الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
توطئة
لم أكن أنوي القيام بكتابة توطئة لهذا الجزء الذي بين أيدينا وهو الجزء الثالث من هذا السفر الضخم (عقد الجمان في تاريخ أهل الزمان) للمؤرخ الكبير "بدر الدين محمود العيني"، وذلك لأنني سبق أن قدمت للكتاب عمومًا في افتتاحية الجزء الأول.
ولكن حدثت أمور تتصل بهذا الجزء تطلبت مني أن أسطر هذه التوطئة، وذلك لعدة أسباب: من هذه الأسباب ما يرجع إلى المخطوطات المعتمدة في هذا التحقيق، إذ فوجئت بسقوط سنتين من الكتاب هما سنة "600 هـ وسنة 601 هـ". وقد أشرت إلى ذلك في الحاشية المختصة بسنة 602 هـ. ومن هذه الأسباب كذلك ما حفل به هذا الجزء من أحداث تاريخية بعد وفاة السلطان "الناصر صلاح الدين"، الذي تقاسم أولاده الملك من بعده، وكان للعادل أخيه نصيب في ذلك، حيث تولى ولاية الكرك والشوبك، غير أن العادل أخذ يؤلب أبناء صلاح الدين على بعضهم البعض حتي صفا له الجو فانفرد بالسلطة كلها، ولم يكتف بذلك بل نقل ولاية العهد من أبناء أخيه إلى أبنائه هو، مما كان له الأثر البعيد على مصير دولة بني أيوب كلها. لذلك كان لابد لي من الإشارة إلى ذلك.
والسبب الأخير لهذه التوطئة هو أنني يجب أن أُذَكِّر القارئ الكريم أن العيني لم يقسم كتابه إلى أجزاء، وإنما تناوله من حيث العصور الإسلامية المتعاقبة. وبالنسبة للعصر الأيوبي فقد أخذت على عاتقي تقسيمه إلى أجزاء، وحاولت أن أوجد توازنًا بينها من حيث الحجم، إلا أنني وجدت نفسي مضطرًا إلى أن يكون هذا الجزء أكبر حجمًا من
سابقيه، نظرًا لأننا أردنا أن نجمع الأحداث التاريخية كاملة في عصر السلطان العادل الأيوبي حتى وفاته في سنة 615 هـ.
ولا يفوتني في هذا المقام أن أتقدم بالشكر للزميلات الباحثات الفضليات بلجنة التاريخ بمركز تحقيق التراث اللاتي شاركن معي في إنجاز هذا الجزء بكل تفان وإخلاص وهن:
د. لبيبة إبراهيم مصطفى محمد
…
الأستاذة / نفيسة محمد محمد صميدة
الأستاذة / نعمات عباس محمد، التي شاءت ظروفها ألا تكمل معنا هذا العمل.
السيدة/ إيزيس سامح زكي
والله من وراء القصد، وبه التوفيق والسداد.
المحقق
دكتور/ محمود رزق محمود
الهرم - الأريزونا
بسم الله الرحمن الرحيم
فصل فيما وقع من الحوادث في السنة التسعين بعد الخمسمائة
(*)
استهلت هذه السنة والخليفة هو الناصر لدين
(1)
الله العباسي، وصاحب مصر الملك العزيز ابن السلطان صلاح الدين، وصاحب الشام الملك الأفضل بن صلاح الدين، وصاحب حلب الملك الظاهر بن صلاح الدين، والملك العادل أخو صلاح الدين في الشرق، ووقعت الوحشة بين الأخوين الأفضل والعزيز إلى أن أدت إلى قدوم العزيز إلى دمشق.
(2)
ذكر توجه العزيز إلى الشام لأخذها من أخيه الأفضل
وفي شهر جمادى [الأولى]
(3)
قدم العزيز إلى دمشق ليأخذها من أخيه الأفضل، فخيم علي الكسوة
(4)
يوم السبت سادس جمادي وحاصر البلد فمانعه أخوه، ودافعه، وقطعت الأنهار، ونهبت الثمار، ولم يزل الأمر كذلك حتى قدم الملك العادل عمهما من الشرق فأصلح بين الأخوين ورد الألفة بعد البين، على أن يكون للعزيز البيت المقدس وما جاوز
(5)
فلسطين من ناحيته أيضًا، وعلى أن تكون جبلة
(6)
واللاذقية
(7)
للملك الظاهر صاحب حلب، وأن يكون للعادل إقطاعه الأول ببلاد مصر مضافًا إلى ما بيده من مملكة الكرك
(8)
والشوبك
(9)
وبلاد الجزيرة كحران
(10)
والرها
(11)
وجعبر
(12)
وما جاور تلك
(*) يوافق أولها 27 ديسمبر سنة 1193 م.
(1)
انظر ما سبق، ج 1، ص 213، حاشية 1.
(2)
مفرج الكروب، جـ 3، ص 14 - ص 15؛ البداية والنهاية، جـ 13، ص 8 - ص 9.
(3)
ما بين حاصرتين إضافة من البداية والنهاية، جـ 13، ص 8.
(4)
الكسوة: انظر ما سبق، جـ 1، ص 106، حاشية 3.
(5)
"جاور" في الكامل، جـ 12، ص 46؛ نهاية الأرب، جـ 28، ص 445؛ البداية والنهاية، جـ 13، ص 9.
(6)
جبلة: انظر ما سبق، جـ 1، ص 44، حاشية 4.
(7)
اللاذقية: انظر ما سبق، جـ 1، ص 44، حاشية 4.
(8)
الكرك: انظر ما سبق، جـ 1، ص 34، حاشية 5.
(9)
الشوبك: قلعة حصينة في أطراف الشام بين عَمَان وأَيْله والقُلْزُم قرب الكرك. انظر: معجم البلدان، جـ 3، ص 332.
(10)
حَرَّان: انظر ما سبق، جـ 1، ص 44، حاشية 10.
(11)
الرها: انظر ما سبق، جـ 1، ص 44، حاشية 9.
(12)
قلعة جعبر: انظر ما سبق، جـ 1، ص 49، حاشية 3.
النواحي، فاتفق الحال على ذلك وتزوج الملك العزيز بابنة عمّه الملك العادل، ومرض ثم عُوفي وهو مخيّم بمرج الصُّفر
(1)
، وخرجت الملوك لتهنئته بالعافية والتزويج والصلح، ثم كَرَّ راجعًا إلى بلاده. وكان الأفضل قد أساء السيرة والتدبير فأبعد أمراء أبيه وخواصه، وقرب الأجانب، وأقبل على شرب المسكر واللهو واللعب، واستحوذ عليه وزيره ضياء الدين بن الأثير الجزري وهو الذي كان يحدوه على ذلك، فتلف وأتلفه وزالت النعمة عنهما كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى
(2)
.
وفي تاريخ المؤيد
(3)
: وفي هذه السنة أعني سنة تسعين استحكمت الوحشة بين الأخوين العزيز والأفضل ابنى السلطان صلاح الدين، فسار [العزيز]
(4)
في عسكر مصر وحصر أخاه الأفضل بدمشق، وأرسل الأفضل إلى عمه العادل وأخيه الظاهر وابن عمه المنصور
(5)
صاحب حماة؛ يستنجدهم، فساروا إلى دمشق وأصلحوا بين الأخوين، ورجع العزيز إلى مصر ورجع كل ملك إلى بلده، وأقبل الأفضل بدمشق على الشرب وسماع الأغاني والأوتار ليله ونهاره، وأشاع ندماؤه أن عمه العادل حَسَّنَ له ذلك، وكان يعمله بالخفية. فأنشد العادل:
فلا خير في اللذات من دونها سِترُ
فقبل وصية عمه وتظاهر بذلك، وفوض أمر المملكة إلى وزيره ضياء الدين بن الأثير الجزري يدبرها برأيه الفاسد، ثم إن الملك الأفضل أظهر التوبة عن ذلك، وأزال المنكرات، وواظب على الصلوات، وشرع في نسخ مصحف بيده.
(6)
وفي تاريخ ابن العميد وفي سنة تسعين: عزم الملك العزيز على أخذ دمشق من أخيه فبلغه الخبر، فخرج إلى رأس الماء
(7)
وخيم به ليقابله، واستشار أصحابه فاختلفت آراؤهم، وفارقه
(1)
مرج الصُّفر: من نواحي دمشق إلى الجنوب الغربي منها. انظر: معجم البلدان، جـ 4، ص 88؛ نهاية الأرب، جـ 28، ص 445.
(2)
ورد هذا الخبر بتصرف في البداية والنهاية، جـ 13، ص 9؛ مفرج الكروب، جـ 3، ص 12 - ص 13.
(3)
انظر: المختصر في أخبار البشر، جـ 3، ص 88.
(4)
"العسكر" كذا في الأصل والمثبت من المختصر، جـ 3، ص 90 - ص 91.
(5)
هو الملك المنصور ناصر الدين أبو المعالي محمد بن تقي الدين عمر الأيوبي صاحب حماة. توفي سنة 617 هـ، انظر: وفيات الأعيان، جـ 3، ص 457.
(6)
المختصر في أخبار البشر، جـ 3، ص 90 - ص 91.
(7)
رأس الماء: انظر ما سبق، جـ 2، ص 56، حاشية 5.
الأمير صارم الدين قايماز النجمى
(1)
، ومضى إلى الملك العزيز فجعله من أكبر أمرائه، فكاتب الأفضل أخاه الظاهر صاحب حلب، وسأله الاتفاق والمعاضدة، فأجابه إلى ذلك وتحالفا عليه، وكتب إلى عمه العادل يستنجده ويستصرخ به، وسار العزيز إلى الشام ووصل إلى الفوار
(2)
، وكان أخوه الأفضل نازلًا بها، فخالطت مقدمته ساقة عساكر دمشق، فولوا منهزمين، ودخل الأفضل إلى دمشق، ونزل العزيز الكسوة لست مضين من جمادى الآخرة، ثم نزل في السابع منه على دمشق وحاصرها، والأفضل يُدافع ويمانع إلى أن وصل العادل وكتب إلى ابن أخيه العزيز يسأله الاجتماع به، فاجتمعا راكبين بصحراء المِزّة
(3)
، فسأله الإقلاع عن قتال أخيه، فأجاب إلى ذلك، ثم تأخر العزيز مرحلة
(4)
إلى صوب داريا
(5)
والأعوج، وكان بدمشق عند الأفضل الملك المنصور صاحب حماة، والملك المجاهد
(6)
صاحب حمص، والملك الأمجد
(7)
صاحب بعلبك، ثم وصل الملك الظاهر صاحب حلب، ووقع الاتفاق بين الجميع، ورحل العزيز إلى مرج الصفر وكتب نسخة مضمونها أن يكون كل واحد من الظاهر والأفضل والعادل ببلاده بعساكره آمنًا من أن يقصده صاحبه، وأن يكون الملك المجاهد صاحب حمص، والملك الأمجد صاحب بعلبك مع الملك الأفضل مؤازرًا له، وأن الملك المنصور صاحب حماة يكون مع الظاهر صاحب حلب مُؤازِرا له، وحلف الملك العزيز بهذا وزال الخلاف، وسكنت الدهماء، وخطب العزيز ابنة عمه العادل، فأجابه إلى ذلك وعقد عقد النكاح، وكان متوليه القاضي محيي الدين بن زكي الدين قاضي القضاة بدمشق، وحلفت الملوك، ورجع العزيز إلى مصر في مستهل شعبان، ورجع العادل إلى بلاده
(1)
صارم الدين قايماز بن عبد الله النجمي: من أكبر أمراء الدولة الصلاحية وهو مملوك نجم الدين أيوب بن شاذي والد الملوك، توفي في سنة 596 هـ/ 1199 م. انظر: مفرج الكروب، جـ 3، ص 27؛ نهاية الأرب، جـ 28، ص 411.
(2)
الفوَّار: بالشام من أرض السواد، انظر: زبدة الحلب، جـ 3، ص 134، حاشية 2؛ العماد الأصفهاني: خريدة القصر، قسم شعراء مصر، جـ 1، ص 7، حاشية 3.
(3)
المزة: انظر ما سبق، جـ 1، ص 312، حاشية 9.
(4)
المرحلة: المسافة التي يقطعها المسافر في نحو يوم. انظر: محيط المحيط، مادة "رحل".
(5)
داريا: انظر ما سبق، جـ 1، ص 41، حاشية 3.
(6)
الملك المجاهد: أسد الدين شيركوه بن محمد بن شيركوه ومولده في سنة تسع وستين وخمسمائة وتوفي يوم الثلاثاء تاسع عشر شهر رجب سنة سبع وثلاثين وستمائة بحمص. وفيات الأعيان، جـ 2، ص 480.
(7)
الملك الأمجد: انظر ما سبق، جـ 1، ص 327، حاشية 8.
الشرقية، وأقبل الأفضل على اللهو والشرب وأعرض عن مصالح الرعية، والأمور كلها بيد وزيره الجزري، وكان الجزري سيء التدبير، ناقص الرأي، رديء السيرة، ففسدت الأمور بسببه، وفارق الأفضل عز الدين سامه، والأمير شمس الدين إبراهيم بن السلار
(1)
، ومن الأعيان جمال الدين بن أبي الحصين والقاضي
(2)
محيي الدين لما شاهدوا من الأحوال الردية. وعرض الأمير عز الدين سامه وابن السلار وغيرهما على الملك العزيز على أن يحارب أخاه الأفضل ويسير إلى الشام والأفضل غافل عن مصالحه، مُستهم بلهوه، فبينما هو كذلك إذ أصبح الأفضل ذات يوم مظهرًا للتوبة، ونادي في الناس بإراقة الخمور ولازم الاعتكاف والصلاة والعبادة والصدقات، ولبس القطن ونهي عن المنكر وأمر بالمعروف وجالس الفقراء
(3)
، وواكلهم وبالغ في قهر النفس إلى أن صار يصوم النهار ويقوم الليل.
وفي المرآة
(4)
: وفيها أي في سنة تسعين عاد الاختلاف بين العزيز والأفضل، وقد ذكر العماد القصه فقال: لما كان العزيز نازلًا على الفوار رحل أبو الهيجاء والأسدية عشية الاثنين رابع شوال، وكانوا أكثر العسكر، وأخبر العزيز
(5)
بهم فما بالي بانصرافهم. وقال: صفونا من أكدارهم ولم يأمر أصحابه باتباعهم، وبقي في خواص نفسه تلك الليلة ورحل، واتفق العادل والأفضل على أن يكون ثلث البلاد للعادل والثلثان للأفضل وهو السلطان، واستناب الأفضل بدمشق أخاه قطب الدين موسى، وخاف العزيز من الأسدية الذين بالقاهرة أن يفعلوا كما فعل إخوانهم ويمنعوه من دخولها، وكان قد استناب بها بهاء الدين قراقوش ثقة بمودته، فلما وصل إلى القاهرة خرج قراقوش والأسدية إلى لقائه
(1)
نقل العينى هذه الأحداث بتصرف من مفرج الكروب، جـ 3، ص 28 - ص 34؛ السلوك، جـ 1، ق 1، ص 116 ص 117.
(2)
القاضي محيي الدين:
أبو المعالي محمد بن أبي الحسن علي بن محمد بن يحيى بن علي بن عبد العزيز بن على بن الحسين بن محمد بن عبد الرحمن بن القاسم بن الوليد بن القاسم بن عبد الرحمن بن أبان بن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه القرشي، الملقب محيي الدين المعروف بابن زكي الدين الدمشقي، الفقيه الشافعي، ولد سنة خمسين وخمسمائة بدمشق، وتوفي في سابع شعبان سنة ثمان وتسعين وخمسمائة بدمشق. انظر: وفيات الأعيان، ص 229 - 236.
(3)
يقصد بالفقراء هنا المتصوفة.
(4)
مرآة الزمان، جـ 8، ص 282 - 283؛ نهاية الأرب، جـ 28، ص 447؛ الروضتين، جـ 2، ص 230.
(5)
"العدو" في المرآة وهو خطأ، إذ ذكرها أبو شامة "العزيز"؛ الروضتين، جـ 2، ص 230.
فأكرمهم وأحسن إليهم. وفي تاريخ بيبرس: وفي صفر من سنة تسعين حلف العزيز لعمه العادل على أنه يصافيه ويوادّه ويبقى له ما بيده من الضياع والقلاع بالشام ومصر، واستشعر ميمون القصري، وألبكي الفارسي، وسنقر الكبير تغيّر الأفضل عليهم لأنهم كانوا انفصلوا عن العادل وعادوا بغير إذنه، فكتب يشير على الأفضل بأخذ أخبازهم
(1)
، فلما أحسوا بذلك تسحبوا إلى مصر، وركب الجيش فلم يدركوهم، فأخذوا نساءهم فوضعوهن في الشقيف، وأعطى الأفضل إقطاعاتهم لمماليكه وخواصه، ووصل رسول الملك العادل إلى العزيز وكتابه يخبره أن الهدنة قد انفسخت مع الإفرنج بسبب تعديهم وأخذهم جُبَيل
(2)
، وكانوا قد أخذوها على ما نذكره عن قريب إن شاء الله، وإن اجتمعت العساكر بمصر والشام فلا قبل للإفرنج بهم. وقال في آخر كلامه: إن العادل يحضر ومعه عشرة آلاف فارس للمعونه على الإفرنج
(3)
. وعند ذلك تجهز العزيز وخرج إلى المخيم، وندب العسكر للخروج وضيق عليهم في التأخير، وأقام بالقاهرة بهاء الدين قراقوش، وصيرم، وسيف الدين يازكوج، وخطلخ، وجماعة من الأمراء عدتهم تسعمائه فارس
(4)
، واحتاط على القصبيات بالغور وهي جارية في قطاع الأفضل، وخرج أخوه الأفضل من دمشق لتخريب حصن كوكب، ونزل على رأس الماء في سبعمائة فارس، وراسل الظاهر في الصلح، فتم الصلح بين الظاهر والأفضل على أن ينزل له الأفضل عن اللاذقية وجبلة، وشرط عليه الأفضل أن ينجده، وتوجه العزيز بعسكره إلى نحو دمشق واستولي على ميدان الحصى، وأقطع بلد دمشق وشرع في جمع الرجال وبين يديه قايماز النجمي متولى جميع الأمور، وكتب العزيز كتاب إلى العادل يقول فيه: إنا ما خرجنا من القاهرة إلا لخلاص جبيل من الإفرنج، فبلغني أن الأفضل قد حالف علينا وأراد تسليم البلاد للكفار فأحوجت الضرورة إلى أن شقت إليه وقد بلغني أنك تدخل بيني وبينه، وحاشاك من ذلك وأنا خير لك منه، وإن أردت أن تكون أنت السلطان ورئيس الجماعة فأنا راض بذلك ومبلغ غرضك
(5)
.
(1)
مفردها خبز. ومعناه الإقطاع من الأرض، وهي كلمة مشتقة من اللغة اللاتينية. انظر Dozy: Supp.Dict.Arab السلوك، جـ 1، ق 1، ص 65، حاشية 7.
(2)
جبيل: انظر ما سبق، جـ 1، ص 274، حاشية 12.
(3)
ورد هذا الخبر في السلوك، جـ 1، ق 1، ص 121؛ زبدة الحلب، جـ 3، ص 130.
(4)
ذكر النويرى أن عدد الأمراء كان ألفي فارس. نهاية الأرب، جـ 28، ص 444.
(5)
نقل العيني هذا الحدث بتصرف من السلوك، جـ 1، ق 1، ص 116؛ نهاية الأرب، جـ 28، ص 444 - 445.
وكتب عدة كتب للظاهر ولغيره من ملوك الأطراف، وترددت الرسل من الأفضل إلى العزيز في طلب الصلح، وبذل كل مراد من سِكّة وخطبة وطاعة فامتنع إلا بتسليم دمشق، فأرسل الأفضل نجابيه يستحث العادل والظاهر والمنصور صاحب حماة ليستنجدوه، ولما بلغ العادل نزول العزيز على دمشق وحصاره أخاه الأفضل عبر الفرات واجتمع بالملك الظاهر وشفع في دلدروم الياروقي والياروقية
(1)
. فخلع عليهم وطيب قلوبهم ورحلوا جميعًا فنزلوا حماة وأتت رسل العادل إلى العزيز، يذكر أن وصوله للإصلاح بين الأخوة، فكتب إليه العزيز كتابًا بخطه بالابتهاج بمقدمه، وبذل الرجوع إلى رأيه، وجهز فخر الدين أياز جهاركس
(2)
في عدة وعدة مجملة للقاء الملك العادل، وحلف لرسوله على الوفاء به والرجوع إلى رأيه، فلما وصل العادل إلى العزيز سفر بالصلح بينه وبين الأفضل، فكتب العزيز كتابًا إلى نوابه بأن لا يمنعوا نواب الأفضل شيئًا من إقطاعاته ويبسطوا أيديهم. ورحل العزيز عن دمشق عائدًا إلى ديار مصر بعد الصلح على أن يكون للعادل الخبز العادلي الذي كان له بمصر وحران والرها بالجزيرة والشوبك والكرك بالشام، وأن يكون للأفضل دمشق وأعمالها، وأن العادل يقرر الخطبة للعزيز ويضرب السكة باسمه، وأن ينجده العزيز بألف فارس ليفتح خلاط
(3)
.
ولما توجه العزيز إلى مصر خرج الأفضل والظاهر لوداعه، ورحل العادل إلى حلب، فسير الظاهر أخاه الزاهر
(4)
لتلقيه، فلما وصل نزل الظاهر إليه وتلقاه وأصعده إلى القلعة
(5)
ونزل منها وحلف أنه لا يطلع إليها إلا بعد أن يهبها له العادل هبة جديدة، ففعل كل منهما ما ظنه الآخر فيه، فقال الرشيد النابلسي
(6)
يذكر الصلح ويمدح الظاهر:
(1)
عن هذا الخبر راجع، مفرج الكروب، جـ 3، ص 29.
(2)
فخر الدين أياز جهاركس: هو أبو المنصور جهاركس بن عبد الله الناصري الصلاحي الملقب بفخر الدين، كان من أمراء الصلاحية، وتوفي في سنة 608 هـ. انظر: مفرج الكروب، جـ 3، ص 11.
(3)
ذكر هذا الخبر بتصرف في السلوك، جـ 1، ق 1، ص 116 - ص 117؛ نهاية الأرب، جـ 28، ص 447 - 448.
(4)
الزاهر: أبو سليمان داود الملقب الملك الزاهر مجير الدين بن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، ولد بمدينة القاهرة لسبع بقين من ذي الحجة، وقيل ذي القعدة سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة، وتوفي في البيرة في ليلة التاسع من صفر سنة اثنتين وثلاثين وستمائة. وفيات الأعيان، جـ 2، ص 257 - 258.
(5)
عن هذا الخبر بالتفصيل انظر: مفرج الكروب، جـ 3، ص 36؛ نهاية الأرب، جـ 28، ص 445؛ السلوك، جـ 1، ق 1، ص 117، 118.
(6)
الرشيد النابلسي: أبو محمد عبد الرحمن بن محمد بن بدر بن الحسن بن بكار الشاعر المعروف بابن النابلسي توفي بدمشق 619 هـ، ودفن بباب الصغير. انظر: وفيات الأعيان، جـ 5، ص 266، جـ 7، ص 341، ترجمة 263.
أنجزَ الدهرُ فيكُم مِعادي
…
بعدَ طُولِ الإبراقِ والإرْعادِ
ورجعتم إلى مكارِم كانت
…
لعُلاكم مُذ كنتم خيرَ عادِ
وتعاهدتُم عهودَ وفاءٍ
…
جمعَتْ شملَكُم لكَبْتِ الأعادِ
وتسنمتُم من العِزّ هَضْبًا
…
يَنظُر النجمَ أَوْجه مِنْ بِعَادِ
لم يَكْن لايقًا بنجلِ صلاح
…
الدين حالُ معذوقة بفسَادِ
حاش لله ما عهدنا النُجومَ
…
الزُهُرَ يُدعَى من شَملِها ببِدادِ
أرأيتَ الأشْبال يَخرجُ يومًا
…
خُلْقُها عن خَلائِق الآسَادِ
أيُّما والد به رحِمَ اللهُ
…
البرَايَا وأيُّما أَوْلاد
بَدأ الخيرَ للعِبادِ وما منهمُ
…
سِوي عايدٍ بما هُو بَادِ
بأبي من عليه أجمعت الآ
…
راءُ إذ صحّ فيه كلُّ اعتقادِ
لهو الظاهرُ الذي أظهر الله
…
به مُعجزَ النُهَى والسَّدادِ
والذَّي حَلَّ من مَكارمِه الذرْوة
…
فالناسُ حَولَه كالوِهَادِ
مرضَ الحقُ ثم صَحَّ فقدت قَرّت
…
عيُونُ الأسَاةِ
(1)
والقوادِ
خَلةٌ
(2)
ساء صُنعُها فاسْتحَالت
…
خُلةً
(3)
ذات صفوةٍ وودادِ
كدرت بعض ما صَفا مِن قلُوبِ
…
زَال ما اسْتَشعَرَت من الأحقاد
دولةٌ ألفَ المودة فيها
…
رَأيُك الجَزلُ بعدَ طولِ شرَادِ
حَالَ قوم أنّي يمخُضُوا زُبدةَ
…
القصد بها فانثنَوْا عنِ الأقصادِ
يالها من غواية لم يكن
…
إلاك فيها الهادي إلى الإرشادِ
كُنت فيها الغِياث كاسْمِك
…
للإسلام بين الإسعافِ والإسعادِ
فليغرد بحمدك الملك الأفضل
…
مع رائحٍ إليه وغاد
آل أيوب طال باعُ المعالى
…
إن جنحتم لرقة الأكبادِ
شِدُّتم ذروة العُلى
…
بعد ما أشفت وزالت أركانُها لانهداد
فرق ما بينكم وبين ملوكِ الأرضِ
…
فرقُ الأرواحِ والأجسادِ
(1)
الأُساة: الآسى الجراح والطبيب والجمع أُسَاة. مجمع اللغة العربية: المعجم الوجيز، ص 18.
(2)
خَلَّة: الثقبة الصغيرة والحاجة والفقر والخصلة. المعجم الوجيز، ص 210.
(3)
خُلة: كل نبت حلو، والصداقة والمحبة التي تخللت القلب فصارت خلاله في باطنه. المعجم الوجيز، ص 210.
لو تصورتم بحورًا لكانوا
…
كسواق في لُجِّكم وثمادِ
(1)
بذلوا طارف الندى وبذلتم
…
ما وجدتم من طارفٍ
(2)
وتلاد
(3)
أيقظُوا رقدَة النُّهى للأمانى
…
وافتحوا مقلة الوغى للجهادِ
جردوا عزايمًا قاطعات
…
ليس تمضي السيوفُ في الأغمادِ
قلما يرتقى السُعُود صُعُودًا
…
بسوى البيضِ أو بسمرِ الصعادِ
فابثثوها مثل الجرادِ جيوشا
…
تحجبُ الأرضَ عن جيوشِ الجرادِ
ليس فيها الأجوادُ من الأبطال
…
مُستوطَنٌ لظهرِ جوادِ
لا تتوافي رعاية الدين والدنيا
…
بذَبٍ عن الهُدَى وَذِيادِ
أيها المالِكُ المكارمَ رقا
…
أَنتَ أولى الوري بملكِ البلادِ
لك منها إن شئت أعلا محل
…
غير مستبعدٍ وأوطي مهادِ
ومتي دانَ للفتى العدلُ
…
والإحسانُ دانت له رقابُ العبادِ
أنت نجمٌ رجم لماردة الإنس
…
وللطالبِ الهُدَى منك هَادِ
أنت يا خَيرَ مَن مضى خير آتٍ
…
أنت يا خير حاضر خيرُ بادِ
لستُ أبغى لك المزيد من الله
…
فما في غلاك من مُستزادِ
ذكر بقية الحوادث
منها أن الخليفة الناصر لدين الله أرسل عسكرًا مع وزيره مؤيد الدين
(4)
محمد بن على المعروف بابن القصاب إلى خوزستان
(5)
وملكوا مدينة تُستر
(6)
في المحرم سنة إحدى وتسعين وخمسمائة وغيرها من البلاد، وكذلك ملكوا مدينة الناطر وقلعة كاكر
(1)
الثماد: الماء القليل. انظر: الفيروزآبادي، القاموس المحيط، جـ 1، ص 290، مادة "ثمد".
(2)
طارف: المستطرف والمستفاد حديثًا من المال وهو خلاف التالد. المعجم الوجيز، ص 389.
(3)
تلاد والتليد: المال الأصلي القديم. المعجم الوجيز، ص 76.
(4)
مؤيد الدين محمد بن على المعروف بأبي القصاب: هو محمد بن على بن أحمد بن القصاب أصله من شيراز، وكان أبوه يبيع اللحم في بعض أسواق بغداد فتقدم ابنه وساد أهل زمانه، توفي بهمدان سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة.
انظر: البداية والنهاية، ج 13، ص 12؛ ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة، ج 3، ص 139؛ ذكر ابن الأثير أنه توفى في أوائل شعبان سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة، الكامل، ج 12، ص 47.
(5)
خُوزستان: انظر ما سبق، ج 1، ص 180، حاشية 1.
(6)
تُستَر: انظر ما سبق، جـ 1، ص 117، حاشية 5.
وقلعة لا موج وغيرها من الحصون والقلاع، وأنفذوا بني شملة أصحاب بلاد خوزستان إلى بغداد. وقال بيبرس: وإنما أرسل الخليفة ابن القصاب لأنه أولًا خدم فيها وولى الأعمال بها وصار له بها أصحاب وأصدقاء، وعرفها وخبر بلادها ومن أي وجه يمكن الدخول إليها والاستيلاء عليها، فلما ولى ببغداد نيابة الوزارة أشار على الخليفة بأن يُرسله في عسكر إليها ليملكها له، فاتفق أن صاحبها ابن شملة توفي واختلفت أولاده بعده، فراسل بعضهم مؤيد الدين المذكور؛ يستنجده لما بينهم من الصحبه، فقويت أطماعه في البلاد فجهزت العساكر صحبته، وجرت بينهم أمور، ثم ملك تستر والقلاع المذكورة وأنفذ أولاد شملة أصحاب خوزستان إلى بغداد، فوصلوا في ربيع الأول
(1)
منها.
وفي المرآة، وفي سنة تسعين وخمسمائة قدم ابن القصاب الوزير من العجم، وخلع عليه الخليفة وأمر أرباب الدولة أن يمشوا بين يديه، منهم أستاذ الدار ابن يونس
(2)
، وكان وزيرًا قبل هذا، فامتنع ابن يونس من المشي بين يديه، فقال ابن القصاب: هذا ظاهَرَ الخوارج على الخليفة، وكسر عسكره بحماقته، وشَنَّع على الخليفة أنه مات، وكتب محضرًا بذلك، واشتبه على القضاه، وعرضه على الخليفة، فأمر بالقبض على ابن يونس، فأخذ أخذة بشعة، وقتل ورُمي تحت التاج
(3)
، وكان آخر العهد به
(4)
.
ومنها أنه كانت وقعة عظيمة بين شهاب الدين
(5)
ملك غزنة وبين الهند من الكفار، وكانوا في ألف ألف مقاتل ومعهم سبعمائة فيل منها فيل أبيض لم يُر مثله، فهزمهم شهاب الدين عند نهر عظيم يقال له اللاهُوز
(6)
، وقتل ملكهم واستحوذ على حواصلهم
(1)
وردت هذه الأحداث بتصرف في الكامل، جـ 12، ص 45 - 46؛ البداية والنهاية، جـ 13، ص 11؛ مرآة الزمان، جـ 8، ص 285 - 286؛ المختصر في أخبار البشر، جـ 3، ص 90.
(2)
ابن يونس: عبيد الله بن يونس بن أحمد الوزير جلال الدين أبو المظفر الحنبلي ولي حجابة الديوان ثم استوزره الخليفة وتوفي سنة 593 هـ. انظر: النجوم الزاهرة، جـ 5، ص 593.
(3)
التاج: اسم دار مشهورة جليلة المقدار ببغداد من دور الخلافة. معجم البلدان، جـ 1، ص 806.
(4)
ورد هذا الخبر بتصرف في مرآة الزمان، جـ 8، ص 281.
(5)
شهاب الدين: هو شهاب الدين محمد بن سام الغورى ملك غزنة وخراسان المتغلب على الملك إبراهيم بن محمود بن سبكتكين الذي ابتدأ فتح الهند. انظر: ابن بطوطة: الرحلة، ص 421، دار صادر بيروت.
(6)
ذكر ابن كثير أن النهر العظيم يقال له: "الملاحون"، البداية والنهاية، جـ 13، ص 9؛ كما ذكر ابن الأثير أن اسم النهر "ماخون". الكامل، جـ 10، ص 231.
وفيَلتهم، ودخل بلد الملك فحمل من خزانته على ألف وأربعمائة جمل ثم عاد سالمًا منصورًا إلى غزنة
(1)
.
وفي تاريخ بيبرس، وفي سنة تسعين وخمسمائة كانت الحرب بين شهاب الدين الغُورى والملك يَنَارسَ الهندي، وذلك أن شهاب الدين سير مملوكه قطب الدين أيبك في السنة التي خلت؛ للإغارة على بلاد الهند، فلما بلغ الخبر ملك الهند المذكور جمع جيوشه وسار طالبًا بلاد الإسلام، فسار شهاب الدين الغوري إلى نحوه من غزنة بعساكره فالتقيا، وكان مع الهندي سبعمائة فيل وألف ألف رجل لأنه ذو مملكة وسيعة، فكانت الكرة عليه وكسر المسلمون وقتل في المعركة ولم يعرفه أحد، فإنه كان شيخًا كبيرًا، وكان يشد أسنانه بشريط الذهب ووجد في المعركة قتيلًا وانهزمت عساكره، ثم ذكر نحو ما ذكرنا غير أنه قال: فأمر الفيالين
(2)
الذين لهم أن يخدموا بين يديه فخدموا جميعًا إلا الفيل الأبيض فإنه أبى أن يخدم
(3)
.
ومنها أن الإفرنج ملكوا قلعة جُبيل وذلك أنه كان فيها شخص يسمى بدر الدين الشحنة نائبًا فباعها للإفرنج بخمسة آلاف دينار صوريّة، وقيل: إن القلعة المذكورة لم يكن فيها من الرجال إلا خمسة عشر نفرًا وأن والى البلد أخذ منهم عشرة نفر لجباية الجزية، واتفق أن خرج والى القلعة إلى الحمام ومعه واحد من الرجالة الخمسة، فبقى في القلعة أربعة أكراد فأغلقوا باب الحصن وسيروا واحدًا منهم يخبر الإفرنج بخلوه، وطلعوا إلى أعلى الحصن وأغلقوه، فلما جاء الوالى ليدخل منعوه فكلمهم وبذل لهم مالًا فلم يجيبوه، فصاح في الجبل فاجتمعوا إليه ووقفوا تحت القلعة، فرمى الأكراد الوالى بحجر فكسر يده، ووصل الإفرنج في الليل فطردوا المسلمين عن الباشورة وحصلوا بها، ووصل ابن [ريمون]
(4)
أخو صاحب جبيل وأولاد صاحبها وصاحب طبرية ودخلوا الباشورة وتحدثوا مع الأكراد وحلفوا لهم، وقرروا أن يعطوهم نصف ما يحصل من كل شيء وثلاث ضياع ملكًا من عمل طرابلس، وفتحوا لهم الحصن فتسلموه ورتبوا فيه ألفًا وخمسين
(1)
وردت هذه الوقعة بتصرف في البداية والنهاية، ج 13، ص 9؛ الكامل، ج 12، ص 44.
(2)
يقصد القائمين على خدمة الفيلة.
(3)
وردت هذه الأحداث في الكامل، ج 12، ص 44؛ البداية والنهاية، ج 13، ص 9.
(4)
"ميمون" كذا في الأصل والتصحيح من نهاية الأرب، ج 28، ص 443.
راجلًا جرخية
(1)
، وعادوا إلى طرابلس، وكان دخولهم إليها يوم الأربعاء مستهل صفر من هذه السنة
(2)
.
وفيها وصل إلى مصر -إلى العزيز- بدر الدين لؤلؤ ومعه كتاب من الأفضل يشكو إليه الحال في جبيل وأنه لما بلغه أمرُها نهض بنفسه واستنهض العسكر، وكان قد ندب إليها عسكر من الحلقة فكبسوا مدينتها وقتلوا بها من الإفرنج قريب مائة رجل وأسروا مثلها وأسروا ابن [ريمون]
(3)
صاحب بيسان وابن أخت صاحب جُبَيل
(4)
.
ومنها أنه وصل قسيسٌ من القسطنطينية
(5)
إلى مصر يطلب صليب الصلبوت، فأحضر من القدس وكان مرصعًا بالياقوت والجوهر، وكان النصارى الذين بالقدس يفسح لهم في أعيادهم في التبرك به، وسلم إلى المذكور على أن تعاد جبيل من الفرنج، وأرسل الأمير مجد الدين بن شمس الخلافة إلى الفرنج بسبب إعادة جبيل. هذا الذي ذكره بيبرس في أمر صليب الصلبوت.
(6)
وقال غيرُه: لما استقر الملك الأفضل مكان أبيه صلاح الدين في ملك دمشق بعث بهدايا سنية فيها تحف إلى باب الخلافة من ذلك سلاح أبيه وحصانه الذي كان يحضر عليه الغزاة وأشياء كثيرة، منها صليب الصلبوت الذي سلبه يوم حطين من الإفرنج، وفيه من الذهب ما ينيف على عشرين رطلًا، وهو مرصع بالجواهر الثمينة وأربع جواري من بنات ملوك الإفرنج، وأنشأ له العماد كتابًا حافلًا يذكر فيه التعزية بأبيه والسؤال -من الخليفة- أن يكون في ملكه من بعده، فأُجيب إلى ذلك
(7)
.
ومنها أنه ولد للملك الظاهر غياث الدين غازي مولودًا سماه باسم جده الناصر صلاح الدين يوسف، فقال الرشيد النابلسي يُهنيه به من قصيدة اختصرناها هنا على بعضها وهي:
(1)
الجرخية: جمع جرخي أي رامي الجرخ ويقابل الجرح في الفرنسية (arbatete) أي البندق. انظر Dozy: Supp.Dict.Ar. : yleil
(2)
ورد هذا الحدث في نهاية الأرب، ج 2، ص 442 - ص 443.
(3)
"ميمون" في الأصل، والتصحيح من نهاية الأرب، ج 28، ص 443.
(4)
وردت هذه الأحداث في السلوك، جـ 1، ق 1، ص 121.
(5)
كان هذا القسيس مبعوثًا من قبل الإمبراطور البيزنطي (إسحاق الثاني)(1185 - 1995).
(6)
ورد هذا الخبر بتصرف في السلوك، جـ 1، ق 1، ص 120 - ص 121؛ نهاية الأرب، ج 28، ص 443.
(7)
ورد هذا الخبر بتصرف في البداية والنهاية، ج 13، ص 8.
أضاء لك الاقبالُ واتَّسَقَ السعدُ
…
وأنجزَ ما كنت آمِلَهُ الوَعدُ
وجادَتْ لك الدنيا بما أنت أهلُهُ
…
فجادلكَ الإقبالُ واقتبل الجدُّ
تأرجَ عَرف الدهرٍ للزهرِ عندما
…
تبَلّج وجهُ الجُودِ وابتسمَ المَجْدُ
وأَصبح قلبُ الوفرِ وَلْهانَ خائفًا
…
وبَشّر وَفَدًا بالغَنى والمُنَي وَفدُ
وقُمِّص أَثوابَ الرَّدَى كلُّ قُومَصٍ
…
وأَضحي كَنُودًا كلُّ مَن وَسْمْهُ كُنْدُ
وَصُبَّ على الأعداء سوطُ مذلَّة
…
فأنفهم رُغْمٌ وأَوجُهُهم رُبْدُ
فلو نَامَ في أرضِ الفَرنْجه فارسٌ
…
لما كان رُؤياه والقَدُ القيد
تبَاشَرت الدُّنيا بمَولدِ يُوسف
…
فركبٌ به يَحدُو وسُفْرٌ به يَشْدُو
فلِلّه نجمٌ منك أَشرق زاهرًا
…
فَباتَ لبدرِ التمِّ من وَجده وَجْدُ
كفلَت برَدِّ الناصر المَلِكِ للوَرَى
…
وغادرتَه حَيًّا وقد ضَمَّه لحدُ
وما كانت الأيامُ تَسخُو بمثلِه
…
فأعجزْتَ حتى صَار مِنك لهُ نِدُّ
خلفتَ صلاحَ الدين بابنك يا ابْنَه
…
فَقَامَ مَقَامَ البحرِ مُنهمرٌ بمدُّ
أرَاكم كعقد الدُّريا آل يُوسف
…
وَواسطةٌ ما ضُمَّ من مَجْدكَ العقدُ
يَقولُ الذي يُتْلَى عَليه ثناكمُ
…
وقد نَدَّمِنهْ ما يَغَارُ له النَّدُّ
وحدثتني يا سَعدُ عنهم فزِدْتَني
…
جُنونًا فزدْنِي من حديثك يا سَعدُ
ألا هكذا تسمُو البُدور بنُورها
…
ألا هكذا تُزْهَي بأشبَالها الأُسْدُ
قَدُمتَ غياثَ الدين في ظِلِّ دَولة
…
يَدينُ لها شِيبُ الممالِك والمُردُ
قَرِين التَّهاني ما حَييتَ مُبَوّءًا
…
منازلَ عِزٍ ملؤُها المَدحُ والحَمدُ
ومنها أن دجلة زادت ووصل الماءُ إلى سور بغداد العتيق الغربي الذي بناه المنصور فأبان الماء عن تل قريب من السُّور، وفي التل ميت قد بلى وعظامه مسداة، وهو مسُمّر بمسامير الحديد وعليه ضباب من الحديد وفي وجهه ضبّه فيها مسمار كبير وآخر في سرّته.
(1)
ومنها ما ذكره محمد بن القادسي أن الخليفة أمر بذبح الطيور العتق ومحو أثرها وعمد إلى فراخ ذبح آباءها وأمهاتها واستفرخ الأولاد وأرسلها إلى المشاهد لتطير إلى
(1)
نقل العينى هذا الخبر بتصرف من مرآة الزمان، جـ 8، ص 280.
بغداد، وفوض أمرها إلى قاضي القضاة ابن البخاري ويوسف العقاب مقدم الفتيان، وجعلها اثني عشر صنفا باسم الأئمة الاثني عشر، ثم سمّاها فقال: العلويات، والحسَنيات، والحُسَينيّات، والمحمديات، والكاظميات، والهاشميّات، والباقرّيات، والصدوديات، والزيديّات، والمهديات، والصادقيات، والعابديات. وأرسلها إلى المشاهد فطارت منها إلى بغداد.
(1)
ومنها أن الخليفة نقم على الشيخ أبي الفرج بن الجوزي
(2)
وتعضب
(3)
عليه ونفاه إلى واسط، فمكث خمسة أيام لم يستطعم بطعام، وأقام بها خمسة أعوام يخدم نفسه ويستقى من بئر عميقة لنفسه الماء. وكان شيخًا كبيرًا قد بلغ الثمانين عامًا وكان يتلو في كل يوم وليلة ختمةً. قال: ولم أقرأ فيها سورة يوسف لوجدي على ولدي يوسف، ثم فرج الله بعد ذلك على ما سنبينه إن شاء الله تعالى.
(4)
وقال سبطه في المرآة: لما قبض ابن يونس تتبع ابن القصاب أصحابه فقال الركن عبد السلام بن عبد الوهاب بن الشيخ عبد القادر: أين أنت وابن الجوزي؟ وهو كان من أكابر أصحاب ابن يونس وأعطاه مدرسة جَدّي وأحرق كتبي بمشورته، وهو ناصبي من أولاد أبي بكر. وكان ابن القصاب متشيعًا فكتب إلى الخليفة، وساعده جماعة من أهل مذهبه ولبسّوا على الخليفة، وأمر بتسليمه إلى عبد السلام.
قال السبط: وكان جَدّى يسكن بباب الأزج بدار بَنفْشا، وكان الزمان صيفا وجدِّي رحمه الله جالس في السرداب يكتب وأنا صبي صغير، ما حسينا إلا بعبد السلام وإذا به قد هجم على جدي في السرداب، وأسمعه غليظ الكلام، وختم على كتبه وداره
(1)
نقل العيني هذا الخبر من مرآة الزمان، جـ 8، ص 280.
(2)
أبو الفرج بن الجوزي: أبو الفرج عبد الرحمن بن أبي الحسن علي بن محمد بن على بن عبيد الله بن عبد الله بن حمادي بن أحمد بن محمد بن جعفر الجوزي بن عبد الله بن القاسم بن النضر بن القاسم بن محمد بن عبد الله ابن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وبقية النسب معروف القرشي التيمي البكري البغدادي الفقيه الحنبلي الواعظ الملقب جمال الدين الحافظ كان علامة عصره، وإمام وقته في الحديث وصناعة الوعظ وكانت ولادته بطريق التقريب سنة ثمان وقيل عشرة وخمسمائة، وتوفي ليلة الجمعة ثاني عشر شهر رمضان سنة سبع وتسعين وخمسمائة ببغداد، ودفن بباب حرب.
انظر: وفيات الأعيان، جـ 3، ص 140: ص 142.
(3)
تعضب: الغَضبُ القطع والشتم والتناول والضرب والطعن. الفيروز آبادي، القاموس المحيط، جـ 1، ص 109.
(4)
ورد هذا الخبر بتصرف في البداية والنهاية، جـ 13، ص 9؛ مرآة الزمان، جـ 8، ص 281.
وسيّب عياله، وجرى عليهم ما لم يجر على أقل الناس، فلما كان في أول الليل حملوا جدي إلى سفينة فأنزلوه فيها ونزل معه عبد السلام لا غير، وعلى جدى غلالة بغير سراويل وعلى رأسه تخفيفة
(1)
، وحدّرة إلى واسط، وكان ناظرها العميد ابن أمسيا، وكان متشيعًا، فقال له الركن: حرس الله أيامك، مكني من عدوى لأرميه في المطمورة. فعز عليه وزيره وقال: يا زنديق أرمي ابن الجوزي في المطمورة بقولك! هات خط الخليفة والله لو كان من مذهبي لخدمته وبذلت مالي وروحي في خدمته، فعاد عبد السلام إلى بغداد وأقام جدي في دار بدرب الديوان وعلى بابه بواب لا غير. وكان قد قارب ثمانين سنة فكان يخدم نفسه ويغسل ثوبه ويطبخ ويستقي الماء من البئر، ولم يدخل الحمام مدة خمس سنين مقامه بواسط
(2)
.
وكتب إلى بغداد أشعارًا كثيرة منها هذه الأبيات:
أحبَّهُ قلبي لو يُباعُ رجُوعُكم
…
علينا لكنا بالنفوس فديناكُمُ
فلا تحسبوا أني نسيتُ وِدَادَكُم
…
وإنِّى وإن طال المدى لست أنساكُمُ
وأسأل أنفاسَ الرياحِ لأنها
…
تمرُّ على أطلالِكُم وتَلقاكُمُ
قضى الله بالتفريق بيني وبينكم
…
فياليتنا من جملة ما عرفناكمُ
(3)
وكتب من كان وكان، ومن المواليا.
ثم قال السبْط: واختلفت الناس في كيفية محنة جدي والظاهر بن يونس، وما فعل ببيت عبد القادر، فأخذوا بالثأر من جدي وأهل بغداد يقولون شيئًا آخر والله أعلم.
(4)
وفيها ..............................................
(5)
وفيها حج بالناس ......................
(6)
(1)
التخفيفة: هي عمامة صغيرة على الرأس. انظر: ماير: الملابس المملوكية، ص 31 - 32، 45 - 55.
(2)
نقل العينى هذه الأحداث من مرآة الزمان، جـ 8، ص 281.
(3)
نقل العينى هذه الأبيات من مرآة الزمان، جـ 8، ص 281، ص 282.
(4)
نقل العينى هذا القول من مرآة الزمان، جـ 8.
(5)
سقط في الأصل بمقدار سطر.
(6)
سقط في الأصل بمقدار نصف سطر.
ذكر من توفي فيها من الأعيان
القزويني الواعظ أحمد بن إسماعيل بن يوسف، أبو الخير القزويني الشافعي. المفسّر، قدم بغداد ووعظ بالنظامية، وكان يذهب إلى قول الأشعري في الأصول، وحبس في يوم عاشوراء فقيل له: الْعن يزيد بن معاوية. فقال: ذاك إمام مجتهد، فرماه الناس بالآجر، فاختفى ثم هرب إلى قزوين ومات في هذه السنة.
(1)
وفي المرآة: تفقه بنيسابور علي محمد بن يحيى الغزالي، وسمع بها الحديث وبغيرها، وكان عالمًا بالتفاسير والفقه متعبدًا، مولده بقزوين سنة اثنتي عشرة وخمسمائة، وكان يختم القرآن كل ليلة، وقدم بغداد حاجًّا سنة خمس وخمسين وخمسمائة فجلس بالنظامية ووعظ ومال إلى الأشعري، فوقعت الفتن وجلس يوم عاشوراء بالنظامية فقيل له: العن يزيد بن معاوية. فقال: ذاك إمام مجتهد. فجاءه الآجر وكاد يقتل، وكان ابنه جالسًا بين يديه على المنبر فقال له: الْعَنْه وإلا قُتلنا فلطمه على رأسه، ألقى عمامته بين يديه، وكثر الرجم فسقط من المنبر فأدخل إلى بيت في النظامية وأغلق عليه الباب وإلا قتل، وأُخذت فتاوى الفقهاء بتعزيره فقال بعضهم: يُضرَب عشرون سوطًا قيل له: من أين لك؟ فقال: من عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه سمع قائلًا يقول: قال أمير المؤمنين يزيد بن معاوية فضربه عشرين سوطًا، ثم إن جماعة تعصبوا للقزويني وقالوا: شيخُ وغريب وأخرجوه، فمضى إلى قزوين فتوفي بها في المحرم من هذه السنة.
(2)
الإمام الشاطبيُّ أبو محمد القاسم بن فيرة بن أبي القاسم خلف بن أحمد الرعيني الشاطبي الضرير
(3)
المقري، صاحب القصيدة التي سماها حرز الأماني ووجه التهاني في القراءات، وعدتها ألف ومائة وثلاثة وسبعون بيتًا، ولقد أبدع فيها كل الإبداع، وهي عمدة قراء هذا الزمان في نقلهم فقلّ من يشتغل بالقراءات إلا ويقدم حفظها ومعرفتها، وهي مشتملة على رموز عجيبة وإشارات خفية لطيفة، وقد روى عنه أنه كان
(1)
ورد هذا الخبر بتصرف في البداية والنهاية، جـ 13، ص 9 - 10؛ النجوم الزاهرة، جـ 5، ص 134؛ مرآة الزمان، جـ 8، ص 284.
(2)
نقل العيني هذا الخبر بتصرف من مرآة الزمان، جـ 8، ص 284.
(3)
وفيات الأعيان، جـ 4، ص 71 - ص 72، ترجمة رقم 537؛ البداية والنهاية، جـ 13، ص 10؛ ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب، جـ 4، ص 301 - ص 302.
يقول لا يقرأ أحد قصيدتي هذه إلا وينفعه الله عز وجل؛ لأني نظمتها لله عز وجل مخلصًا في ذلك. ونظم قصيدة دالية في خمسمائة بيت من حفظها أحاط علمًا "بكتاب التمهيد" لابن عبد البر رحمه الله وكان عالمًا بكتاب الله قراءة وتفسيرًا وبحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مُبرزا فيه وكان إذا قرئ عليه صحيح البخاري ومسلم والموطأ تصحح النسخ من حفظه، ويُملى النكت على المواضع المحتاج إليها، وكان أوحدًا في علم النحو واللغة عارفًا بعلم الرؤيا، حسن المقاصد مخلصًا فيها بقول وفعل. قرأ القرآن العظيم بالروايات على أبي عبد الله محمد بن علي بن محمد بن أبي القاص النفزي المقري
(1)
، وأبي الحسن علي بن محمد بن هذيل الأندلسي، وسمع الحديث من أبي عبد الله محمد بن يوسف بن سعادة، وأبي عبد الله محمد بن عبد الرحيم الخزرجي
(2)
، وأبي الحسن بن هذيل، والحافظ بن أبي الحسن
(3)
بن النعمه، وانتفع به خلق كثير. وقال ابن خلكان: وأدركت من أصحابه جمعًا كثيرًا بالديار المصرية وكان يجتنب فضول الكلام ولا ينطق في سائر أوقاته إلا بما تدعو إليه ضرورة، ولا يجلس للإقراء إلا على طهارة، في هيئة حسنة وتخشع واستكانة، وكان يعتل العلة الشديدة فلا يشتكي ولا يتأوه، وإذا سئل عن حاله قال: العافية. لا يزيد على ذلك، وقال: أنشدني بعض أصحابه قال: كان الشيخ كثيرًا ما ينشد هذا اللغز وهو في نعش الموتي، فقلت له: فهل هو له؟ فقال: لا أعلم، ثم إني وجدته بعد ذلك في ديوان الخطيب أبي زكريا يحيي بن سلامه الحصكفي
(4)
وهو:
أتْعرفُ شيئا في السماء نظيره
(5)
…
إذا سار صاح الناسُ حيث يسيرُ
فتلقاه مركوبًا وتلقاه راكبًا
…
وكلُّ أميرٍ يعتليه أسيرُ
يحُضُّ على التقوى ويَكره قُربه
…
وينفر منه النفسُ وهو نَذيرُ
ولم يستزر عن رغبة في زيارةٍ
…
ولكن على رغم المَزُور يَزُورُ
(1)
محمد بن علي بن محمد بن أبي العاصي النفزي المقري: وفيات الأعيان، جـ 4، ص 71 - 73، ترجمة 537.
(2)
"الجزجري" كذا في الأصل والمثبت من وفيات الأعيان، جـ 4، ص 71، ترجمة 537.
(3)
"الحسين" كذا في الأصل والمثبت من وفيات الأعيان، جـ 4، ص 71، ترجمة 537.
(4)
الخطيب الحصكفي: هو أبو الفضل يحيي بن سلامة بن الحسين بن محمد الملقب معين الدين المعروف بالخطيب الحصكفي، ولد بطَنْزه ونشأ بحصن كيفا، توفي سنة إحدى وقيل ثلاث وخمسون وخمسمائة وكانت ولادته في حدود سنة ستين وأربعمائة. وفيات الأعيان، جـ 6، ص 205 - 210.
(5)
"يطير" في وفيات الأعيان، جـ 4، ص 72، ترجمة 537؛ البداية والنهاية، جـ 13، ص 10.
وكانت ولادته في آخر سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة بشاطبة وهي بلدة شرقي الأندلس، استولى عليها الإفرنج في العشر الأخير من شهر رمضان سنة خمس وأربعين وستمائة، وكان فقيرًا، وقد أريد أن يلى خطابة بلده فامتنع لما يبالغ الخطباء في وصف الملوك. وخرج إلى الحج فقدم إسكندرية سنة ثنتين وسبعين وخمسمائة، وسمع على الحافظ السلفي، وولاه القاضي الفاضل مشيخة الإقراء بمدرسته
(1)
، وزار القدس الشريف وصلي به شهر رمضان، ثم رجع إلى مصر، وتوفي يوم الأحد بعد صلاة العصر الثامن والعشرين من جمادى الآخرة سنة تسعين وخمسمائة، ودفن يوم الاثنين في تربة القاضي الفاضل بالقرافة الصغرى، وصلى عليه الخطيب أبو إسحاق العراقي خطيب جامع مصر وقال ابن خلكان: ودخل مصر سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة، وكان يقال عند دخوله إليها: إنه يحفظ وقْرَ بَعيرٍ من العلوم بحيث لو نزل عليه ورقه لما احتملها. وكان نزيل القاضي الفاضل ورتَّبه بمدرسته بالقاهرة متصدرًا لإقراء القرآن الكريم وقراءاته والنحو واللغة.
وفيرة بكسر الفاء وسكون الياء آخر الحروف وبعدها راء مضمومه ثم هاء. والرُعيني نسبة إلى ذي رُعَين بضم العين، وهو أحد أقيال اليمن نُسب إليه خلق كثير.
(2)
السلطان طغريل شاه بن أرسلان شاه بن طغريل شاه بن محمد بن ملكشاه بن ألب أرسلان بن داود بن ميكائيل بن سلجوق السلجوقي
(3)
، قتل في هذه السنة، وكان قزل أرسلان بن ألدكز حبَسَه ثم خرج من الحبس في سنة ثمان وثمانين وخمسمائة، وملك همذان وغيرها وجرت حرب بينه وبين مظفر الدين أزبك بن البهلوان محمد بن ألدكز. وقيل: بل هو قطلغ إينانج أخو أزبك المذكور فانهزم ابن البهلوان ثم بعد هزيمته استنجد بخوارزم شاه علاء الدين تكش، وخاف منه، فلم يجتمع بخوارزم شاه، فسار خوارزم شاه وملك الرى وذلك في سنة ثمان وثمانين، وبلغ تكش أن أخاه سلطان شاه قد قصد خوارزم فصالح طغريل السلجوقي، وعاد تكش إلى خوارزم وبقى الأمر كذلك حتى
(1)
مدرسة القاضي الفاضل: هي بدرب ملوخيا من القاهرة، بناها القاضي الفاضل سنة 580 هـ ووقفها على الفقهاء الشافعية والمالكية، انظر: المقريزي: الخطط، جـ 2، ص 366 - ص 367.
(2)
نقل العيني هذا الخبر من وفيات الأعيان، جـ 4، ص 71، 72؛ كما ذكر بتصرف في البداية والنهاية، جـ 13، ص 10؛ شذرات الذهب، جـ 4، ص 301 - ص 303.
(3)
الكامل، جـ 10، ص 232 - 233؛ البداية والنهاية، جـ 13، ص 9؛ مرآة الزمان، جـ 8، ص 285 - السلوك، جـ 1، ق 1، ص 114؛ شذرات الذهب، جـ 4، ص 301؛ النجوم الزاهرة، جـ 5، ص 134 - ص 135.
مات سلطان شاه في سنة تسع وثمانين وخمسمائة، فتسلم تكش مملكة أخيه سلطان شاه وخزائنه، وولى ابنه محمد بن تكش نيسابور، وولى ابنه الأكبر ملكشاه بن تكش مرو. ولما دخلت سنة تسعين سار تكش إلى حرب طغريل السلجوقي فسار طغريل إلى لقائه قبل أن يجمع عساكره، فالتقى العسكران بالقرب من الرى، وحمل طغريل بنفسه، فقتل وكان قتله في الرابع والعشرين من ربيع الأول من هذه السنة. وحمل رأس طغريل إلى تكش فأرسله إلى بغداد، فنصب بها عدة أيام وسار تكش وملك همذان وملك البلاد جميعها
(1)
. وسلم بعضها إلى ابن البهلوان وأقطع بعضها لمماليكه ورجع إلى خوارزم، وهذا طغريل بن أرسلان شاه آخر السلاطين السلجوقية الذين ملكوا بلاد العجم. وقد تقدم ابتداء الدولة السلجوقية في سنة اثنتين وثلاثين وأربع مائة، وأول من ملك منهم العراق وأزال دولة بني بُوَيه طغريل بن ميكائيل بن سلجوق، ثم ملك بعده ابن أخيه ألب أرسلان بن داود بن ميكائيل ثم ابنه ملكشاه بن ألب أرسلان ثم ابنه محمود بن ملكشاه وكان طفلًا، وقامت بتدبير المملكة أم محمود تركان خاتون، ومات محمود وهو ابن سبع سنين، وملك أخوه برَكياروق بن ملكشاه ثم أخوه محمد بن ملكشاه ثم ابنه محمود بن محمد المذكور، ثم ابنه داود بن محمد بن محمود بن محمد المذكور مدة يسيرة، ثم عمه طغريل بن محمد
(2)
ثم أخوه مسعود بن محمد ثم ابن أخيه ملكشاه بن محمود بن محمد أيامًا يسيرة ثم أخوه محمد بن محمود
(3)
، ثم بعد محمد المذكور اختلفت العساكر وقام من بني سلجوق ثلاثة أحدهم ملكشاه بن محمود أخو محمد المذكور، والثاني سليمان شاه بن محمد بن السلطان ملكشاه وهو عم محمد المذكور، والثالث أرسلان شاه بن طغريل بن محمد بن السلطان ملكشاه وكان ألدكز مزوجًا بأم أرسلان شاه المذكور فقوى عليهما سليمان شاه واستقر في همدان في سنة خمس وخمسين وخمسمائة
(4)
ثم قبض سليمان شاه وقتل، وكذلك سُمَّ ملكشاه بن محمود المذكور ومات بأصبهان في سنة خمس وخمسين وخمسمائة وانفرد بالسلطنة
(5)
أرسلان شاه بن
(1)
ورد هذا الخبر بتصرف في البداية والنهاية، جـ 13، ص 9؛ الكامل، جـ 12، ص 44، 45.
(2)
"أحمد" في الأصل، والمثبت من المختصر، جـ 3، ص 90.
(3)
ورد هذا الخبر بتصرف في مرآة الزمان، جـ 8، ص 284، 285.
(4)
لمعرفة المزيد عن هذه الفترة راجع الكامل، جـ 11، ص 113 - 114، الطبعة الأزهرية،1301 هـ.
(5)
راجع هذه الأحداث في الكامل، جـ 9، ص 437.
طغريل ربيب ألدكز ثم ملك بعده ابنه طغريل بن أرسلان شاه بن طغريل المذكور في سنة
(1)
ثلاث وسبعين وخمسمائة، وجرى له ما ذكرناه حتى قتله تكش في هذه السنة أعني سنة تسعين وخمسمائة وانقرضت به الدولة السلجوقية من تلك البلاد
(2)
. وختمت الدولة السلجوقية بطغرل كما افتتحت بطغرل وكانت مدة دولتهم مائة وأربعين عاما
(3)
وعدة ملوكهم أربعة عشر ملكًا. وقال أبو شامة: وعدة ملوكهم نيف وعشرون ملكًا، ومدة ملكهم مائة وستون سنة ثم انتقل الملك إلى خوارزم شاه لأنه بعد قتل طغريل سار إلى همذان وهي كرسي المملكة فملكها وما حولها، فأرسل إليه الإمام الناصر وزيره مؤيد الدين بن القصاب وصحبته التقليد والخلع، فنفر خاطر خوارزم شاه منه وأراد القبض عليه، فهرب الوزير إلى بعض القلاع التي في الجبال وتحصن بها. ولما ملك خوارزم شاه همذان سلمها إلى قتلغ خان بن إينانج خان وأقطع كثيرة من بلادها لمماليكه ورتبهم فيها وجعل عليهم مياجق
(4)
مقدمة وعاد إلى خوارزم
(5)
. وقال أبو شامة
(6)
: وطغريل شاه هذا الذي قتل هو آخر الملوك السلجوقية سوى صاحب الروم، وهو الذي كان كسر عسكر الخليفة على همدان، وكان طغريل قد بعث إلى الخليفة يطلب السلطنة فأرسل إليه جيشًا مقدمه وزيره ابن يونس فكسرهم طغريل ومزّقهم كل ممزق
(7)
، وأخذ ابن يونس وكان محلوق الرأس فأحضروه بين يديه وألبسوه طرطورًا أحمر فيه جلاجل وجعل السلطان يضحك عليه وذلك في سنة أربع وثمانين وخمسمائة، فهان الملوك، ثم إن خوارزم شاه لما قتله كما ذكرنا قطع رأسه وبعث به إلى بغداد
(8)
، فدخلوا به في جمادى الأولى على خشبة وكوساته مشقّقةٌ وسنجقُه وراءه مكسور منكس، وكان من أحسن الناس صورةً ثم رُدّ إلى خزانة الرؤوس فجاءت فأرة فأكلت أنفه وأذنَه وبقي الرأس إلى سنة إحدى وستمائة، فوقع حريق في خزانة الرؤوس، فاحترق الجميع، ولله الأمر كله.
(1)
راجع هذه الأحداث في الكامل، جـ 10، ص 88.
(2)
نقل العيني هذا الخبر من المختصر، جـ 2، ص 89 - ص 90.
(3)
ذكر المقريزي أن مدة دولتهم مائة سنة وثمان وخمسون سنة. السلوك، جـ 1، ق 1، ص 114؛ أما ابن العماد، شذرات الذهب، فقد ذكر أن مدة ملكهم مائة وستون سنة، جـ 4، ص 301.
(4)
"مناجق" كذا في الأصل والمثبت من الكامل، جـ 10، ص 233.
(5)
ورد هذا الخبر بتصرف في الكامل، جـ 10، ص 233.
(6)
انظر: الذيل على الروضتين، ص 6.
(7)
ذكرت هذه الأحداث بتصرف في الكامل، جـ 10، ص 232 - ص 233؛ مرآة الزمان، جـ 8، ص 284، 285؛ السلوك، جـ 1، ق 1، ص 114؛ البداية والنهاية، جـ 3، ص 9؛ النجوم الزاهرة، جـ 5، ص 134، 135.
(8)
الكامل، جـ 10، ص 232 - ص 233.
فصل فيما وقع من الحوادث في السنة الحادية والتسعين بعد الخمسمائة
(*)
استهلت هذه السنة، والخليفة هو الناصر لدين الله
(1)
، وأصحاب البلاد على حالهم، غير أن الملك العزيز صاحب مصر قد توجه إلى الشام وقدمها مرةً ثانيةً، وكان السبب في ذلك أن أمراء دمشق قد تغيرت قلوبهم على الملك الأفضل، ففارقه بعضهم وتوجهوا إلى مصر، وهم: عز الدين أسامة، وعز الدين بن السلّار، وابن الحصين، وغيرهم
(2)
، ولما اتصلوا بالملك العزيز حرضوه على قصد دمشق؛ فخرج إليها في قوة عظيمة جدًا، فاستنجد الأفضل عمة العادل، وتوجه إلى أخيه الظاهر بحلب وسأله إنجاده فوعده خيرًا، وجَدّ العادل السَّير إلى دمشق، فسبق العزيز إليها. وكاتب الأمراء المصريين وحذرهم من العزيز، وحذّر العزيز منهم، واستمالهم فمالوا إليه، وفارقوا العزيز، وتوجهوا إلى دمشق وهم: أبو الهيْجاء السّميِن، وإياز
(3)
جهارَكس
(4)
. ولما وصلوا إلى دمشق جدد العادل والأفضل اليمين، وتحالَفَا على أن يكون ثلث ديار مصر له إقطاعًا، والثلثان للأفضل. وساروا طالبين لقاء العزيز، فعاد العزيز مسرعًا إلى مصر
(5)
، ثم إن العادل والأفضل أرسلا إلى القدس وتسلماها من نواب العزيز، واتفقا إنهما يسيران إلى مصر ويملك الأفضل مصر، ويعطى العادل دمشق، وأرسل العادل إلى العزيز خفية أن يثبت ولا يُسَلِّم، وإنما أشار إليه بذلك مخافة أن لا يُسَلِّم إليه الأفضل دمشق، ويكفّل أنه يكفيه مؤنة قتال عسكر الأفضل، ولما رجع العزيز إلى مصر جهز عسكرًا ورتبه على بلبيس، ولما وصلها عسكر العادل والأفضل استظهر العزيز عليهم، فندموا على فعلهم،
(*) يوافق أولها 16 ديسمبر سنة 1194 م.
(1)
الناصر لدين الله: أبو العباس أحمد بن المستضيء بأمر الله، أبو المظفر يوسف بن المقتفى أمير المؤمنين العباسي، ولى الخلافة سنة 575 هـ، توفي 622 هـ. وفيات الأعيان، جـ 1، ص 109، ص 318؛ لمزيد من التفاصيل راجع البداية والنهاية، جـ 7، ص 71 - 72، طبعة الغد العربي، ط. الأولى - 1992.
(2)
ذكر النويرى الأمراء الذين فارقوا خدمة الأفضل: فارس الدين ميمون القصري، وشمس الدين، وسنقر الكبير، وعز الدين سامة، وغيرهم." نهاية الأرب، جـ 28، ص 446.
(3)
إياز: لفظ فارسي، ذكر في الشعر الفارسي بمعني محبوب ومعشوق. راجع، حسين مجيب المصري: المعجم الفارسي العربي الجامع، ص 42.
(4)
جهاركس: أبو المنصور جهاركس بن عبد الله الناصري الصَّلاحي الملقب فخر الدين، كان من كبراء أمراء الدولة الصلاحية، توفي سنة 608 هـ بدمشق، ودفن في جبل الصالحية، وجهاركس لفظ عجمي معرب. وفيات الأعيان، جـ 1، ص 381، ترجمة 146.
(5)
الروضتين، جـ 2، ص 229 - ص 230؛ وانظر تفصيل ذلك أيضًا في مفرج الكروب، جـ 3، ص 46 - 49؛ نهاية الأرب، جـ 2، ص 447.
وكتب إلى الأمراء المقيمين ببلبيس بأن يرحلوه عنها، واختار العادل إصلاح الأمر وتردد القاضي الفاضل بينهم في الترسل، واستقر الأمر على أن يكون للعادل إقطاعه بمصر على ما كان له قديمًا، وأن يكون مقيمًا عنده، وأن يعفو عن الأسَديّة والأكراد. وحسّن العادل للأفضل المضي إلى دمشق، فعاد إليها وقد تقرر أن يكون له القدس وجميع بلاد الساحل والغور إلى ما كان بيده أولا.
(1)
وفي تاريخ ابن كثير: وفي هذه السنة خرج العزيز
(2)
من مصر قاصدًا دمشق ليأخذها من أخيه الأفضل، وكان الأفضل قد تاب وأناب وأقلع عما كان فيه من الشرب واللهو واللعب، وأقبل على الصيام والصلاة كما ذكرنا، وحسنت طريقته، غير أن الوزير الضياء الجزريّ
(3)
يفسد عليه دولته، ويكدّر عليه صفوته، فلما بلغ الأفضل إقبال أخيه نحوه بعساكره
(4)
سار سريعًا إلى عمه العادل وهو بجعبر فاستنجده فسار معه وسبقه إلى دمشق، وراح الأفضل إلى أخيه الظاهر بحلب، فساروا جميعًا نحو دمشق
(5)
وقد اضطرب بعض عسكر العزيز عليه، وهم طائفة من الأمراء الأسدية وفارقوه، فلما سمع العزيز بذلك وقد اقترب من دمشق، كرّ راجعًا مسرعًا إلى مصر، وركب وراءه العادل والأفضل، ثم بَدا للعادل في ذلك فأرسل إلى العزيز يثبته، وأقبل على الأفضل يثبطه، وأقاما على بلبيس أيامًا حتى خرج القاضي الفاضل من جهة [العزيز]
(6)
فوقع الصلح بينهم على أن يرجع القدس ومعاملتها إلى الأفضل ويستقر العادل مقيمًا بمصر على إقطاعه القديمة، فأقام بها طمعًا فيها، ورجع الأفضل إلى بلاده بعد ما خرج العزيز لتوديعه وتشييعه، وهي هُدنة على أقذاء وصلح على دخن
(7)
.
(1)
ورد هذا الخبر بتصرف في الكامل، جـ 10، ص 234؛ نهاية الأرب، جـ 28، ص 447 - 448؛ المختصر، جـ 3، ص 91.
(2)
"الأفضل" كذا في الأصل والمثبت من البداية والنهاية، جـ 13، ص 10.
(3)
الوزير الضياء الجزري: هو أبو الفتح نصر الله بن أبي الكريم الملقب ضياء الدين محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني، المعروف بابن الأثير الجزري، ولد سنة 558 هـ وتوفي سنة 637 ببغداد. وفيات الأعيان، جـ 5، ص 389 - 397. ترجمة 763.
(4)
"بعساكر" لم يذكرها ابن كثير، والغالب أنها إضافة من العيني.
(5)
إلى هنا توقف العيني عن النقل من البداية والنهاية، جـ 13، ص 10.
(6)
ما بين حاصرتين إضافة من البداية والنهاية، جـ 13، ص 11.
(7)
ينقل العينى هذا الحدث بتصرف من البداية والنهاية، جـ 13، ص 11، والدخن: هنا يقصد به "صلح على فساد باطن" المعجم الوسيط، ص 285، مادة "دخن".
وفي تاريخ المؤيد
(1)
: وكان العزيز لما خرج من مصر نزل الغوار من أرض السواد، ثم ذكر قريبًا مما ذكرناه، غير أنه قال
(1)
: لما وصل العادل والأفضل إلى بلبيس، بعدما رجع العزيز إلى مصر قصد الأفضل مناجزته بالقتال فمنعه عمه العادل عن ذلك، وقصد الأفضل المسير إلى مصر والاستيلاء عليها فمنعه عمه من ذلك أيضًا، وقال:"مصرُ لك متى شئت". وكاتب العادل العزيز في الباطن، وأمره بإرسال القاضي الفاضل ليصلح بين الأخوين وكان الأفضل قد اعتزل عن ملابستهم لما رأى من فساد أحوالهم، فدخل عليه العزيز وسأله، فتوجه الفاضل من القاهرة إلى الملك العادل، واجتمع به واتفقا على أن يصلحا بين الأخوين، فأصلحا بينهما، فأقام العادل بمصر عند العزيز ابن أخيه، ليقرر أمور مملكته، وعاد الأفضل إلى دمشق
(2)
.
وفي تاريخ ابن العميد: وفي هذه السنة عزم السلطان الملك العزيز على قصد دمشق وحصارها، فأشار الأكابر على الأفضل بأن يراسل العزيز أخاه ويلاطفه ويستعطفه، وأشار عليه وزيره الجزري بأن يتوجه إلى عمه العادل ويستنصره على أخيه العزيز، فأصغي إليه، ومال إلى قوله، ورحل من دمشق لأربع عشرة
(3)
ليلة مضت من جمادى الأولى، متوجهًا إلى الرَّقة، فتلقاه العادل عمه، فسأله النصرة فأجاب إليه فذهب الأفضل إلى حلب إلى أخيه الظاهر، وجاء العادل إلى دمشق، فدخلها في آخر جمادى الآخرة، ثم قدم الأفضل ودخل دمشق، وصار تحت يد العادل وأمره ونهيه ونفذت سهام العادل وعلم أن ملكهـ صائر إليه، وأما الملك العزيز فإنه لما عيد عَيّد الفطر خرج متوجهًا لحصار دمشق، فحين بَعُدَ عن الديار المصرية فارقه [أبو] الهيجاء السمين والأكراد، وكان المقدّم عليهم، والمهرانية والأسدية لأربع خلون من شوال، ولحقوا بالملك العادل، وأصبح العزيز في قلة من العدد، فرجع إلى مصر، وكان الملك الظاهر صاحب حلب قد اعتقل بدر الدين دُلْدُروم الياروقي؛ لذنب نسبه إليه، واعتقل معه جماعة من أهل بيته، ومضى إلى تل باشر، فحاصرها ولم يقدر عليها، فلما اجتمع بالعادل عند مسيره إلى دمشق، شفع العادل فيهم وضمن له أن يكونوا في خدمته، فقبل شفاعته فيهم وأفرج عنهم وعاد إلى حصار تل
(1)
يقصد العيني هنا أبو الفدا صاحب تاريخ المختصر حيث ينقل عنه تلك الأحداث.
(2)
بنقل العيني هذا الحدث بتصرف من المختصر، جـ 3، ص 91.
(3)
"أربعة عشر" في الأصل والصحيح ما أثبتناه.
باشر، فلم يقدر عليها، واستصحبهم العادل ليكونوا في خدمته فاستخدمهم، وكتب المنصور صاحب حماة
(1)
، والأمير عز الدين بن المقدم إلى العادل بالدخول في طاعته، وفارقا الظاهر وتحالفوا على ذلك، ولما رأى الظاهر ذلك كاتب أخاه العزيز يستحثه على محاربة العادل والأفضل، ثم ذكر نحوًا مما ذكرناه، وذكر أن الأفضل لما خرج من دمشق استخلف أخاه قطب الدين موسي
(2)
بدمشق، وذكر أيضا أن العادل والأفضل نزلا على بلبيس، وكان في وقت زيادة النيل، وكانت الأسعار غالية والعلف معدوم، ومنع النيل من نقل العلف إليهم فغلت الأسعار، وبذل العزيز الأموال واستخدم الرجال وحصن البلاد، ثم ندم العادل على ما فعل وكذلك الأسدية، وأخذوا في إصلاح الأمر وتلافيه وآخر الأمر اصطلحوا، وعفى العزيز عن الأمراء الأسدية وطيّب قلوبهم، ورد إليهم إقطاعهم وحلف لهم وحلفوا له، وحلف الملوك الثلاثة كل منهم لصاحبه وتوثقوا بالأيمان، وعادت الأسدية إلى خدمة العزيز، وعاد الأفضل إلى دمشق، ومعه أبو الهيجاء السمين وكان قد ولاه بيت المقدس، وأقام العادل بمصر، واستوطن القصر، وأخذ في إصلاح الديار المصرية وضياعها ورباعها، وأظهر من محبته لابن أخيه العزيز شيئًا كثيرًا، وأقاموا على ذلك إلى السنة الآتية ثم أحدث الله بقدرته ما سنذكره إن شاء الله
(3)
.
ذكر وقعة الزلاقة
(4)
بالأندلس
وفي شعبان من هذه السنة كانت وقعة عظمة بالأندلس شمالي قرطبة بمرج الحديد
(5)
، وذلك أن الأذفونش بن فرذلند
(6)
ملك الافرنج بالأندلس، ومقره بمدينة طليطلة
(7)
، كتب إلى الأمير يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن
(8)
ملك المغرب من
(1)
انظر تفصيل هذا الحدث في زبدة الحلب، جـ 3، ص 132 - ص 133.
(2)
في المقريزي استخلف أخاه الملك الظافر خضر صاحب بصري. السلوك، جـ 1/ ق 1، ص 125 - 126. أما أبو شامة، فقد اتفق مع العيني في الاسم. انظر: الروضتين، جـ 2، ص 230.
(3)
ورد هذا الحدث بالتفصيل في السلوك، جـ 1/ق 1، ص 123 - 126، ص 128 - 129.
(4)
الزلاقة: أرض بالأندلس بقرب قرطبة. معجم البلدان، جـ 2، ص 939.
(5)
مرج الحديد: بالقرب من قلعة رباح. الكامل، جـ 9، ص 233.
(6)
الأذفونش ابن فرذلند: يقصد به ألفونسو السادس بن فرناندو الأول ملك ليون. ابن الأبار: الحلة السيراء، جـ 2، ص 142، حاشية 1؛ ص 145، حاشية 2.
(7)
طليْطِلَة: ناحية بالأندلس من أعمال أستجة قريبة من قرطبة.
معجم البلدان، جـ 3، ص 545 - 546.
(8)
يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن: انظر ما سبق، جـ 2، ص 26.
العدوة يستحثه ويستدعيه إلى قتاله، في كلام طويل فيه تأديب وتهديد ووعيد
(1)
. وذكر بيبرس أنه كتاب نسخته
(2)
"باسمك اللهم فاطر السموات والأرض، أما بعد: أيها الأمير فإنه لا يخفى على كل ذي عقل ولبّ وذكاء ثاقب أنك أمير الملّة الحنيفية كما أنا أمير الملة النصرانية، وأنه لا يخفى عليك [ما هو عليه]
(3)
رؤساء الأندلس وما هم عليه من التخاذل والتواكل وإهمال الرعية، وطلب الراحة، وأنا أسومهم الخسف وأخلى الديار وأسبى الذراري وأمثل بالكهول وأقتل الشباب، ولا عذر لك في التخلف عن نصرتهم وقد أمكنتك يد القدرة، وإنكم تعتقدون أن الله تعالي فرض عليكم قتال العشرة منا بواحد منكم، والآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفًا
(4)
، وقد فرض عليكم اثنين منا بواحد منكم ونحن الآن نقاتل عدد منكم بواحد منا ولا تقدرون دفاعًا ولا تستطيعون امتناعًا، ثم حُكي لي عنك أنك أخذت في الاحتفال ثم تمطل نفسك عامًا بعد عام، تقدّم رجلًا وتؤخر أخرى، ثم حكي لي عنك أنك لا تجد سبيلًا للحرب لعلك ما يسوغ لك التقحم فيها، وأنا أقول لك ما فيه مصلحتك وأعتذر عنك ولك، أن توفيني العهود والمواثيق والأيمان أن تتوجه بجملة من عندك في المراكب وأجوز إليك بجملتي، وأبارزك في أعز الأماكن عندك فإن كانت لك فغنيمة عظيمة جاءت إليك وهدية مثلت بين يديك، وإن كانت لي فتكون يدى العليا عليك واستحققت إمارة الملتين والتقدم على الفئتين، والله يسهل الإرادة ويوفق السعادة"
(5)
.
فلما وصل كتابه وقرأه يعقوب كتب إليه في أعلاه هذه الآية: {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ}
(6)
. وأعاده إليه وجمع عساكره من المسلمين وسار بهم حتى قطع الزقاق
(7)
إلى الأندلس، حتى التقوا
(1)
انظر: البداية والنهاية، جـ 13، ص 10.
(2)
ذكر ابن خلكان أن هذه الرسالة من إنشاء ابن الفخار وزير الأذفونش. انظر: وفيات الأعيان، جـ 27، ص 6.
(3)
ما بين حاصرتين إضافة من الكامل لتوضيح المعنى، جـ 9، ص 232.
(4)
{الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا} . سورة الأنفال، آية:66.
(5)
انظر تفاصيل ذلك في أمين توفيق الطيبي، دراسات وبحوث في تاريخ المغرب والأندلس، ص 156 - ص 171.
(6)
سورة النمل، آية:37.
(7)
الرقاق: مجاز البحر بين طنجة بالمغرب على البحر المتصل بالإسكندرية والجزيرة الخضراء في الأندلس وبينهما اثنا عشر ميلًا. معجم البلدان، جـ 2، ص 936.
بالمكان المتقدم ذكره، فكانت الدائرة أولًا على المسلمين، فقتل منهم عشرون ألفًا، ثم كانت آخرًا على الكافرين فهزمهم الله وكسرهم أقبح هزيمة وأشنعها، فقتل منهم مائة ألف وثلاثة وأربعون ألفًا
(1)
، وأسر منهم ثلاثة عشر ألفًا، وغنم المسلمون منهم شيئًا كثيرة، من ذلك: مائة ألف خيمة وثلاثة وأربعون ألفًا، ومن الخيل ستة وأربعون ألفًا، ومن البغال مائة ألف، ومن الحُمر مثلها، ومن السلاح التام سبعون ألفًا، وملك شيئًا كثيرًا من حصونهم، وحاصر مدينتهم طليطلة مدة، ثم لم يفتحها فانفصل عنها.
وفي المرأة
(2)
: وكان كتاب ألفنش ملك الإفرنج بخط وزيره، وكان نصرانيًا قد قرأ العربية، فلما قرأ يعقوب كتابه استشاط غضبًا، وأدركته حمية الإسلام والغيرة على الإيمان، وكتب على رأس الكتاب بخطه "ارجع إليهم". الآية
(3)
. وكتب تحت الآية
ولا كُتْبَ إلا المشرقية عندنا
(4)
…
ولا رسُلٌ إلا الخميس
(5)
العرمرمُ
(6)
ثم قام من ساعته فش ذنب فرسه بيده، ولبس سلاحه وسار إلى زقاق سبتة
(7)
، فنزل عليه وجمع الشواني والمراكب وعرض جنده فكانوا مائتي ألف مقاتل، مائة ألف يأكلون الديوان، ومائة ألف مطوعة، وعَبَر الزقاق إلى مكان يقال له الزلاقة، وجاءه ألفنش في مائتي ألف [فارس]
(8)
وأربعين ألفًا من أعيان الإفرنج والمقاتلة، والتقوا فجرى بينهم قتال لم يجر في جاهلية ولا إسلام، ثم أنزل الله نصره على المسلمين، فهرب ألفنش في نفر يسير إلى طليطلة، وغنم المسلمون ما كان في عسكره، فكان عدة من قتل من الإفرنج
(1)
في ابن الأثير، وسبط ابن الجوزي، قتل من الإفرنج مائة وستة وأربعين ألفًا، الكامل، جـ 1، ص 236؛ مرآة الزمان، جـ 8، ص 286، وانظر هذا الحدث في الكامل أحداث 591 هـ.
(2)
سبط ابن الجوزي، جـ 8، ص 287.
(3)
سورة النمل - آية 37.
(4)
في وفيات الأعيان "عنده" جـ 7، ص 7؛ أما العيني فنقلها من مرآة الزمان "عندنا"، جـ 8، ص 287.
(5)
في المرأة "بالخميس". انظر جـ 8، ص 287.
(6)
هذا الشعر لأبي الطيب المتنبي. وفيات الأعيان، جـ 7، ص 7.
(7)
سَبْتَة: بلدة مشهورة، من قواعد بلاد المغرب، على بر البربر تقابل جزيرة الأندلس على طرف الزقاق، وهي سبعة جبال صغار متصلة بعضها ببعض، وسميت بذلك لأنها جزيرة منقطعة، والبحر يطيف بها من جميع جهاتها.
الإدريسي: نزهة المشتاق، ص 529 - 530؛ معجم البلدان، جـ 3، ص 30؛ القزويني: آثار البلاد وأخبار العباد. بيروت - 1960، ص 533.
(8)
ما بين حاصرتين إضافة من مراة الزمان، ج 8، ص 287.
مائة ألف وستة وأربعين ألفًا، وعدة الأسارى ثلاثون ألفا، ومن الخيام مائة ألف خيمة وخمسون ألفا، ومن الخيل ثمانون ألفًا، ومن البغال مائة ألف، ومن الحمير أربعمائة ألف حمار - تحمل أثقالهم؛ لأنهم لا جمال لهم -ومن الجواهر والثياب والأموال ما لا يحد ولا يحصى.
(1)
ولما انهزم الأذفونش حلق رأسه ولحيته، وكسر حليته، وركب حمارًا وحلف لا يركب فرسًا ولا يتلذذ بمطعم حتى ينصر النصرانية، وجمع من الجنود ما لا يعلمه إلا الله عز وجل. فاستعد له السلطان يعقوب والتقيا فاقتتلا قتالًا عظيمًا، فانهزم الفرنج أقبح من هزيمتهم الأولى، وغنموا منهم نظير ما تقدم ذكره وأكثر، واستحوذ يعقوب علي كثير من معاقلهم وحصونهم، ومن كثرة السبي والغنائم أبيع الأسير بدرهم، والسيف بنصف درهم، والحمار بدرهم، والحصان بخمسة دراهم، وقسَّم يعقوب الغنائم على الوجه الشرعي، فاستغنى المجاهدون إلى الأبد، ثم طلب منه الإفرنج الأمان، فهادنهم على وضع الحرب خمس سنين، وإنما حمله على ذلك أن رجلا يقال له على بن إسحاق المَيُرقى الملثم ظهر ببلاد أفريقية، فأحدث أمورًا فظيعة في غيبة السلطان يعقوب واشتغاله بالإفرنج مدة ثلاث سنين، وظهر هذا المارق الميورقي
(2)
بالبادية وعاث في الأرض فسادة، و [قتل
(3)
] خلقًا كثيرًا، وأهلك
(4)
بلادًا.
(5)
وقيل إنما كانت هذه الوقعة في سنة تسعين وخمسمائة.
وأُذفونش
(6)
: بضم الهمزة وسكون الذال المعجمة وضم الفاء وسكون الواو وبعدها نون ثم شين معجمة، اسم الأكبر ملوك الإفرنج، وهذا كان صاحب طليطلة على ما ذكرنا، وضبط بعضهم ألفنش بفتح الهمزة وسكون اللام وفتح الفاء والنون وفي آخره شين معجمة والأول أظهر.
(1)
نقل العينى هذا الخبر من مرآة الزمان، جـ 8، ص 287.
(2)
رسم العينى الاسم بالشكلين المَيُرقي، المَيورقي. والرسمان صحيحان.
(3)
في الأصل لم يظهر من الكلمة غير حرف واحد. وما بين الحاصرتين إضافة من النسخة المساعدة ومن ابن كثير حيث ينقل العينى عنه. انظر البداية والنهاية، ج 13، ص 11.
(4)
في ابن كثير "تملك"، البداية والنهاية، ج 13، ص 11.
(5)
ورد هذا الخبر في البداية والنهاية، جـ 13، ص 11؛ مرآة الزمان، جـ 8، ص 287 - 288.
(6)
نقل العينى هذا التشكيل من وفيات الأعيان، جـ 8، ص 19.
ذكر بقية الحوادث
منها أنه ورد كتاب من ملك
(1)
الروم مضمونه الإعلام بأن كلمة الروم اجتمعت على تقديمه، [وأنه]
(2)
أحسن
(3)
إلى المسلمين [وأمرهم بإقامة الجامع]
(4)
والتمس في الكتاب الوصية بالبطرك العائد والنصاري الملكية، وسأل إخراج موتاهم بالشمع الموقد، وإظهار شعائرهم في كنائسهم، وأن يفرج عن أسارى الروم الذين بمصر. ويذكر أن المسجد الذي بها كان الملك الناصر جدد عمارته في القسطنطينية
(5)
، وأقيمت الصلاة فيه والخطبة، وأن جانبًا منه انهدم فعمره من ماله، وأنه محافظ على صيانته، وتمكين مَنْ بالقسطنطينية من المسلمين من إقامة الصلوات والخطبة يوم الجمعة
(6)
.
ووصل كتاب من البنادقة على يد رسولهم، يتضمن شكرا للسلطان على ما أنعم به في أساراهم، وأنهم ارتبطوا بخدمته وامتنعوا عن الخروج من طاعته.
ومنها أنه ورد كتاب يتضمن أن سيف الإسلام طغتكين خرج من اليمن يريد مصر فخرج عليه رجل شريف مجاور صنعاء فأشير عليه أنك تخرج لبلاد لا تعلم تحَصَّلُ لك أم لا. فتدبير بلادك بك أولي.
ومنها أن مؤيد [الدين
(7)
] بن القصاب نائب الوزارة، ملك همذان وغيرها من بلاد العجم، وذلك أنه لما ملك خوزستان من أولاد شملة التركماني
(8)
، سار منها إلى ميسان
(9)
فوصل إليه قتلغ بن أينانج بن البهلوان صاحب البلاد، وقد ذكرنا تغلب خوارزم
(1)
هو إمبراطور الدولة البيزنطية إسحاق الثاني، Isaac II [من 1185 - 1195 م] انظر: السلوك، ج 1/ ق 1، ص 120، حاشية 1.
(2)
ما بين حاصرتين إضافة من المقريزى للتوضيح، السلوك، جـ 1، ق 1، ص 129.
(3)
"وأحسن" في الأصل والتصحيح من السلوك، جـ 1، ق 1، ص 129.
(4)
ما بين الحاصرتين إضافة من السلوك لتوضيح المعنى. انظر: السلوك، جـ 1، ق 1، ص 129.
(5)
القُسطنْطِينيّة: ويقال قسطنطينة، وهي إسطنبول اليوم، كانت دار ملك الروم، بينها وبين بلاد المسلمين البحر المالح، والبحر يطيف بها من وجهين مما يلي الشرق والشمال وجانباها الغربي والجنوبي في البر. ياقوت: معجم البلدان، جـ 1، 95 - 96.
(6)
نقل العيني هذا الحدث بتصرف من السلوك، جـ 1/ق 1، ص 129.
(7)
"الملك" كذا في الأصل والتصحيح من الكامل، ج 10، ص 235؛ المختصر في أخبار البشر، جـ 3، ص 90.
(8)
ورد هذا الخبر في المختصر، ج 3، ص 90.
(9)
في الأصل "ديسنا" والتصحيح من ابن الأثير حيث ينقل العينى عنه هذا الخبر، الكامل، ج 10، ص 235.
وميسان اسم كورة واسعة كثيرة القرى والنخل بين البصرة وواسط، قصبتها ميسان. انظر: معجم البلدان، جـ 4، ص 714.
شاه عليها وترتيبه المذكور فيها، وكان سبب مجيئه أنه جرى بينه وبين مقدم العسكر الذي لخوارزم المسمي مياجُق مصافّ عند زنجان
(1)
فاقتتلوا فانكسر عسكره، وحضر المذكور
(2)
ومعه جماعة من الأمراء إلى الوزير فأكرمهم، وخلع عليهم وأعطاهم ما يحتاجون إليه من خيل وخيام وغير ذلك، وساروا إلى همذان وبها ولد لخوارزم شاه صحبة مياجق، فلما قاربهم عسكر الخليفة فارقها الخوارزمية، وتوجهوا صحبة مياجة إلى الريّ، فاستولى الوزير عليها، ورحل هو وقتلغ بن إينانج خلفهم، فاستولوا على كل بلد جازوا به
(3)
[وساروا]
(4)
إلى الري فلما وصلوها فارقها الخوارزمية، فسير الوزير خلفهم عسكرًا، فأتبعهم إلى دامغان وبسطام وجرجان، فلم يدركهم، فعاد العسكر إلى الريّ، فأقاموا بها ثم اتفق قتلغ بن إينانج ومن معه على خلاف الوزير لما رأوا البلاد قد خلت من الخوارزمية، فساروا وانضم إليهم عسكر، وقصدوا مدينة كرج وقد نزلوا على دربند
(5)
هناك فطلبهم الوزير بعساكره واقتتلوا قتالًا شديدًا فانهزم قتلغ بن إينانج ونجي بنفسه، ورحل الوزير إلى همذان ونزل بظاهرها فأقام نحو ثلاثة أشهر، ثم أدركته الوفاة بها، فسار خوارزم شاه إلى همذان فأدرك عسكر الخليفة فصافّه في نصف شهر رمضان
(6)
، فانهزم عسكر الخليفة، وغنم خوارزم شاه ما كان لهم من العدد والخيل، وقتل منهم خلقًا كثيرًا، واسترجع همدان، ونُبِشَ الوزير من قبره، وقطع رأسه وسيّره إلى خوارزم
(7)
.
ومنها أن الخليفة الناصر لدين الله جهز عسكرًا مع مملوك له يقال له سيف الدين طغريل، فاستولوا على أصفهان.
(1)
في الأصل "بخاري"، والتصحيح من الكامل، جـ 10، ص 235، حيث ينقل عنه العيني. وزنجان: بلد كبير مشهور، من نواحي الجبال بين أذربيجان وبينها؛ وهي قريبة من أبهر وقزوين، والعجم يقولون زنكان بالكاف. معجم البلدان، جـ 2، ص 948 - 949.
(2)
يقصد به قتلغ بن أينانج. انظر: الكامل، جـ 10، ص 235.
(3)
ذكر ابن الأثير البلاد التي استولوا عابها، وهي: خراقان، ومزدعان، وساوة، وأوة. الكامل، جـ 12، ص 46.
(4)
ما بين حاصرتين إضافة من ابن الأثير للتوضيح، الكامل، ج 2، ص 235.
(5)
دربند: هو باب الأبواب. انظر: معجم البلدان، ج 2، ص 564.
(6)
في ابن الأثير: "فوقع بينه وبين عسكر الخليفة مصاف نصف شعبان سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة" انظر الكامل: ج 10، ص 235.
(7)
نقل العينى هذا الحدث من الكامل، جـ 10، ص 235 - ص 236.
ومنها أن مماليك البهلوان قدَّموا عليهم مملوكًا من البهلوانية يقال له كُكجا فعظم أمر كُكجَا واستولى على الرى وهمذان
(1)
. وفيها .............
(2)
وفيها حج بالناس من بغداد قطب الدين سنجر الخليفتي، ومن الشام سَرا سُنقر وأيْبك فطيس الصلاحيّان، ومن مصر الشريف إسماعيل بن ثعلب الجعفري - من ولد جعفر بن أبي طالب.
(3)
ذكر من توفي فيها من الأعيان
الشيخ عبد الله
(4)
بن محمد بن عبد الله الصوفي، أبو القاسم، شيخ رباط المأمونية ببغداد.
على بن حسان بن مسافر
(5)
، أبو الحسن الكاتب البغدادي، كان أديبة شاعرًا، فمن شعره قوله.
نفي رقادي ومضي
…
بَرْقٌ بِسلعٍ ومضا
لاحَ كما سُلَّت يد الـ
…
أسود عضبا
(6)
أبيضا
كأنه الأشهبُ في
…
النقع إذا ما ركَضا
يبدو كما تختلفُ الر
…
يحُ على جمر الغضا
فتحسبُ الزنجيَّ أبا
…
دي نظرا وغمّضا
أو شعلة النار علا
…
لهيبُها وانخفضا
آه له من بارق
…
ضاء على ذات الأضا
(7)
أذْكَرَني عهدًا مَضى
…
على الغُوير
(8)
وانقضى
(1)
الكامل، جـ 8، ص 239.
(2)
بياض بمقدار ثلاث كلمات ثم بياض بمقدار سطر كامل في الأصل.
(3)
في مرآة الزمان، جـ 8، ص 288.
(4)
انظر ترجمته في مرآة الزمان، جـ 8، ص 288.
(5)
"مسافر" كذا في الأصل، والتصحيح من البداية والنهاية، جـ 12، ص 11.
(6)
عضب: العَضُب، القطع والشتم والتناول والضرب والطعن. انظر: الفيروزآبادي، القاموس المحيط، مادة "عضب"، جـ 1، ص 109.
(7)
الأضا: الأضاه المستنقع من سيل وغيره. الفيروزآبادي، القاموس المحيط، مادة "أضي"، جـ 4، ص 301.
(8)
الغوير: تصغير غار، والغار البيت في الجبل أو المنخفض أو الحجر يأوي إليه الوحش. انظر الفيروزآبادي، مادة "غور"، القاموس المحيط، جـ 2، ص 109. انظر: البداية والنهاية، جـ 13، ص 12.
فقال لي قلبي الر
…
ضي حاجة وأعرضا
يَطلبُ مَن أمرَضه
…
فديت ذاك المُمْرضَا
يا غرض القلب لقد
…
غادرت قلبي غرضا
لأسهم كأنما
…
مُرْسلها صرف القضا
فبتّ لا أرتاب في
…
أن رُقادي قد مضى
حتي صغى النجم وكاد
…
الليل أن يعرُضا
وأقبل الصبح لأطـ
…
ـراف الدجى مغضضا
وسَلّ في الشرق على الغَر
…
ب ضياء وانقضى
كالباز هَبّ سحرا
…
من نومه فانتفضا
فصل فيما وقع من الحوادث في السنة الثانية والتسعين بعد الخمسمائة
(*)
استهلت هذه السنة والخليفة هو الناصر لدين الله وأصحاب البلاد على حالهم، ونقل الأفضل صاحب دمشق أباه السلطان صلاح الدين من قلعة دمشق إلى التربة بالمدينة
(1)
وذلك في شهر صفر منها، وكانت مدة لبثه في القلعة ثلاث سنين، ولزم الأفضل الزهد والقناعة وأموره مُفوّضه إلى وزيره ضياء الدين بن الأثير الجزري، وقد اختلفت الأحوال به وكثر شاكوه وقل شاكروه.
(2)
ذكر انتزاع
(3)
دمشق من الملك الأفضل
قال المؤيد
(4)
في تاريخه: ولما بلغ الملك العادل -في مصر- والملك العزيز اضطراب الأمور على الملك الأفضل اتفق العادل مع العزيز على أن يأخذا دمشق وأن يسلمها العزيز إلى العادل لتكون الخطبة والسكة في سائر البلاد للعزيز كما كانت لأبيه السلطان صلاح الدين، فخرجا وسارا من مصر فأرسل الأفضل إليهما فلك الدين وهو أحد أمرائه وهو أخو العادل لأمه، واجتمع فلك الدين بالعادل فأكرمه وأظهر الإجابة إلى ما طلبه، ولم يزل العادل والعزيز سائرين حتى نزلا على دمشق وقد حصنها الأفضل، فكاتب بعض الأمراء من داخل البلد الملك العادل بأنهم معه وأنهم يسلمون البلد إليه، فزحف العادل والعزيز ضحى يوم الأربعاء السادس والعشرين من رجب من هذه السنة، فدخل العزيز من باب الفرج
(5)
والعادل من باب توما
(6)
، فأجاب الأفضل إلى تسليم القلعة وانتقل منها بأهله وأصحابه، وأخرج وزيره ضياء الدين الجزري مختفيًا في صندوق خوفًا عليه من القتل، وكان الملك الظافر خضر ابن السلطان صلاح الدين صاحب بصري
(*) يوافق أولها 6 ديسمبر سنة 1195 م.
(1)
يقصد بالمدينة هنا مدينة الكلاسية التي تقع شمالي جامع دمشق، وقد بنى بها الأفضل قية ونقل جثة والده صلاح الدين من القلعة إلى هذه القبة. انظر: وفيات الأعيان، جـ 7، ص 206، ترجمة 846.
(2)
ورد هذا النص في المختصر، جـ 3، ص 91 - 92.
(3)
"نتزاع" في الأصل، وهذا خطأ من الناسخ والصحيح ما أثبتناه.
(4)
البداية والنهاية، جـ 13، ص 12.
(5)
باب الفرج: أحدثه الملك العادل نور الدين وسماه بهذا الاسم تفاؤلًا لما وجد من التفريج بفتحه وكان بقربه باب بسمي باب العمارة فتح عند عمارة القلعة ثم سد. ابن شداد، الأعلاق الخطيرة، ص 36.
(6)
باب توما: أحد أبواب مدينة دمشق. معجم البلدان، جـ 1، ص 443.
مع أخيه الأفضل ومعاضدًا له، فأخذت منه بصري ولحق هو بأخيه الظاهر صاحب حلب، فأقام عنده، وأعطى الأفضل صرخد فسار إليها بأهله واستوطنها، ودخل العزيز إلى دمشق يوم الأربعاء رابع شعبان منها، ثم سلم دمشق إلى عمه العادل، ثم رحل العزيز من دمشق عشية يوم الاثنين التاسع من شعبان، فكانت مدة الأفضل في دمشق ثلاث سنين وشهرًا، وأبقى العادل السكة والخطبة بدمشق للعزيز
(1)
. وقال ابن كثير في تاريخه: وفي رجب من هذه السنة أقبل العزيز من مصر صحبة عمه العادل في العساكر، فدخلا دمشق قهرًا وأخرجا منها الأفضل ووزيره الذي أسماء تدبيره، وصلى العزيز الجمعة عند تربة والده صلاح الدين وخطب له بدمشق، ودخل في هذا اليوم القلعة وجلس في دار العدل للحكم والفصل، كل هذا وأخوه الأفضل حاضر عنده في الخدمة، وأمر القاضي محيي الدين بن الزكي بتأسيس المدرسة العزيزية إلى جانب تربة أبيه، وكان دارًا للأمير عز الدين أسامة ثم استناب على دمشق عمه العادل وانشمر إلى الديار المصرية يوم الاثنين تاسع شعبان
(2)
، والسكة والخطبة له، وصولح الأفضل عن دمشق على مدينة صرخد، وهرب وزيره الجزري إلى جزيرته وأتلف ملكهـ ونفسه بجزيرته، وانتقل الأفضل إلى صرخد بأهله وأولاده وأخيه قطب الدين.
(3)
وقال صاحب المرآة: لما ازداد من ابن الأثير الجزري وزير الأفضل الأفعال القبيحة وأذاه لأكابر الدولة من أهل الشام والأفضل يسمع منه ولا يخالفه، كتب قيماز النجمي وأعيان الدولة إلى العادل في مصر يشكونه، فأرسل العادل إلى الأفضل يقول: ارفع يد هذا الأحمق السيء التدبير القليل التوفيق فلم يلتفت إليه، فاتفق العادل مع العزيز على النزول إلى الشام، فسار إلى الشام فاستشار الأفضل أصحابه وكل أشار عليه أن يلتقى عمه وأخاه ولا يخالفهما إلا الجزري فإنه أشار عليه بالعصيان، فاستعد للحصار، وحلّف الأمراء والمقدمين وفرقهم في الأبراج وعلى الأسوار فراسلوا العزيز والعادل وأصلحوا أمرهم في الباطن، واتفق العادل مع عز الدين بن الحمص على فتح الباب الشرقي -وكان
(1)
نقل العينى هذا الحدث من المختصر، جـ 3، ص 92.
(2)
اتفق العيني مع أبي شامة وابن واصل في هذا التاريخ، انظر الروضتين، جـ 2، ص 231؛ مفرج الكروب، جـ 3، ص 68؛ وقد اختلف معهم ابن كثير الذي ينقل عنه العيني حيث ذكر أنه "يوم الاثنين تاسع شوال" انظر البداية والنهاية، جـ 13، ص 12.
(3)
نقل العينى هذا النص من ابن كثير بتصرف، البداية والنهاية، جـ 13، ص 12.
مسلمًا إليه فلما كان يوم الأربعاء السادس والعشرين من رجب ركب العادل والعزيز وجاءا إلى الباب الشرقي، ففتحه ابن الحمص فدخلا البلد من غير قتال، فنزل العزيز دار عمته ست الشام ونزل العادل دار العقيقى
(1)
ونزل الأفضل إليهما وهما في دار العقيقي، فدخل عليهما وبكى بكاء شديدًا، فأمره العزيز بالانتقال إلى صرخد، فأخرج وزيره الجزري في الليل في جملة الصناديق خوفًا عليه من القتل، فأخذ أموالًا عظيمة وهرب إلى بلاده، وكان العزيز قد قرر مع العادل أن يكون نائبه بمصر، ويقيم العزيز بدمشق، ثم ندم فأرسل إلى الأفضل وسأله فيها صلاح حاله فأذاعها، ووصلت إلى العادل فغضب العزيز ورسم عليه بالخروج، فخرج إلى مسجد خاتون بأهله وعياله، وسلم العزيز بصري إلى العادل وكان بها الظافر، وأقام العزيز بدمشق أربعة أيام وصلى الجمعة عند مكان قبر والده بالكلاسة، وأمر ببناء القبة والمدرسة إلى جانبها، وأمر محيي الدين بن زكي الدين بعمارة المدرسة العزيزية، وكان الأفضل قد شرع في بناء تربة عند مشهد القدم
(2)
بوصية من السلطان، فإنه قال: تكون تربتى على الجادة ليمر بها الصادر والوارد فيترحمون على. فارتفع منها فأمه، ولما جاء العزيز إلى دمشق أخربها، وكان العزيز إذا جلس في مجالس لهوه جلس العادل على بابه كأنه برددار
(3)
، ولما كان آخر ليلة من مقامه بدمشق وكانت ليلة الاثنين تاسع شعبان قال العادل لولده الملك المعظم: ادخل. فقبّل يده واطلب منه دمشق، وكان المعظم قد راهق الحلم فدخل فقبل يده وطلب دمشق فدفعها إليه وأعطاه سنجقه
(4)
، وقيل: بل استناب العادل فيها وأعطاها للمعظم عيسي بن العادل
(5)
في سنة أربع وتسعين وخمسمائة ثم رحل العزيز إلى مصر في تاسع شعبان ومضى الأفضل إلى
(1)
دار العقيقي: داخل باب الفرج تجاه المدرسة العادلية بدمشق. السلوك، جـ 1، ق 2، ص 146، وقد ذكرها سامي الدهان بقوله "دار العقيقى هي القسم الكبير من الظاهرية اليوم. انظر: زبدة الحلب، ج 3، ص 20، حاشية 1.
(2)
مشهد القدم: هو من الآثار التي في دمشق وغوطتها مما يرج فيه إجابة الدعاء. انظر: النجوم الزاهرة، جـ 5، ص 126، حاشية 1.
(3)
البرددار: لقب لأرباب الوظائف من الأتباع والحواشي والخدم ويكون البرددار في خدمة مباشر الديوان في الجملة متحدثًا على أعوانه والمتصرفين فيه، وأصل الكلمة فردادار وهي كلمة فارسية من لفظين أحدهما فردا ومعناها الستارة والثاني دار ومعناه ممسك أي ممسك الستارة، السلوك جـ 1، ق 2، ص 534، حاشية 6.
(4)
سنجقه: السنجق لفظ تركي يطلق على الرمح، والمراد به الراية التي تربط به، والجمع سناجق وهي رايات صفر صغار، يحملها السنجقدار زمن السلم.
انظر: صبح الأعشي، جـ 4، ص 48؛ جـ 5، ص 456، ص 458؛ السلوك، جـ 1، ق 1، ص 124، حاشية 1.
(5)
المعظم عيسي بن العادل: هو شرف الدين عيسي بن الملك العادل سيف الدين أبي بكر بن أيوب صاحب دمشق ولد سنة 578 هـ، وتوفي 624 هـ، وفيات الأعيان، جـ 3، ص 494 - ص 495.
صرخد، ونفى العادل ابن الحمصي الذي فتح له الباب الشرقي، وكان قد أعطاه عشرة آلاف دينار فاستردها منه واجتاز العزيز في طريقه إلى مصر بالقدس، فعزل أبا الهيجاء السمين عنه، وولاه سنقر الكبير
(1)
ومضى أبو الهيجاء إلى بغداد على ما سنذكره
(2)
إن شاء الله. وقال بيبرس في تاريخه: وفي سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة تحدّد للعادل سوء رأى في الأفضل واغتاظ منه لأمور بلغته عنه، فاتفق مع العزيز على أخذ دمشق منه وأخذ حلب من الظاهر فخرجا، ولما وصلا إلى غزة أرسل الأفضل كتابًا؛ يستعطف العادل، فسيرا إليه أنه لابد من اجتماع الكلمة وخدمة العزيز والعزم على قصد دمشق، وقد كان الظاهر
(3)
قد أرسل إلى أخيه الأفضل يقول له: أخرج عمنا من بيننا ونحن ندخل تحت كلّ ما تريد، فأنا أعرف منك به، وأقرب إليه، فإنه عمي كما هو عمك، وأنا زوج ابنته، ولو علمتُ أن لنا في دخوله بيننا خير لكنت أولي به منك، وقال له الأفضل: أنت سيء الظن في كل أحد أتي مصلحة لعمنا في أذيتنا، ونحن إذا اجتمعت كلمتنا سيّرنا معه العساكر من عندنا فملك من البلاد أكثر من بلادنا ونربح حسن الذكر.
ثم ذكر بيبرس نحوًا مما ذكرنا إلى أن قال: إنهم استمالوا أميرًا من أمراء الأفضل يسمى العزيز أبو غالب بن الحمصي وكان الأفضل يعتمد عليه ويكثر الإحسان إليه، ففتح له الباب الشرقي في السابع والعشرين من رجب وأدخل العادل منه ومعه جماعة من أصحابه، وركب العزيز ووقف بالميدان الأخضر غربي البلد، ولم يشعر الأفضل إلا وعمه معه في البلد وقد ملكت عليه
(4)
فركب لوقته وتوجه إلى أخيه العزيز، واجتمع معه ودخل البلد ومضيا إلى عمهما العادل، وكان قد نزل في دار أسد الدين شيركوه، فاتفق العادل والعزيز على أن يبقيا على الأفضل البلد خوفًا أن تجمع عليهما العساكر، وعاد الأفضل إلى مكانه وبات العادل بدار شيركوه وخرج العزيز إلى خيمته ثم خرج العادل من الغد إلى جوسقه
(5)
، وبقى الأفضل يتردد إليهما كل يوم ثم استقر الحال على أن يخرج الأفضل من دمشق ويأخذ صرخد فيسلم العزيز قلعة دمشق، وسار الأفضل إلى صرخد،
(1)
يقصد العيني هنا تولية العزيز القدس لسنقر.
(2)
نقل العينى هذا الحدث بتصرف من مرآة الزمان، جـ 8، ص 283 - ص 284.
(3)
الكامل، جـ 10، ص 242.
(4)
الكامل، جـ 10، ص 243.
(5)
جوسقه: كلمه فارسية مصرية وأصلها كوسك ومعناها القصر. انظر محيط المحيط، جـ 1، ص 318.
ثم خرج العزيز من دمشق عائدًا إلى مصر، وجدد بينه وبين العادل إيمانًا، ونزل عن خبزه بمصر فكان دخوله مصر رابع شهر رمضان من هذه السنة
(1)
. وفي تاريخ النويري
(2)
: ولما استقر الأفضل بصرخد كتب إلى الخليفة الناصر لدين الله يشكو من عمه أبي بكر وأخيه العزيز عثمان بقوله في أول الكتاب:
مولاي إن أبا بكر وصاحبه
…
عثمان قد غصبًا بالسيف حق على
فانظر إلى حظ هذا الاسم كيف لقي
…
من الأواخر مالاقي من الأول
وهو الذي كان قد ولاه والده
…
عليهما واستقام الأمر حين ولي
فخالفاه وحلا عقد بيعته
…
والأمر بينهما والنص فيه جلى
فكتب الخليفة الناصر إليه جواب كتابه وفي أوله:
وافي كتابك يا ابن يوسف معلنا
…
بالود يخبر أن أصلك طاهر
غصبوا عليا حقه إذ لم يكن
…
بعد النبي له بيثرب ناصر
فابشر فإن غدا عليه حسابهم
…
واصبر فناصرك الإمام الناصر
(3)
ذكر غزوة صاحب غزنة
وفي هذه السنة سار شهاب الدين أحمد الغوري
(4)
صاحب غزنة إلى بلاد الهند، ففتح قلعة عظيمة تسمي بهنكر بالأمان ثم سار إلى قلعة كواكير وبينهما خمسة أيام، فصالحه أهلها على مال حملوه إليه، ثم سار إلى بلاد الهند فغنم وأسر شيئًا كثيرًا ثم عاد إلى غزنة، مؤيدًا منصورًا.
(5)
وقال بيبرس: لما سار شهاب الدين بن سام الغوري إلى بلاد الهند فتح قلعة بهنكر بالأمان ثم سار إلى قلعة كواكير وهي قلعة منيعة على جبل لا يصل
(1)
ورد هذا الحدث بتصرف في الكامل، جـ 10، ص 243؛ نهاية الأرب، جـ 28، ص 448، ص 449.
(2)
بالرغم من أن العيني يذكر هنا أنه ينقل عن النويرى إلا أنه أخطأ في هذا إذ ينقل هذا الحدث عن المؤيد، المختصر في أخبار البشر، جـ 3، ص 92 - ص 93.
(3)
نقل العينى هذا الحدث بتصرف من المختصر في أخبار البشر، جـ 3، ص 92 - 93، أيضًا راجع مفرج الكروب، جـ 3، ص 69.
(4)
شهاب الدين أحمد الغوري: انظر ما سبق، جـ 2، ص 86.
(5)
نقل العين هذا الحدث بتصرف من الكامل، جـ 12، ص 50 - ص 51.
إليها نشاب ولا منجنيق، فأقام عليها شهر صفر فلم يبلغ منها غرضة، فراسله من بها في الصلح على مال يحملونه فأجابهم ورحل عنها. فأغار
(1)
ونهب وسبي وغنم شيئًا عظيمًا ثم عاد إلى غزنة سالمًا.
ذكر وقعة أخرى بين يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن وبين ألفنش ملك الإفرنج
وكان ألفنش قد جند وجمع جمعًا أكثر من الأول، والتقوا فهزمه يعقوب وساق خلفه إلى طليطلة، وضربها بالمجانيق وضيق عليها ولم يبق إلا فتحها، فخرجت إليه والدة ألفنش وبناته ونساؤه وأهله وبكين بين يديه وسألنه إبقاء البلد عليهن، فَرَقَّ لهن ومنَّ عليهن به، ووهب لهن المال والجواهر، وردهن مكرمات بعد القدرة.
(2)
ولو فتح طليطلة لفتح إلى مدينة النحاس
(3)
وعاد إلى قرطبة فأقام شهرًا يقسم الغنائم، وجاءته رسل ألفنش تسأله الصلح فصالحه مدة وأمن أهل الأندلس.
(4)
وفي تاريخ بيبرس: فصالحهم مدة خمس سنين ثم عاد إلى مراكش
(5)
، وقيل: إن هذه الوقعة كانت في سنة إحدى وتسعين وخمسمائة.
ذكر مُلك عسكر الخليفة أصفهان
وفي هذه السنة ملك عسكر الخليفة أصفهان، وسبب ذلك كان بأصفهان ولد خوارزم شاه، وكان أهلها يكرهونه، فكاتبوا الخليفة الناصر سيبذلون له تسليم البلد إلى من يصل من الديوان من العساكر، فجهز الخليفة جيشًا صحبة سيف الدين طغرل مقطع بلد اللحف
(6)
من العراق، فساروا إليها ونزلوا بظاهرها، ففارقها عسكر خوارزم شاه ودخلها عسكر الخليفة وخطب له فيها
(7)
(1)
ذكر ابن الأثير أن شهاب الدين الغورى أغار على "آي وصور" الكامل، جـ 10، ص 242.
(2)
شذرات الذهب، جـ 4، ص 307 - ص 308.
(3)
مدينة النحاس: يقال لها مدينة الصَّفر، وهي في بعض مفاوز الأندلس. عنها انتظر بالتفصيل: معجم البلدان، جـ 4، ص 455 - ص 458.
(4)
نقل العيني هذا الحدث بالنص من مرآة الزمان، جـ 8، ص 288.
(5)
ورد هذا الخبر في الكامل، جـ 10، ص 236 - ص 237؛ حوادث سنة 591 هـ.
(6)
اللحف: صقع معروف من نواحي بغداد سمي بذلك لأنه في لحف جبال همذان ونهاوند. معجم البلدان، جـ 4، ص 353.
(7)
نقل العيني هذا الخبر بتصرف من الكامل، جـ 10، ص 238 - ص 239، وقد ذكرها ضمن أحداث سنة 591 هـ.
وفيها عاد خوارزمشاه إلى خراسان فاتفق الأمراء البهلوانية والمماليك وقدّموا عليهم شخصًا من أعيانهم يسمي كوكجا، واستولوا على الرى وما جاورها من البلاد، وسار إلى أصفهان لإخراج الخوارزمية منها، فلما قاربها بلغه أن عسكر الخليفة عندها فأرسل إلى سيف الدين طغرل مقدم عسكر الخليفة يعرض نفسه على خدمة الديوان، ويكون له من الإقطاع الري وسارة وزنجان وقاشان
(1)
وما ينضم إليها من حدود مزدقان
(2)
ويكون للديوان أصفهان وهمذان وقزوين فأجيب إلى ذلك وكتب له منشورًا وأرسلت له الخلع، فعظم شأنه وقوى أمره.
(3)
ذكر بقية الحوادث
منها أنه هبت ريح شديدة مظلمة مدلهمة بأرض العراق ومعها رمل أحمر حتى احتاج الناس إلى إشعال الأضواء بالنهار
(4)
، ووقع من الركن اليماني قطعة وتحرك البيت الحرام مرارًا، وهذا شيء لم يعهده
(5)
منذ بناه ابن الزبير وأعاده الحجاج وإلي هلم جرا.
ومنها أنه ظهر ببوصير
(6)
-قرية بصعيد مصر وهي التي قتل فيها مروان الجعدي آخر خلفاء بني أمية- بيت هرمس الحكيم وفيه أمثلة كباش وضفادع وقوارير كلها نحاس وفيه أموات لم تبل ثيابهم
(7)
.
ومنها أنه ولي قوام الدين أبو طالب يحيى بن سعيد بن -زبادة
(8)
كتابة الإنشاء ببغداد، وكان فاضلًا بليغًا ولكن لا كالفاضل.
(1)
قاشان: مدينة قرب أصفهان تذكر قُم. انظر: معجم البلدان، جـ 4، ص 15.
(2)
"مردغان" كذا في الأصل والتصحيح من معجم البلدان، جـ 4، ص 520.
(3)
نقل العينى هذا الحدث بتصرف من الكامل، جـ 10، ص 239.
(4)
البداية والنهاية، جـ 13، ص 12؛ الكامل، جـ 10، ص 243.
(5)
مرآة الزمان، جـ 8، ص 288؛ شذرات الذهب، جـ 4، ص 308.
(6)
"بوصير": إحدى قرى الجيزة. راجع معجم البلدان، جـ 4، ص 760.
(7)
مرآة الزمان، جـ 8، ص 288.
(8)
"زيادة" كذا في الأصل والتصحيح من ابن خلكان.
هو أبو طالب يحيى بن أبي الفرج سعيد بن أبي القاسم هبة الله بن على بن فرغلى بن زباد الشيباني توفي سنة 592 هـ. وفيات الأعيان، جـ 6، ص 244 - ص 249.
ومنها أن مجير الدين
(1)
أبا القاسم محمود بن المبارك البغدادي، درس بالمدرسة النظامية، وكان فاضلًا بارعًا مناظرًا.
(2)
وفيها .....................
(3)
وفيها حج بالناس من العراق ألب قرا مملوك طاشتكين، وكان الخليفة قد أفرج عن طاشتكين من الحبس في هذه السنة، وحج من مصر
(4)
الشريف إسماعيل بن ثعلب الجعفري أيضًا.
(5)
ذكر من توفي فيها من الأعيان
صدر الدين محمود بن عبد اللطيف بن محمد بن ثابت الخجندي رئيس الشافعية
(6)
بأصفهان، قتله فلك الدين سنقر الطويل شحنه أصفهان
(7)
وكان ذلك سنة زوال ملك أصفهان عن الديوان العزيز.
فخر الدين محمود بن علي النَّوقاني
(8)
الشافعي، توفي في هذه السنة عائدًا من الحج.
أبو الغنائم محمد بن علي بن فارس الشاعر الهرثي، والهرث
(9)
قرية تحت واسط في نهر جعفر بينها وبين واسط عشرة فراسخ. كان رقيق الشعر مليح المعاني، أكثر في الغزل ووصف المحبة والشوق والصبابة فمالت القلوب إليه، ومولده سنة إحدى
(1)
"محيي الدين" كذا في الأصل والمثبت هو الصحيح، وهو المجير البغدادي محمود بن المبارك بن على الواسطى توفي سنة 592 هـ. انظر: الإسنوي، طبقات الشافعية، جـ 1، ص 130، ترجمة 249.
(2)
نقل العينى هذا النص بتصرف من ابن كثير، البداية والنهاية، جـ 13، ص 12؛ ابن الأثير، الكامل، جـ 12، ص 52.
(3)
بياض في الأصل بمقدار سطر وكلمتين.
(4)
مرآة الزمان، جـ 8، ص 288.
(5)
إسماعيل بن ثعلب الجعفري من أغنياء الصعيد أقام ببلدة ديروط - سربان بالصعيد. معجم البلدان، جـ 2، ص 570.
(6)
صدر الدين محمود بن عبد اللطيف بن محمد بن ثابت الخجندي، يبدو أنه هو أبو بكر محمد بن عبد اللطيف بن محمد بن عبد اللطيف الخجندي توفي مقتولًا عام 592 هـ. انظر: الإسنوي. طبقات الشافعية، جـ 1، ص 236، ترجمة رقم 446.
(7)
نقل العيني هذا الخبر من المختصر، جـ 3، ص 92.
(8)
فخر الدين أبو عبد الله محمد بن أبي علي بن أبي نصر النوقاني ولد بنوقا سنة 516 هـ، مات بالكوفة سنة 592 هـ.
انظر: الإسنوي، طبقات الشافعية، جـ 2، ص 280، ترجمة 1195.
(9)
عنها تنظر: معجم البلدان، جـ 4، ص 6 - 9.
وخمسمائة، ومدح الأمراء والرؤساء والأعيان، وكانت وفاته في رجب منها بالهرث، وديوانه مشهور وفضله مذكور، ومن شعره قصيدة أولها:
(1)
أجيراننا إن الدموع التي جرت
…
رخاصًا على أيدي النَوى لغَوالِ
صحبناكم والعمر غض وحُبّنا جديدٌ
…
وميدان الصبّابة خال
فقد رق جلباب الشباب وما الصبا
…
بباق ولا برد الغرام ببال
وحبكم حب يقوم بنفسه
…
ترفع عن شِبْه له ومثال
حماه حفاظي أن يلم بخاطري
…
وأخفاه صوني أن يدور ببال
يقر بعيني أن أرى من دياركم
…
مع الفجر ومض البارق المتعالي
أداوي على بعد المزار بذكركم
…
عقائيل داءٍ في الفؤاد عُضَال
إبراهيم بن أحمد بن محمد أبو
(2)
طاهر العكبرى، ولد سنة خمس عشرة وخمسمائة، وسمع الحديث، ورأى في منامه في هذه السنة كأنه يقرأ "سورة يس" وهي اثنان وثمانون آية، ويقال: إن من قرأها يعيش بعدد آياتها سنين، فمات في صفر وله اثنان وثمانون سنة، وكذا يقال: إن من قرأ سورة من أول ما نزل القرآن طال عمُره، ومن آخر ما نزل قصر عمر، سمع القاسم
(3)
بن حصين، وقاضى المارستان، وابن السمرقندي وغيرهم.
(4)
عبد الخالق بن عبد الوهاب بن محمد: ويعرف بابن الصابوني، من أولاد المشايخ، سمع الحديث ورواه، وتوفي في شوال ودفن عند معروف الكرخي، وقد أناف على الثمانين سنة، سمع أبا القاسم بن الحصين وطبقته.
(5)
الفقيه أبو الحسن علي بن سعيد بن الحسن البغدادي المعروف بابن العريف، ويلقب بالبيع الفاسد، كان حنبليًا ثم اشتغل شافعيًا على أبي القاسم بن فضلان، وهو
(1)
ورد هذا النص في مرآة الزمان، جـ 8، ص 289 - 290، انظر أيضًا البداية والنهاية، جـ 13، ص 13؛ ابن تغري بردي، النجوم الزاهرة، جـ 6، ص 139، شذرات الذهب، جـ 4، ص 310.
(2)
في مرآة الزمان "ابن"، جـ 8، ص 288.
(3)
في مرآة الزمان "القسم"، جـ 8، ص 288.
(4)
نقل العيني هذا الخبر بتصرف من مرآة الزمان، جـ 8، ص 288.
(5)
نقل العيني هذا الخبر من مرآة الزمان، جـ 8، ص 288. انظر أيضًا ترجمته في: شذرات الذهب، جـ 4، ص 309.
