الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرسالة الخامسة
عقيدة العرب في وثنيتهم
بسم الله الرحمن الرحيم
ليس من الغريب أن تُجهل حقيقة تاريخية مضت عليها آلاف السنين، أو كان العلم بها خاصًّا بأفراد قليلين، أو لم تكن مما يهمّ حفظه ونقله.
وإنَّما الغريب أن تُجهل حقيقة أكبر من ذلك، كعقيدة العرب في وثنيتها، فإنَّها خفيت منذ أزمان، حتى نسمع ابن جرير ــ كما سيأتي ــ ينعى على مجاهد أنَّه لم يعرفها، ومولدُ مجاهد قبل العشرين من الهجرة، فليس بينه وبين عصر الوثنيّة إلَّا نحو عشرين سنة، وقد أدرك كثيرًا ممَّن أدركوها ودانوا بها. ثم هي ممَّا يهمُّ المسلمين معرفته؛ فإنَّ الإسلام إنَّما جاء لنقض المختلِّ منها وممَّا يشبهها، وكثير من الآيات القرآنية إنَّما هي في محاجَّة أهلها ومناقشتهم، فمن لم يعرفها يصعب عليه فهم تلك الآيات الكثيرة، بل ربَّما يكون الأمر الأعظم من ذلك.
وأحبُّ أن ألقي في كلمتي هذه بعض الضوء على هذه الحقيقة، وإن لم أوفِّها حقّها.
1 -
توحيدهم:
كان العرب يعتقدون وجود الله عز وجل وربوبيته، وأنَّه الذي يرزق من السماء والأرض، والذي يملك السمع والأبصار، ويخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، ويدبِّر الأمر كلَّه، له الأرض وما فيها، رب السماوات السبع ورب العرش العظيم، بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يُجار عليه، خلق السماوات والأرض، وسخر الشمس والقمر، يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر له، ينزّل من السماء ماء فيحيي به الأرض، خلق السماوات والأرض وهو العزيز العليم.
شهد لهم بهذا وبأكثر منه القرآن نفسه، وكرَّر بعضه في عِدَّة آيات.
وذلك يؤكِّد أنَّ هذا كان عقيدتهم كلهم.
فمن ذلك قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} [يونس: 31].
ومنه قوله سبحانه: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون: 84 ــ 89]. في آيات أخر
(1)
.
وذكر ابن جرير في تفسير قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 21 ــ 22]: عن ابن عباسٍ قال: "نزل ذلك في الفريقين جميعًا من الكفار والمنافقين، وإنَّما عَنَى بقوله: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}، أي: لا تشركوا بالله غيره من الأنداد التي لا تنفع ولا تضر وأنتم تعلمون أنه لا ربّ لكم يرزقكم غيره"
(2)
. ثم أخرج عن مجاهد:
(1)
العنكبوت (61 ــ 63)، الزمر (38)، الزخرف (9، 87). [المؤلف].
(2)
"تفسيره" ج 1 ص 126. [المؤلف].
"
…
وأنتم تعلمون أنَّه لا ندّ له في التوراة والإنجيل".
قال ابن جرير: "وأحْسَبُ الذي دعا مجاهدًا إلى هذا التأويل، وإضافة ذلك إلى أنَّه خطابٌ لأهل التوراة والإنجيل دون غيرهم = الظنُّ منه بالعرب أنَّها لم تكن تعلم أنَّ الله خالقها ورازقها، بجحودها وحدانية ربّها، وإشراكها معه في العبادة غيره
…
ولكنّ الله جلَّ ثناؤه قد أخبر في كتابه أنَّها كانت تقرّ بوحدانيّته، غير أنَّها كانت تشرك في عبادته".
ثم ذكر بعض الآيات، ثم قال: "فالذي هو أولى بتأويل قوله: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} إذْ كان ما كان عند العرب من العلم بوحدانية الله، وأنَّه مبتدع الخلق وخالقهم ورازقهم، نظير الذي كان من ذلك عند أهل الكتابين
…
= أن يكون تأويله ما قال ابن عباس
…
"
(1)
.
وممّا يناسب هذا أنَّ أحد شعرائهم أنشد في ملأ منهم:
أَلَا كُلُّ شيءٍ ما خلا اللهَ باطلُ
فلم يُنكَر عليه. وقال رجل ممَّن كان قد أسلم: صَدَقتَ.
فقال:
وكُلُّ نعيمٍ لا مَحالةَ زائلُ
فقال مسلم: كذبت، نعيم الجنة لا يزول.
فوثبوا على ذلك المسلم وآذوه
(2)
.
(1)
"تفسيره" ج 1 ص 126. [المؤلف].
(2)
راجع "صحيح البخاري"، كتاب بدء الخلق ــ باب أيام الجاهلية، و"صحيح مسلم"، كتاب الشعر. [المؤلف].
تنبيه: مقدار الحديث عندهما حيث أشار المؤلف رحمه الله (البخاري 3841، ومسلم 2256) بلفظ: "أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل".
