في تحصينه وتعميق خنادقه، وعمل فيه بنفسه وأولاده وأمرائه، وعمل القضاة والعلماء والصوفية بأنفسهم، وكان وقتًا مشهودًا، واليزك حول البلد من ناحية الإفرنج، وفي كل وقت يستظهرون على الإفرنج ويقتلون منهم ويأسرون ويغنمون. وانقضت السنة والأمر على ذلك، وأرصد ملك الإنكتار في يافا عساكر، ثم عاد إلى عكا لينظر في أحوالها وأقام مدة.
(1)
في الأصل "أقساء". والمثبت هو الصحيح لأن القس جمعها قسوس.
انظر: المنجد، مادة "قس".
(2)
البِيعَةُ: معبد النصارى وجمعها بِيَعٌ. انظر: المعجم الوجيز، مادة "بيع".
ذكر بقية الحوادث في هذه السنة
منها أنه استقر الحال مع الملك المظفر تقي الدين صاحب حماة أن يأخذ الرها وحران وشميساط، وينزل عن خبزه الذي بالشام، بُصري وعمان والبلقاء، ومن حلب المعرّة ومنبج، والمستقر بيده حماة وسلمية واللاذقية وجبلة وبلاطنس وبك إسرائيل، ثم لم يلبث أن أدركته الوفاة على ما نذكره في الوفيات إن شاء الله تعالى.
ومنها أن السلطان صلاح الدين أرسل إلى ولده الظاهر أن يخرب حصن بُغراس، فبلغ ذلك ابن ليفون صاحب سيس، فسار إليها فأخذها بغير قتال.
ومنها أن السلطان أخرب عسقلان كما ذكرنا، وأخرب غزة والداروم أيضًا، واهتم بعمارة القدس الشريف [133].
ومنها أن السلطان عزل أبا حامد محمد بن عبد الله بن أبي عصرون عن قضاء دمشق، وولي محيي الدين بن زكي الدين، قالوا: وسبب عزل ابن أبي عصرون مداخلته الجند، واشتغاله بما يشتغل به الأمراء؛ من اتخاذ الخيول والمماليك والترك، ومباشرة الحروب، ومعاملة الأمراء ومدانيتهم، فتهزم السلطان منه وعزله.
ومنها أن أمير مكة داود بن عيسى بن فليتة بن قاسم بن محمد بن أبي هاشم الحسني تعدّى، فأخذ أموال الكعبة حتى انتزع طوقًا من فضة كأن على دارة الحجر الأسود، وقد لَمّ شعثه به حين ضربه ذلك القرمطي بالدبوس، فلما بلغ السلطان خبره من الحجيج حين رجعوا عزله وولي أخاه مكثرًا، ونقض القلعة التي كان أخوه بناها على جبل أبي قبيس، فأقام داود بنخلة حتى توفي بها.
وفيها حج بالناس من العراق طاشتكين.
ذكر من توفي فيها من الأعيان
الخبوشاني، أبو البركات محمد بن الموفق بن سعيد بن علي بن الحسن بن عبد الله الخبوشاني الملقب نجم الدين، الفقيه الشافعي، قال ابن خلكأن
(1)
: كان فقيهًا
(1)
انظر ترجمته في وفيات الأعيان، جـ 4، ص 239 - ص 245.
فاضلًا كثير الورع، تفقه على محمد بن يحيى بن منصور النيسابوري الشافعي، أستاذ المتأخرين الذي تفقه على الإمام الغزالي، وكان الخبوشاني يستحضر كتاب "المحيط في شرح الوسيط" تصنيف شيخه النيسابوري المذكور، حتى نقل عنه أنه عدم الكتاب فأملاه من خاطره. وله كتاب "تحقيق المحيط" وهو كبير. قال القاضي: رأيته في ستة عشر مجلدًا. ولما استقر السلطان صلاح الدين رحمه الله يملك الديار المصرية قربّه وأكرمه، وكان يعتقد في علمه ودينه، ويقال: إنه أشار بعمارة المدرسة المجاورة لضريح الإمام الشافعي رحمه الله وعَمَّرها في سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة. وفي هذه السنة أيضا بني المارستان الذي في القصر بالقاهرة، فلما عمَّرها فوض تدريسها إليه. وكانت ولادته في الثالث عشر من رجب سنة عشر وخمسمائة من الهجرة بأستوا خبوشان.
وفي المرأة: كان الخبوشاني يلقب بالنجم، قدم الديار المصرية وأظهر الناموس وتزهّد، وكان يركب الحمار فنفق
(1)
على السلطان وأهله، وأعطاه السلطان مالًا فبني به المدرسة التي إلى جانب الشافعي. وكان كثير الفتن، منذ دخل مصر إلى أن مات ما زالت الفتن قائمة بينه وبين الحنابلة، وابن الصابوني، وزين الدين بن نجيّة، ويكفّروه ويكفرهم. وكان طائشًا متهورًا، نبش ابن الكيزاني وأخرج عظامه من عند الشافعي، وكان يصوم ويفطر على خبز الشعير، فلما مات وجدوا له ألوف دنانير، وبلغ صلاح الدين فقال: ياخيبة المَسْعى، وكان يبعث إليه بالصدقات فيأخذها لنفسه، ولما توجه سيف الإسلام إلى اليمن جاء إليه يُودعه ويستقصي حوائجه، فقال له الخبوشاني: لي إليك حاجة، قال: ما هي؟ قال: تضرب رقبة كل مَنْ في المدينة ومكة، وتأخذ أموالهم وتسبي نساءهم، وقد أبحت لك ذلك، فقام سيف الإسلام من عنده وهو يسبه، وقال: انظروا إلى هذا الرقيع يبيح دماء جيران الله ودماء أهل [134] بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت وفاته في صفر، وسكنت الفتن واصطلح الناس، وقالوا: هذا فتوح ثاني. وكان سيء الأخلاق قبيح العشرة. وقال ابن خلكان: وكانت وفاته يوم الأربعاء الثاني والعشرين من ذي القعدة من سنة سبع وثمانين وخمسمائة بالمدرسة المذكورة، ودفن في قُبّة تحت رجلى الشافعي رضي الله عنه وبينهما شباك.
(1)
لعله يقصد النفاق في الدين. انظر: القاموس المحيط. مادة "نفق" وقد وردت الكلمة في النجوم الزاهرة، ج 6، ص 115 "فيقف".
والخُبوشاني نسبة إلى خُبوشان بضم الخاء المعجمة والباء الموحدة وسكون الواو وبعد الشين المعجمة ألف ونون، وهي بليدة بناحية نيسابور، وأستوا بضم الهمزة وسكون السين المهملة وفتح التاء المثناة من فوق أو ضمها، ناحية كثيرة القرى من أعمال نيسابور.
وقال ابن كثير
(1)
: ولما توفي الخبوشاني طلب التدريس جماعة، فشفع الملك العادل عند أخيه السلطان صلاح الدين في شيخ الشيوخ أبي الحسن علي بن حَمُويه، فولاه إياها ثم عزل عنها بعد موت السلطان. واستمرت عليها أيدى بنى السلطان واحدًا بعد واحد، ثم خَلُصت بعد ذلك وعادت إليها الفقهاء والمدرسون.
شهاب الدين المَقْتُول
(2)
، أبو الفتوح يحيى بن حَبش بن أميرك، الملقب شهاب الدين السُهْرَوردي الحكيم، المقتول بحلب، وقيل: اسمه أحمد. وقيل: كنيته اسمه، وهو أبو الفتوح. وذكر أبو العباس أحمد الخزرجي الحكيم في كتاب "طبقات الأطباء" أن أسم السهروردى المذكور عمر، ولم يذكر اسم أبيه، والصحيح الذي ذكرناه أولًا. قاله ابن خلكان: وكان من علماء عصره، قرأ الحكمة وأصول الفقه على الشيخ مجد الدين الجبلي بمدينة مَراغة، من أعمال أذربيجان، إلى أن برع فيهما. وهذا مجد الدين هو شيخ فخر الدين الرازي، وعليه تخرج وبصحبته انتفع، وكان إمامة في فنون. وقال في "طبقات الأطباء": وكان السهروردي أوحد أهل زمانه في العلوم الحكمية، جامعًا للفنون الفلسفية، بارعًا في الأصول الفقهية، مفرط الذكاء، فصيح العبارة، وكان علمه أكثر من عقله، ويقال: إنه كان يعرف علم السيمياء
(3)
، وحكى بعض فقهاء العجم أنه كان في صحبته وقد خرجوا من دمشق، قال: فلما وصلنا إلى القابون - وهي القرية التي على باب دمشق في طريق من يتوجه إلى حلب - لقينا قطيع غنم مع التركمان، فقلنا للشيخ: يا مولانا تريد من هذا الغنم رأسًا نأكله، فقال: معي عشرة دراهم خذوها واشتروا بها رأس غنم، وكان هناك تركماني فاشترينا منه رأسًا بها، ومضينا قليلًا فلحقنا رفيق له وقال:
(1)
البداية والنهاية، جـ 12، ص 370.
(2)
انظر ترجمته في وفيات الأعيان، جـ 6، ص 286 - 274؛ النجوم الزاهرة، جـ 6، ص 114.
(3)
السيمياء: ضرب من السحر يقوم على إحداث مثالات خيالية لا وجود لها في الحس. المعجم الوجيز، مادة (سيم).
رُدّوا الرأس وخذوا أصغر منه، فإن هذا ما عرف يبيعكم، يساوي هذا الرأس أكثر من هذا. فتقولنا نحن وإياه، فلما عرف الشيخ ذلك قال لنا: خذوا الرأس وامشوا وأنا أقفُ معه وأرضية، فتقدمنا نحن وبقى شيخنا يتحدث معه ويطيب قلبه، فلما أبعدنا قليلًا تركهـ وتبعنا، وبقى التركماني يمشي خلفه ويصيح به وهو لا يلتفت عليه، ولما لم يكلمه لحقه تغيظ، وجذب يده اليسرى وقال: أين تروح وتخليني؟ وإذا بيد الشيخ قد انخلعت من عند كتفه وبقيت [135] في يد التركماني ودمهما يجرى، فبهت التركماني، وتحيّر في أمره ورمى اليد وخاف، فرجع الشيخ وأخذ تلك اليد بيده اليمنى ولحقنا، وبقي التركماني راجعًا وهو يلتفت إليه حتى غاب عنه، ولما وصل الشيخ إلينا رأينا في يده اليمني منديلًا لا غير. وقال ابن خلكان: ويحكى عنه مثل هذا أشياء كثيرة، والله أعلم بصحتها. وله تصانيف، من ذلك كتاب "التنقيحات في أصول الفقه"، وكتاب "التلويحات"، وكتاب "الهياكل"، وكتاب "حكمة الإشراق" وغير ذلك، وتنسب إليه أشعار، ومن شعره المذكور ما يستعمله المنشدون في المجالس وهو قوله:
أبدًا تَحِنُّ إليكم الأرواحُ
…
ووصالكُم ريحانُها والرَّاحُ
وقلوبُ أهلِ ودادِكم تشتاقكم
…
وإلى لذيذ لقائكُم
(1)
ترتاحُ
وارَحْمتا للعاشقين تَكَلّفوا
…
سَتْرَ المحبّة والهوى فَضَّاحُ
بالسِّر إن باحُوا تُباحُ دِماؤهم
…
وكذا دماءُ البائحين تُباحُ
وإذا هُم كتموا تحدّث عَنهُم
…
عِند الوُشاةِ المدمَعُ السفّاحُ
وَبَدَت شواهِدُ للسِّقام عليهم
…
فيها لِمُشكل أمرهم إيضاحُ
خفض الجناح لكُم وليس عليكُم
…
للصَبِّ في خَفْضِ الجَنَاحُ جُنَاحُ
فإلى لقاكم نفسُه مرتاحةً
…
وإلى رضاكُم طَرْفُه طَماحُ
عودوا بنور الوَصل من غَسَقِ الجوى
…
فالهجرُ لَيْلٌ والوِصالُ صَباحُ
صافاهُمُ فصفوا له فقلوبُهم
…
في نورها المِشكاةُ والمِصْبَاحُ
وتمتعوا فالوقت طابَ بقربكم
…
رَاقَ الشَّرابُ ورّقت الأقداحُ
(1)
"لقياكم" كذا في الأصل. والمثبت من وفيات الأعيان، جـ 6، ص 271.
يا صَاحِ ليس على المُحِبِّ ملامةٌ
…
إن لاحَ في أُفقِ الوصالِ صِباحُ
لا ذَنْبَ للْعُشاق إن غلب الهوى
…
كتمانَهُم [فنما]
(1)
ننمي الغرام وباحُوا
سَمحُوا بأنفسهم وما بخلوا بها
…
لمّا دَرَوا أن السّماح رَباحُ
ودَعاهُم داعي الحقائق دعوة
…
فغدوا بها مستأنسين وراحُوا
ركبوا على سُفن الوَفا فدموعُهم
…
بَحرٌ وشدة شوقهم مَلّاحُ
والله ما طلبوا الوقوف ببابه
…
حتى دُعوا وأتاهُمُ المُفتاحُ
لا يطربون بغير ذكر حبيبهم
…
أبدًا فكل زمانهم أفراحُ
حضروا وقد غابت شواهدُ ذاتهم
…
فتهتكوا لما رأوه وَصاحوا
أفناهمُ عنهم وقد كشفت لهم
…
حجبُ البقا فتلاشت الأرواح
[136]
فتشبّهوا إن لم تكونوا مثلَهم
…
إن التشبهَ بالكرام فَلاحُ
قم يا نديمي إلى المدام فهاتها
…
في كأسها [قد]
(2)
دارت الأقداح
من كرم إكرام بدِنّ ديانة
…
لها خمرة قد داسَها الفَلّاحُ
وقال ابن خلكان، رحمه الله: وله في النظم والنثر أشياء لطيفة لا حاجة إلى الإطالة بذكرها. وكان شافعي المذهب، ويلقب بالمؤيد بالملكوت، وكان يُتهم بانحلال العقيدة والتعطيل، [ويعتقد]
(3)
مذهب الحكماء المتقدمين، واشتهر ذلك عنه، فلما وصل إلى حلب أفتى علماؤها بإباحة قتله بسبب اعتقاده وما ظهر لهم من سوء مذهبه، وكان أشد الجماعة عليه [الشيخين]
(4)
؛ زين الدين ومجد الدين ابنا جَهْبَلْ.
وقال الشيخ سيف الدين الآمدى: اجتمعتُ بالسُهرْوردي في حلب، فقال لي:"لابد أن أملك الأرض"، فقلتُ له: من أين لك هذا؟ قال: "رأيت في المنام كأنّي شربت ماء البحر". فقلتُ: لعل هذا يكون اشتهار العلم أو ما يناسب هذا. فرأيته لا يرجع عما وقع في نفسه، ورأيته كثير العلم قليل العقل. ويقال: إنه لما تحقق القتل كان كثيرًا ما ينشد:
(1)
"فنمى" في الأصل. والمثبت من وفيات الأعيان، جـ 6، ص 271.
(2)
"حين" كذا في الأصل. والمثبت بين الحاصرتين من وفيات الأعيان، جـ 6، ص 272.
(3)
"ويعتمد" في الأصل. والتصحيح من وفيات الأعيان، جـ 6، ص 272.
(4)
"الشيخان" في الأصل وهو خطأ. والتصويب من وفيات الأعيان، ج 6، ص 272.
أرى قدمي أَراقَ دَمِي
…
وهانَ دَمِي فها ندمي
والأول مأخوذ من قول أبي الفتح علي بن محمد البُسْتي:
إلى حتفي مشي قدمي
…
أرى قدمي أراق دمي
فلم [أنفك]
(1)
من ندم
…
وليس بنافعي ندمي
وكان ذلك في دولة الملك الظاهر غازي ابن السلطان صلاح الدين يوسف، فحبسه ثم خنقه بإشارة والده صلاح الدين، وكان ذلك في خامس رجب سنة سبع وثمانين وخمسمائة بقلعة حلب، وعمره ثمان وثلاثون سنة. ويقال: إن صلاح الدين أمر بقتله فقتل وصلب أيامًا.
وقال ابن خلكان: وأقمتُ بحلب سنين للاشتغال بالعلم الشريف، ورأيت أهلها مختلفين في أمره، وكل واحد يتكلم على قدر هواه؛ فمنهم من ينسبه إلى الزندقة والإلحاد، ومنهم من يعتقد فيه الصلاح وأنه من أهل الكرامات، ويقولون: ظهر له بعد قتله ما يشهد له بذلك. وأكثر الناس على أنه كان ملحد لا يعتقد شيئًا. نسأل الله العفو والعافية.
وحَبَش بفتح الحاء المهملة والباء الموحدة وبالشين المعجمة. وأَمِيرَكْ معناه أُمَيِّر تصغير أمير، والعجم تلحق الكاف في آخر الاسم للتصغير.
القاضي أبو القاسم قاضي حماة، واسمه الحسين بن حمزة بن الحسين، كان فاضلًا جوادًا سمحًا، لا يُنزِل قِدْرَهُ من النار، يُضَيِّفُ الخلائق من الخاص والعام، وما اجتمع أحد بحماة من الأكابر إلا وأضافه. وكان السلطان صلاح الدين يحبه ويحترمه، كذا أخوه الملك العادل، وتقي الدين صاحب حماة.
قال صاحب المرآة
(2)
: وبلغني أن العادل اجتاز بحماة فأرسل إلى القاضى يقول: "أريد الحمام خلوة"، فأخلاه، فما خرج العادل من الحمام إلا وقد جهز له من الفواكه والأطعمة والحلاوات [137] فأكفاه وأصحابه. وما كان يقبل برّ أحد لا من صلاح الدين ولا غيره، ومات بحماة في هذه السنة وخلف ولدًا ذكرًا وللولد أولاد.
(1)
"أفتده في الأصل. والمثبت بين الحاصرتين من وفيات الأعيان، ج 6، ص 273.
(2)
انظر: مرآة الزمان، ج 8، ص 264 - 265.
أسعد بن المَطْران الطبيب، ويُلقب بالموفق، وكان نصرانيًا أسلم على يد السلطان، وكان غزير المروعة، حسن الأخلاق، كريم العشرة، جوادًا متعصبًا للناس عند السلطان ويقضي حوائجهم، وكان صحبه صبّي من المسلمين اسمه عمر، وكان حسن الصورة فأحسن إليه، وكان الموفق يحب أهل البيت ويبغض ابن عُنَين الشاعر لخبث لسانه، وقبح هجائه، وثلبه الأعراض الناس، ويحرّض السلطان على نفيه من البلاد. وقال: أليس هو القائل:
سلطاننا أعرج وكاتبه
…
أعمش والوزير منجذب
فهجاه ابن عنين وقال:
قالوا الموفقُ شيعيٌ فقلت لهم
…
هذا خلاف الذّى للناس منه ظهر
وكيف يجعل دين الرفضِ مذهبه
…
وما دعا إلى الإسلام غيرُ عُمر
وكان الموفق يعود الفقراء المرضى، ويحمل إليهم من عنده الأشربة والأدوية حتى أجرة الحمام، وزَوَّجهُ السلطانُ بجارية له يقال لها جوزة، وكانت من حظايا السلطان، ونقل معها جهازًا عظيمًا. ومات في ربيع الأول بدمشق، ودفن بقاسيون على قارعة الطريق عند دار زوجته جوزة. ولما مات اشترت زوجته دارًا وبنت إلى جانبها مسجدًا وبنت له تربة، وهي تعرف اليوم بدار جوزة. وقال السبط: ولما قدمت الشام في سنة ثلاث وستمائة كانت جوزة باقية، وكانت صالحة زاهدة عابدة.
الأمير سليمان بن جندر، من أكابر أمراء حلب، ومشايخ الدولتين النورّية والصلاحية، وهو والد علم الدين بن سليمان، وشهد سليمان مع صلاح الدين حروبه، وهو الذي أشار بخراب عسقلان لتتوفر العناية على حفظ القدس، ولما صعد السلطان إلى القدس مرض سليمان، فطلب المسير إلى حلب، فأذن له السلطان فسار، فتوفي بغباغب
(1)
في أواخر ذي الحجة، وحُمِلَ إلى حلب فدفن بها.
الأمير حسام الدين محمد بن عمر بن لاچين، صاحب نابلس، وأمه ست الشام بنت أيوب، أخت السلطان صلاح الدين، واقفة الشاميتين بدمشق، توفي ليلة الجمعة
(1)
غَباغب: قرية من أول عمل حوران من نواحي دمشق. معجم البلدان، جـ 3، ص 771.
تاسع عشر رمضان، ففجع السلطان به وبابن أخيه تقي الدين عمر؛ لأنهما ماتا في ليلة واحدة، وقد كان له من أكبر الأعوان وأعز الإخوان، ودفن حسام الدين في التربة الحساميّة، وهي التي أنشأتها له بمحلة العونية، وهي الشامية البرانية
(1)
. وكانت وفاته بدمشق، وكان شجاعًا مقدامًا.
الأمير الكبير الصَفِّى بن الفائض، نائب دمشق، وكان من أكبر أصحاب السلطان صلاح الدين قبيل المُلك، ثم استنابه على دمشق.
وفي المرآة: الصفى بن الفائض، وزير صلاح الدين واسمه نصر الله، وكان خدم السلطان لما كان شحنة دمشق وأمده بالمال، فرأى له ذلك، فلما ملك استوزره، وكان شجاعًا ثقة دينًا أمينًا، ولما نزل الفرنج دَاريا [138] والسلطان في الشرق، جمع من أهل دمشق سوادًا عظيمًا، وجمع إلى ظاهر البلد، فظنوهم عسكرًا فرحلوا. وكان كثير المعروف، وكتب أملاكه لمماليكه؛ لأنه لم يكن له ولد، وبني بالعقيلة مسجدًا ودفن به في رجب، ويعرف اليوم بمسجد الصفى. وكانت وفاته في الثالث والعشرين من رجب، رحمه الله.
الملك مظفر الدين قزل أرسلان، واسمه عثمان بن أيلد كز، قتل في شعبان من هذه السنة، وهو الذي ملك أذربيجان وهمذان وأصفهان والرى بعد أخيه محمد البهلوان، وكان قد قوى عليه السلطان طغريل السلجوقي وهزم عسكر بغداد - كما ذكرنا - ثم أن قزل أرسلان هذا تغلّب واعتقل السلطان طغريل بن أرسلان بن طغريل في بعض البلاد، وسافر قزل أرسلان بعد ذلك إلى أصفهان، وتعصب على الشافعية، وأخذ جماعة من أعيانهم فصلبهم، وعاد إلى همذان وخطب لنفسه بالسلطنة، ودخل لينام على فراشه، وتفرق عنه أصحابه، فدخل إليه من قتله على فراشه، ولم يعرف قاتله، والله أعلم. ويقال: نُسب قتله إلى الإسماعيلية. ويقال: إلى غيرهم. ولما أصبحوا قتلوا صاحب بابه، وجلس قُتلغ أينانج بن البهلوان موضعه، ومضى أخوه نصرة الدين أبو بكر إلى أذربيجان وأران
(2)
، واستولى عليهما، ثم جمع ومضى على سَمت همذان فلقي قتلغ
(1)
عن الشامية البرانية. انظر: المدارس، جـ 1، ص 277 - 278.
(2)
أرَّان: ولاية واسعة وبلاد كثيرة منها: كنجة وبرذعة وشمكور وبيلقان، وبين أذربيجان وأران نهر. انظر: معجم البلدان، جـ 1، ص 183.
أينانج وعسكره بين أَبْهَرْ
(1)
زنجان
(2)
فَكَسره وهزمه، ومضى إلى همذان وجلس على سرير ملكه، وذلك في سنة ثمان وثمانين على ما سيأتي إن شاء الله تعالى.
الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب، كان عزيزًا عند عمّه السلطان صلاح الدين، استنابه بمصر وغيرها من البلاد، ثم أقطعه حماة ومُدنًا كثيرة معها حولها، ومن بلاد الجزيرة، وكان مع عمه على عكا، ثم أستأذنه في الإشراف على بلاده المجاورة للفرات، فلما صار إليها اشتغل بها، وامتدت عينه إلى أخذ غيرها من أيدي الملوك الذين يجاورونه فقاتلهم، فاتفق موته وهو على ذلك، والسلطان صلاح الدين متغضب عليه بسبب اشتغاله بذلك عنه.
وقال العماد الكاتب
(3)
: توفى الملك المظفر تقي الدين عمر يوم الجمعة التاسع عشر من شهر رمضان، وهو على محاصرة ملازكرد من عمل أرمينية، وكتم ولدُه الملك المنصور ناصر الدين محمد وفاته إلى أن خرج من ذلك الإقليم سالمًا، وبعث إلى السلطان يسأله في إبقاء بلاد أبيه بيده، فلم يجب السلطان إليه.
وقال النويري: قد سار الملك المظفر تقي الدين عمر إلى البلاد المرتجعة من كُوكبُوري، التي زاده إياها عمّه السلطان من وراء الفرات، وهي حرّان وغيرها، فامتدت عين الملك المظفر إلى بلاد مجاورة، واستولى على سويداء
(4)
وحاني
(5)
، واتقع مع بكتمر صاحب أخلاط، فكسره وحصره في أخلاط، وتملك معظم البلاد ثم رحل عنها، ونزل ملازكرد - وهي لبكتمر - وضايقها، وكان [139] في صحبته ولده الملك المنصور محمد، فعرض للملك المظفر مرض شديد وتزايد به، حتى توفي يوم الجمعة لإحدى عشرة ليلة بقيت من رمضان، فأخفى الملك المنصور وفاته، ورحل عن ملازكرد، ووصل به إلى حماة، فدفن بها بظاهرها، وبني إلى جانب التربة مدرسة مشهورة هناك.
(1)
أبهر: مدينة مشهورة بين قزوين وزنجان وهمذان من نواحي الجبل، والعجم يسمونها أَوْهَر. معجم البلدان، جـ 1، ص 104 - 106.
(2)
زَنْجَان: بلد كبير مشهور من نواحي الجبال بين أذربيجان وبينها، وهي قريبة من أَبْهَر وقزوين. والعجم يقولون زنكان. معجم البلدان، جـ 2، ص 948.
(3)
الفتح القسى، ص 566.
(4)
سويداء بلدة مشكورة في ديار مضر قرب حران بينها وبين الروم، وأهلها نصارى أرمن في الغالب. معجم البلدان، جـ 3، ص 197.
(5)
حاني: مدينة بديار بكر. معجم البلدان، جـ 2، ص 188.
وكان الملك المظفر شجاعًا شديد البأس، ركنًا عظيمًا من أركان البيت الأيوبي، وكان عنده فضل وأدب، وله شعر حسن. ثم أرسل الملك المنصور إلى السلطان صلاح الدين واشترط عليه شروطًا نسبهُ السلطانُ فيها إلى العصيان، وكان أمره مضطربًا
(1)
بالكلية، فراسل الملك المنصور عمّه الملك العادل في استعطاف خاطر السلطان، فما برح العادل بأخيه السلطان يراجعه ويشفع في الملك المنصور حتى أجابه السلطان، وقرر للملك المنصور حماة وسلميّة والمعرة ومنبج وقلعة نجم. وارتجع السلطان البلاد الشرقية وما معها وأقطعها أخاه الملك العادل، بعد أن شرط السلطان أن الملك العادل ينزل عما الله من الإقطاع بالشام، خلا الكرك والشوبك والصلت والبلقاء إلى القدس، شرفه الله.
ولما استقر ذلك سار الملك العادل إلى البلاد الشرقية لتقرير أمورها فقررها، وعاد إلى خدمة السلطان في آخر جمادى الآخرة من السنة القابلة. ولما قدم العادل على السلطان صلاح الدين كان الملك المنصور صاحب حماة صحبته، فلما رأى السلطان الملك المنصور بن تقي الدين عمر نهض واعتنقه وبكي، وأكرمه وأنزله في مقدمة. عسكره. وقال بيبرس في تاريخه: توفى الملك المظفر تقي الدين المذكور بأرض أخلاط في حصار ملازكرد، ودفن بميافارقين ثم نقل إلى حماة، رحمه الله.
(1)
في الأصل "مضطرب". والصحيح لغويًا ما أثبتناه.
فصل فيما وقع من الحوادث في السنة الثامنة والثمانين بعد الخمسمائة
استهلت هذه السنة والخليفة هو الناصر لدين الله العباسي، وصاحب مصر والشام وغيرها من البلاد السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، وهو مقيم في القدس الشريف في دار الأقِسَّاء بجوار قمامة، وقد قسم السور بين أولاده وأجناده وهو يعمل فيه بنفسه، ويحمل الحجر بينه وبين قربوس
(1)
سرجه، والناس يقتدون به، والعلماء والفقراء يعملون بأنفسهم. والإفرنج لعنهم الله حول البلد من ناحية عسقلان، حول القدس وما والاها، لا يتجاسرون أن يتقدموا من اليزك والحرس الذين للسلطان حول القدس، إلا أنهم على نية محاصرة القدس مصممون، ولكيد الإسلام مجمعون، وهم والحرس تارة يَغلبون وتارة يُغلبون، وتارة يَنهبون وتارة يُنهبون
(2)
.
ذكر رحيل الفرنج إلى عسقلان
قال العماد الكاتب رحمه الله: رحل الإفرنج يوم الثلاثاء ثالث المحرم من الرملة إلى عسقلان، ونزلوا يوم الأربعاء بظاهرها وتشاوروا في إعادة عمائرها. وكان سيف الدين يازكوج
(3)
وعلم الدين قيصر والأسدية [140] نازلين في بعض أعمالها، مجدين في نقل غلالها. وركب ملك الإنكار عصر يوم الخميس ومعه حزبه من جند إبليس، فشاهد دخانًا على البعد، فساق متوجهًا إلى تلك الجهة، وتبعه عسكره. فما شعر أصحابنا إلا بالكبسة بغتة، وذلك وقت المغرب وهم مجتمعون على الإفطار، وكانوا نازلين في موضعين، فلم ير العدو إلا أحد القسمين فقصده بحزبه، فعرف القسم الآخر هجوم العدو، فركبوا إلى العدو فدفعوه حتى ركب رفقاؤهم المقصودين، واجتمعوا وردوا العدو، ثم تكاثر الفرنج عليهم فاندفعوا من بين أيديهم وساقوا أثقالهم قدامهم، وما فقد من المسلمين إلا أربعة أنفس ونجا الباقون. وكانت نوبة عظيمة رفع الله خطرها
(4)
.