الذي لقبه بذلك لكثرة تكراره على هذه المسألة -الخلافية-
(1)
بين الشافعية والحنفية، ويقال: إنه صار بعد هذا كله إلى مذهب الإمامية والله أعلم، مات في هذه السنة.
(2)
الشيخ أبو شجاع محمد بن على بن شعيب بن الدهان الفوضى الحاسب المؤرخ البغدادي
(3)
، وقدم دمشق وأمتدح الشيخ أبا اليمن الكندي زيد بن الحسن، فقال:
يا زيد زادك ربي من مواهبه
…
نعمًا يقصر عن إدراكها الأمل
لا بدل الله حالًا قد حباك بها
…
ما دار بين النحاة الحال والبدل
النحو أنت أحق العالمين به
…
أليس بأسمك فيه يضرب المثل
(4)
محمد بن أحمد أبو منصور ويعرف بابن باقه. كوفي ولد بالكوفة سنة ثلاثين وخمسمائة، واشتغل بالأدب، وكان أبوه فاضلًا أيضًا، ومات محمد ببغداد ونقل إلى الكوفة رحمه الله.
(5)
الوزير ابن القصابه: واسمه محمد بن علي بن محمد أبو الفضل، ولقبه مؤيد الدين، وأصله من شيراز
(6)
، قدم بغداد في سنة أربع وثمانين وخمسمائة وأول خدمته أنه استخدم في ديوان الإنشاء ثم ترقى إلى الوزارة، وقرأ الأدب على أبي السعادات بن الشجرى
(7)
وغيره، وكان داهية رديء الاعتقاد وهو الذي أعان ابن الشيخ عبد القادر على تمكنه من ابن الجوزي كما ذكرنا إلا أنه كان له خبرة بأمور الحرب وفتح البلاد، وكان الخليفة [الناصر]
(8)
يثنى عليه، ويقول: لو قبلوا من رأيه ما جرى ما جرى. ولقد أتعب
(1)
نقل العينى هذا الخبر من البداية والنهاية مع إضافة كلمة "الخلافية"، جـ 13، ص 13.
(2)
نقل العيني هذا الخبر من البداية والنهاية، جـ 13، ص 13.
(3)
النجوم الزاهرة، جـ 6، ص 130؛ الزركلي، الأعلام، جـ 7، ص 127.
(4)
ورد هذا الخبر في البداية والنهاية، جـ 13، ص 13.
(5)
مرآة الزمان، ج 1، ص 289.
(6)
نقل العيني هذا الخبر من مرآة الزمان، جـ 8، ص 289. وعن ترجمته راجع البداية والنهاية، جـ 13، ص 12؛ شذرات الذهب، ج 4، ص 311.
(7)
أبو السعادات بن الشجري: هو أبو السعادات هبة الله بن علي بن محمد بن حمزة الحسني المعروف بابن الشجرى البغدادي نسبة إلى شجرة وهي قرية من أعمال المدينة، برع في النحو واللغة وأشعار العرب، توفي سنة 542 هـ في بغداد. وفيات الأعيان، جـ 6، ص 45 - 50 ترجمة رقم 774.
(8)
ما بين حاصرتين إضافة من مرآة الزمان لتوضيح الخبر، جـ 8، ص 289.
الوزراء بعده
(1)
. وقال ابن كثير: وكان أبوه يبيع اللحم ببعض أسواق بغداد، فتقدم [ابنه]
(2)
وساد أهل زمانه، وكانت وفاته بهمذان، وقد أعاد رساتيق كثيرة من بلاد العراق وخراسان وخوزستان إلى ديوان الخليفة، وكان ناهضًا وله صرامة وشهامة وشعر
(3)
جيد.
الوزير عبيد الله بن المظفر بن هبة الله ابن رئيس الرؤساء: ويلقب بالأثير، وجده وهو الوزير الذي قتله الباطنية وهو خارج إلى الحج في أيام المستضئ. وكان عبيد الله فاضلًا عاقلًا، ومن شعره:
إن حاول الدهر إخفائي فإن له
…
في حسبي، الآن سرًا سوف يبديه
أعدّني للعُلى ذخرًا ومن ذخرت
…
يداه في الدهر شيئًا فهو يُخفيه
زعيم الدين بن الناقد: واسمه نصر بن علي بن محمد أبو طالب، ولي حجبة الباب ثم ولي حاجب ديوان الإنشاء، ثم إلى المخزن، وهو الملقب بقنبر، لقب به لأنه صاد ولده قنبرًا وخبأه إلى جانب مسنده فخرج القنبر فصاح قنبر قنبر، فلقب به، وكان إذا بلغه أن أحدًا لقبه قنبر يسعى في هلاكه. وقيل: إنه كان يتشيع، وكانت عمامته طويلة، ولقبه أهل باب الأزج قنبر، وهو ذكر العصافير، توفي في هذه السنة.
سابق الدين عثمان صاحب شيراز، مات في هذه السنة بشيزر، وعمل عزاؤه بالكلاسة بدمشق، وهو أحد أولاد الداية الأربعة، وأمهم داية نور الدين محمود بن زنكي رحمه الله.
(1)
نقل العيني هذا الخبر من مرآة الزمان، جـ 8، ص 289.
(2)
ما بين حاصرتين إضافة من ابن كثير حيث ينقل العينى عنه، البداية والنهاية، جـ 13، ص 14.
(3)
"سعي" هكذا في الأصل والتصحيح من البداية والنهاية، جـ 13، ص 14.
فصل فيما وقع من الحوادث في السنة الثالثة والتسعين بعد الخمسمائة
(*)
استهلت هذه السنة والخليفة هو الناصر لدين الله، وصاحب مصر هو الملك العزيز ابن السلطان صلاح الدين، واستولى على دمشق أيضًا كما ذكرنا، وسير الملك الأفضل أخاه الذي كان صاحب دمشق إلى صرخد، وصاحب حلب هو الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين رحمه الله.
ذكر غزوات الملك العادل
وفي هذه السنة انقضت مدة الهدنة التي كان عقدها الملك الناصر صلاح الدين للإفرنج، فأقبلوا بقضهم وقضيضهم فالتقاهم الملك العادل بمرج عكا، فكسرهم وغنمهم وفتح يافا عنوة، وقد كانوا كتبوا إلى ملك الألمان يستنهضونه لفتح بيت المقدس فقدر الله هلاكهـ سريعًا، وكفى الله المؤمنين شره وشر أهل الكفر.
وفي تاريخ بيبرس: وفي هذه السنة خرج العادل إلى خربة اللصوص
(1)
لحرب الفرنج، وجاءه الأفضل من صرخد، وقدم أسد الدين شيركوه من حمص، ووصل عز الدين بن المقدم ونزلوا على عين جالوت وأخذ العادل يافا منهم بالسيف، وقتل جماعة كثيرة وبيع الأسير بثمن بخس، وكان السبب في ذلك ما جرى منهم في الغدر فراسل الإفرنج ملك الألمان، وكان قد ملك صقلية وعرّفوه أن المسلمين اشتغلوا بحرب بعضهم بعضا فأقبل في مراكبه إلى عكا، واتفق هلاك الكندهري ساقطا من شباك له، فتملك الألماني مكانه وسارا إلى بيروت فملكها من المسلمين، وكان بها عز الدين أسامة.
(2)
قال بيبرس: وفيها ملك العادل بيروت من الفرنج، وذلك أنها كانت بيد المسلمين وكان بها أمير يعرف بأسامة، وكان بطلًا شجاعًا يجهز المراكب في كل وقت على الإفرنج، فشكوا ذلك إلى الملك العادل بدمشق وإلى العزيز بمصر، فلم يزيلوا شكايتهم، فصار يقطع عليهم الطريق ويأخذ أموالهم، فشكوا ذلك إلى ملوك الفرنج الذين داخل البحر وقالوا لهم: إن لم تنجدونا أخذ المسلمون البلاد فأمدهم الفرنج بالعساكر الكثيرة وكان
(*) يوافق أولها 24 نوفمبر سنة 1196 م.
(1)
خربة اللصوص: بلدة واقعة على الطريق بين دمشق وبيسان. السلوك، جـ 1، ق 2، ص 211، حاشية 1.
(2)
ورد هذا الحدث بتصرف في الكامل، جـ 12، ص 53؛ الروضتين، ج 2، ص 233؛ نهاية الأرب، ج 28، ص 453 - ص 454.
أكثرهم من جهة ملك الألمان وكان المقدم عليهم قسًا يعرف بالحصكير
(1)
، فلما سمع العادل أرسل إلى العزيز بمصر يطلب [العساكر، وأرسل إلى ديار الجزيرة والموصل يطلب العساكر]
(2)
أيضا، فجاءه الأمراء، واجتمعوا على عين جالوت، فأقاموا شهر رمضان وبعض شوال، ودخلوا إلى يافا وملكوا المدينة، وامتنع من بها بالقلعة التي لها، فخرب المسلمون القلعة وملكوها عنوة بالسيف، وأُخذ كل ما بها
(3)
غنيمة وأسرًا وسبيًا، ووصل الفرنج من عكا إلى قيسارية ليمنعوا المسلمين عن يافا فوصلهم الخبر بأن المسلمين ملكوها ثم سار المسلمون إلى عين جالوت، فوصل الخبر أن الإفرنج على قصد بيروت، فرحل العادل والعسكر في ذي القعدة إلى مرج العيون وعزم على تخريب بيروت، فسير إليها جمعًا من العسكر وهدموا سور المدينة وشرعوا في تخريب دورها وتخريب القلعة، فمنعهم أسامة من ذلك وتكفل بحفظها، ورحل الفرنج من عكا إلى صيدا، وعاد عسكر المسلمين عن بيروت فلقوا الفرنج بنواحي صيدا، وتقابلوا فقتل منهم جماعة وحجز بينهم الليل، فوصلوا إلى بيروت فلما قاربوها هرب منها أسامة ومن معه من المسلمين فملكوها عفوًا صفوًا بغير حرب ولا قتال، فكانت غنيمة باردة، فأرسل العادل إلى صيدا من خرب ما كان بقي منها، فإن صلاح الدين كان قد خرب أكثرها وسافرت العساكر الإسلامية إلى صور فقطعوا أشجارها وخربوا مالها من قرى وأبراج، فلما سمع الفرنج بذلك رحلوا عن بيروت إلى صور وأقاموا عليها ونزل المسلمون عند قلعة هونين، وأذن العادل للعساكر الشرقية في العود إلى بلادهم ظنًا منه أن الإفرنج يقيمون ببلادهم، وأراد أن يعطى العساكر المصرية دستورًا فأتاه الخبر أن الإفرنج يريدون يحصرون حصن تبنين، فسير إليه عسكرًا يحمونه ويمنعون عنه، ورحل الفرنج من صور ونازلوا تبنين
(4)
، ولما أخذت الفرنج بيروت من يد صاحبها عز الدين سأمه من غير قتال ولا نزال، قال بعض الشعراء في الأمير سامه:
سلم الحصن ما عليك ملامة
…
ما يلام الذي يروم السلامة
إن أخذ الحصون
(5)
من غير حرب
…
سنة سنها بيروت سامة
(1)
"خنصلير" كذا في الكامل، جـ 10، ص 246، وقد أبقينا على ما ذكره العيني.
(2)
ما بين الحاصرتين ساقط من الأصل. والمثبت من الكامل، جـ 10، ص 246.
(3)
"كلما" كذا في الأصل والتصحيح من الكامل، جـ 10، ص 246.
(4)
نقل العينى هذا الحدث بتصرف من الكامل، جـ 10، ص 245 - ص 247.
(5)
ورد هذا الشعر في مرآة الزمان، جـ 8، ص 291 - ولكن ورد مختلفا في الروضتين، جـ 2، ص 233؛ والبداية والنهاية، جـ 13، ص 15.
وقال أبو شامة: ومن عجيب ما بلغني أنه لما كان الملك العادل فتح يافا بالسيف كان في قلعتها من الخيالة أربعون فارسًا من الفرنج العرب البحرية، فلما تحققوا نقب القلعة وأخذها دخلوا إلى كنيستها وأغلقوا عليهم بابها، وتجالدوا بسيوفهم بعضهم لبعض إلى أن هلكوا جميعًا وكسر المسلمون الباب وهم يرون أن الفرنج ممتنعون فوجدوهم قتلى عن آخرهم، فعجبوا من حالهم.
(1)
ذكر تسَحُّب أبي الهيجاء إلى بغداد
وفي هذه السنة تسحب أبو الهيجاء السمين إلى بغداد، وكان من أمراء مصر المشهورين، وكان من جملة إقطاعه القدس وغيره مما يجاوره، فلما ملك العزيز والعادل أخذا القدس منه كما ذكرنا، فتوجه إلى بغداد فأكرم الخليفة الناصر مثواه فأمره بالمسير إلى همدان مقدمًا على الجيوش البغدادية، فلما وصلها حضر إليه أزبك بن البهلوان صاحبها وأمير علم [وابنه]
(2)
وابن سطمش وغيرهم، وكانوا قد كاتبوا الخليفة بالطاعة، فلما اجتمعوا بأبي الهيجاء ووثقوا إليه ولم يحذروه قبض على أزبك بن البهلوان وابن سطمش وابن قرا بموافقة أمير علم، فلما وصل الخبر بذلك إلى بغداد أنكرت هذه الحال على أبي الهيجاء وأمر بالإفراج عن الجماعة، وسيرت لهم الخلع من بغداد تطييبًا لقلوبهم، فلم يسكنوا لهذه الحادثة ولا أمنوا بعدها، ففارقوا أبا الهيجاء فخاف الديوان فلم يرجع إليه ولم يمكنه المقام فعاد يريد إربل فمات قبل أن يصل إليها
(3)
. وفي المرأة
(4)
: وفي هذه السنة قدم حسام الدين أبو الهيجاء السمين بغداد وخرج الموكب للقائه في زي عظيم، ورتب الأطلاب على ترتيب الشام وكان في خدمته عدة من الأمراء، وكان معه ولدا أخيه عز الدين كر والغرز
(5)
، وأول ما تقدم طلب كر ثم الغرز ثم أمير أمير، وجاء هو بعد الكل في العُدد الكامل والسلاح التام، وخرج جميع من ببغداد للقائه، وكان رأسه صغيرًا وبطنه كبيرًا جدًا بحيث كان على رقبة البغلة وكان قد رآه عند الحربية رجل كواز فعمل في ساعة كوزًا من طين وسبقه فعلقه في السوق، فلما اجتاز به ضحك وعمل أهل
(1)
لم يرد هذا التعقيبة في الروضتين، جـ 2، ص 232 - ص 233؛ ورد بتصرف في الكامل، جـ 10، ص 245 - ص 246.
(2)
ما بين حاصرتين إضافة من الكامل، جـ 10، ص 245.
(3)
ورد هذا الخبر بتصرف في الكامل، جـ 10، ص 245.
(4)
مرآة الزمان، جـ 8، ص 290.
(5)
"العرس" في مرآة الزمان، جـ 8، ص 290.
بغداد بعده كيزانًا وسموها أبا الهيجاء السمين على صورته، وأنزله الخليفة بدار العميد غربي بغداد بعد أن عبر إلى الجانب الشرقي، وقبل عتبة باب النوبي وقام له الخليفة وأكرمه بالضيافات، ثم أمره أن يجرد جماعة من أصحابه مع عسكر الخليفة إلى همذان، فجرد جماعة فلما بعدوا من بغداد نهبوا خزانة الخليفة وقتلوا جماعة من عسكره ومضوا إلى الموصل والجزيرة، وعاد عسكر الخليفة إلى بغداد وقد خرجوا، فنقله الخليفة إلى الجانب الشرقي إلى دار عند النظامية كانت لسلطان دمشق مجير الدين أبق، ووكل به ثم خلع عليه بعد ذلك الجبة والفرجية
(1)
والعمامة السوداء والقباء الأسود وبين يديه الخيل بمراكب الذهب. قال السبط: وقد شاهدته وأنا صغير في هذه السنة وأعطاه الأموال والرجال، وسار إلى همذان
(2)
فلم يتم له أمر واختلف الأمراء عليه وتفرق عنه أصحابه، فخاف من الخوارزمي واستحي أن يعود إلى بغداد فسار يطلب الشام على دقوقا، فلما وصل إليها مرض وأقام بها أيامًا فتوفي. قال السبط: وبلغني أنه كان نازلًا على تل فقال ادفنوني فيه، فحفروا له قبرًا على رأس التل
(3)
فظهرت بلاطة عليها اسم أبيه فدفنوه عليه. وذكر السبط وفاته في سنة أربع وتسعين، وذكر غيره أنه توفي في هذه السنة أعني سنة ثلاث وتسعين
(4)
والله أعلم. وكان كرديًا من أكابر أمراء الناصر صلاح الدين يوسف، وهو الذي كان نائبًا على عكا وهي محاصرة، ثم خرج منها ودخلها سيف الدين علي بن أحمد المشطوب، ثم استنابه صلاح الدين علي بيت المقدس، ثم لما أخذها العزيز عزل عنها ثم ذهب إلى بغداد كما ذكرنا.
ذكر بقية الحوادث
منها أن في ليلة الجمعة التاسع من جمادى الآخرة أظلمت الدنيا بسحاب متكاثف وظهرت رعود وبروق كثيرة شديدة وهبت رياح عاصفة بحيث ارتجت لها الحيطان والجدران، وثار بين السماء والأرض عجاج، وخاف الناس الرجال والنساء فاعتصموا
(1)
"الفرجية": قميص فوقاني يُرتدي فوق الملابس، وجمعها فراجي، وفرجيات، ماير، الملابس المملوكية، ص 95.
(2)
نقل العينى هذا الحدث بتصرف من مرآة الزمان، جـ 8، ص 290 - ص 291.
(3)
"النهر" كذا في الأصل، والمثبت من مرآة الزمان، جـ 8، ص 294 - 295.
(4)
اتفق سبط ابن الجوزي في وفاة أبي الهيجاء أنه عام 594 هـ مع كل من ابن تغري بردي، النجوم الزاهرة، جـ 6، ص 145، وابن العماد الحنبلي، شذرات الذهب، جـ، ص 317 وممن اختلفوا معهم وقالوا بأن الوفاة كانت عام 593 هـ كل من: ابن الأثير، الكامل، جـ 10، ص 245؛ ابن كثير، البداية والنهاية، جـ 13، ص 15.
بالمساجد الجامعة بحيث أيسوا من الحياة وترقبوا الهلاك، وما حسبوا ذلك إلا قيام الساعة، وكان ذلك أمرًا عظيمًا. وفي عقيب ذلك وردت الأخبار بأن مراكب كثيرة غرقت في البحر، وانفلقت أشجار كثيرة في البراري، وهلك ناس كثير في الأسفار
(1)
، وكتب بذلك القاضي الفاضل إلى القاضي محيي الدين بن الزكي وأخبره بذلك في كتابه بعبارات فائقة وإشارات
(2)
رائقة.
ومنها أنه خرجت المراكب الحربية من مصر للغارة فوجدوا بطسًا للفرنج فملكوها وأصابوا فيها أموالًا
(3)
وغير ذلك. وكان فيها سبعون فارس فبذل أحدهم في فدائه ثمانين ألف دينار.
(4)
ومنها أن الأمير فخر الدين إياز جهاركس الناصري بني القيسارية
(5)
المعروفة به بالقاهرة
(6)
.
ومنها أنه وقعت الزلزلة بمصر.
وفيها ................................................
(7)
وفيها حج بالناس من بغداد شمس الدين أصبية، ومن الشام سيف الدين محمد بن نميرك، وحج من الشام أيضًا عز الدين سامه، وله آثار بالمدينة النبوية من القناة وعمارة القبة على قبر أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه.
(8)
(1)
ورد هذا الخبر بتصرف في البداية والنهاية، جـ 13، ص 13 - ص 14: الكامل، جـ 10، ص 243؛ مرآة الزمان، جـ 8، ص 288.
(2)
ورد نص هذا الكتاب في الروضتين، جـ 2، ص 232.
(3)
ورد هذا الحدث بتصرف في نهاية الأرب، جـ 28، ص 453 - ص 454.
(4)
السلوك، جـ 1، ق 1، ص 139.
(5)
عن قيسارية جهاركس. انظر. الخطط، جـ 2، ص 87؛ السلوك، جـ 1، ق 1، ص 139.
(6)
نهاية الأرب، جـ 28، ص 454.
(7)
بياض في الأصل بمقدار سطر.
(8)
مرآة الزمان، جـ 8، ص 291.
ذكر من توفي فيها من الأعيان
قاضي القضاة ببغداد أبو طالب على بن على بن هبة الله بن محمد البخاري
(1)
سمع الحديث على أبي الوقت وغيره، وتفقه على أبي القاسم بن الفضلان، وتولي نيابة الحكم ببغداد ثم استقل بالمنصب وأضيف إليه في وقت نيابة الوزارة، ثم عزل عن القضاء ثم أعيد، ومات في هذه السنة وهو حاكم، وكان فاضلًا بارعًا من بيت الفقه والعدالة، وله شعر حسن، فمنه قوله:
تنح عن القبيح ولا تردهُ
…
ومن أوليته حسنًا فزده
كفى بك من عدوك كل كيد
…
إذا كاد العدو ولم
(2)
تكده
(3)
نقيب الطالبين ببغداد أبو محمد الحسن بن علي بن حمزة بن محمد بن الحسن بن محمد بن الحسن بن محمد بن علي بن محمد بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب العلوى الحسيني المعروف بابن الأقساسي الكوفي مولدًا ومنشًا، مات في هذه السنة وكان شاعرًا فطينًا [214] امتدح الخلفاء والوزراء، وهو من بيت مشهور بالأدب والرئاسة والمروءة، وقدم بغداد فامتدح المقتدى وابنه المستنجد وابنه المستضيء وابنه الناصر، وهو الذي ولاء نقابة الطالبين، وكان شيخًا مهيبًا جاوز الثمانين، وقد أورد له ابن الساعاتي
(4)
قصائد كثيرة فمنه قوله:
اصبر على كيد الزما
…
ن فما يدوم على طريقهْ
سبق القضاء فكن به
…
راضٍ ولا تطلب حقيقهْ
كم قد تقلب مرة
…
وأراك من سعةٍ وضيقهْ
ما زال في أولاه
…
والأخرى على هذيِ الخليقهْ
(5)
(1)
انظر ترجمته في الكامل، جـ 10، ص 248؛ الشذرات، جـ 4، ص 315.
(2)
"لم" كذا في الأصل والتصحيح من ابن كثير حيث ينقل العينى منه، انظر: البداية والنهاية، جـ 13، ص 15.
(3)
ورد هذا الخبر في البداية والنهاية، جـ 13، ص 15.
(4)
"الساعي" في البداية والنهاية، جـ 13، ص 18.
(5)
ورد هذا الخبر في ابن كثير مع اختلاف في البيت الأخير، البداية والنهاية، جـ 13، ص 15 - ص 16.
الغزنوي
(1)
الحنفي أحمد بن محمد بن محمود بن سعيد الغزنوي معبد درس الإمام الكاشاني صاحب "البديع"، تفقه على أحمد بن يوسف الحسيني العلوى، وانتفع به جماعة من الفقهاء وتفقهوا به، وصنف في الفقه والأصول كتبًا حسنة مفيدة منها: كتاب "روضة اختلاف العلماء"، ومقدمته المختصرة المشهورة في الفقه، وكتاب في أصول الفقه، وكتاب في أصول الدين ووسمه "بروضة المتكلمين"، واختصره ووسمه "بالمنتقى من روضة المتكلمين". توفي بحلب بعد سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة، ودفن بمقابر الفقهاء الحنفية قبل مقام إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام.
صاحب الهداية الإمام برهان
(2)
الدين علي بن أبي بكر بن عبد الجليل الفرغاني المرغيناني، شيخ الإسلام العلامة المحقق محيي مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه، أقر له أهل عصره بالفضل والتقدم كالإمام فخر الدين قاضي خان والإمام زين الدين العتابي، تفقه على جماعة منهم: الإمام نجم الدين أبو حفص عمر بن محمد بن أحمد النسفي
(3)
وفاق شيوخه وأقرانه وأذعنوا له كلهم ولاسيما بعد تصنيفه كتاب الهداية
(4)
وكفاية المنتهي
(5)
، ونشر المذهب وتفقه عليه الجم الغفير، وممن انتفع به كثيرًا وتخرج به، وروى الهداية للناس عنه شمس الأئمة محمد بن عبد الستار الكردري، مات في هذه السنة. والفرغاني نسبة إلى فرغانة بفتح الفاء مدينة وراء الشاش وراء سيحون. وفرغانة أيضًا قرية من قرى فارس وإلى الأولى ينسب صاحب الهداية، والمرغيناني نسبة إلى مرغينان بفتح الميم وسكون الراء وكسر الغين المعجمة وسكون الياء آخر الحروف وفتح النون وبعدها ألف ساكنة بعدها نون، وهي مدينة من بلاد فرغانة والله أعلم.
الإمام قاضي خان: أحد السادات الحنفية، اسمه الحسن بن منصور بن أبي القاسم، محمود بن عبد العزيز الأوزجندي الفرغاني، الملقب بقاضي خان، الإمام
(1)
انظر: هداية العارفين، جـ 1، ص 89.
(2)
برهان الدين علي بن أبي بكر بن عبد الجليل الفرغاني المرغيناني، توفي 593 هـ. انظر ترجمته في إسماعيل البغدادي، هداية العارفين، جـ 1، ص 702.
(3)
هو عمر بن محمد بن أحمد بن إسماعيل بن محمد بن لقمان النسفي الإمام نجم الدين أبو حفص السمرقندي الفقيه الحنفي، توفي 537 هـ. انظر: شذرات الذهب، جـ 4، ص 115، إسماعيل البغدادي، هداية العارفين، جـ 1، ص 783.
(4)
"هداية لشرح بداية المبتدي في الفروع". انظر: البغدادي، هداية العارفين، جـ 1، ص 702.
(5)
"كفاية المنتهى في شرح بداية المبتدي، البغدادي، هداية العارفين، جـ 1، ص 702.
العلامة فخر الدين، تفقه على الإمام أبي إسحاق إبراهيم بن إسماعيل بن أبي نصر الصفاري الأنصاري، والإمام ظهير الدين أبي الحسن علي بن عبدالعزيز المرغيناني، ونظام الدين أبي إسحق إبراهيم بن على المرغيناني، مات في هذه السنة، والأصح ما ذكره صاحب طبقات الحنفية أنه توفي ليلة الاثنين الخامس عشر من رمضان سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة، ودفن عند القضاة السبعة.
ابن الباقلاني
(1)
المقري: اسمه عبد الله بن منصور بن عمران أبو بكر، ولد سنة خمسمائة، وقرأ بواسط على أبي العز محمد بن الحسين بن بندار القلانسي وغيره، وانفرد بالرواية في القراءات العشر عن القلانسي، وقدم بغداد فقرأ على أبي محمد عبد الله بن علي سبط أبي منصور الخياط وغيره، وكان قدومه إلى بغداد سنة ست وسبعين وخمسمائة، وتوفي بواسط سلخ ربيع الآخر في هذه السنة، ودفن عند أبيه بمقبرة المصلى، وكان يومًا مشهودًا، ورآه بعض الأعيان في المنام فقال له: ما فعل الله بك؟ فقال: صلي على سبعون ألف من الأبدال.
عبد الوهاب
(2)
بن الشيخ عبد القادر الجيلى: مات في هذه السنة في شوال ودفن بالحلة، وكان مولده في سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة، وتفقه ووعظ وكان ذكيًا، وولاه الخليفة المظالم وتربة الخلاطية، وكانت مجالس وعظه تمضي في الهزل والمجون، قيل له يومًا: ما تقول في أهل البيت؟ فقال: قد أعموني، وكان أعمش، والسائل إنما سأل عن فضل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجاب عن بيت نفسه، وقيل له: بأى شئ يتبين المحق من المبطل؟ فقال: بليمونة أراد من يخضب يزول خضابه بليمونة.
يحيى
(3)
بن أسعد بن يحيى بن بُوش، أبو القاسم الخباز البغدادي، سمع الكثير، وكان قد افتقر في آخر عمره، فكان يأخذ على التسميع أجره، جلس ليلة الأربعاء ثالث ذي القعدة يأكل خبزة فغص بلقمة فمات فجأة في هذه السنة، سمع
(1)
نقل العينى هذه الترجمة عن سبط ابن الجوزي: مرآة الزمان، جـ 8، ص 291. انظر أيضًا: الكامل، جـ 12، ص 54؛ وفيات الأعيان، جـ 4، ص 269 - 270 (ترجمة 608)؛ شذرات الذهب، جـ 4، ص 314.
(2)
نقل العينى هذه الترجمة باختصار من مرآة الزمان، جـ 8، ص 291 - 292؛ انظر أيضًا: شذرات الذهب، جـ 4، ص 314.
(3)
نقل العينى هذه الترجمة عن مرآة الزمان، جـ 8، ص 292. انظر أيضًا: شذرات الذهب، جـ 4، ص 315.
قاضي المارستان، وأبا العز بن كادش، وابن الطيوري، وأبا طالب بن يوسف وهو آخر من روي عن أبي طالب، وكان ثقة.
الوزير أبو المظفر عبيد الله بن يونس بن أحمد الحنبلي: ولقبه جلال الدين
(1)
، كان في بدء أمره أحد العدول ببغداد، ثم خدم في ديوان الأبنية، ولما مات أبوه يونس توكل لأم الخليفة، ثم ولي صاحب ديوان، ثم استوزره الخليفة وبعثه إلى طغريل فكسر وعاد إلى بغداد، فولاه الخليفة الديوان والمخزن، ثم ولاه أستاذ الدار، ثم عزله، وكان قد قرأ القرآن على صدقة بن الحداد وغيره، وتفقه على ابن حكيم النهرواني، وسمع أبا الوقت وغيره، ولما سافر إلى همذان سمع من أبي العلاء الحافظ الهمذاني، وكان فاضلًا في الأصولين والحساب والهندسة، وله تصنيف في الأصول غير أنه شان فضله بمقاصده السيئة ورأيه الفاسد وحقده وحسده ولجاجته، وكسر عسكر الخليفة بمخالفته للأمراء ولجاجته وكونه استعجل على لقاء طغريل، وأخرب بيت الشيخ عبد القادر وشتت أولاده، ويقال: إنه بعث في الليل من نبش الشيخ عبد القادر ورمي عظامه في اللجة، وقال: هذا وقف ما يحل أن يدفن فيه أحد، ولما اعتقله الخليفة كُتِبَتْ فتوى بأنه كان سبب هزيمة عسكر الخليفة وذكروا أشياء أخر، فأفتوا بإباحة دمه، فسلم إلى أحمد بن الوزير بن القصاب، فبقي في داره، فلما مات ابن القصاب اعتقل في التاج وأخرج في سابع عشر صفر ميتًا ودفن بالسرداب.
وأما صدقه بن الحداد الذي قرأ عليه ابن يونس القرآن فهو صدقة بن الحسين بن الحسن أبو الفتح الناسخ الحنبلي يعرف بابن الحداد، حفظ القرآن وتفقه وأفتي وناظر لكنه قرأ الشفاء لابن سينا، وكتب الفلاسفة فتغير اعتقاده، وكان يبدر من فلتات لسانه ما يدل على سوء عقيدته، وتارة يسقف
(2)
من جنس ابن الراوندي، وتارة يشير إلى عدم بعث الأجساد، وتارة يعترض على القضاء والقدر، وله أشعار تتضمن شيئًا من ذلك، فمات في سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة.
(1)
شذرات الذهب، جـ 5، ص 313 - ص 314.
(2)
يسقف: سقف البناء أو البيت: طول في أنحاء والمقصود أنه جعل ابن الراوندي سقفًا له أي تبعه. لسان العرب، جـ 3، مادة "سقف".
صَنْدَل بن عبد الله الخادم
(1)
المقتفوي، ويلقب عماد الدين، كان أكبر الخدم وأعقلهم، أرسله الخليفة الناصر إلى السلطان صلاح الدين مرارًا، وكان كثير الصدقات والخير، ولي ناظرًا بواسط، ومدحه ابن المعلم الشاعر بقصائد. مات في هذه السنة، ودفن بالتربة التي أنشأها عند الجامع غربي بغداد.
ابن الغريق الشاعر: هو أحمد بن عيسى الهاشمي من ولد الواثق بالله ويعرف بابن الغريق من أهل الحريم الظاهري، وكان شاعرًا ناظمًا من شعره ما اعتذر به عن الاكتحال يوم عاشوراء:
لم أكتحل في صباح يوم أريق فيه دم الحسين
إلا لحزني وذاك أني سودت حتي بياض عيني
وكانت وفاته في ذي القعدة عن ثمانين سنة، ودفن بباب حرب.
سيف
(2)
الإسلام طغتكين بن نجم الدين أيوب: أخو السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، ويلقب بظهير الدين، ملك، اليمن، توفي في شوال من هذه السنة بمدينة زبيد. وكان قد جمع أموالًا جزيلة جدًا، وكان يسبك الذهب مثل الطواحين.
ويدخره كذلك. فقام في الملك بعده ولده إسماعيل، ويلقب بالملك المعز، وكان إذ ذاك بالسيرين
(3)
فبعث إليه جمال الدولة كافور جماعة من الجند فعرفوه بوفاة أبيه، ومضوا به إلى ممالك أبيه، فسلموها إليه.
وفي تاريخ بيبرس: وفي
(4)
سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة توفى الملك العزيز سيف الإسلام طغتكين باليمن بالمنصورة التي أنشأها وكان قد طرد ولده المعز شمس الملوك إسماعيل إلى الحجاز لأمر نقمه عليه، فلما سمع بوفاة والده عاد إلى اليمن وملك بعده.
(5)
(1)
انظر ترجمته في الذيل على الروضتين، ص 11.
(2)
انظر: مرآة الزمان، جـ 8، ص 291؛ الكامل، جـ 12، ص 54؛ شذرات الذهب، جـ 4، ص 312؛ المختصر، جـ 3، ص 93.
(3)
في أبي الفداء "السمرين" المختصر، جـ 3، ص 93؛ وفي ابن واصل "السرين" مفرج الكروب، جـ 3، ص 73. وسرين: بلدتان، إحداهما بليد قريب من مكة على ساحل البحر بينها وبين مكة أربعة أيام أو خمسة قرب جدة، والثانية في أعمال صنعاء قوية. معجم البلدان، جـ 3، ص 89.
(4)
نقل العينى هذا الحدث بتصرف عن مفرج الكروب، جـ 3، ص 73.
(5)
ورد هذا الخبر بتصرف في نهاية الأرب، جـ 28، ص 454.
وكان شمس الملوك المذكور قد عزم على قصد الديار المصرية وادعى الخلافة وتلقب بالهادي، فكتب إليه عمه يوبخه ويقبح عليه فعله ويأمره بالرجوع إلى نسبه، وكان قد أساء السيرة مع أمرائه وجنده فوثبوا عليه وقتلوه
(1)
. وقال ابن كثير: وكان إسماعيل هذا أهوج قليل التدبير، فحمله جهله على أنه ادعى أنه قرشي أموى وتلقب بالهادي، فكتب إليه عمه [العادل]
(2)
ينهاه عن ذلك فلم يقبل منه بل تمادى في ذلك وأساء إلى الأمراء والرعية، فقتل وولي بعده مملوك من مماليك أبيه
(3)
. وكان سيف الإسلام طغتكين شجاعا شهمًا شديد السيرة مضيقا على رعيته، يشترى أموال التجار لنفسه ويبيعها كيف شاء، فجمع من الأموال ما لا يحصى، وكانت مدة ملكه اليمن ست عشرة سنة.
ملكشاه ابن تكش: مات في هذه السنة بنيسابور، وكان أبوه خوارزم شاه تكش قد جعل له الحكم على ملك البلاد وجعله ولي عهده، وخلف ملكشاه ولدًا اسمه هندوخان، فلما مات ملكشاه جعل خوارزم شاه تكش فيها عوضه ولده الآخر قطب الدين محمد، وهو الذي ملك بعد أبيه وغير لقبه من قطب الدين إلى علاء الدين وكان بين الأخوين ملكشاه ومحمد عداوة
(4)
مستحكمة.
الست عذراء بنت شاهنشاه بن أيوب: توفيت في هذه السنة ودفنت في مدرستها التي داخل باب النصر
(5)
. وقال أبو شامة
(6)
: وفي عاشر المحرم توفيت الست عذراء بنت شاهنشاه أخت عز الدين فرخشاه، وهي التي نسبت إليها المدرسة العذراوية بدمشق بحضرة باب النصر.
وفيها دفنت الست خاتون والدة الملك العادل، توفيت في هذه السنة ودفنت بدارها بدمشق المجاورة لدار أسد الدين شيركوه، وقال أبو شامة: كانت وفاتها في سادس عشر ذي الحجة في هذه السنة، رحمها الله.
(7)
(1)
ورد هذا الخبر بتصرف في الكامل، ج 10، ص 248.
(2)
ما بين حاصرتين إضافة من البداية والنهاية، ج 13، ص 17.
(3)
انظر: البداية والنهاية، ج 13، ص 15.
(4)
الكامل، ج 10، ص 248.
(5)
نقل العينى هذه الترجمة من البداية والنهاية، ج 13، ص 18.
(6)
الذيل على الروضتين، ص 11.
(7)
نقل العيني هذه الترجمة عن البداية والنهاية، ص 13، ص 18؛ الذيل على الروضتين، ص 11.
كندهرى ملك الإفرنج -لعنه الله- هلك في هذه السنة فسقط من شاهق فراح روحه إلى الهاوية، وبقيت الإفرنج كالغنم بلا راع حتى ملكوا عليهم صاحب قبرس وزوجوه بالملكة امرأة كندهري، وجرت خطوب كثيرة بينهم وبين الملك العادل أبي بكر ابن أيوب ففي كلها يستظهر عليهم ويكسرهم ويقتل خلقًا من المقاتله ولم يزالوا معه كذلك حتى طلبوا منه الصلح والمهادنة فعاقدهم على ذلك في السنة الآتية على ما سنذكره إن شاء الله تعالى
(1)
.
ملك الألمان -لعنه الله- هلك في هذه السنة وانقطع رجاء الإفرنج في بلاد المسلمين بموته.
(1)
إلى هنا توقف العيني عن النقل عن ابن كثير: البداية والنهاية، ج 13، ص 18.
فصل فيما وقع من الحوادث في السنة الرابعة والتسعين بعد الخمسمائة
(*)
استهلت هذه السنة والخليفة هو الناصر لدين الله، وصاحب مصر والشام الملك العزيز بن صلاح الدين يوسف بن أيوب، ونائبه بدمشق الملك العادل عمه، وصاحب حلب أخوه الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين، وهم مشغولون بالجهاد مع الإفرنج فإنه وصل جمع عظيم منهم إلى الساحل واستولوا على قلعة بيروت، فسار الملك العادل ونزل بتل العجول
(1)
وأتته النجدة في مصر، ووصل إليه سنقر الكبير صاحب القدس وميمون القصري صاحب نابلس، ثم سار الملك العادل إلى يافا وهجمها بالسيف وملكها وقتل الرجال المقاتله بها، وكان هذا الفتح ثالث فتح لها، ونازلت الإفرنج تبنين فأرسل الملك العادل إلى الملك العزيز صاحب مصر، فسار الملك العزيز بنفسه بمن بقي عنده من عساكر مصر واجتمع بعمه الملك العادل على تبنين، فرحل الإفرنج على أعقابهم إلى صور خائبين، ثم عاد الملك العزيز إلى مصر وترك غالب العسكر مع عمه العادل وجعل إليه أمر الحرب والصلح، ومات في هذه المدة سنقر الكبير فجعل الملك العزيز أمر القدس إلى صارم الدين قطلق مملوك عز الدين فرخشاه بن شاهنشاه بن أيوب، ولما عاد الملك العزيز إلى مصر في هذه المدة مدحه القاضي ابن سناء الملك بقصيدة منها:
أغثت تبنين وخلصتها
…
فريسة من ماضغي ضيغم
قدمت [بالنصر
(2)
] وبالمغنم
…
[كذا
(3)
] قدوم الملك [الأكرم
(4)
]
قميصك الموروث عن يوسف
…
ما جاء إلا صادقًا في الدم
شنشنة
(5)
تعرف من يوسف
…
في الحرب
(6)
لا تعرف من أخذم
(7)
مقدمه صار جمادي به
…
كمثل ذي الحجة ذا موسم
(8)
(*) يوافق أولها 13 نوفمبر 1197 م.
(1)
تل العجول: بين عكا والعائدية. انظر: ابن شداد: النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية، ص 153، حاشية 1، في Rec. Hist.or.III
(2)
" بالسعد" كذا في الأصل، والتصحيح من ديوان ابن سناء الملك، ج 2، ص 294.
(3)
"كذا" في الأصل، والتصحيح من ديوان ابن سناء الملك، ج 2، ص 294.
(4)
"المقدم" كذا في الأصل والتصحيح من ديوان ابن سناء الملك، ج 2، ص 295.
(5)
شنشنة: هي الطبيعة والعادة. انظر: الفيروزآبادي، القاموس المحيط، مادة شنشن.
(6)
"في النصر" كذا في الأصل والتصحيح من ديوان ابن سناء الملك، جـ 2، ص 295.
(7)
أخزم: يقال كان لأبي أخذم الطائي جد حاتم المشهور بالكرم ابن يسمى أخزم. انظر: ابن سناء الملك، ديوانه، ج 2، ص 295، حاشية 25.
(8)
انظر: ابن سناء الملك، ج 2، ص 294 - 295؛ كما وردت هذه الأشعار في مفرج الكروب، ج 3، ص 77.
ثم طاول الملك العادل الإفرنج فطلبوا الهدنة واستقرت بينهم ثلاث سنين، ورجع الملك العادل إلى دمشق ثم سار من دمشق إلى ماردين وحصرها، وصاحبها يومئذ يولق بن أرسلان بن إيلغازي بن ألبي بن تمرتاش بن إيلغازي بن أرتق
(1)
، وليس ليولق بن أرسلان من الحكم شيء وإنما الحكم إلى مملوك والده البقش
(2)
. وقال ابن كثير
(3)
:
ولما توجه الملك العادل إلى ماردين استناب ولده الملك المعظم عيسى بن العادل على دمشق، ولما وصل إلى ماردين حاصرها في شهر رمضان واستولى على ربضها ومعاملتها وأعجزته قلعتها فصيف عليها وشتى وما شك أحد أنه سيملكها حتى هنته الشعراء بذلك ولكن لم يكن ذلك مكتوبًا ولا مقدرًا، وفي تاريخ بيبرس: وفي سنة أربع وتسعين وخمسائة أحاط الإفرنج بتبنين وحاصروه من جميع جهاته، فلما علم العادل بذلك أرسل عز الدين أسامة إلى العزيز يعلمه بالحال ويستدعي حضوره بنفسه ويعرفه أنه إن لم يسر إلى البلاد بنفسه ما يمكن حفظها، فسار مجدًا فيمن بقي عنده من العساكر بمصر.
وأما أهل تبنين فلما اشتد عليهم الأمر ورأوا النقوب قد أخذت ونفذت ولم يبق إلا أن يملكها الإفرنج بالسيف، نزل بعضهم إلى الإفرنج يطلبون الأمان لأنفسهم، فقال لهم بعض الإفرنج الذين من ساحل الشام: إن أنتم سلّمتُم الحصن لهذا القسيس استأسركم وقتلكم، فاحفظوا نفوسكم، وكان ذلك القسيس من أصحاب ملك الألمان يسمى الخنصلير فعاد المسلمون كأنهم يراجعون من في القلعة ليسلموا، فلما صعدوا عليها أصروا على الامتناع وقاتلوا قتال من يحمي نفسه فحموها، فلما وصل العزيز إلى عسقلان وسمع الإفرنج بوصوله وأجتماع المسلمين ولم يكن لهم ملك يجمعهم وأمرهم إلى امرأة هي الملكة فاتفقوا وأرسلوا إلى هنفري ملك قبرس فأحضروه، وهو أخو الملك الذي أسر بحطين، فزوجوه بزوجة الكندهري وكان رجلا عاقلا، فلما ملكهم لم يعد إلى الزحف على الحصن ولا القتال، وأتفق وصول العزيز فرحل هو والعساكر إلى جبل الخليل عليه السلام وهو جبل عامله فأقاموا أياما والأمطار
(4)
متداركة، ثم سار العزيز إلى الإفرنج ورتب
(1)
يولق بن أرسلان هو حسام الدين بولي أرسلان بن إيلغازي بن ألبي بن تمرتاش بن إيلغازي ابن أرتَق. انظر: الكامل، ج 10، ص 260 - 261، أحداث 595 هـ.
(2)
"برتقش" في الكامل، ج 10، ص 25؛ المختصر، ج 3، ص 97.
(3)
البداية والنهاية، جـ 13، ص 18.
(4)
مرآة الزمان، جـ 8، ص 292 - ص 293.
العساكر للزحف على الإفرنج، فرحلوا إلى صور ومنها توجهوا إلى عكا، فعاد العزيز إلى مصر قبل انفصال الحال، وسبب رحيله أن جماعة من الأمراء عزموا على قتله وهم: ميمون القصري، وأسامة، وسرا سنقر، والجحاف، وابن المشطوب، وترددت الرسل إلى عكا بين الإفرنج والعادل إلى أن تقرر الصلح، ورحل العادل إلى دمشق ثم سار منها إلى قلعة وكتب إلى العزيز يخبره بذلك وبوصول ولده الكامل من حران، مخبرًا بأن صاحب الموصل قد حلف للعزيز على الطاعة والموالاة وأنه يخطب له ببلاده ويضرب السكة باسه وينجده بعسكره كما كان مع أبيه، وذلك بتوسط الظاهر صاحب حلب، وكان الواصل في هذه الرسالة صدر الدين شيخ الشيوخ.
وفي المرآة: وفي هذه السنة نزلت الفرنج في المحرم على تبنين، فأرسل العادل محيي الدين بن زكي الدين إلى العزيز إلى مصر يستنجده، فخرج بجيوشه إلى الشام فوصل ثالث ربيع الأول، وكانوا قد ضايقوا الحصن ونقبوه من كل جانب، وأشرف على الأخذ وهدّه بالمجانيق ونقبوه سربًا سربًا، وكانوا يستظلون من المطر وجعلوا النقوب بيوتًا يسكنوها، وكان الإفرنج يحدقون
(1)
المسلمين من النقوب ويحدثونهم
(2)
وكان العادل نازلًا عند هونين ومعه شيركوه صاحب حمص، والأمجد صاحب بعلبك، وعز الدين بن المقدم ودلدروم صاحب تل باشر، وجاءهم العزيز فساروا جميعًا إلى هونين، فلو تأخر يومًا لأخذت تبنين وقتل من فيها، وأرسل الله في تلك الليلة مطرًا عظيمًا وريحًا شديدة وأوقع في قلوب الإفرنج الرعب، وقيل: جاءكم سلطان مصر والعساكر، فتركوا المناجيق والدبابات والآلات بحالها والخيام وما فيها وهربوا في الليل إلى صور، ثم بعثوا يطلبون الصلح فصالحهم العزيز على قاعدة صلح صلاح الدين، وخلع العزيز على المعظم عيسى ابن العادل وأعطاه سنجقًا ومنشورًا بدمشق وعاد إلى مصر، ومضى العادل إلى ماردين فحصرها في رمضان وملك الربض ولم يبق سوى القلعة.
(3)
(1)
"يحدثون" كذا في الأصل والمثبت من مرآة الزمان، جـ 8، ص 292.
(2)
"ويحدثهم" كذا في الأصل والمثبت من مرآة الزمان، جـ 8، ص 292.
(3)
مرآة الزمان، جـ 8، ص 292 - 293.
قال بيبرس في تاريخه: وفيها أخبر العزيز بأن ميمونًا القصري والي نابلس أخرج مالًا واستخدم رجالًا لقصد بلاد اليمن، واستقصد سنقر الحلبي ليسير معه وأعطاه عشرين ألف درهم، واستقصد ألطنبغا الجوكندار وأسامه وعمر بن جكو وذلك لما قتل شمس الملوك بن طغتكين باليمن، فانزعج العزيز لذلك وخاف وسير إلى ميمون عز الدين أيبك فطيس أمير جاندار
(1)
ليثنيه عن طريقه ويصرفه عن قصده ويبذل له ما يريده، ثم بلغه قوة أمره ووصله الخبر بأنه أنفق من ماله لمن تابعه على قصده سبعين ألف دينار، فلاطفه وأرسل إليه فخر الدين أياز جهركس وأسد الدين سرا سنقر والمخلص قايماز، وزاده مائة فارس على عدته، وأقطعه غزة وغيرها، وأقطع عز الدين أسامة الناصر.
وفيها وصل فارس الدين ميمون القصري إلى العزيز، فأمر الأمراء والأعيان بتلقيه وأكرم مثواه ومنزله وزاده في إقطاعه ووجهه إلى نابلس وبيسان والطبرية والحصون التي استقرت بيده ويد عز الدين أسامة واستقر لميمون أربعمائة ألف دينار والأسامة ثلثمائة ألف دينار.
ذكر استيلاء صاحب الموصل على نصيبين
وفي جمادى الآخرة سار نور الدين أرسلان شاه بن مسعود بن مودود بن زنكي صاحب الموصل إلى نصيبين واستولى عليها وأخذها من ابن عمه قطب الدين محمد بن زنكي فأرسل قطب الدين محمد واستنجد بالملك العادل، فسار الملك العادل إلى البلاد الجزرية ففارق نور الدين أرسلان شاه نصيبين وعاد إلى الموصل، فعاد قطب الدين محمد بن زنكي وتسلم نصيبين.
(2)
وقال بيبرس: وسبب ذلك أن عمه عماد الدين كانت له نصيبين، فتطاول نوابه بها واستولوا على عدة قرى من أعمال بين النهرين من ولاية الموصل المجاورة لنصيبين، فبلغ الخبر مجاهد الدين قايماز القائم بتدبير مملكة نور الدين بالموصل كلها، فأرسل إلى عماد الدين وقبح عليه الفعل الذي فعله نوابه بغير أمره، فأجاب بأن هذه القرى من أعمال نصيبين فترددت الرسل بينهم فلم يرجع عن رأيه، فعند ذلك أعلم مجاهد الدين نور الدين بذلك ولم يكن أعلمه بذلك قبل هذا، فأرسل نور الدين إليه فلم يلتفت إليه وحذره الرسول من عاقبة هذا، فأغلظ عليه عماد
(1)
الجاندار: هو الأمير الذي يستأذن على دخول الأمراء للخدمة السلطانية ويدخل أمامه إلى الديوان. القلقشندي، صبح الأعشى، ج 4، ص 20؛ ج 5، ص 459.
(2)
ورد هذا الحدث بالتفصيل في الكامل، ج 10، ص 250 - ص 251؛ مفرج الكروب، ج 3، ص 748 - ص 79.
الدين القول وعرض بذم نور الدين وعزم على المسير إلى نصيبين وأخذها من عمه، فاتفق أن عمه مات وملك بعده ابنه، فقوى طمعه فمنعه مجاهد الدين فلم يمتنع فسار إليها، ولما سع قطب الدين صاحبها سار إليها من سنجار بعسكره ونزل عليها ليمنع نور الدين منها، فوصل نور الدين وتقدم إلى البلد، وكان بينهما نهر فجازه بعض أمرائه وقاتل من بإزائه فلم يثبتوا له، فعبر جميع العسكر النوري وتمت الهزيمة على قطب الدين، وصعد هو ونائبه برنقش إلى قلعة نصيبين، وأدركهم الليل فخرجوا منها هاربين إلى حران وراسلوا الملك العادل أبا بكر بن أيوب وهو بدمشق، وبذلوا له الأموال الكثيرة لينجدهم ويعيد نصيبين إليهم، وأقام نور الدين بنصيبين مالكًا لها فتضعضع عسكره بكثرة المرض ومات كثير منهم وعاد إلى الموصل
(1)
، فلما فارق نصيبين تسلمها قطب الدين ووصل العادل إلى الديار الجزرية وقصد قلعة ماردين فحصرها وضيق على أهلها وأقطع أعمالها.
ذكر تملك ملك الغورية مدينة بلخ
(2)
وعبور الخطأ
(3)
نهر جيحون
وفي هذه السنة ملك [ملك]
(4)
الغورية مدينة بلخ من الخطأ، وكان يملكها تركيًا اسمه أزبه، فسار إليها بهاء الدين سام بن محمد بن مسعود وهو ابن أخت غياث الدين فملكها وتمكن منها، وقطع الحمل إلى الخطأ وخُطب لغياث الدين وصارت من جملة بلاد الإسلام.
وفيها عبر الخطأ نهر جيحون إلى ناحية خراسان فأفسدوا في البلاد، فلقيهم عسكر غياث الدين [الغوري]
(5)
وقاتلوهم فانهزم الخطأ وسبب ذلك أن خوارزم شاه تكش كان قد سار إلى همذان وأصفهان والرى وغيرها، واستولى على تلك البلاد وتعرض إلى عساكر الخليفة وأظهر طلب السلطنة والخطبة له ببغداد، فأرسل الإمام الناصر إلى غياث الدين ملك الغور وغزنة بقصد بلاد خوارزم شاه ليمنعه من قصد العراق، وكان خوارزم شاه قد
(1)
نقل العينى هذا الحدث من الكامل، ج 10، ص 250 - 251.
(2)
بلخ: مدينة مشهورة بخراسان، معجم البلدان، ج 1، ص 13.
(3)
الخطا: بكسر الخاء المعجمة وفتح الطاء المهملة وألف في الآخر وهم جنس من الترك بلادهم في متاخمة بلاد الصين، جـ 4/ 483 وما يليها.
(4)
ما بين حاصرتين إضافة من الكامل، ج 10، ص 251. والملك هو بهاء الدين سام بن محمد بن مسعود. انظر: الكامل، جـ 10، ص 251.
(5)
ما بين حاصرتين إضافة من الكامل، جـ 10، ص 251، لتوضيح المعنى.
عاد إلى بلاده فراسله غياث الدين يقبح فعله ويتهدده بقصد بلاده وأخذها، فأرسل خوارزم شاه إلى الخطاب يشكو إليهم من غياث الدين ويطلب منهم أن يدركوه بإرسال العساكر لإنجاده لئلا يأخذ غياث الدين البلاد كما أخذ مدينة بلخ، ثم يتطاول إلى قصد بلادهم ويتعذر عليهم منعه ويعجزون عن رده عما وراء النهر، فجهز ملك الخطا جيشًا كثيفًا وجعل على مقدمتهم شخصًا معروفًا بطاينكو وهو كالوزير، فساروا وعبروا جيحون وكان ذلك في الشتاء، وكان شهاب الدين الغورى أخو غياث الدين ببلاد الهند وغياث الدين مريض بالنقرس بما يمنعه من الحركة وإنما يحملونه في محفه، والذي يقود الجيش ويباشر العساكر والحروب أخوه شهاب الدين، فلما وصل الخطا إلى جيحون، سار خوارزم شاه تكش إلى طوس
(1)
عازمًا على قصد هراة ومحاصرتها، وعبر الخطا النهر ووصلوا إلى بلاد الغور مثل كرزبان
(2)
وغيرها، وقتلوا وأسروا وسبوا شيئًا كثيرًا، فاستغاث الناس بغياث الدين فلم يكن عنده من العساكر ما يلقاهم بها، فراسل الخطا بهاء الدين سام وأمروه بالإفراج عن بلخ أو أنه يحمل ما كان من قبله يحمله من المال، وعظمت المصيبة على المسلمين بما فعله الخطا فانتدب الأمير محمد الغورى وهو مقطع الطالقان من قبل غياث الدين وكان شجاعًا، وجمع معه جمعًا وبيت الخطا ليلًا وكبسهم، ومن عادتهم أنهم لا يخرجون من خيامهم في الليل، فأتاهم هؤلاء الغورية وهم غافلون فقاتلوهم وأكثروا القتل فيهم، وانهزم من سلم منهم، وأين ينهزمون، والعسكر الغورى خلفهم. وجيحون بين أيديهم؟ وظنوا أن غياث الدين قد قصدهم في عساكره فلما أصبحوا وعرفوا من قاتلهم وعلموا أن غياث الدين بمكانه قويت قلوبهم وثبتوا عامة نهارهم، فقتل من الفريقين خلق عظيم ولحقت المتطوعة بالغوريين وأتاهم مدد من غياث الدين وهم في الحرب، فثبتوا وعظمت نكايتهم في الكفار
(3)
وألحقوهم بجيحون، فمن صبر منهم قتل ومن ألقى بنفسه في الماء غرق، ووصل الخبر إلى ملك الخطأ فعظم عليه وأرسل إلى خوارزم شاه يقول له: أنت قتلت رجالي وأريد عن كل قتيل عشرة آلاف دينار، وكانت القتلى اثني عشر ألف قتيل وأنفذ إليه من يردّه إلى خوارزم شاه ويلزمه بالحضور
(1)
طوس: مدينة بخراسان بينها وبين نيسابور نحو عشرة فراسخ.
معجم البلدان، ج 3، ص 560.
(2)
كرزبان: كزبان وتسمى كرزوان وهي بلدة في الجبل الطالقان، جيلها متصل بجبال الغور، وتكتب أيضًا جرزبان، معجم البلدان، جـ 4، ص 258 - ص 259.
(3)
نقل العيني هذا الخبر من الكامل، جـ 10، ص 252 - ص 253.
عنده، فأرسل حينئذ خوارزم شاه إلى غياث الدين يعرفه حاله مع الخطا ويشكو إليه ويستعطفه غير مرة، فأعاد الجواب يأمره بطاعة الخليفة وإعادة ما أخذه الخطا من بلاد الإسلام فلم ينفصل بينهما حال.
وفي تاريخ ابن كثير
(1)
: وفي هذه السنة سار خوارزم شاه تكش إلى بخاري وهي للخطا وحاصرها وملكها، وكان تكش أعور، فأخذ أهل بخاري في مدة الحصار كلبًا أعور وألبسوه قباء وقالوا للخوارزمية: هذا سلطانكم. ورموه بالمجنيق إليهم، فلما ملك خوارزمشاه تكش بخاري أحسن إلى أهلها وفرق فيهم أموالا عظيمة
(2)
ولم يود أخذهم بما فعلوه في حقه جزاه الله خيرًا
(3)
. ومن الحوادث أنه وصل رسول المايرقى المستولى على القيروان يريد الحج وأهدى إلى العزيز خيلا ووجهه مكرمًا.
وفيها عاد الأسطول المصري من العُزْيزُ
(4)
بعد أن اجتاز ببلاد ابن لاون ووصل معه إلى مصر من السبي أربعمائة وخمسون أسيرًا.
وفيها ....................................
(5)
وفيها حج بالناس من العراق إيليا، ومن الشام زين الدين قراجا مملوك السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب.
ذكر من توفي فيها من الأعيان
العوام
(6)
بن زيادة كاتب الإنشاء ببغداد بباب الخلافة وهو أبو طالب يحيى بن سعيد بن هبة الله بن على بن زيادة قوام الدين، انتهت إليه رئاسة التوسل والإنشاء والبلاغة والفصاحة في زمانه بالعراق، وله علوم كثيرة غير ذلك من الفقه على مذهب
(1)
نقل العينى هذا الحدث بالنص من المختصر في أخبار البشر، جـ 3، ص 93، أما نص الحدث في البداية والنهاية، جـ 13، ص 17 فهو مختصر. انظر تفاصيل هذا الحدث في الكامل، جـ 10، ص 253 - 254.
(2)
في الأصل "عظيما".
(3)
إلى هنا انتهى نقل هذا الحدث من المختصر، جـ 3، 93.
(4)
الغُريْزُ: ماء وضريه. وضرية قرية عامرة قديمة في طريق مكة من البصرة. انظر معجم البلدان، ج 3، ص 471، ص 795 - 796.
(5)
يوجد بياض بالأصل بمقدار سطر.
(6)
العوام بن زيادة: هو قوام الدين بن زيادة يحيى بن سعيد بن هبة الله الواسطى. شذرات الذهب، جـ 4، ص 318؛ وفيات الأعيان، جـ 6، ص 244 - 249، ترجمة رقم 808.
الشافعي أخذه عن فضلات، وله معرفة جيدة بالأصلين والحساب واللغة وله شعر جيد، وقد ولى عدة مناصبه وكان مشكورًا في جميعها، ومن مستجاد شعره:
لا تحقرن
(1)
عدوا تزدريه فكم
…
قد أتعس الدهر جد الجد باللعب
فهذه الشمس يعروها
(2)
الكسوف لها
…
على جلالتها بالرأس والذنب
باضطراب
(3)
وبه: الزمان يرفع الأنذال
…
فيه حتى يعم البلاءُ
وكذا الماء راكدُ
(4)
فإذا حُرك
…
ثارتْ من قعره الأقذاءُ
توفي في ذي الحجة من هذه السنة وله ثنتان وسبعون سنة وحضر جنازته خلق كثير ودفن عند موسى بن جعفر.
القاضي أبو الحسن علي بن جابر بن زهير
(5)
بن على البطايحي، قدم بغداد فتفقه بها وسع الحديث وأقام برحبة مالك بن طوق مدة يشتغل على أبي عبد الله بن البقية
(6)
القرضى، ثم ولى قضاء العراق مدة، وكان فقيها أديبا، وقد سمع من شيخه أبي عبد الله بن البقية ينشد لنفسه معارضا للحريري في بَيْتَيه اللذين زعم أنهما لا يعززان بثالث لهما وهما قوله:
سِمْ سِمةً تحمد أثارُها
…
واشكر لمن أعطى ولو سمسمة
والمنكر مهما اسطعت لا تأته
…
لتقتنى السّؤدد والمكرمة
فقال ابن البقية:
ما الأمة الوكفاء بين الورى
…
أخسَّ من حُر أتى ملامة
(7)
فمه إذا استجديت عن قول لا
…
فالحر لا يملأ منها فمه
(1)
"لا تحقرني": كذا في الأصل والتصحيح من البداية والنهاية، جـ 13، ص 17.
(2)
"يعني": كذا في الأصل والمثبت من البداية والنهاية، جـ 13، ص 17.
(3)
ورد هذا البيت في ابن خلكان بالصيغة الآتية:
باضطراب الزمان ترتفع
…
الأنذال فيه حتى يعم البلاءُ
(4)
ورد هذا البيت في ابن خلكان بالصيغة الآتية
وكذا الماء ساكنا فإذا
…
حُرك ثارت من قعره الأقذاء
(5)
"ابن رجاء" في البداية والنهاية، جـ 13، ص 17.
(6)
"ابن النبيه" في البداية والنهاية، جـ 13، ص 17.
(7)
"ما الأمة الوكساء بين الورى
…
أحسن من حر أتى ملامة" كذا ورد البيت في البداية والنهاية، جـ 13، ص 17.
الشيخ حسن بن مسلم بن أبي الحسن، أبو على الزاهد الحنبلي الفارسي، من قرية نهر عيسى يقال لها الفارسية
(1)
، كان من الأبدال
(2)
لازمًا لطريق السلف، أقام أربعين سنة لم يُكلم أحدا من الناس، وكان صائم الدهر، قائم الليل، يقرأ كل يوم وليلة ختمة.
وذكره الشيخ أبو الفرج بن الجوزي في "صفوة الصفوة" وقال: كان زاهد زمانه. وكانت السباع تأوي إلى زاويته وكان الخليفة وأرباب الدولة يمشون إلى زيارته. وتوفي يوم عاشوراء، ودفن في رباطه بالقادسية.
قال السبط:
(3)
وحكى لي جماعة من مشايخ القرية؛ أن السباع كانت تنام طول الليل حول زاويته، وإذا خرج أحد طول الليل من القرية إلى نهر عيسى لم تتعرض له، وأن فقيرًا نام في الزاوية في ليلة باردة فاحتلم فنزل إلى النهر ليغتسل فجاء السبع فنام على جبته، فكاد الفقير يهلك من البرد والخوف، فخرج الشيخ حسن وجاء إلى السبع وضربه بكمه وقال: يا مبارك ما قلنا لك أن لا تتعرض لضيفنا، فقام السبع يهرول. ذكره في المرآة.
أبو الحسن علي بن جابر بن زهير قاضي البطائح، ولد سنة تسع وخمسين وخمسائة، وقدم بغداد فسمع بها الحديث من أبي الوقت وابن ناصر وابن الجواليقي وغيرهم، وخرج إلى رحبة مالك بن طوق فقرأ الفقه والأدب على أبي عبد الله بن البقيه وعاد إلى البطايح فولى القضاء بالعراق ثم عاد إلى بغداد فأقام بها، ثم انحدر إلى البطايح فتوفي بطريق واسط، وكان ثقة صالحًا، وقال أنشدني الحريري صاحب المقامات لنفسه:
لا تخطون إلى خط ولا خطأ
…
من بعد ما الشيب في فؤديك قد وخطا
فأي عذر لمن شابت ذوائبه
…
إذا سعى في ميادين الصبي وخطا
أبو المجد علي بن علي بن ناصر السيد العلوي مدرس الحنفية ببغداد، ولد سنة خمس عشرة وخمسائة، وتفقه وأفتي وناظر، وكان المستنجد الخليفة قد حبسه وطالبه بمال، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وقال له: يا يوسف استوص بولدى خيرًا فهو
(1)
الفارسية: قرية على ضفة نهر عيسى بعد المحول من قرى بغداد. انظر: معجم البلدان، ج 3، ص 838.
(2)
الأبدال: قوم بهم يقيم الله عز وجل الأرض وهم سبعون؛ أربعون بالشام، وثلاثون بغيرها، لا يموت أحدهم إلا قام مكانه آخر من سائر الناس. انظر: الفيروزآبادي: القاموس المحيط، جـ 3، ص 344. (مادة بدل).
(3)
نقل العينى هذا الخبر عن مرآة الزمان، جـ 8، ص 293.
وديعتي عندك، فانتبه الخليفة مرعوبًا وأحضره وخاطبه وقال: اجعلني في حل فقد شفع فيك من لا يمكنني رده فأحسن إليه، وكانت وفاته في ربيع الأول من هذه السنة، ودفن عند مشهد عبيد الله شرقي بغداد، وكان صالحا شريفا على الحنفية، سمع ابن الحصين، وقاضى المارستان وابن السرقندي وآخرين.
يحيى بن سعيد
(1)
بن هبة الله بن زيادة، أبو طالب الواسطى
(2)
، ولد سنة اثنتين وعشرين وخمسائة، وقدم بغداد واشتغل بالأدب فبرع في الإنشاء والكتابة، وانتهت إليه الرئاسة فيهما، مع تخصصه بفنون العلم كالفقه، وعلم الكلام، والأصول، والحساب، والشعر، جالس أبا منصور بن الجواليقي
(3)
، وقرأ عليه وسمع أبا القاسم الصباغ وغيره، وولي للخليفة عدة وظائف، خدم حُجبة الباب، ثم أستاذ الدار، ثم كتابة الإنشاء في آخر أمره، وكانت وفاته في ذي الحجة ودفن في مقابر قريش ومن شعره:
قد سلوت الدهر
(4)
ولم يسلها
…
من علقت في أماله والأراجي
"وإذا"
(5)
ما صرفت وجهي عنها
…
"قذفتني"
(6)
في بحرها العجاج
يستضيئون بي وأهلك وحدي
…
فكأني ذبالة في سراج
الأمير عز الدين جرديك: كان من أكابر الأمراء في زمن نور الدين محمود وكان ممن شارك في قتل شاور، وحظي عند الملك الناصر صلاح الدين يوسف، وقد استنابه على القدس حين افتتحها، وكان يستند به للمهمات الكبار فيسدها بنهضته وشجاعته، ولما ولى الأفضل عزله عن بيت المقدس، فترك بلاد الشام ثم انتقل إلى بلد الموصل فمات بها في هذه السنة، وكان شجاعا جوادًا، وفي حلب مدرسة للحنفية
(7)
تنسب إليه.
(1)
انظر ترجمته في وفيات الأعيان، ج 6، ص 244 - 249؛ شذرات الذهب، ج 4، 318.
(2)
نقل العينى هذه الترجمة عن البداية والنهاية، ج 13، ص 19.
(3)
أبو منصور الجواليقي: هو موهوب بن أحمد أبو منصور. انظر ترجمته في وفيات الأعيان، ج 5، ص 342 - ص 344.
(4)
"الدنيا" في البداية والنهاية، ج 13، ص 19.
(5)
"فإذا"، "قذفتني" في البداية والنهاية، ج 13، ص 17 - ص 19.
(6)
نقل العينى هذا الحدث من البداية والنهاية، ج 13، ص 17 - ص 19؛ وانظر ترجمته في مرآة الزمان، ج 8، ص 293؛ شذرات الذهب، ج 4، ص 316.
(7)
المدرسة الحنفية بحلب هي الجردية، أنشأها الأمير جورديك النوري بسوق البلاط كملت سنة 601 هـ. انظر: محمد كرد على، خطط الشام، ج 6، ص 110.
السلطان عماد الدين زنكي بن مودود بن زنكي بن آقسنقر صاحب سنجار والخابور والرقة، توفي في المحروم من هذه السنة وكان حسن السيرة متواضعًا محبًا لأهل العلم إلا أنه كان شديد البخل. وقال ابن كثير: وكان محبًا للعلماء شديد المحبة ولاسيما للحنفية من بينهم، وقد ابتنى لهم مدرسة بسنجار وشرط لهم طعامًا يطبخ لكل واحد منهم في كل يوم
(1)
، ولما توفي ملك بعده ولده قطب الدين محمد بن زنكي
(2)
وتولي تدبير دولته مجاهد الدين برتقش مملوك والده، وكان دينا عادلا كثير البر والإحسان إلى الرعية كافة والفقراء خاصة.
(3)
وفي المرأة: وهو ابن أخي نور الدين محمود، وهو الذي قايض حلب بسنجار لم يزل مع صلاح الدين في غزواته مجاهدا، وكان ميمون النقيبة
(4)
وكان السلطان يحترمه مثل ما كان يحترم نور الدين ويعطيه الأموال والهدايا والتحف الكثيرة، ولما احتضر أوصى إلى أكبر أولاده وهو قطب الدين محمد ويلقب بالملك المنصور
(5)
.
الملك بدر الدين آقسنقر هزار ديناري صاحب خلاط: مات في هذه السنة، وقد تقدم ذكر ملكهـ الأخلاط في سنة تسع وثمانين وخمسائة، ولما توفي استولى على أخلاط بعده خشداشه قطلغ، وكان مملوكًا أرمنيًا فملك أخلاط نحو سبعة أيام ثم اجتمع عليه الناس وأنزلوه من القلعة ثم وثبوا عليه فقتلوه، فلما قتل قتلغ اتفق كبراء الدولة وأحضروا محمد بن بكتمر من القلعة التي كان معتقلا فيها واسمها أرجاس فأقاموه في المملكة ولقبوه بالملك المنصور، وقام بتدبير أمره شجاع الدين قتلغ الدوادار. وكان دوادار شاهر من بن سقمان بن إبراهيم وكان قبحاقي الجنس، واستمر محمد بن بكتمر كذلك إلى سنة اثنتين وستمائة فقبض على أتابكهـ قتلغ المذكور وحبسه ثم قتله، فخرج عليه مملوك لشاهر من يقال له عز الدين بلبان، واتفق العسكر مع بلبان هذا وقبضوا على محمد المذكور وحبسوه ثم خنقوه ورموه من سور القلعة إلى أسفل وقالوا قد وقع واستمر
(1)
إلى هنا توقف العينى عن النقل من البداية والنهاية، ج 13، ص 18، كما ذكر هذا الخبر بتصرف في كل من مفرج الكروب، ج 3، ص 78، ص 79؛ مرآة الزمان، ج 3، ص 293 - ص 294.
(2)
انظر ترجمته في وفيات الأعيان، ج 3، ص 331، ترجمة رقم 47.
(3)
لمعرفة المزيد من التفاصيل عن هذه الترجمة. انظر: البداية والنهاية، ج 13، ص 18.
(4)
النقيبة: النفس والعقل والمشورة ونفاذ الرأي والطبيعة. انظر الفيروزآبادي، القاموس المحيط مادة "النقب" ج 1، ص 139.
(5)
مرآة الزمان، ج 3، ص 293 - 294.
بلبان المذكور في مملكة أخلاط دون سنة، وقتله بعض أصحاب طغريل بن قليج أرسلان صاحب، أرزن
(1)
الروم وقصد طغيل المذكور أن يتسلم أخلاط فلم يُجبهُ أهله إلى ذلك وعصوا عليه، فعاد إلى أرزن الروم، ثم وصل الملك الأوحد أيوب ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب وتسلم أخلاط وملكها قريب ثماني سنين والله أعلم
(2)
.
(1)
آرزن: أرزن الروم بلدة من بلاد أرمينيا. انظر معجم البلدان، جـ 1، ص 206.
(2)
نقل العينى هذا الحدث بالتفصيل من المختصر في أخبار البشر، جـ 3، ص 94.
فصل فيما وقع من الحوادث في السنة الخامسة والتسعين بعد الخمسائة
(*)
استهلت هذه السنة والخليفة هو الناصر لدين الله وأمراء البلاد على حالهم، غير أنه مات في هذه السنة الملك العزيز صاحب مصر والشام، والسلطان الكبير صاحب بلاد المغرب
(1)
، والأمير الكبير مجاهد الدين قيماز على ما نبين الجميع إن شاء الله تعالى.
ذكر وفاة السلطان الملك العزيز
الكلام فيه على أنواع:
الأول في ترجمته: هو عماد الدين عثمان ابن السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن الأمير نجم الدين أيوب الملقب بالملك العزيز، قد ذكرنا أنه ولد في سنة سبع وستين وخمسائة، وكانت ولادته في القاهرة، وكان نائبا عن أبيه في الديار المصرية لما كان أبوه بالشام، وتوفي أبوه بدمشق فاستقل بمملكتها باتفاق من الأمراء، وكانت مملكته خمس سنين وأشهرًا.
(2)
وفي تاريخ ابن العميد: وكانت مدة مملكته أربع سنين وعشرة أشهر وأربعة وعشرين يومًا
(3)
.
الثاني في سيرته: قال ابن خلكان: كان ملكًا مباركًا كثير الخير واسع الكرم محسنًا إلى الناس معتقدًا في أرباب الخير والصلاح، وسع بالإسكندرية الحديث من الحافظ السِّلفي والفقيه أبي طاهر بن عوف الزهري، وسع بمصر من العلامة أبي محمد بن بري النحوي وغيرهم
(4)
. وفي تاريخ المؤيد: وكان في غاية الساحة والكرم والعدل والرفق بالرعية والإحسان إليهم، ففجعت الرعية بموته فجعة عظيمة
(5)
.
(*) يوافق أولها: 3 نوفمبر سنة 1198 م.
(1)
السلطان الكبير: يقصد به الملك المنصور أبو يوسف يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن. انظر: شذرات الذهب، ج 4، ص 321 - 323.
(2)
وفيات الأعيان، ج 3، ص 251 - 253، ترجمة رقم 414.
(3)
ذكر ابن واصل أن مدة ملك السلطان عماد الدين عثمان ست سنوات إلا شهرا. انظر مفرج الكروب، جـ 3، ص 83؛ أما المقريزي، فذكر أن مدة ملكهـ ست سنين تنقص شهرًا وستة أيام، السلوك، جـ 3، ق 1، ص 144.
(4)
وفيات الأعيان، جـ 3، ص 251.
(5)
المختصر، ج 3، ص 95.
وفي تاريخ ابن العميد: كان ملكًا عادلًا كريمًا رحيمًا حسن الأخلاق طيب الأعراق شجاعًا حسن العقيدة جميل الطوية شديد الخوف من الله تعالى، سريع الانقياد إلى الخير كثير البذل مفرطًا في السخاء
(1)
. وفي المرآة: وكان لطيفة كثير الخير رفيقًا بالرعية حليمًا. حكى لي المبارز سنقر الحلبي قال
(2)
: نفد ما بيده بمصر فلم يبق في الخزانة درهم ولا دينار، فجاء رجل من أهل الصعيد إلى سيف الدين أُزكش
(3)
، فقال: عندي للسلطان عشرة آلاف دينار ولك ألف دينار، وتوليني قضاء الصعيد، فدخل أزكش على العزيز فأخبره فقال: والله لا بعت دماء المسلمين وأموالهم يملك الأرض، وكتب ورقة لأزكش بألف دينار وقال: اخرج فاطرد هذا المُدْبر ولولاك لأدبته. قال: وقد ذكرنا أنه وهب دمشق للملك المعظم، وكان يطلق عشرة آلاف دينار وعشرين ألف دينار
(4)
.
الثالث في وفاته: قال ابن خلكان: وكان قد توجّه إلى الفيوم فطرد فرسه وراء صيد فتقنطر به فأصابته الحمى من ذلك، وحمل إلى القاهرة فتوفي بها في الساعة السابعة من ليلة الأربعاء الحادي والعشرين من المحرم سنة خمس وتسعين وخمسائة، ودفن بالقرافة الصغرى في قبة الإمام الشافعي رحمه الله، وقبره معروف هناك.
(5)
وفي تاريخ بيبرس: وفي سنة أربع وتسعين وخمسائة ابتدأ بالعزيز بن الناصر المرض، وفي سنة خمس وتسعين أخذ مرضه في التزايد وكان قد توجه إلى الفيوم وركب من ذات الصفا عائدًا إلى مصر، فسقطت شهوته فلم يأكل شيئًا، ووصل الجيزة وقد تزّيدت به الحمى، فتحامل وركب إلى داره، واشتد به الكرب فتوفي ليلة الأحد العشرين من المحرم، ونقل من دار الوزارة، ودفن بالقرافة بجوار قبر الشافعي رحمه الله
(6)
.
وفي تاريخ المؤيد: وكان قد طلع إلى الصيد، فركض خلف ذئب فتقنطر وحُمّ في سابع المحرم، وكان في جهة الفيوم فعاد إلى الأهرام وقد اشتدت به حمّاه، ثم توجه إلى
(1)
وردت هذه الفقرة بتصرف في السلوك، ج 1، ق 1، ص 144.
(2)
"قَلّ" كذا في الأصل والمثبت من مرآة الزمان، ج 3، ص 295.
(3)
"يازكش" كذا في مرآة الزمان، ج 8، ق 2، ص 460، طبعة حيدر أباد 1952، "باركيس" في طبعة شيكاغو، ج 8، ص 295.
(4)
مرآة الزمان، جـ 8، ص 296.
(5)
وفيات الأعيان، جـ 3، ص 251 - 253. ترجمة رقم 414.
(6)
ورد هذا الخبر بتصرف في نهاية الأرب، ج 28، ص 455.
القاهرة فدخلها يوم عاشوراء، وحدث به يرقان وقرحة في المعا، واحتبس طبعه، فمات في منتصف ليلة السابع والعشرين من المحرم
(1)
. وفي المرآة: وكان سبب وفاته أنه خرج إلى الفيوم متصيدًا فلاح له ظبي فركض خلفه فكبى به الفرس فدخل قربوس السرج في فؤاده فحمل إلى القاهرة فمات في العشرين من المحرم، ودفن عند الشافعي
(2)
. وقال ابن القادسي: كان قد ركب وتبع غزالة فوقع فاندقت عنقه وبقى أربعة أيام ومات. قال السبط: وهذه من هنات ابن القادسي فإن الملك العزيز ما اندقت عنقه وإنما دخل قربوس السرج في فؤاده وأقام بالقاهرة أسبوعين ومات
(3)
.
الرابع فيمن خلّف من الأولاد: قال بيبرس: وخلف من الأولاد محمدًا وهو القائم بعهده وعليا وعمر وإبراهيم وعيسى ومحمودًا وفرخشاه ويوسف ويونس وآخران صغيران وثلاث إناث
(4)
.
الخامس في مراثيه: ورثاه جماعة من الشعراء منهم الشهاب بن الساعاتي
(5)
فقال:
خلا الدست من ذاك الجناب الممّنع
…
فسلم على الدنيا سلام مودع
مضى بعدما عمت سراياه والندى
…
وسار مسير الشمس في كل موضع
فُجعنا بأندي من بنان سحابة
…
وأجرأ من ليث العرين وأشجع
هو الخطب لا المرء الفصيح بمدرة
…
لديه ولا الحبر الخطيب بمصقع
ثوى الجود والملك العزيز بحفرة
…
ومالهما من فرقه وتجمع
فمن ذا يرد الخطب تدمي شبانه
…
برأي جميع أو بقلب مشيع
ورثاه آخر بقصيدة منها قوله:
بعد فقد الملك العزيز عماد
…
الدين عثمان لن تراني سال
كان جيد الزمان حالي فأضحى
…
ولآلئه لونها كالليال
(1)
المختصر، ج 3، ص 95.
(2)
مرآة الزمان، ج 8، ص 296.
(3)
مرآة الزمان، ج 8، ص 296.
(4)
نهاية الأرب، ج 8، ص 455 - 456.
(5)
الشهاب بن الساعاتي، بالرجوع إلى كتب التراجم اتضح أن ابن الساعات الشاعر هو أبو الحسن علي بن رستم بن هردوز، الملقب بهاء الدين وليس شهاب الدين، وكانت وفاته بالقاهرة سنة 604. انظر: وفيات الأعيان ج 3، ص 395 - 397؛ شذرات الذهب، جـ 5، ص 13 - ص 14.
ذكر سلطنة الملك المنصور ناصر الدين محمد ابن السلطان الملك العزيز عماد الدين عثمان ابن السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب بمصر
لما توفي العزيز في التاريخ المذكور أقام فخر الدين جهاركس -وكان هو الغالب على دولة العزيز- ولد العزيز محمد وكان صغيرًا مقام والده في السلطنة، وقال بيبرس: وركب بشعار السلطنة يوم الثلاثاء الثاني والعشرين من المحرم سنة خمس وتسعين وخمسائة، ولقب أولًا بالناصر فكره مواطأة اسم الخليفة فغيره بالمنصور، وشق القاهرة راكبًا في دسته، وكتب كتابًا إلى عمه يعزيه ويخبره بانتصاب الولد منصب أبيه وأنه ومَنْ عنده من جماعته مستمرون على طاعته
(1)
.
وفي المرآة: كان الملك العزيز نص على ولده ناصر الدين محمد وكان أكبر أولاده
(2)
، وكان عمره عشر سنين، وقيل: تسع سنين وأشهرًا، وكان مقدم الصلاحية فخر الدين جهركس وأسد الدين سرا سنقر وزين الدين قراجا فاتفقوا على ناصر الدين محمد وحلّفوا له الأمراء، وكان سيف الدين أزكش مقدم الأسدية غائبًا بأسوان فقدم فصوّب رأيهم وما فعلوه، إلا أنه قال: هو صغير السن لا ينهض بأعباء الملك ولابد من تدبير كبير يحسم الفساد
(3)
ويقيم الأمور، والعادل مشغول في الشرق بماردين، وما ثم أقرب من الأفضل فجعله أتابك العساكر فلم يمكن الصلاحية مخالفة الأسدية وقالوا: افعلوا، فكتب أزكش إلى الأفضل يستدعيه وهو بصرخد وكتبت الصلاحية إلى من في دمشق من أصحابهم يقولون: قد اتفقت الأسدية على الأفضل وإن ملك حكموا علينا فامنعوه من المجيء، فركّبوا عسكر دمشق ليمنعوا الأفضل ففاتهم، وكان قد التقى نجابًا من عند جهركس إلى من في دمشق بهذا المعنى ومعه كتب فأخذها منه [وقال ارجع فرجع إلى مصر]
(4)
، ولما وصل الأفضل إلى مصر التقاء الأسدية ورأى جهركس النجاب فقال: ما أسرع ما عدت.
(1)
ورد هذا الحدث بتصرف في نهاية الأرب، جـ 28، ص 456.
(2)
إلى هنا توقف العيني عن النقل من مرآة الزمان، ج 8، ص 296.
(3)
"المواد" في مرآة الزمان، ج 8، ص 296.
(4)
ما بين حاصرتين ساقط من العيني. انظر: مرآة الزمان، ج 8، ص 296.
فأخبره الخبر فساق هو وقراجا إلى القدس فتحصنا به، ثم أشارت الأسدية على الأفضل بقصد دمشق وأن العادل مشغول بماردين فيكتب إلى الظاهر صاحب حلب، فأجابه وقال: أقدم حتى أساعدك
(1)
. وقال ابن كثير
(2)
: لما أقام فخر الدين جهركس الملك المنصور محمدًا موضع أبيه العزيز اتفقت الأمراء على إحضار أحد من بني أيوب ليقوم بالملك، واستشاروا القاضي الفاضل فأشار بالملك الأفضل وهو حينئذ بصرخد، فأرسلوا إليه فسار محثًا ووصل إلى مصر على أنه أتابك الملك المنصور ابن الملك العزيز، وكان عمر المنصور يومئذ تسع سنين وشهورًا، وكان مسير الأفضل من صرخد لليلتين بقيتا من صفر في تسعة عشر نفرًا متنكرًا خوفًا من أصحاب عمه الملك العادل، فإن غالب تلك البلاد كانت له، ووصل إلى بلبيس خامس ربيع الأول ثم سار إلى القاهرة فخرج الملك المنصور ابن العزيز للقائه، وترجل له عمه الأفضل ودخل بين يديه إلى دار الوزارة وهي كانت مقر السلطنة، ولما وصل الأفضل إلى بلبيس والتقاه العسكر تنكر منه فخر الدين جهركس وفارقه وتبعه عدة من العسكر وساروا إلى الشام، فكاتبوا الملك العادل وهو محاصر ماردين
(3)
.
ذكر توجه العادل من ماردين والأفضل من مصر وحصار دمشق
لما أشارت الأسدية على الأفضل بقصد دمشق نهض وسار بالعساكر إلى الشام واستناب بمصر سيف الدين أزكش، ووصل إلى دمشق في شعبان فأحدق بدمشق، وبلغ العادل وهو على ماردين كما ذكرناه؛ وكان أقام عليها عشرة أشهر فلم يبق إلا تسليمها، وصعدت أعلامه إلى القلعة، وسمعوا بوفاة العزيز فتوقفوا فرحل عنها، وترك ولده الكامل محمدًا عليها، وجاء العادل ومعه دلدروم الياروقي وابن المقدم وجماعة من الأمراء، وكان الأفضل نازلًا في الميدان الأخضر، فأشار عليه جماعة من الأمراء أن يتأخر إلى مشهد القدم حتى يصل الظاهر، وصاحب حمص، والأمراء، وكان مكيدة منهم، فتأخر
(1)
مرآة الزمان، ج 8، ص 296 - ص 297.
(2)
نقل العيني هنا عن أبي الفدا المختصر على الرغم من أنه ذكر أنه نقل عن ابن كثير. انظر: المختصر، ج 3، ص 95.
(3)
المختصر، ج 3، ص 95.
إلى مشهد القدم، ودخل العادل ومن معه من العسكر إلى دمشق، وجاء الظاهر بعسكر حلب، وجاء عسكر حماه وحمص وبشاره من بانياس، وعسكر الحصون، وسعد الدين مسعود صاحب صفد، وضايقوا البلد وكسروا باب السلامة، وجاء آخرون إلى باب الفراديس، فيقال: إن الناصح بن الحنبلي وأخاه الشهاب وأصحابهما كسروا باب الفراديس.
وكان العادل في القلعة قد استأمن إليه جماعة من المصريين مثل ابن كهدان، ومثقال الجمدار الخادم، وبلغ العادل فركب وخرج إليهم، وجاء إليه جيرون
(1)
والمجد
(2)
أخو الفقيه عيسى قائم على فرسه يشرب الفقاع فصاح العادل: "يا مغلة، يا صنعة، إلى ها هنا". فخرجوا، وأغلق باب السلامة، وجاء إلى باب الفراديس فوجدهم قد كسروا الأقفال بالمرزبات، فقال:"من فعل هذا؟ " قالوا: الحنابلة. فسكت ولم يقل شيئًا.
قال: السبط: وحكى لي الملك المعظم عيسى رحمه الله قال: لما رجعنا من باب الفراديس، ووصلنا إلى باب مدرسة الحنابلة، أُرمي على رأس أبي جب الزيت فأخطاه، ووقع في رقبة الحصان فوقع الحصان ميتًا، فنزل أبي وركب غيره ولم ينطق بكلمة، وجاء جهاركس وقراجا في الليل من جبل سنير فدخلا دمشق. وأما المواصلة فساقوا على الملك الكامل، فرحَّلوه من ماردين، فجاء يقصد دمشق، وجمع التركمان.
وأما دمشق فإنه لما اشتد الحصار عليها، وقطعوا أشجارها ومياهها الداخلة إليها، انقطعت عن أهلها الميرة وضجوا، فبعث العادل إلى الظاهر يقول:"أنا أسلم إليك دمشق على أن تكون أنت السلطان، وتكون دمشق لك ولا للأفضل" فطمع الظاهر وأرسل إلى الأفضل يقول: "أنت صاحب مصر فأثرني بدمشق" فقال: "دمشق لي من أبي، وإنما أُخذت مني غصبًا، فلا أعطيها لأحد". فوقع الخلف بينهما، ووقع التقاعد وخرجت السنة على هذا
(3)
.
(1)
جيرون: ورد في معجم البلدان أن أحد أبواب الجامع بدمشق سمي باب جيرون نسبة إلى جيرون بن سعد بن عاد بن إرم بن سام بن نوح -وهو أول من بنى دمشق. وقيل أيضًا: إن حصن جيرون بدمشق بناه رجل من الجبابرة يقال له جيرون. ويذكر ياقوت أنه باب من أبواب الجامع بدمشق، وهو بابه الشرقي. انظر: معجم البلدان، ج 2، ص 175 - 176.
(2)
المجد أخو الفقيه عيسى: هو مجد الدين عمر بن محمد بن عيسى الهكاري. ولد سنة 506 هـ وتوفي سنة 636 هـ بالقاهرة ودفن بسفح المقطم. انظر: وفيات الأعيان، ج 3، ص 498، ترجمة (743).
(3)
إلى هنا توقف العيني عن النقل من مرآة الزمان، ج 8، ص 297، 298.
وقال أبو الفدا
(1)
: لما سار العادل من ماردين، وسار الأفضل من مصر، سبق [العادل]
(2)
الأفضل ودخل دمشق قبل نزول الأفضل بيومين، ونزل الأفضل على دمشق في ثالث عشر شعبان. وزحف من الغد على البلد، وجرى بينهم قتال، وهجم بعض عسكره المدينة حتى وصل إلى باب
(3)
البريد، ولم يمدهم العسكر، فتكاثر أصحاب الملك العادل، وأخرجوهم من البلد، ثم تخاذل العسكر، فتأخر الأفضل إلى ذيل عقبة
(4)
الكسوة، ثم وصل إلى الأفضل أخوه الملك الظاهر صاحب حلب، فعاد إلى مضايقة دمشق، ودام الحصار عليها، وقلت الأقوات عند العادل وعند أهل البلد. وأشرف الأفضل والظاهر على ملك دمشق، وعزم أهل البلد
(5)
على تسليم البلد لولا ما حصل بين الأخوين الأفضل والظاهر من الخلف وخرجت السنة وهم على ذلك.
(6)
وفي تاريخ بيبرس: لما ولوا الملك المنصور محمدا عوض أبيه العزيز لم يلبث إلا هنيهة يسيرة حتى تحركت جماعة من الناصرية والأسدية وقالوا: لابد من مدبر يقوم بالأمر، فإن ولد العزيز صغير، والأولاد الناصرية ما فيهم من يدبر نفسه، فضلا عن غيره، ولا بد من العادل. واتصل بالأمراء أن العادل حالف بعض المماليك والحلقة على أن يكون الأمر له، وتحدث يازكج مع الأمراء فيما هموا به من تسليم الأمر إلى العادل، وقال لهم: الأولى أن لا يخرج الأمر عن بيت الملك الناصر، فلم يوافق ذلك رأي كرجي ودرباس. ثم تقرر أن يولى الملك الأفضل بن الناصر أتابكية ابن أخيه العزيز، وينوب عن الأفضل أخوه الظافر مظفر الدين خضر، وكتبوا إلى الأفضل يستدعونه من صرخد، وامتدت أطماع الأمراء والجند، واستمر الظافر في تنفيذ الأشغال وتدبير الأحوال، إلى حين وصل الأفضل إلى بلبيس
(7)
، وتلقاه المؤيد أخوه وفخر الدين إياز جهركس، واهتم كل منهما بعمل ضيافة واسعة، وقصد جهركس أن يكون نزوله أولا في خيمته وحضوره
(1)
في الأصل "ابن كثير" وما أثبتناه هو الصحيح.
(2)
ما بين حاصرتين إضافة للتوضيح، تنظر: المختصر في أخبار البشر، ج 3، ص 95.
(3)
باب البريد: أحد أبواب مدينة دمشق. ويقع في غربي المسجد الأموي. انظر: معجم البلدان، ج 2، ص 591.
(4)
عقبة الكسوة: العقبة هو الجبل الطويل يعرض للطريق فيأخذ فيه وهو طويل صعب إلى صعود الجبل. معجم البلدان، ج 3، ص 692. أما الكسوة فقد سبق التعريف بها.
(5)
في المختصر: "وعزم العادل على تسليم البلد". انظر: المختصر، ج 3، ص 96.
(6)
نقل العين هذا الحدث من المختصر، ج 3، ص 95 - 96.
(7)
ذكرت هذه الأحداث بتصرف في نهاية الأرب، ج 28، ص 456، 457.
بدًا إلى ضيافته، فنزل في خيمة أخيه المؤيد لأنه أقسم عليه بالطلاق أنه لا يبدأ إلا به، فأبر قسمه ونزل عنده أولًا، وعند جهركس ثانيًا. فغضب جهركس لذلك، واستشعر سوء رأى فيه، فأخذ دستورًا من الأفضل أن يتأخر بالشرقية ليصلح بين مختلفين من العرب. فلما انفصل من الأفضل ركب هو وزين الدين قراجا من فورهما، ودخلا البرية في عدة قليلة.
(1)
وأما الأفضل فإنه وصل إلى ظاهر القاهرة، فخرج إليه أهلها وتلقوه بالاحتفال، وزينت البلد، ودخل دار الوزارة، ونزل بدار البستان التي كان العزيز عمّرها.
(2)
وخرج سراسنقر من باب البرقية
(3)
بخيله ورجله لاحقًا برفيقيه جهاركس وقراجا، وشرع الأفضل في الإطلاقات
(4)
والحوالات واستكثر منها، وجهز شمس الدولة عبد الرحمن بن منقذ
(5)
رسولا إلى عمه العادل ببذل الطاعة وأرسل صحبته جاولي المعظمي وخطب باسم الأفضل، وحذف من الخطبة الترحم على الناصر والعزيز، وامتدحه شعراء النصر
(6)
وأدباء المصر، فما مدح به من أشعار الرشيد النابلسى قصيدة مطلعها:
رُويدكم إن الهوى مسلك وعر
…
يُضَلُّ به الهادي ويُستعبد الحرُّ
أثير الغواني ليس بعد بمُفتدى
…
ومقتولها في دينها دمه هَدر
وما هي إلا نظرة سفكت دمي
…
وحاذرتها لو أنه نفع الحَذر
وما كان لولا أن يظاهرها الهوى
…
لغانيه نهي على ولا أمرُ
فلله بالفُسطاط أرغدُ عيشة
…
حظيتُ بها لو عاد يومًا بها العمرُ
فيا حبذا مقر وساكنَ أرضِها
…
وساحتُها فالتحلُ فالنيلُ فالقصرُ
(1)
وردت هذه الأحداث بتصرف في نهاية الأرب، جـ 28، ص 456 - 457؛ مفرج الكروب، ج 3، ص 91 - 92.
(2)
وردت هذه الأحداث بتصرفه في نهاية الأرب، ج 28، ص 257، 258. انظر أيضًا: مفرج الكروب، ج 3، ص 91، 92.
(3)
باب البرقية: هذا الباب على حارة البرقية التي تنسب إلى قوم من أهل برقة قدموا صحبة جوهر الصقلى فعرفت بهم. صبح الأعشي، ج 3، ص 358.
(4)
الإطلاقات: جمع إطلاق، ومعناه إما تقرير عدل لما قرره أحد الملوك السالفة أو ابتداء في معروف أو زيادة في إحسان على ما كان مقررًا. ومن معانيه أيضًا قطعة أرض تمنح وتعفى من جميع أنواع الضرائب.
انظر: صبح الأعشى، ج 13، ص 41؛ Dozy:Sapp.Dict.Ar
(5)
هو شمس الدولة أبو الحارث، عبد الرحمن بن محمد بن مرشد بن منقذ. ت 600 هـ بالقاهرة. ومولده في شيزر سنة 523 هـ. وفيات الأعيان، ج 7، ص 12. ترجمة رقم (355).
(6)
في د "العصر".
وليلة زارت والنجوم كأنما على
…
روضة خضراء من زهرها زَهْرُ
وعقد الثريا في أنيق نظامه
…
يطابقه من أنجم النُثرة النَشر
وللزهرة الغراء
(1)
في الغرب رجفة
…
مخافة أن ينقض مُنفضَّها النسر
وجنح الدجى في عنفوان شبابه
…
فما كذبت عيناي أن طلع الفجر
أو الملك نور الدين أشرق قادمًا
…
صاحبة الإقبال والفتح والنصر
طوى من أعالى مصر عشرين رحلة
…
فكان لموتى الفقر طيها نشر
فوافي إليها وهي ترقب قربه
…
وليس لها عن أن يواصلها صبر
وفي طرفها إلا إلى وجهه قذى
…
وفي سمعها إلا إلى ذكره وقر
فشرفها منه أغر متوجٌ
…
به تَشْرف الأمصارُ جَمعاء لا مِصْرُ
وقلدها سيفًا من العز صارمًا
…
به حق لو تاهت لها التيه والفخر
وكانت عروس الدهر تطلب كفؤها
…
فزف إليها الأمجد الأفضل الغمرُ
هو الغيث وافاها على ظمأ بها
…
فبَشّرها بالغوث من وجهه البشرُ
حليم عن الجاني وطورًا معاقِبٌ
…
وخير فتى من عنده الخير والشر
تفرق طعماه لدى السخط والرضي
…
فذا سائغ حلو وذا سائغ مر
يلين ويقسو للغفاة وللعدي
…
ففي راحتيه النفع للناس والضر
بليغ بقول الفصل ناطق فضله
…
فمعروفه دَرٌ منطقه دُر
رحيب الذرى والباع والباس والندى
…
وأرحب منها فضله الجمُ والصَّدْرُ
يجود ولا وعدٌ فأما وعوده
…
فحاشي وَفيًا من مواقيتها غدر
ضلالًا لمن بالبحر قاس يمينه
…
ومن جوده في كل أنملة بحر
إليه بنى الآمال في كل وجهه
…
فإحسانه المد الذي ماله جذر
فتى يهب الجم الغفير وظنه
…
بأن كثيرًا من مواهبه نَزْرُ
هو الغَمُرُ قد أفنى الكنوز مواهبًا
…
أفي قلبه حقد على المال أو غِمْرُ
يمينًا لو أنّ الدهر ملك يمينه
…
لأصبح موهوبًا وإن عظم الدهر
أنجلَى صلاح الدين والملك الذي
…
زكى
(2)
النحل من أولاده وزكا النِجرُ
(1)
في د "الزهراء".
(2)
في د "زكا".
عدلت فلا جورٌ وصُلت فلا أذى
…
وقمت فلا زيغ وجدت فلا فقر
ففي غضب الشيطان باسُك والندى
…
وفي طاعة الرحمن سرُّك والجهر
لأنتم بني أيوب خير عصابة
…
لها الحمل بعد الله والمدح
(1)
والذكر
سماء عُلى تَهْدى مصابيح أُفقِها
…
وتُهدَى
(2)
لنا من سُحَبها النَايل الدَثْر
وقال يمدحه أيضا بقصيدة منها:
الأفضل ابن أبيه أفضل ذو ندى
…
نسخت وُعود الجود منه نقود
ملك إذا وقف الملوك ببابه
…
لعايَنت مولًى والملوك عبيد
غيث إذا سحَّت سحايب جوده
…
جَزر الحيا ولراحتيه مدود
للبشر في قساته نُور إلى
…
ما يرتجي الراجون منه بريد
يقظ تنبَّه للثناء وكسبه
…
حين الملوك عن الثناء رقود
فإذا
(3)
اقتنى الملك الكنوز رأيته
…
خرقا بما ملكت يداه يجود
مهلًا عليٌّ علوتَ حتى ما لِذِي
…
شرف إلى حيثُ ارتقَيت صُعُودُ
كم لج جيش للفرنج فخضنته
…
والدّارعون بحافتيه وُرُودُ
فنظمته بالرُمح وهو مبددٌ
…
ونثَرتَه
(4)
بالسيف وهو عُقُودُ
صلّت سيوفَك حين صَلّت رُكعا
…
فيهم فهامُهم إليك سجود
أشرَفتَ في الزمن البهيم كما بدا
…
للصُبح من غسق الظلام عمود
فألِيّة بِكَ يا ابن من لسيوفُه
…
أبدا رقاب المشركين حصيد
لو كان حِلمُكَ للجبال موطدا
…
لم تلف بالزلزال وهي تميد
أو كان جودك للسحاب مُظاهرا
…
ما زالت الأنواءُ وهي تجود
أو كان
(5)
عزمك للصَّوارم لم تُحِطْ
…
يوما بهن ولو أحطنَ عمودُ
(1)
في د "والحمد".
(2)
في د "وتهدي".
(3)
في د "وإذا".
(4)
في د "ونشرته".
(5)
في د "ولو كان".
أو كان باسُك للأسود لما احتمت
…
من خوف باسُك بالعرين أُسُود
فتملَّ منِّي كل بكر طائرُ
…
المعنى لها أنَّي شذا غريدُ
شعر يصوغُ ثناك في أثنائه
…
عبقًا وخُفَّاق النسيم ركُود
يُكسى على مرِّ الزمان طلاوة
…
وتُمزّق الأيام وهو جديد
درِّ تنظّم من عُلاك فريدهُ
…
فَمِن العجايب أن يقال قصيدُ
لا تحسبنَّ لك في الكمال مشاركة
…
ما عن صِفاتك للكمال مَجيدُ
قال بيبرس: وفيها شرع الأفضل في تجريد العساكر إلى القدس الشريف مع الظافر أخيه، واجتمع جهاركس بميمون القصري وأسامة، ثم كتبوا إلى الأفضل كتابًا مضمونُه؛ إنا مجتمعون على طاعة ولد الملك العزيز، وإن استقر الملك العادل كنا في طاعته، وأما أنت فقد غررت بنفسك، فلا تطمع في ملك مصر؛ وأكثروا من هذا الخطاب ومثله.
وفيها وصل إلى الأفضل رسول أخيه الظاهر صاحب حلب، ورسل ابن عمه أسد الدين شيركوه بن محمد بن شيركوه صاحب حمص يحثانه على الخروج إلى دمشق ليغتنم الفرصة بغيبة العادل عنها، فإن العادل قد سار لحصار ماردين، فخرج الأفضل على عزم المسير إلى دمشق وتعوق بظاهر القاهرة وتثبط في مسيرة، ولو بادر وعجل المسير لريما كان قد ملكها لكنه تأخر، ولما وصل نزل عند جسر الخشب على فرسخ ونصف من دمشق، وكان نواب العادل قد أرسلوا إليه يخبرونه قصد الأفضل لهم، ففارق ماردين وخلف ولده الكامل عليها، وحضر جريدة فسبق الأفضل ودخل دمشق قبل وصوله بيومين، وأما الأفضل فإنه تقدم إلى دمشق من الغد وهو رابع عشر شعبان، فاجتمع الأمير مجد الدين أخو الفقيه عيسى الهكاري ببعض الأجناد الذين على أحد الأبواب، واتفقوا معه على أنهم يفتحونه له وهو الباب الذي يسمى باب السلامة
(1)
ففتحوه، ودخل مجد الدين وبعض من معه إلى المدينة، فلما رآهم العامة والجند استسلموا ونزلوا عن الأسوار
(2)
.
(1)
باب السلامة: سمي بهذا الاسم تفاؤلًا لأنه لا يتهيأ القتال على البلد من ناحيته لما دونه من الأنهار والأشجار. انظر ابن شداد، تاريخ مدينة دمشق، ص 35.
(2)
ورد هذا الحدث بتصرف في الكامل، ج 10، ص 257 - ص 258، طبع المطبعة الأزهرية؛ مفرج الكروب، ج 3، ص 92 - 96؛ نهاية الأرب، ج 28، ص 458 - 459.
وبلغ الخبر الملك العادل فكاد يسلم لكنه تماسك، وبلغ عسكر الأفضل باب البريد فلما رأى عسكر العادل قلة عسكر المصريين وثبوا عليهم فأخرجوهم، وكان الأفضل قد نصب خيامه بالميدان الأخضر فأشير عليه بالانتقال إلى ميدان الحصى
(1)
ففعل، وقويت نفوس الدمشقيين وضعفت نفوس المصريين، وتعصبت الأكراد وصاروا شيئا واحدًا.
فتأخر الأفضل قليلا، ثم وصل أسد الدين شيركوه صاحب حمص إلى الأفضل، ووصل بعده الملك الظاهر صاحب حلب، وأرادوا الزحف على دمشق فمنعهم الظاهر مكرًا بأخيه الأفضل وحسدًا له، ولم يشعر أخوه بذلك منه، ولما رأى العادل كثرة العساكر وتتابع الأمداد، عظم عليه ذلك وأرسل إلى المماليك الناصرية الذين بالقدس يستدعيهم إليه، وبلغ الأفضل أنهم ساروا إلى العادل، فسير أسد الدين شيركوه صاحب حمص ومعه جماعة من الأمراء إلى طريقهم ليمنعوهم، فساروا في غير الجادة وعبروا دمشق، فقوى العادل بهم وآيس الأفضل من دمشق، ثم إن العادل سير خلف ابنه الكامل ليحضر إليه، وكان على ماردين فسار على طريق البر ودخل دمشق، وانقضت السنة والحال على مثل ذلك
(2)
.
ذكر وفاة صاحب الغرب
والكلام فيه على أنواع:
هو السلطان الكبير أبو يوسف يعقوب بن أبي يعقوب يوسف بن أبي محمد عبد المؤمن بن على القيسي الكومي، صاحب بلاد الغرب الملقب بالملك المنصور. ولد ليلة الأربعاء رابع شهر [ربيع]
(3)
الأول سنة أربع وخمسين وخمسائة، ولما مات أبوه في سنة ثمانين وخمسائة على ما ذكرناه اجتمع رأي أشياخ الموحدين وبني عبد المؤمن على تقديمه، فبايعوه وعقدوا له الولاية ودعوه أمير المؤمنين كأبيه وجده، ولقبوه المنصور
(4)
.
(1)
ميدان الحصى: قبلي دمشق، معجم البلدان، ج 3، ص 595.
(2)
ورد هذا الحدث بتصرف في الكامل، ج 10، ص 257 - ص 258.
(3)
ما بين حاصرتين إضافة من النسخة د.
(4)
أبو يوسف يعقوب بن أبي يعقوب يوسف بن أبي محمد عبد المؤمن صاحب الغرب. وفيات الأعيان، ج 7، ص 130 - ص 138، وقد ذكر أن مولده في سنة ثمان عشر وخمسمائة. المرجع السابق.
الثاني في صفته:
كان أسمر
(1)
صافي السمرة جدًا إلى الطول، جميل الوجه، أفوه، أعين، شديد الكحل، ضخم الأعضاء جهوري الصوت، جزل الأعضاء، من أصدق الناس لهجة وأحسنهم حديثًا وأكثرهم أصابه بالظن، مجربة للأمور، ولي وزارة أبيه فبحث عن الأحوال بحثًا شافيًا وطالع مقاصد العمال والولاة وغيرهم مطالعة حسنة.
الثالث في سيرته:
لما ولى قام بالأمر أحسن قيام، وهو الذي أظهر أبهة ملكهم ورفع راية الجهاد ونصب ميزان العدل، وبسط أحكام الناس على حقيقة الشرع، ونظر في أمور الدين والورع والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأقام الحدود حتى في أهله وعشيرته والأقربين، كما أقامها في سائر الناس أجمعين، فاستقامت الأحوال في أيامه، وعظمت الفتوحات وغزا غزوات كثيرة، وجال في البلاد لأجل الجهاد
(2)
.
وقال أبو شامة صاحب الذيل: كان ملكا جوادًا سمحًا عادلًا، يكرم العلماء متمسكًا بالشرع، يصلي بالناس الصلوات الخمس، فيلبس الصوف، ويقف للمرأة
(3)
والضعيف ويأخذ لهم بالحق، حافظا للسانه.
وقال ابن خلكان: وكان يشدد في إلزام الرعية بإقامة الصلوات الخمس، وقتل في بعض الأحيان على شراب الخمر، وقتل العمال الذين شكوا الرعايا منهم، وكان محسنًا محبًا للعلماء، مقربًا للأدباء، مصغيًا إلى المدح، مثيبًا عليه، وله أَلَّفَ أبو العباس أحمد ابن عبد السلام الجراوي
(4)
كتابه الذي سماه "صفوة الأدب وديوان العرب في مختار الشعر"، وهو مجموع مليح أحسن في اختياره كل إحسان، وإليه تنسب الدنانير اليعقوبية المغربية.
(1)
ذكر ابن خلكان أنه كان "أبيض تعلوه حمرة"، وفيات الأعيان، ج 7، 134.
(2)
ورد هذا الحدث بتصرف في مرآة الزمان، ج 8، ص 298.
(3)
ورد هذا الحدث في البداية والنهاية، ج 13، ص 19.
(4)
أحمد بن عبد السلام الجراوي: ويقال له الكواريي، وكورايا قبيلة من البربر منازلهم بضواحي مدينة فاس، توفي آخر أيام الأمير يعقوب بن الأمير يوسف. وفيات الأعيان، ج 7، ص 637.
وفي المرآة: وهو الذي كسر ألفنش ملك الإفرنج على الزلاقة. ولم تكن للألفنش مع كثرة جيوشه طاقة، ولم يكن في ولاة المغرب من له سيرة كسيرته، وقد أثنى عليه أرباب السير، وذكره عبد المنعم بن عمر في تاريخه وأثنى عليه وقال:"لما توفي أبوه يوسف قام بالأمر أحسن قيام، فأقر العيون بما قرر من قواعد الإسلام، ونشر كلمة التوحيد، وأذل من أهل الكفر كل جبار عنيد، ورفع غاية الاجتهاد، فتضرع باجتهاده كل ناد، وأمر بالمعروف، ونهي عن المنكر، ونشر نشره أذكى من العنبر، وضوء كرمه أعلى من ضوء القمر الأنور. وأقام الحدود على العالمين. وخصوصًا على أهله وعشيرته الأقربين، فاستقامت الأمور ببركاته، وظهرت الفتوح العظيمة بعزماته، وانتشرت الخيرات بكراماته".
وقال السبط: حكى لي الشيخ الصالح الفاضل أبو العباس بن تامتنب المغربي اللواتي بالديار المصرية بالقرافة في سنة أربعين وستمائة من فضائل الملك المنصور يعقوب بن يوسف المذكور، وكان أبو العباس قد صحبه زمانا وانتفع به واستفاد منه، قال: وكلما أحكيته عنه فهو على المشاهدة والعيان لا عن فلان وفلان. قال في ذلك: إنه قدم بلدة فاس رجل شريف، وكان فاضًا لطيفًا، وكان يعظ بصوت طيب، فجلس بها فمال الناس إليه، وأرادوا أن يبايعوه، وبلغ خبره إلى يعقوب، فكتب إليه كتابا يقول فيه: "قد بلغنا قدومك البلاد ووصول بركتك إلى أهلها، ونحن نسألك أن تقدم علينا لنأخذ حظنا منك، كما أخذ أهل البلاد حظهم. وبعث إليه بعشرة آلاف دينار، فخاف الشريف، واجتمع إليه أهل البلاد، وقالوا: متى وقعت في يده قتلك، فأظهر العصيان، ونحن وأهل الجبال معك. فقال الشريف: معاذ الله أن أكون سببا لإراقة دم مسلم، ولكني أسير إليه، وأستعين بالله عليه. وبلغ يعقوب قوله، فلما قرب من مراكش تخرج يعقوب فاستقبله وأنزله معه في قصره، وحمل إليه المال والتحف، وجلس يسمع كلامه، وكان يجالسه. واتفق عبور يعقوب للقاء ألفنش، ومن عادتهم يوم المصاف أن يصلي الخليفة بالناس الفجر، ويركب معه خمسة آلاف من القراء مُلبسين الدروع، حاملين الأسلحة، فيقرءون سُبْعًا من القرآن، ويدعو الخليفة، لا يدعو غيره، وكان له طبال اسمه حماد -مقدم الطبّالين- وخلفه مائة كوس، وليس في العسكر من له طبل
سوى الخليفة، فإذا فرغ من الدعاء بعد القراءة قال: يا حمّاد، فيقول: لبيك، فيقول: اضرب الطبل، فيدق الكوسات، وتحمل العساكر وهاتان الخصلتان لا يشارك الخليفة فيهما أحد الرعاء، وقوله يا حمّاد اضرب الطبل. فلما كان في هذا اليوم الذي التقى فيه يعقوب بألفنش، صلى الخليفة بالناس، وركب والشريف عن يمينه، ولما فرغ من قراءة السبع، التفت إلى الشريف وقال: يا شريف ادعُ، فقال: الله الله يا أمير المؤمنين، العفو، هذه وظيفة أمير المؤمنين. فقال: لابد. فما أمكنه مخالفته، خوفًا منه، فمد يديه ودعي، وعجب الناسُ، ولما فرغ من الدعاء قال له: يا شريف قل لحمّاد يضرب الطبل. فقال: العفو يا أمير المؤمنين. فقال: لا بد، فقال: يا حماد اضرب الطبل، فضرب، وحملوا. ثم التفت إلى الشريف وقال: يا شريف إن كان خطر ببالك أنك تحكم في البلاد، وأطمعك أهل فاس والجبال في هذا الأمر، أو رأيت منامًا فهو هذا الذي رأيت ما يجعل لك من الخلافة سواه، فنزل وقبل الأرض، وكسر الله عز وجل ألفنش وأقام الشريف عنده في أرغد عيش إلى أن توفي، وما ظن أحد أنه يسلم منه، فلله دَرّ هذه المكارم لو كان غير يعقوب لحل بالشريف العظائم.
ومنها ما حكاه لي أبو العباس أيضًا قال: كان ليعقوب ابن أُخت لم يكن بمراكش أحسن صورة منه، له ثمان عشرة سنة، فقدم مراكش رجل يُرقّصُ الدُبَّ ومعه امرأته، فرآها ابن أخت يعقوب فأعجبته، فأرسل إليها فأخذها، فوقف زوجها ليعقوب فقال: يا أمير المؤمنين إني رجل غريب وقد غصبني ابن أختك وأخذ زوجتي. فقال له: اتبعني. وجاء إلى قصر ابن أخته وقال للرجل قف هاهنا، ثم دخل القصر واستدعى ابن أخته وقال له: لِم أخذت زوجة هذا الرجل؟ فأنكر. فدعي بالرجل وقال له: قد أنكر. وقال: يا أمير المؤمنين لي كليبة قد ربتها المرأة تحضر كل امرأة في القصر وأحضر الكلبة فهي تعرفها من بين ألف امرأة، فإن وقفت عندها وإلا فاقتلني. فقال للرجل: اخرج، ثم قال لابن أخته: لا تبقى امرأة في القصر إلا وتخرج، فأخرج النساء وخرجت المرأة بينهن وقد غير زيها وألبسها الحلى والجواهر والثياب الفاخرة، وأطلق الكلبة فجاءت ووقفت عندها، فاستدعى الرجل وقال: خذ زوجتك بما عليها، ثم التفت إلى ابن أخته وقال: قصرك مملوء بالجواري المستحسنات وأنت تمد عينيك إلى امرأة رجل غريب جاء من بلاد بعيدة فتأخذها غصبًا. ثم قال لغلمانه: اعطوه الرماح. وهذه قِتلة المغاربة، فخرجت أمه حاسرة فبكت بين يديه وقالت: مالي غيره. فقال: لأهذِّبن ملوك الغرب وغيرهم، فقتله.
ومنها ما حكاه لي أبو العباس أيضًا قال: اشتهرت امرأة بالزهد وأنها ما تأكل الخبز، فبعث إليها يعقوب وقال: أقيمي عندي في القصر أياما لأتبارك بك، فأقامت عنده مدة، فدخلت بعض جوارية السقاية يومًا فرأت الزاهدة تأكل الخبز في بيت الماء، فبهتت وجاءت إليه فأخبرته فقال لها: والله لئن سمع هذا غيري منك لأقتلنك، ثم بحث عن ذلك فوجده صحيحًا، فأرسل إلى الزاهدة خمسمائة دينار وثيابًا، وقال لها: قد حصلت لنا البركة بمقامك عندنا، وقد سألني بنو عمى أن تقيم عندهم في قصرهم لتصل إليهم بركتك. فانتقلت إليهم ولم يظهر أمر المرأة. قال: وكان جوادًا سمحًا يهب مائة ألف دينار وخمسين ألفًا، رحمه الله.
قال السبط: ويعقوب هذا هو الذي راسلة السلطان صلاح الدين بشمس الدين بن منقذ يستنجد به في سنة سبع وثمانين وخمسائة. ومدحه ابن منقذ بأبيات من الشعر، فأعطاه لكل بيت ألف دينار
(1)
.
قال ابن خلكان: وكان قد أرسل إليه السلطان صلاح الدين يوسف رسولًا من بني منقذ في سنة سبع وثمانين وخمسائة يستنجده على الإفرنج الواصلين من بلاد المغرب إلى الديار المصرية وساحل الشام، ولم يخاطبه بأمير المؤمنين بل خاطبه بأمير المسلمين، فعز ذلك عليه ولم يجبه إلى ما طلب منه، والرسول المذكور هو شمس الدولة أبو الحارث عبد الرحمن بن نجم الدولة أبي عبد الله محمد بن مرشد والله أعلم.
(2)
الرابع في سريرته:
قال ابن كثير: قد كان دينًا حسن السيرة، صحيح السريرة، وكان مالكي المذهب، ثم صار ظاهريًا خرميًا، ثم مال إلى مذهب الشافعي، واستقضى في بلاده منهم.
(3)
وقال ابن خلكان: أمر برفض فروع الفقه وأن العلماء لا يفتون إلا بالكتاب العزيز والسنة النبوية، ولا يقلدون أحدًا من الأئمة المجتهدين المتقدمين بل تكون أحكامهم بما يؤدي إليه اجتهادهم من استنباطهم القضايا من الكتاب والسنة والإجماع والقياس.
(4)
(1)
نقل العينى هذا الخبر بتصرف من مرآة الزمان، ج 8، ص 298 - 301.
(2)
ابن خلكان، وفيات الأعيان، ج 7، ص 12، ترجمة رقم 829.
(3)
ابن كثير، البداية والنهاية، ج 13، ص 19.
(4)
ابن خلكان، وفيات الأعيان، ج 7، ص 11.
وقال المؤيد فى تاريخه: وكان يتظاهر بمذهب الظاهرية، وأعرض عن مذهب مالك رحمه الله.
(1)
الخامس فى وفاته:
قال علماء الأندلس: مرض يعقوب مرضًا أشفى منه على الموت، فأوصى إلى ولده أبى عبد الله محمد
(2)
، وأن لا يخفوا موته، وأن يصلى عليه المسلمون ويدفن على قارعة الطريق، ليترحّم عليه من يمر به، وتوفى فى ربيع الأول، فكانت مدة أيامه خمس عشرة سنة، وبايع الناس ولده محمدًا، واستمر على سيرة أبيه، ثم اختلفت الأهواء ودخل النقص على البيت بموت يعقوب
(3)
.
وقال ابن كثير: توفى السلطان أبو محمد يعقوب بن يوسف صاحب بلاد المغرب والأندلس بمدينة سلا
(4)
. وكان قد ابتنى عندها مدينة
(5)
مليحة سماها المهدية: وقال غيره من علماء التاريخ: لما فرغ من غزواته رجع إلى مراكش، ثم اختلفت الروايات فى أمره، فمنهم من يقول: إنه ترك ما كان فيه وتجرد وساح فى الأرض حتى انتهى إلى بلاد الشرق وهو مستخف لا يُعْرف، ومات خاملا.
ومنهم من يقول: إنه لما رجع إلى مراكش توفى فى غُرّة سنة خمس وتسعين وخمسمائة. وقيل: فى شهر ربيع الآخر فى سابع عشره، وقيل: فى غُرّة صفر.
وفى تاريخ المؤيد: توفى يعقوب صاحب المغرب والأندلس وعمره ثمان وأربعون سنة، وملك بعده ابنه محمد بن يعقوب وتلقب بالملك الناصر، ومولده فى سنة ست وسبعين وخمسمائة. وعبد المؤمن وبنوه جميعهم كانوا يسمون بأمير المؤمنين.
(6)
(1)
المختصر فى أخبار البشر، جـ 3، ص 96.
(2)
عن ترجمته راجع وفيات الأعيان، جـ 7، ص 15 (351).
(3)
مرآة الزمان، جـ 8، ص 301.
(4)
مدينة سلا: مدينة بأقصى المغرب، معجم البلدان، جـ 3، ص 109.
(5)
"مدرسة" كذا فى الأصل والتصحيح من البداية والنهاية، جـ 13، ص 19.
(6)
أبو الفدا، المختصر، جـ 3، ص 96.
وقال ابن خلكان: وكان يعقوب قد عظم ملكه واتسعت دائرة سلطنته، حتى أنه لم يبق بجميع أقطار بلاد المغرب من البحر المحيط إلى برقة إلا من أطاعه ودخل فى ولايته إلى غير ذلك من جزيرة الأندلس
(1)
.
ذكر وفاة مجاهد الدين
هو الأمير الكبير مجاهد الدين قايماز الزينى نائب الموصل والمستولى على مملكتها فى أيام ابن أستاذه نور الدين أرسلان. وكان عاقلًا ذكيًا فقيهًا حنفيًا، وقيل شافعيًا، يحفظ شيئًا كثيرًا من التواريخ والحكايات، وقد ابتنى عدة جوامع، ومدارس، وربط، وخانات، وله صدقات كثيرة دايرة.
وقال ابن الأثير: "وقد كان من محاسن الدنيا".
(2)
توفى فى ربيع الأول منها بقلعة الموصل.
وقال ابن خلكان: هو أبو منصور قايماز بن عبد الله الزينى، الملقب مجاهد الدين الخادم، كان عتيق زين الدين أبى سعيد على بن بكتكين، والد الملك المعظم مظفر الدين صاحب إربل، وهو من أهل شبختان
(3)
، أخذ منها صغيرًا، وكان أبيض اللون، وكانت
(4)
مخايل النجابة لائحة عليه، فقدمه معتقه وجعله أتابك أولاده، وفوض إليه أمور إربل فى خامس شهر رمضان سنة تسع وخمسين وخمسمائة، فأحسن السيرة، وعدل فى الرعية، وكان كثير الخير والصلاح، بنى بإربل مدرسة وخانقاه، وأكثر وقفهما.
ثم انتقل إلى الموصل فى سنة إحدى وسبعين وخمسمائة، وسكن قلعتها، وتولى أمور تدبيرها، وراسل الملوك وراسلوه، وكان يبلغ منهم بكتبه مالا يبلغ سواه. وفوض إليه الأتابك سيف الدين غازى بن مودود -صاحب الموصل- الحكم فى سائر بلاده، لما رأى منه من حسن مقاصده، واعتمد عليه فى جميع أحواله، وكان نائبه وهو السلطان فى الحقيقة، وكان يحمل إليه أكثر أموال إربل، وأثر بالموصل أثارًا جميلة
(5)
؛ منها أنه بنى
(1)
وفيات الأعيان، جـ 7، ص 12.
(2)
وردت هذه العبارة فى الكامل، جـ 12، ص 72.
(3)
يقصد بها سجستان، وفيات الأعيان، جـ 4، ص 82، حاشية 2.
(4)
"وكان" فى الأصل والتصحيح من وفيات الأعيان، جـ 4، ص 82، ترجمة رقم 540.
(5)
"جملة" كذا فى الأصل والتصحيح من وفيات الأعيان، جـ 4، ص 82.
بظاهرها جامعًا كبيرًا ومدرسة وخانقاه والجميع متجاور، ووقف أملاكًا كثيرة على خبز الصدقات، وأنشأ مكتب للأيتام، وأجرى لهم جميع ما يحتاجون إليه، ومد على شط الموصل جسرًا غير الجسر الأصلى، ووجد الناس به رفقًا كثيرًا، وله شئ كثير من وجوه البر، ومدحه جماعة من الشعراء منهم حيص بيص سبط ابن التعاويذى بقصيدته التى أولها:
عليل الشوق فيك متى يَصحُّ
…
وسكرانٌ بحبك كيف يَصْحو
وبين القلب والسلوان حَرْبُ
…
وبين الجفن والعبرات صلحُ
وسيرها إليه من بغداد فأجازه جائزة سنية وسير له معها بغلة، فوصلت إليه وقد هزلت من تعب الطريق، فكتب إليه:
مجاهد الدين دمت زخرًا
…
لكل ذى فاقة وكنزًا
بعثت لى بغلة ولكن
…
قد مسخت فى الطريق عنزًا
(1)
وكان مجد الدين أبو السعادات ابن الأثير الجزرى صاحب جامع الأصول كاتبًا بين يديه ومنشئًا عنه إلى الملوك. ولما مات الأتابك سيف الدين وتولى أخوه عز الدين مسعود سعى أهل الفساد إليه فى حقه وكثر ذلك منهم، فقبض عليه سنة تسع وثمانين وخمسمائة، ثم ظهر له فساد رأيه فى ذلك فأطلقه وأعاده إلى ما كان عليه، واستمر على ذلك إلى أن توفى فى نصف ربيع الأول وقيل فى سادسه. وقال ابن المستوفى فى تاريخ إربل: توفى فى صفر سنة خمس وتسعين وخمسمائة بقلعة الموصل، والله أعلم.