وأما هذا الخبر كما ساقه المؤلف فليس فيهما، كما قد يوهم كلام المؤلف، بل رواه ابن إسحاق في مغازيه، كما في "سيرة ابن هشام"(2/ 215) و"البداية والنهاية" لابن كثير (4/ 227).
2 -
جمعهم بين الإيمان والشرك:
قال الله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106].
أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: "مِنْ إيمانهم إذا قيل لهم: من خلق السماء؟ ومن خلق الأرض؟ ومن خلق الجبال؟ قالوا: الله. وهم مشركون
…
".
وعن عكرمة قال: "تسألهم: من خلقهم؟ ومن خلق السماوات والأرض؟ فيقولون: الله. فذلك إيمانهم بالله، وهم يعبدون غيره".
ثم ذكر نحوه عن الشعبي، ومجاهد.
وفي رواية عن مجاهد: "إيمانُهم: قولهم: اللهُ خالقنا، ويرزقنا، ويميتنا. فهذا إيمان مع شرك عبادتهم غيره".
وعن قتادة قال: "هذا أنَّك لست تلقى أحدًا منهم إلَّا أنبأك أنَّ الله ربُّه، وهو الذي خلقه ورزقه؛ وهو مشركٌ في عبادته".
وأخرج نحوه عن عطاء.
وأخرج عن ابن زيد قال: "ليس أحدٌ يعبد مع الله غيره إلَّا وهو مؤمن بالله، ويعرف أنَّ الله ربُّه، وأنَّ الله خالقه ورازقه، وهو يشرك به
…
فليس أحدٌ يشرك به إلَّا وهو مؤمن به. أَلَا ترى كيف كانت العرب تلبِّي، تقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، إلَّا شريك هو لك، تملكه وما ملك. المشركون كانوا يقولون ذلك"
(1)
.
أقول: وتلبيتهم بنحو ما ذكر ثابتة في "صحيح مسلم"
(2)
.
وممَّا يناسب هذا ما رُوِي أنَّ المشركين لمَّا أرادوا الخروج إلى بدر تعلَّقوا بأستار الكعبة، قالوا: اللَّهم انصر أعلى الجُندَيْن، وأهدى الفئتين، وأكرم الحزبين.
وفي روايةٍ: أنَّ أبا جهل قال حين التقى الجمعان: اللَّهم ربنا! دينُنا القديم، ودين محمد الحديث، فأيّ الدِّينَيْن كان أحب إليك وأرضى عندك فانصر أهله اليوم
(3)
.
(1)
"تفسير ابن جرير" ج 13 ص 44 ــ 45. [المؤلف].
(2)
"صحيح مسلم"، كتاب الحج، باب التلبية. [المؤلف]. حديث (1185).
(3)
"روح المعاني" ج 3 ص 219. [المؤلف].
والرواية الأولى ذكرها كثير من المفسِّرين من قول السُّدي والكلبي، كما في "تفسير البغوي"(3/ 342)، و"تفسير ابن كثير"(4/ 33) وغيرهما.
وأما الرواية الثانية فقد أخرجها البيهقي في "الدلائل"(3/ 115) عن موسى بن عقبة في "مغازيه".
3 -
كفرُهم وشركهم:
نجد القرآن ينوِّع ما ينسبه إليهم إلى أنواع، مآلها إلى أمرين:
الأول: قولهم: الملائكة بنات الله.
الثاني: عبادتهم لغيره تعالى.
فأمَّا الأول، فإنَّه يقرِّعهم تارة بنسبة الولد إلى الله، كقوله: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا
…
} الآيات [مريم: 88 ــ 95].
وتارةً بجعل ذلك الولد إناثًا، كقوله سبحانه:{وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف: 15 ــ 18].
وتارةً بقولهم: الملائكة إناث، كقوله:{وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ} [الزخرف: 19]. إلى غير ذلك.
ومن المهم معرفة السبب الباعث على قولهم: "الملائكة بنات الله"، والذي يلوح لي أمور:
الأول: أنَّهم تلقوا ذلك ممَّن تلقوا منه عبادة الأصنام، وسيأتي.
الثاني: أنَّ الذي دعاهم إلى عبادة الأصنام، على أنَّها عبادة للملائكة ــ كما يأتي ــ اخترع لهم هذا القول: أن الملائكة ولد الله؛ ليهوِّن عليهم الأمر، فيقولوا: إذا عبدنا ولده فكأنَّنا إنَّما عبدناه.
الثالث: أنَّهم سقط إليهم عن أهل الكتاب أنَّهم يطلقون قولهم: "أبناء الله" على بعض الموجودات، فإنَّها تطلق في التوراة وغيرها بمعنى: المختارين لله
(1)
.
الرَّابع: أن العرب كانوا يرون العاقر ــ وهو مَنْ لا يولد له ــ معيبًا ناقصًا.
