المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله القوي المتين، المتفرد بالتدبير والتكوين، - غربة الإسلام - جـ ١

[حمود بن عبد الله التويجري]

فهرس الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله القوي المتين، المتفرد بالتدبير والتكوين، الغني عن العالمين أجمعين، فلا تنفعه طاعات المطيعين، ولا تضره معاصي العاصين، خلق الجن والإنس ليعبدوه ويطيعوا أمره ولا يعصوه، وحذّر العاصين من وبيل عقابه كما حل بكثير من الماضين، فقال -تعالى- وهو أصدق القائلين:{أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَانَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ} [الأنعام: 6]، وقال -تعالى- مخبرا عن قوم آخرين:{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [الأعراف: 165 - 166].

أحمده سبحانه أن أتم علينا نعمته، وأكمل لنا الدين، ورضي لنا الإسلام دينا واصطفاه لنا على كل دين {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85].

وأشكره أن هدانا إلى ملة أبينا إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين، وأسأله تعالى متوسلا إليه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يصلح حالي وأحوال المسلمين، ويجعلنا بمنِّه وكرمه من عباده المتقين، الذين كرَّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان فكانوا من الرائدين، ونعوذ بالله من فتن المضلين، ومن خطوات الشياطين وإخوان الشياطين.

ص: 3

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وخليله الصادق الأمين، بعثه الله رحمة للعالمين وحُجة على المعاندين، وأيَّده بالآيات والمعجزات والبراهين، فعلّم به من الجهالة، وهدى به من الضلالة، وبصّر به من العمى، وأرشد به من الغي، وفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا، وجعله حرزا للأميين، ولم يزل منذ بعثه الله برسالته قائما بأمر ربه على أكمل الوجوه وأفضلها؛ يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، ويبين للناس ما نزل إليهم من ربهم غاية التبيين، حتى ترك أمته على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا من كان من الهالكين، وما من شيء يقربهم من الجنة إلا وقد أمرهم به، وما من شيء يقربهم من النار إلا وقد حذرهم منه؛ ليهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حيّ عن بينة، والله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين، فجزى الله عنا نبينا أفضل ما جزى أحدا من الأولين والآخرين، فلقد بلغ الرسالة، وأدّى الأمانة، ونصح أمته غاية النصح، وجاهد في الله حق جهاده، وعبد الله حتى أتاه اليقين، صلوات الله وسلامه ورحمته وبركاته عليه دائما إلى يوم الدين، وعلى سائر إخوانه من المرسلين والنبيين، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.

أما بعد: فهذا كتاب في بيان غربة الإسلام الحقيقي وأهله في هذه الأزمان، وذكر الأسباب العاملة في هدم الإسلام وطمس أعلامه وإطفاء نوره، دعاني إلى جمعه ما رأيته من كثرة النقص والتغيير في أمور الدين،

ص: 4

وما عمَّ البلاء به من المنكرات التي فشت في المسلمين، وابتُلى ببعضها كثير من المنتسبين إلى العلم والدين فضلا عن غيرهم من جهال المسلمين.

ولما كان العمل بالمعاصي من أعظم الإفساد في الأرض؛ لما يترتب على ذلك من نزع البركات، ووقوع الفتن والهلكات، كما قال كثير من المفسرين في قوله تعالى:{وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} [الأعراف: 56]: إن إفسادها بالمعاصي والدعاء إلى غير طاعة الله، وكان أيضا شؤم المعاصي لا يختص بالمسيئين، بل يعُمّ من باشر الذنب ومن لم يباشره، إذا ظهر ذلك ولم يُغيَّر، كان من أهم الأمور عندي بيان ما وقع فيه الأكثرون من المخالفات والتحذير من شؤمها وسوء عاقبتها، وحث المؤمنين عامة وولاة الأمور وأهل العلم خاصة على تغيير ما ظهر منها قبل أن يصيبهم الله بعذاب يعم الصالح والطالح، فقد قال تعالى:{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: أمر الله عز وجل المؤمنين أن لا يُقرّوا المنكر بين أظهرهم فيعمهم الله بعذاب يصيب الظالم وغير الظالم.

وفي المسند وصحيح مسلم والسنن الأربع عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان» ،

وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن،

ص: 5

ومَن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبه خردل» ورواه الإمام أحمد في مسنده مختصرا.

وأرجوا من كرم الله تعالى وجوده إتمام ما قصدتُ من البيان والتحذير، وأن يجعل في ذلك براءة للذمة من واجب الجهاد والتغيير، وأسأله تعالى أن يمنَّ عليّ وعلى جميع المسلمين بالإنابة إليه والتوكل في كل الأمور عليه، فإنه لنعم المولى ونعم النصير.

ص: 6

فصل

وقد ورد في غربة الإسلام أحاديث كثيرة نذكر منها ما تيسر إن شاء الله تعالى، وبه الثقة وعليه التكلان.

الحديث الأول: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدأ غريبا، فطوبى للغرباء» رواه مسلم وابن ماجة.

الحديث الثاني: عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ، وهو يأرز بين المسجدين كما تأرز الحية في جحرها» رواه مسلم، ورواه الحافظ محمد بن وضاح في كتاب "البدع والحوادث" ولفظه:«بدأ الإسلام غريبا ولا تقوم الساعة حتى يكون غريبا، فطوبى للغرباء حين يفسد الناس، ثم طوبى للغرباء حين يفسد الناس» .

الحديث الثالث: عن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا فطوبى للغرباء» رواه ابن ماجة.

الحديث الرابع: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا، فطوبى للغرباء» قال: قيل: ومن الغرباء؟ قال: «النّزّاع من القبائل» رواه الإمام أحمد وابنه عبد الله، والترمذي وابن ماجة والدارمي، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب من حديث ابن مسعود، قال: وفي الباب عن سعد وابن

ص: 7

عمر وجابر وأنس وعبد الله بن عمرو رضي الله عنهم.

الحديث الخامس: عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الإيمان بدأ غريبا وسيعود كما بدأ، فطوبى يومئذ للغرباء إذا فسد الناس، والذي نفس أبي القاسم بيده ليأرزن الإيمان بين هذين المسجدين كما تأرز الحية في جحرها» رواه الإمام أحمد.

الحديث السادس: عن سلمان الفارسي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء» رواه الطبراني.

وله أيضا عن جابر وابن عباس رضي الله عنهم مرفوعا مثل ذلك

(1)

، وزاد في حديث جابر: قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: «الذين يصلحون عند فساد الناس» .

الحديث التاسع: عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء» قيل: مَن الغرباء يا رسول الله؟ قال: «الذين يصلحون إذا فسد الناس» رواه الطبراني.

الحديث العاشر: عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الدين ليأرز إلى الحجاز كما تأرز الحية إلى جحرها، وليعقلن الدين من الحجاز معقل الأرويّة من رأس

(1)

وحديث جابر وابن عباس رضي الله عنهما عند الطبراني هما الحديث السابع والثامن بتعداد الشيخ الوالد رحمه الله وإن لم يصرح بذلك؛ فقد وضع فوق كل منهما خطا بلون أحمر علامة التعداد كما هو منهجه رحمه الله، ورقمه للحديث التاسع بعده يؤكد ذلك.

ص: 8

الجبل، إن الدين بدأ غريبا ويرجع غريبا، فطوبى للغرباء الذين يصلحون ما أفسد الناس من بعدي من سنتي» رواه الترمذي وقال: حديث حسن، ورواه أبو نعيم في الحلية مختصرا، ورواه إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني بإسناده عن كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن هذا الدين بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء» قيل: يا رسول الله، مَن الغرباء؟ قال:«الذين يُحيون سنتي من بعدي ويُعلِّمونها عباد الله» .

الحديث الحادي عشر: عن بكر بن عمرو المعافري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «طوبى للغرباء الذين يتمسكون بالكتاب حين يُترك ويعملون بالسنة حين تُطفأ» رواه الحافظ محمد بن وضاح.

الحديث الثاني عشر: عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ونحن عنده: «طوبى للغرباء» فقيل: مَن الغُرباء يا رسول الله؟ قال: «ناس صالحون قليل في ناس سوء كثير من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم» رواه الإمام أحمد والطبراني.

ورواه الحافظ محمد بن وضاح بلفظ: «من يبغضهم أكثر ممن يحبهم» ، وعنده في أوله:«طوبى للغرباء» ثلاث مرات.

وكذلك في روايته للإمام أحمد: «طوبى للغرباء» ثلاث مرات.

الحديث الثالث عشر: عنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحب شيء إلى الله الغرباء» قيل: ومَن الغُرباء؟ قال: «الفرَّارون بدينهم،

ص: 9

يبعثهم الله يوم القيامة مع عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام» رواه عبد الله ابن الإمام أحمد في زوائد الزهد وأبو نعيم في الحلية من طريقه، قال عبد الله: سمعت سفيان بن وكيع يقول: إني لأرجو أن يكون ابن حنبل منهم.

قال القاضي عياض: روى ابن أبي أويس، عن مالك -رحمه الله تعالى- معنى «بدأ غريبا» أي: بدأ الإسلام غريبا في المدينة، وسيعود إليها. انتهى.

قلت: ويستدل لهذا القول بما في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها» ، قال الجوهري: أي ينضم إليها ويجتمع بعضه إلى بعض فيها. انتهى.

وروى أبو داود في سننه، والطبراني في الصغير، والحاكم في مستدركه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يوشك المسلمون أن يحاصروا إلى المدينة حتى يكون أبعد مسالحهم سلاح» ، قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي في تلخيصه، زاد أبو داود: قال الزهري: وسلاح قريب من خيبر.

وروى الطبراني في الصغير أيضا من طريق الزهري عن قبيصة بن ذؤيب الخزاعي وأبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يوشك أن يكون أقصى مسالك المسلمين بسلاح» ، وسلاح من خيبر.

وقد رواه الحاكم في مستدركه من حديث الزهري عن سالم أنه سمع

ص: 10

أبا هريرة رضي الله عنه يقول: «يوشك أن يكون أقصى مسالح المسلمين سلاح» ، وسلاح قريب من خيبر.

قال القاضي عياض -رحمه الله تعالى-: وظاهر الحديث العموم، وأن الإسلام بدأ في آحاد الناس وقلة، ثم انتشر وظهر، ثم سيلحقه النقص والإخلال حتى لا يبقى إلا في آحاد وقلة أيضا كما بدأ. انتهى.

قلت: وقد سبقه إلى تقرير هذا المعنى الإمام أبو بكر الطرطوشي رحمه الله تعالى في كتابه "إنكار الحوادث والبدع" لما ذكر قوله صلى الله عليه وسلم: «بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ» قال: ومعنى هذا أن الله لما جاء بالإسلام فكان الرجل إذا أسلم في قبيلته غريبا مستخفيا بإسلامه قد جفاه العشيرة فهو بينهم ذليل خائف، ثم يعود غريبا لكثرة أهل الأهواء المضلة والمذاهب المختلفة حتى يبقى أهل الحق غرباء في الناس لقلتهم وخوفهم على أنفسهم. انتهى.

وقد قرر هذا المعنى أيضا الحافظ ابن رجب وأطال الكلام عليه، وكذلك شيخه العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى وغير واحد من المحققين؛ قال ابن رجب رحمه الله تعالى: قوله: «بدأ الإسلام غريبا» يريد به أن الناس كانوا قبل مبعثه على ضلالة عامة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عياض بن حمار الذي أخرجه مسلم: «إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب» ، فلما بُعث النبي صلى الله عليه وسلم ودعا إلى الإسلام لم يستجب له في أول الأمر إلا الواحد بعد الواحد من كل قبيلة، وكان المستجيب له خائفا من عشيرته وقبيلته، يؤذى غاية الأذى ويُنال منه،

ص: 11

وهو صابر على ذلك في الله عز وجل، وكان المسلمون إذ ذاك مستضعفين يُشرّدون كل مُشرّد ويهربون بدينهم إلى البلاد النائية؛ كما هاجروا إلى الحبشة مرتين، ثم هاجروا إلى المدينة، وكان منهم من يُعذّب في الله ومنهم من يُقتل، فكان الداخلون في الإسلام حينئذ غرباء، ثم ظهر الإسلام بعد الهجرة إلى المدينة وعزّ، وصار أهله ظاهرين كل الظهور، ودخل الناس بعد ذلك في دين الله أفواجا، وأكمل الله لهم الدين، وأتم عليهم النعمة، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك، وأهل الإسلام على غاية من الاستقامة في دينهم، وهم متعاضدون متناصرون، وكانوا على ذلك في زمن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ثم عمل الشيطان مكائده على المسلمين، وألقى بأسهم بينهم وأفشا فيهم فتنة الشبهات والشهوات، ولم تزل هاتان الفتنتان تتزايدان شيئا فشيئا حتى استحكمت مكيدة الشيطان وأطاعه أكثر الخلق؛ فمنهم من دخل في طاعته في فتنة الشبهات، ومنهم من دخل في فتنة الشهوات، ومنهم من جمع بينهما، وكل ذلك مما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بوقوعه.

فأما فتنة الشبهات فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه أن أمته ستفترق على أزيد من سبعين فرقة، على اختلاف الروايات في عدد الزيادة على السبعين، وأن جميع تلك الفرق في النار إلا فرقة واحدة، وهي ما كانت على ما هو عليه وأصحابه صلى الله عليه وسلم.

وأما فتنة الشهوات ففي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كيف أنتم إذا فتحت عليكم خزائن فارس

ص: 12

والروم، أي قوم أنتم؟» قال عبد الرحمن بن عوف: نكون كما أمرنا الله، قال:«أو غير ذلك؛ تتنافسون، ثم تتحاسدون، ثم تتدابرون» .

وفي صحيح البخاري عن عمرو بن عوف عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسونها، فتهلككم كما أهلكتهم» .

وفي الصحيحين من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم معناه أيضا.

ولما فُتحت كنوز كسرى على عمر بن الخطاب رضي الله عنه بكى، فقال: إن هذا لم يُفتح على قوم قط إلا جعل الله بأسهم بينهم. أو كما قال.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخشى على أمته هاتين الفتنتين كما في مسند الإمام أحمد عن أبي برزة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن مما أخشى عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم ومُضلّات الفتن» ، وفي رواية:«ومضلّات الهوى» فلما دخل أكثر الناس في هاتين الفتنتين أو إحداهما أصبحوا متقاطعين متباغضين بعد أن كانوا إخوانا متحابين متواصلين، فإن فتنة الشهوات عمّت غالب الخلق ففُتنوا بالدنيا وزهرتها وصارت غاية قصدهم، لها يطلبون، وبها يرضون ولها يغضبون، ولها يوالون وعليها يعادون، فقطعوا لذلك أرحامهم، وسفكوا دماءهم، وارتكبوا معاصي الله بسبب ذلك.

وأما فتنة الشبهات والأهواء المضلة فبسببها تفرق أهل القبلة وصاروا شيعا، وكفّر بعضهم بعضا، وأصبحوا أعداء وفرقا وأحزابا بعد أن كانوا إخوانا، قلوبهم على قلب رجل واحد، فلم ينج من هذه الفرق كلها إلا

ص: 13

الفرقة الواحدة الناجية، وهم المذكورون في قوله صلى الله عليه وسلم:«لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك» ، وهم في آخر الزمان الغرباء المذكورون في الأحاديث؛ الذين يصلحون إذا فسد الناس، وهم الذين يصلحون ما أفسد الناس من السنة، وهم الذين يفرُّون بدينهم من الفتن، وهم النّزّاع من القبائل؛ لأنهم قلُّوا فلا يوجد في كل قبيلة منهم إلا الواحد والاثنان، وقد لا يوجد في بعض القبائل منهم أحد كما كان الداخلون في الإسلام في أول الأمر كذلك، وبهذا فسر الأئمة هذا الحديث، قال الأوزاعي في قوله صلى الله عليه وسلم:«بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ» : أما إنه ما يذهب الإسلام، ولكن يذهب أهل السنة حتى ما يبقى في البلد منهم إلا رجل واحد.

ولهذا المعنى يوجد في كلام السلف كثيرا مدح السنة، ووصفها بالغربة ووصف أهلها بالقلة، فكان الحسن رحمه الله تعالى يقول لأصحابه: يا أهل السنة، ترفقوا رحمكم الله، فإنكم من أقل الناس.

وقال يونس بن عبيد: ليس شيء أغرب من السنة، وأغرب منها من يعرفها.

ورُوي عنه أنه قال: أصبح من إذا عرّف بالسنة فعرفها غريبا، وأغرب منه من يعرفها.

وعن سفيان الثوري قال: استوصوا بأهل السنة خيرا، فإنهم غرباء.

ومراد هؤلاء الأئمة بالسنة: طريقة النبي صلى الله عليه وسلم التي كان عليها هو وأصحابه، السالمة من الشبهات والشهوات، ولهذا كان الفضيل بن عياض

ص: 14

يقول: أهل السنة من عرف ما يدخل في بطنه من حلال، وذلك لأن أكل الحلال من أعظم خصال السنة التي كان عليها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، ثم صار في عُرف كثير من العلماء المتأخرين من أهل الحديث وغيرهم، السنة عبارة عن ما سلم من الشبهات في الاعتقادات، خاصة في مسائل الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وكذلك في مسائل القدر وفضائل الصحابة، وصنفوا في هذا العلم تصانيف وسموها كتب السنة. وإنما خصُّوا هذا العلم باسم السنة لأن خطره عظيم، والمخالف فيه على شفا هلكة.

وأما السُنة الكاملة فهي الطريقة السالمة من الشبهات والشهوات كما قال الحسن ويونس بن عبيد وسفيان والفضيل وغيرهم، ولهذا وصف أهلها بالغربة في آخر الزمان لقلتهم وغربتهم فيه، ولهذا ورد في بعض الروايات في تفسير الغرباء:«قوم صالحون قليل في قوم سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم» ، وفي هذا إشارة إلى قلة عددهم وقلة المستجيبين لهم والقابلين منهم وكثرة المخالفين لهم والعاصين لهم، ولهذا جاء في أحاديث متعددة مدح المتمسك بدينه في آخر الزمان وأنه كالقابض على الجمر، وأن للعامل منهم أجر خمسين ممن قبلهم؛ لأنهم لا يجدون أعوانا في الخير، وهؤلاء الغرباء قسمان:

أحدهما: من يصلح نفسه عند فساد الناس.

والثاني: من يصلح ما أفسد الناس من السنة، وهو أعلى القسمين وهو أفضلهما.

ص: 15

وفي مسند الإمام أحمد عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه قال لرجل من أصحابه: يوشك إن طالت بك الحياة أن ترى الرجل قد قرأ القرآن على لسان محمد صلى الله عليه وسلم فأعاده وأبداه، وأحلّ حلاله وحرّم حرامه، ونزل عند منازله، لا يجوز فيكم إلا كما يجوز الحمار الميت، ومثله قول ابن مسعود رضي الله عنه: يأتي على الناس زمان يكون المؤمن فيه أذل من الأَمَة، وإنما ذُلّ المؤمن آخر الزمان لغربته بين أهل الفساد من أهل الشبهات والشهوات، فكلهم يكرهه ويؤذيه لمخالفة طريقته لطريقتهم ومقصوده لمقصودهم، ومباينته لما هم عليه. انتهى المقصود من كلام ابن رجب رحمه الله تعالى.

وقال ابن القيم رحمه الله تعالى في الكلام على قوله تعالى: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ} الآية [هود: 116]: الغرباء في هذا العالم هم أهل هذه الصفة المذكورة في هذه الآية وهم الذين أشار إليهم النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: «بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء» قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: «الذين يصلحون إذا فسد الناس» ، وفي حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ونحن عنده: «طوبى للغرباء» قيل: مَن الغرباء يا رسول الله؟ قال: «ناس صالحون قليل في ناس سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم» ، فأهل الإسلام بين أكثر الناس غرباء، وأهل الإيمان بين أهل الإسلام غرباء، وأهل العلم في المؤمنين غرباء، وأهل السنة الذين تميزوا بها عن أهل الأهواء والبدع فيهم غرباء، والداعون إليها الصابرون على أذى المخالفين لهم أشد غربة، ولكن هؤلاء هم أهل

ص: 16

الله حقا فلا غربة عليهم وإنما غربتهم بين الأكثرين، قال الله تعالى فيهم:{وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام: 116]، فأولئك هم الغرباء عن الله ورسوله ودينه، وغربتهم هي الغربة الموحشة وإن كانوا هم المعروفين المشار إليهم.

فالغربة ثلاثة أنواع:

غربة أهل الله وأهل سنة رسوله بين هذا الخلق؛ وهي الغربة التي مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبر عن الدين الذي جاء به أنه بدأ غريبا، وأنه سيعود غريبا، وأن أهلها يصيرون غرباء. وقال الحسن: المؤمن في الدنيا كالغريب لا يجزع من ذلها، ولا ينافس في عزها، للناس حال وله حال، ومن صفات هؤلاء الغرباء الذين غبطهم النبي صلى الله عليه وسلم التمسك بالسنة إذا رغب عنها الناس، وترك ما أحدثوه وإن كان هو المعروف عندهم، وتجريد التوحيد وإن أنكر ذلك أكثر الناس، وترك الانتساب إلى أحد غير الله ورسوله، لا طريق ولا مذهب ولا طائفة، بل هؤلاء الغرباء ينتسبون إلى الله بالعبودية له وحده وإلى رسوله بالإتباع لما جاء به وحده، وهؤلاء هم القابضون على الجمر حقا، فلِغُربتهم بين هذا الخلق يعدونهم أهل شذوذ وبدعة، ومفارقة للسواد الأعظم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم إنهم النزاع من القبائل، ومعناه أن الله سبحانه وتعالى بعث رسوله صلى الله عليه وسلم وأهل الأرض على أديان مختلفة فهم بين عبّاد أوثان، وعبّاد نيران، وعبّاد صلبان، ويهود، وصابئة، وفلاسفة، فكان الإسلام في أول ظهوره غريبا، فكان من أسلم منهم واستجاب لله ورسوله

ص: 17

غريبا في حيّه، وقبيلته، وقريته، وأهله، وعشيرته، وكان المستجيبون لدعوة الإسلام نزاعا من القبائل آحادا منهم، تغربوا عن قبائلهم وعشائرهم فكانوا هم الغرباء حقا حتى ظهر الإسلام وانتشرت دعوته ودخل الناس فيه أفواجا، ثم أخذ في الاغتراب حتى عاد غريبا كما بدأ، بل الإسلام الحق الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه اليوم أشد منه غربة في أول ظهوره وإن كانت أعلامه ورسومه الظاهرة مشهورة معروفة، فالإسلام الحقيقي غريب جدا وأهله غرباء بين الناس، وكيف لا تكون فرقة واحدة قليلة جدا غريبة بين اثنتين وسبعين فرقة ذات أتباع ورياسات ومناصب وولايات لا يقوم لها سوق إلا بمخالفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن نفس ما جاء به يضاد أهواءهم ولذاتهم وما هم عليه من الشبهات التي هي منتهى فضيلتهم وعلمهم، والشهوات التي هي غاية مقاصدهم وإرادتهم، فكيف لا يكون المؤمن السائر إلى الله على طريق المتابعة غريبا بين هؤلاء الذين اتبعوا أهواءهم وأطاعوا شيخهم وأعجبوا منه برأيه؟! انتهى كلامه رحمه الله تعالى.

ومراده بشيخ أهل الأهواء إبليس لعنه الله، ورأيه الذي أعجب به أتباعه هو المعارضة بين العقل والنقل وتقديم العقل على النقل عند التعارض، قال ابن رجب رحمه الله تعالى: وقد كان السلف قديما يصفون المؤمن بالغربة في زمانهم كما سبق مثله عن الحسن والأوزاعي وسفيان وغيرهم.

ومن كلام أحمد بن عاصم الأنطاكي -وكان من كبار العارفين في زمان أبي سليمان الداراني- قال: إني أدركت من الأزمنة زمانا عاد فيه الإسلام

ص: 18

غريبا كما بدأ، وعاد وصف الحق فيه غريبا كما بدأ، إن ترغب فيه إلى عالم وجدته مفتونا بحب الدنيا يحب التعظيم والرياسة، وإن ترغب فيه إلى عابد وجدته جاهلا في عبادته مخدوعا، صريع عدوّه إبليس، قد صعد به إلى أعلى درجة العبادة وهو جاهل بأدناها فكيف له بأعلاها! وسائر ذلك من الهمج، همج عوج، وذئاب مختلسة، وسباع ضارية، وثعالب ضوار؛ هذا وصف عيون أهل زمانك من حملة العلم والقرآن ودعاة الحكمة. خرَّجه أبو نعيم في الحلية، فهذا وصف أهل زمانه فكيف بما حدث بعده من العظائم والدواهي التي لم تخطر بباله ولم تدر في خياله. انتهى.

قلت: وقد روى البخاري في صحيحه، والإمام أحمد في مسنده وفي كتاب الزهد بأسانيد صحيحه عن أم الدرداء قالت: دخل عليّ أبو الدرداء وهو مغضب، فقلت: ما أغضبك؟ فقال: والله ما أعرف من أمة محمد صلى الله عليه وسلم شيئا إلا أنهم يصلون جميعا.

ورواه الحافظ محمد بن وضاح في كتاب "البدع والحوادث" بإسناده إلى أم الدرداء فذكره، قال: وفي لفظ: لو أن رجلا تعلم الإسلام وأهمه، ثم تفقده ما عرف منه شيئا.

وروى أيضا بإسناده عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: لو خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم ما عرف شيئا مما كان عليه هو وأصحابه إلا الصلاة. قال الأوزاعي رحمه الله: فكيف لو كان اليوم؟! قال عيسى -يعني الراوي عن الأوزاعي-: فكيف لو أدرك الأوزاعي هذا الزمان؟!

ص: 19

وقال الحسن البصري رحمه الله تعالى: سأل رجل أبا الدرداء فقال: رحمك الله، لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهُرنا هل كان ينكر شيئا مما نحن عليه؟ فغضب واشتد غضبه فقال: وهل كان يعرف شيئا مما أنتم عليه!

وروى الإمام أحمد والبخاري والترمذي عن أنس رضي الله عنه قال: ما أعرف شيئا مما كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم! قيل: الصلاة، قال: أليس صنعتم ما صنعتم فيها؟!

وفي صحيح البخاري أيضا عن الزهري قال: دخلتُ على أنس بن مالك رضي الله عنه بدمشق وهو يبكي فقلت له: ما يبكيك؟ فقال: لا أعرف شيئا مما أدركت إلا هذه الصلاة، وهذه الصلاة قد ضُيِّعت.

وروى الحافظ محمد بن وضاح بإسناده عن أنس رضي الله عنه قال: ما أعرف منكم شيئا كنت أعهده على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم! ليس قولكم لا إله إلا الله.

وروى ابن سعد في الطبقات عن ثابت البُناني قال: كنا مع أنس بن مالك رضي الله عنه فأخَّر الحجَّاج الصلاة، فقام أنس يريد أن يكلمه، فنهاه إخوانه شفقة عليه منه، فخرج فركب دابته فقال في مسيره ذلك: والله ما أعرف شيئا مما كنا عليه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلا شهادة أن لا إله إلا الله، فقال رجل: فالصلاة يا أبا حمزة؟ قال: قد جعلتم الظهر عند المغرب، أفتلك كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

وروى محمد بن وضاح بإسناده عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: لو أن رجلين من أوائل هذه الأمة خليا بمصحفيهما في بعض الأودية

ص: 20

لأتيا الناس اليوم ولا يعرفان شيئا مما كانا عليه.

وقال مالك: بلغني أن أبا هريرة رضي الله عنه تلا: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} [النصر: 1 - 2] فقال: والذي نفسي بيده إن الناس ليخرجون اليوم من دينهم أفواجا كما دخلوا فيه أفواجا.

وقد رواه الحاكم عنه مرفوعا كما سيأتي في آخر الفصل الذي بعد هذا.

وروى مالك أيضا عن عمه أبي سهيل بن مالك عن أبيه أنه قال: ما أعرف شيئا مما أدركت عليه الناس إلا النداء للصلاة. يعني بالناس: أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

روى أبو نعيم في الحلية عن معاوية بن قرة أنه قال: أدركت سبعين رجلا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لو خرجوا فيكم اليوم ما عرفوا شيئا مما أنتم عليه اليوم إلا الأذان.

وروى محمد بن وضاح بإسناده عن الحسن قال: لو أن رجلا أدرك السلف الأول ثم بُعث اليوم ما عرف من الإسلام شيئا، قال: ووضع يده على خده ثم قال: إلا هذه الصلاة.

وقال المبارك بن فضالة: صلى الحسن الجمعة وجلس يبكي فقيل له: ما يبكيك يا أبا سعيد؟ فقال: تلومنّني على البكاء، ولو أن رجلا من المهاجرين اطلع من باب مسجدكم ما عرف شيئا مما كان عليه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنتم عليه إلا قبلتكم هذه.

ص: 21

وروى الإمام أحمد في الزهد، وأبو نعيم في الحلية عن الحسن أنه قال: ذهبت المعارف وبقيت المناكر، ومن بقي من المسلمين فهو مغموم.

وروى محمد بن وضاح بإسناده عن ميمون بن مهران قال: لو أن رجلا نشر فيكم من السلف ما عرف فيكم غير هذه القبلة.

قال الحافظ ابن حجر في الكلام على حديث أبي الدرداء رضي الله عنه: وقوله: والله ما أعرف من أمة محمد صلى الله عليه وسلم شيئا إلا أنهم يصلون جميعا؛ مراد أبي الدرداء رضي الله عنه أن أعمال المذكورين يحصل في جميعها النقص والتغيير إلا التجميع في الصلاة، وهو أمر نسبي؛ لأن حال الناس في زمن النبوة كان أتم مما صار إليه بعدها، ثم كان في زمن الشيخين أتم مما صار إليه بعدهما، وكأن ذلك صدر من أبي الدرداء في أواخر عمره، وكان ذلك في أواخر خلاقة عثمان رضي الله عنه، فياليت شعري إذا كان ذلك العصر الفاضل بالصفة المذكورة عند أبي الدرداء! فكيف بمن جاء بعدهم من الطبقات إلى هذا الزمان. انتهى.

قلت: وما زاد الأمر بعد ذلك إلا شدة، وما زال النقص والتغيير في أمور الدين في ازدياد وكثرة كما جاء في الحديث الصحيح عن أنس رضي الله عنه أنه قال:«لا يأتي عليكم زمان إلا الذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم» سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم، رواه الإمام أحمد والبخاري والترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح.

وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى في كتاب الصلاة: اعلموا -رحمكم الله- أن الإسلام في إدبار وانتقاص واضمحلال ودروس، جاء الحديث:«ترذلون في كل يوم وقد أسرع بخياركم» . وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «خير

ص: 22

أمتي الذين بُعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، والآخر شر إلى يوم القيامة».

وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لأصحابه: «أنتم خير من أبنائكم، وأبناؤكم خير من أبنائهم، وأبناء أبنائكم خير من أبنائهم، والآخر شر إلى يوم القيامة» . انتهى.

فكلما طال الأمد وبَعُد العهد بآثار النبوة زاد الشر، وكثر النقص والتغيير في أمور الدين كما دلت على ذلك الأحاديث وشهد به الواقع، فياليت شعري ماذا يقول أبو الدرداء، وأنس، وعبد الله بن عمرو، وأبو هريرة، ومالك بن أبي عامر، ومعاوية بن قرة، والحسن البصري، وميمون بن مهران، وأحمد بن عاصم لو رأوا ما وقع بعدهم من الحوادث الكثيرة، والفتن التي يُرقِّق بعضها بعضا؟! وماذا يقول ابن القيم، وابن رجب لو رأيا غربة الإسلام الحقيقي وأهله في أواخر القرن الرابع عشر كيف اشتدت واستحكمت؟! وماذا يقولون كلهم لو رأوا هذه الأزمان التي لم يبق فيها من الإسلام إلا اسمه ولا من القرآن إلا رسمه؟!

قد رفعت فيها رايات الكفر والنفاق، وبلغت روح العلم والإيمان إلى التراقي، وقيل من راق، وظن أنه الفراق، ونزل فيها الجهل وظهر وثبت، وبث في مشارق الأرض ومغاربها كل البثّ، ونثّ بين الناس كلهم غاية النثّ، وهُجرت فيها السنة النبوية والطريقة السلفية، وهان أهلها على الناس، وتُرك فيها الجهاد في سبيل الله عز وجل، وضعف فيها جانب الأمر بالمعروف حتى أشفى على العدم، وفشت فيها المنكرات وظهرت ولم

ص: 23

تغير، ومرجت فيها عهود الأكثرين وخفت أماناتهم، وكثر اختلافهم وخوضهم فيما لا يعنيهم، وكانوا حثالة وغثاء كغثاء السيل، قد قلّ فيهم الفقهاء العاملون، وكثر فيهم الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون، وكثر فيهم الخطباء المتفصحون المتنطعون المتقعرون، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، ويأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون كتاب الله أفلا يعقلون، وكثر فيهم الذين يختلون الدنيا بالدين، ويلبسون للناس جلود الضأن من اللين، ألسنتهم أحلى من العسل وقلوبهم قلوب الذئاب، وكثر فيهم إخوان العلانية أعداء السريرة، وكثر فيهم الذين يأكلون بألسنتهم كما تأكل البقر بألسنتها، بضاعتهم التملق بالكذب والتمادح بالباطل، إن أُعطي أحدهم قليلا من حطام الدنيا رضي وغلا في المدح وجاوز الحد في الإطراء، وإن لم يُعط سخط وأفرط في الذم وانتهاك الأعراض المحرمة بغيا وعدوانا.

وماذا يقولون لو رأوا أكثر المنتسبين إلى الإسلام يعظِّمون الكفار والمنافقين، ويتسابقون إلى تقليد أعداء الله في أقوالهم وأفعالهم، ويتنافسون في مشابهتهم والحذو على مثالهم؟ قد أعجبوا بزخارفهم الباطلة وآرائهم الفاسدة، وقوانينهم وسياساتهم الجائرة الخاطئة الفاجرة، وافتتنوا بمدنيتهم الزائفة الزائغة، وما تدعو إليه من الترف واتباع الشهوات، والأشر والبطر واللهو واللعب والغفلة عن الله والدار الآخرة، بل ما تدعو إليه من الإباحية والانحلال من دين الإسلام بالكلية، والبعد عن الفضائل ومكارم الأخلاق، والتحلي بالرذائل وسفساف الأخلاق،

ص: 24

وشغفوا أيضا بالصحف والمجلات، وأخبار الإذاعات، وما ينشر في الجميع من الخرافات والهذيانات والخزعبلات وأنواع المحرمات، حتى دخل على كثير منهم من الشكوك والأوهام والشبهات ما أضلهم عن الهدى، وأوقعهم في مهامه الغي والردى، فتهاونوا بكثير من المأمورات، وارتكبوا كثيرا من المحظورات، وبسبب هذه الأفعال الذميمة انتقضت عرى كثيرة من عرى الإسلام، واشتدت غربة الإيمان والسنة بين الأنام، حتى عاد عند الأكثرين المعروف منكرا والمنكر معروفا، والسنة بدعة والبدعة سنة، نشأ على ذلك صغيرهم وهرم عليه كبيرهم، فيالها من مصيبة على الإسلام وأهله ما أعظمها وأنكاها، ويالها من فتن مظلمة أوهت قواعد الشريعة وهدمت بناها .. فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وماذا يقولون لو رأوا الطامة الكبرى؟! وهي عبادة الأوثان في أكثر الممالك الإسلامية، حتى أعاد أهلها بذلك أمر الجاهلية الذين بُعث إليهم النبي صلى الله عليه وسلم، بل كانوا شرا منهم كما لا يخفى على عاقل عرف حال أهل الجاهلية الأولى وعرف ما عليه المشركون في هذه الأزمان، وسنذكر الفرق بينهم فيما بعد إن شاء الله تعالى.