(1)
القربوس: هي الخشبة الصغيرة القائمة في مقدم السرج. انظر: محيط المحيط، جـ 2، ص 1684.
(2)
ورد هذا النص بتصرف في الفتح القسى، ص 581 - 582؛ الروضتين، جـ 2، ص 196؛ البداية والنهاية،
جـ 12، ص 347.
(3)
عن سيف الدين يازكوج الأسدي، انظر: وفيات الأعيان، جـ 7، ص 170 - 171.
(4)
انظر: الفتح القسى، ص 583، الروضتين، ج 2، ص 196.
ذكر السرايا الثلاث
بتاريخ يوم الثلاثاء عاشر المحرم، ركب السلطان صلاح الدين من القدس على عادته في نقل الحجارة والجد في العمارة، ومعه أولاده الملوك والأمراء والقضاة والعلماء والصوفية والزهاد والأولياء، ولما دخل وقت الظهر نزل في خيمة ضربها ولده الملك الظاهر بالصحراء، وأحضر فيها السماط، ورعي ناسًا من الأمراء فحضروا وأكلوا، وصلي السلطان الظهر هناك وركب عائدًا إلى داره، وأمر بتجهيز السرايا. فتجرد عز الدين جرديك في سرية فأغار بهم يوم الأربعاء الحادي عشر من المحرم على يُبني
(1)
، وفيها الإفرنج بنية السكني، فغنموا اثني عشر أسيرًا وخيلًا ودوابًا كثيرة.
وفي يوم الثلاثاء ثاني صفر، أغارت السرية، وفيها عز الدين جرديك وعسكر القدس وجماعة من المماليك، على ظاهر عسقلان، وغنموا ثلاثين أسيرًا وخيولًا وبغالًا. وفي ليلة الأحد رابع عشر صفر، باتت سرية فيها فارس الدين ميمون
(2)
القصري بتل الجَزَر
(3)
، وساروا حتى أصبحوا على يُبني، وكمنوا وصبروا إلى أن استرسل الإفرنج إلى الطريق وأمنت، ثم ظهرت السرية على قافلة الإفرنج فكبسوها وأخذوها بأسرها مع رجالها وأحمالها وبغالها وأثقالها. ثم أغاروا على يافا، فقتلوا وهتكوا وغنموا وعادوا بالغنيمة والسبايا، وعجزت جماعة من المشي فضربوا أعناقهم صبرا
(4)
.
ذكر خروج على بن أحمد المعروف بالمشطوب من الأسر
وفي ربيع الآخر وصل الأمير سيف الدين على المذكور إلى السلطان بالقدس الشريف وقد خلص من الأسر، وكان أسيرة حين كان نائبا على عكا، فافتدى نفسه منهم بخمسين ألف دينار، فأعطاه شيئًا كثيرة منها، ثم استنابه على نابلس فتوفي بها في شوال منها
(5)
.
(1)
يُبْني: بليدة قرب الرملة. انظر: معجم البلدان، جـ 4، ص 1007.
(2)
فارس الدين ميمون القصري: أحد الأمراء بدولة الظاهر غازي بن صلاح الدين، كما كان أميرًا من أمراء العزيز عثمان بن صلاح الدين، توفي بحلب سنة 610 هـ. انظر: المختصر في أخبار البشر، جـ 3، ص 115.
(3)
تل الجزر: حصن من أعمال فلسطين. انظر، معجم البلدان، جـ 1، ص 866.
(4)
انظر الفتح القسى، ص 586.
(5)
انظر الفتح القسى، ص 587؛ مفرج الكروب، جـ 2، ص 381.
وقال العماد الكاتب: قرر سيف الدين على المذكور قطيعة خمسين ألف دينار، فأدى منها ثلاثين، وأعطى رهائن على عشرين، ووصل إلى القدس واجتمع بالسلطان يوم الخميس مستهل شهر ربيع الآخر، فقام إليه واعتنقه وأقطعه نابلس وأعمالها، ثم عيَّن السلطان ثلث نابلس لمصالح للبيت المقدس وتشييد سوره
(1)
.
ذكر عصيان الملك المنصور ابن الملك المظفر تقي الدين وما جرى له وعليه في ذلك
وفي النوادر: ويوم وصول المشطوب، كتب السلطان إلى ولده الملك الأفضل بأن يسير إلى الفرات ويتسلم البلاد من الملك المنصور ابن الملك المظفر تقي الدين، وكان قد أظهر العصيان بسبب الخوف على نفسه من السلطان [141] وأظهر ذلك، وكتب إلى الملك الظاهر بحلب - وكان قد سافر إليها - أنه إن أحتاج أخوك إلى معونة أعنه. وجهز السلطان صلاح الدين ولده الأفضل بحملة كبيرة، وسار باحترام عظيم حتى وصل إلى حلب، وأكرمه أخوه الملك الظاهر إكرامًا عظيمًا، وعمل له ضيافة تامة، وقدم بين يديه تقدمة سنية
(2)
. وأما الملك المنصور فإنه لما بلغه موجدة
(3)
السلطان عليه، أرسل إلى الملك العادل رسولًا يستشفع به ليطيب قلب السلطان، ويعطيه إما حران والرها وشميساط، وإما حماة ومنبج وسلمية والمعرة، فراجع الملك العادل السلطان مرارًا بسببه فلم يفعل ذلك ثم كثرت الشفاعة إليه من جميع الأمراء، وهزت له شجرة الكرم، فرجع إلى خُلقه الحسن وحلف له على حران والرها وشميساط، على أنه إذا عبر الفرات أعطى المواضع المذكورة ويتخلى عن البلاد التي في يده، ودخل في هذا الضمان الملك العادل، ثم التمس العادل خط السلطان فأبى، وألح عليه، فمزق نسخة اليمين في التاسع والعشرين من ربيع الآخر، وانفصل الحال وانقطع الحديث.
(1)
انظر: الفتح القسى، ص 587؛ مفرج الكروب، جـ 2، ص 381؛ البداية والنهاية، جـ 12، ص 348.
(2)
إلى هنا توقف العينى عن النقل من النوادر السلطانية، ص 207.
(3)
الموجدة: الغضب. انظر: القاموس المحيط، مادة "وجد"، جـ 1، ص 356.
وقال قاضي القضاة بهاء الدين: كنت المتردد بينهما في ذلك، وأخذ من السلطان الغيظ، كيف يُخاطب بمثل ذلك من جانب بعض أولاد أولاده
(1)
؟ قال القاضي: ثم أرسلني السلطان إلى العادل والأمراء بأن يتشاوروا في أمر الملك المنصور، فاجتمعوا في خدمة العادل، فانتدب الأمير حسام الدين أبو الهجاء وقال: نحن عبيد السلطان ومماليكهـ وذاك صبي، وربما حمله خوفه حتى انضاف إلى جانب آخر، ونحن ما نقدر على الجمع بين قتال المسلمين والكفار، فإن أراد السلطان قتال المسلمين يصالح الكفار ونسير نحن إلى ذلك الجانب ونقاتل بين يديه، وإن أراد ملازمة الغزاة صالح المسلمين ويسامحهم. فاتفق الجميع على هذا الكلام. فعند ذلك دق قلب السلطان، وجُددت نسخة يمين لابن تقي الدين وحلف له بها، وأعطى خطه بما استقر من الأمر. ثم أن العادل طلب من سلطان البلاد التي كانت بيد ابن تقي الدين، وتكررت مراجعات العادل في ذلك. قال القاضي: وكنت الرسول بينهما، وكان آخر ما استقر أنه يتسلم تلك البلاد وينزل عن كل ما هو شامي الفرات، ماعدا الكرك والشوبك والصلت
(2)
والبلقاء، وخاصّته بمصر، وذلك بعد أن قرر على نفسه في كل سنة ستة آلاف غرارة غلة، تحمل للسلطان من الصلت والبلقاء إلى القدس، وأخذ خط السلطان بذلك. ثم سار بنفسه ليصلح ابن تقي الدين ويطيب قلبه، وكان مسيره في الثامن من جمادى الأولى من هذه السنة
(3)
.
ثم أن السلطان سير إلى الملك الأفضل يأمره بالعود من قصد تلك البلاد، وكان قد وصل إلى حلب - كما ذكرناه - فعاد مع انكسار في قلبه وتشوش في باطنه، فوصل إلى دمشق معتبًا ولم يحضر إلى خدمة السلطان، فلما اشتد خبر الإفرنج سير إليه وطلبه، فما وسعة التأخر، فسار مع من وصل من العساكر الشرقية إلى دمشق، وكان وصوله يوم الخميس التاسع عشر من جمادى الآخر، فلقيه السلطان قريب العازرية
(4)
وترجل له جبرًا لقلبه [142] وتعظيمًا لأمره، وساروا في خدمته، وكان فيهم أخواه الملك الظافر وقطب الدين في ظاهر القدس من جهة العدو
(5)
.
(1)
نقل العينى هذا الحدث بتصرف من ابن شداد، النوادر السلطانية، ص 208؛ مفرج الكروب، جـ 2، ص 385 - 386.
(2)
الصلت: بليدة وقلعة من جند الأردن في جبل الغور الشرقي جنوبي عجلون. انظر: تقويم البلدان، ص 245.
(3)
إلى هنا توقف العينى عن النقل من النوادر السلطانية، ص 209.
(4)
العازريّه: قرية ببيت المقدس بها قبر العازر. انظر: معجم البلدان، جـ 3، ص 586.
(5)
انظر: النوادر السلطانية، ص 215.
وأما الملك المنصور، فإنه قد تسلم البلاد التي عينها له السلطان، ووصل إلى خدمة الملك العادل يوم السبت الحادي عشر من شعبان، فنزل عنده، ثم ركب العادل إلى السلطان يخبره بوصوله، وسأله في احترامه وإكرامه وطلاقه الوجه له. ثم أن المنصور لما قرب من السلطان استأذن ولده الظاهر في لقائه فأذن له في ذلك، فلقاه في بيت نوبة
(1)
، فنزل عنده وفرح بلقائه، وأقام عنده إلى العصر وذلك في يوم الأحد، ثم أخذه وسار به جريدة حتى أتي خيمة السلطان، فدخل عليه واحترمه واعتنقه وضمه إلى صدره، ثم غشيه البكاء فبكى بكاء كثيرًا حتى بكى الناس لبكائه، ثم باسطه وسأله عن الطريق، ثم قام وبات في خيمة ولده الملك الظاهر إلى صبيحة يوم الاثنين، ثم ركب وعاد إلى عسكره، ونشروا الأعلام والبيارق
(2)
. وكان معه عسكر جميل، فقرت عين السلطان بذلك، وكان ذلك في صبيحة يوم الاثنين الثالث عشر من شعبان، ونزل في مقدمة العسكر مما يلي الرملة
(3)
. وكان قدوم الملك الظاهر إلى خدمة والده السلطان يوم السبت الخامس من رجب في هذه السنة، ونزل في دار الإستبار وفرح السلطان به.
ذكر هلاك مركيس - لعنه الله - صاحب صور
وفي ثالث عشر ربيع الآخر يوم الثلاثاء، قتل مركيس لعنه الله؛ أرسل إليه ملك الإنكتار اثنين من [الفداوية]
(4)
فأظهرا [التنصر]
(5)
ولزما الكنيسة حتى ظفرا بالمركيس فقتلاه.
(6)
وقال العماد الكاتب: فمسكهما الفرنج فوجدوهما من الفداوية
(7)
الإسماعيلية مرتدين، فسألوهما: "من وضعكما على هذا التدبير؟ فقالا ملك الإنكتار، وذكرا أنهما تنصرا منذ ستة أشهر، وكان خدم أحدهما ابن بارزان، والآخر صاحب صيدا، لقربهما من المركيس، فبهذا الطريق وصلا إلى المركيس فقتلاه، ثم قتلهما الإفرنج أشد قتلة.
(1)
بيت نوبة: أو نوبا، بليدة من نواحي فلسطين. انظر: معجم البلدان، جـ 1، ص 781.
(2)
البيرق: معرب اللفظ الفارسي بيراق ومعناها الراية والعلم واللواء. انظر: القس طوبيا "العيسى الحلبي": تفسير الألفاظ الدخيلة في اللغة العربية مع ذكر أصلها، ص 15، القاهرة 1932.
(3)
انظر: النوادر السلطانية، ص 230 - 231.
(4)
"الداوية" في الأصل. والمثبت هو الصحيح.
(5)
"النصر" كذا في الأصل، والمثبت هو الصحيح من الفتح القسى، ص 589.
(6)
النص الذي أورده العينى مضطرب ولا يتسق مع سياق الحدث ويتضح ذلك مما أورده العماد في الفتح القسي، ص 589.
(7)
الفداوية: إحدى فرق الإسماعلية، وقد سمتها العامة باسم الفداوية. انظر: خطط الشام، جـ 6، ص 263.
ثم لما قتل المركيس وذهبت روحه إلى الهاوية، استناب ملك الإنكتار على صور ابن أخته الكندهرى، وهو ابن أخت ملك الإفرنسيس لأبيه فهما خالاه، ولما سار إلى صور ابتنى بزوجة المركيس - بعد موته بليلة واحدة - وهى حبلى أيضاً، وذلك لشدة العداوة التى كانت بين ملك الإنكتار وبينه
(1)
.
وفى النوادر: وكان المركيس تغدى يوم الثلاثاء المذكور عند الأسقف ثم خرج، فقفز عليه اثنان من أصحابه بالسكاكين، وكان خفيفا من الرجال، فما زالا يضربان حتى عجل الله بروحه إلى النار، وقام بالأمر اثنان فحفظا القلعة إلى أن اتصل الخبر بالملوك واعتمدوا الأمر وتدبير المكان
(2)
.
وفى تاريخ ابن كثير
(3)
: وكان ملك الإنكتار يراسل السلطان صلاح الدين في المصالحة [143] والمسالمة، كلما كان يرى أن المركيس يراسله ويهادنه، ثم لما هلك المركيس - لعنه الله - طاب قلب ملك الإنكتار وذهب خوفه وقوى عزمه، [وأرسل]
(4)
إلى السلطان في طلب المناصفة على البلاد، سوى القدس فإنه يكون للمسلمين سوى القمامة، فلم يجب السلطان إلى ذلك.
ذكر استيلاء الفرنج على قلعة داروم
وفى تاسع جمادى الأولى استولى الإفرنج لعنهم الله على قلعة الداروم فخربوها، وقتلوا خلقاً كثيرًا من أهلها، وأسروا طائفة من الداوية بها. وقال العماد: وكانت قلعة داروم ضرراً عظيما لما كانت مع الفرنج، فلما فتحها المسلمون تركوها وأملوها بالذخائر والرجال، وخربوا عسقلان وغزة دون داروم، وتسلمها علم الدين قيصر
(5)
على أن يحفظها، فلما شرع الإفرنج في إعادة عمارة عسقلان تردّدوا إليها مرارا وأشرفوا عليها،
(1)
انظر: الفتح القسى، ص 589 - ص 590؛ النوادر السلطانية، ص 280؛ البداية والنهاية، جـ 12، ص 372؛ مفرج الكروب، جـ 2، ص 382.
(2)
النوادر السلطانية، ص 280.
(3)
البداية والنهاية، جـ 12، ص 372. أما تفاصيل هذا الخبر فوردت في الفتح القسى، ص 590، النوادر السلطانية، ص 203 - 205 حيث وردت في أحداث سنة 587 هـ.
(4)
"وراسل" في الأصل. والمثبت هو الصحيح من البداية والنهاية، جـ 12، ص 372.
(5)
علم الدين قيصر: هو الشيخ الفقيه الرياضى علم الدين قيصر بن أبى القاسم عبد الغنى بن مسافر الحنفى المصرى المعروف بتعاسيف، كان إمامًا في علوم الرياضية في مصر ودمشق، ولد في سنة 574 هـ بأصفون من شرقى صعيد مصر، توفى يوم الأحد ثالث عشر رجب عام 649 هـ بدمشق، انظر: الإدفوى: الطالع السعيد، ص 469؛ المختصر في أخبار البشر، جـ 3، ص 186؛ وفيات الأعيان، جـ 5، ص 315 - 318؛ السلوك، ج 1 ق 2، ص 382.
وأنفق السلطان على جماعة وقواها بهم. ثم نزل الفرنج عليها بقضهم وقضيضهم، واشتد زحفهم عليها عشية السبت تاسع جمادى الأولى، بعد أن أخذوا فيها نقبا، فطلب أهلها الأمان فلم يجابوا، وطلبوا من قيصر وجماعته النجدة فلم ينجدوا. ولما عرف الوالى أنهم مأخوذون، محمد إلى الخيل والجمال والدواب فعرقبها، وإلى الذخائر فأحرقها. وفتحوها بالسيف وأسروا منها عدة يسيرة، ثم لم يلبثوا بها ولم يرغبوا فيها. ورحلوا عنها ونزلوا على ماء يقال له الحسىُ، وهو قريب من جبل الخليل عليه السلام، وذلك في يوم الخميس رابع عشر الشهر المذكور. ثم تركوا خيامهم وساروا وقصدهم قلعة هناك يقال لها مجدل حباب، فخرجت عليهم أسد اليزكية المكمنة من الغاب فقاتلوهم قتالاً شديدًا، وقتل منهم من جملة من قتل كندٌ كبير، وعادوا مغلولين مخذولين مهزومين، ثم رحل الإفرنج من الحسى يوم الأحد سابع عشر الشهر المذكور، وتفرقوا فرقتين بعضهم عادت إلى عسقلان، وبعضهم جاؤا إلى بيت جبرين
(1)
.
ذكر قصد الإفرنج بيت المقدس شرفه الله
وفى يوم السبت الثالث والعشرين من الشهر المذكور، نزلت الإفرنج بجموعهم الوافرة بتل الصافية، ونزلوا يوم الثلاثاء السادس والعشرين بالنطرون
(2)
، فأرجفت الألسن بأنهم على قصد بيت المقدس، ثم ضربوا خيامهم يوم الأربعاء على بيت نوبة. وأمر السلطان صلاح الدين رحمه الله بنقل الأزواد، وفرق الأبراج على الأمراء والأجناد. وكان قد سار من عرب الإسلام جماعة للغارة على يافا، فوصلوا عائدين من غير علم بحركة العدو، فنزلوا في بعض الطريق يقتسمون، فوقعت عليهم عسكر للعدو وأخذوهم، وهرب منهم ستة نفر فوصلوا إلى السلطان وأخبروه الخبر، ووصلت الجواسيس وأصحاب الأخبار من جانب العدو، أنهم مقيمون بالنطرون لنقل [144] الأزواد والآلات التى تدعو الحاجة إليها في الحرب، فإذا حصل عندهم ما يحتاجون إليه قصدوا القدس
(3)
. وكان السلطان رحمه الله قد سير إلى العساكر من سائر الأطراف أن سابقوا إلى الحضور، وكان أول من قدم بدر الدين دلدروم مع خلق كثير من التركمان، ولقيه السلطان وأكرمه. ثم وصل بعده
(1)
انظر: الفتح القسى، ص 591 - ص 592.
(2)
النطرون: حصن كان للداوية قرب الرملة بجنوب فلسطين واسمه أيضاً "أطرون". انظر: معجم البلدان، جـ 1، ص 310.
(3)
إلى هنا ينقل العينى من ابن شداد، النوادر السلطانية، ص 212.
عز الدين بن المقدم بعسكر حسن وأطلاب جيدة، ثم أمر السلطان بخروج العسكر إلى العدو
(1)
، فخرجوا إلى خيامهم يتخطفوهم وجرت واقعة بعد وقعة وكبسوهم كبسة بعد كبسة. وكان الأمير دلدروم صاحب تل باشر في اليزك ليلة الجمعة التاسع والعشرين، فبعث من أصحابه إلى طريقهم من يافا، فجازت بهم فرسان من الفرنج، فخرجوا عليهم وقتلوا وأسروا. وفى يوم السبت سلخ الشهر نزلت الناس إليهم وقاتلوهم في خيامهم، وركب العدو وساقوا إلى قلونية، وهى ضيعة من ضياع القدس على فرسخين، ثم عادوا بائدى الشأن بادين الشين، وعساكر الموحدين قد ركبوا أكتافهم وغنموا ورجعوا سالمين
(2)
.
وفى النوادر: وكان طريق يافا سابلة لمن ينقل الميرة إلى العدو، فأمر السلطان مَنْ في اليزك أن يعملوا معهم ما يمكنهم، وكان في اليزك بدر الدين دلدروم، فكَمَّن حول الطريق كمينا فيه جماعة جيدة، فمر بهم جمع من خيالة العدو [يحمون]
(3)
قافلة تحمل ميرة، فحمل عليهم وجرى قتال عظيم، فقتلوا منهم ثلاثين نفرا، وأسروا جماعة. ووصل الأسرى يوم السبت تاسع عشرى جمادى الأولى إلى القدس، وكان يوم دخولهم يومًا مشهودا. وفى يوم الثلاثاء ثالث جمادى الآخرة خرجت الأتراك على جماعة منهم، فأخذوا منهم وقتلوا، وجرحت من الأتراك جماعة
(4)
.
ذكر كبسة الإفرنج على عسكر مصر الواصلين
كان السلطان صلاح الدين رحمه الله يستحث عسكر مصر بكتبه ورسله، يدعوهم نجدة لأهل القدس على أهل الكفر، فضرب العسكر خيامهم على بلبيس
(5)
مدة حتى اجتمع الرفاق، وانضم إليهم التجار، وللفرنج جواسيس يجسون الأخبار ويُعَرِّفون ملكهم بذلك. وجاء الخبر من اليزكية إلى السلطان ليلة الاثنين التاسع من جمادى الآخرة، أن العدو ملك الإنكتار ركب في سبعمائة فارس مردفين بألف راجل، وسار عصر
(1)
"البدو" كذا في الأصل والمثبت هو الصحيح.
(2)
انظر: الفتح القسى، ص 592.
(3)
"يحملون" في الأصل. والتصحيح من النوادر السلطانية، ص 212.
(4)
ورد هذا النص بتصرف في النوادر السلطانية، ص 212 - ص 213.
(5)
بلبيس: إحدى مدن محافظة الشرقية، ذكر المقريزى أنها تبعد عن الفسطاط 24 ميلا، وهى على طريق الشام.
انظر: الخطط، جـ 3، ص 323 - ص 324. ولمزيد من التفاصيل، انظر: القاموس الجغرافى، ق 2 جـ 1، ص 100 - 101.
يوم الأحد، ولا يدرى أي جانب قصدوا. فجرد السلطان أميرًا ومعه عدة من العادلية، وأمرهم بأن يأخذوا في طريق البرية، فعبروا على ماء الحسُى قبل وصول العدو إليه.
وكان مقدم العسكر المصرى فلك الدين [سليمان]
(1)
أخو العادل لأمه، ولم يسأل عن المنازل والمراحل، وقصد أقرب الطرق، وترك الأحمال على طريق أخرى سائرة، وجاء ونزل على ماء تعرف بالخُوَيلفة
(2)
، ونادى تلك الليلة: أنا جزنا مكان المحافة فلا رحيل إلى الصباح. [145] فاغتر الناس بذلك وناموا مغفلين، فصبَّحهم العدو عند انشقاق الصبح بالصدمة الشاقة، وبغتوهم بغتة، فركب كل منهم إلى وجهة، ومنهم من ركب فرسه عريانا، فتفرقوا في البرية وعاد معظمهم إلى مصر، ومنهم من عاج
(3)
إلى طريق الكرك. فأخذ الكفار جمالا لاتعد، وأحمالا لا تحد
(4)
.
وقال ابن كثير: فكبسوهم ليلا وقتلوا منهم خلقا كثيرًا، وأسروا منهم خمسمائة أسير، وغنموا شيئاً كثيرًا من الأموال والجمال والبغال والخيل، فكانت جملة الجمال ثلاثة آلاف بعير، والتجار الذين معهم نهبت كلهم، فتقوى الفرنج بذلك شيئاً كثيرًا
(5)
.
وفى النوادر: وكان السلطان قد أوصى عسكر مصر بالاحتراز عند مقاربة العدو، وكانت معهم قوافل كثيرة، واتصل خبرهم إلى العدو من العرب المفسودين، وركب اللعين ملك الإنكتار في ألف راكب مردفين بألف راجل، وسار حتى أتى تل الصافية فبات وعلَّق
(6)
على خيله فيه، ثم سار حتى أتى ماء يقال له الحسىُ، وكان السلطان قد أرسل جماعة وصلوا إلى الماء المذكور قبل العدو، ولكن لم يقيموا عليها، وساروا حتى اتصلوا بالعسكر المصرى والقوافل، ثم قصدوا قُرب الطريق؛ فساروا إلى أن وصلوا إلى ماء يقال له الخويلفة، وتفرق الناس لأجل الماء، فأخبرت العربُ العدو بذلك وهم نازلون برأس الحسى، فقاموا من وقتهم وسَرَوْا حتى أتوهم قبيل الصبح فكبسوا عليهم، وكان
(1)
ما بين الحاصرين إضافة من الكامل، جـ 12، ص 39، المطبعة الأزهرية.
(2)
الخُويلفة: موضع بنواحى فلسطين. انظر: معجم البلدان، جـ 2، ص 501.
(3)
عاج إلى: مَالَ وانعطف. انظر: لسان العرب، مادة "عوج".
(4)
نقل العينى هذا النص بتصرف من الفتح القسى، ص 593 - ص 594.
(5)
نقل العينى هذا النص بتصرف من البداية والنهاية، جـ 12، ص 370 - 371؛ الكامل، جـ 12، ص 39، المطبعة الأزهرية.
(6)
"علَّف" في النوادر السلطانية، ص 213.
الشجاع القوى الذى ركب فرسه ونجى بنفسه. وانقسم القفل ثلاثة أقسام؛ قسم قصدوا الكرك مع جماعة من العرب وعسكر الملك العادل، وقسم أوغلوا في البرية مع جماعة من العرب، وقسم استولى عليهم العدو فساقوهم بجمالهم وأحمالها وجميع ما معهم. وكان في العسكر المصرى جماعة من المذكورين كحسين الجراحى، وفلك الدين، وبنى الجاولى، وآخرين. وقتل من العدو زهاء مائة فارس، وقيل لم يقتل سوى عشرة أنفس، ولم يقتل من المسلمين المعروفين سوى الحاجب يوسف، وابن الجاولى الصغير. وتفرق الناس في البرية ورموا أموالهم. وجمع العدو ما أمكنهم
(1)
جمعه من الخيل والبغال والجمال والأقمشة وسائر أنواع الأموال. وكلف ملك الإنكتار الجمالين بخدمة الجمال، والخربندية
(2)
بخدمة البغال، والساسة بخدمة الخيل، وسار في جحفل من غنيمته، فطلب عسكره فنزل على الخويلفة وسقى منها دوابه، ثم سار حتى أتى الحسىُ، فكانت هذه الوقعة
(3)
صبيحة يوم الثلاثاء الحادى عشر من جمادى الآخرة من هذه السنة
(4)
.
قال القاضى بهاء الدين: ووصل الخبر إلى السلطان في عشية ذلك اليوم بعد عشاء الآخرة، وكنت جالسا في خدمته، فما مر بالسلطان خبر أنكى منه في قلبه [146]، ولا أكثر تشويشًا منه لباطنه، وأخذتُ في تسكينه وتسليته وهو لايقبل ذلك ولكن يقول: الأمر لله، ويكرر ذلك. قال: وكان وصول العدو إلى مخيمهم في سادس عشر جمادى الآخرة، وكان يومًا عظيمًا عندهم، أظهروا فيه السرور والفرح ما لا يمكن وصفه، وأعادوا خيامهم إلى الموطاة
(5)
على بيت نوبة، وصح عزمهم على القدس، وقويت نفوسهم بما حصل لهم من الغنائم والأشياء الواصلة من مصر، ورتبوا جماعة على لُدّ
(6)
، يحفظون الطريق على من ينقل الميرة، وأنفذوا الكندهرى إلى صور وطرابلس وعكا يستحضر من فيها من المقاتلة ليصعدوا إلى القدس.
(1)
"أمكنه" في النوادر السلطانية، ص 214.
(2)
الخربندة: كلمة فارسة تعنى خادم مطيع حسن مجيب. المعجم الفارسى العربى الجامع، ص 132، القاهرة 1984.
(3)
عن هذه الوقعة، انظر: النوادر السلطانية، ص 214.
(4)
ورد هذا النص بتصرف في النوادر السلطانية، ص 214.
(5)
"الوطاه" كذا في الأصل. والتصحيح من النوادر السلطانية، ص 214.
(6)
لُدَّ: قرية قرب بيت المقدس من نواحى فلسطين. انظر: معجم البلدان، جـ 4، ص 354.
وفى
(1)
المرآة: وكانوا قد قصدوا أن يسيروا إلى مصر ثم [عدلوا]
(2)
عن ذلك، وقووا عزمهم على القدس، واستدعوا الفارس والراجل، فاجتمع عندهم خلق عظيم، فساروا من الرملة إلى بيت نُوبة.
ذكر تصميم الفرنج على محاصرة القدس
ولما جرى ما ذكرنا، شاور السلطان الأمراء في القدس وقال لهم: أنتم جند الإسلام ومنعته، ودماء المسلمين وأموالهم وأهاليهم متعلقة بكم، فإن جبنتم طووا البلاد طيًا وكنتم المطالبين بذاك. فقالوا: نحن مماليكك وما تطير رؤوسنا إلا بين يديك. وافترقوا على هذا
(3)
. ثم تهيأ السلطان لذلك وأكمل السور وعمق الخنادق ونصب الآلات والمجانيق، وأمر بتغوير ما حول القدس من المياه، ثم أحضر الأمراء ليلة الجمعة التاسع عشر من جمادى الآخرة وفيهم أبو الهيجاء السمين، والمشطوب، والأسدية بكمالهم، فاستشارهم السلطان فيما قد دهم من الأمر الفظيع، فأفاضوا في الكلام
(4)
وأشار كل برأى. وأشار العماد الكاتب بأن يتحالفوا على الموت عند الصخرة، كما كانت الصحابة رضي الله عنهم يفعلون، فأجابوا إلى ذلك كلهم.