(2)
ذكر بقية الحوادث
منها أنه شرع فى بناء سور لبغداد من الآجر والكلس، وفرق على الأمراء فكملت عمارته بعد هذه السنة، فأمنت بغداد من الغرق والحصار ولم يكن لها سور قبل ذلك.
(3)
(1)
وفيات الأعيان، جـ 4، ص 82 - ص 83.
(2)
وفيات الأعيان، جـ 4، ص 84.
(3)
البداية والنهاية، جـ 13، ص 19.
ومنها أن الملك الأفضل بن صلاح الدين يوسف أشهد على نفسه فى هذه السنة بوقف المطرية ومنية
(1)
الباسك والرباع المسوغة وغيرها على سور القاهرة ومصر والمارستان بالقاهرة.
ومنها أنه حضر إلى الأفضل رسل الموصل، وسنجار، والجزيرة، وماردين، ووصل صحبتهم ضياء الدين بن الأثير.
ومنها أنه سار خوارزم شاه علاء الدين تكش إلى الرِىّ وغيرها من بلاد الجبل، لأنه بلغه أن نائبه مياجق قد تغيرت نيته وجعل يفر بين يديه وهو فى طلبه، فحصل بقلعة من أعمال مازندران فحصره بها وأخذه فأمر بحبسه.
(2)
ومنها أن ركن الدين سليمان بن قليج أرسلان مَلَكَ مدينة ملطية، وكانت بيد أخيه معز الدين قيصر شاه، ثم سار منها إلى أرزن الروم، فخرج إليه صاحبها على قاعدة أن يقرر الصلح، فقبض عليه وتسلم البلد، وهو من أولاد الملك محمد بن صرطن، وهم ببيت قديم كانوا يملكون هذا البلد، فكان هذا آخرهم.
منها أنه حضر التقليد من عند الخليفة الناصر، والمنشور والخلع لخوارزم شاه بما بيده من البلاد، فلبس الخلع، واشتغل بقتال الملاحدة، فافتتح منهم قلاعًا، وقتل عليها صدر الدين محمد بن الوزان رئيس الشافعية. ثم عاد إلى خوارزم، فوثب الملاحدة على وزيره نظام الملك مسعود بن على فقتلوه، فسير ولده قطب الدين الحصار الملاحدة فحاصرهم، فلما بلغه مرض والده تكش صالحهم على مائة ألف دينار وفارقهم.
(3)
ومنها أن الخليفة استدعى قاضى الموصل ضياء الدين بن الشهرزورى، فولاه قضاء قضاة بغداد.
(4)
(1)
منية الباسك أو منية الباساك أو منية الباسل؛ من الأعمال الأطفيحية، وهى حاليًا تابعة لمركز الصف بمحافظة الجيزة. انظر ابن الجيعان: التحفة السنية بأسماء البلاد المصرية، ص 150؛ رمزي: القاموس الجغرافى، جـ 3 ق 2، ص 31.
(2)
ورد هذا الحدث فى الكامل، جـ 12، ص 71.
(3)
نقل العينى هذا الحدث بتصرف من الكامل، جـ 12، ص 71 - 72.
(4)
ورد هذا الخبر فى مرآة الزمان، جـ 8، ص 295؛ البداية والنهاية، جـ 13، ص 20.
ومنها أنه وقع الرضى عن الشيخ جمال الدين أبى الفرج بن الجوزى، شيخ الوعاظ فى زمانه وبعده، وقد كان أخرج من بغداد إلى واسط، فأقام بها خمس سنين، فانتفع به أهلها واستفادوا. ولما عاد إلى بغداد خلع عليه، وأذن له فى الجلوس
(1)
على عادته عند التربية الشريفة المجاورة لقبر معروف الكرخى، رضى الله عنه، فكثر الجمع جدًّا، وأخذ فى الرياب
(2)
يومئذ فيها قال يخاطب الخليفة:
لا تُعطش الروض الذى نبته
…
بصَوب إنعامك قد روضا
لا تبر عودًا أنت رَيَّشْتَه
…
حاشى لبانى المجد أن يَنقضا
إن كان لى ذنب "تجرمته"
(3)
…
فاستأنف العفو "وهب ما مضى"
(4)
قد كنت أرجوك لنيل المنى
…
فاليوم لا أطلب إلا الرضى
(5)
وقال السبط: وفى هذه السنة وقف خالى محيى الدين أبو محمد يوسف للخليفة فى رجب ومعه قصته ببستان يقال له دولاب البقل، فذكر فيها ما نال جدى وأهله من الضرر، وكان نجاح الشرابى بين يدى الخليفة، فجاء فأخذ الورقة وقال له الشرابى: تعال إلى باب البدرية ووقعوا له بالإفراج عنه، فقدم جدى ببغداد فى شعبان، وخلع عليه وجلس عند تربة أم الخليفة، وكانت تتعصب له وساعدت فى خلاصه، وأنشد جدى رحمه الله:
إن كان لى ذنب ولم آته
…
فاستأنف العفو وهَب ما مضى
وهذا الشعر للرضى الموسوى وقد ذكرناه فى ترجمته، وأنشد أيضًا:
سقينا
(6)
بالنوى زمنًا فلما
…
تلاقينا كأنا ما سقينا
(7)
سخطنا
(8)
عندما جنت الليالى
…
فما زالت بِنَا حتى رضينا
(1)
"الوعظ" فى البداية والنهاية، جـ 13، ص 20.
(2)
كلمة غير مقروءة فى الأصل، ولعلها ما أثبتناه.
(3)
"قد جنيته" فى البداية والنهاية، جـ 13، ص 20.
(4)
"وهب لى الرضا" فى البداية والنهاية، جـ 13، ص 20.
(5)
ورد هذا الحدث فى البداية والنهاية، جـ 13، ص 20.
(6)
،
(7)
شقينا فى نسخة دار الكتب.
(8)
"شطحنا" فى مرآة الزمان، جـ 8، ص 295.
سعدنا بالوصال وكم
(1)
شقينا
…
بكاسات الصدود وكم ضنينا
فمن لم يحى بعد الموت يوما
…
فإنا بعد مُتنا حيينا
ومنها أنه وقعت بدمشق فتنة بسبب الحافظ عبد الغنى المقدسى
(2)
، وذلك أنه كان يتكلم فى مقصورة الحنابلة بالجامع الأموى فذكر يومًا شيئًا من العقائد، فاجتمع القاضى محى الدين بن الزكى، وضياء الدين الخَطيب الدولعى بالسلطان الملك المعظم ابن الملك العادل، والأمير صارم الدين بُرغش، فعقد له مجلس فيما يتعلق بمسألة الاستواء
(3)
والنزول ومسألة الحرف والصوت، فوافق بنو النجم الحنبلى بقية الفقهاء. واستمر الحافظ عبد الغنى على ما يقوله، واجتمع بقية الفقهاء على خلافه وألزموه بإلزامات شنيعة حتى قال الأمير بُرغش: كل هؤلاء على الضلالة وأنت على الحق. قال: نعم. فغضب الأمير عند ذلك وأمر بنفيه من البلد، فاستنظر ثلاثة أيام فأنظر. وأرسل بُرغش مَن كسر منبر الحافظ وتعطلت صلاة الظهر يومئذ فى محراب الحنابلة، وأخرجت الخزائن والصناديق التى هناك، وجرت خبطة شديدة، وكان عقد المجلس فى يوم الاثنين الرابع والعشرين من ذى الحجة، فارتحل الحافظ عبد الغنى إلى بعلبك، ثم سار إلى ديار مصر فأواه الطحانون فحنوا عليه وأكرموه.
(4)
وقال أبو شامة: كانت فتنة عبد الغنى الحافظ الحنبلى يوم الاثنين الرابع والعشرين من ذى القعدة
(5)
. ذكر العز بن تاج الأمناء أنه اجتمع الشافعية والحنفية والمالكية عند المعظم عيسى والصارم بُرغش والى القلعة، وكانا يجلسان بدار العدل للنظر فى المظالم، فكان ما اشتهر من إحضار اعتقاد الحنابلة وموافقة أولاد الفقيه نجم الدين الحنبلى الجماعة، وإصرار عبد الغنى على لزوم ما ظهر من اعتقاده؛ وهو الجهة، والاستواء، والحروف، وإجماع الفقهاء على الفتيا بكفره، وأنه مبتدع لا يجوز أن يُترك بين المسلمين، ولا يحل لولى الأمر أن يمكنه من المقام معهم. ثم ذكر مثل ما ذكرنا.
(1)
"لم سقينا" فى مرآة الزمان، جـ 8، ص 295.
(2)
وفيات الأعيان، جـ 1، ص 107، وانظر ترجمته فى البداية والنهاية، جـ 13، ص 38 - ص 39؛ مرآة الزمان، جـ 8، ص 338 - ص 340.
(3)
"العلو" فى البداية والنهاية، جـ 13، ص 39.
(4)
ورد هذا الخبر فى البداية والنهاية، جـ 13، ص 20 - ص 21.
(5)
ذكر ابن كثير أن الفتنة كانت يوم الاثنين الرابع والعشرين من ذى الحجة، البداية والنهاية، جـ 13، ص 21.
ومنها أنه كانت فتنة عظيمة فى عسكر غياث الدين ملك الغورية وهو بفيروزكوه
(1)
، وسببها أن الإمام فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين الرازى المعروف بابن الخطيب، الإمام المشهور، كان قد قدم إلى غياث الدين، فبالغ غياث الدين فى إكرامه واحترامه، وبنى له مدرسة بهراة بالقرب من الجامع، فعظم ذلك على الكرامية
(2)
، وهم كثيرون بهراة، ومذهبهم التجسيم والتشبيه. وكانت الغورية كلهم كرامية، فكرهوا الإمام فخر الدين لأنه شافعى، فاتفق أن فقهاء الكرامية، وفقهاء الحنفية، وفقهاء الشافعية، حضروا بفيروزكوه عند غياث الدين للمناظرة، وحضر فخر الدين الرازى، والقاضى عبد المجيد بن عمر المعروف بابن القدوة وهو من الكرامية الهيصمية
(3)
، وله عندهم محل كبير لتزهده وعلمه. فتكلم الرازى فاعترض عليه ابن القدوة وطال الكلام، فقام غياث الدين واستطال فخر الدين الرازى على ابن القدوة وشتمه، وبالغ فى أذاه، وابن القدوة لا يزيد على أن يقول: لا يفعل مولانا، لا وأخذك الله.
(4)
فغضب على فخر الدين الملك ضياء الدين، وهو ابن عم غياث الدين، وزوج ابنته، وشكى إلى غياث الدين، وذم فخر الدين الرازى، ونسبه إلى الزندقة ومذهب الفلاسفة، فلم يصغ إليه غياث الدين. فلما كان من الغد وعظ الناس ابن عمر القدوة بالجامع، وقال: بعد حمد الله، والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول، أيها الناس إنا لا نقول إلا ما صح عندنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما علم أرسطو وكفريات ابن سينا، وفلسفة الفارابى فلا نعلمها، فلأى حال يشتم بالأمس شيخ من شيوخ الإسلام يذب عن دين الله، وسنة نبيه عليه السلام، وبكى، وبكى الكرامية فاستغاثوا، وثار الناس فى كل جانب، وامتلأ البلد فتنة. فبلغ السلطان غياث الدين، فأرسل جماعة سَكَّنوا الفتنة، ووعدهم إخراج فخر الدين الرازى من عندهم. وتقدم إليه بالعود إلى هراة
(5)
. وأمر الملك بإخراج فخر الدين الرازى من البلد.
(1)
فيروزكوه: هي قلعة حصينة فى جبال غورشستان بين هراة وغزنة وهى دار مملكة من يتملك تلك النواحى. وهى بلد شهاب الدين بن سام الذى ملك غزنة وخراسان وبلاد الهند، وأخوه غياث الدين أكبر منه. معجم البلدان، جـ 3، ص 930.
(2)
الكرامية: نسبة إلى ابن كرام. البداية والنهاية، جـ 13، ص 19.
(3)
الهيصمية: نسبة إلى ابن الهيصم. البداية والنهاية، جـ 13، ص 19.
(4)
كذا فى الأصل وابن الأثير: الكامل، جـ 12، ص 71. أما نص العبارة فى المختصر، جـ 3، ص 96 فهو "لا يفعل مولانا إلا وأخذ الله".
(5)
نقل العينى هذا الخبر من أبى الفدا: المختصر، جـ 3، ص 96 - 96 على الرغم من أنه لم يذكر ذلك. والنص موجود باختلاف بسيط فى الكامل، جـ 12، ص 70 - 71؛ البداية والنهاية، جـ 13، ص 19 - 20.
ولم يكن الملك مختارًا لذلك، فعاد إلى هراة. فلهذا أشرب قلب الرازى بغض الكرامية فهو يلهج بهم فى كل أمة فى كل موطن
(1)
، وكلما هبت الصبا.
وقال ابن الأثير
(2)
: ومنها فارق غياث الدين ملك الغورية مذهب الكراهية وصار شافعى المذهب.
ومنها أن فى شهر رمضان قصد الملك المنصور صاحب حماة وبارين، وبها نواب عز الدين إبراهيم بن شمس الدين محمد بن عبد الملك بن المقدم وحاصرها، وكان عز الدين إبراهيم مع الملك العادل محصورًا معه بدمشق، ونصب الملك المنصور عليها المجانيق، وجرح الملك المنصور فى حالة الزحف، وفتحها فى التاسع والعشرين من ذى القعدة، وأقام ببارين مدة حتى أصلح أمورها.
(3)
وفيها ....................................................
(4)
وفيها حج بالناس من بغداد مظفر الدين وجه السبع أميرًا على الركب العراقى
ذكر من توفى فيها من الأعيان
أبو الحسن محمد بن جعفر بن أحمد بن محمد بن عبد العزيز بن إسماعيل بن على بن سليمان بن يعقوب بن إبراهيم بن إسماعيل بن على بن عبد الله بن العباس الهاشمى، قاضى القضاة ببغداد بعد ابن النجارى. وقد كان من أعيان الشافعية، تفقه على أبى الحسن بن الخل وغيره. وقد كان ولى القضاء والخطابة بمكة شرفها الله تعالى، وأصله منها، ولكن ارتحل إلى بغداد فنال بها ما نال، وآل من أمره بها ما آل، ثم أنه عُزل عن القضاء بسبب محضر رقم خطه عليه، وكان فيما قيل مزورًا والله أعلم، وجلس فى منزله حتى مات فى هذه السنة.
(5)
(1)
ورد هذا النص بتصرف فى البداية والنهاية، جـ 13، ص 20.
(2)
فى الأصل "النويرى". والصحيح ما أثبتناه حيث نقل العينى هذا الخبر من الكامل، جـ 12، ص 72.
(3)
نقل العينى هذا الخبر من المختصر، جـ 3، ص 96. مفرج الكروب، جـ 3، ص 101.
(4)
بياض بمقدار سطر وكلمتين.
(5)
نقل العينى هذه الترجمة من البداية والنهاية، جـ 13، ص 21. انظر أيضًا: ابن الساعى: الجامع المختصر، جـ 9، ص 9 - 10 (بغداد 1936 م).
الشيخ جمال الدين أبو القاسم يحيى بن على بن الفضل بن بركة بن فضلان، شيخ الشافعية ببغداد، تفقه أولا على سعيد بن محمد الرازى
(1)
مدرس النظامية، ثم ارتحل إلى خراسان فأخذ عن الشيخ محمد بن يحيى الزبيدى تلميذ الغزالى، وعاد إلى بغداد وقد أتقن علم المناظرة والأصلين، فساد أهل بغداد، وانتفع به الطلبة والفقهاء، وبنيت له مدرسة، فَدَرّسَ فيها، وبَعُدَ صيته، وكثرت تلامذته. وكان كثير التلاوة، وإسماع الحديث، وكان حسنًا لطيفًا ظريفًا ومن شعره:
وإذا أردت منازل الأشراف
…
فعليك بالإسعاف والإنصاف
وإذا بغى باغٍ عليك فخلِّه
…
والدهر فهو له مكاف كاف
(2)
وكان مولده سنة خمس عشرة وخمسمائة، وكان مقطوع اليد، وقع من الجمل فعملت يده، فخيف عليه فقطعت. وكانت وفاته فى شعبان منها، وحمل الفقهاء جنازته إلى الوردّية.
تقى الدين طرخان بن ماضى بن جوشن بن على بن معافى الضرير الشاغورى الشافعى، مات فى ذى الحجة، ومولده بدمشق سنة ثمان عشرة وخمسمائة. وكان إمامًا للملك العادل نور الدين محمود بن زنكى، رحمه الله.
ابنُ زُهْر
(3)
الشاعر، أبو بكر محمد بن مروان بن عبد الملك بن أبى العلاء زهر بن أبى مروان عبد الملك بن أبى بكر بن محمد بن مروان بن زهر الأيادى الأندلسى الأشبيلى، هو من أهل بيت كلهم علماء رؤساء حكماء وزراء، نالوا المراتب العلية، وتقدموا عند الملوك، ونفذت أوامرهم، وكان أبو بكر محمد المذكور فكان من اللغة مكين، وكان يحفظ شعر ذى الرُمَّة وهو ثلث لغة العرب، مع الإشراف على جميع أقوال أهل الطب، والمنزلة العليا عند أصحاب المغرب، مع سمو النسب وكثرة الأموال، ذكره
(1)
فى البداية والنهاية "الزار"، وفى الجامع المختصر "الرزار". انظر: البداية والنهاية، جـ 13، ص 21؛ ابن الساعى: الجامع المختصر، جـ 9، ص 11.
(2)
نقل العينى هذه الترجمة إلى نهاية الشعر من البداية والنهاية، جـ 13، ص 21. انظر أيضًا: الجامع المختصر، جـ 9، 11 - 13.
(3)
انظر ترجمته فى وفيات الأعيان، جـ 4، ص 434 - 437.
ابن دحية فى كتابه المسمى "المطرب من أشعار أهل المغرب" وقال: صحبته زمانًا طويلًا، واستفدت منه أدبًا جليلًا، وأنشد من شعره، رحمه الله:
وموَسِّدين على الأكُفِّ خدودَهم
…
قد غَالهم نوم الصباح وغالنى
ما زلتُ أسقيهم وأشربُ فضلهُم
…
حتى سكرتُ ونالهم ما نالنى
والخمرُ تعلم كيف
(1)
تأخذ ثأرها
…
أني أمَلْتُ إناءها فأمالنى
ثم سألت عن مولده فقال: ولدتُ سنة سبع وخمسمائة، وبلغتنى وفاته آخر سنة خمس وتسعين وخمسمائة.
وقال ابن خلكان
(2)
: وأوصى أنه إذا مات، يُكتبُ على قبره هذه الأبيات، وفيها إشارة إلى طبّه ومعالجته الناس.
تأمل بحقك يا واقفًا
…
ولاحظ مكانًا دُفِعنا إليه
تراب الضريح على وجنتى
…
كأنى لم أمش يومًا عليه
أداوى الأنام حذار المنون
…
وها أنا قد صرتُ [رهنا]
(3)
لديه
وله وقد شاخ وغلب عليه الشيب:
إني نظرتُ إلى المرآة إذ جُليت
…
فأنكرت مُقلتاى كلَّ ما رَأَتا
رأيتُ فيها شيخًا لست أعرفه
…
وكنت أعهده من قبل ذاك فتى
فقلت أين الذى بالأمس كان هنا
…
متى تَرحل عن هذا المكان متى؟
فاستضحكت ثم قالت وهى معجبة
…
إن الذى أنكرته مقلتاك أتى
كانت سليمى تنادى يا أُخىَّ وقد
…
صارت سليمى تنادى اليومَ يا أبتا
وقال ابن دحية فى جده أبى العلاء زُهُر: إنه كان وزيرًا وفيلسوف عصره. وتوفى فى سنة خمس وعشرين وخمسمائة بمدينة قرطبة. وقال فى حق جد أبيه عبد الملك، إنه
(1)
"حين" فى وفيات الأعيان، جـ 4، ص 434.
(2)
انظر وفيات الأعيان، جـ 4، ص 434 - 437.
(3)
كذا فى وفيات الأعيان، جـ 4، ص 436. وفى الأصل [رهينا].
رحل إلى المشرق، وبه تُطبب زماناً طويلاً، وتولى رئاسة الطب ببغداد، ثم بمصر، ثم بالقيروان، ثم استوطن مدينة دانية
(1)
. وطار ذِكره منها إلى أقطار الأندلس والمغرب. وتوفى بدانية. وقال في حق [241] جد جده محمد بن مروان أنه كان بالرى حافظاً للأدب فقيهاً حاذقاً بالفتوى، مقدماً في الشورى، متقناً في العلوم. وتوفى بطليطلة سنة اثنتين وعشرين وأربع مائة، وهو ابن ست وثمانين سنة، حَدَّثَ عن جماعة من علماء الأندلس، ووصفوه بالدين والفضل والجود والبذل. وزُهْر بضم الراء وسكون الهاء وبعدها راء. وذكر عماد الكاتب في الخريدة لأبي الطيب بن القزاز في بعض بنى زُهر:
قُلْ للوبا أنت وابن زُهر
…
قد جزتما الحدِّ في النكاية
ترفقا بالوَرى قليلا
…
في واحدٍ منكما كفاية
(1)
دانية: مدينة بالأندلس من أعمال بلنسية على ضفة البحر شرقا. معجم البلدان، جـ 2، ص 540.
فصل فيما وقع من الحوادث في السنة السادسة والتسعين بعد الخمسمائة
(*)
استهلت هذه السنة والخليفة الناصر لدين الله، والملكان الإخوان الأفضل والظاهر - ابنا السلطان صلاح الدين - محاصران لمدينة دمشق، وفيها عمهما الملك العادل، وقد قطعت عنها الأنهار والميرة، فلا يوجد خبز ولا ماء إلا قليلاً، وقد تطاول الحال، وقد خندقوا من أرض اللوان
(1)
إلى يلداً
(2)
خندقاً لئلا يصل إليهم جيش دمشق، وجاء فصل الشتاء، وكثرت الأمطار والأوحال، ولما دخل شهر صفر قدم الملك الكامل محمد بن الملك العادل
(3)
من الشرق على أبيه ومعه خلق من التركمان، وعساكر من بلاد الجزيرة والرُها وحران، فعند ذلك انصرفت العساكر المصرية، وتفرقوا أيادى سَبَا
(4)
، فرجع الملك الظاهر إلى حلب، وأسد الدين إلى حمص، والملك الأفضل إلى الديار المصرية، وسَلَمَ الملك العادل من كيد الأعادى، بعد ما كان قد عزم على تسليم البلد
(5)
واستسلم، ولكن الله سلم.
وفى تاريخ أبى الفدا
(6)
: ولما كان الإخوان الأفضل والظاهر محاصرين دمشق اتفق وقوع الخلف بينهما، وسببه؛ أنه كان للملك الظاهر مملوك يحبه اسمه أَيْبَك، ففقده ووجد عليه الملك الظاهر وجداً عظيماً، وتوهم أنه دخل دمشق، فأرسل يكشف خبره،
(*) يوافق أولها 23 أكتوبر 1999 م.
(1)
أرض اللوّان: في الغرب الجنوبى من دمشق.
الذهبى: العبر، جـ 4، ص 290، حاشية 1، تحقيق صلاح الدين المنجد، الكويت، 1963.
(2)
اتفق الذهبى مع العينى في أنها "يلدا". العبر، جـ 4، ص 290؛ ويلدا: قرية على بعد ثلاثة أميال من دمشق. معجم البلدان، جـ 4، ص 1025. أما ابن كثير الذى نقل العينى عنه هذا الخبر فقد وردت "اللد". انظر البداية والنهاية، جـ 13، ص 21.
(3)
الملك الكامل محمد: هو أبو المعالى محمد ابن الملك العادل، توفى سنة 635 هـ، ودفن بالقلعة بمدينة دمشق. وفيات الأعيان، جـ 5، ص 79 - 83، ترجمة 694.
(4)
أيادى سَبَا: العرب تقول تفرقوا كأيدى سَبَا، وأيادى سَبَا نصبا على الحال. ولما كان سَيلُ العرم، تفرق أهل هذه الأرض في البلاد، وسار كل طائفة منهم إلى جهة، فضربت العرب بهم المثل، فقيل: ذهب القوم أيادى سبا، أي متفرقين، فشبهوا بأهل سبا لما مزقهم الله تعالى كل ممزق فأخذت كل طائفة منهم طريقاً. والعرب لا تهمز سبا في هذا الموضع لأنه كثر في كلامهم. معجم البلدان، جـ 3، ص 27 - 28.
(5)
نقل العينى هذا الخبر من ابن كثير إلى كلمة البلد. انظر البداية والنهاية، جـ 3، ص 21 - 22.
(6)
"النويرى" كذا في الأصل، والصحيح ما أثبتناه.
وأطلع الملك العادل - وهو محصور - على القضية، فأرسل إلى الظاهر يقول له:"إن محمود بن الشكرى أفسد مملوكك، وحمله إلى الملك الأفضل أخيك"، فقبض الظاهر على ابن الشكرى، فظهر المملوك عنده، فتغير [الظاهر]
(1)
على أخيه الأفضل، وترك قتال العادل، وظهر الفشل في العسكر، فتأخر الأفضل والظاهر عن دمشق، وأقاما بمرج الصفر إلى أواخر صفر، ثم سارا إلى رأس الماء
(2)
ليقيما به إلى أن ينسلخ الشتاء، ثم انثنى عزمهما وسار الأفضل إلى مصر، والظاهر إلى حلب، على القريتين.
(3)
وفى تاريخ بيبرس: وفى هذه السنة كان الحصار مستمراً على دمشق، وغلت الأسعار، وقلت الأقوات، فوقع الحديث في الصلح بين العادل والأفضل، وقوى الشتاء، فعاد الظاهر إلى بلاده، وكره الأسدية عوده، وهطلت الأمطار؛ وصعب المقام، وتفلل بعض العسكر المصرى إلى الديار المصرية بغير دستور، وكان قصد العادل المماطلة والمطاولة إلى أن يضجر العسكر، ويتوسط الشتاء فلا يمكن المقام، ولما عظم الشتاء انتقل الأفضل إلى جسر الخشب وضاق [242] على العادل الحال وهو يتجلد، ثم أرسل إلى الأفضل يذكر له وصول ولده الكامل بمن معه من الجنود، وأنه يشفق على المسلمين من استمرار الحصار ووقوع النفار، وأشار عليه بالتأخير منزلة لئلا يَتَّقعَ العسكران، فرحل الأفضل إلى مرج الصَفرُ، ثم عاد هو وأخوه الظاهر ومن معه من العسكر إلى الديار المصرية؛ لصعوبة المقام بالشام، ولما بلغ الرملة وصل إليه رسول عمّه العادل يلتمس الصلح، فأكرمه وأجابه، وأعاده مكرما. ولما تحقق العسكر الدمشقى عود العسكر المصرى إلى مصر، خرج قراجا وسنقر ومَيمون القصرى وأياز جهركس في أتباعهم، فلحقوا غَزّه، منصرف الأفضل عنها، فتوجهوا إلى القدس.
(4)
(1)
ما بين حاصرتين إضافة لتوضيح المعنى من المختصر، جـ 3، ص 97.
(2)
رأس الماء: ميدان فسيح للحرب في حوران على بعد نحو عشرين ميلاً شمالى درعا. الفتح القسى، ص 59، حاشية 5.
(3)
نقل العينى هذا الخبر من المختصر، جـ 3، ص 97؛ راجع أيضاً، السلوك، ج 1 ق 1، ص 150. والقريتين: قرية كبيرة من أعمال حمص في طريق البرية. انظر: معجم البلدان، جـ 4، ص 77.
(4)
ورد هذا الخبر بتصرف في نهاية الأرب، جـ 28، ص 461 - 463.
وفى المرآة: ودخلت هذه السنة والحصار على دمشق، وكان أتابك رسلان شاه صاحب الموصل قد رَحَّل الملك الكامل من ماردين، فقدم دمشق ومعه خلق كثير من التركمان، وعسكر الرُها وحران، فتأخر الأفضل بالعساكر إلى عقبة شحورا
(1)
سابع عشر صفر، ووصل الكامل تاسع عشر صفر، فنزل بجوسق
(2)
أبيه على الشرف، ورحل الأفضل إلى مرج الصفّر، ورحل الظاهر إلى حلب، وأحرقوا ما عجزوا عن حمله، وسار الأفضل إلى مصر، وأحضر العادل ابني الحنبلى الناصح وأخاه شهاب
(3)
الدين وغيرهما، وكان الأفضل قد وعد الناصح بقضاء دمشق، وأخاه بالحسبة، فقال لهم العادل:"ما الذى دعاكم إلى كسر باب الفراديس، ومظاهرة أعدائى علىَّ، وسفك دمى؟ فقال له الناصح: "أخطأنا وما ثم إلا عفو السلطان". فقال العادل: فما بدا منى إليكم ما يوجب ذلك، ولولا أن يقال عنى إنى شنقت فقيها ما أبقيت منكم أحداً، ولكن البلد لكم هَبُوه لي". فأخرجهم إلى حلب. وجرت بعد هذا واقعة عجيبة، شفع في الشهاب الحنبلى إلى العادل فردّه، وكان يذكر الدرس في حلقة الحنابلة، ويأخذ مغلِ
(4)
الوقف، وكان في الحنابلة رجل مصرى يقال له نصر، يخدم الشيخ العماد، فأقام الشهاب سنين لا يعطيهم شيئاً، فاستغاثوا إلى العادل وهو في دار العدل، وكان الملك الأشرف والمعظم أبنا العادل وبقية أولاده وقوفاً في الخدمة، فقال نصرُ يا سلطان المسلمين
(5)
، هذا الرجل للوقف معه مدة طويلة"
(6)
، يأكله ولا يوصل إلينا شيئاً، وكان ذلك في حدود سنة عشر وستمائة، فقال العادل: كم له معه؟ سنة. فقال نصر: متى كسر باب الفراديس؟ فقال الملك الأشرف: "ذا تاريخ مشؤوم". فضحك العادل والجماعة.
(1)
"عقبة شحرورا" كذا في الأصل، والتصحيح من ابن عساكر: تاريخ دمشق، المجلد الثانى، ق 1، ص 143. وأيضاً: السلوك، ج 1، ق 3، ص 932. وكذا: Le Strange Palst. Under Moslems، P.488.
أما سبط ابن الجوزى الذى ينقل عنه العينى هذه الفقرة فقد أوردها "شيزورا". انظر مرآة الزمان، جـ 8، ص 302. وعقبة شحورا: متزلة قبلى دمشق، في الطريق بين دمشق والكسوة.
(2)
جَوْسَق: جمع جواسق. وهو لفظ معرب من الفارسى على كلمة "كوسك"، ومعناه القصر الصغير. المعجم الوسيط، ص 152 - 153.
(3)
"شمس الدين" في مرآة الزمان، جـ 8، ص 302. وهو خطأ. وقد صحح السبط هذا الاسم بعد قليل.
(4)
مغل: حاصل ما يغله الوقف.
(5)
"العالمين" في مرآة الزمان، جـ 8، ص 302.
(6)
"طويلة" غير موجودة في مرآة الزمان.
وأما الأفضل فإنه لما سار إلى مصر أرسل العادل وراءه أبا محمد نجيب الدين
(1)
، وقال له:"قل للأفضل ترفق فأنا لك مثل الوالد، وعندى كلما تريد، فقال الأفضل: "قل له إن صح ما قلت، فابعد عنك أعدائى الصلاحية، وبلغ "ذلك"
(2)
الصلاحية. فقالوا للعادل: "إش قعودنا، قم بنا، وساروا خلف الأفضل.
(3)
ذكر مسير العادل وراء الأفضل إلى مصر
قال السبط: ساروا وراءه مرحلة، فنزل الأفضل بلبيس، ونزل العادل السائح، فرجع الأفضل وضرب معهم المصاف، فكسروه وتفرق عنه أصحابه.
ودخل القاهرة وأغلق أبوابها، وجاء العادل فنزل البركة
(4)
، ودخل سيف الدين أزكش بين العادل والأفضل واتفقوا على أن يعطيه [243] العادل ميافارقين وجبل جور
(5)
، وديار بكر
(6)
، ويأخذ منه مصر. ورحل الأفضل من مصر في ربيع الآخر ودخل العادل القاهرة.
(7)
وفى تاريخ أبى الفدا
(8)
: سار العادل في إثر الملك الأفضل إلى مصر، وتفرقت عساكر الأفضل في بلادهم لأجل الربيع، فأدركه عمه العادل، فخرج الأفضل بمن بقى عنده من العسكر وضرب معه مصافاً بالسايح، فانكسر الأفضل وانهزم إلى القاهرة، وحاصر
(9)
الملك العادل القاهرة ثمانية أيام، فأجاب الأفضل إلى تسليمها على أن يُعوَّض عنها ميافارقين وحَانى
(10)
وشُمَيساط، فأجابه العادل إلى ذلك، ولم يَف له به.
(1)
"نجيب الدين عدل" في مرآة الزمان، جـ 8، ص 302.
(2)
"ذلك" غير موجودة في مرآة الزمان.
(3)
نقل العينى هذا الخبر من مرآة الزمان، جـ 8، ص 302.
(4)
البركة: هي بركة الجب، وهى من النواحى القديمة، اسمها القديم جب عميرة. ويقال لها بركة الجب أوبركة الحجاج وهى من ضواحى القاهرة من أعمال الشرقية. رمزى: القاموس الجغرافى، ق 3/جـ 2، ص 31.
(5)
جبل جور: انظر ما سبق، ج 1، ص 123، حاشية (9).
(6)
ديار بكر: انظر ما سبق، جـ 1، ص 219، حاشية (3).
(7)
نقل العينى هذا الخبر من مرآة الزمان، جـ 8، ص 302 - 303.
(8)
"النويرى" كذا في الأصل، والتصحيح ما أثبتناه. حيث نقل العينى هذا الخبر من المختصر، جـ 3، ص 98. أما النويرى فقد أورد هذا الخبر بصورة مختلفة: انظر: نهاية الأرب، جـ 28، ص 462.
(9)
"نازل" في المختصر، جـ 3، ص 98.
(10)
حانى: انظر ما سبق، جـ 2، ص 223، حاشية (5).
وكان دخول العادل في القاهرة في الحادى والعشرين من ربيع الآخر، ثم سار الأفضل إلى صرخد.
وفى تاريخ بيبرس: ولما سار العادل وراء الأفضل إلى مصر، رتب بدمشق ولده المعظم عيسى وبعض الأمراء، وَجّد نحو مصر، فإن الأمراء الأسدّية والصلاحيّة الناصرية أشاروا عليه بقصدها، وأن يكون ابن العزيز
(1)
مستمرًا في السلطنة، وهو المدبر له والمشير إلى أن يكبر، فسار ووصل إلى قطيا
(2)
، وقد أخذ أمر الأفضل في الضعف والتخاذل، ولم يبق معه من العسكر إلا القليل، وشرع في الاستعانة بالعربان وأصلح قلوبهم، ورتب الحرس على قلعة الجبل، وانزعج الناس لذلك، ورحل العادل من قطيا إلى العباسة
(3)
وبها سيف الدين يَازكج
(4)
، فوقع المصاف، فانكسر يازكج عليها، وخرج الأفضل إلى بلبيس، وتقاعد الجند عن الخروج معه، فوعد العُربان بالنفقات وأعطاهم الإقطاعات. ولما اتفقت كسرة يازكج عاد الأفضل فدخل القاهرة، وسار العادل إليها فنازلها وأغلقت أبوابها، وترددت الرسل بينه وبين الأفضل في الصلح، فسأله الأفضل دمشق، فلم يجبه، فطلب حرَّان والرُها فلم يعطه، فطلب ميافارقين وما حولها فأجابه، وتحالفا على ذلك، فخرج حينئذ الأفضل إليه، واجتمع به في ظاهر القاهرة، وسارا إلى صرخد يوم السبت ثانى عشر ربيع الآخر منها، ولم يعد بعدها إلى الديار المصرية إلى يوم وفاته، ولما مضى إلى صرخد سير إلى ما فارقين من يتسلمها له، فامتنع صاحبها نجم الدين أيوب بن الملك العادل من تسليمها، ولم يسلم إليه إلا حَانِى وجبل جور، وأرسل الأفضل إلى العادل بسببها فاعتذر، وزعم أن ولده نجم الدين عصاه بامتناعه عن تسليمها.
(1)
ابن العزيز: الملك المنصور محمد بن الملك العزيز عثمان بن الملك الناصر يوسف بن تغرى بردى: النجوم الزاهرة، جـ 6، ص 157.
(2)
قطيا: وتكتب أيضاً: "قَطَيه" وهى قرية من نواحى الجفار في الطريق بين مصر والشام وفى وسط الرمل قرب الفرما، وقد اندثرت هذه القرية ولم يبق إلا أطلالها في الطريق بين القنطرة والعريش في الجنوب الشرقى من محطة الرمانة.
رمزى: القاموس الجغرافى، القسم الأول، 350 - 351.
(3)
العباسة: هي بليدة من الديار المصرية أول ما يلقى القاصد لمصر من الشام بينها وبين القاهره خمسة عشر فرسخاً، سميت بعباسة بنت أحمد بن طولون. انظر: معجم البلدان، جـ 4، ص 84 - 85؛ رمزى: القاموس الجغرافى، ق 1، جـ 1، ص 69 - 70.
(4)
سيف الدين يازكج: انظر ما سبق، جـ 2، ص 15، حاشية (1).
ذكر دخول العادل إلى الديار المصرية واستقراره سلطانا
كان دخوله القاهرة يوم السبت الثامن عشر من ربيع الآخر، وأقام بها، والخطبة باسم الملك المنصور بن الملك العزيز بن السلطان صلاح الدين يوسف.
(1)
قال بيبرس: واستمر ذلك إلى أن اتفق وصول ولده الكامل إليه، فقطع خطبة المنصور في شهر شوال من هذه السنة، وخطب لنفسه ولولده الكامل بولاية العهد بعده، وزالت دولة صلاح الدين من مصر، واستوزر العادل الصاحب صفى الدين عبد الله بن على بن
(2)
شكر، وكان قد حلف له بالقدس أنه إذا ملك مصر يُمكّنه من المصريين ويبسط يده فيهم لأنهم كانوا ينتقصونه.
وفى تاريخ ابن كثير: استقر العادل في سلطنة الديار المصرية [244] وأعاد القضاء إلى صدر الدين عبد الملك بن درباس الماردانى
(3)
الكردى، واستوزر صفى الدين بن شكر لصرامته وشهامته، وسيادته وديانته، ثم كتب إلى ولده الكامل يستدعيه من بلاد الجزيرة ليملكه على الديار المصرية، فقدم عليه وأكرمه وعانقه والتزمه، فخطب الخطباء بعد الخليفة للملك العادل، ثم بعده للملك الكامل، وضربت السكة باسمهما، واستقرت دمشق باسم الملك المعظم عيسى بن الملك العادل، كما أن مصر استقرت للكامل.
(4)
ولما استقرت المملكة للعادل، أرسل إليه الملك المنصور - صاحب حماة - يعتذر إليه مما وقع منه بسبب أخذه بَارين من ابن المقدم
(5)
، فقبل العادل عذره، وأمره بردّ بارين إلى ابن المقدم، فاعتذر الملك المنصور عنها بقربها من حماه، ونزل عن منبج وقلعة نجم الدين المقدم عوضاً عن بارين، فرضى ابن المقدم بذلك؛ لأنهما خير من
(1)
لمزيد من التفاصيل راجع الكامل جـ 12، ص 72 - 73.
(2)
الصاحب صفى الدين أبو محمد عبد الله بن المخلص أبى الحسن على، بن الحسين بن عبد الخالق، بن الحسين بن منصور الشَّيْى القرشى المالكى، المعروف بابن شكر مولده بالدَّميّرة: بلدة من الأعمال الغَرْبيَّة بالديار المصرية 548 هـ، وزير الملك العادل توفى سنة 624 هـ.
النويرى: نهاية الأرب، جـ 29، ص 130.
(3)
"المارانى" كذا في الأصل والتصحيح من ابن كثير حيث نقل العينى هذا الخبر عنه. البداية والنهاية، جـ 13، ص 22.
(4)
نقل العينى هذا الخبر بتصرف من البداية والنهاية، جـ 13، ص 22.
(5)
هو عز الدين إبراهيم بن محمد بن عبد الملك بن المقدم. المختصر، جـ 3، ص 89.
بارين بكثير، وتسلمهما، وكان له أيضاً أفامية
(1)
، وكفر طاب
(2)
وخمس وعشرون ضيعة من المعرة، وكذلك كاتَبَ الملك الظاهر - صاحب حلب - عمه الملك العادل وصالحه وخطب له بحلب وبلادها، وضرب السكة باسمه، وشرط العادل على الظاهر أن يكون خمسمائة فارس من خيار عسكر حلب في خدمة الملك العادل، كلما خرج إلى البيكار
(3)
، والتزم صاحب حلب بذلك.
(4)
وفى تاريخ السبط: لما استقر العادل في مصر أحسن إلى أزكش وقدمه وحكمه في البلاد، وردّ القضاء إلى صدر الدين عبد الملك، وشيخ الشيوخ ابن حمويه
(5)
التدريس بالشافعى ومشهد الحسين والنظر في خانقاه الصوفية، وجلس أبو زيد صفى الدين في دار السلطنة في حجرة الفاضل ونظر في الدواوين.
(6)
قال العماد: أعطى القوس باريها وأجرى الأمور على أحسن مجاريها، وسار الأفضل إلى ميافارقين، واستدعى العادل ولده الكامل إلى مصر، فخرج من دمشق في ثالث شعبان وودعه أخوه عيسى المعظم إلى رأس الماء.
قال العماد: وسرت معه إلى مصر وأنشدته هذه الأبيات:
دعتك مصر إلى سلطانها فأجبْ
…
دُعاءها فهو حقّ غير مكذوب
قد كان يَهيضُنى
(7)
دهرى فأدركنى
…
محمد بن أبى بكر بن أيوب
ووصل الكامل إلى مصر في عاشر رمضان
(8)
والتقاه العادل من العباسة وأنزله دار الوزارة، وكان قد زوجه العادل بنت أخيه صلاح الدين فدخل بها، ولم يقطع العادل
(1)
أفامية: ويسميها بعضهم فامية بغير همزة، مدينة حصينة على سواحل الشام، وكورة من كور حمص. معجم البلدان، جـ 1، ص 269.
(2)
كفر طاب: انظر ما سبق، جـ 1، ص 201، حاشية (3).
(3)
البيكار: لفظ فارسى معناه الحرب عامة: انظر. Dozy: Supp. Dict، Ar
السلوك، ج 1 ق 1، ص 131، حاشية 8.
(4)
ورد هذا الخبر في المختصر، جـ 3، ص 89.
(5)
ابن حَمُويَه: صدر الدين بن حموية. وفيات الأعيان، جـ 7، ص 88 ..
(6)
ورد هذا الخبر في الروضتين، جـ 2، ص 237 - 238 ..
(7)
في سبط ابن الجوزى "قد كان ينهضنى دهرى فيوهمه" مرآة الزمان، جـ 8، ص 303؛ وفى أبى شامة "يهضمنى"، الروضتين، جـ 2، ص 238.
(8)
في أبى شامة "الحادى والعشرين من رمضان" الروضتين، جـ 2، ص 238.
الخطبة لولد العزيز، ثم أنه جمع الفقهاء وقال: هل يجوز ولاية الصغير على الكبير؟ فقالوا: الصغير مولىّ عليه. قال: فهل يجوز للكبير أن ينوب عنه؟ قالوا: لا؛ لأن الولاية في الأصل إذا كانت غير صحيحة فكيف تصح النيابة؟! فقطع خطبة [ابن]
(1)
العزيز وخطب لنفسه ولولده الكامل محمد بن بعده
(2)
، وخرجت السنة والأمر على ما ذكرنا.
ذكر بقية الحوادث
منها أنه كان بديار مصر غلاء شديد، فهلك الغنى والفقير، وغم الجليل والحقير، وهرب الناس منها نحو الشام ولم يصل منهم إلا القليل من الفئام وتخطفتهم الفرنج من الطرقات، وأما بلاد العراق فكان مرخصا رخِيَّا هنيئاً مريئاً.
(3)
وفى تاريخ بيبرس: حصل الغلاء [245] بالديار المصرية، بسبب نقص النيل، وتشريق البلاد، وعدمت الأقوات وأكلت الناس الميتات، وتبع ذلك الوباء، فمات خلق كثير.
(4)
ومنها أنه باض ديك ببغداد، قالهُ ابن الساعى في تاريخه.
(5)
ومنها أنه ولد بالقاهرة مولود له جسد واحد، ورأس فيه وجهان، في كل وجه منهما عينان، وأذنان وأنفان وحاجبان.
(6)
وولد فيها أيضاً مولود له غُرَّة بيضاء كغرة الفرس، ويداه ورجلاه محجلتان، وإليته ملمعّة، وولد أيضاً مولود أشيب الرأس.
(7)
ومنها أنه ظهر عجمى بدمشق، داع ادعى أنه عيسى بن مريم، فأفسد جمعاً من العوام، فقبض عليه صارم الدين بُرغش العادلى، وصلبه بعد استفتاء الفقهاء في أمره، وكان صلبه ظاهر باب الفرج على الصفصاف المجاور لحمام العماد الكاتب، على حافة
(1)
ما بين حاصرين إضافة من سبط ابن الجوزى لتوضيح المعنى، مرآة الزمان، جـ 8، ص 303.
(2)
ورد هذا الخبر في سبط ابن الجوزى نقلاً عن العماد: مرآة الزمان، جـ 8، ص 303؛ أيضاً راجع أبو شامة: الروضتين، جـ 2، ص 238 - 239.
(3)
ورد هذا الخبر بتصرف في البداية والنهاية، جـ 13، ص 22.
(4)
ذكر النويرى أن الغلاء كان ابتداء من استقبال شوال - وقيل ذى القعدة سنة ست وتسعين وخمسمائة. لمزيد من التفاصيل راجع نهاية الأرب، جـ 29، ص 12 - 13؛ مفرج الكروب، جـ 3، ص 115؛ مرآة الزمان، جـ 8، ص 303.
(5)
انظر ابن الساعى: الجامع المختصر في عنوان التواريخ وعيون السير، جـ 9، ص 21.
(6)
في المقريزى "
…
وأنف وحاجب" السلوك، جـ 1/ ق 1، ص 185.
(7)
ورد هذا الخبر في السلوك، جـ 1/ ق 1، ص 185.
بَرَدا
(1)
، وقد خُرِّب الحمام وما يجاوره من العمران في هذا الزمان، وكان غربى جسر الصّفى، مقابل الطاحونة المستجدة، خارج باب الفرج، بين البابين.
ومنها أنه كان قيام العامة على الشيعة، وخروجهم إلى باب الصغير
(2)
ونبشهم وثاب المرحّل من قبره وتعليقهم رأسه مع كلبين ميتين وذلك في ثالث عشر ربيع الآخر بعد صلب العجمى بيومين.
(3)
وفيها قُصر النيل تقصيراً عظيماً حتى أنه لم يبلغ أربعة عشر ذراعاً.
(4)
وفى تاريخ بيبرس: كانت غايته اثنى عشر ذراعاً واحداً وعشرين إصبعاً، وشرقت البلاد وحصل الغلاء
(5)
وفيها حج بالناس من العراق سُنقر
(6)
المسمى بوجه السبع، ومن الشام أسامة الجبلى.
(7)
ذكر من توفى فيها من الأعيان
الشيخ المسند المعمّر رحلة الوقت أبو الفرج عبد المنعم بن عبد الوهاب بن صَدَقَةَ بن الخضر بن كُلَيْب، الحرّانى الأصل، البغدادى المولد والدار والوفاة، عن ست وتسعين سنة، سمع الكثير وأسمع، وتفرد بالرواية عن جماعة من المشايخ، وكان من أعيان التجار وذوى الثروة
(8)
، وكانت وفاته في ربيع الأول، ودفن بباب حرب، وكان ثقة صحيح السماع، وكان يأخذ على إسماعه جزء ابن عرفة ديناراً، وهو آخر من حدّث عنه.
(9)
(1)
بردا: انظر ما سبق، جـ 2، ص 31، حاشية 9،8.
(2)
باب الصغير: بظاهر دمشق، وهو أحد أبواب دمشق. انظر: صبح الأعشى، جـ 4، ص 92؛ وفيات الأعيان، جـ 6، ص 295.
(3)
نقل العينى هذا الحدث من أحداث سنة 595 هـ في البداية والنهاية، جـ 13، ص 19.
(4)
في النويرى: ..... وبلغ غايته إلى اثنى عشر ذراعاً وإحدى وعشرين إصبعاً"، نهاية الأرب، جـ 29، ص 12؛ وفى سبط ابن الجوزى "فلم يبلغ ثلاثة عشر ذراعاً" مرآة الزمان، جـ 8، ص 303.
(5)
ورد هذا الخبر في نهاية الأرب، جـ 29، ص 12.
(6)
في سبط ابن الجوزي "اسقنقر"، مرآة الزمان، جـ 8، ص 303.
(7)
مرآة الزمان، جـ 8، ص 303.
(8)
ورد هذا الخبر في البداية والنهاية، جـ 13، ص 23.
(9)
وفيات الأعيان، جـ 3، ص 227 - 228، ترجمة 404؛ راجع الذهبى: العبر، جـ 4، ص 293.
الفقيه مجد الدين أبو محمد طاهر بن نصر الله بن جَهْبل
(1)
، مدرس القدس الشريف، وهو أول من درَّس بالصلاحية، وهو أبو الفقهاء بنى الجهبل، الذين كانوا بالمدرسة الجاروخية
(2)
، ثم صاروا إلى العمادية
(3)
والدماغية
(4)
في هذا الزمان، ثم ماتوا ولم يبق إلا شرحهم. ومولد مجد الدين بحلب في نيف وثلاثين وخمسمائة.
قلت: بنو الجهبل هم بهاء الدين نصر الله، وتاج الدين إسماعيل، وقطب الدين. والمدرسة الجاروجية بدمشق مشهورة، وكان مجد الدين فاضلاً في علم الوصايا والفرائض، رحمه الله.
(5)
الشيخ الإمام الفقيه العلامة شهاب الدين أحمد الطوسى، شيخ الشافعية بديار مصر، وشيخ المدرسة المنسوبة إلى تقى الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب التى يقال لها منازل
(6)
العز، وهو من أصحاب محمد بن يحيى تلميذ الغزالى، وكان له قدر ومنزلة عند ملوك مصر، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر إلى أن توفى في هذه السنة.
(7)
وقال سبط ابن الجوزى
(8)
: قيل: كان لما قدم بغداد يركب بالسنجق والسيوف المسلله والغاشية
(9)
المرفوعة والطوق في عنق البغلة، فمنع من ذلك، فسافر إلى مصر
(1)
في البداية والنهاية، جـ 13، ص 23 "جميل" وهو خطأ.
(2)
المدرسة الجاروخية: داخل بابى الفرج والفراديس. بانيها جاروخ التركمانى. انظر النعيمى: الدارس، ج 1، ص 225 - 232.
(3)
المدرسة العمادية: داخل بابى الفرج، بانيها عماد الدين إسماعيل بن نور الدين، والواقف عليها صلاح الدين، وأول من درس بها عماد الدين الكاتب الأصبهانى. انظر: النعيمى: الدارس، ج 1، ص 406 - 413.
(4)
المدرسة الدماغية: داخل باب الفرج غربى الباب الثانى الذى قبلى باب الطاحون، تنسب إلى شجاع الدين محمود بن الدماغ العادلى. وابن الدماغ هذا كان من أصدقاء العادل، فلما توفى بدمشق جعلت زوجته داره مدرسة للشافعية والحنفية. انظر النعيمى: الدارس، جـ 1، ص 236 - 242.
(5)
انظر ترجمته في الذهبى: العبر، جـ 4، ص 292؛ البداية والنهاية، جـ 13، ص 23.
(6)
منازل العز: انظر ما سبق، جـ 1، ص 63، حاشية (3).
(7)
نقل العينى هذا الخبر من البداية والنهاية، جـ 13، 24؛ كما وردت هذه الترجمة في الروضتين، جـ 2، ص 240؛ وفيات الأعيان، جـ 4، ص 224، ترجمة (169)؛ العبر: الذهبى، جـ 4، ص 294.
(8)
"أبو شامة" في الأصل والصحيح ما أثبتناه، حيث نقل العينى هذا الحدث من مرآة الزمان، جـ 8، ص 307.
(9)
الغاشية: أصل الغاشية الجل والغطاء يوضع على ظهر الفرس. انظر (Dozy: Sup.aux.Dict.Arab (وكان سلاطين الأيوبيين يخرجون في الموكب وبين أيديهم غاشية سرج من أديم مخزوزة بالذهب. صبح الأعشى، جـ 4، ص 7.
ووعظ وأظهر مذهب الأشعرى، وثارت [عليه]
(1)
الحنابلة، وكان يجرى بينه وبين الزين بن نجية
(2)
العجائب في السباب والتكفير.
قال السبط
(3)
[246] وبلغنى أنه سئل أيما أفضل دم الحسين أم دم الحلاج؟
فاستعظم ذلك، وقال: كيف يجوز أن يقال هذا؟! قطرة من دم الحسين رضي الله عنه أفضل من مائة ألف دم مثل دم الحلاج. فقال السائل: دم
(4)
الحلاج كتب على الأرض الله، ولا كذلك دم الحسين. فقال الطوسى: المبهم يحتاج إلى التزكية. قلت: وهذا جواب في غاية الحسن في مثل هذا الوضع، على أنه لم يصح ما ذكر عن دم الحلاج. وكانت وفاته في الحادى والعشرين من ذى القعدة.
(5)
وكان يوماً مشهوداً ركب فيه الملك العادل وكبراء الدولة، وخرج أهل مصر والقاهرة جميعاً مشيّعين جنازته إلى حيث دفن في القرافة.
الشيخ ظهير الدين عبد السلام الفارسى شيخ الشافعية
(6)
بحلب، أخذ الفقه عن محمد بن يحيى وتلّمذ للفخر الرازى، وقد رحل إلى مصر فعرض عليه أن يدرس بتربة الشافعى فلم يقبل، وصار إلى حلب فأقام بها إلى أن توفى في هذه السنة.
(7)
الشيخ العلامة بدر الدين بن عسكر مدرس الحنفية بدمشق. قال أبو شامة: يعرف بابن [العقادة].
(8)
محمد بن عبد المنعم بن أبى الفضائل الصوفى الميهنى، شيخ رباط البسطامى ويلقب بالركن
(9)
، كان جواد سمحاً، لم يكن من أبناء جنسه من يضاهيه في الكرم؛
(1)
ما بين حاصرتين إضافة من مرآة الزمان، جـ 8، ص 307.
(2)
في الأصل "نجيبة" وما أثبتناه هو الصحيح. وهو زين الدين على بن إبراهيم بن نجا الأنصارى، وفيات الأعيان، جـ 2، ص 527 (530).
(3)
"أبو شامة" كذا في الأصل والصحيح ما أثبتناه حيث نقل العينى هذا الحدث من مرآة الزمان، جـ 8، ص 307.
(4)
"قدم" في مرآة الزمان، جـ 8، ص 307.
(5)
مرآة الزمان، جـ 8، ص 307.
(6)
انظر ترجمته في السبكى، طبقات الشافعية، جـ 4، ص 254 طبعة الحسينية المصرية.
(7)
نقل العينى هذا الحدث بتصرف من الروضتين، جـ 2، ص 240.
(8)
"العاقدة" في الأصل والتصحيح من الروضتين، جـ 2، ص 240؛ أيضاً البداية والنهاية، جـ 13، ص 24.
(9)
انظر ترجمته في مرآة الزمان، جـ 8، ص 306 - 307؛ الجامع المختصر، جـ 9، ص 37 - ص 38.
ما طلب منه أحد شيئاً فمنعه حتى كان يخرج وفى رجلة مداس فيرجع حافياً، ويخرج وعليه ثوبان فيرجع عرياناً، وكانت له خلوات ومحاضرات، وسمع الحديث من شهده
(1)
وغيرها. وتوفى في ذى الحجة ودفن في الشونيزية عند والده أبى الفضائل.
البلخى الواعظ، واسمه محمد بن عبد الله، ويلقب بالنظام وبابن الظريف. ولد ببلخ سنة ست وعشرين وخمسمائة، وقدم بغداد فوعظ بها في النظامية وباب بدر وجامع القصر ومدرسة أبى النجيب ودار ابن حديدة الوزير، وكان فصيحاً مليح الصوت، وكان متشيعاً، وأنشد يوما في النظامية:
سقاهم الليل كاسات الثُّرى فغدت
(2)
…
منه سَكَارى كأن الليل خمارُ
وصيّر
(3)
الشوق أطواقاً عمائمهم
…
لا يعقلون أقام الحى أم ساروا
ونسمة الفجر إن
(4)
مرت بهم سحرا
…
تمايلوا وبدا للسُكر آثار
(5)
فلم يبق في المجلس إلا من قام، وصاح وتواجد، وأنشد أيضاً:
مددت يدى في الحب نحوك سائلا
…
وقلت لجفنى أدر دمعك
(6)
سائلا
تفقهت في علم الصبابة والهوى
…
فمن شاء فليلق علىَّ المسائلا
وحكى أنه نقل إلى الخليفة عنه أنه يعاشر النساء ويرتكب المحرمات، فأرسل إليه الوزير وهو على المنبر فقال: قد رسم أن تخرج من البلد فأنشد:
أبابك لا واديك بالجود مُفعم
…
لدى ولا ناديك بالرفد آهل
لئن ضقت عنى والبلاد فسيحةً
…
وحسبك عاراً أننى عنك راحلُ
وإن كنت بالسحر الحرام مُدَلّه
…
فعندى من السحر الحلال دلائل
فواف بغير الأعين النُجل حُسنها .. فأى مكان خيمت فهو بابلُ
(1)
شهدة بنت أحمد بن الفرج بن عمر الإبرى، انظر ما سبق، جـ 1، ص 281.
(2)
"فغدوا" في مرآة الزمان، جـ 8، ص 306.
(3)
"وسيروا" في مرآة الزمان، جـ 8، ص 306.
(4)
"الشوق إذ" في مرآة الزمان، جـ 8، ص 306.
(5)
"أوتار" في مرآة الزمان، جـ 8، ص 306.
(6)
"الدمع" في مرآة الزمان، جـ 8، ص 306.
وأخرج إلى الجانب الغربى من بغداد فمات، ودفن في مقابر قريش في صفر من هذه السنة، رحمه الله.
(1)
عبد اللطيف بن
(2)
إسماعيل بن شيخ الشيوخ أبي سعد، وعبد اللطيف أخو أبى القاسم عبد الرحيم شيخ الشيوخ، وكنيته عبد اللطيف أبو الحسن، ولقبه صفى الدين، ولد سنة ثلاث وعشرين وخمسمائة، وسمع الحديث، وكان شيخ الرباط الذى بالمشرعة شرقى بغداد، خرج حاجاً من بغداد ثم ركب البحر إلى مصر فتاه بهم المركب أياماً ثم أرسى بالعيذاب، فزار الشافعى ثم زار الخليل [247] عليه السلام والقدس، وقدم دمشق فتوفى بها في ذى القعدة ودفن بمقابر الصوفية.
(3)
كامل بن الفتح أبو تمام الضرير ويلقب بالظهير النحوى، بغدادىّ اشتغل بالأدب والشعر فبرع فيهما ومن شعره:
وفى الأوانس من بغداد
(4)
آنسة
…
ولها من القلب ما تهوى وتختار
ساومتها نفثة من ريقها بدمى
…
وليس إلا خفى الطرف سمَسار
عند العذول اعتراضات ولائمة
…
وعند قلبى جوابات وأعذار
وكانت وفاته في جمادى الآخر، ودفن بباب حرب.
الشيخ أبو جعفر
(5)
أحمد بن على بن أبى بكر بن إسماعيل القرطبى، إمام الكلاسّة الزاهد العابد، توفى يوم الإثنين تاسع عشر رمضان، قرأ بالموصل القرآن بالروايات على يحيى بن سَعدون القرطبى
(6)
.
(1)
نقل العينى هذا الخبر من مرآة الزمان، جـ 8، ص 306؛ أيضاً راجع ابن الساعى: الجامع المختصر، جـ 9، ص 25.
(2)
"ابن" في مرآة الزمان، جـ 8، ص 305.
(3)
نقل العينى هذا الخبر من مرآة الزمان، جـ 8، ص 305؛ راجع أيضاً الذهبى: العبر، جـ 4، ص 293، كذا ترجمته في ابن الساعى، الجامع المختصر، جـ 9، ص 37.
(4)
"نعمان" كذا في الأصل والتصحيح من ابن الساعى، الجامع المختصر، جـ 9، ص 30.
(5)
انظر ترجمته في ابن الساعى، الجامع المختصر، جـ 9، ص 30 - ص 31.
(6)
انظر ترجمته في الذهبى، العبر، جـ 4، ص 291.
العَبْدىّ الشاعر الهمام
(1)
أبو الحسن على بن نصر بن عَقيل بن أحمد بن على ابن عبد القيس بن ربيعة بغدادىّ، قدم دمشق سنة خمس وتسعين وخمسمائة، ومعه ديوان شعر له فيه درر حِسان، وفرائد وعقبان، وقد تصدى لمدح الملك الأمجد صاحب بَعلْبكّ، ومن شعره:
وما الناسُ إلا كاملُ الحظِّ ناقصُ
…
وآخر منهم ناقصُ الحظِّ كامِلُ
وإنىِّ لَمُثْرٍ من حياءٍ وعِفّةٍ
…
وإن لم يكن عِندى من المالِ طائلُ
(2)
وذكر القوصي في معجمه أنه دخل على قاضى القضاة محيى الدين محمد بن على القرشى وهو يملى رسالته المحيوية في التعزية الفاضلية فأنشده:
ألا قل لنا عن الفاضل أقصر فإننّى
…
تيقنت حقاً أن نعْتك باطل
إذا كان محيى الدين في الدست
(3)
جالساً
…
فما مات في الدنيا من الناس فاضل
القاضى الفاضل، والكلام فيه على أنواع:
(الأول) في ترجمته:
هو أبو على عبد الرحيم بن القاضى الأشرف بهاء الدين [أبى]
(4)
المجد على بن القاضى السعيد أبى محمد الحسن [بن الحسن بن أحمد]
(5)
بن الفرج بن أحمد اللخمى العسقلانى المولد المصرى الدار، المعروف بالقاضى الفاضل مجير الدين؛ وزير السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب
(6)
. وكانت ولادته يوم
(1)
"الماهر" في الأصل. والتصحيح طبقاً لما ورد في ترجمته بالمصادر التالية: الروضتين، جـ 2، ص 240؛ مرآة الزمان، جـ 8، ص 305؛ ابن تغرى بردى: النجوم، جـ 6، ص 158.
(2)
نقل العينى هذا الشعر من الروضتين، جـ 2، ص 241. وقد ورد هذا الشعر في البداية والنهاية، جـ 13، ص 24 مع اختلاف في البيت الثانى كالآتى:
وإنى لمثر من خيار أعفة
…
وإن لم يكن عندى من المال كامل
(3)
الدست: هي مرتبة جلوس السلطان. صبح الأعشى، ج 1، ص 137 - 138.
(4)
ما بين حاصرتين إضافة من وفيات الأعيان، جـ 3، ص 158 ترجمة 374.
(5)
ما بين حاصرتين إضافة من وفيات الأعيان، جـ 3، ص 158.
(6)
انظر ترجمته في وفيات الأعيان جـ 3، ص 158 ترجمة رقم 374.
الإثنين خامس عشر جمادى الآخرة سنة تسع وعشرين وخمسمائة
(1)
بمدينة عسقلان، وتولى أبوه القضاء ببيسان أيضاً فلهذا نُسِبوا إليها.
وفى المرآة: ولد القاضى ببَيسْان ونشأ بمصر.
(2)
(الثانى) في بدء أمره ونشأته:
قدم الديار المصريّة واشتغل على الموفق يوسف بن الخلال في صناعة الإنشاء. ثم تعلق بالخِرَم في ثغر الإسكندرية وأقام به مدة
(3)
، ثم خدم شاور الوزير، وكان يكتب له ثم كتب في ديوان المكاتبات العاضدية، ولما وصل أسد الدين شيركوه إلى مصر اتخذه كاتباً، ثم خدم الملك الناصر صلاح الدين يوسف.
وقال ابن كثير
(4)
: وآل به الأمر إلى أن وزّر لصلاح الدين يوسف بن أيوب، وتمكن عنده غاية التمكن حتى [أن]
(5)
صلاح الدين رحمه الله كان يقول في ملأ من الناس: "لا تظنوا أني ملكتُ البلاد بسيوفكم، بل بقلم الفاضل".
(6)
وكان يستشيره في أموره، وكان كاتبه وصاحبه ووزيره ومشيره وجليسه وأنيسه، وكان أعز عليه من أهله وأولاده، وأكرم عليه من طرفه
(7)
وتلاده
(8)
[248]. وتساعدا على فتح الأقاليم والبلدان، والحصون والمعاقل، هذا بحسامه وسنانه، وهذا بلسانه وقلمه وبنانه. وبعد وفاة صلاح الدين رحمه الله استمر على ما كان عليه عند ولده الملك العزيز في المكانة والرفعة ونفاذ الأمر، ولما توفى العزيز وقام ولده الملك المنصور بالملك - بتدبير عمه الملك الأفضل نور الدين - كان أيضاً على حاله. ولم يزل كذلك إلى أن وصل الملك العادل وأخذ الديار المصرية، وعند دخوله القاهرة توفى الفاضل
(9)
على ما نبينه إن شاء الله تعالى.
(1)
ذكر ابن كثير أن مولد القاضى الفاضل كان سنة 502.
(2)
مرآة الزمان، جـ 8، ص 304.
(3)
الموفق يوسف بن الخلال: أبو الحجاج يوسف بن محمد المعروف بابن الخلال، الملقب بالموفق، صاحب ديوان الإنشاء بمصر، توفى سنة 546. انظر وفيات الأعيان، جـ 7، ص 219 - 225، ترجمة 847.
(4)
نقل العينى هذا الخبر بتصرف من البداية والنهاية، جـ 13، ص 24، ص 25.
(5)
ما بين الحاصرتين إضافة يتطلبها السياق.
(6)
نقل العينى هذا الخبر من سبط بن الجوزى ولم ينقله من ابن كثير. انظر مرآة الزمان، جـ 8، ص 304.
(7)
نقل العينى هذا الخبر بتصرف من البداية والنهاية، جـ 13، ص 24 - ص 25.
(8)
التلاد: المال الأصلى القديم. انظر، المعجم الوجيز، ص 76.
(9)
وفيات الأعيان، جـ 3، ص 162 ترجمة رقم 374.
(الثالث): في سيرته:
كان الفاضل رحمه الله مع كثرة أمواله وجاهه ورئاسته كثير الصدقات والصلات والصيام والصلاة، مواظباً كل يوم وليلة على ختمة كاملة، مع ما يزيد عليها من نافلة، رحيم القلب حسن السيرة، طاهر الظاهر والباطن والسريرة.
(1)
وفى المرآة: وكان كثير العبادة تالياً للقرآن.
(2)
وله مدرسة بديار مصر على الشافعية والمالكية وأوقاف على تخليص الأساري من النصارى.
(3)
وقال ابن خلكان: وبنى بالقاهرة مدرسة بدرب ملوخيا. رأيت بخطه أنه استفتح التدريس بها يوم السبت مستهلَّ المحرم سنة ثمانين وخمسمائة.
(4)
ومنها قيسارية تنسب إليه، و [هى]
(5)
داخل باب زويلة يُسْرة الخارج منها. واليوم هى وقف على المارستان المنصورى بالقاهرة وبحذاها حمام للرجال، وحمام للنساء ينسبان إليه أيضاً
(6)
، وقد اقتنى من الكتب نحواً من مائة ألف كتاب، وهذا شيء لم يفرح به أحد من الوزراء ولا العلماء ولا الملوك، ولا الكتاب.
(الرابع) في فضائله:
برز في صناعة الإنشاء، وفاق المتقدمين، وله فيه الغرائب مع الأكبار.
وقال ابن خلكان
(7)
: أخبرنى شخص من الفضلاء الثقات المطلعين عليه وعلى حقيقة أمره أن مسودَّات الفاضل إذا جمعت ما تقصر عن مائة مجلد، وله تعليقات في الأوراق.
وقال ابن كثير
(8)
: كان والده
(9)
قاضياً بعسقلان فأرسل ولده في الدولة الفاطمية إلى الديار المصرية، فاشتغل بها بكتابة الإنشاء على الشيخ أبى الفتح بن قادوس وغيره، فساد أهل البلاد حتى بغداد، شرقاً وغرباً وبعداً وقرباً.
(1)
البداية والنهاية، جـ 13، ص 24.
(2)
مرآة الزمان، جـ 8، ص 304.
(3)
نقل العينى هذا الخبر بتصرف من مرآة الزمان، جـ 8، ص 356.
(4)
وفيات الأعيان، جـ 3، ص 162.
(5)
ما بين الحاصرتين في الأصل "على". وهو خطأ.
(6)
نقل العينى هذا الخبر عن البداية والنهاية، جـ 13، ص 24.
(7)
نقل العينى هذا الخبر بتصرف من وفيات الأعيان، جـ 3، ص 158 - 159.
(8)
نقل العينى هذا الخبر بتصرف من البداية والنهاية، جـ 13، ص 24.
(9)
"أبوه" في البداية والنهاية، جـ 13، ص 24.
ولم يكن له في زمانه نظير، ولا عديل، ولا فيما بعده إلى وقتنا هذا مماثل، ولا مناظر ولا نديد.
وفى المرآة
(1)
: وقد استعان بآيات الكتاب في كثير من رسائله، ورسائله عشر مجلدات. وسمع قائلاً يقول بيت شعر وهو هذا البيت:
لقد ضاع شعرى على بابكم
…
كما ضاع در على خالِصه
(2)
فقال: لو فعلت عَينا هذا البيت، لأَبْصر، وقال العماد: كان الفاضل ممدّحا مدح بمائة ألف بيت من الشعر.
وقال ابن كثير: امتدحه الشعراء فأكثروا. وله أشعار كثيرة جدًّا، فمن ذلك قوله:
سبقتم بإسداء الجميل تكرّماً
…
وما مثلكم فيمن تحدّث أو حكى
(3)
وقد كان ظنى أن أسابقكم به
…
ولكن بكت
(4)
قبلى فهيج لي البكا
وله في بدء أمره:
أرى الكتاب كلهم جميعاً
…
بأرزاق تعمّهم سنيناً
ومالى بينهم رزق كأنى
…
خلقت من الكرام الكاتبينا
وسأل الملك العزيز عثمان بن الملك الناصر صلاح الدين يوسف عن جارية من حظاياه أرسلت [249] زراً من ذهب مغلف بعنبر أسود فأنشأ الفاضل يقول:
أهدت لك في العنبر في وسطه
…
زرّ من التبر خفى
(5)
اللحام
الزرّ
(6)
في العنبر معناهما
…
زُر هكذا مختفيا
(7)
في الظلام
فعلم العزيز أنها أرادت زيارته في الليل.
(1)
نقل العينى هذا الخبر من مرآة الزمان، جـ 8، ص 304.
(2)
"صالحه" في مرآة الزمان، جـ 8، ص 304.
(3)
"فيمن يحدث أو يحكى" كذا في البداية والنهاية، جـ 13، ص 25.
(4)
"بكت" كذا في الأصل، البداية والنهاية، جـ 13، ص 25.
(5)
"رقيق" في البداية والنهاية، جـ 13، ص 26؛ "دقيق" في وفيات الأعيان، جـ 3، ص 161.
(6)
"فالزر" في البداية والنهاية، جـ 13، ص 26؛ وفيات الأعيان، جـ 3، ص 161.
(7)
"مستتراً" في وفيات الأعيان، جـ 3، ص 261.
وقال ابن كثير: والعجب أن القاضى الفاضل مع براعته وفصاحته التى لا تدانى ولا تجازى، لا تعرف له قصيدة طويلة طنانة، بل له ما بين بيت وبيتين في أثناء الرسائل وغيرها شيء كثير جداً. قلت: والعجب من غفلة ابن كثير عن البرق الشامى للعماد الكاتب، مع أنه ينقل منه وأن فيه من القصائد الطنانة من نظم القاضى الفاضل ما يُسْحر العقول ويُزرى بكل مقول، وقد جمع ديوان نظمه القاضى محيى الدين بن عبد الظاهر، ثم اختار منه كتاباً سمّاه "الدر النظيم من شعر القاضى الفاضل عبد الرحيم"، وذكر له صلاح الدين الصفدى في تذكرته من القصائد ما يخجل الدُرَر الفرائد. وقال بيبرس في تاريخه: وكان الفاضل فريد الزمان، ومالك أزمّة البيان، وله الرسائل المعجزة والمكاتبات البليغة الموجزة، والنظم البديع والشعر المجيد، فمن شعره قصيده قالها متمدّحاً للملك العزيز ابن صلاح الدين.
الحُسنُ جاد على الأحباب فازدادُوا
…
لكن أحبَابنا في الحسن ما جادوا
فيهن من شبه الغزلان أربعةٌ
…
ثغر
(1)
وطيب وأحداق وأجيادُ
وقد بكت لضنى العُشاق أربعةٌ
…
طب وفرش وسُمَّار وعَّوادُ
همىّ بهم زائد زادته أربعةٌ
…
ينمى ويهنى ويستشرى ويزدادُ
وكيف تبقى على العينين أربعةٌ
…
عدى ودمع وأطراف وسهادِ
هيهات يصدق منك الصَبُّ أربعةٌ
…
عهد ووُدّ وأقوال وميعاد
له من الغصن الريان أربعةٌ
…
عال وبَاه وميال ومَيَّاد
له من الكوكب الدرى أربعةٌ
…
نشر وسُكر وإصدار وإيراد
له إذا سُل سيف المزح أربعةٌ
…
غيظ ووَثب وإيقاد وإزباد
ولى من الدهر عما رمت أربعةٌ
…
كدٌّ وردّ وإقصاءٌ وإقصادُ
ولى عن السعى في المرجوّ أربَعةٌ
…
يَأسٌ وبأسٌ وإخلالٌ وإخلَادُ
وللعزيز من الملوك أربعةٌ
…
قلبٌ ونطق وأخلاق وإحمادُ
تجمعت في مديحى فيه أربعةُ
…
سَبكٌ ونظمٌ وإنشاء وإنشادُ
حرابُ راوى ثنائى فيه أربعةُ
…
نسخ ودَرسٌ وتكرير وإيرادُ
أيامنا والليالى فيه أربعةُ
…
نسك [250] وأنس وإعراسٌ وأعْياد
فلم يُطِف باعتقاد الخلق أربعةٌ
…
نصب ورفض وإشراك وإلحاد
(1)
"نفر" كذا في الأصل وهو خطأ، والتصحيح من نسخة دار الكتب ص 329.
الأمن ما سُلكت في الأرض أربعةٌ
…
بَرٌ وبحرٌ وأغوارٌ وأنْجادُ
ما دون منقطع في الأرض أربعةٌ
…
ليث وذئب وقطاع ومُرّاد
تُحْمَى به من بلاد الله أربعةٌ
…
مصر وشام خراسان وبغداد
إن تبق فيها بقايا فهى أربعةٌ
…
عزم وحزمٌ وأفكارٌ وأرْصاد
يثنى عليه من الأوقات أربعةٌ
…
يوم وشهر وأعوام وآبادُ
تندى بجودك عام المحل أربعةُ
…
أفق وأرض وأنفاس وأكباد
وفيه من صادقات السحب أربعةُ
…
فيض وسيل وإبراق وإبراد
أوصاف إنعامه الموصوف أربعة
…
سَار وثاوٍ ومنفض ومعتاد
أعطى العزيز عزيرُ النصر أربعة
…
عدل وبأس وإرفاق وإرفاد
وبشرت عزمَهُ بالنصر أربعةٌ
…
سعى وسَعد ورايات وأعواد
به لنار العدى في الحرب أربعةٌ
…
رفع وخفض وإطفاء وإيقاد
أما الملوك لمولانا فأربعةٌ
…
رق وجُند وأنصار وأعضادُ
هذا وفيك لهم بالحق أربعةٌ
…
لطف وعطف وتثقيف وإرشاد
لك الرعية يوم العَرض أربعةٌ
…
راء وراو وَمُدّاحٌ وأشهاد
كما هم بك في دنياك أربعةٌ
…
راءٍ وَراج وقوام وسجَادُ
وعندهم من ندى نُعماك أربعةٌ
…
كنز وحرز وأبزَال وأمداد
فما يصيبهم ما عشت أربعةٌ
…
همٌ وغمٌ وأوجال وأنْكاد
يأوى إلى بابك المفتوح أربعةٌ
…
ضعفى ولهفى ورواد وورادُ
قَلّتُ عُدَاتك فهي اليوم أربعةٌ
…
قتلى وأسرى وهراب وحُيّاد
يشقى بساعدك المسعود أربعةٌ
…
هام وأيْد وأسياف وأغماد
وحُكمت بك في الكفَّار أربعةٌ
…
بيض وسمر وأغلال وأصفاد
لله في الأرض من ذا البيت أربعةٌ
…
سحب وروض وأقمار وأطوادُ
توارثت منك مُلك الأرض أربعةٌ
…
نجل وصنو وآباء وأجداد
سيماء حال بنى أيوب أربعةٌ
…
بيضٌ وسمرٌ وأمجادٌ وأنْجادٌ
وفيهم من خلال الأسد أربعةٌ
…
وثب وضخم وإعجال وإلباد [251]
يا من تحدث عن جدواه أربعةٌ
…
نطق وحال وأرواح وأجساد
يسرنى ويسوء القوم أربعةٌ
…
أهل وصحب وأعداء وحُسّاد
الخامس وفي وفاته:
قال السبط: لما تيقن الفاضل استيلاء الملك العادل على القاهرة، دعي على نفسه بالموت؛ خوفًا من ابن شكر وزير العادل، فإنه كانت بينه وبينه وحشة، فخاف أن يستدعيه ويهينه، فقام تلك الليلة يبكي ويتضرع ويُصلي فأصبح ميتًا. وحكى عن الملك المحسن بن صلاح الدين [أنه]
(1)
قال: اتفق يوم وفاة الفاضل يوم دخول العادل إلى القاهرة، فإنه دخل من باب النصر وخرجنا بجنازته من باب زويلة، ودفن بتربته في القرافة
(2)
وقال ابن كثير: وقد كانت وفاته يوم دخل العادل إلى قصر مصر بمدرسته فجأة، يوم الثلاثاء سادس ربيع الآخر، واحتفل الناس بجنازته، وزار قبره في اليوم الثاني الملك العادل وتأسف عليه.
(3)
ويقال: توفي ليلة الأربعاء سابع شهر ربيع الآخر سنة ست وتسعين وخمسمائة بالقاهرة فجأة، ودفن في تربيته من الغد بسفح المقطم في القرافة الصغرى، رحمه الله رحمة واسعة.
السلطان علاء الدين خُوَارَزْم شاه تكش بن أرسلان بن أتسِز بن محمد بن أنوشتكين، من ولد طاهر بن الحسين، صاحب خوارزم وبعض خراسان والرىّ وغيرها من البلاد الجبليّة. توفي في العشرين من رمضان من هذه السنة، ودفن بتربة بناها له بخوارزم.
(4)
وفي تاريخ بيبرس: وكان قد سار من خوارزم طالبًا خراسان، وكان به خوانيق، فأشار عليه الأطباء بترك الحركة، فلما قارب شهرستانه اشتّد مرضه، فمات وحمل إلى خوارزم، فدفن بها، وهو الذي قطع دولة السلاجقة من هذه البلاد. وكان عادلًا حسن السيرة، له معرفة جيدة بالموسيقى، حسن المعاشرة، فقيهًا على مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه، ويعرف الأصول، وبنى مدرسة عظيمة للحنفية.
(5)
(1)
ما بين حاصرتين إضافة من مرآة الزمان، جـ 8، ص 305.
(2)
نقل العيني هذا الخبر من مرآة الزمان، جـ 8، ص 305؛ أيضًا راجع الروضتين، جـ 2، ص 244.
(3)
نقل العيني هذا الخبر من البداية والنهاية، جـ 13، ص 24 - 25.
(4)
نقل العيني هذا الخبر بتصرف من البداية والنهاية، جـ 13، ص 223، راجع أيضًا الخبر في الجامع المختصر، جـ 9، ص 34 - 35؛ النجوم الزاهرة، جـ 6، ص 155.
(5)
ورد هذا الخبر بالتفصيل في الكامل، جـ 12، ص 73؛ كذا راجع البداية والنهاية، جـ 13، ص 23022؛ الجامع المختصر، جـ 9، ص 35؛ العبر في خبر من غبر، جـ 4، ص 292؛ النجوم الزاهرة، جـ 6، ص 155.
وفي المرآة: كان شجاعًا، ملك الدنيا من الصين والهند وما وراء النهر إلى خراسان إلى باب بغداد. كان نوابه في حلوان، وكان ديوانه مائة ألف مقاتل، وهو الذي كسر مملوكهـ مَيانجق عسكر الخليفة، وأزال دولة بني سلجوق. وكان حاذقًا بعلم الموسيقى؛ لم يكن في زمانه ألعب منه بالعود، وحكى أن الباطنية جهزوا إليه رجلًا ليقتله، وكان محترزًا كثيرًا، فجلس ليلة يلعب بالعُود وشَرَّع الخيمة، فاتفق أنه غَنَّي بيتًا بالعجمية وفيه تزاد يذم
(1)
ومعناه قد أبصرتك، فخاف الباطني منه وارتعد وهرب، فأُخذ وحمل إليه، فقرره، فأمر بقتله. وكان يباشر الحروب بنفسه حتى ذهبت إحدى عينيه في الحرب، وكان يقول: المَلك إذا لم يباشر الحرب بنفسه لا يصلح للمُلك؛ لأنه يكون مثل المرأة. وكان قد عزم على قصد بغداد، فجمع وحشد، فوصل إلى دهسْتان
(2)
فتوفي بها في رمضان، فحمل تابوته إلى خوارزم فدفن عند أهله.
(3)
ذكر تولية ولده قطب الدين محمد بن علاء الدين تكش
لما مات علاء الدين خوارزم شاه المذكور أرسلوا إلى قطب الدين محمد ولده يستدعونه، فحضر فملّكوه، ولقب علاء الدين محمد بن تكش بن أرسلان، وكان على شاه بن تِكش بأصبهان، فأرسل إليه خوارزم شاه محمد أخوه يستدعيه، فلما وصل إليه [252] ولاه حرب خراسان وسلم إليه نيسابور، وكان هندوخان بن ملكشاه بن خوارزم شاه تكش يخاف عمّه محمدًا فهرب منه إلى جِدّه، وكان معه عند موته، ونهب كثيرًا من خزائن جده، ثم أنه جمع جمعًا كثيرًا بخراسان، وسيَّر إلى عمه جيشًا مقدمهم جفر التركي فدخل مدينَة مرو، وبها والدة هندوخان وأولاده، فأمر بإرسالهم إلى خوارزم، ولحق هندوخان بغياث الدين صاحب غزنة فأكرمه ووعده النصرة، وأرسل إلى محمد بن جبريل
(4)
صاحب الطالقان يأمره بالمسير إلى مرو الروذ
(5)
فسار إليها فأخذها، ثم أرسل إلى جَفر بأمره بإقامة الخطبة بمرو لغياث الدين أو يفارق البلد، فكتب إليه يسأله أن
(1)
"تنسم" في مرآة الزمان، جـ 8، ص 304؛ "بَبِيتَم" في النجوم الزاهرة، جـ 6، ص 155.
(2)
دِهسْتَان: بلد مشهور في طرف مازندان قرب خوارزم. معجم البلدان، جـ 2، ص 559.
(3)
نقل العيني هذا الخبر من مرآة الزمان، جـ 8، ص 303 - 304.
(4)
"جريك" في الكامل، جـ 12، ص 74.
(5)
مرو الروذ: مدينة قريبة من مرو الشاهجان، وهي على نهر عظيم، فلهذا سميت بذلك. معجم البلدان، جـ 4، ص 506.
يأخذ له أمانًا من غياث الدين ليحضر إلى خدمته، فلما قرأ كتابه كتب إلى شهاب الدين أخيه يأمره بالخروج إلى خراسان؛ ليتفقا على أخذ البلاد التي بيد علاء الدين محمد بن ت كش.
(1)
الأمير صارم الدين قايماز بن عبد الله النجمي، من أكابر الدولة الصلاحية، توفي في هذه السنة، وكان عند السلطان صلاح الدين بمنزلة الأستاذ دار، وهو الذي تَسَلَّم القصر حين مات العاضد، آخر خلفاء الفاطميين، فحصل له أموال جزيلة جدًا، وكان كثير الصدقات والأوقاف، وقد تصدق في يوم بسبعة آلاف دينار عينا، وهو واقف المدرسة القيمازية، شرقي القلعة بدمشق، وقد كانت دار الحديث الأشرفية دارًا لهذا الأمير، وله بها حمام، فاشترى ذلك فيما بعد الملكُ الأشرف موسى بن الملك العادل، وبناها دار حديث، وأخرب الحمام وبناء مسكنًا للشيخ المدرس بها، ولما توفى الأمير قايماز في هذه السنة ودفن في قبره نبشت دوره وحواصله، وكان متهمًا بمال جزيل، فكان متحصل ما جمع من ذلك مائة ألف دينار، وكان يظن أن عنده أكثر من ذلك، ولكن كان يدفن أمواله في الخرائب من أرض ضياعه وقراه.
(2)
وقال بيبرس: وكان لقب قايماز المذكور صارم الدين، وكان من أكابر مماليك نجم الدين أيوب والد صلاح الدين، وكان عظيم القدر عند صلاح الدين؛ إذا فتح بلدًا سلمه إليه واستأمنه عليه، وكان كثير الصدقات وأفعال الخير، بنى القنطرة بين خسقين ونوي وغيرها، والمدرسة المجاورة لداره بدمشق عند باب القلعة. وكان الملك العادل قد جعله بدمشق مع ولده الملك المعظم عيسى ثقةً به، فتوفي بدمشق في جمادى الأولى من هذه السنة. وظهرت له أموال عظيمة؛ فيقال: إنه وجد له في أسفل البركة مائة ألف دينار.
(3)
الأمير الكبير لؤلؤ: أحد الحجاب بالديار المصرية، ومن أكابر الأمراء في الدولة الصلاحية، وهو الذي كان يتسلم الأصطول في البحر، فيكون كالشجي في حلوق
(1)
ورد هذا الخبر في الكامل، جـ 12، ص 74.
(2)
نقل العيني هذا الخبر من البداية والنهاية، ج 12، ص 23؛ أيضًا راجع بالتفاصيل والروضتين، جـ 2، ص 239 - 240.
(3)
نقل العينى هذا الخبر من مرآة الزمان، جـ 8، ص 305 - 306؛ راجع أيضًا الروضتين، جـ 2، ص 239 - 240.
الإفرنج في البحر، وقد كان مع كثرة جهاده كثير الصدقات، والنفقات، وكان بديار مصر غلاء شديد
(1)
وكان يتصدق في كل يوم باثني عشر ألف
(2)
رغيفًا
(3)
، لاثني عشر ألف فقير، وتوفي في هذه السنة.
(4)
وفي المرأة: قال العماد: وقع الغلاء بمصر في السنة الماضية وهذه، فكان يخبز كل يوم أربعة وعشرين ألف رغيف يفرقها على الفقراء، وفي غير الغلاء كان يخبز كل يوم اثني عشر ألف رغيف، وكان صائمًا قائمًا متعبدًا، وكانت وفاته بالقاهرة [253] في جمادى الأولى من هذه السنة.
(5)
الوزير نظام الدين
(6)
مسعود بن على وزير السلطان خوارزم شاه، قتل في هذه السنة، وكان حسن السيرة، شافعي المذهب، له مدرسة عظيمة بخوارزم، وجامع هائل، وبنى بمرو جامعًا عظيمًا للشافعية، فحسدتهم الحنابلة، وشيخهم يقال له: شيخ الإسلام، فيقال: إنهم أحرقوه فأغرمهم السلطان خوارزم شاه ما عزم الوزير عليه والله أعلم.
(7)
* * *
(1)
ذكر أبو شامة نقلًا عن العماد أن القحط والغلاء الشديد وقع بمصر سنة 591 هـ. راجع الروضتين، جـ 2، ص 240.
(2)
"أربعة وعشرين ألف رغيف" في مرآة الزمان، جـ 8، ص 306.
(3)
"رغيف" كذا في الأصل والتصحيح من الروضتين، جـ 2، ص 240 ..
(4)
نقل العينى هذا الخبر بتصرف من البداية والنهاية، جـ 13، ص 23 - 24؛ الروضتين، جـ 2، ص 240.
(5)
نقل العيني هذا الخبر من مرآة الزمان، جـ 8، ص 306.
(6)
"الملك" في الكامل، جـ 12، ص 74؛ البداية والنهاية، جـ 13، ص 23.
(7)
نقل العينى هذا الخبر من الكامل، جـ 12، ص 74؛ البداية والنهاية، جـ 13، ص 23.
فصل فيما وقع من الحوادث في السنة السابعة والتسعين بعد الخمسمائة
(*)
استهلت هذه السنة والخليفة هو الناصر لدين الله، وسلطان مصر والشام الملك العادل أبو بكر بن أيوب أخو السلطان صلاح الدين، ونائبه بالديار المصرية ابنة الملك الكامل محمد بن العادل، ونائبه بدمشق ابنه الملك المعظم شرف الدين عيسى ابن الملك العادل، وسلطان حلب الملك الظاهر غازي ابن السلطان صلاح الدين، وهو مجد في تحصين حلب خوفًا من عمه الملك العادل، ونائب الملك العادل بالشرق ابنه الملك الفائز إبراهيم
(1)
، وبميافارقين ابنه الملك الأوحد نجم الدين أيوب ابن الملك العادل، وصاحب الروم السلطان ركن الدين سليمان بن قليج أرسلان السلجوقي، وصاحب آمد وحصن كيفا سقمان بن محمد بن قرا أرسلان بن داود بن سقمان بن أرتق، ولكنه مات في هذه السنة، وملك الغورية سلطان غزنة وغيرها غياث الدين. وصاحب خوارزم وغيرها الملك علاء الدين محمد بن تكش، وصاحب أذربيجان وبلادها وغيرها الأمير أبو بكر ابن البهلوان، وصاحب مكة قتادة الحسنى، وصاحب المدينة سالم بن قاسم، وصاحب المغرب السلطان محمد الناصر بن السلطان يعقوب المنصور بن يوسف بن عبد المؤمن بن على القيسي الكومى، وصاحب اليمن سيف الإسلام، وصاحب الموصل وغيرها السلطان الملك العادل نور الدين أبو الحارث أرسلان شاه بن عز الدين مسعود بن قطب الدين مودود بن عماد الدين زنكي، وصاحب جزيرة ابن عمر معز الدين سنجر شاه بن سيف الدين غازي بن مودود بن زنكي، ابن عم نور الدين المذكور.
ذكر ماجريات الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين صاحب حلب
وفي هذه السنة سار الملك الظاهر إلى منبج وبها شمس الدين عبد الملك بن محمد ابن عبد الملك بن المقدم
(2)
، وكان ملكها بعد موت أخيه عز الدين إبراهيم بن محمد في هذه السنة، كما نذكره عن قريب إن شاء الله تعالى. ولما أتى الملك الظاهر إلى منبج
(*) يوافق أولها 12 أكتوبر 1200 م.
(1)
الملك الفائز إبراهيم: هو الملك الفائز سابق الدين إبراهيم ابن الملك العادل الأيوبي. وفيات الأعيان، جـ 1، ص 185، ص 408.
(2)
انظر أبو الفدا، المختصر، جـ 3، ص 99.
حاصرها وملكها وعصى عبد الملك بالقلعة فحصره، فنزل عبد الملك بالأمان، فاعتقله الملك الظاهر بقلعة حلب، وملك قلعة منبج، ثم سار إلى قلعة نجم، وبها نائب ابن عبد المقدم، فحصرها وملكها في آخر رجب، ثم أرسل إلى الملك المنصور صاحب حماة يبذل له منبج، وقلعة نجم، على أن يصير معه على عمه العادل، فاعتذر صاحب حماة باليمين التي في عنقه للعادل، ولما أيس الظاهر منه سار إلى المعرة وأقطع بلادها، واستولى على كفر طاب، وكانت لابن المقدم ثم سار إلى أفامية وبها قراقوش نائب ابن المقدم، فامتنع من [254] تسليمها فأرسل الظاهر إلى حلب وأحضر عبد الملك بن المقدم من حلب وكان معتقلًا بها كما ذكرنا، وأحضر معه أصحابه الذين اعتقلهم وضربهم قدام قراقوش ليسلم أفامية فامتنع من ذلك، فأمر الظاهر بضرب عبد الملك بن المقدم فضرب ضربًا شديدًا وبقي يستغيث، فأمر قراقوش بضرب النقارات على قلعة أفامية لئلا يسمع أهل البلد صراخه، ولم يسلم القلعة فرحل عنها الظاهر وتوجه إلى حماة وحاصرها لثلاثة بقين من شعبان، ونزل شمالي البلد، وزحف
(1)
من جهة الباب الغربي، وقاتل قتالًا شديدًا، ثم زحف في آخر شعبان من الباب الغربي، والباب القبلى وباب العُميان، وجرى قتال شديد وجرح الملك الظاهر بسهم في ساقه واستمرت الحرب إلى أيام من رمضان، فلما لم يحصل على غرض، صالح الملك المنصور على مال يحمله إليه، قيل: إنه ثلاثون ألف دينار
(2)
صورية
(3)
.
وقال بيبرس: وكان الظاهر قد أرسل رسلًا إلى عمه العادل في الصلح قبل أن يجرى ما ذكرنا، فلما وصلت رسله إلى بلبيس رسم العادل أن لا يدخلوا إلى القاهرة فرجعوا ولم يقض لهم شغلا، فوجدوا ميمون القَصْرِيَّ نازلًا على باب بلبيس فاجتمعوا به ورغبوه في الخدمة الظاهرية، ومضى إلى صرخد وبها الظافر أخو الأفضل، ولحق به جماعة من الأمراء الصلاحية ووافقوه على رأيه، واعتزل عنه فخر الدين جهركس في قلاعه، وكان بيده بانياس وهونين وتبنين وشقيف أرنون، ووافقه على الاعتزال زين الدين قراجا، وكان باطنهما مع الملك العادل.
(1)
"رجف" كذا في الأصل والمثبت من المختصر، جـ 3، ص 99؛ مفرج الكروب، جـ 3، ص 122، ص 123،
(2)
ذكر المقريزي "خمسين ألف دينار" السلوك، جـ 1، ص 187.
(3)
نقل العيني هذا الخبر بتصرف من المختصر، جـ 3، ص 99.
ولما وصلت مكاتبات ميمون إلى الظاهر والأفضل وهو يحرضها على المجيء، ويبذل لهما من نفسه المواثيق والعهود على المناصرة والمظافرة، خرج الظاهر من حلب وقدم عليه أخوه الأفضل، وسارا إلى أن نزلا أفامية وبها قراقوش مملوك عز الدين بن المقدم
(1)
فامتنع من تسليم البلد كما ذكرناه الآن، ثم إن الظاهر لما انفصل أمره من جهة حماة بالمصالحة على المال كما ذكرناه، رحل إلى دمشق ومعه أخوه الأفضل، وحضر إليهما ميمون القصري صاحب نابلس ومن كان اجتمع إليه من عساكر مصر، واتفقوا جميعًا، وجاءوا إلى دمشق وبها الملك المعظم عيسى بن الملك العادل وهو صبي صغير، والقيم بأمره فلك الدين سليمان أخو العادل لأمه، وعز الدين أسامة، فلما اجتمعوا عليها حاصروها حصارًا شديدًا، واستقرت القاعدة بين الأخوين الظاهر والأفضل أنهما متى ملكا دمشق يتسلمها الملك الأفضل، ثم يسيران ويأخذان مصر من العادل ويتسلمها الأفضل وتسلم دمشق حينئذ إلى الظاهر، بحيث تبقى مصر للأفضل، ويصير الشام جميعه للظاهر، وكان قد تخلف من أكابر الأمراء الصلاحية عنهما فخر الدين جهر كس وزين الدين قراجا، فأرسل الأفضل، وسلم صرخد إلى زين الدين قراجا، ونقل الأفضل، والدته وأهله إلى حمص عند شيركوه، ولما بلغ العادل حصار الأخوين دمشق خرج بعساكر مصر وجاء إلى نابلس وأقام بها ولم يجسر على قتالهما. واشتدت مضايقة الأخوين الأفضل والظاهر لدمشق وتعلق النقابون [255] بأسوارها.
(2)
وفي المرآة
(3)
: فوصلوا إلى باب الفراديس وأحرقوا فندق تقي الدين، وقاتلهم المعظم وحفظ البلد فأقاموا شهرين وقيل شهر ذي القعدة، واختلف أصحاب التواريخ في أمرهم بعد ذلك.
فقال صاحب المرآة: بعث الملك العادل إلى الأخوين الأفضل والظاهر فأوقع بينهما الخلف فرحلوا سلخ ذي القعدة
(4)
، وجاء العادل فدخل دمشق ومضى المعظم وجهركس
(1)
"شمس الدين المقدم" في النويري وهو خطأ إذ أن شمس الدين بن المقدم توفي عام 583 هـ انظر نهاية الأرب جـ 29، ص 22.
(2)
ورد هذا الخبر بتصرف في نهاية الأرب، جـ 29، ص 19 - ص 24، مفرج الكروب، جـ 3، ص 123 - ص 125.
(3)
مرآة الزمان، جـ 8، ص 309.
(4)
"ذى الحجة" كذا في الأصل والتصحيح من سبط ابن الجوزي حيث ينقل العيني عنه، مرآة الزمان، جـ 8، ص 309. أيضًا راجع الكامل، جـ 10، ص 270.
وقراجا فحاصروا بانياس وبها حسام الدين بشارة فقاتلهم فقتل ولده وأخرجوه من البلاد وتسلمها جهركس وتسلم قراجا صرخد.
(1)
وفي تاريخ بيبرس: لما جاء العادل إلى نابلس خاف العاقبة وجعل يعمل الحيل والمكائد في التفريق بين الظاهر والأفضل، ويستفسد قلوب الأمراء الذين معهما، ووعد الظاهر إن هو فارق أخاه أن يملكه قطعة من بلاد الشرق التي بيده، وكاتب الظاهر زين الدين قراجا، وفخر الدين جهركس، واستمالهما وأرغبهما، واستقر الأمر أن يسلم الأفضل إلى قراجا صرخد وعشرة آلاف دينار وأن يعطى الأمير فخر الدين إياز [جهركس]
(2)
عشرين ألف دينار، فسلم الأفضل صرخد إليهما كما تقرر، فغضب الظافر على أخيه الأفضل، وجرت بينهما بسببها منازعات اقتضت مفارقته وانفصاله عن الأفضل والظاهر.
وأما فخر الدين جهركس وزين الدين قراجا، فإنهما لما تسلما حصن صرخد سارا إلى الظاهر والأفضل وانحازا إليهما، فطابت قلوبهما وقوي عزمهما على فتح دمشق، فأخذ حينئذ فخر الدين جهركس، وقراجا، في التفنيد والتوقيف عن قتال دمشق، وظهر للظاهر والأفضل ذلك منهما، وهما أيضًا علما أن الظاهر والأفضل اطلعا على ذلك فهربا بالليل، وتوجها إلى بانياس فأرسل الظاهر إليهما وقبح فعلهما، فأعادا جوابه بأنه متى فتح دمشق كانا في خدمته. ثم إن الظاهر جد في حصار دمشق وقاتل بنفسه وأصابه في رجله سهم، وخرج جماعة من عسكره فانحل عزمه عن دمشق، ورجع إلى بلاده والأفضل معه ولم ينالا غرضا، ثم إن الأفضل أرسل إلى عمه العادل فطلب منه شميساط وسروج ورأس العين، فأنعم له بها. وحلف له عليها. وأرسل الظاهر إليه يطلب منه منبج وأفامية وكفر طاب، فأنعم له بها أيضا، فمضى الأفضل إلى شميساط وتسلمها وبقي بها إلى أن مات.
(3)
وأما ميمون القصري صاحب نابلس فإن العادل كان قد لاطفه قبل خروجه من مصر، فلم يلتفت إليه ولا أجابه وصار مع الظاهر، ولما رحل الظاهر عن دمشق رحل في
(1)
مرآة الزمان، جـ 8، ص 309.
(2)
[جهركس] ما بين حاصرتين إضافة من الروضتين، جـ 2، ص 244.
(3)
ورد هذا الخبر بالتفصيل في الكامل، جـ 10، ص 271؛ نهاية الأرب، جـ 29، ص 13 - ص 25.
خدمته، فأكرمه وأقطعه إقطاعة عظيمًا، وهو أعزاز وقلعتها، ونهر الجوز
(1)
وبلاده وجسر الحديد وبلادها وأماكن أخر متفرقة، وأعطاه مالًا وخلعًا وبقي في خدمته إلى أن مات في ستة عشر وستمائة.
وسار الملك العادل إلى دمشق وتقرر الصلح بينه وبين المنصور صاحب حماه وزوجه
(2)
ابنته، وأقطع الأمير فخر الدين جهركس بلاد حسام الدين بشارة تبنين وهونين، فامتنع بشارة من تسليمها [256] وكاتب الملك الظاهر يستنجده، فأجابه وأرسل إليه نجدة الأمير عز الدين كرز أخا أبي الهيجاء السمين، وبلغ ذلك العادل، فجهز صحبة جهركس عسكرًا وافرًا لحصار تبنين، فساروا إليها وحاصروها مدةً ثم عجزوا وتركوها.
وفي تاريخ المؤيد وغيره: لما اشتدت مضايقة الأخوين الأفضل والظاهر لدمشق وتعلق النقابون بأسوارها، حسد الظاهر أخاه الأفضل على ملك دمشق وقال له: أريد أن تسلم إلىَّ دمشق الآن، فقال له الأفضل: إن حريمي مثل حريمك وهم على الأرض وليس لنا موضع نقيم فيه، فهب هذه البلدة لي حتى تملك مصر وتأخذها، فامتنع الظاهر من ذلك، وكان قتال العسكر والأمراء الصالحية إنما كان لأجل الأفضل، فقال لهم الأفضل: إن كان قتالكم لأجلى فاتركوا القتال وصالحوا الملك العادل، وإن كان قتالكم لأجل أخى الظاهر فأنتم وإياه. فقالوا: إنما قتالنا لأجلك. وتخلوا عن القتال وأرسلوا وصالحوا الملك العادل، وخرجت السنة وهم محاصرون دمشق، وقد تفرقت العساكر، فرحل الظاهر عن دمشق في أول المحرم سنة ثماني وتسعين وخمسمائة، وسار الأفضل إلى حمص.
(3)
وفي تاريخ ابن كثير: وقد كان الظاهر وأخوه الأفضل كتبا إلى صاحب الموصل نور الدين أرسلان الأتابك أن يحاصر مدن الجزيرة التي مع عمهما الملك العادل، فركب في جيشه وأرسل إلى ابن عمه قطب الدين صاحب سنجار، واجتمع معهما صاحب ماردين الذي كان العادل قد حاصره وضيق عليه مدة طويلة - كما ذكرنا - فقصدت العساكر
(1)
نهر الجوز: ناحية ذات قرى وبساتين ومياه بين حلبه والبيرة التي على الفرات، ياقوت، معجم البلدان، جـ 3، ص 168.
(2)
نهاية الأرب، جـ 29، ص 25 - ص 26.
(3)
نقل العيني هذا النص بتصرف من المؤيد، المختصر، جـ 3، ص 100.
حرّان وبها الملك الفائز بن العادل فحاصروه مدة، ثم لما بلغهم وقوع الصلح بين العادل وبين ابني أخيه الأفضل والظاهر عللوا إلى المصالحة أيضا، وذلك بعد طلب الفائز ذلك منهم، وتمهدت الأمور واستقرت على ما كانوا عليه.
(1)
وفي هذه السنة اعتقل الملك العادل المؤيد والمعز ولدى أخيه الناصر صلاح الدين
(2)
، ونفي من مصر عز الدين أيبك فطيس، والِبْكي الفارسي، وخزبك الفارسي، فمضوا إلى حلب.
ذكر مسير غياث الدين ملك الغورية من غزنة إلى هراة
لما سار من غزنة في عساكره وجنوده ووصل إلى هراة وكان بها نائبه الأمير عمر بن محمد المرغني، استشاره فأشار عليه بالكف عن قصد البلاد، ثم حضرا أخوه شهاب الدين وصحبته عساكر سجستان وغيرها وقصدوا مرو، فخرج إليهم جقر وفتح البلد وسلمها إلى هندوخان بن ملكشاه بن ت كش، ثم سار إلى مدينة سرخس فتملكها صلحا وسلمها إلى الأمير زنكي بن مسعود، وأقطعه معها نسا
(3)
وأبيورد
(4)
، ثم سار بالعساكر إلى طوس فأخذها صلحًا، وخرج إليه مستحفظها فخلع عليه، ثم أرسل إلى علي شاه بن خوارزم شاه وهو إذ ذاك بنيسابور فأَمّره على صاحب آمد، وكانت في ملك أخيه محمود -ولقبه قطب الدين واسمه سقمان بن محمد بن قرا أرسلان بن داود، وكان صاحب آمد وحصن كيفا فسقط من سطح جوسق عال بحصن كيفا فمات، وكان شديد الكراهية لأخيه محمود فأبعده وأنزله حصن منصور [257]
(5)
آخر بلاده، واتخذ مملوكًا اسمه أياس: وكان يحبه حبًّا شديدًا، فزوجه أخته وجعله ولي عهده. فلما اتفقت وفاته ملك أياس بعده أيامًا يسيرة، فوقعت الوحشة بينه وبين وزير سقمان، فسير استدعى محمودًا سرًا فملكهـ وقبض على أياس ثم أطلقه فسارة إلى بلاد الروم وأقام بها.
(6)
(1)
نقل العيني هذا الخبر بتصرف من البداية والنهاية، جـ 13، ص 27.
(2)
المؤيد مسعود، والمعز إسحاق ولدا صلاح الدين - انظر: الروضتين، جـ 2، ص 244.
(3)
نسا: مدينة بخراسان بينها وبين سرخس يومان أو سبعة. معجم البلدان، جـ 4، ص 776 - 778.
(4)
أبيورد: مدينة بخراسان بين سرخس ونسا. معجم البلدان، جـ 1، ص 111.
(5)
ورد هذا الخبر بالتفصيل في الكامل، جـ 10، ص 271 - 273؛ الجامع المختصر، جـ 9، ص 51 - 52. المختصر، جـ 3، ص 100 - 101.
(6)
ورد هذا الخبر بتصرف في المختصر، جـ 3، ص 101؛ الكامل، جـ 10، ص 275.
وفي تاريخ ابن الأثير
(1)
: وفي رمضان من هذه السنة ملك ركن الدين سليمان بن قليج أرسلان صاحب بلاد الروم مدينة ملطية، وكانت لأخيه معز الدين قيصر شاه بن قليج أرسلان، ثم سار ركن الدين إلى أرزن الروم وكانت للملك محمد بن صلتق وهو من بيت قديم ملكوا أرزن الروم مدة طويلة، فطلع صاحب أرزن الروم ليصالح ركن الدين فقبض عليه وأخذ البلد منه وكان هذا محمد آخر الملوك من أهل بيته.
(2)
ذكر ما وقع من الأمور المزعجة الغريبة
منها أنه كانت زلزلة عظيمة امتدت من بلاد الشام إلى الجزيرة وبلاد الروم والعراق، وكان جمهورها وعظيمها بالشام، تهدمت منها دور كثيرة، وقرية من أرض بصرى، وأما السواحل فهلك منها شيء كثير، وخربت محال كثيرة من طرابلس وصور وعكا ونابلس، ولم يبق بنابلس سوى حارة السامرة ومات بها ثلاثون ألفًا تحت الردم، وسقطت طائفة كبيرة من المنارة الشرقية بجامع دمشق وأربع عشرة شرفة وغالب الكلاسة والمارستان النوري، وخرج الناس إلى الميادين يستغيثون، وسقط غالب قلعة بعلبك مع وثاقة بنيانها
(3)
، وانفرق البحر إلى قبرس وقذف بالمراكب إلى ساحله، وتعدت الزلزلة إلى ناحية الشرق فسقطت بسببها دور كثيرة ومات أمم لا يحصون كثرة
(4)
. وفي مرآة الزمان: جاءت في شعبان زلزلة عظيمة من الصعيد فعمت الدنيا في ساعة واحدة، فهدمت بنيان مصر، فمات تحت الردم خلق كثير، ثم امتدت إلى الشام والساحل فهدمت مدينة نابلس فلم يبق بها جدارًا قائمًا إلا حارة السمرة، ومات تحت الهدم ثلاثون ألفا، وهدمت جميع قلاع الساحل وامتدت إلى دمشق فرمت بعض المنارة الشرقية بجامع دمشق وأكثر الكلاسة والمارستان النوري وعامة دور دمشق إلا القليل، وسقط من الجامع ست عشرة شرفة وشققت قبة النسر وخسف بالكلاسة، وتهدمت بانياس وهونين وتبنين، وخرج قوم
(1)
لم يذكر ابن الأثير هذا الحدث وإنما نقل العينى هذا الحدث من ابن الأثير، وذكر لابن كثير كان على سبيل الخطأ، والصحيح ما أثبتناه في المتن، انظر: الكامل، جـ 10، ص 257.
(2)
الكامل، جـ 10، ص 275؛ المختصر، جـ 3، ص 100 - ص 101، الجامع المختصر، جـ 9، ص 53.
(3)
"بابها" كذا في الأصل والتصحيح من البداية والنهاية، جـ 13، جـ 28.
(4)
البداية والنهاية، جـ 13، ص 27 - ص 28.
من بعلبك بجنون الربياس من جبل لبنان، فالتقى عليهم الجبلان وماتوا
(1)
بأسرهم، وهدمت قلعة بعلبك مع عظيم حجارتها ووثيق عمارتها وامتدت إلى حمص وحماة وحلب والعواصم، وقطعت البحر إلى قبرس وانفرق البحر فصار أطوادًا وقذف بالمراكب إلى الساحل، فتكسرت ثم امتدت إلى خلاط وأرمينية وأذربيجان والجزيرة، وأحصى من هلك في هذه السنة على وجه التقريب فكان ألف ألف إنسان ومائة ألف إنسان، وكانت قوة الزلزلة في مبدأ الأمر بمقدار ما يقرأ الإنسان سورة الكهف ثم دامت بعد ذلك أيامًا.
(2)
ومنها هبوط النيل ولم يعهد ذلك في الإسلام إلا مرة واحدة فإنه بقي منه شيء يسير فوقع
(3)
بسببه غلاء عظيم على ما نذكره.
ومنها وقوع غلاء عظيم بالديار المصرية [258] فهرب الناس إلى المغرب والحجاز واليمن والشام، وتفرقوا تفرق أيدي سبأ، ومزقوا كل ممزق أعظم من سنة اثنتين وستين وأربع مائة في أيام المستنصر
(4)
، فإنه كان الناس في هذه السنة في أمر عظيم كان الرجل يذبح ولده الصغير وتساعده أمه على طبخه وتشويه، وأحرق السلطان جماعة فعلوا ذلك ولم ينتهوا، وكان الرجل يدعو صديقه وأعز الناس عليه إلى منزله ليضيفه فيذبحه ويأكله، وفعلوا بالأطباء كذلك وكانوا يدعونهم ليبصروا المرضى فيقتلونهم ويأكلونهم، ونفذت الميتات والجيف من كثرة ما أكلوها، وكانوا يخطفون الصبيان من الشوارع فيأكلونهم، ثم وقع فناء عظيم على ما نذكره.
(5)
وحكى أبو شامة أنه أُكلت الكلاب في هذه السنة والميتات بمصر، وأكل من الأطفال والصغار خلق كثير، يشوى الصغير والداه ويأكلانه، وكثر هذا في الناس حتى صار لا ينكر بينهم، ثم صاروا يحتالون على بعضهم بعضا فيأكلون من يقدرون عليه. ومن غلب من قوى ضعيفًا ذبحه وأكله، ووجد عند رجل أربعة مائة رأس من بني آدم وهلك كثير من الأطباء الذين يستدعون إلى المرضى، فيذبحون ويؤكلون وقد استدعى رجل
(1)
"واتوا" كذا في الأصل والتصحيح من مرآة الزمان، جـ 8، ص 308.
(2)
إلى هنا وقف العيني عن النقل من مرآة الزمان، جـ 8، ص 308 - ص 309.
(3)
مرآة الزمان، جـ 8، ص 307.
(4)
"المنتصر" كذا في الأصل والصحيح ما أثبتناه.
(5)
ورد هذا الخبر بتصرف في الكامل، جـ 10، ص 275؛ الجامع المختصر، جـ 47 - ص 50؛ البداية والنهاية، ج 13، ص 26؛ مرآة الزمان، جـ 8، ص 308 - ص 309.
طبيب فخاف الطبيب وذهب معه على وجل، فجعل الرجل يتصدق على من وجده في الطريق ويذكر ويسبح ويكثر من ذلك، فارتاب به الطبيب وتحيل، ومع هذا حمله الطمع على الاستمرار معه فلما وصلا إلى الدار إذا هي خربة، فارتاب أيضا فخرج رجل من الدار فقال لصاحبه: ما هذا البُطؤ جئت لنا بصيد؟ فلما سمعه الطبيب هرب فما خلص إلا بعد جهد جهيد.
(1)
وقال الشيخ موفق الدين عبد اللطيف في كتاب أخبار مصر: ثم دخلت سنة سبع وتسعين وخمسمائة وقد يئس الناس من زيادة النيل وارتفعت الأسعار وقحط الناس، وخرجوا من خوف الجوع، وانكرش أهل السواد والريف إلى أمهات البلاد، وانجلي كثير منهم إلى الشام، ودخل إلى القاهرة ومصر منهم خلق كثير، واشتد بهم الجوع ووقع فيهم الموت وعند نزول الشمس الحمل وبئ الهواء ووقع المرض والموتات، واشتد بهم الجوع حتى أكلوا الميتات والجيف والكلاب والبعر والروث، ثم تعدوا ذلك إلى أن أكلوا صغار بني آدم، فكثيرًا ما يعثر عليهم ومعهم صغار مشويون ومطبوخون فيأمر السلطان بإحراق الفاعل لذلك. قال: ورأيت صغيرة مشوية في زنبيل وقد أحضر إلى دار السلطان مع رجل وامرأة زعم الناس أنهما أبواه، فأمر بإحراقهما. ووجد بمصر في رمضان رجل وقد جردت عظامه عن اللحم وأكل كما يفعل الطباخون بالغنم.
وأما الأعمال الغريبة فأخبرني الثقة أن أكل بني آدم قد استفاض فيها. وأما أهل الصعيد فإنه استفاض فيهم بيع الأحرار بالثمن البخس حتى تباع الجارية الحسناء بالدراهم النزر.
وقال أيضًا: وأحرق في مصر وحدها من الآكلين لبني آدم رجال كثيرة، وإن [259] الأكلين إذا أحرقوا أصبحوا وقد أكلوا لأنهم يصيرون شواء، وأحرقت من النساء الآكلات نحوٌ من ثلاثين امرأة، وكل امرأة من هؤلاء تقر عندما تؤخذ أنها أكلت جماعة كثيرة. وكان قوم من الفقراء قد آووا قرب الجزيرة وتستروا ببيوت من طين، فاطلع عليهم وطلب قتلهم، فهربوا فوجدوا في بيوتهم من عظام بني آدم شيئًا كثيرًا. وأخبرني الثقة أنهم وجدوا في بيوتهم أربع مائة جمجمة، ثم وجد بعد هذا كثيرٌ من المساتير يأكلون بني آدم
(1)
انظر الذيل على الروضتين كما أورد هذا الخبر، ابن كثير نقلًا عن الذيل على الروضتين، راجع البداية والنهاية، جـ 13، ص 26.
للتشهي لا للضرورة، وأعجبُ ما شاهدتُ من ذلك أن الرعاع والصبيان ظفروا بامرأة قد شوت صغيرًا فحملوه على أيديهم في السوق والمرأة معهم مسحوبة مشجّجة والناس في غفلة ذاهلون، وأهل السوق مقبلون على شؤونهم لم أر فيهم من يتعجب لذلك ولا ينكر عليه، وما ذلك إلا لشدة أنسهم به وألفتهم لأمثاله وخروجه عندهم عن حد العجب، وربما نبشوا القبور وأكلوا الموتى الطرية، وشهد جماعة أنهم عاينوا حمالين الموتى يبيعون الميت بدرهم ودرهمين ونحو ذلك لقوم يتسترون في المقابر ويختفون في المغائر، وأحضر بين يدي الوالي في بعض الأيام قِدْر كبير وفيها عشرة أيدي مطبوخة كما يفعل بالأكارع من الغنم، وأحضر يومًا آخر قِدْر فيها عدة رؤوس من بني آدم مطبوخة بقمح.
وقد شاع ذلك في جميع بلاد مصر حتى في الإسكندرية؛ فإنه من جملة ما روى أنهم وجدوا فيها قدرًا فيها خمسة صغار، وقد ظفر بجماعة في نواحيها وعندهم من لحوم الآدميين قديد مُدّخر، وبعضه في خوابي مملح، وبعضه طبخ وبعضه طري.
قال: وقد استفاض بيع الأحرار بالصعيد كما ذكرنا، ثم إنه سرى إلى مصر والقاهرة وحلب منها خلق عظيم، امتلأت بهم أسواق النَّخْس تباع الجارية منهم بدينار ونصف وبربع، ولقد عرضت على جاريتان حسناوتان
(1)
مراهقتان أحدهما بكر فَسِيمَ فيهما دينار واحد، وأوسقت بهم المراكب والجمال، وسار
(2)
بهم التجار بحرًا وبرًا إلى الشام وبلاد الروم والإفرنج وغيرها من البلاد المتاخمة.
وأهل المحرّم من سنة ثمان وتسعين وخمسمائة والأمر باق على ما ذكر، والناس مستمرون على هذه الحالة، وبالله المستعان.
ومنها وقوع فناء عظيم في الديار المصرية حتى حكى الشيخ أبو شامة في الذيل أن السلطان الملك العادل كَفَّنَ من ماله في مدة يسيرة في هذه السنة نحوًا من مائتي ألف وعشرين ألف ميت، وكثر موت الفقراء بمصر والقاهرة وسائر النواحي، وكثرت الطرحاء، وكان بطرفي القاهرة ميضأتان يحمل إليهما من مات بها، فكان عدد من أحصى بالميضأتين في شهر شعبان خاصة ست
(3)
آلاف وثلثمائة نفس سوى من مات منهم بمصر والجزيرة والجيزة والمَقس والقرافتين والطرقات وسائر النواحي، وسوى من أكلته
(1)
"حسنا آن" في الأصل والصحيح ما أثبتناه.
(2)
"وساروا" في الأصل، والصحيح ما أثبتناه.
(3)
"ستة" في الأصل، والصحيح ما أثبتناه.
الكلاب والناس، ومن لم يشعر به في أصول الحيطان، وكان في شهر رمضان نحوًا من ذلك، وفي شوال تسعة آلاف، وفي ذي القعدة اثنا
(1)
عشر ألفًا، وفي ذي الحجة [260] نحوٌ منه. وكان ووقوع الموتان فيهم منذ شوال من سنة ست وتسعين وخمسمائة.
(2)
وقال ابن كثير: وفي هذه السنة وقع وباء شديد ببلاد عنزة بين الحجاز واليمن، وكانوا يسكنون في عشرين قرية، فبادت ثماني عشرة قرية لم يبق فيها ديار ولا نافخ نار، وبقيت أنعامهم وأموالهم لاقانى لها، ولا يستطيع أحد أن يسكن تلك [القرى]
(3)
ولا يدخلها بل كان من اقترب إلى شيء من هذه [القرى] هلك من ساعته. وأما القريتان الباقيتان فإنه لم يمت [منهما]
(4)
أحد ولا عندهم شعور بما جرى على ما حولهم من القرى، بل هم على ما كانوا عليه لم يفقد منهم أحد.
وفي المرآة
(5)
: وصلي إمام جامع الإسكندرية في يوم على سبع مائة جنازة. وقال العماد الكاتب: وفي سنة سبع وتسعين وخمسمائة اشتد الغلاء والبلاء وخرج الناس حذر الموت من الديار، وتفرق فريق مصر في الأمصار. ولقد رأيت الأرامل على الرمال والجمال باركة تحت الأحمال ومراكب الفرنج واقفة بساحل البحر على اللقم يَسترق الجياع باللقم
(6)
، وقالوا: إن الغلاء والفناء [اللذين]
(7)
وقعا في هذه السنة لم يقعْ مثلهما في السنين الماضية في الإسلام إلا ما وقع في أيام المستنصر العلوي العبيدي.
قال ابن كثير
(8)
: ونهاية ما بلغ القمح في هذه السنة أعني سنة سبع وتسعين وخمسمائة إلى سلخها الأردب بستة دنانير. وقال العز بن تاج الأمناء: كان اشتداد الغلاء والوباء بالديار المصرية بحيث بلغ ثمن الأردب ستة دنانير مصرية، وخلا أهل الأعمال المصرية عنها فتفرقوا في البلاد، وصار إلى بلاد الفرنج منهم جمعٌ حُملوا إلى
(1)
"اثني" في الأصل، والصحيح ما أثبتناه.
(2)
ورد الخبر بتصرف في السلوك، جـ 1، ق 1، ص 188؛ ابن تغري بردي، النجوم، جـ 6، ص 173 - ص 174.
(3)
"القرايا" كذا في الأصل، والتصحيح من البداية والنهاية، جـ 13، ص 26.
(4)
"فيها" كذا في الأصل، والتصحيح من البداية والنهاية، جـ 13، ص 26.
(5)
نقل العينى هذا الخبر بتصرف من البداية والنهاية، جـ 3، ص 26، الكامل، جـ 12، ص 80.
(6)
مرآة الزمان، جـ 8، ص 308.
(7)
"الذي" كذا في الأصل، والصحيح ما أثبتناه.
(8)
ورد هذا الخبر بتصرف في السلوك، جـ 1، ق 1، ص 190، ولم يرد في سنة 597 هـ في ابن كثير كما ذكر العيني. انظر: البداية والنهاية، جـ 13، ص 26 - ص 32.
الجزائر البحرية، وأقر كثير ممن تفرق في البلاد الإسلامية بالعبودية لمن يؤويه ويطعمه، وأشرفت الأعمال المصرية على الخراب الكلى لولا تدارك لطف الله تعالى بما جرى فيها، والإسعاد بما كان للملك العادل فيها من الغلال التي صرفها في تقاوى البلاد ومؤن أهلها إعانةً لهم ممن كان مُقرًا بها، وتراجع إليها مَنْ قدر على الرجوع من أهلها.
ومنها من الأمور العجيبة كائنة غريبة جدًا وقعت في اليمن، وهي أن رجلًا يقال له عبد الله بن حمزة العلوي كان قد تغلب على كثير من بلدان اليمن وجمع نحوًا من اثنى عشر ألف فارس، ومن الرجالة جمعًا كثيرًا، وخافه ملك اليمن المعز إسماعيل بن سيف الإسلام طغتكين بن أيوب، وغلب على ظنه زوال ملكه على يدي هذا المتغلب، وأيقن بالهلكة لضعفه عن مقاومته واختلاف أمرائه عليه، وميلهم إلى هذا العلوى خوفا منه، فقصده العلوى المذكور، فلما كان بينهم مراحل اجتمع خاصة أمرائه معه في المشورة، فأرسل الله تعالى صاعقة فنزلت عليهم فلم يبق منهم واحدا، فاضطرب الجيش فيما بينهم، وأقبل المعز بعسكره فغشيهم وقتل منهم ستة آلاف قتيل، واستقر في ملكهـ آمنًا.
(1)
ذكر بقية الحوادث
منها أن الخليفة استناب نصير الدين ناصر بن مهدي في الوزارة، وأذن للقاضي ابن الشهرزوري في الخروج من بغداد.
ومنها أنه حصل فساد الأمراء الصلاحية على الملك العادل، وكان السبب [261] في ذلك أنه لما دخل مصر شدّد عليهم وناقشهم على ما بأيديهم، فساءت فيه ظنونهم وتغيرت قلوبهم. ثم إن فارس الدين ميمون القصرى عظم عليه استيلاء العادل على ديار مصر وعزل المنصور بن العزيز منها، وأنكر ذلك، وكان حينئذ مقيمًا بنابلس، فكتب إلى العادل: إنا إنما دخلنا في طاعتك ونصرنا على موالينا أولاد الملك الناصر صلاح الدين الأجل الملك العزيز وولده؛ لكيلا يتطرق إليه ضرر، ولا يزول عنه ملكهـ، ولا بد أن نعيده إلى حاله وإلا فسدت بواطن الأجناد ودخل الوهن، فأجابه العادل جواب مغالط.
(2)
وفيها كان النيل في نقص عظيم كما ذكرنا
(3)
(1)
ابن الساعي، الجامع المختصر، جـ 9، ص 54؛ البداية والنهاية، جـ 13، ص 27.
(2)
ورد هذا الخبر بتصرف في السلوك، جـ 1، ق 1، ص 186.
(3)
النجوم، جـ 6، ص 173.
وفيها حج بالناس طاشتكين. وكان الخليفة قد حبسه ثم أطلقه ورد إليه إقطاعه وماله.
(1)
ذكر من توفي في هذه السنة من الأعيان
أبو طاهر بركات بن طاهر الخشوعي، سند الشام، شارك بن عساكر في كثير من مشايخه، وطالت حيوته بعد وفاته بسبع وعشرين سنة، فألحق الأحفاد بالأجداد.