ونذكر أيضا ما وقع فيه أكثر المسلمين من المخالفات التي أوهت الإسلام وثلمته وهدمته، فإلى الله المشتكى، وبه المستغاث، وهو المستعان وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ص: 25

وقد قال الشيخ سليمان بن سحمان وأحسن فيما قال رحمه الله تعالى:

على الدين فليبكي ذوو العلم والهدى

فقد طُمست أعلامه في العوالم

وقد صار إقبالُ الورى واحتيالهم

على هذه الدنيا وجمع الدراهم

وإصلاح دنياهم بإفساد دينهم

وتحصيل ملذوذاتهم والمطاعم

يعادون فيها بل يوالون أهلها

سواء لديهم ذو التقى والجرائم

إذا انتقص الإنسان منها بما عسى

يكون له ذخرا أتى بالعظائم

وأبدى أعاجيبا من الحزن والأسى

على قلة الأنصار من كل حازم

وناح عليها آسفا متظلما

وباح بما في صدره غير كاتم

فأما على الدين الحنيفي والهدى

وملة إبراهيم ذات الدعائم

فليس عليها والذي فلق النوى

من الناس من باك وآس ونادم

وقد درست منها المعالم بل عفت

ولم يبق إلا الاسم بين العوالم

فلا آمر بالعرف يعرف بيننا

ولا زاجر عن معضلات الجرائم

وملة إبراهيم غودر نهجها

عفاء فأضحت طامسات المعالم

وقد عدمت فينا وكيف وقد سفتْ

عليها السوافي في جميع الأقالم

وما الدين إلا الحب والبغض والولا

كذاك البرا من كل غاو وآثم

وليس لها من سالك متمسك

بدين النبي الأبطحي ابن هاشم

فلسنا نرى ما حلَّ بالدين وانمحت

به الملة السمحاء إحدى القواصم

فنأسى على التقصير منا ونلتجي

إلى الله في محو الذنوب العظائم

ص: 26

فنشكو إلى الله القلوب التي قست

وران عليها كسب تلك المآثم

ألسنا إذا ما جاءنا متضمخ

بأوضار [أهل]

(1)

الشرك من كل ظالم

نَهشُّ إليهم بالتحية والثنا

ونهرع في إكرامهم بالولائم

وقد برئ المعصوم من كل مسلم

يقيم بدار الكفر غير مصارم

ولا مظهر للدين بين ذوي الردى

فهل كان منا هجر أهل الجرائم

ولكنما العقل المعيشي عندنا

مُسَالمة العاصين من كل آثم

فيا محنة الإسلام من كل جاهل

ويا قلة الأنصار من كل عالم

وهذا أوان الصبر إن كنت حازما

على الدين فاصبر صبر أهل العزائم

فمن يتمسك بالحنيفية التي

أتتنا عن المعصوم صفوة آدم

له أجر خمسين امرئ من ذوي الهدى

من الصحب أصحاب النبي الأكارم

فنُح وابكِ واستنصر بربك راغبا

إليه فإن الله أرحم راحم

لينصر هذا الدين من بعد ما عفت

معالمه في الأرض بين العوالم

أقول: رحمة الله علينا وعلى الشيخ سليمان، كيف لو رأى ما حدث بعده من العظائم التي كان يخشى وقوعها في قوله:

وإني لأخشى أن تجيء عواضل

وليس لها من منكر حين تفتعل

فقد وقع الأمر كما قال رحمه الله تعالى، وجاءت عواضل كثيرة فلم

(1)

ساقطة من الأصل، والتصحيح من ديوان الشيخ المسمى (عقود الجواهر المنضدة الحسان شعر سليمان بن سحمان) ص459.

ص: 27

تنكر، ثم زاد الأمر حتى أُنكِر على من يُنكِر المنكر، وقُمع بعضهم وقُهر واضُطهد، وظهر مصداق ما جاء في حديث أبي أمامة رضي الله عنه الذي رواه الطبراني وغيره مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«إن من إدبار هذا الدين أن تجفو القبيلة بأسرها، حتى لا يرى فيها إلا الفقيه والفقيهان، فهما مقهوران ذليلان، إن تكلما فأمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر قُمعا وقُهرا واضطهدا، فهما مقهوران ذليلان لا يجدان على ذلك أعوانا وأنصارا» .

وللشيخ يحيى بن يوسف الصرصري الحنبلي نظم حسن يصف فيه غربة الإسلام في زمانه، وهو يليق بأواخر القرن الرابع عشر أكثر مما يليق بالقرن السابع، قال رحمه الله تعالى:

نُح وابكِ فالمعروف أقفر رسمه

والمنكر استعلى وأثر وسمه

لم يبق إلا بدعة فتّانة

بهوى مضل مستطير سُمّه

وطعام سوء من مكاسب مُرَّة

يُعمي الفؤاد بدائه ويُصمه

ففشا الرياء وغيبة ونميمة

وقساوة منه وأثمر إثمه

لم يبق زرع أو مبيع أو شرا

إلا أُزيل عن الشريعة حكمه

فلكيف يفلح عابد وعظامه

نشأت على السحت الحرام ولحمه

هذا الذي وعد النبي المصطفى

بظهوره وعدا توثق حتمه

هذا لعَمْرُ إلهك الزمن الذي

تزداد شرته وينقص حلمه

وَهَت الأمانة فيه وانقصمت عرى الـ

ـتقوى به والبر أدبر نجمه

كثر الريا وفشا الزنا ونما الخنا

ورمى الهوى فيه فأقصد سهمه

ص: 28

ذهب النصيح لربه ونبيه

وإمامه نصحا تحقق عزمه

لم يبق إلا عالم هو مُرتشٍّ

أو حاكم يغشى الرعية ظلمة

والصالحون على الذهاب تتابعوا

فكأنهم عقد تناثر نظمه

لم يبق إلا راغب هو مُظهر

للزهد والدنيا الدنية همه

لولا بقايا سُنَّة ورجالها

لم يبق نهج واضح نأتمّه

يا مقبلا في جمع دنيا أدبرتْ

كبناءٍ استولى عليه هدمه

هذي أمارات القيامة قد بدت

لمُبَصَّر سَبَرَ العواقبَ فهمه

ظهرت طغاة الترك واجتاحوا الورى

وأبادهم هرج شديد حطمه

والشمس آن طلوعها من غربها

وخروج دجال فظيع غشمه

وآن ليأجوج الخروج عقيبه

من خلف سد سوف يفتح ردمه

فاعمل ليوم لا مردَّ لوقعه

يُقصي الوليدَ به أبوه وأمه

ص: 29

فصل

وقد وردت أحاديث كثيرة وآثار بما سيقع في آخر الزمان عند اشتداد غربة الإسلام والسنة؛ من تغيُّر الأحوال وظهور النقص في أمور الدين، وكثرة الشر والفساد. وقد ظهر مصداق أكثرها من أزمان متطاولة، وما زال الشر يزداد على ممر الأوقات أو كاد أن يتكامل ظهور الجميع في هذه الأزمان كما لا يخفى على من له أدنى علم وفهم للأحاديث ومعرفة بالواقع. ونذكر من ذلك ما يسره الله تعالى من صحيح وحسن وضعيف مما هو مطابق للواقع، وكفى بالواقع برهانا على صحة الضعيف منها، وشاهدا بخروجه من مشكاة النبوة.

الحديث الأول: عن مرادس الأسلمي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يذهب الصالحون الأول فالأول، ويبقى حفالة كحفالة الشعير أو التمر لا يباليهم الله بالةً» رواه الإمام أحمد والبخاري.

وفي رواية له موقوفة: «لا يعبأ الله بهم شيئا» ، وقال -رحمه الله تعالى-: يقال: حفالة وحثالة، يعني أنهما بمعنى واحد.

قال الخطابي رحمه الله تعالى: الحثالة بالفاء وبالمثلثة الرديء من كل شيء، وقيل: آخر ما يبقى من الشعير والتمر وأردأه.

وقال ابن التين: الحثالة سقط الناس، وأصلها ما يتساقط من قشور التمر والشعير وغيرهما.

ص: 30

وقال الداودي: ما يسقط من الشعير عند الغربلة، ويبقى من التمر بعد الأكل.

وقال أبو السعادات ابن الأثير: «وتبقى حفالة كحفالة التمر» أي: رذالة من الناس كرديء التمر ونفايته.

قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى- في "فتح الباري": وجدت لهذا الحديث شاهداً من رواية الفزارية امرأة عمر بلفظ: «تذهبون الخير فالخير حتى لا يبقى منكم إلا حثالة كحثالة التمر، ينزو بعضهم على بعض نزو المعز» أخرجه أبو سعيد بن يونس في تاريخ مصر، وليس فيه تصريح برفعه لكن له حكم المرفوع. انتهى.

وقوله: «لا يباليهم الله بالة» أي: لا يرفع لهم قدرا ولا يقيم لهم وزنا. قاله الخطابي وأبو موسى المديني؛ قال الخطابي: يقال: باليت بفلان وما باليت به مبالاة وبالية وبالة، وقال أبو موسى: أصل بالة بالية، مثل عافاه الله عافية، فحذفوا الياء منها تخفيفا، يقال: ما باليته وما باليت به أي: لم أكترث به. انتهى.

وهذا هو معنى قوله في الرواية الأخرى: «لا يعبأ الله بهم شيئا» .

الحديث الثاني: عن رويفع بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تذهبون الخير فالخير، حتى لا يبقى منكم إلا مثل هذا، وأشار إلى حشف التمر» رواه البخاري في التاريخ، والطبراني في الكبير، والحاكم في مستدركه وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.

ص: 31

الحديث الثالث: ذكره الإمام أحمد رحمه الله تعالى في كتاب الصلاة معلقا فقال: جاء الحديث: «ترذلون في كل يوم وقد أسرع بخياركم» ورواه البخاري في كتاب الأدب المفرد موصولا عن الحسن من قوله.

الحديث الرابع: عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: «الصالحون أسلافا، ويبقى أهل الريب ممن لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا» رواه أبو نعيم وغيره وله حكم المرفوع؛ لأن مثله لا يقال من قبل الرأي.

الحديث الخامس: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لتنتقنّ كما ينتقى التمر من الجفنة، فليذهبن خياركم وليبقين شراركم، حتى لا يبقى إلا من لا يعبأ الله بهم، فموتوا إن استطعتم» رواه البخاري في الكُنى، وابن ماجة، والحاكم وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه وهذا لفظه.

الحديث السادس: عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كيف بكم وبزمان -أو يوشك أن يأتي زمان- يغربل الناس فيه غربلة تبقى حثالة من الناس قد مرجت عهودهم وأماناتهم واختلفوا فكانوا هكذا –وشبك بين أصابعه» فقالوا: كيف بنا يا رسول الله؟ قال: «تأخذون ما تعرفون، وتذرون ما تنكرون، وتقبلون على أمر خاصتكم وتذرون أمر عامتكم» رواه الإمام أحمد وأهل السنن إلا الترمذي، وصححه الحاكم وقال: على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه.

ص: 32

وفي رواية لأحمد وأبي داود والنسائي والحاكم عنه رضي الله عنه قال: بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ذكر الفتنة فقال: «إذا رأيتم الناس قد مرجت عهودهم، وخفت أماناتهم وكانوا هكذا -وشبك أصابعه» قال: فقمت إليه فقلت: كيف أفعل عند ذلك، جعلني الله فداك؟ قال:«الزم بيتك، واملك عليك لسانك، وخذ بما تعرف، ودع ما تنكر، وعليك بأمر خاصة نفسك، ودع عنك أمر العامة» قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.

قوله: «يغربل الناس فيه غربلة» ، قال أبو عبيد الهروي: أي يذهب خيارهم ويبقى أراذلهم، والمغربل: المنتقى، كأنه نُقِّي بالغربال.

وقال سعيد بن منصور: حثالة الناس: رداءتهم، قال: ومعنى قوله: «قد مرجت عهودهم» : إذا لم يفوا بها.

وقال الطيبي: «مرجت عهودهم» : اختلطت وفسدت، وشبك بين أي أصابعه أي يمرج بعضهم ببعض، ويتلبس أمر دينهم فلا يعرف الأمين من الخائن، ولا البر من الفاجر.

وقوله: «وتقبلون على خاصتكم» : رخصة في ترك الأمر بالمعروف إذا كثر الأشرار وضعف الأخيار. انتهى.

وفي هذا الأخير نظر سيأتي بيانه في ذكر الأمر بالمعروف إن شاء الله تعالى.

الحديث السابع

(1)

: عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يوشك

(1)

علق الوالد رحمه الله هنا بقوله: في ص359ج2 من المسند عن أبي هريرة رضي الله عنه نحوه فليراجع.

ص: 33

الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها» فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: «بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن» فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال:«حب الدنيا وكراهية الموت» رواه الإمام أحمد، وأبو داود وهذا لفظه، وأبو نعيم في الحلية، والبيهقي في دلائل النبوة.

وفي رواية أحمد وأبي نعيم: «يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق» والباقي نحوه.

والغثاء: الزبد وما ارتفع على الماء مما لا ينتفع به، قاله أبو عبيدة معمر بن المثنى، ونقله عنه البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه، وقال الراغب الأصفهاني: يضرب به المثل فيما يضيع ويذهب غير معتد به. انتهى.

الحديث الثامن: عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يوشك أن يأتي على الناس زمان لا يبقى من الإسلام إلا اسمه، ولا يبقى من القرآن إلا رسمه، مساجدهم عامرة وهي خراب من الهدى، علماؤهم شر مَن تحت أديم السماء، مِن عندهم تخرج الفتنة وفيهم تعود» رواه البيهقي في شعب الإيمان، وذكره الإمام أحمد رحمه الله تعالى في كتاب الصلاة مختصرا بدون إسناد فقال: وجاء عنه صلى الله عليه وسلم: «يأتي زمان لا يبقى من الإسلام إلا اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه» .

الحديث التاسع: عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يكون في آخر الزمان عباد جهال وقراء فسقة» رواه أبو نعيم في الحلية، والحاكم في

ص: 34

المستدرك، والبيهقي في شعب الإيمان.

الحديث العاشر: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يخرج في آخر الزمان رجال يختلون الدنيا بالدين، يلبسون للناس جلود الضأن من اللين، ألسنتهم أحلى من السكر، وقلوبهم قلوب الذئاب، يقول الله: أبي تغترون أم عليّ تجترئون؟ فبي حلفت لأبعثن على أولئك منهم فتنة تدع الحليم منهم حيرانا» رواه الترمذي.

قوله: «يختلون الدنيا بالدين» يعني أنهم يطلبون الدنيا بأعمال الآخرة، والختل: الخداع، يقال: ختله يختله إذا خدعه وراوغه، وهذا يطابق حال الذين اتخذوا قراءة القرآن وتعلم العلم وتعليمه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والأذان والإمامة وغير ذلك من الأمور الدينية طرقا للتكسب وجمع الأموال، وهو بالقُرَّاء الفسقة أخص لما يأتي في حديثي معاذ وحذيفة رضي الله عنهما من التصريح بذلك، والله أعلم.

وقد روى الإمام أحمد في مسنده، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، والبيهقي في شعب الإيمان، والبغوي في تفسيره عن أُبي بن كعب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«بشر هذه الأمة بالسناء، والدين، والرفعة، والنصر، والتمكين في الأرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب» .

وقوله: «يلبسون للناس جلود الضأن من اللين» كناية عن تملقهم للناس وتحسين الخُلُق في وجوههم وإظهار البشاشة لهم واللين معهم، وكل ذلك منافقة باللسان وتكلف وتصنع في الظاهر، وأما في الباطن فهم

ص: 35

بخلاف ذلك؛ ولهذا وصف ألسنتهم بغاية الحلاوة فقال في هذا الحديث «ألسنتهم أحلى من السكر» ، وقال في حديث ابن عمر:«ألسنتهم أحلى من العسل» ، وشبّه قلوبهم بقلوب الذئاب لما انطوت عليه من مزيد الخبث والغدر والفجور، ووصفها بغاية المرارة والنتن، فقال في حديث ابن عمر رضي الله عنهما:«وقلوبهم أمر من الصبر» ، وقال في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه:«وقلوبهم أنتن من الجيف» ، ومثل ذلك ما في الحديث الطويل عن حذيفة رضي الله عنه، ووصفهم في الحديث الآخر عن معاذ بأنهم إخوان العلانية أعداء السريرة، ونحو ذلك في حديث سلمان رضي الله عنه، وما أكثر هذا الضرب الرديء في هذه الأزمان، فالله المستعان.

وقوله: «فبي حلفت لأبعثن على أولئك منهم فتنة تدع الحليم منهم حيرانا» قال النووي: قال أهل اللغة: أصل الفتنة في كلام العرب الابتلاء والامتحان والاختبار، قال القاضي: ثم صارت في عرف الكلام لكل أمر كشفه الاختبار عن سوء، قال أبو زيد: فتن الرجل يفتن فتونا إذا وقع في الفتنة وتحول من حال حسنة إلى سيئة. انتهى، قال الحافظ ابن حجر: وتطلق الفتنة على الكفر والغلو في التأويل البعيد، وعلى الفضيحة والبلية والعذاب والقتال والتحول من الحسن إلى القبيح والميل إلى الشيء والإعجاب، وتكون في الخير والشر كقوله تعالى:{وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: 35]. انتهى.

والمراد بما في هذا الحديث: الفتنة في الشر؛ لقوله: «تدع الحليم

ص: 36

منهم حيرانا»، والله أعلم.

وقوله في هذا الحديث: «فتنة ظلماء» كناية عن عظمها وتحير من وقع فيها وبعده من السلامة، وقد روى مسلم في صحيحه عن حذيفة رضي الله عنه قال: كنا عند عمر رضي الله عنه فقال: أيكم سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الفتن؟ فقال قوم: نحن سمعناه، فقال: لعلكم تعنون فتنة الرجل في أهله وجاره؟ قالوا: أجل، قال: تلك تُكفِّرها الصلاة والصيام والصدقة، ولكن أيكم سمع النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الفتن التي تموج موج البحر؟ قال حذيفة: فأسكت القوم، فقلت: أنا، قال: أنت؟ لله أبوك، قال حذيفة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا، فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء حتى تصير على قلبين؛ على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مربادًّا كالكوز مُجَخِّيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه» .

قوله: «تعرض الفتن على القلوب» قال النووي: قال الأستاذ أبو عبد الله ابن سليمان معناه: تظهر على القلوب، أي تظهر لها فتنة بعد أخرى.

قوله: «كالحصير» أي كما ينسج الحصير عودا عودا وشظية بعد أخرى، شبَّه عرض الفتن على القلوب واحدة بعد أخرى بعرض قضبان الحصير على صانعها واحدا بعد واحد، ومعنى «أشربها» دخلت فيه دخولا تاما وألزمها، وحلت منه محل الشراب، ومعنى «نكت نكتة» نقط

ص: 37

نقطة. انتهى مُلخصا.

وقوله: «مثل الصفا» كناية عن صلابته في الدين، وأن الفتن لا تؤثر فيه، ولهذا قال:«فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض» ، و «الأسود المرباد» هو ما خالط سوداه غيره؛ قال النووي: قال أبو عبيد عن أبي عمرو وغيره: الربدة لون بين السواد والغبرة، وقال ابن دريد: الربدة لون أكدر، وقال غيره: هي أن يختلط السواد بكدرة، وقال نفطويه: المربد: الملمع بسواد وبياض، ومنه تربّد لونه أي تلون، والله أعلم.

وقوله: «كالكوز مُجَخِّيا» قال سعد بن طارق -أحد رواة هذا الحديث-: يعني منكوسا، وقال أبو عبيد الهروي: المجخي المائل عن الاستقامة والاعتدال. فشبَّه القلب الذي لا يعي خيرا بالكوز المائل الذي لا يثبت فيه شيء.

قال النووي: قال صاحب التحرير: معنى الحديث أن الرجل إذا تبع هواه وارتكب المعاصي دخل قلبه بكل معصية يتعاطاها ظلمة، وإذا صار كذلك افتتن وزال عنه نور الإسلام، والقلب مثل الكوز فإذا انكب انصب ما فيه ولم يدخله شيء بعد ذلك. انتهى.

قال ابن القيم رحمه الله تعالى: الفتن التي تعرض على القلوب هي أسباب مرضها وهي فتنة الشهوات، وفتنة الشبهات؛ فتن الغي والضلال، فتن المعاصي والبدع، فتن الظلم والجهل، فالأولى توجب فساد القصد والإرادة، والثانية: توجب فساد العلم والاعتقاد. انتهى.

إذا علم هذا، فكثير من القرّاء والمنتسبين إلى العلم من معلمين ومتعلمين

ص: 38

وكُتَّاب في زماننا قد تهوّكوا في كثير من فتن الشبهات وفتن الشهوات واتبعوا في ذلك أهواءهم بغير روية ولا مبالاة {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص: 50]، فكثير منهم قد تهوّكوا في فتنة الكفر الأكبر والشرك الأكبر ووسائله وما يدعو إليه ويقرب منه، وكثير منهم قد تهوّكوا في فتنة النفاق الأكبر والزندقة والإلحاد، وكثير منهم قد تهوّكوا في فتن الشرح الأصغر والكفر الأصغر والنفاق الأصغر، وكثير منهم قد تهوّكوا في فتن البدع والأهواء المضلة، وكثير منهم قد تهوّكوا في فتنة الفسوق والعصيان من ترك المأمورات وارتكاب المحظورات، فمن ذلك تهوّكهم في التشبه بأعداء الله تعالى واتباع سنتهم حذو القذة بالقذة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«من تشبه بقوم فهو منهم» .

فكثير منهم يتشبهون بالنصارى والمجوس والمشركين في حلق اللحى والتمثيل بشعر الوجه، وكثير منهم يتشبهون بالنصارى في حلق جوانب الرأس وتسريح الباقي إلى جهة القفا ويسمونه "التواليت"، وكثير منهم يأمرون نساءهم وبناتهم أن يتشبهن بنساء النصارى في فرق شعورهن من جانب الرأس وفي تسريح شعورهن إلى جهة القفا وجمعها معقوصة خلف الرأس كأنها أسنمة البخت المائلة كما أخبر بذلك عنهن الصادق المصدوق -صلوات الله وسلامه عليه-، ويأمرون نساءهم وبناتهم أن يتشبهن بنساء النصارى في لبس الثياب التي لا تستر إلا بعض أجسادهن كما أخبر بذلك عنهن الصادق المصدوق -صلوات الله وسلامه عليه- بقوله:«كاسيات عاريات» ويكون في أوساط بعض تلك ثياب تكة تشبه الزنار، ويأمرونهن أيضا بجعل

ص: 39

جيوبهن من ناحية القفا تشبها بأعداء الله تعالى وخلافا للمسلمين.

وكثير منهم يأمرون نساءهم وبناتهم بالسفور عند الرجال الأجانب مشابهة للإفرنج وغيرهم من أمم الكفر والضلال، ولا يغارون من خلوة الرجال الأجانب بهن ولا بغيرهن من محارمهم، وكثير منهم يتشبهون باليهود والنصارى في الإشارة بالكف والأصابع ورفع اليد إلى جانب الوجه عند التسليم، وكثير منهم يتشبهون بمشركي قريس وبطوائف الإفرنج وغيرهم من أمم الكفر والضلال في التصفيق في الأندية والمجامع عند التعجب واستحسان المقالات، وكثير منهم قد اعتاضوا عن أحكام الشرع بقوانين أعداء الله وأنظمتهم وسياساتهم الخاطئة وآرائهم الفاسدة.

ومن ذلك تهوّكهم في تعظيم أعداء الله بالقيام لهم وبداءتهم بالسلام وتصديرهم في المجالس وتقديمهم على المسلمين في الدخول ومناولة ما يؤكل ويشرب والتبسط لهم، وتصديقهم في كثير من مزاعمهم الباطلة المخالفة لما في كتاب الله تعالى وسنة رسوله محمد رضي الله عنه، وقد غضب النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى مع بعض أصحابه صحيفة أخذها من بعض أهل الكتاب وقال:«أمتهوّكون فيها؟» ، فكيف لو رأى ما آل إليه الأمر في زماننا من انتشار مقالات أعداء الله وآرائهم وتخرصاتهم بين المسلمين، وقبول كثير منهم لها، وتنافسهم في تعلمها وتعليمها أكثر مما يعتني بالعلوم الشرعية، فالله المستعان.

ومن ذلك تهوكهم في شرب الدخان الخبيث المسمى بالتتن، ويسمى أيضا التنباك والتبغ، ومن ذلك تهوكهم في استماع الغناء والمزامير وأنواع

ص: 40

المعازف والملاهي وأصوات النساء الأجنبيات ونغمات البغايا

(1)

، وتهوكهم في اتخاذ آلات ذلك كالراديو والصندوق المسمى الفونوغراف وغير ذلك من آلات اللهو والطرب التي تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وتمكين نسائهم وبناتهم وغيرهن من محارمهم من الحضور عند الراديو وغيره من آلات اللهو، واستماعهن إلى أنواع المحرمات التي تُشوِّقهن إلى فعل الفواحش وأنواع المحرمات

(2)

.

ومن ذلك تهوكهم في الحضور عند السينما التي هي من أنواع السحر ومن أخبث الملاهي التي تصد عن ذكر الله وعن الصلاة.

ومن ذلك تهوكهم في اتخاذ الساعات التي فيها الموسيقى المطربة، ومثل ذلك اتخاذ السيارات التي فيها الراديو والموسيقى المطربة.

ومن ذلك تهوكهم في اللعب بالأوراق المسماة بالجنجفة، والمقامرة

(1)

كلمة غير واضحة في الأصل، ولعلها: المتهتكات.

(2)

كلامه رحمه الله عن الراديو وعدّه من المحرمات إنما هو من باب التحريم بالوصف؛ لما استقر عليه الحال وقت تصنيف الكتاب -وهو السبعينات بعد الثلاثمائة والألف من الهجرة- حيث اتصفت عامة الإذاعات في تلك الفترة بنشر الباطل من الأغاني المحرمة، والدعايات المضللة لملل الكفر ومذاهبه، وانحصر الخير فيها في أوقات ضيقة قد تقتصر على الافتتاح ونحو ذلك، والحكم للأعم الأغلب. ومما يؤكد هذا أنه رحمه الله بعد ظهور الإذاعات المتصفة بسلامة المنهج والمشتملة على الدعوة إلى الخير والفضيلة وما ينفع الناس في دينهم ودنياهم -كإذاعة القرآن الكريم- كان يحض على سماعها، والاستفادة من البرامج المنقولة عبرها، بل ويستمع إليها أحيانا، ولو كان يرى حرمة العين لما فعل ذلك.

ص: 41

على اللعب بها وذلك من الميسر المحرم، ومثل ذلك اللعب بالكيرم ونحوه وأخذ العوض على الغلبة فيه.

ومن ذلك تهوكهم في اللعب بالكرة وهو من الأشر المذموم، وأخذ العوض على الغلبة فيه من الميسر المحرم.

ومن ذلك تهوكهم في تصوير الحيوانات واقتناء الصور واشتراء الصحف والكتب المشحونة بالتصاوير، ووضع صور الملوك والأكابر في المجالس.

ومن ذلك تهوكهم في قراءة الجرائد والمجلات والكتب العصرية وصرف هممهم إلى مطالعتها وإعراضهم عن تدبر كتاب الله تعالى وسُنة رسوله صلى الله عليه وسلم والنظر في علوم الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان.

ومن ذلك تهوكهم في بعض الأمصار مع النساء الأجنبيات في معاشرتهن والخلوة بهن وبالمردان، وذلك من أعظم الوسائل إلى ارتكاب الفاحشة كما في الحديث:«ما خلا رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان» ، وقال صلى الله عليه وسلم:«ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء» ، والأمرد مثل المرأة في ذلك أو أعظم، إلى غير ذلك من الفتن التي قد تهوّك فيها كثير منهم، وبعضهم متهوكون في جميع هذه الأفعال السيئة وبعضهم في كثير منها، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وتهوكهم هذا -والله أعلم- مقدمة بين يدي الفتنة الظلماء التي أشار إليها في حديث أبي هريرة وعبد الله بن عمرو ومعاذ وأنس رضي الله عنهم، فالله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي

ص: 42

العظيم، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

الحديث الحادي عشر: عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تبارك وتعالى قال: لقد خلقت خلقا ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم أمرّ من الصبر، فبي حلفت لأتيحنّهم فتنةً تدع الحليم منهم حيراناً، فبي يغترّون أم عليّ يجترئون؟» رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن غريب من حديث ابن عمر لا نعرفه إلا من هذا الوجه.

وقد جاء ذكر هذا الضرب الرديء في الكتب المتقدمة كما قال ابن جرير: حدثني يونس أخبرنا ابن وهب أخبرني الليث بن سعد عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن القرظي عن نوف وهو البكالي وكان ممن يقرأ الكتب قال: إني لأجد صفة ناس من هذه الأمة في كتاب الله المنزل؛ «قوم يحتالون على الدنيا بالدين، ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم أمر من الصبر، يلبسون للناس مسوك الضأن، وقلوبهم قلوب الذئاب، يقول الله تعالى: فعليّ يجترئون، وبي يغترون؟ حلفت بنفسي لأبعثن عليهم فتنة تترك الحليم فيها حيرانا» ، قال القرظي: تدبرتها في القرآن فإذا هم المنافقون، فوجدتها {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ} الآية [البقرة: 204].

ورواه أبو نعيم في الحلية من طريق أحمد بن سعيد عن عبد الله بن وهب به مثله.

قال ابن جرير: وحدثني محمد بن أبي معشر أخبرني أبو معشر نجيح قال:

ص: 43

سمعت سعيد المقبري يذاكر محمد بن كعب القرظي فقال سعيد: إن في بعض الكُتُب «إن عبادا ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم أمر من الصبر، لبسوا للناس مُسُك الضأن من اللين، يجترئون الدنيا بالدين، قال الله تعالى: عليّ تجترئون! وبي تغترون! وعزتي لأبعثن عليهم فتنة تترك الحليم منهم حيرانا» ، فقال محمد بن كعب: هذا في كتاب الله، فقال سعيد: وأين هو من كتاب الله؟ قال: قول الله {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الآية، فقال سعيد: قد عرفت فيمن أنزلت هذه الآية، فقال محمد بن كعب: إن الآية تنزل في الرجل ثم تكون عامة بعد.

الحديث الثاني عشر: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: «كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يربو فيها الصغير، ويهرم فيها الكبير، ويتخذها الناس سنة، فإذا غيرت قالوا: غيّرت السنة؟» قيل: متى ذلك يا أبا عبد الرحمن؟ قال: «إذا كثرت قراؤكم، وقلت فقهاؤكم، وكثرت أمراؤكم، وقلت أمناؤكم، والتُمست الدنيا بعمل الآخرة، وتفقِّه لغير الدين» رواه عبد الرزاق والدارمي والحاكم في مستدركه، ورمز الذهبي في تخليص المستدرك إلى أنه على شرط البخاري ومسلم.

وهذا الأثر له حكم المرفوع لأن مثله لا يقال من قبل الرأي.

وقد رواه أبو نعيم في الحلية مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: والمشهور من قول عبد الله موقوف.

الحديث الثالث عشر: عن علي رضي الله عنه أنه ذكر فتنا تكون في آخر الزمان فقال له عمر رضي الله عنه: متى ذلك يا علي؟ قال: «إذا تفقه لغير الدين، وتعلم

ص: 44

العلم لغير العمل، والتمست الدنيا بعمل الآخرة» رواه عبد الرزاق.

الحديث الرابع عشر: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يكون في آخر الزمان أمراء ظلمة، ووزراء فسقة، وقضاة خونة، وفقهاء كذبة، فمن أدرك منكم ذلك الزمان فلا يكونن لهم جابيا ولا عريفا ولا شرطيا» رواه الطبراني.

الحديث الخامس عشر: عن مكحول عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: «لا تذهب الدنيا حتى يأتي أمراء كذبة، ووزراء فجرة، وعرفاء ظلمة، وقُرَّاء فسقة، أهواؤهم مختلفة، ليست لهم زِعَة، يلبسون ثياب الرهبان وقلوبهم أنتن من الجيف، فيلبسهم الله فتنة ظلماء يتهوكون فيها تهوك اليهود» ذكره أبو بكر أحمد بن محمد بن عبد الخالق في كتاب "الورع".

ورواه عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد" من حديث علي المرادي عن معاذ رضي الله عنه مختصرا، قال:«يكون في آخر الزمان قُرَّاء فسقة، ووزراء فجرة، وأمناء خونة، وعرفاء ظلمة، وأمراء كذبة» وهكذا رواه البخاري في "التاريخ الكبير" إلا أنه قال عن عيسى المرادي، والله أعلم، وهذا الأثر له حكم المرفوع؛ لأن مثله لا يقال إلا عن توقيف.

وقوله فيه: «ليست لهم زعة» أي ليس لهم وازع من خوف الله تعالى يكفهم ويمنعهم عن الفسوق والعصيان ومخالفة أوامر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

الحديث السادس عشر: ما رواه أبو نعيم في الحلية من حديث أبي الجلد جيلان بن فروة عن معقل بن يسار رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم -

ص: 45

يقول: «لا تذهب الأيام والليالي حتى يَخْلَق القرآن في صدور أقوام من هذه الأمة كما تَخْلَق الثياب، ويكون ما سواه أعجب إليهم، ويكون أمرهم طمعا كله لا يخالطه خوف، إن قصَّر عن حق الله منَّتْه نفسه الأماني، وإن تجاوز إلى ما نهى الله عنه قال: أرجو أن يتجاوز الله عني، يلبسون جلود الضأن على قلوب الذئاب، أفضلهم في أنفسهم المداهن» قيل: ومن المداهن؟ قال: «الذي لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر» .

الحديث السابع عشر: عن أبي العالية رحمه الله تعالى قال: «يأتي على الناس زمان تخرب صدورهم من القرآن ولا يجدون له حلاوة ولا لذاذة، إن قصَّروا عما أمروا به قالوا: إن الله غفور رحيم، وإن عملوا بما نهوا عنه قالوا: سيغفر لنا، إنا لم نشرك بالله شيئا، أمرهم كله طمع ليس معه صدق، يلبسون جلود الضأن على قلوب الذئاب، أفضلهم في دينه المداهن» رواه الإمام أحمد في كتاب "الزهد".

وهذا الأثر كالذي قبله يحمل على أنه بلغه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الإخبار عن المغيبات لا دخل للرأي فيه، وإنما يتلقى عن المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى.

الحديث الثامن عشر: عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى يخرج قوم يأكلون بألسنتهم كما تأكل البقر بألسنتها» رواه الإمام أحمد وأشار إليه الترمذي في جامعه.

الحديث التاسع عشر: عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

ص: 46

«يكون في آخر الزمان أقوام إخوان العلانية أعداء السريرة» فقيل: يا رسول الله، وكيف يكون ذلك؟ قال:«ذلك برغبة بعضهم إلى بعض ورهبة بعضهم من بعض» رواه الإمام أحمد وأبو نعيم في الحلية.

وروى أبو نعيم أيضا أن أبا عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما كتبا إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتابا فذكره، وفيه: وإنا كنا نُحدَّث أن أمر هذه الأمة سيرجع في آخر زمانها إلى أن يكونوا إخوان العلانية أعداء السريرة، فكتب إليهما عمر بن الخطاب رضي الله عنه جواب كتابهما وفيه: كتبتما تحذراني أن أمر هذه الأمة سيرجع في آخر زمانها إلى أن يكونوا إخوان العلانية أعداء السريرة ولستم بأولئك، وليس هذا بزمان ذاك، وذلك زمان تظهر فيه الرغبة والرهبة، تكون رغبة الناس بعضهم إلى بعض لصلاح دنياهم.

الحديث العشرون: عن سلمان الفارسي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا ظهر العلم -وفي رواية: القول- وخزن العمل، وائتلفت الألسن، واختلفت القلوب، وقطع كل ذي رحم رحمه، فعند ذلك لعنهم الله فأصمَّهم وأعمى أبصارهم» رواه الإمام أحمد في كتاب الزهد موقوفا، ورواه الطبراني وأبو نعيم وغيرهما مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

وفي مراسيل الحسن: «إذا أظهر الناس العلم، وضيعوا العمل، وتحابوا بالألسن، وتباغضوا بالقلوب، وتقاطعوا الأرحام؛ لعنهم الله عز وجل عند ذلك فأصمهم وأعمى أبصارهم» .

ص: 47

الحديث الحادي والعشرون: عن عمرو بن قيس الكندي قال: كنت مع أبي الفوارس وأنا غلام شاب فرأيت الناس مجتمعين على رجل، قلت: من هذا؟ قالوا: عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، فسمعته يُحدِّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:«من اقتراب الساعة أن ترفع الأشرار، وتوضع الأخيار، ويفتح القول، ويخزن العمل، ويقرأ بالقوم المثناة ليس فيهم أحد ينكرها» قيل: وما المثناة؟ قال: «ما اكتتبت سوى كتاب الله عز وجل» رواه الحاكم في مستدركه وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي في تلخيصه.