هذا كله والسلطان ساكت واجم مفكر، فسكت القوم حتى كأن على رؤوسهم الطير، ثم قال: الحمد لله والصلاة على رسول الله، اعلموا أنكم جند الإسلام اليوم، وليس لهذا العدو من يلقاه غيركم، فإن طويتم أعِنَّتكم - والعياذ بالله - طووا البلاد كطى السجل للكتاب. وقال: ذلك في ذمتكم، وأكلتم مال بيت مال المسلمين، فالمسلمون في سائر البلاد متعلقون بكم. فانتدب لجوابه سيف الدين المشطوب وقال: يا مولانا نحن مماليكك وعبيدك وأنت الذى أنعمت علينا وأعطيتنا وأغنيتنا، وليس لنا إلا رقابنا وهى بين يديك، والله ما يرجع أحد منا عن نصرتك إلى أن تموت بين يديك. فقال بقية
(1)
نقل العينى هذا النص بتصرف من النوادر السلطانية، ص 215.
(2)
"عادوا" كذا في الأصل. والتصحيح من مرآة الزمان، جـ 8، ص 267.
(3)
إلى هنا توقف العينى من النقل من مرآة الزمان، جـ 8، ص 267. ولمعرفة المزيد عن هذا الحدث انظر: النوادر السلطانية، ص 216.
(4)
انظر: البداية والنهاية، جـ 12، ص 348؛ النوادر السلطانية، ص 216.
القوم مثل ما قال. ففرح السلطان وطاب قلبه ومد لهم سماطا حافلاً، وانصرفوا من بين يديه على ذلك. ثم بلغه بعد ذلك عن بعض الأمراء أنه قال: إنا نخاف أن يجرى علينا في هذه البلدة كما جرى في عكا، ثم يأخذون بلاد الإسلام بلدا بلدا، والمصلحة أن نلقاهم بظاهر البلد، فإن هزمناهم أخذنا بقية بلادهم، [147] وأن تكن الأخرى سَلَّمَ الله العسكر، ومضى القدس، وقد انحفظت بلاد الإسلام بدون القدس مدة طويلة.
وكان مما بعثوا إلى السلطان يقولون: أن كُنت تريدنا نقيم بالقدس تحت حصر الإفرنج فكُن أنت معنا، أو بعض أهلك، حتى يكون الجيش تحت أَمْرِه، فإن الأكراد لا يطيعون الترك، والترك لا يطيعون الأكراد.
فلما بلغه ذلك شق عليه مشقة عظيمة، وبات ليلة ذلك أجمع مهموماً كئيبا، مفكراً فيما قالوا، ثم انجلى الأمر، واتفق الحال على أن يكون الملك الأمجد صاحب بعلبك مقيما عندهم نائبا عنه بالقدس الشريف، وكان ذلك نهار الجمعة، فلما حضرت صلاة الجمعة وأذَّن المؤذنون قام فصلى ركعتين بعد الأذانين، وسجد وابتهل إلى الله تعالى ابتهالاً عظيما، وتضرع لديه وتمسكن، وسأله فيما بينه وبينه في كشف هذه الضائقة العظيمة
(1)
.
وفى المرآة: وبعد افتراق الأمراء من عند السلطان بعد المشاورة، اختلفت الأمراء في الليل، فقال بعضهم: ما نقيم حتى يكون السلطان معنا، نخاف أن يجرى علينا ما جرى على أهل عكا. وبلغ السلطان ذلك، فبعث إليهم يقول: هذا مجد الدين بن فرخشاه ابن أخي يكون عندكم، وأكون أنا من برًا أَذُبُّ عنكم، فقالوا: ما هذا برأى، وإنما نخرج ونصدقهم الحملة، فإن قهرناهم وإلا سلم العسكر ونمضى إلى دمشق. فعز عليه ذلك خوفا على القدس ومن فيه من المسلمين، وبات ليلة الجمعة ساهرا باكيا متضرعا، وبعث بالصدقات إلى الفقراء. وطلع الفجر، فجلس إلى الضحى يدعو، ومضى إلى المسجد الأقصى فدخل المقصورة وسجد وبكى وتضرع إلى الله تعالى. وكان جرديك في اليزك فجاءت منه رقعة يقول: قد ركبوا بأسرهم.
(1)
انظر: البداية والنهاية، جـ 12، ص 349: النوادر السلطانية، ص 217؛ مفرج الكروب، جـ 2، ص 387 - 388.
وبات السلطان ليلة السبت قلقا ما عرف المنام، فلما طلع الصباح جاء جرديك مسرعا فيقال للسلطان: نهنيك، رحلوا نحو الرملة، فسجد السلطان، وانكشفت أخبارهم. وسبب رحيلهم أن السلطان كان قد أمر بِطَمِّ الصهاريج والآبار التى كانت حول القدس، فقال لهم ملك الإنكتار: من أين نشرب؟ قالوا: من العيون التى حول القدس، قالوا: يتخطفوننا
(1)
.
وقال صاحب النوادر: فقالوا: نشرب من ماء
(2)
نقوع بينه وبين القدس مقدار فرسخ. فقال الملك: كيف نذهب إلى السقى؟ فقالوا: ننقسم قسمين؛ قسم يركب إلى السقى مع الدواب، وقسم يبقى على البلد في المنزلة، ويكون الشرب في اليوم مرة. فقال الملك: إذًا يأخذ العسكر البرانى الذى يذهب مع الدواب، ويخرج عسكر البلد على الباقين، ويذهب دين النصرانية، فانفصل الحال على أنهم حكَّموا ثلاثمائة من أعيانهم، وحكَّموا الثلاثمائة اثنى عشر منهم [148]، وحَكَّم الاثنى عشر ثلاثة منهم على عادتهم في النوازل، فباتوا يتشاورون، فترجح عندهم الرحيل، وقالوا: السلطان حاضر ومعه العساكر فارحلوا، فرحلوا
(3)
.
وفى تاريخ ابن كثير: ولما كان يوم السبت الحادى والعشرين من جمادى الآخرة، جاءت الكتب من الحرس حول البلد، بأن الإفرنج اختلفوا فيما بينهم في محاصرة القدس. فقال ملك الإفرنسيس: إنما جئنا من البلاد البعيدة وأنفقنا الأموال العديدة في تخليص بيت المقدس، وقد بقى بيننا وبينه مرحلة. وقال ملك الإنكتار: أن هذا البلد يشق علينا حصاره؛ لأن المياه قد عدمت، ومتى بعثنا من يأتينا بالماء تعطل أمر الحصار. ثم اتفق الحال بينهم على أن حكَّموا إلى آخر ما ذكرناه، فرحلوا صوب الرملة
(4)
.
قال في النوادر: وأصبحوا في بكرة الحادى والعشرين من جمادى الآخرة راحلين إلى نحو الرملة، وعلى أعقابهم ناكصين، ووقف عسكرهم شاكِّين في السلاح إلى أن لم يبق في المنزلة إلا الآثار، ثم نزلوا بالرملة. وتواتر الخبر بذلك، وركب السلطان والناس، وكان يوم سرور وفرح
(5)
.
(1)
نقل العينى هذا النص بتصرف من مرآة الزمان، جـ 8، ص 267؛ مفرج الكروب، جـ 2، ص 389 - 390.
(2)
"نهر" في الأصل، والتصحيح من النوادر السلطانية، ص 217.
(3)
نقل العينى هذا النص بتصرف من النوادر السلطانية، ص 218؛ الروضتين، جـ 2، ص 299؛ مفرج الكروب، جـ 2، ص 390.
(4)
نقل العينى هذا النص بتصرف من البداية والنهاية، جـ 12، ص 349.
(5)
النوادر السلطانية، ص 218.
ذكر بروز السلطان بجيشه إلى خارج البلد
وبرز السلطان بجيشه إلى خارج القدس، وسار نحوهم خوفا من أن يسيروا إلى الديار المصرية لكثرة ما معهم من الظهر والأموال، وكان ملك الإنكتار - لعنه الله - يلهج بذلك كثيرًا، فخذلهم الله عن ذلك.
وترددت الرسل من ملك الإنكتار إلى السلطان في طلب الصلح، ووضع الحرب بينهم ثلاث سنين وستة أشهر، على أن يعيد إليهم السلطان عسقلان، ويهب له أكبر كنيسة ببيت المقدس وهى القمامة، وأن يمكن الزوار من النصارى والحجاج إليها بلاشئ. فامتنع السلطان من إعادة عسقلان، وأطلق لهم قمامة، ولكن فرض على الزوار مالاً يُؤخذ من كل منهم. فامتنع ملك الإنكتار إلا أن يعاد إليهم عسقلان ويعمر سورها كما كان. وصمم السلطان على عدم الإجابة
(1)
.
وقال صحاب النوادر: ولما فرغ بال السلطان برحيل العدو، حضر رسول الكندهرى فقال: إن ملك الإنكتار قد أعطانى البلاد الساحلية، وهى الآن لي قاعدة على بلادى حتى أصالحك، وأكون أحد أولادك. فغضب السلطان لذلك غضبا شديدا، بحيث أنه أراد أن يبطش بالرسول، فأقيم من بين يديه. ولما كان يوم الثالث والعشرين من جمادى الآخرة استحضر الرسول، وكان جوابه بأن يكون الحديث بيننا في صور وعكا، على ما كان مع المركيس
(2)
.
ذكر فتح السلطان مدينة يافا
ثم ركب السلطان في جيشه العرمرم حتى وافى يافا، فحاصرها حصارا شديدا فافتتحها، وغنم جيشه منها شيئاً كثيرًا، وامتنعت القلعة، فبالغ في أمرها حتى هانت ولانت ودانت، وكادوا أن يبعثوا إليه بأقاليدها، ويأخذون الأمان لكبيرها ووليدها، إذ أشرفت عليهم مراكب الإنكتار على وجه البحر، فقويت رؤوسهم واستصعبت نفوسهم، وهجم اللعين ملك الإنكتار فاستعاد البلد إليه، وقتل من تأخر بها من المسلمين [149]
(1)
انظر: الكامل في التاريخ، جـ 12، ص 40 - ص 41؛ البداية والنهاية، جـ 12، ص 349 - ص 350؛ مفرج الكروب، جـ 2، ص 392 - 393.
(2)
انظر: النوادر السلطانية، ص 218.
صبرا بين يديه. وتقهقر السلطان من منزلة الحصار إلى ما ورائها، خوفا على الجيش من معرّة الفرنج. فجعل ملك الإنكتار يتعجب من شدة سطوة السلطان! كيف فتح مثل هذا البلد العظيم في يومين، وغيره لا يمكنه فتحه في عامين. ثم ألح في طلب الصلح، على أن تكون عسقلان داخلة في الصلح، فامتنع السلطان في ذلك أشد الامتناع
(1)
.
وفى المرآة: أقام السلطان بالقدس حتى تيقن وصولهم إلى عكا، وخرج فنزل على يافا وحاصرها، وتعلق النقابون في الأسوار، وملك المدينة وأشرفوا على أخذ القلعة، فصاح أهلها الأمان، ونهب المسلحون البلد. فوقف مماليك السلطان على الأبواب، كل من خرج ومعه شيء أخذوه، وعز ذلك على الأمراء والأكراد وسلموا القلعة، وبعث السلطان إليها جماعة من أصحابه، وبقى فيها من الفرنج أربعون رجلاً. وبينما هم كذلك إذ لاحت مراكب كثيرة فتوقفوا، وقويت نفوس الإفرنج الذين في القلعة، وعلموا أنها مراكب الإنكتار، فرمى واحد نفسه في الماء وسبح إليهم، وقال: تقدموا فارسوا إلى الميناء - وكانت خمسة وثلاثين مركبًا - فهرب المسلمون من البلد.
وتأخر السلطان إلى يازُور
(2)
، وجاء ملك الإنكتار فنزل في منزلة السلطان، ولم يكن معه سوى عشرين فارسًا، وثلاثمائة راجل، وعشرين خيمة، والسلطان في ألوف. فبعث إلى السلطان يقول: أنت سلطان عظيم، ومعك هذا الجيش الكثير، ومعظم عساكر المسلمين، فكيف رحلت عن منزلتك عند وصولى وليس معى
(3)
واحد؟ فغضب السلطان وبات على غضب، فلما أصبح ركب وركبت العساكر، وملك الإنكتار ما زال على حاله لم يصل إليه من الإفرنج أحد، فحمل إليه المسلمون وهو في عشرين فارسا وثلاثمائة راجل، فلم يتحرك. فعظم على السلطان وصاح بالأطلاب: ويحكم، وكم معه وأنتم عشرة آلاف وزيادة. فلم يجبه أحد، وقال له الجُناح
(4)
: قل لعلوقك الذين ضربوا الناس بالأمس وأخذوا كسبهم. ويقال إن ملك الإنكتار أخذ رُمحه وحمل من طرف
(1)
نقل العينى هذا النص باختصار شديد من النوادر السلطانية، ص 222 - 227؛ الفتح القسى، ص 598 - 600، ص 608؛ مفرج الكروب، جـ 2، ص 394.
(2)
يا زُور: بليدة بسواحل الرملة من أعمال فلسطين الشام. انظر: معجم البلدان، جـ 4، ص 1002.
(3)
"عندى أحد" في مرآة الزمان، جـ 8، ص 267.
(4)
الجُناح: ذكر ابن الأثير أن الجناح أخو عماد الدين بن المشطوب بن على بن أحمد الهكارى. انظر: الكامل، جـ 12، ص 36.
الميمنة إلى طرف الميسرة، فلم يُعْرِض أحد. وساق السلطان من غَبنة إلى النطرون، ونزل في خيمة صغيرة وحده وانفرد، فلم يتجاسر أحد أن يكلمه. وجاءت رسل الملك في طلب الصلح.
وفى تاريخ ابن كثير: لما كان ملك الإنكتار نازلاً في منزلة السلطان - على ما ذكرنا - كبس في بعض الليالى ملك الإنكتار وهو في سبعة عشر فارساً وقليل من الرجالة، فأوكب السلطان بجيشه حوله، وحصره حصراً لم يبق له منه نجاة لو صمم معه الجيش، ولكن هم نكلوا عن الحملة، فلا حول ولا قوة إلا بالله. وجعل السلطان يحرضهم غاية التحريض، فكلهم يمتنع كما يمتنع المريض من شرب الدواء. هذا وملك الإنكتار - لعنه الله - قد ركب في أصحابه وأخذ عدة قتاله وحرابه، واستعرض الميمنة من أولها إلى آخر الميسرة. فلا يتقدم إليه منهم أحد من الفرسان، ولا يهش في وجهه بطل من الشجعان، فعند ذلك كرّ السلطان راجعًا. ثم حصل لملك الإنكتار [150] بعد ذلك مرض شديد، وبعث إلى السلطان يطلب منه فاكهة وثلجًا، فأمَدَّه السلطان بذلك فتوة وكرمًا، ثم عوفى - لعنه الله - وتكررت رُسله إلى السلطان لأجل الصلح، وذلك لكثرة شوقه إلى بلاده، وعن قريب نذكر المراسلات واستقرار الصلح إن شاء الله تعالى
(1)
.
وذكر في النوادر في فتح يافا ملخصه: أن السلطان رحمه الله بلغه في عاشر من رجب أن الإفرنج قد رحلوا طالبين نحو بيروت، فبرز من القدس إلى منزلة يقال لها الجيْب، وكان ولده الملك الظاهر غازى - صاحب حلب - قد قدم إليه يوم السبت الخامس من رجب، ثم رحل السلطان من الجيب إلى بيت نوبة، ثم رحل يوم الأحد ثالث عشر رجب إلى الرملة، فنزل بها ضحوة النهار على تلال بين الرملة ولد، وأقام بها بقية يوم الأحد.
ولما كانت صبيحة يوم الاثنين الرابع عشر من رجب، ركب جريدة حتى أتى يازُور وبيت دجُن وأشرف على يافا، ثم عاد إلى منزلته وأقام بها بقية يومه.
ولما كان صباح يوم الثلاثاء خامس عشره رحل إلى نحو يافا فخيم عليها، ورتب العسكر ميمنة وميسرة وقلبا، وكان صاحب الميمنة ولده الملك الظاهر، وصاحب الميسرة أخوه الملك العادل، والعساكر فيما بينهما. وزحفوا يوم السادس عشر، وأخذ
(1)
نقل العينى هذا الخبر بتصرف من البداية والنهاية، جـ 12، ص 350.
النقابون النقب من شمالى الباب الشرقى في الزاوية طول البدنة، وكان المسلمون قد هدوا ذلك المكان في الحصار الأول وبناه الإفرنج، ودخل النقابون فيه.
وكان الملك في عكا قد توجه إلى نحو بيروت، وهذا الذى حمل السلطان على نزوله على يافا، وأقام السلطان تلك الليلة هناك إلى أن مضى من الليل مقدار ثلثه، وعاد إلى المنزلة .. ولما أصبح السلطان عزم على القتال، فقاتلوا، وجرح من المسلمين جماعة بالنشاب والزنبورك من البلد، فيهم الحاجب أبو بكر، وختلخ والي بعلبك وأصيب بعينه، وطغرل التاجى، وسراسنقر في وجهه، وهما من خواص المماليك، وأياز جركس في يده، وهو من كبارهم.
ولما رأى العدو المخذول ما حل بهم، أرسلوا رسولين نصرانيا وفرنجيا يطلبان الصلح، فطلب السلطان منهم قاعدة القدس وقطيعته، فأجابوا إلى ذلك، ولكن اشترطوا أن ينظروا إلى يوم السبت التاسع عشر من رجب، فإن جاءتهم نجدة وإلا تمت القاعدة على ما استقر، فأبى السلطان الانتظار، وصمم على القتال والمضايقة. ولم يزالوا يقاتلون في ذلك اليوم إلى أن فصل الليل بينهم، ولم يقدر السلطان على البلد في ذلك اليوم، بعد خرق النقوب من البدنة، وضاق صدره وندم على عدم إصابته للصلح.
ولما كان يوم الجمعة الثامن عشر من رجب، زحف السلطان وزحف ولده الظاهر زحفا شديدا، وزحف العادل من المسيرة، فإنه كان مريضا، وارتفعت الأصوات وضربت الكوسات، [وخفقت البوقات]
(1)
، ورمت المنجنيقات، ووقعت تلك البدنة وانفتح الطريق. ولما رأى العدو ذلك أرسلوا رسولين إلى السلطان يطلبان الأمان، فقال السلطان قولا لهم: ينحازون إلى القلعة ويتركون البلد. فدخل الناس البلد [151]، ونهبوا منه أقمشة عظيمة، وغلالا كثيرة، وأثاثا وبقايا قماش من نهبهم من القافلة المصرية.
ولما كان عصر يوم الجمعة جاء إلى السلطان كتاب من قايماز النجمى، وكان في طريق
(2)
الغور لحمايته من العدو الذى في عكا، يخبر فيه: أن ملك الإنكتار لما سمع خبر [يافا]
(3)
أعرض عن قصد بيروت وعاد إلى قصد يافا. ولما كان سحر تلك الليلة،
(1)
ما بين الحاصرتين مثبت من النوادر السلطانية، ص 22، لتصحيح المعنى.
(2)
"طرف" في الأصل والتصحيح من النوادر السلطانية، ص 225؛ مفرج الكروب، جـ 2، ص 395.
(3)
ما بين الحاصرتين إضافة من النوادر السلطانية، ص 225؛ مفرج الكروب، جـ 2، ص 395.
سمع المسلمون بوق الفرنج وقد نعق، عَلِمُوا بوصول النجدة، وكانوا نيفًا وخمسين مركباً؛ منها خمسة عشر شينى، فوهب رجل من أهل القلعة نفسه للمسيح وقفز من القلعة إلى الميناء، وكان رملاً فلم يصبه شيء، واشتد عدوًا حتى أتى البحر، فجاء له شينى فأخذه إلى شينى الملك فأخبره بالخبر.
ولما تيقن الملك أن القلعة ما أُخِذَتْ، اندفع يطلب الساحل، وكان أول شينى ألقى من فيه إلى البر شينى الملك، وكان أحمر، وقبته حمراء، وبيرقة أحمر، وكان رنكه
(1)
، ثم نزل كل من في الشوانى إلى الميناء.
قال القاضى بهاء الدين: هذا كله وأنا شاهد ذلك، وكان تحتى فرس، فَسُقْتُ حتى أتيت إلى السلطان وبين يديه الرسولان، وقد أخذ القلم حتى يكتب لهما الأمان، فعرَّفته في أذنه ما جرى، فامتنع من الكتابة وشغلهم بالحديث، فما كان إلا ساعة حتى فر المسلمون نحو السلطان، فصاح في الناس فركبوا، وقبض على الرسل، وأمر بتأخر الثقل والإسواق إلى يازور، وبقى السلطان جريدة في الليل، وبات في ليلته هناك. وخرج ملك الإنكتار إلى موضع السلطان الذى كان فيه لمضايقة البلد، ثم طلب الحاجب أبا بكر العادلى، وأيبك العزيزى، وسنقر المشطوب، وبدر الدين دلدروم وغيرهم، وكان قد صادقهم فقال لهم: إن هذا السلطان عظيم، وما في الأرض من الإسلام أكبر منه ولا أعظم، كيف رحل عن مكانه بمجرد وصولى، والله ما لبست لأمة
(2)
حربى، وليس في رجلى إلا [زربول]
(3)
البحر. ثم قال لأبي بكر: "بالله عليك سلم على السلطان وقل له يجيب إلى صلحى، فهذا أمر لابد له في الأخير، وقد هلكت بلادى وراء البحر. وما دوام هذا مصلحة لا لنا ولا لكم". وجاء أبو بكر وعرَّف السلطان بذلك، وكان ذلك في آخر يوم السبت التاسع عشر من رجب. فلما سمع السلطان أحضر أرباب المشورة، وانفصل الحال على كون الجواب: "إنك كنت طلبت الصلح أولا على قاعدة، وكان الحديث في يافا
(1)
الرنك: جمعها رنوك، وهو لفظ فارسى معناه اللون، وقد استعمل في مصطلح المؤرخين بمعنى الشعار الذى يتخذه الأمير. انظر: السلوك، جـ 1 ق 3، ص 672، حاشية 4.
(2)
لأمة: معناها الدرع وقيل السلاح وقيل الدرع الحصينة، سميت لأمة لإحكامها وجودة حلقاتها. انظر: لسان العرب، مادة "لأم".
(3)
"زلبور" في الأصل، والمثبت من النوادر السلطانية، ص 227 - 228.
والزربول: جمعها زرابيل ويقال زربون والجمع زرابين، كلمة يونانية ومعناه نوع من الحذاء يلبسه العبيد. انظر: مفرج الكروب، جـ 2، ص 398، حاشية 5.
وعسقلان، والآن فقد خربت عسقلان، وهذه يافا، يكون لك من قيسارية إلى صور". فمضى إليه وعرَّفه ما قال. فردَّه إليه ومعه رسول فرنجى وقال: "يقول الملك: إن قاعدة الفرنج أنه إذا أعطى وأحد الواحد بلدًا صار تابعا له وغلامه، وأنا أطلب منك [هذين]
(1)
البلدين: يافا وعسقلان، وتكون عساكرهما في خدمتك دائما، وإذا احتجت إلىَّ وصلتُ إليك في أسرع وقت، وخدمتك كما تعلم خدمتى".
وكان جواب السلطان رحمه الله: "حيث دخلت هذا المدخل فأنا أجيبك إلى أن نجعل البلدين قسمين؛ أحدهما لك [152] وهو يافا وما وراءها، والثانى لي وهو عسقلان وما وراءها". ثم سار الرسولان. ورحل السلطان وكان بيازور، ورتب اليزك بها، وأمر بخرابها وخراب بيت دجن. وسار حتى أتى الرملة فخيم بها يوم الأحد العشرين من رجب، ووصل إليه الرسول مع الحاجب أبى بكر، فأمر بإكرامه. وكانت الرسالة الشكر من الملك على إعطائه يافا، وتجديد السؤال في عسقلان، ويقول له:"إن وقع الصلح في هذه الأيام الستة سار إلى بلاده، وإلا احتاج أن يشتى هاهنا". فأجاب السلطان: "أما النزول عن عسقلان فلا سبيل إليه، وأما تشتِيتُه فلا بد منها؛ لأنه قد استولى على هذه البلاد، ويعلم أنه متى غاب عنها أخذت بالضرورة، وإذا سهل عليه إن يشتى هاهنا، وهو بعيد عن أهله ووطنه مسيرة شهرين، وهو شاب في عنفوان شبابه ووقت اقتناص لذاته، ما يسهل علىَّ أن أُشَتى وأُصَيف وأنا في وسط بلادى، وعندى أهلى وأولادى، ويحضر إلى ما أُريده، ومَنْ أريده، وأنا رجل شيخ قد كرهت لذات الدنيا وشبعت منها ونفضتها عنى، والعسكر الذى عندى في الشتاء يكون غير العسكر الذى يكون في الصيف، ومع هذا أنا أعتقد أني في أعظم العبادات، ولا أزال كذلك حتى يعطى الله النصر لمن يشاء".
فلما سمع الرسول ذلك، طلب أن يجتمع بالملك العادل، فأذن له في ذلك، فسار إلى خيمته، وكان قد تأخر بسبب مرض اعتراه على موضع يقال له مارضوان
(2)
. ثم بلغ السلطان أن عسكر العدو قد رحل من عكا قاصدًا يافا للإنجاد، فجمع أرباب الرأى للمشورة، فوقع الاتفاق على قصدهم جريدة، ويرحل الثقل إلى الجبل، فأمر الثقل بالرحيل في عشية يوم الاثنين الحادى والعشرين من رجب، وسار هو رحمه الله
(1)
"هاذين" في الأصل. والمثبت هو الصحيح.
(2)
كذا في الأصل، وفى النوادر السلطانية، النوادر ص 228 "مارصموال".
جريدة في صبيحة يوم الثلاثاء، حتى نزل على العوجاء
(1)
، ووصل إليه من أخبره أن عسكر العدو قد وصل قيسارية ودخل إليها، وأن الملك قد نزل خارج يافا بنفر يسير وخيم قليلة، فوقع له أن يكبس عليه، وسار من أول الليل، والأدلة من العرب تتقدمه إلى أن أتى وقت الصباح إلى خيام العدو فوجدها يسيرة، مقدار عشر خيم
(2)
، فداخله الطمع وحمل عليهم، فلم يتحركوا من أماكنهم، ودار السلطان على الأطلاب بنفسه يحثهم، فلم يجب إليه أحد سوى ولده الملك الظاهر، فإنه تأهب للحملة، فمنعه.
فلما رأى السلطان ذلك، رأى أن وقوفه وحده خسارة، فأعرض عن القتال، وسار حتى أتى يازور وهو مغضب، فنزل بها، وذلك يوم الأربعاء الثالث والعشرين من رجب. ثم أصبح يوم الخميس سار إلى النطرون فنزل به، فأرسل إلى العسكر فحضروا عنده يوم الخميس الرابع والعشرين من رجب، فبات به. ثم أصبح يوم الجمعة وسار إلى الملك العادل يفتقده، ودخل القدس وصلى، ونظر إلى العمائر ورتبها، ثم عاد من يومه إلى الثقل، وبات فيه على النطرون.
وقدمت [153] إليه العساكر، فأول من وصل علاء الدين ابن أتابك صاحب الموصل، فلقاه السلطان ضحوة نهار السبت السادس والعشرين من رجب، فأكرمه وأنزله عنده في الخيمة، وقدَّم له تقدمة جليلة، ثم سار إلى خيمته، وأقام السلطان بالنطرون.
ولما كان يوم الخميس التاسع من شعبان، قدم عسكر مصر، فخرج السلطان إلى لقائهم، وكان فيهم مجد الدين هلدرى، وسيف الدين يازكج وجماعة من الأسدية، وكان في خدمة ولده الملك المؤيد مسعود، وكان يومًا مشهودا، ثم أنزلهم عنده ومد الخوان
(3)
، ثم ساروا إلى منازلهم.
ثم قدم الملك المنصور بن تقى الدين في صبيحة يوم الاثنين ثالث عشر شعبان، ونزل في مقدمة العسكر. ولما رأى السلطان أن العساكر قد تجمعت، جمع أرباب الرأى وقال:"إن ملك الإنكتار مرض مرضا شديدًا والإفرنسيسية قد رجعوا إلى بلادهم، ونفقاتهم قد قلت". وأصبح يوم الخميس راحلاً إلى جهة
(4)
الرملة.
(1)
العوجاء: نهر بين أرسوف والرملة من أرض فلسطين من السواحل. انظر: معجم البلدان، جـ 3، ص 744.
(2)
"خيمة" في الأصل وما أثبتناه هو الصحيح.
(3)
الخوان: ذكر القلقشندى أن المائدة لا يقال لها مائدة بدون طعام وإلا فهى خوان. انظر: صبح الأعشى، جـ 1، ص 158.
(4)
نقل العينى هذا النص بتصرف من النوادر السلطانية، ص 227 - 232؛ مفرج الكروب، جـ 2، ص 401 - 402.
ذكر كتاب الصلح
لما رضى ملك الإنكتار بما رسم به السلطان صلاح الدين، كُتب كتاب الصلح في الثامن عشر من شعبان، وأُكدت العهود والمواثيق من كل ملك من ملوكهم وأسقف وجاثليق
(1)
، وحلف الأمراء من المسلمين وكتبوا خطوطهم، واكتفى من السلطان بالقول المجرد، كما جرت به عادة السلاطين، وفرح كل من الفريقين فرحاً عظيما.
وفى تاريخ النويرى: واستقر أمر الهدنة يوم السبت الثامن عشر من شعبان، وتحالفوا على ذلك يوم الأربعاء [الحادى والعشرين]
(2)
من شعبان. ولم يحلف ملك الإنكتار، بل أخذوا يده وعاهدوه، واعتذروا بأن الملوك لا يحلفون، وقنع السلطان بذلك، وحلف الكندهرى ابن أخته. وخليفته على الساحل، وكذلك حلف غيره من عظماء الإفرنج.
ووصل ابن الهنفرى وباليان إلى خدمة السلطان، ومعهما جماعة من المقدمين، وأخذوا يد السلطان على الصلح، واستحلفوا الملك العادل، والملكين الأفضل والظاهر ابنى السلطان صلاح الدين، والملك الأمجد بهرام شاه بن فرخشاه صاحب بعلبك، والأمير بدر الدين دلدُروم الياروقى صاحب تل باشر، والأمير سابق الدين عثمان صاحب شيزر، والأمير سيف الدين على بن أحمد المشطوب، وغيرهم من المقدمين الكبار. وعقدت هدنة عامة في البر والبحر، وجعلت مدتها ثلاث سنين وثلاثة أشهر، أولها أيلول الموافق الحادى عشرى شعبان.