قال علقمة بن علاثة لعامر بن الطفيل، يفخر عليه:"إني لَوَلُود، وإنَّك لعاقر"
(2)
.
وقال عامر نفسه:
لَبِئس الفتى إن كنتُ أعورَ عاقرًا
…
جبانًا فلا أُغني لدى كلِّ مَشْهَد
(3)
فرأوا أنَّه ينبغي لهم أن ينزِّهوا ربهم عز وجل عن هذا العيب في زعمهم.
فأمّا سبب اختيارهم له سبحانه الإناث فهو أنَّهم يعرفون من عادتهم أنَّ الولد الذكر يشارك أباه في ملكه، حتى لقد يتغلَّب عليه، وأمّا الأنثى فهي كَلٌّ على أبيها، ليس لها شيء من ملكه، حتى إنَّهم لا يورِّثونها منه، وهي عندهم مستضعفة لا شأن لها مع أبيها ألبتَّة.
فاختاروا أن يقولوا: إنَّ لله عز وجل بنات؛ ليكونوا قد نزَّهوه عن العقر، بدون أن يلزمهم أن يشركوا معه في الملك والتدبير.
(1)
راجع: "إظهار الحق" ج 2 ص 9 ــ 12. [المؤلف].
(2)
"خزانة الأدب" ج 3 ص 492. [المؤلف].
(3)
كذا ورد البيت في "الزاهر" لابن الأنباري (1/ 597)، ولكن بلفظ:"فما أغنَى" والبيت من قصيدة رائيةٍ مفضلية، وروايته في "ديوانه"(ص 64)، و"المفضليات"(ص 173)، و"الشعر والشعراء" لابن قتيبة (1/ 334) وغيرها:
فبئس الفتى إن كنت أعور عاقرًا
…
جبانًا فما عذري لدى كل محضرِ
وأمَّا جعلهم تلك البنات هي الملائكة فلأنَّه لم يبلغهم عن المِلَل السماوية أنَّ هناك أحياء غائبين غير الله عز وجل، إلَّا الملائكة والجن، والجنُّ مُبْعَدون مذمومون، فلم يبق عندهم إلَّا الملائكة، فقالوا: الملائكة بنات الله، تعالى الله عن قولهم علوًّا كبيرًا.
ومع هذا فالذي يظهر أنَّهم لمَّا أطلقوا هذه الكلمة "بنات الله" أرسلوها مجملة، بل لعلَّ أوائلهم إنَّما أطلقوها تجوُّزًا، بمعنى: المختارات عند الله، غير أنّه لمَّا طال العهد صاروا يرون لها صلة أقرب من الاختيار، وإن لم يحدِّدوها، يدلُّك على ذلك قول الله عز وجل في الردّ عليهم:{أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ} [الأنعام: 101].
ومثل هذه الحُجَّة إنَّما تُلْقَى إلى من يعترف أنَّه لم تكن له صاحبة.
ويؤيّده ما رُوِي أنَّ أبا بكر لمَّا أسلم جاء طلحة وجماعة يخاصمونه، فقال أبو بكر: إلام تدعوني؟ قال: أدعوك إلى عبادة اللَّات والعُزَّى، وزعم أنهنّ بنات الله، فقال أبو بكر: فمن أُمُّهم؟ فسكت طلحة. فقال طلحة لأصحابه: أجيبوا الرجل، فسكت القوم؛ فأسلم طلحة
(1)
.
وسيأتي أنَّ الأصل في اللَّات والعُزَّى ومناة عندهم أنَّها أسماء للملائكة، ثم سمّوا بها تماثيلهم، التي هي الأصنام.
فأمَّا ما يُحكى عنهم أنَّهم كانوا يقولون: أمَّهات الملائكة بنات سروات الجن
(2)
= فلم يثبت.
(1)
راجع: "أسباب النزول" للسيوطي في الآية (36) من سورة الزخرف. [المؤلف].
ذكره عن ابن أبي حاتم، وهو في "تفسيره"(10/ 3283).
(2)
أخرجه البخاري معلَّقًا في "صحيحه"، كتاب بدء الوحي، باب ذكر الجن وثوابهم وعقابهم، وفي كتاب التفسير، باب سورة الصافات، عن مجاهد رحمه الله من قوله. ووصله الحافظ ابن حجر في "التغليق"(3/ 514) و (4/ 292). وأخرجه البيهقي في "الشعب"(1/ 66) وآدم بن أبي إياس وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم كما في "الدر المنثور" للسيوطي (12/ 484) من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
فإن ثبت فعسى أن يكون اختراعًا من بعض متسرّعيهم، كابن الزبعرى، اخترعه بعد قصة طلحة. ولو كان قول جميعهم لكثر في القرآن تبكيتهم عليه، كما كثر في قولهم:"بنات الله".
وأمَّا قول الله عز وجل: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} [الصافات: 158]؛ فقد جاء عن جماعة من السلف، منهم: مجاهد، وعكرمة، وأبو صالح، وقتادة= أنَّ المراد بالجِنَّة: الملائكة. واختاره الجُبَّائي
(1)
.