وعن عمرو بن قيس السكوني قال: خرجت مع أبي في الوفد إلى معاوية فسمعت رجلا يحدّث الناس يقول: «إن من أشراط الساعة أن ترفع الأشرار، وتوضع الأخيار، وأن يخزن الفعل والعمل، ويظهر القول، وأن يقرأ بالمثناة في القوم ليس فيهم من يغيرها أو ينكرها» فقيل: وما المثناة؟ قال: «ما اكتتبت سوى كتاب الله عز وجل» قال: فحدثت بهذا الحديث قوما وفيهم إسماعيل بن عبيد الله فقال: أنا معك في ذلك المجلس، تدري من الرجل؟ قلت: لا، قال: عبد الله بن عمرو. رواه الحاكم في مستدركه وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.

الحديث الثاني والعشرون: عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن لكل شيء إقبالا وإدبارا، وإن من إقبال هذا الدين ما كنتم عليه من العمى والجهالة وما بعثني الله به، وإن من إقبال هذا الدين أن تفقه القبيلة بأسرها حتى لا يوجد فيها إلا الفاسق والفاسقان، فهما مقهوران ذليلان إن تكلما قُمعا وقُهرا واضطهدا، وإن من إدبار هذا الدين أن تجفو القبيلة بأسرها حتى

ص: 48

لا يرى فيها إلا الفقيه والفقيهان فهما مقهوران ذليلان، وإن تكلما فأمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر قمعا وقهرا واضطهدا فهما مقهوران ذليلان لا يجدان على ذلك أعوانا ولا أنصارا» رواه الطبراني.

ورواه الحارث بن أبي أسامة وفيه: ثم ذكر: «من إدبار هذا الدين أن تجفو القبيلة كلها من عند آخرها حتى لا يبقى فيها إلا الفقيه أو الفقيهان، فهما مقهوران مقموعان ذليلان، إن تكلما أو نطقا قمعا وقهرا واضطهدا، وقيل لهما: أتطعنان علينا؟! حتى يشرب الخمر في ناديهم ومجالسهم وأسواقهم، وتنحل الخمر غير اسمها حتى يلعنَ آخرُ هذه الأمة أوَّلَها، ألا حلَّت عليهم اللعنة ..» الحديث، وفي آخره:«فمن أدرك ذلك الزمان وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر فله أجر خمسين ممن صحبني وآمن بي وصدقني أبدا» .

الحديث الثالث والعشرون: عن ابن عباس رضي الله عنهما يرفعه قال: «سيأتي زمان يذوب فيه قلب المؤمن كما يذوب الملح في الماء» قيل: مم ذلك يا رسول الله؟ قال: «مما يرى من المنكر لا يستطيع تغييره»

(1)

.

الحديث الرابع والعشرون: عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يأتي على الناس زمان الصابر فيهم على دينه كالقابض على الجمر» رواه الترمذي وقال: هذا حديث غريب.

(1)

لم يعزه الوالد رحمه الله، وقد أخرجه ابن أبي الدنيا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما ذكر ذلك صاحب كنز العمال (3/ 247)، وأخرجه ابن مردويه كما ذكره السيوطي في الدر المنثور (7/ 474)، والديلمي في الفردوس (5/ 440).

ص: 49

الحديث الخامس والعشرون: عن أنس أيضا رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يأتي على الناس زمان يكون المؤمن فيه أذل من شاته» رواه ابن عساكر.

الحديث السادس والعشرون: عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أعلام الساعة وأشراطها أن يكون المؤمن في القبيلة أذل من النقد» رواه الطبراني، والنقد: صغار الغنم.

الحديث السابع والعشرون: ذكر الأوزاعي عن حسان بن عطية مرسلا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سيظهر شرار أمتي على خيارها حتى يستخفي المؤمن فيهم كما يستخفي المنافق فينا اليوم» .

الحديث الثامن والعشرون: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: «توشك القرى أن تخرب وهي عامرة» قيل: وكيف تخرب وهي عامرة؟ قال: «إذا علا فجّارها أبرارها، وساد القبيلة منافقها» ذكره الإمام أحمد.

الحديث التاسع والعشرون: عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان يقول كل عشية خميس لأصحابه: «سيأتي على الناس زمان تمات فيه الصلاة، ويشرف فيه البنيان، ويكثر فيه الحلف والتلاعن، ويفشو فيه الرشا والزنا، وتباع الآخرة بالدنيا، فإذا رأيت ذلك فالنجا النجا» قيل: وكيف النجا؟ قال: «كن حلسا من أحلاس بيتك، وكف لسانك ويديك» رواه ابن أبي الدنيا، وله حكم المرفوع كنظائره.

الحديث الثلاثون: عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من اقتراب الساعة اثنتان وسبعون خصلة: إذا رأيتم الناس أماتوا الصلاة، وأضاعوا الأمانة، وأكلوا الربا، واستحلُّوا الكذب، واستخفُّوا بالدماء،

ص: 50

واستعلوا البناء، وباعوا الدين بالدنيا، وتقطعت الأرحام، ويكون الحكم ضعفا، والكذب صدقا، والحرير لباسا، وظهر الجور، وكثر الطلاق، وموت الفجأة، واُؤتمن الخائن، وخُوِّن الأمين، وصُدِّق الكاذب، وكُذِّب الصادق، وكثر القذف، وكان المطر قيظا، والولد غيظا، وفاض اللئام فيضا، وغاض الكرام غيضا، وكان الأمراء فجرة، والوزراء كذبة، والأمناء خونة، والعرفاء ظلمة، والقُرَّاء فسقة، إذا لبسوا مسوك الضأن قلوبهم أنتن من الجيفة، وأمرّ من الصبر، يغشيهم الله فتنة يتهاوكون فيها تهاوك اليهود الظلمة، وتظهر الصفراء -يعني الدنانير-، وتُطلب البيضاء -يعني الدراهم-، وتكثر الخطباء، ويقل الآمر بالمعروف، وحُلِّيت المصاحف، وصورت المساجد، وطُوِّلت المنابر، وخربت القلوب، وشُربت الخمور، وعُطِّلت الحدود، وولدت الأمة ربتها، وترى الحفاة العراة صاروا ملوكا، وشاركت المرأة زوجها في التجارة، وتشبّه الرجال بالنساء والنساء بالرجال، وحُلف بغير الله، وشهد المرء من غير أن يستشهد، وسلم للمعرفة، وتفقه لغير الدين، وطلبت الدنيا بعمل الآخرة، واتخذ المغنم دولا، والأمانة مغنما، والزكاة مغرما، وكان زعيم القوم أرذلهم، وعقّ الرجل أباه، وجفا أمه، وبر صديقه، وأطاع امرأته، وعلت أصوات الفسقة في المساجد، واتخذت القينات والمعازف، وشربت الخمور في الطرق، واتخذ الظلم فخرا، وبيع الحكم، وكثرت الشُرط، واتخذ القرآن مزامير، وجلود السباع صفافا، ولعن آخرُ هذه الأمة أوَّلَها؛ فليرتقبوا عند ذلك ريحا حمراء وخسفا ومسخا وقذفا وآيات» رواه أبو نعيم في الحلية بإسناد ضعيف، وله شواهد من

ص: 51

حديث علي وأبي هريرة وغيرهما مما هو مذكور في هذا الفصل.

الحديث الحادي والثلاثون: عن علي أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة حل بها البلاء» قيل: وما هي يا رسول الله؟ قال: «إذا كان المغنم دولا، والأمانة مغنما، والزكاة مغرما، وأطاع الرجل زوجته وعق أمه، وبر صديقه وجفا أباه، وارتفعت الأصوات في المساجد، وكان زعيم القوم أرذلهم، وأُكرِم الرجل مخافة شره، وشُربت الخمور، ولُبس الحرير، واتخذت القيان والمعازف، ولعن آخرُ هذه الأمة أوَّلَها فليرتقبوا عند ذلك ريحا حمراء أو خسفا أو مسخا» رواه الترمذي وقال: هذا حديث غريب.

الحديث الثاني والثلاثون: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا اتخذ الفيء دولا، والأمانة مغنما، والزكاة مغرما، وتعلم لغير الدين، وأطاع الرجل امرأته وعق أمه، وأدنى صديقه وأقصى أباه، وظهرت الأصوات في المساجد، وساد القبيلةَ فاسقُهم، وكان زعيم القوم أرذلهم، وأُكرم الرجل مخافة شرِّه، وظهرت القينات والمعازف، وشربت الخمور، ولعن آخرُ هذه الأمة أوَّلَها فليرتقبوا عند ذلك ريحا حمراء وزلزلة وخسفا ومسخا وقذفا وآيات تتابع كنظام بال قطع سلكه فتتابع» رواه الترمذي وقال: هذا حديث غريب.

قوله: «وظهرت الأصوات في المساجد» ، وفي الحديث الذي قبله:«وارتفعت الأصوات في المساجد» يعني -والله أعلم-: أصوات الفسقة كما جاء مصرحا به في حديث حذيفة الذي قبله، ولعل من مصداق هذه

ص: 52

الأحاديث ما وقع في زماننا من كثير من المنتسبين إلى العلم، فقد رأينا كثيرا منهم يقومون في المسجد الحرام وفي غيره من المساجد فيتكلمون بملء أفواههم، ويكثرون الهذيان والثرثرة ويرفعون بذلك أصواتهم ليراهم الناس ويَسمعوهم، وكثير منهم يَقُصُّون على الناس ويخطبون ابتداء من عند أنفسهم من غير أن يؤمروا بذلك، وقد سمعنا كثيرا منهم يتكلمون في تفسير القرآن بآرائهم ويحاولون تطبيقه على الآراء والأذواق والأفعال العصرية، ويتكلمون في بعض الأحاديث بنحو ذلك، وقد قال الله:{فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَاوِيلِهِ} [آل عمران: 7]، هذا مع ما عليه كثير منهم من شوائب الشرك والبدع والمعاصي، فقد سمعت بعضهم في المسجد الحرام يتوسل في دعائه ببعض المخلوقات، وسمعت كثيرا منهم في غيره يتكلمون بالشرك والبدع والضلالات، وكثير منهم يحلقون لحاهم أو ينتفونها ويشتبهون بأعداء الله، ومخالفون ما أمرهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم من إعفاء اللحى ومخالفة المشركين، وكثير منهم يشربون الدخان الخبيث المسمى بالتتن، وقد ذكر لنا عن بعض هؤلاء المتمعلمين أنه يزعم حِلَّه، وكثير منهم يتخذون آلات اللهو والمعازف ويحضرون عندها، ويستمعون إلى أنواع المحرمات، وربما أضاعوا بعض الصلوات من أجلها، وكثير منهم يشترون المصورات ويقتنونها، وقد ذكر لنا عن بعضهم أنه لا يرى بأسا بالتصوير، عياذا بالله من الجهل.

وكثير منهم يتشبه بالنساء في لبس الأساور وفي التصفيق وغيره، إلى غير ذلك من أنواع الفسوق والعصيان التي قد ارتكبها كثير من الخطباء والقُصَّاص

ص: 53

والوعاظ والمذكِّرين في هذه الأزمان، فصلوات الله وسلامه على الرسول المصطفى الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، وقد قال الله تعالى:{أَتَامُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44].

وروى الطبراني والضياء المقدسي عن جندب رضي الله عنه مرفوعا: «مثل العالم الذي يُعلِّم الناس الخير وينسى نفسه كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه، ومن سمَّع الناس بعلمه سمَّع الله به» .

وروى الطبراني أيضا والبزار عن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه مرفوعا: «مثل الذي يُعلِّم الناس الخير وينسى نفسه مثل الفتيلة تضيء للناس وتحرق نفسها» .

وروى الإمام أحمد في الزهد، وأبو نعيم في الحلية، عن مالك بن دينار قال: أوحى الله إلى عيسى عليه السلام أن يا عيسى عِظ نفسك، فإن اتعظت فعظ الناس، وإلا فاستحِ منِّي.

ومن حِكَم الشعر قول بعضهم:

وغير تقيٍّ يأمر الناس بالتُّقى

طبيب يداوي الناس وَهْوَ سقيم

يا أيها الرجل المعلم غيره

هلا لنفسك كان ذا التعليم

تصف الدواء لذي السقام من الضنى

ومن الضنى تمسي وأنت سقيم

لا تَنْه عن خُلُق وتأتي مثله

عارٌ عليك إذا فعلت عظيم

ابدأ بنفسك فانهها عن غيها

فإذا انتهت عنه فأنت حكيم

فهناك يُقبَل ما تقول ويُقتدَى

بالقول منك ويَنفعُ التعليم

ص: 54

الحديث الثالث والثلاثون: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والذي بعثني بالحق لا تنقضي هذه الدنيا حتى يقع بهم الخسف والمسخ والقذف» قالوا: ومتى ذلك يا نبي الله، بأبي أنت وأمي؟ قال:«إذا رأيت النساء قد ركبن السروج، وكثرت القينات، وشهد شهادات الزور، وشرب المسلمون في آنية أهل الشرك الذهب والفضة، واستغنى الرجال بالرجال والنساء بالنساء فاستغفروا واستعدوا» وقال هكذا بيده وستر وجهه. رواه الحاكم في مستدركه.

الحديث الرابع والثلاثون: عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقْرَؤوا القرآن بلحون العرب وأصواتها، وإياكم ولحون أهل الفسق وأهل الكتابين، وسيجيء قوم من بعدي يرجِّعون بالقرآن ترجيع الغناء والرهبانية والنوح لا يجاوز حناجرهم، مفتونة قلوبهم وقلوب الذين يعجبهم شأنهم» رواه الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام، والطبراني في الأوسط، والبيهقي في شعب الإيمان.

الحديث الخامس والثلاثون: قال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام -رحمه الله تعالى-: حدثنا يزيد عن شريك عن أبي اليقظان عثمان بن عمير عن زاذان أبي عمر عن عليم قال: كنا على سطح ومعنا رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال يزيد: لا أعلمه إلا قال عابس الغفاري، فرأى الناس يخرجون في الطاعون، قال: ما هؤلاء؟ قال: يفرون من الطاعون؟ قال: يا طاعون خذني، فقالوا: أتتمنى الموت وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا

ص: 55

يتمنين أحدكم الموت» فقال: إني أبادر خصالا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوفهن على أمته؛ بيع الحكم، والاستخفاف بالدم، وقطيعة الرحم، وقوم يتخذون القرآن مزامير؛ يقدمون أحدهم ليس بأفقههم ولا أفضلهم إلا ليغنيهم به غناء. وذكر خلتين آخرتين.

قال: وحدثنا يعقوب بن إبراهيم، عن ليث بن أبي سليم، عن عثمان بن عمير، عن زاذان، عن عابس الغفاري، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك أو نحوه.

وقد رواه البخاري في التاريخ الكبير من حديث ليث، عن عثمان، عن زاذان، سمع عباسا الغفاري قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يتخوفهن على أمته من بعد: «إمارة السفهاء، وبيع الحكم، واستخفاف بالدم، وقطيعة الرحم، وكثرة الشُرط، ونشو يتخذون القرآن مزامير؛ يتغنون غناء، يقدمون الرجل ليس بأفقههم ولا بأعلمهم لا يقدمونه إلا ليتغنى بهم» ثم رواه من طريق زاذان، عن عليم، سمع عابسا الغفاري.

ورواه الطبراني في معجمه الكبير من حديث زاذان، عن عليم قال: كنا جلوسا على سطح ومعنا رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال عليم: لا أعلمه إلا عابس أو عبس الغفاري- والناس يخرجون في الطاعون فقال: يا طاعون خذني، ثلاثا، فقلت: ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يتمنى أحدكم الموت، فإنه عند انقطاع عمله ولا يرد فيستعتب» فقال: سمعته يقول: «بادروا بالأعمال ستا؛ إمارة السفهاء، وكثرة الشُرط، وبيع الحكم، واستخفافا بالدم، وقطيعة الرحم، ونشئا يتخذون القرآن مزامير يقدمون أحدهم ليغنيهم وإن كان أقلهم فقها» .

ص: 56

الحديث السادس والثلاثون: عن الحسن قال: قال الحكم بن عمرو الغفاري رضي الله عنه: يا طاعون خذني إليك، فقال له رجل من القوم: لِم تقول هذا وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به» قال: قد سمعت ما سمعتم ولكنني أبادر ستا: بيع الحكم، وكثرة الشُرط، وإمارة الصبيان، وسفك الدماء، وقطيعة الرحم، ونشوا يكونون في آخر الزمان يتخذون القرآن مزامير. رواه الحاكم في مستدركه.

الحديث السابع والثلاثون: عن عطاء قال: قال أبو هريرة رضي الله عنه: إذا رأيتم ستا فإن كانت نفس أحدكم في يده فليرسلها فلذلك أتمنى الموت، أخاف أن تدركني، إذا أمرت السفهاء، وبيع الحكم، وتهون بالدم، وقطعت الأرحام، وقطعت الجلاوزة، ونشأ نشء يتخذون القرآن مزامير. رواه أبو نعيم في الحلية.

قوله: (وقطعت الجلاوزة) هكذا وجدته في الحلية ولعله (وكثرت الجلاوزة) كما في الأحاديث قبله، والجلاوزة: هم الشُرط وأعوان السلطان.

الحديث الثامن والثلاثون: عن كعب الأحبار أنه قال: ليقرأن القرآن رجال وإنهم أحسن أصواتا من العزافات وحُداة الإبل، لا ينظر الله إليهم يوم القيامة. رواه أبو نعيم في الحلية.

الحديث التاسع والثلاثون: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نقرأ القرآن وفينا العجمي والأعرابي قال: فاستَمَع، قال: فقال: «اقرؤوا فكلٌّ حسنٌّ، وسيأتي قوم يقيمونه كما يُقام

ص: 57

القدح، يتعجلونه ولا يتأجلونه» رواه الإمام أحمد وأبو داود.

وفي رواية لأحمد: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد فإذا فيه قوم يقرؤون القرآن قال: «اقرؤوا القرآن وابتغوا به الله عز وجل من قبل أن يأتي قوم يقيمونه إقامة القدح، يتعجلونه ولا يتأجلونه» .

الحديث الأربعون: عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما ونحن نقتري فقال: «الحمد لله، كتاب الله واحد، وفيكم الأحمر، وفيكم الأبيض، وفيكم الأسود، اقرؤوا قبل أن يقرأه أقوام يقيمونه كما يقوم السهم، يتعجل أجره ولا يتأجله» رواه أبو داود.

الحديث الحادي والأربعون: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: بينما نحن نقرأ فينا العربي والعجمي والأسود والأبيض إذ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أنتم في خير، تقرؤون كتاب الله وفيكم رسول الله، وسيأتي على الناس زمان يثقفونه كما يثقف القدح، يتعجلون أجورهم ولا يتأجلونها» رواه الإمام أحمد.

وفي هذا الحديث والحديثين قبله فوائد:

إحداها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب القراءة السهلة.

الثانية: أنه صلى الله عليه وسلم كان يأمر أصحابه أن يقرأ كل منهم بما تيسر عليه، وسهل على لسانه.

الثالثة: ثناؤه عليهم بعدم التكلُّف في القراءة.

الرابعة: أنه لم يكن يُعلِّمهم التجويد ومخارج الحروف، وكذلك

ص: 58

أصحابه رضي الله عنهم لم يُنقل عن أحد منهم أنه كان يعلم في التجويد ومخارج الحروف، ولو كان خيرا لسبقوا إليه، ومعلوم ما فتح عليهم من أمصار العجم من فرس وروم وقبط وبربر وغيرهم وكانوا يعلمونهم القرآن بما يسهل على ألسنتهم ولم ينقل أنهم كانوا يعلمونهم مخارج الحروف، ولو كان التجويد لازما ما أهملوا تعلمه وتعليمه.

الخامسة: ذم المتكلفين في القراءة، المتعمقين في إخراج الحروف.

السادسة: الرد على من زعم أن قراءة القرآن لا تجوز بغير التجويد، أو أن ترك التجويد يخل بالصلاة، وقد أخبرني بعض أئمة المسجد النبوي أن جماعة من المتكلفين أنكروا عليه إذ لم يقرأ في الصلاة بالتجويد، وما علم أولئك المتكلفون الجاهلون أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر العربي والعجمي والأحمر والأبيض والأسود على قراءتهم وقال لهم:«كل حسن» ، وذم المتكلفين الذين يقيمونه كما يقام القدح والسهم ويثقفونه ويتنطعون في قراءته كما هو الغالب على كثير من أهل التجويد في هذه الأزمان، فالله المستعان.

السابعة: الأمر بقراءة القرآن ابتغاء وجه الله عز وجل.

الثامنة: ذم من يأخذ على القراءة أجرا كما عليه كثير من قُرَّاء الإذاعات ونحوهم، وأردأ منهم من يجعل القرآن وسيلة لسؤال الناس، وقد رأيتهم يفعلون ذلك في المسجد الحرام؛ يجلس أحدهم فيقرأ قراءة متكلفة يتنطع فيها، ويعالج في إخراجها أعظم شدة ومشقة، وتنتفخ أوداجه، ويحمرّ وجهه ويكاد يغشى عليه مما يصيبه من الكرب في تكلفة وتنطعه، ويفرش عنده منديلا

ص: 59

أو نحوه ليلقى فيه المستمعون لقراءته ما يسمحون به من أوساخهم، وهذا مصداق حديث عمران بن حصين الآتي، فصلوات الله وسلامه على نبينا المصطفى الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى.

الحديث الثاني والأربعون: عن عمران بن حصين رضي الله عنهما أنه مر على قارئ يقرأ ثم سأل، فاسترجع ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من قرأ القرآن فليسأل الله به، فإنه سيجيء أقوام يقرؤون القرآن يسألون به الناس» رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن.

الحديث الثالث والأربعون: ما رواه الديلمي عن علي رضي الله عنه: «من اقتراب الساعة إذا تعلم علماؤكم ليجلبوا به دنانيركم ودراهمكم، واتخذتم القرآن تجارة» .

الحديث الرابع والأربعون: عن أم الفضل أم عبد الله بن عباس رضي الله عنهم قالت: بينما نحن بمكة قام رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل فنادى: «اللهم هل بلغت، اللهم هل بلغت؟» ثلاثا، فقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: نعم، ثم أصبح فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ليظهرن الإسلام حتى يرد الكفر إلى مواطنه، وليخوضن رجال البحار بالإسلام، وليأتين على الناس زمان يتعلمون القرآن ويقرؤونه ثم يقولون: قرأنا وعلَّمنا، فمن هذا الذي هو خير منا؟ فهل في أولئك من خير» قالوا: يا رسول الله، فمن أولئك؟ قال:«أولئك منكم وهم وقود النار» رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه.

الحديث الخامس والأربعون: عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم، ويثبت الجهل، ويشرب الخمر،

ص: 60

ويظهر الزنا» متفق عليه.

وفي رواية: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من أشراط الساعة أن يقل العلم، ويظهر الجهل، ويظهر الزنا، وتكثر النساء، ويقل الرجال حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد» هذا لفظ البخاري.

ولفظ مسلم: «إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم، ويظهر الجهل، ويفشو الزنا، ويشرب الخمر، ويذهب الرجال، وتبقى النساء حتى يكون لخمسين امرأة قيم واحد» .

قوله: «ويثبت الجهل» ، قال النووي رحمه الله تعالى في شرح مسلم: هكذا هو في كثير من النسخ «يثبت الجهل» من الثبوت، وفي بعضها «يُبَثّ» بضم الياء وبعدها موحده مفتوحة ثم مثلثة مشددة أي ينشر ويشيع. انتهى.

قال الكرماني: وفي رواية «وينبت» بالنون بدل المثلثة من النبات، ذكر ذلك عنه الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" قال: وحكى ابن رجب عن بعضهم «وينثا» بنون ومثلثة من النث وهو الإشاعة، قال ابن حجر: وليست هذه في شيء من الصحيحين. انتهى.

وقد ظهر مصداق هذا الحديث في زماننا ما عدا خصلة واحدة وهي قلة الرجال وكثرة النساء، فأما العلم الموروث عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم أجمعين فقد هجره الأكثرون، وقل من يرغب فيه ويعتني به، وقد انصرفت الهمم إلى الجهل الصرف الذي هو الصحف والمجلات والكتب

ص: 61

العصرية وأخبار الإذاعات وما شاكل ذلك من الجهل الذي قد ظهر وثبت وبث ونث في مشارق الأرض ومغاربها، وشاع بين الخاصة والعامة، وشغف به الكبير والصغير، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وأما الزنا فقد جعل له أسواق معروفة في أكثر الأقطار الإسلامية وما يفعل في غير الأسواق أكثر وأكثر، وكذلك الخمر قد فشا شربها وبيعها علانية، فالله المستعان.

الحديث السادس والأربعون: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يتقارب الزمان، وينقص العلم، وتظهر الفتن، ويلقى الشح، ويكثر الهرج» قالوا: يا رسول الله، أيما هو؟ قال:«القتل القتل» متفق عليه.

وقد اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في معنى قوله: «يتقارب الزمان» وفي ذلك أقوال كثيرة ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في "فتح الباري" جملة منها، والظاهر -والله أعلم- بمراد رسوله صلى الله عليه وسلم أن ذلك إشارة إلى ما حدث في زماننا من المراكب الأرضية والجوية والآلات الكهربائية التي قربت كل بعيد، والمعنى على هذا يتقارب أهل الزمان كقوله تعالى:{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] يعني أهل القرية، والعير يعني أصحاب العير، وكقوله صلى الله عليه وسلم:«أيما قرية عصت الله ورسوله فإن خمسها لله ورسوله» ونظائر ذلك كثيرة جدا في كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم ولغة العرب، ولولا خشية الإطالة لذكرت أمثلة كثيرة.

وفي جامع الترمذي عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان، وتكون السنة كالشهر، والشهر كالجمعة،

ص: 62

وتكون الجمعة كاليوم، ويكون اليوم كالساعة، وتكون الساعة كالضرمة بالنار» قال الترمذي: هذا حديث غريب من هذا الوجه.

وهذا الحديث ينطبق على سير المراكب الأرضية في هذه الأزمان، فإنها تقطع مسافة السنة في شهر فأقل، ومسافة الشهر في جمعة فأقل، ومسافة الجمعة في يوم فأقل، ومسافة اليوم في ساعة فأقل، ومسافة الساعة في مثل احتراق السعفة، وبعضها أسرع من ذلك بكثير، وأعظم من ذلك المراكب الجوية فإنه هي التي قربت البعيد غاية التقريب بحيث صارت مسافة السنة تقطع في يوم وليلة أو نحو ذلك، وأعظم من ذلك الآلات الكهربائية فإنها قد بهرت العقول في تقريب الأبعاد بحيث كان الذي في أقصى المشرق يخاطب مَن في أقصى المغرب، وبحيث كان الجالس عندها يسمع كلام مَن في أقصى المشرق ومَن في أقصى المغرب، ومَن في أقصى الشمال ومَن في أقصى الجنوب وغير ذلك من أرجاء الأرض في دقيقة واحدة كأن الجميع حاضرون عنده في المجلس، فالمراكب الأرضية والجوية قربت الأبعاد من ناحية السير، والآلات الكهربائية قربت الأبعاد من ناحية التخاطب وسماع الأصوات، فسبحان من علم الإنسان ما لا يعلم.

وقد جاءت الإشارة إلى ما حدث في هذه الأزمان من المخترعات العجيبة فيما رواه الإمام أحمد والطبراني والحاكم من حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقوم الساعة حتى تروا أمورا عظاما لم تحدثوا بها أنفسكم» .

ص: 63

وفي رواية الحاكم: «يتفاقم شأنها في أنفسكم وتساءلون بينكم هل كان نبيكم صلى الله عليه وسلم ذكر لكم منها ذكرا» الحديث، قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.

ويشهد له ما في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قام على المنبر فذكر الساعة، وذكر أن بين يديها أمورا عظاما.

ورواه الإمام أحمد في مسنده، وابن حبان في صحيحه بإسناده مسلم.

وقد وقع الأمر طبق ما في حديث سمرة فتفاقم شأن هذه المخترعات العجيبة في أنفس العامة وكثر تساؤلهم هل كان النبي صلى الله عليه وسلم ذكرها أو أشار إليها؟!

والجواب: أن يقال: نعم، قد أشار إليها على طريق الإجمال في هذه الأحاديث التي ذكرنا، ونحو ذلك ما في صحيح مسلم وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لتتركن القلاص فلا يسعى عليها» ، والقلاص جمع قلوص وهي الناقة الشابة، وقيل: هي الباقية على السير، وعلى هذا القول فالقلوص من الإبل ما أُعدَّ للأسفار وكان قويا عليها سواء كان شابا أو مُسنّا، وهذا أقرب إلى مدلول الحديث، وإن كان القول الأول أشهر في اللغة.

وقد ظهر مصداق هذا الحديث في زماننا فترك السعي على الإبل بسبب المراكب الجوية والأرضية، حتى الأعراب الذين هم أهل الظعن على الإبل وكثرة الأسفار عليها قد تركوا السعي على الإبل إلا قليلا منهم، فصلوات الله وسلامه على نبينا محمد المصطفى الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا

ص: 64

وحي يوحى.

وروى ابن مردويه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «من أشراط الساعة تقارب الأسواق» .

وفي حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه في ذكر الدجال قالوا: يا رسول الله، وما إسراعه في الأرض؟ قال:«كالغيث استدبرته الريح» رواه الإمام أحمد ومسلم وأهل السنن.

وفي صحيح ابن حبان عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «سيكون في آخر أمتي رجال يركبون على سروج كأشباه الرحال، ينزلون على أبواب المساجد» الحديث، ورواه الحاكم بلفظ:«سيكون في آخر هذه الأمة رجال يركبون على المياثر حتى يأتوا أبواب مساجدهم» وسيأتي الحديث بتمامه قريبا إن شاء الله تعالى.

والرِّحال: جمع رحل وهي الدور والمنازل، والمياثر: جمع مِيثرة بكسر الميم، وهو ما كان وطيئا لينا مما يجلس عليه ويرتفق به، قال الخطابي والهروي وغيرهما من أهل اللغة: هي من مراكب العجم، قال الهروي: وتعمل من حرير أو ديباج وتتخذ كالفراش الصغير وتحشى بقطن أو صوف يجعلها الراكب تحته. انتهى.

وهذا الحديث ينطبق على السيارات، فإنها تشبه الدور الصغار، وفيها مياثر وطيئة لينة، وكثير من المترفين يركبونها إلى المساجد وخصوصا في الجمعة والعيدين.

إذا عُرف هذا فالإجمال في هذه الأحاديث قد صار كالتفصيل عند مَن

ص: 65

أدرك ذلك وشاهده وكان له أدنى علم ومعرفة، ولعل النبي صلى الله عليه وسلم إنما ترك التفصيل خشية أن يفتتن بسببه من لم يرسخ الإيمان في قلبه كما وقع مثل ذلك في قصة الإسراء لما أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه أسري به إلى بيت المقدس ورجع في ليلته؛ فأنكر ذلك المشركون، وارتد ناس ممن آمن به وصدقه، وهو صلى الله عليه وسلم إنما أخبرهم عن أمر خارق للعادة، وإذا كان المشركون قد أنكروا الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس، فكيف لو أخبرهم أن بني آدم يصنعون في آخر الزمان مراكب تسير في البر ومراكب تسير بهم في الهواء، وتذهب من الحجاز إلى الشام وترجع في ساعتين فأقل، وأن أهل الشام ومصر والعراق والهند ونحوها من الأقطار البعيدة يسافرون من بلادهم للحج يوم عرفة فيدركون الوقوف مع الناس بعرفة، وكذلك لو أخبرهم أن أهل الأرض يتخاطبون بواسطة آلات يتخذونها كما يتخاطب أهل البيت الواحد؛ فيكلم الذي في أقصى المشرق من كان في أقصى المغرب كما يكلم الجالس عنده وبالعكس، ويستمع الإنسان إلى الألسن المختلفة في مشارق الأرض ومغاربها وهو جالس في مجلسه، ونحو ذلك مما لا تحتمله أكثر العقول البشرية دون أن ترى ذلك عيانا وتقف على حقيقته، فلو وقع الإخبار بذلك مفصلا لم تُؤمَن الفتنة على أهل الإيمان الضعيف، فكان من حكمة الشارع الحكيم أن أخبر بذلك مجملا بما أغنى مَن شاهده عن التفصيل .. والله أعلم.

الحديث السابع والأربعون: عن عبد الله بن مسعود، وأبي موسى رضي الله عنهما قالا: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن بين يدي الساعة لأياما ينزل فيها الجهل،

ويرفع فيها العلم، ويكثر فيها الهرج، والهرج القتل» متفق عليه، وفي رواية

ص: 66

للبخاري: «بين يدي الساعة أيام الهرج يزول فيها العلم، ويظهر فيها الجهل» قال أبو موسى: والهرج: القتل بلسان الحبشة.

الحديث الثامن والأربعون: عن عمرو بن تغلب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من أشراط الساعة أن يفيض المال، ويكثر الجهل، وتظهر الفتن، وتفشو التجارة» رواه الإمام أحمد، والحاكم من طريقه، وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وإسناده على شرطهما صحيح، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه.

وقد رواه النسائي في سننه بزيادة ونقص عما هنا.

وقد رواه أبو داود الطيالسي في مسنده ولفظه: «إن من أشراط الساعة يكثر التجار ويظهر القلم» .

الحديث التاسع والأربعون: عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالما، اتخذ الناس رؤساء جهالا، فسُئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا» رواه الإمام أحمد والشيخان والترمذي وابن ماجة.

وفي رواية لأحمد والشيخين عنه رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله لا ينزع العلم بعد أن أعطاهموه انتزاعا؛ ولكن ينتزعه منهم مع قبض العلماء بعلمهم، فيبقى ناس جهال يستفتون فيفتون برأيهم

ص: 67

فيضلون ويضلون» هذا لفظ البخاري.

الحديث الخمسون: ما أخرجه يعقوب بن شيبة من طريق الحارث بن حصيرة، عن زيد بن وهب قال: سمعت عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: «لا يأتي عليكم يوم إلا وهو شر من اليوم الذي كان قبله حتى تقوم الساعة، لست أعني رخاء من العيش يصيبه، ولا مالا يفيده ولكن لا يأتي عليكم يوم إلا وهو أقل علما من اليوم الذي مضى قبله، فإذا ذهب العلماء استوى الناس، فلا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر، فعند ذلك يهلكون» .

ومن طريق أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن ابن مسعود رضي الله عنه إلى قوله: «شر منه» قال: فأصابتنا سنة خصب فقال: ليس ذلك أعني، إنما أعني ذهاب العلماء.

ومن طريق الشعبي عن مسروق عنه قال: «لا يأتي عليكم زمان إلا وهو أشر مما كان قبله، أما إني لا أعني أميرا خيرا من أمير، ولا عاما خيرا من عام، ولكن علماؤكم وفقهاؤكم يذهبون ثم لا تجدون منهم خلفا ويجيء قوم يفتون برأيهم» .

وفي لفظ عنه من هذا الوجه: «وما ذاك بكثرة الأمطار وقلتها؛ ولكن بذهاب العلماء، ثم يحدث قوم يفتون في الأمور برأيهم فيثلمون الإسلام ويهدمونه» ، ذكر هذه الطرق كلها الحافظ ابن حجر في فتح الباري، وهذا لا يقال من قبل الرأي، فلعل ابن مسعود رضي الله عنه سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم.

الحديث الحادي والخمسون: عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

ص: 68

«كيف بكم إذا فسق فتيانكم، وطغى نساؤكم؟» قالوا: يا رسول الله، وإن ذلك لكائن؟! قال:«نعم وأشد، كيف أنتم إذا لم تأمروا بالمعروف ولم تنهوا عن المنكر؟» قالوا: يا رسول الله، وإن ذلك لكائن؟ قال:«نعم وأشد، كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف؟» قالوا: يا رسول الله، وإن ذلك لكائن؟ قال:«نعم وأشد، كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكرا والمنكر معروفا؟» قالوا: يا رسول الله، وإن ذلك لكائن؟ قال:«نعم» رواه رزين.

الحديث الثاني والخمسون: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قيل: يا رسول الله، متى يُترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ قال:«إذا ظهر فيكم ما ظهر في الأمم قبلكم» قلنا: يا رسول الله، وما ظهر في الأمم قبلنا؟ قال:«الملك في صغاركم، والفاحشة في كباركم، والعلم في رذالتكم» رواه ابن ماجة وقال: قال زيد -يعني ابن يحيى بن عبيد الخزاعي أحد رواته-: تفسير معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «والعلم في رذالتكم» : إذا كان العلم في الفُسَّاق، قلت: وسيأتي عن ابن مسعود رضي الله عنه ما يؤيد ذلك.

قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري": وأخرج ابن أبي خيثمة من طريق مكحول عن أنس رضي الله عنه قيل: يا رسول الله، متى يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ قال:«إذا ظهر فيكم ما ظهر في بني إسرائيل، إذا ظهر الإدهان في خياركم، والفحش في شراركم، والملك في صغاركم، والفقه في رذالكم» .

ص: 69

قلت: ورواه أبو نعيم في الحلية من طريق مكحول، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قيل: يا رسول الله، متى يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ قال:«إذا ظهر فيكم ما ظهر في بني إسرائيل قبلكم» قالوا: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: «إذا ظهر الإدهان في خياركم، والفاحشة في شراركم، وتحول الفقه في صغاركم ورذالكم» .

قال الحافظ ابن حجر: وفي مصنف قاسم بن أصبغ بسند صحيح عن عمر رضي الله عنه: فساد الدين إذا جاء العلم من قبل الصغير استعصى عليه الكبير، وصلاح الناس إذا جاء العلم من قبل الكبير تابعه عليه الصغير.

وذكر أبو عبيد أن المراد بالصغر في هذا صغر القدر لا السن، والله أعلم. انتهى.

قلت: بل كلاهما مراد لما روى الإمام أحمد والحاكم من حديث أنس رضي الله عنه مرفوعا: «إذا كانت الفاحشة في كباركم، والملك في صغاركم، والعلم في مُرَّادكم، والمداهنة في خياركم» الحديث، فقوله:«في مُرَّادكم» واضح في صغر السن، وقوله:«في رذالكم» واضح في صغر القدر، وقد يطلق وصف الأمرد على من يحلق لحيته ويشتبه بالنساء والمردان أخذا مما ذكره أئمة اللغة؛ قال الجوهري: تمريد الغصن تجريده من الورق، وقال الراغب الأصفهاني: من قولهم شجر أمرد؛ إذا تعرى من الورق، ومنه الأمرد لتجرده عن الشعر. انتهى.

وحلق الشعر من اللحية قريب في المعنى من تمريد الغصن وتعري

ص: 70

الشجر من الورق، فجاز إطلاق وصف الأمرد على فاعله بهذا الاعتبار، وعلى هذا فيعود المعنى إلى ما ذكره أبو عبيد من صغر القدر، والله أعلم.

ومعنى الحديث -والله أعلم- أن العلم يتحول في آخر الزمان عند الفُسَّاق والمردان السفهاء، ونحوهم من السفل والأراذل الذين لا يؤبه لهم، وليسوا من رعاة العلم الذين يحترمونه ويصونونه عما يدنسه ويشينه، فيستهان بهم ويستهان بالعلم لأجلهم، فلا يقبل منهم ولا يستمع لقولهم.

وأيضا فإنهم من أعظم الأسباب لترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لإتيانهم المنكرات، وإنكارهم على من أنكر عليهم شيئا منها بالشبه والمغالطات، كما هو الواقع من كثير منهم في هذه الأزمان، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ألا ترى إلى حالة أكثرهم في هذه الأزمان وما هم عليه من أنواع الفسوق والعصيان؟ فبعضهم يحلق لحيته ويتشبه بأعداء الله من المشركين والنصارى والمجوس، وبعضهم ينتفها نتفا وذلك أقبح من الحلق؛ لأن فيه زيادة تشويه للخلقة، وكل من الحلق والنتف مُثلة قبيحة، وكثير منهم يشربون الدخان الخبيث المسمى بالتتن ويدمنون شربه، وقد ثبت أنه من المسكرات كما سيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى، وأما خبثه فلا يمتري فيه عاقل، وكثير منهم يتهاونون بالصلاة ويضيعونها ولا يبالون بها، وسواء عند بعضهم صلاها في جماعة أو وحده، أو في وقتها أو بعده، حتى إن بعضهم يعكف على أم الملاهي الراديو

(1)

أكثر

ليله، ثم ينام عن صلاة الفجر فلا يصليها إلا بعد ارتفاع النهار، وبعضهم يترك صلاة العشاء مع الجماعة إيثارا للعكوف على الراديو، وربما ترك حضور

(1)

ينظر التعليق ص41.

ص: 71

الجمعة لذلك، فأكثرهم لا يزال عاكفا على أم الملاهي في أكثر أوقاته، يستمع إلى المحرمات من غناء المغنيات ونغمات البغايا المتهتكات وأنواع المزامير والمعازف، أو إلى الاستهزاء بالقرآن وقراءته بألحان الغناء والنوح، أو إلى قيل وقال وخطب أعداء الله وهذيانهم، فما أشبه العاكفين عليه بالذين اتخذوا عجلا جسدا له خوار، وكثير منهم يتخذون الساعات التي فيها الموسيقى المطربة، وكثير منهم يشترون المُصوَّرات ويقتنونها ولا يلتفتون إلى أمر النبي صلى الله عليه وسلم بطمسها ولطخها، وكثير منهم يلعبون بالأوراق المسماة بالجنجفة ويقامرون عليها وذلك من الميسر المحرم، وقد مرّ عليّ رضي الله عنه على قوم يلعبون بالشطرنج فقال: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون؟ لأن يمس أحدكم جمرا حتى يطفأ خير له من أن يمسها. رواه ابن أبي حاتم، واللاعب بالجنجفة أولى أن يشبه بالعاكفين على التماثيل؛ لأن أكثر أوراقها تماثيل، فاللاعب بها كالعاكف على التماثيل، وكثير منهم يلعبون بالكرة وهي من شر الأشر، وقد روى البخاري في الأدب المفرد من حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الأشرة شر» ، قال أبو معاوية أحد رواته: الأشر: العبث، وفيها من اللهو والصد عن ذكر الله وعن الصلاة ما لا يخفى على عاقل، والمقامرة عليها من الميسر المحرم، وكثير منهم يصفقون في المجتمعات والأندية عند التعجب واستحسان المقالات فيتشبهون في ذلك بكفار قريش وبطوائف الكفر

ص: 72

والضلال في زماننا من الإفرنج وغيرهم من أعداء الله تعالى، ويتشبهون أيضا بالنساء لكون التصفيق من أفعالهن في الصلاة إذا ناب الإمام شيء فيها.

وغالبهم يتحلون بالساعات في أيديهم كأنها أسورة النساء، وقد جاء في أحاديث كثيرة لعن المتشبهين من الرجال بالنساء كما سنذكر ذلك إن شاء الله تعالى، وفيهم من معاشرة الأنذال والسفل الساقطين ما هو ظاهر معروف عند العامة والجهال فضلا عن الخاصة وأهل العلم، وقد قال ابن مسعود رضي الله عنه: اعتبروا الناس بأخدانهم.

وقال الشاعر:

عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه

فكل قرين بالمقارن يقتدي

إذا كنت في قوم فخالل خيارهم

ولا تصحب الأردى فتردى مع الردي

وقال آخر:

لكل امرئ شكل يقر بعينه

وقرة عين الفسل أن يصحب الفسلا

وقال آخر:

يُقاس المرء بالمرء

إذا هو ماشاهُ

وقال آخر:

لا يصحب الإنسان إلا نظيره

وإن لم يكونوا من قبيل ولا بلد

ص: 73

وأبلغ من ذلك كله قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف» رواه البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها.

وكثير منهم لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه، وإذا أمرهم أحد بمعروف أو نهاهم عن منكر سخروا منه، وهمزوه ولمزوه، وازدروا به، ورموه زورا وبهتانا بكل ما يرون أنه يدنسه ويشينه.

وبالجملة فلا ترى أكثرهم إلا على أخلاق الفُساق والسفهاء، راغبين عن أخلاق أهل العلم والدين، مجانبين كل فضيلة، ومقارفين كل رذيلة، فهم الذين تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وثبطوا غيرهم عن القيام في ذلك، وصارحوا بالعداوة والأذى كل من أنكر عليهم شيئا من أفعالهم السيئة، فصلوات الله وسلامه عن الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى.

والمراد بما ذكر في حديث أنس رضي الله عنه الأكثر والأغلب لا العموم؛ لما جاء في الحديث الصحيح: «لا تزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتيهم أمر الله وهم على ذلك» قال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه: هم أهل العلم، وقال الترمذي في جامعه: قال محمد بن إسماعيل -يعني البخاري-: قال علي بن المديني: هم أصحاب الحديث. انتهى، وكذا قال ابن المبارك وأحمد بن سنان وابن حبان وغيرهم، وقال يزيد بن هارون وأحمد بن حنبل: إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري مَن هم! والمراد بقولهم أهل العلم وأهل الحديث؛ حَمَلة

ص: 74

العلم والحديث ورعاة الدين الذين جمعوا بين العلم والعمل، لا الفساق والسفهاء الذين حملوا العلم ثم لم يحملوه بل أهانوه ودنسوه بالأطماع واتباع الشهوات والأهواء، فكانوا كمثل الحمار يحمل أسفارا.

ومما يدل على أن العموم غير مراد ما جاء في سنن ابن ماجة وصحيح ابن حبان من حديث أبي عنبة الخولاني قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرسا يستعملهم في طاعته» ، قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: هم أصحاب الحديث.

وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: «غرس الله» هم أهل العلم والعمل، فلو خلت الأرض من عالم خلت من غرس الله، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا تزال طائفة من أمته على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم إلى قيام الساعة، فلا يزال غرس الله الذين غرسهم في دينه يغرسون العلم في قلوب من أهَّلهم الله لذلك وارتضاهم فيكونوا ورثة لهم كما كانوا هم ورثة لمن قبلهم، فلا تنقطع حجج الله والقائم بها من الأرض. انتهى.

الحديث الثالث والخمسون: عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: «لا يزال الناس مشتملين بخير ما أتاهم العلم من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وأكابرهم، فإذا أتاهم العلم من قبل أصاغرهم، وتفرقت أهواؤهم هلكوا» رواه أبو عبيد ويعقوب بن شيبة والطبراني.

ورواه أبو نعيم في الحلية من حديث إبراهيم بن أدهم عن شعبة بن الحجاج قال: أنبأنا أبو إسحاق الهمداني، عن سعيد بن وهب، عن عبد الله

ص: 75

بن مسعود قال: «لا يزال الناس بخير ما أتاهم العلم من علمائهم وكبرائهم وذوي أسنانهم، فإذا أتاهم العلم عن صغارهم وسفهائهم فقد هلكوا» .

الحديث الرابع والخمسون: عن أبي أمية الجمحي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن من أشراط الساعة أن يُلتمس العلم عند الأصاغر» رواه الطبراني.

الحديث الخامس والخمسون: عن زياد بن لبيد رضي الله عنه قال: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم شيئا فقال: «ذاك عند أوان ذهاب العلم» قلت: يا رسول الله، وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن، ونقرئه أبناءنا، ويقرئه أبناؤنا أبناءهم إلى يوم القيامة؟ فقال:«ثكلتك أمك يا زياد، إن كنت لأراك من أفقه رجل بالمدينة؛ أوليس هذه اليهود والنصارى يقرؤون التوراة والإنجيل لا يعملون بشيء مما فيهما» رواه الإمام أحمد وابن ماجة، والحاكم في مستدركه وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وأقره الذهبي في تلخيصه.

الحديث السادس والخمسون: عن جبير بن نفير، عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فشخص ببصره إلى السماء ثم قال: «هذا أوان يختلس العلم من الناس حتى لا يقدروا منه على شيء» فقال زياد بن لبيد الأنصاري: كيف يختلس منا وقد قرأنا القرآن؟ فوالله لنقرأنه ولنقرئنه نساءنا وأبناءنا، قال:«ثكلتك أمك يا زياد، إن كنت لأعدك من فقهاء أهل المدينة، هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى فماذا تغني عنهم» .

قال جبير: فلقيت عبادة بن الصامت فقلت: ألا تسمع ما يقول أخوك أبو الدرداء؟ فأخبره بالذي قال أبو الدرداء، قال: صدق أبو الدرداء، إن

ص: 76

شئت لأحدثنك بأول علم يرفع من الناس الخشوع، يوشك أن تدخل مسجد الجامع فلا ترى فيه رجلا خاشعا.

رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن غريب، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي في تلخيصه.

الحديث السابع والخمسون: عن جبير بن نفير قال: قال عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر إلى السماء يوما فقال: «هذا أوان يرفع العلم» فقال له رجل من الأنصار يقال له ابن لبيد: يا رسول الله، كيف يرفع العلم وقد أثبت في الكتاب ووعته القلوب؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إن كنت لأحسبك من أفقه أهل المدينة، ثم ذكر ضلالة اليهود والنصارى على ما في أيديهم من كتاب الله» ، قال: فلقيت شداد بن أوس فحدثته بحديث عوف بن مالك فقال: صدق عوف، ألا أخبرك بأول ذلك يرفع؟ قلت: بلى، قال: الخشوع، حتى لا ترى خاشعا. رواه الحاكم في مستدركه، وأبو نعيم في الحلية، وهذا لفظ الحاكم وقال: صحيح، وقد احتج الشيخان بجميع رواته، ووافقه الحافظ الذهبي.

الحديث الثامن والخمسون: عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنكم في زمان علماؤه كثير وخطباؤه قليل، من ترك فيه عُشر ما يعلم هوى، وسيأتي على الناس زمان يقل علماؤه ويكثر خطباؤه، من تمسك فيه بعُشر ما يعلم نجا» رواه الإمام أحمد.

الحديث التاسع والخمسون: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنكم في زمان من ترك منكم ما أُمر به هلك، ثم يأتي زمان من عمل

ص: 77

منهم بعُشر ما أُمر به نجا» رواه الترمذي، والطبراني في الصغير، وقال الترمذي: هذا حديث غريب، قال: وفي الباب عن أبي ذر وأبي سعيد رضي الله عنهما.

الحديث الستون: عن حزام بن حكيم بن حزام عن أبيه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنكم قد أصبحتم في زمان كثير فقهاؤه قليل خطباؤه كثير معطوه قليل سؤاله، العمل فيه خير من العلم، وسيأتي زمان قليل فقهاؤه وكثير خطباؤه وكثير سؤاله قليل معطوه، العلم فيه خير من العمل» رواه الطبراني.

وله أيضا من حديث حزام بن حكيم عن عمه مرفوعا مثله، وهو الحديث الحادي والستون.

الحديث الثاني والستون: عن زيد بن وهب قال: سمعت ابن مسعود رضي الله عنه يقول: «إنكم في زمان كثير فقهاؤه، قليل خطباؤه، قليل سؤاله، كثير معطوه، العمل فيه قائد للهوى، وسيأتي من بعدكم زمان قليل فقهاؤه، كثير خطباؤه، كثير سؤاله، قليل معطوه، الهوى فيه قائد للعمل، اعلموا أن حسن الهدي في آخر الزمان خير من بعض العمل» رواه البخاري في الأدب المفرد.

ورواه الإمام مالك في موطئه عن يحيى بن سعيد أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال لإنسان: «إنك في زمان كثير فقهاؤه، قليل قراؤه، تحفظ فيه حدود القرآن وتضيع حروفه، قليل من يسأل، كثير من يعطي، يطيلون فيه

ص: 78

الصلاة ويقصرون الخطبة، يبدّون أعمالهم قبل أهوائهم، وسيأتي على الناس زمان قليل فقهاؤه كثير قراؤه، يحفظ فيه حروف القرآن وتضيع حدوده، كثير من يسأل قليل من يعطي، يطيلون فيه الخطبة يقصرون الصلاة، يُبَدّون فيه أهواءهم قبل أعمالهم» وهذا الحديث في حكم المرفوع؛ لأن مثله لا يقال إلا عن توقيف.

وقوله: «وتضيع حروفه» ليس معناه على ظاهره وإنما معناه أنهم لا يتكلفون في قراءة القرآن كما يتكلف كثير من المتأخرين، ولا يتقعرون في أداء حروفه كما يتقعر كثير من المتأخرين، ولا يتوسعون في معرفة أنواع القراءات كما فعل من بعدهم، والله أعلم.

وقوله: «يُبَدُّون» بضم الياء وفتح الباء وتشديد الدال معناه يُقدِّمون، وقد ظهر مصداق هذا الحديث في زماننا، فقلّ فيه الفقهاء وكثر فيه القراء الذين يحفظون حروف القرآن ويتقعرون في أدائها، ويضيعون حدود القرآن ولا يبالون بمخالفة أوامره وارتكاب نواهيه، يطيلون الخطب ويقصرون الصلاة، ويقدمون أهواءهم قبل أعمالهم، وقد رأينا من هذا الضرب كثيرا، فالله المستعان.

الحديث الثالث والستون: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «سيأتي على أمتي زمان يكثر فيه القراء ويقل الفقهاء، ويقبض العلم، ويكثر الهرج، ثم يأتي من بعد ذلك زمان يقرأ رجال من أمتي لا يجاوز تراقيهم، ثم يأتي من بعد ذلك زمان يجادل المشرك بالله المؤمن في مثل ما

ص: 79

يقول» رواه الطبراني في الأوسط، والحاكم في مستدركه قال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.

الحديث الرابع والستون: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن أعرابيا قال: يا رسول الله، متى الساعة؟ قال صلى الله عليه وسلم:«فإذا ضيّعت الأمانة فانتظر الساعة» قال: كيف إضاعتها؟ قال: «إذا وُسِّد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة» رواه الإمام أحمد والبخاري.

وفي رواية له: «إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة» .

قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري": إسناده الأمر إلى غير أهله إنما يكون عند غلبة الجهل، ورفع العلم، وذلك من جملة الأشراط، ومقتضاه أن العلم ما دام قائما ففي الأمر فسحة، وكأن المصنف أشار إلى أن العلم إنما يؤخذ عن الأكابر تلميحا لما روي عن أبي أمية الجمحي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«من أشراط الساعة أن يلتمس العلم عند الأصاغر» .

وقال أيضا: المراد من الأمر جنس الأمور التي تتعلق بالدين كالخلافة والإمارة والقضاء والإفتاء وغير ذلك، قال ابن بطال: معنى «أسند الأمر إلى غير أهله» أن الأئمة قد ائتمنهم الله على عباده وفرض عليهم النصيحة لهم، فينبغي لهم تولية أهل الدين، فإذا قلدوا غير أهل الدين فقد ضيعوا الأمانة التي قلدهم الله تعالى إياها. انتهى.

الحديث الخامس والستون: عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر، حدثنا أن: «الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم علموا من القرآن ثم علموا من

ص: 80

السُنَّة -وحدثنا عن رفعها قال-: ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل أثر الوَكْت، ثم ينام النومة فتقبض فيبقى أثرها مثل المَجْل كجمر دحرجته على رجلك فنفط، فتراه منتبرا وليس فيه شيء، ويصبح الناس يتبايعون فلا يكاد أحدهم يؤدي الأمانة، فيقال إن في بني فلان رجلا أمينا، ويقال للرجل ما أعقله وما أظرفه! وما في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان، ولقد أتى عليّ زمان وما أبالي أيكم بايعت لئن كان مسلما ردَّه عليَّ الإسلام وإن كان نصرانيا رده عليّ ساعيه فأما اليوم فما كنت أبايع إلا فلانا وفلانا» متفق عليه.

قال البخاري رحمه الله تعالى: سمعت أبا أحمد بن عاصم يقول: سمعت أبا عبيد يقول: قال الأصمعي وأبو عمر وغيرهما: جذر قلوب الرجال: الجذر الأصل من كل شيء، والوكت: أثر الشيء اليسير منه، والمجل: أثر العمل في الكف إذا غلظ. انتهى.

والجذر: بفتح الجيم وكسرها، والوَكْت: بفتح الواو وسكون الكاف، والمجل: بفتح الميم وسكون الجيم، والمنتبر: هو المرتفع المتنفظ.

الحديث السادس والستون: عن حذيفة أيضا رضي الله عنه قال: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير شر؟ قال:«نعم» ، فقلت: هل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: «نعم، وفيه دخن» ، قلت: وما دخنه؟ قال: «قوم يَسْتَنُّون بغير سُنتي ويهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر» ، فقلت: هل بعد ذلك الخير من

ص: 81

شر؟ قال: «نعم؛ دعاة على أبواب جهنم مَن أجابهم إليها قذفوه فيها» فقلت: يا رسول الله، صفهم لنا، قال:«نعم، قوم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا» قلت: يا رسول الله، فما ترى إن أدركني ذلك؟ قال:«تلزم جماعة المسلمين وإمامهم» فقلت: فإن لم تكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: «فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك» متفق عليه، واللفظ لمسلم.

وفي رواية له عن حذيفة رضي الله عنه قلت: يا رسول الله، إنا كنا بِشرٍّ فجاءنا الله بخير فنحن فيه، فهل من وراء هذا الخير شر؟ قال:«نعم» ، قلت: هل وراء ذلك الشر خير؟ قال: «نعم» ، قلت: فهل وراء ذلك الخير شر؟ قال: «نعم» ، قلت: كيف؟ قال: «يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي، ولا يستنون بسنتي، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس» ، قال: قلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: «تسمع وتطيع للأمير، وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك، فاسمع وأطع» .

الحديث السابع والستون: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «سيكون في آخر أمتي أناس يحدثونكم ما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم» رواه مسلم في مقدمة صحيحه، والبخاري في تاريخه، والحاكم في مستدركه وقال:"هذا حديث ذكره مسلم في خطبة الكتاب مع الحكايات، ولم يخرجاه في أبواب الكتاب، وهو صحيح على شرطهما جميعا، ومحتاج إليه في الجرح والتعديل، ولا أعلم له علة"، وأقره الحافظ

ص: 82

الذهبي في تلخيصه.

وفي رواية لمسلم: «يكون في آخر الزمان دجَّالون كذابون يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإيَّاكم وإيَّاهم، لا يضلونكم ولا يفتنونكم» .

الحديث الثامن والستون: عن الضحاك قال: «يأتي على الناس زمان تكثر فيه الأحاديث حتى يبقى المصحف عليه الغبار لا ينظر فيه» رواه عبد الله ابن الإمام أحمد في زوائد الزهد، وفي إسناده رجل لم يُسم، وبقية رجاله ثقات، ومثله لا يقال من قبل الرأي.

وقد كثرت أحاديث الصحف التي هي الجرائد والمجلات في هذه الأزمان، وكذلك أحاديث الإذاعات وأكثر الكتب العصرية، وافتتن بذلك الأكثرون من الخاصة والعامة، ونبذوا لأجلها كتاب الله تعالى وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم وآثار سلف الأمة وراء ظهورهم، ولعل زماننا هو الزمان الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة وغيره، وذكر عنه عطاء ما ذكر، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

الحديث التاسع والستون: عن حذيفة رضي الله عنه أنه أخذ حصاة بيضاء فوضعها في كفه ثم قال: إن هذا الدين قد استضاء استضاءة هذه الحصاة، ثم أخذ كفا من تراب فجعل يذره على الحصاة حتى وارها ثم قال: والذي نفسي بيده، ليجيئنّ أقوام يدفنون الدين كما دفنت هذه الحصاة. رواه الحافظ محمد ابن وضاح.

ص: 83

الحديث السبعون: عن علي رضي الله عنه أنه قال: "تعلَّموا العلم تُعرفوا به واعملوا به تكونوا من أهله، فإنه سيأتي بعدكم زمان ينكر الحق فيه تسعة أعشارهم" رواه محمد بن وضاح في كتاب "البدع والحوادث"، ورواه الإمام أحمد في كتاب الزهد وزاد:"لا ينجو فيه إلا كل نؤمة، أولئك أئمة الهدى ومصابيح العلم" قال أبو عبيد الهروي: النوْمة: بوزن الهمزة، الخامل الذكر الذي لا يؤبه له، وقيل: الغامض في الناس الذي لا يعرف الشر وأهله، وقيل النوَمة بالتحريك: الكثير النوم، وأما الخامل الذي لا يؤبه به فهو بالتسكين، ومن الأول حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال لعلي رضي الله عنه: ما النومة؟ قال: الذي يسكت في الفتنة فلا يبدو منه شيء. انتهى.

الحديث الحادي والسبعون: عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أمتكم هذه جُعل عافيتها في أولها، وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها، وتجيء فتنة فيرقق بعضها بعضا، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه مُهلكتي، ثم تنكشف وتجيء فيقول: هذه هذه، فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه» الحديث، رواه الإمام أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجة.

الحديث الثاني والسبعون: عن عصمة بن قيس صاحب النبي صلى الله عليه وسلم «أنه كان يتعوذ في صلاته من فتنة المغرب» رواه البخاري في التاريخ الكبير، والطبراني وابن عبد البر وغيرهم.

وذكر ابن عبد البر عنه «أنه كان يتعوذ بالله من فتنة المشرق» فقيل له:

ص: 84

فكيف فتنة المغرب؟! قال: «تلك أعظم وأعظم» .

وهذا الأثر له حكم المرفوع كنظائره، وأكثر ما ظهرت الفتن في أوائل هذه الأمة من قبل المشرق، ومن أعظمها شرا فتنة الجهمية، ولا سيما في أثناء دولة بني العباس لما قام بتأييدها المأمون والمعتصم والواثق، ومع ذلك فأكثر المسلمين على إنكارها والتحذير منها ومن غيرها من مضلات الفتن.

وأما في زماننا فظهور الفتن من قبل المغرب أكثر، وذلك لما استولت الإفرنج على بعض الممالك الإسلامية فبثوا فيها رذائل مدنيتهم وسفساف أخلاقهم وخواطئ نظاماتهم وقوانينهم وسياساتهم التي ما أنزل الله بها، فافتتن بتقليدهم والتشبه بهم ما لا يحصيه إلا الله تعالى، ووقع في ذلك كثير من المنتسبين إلى العلم فضلا عن العامة، وما زالت هذه الفتن المغربية تربو في المسلمين وتنتشر فيهم حتى آل الأمر ببعضهم إلى الانسلاخ من دين الإسلام، والاستخفاف بأحكام الشريعة المحمدية، والاعتياض عنها بالقوانين والنظامات الإفرنجية أو ما يشبهها من أحكام الطاغوت.

ومن تأمل ما دخل على المسلمين من الشر بسبب الفتن المشرقية، وما دخل عليهم من الشر بسبب الفتن المغربية ظهر له أن فتنة المغرب أعظم وأعظم.

الحديث الثالث والسبعون: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيرا ولضحكتم قليلا، يظهر النفاق، وتُرفع الأمانة، وتقبض الرحمة، ويُتَّهم الأمين، ويؤتمن غير الأمين، أناخ بكم

ص: 85

الشُّرْف الجون» قالوا: وما الشُّرْف الجون يا رسول الله؟ قال: «الفتن كأمثال الليل المظلم» رواه الحاكم في مستدركه وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.

الشرف: بضم الشين وسكون الراء وبالفاء جمع شارف وهي الناقة المُسنَّة، والجون: السود.

قال أبو عبيد الهروي: شبه الفتن في اتصالها، وامتداد أوقاتها بالنوق المسنة السود، ويروى هذا الحديث بالقاف يعني: الفتن التي تجيء من جهة المشرق. انتهى.

الحديث الرابع والسبعون: عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفس محمد بيده لا تقوم الساعة حتى يظهر الفُحش والتفاحش، وقطيعة الرحم، وسوء المجاورة، وحتى يؤتمن الخائن ويُخوَّن الأمين» الحديث، رواه الإمام أحمد، والحاكم في مستدركه.

الحديث الخامس والسبعون: عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أشراط الساعة الفُحش والتفحُّش وقطيعة الرحم وتخوين الأمين وائتمان الخائن» رواه الطبراني في الأوسط، وقال الهيثمي: رجاله ثقات وفي بعضهم خلاف.

الحديث السادس والسبعون: عن سعيد بن جبير عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «والذي نفس محمد بيده لا تقوم الساعة حتى

ص: 86

يظهر الفُحش والبخل، ويُخوَّن الأمين ويؤمَّن الخائن، ويهلك الوعول، ويظهر التحوت» قالوا: يا رسول الله، وما الوعول وما التحوت؟ قال:«الوعول وجوه الناس وأشرافهم، والتحوت الذين كانوا تحت أقدام الناس لا يعلم بهم» رواه الطبراني في الأوسط، وأبو نعيم في الحلية، والحاكم في مستدركه وقال: رواته كلهم مدنيون ممن لم ينسبوا إلى نوع من الجرح، ووافقه الذهبي في تلخيصه.

وروى الطبراني أيضا من طريق أبي علقمة سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول: «إن من أشراط الساعة

» فذكر نحوه، وزاد: كذلك أنبأنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: سمعته من حِبِّي، قلنا: وما التحوت؟ قال: فسول الرجال وأهل البيوت الغامضة، قلنا: وما الوعول؟ قال: أهل البيوت الصالحة.

وقد رواه البخاري في الكُنى من طريق أبي علقمة حليف بني هاشم قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول: «إن من أشراطها أن يظهر الفحش والشح، ويؤتمن الخائن، ويخون الأمين، وتظهر ثياب فيها كافوا السحن يلبسها نساء كاسيات عاريات، ويعلو التحوت الوعول» أكذاك يا عبد الله بن مسعود سمعته من حِبِّي؟ قال: نعم، ورب الكعبة التحوت، قلنا: وما التحوت والوعول؟ قال: فسق الرجال، وأهل البيوت القانصة يرفعون فوق صالحيهم وأهل البيوت الصالحة.

الحديث السابع والسبعون: عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أمام الدجال سنوات خدَّاعات، يُكذّب فيها الصادق ويُصدّق فيها الكاذب،

ويُخوّن فيها الأمين ويؤتمن فيها الخائن، ويتكلم فيها الرويبضة» رواه الإمام

ص: 87

أحمد.

الحديث الثامن والسبعون: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سيأتي على الناس سنوات خدّاعات، يُصدّق فيها الكاذب، ويُكذّب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويُخوّن فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة» قيل: يا رسول الله، وما الرويبضة؟ قال:«الرجل التافه يتكلم في أمر العامة» رواه الإمام أحمد وابن ماجة، والحاكم في مستدركه وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.

قال الجوهري: الرويبضة: التافه الحقير.

وقال ابن الأثير: التافه الحقير الخسيس.

قلت: وفي رواية للحاكم: قيل: يا رسول الله، وما الرويبضة؟ قال:«السفيه يتكلم في أمر العامة» .

فتحصل من هذا أن الرويبضة هو: السفيه، التافه، الحقير، الخسيس.

الحديث التاسع والسبعون: عن أم سلمة رضي الله عنها أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ليأتين على الناس زمان يُكذّب فيه الصادق ويُصدّق فيه الكاذب، ويُخوّن فيه الأمين ويؤتمن فيه الخؤون، ويشهد فيه المرء وإن لم يُستشهد، ويحلف وإن لم يُستحلف، ويكون أسعد الناس في الدنيا لكع بن لكع لا يؤمن بالله ورسوله» رواه البخاري في تاريخه، والطبراني.

ورواه البخاري أيضا في التاريخ مختصرا، ولفظه قال: «لا تقوم الساعة

ص: 88

حتى يكون أسعد الناس بالدنيا لكع بن لكع، ثم يصير إلى النار».

الحديث الثمانون: عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى يكون أسعد الناس بالدنيا لكع ابن لكع» رواه الإمام أحمد، والترمذي وقال: هذا حديث حسن.

الحديث الحادي والثمانون: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تذهب الدنيا حتى تصير للكع بن لكع» رواه الإمام أحمد.

قال أبو السعادات ابن الأثير: اللكع عند العرب العبد، ثم استعمل في الحمق والذم، يقال للرجل: لكع، وللمرأة لكاع، وهو اللئيم، وقيل: الوسخ، وقيل: يطلق على الصغير، فإن أطلق على الكبير أريد به الصغير في العلم والعقل. انتهى.

والمعنى في هذا الحديث والذي قبله أن المال يتحول في آخر الزمان في أيدي الحمقى اللئام بني الحمقى اللئام، وأنهم يكونون أسعد بالمناصب الدنيوية، ونعيم الدنيا وملاذها والوجاهة فيها، وقد وقع ذلك، فالله المستعان.

الحديث الثاني والثمانون: عن زَهْدَم بن مُضرِّب سمعت عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» قال عمران: فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثا «ثم إن بعدكم قوما يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن» متفق عليه.

ص: 89

ورواه مسلم أيضا وأبو داود والترمذي من حديث زرارة بن أوفى، عن عمران بن حصين رضي الله عنهما بنحوه، وفيه:«ويفشو فيهم السمن» قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

ورواه الإمام أحمد والترمذي من حديث هلال بن يساف، عن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يأتي من بعدهم قوم يتسمنون، ويحبون السمن، يعطون الشهادة قبل أن يُسألوها» .

الحديث الثالث والثمانون: عن بلال بن سعد بن تميم السكوني، عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله، أي الناس خير؟ قال:«أنا وأقراني» قلنا: ثم ماذا يا رسول الله؟ قال: «ثم القرن الثاني» قلنا: يا رسول الله، ثم ماذا؟ قال:«القرن الثالث» ، قلنا: ثم ماذا يا رسول الله؟ قال: «ثم يكون قوم يحلفون ولا يستحلفون، ويشهدون ولا يستشهدون، ويؤتمنون ولا يؤدون» رواه أبو نعيم في الحلية.

الحديث الرابع والثمانون: عن إبراهيم، عن عبيدة، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته» رواه الإمام أحمد والشيخان والترمذي وابن ماجة، وزاد أحمد والشيخان: قال إبراهيم: وكانوا يضربوننا على الشهادة والعهد ونحن صغار.

الحديث الخامس والثمانون: عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن

ص: 90

النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يأتي قوم تسبق أيمانهم شهادتهم وشهادتهم أيمانهم» رواه ابن حبان في صحيحه.

الحديث السادس الثمانون: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير أمتي القرن الذين بُعثت فيهم، ثم الذين يلونهم» والله أعلم أذكر الثالث أم لا، قال:«ثم يخلف قوم يحبون السمانة، يشهدون قبل أن يستشهدوا» رواه الإمام أحمد ومسلم.

قال النووي رحمه الله تعالى: «السمانة» : بفتح السين هي السمن، قال جمهور العلماء في معنى هذا الحديث: المراد بالسمن هنا كثرة اللحم، ومعناه أنه يكثر ذلك فيهم، وليس معناه أن يتمحضوا سمانا، قالوا: والمذموم منه من يستكسبه، وأما من هو فيه خلقه فلا يدخل في هذا، والمتكسب له هو المتوسع في المأكول والمشروب زائدا على المعتاد، وقيل: المراد بالسمن هنا أنهم يتكثرون بما ليس فيهم ويدعون ما ليس لهم من الشرف وغيره، وقيل: المراد جمعهم الأموال. انتهى. والقول الأول أولى بظواهر الأحاديث، والله أعلم.

الحديث السابع والثمانون: عن جابر بن سمرة، قال: خطبنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالجابية فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فينا مثل مقامي فيكم فقال: «احفظوني في أصحابي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ثم يفشو الكذب حتى يشهد الرجل وما يستشهد، ويحلف وما يستحلف» رواه الإمام أحمد وابن ماجة والطبراني، وهذا لفظ ابن ماجة.

ص: 91

ورواه الإمام أحمد أيضا والترمذي، والحاكم في مستدركه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: خطبنا عمر رضي الله عنه بالجابية فقال: يا أيها الناس إني قمت فيكم كمقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا فقال: «أوصيكم بأصحابي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ثم يفشو الكذب حتى يحلف الرجل ولا يستحلف، ويشهد الشاهد ولا يستشهد

» وذكر تمام الحديث، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه، وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.

ورواه الحاكم أيضا من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: وقف عمر رضي الله عنه بالجابية فقال:

وذكره بنحو حديث جابر وابن عمر رضي الله عنهم، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي في تلخيصه.

ورواه البخاري في التاريخ الكبير من حديث عبد الله بن مالك بن إبراهيم الأشتر النخعي، عن أبيه، عن جده قال: قام عمر عند باب الجابية وذكر النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: «إن يد الله على الجماعة، والفذ مع الشيطان، والحق أصل في الجنة، والباطل أصل في النار، وإن أصحابي خياركم فأكرموهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يظهر الكذب والهرج» .

الحديث الثامن والثمانون: عن أنس رضي الله عنه أنه قال: «إنه لا يأتي عليكم زمان إلا الذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم» سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم، رواه الإمام أحمد والبخاري، والترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح.