(2)
توفي في هذه السنة عمر بن علي بن عمر الواعظ الحربي
(3)
، ولد سنة أربع عشرة وخمسمائة، وسمع الحديث الكثير، وتوفي في شوال بالحربية، ودفن بباب حرب، وكان بين وفاته وبين وفاة ابن الجوزي شهر، سمع ابن الحصين، وقاضى المارستان، وابن السمرقندي وغيرهم.
قال أبو المظفر السبط: وفيها توفي عمر بن على شيخنا، وكان صالحًا ثقة، وأنشدنا لنفسه:
من داوَم العزلة
(4)
في دهره، كان له تصحيفها دائمًا
فجانب الخلق جميعًا "وثقه
(5)
، بخالق" الخلق تعش سالما
الشيخ أبو الفرج بن الجوزي، والكلام فيه على أنواع:
(الأول) في ترجمته:
هو عبد الرحمن بن علي بن محمد بن على بن عبيد الله بن حمادي بن أحمد بن محمد بن جعفر بن عبد الله بن عبد الرحمن بن النصر بن القاسم ابن عبد الله بن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، أبو الفرج بن أبي الحسن القرشي التيمي.
قال السبط: ورأيت [بخط]
(6)
ابن دحية المغربي قال: وجعفر هو الجوزي منسوب إلى فرضة من فُرَض البصرة يقال لها جوزة. وقال الجوهري فُرضة النهر ثلمته التي يُستقى منها، وفُرضة البحر مَحطّ السُفن، والجمع: الفِراض.
(1)
مرآة الزمان، جـ 8، ص 309 - ص 310.
(2)
البداية والنهاية، جـ 13، ص 32.
(3)
عمر بن علي بن عمر الواعظ الحربي. انظر الجامع المختصر، جـ 9، ص 70.
(4)
في الأصل العزله، والتصحيح من مرآة الزمان، جـ 8، ص 326.
(5)
في سبط ابن الجوزي "وثق وخالفه، جـ 8، ص 326.
(6)
في الأصل "بخطه" وهو خطأ في النسخ. والمثبت هو الأصح للسياق.
قال السبط: ولد جَدّي ببغداد بدرب حبيب في سنة عشر وخمسمائة، وتوفى أبوه وله ثلاث سنين، وكانت له عمة صالحة، وكان أهله تجارًا في النحاس ولهذا رأيت في بعض سماعاته.
وكتب عبد الرحمن الصفّار، فلما ترعرع حملته عمته إلى مسجد أبي الفضل بن ناصر فاعتني به وأسمعه الحديث، وقرأ القرآن وتفقه. وقد ذكر من مشايخه في المشيخة نيفًا وثمانين شيخًا، وعنى بأمره شيخه ابن الزاغوني وعلمه الوعظ، واشتغل بفنون العلوم وأخذ اللغة عن أبي منصور الجواليقي، وصنف الكتب في فنون، قيل بلغت مصنفاته نحو ثلثمائة مصنف، وقال ابن كثير: نحوا من أربعمائة
(1)
مصنف على ما نذكره إن شاء الله. وحضر مجالسة الخلفاء والوزراء والعلماء والأعيان [262] وأقل ما كان يحضر مجلسه عشرة آلاف، وربما حضر عنده مائة ألف، وأوقع الله له في القلوب القبول والهيبة، وكان يجلس بجامع القصر والرصافة والمنصور وباب بدر وتربة الخليفة وغيرها. وقال ابن كثير: وربما تكلم من خاطره على البديهة نظمًا ونثرًا، وقد كان فيه تيه
(2)
وترفع في نفسه ويسمو بنفسه أكثر من مقامه، وذلك ظاهر في نثره ونظمه فمن ذلك قوله:
ما زلت أدرك ما غلا بل ما علا
…
وأكابد النهج القويم
(3)
الأطولا
وتجر
(4)
بي الآمال في حلباته
…
جرى السعيد مدى ما أملا
(5)
يقضى بي التوفيق فيه إلى الذي
…
أعيا
(6)
سواي توصلا وتغلغلا
لو كان هذا العلم شخصًا ناطقًا
…
وسألته هل زُرت مثلي قال لا
(الثاني) في سيرته:
قال ابن كثير: كان صيّنا دينا مجموعًا على نفسه، لا يخالط أحدًا، ولا يأكل ما فيه شبهة، ولا يخرج من بيته إلا للجمعة.
(7)
(1)
في البداية والنهاية، جـ 13، ص 28 "ثلاثمائة".
(2)
في الأصل "تام" والصحيح ما أثبتناه أما العبارة في ابن كثير "كان فيه بهاء وترفع" ......
(3)
العسير" في البداية والنهاية، جـ 13، ص 29؛ الجامع المختصر، جـ 9، ص 67.
(4)
"تجرى" في البداية والنهاية، جـ 13، ص 29؛ الجامع المختصر، ج 3، ص 67.
(5)
"طلق السعيد جرى أبدًا ما أملا" كذا في الأصل والمثبت من البداية والنهاية، جـ 13، ص 29.
(6)
"أعمى" كذا في الأصل والمثبت من البداية والنهاية، جـ 13، ص 29.
(7)
نقل العيني هذا الخبر بتصرف من البداية والنهاية، جـ 13، ص 29.
وقال السبط: كان زاهدًا في الدنيا متقللًا منها، وكان يختم القرآن في كل سبعة أيام. وما مازح أحدًا، ولا لعب مع صبي، ولا أكل من جهة لا يتيقن حلّها، وما زال على ذلك الأسلوب حتى توفاه الله عز وجل. وقد امتحن بما زاحم بها الأنبياء والعلماء والفضلاء والأولياء، وتلقى ذلك بالصبر والحمد والشكر، وقد أثنى عليه العلماء؛ فذكره أبو محمد بن الدبيشي في "الذيل" الذي ذيله على ذيل ابن السمعاني" فقال شيخنا الإمام جمال الدين بن الجوزي صاحب التصانيف في فنون العلوم في التفاسير والفقه والحديث والتواريخ وغير ذلك: وإليه انتهت معرفة الحديث وعلومه، والوقوف على صحيحه و [سقيمه]
(1)
، وله من المصنفات في المسانيد، والأبواب، والرجال، ومعرفة الأحاديث الواهية والموضوعة، والانقطاع والاتصال، وكان من أحسن الناس كلامًا، وأتمهم نظامًا، وأعذبهم لسانًا، وأجودهم بيانًا. تفقه على أبي بكر الدنيوري، وقرأ الوعظ على الشريف أبي القاسم العلوي، وأبي الحسن بن الزاغوني، وبورك له في عمره وعلمه، فروى الكثير وسمع الناس منه أكثر من أربعين سنة، وحَّدث بمصنفاته مرارًا.
(2)
وقال ابن كثير: أحد أفراد العلماء، برز في كثير من العلوم، وجمع المصنفات الكبار والصغار نحوًا من [ثلاثمائة
(3)
] مصنف، وكتب بيده نحوا من [مائتي
(4)
] مجلدة، وتفرد بفن الوعظ الذي لم يسبق إلى مثله، ولا يلحق شأوه [فيه]
(5)
وفي طريقته وشكله، [و] في فصاحته وبلاغته، وعذوبة لفظه، وحلاوة ترصيعه، ونفوذ وعظه، وغوصه على المعاني البديعة، وتقريب الأشياء البعيدة الغريبة بما يشاهد من الأمور الحسنة بعبارة وجيزة سريعة [الفهم والإدراك]
(6)
، وله في غيره من العلوم اليد الطولى جدًا، والمشاركات في سائر أنواع العلوم في التفسير، والتاريخ، والحساب، والنظر في النجوم.
(7)
وقال السبط: وسمعته يقول على المنبر في آخر عمره: كتبت بإصبعىَّ هاتين ألفي مجلدة، وتاب على يدي مائة ألف، وأسلم على يدي ألف يهودي ونصراني.
(1)
في الأصل "ومن سقيمه". والتصحيح من مرآة الزمان، ج 8، ص 311.
(2)
نقل العين هذا الخبر من مرآة الزمان، ج 8، ص 311.
(3)
انظر ما سبق حاشية رقم (1)، ص 1725.
(4)
في الأصل "ألفي". والمثبت من البداية والنهاية، ج 13، ص 28. حيث ينقل عنه العيني.
(5)
ما بين الحاصرتين زيادة من ابن كثير لتوضيح المعنى. انظر: البداية والنهاية، ج 13، ص 28.
(6)
ما بين الحاصرتين إضافة من ابن كثير لتوضيح المعنى. انظر: البداية والنهاية، ج 13، ص 28.
(7)
نقل العيني هذا الخبر بتصرف من البداية والنهاية، ج 13، ص 28.
(الثالث) في ذكر مصنفاته:
التي اشتهرت وعرضت في فنون العلوم في علم التفسير كتاب "العين" بخطه أحد وثمانون جزءًا، إلا أنه لم يُبَيضه ولم يشتهر كتاب "زاد المسير [في علم التفسير] "
(1)
أربع مجلدات، كتاب "التلخيص" مجلد، كتاب "تذكرة الأديب في علم الغريب" -مجلدة، كتاب تيسير البيان في تفسير القرآن- مجلد، كتاب ناسخ القرآن ومنسوخه - مجلد، ومختصره جزء - كتاب فنون الأفنان في علوم القرآن
(2)
مجلد -[263] كتاب الوجوه والنظائر مجلد، ومختصره
(3)
مجلد، كتاب السبعة في القراءات السبعة أربعة أجزاء، كتاب الإشارة في القراءات المختارة جزء، كتاب تذكرة المتنبه في عيون المشتبه جزء، كتاب غريب الحديث أربعة أجزاء، فذلك خمسة عشر كتابًا، وفي علم الحديث كتاب جامع المسانيد [بالحصى الأسانيد]
(4)
سبع مجلدات، كتاب غرز الأثر خمس مجلدات، كتاب الكشف عن معاني الصحيحين أربع مجلدات، كتاب غريب الحديث مجلدان، كتاب الحدائق مجلدان، كتاب الضعفاء والمتروكين مجلدان، كتاب الصلف في المؤتلف والمختلف مجلدان، كتاب العلل المتناهية في الأحاديث الواهية مجلدان، كتاب الموضوعات مجلدان، كتاب الخطأ والصواب من أحاديث الشهاب مجلدان، كتاب تلقيح فهوم أهل الأثر في علم التواريخ والسير مجلد، كتاب الفوائد المنتقاة مجلدان ومختصره مجلد، كتاب نفي النقل ستة وخمسون جزءًا مجلدة، كتاب ناسخ الحديث ومنسوخه مجلدة ومختصره جزء، كتاب أسود الغابة في معرفة الصحابة مجلدة، كتاب النقاب عن الأسماء والألقاب مجلد، كتاب المحتسب في النسب مجلد، كتاب المديح مجلد، كتاب السلسلات مجلد، كتاب أخاير الذخائر مجلد، كتاب المجتبى مجلد، كتاب المشيخة جزء آن، كتاب روضة النائل جزء، كتاب تنوير السلف في المؤتلف والمختلف جزء، كتاب آفة أصحاب الحديث جزء، كتاب المغلق أربعة أجزاء، فذلك ثمانية وعشرون كتابًا، وفي علم التواريخ كتاب المنتظم في تواريخ الملوك والأمم عشر مجلدات، كتاب سلوة المحزون مجلدان، كتاب مناقب بغداد مجلد، كتاب المجد العضدي مجلد، كتاب الطرائف مجلد، كتاب المفاخر في أيام الناصر مجلد، كتاب شذور العقود مجلد، كتاب المصباح المضيء بفضائل المستضيء
(1)
ما بين حاصرتين إضافة من مرآة الزمان، ج 8، ص 312؛ الزركلي: كشف الظنون، ج 2، ص 947، ط 1943.
(2)
حاجي خليفة: كشف الظنون، جـ 2، 1292.
(3)
حاجي خليفة: كشف الظنون، جـ 2، 2001.
(4)
ما بين حاصرتين إضافة من مرآة الزمان، ج 8، ص 312؛ كشف الظنون جـ 5، ص 521.
مجلد، كتاب الأعاصر في ذكر الإمام الناصر مجلد، كتاب الفخر النوري مجلد، كتاب المجد الصلاحي مجلد، فذلك اثنا عشر كتابًا.
وفي علم العربية: كتاب فضائل العرب مجلد، وكتاب الأمثال مجلد، كتاب تقويم اللسان جزءان، كتاب ملح الأعاريب جزءان، كتاب فتوى فقيه العرب جزء، كتاب نزهة أهل الأدب جزء، كتاب المألوف [دون الغريب]
(1)
جزء، فذلك تسعة كتب.
وفي علم الأصول: كتاب منهاج الوصول إلى علم الأصول مجلد، كتاب دفع التشبيه بألف التنزيه أربعة أجزاء، كتاب البدائع الدالة على وجود الصائغ أربعة أجزاء، كتاب منتقد المعتقد جزء، كتاب شرف الإسلام جزء، كتاب ما لا يسع الإنسان جهله جزء، كتاب السر المصون والغوامض، وشفاء على الأمراض، ومسلك العقلاء، ومنهاج أهل الإصابة في محبة القرابة والصحابة كل واحد جزء جزء، فذلك اثنا عشر كتابًا.
وفي علم الفقه: كتاب المُذهب في المذهب جزءان، كتاب التحقيق في أحاديث التعليق مجلدان، كتاب الدلائل في مشهور المسائل مجلدان، كتاب مسبوك الذهب مجلد، كتاب التلخيص مجلد، كتاب البلغة مجلد، كتاب الأنصاف في مسائل الخلاف، كتاب البازي الأشهب مجلد، كتاب لفظه [264] العجلان مجلد، كتاب كشف الظلمة عن الضياء في الرد على الكيا مجلد، كتاب تهيئة العمل في الجدل ثلاثة أجزاء، كتاب در اللوم والضيم في تحريم الصوم يوم الغيم جزء، كتاب مناسك الحج جزء، كتاب تعظيم الفتوى جزء، كتاب الرد على القائلين بجواز المتعة جزء، كتاب المسائل المفردة جزء، كتاب العدة في أصول الفقه جزء، كتاب الفرائض للوازم الفقيه جزء، فذلك عشرون كتابًا.
وفي المناقب: كتاب الوفا في فضائل المصطفى مجلدان، كتاب مناقب عمر بن الخطاب رضي الله عنه مجلد، كتاب مناقب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه مجلد، كتاب مناقب ابن المسيب مجلد، كتاب مناقب الحسن البصري رحمه الله مجلد، كتاب مناقب سفيان الثوري مجلد، كتاب مناقب إبراهيم بن أدهم مجلد، كتاب مناقب الفضيل بن عياض مجلد، كتاب مناقب بشر الحافي مجلد، كتاب مناقب أحمد بن حنبل مجلد، كتاب شرف أصحاب الحديث مجلد، كتاب فضائل معروف الكرخي
(1)
ما بين حاصرتين إضافة من مرآة الزمان، ج 8، ص 313.
جزءان، كتاب مناقب رابعة رضي الله عنها جزءان، كتاب فضائل الفقه جزء، كتاب فضائل القدس جزء، كتاب فضائل ليلة الجمعة جزء، كتاب النساء مجلد، كتاب تقريب الطريق الأبعد بفضل مغفرة أحمد
(1)
جزءان، كتاب تنوير العبش في فضل السود والحبش مجلد، كتاب قيام الليلة ثلاثة أجزاء، كتاب الستر الرفيع جزء، كتاب أسرار الموالي جزء، كتاب مناجزة العمر جزء، فذلك ثلاثة وعشرون كتابًا.
وفي الرقائق: كتاب صفوة الصفوة أربع مجلدات، كتاب عيون الحكايات مجلدان، كتاب ملتقط الحكايات مجلد، كتاب أسباب الهداية مجلد، وصولة العقل مجلد، والعزلة جزء، والصلوات والأدعية جزء، والبر والصلة جزء، والأنس والمحبة جزء، والوصية جزء، وذم الحسد جزء، والرياضة جزء، وذم المسكر جزء، والمحاضرات جزء، فذلك أربعة عشر كتابًا.
وفي الرياضيات: كتاب ذم الهوى مجلدان، كتاب صيد المخاطر ثلاث مجلدات، كتاب القصاص مجلد، كتاب مثير العزم الساكن مجلد، كتاب الأذكياء مجلد، كتاب المصلين مجلد، كتاب المختار من كلام ابن العقيل ثلاث مجلدات، كتاب الحفاظ مجلد، كتاب الآثار العلوية مجلد، كتاب الظراف والمتماجنين مجلد، كتاب السهم المصيب جزءان، كتاب عجالة المنتظر في الحضر جزءان، كتاب الثبات عند الممات جزءان، كتاب أعمار الأعيان جزءان، كتاب الطب الروحاني جزءان، كتاب عطف الأمراء على العلماء جزءان، كتاب فتوح الفتوح ثلاثة أجزاء، كتاب إعلام الأحياء بأغلاط الأحياء جزءان، كتاب الحث على طلب العلم مجلد، كتاب في الحلاج، وتنبيه النائم، العمر على مواسم العمر، والحث على طلب الأولاد، والوداع والمقاسم لأبي القاسم، والمستدرك على ابن عقيل، ولعنة الكند، والنصر على مصر، والعبيده
(2)
والعبيد، والعطف والأخذ على ابن نباته. هذه كلها جزء جزء، فذلك اثنان وثلاثون مصنفًا.
وفي علم الطب: كتاب لقط المنافع مجلدان، ومختصره في جزءان، كتاب الشيب والخضاب مجلد، كتاب الحقير النافع جزءان، وطب الأسباخ جزء، والباه جزء، فذلك ستة كتب.
(1)
مغفرة أحمد: كشف الظنون جـ 5، ص 521.
(2)
هكذا في الأصل وفي مرآة الزمان. وهي غير مقروءة، جـ 8/ 315.
وفي الأشعار: كتاب أحكام الأشعار بإحكام الأشعار مجلدان، والمختار من الأشعار [265] عشر مجلدات.
وفي الوعظ: كتاب التبصرة ثلاث مجلدات، كتاب المنتخب مجلدان، كتاب المنتجب مجلد، كتاب الذخيرة ثلاثون جزءا، كتاب المستنجد والمستنجد مجلدان، كتاب روس القوارير مجلدان، كتاب الذين من روس القوارير مجلد، كتاب المُدهش مجلد، كتاب مواقف المرافق مجلد، كتاب المقتبس مجلد، كتاب نسيم الرياض مجلد، كتاب محض المحض مجلد، كتاب منتهى المشتهى مجلد، كتاب المرتجل مجلد، كتاب زين القصص مجلدان، كتاب اللطائف مجلد، كتاب اللطف مجلد، كتاب الوعظ النفيس مجلد، كتاب النور مجلد، كتاب المقامات مجلد، كتاب مجالس اليوسيفية مجلد، كتاب احتباس المجالس مجلد، كتاب المقعد المقيم مجلد، كتاب شاهد ومشهود مجلد، كتاب الأرواح أربعة أجزاء، كتاب نسيم السحر ثلاثة أجزاء، كتاب صبا نجد جزءان، كتاب الملهب جزءان، كتاب الزند الموري في الوعظ الناصري ثلاثة أجزاء، كتاب المعلق ثلاثة أجزاء، كتاب الفصول الوعظية على حروف المعجم ثلاثة أجزاء، كتاب مغاني المعاني ثلاثة أجزاء، كتاب الوعظ العنوي جزءان، كتاب لقط
(1)
الجمان جزءان، كتاب زاهر الجواهر
(2)
أربعة أجزاء، كتاب الخواتيم جزءان، كتاب المجالس البدرية أربعة أجزاء، كتاب اليواقيت في الخطب جزءان، كتاب اللآلي في الخطب جزءان، كتاب المقتضب جزءان، كتاب شعب اللمع في خطب الجمع ثلاثة أجزاء، كتاب إيقاظ الوسنان في الرقدات بأحوال الحيوان والنبات والزهر المحوف والطرب والوعظ الملوكي جزءان، وأغاني مغاني المعاني، والمواعظ السلجوقية، ومختصر لقط الجمان، وواسطات العقود، والمحادثة والمناجاة، واللؤلؤة والملح والياقوتة، والتصديقات لرمضان، وكنز المذكر، والتعازي الملوكية، وروح الروح، والمقاطع، وكنوز الرموز، كل واحد من هذه في جزء جزء، فذلك نيف وستون كتابا، ومجموعاته يعني مجموعات تصانيفه مائتان ونيف وخمسون كتابًا.
(الرابع) فيما جرى في مجالسه من النوادر المستطرفة والجوابات المستملحة: ومن ذلك قال يومًا في مجلس وعظه: الدنيا نهر طالوت فاعبروها ولا تعمروها، فقام سائل
(1)
لقط الجمان: كشف الظنون جـ 5، ص 522.
(2)
زاهر الجواهر: كشف الظنون جـ 5، ص 521.
فقال: كيف أصنع وحبها مجبول
(1)
في طباعي في يوم زين للناس حب الشهوات؟ فقال الشيخ: إلا من اغترف معي قطرة من القطرات، وقال: والله ما اجتمع لأحد أمله إلا سعى في تفريقه أجله، وقال: عقارب المنايا تلسع وخدران جسم الأمل يمنع الإحساس، وقال: الرواحل في ضي المراحل والأنام نيام، وقال: ماء الحياة في أناء العمر ترشح بالأنفاس.
(2)
وقرأ بين يديه قارئ حسن الصوت فأطرب الجماعة، ثم قرأ بعده أخر مزعج الصوت فنغص الجماعة، فقال الشيخ: كان لبعضهم جاريتان مغنينان إحداهما تغني طيبًا والأخرى مزعجًا، فكان إذا غنت الطيبة الصوت يمزق ثيابه، وإذا غنت القبيحة الصوت يقعد يخيط ما مزق. قال السبط: حضر مجلسي بجامع دمشق في ستة عشر وخمسمائة القضاة والأشراف والأعيان، والملك المعظم عيسى رحمه الله وشيوخنا جمال الدين الخضرى، وتاج الدين الكندي، والقاضي شمس الدين [266] بن سنا الدولة، وكان مجلسًا عظيمًا احتوى على عشرة آلاف وزيادة على باب مشهد على (رضي الله عنه). وكان بدمشق قارئان أحدهما يقال له النجيب البغدادي صوته طيب، والآخر يقال له الشرف بن محي صوته مزعج، فكان النجيب إذا قرأ طربنا، وابن محي إذا قرأ تنغصنا، فحكت الجماعة حكاية الجاريتين المغنيتين، وكان تاج الدين [الكندى]
(3)
قاعدًا في القمة التي في وسط المجلس فصاح: يا ابني كلنا اليوم نخيط، وقال رجل لابن الجوزي: إن فلانًا أوصى عند الموت فقال: طين سطوحه في كانون. وقال له قائل: أنا أفضل أسبح وأستغفر. فقال: الثياب الوسخة أحوج إلى الصابون من البخور. وقال: من قنع طاب عيشه، ومن طمع طال طيشه. وقال: الطاعة تبسط اللسان والمعاصي تذل الإنسان. ووعظ الخليفة يومًا وقال: يا أمير المؤمنين إن تكلمت خفت منك، وإن سكت خفت عليك، فأنا أقدم خوفي عليك على خوفي منك لمحبتي لدوام أيامك، إن قول القائل: اتق الله خير من قول القائل: إنكم أهل بيت مغفور لكم. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: إذا بلغني عن عامل ظالم أنه قد ظلم الرعية ولم أغيره فأنا الظالم يا أمير المؤمنين. كان يوسف عليه السلام لا يشبع في زمان القحط لئلا ينسى الجياع، وكان عمر رضي الله عنه يضرب
(1)
"مطبوع" في مرآة الزمان، جـ 8، ص 316.
(2)
نقل العيني هذا الخبر بتصرف من مرآة الزمان، جـ 8، ص 312 - 316.
(3)
ما بين حاصرتين إضافة من سبط ابن الجوزي لتوضيح الخبر، مرآة الزمان، جـ 8، ص 317.
بطنه عام الرمادة ويقول: قرقر أو لا تقرقر، فوالله لا شبعت والمسلمون جياع. فتصدق الخليفة، وكان المستضيء يتصدق بصدقات كثيرة ويشبع الجياع ويطلق الحبوس
(1)
.
قال ابن خلكان: في مجالس وعظة أجوبة نادرة، فمن أحسن ما يحكى عنه، أنه وقع النزاع ببغداد بين أهل السُنة والشيعة في المفاضلة
(2)
بين أبي بكر وعلى - رضى الله عنهما - فرضى الكل بما يجيب به الشيخ أبو الفرج، فأقاما شخصًا وسأله عن ذلك وهو على الكرسي في مجلس وعظه، فقال: أفضلهما من كانت ابنته تحته، ونزل في الحال حتى لا يراجع في ذلك، فقالت السنة [هو]
(3)
أبو بكر رضي الله عنه فإن ابنته عائشة رضي الله عنها تحت رسول الله (صلى الله عليه وسلم). وقالت الشيعة: هو على رضي الله عنه لأن فاطمة ابنة رسول الله عليه السلام تحته، وهذا من لطائف الأجوبة
(4)
، وقال في قصة الذين عبدوا العجل: لو أن الله خاذلهم، ما خاذلهم، وما يعبد العجل إلا الثور. وقال يومًا وقد طرب أهل المجلس: فَهِمْتم فهمتم.
(5)
وقال: قال جبريل للرسول، عليهما السلام: سلم على عائشة، ولم يواجهها بالخطاب احترامًا لزوجها، وواجه مريم لأنه ما كان لها زوج، فمن يحترمها جبريل عليه السلام كيف يجوز في حقها الأباطيل؟!
وسئل عن لعنة يزيد بن معاوية، فقال: قد أجاز أحمد بن حنبل لعنته، ونحن نقول: ما نحبه لما فعل بابن بنت نبينا عليه السلام، وحمله آل رسول الله عليه السلام سبايا إلى الشام على أقتاب الجمال، وتجرئه على الله ورسوله، فإن رضيتم بهذه المصالحة في قولنا ما نحبه، وإلا رجعنا إلى أصل الدعوى، يعني جواز لعنته. ثم قال: أما أبوه ففي خفارة الصحبة فدعوه من أيديكم، وأنتم في حل من الابن.
(6)
وذكر يومًا حديث داود عليه السلام ووهبه آدم له من عمره ستين سنة. وأن الله أتم لداود مائة، ولآدم عليه السلام ألفا، ثم قال: المتوسط بين اثنين، إذا كان كريمًا عُزم. وله أشعار كثيرة
(7)
قيل: إنها نحو عشر [267] مجلدات فمن الأشعار المنسوبة إليه قوله:
(1)
نقل العيني هذا الخبر بتصرف من مرآة الزمان، جـ 8، ص 317 - 318.
(2)
الفاضلية في الأصل وما أثبتناه من ابن خلكان حيث ينقل عنه، وفيات الأعيان، جـ 3، ص 141.
(3)
ما بين حاصرتين إضافة من ابن خلكان لتوضيح الخبر، وفيات الأعيان، جـ 3، ص 141.
(4)
إلى هنا توقف العينى عن النقل من وفيات الأعيان، جـ 3، ص 142، ص 142.
(5)
نقل العينى هذا الخبر من مرآة الزمان، جـ 8، ص 319.
(6)
الذيل على الروضتين، ص 23؛ مرآة الزمان، جـ 8، ص 231.
(7)
القصد هنا أشعار أبو الفرج بن الجوزي.
يا صاحبي إن كنت لي أو معي
…
فعج على وادي الحمى نرتع
وسل عن الوادي وسُكانه
…
وأنشِد فؤادي من زبي المجمع
حي كُثيب الرمل رمل الحمى
…
وقف وسلم لي على لعلع
واسمع حديثًا قد روته الصَّبا
…
تَسنُده عن بأنه الأجرح
وابك فما في العين من فضلة
…
وَنب فدتك النفس عن مدمعي
وانزل على الشيخ بواديهم
…
وقل ديار الظاعنين اسمعي
رفقًا بنضو قد براه الأسى
…
يا عاذلي لو كان قلبي معي
لهفي على طول
(1)
ليال خلت
…
عودي تعودي مدنفًا قد نعي
إذا تذكرت زمانًا مضى
…
فويح أجفاني من أدمعي
(2)
يا نفس كم أتلو حديث المني
…
ضاع زماني بالمني فاقطعي
ومن أشعاره
تملكوا واحتكموا وصار قلبي لهم
…
تصرفوا في ملكهم فلا يقال ظلموا
إن واصلوا مجيهم أو قطعوا فهم هم
…
أصبر لما شاؤا وإن شاء الذي حكموا
(3)
يا أرض سِلْع
(4)
خبري وحدثيني عنهم
…
يا ليت شعري اذغدوا انجدوا أم اتهموا
تشتاقهم أرض مني وتشكيهم زمزمُ
(5)
(الخامس) في وفاته: توفي ليلة الجمعة بين العشاءين ثاني عشر شهر رمضان، في سنة سبع وتسعين وخمسمائة، وله سبع وثمانون سنة، وحملت
(6)
جنازته على رؤوس الناس، ودفن بباب حرب عند أبيه بالقرب من قبر الإمام أحمد رضي الله عنه وكان يومًا
(1)
"طيب" في الذيل على الروضتين، ص 24.
(2)
"مدمعي" في الذيل على الروضتين، ص 24.
(3)
ورد نص البيت هكذا في أبي شامة:
"اصبر على ما شاءوا
…
شاء الذي قد حكموا
انظر الذيل على الروضتين، ص 24.
(4)
أرض سلع: واد في ديار باهلة، وهناك سلع الكلدية وهو واد أو جبل. معجم البلدان، جـ 3، ص 237. طبعة بيروت (بدون).
(5)
ورد نص البيت هكذا في أبي شامة:
"تشتاقهم أرض مني ومكهـ وزمزم"
انظر، الذيل على الروضتين، ص 25.
(6)
"وحمله" كذا في الأصل والمثبت عن البداية والنهاية، ج 13، ص 29.
مشهودًا حتى قيل: إنه أفطر جماعة من الناس بسبب شدة الحر وكثرة الزحام
(1)
وقال: السبط: جلس جدى يوم السبت سابعٍ شهر رمضان تحت تربة الخليفة المجاورة لمعروف الكرخي، وكنت حاضرًا، فأنشد أبياتًا قطع عليها المجلس ولكن:
الله أسأل أن يطول مدتى
…
وأطال بالإنعام ما في نيتي
(2)
من أبيات ونزل عن المنبر فمرض خمسة
(3)
أيام وتوفي ليلة الجمعة المذكورة في داره بقطعنا، وحضر غسله شيخنا ضياء الدين بن سكنه، وضياء الدين بن الخبير وقت السحر، فاجتمع أهل بغداد، وغلقت الأسواق، وجاء أهل المحال وشددنا التابوت بالحبال، وسلمناه إليهم فذهبوا به إلى تحت التربة مكان جلوسه، فصلى عليه ابنه أبو القاسم على اتفاقًا لأن الأعيان لم يقدروا على الوصول إليه، ثم ذهبوا به إلى جامع المنصور فصلوا عليه، وضاق بالناس وكان يومًا مشهودًا
(4)
، ونزل في الحفرة والمؤذن يقول: الله أكبر. وحزن الناس عليه حزنًا كبيرًا، وبكوا بكاءً شديدًا، وباتوا عند قبره طول شهر رمضان يختمون الختمات بالشموع والقناديل والجماعة، وزاره في تلك الليلة رجل من أهل الحربية محدث اسمه أحمد بن سليمان ويلقب بالسكر، فرآه في منامه، وهو على منبر من ياقوت مرصع بالجواهر وهو جالس في مقعد صدق، والملائكة جلوس بين يديه، والحق سبحانه وتعالى حاضر يسمع كلامه، قال: وأصبحنا يوم السبت [268] وعملنا عزاء وتكلمت فيه، وحضر خلق عظيم، وقام الناصر العلوي الموسوي من مشهد موسى بن جعفر رضي الله عنهما فأنشد:
الدهر عن طمع يغر ويخدع
…
وزخارف الدنيا الدنية تُطمع
وأعنة الآمال يطلقها الرجا
…
طمعًا وأسياف المنية تُقطع
والمرء مع علم بها متشوف
…
أبدًا إلى نيل المُنى مُتطلع
يا لاهيًا أمن الحوادث غِرة
…
تعدو بصفو زمانه تتمتع
(1)
نقل العينى هذا الخبر بتصرف من البداية والنهاية، جـ 13، ص 30.
(2)
"الله أسأل أن تَطُول مدتي
…
ولطال بالإنعام ما في نيتي"
كذا في الأصل والتصحيح من سبط ابن الجوزي حيث ينقل عنه، العينى عنه. انظر مرآة الزمان، جـ 8، ص 343، وقد ورد هذا البيت في الذيل على الروضتين مع اختلاف في بعض الألفاظ، انظر أبي شامة، الذيل، ص 25.
(3)
ذكر أنه توفي بعد خمسة أيام إلا أن هذا ليس بالشيء الذي يوافق الواقع أو أن عدد الأيام ستة.
(4)
إلى هنا توقف العينى عن النقل من مرآة الزمان، جـ 8، ص 342.
ألست يا مغرور يا ثقة الردي
…
أأمنت من حدثانه ما تفزع؟
والموت آت والحياة مريرة
…
والناس بعضهم لبعض تتبع
وأخو البصيرة من لخير زارع
…
والمرء يحصد في غد ما يزرعُ
واعلم بأنك عن قليل صائرٌ
…
خبرًا فكن خبرًا لخير تسمع
(1)
العلا أبي الفرج الذي بعد التقى
…
والعلم يوم حواه هذا المضجع
من أبيات ومنها:
قد كنت كهفًا للشريعة والهدي
…
خيرًا بأنوار الهداية تلمع
يا قبره جازتك كل غمامة هطالة
…
رَكانة لا تقلع
الأبيات. قال السبط: وأوصى جدي أن يكتب على قبره:
يا كثير العفو عمن
…
كثر الذنوب لديه
جاءك المُذنُب يرجو
…
الصفح عن جرم يديه
أنا ضيف وجزاء
…
الضيف إحسانٌ إليه
وكان له من الأولاد الذكور ثلاثة: عبد العزيز وهو أول أولاده وكنيته أبو بكر، تفقه على مذهب أحمد، وسمع أبا الوقت وابن ناصر وآخرين من مشايخ والده، وسافر إلى الموصل ووعظ وحصل له القبول التام. فيقال: إن بني الشهرزوري حسدوه فدسوا إليه من سقاه السم، فمات شابة بالموصل سنة أربع وخمسين وخمسمائة
(2)
.
(والثاني) أبو القاسم على وقد كتب كثيرًا وسمع الحديث، وهو الذي أظهر مصنفات والده وباعها بيع العبيد، ولما مضى أبوه إلى واسط كانت كتبه في داره بدرب دينار
(3)
؛ فتحيل عليها بالليل والنهار حتى أخذ منها ما أراد وباعها ولا بثمن المداد. وكان أبوه قد هجرة مدة سنين، وتوفي في سنة ثلاثين وستمائة، وله ثمانون سنة.
(1)
وردت هذه الأبيات في مرآة الزمان، جـ 8، ص 324.
(2)
نقل العينى هذا الحدث بتصرف من مرآة الزمان، جـ 8، ص 325.
(3)
درب دينار: من دروب باب الجابية بدمشق. انظر: تاريخ دمشق، ص 59، المجلدة الثانية، ق 1 (خطط دمشق).
(والثالث) أبو محمد يوسف ولقبه محيي الدين ولد في سنة ثمانين وخمسمائة، وسمع الحديث الكثير وتفقه وناظر، ونشأ على الطريق الرشيدة والخلائق الحميدة، وهو كان السبب في خلاص والده من واسط، ووعظ بعد وفاة أبيه تحت تربة والدة [الخليفة]
(1)
وقامت بأمره أحسن قيام، وولي حسبة بغداد، وسلك طريق العقل والسداد، وترسل عن الخلفاء إلى الملوك وتقلبت به الأحوال إلى سنة أربعين إلى أن ولى أستاذ دارته الإمام المعتصم بالله أمير المؤمنين وأول ترسله عن الملك الظاهر في سنة ثلاث وعشرين وستمائة إلى أولاد العادل: الأشرف، والمعظم، والكامل، وآخر ما انفصل عن الشام في سنة خمس وثلاثين وستمائة إلى بغداد.
وفي تلك السنة توفي صاحب الروم، والكامل، والأشرف، وكان للشيخ أبي الفرج عدة بنات منهن: والدة أبي المظفر صاحب مرآة الزمان واسمها رابعة، وشرف النساء، وزينب، وجوهرة، وست العلماء الكبرى، وست العلماء الصغرى، وكلهن [269] سمعن الحديث من والدهن أبي الفرج وغيره.
(2)
العماد الكاتب: أبو عبد الله محمد بن صفي الدين أبي الفرج محمد بن نفيس الدين، أبو الرجاء حامد بن محمد بن عبد الله بن علي بن محمود بن هبة الله، المعروف بأَلُه الملقب عماد الدين الكاتب الأصفهاني، المعروف بابن أخي العزيز
(3)
، وكان فقيهًا شافعي المذهب، تفقه بالمدرسة النظامية زمانًا، وأتقن الخلاف وفنون الأدب، وله من الشعر والرسائل ما يغني عن الإطالة في شرحه، وكان قد نشأ بأصبهان، وقدم بغداد في حداثته، وتفقه على الشيخ أبي منصور سعيد بن محمد بن الرزاز، مدرس النظامية، وسمع بها الحديث من بنى أبي
(4)
الحسن علي بن هبة الله بن عبد السلام، وأبي منصور محمد بن عبد الملك بن جيرون، وأبي المكارم المبارك بن على السمرقندي، وأبي بكر أحمد بن على بن الأشقر، وغيرهم، وأقام بها مدة.
(1)
ما بين حاصرتين إضافة من أبي شامة لاستقامة المعنى. الذيل على الروضتين، ص 26.
(2)
نقل العيني هذا الخبر بتصرف من سبط ابن الجوزي: مرآة الزمان، جـ 8، ص 325 - 326.
(3)
وفيات الأعيان، جـ 5، ص 147، ص 152.
(4)
ذكر ابن خلكان أن العماد الكاتب سمع الحديث من الشيخ أبي الحسن علي بن هبة الله بن عبد السلام وليس من بنيه. انظر، وفيات الأعبان، جـ 5، ص 148.
ولما تخرج ومهر تعلق بالوزير عون الدين يحيى بن هبيرة ببغداد، فولاه النظر بالبصرة، ثم بواسط، ولم يزل ماشي الحال مدة حيوته، فلما توفي تشتت شمل أتباعه والمنتسبين إليه، ونال المكروه [بعضهم]
(1)
وأقام العماد مدة في عيش منكر، وجفن مسهد، ثم انتقل إلى مدينة دمشق فوصلها في شعبان سنة اثنتين وستين وخمسمائة، وسلطانها يومئذ الملك العادل نور الدين محمود الشهيد، وحاكمها ومتولى أمورها ومدبر دولتها القاضي كمال الدين أبو الفضل محمد بن الشهرزوري، فتعرف به وحضر مجالسه، وذكر لديه مسألة في الخلاف، وعرفه الأمير الكبير نجم الدين أيوب والد السلطان صلاح الدين يوسف، وكان يعرف عمه العزيز من قلعة تكريت، فأحسن إليه وأكرمه وميزه عند الأعيان والأماثل، وعرَفه السلطان صلاح الدين من جهة والده، ومدحه في ذلك الوقت بدمشق، وذكر العماد ذلك في كتابه "البرق الشامي" وأورد القصيدة التي مدحه بها يومئذ، ثم إن القاضي كمال الدين نوّه بذكره عند السلطان نور الدين الشهيد، وعدد عليه فضائله، وأهله لكتابة الإنشاء. قال العماد: فبقيت متحيرًا في الدخول فيما ليس من شأني ولا وظيفتي، ولا تقدمت لي به درية
(2)
، ولقد كانت مواد هذه الصناعة عقيدة
(3)
عنده لكنه لم يكن قد مارسها، فجبن عنها في الابتداء، فلما باشرها هانت عليه وأجاد فيها وأتى فيها بالغرائب، وكان ينشئ الرسائل باللغة العجمية أيضًا، وحصل بينه وبين صلاح الدين في تلك المدة مودة أكيدة، وامتزاج تام، وعلت منزلته عند نور الدين رحمه الله وصار صاحب سره، وسيّره إلى بغداد رسولا في أيام المستنجد، ولما عاد فوض إليه تدريس المدرسة المعروفة بدمشق بالعمادية، وذلك في رجب سنة سبع وستين وخمسمائة، ثم رتبه في أشراف الديوان في سنة ثمان وستين، ولم يزل مستقيم الحال رضىّ البال إلى أن توفي نور الدين الشهيد، وقام ولده الملك الصالح مقامه، وكان صغيرًا، فاستولى عليه جماعة كانوا يكرهون العماد، فضايقوه وأخافوه إلى أن ترك جميع ما هو فيه، وسافر قاصدًا بغداد فوصل إلى الموصل، ومرض بها مرضًا شديدًا.
(1)
ما بين حاصرتين إضافة من وفيات الأعيان، جـ 5، ص 148، لتوضيح المعنى.
(2)
دربة: الدربة عادة وجراءة على الحرب. انظر الرازي، مختار الصحاح، ص 201 - 202.
(3)
"عقيدة" كذا في الأصل والتصحيح من وفيات الأعيان، جـ 5، ص 148، حيث يتسق مع السياق.
ثم بلغه خروج السلطان صلاح الدين يوسف من الديار المصرية لأخذ دمشق، فانثنى عزمه عن قصد العراق، وعزم على العود إلى الشام، وخرج من الموصل رابع جمادى الأولى سنة سبعين وخمسمائة، وسلك [270] طريق البرية، فدخل دمشق ثامن جمادى الآخرة، وصلاح الدين يومئذ نازل على حلب، ثم قصد خدمته وقد تسلم قلعة حمص في شعبان من السنة المذكورة، فحضر بين يديه، وأنشد قصيدته أطال فيها، ثم لزم الباب، فرحل لرحيل السلطان، وينزل لنزوله، واستمر على عطلته مُديدة، وهو يغشي مجالس السلطان، وينشده في كل وقت، ويعرض بصحبته القديمة، ولم يزل على ذلك حتى نظمه في سلك جماعته واستكتبه واعتمد عليه وقرب منه، وصار من جملة الصدور المعدودين، الأماثل المشهورين، يضاهي الوزراء، ويجري في مضامرهم. وكان القاضي الفاضل في أكثر الأوقات ينقطع عن خدمة السلطان، ويتوفر على مصالح الديار المصرية، وكان العماد يلازم الباب بالشام وغيره، وهو صاحب السر المكتوم، وصنف التصانيف النافعة من ذلك: كتاب "خريدة القصر وجريدة العصر"، جعله ذيلًا على "زينة الدهر" تأليف "أبي المعالي سعد بن على الوراق الخطيري" والخطيري جعله ذيلًا على دمية القصر وعصره أهل العصر" للباخرزي، جعله ذيلًا على "يتيمة الدهر للثعالبي، والثعالبي جعل كتابه ذيلًا على كتاب "البارع" لهارون بن على المنجم. وقد ذكر العماد الشعراء الذين كانوا بعد المائة الخامسة إلى سنة اثنتين وسبعين]
(1)
وخمسمائة، وجمع شعراء العراق والعجم والشام والجزيرة ومصر والمغرب ولم يترك إلا النادر الخامل، وأحسن في هذا الكتاب وهو في عشر مجلدات، وصنف كتاب "البرق الشامي" في سبع مجلدات، وهو مجموع تاريخ، وبدأ فيه بذكر نفسه وصورة انتقاله من العراق إلى الشام، وما جرى له في خدمة السلطان نور الدين محمود بن زنكي، وكيفية تعلقه بخدمة السلطان صلاح الدين يوسف، وذكر شيء من الفتوحات بالشام، وهو من الكتب الممتعة، وإنما سماه البرق الشامي لأنه شبه أوقاته في تلك الأيام بالبرق الخاطف؛ لطيبها وسرعة انقضائها، وصنف كتاب "الفتح القسي في الفتح القدسي" في مجلدين يتضمن كيفية فتح البيت المقدس، وصنف كتاب "السيل على الذيل" جعله ذيلًا على الذيل لابن السمعاني الذي ذيل به "تاريخ بغداد" تأليف الخطيب البغدادي الحافظ،
(1)
ما بين حاصرتين إضافة من وفيات الأعيان، ج 5، ص 150.
وصنف كتاب "نصرة الفطرة وعصرة الفطرة في أخبار الدولة السلجوقية" وله ديوان رسائل وديوان شعر في أربع مجلدات، ونفسه في قصائده طويل، له ديوان صغير جمعه دوبيت.
وكان بينه وبين القاضي الفاضل مكاتبات ومحاورات لطاف، فمن ذلك ما يحكى عنه أنه لقيه يومًا وهو راكب على فرس فقال له: سر فلا كب بك الفرس. فقال له الفاضل: دام علا العمادُ. وهذا مما يقرأ مقلوبًا وصحيحًا سواء. واجتمعا يومًا في موكب السلطان وقد انتشر من الغبار لكثرة الفرسان ما سد الفضاء
(1)
، فتعجبا من ذلك، فأنشده العماد في الحال:
أما الغبار فإنه
…
بما أثارته السنابك
والجو منه مظلم
…
لكن أنارته السنابك
يا دهر لي عبد الرحيم
…
فلست أخشي مسّ نابك
قد اتفق له الجناس في الأبيات الثلاثة، وهو في غاية الحسن، ولم يزل العماد على مكانته ورفعته إلى أن توفي صلاح الدين، فاختلت أحواله وتقطعت أوصاله، ولم يجد في وجهه بابا مفتوحا فلزم بيته، وأقبل على الاشتغال بالتصانيف إلى أن توفي يوم الإثنين مستهل رمضان سنة سبع وتسعين وخمسمائة بدمشق، ودفن بمقابر الصوفية خارج [271] باب النصر رحمه الله وكان مولده يوم الإثنين ثاني جمادى الآخر، وقيل: في شعبان تسع عشرة وخمسمائة بأصفهان. وأَلُهْ: بفتح الهمزة، وضم اللام، وسكون الهاء، اسم عجمي معتاد بالعربي، العقاب وهو الطائر المعروف، وقد قيل: إن العقاب لا يوجد فيه ذكر بل جميعه أنثى، وإن الذي يسافله طائرا آخر من غير جنسه، وقد قيل: إن الثعلب يسافده، وهذا من العجائب، ولابن عنين الشاعر في هجو شخص يقال له ابن سيده:
ما أنت كالعقاب فأمه
…
معروفة وله أب مجهول
وهذا إشارة إلى ما نحن فيه.
(2)
(1)
إلى هنا نقل العيني بتصرف من وفيات الأعيان، ج 5، ص 147 - ص 151.
(2)
نقل العينى هذه الترجمة بتصرف من وفيات الأعيان، ج 5، ص 147 - ص 153.
مكلبة بن عبد الله المستنجدي، كان تركيا زاهدًا عابدًا، سمع المؤذن وقت السحر وهو ينشد على المنارة:
يا رجال الليل جدوا
…
رب صوت لا يُردَ
ما يقوم الليل إلا من
…
له عزم وجدُ
فبكي مكلبة وقال للمؤذن: زدني. فقال المؤذن:
قد مضى الليل وولي وحبيبي قد تجلى
وصرخ مُكلبة صرخة كان فيها حتفه، فأصبح أهل البلد قد اجتمعوا على بابه، فالسعيد من وصل إلى نعشه. وكان يوما عظيما لم تر بغداد مثله
(1)
. وفي المرآة: وكان مكلبة خازنًا بدرب دينار الكبير، وكان صالحًا يقوم الليل، ودفن بالوردية.
(2)
أبو منصور بن أبي بكر بن شجاع المزكلش ببغداد: ويعرف بابن نقطة
(3)
. كان يدور في أسواق بغداد بالنهار ينشد، كان، وكان المواليا، ويُسَحّر الناس في ليالي رمضان، وكان مطبوعًا ظريفًا خليعًا، وكان أخوه الشيخ عبد الغنى الزاهد من أكابر الصالحين، له زاوية ببغداد يزار فيها، وكان له أتباع ومريدون، ولا يدخر شيئًا يحصل له من الفتوح، تصدق في ليلة بألف دينار، وأصحابه صيام لم يدخر لهم شيئًا ولا عشاء، وزوجته أم الخليفة بجارية من خواصّها، وجهزتها بعشرة آلاف دينار، فما جاء الحول وعندهم من شيء بل جميع ذلك يؤثر به ويتصدق به حتى لم يبق عندهم منه شيء سوي هاون، فوقف سائل فلح في الطلب على الباب، فأخرج إليه الهاون، وقال: خذ هذا وكُل به في ثلاثين يومًا ولا تشنع على الله عز وجل. وكان من خيار الصالحين، والمقصود أنه قيل لأخيه أبي منصور هذا: ويحك أنت تدور في الأسواق وتنشد الأشعار وأخوك من قد عرفته. فأنشأ يقول في جواب ذلك بيتين مواليًا:
(1)
البداية والنهاية، ج 13، ص 31.
(2)
نقل العيني هذا الخبر بتصرف من مرآة الزمان، ج 8، ص 330.
(3)
انظر ترجمته، الجامع المختصر، ج 9، ص 68؛ الذيل على الروضتين، ص 28؛ مرآة الزمان، ج 8، ص 330.
قد خاب من شبه الجزعة إلى درة
…
وسام قحبة إلى مستحسنة حرة
(1)
أنا مغني وأخي زاهد إلى مرة
…
في الدار بئران
(2)
ذي حلوة وذي مرة
وكان منحرفًا، عن علي رضي الله عنه، جري حديث قتل عثمان، وأن عليا كان بالمدينة، ولم يقدر على الوصول إليه، فقال ابن نقطة: ومن قتل في جواره مثل ابن عفان، واعتذر يجب عليه أن يقبل في الشام عذر يزيد، فأراد الشيعة قتله.
(3)
وقال السبط: قبحه الله وأين وجه المشابهة بين الحالين! وابن زياد إنما أقدم بكتاب يزيد على قتل الحسين رضي الله عنه وقد خرج علي رضي الله عنه يوم الدار؛ لنصرة عثمان وفعل ما استطاع بقدر الإمكان، وقد كان يسحر الناس في رمضان، فوثبوا عليه ليلة، وكان الإمام الناصر في المنظرة وهو واقف يسحر، فعطس الخليفة [272] فشمته ابن نقطة، فبعث له الخليفة مائة دينار، وحماه من الشيعة، فمات بعد قليل من هذه السنة.
(4)
قراقوش بن عبد الله الفحل الخصي الأسدي الملقب ببهاء الدين المكنى بأبي سعيد. كان خادم السلطان صلاح الدين، وقيل: خادم أسد الدين شيركوه عم السلطان صلاح الدين، فأعتقه. وقيل: من خدام العاضد آخر خلفاء العبيديين، ولما استقل صلاح الدين بالديار المصرية جعله زمام القصر، ثم ناب مدة بالديار المصرية وفوض أمورها إليه واعتمد في تدبير أحوالها عليه، وكان رجلا مسعودًا، وصاحب همة عالية، وهو الذي بنى السور المحيط بالقاهرة ومصر وما بينهما، وبني قلعة الجبل، وبنى القناطر التي بالجيزة على طريق الأهرام، وهي آثار دالة على علو الهمة، وعمر بالمقَسْ
(5)
رباطًا
(1)
ورد هذا البيت في أبي شامة كالآتي:
قد خاب من شبه الجزعة إلى الدرة
…
وشابه قحبة إلى مستجنة حرة
انظر الذيل على الروضتين، ص 28.
كما ورد في ابن كثير الشطرة الثانية كالآتي:
وقاسي قحبة إلى مستحيية حرة
البداية والنهاية، ج 13، ص 32.
(2)
"بئرين" في الأصل، والصحيح ما أثبتناه.
(3)
نقل العينى هذا النص بتصرف من الذيل على الروضتين، ص 28؛ البداية والنهاية، ج 13، ص 39 ص 32.
(4)
نقل العينى هذا الخبر بتصرف من مرآة الزمان، ج 8، ص 331.
(5)
المقَسْ: أحد الموانئ على النيل، وكان يسمى أم دنين، فيه حصن ومدينة قبل بناء الفسطاط. ياقوت، معجم البلدان، ج 4، ص 106.
وعلى باب الفتوح بظاهر القاهرة خان السبيل، وله وقف كثير لا يعرف مصرفه، وكان حسن المقاصد جميل النية، ولما أخذ السلطان صلاح الدين مدينة عكا من الفرنج سلمها إليه، ثم استولى الفرنج عليها، ووقع أسيرا
(1)
في أيديهم، يقال: إنه أفتك نفسه بعشرة آلاف درهم. وقيل: أفتكه صلاح الدين بستين ألف دينار. وكانت له حقوق كثيرة على السلطان صلاح الدين وعلى الإسلام والمسلمين
(2)
وقال ابن خلكان: والناس ينسبون إليه أحكامًا عجيبة في ولايته، وأن كاتب يقال له الأسعد المماتي له جزء لطيف سماه "كتاب الفاشوش في أحكام قراقوش" وفيه أشياء يبعد وقوعها منه، والظاهر أنها موضوعه، فإن صلاح الدين كان معتمدًا في أحوال المملكه عليه، ولولا وثوقه بمعرفته وكفايته ما فرضها إليه، وكانت وفاته في مستهل رجب من هذه السنة بالقاهرة، ودفن في تربته المعروفة به بسفح المقطم، بقرب البئر والحوض اللذين أنشأهما على شفير الخندق.
(3)
وقال ابن كثير: ولما توفي احتاط الملك العادل على تركته، وصارت أملاكه وإقطاعه للملك الكامل محمد بن الملك العادل، وفي القاهرة داخل باب الفتوح الحارة المسماة بحارة بهاء الدين منسوبة إليه، وقراقوش لفظ تركي ومعناه بالعربي العقاب الطائر المعروف، وسمي به لشهامته وشجاعته
(4)
.
عز الدين إبراهيم بن محمد بن عبد الملك بن المقدم، صاحب بلاد منبج، وقلعة نجم، وأفامية، وكفر طاب، وغيرها، توفي في هذه السنة وصارت البلاد بعده الأخيه شمس الدين عبد الملك بن محمد بن عبد الملك.
(5)
وقال السبط: وأبوه محمد المقتول بعرفات، وكان إبراهيم شجاعًا عاقلًا، وله قلعة بارين، وأفامية، ومنبج، والراوندان، وعدة حصون. وكانت وفاته بدمشق
(6)
في العقيبة.
(1)
"أسير" في الأصل، والصحيح ما أثبتناه.
(2)
ورد هذا الخبر بتصرف في البداية والنهاية، ج 13، ص 31، راجع أيضًا ترجمته في وفيات الأعيان، ج 4، ص 91 - 92.
(3)
وفيات الأعيان، ج، ص 92.
(4)
البداية والنهاية، ج 13، ص 31؛ نهاية الأرب، ج 29، ص 30 - ص 31.
(5)
الذيل على الروضتين، ص 20.
(6)
ورد هذا الخبر بالتفصيل في مرآة الزمان، ج 8، ص 310.
فصل فيما وقع من الحوادث في السنة الثامنة والتسعين بعد الخمسمائة
(*)
استهلت هذه السنة والخليفة هو الناصر لدين الله، وقد استقرت الممالك الشامية والشرقية والديار المصرية كلها للملك العادل
(1)
، وانتظم جميعها في سلك مُلكه، وخطب له على منابرها، وضربت السكة فيها باسمه، وكان العادل قد قدم دمشق في هذه السنة بعد رحيل الملكين الأخوين الأفضل والظاهر، ابنا السلطان صلاح الدين، وكان الميمون
(2)
القَصَّري قد سار مع الظاهر كما ذكرنا، فأقطعه أعزاز
(3)
، ثم سار الملك العادل من دمشق إلى حماه ونزل على تل صفرون [273] ونزل إليه صاحبها الملك المنصور وقام بجميع وظائفه وكلفه، وبلغ الظاهر صاحب حلب وصول عمه إلى حماه بنية قصده ومحاصرته، فاستعد للحصار بحلب وراسل عمه ولاطفه وأهدى إليه، ووقعت بينهما مراسلات، ووقع الصلح، وأخذ من الملك الظاهر قلعة نجم
(4)
وأعطاها للملك الأفضل، وكانت له سروج، وشميساط وكان الأفضل حينئذ بحمص [عند]
(5)
شيركوه فجاء إلى عمه العادل [فالتقاه عند
(6)
ثنيه] العقاب وأكرمه، ثم سلم العادل حران وما معها لولده الملك الأشرف مظفر الدين موسى
(7)
، وسيره إلى الشرق، وكان بميافارقين الملك الأوحد ابن العادل
(8)
، وكان بجعبر الملك الحافظ نور الدين أرسلان شاه العادل، ثم لما استقر الصلح بين العادل والظاهر رجع العادل إلى دمشق
(9)
، وأقام بها وأرسل الظاهر إلى قلعة منبج، وأخربها خوفًا من انتزاعها منه، وأقطع منبج بعد ذلك عماد
(*) يوافق أولها 1 أكتوبر 1201 م.
(1)
انظر ترجمته في وفيات الأعيان، ج 5، ص 74.
(2)
الميمون القصرى: كان من زعماء الأمراء الصالحية. انظر: نهاية الأرب، ج 29، ص 19، حاشية 2.
(3)
أعزاز: حصن مشهور وقلعة بالقرب من حلب. انظر أبو الفدا، تقويم البلدان، ص 231.
(4)
قلعة النجم، قلعة جبلية مطلة على الفرات عندها جسر تعبر عليه القوافل من حران إلى الشام، وكانت تعرف قبل ذلك بقلعة منبج، وعرفت كذلك بجسر منبج. معجم البلدان، ج 4، ص 165.
(5)
ما بين حاصرتين فراغ بالمخطوطة بمقدار كلمة. أكمل من شراة الزمان، ج 8، ص 331.
(6)
ما بين حاصرتين فراغ بمقدار ثلاث كلمات بالمخطوط أكمل من مرآة الزمان، ج 8، ص 331؛ الذيل على الروضتين، ص 29.
(7)
الأشرف مظفر الدين موسى: هو أبو الفتح موسى بن الملك العادل سيف الدين أبي بكر بن أيوب، ملك الرها 598 هـ ثم أضيف له حران، وتوفي بدمشق 635 هـ. وفيات الأعيان، ج 5، ص 333.
(8)
الملك الأوحد: هو نجم الدين أيوب صاحب خلاط وميافارقين، توفي في شهر ربيع الأول سنة 609 هـ بملازكرد من أعمال خلاط. وفيات الأعيان، ج 4، ص 121؛ ج 5، ص 76، 330.
(9)
ورد هذا الحدث بتصرف في السلوك، ج 1، ق 1، ص 192.
الدين بن سيف الدين علي بن أحمد المشطوب
(1)
وأرسل قراقوش نائب عبد الملك بن محمد بن عبد الملك المقدم بأفامية إلى الظاهر يبذل له أفاميه بشرط أن يعطيه أقطاعًا برضاها، فأقطعه الظاهر الراوندان وكفر طاب، ومفردة المعرّة، وهي عشرون ضيعة معينة من بلاد معرة النعمان، وتسلم أفاميه، ثم أن عبد الملك المذكور عصي بالراوندان فسار إليه الظاهر واستنزله منها وأبعده، فلحق عبد الملك بعد ذلك بالملك العادل فأحسن إليه.
(2)
وذكر أمر خوارزم شاه
وفيها ملك خوارزمشاه ما كان أخذه الغورّيه من بلاده، وقد ذكرنا أن غياث الدين وأخاه شهاب الدين استوليا على خراسان ومرو ونيسابور وغيرها من بلاد خوارزم شاه، فلما اتصل الخبر بالسلطان محمد بن تكش سيّر إلى غياث الدين يعاتبه ويقول له: كنت أعتقد أنك تحلف عليَّ بعد أبي وتنصرني على الخطأ، فحيث لم تفعل فلا أقل من أن لا تؤذيني ولا تأخذ بلادي فإن لم تعد إلى ما أخذت منها وإلا انتصرت عليك بالخطا وغيرهم من الأتراك إن عجزت عن أخذ بلادي. فغالظه غياث الدين بالجواب والمراسلات حتى يخرج أخوه من الهند بالعسكر، فجمع خوارزم شاه عساكره وسار إلى خوارزم نصف ذي الحجة سنة سبع وتسعين، فلما قارب نسا هرب هندوخان ابن أخي ملكشاه
(3)
من مرو إلى غياث الدين، فملك خوارزم شاه مرو وسار إلى نيسابور وبها علاء الدين نائب غياث الدين فحصره مدة شهرين، ثم نزل بالأمان، فأرسله إلى غياث الدين بسبب الصلح والاتفاق، وأحسن إلى أمراء الغورية، وسار إلى سرخس وبها الأمير زنكي فحصره أربعين يومًا ثم رحل عنها، فلما بلغه اجتماع الغورية أرسل إليهم عسكرًا مع خاله فلقيهم عسكر الغورية ومقدمهم محمد بن حَزْبك، فهزم عسكر خوارزم شاه، فعادوا إلى خوارزم ثم أرسل إلى غياث الدين في الصلح فأجابه عن رسالته صحبة الأمير الحسن بن محمد المرغنى، فلما وصله قبض عليه وسار إلى هراة، وبلغ غياث الدين فسار بعساكره ونزل برباط رزين بالقرب من هراة ولم يقدم على خوارزم شاه لقلة ما معه من العسكر؛ فإن
(1)
هو أبو العباس أحمد بن سيف الدين أبي الحسن علي بن أحمد بن أبي الهيجاء بن عبد الله بن أبي الخليل بن مارزبان الهكاري المعروف بابن المشطوب. وفيات الأعيان، جد 1، ص 180.
(2)
المختصر في أخبار البشر، ج 3، ص 101.
(3)
ورد هذا الحدث بتصرف في المختصر في أخبار البشر، ج 3، ص 100.
أكثر عساكره مع أخيه شهاب الدين بالهند، فأرسل خوارزم شاه [274] إلى أمير البلد فصالحه على مال حمله إليه، فرحل عن هراه، ولما بلغ شهاب الدين بن خوارزم شاه عاد إلى البلاد وأخذها سار من غزنة إلى خراسان، ومنها إلى بلخ، ومنها إلى باميان، ومنها إلى مرو، عازمًا على حرب خوارزم شاه، والتقت أوائل عسكريهما فقتل بينهما جماعة، ثم ارتحل خوارزم شاه وقطع القناطر وقتل الأمير سنجر صاحب نيسابور، وتوجه شهاب الدين إلى طوس فأقام بها تلك الشتوة على عزم المسير إلى خوارزم شاه فأتاه الخبر بوفاة أخيه غياث الدين، فقصد هرأة وترك العزم
(1)
.
ذكر بقية الحوادث
منها أن الخليفة وليَّ عبد اللطيف بن نصر الكيال الواسطى قضاء واسط
(2)
، وخلع على أبي الربيع الواسطى، ودرس بالنظامية.
ومنها أن السعايات قد كثرت ببغداد ففسدت الأمور، فنادى الخليفة من سعى بأحد أبيح ماله ودمه، فصلحت الأحوال.
ومنها أنه جاءت زلزلة عظيمة في شعبان وشقت قلعة حمص ورمت المنظرة التي على القلعة، وأخربت حصن الأكراد، وتعدت إلى جزيرة قبرس، وامتدت إلى نابلس فأخربت ما بقي
(3)
. وقال العز بن تاج الأمناء: هذه الزلزلة العظمى التي هدمت بلاد الساحل صُور وطرابلس وعَرقة، وشعثت كثيرًا من البلاد الإسلامية الشاملية، ورميت بدمشق رؤس منابر الجامع وبعض شراريفه من شماله، فقتلت رجلًا مغربيًا بالكلاسة، ومملوكًا تركيًا لرجل صيرفي ساكنًا في درب الشمَيساطي عند تنفس الصبح في يوم الإثنين السادس والعشرين من شعبان الموافق للعشرين من آب، فأعقبها زلزلة حقيقة في صحوة الغد.
(4)
ومنها أن هذه السنة استهلت والغلاء مستمر في تناقص لاستقبال جمادى الآخرة لما ظهر من زيادة نيلها وأقلع في آخرها.
(5)
(1)
ورد هذا الحدث مفصلًا في الكامل، ج 12، ص 79 - ص 78.
(2)
الجامع المختصر، ج 9، ص 80.
(3)
مرآة الزمان، ج 8، ص 331؛ الذيل على الروضتين، ص 28.
(4)
الذيل على الروضتين، ص 29.
(5)
الذيل على الروضتين، ص 29.
ومنها أنه ولي قضاء القضاة ببغداد أبو الحسن علي بن سليمان الحلى، وخلع عليه.
(1)
ومنها أن الشيخ أبا عمر محمد بن قدامة المقدسي شرع في بناء المسجد الجامع بجبل قاسيون، فأنفق عليه رجل يقال له الشيخ أبو داود محاسن الغامي حتى بلغ البناء إلى قامته ونفذ ما كان معه، فأرسل الملك المظفر كوكبري بن زين الدين صاحب إربل مالا جزيلًا لتتميمه فكمل، وأرسل ألف دينار ليساق إليه الماء من برزة، فلم يمكن ذلك الملك المعظم بن العادل صاحب دمشق، واعتذر بأن هذا يشوش قبورًا كثيرة للمسلمين، فصنع له بئرا وبغلا
(2)
يدور وأوقف عليه.
وفيها حج بالناس من العراق وجه السبع ومن الشام خشتر بن الهكاري.
(3)
ذكر من توفي فيها من الأعيان
الإمام حسام الدين علي بن أحمد بن مكي الرازي الفقيه الحنفي، ذكره بن عساكر في تاريخه، وقال: قدم دمشق وسكنها، وكان يدرس بالمدرسة الصادرية
(4)
، ويفتى على مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه ويناظر في مسائل الخلاف. قال: وما أظنه حدث. وقال ابن عديم في تاريخه: لما قدم حلب عقدوا له مجلسًا للمناظرة فجعل يذكر مسألة مسألة من مسائل الخلاف، ويذكر أدلة كل فريق ويجيب عنها فأذعنوا له، وتفقه بحلب عليه أبو غانم وجماعة [275] وله مصنفات منها: خلاصة الدلائل في تنقيح المسائل]
(5)
، ومنها "سلوة الهموم
(6)
" جمعه. وقد مات له ولد. وكان وروده إلى حلب في أيام نور الدين الشهيد وأقام بالمدرسة النورية في أيام العلاء الغزنوي، فلما توفي الغزنوي وولى المدرسة بعده ابنه محمود، وكان أبو الحسن الرازي يدبر حاله وتوفي سنة ثمان وتسعين وخمسمائة بدمشق، ودفن خارج باب الفراديس.
(1)
الجامع المختصر، ج 9، ص 80. ولمعرفة المزيد. راجع ترجمته في كتاب إنسان العيون، ص 128.
(2)
"بئر وبغل" في الأصل، والصحيح ما أثبتناه.
(3)
الذيل على الروضتين، ص 29؛ مرآة الزمان، ج 8، ص 331؛ نهاية الأرب، ص 32.
(4)
المدرسة الصادرية: هي بدمشق داخل باب البريد على باب الجامع الأموي الغربي أنشأها شجاع الدولة صادر بن عبد الله سنة 491 هـ. انظر النعيمي، الدارس في تاريخ المدارس، تحقيق جعفر الحسنى، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة 1988، ج 1، ص 537 - ص 539 ترجمة رقم 111.
(5)
حاجي خليفة، كشف الظنون، مجلد 1، ص 718.
(6)
حاجي خليفة، كشف الظنون، مجلد 2، ص 999.
القاضي ابن الزكي محمد بن علي بن محمد بن يحيى بن علي بن عبد العزيز أبو المعالي القرشي محيي الدين
(1)
قاضي قضاة دمشق، وكذا كان أبوه وجده يحيى بن على المذكور، وهو أول من ولي دمشق منهم، وكان جد الحافظ أبي القاسم بن عساكر لأمه، وقد ترجمه في تاريخه ولم يزد على القرشي. وقال أبو شامة: ولو كان أمويًا عثمانيًا كما يزعمون لذكر ذلك ابن عساكر، وكان فيه شرف لجده وخاليه محمد وسلطان، ولو كان ذلك صحيحًا لما خفي عليه
(2)
. اشتغل [ابن زنكي]
(3)
على القاضي شرف الدين أبي سعد عبد الله بن محمد بن أبي عصرون وناب عنه في الحكم ثم ترك النيابة. وهو أول من خطب بالقدس لما فتحه السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب كما ذكرنا في سنة ثلاث وثمانين، ثم ولاه قضاء دمشق وأضاف إليه قضاء حلب أيضًا، وكان ناظر أوقاف الجامع ثم عزل عنها قبل وفاته بشهر ووليها شمس الدين ابن التبنيني ضمانًا
(4)
وقد كان القاضي محيي الدين بن الزكي ينهي الطلبة عن الاشتغال بالمنطق والكلام ويحرق كُتب من كان عنده شيء من ذلك بالمدرسة التقوية
(5)
، وكان يحفظ العقيدة المسماة بالمصباح
(6)
للغزالي
(7)
ويحفظها أولاده أيضًا، وكان له درس في التفسير يذكره الكلاسية تجاه تربة الملك الناصر صلاح الدين يوسف، وقد كان وقع بينه وبين الإسماعيلية فاتخذ له بابًا من داره إلى الجامع ليخرج إلى الصلاة منه، ثم خولط في عقله فكان يعتريه شبه الصرع إلى أن توفي في سابع شعبان من هذه السنة، ودفن بتربته في سفح قاسيون
(8)
. وقال ابن خلكان: أبو المعالي محمد بن أبي الحسن علي بن محمد بن يحيي بن عبد العزيز بن علي بن الحسين بن محمد بن عبد الرحمن بن القاسم بن عبد العزيز بن أبان بن عثمان بن عفان القرشي، الملقب محيي الدين المعروف بابن زكي
(1)
انظر ترجمته في وفيات الأعيان، ج 4، ص 229 - ص 236.
(2)
يقصد هنا ابن عساكر. البداية والنهاية، ج 13، ص 33.
(3)
ما بين حاصرتين إضافة من البداية والنهاية، ج 13، ص 33، لتوضيح الحبر.
(4)
"شمس الدين بن الليثى"، كذا ورد في البداية والنهاية، ج 13، ص 33.
(5)
المدرسة التقوية: إحدى مدارس دمشق داخل باب الفراديس شمال شرقي الظاهرية والإقباليتين بناها تقي الدين عمر بن شاهنشاه 574 هـ، النعيمي، الدارس في تاريخ المدارس، ج 1، ص 216 - ص 220.
(6)
عن "المصباح" للغزالي، انظر السبكي، طبقات الشافعية الكبرى، ج 4، ص 116.
(7)
انظر ترجمة الغزالي في وفيات الأعيان، ج 4، ص 216 - ص 228، ترجمة رقم 588.
(8)
وردت هذه الترجمة بتصرف في الذيل على الروضتين، ص 32.
الدين الدمشقي الفقيه الشافعي، كان ذا فضائل عديدة في الفقه والأدب وغيرهما، وله النظم المليح والخطب والرسائل، وتولى القضاء بدمشق في شهر ربيع الأول سنة ثمان وثمانين وخمسمائة، يوم الأربعاء العشرين من الشهر المذكور، وكذلك أبوه وجده وولداه كانوا قضاتها، وكانت له عند السلطان صلاح الدين المنزلة العالية والمكانة المكينة، ولما فتح السلطان صلاح الدين حلب يوم السبت ثامن عشر صفر، سنة تسع وسبعين وخمسمائة أنشده القاضي محيي الدين المذكور قصيدة بائيه، أجاد فيها كل الإجادة، وكان من جملتها بيت هو متداول بين الناس وهو:
وفتحك القلعة الشهباء في صفر
…
مبشرة بفتوح القُدس في رجب
فكان كما قال، وقد ذكرنا هذا في موضعه، وكانت ولادته في سنة خمسين وخمسمائة بدمشق، وتوفي في التاريخ المذكور
(1)
.
وكان والده أبو الحسن على الملقب زكي الدين على القضاء بدمشق. وكان كثير الخير والدين، فاستعفى من القضاء فأعفى، فخرج إلى مكة حاجة، وعاد إلى بغداد في صفر سنة ثلاث وستين وخمسمائة فأقام بها، وكان عالى الطبقة في سماع الحديث. سمع خلقًا كثيرًا، ولم يزل بها إلى أن توفي يوم الخميس الثامن والعشرين من شوال سنة أربع وستين وخمسمائة، ودفن بمقبرة الإمام أحمد رضي الله عنه
(2)
ثم في صفر من سنة أربع وستمائة عزل الشمس بن التبنيني عنها وتولاها الرشيد ابن أخته ضمانًا بزيادة ثلاثة آلاف دينار، ثم في تاسع شعبان من سنة أربع وستمائة أبطل ضمانها وتولاها المعتمد والي دمشق [276].
الخطيب الدولعي ضياء الدين أبو القاسم عبد الملك بن زيد بن ياسين التغلبي الدولعي، نسبة إلى قرية بالموصل يقال لها الدولعية، ولد بها سنة ثمان عشرة وخمسمائة
(3)
، وتفقه ببغداد على مذهب الشافعي، وسمع الحديث، ثم قدم دمشق فولي بها الخطابة وتدريس الغزالية، وكان زاهدًا متورعًا حسن الطريقة مهيبًا في الحق،
(1)
وفيات الأعيان، ج 4، ص 229، ص 236.
(2)
انظر ترجمته في وفيات الأعيان، ج 4، ص 236. ترجمة عارضة (171) في نفس ترجمة ابن الزكي، الذهبي، العبر، ج 4، ص 303 - ص 306.
(3)
أشار سبط بن الجوزي أنه الخطيب الدولعي، ولد سنة 507 هـ، مرآة الزمان، ج 8، ص 332.
وكانت وفاته يوم الثلاثاء ثاني عشر ربيع الأول من هذه السنة
(1)
، ودفن بمقبرة باب الصغير عند قبور الشهداء، وتولي بعده الخطابة ولده كمال الدين محمد
(2)
سبعًا وثلاثين سنة. وقال أبو شامة: سمع جامع الترمذي من أبي الفتح الكروخي، وكتاب السنين للنسائي من أبي الحسن علي بن أحمد اليزدي، وسمع من الحافظ أبي القاسم بن عساكر والقاضي أبي سعد بن أبي عصرون، وقرأ عليه الفقه
(3)
، وطلبه شرف الدين بن عصرون أن ينوب عنه في القضاء فأبى فاستناب جمال الدين أبي الحرستاني. وقال في ترجمته: ابن الزكي ابن أبي عصرون طلب من يستنيبه فأشير عليه بالخطيب ضياء الدين الدولعي، فأرسل إليه خلعة مع البدر بن يونس الفارقي فرده وشتمه ورمى الخلعة، فأرسل إلى جمال الدين أبي الحرستاني فناب عنه وعن ابنه المحيى إلى أن عزل.
ابن غليس الزاهد الشيخ علي بن محمد بن غليس اليمني، العابد الزاهد، كان مقيمًا بشرقى الكلاسة، وكانت له أحوال ومقامات نقلها الشيخ علم الدين السخاوي عنه، وساقها عنه أبو شامة في الذيل. منها أنه قال: سمعت أبا
(4)
غليس يقول: كنت مسافرًا مع قافلة فرأيت في المنام كأن سبعًا اعترضهم فقطع الطريق عليهم، فوقفوا حائرين فتقدمت إليه وقلت له: يا كلب الله أنت كلب "الله"
(5)
وأنا عبد الله فاخضع وارجع
(6)
لمن سكن له ما في السموات والأرض وهو السميع العليم، فذهب وانفتحت الطريق للقافلة، ثم انبهت فسرنا قليلا وإذا بالقافلة قد وقفت، فسألته ما الخبر؟ فقيل: السبع على الطريق. فتقدمت إليه وهو مقع على ذنبه، فقلت ذلك الكلام وتقدمت إليه، فأدخلت يدي في فمه وقلبت أسنانه وشممت من فيه رائحه كريهه
(7)
. قال الشيخ السخاوي: أنه يأكل اللحم وما يتخلل. قال: وأدخلت يدى بين أفخاذه فقلبت خصيته
(1)
الذيل على الروضتين، ص 31، وفيات الأعيان، ج 7، ص 203، ترجمة عارضة 391. أما ابن كثير فقد أشار إلى أن وفاته كانت تاسع عشر ربيع الأول. انظر البداية والنهاية، ج 13، ص 33.
(2)
ذكر أبو شامة أن الذي تولى الخطابة ابن أخيه "جمال الدين محمد" الذيل على الروضتين، ص 31، أما ابن كثير، فذكر أن الذي تولى الخطابة بعده ولد أخيه "محمد بن أبي الفضل بن زيد وقيل ولده جمال الدين محمد. انظر البداية والنهاية، ج 13، ص 33.
(3)
إلى هنا توقف العينى عن النقل من الذيل على الروضتين، ص 31.
(4)
"أبى" في الأصل، والصحيح ما أثبتناه.
(5)
"الله" لم يرد اسم الجلالة هنا، أبو شامة، الذيل، ص 30.
(6)
"اخنع" كذا في الأصل والتصحيح من الذيل، ص 30.
(7)
"نتنه" كذا في الأصل والتصحيح من الذيل، ص 30.
وإذا هما مثل خصيتي القط. قال أبو شامة: وكان يقول عن نفسه: ابن غليس ما يسوى، فليس رحمه الله
(1)
.
الصدر الحراني أبو الثناء حماد بن هبة الله بن حماد الحراني التاجر. ولد سنة إحدى عشرة وخمسمائة، عام ولد نور الدين الشهيد، وسمع الحديث ببغداد ومصر وغيرهما من البلدان، وحدث، وتوفي بحران في ذي الحجة من هذه السنة، ومن شعره قوله:
تنقل المرء في الآفاق يكسبه
…
محاسنًا لم يكن فيها ببلدته
أما ترى بيدق الشطرنج أكسبه
…
حُسنُ التنقل فيها فوق رتبته
(2)
وفي المرآة: سمع بمصر أبا محمد بن رفاعة السعدي، وبالإسكندرية الحافظ السلفي، وببغداد ابن السمرقندي وغيرهم
(3)
، وأثنى عليه الموفق الحراني.
أبو الشكر
(4)
محمود بن سليمان بن سعيد الموصلي ويعرف بابن المحتسب، تفقه ببغداد ثم سافر إلى البلاد، وصحب ابن الشهرزوري، وقدم معه حتى ولى قضاء بغداد، فولاه نظر أوقاف النظامية، وكان فاضلا، يقول الشعر الرائق، فمن ذلك قوله:
أسلف لنا في سلافة العِنب
…
جميع ما يقْتَني من الذهب [277]
وانشب مع النفس
(5)
في معاملة
…
فيها بما عندنا من النشب
جميع ما في الهميان يحقره الـ
…
عاقل في لثم ثغرها النشب
(6)
لاسيما إن أتتك كالذهب
…
قد قلدوها عقدًا من الحَبَيب
تُحرق كف المدير إن وقف الرو
…
ربها ساعة من اللهب
إذا بدا هاهنا ليسرق السمع
…
برفق اللهو واللعب
(7)
(1)
نقل العيني هذه الترجمة بتصرف من الذيل على الروضتين، ص 30 ص 31.
(2)
الذيل على الروضتين، ص 29 - 30؛ مرآة الزمان، ج 8، ص 332.
(3)
مرآة الزمان، ج 5، ص 332.
(4)
عن ترجمة أبي الشكر راجع الجامع المختصر، ج 9، ص 90 - 92؛ البداية والنهاية، ج 13، ص 34.
(5)
"القس" كذا في الأصل والتصحيح من الجامع المختصر، ج 9، ص 91.
(6)
جميع ما في الوجود يحتقر العا
…
قل في لثم ريقه الشنب"
هكذا ورد البيت في الجامع المختصر، ج 9، ص 91.
(7)
إذا بدا همنا لسيترق السمـ
…
ــع برفق اللهو واللعب
هكذا ورد هذا البيت في الجامع المختصر، ج 9، ص 91.
يتبعها
(1)
من سماء راؤوقها
…
الرائق رجمًا بالأنجم الشهب
ما قط تبت يد لشاربها
…
وحق تبت يدا أبي لهب
أمر بالكرم خلف حائطه
…
تأخذني نشوة من الطرب
أسكر بالأمس إن
(2)
عزمت على الشر
…
ب غدا أن ذا من العجب
جنبها سكرها وصحبتها
…
تحريم شرع لسيد العرب
تركتها جانبًا ولذت إلى
…
ظل أمام ينجي من النوب
الطاهر الطهر وابن خير فتى
…
وطاهر الخلق طاهر النسب
ماذا يقول المداح في رجل
…
خليفة الله وابن عم النبي
(3)
هبة الله بن الحسن بن المظفر أبو القاسم الهمذاني
(4)
ويقال له: ابن السبط والسبط. هوجد المظفر، كان سبطًا أحمد بن على بن لال الفقيه الهمذاني، ولد هبة الله في سنة عشر وخمسمائة، وهو محدث ابن محدث ابن محدث، وكانت وفاته بباب المراتب ببغداد في المحرم، ودفن بالريان
(5)
، سمع أبا القاسم بن الحصين وقاضي المارستان وابن السمرقندي. قال صاحب المرآة: وسمعنا عليه بباب المراتب. وأنشدنا لغيره:
إذا الفتى ذمّ عيشًا في شبيبته
…
فما يقول إذا عصر الشباب مضي
وقد تعوضت عن كل بمشبهه
…
فما وجدت الأيام الصبا عوضا
(6)
هبة الله بن على بن مسعود بن ثابت المنستيري
(7)
، بضم الميم وفتح النون وسكون السين المهملة وكسر الياء المثناه من فوق وسكون الياء أخر الحروف وبعدها راء، ومنستير بليدة بإفريقية، وكان هبة الله المذكور عالي الإسناد، ولم يكن في عصره من هو في درجته، سمع إبراهيم بن حاتم الأسدي، وسمع جماعة من الأكابر، وسمع الناس
(1)
"تتبعه" هكذا وردت الكلمة عند ابن الساعي، الجامع المختصر، ج 9، ص 91،
(2)
"إذ" الجامع المختصر، ج 9، ص 91.
(3)
ورد هذا الشعر مع شيء من الاختلاف في الجامع المختصر، ج 9، ص 91.
(4)
الذيل على الروضتين، ص 30؛ مرآة الزمان. ج 8، ص 333.
(5)
الريان: محلة مشهورة ببغداد. انظر معجم البلدان، ج 2، ص 882.
(6)
مرآة الزمان، ج 8، ص 333.
(7)
وفيات الأعيان، ج 6، ص 67 - 68؛ شذرات الذهب، ج 4، ص 338.
على هبة الله المذكور وسافروا إليه من البلاد لعلو إسناده، وكان جده مسعود قد قدم من منستير إلى بوصير فعرف هبة الله المذكور بالبوصيري، وكانت ولادته سنة ست وخمسمائة، وتوفي في هذه السنة رحمه الله
(1)
.
الست الجليلة المصونة بنفشا بنت عبد الله عتيقة الإمام، المستضيء، وكانت من أكبر خطاياه، ثم كانت بعده من أكثر النساء صدقة، وإحسانًا إلى العلماء والفقهاء
(2)
ولها بطريق الحجاز معروف كثير، ووقفت على الحنابلة مدرسة وأوقافًا دارة، توفيت في هذه السنة ودفنت في تربة لها ببغداد عند قبر معروف الكرخي رضي الله عنه وفي المرآة: عمرت الرُبُط والمساجد والجسر ببغداد، وهي التي اشترت دار الوزير بن جبر بباب الأزج ووقفتها على الحنابلة.
(1)
المختصر في أخبار البشر، ج 3، ص 102.
(2)
مرآة الزمان، ج 8، ص 332.
فصل فيما وقع من الحوادث في السنة التاسعة والتسعين بعد الخمسمائة
(*)
استهلت هذه السنة والخليفة هو الناصر لدين الله، والسلطان الملك العادل أبو بكر بن أيوب أخو السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب مقيم في دمشق، وأرسل إلى ولده الملك الأشرف، وأمره بمحاصرة ماردين، فحاصرها وضايقها، ثم سعى الملك الظاهر صاحب حلب إلى العادل في الصلح، فأجاب على أن يحمل إليه صاحب ماردين مائة ألف وخمسين ألف دينار، ويخطب له ببلاده ويضرب السكة باسمه ويكون بخدمته متى طلبه، فأجيب إلى ذلك واستقر الصلح عليه، وأرسل العادل وانتزع ما كان بيد الملك الأفضل، وهي رأس عين، وسروج، وقلعة نجم
(1)
، ولم يترك بيده غير شميساط
(2)
فقط، فأرسل الأفضل والدته ودخلت على الملك المنصور صاحب حماه ليرسل معها من يشفع في الأفضل عند الملك العادل في إبقاء ما كان بيده، وتوجهت أم الأفضل وتوجه معها من حماه القاضي زين الدين بن هندي إلى الملك العادل، فلم يجبها العادل ورجعت خائبة، وقال ابن الأثير مؤلف الكامل: وقد عوقب البيت الصلاحي مثل ما فعله والدهم السلطان صلاح الدين لما خرجت إليه نساء الأتابكي وفي جملتهن بنت نور الدين الشهيد يشفعن في إبقاء الموصل على عز الدين مسعود فردهن ولم يجب إلى سؤالهن، ثم ندم رحمه الله على ردهن، فجرى للأفضل بن صلاح الدين مع عمه العادل مثل ذلك، ولما جرى ذلك أقام الأفضل بشميساط وقطع خطبة عمه الملك العادل، وخطب للسلطان ركن الدين سليمان بن قليج أرسلان بن مسعود السلجوقي صاحب الروم.
(3)
وفيها أخرج الملك العادل الملك المنصور محمد بن العزيز بن صلاح الدين من مصر إلى الشام فسار بوالدته وأقام بحلب عند عمه الملك الظاهر
(4)
. وقال ابن كثير:
(*) يوافق أولها 20 سبتمبر 1202 م.
(1)
قلعة النجم: قلعة حصينة مطلة على الفرات على جبل تحتها ريض عامر وعندها جسر يسمى جسر منبج، انظر معجم البلدان، ج 4، ص 165.
(2)
ورد هذا الخبر بتصرف في الكامل، ج 10، ص 281؛ البداية والنهاية، ج 13، ص 34؛ نهاية الأرب، ج 29، ص 36.
(3)
ورد هذا الحدث باقتضاب في الكامل، ج 10، ص 283. ولمعرفة المزيد من التفصيل ارجع إلى المختصر، ج 3، ص 10.
(4)
ورد هذا الحدث باقتضاب في نهاية الأرب، ج 29، ص 39.
وفيها احتجز الملك العادل على محمد بن الملك العزيز وأخوته وسيرهم إلى الرها خوفا من إقامتهم بالديار المصرية
(1)
.
وفيها بعث الخليفة الخلع وسراويلات الفتوة
(2)
إلى الملك العادل وأولاده، فلبسوها في شهر رمضان، وأمر العادل بعمارة قلعة دمشق وابتدع ببرج الزاوية الغربية والقبلية المجاورة لباب الصغير.
(3)
ذكر غزوة الملك المنصور صاحب حماه
وفيها سار الملك المنصور إلى بعرين مرابطًا للإفرنج وأقام بها، وكتب الملك العادل إلى صاحب بعلبك وإلى صاحب حمص بأنجاده، فاجتمعت الإفرنج من حصن الأكراد وطرابلس وغيرهما، وقصدوا الملك المنصور ببعرين واتفقوا معه في ثالث شهر رمضان، فانهزمت الإفرنج وقتل منهم جماعة، وأسر
(4)
آخرون، وكان يومًا مشهودًا، وفي ذلك يقول بهاء الدين أسعد بن يحيى السنجاري قصيدة
(5)
:
ما لذة العيش إلا صوت معمعة
…
يُنال فيها المُنَى بالبيض والأسلِ
يا أيها الملك المنصور نصح فتى
…
لم يلوه عن ما جاء
(6)
كثرة العذل
أعزم ولا تترك الدنيا بلا ملك
…
وجد فالملك محتاج إلى رجل
يا أوحد العصر يا خير الملوك ومن
…
فاق البرية من حاف ومنتعل
ثم خرج من حصن الأكراد والمرقب الاستبار والإفرنج وانضم إليهم جموع من السواحل، واتقعوا مع الملك المنصور صاحب حماه وهو نازل ببارين في الحادي والعشرين من رمضان [279] بعد الوقعة الأولى بثمانية عشر يومًا فانتصر ثانيًا، وانهزمت الإفرنج هزيمة قبيحة، وقتل المنصور منهم عدة وأسر جماعة.
(7)
(1)
البداية والنهاية، ج 13، ص 38.
(2)
الفتوة: نظام رياضي شبه عسكري، وجده الخليفة الناصر وله ملابس خاصة به. نهاية الأرب، ج 29، ص 39، حاشية 1.
(3)
مرآة الزمان، ج 8، ص 333؛ الذيل على الروضتين، ص 33، نهاية الأرب، ج 29، ص 39.
(4)
"وأسرت" في الأصل، والصحيح ما أثبتناه.
(5)
راجع ترجمته في وفيات الأعيان، ج 1، ص 214 - ص 217، الخريدة، قسم الشام، ج 2، ص 401.
(6)
في أبي الفدا "لم ينوه عن فاء".
(7)
المختصر، ج 3، ص 103؛ السلوك، ج 1 ق 1، ص 194.
وفيها استولت الكرج على مدينة دوين من أذربيجان ونهبوها وقتلوا أهلها، وكانت هي وجميع أذربيجان للأمير أبي بكر بن البهلوان، وكان مشغولًا ليلًا ونهارًا بشرب الخمر ولا يلتفت إلى تدبير مملكته، ووبخه أمراؤه ونوابه على ذلك فلم يلتفت
(1)
.
ذكر ما جرى في اليمن
وفي هذه السنة جرى خباط عظيم في اليمن، وذلك أنه كان قد ملك اليمن المعز إسماعيل شمس الإسلام بن سيف الإسلام طغتكين بن أيوب كما ذكرنا، وكان فيه هوج وخبط فادعى أنه قرشي وأنه من بني أمية ولبس الحضرة، وخطب لنفسه بالخلافة، وخطب بنفسه، ولبس ثياب الخلافة في ذلك الزمان - وكان طول الكم نحو عشرين شبرًا، وخرج عن طاعته جماعة من مماليك أبيه واقتتلوا معه فانتصر عليهم، ثم اتفق معهم جماعة من الأكراد وقتلوا المعز إسماعيل، وأقاموا في مملكة اليمن أخًا له صغيرًا، وسموه الناصر، وأقام بأتابكيته مملوك والده سيف الدين سنقر، وأقام مدة ثم مات سيف الدين سنقر بعد أربع سنين، وتزوج بأم الناصر أمير من أمراء الدولة يقال له غازي بن جبريل وأقام بأتابكية الناصر، ثم سم الناصر في كوز فقاع على ما قيل وبقي غازي متملكًا للبلاد ثم قتله جماعة من العرب بسبب قتله للناصر، فغلبت أم الناصر المذكور على زبيد وأحرزت عندها الأموال، وكانت تنتظر وصول أحد من بني أيوب فتتزوج به وتملكه البلاد، وكان للملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب ولد اسمه سعد الدين شاهنشاه، وكان له ابن اسمه سليمان فخرج سليمان بن شاهنشاه بن عمر في صورة فقير يحمل الرَّكوة
(2)
على كتفه وينتقل من مكان إلى مكان، وكانت أم الناصر قد أرسلت بعض غلمانها إلى مكة -شرفها الله- في موسم الحاج ليأتيها بأخبار مصر والشام، فوجد سليمان المذكور فأحضره إلى اليمن، فاستحضرته أم الناصر وخلعت عليه وتزوجت به وملكته اليمن فملأ اليمن، ظلمًا وجورًا وأطرح، زوجته التي ملكته البلاد وأعرض عنها، وكتب إلى السلطان الملك العادل وهو عم جده كتابًا جعل فيه من أوله:
(1)
الكامل، ج 10، ص 283 ص 286.
(2)
الركوة: هي دلو صغير، والجمع ركاء، المصباح المنير، ص 282 مادة (ركو).
إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم" فاستقل العادل عقله ثم كان من سليمان المذكور ما سنذكره إن شاء الله.
(1)
تعالى.
ذكر ابتداء ملك جنكيز خان ملك التتار
(2)
وفي هذه السنة كان ابتداء ملكه وهو صاحب اليسق
(3)
، وضمها لتحاكم التتار ومن تبعهم من أمراء الترك ومن يتبع حكم الجاهلية وهو والد طولي
(4)
وجد هلاون الذي قتل الخليفة المستعصم بالله
(5)
وأهل بغداد في سنة ست وخمسين وستمائة على ما سنذكره إن شاء الله. واعلم أني أبين لك أصل هذا اللعين، وكيف ملك التتار، وكان مُلك الصين مُلكًا عظيمًا، دوره ستة أشهر، وقد قيل: إنه يحويه سور واحد لم ينقطع إلا عند الجبال المنيعة والأنهار الواسعة، وكان في قديم الزمان ستة أجزاء، كل جزء منها مسيرة شهر، وكان يتولى كل جزء خان بعد خان أي سلطان بعد سلطان، نيابة عن خانهم الأعظم وهو الطون خان، توارث المملكة كابرًا عن كابر، بل كافرًا عن كافر، وكان هو عاصر السلطان [280] الأعظم علاء الدين أبا الفتح محمد بن تكش بن أرسلان بن أنسر بن محمد أنوشتكين الخوارزمي
(6)
، الذي كان كرسي مملكته خوارزم، وكانت عادة هؤلاء الملوك الستة الإقامة بطوغاج، وهي واسطة الصين ونواحيها منتقلين من مصيف إلى مصيف ومن ريف إلى ريف، وكان في زمرتهم شخص يسمي دوشي خان، وكان قد تزوج بعمة جنكيزخان، وهي من قبيلة معروفة بتمرجي سكان البراري، منشأهم موضع يسمى
(1)
ورد هذا الخبر بتصرف في المختصر، ج 3، ص 102، 103.
(2)
لمعرفة المزيد عن حياة جنكيز خان، انظر نهاية الأرب، ج 27، ص 301 - ص 309. توفي عام 624، زانياور، معجم الأسرات الحاكمة، ج 2، ص 360.
(3)
"الباسق" كذا في الأصل والمثبت من أبي المحاسن، النجوم الزاهرة، ج 6، ص 298 "أن جنكيزخان هو صاحب التوراه واليسق والتوراة باللغة التركية هو المذهب واليسق هو الترتيب وأصل كلمة اليسق سي ياسا وهو لفظ مركب من أعجمي وتركي ومعناها التراتيب الثلاثة والثلاثون لأن "سي" كلمة فارسية بمعنى العدد ثلاثين. انظر أيضًا السلوك، ج 2، ص 220 تحت عنوان ذكر أحكام السياسة. انظر نهاية الأرب، ج 27، ص 337 حاشية (1).
(4)
طولي: ونكتب تولوى وهو الابن الرابع لجنكيز خان. انظر الهمذاني، مؤرخ المغول الكبير، تحقيق فؤاد عبد المعطى الصياد، القاهرة، 1967، ص 359، وقد أورد هذه الأحداث في سنة 616 هـ. راجع ص 359.
(5)
لمعرفة المزيد من التفاصيل عن هذا الحدث، راجع البداية والنهاية، ج 13، ص 213 - ص 217 - طبعة دار الكتب العلمية، بيروت، ط 3، ص 1987.
(6)
زانباور، معجم الأسرات الحاكمة، ج 2، ص 317.
أرغون وهم مشهورون بالشر والغدر، فاتفق أنه مات دوشي خان زوج عمة جنكيز خان، والطون خان غائب في مشتاه وقد حضرها جنكيز خان معزيًا، فبعثت إلى كشلوخان ودوشي خان وهما متاخمان لأعمال المتوفي من الجهتين تنعى إليهما زوجها، وتعلم أنه لم يخلف ولدا وأن جنكيز خان يقوم مقامه ويكون في معاضدتهما، فاستصوبا رأيها وأشار عليها بتقليد الأمر إلى جنكيز خان، ثم لما عاد الطون خان إلى مدينة طوغاج شرع يستعرض من حجابه القضايا التي وقعت مدة غيبته إلى أن جاءت تقدمة جنكيز خان وخبره بتوليته موضع دوشي خان، فغضب غضبًا شديدًا حيث تولي بغير أمره، وأمر بقطع أذناب الخيل التي أرسلها جنكيز خان في جملة التقدمة ويردها إليه فلما بلغ ذلك جنكيز خان أستظهر بمن انضم إليه من عشيرته، وخرج عن الطاعة، فلما سمع بذلك الطوني خان أرسل إليهم يعتذر لهم مما صدر منه فلم يزدهم ذلك إلا نفورًا، فحين جرى ذلك وآيس منهم جمع عسكره وسار إليهم، فالتقى هو وإياهم فكسروه أقبح كسرة وقتلوا من عسكره مقتلة عظيمة، ونجي الطون خان بنفسه وهرب إلى ما وراء كنك
(1)
وأخلى لهم البلاد، فتمكنوا فيها وتملكوها وانضم إليهم من الترك وأوباشها كل طامع في مال، وأخذ أمر الطون خان يتضاعف ضعفًا إلى أن راسلهم قانعًا بما تحت يده من الملك الحقير، فأجابوه إلى ما سأل إلى أن مات كشلوخان وقام أبنه مقامه، فاستحقره جنكيز خان، الصغر سنه، وأخل بالقواعد التي المقررة بينه وبين أبيه، ثم لم يزل يشتد أمره ويكثر جيشه إلى أن ملك البلاد وخضعت له قبائل الترك ببلاد طمغاج
(2)
كلها حتى صار يركب في نحو ثمان مائة ألف مقاتل، ويقال: كان في ابتداء أمره خصيصًا عند ملك من ملوك بلاد طمغاج يسمى أوبك خان، وكان إذ ذاك شابًا حسنًا وكان اسمه أولًا تمرجي، ثم لما عظم سمى نفسه جنكيز خان، وكان هذا الملك قربه وأدناه، فحسده عظماء الملك ووشوا به إليه حتى أخرجوه عليه، ولم يقتله، ولم يجد له طريقًا في ذنب يتسلط عليه، فهو في ذلك إذ تغضب الملك على مملوكين صغيرين فهربا منه ولجآ إلى جنكيز خان، فأكرمهما وأحسن إليهما، فأخبراه بما أضمر الملك من أوبك خان من القتل والهم به، فأخذ حذره وتحيز إلى مكان واتبعه طوائف من التتار، ثم صار كثير من أصحاب أوبك خان منفرون
(1)
"كِنْك" بالكسر ثم السكون وآخره كاف أيضًا اسم واد في بلاد الهند، معجم البلدان، ج 4، ص 312 ..
(2)
طمغاج: كذا في الأصل والنسوي، سيرة جلال الدين منكوبرتي، تحقيق حمدي حافظ، ص 33، وتكتب في بعض المصادر طوغاج، انظر نهاية الأرب، ج 27، ص 240.
إليه، فيكرمهم ويعطيهم حتى قويت شوكته وكثرت جنوده، ثم حارب بعد ذلك أوبك خان فظفر به وقتله واستحوذ على مملكته وملكه، وانضاف إليه عَدَده وعُدَده وعظم [281] جارياته.
أمزج بمسبوك اللجين
…
ذهبا حكته دموع عيني
لما نعي ناعى الفراق
…
بين من أهوى وبيني
خفقت لنا شمسان
…
من لآلاتها في الخافقين
وبدت لنا في كأسها
…
من لونها في حلتين
وشميم على وزن فعيل مصغر من الشم.
أبو نصر محمد بن سعد الله بن نصر بن سعيد الدجاجي
(1)
، كان شيخًا بهيًا واعظًا حنبليًا فاضلًا شاعرًا، فمن شعره قوله:
نفس الفتى إن أصلحت أحوالها
…
كان إلى نيل المنى أحوى لها
وإن ترى
(2)
سددت أقوالها
…
كان على حمل العلى أقوى لها
فإن تبدت حال من لهالها
…
في قبره عند البلى لها لها
ومولده سنة أربع وعشرين وخمسمائة، ومات في ربيع الأول، ودفن بباب حرب". سمع أبا منصور القزاز وغيره.
(3)
أبو العباس أحمد بن مسعود بن محمد القرطبي الخزرجي، كان إمامًا في التفسير، والفقه، والحساب، والفرائض، والنحو، واللغة، والعروض، والطب، وله تصانيف حسان وشعر رائق، فمنه قوله:
وفي الوجنات ما في الروض
…
لكن لرونق زهرها معنى عجيب
وأعجب ما التعجب عنه أني
…
أرى البستان يحمله قضيب
(4)
(1)
الذيل على الروضتين، ص 52؛ الجامع المختصر، ج 9، ص 155 - ص 156، النجوم، ج 6، ص 187.
(2)
"تراها" في الذيل ص 52؛ البداية والنهاية، ج 13، ص 42.
(3)
البداية والنهاية، ج 13، ص 42، الذيل، ص 52.
(4)
الجامع المختصر، ج 9، ص 600 - ص 101؛ البداية والنهاية، ج 13، ص 62.
أبو الفدا إسماعيل بن بُرُتقش السنجاري مولي عماد الدين زنكي بن مودود بن زنكي، كان جنديًا حسن الصورة مليح النظم كثير الأدب
(1)
.
توفي في هذه السنة أبو الفضل إلياس بن جامع بن على الإربلي
(2)
، تفقه بالنظامية، وسمع الحديث، وصنف التاريخ وغيره، وتفرد بحسن كتابة الشروط، وله فضل ونظم حسن، فمنه قوله:
أممرض قلبي ما لهجرك آخر
…
ومسهر طرفي هل خيالك زائر
ومستعذب التعذيب جورًا بصده
…
أمالك في شرع المحبة زاجر
هنيئًا لك القلب الذي قد وقفته .. على ذكر أيامي وأنت مسافر
فلا فارق الحزن المبرح خاطري
…
لبعدك حتى يجمع الشمل قادر
فإن مت فالتسليم مني عليكم
…
يعاودكم ما كبر الله ذاكرُ
(3)
أبو السعادات التاجر البغدادي الرافض، كان في كل جمعة يلبس لأمة الحرب ويقف خلف باب داره وهو مجاف عليه والناس في صلاة الجمعة، وهو ينتظر أن يخرج صاحب الزمان من سرداب سامرا يعني محمد بن الحسن العسكري ليميل بسيفه في الناس نصرة للمهدى.
(4)
القاضي أبو محمد مختار المعروف بابن قاضي دارًا
(5)
، قتل في الرابع والعشرين من ذي القعدة في هذه السنة، وسببه أنه كان وزير الملك الكامل بمصر حين كان ينوب عن والده الملك العادل، وكان ابن شكر وزير العادل يبغضه، فقرح فيه عند العادل فخاف عليه الكامل، فأمره بالخروج من مصر، فخرج هو [وولداه]
(6)
فخر الدين وشهاب
(1)
وردت هذه الترجمة في البداية والنهاية، ج 13، ص 92؛ الجامع المختصر، ج 5، ص 164 - ص 165.
(2)
الجامع المختصر. ج 9، ص 65.
(3)
ورد هذا الخبر في البداية والنهاية، ج 13، ص 42 - ص 43.
(4)
ورد هذا الخبر في البداية والنهاية، ج 23، ص 43؛ وانظر ترجمته في الجامع المختصر، ج 9، ص 192.
(5)
الذيل على الروضتين، ص 52.
(6)
[ووالداه] كذا في الأصل.
الدين، وساروا إلى حلب، فأكرمهم الملك الظاهر صاحب حلب، ثم ورد مرسوم الملك العادل يطلبه، فخرج من حلب يريد التوجه إلى مصر [282] وبات بعين المباركة
(1)
وإذا [بخمسين]
(2)
فارسًا قد أحاطوا بخيمته ليلًا وقالوا: نريد القاضي. فخرج إليهم فنزل منهم ثلاثة فقتلوه وقالوا لغلمانه: أحبطوا متاعكم فما كان لنا غرض سواه. واتصل الخبر بالملك الظاهر فخرج وفرق الرجال في الطرقات فلم بقع لهم خبر، وكان كما قيل هرب من القتل إلى القتل.
(3)
أبو العباس الحربي أحمد بن سلمان ويلقب بالسكر، قرأ القرآن بالروايات وسمع الحديث الكثير، ومولده سنة أربعين وخمسمائة، وكان صالحًا زاهدًا عابدًا، أقام في الحربية
(4)
، يختم القرآن كل ليلة في صلاة التراويح. قال السبط: وكنت أصلي خلفه
(5)
، وكان قنوعًا صبورًا على الفقر، وتوفي في صفر، ودفن بباب حرب، سمع أبا الوقت وابن البطي وغيرهما، وسمعنا عليه الحديث، وكان ثقة صدوقا
(6)
.
أبو محمد الحراني عبد المنعم بن علي بن الصيقل ولقبه نجم الدين، قدم بغداد أول مرة في سنة ثمان وسبعين وخمسمائة، وتفقه على أبي الفتح بن المنى وسمع الحديث الكثير من أبي الفتح بن الشاتل وأبي السعدات بن زريق وابن الجوزي وغيرهم، وعاد إلى حران ووعظ بها وحصل له القبول التام، وعاد إلى بغداد فاستوطنها ووعظ بها. قال السبط: وحضرت مجلسه بمسجد باب المشرعة وسمعته ينشد:
واشتاقكم يا أهل ودي وبيننا
…
كما زعم البينُ المشت فراسخ
فأما الكرى عن ناظري فمشرد
…
وأما هواكم في فؤادي فراسخ
(1)
عين المباركة: مكان ظاهر حلب، راجع السلوك، جدا، ق 1، ص 1970.
(2)
"بخمسون" كذا في الأصل.
(3)
ورد هذا الخبر بتصرف في السلوك، ج 1، ق 1، ص 198.
(4)
الحربية: محلة كبيرة مشهورة ببغداد، عند باب حرب تنسب إلى حرب بن عبد الله البلخي. انظر معجم البلدان، ج 2، ص 434.
(5)
"وراءه" كذا في الأصل والتصحيح من مرآة الزمان، ج 8، ص 341 حيث ينقل عنه.
(6)
مرآة الزمان، ج 5، ص 341؛ وانظر ترجمته في ابن عماد الحنبلي، شذرات الذهب، ج 5، ص 2.
وكان صالحًا دينًا نزهًا عفيفًا كيسًا لطيفًا متواضعًا كثير الحياء. قال السبط: وكان يزور جدي وسمع معنا الحديث وكانت وفاته يوم الخميس سادس عشر ربيع الأول
(1)
، وصلى عليه بالنظامية، ودفن بباب حرب، وخلف ولدين النجيب عبد اللطيف، والمعز عبد العزيز، فأما عبد اللطيف فكان يسمع معنا الحديث على جدى بقطفتا
(2)
وأما المعز فكان صغيرًا، ثم تقلبت بهما الأحوال حتى أفضى أمرهما إلى أن صارا تاجرين لديوان الخليفة، وظهر منهما الثقة والأمانة والعفة والديانة والنهضة والصيانة.
(3)
أبو غالب بن كمونة اليهودي الكاتب، كان يزوَّر على خط ابن مقلة من قوة خطه، توفي لعنه الله في هذه السنة بمطمورة بواسط.
(4)
أبو غالب بن أبي طاهر بن شبّر، كان عاملًا على دار الضرب ببغداد، توفي في هذه السنة "ذكره ابن الساعي الخازن في تاريخه.
(5)
الأمير علم [الدين]
(6)
الكرجي الأسدي، مات بدمشق في الثالث عشر من ربيع الآخر، وصلى عليه الملك العادل بمرج باب الحديد، ودفن بالجبل.
بوريا التقوى، مات في هذه السنة غريقًا ببلاد المغرب في خدمة بني عبد المؤمن
(7)
الملك ابن بكتمر صاحب خلاط، كان شابًا لم يكن في الدنيا أحسن منه، ولم يبلغ عشرين سنة، قتله الهزار ديناري، وقيل: بل غرقه في بحر خلاط ثم قتل الهزار ديناري بعده.
(8)
(1)
اتفقت المصادر التي وقعت بين أيدينا على أن الوفاة كانت في ربيع الأول، وهو الأقرب إلى الصواب، إلا أن سبط ابن الجوزي ذكر أن الوفاة كانت في ربيع الآخر، راجع الذيل على الروضتين، ص 52، الشذرات، ج 5، ص 4؛ الجامع المختصر، ج 9، ص 107.
(2)
قطفتا: محلة كبيرة ذات أسواق بالجانب الغربي من بغداد مجاورة لمقبرة الشيخ معروف الكرخي، معجم البلدان، ج 4، ص 137.
(3)
مرآة الزمان، ج 8، ص 341 - ص 342.
(4)
الجامع المختصر، ج 9، ص 165؛ البداية والنهاية، ج 13، ص 47.
(5)
الجامع المختصر، ج 9، ص 199.
(6)
[] ما بين حاصرتين إضافة من الذيل على الروضتين، ص 52.
(7)
الذيل على الروضتين، ص 52.
(8)
مرآة الزمان، ج 8، ص 342، النجوم الزاهرة، ج 67، ص 188.
فصل فيما وقع من الحوادث في السنة الثانية بعد الستمائة
(*)
(**)
استهلت هذه السنة والخليفة هو الناصر لدين الله، وأصحاب البلاد على حالهم [283] غير أن صاحب غزنة وغيرها توفي في هذه السنة قتيلًا وهو الملك أبو المظفر شهاب الدين محمد بن سام بن الحسن الغورى، وذلك أنه لما كان قد اتقع مع الخطأ ونال منهم كروا عليه فهزموه، وبقي في نفر يسير فدخل إلى خوىّ
(1)
فيمن معه، فحصره الكفار ونهبوا خزائنه، وشاع الخبر في جميع بلاده أنه عدم، ثم وصل إلى الطالقان
(2)
في سبعة نفر فأخرج له الحسين بن حرميل صاحب الطالقان الخيام وجميع ما يحتاج إليه، فسار إلى غزنة وسار معه ابن حرميل في صحبته وجعله أمير حاجب.
ولما اشتهر خبر عدمه في البلاد ثار المفسدون في كل الأطراف، فكان ممن ثار بَنُو [كوكر]
(3)
فقطعوا الطريق وخرجوا عن الطاعة، فعند ذلك تجهز شهاب الدين وسار بعساكره إليهم، ولقيهم وهزمهم وغنم المسلمون منهم خلقا كثيرا حتى بيع كل خمسة نفر بدينار، وهرب بن كوكر بعد أن قتل أخوته وأهله، وفتح شهاب الدين قلعة جودي
(4)
فلما فرغ منهم سار نحو لهاور
(5)
وأمر الناس بالرجوع إلى بلادهم، ثم عاد إلى غزنة، وكان من جملة الخارجين البراهنة
(6)
فإنهم خرجوا إلى حدود سوران
(7)
ومكران
(8)
للإغارة على الإسلام، فأوقع بهم [نائب]
(9)
تاج الدين يلدز وقتل منهم خلقًا كثيرًا، وحملت رؤسهم فعلقت ببلاد الإسلام.
(*) يوافق أولها 18 أغسطس سنة 1205 م.
(**) السنتان 600، 601 هـ. ساقطتان من نسخ المخطوط.
(1)
خُوَيِّ: بلد مشهور من أعمال أذربيجان كثيرة الخير والفواكه. معجم البلدان، ج 2، ص 502.
(2)
طالقان: بلده بخراسان بين مرو الروذ، وبلخ، معجم البلدان، ج 3، ص 491 - ص 493.
(3)
"كولر" في الأصل. والمثبت من الكامل، ج 10، ص 300؛ الجامع المختصر، ج 9، ص 199.
(5)
لهاور: إحدى المدن المشهورة بالهند. معجم البلدان، ج 4، ص 371.
(6)
"التيراهية" في الكامل، ج 10، ص 302.
(7)
سوران = صبران: بليدة بها قلعة عالية. وراء نهر سيحون، في طرف البرية. انظر: معجم البلدان، ج 3، ص 366؛ بلدان الخلافة الشرقية، ص 529.
(8)
مكران: ولاية بين كرمان من غربيها وسجستان شماليها والبحر جنوبيها والهند شرقيها، معجم البلدان، ج 4، ص 114.
(9)
[] ما بين حاصرتين إضافة للتوضيح. الكامل، ج 10، ص 302.
ثم إن شهاب الدين لما عاد من لهاور قتل بمنزل يقال له: دميك
(1)
وقت
(2)
صلاة العشاء في أول ليلة من شعبان من هذه السنة، وكان سبب قتله أن نفرًا من الكوكرية الزموا عسكره عازمين على قتله لمّا فعل بهم من القتلى والسبي، فلما كانت الليلة التي قتل فيها تفرق عنه أصحابه، وبقي وحده، فهجموا عليه وهو من الخركاه
(3)
فضربوه بالسكاكين اثنتين وعشرين ضربة فقتلوه. وبنو كوكر طائفة من [أهل]
(4)
الجبال مفسدون، ولما قتل اجتمع الأمراء عند الوزير مؤيد الملك
(5)
بن خواجا [سجستان]
(6)
فتحالفوا على حفظ الخزانة والملك لزوم السكينة إلى أن يظهر من يتولى الملك، فأجلسوا شهاب الدين وخيطوا جراحه، وأشاعوا أنه حيٌّ وجعلوه في محفة وساروا به، وسكن الناس، وكانت الخزانة التي في صحبته ألفين ومائتي جمل، وعرفوا أنه سيكون بين غياث الدين محمود ابن أخي شهاب الدين وبين بهاء الدين سام ابن أخته وهو صاحب باميان
(7)
حروب على الملك، وكان ميل الوزير والأتراك إلى غياث الدين محمود، والأمراء الغورية يميلون إلى بهاء الدين سام، فأرسلت كل طائفة منهما إلى الذين يميلون إليه يخبرونه بقتل شهاب الدين، فلما وصل العسكر والوزير إلى فرشابور
(8)
اختلفوا، فقالت طائفة: نسير إلى غزنة على طريق مكران. وقال الأتراك: نسير على طريق سوران. وكان مقصودهم أن يكونوا قريبا من تاج الدين وهو مملوك شهاب الدين [284] وكرمان أقطاعه، ومقصودهم أن يحفظ تاج الدين الخزانة في البلد، ويراسلوا من كرمان إلى غياث الدين يستدعونه إلى غزنة فيُملّكونه، فلما وصلوا إلى كرمان بعد مشقة قاسوها في طريق الجبال خرج إليهم تاج، وفي نيته أن يملك غزنة، فسأل الوزير عن الأموال فأخبره بما معه، وقال له الوزير: إن الغورية قد كاتبوا غياث الدين محمودًا وبهاء الدين سام صاحب باميان. ثم قال للوزير: إنهم أمروني أن أتسلم الخزانة منك، فلم يقدر على الامتناع وساروا بالمحفة والمماليك
(1)
"دمبل" المختصر، ج 3، ص 106.
(2)
قبل صلاة العشاء في المختصر، ج 3، ص 106؛ ويبدو أن العيني نقل هذا الخبر من الكامل، ج 10، ص 303، حيث أن الخبر يتفق مع ما ورد في الكامل.
(3)
الخركاة: (خيمة) انظر السلوك، ج 1، ص 32.
(4)
[] ما بين حاصرتين إضافة من المختصر، ج 3، ص 109.
(5)
"مولد الدين" في الأصل، والمثبت من الكامل، ج 10، ص 303.
(6)
ما بين حاصرتين إضافة للتوضيح من الكامل، ج 10، ص 303.
(7)
باميان: بلده وكوره في الجبال بين بلخ وهراة وغزنة بها قلعة حصينة، معجم البلدان، ج 1، ص 481.
(8)
فرشابور: يطلق عليها عامة تلك البلاد "برشاوور" وهي مدينة وولاية واسعة من أعمال لهاور. معجم البلدان، ج 3، ص 874.
والوزير إلى غزنة، فدفن شهاب الدين بالتربة، في المدرسة التي أنشأها، ولما بلغ الخبر بهاء الدين سام كتب إلى من بغزنة من الأمراء الغورية يأمرهم بحفظ البلد وأنه سائر إليهم عن قريب، وكان مستحفظ قلعتها يعرف بأمير دار
(1)
، وقد سير ولده إلى بهاء الدين سام يستدعيه إلى غزنة ثم كتب بهاء الدين إلى علاء الدين محمد بن أبي على ملك الغور يستدعيه إليه وإلى غياث الدين محمود وإلى أبي خرميل، وإلى هراة
(2)
يأمرهما بإقامة الخطبة له، وحفظ ما بأيديهما من الأعمال، ولم يظن أن أحدا يخالفه، فسار من باميان برحلتين فوجد صداعا في رأسه، فنزل ليستريح فعظم الأمر عليه، فأيقن بالموت، فأحضر ولديه وعهد إلى علاء الدين وأمرهما بقصد غزنة، وأن يصالحا غياث الدين على أن يكون له خراسان وبلاد الغور ويكون لهما غزنة وبلاد الهند، ولما فرغ بهاء الدين من الوصية توفي، فسار ولداه إلى غزنة ودخلا البلد وملكاه، فلما بلغ ذلك تاج الدين يلدز سار بعساكره وجموعه، وسير إلى علاء الدين وجلال الدين أن أخرجا من غزنة وعودا إلى باميان علي عادة أبيكما، فإن غياث الدين أمرني بالمسير إلى غزنة وإنما أراد أن يجعل طريقًا إلى ملك غزنة لنفسه، ثم سار إلى غزنة فحاصرها، فترددت الرسل بينه وبين ولدى بهاء الدين سام، ففارقا غزنة ولحقا بباميان، فدخل تاج الدين يلدز إلى غزنة وقعد فيها أربعة أيام، فعند ذلك طلب القضاء والأمراء والأتراك وقبض على أميردار والي غزنة، ودخل إلى دار السلطان وجلس فيها على مرتبته، فتغيرت لذلك نبات الأتراك وغيرهم لأنهم كانوا يظنون أنه يُملِك غياث الدين، فأرسل إليه غياث الدين الخلع وطلب منه الخطبة له، فغالطه ولم يفعل، فطلب منه أن يخاطبه بالملك وأن يتزوج ابنه من ابنته، فلم يجبه، وامتنع عن الخِطْبَه كامتناعه عن الخُطْبَه، وأجرى يلدز بغزنة رسوم شهاب الدين، وفرق في أهلها أموالًا جليلة المقدار وألزم مؤيد الملك بالوزارة. فامتنع وأكره على ذلك.
وأما غياث الدين فإنه بمدينة بست
(3)
لم يتحرك في شيء انتظارًا لما يكون من أمر صاحب باميان لأنهما كانا تعاهدا في أيام شهاب الدين أن تكون خراسان لغياث الدين،
(1)
أمير دار: هو أمير المظالم عند الروم. صبح الأعشى، ج 14، ص 160.
(2)
هراة: مدينة كبيرة مشهورة بين أمهات مدن خراسان. انظر: معجم البلدان، ج 4 ص 958 - 959؛ رحلة بن بطوطة، ص 179؛ بلدان الخلافة الشرقية، ص 571.
(3)
بُسْت: مدينة بين سجستان وغزنين وهراة، معجم البلدان، ج 1، ص 612.
وغزنة والهند لصاحب باميان، فلما بلغه موت بهاء الدين جلس على التخت وخطب لنفسه [285] بالسلطنة، وحلف للأمراء الذين قصدوه، وهم: إسماعيل الخلجي وسونج أمير شكار
(1)
وغيرهما، وتلقب بألقاب أبيه غياث الدين، وكتب إلى علاء الدين محمد بن أبي على وهو بفيروزكوه يستدعيه إليه، ثم رحل غياث الدين إلى فيروزكوه فملكها وقبض على جماعة من أصحاب علاء الدين محمد، فنجا علاء الدين هربا ودخل دار أبيه فسكنها، واستوزر عبد الجبار بن محمد الكيزاني وزير أبيه، وسلك طريق والده في الإحسان والعدل، ولما فرغ غياث الدين من علاء الدين محمد، ولم يكن له همه إلا ابن خرميل صاحب هراة واجتذابه إلى طاعته، فراسله وكاتبه، فلما وصله كتابه خاف ميل الناس إليه فغالطه في الجواب وكاتب خوارزم شاه وطلب منه أن يرسل إليه عسكرًا ليكون في طاعته، ويمتنع به من الغورية، فكتب خوارزم شاه إلى عسكره الذي بنيسابور وغيرها من بلاد خراسان بالتوجه إلى هراة، وأن يمتثلوا أمر ابن خرميل، فلما وصل عسكر خوارزم شاه أنزلهم ابن خرميل على باب هراة، وبلغ ذلك غياث الدين فبرز عن فيروزكوه نحو هراة وأقر عسكره بالتقدم إلى هراة، وجعل المقدم عليهم على بن أبي على، وبلغه أن خوارزم شاه علي بلخ
(2)
فسار وكان على يزكه صاحب الطالقان، وكان منحرفًا على غياث الدين، فأرسل إلى ابن خرميل يعرفه أنه على اليزك ويأمره بالمجيء إليه وأنه لا يمنعه، فسار ابن خرميل في عسكره فكبس عسكر غياث الدين على غرة منهم فهزمهم، وغنم أموالهم وأسر ابن إسماعيل الخلجي، وأرسل عسكره فشنوا الغارة على البلاد، وعظم الأمر على غياث الدين فأزمع المسير إلى هراة فأتاه الخبر أن علاء الدين صاحب باميان قد عاد إلى غزنة، فأقام ينتظر ما يكون منهم ومن يلدز، وأما خوارزم شاه فاستمر على حصار بلخ حتى فتحها وسلمها إلى جغر التركي، وسار مجدا إلى مدينة ترمذ
(3)
وبها ولد عماد الدين صاحب بلخ فسير إليه، أمانًا فسلمها إليه فلما تسلمها منه سلمها إلى الخطأ، وإنما أعطاهم ذلك ليتمكن من ملك خراسان، وأما يلدز فإنه أقام في
(1)
أمير شكار: يتحدث صاحب هذه الوظيفة على الجوارح السلطانية من الطيور وغيرها، وعلى سائر أمور الصيد. وشكار لفظ فارسي معناه الصيد، فيكون المراد أمير الصيد. انظر: صبح الأعشى، ج 4، ص 22، ج 5، ص 461.
(2)
بَلْخُ: مدينة مشهورة بإقليم خراسان، معجم البلدان، جدا، ص 713.
(3)
تَرْمِذُ: مدينة مشهورة من أمهات المدن، تقع على الجانب الشرقي من نهر جيحون. معجم البلدان، ج 1، ص 863.
غزنة كما ذكرنا ولم يخطب لأحد إلا لنفسه، وكان يعد الناس أن رسولي عند غياث الدين فإذا عاد خطبت له، وكان يفعل ذلك مكرًا فإنه لو لم يظهر ذلك لفارقه أكثر الأتراك وسائر الرعايا، فجمع علاء الدين وجلال الدين ولدا بهاء الدين سام جيشًا وسارا إليه طالبي غزنة فلما بلغ يلدز مسيرهما جهز من عسكره طائفة فالتقوا هم وعسكرهما، فانهزم عسكر يلدز من بين أيديهم إلى غزنة فساروا في أثره، فلما قاربوا البلد انهزم يلدز أيضًا فتبعوه إلى كرمان وملكوها وعاد المذكوران إلى غزنة ومعهما الخزانة التي أخذها يلدز، وقبضا على مؤيد الملك الوزير، وقسما الخزانة بينهما، وسار جلال الدين إلى باميان وبقي علاء الدين بغزنة فاستوزر عماد الملك، فأساء السيرة مع الجند والرعية ونهب أموال الأتراك حتى أنهم باعوا أمهات أولادهم وهن يبكين وهو لا يلتفت إليهم، ثم أن يلدز جمع جموعًا من الأتراك وغيرهم وعاد إلى غزنة فوصلوا إلى كلوا
(1)
[286] فملكوها وقتلوا جماعة من الغورية ووصل المنهزمون إلى كرمان، فسار يلدز إليهم وجعل على مقدمته مملوكًا كبيرًا من مماليك شهاب الدين اسمه إيدكز الشرقي في ألفي فارس من الخليج والأتراك والغز والغورية وغيرهم، وكان يكرمان عسكر لعلاء الدين مع أمير يقال له ابن المؤيد، ومعه جماعة من الأمراء منهم أبو علي بن سليمان، وهو وأبوه عن أعيان الغورية، وكانا مشتغلين باللهو والشرب لا يفتران عنه، فهجم عليهم إيدكز ومن معه من الأتراك وعاجلوهم عن ركوب خيلهم فتقلوهم عن آخره، فمنهم من قتل في المعركة ومنهم من قتل صبرًا، ولم ينج إلا من تركه الأتراك عمدًا. ولما وصل يلدز ورأى أمراء الغورية كلهم قتلى لام إيدكز ووبخه وأحضر رأس ابن المؤيد بين يديه، فسجد شكرًا لله تعالى. وأمر بالمقتولين فغسلوا ودفنوا. وكان من القتلى أبو على بن سليمان بن شيْشر
(1)
. ووصل الخبر إلى غزنة في العشرين من ذي الحجة من هذه السنة، فصلب علاء الدين الذي جاء بالخبر، فمطر الناس مطرًا شديدًا حتى خرب بعض غزنة وجاء بعده برد كبار مثل بيض الدجاج، فضج الناس إلى علاء الدين بإنزال المصلوب فأنزله آخر النهار فانكشفت الظلمة وسكن ما كانوا فيه.
(1)
"سيسر" كذا في الكامل، ج 10، ص 316.