ويُبْعِدُ ما قيل: إنَّ الجِنَّة هم الجن، وأنَّ المراد [من] قولهم:"بنات الله": بناتُ سروات الجن = أنَّ النَّسب لا يكاد يُطلق على المصاهرة. قال الراغب: "النَّسَب والنِّسْبَة: اشتراك من جهة أحد الأبوين
…
كالاشتراك بين الآباء والأبناء"
(2)
.
وفي الآية وجه آخر سيأتي.
وأمَّا الأمر الثاني، وهو عبادتهم غير الله، فنجد القرآن يخاطبهم تارة على أنَّهم يعبدون الملائكة، كقوله:{وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف: 19 ــ 20].
(1)
راجع "روح المعاني" ج 7 ص 320. [المؤلف].
(2)
"مفردات الراغب" مادة (ن س ب). [المؤلف]. ينظر (ص 490).
وتارة على أنَّهم يعبدون إناثًا فحسب، كقوله:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ} [الزمر: 38].
وتارة على أنَّهم يعبدون ما لا وجود له ألبتَّة، قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} [العنكبوت: 42]. وقال سبحانه: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: 18].
وقولهم: "هؤلاء" إشارة إلى مذكورٍ في عبادتهم، كأنَّهم كانوا يعبدونها ويسمّونها بالأسماء التي اخترعوها، كما يأتي، ثم يقولون: "هؤلاء
…
إلخ". فهم يَدْعُون ــ فيما يزعمون ــ بنات الله. ولا شيء هو بنتٌ لله.
وتارة على أنَّهم يعبدون إناثًا من الشياطين، قال تعالى:{إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا} [النساء: 117].
وهذا إلزام لهم، كأنَّه قيل لهم: أنتم تعبدون إناثًا غيبيّةً، ولا تعرفون جنسًا غائبًا إلَّا الملائكة والجن، فأمَّا الملائكة فليسوا بإناثٍ، ولا فيهم إناثٌ، وإنَّما الإناث الغيبيَّة من الجن. ومن هنا يظهر معنى قوله:{وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} [الصافات: 158]، وهو الوجه الذي تقدم الوعدُ به.
ثم قال تعالى: {وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا} [النساء: 117]، هذا ــ والله أعلم ــ إلزام آخر مبنيٌّ على الأول، وأدهى منه عليهم، كأنَّه قال: إذا
لزمهم أنَّهم يَدْعُون إناثًا من الشياطين، فدعاؤهم الله تعالى مدخول؛ لأنَّهم يصفون الذي يَدْعُونه بأنَّه أبو تلك الإناث، وربُّ العالمين ليس بأبيهنَّ، وإنَّما أبوهنَّ الشيطان، فإذا دعوا أباهنَّ فإنَّما يَدْعُون الشيطان.
وهذا أحد الوجوه التي باعتبارها صحَّ أن يُطلَق أنَّ الكفار لم يكونوا يعبدون الله. وعليه قوله تعالى: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون: 1 - 3].
ويؤكِّد الإلزام الأول أنَّ من عادة الشيطان التعرُّض للعبادات الباطلة، حتى تكون في الصورة له، كما جاء في الحديث في ذكر الشمس:"فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان، وحينئذٍ يسجد لها الكفار"
(1)
.
لمَّا علم الشيطان أنَّ من الناس من يسجد للشمس عند طلوعها صار إذا طلعت على قوم جاء حتى يقوم بينهم وبينها، يمنِّي نفسه أنَّهم إنِّما سجدوا له، قائلًا: أنا الذي أمرتهم أن يسجدوا للشمس، فأطاعوني، فأنا أولى بسجودهم من الشمس.
ويوضّح ذلك: ما أخرجه النسائي
(2)
وابن مردويه عن أبي الطفيل قال: لمَّا فتح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكة بعث خالد بن الوليد إلى نخلة، وكانت بها العُزَّى، فأتاها خالد وكانت ثلاث سَمُرات، فقطع السَّمُرات وهدم البيت الذي كان عليها، ثم أتى النّبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره، فقال:"ارجع فإنَّك لم تصنع شيئًا"،
(1)
"صحيح مسلم"[832]، كتاب الصلاة، باب إسلام عمرو بن عبسة. [المؤلف].
وأخرجه البخاري (3272)، من حديث ابن عمر رضي الله عنه، ومسلم (612)، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، لكن دون ذكر سجود الكفار لها.
(2)
"السنن الكبرى" للنسائي (6/ 474).
فرجع خالد، فلمَّا أبْصَرَتْه السَّدَنة مضوا وهم يقولون: يا عُزَّى! يا عُزّى! فأتاها فإذا امرأة ناشرة شعرها، تَحْثُو على رأسها، فجعل يضربها بالسيف حتى قتلها، ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره، فقال عليه الصلاة والسلام:"تلك العُزَّى".