وكانت الهدنة على أن يستقر بيد الإفرنج يافا وعملها، وقيسارية الشام وعملها، وأرسوف وعملها، وحيفا وعملها، وعكا وعملها، وأن تكون عسقلان خرابًا، واشترط السلطان دخول بلاد الإسماعيلية في عقد هدنته، واشترط الإفرنج دخول بلاد أنطاكية وطرابلس في عقد هدنتهم، وأن تكون لدُّ والرملة مناصفة بينهم وبين المسلمين، واستقرت القاعدة على ذلك. وأرسل السلطان مائة نَقَّاب صحبة أمير لتخريب سور عسقلان، وإخراج من بها من الإفرنج والألمان
(3)
.
(1)
الجاثليق: أحد الوظائف الكهنوتية، ويقال أن صاحبها إمام النصارى وصاحب الصلاة عندهم. انظر: صبح الأعشى، جـ 5، ص 474؛ جـ 13، ص 274.
(2)
"الثانى والعشرين" كذا في الأصل، والتصحيح من نهاية الأرب، جـ 28، ص 436.
(3)
ورد هذا النص بتصرف في نهاية الأرب، جـ 28، ص 436، كما نقل العينى هذا النص بتصرف من النوادر السلطانية، ص 234 - 236؛ الفتح القسى، ص 603 - 605، ص 606 - 609؛ مفرج الكروب، جـ 2، ص 402 - 406.
ذكر توجه السلطان إلى القدس
ثم لما تم هذا الأمر، رحل السلطان إلى القدس في اليوم الرابع من شهر رمضان، وأمر بتشييد أسواره، وزاد في وقف المدرسة التى عملها بالقدس، وهذه المدرسة كانت قبل الإسلام تعرف بصند حنة
(1)
، يذكرون أن فيها قبر حنة أم مريم عليها السلام، ثم صارت في الإسلام دار علم، قبل أن يملك الإفرنج القدس، ثم لما ملك الإفرنج القدس سنة اثنتين وتسعين وأربع مائة أعادوها كنيسة كما كانت قبل الإسلام، فلما فتح السلطان القدس أعادها مدرسة، فَوَّضَ تدريسها إلى القاضى بهاء الدين بن شداد رحمه الله. وأمر بأن يجعل الكنيسة المجاورة لدار الإستبار بقرب قمامة مارستانًا للمرضى، ووقف عليها مواضع، وسير أدوية وعقاقير عزيزة. فَوَّض القضاء والنظر في هذه الوقوف
(2)
إلى القاضى بهاء الدين يوسف بن رافع بن تميم المذكور. ثم عزم السلطان رحمه الله على أن يحج عامه هذا من القدس، فكتب إلى الحجاز واليمن والديار المصرية والشامية ليعلموا ذلك ويتأهبون له. وكان أخوه سيف الإسلام في اليمن، وكتب إليه أيضاً بذلك، ثم فنّد الأمراء.
وكتب إليه القاضى الفاضل ينهاه عن ذلك، خوفا على البلاد من استيلاء الإفرنج عليها، ومن كثرة المظالم بها والفساد، وذكر أن النظر في أحوال المسلمين وإصلاح أمرهم، ومصابرة عدوهم، أفضل مما نوى، والعدو المخذول مخيم بعد في الشام. فسمع السلطان منه وشكره على نصحه، وعزم على ترك الحج عامه ذلك، وكتب إلى سائر الممالك.
واستمر السلطان مقيما بالقدس جميع شهر رمضان، وكلما وفد أحد من رؤساء النصارى للزيارة أولاه غاية الإكرام والإحسان، تأليفًا لقلوبهم، وتأكيدًا لما حلفوه من الأيمان، ورغبة أن يدخل في قلوبهم شيء من الإيمان، ولم يبق أحد من ملوكهم إلا جاء لزيارة قمامة متنكرا، ويحضر سماط السلطان فيمن يحضر من جمهورهم، بحيث لا يُرى، والسلطان يعلم ذلك جملةً لا تفصيلاً، ولهذا يعاملهم بالإكرام والإحسان
(3)
.
(1)
" Sainte Anne" القديسة حنة، وقد ذكره محمد كرد على في خطط الشام، جـ 6، ص 122 - 123 أن هذه المدرسة كانت تعرف بالمدرسة الصلاحية.
(2)
ينقل العينى هذا النص بتصرف من الفتح القسى، ص 612.
(3)
ينقل العينى هذه الأحداث بتصرف من الفتح القسى، ص 611 - 612؛ مفرج الكروب، جـ 2، ص 407 - 408.
ذكر خروج السلطان من القدس على عزم دمشق
ثم أن السلطان رحمه الله فَوَّضَ ولاية القدس الشريف إلى عز الدين جرديك، ووصاه بتهذيب الأمور والأخذ بالحزم في كل شيء، وكان فيه كفاية وشهامة وديانة، وكان الوالى قبله حسام الدين سياروخ، وكان فيه دين ولين. وولى علم الدين قيصر أعمال الخليل وعسقلان وغزة والداروم وما والاها، وأمر بنقل الغلات من البلقاء لتقوية الفلاحين، كذلك أمر بنقل الغلات من مصر إلى أعمال عسقلان، ليعيد إليها الزراعة والعمران. وكان السلطان قد أعطى دستورًا للعسكر حين تم أمر الصلح، فكان أول من سار عسكر إربل، فإنهم ساروا في مستهل شهر رمضان، ثم سار بعده في ثانِيْهِ عسكر الموصل وسنجار والحصن.
وفى يوم الجمعة الثالث والعشرين من شهر رمضان، [155] صلى الملك العادل الجمعة، ثم انصرف عائدا إلى الكرك لينظر في أحواله، ثم يعود إلى البلاد الشرقية ليدبَّرها، فإنه كان أخذها من السلطان، وودع السلطان، فلما وصل إلى العازرية
(1)
ونزل بها، أتى إليه من أخبره أن رسولاً من بغداد واصل إليه، فأنفذ إلى السلطان وعرَّفه، وذكر أنه يجتمع به. ثم جاء إليه يوم السبت الرابع والعشرين منه، وذكر أن الرسول وصل إليه من جانب ابن النافذ بعد أن ولى نيابة وزارة بغداد. ومضمون كتابه؛ أنه يستعطف قلب السلطان إلى الخدمة الشريفة، والإنكار عليه في تأخر رسله عن العتبة الشريفة، وأنه يُسيّر القاضى الفاضل إلى الديوان في تقرير قواعد بينه وبين السلطان، ووعد للعادل شيء كثير إذا قرر ذلك.
ولما سمع السلطان ذلك، كره إنفاذ رسول يسمع كلام الديوان. ووقع كلام كثير بين السلطان والعادل، ثم قوى عزم السلطان على إنفاذ الضياء الشهرزورى. وعاد العادل إلى مخيمه بالعازرية، وعَرَّفَ الرسول بما وقع عند السلطان، ومن إجابته إلى إنفاذ الرسول. ثم سار العادل يوم الاثنين طالبا جهة الكرك، وسار الضياء متوجها إلى بغداد يوم الثلاثاء سادس عشرى رمضان.
(1)
العازرية: قرية بالبيت المقدس بها قبر العازر. انظر: معجم البلدان، جـ 3، ص 586.
وفى يوم الأربعاء السابع والعشرين منه، توجه الملك الظاهر ابن السلطان إلى جهة حلب، بعد أن أوصى له السلطان بالتقوى فإنه رأس كل خير، وبالبعد عن سفك الدماء ومظالم الناس.
وفى الليلة الخامسة من شوال من هذه السنة، سار الملك الأفضل ابن السلطان متوجها إلى دمشق، ثم أن السلطان - رحمة الله عليه - لم يزل ينظر في أحوال الناس، ويعطى إقطاعات لأناس، ودستورًا لآخرين، ولم يزل كذلك حتى صح عنده إقلاع مركب ملك الإنكتار متوجها إلى بلاده مستهل شوال، فعند ذلك حرر عزمه على أن يدخل الساحل جريدة، ويتفقد القلاع البحرية إلى بانياس، ثم يدخل دمشق ويقيم بها أياما قلائل، ثم يعود إلى القدس ويزوره، ثم يسير إلى الديار المصرية ليتفقد أحوالها، ويقرر قواعدها، وينظر في مصالحها.
(1)
قال القاضى بهاء الدين: وأمرنى بالمقام بالقدس لعمارة مارستان أنشأه فيه، وإدارة المدرسة التى أنشأها إلى حين عوده، ثم خرج السلطان من القدس ضحوة نهار الخميس، السادس من شوال من هذه السنة
(2)
. قال القاضى: وودعته إلى البيرة، وهى قرية بين القدس ونابلس، ونزل بها وأكل فيها الطعام، ثم رحل منها وبات على بركة الداوية، ثم نزل على نابلس ضحوة نهار الجمعة السابع من شوال، وكثرت الاستغاثات على سيف الدين على المشطوب صاحبها، وأنه زاد في رسومها ونوابها، فأقام بها السلطان إلى ظهر يوم السبت الثامن من شوال حتى كشف مظالمها، وأسقط رسومها الجائرة، ثم رحل بعد الظهر ونزل بسفسطية
(3)
وتفقد أحوالها
(4)
.
قال ابن كثير: [156] وبات ليلة الأحد عند عقبة ظهر حمار
(5)
، بموضع يعرف بالفريديسة، وأصبح راحلاً، ونزل ضحوة نهار الأحد على جينين، وهناك ودعه المشطوب وداع الأبد، فإنه توفى بعد أيام. ثم رحل يوم الاثنين وجاء ضحوة إلى بيسان، وصعد إلى
(1)
نقل العينى هذا النص بتصرف من النوادر السلطانية، ص 237 - 239.
(2)
انظر: النوادر السلطانية، ص 239.
(3)
سفسطية: يبدو أن العينى يقصد سبسطية وهى بلدة من نواحى فلسطين بينها وبين البيت المقدس يومان، وبها قبر زكريا ويحيى بن زكريا عليهما السلام. وهى من أعمال نابلس. انظر: معجم البلدان، جـ 3، ص 33.
(4)
نقل العينى هذا النص بتصرف من النوادر السلطانية، 239.
(5)
ظهر حمار: قرية بين نابلس وبيسان بها قبر بنيامين أخو يوسف الصديق. انظر: معجم البلدان، جـ 3، ص 582.
قلعتها المهجورة الخالية فقال: الصواب بناء هذه وتخريب قلعة كوكب، ولم يزل حتى بَيَّن كيفية بنائها. ثم رحل الظهر وبات على قلعة كوكب، ورحل عنها ضحوة الثلاثاء ونزل بطبرية وقت العشاء، وهناك جاء إليه بهاء الدين قراقوش وقد خرج من الأسر، وكان قد أسر فيمن أسر بعكا، وكان انفكاكه من الأسر يوم الثلاثاء الحادى عشر من شوال، ففرح السلطان به فرحاً شديدًا؛ لأنه كانت له حقوق كثيرة على السلطان وعلى الإسلام
(1)
. وأقام السلطان بطبرية يوم الأربعاء، ورحل بكرة الخميس ونزل بقرب صفد تحت الجبل، وصعد السلطان إليها وأمر بتسديد
(2)
ما فيها من الخلل. ثم سار يوم الجمعة على طريق جبل عاملة
(3)
، ونزل ضحوة بضيعة يقال لها الجش
(4)
وهى عامرة، وسار منها وخيم على مرج تَبْنين، ووصى الوالى بعمارة قلعتها. ثم رحل بكرة السبت وجاء على قلعة هونين، ونزل من الجبل وبات على عين الذهب. ورحل يوم الأحد وخيم بمرج عيون، ورحل عصر يوم الاثنين وعبر من على صيدا يُسْرة، وعمل وادى تيم يمنة
(5)
على الضياع والقرى، وعرس على مرج تلفياثًا
(6)
مقابل مرج القنعبة، ثم أصبح يوم الثلاثاء على الرحيل إلى البقاع من تلفياثا، فخيم على جسر كامد
(7)
، ثم غدا يوم الأربعاء وخيم بناحية قب إلياس، ثم دخل يوم الخميس إلى بيروت، ونزلت الأثقال على مرج قلميطية بالبقاع، وأقام خمسة أيام على الاستراحة
(8)
.
ولما وصل السلطان إلى بيروت تلقاه واليها عز الدين أسامه، بكل ما توفرت به الكرامة، وأحضر للسلطان ولكل من كان معه من أنواع التحف وأقسام الطرف. ولما أراد السلطان أن يرحل عن بيروت - وذلك في يوم السبت الحادى والعشرين من شوال - قيل
(1)
انظر هذا الخبر بالتفصيل في الفتح القسى، ص 614؛ النوادر السلطانية، ص 239 - 240.
(2)
"بتشييد" كذا في الأصل والتصحيح من الفتح القسى، ص 614؛ النوادر السلطانية، ص 240.
(3)
جبل عاملة: أحد الأماكن المشهورة بالشام، و هو ممتد في شرقى الساحل وجنوبه حتى يقرب من صور وعليه قلعة الشقيف. انظر: تقويم البلدان، ص 228.
(4)
الجش: بلده بين صور وطبرية على سمت البحر. انظر: معجم البلدان، جـ 2، ص 83.
(5)
وادى التيم: بلبنان وهو المنطقة التى ينتهي إليها جبل الشيخ منحدرًا إليها انحدارًا لطيفًا. انظر: المنجد: باب الأعلام والبلدان.
(6)
تلفياثا: من قرى غوطة دمشق. انظر: " معجم البلدان، جـ 1، ص 868.
(7)
جسر كامد: يقع بالقرب من صيدا، وكامد مدينة قديمة تقع على بعد ثمانية عشر ميلاً من عين الجر. انظر: تقويم البلدان، ص 249.
(8)
إلى هنا توقف العينى عن النقل بتصرف من الفتح القسى، ص 613 - 615.
له إن الإبرنس الأنطاكى قد وصل إلى الخدمة، مستمسكًا بحبل العصمة، داخلا في حكم الذمة، فثنى السلطان عنانه ونزل وأقام، وأذن للإبرنس في الدخول عليه، فدخل عليه وقربه منه ورفع مجلسه، وكان معه من مقدمى فرسانه أربعة عشر بارونيا، ووهب السلطان كلاً منهم تشريفا سريا، وكتب له من مناصفات أنطاكية بمبلغ عشرين ألف دينار، ثم ودعه يوم الأحد وفارقه
(1)
.
وفى النوادر: وأنعم عليه بالعمق
(2)
وأزرغان ومزارع تفل [خمسة]
(3)
عشرة آلاف دينار
(4)
. ثم خرج السلطان يوم الأحد وبات بالمخيم على البقاع، ورحل يوم الاثنين وعبر عين الجسر، وبات على مرج يبوس
(5)
، ووصل هناك من أعيان دمشق من تلقاه بأنواع التحف من الفواكه وغيرها. ورحل يوم الثلاثاء [157] وبات بالعرادة
(6)
، وأصبح يوم الأربعاء السادس والعشرين من شوال، ودخل دمشق، وخرج كل مَنْ بالمدينة، وحشر الناس ضحى، وكان يومًا مشهودا. وكانت غيبة السلطان عن دمشق أربع سنين
(7)
وهو في الجهاد. وكان في دمشق أولاده الملك الأفضل، والملك الظاهر، والملك الظافر، وأولاده الصغار، وكان يحبُّ البلد ويؤثر الإقامة فيه على سائر البلاد، وجلس الناس بكرة يوم الخميس السابع والعشرين منه، وحضر الناس عنده وتملوا برؤيته وطلعته المباركة، وأنشده الشعراء، وعمَّ ذلك المجلس الخاص والعام، وأقام ينشر جناح عدله، ويهطل سحاب أنعامه وفضله، ويكشف مظالم الرعايا.
وفى يوم الاثنين مستهل ذى القعدة، أعد الملك الأفضل دعوة للملك الظاهر، وأظهر فيها من بديع التجمل وغريبه ما يليق بهمته، وكأنه أراد بذلك مجازاته عما كان خدمه به حين وصوله إلى حلب، وسأل السلطان الحضور في دعوته فحضر، وكان يومًا مشهودا.
(1)
نقل العينى هذا النص بتصرف من الفتح القسى، ص 616 - 618.
(2)
العَمْق: كورة بنواحى حلب بالشام، وكانت سابقًا من نواحى أنطاكية، انظر: معجم البلدان، جـ 3، ص 727.
(3)
ما بين الحاصرتين إضافة من النوادر السلطانية، ص 240.
(4)
إلى هنا توقف العينى عن النقل من النوادر السلطانية، ص 240.
(5)
مرج يبوس: يبوس اسم جبل بالشام بوادى التيم من دمشق، انظر: معجم البلدان، جـ 4، ص 1007.
(6)
العرادة: قرية على رأس تل شبه القلعة بين رأس على نصيبين تنزلها القوافل. انظر: معجم البلدان، جـ 3، ص 627.
(7)
نقل العينى هذه الفقرة بتصرف من الفتح القسى، ص 619.
وفى يوم الأربعاء السابع والعشرين
(1)
من ذى القعدة، قدم الملك العادل من الكرك، وخرج السلطان إلى لقائه، وقام يتصيد حول غباغب
(2)
إلى الكُسوة
(3)
حتى لقيه، وسارا جميعًا يتصيدان. وكان دخولهما إلى دمشق آخر نهار الأحد مستهل ذى الحجة من هذه السنة، وأقام السلطان بدمشق يتصيد هو وأخوه وأولاده، ويتفرجون
(4)
في أراضى دمشق، وما كان ذلك إلا للوداع
(5)
لأولاده وهو لا يشعر. ثم أذن السلطان لولده الملك الظاهر السفره إلى حلب محل ولايته، فودعه وداعا لا لقاء بعده
(6)
، وسار إلى حلب، وبقى عند السلطان ولده الملك الأفضل وأخوه وبقية أهله، وخرجت السنة والأمر على هذا.
ذكر بقية الحوادث
منها أنه كانت غزوة عظيمة بين صاحب غزنة
(7)
شهاب الدين الغورى السَبُكتكينى، وبين الهند الذين كانوا كسروه في سنة ثلاث وثمانين
(8)
، فأظفره الله بهم في هذه السنة وكسرهم، وقتل خلقا منهم وأسر آخرين. ومن جملة المأسورين ملكهم الأعظم، وأخذ ثمانية
(9)
عشر فيلا من جملتها [الفيل]
(10)
الذى كان جرحه
(11)
، فأحضر الملك بين يديه فأهانه ولم يكرمه، واستحوذ على حصنه أجمير بما كان فيه من جليل وحقير، ثم قتله بعد ذلك. واقتلع بلادًا كثيرة وأموالاً لا تحصى، وأقطع البلاد التى صارت إليه لمملوكه قطب الدين أيبك، وعاد إلى غزنة مؤيدًا منصورًا.
(1)
ذكر ابن شداد أنه وصل دمشق يوم الأربعاء سابع عشر ذى القعدة. انظر: النوادر السلطانية، ص 241؛ كذا ابن واصل في مفرج الكروب، جـ 2، ص 410؛ أما الروضتين، جـ 2، ص 208، فقد اتفق مع العينى.
(2)
غباغب: قرية في أول عمل حوران من نواحى دمشق. انظر: معجم البلدان، جـ 3، ص 771.
(3)
الكُسوة: قرية وهى أول منزل تنزله القوافل إذا خرجت من دمشق إلى مصر. انظر: معجم البلدان، جـ 4، 275.
(4)
"يتفرجون" في النوادر السلطانية، ص 241.
(5)
نقل العينى هذا الخبر من النوادر السلطانية، ص 240 - 241.
(6)
انظر: النوادر السلطانية، ص 238؛ زبدة الحلب، جـ 3، ص 123؛ مفرج الكروب، جـ 2، ص 409 - 410.
(7)
غَزْنة: مدينة عظيمة وولاية واسعة في طرف خراسان، وهى الحد بين خراسان والهند. انظر: معجم البلدان، جـ 4، ص 201، ط. دار صادر، بيروت.
(8)
عن تفاصيل هزيمة الغورى سنة 583 هـ، انظر: الكامل، جـ 11، ص 255، المطبعة الأزهرية.
(9)
"أربعة عشر" في الكامل، جـ 12، ص 44، ط. المطبعة الأزهرية؛ أما ابن كثير فيتفق مع العينى، انظر: البداية والنهاية، جـ 12، ص 352.
(10)
ما بين الحاصرتين إضافة لتوضيح المعنى من الكامل، جـ 12، ص 44. المطبعة الأزهرية.
(11)
أي الذى جرح شهاب الدين الغورى. انظر: الكامل، جـ 12، ص 44. المطبعة الأزهرية.
ومنها أن السلطان طغريل بن أرسلان بن طغريل خرج من الحبس بعد قتل قزل أرسلان بن ألدكز، وكان قزل أرسلان قد اعتقله - كما ذكرنا - في سنة سبع وثمانين وخمسمائة.
ومنها: أنه اتهم أمير الحجيج ببغداد وهو طاشتكين، وقد كان باشر إمرة الحجيج من مدة عشرين سنة في غاية حسن السيرة، بأنه يكاتب السلطان صلاح الدين بن أيوب بالقدوم إلى العراق ليأخذها، فإنه ليس يمنعه أحد، وقد كان مكذوبا عليه [158] في ذلك، ومع هذا حُبس وأُهين وصودر.
وفى المرآة: اعتقله الخليفة تحت التاج وأخفى خبره، بحيث أقام سنين لم يطلع له على خبر
(1)
.
ومنها أن ابن الجوزى في ربيع الأول منها، ولى مدرسة الشيخ
(2)
عبد القادر، فذكر الدرس بها. وقال ابن القادسى: وفى جمادى الأولى جلس الشيخ أبو الفرج بن الجوزى عند تربة أم الخليفة المجاورة لمعروف الكرخى، فتاب مائة وثلاثون شخصًا، ومات في المجلس ثلاثة مِنْ وَجْدِهِم
(3)
.
ومنها أنه وصل كتاب إلى السلطان من اليمن، أن ثلاثة أنهار بالحبشة تغيرت، كانت عذبة فصار الواحد أجاجا، والآخر لبنا، والثالث دمًا
(4)
.
ومنها أنه هربت جماعة من العرب ودخلوا مع الفرنج، ثم أرسلوا يطلبون الأمان من السلطان، على أن يسوقوا ما قدروا عليه من خيل الفرنج، فساقوا خمسمائة فرس.
ومنها: أن ملك الإنكتار جهز من عُدد المسلمين وأسلحتهم - التى نهبوها - شيئاً كثيرًا في مركب وسفرها في البحر، فأرسل الله تعالى عليها ريحا عاصفًا، فغرق المركب بما فيه ومَنْ فيه.
(1)
انظر: مرآة الزمان، جـ 8، ص 266.
(2)
مدرسة الشيخ عبد القادر في بغداد.
(3)
نقل العينى هذه الحوادث من مرآة الزمان، جـ 8، ص 266.
(4)
انظر هذا الخبر في مرآة الزمان، جـ 8، ص 268 - 269.
وفيها
(1)
............................................
وفيها: حج بالناس من بغداد فلك الدين إيليا، ومن الشام درباس الكردى
(2)
.
ذكر من توفى فيها من الأعيان
الصّابُونى، أحمد بن محمود بن أبى بكر، أبو محمد الصابونى، الملقب نور الدين، أحد أعيان الأئمة الحنفية، صاحب "البداية في أصول الدين". توفى وقت صلاة المغرب، ليلة الثلاثاء السادس عشر من صفر سنة ثمان وثمانين وخمسمائة، ودفن بمقبرة القضاة السبعة، تفقه على شمس الأئمة الكردى.
أبو المرهف الشاعر، نصر بن منصور النميرى، سمع الحديث واشتغل بالأدب، وكان قد أصابه جدرى وهو ابن أربع عشرة سنة، فنقص بصره جدًا، فكان لا يبصر الأشياء البعيدة ويرى القريبة منه
(3)
، ولكنه لا يحتاج إلى قائد، فارتحل إلى العراق لمداواة عينيه، فآيسه الأطباء من ذلك، فاشتغل بحفظ القرآن ومصاحبة الصالحين والزهاد فأفلح، وله ديوان شعر كبير حسن، وقد سئل مرة عن مذهبه واعتقاد، فأنشأ يقول:
أُحِبُّ عليا والبَتُول وولدها
…
ولا أجحد الشيخين فضل التقدم
وأبرأ ممن نال عثمان بالأذى
…
كما أتبرأ من ولاء ابن ملجم
ويعجبنى أهل الحديث لصدقهم
…
فلست إلى أقوام سواهم أنتمى
(4)
توفى في ربيع الآخر منها ببغداد، ودفن بمقابر الشهداء بباب حرب ببغداد.
وفى المرآة: منسوب إلى نمير
(5)
بن عامر بن صعصعة من هوزان، ولد ببرقة الشام، وأمه بنت سالم بن مالك صاحب رحبة الشام، ورُبّى بالشام، وعاشر الأدباء، وقال الشعر
(1)
بياض في الأصل بمقدار سطر وكلمتين.
(2)
"ورماس الكردى" في الأصل. والتصحيح من مرآة الزمان، جـ 8، ص 269، حيث ينقل العينى عنه.
(3)
"عنه" في الأصل وهو خطأ. والتصحيح من البداية والنهاية، جـ 12، ص 353؛ مرآة الزمان، جـ 8، ص 270؛ وفيات الأعيان، جـ 5، ص 383 - 384.
(4)
وردت هذه الأبيات باختلاف في الروضتين، جـ 2، ص 211؛ البداية والنهاية، جـ 12، ص 353؛ شذراته الذهب، جـ 4، ص 296.
(5)
"بشر بن عامر" في مرآة الزمان، جـ 8، ص 270. أما في بقية كتب التراجم فقد ذكر الاسم كما أورده العينى. ولعل الناسخ لنسخة المرآة قد وقع في خطأ.
وهو ابن ثلاث عشرة سنة، وتفقه على مذهب أحمد، وقرأ اللغة على [159] ابن الجواليقى. وكان طاهر اللسان نزهًا عفيفا دينا، وكان من أعيان شعراء الوزير يحيى بن هبيرة، وله فيه المدائح الكثيرة. وفى المقتفى، وصلاح الدين وغيرهما. سمع قاضى المارستان، وابن الحصين وغيرهما
(1)
.
ابن الفراش، القاضى شمس الدين محمد بن محمد بن موسى، المعروف بابن الفراش
(2)
. كان قاضى العساكر بدمشق، ويرسله السلطان في الرسالات إلى ملوك الآفاق، وتوفى بملطية عائدا من عند بنى قليج أرسلان. وقال العماد الكاتب: أرسله السلطان إلى قليج أرسلان وأولاده ليصلح بينهم، فتردد بينهم سنةً وعاد، ووصل إلى ملطية وتوفى بها في شهر ربيع الآخر من هذه السنة.
الأمير سيف الدين على بن أحمد المشطوب، كان من أصحاب أسد الدين شيركوه، حضر معه في الوقعات الثلاث بديار مصر، ثم صار من أكابر أمراء السلطان صلاح الدين، وهو الذى كان على نيابة عكا حين أخذها الإفرنج، فافتدى منهم بخمسين ألف دينار وتخلّص، إلى أن خلص إلى السلطان وهو بالقدس الشريف، كما ذكرناه، فولاه نيابة نابلس. وكانت وفاته يوم الأحد
(3)
الثالث والعشرين من شوال بالقدس الشريف، ودفن في داره. وقال العماد: وكانت وفاته يوم الخميس السادس والعشرين من شوال
(4)
. قال المؤيد
(5)
: وكانت نابلس إقطاعه، وتوفى فيها، فوقف السلطان ثلث نابلس على مصالح القدس، وأقطع الباقى للأمير عماد الدين أحمد بن سيف الدين على وأميرين معه.
وفى المرآة
(6)
: سيف الدين المشطوب ملك الهكاريّة، واسمه على بن أحمد الهكارى، كان شجاعا صابرًا في الحرب، مطاعا في قبيلته، دخل مع أسد الدين شيركوه إلى مصر في المرات الثلاث، وشهد فتح مصر، ولزم خدمة السلطان. واتفق أن السلطان
(1)
نقل العينى هذا النص بتصرف من مرآة الزمان، جـ 8، ص 270.
(2)
انظر ترجمته في الفتح القسى، ص 625؛ مفرج الكروب، جـ 2، ص 413، الروضتين، جـ 1، ص 272، جـ 2، ص 242 - 241؛ الأعلام، جـ 7، ص 26.
(3)
النوادر السلطانية، ص 240؛ البداية والنهاية، جـ 12، ص 352.
(4)
انظر: الفتح القسى، ص 613.
(5)
انظر: المختصر في أخبار البشر، جـ 3، ص 83.
(6)
انظر: مرآة الزمان، جـ 8، ص 269.
اجتاز بنابلس في عوده إلى دمشق، فاجتمع أهلها وشكوا إلى السلطان واستغاثوا، فقال: ما لهؤلاء؟ قالوا: يتظلمون من المشطوب، وهو راكب بين يديه، فقال: يا عَلِىّ لو كان هؤلاء يدعون لك هيهات حتى يسمع الله، فكيف وهم يدعون عليك؟. واختلفوا في وفاته؛ فقال العماد: مات المشطوب في نابلس في آخر شوال. وقال القاضى ابن شداد: مات بالقدس وصلى عليه في المسجد الأقصى ودفن بداره.
راشد الدين سنان بن سليمان بن محمد، وكنيته أبو الحسن، صاحب دعوة الإسماعيلية بقلاع الشام، وأصله من البصرة، توفى في هذه السنة. قال بيبرس عن ما يملكه: كان عالما فاضلاً أدب، وكانت له معرفة وسياسة، وحذق في إقامة الدعوة، واستجلاب للقلوب، ولم يقم أحد بعده مقامه.
وفى المرآة: وكان في حصن ألموت
(1)
، فرأى منه صاحب الأمر في تلك البلاد نجابة وشهامة ويقظة، فسيَّره إلى حصون الشام، وكان مجيئه إلى الشام في أيام نور الدين محمود، فأقام واليا ثلاثين سنة، وجرت له مع السلطان قصص، وبعث إليه جماعة فوثبوا عليه، وكان في عزم السلطان قصده، ولم يعطه طاعة قط. ولما صالح السلطان الإفرنج وعزم على قصده توفى، ويحكى عنه العجائب والغرائب
(2)
.