وملك يلدز كرمان وأحسن إلى أهلها، وكانوا في ضر شديد مع أولئك ولما صح الخبر عند علاء الدين أرسل وزيره إلى أخيه جلال الدين في باميان يخبره بحال يلدز ويستنجده، وكان قد أعد العساكر ليسير إلى بلخ ليُرحل عنها خوارزم شاه، فلما أتاه هذا الخبر ترك بلخ وسارا إلى غزنة وكان أكثر عسكره من الغورية قد فارقوه وفارقوا أخاه وقصدوا غياث الدين، فلما كان أواخر ذي الحجة وصل يلدز إلى غزنة ونزل هو وعسكره بإزاء قلعتها وحضر علاء الدين وجرى بينهم قتال شديد، وأمر يلدز فنودي في البلد بالأمان وتسكين الناس، وحاصر يلدز القلعة فوصل جلال الدين في أربعة آلاف من عسكر باميان وغيرهم، فرحل يلدز إلى طريقهم وكان في مقامه إلى أن سار إليهم أربعين يومًا، فلما سار أرسل علاء الدين من كان عنده من العسكر وأمرهم أن يأتوا يلدز من خلفه ويكون أخوه من بين يديه، فلما خرجوا من القلعة سار سليمان بن على الغوري إلى غياث الدين بفيروزكوه، فأكرمه وجعله بها أمير دار، وساريلدز في طريق جلال الدين فالتقوا واقتتلوا قتالا شديدًا صبروا فيه، فانهزم جلال الدين وعسكره وأخذ أسيرًا وأتي به إلى يلدز، فرحل إلى غزنة وهو معه وأرسل إلى علاء الدين أن سلم القلعة وإلا قتلت من معي من الأسرى، فلم يسلمها فقتل منهم أربع مائة أسير بإزاء القلعة، فأرسل علاء الدين يطلب الأمان فأمنه فلما خرج إليه قبض عليه ووكل به وبأخيه من يحفظهما وقبض على وزيره عماد الملك لسوء سيرته، وكان هندوخان
(1)
ملكشاه بن خوارزمشاه تكش مع علاء الدين بن سام بقلعة غزنة، فلما قبض عليه أمسكه معه وكتب إلى غياث الدين [287] بالفتح وأرسل إليه الأعلام وبعض الأسرى.
ذكر ترجمة شهاب الدين المذكور
كان شجاعًا كثير الغزو، عادلًا في الرعية، وكان الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله يعظُه في داره، فحضر يومًا ووعظه وقال في آخر كلامه: يا سلطان لا سلطانك يبقى ولا تلبيس الرازي. فبكي شهاب الدين حتى رحمه الناس، وكان فخر الدين الرازي في صحبته حين قتل، فاتهمه بعض الخاصكين بقتله، فخاف من ذلك والتجأ إلى الوزير مؤيد الملك بن خواجا، فسيره إلى حيث يأمن.
(1)
في الأصل: هندوخان بن ملكشاه. والصحيح ما أثبتناه من الكامل، ج 10، ص 503. وهو ناصر الدين ملكشاه بن تكش، المتوفى سنة 593 هـ بخراسان. انظر: أحمد السعيد سليمان: تاريخ الدولة الإسلامية ومعجم الأسرات الحاكمة، ص 376.
ذكر اتفاق مظفر الدين كوكبرى وصاحب مراغة على قصد أذربيجان
وفي هذه السنة اتفق كوكبُرى صاحب إربل مع صاحب مراغة على قصد أذربيجان وأخذها من صاحبها أبي بكر بن البهلوان لاشتغاله بالشرب ليلا ونهارا، وتركه النظر في أحوال المملكة وتركه حفظ العساكر والرعايا، فسار صاحب إربل إلى مراغة واجتمع هو وصاحبها علاء الدين وتقدما نحو تبريز، فلما علم صاحبها أبو بكر أرسل إلى أيتغمش صاحب بلاد الجبل همذان وأصفهان والرى وما بينهما من البلاد، وهو مملوك أبيه البهلوان، وهو في طاعة أبي بكر، فأرسل إليه أبو بكر يستنجده ويعرفه الأحوال وكان ببلاد الإسماعيلية، فلما أتاه الخبر سار إليه في العساكر الكثيرة، فلما حضر عنده أرسل إلى صاحب إربل يقول له: إنا كنا نسمع عنك أنك تحب أهل العلم والخير وتحسن إليهم فكنا نعتقد فيك الخير والدين، والآن ظهر لنا منك ضد ذلك لقصدك بلاد المسلمين وقتالهم ونهب أموالهم وإثارة الفتنة، فإذا كنت كذلك فلا عقل لك إذ تجيء إلينا وأنت صاحب قرية ونحن لنا من باب خراسان وإلى خلاط وإلى إربل، وأحسب أنك هزمت السلطان أما تعلم أن له مماليك أنا أحدهم، ولو أخذ من كل قرية شحنة ومن كل مدينة عشرة رجال لاجتمع له أضعاف عسكرك، فالمصلحة أنك ترجع إلى بلدك، وإنما أقول لك هذا إبقاء عليك. ثم سار إليه عقيب هذه الرسالة، فلما سمع رسالته وبلغه مسيره عزم على العود، فألزمه صاحب مراغة أنه يقيم بمكانه ويسلم إليه عسكره، وقال: إن جميع أمرائه قد كاتبني، ليكونوا معي إذا قصدتهم. فلم يقتل مظفر الدين من قوله وعاد إلى بلده ثم إن أبا بكر وأيتغمش قصدًا مراغة وحاصروها، فصالحهم صاحبها على تسليم قلعة من حصونه إلى أبي بكر، فأقطعه أبو بكر مدينتى أستوا
(1)
وأرميه
(2)
وعاد عنه، وكان أيتغمش قد سار إلى بلاد الإسماعيلية المجاورة لقزوين فقتل منهم مقتلة عظيمة ونهب وأسر وسبي وحاصر قلاعهم، ففتح منها خمس قلاع وصمم العزم على حصر الموت واستئصال أهلها، فاتفق ما ذكرنا من حركة صاحب إربل وصاحب مراغة فاستدعاه الأمير أبو بكر ففارق بلادهم وسار إليه كما ذكرنا.
(1)
أسْتُوا: كورة من نواحي نيسابور، وقصبتها خبوشان. معجم البلدان، ج 1، ص 243.
(2)
أُرْمِيَة: مدينة كبيرة قديمة بأذربيجان. معجم البلدان، جـ 1، ص 218 - 219.
وفي هذه السنة
(1)
سار من عسكر خوارزم شاه عشرة آلاف فارس بأهليهم وأولادهم إلى بلاد الجبل فوصلوا إلى زنكان
(2)
، وكان أيتغمش صاحبها مشغولًا مع صاحب إربل وصاحب مراغة، واغتنموا خلو البلاد، فلما عاد مظفر الدين إلى بلده وانفصل الحال بين أيتغمش وصاحب مراغة سار أيتغمش نحو الخوارزمية [288] فلقيهم وقاتلهم فاشتد القتال بين الطائفتين، وانهزم الخوارزميون وأخذهم السيف، فقتل منهم وأسر خلق كثير، ولم ينج منهم إلا الشريد.
ذكر غارة ابن لاون على أعمال حلب
وفي هذه السنة
(3)
توالت الغارة من ابن لاون الأرمني صاحب الدروب على ولاية حلب، فنهب وحرق وسبي وأسر، فجمع الملك الظاهر غازي صاحب حلب عساكره، واستنجد غيره من الملوك وجمع كثيرًا من الفارس والراجل، وسار عن حلب نحو بلد ابن لاون، وقد نزل المذكور من طرف بلاده مما يلى بلد حلب، وليس إليه طريق لأن جميع بلاده لا طريق إليها، إلا من جبال وعرة، ومضايق صعبة، والطريق متعذر، فنزل الظاهر على خمسة فراسخ من حلب، وجعل على مقدمته جماعة من عسكره مع أمير كبير من مماليك أبيه يعرف بميمون القصري، وأنفذ ميرة وسلاحا إلى حصن له مجاور لبلاد ابن لاون اسمه دربساك، وأنفذ إلى ميمون ليرسل طائفة من العسكر الذين عنده إلى طريق هذه الذخيرة ليسيروا معها إلى دربساك، ففعل ذلك وسير جماعة كثيرة من عسكره وبقي في قلة، فبلغ الخبر ابن لاون فجد نحوه، فوافاه وهو مخف في العسكر فاشتد القتال بينهم، فأرسل ميمون إلى الظاهر يعرفه وكان بعيدًا عنه فطالت الحرب بينهم، وحمى ميمون نفسه وأثقاله على قلة من المسلمين وكثرة من الأرمن، فانهزم المسلمون ونال العدو منهم ونالوا من العدو، وعاد العدو إلى بلادهم واعتصموا بجبالهم وحصونهم.
(1)
نقل العيني هذا الخبر من الكامل، ج 10، ص 319.
(2)
زَنْكان = زَنْجان: بلد كبير مشهور من نواحي الجبال، بين أذربيجان وبينها. وهي قريبة من أَبْهَر وقزوين. والعجم يقولون: زنكان. معجم البلدان، ج 2، ص 948؛ بلدان الخلافة الشرقية، ص 259.
(3)
نقل العيني هذا الخبر بتصرف من الكامل، ج 10، ص 319 - 320.
وفي المرآة
(1)
: وفي هذه السنة أغار ابن لاون على بلد حلب وأخذ الجشار
(2)
من نواحي حلب، فبعث الملك الظاهر فارس الدين ميمون القصري، وأيبك فطيس، وحسام الدين بن أمير تركمان، فنزلوا على حارم فقال لميمون: كن على حذر، فتهاون، فكبسهم ابن لاون وقتل جماعة من المسلمين، وثبت أيبك فطيس وابن تركمان وقاتلا قتالًا شديدًا، ولولاهما لأخذ ميمون، وبلغ الظاهر فخرج من حلب ونزل مرج دابق
(3)
وجاء إلى حارم، فهرب
(4)
ابن لاون إلى بلاده وكان قد بنى قلعة فوق دربساك فأخربها الظاهر، وعاد إلى حلب.
ذكر قصد الكرج بلاد الإسلام
وفي هذه السنة
(5)
قصدت الكرج في جموعها ولاية خلاط من أرض أرمينية، ونهبوا وقتلوا وسبوا من أهلها كثيرًا وجاسوا خلال الديار آمنين، ولم يخرج إليهم من خلاط من يمنعهم، فبقوا متصرفين في النهب والسبي، والبلاد شاغرة لا مانع لها؛ لأن صاحبها صبي والمدبر لدولته ليست له تلك الطاعة من الجند، فلما اشتد البلاء على الناس تذامروا وحرض بعضهم بعضا، واجتمعت العساكر الإسلامية من تلك البلاد جميعها، وانضاف إليهم من المتطوعة كثير، فساروا جميعهم نحو الكرج وهم خائفون، فرأى بعض الصوفية الأخيار الشيخ محمد البُستي وكان من أكابر الصالحين، وكان قد مات، فقال له ذلك الصوفي: أراك هاهنا. فقال: جئت لمساعدة [289] المسلمين على عدوهم. فاستيقظ فرحا لمحل البستي من الإسلام، وأتي إلى مدير العسكر وقص عليه رؤياه، ففرح بذلك وقوي عزمه على قصد الكرج، وسار بالعساكر إليهم، ونزل منزلا قريبا منهم فوصلت الأخبار إلى الكرج فعزموا على كبس المسلمين، فانتقلوا من موضعهم بالوادي إلى أعلاه ليكبسوا المسلمين إذا أظلم الليل، فأتى المسلمين الخبر فقصدوا الكرج، وأمسكوا عليهم رأس الوادى وأسفله وهو واد ليست له طريق غير هذين الطريقين، فلما
(1)
نقل العينى هذا الخبر من مرآة الزمان، ج 8، ص 342 - 343.
(2)
الجشار، جمعها: الجشارات والجشير، ويقال الدشار أيضًا. وهي الخيل والأبقار التي تساق مع الجيش. انظر: السلوك، ج 1 ق 2، ص 490، ج 1 ق 3، ص 909.
(3)
مرج دابق: هو مرج بقرية دابق بالقرب من حلب، من أعمال عزاز، معجم البلدان، ج 2، ص 513.
(4)
"فهزم" كذا في مرآة الزمان، ج 8، ص 343.
(5)
نقل العيني هذا الخبر من الكامل، ج 10، ص 320 - ص 321.
رأى الكرج ذلك أيقنوا بالهلاك وسُقط في أيديهم، وطمع المسلمون فيهم وقاتلوهم أشد قتال، فقتلوا كثيرًا وأسروا مثلهم ولم يفلت من الكرج إلا القليل.
وفي هذه السنة
(1)
تزوج أبو بكر بن البهلوان صاحب أذربيجان [وأران]
(2)
بابنة ملك الكرج، وسبب ذلك أن الكرج كثرت غاراتهم على بلاده لما رأوا من عجزه وانهماكه في الشرب واللعب وتغفله عن تدبير الملك وحفظ البلاد، فلما رأى الحال قد تزايدت من جهة الكرج، وأنه لا يقدر على الذب عن البلاد، خطب ابنة ملكهم فتزوجها، فكف الكرج عن الغارة والنهب والقتل. وقال ابن الأثير:
(3)
فكان كما يقال: أغمد سيفه وسل إيره.
ذكر بقية الحوادث
منها أن الخليفة استوزر نصير الدين ناصر بن مهدي العلوي الحسنى، وخلع عليه للوزارة، وضربت الطبول بين يديه وعلى بابه في أوقات الصلوات: الفجر والمغرب والعشاء.
وفي المرآة
(4)
خلع عليه خلعة الوزارة القميص والدراعة
(5)
والعمامة والسيف، وخرج من باب الحجرة فقدم له فرسًا من خيل الخليفة، وبين يديه دواة فيها ألف مثقال
(6)
ذهب، ووراءه المهد الأصغر وألوية الجند وطبول النوبة، والكوسات تخفق والعهد منشور بين يديه، وجميع أرباب الدولة مشاة بين يديه، وضربت الطبول والبوقات له بالرحبة في أوقات الصلوات الثلاث المغرب والعشاء والفجر، فقال الناس: يا ليت شعرنا ماذا أبقى الخليفة لنفسه؟!
(1)
نقل العيني هذا الخبر من الكامل، ج 10، ص 322.
(2)
ما بين حاصرتين إضافة من الكامل، ج 10، ص 322، وأرّان: ولاية واسعة وبلاد كثيرة منها جنزة، وهي التي تسميها العامة كنجة وبرذعة وشمكور وبيلقان، وبين أذربيجان وأرّان نهر الرس - انظر: معجم البلدان، ج 1، ص 183.
(3)
الكامل، ج 10، ص 322.
(4)
مرآة الزمان، ج 8، ص 342.
(5)
الدراعة: هي الفرجية، أي الجُبة. انظر: الملابس المملوكية، ص 29 - 30.
(6)
المثقال: أساس نظام الأوزان الإسلامية عامة هو الدرهم، الذي يرجع أصله إلى الدراخمة اليونانية، وكان من الفضة، وتسكه فارس، والمثقال الذي يرجع إلى السوليدوس (Solidus) الرومي البيزنطي، وكان من الذهب، وتسكة بيزنطة. ونسبة وزن المثقال إلى الدرهم من الوجهة الشرعية كنسبة (107)، بينما وصلت في بعض الأحيان من الوجهة العملية (2:3). انظر: علي جمعة: المكاييل والموازين الشرعية، ص 7، ط. الأولى، دار الرسالة، القاهرة 2002 م.
ومنها أنه هرب أبو جعفر محمد بن حديدة الوزير الأنصاري من دار الوزارة - دار ابن المهدي - وكان محبوسًا بدرب المطبخ عند ابن مهدي ليعذبه، فحلق ابن حديدة رأسه ولحيته وخرج فلم يظهر خبره إلا من مراغة بعد مدة وعاد إلى بغداد.
ومنها أن ناصر الدين صاحب ماردين توجه إلى خلاط بمكاتبة أهلها، فجاء الملك الأشرف ونزل على دنيسر
(1)
وأقطع بلاد ماردين، فعاد ناصر الدين إلى بلده بعد أن غرم مائة ألف دينار ولم يسلموا إليه خلاط.
ومنها أن في شعبان هدمت القنطرة الرومانية التي كانت عند الباب الشرقي ونشرت حجارتها ليبلط بها الجامع الأموي بسفارة الوزير صفي الدين بن شكر وزير الملك العادل، فكمل تبليطه
(2)
في سنة أربع وستمائة. وفي أول شوال غيروا من قبة الجامع عدة أضلاع من شماليها، وفي يوم الجمعة سابع ذي القعدة وجد التقى الأعمى مشنوقًا بالمئذنة الغربية. قال أبو شامة
(3)
: هذا التقى اسمه عيسى بن يوسف بن أحمد الغرافي ولد بالغراف من أرض العراق، وكان ضريرًا عفيفًا فقيهًا، مفتيًا شافعيًّا مدرسًا بالمدرسة الأمينية
(4)
خارج باب الجامع القبلي، وكان يسكن [290] في أحد بيوت منارة الجامع الغربية، وكان ابتلى بأخذ مال له من بيته واتهم به شخصًا كان يقرأ عليه ويطلع معه إلى البيت يقضى حاجته، ويقوده من المدرسة إلى البيت، ومن البيت إلى المدرسة، فأنكر الشخص المتهم ذلك وتعصب له أقوام عند والي المدينة، فوقع الناس في عرضه من اتهامه من ليس من أهل التهم، ومن كونه جمع ذلك المال وهو وحيد غريب، ونسبوه إلى أنه غير صادق فيما ادعاه. فزاد عليه الهم من ضياع ماله والوقوع في عرضه، ففعل بنفسه ما فعل. قال: وبلغني أن جماعة من المتفقهة امتنعوا من الصلاة عليه وقالوا: قتل نفسه، فتقدم شيخنا فخر الدين أبو منصور
(5)
عبد الرحمن بن عساكر فصلى عليه، فاقتدى الناس به.
(1)
دنيسر: انظر ما سبق، ج 1، ص 230.
(2)
أبو شامة، الذيل على الروضتين، ص 54.
(3)
انظر الذيل على الروضتين، ص 54 - ص 55.
(4)
المدرسة الأمينية: هي أول مدرسة بنيت بدمشق للشافعية، بناها أتابك العساكر بدمشق، أمين الدولة كمشتكين والي صرخد وبصرى. انظر: الدارس، ج 1، ص 177 - 178.
(5)
هو فخر الدين أبو منصور عبد الرحمن بن محمد بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله بن الحسين الدمشقي، المعروف بابن عساكر، الفقيه الشافعي، وهو ابن أخي الحافظ أبي القاسم علي بن عساكر صاحب "تاريخ دمشق". توفي سنة 620 هـ. بدمشق. انظر: وفيات الأعيان، ج 3، ص 135.
ودرس بالأمينية بعده الجمال المصري وكيل بيت المال، قلت: مذهب أبي يوسف رحمه الله من أصحابنا أن لا نصلي على قاتل النفس.
وفيها ....................
(1)
وفيها حج بالناس من العراق مظفر الدين وجه السبع، ومن الشام الشجاع علي بن السلار كذا في المرآة.
(2)
وذكر ابن تاج الأمناء قال: وفي السابع والعشرين من رمضان سنة اثنتين وستمائة نادوا الحج على أيلة صحبة ابن الجراحي.
(3)
ذكر من توفي فيها من الأعيان
شرف الدين أبو الحسن علي بن محمد بن علي، جمال الإسلام بن الشهرزوري
(4)
، توفي في هذه السنة بمدينة حمص، وقد كان أخرج إليها من دمشق، وكان قبل ذلك مدرسًا بالأمينية والحلقة بالجامع تجاه البرادة، وكان لديه علم جيد بالمذهب والخلاف وكانت وفاته في رابع عشر جمادى الآخرة.
أبو الحسن علي بن علي بن سعادة الفارقي
(5)
، تفقه ببغداد وأعاد بالنظامية وناب في تدريسها واستقل بتدريس المدرسة التي أنشأتها أم الخليفة، وأزيد على نيابة القضاء عن أبي طالب على بن على البخاري فامتنع من ذلك فألزم به فباشره قليلا، ثم دخل يوما إلى المسجد فلبس على رأسه مئزر
(6)
صوف وأمر الوكلاء والجلاوزة
(7)
أن ينصرفوا عنه، وشهد على نفسه بعزلها عن نيابة القضاء، واستمر على التدريس والإعادة.
(1)
بياض بمقدار نصف سطر.
(2)
مرآة الزمان، ج 8، ص 343؛ الذيل على الروضتين، ص 53.
(3)
الخزاعي، كذا في الذيل على الروضتين، ص 53.
(4)
البداية والنهاية، ج 13، ص 48؛ الذيل على الروضتين، ص 54.
(5)
أبو الحسن علي بن علي بن سعادة الفارقي، انظر الكامل، ج 10، ص 322.
(6)
المئزر: هو القميص القصير يرتديه الرجال. انظر: ماير: الملابس المملوكية، ص 126 حاشية (4).
(7)
الجواز: الشرطى. والجلواز عند الفقهاء أمين القاضي أو الذي يقال له صاحب المجلس. انظر: محيط المحيط، مادة "جلز"؛ انظر أيضًا: لسان العرب، ج 1، ص 444.
حمزة بن على بن حمزة، أبو يعلى الحراني المقري، ويعرف بابن القبيطى
(1)
، ولد سنة أربع وعشرين وخمسمائة ببغداد، وقرأ القرآن بالروايات على الشيخ أبي محمد سبط الشيخ أبي منصور الخياط وغيره، وسمع الحديث، وكان حسن الصوت بالقراءة، يصلي إمامة بالمسجد الذي بجانب البدرية
(2)
فكان الناس يأتون إليه من أقطار بغداد ويسمعون قراءته وتوفي في ذي الحجة وصلى عليه بالنظامية، ودفن بباب حرب، وكان صالحًا عفيفًا زاهدًا ثقة.
مسعود وممدود ابنا الحاجب مبارك بن عبد الله. فمسعود لقبه سعد الدين صاحب صفد، وممدود لقبه بدر الدين شحنة دمشق، وأمهما أم فرخشاه بن شاهنشاه بن أيوب، وأصل أمهما من المنظرة
(3)
ففرخشاه أخوهما لأمهما، وأختهما لأمهما الست عذراء صاحبة المدرسة
(4)
المجاورة لقلعة دمشق، وكانا أميرين كبيرين لهما مواقف كثيرة مع السلطان صلاح الدين. وتقدمت وفاة بدر الدين ممدود فإنه توفي بدمشق يوم الأحد خامس شهر رمضان. وتوفي سعد الدين بصفد يوم الإثنين خامس شوال، بينهما شهر واحد.
(5)
وقال أبو شامة: وكانت دار مسعود مجاورة لرباط
(6)
زهرا خاتون قريب حمام جاروخ
(7)
، هي الآن لجمال الدين موسى بن يغمور. ودار ممدود بحارة [291] البلاطة
(8)
هي الآن لنجم الدين بن الجوهري.
(1)
انظر الذيل على الروضتين، ص 54؛ مرآة الزمان، ج 8، ص 343.
(2)
المدرسة البدرية: انظر ما سبق، ج 1، ص 329.
(3)
المنظرة: ذكر ياقوت أنه يوجد منظرتان ببغداد: منظرة الحلبة في وسط السوق في آخر محلة المأمونية ببغداد، ومنظرة الريحانيين في السوق الذي يباع فيه الريحان والفواكه وتشرف على سوق الصرف ببغداد. انظر: معجم البلدان، ج 4، ص 665 - 666.
(4)
المدرسة العذراوية: هذه المدرسة بحارة الغرباء بباب دار السعادة بدمشق. انظر: الدارس، ج 1، ص 373 - 382.
(5)
انظر الذيل على الروضتين ص 54؛ مرآة الزمان، ج 8، ص 344.
(6)
انظر: الدارس، ج 2، ص 193.
(7)
حمام جاروخ: هذا الحمام بنسبة إلى سيف الدين جاروخ التركماني، انظر الدارس، ج 1، ص 225، ص 375.
(8)
حارة البلاطة بدمشق، وتعرف في وقتنا الحالي بزقاق المحكمة. انظر: الدارس، ج 1، ص 498، حاشية (6).
الأمير مجير الدين طاشتكين
(1)
المستنجدي، أمير الحاج وزعيم بلاد خراسان، وكان شيخًا خيرًا حسن السيرة كثير العبادة غاليًا في التشيع، توفي بتستر
(2)
في ثاني جمادى الآخرة من هذه السنة، وحمل تابوته إلى الكوفة فدفن بمشهد على رضي الله عنه بوصية منه، هكذا ترجمه ابن الساعى في تاريخه. وذكر أبو شامة في الذيل: مجير الدين طاشتكين بن عبد الله المقتفوى أمير الحاج، حج بالناس ستا وعشرين سنة وكان يكون في طريق الحج مثل الملوك، فحسده ابن يونس الوزير، وقال للخليفة: إنه يكاتب صلاح الدين وزور عليه كتابًا فحبسه الخليفة مدة، ثم تبين له أنه بريء من ذلك فأطلق وأعطاه خوزستان ثم أعاده إلى أمره الحج. وكانت الحله [الشيعية]
(3)
أقطاعه، وكان شجاعًا جوادًا سمحًا قليل الكلام يمضي عليه الأسبوع ولا يتكلم، استغاث إليه رجل يومًا فلم يكلمه، فقال الرجل: الله كلم موسى. فقال: وأنت موسى!! فقال الرجل: وأنت الله!! فقضى حاجته، وكان حليمًا، التقاه رجل فاستغاث إليه من نوابه فلم يجبه، فقال له الرجل: أحمار أنت؟ فقال طاشتكين: لا. وفي قلة كلامه يقول ابن التعاويذي:
وأمير على البلاد مولى
…
لا يجب الشاكي بغير سكوت
كلما زاد رفعةً حطنًا
…
الله بتغفيله إلى البهموت
وقام يومًا إلى الوضوء فحل حياصته وتركها موضعه ودخل ليتوضأ، وكانت الحياصة تساوي خمسمائة دينار، فسرقها الفراش وهو يشاهده، فلما خرج طلبها فلم يجدها، فقال أستاذ داره: أجمعوا الفراشين وأحضروا المعاصير
(4)
. فقال له طاشتكين: لا تضرب أحدًا فالذي أخذها ما يردها والذي رآه ما يعمز عليه. فلما كان بعد مدة رأى على الفراش الذي سرق الحياصة
(5)
ثيابًا جميلة وبزة ظاهرة. فاستدعاه سرًّا وقال له بحياتي هذه من زيك
(1)
البداية والنهاية، ج 13، ص 49 - ص 50؛ الكامل، ج 10، ص 320؛ مرآة الزمان، ج 8، ص 363.
(2)
تستر: انظر ما سبق، ج 1، ص 117.
(3)
"السيفية" كذا في الأصل، ومرآة الزمان، ج 8، ص 343. والمثبت بين الحاصرتين من الذيل على الروضتين، ص 53؛ البداية والنهاية، ج 13، ص 49.
(4)
المعاصير أو المعاصر، مفردها المعصرة. وهي آلة من آلات التعذيب وتتكون من خشبتين مربوطتين بحبل، ويوضع بينهما وجه المعاقب أو رأسه أو رجلاه أو عقباه، ثم تشد الخشبتان شدا وثيقًا مما يؤدي في كثير من الأحيان إلى كسر العظام المعصورة بين الخشبتين. انظر عاشور، المجتمع المصري، ص 99.
(5)
الحياصة: تعنى حزام العسكريين، وكان يطلق عليها أولا المِنْطَقة، ثم أطلق عليها فيما بعد الحياصة، وتصنع من معدن ثمين، وأفخمها ما كان من الفضة المطلية بالذهب، وأحيانًا من الذهب الخالص المرصع بالأحجار الكريمة. انظر: الملابس المملوكية، ص 47 - 48.
فخجل، فقال: لا بأس عليك. فاعترف فلم يعارضه، وكان طاشتكين قد جاوز تسعين سنة، فاستأجر أرضًا وقفًا ثلثمائة سنة على جانب دجلة ليعمرها دارًا، وكان ببغداد رجل محدث في الخلق يقال له فتيحة المحدث، فقال: يا أصحابنا نهنئكم مات ملك الموت. قالوا: وكيف؟ قال طاشتكين. عمره مقدار تسعين سنة وقد استأجر أرضًا ثلثمائة سنة فلو لم يعلم أن ملك الموت قد مات ما فعل هذا فتضاحك الناس.
الست خاتون أم السلطان الملك المعظم ابن السلطان الملك العادل، توفيت يوم الجمعة العشرين من ربيع الأول من هذه السنة، ودفنت في القبة التي بالمدرسة المعظمية
(1)
سفح قاسيون، وفي تلك القبة معها ابناها المعظم عيسى والعزيز عثمان، ابنا الملك العادل، وأخوهما المتوفى قبلهما الملك المغيث عمر بن الملك العادل.
(1)
المدرسة المعظمية: تقع بالصالحية بسفح قاسيون الغربي جوار المدرسة العزيزية. أنشئت سنة 621 هـ. أنشأها الملك المعظم عيسى بن العادل، الفقيه الأديبة. انظر: الدارس، ج 1، ص 579 - 587.
فصل فيما وقع من الحوادث في السنة الثالثة بعد الستمائة
(*)
استهلت هذه السنة والخليفة هو الناصر لدين الله، والسلطان الملك العادل سار من مصر إلى الشام، ونازل في طريقه عكا وصالحه أهلها على إطلاق جمع من الأسرى
(1)
، ثم وصل إلى دمشق ثم سار عنها، ونزل بظاهر حمص على بحيرة قدس
(2)
، واستدعى [292] بالعساكر فأتته من كل جهة، وأقام على البحيرة حتى خرج رمضان. ثم سار ونازل حصن الأكراد، وفتح برج أغياز وأخذ منه سلاحًا ومالًا وخمسمائة رجل ثم سار ونازل طرابلس، ونصب عليها المجانيق، وغار العسكر في بلادها وقطع قناتها، ثم عاد في أواخر ذي الحجة إلى بحيرة قدس فظاهر حمصن، وخرجت السنة وهو مقيم هناك.
وفي تاريخ بيبرس: وفي هذه السنة خرج العادل بعساكره لقصد مدينة عكا فصالحه أهلها، وجرت بينه وبين الظاهر صاحب حلب - ابن أخيه - أمور اقتضت تغيّر البواطن واستشعار كل منهما من الآخر. وحصر ناصر الدين الملك المنصور صاحب حماة إلى خدمة العادل، واجتمع به وشكى إليه سوء معاملة الظاهر له. فكان ذلك مما زاده تغيرًا.
واتفق خروج الفرنج من طرابلس وقصدوا حمص وأغاروا عليها فعظم ذلك على العادل وسار من دمشق ونزل بظاهر حمص وحضرت إليه عساكر البلاد، وأقام إلى آخر شهر رمضان، وعيّد في مكانه وسار متوجهًا إلى حصن الأكراد، وذكر إلى آخر ما ذكرنا.
وقال أبو شامة
(3)
: وفيها نزلت الفرنج على حمص، وكان الظاهر بعث إليها المبارز يوسف بن خطلج الحلبي نجدة لأسد الدين شيركوه الأصغر، وأُسِر في هذه السنة الصمصام بن العلائي وخادم صاحب حمص.
ذكر ماجريات ملوك البلاد
منها أن
(4)
غياث الدين محمود بن غياث الدين محمد ملك الغورية أرسل يستميل يلدز مملوك أبيه المستولى على غزنة فلم يجبه يلدز إلى ذلك، وطلب يلدز من غياث
(*) يوافق أولها 8 أغسطس سنة 1206 م.
(1)
ورد هذا النص في المختصر في أخبار البشر، ج 3، ص 107 - 108.
(2)
بحيرة قَدس: قرب حمص، بينها وبين جبل لبنان، يخرج منها نهر العاصي، انظر معجم البلدان، ج 1، ص 516.
(3)
الذيل على الروضتين، ص 57.
(4)
نقل العيني هذا الخبر من الكامل، ج 10، ص 325.
الدين أن يعتقه، فأحضر الشهود وأعتقه، وأرسل مع عتاقته هدية عظيمة، وكذلك عتق أيبك المستولى على الهند، وأرسل إليه نحو ذلك فقبل كل منهما ذلك، وخطب له أيبك ببلاد الهند التي تحت يده، وأما يلدز فلم يخطب له، وخرج بعض العساكر عن طاعة يلدز لعدم طاعته لغياث الدين مولاه.
وفي تاريخ بيبرس: لما أرسل غياث الدين إلى يلدز وطالبه بالخطبة ولم يجب إليه أعاد عليه الرسالة وقال: إما أن تخطب لنا وإما أن تعرفنا ما في نفسك. فلما وصل الرسول بهذا أحضر يلدز الخطيب وأمره أن يخطب له، ويترحم على شهاب الدين، فَخُطِبَ ليلدز بغزنة، فلما رأى الناس ذلك ساءهم إسقاط اسم غياث الدين، وتغيرت نياتهم ليلدز ونيات الأتراك الذين معه، ولم يروه أهلًا أن يخدموه، وإنما كان يطيعونه لما كانوا يرون أنه يقيم دولة غياث الدين. فلما خطب لنفسه، أرسل إلى غياث الدين يقول له: إنه قد اجتمع عندك الذين هم أساس الفتنة وأقطعتهم الإقطاعات، ووعدتني أمورًا لم تقف
(1)
عندها، فإن أنت عتقتني خطبتُ لك وحَلَتْ إليَّ خدمتك. فأجابه غياث الدين إلى ذلك وأشهد عليه بعتقه، وعتق قطب الدين أيبك نائبه ببلاد الهند، وأرسل إليها تشاريف ومناطق ذهب وسترًا. فقبل يلدز الخلع والمناطق، ورد الستر وقال: نحن عبيد ومماليك، والجتر
(2)
له أصحاب.
وسار رسول غياث الدين إلى أيبك وكان ببلاد الهند، فلما علم قرب الرسول لقيه على بعد وقَبّل حافر الفرس ولبس الخلعة، وقال: أما الجتر فلا يصلح للمماليك، وأما العتق فمقبول، وسوف أجازيه [293] بعبودية الأبد.
ومنها
(3)
أن خوارزم شاه ملك طالقان، وذلك أنه لما سَلَّم ترمذ إلى الخطأ سار عنها، فأرسل إلى سونج أمير شكار نائب غياث الدين محمود بالطالقان رسولًا يستميله إليه، فلم يجبه سونج وعاد الرسول خائبًا، وجمع سونج عساكره وخرج لمحاربة خوارزم شاه فالتقوا بالقرب من طالقان، فلما تقابل العسكران حمل سونج وحده مجدًّا حتى قارب عسكر خوارزم شاه وألقى نفسه إلى الأرض ورمي سلاحه وقبل الأرض وسأل العفو، فظن
(1)
تعني في الكامل ج 10، ص 325.
(2)
جتر، جمع جتور، وهو المظلة، ويطلق عليها أيضًا الستر. صبح الأعشى، ج 3، ص 469، ص 502.
(3)
ورد هذا الخبر في الكامل، ج 10، ص 323 - 326.
خوارزم شاه أنه سكران، فلما علم أنه صاح ذَمّه وسَبّه ولم يلتفت إليه، وأخذ بالطالقان من سلاح ومال ودواب وأنفذه إلى غياث الدين مع رسول برسالة تتضمن التقرب إليه والملاطفة له، واستناب بالطالقان بعض أصحابه وسار إلى قلاع كالوين
(1)
وبَيْوَار
(2)
، فخرج إليه حسام الدين على صاحب كالوين وقابله على رؤوس الجبال، فأرسل إليه خوارزم شاه يتهدده إن لم يسلم إليه فقال: أما أنا فمملوك وهذه الحصون بيدي أمانة ولا أسلمها إلا إلى صاحبها. فاستحسن خوارزم شاه ذلك منه وذم سونج. ولما بلغ غياث الدين خبر سونج وتسليمه الطالقان إلى خوارزم شاه عظم ذلك عنده وشق عليه كثيرًا، فهوَّن الأمر عليه أصحابه.
ولما فرغ خوارزم شاه من الطالقان سار إلى هراة فنزل بظاهرها، ولم يمكن ابن خرميل من هراة أحدًا من الخوارزميين أن يتطرق إلى أحد من أهلها، وإنما كانوا يقطعون الطريق وهذه عادة الخوارزميين. ووصل رسول غياث الدين إلى خوارزم شاه بالهدايا، ورأى الناس ذلك عجبًا لما كان بينهما من التباين، وسار ابن خرميل من هراة في جمع من عساكر خوارزم شاه، فنزل على أسفزار
(3)
فحاصرها وأخاف أهلها فسلموها ولم يعرض لهم بسوء، ولما أخذها أرسل إلى محمد بن حرب صاحب سجستان يدعوه إلى طاعة خوارزم شاه والخطبة له ببلاده، فأجابه إلى ذلك، وكان خوارزم شاه يطالبه بذلك مدة ولم يجبه إليه.
ولما سمع يلدز بالصلح مع خوارزم شاه أرسل إلى غياث الدين أن ما الذي حملك على هذا؟ فقال: عصيانك لي وخلافك على. فجمع يلدز عساكره وسار إلى تكيا باذ وإلى بُست فملكهما وقطع خطبة غياث الدين منها، وأرسل إلى صاحب سجستان يأمره بإعادة الترحم على شهاب الدين وقطع خطبة خوارزم شاه. وأرسل إلى ابن خرميل صاحب هراة بذلك، ويتهددهما بقصد بلادهما إن لم يفعلا، فخافوه. ثم إنه أخرج جلال الدين بن بهاء الدين سام من الأسر، وذلك أنه لما هزم عسكر باميان أسر جلال
(1)
قلعة كالوين: ذكرها ياقوت "كالوان" وهي قلعة حصينة بين باذغيش وهراة بين الجبال. معجم البلدان، ج 4، ص 229.
(2)
بَيْوَار، مدينة قصبة غرشستان، ولاية بين غزنة وهراة ومرو الروذ والغور في وسط الجبال، معجم البلدان، ج 1، ص 803.
(3)
أَسْفُزَار: مدينة من نواحي سجستان من جهة هراة. انظر معجم البلدان، ج 1، ص 248.
الدين وأخاه علاء الدين أيضًا. ثم إنه لما أخرج جلال الدين من الأسر سير معه خمسة آلاف فارس، وقدّم عليهم أيدكز التتري مملوك شهاب الدين ليعيدوا جلال الدين إلى باميان، ويزيلوا ابن عمه عباس، وكان قد ملك باميان لما رأى خلوها من ابني أخيه جلال الدين وعلاء الدين، وزوج يلدز ابنته من جلال الدين، وخلع عليه فسار هو ومن معه. ولما خلا به أيدكز قال له: عزّ على لبسك خلعة يلدز، وكيف وأنتم ما رضيتم تلبسون خلعة غياث الدين وهو أكبر سنًّا منكم وأشرف بيتًا [294] وتلبس خلعة هذا المأبون -يعني يلدز- ودعاه إلى العود معه إلى غزنة، وأعلمه أن الأتراك كلهم يجمعون على خلاف يلدز، فلم يجبه إلى ذلك. فقال أيدكز: إنني لا أسير معك. وعاد إلى كابُل وهي إقطاعه. فلما وصل إليها لقّبه رسول قطب الدين أيبك إلى يلدز يقبح فعله، ويأمره بإقامة خطبة غياث الدين، ويخبره أنه قد خطب له في بلاده. [فلما]
(1)
علم أيدكز قويت نفسه على محاربة يلدز، وصمم على قصد غزنة ووصل رسول أيبك إلى غياث الدين بالهدايا والتحف ويشير عليه بإجابة خوارزم شاه إلى ما طلب الآن، وعند الفراغ، من غزنة تسهل أمور خوارزم شاه.
فسار أيدكز إلى غزنة، وكان جلال الدين قد كتب إلى يلدز يخبره بخبر أيدكز وما عزم عليه، فكتب يلدز إلى نوابه بغزنة يأمرهم بالاحتياط منه، فلما وصلها أيدكز أمر أصحابه بنهب البلد، فتوسط القاضي الحال بأن يَحْمِل إليه خمسين ألف دينار، وخطب أيدكز لغياث الدين، وقطع خطبة يلدز، ففرح الناس بذلك. وسير المال إلى غياث الدين، ولقب يملك الأمراء.
ومنها أن في ثالث شعبان ملك غياث الدين كيخسرو صاحب بلاد الروم أنطالية
(2)
باللام وهي مدينة للروم على ساحل البحر، وكان قد حاصرها قبل هذا الوقت فأرسل صاحبها إلى الفرنج الذين بجزيرة قبرس، فاستنجدهم فأرسلوا إليه جماعة منهم، فرحل كيخسرو وترك طائفة من عسكره بالقرب منها مع الجبال، فلما رحل اختلف الروم والفرنج فتسلمها وقتل من كان بها من الفرنج الذين جاءوا للنجدة.
(3)
(1)
"فلم" في الأصل، والصحيح ما أثبتناه. انظر: الكامل، ج 10، ص 326.
(2)
أنْطَالِية: بلد كبير من مشاهير بلاد الروم، وهي حصن للروم على شاطئ البحر. انظر: معجم البلدان، ج 1، ص 388؛ بلدان الخلافة الشرقية، ص 183 - 184.
(3)
ورد هذا الخبر في الكامل، ج 10، ص 328 - 329.
ومنها أنه قبض عسكر خلاط على صاحبها ولد بكتمر، وملَّكوها لبلبان مملوك شاهر من بن سكمان، وكتب قوم من الجند إلى ناصر الدولة أرتق بن إيلغازي يستدعونه. وسبب ذلك أن ولد بكتمر كان جاهلًا، فلما ملك بعد أبيه قبض على الأمير شجاع الدين قتلغ، وكان أتابكه ومدبر بلاده، فقتله. واختلفت الكلمة عليه من الجنة والعامة، واشتغل باللهو وإدمان الشرب، فساءت نياتهم له، وسار بلبان إلى ملاذكرد
(1)
وملكها، واجتمع أكثر الجند إليه، وسار راجعًا إلى خلاط. واتفق وصول صاحب ماردين إلى خلاط معتقدًا أن أحدًا لا يمتنع عليه، فنزل قريبًا منها، فأرسل إليه بلبان يقول له: إن أهل خلاط قد اتهموني بالميل إليك، والرأي أنك ترحل [عائدًا]
(2)
مرحلة، فإذا تسلمت البلد سلمته إليك. فرحل صاحب ماردين راجعًا، فلما أبعد عن خلاط، وكان في قلة من الجند، أرسل إليه بلبان أن تعود إلى بلدك، وإلا جئت أوقعت بك. فعاد إلى ماردين.
وأما بلبان فإنه حاصر خلاط، وضيق على أهلها، فقبضوا على ابن بكتمر وسلموها إليه.
ومنها
(3)
أنه كانت الحرب بين عسكر الخليفة وبين صاحب كرّستان مع مملوكه سنجر، وكان المتولي لتلك الأعمال، وصاحب كرّستان يعرف بأبي طاهر، وهي جبال منيعة بين فارس وأصفهان وخوزستان، فقاتلوا أهلها وعادوا منهزمين. وسبب ذلك أن مملوكة للخليفة الناصر لدين الله يسمى قشتمر من أكبر مماليكه، كان قد فارق الخدمة لتقصير رآه في حقه من الوزير نصير الدين العلوي، فاجتاز بخوزستان وأخذ ما [295] أمكنه ولحق بأبي طاهر صاحب كرّستان، فأكرمه وزوجه ابنته، ثم توفي أبو طاهر فقوى أمر قشتمر الناصري، وأطاعه أهل تلك الولاية، فأمر الخليفة سنجر بجمع العساكر وقتال قشمر، ففعل سنجر ما أُمر به وجمع العساكر وسار إليه، فأرسل قشتمر يعتذر ويسأل أن لا يُقصد، ويُحْوَج إلى الخروج عن الطاعة والعبودية، فلم يقبل عذره. فجمع أهل تلك الأعمال ونزل إلى العسكر الذين مع سنجر، فلقيهم وهزمهم، وأرسل إلى أيتغمش
(1)
ملازكرت = منازكرد: انظر ما سبق، ج 2، ص 169.
(2)
ما بين الحاصرتين مثبت من الكامل، ج 10، ص 329.
(3)
ورد هذا النص في الكامل، ج 10، ص 330 - 331.
صاحب أصفهان والرى وإلى صاحب [فارس]
(1)
يعرفهما الحال، ويقول: إنني لا قوة لي بعسكر الخليفة، وقد أضيف إليهم عساكر أخرى، وعادوا إلى حربي ولا أقدر لهم. وطلب منهما النجدة، فأجاباه إلى ما طلب، فاستمر على حاله وقوى جنانه.
ذكر بقية الحوادث
منها أن الخليفة ولّى قضاء القضاه ببغداد لعماد الدين بن أبي القاسم عبد الله بن الدامغاني.
ومنها أن
(2)
الخليفة قبض على عبد السلام بن عبد الوهاب بن الشيخ عبد القادر الكيلاني
(3)
بسبب فسقه وفجوره، وقد احترقت كتبه وأمواله قبل ذلك لما فيها من كتب الفلاسفة وعلوم الأوائل، وأصبح يستعطى من الناس، وهذا بخطيئة قيامه على الشيخ أبي الفرج بن الجوزي فإنه هو الذي كان وشي به إلى الوزير ابن القصاب حتى أحرق بعض كتب ابن الجوزي، وختم ببقيتها ونفى إلى واسط خمس سنين كما تقدم بيان ذلك، والناس يقولون: في الله كفاية وفي القرآن، وجزاء سيئة سيئة مثلها، والصوفية يقولون: الطريقة بأخذ حقها. والأطباء يقولون: الطبيعة مكافئة.
(4)
وقال أبو شامة
(5)
: وكان إحراق كتب عبد السلام المذكور في سنة ثمان وثمانين وخمسمائة، وسببه أنه كان بين ابن يونس الوزير وبين أولاد الشيخ عبد القادر عداوة قديمة؛ لأنه كان جارهم بباب الأزج في حال خموله وفقره، وكانوا يؤذونه بحيث أنهم ربوا كلبًا ولقبوه جُليل يعنون جلال الدين وهو لقب ابن يونس، وكان لابن يونس أخ صالح يقال له العماد فسموا بغلًا للطحن العماد، وكان للشيخ عبد القادر ولد لصلبه طحان اسمه سليمان، كان أشر خلق الله وهو الذي فعل هذه الأفاعيل، فلما ولي ابن يونس الوزارة ثم أستاذية الدار، أظهر ما كان في قلبه منهم، فبدد شملهم وبعث ببعضهم إلى
(1)
بياض في الأصل. والمثبت بين الحاصرتين من الكامل، ج 10، ص 331.
(2)
انظر مرآة الزمان، ج 8، ص 344؛ كما ورد في البداية والنهاية، ج 13، ص 50؛ الذيل على الروضتين، ص 50 - ص 57.
(3)
الجيلاني في البداية والنهاية ج 13، ص 50؛ شذرات الذهب، ج 5، ص 11؛ وهي نسبة إلى "جيلان" أو "كيلان" معجم البلدان، ج 2، ص 11.
(4)
نقل العينى هذا الخبر من البداية والنهاية، ج 13، ص 50.
(5)
الذيل على الروضتين، ص 56.
المطامير إلى واسط، فماتوا بها، وكان عبد السلام المذكور مداخلًا للدولة، وكانت عنده كتب كثيرة، فبعث ابن يونس فكبس داره وأخرج منها كتبًا في فنون منها:"الشفا" لابن سينا، والنجاة، ورسائل إخوان الصفا، وكتب الفلاسفة والمنطق، وتسخير الكواكب، والنارنجيات، والسحر. فاستدعى ابن يونس - وهو يومئذ أستاذ الدار للخليفة -، العلماء والفقهاء والقضاة والأعيان، وكان جد السبط الشيخ أبو الفرج بن الجوزي منهم وقرئ من بعضها مخاطبة زحل يقول: أيها الكوكب المضيء المنير الفرد أنت تدير الأفلاك وتحيي وتميت وأنت إلهنا، وفي حق المريخ من هذا الجنس، وكان عبد السلام حاضرًا، فقال له ابن يونس: هذا خطك؟ قال: نعم. قال: لم كتبته؟ قال لأرد على قائله ومن يعتقده. فسألوه فيه فقال: لابد من حريق الكتب. فلما كان يوم الجمعة ثاني عشر صفر جلس قاضي القضاة [299] والعلماء وفيهم ابن الجوزي على سطح المسجد المجاور لجامع الخليفة وأضرموا تحت المسجد نارًا عظيمة، وخرج الناس من الجامع فوقفوا على طبقاتهم والكتب على سطح المسجد بين أيديهم، فقام رجل يقال له ابن المارستانية فجعل يقرأ كتابًا كتابًا ويقول: العنوا من كتبه ومن يعتقده. فضج العوام باللعن وعبد السلام حاضر، وتعدى اللعن إلى الشيخ عبد القادر وأحمد بن حنبل فظهرت الأحقاد البدرية. وقال الخصوم أشعارًا منها قول المهذب الرومي ساكن النظامية.
لي شعر رق من دين ركن الد
…
ين عبد السلام لفظًا ومعنى
زحليًا يشنا عليَّا ويهوى
…
آل حرب حقدا عليه وضغنا
منحته النجوم إذ رام سعدًا
…
وسرورًا نحسا وهما وحُزنا
سار إحراق كتبه سير شعري
…
في جميع الأقطار سهلًا وحُزْنًا
أيها الجاهل الذي جهل الحـ
…
ـق ضلالًا وضيع العُمر غبنًا
رمت جهلًا من الكواكب بالتبخـ
…
ـير عزًّا فنلت ذلًا وسجنًا
ما زحل وما عطارد والمر
…
يخ والمشترى ترى يا مُعَنَّى
كل شيء يُودى ويفنى سوى اللـ
…
ـه إلهى فإنه ليس يفنى
(1)
(1)
وردت هذه الأبيات في الذيل على الروضتين، ص 56 - ص 57.
ثم حكم القاضي بتفسيق عبد السلام، ورمي طيلسانه، وولي ابن الجوزي مدرسة الشيخ عبد القادر، فذكر التدريس بها في ربيع الأول.
ومنها
(1)
أنه قدم البرهان محمد بن عمر بن مازه البخاري ويلقب بصدر جهان حاجًا إلى بغداد، وتلقاه جميع من ببغداد ما عدا الخليفة والوزير، وأنزل في دار زبيدة على نهر عيسى، وحمل إليه الإقامات والضيافات، وكان معه ثلاثمائة من الفقهاء، وجرى له في حجه ما سنذكره في السنة الآتية إن شاء الله تعالى.
ومنها أنه قال السبط في المرآة
(2)
: وفي هذه السنة فارقت دمشق قاصدًا إلى حلب وجلست بقاسيون وودعت الناس فلم يتخلف بدمشق إلا اليسير، وامتلأ جامع الجبل بالناس فصاحوا علينا من الشبابيك والأبواب لالالا، يعني قوموا فاخرجوا فخرجنا إلى المصلى، وكان شيخنا تاج الدين الكندي حاضرًا، فلما خرج من الباب رجموه فانكشف رأسه، ووقعت عمامته، فعز عليّ وسألته أن يمضي إلى دمشق، ولا يحضر في المصلى، فامتنع فقال: لا والله حتى يتم المجلس، وتاب في ذلك اليوم زيادة على خمسمائة شاب وقطعوا شعورهم، وكان سيف الدين بن ميرك حاضرًا وجرى الكلام في المغناطيس وأنه يعشق الحديد، قلت: والحباري
(3)
يعشق الشمس، ولهذا كلما مالت الشمس إلى جهة مال الحبارى إليها، فصاح شمس الدين بن ميرك كلنا اليوم حباري.
قال: ووصلت إلى حلب في ذي الحجة واجتمعت بالنقاش الحلبي ولقبه تاج الدين واسمه مسعود بن أبي الفضل أبو الفتح، فأنشدني مقطعات من شعره وكتبها لي بخطه. ومولده سنة أربعين وخمسمائة، ومدح الملك الأمجد صاحب بعلبك، وهجي مسعودًا صاحب شيزر ببيتين هما عينا الذم، وسبب ذلك أنه حكى عن نفسه قال: اشتريت من دمشق [297] فاكهة بأربعين درهمًا وقوسين بأربعين درهمًا، وقصدت شيزر فنزلت بخان في الربض، وأُخبر مسعود صاحبها بي فاستدعاني، فدخلت عليه وقدمت له الهدية وأنشدته أبياتًا غزلًا ومديحًا، فلما انتهينا أخرج من تحت طراحته خمسة دراهم وقال: أنفق عليك هذه الليلة فطباخنا مريض، فنزلت إلى الخان.
(1)
انظر: الكامل، ج 10، ص 331؛ مرآة الزمان، ج 5، ص 344 - ص 395؛ الذيل على الروضتين، ص 57.
(2)
مرآة الزمان، ج 8، 345 - ص 346.
(3)
الحُبَارَى: طائر يقع على الذكور والأنثى، وجمعها حُباريات، ويقال للحبارى بالفارسية جوز، يضرب بها المثل في البلاهة والحمق. انظر محيط المحيط، ج 1، ص 332 مادة "حَبَرَ".
فلما كان صبيحة ذلك اليوم جاءني أستاذ داره وقال: الأمير يسلم عليك ويقول لك: كم ثمن الفاكهة والقوسين؟ فقلت: معاذ الله أن أذكر لهما ثمنًا وإنما أهديتهما للأمير. فقال: لابد. فقلت: اشتريتهما من دمشق بثمانين درهمًا، واكتريت لي ولها بغلًا بعشرين درهما، فمضى وعاد ومعه مائة درهم، فقال: هو يعتذر إليك وما في الخزانة شيء. فامتنعت من أخذها وخرجت من شيزر ولم أبت بها. وقال:
ما أليق البخس بمسعودكم
…
على الورى يا ساكني شيزر
فيا ملوك الأرض هموا به
…
فإنه والله شيء زري
قال: وعهدي بالنقاش في سنة ثمان وستمائة في الحياة، وقدم دمشق في سنة تسع وستمائة، وأنشد للجماعة قطعًا من قصائده وأفادهم من فرائد فوائده، إلا أنه كان باطنه كالزناد الوقاد، وظاهره كالجليد والجماد، ومن رآه نسبه إلى البلاهة وعدم الذكاء والفقاهه، فإذا أنشد تساقط من ألفاظه مثل الجمان. وقد شاهدته وليس الخبر كالعيان، ولم أقف على تاريخ وفاته.
وذكر أبو شامة
(1)
من قصائده قطعًا منها:
ما لي سوى حبكم مذهب
…
ولا إلى غيركم مذهب
ناشدتك الله نسيم الصبا
…
من أين هذا النفس الطيب
أأودعت برداك وقت الضحى
…
مكان ألقت عقدها زينب
أم باسمت رياك روض الحمى
…
وذيلها من فوقه يسحب
فهات أتحفنى بأخبارها
…
فعهدك اليوم بها أقرب
ومنها:
أي يد عندى وأي مِنَّة
…
للركب أن بشرني بهنة
صاحوا الرحيل فظلت والها
…
أنشد قلبي بين عيسهنة
كأنني بالحي قد شدوا العرى
…
لبيتهم وأرخوا الأعنة
وما سمعت قبل أن ترحلوا
…
بمطلع الشهب من الأسنة
يا حادي الأظعان رب فرح
…
أحدثه طيب حد بثهنة
فاسلم وقل للراحلين إن
…
يكن بين فرفقا بقتيلكن
(1)
الذيل على الروضتين، ص 57.
ومنها قصيدة في مدح صاحب بعلبك الأمجد بن فرخشاه:
زار وطرف النجم لم يرقد
…
مؤتزر من حسنه مرتد [298]
أحور يحكي الخال في خده
…
نُقطة نَدٍ فوقَ ورد نَدِ
يا حسنه من زائر ما بدا
…
إلا وأنسى قمرُ الأسعد
ويا ضلالي فيه من بعد ما
…
كنت بمرأى وجهه اهتدى
فيا لها من ليلة لم يفز
…
بمثلها الهادي ولا المهتدي
إذا اجتلى في ليل أصداغه
…
من وجهه شمس صباح الغد
وعادل عنف فيه ومن
…
ينادم البدر ولم يحسد
ظن خلاصي في يدي فاعتدى
…
وقال يهوى قاتلًا لا يدى
فقلت لا ترح سلوى فقد
…
خلعت سُلواني علي عُودَّى
أأهجر العيش بهجرى له
…
وأخرج الفوز به عن يدي
وأنثنى عنه إلى غيره
…
لا وحياة الملك الأمجد
ومنها:
(1)
أعني من الحوادث، أنه اجتمع شابان ببغداد على شرب، فضرب أحدهما الآخر بسكين فقتله، وهرب فأُخذ فقتل، فوجد معه رقعة فيها بيتان من نظمه، أمر أن يُجعلا بين أكفانه، وهما قوله:
قدمت على الكريم بغير زادٍ
…
من الأعمال بالقلب السليم
وسوء الظن أن تعتدَّ زادًا
…
إذا كان القدوم علي كريم
وفي تاريخ بيبرس:
وفيها توفي أبو القاسم [أحمد]
(2)
بن المقري صاحب الديوان، كان شابا حسنا يعاشر ابن الأمير أصُبَه فداعبه يومًا فرماه بسكين صغيرة فوقعت في فؤاده فقتله، فسلمه الخليفة إلى أخوته أولاد أصُبَه، فلما خرجوا به ليقتل أنشد: قدمت على الإله، البيتين. وفي روايته: بَلْ قلب سليم، وسوء الظن أن نَعتد.
(1)
الكامل، ج 10، ص 321.
(2)
ما بين حاصرتين إضافة من الجامع المختصر، ج 9، ص 199، كما وردت ترجمته في النجوم الزاهرة، ج 6؛ ص 192.
ومنها أنه فارق وجه السبع حاج العراق وقصد الشام، وكان في الحاج العراقي جماعة من الأعيان فبكوا وضجوا، وسألوه فقال: مولاي أمير المؤمنين محسن إليَّ، وما أشكو إلا من الوزير ابن مهدي، فإنه يقصدني لقربي من مولاي، وما عن الروح عوض. وسار إلى الشام ودخل الحاج بغداد وعليهم وحشة وكآبة، وأمر الخليفة أن لا يخرج الموكب إلى لقائهم، ولا يخرج إليهم أحد، وأدخل الكوسى والعلم والمهد في الليل، وأقام الخليفة حزينًا أيامًا. وأما وجه السبع فوصل إلى دمشق، فالتقاه العادل وأولاده وخدموه وأحسنوا إليه.
وفيها (بياض بالأصل بمقدار سطر).
وفيها حج بالناس من العراق مظفر الدين وجه السبع، لكنه فارق الحج كما ذكرناه الآن. وحج بالناس من الشام مجاهد الدين ياقوت، وهي أول حجة حجها، وحج صدر جهان أيضًا.
ذكر من توفي فيها من الأعيان
الفقيه
(1)
العالم أبو منصور عبد الرحمن بن الحسين بن عبد الله بن النعمان النيلى، الملقب بالقاضي شريح لذكائه وفضله وبراعته وعقله وكمال أخلاقه. ولي قضاء بلدة النِيْل
(2)
بكسر النون وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره لام. ثم قدم بغداد فندب إلى المناصب الكبار فأباها، فحلف عليه الأمير طاشتكين أن يعمل عنده الكتابة، فخدمه عشرين عاما، ثم وشي به الوزير ابن مهدي إلى الخليفة فحبسه في دار طاشتكين إلى أن توفي فيها في هذه السنة، ثم أن الوزير حُبس بها أيضا عن قريب، ومات فيها. وهذا من العجائب.
وفي المرآة: ومات طاشتكين وهو محبوس، وتوفي شريح في ربيع الأول في
(3)
دار طاشتكين [299] وأخرج منها ميتًا، ودفن بداره في القُبَيْبات.
(4)
(1)
انظر ترجمته في البداية والنهاية، ج 13، ص 51؛ مرآة الزمان، ج 8، ص 346؛ الذيل على الروضتين، ص 58.
(2)
النيل: بليدة في سواد الكوفة قرب حلة بن مَزْيَد يخترقها خليج كبير يتخلخ من الفرات الكبير. انظر: معجم البلدان، ج 4، ص 861.
(3)
"بدار" في مرآة الزمان، ج 8، ص 349.
(4)
القُبَيْبَات: محلة ببغداد. انظر: معجم البلدان، ج 4، ص 34.
قال السبط: ورأيت القاضي شريحًا وكان ألطف العالم وأذكاهم، وكان فاضلًا مترسلًا بليغًا، جوادًا سمحًا حسن الصورة، فصيح اللسان، متواضعًا لطيفًا، يصلح للوزارة وغيرها.
أبو الحرم مكي
(1)
بن ريّان بن شَبّه بن صالح الماكسيني، من أعمال سنجار، ثم الموصلى النحوى، قدم بغداد وأخذ عن ابن الخشاب، وابن العطار، والكمال الأنباري، وقدم الشام فانتفع به خلق عظيم منهم؛ الشيخ علم الدين السخاوي وغيره. وكان ضرير البصر، يتعصب لأبي العلاء المعرى لما بينهما من القدر المشترك في الأدب والعمى. ومن شعره:
إذا احتاج النوال إلى شفيع
…
فلا تقبله تَضْح قرير عين
إذا عيف النوالُ لفَرد مَنٍّ
…
فأوْلى أن يُعاف لمنّتين
ومن شعره أيضا في ألغاز اسم دَعْد:
اسم التي أنا عبدها
…
يا أيها الرجل الحكيمُ
تُلفيه معكوسًا كما
…
تلفيه إذ هو مستقيم
قال أبو شامة
(2)
: ويكفي من ذلك أن نقول:
اسمها إن عكسته
…
مثله إن تركته
وتوفي أبو الحرم بالموصل في شوال من هذه السنة، وقال: قرأ عليه شيخنا أبو الحسن السخاوي كتاب أسرار العربية للأنباري، وربما يقع تصحيف في اسم أبيه وجده، فاعلم أن اسم أبيه أوله راء مهملة بعدها باء آخر الحروف وآخره نون، واسم جده أوله سين معجمة بعدها باء موحدة على وزن حبة، وبدأ بذكره شرف الدين بن المستوفي في تاريخ إربل لأنه شيخه ووصفه وأثنى عليه.
عبد الرزاق بن الشيخ عبد القادر الجيلى، كان زاهدًا عابدًا، ورعًا لم يكن في أولاد الشيخ مثله، ولد سنة ثمان وعشرين وخمسمائة، وسمع الحديث الكثير، وكان مقتنعًا
(1)
انظر ترجمته في الذيل على الروضتين، ص 58 - 59؛ شذرات الذهب، ج 5، ص 11؛ البداية والنهاية، ج 13، ص 51.
(2)
الذيل على الروضتين، ص 59.
من الدنيا باليسير، وكانت وفاته في شوال، ودفن بباب حرب، وكان صالحًا ثقة لم يدخل فيما دخل فيه من أخوته.
إسماعيل بن على أبو محمد الحُطيري، من حطُيره الدُجيل
(1)
، كان أديبًا فاضلًا شاعرًا أنشد لنفسه:
لا عالم يبقى ولا جاهل
…
ولا نبيه [لا]
(2)
ولا خامل
على سبيل مُهَيع لا حب
…
يؤدي أخو اليقظة والغافل
جمال الدولة
(3)
إقبال الخادم، أحد خدام صلاح الدين يوسف بن أيوب، واقف الإقباليتين الشافعية والحنيفية، وكانتا دارين له فوقف عليهما وجعلهما مدرستين: الكُبرى للشافعية والصغرى للحنيفية، وجعل ثلثي أوقافه للشافعية والثلث الباقي للحنيفية، وهما مشهورتان بدمشق. مات إقبال المذكور بالبيت المقدس في الرابع عشر من ذي القعدة من هذه السنة.
حسام الدين أردشير صاحب مازندران، مات في هذه السنة وخلّف ثلاثة أولاد، فملك ابنه الأكبر بعده وأخرج أخاه الأوسط من البلاد، فقصد جُرجان
(4)
وبها الملك علي شاه بن خوارزم شاه تكش أخو خوارزم شاه محمد، وهو ينوب عن أخيه فيها، فشكى إليه ما صنع به أخوه من إخراجه من البلاد، وطلب منه [300] أن ينجده عليه ويأخذ له البلاد ليكون في طاعته، فكتب على شاه إلى أخيه خوارزم شاه بذلك، فأمره بالمسير معه إلى مازندران، وأخذ البلاد له، وإقامة الخطبة لخوارزم شاه فيها، فساروا من جرجان، فاتفق أن ابن حسام الدين أردشير صاحب مازندران مات في ذلك الوقت وملك البلاد بعده أخوه الأصغر، واستولى على البلاد والقلاع والأموال، فوصل علي شاه البلاد ومعه ابن صاحب مازندران فنهبوها وخربوها، فامتنع منهم الأخ الصغير بالقلاع وأقام
(1)
الحَطيرَة: قرية كبيرة من أعمال بغداد من جهة تكريت من ناحية دُجَيل. انظر: معجم البلدان، ج 2، ص 292.
(2)
ما بين حاصرتين ساقط من الأصل والمثبت من الذيل على الروضتين، ص 58.
(3)
انظر ترجمته في الذيل على الروضتين، ص 59؛ البداية والنهاية، ج 13، ص 59.
(4)
جرجان: مدينة مشهورة عظيمة بين طبرستان وخراسان، معجم البلدان، ج 2، ص 38 - ص 54.
بقلعة كوزا
(1)
وهي التي فيها الأموال والذخائر، وحصره فيها بعد أن ملكوا ساوة
(2)
وآمل
(3)
وغيرهما من البلاد والحصون، وخطب لخوارزم شاه فيها جميعها فصارت في طاعته وعاد على شاه إلى جرجان وأقام ابن أزدشير بمازندران مالكًا لبلادها جميعها سوى القلعة التي فيها أخوه الأصغر، وهو يراسله ويستميله ويستعطفه وأخوه لا يرد جوابًا ولا ينزل عن حصنه.
(1)
قلعة كُوزا: قلعة بطبرستان. انظر: معجم البلدان، ج 4، ص 320.
(2)
سارة: مدينة حسنة بين الري وهمذان في الوسط بينهما. معجم البلدان، ج 3، ص 24؛ بلدان الخلافة الشرقية، ص 266.
(3)
آمل: أكبر مدينة بسهل طبرستان. معجم البلدان، ج 1، ص 98 - ص 70.
فصل فيما وقع من الحوادث في السنة الرابعة بعد الستمائة
(*)
استهلت هذه السنة والخليفة هو الناصر لدين الله والسلطان الملك العادل نازل على بحيرة قدس بظاهر حمص، ثم وقعت الهدنة بينه وبين صاحب طرابلس، وعاد الملك العادل إلى دمشق وأقام بها، كذا ذكره المؤيد في تاريخه
(1)
وغيره. وقال بيبرس في تاريخه:
(2)
وفيها خرج العادل إلى الشام وكان سبب خروجه أن الفرنج أهل قبرس أخذوا عدة قطع من أسطول مصر ونهبوا من فيها وأسروهم، فأرسل العادل إلى صاحب عكا وقال له: نحن وأنتم صُلُح، فلم غدرتم؟ فاعتذر له أنه ليس حكم أهل قبرس إليه، وأن مرجعهم إلى القسطنطينية ثم إن أهل قبرس حدث عندهم غلاء فساروا إلى القسطنطينية، وعاد الحكم إلى صاحب عكا، فأطلق أسارى المسلمين.
ذكر مجيء الخلعة من الخليفة إلى الملك العادل وأولاده
(3)
وفي سابع عشر رمضان من هذه السنة وصل الشيخ شهاب الدين السُّهْرَوردي ونور الدين التركي الخليفتى وسنقر السلحدار رُسلًا من الإمام الناصر لدين الله إلى دمشق، وصحبتهم خلعة للسلطان الملك العادل، فبالغ العادل في إكرام الشيخ ومن معه والتقاهم إلى القُصير
(4)
، ولبس السلطان الخلعة من القصير إلى القلعة، وكذلك لبس ولداه الملك المعظم والملك الأشرف، والوزير صفي الدين بن شكر، وأستاذ الدار شمس الدين إلدكز العادلي، الخلع. وكان الأمير الدروم حاملًا التقليد على رأس نفسه، بين يدي السلطان، ودخل جميعهم من باب الحديد عند أذان الظهر، وأنزلت الرسل بدار عز الدين فرخشاه ورباط خاتون. وقرأ الوزير التقليد قائمًا بمحضر من القضاة وبياض البلد بإيوان القلعة. ولم يزل السلطان وأولاده وجميع الحاضرين قيامًا إلى أن فرغ الوزير من قراءته.
(*) يوافق أولها 28 يوليو سنة 1207 م.
(1)
انظر المختصر في أخبار البشر، ج 3، ص 108 - ص 109.
(2)
انظر، الكامل في التاريخ، ج 10، ص 341، ص 342.
(3)
انظر الذيل على الروضتين، ص 60.
(4)
القُصير: مدينة بمنطقة القور من أعمال الأردن، معجم البلدان، ج 4، ص 126.
واتفق حضور بهاء الدين [301] بن شداد قاضي حلب رسولًا من الملك الظاهر غازي صاحب حلب، وعلى يده ألفا دينار للنثار، فلم يأذن له العادل بنثارها، وأمره بعد ذلك بحملها للرسل فحُملت.
وفي تاريخ ابن كثير
(1)
: وصل من [صاحبي]
(2)
حماة وحلب ذهب وجوهر لينثر على الملك العادل إذا لبس الخلعة، فلبسها العادل ونثر ذلك الذهب عليه، وكان يومًا مشهودًا.
وفي تاريخ المؤيد:
(3)
وكذلك وصل إلى الملك العادل مع الخلعة تقليد بالبلاد التي تحت حكمه، وخوطب الملك العادل فيه شاهنشاه ملك الملوك، خليل أمير المؤمنين.
ثم توجه الشيخ شهاب الدين إلى مصر، فخلع على الملك الكامل بن العادل بها، وجرى فيها نظير ما جرى في دمشق من الاحتفال. ثم عاد الشيخ إلى بغداد مكرمًا معظمًا.
وقال أبو شامة:
(4)
ثم عادت رسل الخليفة إلى بغداد، وصحبتهم قاضي العسكر خليل الحنفي، وشمس الدين إلدكز أستاذ الدار بهدايا سنية، وودعهم العادل إلى القُصير.
وصفة الخلعة جُبّة أطلس سوداء بطراز ذهب، وعمامة سوداء بطراز ذهب، وطوق ذهب بجوهر، وسيف بقراب مُذَهَّب، وحصان أشهب بمركب ذهب، وعلم أسود خليفتي نشر على رأس العادل.
وقال بيبرس: وقصبة ذهب عليها علم أسود، مكتوب بالبياض اسم الخليفة.
وقال المؤيد:
(5)
وطوق ذهب مجوهر تَطَوَّق به الملك العادل.
وفي المرآة: وكان في خلعة العادل الطوق والمِسوَاران.
(1)
بالبحث في البداية والنهاية لم نجد هذا الخبر. والخبر نقله العيني من المختصر في أخبار البشر، ج 3، ص 109.
(2)
"صاحب" في الأصل. والصحيح ما أثبتناه من المختصر في أخبار البشر، ج 3، ص 109.
(3)
انظر: المختصر في أخبار البشر، ج 2، ص 109.
(4)
انظر: الذيل على الروضتين، ص 60.
(5)
انظر: المختصر في أخبار البشر، ج 3، ص 109.
وفي تاريخ بيبرس: لما جاءت الرسل من بغداد من عند الخليفة نهض الملك العادل للقائهم على الغَسُولة
(1)
في جميع عساكره، وعاد بهم إلى دمشق وقد اجتمع أهلها جميعًا، ولبس الخلعة، وزينت دمشق سبعة أيام، وقرئ سجل الخليفة بتفويض أمور البلاد إليه، وهي ديار مصر والساحل ودمشق والشرق وخلاط، وحضر وزير الظاهر ووزير صاحب حماة ووزير صاحب حمص للهناء بالخلعة الخليفتية، وكل منهم نثر الدنانير على الملك العادل، وخوطب بشاهنشاه ملك الملوك، سيد السلاطين، خليل أمير المؤمنين. وسار الرسول بخلعة الملك الكامل إلى مصر فزينت له مصر والقاهرة.
ذكر ماجريات ملوك البلاد
منها
(2)
أن الملك الأوحد ابن الملك العادل صاحب ميافارقين مَلَكَ مدينة خلاط بعد قتل صاحبها ابن بكتمر، وكان شابًا جميل الصورة، قتله بعض مماليكه ثم قُتل القاتل أيضا، فخلا البلد عن ملك، فأخذها الأوحد بن العادل.
وفي تاريخ النويري:
(3)
وفيها ملك الأوحد أيوب بن العادل مدينة خلاط، وكان صاحبها بلبان - على ما ذكرنا في سنة أربع وتسعين - فسار الأوحد من ميافارقين وملك مدينة مُوش
(4)
ثم اقتتل هو وبلبان صاحب خلاط فانهزم بلبان واستنجد بصاحب أرزن الروم، وهو مغيث الدين طغريل شاه بن قليج أرسلان السلجوقي، فسار طغريل شاه واجتمع إليه بلبان، فهزما الملك الأوحد، ثم غدر طغريل شاه ببلبان فقتله عذرًا ليملك بلاده. وقصد خلاط فلم يسلموها إليه، وقصد ملاذكرد فلم يسلموها إليه، فرجع طغريل شاه إلى بلاده.
(5)
وكاتب أهل خلاط الملك الأوحد فسار [302] إليهم وتسلم خلاط وبلادها بعد أياسه منها واستقر ملكه بها، وفي تاريخ بيبرس: قصد الأوحد مدينة موش وحصرها
(1)
الغَسُولَة: قرية من قرى دمشق. معجم البلدان، ج 3، ص 802 - 803.
(2)
انظر: الكامل، ج 10، ص 340 - 341؛ الذيل على الروضتين، ص 60 - 61؛ المختصر في أخبار البشر، ج 3، ص 108.
(3)
انظر: نهاية الأرب، ج 29، ص 43 - 44، الكامل، ج 10، ص 340 - 341؛ الذيل على الروضتين، ص 61.
(4)
مُوش: بلدة من ناحية خلاط بأرمينية. معجم البلدان، ج 4، ص 682.
(5)
ورد هذا النص بتصرف في الكامل، ج 10، ص 360، ص 341؛ نهاية الأرب، ج 29، ص 43 - ص 44، الذيل على الروضتين، ص 60، ص 61.
وأخذ ما يجاورها من البلاد، ولم يتمكن بلبان صاحب خلاط على منعه، ولما ملك الأوحد تلك البلاد طمع في خلاط، فسار إليها فهزمه بلبان، فعاد إلى بلده، وجمع وحشد وسير إليه أبوه العادل جيشا فقصد خلاط، فسار إليه بلبان فتصافا واقتتلا وانهزم بلبان، وتمكن الأوحد من البلاد ودخل بلبان خلاط واعتصم بها وأرسل رسولًا إلى مغيث الدين طغريل شاه صاحب أرزن الروم يستنجده على نجم الدين الأوحد، فحضر بنفسه ومعه عسكره فاجتمعا وهزما الأوحد، وحصرا موش وأشرفا على أخذها فغدر طغريل شاه بصاحب خلاط وقتله طمعًا في البلاد، ثم جرى منه ما ذكرنا إلى أن ملك الأوحد أخلاط وأعمالها سوى اليسير منها، وكره الملوك المجاورون له ملكه، خوفًا من أبيه، وكذلك أيضًا خافه الكرج وكرهوه فتابعوا الغارات على أعمال خلاط وبلادها، والأوحد مقيم بخلاط لا يقدر على مفارقتها، فلقى المسلمون من ذلك أذى شديدًا واعتزل جماعة من العسكر واستولوا على حصن أوان وهو من أعظم حصونهم، وعصوا على الأوحد نجم الدين واجتمع إليهم جمع كبير من مدينة أرجيشا
(1)
فأرسل الأوحد إلى أبيه العادل، فأرسل إليه ابنه الأشرف موسى أخا الأوحد، فاجتمعا في عسكر كبير وحصرا قلعة أوان وبها الخلاطية فجدوا في قتالهم فضعف أولئك عن مقاومتهم فسلموها صلحا وخرجوا منها وتسلمها نجم الدين الأوحد واستقر ملكه بخلاط، وعاد أخوه الأشرف إلى حران والرها.
ومنها
(2)
أن خوارزم شاه محمد بن تكش ملك بلاد ما وراء النهر من الخطأ بعد حروب طويلة، اتفق في بعض الأيام أمر عجيب، وهو أن المسلمين انهزموا عن السلطان خوارزم شاه في بعض المواقف وبقى هو ومعه عصابة قليلة من أصحابه فقتل منهم الكفار من الخطأ من قتلوا وأسروا خلقًا منهم، وكان السلطان خوارزم شاه في جملة من أسر، أسره رجل وهو لا يشعر به ولا يدرى أنه الملك، وأسر معه أميرًا يقال له ابن مسعود، فلما وقع ذلك وتراجعت العساكر الإسلامية إلى مقرها فقدوا من بينهم السلطان فاختبطوا فيما بينهم واختلفوا اختلافًا كثيرًا، وانزعجت خراسان بكمالها وظنوا أن السلطان قد قتل.
(1)
أرجيش: مدينة قديمة من نواحي أرمينية الكبرى قرب خلاط وأكثر أهلها أرمن نصارى. انظر معجم البلدان، ج 1، ص 196.
(2)
ورد هذا الخبر في البداية والنهاية، ج 13، ص 52 - ص 53؛ الكامل، ج 10، ص 334 - ص 337.
وأما ما كان من السلطان وذاك الأمير فإن الأمير قال للسلطان: إني أرى من المصلحة أن تترك الملك عنك في هذه الحالة وتظهر أنك غلام لي. فقبل منه ما أشار إليه وجعل يخدمه يُلبّسه ثيابه ويسقيه ويضع الطعام بين يديه ولا يألو جهدًا في خدمته. فقال الذي أسرهما: إني أرى هذا يخدمك فمن أنت؟ فقال: أنا ابن مسعود الأمير وهذا غلامي. فقال: والله لولا علم الأمراء بأني قد أسرت أميرًا لأطلقتك. فقال: إني إنما أخشى على أهلى فإنهم يظنون أني قد قتلت ويقيمون المأتم، فإن رأيت أن تفاديني على مال وترسل من يقبضه منهم فعلتَ خيرًا فقال: نعم [303] فعين رجلا من أصحابه، فقال ابن مسعود: إنهم لا يعرفون هذا ولكن إني رأيت أن أرسل معه غلامي هذا ليبشرهم بحياتي ويأمرهم بتحصيل المال. فقال: نعم. فجهز معهما من يحفظهما إلى مدينة خوارزم فلما اقتربوا من خوارزم سبق الملك إليها، فلما رآه الناس فرحوا فرحًا شديدًا جدًا ودقت البشائر في سائر بلاده وعاد الملك إلى نصابه.
واستقر السرور بأيامه وأصلح ما كان وَهِىَ من مملكته بسبب ما كان اشتهر من عدمه، وحاصر هراة وأخذها عنوة، وأما الذي أسره فإنه قال يومًا لابن مسعود: إن الناس متفرحون أن خوارزم شاه قد عدم. فقال: لا هو الذي كان في أسرك. فقال له: فهلا أعلمتني به حتى كنت أرده موقرًا معظمًا، فقال: خفتكم عليه. فقال: سر بنا إليه، فسارا إليه فأكرمهما إكرامًا زائدًا وأحسن إليهما. وذكر بيبرس هذه القصة وملخصها أن الخطأ كانت قد طالت أيامهم ببلاد كورستان وما وراء النهر وثقلت وطائهم على أهلها، ولهم في كل مدينة نائب يجيء إليهم الأموال، وقبل أن يملكوا كان مقامهم بنواحي أوركند وبلاساقول
(1)
وكاشغر
(2)
في تلك النواحي، فاتفق أن سلطان سمرقند أو بخارى
(3)
ولقبه جان خانان يعني سلطان السلاطين، وهو من أولاد الحانية عريق النسب في الإسلام والملك، أنف وضجر من مَحكم الكفار على المسلمين، فأرسل إلى خوارزم شاه يقول
(1)
بلاساغون: كذا في ياقوت، وهي بلد عظيم من ثغور الترك وراء نهر سيحون قريب من كاشغر، معجم البلدان، ج 1، ص 708.
(2)
كاشغر: مدينة وسط بلاد الترك، معجم البلدان، ج 4، ص 227.
(3)
بخارى من أعظم مدن ما وراء النهر، معجم البلدان، ج 1، ص 517 - ص 522.
له: إن الله قد أوجب عليك بما أعطاك في سعة المال والملك وكثرة الجنود أن تستنقذ المسلمين وبلادهم من أيدي الكفار وتخليصهم مما يجرى عليهم من الحكم في الأنفس والأموال، ونحن نتفق معك على محاربة الخطأ ونحمل إليك ما كنا نحمل إليهم، ونذكر اسمك في الخطبة وعلى السكة. فأجابهم خوارزم شاه محمد إلى ذلك وقال: أخاف أنكم لا تفون لي. فسير إليه أهل سمرقند وجوه أهل بخاري وسمرقند بعد أن حلّفوا صاحبهم على الوفاء بما تضمنه وضمنوا عنه الصدق والوفاء بما بذل وجعلوا عنده رهائن.
فشرع في إصلاح أمر خراسان، وتقرير قواعدها، فولى أخاه على شاه طبرستان مضافة إلى جرجان، وأمره بالحفظ والاحتياط، وولى الأمير كزلك خان وهو من أقاربه لأمه وأعيان دولته نيسابور، وجعل معه عسكرًا، وولي الأمير جلدك مدينة الحمام وولى أمين الدين مدينة زوزن
(1)
وهذا الأمين كان حمالًا وعاد من أكبر الأمراء وملك بعد ذلك كرمان. وأقر الحسين بن خرميل على هراة وجعل معه فيها ألف فارس من الخوارزمية، وصالح غياث الدين محمودًا على ما بيده من بلاد الغور، واستناب نوايا في مرو وسرخس وغيرهما من خراسان وأمرهم بحسن السيرة والحفظ والاحتياط وجمع عساكره جميعها وسار خوارزم شاه وعبر جيحون واجتمع بسلطان سمرقند وسمع به الخطأ فحشدوا وجاءوا إليه وجرت بينهم وقعات كثيرة ومغاورات فتارة له وتارة عليه. وفيها قتل حسين بن حزميل وحوصرت هراة وذلك أن ابن حزميل رأي سوء معاملة عسكر خوارزم شاه الذي رتبه عنده بهراة للرعية وتعديهم إلى الأموال، فقبض عليهم وحبسهم [304] وبعث رسولًا إلى خوارزم شاه يعتذر ويعرفه ما صنعوا وما صنع بهم، فعظم عليه ولم يمكنه محاققته لاشتغاله بقتال الخطأ، فكتب إليه يستحسن فعله ويأمره بإنفاذ الجند الذين قبض عليهم لحاجته إليهم، وقال: إني أمرت عز الدين جلدك صاحب الحمام أن يكون عندك لما أعلمه من عقله وحسن سيرته وأرسل إلى جلدك بالمسير إلى هراة وأسرّ إليه أن يحتال في القبض على ابن خرميل ولو أول ساعة يلقاه، فسار جلدك في ألفي فارس وكان أبوه طغرل أيام السلطان سنجر واليًا بهراة وكان يختارها على جميع خراسان، فلما قاربها وعزم ابن حزميل على الخروج للقائه، قال له وزيره وكان يعرف بخواجا الصاحب: لا تخرج إليه ودعه يدخل إليك منفردًا فإني أخاف أن يغدر بك وأن يكون خوارزم شاه قد أمره بذلك.
(1)
زُوزَن: كوره واسعة بين نيسابور وهران، معجم البلدان، ج 2، ص 958.
فخالفه وراح إليه فقبضه وانهزم أصحابه، فدخلوا المدينة وأخبروا الوزير بالحال فأمر بغلق الأبواب والقتال من على الأسوار، وأرسل جلدك إلى الوزير الأمان ويتهدده إن لم يسلم البلد، فقال الوزير: هذا البلد لغياث الدين ولأبيه من قبله. فقدم ابن حزميل إلى السور فقال للوزير، افتح لهم البلد. فقال: لا. فقتل ابن حزميل وأرسل إلى خوارزم شاه يخبره بجلية الحال، فأرسل خوارزم شاه إلى كذلك خان والي نيسابور، وإلى أمين الدين أبي بكر صاحب زوزن يأمرهما بالمسير إلى هراة وحصارها وأخذها فسارا في عشرة آلاف فارس فنزلوا على هراة وراسلوا الوزير في تسليمها، فامتنع وقال: ليس لكم من المحل ما يقتضى أن نسلم لكم مثل هراة، لكن إذا وصل السلطان خوارزم شاه سلمناها إليه، فقاتلوه وجدوا في قتاله فلم يقدروا عليه، ثم جمعوا المياه أيامًا ثم أرسلوها فأحاطت بالسور فلم يقدروا على أن يدنوا من السور، فانتقل العسكر من المدينة وما أمكنهم القتال لبعدهم عن السور، وأما خوارزم شاه فإنه دام القتال بينه وبين الخطأ، ففي بعض الأيام اقتتلوا قتالًا شديدًا ثم انهزم المسلمون هزيمة كبيرة ودام القتال بينهم، وقتل كثير وأسر كثير وأسر السلطان خوارزم شاه وأمير كبير من أمرائه يقال له شهاب الدين بن مسعود، ووصلت العساكر الإسلامية إلى خوارزم ولم يروا السلطان فأرسلوا إلى كزلك خان والي نيسابور وهو يحاصر هراة فأعلموه الحال، فحين سمع سار عن هراة ليلًا إلى نيسابور، ولما وصل إليها شرع في عماره سورها وكان خوارزم شاه قد خربه لما ملكها من الغورية، وأدخل كزلك خان إليها الميره واستكثر من الجند وعزم على الاستيلاء على خراسان إن صح فقد السلطان، وبلغ خبر عدم السلطان إلى أخيه على شاه وهو يومئذ بطبرستان، فدعى إلى نفسه وقطع خطبه أخيه واستعد لطلب السلطنة، واختلطت خراسان اختلاطًا عظيمًا ثم ذكر ما جرى بين السلطان خوارزم شاه وبين ابن مسعود وهما في الأسر كما ذكرناه عن قريب.
وحاصل الكلام لما وصل خوارزم شاه إلى خوارزم ضربت له البشائر وزينوا البلد وأتته الأخبار بما صنع كزلك بنيسابور وبما صنع أخوه علي شاه بطبرستان، وبلغ كلك خان وصوله فأخذ أمواله وعسكره [305] وهرب نحو العراق، وبلغ أخوه علي شاه وصول أخيه فخافه وسار إلى غياث الدين محمود الغورى، فلقاه وأكرمه وأنزله عنده، وأما خوارزم شاه فإنه دخل نيسابور وأصلح أمرها وسار إلى هراة وجعل فيها نائبًا مع عسكره الذي يحاصرها وأحسن إلى أولئك الأمراء ووثق بهم لأنهم صبروا على تلك الحال ولم يتغيروا ولم يبلغوا
من هراة غرضًا بِحُسْن تدبير ذلك الوزير، وأرسل إليه خوارزم شاه يقول له: إنك كنت وعدت أني إذا حضرت تسلم البلد وأنا قد حضرت، فسلم فقال: لا أفعل؛ لأني أعلم أنكم غدارون لا تبقون على أحد ولا أسلم إلا إلى غياث الدين محمود. فغضب خوارزم شاه وزحف إليه بعساكره فلم يكن له فيه حيلة، فاختلف أهل هراة على الوزير فأراد أن يستدركهم فحمل خوارزم إلى البلد، فأخذ برجا فدخل منه هو وعسكره وأخذ الوزير فقتله، وتسلم البلد، وأصلح حاله وسلّمه إلى خاله أمير ملك وهو من أعيان أمرائه، ولم تزل هراة بيده حتى هلك خوارزم شاه ولما سلم خوارزم شاه هراة إلى خاله أمير ملك سار إلى خوارزم وأمره أن يقصد غياث الدين محمود صاحب الغور وفيروزكوه، فسار أمير ملك إليه فلما بلغ ذلك محمودًا أرسل يبذل له الطاعة ويسأله الأمان فأعطاه ذلك، فلما نزل إليه قبض عليه وعلى علي شاه أخي خوارزم شاه فسألا أن يحملا إلى خوارزم شاه ليري فيهما رأيه فأرسل أمير ملك إلى خوارزم شاه يعرفه الخبر فأمره بقتلهما فقتلا في يوم واحد واستقامت خراسان كلها لخوارزم شاه
(1)
ثم عاد خوارزم شاه إلى الخطأ فعبر نهر جيحون فجمع له الخطأ جمعًا عظيمًا وساروا إليه والمقدم عليهم شيخ دولتهم القائم مقام ملكهم المعروف بطاينكوه، وكان عمره قد جاوز مائة سنة، وكان كثير التجارب حسن التدبير جيد التعقل، واجتمع خوارزم شاه وصاحب سمرقند وتصافوا هم والخطا سنة ست وستمائة، فجرت حروب لم يكن مثلها شدة وصبرا فانهزم الخطأ وقتل منهم وأسر في هذه المدة خلق لا يحصى عددهم إلا الله، وكان فيمن أسر طانيكوه مقدمهم وجيء به إلى خوارزم شاه فأكرمه وأجلسه على سريره وسيره إلى خوارزم، ثم قصد خوارزم شاه بلاد ما وراء النهر فملكها مدينة مدينة وناحية ناحية حتى بلغ أوركند وجعل نوابه فيها وعاد إلى خوارزم ومعه صاحب سمرقند، ثم بعث معه شحنة تكون بسمرقند، ولما عاد صاحب سمرقند إليها ومعه شحنة لخوارزم شاه أقام معه نحو سنة فرأى من سوء سيرة الخوارزميين وقبح معاملتهم ما ندم على مفارقة الخطا، فأرسل إلى ملكهم يدعوه إلى سمرقند ليسلمها إليه ويبذل له الطاعة وأمر بقتل كل من في سمرقند من الخوارزمية ممن سكنها قديمًا وحديث، وقطّع أصحاب خوارزم شاه قطعًا وعلقهم في الأسواق ومضى إلى القلعة ليقتل زوجته ابنة خوارزم شاه، فغلقت الأبواب [30] ووقفت بجواريها تمنعه وأرسلت إليه
(1)
انظر الكامل، ج 10، ص 337 - ص 339.
تقول: إني امرأة وقتل مثلي قبيح ولم يكن مني إليك سوء ولا ما استوجب به هذا منك، ولعل تركي أحمد عاقبة فاتق الله فيَّ. فتركها ووكل بها من يمنعها من التصرف، وبلغ الخبر خوارزم شاه فقامت قيامته وأراد قتل الغرباء الذين في بلده، فمنعته أمه من ذلك وأمر بقتل أهل سمرقند فنهته عن ذلك، وأمر بتجهيز العساكر إلى ما وراء النهر وجهز جماعة ليعبروا جيحون فعبر منهم خلق لا يحصى عددهم، ثم عبر هو بنفسه في آخرهم ونزل على سمرقند وأرسل يقول لصاحبها: قد فعلت ما لم يفعله مسلم واستحليت من دماء المسلمين ما لم يستحله مسلم ولا كافر، وغفر الله عما سلف فأخرج الآن من البلاد. فقال له: افعل مابدا لك فأمر عساكره بالزحف، فأشار إليه بعض من معه بأن يأمر بعض الأمراء إذا فتحوا البلد أن يصير إلى الدرب الذي يسكنه التجار فيمنع من به ولا يمكن أحد من التطرق إليهم بسوء، فإنهم غرباء وكلهم كارهون لهذا الفعل، فأمر بعض الأمراء بذلك ونصب السلاليم على البلد فلم يكن بأسرع من أن أخذها وأذن لعسكره بالنهب وقتل من يجدونه من أهل سمرقند، فنهبوا وقتلوا ثلاثة أيام فيقال: إنهم قتلوا مائتي ألف إنسان وسلم الدرب الذي فيه الغرباء فلم يعدم منهم الرجل الواحد، ثم كف عنهم وأرسل صاحب القلعة يطلب الأمان بعد أن حاصروها، فقال: لا أمان لك عندي فملكوها وأسروا صاحبها وأحضروه عند خوارزم شاه. فقبل الأرض وطلب العفو فلم يعف عنه وقتل صبرًا وقتل كل من ينسب إلى الخانية ورتب فيها وفي سائر البلاد ثوابه ولم يبق لأحد معه في البلاد ذكر.
ومنها أنه تحارب الخطأ وملك التتار كشلي خان المتاخم لمملكة الصين، فكتب الخطأ إلى خوارزم شاه يستنجدونه على التتار ويقول: متى غلبونا خلصوا إلى بلادك، وكذا وقع، وكتب إليه التتار يستنصرون به على الخطأ ويقولون: هؤلاء أعداؤنا وأعداؤك فكن معنا عليهم فكتب خوارزم شاه إلى كل من الفريقين يطيب قلبه، وحضر الوقعه بينهم وهو متحيز عن الفريقين فكانت الدائرة على الخطأ فهلكوا إلا القليل منهم، وغدر التتار ما كانوا وافقوا عليه الملك خوارزم شاه فوقعت بينهما الوحشه الأكيدة وتواعدوا اللقاء وخاف منه خوارزم شاه وخرب بلدًا كبيرة متاخمة لبلاد كشلي خان خوفا عليها أن يملكها، ثم أن جنكيز خان خرج على كشلي خان فاشتغل بمحاربته عن محاربة خوارزم شاه ثم وقع من الأمور الغريبة ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
(1)
(1)
ورد هذا الخبر بتصرفه في الكامل، ج 10، ص 339 - ص 360؛ البداية والنهاية، ج 13، ص 53.
وفي تاريخ بيبرس:
(1)
ما نلخصه أنه كانت وقعه عظيمة بين التتار والخطا وذلك أنه لما فعل خوارزم شاه ما ذكرناه أولًا مضى مَنْ سلم من الخطأ إلى ملكهم فاجتمعوا عنده، وكانت طائفة عظيمة من التتار قد خرجوا من بلادهم من حدود الصين ونزلوا تركستان، وكان بينهم وبين الخطأ عداوة وحروب فلما سمعوا ما فعله خوارزم شاه بالخطا قصدوهم مع ملكهم كشْلي خان، فلما رأى ملك الخطأ ذلك أرسل إلى خوارزم شاه يقول له: أما ما كان منك من أخذ بلادنا [307] وقتل رجالنا فمعفو عنه وقد أتانا من هذا العدو مالا قبل لنا به وأنهم إن انتصروا علينا وملكونا فلا دافع لهم عنك والمصلحة أن تسير إلينا بعساكرك وتنصرنا على قتالهم، ونحن نحلف لك أنا إذا ظفرنا بهم لا نقرب بلادك ونقنع بالمواقع التي تتركونها. فأجاب إني معك ومعاضدك على خصمك، فسار بعساكره حتى نزل قريبًا من الموضع الذي تصافوا فيه فلم يخالطهم مخالطة من يعلم أنه معه وكانت كل طائفة تظن أنه معها، وانهزم الخطا من التتار هزيمة عظيمة، فمال خوارزم شاه على الخطأ وجعل يقتل ويأسر فلم يترك أحدًا ينجو منهم فلم يسلم منهم إلا طائفة يسيرة مع ملكهم في ناحية من نواحي الترك ليس إليها طريق
(2)
فتحصنوا فيها وانضم إلى خوارزم شاه منهم طائفة، وأنفذ خوارزم شاه إلى كشلي خان ملك التتار يمنّ عليه أنه لم يحضر إلا لمعاضدته ولولاه ما انهزم الخطا، فاعترف له كشلي خان بذلك مدة، ثم أرسل إليه يطلب مقاسمة بلاد الخطا ويقول له: إنا اتفقنا على إبادتهم فنقسم بلادهم لنا ولك. فأجابه بأنه ليس لك عندي إلا السيف ولستم أقوى من الخطا شوكة، قال: قنعت بالمساكته
(3)
، وإلا سرت إليك وفعلت بك أكثر مما فعلتُ بالخطا.
وتجهز كشلي خان وسار حتى نزل قريبًا منهم، وعلم خوارزم شاه أنه لا طاقة له به فكان يراوغه فإذا سار إلى موضع قصد خوارزم شاه أهله وأثقاله فنهبها، وإذا سمع أن طائفة سارت عن مقطنهم
(4)
سار إليها فأوقع بها، فأرسل إليه كشلي خان يقول له: هذا فعل الملوك! هذا فعل اللصوص. فإن كنت سلطان فألقني فإما أن تهزمني وتأخذ بلادي
(1)
ورد هذا الخبر في الكامل، ج 10، ص 339 - ص 340.
(2)
"إلا من جهة واحدة" كذا في الكاملي، ج 10، ص 340.
(3)
"المساكنه" كذا في الكامل، ج 10، ص 340.
(4)
"موطنهم" كذا في الكامل، ج 10، ص 340.
وإما أن أهزمك، فكان يغالطه ولا يجيبه إلى ما طلب، لكنه أمر أهل الشاش
(1)
وفرغانه
(2)
وأسبيجاب
(3)
وكأسان
(4)
وما حولها من المدن التي لم يكن في الدنيا أنزه منها ولا أحسن عمارة - بالجلاء منها واللحاق ببلاد الإسلام ثم خربها جمعية خوفًا من التتار أن يملكوها، ثم اتفق خروج جنكيز خان علي كشلي خان فاشتغل به عن خوارزم شاه فعبر النهر إلى خراسان.
ومنها أن الملك العادل قصد مدينة عكا بعساكره الكثيره فصالحه صاحبها الفرنجي على إطلاق الأسرى من المسلمين وغير ذلك، ثم سار إلى بحيرة قدس وجاءته عساكر الشرق وديار الجزيرة ودخل بلاد طرابلس وحاصر موضعًا يسمى القليعات وأخذه صلحًا وأطلق صاحبه وغنم ما فيه من دواب وسلاح وخرّبه، وتقدم إلى طرابلس فنهب وأحرق وغنم فكانت مدة مقامه في بلد الفرنج اثني عشر يومًا، وعاد إلى بحيرة قَدَس وترددت الرسل بينه وبين الفرنج في الصلح فلم تستقر قاعدة، ودخل الشتاء وطلب العساكر الشرقية العود إلى بلادهم فترك طائفة من العسكر بحمص عند صاحبها وعاد إلى دمشق فشتى بها، وعادت عساكر الجزيرة إلى أماكنها. وقال الرشيد النابلسي يمدحه.
خشعت لهيئة مجدك الأبصار
…
وعنت لدولة ملكك الأمصار
ودنا لك الغرض البعيد وأصحب
…
الجد السعيد وواتت الأوطار [308]
وتظافرت لك بالظهور على العدي
…
همم بها تتخاذل الأنصار
أمِنَ الحوادث مَنْ بساحتك احتمى
…
فكان جارك للمجرة جار
ووفى بذمتك الزمان وصَرْفُه
…
وهو المضيع زمامه الغدار
دانت لك السبع الشداد كأنما
…
بمرادك الفلك العِلِيُّ يُدار
فإذا رماح الخط نحوك أشرعت
…
فطوالها عما تروم قصار
وإذا الجياد ثنت إليك شكيمها
…
غلبت عليها كبوة وعشار
(1)
الشاش: بلدة وراء النهر، ثم ما وراء نهر سيحون متآخمة لبلاد الترك، معجم البلدان، ج 3، ص 233.
(2)
فرغانة: مدينة وكورة واسعه بما وراء النهر متآخمة لبلاد تركستان. انظر، معجم البلدان، ج 3، ص 878، ص 880، بلدان الخلافة، ص 520.
(3)
اسبيجاب: إقليم وقصبه من أقاليم نهر سيحون، انظر بلدان الخلافة، ص 527.
(4)
كاسان: مدينة كبيرة في أول بلاد تركستان وراء نهر سيحون وراء الشاش. انظر معجم البلدان، ج 4، ص 227.
وإذا غضبت على الملوك فإنه
…
هُلكٌ دنى منها وحان بوار
ولأنت سيف الدين والدنيا الذي
…
في الشرك أرهف حدُّهُ الجبار
مَلِكٌ ملائكهُ السماءِ جنوده
…
وعبيده الأيام والأقدار
خطبته آفاق البلاد لملكها
…
وترقبته العُونُ والأبكار
وقضت له السبع الكواكب بالذي
…
تهواه منها والذي تختار
رب الجحافل زلزلت من وطئها
…
لما سرى وارتجت الأقطار
مثل البحور الزاخرات يُمدها
…
من حيث شاء من الجيوش بحار
طاشت عقول المارقين لهول منـ
…
نظره وحارت منهم الأفكار
فاستعصموا بالعفو منه ولم يكن
…
توب ليعصمهم ولا استغفار
حتى غدوا خُضُعَ الرقاب منكسي الـ
…
أعناق في جبهاتهم آثار
ومنها:
في كل يوم غارة شعواء لا
…
تألو ونقع للهياج مثار
فمعاقل مهجومة ومنازل
…
مهدومة بعد الأنيس قفار
ومنها:
قَلَدَ الزمان بشاشةٌ وطلاوةٌ
…
وعلى البلاد وأهلها أنوار
بالعادل الملك الذي لعداته
…
ذُلّ على طول المدى وصَغارُ
المانح الأبصار ما طمحت ومَنْ
…
يعطى مدى ما تطمع الأبصار
الساتر العورات عن أعدائه
…
تزوى السعود وتكشف الأستار
الخاشع الصوام والمتهجد الـ
…
قوام والمتبتل الصبار
الخارق العادات بالجود الذي
…
في الخافقين لعرفه إنكار
المُلْقِحُ الحرب العوانِ وقاعُها
…
فتح الممالك كلها أبكارُ
الضارب الشوهاء
(1)
إثر الطعنة الـ
…
ــفوهاء
(2)
فيها يغرق المسبار
(3)
نشوان من خمر المكارم والعُلَى
…
عطفًا وما دارت عليه عُقَّارُ
(4)
يَسقي ذوابله الدماء فمالها
…
إلا رؤوس المارقين ثِمارُ [309]
وهي الممالك لم يُشِدْ إركانها
…
إلا الصوارم والقني الخَطّارُ
ومنها:
يا آل أيوب الأولى لولاهم
…
عَفَتْ العُلوم وعِيْفَت الأشعارُ
يا أعدل الأملاك ليس لدهرنا
…
إلاك نهاءٌ ولا أمارٌ
أنت الذي ما للنجوم الزهر في
…
عالى المحل بحيث طار مطارُ
تتراجع الأبصار عنك حسيرة
…
وتعوم فيها فتغرق الأفكارُ
لا مجد يخطر في رداء جلالة
…
ذو المجد إلا وهو منك معارُ
أيام دولتك الربيع وما سوى
…
أفعالك الحسني بها أزهارُ
ما حاجة الدنيا وَجُوُدُكَ هاطلٌ
…
أن تَستهلّ بوَبلها الأَمطارُ
لا يُستطاع مداك في شرف ولا
…
لك يوم حلْبته يشق غبارُ
سبحان معطيك الذي لم يعطه
…
بشر تعالى الواحد القهارُ
ومنها: أنه
(5)
وقعت الفتنة بخلاط، وقتل كثير من أهلها لما تم مُلكُ الملك الأوحد نجم الدين بن الملك العادل، سار عنها إلى ملازكرد ليقرر قواعدها ويفعل ما ينبغي أن يفعله فيها. فلما فارق خلاط وثب أهلها على مَنْ بِهَا من العسكر، فأخرجوه من عندهم، وعصوا وحصروا القلعة وبها أصحاب الأوحد، ونادوا بشعار شاهرمن، وكان ميتًا، يعنون
(1)
الشوهاء: من الخيل الحديدة الفؤاد، والفرس الحديدة البصر وتقال للأنثى، ولا تقال للذكر، وهي الفرس التي في رأسها طول وفي منخربها وفمها سعة. انظر لسان العرب مادة "شوه".
(2)
الفوهاء: بمعنى الواسعة. انظر محيط المحيط "مادة "فوه".
(3)
المسبار: ماسبر به وقُدّر به غور الجراحات وهو فتيلة تجعل في الجرح ليعرف عمقه وجمعها مسابير. انظر، لسان العرب، مادة "سبر".
(4)
العُقَّار: العاقبة. انظر: محيط المحيط، ج 2، ص 1440 مادة "عقر".
(5)
ورد هذا الخبر في الكامل، ج 10، ص 342؛ نهاية الأرب، ج 29، ص 43 - 44.
بذلك رد المُلْك إلى أصحابه ومماليكه. فبلغ الخبر الملك الأوحد، وقد وافاه عسكر من الجزيرة، فقوى بهم وحصر خلاط، فاختلف أهلها، فمال إليه بعضهم حسدًا للآخرين، فملكها وقتل بها خلقًا كثيرًا من أهلها، وأسر منهم جماعة، فلم يَسلم إلا القليل، فسير الأسارى إلى ميافارقين. وكان كل يوم يرسل إليهم يقتل جماعة، وذل أهل خلاط بعد هذه الوقعة.
ومنها أنه ملك أبو بكر بن البهلوان
(1)
مراغة وسببه أن صاحبها علاء الدين بن قرا سنقر مات في هذه السنة وولي بعده ابن له طفل، وقام بتدبير دولته خادم من مماليك أبيه فعصي عليه أمير كان مع أبيه، وجمع جمعًا كثيرًا فأرسل إليه الخادم من عنده من العسكر، فقاتلهم ذلك الأمير فانهزموا واستقر [ملك]
(2)
ولد علاء الدين إلا أنه لم تطل أيامه، وحانت وفاته فمات أول سنة خمس وستمائة وانقرض أهل بيته ولم يبق منهم أحد، فلما توفي سار نصرة الدين أبو بكر بن البهلوان من تبريز إلى مراغة فملكها واستولى على جميع مملكة آل قراسنقر ما خلا قلعة روندور
(3)
فإن الخادم اعتصم بها وعنده الخزائن والذخائر، فامتنع على الأمير أبي بكر بن البهلوان.
ذكر بقية الحوادث
منها أن الملك العادل أمر بتجديد قلعة دمشق، ووظف على كل ملك من أهل بيته وأمير من أكابر أمرائه برجًا من أبراجها فعمروها من أموالهم خدمة له.
ومنها أنه كمل الملك الكامل بناء قلعة الجبل المطلة على القاهرة وتحول إليها من دار الوزارة. قال بيبرس
(4)
: وعدة من سكنها من الملوك - إلى حين تسطير [310] هذا المصنف المبارك - أربعة عشر ملكًا، من الملوك الأيوبية ثلاثة، ومن ابتداء الدولة التركية إلى الآن أحد عشر ملكًا يأتي ذكرهم واحدًا فواحدا، ولما سكن الكامل القلعة المذكورة نقل أولاد العاضد من القصر إليها، وبنى لهم بها صورة اعتقال ولم يزالوا به إلى
(1)
انظر معجم الأنساب، ج 2، ص 349؛ وفيات الأعيان، ج 5، ص 208.
(2)
ما بين حاصرتين إضافة من الكامل، ج 10، ص 343.
(3)
روين كذا في الكامل، ج 10، ص 343، وهي قلعة من أعمال أذربيجان قرب تبريز - انظر، معجم البلدان، ج 2، ص 875.
(4)
ورد هذا الخبر في نهاية الأرب، ج 29، ص 41.
أن حُولوا في سنة إحدى وسبعين وستمائة، وبنى الاعتقال دارًا، قلت: كانت إحدى وسبعين وستمائة من أيام السلطان الملك الظاهر بيبرس رحمه الله، والثلاثه من الملوك الأيوبية هم: الملك الكامل محمد وابنه الملك الصالح نجم الدين أيوب
(1)
.
ومنها
(2)
أنه رُكبت الساعات بمئذنة العروس في الجامع الأموي وشرعوا في بناء البرج الذي تجاه المدرسة القيمرية.
(3)
ومنها
(4)
أن في غرة ذي القعدة شهد محيي الدين أبو محمد يوسف بن الشيخ أبي الفرج بن الجوزي عند قاضي القضاة أبي القاسم الدامغاني، فقبله وولاه حسبة
(5)
جانبي بغداد وخلع عليه خلعة سوداء بطرحة
(6)
كحلية، وبعد عشرة أيام جلس للوعظ وحضر عنده خلق كثير، وبعد أربعة أيام من يومئذ درس بمشهد الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه ضياء الدين أحمد بن مسعود المركستاني الحنفي وحضر عنده الأعيان والأكابر.
ومنها أن الخليفة قبض على وزيره ابن المهدي العلوى وذلك لأنه نسب إلى أنه يروم الخلافة وقيل غير ذلك من الأسباب، والمقصود أنه حبس بدار طاشتكين الأمير حتى مات بها، وكان جبارًا عنيدًا قدّمه الشعراء حتى قال بعضهم فيه:
خليلي قولا للخليفة أحمد
…
توقّ وقيت السوء ما أنت صانعُ
وزيرك هذا بين أمرين منهما
…
صنيعك يا خير البرية ضائع
فإن كان حقًا من سلالة حيدر
…
فهذا وزير في الخلافة طامعُ
وإن كان فيما يدعي غير صادق
…
فأضيع ما كانت لديه الودائع
وقد قيل: إنه كان عفيفًا عن الأموال، حسن السيرة، جيد المباشرة والله أعلم.
(1)
فراغ بمقدار ثلاث كلمات، والملك الثالث من الملوك الأيوبية هو الملك المعظم نوران شاه.
(2)
ورد هذا الخبر في نهاية الأرب، ج 29، ص 41.
(3)
المدرسة القيمرية: أنشأها مقدم الجيوش ناصر الدين القيمري حسين بن عبد العزيز، بسوق الحريميين - انظر النعيمي، الدارس، ج 1، ص 41.
(4)
انظر البداية والنهاية، ج 13، ص 54.
(5)
الحسبة: من الوظائف الدينية، ومن يقوم بها يطلق عليه اسم المحتسب، ومن أهم أعماله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن أعماله مراقبة الأسواق والتعيين على البيمارستانات والكتاتيب
…
الخ. صبح الأعشى، ج 3، ص 487.
(6)
الطرحة: غطاء للرأس، وهو كساء يلقى على الكتف أيضًا. المعجم الوجيز، مادة "طرح".
وفي المرآة
(1)
: قبض الخليفة على الوزير المذكور ليلًا، بعث إليه رجلًا من أهل باب الأزج يقال له ابن دُكاله، فأغلق بابه وأقام أيامًا ثم نقله إلى دار طاشتكين بالصاغة في دار الخليفة التي مات فيها القاضي شريح، ونقل أهله وأولاده وأمواله وذخائره، ووجدوا له من الأموال والذخائر ما لم يوجد في خزائن الخلفاء، وفوض الأمر إلى المكين
(2)
محمد القمي كاتب الإنشاء بين يدي ابن مهدى، وناب القمي بعد ذلك في الوزارة إلى أيام المستنصر فقبض عليه، واختلفوا في سبب عزل الوزير ابن مهدي، فقال قوم: كان ظالمًا جبارًا قاسيًا متكبرًا قليل الرحمه قَلَّ إن حبس أحدًا فتخلص منه. قال السبط: وحكي لي خالي أبو محمد يوسف قال: شفعت يومًا إليه في محبوس، فقال: وكم له في الحبس؟ قلت: خمس سنين. فقال: هذا ليس بمحبوس المحبوس عندنا في العجم من يمضي عليه خمسون سنة. وقال آخرون: إن المكين القمي سعي به إلى الخليفة، وقال: إنه طمع في الخلافة ويقول أنا علوى ونحن أحق وأنه ينفذ الأموال إلى العجم من قواصر
(3)
التمر إلى أهله ليجندوا
(4)
العساكر ويقيموا ملكًا ويقصدوا بغداد. وقال آخرون: إنه اتفق [311] مع ابن الساوا
(5)
النصراني على قتل علاء الدين يتامش مملوك الخليفة، وسنذكره إن شاء الله تعالى.
ومنها أن الحجاج رجعوا إلى العراق وهم يدعون إلى الله ويشكون إلى الناس ما لقوا من صدر جهان البخاري الحنفي
(6)
الذي كان قدم بغداد في رسالة فاحتفل به الخليفة، وخرج إلى الحج في هذه السنة فضيق على الناس في المياه والميرة، فمات نحو من ستة آلاف من الحجيج العراقي في هذه السنة، وكان غلمانه تسبق إلى المناهل فيحجزون على الماء ويأخذونه فيرشونه حول خيمة مخدومهم في قيظ الحجاز، ويسقونه البقولات
(1)
نقل العيني هذا الخبر من مرآة الزمان، ج 8، ص 347 - 348.
(2)
هو المكين أبو الحسن محمد بن محمد القُمّى. الجامع المختصر، ج 9، ص 222.
(3)
قواصر التمر: مفردها القوصرة، وهي وعاء التمر يتخذ من قصب. انظر المصباح المنير، مادة قصر؛ لسان العرب.
(4)
ليجيدوا: كذا في الأصل، والمثبت من المرآة، ج 8، ص 348 حيث ينقل العينى عنه؛ وكذا في الذيل على الروضتين، ص 59 - ص 60.
(5)
"السارى" كذا في الأصل، ومرآة الزمان، ج 8، ص 398، والتصحيح من الذيل على الروضتين، ص 60؛ الجامع المختصر، ص 220.
(6)
هو محمد بن أحمد بن عبد العزيز البخاري. انظر الذيل على الروضتين، ص 59.
التي تحمل معه في ترابها، ويمنعون منه ابن السبيل إلى المسجد الحرام حتى مات خلق كثير بسبب ذلك، فلما رجع مع الناس لعنته العامة ولم يحتفل به الخاصة ولا أرسل إليه الخليفة أحدًا، وخرج والعامة ورآه يرجمونه ويلعنونه، وسماه الحاج في هذه السنة صدر جهنم.
(1)
وفي المرآة: وقدم الحاج من مكة في صفر وحكوا ما لقوا من صدر جهان، وشدة العطش ولم يخرج أحد إلى لقائه ولعنوه في وجهه وسبوه في الأسواق، وكتبوا لعنته على المساجد والجوامع، [وكان]
(2)
النساء يخرجن صارخات [منشرات]
(3)
الشعور يلطمن على موتاهن ويقلن: العنوا صدر جهنم.
قال السبط: وحججت أنا في هذه السنة ورأيت من الموتى ما أذهلني وخصوصًا في النقرة
(4)
والعُسَيلة
(5)
، فإني رأيت فيها ما يزيد على خمسة آلاف ميت، ومشينا ثلاثة أيام في الأموات.
ومنها أن الخليفة رتب في رمضان دور [المضيف
(6)
] ببغداد من الجانبين عشرين دارًا، في كل دار في كل ليلة خمسمائة قدح وألف رطل من الطبيخ الخاص والجنزالنقي والحلواء وغير ذلك مستمر في كل رمضان.
وفيها ( ................................................................ )
(7)
وفيها حج بالناس من العراق مجاهد الدين ياقوت، وقال السبط ابن الجوزي
(8)
: وحججت معه وهي أول حجاتي، وكانت الوقفه يوم الأربعاء وعدتُ إلى العراق. وحج
(1)
ورد هذا الخبر في مرآة الزمان ج 8، ص 347؛ الذيل على الروضتين، ص 59، كما ورد مختصرًا في الكاملة ج 10، ص 331.
(2)
كن: كذا في الأصل والمثبت هو الصحيح.
(3)
منتشرات: كذا في الأصل. والمثبت هو الصحيح، انظر: مرآة الزمان، ج 8، ص 347.
(4)
مكان بطريق مكة وهو من منازل حاج الكوفة. معجم البلدان، ج 4، ص 804.
(5)
العُسيلة، ماء في جبل القَتَان، شرقي سميراء وهو منزل بطريق مكة. انظر، معجم البلدان، ج 3، ص 678.
(6)
الضيف كذا في الأصل، والمثبت في مرآة الزمان، ج 8، ص 348.
(7)
فراغ في الأصل بمقدار سطر.
(8)
مرآة الزمان، ج 8، ص 348.
بالناس من الشام بدر الدين دلدروم، ورحل من الشام في الثامن عشر من شوال وصحبته الملك المحسن ابن السلطان صلاح الدين وجاور في تلك السنة، وودعهم السلطان الملك العادل إلى الكسوة، وحج معه تلك السنة شيخ الشيوخ صدر الدين بن حمويه وأولاده وشبل الدولة الحسامي وخلق كثير.
ذكر من توفي فيها من الأعيان
حنبل بن عبد الله بن الفرج بن سعادة الرصافي الحنبلي، راوي مسند الإمام أحمد رضي الله عنه عن أبي الحصين عن ابن المهذب عن ابن مالك عن عبد الله بن أحمد عن أبيه. عمر تسعين سنة، وخرج من بغداد فأسمعه بإربل واستقدمته ملوك دمشق إليها، فسمع الناس عليه بها المسند، وكان الملك المعظم يكرمه ويأكل عنده على السماط من الطيبات فتصيبه التخمه كثيرًا لأنه كان ضيق الحال خشن العيش ببغداد. وكان الكندي إذا دخل على المعظم يسأل عن [312] حنبل
(1)
فيقول: هو متخوم. فيقول: أطعمة العدس. فيضحك المعظم، ثم أعطاه مالًا جزيلًا ورده إلى بغداد فتوفي بها في هذه السنة، وكان مولده سنة عشر وخمسمائة. وقال أبو شامة: مات في رابع عشر محرم سنة أربع وستمائة ودفن بباب حرب.
عبد الرحمن بن عيسى بن أبي الحسن البزوري الواعظ البغدادي، سمع من أبي الوقت وغيره واشتغل على ابن الجوزي في الوعظ، ثم حدثته نفسه بمضاهاته وشمخت نفسه واجتمع عليه طائفة من أهل باب البصرة، وتزوج في آخر عمره وقد قارب السبعين بصبية، فاغتسل في يوم بارد فانتفخ ذكره فمات في هذه السنة، وكان مولده في سنة تسع وثلاثين وخمسمائة. وفي المرآة
(2)
: وكانت وفاته في صفر في هذه السنة.
أبو محمد جعفر بن محمد بن محمود بن هبة الله بن أحمد بن يوسف الإربلي، كان فاضلًا في علوم كثيرة في الفقه على مذهب الشافعي، والحساب والفرائض والهندسة والأدب والنحو وما يتعلق بالقرآن العزيز، ومن شعره الحسن الجيد:
(1)
ورد هذا الخبر بتصرف في البداية والنهاية، ج 13، ص 55.
(2)
السبط، ج 8، ص 350، الذيل على الروضتين، ص 64.
لا يدفع المرءُ ما يأتي به القدرُ
…
وفي الخطوب إذا فكرت معتبرُ
وليس يُنجي من الأقدار إن نزلت
…
رأي وحزم ولا خوف ولا حذر
فاستعمل الصبر في كل الأمور ولا
…
تجزع لشيء فعقبي صبرك الظفرُ
كم مسنا مرة عسر فصرّفه
…
صرف الزمان والي بعله يسُرُ
إلا ييأس المرء من روح الإله فما
…
ييأس منه إلا عصبة كفروا
إني لأعلم أن الدهر ذو دول
…
وأن يوميه ذا أمن وذا خطر.
(1)
عبد المجيد
(2)
بن أبي القاسم عبد الله بن زهير أبو محمد الحربي ابن أخي عبد المغيث الحربي. ولد سنة سبع وعشرين وخمسمائة، وسمع الحديث الكثير، وكان يتردد من عند الخليفة إلى العادل في أمور خفية فخرج في السنة الماضية فاجتمع بالعادل، وعاد في هذه السنة فتوفي بحماة وكان صالحًا ثقة.
أبو الثناء محمود
(3)
بن هبة الله بن أبي القاسم الحلى البزاز، قرأ القرآن على ابن عساكر البطائحي، والأدب على أبي محمد بن الخشاب، وسمع الحديث على أبي الوقت، وحكي عن إسماعيل بن موهوب ابن الجواليقي قال: كنت في حلقة والدي أبي منصور موهوب يوم جمعة بعد الصلاة بجامع القصر والناس يقرؤون عليه فوقف عليه شاب فقال: يا سيدي ما معنى قول القائل:
وصل الحبيب جنان الخلد أسكنها
…
وهجره النار يصْليني به النارا
فالشمس بالقوس أمست وهي نازلة
…
إن لم يزرني وبالجوزاء إن زارا
فقال له والدي: يا بني هذا شيء يتعلق بسير الشمس في البروج وما يتعلق بعلم الأدب، ثم قام والدي وآلي على نفسه أن لا يعود إلى مكانه، ذلك حتى ينظر في علم النجوم ويعرف تسيير الشمس والقمر فنظر فيه وعلمه بحيث إذا سئل عن شيء منه أجاب. ومعنى الشعر أن الشمس إذا نزلت القوس يكون الليل في غاية الطول، وإذا كانت في الجوزاء كان الليل في غاية القصر. مات أبو الثناء محمود في هذه السنة.
(4)
(1)
وردت هذه الأبيات في الجامع المختصر، ص 244؛ البداية والنهاية، ج 13، ص 56.
(2)
انظر ترجمته بالتفصيل، مرآة الزمان، ج 8، ص 351؛ الذيل على الروضتين، ص 62، الجامع المختصر، ج 9، ص 254.
(3)
انظر ترجمته في مرآة الزمان، ج 8، ص 351؛ الجامع المختصر، ج 9، ص 255؛ الذيل على الروضتين، ص 63.
(4)
الذيل على الروضتين، ص 93، البداية والنهاية، ج 13، ص 55.
عبد العزيز الطبيب مات [313] فجأة في ذي القعدة في هذه السنة، وهو والد سعد الدين الطبيب الأشرفي، وهو الذي عناه القائل أظنه ابن عينين بقوله:
فرادى ولا خلف الخطيب جماعة
…
وموت ولا عبد العزيز طبيب
شرف الدين بن الناقد بن قنبر واسمه الحسن بن أبي طالب
(1)
، ولاء الخليفة حجبة الباب وناب في الوزارة، ثم ولاه صاحب المخزن فتجبر وطغى، وبني بدرب المطبخ دارًا تناهي في بنائها فلم يكن ببغداد مثلها، وشرع في الظلم والفسق وتجاهر به ومد عينه إلى أولاد الناس، وكان قبيح السيرة فرفع أمره إلى الخليفة، فأخذه أخذ عزيز مقتدر، وقبض عليه واستأصله، ونقض داره إلى الأساس، وحبسه فأخرج في رمضان ميتا فدفن بمشهد باب التبن
(2)
.
الأمير زين الدين قراجا الصلاحي
(3)
صاحب مدينة صرخد، توفي بدمشق ودفن بقاسيون، كانت له دار عند باب الصغير
(4)
بدمشق عند قناة الزلاقة، وتربته في السفح في قبة على جادة الطريق عند تربة ابن تميرك
(5)
، وأقر السلطان الملك العادل ولده يعقوب على صرخد، وكان قراجًا شجاعًا جوادًا.
الأمير الكبير يتامش بن عبد الله
(6)
أحد أمراء الخليفة الناصر لدين الله، وكان من سادات الأمراء، دينا عاقلًا نزيهًا عفيفًا، سقاه بعض الكتاب من النصاري سما فمات، وكان اسمه ابن ساوا، ولما مات تقدم الخليفة بأن يفتح له باب جامع القصر ولا يتخلف عن جنازته أحد من أرباب الدولة إلا الخليفة والوزير، وحمل إلى مشهد موسى ابن جعفر فدفن هناك، وعلم الخليفة بباطن الحال فأمر أن يسلم ابن ساوى إلى غلمان
(1)
الذيل على الروضتين، ص 61، ص 62، الجامع المختصر، ص 250 - ص 251.
(2)
مشهد باب التبن: هو قبر موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين ابن الإمام الحسين بن الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنهم. وباب التبن اسم لمحلة كبيرة كانت ببغداد على الخندق. انظر: معجم البلدان، ج 1، ص 443.
(3)
الذيل على الروضتين، ص 62 - ص 63، البداية والنهاية، ج 13، ص 55.
(4)
باب الصغير: انظر ما سبق في عقد الجمان، ج 1، ص 133، حاشية (1).
(5)
تربة ابن تميرك: هذه التربة بسفح جبل قاسيون. انظر: الدارس، ج 2، ص 226.
(6)
الذيل على الروضتين، ص 61.
يتامش، فكتب ابن المهدي إلى الخليفة يقول: إن النصارى قد بذلوا في ابن ساوى خمسين ألف دينار ولا يقتل، فكتب الخليفة على رأس الورقة:
إن الأسود أسود الغاب همتها
…
يوم الكريهة في المسلوب لا السلب
(1)
فسلم ابن ساوى إلى مماليك علاء الدين يتامش، فأخرج من دار الوزير وفي رقبته حبل وهو مكتوف فقتلوه وأحرقوه، وكان لابن المهدى مملوك عاقل يقال له أقسنقر الدوادار، كان يطالع الخليفة بأخبار ابن المهدي وأنه يكاتب الأعاجم ويسعى في فساد الدولة، وعلم الوزير فسقاه السم فمات في ربيع الآخر هو وعلاء الذين يتامش في أيام قريبة، وقبض الخليفة على ابن مهدي في جمادى الأولى.
السلطان
(2)
غياث الدين محمود بن سام بن الحسين ملك الغورية، قتل في هذه السنة وقد ذكرناه عن قريب، وكان غياث الدين محمود هذا آخر الملوك الغورية، وكانت دولتهم من أحسن الدول، وكان محمود كريمًا عادلًا محسنًا إلى الرعية حليمًا شفوقًا، رحمه الله.
ست الكتبة واسمها نعمة بنت علي بن يحيى بن محمد بن الطراح، توفيت في ربيع الأول بدمشق ودفنت بباب الفراديس، وكانت صالحة زاهدة عابدة راوية للحديث، روت كتاب الشمائل للترمذي عن أبي شجاع عمر بن أبي الحسن البسطامي وعن جدها أبي محمد بن يحيى بن محمد بن الطراح وغيرهما. وقال السبط
(3)
: سمعت عليها الحديث بدمشق في سنة ستمائة. ولما ذكرها السبط في تاريخه قال: وفي هذه السنة توفيت شيختنا ست الكتبة نعمة بنت علي، رحمها الله [314]
(1)
"في السلب" كذا في العيني، والمثبت من الذيل على الروضتين لاستقامة وزن البيت.