ص: 92

الحديث التاسع والثمانون: عن أنس أيضا رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يزداد الأمر إلا شدة، ولا الدنيا إلا إدبارا، ولا الناس إلا شُحا، ولا تقوم الساعة إلا على شرار الناس» الحديث، رواه ابن ماجة والطبراني، والحاكم في مستدركه.

الحديث التسعون: عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يزداد الأمر إلا شدة، ولا المال إلا إفاضة، ولا تقوم الساعة إلا على شرار من خلقه» رواه الحاكم في مستدركه وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.

الحديث الحادي والتسعون: عن عمران بن حصين رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن هذا الأمر لا يزداد إلا شدة، ولا يزداد الناس إلا شُحّا، ولا تقوم الساعة إلى على شرار الناس» رواه أبو نعيم في الحلية من حديث مسعر عن قتادة عن الحسن عن عمر بن حصين رضي الله عنهما.

الحديث الثاني والتسعون: ذكره الإمام أحمد رحمه الله في كتاب الصلاة تعليقا فقال: وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «خير أمتي الذين بُعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، والآخر شر إلى يوم القيامة» .

الحديث الثالث والتسعون: ذكره الإمام أحمد في كتاب الصلاة فقال: وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لأصحابه: «أنتم خير من أبنائكم، وأبناؤكم خير من أبنائهم، وأبناء أبنائكم خير من أبنائهم، والآخر شر إلى يوم القيامة» .

الحديث الرابع والتسعون: عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن

ص: 93

رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم لا يدركني زمان، ولا تدركوا زمانا لا يُتَّبع فيه العليم، ولا يستحيا فيه من الحليم، قلوبهم قلوب الأعاجم، وألسنتهم ألسنة العرب» رواه الإمام أحمد.

الحديث الخامس والتسعون: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم لا يدركني زمان، أو لا أدرك زمان قوم لا يتبعون العليم، ولا يستحيون من الحليم، قلوبهم قلوب الأعاجم، وألسنتهم ألسنة العرب» رواه الحاكم في مستدركه وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.

قال المناوي في "شرح الجامع الصغير": «قلوبهم قلوب الأعاجم» : أي بعيدة من الخلاق، مملوءة من الرياء والنفاق، «وألسنتهم ألسنة العرب»: متشدقون، متفصحون، متفيهقون، يتلونون في المذاهب، ويروغون كالثعالب، قال الأحنف: لأن أُبتلى بألف جموح لجوج أحب إلي من أن أُبتلى بمُتلوِّن، قال: والمعنى اللهم لا تحيني ولا أصحابي إلى زمن يكون فيه ذلك. انتهى.

قلت: وهذا الحديث يطابق حال الأكثرين في زماننا، فإنهم لا يتبعون العليم، ولا يستحيون من الحليم، إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس، وليس معهم من مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم العربية ما يحملهم على الحياء، ويمنعهم من تعاطي ما يدنس ويشين عند ذوي الأحلام والنهى، وإنما شبه قلوبهم بقلوب الأعاجم لقلة فقههم في الدين، وانحرافهم عن

ص: 94

المروءات العربية، وتخلقهم بأخلاق الأعاجم من طوائف الإفرنج وغيرهم، وشدة ميلهم إلى مشابهتهم في الزي الظاهر، بل وفي جميع الأحوال، واتِّباع سنتهم حذو القذة بالقذة، والمشابهة في الظاهر إنما تنشأ من تقارب القلوب وتشابهها، قال الله تعالى: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ

} الآية [البقرة: 118]، وقد عظمت البلوى بداء المشابهة، وعمَّت جميع الأقطار الإسلامية إلا من شاء الله من أهل القرى المتمسكين بالسنة النبوية والشيم العربية، وقليل ما هم ولا سيما في هذا الزمان الذي اشتدت فيه غربة الإسلام، وعاد المعروف منكرا والمنكر معروفا، فالله المستعان.

الحديث السادس والتسعون: عن سعيد بن سمعان قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يتعوذ من إمارة الصبيان والسفهاء، فقال سعيد بن سمعان فأخبرني ابن حسنة الجهني أنه قال لأبي هريرة: ما آية ذلك؟ قال: أن تقطع الأرحام، ويُطاع المُغوي، ويُعصى المرشد. رواه البخاري في الأدب المفرد.

الحديث السابع والتسعون: عن أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «سيكون رجال من أمتي يأكلون ألوان الطعام، ويشربون ألوان الشراب، ويلبسون ألوان الثياب، ويتشدقون في الكلام، فأولئك شرار أمتي» رواه الطبراني في الكبير والأوسط، وأبو نعيم في الحلية.

الحديث الثامن والتسعون: عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «شرار أمتي الذي غذوا في النعيم، الذين يتقلبون في ألوان الطعام والثياب،

ص: 95

الثرثارون الشداقون بالكلام» رواه أبو نعيم في الحلية من حديث سفيان بن عيينة، عن منصور، عن الزهري، عن عروة عن عائشة رضي الله عنهما.

الحديث التاسع والتسعون: عن بكر بن سوادة مرسلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «سيكون نشو من أمتي يولدون في النعيم، ويغذون به، همتهم ألوان الطعام، وألوان الثياب، يتشدقون بالقول، أولئك شرار أمتي» رواه الإمام أحمد في كتاب "الزهد".

الحديث المائة: عن فاطمة بنت الحسين مرسلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن من شرار أمتي الذين غذوا بالنعيم، الذين يطلبون ألوان الطعام، وألوان الثياب، يتشادقون في الكلام» رواه الإمام أحمد في كتاب "الزهد".

قال أبو موسى المديني: المتشدقون: هم المتوسعون في الكلام من غير احتياط واحتراز، وقيل: المراد بالمتشدق المستهزئ بالناس، يلوي شدقه بهم وعليهم. انتهى.

والأول أصح، وبه جزم النووي رحمه الله تعالى، فإنه قال: المتشدق: المتطاول على الناس بكلامه، ويتكلم بملء فيه تفاصحا وتعظيما لكلامه. انتهى.

قلت: وكلا الضربين كثير جدا في زماننا، فالله المستعان.

الحديث الواحد بعد المائة: ما رواه الديلمي عن علي رضي الله عنه: «يأتي على الناس زمان همَّتهم بطونهم، وشرفهم متاعهم، وقِبلتهم نساؤهم، ودينهم درهمهم ودنانيرهم، أولئك شرار الخلق، لا خلاق لهم عند الله» .

ص: 96

الحديث الثاني بعد المائة: عن عباس الحميري عن أبيه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كيف بكم إذا فسق نساؤكم» رواه البخاري في تاريخه.

الحديث الثالث بعد المائة: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صنفان من أهل النار لم أرهما قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا» رواه الإمام أحمد ومسلم.

الحديث الرابع بعد المائة: عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «سيكون في آخر أمتي رجال يركبون على سروج كأشباه الرحال، ينزلون على أبواب المساجد، نساؤهم كاسيات عاريات على رؤوسهم كأسنمة البخت العجاف، العنوهن فإنهن ملعونات، لو كان وراءكم أمة من الأمم لخدمن نساؤكم نساءهم كما يخدمنكم نساء الأمم قبلكم» رواه الإمام أحمد، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه ولفظه:«سيكون في آخر هذه الأمة رجال يركبون على المياثر حتى يأتوا أبواب مساجدهم، نساؤهم كاسيات عاريات على رؤوسهن كأسنمة البخت العجاف، العنوهن فإنهن ملعونات، لو كان وراءكم أمة من الأمم لخدمهم كما خدمكم نساء الأمم قبلكم» فقلت لأبي: وما المياثر؟ قال: سروجا عظاما. قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

قلت: والقائل لأبيه ما المياثر هو عبد الله بن عياش القتباني أحد رواته، وقد تقدم الكلام على الجملة الأولى منه قريبا، ويأتي بقية الكلام عليه في

ص: 97

ذم التبرج والسفور إن شاء الله تعالى.

الحديث الخامس بعد المائة: عن عبد الرحمن بن غَنْم الأشعري قال: حدثني أبو عامر أو أبو مالك الأشعري والله ما كذبني، سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول:«ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحِرَ والحرير والخمر والمعازف، ولينزلن أقوام إلى جنب علم يروح عليهم بسارحة لهم يأتيهم لحاجة فيقولون: ارجع إلينا غدا، فيبيّتهم الله ويضع العلم ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة» رواه البخاري، والحِر بكسر المهملة وتخفيف الراء هو الفَرْج؛ يعني أنهم يستحلون الزنا.

الحديث السادس بعد المائة: عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها، يُعزف على رؤوسهم بالمعازف والمغنيات، يخسف الله بهم الأرض ويجعل منهم القردة والخنازير» رواه الإمام أحمد، وأبو داود مختصرا، وابن ماجة وهذا لفظه، وصححه ابن حبان وغيره.

الحديث السابع بعد المائة: عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تذهب الليالي والأيام حتى تشرب فيها طائفة من أمتي الخمر يُسمُّونها بغير اسمها» رواه ابن ماجة.

الحديث الثامن بعد المائة: عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَتستحلَّنّ طائفة من أمتي الخمر باسم يسمونها إياه» رواه الإمام أحمد وابن ماجة، والحافظ الضياء المقدسي في المختارة.

ورواه النسائي في سننه، عن ابن محيريز، عن رجل من أصحاب

ص: 98

النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يشرب ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها» .

الحديث التاسع بعد المائة: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليأتين على الناس زمان لا يبالي المرء بما أخذ المال أمِن حلال أم من حرام» رواه الإمام أحمد والبخاري والدارمي.

الحديث العاشر بعد المائة: عن الحسن -وهو البصري- عن أبي هريرة أيضا رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليأتين على الناس زمان لا يبقى منهم أحدا إلا أكل الربا، فمن لم يأكله أصابه من غباره» رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجة، والحاكم وقال: صحيح إن صح سماع الحسن من أبي هريرة، قال الحافظ الذهبي في تلخيصه: سماع الحسن من أبي هريرة بهذا صحيح.

الحديث الحادي عشر بعد المائة: عن علي رضي الله عنه قال: «يأتي على الناس زمانٌ عضوضٌ، يعضّ الموسر على ما في يديه، ولم يؤمر بذلك قال الله عز وجل: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} وينهد الأشرار، ويستذل الأخيار، ويبايع المضطرون» الحديث رواه الإمام أحمد وأبو داود.

الحديث الثاني عشر بعد المائة: عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا ضنّ الناس بالدينار والدرهم، وتبايعوا بالعينة، واتبعوا أذناب البقر، وتركوا الجهاد في سبيل الله، أنزل الله بهم بلاء فلم يرفعه عنهم حتى يراجعوا دينهم» رواه الإمام أحمد، والبزار، وأبو يعلى، والطبراني، وأبو نعيم في الحلية، والبيهقي في شعب الإيمان.

ص: 99

وفي رواية بعضهم: «أدخل الله عليهم ذلا لا يرفعه عنهم حتى يراجعوا دينهم» .

ورواه أبو داود بلفظ: «إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا يرفعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم» .

وفي رواية لأحمد: «لئن تركتم الجهاد، وأخذتم بأذناب البقر، وتبايعتم بالعينة ليُلزمنَّكم الله مذلة في رقابكم لا تنفك عنكم حتى تتوبوا إلى الله وترجوا على ما كنتم عليه» .

الحديث الثالث عشر بعد المائة: عن أبي هريرة رضي الله عنه: «لا تقوم الساعة حتى يكون الزهد رواية، والورع تصنعا» رواه أبو نعيم في الحلية.

الحديث الرابع عشر بعد المائة: عن ابن مسعود رضي الله عنه: «إن من أعلام الساعة وأشراطها أن تكثر الشُرط والهمَّازون والغمَّازون واللمَّازون، وأن تكثر أولاد الزنا» رواه الطبراني.

قال أبو عبيد الهروي: الهَمْز الغيبة والوقيعة في الناس وذكر عيوبهم، وقد همز يهمز فهو همَّاز وهمزة للمبالغة. انتهى.

وأما الغمز فقال الراغب الأصفهاني: أصله الإشارة بالجفن أو اليد طلبا إلى ما فيه معاب، ومنه قيل: ما في فلان غميزة؛ أي نقيصة مشار بها إليه، قال: واللمز الاغتياب وتتبع المعاب، ورجل لمَّاز ولُمزة كثير اللمز. انتهى.

وقال أبو السعادات ابن الأثير: اللمز العيب والوقوع في الناس، وقيل: هو

ص: 100

العيب في الوجه، والهمز العيب بالغيب. انتهى.

الحديث الخامس عشر بعد المائة: عن معاذ بن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تزال الأمة على شريعة حسنة ما لم تظهر فيهم ثلاث: ما لم يُقبض منهم العلم، ويكثر فيهم ولد الحنث، ويظهر فيهم السقّارون» قالوا: وما السقارون؟ قال: «نشء يكونون في آخر الزمان تكون تحيتهم بينهم إذا تلاقوا التلاعن» رواه الإمام أحمد، والطبراني، والحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

قال أبو عبيد الهروي: أولاد الحنث: أولاد الزنا، من الحنث المعصية، ويُروى بالخاء المعجمة والباء الموحدة. انتهى.

وقال أبو موسى المديني: السقار والصقار اللعَّان لمن لا يستحق اللعن، سمي بذلك لأنه يضرب الناس بلسانه من الصقر، وهو ضربك الصخرة بالصاقور وهو المعول. انتهى.

قلت: وهذا النشء المرذول كثير جدا في زماننا، إذا تلاقوا كانت تحيتهم بينهم التلاعن والرمي بالكفر أو الفجور أو اليهودية أو النصرانية أو نحو ذلك من الألفاظ القبيحة، وقد سمعنا ذلك منهم كثيرا، فالله المستعان، وسيأتي في ذكر المنافقين حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن للمنافقين علامات يعرفون بها، تحيتهم لعنة

» وذكر تمام الحديث، رواه الإمام أحمد.

ص: 101

الحديث السادس عشر بعد المائة: عن أبي هريرة رضي الله عنه: «من أشراط الساعة تقارب الأسواق، ويكثر ولد البغي، وتفشو الغيبة، ويعظم رب المال، وترتفع الأصوات في المساجد، ويظهر أهل المنكر، ويظهر البناء» رواه ابن مردويه.

الحديث السابع عشر بعد المائة: عن أبي هريرة رضي الله عنه: «من أشراط الساعة سوء الجوار، وقطعية الأرحام، وأن يعطل السف من الجهاد، وأن تجلب الدنيا بالدين» رواه ابن مردويه.

الحديث الثامن عشر بعد المائة: عن طارق بن شهاب، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إن بين يدي الساعة تسليم الخاصة، وفشوّ التجارة حتى تعين المرأة زوجها على التجارة، وقطع الأرحام، وفشو القلم، ظهور الشهادة بالزور، وكتمان شهادة الحق» رواه الإمام أحمد، والبخاري في الأدب المفرد، والحاكم في مستدركه وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.

وفي رواية للحاكم قال عبد الله: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن بين يدي الساعة تسليم الخاصة، وفشو التجارة حتى تعين المرأة زوجها على التجارة، وحتى يخرج الرجل بماله إلى أطراف الأرض فيرجع فيقول: لم أربح شيئا» .

وفي رواية للحاكم عن خارجة بن الصلت البرجمي قال: دخلت مع عبد الله يوما للمسجد فإذا القوم ركوع، فركع، فمر رجل فسلم عليه، فقال

ص: 102

عبد الله: صدق الله ورسوله، ثم وصل إلى الصف، فلما فرغ سألته عن قوله صدق الله ورسوله، فقال: إنه كان يقول: «لا تقوم الساعة حتى تتخذ المساجد طرقا، وحتى يسلم الرجل على الرجل بالمعرفة، وحتى تتجر المرأة وزوجها، وحتى تغلو الخيل والنساء، ثم ترخص فلا تغلو إلى يوم القيامة» قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.

وفي رواية للإمام أحمد، عن الأسود بن هلال، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من أشراط الساعة أن يسلم الرجل على الرجل لا يسلم عليه إلا للمعرفة» .

وفي رواية له أيضا عن الأسود بن يزيد، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن من أشراط الساعة إذا كانت التحية على المعرفة» .

قوله «تسليم الخاصة» قد بينه في الحديث الذي بعده «وأن لا يسلم الرجل إلا على من يعرف» ، وهذا ما ظهر مصداقه في زماننا، وقد رأينا ذلك كثيرا في بلدان شتى من كثير من الجهال والعوام، ورأيناه أيضا من كثير من المنتسبين إلى العلم ولا سيما القُرّاء الفسقة، وما ذاك إلا لاستهانتهم بالآداب الشرعية، ورغبتهم عنها، وميلهم إلى الآداب الإفرنجية، ورغبتهم فيها، فالله المستعان.

الحديث التاسع عشر بعد المائة: عن سلمة بن كهيل عن ابن مسعود

ص: 103

- رضي الله عنه مرفوعا: «من أشراط الساعة أن يمر الرجل في المسجد لا يصلي فيه ركعتين، وأن لا يسلم الرجل إلا على من يعرف، وأن يبرد الصبي الشيخ» رواه الطبراني في الكبير، قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح إلا أن سلمة وإن كان سمع من الصحابة لم أجد له رواية عن ابن مسعود. انتهى.

قال المناوي في "شرح الجامع الصغير": معنى قوله «يبرد الصبي الشيخ» : أي يجعله رسولا في حوائجه. انتهى.

الحديث العشرون بعد المائة: عن الحسن قال: «يأتي على الناس زمان لا يكون لهم حديث في مساجدهم إلا في أمر دنياهم، فليس لله فيهم حاجة، فلا تجالسوهم» ذكره أبو بكر المروذي في كتاب "الورع".

وقد رواه الحاكم في مستدركه من طريق الثوري، عن عون بن أبي جحيفة، عن الحسن بن أبي الحسن، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يأتي على الناس زمان يتحلقون في مساجدهم وليس همتهم إلا الدنيا، ليس لله فيهم حاجة، فلا تجالسوهم» قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.

الحديث الحادي والعشرون بعد المائة: عن سلامة بنت الحر -أخت خرشة بن الحر الفزاري رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن من أشراط الساعة أن يتدافع أهل المسجد لا يجدون إماما يصلي بهم» رواه الإمام أحمد، وأبو داود، وابن ماجة.

الحديث الثاني والعشرون بعد المائة: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن

ص: 104

رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنه سيأتي على الناس زمان يتركون الأذان على ضعفائهم» رواه ابن أبي حاتم.

الحديث الثالث والعشرون بعد المائة: عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد» رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجة، وابن حبان في صحيحه.

ورواه أبو يعلى الموصلي في مسنده، وابن خزيمة في صحيحه بلفظ:«يأتي على أمتي زمان يتباهون بالمساجد، ثم لا يعمرونها إلا قليلا» .

المباهاة في اللغة: المفاخرة، والمراد ههنا المفاخرة بتشييد المساجد وزخرفتها وتنقيشها كما هو الواقع في زماننا، والله المستعان، وذلك من أشراط الساعة كما تقدم في حديث حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «للساعة أشراط» ، قيل: وما أشراطها؟ قال: «غُلو أهل الفسق في المساجد» الحديث رواه أبو نعيم في الحلية.

والمراد به: الغلو في التشييد والزخرفة والنقش، فالله المستعان.

الحديث الرابع والعشرون بعد المائة: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أراكم ستشرّفون مساجدكم بعدي كما شرفت اليهود كنائسها، وكما شرفت النصارى بِيَعها» رواه ابن ماجة.

الحديث الخامس والعشرون بعد المائة: وعنه رضي الله عنه أنه قال: «لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى» رواه أبو داود، وابن حبان في صحيحه، وذكره البخاري في صحيحه تعليقا بصيغة الجزم.

ص: 105

قال أبو عبيد الهروي: الزخرف في الأصل الذهب، وكمال حُسن الشيء.

وقال الراغب الأصفهاني: الزخرف الزينة المزوقة، ومنه قيل للذهب زخرف. انتهى.

وقد فتن أكثر المسلمين في زماننا بتزويق المساجد، وتحسين بنائها وتضخيمه، فالله المستعان.

الحديث السادس والعشرون بعد المائة: عن ابن مسعود رضي الله عنه: «إن من أعلام الساعة وأشراطها أن تزخرف المحاريب، وأن تخرب القلوب» رواه الطبراني.

الحديث السابع والعشرون بعد المائة: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقوم الساعة حتى يتطاول الناس في البنيان» رواه البخاري في الأدب المفرد هكذا مختصرا، وأخرجه في كتاب الفتن من صحيحه مطولا، وفيه ذكر جملة من أشراط الساعة.

الحديث الثامن والعشرون بعد المائة: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أخبرني عن الساعة، قال:«ما المسؤول عنها بأعلم من السائل» قال: فأخبرني عن أماراتها، قال:«أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاة يتطاولون في البنيان» رواه الإمام أحمد، وأصحاب السنن وغيرهم، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، قال: وفي الباب عن طلحة بن عبيد الله، وأنس بن مالك، وأبي هريرة رضي الله عنهم. انتهى.

ص: 106

قوله: «يتطاولون في البنيان» يعني يتبارون ويتغالبون في تطويله وزخرفته وتكثيره.

قال النووي رحمه الله تعالى: معناه أن أهل البادية وأشباههم من أهل الحاجة والفاقة تبسط لهم الدنيا حتى يتباهون في البنيان، والله أعلم. انتهى.

والتطاول يكون بتكثير طبقات البيوت، ورفعها نحو السماء، ويكون بتحسين البناء وتقويته وتزويقه، ويكون بتوسيع البيوت، وتكثير مجالسها ومرافقها.

وقد ظهر مصداق هذا الحديث في زماننا، وكثر التفاخر والتكاثر بتطويل البنيان وتقويته وتكثيره وتزويقه، فالله المستعان.

الحديث التاسع والعشرون بعد المائة: عن أبي هريرة رضي الله عنه نحو حديث عمر رضي الله عنه وفيه: «ولكن سأحدثك عن أشراطها إذا ولدت الأمة ربّها فذاك من أشراطها، وإذا كانت العراة الحفاة رؤوس الناس فذاك من أشراطها، وإذا تطاول رعاء البُهم في البنيان فذاك من أشراطها في خمس لا يعلمهن إلا الله ..» الحديث، متفق عليه.

الحديث الثلاثون بعد المائة: عن أبي هريرة وأبي ذر رضي الله عنهما نحو حديث عمر رضي الله عنه وفيه: «ولكن لها علامات تعرف بها، إذا رأيت المرأة تلد ربّها، في خمس لا يعلمها إلا الله ..» الحديث، رواه النسائي.

الحديث الحادي والثلاثون بعد المائة: عن ابن عباس رضي الله عنهما

ص: 107

نحو حديث عمر رضي الله عنه وفيه: «ولكن إن شئت حدثتك بمعالم لها دون ذلك» قال: أجل يا رسول الله، فحدِّثني، قال رسول صلى الله عليه وسلم:«إذا رأيت الأَمَة ولدت ربتها أو ربها، ورأيت أصحاب الشاء تطاولوا بالبنيان، ورأيت الحفاة الجياع العالة كانوا رؤوس الناس فذلك من معالم الساعة وأشراطها» قال: يا رسول الله، ومن أصحاب الشاء والحفاة الجياع العالة؟ قال:«العرب» رواه الإمام أحمد.

الحديث الثاني والثلاثون بعد المائة: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى يبني الناس بيوتا يوشونها وشيَ المراحل» رواه البخاري في "الأدب المفرد" وقال: قال إبراهيم: يعني الثياب المخططة؛ وإبراهيم هذا هو ابن المنذر الحزامي شيخ البخاري.

قوله: «يوشونها» : يعني ينقشونها ويصبغونها بأنواع الألوان المختلفة كما تنقش الثياب والفرش، يقال: وشي الثوب ووشاه وشيا وشِية إذا نقشه وحسَّنه.

قال الراغب الأصفهاني: وشيتُ الشيء وشيا جعلت فيه أثرا يخالف معظم لونه، واستعمل الوشي في الكلام تشبها بالمنسوج. انتهى.

و «المراحل» : جمع مُرحَّل بتشديد الحاء، يقال: ثوب مرحل وثوب فيه ترحيل إذا كان منقوشا بنقوش تشبه رحال الإبل، وهذا من باب التنبيه والإشارة إلى أجناس النقوش والأصباغ التي يعملها المتطاولون في البنيان في هذه الأزمان، وقد تقدم في حديثي ابن مسعود وأنس رضي الله عنهما أن من أشراط الساعة تشريف البنيان وتعليته، فالله المستعان.

ص: 108

وقد أخرج البخاري رحمه الله تعالى حديث أبي هريرة في موضع آخر من كتاب الأدب المفرد وترجم له بقوله: باب نقش البنيان، وأورد فيه أيضا حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن قيل وقال، وكثرة السؤال، وإشاعة المال» ، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«لن يُنجي أحدا منكم عمل ..» الحديث، وفيه:«سددوا وقاربوا، والقصد تبلغوا» ، وظاهر صنيع البخاري رحمه الله في إيراد هذين الحديثين في باب نقش البنيان أنه أراد الاستدلال بهما على أن نقش البنيان لا يجوز لأمرين:

أحدهما: أن فيه إضاعة للمال، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال.

الثاني: أنه إسراف وبذخ مخالف لما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الاقتصاد في جميع الأمور، ولزوم العدل والاستقامة، والله أعلم.

الحديث الثالث والثلاثون بعد المائة: عن عبد الله الرومي قال: دخلت على أم طلق فقلتُ: ما أقصر سقف بيتك هذا! قالت: يا بني إن أمير المؤمنين عُمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى عُمّاله: أن لا تطيلوا بناءكم فإنه من شر أيامكم. رواه البخاري في الأدب المفرد.

الحديث الرابع والثلاثون بعد المائة: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً شبراً وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضبٍّ تبعتموهم» قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال:«فمن؟» متفق عليه.

ص: 109

الحديث الخامس والثلاثون بعد المائة: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي بأخذ القرون قبلها شبرا بشبر وذراعا بذراع» فقيل: يا رسول الله كفارس والروم؟ فقال: «ومَن الناس إلا أولئك؟» رواه البخاري.

ورواه ابن ماجة في سننه بإسناد صحيح ولفظه: «لتتبعن سنن من كان قبلكم باعا بباع، وذراعا بذراع، وشبرا بشبر حتى لو دخلوا في جحر ضب لدخلتم فيه» قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال:«فمن إذًا» .

ورواه الحاكم في مستدركه بنحو رواية ابن ماجة، ثم قال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه بهذا اللفظ، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه.

قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: الأخذ بفتح الألف وسكون الخاء على الأشهر هو السيرة، يقال: أخذ فلان بأخذ فلان أي سار بسيرته، وما أَخَذَ أَخْذه أي ما فعل فعله ولا قصد قصده. انتهى.

الحديث السادس والثلاثون بعد المائة: عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لتركبن سَنَن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع، حتى لو أن أحدهم دخل جحر ضب لدخلتم، وحتى لو أن أحدهم جامع امرأته بالطريق لفعلتموه» رواه البزار بسند جيد، والحاكم في مستدركه وصححه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.

قال النووي رحمه الله تعالى: السَنَن بفتح السين والنون وهو الطريق.

وقال الحافظ ابن حجر: بفتح السين للأكثر. وقال ابن التين: قرأناه بضمها.

ص: 110

وقال المهلب: بالفتح أولى لأنه الذي يستعمل فيه الذراع والشِبر وهو الطريق، قال الحافظ: وليس اللفظ الأخير ببعيد من ذلك. انتهى.

قال عياض: الشبر، والذراع، والطريق، ودخول الجحر تمثيل للاقتداء بهم في كل شيء مما نهى الشرع عنه وذمّه.

وكذا قال النووي رحمه الله تعالى قال: وفي هذا معجزة ظاهرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد وقع ما أخبر به صلى الله عليه وسلم.

وقال الحافظ ابن حجر: قد وقع معظم ما أنذر به صلى الله عليه وسلم، وسيقع بقية ذلك.

وقال المناوي في "شرح الجامع الصغير": هذا من معجزاته صلى الله عليه وسلم، فقد اتَّبع كثير من أمته سنن فارس في شيمهم، ومراكبهم، وملابسهم، وإقامة شعارهم في الحروب وغيرها، وأهل الكتابيين في زخرفة المساجد، وتعظيم القبور حتى كاد أن يعبدها العوام، وقبول الرشا، وإقامة الحدود على الضعفاء دون الأقوياء، وترك العمل يوم الجمعة، والتسليم بالأصابع، وعدم عيادة المريض يوم السبت، والسرور بخميس البيض، وأن الحائض لا تمس عجينا، إلى غير ذلك مما هو أشنع وأبشع. انتهى.

قلت: وفي زماننا لم يبق شيء مما يفعله اليهود والنصارى والمجوس وغيرهم من أمم الكفر والضلال إلا ويفعل مثله في أكثر الأقطار الإسلامية، ولا تجد الأكثرين من المنتسبين إلى الإسلام إلى مهطعين خلف أعداء الله يأخذون بأخذهم، ويحذون حذوهم، ويتبعون سننهم في الأخلاق، والآداب، واللباس، والهيئات، والنظامات، والقوانين وأكثر الأمور أو جمعيها، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

ص: 111

الحديث السابع والثلاثون بعد المائة: عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليأتينّ على أمّتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النّعل بالنّعل، حتى إن كان منهم من أتى أُمَّه علانيةً لكان في أمتي من يصنع ذلك، وإن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملّةً، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملّةً كلهم في النار إلا ملّةً واحدة» قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: «ما أنا عليه وأصحابي» رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن غريب مفسر لا نعرفه مثل هذا إلا من هذا الوجه.

الحديث الثامن والثلاثون بعد المائة: عن عمرو بن عوف المزني رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لتسلكن سنن الذين من قبلكم حذو النعل بالنعل، ولتأخذن مثل مأخذهم إن شبرا فشبر، وإن ذراعا فذراع، وإن باعا فباع، حتى لو دخلوا جحر ضبٍّ لدخلتم فيه» رواه أبو بكر الآجري في كتاب "الشريعة".

الحديث التاسع والثلاثون بعد المائة: عن شداد بن أوس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لتحملن شرار هذه الأمة سنن الذي خلا من قبلهم حذو القذة بالقذة» رواه أبو بكر الآجري في كتاب "الشريعة".

الحديث الأربعون بعد المائة: عن أبي واقد الليثي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده لتركبن سنة من كان قبلكم» رواه البخاري في التاريخ الكبير، والترمذي وهذا لفظه وقال: هذا حديث حسن صحيح، قال: وفي الباب عن أبي سعيد وأبي هريرة.

الحديث الحادي والأربعون بعد المائة: عن المستورد بن شداد رضي الله عنه مرفوعا: «لا تترك هذه الأمة شيئا من سنن الأولين حتى تأتيه» رواه الطبراني.

ص: 112

الحديث الثاني والأربعون بعد المائة: عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: «لتركبن سنة من كان قبلكم حُلوها ومُرّها» رواه الشافعي.

الحديث الثالث والأربعون بعد المائة: عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال: «لتتبعن أمر من كان قبلكم حذو النعل بالنعل، لا تخطئون طريقتهم ولا تخطئكم، ولتنقضن عرى الإسلام عروة فعروة، ويكون أو نقضها الخشوع، حتى لا ترى خاشعا، وحتى يقول أقوام: ذهب النفاق من أمة محمد صلى الله عليه وسلم فما بال صلوات الخمس؟! لقد ضل من كان قبلنا حتى ما يصلون بصلاة نبيهم، أولئك المكذبون بالقدر وهم أسباب الدجال وحق على الله أن يمحقهم» رواه الآجري في كتاب "الشريعة".

ورواه الحاكم في مستدركه ولفظه قال: «أول ما تفقدون من دينكم الخشوع، وآخر ما تفقدون من دينكم الصلاة، ولتنقضن عرى الإسلام عروة عروة، وليصلينّ النساء وهن حيّض، ولتسلكن طريق من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، وحذو النعل بالنعل، لا تخطئون طريقهم ولا تخطئكم حتى تبقى فرقتان من فرق كثير فتقول إحداهما: ما بال الصلوات الخمس؟! لقد ضل من كان قبلنا إنما قال الله تبارك وتعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} [هود: 114] لا تصلوا إلا ثلاثا، وتقول الأخرى: إيمان المؤمنين بالله كإيمان الملائكة، وما فينا كافر ولا منافق، حق على الله أن يحشرهما مع الدجال» قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.

ص: 113

الحديث الرابع والأربعون بعد المائة: عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لتنتقضن عرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، وأولهن نقضا الحكم وآخرهن الصلاة» رواه الإمام أحمد، وابنه عبد الله، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه وقال: صحيح ولم يخرجاه.

الحديث الخامس والأربعون بعد المائة: عن فيروز الديلمي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لينتقضن الإسلام عروة عروة كما ينقض الحبل قوى قوى» رواه الإمام أحمد.

الحديث السادس والأربعون بعد المائة: عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لتُنقضن عرى الإسلام عروة عروة» .

الحديث السابع والأربعون بعد المائة: عن عبد الله بن الديلمي قال: بلغني أن أول ذهاب الدين ترك السنة، يذهب الدين سُنّة فسُنّة كما يذهب الحبل قوة قوة. رواه الدارمي.

الحديث الثامن والأربعون بعد المائة: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما أتى على الناس عام إلا أحدثوا فيه بدعة، وأماتوا فيه سنة، حتى تحيا البدع، وتموت السنن. رواه الطبراني في الكبير، وقال الهيثمي: رجاله موثوقون.

الحديث التاسع والأربعون بعد المائة: عن ربعي بن حراش عن حذيفة ابن اليمان رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «سيأتي عليكم زمان لا يكون فيه شيء أعز من ثلاثة: درهم حلال، أو أخ يستأنس به، أو سنة يعمل

ص: 114

بها» رواه الطبراني في الأوسط وأبو نعيم في الحلية.

قال الهيثمي: فيه روح بن صلاح ضعَّفه ابن عدي، ووثقه ابن حبان والحاكم، وبقية رجاله ثقات.

وقد رواه عبد الله ابن الإمام أحمد في زوائد الزهد بسنده عن الأوزاعي قال: كان يقال: «يأتي على الناس زمان أقل شيء في ذلك الزمان أخ مؤنس، أو درهم من حلال، أو عمل في سنة» .

الحديث الخمسون بعد المائة: عن ثوبان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله زوى لي الأرض فرأيتُ مشارقها ومغاربها

» الحديث، وفيه:«وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين، ولا تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان» رواه أبو داود، وابن ماجة، ورواه الحاكم في مستدركه مطولا وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه، وأصله في صحيح مسلم.

ورواه البرقاني في صحيحه بلفظ: «حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد فِئام من أمتي الأوثان» .

ورواه الترمذي مختصرا ولفظه: «لا تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين وحتى يعيدوا الأوثان» وقال: هذا حديث صحيح.

الحديث الحادي والخمسون بعد المائة: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقوم الساعة حتى يرجع ناس من أمتي إلى أوثان يعبدونها من دون الله» رواه أبو داود الطيالسي في مسنده.

ص: 115

وقد عظمت الفتنة بالأوثان في مشارق الأرض ومغاربها من أزمان طويلة كما سيأتي بيان ذلك قريبا إن شاء الله تعالى.

الحديث الثاني والخمسون بعد المائة: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} فقال: «ليخرُجنّ منه أفواجا كما دخلوا فيه أفواجا» رواه الحاكم في مستدركه وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.

الحديث الثالث والخمسون بعد المائة: قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: حدثنا معاوية بن عمرو، حدثنا أبو إسحاق عن الأوزاعي، حدثني أبو عمار، حدثني جار لجابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قدمت من سفر، فجاءني جابر بن عبد الله فسلم عليّ، فجعلت أحدثه عن افتراق الناس، وما أحدثوا، فجعل جابر يبكي ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الناس دخلوا في دين الله أفواجا وسيخرجون منه أفواجا» قال الهيثمي: جار جابر لم أعرفه، وبقية رجاله رجال الصحيح.

الحديث الرابع والخمسون بعد المائة: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنَعت العراق درهمها وقفيزها، ومنعت الشام مُدْيَها ودينارها، ومنعت مصر إردبَّها ودينارها، وعدتم من حيث بدأتم، وعدتم من حيث بدأتم، وعدتم من حيث بدأتم» شهد على ذلك لحم أبي هريرة ودمه. رواه الإمام أحمد، ومسلم، وأبو داود.