السلطان عز الدين قليج أرسلان بن مسعود بن قليج أرسلان بن سليمان بن قطلومش بن أرسلان بيغو بن سلجوق، صاحب بلاد الروم [160]، توفى يوم السبت منتصف شعبان من هذه السنة. وكان ملكه في سنة إحدى وخمسين وخمسمائة، وكان ذا سياسة حسنة، وهيبة عظيمة، وعدل وافر، وغزوات كثيرة. وكان له عشر بنين، قد وَلَّى كل واحد منهم قطرًا من بلاد الروم، وأكبرهم قطب الدين ملكشاه بن قليج أرسلان المذكور، وكان أبوه قد أعطاه سيواس، فسولت له نفسه القبض على أبيه وإخوته والانفراد بالسلطنة، وساعده على ذلك صاحب أرزنكان
(3)
.
(1)
حصن ألموت: قلعة على جبل شاهق من حدود الديلم. راجع: الكامل، جـ 8، ص 140.
(2)
مرآة الزمان، جـ 8، ص 269؛ شذرات الذهب، جـ 4، ص 294.
(3)
أرزنكان أو أرزنجان: من بلاد أرمينيا بين بلاد الروم وخلاط وغالب أهلها أرمن. انظر: معجم البلدان، جـ 1، ص 205.
فسار قطب الدين ملكشاه وهجم على والده قليج أرسلان بمدينة قونية وقبض عليه، وقال لوالده وهو في قبضته: أنا بين يديك أنفذ أمرك، ثم أنه أشهد على والده بأنه قد جعله ولى عهده. ثم مضى ملكشاه المذكور إلى حرب أخيه نور الدين سلطان شاه صاحب قيسارية، ووالده في القبضة معه، وهو يُظهر أنما يفعله بأمر والده. فخرج عسكر قيسارية لحربه، فوجد أبوه عز الدين قليج أرسلان - عند اشتغال العسكر بالقتال - فرصة، فهرب إلى ولده سلطان شاه صاحب قيسارية، فأكرمه وعظمة كما يجب عليه، فرجع قطب الدين ملكشاه إلى قونية وخطب لنفسه بالسلطنة، وبقى أبوه قليج أرسلان يتردّد في بلاده بين أولاده، كلما ضجر منه واحد منهم انتقل إلى الآخر، حتى حصل عند ولده غياث الدين كيخسرو بن قليج أرسلان صاحب بُرغلو، فقوىّ أباه قليج أرسلان وأعطاه وجمع معه وحشد، وسار معه إلى قونية وملكها، وأخذها من ابنه ملكشاه. ثم سار إلى آقْصرا
(1)
، فاتفق أن عز الدين قليج أرسلان مرض ومات في التاريخ المذكور، وأخذه ولده كيخسرو وعاد به إلى قونية فدفنه بها.
واتفق موت ملكشاه بعد أبيه قليج أرسلان بقليل، فاستقر كيخسرو في ملك قونية، وأثبت أنه ولىّ عهد أبيه قليج أرسلان. ثم أن ركن الدين سليمان، أخا غياث الدين كيخسرو، قوى على أخيه كيخسرو وأخذ منه قونية، فهرب كيخسرو إلى الشام مستجيرًا بالملك الظاهر صاحب حلب. ثم مات ركن الدين سليمان سنة ستمائة، وملك بعده ولده قليج أرسلان بن سليمان، فرجع غياث الدين كيخسرو بن قليج أرسلان إلى بلاد الروم، وأزال ملك قليج أرسلان بن سليمان، وملك بلاد الروم جميعًا، واستقرت له السلطنة ببلاد الروم وبقى كذلك إلى أن قتل. وملك بعده أبنه عز الدين كيكاوس بن كيخسرو، ثم توفى كيكاوس وملك بعده أخوه السلطان علاء الدين كيقباذ بن كيخسرو. ثم توفى علاء الدين كيقباذ سنة أربع وثلاثين وستمائة، وملك بعده ولده غياث الدين كيخسرو بن كيقباذ بن كيخسرو، وكسره التتار سنة إحدى وأربعين وستمائة. وتضعضع حينئذ ملك السلاطين السلجوقية ببلاد الروم، ثم مات غياث الدين كيخسرو بن كيقباذ ابن كيخسرو بن قليج أرسلان بن سليمان بن قطلومش [161] بن أرسلان بن سلجوق.
(1)
آقصْرًا: يطلق عليها آق سراى، وهى قرب قونية، وهى من أحسن بلاد الروم وأتقنها. انظر: رحلة ابن بطوطة، ص 310، تحقيق طلال حرب، ط. بيروت 1987 م؛ السلوك، جـ 1 ق 1، ص 112، حاشية 1؛ تقويم البلدان، ص 382.
وانقضى بموت كيخسرو المذكور سلاطين بلاد الروم في الحقيقة؛ لأن من صار بعده لم يكن له من السلطنة غير مجرد الاسم. وخلف كيخسرو المذكور صبيين هما: ركن الدين، وعز الدين، فملكا معًا مديدة، ثم انفرد ركن الدين بالسلطنة، وهرب أخوه عز الدين إلى قسطنطينية. وتغلب على ركن الدين المذكور معين الدين البرواناه، والبلاد في الحقيقة للتتر، ثم إن البرواناه قَتَلَ ركن الدين، وأقام ابنا
(1)
لركن الدين يخطب له بالسلطنة والحكم للبرواناه، وهو نائب التتر كما سنذكره إن شاء الله تعالى
(2)
.
وفى تاريخ بيبرس: والذى كان قليج أرسلان فرقه لأولاده من بلاده: ركن الدين سليمان توقات
(3)
وأعمالها. غياث الدين كيخسرو قونية وأعمالها. محيى الدين أنكورة
(4)
وأعمالها. معز الدين قيصر شاه ملطية وأعمالها. مغيث الدين [أبلستين]
(5)
وأعمالها. نور الدين محمود قيسارية وأعمالها. قطب الدين سيواس وأعمالها، وآقصرا وأعمالها. فلما مات اختلفت الأخوة وتحاربوا، واتفقت وفاة ولده قطب الدين على أثره، فقوى ركن الدين سليمان على إخوته، وملك هذه الممالك جميعها منهم
(6)
.
(1)
المقصود بهذا الابن هو غياث الدين كيخسرو الثالث، ولى الحكم سنة 663 هـ وعمره سنتان ونصف. انظر: مفرج الكروب، جـ 2، ص 413، حاشية 2.
(2)
نقل العينى هذا النص من المختصر في أخبار البشر، جـ 3، ص 84 - 85؛ وراجع أيضاً: الكامل، جـ 12، ص 37 - 38، ط. المطبعة الأزهرية؛ مفرج الكروب، جـ 2، ص 413.
(3)
تَوْقات: بلدة في أرض الروم بين قونية وسيواس ذات قلعة حصينة. انظر: معجم البلدان، جـ 1، ص 895.
(4)
أنكورة (أنكورية): هى أنقرة الحالية، وهى بلدة من بلاد الروم. انظر: معجم البلدان، جـ 1، ص 391؛ تقويم البلدان، ص 381؛ الكامل، جـ 12، ص 37.
(5)
أبلستان: كذا في الأصل، والصحيح هو المثبت. وأبلستين بلدة مشهورة ببلاد الروم قريبة من أبسيس مدينة أصحاب الكهف. انظر، معجم البلدان، جـ 1، ص 93 - 94.
(6)
ورد هذا الحدث بتصرف في الكامل، جـ 12، ص 37، ط. المطبعة الأزهرية.
فصل فيما وقع من الحوادث في السنة التاسعة والثمانين بعد الخمسمائة
استهلّت هذه السنة والخليفة هو الناصر لدين الله ويقال لها سنة الملوك؛ لأنه مات فيها ملوك كثيرة، وأعظمهم وأجلهم السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب، والأتابك عز الدين مسعود صاحب الموصل، وسيف الدين بكتمر صاحب خلاط، وسلطان شاه بن ألب أرسلان صاحب خراسان، وقيطرمش [بن عبد الله]
(1)
المستَنجدى شحنة
(2)
بغداد، والأمير داود صاحب مكة
(3)
، ونذكر تراجمهم واحداً بعد واحد بعون الله. ونذكر أولاً ترجمة السلطان صلاح الدين قدس الله روحه
(4)
.
ذكر وفاة السلطان صلاح الدين
والكلام فيه على أنواع:
الأول في ترجمته:
هو يوسف بن أيوب بن شاذى بن مروان. وقال ابن خلكان: ولقد تتبعت [نسبتهم]
(5)
كثيراً، فلم أجد أحداً ذكر بعد شاذى أبا آخر، حتى أنى وقفت على كتب كثيرة بأوقاف وأملاك باسم شيركوه وأيوب فلم أر فيها سوى شيركوه وأيوب بن شاذى لا غير، ويقال: شاذى بن مروان. قال: ورأيت مُدرَجا رتبة الحسن بن [غريب]
(6)
بن عمران الحرشى، يتضمن أن: أيوب بن شاذى بن مروان بن أبى على بن [عنترة]
(7)
بن الحسن بن على بن أحمد بن أبى على بن عبد العزيز بن هدبة بن الحُصَين بن الحارث بن سنان بن عمرو بن مرة بن عوف بن أسامة بن بيهس بن الحارث صاحب الحمالة ابن عوف بن أبى حارثة بن مرة بن نُشُبة بن غيظ بن مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان بن
(1)
ما بين حاصرتين إضافة من مرآة الزمان للتوضيح، جـ 8، ص 271.
(2)
شحنه جمع شحانى، أي رئاسة الشرطة، ويسمى متولها صاحب الشحنة Lane Poole، Saladin، p 5
(3)
الأمير داود: هو داود بن عيسى بن فليته بن أبى هاشم العلوى الحسينى توفى سنة 589 هـ.
انظر: شذرات الذهب، جـ 4، ص 297.
(4)
نقل العينى هذا الحدث بتصرف من مرآة الزمان جـ 8 ص 271.
(5)
"نسبهم" في الأصل، والتصحيح من وفيات الأعيان، جـ 7، ص 140.
(6)
"عرب" في الأصل، والتصحيح من وفيات الأعيان، جـ 7، ص 140.
(7)
"عنتر" في الأصل، والتصحيح من وفيات الأعيان، ص 140.
بغيض بن رَيْث بن غطفان بن سعد بن قيس عيلان [162] بن ألياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، ثم رفع بعد هذا في النسب حتى انتهى إلى آدم عليه الصلاة والسلام.
ثم ذكر بعد ذلك أن على بن أحمد بن أبى على بن عبد العزيز يقال: إنه ممدوح المتنبى وفيه يقول من جملة قصيدته:
شرَقَ الجو بالغبارِ إذا سا
…
ر علىّ بن أحمد القمقامُ
وأما حارثة بن عوف بن أبى حارثة صاحب الحمالة، فهو الذى حمل الدماء بين عبس وذبيان، وشاركه في الحمالة خارجه ابن سنان أخو هَرم بن سنان
(1)
. وكان قدمهُ إلى الملك المعظم شرف الدين عيسى بن الملك العادل
(2)
صاحب دمشق، وسمعه عليه هو وولده الملك الناصر صالح الدين أبو المفاخر داود بن الملك المعظم
(3)
، وكتب لهما بسماعهما عليه في آخر رجب سنة تسع عشرة وستمائة. ورأيت
(4)
في تاريخ حلب الذى جمعه القاضى كمال الدين أبو القاسم عمر بن أحمد المعروف بابن العديم الحلبى، بعد أن ذكر الاختلاف في نسبهم، فقال: وقد كان المعز إسماعيل بن سيف الإسلام بن أيوب ملك اليمن أدعى نسباً في بنى أمية وادعى الخلافة.
وقال ابن خلكان: وسمعت شيخنا القاضى بهاء الدين بن شداد يحكى عن السلطان صلاح الدين أنه أنكر ذلك، وقال: ليس هذا أصلى
(5)
. وذكر ابن القادسى، وقال: كان شاذى مملوك بهروز الخادم. وقال السبط في المرآة
(6)
: وهذه من هنات ابن القادسى ما كان شاذى مملوكاً قط، ولا جرى على أحد من بنى أيوب رق، وإنما شاذى خدم بهروز الخادم في قلعة تكريت استنابه فيها، وكان صلاح الدين يوسف المذكور يقال له: السلطان الأعظم أبو المظفر الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن الأمير نجم الدين أيوب صاحب الديار المصرية والبلاد الشامية والفراتية واليمنية.
(1)
ورد هذا النص في وفيات الأعيان، جـ 7، ص 140.
(2)
شرف الدين عيسى بن الملك العادل سيف الدين أبى بكر بن أيوب صاحب دمشق، توفى 624 هـ. انظر وفيات الأعيان، جـ 3، ص 494 - ص 496، جـ 7، ص 141.
(3)
الناصر صلاح الدين أبو المفاخر داود. انظر ترجمته في وفيات الأعيان، جـ 3، ص 496.
(4)
إلى هنا توقف العينى عن النقل من وفيات الأعيان، جـ 7، ص 140 - ص 141.
(5)
نقل العينى هذا النص بتصرف من وفيات الأعيان، جـ 7، ص 141.
(6)
مرآة الزمان، جـ 8، ص 272 - ص 273.
الثاني: في بيان ميلاده وبلده وأصله.
ولد صلاح الدين بقلعة تكريت لما كان أبوه وعمه بها في سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة، واتفق أهل التاريخ على أن أباه وأهله من دُوين
(1)
بضم الدال المهملة وكسر الواو وسكون الياء آخر الحروف وفي آخرها نون. وهي بلدة في آخر أعمال أذربيجان من جهة أران وبلاد الكرج. وإنهم أكراد رَوَادّية بفتح الراء والواو وبعد الألف دال مهملة ثم ياء آخر الحروف مشددة وبعدها هاء. والروادية بطن من الهدبانية بفتح الهاء والدال المهملة والباء الموحدة وبعد الألف نون مكسورة ثم ياء آخر الحروف مشددة وبعدها هاء، وهي قبيلة من الأكراد.
وقال ابن خلكان
(2)
: قال لي رجل فقيه عارف بما يقول وهو من أهل دوين، إن على باب دوين قرية يقال لها أَجْدَ أتقَان
(3)
بفتح الهمزة وسكون الجيم وفتح الدال المهملة وبعد الألف نون مفتوحة وقاف مفتوحة وبعد الألف الثانية نون أخرى، وجميع أهلها أكراد روادية، ومولد أيوب والد صلاح الدين بها، وشاذى أخذ ولديه أسد الدين شيركوه ونجم الدين أيوب وخرج بهما إلى بغداد، ومن هناك نزلوا تكريت ومات شاذي بها، وعلى قبره قبّة داخل البلد. وكان شيركوه وأيوب - لما كانا في بغداد - خدما مجاهد الدين بهروز شحنة [163] العراق، ورأى مجاهد الدين في نجم الدين أيوب عقلاً ورأيا حسناً وحُسن سيرة، فجعله دردار تكريت إذ هي له. ودزدار بضم الدال المهملة وسكون الزاي المعجمة وفتح الدال المهملة وبعد الألف راء، وهو لفظ أعجمي، ومعناه حافظ القلعة، وهو الوالي، ودُز بالعجمى القلعة، ودار الحافظ. فسار إليها ومعه أخوه أسد الدين.
ثم إن أسد الدين قتل إنساناً بتكريت لكلام جرى بينهما، فأرسل مجاهد الدين إليهما، فأخرجهما من تكريت، ثم إنهما قصدا عماد الدين زنكي وكان إذ ذاك صاحب الموصل، فأحسن عماد الدين إليهما وأقطعهما إقطاعاً حسنًا وصارا من جملة جنده، ولما فتح عماد الدين زنكي بعلبك جعل نجم الدين دزد رها وقد ذكرنا ذلك كله مفصلاً
(4)
،
(1)
دُوين: بلدة من نواحي أرَّان في أخر حدود أذربيجان بالقرب من تفليس. معجم البلدان، جـ 2، ص 632؛ ابن خلكان، وفيات الأعيان، جـ 7، ص 139.
(2)
وفيات الأعيان، جـ 7، ص 139.
(3)
أجد أتقان: لم يذكرها سوى العيني، وهي القرية التي ولد بها صلاح الدين.
(4)
نقل العينى هذا الحدث من اين خلكان بتصرف. انظر: وفيات الأعيان، جـ 7، ص 142 - ص 145.
ويقال: إن الأخوين خرجا من تكريت في الليلة التي ولد فيها صلاح الدين فتشاءموا به وتطيروا منه، فقال بعضهم: لعل فيه الخيرة وما تعلمون. فكان كما قال ويقال ما خرجا من تكريت إلا - بعد ولادة صلاح الدين مدة يسيرة، أما في بقية السنة التي ولد فيها صلاح الدين أو في سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة والله أعلم.
الثالث في بيان منشأه:
ولم يزل صلاح الدين في كنف أبيه حتى ترعرع، ولما ملك نور الدين محمود الشهيد بن عماد الدين زنكي دمشق في التاريخ الذي ذكرناه، لازم نجم الدين أيوب خدمته، وكذلك ولده صلاح الدين يوسف، وكانت مخايل السعادة عليه لائحة، والنجابة تقدمه من حالة إلى حالة، ونور الدين الشهيد يرى له ويؤثره، ومنه تعلم صلاح الدين طرائق الخير وفعل المعروف والاجتهاد في أمر الجهاد، حتى تجهز مع عمه شيركوه إلى الديار المصرية كما ذكرناه مفصلاً، ثم لم يزل يتقلب به الحال إلى أن صار سلطانًا، وخطب باسمه في الديار المصرية والشامية والفراتية وأرض اليمن ومكة والمدينة، ولم يزل مرابطاً مجاهداً في سبيل الله عز وجل حتى أتاه اليقين
(1)
.
الرابع في سيرته:
قال العماد
(2)
وغيره: قد كان السلطان صلاح الدين متشرعاً في ملبسه ومأكله ومشربه ومركبه، فلا يلبس إلا الكتان والقطن والصوف، ولا يعرف أنه تخطى مكروهاً بعد أن أنعم الله عليه بالملك، بل كان همه الأكبر ومقصوده الأعظم نصر الإسلام وكسر الأعداء اللئام، ويعمل فكره في ذلك وآراءه وحده ومع من يثق برأيه ليلاً ونهاراً وسراً وجهاراً، هذا مع ما لديه من الفضائل والفواضل والفوائد الفرائد في اللغة والأدب وأيام الناس حتى قيل: إنه كان يحفظ الحماسة بتمامها وكان مواظباً على الصلوات [الخمس]
(3)
في أوقاتها في جماعة، ويقال: إنه لم تفته الجماعة في صلاة قبل وفاته بدهر طويل حتى في مرض موته، كان يدخل الإمام فيصلي به، ويتجشم القيام مع ضعفه، وكان يفهم ما يقال بين يديه من البحث والمناظرة، ويشارك في ذلك مشاركة
(1)
نقل العينى هذا النص بتصرف من وفيات الأعيان، ج 7، ص 145.
(2)
نقل العيني هذا النص بتصرف من الفتح القسى، ص 156 - ص 660.
(3)
"الخمسة" كذا في الأصل، والصواب ما أثبتناه.
قريبة حسنة وإن لم يكن بالعبارة المصطلح عليها
(1)
. وقال العماد: ورأى يوماً دواتي محلاة بالفضة، فأنكر على وقال: هذا حرام. فقلتُ له على سبيل [164] المداعبة: وليس تحل حُلية السلاح واستصحابه في الكفاح، ودواتي هذه أشجع ومدادها أنقع ويراع براعتي القصير أطول، وسنان قناتي أحد وأقتل. فقال: ليس هذا دليل صالح. قلت: ما جمعت هذه العساكر الإسلامية إلا بقلمي، ولا تفرقت جموع الكفر إلا بكلامي. فقال: والله إن هذا ما يعجبني. فلم أعد أكتب بتلك الدواة بين يديه.
وكان طاهر المجلس لا يذكر أحدا في مجلسه إلا بالخير، وكان طاهر اللسان لا يذكر أحداً بسوء ولا يشتم أحداً قط، وكان مع هذه المملكة المتسعة والسلطنة العظيمة كثير التواضع واللطف، قريباً من الناس رحيم القلب كثير الاحتمال والمداراة، وكان يحب العلماء وأهل الخير ويقربهم ويحسن إليهم، وكانت مجالسه منزهة عن الهزء والهراء، ومحافله حافلة بأهل العلم والفضل، وما سمع منه كلمة فُحش قط، وكان يلين للمؤمنين ويغلظ على الكافرين، ومن جالسه لا يعلم أنه جالس سلطاناً بل يعتقد أنه أخ من الإخوان، وكان شديد الحياء خاشع الطرف، رقيق القلب سريع الدمعة شديد الرغبة في سماع الحديث، وإذا بلغه عن شيخ رواية عالية - وكان ممن يحضر عند الناس - استحضره وسمع عليه وأسمع أولاده ومماليكه، وأمرهم بالقعود عن سماع الحديث إجلالاً له، وإن لم يكن ممن يحضر عند الناس ولا يطرق أبواب الملوك سعى إليه وسمع منه وروي عنه وتردد إليه، ولم يكن في عمره كَتَبَ بيده ما فيه أذى مسلم، وما حضر بين يديه يتيم إلا وترحم على مخلفه وجبر قلبه وأعطاه ما يكفيه، فإن كان له كافل وإلا كفله، وإنه مات ولم تجب عليه زكاة
(2)
.
الخامس في حسن عقيدته:
كان متوكلاً على الله في كل أمره، ولا يلتفت إلى قول منجم، وكان حسن العقيدة كثير الذكر لله تعالى، وكان قد قرأ عقيدة القطب النيسابوري وعلمها أولاده الصغار؛ لترسخ في أذهانهم من الصغر، وكان يأخذها عليهم.
(1)
نقل العينى هذا النص من البداية والنهاية، جـ 13، ص 5، وإن كان قد ذكر أنه نقله من العماد الأصفهاني، الفتح القسي، ص 656.
(2)
نقل العين هذا النص بتصرف من الفتح القسى، ص 156 - ص 661؛ النوادر السلطانية، ص 9؛ الروضتين، جـ 2، ص 219؛ مرآة الزمان، جـ 8، ص 274.
وقال ابن كثير: وكان القطب النيسابوري جمع هذه العقيدة الأهله، وكان يَحْفَظُهَا ويُحَفِّظُهَا مَنْ عَقِلَ مِنْ أولاده، وكان يحب سماع القرآن العظيم ويواظب على سماع الحديث، حتى أنه سمع في بعض المصافات جزءاً، وهو بين الصفين، ويتبحبح بذلك ويقول: هذا موقف لم يسمع فيه أحد حديثًا، وكان ذلك بإشارة العماد [الكاتب]
(1)
. وكان رقيق القلب سريع الدمعة عند سماع الحديث، كثير التعظيم لشعائر الدين، وكان قد لجأ إلى ولده الظاهر - وهو بحلب - شاب يقال له الشهاب، يعرف الكيمياء وشيئًا من الشعبذة والأبواب النيرنجيات، فافتتن به ولده وقربه وأحبه وخالف فيه حملة الشرع، وبلغ ذلك أباه السلطان، فكتب إليه أن أقتله لا محالة، فصلبه ولدُه عن أمر والده كما ذكرناه
(2)
في سنة [ست]
(3)
وثمانين وخمسمائة، ومن شدة محبته لسماع الحديث مضى إلى الإسكندرية، وسمع الحديث الكثير من الحافظ [165] السلَفِي ومن ابن عوف الموطأ، وكان مبغضاً لكتب الفلاسفة وأرباب المنطق ومن يُعَانِد الشريعة، وقال ابن كثير: وكان رحمه الله قرأ مختصراً في الفقه تصنيف سُليم الرازي.
السادس في حلمه وأخلاقه الحسنة:
وكان حليماً كثير العفو والتجاوز عن أصحاب الذنوب، حسن الخلق صبوراً على ما يكره، كثير التغافل عن ذنوب أصحابه، يسمع من أحدهم ما يكره ولا يعلمه بذلك ولا يتغير عليه، وكان يوماً جالساً فرمي بعض المماليك بعضاً بسَرْموزة، فأخطأته، ووصلت إلى السلطان ووقعت بالقرب منه، فالتفت إلى الجهة الأخرى ليتغافل عنها. وقال القاضي بهاء الدين
(4)
: نفرت
(5)
بغلتي يوماً من الجمال وأنا راكب في خدمته، فزحمت وركهـ حتى أقلقته من الوجع وهو يبتسم، وبُدلت في خزانته كيسان من الذهب المصرى بكيسين من الفلوس
(6)
. [فما عمل]
(7)
للمباشرين شيئاً سوى صرفهم
(8)
.
(1)
ما بين حاصرتين إضافة من ابن كثير للتوضيح، البداية والنهاية، جـ 13، ص 6.
(2)
نقل العين هذا النص بتصرف من البداية والنهاية، جـ 13، ص 5.
(3)
"سبع" كذا في الأصل. والمثبت من ابن كثير الذي ينقل العينى عنه، البداية والنهاية، جـ 13، ص 6.
(4)
"شهاب الدين" كذا في الأصل. والمثبت هو الصحيح.
(5)
انظر: النوادر السلطانية، ص 29.
(6)
المراد بالفلوس: النقود النحاسية، انظر: انستاس الكرملي، النقود العربية وعلم النميات، ص 62 - 73، المطبعة العصرية، القاهرة، سنة 1939 م.
(7)
"فلم يعلم" كذا في الأصل، والتصحيح من النوادر، ص 33.
(8)
نقل العيني هذا الحدث بتصرف من النوادر، ص 33.
وقال القاضي بهاء الدين: كنت يوماً عند مجلس الحُكم بالقدس الشريف، إذ دخل رجل حَسن الهيئة ومعه مكتوب حكمي وقال لي: يا أيها القاضي خصمي السلطان، وهذا بساط الشرع، فقال له القاضي: بأي سبب؟ قال: إن سُنقر الخلاطي مملوكي ولم يزل على ملكي إلى أن مات، وكان في يده أموال عظيمة، كلها لي، فاستولى عليها السلطان، وأخرج المكتوب فتصفحتُه، فوجدته يتضمن جلية سنقر الخلاطي، وأنه اشتراه من فلان التاجر في الوقت الفلاني ولم يزل في ملكه إلى أن نّد
(1)
عنه في سنة كذا، قلت له: فما أخرك إلى هذا الوقت؟ فقال: الحقوق لا تبطل بالتأخير. قال القاضي: فأعلمت السلطان، فأحضره واستوى معه في المجلس حتى ساواه، وادعي الرجل وأظهر كتابه، فقال السلطان رحمه الله: إن لي من يشهد أن هذا سنقر في هذا التاريخ كان ملكي بمصر، وإني اشتريته مع ثمانية أنفس، ولم يزل في ملكي حتى أعتقته، ثم أحضر السلطان جماعة من أعيان الأمراء فشهدوا بذلك، فأنكر الرجل، فقلت للسلطان: يا مولانا ما فعل هذا إلا يطلب صدقة السلطان، فما يحسن أن يرجع خائب الأمل. فقال: هذا باب آخر، وأمر له [بخلعة
(2)
] ونفقة جيدة
(3)
وبغلة
(4)
.
قال: وكان الحجاب يزدحمون على طراحته، فجاء سنقر الخلاطي ومعه قصص، فقدم له قصة، وكان السلطان قد مد يده اليمنى على الأرض ليستريح، فلاسها سنقر الخلاطي ولم يعلم وقال له: علِّم عليها، فلم يجبه، فكرر عليه القول، فقال له: يا طواشي أعلم بيدي أو برجلي، فنظر سنقر فرأى يد السلطان تحت رجله فخجل، وتعجب الحاضرون من هذا الحلم، ثم قال السلطان: هات القصة فعلَّم عليها. ومازال السلطان على هذه الأخلاق حتى توفاه الله عز وجل إلى مقر رحمته ورضوانه
(5)
.
وقدم إليه يوماً مملوك له قصة فقال: أنا الساعة ضجر، فأخرها ساعةً، فلم يؤخرها وقدمها إلى وجهه، فلما قرأ اسم صاحبها قال: أي والله رجل مستحق. قال: فوقع له. قال: ماثم دواة. ثم نظر فإذا الدواة [166] بعيدة عنه، فامتد على يده اليسرى حتى أخذ
(1)
ندَ: بمعنى نفر وذهب على وجهه شاردًا. انظر: محيط المحيط مادة "ندد"، جـ 2، ص 2055.
(2)
"بخلع" كذا في الأصل والمثبت من النوادر، ص 16؛ مرآة الزمان، جـ 8، ص 275.
(3)
نقل العيني هذا النص بتصرف من النوادر، ص 16.
(4)
بغلة: نقلها العينى عن مرآة الزمان؛ جـ 8، ص 275؛ أما في النوادر فقد ورد النص هكذا "وتقدم له بخلعة ونفقة بالغة". انظر: النوادر، ص 16.
(5)
نقل العينى هذا الحدت بتصرف من مرآة الزمان، جـ 8، ص 275، ص 276.
الدواة ووقع له
(1)
. قال القاضي: ولقد واجهة الجناح على يافا بالكلام القبيح، فما قال له كلمة واستدعاه، فأيقن بالهلاك. وارتقب الناس أن يضرب رقبته، فأطعمه فاكهة جاءته من دمشق، وسقاه ماء وثلجاً
(2)
.
السابع في شجاعته:
وكان رحمه الله من أشجع الناس وأقواهم بدناً وقلباً مع ما كان يعتري جسمه من الأمراض والأسقام ولاسيما وهو مرابط مصابر مثاغر عند عكا، فإنهم كانوا كلما كثرت جموعهم وتراكمت أمدادهم لا يزيده ذلك إلا قوة وشهامة، وقد بلغت جموعهم خمسمائة ألف مقاتل ويقال ستمائة ألف مقاتل، وكان جملة من قتل منهم مائة ألف مقاتل، وكان يوم المصّاف يَدور على الأطلاب ويقول: وهل أنا إلا واحد منكم. وكان في الشتاء يعطى العساكر دستوراً وهو نازل على مرج عكا، ويقيم طول الشتاء في نفر يسير.