(2)
انظر الكامل، ج 10، ص 337، الذيل على الروضتين، ص 63.
(3)
مرآة الزمان، ج 8، ص 351.
فصل فيما وقع من الحوادث في السنة الخامسة بعد الستمائة
(*)
استهلت هذه السنة والخليفة هو الناصر لدين الله والسلطان الملك العادل في دمشق وعنده ولداه الأشرف والمعظم كذا قال المؤيد
(1)
في تاريخه. وقال بيبرس
(2)
في تاريخه: ومنها خرج العادل من مصر إلى الشام وكان أكبر البواعث على خروجه ما حصل من الوحشة بينه وبين الظاهر ابن أخيه صاحب حلب، وقال المؤيد
(3)
: وفيها توجه الملك الأشرف موسى بن الملك العادل من دمشق راجعًا إلى بلاده الشرقية، وكان عند والده العادل في دمشق ولما وصل إلى حلب تلقاه صاحبها الملك الظاهر وأنزله بالقلعة، وبالغ في إكرامه وقام [للأشرف
(4)
] و [الجميع]
(5)
عسكره بجميع ما يحتاجون إليه من الطعام والشراب والحلواء والعلوفات، وكان يحمل إليه في كل يوم خلقة كاملة وهي غلالة وسراويل وقباء وكمة وفروة ومنطقة وسيف ومنديل وسكين ودلكش وحصان وخمس خلع لأصحابه، وأقام على ذلك خمسة وعشرين يومًا، وقدم له تقدمة جليلة وهي مائة ألف ألف درهم ومائة بقجة مع مائة مملوك، منها عشر بقجج في كل واحدة منها ثلاثة أثواب أطلس وثوبان خطاي، وعلى كل بقجة جلد قندس
(6)
كبير، ومنها عشرة في كل واحدة منها
(7)
خمسة أثواب عتّابي بغدادي وموصلي، وعلى كل بقجة جلد قندس صغير ومنها عشرون بقجة في كل واحدة منها خمس قطع سوسي
(8)
وديبقى ومنها أربعون بقجة في كل واحدة منها خمسة أقبية وخمس كمام، وحمل إليه خمس حصن عربية بعدتها وعشرين أكديشا وأربع قطر بغال وخمس بغلات فائقات بالسروج واللجم المكفتة وقطارين من الجمال. وخلع على أصحابه مائة وخمسين خلعة، وقال إلى أكثرهم بغلات وأكاديش، ثم سار الملك الأشرف إلى بلاده.
(*) يوافق أولها 16 يوليو 1208 م.
(1)
انظر المختصر في أخبار البشر، ج 3، ص 110.
(2)
انظر النويري، نهاية الأرب، ج 29، ص 46.
(3)
المختصر، ج 3، ص 110.
(4)
"بالأشرف" كذا في الأصل والمثبت من المختصر، ج 3، ص 110.
(5)
"بجميع" كذا في الأصل والمثبت من المختصر، ج 3، ص 110.
(6)
القندس: كلب الماء. انظر: محيط المحيط، مادة (قندس).
(7)
"عشرة أثواب عتابي خوارزمي، وعلى كل بقجة جلد قندس كبير ومنها عشر في كل واحده" ما بين الأقواس ساقط من العيني، ومثبت في المختصر، ج 3، ص 111، حيث ينقل عنه العيني.
(8)
مرسوسي كذا في المختصر، ج 3، ص 111.
ذكر ماجريات الملوك
منها أن الفرنج قصدوا مدينة حمص وعبروا على العاصى بجسر اتخذوه في بلادهم، فلما أحست بهم العساكر المنصورة ركبوا في آثارهم فهربوا منهم وقتل منهم خلق وغنم المسلمون منهم غنيمة جيدة.
وقال أبو شامة
(1)
: وفي هذه السنة أغارت الفرنج ووصلوا إلى باب تدمر من حمص بعد أن مدوا على نهر العاصي جسرًا من خشب كانوا صنعوا آلته ببلادهم وحملوها معهم وعبروا العاصي عليه ثم رفعوه على جمالهم، وقصدوا حمص فقصدتهم العساكر الإسلامية، فهربوا على طريق قدس وحاز المسلمون أخشابهم وأثقالهم ومن انقطع منهم.
ومنها
(2)
أن غياث الدين كيخسرو بن قليج أرسلان السلجوقي صاحب بلاد الروم وصل إلى مرعش لقصد بلاد ابن لاون الأرمني، وأرسل إليه الملك الظاهر صاحب حلب نجلة، فدخل كيخسرو إلى بلاد ابن لاون وعاث فيها ونهب وفتح حصنًا يعرف بقرقوس.
ومنها أن الكرج ملكت أرجيش
(3)
عنوة ونهبوا جميع ما بها من الأموال والأمتعة وغيرها، وأسروا وسبوا أهلها وأحرقوها وخربوها ولم يبق بها أحد من أهلها، فأصبحت خاوية على عروشها كأن لم تغن بالأمس، ولم يقدم الملك الأوحد بن العادل عليهم لأسباب منها: كثرتهم، وخوفه من أهل خلاط لما كان أسلف إليهم من القتل والأذى، فخاف [315] أن يخرج منها فلا يُمكن من العود إليها، فلما لم يخرج إلى قتالهم عادوا إلى بلادهم سالمين بما غنموا.
ذكر بقية الحوادث
منها أن الملك الظاهر صاحب حلب أمر أن يجيبوا الماء من حيلان
(4)
، وغرم على ذلك أموالا كثيرة وبقى البلد يجري فيه الماء. وحيلان بفتح الحاء المهملة وسكون الياء أخر الحروف وبعدها لام ألف وفي آخره نون. وهي قرية معمورة بشمالي حلب مسافة بعد بريد.
(1)
الذيل على الروضتين، ص 67.
(2)
ورد هذا الحدث في الكامل، ج 10، ص 345.
(3)
أرجيش: هي مدينة قديمة من نواحي أرمينية الكبرى قرب خلاط، معجم البلدان، ج 1، ص 196.
(4)
انظر: معجم البلدان، ج 2، ص 382.
ومنها
(1)
أن الشيخ شهاب الدين السُهّروردي عاد من دمشق بهدايا الملك العادل إلى بغداد ومعه شمس الدين الدكز أستاذ الدار للعادل، فتلقى الموكب الدكز، وأعرض عن الشيخ شهاب الدين ونقم عليه، حيث مد يده إلى الأموال بالشام وحضر دعوات الأمراء أسامة وغيره. وقد كان قبل الرسالة زاهدًا فقيرًا، وحصل أموالًا جزيلة، وأخذ منه الربُط التي كانت بيده، منها رباط الزوزني، ومنها المرزبانيه، ومُنع من الوعظ، وقال: ما قبلت هذه الأموال إلا لأفرقها في فقهاء بغداد. وشرع يفرق المال والثياب في الزوايا والرُبُط، وقد أغنى خلقًا كثيرًا من فقراء الشام والعراق. قال أبو شامة
(2)
: ثم خلع الخليفة على الدكز الأستاذ دار، وعاد إلى الشام بالهدايا والتحف. ومنها
(3)
أن نيسابور زلزلت زلزلة عظيمة ودامت عشرة أيام، فمات تحت الهدم خلق كثير.
ومنها
(4)
أن في المحرم منها تكامل بناء دار الضيافة التي أنشأها الخليفة بالجانب الغربي من بغداد للحاج والمارة، لهم الضيافة ما داموا نازلين بها، فإذا عزم أحدهم على السفر زود وكسي وأعطى بعد ذلك كله دينارًا للسفرة، وكان ابتداء ترتيبه لذلك في رمضان من السنة الماضية.
ومنها أنه
(5)
فخر الدين بن تيمية خطيب حران عاد من الحج إلى بغداد وجلس بباب بدر للوعظ، وحضر محيي الدين يوسف بن الشيخ أبي الفرج بن الجوزي، فشرع ابن تيمية في الوعظ، ومدح الخليفة، وأنشد في أثناء كلامه.
وابن اللبون إذا ما لز في قرن
…
لم يستطع صولة البُزل القناعيس
(6)
فقالت الناس: ما قصد إلا محيي الدين لكونه شابًا ابن خمس وعشرين سنة.
(1)
ورد هذا الخبر في البداية والنهاية، ج 13، ص 57، الجامع المختصر، ج 9، ص 259، الذيل على الروضتين، ص 64.
(2)
الذيل على الروضتين، ص 65.
(3)
الكامل، ج 10، ص 347؛ الذيل على الروضتين، ص 65، مرآة الزمان، ج 8، ص 351.
(4)
ورد هذا الخبر بتصرف في البداية والنهاية، ج 13، ص 59؛ الجامع المختصر، ج 9، ص 258 - ص 259؛ الذيل على الروضتين، ص 64؛ مرآة الزمان، ج 8، ص 351.
(5)
البداية والنهاية، ج 13، ص 59؛ الذيل على الروضتين، ص 65.
(6)
القناعيس: هي النوق القوية، والرجل الشديد المنيع، والمفرد "قِنْعاس". القاموس المحيط، مادة "قنس".
ومنها
(1)
أن في يوم الجمعة تاسع المحرم دخل مملوك إفرنجي من باب مقصورة جامع دمشق وهو سكران، وفي يده سيف مسلول والناس جلوس ينتظرون صلاة الفجر، فمال في الناس يضربهم بسيفه ذلك، فقتل اثنين أو ثلاثة، وضرب المنبر بسيفه فانكسر، فأخذ وأودع بالمارستان وشنق في يومه ذلك على جسر اللبّادين.
ومنها أن الحافظ أبالخطاب عمر بن دحية لما عاد من رحلته الخراسانية قصد مجلس الوزير صفي الدين عبد الله بن على المعروف بابن شكر، وزير الملك العادل، وكان الشيخ العلامة تاج الدين الكندي جالسًا إلى جانبه، فأجلس ابن دحية من الجانب الآخر، فشرع ابن دحية يُورد حديث الشفاعة، فلما وصل إلى قول إبراهيم الخليل عليه السلام أيما كنت خليلًا من وراء وراء، لَفَظَ باللفظتين بفتح الهمزة، فقال الكندي: وراء وراء بالضم، فعز ذلك على ابن دحية، وكان جريئًا ذا أنفة من الرد عليه، فقال للوزير: من ذا الشيخ؟ قال: هذا تاج الدين الكندي، فتسمح ابن دحية في حقه بكلمات، فلم يُسمع من الكندي إلا قوله: هو من كلب فنبح، وهذه تورية حسنة بلفظ حلو، وذلك أن دحية كان [319] ينتسب إلى بني كلب من العرب، وهي قبيلة دحية بن خليفة الصحابي - رضى الله عليه- وفي صحة الانتساب إليهم كلام ونظر، فإن جماعة من العلماء المتقدمين قالوا: إنه لم يعقب، ووقع الناس في أبي الخطاب بسبب ذلك حتى قال بعضهم:
دحية لم يعقب فلا تنتسب
…
إليه بالبهتان والإفك
ما صح عند الناس شيء سوى
…
أنك من كلب بلا شك
فأخذ هذا الشاعر المعنى الذي أشار إليه الكندي بذلك اللفظ الوجيز.
قال أبو شامة
(2)
: وأم اللفظتان المتنازع فيهما فرأيت في أمالي أحمد بن يحيى ثعلب جوازة لأمرين فيهما والجر أيضًا.
وفيها ............................................... .....
(3)
(1)
البداية والنهاية، ج 13، ص 56؛ الذيل على الروضتين، ص 64.
(2)
الذيل على الروضتين، ص 65.
(3)
فراغ بمقدار سطر.
وفيها
(1)
حج بالناس من العراق مجاهد الدين ياقوت، ومن الشام حسام الدين قايماز والي القدس.
ذكر من توفي فيها من الأعيان
أبو الفتح
(2)
محمد بن أحمد بن بختيار بن علي بن محمد بن إبراهيم بن جعفر الواسطى المعروف بابن الميداني
(3)
، آخر من روي مسند الإمام أحمد رحمه الله عن أبي الحصين، وكان من بيت فقه وقضاء وديانة، وكان ثقة عدلًا متورعًا في النقل، ومما أنشده من حفظه:
ولو أن ليلى مطلع الشمس دونها
…
وكنت وراء الشمس حين تغيب
لحدثت نفسي بانتظاري نوالها
…
وقال المنى لي إنها لقريب
وقال أبو شامة
(4)
وأنشد لغيره:
أراك إذا نأيت بعين قلبي
…
كأنك نصب عيني عن قريب
لئن بعدت معاينة التلاقي
…
فما بعدت معاينة القلوب
(5)
وقال: ولد بواسط سنة سبع عشرة وخمسمائة، وولي أبوه قضاء الكوفة، فسمع من شيوخها، وتفقه علي أبي منصور بن الرزار، وعاد إلى واسط فأقام بها يسمع الحديث والفقه حتى توفي بداره، ودفن بها، سمع بالكوفة من الشريف أبي البركات عمر بن إبراهيم النحوي شارح لمع ابن جني وغيره، وببغداد أبا القاسم بن الحصين وابن الجواليقي وابن السمرقندي والبارع وغيرهم، وولي قضاء واسط، وكان صالحًا ثقة صدوقًا
(6)
.
(1)
مرآة الزمان، ج 8، ص 351 ص 352، الجامع المختصر، ج 9، ص 270.
(2)
البداية والنهاية، ج 13، ص 57.
(3)
"المنداي" كذا في الكامل، ج 10، ص 397، أما ابن الساعي فقد ذكرها "بالمندائي" أما ابن كثير، فقد ذكره "السندي" البداية والنهاية، ج 13، ص 57، والمثبت يتفق مع ابن العماد الحنبلي، شذرات الذهب، ج 5، ص 17.
(4)
الذيل على الروضتين، ص 66.
(5)
وردت هذه الأبيات في الجامع المختصر، ج 9، ص 605.
(6)
انظر: الكامل، ج 10، ص 367؛ البداية والنهاية، ج 13، ص 57؛ والجامع المختصر، ج 9، ص 278.
أبو العباس
(1)
الخضر بن محمد بن على الجزري، ولد بجزيرة ابن عمر في سنة خمس وعشرين وخمسمائة، وتوفي في هذه السنة، وقدم بغداد، وله في تعبير الرؤيا بد، وأنشد لنفسه:
أنست بوحدتي حتى لو أني
…
رأيت الأنس لاستوحشت منه
وما ظفرت يدى بصديق صدق
…
أخاف عليه إلا خفت منه
وما نزل التجاوب لي حبيبًا
…
أميل إليه إلا ملت عنه
الشيخ أبو
(2)
الخير مصدق بن شبيب بن الحسين النحوى الصِلْحي، من أهل قم الصلح، ولد سنة خمس وثلاثين وخمسمائة، وصحب الشيخ صدقة الزاهد، وقرأ عليه القراءات والنحو، وقرأ عليه ابن الخشاب وابن العصار والكمال الأنباري، وسمع الحديث من أبي الفتح بن البطي، مات في هذه السنة، ودفن مع الشيخ صدقة في ضريحه، وكان على طريقة في الزهد والعبادة، منقطعًا عن الناس.
صدر الدين
(3)
عبد الملك بن درباس الماراني الكردي، قاضي [317] القضاة بالديار المصرية، وكان قاضي الغربية، قدم من الشرق إلى مصر فولاه السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، وكان عنده بمكانة، وقال ابن ميسر: تولي صدر الدين في الثاني والعشرين من جمادى الأخرى من سنة ست وخمسين وخمسمائة إلى أن صرف بعد وفاة صلاح الدين، وولي مكانه القاضي زين الدين علي بن يوسف الدمشقي يوم الثلاثاء الثالث والعشرين من ربيع الأول من سنة تسعين وخمسمائة، وتوفي صدر الدين في هذه السنة، وقبره بتربته المجاورة للرباط المشهور بخط روز بهار العجمي.
محمد بن
(4)
بختيار بن عبد الله أخو أستاذ دار الخليفة، كان فاضلًا أديبًا أنشد يومًا:
قسمًا بمن سكن الفؤاد وإنه
…
قسم به لو تعلمون عظيم
(1)
انظر، الذيل على الروضتين، ص 66.
(2)
الذيل على الروضتين، ص 66.
(3)
انظر الذيل على الروضتين، ص 67؛ البداية والنهاية، ج 13، ص 57.
(4)
الذيل على الروضتين، ص 66؛ البداية والنهاية، ج 13، ص 57؛ المرآة، ج 8، ص 302؛ الجامع المختصر، ج 9، ص 277، ص 278.
فأجاب بديهًا:
إني به صَب كئيب مدنف
…
قلق الفؤاد موله مهموم
لا أستطيع مع التنائي سلوة
…
حتى الممات وإنني لسليم
فتعطفوا بالوصل بعد تهاجر
…
فالصبر ينفد والرجاء مقيم
الأمير سراسنقر الصلاحي: مات في رابع عشر محرم من هذه السنة بحلب، وكان أحد الأمراء المذكورين المجاهدين.
الأمير المعروف بالجناح الكردي: واسمه إبراهيم
(1)
بن أحمد، مات في السابع والعشرين من ذي القعدة بدمشق، ودفن بالجبل، وخرج السلطان في جنازته، وفي الغد عمل عزاؤه بالجامع، وحضر جميع أمراء الأكراد بالجوخ ومناديل على رؤوسهم، وهو أخو المشطوب وكبير أمراء الأكراد.
الأشرف
(2)
غرس الدين محمد بن السلطان صلاح الدين، مات في هذه السنة بحلب.
الأمجد
(3)
حسن بن السلطان الملك العادل، شقيق الملك المعظم والعزيز، مات في هذه السنة بالقدس الشريف.
الشرف
(4)
الفلكي وزير الملك الأوحد، أخو الصفي الأسود واسمه عبد المحسن بن إسماعيل بن محمود الحُلى
(5)
، وكان قد ناب بديوان دمشق عن صفي الدين بن شكر الوزير في الدولة العادلية، ثم وزر لأخى العادل لأمير فلك الدين فنسب إليه، ثم اشتغل وزيرًا بخلاط للملك الأوحد بن العادل إلى أن قتله مملوكه بها ليلة عيد الفطر من هذه السنة، وحمل من خلاط إلى دمشق. وقال أبو شامة: وجد مذبوحًا في فراشه، ذبحهُ غلام له ليلة عيد الفطر.
(1)
الذيل على الروضتين، ص 66.
(2)
"عز الدين" كذا في الذيل على الروضتين، ص 67.
(3)
الذيل على الروضتين، ص 67.
(4)
انظر ترجمته في الذيل على الروضتين، ص 66.
(5)
"المحلى" كذا في الذيل على الروضتين، ص 66.
السلطان
(1)
معز الدين سنجر شاه بن سيف الدين غازي بن مودود بن عماد الدين زنكي بن آقسنقر، صاحب جزيرة ابن عمر، وهو ابن عم نور الدين صاحب الموصل، قتله ابنه غازي في هذه السنة، وكانت ولايته في سنة ست وتسعين وخمسمائة، وكان سنجر شاه ظالمًا قبيح السيرة وقحًا، لا يمتنع من قبيح يفعله من: القتل، وقطع الألسنة، والأنوف، والأذن، وحلق اللحى، وتعدى ظلمه إلى أولاده وحريمه، فبعث ابنيه محمودًا وممدودًا إلى قلعة فحبسهما فيها، وحبس ابنه الغازي المذكور في المدينة وضيق عليه، وكان بتلك الدار هوام كثيرة، فاصطاد غازي المذكور حية وسيرها إلى أبيه في منديل لعله يرق له، فلم يزده إلا قساوة عليه، فأعمل الحيلة حتى هرب، وكان عنده أحد يخدمه فقرر معه أن يسافر ويظهر [318] أنه غازي بن معز الدين سنجر شاه؛ ليأمنه أبوه، فمضى ذلك الإنسان إلى الموصل فأعطى شيئًا وسافر منها، واتصل ذلك بسنجر شاه فاطمأن، وترجل ابنه غازي حتى دخل إلى دار أبيه، واختفى عند بعض سراري أبيه، وعلم به جماعة منهم وكتموا ذلك عن سنجر شاه لبغضهم فيه، واتفق أن سنجر شاه شرب يومًا بظاهر البلد وشرع يقترح على المغنيين الأشعار الفراقية وهو يبكي، ودخل داره سكرانًا إلى عند الحظية التي ابنه مختف عندها، ثم قام معز الدين سنجر شاه ودخل الخلاء، فهجم عليه ابنه غازي فضربه أربع عشرة ضربة بالسكين، ثم ذبحه وتركه ملقى، ودخل غازي الحمام وقعد يلعب مع الجواري، فلو أحضر الجند واستحلفهم في ذلك الوقت لتم أمره وملك البلاد، ولكنه سكر واطمأن فخرج بعض الخدم وأعلم أستاذ الدار، فجمع الناس وهجم على غازي وقتله، وحلف العسكر لأخيه محمود بن سنجر شاه، واستقر ملكه بالجزيرة، وقبض على جواري أبيه فغرقهن في دجلة، ثم قتل محمود بعد ذلك أخاه مودودًا.
(1)
انظر ترجمته، الكامل في التاريخ، ج 10، ص 345 - 347؛ الذيل على الروضتين، ص 679 الجامع المختصر، ج 9، ص 269 - 270، البداية والنهاية، ج 13، ص 57.
فصل فيما وقع من الحوادث في السنة السادسة بعد الستمائة
(*)
استهلت هذه السنة والخليفة هو الناصر لدين الله، وملوك البلاد والأطراف على حالهم.
ذكر ماجريات الملك العادل
وفي ربيع الأول
(1)
من هذه السنة سار الملك العادل من دمشق وقطع الفرات، وجمع الملوك من أولاده الأوحد وغيره، وعساكر مصر والشام وحلب وديار بكر. ونزل على حران ووصل إليه بها الملك الصالح محمد بن محمد بن قرا أرسلان الأرتقي صاحب آمد وحصن كيفا، ثم سار من حران ونازل سنجار وبها صاحبها قطب الدين محمد بن عماد الدين زنكي بن مودود بن زنكي، فحاصرها ونصب عليها المجانيق إلى رمضان، ولم يبق إلا تسليمها. فأرسل الملك الظاهر من حلب أخاه المؤيد يشفع في السناجرة وصاحبها يومئذ قطب الدين -كما ذكرنا- وهو من بقية بيت زنكي والد نور الدين محمود الشهيد، فلم يُشفعه، ومات المؤيد في هذه السنة كما نذكره إن شاء الله تعالى. وكره المشارقة مجاورة العادل فاتفقوا عليه مع صاحب إربل. وأرسل الخليفة
(2)
ابن الضحاك الأستاذ دار وأقباش الناصري يشفع إلى العادل فيهم، فرحل بعد أن أخذ نصيبين والخابور ونزل على حران وفرق العساكر. وصالح المشارقة صاحب إربل والموصل والجزيرة وماردين وحلب.
وفي تاريخ بيبرس
(3)
: وسبب ذلك أن قطب الدين المذكور كان بينه وبين ابن عمه نور الدين شاه بن مسعود بن مودود صاحب الموصل عداوة مستحكمة يقدم ذكرها، ثم تصاهر نور الدين والعادل؛ فإن ولد العادل تزوج بابنة نور الدين، وحسنوا لنور الدين مراسلة العادل والاتفاق معه على أن يقتسما البلاد التي لقطب الدين بن زنكي والولاية التي لمحمود بن سنجر شاه، وهي جزيرة ابن عمر وأعمالها، فيكون ذلك لقطب الدين بن العادل، وتكون الجزيرة لنور الدين، فوافق هذا القول هوى نور الدين فأرسل إلى العادل
(*) يوافق أولها 6 يوليو سنة 1209 م.
(1)
الذيل على الروضتين، ص 97؛ مرآة الزمان، ج 8، ص 352، ص 353.
(2)
انظر: نهاية الأرب، ج 29، ص 49.
(3)
ورد هذا الخبر بالتفصيل في الكامل، ج 10، ص 348 - 350.
في هذا المعنى فأجابه إلى ذلك، وأطمعه أن يُعْطَى هذه البلاد إذا مَلَّكها لولده الذي هو زوج [319] ابنة نور الدين، ويكون مقامه في خدمته بالموصل.
واستقرت الحال على ذلك وتحالفا عليها، فبادر العادل إلى المسير إلى الفرات في عساكره وقصد الخابور فأخذه، فلما سمع نور الدين بوصوله خاف واستشعر، فأحضر من يرجع إلى قولهم ورأيهم وعرفهم وصول العادل، واستشارهم فيما يفعله. فبينوا له فساد رأيه في اتفاقه مع العادل على ابن عمه وما يترتب على ذلك من الضرر له، وقالوا: أما الآن فقد فات الأمر، وليس إلا أن تقف معه على ما استقر بينكما، لئلا يجعل حجة ويبتدئ بك.
هذا والعادل قد ملك الخابور ونصيبين، وسار إلى سنجار فحصرها، وكان عزم صاحبها أن يسلمها إلى العادل بعوض يأخذه عنها، فمنعه من ذلك أمير كان معه اسمه أحمد بن برنقش - مملوك أبيه زنكي - فقام بحفظ المدينة والذب عنها.
وجهز نور الدين عسكرًا مع ولده الملك القاهر ليسيروا إلى العادل، فبينما الأمر كذلك إذ جاءهم أمر لم يكن في حسابهم، وهو أن مظفر الدين كوكبوري صاحب إربل أرسل وزيره إلى نور الدين يبذل من نفسه المساعدة على منع العادل عن سنجار، والاتفاق معه على ما يريده. فوصل الرسول ليلًا فوقف مقابل دار نور الدين وصاح، فَعُبِّرت إليه سفينة عَبَرَ فيها، واجتمع بنور الدين ليلًا وأبلغه الرسالة. فأجاب نور الدين إلى ما طلب من الموافقة وحلف له على ذلك، وعاد الوزير من ليلته. فسار مظفر الدين واجتمع هو ونور الدين ونزلا بعساكرهما بظاهر الموصل، وكان سبب ما فعله مظفر الدين أن صاحب سنجار أرسل ولده إلى مظفر الدين يستشفع به إلى العادل ليبقى عليه سنجار، وكان مظفر الدين يظن أنه لو شفع في نصف ملك العادل لَشَفَّعه، لأثره الجميل في خدمته وقيامه في الذب عن ملكه غير مرة، فشفع إليه فلم يشفعه العادل ظنًا منه أنه بعد اتفاقه مع نور الدين لا يبالي بمظفر الدين. فلما رده في شفاعته راسل نور الدين في الموافقة عليه. ولما وصل إلى الموصل واجتمع بنور الدين أرسل إلى الظاهر غازي صاحب حلب وإلى كيخسرو بن قليج أرسلان صاحب بلاد الروم بالاتفاق معهما، فكلاهما أجاب إلى ذلك، وتداعوا على الحركة وقصد بلاد العادل إن امتنع من الصلح، والإبقاء على صاحب سنجار. وأرسلا أيضًا إلى الخليفة الناصر لدين الله ليرسل رسولًا إلى العادل في الصلح، فقويت نفس صاحب سنجار على الامتناع.
ووصل رسول الخليفة، وهو أبو نصر هبة الله بن الضحاك أستاذ الدار، والأمير أقباش، وهو من خواص مماليك الخليفة، [فوصلا]
(1)
إلى الموصل، [وسارا]
(2)
منها إلى العادل وهو يحاصر سنجار وكان [مَنْ]
(3)
معه من العساكر لا يناصحونه في القتال لاسيما أسد الدين شيركوه صاحب حمص والرحبة، فإنه كان يُدخل إليها الأغنام والأقوات ظاهرًا، ولا يقاتل عليها رفقًا بصاحبها وإبقاءً عليه، وكذلك غيره.
فلما وصل رسول الخليفة إلى العادل أجاب أولًا إلى الرحيل ثم امتنع عن ذلك وغالط، وطال الأمر لعله يبلغ منها غرضًا. فلما لم ينل منها ما أمَّله أجاب إلى الصلح على أن يكون له ما أخذ وتبقى سنجار لصاحبها، واستقر الأمر على ذلك وتحالفوا [320] عليه كلهم وعلى أن يكونوا يدًا واحدة على الناكث منهم. ورحل العادل عن سنجار إلى حران، وعاد مظفر الدين إلى إربل، ويقي كل واحد من الملوك في بلده، وانفصلوا على ذلك.
وفيها حصل التغيّر بين العادل والظاهر وتأكد، وبرز من حلب لقتاله عند وصوله من سنجار، ثم حصل الصلح بينهما في أول السنة الآتية، وعاد العادل إلى الشام.
ذكر بقية الحوادث
منها أن في المحرم وصل نجم الدين خليل شيخ الحنفية من دمشق إلى بغداد في الرسالة عن الملك العادل ومعه هدايا كثيرة، وتناظر هو والشيخ مجد الدين يحيى بن الربيع شيخ النظامية في مسألة وجوب الزكاة
(4)
في ماله اليتيم والمجنون، فأخذ الحنفي يستدل على عدم وجوبها ويعترض عليه الشافعي، فأجاد كل منهما في الذي أورده.
(5)
ثم خلع على الحنفى وأصحابه بسبب الرسالة، وكانت المناظرة بحضرة نائب الوزير ابن أمَسْيَنا.
ومنها أن في يوم السبت خامس جمادى الآخرة وصل الجمال يونس بن بدران المصرى رئيس الشافعية بدمشق إلى بغداد في الرُسلية عن الملك العادل فتلقاه الجيش
(1)
"فوصل" في الأصل. والمثبت من الكامل، ج 10، ص 350 وهو المتفق مع السياق.
(2)
"وسار" في الأصل. والمثبت من الكامل، ج 10، ص 350 وهو المتفق مع السياق.
(3)
ما بين الحاصرتين ساقط من الأصل. والمثبت لإيضاح المعنى.
(4)
"الزكوه" كذا في الأصل والصحيح هو المثبت.
(5)
ورد هذا الخبر في البداية والنهاية، ج 13، ص 57 - ص 58؛ الذيل على الروضتين، ص 69؛ الكامل، ج 10، ص 350.
مع حاجب الحجاب، ودخل معه ابن أخي صاحب إربل مظفر الدين كوكبوري، والرسالة تتضمن الاعتذار عن صاحب إربل والسؤال في الرضى عنه، فأجيب إلى ذلك.
(1)
وفيها ................................
(2)
وفيها حج بالناس من العراق ياقوت، ومن الشام فخر الدين إياس الشامي.
(3)
ذكر من توفي فيها من الأعيان
القاضى الأسعد أبو المكارم أسعد بن [الخطير]
(4)
، أبي سعيد مهذب ابن مينا ابن زكرياء بن أبي قدامة بن قليج بن مَماتي المصري، الكاتب الشاعر، وكان ناظر الدواوين بالديار المصرية، وفيه فضائل وله مصنفات عديدة، ونظم سيرة صلاح الدين، ونظم كتاب كليلة ودمنة، وله ديوان شعر، وله في غلام نحويّ.
وأهيفِ أحْدَثَ لي نَحوُهُ
…
تعجبًا يُعرِبُ عن ظَرْفِهِ
علامَةُ التأنيث في لفظه
…
وأحرفُ العِلَةِ في طَرْفِهِ
وله في شخص ثقيل رآه بدمشق:
[حكى
(5)
] نهرين ما في الأر
…
ض مَنْ يحكيهما أبدا
حكى في خلقه ثورا
…
وفي ألفاظه
(6)
برَدَا
وقال ابن كثير:
(7)
أسلم في الدولة الصلاحية، وتولى نظر الدواوين بمصر مدة، ولما تولى الوزير ابن شكر هرب منه إلى حلب لائذًا بالملك الظاهر، فمات بها في هذه السنة، وله ثنتان وستون سنة.
(1)
ورد هذا الخبر في البداية والنهاية، ج 13، ص 58.
(2)
بياض في الأصل بمقدار كلمتين.
(3)
مرآة الزمان، ج 8، ص 353.
(4)
الخطيري كذا في الأصل والمثبت من وفيات الأعيان، ج 1، ص 290؛ البداية والنهاية، ج 13، ص 58؛ نهاية الأرب، ج 29، ص 51.
(5)
"يحكى" كذا في الأصل والمثبت من وفيات الأعيان، ج 1، ص 210.
(6)
"أخلاقه" في وفيات الأعيان، جدا، ص 290.
(7)
البداية والنهاية، ج 13، ص 58.
وقال ابن خلكان
(1)
: توفي في سلخ جمادى الأولى منها يوم الأحد، ودفن في المقبرة المعروفة بالمقام على جانب الطريق بالقرب من مشهد على الهروي، وتوفي أبوه [الخطير]
(2)
يوم الأربعاء سادس شهر رمضان في سنة سبع وسبعين وخمسمائة، ومنها بكسر الميم وسكون الياء آخر الحروف وفتح النون وبعدها ألف، ومماتي بفتح الميمين والثانية مشددة وبعد الألف تاء مثناة من فوق مكسورة وبعدها ياء آخر الحروف، وهو لقب أبي مليح المذكور، وكان نصرانيا، وإنما قيل له مماتي؛ لأنه وقع في مصر غلاء عظيم، وكان كثير الصدقة والإطعام خصوصًا لصغار المسلمين، فكانوا إذا رأوه نادره كل واحد منهم مماتي، فاشتهر به والله أعلم.
اللمعاني
(3)
أبو يعقوب يوسف بن إسماعيل بن عبد الرحمن [321] بن عبد السلام اللمعاني، أحد الأعيان الحنفية ببغداد، سمع الحديث ودرس بجامع السلطان، وكان معتزليًا في الأصول، بارعًا في الفروع، اشتغل على أبيه وعمه وأتقن الخلاف، وعلم المناظرة، وقارب التسعين، وتوفي ليلة الجمعة، وصلى عليه من الغد بمشهد الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه وقال ابن النجار: وكتبنا عنه، وكان صدوقًا.
ابن الخراساني
(4)
أبو عبد الله محمد بن محمد بن الحسين المعروف بابن الخراساني، المحدث الناسخ، كتب كثيرًا من الحديث وغيره، وخطه جيد مشهور.
أبو المواهب معتوق بن منيع بن مواهب الخطيب البغدادي، قرأ النحو واللغة على ابن الخشاب، وجمع خطبًا كان يخطب منها، وكان شيخًا فاضلًا أديبًا، وله ديوان شعر، فمن قوله:
ولا ترجو الصداقة من عدو
…
يعادي نفسه سرًا وجهرًا
فلو أخذت مودَته انتفاعًا
…
لكان النفع منه إليه أحْرى
(1)
وفيات الأعيان، ج 1، ص 212.
(2)
"الخطيري" كذا في الأصل والمثبت من وفيات الأعيان، ج 1، ص 210؛ نهاية الأرب، ج 29، ص 51 - ص 52.
(3)
انظر ترجمته في البداية والنهاية، ج 13، ص 58.
(4)
انظر ترجمته في البداية والنهاية، ج 13، ص 58.
ابن خروف النحوي علي بن محمد بن [على الحضرمي]
(1)
أبو الحسن بن خروف، الأندلسي النحوي شارح كتاب سيبويه، شرحه وقدمه إلى صاحب المغرب، فأعطاه ألف دينار، وشرح جمل الزجاجي، وكان يتنقل في البلاد ولا يسكن إلا في الخانات
(2)
، ولم يتزوج قط، ولا تسري، وقد تغير عقله في آخر عمره، فكان يمشي في الأسواق مكشوف الرأس، وتوفي في هذه السنة عن خمس وثمانين سنة بمدينة أشبيلية. وقال ابن خلكان
(3)
: توفي في سنة عشر وستمائة. وقيل: في تسع وستمائة ا وخروف بفتح الخاء المعجمة وهو غير ابن خروف الشاعر.
أبو على الواسطى
(4)
يحيى بن الربيع بن سليمان بن حراز الواسطى ثم البغدادي، اشتغل بالنظامية على ابن فضلان وأعاد عنده، وسافر إلى محمد بن يحيى ثم عاد إلى بغداد، ثم صار مدرسًا بالنظامية ونظر في أوقافها، وكانت لديه علوم كثيرة ومعرفة حسنة بالمذاهب، وله تفسير في أربع مجلدات كان يدرس منه، واختصر تاريخ الخطيب والذيل عليه لابن السمعاني وقارب الثمانين.
ابن الأثير
(5)
: مصنف جامع الأصول والنهاية، واسمه المبارك بن محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد مجد الدين أبو السعادات الشيباني، الجزري الشافعي المعروف بابن الأثير، وهو أخو الوزير للملك الأفضل بن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، وهو ضياء الدين نصر الله صاحب المثل السائر، ولهما أخ آخر وهو الحافظ عز الدين أبو الحسن علي بن محمد صاحب الكامل في التاريخ، ولد أبو السعادات المبارك في أحد الربيعين سنة أربع وأربعين وخمسمائة بجزيرة ابن عمر،
(1)
خلط العيني بين اسم ابن خروف النحوي وابن خروف الشاعر. فأثبت اسم النحوي علي بن محمد بن يوسف والمثبت بين الحاصرتين هو الصحيح. وفيات الأعيان، ج 3، ص 335.
(2)
الخان: هو مكان يشبه الفندق المعد لاستقبال التجار وبضائعهم ودوابهم وغيرهم من المسافرين والحجاج ويوجد به اسطبل دواب وفي أعلاه طباق ومساكن للنازلين به تطل على حوش أو ساحة تتوسط الخان وأيضًا يوجد بالخان بئر ماء ومنصاه ومسجل صغير. انظر سعيد عاشور، العصر المماليكي، ص 411.
(3)
وفيات الأعيان، ج 3، ص 335؛ البداية والنهاية، ج 13، ص 59.
(4)
انظر ترجمة السبكي، طبقات الشافعية، ج 5، ص 165؛ الجامع المختصر، ج 9، ص 279؛ الكامل، ج 10، ص 300؛ البداية والنهاية، ج 13، ص 59.
(5)
وفيات الأعيان، ج 4، ص 141 - ص 143: الكامل، ج 10، ص 350 - ص 351؛ الذيل على الروضتين، ص 68؛ ج 9، ص 299؛ البداية والنهاية، ج 13، ص 59.
وسمع الحديث الكثير وقرأ القرآن الكريم، وأتقن علومه وحرر علومًا جمة، وكان مقامه بالموصل، وقد جمع في سائر الفنون كتبًا مفيدة منها: جامع الأصول الستة، الموطأ، والصحيحان، وسنن أبي دواد، والنسائي، والترمذي، ولم يذكر ابن ماجه فيها. وله كتاب النهاية في غريب الحديث، وله شرح مسند الشافعي، وله التفسير في أربع مجلدات وغير ذلك في فنون شتي. وكان رحمه الله معظمًا عند ملوك الموصل، ولما آل الملك إلى نور الدين أرسلان شاه بن مسعود بن مودود بن زنكي أرسل إليه مملوكه لؤلؤ فعرض عليه أن يستوزره فأبى، فركب السلطان إليه بنفسه فامتنع أيضًا، وقال: قد كبرت واشتهرت بنشر العلم ولا يصلح هذا الأمر إلا بشيء من العسف [322]، ولا يليق بي ذلك فأعفاه. وقال أبو السعادات: كنت أقرأ علم العربية على الشيخ سعيد بن الدهان، فكان يأمرني بصنعة الشعر، فكنت لا أقدر عليه، فلما توفي الشيخ رأيته في بعض الليالى يأمرني بذلك، فقلت: ضَعْ لي مثالًا أعمل عليه فقال:
جُبْ الفلا مدْمنا إن فاتك الظفر
…
وخُذّ خَدَ الثرى والليل معتكر
فقلت أنا:
والعز في صهوات الخيل تركبه
…
والمجد ينتجه الإسراء والسهر
فقال لي: أحسنت. ثم استيقظت فأتممت عليها نحوًا من عشرين بيتًا. وقال ابن خلكان
(1)
: وله المصنفات البديعة والرسائل الوسيعة منها: جامع الأصول وهو على وضع كتاب زين إلا أن فيه زيادات كثيرة عليه، ومنها كتاب النهاية في خمس مجلدات، وكتاب الإنصاف في الجمع بين الكشف والكشاف في تفسير القرآن، أخذه من تفسير الثعلبي والزمخشري، وله كتاب المصطفى والمختار في الأدعية والأذكار، وله كتاب طيف في صنعة الكتابة، وكتاب البديع في شرح الفصول في النحو لابن الدهان، وله ديوان رسائل
(2)
، وكتاب الشافي في شرح مسند الإمام الشافعي، وغير ذلك في المصنفات.
(1)
وفيات الأعيان، ج 4، ص 141 - ص 142.
(2)
"ديوان ورسائل" كذا في الأصل والمثبت هو الصحيح. انظر: وفيات الأعيان، ج 4، ص 141.
كانت ولادته بجزيرة ابن عمر في أحد الربيعين سنة أربع وأربعين وخمسائة، ونشأ بها ثم انتقل إلى الموصل في سنة خمس وستين وخمسمائة، ثم عاد إلى الجزيرة ثم عاد إلى الموصل وتنقل في الولايات بها، واتصل بخدمة الأمير مجاهد الدين قايماز بن عبد الله الخادم الزيني المقدم ذكره، وكان نائب المملكة فكتب بين يديه منشئًا إلى أن قبض عليه كما ذكرنا، فاتصل بخدمة عز الدين مسعود بن مودود صاحب الموصل، وتولي ديوان رسائله وكتب له إلى أن توفي، ثم اتصل بولده نور الدين أرسلان شاه فحظى عنده، وتوفرت حرمته لديه وكتب له مدة، ثم عرض له مرض كف يديه ورجليه فمنعه من الكتابة مطلقًا، وأقام في داره يغشاه الأكابر والعلماء، وأنشأ رباطًا بقرية من قرى الموصل تسمى قصر حرب ووقف أملاكه عليها وعلى داره التي كان يسكنها بالموصل. وقال ابن خلكان: وبلغني أنه صنف هذه الكتب كلها في مدة العطلة فإنه تفرغ لها، وكان عنده جماعة يعينونه عليها في الاختيار والكتابة، وكانت وفاته بالموصل يوم الخميس سلخ ذي الحجة من هذه السنة، ودفن برباطه بدرب دراج داخل الموصل. قلت: ترجمة أخوه عز الدين في الكامل
(1)
، فقال: كان عالما في عدة علوم منها: الفقه، وعلم الأصولين، والنحو، والحديث، واللغة. وله تصانيف مشهورة، وكان كاتبًا مغلقًا يضرب به المثل، ذا دين ولزوم طريق مستقيم، فلقد كان من محاسن الزمان. وقال أبو شامة
(2)
: كان به نقرس، يحمل في محفة، رحمه الله.
الفخر الرازي
(3)
صاحب التفسير الكبير، محمد بن عمر بن الحسين بن على القرشي التيمي البكرى، العلامة أبو عبد الله وأبو المعالي، المعروف بالفخر الرازي، ويقال له ابن خطيب الريّ، الفقيه الشافعي، أحد المشاهير بالتصانيف الكبار والصغار نحو من مائتي مصنف منها: تفسير القرآن الكريم: جمع فيه كل غريب وغريبه، وهو كبير جدًا لكنه لم يكمله، وشرح سورة الفاتحة في مجلد. ومنها في علم الكلام [323]. المطالب العالية، ونهاية العقول، وكتاب الأربعين، والمحصّل، والمعالم، وكتاب البيان والبرهان في الرد على أهل الزيغ والطغيان، وكتاب المباحث العمادية في
(1)
انظر ابن الأثير، ج 1، ص 350 - ص 351.
(2)
الذيل على الروضتين، ص 68.
(3)
الذيل على الروضتين، ص 68؛ البداية والنهاية، ج 13، ص 60 - ص 61.
المطالب المعادية، وكتاب تهذيب الدلائل وعيون المسائل، وكتاب إرشاد النظار إلى لطائف الأسرار، وكتاب أجوبة المسائل التجارية، وكتاب تحصيل الحق، وكتاب الزبدة وغير ذلك.
وفي أصول الفقه: المحصول والمعالم. وفي الحكمة: الملخص، وشرح الإشارات لابن سينا، وشرح عيون الحكمة، وغير ذلك. وفي الطلسمات: السر المكتوم وشرح أسماء الله الحسنى. ويقال: إن له شرح المفصل في النحو للزمخشري، وشرح الوجيز في الفقه للغزالي، وشرح سقط الزند للمعري، وله مختصر في الإعجاز، ومؤاخذة جيدة على النحاة، وله طريقة في الخلاف. وله في الطب: شرح الكليات للقانون. وصنف في علم الفراسة، وصنف في مناقب الشافعي رحمه الله، وكل كتبه ممتعة، وانتشرت تصانيفه في البلاد، ورزق فيها سعادة عظيمة فإن الناس اشتغلوا بها ورفضوا كتب المتقدمين، وهو أول من اخترع هذا الترتيب في كتبه وأتى فيها بما لم يُسبق إليه، وكان له في الوعظ اليد البيضاء، ويعظ باللسانين العرب والعجمي، وكان يلحقه الوجد حال الوعظ ويكثر البكاء، وكان يحضر مجلسه بمدينة هراة أرباب المذاهب والمقالات، ويسألونه وهو يجيب كل سائل بأحسن إجابة، ورجع بسببه خلق كثير من الطائفة الكرامية وغيرهم إلى مذهب أهل السنة، وكان يلقب بهراة شيخ الإسلام، وكان مبدأ أشغاله على والده إلى أن مات، ثم قصد الكمال السمناني واشتغل عليه مدة، ثم عاد إلى الرى واشتغل على المجد الجيلي وهو أحد أصحاب محمد بن يحيى، ولما طلب المجد الجيلي إلى مراغة ليدرس بها صحبة فخر الدين المذكور إليها وقرأ عليه مدة طويلة علم الكلام والحكمة. ويقال: إنه كان يحفظ الشامل لإمام الحرمين في علم الكلام، ثم قصد خوارزم وقد تمهر في العلوم وجرى بينه وبين أهلها كلام فيما يرجع إلى المذهب والاعتقاد، فأخرج من البلد، فقصد ما وراء النهر فجرى له أيضًا هناك ما جرى له في الخوارزم، فعاد إلى الرى، وكان بها طبيب حاذق له ثروة ونعمة، وكان للطبيب ابنتان ولفخر الدين ابنان، فمرض الطبيب وأيقن بالموت فزوج ابنتيه لولدي فخر الدين، ومات الطبيب فاستولى فخر الدين على جميع أمواله، فمن ثم كانت له النعمة ولازم الأسفار، وعامل شهاب الدين الغوري صاحب غزنة في جملة من الأموال، ثم مضى إليه في استيفاء حقه منه فبالغ في إكرامه والإنعام وحصل له من جهته مال طائل، وعاد إلى خراسان واتصل بالسلطان محمد بن تكش المعروف بخوارزم شاه، وحظي عنده ونال
أسمى المراتب، ولم يبلغ أحد منزلته عنده، ومناقبه أكثر من أن تعد، وفضائله لا تحصى ولا تحد، وكان مع هذه العلوم له شيء من النظم فمن ذلك قوله:
نهاية إقدام العقول عقال
…
وأكثر سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا
…
وحاصل دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا
…
سوى أن جمعنا فيه قيل وقال
وكم قد رأينا من رجال ودولة
…
فبادوا جميعًا مسرعين وزالوا
وكم من جبال قد علت شرفاتها
…
رجال فزالوا والجبال جبال
وكان العلماء يقصدونه من البلاد ويشد إليه الرحال من الأقطار. وذكر فخر الدين في كتابه الذي سماه "تحصيل الحق" أنه اشتغل في علم الأصول على والده ضياء الدين عمر، ووالده على ابن القاسم سليمان بن ناصر الأنصاري، وهو على أيام الحرمين، وهو على الأستاذ أبي إسحاق الإسفرابيني، وهو على الشيخ أبي الحسن الباهلي، وهو على شيخ السنة أبي على بن إسماعيل الأشعري، وهو على أبي على الجبائي أولا، ثم رجع عن مذهبه ونصر مذهب أهل السنة والجماعة.
وأما اشتغاله في المذهب فإنه اشتغل على والده، ووالده على أبي محمد الحسين بن مسعود الفراء البغوي، وهو على القاضي الحسين المروزي، وهو على أبي العباس بن شريح، وهو على أبي القاسم الأنماطى، وهو على أبي إبراهيم المزني، وهو على الإمام الشافعي رضي الله عنه. وقال ابن كثير
(1)
: وقد كان فخر الدين معظم عند الملوك الخوارزمية وغيرهم، وبنيت له مدارس كثيرة في بلدان شتى، وملك من الذهب العين ثمانين ألف دينار وغير ذلك من الأمتعة والمراكب والملابس، وكان له خمسون مملوكًا من الترك، وكان يعقد مجلس الوعظ فيحضر عنده الملوك والوزراء والعلماء والأمراء والفقراء والعامة والغوغاء، وكانت له عبادات وأوراد، وقد وقع بينه وبين الكرامية في أوقات شتى، وكان يبغضهم وكانوا يبغضونه، ويبالغ في ذمهم ويبالغون في الحط عليه، وقد ذكرنا طرفًا من ذلك فيما تقدم. وكان مع غزارة علمه وتبحره في فمن الكلام يقول: من التزم مذهب
(1)
البداية والنهاية، ج 13، ص 60.
العجائز
(1)
كان هو الفائز. وقال الشيخ شهاب الدين في الذيل
(2)
في ترجمته: وكان يعظ وينال من الكرامية وينالون منه سبًا وتكفيرًا، وقيل: إنهم دسوا عليه من سقاه السم فمات، ففرحوا بموته، وكانوا يرمونه بالكبائر، ولا كلام في فضله وإنما الشناعات عليه قائمة بأشياء منها: إنه كان يقول: قال: محمد التازي يعني العربي
(3)
، وقال محمد الرازي يعني نفسه.
ومنها: إنه كان يقرر الشُّبَه في جهة الخصوم بعبارات كثيرة ويجيب عن ذلك بأدني إشارة. قال: وبلغني إنه خلَّف من الذهب العين ثمانين ألف دينار غير ما كان يملكه من الدواب والثياب والعقار والآلات، وخلف ولدين أخذ كل واحد منهما أربعين ألف دينار، وكان ابنه الأكبر قد تجند في حياته وخدم السلطان محمد بن ت كش، وقال ابن خلكان
(4)
: وكانت ولادة فخر الدين في الخامس والعشرين من شهر رمضان سنة أربع وأربعين، وقيل سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة بالرِّيّ، وتوفي يوم الإثنين، وكان عيد الفطر سنة ست وستمائة بمدينة هراة، ودفن آخر النهار في الجبل المصاقب لقرية مزداخان، بضم الميم وسكون الزاي وفتح الدال المهملة وبعد الألف خاء معجمة مفتوحة وبعد الألف نون، وهي قرية بالقرب من هراة.
الإمام فخر الدين أبو الفضائل محمد بن عمر الرازي، أحد الأعيان الحنفية، مات في هذه السنة فإنه وافق فخر الدين الرازي الشافعي في الاسم واسم الأب والنسبة والمعاصرة والوفاة.
المجد المطرّزي النحوى الخوارزمي، كان إمامًا في النحو، وله فيه تصانيف حسنة. قال ابن الأثير
(5)
: مات في هذه السنة.
الملك المؤيد نجم الدين مسعود بن السلطان صلاح الدين يوسف، توفي في هذه السنة بمدينة رأس عين، فحمل إلى حلب ودفن بها. وفي تاريخ بيبرس
(6)
: وهو
(1)
يقصد بمذهب العجائز مذهب الفطرة.
(2)
انظر أبو شامة، الذيل على الروضتين، ص 68.
(3)
ذكر أبو شامة أنه يريد النبي صلى الله عليه وسلم. انظر الذيل على الروضتين، ص 68.
(4)
وفيات الأعيان، ج 4، ص 252.
(5)
انظر الكامل، ج 10، ص 351.
(6)
ورد هذا الخبر في نهاية الأرب، ج 29، ص 50.
أخو الظاهر غازي صاحب حلب شقيقه، مات فجأة برأس العين وحمل إلى حلب، وقال أبو شامة
(1)
: توفي برأس عين عند منصرفه من رسالة [325] أخيه الظاهر إلى عمه العادل في أمر سنجار في النصف من شعبان، وكان قد نام في بيت مع ثلاثة وعندهم منقل
(2)
فيه نار، ولا منفذ في البيت، فانعكس البخار فأخذ على أنفاسهم فماتوا جميعًا، فحمل المؤيد في محفة إلى حلب فدفن بها، وقال ابن الحلى يرثيه في قصيدة:
ترى من على نفس العلى جار واعتدى
…
وفَوَّق نحو الملك سهمًا مسددًا
ومن هَدّ ركن المجد بعد بنائه
…
ومد إلى تشتيت شمل الهدي يدا
من دكدك الطود الأشم وقد رسى
…
وطار إلى أن جاز نسرًا وفرقدًا
ومن حجب البدرَ الذي كان مشرقا
…
ومن غَيّض البحر الذي كان مزبدًا
ومن حبس الغيث الذي كان نوؤه
…
إذا عم جدبًا لا تقب له يدا
فيا مانع الإسلام صبرًا فإنما
…
بصبرك في كل المواطن يقتدى
ولو كان غير الموت دافعت دونه
…
بطعن يردّ السمهري مقصدًا
وغادرت جفن الأفق بالسمر أو طفا
…
وحد المواضي بالنجيع مزرّدا
ولكنه دهر إذا ما نعيمه تحول
…
بأسًا هدّ ما كان شيدا
وهي قصيدة طويلة.
الملك المغيث فتح الدين عمر بن الملك العادل. مات في هذه السنة، ودفن بتربة أخيه الملك المعظم بسفح قاسيون.
(1)
الذيل على الروضتين، ص 67.
(2)
منقل: كانون النار. انظر محيط المحيط مادة "نقل".
فصل فيما وقع من الحوادث في السنة السابعة بعد الستمائة
(*)
استهلت هذه السنة والخليفة هو الناصر لدين الله، والسلطان الملك العادل في الشرق، وتمالت
(1)
عليه ملوك الجزيرة صاحب الموصل، وصاحب سنجار، وصاحب إربل، وكذا الملك الظاهر صاحب حلب، وملك الروم أيضًا وغيرهم، على مخالفة الملك العادل ومنابذته ومعاملته وإقلاع المُلك من يده، وأن تكون الخطبة في بلادهم بدله للملك كيخسرو شاه بن قليج أرسلان السلجوقي صاحب الروم.
وأرسلوا إلى الكرج لِيَقْدموا لحصار خلاط وأخذها من يد الملك الأوحد نجم الدين أيوب بن الملك العادل، ووعدوه النصر والمعاونة عليه. فأقبلت الكرج مع ملكهم على مانذكره عن قريب، وخرج كل واحد من الملوك المذكورين بعساكره إلى حدود بلاده، مُجمعًا على الاجتماع بصاحبه على قصد الملك العادل، وإيجافهم عليه بخيلهم ورجلهم وكتبهم ورسلهم، والملك العادل مقيم ثابت بظاهر حران، وعنده صهره صاحب آمد بن قرا أرسلان.
ونزل الكرج على خلاط سابع عشر ربيع الآخر، وجرى عليهم ما نذكره من الكسر والانهزام، فلما عَلِمَ بذلك هؤلاء الملوك تفرقت آراؤهم وبادر كل منهم بالرسل إلى الملك العادل يتنصل مما يُنسَب إليه وتحيل على غيره، ويبذل الطاعة. فقبل أعذارهم وعقد معهم صلحًا في جمادى الأولى، ثم عاد الملك العادل من البلاد الشرقية إلى دمشق. وتقرر الصلح أيضًا بينه وبين ابن أخيه الملك الظاهر صاحب حلب.
وفي ثاني شعبان كان إملاك نور الدين أرسلان شاه صاحب الموصل على ابنة الملك العادل، وعُقد العقد بقلعة دمشق، على صداق ثلاثين ألف دينار. ثم وصل الخبر بوفاة نور الدين هذا بالموصل في آخر رجب، وقام ولده عز الدين مسعود بالأمر، وكان العقد مع وكيله بعد موته ولم يعلم بذلك، ثم سار [326] الملك العادل إلى الديار المصرية وأقام بدار الوزارة.
(*) يوافق أولها 25 يونيو 1210 م.
(1)
ورد هذا الخبر في الذيل على الروضتين، ص 75؛ البداية والنهاية، جـ 13، ص 62.
ذكر مجيء الكرج إلى خلاط
قد ذكرنا أن ملوك
(1)
الجزيرة لما اتفقوا على العصيان على الملك العادل أرسلوا إلى الكرج ليتقدموا ويحاصروا خلاط ويأخذوها من الملك الأوحد بن العادل، وكان قصدهم إشغال العادل وتفريق شمله، فأقبلت الكرج مع ملكهم إيوان
(2)
فحاصروا خلاط فضاق بهم ذرعًا، وقدر الله عز وجل أن في يوم الإثنين تاسع عشر ربيع الآخر اشتد حصارهم للبلد، وأقبل ملكهم إيواني وهو راكب على جواده، وهو سكران، فسقط به جواده في بعض الحفر التي عُملت مكيدة حول البلد، فبادر إليه رجال من البلد فأخذوه أسيرًا حقيرًا، فأسقط في أيدي الكرج. فلما أوقف بين يدي الملك الأوحد أطلقه وَمَنَّ عليه وأكرمه وأحسن إليه، وفاداه على مائتي
(3)
ألف دينار وألفي أسير من المسلمين، وتسليم إحدى وعشرين قلعة متاخمة لبلاد الأوحد. وأن يزوج ابنته من أخيه الملك الأشرف موسى وأن يكونوا عونًا له على مَنْ حاربه. فأجابه إلى ذلك كله، وأُخذَتْ الأيمان منه بذلك.
فبعث الأوحد إلى أبيه العادل يستأذنه في ذلك كله، والعادل نازل بأرض حران - كما ذكرنا - وهو في أشد حيرة فيما قد دهمه من الأمر الفظيع، فبينما هو كذلك إذ أتاه هذا الأمر الهائل والتدبير من عزيز حكيم لم يكن في باله ولا في حسابه، فكاد يذهل فرحًا وسرورًا، وأجاز جميع ما فعله ولده.
وطارت الأخبار بما وقع بين الملوك، فخضعوا وذُلوا كما ذكرنا الآن. ووفي ملك الكرج للملك الأوحد بجميع ما شارطه عليه، وتزوج الأشرف بابنته. وقال أبو شامة
(4)
: وخفت الكرج على خلاط بين الصلاتين من يوم الإثنين تاسع عشر ربيع الآخر، وقدر الله وقوع مقدمهم إيواني بفرسه في حفرة بالربض وهو سكران فأُخِذَ أسيرًا، وعَرَفَه ياقوت الخادم الملطى فحمله إلى الأوحد، فأكرمه وخلع عليه، وأمر الكرج بالرحيل عن خلاط فرحلوا من ساعتهم نحو بلادهم، ولم يجسروا على مخالفته، ولا تعرضوا لقرية من عملها
(1)
ورد هذا الخبر في البداية والنهاية، جـ 13، ص 62؛ الذيل على الروضتين، ص 75.
(2)
"إيواي" في الذيل على الروضتين، ص 75. وهكذا كلما تكرر الاسم.
(3)
"ثمانين" في الذيل على الروضتين، ص 75.
(4)
انظر: الذيل على الروضتين، ص 75.
بإذنه. وقد كان مَنْ بخلاط أيقن بذهاب الأنفس والأموال، فدفع الله عنهم، ثم جرى ما ذكرنا حتى أَطلَقَ الأوحدُ ملك الكرج في ثاني عشر جمادى الأخرى.
قال ابن تاج الأمناء: ومن أعجب ما سمعته في هذه القصة أن إيواني لما نزل بخلاط قال له منجمه في بكرة يومه: إنك ستدخل إلى قلعة خلاط قريب العصر من يومك في زي غير زيك، فتخيل قوله في نفسه وشرب، فلما سكر ذكر قول المنجم وكان قسيسه، فركب لوقته وزحف، فكان من أمره ما قدر الله تعالى، وأدخل القلعة وقت العصر أسيرًا لابسًا خلعة الأوحد.
وفي تاريخ المؤيد
(1)
: واتفق أن ملك الكرج شرب وسكر، فَحَسَّن له السكر أن تقدم إلى خلاط في عشرين فارسًا، وخرج
(2)
إليه المسلمون فتقنطر وأخذ أسيرًا وحمل إلى الأوحد، فَرَدَّ عليه عدة قلاع، وبذل إطلاق خمسة آلاف أسير، ومائة ألف دينار، وعقد الهدنة مع المسلمين ثلاثين سنة. فتسلم ذلك كله منه، وأقام وتحالفًا، ثم أطلقه فخرج.
ذكر عصيان سنجر الخليفتي بخوزستان
(3)
وذلك أن الخليفة الناصر لدين الله كان قد ولاه إياها بعد طاشتكين أمير الحاج فتغير عن الطاعة، وأبطن التغلب على البلاد [327]، وبقى الأمر كذلك، فأمر الخليفة مؤيد الدين نائب الوزارة وعز الدين نجاح الشرابي بالمسير إليه بالعساكر وإخراجه عن خوزستان، فسارا في عسكر كثيرة، فلما تحقق سنجر قصدهم إليه لحق بصاحب شيراز وهو سعد بن دكلا ملتجئًا إليه فأكرمه وقام دونه، ووصل عسكر الخليفة إلى خوزستان بغير ممانعة فلما استقروا في البلاد راسلوا سنجرا يدعونه إلى الطاعة فلم يجب، فساروا إلى أرجان
(4)
عازمين علي قصد صاحب شيراز فأدركهم الشتاء وأقاموا شهورًا والرسل متردده بينهم فلم يجبهم. فلما دخل شهر شوال رحلوا يريدون شيراز، فحينئذ أرسل صاحبها إلى الوزير والشرابي يشفع فيه ويطلب العهد له على أن لا يؤذي فأجاباه إلى ذلك وسلمه إليهما هو
(1)
انظر: المختصر في أخبار البشر، جـ 3، ص 113.
(2)
"وخرجت" في الأصل، والصحيح ما أثبتناه.
(3)
ورد هذا الخبر بالتفصيل في الكامل، جـ 10، ص 352، ص 353؛ مرآة الزمان، ج 8، ص 354، ص 355.
(4)
أرَّجَان: هي كورة من كور فارس، وهي مدينة كبيرة، بينها وبين شيراز مائة وثمانون ميلًا، وبينها وبين الأهواز مائة وثمانون ميلًا، معجم البلدان، جـ 1، ص 194.
وماله وأهله، فعادوا إلى بغداد والوزير والشرابي وسنجر معهم تحت الاستظهار، وولي الخليفة بلاد خوزستان مملوكه ياقوت، وخرج أهل بغداد إلى تلقى الوزير والشرابي وأدخل سنجر راكبًا بغلًا بإلحاف وفي رجله سلسلتان، ثم أن الناصر لدين الله عفي عنه وأمر له بالخلع فلبسها وعاد إلى داره. ونهب سعد صاحب شيراز أموال سنجر وخزائنه ودوابه وكل ماله وما لأصحابه، وطلب الوزير والشرابي ماله منه فأرسل شيئًا يسيرًا والله أعلم.
(1)
ذكر فساد الفرنج ببلاد القدس
خرجت جماعة بينهم وعاثوا بنواحي القدس الشريف، فبرز إليهم الملك المعظم ابن الملك العادل في عساكره، فقتل منهم خلقًا كثيرًا وخرب من بلادهم أماكن كثيرة، وغنمت العساكر غنيمة وافرة، وعادوا سالمين، وشرع المعظم في تحصين جبل الطور وبناء قلعة فيه ليكون ثغرًا على الفرنج، فغرم أموالًا كثيرة في ذلك وبعث الفرنج إلى الملك العادل وطلبوا منه الأمان والمصالحة فهادنهم، وبطلت تلك العمارة وضاع ما كان غرم عليها. وقال السبط
(2)
في المرآة: وفي هذه السنة خرجت من دمشق إلى نابلس إلى الغزاة، وكان الملك المعظم عيسى رحمه الله بها فجلست بجامع دمشق يوم السبت خامس ربيع الأول، وكان الناس من باب المشهد الذي لزين العابدين إلى باب الناطفانيين وإلى باب الساعات، وكان القيام في الصحن أكثر بحيث امتلأ جامع دمشق وحزروا ثلاثين ألفًا، وكان يومًا لم ير بدمشق مثله ولا بغيرها، وكان قد اجتمع عندي شعور كثيرة، وقد وقفت على حكاية أبي قدامة الشامي مع تلك المرأة التي قطعت شعرها وبعثت به إليه، وقالت: اجعله قيدًا لفرسك في سبيل الله، فعملتُ من الشعور التي اجتمعت عندي شُكْلًا للخيل المرصدة للمجاهدين وكوفسارات
(3)
ولما صعدت المنبر أمرت بإحضارها، فحملت على أعناق الرجال، وكانت ثلثمائة شكال، فلما رآها الناس صاحوا صيحة عظيمة وقطعوا مثلها وقامت القيامة، وكان المُبارز المعتمد إبراهيم -رحمه
(1)
ورد هذا الخبر في البداية والنهاية، جـ 13، ص 63.
(2)
مرآة الزمان، جـ 8، ص 355.
(3)
كرْفَسارات: قيود للخيل أو البعير. المنجد، مادة (كرفس)، ص 722.
الله - والي دمشق حاضرًا وجميع الأعيان. فلما نزلت من المنبر [قام المبارز]
(1)
يطرق لي ويمشي بين يدي إلى باب الناطفانيين
(2)
، فتقدم إلى فرسى فأمسك بركأبي وأركبني وخرجنا من باب الفرج إلى المصلى، وجميع من كان بالجامع بين يدي، وسرنا من الغد إلى الكسوة ومعنا خلق مثل التراب، وكان معنا من قرية واحدة يقال لها زملكًا من قري [328] دمشق نحو ثلثمائة رجل بالعدد والسلاح، وأما من غيرها فخلق كثير، والكل خرجوا احتسايًا، وجئنا إلى عقبة فيق والطير لا تقدر أن تطير من خوف الفرنج، فسرنا على الجادة إلى نابلس ووصلت أخبارنا إلى عكا، وخرج المعظم فالتقانا وسر بنا، وجلست بجامع نابلس وحضروا وأحضرنا الشعور أيضًا فأخذها وجعلها على [صدره]
(3)
ووجهه وجعل يبكي، وكان يومًا عظيمًا، ولم أكن اجتمعت به قبل ذلك اليوم، وخدمنا وأكرمنا وخرجنا إلى نحو بلاد الإفرنج، فخربنا وقطعنا أشجارهم وأسرنا جماعة وقتلنا جماعة ولم يتجاسروا أن يخرجوا من عكا، فأقمنا أيامًا ثم عدنا سالمين غانمين إلى الطور المطل على الناصرة والمعظم معنا، فقال: أريد أن أبني عليه قلعة. وطلب أخاه الملك الأشرف وعساكر الشرق وحلب وشرع في عمارة الطور، وأقام العسكر تحته من ذي الحجة من هذه السنة إلى سنة ثمان وستمائة، فكمل سوره ودار واستوى، وخاف الفرنج فأرسلوا إلى العادل فصالحهم وأعطى للعساكر دستورا فتفرقوا، وأقام المعظم يعمر الطور إلى قبيل وفاة العادل ولا يحصى ما عزم عليه.
(4)
ذكر بقية الحوادث
منها: إنه وردت رسل الخليفة الناصر لدين الله إلى ملوك الأطراف أن يشربوا له كأس الفتوة ويلبسوا لها سراويلها، وأن ينتسبوا إليه في رمي البندق
(5)
ويجعلوه قدوتهم.
(1)
ما بين حاصرتين إضافة من مرآة الزمان الذي ينقل عنه. جـ 8، ص 355؛ الذيل على الروضتين، ص 69.
(2)
باب الناطفانيين، أحد الأبواب الأربعة للجامع الأموي بدمشق، انظر: معجم البلدان، جـ 2، ص 591: الدارس، جـ 2، ص 386.
(3)
ما بين حاصرتين إضافة من المرآة، جـ 8، ص 355 حيث ينقل عنه.
(4)
مرآة الزمان، جـ 8، ص 355 - ص 356؛ الذيل على الروضتين، ص 69 - ص 70.
(5)
رمي البندق: من الألعاب الرياضية، والبندق: كُرات تصنع من الطين أو الحجارة أو الرصاص، أو غيرها. وترمى به الطيور. انظر: عاشور، المجتمع المصري في عصر سلاطين المماليك، ص 73.
فيه، وكلهم فعل ذلك إلا رجلاً واحداً وخرج من البلاد لأجل ذلك
(1)
وقال أبو شامة
(2)
: وفيها أظهر الخليفة الأجازة التي أخذت له من الشيوخ وذكرهم في كتاب روح العارفين، ودفع إلى كل أهل مذهب أجازة عليها مكتوب بخطه أمرنا لهم ما سألوه على شرط الأجازة الصحيحة، وكتب العبد الفقير إلى الله تعالى أبو العباس أحمد أمير المؤمنين، وسلمت أجازة أصحاب الشافعي إلى ضياء الدين عبد الوهاب بن سكينة؛ وأجازة أصحاب أبي حنيفة رضي الله عنه إلى الضياء أحمد بن مسعود التركستاني، وأجازة أصحاب أحمد إلى أبي صالح نصر بن عبد الرزاق بن الشيخ عبد القادر، وأجازة أصحاب مالك إلى التقى على ابن جابر التاجر المغربي.
ومنها:
(3)
إن في حادي عشر شوال جددت أبواب الجامع من ناحية باب البريد بالنحاس الأصفر وركبت في أماكنها. وفي شوال أيضاً شرع في إصلاح الفوارة والشاذروان والبركة وعمل عندها مسجدًا وجعل له إمام راتب، وأول من تولاه رجل يقال له النفيس المصري، وكان يقال له بوق الجامع لطيب صوته، وكان إذا قرأ على الشيخ أبي منصور الضرير المُصدر يجتمع عليه الناس.
ومنها
(4)
: إن في العشر الأخير من ذي الحجة توجه البال القبرسى لعنه الله في مراكب من عكا إلى الديار المصرية، فوصل إلى ساحل دمياط ليلاً فأرسي غربيّها، وسلك في البر بخيله ورجله إلى القرية المعروفة ببورة، وهي على ساحل النيل، فكبسها سحراً وسبي أهلها وحاز ذخائرها، وعاد على أثره في بقية يومه إلى مراكبه، وبلغ والي دمياط خبره فبادر الرجال إليه، فالتقاه قد حصل بظهر البحر في مراكبه وامتنع على طالبه ووصل بالأسرى والغنائم إلى عكا، وقد نال بفعلته هذه والتي قبلها توبة فوه من الديار المصرية في سنة ستمائة ما لم ينله أحد من الفرنج قبله ولا أقدم إقدامه.
وفيها ...................................
(5)
(1)
انظر المختصر في أخبار البشر، جـ 3، ص 113.
(2)
الذيل على الروضتين، ص 69؛ مرآة الزمان، جـ 8، ص 354.
(3)
الذيل على الروضتين، ص 76.
(4)
أنظر: الذيل على الروضتين، ص 77.
(5)
بياض في الأصل بمقدار سطر.
وفيها حج بالناس من العراق محمد بن ياقوت نيابة عن والده ياقوت، وكان صبياً ومعه ابن أبي الجيلى
(1)
، وحج بالناس من الشام سيف الدين على بن علم الدين سليمان ابن جندر، وكان قدم من حلب لذلك، واحتفل الناس له.
ذكر من توفي فيها من الأعيان
الشيخ أبو عمر
(2)
محمد بن أحمد بن محمد بن قدامة، باني المدرسة التي يقرأ فيها القرآن بسفح جبل قاسيون، وهو أخو الإمام العلامة موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة. وكان الشيخ أبو عمر أسن منه لأنه ولد سنة ثمان وعشرين وخمسمائة بقرية السَّاويا من أعمال نابلس، وقيل: بجماعيل
(3)
، وهو الذي ربي الشيخ الموفق وأحسن إليه وزوجه، وكان يقوم بمصالحه، وهو الذي قدم به وبأهله من تلك البلاد، فنزلوا بمسجد أبي صالح بالباب الشرقي من دمشق، فأقاموا به مدة ثم انتقلوا منه إلى سفح قاسيون، وليس به من العمارة سوى دير الحوراني وأماكن يسيرة. قال الشيخ: فقيل لنا الصالحية فنسبونا إلى مسجد أبي صالح لأننا صالحون. وقال سبط
(4)
ابن الجوزي في تاريخه المرآة: وكان الشيخ معتدل القامة، حسن الوجه، عليه أنوار العبادة، لا يزال متبسماً، نحيل الجسم من كثرة الصيام والقيام، قرأ القرآن بحرف أبي عمرو، وحفظ مختصر الخرقي في الفقه، وقرأ النحو على ابن بري بمصر، وسمع الحديث بدمشق ومصر، واشتغل بالعبادة عن الرواية، وكتب الحلية لأبي نعيم، وتفسير البغوي والمغني لأخيه الموفق، والإبانة لابن بطة، ومصاحف كثيرة للناس ولأهله وكتباً كثيرة، والكل بغير أجرة، وكان يصوم الدهر إلَّا من عذر، ويقوم الليل من صغره، ويحافظ على الصلوات في الجماعات، ويخرج من ثلث الليل إلى المسجد في الظلمة فيصلي إلى الفجر، ويقرأ في كل يوم سبعاً من القرآن بين الظهر والعصر، ويقرأ بعد العشاء الآخرة آيات الحرس، ويس، وتبارك والواقعة، والمعوذتين، وقل هو الله أحد. وإذا ارتفعت الشمس لقن الناس القرآن إلى وقت الضحى، ثم يقوم فيصلي الضحى ثمان ركعات ويقرأ قل هو الله أحد
(1)
"الحلى" كذا في مرآة الزمان، جـ 8، ص 356.
(2)
البداية والنهاية، جـ 13، ص 64 - 65؛ الذيل على الروضتين، ص 71؛ مرآة الزمان، جـ 8، ص 356.
(3)
جمَّاعيل: قرية بجبل نابلس من أرض فلسطين، معجم البلدان، جـ 2، ص 113.
(4)
مرآة الزمان، جـ 8، ص 356 - 357.
ألف مرة، ويزور المقابر بعد العصر في كل جمعة، ويصعد يوم الإثنين والخميس إلى مغارة الدم
(1)
ماشياً بالقبقاب
(2)
فيصلي فيها ما بين الظهر والعصر، وإذا نزل جمع الشيح
(3)
من الجبل وربطه بحبل وحمله إلى بيوت الأرامل واليتامى، ويحمل في الليل إليهم الدراهم والدقيق ولا يعرفونه، ولا ينام إلَّا على طهارة، ومتى فتح له شيء من الدنيا آثر به أقاربه وغيرهم، ويتصدق بثيابه، وربما خرج في الشتاء وعلى جسده جبة بغير ثوب، ويبقى مدة طويلة بغير سراويل وعمامته قطعة من بطانة، فإن احتاج أحد إلى خرقة أو مات صغير يحتاج إلى كفن قطع له منها قطعة، وكان ينام على الحصير ويأكل خبز الشعير وثوبه خام إلى أنصاف ساقية، وما نهى أحداً ولا أوجع قلب أحد. ولما نزل صلاح الدين على القدس كان هو وأخوه الموفق والجماعة في خيمته، فجاء العادل إلى زيارته وهو في الصلاة فما قطعها ولا التفت ولا نزل ورده، وكان يصعد المنبر في الجبل وعليه ثوب خام مهدول الجيب وفي يده عصى، والمنبر [330] يومئذ ثلاث مراقي. وكان هو وأخوه وابن خالهم عبد الغني، وأخوه الشيخ عماد لا ينقطعون عن غزاة يخرج فيها السلطان صلاح الدين إلى بلاد الإفرنج. وقد حضروا معه فتح القدس الشريف. وهو الذي شرع في بناء الجامع أولاً، بناه رجل من الناس، فنفذ ما كان بيده، وقد ارتفع البناء قامة، فبعث صاحب إربل الملك المظفر مالاً فكمل به، وولي خطابته الشيخ أبو عمر. وقد حكى السبط
(4)
: إنه حضر يوماً عنده الجمعة، وكان الشيخ عبد الله اليوناني
(5)
حاضراً هناك. فلما انتهى الشيخ أبو عمر إلى الدعاء للسلطان قال: اللهم أصلح عبدك الملك العادل سيف الدين أبا بكر بن أيوب. نهض الشيخ عبد الله وترك الجمعة. قال: فلما فرغنا ذهبت إليه فقلت: ماذا نقمت عليه؟ فقال: يقول لهذا الظالم العادل. ولا تحل خلفه الصلاة. فقلت في نفسي: إذا كانت الصلاة خلف أبي عمر لا تصح فياليت شعري خلف من تصح! قال: فبينما نحن في الحديث إذا أقبل الشيخ أبو عمر ومعه رغيف
(1)
مغارة الدم: توجد في جبل قاسيون المشرف على مدينة دمشق، ويقال إن في هذه المغارة قتل قابيل أخاه هابيل وهناك شبيه بالدم يزعمون أنه دمه باق إلى الآن. معجم البلدان، جـ 4، ص 14.
(2)
القبقاب: الحذاء من خشب والجمع قباقيب. المنجد، مادة قبق، ص 638.
(3)
الشيح: نبت سهلي من الفصيلة المركبة، رائحته طيبة قوية، المعجم الوجيز، مادة "شيح".
(4)
مرآة الزمان، جـ 8، ص 358.
(5)
كذا في الأصل، ومرآة الزمان، جـ 8، ص 358، وفي حاشية الذيل على الروضتين، ص 72 حاشية رقم 1 ذكر أنه يقال له أيضًا "اليونيني" نسبة إلى بلد في بعلبك.
وخيارتان فكسر ذلك وقال الصلاة، ثم قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: بعثت
(1)
في زمن الملك العادل كسرى، فتبسم الشيخ عبد الله ومد يده فأكل، فلما قام الشيخ أبو عمر قال لي: ياسيدي ماذا إلَّا رجل صالح.
وقال أبو شامة
(2)
: كان الشيخ عبد الله من الصالحين الكبار، وقد رأيته، وكانت وفاته بعد أبي عمر بعشر سنين، فلم يسامح الشيخ أبا عمر في تساهله مع ورعه، ولعله كان مسافراً [فلم تكن الجمعة واجبة عليه]
(3)
، وعذر الشيخ أبي عمر أن هذا جرى مجري الأعلام العادل، الكامل، الأشرف، كما يقال سالم وغانم ومسعود ومحمود، وقد يكون المسمى بذلك على الضد من هذه الأسماء، وكذلك إطلاق العادل ونحوه على أنه قد جاء إطلاقة على الشرك فهذا أولى.
(4)
وقال ابن كثير:
(5)
هذا الحديث الذي احتج به الشيخ أبو عمر لا أصل له وليس هو في شيء من الكتب المشهورة، وعجباً له ولأبي المظفر يعني سبط ابن الجوزي ثم لأبي شامة في قبول مثل هذا الحديث، وأخذه منه مسلماً.
وقال السبط: مرض الشيخ أبو عمر أياماً فلم يترك شيئًا مما كان يعمله من الأوراد حتى كانت وفاته وقت السحر ليلة الثلاثاء التاسع والعشرين من ربيع الأول، فغسل بالدير وحمل إلى مقبرته في خلق كثير لا يعلمهم إلَّا الله عز وجل، ولم يبق أحد من الدولة والأمراء والعلماء والقضاة وغيرهم إلَّا حضر، وكان يوماً مشهوداً، وكان الحر شديداً فأظلت الناس سحابة من الحر كان يسمع منها كدوى النحل، وكاد الناس ينتهبون أكفانه لولا أن الوالي وأصحابه بالسيوف المسلولة والدبابيس دونه لأخذ الناس أكفانه. وقال أبو شامة
(6)
: ومن وصل إلى الماء الذي غسل به نشف به النساء مقانعهن والرجال عمائمهم. قال: ولما دفن رأى بعض الصالحين في منامه تلك الليلة النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: من زار أبا عمر
(1)
"ولدت" كذا في مرآة الزمان، جـ 8، ص 358، الذيل على الروضتين، ص 72. والحديث من الأحاديث الموضوعة.
(2)
الذيل على الروضتين، ص 72.
(3)
"إلَّا جمعه عليه" كذا في الأصل، والمثبت بين الحاصرتين من الذيل على الروضتين، ص 72، الذي ينقل عنه العيني.
(4)
نقل العينى هذا الخبر من ابن كثير. انظر البداية والنهاية، جـ 13، ص 65؛ ولمعرفة المزيد من تفاصيل هذه الرواية. انظر الذيل على الروضتين، ص 72.
(5)
البداية والنهاية، جـ 13، ص 65
(6)
الذيل على الروضتين، ص 73 - ص 75؛ البداية والنهاية، جـ 13، ص 66؛ مرآة الزمان، جـ 8، ص 360 - ص 361.
ليلة الجمعة فكأنما رأى الكعبة، فاخلعوا نعالكم قبل أن تصلوا إليه. ومات عن ثمانين سنة، ولم يخلف ديناراً ولا درهماً ولا قليلاً ولا كثيراً، وكان له من الأولاد الذكور: عمر والد أحمد بن عمر وبه كني أبو عمر، والشرف عبد الله والد العز، وأحمد، وعبد الرحمن. قال: وكانت له بنات تائبات عابدات سائحات. وقال: وقبره في طريق مغارة الجوع في الزقاق المقابل لدير الحوراني على يمين المار إلى المغارة، وإلى جانبه قبر أبيه الشيخ [331] أحمد رحمه الله. وما رثي به قول محمد بن سعد المقدسي:
أبعد أن فقدت عينى أبا عمر
…
يضمني في بقايا العمر عمران
ما للمساجد منه اليوم مقفرة
…
كأنها بعد ذاك الجمع قيعان
ما للمحاريب بعد الأنس مُوحَشة
…
كأن لم يُتل فيها الدهر قرآنُ
تبكي عليه عيون الناس قاطبة
…
إذ كان في كل عين منه إنسان
وكان في كل قلب منه نور هدي
…
فصار في كل قلب منه نيرانُ
وكل حي رأينا فهو ذو أسف
…
وكل ميت رآه فهر فرحانُ
لازال تَسْقى ضريحاً أنت ساكنه
…
سحائب غيثها عفو وغفرانُ
كم ميت ذكره حي ومتصف
…
بالحي ميت له الأثواب أكفانُ
وقال السبط:
(1)
وروى لنا الحديث وعلمني دعاء السنة، فقال: مازال مشايخنا يواظبون على هذا الدعاء في أول كل سنة وأخرها، فأما أول السنة فإنك تقول: اللهم أنت الأبدي القديم، وهذه سنة جديدة أسألك فيها العصمة من الشيطان وأوليائه، والعون على هذه النفس الأمارة بالسوء والاشتغال بما يقربني إليك يا ذا الجلال والإكرام. فإن الشيطان يقول: قد أيسنا من نفسه فيما بقي، ويوكل الله به ملكين يحرسانه. وأما دعاء آخر السنة فإنك تقول في آخر يوم من أيام السنة: اللهم ما عملت في هذه السنة مما نهيتني عنه ولم ترضه ولم تنسه، وحَمَلتَ عنى بعد قدرتك على عقوبتي، ودعوتني إلى التوبة من بعد جرأتي على معصيتك، فإني أستغفرك فاغفر لي، وما عملت فيها مما ترضاه ووعدتني عليه الثواب فأسألك أن تتقبله مني، ولا تقطع رجائي منك يا كريم. فإن الشيطان يقول: تعبنا معه طول السنة فأفسد فعلنا في ساعة.
(1)
مرآة الزمان، جـ 8، ص 360 - ص 361؛ الذيل على الروضتين، ص 74.
قال السبط: وأنشدني أبو عمر لنفسه.
ألم يك ملهاة عن اللهو
(1)
أنني
…
بدا لي شيب الرأس والضعف والألم
أَلمَّ بي الخطب الذي لو بكيته
…
حياتي حتى ينفد الدمع لم ألم
وأنشدني لغيره:
لي حيلة فيمن ينم
…
وليس في الكذاب حيلة
من كان يخلق ما يقول
…
فحيلتي فيه قليلة
ابن طبرزد شيخ الحديث: عمر بن محمد بن معمر بن يحيى، المعروف بأبي حفص بن طبرزد البغدادي الدارقَزِّي، ولد سنة عشر وخمسمائة، وسمع الكثير وأسمع، وكان [خليعا]
(2)
ظريفاً ماجناً، وكان يؤدب الصبيان، وكان يُعلم الصبيان بدار القز
(3)
، قدم مع حنبل بن عبد الله المكبر إلى دمشق فسمع أهلها عليهما وحصل لهما أموال، وعاد إلى بغداد، فمات حنبل في سنة ثلاث وستمائة وتأخر هو إلى هذه السنة فمات فيها، وله سبع وتسعون سنة، وترك مالاً جيداً، ولم يكن له وارث إلَّا بيت المال، ودفن بباب حرب ببغداد.
ابن سكينة عبد الوهاب
(4)
بن على بن على بن ضياء الدين أبو محمد: المعروف بابن سكينة الصوفي البغدادي، كان يعد من الأبدال، سمع الكثير وأسمعه ببلاد شتي، وكان مولده في سنة تسع عشرة وخمسمائة، وكان صاحباً للشيخ أبي الفرج بن الجوزى، ملازماً لمجلسه، وكان يوم جنازته مشهوداً لكثرة الخاصة والعامة، وكانت وفاته في ربيع الآخر، وصلى عليه بجامع [القصر]
(5)
ودفن إلى جانب رباط الزوزني.
(1)
"الزهد" في مرآة الزمان، جـ 8، ص 361.
(2)
"هليعا" كذا في الأصل والمثبت من البداية والنهاية، جـ 13، ص 67.
(3)
دار القز: محلة كبيرة في طرف الصحراء بين البلد وبينها فرسخ. انظر: معجم البلدان، جـ 2، ص 522.
(4)
انظر ترجمته في الذيل على الروضتين، ص 70، البداية والنهاية، جـ 13، ص 67؛ شذرات الذهب، جـ 5، ص 25 - ص 26.
(5)
"العصر" كذا في الأصل والمثبت من الذيل على الروضتين، ص 70.
[332]
مظفر
(1)
بن شاشير الواعظ الصوفي البغدادي: ولد سنة ثلاث وعشرين وخمسمائة، وسمع الحديث وكان يعظ في الأعزية، والمساجد والقرى، وكان ظريفاً مطبوعاً، وكان يسكن دار العميد عند الصوفية، فتوفي في محرم هذه السنة، ودفن عند قبر معروف الكرخي رحمه الله، سمع أبا الوقت
(2)
وطبقته، واجتاز يوماً على قصاب يبيع لحماً هزيلاً والقصاب ينادي أين من حلف لا يغبن، فقال له ابن شاشير حتى تحنثه. وقال: خرجت يوماً إلى بعقوبا
(3)
فتكلمت بها في الليل في جامعها، فقام واحد فقال: عندي نصفيه. وقال آخر: وعندي نصفيه. فعدوا نحو خمسين نصفيه. فقلت في نفسي: استغنيت الليلة. فلما أصبحنا وإذا في زاوية المسجد مقدار كارة شعير، فقلت: ماهذا؟ قالوا: النصافي كل كيل شعيرِ نصفيّة. قال: وجلست يوماً بباب جسرا فجمعوا شيئًا ما أعلم ما هو، فلما أصبحنا إذا في جانب المسجد صوف الجاموس وقرونه، فقام واحد ينادي عليه ويقول: من يشتري صوف الشيخ وقرونه؟ فقلت: ردوا صوفكم وقرونكم إليكم مالي بها حاجة.
(4)
يحيى
(5)
بن أبي الفتح بن الطباخ الحراني الضرير: قدم بغداد وأقام بها مدة يتفقه على مذهب أحمد بن حنبل رحمه الله، وسمع الحديث، وقرأ النحو على أبي البقاء العكبري وغيره، وعاد إلى حران فأقام بها إلى أن توفي، سمع شهدة وعبد الحق بن يوسف وابن الخشاب وغيرهم، وكان فقيراً صبوراً صالحاً.
قال السبط: واجتزت بحران في سنة ثلاث وستمائة، وسمعت عليه الحديث.
(1)
انظر ترجمته في الذيل على الروضتين، ص 77؛ مرآة الزمان، جـ 8، ص 361 - ص 362؛ البداية والنهاية، جـ 13، ص 67.
(2)
أبو الوقت: هو عبد الأول بن أبي عبد الله عيسى بن شعيب بن إبراهيم بن إسحاق السِّجزي، من رواة الحديث، عالي الإسناد. توفي سنة 553. وفيات الأعيان، ج 3، ص 226 - ص 227.
(3)
بعقوبا: قرية كبيرة كالمدينة بينها وبين بغداد عشرة فراسخ، من أعمال طريق خراسان. معجم البلدان، جـ 1، ص 672.
(4)
انظر ترجمته في المرآة، جـ 8، ص 362، الذيل على الروضتين، ص 77؛ البداية والنهاية، جـ 13، ص 67.
(5)
انظر ترجمته في مرآة الزمان، جـ 8، ص 362.
الأمير فخر الدين جهاركس
(1)
: مقدم الصلاحية وكبيرهم، توفي في هذه السنة بدمشق، ودفن بجبل الصالحية، وتربته مشهورة هناك، وهو الذي بني القيسارية
(2)
المعروفة به بالقاهرة. وقال ابن خلكان: جهاركس بن عبد الله الناصري الصلاحي الملقب فخر الدين كان من كبراء أمراء الدولة الصلاحية، وكان كريماً نبيلاً رفيع القدر عالي الهمة، بني بالقاهرة القيسارية الكبيرة المنسوبة إليه، رأيت جماعة من التجار الذين طافوا البلاد يقولون: لم ير مثلها في شيء من البلاد في حسنها وعظمها وإحكام بنائها. وبنى بأعلاها مسجداً كبيراً وربعاً معلقاً. وجهاركس بكسر الجيم وفتح الهاء بعد الألف راء مهملة ثم كاف مفتوحة ثم سين مهملة، ومعناه بالعربي أربع أنفس.
الملك الأوحد نجم الدين أيوب ابن الملك العادل بن أيوب صاحب أخلاط: توفي في هذه السنة، فسار أخوه الملك الأشرف وملك أخلاط، واستقل بملكها مضافاً إلى ما بيده من البلاد الشرقية، فعظم بشأنه ولقب شاهرمن.
السلطان غياث الدين
(3)
كيخسرو ابن قليج أرسلان السلجوقي: قتل في هذه السنة، قتله الملك الأشكري وملك بعده ابنه كيكأوس بن كيخسرو وقد تقدم الكلام فيه مستوفي في سنة ثمان وثمانين وخمسمائة، فلينظر هناك.
السلطان الملك العادل
(4)
نور الدين أبو الحارث أرسلان شاه بن عز الدين مسعود ابن قطب الدين مودود بن عماد الدين زنكي، صاحب الموصل، وهو ابن أخ الملك العادل نور الدين محمود الشهيد، وكان ملكاً شهماً عارفاً بالأمور، وانتقل إلى مذهب الإمام الشافعي رحمه الله، ولم يكن في بيته شافعي سواه، وبنى مدرسة للشافعية بالموصل قَلّ أن توجد مدرسة مثلها في حسنها، وتوفي ليلة الأحد التاسع والعشرين من رجب سنة سبع وستمائة في شبارة
(5)
بالشط ظاهر الموصل. والشبارة عندهم هي الحراقة
(1)
انظر ترجمته في وفيات الأعيان، جـ 3، ص 381.
(2)
تسمى قيسارية جهاركس بناها الأمير جهاركس سنة 592 هـ وكانت قبل ذلك يعرف مكانها بفندق الفراخ بالقاهرة. انظر الخطط، جـ 2، ص 87 - ص 89.
(3)
انظر، العيني، عقد الجمان، جـ 2، ص 256.
(4)
انظر ترجمة الملك العادل نور الدين أرسلان شاه في الكامل، جـ 10، ص 353 - ص 355؛ البداية والنهاية، جـ 13، ص 67.
(5)
عن الشبارة، انظر ما سبق جـ 1، ص 269.
بمصر، وكتم موته حتى دخل به إلى دار السلطنة بالموصل، ودفن بتربته [333] التي بمدرسته المذكورة، وخلف ولدين: هما الملك القاهر عز الدين مسعود، والملك المنصور عماد الدين زنكي، وقام بالمملكة بعده ولده الملك القاهر، وهو أستاذ الأمير بدر الدين أبي الفضائل لؤلؤ الذي تغلب على الموصل في سنة ثلاثين وستمائة، في أواخر شهر رمضان كما سنذكره إن شاء الله تعالى.
وفي تاريخ النويري: ملك السلطان أرسلان شاه المذكور الموصل سبع عشرة
(1)
سنة وأحد عشر شهراً، ولما مرض طال مرضه وانحدر إلى العين القيارة
(2)
ليستحم بها، وعاد إلى الموصل في شَبَّارة، فتوفي في الطريق ليلاً. وقال بيبرس: مزاجه فسد بمرض طالت مدته، وكان شجاعاً ذا سياسة للرعايا، شديداً على أصحابه، فكانوا يخافونه خوفًا شديداً، مانعاً من تعدى بعضهم على بعض، وكان له عزم وسرعة حركة في طلب المقاصد إلَّا أنه لم يكن له صبر. وكان القيم بأمر مجاهد الدين قايماز وإليه تدبير دولته. وقال النويري: وكان أسمر حسن الوجه قد أسرع إليه الشيب، وكان كثير المروة شجاعاً مهيبًا، ولم يكن فيه ما يعاب به إلَّا قلة صبره في أموره، ولما توفي استقر في ملكه بعده ولده الملك القاهر عز الدين مسعود، وكان عمره عشر سنين، وقام بتدبير مملكته بدر الدين لؤلؤ مملوك والده أرسلان شاه، وكان أستاذ داره. وقال بيبرس: وحلف له الأمراء والجند، وأعطى أخاه عماد الدين زنكي بن نور الدين قلعة عقر الحميدية وقلعة شوش
(3)
وولايتها، وكان نور الدين أوصى ولده وأمره أن يتولى تدبير أمره فتاه بدر الدين لؤلؤ لما رأى من عقله وسداده وحسن سياسته.
(4)
(1)
"سبعة عشر" كذا في الأصل والصحيح هو المثبت.
(2)
"العيارة" كذا في الأصل، والصحيح القيارة كما في البداية والنهاية، جـ 13، ص 354. وعين القيارة: بالموصل، ينبع منها القار، وهي حمة يقصدها أهل الموصل ويستحمون فيها، ويستشفون بمائها. انظر: معجم البلدان، جـ 4، ص 211.
(3)
قلعة شوش: قلعة عظيمة عالية جداً، قرب عقر الحُمَيْدية من أعمال الموصل. انظر: معجم البلدان، جـ 4، ص 334.
(4)
ورد هذا الخبر يتصرف في الكامل، جـ 10، ص 353 - ص 355؛ الذيل على الروضتين، ص 77.
فصل فيما وقع من الحوادث في السنة الثامنة بعد الستمائة
(*)
استهلت هذه السنة والخليفة هو الناصر لدين الله، والسلطان الملك العادل مخيم بعساكره على الطور، وابنه الملك المعظم مباشر لعمارة حصنه مجتهد في إدارته حوشًا، كذا قاله أبو شامة. وفي تاريخ ابن كثير:
(1)
وفيها عاد الملك العادل إلى الشام، وأعطى ولده المظفر غازي الرها مع ميافارقين.
وفيها أرسل الملك الظاهر صاحب حلب بهاء الدين بن شداد إلى الملك العادل فاستعطف خاطره وخطب ابنته صفية خاتون ابنة الملك العادل، فزوجها من الملك الظاهر، وزال ما كان بينهما من الوحشة. وقال بيبرس: وفيها عاد الملك العادل من الشام إلى الديار المصرية وأرسل ابنته إلى الظاهر غازي إلى حلب صحبة القاضي شمس الدين بن المتنبي.
وفيها قبض الملك المعظم عيسى بن العادل على ابن عز الدين أسامة صاحب قلعة كوكب وقلعة عجلون بأمر أبيه العادل، وحبسه بالكرك إلى أن مات بها، وحاصر الحصنين المذكورين وتسلمهما من غلمان أسامة، وأمر الملك العادل بتخريب كوكب وتعفية أثرها، فخربت وبقيت خراباً وأبقى عجلون، ومَلّك المعظم بلاد جهاركس وهي بانياس وتبنين والشقيف وهونين وقلعة أبي الحسن لأخيه الملك العزيز عماد الدين عثمان بن الملك العادل، وأعطى صرخد لمملوكه عز الدين أيبك المعظمى.
وفيها ابتاع الملك الأشرف جوسق
(2)
الرئيس بالنيرب
(3)
من ابن عمه الظافر خضر بن صلاح الدين، وبناه بناء حسناً وهو المسمى في زماننا بالدهشة.
وفيها أظهر الكيا جلال الدين حسن صاحب الألموت وهو ولد ابن الصباح شعائر الإسلام، وكتب به إلى جميع القلاع الإسماعيلية بالعجم والشام، فأقيمت فيها شعائر الإسلام
(4)
[334].
(*) يوافق أولها 15 يونيو سنة 1211 م.
(1)
لم يرد هذا الخبر في البداية والنهاية، وإنما ورد هذا المختصر في أخبار البشر، جـ 3، ص 114.
(2)
الجوسق: القصر الصغير والحصن، والجمع "جواسق". المعجم الوجيز، مادة "جوسق".
(3)
النيرب: قرية مشهورة بدمشق انظر معجم البلدان، جـ 3، ص 855.
(4)
ورد هذا الخبر بتصرف في المختصر في أخبار البشر، جـ 3، ص 114.
وقال ابن كثير
(1)
: وفيها أظهرت الباطنية الإسلام وإقامة الحدود على من يتعاطى الحرام، وبنوا الجوامع والمساجد، وكتبوا إلى إخوانهم بالشام في مصياث وأمثالها بذلك، وكتب زعيمهم جلال الدين إلى الخليفة يعلمه بذلك، وقدمت أمه إلى بغداد حاجَّةً فأكرمت وعظمت بسبب ذلك، ولكن لما كان الناس بعرفات ظفر واحد منهم على قريب لأمير مكة قتادة الحسنى فقتله ظاناً أنه قتادة، فثارت فتنة عظيمة بين سُودان مكة وركب العراق، ونهب الركب وقتل منهم خلق كثير.
وقال أبو شامة
(2)
: وفي هذه السنة نهب الحاج العراقي، وكانت ربيعة خاتون أخت الملك العادل في الحج، فلما كان يوم النحر بمني بعد ما رمى الناس الجمرة وثب شخص من الإسماعيلية على رجل شريف من بني عم قتادة أشبه الناس به وظن أنه إياه فقتله عند الجمرة، ويقال: إن الذي [كان]
(3)
قتله مع أم جلال الدين وثار عبيد مكة [و]
(4)
الأشراف وصعدوا على الجبلين وهللوا وكبروا وضربوا الناس بالحجارة والمقاليع والنشاب ونهبوا الناس يوم العيد والليلة واليوم الثاني، وقتل من الفريقين جماعة. وقال ابن أبي فراس لمحمد بن ياقوت أمير حاج العراق ارحلوا بنا إلى الزاهر منزلة الشاميين، فلما حصلت الأثقال على الجمال حمل قتادة أمير مكة والعبيد فأخذوا الجميع إلَّا القليل. وقال قتادة: ما كان المقصود إلَّا أنا. والله لا أبقيت من حاج العراق أحداً.
وكانت ربيعة خاتون بالزاهر ومعها ابن السلار وأخو سياروج وحاج الشام، فجاء محمد بن ياقوت أمير الحاج العراقي فدخل خيمة ربيعة خاتون مستجيرًا بها. ومعه خاتون أم جلال الدين، فبعثت ربيعة خاتون مع ابن السلار إلى قتادة تقول له: ما ذنب الناس، قد قتلت القاتل وجعلت ذلك وسيلة إلى نهب المسلمين واستحللت الدماء في الشهر الحرام في الحرم والمال، وقد عرفت من نحن، والله لئن لم تنته لأفعلن ولأفعلن. فجاء إليه ابن السلار فخوفه وهدده، وقال: ارجع عن هذا وإلَّا قصدك الخليفة من العراق ونحن من الشام فكف عنهم، وطلب مائة ألف دينار، فجمعوا له ثلاثين ألفاً من أمير
(1)
البداية والنهاية، جـ 13، ص 68؛ الكامل، جـ 13، ص 356 - ص 357.
(2)
الذيل على الروضتين، ص 78.
(3)
ما بين حاصرتين إضافة من الذيل على الروضتين، ص 78؛ المرآة، جـ 8، ص 363 - 364.
(4)
"في" كذا في الأصل والمثبت من الذيل على الروضتين، ص 78؛ مرآة الزمان، جـ 8، ص 361
الحاج العراقي ومن خاتون أم جلال الدين، وأقام الناس ثلاثة أيام حول خيمة ربيعة خاتون بين قتيل وجريح ومسلوب وجائع وعريان: وقال قتادة: ما فعل هذا إلَّا الخليفة، ولئن عاد قرب أحد من بغداد إلى هاهنا لأقتلن الجميع. ويقال: إنه أخذ من المال والمتاع وغيره ما قيمته ألف ألف دينار، وأذن للناس في الدخول إلى مكة، فدخل الأصحاء الأقوياء فطافوا وأي طواف، ومعظم الناس ما دخل ورحلوا إلى المدينة، ودخلوا بغداد على غاية من الفقر والذل والهوان، ولم ينتطح فيها عنزان.
(1)
وفيها كانت زلزلة شديدة هدمت بمصر والقاهرة دوراً كثيرة وكذلك بمدينة الكرك والشوبك، وهدمت من قلعتها أبراجاً، ومات خلق كثير من الصبيان والنسوان تحت الهدم، ورؤي دخان نازل من السماء إلى الأرض فيما بين المغرب والعشاء بنواحي أرض عاتكة ظاهر دمشق.
وقال أبو شامة: كان ذلك في خامس عشر رمضان، وقال: كانت قوة الزلزلة من جهة أيلة مما يلي البحر، وقيل: إنه تقدمها بيوم ريح سوداء وتساقطت نجوم كثيرة. وقال أيضًا: كانت الزلزلة المذكورة في ليلة السابع والعشرين من ذي القعدة من هذه السنة.
(2)
وفيها أمر الخليفة أن يقرأ مسند أحمد [335] بن حنبل رحمه الله بمشهد موسى بن جعفر بحضرة صفي الدين محمد بن سعد الموسوي بالإجازة عن الخليفة، وأول ما قرئ منه مسند أبي بكر الصديق رضي الله عنه وحديث فدك
(3)
وما جرى فيها.
(4)
وفيها بعث الخليفة خاتمه إلى وجه السبع بالشام، وقد ذكرنا أنه قد كان هرب من بغداد إلى الشام، وبعث معه الملك العادل رسولاً، فأكرمه الخليفة وولى وجه السبع الكوفة أقطاعاً.
(5)
(1)
ورد هذا الحدث في الذيل على الروضتين، ص 78، ص 79؛ مرآة الزمان، جـ 8، ص 363 - 364.
(2)
ورد هذا الخبر بتصرف في الذيل على الروضتين، ص 78؛ البداية والنهاية، جـ 13، ص 68.
(3)
فدك: قرية بالحجاز بينها وبين المدينة يومان. انظر: معجم البلدان، جـ 3، ص 855.
(4)
ورد هذا الخبر في الذيل على الروضتين، ص 78؛ مرآة الزمان، جـ 8، ص 363.
(5)
ورد هذا الخبر في مرآة الزمان، جـ 8، ص 363.
وفيها في شعبان قدم أيدغمش
(1)
من همذان إلى بغداد، وكان منكلي مملوك أزبك قد طرده من همدان، فاحتفل له الخليفة وأخرج جميع أرباب الدولة للقائه، وأقام له بالضيافات العظيمة. وقال بيبرس: وفيها قدم أيدغمش صاحب همذان وأصفهان والري وما بينهما من البلاد هارباً من منكلي؛ وسبب ذلك أن أيدغمش كان قد تمكن من البلاد وعظم شأنه وكثر عسكره حتى أنه حصر صاحبه أبا بكر بن البهلوان، فخرج عليه مملوك اسمه منكلي ونازعه في البلاد، وكثر أتباعه وأطاعه المماليك البهلوانية، وهرب منه أيدغمش إلى بغداد وأقام في بغداد إلى سنة عشر فسار عنها.
(2)
وفيها
(3)
توفيت والدة الملك الكامل ودفنت بجوار ضريح الإمام الشافعي، وبني عليها القبة التي هي الآن معروفة بالشافعي رحمه الله. وأجرى إلى المكان المذكور الماء من بركة الحبش
(4)
بقناطر متصلة منها إليه، وأنفق على ذلك جملة كثيرة، ونقل الناس الأبنية من تلك القرافة [الكبرى]
(5)
إلى هذه القرافة منذ ذلك الوقت.
(6)
وفيها ....................
(7)
وفيها حج بالناس من العراق محمد بن ياقوت نيابة عن أبيه ومعه ابن أبي فراس يثقفه ويديره. وحج من الشام الصمصام إسماعيل أخو سياروخ النجمي علي حاج دمشق وعلى حاج القدس الشجاع على بن السلار. وكانت ربيعة خاتون أخت الملك العادل قد حجت أيضًا في هذه السنة كما قد ذكرنا عن قريب.
(8)
ذكر من توفي فيها من الأعيان
ابن يونس: الشيخ عماد الدين محمد بن يونس، الفقيه الشافعي الموصلي، صاحب التصانيف والفنون الكثيرة، وكان رئيس الشافعية بالموصل، وبعث رسولاً إلى
(1)
ورد هذا الخبر بتصرف في الكامل، جـ 10، ص 356، وقد جاء رسم الكلمة كالآتي "أيتغمش".
(2)
ورد هذا الحدث في الكامل، جـ 10، ص 356.
(3)
ورد هذا الحدث في السلوك، جـ 1 ق 1، ص 208.
(4)
بركة الحبش: كانت من أكبر متنزهات مصر، وموقعها بظاهر مدينة الفسطاط من قبليها، فيما بين الجبل والنيل. وكانت من قبل تسمى ببركة المغافر أو بركة حمير، وماء النيل يدخل إليها. انظر: المقريزي: الخطط، جـ 2، ص 152.
(5)
ما بين حاصرتين إضافة من السلوك، جـ 1 ق 1، ص 208، للتوضيح.
(6)
ورد هذا الحدث في نهاية الأرب، جـ 29، ص 53 - ص 54.
(7)
بياض في الأصل بمقدار نصف سطر.
(8)
ورد هذا الحدث في الذيل على الروضتين، ص 78 - ص 79؛ مرآة الزمان، جـ 8، ص 363.
بغداد بعد موت نور الدين أرسلان شاه، وكان عنده وسوسة كثيرة، ويقال: إنه كان يعامل في الأموال بمسألة العين
(1)
فلقيه قضيب البان فقال له: يا شيخ بلغني أنك تغسل أعضاءك بأباريق من الماء فلم لا تنظف اللقمة التي تأكلها؟! ففهم الشيخ ما أشار به إليه وترك المعاملة. وكانت وفاته بالموصل في رجب عن ثلاث وسبعين سنة.
(2)
ابن حمدون
(3)
تاج الدين أبو سعد الحسن بن محمد حمدون، صاحب التذكرة الحمدونية، كان فاضلاً بارعاً، اعتني بجميع الكتب بالخطوط المنسوبة وغيرها، وولاه الخليفة المارستان العضدي، وكانت وفاته بالمدائن، وحمل إلى مقابر قريش.
البراوى الشيخ الكبير المعمر الرحلة أبو القاسم أبو بكر أبو الفتح منصور بن عبد المنعم بن عبد الله بن محمد بن الفضل البراوي النيسابوري، سمع أباه وجد أبيه وغيرهما وعن ابن الصلاح. وقال أبو شامة
(4)
: هو من أهل بيت الحديث رواية ودراية، ولد سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة في رمضان، وقدم بغداد حاجاً في سنة تسع وسبعين، وتوفي بنيسابور في شعبان من هذه السنة [336] عن خمس وثمانين سنة.
ابن سناء الملك
(5)
القاضي السعيد أبو القاسم هبة الله بن القاضي الرشيد أبي الفضل جعفر بن سناء الملك، أبي عبد الله محمد بن هبة الله بن محمد السعدي، أحد الفضلاء الرؤساء، أخذ الحديث عن الحافظ أبي طاهر أحمد بن محمد بن أحمد السلفي الأصبهاني، وكان كثير التخصص والتنعم وافر السعادة، محظوظاً من الدنيا، اختصر كتاب الحيوان للجاحظ وسماه روح الحيوان، وله ديوان جميعه موشحات سماه دار الطراز. ومن محاسن شعره بيتان من جملة قصيدة يمدح بها القاضي الفاضل. وهما بيتان:
ولو أبصر النظام جوهر ثغرها
…
لما شك في أنه الجوهر الفرد
ومن قال إن الجيزرانة قدها
…
فقولوا له إياك أن يسمع القد
(1)
"الغنيمة" كذا في الأصل، والمثبت من البداية والنهاية، جـ 13، ص 68؛ الذيل على الروضتين، ص 80، ومعناها "الربا" وهذا يتسق مع المعنى. انظر محيط المحيط مادة "عين"، ص 1509.
(2)
انظر ترجمة ابن يونس في الذيل على الروضتين، ص 80؛ مرآة الزمان، جـ 8، ص 365؛ الكامل، جـ 10، ص 357؛ البداية والنهاية، ج 13، ص 68.
(3)
انظر ترجمته في البداية والنهاية، جـ 13، ص 68؛ الذيل على الروضتين، ص 79؛ الكامل، جـ 10، ص 358؛ البداية والنهاية، جـ 13، ص 68.
(4)
الذيل على الروضتين، ص 80.
(5)
انظر ترجمته في وفيات الأعيان، جـ 6، ص 61 - ص 66.
ومن شعره:
لا الغصن يحكيك ولا الجؤذرُ
(1)
…
حُسْنُكَ مما كثروا أكثرُ
يا باسماً أبدى لنا ثغره
…
عقداً ولكن كلّه جوهرُ
قال لي اللاحى: أما تسمعُ
…
فقلت: يا لاحى أما تبصر
وله في غلام ضرب ثم حُبس:
بنفسي من لم يضربوه لريبة
…
ولكن ليبدو الورد في سائر الغصنِ
ولم يُودِعوه السجن إلَّا مخافة
…
من العين أن تعدو على ذلك الحسن
وقالوا له شاركتَ في الحسن يوسفا
…
فشاركهُ أيضًا في الدخول إلى السجن
وله أيضًا:
وما كان تركي حبه عن ملامة
(2)
…
ولكن لقول
(3)
يوجب القول بالترك
أراد شريكاً في الذي هو بيننا
…
وإيمان قلبي قد نهاني عن الشرك
وقال المؤيد: مدح توران شاه أخا السلطان صلاح الدين بقصيدة مطلعها:
تقنعت لكن بالحبيب المعمم
…
وفارقت [لكنّ]
(4)
كل عيش مذمم
نصحن الفضلاء هذا المطلع وعابوه.
وقال ابن خلكان
(5)
: توفي ابن سناء الملك في العشر الأول من رمضان من سنة ثمان وستمائة بالقاهرة، ومولده على التقدير في حدود سنة خمسين وخمسمائة. وتوفي والده جعفر يوم الثلاثاء خامس ذي الحجة من سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة، ومولده منتصف شعبان سنة خمس وعشرين وخمسمائة.
مظفر
(6)
البغدادي: كان يقول كان وكان. ومن قوله في امرأة عجوز:
(1)
الجؤذر: ولد البقرة الوحشية. الجمع: جآذر. المعجم الوجيز. ص 90.
(2)
"ملالة" في وفيات الأعيان، جـ 6، ص 63.
(3)
"الأمر" في وفيات الأعيان، جـ 6، ص 63.
(4)
ما بين حاصرتين إضافة من وفيات الأعيان، جـ 6، ص 65.
(5)
وفيات الأعيان، جـ 6، ص 65.
(6)
انظر: مرآة الزمان، جـ 8، ص 365.
مع
(1)
الكبر ما تقلع ضرس الصبا من ضرسها
…
وكل ضرس فيها
(2)
من الكبر مقلوع
وقد عزل ناظرها وقد علقنا بأنها
…
وصار ذاك الراتب من جانبي مقطوع
قولوا لها لا تسألي طبيباً عن مرض
…
الكبر ذي علة ضاع فيها علاج بختيشوع
المعين
(3)
عبد الواحد بن الشيخ عبد الوهاب بن علي بن سكينة، مولده سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة، وسافر إلى الشام في أيام الملك الأفضل على بن السلطان صلاح الدين يوسف، وبسط لسانه في الدولة فأرسل إليه من بغداد ابن التكريتي لقتله فوثب عليه مراراً بدمشق فلم يقدر عليه، وكتب إلى الخليفة كتاباً يتنصل فيه مما قيل عنه [337] ويعتذر ويسأله العفو، فعفا عنه وكتب له كتاب أمان، فقدم بغداد فولاه مشيخة الشيوخ، وأُعطي رباط المشرعة، ثم بعثه في رسالة إلى جزيرة كيش
(4)
ومعه جماعة من الصوفية فغرق في البحر ومن معه. سمع جده لأمه أبا القاسم عبد الرحيم شيخ الشيوخ، وأبا الفتح ابن البطي، وأبا زرعة وغيرهم.
حاجب الباب كمال الدين محمد بن الناعم
(5)
، كان حسن الصورة قبيح الفعال، صادر جماعة وماتوا تحت الضرب، فلما قبض عليه ضرب ضرباً مُبرحاً فلم يقر بشيء، فمات تحت الضرب ورمي به في دجلة - كما كان يفعل بالناس- وظهر له بعد ذلك أموال عظيمة ودفائن كثيرة.
صارم
(6)
الدين بزغش العادلي نائب القلعة بدمشق، توفي في صفر منها ودفن بتربته غربي الجامع المظفري، وهو الذي نفي الحافظ عبد الغني المقدسي إلى مصر، وبين يديه كان عقد المجلس كما ذكرناه.
أيبك
(7)
فُطَيس الأمير المعروف، قتله مملوك له تركي بظاهر حلب في حمام في خامس عشر رجب من هذه السنة.
(1)
"من" في مرآة الزمان، جـ 8، ص 365.
(2)
"منها" في مرآة الزمان، جـ 8، ص 365.
(3)
انظر ترجمته في الذيل على الروضتين، ص 79؛ الكامل، ج 10، ص 357.
(4)
جزيرة كيش: جزيرة في وسط بحر عمان تعد من أعمال فارسٍ. انظر: معجم البلدان، جـ 4، ص 215، ص 333.
(5)
انظر ترجمته في الذيل على الروضتين، ص 79 - ص 80، وأيضًا في مرآة الزمان، جـ 8، ص 365.
(6)
انظر ترجمته في الذيل على الروضتين، ص 80.
(7)
انظر: الذيل على الروضتين، ص 80.
فصل فيما وقع من الحوادث في السنة التاسعة بعد الستمائة
(*)
استهلت هذه السنة والخليفة هو الناصر لدين الله، وسلطان مصر والشام الملك العادل أبو بكر بن أيوب، ونائبه في دمشق الملك المعظم، وفي مصر الملك الكامل، فاجتمعوا في هذه السنة على دمياط لمقابلة الفرنج. وكان سامة الجبلي صاحب دار سامة داخل باب السلامة، التي هي الآن مدرسة للشافعية، قد استوحش من هؤلاء الملوك المذكورين وهم اتهموه بمكاتبة الظاهر صاحب حلب.
(1)
قال السبط
(2)
: وجد له كتب إليه وأجوبة، فخرج سامة من القاهرة كأنه يتصيد، واغتنم اجتماع الملوك بدمياط وساق إلى الشام في مماليكه، بطلب قلاعه وهي كوكب وعجلون وذلك يوم الإثنين سلخ جمادى الآخرة فأرسل والي بلبيس الحمام إلى دمياط يخبرهم بذلك، فقال العادل: من ساق خلقه فله أمواله وقلاعه. فقال الملك المعظم: أنا. وركب من دمياط يوم الثلاثاء غرة رجب. قال السبط: وكنت معه فقال لي: أنا أريد أن أسوق فسق أنت مع قماشي
(3)
، ودفع لي بغلة، فساق ومعه نفر يسير وعلى يده حصان، فكان صباح يوم الجمعة في غزة. ساق مسير ثمانية أيام في ثلاثة أيام، فسبق سامه، وأما سامة فإنه تقطع
(4)
عنه مماليكه ومن كان معه وبقى وحده وبه نقرس فجاء إلى بلد الداروم، وكان المعظم قد أمسك عليه من البحر إلى الزرقاء، فرآه بعض الصيادين في برية الداروم، فعرفه فقال له: انزل. فقال له: هذه ألف دينار وأوصلني إلى الشام. فأخذها الصياد وجاء رفاقه فعرفوه أيضًا فأخذوه على طريق الخليل عليه السلام، ليحملوه إلى عجلون فدخلوا به القدس يوم الأحد سادس رجب. جاء بعد المعظم بثلاثة أيام فقال لي المعظم رحمه الله ما كنت خائفاً إلَّا أن يصادفني في الطريق غلمانه فيقتلوني لو رماني أيدكين بسهم قتلني، فملّكه الله أيدكين والجميع، فأنزل سامه في صهيون وبعث إليه
(*) يوافق أولها 3 يونيو سنة 1212 م.
(1)
ورد هذا الخبر في الذيل على الروضتين، ص 80.
(2)
مرآة الزمان، جـ 8، ص 366 - ص 367؛ الذيل على الروضتين، ص 80 - ص 81.
(3)
القَمَّاش: من يبيع الأمتعة، انظر مادة "قمش" المنجد.
(4)
"فانقطع" كذا في المرآة، جـ 8، ص 366.
بثياب وطعام ولاطفه وراسله وقال له [338][أنت]
(1)
شيخ كبير وبك نقرس وما يصلح لك قلعة، سلّم إلى كوكب وعجلون، وأنا أحلف لك على مالك وملكك وجميع أسبابك وتعيش بيننا مثل الوالد. فامتنع وشتم المعظم، فلما يئس المعظم منه بعث به إلى الكرك، فاعتقله واستولى على قلاعه وأمواله، وذخائره، وخيله. فكان قيمة ما أخذ منه ألف ألف دينار.
(2)
من ذلك داره وحمامه داخل باب السلامة، ثم إن المعظم خرب حصن كوكب، ونقل حواصله إلى حصن الطور، الذي استنجده كما ذكرنا.
وفي تاريخ
(3)
بيبرس: كتب العادل إلى ولده المعظم بالقبض على سامة فأمسكه وقبض على ابن فخر الدين جهاركس وأخذ معاقله التي كانت بيده.
وفيها توجه العادل إلى كوكب وحاصرها حصاراً شديداً وأخذها وأخذ منها أموالًا عظيمة وهذمها وعفى أثرها. فقال الرشيد النابلسي يمتدحه ويذكر الحال:
وفَّي لك المسعدان النصر والظفر
…
وطاوع العاصيان الدهر والقدر
بغير بدع وقد جدّت سعودك أن
…
دانت لك الأمتان البدو والحضر
أشرقت في ظلم الأيام مزدهرا
…
فأبلس النيران الشمس والقمر
قسوت بل لنت بل مازجت
…
ذاك بذا فافتَّن في راحتيك النفع والضرر
مازلت تصدر بالآمال ساعةَ لا
…
وردٌ يسوغ ولا عن مورد صدر
لله ما أنت سيف الدين من بشر
…
لا يستطيع الذي يستطيعه بشر
خطبٌ طوى وطغى حتى نَهَدْت له
…
فلان جامحه إذ يسهل الوعر
وشامخان رفيعا الأوج يحسر عن
…
أن يستطيعهما التأميل والنظرُ
في ذروتي مشمخر العز دونهما
…
من أن يُنالا تنال الأنجم الزهر
أوردت حُصّنك من تلك الحصون مُنىً
…
لولاك عز على وُرادها الصَّدَرُ
وكان أهلاهما قد أكدا حَلفا
…
أن ليس يُنْقَضُ من أمريهما المِرَرُ
يا ويحهم أوغرتهم بُنيً شمخت
…
مع اغترامك واستغوتهم حدر
(1)
ما بين حاصرتين إضافة من مرآة الزمان، جـ 8، ص 367.
(2)
إلى هنا توقف العينى عن النقل من مرآة الزمان، جـ 8، ص 366 - ص 367 ومن الجدير بالذكر أن صاحب الذيل على الروضتين ذكر أن قيمة ما أخذ منه ألف دينار. ص 10 - 81.
(3)
انظر هذا الخبر في النويري، نهاية الأرب، جـ 29، ص 59 - ص 61.
ولو صدمت به السُّد الذي أطادت
…
قُطراه لا ندكّ منه القطر والزَبر
أورام شامخة الأهرام حل بها
…
ما ليس تبقى غواديه ولا تذر
بل لو دعوت النجوم الزهر لا بتدرت
…
إليك من جنبات الأفق تبتدر
لقد رأي كوكب في نفسه عجباً
…
وكاد كوكبه الدُّري ينكدر
أضرمت جذوة بأس في جوانبه
…
أنفاسها في نفوس الشرك تزدفر
طوقتهِ بمجانيق يلين لها
…
قلب الحديد ولا يستمسك الحجر
أقمت عليه بمثل الشهب قاذفة
…
فخده بصعيد الأرض منعفر [339]
أضحت مخانق في أعناق هضبته
…
عقود خيلك مسدوداً بها الثغر
بادرتهم برجال لا ينهنههم من
…
من رأيك الحزم أو من كفك البذر
مُعَرديِن قراع الموت قد ألفوا
…
أن لا يروعهم خوف ولا ذعر
جيش إذا جاش طامي لُجَّة غرقت
…
في جنب تياره الأفهام والفكرُ
ومنها:
لقد بطشت بهم بطشاً لو أنهم
…
صرف المقادير أو أحداثها فَتَروا
واستشعروا الذل جلباباً وقادهم
…
قسراً إليك سُطي للأسد تقتسِرُ
لله صدرك ما أقضى وعزمك ما
…
أمضى وقد كلت الهندية البتر
يا دوحه للعلى شماء باسقة
…
لا يُجتنى للعَنَى من غيرها ثمر
ومنها:
يا راجح الحلم يعفو وهو مقتدر
…
ومانح النجم يعطى وهو معتذر
ومنها:
صلى الإله على علياك وافتتحت
…
تتلى على مجدك الآيات والسور
ودمت تخدمك الدنيا ودولتها
…
ما غنت الورق أو ما أورق الشجر
ذكر استيلاء صاحب قبرس على أنطاكية
وفي هذه السنة
(1)
استولى صاحب قبرس لعنه الله على مدينة أنطاكية فحصل بسببه شر عظيم، وتمكن من الغارات على بلاد المسلمين لاسيما على التراكمين الذين حول أنطاكيه، فقتل منهم خلقاً كثيراً وغنم من أغنامهم شيئًا كثيراً، فقدر الله عز وجل أن أمكنهم منه في بعض الأودية فقتلوه وطافوا برأسه في تلك البلاد كلها ثم أرسلوه إلى الملك العادل بالديار المصرية، فطيف به هنالك وهو الذي كان قد أغار على بلاد مصر من ثغر دمياط مرتين فقتل وسبي ونهب بلاده فوّه أيضًا، وكان اسمه البال لعنه الله.
ذكر محاصرة طغريل شاه كيكاوس سلطان الروم
وفي هذه السنة سار طغريل شاه بن قليج أرسلان صاحب أرزن الروم وحاصر ابن أخيه سلطان الروم كيكاوس بمدينة سيواس، واستنجد كيكاوس بالملك الأشرف
(2)
بن الملك العادل، فخاف عمّه طغريل شاه ورحل عنه، وكان لكيكاوس أخ اسمه كيقباذ فلما جرى ما ذكرناه سار كيقباذ واستولى على أنكورية
(3)
من بلاد أخيه كيكاوس، وسار كيكاوس وحصره وفتح أنكورية وقبض على أخيه كيقباذ وحبسه وقبض على أمرائه وحلق رؤوسهم ولحاهم وأركب كل واحد منهم فرسًا وأركب خلفه وقدامه قحبتين
(4)
وبيد كل واحد منهما مغلاق تصفعه به وبين أيديهم مناد ينادي هذا جزاء من خان سلطانه.
ذكر بقية الحوادث
منها أن الوزير صفي الدين بن شكر عُزل واحتيط على أمواله ونفي إلى الشرق وهو الذي كان قد كتب إلى الديار المصرية بنفي الحافظ عبد الغني إلى الغرب، فتوفي الحافظ قبل أن يصل كتابه، وكتب الله نفيه
(5)
إلى الشرق. قال بيبرس
(6)
: عزل صفي الدين وزير العادل عن الوزارة ورفعت يده ولزم داره. وقال مظفر الأعمى
(7)
فيه:
(1)
ورد هذا الخبر في الذيل على الروضتين، ص 81؛ البداية والنهاية، جـ 13، ص 70.
(2)
وفيات الأعيان، جـ 5، ص 331.
(3)
أنكورية: تقع في آسيا الصغرى في بلاد الروم، وتسمى حالياً "أنقره". انظر بلدان الخلافة الشرقية، ص 174.
(4)
"خاطيتين" في مفرج الكروب، جـ 3، ص 218.
(5)
نفيه: الضمير هنا يعود على الوزير ابن شكر.
(6)
انظر نهاية الأرب، جـ 29، ص 55 - ص 59.
(7)
مظفر الأعمى هو مظفر بن إبراهيم بن جماعة بن علي بن الشامي بن أحمد بن ناهض بن عبد الرزاق العيلاني، توفي سنة 623 هـ. انظر ترجمته في وفيات الأعيان، جـ 5، ص 213 - ص 217.