وفي رواية: فقطعها، فخرجت منها شيطانة، ناشرة شعرها
…
(1)
.
فالشياطين لمَّا سوَّلوا للإنس أن يقولوا: إن لله بنتًا اسمها "العُزَّى"، ويتَّخذوا لها وثنًا ويعبدوه = وكَّلَ الشياطين بذلك الوثن أنثى منهم، قائلين: هذه العُزَّى؛ لأنَّها أنثى غيبية، فأمَّا الملائكة فليسوا بإناث.
وتارة على أنَّهم يعبدون الجن، قال تعالى:{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ: 40 ــ 41].
أكثر أهل العلم يفسِّرون عبادة الشياطين بطاعتهم. والتحقيق أنَّها طاعة
(1)
"روح المعاني" ج 8 ص 256 ــ 257. [المؤلف].
والحديث أخرجه أبو يعلى (2/ 196)، والطبراني كما في "مجمع الزوائد"(6/ 176) ومن طريقهما الضياء في "المختارة"(8/ 219 - 220)، من طريق علي بن المنذر عن ابن فضيل عن الوليد بن جميع عن أبي الطفيل به.
قال الهيثمي في "المجمع"(6/ 176): "وفيه يحيى [كذا! والصواب: علي] بن المنذر، وهو ضعيف".
قلت: علي بن المنذر هو الأودي، وثَّقه النسائي، وقال أبو حاتم:"محلُّه الصدق"، وقال ابن أبي حاتم وابن نمير:"ثقة صدوق"، يُنظَر:"تهذيب الكمال" للمزي (21/ 145). فلا أقل من أن يكون صدوقًا.
خاصة، وهي طاعتهم في شرع الدين، وذلك أنَّ شرع الدِّين حقٌّ للرب عز وجل، فمَنَ شرع دينًا من عند نفسه فقد ادَّعى الربوبية، ومن أطاعه في ذلك واتخذ ما أُمِر به دينًا فقد عَبَدَه.
فالشيطان يشرع للناس دينًا من عند نفسه، فمن أطاعه في ذلك واتخذ ما يوسوس له به دينًا فقد عبده. وتحقيق هذا له موضع آخر غير هذه العجالة.
والآية تتناول هذا الضَّرب من العبادة، وهو الطاعة المخصوصة، وتتناول الدعاء ونحوه، بناء على الإلزام المتقدِّم في دعاء الإناث.
وتارةً على أنَّهم يعبدون رؤساءَهم. قال تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} إلى أن قال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} ، إلى أن قال:{إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ} [البقرة: 163 ــ 166].
حكى ابن جرير عن قومٍ أنَّهم قالوا: "الأنداد في هذا الموضع إنَّما هم سادتهم الذين كانوا يطيعونهم في معصية الله".
ثم أخرج عن السُّدي قال: "الأنداد من الرجال يطيعونهم كما يطيعون الله، إذا أمروهم أطاعوهم وعصوا الله"
(1)
.
وقوله: "كما يطيعون الله" أي: في شرع الدين، على ما مرَّ.
وتارة على أنَّهم يعبدون أهواءهم، قال تعالى:{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية: 23].
(1)
"تفسير ابن جرير" ج 2 ص 38 ــ 39. [المؤلف].
قال أبو السعود: "أي: أرأيت من جعل هواه إلهًا لنفسه من غير أن يلاحظه، وبنى عليه أمر دينه معرضًا عن استماع الحجة الباهرة"
(1)
.
قال الآلوسي: "وقد أخرج الطبراني وأبو نعيم في "الحلية"
(2)
عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ما تحت أديم السماء من إلهٍ يُعبَد من دون الله أعظم عند الله عز وجل من هوى متَّبع"
(3)
.
وتارةً على أنَّهم يعبدون الأصنام والأوثان، قال تعالى:{فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} [الحج: 30].
4 ــ كيف دخلت الأوثان الحجاز؟
صحَّ عن النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه ذكر عمرو بن لُحَيٍّ، فقال:"هو أول من حَمَل العرب على عبادة الأصنام". قال الحاكم: "صحيح"، وأقرَّه الذهبي
(4)
.
وفي رواية: "هو أول من سيّب السوائب، وغيَّر دين إبراهيم عليه السلام".
(1)
"تفسير أبي السعود" ج 2 ص 250. [المؤلف].
(2)
"المعجم الكبير"(8/ 103)، و"حلية الأولياء"(6/ 118). ورواه غيرهما، وتدور أسانيدهم على الضعفاء والمتروكين. وقد حكم عليه بالوضع جماعة، كابن الجوزي، والسيوطي، والشوكاني، والألباني.
يُنظر: "الموضوعات" لابن الجوزي (3/ 376)، و"اللآلئ المصنوعة" للسيوطي (2/ 322)، و"الفوائد المجموعة" للشوكاني (715)، و"تنزيه الشريعة" لابن عراق (2/ 303)، و"ظلال الجنة" للألباني (3).