وقد اختلف في معنى هذا الحديث:

ص: 116

فقيل معناه: أنهم يُسلمون فيسقط عنهم الخراج، ورجّحه البيهقي.

وقيل معناه: أنهم يرجعون عن الطاعة، ولا يؤدون الخراج المضروب عليهم؛ ولهذا قال:«وعدتم من حيث بدأتم» أي رجعتم إلى ما كنتم عليه قبل ذلك، ورجّح هذا القول الحافظُ ابن كثير رحمه الله تعالى، ولم يحك الخطابي في "معالم السنن" سواه، واستشهد له ابن كثير بما رواه الإمام أحمد ومسلم من حديث أبي نضرة قال: كنا عند جابر بن عبد الله رضي الله عنهما فقال: «يوشك أهل العراق أن لا يجبى إليهم قفيز ولا درهم» قيل: من أين ذلك؟ قال: «من قبل العجم، يمنعون ذلك» ثم قال: «يوشك أهل الشام أن لا يجبى إليهم دينار ولا مدي» قيل من أين ذلك؟ قال: «من قبل الروم» .

قلت: وأَصْرح من هذا ما رواه الإمام أحمد والبخاري رحمه الله تعالى في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كيف أنتم إذا لم تجتبوا دينارا ولا درهما؟ فقيل له: وكيف ترى ذلك كائنا يا أبا هريرة؟ قال: إي والذي نفس أبي هريرة بيده عن قول الصادق المصدوق، قالوا: عمّ ذاك؟ قال: «تنتهك ذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم فيشد الله عز وجل قلوب أهل الذمة فيمنعون ما في أيديهم» .

والذي يظهر لي في معنى قوله: «منعت العراق درهمها ..» الحديث، أن ذلك إشارة إلى ما صار إليه الأمر في زماننا وقبله بأزمان من استيلاء العجم والإفرنج ونحوهم على هذه الأمصار، وانعكاس الأمور بسبب ذلك حتى صار أهل الذمة أقوى من المسلمين وأعظم شوكة، فامتنعوا من أحكام الإسلام التي كانت تجري عليهم من قبل، وانتقض حكم الخراج وغيره،

ص: 117

ثم زاد الأمر شدة فوضعت قوانين أعداء الله وسياساتهم مكان الأحكام الشرعية، وأَلزموا بها مَن تحت أيديهم من المسلمين، والذين انفلتوا من أيدي المتغلبين عليهم ما زالوا على ما عهدوه، أو على نحو مما عهدوه من أحكام القوانين والسياسات، وسنن أعداء الله، وأخلاقهم الرذيلة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وفي قوله: «وعُدتم من حيث بدأتم» إشارة إلى استحكام غربة الإسلام، ورجوعه إلى مقره الأول كما في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها» متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ، وهو يأرز بين المسجدين كما تأرز الحية في جحرها» رواه مسلم.

وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه .. رواه الإمام أحمد.

وعن عمرو بن عوف المزني عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو ذلك .. رواه الترمذي.

وقد تقدمت هذه الأحاديث في أول الكتاب، وما ذكر فيها من انضمام الإيمان إلى المدينة وما حولها لم يقع بعد، ويوشك أن يقع.

وفيما ذكرنا من الأحاديث ههنا كفاية ولله الحمد والمنة، وكلها معجزات النبوة وأعلامها؛ لمطابقتها للواقع من حال الأكثرين، فالله المستعان.

ومما يطابق زماننا هذا قول أبي الأسود الدؤلي، وقيل إنها لعبد الله بن المبارك، وقيل للحسن بن عبد الله الأصبهاني:

ص: 118

ذهب الرجال المُقتدَى بفعالهم

والمُنكِرون لكل أمر منكر

وبقيت في خَلَفٍ يُزيِّن بعضهم

بعضا ليدفع مُعوِرٌ عن مُعوِر

فَطِنٌ لكل مصيبة في ماله

وإذا أصيب بِدِيْنِهِ لم يشعر

وقول الطغرائي:

غاض الوفاء وفاض الجُور وانفجرتْ

مسافة الخُلْف بين القول والعمل

وشان صدقَك عند الناس كِذْبُهم

وهل يُطَابَق مُعوَجٌّ بمعتدل

وقال الشاطبي:

وهذا زمان الصبر من لك بالتي

كقبض على جمر فتنجو من البلا

وذكر ابن القيم رحمه الله تعالى في بدائع الفوائد أبياتا لبعضهم وهي:

قد عرف المنكر وأنكر المـ

ـعروف في أيامنا الصعبة

وصار أهل العلم في وهدة

وصار أهل الجهل في رتبة

فقلت للأبرار أهل التقى

والدين لما اشتدت الكربة

لا تنكروا أحوالكم قد أتت

نوبتكم في زمن الغربة

وقال البخاري رحمه الله تعالى في تاريخه الصغير: حدثنا عبد الله بن يوسف، حدثنا محمد بن مهاجر، حدثنا الزبيدي، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: يا ويح لبيد حيث يقول:

ذهب الذين يُعاش في أكنافهم

وبقيتُ في خَلَف كجلد الأجرب

فكيف لو أدرك زمانا؟ قال عروة: رحم الله عائشة كيف لو أدركت زماننا؟ قال الزهري: رحم الله عروة كيف لو أدرك زماننا؟ قال الزبيدي: رحم الله الزهري كيف لو أدرك زماننا؟!

ص: 119

وقد رواه ابن جرير في تهذيب الآثار فقال: حدثني أبو حميد الحمصي أحمد بن المغيرة، حدثنا عثمان بن سعيد عن محمد بن مهاجر، حدثني الزبيدي عن الزهري، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: يا ويح لبيد حيث يقول:

ذهب الذين يُعاش في أكنافهم

وبقيت في خَلَفٍ كجلد الأجرب

قالت عائشة: فكيف لو أدرك زماننا هذا؟ قال عروة: رحم الله عائشة، فكيف لو أدركت زماننا هذا؟ ثم قال الزهري: رحم الله عروة فكيف لو أدرك زماننا هذا؟ ثم قال الزبيدي: رحم الله الزهري، فكيف لو أدرك زماننا هذا؟ قال محمد: وأنا أقول رحم الله الزبيدي، فكيف لو أدرك زماننا هذا؟ قال أبو حميد: قال عثمان ونحوه نقول: رحم الله محمدا فكيف لو أدرك زماننا هذا؟ قال ابن جرير: قال لنا أبو حميد: رحم الله عثمان، فكيف لو أدرك زماننا هذا؟ قال ابن جرير: رحم الله أحمد بن المغيرة، فكيف لو أدرك زماننا هذا؟ نقله صاحب "كنز العمال" صفحة 258 ج7 في آخر أشراط الساعة.

قلت: رحمة الله علينا وعليهم أجمعين إذا كان هذا قولهم في القرن الأول الذي هو خير قرون هذه الأُمَّة بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف يقال فيما بعده من القرون إلى زماننا هذا في أواخر القرن الرابع عشر؟! فالله المستعان.

وذكر ابن الأثير أن عائشة رضي الله عنها تمثلت ببيت آخر للبيد وهو قوله:

يتحدثون مخانة وملاذة

ويعاب قائلهم وإن لم يَشْغَب

وقال ابن عبد البر في الاستيعاب: قالت عائشة رضي الله عنها: رحم الله

ص: 120

لبيدا حيث يقول:

ذهب الذين يُعاش في أكنافهم

وبقيتُ في خَلَف كجلد الأجرب

لا ينفعون ولا يُرجَّى خيرهم

ويعاب قائلهم وإن لم يَشغَب

قالت: فكيف لو أدرك زماننا هذا؟!

روى أبو نعيم في الحلية في ترجمة يونس بن ميسرة بن حلبس، عن أبي مسهر، حدثنا عبد الرحمن بن الوليد قال: سمعت ابن حلبس ينشد هذا البيت عند الموت:

ذهب الرجال الصالحون وأُخِّرتْ

نَتَن الرجال لِذا الزمان المُنتِن

قلت: وهذا البيت أليق بزماننا من الزمان الذي قيل فيه، فالله المستعان.

ص: 121

فصل

وفي زماننا هذا قد استولت الكآبةُ والهمُّ والغمُّ على كل مسلم في قلبه حياة وغَيْرة دينية، وذلك لما يرى من تضعضع الإسلام وأهله، وتداعي الأمم عليهم من كل جانب، ولما يرى من تنافس المسلمين في الأمور الدنيوية، وجدهم واجتهادهم فيما لا يُجدي شيئا، وإعراضهم عما فيه عِزّهم ومَجدهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة، وما أصابهم من الوهن والتخاذل، وتفرق الكلمة، وذهاب الريح، ونزع المهابة من صدور الأعداء.

وكل هذه المصائب المؤلمة من ثمرات الذنوب والمعاصي، ومخالفة السنة النبوية والطريقة السلفية، قال الله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11]، وقال تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الأنفال: 53]، ولا ترى مسلما نوّر الله قلبه بنور العلم والإيمان إلا وهو في زماننا كالقابض على الجمر، لا يزال متألما متوجعا لِما يرى من كثرة النقص والتغيير في جميع أمور الدين، وانتقاض الكثير من عرى الإسلام، والتهاون بمبانيه العظام، ولقلة أعوانه على الخير، وكثرة من يعارضه ويناويه، فإن أَمَر بالمعروف لم يُقبل منه، وإنْ نَهى عن المنكر لم يأمن على نفسه وماله، وأقل الأحوال أن يُسخر منه ويُستهزأ به، ويُنسب إلى الحمق وضعف الرأي، حيث لم يمش حاله مع الناس، وربما قُمع مع ذلك وقُهر واضطهد كما رأينا ذلك، وهذا مصداق ما تقدم في حديث أبي أمامة الذي رواه الطبراني وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم -

ص: 122

قال: «وإن من إدبار هذا الدين أن تجفو القبيلة بأسرها حتى لا يرى فيها إلا الفقيه والفقيهان، فهما مقهوران ذليلان، إن تكلما فأمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر قُمعا وقُهرا واضُطهدا، فهما مقهوران ذليلان لا يجدان على ذلك أعوانا ولا أنصارا» .

وحيث إن الجهل قد عمَّ وطمَّ في هذه الأزمان، وعاد المعروف عند الأكثرين منكرا والمنكر معروفا، وأُطيع الشح، واتُّبِعت الأهواء، وصار القُرّاء الفسقة والمتشبهون بالعلماء ينكرون على من رام تغيير المنكرات الظاهرة، ويعدُّون ذلك تشديدا على الناس ومشاغبة لهم وتنفيرا، وعندهم أن تمام العقل في السكوت ومداهنة الناس بترك الإنكار عليهم، وأن ذروة الكمال والفضل في الإلقاء إلى الناس كلهم بالمودة، وتمشية الحال معهم على أي حال كانوا، وهذا مصداق ما رواه الإمام أحمد في كتاب "الزهد"؛ حدثنا عبد الصمد، حدثنا هشام -يعني الدستوائي- عن جعفر -يعني صاحب الأنماط- عن أبي العالية قال:«يأتي على الناس زمان تخرب صدورهم من القرآن، ولا يجدون له حلاوة ولا لذاذة، إن قصّروا عما أُمروا به قالوا: إن الله غفور رحيم، وإن عملوا بما نُهوا عنه قالوا: سيغفر لنا، إنَّا لم نشرك بالله شيئا، أمرهم كله طمع ليس معه صدق، يلبسون جلود الضأن على قلوب الذئاب، أفضلهم في دينه المداهن» .

وهذا الأثر مطابق لحال أكثر المنتسبين إلى العلم في زماننا، وقد جاء في حديث رواه الطبراني:«من تحبب إلى الناس بما يحبونه، وبارز الله تعالى لقي الله وهو عليه غضبان» .

ص: 123

إذا عرف هذا فينبغي لمن أنقذه الله تعالى من موت الجهل، ونوّر بصيرته بالعلم النافع الموروث عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم أجمعين، وألهمه رشده، وكرَّه إليه الكفر والفسوق والعصيان أن لا يزال لسانه رطبا بذكر الله، وحمده وشكره على ما أنعم به عليه من هذه النعم العظيمة، وأن يدعو إلى سبيل ربه، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويُغيِّره ما استطاع، ويبذل جهده في نشر السنة، وإصلاح ما أفسده الناس منها، ويصبر على ما يصيبه في ذات الله، ومن فعل ذلك ابتغاء وجه الله تعالى رجى له أن يكون من أئمة الغرباء، الذين غبطهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله في الحديث الصحيح:«طوبى للغرباء» .

قال أبو عبيد الهروي: طوبى اسم الجنة، وقيل: هي شجرة فيها. انتهى، ويؤيد القول الأخير ما رواه ابن وهب عن عمرو بن الحارث أن درّاجًا أبا السمح حدثه عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعا:«طوبى شجرة في الجنة مسيرة مائة سنة، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها» .

وقد رواه أبو بكر الآجري في كتاب الشريعة من طريق ابن وهب بسنده عن أبي سعيد رضي الله عنه أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: طوبى لمن رآك وآمن بك، فقال:«طوبى لمن رآني وآمن بي، ثم طوبى، ثم طوبى، ثم طوبى لمن آمن بي ولم يرني» فقال رجل: يا رسول الله، وما طوبى؟ قال:«شجرة في الجنة مسيرة مائة سنة، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها» رواه الإمام أحمد في مسنده، عن حسن بن موسى، عن عبد الله بن لهيعة، عن دراج أبي السمح فذكره.

ص: 124

وكذا رواه أبو الفرج المعافى بن زكريا الجريري، من طريق ابن لهيعة عن دراج، فذكره بمثله.

وروى الآجري أيضا بسنده، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ذكر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم طوبى فقال: «يا أبا بكر، هل بلغك ما طوبى؟» قال: الله عز وجل ورسوله أعلم، قال:«طوبى شجرة في الجنة لا يعلم ما طولها إلا الله عز وجل، يسير الراكب تحت غصن من أغصانها سبعين خريفا، ورقها الحلل يقع عليها طير كأمثال البخت» قال أبو بكر رضي الله عنه: إن هناك طيرا ناعما يا رسول الله؟ قال: «أنعم منه من يأكله، وأنت منهم إن شاء الله يا أبا بكر» .

ورواه ابن مردويه بنحوه، وخرّج أيضا من حديث ابن عباس رضي الله عنهما نحو ذلك.

وعن قرة بن إياس المزني رضي الله عنه نحو ذلك أيضا، رواه ابن جرير.

فهذه الأحاديث يشد بعضها بعضا، ولها شواهد في الصحيحين وغيرهما من حديث سهل بن سعد، وأبي سعيد الخدري، وأبي هريرة، وأنس بن مالك رضي الله عنهم.

وأما الغرباء فهم أهل السنة والجماعة، وهم الطائفة المنصورة، والفرقة الناجية من ثلاث وسبعين فرقة كلها تنتسب إلى الإسلام، ووراء ذلك الأدعياء الذين ينتسبون إلى الإسلام، ويدّعونه وهم عنه بمعزل، فمنهم فئام قد لحقوا بالمشركين، وفئام يعبدون الأوثان، وفئام من الدهرية، وعُبّاد الطبيعة، وفئام من المعطلة والجهمية، وأفراخ القرامطة والباطنية،

ص: 125

والحلولية والاتحادية، وغلاة الصوفية، والروافض، فهؤلاء أدعياء الإسلام، وما أكثرهم لا كثَّرهم الله.

فالفرقة الناجية بين جميع المنتسبين إلى الإسلام كالشعرة البيضاء في الجلد الأسود، فهم غرباء بين المنتسبين إلى الإسلام، فضلا عن أعداء الإسلام من سائر الأمم، وهم في غربتهم متفاوتون، فأهل الإسلام غرباء في الناس، وأهل الإيمان غرباء في المسلمين، وأهل العلم بالكتاب والسنة غرباء في المؤمنين، والداعون منهم إلى الخير، الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، الصابرون على أذى المخالفين لهم أشد غربة، وقليل ما هم، قال علي رضي الله عنه فيهم: أولئك الأقلون عددا، الأعظمون عند الله قدرا.

وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: إياك أن تغتر بما يغتر به الجاهلون، فإنهم يقولون: لو كان هؤلاء على حق لم يكونوا أقل الناس عددا، والناس على خلافهم، فاعلم أن هؤلاء هم الناس، ومن خالفهم فمشبهون بالناس وليسوا بناس، فما الناس إلا أهل الحق، وإن كانوا أقلهم عددا.

قال ابن مسعود رضي الله عنه: لا يكن أحدكم إمَّعة، يقول: أنا مع الناس، ليوطِّن أحدكم نفسه على أن يؤمن ولو كفر الناس. انتهى.

وقال أيضا في "الكافية الشافية":

لا توحشنك غربةً بين الورى

فالناس كالأموات في الجبّان

أَوَمَا علمت بأن أهل السنة الـ

ـغرباء حقا عند كل زمان

قل لي متى سلم الرسول وصحبه

والتابعون لهم على الإحسان

من جاهل ومعاند ومنافق

ومحارب بالبغي والطغيان

ص: 126

وتظن أنك وارث لَهُمُ وما

ذقت الأذى في نصرة الرحمن

كلا ولا جاهدتَ حق جهاده

في الله لا بِيَدٍ ولا بِلسان

منَّتْك والله المُحال النفسُ فاسـ

ـتحدث سوى ذا الرأي والحسبان

لو كنتَ وارثه لآذاك الأُلى

ورثوا عداه بسائر الألوان

وقد جاء‌

‌ وصف الغرباء

في الأحاديث التي تقدم ذكرها في أول الكتاب بأنهم النّزّاع من القبائل، وأنهم الذين يصلحون إذا فسد الناس، وأنهم الذين يصلحون ما أفسد الناس من السنة، وأنهم الذين يتمسكون بالكتاب حين يُترك، ويعلمون بالسنة حين تطفأ، وأنهم قوم صالحون قليل في ناس سوء كثير، مَن يعصيهم أكثر ممن يطيعهم، ومَن يبغضهم أكثر ممن يحبهم، وأنهم الفرّارون بدينهم من الفتن.

قال أبو عبيد الهروي: النُّزَّاع: جمع نازع ونزيع، وهو الذي نزع عن أهله وعشيرته أي بَعُد وغاب. انتهى.

وهذا التفسير من حيث المعنى اللغوي، والمراد بما في الحديث شيء آخر، وذلك أن الغربة نوعان: حسية ومعنوية.

فالحسية: مفارقة الأهل والعشيرة والأوطان، والنزوع منها إلى غيره كما قاله الهروي.

والمعنوية: مفارقة الأهل والعشيرة وأهل الوطن في الدين، ومباعدة ما هم عليه، حتى يكون بينهم كأنه غريب لا يألفهم ولا يألفونه.

والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا بمكة غرباء وهم بين عشائرهم وقبائلهم، ولما هاجروا إلى المدينة وسكنوا مع إخوانهم في

ص: 127

الدين زالت تلك الغربة عنهم مع مفارقتهم للعشائر والأوطان، وعادت على المنافقين، فكانوا هم الغرباء بين المسلمين، وإن كانوا بين أهليهم وعشائرهم، فالغربة المعنوية: حقيقتها قلة الشكل كما قال الإمام أبو سليمان الخطابي رحمه الله تعالى:

وما غربة الإنسان في شقة النوى

ولكنها والله في عدم الشكل

وإني غريب بين بست وأهلها

وإن كان فيها أسرتي وبها أهلي

وقال أيضا:

وليس اغترابي عن سجستان أنني

عدمت بها الإخوان والدار والأهلا

ولكنني ما لي بها من مُشاكل

وإن الغريب الفرد من يعدم الشكلا

وقال محمد بن إسماعيل الصنعاني رحمه الله تعالى:

وهذا اغتراب الدين فاصبر فإنني

غريب وأصحابي كثير بلا عد

وقد روى الإمام أحمد رحمه الله تعالى في كتاب "الزهد" عن أبي حازم قال: كان سهل بن سعد رضي الله عنه يقول: إني فيكم غريب، فيُقال له: لِم؟ فيقول: ذهب أصحابي والذي كنت أعرف، وبقيت فيكم غريبا.

وروى الإمام أحمد أيضا في "الزهد" بسنده عن الحسن البصري رحمه الله تعالى أنه قال: إن المؤمن في الدنيا غريب، لا يجزع من ذُلِّها، ولا ينافس أهلها في عِزِّها، الناس منه في راحة، ونفسه منه في شغل.

وفي حديث أبي أمامة الذي رواه الطبراني وغيره مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم: «إن من إقبال هذا الدين أن تفقه القبيلة بأسرها، حتى لا يوجد فيها إلا الفاسق والفاسقان، فهما مقهوران ذليلان، إن تكلَّما قُمعا وقُهرا واضُطهدا.

ص: 128

وإن من إدبار هذا الدين أن تجفو القبيلة بأسرها، حتى لا يرى فيها إلا الفقيه والفقيهان، فهما مقهوران ذليلان، إن تكلَّما فأمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر قُمعا وقُهرا واضُطهدا، فهما مقهوران ذليلان لا يجدان على ذلك أعوانا ولا أنصارًا».

ففي هذا الحديث إشارة إلى الغربة المعنوية في النوعين، ففي أوّله غُربة الفُسّاق بين أهل الفقه والدين والصلاح، وذلك في أوقات عِزّة الإسلام وظهوره وكثرة أهل العلم والخير، وفي آخره غربة الفقهاء وأهل الدين والصلاح بين الفساق وأهل الجهل والجفاء وسوء الأخلاق كما هو الواقع في زماننا وقبله بقرون كثيرة، فالله المستعان.

وللكفار والمنافقين غربة معنوية يختصون بها، فإنهم غرباء عن الله تعالى ورسوله ودينه، وغربتهم هذه هي الغربة الموحشة وإن كانوا هم الأكثرين والمعروفين المشار إليهم، ولأهل الضلالات والأهواء من هذه الأمة نصيب من هذه الغربة الذميمة، كل له بقدر إعراضه عن الكتاب والسنة، ومشابهته للكفار والمنافقين، وقد تقدم في وصف الغرباء الممدوحين أنهم قوم صالحون قليل في ناس سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم، ففيه إشارة إلى أنهم يدعون إلى الخير، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، وهذا من أعلى مراتب الكمال، وهو أن يكون المرء صالحا في نفسه، وساعيا مع ذلك في تحصيل الصلاح لغيره.

وفي الصحيحين من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي رضي الله عنه: «فوالله لأَن يهدي الله بك رجلا واحدا خيرا لك من حُمْرِ النعم» .

وروى الطبراني في الكبير عن أبي رافع رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عليا

ص: 129

إلى اليمن وقال له: «لأن يهدي الله على يديك رجلاً خيرٌ لك مما طلعت عليه الشمس وغربت» .

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من دعا إلى هُدًى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا» الحديث، رواه الإمام أحمد، ومسلم، وأهل السنن، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

وعن أبي مسعود الأنصاري البدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من دلّ على خير فله مثل أجر فاعله» رواه الإمام أحمد، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والبخاري في الأدب المفرد، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

وقد وردت أحاديث كثيرة في الوعد بالحسنى ومضاعفة الأجور للغرباء المتمسكين بالكتاب والسنة عند فساد الناس، وأنا أذكر من ذلك ما تيسر إن شاء الله تعالى:

فمن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «طوبى للغرباء» رواه مسلم وابن ماجة من حديث أبي هريرة.

ورواه ابن وضاح من حديث ابن عمر.

ورواه ابن ماجة أيضا من حديث أنس بن مالك.

ورواه الإمام أحمد، والدارمي، والترمذي، وابن ماجة من حديث عبد الله بن مسعود.

ورواه الإمام أحمد أيضا من حديث سعد بن أبي وقاص.

ورواه الطبراني من حديث سلمان، وجابر، وسهل بن سعد الساعدي، وابن عباس.

ورواه الترمذي، والصابوني من حديث عمرو بن عوف المزني.

ورواه ابن وضاح من حديث المعافري.

ص: 130

ورواه الإمام أحمد، والطبراني، وابن وضاح من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

فهذا حديث متواتر عن اثني عشر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم أجمعين، وقد تقدم سياق هذه الأحاديث في أول الكتاب، وتقدم قريبا أن طوبى اسم الجنة، أو اسم شجرة فيها.

وقال النووي رحمه الله تعالى: اختلف المفسرون في معنى قوله تعالى: {طُوبَى لَهُمْ} [الرعد: 29]، فروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن معناه: فرح وقرة عين، وقال عكرمة: نِعْمَ ما لهم، وقال الضحاك: غبطة لهم، وقال قتادة: حسنى لهم، وعن قتادة أيضا معناه: أصابوا خيرا، وقال إبراهيم: خير لهم وكرامة، وقال ابن عجلان: دوام الخير، وقيل: الجنة، وقيل: شجرة في الجنة، وكل هذه الأقوال محتملة في الحديث. انتهى.

قلت: والمعنى فيها متقارب، وكلها حاصلة لمن أدخله الجنة، ويدل للأخير ما تقدم قريبا من حديث أبي سعيد، وابن عمر، وابن عباس، وقرة بن إياس المزني رضي الله عنهم.

ومن ذلك ما تقدم من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحب شيء إلى الله الغرباء» ، قيل: ومن الغرباء؟ قال: «الفرارون بدينهم، يبعثهم الله يوم القيامة مع عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام» رواه عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد".

ومنها ما رواه مسلم، والترمذي، وابن ماجة، عن معقل بن يسار رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«العبادة في الهرج كهجرة إليّ» قال الترمذي: هذا حديث صحيح غريب.

ص: 131

ورواه الإمام أحمد بلفظ: «العبادة في الفتنة كالهجرة إليّ» .

ورواه الطبراني في معجمه الصغير ولفظه: «العمل في الهجرة والفتنة كالهجرة إليَّ» .

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: وسبب ذلك أن الناس في زمن الفتن يتبعون أهواءهم، ولا يرجعون إلى دين، فيكون حالهم شبيها بحال الجاهلية، فإذا انفرد من بينهم من يتمسك بدينه ويعبد ربه ويتبع مراضيه ويجتنب مساخطه، كان بمنزلة من هاجر من بين أهل الجاهلية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤمنا به متبعا لأوامره، مجتنبا لنواهيه. انتهى.

ومنها ما رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجة، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والبغوي، عن أبي أمية الشعباني قال: أتيت أبا ثعلبة الخشني رضي الله عنه فقلت له: كيف تصنع في هذه الآية؟ قال: أيَّةُ آية؟ قلت: قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} قال: أما والله لقد سألتَ عنها خبيرا، سألتُ عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:«بل ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحا مطاعا، وهوى متبعا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك ودع العوام، فإن من ورائكم أياما الصبر فيهن مثل القبض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عملكم» قيل: يا رسول الله، أجر خمسين منا أو منهم؟ قال:«لا، بل أجر خمسين رجلا منكم» قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.

ومنها ما رواه ابن وضاح عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعا: «إن من

ص: 132

بعدكم أياما الصابر فيها المتمسك بدينه مثل ما أنتم عليه اليوم له أجر خمسين منكم».

ومنها ما رواه أيضا عن سعيد أخي الحسن يرفعه قال: «إنكم اليوم على بينة من ربكم، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر، وتجاهدون في سبيل الله، ولم يظهر فيكم السُكران، سكر الجهل، وسكر حب العيش، وستحولون عن ذلك، فالمتمسك يومئذ بالكتاب والسنة له أجر خمسين» قيل: منهم؟ قال: «بل منكم» .

ورواه أبو نعيم في الحلية في ترجمة إبراهيم بن أدهم، من حديث سفيان ابن عيينة، عن أسلم، أنه سمع سعيد بن أبي الحسن يذكر عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنتم اليوم على بينة من ربكم، تأمرون بالمعروف، وتنهون عن المنكر، وتجاهدون في سبيل الله، ثم تظهر فيكم السكرتان: سكرة الجهل وسكرة حب العيش، وستحولون عن ذلك فلا تأمرون بمعروف ولا تنهون عن منكر ولا تجاهدون في سبيل الله، القائمون يومئذ بالكتاب والسنة لهم أجر خمسين صدِّيقا» قالوا: يا رسول الله، منَّا أو منهم؟ قال:«لا، بل منكم» قال أبو نعيم: ورواه محمد بن قيس، عن عبادة ابن نسي، عن الأسود بن ثعلبة، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.

ومنها ما رواه أبو نعيم أيضا من حديث إبراهيم بن أدهم، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «غشيتكم السكرتان: سكرة حب العيش، وحب الجهل، فعند ذلك لا تأمرون بالمعروف، ولا تنهون عن المنكر، والقائمون بالكتاب وبالسنة

ص: 133

كالسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار».

ومنها ما رواه الإمام أحمد وغيره، عن أبي أمامة رضي الله عنه مرفوعا وتقدم، وفيه: «إن من إدبار هذا الدين أن تجفو القبيلة كلها من عند آخرها حتى لا يبقى فيها إلا الفقيه أو الفقيهان، فهما مقهوران مقموعان ذليلان، إن تكلما أو نطقا قُمعا وقُهرا واضطهدا، وقيل لهما: أتطعنان علينا؟

» الحديث، وفي آخره:«فمن أدرك ذلك الزمان وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر فله أجر خمسين ممن صحبني وآمن بي وصدقني أبدا» .

ومنها: ما رواه البيهقي في دلائل النبوة من حديث عبد الرحمن بن العلاء الحضرمي قال: حدثني من سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إنه سيكون في آخر هذه الأمة قوم لهم مثل أجر أولهم، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقاتلون أهل الفتن» .

ومنها: ما رواه الإمام أحمد والترمذي عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل أمتي مثل المطر لا يدري أوله خير أم آخره» قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.

وروى أبو نعيم في الحلية من حديث ابن عمر رضي الله عنهما مثله.

ومنها: ما رواه الطبراني في الأوسط، وأبو نعيم في الحلية، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المتمسك بسنتي عند فساد أمتي له أجر شهيد» .

ومنها ما رواه الترمذي في جامعه، والطبراني في الصغير، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا بُنيَّ إن قدرت أن تصبح

ص: 134

وتمسي ليس في قلبك غش لأحد فافعل» ثم قال لي: «يا بني، وذلك من سنتي، ومن أحيا سنتي فقد أحبني، ومن أحبني كان معي في الجنة» قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه.

ومنها ما رواه الدارمي، والترمذي، وابن ماجة، عن كثير بن عبد الله، عن أبيه، عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلال بن الحارث:«اعلم» قال: ما أعلم يا رسول الله؟ قال: «إنه من أحيا سنّةً من سنّتي قد أميتت بعدي كان له من الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئا، ومن ابتدع بدعة ضلالة لا يرضاها الله ورسوله كان عليه مثل آثام من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزار الناس شيئا» قال الترمذي: هذا حديث حسن.

ومن الآثار عن السلف في هذا المعنى ما رواه أبو نعيم في الحلية، عن سهل بن عبد الله التستري أنه قال: أيما عبد قام بشيء مما أمره الله به من أمر دينه فعمل به وتمسك به، فاجتنب ما نهى الله تعالى عنه عند فساد الأمور، وعند تشويش الزمان، واختلاف الناس في الرأي والتفريق إلا جعله الله إماما يُقتدى به، هاديا مهديا، قد أقام الدين في زمانه، وأقام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو الغريب في زمانه، الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدأ» .

وروى أبو الشيخ بإسناده عن الحسن رحمه الله تعالى أنه قال: لو أن رجلا من الصدر الأول بُعث اليوم ما عرف من الإسلام شيئا إلا هذه الصلاة، ثم قال: أما والله لئن عاش إلى هذه المنكرات فرأى صاحب بدعة يدعو إلى بدعته، أو صاحب دنيا يدعو إلى دنياه، فعصمه الله عز وجل وقلبه يحن إلى

ص: 135

ذلك السلف الصالح فيتبع آثارهم، ويستن بسنتهم، ويتبع سبيلهم كان له أجر عظيم.

ورواه الحافظ محمد بن وضاح في كتاب "البدع والحوادث" بإسناده عن الحسن قال: لو أن رجلا أدرك السلف الأول ثم بعث اليوم ما عرف من الإسلام شيئا، قال: ووضع يده على خده ثم قال: إلا هذه الصلاة، ثم قال: أما والله لمن عاش في هذه النكراء، ولم يدرك هذا السلف الصالح، فرأى مبتدعا يدعو إلى بدعته، ورأى صاحب دنيا يدعو إلى دنياه، فعصمه الله عن ذلك، وجعل قلبه يحن إلى ذكر هذا السلف الصالح، ويقتص آثارهم، ويتبع سبيلهم، ليُعوَّض أجرا عظيما، فكذلك كونوا إن شاء الله تعالى.

وروى ابن المبارك عن الفضيل عن الحسن أنه ذكر الغني المترف الذي له سلطان يأخذ المال ويدَّعي أنه لا عقاب فيه، وذكر المبتدع الضال الذي خرج بسيفه على المسلمين وتأول ما أنزل الله في الكفار على المسلمين، ثم قال: سُنَّتكم والذي لا إله إلا هو بينهما، بين الغالي والجافي، والمترف والجاهل، فاصبروا عليها، فإن أهل السنة كانوا أقل الناس، الذين لم يأخذوا مع أهل الإتراف في إترافهم، ولا مع أهل البدع في أهوائهم، وصبروا على سنتهم حتى أتوا ربهم، فكذلك إن شاء الله فكونوا، ثم قال: والله لو أن رجلا أدرك هذه المنكرات، يقول هذا: هلمَّ إليّ، ويقول هذا: هلم إليّ، فيقول: لا أريد إلا سنة محمد صلى الله عليه وسلم، يطلبها، ويسأل عنها، إن هذا ليعرض له أجر عظيم، فكذلك فكونوا إن شاء الله.

وروى الدارمي بعض هذا عن الحسن، وفيه: فإن أهل السنة كانوا أقل

ص: 136

الناس فيما مضى، وهم أقل الناس فيما بقي.

وقال الحافظ محمد بن وضاح: أخبرني غير واحد أن أسد بن موسى كتب إلى أسد بن الفرات: اعلم يا أخي إن ما حملني على الكتاب إليك إلا ذكر أهل بلدك من صالح ما أعطاك الله من إنصافك الناس، وحُسن حالك مما أظهرت من السنة، وعيبك لأهل البدع، وكثرة ذكرك لهم، وطعنك عليهم، فقمعهم الله بك، وشد بك ظهر أهل السنة، وقوّاك عليهم بإظهار عيبهم والطعن عليهم، فأذلهم الله بيدك، وصاروا ببدعتهم مستترين، فابشر يا أخي بثواب ذلك، واعتد به من أفضل حسناتك من الصلاة والصيام والحج والجهاد، وأين تقع هذه الأعمال من إقامة كتاب الله تعالى، وإحياء سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«من أحيا شيئا من سنتي كنت أنا وهو في الجنة كهاتين، وضم بين أصبعيه» ، وقال:«أيما داع دعا إلى هدى فاتبع عليه كان له مثل أجر من اتبعه إلى يوم القيامة، فمتى يدرك أجر هذه شيء من عمله» .

وذكر أيضا: أن لله عند كل بدعة كِيْدَ بها الإسلام وليا يذب عنها، وينطق بعلامتها، فاغتنم يا أخي هذا الفضل، وكن من أهله، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن وأوصاه:«لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من كذا وكذا» وأعظم القول فيه، فاغتنم ذلك، وادع إلى السنة حتى يكون لك في ذلك إلفة وجماعة يقومون مقامك إن حدث بك حدث فيكونون أئمة بعدك، فيكون لك ثواب ذلك إلى يوم القيامة كما جاء في الأثر، فاعمل على بصيرة ونية وحسبة، فيردّ الله بك المبتدع المفتون والزائغ

ص: 137

الحائر فتكون خلفا من نبيك صلى الله عليه وسلم، فإنك لن تلقى الله بعمل يشبهه، وإياك أن يكون لك من أهل البدع أخ أو جليس أو صاحب فإنه جاء الأثر: مَن جالس صاحب بدعة نزعت منه العصمة، ووكل إلى نفسه، ومن مشى إلى صاحب بدعة مشى في هدم الإسلام، وجاء: ما من إله يُعبد من دون الله أبغض إلى الله من صاحب هوى، وقد وقعت اللعنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل البدع، وأن الله لا يقبل منهم صرفا ولا عدلا ولا فريضة ولا تطوعا، وكلما زادوا اجتهادا أو صوما وصلاة ازدادوا من الله بعدا، فارفض مجالسهم، وأذِلَّهم، وأَبْعِدهم كما أَبَعَدَهم الله وأَذَلَّهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأئمة الهدى بعده. انتهى كلامه أسد رحمه الله تعالى.