أين حجابك المطيفون بالبغلة
…
والرافعون فضل الثياب
[340]
ردك البغي كالنداء على
…
بلا حاجب ولا بواب
ومنها: في المحرم عقد عقد الملك الظاهر صاحب حلب على صفية خاتون بنت الملك العادل وكان المهر خمسين ألف دينار، وتوجهت من دمشق في المحرم فاحتفل لها الملك الظاهر احتفالاً عظيماً وقدم لها تقاديم جليلة منها خمسة وخمسون عقداً من جوهر قيمتها مائتا ألف وستون ألف درهم، ومنهم عصابة بجوهر وعشر قلائد من العنبر المذهب، وخمس عشرة مذهبة ومائة وخمسون قطعه من الذهب والفضة، وعشرون بختًا من الثياب الفاخر وعشر خدام وعشرون جارية. وورد معها من القماش والآلات وأنواع المصاغ ما يحمله خمسون بغلا ومائة بختى وثلاثمائة جمل. ومن الجواري والوصائف والخدام والكجلوات ما يحمله مائة جمل، وكانت في خدمتها مائة جارية كلهن مطربات بأنواع الملاهي ومائة جارية أخرى يعملن أنواع الصنايع البديعة. وقد ذكرنا طرفاً من ذلك فيما مضي.
ومنها أنه كانت وقعة بين المسلمين والفرنج بالأندلس تسمى وقعة العُقاب. وكان يوسف بن يعقوب بن عبد المؤمن قد جمع عساكر المغرب وعدي لغزاة الفرنج، فكسره الفرنج وهزموه وقتلوا من المسلمين خلقاً عظيماً وعاد المذكور هزيماً.
ومنها
(1)
أن الخليفة خلع على أيدغمش الفرجية والعمامة وخلعاً تقارب خلع السلطنة وأعطاه مالاً وأمره أن يبرز خيامه ليسير إلى همذان وأعطاه الكوسات والأعلام.
ومنها
(2)
أن أبا محمد يوسف بن الشيخ أبي الفرج بن الجوزي صرف عن الحسبة والنظر في الوقف العام ببغداد ورد ذلك إلى شرف الدين بن البخاري، فولي أبا البركات يوسف بن المبارك بن هبة الله الحسبة والوقف العام.
وفيها ....................
(3)
(1)
ورد هذا الخبر في مرآة الزمان جـ 8، ص 366.
(2)
ورد هذا الخبر في مرآة الزمان، جـ 8، ص 366.
(3)
بياض في الأصل بمقدار أربع كلمات.
وفيها
(1)
حج بالناس من العراق حسام الدين بن أبي فراس نيابة عن محمد بن ياقوت، وكان معه مال وخلع لقتادة أمير مكة حتى سكت عنهم. ومن الشام شجاع الدين ابن محارب على أيلة.
ذكر من توفي فيها من الأعيان
محمد
(2)
بن إسماعيل بن أبي الضيف، اليمنى فقيه الحرم الشريف بمكه شرفها الله توفي في هذه السنة.
أبو إسحق
(3)
إبراهيم بن محمد بن أبي بكر القفصي، المقرى المحدث كتب كثيرًا وسمع الكثير مات في هذه السنة بدمشق ودفن في مقابر الصوفية.
أبو الفتح
(4)
محمد بن سعد بن محمد الديباجي، من أهل مرو، له كتاب المحصل في شرح المفصل للزمخشري في النحو، وكان عالمًا ثقة سمع الحديث، مات في هذه السنة عن ثنتين وتسعين سنة.
الشيخ
(5)
الصالح الزاهد العابد أبو البقاء محمود بن عثمان بن مكارم النعال، الحنبلي، كانت له عبادات ومجاهدات وسياحات، وبني رباطًا بباب الأزج يأوى إليه أهل العلم من المقادسة وغيرهم، وكان يؤثرهم ويحسن إليهم وقد سمع الحديث وقرأ القرآن، وكان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وتوفي في هذه السنة وقد جاوز الثمانين سنة. وقال أبو شامة: وكان لا يأكل إلا مِنْ غزل عمته.
(1)
ورد هذا الخبر في الذيل على الروضتين، ص 81، مرآة الزمان، ج 8، ص 367.
(2)
الكامل، ج 10، ص 359؛ البداية والنهاية، ج 13، ص 70.
(3)
الذيل على الروضتين، ص 82.
(4)
الذيل على الروضتين، ص 82، البداية والنهاية، ج 13، ص 70.
(5)
الذيل على الروضتين، ص 82؛ البداية والنهاية، ج 13، ص 70؛ مرآة الزمان، ج 8، ص 367.
فصل فيما وقع من الحوادث في السنة العاشرة بعد الستمائة
(*)
استهلت هذه السنة والخليفة هو الناصر لدين الله، وسلطان مصر والشام الملك العادل أبو بكر بن أيوب، ونائبه بمصر ولده الملك الكامل محمد. وفي دمشق ولده المعظم عيسى، وصاحب بلاد الروم عز الدين كيكاوس السلجوقي، وقد ظفر بعمه طغريل شاه وأخذ [341] بلاده وقتله وذبح أكثر أمرائه وقصد ذبح أخيه علاء الدين كيقباذ، فشفع فيه أصحابه
(1)
فعفي عنه. وصاحب حلب وما والاها الملك الظاهر غازي بن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب. وولد له في خامس ذي الحجه ولد سماه محمدًا ولقبه الملك العزيز غياث الدين من صفية خاتون ابنه السلطان الملك العادل، واحتفل الظاهر لمولده احتفالًا عظيمًا، فمن ذلك أنه أمر الصياغ فصاغوا من الذهب والفضة طيورًا ووحوشًا على صيغة
(2)
ما يعرفونه من الطير والوحوش وعملوا عشر مهود من الذهب والفضة، سوى ما عملوا من الأبنوس والعود والصندل ونسج للطفل ثلاث فرجيات من اللؤلؤ في كل فرجية أربعون حبة من الياقوت والبلخش والزمرد، وعمل له ثلاثة سيوف غُلفها [وقبضاتها
(3)
] مرصع بالجوهر النفيس، وثلاثة
(4)
رماح من ذهب أسنتها جوهر. وهذا الصبي الذي لقب بالملك العزيز هو والد الملك الناصر صاحب دمشق واقف الناصرتين
(5)
وهو الذي أسره هلاون ملك التتار على ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر ما جرى في اليمن
قد ذكرنا في سنة تسع وتسعين وخمسمائة أن المالك على اليمن كان المعز إسماعيل بن سيف الإسلام طغتكين بن أيوب ثم أنه قتل وأقيم أخوه الناصر وهو صغير،
(*) يوافق أولها 23 مايو سنة 1213 م.
(1)
ورد هذا الخبر في المختصر، ج 3، ص 115؛ مفرج الكروب، ج 3، ص 219.
(2)
لمعرفة المزيد من التفاصيل عن هذا الحدث. انظر، السلوك، جـ 1 ق 1، ص 211 - ص 212. ط الثانية، مفرج الكروب، جـ 3، ص 220 - ص 221.
(3)
"قضبانها" كذا في الأصل وهو تحريف والمثبت كما في مفرج الكروب، جـ 3، ص 221؛ السلوك جـ 1، ق 1، ص 212.
(4)
"ثلاث" في الأصل، والصحيح ما أثبتناه.
(5)
"ثلاث" في الأصل، والصحيح ما أثبتناه.
وكان القائم بتدبير دولته مملوك والده سيف الدين سنقر، ثم مات سنقر بعد أربع سنين، وقام بأتابكيته أمير من أمراء الدولة يقال له غازي، ثم مات الناصر مسمومًا فملك غازي البلاد ثم قتل على أيدي جماعه من العرب فتغلبت أم الناصر على زبيد، وبقيت اليمن خالية من السلطان إلى أن قدم سليمان بن شاهنشاه بن تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب اليمن في صورة فقير وملك اليمن بواسطة أم الناصر المذكورة. فلما ملك اليمن ملأها ظلما وجورًا واستمر على ذلك إلى هذه السنة فأزاله الله تعالى في هذه السنة عن اليمن، وقيل في السنة الآتية. وذلك أن الملك الكامل ابن الملك العادل أرسل ابنه الملك المسعود يوسف المعروف بأتسيز
(1)
إلى اليمن ومعه جيش، فاستولى الملك المسعود على اليمن فظفر بسليمان المذكور صاحب اليمن وبعث به معتقلا إلى مصر فأجرى له الملك الكامل ما يقوم به، ولم يزل مقيما بالقاهرة إلى سنة سبع وأربعين وستمائه
(2)
فخرج إلى المنصورة غازيا فقتل شهيدًا. وفي تاريخ بيبرس: وفي هذه السنة أعني سنة عشر وستمائة بدأ الخلف بين الناصر أيوب بن طغتكين بن أيوب صاحب اليمن وبين أمرائه، وكان منشأ الخلاف من فخر الدين بكتمر فإنه أفسد المماليك وانحاز إلى الجزوز محالفا وقصدهم السلطان، فانهزموا وتفرقوا، وتقرر خروجهم من البلاد وأن يبيعوا عقارهم ويستصحبوا موجودهم، ففعلوا وتوجه فخر الدين بكتمر إلى الحجاز بما جمعه من المال واستلبه أهل مكة، ثم إن أهل اليمن ملكوا عليهم قطب الدين سليمان شاه بن سعد الدين شاهنشاه بن تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب فجلس على التخت في السادس من شهر ربيع الأول من هذه السنة، واتفق أن أهل جبل صبر
(3)
خالفوا عليه وقصدوا تعز فنهد إليهم وقاتلهم وهزمهم. وفي أثناء ذلك انتهى إليه الخبر بوصول الملك مسعود بن الملك الكامل إلى [342] مكة قاصدًا اليمن فهرب منها ووصل الملك المسعود إلى مكة ودخلها في ثالث ذي القعدة من هذه السنة وقيل من السنة الآتية، وخطب له في مكة ونشر الناس ألف دينار وحمل إلى أمير مكة ألف دينار وقماشا بألف دينار، وأقام المسعود بمكة ستة أيام وخشي تفرق الأجناد إذا جاء الموسم فرحل
(1)
تعددت طريقه كتابه اسم الملك المسعود يوسف في المصادر ولعل من أهمها "الأقسيس؛ أطسيس؛ أتسز؛ أتسيز، انظر مفرج الكروب، ج 3، ص 227 وفيات الأعيان، جـ 4، ص 170.
(2)
مفرج الكروب، جـ 3، ص 227؛ وقد ذكر ابن واصل هذه الأحداث في سنة 612 هـ.
(3)
جبل صبر: جبل شامخ يطل على قلعة تعز باليمن، وفيه عدة حصون وقرى، معجم البلدان، جـ 3، ص 366.
عنها في العشر الثاني من ذي القعدة ووصلته الأخبار بأن المعظم سليمان شاه بن شاهنشاه هرب من زبيد وأن المدينة نهبت بأيدي الأجناد وأن الخطبة السعودية أقيمت بزبيد يوم الجمعة لسبع بقين من ذي الحجة من هذه السنة. وفي تاريخ بيبرس من سنة إحدى عشرة وستمائة. وقال بيبرس
(1)
: وفي أول يوم من المحرم من سنة اثنتي عشرة وستمائة دخل المسعود زبيد وملكها من غير قتال، فقال في ذلك بعض الشعراء من قصيدة:
ليهنك الفتح ياذا الفضل والمنن
…
بشارة الملك قد جاءت من اليمن
فالآن من لفظ مسعود ومن يَمَنٍ
…
فالسعد واليمُن مقرونان في قرن
وسلمت له ثمانية
(2)
حصون من تهامة وحاصر قلعة تعز، وكان سليمان بن شاهنشاه تحصن بها ونزل العسكر إلى أن فتح له الحصن المذكور وأمسك سليمان المذكور واعتقل به.
واتفق
(3)
أن في هذه السنة أعني سنة عشر وستمائه قدم الملك الظافر خضر
(4)
بن السلطان صلاح الدين من حلب بعزم التوجه إلى الحج إلى دمشق فنزل بالقابون
(5)
يوم الأحد رابع شوال ثم انتقل إلى مسجد القدم
(6)
خامسه، ووصل ابن عمه المعظم من حيث كان بنواحي حوران واجتمع به على جسر الخشب سادسه، وعمل له دعوة بداره تاسعه، ودعتهما جميعًا ست الشام إلى دارها ثامن عشرة، ورحل من دمشق متوجها إلى الحج في جمع من الحجاج تاسع عشر شوال، وخرج معه المعظم وودعه وتوجه نحو الجابية، واجتمع الحجاج ببصري، فرحل بهم الظافر منها ضحوة يوم الأربعاء الثامن والعشرين من شوال الموافق الثاني عشر آذار، فسلكوا طريق تيما إلى مدينة النبي صلى الله عليه وسلم فحصل على الزيارة ثم أحرم بالحج فلما وصل إلى بدر رد من الطريق.
(1)
انظر النويري، نهاية الأرب، جـ 29، ص 66.
(2)
"ثماني" في الأصل، والصحيح ما أثبتناه.
(3)
ورد هذا الخبر في مرآه الزمان، جـ 8، ص 369؛ البداية والنهاية، جـ 13، ص 71؛ نهاية الأرب، ج 29، ص 63.
(4)
الذيل على الروضتين، ص 83.
(5)
موضع بينه وبن دمشق ميل واحد في طريق القاصد إلى العراق وسط الباتين، انظر معجم البلدان، جـ 4، ص 5.
(6)
مسجد القدم: مسجد بدمشق، وأصله مشهد القدم وهو من الآثار في مدينة دمشق وغوطتها ويقال إن هناك قبر موسى بن عمران.
انظر: نهاية الأرب، ج 29، ص 63، حاشية (3).
وقال السبط صاحب المرآة
(1)
: وكان حج معه يعقوب الخياط المغازي وكان مقيما بمغارة الجوع بقاسيون، وكان صديق الظافر فلما وصل الظافر إلى بدر وجد عسكر الكامل ابن عمه العادل صاحب مصر قد سبقه خوفا منه على اليمن، فقالوا: ترجع. فقال: قد بقي بيني وبين مكة مسافة يسيرة، ووالله ما قصدي اليمن وإنما أريد الحج، فقيدوني واحتاطوا بي حتى أقضي المناسك وأعود إلى الشام فلم يلتفتوا إليه، فرجع إلى الشام وعاد يعقوب الخياط معه ولم يحج. وقال أبو شامه
(2)
: وحكى لي والدي وكان ممن حج معه في تلك السنة أنه شق على الناس ما جرى عليه وأراد كثير منهم أن يقاتلوا الذين صدوه عن المضي في حجه فنهاهم عن ذلك واختار الرجوع على الفتنة وفعل ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية حتى صده الكفار عن البيت فقصر من شعره وذبح ما تيسر، وكان محرمًا من ذي الحليفة ولبس ثيابه وودع الناس ورجع، وعيون الناس باكية عليه ولهم ضجيج وعويل ولحقهم عليه حزن طويل من جهة صده عن مشاعر [343] الدين وهو أتي مثل صلاح الدين.
ذكر مقتل أيدغمش
قد ذكرنا
(3)
أن الخليفة قد خلع عليه وأعطاه الكوسات وسيره إلى همذان فوصل إلى بلاد ابن ترجمَ وأقام ينتظر وصول عساكر بغداد إليه لتسير معه ما اتفق عليه الخليفة معه، وكان الخليفة قد عزل سليمان بن تَرْجَم عن الإمارة على عشيرته من التركمان وولي أخاه الأصغر، فأرسل سليمان إلى منكلي يعرّفه بحال أيدغمش فسير منكلي جيشًا إليه ليقتلوه فخرج على وجهه فقتل أيدغمش وحمل رأسه إلى منكلي وتفرق من معه في البلاد ووصل الخبر بقتله إلى بغداد فعظم على الخليفة وأرسل إلى منكلي ينكر عليه ما فعل، فأجاب بجواب شديد وتمكن من البلاد وقوى أمره وكثرت عساكره. قلت: أيدغمش هذا مملوك البهلوان وكان قد غلب على همذان والجبال كما ذكرناه، وكان قد هرب من منكلي وهو خشداشه والتجئ إلى الخليفة في سنة ثمان وستمائة ثم رجع في
(1)
انظر المرآة، جـ 8، ص 369؛ البداية والنهاية، جـ 13، ص 71.
(2)
انظر: الذيل على الروضتين، ص 83.
(3)
ورد هذا الحدث في الكامل، جـ 10، ص 360.
هذه السنة إلى جهة همذان فقتل واستقل منكلي بالمملكة. وفي المرآة
(1)
: وكان أيدغمش رجلا صالحا كثير الصدقات دينًا صائما عادلًا.
ذكر بقيه الحوادث
منها
(2)
أنه وصل كتاب من بعض فقهاء الحنفية بخراسان إلى الشيخ تاج الدين الكندي يخبر فيه أن السلطان خوارزم شاه محمد بن تكش تنكر في ثلاثة نفر ودخل بلاد التتار ليكشف أخبارهم بنفسه فأنكروهم فقبضوا عليهم فضربوا اثنين حتى ماتا ولم يقرا بما جاءا إليه واستوثقوا من الملك، فلما كان في بعض الليالي هرب وسلم ورجع إلى معسكره وعاد إلى مملكته.
وقال ابن كثير
(3)
: وهذه الكائنة غير ما تقدم من أسره من المعركة مع ابن مسعود على ما ذكرناه.
ومنها
(4)
أنه ظهرت بلاطة وهم يحفرون في خندق حلب فوجد تحتها من الذهب خمسة وسبعون رطلا ومن الفضة خمسة وعشرون بالرطل الحلبي.
ومنها أنه ورد شمس الدين بن [التبتى]
(5)
رسولًا من الملك العادل إلى بغداد وكان الملك العادل لما حوصر بدمشق اقترض له أموالا من التجار وضمها فرأى العادل له ذلك فأحبه وقربه، وحسده الوزير صفي الدين بن شكر فأبعده عنه بتسفيره إلى بغداد، وكان شمس الدين سيد الأجواد وسند الأمجاد والأولى عند ذكره طي ذكر خاتم طىّ.
ومنها
(6)
أن الملك العادل أمر بإحداث تركيب سلاسل على أفواه السلك المجاورة للجامع ومدها في أيام الجمع ليمنع الخيل من قرب أبواب الجامع وذلك لما كان ينال الناس من المشقة من زحمة الخيل التي يركبها بعض المصلين إلى الجامع فحصل
(1)
مرآة الزمان، جـ 8، ص 371.
(2)
ورد هذا الخبر في الذيل على الروضتين، ص 83 - 84.
(3)
انظر البداية والنهاية، جـ 13، ص 71.
(4)
الذيل على الروضتين، ص 84، البداية والنهاية، جـ 13، ص 71.
(5)
"السي" كذا في الأصل بدون تنقيط، والمثبت من الذيل على الروضتين ص 83، مرأه الزمان، جـ 8، ص 368.
(6)
الذيل على الروضتين، ص 82، البداية والنهاية، جـ 10، ص 70.
للناس بذلك رفق عظيم، ثم ترك ذلك بعد زمان وعاد الأمر إلى ما كان إلى الآن. وعمل بعض المتفرغين في ذلك نظما كان يغني به في الأسواق أوله:
إن ذا عام جديد
…
إن ذا يوم سعيد
والمدينة هاربة
…
قيدوها
(1)
بالحديد
كل جمعة يسجنوها
…
كأنهم ما يعرفوها
والنبي لو أطلقوها
…
ما برح باب البريد
وفيها ...................................................
(2)
وفيها حج بالناس من العراق ابن أبي فراس نيابة عن محمد بن ياقوت ومن الشام صديق بن تمرتاش، ولقيه الغرز التركماني على أيلة ومعه حاج الكرك [والقدس]
(3)
.
ذكر من توفي فيها من الأعيان
التركستّاني الشيخ أبو الفضل أحمد بن مسعود بن على التركستاني شيخ الحنفية، ومدرس [344] مشهد أبي حنيفة رضي الله عنه ببغداد. وكان إليه المظالم، مات في هذه السنة ودفن بالمشهد المذكور، وكان قد تفقه وبرع في علم النظر وانتهت إليه الرئاسة في مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه، وولاه الوزير ابن المهدي المظالم والتدريس بمشهد أبي حنيفة
(4)
، وأرسله إلى الأطراف، وكان عفيفا نزها، وقال ابن النجار: توفي ليلة السبت السادس والعشرين من ربيع الآخر من سنة عشر وستمائة وصلى عليه من الغد بالمدرسة النظامية ودفن بمقبرة الخيزران المجاورة لمشهد أبي حنيفة رحمه الله وكان شابا.
ابن الماشطة
(5)
، الشيخ أبو محمد إسماعيل بن على بن الحسين فخر الدين الحنبلي، ويعرف بابن الماشطة، ويقال له الفخر غلام بن المني. له تعليقه في
(1)
"قد قيدوها" كذا في الأصل والمثبت من الذيل على الروضتين، ص 82.
(2)
بياض في الأصل بمقدار سطر.
(3)
"قدس" كذا في الأصل والمثبت من الذيل على الروضتين، ص 83؛ مرآه الزمان، جـ 8، ص 368، ص 369، الكامل، جـ 10، ص 361.
(4)
إلى هنا توقف العين عن النقل من الذيل على الروضتين، ص 84، والكامل، جـ 10، ص 361.
(5)
انظر ترجمته في البداية والنهاية، جـ 13، ص 71؛ الذيل على الروضتين، ص 84.
الخلاف، وكانت له حلقة بجامع الخليفة، وكان إلى النظر في قرايا الخاص للخليفة، ثم عزله فلزم بيته فقيرًا لا شيء له إلى أن مات في هذه السنة. وكان ولده محمد مدبرًا شيطانًا مريدًا كثير الهجاء والسعاية بالناس إلى أولياء الأمر بالباطل، فقطع لسانه وحبس إلى أن مات.
وفي المرأة:
(1)
وكان فصيحا وله عبارة جيدة وصوت رفيع، وكانت له حلقة بجامع الخليفة، يجتمع إليه الفقهاء ويناظرهم، وولاه الخليفة ضياع الخاص فظلم الرعية، وجبي الأموال من غير حلها فشكوه إلى الخليفة فسخط عليه وعزله، فأقام في بيته خاملًا فقيرا يعيش من صدقات الناس، إلى أن توفي في ربيع الأول ودفن في داره بدرب الجب، ثم نقل بعد مدة إلى باب حرب وبيعت الدار، وولده محمد بن إسماعيل الملقب بالشمس قدم الشام بعد سنة عشرين وستمائة، وتعاني الوعظ، وكان فاسقا مجاهرًا هجاءً خبيث اللسان، وكان معه جماعة من المردان من أبناء الناس، ويقول إنهم مماليكه، وبدت منه بدمشق ومصر هنات قبيحة، وكان يضرب الزغل
(2)
مع هذه الهنات سامحه الله.
ظهير الدين
(3)
أبو إسحق إبراهيم بن منصور بن عسكر، الفقيه الشافعي الأديب، قاضي السَّلامية، تفقه على القاضي أبي عبد الله الحسين بن نصر بن خميس الموصلي بالموصل، وسمع منه، وقدم بغداد وسمع بها من جماعة، وعاد إلى بلده الموصل، وتولى قضاء السَّلامية، إحدى قرى الموصل.
وكان فقيها فاضلا، وغلب عليه النظم، ونظمه رائق. ومنه قوله:
لا تنسبُوني يا ثقاتي إلى
…
غَدْرِ فليس الغدر من شيمتي
أقسمتُ بالذاهب من عَيْشِنا
…
وبالمسرات التي وَلّت
أنىّ على عَهْدِكُم لم أزل
(4)
…
وعقدة الميثاق ما حُلّت
(1)
سبط ابن الجوزي، جـ 8، ص 369 - ص 370.
(2)
ضرب الزغل: هو غش الفلوس، إما بتغيير نسب المعادن المكونة منها، أو بإنقاص وزنها عن الحد المعروف.
(3)
انظر ترجمته في وفيات الأعيان، جـ 1، ص 37 - 38؛ البداية والنهاية، جـ 13، ص 72.
(4)
"أحُلْ" في وفيات الأعيان، جـ 1، ص 37.
ومن شعره أيضًا:
جُودُ الكريم إذا ما كان عن عدةٍ
…
وقد تأخَّر لم يَسلمْ من الكدَرِ
إن السحائب لا تُجَدي بَوارِقها
…
نفعا إِن
(1)
هي لم تمطر على الأثر
[وماطلُ
(2)
] الوعد مذمومٌ وإن سمحت
…
يداه من بعد طول المطل بالبِدَر
يا دوحة الجود لا عَتْبٌ على رجُلٍ
…
يهُزُّها وهو محتاجٌ إلى الثمَر
وقال ابن خلكان: توفي يوم الخميس ثالث شهر ربيع الآخر سنة عشر وستماتة بالسَّلَّامية؛ وهي بفتح السين المهملة وتشديد اللام وبعد الميم ياء آخر الحروف ثم هاء، وهي بليدة على شط الموصل من الجانب الشرقي أسفل الموصل، بينهما مسافة يوم، وقد خربت [345] هي، [وأنشئت]
(3)
بالقرب منها بليدة أخرى سموها السَّلَّامية أيضا.
تاج الأمناء
(4)
أبو الفضل أحمد بن محمد بن الحسن بن هبة الله بن عساكر، من بيت الحديث والرواية، وهو أكبر من أخوَيْه زين الأمناء، والفخر عبد الرحمن، سمع عميه الحافظ أبا القاسم، والصائن، وكان صديقا للشيخ تاج الدين الكندي. وكانت وفاته يوم الأحد ثاني رجب منها، ودفن قبلي محراب مسجد
(5)
القدم.
تاج العلماء
(6)
النسابة الحلبي الحسني، اجتمع بآمد بالشيخ أبي الخطاب بن دحية، وكان ينسب إلى دِحية [الكلبي]
(7)
فقال له تاج العلماء: إنَّ دحية لم يعقب، فرماه ابن دحية بالكذب في مسائله الموصلية. وتوفي في هذه السنة. وقال أبو شامة
(8)
: رماه ابن دحية بالكفر في مسائله الموصلية.
(1)
"إذا" في وفيات الأعيان، جـ 1، ص 37.
(2)
"وباطل" كذا في الأصل، وهو خطأ في النسخ، والمثبت من وفيات الأعيان، جـ 1، ص 37.
(3)
"وانتشت" كذا في الأصل، وهو تحريف، والمثبت من وفيات الأعيان، جـ 1، ص 38.
(4)
انظر ترجمته في البداية والنهاية، جـ 13، ص 72؛ الذيل على الروضتين، ص 86.
(5)
مسجد القدم: أصله مشهد القدم، وهو من الآثار التي في مدينة دمشق وغوطتها. ويقال: إن هناك قبر موسى بن عمران. انظر: النجوم الزاهرة، جـ 6، ص 126، حاشية (1).
(6)
انظر ترجمته في البداية والنهاية، جـ 13، ص 72 - 73؛ الذيل على الروضتين، ص 86.
(7)
ما بين الحاصرتين إضافة لازمة للتوضيح من البداية والنهاية، جـ 13، ص 72.
(8)
انظر: الذيل على الروضتين، ص 86.
المهذب
(1)
الطبيب المشهور، وهو على بن أحمد بن مقبل الموصلي، سمع الحديث، وكان أعلم أهل زمانه بالطب، وله فيه تصنيف حسن، وكان كثير الصدقة حسن الأخلاق. وقال ابن كثير في الكامل: توفي المهذب المذكور في المحرم من سنة عشر وستمائة.
الجزولي
(2)
أبو موسى عيسى بن عبد العزيز الجَزُولى اليَزْدكِتني
(3)
النحوي المغربي
(4)
، مصنف المقدمة
(5)
المشهورة البديعة، وقد شرحها هو وتلامذته من بعده، وكلهم معترفون بتقصيرهم عن فهم مواده في أماكن كثيرة منها. قدم مصر فأخذ عن ابن بري، ثم عاد إلى بلاده وولي خطابة مراكش، وتوفي في هذه السنة، وقيل قبلها.
وقال ابن خلكان
(6)
: أبو موسى عيسى بن عبد العزيز بن يلَلْبَخْت بن عيسى بن يُوما ريلي الجزولي اليزدكتني، كان إماما في علم النحو، كثير الاطلاع على دقائقه وغرائبه وشاذه، وصنف فيه المقدمة التي سماها القانون، ولقد أتى فيها بالعجائب، وهي في غاية الإيجاز مع الاشتمال على شيء كثير من النحو، ولم يُسْبَق إلى مثلها، واعتنى بها جماعة من الفضلاء فشرحوها، ومنهم من وضع لها أمثلة، ومع هذا كله فلا تفهم حقيقتها، فإنها كلها رموز وإشارات. ويقال: إنه كان يدرى شيئا من المنطق. وأقام بمدينة بجاية مدة، والناس يشتغلون عليه، وتوفي سنة عشر وستمائة بمدينة مراكش، وقيل سنة ست أو سبع وستمائة.
ويللبخت: بفتح الياء [المثناه من تحتها]
(7)
واللام وسكون اللام الثانية وفتح الباء الموحدة وسكون الخاء المعجمة وبعدها تاء مثناة من فوق، وهو اسم بربري.
(1)
انظر ترجمته في الكامل، جـ 10، ص 360؛ البداية والنهاية، جـ 13، ص 73.
(2)
انظر ترجمته في البداية والنهاية، جـ 13، ص 73؛ وفيات الأعيان، جـ 3، ص 488 - 491.
(3)
"البردكيني" في البداية والنهاية، جـ 13، ص 73.
(4)
"المصري" في البداية والنهاية، جـ 13، ص 73.
(5)
هذه المقدمة سماها الجزولي "القانون". انظر: وفيات الأعيان، جـ 3، ص 488.
(6)
انظر: وفيات الأعيان، جـ 3، ص 488 - 491.
(7)
"بفتح الياء آخر الحروف" كذا في الأصل، وهو خطأ. والمثبت كما في وفيات الأعيان، جـ 3، ص 490، حيث ينقل العينى عنه.
ويوما ريلي: بضم الياء [المثناه من تحتها]
(1)
وسكون الواو وفتح الميم وبعد الألف راء مكسورة ثم ياء
(2)
ساكنة وبعدها لام ثم ياء، وهو اسم بربري أيضا.
والجُزُوْلي نسبة إلى جُزولة بضم الجيم والزاي وسكون الواو [وبعدها لام]
(3)
ويقال لها كزولة أيضا -بالكاف- وهي بطن من البربر.
والَيزْدكتني: بفتح الياء [المثناه من تحتها]
(4)
وسكون الزاي وفتح الدال المهملة وسكون الكاف وفتح التاء المثناة من فوق وبعدها نون، نسبة إلى فخذ من جزولة. وقبيلة جزولة من الرَّحالة يكونون بصحارى بلاد السوس في المغرب الأقصى.
ابن
(5)
حديدة الوزير، واسمه سعيد بن على بن أحمد أبو المعالي، ولقبه معز الدين، وهو من ولد قطبة بن عامر بن حديدة الأنصاري الصحابي رضي الله عنه. ولد بكرخ سامرًا سنة ست وثلاثين وخمسمائة، ونشأ ببغداد، وكان أحد الموسرين له مال كثير وجاه عريض، واستوزره الإمام الناصر لدين الله في سنة أربع وثمانين وخمسمائه، وخلع عليه خلعة الوزارة الكاملة [346]، القميص الأطلس، والفرجية المفرّج، والعمامة القصب الكحلية بأعلام الذهب، وقلّد سيفا محلّي، وقُدّم له فرس من خيل الخليفة فركبه، وخرج وأرباب الدولة يمشون بين يديه من باب حجرة الخليفة إلى دار الوزارة. ولم يزل على الوزارة حتى ولي ابن مهدى نقابة العلوييّن، فشرع فيه ومازال بالخليفة حتى عزله واعتقله وطالبه بمال، فالتجأ إلى التربة الأخلاطية فلم تنفعه، وأدى المال وأقام في بيته إلى أن ولي ابن مهدى الوزارة فَسلِّم إليه، فاعتقله في داره بدرب البطيخ، وعزم على تعذيبه، فواطأ الموكلين به وحلق رأس نفسه ولحيته، وخرج في زى النساء إلى مراغة
(6)
،
(1)
"بضم الياء آخر الحروف" كذا في الأصل. وهو خطأ. والمثبت كما في وفيات الأعيان، ج 3، ص 490، حيث ينقل العين عنه.
(2)
"ياء آخر الحروف" كذا في الأصل. وهو خطأ.
(3)
"وفتح اللام" كذا في الأصل، والمثبت من وفيات الأعيان حيث ينقل العينى عنه.
(4)
"الياء آخر الحروف" كذا في الأصل. وهو خطأ. والمثبت كما في وفيات الأعيان، جـ 3، ص 390. حيث ينقل العينى عنه.
(5)
انظر ترجمته في البداية والنهاية، جـ 13، ص 71 - ص 72، الكامل، جـ 10، ص 361؛ الذيل على الروضتين، ص 85؛ مرآة الزمان، جـ 8، ص 271، ص 272.
(6)
مراغة: انظر ما سبق جـ 1، ص 210.
فأقام بها حتى توفي في جمادى الأولى وحمل إلى الكوفة فدفن بمشهد أمير المؤمنين. وكان جوادًا سمحًا كثير الصدقات والمعروف متواضعا.
الموفق
(1)
أحمد بن محمد بن عمر الأزجي، ويعرف بالموفق، نشأ بباب الأزج، وسمع الحديث من ابن كليب، وابن بُوش، وابن طبرزد وغيرهم. وكان فقيرًا، خرج إلى الشام واجتمع بالملك الظاهر صاحب حلب وقال له: قد بعث لك الخليفة معي إجازة، وتَقَوَّل على الخليفة، فخلع عليه وأعطاه خمسين دينارًا، ودار على ملوك البلاد، فحصل له منهم ثلثمائه دينار. قال السبط
(2)
: واجتمعت به في دمشق وقد رجع من زيارة القدس فقلت له: إلى أين انتهت زيارتك؟ فقال: إلى لوط. وكان مطبوعا وبلغني حديثه فقلت له: قد فعلت ما فعلت فلا نقرب بغداد. فقال: أتتك بخائن رجلاه. فقلت: ما أخوفني أن يصح المثل فيك. فكان كما قلت نزل إلى بغداد في سفينة من الموصل وصعد بباب الأزج إلى بيت أخته وقت المغرب، فلما كان بعد العشاء الآخرة طرق الباب طارق فقال: من هذا؟ فقال: كلّم من يطلبك. فخرج وإذا برجل فسحبه عن الباب وضربه بسكين حتى قتله، ثم صاح على الباب اخرجي خذى أخاك وما معه، فخرجت أخته وإذا به مقتول. فأخذت المال ودفنته في الليل.
الأمير سنجر
(3)
بن عبد الله الناصرى الخليفتي، كانت له أموال كثيرة وأملاك وإقطاعات متسعة، وكان مع ذلك بخيلًا ذليلًا ساقط النفس، اتفق أنه خرج أمير الحاج في سنة تسع وثمانين وخمسمائه فاعترضه بعض الأعراب في نفر يسير ومع سنجر خمسمائه فارس فذل عن الأعراب فطلب منه كبيرهم خمسين ألف دينار فجباها سنجر من الحجيج ودفعها إليه. فلما عاد إلى بغداد أخذ منه الخليفة خمسين ألف دينار وردّها إلى أصحابها وعزله وولي طاشتكين.
(1)
انظر ترجمته في مرآة الزمان، جـ 8، ص 369؛ الذيل على الروضتين، ص 84.
(2)
انظر المرآة، جـ 8، ص 369.
(3)
انظر ترجمته في مرآة الزمان، جـ 8، ص 372؛ الذيل على الروضتين، ص 85 - 86؛ البداية والنهاية، جـ 13، ص 72.
وفي تاريخ بيبرس: وكان سنجر هذا صهر طاشتكين، وتوفي في هذه السنة. وفي المرأه
(1)
: وتوفي في شوال وفتح له جامع القصر وصلي عليه قاضي القضاة ابن الدامغاني ومشى أرباب الدولة في جنازته ودفن بالشونيزية. وكان كبير الأعراب الذي طلب المال من سنجر من غُزيّة
(2)
اسمه دهمش.
فارس
(3)
الدين ميمون القَصْري، آخر من بقي من كبراء الأمراء الصلاحية مات بحلب في رمضان من هذه السنة، وهو منسوب إلى قصر الخلفاء الفاطميين بمصر، وكان السلطان صلاح الدين رحمه الله أخذه من هناك.
أيدغمش
(4)
مملوك البهلوان، قتله خشداشه منكلي وقد ذكرناه عن قريب مفصلا.
سلطان المغرب محمد
(5)
بن السلطان يعقوب المنصور بن يوسف بن عبد المؤمن بن على القيسي الكومي الملقب بالناصر، صاحب بلاد الغرب توفي لعشر خلون من شعبان من سنة عشر وستمائة وكانت مدة مملكته نحو ست عشرة
(6)
سنة، وكان أشقر دائم الإطراق كثير الصمت، وكان في لسانه لثغة، وكانت ولايته في سنة خمس وتسعين وخمسمائه، وقد ذكرنا ترجمة أبيه وجده وأب جده.
وقال ابن خلكان
(7)
وكان مولد السلطان محمد المذكور في سنة ست وسبعين وخمسمائه. قال والمغاربة يقولون: إن محمد بن يعقوب المذكور أوصى عبيده المشتغلين بحراسة بستانه بمراكش أن كل من ظهر لهم بالليل فهو مباح الدم، ثم أراد أن يختبر قدر أمره لهم فتنكر وجعل يمشي في البستان ليلًا فعندما رأوه جعلوه غرضًا لرماحهم، فجعل يقول: أنا الخليفة. فما تحققوا حتى هلك والله أعلم بصحة ذلك. ثم ولي بعده ولده [أبو يعقوب يوسف]
(8)
بن محمد وتلقب بالمستنصر بالله، ومولده أول شعبان سنة أربع وتسعين وخمسمائه ولم يكن من بني عبد المؤمن أحسن وجها منه.
(1)
سبط ابن الجوزي، جـ 8، ص 372.
(2)
غُزَيّة، موضع قرب فَيْد بطريق مكة، وفيد في منتصف طريق الحاج من الكوفة إلى مكة، انظر، معجم البلدان، جـ 3، ص 800 - ص 801، ص 927.
(3)
انظر ترجمته في مفرج الكروب، جـ 3، ص 220؛ نهاية الأرب، ج 29، ص 64.
(4)
مرآة الزمان، جـ 8، ص 371؛ الكامل، ج 10، ص 360.
(5)
انظر ترجمته في المختصر في أخبار البشر، جـ 3، ص 115.
(6)
"ستة عشر" في الأصل، والصحيح ما أثبتناه.
(7)
انظر وفيات الأعيان، جـ 7، ص 15.
(8)
"أبو يوسف يعقوب بن محمد" كذا في الأصل وهو خطأ والصحيح ما أثبتناه من، وفيات الأعيان، جـ 7، ص 15؛ زامباور: معجم الأسرات، جـ 1، ص 113.
فصل فيما وقع من الحوادث في السنة الحادية عشرة بعد الستمائة
(*)
استهلت هذه السنة والخليفة هو الناصر لدين الله، وسلطان مصر والشام الملك العادل أبو بكر بن أيوب، وكان في دمشق وسار إلى الديار المصرية في هذه السنة، وولده الملك الكامل محمد بن العادل نائبه في مصر، وأرسل الكامل ولده الملك المسعود صلاح الدين يوسف بن الكامل إلى الحجاز متوجها إلى اليمن وجهز صحبته ألف فارس من الجند والجاندارية
(1)
والرماة خمسمائة.
وقال بيبرس: وكان الملك العادل قد رتب أولاده في كل إقليم ملكه، وقصد أن يُسَيَّر ولده الفائز إلى اليمن ليملكه فاتفق أن الصاحب صفي الدين بن شكر قال للكامل: مصر لك وينبغي أن يكون اليمن لك ظهرًا، والفائز أخوك كريم فاركب إليه واسأله أن يكون ولدك المسعود نائبا عنه. ففعل الكامل ذلك، فأجابه إليه الفائز، فجهز المسعود وأرسله فدخل مكة ثالث ذي القعدة من هذه السنة، وحج وخطب له وأقام بمكة ستة أيام ثم رحل عنها في العشر الثاني من ذي القعدة. وفي أول يوم من المحرم من سنة اثنتي عشرة وستمائة دخل زبيد وملكها من غير قتال. وقد ذكرناه مفصلا في السنة الماضية.
وقال أبو شامة
(2)
: وفي سنة إحدى عشرة وستمائة تملك أتسيز بن الكامل بن العادل اليمن وتلقب بالمسعود وكان جبارًا فاتكًا، قيل: إنه قتل باليمن ثماني مائة شريف وخلقا من الأكابر والعظماء. وقال بيبرس
(3)
: كان والد الملك المسعود هذا يسميه أتسيز ولكن اسمه يوسف كما ذكرنا، ولكنه اشتهر باسم أتسز، ومنهم من يقول: أطسز بالطاء المهملة موضع الياء المثناة من فوق، وأتسس بسينين مهملتين يجعل موضع الزاي المعجمة في آخره سينًا، والكل يعنى واحد فافهم.
وفيها
(4)
أخذ الملك المعظم قلعة صرخد من ابن قراجا وعوضه عنها مالًا وإقطاعًا.
(*) يوافق أولها 13 مايو سنة 1214 م.
(1)
الجاندارية: فئة من المماليك السلطانية كانوا من خواص السلطان الملازمين له من حرسة أو حاشية قصره، وواحدهم جاندار - انظر صبح الأعشى، جـ 4، ص 20.
(2)
الذيل على الروضتين، ص 86؛ وقد ذكرها ابن واصل في حوادث سنة 612 هـ. انظر مفرج الكروب، جـ 3، ص 227؛ مرآة الزمان، جـ 8، ص 372؛ نهاية الأرب، جـ 29، ص 66.
(3)
نهاية الأرب، جـ 29، ص 65 - ص 66.
(4)
ورد هذا الخبر في الذيل على الروضتين، ص 86؛ مرآة الزمان، جـ 8، ص 372؛ نهاية الأرب، جـ 29، ص 66.
ذكر تملك خوارزم شاه كرمان وغيرها
وفي هذه السنة أرسل السلطان [348] علاء الدين خوارزم شاه محمد بن تكش أميرًا من أخصاء أمرائه عنده، وكان قبل ذلك سيروانًا فصار أميرًا خاصًا في جيش، ففتح له كرمان ومكران والسند وخطب لخوارزم شاه بتلك النواحي. وكان خوارزم شاه لا يصيف إلا بنواحي سمر قند خوفًا من التتار أصحاب كشلي خان أن يثوروا على أطراف بلاده التي تتاخم بلادهم. وقال بيبرس
(1)
: كان في جملة أمراء والد خوارزم شاه أمير يسمى أبو بكر
(2)
وتلقب تاج الدين، وكان ذا عقل وحزم ورأي وشجاعة، وكان قد ولاه مدينة زوزن
(3)
ووثق به أكثر من جميع أمرائه فقال له: إن بلاد كرمان مجاورة لبلادي فلو أرسلت معي عسكرًا لملكتها فسير معه عسكرًا كثيرًا، وكان صاحب كرمان اسمه حرب بن محمد بن أبي الفضل فقاتله فضعف عنه فملك بلاده، وسار منها إلى نواحي مكران فملكها كلها إلى السند من حدود كابل، وسار إلى هرمز مدينة على ساحل بحر مكران فأطاعه صاحبها وخطب بها لخوارزم شاه، وحمل له عنها مالًا وخطبة له بقلهات
(4)
وبعض عُمان؛ لأن أصحابها كانوا يطبعون صاحب هرمز.
ذكر حج الملك المعظم
وفي هذه السنة
(5)
حج الملك المعظم ابن الملك العادل في ركب من الكرك على الهجن في حادي عشر ذي القعدة ومعه ابن مُوسَك ومملوكه أيبك عز الدين أستاذ داره وخلق، فساروا على طريق تبوك والعلى، وبنى المعظم البركة المنسوبة إليه ومصانع أخرى، وأثر في هذه السنة بطريق الحجاز آثارًا حسنة، وفرق صدقات كثيرة على المجاورين بالحرمين الشريفين.
(1)
أورد هذا الخبر في الكامل، جـ 10، ص 362 - ص 363؛ البداية والنهاية، جـ 13، ص 73 - ص 74.
(2)
"أبا" كذا في الأصل والصحيح ما أثبتناه.
(3)
زُوزَن: كورة واسعة بين نيسابور وهراة ويحسبونها من أعمال نيسابور، كانت تعرف بالبصرة الصغرى، انظر: معجم البلدان، جـ 2، ص 958.
(4)
قلهات: مدينة بعُمان على ساحل البحر، انظر: معجم البلدان، جـ 4، ص 168.
(5)
ورد هذا الخبر في، البداية والنهاية، جـ 13، ص 73؛ الذيل على الروضتين، ص 87؛ مرآة الزمان، جـ 8، ص 372، ص 373.
وقال أبو شامة
(1)
: حج المعظم في هذه السنة ومعه عز الدين أيبك وعماد الدين ابن موسك والظهير بن سنقر الحلبي وغيرهم، وتلقاه سالم أمير المدينة وَخَدَمَهُ وقَدَّم له الخيل والهدايا، وسلم إليه مفاتيح المدينة، وفتح الأهراء وأنزله في داره وخَدَمَهُ خِدْمةً عظيمة، ثم سار إلى مكة فوصلها يوم الثلاثاء سادس ذي الحجه فكانت وقفة تلك السنة يوم الجمعة، وانفصل عن مكة بعد أداء الفرض يوم الثلاثاء ثالث عشر الشهر وقدم المدنية فأقام بها ثم انفصل عنها عائدا إلى الشام وصحبته الأمير سالم
(2)
في الخامس والعشرين منه. وقال السبط في
(3)
المرآة: والتقاه قتادة
(4)
أبو عزيز أمير مكة وحضر في خدمته، وحكى لي المعظم قال: قلت: أين تنزل؟ فأشار إلى الأبطح مبسوطة، وقال: هناك منزلنا بالأبطح، وبعث لنا هدايا يسيرة.
وحج السلطان على مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه وأتي بجميع المناسك وأحيى السُنة، أحرم قارنًا، وبات بمنى ليلة عرفة، وصلى بها الصلوات الخمس، وسار إلى عرفة وقضى نُسكه كما أمر الله تعالى. قال ولقد رأيت كتفه بعد ما عاد وقد أكلته الشمس وانكشط وقيح. فقلت: ما هذا؟ قال: ما غطيت رأسي ولاكتفى من ثلاثة عشر يوما، قلت: لم يكن له حاجة إلى كشف كتفه فإنه لا يستحب إلا حالة الاضطباع في طواف القدوم. قال السبط
(5)
: ولما رجع كنت مقيما بالكرك فخرجت للقائه مع جماعة من الأعيان والأمراء والفقراء والفقهاء، فما التفت إلى أحد منهم، ولما رآني ترجل عن ناقته وعانقني وسقنا إلى زيزا
(6)
. وكان لقاؤنا له على غدير الظرفاء في البرية، وشرع يحكي له صفة حجه وما فعل. وكان والده [349] الملك نازلًا على خربة
(7)
اللصوص، فقال: أريد أن أنعته
(1)
الذيل على الروضتين، ص 87؛ مرآة الزمان، ج 8، ص 373.
(2)
هو سالم بن قاسم بن مهند من الأشراف، من بني الحسن الذين كانوا أمراء المدينة، وكان الشريف سالم مع السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب في فتوحاته: انظر صبح الأعشى جـ 4، ص 300؛ البداية والنهاية، ج 13، ص 73؛ مرآة الزمان، جـ 8، ص 373؛ الذيل على الروضتين، ص 87.
(3)
انظر مرآة الزمان، ج 8، ص 373.
(4)
هو قتادة بن إدريس من الأشراف من ذرية الحسن بن على. وهو أول أمراء مكة من فرعه، أخذها من الهواشم وهو فرع آخر من بني الحسن سنة 599 هـ وتوفي سنة 617 هـ، وقد بقيت مكة في أيدي أسرته حتى عهد الوهابيين، صبح الأعشى، جـ 4، ص 272؛ نهاية الأرب، جـ 29، ص 68، حاشية (2).
(5)
مرآة الزمان، جـ 8، ص 373.
(6)
زيزا وهي زَيْزْاء وهي من قرى البلقاء، يطأها الحاج. انظر: معجم البلدان، جـ 2، ص 966.
(7)
خربة اللصوص: واقعة على الطريق بين بيسان ودمشق. انظر: نهاية الأرب، جـ 29، ص 68 حاشية 1.
حتى لا يلتقيني أحد، وسار إليه واجتمع به وحكى له خدمة سالم، وتقصير قتادة، فجهز جيشا مع الناهض بن الجرحى إلى المدينة والتقاهم سالم فأكرمهم، وقصدوا مكة فانهزم قتادة منهم إلى البرية، ولم يقف بين أيديهم.
ذكر بقية الحوادث
منها
(1)
أنه شرع في تبليط داخل الجامع بدمشق وبدأوا بناحية السبع الكبير، وكان أرض الجامع قبل ذلك حُفرًا وجورًا فاستراح الناس بتبليطه.
ومنها
(2)
أنه هدمت الدور والحوانيت المجاورة للقلعة ليوسع الخندق، ومن جملة ما هدم حمام قايماز النجمي، ووقف دار الحديث النورية، وكان فرنًا وحوانيت مقابل المار من جهة دار الحديث إلى القلعة.
ومنها
(3)
أن المعظم بنى الفندق المنسوب إليه بناحية قبرعاتكة ظاهر باب الجابية بدمشق.
ومنها
(4)
أنه تعامل أهل دمشق بالقراطيس
(5)
السود العادلية ثم بعد ذلك بطلت وفنيت.
ومنها
(6)
أن التركمان أسروا الملك الأشكرى
(7)
وهو قاتل غياث الدين كيخسرو وحملوه إلى ابنه كيكاوس بن كيخسرو، فأراد قتله فبذل له في نفسه أموالًا عظيمة وسلم إلى كيكاوس قلاعًا وبلادًا لم يملكها المسلمون قط فأطلقه وخلى سبيله.
(1)
ورد هذا الخبر في الذيل على الروضتين، ص 86؛ البداية والنهاية جـ 13، ص 73، السلوك، ج 1، ق 1، ص 214.
(2)
ورد هذا الخبر في الذيل على الروضتين، ص 87؛ البداية والنهاية، جـ 13، ص 73.
(3)
ورد هذا الخبر في الذيل على الروضتين، ص 87، البداية والنهاية، جـ 13، ص 73.
(4)
ورد هذا الخبر في الذيل على الروضتين، ص 86، البداية والنهاية، جـ 13، ص 74، نهاية الأرب، جـ 29، ص 67؛ السلوك، ج 1، ق 1، ص 214.
(5)
القراطيس السود: هي الفضة النقرة وهي عبارة عن سبيكة من الفضة والنحاس الأحمر بنسبة ثلثين من الفضة وثلث من النحاس الأحمر ومنها كانت الدراهم النقرة، غير أن وصف القراطيس بالسود يدل على أنها من النحاس. صبح الأعشى، جـ 3، ص 443، ص 466 - ص 467،. Dozy،suppDict.Ar
(6)
ورد هذا الخبر في المختصر في أخبار البشر، جـ 3، ص 116، مفرج الكروب، جـ 3، ص 325.
(7)
يطلق المتأخرون من مؤرخي المسلمين هذا الاسم على أباطرة الدولة البيزنطية منذ أوائل القرن السابع الهجرى. السلوك، جـ 1، ق 1، ص 213 - ص 214 حاشية 6.
ومنها
(1)
أن الخليفة عزل قاضى القضاة عماد الدين بن الدامغاني وولي الزنجاري القضاء.
ومنها
(2)
أنه قدم من حران إلى حلب الملك المنصور ناصر الدين محمد بن العزيز ابن صلاح الدين وإخوته وكان معتقلا بحران، ثم رسّم عليه فهرب من الترسيم وأعطاه الظاهر إقطاعًا بحلب.
ومنها أن
(3)
في الثامن والعشرين من ذي القعدة الموافق لآخر آذار على إحدى عشرة ساعة منه أظلم الجو ووقع شعثة بالرمل إلى بعد المغرب، ثم ارتفع ذلك من لطف الله عز وجل.
وفيها
…
…
…
…
…
…
…
…
…
…
…
.
(4)
وفيها
(5)
حج بالناس من العراق أبو فراس نائبًا عن محمد بن ياقوت، ومن الشام علم الدين الفقية نصر الله الجعبرى أمام الملك المعظم عيسى بن الملك العادل.
ذكر من توفى فيها من الأعيان
إبراهيم
(6)
بن علي بن محمد بن علي بن محمد بن بكروس، الفقيه الحنبلي، أفتى وناظر وعدّل عند الحكام، ثم انسلخ من هذا كله وصار شرطيًا بباب
(7)
النوبي، فيضرب الناس ويؤذيهم غاية الأذى ثم بعد ذلك كله ضرب إلى أن مات في هذه السنة، وألقى في دجلة وفرح الناس بموته، وقد كان أبوه رجلا صالحا.
الركن
(8)
عبد السلام بن عبد الوهاب ابن الشيخ عبد القادر، الذي أحرقت كتبه بالرحبة، وحكم القاضي بتفسيقه، وكان متهما بالفلسفة ومخاطبة النجوم، وولي عدة
(1)
انظر مرآة الزمان، جـ 8، ص 372.
(2)
انظر مفرج الكروب، جـ 3، ص 223.
(3)
الذيل على الروضتين، ص 87.
(4)
بياض بمقدار سطر.
(5)
الذيل على الروضتين، ص 86.
(6)
انظر الذيل على الروضتين، ص 87؛ البداية والنهاية، جـ 13، ص 74.
(7)
انظر عقد الجمان، جـ 1، ص 180، حاشية 3.
(8)
الذيل على الروضتين، ص 88؛ مرآة الزمان، جـ 8، ص 374؛ البداية والنهاية، جـ 13، ص 74، شذرات الذهب، جـ 5، ص 45.
ولايات، وكان مصاحبا لأبي القاسم بن الشيخ أبي الفرج بن الجوزي، وكان الآخر مدبرا يجتمعان على الشراب والمردان، ومرض عبد السلام بعلة البطن فرمى كبده قطعًا ومات في هذه السنة سامحه الله.
أبو محمد عبد العزيز
(1)
بن محمود بن المبارك البزار المعروف بابن الأخضر، ولد سنة ست وعشرين وخمسمائة، وقيل: في سنة أربع وعشرين. وقيل: هو جنابذي الأصل بغدادي الدار والمولد، سمع الحديث الكثير وصنف الكتب الحسان من الأبواب والشيوخ والفضائل، وأول سماعه سنة ثلاثين وخمسمائة، وكانت له حلقة بجامع القصر يقرأ فيها الحديث [350] ويقرأ عليه، وتصانيفه تدل على فهمه وضبطه وحسن معرفته، وكانت له وإن بَزّفي الريحانيين، وتوفي في شوال وصلي عليه بجامع القصر وحضر جنازته العلماء والأعيان، ودفن بباب حرب، وكان فاضلا صالحا دينا عفيفا لطيفا.
محمد بن
(2)
على بن نصر الحنبلي، الواعظ الدوري أصله من الدورقريه بدجيل، سمع ابن ناصر وأبا الوقت وغيرهما وتعاني
(3)
الوعظ ولم يكن من صنعته، وكان يضاهي ابن الجوزي حتى قيل له: أيما أعلم أنت أم أبو الفرج؟ فقال: ما أرضاه يقرأ على الفاتحه، وبلغ ذلك أبا الفرج فقال: ما أقرأ عليه الفاتحة بل أقرأ عليه قل هو الله أحد، وكان يتعصب له حاكة قطفتا
(4)
، مات في شعبان، ودفن في رباطه بقطفتا، وكان ينتحل أشعار الناس، ادعى يوما بيتين وأنشدهما على المنبر مشيرا إلى الخليفة وهما لأبي الفتح البُسْتي وهما:
علم في دجى الدجي وشهاب
…
كلنا في ضيائه واقتباسه
متلف الأموال في وقت بؤس
…
وجواد بالعفو في وقت باسه
(1)
الذيل على الروضتين، ص 88؛ البداية والنهاية، جـ 13، ص 74، الكامل، جـ 10، ص 363.
(2)
الذيل على الروضتين، ص 88.
(3)
"تعاطي" في الذيل على الروضتين، ص 88.
(4)
قطفتا: محلة كبيرة ذات أسواق بالجانب الغربي من بغدادد مجاورة لمقبرة الدير التي فيها قبر الشيخ معروف الكرخى انظر، معجم البلدان، جـ 4، ص 137.
الشيخ
(1)
علي بن أبي بكر الهروي، مات في هذه السنة وله التربة المعروفة قبلي حلب، وكان عارفًا بأنواع الحيل والشعبذة والسيماوية وتقدم عند الملك الظاهر غازي صاحب حلب وتغرب في البلاد، ودار غالب المعمورة.
الأمير دلدروم
(2)
بن ياروق، صاحب تل باشر، توفي في هذه السنة وولي تل باشر بعده ابنه فتح الدين.
(1)
انظر مفرج الكروب، جـ 3، ص 224.
(2)
انظر مفرج الكروب، جـ 3، ص 224؛ المختصر في أخبار البشر، جـ 3، ص 115 - 116.
فصل فيما وقع من الحوادث في السنة الثانية عشرة بعد الستمائة
(*)
استهلت هذه السنة والخليفة هو الناصر لدين الله، والملك العادل توجه إلى الإسكندرية لأنه كان قد اجتمع بالإسكندرية من تجار الفرنج نحو ثلاثة آلاف رجل ووصلت بُطسة إلى المينا فيها ملكان من ملوك الفرنج، فبلغه أن الفرنج صمموا على أن يثوروا بأهل الإسكندرية فيقتلونهم ويأخذون البلد، فأمسك التجار الذين بالثغر والواصلين في البطسة واستصفى أموالهم واعتقلهم، واعتقل الملكين وجرت خطوب مع العادل من الفرنج حتى أطلق النسوة التي لهم وعاد إلى القاهرة. وفي تاريخ ابن العميد: وفي هذه السنة كشف السلطان الملك العادل عن الأموال التي أنفقت في تجهيز الملك المسعود إلى اليمن فكانت جملة عظيمة، فأنكر على القاضي الأعز فخر الدين بن شكر وضربه وقيده وحمله إلى قلعة بصري واعتقله بها.
ذكر حصر قتادة أمير مكة المدينة النبوية
وفي هذه السنة حاصر
(1)
الأمير قتادة الحسني المدينة النبوية وقطع فيها نخلا كثيرًا فقاتله أهلها فَكَرَّ خائبا خاسرا، وكان سالم صاحب المدينة بالشام في خدمة العادل يطلب منه النجدة على قتادة، فأرسل معه جيشا فأسرع الأوبة فمات في أثناء الطريق، فاجتمع شمل الجيش على ابن أخيه جماز فقصد مكة فالتقاه أميرها بالصفراء
(2)
فاقتتلوا قتالا كثيرا، فهزم المكيون وغنم منهم الأمير جاز شيئا كثيرًا، وهرب قتادة إلى الينبع فساروا إليه فحاصروه بها وضيقوا عليه بها. وقال أبو شامة
(3)
: وفي ثالث شعبان سار الأمير سالم صاحب المدينة بمن استخدمه من التركمان وغيرهم من المخيم السلطاني بالكسوة ثم توفي بالطريق قبل [351] وصوله إلى المدينة، وقام ولد أخيه جماز بالأمر بعده، واجتمع أهله على طاعته، فمضى بمن كان طلع مع عمه لقصد قتادة صاحب
(*) يوافق أولها 2 مايو سنة 1215 م.
(1)
ورد هذا الخبر في البداية والنهاية، جـ 13، ص 75؛ نهاية الأرب، جـ 29، ص 67 - 68؛ الذيل على الروضتين، ص 89.
(2)
الصفراء: وادي بناحية المدينة كثير النخل والزرع في طريق الحاج بينه وبين بدر مرحلة انظر، معجم البلدان، جـ 3، ص 399.
(3)
الذيل على الروضتين، ص 89 - ص 90.
مكة، فجمع قتادة عسكره وأصحابه والتقوا بوادى الصفراء، فكانت الغلبة لعسكر المدينة فاستولوا على عسكر قتادة قتلا ونهبًا، ومضى قتادة منهزمًا إلى الينبع فتبعوه وحصروه بقلعته وحصل لحميد بن راجب من الغنيمة ما يزيد على مائة فرس، وهو واحد من جماعة كثيرة من العرب الطائيين، وعاد الأجناد الذين كانوا مضوا مع الأمير سالم من الشام من التركمان وغيرهم صحبة الناهض بن الجرخي [خادم]
(1)
المعتمد، وفي صحبتهم كثير مما غنموه من أعمال قتادة ومن وقعة وادى الصفراء من نساء وصبيان، فظهر فيهم أشراف حَسنيون وحُسينيون فاستعبدوا منهم وسلموا إلى المعروفين من أشراف دمشق ليكفلوهم ويشاركوهم في قسمهم من وقفهم.
ذكر تملك خوارزم شاه غزنة
وفي هذه السنة ملك السلطان خوارزم شاه محمد بن تكش غزنه بغير قتال. وفي تاريخ النويرى
(2)
: ملك غزنة وأعمالها وأخذها من يلدز مملوك شهاب الدين أحمد الغوري فهرب يلدز إلى لهاور
(3)
من الهند، واستولى عليها، ثم سار يلدز عن لهاور ليستولي على بعض بلاد الهند الداخله تحت يد قطب الدين أيبك خشداش يلدز المذكور فجرى بينه وبين مملوك قطب الدين أيبك مصاف قتل فيه يلدز، وكان يلدز حسن السيرة محسنا إلى الرعية كثير المعروف. وقال بيبرس في تاريخه: وكان بغزنة نائب عن يلدز يسمى قتلغ تكين مملوك شهاب الدين الغورى فسير إليه خوارزم شاه فطلب منه أن يخطب له فيها فترجح عنده الخطبة له فيها والراحة من القتال. واستشار أهل البلد فأشاروا عليه بذلك فسير إلى خوارزم شاه أن أحضر لأخذ البلد فحضر وسلم إليه البلد، فبلغ ذلك يلدز فعز عليه وقال: كيف تسلمها خوارزم شاه وقتلغ تكين فيها؟ فقيل له: إنه الذي سلمها. ثم إن خوازرم شاه أستدعي قتلغ تكين وقال له: كيف كنت مع يلدز؟ قال: كنت الحاكم في غزنة، فقال: إذا كنت الحاكم فيها وهو خشداشك
(4)
وهذه
(1)
"صارم" كذا في الأصل والمثبت بين الحاصرتين من الذيل على الروضتين، ص 90.
(2)
المختصر في أخبار البشر، جـ 3، ص 116، ولمعرفة المزيد من التفاصيل انظر الكامل، جـ 10، ص 367؛ الذيل على الروضتين، ص 90.
(3)
انظر ما سبق، جـ 2، ص 86، حاشية 8.
(4)
"ضشداش، انظر ما سبق، جـ 2، ص 290، حاشية 2.
معاملتك معه فكيف يكون حالك مع ولدى، ثم أنه قبض عليه وأخذ منه أربع مائة مملوك وأموالًا جمة وذخائر عظيمة وأمتعة جليلة وقتله وسلم البلد إلى ولده جلال الدين.
وفيها
(1)
هرب يلدز إلى لهاور فلقيه صاحبها جلال الدين قباجة وهو من مماليك شهاب الدين الغورى ومعه خمسة عشر ألف فارس ومع يلدز ألف وخمسمائة فارس، فالتقيا فانهزم أكثر عسكر يلدز وأخذت الفيلة التي معه ولم يبق معه غير فيلين، فقال للفيال: أحمل واقصد العَلمَ الذي على رأس الملك، وقال بالعجمية: إما أن أملك أو أموت وحمل فانهزم قباجة وملك يلدز لهاور، وملك دهلة
(2)
وكان صاحبها الترمش من مماليك شهاب الدين الغورى، وقد ملكها بعد سيده فلما سمع بيلدز سار إليه في عساكره فالتقوا فانهزم يلدز وأخذ فقتل، وكان عادلًا محسنا إلى الغرباء والتجار.
ذكر قتل منكلي
سبب
(3)
ذلك [352] أنه قتل أيدغمش كما ذكرنا فأرسل الخليفة ينكر عليه ذلك، وأرسل الخليفة إلى الأمير أزبك بن البهلوان صاحب أذربيجان يحرضه على منكلي ويعده النصرة، وأرسل إلى جلال الدين الإسماعيلى صاحب قلاع الإسماعيلية ببلاد العجم بأمره بمساعدة أزبك على قتال منكلي، واستقرت القواعد بينهم على أن يكون للخليفة بعض البلاد ولأزبك بعضها ويعطى بعضها لجلال الدين، فلما استقرت القواعد على ذلك جهز الخليفة عسكرًا كثيرا وجعل مقدمهم مظفر الدين سنقر الملقب بوجه السبع صاحب إربل وشهر زور وأعمالها يأمره أن يحضر بعساكره ويكون مقدم العساكر جميعها وإليه المرجع في الحرب، فحضر وحضر معه عسكر الموصل وبلاد الجزيرة وساروا إلى همذان، فاجتمعت العساكر فانزاح منكلي من بين أيديهم وتعلق بالجبال وتبعوه إلى أن نزلوا بسفح جبل هو في أعلاه بالقرب من مدينة كرج
(4)
وضاقت الميرة والأقوات على العسكر الخليفى فالتقوا هم ومنكلي في يومهم ذلك وثانيه فهرب ليلا في نفر يسير من
(1)
انظر الكامل، جـ 10، ص 367.
(2)
دهلة، هي دلهي الحالية في الهند.
(3)
لمعرفة المزيد من التفاصيل عن هذه الحادثة انظر الكامل، جـ 10، ص 364 - ص 365.
(4)
كرج: مدينة من همذان، وأصبهان في نصف الطريق وإلى همذان أقرب، انظر: معجم البلدان جـ 4، ص 250 - ص 251.
عسكره وفارقه الباقون، فأعطى جلال الدين ملك الإسماعيلية من البلاد ما كان استقر له، وأخذ الباقي أزبك فسلمه إلى أعلمش مملوك أخيه وعادت كل طائفة من العسكر إلى بلادهم ومضى منكلي منهزمًا إلى مدينة ساوة
(1)
وبها شحنة هو صديق له، فأرسل إليه يستأذنه في الدخول إلى البلد، فأذن له وخرج إليه وتلقاه وقبل الأرض بين يديه، وأدخله البلد، ثم أخذ سلاحه وأراد أن يقيده ويُسيره إلى أغلمش، فسأله أن يقتله ولا يرسله إليه، فقتله، وأرسل رأسه إلى أزبك وأرسله أزبك إلى بغداد، وكان يوم دخوله بغداد يوما مشهودًا.
واتفق
(2)
موت ولد الخليفة في ذلك اليوم وهو أبو الحسن علي ابن الخليفة الناصر وكان يلقب بالملك المعظم، وكان جوادًا سمحا وافر المعروف حسن العشرة، وأمر الخليفة بالنياحة عليه في أقطار بغداد وكان الخليفة قد جعله ولي عهده من بعده، وعزل عن ذلك أخاه الأكبر، وكانت وفاته يوم الجمعة العشرين من ذي القعدة منها، ودفن عند جدته بالقرب من قبر معروف الكرخي رحمه الله، فحزن عليه الخليفة حزنا شديدا وكذلك الخاصة والعامة لكثرة صدقاته وإحسانه إليهم ورثاه شرف الدين بن الحلى من قصيدة.
أكذا يَهُدُّ الدهر أطواد الهدى
…
ويرد بالنكبات شاردة الردى
أكذا تغيب [النيرات]
(3)
وينطفي
…
ما كان من أنوارها متوقدا
ياللرجال لنكبة نبوية
…
طوت العلا
(4)
قلبا عليها مُكمدًا
وهذه قصيدة طويلة ورثاه القاضي بهاء الدين بن النبيه المصري من قصيدة:
الناس للموت كَخَيْلِ الطِرَاد
…
[فالسابقُ]
(5)
السابقُ منها الجواد
والله لا يدعوا إلى داره
…
إلا من اسَتصْلَحَ من ذا العباد
(1)
ساوة: مدينة بين الري وهمذان في وسط بينهما. انظر معجم البلدان، جـ 3، ص 24.
(2)
لمعرفة المزيد من التفاصيل انظر الكامل، جـ 10، ص 365 - ص 366؛ البداية والنهاية، جـ 13، ص 75؛ مرآة الزمان، جـ 8 ص 375؛ الذيل على الروضين، ص 91 - ص 92؛ مفرج الكروب، جـ 3، ص 229 - ص 232.
(3)
"النيران" كذا في الأصل والمثبت من مفرج الكروب، جـ 3، ص 230.
(4)
"العلي" في مفرج الكروب، جـ 3، ص 230.
(5)
ما بين الحاصرتين ساقط من الأصل، والمثبت من مفرج الكروب، جـ 3، ص 231.
وفي
(1)
المرآة: ومن العجائب أنه دخل يوم الجمعة رأس منكلي على خشبة وقد زينت بغداد وأظهر السرور والفرح فلما وصل الرأس إلى درب حبيب وافق في تلك الساعة [353] وفاة ابن الخليفة فرد الرأس ورمي في بيت في خان. وكوسات منكلي مشققة وأعلامه منكسة، وانقلب ذلك السرور حزنا وأمر الخليفة بالنياحة عليه في أقطار بغداد، ففرشوا البواري والرماد وخرجت العواتق من خدورهن ونشرن شعورهن ولطمن، وقام النوايح في كل ناحية وعظم حزن الخليفة بحيث أنه امتنع من الطعام والشراب وغلقت الأسواق، وعطلت الحمامات، وبطل البيع والشرى، وجرى في بغداد ما لم يجر في بلد آخر، وخلف الميت ولدين أبا عبد الله الحسين ولقبه المؤيد، ويحيى ولقبه الموفق.
ذكر بقية الحوادث
منها أنه شرع في هذه السنة بناء المدرسة العادلية الكبيرة بدمشق المقابلة لدار العقيقى من الغرب. وحضر السلطان لترتيب وضعها بين الصلاتين يوم السبت الرابع عشر من جمادى الآخرة، ثم احترقت في شهر رمضان سنة أربع عشرة وستمائة.
ومنها
(2)
أنه عزل القاضي الزكي بن محيي الدين بن الزكي وفوض الحكم إلى القاضي كمال الدين بن الجرستاني وهو ابن ثنتين وتسعين سنة، فحكم بالعدل وقضى بالحق ويقال: إنه كان يحكم بالمدرسة المجاهدة التي عند القواسين بدمشق.
ومنها
(3)
أن الملك العادل أبطل ضمان الخمر والقيان.
ومنها
(4)
أن الفرنج أغارت على بلاد الإسماعيلية فقتلوا ونهبوا وسبوا نحو ثلثمائة أسير.
ومنها
(5)
أن ملك الروم كيكاوس أخذ مدينة أنطاكية من أيدي الإفرنج ثم أخذها منه ابن لاون ملك الأرمن، ثم أخذها منه إبرنس طرابلس، وقال السبط
(6)
: أخذ ابن لاون أنطاكية من الإفرنج يوم الأحد الرابع والعشرين من شوال وكنت في ذلك اليوم قد جلست
(1)
انظر مرآة الزمان، جـ 8، ص 375.
(2)
الذيل على الروضين، ص 89.
(3)
الذيل على الروضين، ص 89.
(4)
الذيل على الروضين، ص 89.
(5)
الذيل على الروضين، ص 89.
(6)
مرآة الزمان، جـ 8، ص 374.
عند الملك الظاهر بحلب في دار العدل، فلما انقضى المجلس نزلت من المنبر فقام الظاهر والتقاني وأجلسني إلى جانبه، ودفع إلى بطاقة جاءته من حارم يخبره بذلك ثم عاد إبرنس طرابلس بعد ذلك أخذها من ابن لاون.
ومنها أن مسعود
(1)
الجوادي قدم رسولًا من الملك الأشرف إلى الخليفة فالتقاه الموكب، وكان معه نسر رماه الملك الأشرف للخليفة، وعلق النسر بباب البدرية
(2)
ونثروا عليه دنانير.
ومنها
(3)
أن رسول الخليفة وصل من بغداد إلى دمشق وهو الشيخ شهاب الدين السهروردي، ونزل بجوسق العادل في رمضان وسار إلى لحاق السلطان بالقدس وعاد راجلا إلى بغداد في خامس عشر شوال.
ومنها أن الكرج أغاروا على أذربيجان فحازوا ذخائرها وما يزيد على مائة ألف أسير كذا قاله أبو شامة
(4)
.
ومنها
(5)
أنه وصل الصلاح بن شعبان الإربلي من مصر مبشرا بفتوح اليمن واستيلاء ولد الكامل عليه وطاعة من به من العسكر له بغير حرب.
وفيها
…
…
…
…
…
…
…
…
…
…
…
.
(6)
وفيها حج بالناس من العراق ابن أبي الفراس
(7)
.
ذكر من توفي فيها من الأعيان
الحافظ عبد القادر
(8)
بن عبد الرحمن أبو محمد، المحدث الكبير المخرّج المفيد المحرر المتقن البارع المصنف المعيد، كان مولي لبعض المواصلة. وقيل لبعض
(1)
مرآة الزمان، جـ 8، ص 374.
(2)
انظر عقد الجمان، جـ 2، ص 47، حاشية 4.
(3)
الذيل على الروضتين، ص 89؛ نهاية الأرب، جـ 29، ص 70.
(4)
الذيل على الروضين، ص 89.
(5)
الذيل على الروضين، ص 89.
(6)
فراغ بمقدار سطر.
(7)
"فراس" في مرآة الزمان، جـ 8، ص 375.
(8)
البداية والنهاية، جـ 13، ص 75 - ص 76.
الحرانيين، اشتغل بدار الحديث بالموصل، ثم انتقل إلى حران، ثم رحل إلى بلاد شتي، وسمع الكثير من المشايخ شرقًا وغربًا وأقام بحران إلى أن توفي بها في هذه السنة، وكان مولده بالرها من سنة ست وثلاثين وخمسمائة وكان دينًا صالحا.
وقال أبو شامة
(1)
: كانت وفاته يوم السبت الثاني من جمادى الأخرى، سمع بمصر الحافظ السِلفي وببغداد ابن الخشاب وشهدة وبأصبهان أبا عبد الله الرسمتي [354] وغيرهم وكان صدوقا ورعًا.
الشيخ الفقيه كمال الدين
(2)
مودود بن الشاغوري الشافعي، كان فقيها صالحًا دينا خيرًا متواضعا زاهدا، وكان يقرئ الناس الفقه بالجامع قبالة مقصورة الخطابة احتسابًا، ويشرح التنبيه للطلبة ويطول روحه على تعليمهم، مات في العشرين من المحرم ودفن بمقابر باب الصغير شمالي الحظيرة التي فيها قبر معاوية وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم وكتب على حجر على قبره أبيات حسنة من نظم الشهاب فتيان الشاغوري:
كم ضم قبرك يا مودود من دين
…
ومن عفاف ومن بر ومن لين
ما كنت تقرب سلطانا لتخدمه
…
لكن غنيت بسلطان السلاطين
نبكي عليك وعنا أنت في شغل
…
برد تسليم حُور خردّ
(3)
عين
سقى الإله ضريحا أنت ساكنه
…
حتى تري منبتا خضر الرياحين
الوجيه
(4)
الأعمى أبو بكر المبارك بن أبي طالب المبارك بن أبي الأزهر سعيد بن الدهان، النحوى الواسطى الملقب بالوجيه. ولد بواسط وقدم بغداد فاشتغل بعلم العربية والنحو، فأتقن ذلك وحفظ شيئا كثيرًا من أشعار العرب وسمع الحديث وكان حنبليا، فانتقل إلى مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه ثم صار شافعيا وولى تدريس النحو بالنظامية، وفيه يقول الشاعر:
(1)
الذيل على الروضتين، ص 90.
(2)
الذيل على الروضتين، ص 90، البداية والنهاية، جـ 13، ص 77.
(3)
"فرد" كذا في الذيل على الروضتين، ص 90.
(4)
انظر ترجمته في مرآة الزمان، جـ 8، ص 375؛ الكامل جـ 10، ص 367، البداية والنهاية، جـ 13، ص 76، المختصر في أخبار البشر، جـ 3، ص 116، الذيل على الروضتين ص 90 - ص 91.
ألا
(1)
مبلغٌ عني الوجيه رسالة
…
وإن كان لا تجدى إليه الرسائل
تمذهبت للنعمان بعد ابن حنبل
…
وذلك لما أعوزتك المأكل
وما اخترت رأي الشافعي ديانة
…
ولكنما تهوى الذي هو حاصلُ
وعما قليل أنت لا شك صائرٌ
…
إلى مالك فافطن
(2)
لما أنا قايل
وكان يحفظ شيئا كثيرا من الحكايات والأمثال والملحُ، ويعرف العربية والتركية والعجمية والرومية والحبشية والزنجية، وكانت له يد طولى في نظم الشعر فمن ذلك قوله:
ولو وَقَعَتْ في لجة البحر قطرةُ
…
من المزن يومًا ثم شاء لمازها
ولو ملك الدنيا فأضحى ملوكها
…
عبيدًا له في الشرق والغرب مازها
الأول من الميز وهو البيان والتفرقة، والثاني بمعنى الزهو والعجب.
وله في التجنيس أيضا قوله:
أطلت ملامي في اجتنابي لمعشر
…
طعام لئام جودهم غير مرتجا
تري بابهم لا بارك الله فيهم
…
على طالب المعروف أن جاء مرتجا
حموا مالهم والدين والعرض منهم
…
مباح فما أيخشون من هجو من هجا
إذا شرع الأجواد في الجود منهجا
…
فهم شرعوا في البخل سبعين منهجًا
الأول من الرجا، والثاني من الأرتاج وهو الإغلاق، والثالث من الهجو، والرابع من النهج وهو الطريق. وله مدائح حسنة وأشعار رائقة ويبتكر معاني فائقة وربما عارض شعر البحتري بما يقاربه ويدانيه، قالوا: وكان لا يغضب قط. تراهن جماعة مع واحد إن أغضبه، فجاء إليه فسأله عن مسألة [في
(3)
] النحو
(4)
فأجابه فيها فقال له السائل: أخطأت [355] أيها الشيخ، فأعاد عليه الجواب بعبارة أخرى فقال له: أخطأت أيضًا.
(1)
"فمن" كذا في الذيل على الروضتين، ص 91؛ البداية والنهاية، جـ 13، ص 76.
(2)
"فانظر" كذا في البداية والنهاية، جـ 13، ص 76.
(3)
"من" كذا في الأصل والمثبت من البداية والنهاية، جـ 13، ص 76.
(4)
"العربية" كذا في البداية والنهاية، جـ 13، ص 76.
فأعاد ثالثة فقال: كذبت فكأنك قد نسيت النحو. فقال له الوجيه: فلعلك لم تفهم ما أقول لك. فقال: بلى ولكنك تخطئ. فقال له: فقل ما عندك لنستفيده منك. فأغلظ له السائل فقال الوجيه: إن كنت راهنت فقد غلبت إنما مثلك في هذا المثل البقة يعني الناموسة سقطت على الفيل فلما أرادت الطيران قالت له: استمسك فإني أريد أن أطير. فقال لها: ما أحسست [بك
(1)
] حين سقطت فما أحتاج أن أستمسك إذا طرت. ولد سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائه بواسط، وتوفي ليلة الأحد الثاني والعشرين من شعبان من هذه السنة ببغداد ودفن من الغد بالوردية
(2)
عند ابن فضلان ومن إنشاده:
لا خير في الخمر فمن شأنها
…
إفقادها العقل وجلب الجنون
وأن تُرِى الأقبح مستحسنا
…
وتظهر السر الخفى المصون
(1)
"بأنك" في الأصل. والمثبت من البداية والنهاية، جـ 13، ص 77.
(2)
"الوزيرية" في الذيل على الروضين، ص 91.
فصل فيما وقع من الحوادث في السنة الثالثة عشرة بعد الستمائة
(*)
استهلت هذه السنة والخليفة هو الناصر لدين الله وملوك البلاد. غير أن الملك الظاهر غازي توفي في هذه السنة.
ذكر وفاة الملك الظاهر
والكلام فيه على أنواع:
(الأول) في ترجمته:
هو السلطان الملك
(1)
الظاهر أبو الفتح وأبو منصور غياث الدين غازي ابن السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن نجم الدين أيوب صاحب حلب وكانت ولادته بالقاهرة في منتصف رمضان سنة ثمان وستين وخمسمائة، وهي السنة الثانية من استقلال أبيه بمملكة الديار المصرية، وأعطاه والده مملكة حلب في سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة بعد أن كانت لعمه الملك العادل فنزل عنها، وتعوض غيرها وكان عمره حين تولى حلب أربع عشرة سنة.
(الثاني) في سيرته:
كان ملكا مهيبا حازمًا متيقظًا كثير الإطلاع على أحوال رعيته وأخبار الملوك عالي الهمة، حسن التدبير والسياسة باسط العدل محبا للعلماء، مجيزا للشعراء. وقال السبط
(2)
: كانت دولته معمورة بالعلماء والفضلاء مزينة بالملوك والأمراء، وكان محسنا إلى الرعية وإلى الوافدين عليه وحضر معظم غزوات والده. ولما استقر العادل بدمشق ضم الظاهر إليه الأمراء الصلاحية، كميمون القصري والمبارزين يوسف بن خطلج الحلبي، وسنقر الحلبي، وسرا سنقر وأيبك فطيس وغيرهم، وكان في دولته من أرباب العمائم القاضي بهاء الدين بن شداد، والشريف الافتخاري، والشريف والنسابة، وبنو العجمى والقيسراني، وبنو الخشاب وغيرهم، وكان ملجأ للغرباء، وكهفًا للفقراء، يزور الصالحين ويعتقدهم ويغيث المهلوفين ويرفدهم، وكان يتوقد ذكاء وفطنة سريع الإدراك. قال ابن
(3)
خلكان: ويحكي عن سرعة إدراكه أشياء حسنة منها: أنه جلس يومًا لعرض
(*) يوافق أولها 20 إبريل سنة 1216 م.
(1)
انظر ترجمته في وفيات الأعيان، جـ 4، ص 6 - ص 10؛ البداية والنهاية، جـ 13، ص 77 - ص 78؛ مرآة الزمان، جـ 8، ص 379 - ص 380.
(2)
مرآة الزمان، جـ 8، ص 379، الذيل على الروضتين، ص 94.
(3)
وفيات الأعيان، جـ 4، ص 6.
العسكر وديوان الجيش بين يديه فكان كلها حضر واحد من الأجناد سأله الديوان عن اسمه ليزكوه
(1)
، حتى حضر واحد فسألوه فقبل الأرض فلم يفطن أحد من أرباب الديوان لما أراد فأعادوا سؤاله، فقال الملك الظاهر: اسمه غازي. وكان كذلك وتأدب الجندي أن يذكر اسمه [356] لما كان موافقا لاسم السلطان، وعرف هو مقصوده، وله من هذا الجنس شيء كثير. وكان فيه بطش كبير وإقدام على سفك الدماء ثم أقصر عن ذلك، وهو الذي جمع شمل البيت الصلاحي.
(الثالث) في تاريخ وفاته:
توفي بقلعة حلب ليلة الثلاثاء العشرين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة وستمائة. قال النويري
(2)
: وابتدأ به المرض في الخامس والعشرين من جمادى الأولى وتوفي في التاريخ المذكور. وفي المرأة
(3)
: مات بعلة الذرب ولما اشتد به المرض أحضر القضاة والأكابر وكتب نسخة يمين أن يكون المُلك بعده لولده الملك العزيز الصغير، ثم من بعده لولده الكبير الملك الصالح صلاح الدين أحمد بن غازي، وبعدهما لابن عمهما الملك المنصور عمر بن العزيز عثمان بن السلطان صلاح الدين يوسف. وحلف الأمراء والأكابر على ذلك.
وقال ابن كثير
(4)
: وكان للملك الظاهر أولاد كبار، ولكنه عهد إلى الملك العزيز هذا من بينهم؛ لأنه كان من بنت عمه الملك العادل، وأخواله الأشرف والمعظم والكامل وجده العادل لا ينازعونه، وهكذا وقع سواء بايع له جده العادل وخاله الأشرف صاحب حران والرها وخلاط، وهمّ المعظم بنقض ذلك فلم يتفق له، ولما كان الظاهر دفن بالقلعة، ثم عمر الطواشي طغريل الخادم الرومي الأبيض أتابك ولده الملك العزيز مدرسة تحت القلعة، وعمر فيها تربة، ونقله إليها. وقال المؤيد
(5)
: لما كانت صبيحة يوم السبت الخامس والعشرين من جمادى الأولى من هذه السنة ابتدئ بالملك الظاهر حُمي حادة،
(1)
"لينزلوه" كذا في وفيات الأعيان، ج 4، ص 6.
(2)
نهاية الأرب، ج 29، ص 75.
(3)
سبط ابن الجوزي، ج 8، ص 380.
(4)
البداية والنهاية، ج 13، ص 77 - ص 78.
(5)
المختصر في أخبار البشر، ج 3، ص 117.
ولما اشتد مرضه أحضر القضاة فذكر نحو ما ذكرناه، ثم قال: وجعل الحكم في الأموال والقلاع إلى شهاب الدين طغريل الخادم غدق به جميع أمور الدولة، وفي الثالث عشر من جمادى الآخرة أقطع الملك الظافر خضر [كفر سودا]
(1)
وأخرج من حلب في ليلته بالتوكيل، وأخرج علم الدين قيصر ملوك الظاهر إلى حارم نائبًا.
وفي خامس [عشر]
(2)
جمادى الآخرة اشتد به المرض ومُنع الناس من الدخول إليه، وتوفي في التاريخ المذكور، وكان عمره حين توفي أربعًا وأربعين سنة وشهورًا، وكانت مدة ملكه لحلب من حين وهبها له أبوه إحدى وثلاثين سنة.
(الرابع) فيما رثي به:
وقال ابن الحِلَّي يرثيه ويمدح ولديه الملك العزيز والملك الصالح أحمد صاحب عنيتاب بقصيدة طويلة، أولها هو قوله:
سل الخطب إن أصغى إلى من يخاطبه
…
بمن علقت أنيابه ومخالبه
نشدتك عاتبه على نائياته
…
وإن كان نبي السمع عمن يعاتبه
لى اللهُ كم أرمي بطرفي خلاله
…
إلى أفق مجد قد تهاوت كواكبه
فمالي أرى الشهباء قد حال صبحها
…
علىَّ دجي لا يستنير غياهبه
أحقًا حِمَى الغازي الغياث بن يوسف
…
أُبيح وعادت خابيات مواكبه
نعم كُوِّرت شمس المدائح وانطوت
…
أسماء العُلى والنجح ضاقت مذاهبه
فمن لليتامى يا غياث يغيثهم
…
إذا الغيث
(3)
لم ينفع صدى العام ساكبه [357]
فإن يك نور من شهابك قد خبي
…
فيا طالما جَلَّي دجى الليل ثاقبه
(4)
فقد لاح بالملك العزيز محمد
…
صباح هدى كنا زمانا نراقبه
فتى لم يفته من أبيه وجده
…
إياء وجَدٌّ غالبًا يغالبه
(1)
"كفر سورا" كذا في الأصل والمثبت من المختصر في أخبار البشر، جـ 3، ص 117، زبدة الحلب، جـ 3، ص 170؛ مفرج الكروب، ج 3، ص 240. ومن الجدير بالملاحظة أن كفر سوذ من أعمال حلب قرب بهسنا وتكتب أيضا "كفر سُوت" انظر معجم البلدان، ج 4، ص 288.
(2)
ما بين حاصرتين ساقط من الأصل والمثبت من المختصر، ج 3، ص 117، مفرج الكروب، ج 3، ص 240.
(3)
"ينقع" في وفيات الأعيان، ج 4، ص 8.
(4)
"ثاقب" كذا في الأصل والمثبت من وفيات الأعيان، ج 4، ص 9؛ مفرج الكروب، ج 3، ص 246.
ذكر تولية الملك العزيز
قد ذكرنا أن الملك الظاهر أوصى بمملكته من بعده لولده الملك العزيز محمد بن غازي وكان عمره لما قرر في المملكة سنتين وأشهُرا وكان عمر أخيه الملك الصالح أحمد اثنتي عشرة
(1)
سنة، ولقد ذكرنا أن الظاهر اختار هذا الصغير لأنه كان من صفية خاتون بنت الملك العادل، وأخواله، الأشرف والمعظم والكامل، ولما تمت المبايعة له صار مرجع الأمور كلها إلى شهاب الدين طغريل الخادم الرومي الأبيض، فدبر الأمور وأحسن السياسة وكان دينا عاقلا. وقال بيبرس
(2)
في تاريخه: توفي الظاهر بحلب وعهد بالملك بعده لولده محمد، وجعل تدبير دولته إلى مملوك له رومي اسمه طغرل، ولقب بشهاب الدين، فأحسن السيرة وأحسن تربية الطفل، واستقامت البلاد والعباد له، وملك بسياسته أماكن يتعذر على الظاهر ملكها، ومنها تل باشر، ولم يقدر الظاهر عليه، وحفظ مملكة حلب على ولد الظاهر بحسن تدبيره إلى أن كبر واستقل به. وقال أبو شامة
(3)
: وفوض الظاهر ولاية القلعة إلى خادم أبيض يعرف بالشهاب طغرل كان وصل إلى خدمته من بلاد الروم، وكان مشتهرا بالزهد فصار له عنده مكانة. وقال السبط
(4)
: وصل أبو العباس عبد السلام بن عصرون رسولا من حلب من الملك العزيز محمد إلى الخليفة، وسأل تقريره على ما كان عليه أبوه.
ذكر بقية الحوادث
في هذه السنة منها أن السبط
(5)
ذكر في المرآة أن الأشرف ابن العادل نزل من خلاط إلى حران في شعبان وسألني الجلوس بجامع حران وقال: إلى الآن ما دخلت حران. فضربت له حركاة في الجامع، وحضر يومًا مشهودًا، وجلس في الحركاة وجاء الفخر بن السميّة الخطيب فقعد عنده وكتبوا إلىَّ رقاعًا كثيرة فجمعتها وقلت: اتركوا هذه إلى يوم مجلس شيخكم يجيب عنها فهو يطول روحه عليكم، أما هذا اليوم فالوقت ما يحتمل. فأعجب الأشرف وانقضى المجلس. فقلت للأشرف: لابد لي في هذه السنة
(1)
"اثني عشر " في الأصل، والصحيح ما أثبتناه.
(2)
انظر نهاية الأرب، ج 29، ص 75.
(3)
الذيل على الروضتين، ص 94.
(4)
مرآة الزمان، ج 8، ص 376.
(5)
مرآة الزمان، ج 8، ص 376.
من شيئين: الحج على بغداد، والثانى الاعتكاف بالرقة. فقال مبارك: وخرجت من حران في آخر شعبان أريد الرقة وبينما أنا بين مكة والرقة وإذا بنجابين بينهم رجل عليه بغلطاق أحمر، فقلت لأصحابي: هذه شمائل الملك المعظم. فقالوا: المعظم في دمشق إش جابه إلى هاهنا. فلما قربوا منا إذا به المعظم وقد أعيت ناقته فنزل وتحدثنا وأكلنا شيئا كان معنا وأعطانا ناقته وأخذ فرسي وقال: أين أخي؟ فقلت: في الزراعة، وساق واجتمعا، وفاوضه في أمر حلب، وكان الأشرف قد حلف لشهاب الدين طغريل الخادم وأنه أتابك محمد العزيز ولد الظاهر، فشق على المعظم ولم يقل شيئا وجاء إلى الرقة وأنا معتكف بالخانكاة وحضرا عندي وسار المعظم إلى دمشق وجهزني الأشرف إلى الحج وعمل [لي]
(1)
سبيلا مثل سبيله، وتوجهت إلى بغداد. قال: ثم حجيت [358] وعدت من الحج على تبوك والعلي وجمعت بين زيارة النبي صلى الله عليه وسلم وبين زيارة الخليل عليه السلام في المحرم ولله
(2)
المنة. وفي الحديث: من زارني وزار إبراهيم
(3)
عليه السلام في عام واحد ضمنت له على الله الجنة. وإن لم يتفق على نقل هذا الحديث الثقات، والأعمال بالنيات.
وقال أبو
(4)
شامة: وكان المعظم سار من قرية العبادية
(5)
بالمرج إلى أخيه الأشرف على الهجن في البرية، واجتمع به على مسألة
(6)
بظاهر حران بعد أن كان ضلّ في سيره، ففاوضته في أمر حلب وذلك حين بلغه موت صاحبها ابن عمه الظاهر غازي بن صلاح الدين، وكان قد سبق من الأشرف الاتفاق مع القائم بأمرها، فرجع إلى العبادية بعد سبعة عشر يوما ولم يظهر للناس إلا أنه كان متصيدا.
ومنها
(7)
أنه أحضرت الأوتاد الخشب لأجل نسر قبة الجامع بدمشق، وعدتها أربعة أعواد، طول كل واحد منها اثنان وثلاثون. ذراعا بذراع البحار، كانت قطعت من الغوطة
(1)
ما بين حاصرتين ساقط من الأصل والمثبت من الذيل على الروضتين، ص 93؛ مرآة الزمان، ج 8، ص 376.
(2)
انظر مرآة الزمان، ج 8، ص 377.
(3)
"أبي إبراهيم" في مرآة الزمان، ج 8، ص 377.
(4)
الذيل على الروضتين، ص 92.
(5)
العبادية بالمرج: لم يذكر ياقوت سوى أنها قرية من قرى المرج.
(6)
"مسلة" كذا في الذيل على الروضتين، ص 92.
(7)
ورد هذا الخبر في الذيل على الروضتين، ص 92.
وأدخلت من باب الفرج إلى المدرسة العادلية إلى باب الناطفانيين. وأقيم هناك لها صواري ورفعت ثم وضعت.
ومنها
(1)
أن في المحرم شرع في تحرير خندق باب السر، وهو المقابل لدار الطعم العتيقة المجاورة لنهر بانياس، وكان المعظم ومماليكهـ وعسكره ينقلون التراب، كل واحد يأخذ قفة يجعلها على قربوس سرجه ويمضون جميعا مع المعظم نحو الميدان الأخضر يفرغون القفاف ويرجعون يفعلون ذلك كل يوم. ثم انقسموا فرقتين؛ فكان المعظم وعسكره ينقلون يوما، وكان أخوه الصالح إسماعيل مع من انضم إليه من العسكر ينقلون يوما، والناس في الخندق يعملون، وكثير منهم يتفرجون، وكان كل يوم عمل الخندق على طائفة من أهل البلد، وعمل فيه الفقهاء والصوفية، ولم يبق أحد ونظم في ذلك أشعار كان يغني بها في الأسواق وتحت القلعة.
ومنها
(2)
أنه وقعت فتنة عظيمة بين أهل الشاغور
(3)
وأهل العقيبة
(4)
واقتتلوا بالرحبة والصيارف، فركب الجيش مُلَبَّسين، وجاء السلطان المعظم بنفسه فحبس رؤسهم وسكتت الفتنة.
قال أبو شامة
(5)
: قبض على جماعة من مقدمي الحارات فيهم رئيس الشاغور، وأودعوا في السجن في السادس والعشرين من ربيع الأول.
ومنها
(6)
أنه امتنع تجار الفرنج من الوصول إلى الإسكندرية وصار وصولهم إلى عكا بالبضائع وبيعهم بها، فحصل لملك عكا جملة وافرة وبلغ ضمان قصبها مائة وعشرين ألف دينار. وكانت سنة قليلة الأمطار غالية الأسعار.
ومنها أنه رتب بالمصلي بدمشق خطيب مستقل، وأول من باشرها الصدر مُعيد الفلكية
(7)
، ثم خطب بعده بهاء الدين بن أبي البُسْر، ثم بنو حسان إلى الأن.
(1)
ورد هذا الخبر في الذيل على الروضتين، ص 92.
(2)
ورد هذا الخبر في الذيل على الروضتين، ص 92؛ البداية والنهاية، ج 13، ص 77؛ نهاية الأرب، ج 29، ص 71.
(3)
الشاغور: انظر ما سبق، ج 1، ص 149.
(4)
العقيبة: انظر ما سبق، ج 1، ص 149.
(5)
الذيل على الروضتين، ص 92.
(6)
الذيل على الروضتين، ص 93.
(7)
المدرسة الفلكية: داخل باب الفراديس أنشأها فلك الدين سليمان أخو الملك العادل سيف الدين أبي بكر. الدارس، جـ 1، ص 431 - 433.
وفيها ........................
(1)
وفيها
(2)
حج بالناس من العراق ابن أبي فراس، ومن الشام الفقيه علم الدين الجعبري.
ذكر من توفي فيها من الأعيان
العز
(3)
محمد بن الحافظ عبد الغني المقدسي؛ ولد سنة ست وستين وخمسمائة ورحل إلى بغداد وقرأ بها مسند أحمد رحمه الله. وكانت له حلقة بجامع دمشق، وكان من أصحاب الملك المعظم، وكان صالحا دينا، وتوفي في هذه السنة ودفن بقاسيون رحمه الله. [359]
أبو الفتوح
(4)
محمد بن علي بن المبارك بن الجلاجلى البغدادي التاجر،
ويلقب بالكمال. ولد سنة إحدى وأربعين وخمسمائة، وقرأ القرآن وسافر إلى الأقطار وسمع الشيوخ، وكان يتردد من الخليفة إلى الأشرف في رسائل خفيَّة، سمع ببغداد أبا السعادات المبارك بن على الوكيل، وابن النظر وغيرهما. وبالإسكندرية الحافظ أبا طاهر السلفي وغيرهم، وكان عاقلا دينا صالحا، ثقة صدوقا، بساما متواضعا، مات بالقدس في هذه السنة.
الشريف أبو جعفر يحيي بن محمد [بن محمد بن محمد]
(5)
بن محمد بن علي بن زيد العلوي الحسني نقيب الطالبيين بالبصرة يعد أبيه. كان شيخا أدبيا فاضلا، عالما بفنون كثيرة، لا سيما بالأنساب وأيام العرب وأشعارها، يحفظ كثيرا [منها]
(6)
، وكان من جلساء الخليفة الناصر.
ومن لطيف شعره قوله:
(1)
بياض بالأصل حوالي نصف سطر.
(2)
ورد هذا الخبر في الذيل على الروضتين، ص 93؛ مرآة الزمان، ج 8، ص 376.
(3)
انظر ترجمته في البداية والنهاية، ج 13، ص 81؛ الذيل على الروضتين، ص 99.
(4)
انظر ترجمته في الذيل على الروضتين، ص 99؛ البداية والنهاية، ج 13، ص 81 وقد ذكره ابن كثير "الخلاخلى".
(5)
في الأصل: "ابن يحيى". والمثبت من الذيل على الروضتين، ص 100؛ البداية والنهاية، ج 13، ص 81.
(6)
ما بين الحاصرتين مثبت من البداية والنهاية، ج 13، ص 81، وذلك لاستقامة المعنى.
ليهنكَ سمعٌ لا يلائمه العذلُ
…
وقلبٌ قسريحٌ لا يملُ ولا يسلو
كأنَّ علىَّ الحبَّ أمسى
(1)
فريضةً
…
فليس لقلبي غيرَهُ أبدًا شغلُ
وإني لأهوى الهجرَ ما كان أصلهُ
…
دلالا ولولا الهجرُ ما عذَبَ الوَصلُ
وأما إذا كان الصدودُ ملالةً
…
فأيسر ما همَّ الحبيب به القتلُ
وقال السبط في المرآة
(2)
: يحيى بن محمد بن محمد بن محمد بن محمد أربع مرات، أبو جعفر العلوي الحسني البصري، ويعرف بابن أبي زيد، ومولده سنة ثمان وأربعين وخمسمائة، وقدم بغداد ومدح الإمام الناصر بقصائد، وكان رقيق الشعر مليح النظم، وهو القائل:
هذا العقيق وهذا الجزعُ والبانُ
…
فاحبس فَلى فيه أوطارٌ وأوطان
آليتُ والحرّ لا يلوي أليته
…
أن لا يلذّ بطيب النوم أجفان
حتى تعود [ليالينا]
(3)
التي سلفت
…
بالأجر عين وجيراني كما كانوا
أيام أغصان وصلى غيرُ ذاوية
…
وروضها خَضِلٌ والعمرُ رَيْعانُ
يا حبذا شجر الجرعاء من شجر
…
وحبذا روضُه المخضل والبانُ
إذا النسيم سري مالت ذوائبه
…
كأنما الغصن الممطور سكرانُ
فللنسيم على الأغصان هينمة
…
وللحمام على الأفنان ألحانُ
وبارق لاح والظلماء دَاجِيَة
…
والنجمُ في الأفق الغربي حَيرانُ
كتمت حُبَك والأجفان تُظهرُه
…
وليس للحبّ عند العين كتمانُ
غادرت بالغدْر في الأحشاءِ نار جوي
…
ومذ هجرت ففيض العين غِدرانُ
وكانت وفاته ببغداد في رمضان، ودفن بمقابر قريش، وكان سمع الحديث من أبيه وغيره.
(1)
"أضحى" في البداية والنهاية، ج 13، ص 81.
(2)
مرآة الزمان، ج 8، ص 381.
(3)
"لياليه في الأصل. والمثبت من الذيل على الروضتين، ص 100؛ مرآة الزمان، ج 8، ص 381.
ـ
أبو
(1)
على مزيد بن على بن مزيد المعروف بابن الخشكري، الشاعر المشهور من أهل النعمانية، جمع لنفسه ديوانا، أورد له ابن الساعي قطعة من شعره. فمن ذلك قوله:
سألتكِ يومَ النوى نظرةً
…
فلم تسمحي خفر
(2)
لاسلم
وأعجبُ كيف تقولين لا
…
ووجهك قد خُطّ فيه نعم
أما النونٌ يا هذه حاجبٌ
…
أما العينُ عينٌ أما الميم فَم
أبو الفضل
(3)
، وسران
(4)
بن منصور [360] بن وسران الكردي المعروف بالمثقف
(5)
، ولد بإربل وخدم جنديا، وكان أديبا شاعرا ثم خدم الملك العادل، ومن شعره قوله:
سلا عنى الصوارم والرماحا
…
وخيلًا تسبق الهوج الرياحا
وأسدًا جيشها سمر العَوالي
(6)
…
إذا ما الأسد حاولت الكفاحا
فإني ثابتٌ عقلا ولبًا
…
إذا ماصائح في الحرب صاحا
وكم ليلٍ سهرت وبتُّ فيه
…
أراعي النجمَ أرتقب الصباحا
وكم من فدفد
(7)
فرسي ونضوي
(8)
…
بقائلة الهجير غدا وراحا
لعينك في العجاجة
(9)
ما ألاقي
…
وأثبت في الكريهة لا براحا
أبو نصر
(10)
النحاس محمد بن يحيى بن هبة الله، الواسطى الأديب بواسط كتب من واسط إلى ابن المظفر سبط ابن الجوزي رحمه الله.
(1)
انظر ترجمته في البداية والنهاية، ج 13، ص 81 - 82.
(2)
"فعز" في البداية والنهاية، ج 13، ص 82.
(3)
انظر ترجمته في البداية والنهاية، ج 13، ص 82.
(4)
"رشوان" في البداية والنهاية، ج 13، ص 82.
(5)
المثقف: تعني الرمح في عرف الشعراء، وهذا يتمشى من سياق النص، المنجد، مادة ثقف؛ أما في البداية والنهاية فقد وردت "بالنقف" ج 13، ص 82.
(6)
عوالي الرماح: أسنتها. واحدتها: عالية. لسان العرب، مادة "علا".
(7)
الفلفل: هي الأرض المرتقفة ذات الحصي.
(8)
نضوًا: أي التقدم.
(9)
العجاجة: الغبار والدخان.
(10)
انظر ترجمته في: البداية والنهاية ج 13، 82، والذيل على الروضتين، ص 99 - ص 100.
وقائلة لما عمرتُ وصار لي
…
ثمانون عاما عش كذا وابق واسلمِ
ودم وانتشق رُوح الحياة فإنه
…
بلا طب من بيت بصَعدة مظلم
فقلت لما عذرى لديك ممهد
…
ببيت زهير فاعلمي وتعلمي
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش
…
ثمانين حولا لا محالة يسأم
توفي في هذه السنة.
أبو الغنائم
(1)
سعيد بن حمزة بن أحمد ويقال له ابن ساروح، الكاتب النيلي العراقي ولد بالنيل
(2)
سنة ثماني عشرة وخمس مائه، وسمع شيوخ ذلك العصر، وسافر إلى الشام والروم ومدح الملوك والأمراء، وذكره العماد في الخريدة وقال: قدم دمشق ومدح أمراءها وعاد إلى بغداد فكبر، وأسنّ وانقطع في بيته إلى آخر عمره، وكان بارعا وله رسائل و مكاتبات وأشعار رائقة، وألفاظ فائقة شائقة.
فمن شعره:
يا شايم البرق من نجدي كاظمة
…
يبدو مرارًا وتخفيه الدياجير
إذا سقيت الحيا من كل معصرة
…
وعاد مغناك خصبا وهو ممطور
سلم على الدوحة الغناء من سلم
…
وعفِّر الخَدَّ إن لاح التعافير
أحن شوقا إلى تلك الرياض وقد
…
ضاهي بنفسجُها وردٌ ومنثور
ومالت السرو في خضر الثياب كما
…
تمايلن في الحرير الأخضر الحور
والغصن سكران من طللِ الندى
…
فإذا دعى ابن ورقاء أضحى وهو مخمور
وهاتفات على الأغصان قد رقدت
…
عنهن في غسق الداجي النواطيرُ
فظلن يسجعن حتى كدت من ولهي
…
أقضى ولكنما في العمر تأخير
لكن وجدي بترجيع الهُديل وما
…
غردن باق إلى أن يفتح الصور
وكانت وفاته ببغداد في رمضان من هذه السنة.
(1)
انظر مرآة الزمان، ج 8، ص 379؛ الذيل على الروضتين، ص 99.
(2)
النيل: بليدة في سواد الكوفة قرب حلة بني مزيد يخترقها خليج كبير يتخلّج من الفرات الكبير حفره الحجاج بن يوسف وسماه بنيل مصر. انظر معجم البلدان، ج 4، ص 861.
الشيخ
(1)
تاج الدين الكندي، زيد بن الحسن بن زيد بن الحسن بن سعيد بن عصمة بن حمير بن الحارث بن ذي رعين أبو اليمن، البغدادي المولد والمنشأ الدمشقي الدار، الشيخ الإمام العالم العلامة وحيد عصره ونسيج وحده.
ولد ببغداد ونشأ بها واشتغل وحصل ثم قدم دمشق ففاق أهل زمانه شرقا [361] وغربا في النحو والعربية وغير ذلك من فنون العلوم وعلو الإسناد، وحسن الطريقة والسيرة وصحة العقيدة والسريرة، انتفع به علماء عصره وخضعوا له وأثنوا عليه، وكان حنبليا ثم صار حنفيا، وكان مولده في اليوم الخامس والعشرين من شعبان سنة عشرين وخمسمائة، فقرأ القرآن بالروايات وله عشر سنين وسمع الحديث على الشيوخ الثقات وعنى بذلك وتعلم العربية واللغة واشتهر بذلك، ثم صار إلى الشام فسكن بدمشق بدرب العجم وحظي عند الملوك والوزراء والأمراء وتردد إليه العلماء والكبراء والملوك وأبناؤهم، وكان الأفضل ابن السلطان صلاح الدين وهو صاحب دمشق يتردد إليه وأخوه المحسن وكذلك المعظم في أيامه على ملك الشام، فنزل إليه إلى درب العجم فقرأ عليه في المفصل. وكان المعظم يعطى لمن حفظ المفصل ثلاثين دينارا جائزة، وكان يحضر مجلسه بدرب العجم جميع المصدرين بالجامع الشيخ علم الدين السنجاوي، ويحيى ابن معطي، والوجيه البُوني والفخر التركي وغيرهم. وكان القاضي الفاضل في أيامه يثني عليه. قال السخاوي: كان عنده من العلوم ما لا يوجد عند غيره. ومن العجيب أن سيبويه قد شرح عليه كتابه، وكان اسمه عمرو واسم الشيخ أبي اليمن زيد، فقلت في ذلك:
لم يكن في عهد عمرو مثله
…
وكذا الكندى في أخر عصره
وهما زيد وعمر وإنما
…
بني النحو على زيد وعمر
وأثنى عليه غير واحد من العلماء، منهم أبو المظفر سبط ابن الجوزي وقال
(2)
: قرأت عليه وكان حسن العقيدة ظريف الخلق لا يسأم الإنسان من مجالسته، وله النوادر العجيبة والخط المليح والشعر الرائق، وله ديوان كبير، وقال السبط في المرآة
(3)
: وفي هذه السنة
(1)
انظر الكامل، جـ 10، ص 370؛ الذيل على الروضتين، ص 95 - ص 99؛ البداية والنهاية، ج 13، ص 78 - ص 81؛ مرآة الزمان، جـ 8، ص 377؛ المختصر في أخبار البشر، جـ 3، ص 117.
(2)
انظر قول السبط في مرآة الزمان، جـ 8، ص 377.
(3)
مرآة الزمان، جـ 8، ص 377.
توفي شيخنا تاج الدين الكندي أبو اليمن البغدادي المولد والمنشأ الدمشقي الدار، قرأ القرآن بالروايات، وله عشر سنين على الشيخ أبي محمد عبد الله بن على سبط الشيخ أبي منصور الخياط وهو الذي رباه، وكان خصيصًا به وقرأ عليه كتاب المنهج والكامل تأليف أبي محمد، وكتاب الحجة في القراءات لأبي على الفارسي وقرأ على أبي محمد من كتب العربية كتاب سيبويه والمقتضب والإيضاح والتكملة، وقرأ العربية أيضا على أبي السعادات بن الشجري واللغة على أبي منصور بن الجواليقي، وسمع الحديث الكثير من شيوخ جدي وغيرهم، وفارق بغداد في سنة ثلاث وستين وخمسمائة وأقام بدمشق، واختص بعز الدين فرخشاه ابن أخي صلاح الدين وبولده الملك الأمجد صاحب بعلبك، وانتهت إليه القراءات والروايات وعلم النحو واللغات، وقرأت عليه من كتاب الصحاح للجوهري، وكان يحضر مجالسي بجامع دمشق وقاسيون ويقول: أنا قد صرت من زبون المجلس، ولما خرجت في سنة سبع وستمائة إلى الغزاة كتب إلى نابلس كتابًا بخطه، وكان يكتب مثل الدّر:
جزى الله بالحسنى ليالي أحسنت
…
إلينا بإيناس الحبيب المسافر
ليالي كانت بالسرور قصيرة
…
ولم تك لولا طيبها بالقصاير
[362]
فيا لك وصلا كان وشكُ
…
كزورة طيف أو كنعبة
(1)
طاير
قال وله ديوان شعر وحكى لي قال: كتبت إلى الملك الأمجد إلى بعلبك:
لا تضجرنكم كتبي إذا كثرت
…
فإن شوقي أضعاف الذي فيها
والله لو ملكت كفي مهادنة
…
من الليالي التي يخشى تعاديها
لما تصرم لي في غير داركم
…
عُمرٌ ولا متُّ إلا في نواحيها
عدُّوا احتمالكم لي حين أضجركم
…
من الصلات التي منكم أرجيها
قال: فكتب إلى بخطه وهي له:
إنا ليتحفنا بالشوق كتبكم
…
وإن بعدتم فإن الشوق يدنيها
وكيف تضجر منها وهي مذهبيةٌ
…
من وحشة الشوق لوعات نعانيها
(1)
نعبة: أي صوت الغراب وهو صوت ينذر بالبين على زعمهم. انظر المنجد مادة "نعب".
وإن ذكرتم لنا فيها اشتياقكم
…
فبعدنا منكم أضعاف ما فيها
سلوا نسيم الصبا يهدي تحيتنا
…
إليكم فهي تدري كيف تهديها
قال: وكان الملك المعظم عيسى رحمه الله يقرأ عليه دائما، قرأ عليه كتاب سيبويه نصا وشرحا، والإيضاح والحماسة وشيئا كثيرا، وكان يمشي من القلعة راجلا إلى دار تاج الدين الكندي والكتاب تحت إبطه، ثم توفي يوم الإثنين سادس شوال وأنا يومئذ متوجه إلى الحج على بغداد وصلى عليه بجامع دمشق، وحمل إلى قاسيون فدفن به ولم يتخلف عن جنازته أحد من الأعيان، وعمره ثلاث وتسعون سنة وشهر وستة عشر يوما، وكان صدوقا ثقة.
وقال ابن كثير: وكان قد وقف كتبًا نفيسة وهي سبع مائة وواحد وستون مجلدا، على معتقه نجيب الدين ياقوت، ثم على ولده من بعده، ثم على العلماء في الحديث والفقه واللغة وغير ذلك. وجعلت في خزانة كبيرة بمقصورة ابن سنان
(1)
المجاورة لمشهد علي زين العابدين رضي الله عنه. ثم إن هذه الكتب تفرقت وأبيع كثير منها ولم يبق بالخزانة المشار إليها إلا القليل، وهي مقصورة الخليفة، وكانت قديما يقال لها: مقصورة ابن سنان. وقد ترك الشيخ تاج الدين نعمة وافرة وأموالا جزيلة ومماليك متعددة من الترك. وقد كان رقيق الحاشية حسن الأخلاق يعامل الطلبة معاملة حسنة فلما كبر ترك القيام لهم وأنشأ اعتذارا:
تركت قيامى للصديق يزورني
…
ولا ذنب لي إلا الإطالة في عمري
فإن بلغوا من عشر تسعين نصفها
…
يبين في ترك القيام لهم عذري
(1)
"ابن سنان الحلبية" كذا في البداية والنهاية، جـ 13، ص 79؛ أما في الذيل على الروضتين، ص 98، ذكرها:"ابن سنان الحنفية".
فصل فيما وقع من الحوادث في السنة الرابعة عشرة بعد الستمائة
(*)
استهلت
(1)
هذه السنة والخليفة هو الناصر لدين الله والسلطان الملك العادل في الديار المصرية، وقد وقع في هذه السنة أمور عظيمة منها قضية السلطان علاء الدين خوارزم شاه، ومنها قضية الملك العادل بالفرنج، ومنها قضية جنكيزخان، فلنبين كل ذلك مفصلا بعون الله ولطفه.
ذكر قضية السلطان علاء الدين خوارزم شاه
محمد
(2)
بن تكش بن أرسلان بن أتسز بن محمد أنوشتكين صاحب خوارزم وغيرها [363] نحو خراسان وبلادها وغير ذلك من البلاد. قال أبو الفتح
(3)
المنشئ النَّسَائِيّ
(4)
: لما عظم شأن السلطان علاء الدين خوارزم شاه وفخم أمره، وتجلت له الدنيا في ملابسها وأشرقت شمس دولته من أكرم مطالعها، واشتملت جريدة ديوان الجيش على أربع مائة ألف فارس عزم على ما كان لبني سلجوق من الحكم والملك ببغداد، وكان المحرك له في ذلك أمور منها أنه أرسل إلى الخليفة فطلب منه أن يخطب له ببغداد فلم يجب الخليفة إلى ذلك. وكان الرسول في ذلك القاضي مجير الدين عمر بن سعد الخور ازمي، وكان عند السلطان من ذوي الاختصاص التام. قال أبو الفتح: وكان السلطان أرسله مرارا إلى الخليفة فلم يعد بجواب تام.
ومنها أنهم استهانوا بسبيله الذي أمر به في سبيل مكة، حتى قدموا سبيل صاحب الإسماعيلية جلال الدين على سبيل السلطان، فانتكي منه نكاية شديدة.
ومنها أن الإسماعيلية قتلوا أغلمش الأتابكي، وقد كان نائب السلطان بالعراق، قال أبو الفتح: وكان أغلمش ركب يلتقي الحاج منصرفهم من بيت الله الحرام، فقفزوا عليه في زي الحاج وقتلوه، وانقطعت خطبة السلطان من تلك البلاد فحركه ذلك لإعادة
(*) يوافق أولها 10 إبريل سنة 1217 م.
(1)
مفرج الكروب، جـ 3، ص 254؛ المختصر في أخبار البشر، جـ 3، ص 117.
(2)
الكامل، جـ 10، ص 371 - 373؛ الذيل على الروضتين، ص 100 - ص 101؛ البداية والنهاية، جـ 13، ص 83.
(3)
أبو الفتح المنشئ النَّسَائِيّ: هو محمد بن أحمد النسوي، صاحب كتاب وقائع التتار مع علاء الدين محمد خوارزم شاه. المعرفة المزيد انظر الذيل على الروضتين، ص 101.
(4)
الكامل، جـ 10، ص 371؛ الذيل على الروضتين، ص 100، 101؛ البداية والنهاية، جـ 13، ص 83.
الخطبة، ولما قتل أغلمش طمع الأتابك أزبك بن محمد صاحب أران
(1)
وأذربيجان والأتابك سعد بن زنكي صاحب فارس في بلاده لبعد السلطان عنهم وانشغاله بحرب الترك فرحل أزبك إلى العراق، فدخل أصبهان على مواطأة من أهلها، وجاء سعد إلى الرى فملكها وملك معها قزوين، وسمنان
(2)
وخوار
(3)
، وما يتاخمها وتطايرت الأخبار بها إلى السلطان علاء الدين وهو بسمرقند، فحركته همته واختار من عسكره مائة ألف فارس وترك معظم عسكره مع أكابر أمرائه وذوى الصيت من كبرائه ببلاد ما وراء النهر وثغور الترك، فلما وصل إلى قومس
(4)
اختار من المستصحبين اختيارا ثانيا في اثني عشر ألف فارس، وخلى ثمانية وثمانين ألفًا في قومس ورحل إلى جبل بُزرك مخفا مستعجلا، وهو كورة من كور الري محدثة، وسعد بن زنكي بظاهرها فلما رأى سعد أوائل الجيش مشرفة عليه ظن أنهم من الأزبكية المنازعين في ملك العراق، ركب بنفسه وعسكره، وصدق القتال وتوالت عليهم الحملات، فحين شاهد السلطان علاء الدين خوارزم شاه الجد أمر بنشر الجتر
(5)
والأعلام السلطانية، فعند ذلك تحقق سعد أنه السلطان فنزل وقبل الأرض فأخذه بعض من وصل إليه فكتفه وأحضره بين يدي السلطان، فأمر بالاحتياط عليه إلى أن يرى فيه رأيه فبقى مكتوفا وعلى البغل محمولا إلى أن وصل السلطان إلى همذان، وقضى فيها وطره، وكل يوم يلعب السلطان بالأكره بميدان همدان، فيحضرون سعدا ويقيمونه هناك إذلالًا به ومعه ملك يقال له نصرة الدين محمد بن بشتكين والصدر رتبة الدين أبو القاسم بن علي وزير أزبك بن البهلوان، وكان أسر أيضًا فلم يزل هؤلاء في الوثاق بذلة وإهانة إلى أن مَنّ السلطان عليهم وأطلقهم. ولما سمع أزبك بن البهلوان [364] المذكور وهو بأصفهان ما حل بسعد بن زنكي أخذ به القيام والقعود وركب مسرعا وسار إلى أن قارب همدان معتقدًا أن السلطان مقيم بالرى فأخبر أن السلطان في همذان فسقط
(1)
انظر جـ 2، ص 54، حاشية 6.
(2)
انظر جـ 1، ص 267، حاشية 9.
(3)
خوار: مدينة كبيرة من أعمال الرى. انظر معجم البلدان، جـ 2، ص 479.
(4)
قومس: كورة كبيرة، تشمل على مدن وقرى ومزارع وهي في ذيل جبال طبرستان وهي بين الري ونيسابور. معجم البلدان، ج 4، ص 203.
(5)
الجتر: هي المظلة، وهي قبة من حرير أصفر مزركش بالذهب على أعلاها طائر من فضة مطلية بالذهب، تحمل على رأسه في العيدين.
صبح الأعشى، ج 4، ص 7، 8.
قلبه، فاستشار أصحابه فأشار بعضهم بالعود إلى أصفهان وبعضهم بالعود إلى أذربيجان مخفّين تاركين الأثقال وبعضهم أشار بالتحصين في قلعة قزوين وكانت قريبة، فقال أخاف من الحصار واتفقوا على أن يَروح معظم جيشه مع نصرة الدين محمد بن بشتكين. وكان قد حضر إليه بعد خلاصه من الأسر إلى صوب تبريز، ويروح أزبك مع مانتي فارس من خواصه في طريق آخر قريبة إلى تبريز ولكنه مسالك وعرة فأرسل أزبك وزيره وهو أيضا حضر إليه بعد خلاصه من أسر السلطان علاء الدين كما قد ذكرناه إلى السلطان يعتذر عما صدر منه فلما ساروا على هذا الوجه وقع بالوزير المذكور الأمير دكجك السلحدار في نواحي مازندران ليلًا فتبعه إلى موضع يقال له ميانج، وهي كورة من كور أذربيجان على حافة النهر الأبيض، ثم أسره وأسر من معه، وكان السلطان في همدان كما ذكرنا ولم يزل الوزير في أسر السلطان إلى أن رجع نصير الدين دولت يار من عند أزبك، وكان يتولى منصب الطغرا
(1)
للسلطان وهو من المناصب الجليلة عندهم ولكنه دون كتابة الإنشاء، وكان السلطان أرسله إلى أزبك وأمره بإقامة الخطبة باسمه في سائر مملكته، وأن يحمل كل سنة إلى الخزانة السلطانية مالا معينًا عيّنه السلطان وأن تكون السكة باسم السلطان، وأجاب أزبك إلى ذلك وخطب السلطان على منابر أرّان وأذربيجان إلى ما يلي دربند الشروان، ونصير الدين المذكور حاضر ثم أرسل إلى السلطان هدايا وتحفًا وسلم قلعة قزوين إليه خدمة، واعتذر في أمر حمل المال بأن الكرج استضعفوا جانبه واستولوا على أطراف بلاده ولا يحصِّل من بلاده إلا ما يقوم بحاله بعد جهد عظيم، فصدّقه السلطان على ذلك وعفى عنه المال ثم وجه السلطان رسولا إلى الكرج وحذرهم من الغارة على بلاد أزبك ومن التعرض إليه بالكلية، فإن بلاده صارت من جملة مماليك السلطان، وعاد رسول السلطان من عند الكرج ومعه رسولهم بتقادم من طرائف تلك البلاد، وبالسمع والطاعة ولكن الرسول ما أدرك السلطان إلا بعد عبوره نهر جيحون
(2)
.
وأما سعد بن زنكي صاحب فارس فإنه لما أسره السلطان كما ذكرنا انتصب مكانه ابنه نصرة الدين أبو بكر بالبذل فاستمال قلوب الأمراء بالبذل والإحسان فأذعنوا له
(1)
الطغرا: ذكر الدكتور حسن الباشا أن الطغري عبارة عن وصل كان يوضع في عصر المماليك البحرية في مناشير الاقطاعات بين وصل الطرة والبسملة وترد فيه ألقاب السلطان. انظر الألقاب السلطانية، ص 33.
(2)
نهر جيحون: نهر جيحون بقع في إقليم خوراسان ويص هذا النهر في بحر آرال (قديما بحيرة خوارزم) والبلاد الواقعة بين هذا النهر ونهر سيحون يطلق عليها بلاد ما وراء النهر. انظر بلدان الخلافة الشرقية، ص 21 - ص 22.
بالطاعة ولما أطلقه السلطان كما ذكرنا بعد أن تسلم منه قلعة
(1)
أصطخر وأسكبناد وهما على شواهق الجبال وسلمها إلى المؤيد الحاجب، وبعد أن شرط عليه أن تحمل كل سنة إلى الخزانة السلطانية من بلاده ثلث الخراج عاد بالخلع والتشريفات. ولما وصل إلى كرسي ملكهـ وهي مدينة شيراز امتنع عليه ابنه أبو بكر المذكور إلى أن فتح الباب على غفلة منه حسام الدين تكين باش، وكان أكبر مماليك سعد المذكور [365] ومقدم دولته ولم يرع أبو بكر إلا دخول أبيه عليه، وكان بيده سيف مجرد فضرب به وجه أبيه ضربة أثرت فيه، وحجز بينهما الذين كانوا حاضرين، فأمر سعد بالقبض على ابنه، وأودع بالسجن مدة إلى أن رضي عنه، وعظم حال حسام الدين عنده إلى أن توفي سعد وقام ابنه أبو بكر المذكور مقامه فخاف حسام الدين وهرب تحت الليل، وخلّى أمواله وأثقاله مما لا تحمله الظهور وجاء إلى خدمة جلال الدين، فأعطاه جلال الدين خلخال
(2)
بقلاعها وأعمالها فأقام بها إلى أن قتل بعد خروج التتار في سنة ثمان
(3)
وعشرين وستمائة ثم إن السلطان خوارزم شاه بعد ما ذكرنا من الأمور سار إلى ساوة
(4)
فملكها وأقطعها لعماد الملك الساوي، عارض جيشه وهو من أهلها ثم سار إلى قزوين و زنجان
(5)
وأبهر فملكها بغير ممانع ولا مدافع، ثم سار إلى همدان فملكها وأقطع بلادها لأصحابه وملك أصفهان وقم
(6)
وقاشان
(7)
واستوعب ملك جميع تلك البلاد، ثم إنه أرسل إلى الخليفة يطلب أن يخطب له ببغداد فلم تقع الإجابة إلى ذلك فعزم على المسير إلى بغداد فقدم بين يديه أميرا كبيرا في خمسة آلاف فارس وأقطعه حلوان
(8)
فسار حتى وصل إليها، فلما سار عن
(1)
قلعة أصطخر: من أهم الحصون في بلاد فارس. انظر معجم البلدان، جـ 1، ص 299.
(2)
خلخال: مدينة وولاية في طوف أذربيجان بها قلاع حصينة. انظر، معجم البلدان، جـ 2، ص 459.