(3)
"روح المعاني" ج 6 ص 155. [المؤلف].
(4)
"المستدرك" ج 4 ص 605. [المؤلف].
قال الحاكم: "صحيح على شرط مسلم"، وأقرَّه الذهبي
(1)
.
وفي رواية: "أول من غيَّر عهد إبراهيم
…
ونصب الأوثان". نقله في "الإصابة" عن "مسند أحمد"، وذكر له شواهد
(2)
.
وأخرجه ابن إسحاق في "السيرة"، فقال ابن هشام:"وحدثني بعض أهل العلم أنَّ عمرو بن لُحَيٍّ خرج من مكة إلى الشام في بعض أموره، فلما قدم (مآب) من أرض (البلقاء)، وهم يومئذ العماليق، رآهم يعبدون الأصنام، فقال لهم: ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدون؟ قالوا: هذه الأصنام نعبدها فنَسْتَمْطِرها فتُمْطِرنا، ونَسْتَنْصِرها فتنصرنا، فقال لهم: أفلا تعطوني منها صنمًا فأسير به إلى أرض العرب، فيعبدونه؟ فأعطوه صنمًا يقال له: "هُبَل"، فقدم به مكة وأمر الناس بعبادته وتعظيمه"
(3)
.
(1)
المصدر السابق. [المؤلف].
(2)
"الإصابة" ترجمة أكثم بن الجون. [المؤلف].
قلت: الذي في الإصابة (1/ 61)"أكثم بن الجون" أو "ابن أبي الجون" في الموضع الذي أحال عليه المؤلف رحمه الله، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "
…
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عُرِضت عليَّ النار فرأيت فيها عمرو بن لُحي
…
وأشبه مَن رأيت به أكثم بن أبي الجون
…
". ولم أقف على الحديث من رواية الإمام أحمد في "المسند" ولا غيره بهذا السياق.
ولكن في "المسند"(3/ 352) وفي (5/ 137) من حديث جابر رضي الله عنه: "بينما نحن صفوف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
ــ وفيه ــ وأشبه مَن رأيت به معبد بن أكثم الكعبي
…
".
وهي الرواية التي أشار إليها الحافظ بعد ذلك وفيه: "معبد بن أكثم"، وقال:"ويحتمل التعدُّد".
(3)
"سيرة ابن هشام" بهامش "الروض الأنف" ج 1 ص 62. [المؤلف].
وفي "روح المعاني" عن "تاريخ ابن الوردي": "أنَّ عمرو بن لُحَيٍّ مرَّ بقوم بالشام، فرآهم يعبدون الأصنام، فسألهم، فقالوا: هذه أرباب نتَّخذها على شكل الهياكل العُلوية، نَسْتَنْصِرها ونستسقي، فتَبِعَهم وأتى بصنم معه إلى الحجاز، وسوَّل للعرب، فتبعوه"
(1)
.
5 ــ المنشأ في نصب الأصنام:
في "شرح المواقف"، بعد أن ذكر عُبَّاد الأوثان:"فإنَّهم لا يقولون بوجود إلهين واجبَي الوجود، ولا يصفون الأوثان بصفات إلهية، وإن أطلقوا عليها اسم الآلهة، بل اتخذوها على أنَّها تماثيل الأنبياء، أو الزُّهاد، أو الملائكة"
(2)
.
وفي "شرح المقاصد" عن الإمام الرازي: أنَّ لأهل الأوثان تأويلات، قال: "الأول: أنَّها صور أرواحٍ تدبِّرهم ....
الرابع: أنَّهم اعتقدوا أنَّ الله جسم على أحسن ما يكون من الصورة، وكذا الملائكة، فاتخذوا صورًا
…
وعبدوها لذلك"
(3)
.
وفي "الملل والنحل" للشَّهرستاني
(4)
، في الكلام على أصحاب الأشخاص، من الصَّابئة وغيرها كلام كثير يوافق ما ذكر.
إذا تقرَّر هذا، وقد سبق أنَّ العرب كانوا يعبدون الملائكة= فأصنامهم إنَّما هي تماثيل أو تذاكير للملائكة.
(1)
"روح المعاني" ج 7 ص 150. [المؤلف]. وهو في "تاريخ ابن الوردي"(1/ 64).
(2)
"شرح المواقف" ج 3 ص 32 وما بعدها. [المؤلف].
(3)
"شرح المقاصد" ج 2 ص 64 ــ 65. [المؤلف].
(4)
"الملل والنحل"(2/ 308) وما بعدها.
وفي "حواشي الشيخ زاده على البيضاوي" في أثناء كلام في المشركين: "فإنَّهم يزعمون أنَّ الأوثان صور الملائكة"
(1)
.
ويؤكِّد ذلك: تسميتهم أكثر أصنامهم بأسماء مؤنَّثة، كاللَّات والعُزَّى ومناة؛ لأنَّهم يزعمون أنَّ الملائكة إناث، كما سلف.