وقوله: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ: «لأن يهدي الله بك رجلا

» الحديث، لعل هذا وهم من أسد، أو ممن روى عنه؛ لأن المعروف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه حين أعطاه الراية، وأمره أن يسير إلى أهل خيبر، وهو في الصحيحين وغيرهما من حديث سهل بن سعد وغيرهم، والله أعلم.

وقال الشيخ إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني رحمه الله تعالى: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ: سمعت أبا الحسن المكاري يقول: سمعت علي بن عبد العزيز يقول: سمعت أبا عبيد القاسم بن سلام يقول: المُتَّبع للسنة كالقابض على الجمر، وهو اليوم عندي أفضل من ضرب السيف في سبيل الله.

وفي "الكافية الشافية" للمحقق العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى فصل نفيس جدا ذكر فيه ثواب الغرباء الممدوحين، وأوضح من ذلك ما أشكل

ص: 138

على كثير من العلماء وأعيا عليهم حله فأجاد وأفاد، تغمدنا الله وإياه برحمته وفضله، وجزاه وأمثاله عن الإسلام والمسلمين خيرا، قال رضي الله عنه:

فصلٌ: فيما أعد الله تعالى من الإحسان للمتمسكين بكتابه وسنة رسوله عند فساد الزمان:

هذا وللمتمسكين بسنة الـ

مُختار عند فساد ذي الأزمان

أجر عظيم ليس يقدر قَدْره

إلا الذي أعطاه للإنسان

فروى أبو داود في سنن له

ورواه أيضا أحمد الشيباني

أثرا تضمن أجر خمسين امرأ

من صحب أحمد خيرة الرحمن

إسناده حسن ومصداقٌ له

في مسلم فافهمه بالإحسان

إن العبادة وقت هرج هجرة

حقا إليّ وذاك ذو برهان

هذا فكم من هجرة لك أيها الـ

ـسُّنِيُ بالتحقيق لا بأماني

هذا وكم من هجرة لهمُ بما

قال الرسول وجاء في القرآن

ولقد أتى مصداقه في الترمذ

ي لمن له أذنان واعيتان

في أجر محيي سنة ماتت فذا

ك مع الرسول رفيقه بجنان

هذا ومصداق له أيضا أتى

في الترمذي لمن له عينان

>

تشبيه أمته بغيث أول

منه وآخره فمشتبهان

فلذاك لا يدري الذي هو منهما

قد خص بالتفضيل والرجحان

ولقد أتى أثر بأن الفضل في الـ

ـطّرفين أعني أولا والثاني

والوسط ذو ثبج فاعوج هكذا

جاء الحديث وليس ذا نكران

ولقد أتى في الوحي مصداق له

في الثلتين وذاك في القرآن

ص: 139

أهل اليمين فثلة مع مثلها

والسابقون أقل في الحسبان

ما ذاك إلا أنَّ تابعهم هم الـ

غُرباء ليست غربة الأوطان

لكنها والله غربة قائم

بالدين بين عساكر الشيطان

فلذاك شبههم به متبوعهم

في الغربتين وذاك ذو تِبيان

لم يشبهوهم في جميع أمورهم

من كل وجه ليس يستويان

فانظر إلى تفسيره الغُرباء بالـ

محيين سنته بكل زمان

طوبى لهم والشوق يحدوهم إلى

أخذ الحديث ومحكم القرآن

طوبى لهم لم يعبأوا بنحاتة الـ

أفكار أو بزبالة الأذهان

طوبى لهم ركبوا على متن العزا

ئم قاصدين لمطلع الإيمان

طوبى لهم لم يعبأوا شيئا بذي الـ

آراء إذ أغناهم الوحيان

طوبى لهم وإمامهم دون الورى

من جاء بالإيمان والفرقان

والله ما ائتموا بشخص دونه

إلا إذا ما دلَّهم بِبيان

في الباب آثار عظيم شأنها

أعيت على العلماء في الأزمان

إذ أجمع العلماء أن صحابة الـ

مُختار خير طوائف الإنسان

ذ

ذا بالضرورة ليس فيه الخلف بيـ

ـن اثنين ما حكيت به قولان

فلذاك ذي الآثار أعضل أمرها

وبغوا لها التفسير بالإحسان

فاسمع إذًا تأويلها وافهمه لا

تعجل بردٍّ منك أو نكران

إن البِدار بِردِّ شيء لم تُحط

علماً به سببٌ إلى الحرمان

الفضل منه مُطلَقٌ ومُقيَّدٌ

وهما لأهل الفضل مرتبتان

والفضل ذو التقييد ليس بموجب

فضلا على الإطلاق من إنسان

ص: 140

لا يوجب التقييد أن يقضى له

بالاستواء فكيف بالرجحان

إذ كان ذو الإطلاق حاز من الفضا

ئل فوق ذي التقييد بالإحسان

فإذا فرضنا واحدا قد حاز نو

عًا لم يجزه فاضل الإنسان

لم يوجب التخصيص من فضل عليـ

ـه ولا مساواة ولا نقصان

ما خلق آدم باليدين بموجب

فضلا على المبعوث بالقرآن

وكذا خصائص من أتى من بعده

من كل رسل الله بالبرهان

فمحمدا أعلاهُمُ فوقا وما

حكمت لهم بمزيَّة الرجحان

فالحائز الخمسين أجرا لم يحز

ها في جميع شرائع الإيمان

هل حازها في بدرٍ أو أُحد أو الـ

ـفتح المبين وبيعة الرضوان

بل حازها إذ كان قد عدم المعيـ

ـن وهم فقد كانوا أولي أعوان

والرب ليس يضيع ما يتحمل الـ

متحملون لأجله من شان

فتحمل العبد الوحيد رضاه معْ

فيض العدو وقلة الأعوان

مما يدل على يقين صادق

ومحبة وحقيقة العرفان

يكفيه ذلا واغترابا قلة الـ

أنصار بين عساكر الشيطان

في كل يوم فرقة تغزوه إن

ترجع يوافيه الفريق الثاني

فسل الغريب المستضام عن الذي

يلقاه بين عدى بلا حسبان

هذا وقد بعد المدى وتطاول الـ

ـعهد الذي هو موجب الإحسان

ولذاك كان كقابض جمر فسل

أحشاءه عن حر ذي النيران

والله أعلم بالذي في قلبه

يكفيه علم الواحد المنان

في القلب أمر ليس يقدر قدره

إلا الذي آتاه للإنسان

ص: 141

بر وتوحيد وصبر مع رضا

والشكر والتحكيم للقرآن

سبحان قاسم فضله بين العبا

د فذاك مولى الفضل والإحسان

فالفضل عند الله ليس بصورة الـ

أعمال بل بحقائق الإيمان

وتفاضل الأعمال يتبع ما يقو

م بقلب صاحبها من البرهان

حتى يكون العاملان كلاهما

في رتبة تبدو لنا بعيان

هذا وبينهما كما بين السما

ء والأرض في فضل وفي رجحان

ويكون بين ثواب ذا وثواب ذا

رُتَب مضاعفة بلا حسبان

هذا عطاء الرب جل جلاله

وبذاك تعرف حكمة الرحمن

ص: 142

فصل

فإن قال قائل: لا نُسلِّم أن الإسلام قد عاد غريبا كما بدأ؛ لأننا نرى المنتسبين إلى الإسلام قد ملأوا مشارق الأرض ومغاربها، وقد ذكر المعتنون بإحصاء النفوس أن عدتهم الآن تبلغ أربعمائة ألف ألف تقريبا، ولا ريب أن المسلمين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لا يبلغون عُشر هذا العدد، ولا نصف عشره، فكيف يقال والحالة هذه إن الإسلام قد عاد غريبا كما بدأ، وإن أهله الآن غرباء؟!

قيل: أما كثرة من ينتسب إلى الإسلام ويدَّعيه، وانتشارهم في مشارق الأرض ومغاربها فهذا لا ينكره أحد، وليس الشأن في الانتساب والدعوى، وإنما الشأن في صحة ذلك وثبوته، وماذا يغني الانتساب والدعوى إذا عدمت الحقيقة؟! وقد جاء عن الحسن البصري رحمه الله تعالى أنه قال:"كان يقال: إن الإيمان ليس بالتحلي ولا بالتمني، وإنما الإيمان ما وقر في القلب، وصدقه العمل" رواه عبد الله ابن الإمام أحمد في زوائد الزهد، وكذلك يقال في الإسلام الحقيقي: إنه ليس بالانتساب والدعوى المجردة، فإن ذلك سهل يسير على كل أحد، وإنما الإسلام الحقيقي لزوم المحجة البيضاء التي ترك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أُمتَه عليها، فمن زاغ عنها فهو هالك.

إذا علم هذا فالكلام على الإيراد من وجوه:

أحدها: أن العدد المذكور ليس بشيء؛ إذ لا حقيقة لأكثره؛ وإنما يقوله بعض المنتسبين إلى الإسلام ليكاثروا به غيرهم من الأمم، وعند التحقيق

ص: 143

وعرض المنتسبين على الإسلام الحقيقي لا يثبت من هذا العدد إلا القليل كما لا يخفى على من نوّر الله قلبه بنور العلم والإيمان.

الثاني: أنه لا يغتر بهذه الكثرة، ويحسبها كلها على الحق وعلى طريق مستقيم إلا الأغبياء الجاهلون بدين الإسلام، الذين لا فرق عندهم بين الموحدين والمشركين، ولا بين المتبعين والمبتدعين، فأما من عرف دين الإسلام الذي بعث الله به رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم فإنه لا يغتر بمثل هذا ولا يُروَّج عليه.

الثالث: أن يقال لمن اغتر بهذا العدد وتكثر به: لقد استسمنت ذا ورم، وأعجبك جهام قليلٌ ماؤه، ومثل هذه الكثرة التي أعجبتك وظننتها حقا كمثل غثاء السيل أكثره زبد وزبل وشوك وما لا خير فيه، وهكذا أكثر المنتسبين إلى الإسلام في هذا الزمان، قال الله تعالى:{وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 106]، وقال تعالى:{أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 44]، وما أكثر من ينتسب إلى الإسلام في زماننا وقبله بقرون كثيرة وهم من أولياء الشيطان وحزبه، وما أقل أهل الإسلام الحقيقي فيهم، يوضح ذلك

الوجه الرابع: أن أكثر المنتسبين إلى الإسلام في هذه الأزمان ليس معهم من الإسلام ما يعصم الدم والمال، مثل إسلام المنافقين الذين كانوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فضلا عما هو أعلى من ذلك كإسلام الأعراب الذين منُّوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامهم فضلا عن الإسلام الحقيقي الذي يرادف الإيمان، وقد علّق النبي صلى الله عليه وسلم عصمة الدم والمال بأمورٍ أكثر المنتسبين

إلى الإسلام الآن في معزل عنها أو عن بعضها كما لا يخفى على من عرف دين

ص: 144

الإسلام وعرف ما عليه أكثر من يدّعيه، ففي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مِنِّي دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله» هذا لفظ البخاري، وعند مسلم:«إلا بحقها» .

وفي المسند، وتاريخ البخاري، وسنن ابن ماجة، والدراقطني، ومستدرك الحاكم، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة» ، زاد أحمد والدارقطني والحاكم:«ثم قد حُرِّمت عليَّ دماؤهم وأموالهم وحسابهم على الله عز وجل» .

وفي رواية للدراقطني عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أُمرت بثلاثة: أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله» .

وفي المسند، وسنن ابن ماجة، والدراقطني، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إنما أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة» ، زاد أحمد:«فإذا فعلوا ذلك فقد اعتصموا وعصموا دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عز وجل» .

ص: 145

وفي سنن النسائي، ومستدرك الحاكم، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لما توفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدّت العرب، فقال عمر رضي الله عنه: يا أبا بكر، كيف تقاتل العرب؟ فقال أبو بكر رضي الله عنه: إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة»

قال الحاكم: صحيح الإسناد، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه.

وقد رواه الدارقطني في سننه ولفظه عن أنس رضي الله عنه قال: قال أبو بكر رضي الله عنه: إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، وأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة منعوا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله» ، والله لو منعوني عناقا مما كانوا يعطون رسول الله صلى الله عليه وسلم لأقاتلنهم عليه.

وفي صحيح مسلم، وسنن الدارقطني، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله» .

وفي صحيحه أيضا عن أبي مالك الأشجعي، عن أبيه رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من قال لا إله إلا الله وكَفَرَ بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله» ، وفي رواية:«من وحّد الله» والباقي مثله.

ورواه الإمام أحمد في مسنده، عن يزيد بن هارون قال: أخبرنا أبو مالك

ص: 146

الأشجعي عن أبيه رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من وحّد الله تعالى، وكفر بما يعبد من دونه حرم ماله ودمه وحسابه على الله عز وجل» .

وفي صحيح البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله، فلا تخفروا الله في ذمته» .

وفي رواية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها وصلُّوا صلاتنا واستقبلوا قبلتنا وذبحوا ذبيحتنا فقد حُرِّمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله» .

وفي رواية أخرى: أن ميمون بن سياه سأل أنس بن مالك رضي الله عنه قال: يا أبا حمزة: ما يُحرِّم دم العبد وماله؟ فقال: «من شهد أن لا إله إلا الله، واستقبل قبلتنا، وصلى صلاتنا، وأكل ذبيحتنا فهو المسلم، له ما للمسلم، وعليه ما على المسلم» .

وقد رواه الإمام أحمد، وأهل السنن إلا ابن ماجة، كلهم من حديث عبد الله بن المبارك، عن حميد الطويل، عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ولفظ أبي داود، والترمذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وأن يستقبلوا قبلتنا، وأن يأكلوا ذبيحتنا، وأن يصلوا صلاتنا، فإذا فعلوا ذلك حُرِّمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها، لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين» قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه، وفي الباب عن معاذ بن جبل، وأبي هريرة رضي الله عنهما. انتهى.

ص: 147

وقد رواه أبو داود والدارقطني، من حديث يحيى بن أيوب، عن حميد الطويل، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أُمرت أن أقاتل المشركين حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإذا شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وصلوا صلاتنا، واستقبلوا قبلتنا، وأكلوا ذبائحنا حُرِّمت علينا أموالهم ودماؤهم إلا بحقها، ولهم ما للمسلم وعليهم ما على المسلم» هذا لفظ الدارقطني.

ورواه النسائي والدارقطني أيضا، من حديث محمد بن عيسى بن سميع، عن حميد الطويل، عن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه.

قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله تعالى: أجمع العلماء على أن من قال لا إله إلا الله، ولم يعتقد معناها، ولم يعمل بمقتضاها، أنه يقاتل حتى يعمل بما دلت عليه من النفي والإثبات. انتهى.

وقال الخطابي رحمه الله تعالى في قوله: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله» : معلوم أن المراد بقوله: «حتى يقولوا لا إله إلا الله» إنما هم أهل الأوثان دون أهل الكتاب؛ لأنهم يقولون لا إله إلا الله، ثم أنهم يقاتلون ولا يرفع عنهم السيف، وقوله:«حسابهم على الله» معناه فيما يستسرون به دون ما يخلون به من الأحكام الواجبة عليهم في الظاهر. انتهى.

وقال القاضي عياض رحمه الله تعالى: اختصاص عصمة المال والنفس بمن قال لا إله إلا الله تعبير عن الإجابة إلى الإيمان، وأن المراد بهذا مشركو العرب وأهل الأوثان ومن لا يوحد، وهم كانوا أول من دُعي إلى الإسلام وقوتل عليه، فأما غيرهم ممن يقر بالتوحيد فلا يكتفي في عصمته بقوله لا

ص: 148

إله إلا الله، إذ كان يقولها في كفره، وهي من اعتقاده، فلذلك جاء في الحديث الآخر «وأني رسول الله، ويقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة» .

قال النووي رحمه الله تعالى: ولابد مع هذا من الإيمان بجميع ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في الرواية الأخرى لأبي هريرة رضي الله عنه: «حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به» . انتهى.

وقال البغوي رحمه الله تعالى: الكافر إذا كان وثنيا، أو ثنويا لا يقر بالوحدانية، فإذا قال: لا إله إلا الله حكم بإسلامه، ثم يُجبر على قبول جميع أحكام الإسلام، ويبرأ من كل دين خالف دين الإسلام، وأما من كان مقرا بالوحدانية، منكرا للنبوة، فإنه لا يحكم بإسلامه حتى يقول محمد رسول الله، فإن كان يعتقد أن الرسالة المحمدية إلى العرب خاصة فلابد أن يقول إلى جميع الخلق، فإن كان كفر بجحود واجبٍ واستباحة مُحرَّم فيحتاج أن يرجع عما اعتقده.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ومقتضى قوله يجبر أنه إذا لم يلتزم تجرى عليه أحكام المرتد، وبه صرّح القفَّال. انتهى.

وقال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية قدّس الله روحه لما سئل عن قتال التتار مع دعواهم التمسك بالشهادتين، قال رحمه الله تعالى: كل طائفة ممتنعة عن التزام شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة، من هؤلاء القوم وغيرهم، فإنه يجب قتالهم حتى يلتزموا شرائعه، وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين، وملتزمين بعض شرائعه، كما قاتل أبو بكر والصحابة رضي الله عنهم مانعي الزكاة، وعلى ذلك اتفق الفقهاء بعدهم بعد سابقة مناظرة عمر

ص: 149

لأبي بكر رضي الله عنهما، فاتفق الصحابة رضي الله عنهم على القتال على حقوق الإسلام عملا بالكتاب والسنة، وكذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من عشرة أوجه الحديث عن الخوارج، وأمر بقتالهم، وأخبر أنهم شر الخلق، مع قوله:«تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم» ، فعلم أن مجرد الاعتصام بالإسلام مع عدم التزام شرائعه ليس بمُسقط للقتال، فالقتال واجب حتى يكون الدين كله لله، وحتى لا تكون فتنة، فمتى كان الدين لغير الله فالقتال واجب، فأيُّما طائفة ممتنعة امتنعت عن بعض الصلوات المفروضات، أو الصيام، أو الحج، أو عن التزام تحريم الدماء، أو الأموال، أو الخمر، أو الزنا، أو الميسر، أو نكاح ذوات المحارم، أو عن التزام جهاد الكفار، أو ضرب الجزية على أهل الكتاب، أو غير ذلك من واجبات الدين، أو محرماته التي لا عذر لأحد في جحودها أو تركها، التي يكفر الجاحد لوجوبه، فإن الطائفة الممتنعة تقاتل عليها، وإن كانت مقرة بها، وهذا مما لا أعلم فيه خلافا بين العلماء، وإنما اختلف الفقهاء في الطائفة الممتنعة إذا أصرت على ترك بعض السنن كركعتي الفجر، أو الأذان أو الإقامة عند من لا يقول بوجوبهما ونحو ذلك من الشعائر، هل تقاتل الطائفة الممتنعة على تركها أم لا؟

فأما الواجبات، أو المحرمات المذكورة، ونحوها فلا خلاف في القتال عليها، وهؤلاء عند المحققين من العلماء ليسوا بمنزلة البغاة الخارجين على الإمام، أو الخارجين عن طاعته، كأهل الشام مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فإن أولئك خارجون عن طاعة إمام معين، أو

ص: 150

خارجون عليه لإزالة ولايته، وأما المذكورون فهم خارجون عن الإسلام، بمنزلة مانعي الزكاة، وبمنزلة الخوارج الذين قاتلهم علي رضي الله عنه، ولهذا افترقت سيرة علي رضي الله عنه في قتاله لأهل البصرة وأهل الشام، وفي قتاله لأهل النهروان، فكانت سيرته مع البصريين والشاميين سيرة الأخ مع أخيه، ومع الخوارج بخلاف ذلك، وثبتت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم بما استقر عليه إجماع الصحابة من قتال الصدِّيق لمانعي الزكاة، وقتال علي للخوارج. انتهى المقصود من كلامه رحمه الله تعالى.

فتأمل قوله: فعلم أن مجرد الاعتصام بالإسلام، مع عدم التزام شرائعه ليس بمُسقط للقتال، فالقتال واجب حتى يكون الدين كله لله، وحتى لا تكون فتنة، فمتى كان الدين لغير الله فالقتال واجب .. إلى آخر كلامه رحمه الله تعالى.

ثم تأمل ما عليه أكثر من يدَّعي الإسلام، من صَرْف العبادة أو بعض أنواعها لغير الله، ومن تَرْكهم ما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم من واجبات الدين، وارتكابهم لمحرماته، فبذلك تعرف أن أكثر المنتسبين إلى الإسلام في معزل عنه، وأن أهل الإسلام الحقيقي هم الأقلون عددا، فالله المستعان.

وقال شيخ الإسلام أيضا -قدس الله روحه- في جواب آخر: كل طائفة خرجت عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة فإنه يجب قتالها باتفاق أئمة المسلمين، وإن تكلمت بالشهادتين، فإذا أقروا بالشهادتين، وامتنعوا عن الصلوات الخمس وجب قتالهم حتى يصلوا، وإن امتنعوا عن الزكاة وجب قتالهم حتى يؤدوا الزكاة، وكذلك إن امتنعوا عن صيام شهر

ص: 151

رمضان، أو حج البيت العتيق، وكذلك إن امتنعوا عن تحريم الفواحش، أو الزنا، أو الميسر، أو الخمر، أو غير ذلك من محرمات الشريعة، وكذلك إن امتنعوا عن الحكم في الدماء، والأموال، والأعراض، والأبضاع ونحوها بحكم الكتاب والسنة، وكذلك إن امتنعوا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجهاد الكفار إلى أن يسلموا أو يؤدوا الجزية عن يد وهم صاغرون، وكذلك إن أظهروا الإلحاد في أسماء الله وآياته، أو التكذيب بأسماء الله وصفاته، أو التكذيب بقدره وقضائه، أو التكذيب بما كان عليه جماعة المسلمين على عهد الخلفاء الراشدين، أو الطعن في السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، أو مقاتلة المسلمين حتى يدخلوا في طاعتهم التي توجب الخروج عن شريعة الإسلام وأمثال هذه الأمور، قال الله تعالى:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} ، فإذا كان بعض الدين لله وبعضه لغير الله وجب القتال حتى يكون الدين كله لله. انتهى.

ومن تأمل هذا الكلام حق التأمل، ونزله على أحوال المنتسبين إلى الإسلام في هذه الأزمان رأى أن كثيرا منهم محتاجون إلى القتال كما قاتل الصديق رضي الله عنه مانعي الزكاة، وكما قاتل علي رضي الله عنه أهل النهروان. فالله المستعان.

وفي الاختيارات: أجمع العلماء على أن كل طائفة ممتنعة عن شريعة متواترة عن شرائع الإسلام فإنه يجب قتالها حتى يكون الدين كله لله

ص: 152

كالمحاربين وأولى. انتهى.

وقال الشيخ عثمان بن قائد الحنبلي في عقيدته:

تتمة الإسلام الإتيان بالشهادتين، مع اعتقادهما، والتزام الأركان الخمسة إذا تعينت، وتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به، ومَن جحد ما لا يتم الإسلام بدونه، أو جحد حكما ظاهرا، أو أجمع على تحريمه، أو حِلّه إجماعا قطعيا، أو ثبت جزما كتحريم لحم الخنزير، أو حلّ خمر ونحوهما كَفَرَ، أو فعل كبيرة، وهي ما فيها حد في الدنيا، أو وعيد في الآخرة، أو داوم على صغيرة، وهي ما عدا ذلك فسق. انتهى.

وقال الراغب الأصفهاني: الإسلام في الشرع على ضربين:

أحدهما: دون الإيمان؛ وهو الاعتراف باللسان، وبه يُحقن الدم، حصل معه الاعتقاد أو لم يحصل، وإياه قصد بقوله:{قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14].

والثاني: فوق الإيمان؛ وهو أن يكون مع الاعترافات اعتقاد بالقلب، ووفاء بالفعل، واستسلام لله في جميع ما قضى وقدر، كما ذكر عن إبراهيم عليه السلام في قوله:{إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة: 131]، وقوله:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19]، وقوله:{تَوَفَّنِي مُسْلِمًا} [يوسف: 101] أي: اجعلني ممن استسلم لرضاك، وقوله:{إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ} [الروم: 53] أي: منقادون للحق مذعنون له. انتهى.

ص: 153

وقوله: وبه يحقن الدم؛ يعني مع التزام شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة.

وقوله: والثاني فوق الإيمان؛ لو قال مرادف الإيمان، كما عبر بذلك غيره لكان أولى، وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام إيمانا في حديث ابن عباس في قصة وفد عبد القيس، وسمى الإيمان إسلاما في حديث عمرو بن عنبسة الذي رواه الإمام أحمد أن رجلا قال: يا رسول الله، ما الإسلام؟ قال:«أن تُسلم قلبك لله، وأن يَسَلم المسلمون من لسانك ويدك» ، قال: فأي الإسلام أفضل؟ قال: «الإيمان» ، قال: وما الإيمان؟ قال: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت ..» الحديث، ففي هذا دليل لمن قال بالترادف كما يأتي.

وهذا الذي قرره الراغب قد ذكره البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه، وقرره الحافظ ابن حجر في فتح الباري تقريرا حسنا.

قال البخاري رحمه الله تعالى في كتاب الإيمان: باب: إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة، وكان على الاستسلام أو الخوف من القتل، لقوله تعالى:{قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} ، فإذا كان على الحقيقة فهو على قوله جل ذكره:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} ، {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} .

قال الحافظ ابن حجر: ومحصل ما ذكره واستدل به أن الإسلام يطلق ويراد به الحقيقة الشرعية، وهو الذي يرادف الإيمان، وينفع عند الله، وعليه قوله تعالى:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} ، وقوله تعالى: {فَمَا

ص: 154

وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ}، ويطلق ويراد به الحقيقة اللُغوية، وهو مجرد الانقياد والاستسلام، فالحقيقة في كلام المصنف هنا هي الشرعية، والمسلم يطلق على من أظهر الإسلام وإن لم يعلم باطنه، فلا يكون مؤمنا لأنه ممن لم تصدق عليه الحقيقة الشرعية، وأما اللُغوية فحاصلة. انتهى.

وفي الصحيحين، ومسند الإمام أحمد، وجامع الترمذي، وسنن النسائي، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بُني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان» قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وقد روي من غير وجه عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو هذا، قال: وفي الباب عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه. انتهى.

وقد روى هذا الحديث محمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة ولفظه: «بني الإسلام على خمس دعائم» فذكره.

وفي رواية لأحمد: «الإسلام خمس» .

وفي رواية لمسلم: «بني الإسلام على خمسة، على أن يوحد الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، والحج» .

وفي رواية له: «بني الإسلام على خمس، على أن يعبد الله ويكفر بما دونه، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان» .

وفي رواية للبخاري موقوفة: «بُني الإسلام على خمس، إيمانا بالله ورسوله، والصلوات الخمس، وصيام رمضان، وأداء الزكاة، وحج البيت» .

ص: 155

وروى الإمام أحمد، والطبراني، والآجري، عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الإسلام بني على خمس، شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان» .

وفي المسند، وصحيح مسلم، والسنن، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن عمر رضي الله عنه أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أخبرني عن الإسلام، قال:«الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا» ، قال: صدقت.

ورواه البخاري، ومسلم، وأهل السنن إلا الترمذي، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ولفظه: قال: ما الإسلام؟ قال: «الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان» .

ورواه النسائي أيضا من حيث أبي هريرة وأبي ذر رضي الله عنهما بنحوه وفيه: «وتحج البيت» ، قال: وإذا فعلت ذلك فقد أسلمت؟ قال: «نعم» ، قال: صدقت.

ورواه الإمام أحمد، وأبو بكر الآجري، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما بنحو حديث أبي هريرة وأبي ذر رضي الله عنهما.

ورواه الآجري أيضا من طرق أخرى عن ابن عمر رضي الله عنهما وزاد فيه بعد الحج: «الغسل من الجنابة» .

ص: 156

ورواه الإمام أحمد أيضا وأبو داود، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما وفيه:«الغسل من الجنابة» .

ورواه ابن حبان في صحيحه، والدراقطني في سننه، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن عمر رضي الله عنه وفيه:«وتحج، وتعتمر، وتغتسل من الجنابة، وتتم الوضوء» ، وقال فيه: فإن فعلت هذا فأنا مسلم؟ قال: «نعم» ، قال: صدقت. قال الدراقطني: إسناده ثابت صحيح، أخرجه مسلم بهذا الإسناد.

قلت: إنما ساق مسلم إسناده فقط، وأما المتن فأحال به على ما تقدم قبله.

ورواه عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب "السنة" بإسناد ساقه مسلم ولم يسق لفظه من حديث ابن عمر –رضي الله عنهما قال: حدثني عمر رضي الله عنه فذكر الحديث، وفيه فقال: يا رسول الله، ما الإسلام؟ قال:«الإسلام أن تسلم وجهك لله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج» ، قال: فإذا فعلت ذلك فأنا مسلم؟ قال: «نعم» ، قال: صدقت.

وفي المسند، وسنن النسائي، ومستدرك الحاكم، من حديث بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله، ما الإسلام؟ قال:«أن تُسلم قلبك لله، وأن توجه وجهك لله، وأن تصلي الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة ..» الحديث، قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.

ص: 157

وفي المسند أيضا عن عامر، أو أبي عامر، أو أبي مالك رضي الله عنه أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما الإسلام؟ قال: «أن تسلم وجهك لله، وأن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة» ، قال: فإذا فعلت ذلك فقد أسلمت؟ قال: «نعم» .

فهذه الأحاديث متطابقة في المعنى وإن اختلفت في بعض الألفاظ، وهي تُفسِّر‌

‌ معنى الإسلام الحقيقي

المطلوب من كل أحد، وتفيد أن من ترك شيئا مما ذكر فيها فليس بمسلم وإن زعم ذلك بلسانه، وهذا مستفاد من جواب السؤال، ومن قوله أيضا: فإذا فعلت ذلك فأنا مسلم؟ قال: «نعم» ، فدل بمفهومه أن من ترك من ذلك شيئا فليس بمسلم، والمراد إذا تركه من غير عذر شرعي يبيح له الترك، فأما أهل الأعذار فلهم أحكام خاصة معروفة في مواضعها، وتفيد أيضا أنه لابد في الإسلام من تجريد التوحيد لله تعالى، والكفر بما يعبد من دونه كائنا ما كان، والدليل على ذلك قوله في الرواية الثانية لمسلم:«أن يوحد الله» ، وقوله في الرواية الثالثة له:«أن يعبد الله ويكفر بما دونه» ، وقوله في حديث أبي هريرة:«أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا» ، وقوله في رواية عبد الله ابن الإمام أحمد عن عمر رضي الله عنه:«أن تسلم وجهك لله» ، وقوله في حديث معاوية بن حيدة:«أن تسلم قلبك لله وتوجه وجهك لله» ، وكذلك ما تقدم قريبا في حديث أبي مالك الأشجعي، عن أبيه:«من وحّد الله، وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله ودمه، وحسابه على الله» ، وكذلك قوله في حديث أنس الذي بعده:«وذبحوا ذبيحتنا» يعني: ذبحوا لله وعلى اسم الله، ولم يذبحوا لغيره، ولا على اسم

(1)

(1)

كذا في الأصل، ولعلَّ الصواب: ولا على اسم غيره.

ص: 158

وما في حديث أبيه

(1)

، وجرير رضي الله عنهم من قوله صلى الله عليه وسلم:«الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله» ، وتفيد أنه لا يكتفي من قائلها بمجرد التلفظ بها فقط، بل لابد من اعتقاد معناها والعمل بمقتضاها، وعلى هذا فليس بمسلم من صرف شيئا من خصائص الربوبية أو الإلهية لغير الله تعالى، بل هو مشرك شاء أم أبى، وإن كان يقول لا إله إلا الله، ويدّعي أنه مسلم؛ لأن فعله ينافي قوله ويُكذّب دعواه، وكذلك ليس بمسلم من لم يكفر بما يُعبد من دون الله، وإن كان يقول لا إله إلا الله ولا يشرك به شيئا؛ لأن الكفر بما يُعبد من دون الله شرط في صحة الإسلام لما تقدم، ومعنى الكفر بما يُعبد من دون الله تعالى: اعتقاد بطلانه، والبراءة منه ومن أهله، وإظهار العداوة لهم والبغض، قال الله تعالى:{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4].

ولما كان إقام الصلاة أعظم مباني الإسلام بعد الشهادتين نص في بعض الروايات هنا على الغُسل وإتمام الوضوء؛ لأن الصلاة لا تصح بدون ذلك مع القدرة، وليس ذكرهما زيادة في المباني كما قد يفهم بعض الناس، وإنما هو مزيد اهتمام بشأن الصلاة وما يشترط لها، وتنبيه بما ذكر من شروطها على ما لم يذكر، كما نص على استقبال القبلة في حديث أنس الذي تقدم قريبا، وجعله من أمور الإسلام التي يقاتل على تركها، وذكر بقية الشروط مجملة في قوله:«وصلى صلاتنا» ، وإنما عظم الشارع شأن

(1)

كذا في الأصل، ويعني: ما ورد عن ابن عمر في الحديث الذي رواه عن أبيه رضي الله عنهما.

ص: 159

الصلاة، واهتم ببيان ما يجب لها لأنها عمود الإسلام، إذا تركت سقط بناء الإسلام كما يسقط الفسطاط إذا سقط عموده، ولهذا جاء في صحيح مسلم وغيره، عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة» .

وفي ذكر الاعتمار، والغسل، وإتمام الوضوء، واستقبال القبلة، وأكل ذبائح المسلمين، والذبح مثلهم لله وعلى اسم الله تنبيه على أن جميع الواجبات الظاهرة داخلة في مسمى الإسلام، وكذلك ترك المحرمات داخل في مسمى الإسلام أيضا كما تدل على ذلك أحاديث أُخر ليس هذا موضع ذكرها، وكما أن التوحيد، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت الحرام أركان للإسلام لا يقوم بناؤه إلا عليها، فكذلك هي أيضا أعلام للإنسان يُعرف بها، كما تعرف الطرق بعلاماتها من جبال، وأحجار، ونحوها، وقد جاء في ذلك حديث رواه محمد بن نصر المروزي، من حديث خالد بن معدان، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن للإسلام ضوءا ومنارا كمنار الطريق، من ذلك أن تعبد الله لا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» الحديث.

ورواه الحاكم في مستدركه مختصرا وقال: صحيح على شرط البخاري، قال: وأما سماع خالد بن معدان عن أبي هريرة رضي الله عنه فغير مستبدع

(1)

، فقد

(1)

كذا جاءت في الأصل وفي المطبوع من المستدرك، ولعلها سبق قلم، والصواب "مستبعد"، والله أعلم.

ص: 160

حكى الوليد بن مسلم، عن ثور بن يزيد، عنه أنه قال: لقيت سبعة عشرة رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقال الحافظ الذهبي: قال ابن أبي حاتم: خالد عن أبي هريرة متصل، وقال: أدرك أبا هريرة، ولم يذكر له سماع. انتهى.

وقال الحاكم في موضع آخر من المستدرك: خالد بن معدان من خيار التابعين، صحب معاذ بن جبل، فمن بعده من الصحابة، فإذا أسند حديثا إلى الصحابة فإنه صحيح الإسناد، وإن لم يخرجاه. انتهى، وأقره الذهبي على هذا القول في تلخيصه.

وقد جاء في بعض ألفاظ هذا الحديث: «إن للإسلام صوىً» بالصاد المهملة.

ورواه أبو نعيم بهذا اللفظ في كتاب "الحلية" من حديث روح بن عبادة، حدثنا ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن للإسلام صوى بيِّنًا كمنار الطريق، فمن ذلك أن يعبد الله لا يشرك به شيء، وتقام الصلاة، وتؤتى الزكاة، ويحج البيت، ويصام رمضان، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتسليم على بني آدم، فإن ردوا عليك ردت عليك وعليهم الملائكة، وإن لم يردوا عليك ردت عليك الملائكة ولعنتهم أو سكتت عنهم، وتسليمك على أهل بيتك إذا دخلت، ومن انتقص منهن شيئا فهو سهم من سهام الإسلام تركه، ومن تركهن كلهن فقد ترك الإسلام» قال أبو نعيم: غريب من حديث خالد تفرد به ثور، حدث به أحمد بن حنبل والكبار عن روح. انتهى.

ص: 161

قال أبو عبيد الهروي: الصوى: الأعلام المنصوبة من الحجارة في المفازة المجهولة، يستدل بها على الطريق، واحدتها صوة كقوة، أراد أن للإسلام طرائق وأعلاما يهتدى بها. انتهى.