وفي المرآة
(3)
: وكان شجاعاً شهماً جواداً مجاهداً في سبيل الله، وأقام على عكا مجاهداً مرابطاً قريباً من أربع سنين.
الثامن في كرمه وجُوده:
وفي المرآة
(4)
: وكان يجود بالمال قبل الوصول إليه ويحيل به، ومتى عرف وصول حمل وقع عليه بأضعافه، وما خيب أحداً بالرد، وإن لم يكن عنده شيئ لطف به كأنه غريم يستمهله، وكان مغرمًا بالإنفاق في سبيل الله، ووهب مدة مقامه على عكا مرابطاً للفرنج من رجب سنة خمس وثمانين وخمسمائة إلى يوم انفصاله عنها في شعبان سنة ثمان وثمانين وخمسمائة، مدة ثلاث سنين وكسر، فكان اثني عشر ألف رأس من الخيل العراب والأكاديش
(5)
الجياد للحاضرين معه في الجهاد والقادمين عليه من البلاد، غير ما أطلقه من الأموال في أثمان الخيل المُصابة في القتال
(6)
.
(1)
نقل العينى هذا الحدث بتصرف من النوادر، ص 28، ص 29.
(2)
نقل العينى هذا الحدث بتصرف من مرآة الزمان، ص 275.
(3)
نقل العينى هذا النص بتصرف من مرآة الزمان، جـ 8، ص 273.
(4)
نقل العينى هذا النص بتصرف من مرآة الزمان، جـ 8، ص 273.
(5)
الأكاديش: جمع اكديش، وهو يطلق على الحصان الخليط أوغير الأصيل والصغير غير الجيد، وقد كان سلاطين المماليك يقدمونها هدايا للأمراء، الفتح القسى، ص 60، حاشية 10؛ ابن واصل، فرج الكروب، ج 2، ص 427.
(6)
إلى هنا توقف العينى عن النقل من مرآة الزمان، جـ 8، ص 273.
وقال العماد: ولم يكن له فرس يركبه إلا وهو موهوب، ولا جاءه قود إلا وهو مطلوب، ولا رد سائلا ولا أخجل ماثلاً ولا خيب آملا. قال: شكى إليه أيوب بن كنان
(1)
ديناً مبلغه اثنا عشر ألف دينار فقضاه عنه. قال: وكتب إليه سيف
(2)
الدوله بن منقذ نائبه بمصر إن بعض الضُّمان انكسر عليه مال كثير وربما وصل إلى الباب وعجل، فلما كان بعد أيام وصل ذلك الرجل إلى الباب وتمحل، وبلغ السلطان فأرسل إليه يقول: احذر احذر أن تقع في عين ابن مُنقذ
(3)
.
قال: وفتح آمد ووهبها لابن قرا أرسلان، واجتمع عنده وفود بالقدس، ولم يكن عنده مال فباع ضيعة من بيت المال وفرق ثمنها فيهم. وإنه رحمه الله لم يخلف في خزانته إلا سبعة وأربعين [درهماً ناصرية]
(4)
وديناراً واحداً صورياً، ولم يخلف عقاراً ولا بستاناً ولا قرية ولا شيئاً من الأملاك
(5)
، وحوسب صاحب ديوانه فخرج عليه تسعون ألف دينار بإقراره، فما طلبها ولا أراه أنه عرفها، ولم يرض له بعد هذا بالعُطلة فولاه ديوان جيشه، وكان إذا فتح بلداً أو أخذ إقليماً وهبه لبعض أقاربه أو أمرائه أو أتباعه.
التاسع في معروفه:
قال ابن خلكان: ولما ملك السلطان صلاح الدين الديار المصرية لم يكن بها شيء من المدارس، فإن الدولة المصرية كان [167] مذهبها مذهب الإمامية
(6)
، فلم يكونوا يقولون بهذه الأشياء، فعمر بالقرافة الصغرى المدرسة
(7)
المجاورة لضريح الإمام الشافعي رحمه الله، وبنى مدرسته بالقاهرة في جوار المشهد المنسوب إلى الحسين رضي الله عنه
(1)
"كيان" في الأصل. والمثبت من الفتح القسي، ص 657؛ مفرج الكروب، جـ 2، ص 437.
(2)
سيف الدوله هو: أبو الميمون المبارك بن كامل بن علي بن مقلد بن نصر بن منقذ الكناني، الملقب سيف الدولة محب الدين، من أمراء الدولة الصالحية، ولد سنة 526 هـ، وتوفي سنة 589 هـ. وفيات الأعيان، جـ 4، ص 146.
(3)
ينقل العينى هذا النص بتصرف من الفتح القسي، ص 656 - 657، وإن كان قد نقله بالنص من مرآة الزمان، جـ 8، ص 273.
(4)
ما بين حاصرتين إضافية من النوادر، ص 17؛ الروضتين، جـ 2، ص 217؛ البداية والنهاية، ج 13، ص 4.
(5)
الروضتين، جـ 2، ص 217.
(6)
مذهب الإمامية: هم القائلون بإمامة على رضي الله عنه بعد النبي صلى الله عليه وسلم نصاً ظاهراً ويقيناً صادقاً. انظر الشهرستاني، الملل والنحل، جـ 1، ص 162.
(7)
المدرسة الشافعية هي: المدرسة الناصرية، كان حبس للشحن يعرف بدار المعونة لإقامة العقوبات وسفك الدماء، فأعادها صلاح الدين مدرسة للشافعية وعمرها في أوائل سنة 566 هـ، وكان صلاح الدين حينئذ يتولى وزارة مصر للخليفة العاضد الفاطمي، انظر: البنداري، سنا البرق الشامي، قسم 1، ص 107؛ المقريزي، الخطط، جـ 2، ص 345، ص 346.
وجعل عليه وقفاً كثيراً طائلاً، وجعل دار عباس
(1)
- المذكور في ترجمة الظافر العبيدي
(2)
، والعادل ابن السلار
(3)
- مدرسة للحنفية وعليها وقف جيد أيضًا، والمدرسة التي بمصر المعروفة بين التجار جعلها وقفاً على الشافعية ووقفها جيد أيضًا، وبنى بالقاهرة داخل القصر مارستاناً
(4)
وله وقف جيد، وله بالقدس مدرسة أيضًا ووقفها كثير وخانقاه بها أيضًا، وله بمصر مدرسة للمالكية
(5)
.
ولقد أفكرت في نفسي في أمور هذا الرجل، وقلت: إنه سعيد في الدنيا والآخرة، فإنه فعل في الدنيا هذه الأفعال المشهورة من الفتوحات الكثيرة وغيرها، ورتب هذه الأوقاف العظيمة وليس فيها شيء منسوب إليه في الظاهر، فإن المدرسة التي في القرافة ما يسميها الناس إلا للشافعي رحمه الله، والمجاورة للمشهد لا يقولون إلا للمشهد، والخانقاه التي بالقاهرة لا يقولون إلا خانقاه سعيد السعداء، والمدرسة التي للحنفية لا يقولون إلا مدرسة السيوفية، والتي بمصر لا يقولون إلا مدرسة زين التجار، والتي بمصر أيضًا مدرسة المالكية، وهذه صدقة السر على الحقيقة والعجب أن له بدمشق في جوار المارستان النوري مدرسة يقال لها الصلاحية
(6)
، فهي منسوبة إليه وليس لها وقف، وله بها مدرسة أيضًا للمالكية ولا تعرف به، وهذه النعم من ألطاف الله تعالى
(7)
.
(1)
دار عباس: تعرف بدار المأمون بن البطائحي، وهي اليوم مدرسة للطائفة الحنفية، وتعرف بالسيوفية. انظر: وفيات الأعيان، جـ 3، ص 493.
(2)
الظافر العبيدي: هو أبو القاسم عيسى الملقب الفائز بن الحافظ بن محمد ويرجع نسبه إلى المهدي بن عبيد الله توفي 555 هـ. وفيات الأعيان، جـ 3، ص 491.
(3)
العادل بن السلار: هو أبو الحسن علي بن السلار المنعوت بالملك العادل سيف الدين عرف بابن السلار، وزير الظافر العبيدي صاحب مصر؛ وفيات الأعيان، جـ 3، ص 416 - ص 417.
(4)
يقصد بهذا المارستان، المارستان العتيق بني سنة 577 هـ ضمن متجددات العصر. الخطط، جـ 2، ص 250، طبعة مصر.
(5)
المدرسة المالكية: وهي دار الغزل لأنها كانت قيسارية يباع فيها الغزل، هدمها صلاح الدين وبني مكانها مدرسة للمالكية ومكانها اليوم أرض فضاء من الجهة الشرقية من جامع عمرو بن العاص، انظر: البنداري، سنا البرق الشامي، قسم 1، ص 107؛ ابن دقماق، الانتصار، جـ 4، ص 95؛ مفرج الكروب، جدا، ص 198، حاشية 1.
(6)
المدرسة الصلاحية: بدمشق بالقرب من البيمارستان النوري وهي من إنشاء نور الدين محمود بن زنكي، ومنسوبة للسلطان صلاح الدين، انظر محمد كرد علي، خطط الشام، جـ 6، ص 82.
(7)
إلى هنا توقف العينى عن النقل من وفيات الأعيان، جـ 7، ص 206، ص 207.
العاشر في فتوحاته وهي على أنواع:
الأول في البلاد الإسلامية وهي: الديار المصرية والحجاز ومكة والمدينة من زبيد إلى حضرموت، متصلاً بالهند ودمشق وبعلبك وحمص وحماة وحلب وأعمال هذه البلاد
(1)
.
الثاني في البلاد الإسلامية الفراتية وهي: حران والرها والرقة ورأس عين وسنجار ونصيبين وجملين وسروج وديار بكروميا فارقين وآمد وحصونها وشهرزور والبوازيج
(2)
، وخطب له على المنابر من باب همذان إلى الفرات ومن الفرات إلى حضرموت ومن الغرب إلى إفريقية. وفي المرآة
(3)
: أول ما فتح الديار المصرية.
الثالث في البلاد التي أخذها من الإفرنج وغيرهم، وهي: طبرية وعكا، أما طبرية فهى على نهر الأردن، فتحها بالسيف، وأما عكا فهي مدينة على البحر المالح، فتحها بالصلح. والزيب
(4)
ومعليا
(5)
وإسكندرونة
(6)
بين صور وعكا وقلعة أبي الحسن بأرض صيدا وحصن يحمور
(7)
بالأمان، وتبنين بجبل عاملة بالتسليم، وهونين
(8)
غربي بانياس بالأمان، والناصرة التي ينسب إليها النصارى والطور قبلي صفورية بالتسليم، وصفورية غربي طبرية بالسيف، والفُولة قبلي الناصرة بالتسليم، وچينين قبلي عقربلا بالتسليم، وزرعين ودبورية
(9)
متاخمة صفورية بالسيف، وعقربلا قبلي الطور بالتسليم، وبيسان بالغور، وسبسطية من عمل نابلس بالتسليم، [168] ونابلس مدينة مشهورة، واللَجّون
(10)
، وريحا
(11)
، وسنجل
(12)
والبيرة بأرض القدس، ويافا بالسيف، وأرسوف بالأمان، وقيسارية
(1)
مرآة الزمان، جـ 8، ص 278.
(2)
البوازيج: بلدة قرب تكريت. معجم البلدان، جـ 1، ص 750.
(3)
مرآة الزمان، جـ 8، ص 278.
(4)
الزيب: قرية كبيرة على ساحل بحر الشام قرب عكا، معجم البلدان، جـ 2، ص 994.
(5)
مَعْلَيَا: من نواحي الأردن بالشام، معجم البلدان، جـ 4، ص 578.
(6)
إسكندرونة: هي مدينة في شرقي أنطاكية على ساحل الشام. معجم البلدان، ص 253.
(7)
يحمور: بلد شمالي العرينة، انظر خريطة القسم الشمالي من الشام.
(8)
هونين: بلد في جبال عاملة مطلة على نواحي مصر؛ معجم البلدان، جـ 4، ص 999.
(9)
دبورية: بليدة قرب طبرية من أعمال الأردن. معجم البلدان، جـ 2، ص 546.
(10)
اللجون: بلد بالأردن بينه وبين طبرية عشرون ميلاً. انظر: معجم البلدان، جـ 4، ص 351.
(11)
ريحا: يقال لها أريحة أيضًا: مدينة قرب بيت المقدس من أعمال الأردن. معجم البلدان، جـ 1، ص 127 - ص 228.
(12)
سنجل: بليدة من نواحي فلسطين وعندها جب يوسف الصديق عليه السلام. معجم البلدان، جـ 3، ص 192.
بالسيف، وحيفا وصرفند
(1)
بأرض بيروت، وصيدا على البحر، وقلعة أبي الحسن بأرض صيدا في جبل جليل، وبيروت على البحر، وجبيل ومجدل يافا بأرض الرملة، ومجدل حباب
(2)
والداروم وغزة وعسقلان بالأمان، وتل الصافية والبرج الأحمر بساحل الرملة بالسيف، وحصن النطرون غربي القدس بالأمان، وبيت جبريل بأرض الخليل بالتسليم، وجبل خليل بالأمان، وبيت اللحم - مولد المسيح عليه السلام واللد بأرض الرملة بالسيف، والرملة بالسيف، وقلعة السلع والوعيرة وقلعة الجمع وقلعة الطفيلة وقلعة الهرمز جميع ذلك في وادي موسى عليه السلام، وقلعة الكرك بعد حصار سنة ونصف، وقلعة الشوبك بالأمان، وقلعة صفد بعد حصار مدة، وحصن بازور غربي الرملة بالتسليم، وقلعة هونين غربي بانياس بالأمان، وحصن كوكب قبلي طبرية بالتسليم، وحصن عَفري شمالي القدس بالأمان، وحصن العازرية شرقي القدس بالتسليم، وحصن قرية أيَا بأرض عسقلان بالأمان، قلعة الجيب الفوقاني بالأمان، وحصن الجيب التحتاني شمالي القدس بالأمان. حصن قلنسوة شمالي لد بغير قتال، وحصن القانون بغير قتال، وحصن القيمون شرقي حيفا بالسيف، وحصن يُبني قريب الرملة بالأمان، وحصن يازور غربي الرملة بالتسليم، وقلعة الفُولة قبلي الناصرية بالتسليم، وشقيف أرنون بالأمان، وحصن بلدة وحصن بلنياس - بين جبلة والمرقب - وحصن صهيون وربضة بالسيف، وقلعة بلاطنس من عمل صهيون وحصن الجُماهرية شمالي صهيون وقلعة فيدُو غربي جبل البرزين وقلعة بكاس وقلعة الشعر من أنطاكية وبك إسرائيل وقلعة السودانية وقلعة البرزين ودرسباك وبغراس
(3)
وحصن الدامور
(4)
وأنطرسوس وجبلة واللاذقية بالسيف، وقلعة برزية
(5)
والبيت المقدس وغير ذلك من القرى والمعاقل التي لم تذكر
(6)
.
(1)
صرفندة: قرية من قرى صور من سواحل بحر الشام. معجم البلدان، جـ 3، ص 382.
(2)
مجدل حباب: ورد لها ذكر في كرد على. خطط الشام، جـ 2، ص 59.
(3)
بغراس: مدينة من لحف جبل اللكام بينها وبينه أربعة فراسخ، معجم البلدان، جـ 1، ص 693.
(4)
"الدانور" في النوادر السلطانية، ص 248.
(5)
برزوية والعامة تقول برزية، وهي حصن قرب السواحل الشامية على سن جبل شاهق، فتحها صلاح الدين سنة 584 هـ. انظر: معجم البلدان، جـ 1، ص 565. أبو الفدا، تقويم البلدان، ص 340.
(6)
عن هذه الفتوحات انظر: النوادر السلطانية، ص 248.
وفي المرآة: ويقال: إنه فتح ستين حصناً وزاد على نور الدين مصر والحجاز والمغرب واليمن والقدس والساحل وبلاد الفرنج وديار بكر، ولو عاش لفتح الدنيا شرقا وغرباً وبعداً وقرباً، وإن كان مبدأ فتوحاته
(1)
بمصر بهمة نور الدين وأمواله وعساكره ورجاله وبينهما مقاربة في السيرة والعدل والأيام واجتناب الآثام، وكلاهما لم يبلغ ستين سنة والله أعلم
(2)
.
الحادي عشر في مرضه:
استهلت هذه السنة وهو في غاية الصحة والسلامة، وخرج هو وأخوه الملك العادل أبو بكر إلى الصيد في شرقي دمشق، وقد اتفق الحال بينه وبين أخيه أنه بعد ما يفرغ من أمر الفرنج هذه المرة [169] يسير هو إلى بلاد الروم ويبعث أخاه العادل إلى خلاط، فإذا فرغا من شأنهما سارا جميعاً إلى بلاد أذربيجان وبلاد العجم، ولما قدم الحجيج من الحجاز الشريف يوم الاثنين حادي عشر صفر خرج لتلقيهم وقدم معهم ولد أخيه سيف الإسلام صاحب اليمن، فأكرمه واحترمه وعاد إلى القلعة فدخلها من باب الجديد، فكان ذلك آخر ما ركب في هذه الدنيا، وذلك أنه اعتراه حمى صفراوية ليلة السبت السادس عشر من صفر، فلما أصبح دخل عليه القاضي الفاضل وابن شداد وابنه الأفضل فأخذ يشكو إليهم قلقه البارحة وأطال الحديث وطال مجلسهم عنده، ثم تزايد به المرض واستمر، وقصده الأطباء في اليوم الرابع، فاعتراه يبس وحصل له عرق شديد بحيث نفذ إلى الأرض، فقوى اليبس أيضًا، فأحضر الأمراء والأكابر والرؤساء فبويع لولده الأفضل نور الدين على نائباً على ملك دمشق، وكان الذين يدخلون عليه في هذه الحال القاضي الفاضل وابن شداد وقاضي البلد ابن الزكي، وتفاقم به الحال ليلة الأربعاء السابع والعشرين من صفر، واستدعى الشيخ أبو جعفر إمام الكلاسه
(3)
ليبيت عنده يقرأ القرآن ويلقنه الشهادة إذا جدَّ به الأمر، فذكر أنه كان يقرأ عنده وهو في الغمرات فقرأ {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ}
(4)
فقال: هو كذلك صحيح فلما أُذِن للصبح جاء
(1)
"ميدانه" في الأصل والتصحيح من مرآة الزمان، جـ 8، ص 278.
(2)
انظر مرآة الزمان، جـ 8، ص 278.
(3)
الكلاسيه: مدرسة بناها نور الدين محمود سنة 505 هـ متصلة بالجامع الأموي من شماله وسميت كذلك لأنها كانت موضع عمل الكلس أيام بناء الجامع وقد أمر بتجديدها السلطان صلاح الدين الأيوبي. انظر: كرد على، خطط الشام، جـ 6، ص 89.
(4)
سورة الحشر، آية رقم 22.
القاضي الفاضل فدخل عليه وهو بآخر رمق، فلما قرأ القارئ {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} "
(1)
تبسم وتهلل وجهه وتوفي إلى رحمة الله تعالى
(2)
.
وقال العماد
(3)
: جلس السلطان ليلة السبت السادس عشر من صفر في مجلس عادته ومحلي سعادته، ونحن عنده في أتم اغتباط وأتم نشاط حتى مضى من الليل ثلثه وهو يحدثنا ونحن نحدثه ثم صلي به وبنا إمامه، وحان قيامه وانفصلنا بإحسانه مغتبطين وبامتنانه مرتبطين، وأصبحنا يوم السبت وجلسنا في الإيوان ننتظر خروجه لوضع الخوان، فخرج بعض الخدام وأمر الملك الأفضل أن يجلس موضعه على الطعام، فجاء وتربع في دسته وجلس بسِمته وسمَتْه، وتطيرنا بتلك الحال [وتفلنا
(4)
] بذلك الفال، ودخلنا إليه ليلة الأحد للعيادة ومرضه في الزيادة، وتوفي إلى رحمة الله تعالى
(5)
.
وقال النويري
(6)
: خرج السلطان إلى شرقي دمشق متصيداً، فغاب خمسة عشر يوماً وصحبته أخوه الملك العادل، ثم عاد إلى دمشق وودعه أخوه العادل وداعاً لالقاء بعده، ومضى إلى الكرك وأقام السلطان بدمشق، ثم ركب يوم الجمعة خامس عشر صفر ولقي الحجاج وبكى كيف فاته الحج معهم، ثم عاد إلى القلعة فلحقه تلك الليلة كسل عظيم وغشيته حمى وأخذ المرض في التزايد، ثم حدثت به رعشة وغاب ذهنه واشتد الإرجاف بموته، وحزن أهل دمشق حزناً عظيماً لذلك.
وقال القاضي بهاء الدين
(7)
: لما كان يوم الأربعاء ثالث عشر صفر طلبني فحضرت عنده، فسألني عمن في الإيوان، فقلت: الملك الأفضل جالس في الخدمة والأمراء والناس في خدمته، فاعتذر إليهم على لسان جمال الدولة إقبال. ولما كانت بكرة يوم الخميس استحضرني فحضرت عنده، [170] وهو في صفة البستان وعنده أولاده الصغار، وقال لي: أكلت شيئًا اليوم؟ وكانت عادته المباسطة، ثم قال: أحضروا لنا ما تيسر.
(1)
سورة التوبة، آية 129. {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}.
(2)
البداية والنهاية، جـ 13، ص 2 - ص 3؛ النوادر السلطانية، ص 246؛ الروضتين، جـ 2، ص 213؛ مفرج الكروب، جـ 2، ص 416 - ص 420.
(3)
انظر: الفتح القسى، ص 627.
(4)
"وتفاءلنا" كذا في الأصل. والمثبت من الفتح القسي، ص 627.
(5)
الفتح القسي، ص 627.
(6)
نهاية الأرب، جـ 28، ص 437 - ص 438.
(7)
النوادر السلطانية، ص 242 - ص 243.
فأحضروا رزاً بلبن وما يشبه ذلك، فأكل، وكنت أظن أن ما عنده شهوة؛ لأن بدنه كان ممتلئاً، فلما فرغنا قال: ما الذي عندك من خبر الحاج، فقلت: قد اجتمعت بجماعة منهم في الطريق ولولا كثرة الوحل تدخلوا اليوم ولكنهم في غد يدخلون. فقال: نخرج إن شاء الله إلى لقائهم. فقمت من عنده ولم أجد عنده من النشاط ما أعرفه منه، ثم بكر يوم الجمعة فركب للقاء الحاج وكان فيهم [سابق الدين، وقرالا الياروقي]
(1)
، وكان كثير الاحترام للمشايخ، ثم لحقه ولده الملك الأفضل، ثم رد إلى القلعة وكان آخر ركوبه رحمه الله.
ولما كانت ليلة السبت وجد كسلاً عظيماً، فما نصّف الليل حتى غشيته حمى صفراوية، وأصبح في يوم السبت السادس عشر من صفر وعليه أثر الحمى ولم يظهر ذلك للناس، فدخلت أنا والقاضي الفاضل وولده الأفضل عنده وطال الحديث بيننا وأخذ يشكو من قلقه بالليل، وطاب له الحديث إلى قريب الظهر ثم انصرفنا والقلوب عنده. ومدَّ الطعام في الإيوان وجلس الأفضل في موضعه، وبكى في ذلك اليوم جماعة لما رأوا موضعه خالياً وولده فيه، ثم أخذه مرضه يتزايد ونحن نلازم التردد في طرفي النهار، وأدخل أنا والقاضي الفاضل في النهار مراراً وكان طبيبه الذي ألف مزاجه به غائباً، وحضرت الأطباء فقصدوه فاشتد مرضه وقلت رطوبات بدنه، ولم يزل المرض يتزايد فاشتد في السادس والسابع والثامن، ولما كان التاسع حدثت به رعشة وامتنع من تناول المشروب واشتد الرجيف في البلد وخاف الناس ونقلوا الأقمشة من الأسواق وغشى الناس من الكآبة والحزن ما لا يوصف، ولما كان العاشر من مرضه حقن دفعتين وتناول من ماء الشعير مقدارا صالحاً، وفرح الناس فرحاً شديداً وأقمنا على العادة نتردد، ثم أصبحنا في الحادي عشر من مرضه وهو يوم الثلاثاء السادس والعشرين من صفر حضرنا الباب وسألنا عن حاله، فأخبر جمال الدولة إقبال أنه عرق حتى نفذ عرقه إلى الفرش ثم إلى الحصر ثم إلى الأرض، وإن اليبس قد تزايد عظيماً وضعفت قوته، ولما رأى ولده الأفضل ما حل به وتحقق اليأس منه شرع في تحليف الناس، فجلس في دار رضوان
(2)
المعروفة بسكنه، واستحضر القضاة فعملوا نسخة يمين مختصرة تتضمن الحلف
(1)
"سابق الدين الياروقي" كذا في الأصل. والتصحيح من النوادر، ص 242.
(2)
نقل العيني هذه الأحداث بتصرف من النوادر، ص 242 - ص 245؛ الروضتين، جـ 2، ص 212 - ص 213؛ مفرج الكروب، جـ 2، ص 414 - ص 419.
للسلطان مدة حياته، ثم للأفضل بعد وفاته، فأول من استحضر للحلف سعد الدين مسعود الشحنة أخو بدر الدين مودود، ثم ناصر الدين صاحب صهيون، فحلف وزاد أن الحصن الذي في يده له، ثم سابق الدين [171][عثمان بن الداية]
(1)
صاحب شيزر فحلف ولم يذكر الطلاق واعتذر بأنه قط ما حلف به، ثم خُشْتَرِين الهكاري
(2)
، ثم نوشروان الزرزاري، واشترط أن يكون له خبز يُرضيه، ثم حلف علكان ومنكلان، ثم مد الخوان فأكلوا. ولما كان العصر أعيد مجلس التحليف، فأُحضر ميمون القصري وشمس الدين سنقر الكبير، وقالا: نحن نحلف بشرط أن لا نسل سيفاً في وجه أحد من أخوتك، وحضر سامة وقال: ليس لي خبز فعلى أي شيء أحلف؟! فروجع فحلف بشرط أن يُعطى خبزاً يُرضيه، وحضر سنقر المشطوب، والبكي الفارس، وأيبك الأفطس ولم يحلف بالطلاق، وحضر أخو [الأميرً]
(3)
سياروخ وحلف واشترط رضاه، وحضر حسام الدين بشارة وحلف وكان مقدماً على هؤلاء، ولم يحضر أحد من الأمراء المصريين
(4)
.
ونسخة اليمين: "إنني من وقتي هذا قد أصفيت نيتي وأخلصت طويتي للملك الناصر مدة حياته، وإني لا أزال بازلاً جهدي في الذب عن دولته بنفسي ومالي وسيفي ورجالي، ممتثلاً أمره وأقف عند مراضيه، ثم من بعده لولده الملك الأفضل على، ووالله إنني في طاعته، وأذب عن دولته وبلاده بنفسي ومالي وسيفى ورجالى، وأمتثل أمره ونهيه وباطني وظاهري في ذلك سواء، والله على ما أقول وكيل".
ثم لما كانت ليلة الأربعاء السابع والعشرين من صفر وهي ليلة الثاني عشر من مرضه اشتد مرضه وحال بيننا وبينه النساء، واستحضرت أنا والقاضي الفاضل وابن الزكي في تلك الليلة، وعرض علينا الملك الأفضل أن نبيت عنده، فلم ير الفاضل ذلك وقال: المصلحة نزولنا واستحضار الشيخ أبي جعفر إمام الكلاسة، فإنه رجل صالح يبيت بالقلعة حتى إذا استحضر السلطان بالليل يحضر عنده، ونحول بينه وبين النساء ويذكره بالشهادة، ففعلوا ذلك، وكان ذهن السلطان غائباً من ليلة التاسع لا يكاد يفيق إلا في
(1)
ما بين حاصرتين إضافة من سبط ابن الجوزي لتوضيح النص، انظر: مرآة الزمان، جـ 8، ص 276؛ مفرج الكروب، جـ 2، ص 419.
(2)
خشترين الهكاري هو: جمال الدين خُشترين الهكاري، وفيات الأعيان، جـ 3، ص 242.
(3)
ما بين حاصرتين إضافة من أبي شامة لتوضيح النص، انظر: الروضتين، جـ 2، ص 213؛ مفرج الكروب، جـ 2 ص 419.
(4)
ينقل العينى هذا الحدث بتصرف من النوادر، ص 344 - ص 345.
الأحيان، وبات في تلك الليلة على الانتقال، والشيخ أبو جعفر عنده يقرأ القرآن ويذكره بالله إلى أن توفي رحمه الله
(1)
.
الثاني عشر في تاريخ وفاته:
قال القاضي بهاء الدين: كانت وفاته بعد صلاة الصبح في يوم الأربعاء السابع والعشرين من صفر من سنة تسع وثمانين وخمسمائة
(2)
. وفي تاريخ بيبرس وقيل: توفي في الخامس والعشرين من صفر. وفي المرآة: وكانت وفاته يوم الأربعاء بعد صلاة الفجر السابع والعشرين من صفر
(3)
. وفي تاريخ ابن العميد: وكانت وفاته بكرة يوم الأربعاء لثلاث بقين من صفر. وكلام الكل قريب بعضه من بعض. وفي المرآه: وغسله الخطيب الدولعي
(4)
، وصلى عليه القاضي محيي الدين بن الزكي، وبعث له القاضي الفاضل الأكفان والحنوط من أجل الجهات، ودفن بدار البستان موضع جلوسه في قلعة دمشق
(5)
.
وقال ابن خلكان
(6)
: كان يوم موته يوماً لم يصب الإسلام والمسلمين مثله منذ فقد الخلفاء الراشدون، وغسله الدولعي وهو ضياء الدين [172] أبو القاسم عبد الملك بن زيد بن ياسين بن زيد بن قائد بن جميل التعلبي الأرقمي الدولعي الشافعي خطيب جامع دمشق، توفي في ثاني عشر ربيع الأول من سنة ثماني وتسعين وخمسمائة، ودفن بمقابر الشهداء بباب الصغير. قال: ثم أخرج تابوت السلطان بعد صلاة الظهر مسجى بثوب [فوط
(7)
]، فارتفعت الأصوات عند مشاهدته، وعظم الضجيج وأخذ الناس في البكاء والعويل وصلوا عليه أرسالا، ثم أعيد إلى الدار التي في البستان وهي التي كان متمرضاً بها، ودفن في الصُفه الغربية منها، وكان نزوله في حضرته قريبة من صلاة العصر.