والعادة في الأصنام أن يطلق على الصنم اسم الشخص الذي جُعِل تمثالًا أو تذكارًا له.
وفي "صحيح البخاري" في تفسير قول الله عز وجل: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح: 23] عن ابن عباس قال: "أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلمَّا هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا في مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابًا، وسمُّوها بأسمائهم، ففعلوا
…
"
(2)
.
6 ــ ما هي اللَّات والعُزَّى ومناة؟
قال الله عز وجل: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} إلى أن قال: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى} [النجم: 19 ــ 27].
(1)
"حواشي الشيخ زاده" ج 3 ص 275. [المؤلف].
(2)
"صحيح البخاري"، تفسير سورة نوح. [المؤلف]. حديث (4920).
قد تكلَّم أهلُ اللُّغة والعربية على "أرأيت كذا" في نحو قول الله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [الواقعة: 63].
وتحرير الكلام في ذلك: أنَّ نحو {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ} يُؤتى بها مقدِّمة للاستفهام الثاني، لِيُحضِر المخاطَبُ الحَرْثَ في ذهنه، ويترقَّب استفهامًا مهمًّا يتعلَّق بالحَرْث؛ فلا بد أن يكون الاستفهام الثاني يتعلَّق بمفعول (رأيت)، وعلى ذلك جاء القرآن، قال تعالى:{أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} إلى أن قال: {(62) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} إلى أن قال: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ} إلى أن قال: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ} [الواقعة: 58 ــ 72].
إذن فقوله في آيات النجم: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى} [النجم: 21] لا بد أن يكون متعلقًا باللَّات والعُزَّى ومناة.
وقد مشى ابن جرير على هذا، فقال: "سمَّى المشركون أوثانهم بأسماء الله تعالى ذكره وتقدَّست أسماؤه، فقالوا من (الله): اللات، ومن (العزيز): العُزَّى، وزعموا أنَّهن بنات الله، تعالى الله عمَّا يقولون علوًّا كبيرًا، فقال جل ثناؤه لهم: أفرأيتم أيها الزِّاعمون أنَّ اللَّات والعُزَّى ومناة بنات الله، ألكم الذكر
…
"
(1)
.
أقول: لعمر الله! لقد جرى على القاعدة التي سبق تحريرها، ولقد صدق
(1)
"تفسير ابن جرير" ج 27 ص 31 ــ 32. [المؤلف].
أنَّ المشركين كانوا يطلقون (اللَّات)، و (العُزَّى)، و (مناة) على تلك الأوثان، ولقد صدق أنَّهم كانوا يقولون: اللَّات والعُزَّى ومناة بناتُ الله.
ولكن الشأن في المراد باللَّات والعُزَّى ومناة في الآيات، فإن كانت هي تلك الجمادات فلم يكونوا يقولون: إنَّها بنات الله، ولو قالوا ذلك لكانوا مجانين ألبتة، لا يستحقُّون أن يخاطَبوا ولا يُرسَل إليهم رسول، أو لو قالوا ذلك لكثر تبكيتهم في القرآن أكثر من تبكيتهم على قولهم: الملائكة بنات الله.
ولو كان المراد ذلك كان حقُّ الكلام أن يُقال: ألكم الأحياء وله الجمادات؟ أو نحو ذلك. مع أنَّه لا يمكن أنَّ يعتقدوا أن الجمادات إناث على الحقيقة.
فغاية الأمر أن يكونوا أنَّثوا اللَّفظ، ولا بدع في تسمية ما ينسب إلى الله تعالى باسم مؤنَّث، كالكعبة.
وفوق ذلك، فسياق الآيات يخالف هذا المعنى.
وأمَّا سائر المفسِّرين فاضطرب كلامهم اضطرابًا شديدًا؛ لعلمهم أنَّهم لم يكونوا يزعمون أنَّ تلك الجمادات بنات الله.
وأقرب ما رأيته: ما أخرجه ابن جرير عن ابن زيد، قال:"جعلوا لله بناتٍ، وجعلوا الملائكة لله بنات، وعبدوهم. وقرأ: {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ} الآية [الزخرف: 16 ــ 17]. وقرأ: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ} الآية [النحل: 57]. وقرأ: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} [النجم: 23] "
(1)
.
(1)
"تفسير ابن جرير" ج 27 ص 33. [المؤلف].
فقد أرشدك ابن زيد إلى أن هذه الآيات كنظائرها الكثيرة في القرآن؛ إنَّما هي في قولهم: لله بنات ، وقولهم: الملائكة بنات الله.