(3)
"ثمانية" في الأصل، والصحيح ما أثبتناه.
(4)
ساوة: مدينة ساوة في منتصف المسافة بين همذان والرى على طريق القوافل التي تقطع بلاد فارس. انظر، معجم البلدان، جـ 3، ص 24؛ بلدان الخلافة، ص 246 - ص 247.
(5)
أپهر وزنجان: مدينتان يقترن ذكرهما معًا في الغالب على الطريق غرب قزوين وقد اشتهرتا منذ قديم الزمان. انظر بلدان الخلافة، ص 256 - ص 257.
(6)
"قم" مدينة تذكر مع قاشان وهي مدينة مستحدثة إسلامية تقع في إقليم الجمال وبها مشهد فاطمة أخت على الرضا الإمام السادس الذي عاش في أيام هارون الرشيد. معجم البلدان، ج 4، ص 175؛ بلدان الخلافة الشرفية، ص 245.
(7)
قاشان: تقع في إقليم الجبال وبين قم وقاشان اثنا عشر فرسخا. انظر معجم البلدان، ج 4، ص 15؛ وبلدان الخلافة، ص 244.
(8)
حلوان: مدينة كبيرة عامرة، ليس بأرض العراق بعد الكوفة والبصرة وواسط بغداد وسر من رأى أكبر منها وهي بقرب الجبل وليس للعراق مدينة بقرب الجبل غيرها انظر، معجم البلدان، جـ 2، ص 317.
همذان يومين أو ثلاثة سقط عليهم من الثلج ما لم يسمع بمثله حتى عطّب الخراكي
(1)
والخيام واستمر وقوع الثلج ثلاثة أيام بلياليها، فهلكت دوابهم وتلفت أيدى الرجال وأرجلهم وطمع فيهم الأكراد فتخطفوهم، فلم يرجع منهم إلى خوارزم شاه إلا اليسير فتطير من ذلك الطريق وعزم على العود إلى خراسان خوفا من التتار لأنه ظن أنه يقضى حاجته في المدة اليسيرة فخاب ظنه، ورأى البيكار بين يديه طويلا فعزم على العود فولي همذان أميرا من أقاربه من جهة والده تكش يسمى طايْسين، وجعل في البلاد جميعها ابنه زكي الدين غور صانجتي، وجعل معه عماد الملك الساوي متوليًا لأمر دولته، وكان عظيم القدر عنده، وعاد خوارزم شاه إلى خراسان ووصل إلى مرو، وسار إلى ما وراء النهر، ولما قدم نيسابور جلس يوم الجمعة عند المنبر وأمر الخطيب بترك الخطبة للخليفة الناصر وقال: إنه قد مات. وقطع خطبته من مرو وبلخ وبخاري وسرخس وبقي خوارزم وسمرقند وهراة لم تقطع الخطبة منها، لا عن قصد لتركها إلا أن هذه البلاد كانت لا تعارض في أشباه هذا إن أحبوا خطبوا وإن أرادوا قطعوا.
وأما خوارزم شاه فإنه لما عزم على قصد العراق وأظهر للخليفة الناصر ما أظهر من الشقاق وصل إليه من عنده الشيخ شهاب الدين السهروردي رسولا فوعظه وحذره البغي على هذا البيت وكان قد ضرب نوبة ذي القرنين تعاظما، وكان من قبل تضرب له النوب الخمس في أوقات الصلوات الخمس، ففوضها لأولاده يضربونها في الأقاليم التي سماها لهم على أبواب دور السلطنة التي لكل منهم، وكان قد قسم [366] المماليك لأولاده فعين خوارزم و خراسان وما زندران لولده قطب الدين أبي المظفر أزلاغ شاه وجعله ولي عهده وسبب تخصيصه بولاية العهد دون أخوته وهو أصغرهما أتباع خوارزم شاه رأي والدته تركان خاتون. وعين غزنه وباميان والغور ونكبايا
(2)
، وزمندور
(3)
، وما يليها من الهند إلى جلال الدين منكبرى، ولم ير انفصاله عنه فاستناب عنه بها كرز ملك، وعين
(1)
الخراكي: جمع خركاة، وهو لفظ فارسي معناه الخيمة الكبيرة، كان يستعملها الملوك والأمراء في الأسفار. وقد ذكر القلقشندي في صبح الأعشى، جـ 2، ص 138 وصفًا للخركاة نصه:"الخركاة بيت من خشب مصنوع على هيئة مخصوصة، ويغشى بالجرح ونحوه، تحمل في السفر لتكون في الخيمة للمبيته في الشتاء لوقاية البرد".
انظر أيضا: السلوك، جـ 2 ق 1، ص 207، حاشية (4).
(2)
وردت في معجم البلدان "بكراباذ" وهي مدينة كبيرة بإقليم سجستان، وقد أشار إليها الأصطخري وابن حوقل باسم "تكي ناباد"، انظر معجم البلدان، جـ 1، ص 705؛ بلدان الخلافة، ص 386.
(3)
زمنداور: ولاية واسعة بين سجستان والغور، وهي المسمى بالداور. انظر، معجم البلدان، جـ 2، ص 946. وقد وردت في خريطة سجستان الملحقة بكتاب بلدان الخلافة الشرقية، ص 372، "زمين داور".
كرمان وكيش ومكران لولده غياث الدين تترشاه، وسلم مُلك العراق إلى ولده ركن الدين أبي الحارث غورصانجتي، وكان أحسن أولاده خلقًا وخُلقا وحظا، وكانت نوبة ذي القرنين تضرب له وقتي طلوع الشمس وغروبها، وكانت دَبادبها وآلاتها ذهبا، وأول يوم ضربها اختير لها سبعة وعشرون ملكا من أكابر الملوك وأولاد السلاطين، منهم ابن طغرل بك السلجوقي، وابن غياث الدين بن سام الغورى، وعلاء الدين صاحب باميان، وتاج الدين صاحب بلخ، وولده الأعظم صاحب ترمذ
(1)
، والملك سنجر صاحب بخاري وأمثالهم، وأعوزه اثنان لتمام العدة، فكمّلهم بابن أخيه أربوزخان والوزير نظام الملك.
وقال أبو الفتح المنشئ: استعمل السلطان خوارزم شاه لنوبة ذي القرنين التي تضرب سبع
(2)
وعشرين دبدبة من الذهب، قد رصعت بأنواع الجواهر. وقال أبو الفتح: ومن جملة ما فعل خوارزم شاه بعد وصوله إلى ما وراء النهر أنه سير الملك تاج الدين ملكا خان صاحب أترار
(3)
إلى مدينة نسا
(4)
، ليقيم بها، وملكا خان هو أول من مال من الخطائية إليه، وكان ذا جمال، وقد قصد بتسييره إلى نسا دون سائر البلاد حتى يهلك فيها؛ لأنها وخيمة شديدة الأمراض ولم تزل الأنفس بها شاكية ولم يعش الترك بها إلا أدنى مدة في أنكد عيش، فأقام المذكور بها سنة أو أكثر مصابرًا للدهر على تصاريفه وأحسن إلى كل من ورد عليه، وأحبه أهل البلاد ومع هذا وافقه هواء نسا وماؤها خرقًا للعادة حتى ازداد حسنا بها. ولما بلغ ذلك خوارزم شاه وعلم أنه لم يبلغ غرضه سير إليه من خز رأسه.
وقال أبو الفتح: أخبره من حضر ذلك قال: كنا جلوسا عند ظهر الدين مسعود الشاشي وزير السلطان خوارزم شاه بنسا إذا أتاه آت وأخبره بأن جهان بهلوان قد نزل بدار السلطنة وكان أحد الطشتدارية
(5)
عند السلطان ورفع قدره وأعطاه أمره، وعينه لحزّ
(1)
ترمذ: مدينة مشهورة من أمهات المدن التي تقع على نهر جيحون من جانبه الشرقي، انظر معجم البلدان، ج 1، ص 843.
(2)
"سبعة" في الأصل، والصحيح ما أثبتناه.
(3)
أنزار، وتكتب أُطْرار وهي مدينة حصينة وولاية واسعة في أول حدود الترك بما وراء النهر على نهر سيحون قرب فاراب. انظر معجم البلدان جـ 1، ص 310.
(4)
نسا: مدينة بخراسان بينها وبين سرخس يومان، وبينها وبين مرو خمسة أيام. انظر معجم البلدان، ج 4، ص 776.
(5)
انظر صبح الأعشى، ج 4، ص 10، ص 11؛ وانظر ما سبق جـ 1، ص 126.
الرؤوس، ولما نزل طلب ظهير الدين والأعيان فركب إليه ظهير الدين فناوله جهان بهلوان توقيعا فلما قرأه أرسلوا وراء تاج الدين ملكا خان، وقيل له: قد ورد من الأبواب السلطانية توقيع يحتاج فيه إلى حضورك، فحضر في طائفة من خواصة فأدخل إلى بعض المخازن فإذا ببعض الزنود قد خرج ورأس تاج الدين بيده فوضعه جهان بهلوان في مخلاة ورجع للوقت وحمل إلى خزانة السلطان من خزائنه جواهر لم يسمع بمثلها قال [367] أبو الفتح: ومن جملة ما فعل السلطان أنه سير إلى خوارزم برهان الدين محمد البخاري المعروف بصدر جهان رئيس الحنفية ببخاري وخطيبها، وكان عظيم الشأن يعيش تحت كنفه وإدرارات سلفه ما يقارب ستة آلاف فقيه، وكان كريما عالي الهمّة فأقام بخوارزم ممنوعًا من الإصدار والإيراد إلى أن تقاضاه الزمان بدينه فجرعه كأس حتفه، فقتل عند أحفال تركأن خاتون وأقام السلطان مقامه ببخاري في رئاسة الحنفية مجد الدين مسعود ابن صالح الفراوي أخا نظام الملك. ومن جملة ما فعل السلطان أنه سير شيوخ الإسلام بسمرقند إلى البلاد وهم: جلال الدين وابنه شمس الدين وأخوه أوحد الدين وكانوا سادات تلك البقاع، وكان أوحد الدين آية في علم الجدل يناظر العميدي، مات بنسا وانتقل جلال الدين إلى دِهِسْتان
(1)
. وقال بيبرس في تاريخه: ولما عاد خوارزم شاه من العراق ووصل نيسابور ورد الخبر بموت مؤيد الملك قوام الدين والي كرمان فأضافها إلى غياث الدين تترشاه ابنه على ما فوضه إليه.
وقال أبو الفتح: وكان مؤيد الملك من جملة الرعاع فرفعه السلطان وساعده الزمان حتى بلغ إلى رتبة الملوك، وكان مبدأ أمره أنه كان ابن داية نصرة الدين محمد بن أنز صاحب زوزن فاختاره رسولا إلى الأبواب السلطانية في مهماته، فنصحه في الرسالة عدة مرات ثم سولت له نفسه تقبيح حال مرسله طمعا فيما كان يتولاء فقال للسلطان: إن الذي أرسلني فاسد العقيدة له باطن مع الباطنية. ولما رجع إلى مرسله قال له: إن السلطان يعتقد فيك أنك باطني وإني لأخشى عليك منه فخاف وانقطع إلى الإسماعيلية ببعض قلاعه المتاخمة لزوزن، ثم كتب قوام الدين المذكور إلى السلطان بصُورة الحال فأرسل السلطان إليه بأن يكون وزيرا في زوزن، ويجبي أموالها إلى الخزانة السلطانية،
(1)
دِهستان: بلد مشهور في طرف مازندران قرب خوارزم وجرجان. انظر معجم البلدان، جـ 2، ص 633.
ففعل واستمر الأمر على ذلك ثم طمع في مغالبة صاحب كرمان، وانتزاع الملك من يده، وكان من بقية الملك دينار
(1)
، فكاتب السلطان في ذلك وأطمعه في ملكها واستنجد بمن تجاوز زوزن من عساكر خراسان، فاستنجد بعز الدين جلدك وطائفة أخرى فاستولى علي كرمان في أقرب مدة وحمل إلى السلطان ما وجد لهم بها. فأعجب السلطان ذلك ولقبه بمؤيد الملك، وأجراها في إقطاعه، ولما رجع السلطان من العراق وقد تفانت جماله قدم مؤيد الملك إلى السلطان أربعة آلاف من النجاتي ومن الذهب سبعين حملا.
وفي المرآة
(2)
: وفي سنة أربع عشرة وستمائة قدم السلطان خوارزم شاه محمد بن تكش إلى همدان على قصد بغداد في أربع مائة ألف، وقيل: ستمائة ألف، واستعد له الخليفة وفرق الأموال وأرسل إليه الشيخ شهاب الدين السهروردي في رسالة فأهانه واستدعاه وأوقفه إلى جانب تخته ولم يأذن له في القعود. فحكى الشهاب قال: استدعاني فأتيت إلى خيمة عظيمة لها دهليز لم أر في الدنيا مثله والدهليز والشقة أطلس والأطناب حرير، وفي الدهليز ملوك العجم على اختلاف طبقاتهم: صاحب همذان وأصفهان والري [368] وغيرها، فدخلنا إلى خيمة أخرى أبرسم وفي دهليزها ملوك خراسان ومرو ونيسابور وبلخ وغيرهم، ثم دخلنا خيمة أخرى وملوك ما وراء النهر في دهليزها كذلك ثلاث خيام، ثم دخلنا عليه وهو في خركاة عظيمة من ذهب وعليها سجاف مرصع بالجواهر وهو صبي له شعرات قاعد على تخت ساذج وعليه قباء بخاري يساوي خمسة دراهم وعلى رأسه قطعة من جلد تساوي درهما، فسلمت عليه فلم يرد ولا أمرني بالجلوس، فشرعت خطبت خطبة بليغة ذكرت فيها فضل بني العباس ووصفت الخليفة بالزهد والورع والتقى والدين والترجمان يعيد عليه قولي، فلما فرغت قال للترجمان: قل له هذا الذي تصفه ما هو في بغداد بلي أنا آجي وأقيم خليفة يكون بهذه الأوصاف. ثم ردّنا بغير جواب ونزل الثلج عليهم فهلكت دوابهم، وركب خوارزم شاه يوما فعثر به فرسه فتطير ووقع الفساد في عسكره وقلّت الميرة وكان معه سبعون ألفا من الخطأ فرده الله ونكب تلك النكبة العظيمة، وسنذكرها إن شاء الله تعالى.
(1)
دينار: بلدة بالري. انظر معجم البلدان، جـ 2، ص 713.
(2)
انظر مرآة الزمان، جـ 8، ص 382: الذيل على الروضتين، ص 100 - 101؛ البداية والنهاية، جـ 13، ص 83.
ذكر قضية الملك العادل مع الفرنج
وفي هذه السنة
(1)
انفسخت الهدنة بين المسلمين والفرنج، وجاء الملك العادل من مصر بالعساكر فنزل على بيسان والمعظم عنده في العساكر الشامية، وخرج الفرنج من عكا ومقدمهم الملك الهنكر فنزلوا عين الجالوت في خمسة عشر ألفا، وكان شجاعا مقداما، ومعه جميع ملوك الساحل، فلما أضحوا ركب الهنكر في أوائلهم وقصد العادل، وكان العادل على تل بيسان فنظر فرأى أنه لا قبل له بهم فتأخر. وقال له المعظم: إلى أين؟ فشتمه بالعجمية وقال: بمن أقاتل؟ أقطعت الشام مماليكك وتركت أولاد الناس الذين يرجعون إلى الأصول. وذكر كلامًا في هذا المعنى، وساق فعبر الشريعة
(2)
عند برقاء
(3)
وجاء الهنكر إلى بيسان وبها الأسواق والغلال والمواشي شيء لا يعلمه إلا الله فأخذ الجميع. وارتفع العادل إلى عجلون ومضى المعظم فنزل بين نابلس والقدس على عقبة اللين
(4)
خوفا على القدس، وأقام الفرنج على بيسان ثلاثة أيام ورحلوا طالبين قصر ابن معين الدين، وسار العادل فنزل رأس الماء وصعد الفرنج عقبة
(5)
الكرسي إلى خربة اللصوص، والجولان، وأقاموا ثلاثة أيام ينهبون ويقتلون ويأسرون ثم عادوا ونزلوا الغور، وبعث العادل أثقاله إلى بصري ونسائه وأقام على رأس الماء جريدة، ولما نزل الفرنج الغور جاء العادل فنزل عالقين
(6)
ثم تزل الفرنج تحت الطور يوم الأربعاء الثامن والعشرين
(7)
من شعبان وأقاموا إلى يوم الأحد ثاني رمضان، وكان يوما كثير الضباب فما أحس بهم أهل الطور إلا وهم عند الباب قد ألصقوا رماحهم بالسور، ففتح المسلمون الباب وأخرج إليهم ألف فارس والراجل وقاتلوهم حتى رموهم أسفل الطور.
(1)
الذيل على الروضتين، ص 102 - 103؛ مرآة الزمان، جـ 8، ص 382 - 383؛ البداية والنهاية، جـ 13، ص 83 - 84.
(2)
الشريعة: هو نهر الأردن، ويقال له نهر الشريعة. انظر:
أبو الفدا: تقويم البلدان، ص 39.
(3)
برقاء: كل موضع فيه حجارة مختلفة الألوان.
تقويم البلدان، ص 127.
(4)
اللين: بحثنا ووجدنا اللين في أماكن أخرى وليست ما نريد.
(5)
الكُرْسِيّ: قرية بطبرية. معجم البلدان، ج 4، ص 260.
(6)
عالقين: قرية بظاهر دمشق من الجيدور.
وفيات الأعيان، جـ 5، ص 78.
(7)
"ثامن عشر في الذيل على الروضتين، ص 104.
ـ
فلما كان يوم الثلاثاء رابع رمضان طلعوا بأسرهم ومعهم سلم عظيم فزحفوا من ناحية باب دمشق وألصقوا السلم بالسور، فقاتلهم المسلمون ودخلت رماح الفرنج من المرامي من كل ناحية فضرب بعض الزراقين السلم بالنفط فأحرقه وقتل عنده جماعة من أعيان الفرنج، منهم كند كبير فلما رأوه مقتولا صاحوا وبكوا وكسروا عليه رماحهم. واستشهد [369] في ذلك اليوم من أبطال المسلمين الأمير بدر الدين محمد بن أبي القاسم، وسيف الدين بن المرزبان وكانا من الصالحين الأجواد، وأغلق المسلمون باب الطور وباتوا يداوون الجرحى واتفقوا على أنهم يقاتلون قتال الموت ولا يسلمون أنفسهم لئلا يجرى عليهم ما جرى على أهل عكا، وكان في الطور أبطال المسلمين وخيار عسكر الشام، وأوقد الفرنج حول الطور النيران، فلما كان وقت السحر يوم الخميس سادس رمضان رحلوا طالبين عكا، وجاء المعظم فصعد إلى الطور وأطلق المال والخلع وطيب قلوب الناس، ثم اتفق العادل والمعظم على حراب الطور وقيل: إن المعظم أنفد كتابا إلى الخليفة وفي أوله بيتان هما [للأمير]
(1)
عبد المحسن الحلبي الكاتب:
قل للخليفة لا زالت عساكره
…
لها إلى النصر إصدارٌ وإيرادُ
إن الفرنج بحصن الطور قد نزلوا
…
لا تغفلن فحصن الطور بغداد
وقال السبط
(2)
: أنشدني [الأمير]
(3)
الحلبي هذين البيتين.
ولما انفصل الفرنج عن الطور قصد ابن أخت الهنكر جبل صيدا وقال: لا بد لي من أهل هذا الجبل. فنهاه، صاحب صيدا وقال: هؤلاء رماة وبلدهم وعر فلم يقبل وصعد في خمسمائة من أبطال الفرنج إلى حزيز
(4)
ضيعة الميادنة قريبا من مشعرًا فأخلاها أهلها وجاء الفرنج فنزلوا بها وترجلوا عن خيولهم ليستريحوا، فتحدرت عليهم الميادنة من الجبال فأخذوا خيولهم وقتلوا عامتهم وأسروا ابن أخت الهنكر وهرب من بقي منهم نحو صيدا، وكان معهم رجل من المسلمين يقال له الجاموس، فقال لهم: أنا أوصلكم إليها فقالوا: إن فعلت أغنيناك. فسلك بهم أودية وعرة والمسلمون خلفهم يقتلون ويأسرون، ففهموا أن الجاموس غرّهم فقتلوه. ولم يفلت إلى صيدا سوى ثلاثة أنفس بعد أن كانوا خمسمائة. وجاءوا إلى دمشق بالأسارى وكان يوما عظيما.
(1)
الأمين كذا في الأصل والمثبت من مرآة الزمان، جـ 8، ص 383؛ والذيل على الروضتين، ص 103.
(2)
مرآة الزمان، ج 4، ص 383.
(3)
"الأمين" كذا في الأصل. والمثبت من المرآة، جـ 8، ص 83.
(4)
حَزِيزٌ: موضع قريب من جيلة. معجم البلدان، جـ 2، ص 263 - ص 264.
ـ
وأما ما كان من أمر العادل فإنه لما فر من الإفرنج لكثرتهم وقلة من كان معه توجه إلى دمشق وكتب إلى واليها المعتمد ليحصنها من الإفرنج وينقل الغلات من داريا إلى القلعة ويرسل الماء على أراضي داريا وأراضى قصر حجاج والشاغور، ففزع الناس من ذلك وابتهلوا إلى الله بالدعاء وكثر ضجيجهم بالجامع وأقبل العادل فنزل بمرج الصفر وأرسل إلى ملوك الشرق ليقدموا إلى قتال الإفرنج، فكان أول من ورد صاحب حمص أسد الدين شيركوه، فتلقاه الناس فدخل من باب الفرج وجاء وسلم على ست الشام بدارها عند المارستان ثم عاد إلى داره، ولما قدم أسد الدين سرّي عن الناس وأَمِنُوا وانقضت السنة وجموع الفرنج على عكا، ثم اتفق الملك العادل والمعظم ولده على هدنة كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
ذكر قضية جنكزخان
ولما عاد السلطان علاء الدين خوارزم شاه من بلاد العراق وصل إليه رسل جنكزخان وهم: محمود الخوارزمي، وعلى حجا البخاري، ويوسف الأتراري مصحوبين بما يجلبه الترك من نقر المعادن [370] ونوافح المسك واليشب وثياب الطرق والتي تتخذ من صوف الحمل الأبيض، وأبلغوه سلام الخان الكبير وأنه يطلب منه المهادنة وفتح الطريق للتجار إلى بلاد مملكته، فأجاب السلطان إلى ذلك وعاد الرسل إلى جنكزخان وأعلموه بإجابته فسر بها وترددت التجار. وقال أبو الفتح: وكان يباع الثوب من طرقو بخمسين دينارا. وذكر أيضا أن من جملة رسالة جنكزخان: إنه غير خاف عليك أني ملكت الصين وما يليها من بلاد الترك وقد أذعنت لي قبائلهم وأنت أخبر الناس بأن بلادي مثارات العساكر ومعادن الفضة وأن فيها الغنية عن طلب غيرها، وأحضر السلطان علاء الدين محمود الخوارزمي أحد الرسل المذكورين ليلا، وقال له: إنك رجل خوارزمي ولابد لك من موالاة فينا وميل إلينا ووعده الإحسان إن صدقه فيما يسأله وأعطاه من معضدته جوهرة نفيسة علامة للوفاء بما وعده وشرط عليه أن يكون عينا على جنكزخان فأجابه إلى ما سأل رغبة ورهيبة، ثم قال: أصدقني فيما يقول جنكزخان إنه مَلَكَ الصين واستولى على مدينة طوغاج
(1)
هل هو صادق أم كاذب. فقال: بل صادق ثم نذكر إن شاء الله ما وقع من جنكزخان.
(1)
مدينة طوغاج: هي قاعدة ملك التتار بالصين. تقويم البلدان، ص 365.
ذكر بقية الحوادث
منها أن
(1)
شيخ الشيوخ صدر الدين بن حموية قدم إلى بغداد رسولا من الملك العادل وقدم بعده ولده فخر الدين رسولا من الكامل إلى أخيه المعظم في خطبة بنته الابنه وخلع عليه خلعة بطيلسان.
ومنها أن
(2)
محيي الدين محمد بن يحيى بن فضلان ذكر الدرس في النظامية.
ومنها أن
(3)
دجلة زادت زيادة عظيمة وركب الخليفة في شبارة
(4)
وخاطب الناس وجعل يتأوه لهم ويقول: لو كان هذا الماء يُردّ بمال أو حرب دفعته عنكم ولكن أمر الله ما الأحد فيه حيلة، وانهدمت بغداد بأسرها والمحالّ، ووصل الماء إلى رأس السور وبقي مقدار إصبعين حتى يطفح على السور وأيقن الناس بالهلاك، ودام "سبع
(5)
ليال وثمانية أيام حسوما" ثم نقص الماء وبقيت بغداد من الجانبين تلولا لا أثر لها.
ومنها
(6)
.............................
وفيها حج بالناس من العراق ابن أبي فراس
(7)
.
ذكر من توفي فيها من الأعيان
بهاء الدين
(8)
أحمد بن أبي الفضائل الميهني، شيخ رباط الخلاطية من بيت التصوف، وكان أبوه أبو الفضائل عبد المنعم شيخ المشايخ وسيد الصوفية، وكان الخليفة قد سَلَّم إلى بهاء الدين رباط الخلاطية وأوقافها ثقةً به من غير مُشرف ولا عمل حساب، فأقام مدة يقصده الناس من البلاد وأطراف بغداد وأرباب البيوت والفقراء والفقهاء والأعيان، فما رَدَّ قاصدا ولا منع سائلا، وكان له الجاه العظيم والذكر الجميل. وكان له
(1)
الذيل على الروضتين، ص 100؛ مرآة الزمان، جـ 8، ص 381.
(2)
الذيل على الروضتين، ص 100.
(3)
الذيل على الروضتين، ص 100؛ مرآة الزمان، جـ 8، ص 381؛ الكامل، جـ 10، ص 381.
(4)
شبارة انظر السفن: انظر عقد الجمان، جـ 1، ص 269.
(5)
سورة الحاقة آية 7.
(6)
بياض بمقدار نصف سطر.
(7)
مرآة الزمان، جـ 8، ص 384.
(8)
انظر ترجمته في مرآة الزمان، جـ 8، ص 384؛ الذيل على الروضتين، ص 103.
مملوك عبد أسود اسمه ريحان، فخان في الأموال، وبلغ الخليفة فأخذه فأقرَّ وقال: المال عند أخت بهاء الدين، فعزل بهاء الدين عما كان إليه، فرأى الذل والهوان بعد العز والإمكان. ومرض بهاء الدين في تلك الحال، فولى الخليفة القاضي الزنجاني
(1)
أمر الرباط، وحمل بهاء الدين إلى بيت أخته على نهر عيسى، فتوفي ثامن رجب ودفن في الشونيزية في صُفَّة
(2)
الجنيد رضي الله عنه عند أبيه، سمع شهدة [371] الكاتبة وابن البطي وغيرهما، وصحب أباه وأخذ عنه طريقة التصوف.
أبو إسحاق
(3)
إبراهيم بن عبد الواحد بن علي بن سُرور، الشيخ عماد الدين المقدسي، وكان أصغر من أخيه الحافظ عبد الغني بسنتين، وقدم معه إلى دمشق سنة إحدى وخمسين وخمسمائة، ورحل إلى بغداد مرتين، وسمع الحديث، وكان عابدًا زاهدًا ورعا، كثير الصلاة كثير الصيام يصوم يوما ويفطر يوما، وكان فقيها مفتيا حنبليا له كتاب الفروع، وصَنَّف أحكاما ولم يتمه. صلي المغرب ذات ليلة وكان صائما، ثم رجع إلى بيته بدمشق فأفطر، ثم مات فجأة عشية الأربعاء سادس عشر ذي القعدة
(4)
من هذه السنة، فغسل وقت السحر وأخرجت جنازته إلى جامع دمشق، فما وسع الناس الجامع وصلى عليه الموفق.
وقال أبو شامة
(5)
: كان يوما لم ير في الإسلام مثله، كان أول الناس عند مغارة الدم ورأس الجبل إلى الكهف، وآخرهم بباب الفراديس، ولولا المبارز المعتمد وأصحابه القطعوا أكفانه وما وصل إلى الجبل إلى آخر النهار.
وقال السبط
(6)
: ولما رجعت من جنازته فَكرتُ فيه فقلت: هذا كان رجلا صالحا، وربما إنه نظر إلى ربه حتى وضع في لحده، ومر بذهني أبيات [سفيان]
(7)
الثوري التي سمع ينشدها في المنام:
(1)
"الريحاني" في الذيل على الروضتين، ص 103؛ "التريحاني" في مرآة الزمان، جـ 8، ص 384.
(2)
"صفط" في الذيل على الروضتين، ص 103.
(3)
انظر ترجمته في مرآة الزمان، جـ 8، ص 385 - 386؛ الذيل على الروضتين، ص 104 - 106.
(4)
"ذي الحجة" في مرآة الزمان، جـ 8، ص 386. بينما يتفق العيني مع أبي شامة، انظر الذيل على الروضتين، ص 104.
(5)
الذيل على الروضتين، ص 104.
(6)
مرآة الزمان، جـ 8، ص 386.
(7)
"سفين" في الأصل. والمثبت من مرآة الزمان، جـ 2، ص 386.
نظرتُ إلى ربى كفاحًا وقال لي
…
هنيئا رضائي عنك يابن سعيد
فقد كنت قواما إذا أقبل الدجى
…
بعبرة مشتاق وقلب عميد
فدونك فاختر أي قصر أردته
…
فزرني فإني منك غير بعيد
وقلت: أرجو أن العماد يري ربه كما رآه سفين عند نزول حفرته. ونمت فرأيت العماد في النوم وعليه حلة خضراء وعمامة خضراء وهو في مكان متسع كأنه روضة وهو يرقى في درج مرتفعة فقلت: يا عماد الدين كيف بت؟! فإني والله مفكر فيك. فنظر إلى وتبسم على عادته وقال:
رأيت إلاهي حين أنزلت حفرتي
…
وفارقت أصحابي من أهلي وجيرتي
فقال جزيت الخير عني فإنني
…
رضيت فها عفوي لديك ورحمتي
دأبت زمانا تأمل الفوز والرضى
…
فوقيت نيراني ولقيت جنتي
فانتبهت مرعوبًا وكتب الأبيات.
قال: وكان الشيخ الموفق يثني عليه وكان يقول: أعرف العماد من صغره وما عرفت أنه عصى الله تعالى قط وما رأيت أشد خوفا منه لله تعالى. قال السبط
(1)
: وكان يحضر مجالسي دائما بجامع دمشق وقاسيون لا ينقطع إلا من عذر. ويقول صلاح الدين يوسف: فتح الساحل وأظهر الإسلام وأنت يوسف أحييت السنة بالشام. وكان يزورني وينبسط إلى ويحبني ويفرح بمجالستي. ورثاه جماعة منهم الصلاح موسى بن الشهاب فقال: وأنشدني إياها:
الحمد لله في كل الأمور فما
…
يفضى الإله علينا فهو مقبول
ترضى بما جاءنا منه ونشكره
…
على الرؤوس قضاء الله محمول [372]
يا شيخنا
(2)
يا عماد الدين قد قرحت
…
عيني وقلبي منك اليوم متبول
أوحشت والله ربعا كنت تسكنه
…
لكنه الآن بالأحزان مأهول
كم ليلة بت تحييها وتسهرها
…
والدمع من خشية الله مسبول
(1)
مرآة الزمان، جـ 8، ص 385.
(2)
الذيل على الروضتين، ص 105؛ مرآة الزمان، جـ 8، ص 387.
وسجدة طال ما طال القنوت بها
…
قد زانها منك تكبير وتهليل
فاليوم بعدك ركن الدين
(1)
منهدم
…
وطالب العلم حيران ومخذول
قد كنت للسنة الغراء تنصرها
…
إذ أنت سيف على الأعداء مسلول
يا ذا الذي كان للدنيا يزينها
…
كأنه في جبين الدهر إكليل
وما يدوم سوى وجه الإله وقد
…
جاءت بذلك أثار وتنزيل
القاضي جمال الدين بن الحرستاني
(2)
عبد الصمد بن محمد بن أبي الفضل أبو القاسم الأنصاري بن الحرستاني، شيخ القضاة العالم العادل المعمر الزاهد ولد بدمشق سنة عشرين وخمسمائة وشارك الحافظ أبا القاسم علي بن الحسن في كثير من مشايخه الدمشقيين سماعا وفي الغرباء أجازة، وكان أبوه من أهل حرستان فنزل داخل باب توما وأمّ بمسجد الزينبي، ونشأ ولده هذا نشأة حسنة، سمع الحديث الكثير وكان يجلس لسماع الحديث بمقصورة الخضر وعندها كان يصلي دائما لا تفوته الجماعة بالجامع، وكان منزله بالحُوَيْزَة
(3)
ودرس بالمجاهدية
(4)
، وعمر دهرًا طويلا على هذا القدم الصالح وناب في الحكم عن ابن أبي عصرون ثم ترك ذلك ولزم بيته وصلاته بالجامع، ثم عزل السلطان الملك العادل القاضي زكي الدين أبا العباس الظاهر ابن قاضي القضاة محيي الدين وأخذ منه مدرستين العزيزية
(5)
والتقوى
(6)
وأعطى التقوية للشيخ فخر الدين بن
(1)
"ركين" كذا في سبط ابن الجوزي؛ مرآة الزمان، جـ 8، ص 387.
(2)
الذيل على الروضتين، ص 106 - ص 108.
(3)
الحُوَيْزةَ: موضع بين واسط والبصرة وجورستان، معجم البلدان جـ 2، ص 371 - ص 372.
(4)
المجاهدية: هناك مدرستان المجاهدية الحِوانية، والمجاهدية البرانية قالجوانية بالقرب من باب الخواصن واقفها الأمير الكبير مجاهد الدين أبو الفوارس بزان بن يامين بن على الجلالى الكروى أحد مقدمي الجيش بالشام في دولة نور الدين.
أما المدرسة البرانية، فهي بين بابي الفراديس. انظر الدارس في تاريخ المدارس، جـ 1، ص 451 - ص 455.
(5)
العزيزية: أسسها الملك العزيز عثمان، فهناك عزيزية حنفية بجوار المدرسة المعظمية بالصالحية انظر الدارس، ج 1، ص 549، أما العزيزية الشافعية، فهي تقع شرقى التربة الصلاحية وغربي التربة الأشرفية وشمال القاضلية بالكلاسة لضيق الجامع الأموي، أسست في سنة 591 هـ. انظر الدارس جـ 1، ص 382.
(6)
التقوية: من المدارس الشافعية، وهي من أجَلَّ مدارس دمشق داخل باب الفراديس، شمالى الجامع، شرقي الظاهرية والإقباليتين، بانيها في سنة أربع وسبعين وخمسمائة الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب.
الدارس في تاريخ المدارس، جـ 1، ص 216.
عساكر وأعطى العزيزية مع القضاء لجمال الدين بن الحرستاني، واعتنى به الملك العادل اعتناء كثيرا وأقبل عليه وأكرمه بحيث أرسل له ما يفرش تحته في مجلس الحكم لضعفه وكبره وما يستند إليه، وكان يجلس للحكم بمدرسته المجاهدية وناب عنه بها ابنه عماد الدين عبد الكريم، وكان يجلس بين يديه فإذا قام الشيخ يستبد مكانه ثم أنه منعه ذلك لشيء بلغه عنه وناب عنه أيضا أكابر شيوخ القضاة يومئذ شمس الدين الشيرازي فكان يجلس قبالته في إيوان المجاهدية وشمس الدين بن سنى الدولة وشرف الدين بن الموصلي الحنفي بمجلس المحراب بها وبقى في القضاء نحوا من سنتين وسبعة أشهر، وتوفي يوم السبت رابع ذي الحجة ودفن بجبل قاسيون، وكان عمره خمسا وتسعين سنة.
قال ابن كثير
(1)
: وكان يحفظ الوسيط للغزالي رحمه الله قال ابن عبد السلام: ما رأيت أحدا أفقه من ابن الحرستاني، وكان من أعدل القضاة وأقومهم بالحق لا يأخذه فيه لومة لائم. وقال أبو شامة
(2)
: ولغرابة ولاية القضاء لمن هو في هذا السن قال فيه شاعر الشام الشاغوري هذين البيتين:
يا من تدرع في خمل الخمول
…
وما معانق الهم في سر وإعلان
[373]
لا تيأسن روح من نادي
…
قاضي القضاة الجمال بن الحرستاني
على أنه امتنع من الولاية لما طلب لها حتى ألح عليه فيها. وقال السبط: ح كي لي ولد القاضي قال: كان أحد بني قوام يعامل الملك المعظم عيسى في السكر ويتجر له فمات ابن قوام فطرح ديوان المعظم يده على تركة ابن قوام، وبعث المعظم إلى القاضي يقول له: هذا الرجل كان يتاجر لي بمالي والتركة لي وأريد تسلمها فأبى عليه إلا بثبوت شرعي قال: وحكى لي جماعة من الدماشقة أن الملك العادل سيف الدين كتب لبعض خواصه كتابًا يوصيه به في حكومة بينه وبين رجل فجاء إليه ودفع إليه الكتاب فقال: إش فيه؟ قال: وصية لي. قال: أحضر خصمك. فأحضره والكتاب بيده لم يفتحه وادعي على الرجل، فظهر الرجل على حامل الكتاب، فقضى عليه ثم فتح الكتاب وقرأه ورمي به إلى حامله وقال: كتاب الله قد حكم على هذا الكتاب، فمضى الرجل إلى
(1)
البداية والنهاية، جـ 13 ص 85.
(2)
الذيل على الروضتين، ص 107.
العادل وبكى بين يديه وأخبره بما قال. فقال: العادل صدق كتاب الله أولى من كتابي. وكان يقول للعادل: ما أحكم إلا بالكتاب والسنة وأنا فما سألتك القضاء فإن شئت وإلا فأبصر غيري. ثم لما مات تولى القضاء بعده زكي الدين أبو العباس الظاهر بن يحيي الدين الذي كان قاضيا قبله، وعزل به الأمير الكبير بدر الدين محمد بن أبي القاسم بن محمد الهكاري باني المدرسة التي بالقدس الشريف، كان من خيار الأمراء يتمنى الشهادة أبدا فقتله الفرنج في حصن الطور في هذه السنة، ونقل إلى القدس الشريف ودفن بتربته بها وتربته مزار إلى الآن، وكان من المجاهدين وله المواقف المشهورة في قتال الفرنج وكان من أكابر أمراء المعظم يستشيره ويصدر عن رأيه ويثق به لصلاحه ودينه وكان سمحا لطيفا، دينا، عابدا، ورعا، بارا بأهله وبالفقراء والمساكين، كثير الصدقات دائم الصلات، بني بالقدس مدرسة للشافعية ووقف عليها الأوقاف وبنى مسجدا قريبا من الخليل عليه السلام عند يونس على قارعة الطريق رحمه الله.
الشجاع
(1)
محمود المعروف ابن الدباغ
(2)
توفي في ذي القعدة، وكان من أصحاب العادل من زمن الشبيبة وبقي معه في زمن السلطنة مضحكا له، وحصلت له ثروة عظيمة، وداره بدمشق جعلتها زوجته عائشة مدرسة للفريقين، الحنفية والشافعية بخطيرة باب الفرج، ووقفت عليها أوقافا دارة.
الشيخة العالمة الزاهدة شيخة العالمات بدمشق وتلقب بدهن اللوز، ماتت في هذه السنة.
(1)
البداية والنهاية، جـ 13، ص 85؛ الذيل على الروضتين، ص 108.
(2)
"الدماع" كذا في ابن كثير، البداية والنهاية، جـ 13، ص 85.
فصل فيما وقع من الحوادث في السنة الخامسة عشرة بعد الستمائة
(*)
استهلت هذه السنة والخليفة الناصر لدين الله، ولكن وقعت في هذه السنة أمور عظيمة منها قضية الفرنج، ومنها وفاة السلطان الملك العادل، ووفاة الملك القاهر صاحب الموصل، ووفاة نور الدين أرسلان شاه بن القاهر المذكور، ومنها خروج التتار إلى بلاد الإسلام وظهورهم في هذه الأيام، فلنتبين ذلك مفصلا بعون الله وتوفيقه إن شاء الله.
ذكر قضايا الفرنج
منها
(1)
نزول الفرنج على ثغر دمياط المحروس وهي النوبة المعروفة بالمنصورة الأولة. قال بيبرس: لما كان يوم الثلاثاء [374] الثالث من ربيع الأول من هذه السنة نزل الفرنج على دمياط في جمع كثير وجم غفير ونازلوها، وكان الملك الكامل قد سار إليها بعساكر الديار المصرية فاتصل القتال بين الفئتين أيامًا ويحيل الفرنج على برج السلسلة فعملوا برجًا من الصواري على بطسة كبيرة، وأقلعوا بها حتى أسندوها على البرج وقاتلوا المسلمين الذين فيه إلى أن ملكوه منهم، ولما اشتدّ أمر الفرنج بثغر دمياط توجه الملك العادل إلى دمشق ليمد ولده الكامل بالعساكر. وقال ابن كثير
(2)
: استهلت هذه السنة والملك العادل نازل بمرج الصفر. لمحاصرة الفرنج، وأمر ولده المعظم بتخريب حصن الطور فخربه ونقل ما فيه من الآلات والأشياء المعدة للحرب إلى البلدان خوفا عليها من الفرنج، وكان جموع الفرنج بمرج عكا ثم ساروا منها إلى الديار المصرية ونزلوا على دمياط وسار الملك الكامل بن العادل من مصر ونزل قبالتهم، واستمر الحال كذلك أربعة أشهر، وأرسل الملك العادل العساكر التي عنده إلى عند ابنه الكامل فوصلت إليه أولًا فأول، ولما اجتمعت العساكر عند الملك الكامل أخذ في قتال الفرنج ودفعهم عند دمياط وكان نزول الفرنج على دمياط، في ربيع الأول وأخذوا برج السلسلة في جمادي الأولى، وكان حصنا منيعًا وهو كالقفل على ديار مصر، وصفته أنه في وسط جزيرة في النيل عند انتهائه إلى البحر ومن هذا البرج إلى دمياط وهي على شاطئ البحر وحافة النيل سلسلة ومنه إلى الجانب الآخر، فلما ملكت الفرنج هذا البرج شق ذلك على المسلمين
(*) يوافق أولها 30 مارس سنة 1218 م.
(1)
ورد هذا الخبر في البداية والنهاية، جـ 13، ص 86؛ مرآة الزمان، جـ 8، ص 389؛ الذيل على الروضتين، ص 108.
(2)
البداية والنهاية، جـ 13، ص 86.
بديار مصر وغيرها، وحين وصل الخبر إلى الملك العادل وهو بمرج الصفر تأوه شديدا ودق بيده على صدره أسفًا وحزنا ومرض من ساعته مرض الموت لأمر يريده الله تعالى، وتوفي يوم الجمعة سابع جمادى الآخرة. كما نذكره عن قريب إن شاء الله تعالى
(1)
.
ولما انتهى الخبر بموته إلى ابنه الكامل وهو مثاغر تجاه الفرنج بدمياط فتَّ ذلك في أعضاد المسلمين وضعفوا، ثم بلغه خبر آخر إن الأمير عماد الدين أحمد بن سيف الدين على بن أحمد المشطوب وكان مقدما عظيما في الأكراد الهكارية وكان أكبر أمير في مصر قد أراد أن يبايع للفائز عوضا عن الكامل، فساق وحده جريدة من دمياط قاصدًا إلى مصر لاستدراك هذا الخطب الجسيم، ولما فقده الجيش من بينهم اختل نظامهم واعتقدوا أن قد حدث أمر أكثر مما قد بلغهم فركبوا وراءه فدخلت الفرنج حينئذ بالأمان إلى الديار المصرية واستحوذوا على معسكر الكامل وأثقاله وحواصله وحواصل الجيش، فوقع أمر عظيم جدًا ودخل الكامل إلى مصر فلم يقع مما ظنه شيء وهرب منه ابن المشطوب إلى الشام، ثم ركب في الجيش إلى الفرنج فإذا الأمر قد تزايد وقد تمكنوا هناك من البلاد وقتلوا خلقا وغنموا شيئا كثيرا، وعاثت هنالك أعراب على أموال الناس ببلاد دمياط فكانوا أضر على المسلمين من الفرنج فنزل الكامل تجاههم يمانعهم عن الدخول إلى القاهرة ومصر بعد أن كان يمانعهم عن الدخول إلى الثغر، وكتب إلى أخوته يستحثهم ويستنجدهم ويقول الوحا الوحا العجل العجل، أدركوا المسلمين وألحقونا قبل أن يملك الإفرنج جميع الديار المصرية، فأقبلت العساكر [375] الإسلامية عند ذلك من كل مكان. فكان أول من قدم عليه أخوه الملك الأشرف موسى صاحب الجزيرة، ثم الملك المعظم، فكان من أمرهم مع الفرنج ما سنذكره إن شاء الله
(2)
تعالى.
ومن قضايا الفرنج أن الملك المعظم التقى بهم على القيمون
(3)
فكسرهم وقتل منهم خلقًا كثيرًا وأسر من الداوية مائة فأدخلهم في القدس منكسة أعلامهم
(4)
.
ذكر وفاة الملك العادل رحمه الله
والكلام فيه على أنواع:
(1)
البداية والنهاية، ج 13، ص 86؛ الذيل على الروضتين، ص 109؛ مرآة الزمان، ج 8، ص 389.
(2)
ورد هذا الخبر في البداية والنهاية، ج 13، ص 87، ص 88.
(3)
القَيْمُون: انظر ما سبق، جـ 2، ص 70، حاشية (1).
(4)
انظر: الذيل على الروضتين، ص 109؛ مرآة الزمان، ج 8، ص 289.
(الأول) في ترجمته:
هو السلطان الملك العادل سيف الدين أبو بكر محمد بن أيوب، وكنيته أشهر من اسمه. سُئل عن مولده فقال: فتوح الرها. يعني لما فتحها أتابك زنكي والد نور الدين الشهيد سنة تسع وثلاثين وخمسمائة، فيكون عمره ستا وسبعين سنة. وقيل: كانت ولادته ببعلبك لما كان والده نجم الدين أيوب واليها من قِبَل زنكي
(1)
.
وفي تاريخ ابن كثير
(2)
: وكان مولده سنة أربعين وخمسمائة. وكذا في تاريخ المؤيد
(3)
.
وقال ابن خلكان
(4)
: وكانت ولادته في المحرم سنة أربعين، وقيل: ثمان وثلاثين وخمسمائة، ونشأ في خدمة نور الدين الشهيد مع أبيه وإخوته، وحضر مع أخيه صلاح الدين في فتوحاته وغزواته، وقام أحسن قيام في الهدنة مع الإنكتار ملك الفرنج بعد أخذهم عكا، وكان صلاح الدين رحمه الله يعول عليه كثيرًا فاستنابه بالديار المصرية مدة، ثم أعطاه حلب، ثم الكرك وأعماله؛ وحران وما يتعلق بها. ثم جرى بعد وفاة أخيه بينه وبين أولاد أخيه أمور سبق ذكرها، إلى أن استقر له الملك
(5)
.
(الثاني) في سيرته:
كان حازما متيقظا غزير العقل، سَديد الآراء ذا مكر وخديعة، صبورا حليما، يسمع ما يكره ويغضي عنه، صفوحًا صبورا على الأذى، عادلا مجاهدا، عفيفا دينا متصدقا، آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر، طهر جميع ولاياته من الخمور والخواطئ والقمار والمخانيث، والمكوس والمظالم. وكان الحاصل من هذه الجهات بدمشق على الخصوص مائة ألف دينار، فأبطل الجميع لله تعالى، وكان واليه المبارز المعتمد رحمه الله أعانه على ذلك، وأقام رجالا على [عقبان]
(6)
قاسيون، وجبل الثلج وحوالي دمشق
(1)
انظر: الذيل على الروضتين، ص 111؛ مرآة الزمان، ج 8، ص 390.
(2)
بالبحث تبين أن المقصود ابن الأثير في كتابه الكامل، ج 10، ص 393.
أما البداية والنهاية فلم ترد فيها هذه الجملة.
(3)
المختصر في أخبار البشر، ج 3، ص 119.
(4)
وفيات الأعيان، ج 5، ص 78.
(5)
انظر تفصيل ذلك في الكامل، ج 10، ص 393 - 394؛ مرآة الزمان، ج 8، ص 390.
(6)
في الأصل "عقبات". والتصحيح من الذيل على الروضتين، ص 111؛ مرآة الزمان، ج 8، ص 391.
والعُقاب: الصخرة العظيمة في عُرْض الجبل. انظر: لسان العرب، مادة عقب؛ معجم البلدان، ج 3، ص 690.
بالجامكية والجراية، يُحرِّمون أحدا يدخل دمشق بمنكر، فكان أهل الفساد يتحيلون ويجعلون زقاق الخمر في الطبول ويدخلون بها إلى دمشق، فمنع من ذلك.
وقال السبط
(1)
: وبلغني أن بعض المغنيات دخلت على العادل في عرس، فقال لها: أين كنت؟ قالت: ما قدرتُ أجئُ حتى وَفِّيْتُ ما عَلىَّ للضامن. فقال: وأي ضَامنٍ؟ قالت: ضامن القِيان، فقامت عليه القيامة، وطلب المعتمد فأنكر عليه فقال: والله لئن عاد ما بلغني مثل هذا لأفعلن ولأصنعن.
وفي تاريخ ابن كثير
(2)
: وكان العادل ماسك اليد لكنه أنفق في أيام الغلاء بمصر أموالا عظيمة جدًا، وتصدق على أهل الحاجة من أبناء الناس وغيرهم شيئا كثيرًا، ثم في العام [الذي]
(3)
بعده في الفناء كَفَّنَ ثلاثمائة ألف إنسان من الغرباء. وكان كثير الصدقة في أيام مرضه؛ يخلعُ جميع ما عليه ويتصدق به، وبمركوبه وما يحبه من أمواله.
وقال السبط
(4)
: ولقد فعل العادل في غلاء مصر عقيب موت العزيز ما لم يفعله غيره؛ كان يخرجُ في الليل بنفسه ومعه الأموال يفرِّقها في أرباب البيوتات والمساكين، ولولاه لمات الناس كلهم.
وقال ابن خلكان
(5)
: وكان العادل ملكا عظيما ذا رأى ومعرفة تامة قد حنكته التجارب، حسن السيرة، جميل الطوية، وافر العقل، حازمًا في الأمور، صالحا محافظا على الصلوات في أوقاتها، متبعا لأرباب السنة، مائلا إلى العلماء، حتى صَنَّف له فخر الدين الرازي كتاب "تأسيس التقديس" وذكر اسمه في خطبته، وسيره إليه من بلاد خراسان. وبالجملة فإنه كان رجلا مسعودًا حتى في أولاده، فإنهم كانوا نجباء على ما نذكرهم عن قريب.
وفي تاريخ ابن العميد: كان جميل السيرة حسن العقيدة، كبير السياسة حازم الرأي، ذا معرفة بدقائق الأمور، وكان مسعودا في جميع أموره، وعاش عيشا رغدًا.
(1)
مرآة الزمان، ج 8، ص 391؛ الذيل على الروضتين، ص 111.
(2)
البداية والنهاية، ج 13، ص 87.
(3)
ما بين الحاصرتين إضافة الاستقامة المعنى.
(4)
مرآة الزمان، ج 8، ص 391؛ الذيل على الروضتين، ص 111.
(5)
وفيات الأعيان، ج 5، ص 76.
(الثالث) في وفاته:
قد ذكرنا أنه كان نازلا بمرج الصُّفر، وقد أرسل العساكر إلى ولده الملك الكامل، لأجل الفرنج الذين اجتمعوا على دمياط، ثم رحل من مرج الصفر إلى عالقين بفتح العين المهملة وبعد الألف لام مكسورة ثم قاف مكسورة ثم ياء آخر الحروف ساكنة ثم نون، وهي قرية بظاهر دمشق، قاله ابن خلكان
(1)
، وقال غيره: هي قرية عند عقبة فيق فنزل بها ومرض واشتد مرضه، ثم توفي هناك في سابع جمادى الآخرة من هذه السنة.
وفي المرآة
(2)
: وسبب موته انزعاجه من الخبر الذي جاءه من دمياط؛ أن الفرنج استولوا على بُرج السلسلة، فَدَقَّ بيده على صدره وأقام مريضا إلى يوم الجمعة سابع جمادى الآخرة، فتوفي بعالقين.
ولما توفي لم يعلم بموته غير كريم الدين الأخلاطي، فأرسل الطير إلى الملك المعظم بنابلس، فجاء المعظم يوم السبت إلى عالقين فاحتاط على الخزائن وصَبَّر العادل وجعله في محفة وعنده خادم يروِّح عليه، وقد رفع طرف سجافها وأظهر أنه مريض، ودخلوا به دمشق يوم الأحد والناس يُسَلِّمون على الخادم وهو يُومئ إلى ناحية العادل، أي أنه يُعلمُه بمن يُسلم. ودخلوا به إلى القلعة وكتموا موته. قال السبط: ومن العجائب أنهم طلبوا له كفنا فلم يقدروا عليه، فأخذوا عمامة الفقيه النجيب ابن فارس فكفنوه بها، وأخرجوا قطنا من مخدة فلفوه به، ولم يقدروا على فأس فسرق كريم الدين فأسًا من الخندق فحفروا له به في القلعة، وصلى عليه وزيره ابن فارس ودفنوه في القلعة. قال السبط: وكنت قاعدًا إلى جانب المعظم عند باب الدار التي فيها الإيوان وهو واجم ولم أعلم بحاله، فلما دفن أبوه قام قائما وشق ثيابه ولطم على رأسه ووجهه، وكان يوما عظيما وعمل له العزاء ثلاثة أيام بالإيوان الشمالي، وعمل له العزاء في جميع البلاد، ونودي في بغداد من أراد الصلاة على الملك العادل الغازي المجاهد في سبيل الله فليحضر إلى جامع القصر، فحضر الناس ولم يتخلف سوى الخليفة، وصلوا عليه صلاة الغائب وترحموا عليه، وتقدموا إلى خطباء الجوامع بأسرهم ففعلوا ذلك بعد صلاة الجمعة.
(1)
وفيات الأعيان، جه، ص 78.
(2)
مرآة الزمان، ج 8، ص 391 - 392؛ الذيل على الروضتين، ص 112.
قال السبط
(1)
: فوضَّ إلى الملك المعظم تربة بدر الدين حسن في اليوم الثالث. وقال أبو شامة
(2)
: هو بدر الدين حسن أحد أولاد الداية هو وأخوته من أكابر أمراء نور الدين بن زنكي رحمه الله، وتربته هي التي على نهر ثورا
(3)
عند جسر كحيل في طريق الجبل قرب المدرسة الشبلية
(4)
، فكان أبو المظفر يعني السبط رحمه الله يسكنها ويدرس بالمدرسة الشبلية، ومنها يصعد إلى الجبل وينزل إلى دمشق كل يوم سبت
(5)
لمجلس الوعظ، وما أكثر ما كنت أراه جالسا في شباك التربة أو في الصفّة الخارجة في النهر ومعه كتاب يطالع فيه أو ينسخ منه، فما أطيب ما كانت تلك الأيام وما أرغد عيش تلك الأعوام. وقال السبط
(6)
: وأقام العادل بالقلعة إلى سنة تسع عشرة وستمائة ثم نقل إلى تربته التي أنشأها عند دار العقيقى ومدرسته.
وفي تاريخ ابن العميد: وفي سنة أربع عشرة وستمائة خرج الملك العادل من الديار المصرية إلى الشام بأمواله وذخائره فمضى إلى قلعة الكرك وأقام بها مدة، وجعل أمواله التي خرجت معه من مصر فيها. وفي سنة خمس عشرة بلغه أن الفرنج قد نزلوا على دمياط، فجهز العساكر التي كانت معه جميعها إلى الديار المصرية وخرج من الكرك على عزم المسير إلى دمشق، فمرض في الطريق فنزل على عالقين قريبا من دمشق وأقام بها مدة، ومات بها وذلك في آخر نهار الخميس السابع من جمادى الآخرة سنة خمس عشرة وستمائة، وكتموا موته وقالوا: لقد أشار الطبيب بأن يعبر إلى دمشق فيداوي، فحملوه في محفة وعنده خادم والطبيب راكب إلى جانب المحفة، والشراب دار
(7)
يصلح الأشربة ويحملها إلى الخادم فيشربها ويتوهم أن السلطان يشرب إلى أن دخلوا إلى قلعة دمشق بالخزائن والحزم وجميع البيوتات، ثم أظهروا موته فاختبط الناس وصاحوا، فركب
(1)
مرآة الزمان، ج 8، ص 392.
(2)
الذيل على الروضتين، ص 113.
(3)
نهر ثورًا: نهر عظيم بدمشق. انظر معجم البلدان، ج 1، ص 938.
(4)
المدرسة الشبلية بدمشق: من المدارس الحنفية، وهي التي يطلق عليها الشبلية البرانية أو الشبلية الحسامية، وبانيها هو الطواشي شبل الدولة كافور الحسامي.
انظر: الدارس في تاريخ المدارس، ج 1، ص 530.
(5)
"بسبب مجلس الوعظ" الذيل على الروضتين، ص 113.
(6)
مرآة الزمان، ج 8، ص 392.
(7)
الشراب دار: هو لقب على الذي يتصدى للخدمة بالشراب خاناه. انظر: صبح الأعشى، جـ 5، ص 469.
ولده الملك المعظم شرف الدين عيسي صاحب دمشق وهدأ الناس وسكنهم، ونادى المنادي ترحموا على السلطان الملك العادل وادعوا لسلطانكم الملك المعظم، فبكت الناس وحزنوا عليه.
(الرابع) في ذكر ما يتعلق به:
وكانت مدة مملكته لمصر نحو تسع
(1)
عشرة سنة، ولدمشق ثلاثا وعشرين سنة.
وقال ابن خلكان
(2)
: كان الملك العادل سيف الدين أخو السلطان صلاح الدين رحمه الله وصل إلى الديار المصرية صحبة أخيه وعمه أسد الدين شيركوه، ولما ملك صلاح الدين الديار المصرية كان ينوب عنه في حال غيبته بالشام، ويستدعي منه الأموال للإنفاق في الجند وغيرهم. ولما ملك صلاح الدين مدينة حلب في صفر سنة تسع وسبعين وخمسمائة أعطاها لولده الملك الظاهر غازي، ثم أخذها منه وأعطاها للملك العادل فانتقل إليها وصعد قلعتها يوم الجمعة الثاني والعشرين من رمضان من السنة المذكورة، ثم نزل عنها للملك الظاهر غازي بن صلاح الدين لمصلحة وقع الاتفاق عليها بينه وبين أخيه صلاح الدين، وخرج منها في سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة ليلة السبت الرابع والعشرين من ربيع الأول منها، ثم أعطاه السلطان صلاح الدين قلعة كرك وتنقل في الممالك في حياة أخيه صلاح الدين وبعد وفاته إلى أن استقل بمملكة الديار المصرية، واستقرت له القواعد وخطب له بمصر والقاهرة وبحلب أيضا. وملك بعدها البلاد الشامية والشرقيةَ وصَفَتْ له الدنيا، ثم ملك بلاد اليمن في سنة اثنتي عشرة وستمائة وسيّر إليها ولد ولده الملك المسعود صلاح الدين أبا المظفر يوسف المنعوت بأطسز ابن الملك الكامل. وأطسيز بفتح الهمزة وسكون الطَاء المهملة وكسر السين المهملة وبعدها باء آخر الحروف ثم زاي معجمة. وهي كلمة تركية وتفسيرها بالعربي ما له اسم. وقد يقال أطسيس بسينين مهملتين والعامة يقولون: أقسيس بالقاف. وصوابه بالطاء وإنما سمي بذلك لأن الملك الكامل ما كان يعيش له ولد، فلما ولد المسعود المذكور قال بعض الحاضرين في مجلسه من الأتراك: في بلادنا إذا كان الإنسان لا يعيش له ابن سماه أطسيس.
(1)
"تسعة عشره" في الأصل.
(2)
وفيات الأعيان، ج 5، ص 74 - ص 79.
وقال ابن كثير
(1)
: وأنت الملك العادل السعادة واتسعت مملكته، وكثرت أولاده ورأى فيهم ما يحب، ولم ير أحد من الملوك الذين اشتهرت أخبارهم في أولادهم من الملك والظفر ما رآه العادل في أولاده.
وقد كانت ممالكه ممهدة من أقصى بلاد مصر واليمن والشام والجزيرة إلى همذان كلها، أخذها بعد أخيه السلطان صلاح الدين يوسف رحمه الله سوي حلب فإنه أقرها بيد ابن أخيه السلطان غازي بن صلاح الدين لأنه كان زوج ابنته صفية خاتون كما ذكرنا
(2)
.
وكان الملك العادل كثير الأكل ممتعا بصحته وعافيته مع كثرة صيامه، يأكل في اليوم الواحد أكلات جيدة، ثم بعد كل حال يأكل وقت النوم رطلا بالدمشقي من الحلواء السكرية اليابسة، وكان يعتريه مرض في أنفه في زمان الورد فكان لا يقدر على الإقامة بدمشق حتى يفرغ زمن الورد، يضرب له الوطاق بمرج الصفر ثم يدخل البلد بعد ذلك
(3)
.
وكان عنده عند موته بعض مماليكه، ولم يكن عنده أحد من أولاده حاضرا، فحضر إليه ابنه الملك المعظم عيسى بعد وفاته وكان بنابلس كما ذكرنا، واحتوى المعظم على جميع ما كان مع أبيه من الجواهر والأموال والسلاح والخيول وغير ذلك، وكان في خزانته لما توفي سبع مائة ألف دينار عينيا
(4)
.
وقال ابن خلكان: رحمه الله ولما قسم العادل البلاد بين أولاده كان يتردد بينهم ويتنقل من مملكة إلى أخرى، وكان في الغالب يصيف بالشام لأجل الفواكه والثلج والمياة الباردة، ويشتى في الديار المصرية لاعتدال الوقت فيها وقلة البرد، وعاش في أرغد عيش، وكان يأكل كثيرا خارجا عن المعتاد، يقال: كان يأكل وحده خروفا لطيفا مشويا، وكان له من النكاح نصيب وافر، وحاصل الأمر أنه كان ممتعا في دنياه
(5)
.
(1)
بالبحث في البداية والنهاية لم نجد هذا الخبر، ولكن ذكر هذا الخبر بالتفصيل في المختصر في أخبار البشر، جـ 3، ص 119، وورد بتصرف في وفيات الأعيان، ج 5، ص 76، الكامل، ج 10، ص 394.
(2)
ورد هذا الخبر في مرآة الزمان، جـ 8، ص 390، الذيل على الروضتين، ص 111؛ البداية والنهاية، ج 13، ص 86.
(3)
ورد هذا الخبر بالتفصيل في البداية والنهاية، جـ 13، ص 86؛ وفيات الأعيان، ج 5، ص 78.
(4)
ورد هذا الخبر في مرآة الزمان، ج 8، ص 392؛ الذيل على الروضتين، ص 112؛ البداية والنهاية، ج 13، ص 86؛ المختصر، ج 3، ص 120.
(5)
وفيات الأعيان، ج 5، ص 78.
(الخامس) في ذكر أولاده:
خلف أولادا لم يخلف أحد من الملوك أمثالهم في نجابتهم وبسالتهم ومعرفتهم وعلو هممهم، ودانت لهم العباد وملكوا خيار البلاد
(1)
، وخلف تسعة عشر ولدا
(2)
ذكرا سوي البنات كلهم نجباء. (الأول) الملك الأوحد نجم الدين أيوب صاحب أخلاط وغيرها، مات في حياة والده كما ذكرنا. (الثاني) الملك المغيث عمر توفي في حياة والده، وخلف ولدا صغيرا، ولقبوه بلقب أبيه. (الثالث) الملك الكامل ناصر الدين محمد صاحب الديار المصرية والسكة والخطبة له في جميع الممالك الأيوبية. (الرابع) الملك المعظم شرف الدين عيسى صاحب دمشق وأعمالها. (الخامس) الملك العزيز عماد الدين عثمان صاحب بانياس. (السادس) الملك الأمجد مجد الدين حسن توفي في حياة والده. (السابع) الملك الأشرف مظفر الدين موسى صاحب حران والرها وغيرهما وصاحب أخلاط بعد موت أخيه الملك الأوحد. (الثامن) الملك المظفر شهاب الدين غازي صاحب ميا فارقين. (التاسع) الملك المعز مجير الدين يعقوب. (العاشر) الملك القاهر إسحاق ويلقب ببهاء الدين. (الحادي عشر) الملك الصالح عماد الدين إسماعيل. (الثاني عشر) الملك الأفضل قطب الدين أحمد، توفي بمصر أيام أخيه الملك الكامل. (الثالث عشر) الملك الفائز إبراهيم ويلقب بسابق الدين. (الرابع عشر) الملك الحافظ نور الدين على أرسلان شاه صاحب قلعة جعبر. (الخامس عشر) الملك الأمجد تقي الدين عباس وهو آخرهم وفاة. (السادس عشر) الملك المغيث شهاب الدين محمود. (السابع عشر) الملك الناصر صلاح الدين خليل وهو أصغرهم. (الثامن عشر) الملك المعظم شمس الدين مودود. (التاسع عشر) الملك القاهر بهاء الدين الخضر
(3)
.
وفي المرآة
(4)
: وكان العزيز عثمان والأمجد شقيقى الملك المعظم، وكان مجير الدين يعقوب والقاهر إسحاق شقيقي
(5)
شهاب الدين غازي.
(1)
ورد هذا الخبر في وفيات الأعيان، ج 5، ص 76.
(2)
في المختصر في أخبار البشر أن الملك العادل خلف ستة عشر ولدا ذكرا. ج 3، ص 120.
(3)
ورد هذا الخبر في المرآة، ج 8، ص 392؛ الذيل على الروضتين ص 113؛ البداية والنهاية، ج 13، ص 78.
(4)
مرآة الزمان، ج 8، ص 392.
(5)
"شقيقا" في الأصل، والصحيح ما أثبتناه.
وقال أبو شامة
(1)
: تقي الدين عباس كان حيا بدمشق في سنة تسع وخمسين وستمائة، وهو آخر من بقي منهم.
وقال السبط
(2)
: وكان الصالح إسماعيل وقطب الدين أحمد بدمشق لما مات العادل، فأمر المعظمٌ الصالحَ فتوجه إلى بُصرى، وأحمد إلى مصر.
وكانت للعادل بنات أجلّهن صفية خاتون زوجة الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين يوسف صاحب حلب، أم الملك العزيز والد الملك الناصر يوسف الذي أسره هلاون
(3)
. كما سنذكره إن شاء الله.
قال شرف الدين ابن عنين يمدح الملك العادل ويذكر أولاده بقصيدته التي أولها
(4)
.
ماذا على طيف الأحبة لو سرى
…
وعليهم لو سامحوني بالكرى
العادل الملك الذي أسماؤه
…
في كل ناحية تُشرف منبرا
ما في أبي بكر لمعتقد الهدى
…
شك يريب بأنه خير الورى
بين الملوك الغابرين وبينه
…
في الفضل ما بين الثريا والثرى
نسخت خلائقه الحميدة ما أتي
…
في الكُتب عن كسرى الملوك وقيصرا
لا تسمعن حديث ملك غيره
…
يروي فكل الصيد في جوف الفرا
وله الملوك
(5)
بكل أرض منهم
…
ملك يجر
(6)
إلى الأعادي عسكرا
من كل وضاح الجبين تخاله
…
بدرًا فإن شهد الوغي فغضنفرا
(السادس) فيما تجدد بعد وفاته:
لما دخل
(7)
شهر رجب رد الملك المعظم المكوس والخمور وما كان أبوه أبطله. قال السبط: فقلت له: قد خلفت سيف الدين غازي ابن أخي نور الدين فإنه كذا فعل لما
(1)
الذيل على الروضتين، ص 113.
(2)
مرآة الزمان، ج 8، ص 392؛ البداية والنهاية، ج 13، ص 87؛ الذيل على الروضتين، ص 113.
(3)
هلاون = هولاكو.
(4)
ورد هذا الشعر في: وفيات الأعيان، ج 5، ص 76 - 77؛ المختصر في أخبار البشر، جـ 3، ص 120.
(5)
"البنون" في وفيات الأعيان، جـ 5، ص 76.
(6)
"يقوده" في وفيات الأعيان، ج 5، ص 79.
(7)
ورد هذا الخبر في مرآة الزمان، ج 8، ص 392؛ الذيل على الروضتين، ص 113.
مات نور الدين، فاعتذر بقلة المال والفرنج. قلت: هذا عذر غير مقبول عند الله وعند الناس. ثم سار المعظم إلى بانياس وراسل الصارم التبنيني وهو بتبنين
(1)
في تسليم الحصون فأجابه به، فأخرب بانياس وسار إلى تبنين فأخربها وهدمها، وكانت قفل البلاد وملجأ العباد، وأعطى بلاد جهاركس لأخيه العزيز وزوّجه ببنت جاركس، وبعث إليه الكامل بالخلع، وقال: أدركني. وقد جاءت الفرنج فنزلوا سرمساح، وأخلى لهم المسلمون الخيام فطمعوا، ثم رجع عليهم الكامل فكسرهم وقتل منهم خلقًا كثيرًا وعادوا إلى دمياط، ونزل الصارم وولده ناصر الدين وأصحابه من الحصون فأكرمهم المعظم وخلع عليهم وأحسن إليهم، وأظهر أنه ما أخرب بانياس وتبنين إلا خوفًا من استيلاء الفرنج عليها
(2)
.
(السابع) في دولة الملك الكامل ناصر الدين محمد بن الملك العادل سيف الدين أبي بكر بن أيوب استقلالا بالديار المصرية بعد والده في جمادى الآخرة سنة خمس عشرة وستمائة.
ولما توفي والده ووصل الخبر بوفاته عمل له العزاء بدار الوزارة بالقاهرة، وكان نازلا بدمياط مشغولا بالفرنج -كما ذكرنا- وعنده أخوة الفائز، وجرت بين المسلمين والفرنج وقائع كثيرة وحروب، وثارت الفتن من الغرباء بالديار المصرية، فكانوا أشد بلاءً من الفرنج. واتفق مع ذلك أن عماد الدين بن المشطوب - أحد الأمراء العادلية - كان يكره الكامل فأراد القبض عليه وإقامة أخيه الفائز عوضا عنه، فأُعلم الكامل بهذه الحالة فارتحل عن دمياط، وقصد التوجه إلى مصر لهذه الحادثة، فأشار عليه بعض الأمراء بالمقام على المنصورة، وهي قرية أنشأها الكامل على بحر أشموم لأجل مقابلة الفرنج ومقاتلتهم، فأقام بها وأصبح الفرنج فلم يروا من العسكر الإسلامي أحدًا بالبر الشرقي، فظنوا أنها مكيدة عملت عليهم، فارتابوا إلى أن تحققوا رحيل السلطان، فعدوا وكسبوا وغنموا ما ترك المسلمون وأحاطوا بدمياط من البر والبحر، وضايقوها مضايقة كثيرة.
(1)
بلدة في جبال بني عامر المطلة على بانياس، بين دمشق وصور. معجم البلدان، جـ 1، ص 824.
(2)
ورد هذا الحدث في الذيل على الروضتين، ص 113.
ووصل الملك المعظم شرف الدين عيسى أخو الكامل من دمشق إليه، فشكا له حاله وما أراد ابن المشطوب أن يعمله معه، فقال: أنا أكفيك أمره. وركب المعظم وجاء حتى وقف بفرسه على باب خيمة ابن المشطوب، فجرى إليه وتلقاه، فقال له: يقوم الأمير عماد الدين لنتفق على نصب المنجنيقات على أطراف البحر، وترتيب اليزك ومصلحة المسلمين فركب مسرعا، فلما سار معه قليلا واستدرجه المعظم حتى أخرجه عن الخيام، أحاط به عسكر المعظم وأنزلوه عن جواده وركّبوه بغلة وسُيِّر إلى الشام. فقصد الأشرف مظفر الدين موسى وأقام في خدمته، وتوجه الفائز إلى الشرق، واستقر حال الكامل وأعاد الصاحب صفي الدين بن شكر إلى الوزارة ليحصل الانتفاع به في استخراج الأموال، وتحصيل ما ينفق في الغزاة إعانة لهم على ما هم بصدده من القتال. وكان المذكور قد نفى إلى الشام عند عزله فأعيد، وَجَبَى من التجار وأرباب الأموال شيئا
(1)
يقال له التبرع.
وقال ابن كثير
(2)
: وأعيد الوزير صفي الدين عبد الله بن على بن شكر من بلاد الشرق من آمد إلى دمشق بعد موت العادل، وكان العادل قد نفاه كما ذكرنا.
وفي المرآة
(3)
وفيها قدم الصاحب صفي الدين بن شكر وزير العادل وكان العادل قد نقم عليه فنفاه إلى الشرق، فمضى إلى آمد فأقام بها، فلما مات العادل كتب ابنه الكامل من مصر إليه يطلبه، فقدم دمشق في هذه السنة ونزل بظاهرها ببيت [أرانس]
(4)
في دار المؤيد العقوباني فخدمة المؤيد، وكان قد قَلّ نظره فأقام أياما ثم توجه إلى مصر.
وقال أبو شامة: وقيل: إن قدومه من الشرق
(5)
كان بعد هذه السنة. وقرأ بهاء الدين بن أبي اليسر بين يديه ببيت [أَرَانِس] مقامة في مدحه من إنشاد الشيخ أبي الحسن السخاوي
(6)
، سماها "محاضرة العلماء ومحاورة الفقهاء في أوحد الكبراء وسيد الوزراء"،
(1)
"الشيء" في الأصل، والصحيح ما أثبتناه.
(2)
انظر البداية والنهاية، ج 13، ص 87؛ مرآة الزمان، ج 8، ص 393؛ الذيل على الروضتين، ص 119 - 115.
(3)
مرآة الزمان، ج 8، ص 393.
(4)
"رانس" في الأصل، وفي مرآة الزمان "برانس"، وفي الذيل على الروضتين، ص 114 "دانس". والمثبت من ياقوت. معجم البلدان، ج 1، ص 775.
وبيت أَرَانِس: من قرى الغوطة بدمشق.
(5)
"المشرق" في الذبل على الروضتين، ص 114.
(6)
"البخاري" في النيل على الروضتين، ص 114.
وهي مقامة جليلة حسنة لفظا ومعنى. وكان خليقا بالوزارة لم يأت بعده فيها مثله، وكان متواضعا يُسلم على الناس الذين يمر بهم وهو راكب، ويكرم الفقهاء ويحترمهم ويعمر أوقافهم ويثمرها، ويوسع لهم في الجامكيات. وفي أيامه بنيت العمارة بغوارة
(1)
جيرون والمسجد والبركة والشادروان وغير ذلك.
قال أبو شامة
(2)
: قال السبط: توفي في سنة ثلاثين وستمائة وهو وهم، وإنما توفي في سنة ثنتين وعشرين وستمائة كما سنذكره إن شاء الله.
ذكر وفاة الملك القاهر صاحب الموصل وهو عز الدين مسعود بن أرسلان شاه بن مسعود بن مودود بن زنكي بن أقسنقر
مات لثلاث بقين من ربيع الأول من هذه السنة
(3)
، وكانت مدة ملكه تسع سنين وسبعة أشهر، وأنقرض بموته ملك البيت الأتابكي. وكان قليل الطمع في أموال الرعية، كافًا عن أذيً يوصله إليهم، مقبلا على لذاته ينهبها نهبًا.
وقال ابن خلكان
(4)
: لما مات نور الدين أرسلان شاه خَلّف ولدين أحدهما: الملك القاهر عز الدين أبو الفتح مسعود، والآخر الملك المنصور عماد الدين زنكي، ولما حضرته الوفاة قَسَّم البلاد بينهما، فأعطى للملك القاهر - وهو الأكبر - الموصل وأعمالها وأعطى عماد الدين شوش والعَقْر وتلك النواحي. فأما الملك القاهر فكانت ولادته في سنة تسعين وخمسمائة بالموصل، وتوفي بها فجأة ليلة الإثنين الثلاث بقين من شهر ربيع الآخر سنة خمس عشرة وستمائة، وكان قد بنى مدرسة فدفن فيها.
وفي تاريخ بيبرس: وأوصى الملك القاهر بالملك بعده لولده الكبير أرسلان شاه وعمره نحو من عشر سنين، وجعل المدبر لدولته بدر الدين لؤلؤ وهو كان يتولى دولة والده القاهر، ويقوم بتدبيرها وتدبير جده نور الدين أيضا. فلما توفي القاهر أجلس بدر الدين لؤلؤ ولده أرسلان شاه مكانه، وأرسل إلى الخليفة يطلب منه التقليد والتشريف، وأرسل
(1)
جيرون باب من أبواب الجامع الأموي بدمشق، وهو الباب الشرقي، وفيه فوّارة يُنْزَلُ عليها بدرج كثيرة في حوض من رخام وقُبّة خشب يعلو ماؤها نحو الرمح. انظر: معجم البلدان، ج 2، ص 176.
(2)
انظر: الذيل على الروضتين، ص 115؛ مرآة الزمان، جـ 8، ص 448 وفيات سنة 630 هـ.
(3)
انظر: وفيات الأعيان، جـ 5، ص 208.
(4)
انظر: وفيات الأعيان، ج 5، ص 208.
إلى الملوك وأصحاب الأطراف المجاورين لهم يطلب تجديد العهود لنور الدين على القاعدة التي كانت بينهم وبين أبيه، فلم يُصبح إلا وقد فرغ من كل ما يحتاج إليه وجلس للعزاء، وخَلَّفَ الجُند والرعايا، وضبط المملكة مع صغر السلطان وكثرة الطامعين في الملك، فإنه كان معه في البلد أعمام أبيه، وكان عمه عماد الدين زنكي بن أرسلان شاه بقلعة عقر الحميدية، يحدث نفسه بالملك، لا يشك أن الملك يصير إليه بعد أخيه. فرقّع بدر الدين لؤلؤ ذلك الخرق وأحسن إلى الناس عامة وخلع عليهم، وأحسن السيرة وكشف الظلامات وأنصف بعضهم من بعض.
وبعد أيام وصل التقليد من الخليفة إلى نور الدين بالولاية، ولبدر الدين لؤلؤ بالنظر في أمر دولته، والتشريفات لهما، وأتتهم رسل الملوك بالتعزية وبذل ما طلب منهم من العهود، واستقرت القاعدة لهما.
وقال ابن كثير
(1)
: ولما أُجلس أرسلان شاه بن القاهر في المملكة وكان به قروح وأمراض، تحرك عمه عماد الدين زنكي بن أرسلان شاه وقصد العمادية واستولى عليها، ثم استولى على قلاع الهكارية والزوزان
(2)
، واستنجد بدر الدين لؤلؤ المتولى على ملك الموصل ومدبر أرسلان شاه بالملك الأشرف ابن الملك العادل ودخل في طاعته، فأنجده الملك الأشرف بعسكر وساروا إلى عماد الدين زنكي بن أرسلان شاه وهزمه، وكان زنكي متزوجا ببنت مظفر الدين كوكبوري صاحب إربل، وأم البيت ربيعة خاتون بنت أيوب أخت الملك العادل. وكان مظفر الدين لا يترك ممكنا في نجدة صهره زنكي المذكور ويبالغ في عداوة بدر الدين لؤلؤ لأجل صهره.
ذكر وفاة نور الدين أرسلان شاه ابن الملك القاهر عز الدين مسعود صاحب الموصل
وذكر بيبرس
(3)
في تاريخه وفاته في هذه السنة، وذكره المؤيد
(4)
في السنة الآتية.
(1)
ورد هذا الحدث في الكامل لابن الأثير، ج 10، ص 383 - 384. ولم نجده في البداية والنهاية كما ورد بالأصل.
(2)
زوزان: ناحية واسعة في شرقي دجلة من جزيرة ابن عمر. وهي بين الموصل وخلاط وأذربيجان، معجم البلدان، جـ 2، ص 957.
(3)
انظر: الكامل، جـ 10، ص 386.
(4)
المختصر في أخبار البشر، ج 3، ص 121.
وقال بيبرس لما تقرر الصلح بينه وبين عماد الدين زنكي كان متمرضا ولم يلبث أن مات على فراشه، فرتب بدر الدين لؤلؤ أخاه ناصر الدين محمود وله من العمر ثلاث سنين، ولم يكن للملك القاهر ولد غيره، وحلّف له الجند فركّبه وطابت نفوس الناس لأن نور الدين كان لا يقدر على الركوب لكثرة أمراضه فلما ركب أخوه علموا أن لهم سلطانًا من البيت الأتابكي، فاستقروا واطمأنوا وسكنوا.
ولما ملك ناصر الدين المذكور تجدد لمظفر الدين صاحب إربل وعماد الدين زنكي طمع لصغر سن ناصر الدين، فجمعا الرجال وتجهزا للحركة وقصدوا أطراف بلاد الموصل بالنهب والفساد، وكان بدر الدين قد سير ولده الكبير في جمع كثير من العسكر إلى الملك الأشرف؛ نجدة له بسبب اجتماع الفرنج بمصر وهو يريد أن يدخل بلاد الفرنج التي بالشام، ينهبها ويخزنها ليعود بعض الفرنج الذين بدمياط إلى بلادهم فيخف الأمر على الملك الكامل. فلما تحرك مظفر الدين وعماد الدين على بدر الدين لؤلؤ أرسل يستنجد بعسكر الأشرف الذين بنصيبين ويستدعيهم ليعتضد بهم، وكان المقدم عليهم مملوكا للأشرف يسمى أيبك، فساروا إلى الموصل فلما رآهم بدر الدين استقلّهم لأنهم كانوا أقل من العسكر الذي أرسله إلى الشام أو مثلهم، وألحّ أيبك الأشرفي على عبور دجلة وقصد بلاد إربل، فمنعه بدر الدين لؤلؤ من ذلك، فنزل بظاهر الموصل شرقي دجلة، فلما سمع مظفر الدين ذلك جمع عسكره وسار إليهم ومعه عماد الدين زنكي، فعبر الزاب فسمع به بدر الدين فعبّى أصحابه وجعل أميرا كبيرا في الميمنة، فلما كان الليل أراد الانتقال إلى الميسرة فقال له بدر الدين لا يفعل لئلا ينهزم العسكر فإن العدو قريب منكم، فلم يقبل منه وسار إلى الميسرة لجهله بالحرب واضطر الناس لاتباعه فتقطعوا من الليل والظلمة والتقوا هم والخصم على ثلاثة فراسخ من الموصل. فأما أيبك الأشرفي فإنه لحق بالميمنة وحمل هو وأصحابه على ميمنة مظفر الدين فهزمها وبها زنكي، وتقدم إليه مظفر الدين فيمن معه من القلب فلم يمكنه الوقوف، فعاد إلى الموصل وعبر دجلة ونزل البلد، فلما رآه الناس فرحوا به، ونزل مظفر الدين فيمن سلم معه من عسكره وراء تل حصن نينوى فأقام ثلاثة أيام، فلما رأى اجتماع العسكر البدرى بالموصل وأنهم لم يفقد منهم إلا اليسير، وبلغه الخبر أن بدر الدين يريد العبور إليه ليلا بالفارس والراجل على الجسور وفي السفن ويكبسه، فرحل ليلا من غير أن يضرب كوسًا،
وعاد نحو إربل فلما عبروا الزاب نزلوا، ثم جاءت الرسل وسعوا في الصلح على أن كل من بيده شيء هو له وتقررت العهود والأيمان على ذلك
(1)
.
وفي تاريخ المؤيد
(2)
: مات نور الدين أرسلان شاه في سنة ست عشرة وستمائة فأقام بدر الدين لؤلؤ بعده أخاه ناصر الدين محمود وعمره يومئذ نحو ثلاث سنين، وهو آخر من خطب له من بيت أتابك بالسلطنة، وكان أبوه القاهر آخر من كان له استقلال بالملك منهم، ثم [إن]
(3)
هذا الصبى مات بعد مدة واستقر بدر الدين لؤلؤ بالملك وأتته السعادة، وطالت مدة ملكه إلى أن توفي بالموصل بعد أخذ التتار بغداد على ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
وقال أبو
(4)
شامة: ثبت ملك بلاد الموصل لبدر الدين لؤلؤ فسمى بالملك الرحيم، ثم لأولاده من بعده إلى الآن، وبلغني أن لؤلؤ كان سقى القاهر سمًا فمات، ثم أدخل ابنه محمودا بعد ذلك حماما حاميا وأغلق عليه الباب فاشتد كربه وعطشه، فاستغاث أخرجوني واسقوني ماء ثم اقتلوني، وقد تغيرت خلقته وكان من أحسن الناس صورة، فأسقي ماء ثم حنق بوتر.
ذكر خروج التتار إلى بلاد الإسلام وظهورهم في هذه الأيام
قال بيبرس
(5)
في تاريخه: وفي هذه السنة أعني سنة خمس عشرة وستمائة توالت الجوائح على البلاد الإسلامية وتواترت النوائب على الأمة المحمدية، ووافق حركة الفرنج من المغرب خروج التتار من أقصى المشرق واستيلائهم على ما يليهم من ممالك الخطائية، وامتدادهم إلى الممالك الإسلامية وانتزاعهم مدائن العجم من يد السلطان خوارزم شاه علاء الدين محمد بن تكش بن أيل أرسلان بن إتسر المستولى على الممالك السلجوقية، وذكر غيره خروج التتار إلى بلاد الإسلام في سنة ست عشرة
(1)
ورد هذا الحدث يتصرف في الكامل، جـ 10، ص 386 - ص 387؛ المختصر في أخبار البشر، جـ 3، ص 120 - ص 129.
(2)
المختصر في أخبار البشر، جـ 3، ص 121.
(3)
ما بين حاصرتين إضافة من المختصر، جـ 3، ص 121. وذلك لاستقامة المعنى.
(4)
الذيل على الروضتين، ص 114.
(5)
الكامل، جـ 10، ص 399 - وما بعدها حوادث سنة 617 هـ.
وستمائة وذلك أنهم عبروا نهر جيحون صحبة ملكهم جنكيز خان من بلادهم، وكانوا يسكنون جبال طمغاج من أرض الصين ولغتهم مخالفة للغة سائر التتار وهم من أشجعهم وأصبرهم على القتال، وسبب دخولهم أن جنكيز خان بعث تجار له مع أموال كثيرة إلى بلاد خوارزم شاه يشترون له ثيابا للكسوة فكتب نائب خوارزم شاه إليه يخبره بهم وبما معهم من الأموال الكثيرة فأرسل خوارزم شاه إليه يأمره بقتلهم وأخذ أموالهم ففعل ذلك، فبلغ جنكيز خان فغضب عند ذلك غضبا شديدا وأرسل يتهدد خوارزم شاه، فأشار من أشار على خوارزم شاه بالمسير إليهم فسار إليهم فأقبل وهم في شغل بقتال كشلي خان، فنهب خوارزم شاه أموالهم وسبي ذراريهم وذلك بعد أن اقتتلوا أربعة أيام قتالا لم نسمع بمثله؛ أولئك يقاتلون على حريمهم والمسلمون يقاتلون عن أنفسهم يعلمون أنهم متى ولوا استأصلوهم، فقتل من الفريقين خلق كثير حتى أن الخيول كانت تزلق في الدماء، وكان جملة من قتل من المسلمين نحو من عشرين ألفًا، ومن التتار أضعاف ذلك. ثم تحاجز الفريقان وولي كل منهم إلى بلاده.
وقال أبو الفتح المنشئ: لما انصرف السلطان خوارزم شاه من العراق واستقر بما وراء النهر وافته رسل جنكيز خان وهم محمود الخوارزمي، وعلي خواجه البخاري ويوسف كنكا الأتراري ومعهم من نَقَر المعادن ونواقح المسك وأحجار اليشم والنياب التي تسمى طرقو، وقد ذكرنا هذا أنه كان في سنة أربع عشرة وستمائة وأن خوارزم شاه أكرم رسله وخلع عليهم وأظهر المسالمة مع جنكيز خان، ولما ردوا إلى جنكيز خان وأخبروه بذلك سر وفرح على هذا واستمر الحال على المسالمة إلى أن وصل من بلاد جنكيز خان تجار إلى أترار وهم خواجه عمر الأتراري والجمال المراغي وفخر الدين البخاري وأمين الهروي، وكان ينال خان ابن خال السلطان في عشرين ألف فارس ينوب عن السلطان خوارزم شاه في مدينة أترار
(1)
.
ولما وصلت التجار إلى أترار شرهت نفسه الدنيّة في أموالهم واحتاط عليهم وخفى أثرهم وتفرد بتلك الأموال بغير علم السلطان
(2)
. فبلغ ذلك جنكيز خان، فأرسل
(1)
أُترار = أُطرار: مدينة حصينة وولاية واسعة في أول حدود الترك بما وراء النهر على نهر سيحون قرب فاراب. معجم البلدان، جـ 1، ص 310.
(2)
ورد هذا الحدث بتصرف في الكامل، جـ 10، ص 401 - 402.
إلى خوارزم شاه شخصا يقال به كرُجْ بُغْرا، وكان أبوه من أمراء السلطان تكش والد خوارزم شاه، ومعه اثنان من التتار، ومضمون الرسالة بأنك قد أعطيت خط يدك بالأمان للتجار، وأن لا يتعرض إليهم أحد، فغدرت ونكثت، والغدر في نفسه قبيح، ومن سلطان الإسلام أقبح، فإن كنت تزعم أن الذي فعله ينال خان من غير أمرك فسلمه إلىَّ لأجازيه على ما فعل، وإلا فأذن بحرب تَرْخُصُ فيها غوالي الأرواح، وتقصف معها عوالي الرماح.
فأمسك السلطان عن تسبيرينال خان إليه، على رعب خامر قلبه، وخَوفُ سلب لُبه، وذلك لأنه عُمْدَة عساكره، ومن أقاربه، وكان أكثر أمرائه من أقاربه، وطُرُر مملكته والمتحكمين في دولته. ثم اعتقد السلطان أنه إذا لاطف جنكيز خان في الجواب لم يزده ذلك إلا طمعًا فيه، فأغلظ في الجواب وأمر بقتل أولئك الرسل فقتلوا فيا لها من قتلة هدرت دماء المسلمين والإسلام، وأجرت بكل نقطة سيلا من الدم الحرام، ولما بلغ ذلك جنكيز خان عزم على المسير إليه، واجتهد في الحوطة عليه وبلغ ذلك السلطان خوارزم شاه فأول ما اعتمده من التدبير الخطأ أنه عزم على أن يبني سورا على سمرقند ودوربها على ما قيل اثني عشر فرسخًا ثم شحنها بالرجال ليكون ردا بينه وبين الترك، وسدًا دونهم، ثم سير عماله وجباته إلى جميع البلاد وأمرهم أن يستخرجوا خراج سنتين. وأعجلة التتار عن عمارة السور. ومن جملة خطئه في تدبيره أنه لما سمع بقرب جنكيز خان فرق عساكره في مدن ما وراء النهر وبلاد الترك، فترك ينال خان في عشرين ألف فارس في أترار وقيلغ خان في عشرة آلاف فارس في شهر كند
(1)
والأمير اختيار الدين كشلي أمير آخور وأغلى حاجب الملقب بانبانجخان في ثلاثين ألف فارس ببخاري وطغان جَان خَالَهُ وأمراء الغور مثل حرمنج وخرزوام وابن عز الدين وحسام الدين مسعود وغيرهم في أربعين ألف فارس بسمرقند، وفخر الدين المعروف با عيار النسوي وعسكر سجستان بترمذ وملخودْخان بوخش وأبا محمد خال أبيه في جماعة كثيرة ببلخ وأسرك بهلوان بجند وعجلق ختلان، وبالجملة لم يترك بلدا من البلاد بما وراء النهر خاليا من عسكره وقد أخطأ في ذلك، فلو التقى التتار بعساكره قبل أن يفرقهم لاختطفهم خطفًا ولكن أمر الله غالب، ثم إن جنكيز خان لما شارف تخوم البلاد السلطانية تياسر صوب أترار وداوم
(1)
في الأصل "شهركنت" والصحيح ما أثبتناه، وهي شَهْد كنْد: مدينة في طرفه تركستان قريبة من الجَنْد بينها وبين مدينة خوارزم نحو عشرة أيام. معجم البلدان، جـ 3، ص 344.
القتال عليها ليلا ونهارا حتى استولى عليها، وأحضر ينال خان بين يديه فأمر بسبك الفضة وقلبها في أذنيه وعينيه فقتل تعذيبًا جزاء عن فعله الشنيع عن قتله التجار وأخذ أموالهم، ثم أحضر جنكيز خان نائب الوزارة بأترار وهو بدر الدين العميد فاتفق معه على أن زوّر كتبًا عن لسان الأمراء قرابة والدة السلطان إلى جنكيز خان يبذلون له الدخول في طاعته والرجوع عن مناصرة السلطان ومعاضدته، وأرسل هذه الكتب على يد بعض خواصه فلما وقف عليها السلطان نفر منهم ونأى عنهم وأخذ يبدد شملهم ويفرق جمعهم ثم سير جنكيز خان دانشمند الحاجب وهو من خواصه إلى تُركان خاتون والدة السلطان بخوارزم. يقول: قد عرفت مقابلة ابنك وحقوقك بالعقوق وها أنا قد قصدته ولست بمتعرض إلى ما تحت يدك من البلاد فإن أردت ذلك ابعثي إلى من تثقي به حتى أحلف لك وأسلم لك خوارزم وخراسان، وما يتاخمها من قاطع جيحون.
فكان جوابها عن هذه الرسالة أنها تخرج عن خوارزم وتتركها وراءها، فعند ذلك خرجت تركان خاتون من خوارزم واستصحبت معها ما أمكنها من حرم السلطان وصغار أولاده ونفائس خزائنه، وأمرت بقتل من كان بخوارزم من الملوك الأسارى وأبناء الملوك وكبار الصدور، فقتل زهاء اثنين وعشرين نفسًا محرمة منهم ابنا السلطان غياث الدين الغوري وابن طغرل السلجوقي، وعماد الدين صاحب بلخ
(1)
. وابنه بهرام شاه صاحب ترمذ
(2)
، وعلاء الدين صاحب باميان
(3)
وجمال الدين عمر صاحب وخش
(4)
وابنا
(5)
صاحب سغناق
(6)
من بلاد الترك، وصدر جهان وافتخار جهان وابْناه ملك الإسلام وعزيز الإسلام. واستصحبت عمر خان ابن صاحب بازر وكان معوقًا بها لخبرته بالطرق المفضية إلى بلاده، فخرج معها وخدمها تلك المدة أتم خدمة حتى إذا قاربت تخوم بازر خافت أن يفارقها، فأمرت بضرب عنقه فقتل صبرًا وسارت بمن معها من الحرم والخزائن
(1)
بَلْخ: مدينة مشهورة بخراسان.
معجم البلدان، جـ 1، ص 713.
(2)
ترمذ: مدينة مشهورة من أمهات المدن تقع على الجانب الشرقي لنهر جيحون. معجم البلدان، جـ 1، ص 843.
(3)
باميان: بلدة وكورة في الجبال بين بلخ وهراة وغزنة. معجم البلدان، جـ 1، ص 481.
(4)
وَخْشى: بلده من نواحي بلخ وهي على نهر جيحون. معجم البلدان، جـ 4، ص 909.
(5)
و"ابنى" في الأصل، والصحيح ما أثبتناه.
(6)
سغناق: تقع على نهر سيحون ويقال إنها قصبة قبجاق وهي على 24 فرسخًا من شمال إترار وتعتبر من مدن الإسلام الكبرى في تركستان في ما وراء النهر. انظر بلدان الخلافة الشرقية، ص 529.
فصعدت قلعة إيلال من قلاع مازندران فأقامت بها إلى أن كان منها ما سنذكره إن شاء الله تعالى
(1)
وذكر بيبرس في تاريخه خروج تركان خاتون المذكور من خوارزم في هذه السنة، وذكر أبو الفتح المنشيء أنه كان خروجها في أواخر سنة ست عشرة وستمائة، وسنذكر ما جرى بعد ذلك بين جنكز خان والسلطان خوارزم شاه وما جرى على تركان خاتون إن شاء الله تعالى.
ذكر بقية الحوادث في هذه السنة
منها
(2)
أن كيكاوس بن كيخسرو ملك الروم قصد حلب لما مات الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين، وأجلس ابنه الملك العزيز في مملكته، وكان طفلا كما ذكرنا، وطمع كيكاوس في الاستيلاء على حلب فاستدعى الملك الأفضل بن صلاح الدين صاحب شميساط واتفق معه كيكاوس على أن يفتح حلب وبلادها ويسلمها إلى الملك الأفضل ثم يفتح البلاد الشرقية التي بيد الملك الأشرف ابن الملك العادل ويتسلمها كيكاوس وتحالفا على ذلك، وسار كيكاوس إلى جهة حلب ومعه الملك الأفضل ووصلا إلى رعيان واستولى عليها كيكاوس وسلمها إلى الملك الأفضل فمالت إليه قلوب أهل البلاد لذلك، ثم سار إلى تل باشر وبها فتح الدين بن دلدروم ففتحها ولم يسلمها للملك الأفضل بل أخذها كيكاوس لنفسه، فنفر خاطر الملك الأفضل وخواطر أهل البلاد بسبب ذلك ووصل الملك الأشرف إلى حلب ليدفع كيكاوس عن البلاد، ووصل إليه الأمير مانع بن جدمه أمير العرب في جمع عظيم وكان قد سار كيكاوس إلى منبج وتسلمها لنفسه أيضا، وسار الملك الأشرف بالجموع التي معه ونزل وادي بزاعا واتقع بعض العسكر مع مقدمة عسكر كيكاوس فانهزمت مقدمة عسكر كيكاوس وأخذت منهم عدة أسرى فأرسلوا إلى حلب ودقت البشائر بها، ولما بلغ ذلك كيكاوس وهو بمنبج ولي منهزمًا مرعوبا، وتبعه الملك الأشرف يتخطف أطراف عسكره، ثم حاصر الملك الأشرف تل باشر واسترجعها، وكذلك استرجع رعبان وغيرها.
(1)
ورد هذا الحدث بتصرف في الكامل، جـ 1، ص 408 حوادث سنة 617 هـ؛ البداية والنهاية جـ 13، ص 94 - ص 99.
(2)
ورد هذا الحدث في الكامل، جـ 10، ص 391 - ص 393؛ المختصر في أخبار البشر، جـ 3، ص 119؛ الذيل على الروضتين، ص 113.
وتوجه الملك الأفضل إلى شميساط ولم يتحرك بعدها في طلب مُلك إلى أن مات سنة اثنتين وعشرين وستمائة - كما سنذكره إن شاء الله تعالى.
وعاد الملك الأشرف إلى حلب وبلغه وفاة أبيه العادل.
وفي تاريخ
(1)
بيبرس: وفي هذه السنة سار عز الدين كيكاوس ملك الروم إلى ولاية حلب قصدا للتغلب عليها، ومعه الأفضل بن صلاح الدين، وسبب ذلك أنه كان بحلب رجلان شريران ساعيان في أذية الناس، فكرههما الناس، فخرجا من حلب وتوجها إلى كيكاوس وحسنا له أخذ حلب وبلادها، وأنه لن يقوم في وجهه أحد، فأشير عليه إن لم يكن معه أحد من بيت أيوب لم يصل إلى شيء من البلاد. وكان الأفضل بن صلاح الدين بن أيوب في طاعته، فأرسل إليه وطلب حضوره معه ليفتح به البلاد، ويكون له جميع ما يفتحانه منها، ولا يكون لكيكاوس سوى الخطبة. وحسن هذا الأمر للأفضل، وصاحب حلب ملازم القلعة لا ينزل منها ساعة، وقد جمع العساكر والعرب وخاف من أهل البلد أن يخرجوا إلى الأفضل ويصيروا معه، فأرسل العزيز صاحب حلب إلى الأشرف بن العادل يستدعيه ويستنجده.
وأما كيكاوس فإنه سار إلى أن أخذ قلعة رعبان، ولم يعط الأفضل منها شيئا، ففترت نيته عن قصد البلاد وأخذها، وسير كيكاوس جاليشه إلى حلب فكسره جاليش العزيز، فمضى على وجهه من هناك، وأسرت العرب من خيانتهم ورجالتهم كثيرًا وغنموا أكثر قماشهم. وكان كيكاوس صغير السن قليل الخبرة بالحرب، فوصل إليه بعض جيوشه المنهزمين فأغلق عليهم دارا فأحرقها ثم اتفق أنه هلك واستعاد الأشرف تل باشر وجميع القلاع التي أخذها. وقال أبو شامة
(2)
: لما عاد كيكاوس إلى بلده من كسر الأشرف له بحلب اتهم أقوامًا من أمراء دولته أنهم قصروا في قتال الحلبيين فسلق بعضهم في القدور وجعل آخرين في بيت وأحرقهم فأخذه الله بغتة فمات فجأة سكرانا. وقيل: ابتلى في بدنه فتقطع. وكان أخوه علاء الدين كيقباد محبوسا في قلعة وقد أمر بقتله فبادر الأمراء فأخرجوه وأقاموه في الملك. وكانت وفاة كيكاوس في شوال من هذه السنة، وهو الذي أطمع الفرنج في دمياط.
(1)
ورد هذا الخبر في الكامل، جـ 10، ص 391. ص 393؛ الذيل على الروضتين، ص البشر، جـ 3، ص 119.
(2)
الذيل على الروضتين، ص 113.
وفي تاريخ المؤيد
(1)
وفي سنة ست عشرة وستمائة توفى الملك الغالب عز الدين كيكاوس بن كيخسرو بن قليج أرسلان بن مسعود بن قليج أرسلان صاحب بلاد الروم، وكانت ولايته في سنة سبع وستمائة، وكان قد تعلق به مرض السل واشتد مرضه ومات، فملك بعده أخوه كيقباذ.
وفي المرآة
(2)
: وكان كيكاوس جبارا ظالما فاسقا سفاكا للدماء.
ومنها أنه ولي حسبة بغداد الصاحب محيي الدين يوسف ابن الشيخ أبي الفرج بن الجوزي وهو مع ذلك يذكر ميعاد الوعظ على قاعدة أبيه وشكرت مباشرته للحسبة.
وقال السبط في المرآة: وفيها أعيد خالي أبو محمد يوسف إلى الحسبة وأفرج الخليفة عن ولده أبي نصر محمد وأذن له في الركوب حيث شاء.
ومنها أنه وصل رسول خوارزم شاه إلى الملك العادل وهو بمرج الصفر، فبعث في الجواب الخطيب الدولعي والنجم خليل قاضى العسكر فوصلا إلى همذان فوجدا خوارزم شاه قد اندفع من بين يدي الخطأ وقد خامر عليه عسكره فسار إلى حدّ بخاري، فاجتمعا بولده جلال الدين فأخبرهما بوفاة العادل فرجعا إلى دمشق.
ومنها أن عماد الدين زنكي بن أرسلان شاه بن مسعود بن مودود بن زنكي بن آقسنقر استولى على بعض القلاع المضافة إلى مملكة الموصل وقد تقدم في سنة سبع وستمائة
(3)
أن أرسلان شاه عند وفاته جعل مملكة الموصل لولده القاهر مسعود، وأعطى ولده الأصغر عماد الدين زنكي المذكور قلعتى العقر وشوش. فلما مات أخوه القاهر وأجلس ولده أرسلان شاه بن القاهر في المملكة. وكان به قروح وأمراض تحرك عماد الدين زنكي وقصد العمادية واستولى عليها، ثم استولى على قلاع الهكارية والزوزان، فاستنجد بدر الدين لؤلؤ المستولى على ملك الموصل وتدبير أرسلان شاه بالملك الأشرف بن العادل ودخل في طاعته، فأنجده الأشرف بعسكر وساروا إلى زنكي بن أرسلان شاه فهزموه، وكان زنكي متزوجا ببنت مظفر الدين كوكبوري صاحب إربل، وأم
(1)
المختصر في أخبار البشر، جـ 3، ص 124 (وقد أورد هذا الحدث في وفيات مينة 616 هـ.
(2)
سبط ابن الجوزي، جـ 8، ص 392.
(3)
المختصر، جـ 3، ص 121.
البنت ربيعة خاتون بنت أيوب أخت الملك العادل زوجة مظفر الدين. فكان مظفر الدين لا يترك ممكنا في نجدة صهره زنكي المذكور. ويبالغ في عداوة بدر الدين لؤلؤ لأجل صهره.
وفي تاريخ بيبرس
(1)
: ولما رأى بدر الدين لؤلؤ خروج القلاع من يده واتفاق مظفر الدين وعماد الدين عليه أرسل إلى الملك الأشرف ابن الملك العادل وهو صاحب ديار الجزيرة وخلاط، يطلب منه المعاضدة وانتمى إليه وصار في طاعته، فأجاب الأشرف بالقبول والفرح به والاستبشار، وبذل له المساعدة والمحاربة دونه واستعادة ما أخذ من القلاع التي كانت له. وكان الملك الأشرف حينئذ نازلا بظاهر حلب لما ذكرناه من تعرض كيكاوس ملك بلاد الروم إلى أعمالها، وملكوا بعض قلاعها، فأرسل الأشرف إلى مظفر الدين يقبح هذه الحالة ويقول له: إن هذه القاعدة تقررت بين جميعنا بحضور رُسلك وإنا نكون على الثالث إلى أن يرجع إلى الحق، ولابد من إعادة ما أُخذ من بلاد الموصل لنَدوُم على اليمين التي استقرت بيننا، فإن امتنعت وأصررت على معاضدة زنكي ونصرته، فأنا أجيء بنفسي وعساكري وأقصد بلادك وغيرها وأسترد ما أخذتموه وأعيده إلى أصحابه. والمصلحة أنك توافق وتعود إلى الحق لنجعل شغلنا جمع العساكر وقصد الديار المصرية، وإجلاء الفرنج عنها قبل أن يعظم خطبهم ويستطير شرهم. فلم تحصل الإجابة منه إلى شيء من ذلك. وكان ناصر الدين محمود صاحب حصن كيفا وآمد قد امتنع عن موافقة الأشرف وقصد بعض بلاده ونهبها، وكذلك صاحب ماردين، واتفقا مع مظفر الدين فلما رأى الأشرف ذلك جهز عسكرًا وسيره إلى نصيبين نجدة لبدر الدين إن احتاج إليهم.
ولما عاد
(2)
العسكر البدرى من حصار العمادية خرج منها عماد الدين زنكي وتوجه إلى قلعة العَقر التي له ليتسلط على أعمال الموصل التي بالصحراء، فإن بلد الجبل كان قد فرغ منه وأمره مظفر الدين بطائفة كثيرة من العسكر، فلما اتصل الخبر ببدر الدين سير طائفة من عسكره إلى أطراف بلاد الموصل يحمونها، فأقاموا على أربعة فراسخ من الموصل، ثم اتفقوا فيما بينهم على أن يسيروا إلى زنكي ويحاربوه وهو عند العقر في
(1)
ورد هذا الخبر في الكامل، جـ 10، ص 384 - ص 385.
(2)
ورد هذا الخبر في الكامل، جـ 10، ص 385.
عسكره، ففعلوا ذلك ولم يأخذوا أمر بدر الدين، وساروا جريدة ليس معهم إلا سلاحهم ودواب يقاتلون عليها، وسَرَوْا ليلتهم جمعاء فصبحوا عماد الدين زنكي فالتقوا تحت العقر، وعظم الخطب فأنزل الله نصره على العسكر البدرى، فانهزم زنكي وعسكره وسار إلى إربل منهزما، وعاد العسكر البدرى إلى منزلته التي كان بها وحضرت رسل الخليفة في الصلح فاصطلحوا.
ومنها أن عماد الدين زنكي ملك قلعة كواشي
(1)
، وملك بدر الدين لؤلؤ تلعفر
(2)
، وملك الأشرف
(3)
سنجار.
وهذه كواشي من أحصن قلاع الموصل وأعلاها وأمنعها، وكان أهلها يظهرون لبدر الدين الطاعة ويبطنون الطاعة لزنكي، فراسلوا زنكي في المجيء إليهم وأخرجوا نواب بدر الدين عنهم وامتنعوا بها، وكانت رهائنهم بالموصل، فسار إليهم وتسلم القلعة، فراسل مظفر الدين بإعادة كواشي ويُذَكِّره الإيمان والعهود القريبة، فلم يجب. وأرسل حينئذ بدر الدين إلى الملك الأشرف وهو بحلب يستنجده، فسار وعبر الفرات إلى حران، فاختلفت عليه الأمور من عدة جهات منعته من المسير، وسبب هذا الاختلاف أن مظفر الدين كان يُراسل أصحاب الأطراف يستميلهم ويُحَسِّن لهم الخروج على الأشرف ويخوفهم منه إن خلا وجهه، فأجابه إلى ذلك عز الدين كيكاوس صاحب بلاد الروم، وكان مظفر الدين قد راسل جماعة من الأمراء الذين مع الأشرف واستمالهم فأجابوه منهم: أحمد بن المشطوب الذي ذكرنا أنه فعل على دمياط ما فعل وهو أكبر أمير كان معه ووافقه غيره وفارقوا الأشرف ونزلوا بدنسير تحت ماردين ليجتمعوا مع صاحب آمد ويمنعوا الأشرف من العبور إلى الموصل لمساعدة بدر الدين، فلما اجتمعوا هناك عاد صاحب آمد إلى موافقة الأشرف وفارقهم وسلم إليه الأشرف مدينة حاني وجبل جور، فلما فارقهم صاحب آمد انحل أمرهم واضطر بعض الأمراء الذين فارقوا الأشرف إلى العود إلى طاعة
(1)
قلعة كواشي: قلعة حصينة في الجبال التي في شرقي الموصل، وكانت تسمى قديمًا أَرْدُمُشت، وكواشي اسم لها مُحْدَثٌ. معجم البلدان، جـ 4، ص 310.
(2)
تلعفر = تل أعفر = تل يعفر: قلعة بين سنجار وبين الموصل وهى إلى سنجار أقرب. انظر أبو الفدا، تقويم البلدان، ص 286 - ص 285؛ وقد ذكر ابن الأثير أن الخاصة تطلق عليها تل يعفر، أما العامة فتطلق عليها تل أعفر. انظر: الكامل، جـ 10، ص 388.
(3)
المقصود الملك الأشرف موسى بن الملك العادل.
الأشرف، وبقي ابن المشطوب وحده فعاد إلى نصيبين ليسير إلى إربل، فخرج إليه شحنة نصيبين فيمن عنده من الجند فقاتله وهزمه، وتفرق من معه. ومضى ابن المشطوب منهزما، فلما اجتاز بطرف بلد سنجار سير إليه صاحبها فرخشاه بن زنكي بن مودود عسكرا فهزموه وأخذ أسيرا وحُمل إلى سنجار، وكان صاحبها موافقًا للأشرف وبدر الدين، فلما صار عنده ابن المشطوب حَسَّن له مخالفة الأشرف فأجابه إلى ذلك وأطلقه، فاجتمع معه من يريد الفساد وقصدوا البقعاء
(1)
- من أعمال الموصل - ونهبوها وعدة قرى، وعادوا إلى سنجار ثم ساروا إلى تلى أعفر ليقصدوا بلد الموصل وينهبوا تلك الناحية
(2)
.
فلما سمع بدر الدين بذلك سير إليه عسكرًا فقاتلهم فهزموه فمضى منهزمًا وصعد إلى تل أعفر واحتمى بها، فنازلوه وحصروه فيها، وسار بدر الدين من الموصل إليه، وزحف عليه وأخذه وأحضره إلى الموصل فسجنه بها، ثم أخذه منه الأشرف فسجنه بحران إلى أن مات.
وأما الأشرف فإنه لما أطاعه صاحب الحصن وآمد وتفرق الأمراء رحل من حران فنزل على دنيسر واستولى على بلد ماردين ومنعه الميرة، فاصطلح معه على أن يُسلم إليه رأس
(3)
العين ويقطعها لصاحب ماردين، ورحل يريد الموصل، فلقيه صاحب سنجار فطلب منه أن يأخذها ويعوّضه عنها الرقة، وذلك لأن عسكره بها خذلوه فإنهم خافوا على أنفسهم منه، فتسلم الأشرف بن العادل سنجار من صاحبها فرخشاه بن زنكي، وعوضه الرقة، وهذا آخر ملوك البيت الأتابكي بسنجار
(4)
.
ومنها أن الملك الأشرف وصل إلى الموصل وكان يوم نزوله بها يوما مشهودا، ووافقه وصول رسل الخليفة إليه بالصلح بينه وبين مظفر الدين لتزول الفتن وتعاد القلاع إلى بدر
(1)
البقعاء: كورة كبيرة من أرض الموصل وهي بين الموصل ونصيبين قصبتها برقعيد. انظر معجم البلدان، جـ 1، ص 701.
(2)
ورد هذا الخبر في الكامل، جـ 10، ص 387 - ص 388؛ مفرج الكروب، جـ 4، ص 21 - ص 22.
(3)
رأس العين = رأس عين: مدينة كبيرة مشهورة من مدن الجزيرة بين حران ونصيبين ودنيسر، وبها عيون كثيرة عجيبة صافية تجتمع كلها في موضع فتصير نهر الخابور.
معجم البلدان، جـ 2، ص 731؛ تقويم البلدان، ص 278.
(4)
ورد هذا الخبر في الكامل، جـ 10، ص 389.
الدين ما عدا قلعة العمادية
(1)
، فإنها تبقى بيد زنكي. وكان الجند قد ضجروا من طول البيكار فحلفوا على هذا وتقرر الحال، ورحل الأشرف عن الموصل، وأرسلوا إلى القلاع التي تقرر تسليمها إلى بدر الدين، فلم يسلم منهم إلا قلعة واحدة وامتنع باقي القلاع من التسليم لبدر الدين.
وفيها
(2)
.....................................................
وفيها حج بالناس من العراق أقباش الناصري بالباء الموحدة من تحتها.
ذكر من توفي فيها من الأعيان.
القاضي شرف الدين أبو طالب عبد الله بن زين القضاء عبد الرحمن بن سلطان بن يحيى بن علي، القرشي الدمشقي من بني عم ابن الزكي وكان أول من درس بالشامية
(3)
البرانية وبالرواحية
(4)
أيضا، وناب في الحكم عن ابن عمه محيي الدين ابن الزنكي، مات في شعبان من هذه السنة ودفن عند مسجد القدم. قال أبو شامة
(5)
: كانت وفاته يوم الأحد ثالث عشر شعبان، وصلى عليه بجامع دمشق، وكان فقيهًا فاضلا نزها لطيفا عفيفا.
أبو سليمان
(6)
داود بن أبي الغنائم أحمد بن يحيى العزيز البغدادي، كان ينسب إلى علم الأوائل، ولكنه كان يتستر بمذهب الظاهرية، ولهذا قال فيه ابن الساعي الداودي مذهبا المعري أدبًا واعتقادًا. ومن شعره قوله:
إلى الرحمن أشكو ما ألاقي
…
غداة غدوا على هوج النياق
سألتكم بمن ذم المطايا
…
أَمَرَّ بكم أَمرُّ من الفراق
وهل داءٌ أَشَدُّ من التنائي
…
وهل عيش أَلذُّ من التلاقي
(1)
قلعة العمادية: هي قلعة شمالي الموصلي بناها عماد الدين زنكي سنة 537 هـ مكان قلعة خربة من قلاع الأكراد تسمي قلعة الشعباني، انظر ابن الأثير، التاريخ الباهر، ص 64؛ تقويم البلدان ص 275.
(2)
بياض في الأصل بمقدار نصف سطر.
(3)
المدرسة الشامية البرانية: أنشأتها ست الشام بنت نجم الدين أيوب بن شاذي بن مروات، أخت الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب. انظر الدارس، جـ 1، ص 277، 300.
(4)
المدرسة الرواحية: شرقي مسجد ابن عروة بالجامع الأموي ولصيقة شمالي جيرون وغربي الدولعية، وقبلي الشريفية الحنبلية، وبانيها زكي الدين أبو القاسم التاجر المعروف بابن رواقه. الدارس؛ جـ 1، ص 265 - 268.
(5)
الذيل على الروضتين، ص 110، مرآة الزمان، جـ 8، ص 390.
(6)
الذيل على الروضتين، ص 110، مرآة الزمان، جـ 8، ص 390.
قال في المرآة
(1)
: أبو سلمان الملهمي من بني ملهم الضرير، كان يسكن رباط المأمونية، وكان على رأي الأوائل، وكان فاضلا إلا أنه كان يسقف من جنس ابن الراوندي. قال لي يوما: قد بلغني أنك جميل الصورة فصيح اللسان، فلا تضيع عمرك فيما ضيع جدك فيه عمره، واشتغل بعلوم الأوائل. فقلت له: حتى أتمم قراءة القرآن بالروايات. فقال: هم كذا، وذكر ألفاظا عاب بها القرآن، قرأ المعوذتين ثم قال: حجنجلة بحجنجلة. وكانت وفاته في المحرم، ودفن بالشونيزية وقد جاوز سبعين سنة.
أبو المظفر
(2)
محمد بن علوان بن مهاجر بن علي بن مهاجر الموصلي، تفقه بالنظامية وسمع الحديث، ثم عاد إلى الموصل فساد أهل وقته، وتقدم في الفتوى والتدريس بمدرسة بدر الدين لؤلؤ وغيرها، وكان صالحا دينًا.
أبو الطيب رزق الله
(3)
بن يحيى بن رزق الله بن يحيى بن خليفة بن سلطان
(4)
بن رزق الله بن غانم بن غنام الباخرزي، المحدث الجوال الرحال الثقة الحافظ الأديب الشاعر، توفي في هذه السنة.
الحُجة على بن نصر
(5)
بن هرون النحوى الحلى، الملقب بالحجة، قرأ على ابن الخشاب وغيره. مات في هذه السنة.
العميدي
(6)
أبو حامد محمد بن محمد بن محمد وقيل: أحمد بن محمد العميدي الفقيه الحنفي المذهب السمرقندي الملقب ركن الدين. كان إماما في فمن الخلاف خصوصا الجَسْتُ
(7)
، وهو أول من أفرده بالتصنيف، ومن تقدمه كان يمزجه بخلاف المتقدمين، وكان اشتغاله فيه على رضى الدين النيسابوري وهو أحد الأركان الأربعة، فإنه كان من جملة المشتغلين على رضى الدين أربعة أشخاص تميزوا وتبحروا
(1)
مرآة الزمان، جـ 8، ص 390، الذيل على الروضتين، ص 110.
(2)
ابن كثير، البداية والنهاية، جـ 13، ص 89.
(3)
البداية والنهاية، جـ 13، ص 89.
(4)
"سليمان" كذا في البداية والنهاية، جـ 13، ص 89.
(5)
الكامل، جـ 10، ص 395.
(6)
انظر ترجمته في وفيات الأعيان، جـ 4، ص 257 - ص 259.
(7)
الجَسْتُ: لفظة فارسية معناها البحث. وقد أصبحت تطلق على نوع من فروع الخلاف. انظر وفيات الأعيان، جـ 4، ص 257.
في هذا الفن، وكل واحد منهم ينعت بالركن، وهم: ركن الدين الطاوسي، وركن الدين السمرقندي العميدى المذكور، وركن الدين إمام زاده، والرابع شُذّ عنه. وصنف العميدي في هذا الفن طريقة وهي مشهورة بأيدي الفقهاء، وصنف الإرشاد واعتني بشرحها جماعة من أرباب هذا الشأن منهم: القاضي شمس الدين أبو العباس أحمد بن الخليل بن سعادة بن جعفر بن عيسى، الفقيه الشافعي الخُويّ قاضي دمشق، والقاضي أوحد الدين الدوني قاضي منبج، ونجم الدين المرندي، وبدر الدين محمود المراغي وغيرهم، وصنف أيضا كتاب النفائس واختصره شمس الدين الخُوّي المذكور وسماه عرائس النفائس، وصنف أشياء مستملحة على هذا الأسلوب. واشتغل عليه خلق كثير وانتفعوا به من جملتهم نظام الدين أحمد ابن الشيخ جمال الدين أبي المجاهد محمود بن أحمد بن عبد السيد ابن عثمان بن نصر بن عبد الملك البخاري الحنفي المعروف بالحصيري، صاحب الطريقة المشهورة، وغيره. وكان كريم الأخلاق كثير التواضع طيب المعاشرة، توفي ليلة الأربعاء تاسع جمادى الآخر سنة خمس عشرة وستمائة بخاري.
والعميدي: بفتح العين المهملة وكسر الميم وسكون التاء آخر الحروف، وفي آخره دال مهملة. قال ابن خلكان
(1)
: ولا أعرف هذه السنة إلى ماذا ولا ذكرها السمعاني.
أبو العباس أحمد بن برنقش بن عبد الله العمادى، كان من أمراء سنجار وكان أبوه من موالى الملك عماد الدين زنكي صاحبها، وكان أحمد هذا شاعرًا ذا مال جزيل وأملاك كثيرة، وقد احتاط على أموال قطب الدين محمد بن عماد الدين زنكي وأودعه سجنا فَنُسِىَ فيه ومات كمدًا. ومن شعره:
تقول وقد ودعتها ودموعها
…
على نحرها من خشية البين تلتقي
مضى أكثر العمر الذي كان نافعا
…
رويدك فاعمل صالحا في الدين تقي
ابن الدامغاني
(2)
، القاضي عماد الدين قاضي القضاة ببغداد واسمه أبو القاسم عبد الله بن أبي الحسين، ولد في رجب سنة أربع وستين وخمسمائة وتفقه على مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه، وعرف الفرائض والحساب وقسمة التركات مع
(1)
انظر وفيات الأعيان، جـ 4، ص 258.
(2)
البداية والنهاية، جـ 13، ص 89.
السمت والوقار والدين والفقة، وأول ولايته القضاء في سنة ست وثمانين وخمسمائة، وعزل في رجب سنة أربع وتسعين وخمسمائة، فأقام ثماني سنين قاضيًا ثم أعاده ابن مهدي في سنة ثلاث وستمائة، ثم عزل في سنة إحدى عشرة وستمائة، فكانت ولايته الأخيرة تسع سنين وشهور، وتوفي في ذي القعدة وصلى عليه بالنظامية ودفن بالشونيزية. سمع الحديث من أبيه أبي المظفر الحسين بن أبي الحسين أحمد قاضي القضاة، ومن عمه أبي الحسن على قاضي القضاة، ومن أبي الفتح بن الميداني وغيرهم.
ابن العتبري
(1)
، أبو الحسن علي بن أحمد بن روح، القاضي المعروف بابن العتبري، كان نائبا عن القضاة ببغداد، وصحب أبا النجيب السهروردي وتفقه عليه، وقرأ العربية على ابن القصار، وكان شيخا كيسًا فاضلا متواضعًا، وكانت وفاته في رمضان. ومن شعره:
وقد كنت أشكوك الحوادث بُرهة
…
واستمرض الأيام وهي صحائح
إلى أن تغشتني وقيت حوادث
…
تحقق أنّ السالفات مَنائح
نجاح بن عبد الله
(2)
، شرابي الخليفة، ويلقب نجم الدولة مملوك الإمام الناصر، مات في هذه السنة وكان جوادًا سمحا عاقلا دينًا، كثير الصدقات حسن المحضر، محسنًا إلى العلماء محبًا للمساكين، معظما لأهل الدين، وكان يأخذ للضعيف من القوى. وكان يسمى سلمان دار الخلافة، وكان ملازمًا للخليفة لا يغيب عنه ساعة واحدة، وكان أسمر اللون جميل الصورة فحلاً. ولما توفي في هذه السنة أمر الخليفة أن لا يتخلف عن جنازته أحد لا وزير ولا غيره، وصلى الخليفة عليه تحت التاج وحزن عليه حزنًا كبيرًا، وأخرج تابوته من باب البدرية، ومشى العالم بين يديه إلى جامع القصر، وكان بين يدي جنازته مائة بقرة، وألف شاة، ومائة قوصرة تمر، ومائة جمل على رؤوسهم الخبز، وعشرون حمالا على رؤوسهم ماء الورد، ومماليكه قد حزّوا شعورهم ولبسوا المسوح، والضجيج والبكاء قد ملأ بغداد، ولم ير في الإسلام مثل ذلك اليوم،
(1)
الذيل على الروضتين، ص 110.
(2)
مرآة الزمان، جـ 8، 394 - 395، الكامل، جـ 10، ص 394.
وعَبروا به إلى الجانب الغربي إلى تربة أم الخليفة، ودفن بين يدي القبة التي فيها أم الخليفة، وتصدق عنه الخليفة من مال نجاح بعشرة آلاف دينار على المشاهد؛ مشهد علي رضي الله عنه، والحسين، وموسي بن جعفر رضي الله عنهم، وبعث بمثلها إلى مكة والمدينة، وأعتق الخليفة مماليكه.
وكانت له كتب خمس مائة مجلدة أوقفها في تربة أم الخليفة، وكتب عليها اسم الشرابي
قال السبط
(1)
في المرآة: ومن العجائب أنه توفي في هذه السنة ثلاثة من الملوك الأكابر: الملك العادل، وخوارزم شاه، وصاحب الروم.
وتوفي أيضا ببغداد ثلاثة من نواب القضاة نزل بهم القضاء المحتوم: ابن الرطبي المحتسب، وابن البندنجى العدل، وابن العنبري، الكل في شهر واحد. فابن الرطبي مات يوم الإثنين ثالث عشر رمضان، وابن البندنج في رابع عشر
(2)
، وابن العنبري في خامس عشر
(3)
. فقلت: ذكر أبو الفتح المنشئ وفاة خوارزم شاه في سنة سبع عشرة وستمائة، وتبعه في هذا بيبرس، وقال وهو الصحيح.
(1)
مرآة الزمان، جـ 8، ص 395.
(2)
"عشرة" في الأصل، والصحيح ما أثبتناه.
(3)
"عشرة" في الأصل، والصحيح ما أثبتناه.