(1)
ينقل العيني هذا الحدث بتصرف من النوادر السلطانية، ص 246؛ الروضتين، جـ 2، ص 112 - ص 213؛ مفرج الكروب، جـ 2، ص 419، ص 420.
(2)
النوادر، ص 246.
(3)
مرآة الزمان، جـ 8، ص 276.
(4)
الخطيب الدولعي هو: ضياء الدين أبو القاسم عبد الملك بن زيد بن ياسين بن زيد بن قائد بن جميل التعلبي الأرقمي الدولعي الشافعي خطيب جامع دمشق، توفي سنة 598 هـ. وفيات الأعيان، جـ 7، ص 203.
(5)
مرآة الزمان، جـ 8، ص 276.
(6)
وفيات الأعيان، جـ 7، ص 139 - ص 218.
(7)
"فقط" في الأصل. والمثبت من النوادر، ص 247؛ وفيات الأعيان، جـ 7، ص 203؛ الروضتين، جـ 2، ص 213.
ثم انقضت تلك السنون وأهلها
…
فكأنها وكأنهم أحلام
(1)
.
ثم إنه بقي مدفوناً بقلعة دمشق إلى أن بنيت له قبة في شمالي الكلاسة، التي هي شمالي جامع دمشق، ولها بابان أحدهما إلى الكلاسة والأخرى من زقاق غير نافذ، وهو مجاور
(2)
المدرسة العزيزية. وقال ابن خلكان رحمه الله: ولقد دخلت إلى هذه القبة من الباب الذي في الكلاسة، وقرأت عنده وترحمت عليه، وأحضر لي قيم القبة ومتولي أمرها بقجة فيها ملبوس بدنه، وكان في جملته، قباء أصفر قصير، ورأس كُميه بأسود فتبركت به
(3)
. وقال ابن القادسي: ودفن معه سيفه. وقال القاضي الفاضل: هذا يتوكأ عليه في الجنة. وقال السبط في المرآة: هذا وهم من ابن القادسي لأن سيفه بعث به ولده الأفضل إلى بغداد
(4)
.
الثالث عشر: في مدة سلطنته ومدة عمره:
وكان عمره قريباً من سبع وخمسين سنة، وقد ذكرنا أن مولده كان في سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة. وفي تاريخ ابن العميد: وكان عمره ستاً وخمسين سنة وشهوراً وكانت مدة مملكته للديار المصرية نحو أربع وعشرين سنة، وللشام قريبة من تسع عشرة سنة. قال ابن كثير
(5)
: وفي تاريخ ابن العميد وكانت مملكته اثنتين وعشرين سنة وسبعة وأربعين يوماً، أولها يوم الاثنين وآخرها يوم الأربعاء لتتمة خمسمائة وثمان وثمانين سنة وسبعة وخمسين يوماً للهجرة، ولتمام ستة آلاف سنة وستمائة سنة وأربع وثمانين سنة وستة أشهر وسبعة أيام للعالم شمسية.
الرابع عشر: فيما جرى يوم وفاته:
قال ابن كثير: وجلس الملك الأفضل للعزاء في القلعة، وأرسل الكتب بوفاة والده إلى أخيه الملك العزيز عثمان بمصر، وإلى الملك الظاهر غازي بحلب، وإلى عمه الملك العادل بالكرك، وقد ذكرنا أنه كان سافر إلى الكرك قبل موت أخيه السلطان لينظر في
(1)
وفيات الأعيان، جـ 7، ص 203؛ النوادر، ص 247، وقد ذكر ابن خلكان أن هذا البيت الأبي تمام الطائي.
(2)
مجاوز" في الأصل. والمثبت من وفيات الأعيان، جـ 7، ص 206.
(3)
وفيات الأعيان، جـ 7، ص 206.
(4)
مرآة الزمان، جـ 8، ص 276.
(5)
البداية والنهاية، جـ 13، ص 3.
أمرها
(1)
. وقال المؤيد في تاريخه: ولما نقل الأفضل والده السلطان من القلعة حين بني له تربة مشي بين يدي تابوته، وأخرج من باب القلعة على دار الحديث إلى باب البريد وأدخل الجامع، ووضع قدام النسر وصلي عليه القاضي محيي الدين ابن القاضي زكي الدين، ثم دفن. وجلس أبنه للعزاء ثلاثة أيام في الجامع، وأنفقت ست الشام بنت أيوب
(2)
في هذه النوبة أموالا عظيمة
(3)
.
في المرآة
(4)
: وكتب الفاضل إلى الظاهر وهو بحلب كتاب التعزية يقول فيه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}
(5)
الآية، أحسن الله عزاه في مصابه وجعل الخلف فيه لمماليك المرحوم وأصحابه، كتبت والدموع [173] قد حضرت النواظر والقلوب قد بلغت الحناجر، وإني ودعت أباك مخدومي وداعاً لا نلتقى بعده، وأسلمته إلى الله طالباً فضله ورفده، ولم تدفع عنه جنوده المجندة القضاء، ولا ردت عنه الأسلحة والخزائن البلاء، فالعين تدمع والقلب يخشع ولا نقول ما يسخط الرب، وإنا عليك يا يوسف المحزونون". وفي آخر الكتاب "فإن اتفقتم ما عدمتم إلا شخصه الكريم، وإن اختلفتم فالمصائب المستقبله هولها عظيم".
وقال السبط في المرآة: وقد فات الفاضل شيئان أحدهما عند قوله: ودعته وداعاً لا نلتقي بعده، وكان الأولى أن يقول: إلا في جنات النعيم. والثاني عند قوله: هولها عظيم، كان ينبغي أن يقول: ذلك تقدير العزيز العليم. وفي المرآة: وكان أخوه العادل - لما توفي السلطان - بالكرك فقدم دمشق معزياً للأفضل، فأقام أيامًا ثم رحل إلى الجزيرة إلى البلاد التي أعطاها إياه السلطان، وهي حران والرها وسميساط والرقة وقلعة جعبر وميافارقين وديار بكر، وكان له بالشام الكرك والشوبك، وبعث الأفضل القاضي ضياء الدين الشهرزوري رسولاً إلى الخليفة ومعه زردية السلطان وسيفه وحصانه وكذا غنده ودبوسه وتحفاً كثيرة، وعاب الناس عليه حيث بعث بعدة السلطان إلى بغداد، وكتب كتاباً فمنه:
(1)
يذكر العيني أنه نقل هذا الخبر عن ابن كثير، إلا أنه بالرجوع إلى المصدر المذكور، لم نجد ذكراً له، وإنما نقله العيني عن المختصر، جـ 3، ص 86.
(2)
ست الشام بنت أيوب: هي زُمرُّد خاتون بنت أيوب شقيقة شمس الدولة توران شاه بن أيوب. تزوجت ناصر الدين أبي عبد الله محمد بن أسد الدين شيركوه صاحب حمص بعد زوجها الأول عمر بن لاجين وقد توفيت سنة 616 هـ. انظر وفيات الأعيان، جـ 1، ص 307.
(3)
نقل العيني هذا الحدث من المختصر، جـ 3، ص 86.
(4)
سبط ابن الجوزي، جـ 8، ص 277.
(5)
سورة الأحزاب، آية رقم 21.
"أصدر خدمته هذه وصدره معمور بالولاء، وقلبه مغمور بالصفاء. وذكر كلاماً طويلاً. وأما العادل فإن المشارقة ثاروا عليه واستشاروا عز الدين صاحب الموصل، وأستشار هو أصحابه، فأشار عليه المجد ابن الأثير بالخروج، وأشار عليه مجاهد الدين قايماز بالمقام لتظهر حقائق الأمور، وتراسل جيرانه ابن زين الدين صاحب إربل، وسنجر شاه صاحب الجزيرة، وعماد الدين صاحب سنجار، وخرج عز الدين من الموصل واجتمعا على حران، فاستنجد العادل بأولاد أخيه، فجاءته عساكر الشام ومصر، ومرض عز الدين على نصيبين بالإسهال وترك العساكر مع أخيه عماد الدين، ورجع إلى الموصل جريدة فمات بها على ما نذكره عن قريب إن شاء الله تعالى. ثم إن الملك العزيز قدم إلى الشام وقدمت معه العساكر على الأفضل، وبعث إليه العادل: ارحل إلى مرج صفر، فرحل وهو مريض، وكان قصد العادل أن يبعده عن البلد ليصل العساكر، فوصل الظاهر من حلب والمنصور من حماة وشيركوه من حمص والأمجد من بعلبك في نجدة، فقال العادل: إنه يرجع إلى مصر ويقع الاتفاق وتعود الأمور إلى ما كانت عليه. واشتد مرض العزيز ولولا مرضه لما صالح. فأرسل العزيز كبراء دولته فخر الدين سركس وغيره فحلف الملوك، وطلب مصاهرة العادل فزوجه ابنته خاتون، ورجع كل واحد إلى بلده وذلك في شعبان
(1)
، وتمام هذا يأتي في السنة الآتية إن شاء الله تعالى.
وقال العماد الكاتب: ولما انفصلت العساكر عن دمشق شرع الأفضل في اللهو واللعب، واحتجب عن الرعية وانقطع إلى لذاته، وفوض الأمر إلى وزيره الجزري
(2)
وحاجبه الجمال محاسن بن العجمي، [174] فأفسدا عليه الأحوال، وكانا سبباً لزوال دولته واستبدلا بكبراء الأمراء والأجناد أراذل الناس ففسدت أمور العباد
(3)
.
الخامس عشر: في من خلفه من الأولاد:
قال العماد الكاتب
(4)
: خلف السلطان سبعة عشر ولداً ذكراً وابنة صغيرة. الأول: الملك الأفضل نور الدين على، وهو أكبرهم، ولد بمصر سنة خمس وستين وخمسمائة
(1)
إلى هنا توقف العيني عن النقل من مرآة الزمان، جـ 8، ص 277 - ص 280.
(2)
الوزير الجزري هو: ضياء الدين نصر الله بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني المعروف بابن الأثير الجزري، توفي سنة 637 هـ ببغداد، انظر ترجمته في وفيات الأعيان، جـ 5، ص 389 - ص 397.
(3)
بالرغم من أن العيني يذكر أنه ينقل من العماد إلا أنه لم يرد هذا الحدث في الفتح القسى، وإنما ورد في مرآة الزمان، وقد نقله عن بعض كتب العماد، المرآة، جـ 8، ص 280.
(4)
الفتح القسى، ص 629.
ليلة عيد الفطر. الثاني: الملك العزيز عماد الدين عثمان أبو الفتح، ولد بمصر أيضًا في جمادى الأولى سنة سبع وستين. الثالث: الملك الظافر أبو العباس مظفر الدين خضر، ولد بمصر في شعبان سنة ثمان وستين وهو شقيق الأفضل
(1)
.
وقال ابن خلكان: وكنيته أبو الدوام وأبو العباس الخضر، ويقال له المشمر لأن أباه لما قسم البلاد بين أولاده الكبار قال: وأنا مشمر. فغلب عليه هذا اللقب، وكان مولده في القاهرة في خامس شعبان سنة ثمان وستين وخمسمائة، وتوفي في جمادى الأولى سنة سبع وعشرين وستمائة بحران عند ابن عمه الملك الأشرف ابن الملك العادل
(2)
. الرابع: الملك الظاهر أبو منصور غياث الدين غازي، ولد بمصر في نصف رمضان سنة ثمان وستين. الخامس: الملك المعز فتح الدين أبو يعقوب إسحق
(3)
، ولد بدمشق
(4)
في ربيع الأول سنة سبعين وخمسمائة. السادس: الملك المؤيد نجم الدين أبو الفتح مسعود، ولد بدمشق سنة إحدى وسبعين وهو شقيق العزيز
(5)
. السابع: الملك الأعز شرف الدين أبو يوسف يعقوب، ولد بمصر سنة ثنتين وسبعين وهو شقيق العزيز أيضًا. الثامن: الملك الزاهر مجير الدين أبو سليمان داود، ولد بمصر سنة ثلاث وسبعين وهو شقيق الظاهر التاسع: الملك المفضل قطب الدين موسى ولد بمصر سنة ثلاث وسبعين، وهو شقيق الأفضل. العاشر: الملك الأشرف أبو عبد الله عز الدين محمد
(6)
ولد بالشام سنة خمس وسبعين. الحادي عشر: الملك المحسن ظهير الدين أبو العباس أحمد، ولد بمصر في ربيع الأول سنة سبع وسبعين وهو شقيق الأشرف المذكور. الثاني عشر: الملك المعظم فخر الدين أبو منصور توران شاه، ولد بمصر في ربيع الأول سنة
(1)
نقل العينى هذه الأحداث من البداية والنهاية، جـ 13، ص 4، الروضتين، جـ 2، ص 224 - ص 225؛ مفرج الكروب، جـ 2، ص 423 - ص 424؛ نهاية الأرب، جـ 28، ص 439.
(2)
وفيات الأعيان، جـ 7، ص 205.
(3)
اتفقت المصادر التي بين أيدينا مع العيني في ذكر اسمه "المعُز" انظر: مفرج الكروب، جـ 2، ص 425؛ الروضتين، ج 1 ق 2، ص 710؛ نهاية الأرب، جـ 28، ص 439، وتفرد ابن كثير بذكر اسمه "العزيز" انظر: البداية والنهاية، جـ 3، ص 4.
(4)
ذكر ابن واصل، مفرج الكروب، أن مولد المعز كان بمصر. جـ 2، ص 425.
(5)
"الأعز" كذا في الأصل والنويري. نهاية الأرب، جـ 28، ص 439. أما ابن كثير، البداية والنهاية، جـ 13، ص 4، ابن واصل، مفرج الكروب، جـ 2، ص 424 فقد ذكرا أن اسمه "الأغر".
(6)
"الأشرف أبو عبد الله عز الدين محمد" كذا في الأصل. أما ابن كثير فقد ذكر اسمه "الأشرف معز الدين أبو محمد" البداية والنهاية، جـ 13، ص 4، أما أبو شامه فقد ذكر أن اسمه "الملك الأشرف عزيز الدين، الروضتين، جـ 1، ص 710، أما ابن واصل فقد ذكر أن اسمه "الملك الأشرف نصير الدين محمد"، مفرج الكروب، جـ 2، ص 425.
سبع وسبعين، وتأخرت وفاته إلى سنة ثمان وخمسين وستمائه، وهي السنة التي أخرب العدو - من التتار - مدينة حلب وغيرها. الثالث عشر: الملك الجواد ركن الدين أبو سعيد أيوب، ولد في ربيع الأول سنة ثمان وسبعين وهو شقيق المعز. الرابع عشر: الملك الغالب نصر الدين أبو الفتح ملكشاه، ولد في رجب سنة ثمان وسبعين، وهو شقيق المعظم. الخامس عشر: الملك المنصور أبو بكر أخو المعظم الأبويه، ولد بحران بعد وفاة السلطان. السادس عشر: عماد الدين شادي، لأم ولد. السابع عشر: نصرة الدين مروان، لأم ولد أيضًا. وأما البنت فهي مؤنسة خاتون، تزوجها ابن عمها الملك الكامل محمد ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب
(1)
وللسلطان غير هؤلاء الأولاد ممن درج في حيوته، كالملك المنصور حسن والأمير أحمد وهو الذي رثاه العرقلة بقوله:[175]
أيُّ هلال كُسفا
…
رأى غصن قصفا
كان سراجاً قد طغى
…
على الورى ثم انطفى
لم يركب الخيلّ ولم
…
يُقلّدوه مرهفا
قل للنحاة ويحكم
…
أحمد لم قد صُرفا
صبراً صلاح الدين
…
يارب السماح والوفا
السادس عشر: فيما استقر عليه الحال بعد وفاة السلطان:
لما توفي السلطان رحمه الله استقر في الملك بدمشق وبلادها المنسوبة إليها ولده الملك
(2)
الأفضل نور الدين على، وبالديار المصرية الملك العزيز عثمان، وبحلب وبلادها الملك الظاهر غازي، وبالكرك والشوبك والبلاد الشرقية الفراتية الملك العادل سيف الدين أبو بكر بن أيوب أخو السلطان، وبحماه وسلمية والمعرة ومنبج وقلعة نجم الملك المنصور ناصر الدين محمد بن الملك المظفر تقي الدين عمر، وببعلبك الملك الأمجد مجد الدين بهرام شاه بن فرخشاه بن شاهنشاه بن أيوب، وبحمص والرحبة وتدمر شيركوه بن محمد بن شيركوه بن شاذي، وبيد الملك خضر بن السلطان صلاح
(1)
إلى هنا توقف العيني على الأخذ من البداية والنهاية، جـ 13، ص 5.
(2)
النويري، جـ 28، ص 440.
الدين بصرى، وهو في خدمة أخيه الملك الأفضل، وبيد جماعة من أمراء الدولة بلادٌ وحصون، منهم: سابق الدين عثمان بن الداية بيده شيزر وأبو قبيس، وناصر الدين من كورس بن خمارتكين بيده صهيون وحصن برزية، وبدر الدين دلدورم بن بهاء الدين ياروق بيده تل باشر، وعز الدين أسامه بيده كوكب وعجلون، وعز الدين إبراهيم بن شمس الدين المقدم بيده بعرين وكفر طاب وأفامية، والملك الأفضل هو الأكبر من أولاد السلطان والمعهود إليه بالسلطنة، واستوزر الملك الأفضل ضياء الدين نصر الله بن محمد ابن الأثير مصنف المثل السائر، وهو أخو عز الدين بن الأثير مؤلف التاريخ المسمى بالكامل، فحسن للملك الأفضل طرد أمراء أبيه ففارقوه إلى أخويه العزيز والظاهر، ولما اجتمعت الأمراء بمصر حسنوا للملك العزيز الانفراد بالسلطنة، ووقعوا في أخيه الأفضل فمال إلى ذلك وحصلت الوحشة بين الأخوين الأفضل والعزيز، وكان اليمن بمعاقله ومخاليفه جميعها في قبضة السلطان ظهير الدين سيف الإسلام طغتكين بن أيوب أخي السلطان صلاح الدين، ثم بعد ذلك شرعت الأمور تضطرب وتختلف وتفاقمت الأحوال حتى آل الأمر إلى ما إليه آل، واستقرت الممالك واجتمعت المحافل على أخي السلطان صلاح الدين وهو الملك العادل، وصارت الممالك في أولاده الأماجد الأفاضل كما سنوضحه إن شاء الله تعالى
(1)
.
السابع عشر: في مراثي السلطان صلاح الدين
وقد عمل فيه الشعراء المراثي الكثيرة من أحسنها ما عمل فيه العماد الكاتب في آخر الكتاب البرق الشامي، وهي مائتان وثلاثون بيتاً وقد سردها الشيخ شهاب الدين في الروضتين فمنها قوله في أولها:[176]
شملُ الهدى والمُلْكِ عمَّ شتاتُه
…
والدهُر ساء وأقلعَت حسناته
أين الذي كانت له طاعاتنا
(2)
…
مبذولة، ولربه طاعاته
بالله أين الناصرُ الملكُ الذي
…
لله خالصةً صفت نياتُه
(1)
نقل العيني هذه الأحداث بتصرف من نهاية الأرب، جـ 28، ص 440 - ص 441؛ البداية والنهاية، جـ 13، ص 6؛ وقد أورد أبو شامة هذا التقسيم بالتفصيل، انظر: الروضتين، جـ 2، ص 224 - ص 226.
(2)
"طاعتنا" كذا في الأصل. والتصحيح من الروضتين، جـ 2، ص 215.
أين الذي مازال سلطاناً لنا
…
يرجي نداه وتُتَقَى سَطواتُه
أغلال أعناق العذا
(1)
أسيافه
…
أطواق أجياد الورى منَّاتهُ
لم يُجد تدبير الطبيب وكم وكم
…
أخذت
(2)
لطب الدهر تدبيراته
من في الجهاد صفاحه ما أغمدت
…
بالنصر حتى أغمدت صفحاته
من في صدور الكفر صدر قناته
…
حتى توارت بالصفيح
(3)
قناته
منصورة غدواته محمودة
…
روحاته ميمونه صحواته
لا تحسبوه مات شخصاً واحدا
…
فممات كل العالمين مماته
ملك عن الإسلام كان محامياً
…
أبداً لماذا
(4)
أسلمته حُماته
قد أظلمت مذ غاب عنَّا
(5)
دُورُه
…
لما خلت من بدره داراته
دُفن السماح فليس تُنْشَرُ
(6)
بعدما
…
أودى إلى يوم النشور رفاته
ما كنت أعلم أن طوداً شامخا
…
يهوى ولا تهوى بنا مهواته
ما كنت أعلم أن بحراً طامياً فينا
…
يُطم وتنتهي زخراته
الدين بعد أبي المظفر يوسف
…
أقوت قراه وأقفرت ساحاته
من لليتامى والأرامل راحم
…
متعطف مفضوضه صدقاته
لو كان في عصر النبي لأنزلت
…
من ذكره في ذكره آياته
بكت الصواهل والصوارم إذ خلت
…
من سلها وركوبها عزماته
(7)
يا وحشة الإسلام حين
(8)
تمكنت
…
من كل قلب مؤمن روعاته
ما كان أسرع عصره لما انقضى
…
فكأنما سنواته ساعاته
يا راعيًا للدين حين تمكنت
…
منه الذئاب وأسلمته رعاته
(1)
"العدى" كذا في الأصل، والتصحيح من الروضتين، جـ 2، ص 215.
(2)
"أُخِذت" في الأصل، والتصحيح من الروضتين، جـ 2، ص 215.
(3)
"الصياح" كذا في الروضتين، جـ 2، ص 215.
(4)
"وإذا" كذا في الروضتين، جـ 2، ص 215.
(5)
"عنها" كذا في الروضتين، جـ 2، ص 215.
(6)
"تنبش" كذا في الروضتين، جـ 2، ص 215.
(7)
بكت الصوارم والصواهل إن خلت
…
من سبلها وركوبها غزواته. كذا في الروضتين، جـ 2، ص 216.
(8)
"يوم" في الروضتين، جـ 2، ص 216.
ما كان ضرك لو أقمت مراعيا
…
ديناً تولى مذ رحلت ولاته
فارقت ملكا غير باق متعبا
…
ووصلت ملكاً باقياً راحاته
فعلى صلاح الدين يوسف دايما
…
رضوان رب العرش بل صلواته [177]
(1)
ورثاه الأمير مجد الملك جعفر بن شمس
(2)
الخلافة بمرثية. أولها قوله:
هو الدهر فاعلم ما على الدهر من عَتْب
…
يشوب الرضى بالسخط والسلم بالحرب
يغص ولم يُشبع بأطيب مطعم ويشرق
…
قبل الرِيّ بالبارد العذب
وإن هو أعطى أو كسي متكلف
…
فلابد من أخذ ولا بد من سلب
فلا تأمنن الموت شيخاً ويافعاً
…
فللموت مَنْ رَبَّي وللموت مَنْ رُبّيِ
بكيت من الأيام لو نفع البكاء
…
وعاتبتُ دهري لو غدا مجدياً عتبى
فيأمرني بالصبر والصبرُ معوذ
…
إليك فما سمعي إلى ولا قلبي
ألست تري كيف انبرى الخطب ثائراً
…
ومد يداً منه إلى دافع الخطب
إلى الناصر الملك الذي ملئت به
…
قلوب البرايا من رجاء ومن رعب
كريم أتاه الموت ضيفاً فلم يكن
…
لينزله إلا على السهل والرحب
ولو خاب منه قبل ذلك سائل
…
لخاب وليس البخل من شيم السُحب
قضى فما انقضى المعروف وانقرض الندى
…
وحُطت رحال الوفد في الشرق والغرب
فلم يخل قلب من هموم ومن أسي
…
ولم يخل طرف من سهاد ومن سكب
أفاض على الدنيا سجال نواله
…
ففاضت
(3)
عليه أعين العجم والعرب
ولو أنه يُبكَى على قدر حقه
…
لسالت
(4)
دموع المزن من أعين الشهب
وأصبح للبيت المقدس منقذاً
…
بأصلب عزم من مقارنة الصلب
وإن هو أوصى للعزيز بملكه
…
فمن ماجد نَدبٌ إلى ما جد ندبِ
(1)
نقل العيني من الروضتين، جـ 2، ص 215 - ص 216.
(2)
هو: أبو الفضل جعفر بن شمس الخلافة أبي عبد الله محمد بن شمس الخلافه مختار الأفضلي الملقب مجد الملك الشاعر المشهور، توفي سنة 622 هـ بالكوم الأحمر ظاهر مصر. انظر: وفيات الأعيان، جـ 1، ص 362 - ص 363 وقد أورد أبو شامة بعض أبيات هذه القصيدة في الروضتين، جـ 2، ص 224.
(3)
"فغاضت" في الروضتين، جـ 2، ص 224.
(4)
"أسأل" في الروضتين، جـ 2، ص 224.
وقال ابن الساعاتي
(1)
يرثيه ويمدح العزيز عماد الدين عثمان ولده منها هو قوله:
لإن كان ليل الحرب عرى غياهبهُ
…
فقد بان عن بدر السماء كواكبهُ
وإن كان ليث الغاب خلَّى عينه
…
وغاب فهذا شبله وكتايبهُ
وإن فارق الغِمدُ المحلَّى حسامه
…
فهذا حسام لا تقل مضاربه
وإن أقفر الفسطاط منه
…
فإنه منازله مأهولة وملاعبه
أقام عماد الدين رفع بنائه
…
فما ظل مسعاه ولا ذلَّ جانبه [178]
يرد العيون الشرس عنه كليلة
…
من الحق نور ليس يعدوه لازبه
كأن شعاع الشمس يلقاك دونه
…
ولم نر ملكاً حاجب الشمس حاجبه
ومن كان في المسعى أبوه دليله
…
تدانت له أسبابه وسباسبه
هو البحر حدث عنه غير مكذِّبٍ
…
فما تنقضي آياته وعجائبه
الثامن عشر: في مدائحه
وقد مدحه جماعة من الشعراء منهم ابن قُلاطس
(2)
وابن الذروي
(3)
وابن المنجم
(4)
وابن سنا الملك
(5)
وابن الساعاتي والبحراني الإربلي
(6)
وابن دهن الحصى الموصلي
(7)
(1)
ابن الساعاتي هو: أبو الحسن علي بن رستم بن هردوز، المعروف بابن الساعاتي، توفي سنة 604 هـ، القاهرة. انظر: وفيات الأعيان، جـ 3، ص 395 - ص 397.
(2)
ابن قلاطس: ويبدو أنه هو ابن قلاقس: هو أبو الفتوح نصر الله بن عبد الله بن مخلوف بن علي بن عبد القوي ابن قلاقس اللخمي الأزهرى الأسكندري الملقب بالقاضي الأعز الشاعر المشهور، توفي سنة 567 هـ بعيذاب. انظر: وفيات الأعيان، جـ 5، ص 385 - ص 389؛ الخريده، جـ 1، قسم شعراء مصر، ص 145 - ص 165.
(3)
ابن الذروي: هو على بن يحيى القاضي الوجيه؛ رضي الدين، والذروي نسبة إلى ذروي، وهي قرية بصعيد مصر، انظر: وفيات الأعيان، جـ 4، ص 146؛ الخريده، جـ 1، قسم شعراء مصر، ص 187 - ص 188.
(4)
ابن المنجم: هو نشو الملك أبو الحسن علي بن مفرج المعرى الأصلي المصري الدار والوفاة المعروف بابن المنجم الشاعر، توفي سنة 620 هـ، وفيات الأعيان، جـ 1، ص 197، جـ 6، ص 64؛ في الخريدة نشو الدولة، قسم شعراء مصر، جـ 1، ص 169.
(5)
ابن سناء الملك: هو القاضي السعيد أبو القاسم هبة الله بن القاضي الرشيد أبي الفضل جعفر بن المعتمد سناء الملك أبي عبد الله محمد بن هبة الله بن محمد السعدي الشاعر المشهور المصري، توفي سنة 608 هـ، انظر: وفيات الأعيان، جـ 6، ص 61 - ص 66.
(6)
البحراني الإربلي: هو أبو عبد الله محمد بن يوسف بن محمد بن قائد الملقب بموفق الدين الإربلي، توفي سنة 585 هـ، انظر: وفيات الأعيان، جـ 5، ص 9 - ص 11.
(7)
ابن دهن الحصى الموصلي: هو الحسن بن هبة الله بن دهن الحصى الموصلي، كان يجيد قرض الشعر، توفي سنة 603 هـ. انظر: وفيات الأعيان، جـ 7، ص 212.
ومحمد بن إسماعيل بن حمدان [الحَيْزاني]
(1)
وغيرهم، ومدحه العماد الكاتب في غالب أحواله من غزواته وفتوحاته وغير ذلك. ومدحه في فتح القدس بقصيدة هائلة ذكرناها في موضعه، ومدحه القاضي رشيد الدين بن النابلسي بقصيدة أنشده إياها بمرج عكا أولها:
حدق الغانيات في القلب أنكى
…
من شِغار الظُبَى وأَعظمُ فتكا
ومنها:
ويك يا قلب إن هفا بك وجد
…
فهو أمضى حكماً وأعظم مملكاً
أو تبدلتَ بالوصال حدوداً
…
طالما أضحك الزمان وأبكى
وعسى في لقائك الملك الناصر
…
رَوْحُ يُفَرّج الهَمَّ عَنْكا
أشرف العالمين حَضَراً وبدواً
…
وأبر الأنام عُجْماً وتُرْكاً
خَيرُ مَن طبَّقَ البَريّة مُلْكاً
…
واستَرَق الأحرارَ بالجود ملكاً
ناصر الحق فهو ينقض ما
…
تبرم أيدي عِدَاه شَزْراً وحَبْكا
ذو السطا ترعب الأسود
…
تحامت والنَدا يُخجل العِهاد أرَكا
من صلاح الأنام والدين والدنيا
…
بقاه فطال عُمراً ومُلْكا
أيها الناصر الذي خذل الشرك
…
فما يستفيقُ بؤساً وخنكا
والذي مده الإله بقدس
…
نهكت قوة الضلالة نهكا
ما تراه العَضُب
(2)
المهند حداً
…
أنت أمضي شبا وأسرع بتكا
ما عساه الطود الأشم ثباتاً
…
أنت أسمى هضباً وأمتن سمكا
قد قتلت الزمان يا مَلْكَ خبرا
…
وعركت الأيام بالرأي عركا
وأنارت لك السُعودُ فلو رُمْت
…
اعتلاقا بنجمها لم يفتكا
ليس ينفك عن رضى الله إن زحزح
…
ملك عنه العرى وانفكا
[179]
طاب فيك الثناء والناس لاشك
…
دماء من بينها كنت مِسْكا
يا مميت الأمحال
(3)
يا محيي الآ
…
مال يا أطهر ابن أنثى وأزكا
(1)
ما بين حاصرتين إضافة من وفيات الأعيان، جـ 7، ص 212.