وإيضاح ذلك: أنَّه كما سبق عن ابن عباسٍ أنَّ قوم نوح جعلوا تماثيل لموتاهم، وسمّوها بأسماء أولئك الموتى، وكما جَرَت العادة إلى الآن أنَّه يطلق على التمثال اسم من جُعِلَ تمثالًا له= فكذلك صَنَع العرب، اخترعوا أسماء لبعض الإناث الخياليَّات التي زعموا أنَّها بنات الله، وأنَّها الملائكة، واشتقُّوها ــ كما قال ابن جرير ــ من أسماء الله تعالى، فأصل اللات:"اللاهة"، كما ذكره ابن جرير أيضًا. وبيَّنه أهل اللُّغة بأنَّه حُذِفت منه الهاء الأصلية، كما قالوا: شاة، وأصلها:"شاهة"، بدليل جمعها على:"شياه"= فقالوا: "اللَّات".
ثم منهم من يقف عليها بالهاء ــ كما هو الأصل في هاء التأنيث ــ، كما يقال:(شاه)، والأكثرون يقفون عليها بالتاء، كأنَّه حَذَرًا من اشتباه (اللَّات) لو وُقِف عليها بالهاء بالاسم الكريم.
فتفسير الآيات على هذا: أرأيتم تلك الإناث الخياليات التي تزعمونها بنات الله، ألكم الذكر، وله هي؟ ! وإنَّما قال:(الأنثى)، فوضع الظاهر موضع الضمير للتَّنصيص على الشَّناعة.
ثم قال تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا} أي: لا وجود لها ألبتَّة، وإنَّما يوجد أسماؤها فقط، كما يقول أحدنا: ما العنقاء إلَّا اسمٌ. وهذا لا يتأتّى في الأصنام؛ لأنَّها موجودةٌ بذواتها.
ثم قدّر أنهم سيقولون: "هي الملائكة، والملائكة موجودون"؛ فقال: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ
…
} الآية. أي: والملائكة أنفسهم لا يستحقُّون العبادة؛ لأنَّهم
لا يضرُّون ولا ينفعون، وأنتم تعترفون بذلك، إلَّا أنَّكم تقولون: إنَّهم يشفعون لكم، فاعلموا أنَّ شفاعتهم لا تغني شيئًا ما لم يأذن الله ويرضى، وكيف يأذن لهم ويرضى في الشفاعة لكم وأنتم تشركون به؟!
ثم قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى} فكاد ينصُّ نصًّا قاطعًا على أنَّ (اللَّات) و (العُزَّى) و (مناة) جعلها المشركون أسماء للملائكة، مع زعم أنَّهم بنات الله. وأنت إذا سمعت من يقول:(إنَّ فلانًا يسمِّي الأمراء أسماء الإناث) لم تفهم منه إلَّا أنَّه يسمِّي أحدهم: (هالة)، وآخر (سُعدى)، والثالث (جُمانة)، ونحو ذلك.
فالعرب كغيرهم من الأمم إنَّما اتَّخذوا الأصنام تماثيل أو تذاكير للملائكة، مع زعمهم أنَّهم إناثٌ هنَّ بنات الله، وعظَّموها على نيَّة التَّعظيم لمن جُعِلت تمثالًا أو تذكارًا له، وطمعوا أنَّ تعظيمهم لها يقرِّبهم من الملائكة، فيشفعوا لهم، كما جرت العادة أنَّك إذا رأيت صورة إنسان فاحترمتها فبلغه ذلك شكره لك. وكذلك إذا خَصَصْت شيئًا على أنَّه تذكار له، ثم احترمته.
7 ــ ما الذي كانوا يرجونه من الملائكة؟
قد تقدَّم الكلام على توحيدهم، وعلى تحاشيهم أن يقولوا: لله ولد ذكر؛ كيلا يلزمهم الإشراك في الملك والتدبير.
وعرفتَ من ذلك أنَّهم لا يثبتون للملائكة شيئًا من التصرُّف، وهذا بخلاف أكثر الأمم التي عَبَدَت الملائكة، كاليونان والمصريين القدماء، فإنَّهم يثبتون التصرُّف للملائكة، حتى يذكروا في أساطيرهم أنَّ الآلهة تتحارب وتتغالب!
وعلى هؤلاء ــ ومن يلزمه مثل قولهم ــ أقام اللهُ تعالى البرهان بقوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]. فأمَّا العرب فكانوا يقولون ما قصّ الله تعالى عنهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]، أي: بالشفاعة {وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18].
ولهذا كَثُر في القرآن مناقشتهم في الشفاعة، وكانوا مع ذلك مرتابين في هذه الشفاعة، حتى إذا وقعوا في شِدَّة نسوها وفزعوا إلى دعاء الله وحده، قال تعالى:{وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} [النحل: 53 ــ 54]، وقال سبحانه:{وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} [لقمان: 32]، وقال عز وجل:{وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا} [الإسراء: 67].
هذا ما تيسَّر لي تعليقه في هذه الكلمة، وعسى أن يكون فيه ما يحسُن موقعه عند أهل العلم، ويبعثهم على استقصاء النَّظر في هذا الموضوع وما يتَّصل به. والحمد لله أولًا وآخرًا، وصلَّى الله على خاتم أنبيائه محمد وآله وصحبه.