(2)
العضُب: بمعنى السيف القاطع. انظر: المعجم الوسيط، جـ 2، ص 612.
(3)
المحل: هو انقطاع المطر ويبس الأرض من الكلأ، ويقال أرض محل لا مرعى بها، ورجل محل أي لا ينتفع به، انظر: المعجم الوسيط، جـ 2، ص 863.
ما لجيش الضلال في بحر هُلكْ
…
لا يحيلون للنجا منه فُلْكا
صاح فيهم داعي البوار
…
فللأعين أقذى وللمسامع سَكّا
(1)
فتراهم من التضاؤل كالوهم
…
وكانوا تلْع
(2)
المناكب تُمكا
(3)
بعيون بيض يرون بها الأيام
…
مسودة اللون حلكا
بهم يا همام قد ضاقت الأرض
…
فأوسعهم بوارا وهلكا
أيقنوا بالبلاء منك وقد
…
كان يقين الأوغاد من قبل سكا
وعدتهم بل أوعدتهم نفوس
…
كان ميعادها غرورا وأفكا
ولبيض الهند الرقاق وسمر الخط
…
أتت رؤسهم دون عكا
فقتيل معفر ليس يودي
…
وأسير مكبل لن يُفكا
أنجاة وقد طرحت عليهم
…
كلكلاً يهدم الجبال وبركا
وتوخيتهم ببيض ظباة كلها
…
يهتك الصرائر هتكا
ظللتهم سماء جيشك تظليلاً
…
فدكت عليهم الأرض دكاً
وقال أيضًا يمدحه ويهنيه بما أوتي من الفتوح:
هذا الذي كانت الآمال تنتظر
…
فَلْيْوفِ للهِ أَقْوام بما نَذرُوا
هذا الفتوح الذي جاء الزمان به
…
إليك من هفوات الدهر يعتذر
تَجِلّ عَلياه عن مدح يحيط به
…
وصَفاً وإن نظم المداح أو نثروا
يا نعمة كبرت عند الأنام له قدرا
…
ففي كل شكر عندها صغر
لا تروين لفتوح بعدها قصصا
…
وإن تعاظم منه الخُبْرُ والخَبَرُ
ومنها:
يوضح الدهر عن يوم أَغرَّبه
…
تزهى وتفتخر الآصال والبكر
يوم تعالى مجلاً واستنار سنا
…
فدون مرتبته الأنجم الزُهُر
(1)
السك: هو لؤم الطبع. انظر: المعجم الوسيط، جـ 1، ص 442.
(2)
التلع: هو إطالة القامة والعنق. انظر: المعجم الوسيط، جـ 1، ص 86.
(3)
تملك: بمعنى طال وارتفع وامتلأ. انظر: المعجم الوسيط، جـ 1، ص 88.
يوم به التأم الكفار في عدد
…
جم ولكن لكسر ليس ينجبر [180]
فالروع متصل والصبر منفصل
…
والنفع مرتفع والنصر منحدر
جاؤا كما أقبل الطود الأشم له
…
من حيث ما سرت فيه مسلك وعر
وجئتهم مثل ما انقضّ القضاء فلا
…
والله لم يغنهم بأس ولا وزر
بنَفَس حانٍ على الإسلام
…
محتمل الآلام لم يثنه خوف ولا خور
حسنى إلى الخلق أهداها مَليكهم
…
نُعمى من الله مرحوماً بها البشر
وعصبة من بني أيوب كاشفة
…
الكروب ساعة وجه النصر مستتر
مدوا كما مُدّ فيضُ البحر مُلتطم
…
الأمواج حتى إذا قابلتهم جزروا
لقد فتحت عصاماً من ثغورهم
…
لولاك ما هُد من أركانها حجر
تركت أرضهم من طول ما عمرت
…
منهم بلاقع لا أنثى ولا ذكر
نقضت ما أبرموا أبرمت ما نقضوا
…
عمرت ما هدموا هدمت ما عمروا
الآن قرت جنوب في مضاجعها
…
ونام من لم يزل حلفاً له السهر
الآن طابت إلى البيت المقدس كـ
…
ـالبيت المحرم إحرام ومعتمر
يا بهجة القدس أن أضحى به علم
…
الإيمان من بَعد طي وهو منتشر
يا نور مسجده الأقصى وقد رفعت
…
بعد الصليب به الآيات والسور
يا مالك الأرض مهدها فما أحد
…
سواك من قائم للهدْى ينتظر
أضحى بنو الأصفر الأنكاس موعظة
…
فيها لأعدائك الآيات والنذر
صاروا حديثاً وكانوا قبل حادثة
…
على الورى يتقيها البدو والحضر
هذا الهمامُ صلاح الدين أشرف من
…
به الممالك والأملاك تفتخر
دانت ودامت لك الدنيا فما أحد
…
في الأرض إلا إلى نعماك مفتقر
يا خاطباً جنة الفردوس ممهرها
…
إجرا الجياد
(1)
لنعم الصِهْرُ والمَهَرُ
ومدحه العلم الشاتاني واسمه الحسن بقصيدته الرائية التي أولها:
أرى النصر مقروناً برايتك الصفرا
…
فسر واملك الدنيا فأنت بها أحرى
(1)
إجرا الجياد: وتعني الجهاد.
قال ابن خلكان: العلم الشاتاني
(1)
أبو علي الحسن بن سعيد
(2)
بن عبد الله بن بندار بن إبراهيم الشاتاني، الملقب علم الدين، كان فقيهاً غلب عليه الشعر وأجاد فيه واشتهر به، ومولده في سنة عشر وخمسمائة، وتوفي في شعبان سنة تسع وتسعين وخمسمائة بالموصل. ونسبته إلى شاتان بالشين المعجمة وبعد الألف تاء مثناه من فوق وبعدها ألف ثم نون [181]، وهي بلد بنواحي ديار بكر.
ومدحه المهذب أبو حفص عمر بن محمد بن على بن أبي نصر المعروف بابن الشحنة الموصلي، الشاعر المشهور بقصيدته التي أولها:
سلام مشوق قد براه الشوق
…
على جسيرة الحى الذين تفرقوا
وعدد أبياتها مائة وثلاثة عشر بيتاً وفيها البيتان السائران
وإني امرئ أحببتكم لمكارم
…
سمعت بها والأذن كالعين تعشق
وقد أخذه من قول بشار بن برد وهو:
يا قوم أذْني لبعض الحىِّ عاشِقةٌ
…
والأذنُ تعشقُ قبلَ العينِ أحيانا
والبيت التالى من قصيدة ابن الشحنة وهو قوله:
وقالت لي الآمال إن كُنت لاحقا
…
بأبناء أيوبَ فأنت الموَفِّقُ
التاسع عشر: في قضاته ووزرائه وكُتابه:
أما قضاته:
كمال الدين بن الشهرزوري
(3)
، وشرف الدين بن أبي عصرون
(4)
، وولده أبو حامد، ومحيي الدين بن زين الدين
(5)
، وهؤلاء كانوا في الشام وحلب. وأما قضاته في مصر فكان القاضي جلال الدين أبو القاسم هبة الله بن عبد الله بن كامل بن عبد الكريم الصُوري،
(1)
انظر ترجمته في وفيات الأعيان، جـ 2، ص 113 - ص 114.
(2)
"ابن سعد" كذا في الأصل. والمثبت من وفيات الأعيان، جـ 2، ص 113.
(3)
انظر ما سبق.
(4)
انظر ما سبق.
(5)
ورد هذا النص في مرآة الزمان، جـ 8، ص 279.
وكان تولي في ذي الحجة سنة خمس وستين وخمسمائة، ثم صرف في السادس عشر من جمادى الأولى سنة ست وستين وخمسمائة، وتولى القاضي صدر الدين عبد الملك ابن عيسى بن درباس بن مبشر بن عبدوس الهمذاني الماراني الكُردي الموصلي
(1)
، وكان قدم من الشرق فولاه السلطان صلاح الدين وكان عنده بمكانة، وصُرف بعد وفاة صلاح الدين، وولي مكانه القاضي زين الدين علي بن يوسف الدمشقي يوم الثلاثاء الثالث والعشرين من ربيع الأول سنة تسعين وخمسمائة وأما وزيره فكان صفي الدين بن القائد، وأما كاتبه فكان القاضي الفاضل، والعماد الكاتب، وكان الفاضل حاكماً على الجميع وهو المشار إليه بالسيف والقلم، لا يصدر السلطان إلا عن رأيه ولا يمضي في الأمور إلا بمراجعته
(2)
. وقال ابن خلكان: كان القاضي الفاضل تعلق بالخدم في ثغر الإسكندرية وأقام به مدة
(3)
، ثم آل أمره إلى أن وزرَ للسلطان صلاح الدين وترقي منزلته عنده على ما نذكره في ترجمته إن شاء الله تعالى.
العشرون: في ذكر من كان في البلاد من ولاة الأمور في سنة وفاته
كان في دمشق الملك الأفضل، وكان في حلب الملك الظاهر، وكان في مصر الملك العزيز، كل هؤلاء أولاد السلطان صلاح الدين، رحمه الله
(4)
.
وكان في القدس عز الدين جُرديك النوري، ولما بلغ العزيز وفاة والده صلاح الدين أرسل عشرة آلاف دينار إلى القدس الشريف لينفق في العسكر المقيم به، فخطب له عز الدين جرديك بالقدس، وخشي من نقض الهدنة بينه وبين الإفرنج، فأرسل إلى القدس عسكراً احترازاً من الإفرنج
(5)
.
وكان في الروم ركن الدين سليمان بن عز الدين قليج أرسلان السلجوقي، وكان في الموصل عز الدين مسعود بن مودود بن زنكي بن آقسنقر، وكان في أخلاط وماوالاها بكتمر، وكان في مرو وغيرها سلطان شاه. وكان في همذان وغيرها السلطان طغرل شاه
(1)
الروضتين، جـ 1، ص 191 (أحداث 566 هـ).
(2)
ورد هذا النص في مرآة الزمان، جـ 8، ص 279.
(3)
وفيات الأعيان، جـ 3، ص 162.
(4)
نهاية الأرب، جـ 28، ص 440.
(5)
نقل العينى هذا النص بتصرف من الفتح القسى، ص 630؛ الروضتين، جـ 2، ص 225.
السلجوقي، وكان في غزنة [182] وما والاها شهاب الدين الغورى، وكان في بلاد سمرقند وغيرها خوارزم شاه، وكان في اليمن سيف الإسلام طغتكين بن أيوب، وكان في مكة الأمير داود، وكان في بلاد الغرب يعقوب بن عبد المؤمن، رحمهم الله. وهذا آخر ما انتهينا من ترجمة السلطان صلاح الدين، رحمه الله.
ذكر وفاة الأتابك عز الدين مسعود بن قطب الدين مودود ابن عماد الدين زنكي بن آقسنقر صاحب الموصل
توفي في السابع والعشرين من شعبان من هذه السنة، وكانت مدة ما بين وفاته ووفاة السلطان صلاح الدين نصف سنة، وكانت مدة ملك عز الدين مسعود الموصلي ثلاث عشرة سنة وستة أشهر. وكان دينا خيرا كثير الإحسان، وكان أسمر مليح الوجه خفيف العارضين يشبه جده عماد الدين زنكي.
وقال ابن كثير
(1)
: وكان عز الدين مسعود يُشَبَّهُ في السيرة بالملك العادل نور الدين محمود عمه، ودفن بتربته عند مدرسته التي أنشأها بالموصل، واستقر في الملك بعده ولده أرسلان شاه، وكان القائم بأمره مجاهد الدين قايماز.
وفي تاريخ بيبرس: ولما بلغه موت السلطان صلاح الدين استشار أرباب دولته فأشاروا عليه بالخروج إلى جهة الشام؛ ليأخذ البلاد إن أطاعه إخوته
(2)
، فلما وصل إلى تل موزن
(3)
مرض بالإسهال، فأقام أيام فضعف عن الحركة، فخاف الهلاك وترك العساكر مع أخيه عماد الدين صاحب سنجار، ورجع إلى الموصل جريدة، فمات بها في رجب من هذه السنة.
وفي المرآة:
(4)
وكان قد خرج من الموصل في جمادي؛ لقتال الملك العادل سيف الدين بن أيوب، وكان على حران بعد موت صلاح الدين ثم عاد في السابع والعشرين من
(1)
نقل العينى هذا النص بتصرف من ابن الأثير، الباهر، ص 186؛ البداية والنهاية، جـ 13، ص 7؛ الروضتين، جـ 2، ص 227؛ المختصر، جـ 3، ص 88.
(2)
لمعرفة المزيد عن أخوة عز الدين مسعود، انظر: ابن الأثير، الباهر، ص 185.
(3)
تل مَوْزَن: بلد قديم بين رأس عين وسَرُوج. انظر: معجم البلدان، جـ 1، ص 872.
(4)
انظر ترجمة عز الدين مسعود بالتفصيل في ابن الأثير، الباهر، ص 185 - ص 189؛ وفيات الأعيان، جـ 5، ص 203 - ص 208.
شعبان مريضًا، فمات ودفن بمدرسته التي أنشأها بالموصل مقابل دار السلطنة، وأوصى بالملك لولده الأكبر نور الدين أرسلان شاه، وكان أخوه شرف الدين مودود يروم السلطنة فصرفها عنه أخوه عز الدين إلى ولده نور الدين أرسلان شاه، وقام بالأمور مجاهد الدين قايماز أحسن قيام. وكان عز الدين عادلًا منصفًا محسنًا عاقلًا جوادًا، صبر على حصار صلاح الدين الموصل ثلاث مرات، وحفظ البلاد وفرق الأموال وداري حتي سلم له الملك، وكان قد بنى في داره مسجدًا يخرج إليه في الليل ويصلى فيه أورادًا كانت له، ويلبس فرجية أهداها له الشيخ عمر الصوفي فيصلي فيها
(1)
.
ذكر وفاة سيف الدين بكتمر صاحب أخلاط
قتل في أول جمادى الأولى من هذه السنة، وكان بين قتله وبين وفاة السلطان صلاح الدين يوسف شهران، ولما بلغ بكتمر موت صلاح الدين أسرف في إظهار الشماتة بموت السلطان، وضرب البشائر ببلاده، وفرح فرحًا عظيمًا، وعمل تختًا فجلس عليه ولقب نفسه السلطان المعظم صلاح الدين، وكان اسمه بكتمر فسمى نفسه عبد العزيز، فلم يمهل الله تعالى عليه، وكان بكتمر هذا من مماليك ظهير الدين شاهرمن وكان له خشداش
(2)
اسمه هزار ديناري، وكان قد قوي وتزوج بابنة بكتمر، فطمع في الملك فوضع على بكتمر من قتله، ولما قتل ملك بعده هزار ديناري أخلاط وأعمالها. واسم هزار ديناري المذكور آقسنقر، ولقبه بدر الدين، جلبه تاجر جرجاني -يسمي علي- إلى أخلاط فاشتراه
(3)
منه شاهرمن وأعجب به، فجعله ساقيًا له ولقبه هزار ديناري، وبقي على ذلك برهة من الزمان، فلما تولى بكتمر على مملكة أخلاط بقي هزار ديناري من أكبر الأمراء وتزوج بابنة بكتمر عينا خاتون، ولما قتل بكتمر خلف ولدًا فأخذ هزار
(1)
لم يرد هذا النص بالتفصيل في مرآة الزمان، جـ 8، ص 280؛ وإنما ورد بالتفصيل في الباهر، ص 185 - ص 189.
(2)
من الواضح أن العيني تأثر بلغة عصره، ومن ثم فقد استخدم كلمة "خشداش" بالرغم من أنها لم تستخدم في العصر الأيوبي من قبل، وكلمة خشداش وهي معرب اللفظ الفارسي خواجا تاش أي الزميل في الخدمة. وتجمع خشداسية أو الخوشداشية أو الخوجداشية أو الخجداشية في اصطلاح عصر المماليك بمصر. انظر: المقريزي، السلوك، جـ 1، ص 388، حاشية 3.
(3)
الكامل، جـ 12، ص 43؛ المختصر، جـ 3، ص 88 - ص 89.
ديناري ولد بكتمر وأمه فاعتقلهما بقلعة أزراش بموش
(1)
، وكان عمر ولد بكتمر إذ ذاك نحو سبع سنين، واستمر بدر الدين أقسنقر هزار ديناري في مملكة أخلاط حتى توفي في سنة أربع وتسعين وخمسمائة على ما نذكره إن شاء الله تعالى
(2)
.
وفي تاريخ بيبرس: ولما بلغ الملك العادل موت بكتمر أرسل إلى الملك الأفضل يطلب نجدة، فأرسل إليه الأفضل أخاه الملك المظفر خضرًا والأمير شهاب الدين أحمد بن المشطوب، فلما ساروا إليه إلى الفرات وعولوا على العبور طلبوا منه نفقة، فأرسل إليهم شيئا، فاستغلوه ورجعوا عنه إلى دمشق بغير دستور، وبقي الظافر في فئة قليلة على جانب الفرات، فتركه العادل وسار ومعه عسكر حلب وتوجه نحو سروج وتسلمها من نواب عماد الدين زنكي، وانتقل إلى الرقة وحاصرها، ولما تسلمها أعطاها للملك الظافر ابن صلاح الدين، ثم نزل على نصيبين وأخذها، فراسله عماد الدين زنكي وبذل له مالًا وصالحه، فدفع له نصيبين والخابور ووعده أنه إذا ملك خلاط يعيد إليه الرقة وسروج، ووصل زين الدين صاحب إربل إلى العادل وسار صحبته إلى خلاط، فلما وصلها وجد عسكرها وأهلها قد اتفقوا مع صاحبهم هزار ديناري صهر بكتمر النوري المتوفي، وهو الذي دس على بكتمر من قتله، فاجتمعوا وقاتلوا الملك العادل وصدوه عنها ولم ينل منها غرضًا، فعاد إلى الرها وأعطى العساكر دستورًا، فتوجه كل منهم إلى مكانه.
وفي المرآة: توفي بكتمر بن عبد الله مملوك شاه أرمن بن سكمان صاحب أخلاط، ولما مات شاه أرمن لم يخلف ولدًا فاتفق خواصه على بكتمر، فضبط الأمور وأحسن إلى الرعية وعدل فيهم وصاحب العلماء والصوفية، وكان حسن السيرة متصدقًا دينًا صالحًا وكان لا يمتنع من صوفي، فتقدم إليه واحد فمنعه الجاندارية
(3)
، فقال دعوه، فتقدم وبيده قصة، فأخذها منه، فضربه بسكين، فشق جوفه، فمات من ساعته، فأخذوه [وقرروه]
(4)
، فقال: نحن من الإسماعيلية وكانوا قد شفعوا إليه في أمر لا يليق، فلم يقبل شفاعتهم فعملوا هذا، فأحرقوه وذلك في جمادى الأولي
(5)
.
(1)
أزراش موش: موش بلدة من ناحية خلاط بأرمينية. معجم البلدان، جـ 4، ص 483؛ أما عن القلعة أزراش، فلم نستدل عليها من المصادر التي وقعت بين أيدينا.
(2)
المختصر، جـ 3، ص 88، ص 89.
(3)
الخازندارية كذا في المرآة، جـ 8، ص 271.
(4)
"قرروا" كذا في الأصل. والصحيح ما أثبتناه.
(5)
مرآة الزمان، جـ 8، ص 271.
ذكر وفاة سلطان شاه بن ألب أرسلان صاحب خراسان
مات في هذه السنة وكان قد ملك مرو وخراسان، ولما مات انفرد أخوه [تَكِش]
(1)
بالمملكة. وقال المؤيد في تاريخه
(2)
: وفي سنة تسع وثمانين وخمسمائة توفي سلطان شاه بن ألب أرسلان بن أطسز بن محمد بن أنوش تكين، وتولى بعده أخوه
(3)
تكش والله أعلم
(4)
.
ذكر وفاة قيطرمش بن عبد الله المستنجدي شحنة بغداد من أيام المستضيء إلى هذه السنة
مات في هذه السنة، وكان شجاعًا مهيبًا وله هيبة عظيمة على المفسدين، وله معهم حكايات، وكانت بغداد في أيامه مثل المهد من الجانبين
(5)
. وقيطرمش بفتح القاف وسكون الياء آخر الحروف وفتح الطاء المهملة وسكون الراء وكسر الميم وفي آخره شين معجمة، وهو اسم تركي.
ذكر وفاة الأمير داود بن عيسي بن محمد ابن أبي هاشم أمير مكة
مات في هذه السنة، وما زالت إمارة مكة له تارة ولأخيه مكثر تارة أخرى حتى مات
(6)
.
ذكر بقية الحوادث في هذه السنة
منها أن الخليفة الناصر لدين الله جدد خزانة كتب للمدرسة النظامية ببغداد، ونقل إليها ألوفًا من الكتب الثمينة الحسنة
(7)
. وفي المرآة: نقل إليها الخليفة عشر آلاف مجلدة فيها الخطوط المنسوبة.
(1)
"بكش" كذا في الأصل. والمثبت من الكامل، جـ 10، ص 229.
(2)
المختصر، جـ 3، ص 89.
(3)
ورد في أبو الفدا "ابنه"، المختصر، جـ 3، ص 98.
(4)
المختصر، جـ 3، ص 98.
(5)
مرآة الزمان، جـ 8، ص 271.
(6)
الكامل، جـ 10، ص 229.
(7)
الكامل، جـ 10، ص 229.
ومنها أنه تم بناء دار الحريم الظاهري
(1)
والرباط، ونقل إليها الخطوط المنسوبة، ورتب في الرباط عشرة من الصوفية الأخيار أرباب المجاهدات، ورتب فيها طعامًا كل يوم خارجًا عن راتب الصوفية، وكان الخليفة يتردد كل يوم إلى الرباط المذكور، فيومًا لا يحضر يحمل راتبه إلى الصوفية، وولي الرباط بهاء الدين أحمد الميهني شيخ رباط الأخلاطية.
ومنها أنه فتحت المدرسة التي إلى جانب تربة والدة الخليفة عند معروف الكرخي، وحضر أرباب الدولة وعمل سماط عظيم، وسلمت إلى الشيخ أبي على النوقاني رحمه الله فدرس بها
(2)
.
ومنها أن في ليلة عيد النحر ظهرت ببغداد نجمة عظيمة من جانب الشرق فأضاء منها الأفق وبهر ضوؤها وأقامت طول الليل، وظهر عمود من السماء إلى الأرض عرضه مقدار ثلاثة
(3)
رماح.
ومنها أن امرأة بحلب ولدت أربعة أولاد في بطن واحد
(4)
.
ومنها أن خوارزم شاه تكش خرج لقصد بلاد طغرل السلجوقي، وأخذ في الاستيلاء عليها أولًا فأول، وأرسل أينانج خان إلى الرى وما والاها، فملكها واستقر بها.
ومنها أن شهاب الدين الغورى شتى في بَرْشاوور، وجهز مملوكه أيبك في عساكر كثيرة إلى بلاد الهند، ففتح وغَنَم وعاد منصورًا مؤيدا
(5)
.
ومنها أن الخليفة الناصر لدين الله بعث إلى ابن الجوزي يسأل منه أن يزيد على أبيات عديَّ بن زيد المشهورة ما يناسبها من الأشعار ولو بلغ ذلك عشر مجلدات وهي هذه:
أيها الشامت المغتر بالدهـ
…
ـــر [أأنت]
(6)
المبرأ الموفور؟
(1)
الكامل، جـ 10، ص 229.
(2)
مرآة الزمان، جـ 8، ص 270 - ص 271.
(3)
"ثلاث" في الأصل. والمثبت هو الصحيح.
(4)
مرآة الزمان، جـ 8، ص 271.
(5)
الكامل، جـ 10، ص 229.
(6)
[أأنت] إضافة من البداية والنهاية، جـ 13، ص 9.
أم لديك العهد الوثيق من الـ
…
أيام بل أنت جاهل مغرور
من رأيت المنون خلدت أم دا
…
م عليه من أن يضام خفير
أين كسرى الملوك أبو
…
ساسان أم أين قبله سابور
وبنو الأصفر الكرام ملوك الر
…
وم لم يبق منهم مذكور
وأخو الخضر اذ بني وادى
…
دجلة تجبى إليه والخابور
شاده مرمرًا وجلله كلسا
…
فللطير في داره وكور
لم تهبه أيدي المنون فزا
…
إلى الملك عنه فبابه مهجور
وتذكر رب الخورنق إذا
…
أشرف يوما وللهدي تبكير
سره حاله وكثرة ما
…
يملك والبحر معرضًا والسدير
فارعوى قلبه ومال وما
…
غبطه حي إلى الممات يصير
ثم بعد الفلاح والملك والأمـ
…
ــــر وارتهم هناك قبور
ثم أضحوا كأنهم ورق جف
…
فالوت به الصبا والدبور
غير أن الأيام [تختص بالمرء
…
وفيها لعمري العظات والتفكير]
(1)
وفيها حج بالناس من العراق قطب الدين سنجر الخليفتي ووقف ومكس الحاج، ومن الشام حصن الدولة إبراهيم بن السلار.
ذكر من توفي فيها من الأعيان
جعفر
(2)
بن محمد بن قطرا، أبو الحسن، أحد الكتاب بالعراق، وكان ينسب إلى التشيع، جاءه رجل ذات يوم فقال له: رأيت البارحة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو يقول: إذهب إلى ابن قطرا فقل له يعطيك عشرة دنانير. فقال له ابن قطرا متى رأيته؟ قال: أول الليل. قال: فأنا رأيته في آخره وقال لي: إذا جاءك رجل من صفته كذا وكذا فطلب منك شيئًا فلا تعطيه. فأدبر الرجل موليًا فاستدعاه ووهبه شيئًا. ومن شعره فيما أورده ابن الساعي:
(1)
ما بين الحاصرتين ساقط من الأصل، والإضافة من البداية والنهاية، جـ 13، ص 10.
(2)
"جعفر بن محمد بن فطيرا" كذا في البداية والنهاية، جـ 13، ص 8.
ولما سبرت الناس أطلب منهم
…
أخا ثقة عند اعتراض الشدائد
وفكرت في يومي سروري وشدتي
…
وناديت في الأحياء هل من مساعد؟
فلم أر فيما ساءني غير شامت
…
ولم أر فيما سرني غير حاسد
(1)
ذكر ابن كثير وفاته في هذه السنة
يحيى بن سعيد بن فارس أبو العباس البصري النصراني
(2)
، صاحب المقامات، كان شاعرًا أديبًا فاضلًا له اليد الطولى في اللغة والنظم، توفي في هذه السنة.
جرادة الواعظ، واسمه المنصور بن المبارك بن الفضل أبو المظفر الواسطي، قدم بغداد واستوطنها وكان يعظ في المساجد وعظًا مطبوعًا، وكان كيسًا ظريفًا وله واقعات عجيبة، جلس يومًا بمسجد باب أبرز وذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم "من قتل حية كان له قيراطان من الأجر، ومن قتل عقربًا كان له قيراط". فقام واحد وقال: يا سيدنا ومن قتل جرادة. قال: يصلب على باب المسجد
(3)
. وسأله رجل يومًا في المجلس فقال: أين يقف جبريل من العرش؟ وأين يقف ميكائيل وإسرافيل وعزرائيل؟ فكاسر
(4)
ساعة، ووقع في المحلة خباط فقال لبعض الناس: قم واخرج واكشف لنا ما هذا. فخرج الرجل وعاد فقال: إنسان قد ضرب زوجته فقوى الصراخ. فقال لآخر: قم أنت واكشف الخبر. فقام وخرج وعاد فقال: رجل قد مات والورثة يتضاربون على التركة. فقال: "يا فعلة يا صنعة، بينكم وبين باب المسجد خطوات وما فيكم من يخبر بما فيه على الحقيقة، من أين أعلم أنا أين يقف جبريل وأين يقف ميكائيل والملائكة" فضحك الناس.
وله فصول ومواعظ وكان يزعم أنه قرأ المقامات على الحريري، وقد سمع أبا الوقت
(5)
وطبقته، وكان صدوقًا.
السيدة زبيدة بنت الإمام المقتفي
(6)
بأمر الله، أخت المستنجد وعمه المستضيء، كانت قد عمرت دهرًا طويلًا، ولها صدقات كثيرة، وقد تزوجها في وقت السلطان مسعود
(1)
وردت هذه الأبيات في البداية والنهاية، جـ 13، ص 7.
(2)
"النجراني" كذا في البداية والنهاية، جـ 13، ص 7.
(3)
ورد هذا الخبر في شذرات الذهب، جـ 4، ص 300.
(4)
كاسر: كاسر الرجل عن مراده أي صرفه. انظر: المعجم الوسيط، جـ 2، ص 793.
(5)
أبو الوقت: هو أبو الوقت عبد الأول بن أبي عبد الله عيسي بن شعيب بن إبراهيم بن إسحاق السجزي، كان شيخًا صالحًا ولد بمدينة هراة، وتوفي سنة 553 هـ، انظر: وفيات الأعيان، جـ 3، ص 226 - ص 227.
(6)
انظر ترجمتها في البداية والنهاية، جـ 13، ص 7.
على صداق مائة ألف دينار، فتوفي قبل أن يدخل بها وقد كانت كارهة [لذلك]
(1)
فحصل مقصودها، ماتت في هذه السنة.
الشيخة فاطمة خاتون
(2)
بنت محمد بن الحسن العميد، كانت صالحة عابدة زاهدة، عمرت مائة سنة وست سنين، وكان قد تزوجها في وقت أمير الجيوش قطر وهي بكر، فبقيت عنده إلى أن توفي ولم تتزوج بعده بل اشتغلت بذكر الله والعبادة إلى أن توفيت في هذه السنة.
(1)
ما بين حاصرتين إضافية من البداية والنهاية، جـ 13، ص 7.
(2)
انظر ترجمتها في البداية والنهاية، جـ 13، ص 8.