وقال الله تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 15 - 16].

قال البغوي رحمه الله تعالى: الصراط المستقيم هو الإسلام.

وقال في قوله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} [النحل: 9]: القصد من السبيل دين الإسلام.

وذكر ابن كثير هذا القول عن السدي.

وقال الله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153].

قال ابن جرير رحمه الله تعالى: هو الإسلام الذي وصى به الأنبياء، وأمر به الأمم قبلكم. ثم روى بسنده عن ابن زيد قال: سبيله الإسلام، وصراطه الإسلام، نهاهم أن يتبعوا السبل سواه، فتفرق بكم عن سبيله عن الإسلام.

وروى الإمام أحمد، والترمذي، والنسائي، والآجري، عن النواس بن سمعان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«ضرب الله مثلا صراطا مستقيما ..» الحديث، وفيه:«فالصراط الإسلام» قال الترمذي: حسن غريب.

وقال عاصم الأحول: قال أبو العالية: تعلموا الإسلام، فإذا تعلمتموه

ص: 162

فلا ترغبوا عنه، وعليكم بالصراط المستقيم فإنه الإسلام، ولا تحرفوا عن الصراط يمينا ولا شمالا. رواه أبو بكر الآجري في كتاب الشريعة.

وقد قال الله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85]، فالإسلام هو دين الله الذي اصطفاه لرسله وأنبيائه ورضيه لعباده المؤمنين دينا، كما قال تعالى:{وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 132]، وقال تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، فمن ابتغى دينا غير الإسلام لم يقبل الله منه ولو عمل أي عمل، كما قال تعالى:{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23]، والإسلام أيضا سبيل الله، والصراط المستقيم الموصل إلى الله تعالى، فمن سلكه وجعل أعلامه نصب عينيه، لا يلتفت عنها يمينا ولا شمالا، واستضاء بهدى الله ونوره الذي أنزله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم أفضى به إلى دار السلام في جوار ذي الجلال والإكرام كما قال تعالى:{وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} ، وقال تعالى:{قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} ، وقال تعالى:{إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى} ، وفي هذه الآيات أقوال أصحها قول مجاهد، والحسن، والفرّاء: أن طريق الحق مرجعها إلى الله تعالى وإليه تنتهي، قال الواحدي في قوله تعالى:{إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى} : أي إن الهدى يوصل صاحبه إلى الله، وإلى ثوابه وجنته. انتهى.

فأما من خرج عن طريق الهدى، وضيّع أعلام الإسلام ومناره، ولم يقبل

ص: 163

هدى الله الذي بعث به رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم ولم يرفع به رأسا فإن الشياطين تستهويه، وتسلك به مسالك الغي والضلال المفضيات بسالكها إلى الهلاك والردى، قال الله تعالى:{قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنعام: 71 - 72].

قال السدي: قال المشركون للمسلمين: اتبعوا سبيلنا، واتركوا دين محمد، فأنزل الله عز وجل:{قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا} أي في الكفر {بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ} ، فيكون مثلنا مثل الذي {اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ} يقول: مثلكم إن كفرتم بعد إيمانكم كمثل رجل خرج مع قوم على الطريق فضلّ الطريق، فحيرته الشياطين، واستهوته في الأرض، وأصحابه على الطريق، فجعلوا يدعونه إليهم يقولون: ائتنا فإنا على الطريق، فأبى أن يأتيهم، فذلك مثل من يتبعهم بعد المعرفة بمحمد صلى الله عليه وسلم، ومحمد هو الذي يدعو إلى الطريق، والطريق هو الإسلام. رواه ابن جرير.

وروى أيضا أن رجلا قال لابن مسعود رضي الله عنه: ما الصراط المستقيم؟ قال: تركنا محمد صلى الله عليه وسلم في أدناه، وطرفه في الجنة، وعن يمينه جواد، وعن يساره جواد، وثَمّ رجال يدعون من مرَّ بهم، فمن أخذ في تلك الجواد انتهت به إلى النار، ومن أخذ على الصراط انتهى به إلى الجنة، ثم قرأ

ص: 164

ابن مسعود رضي الله عنه: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} الآية.

وقد ذكر الله الإسلام الحقيقي في آيات كثيرة من كتابه، ومن أجمعها قوله تعالى:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم: 30 - 32].

قال البغوي رحمه الله تعالى: إقامة الوجه إقامة الدين، قال سعيد بن جبير: أخلص دينك لله، وقال غيره: سدد عملك.

وقال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه: باب {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} لدين الله، {خُلُقُ الْأَوَّلِينَ} دين الأولين، والفطرة الإسلام، ثم ساق حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهوِّدانه أو يُنصِّرانه أو يُمجِّسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟» ، ثم يقول:{فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} .

قال البغوي رحمه الله تعالى: وهذا قول ابن عباس رضي الله عنهما وجماعة من المفسرين أن المراد بالفطرة الدين، وهو الإسلام.

وقوله: {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} قال ابن كثير رحمه الله تعالى: أي

ص: 165

التمسك بالشريعة والفطرة السليمة هو الدين القيم المستقيم {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} فلهذا لا يعرفه أكثر الناس، فهم عنه ناكبون كما قال تعالى:{وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103]. انتهى.

وقوله: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} قال البغوي رحمه الله تعالى: أي راجعين إليه بالتوبة، مقبلين إليه بالطاعة. انتهى.

وقوله: {وَاتَّقُوهُ} أي خافوه وراقبوه.

وحقيقة التقوى: أن يجعل العبد بينه وبين غضب الله تعالى وسخطه وعقابه وقاية تقيه منه؛ وذلك بفعل ما أوجبه، واجتناب ما حرمه.

قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: ليس تقوى الله بصيام النهار، ولا بقيام الليل والتخليط فيما بين ذلك، ولكن تقوى الله ترك ما حرم الله، وأداء ما افترض الله، فمن رزق بعد ذلك خيرا فهو خير إلى خير.

وقال طلق بن حبيب: التقوى أن تعمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله، على نور من الله، تخاف عقاب الله.

وقوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: هذه الآية مما استدل به من يرى تكفير تارك الصلاة، لما يقتضيه مفهومها، وهي من أعظم ما ورد في القرآن في فضل الصلاة. انتهى.

قلت: وإقامة الصلاة وترك الشرك داخل في معنى قوله: {مُنِيبِينَ

ص: 166

إِلَيْهِ}، وإنما خصصا بالذكر لمزيد الاعتناء بالتوحيد الذي هو أصل دين الإسلام، وبالصلاة التي هي عموده.

ومن أَجْمَع الآيات في ذكر الإسلام الحقيقي قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110]، وقوله تعالى:{وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النساء: 125]، وقوله تعالى:{وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [لقمان: 22]، وقوله تعالى:{وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 111 - 112]، فهذا هو الإسلام الحقيقي الذي يثاب فاعله، ويعاقب تاركه.

وإسلام الوجه لله تعالى هو: إفراده بالعبادة، وإخلاص الأعمال كلها له، وهذا هو توحيد الإلهية، ويسمى أيضا توحيد العبادة، وتوحيد القصد والإرادة، فمَن عَبَدَ الله ولم يشرك به شيئا، وكفر بما يُعبد من دونه فقد أسلم وجهه لله، واستمسك بالعروة الوثقى لا إله إلا الله، فإن مدلولها نفي الشرك وإنكاره والبراءة منه، وإخلاص العبادة لله وحده كما قال الخليل عليه السلام:{إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 79]؛ يقول: أخلصت

ص: 167

ديني، وأفردت عبادتي لله وحده في حال كوني حنيفا أي مائلا عن الشرك قصدا إلى التوحيد، ولهذا قال:{وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} وهذا الذي قاله الخليل عليه السلام هو أصل دين الإسلام الذي بعث الله به رُسُله وأنزل به كتبه، وهو سر الخلق والأمر، قال الله تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، وقال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:{قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآَبِ} [الرعد: 36]، وقال تعالى:{فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر: 2 - 3]، وقال تعالى:{قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} إلى قوله تعالى: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي * فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} [الزمر: 11 - 15]، وقال تعالى:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5]، والآيات في هذا المعنى كثيرة.

قال ابن كثير رحمه الله تعالى في قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} : أي أخلص العمل لربه عز وجل، فعمل إيمانا واحتسابا، وهو محسن أي اتبع في عمله ما شرعه الله له، وما أرسل به رسوله من الهدى ودين الحق، وهذان الشرطان لا يصح عمل عامل بدونهما، أي يكون خالصا صوابا، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون متابعا للشريعة، فيصح ظاهره بالمتابعة، وباطنه بالإخلاص، فمتى فقد العمل أحد هذين الشرطين فسد، فمتى فقد الإخلاص كان منافقا، وهم الذين يراءون الناس، ومتى فقد المتابعة كان ضالا جاهلا، ومتى جمعهما

ص: 168

كان عمل المؤمنين الذين يتقبل عنهم أحسن ما عملوا ويتجاوز عن سيئاتهم، قال: والحنيف هو المائل عن الشرك قصدا أي تاركا له عن بصيرة، ومقبل على الحق بكُلِّيَته، لا يصده عنه صاد، ولا يرده عنه راد. انتهى.

وقال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية قدس الله روحه: الذي أسلم وجهه لله هو الذي يخلص نيته لله، ويبتغي بعمله وجه الله، والمحسن هو الذي يحسن عمله فيعمل الحسنات، والحسنات هي العمل الصالح، والعمل الصالح هو ما أمر الله به ورسوله من واجب ومستحب، فما ليس من هذا ولا هذا ليس من الحسنات والعمل الصالح، فلا يكون فاعله محسنا.

قال: والإسلام هو أن يستسلم لله لا لغيره، فيعبد الله ولا يشرك به شيئا، ويتوكل عليه وحده، ويرجوه، ويخافه وحده، ويحب الله المحبة التامة، لا يحب مخلوقا كحبه لله، بل يحب لله ويبغض لله، ويوالي لله ويعادي لله، فمن استكبر عن عبادة الله لم يكن مسلما، ومن عبد مع الله غيره لم يكن مسلما، وإنما تكون عبادته بطاعته وطاعة رسوله، {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} ، فكل رسول بعث بشريعة فالعمل بها في وقتها هو دين الإسلام، وأما ما بدل منها فليس من دين الإسلام، وإذا نسخ منها ما نسخ لم يبق من دين الإسلام، كاستقبال بيت المقدس في أول الهجرة بضعة عشر شهرا، ثم الأمر باستقبال الكعبة، وكلاهما في وقته دين الإسلام، فبعد النسخ لم يبق دين الإسلام إلا أن يولي المصلي وجهه شطر المسجد الحرام، فمن قصد أن يصلي إلى غير تلك الجهة لم يكن على دين الإسلام؛ لأنه يريد أن يعبد الله بما لم يأمره، وهكذا كل بدعة تخالف أمر الرسول،

ص: 169

إما أن تكون من الدين المبدل الذي ما شرعه الله قط، أو من المنسوخ الذي نسخه الله بعد شرعه كالتوجُّه إلى بيت المقدس، فلهذا كانت السنة في الإسلام كالإسلام في الدين هو الوسط. انتهى.

وقال أيضا في موضع آخر: ودين الإسلام الذي ارتضاه الله وبعث به رسله هو الاستسلام لله وحده، فأصله في القلب هو الخضوع لله وحده بعبادته وحده دون ما سواه، فمَن عَبَدَه وعبد معه إلها آخر لم يكن مسلما، ومن لم يعبده بل استكبر عن عبادته لم يكن مسلما، والإسلام هو الاستسلام لله، وهو الخضوع له والعبودية له، هكذا قال أهل اللغة: أسلم الرجل إذا استسلم، فالإسلام في الأصل من باب عمل القلب والجوارح، وأما الإيمان فأصله تصديق القلب، وإقراره، ومعرفته، فهو من باب قول القلب المتضمن عمل القلب، والأصل فيه التصديق، والعمل تابع له. انتهى.

وقال أيضا في موضع آخر: الإسلام هو الاستسلام لله وحده، ولفظ الإسلام يتضمن الاستسلام، ويتضمن إخلاصه لله، وقد ذكر ذلك غير واحد حتى أهل العربية كأبي بكر بن الأنباري وغيره، ومن المفسرين من يجعلهما قولين، كما يذكر طائفة -منهم البغوي- أن المسلم هو المستسلم لله، وقيل: هو المخلص.

والتحقيق: أن المسلم يجمع هذا وهذا، فمن لم يستسلم له لم يكن له مسلما، ومن استسلم لغيره كما يستسلم له لم يكن مسلما، ومن استسلم له وحده فهو المسلم، والاستسلام له يتضمن الاستسلام لقضائه، وأمره ونهيه، فيتناول فعل المأمور، وترك المحظور، والصبر على المقدور {إِنَّهُ

ص: 170

مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}.

قال ابن أبي حاتم: حدثنا عصام بن وراد، حدثنا آدم عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله:{بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} يقول: من أخلص لله، قال ابن أبي حاتم: وروي عن الربيع نحو ذلك، وقال: ذكر عن يحيى بن آدم، حدثنا ابن المبارك عن حيوة بن شريح عن عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير {مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} قال:{مَنْ أَسْلَمَ} أخلص {وَجْهَهُ} قال: دينه، وقال أبو الفرج: أسلم بمعنى أخلص، وفي الوجه قولان:

أحدهما: أنه الدين.

والثاني: العمل.

وقال البغوي: {مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} أخلص دينه لله، وقيل: أخلص عبادته لله، وقيل: خضع وتواضع لله، وأصل الإسلام الاستسلام والخضوع، وخص الوجه لأنه إذا جاد بوجهه في السجود لم يبخل بسائر جوارحه، وهو محسن في عمله قيل: مؤمن، وقيل: مخلص.

قلت: قول من قال خضع لربه هو داخل في قول من قال: أخلص دينه أو عمله أو عبادته لله، فإن هذا إنما يكون إذا خضع له وتواضع له دون غيره، فإن العبادة والدين والعمل له لا يكون إلا مع الخضوع له والتواضع، وهو مستلزم لذلك، ولكن أولئك ذكروا مع هذا أن يكون هذا الاستسلام لله وحده فذكروا المَعْنَيَيْن: الاستسلام، وأن يكون لله.

وقول من قال: خضع وتواضع لله يتضمن أيضا أنه أخلص عبادته ودينه لله، فإن ذلك يتضمن الخضوع والتواضع لله دون غيره، وأما ذكره التوجه

ص: 171

فقد بسط الكلام عليه في غير هذا الموضع، وبين أن الله ذكر إسلام الوجه له وذكر إقامة الوجه له في قوله:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ} [الروم: 43]، وذكر توجيه الوجه له في قوله:{إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} ؛ لأن الوجه إنما يتوجه إلى حيث توجه القلب، والقلب هو الملك، فإذا توجه الوجه نحو جهة كان القلب متوجها إليها، ولا يمكن للوجه أن يتوجه بدون القلب، فكان إسلام الوجه وإقامته وتوجيهه مستلزما لإسلام القلب وإقامته وتوجيهه، وذلك يستلزم إسلاما كله لله، وتوجيهًا كله لله، وإقامة كلها لله، وهذا حقيقة دين الإسلام. انتهى.

وقال أيضا في موضع آخر: وقد بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بتحقيق التوحيد وتجريده، ونفي الشرك بكل وجه حتى في الألفاظ كقوله صلى الله عليه وسلم:«لا يقولن أحدكم: ما شاء الله وشاء محمد، بل ما شاء الله ثم شاء محمد» وقال له رجل: ما شاء الله وشئت، فقال:«أجعلتني لله ندا؟! قل: ما شاء الله وحده» ، والعبادات التي شرعها الله كلها تتضمن إخلاص الدين كله لله تحقيقا لقوله تعالى:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5]، فالصلاة لله وحده، والصدقة لله وحده، والصيام لله وحده، والحج لله وحده إلى بيت الله وحده، فالمقصود من الحج عبادة الله وحده في البقاع التي أمر الله بعبادته فيها، ولهذا كان الحج شعار الحنيفية حتى قال طائفة من السلف {حُنَفَاءَ لِلَّهِ}: أي حجاجا، فإن اليهود والنصارى لا يحجون البيت، قال طائفة من السلف: لما أنزل الله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ}

ص: 172

قالتْ اليهود والنصارى: نحن مسلمون، فأنزل الله تعالى:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} فقالوا: لا نحج، فقال تعالى:{وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} ، وقوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا

} الآية، عام في الأولين والآخرين، فإن دين الإسلام هو دين الله الذي جاء به أنبياؤه، وعليه عباده المؤمنون، كما ذكر الله ذلك في كتابه من أول رسول بعثه إلى أهل الأرض نوح، وإبراهيم، وإسرائيل، وموسى، وسليمان، وغيرهم من الأنبياء والمؤمنين قال الله تعالى في حق نوح:{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآَيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ * فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس: 71 - 72]، وقال تعالى في إبراهيم، وإسرائيل:{وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 130 - 133]، وقال تعالى عن يوسف:{رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَاوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف: 101]، وقال تعالى عن موسى وقومه: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ

ص: 173

تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} [يونس: 84]، وقال في أنبياء بني إسرائيل:{إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ} الآية، وقال تعالى عن بلقيس:{قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل: 44]، وقال تعالى عن أمة عيسى:{وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آَمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آَمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} [المائدة: 111]، وقال تعالى عنهم أيضا:{رَبَّنَا آَمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 53]، وقال تعالى:{وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء: 125]، وقال تعالى:{وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 11 - 112].

وقد فسر إسلام الوجه لله بما يتضمن إخلاص قصد العبد لله بالعبادة له وحده، وهو محسن بالعمل الصالح المشروع المأمور به، وهذان الأصلان جماع الدين؛ أن لا نعبد إلا الله، وأن تعبده بما شرع، لا نعبده بالبدع، قال تعالى:{فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110].

وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول في دعائه: اللهم اجعل عملي كله

ص: 174

صالحا، واجعله لوجهك خالصا، ولا تجعل لأحد فيه شيئا.

قال الفضيل بن عياض في قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2] قال: أخلصه وأصوبه، قالوا: يا أبا علي ما أصوبه، وأخلصه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا، والخالص أن يكون لله والصواب أن يكون على السنة.

وهذان الأصلان هما تحقيق الشهادتين اللتين هما رأس الإسلام: شهادة أن لا إله إلا الله، وشهادة أن محمدا رسول الله.

فإن الشهادة لله بأنه لا إله إلا هو تتضمن إخلاص الألوهية له، فلا يجوز أن يتأله القلب غيره؛ لا بحب، ولا خوف، ولا رجاء، ولا إجلال، ولا إكبار، ولا رغبة، ولا رهبة، بل لابد أن يكون الدين كله لله كما قال تعالى:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39]، فإذا كان بعض الدين لله وبعضه لغيره كان في ذلك من الشرك بحسب ذلك، وكمال الدين كما جاء في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره:«من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله، ومنع لله فقد استكمل الإيمان» ، فالمؤمنون يحبون الله ولله، والمشركون يحبون مع الله كما قال تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165].

والشهادة بأن محمدا رسول الله تتضمن تصديقه في كل ما أخبر، وطاعته في كل ما أمر، فما أثبته وجب إثباته، وما نفاه وجب نفيه، كما

ص: 175

يجب على الخلق أن يثبتوا لله ما أثبته الرسول لربه من الأسماء والصفات، وينفوا عنه ما نفاه عنه من مماثلة المخلوقات، فيخلصون من التعطيل والتمثيل، ويكونون على خير عقيدة في إثبات بلا تشبيه، وتنزيه بلا تعطيل، وعليهم أن يفعلوا ما أمرهم به، وأن ينتهوا عما نهاهم عنه، ويحللوا ما أحله، ويحرموا ما حرمه، فلا حرام إلا ما حرمه الله ورسوله، ولا دين إلا ما شرعه الله ورسوله، ولهذا ذم الله المشركين في سورة الأنعام والأعراف وغيرهما؛ لكونهم حرّموا ما لم يحرمه الله، ولكونهم شرعوا دينا لم يأذن به الله، كما في قوله تعالى:{وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا} [الأنعام: 136] إلى آخر السورة، وما ذكره الله في صدر سورة الأعراف، وكذلك قوله تعالى:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَاذَنْ بِهِ اللَّهُ} ، وقد قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب: 45 - 46]، فأخبره أنه أرسله داعيا إليه بإذنه، فمن دعا إلى غير الله فقد أشرك، ومن دعا إليه بغير إذنه فقد ابتدع، والشرك بدعة، والمبتدع يؤول إلى الشرك، ولم يوجد مبتدع إلا وفيه نوع من الشرك، كما قال تعالى:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31]، وكان من شركهم أنهم أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم، وحرّموا عليهم الحلال فأطاعوهم، وقد قال تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ

ص: 176

وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]، فقرن بعدم إيمانهم بالله واليوم الآخر أنهم لا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق، والمؤمنون صدقوا الرسول فيما أخبر به عن الله وعن اليوم الآخر، فآمنوا بالله واليوم الآخر، وأطاعوه فيما أمر ونهى، وحلل وحرم، فحرموا ما حرم الله ورسوله، ودانوا دين الحق، فإن الله بعث الرسول يأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات، ويحرم عليهم الخبائث، فأمرهم بكل معروف، ونهاهم عن كل منكر، وأحل لهم كل طيب، وحرم عليهم كل خبيث.

ولفظ الإسلام يتضمن الاستسلام، والانقياد، ويتضمن الإخلاص، مأخوذ من قوله تعالى:{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ} [الزمر: 29]، فلابد في الإسلام من الاستسلام لله وحده، وترك الاستسلام لما سواه، وهذا حقيقة قولنا: لا إله إلا الله، فمن استسلم لله ولغير الله فهو مشرك، والله لا يغفر أن يُشرَك به، ومن لم يستسلم له فهو مستكبر عن عبادته وقد قال تعالى:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60]، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال:«لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر، ولا يدخل النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان» فقيل له: يا رسول الله، الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنا أفمن الكبر ذاك؟ قال:«لا، إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس» ؛ بطر الحق: جحده ودفعه، وغمط

ص: 177

الناس: ازدراؤهم واحتقارهم، فاليهود موصوفون بالكبر، والنصارى موصوفون بالشرك، قال الله تعالى في نعت اليهود:{أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ} [البقرة: 87]، وقال في نعت النصارى:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31]، ولهذا قال تعالى في سياق الكلام مع النصارى:{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64]، وقال تعالى في سياق تقريره للإسلام وخطابه لأهل الكتاب:{قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * فَإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ} إلى قوله: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 136 - 140].

ولما كان أصل الدين الذي هو دين الإسلام واحدا وإن تنوعت شرائعه قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «إنا معاشر الأنبياء ديننا واحدا، والأنبياء إخوة لعلات، وإن أولى الناس بابن مريم لأنا، فليس بيني وبينه نبي» فدينهم واحد وهو عبادة الله وحده لا شريك له، وهو يُعبد في كل وقت بما أمر به في ذلك الوقت، وذلك هو دين الإسلام في ذلك الوقت، وتَنوُّع الشرائع في الناسخ والمنسوخ من المشروع كتنوع

ص: 178

الشريعة الواحدة، فكما أن دين الإسلام الذي بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم هو دين واحد مع أنه قد كان في وقت يجب استقبال بيت المقدس في الصلاة كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بذلك بعد الهجرة بضعة عشر شهرا، وبعد ذلك يجب استقبال الكعبة ويحرم استقبال الصخرة، فالدين واحد وإن تنوعت القبلة في وقتين من أوقاته، ولهذا شرع الله تعالى لبني إسرائيل السبت ثم نسخ ذلك وشرع لنا الجمعة، فكان الاجتماع يوم السبت واجبا إذ ذاك، ثم صار الواجب هو الاجتماع يوم الجمعة وحرم الاجتماع يوم السبت، فمن خرج عن شريعة موسى قبل النسخ لم يكن مسلما، ومن لم يدخل في شريعة محمد صلى الله عليه وسلم بعد النسخ لم يكن مسلما.

ولم يشرع الله لنبي من الأنبياء أن يعبد غير الله البتة قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13]، وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون: 51]، وقال تعالى:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30] ثم قال: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم: 31].

فأهل الإشراك متفرقون وأهل الإخلاص متفقون، وقد قال تعالى:{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}

ص: 179

[هود: 118 - 119]، فأهل الرحمة مجتمعون متفقون، والمشركون فرقوا دينهم وكانوا شيعا، ولهذا تجد ما أحدث من الشرك والبدع يفترق أهله، فكان لكل قوم من مشركي العرب طاغوت يتخذونه ندا من دون الله، فيُقرِّبون له، ويستعينون به، ويشركون به، وهؤلاء ينفرون عن طاغوت هؤلاء، وهؤلاء ينفرون عن طاغوت هؤلاء، بل قد يكون لأهل هذا الطاغوت شريعة ليست للآخرين، وهكذا تجد من يتخذ شيئا من نحو هذا الشرك؛ كالذين يتخذون القبور وآثار الأنبياء والصالحين مساجد تجد كل قوم يقصدون بالدعاء والاستغاثة، والتوجه من لا تعظمه الطائفة الأخرى، بخلاف أهل التوحيد فإنهم يعبدون الله وحده، ولا يشركون به شيئا في بيوته التي قد أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، مع أنه قد جعل لهم الأرض كلها مسجدا وطهورا، وإن حصل بينهم تنازع في شيء مما يسوغ فيه الاجتهاد لم يوجب ذلك لهم تفرقا ولا اختلافا، بل هم يعلمون أن المصيب منهم له أجران، وأن المجتهد المخطئ له أجر على اجتهاده، وخطؤه مغفور له.

والله هو معبودهم وحده، إياه يعبدون، وعليه يتوكلون، وله يخشون ويرجون، وبه يستعينون ويستغيثون، وله يدعون ويسألون، فإن خرجوا إلى الصلاة في المساجد كانوا مبتغين فضلا منه ورضوانا، كما قال تعالى في نَعْتهم:{تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} [الفتح: 48]، وكذلك إذا سافروا إلى أحد المساجد الثلاثة لاسيما المسجد الحرام الذي أُمروا بالحج إليه قال تعالى:{لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آَمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا}

ص: 180

[المائدة: 2]، فهم يؤمّون بيته يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا، لا يرغبون إلى غيره، ولا يرجون سواه، ولا يخافون إلا إياه، وقد زين الشيطان لكثير من الناس سوء عملهم، واستزلهم عن إخلاص الدين لربهم إلى أنواع من الشرك، فيقصدون بالسفر والزيارة رضا غير الله والرغبة إلى غيره، ويشدون الرحال إما إلى قبر نبي أو صاحب أو صالح، أو مَن يظنون أنه نبي أو صاحب أو صالح، داعين له راغبين إليه، ومنهم من يظن أن المقصود من الحج هو هذا، فلا يستشعر إلا قصد المخلوق المقبور، ومنهم من يرى أن ذلك أنفع له من حج البيت، ومن شيوخهم من يقصد حج البيت فإذا وصل إلى المدينة رجع مكتفيا بزيارة القبر وظن أن هذا أبلغ، ومن جُهَّالهم من يتوهم أن زيارة القبور واجبة، وأكثرهم يسأل الميت المقبور كما يسأل الحي الذي لا يموت، فيقول: يا سيدي فلان، اغفر لي وارحمني وتُب عليّ، أو يقول: اقضي عني الدين، وانصرني على فلان، وأنا في حسبك وجوارك، وقد ينذرون أولادهم للمقبور، ويسيبون له السوائب من البقر والغنم وغيرها كما كان المشركون يسيبون السوائب لطواغيتهم، قال تعالى:{مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ} [المائدة: 103]، وقال تعالى:{وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الأنعام: 136].

ومِن السَدَنَة مَن يُضلِّل الجهال فيقول: أنا أذكر حاجتك لصاحب

ص: 181

الضريح، وهو يذكرها للنبي، والنبي يذكرها لله، ومنهم من يعلق على القبر المكذوب أو غير المكذوب من الستور والثياب، ويضع عنده من مصوغ الذهب والفضة مما قد أجمع المسلمون على أنه من دين المشركين وليس من دين الإسلام، والمسجد الجامع معطل خراب صورةً ومعنًى، وما أكثر من يعتقد من هؤلاء أن صلاته عند القبر المضاف إلى بعض المعظمين مع أنه كذب في نفس الأمر أعظم من صلاته في المساجد الخالية من القبور والخالصة لله، فيزدحمون للصلاة في مواضع الإشراك المُبتَدَعَة التي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذها مساجد وإن كانت على قبور الأنبياء، ويهجرون الصلاة في البيوت التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، والتي قال فيها:{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة: 18].

ومن أكابر شيوخهم من يقول: الكعبة في الصلاة قبلة العامة، والصلاة إلى قبر الشيخ فلان مع استدبار الكعبة قبلة الخاصة، وهذا وأمثاله من الكفر الصريح باتفاق علماء المسلمين، وهذه المسائل تحتمل من البسط أكثر مما كتبناه في هذا، وإنما نبهنا فيه على رؤوس المسائل وجنس الدلائل، والتنبيه على مقاصد الشريعة وما فيها من إخلاص الدين لله وعبادته وحده لا شريك له وما سدَّته من الذريعة إلى الشرك دقّه وجلّه، فإن هذا هو أصل الدين، وحقيقة دين المرسلين، وتوحيد رب العالمين، وقد غلط في مسمى التوحيد طوائف من أهل النظر والكلام، ومن أهل الإرادة والعبادة، حتى قلبوا

ص: 182

حقيقته في نفوسهم.

فطائفة ظنت أن التوحيد هو نفي الصفات، بل نفي الأسماء الحسنى أيضا، وسموا أنفسهم أهل التوحيد، وأثبتوا ذاتا مجردة عن الصفات، ووجودا مطلقا بشرط الإطلاق، وقد علم بصريح المعقول المطابق لصحيح المنقول أن ذلك لا يكون إلا في الأذهان لا في الأعيان، وزعموا أن إثبات الصفات يستلزم ما سموه تركيبا، وظنوا أن العقل ينفيه، كما قد كشفنا أسرارهم، وبينا فرط جهلهم، وما أضلهم من الألفاظ المجملة المشتركة في غير هذا الموضع.

وطائفة ظنوا أن التوحيد ليس إلا الإقرار بتوحيد الربوبية، وأن الله خلق كل شيء، وهو الذي يسمونه توحيد الأفعال، ومن أهل الكلام من أطال نظره في تقرير هذا الموضع إما بدليل أن الاشتراك يوجب نقص القدرة وفوات الكمال، وبأن استقلال كل من الفاعلين بالمفعول محال، وإما بغير ذلك من الدلائل، ويظن أنه بذلك قرر الوحدانية وأثبت أنه لا إله إلا هو، وأن الإلهية هي القدرة على الاختراع ونحو ذلك، فإذا ثبت أنه لا يقدر على الاختراع إلا الله، وأنه لا شريك له في الخلق، كان هذا عندهم هو معنى قولنا لا إله إلا الله، ولم يعلم أن مشركي العرب كانوا مقرين بهذا التوحيد كما قال تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزمر: 38]، وقال تعالى:{قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [المؤمنون: 84 - 85] الآيات، وقال تعالى:{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ}

ص: 183

[يوسف: 106]، قال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره: تسألهم من خلق السموات والأرض فيقولن الله، وهم مع هذا يعبدون غيره.

وهذا التوحيد هو من التوحيد الواجب، لكن لا يحصل به كل الواجب، ولا يخلص بمجرده عن الإشراك الذي هو أكبر الكبائر الذي لا يغفره الله، بل لابد أن يخلص لله الدين والعبادة، فلا يعبد إلا إياه، ولا يعبده إلا بما شرع، فيكون دينه كله لله.

والإله هو المألوه الذي تألهه القلوب، وكونه يستحق الإلهية مستلزم لصفات الكمال، فلا يستحق أن يكون معبودا محبوبا لذاته إلا هو، وكل عمل لا يراد به وجهه فهو باطل، وعبادة غيره وحب غيره يوجب الفساد، كما قال تعالى:{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22].

ثم إن طائفة ممن تكلم في تحقيق التوحيد على طريق أهل التصوف ظن أن توحيد الربوبية هو الغاية والفناء فيه هو النهاية، وأنه إذا شهد ذلك سقط عنه استحسان الحسن، واستقباح القبيح، فآل بهم الأمر إلى تعطيل الأمر والنهي، والوعد والوعيد، ولم يفرقوا بين مشيئته الشاملة لجميع المخلوقات، وبين محبته ورضاه المختص بالطاعات، وبين كلماته الكونيات التي لا يجاوزهن برٌّ ولا فاجر لشمول القدرة لكل مخلوق، وكلماته الدينيات التي اختص بموافقتها أنبياؤه وأولياؤه.

فالعبد مع شهوده الربوبية العامة الشاملة للمؤمن والكافر والبر الفاجر عليه أن يشهد ألوهيته التي اختص بها عباده المؤمنين، الذين عبدوه وأطاعوا أمره واتبعوا رُسُله، قال تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ

ص: 184

كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص: 28]، وقال تعالى:{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} ، وقال تعالى:{أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} [القلم: 35].

ومن لم يفرق بين أولياء الله وأعدائه، وبين ما أمر به وأوجبه من الإيمان والأعمال الصالحات، وبين ما كرهه ونهى عنه وأبغضه من الكفر والفسوق والعصيان، مع شمول قدرته ومشيئته وخلقه لكل شيء، وإلا وقع في دين المشركين الذين قالوا:{لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 148]، ثم إن أولئك المبتدعين الذين أدخلوا في التوحيد نفي الصفات، وهؤلاء الذين أخرجوا عنه متابعة الأمر إذا حققنا القولين أفضى بهم الأمر إلى أن لا يفرقوا بين الخالق والمخلوق، بل يقولون بوحدة الوجود، كما قاله أهل الإلحاد القائلين بالوحدة والحلول والاتحاد، الذين يعظمون الأصنام وعابديها، وفرعون وهامان وقومهما، ويجعلون وجود خالق الأرض والسموات هو وجود كل شيء من الموجدات، ويدعون التوحيد والتحقيق والعرفان، وهم من أعظم أهل الشرك والتلبيس والبهتان، ومَن أحكم الأصلين المتقدمين في الصفات والخلق والأمر فميَّز بين المأمور المحبوب المرضي لله وبين غيره مع شمول القدر لهما، وأثبت للخالق سبحانه الصفات التي توجب مباينته المخلوقات، وأنه ليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته، أثبت التوحيد الذي يبعث الله به رسله وأنزل به كتبه كما نبَّه على ذلك في سورتي الإخلاص {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ

ص: 185

اللَّهُ أَحَدٌ}.

فسورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فيها التوحيد القولي العملي الذي تدل عليه الأسماء والصفات، وسورة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} فيها التوحيد القصدي العملي، وبهذا يتميز من يعبد الله ممن يعبد غيره، وإن كان كل واحد منهما يُقرُّ بأن الله رب كل شيء ومليكه، ويتميز عباد الله المخلصون الذين لم يعبدوا إلا إياه، ممن عبد غيره وأشرك به، أو نظر إلى القدر الشامل لكل شيء، فسوى بين المؤمنين والكفار كما كان يفعل المشركون من العرب.

وسورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فيها إثبات الذات، وما لها من الأسماء والصفات التي يتميز بها مثبتو الرب الخالق الأحد الصمد عن المعطلين له بالحقيقة، نُفاة الأسماء والصفات المضاهين لفرعون وأمثاله ممن أظهر التعطيل والجحود للإله المعبود. انتهى المقصود من كلام الشيخ رحمه الله تعالى ملخصا، ولا مزيد عليه في تقرير التوحيد، ونفي الشرك والبدع، وبيان حقيقة الإسلام، وإيضاح معاني الأحاديث التي قدمنا ذكرها في أول الوجه، فليتأمله الناصح لنفسه حق التأمل، فما أعظمه وأجلّه وأنفعه لمن أراد الله هدايته.

وتأمل ما حكاه عن القبوريين من الأمور الشركية، وحكايته اتفاق العلماء على أن ذلك من الكفر الصريح وأنه من دين المشركين، وقد زاد الأمر بعده شدة، وعظمت الفتنة بالقبور حتى اتُخذت أوثانا تُعبد من دون الله، ويُفعل عندها وبها أعظم مما كان يفعله مشركو العرب.

ومن فهم ما ذكرناه في هذا الوجه من أوله إلى آخره لاسيما الأحاديث

ص: 186

الصحيحة، ونزل ذلك على أحوال المنتسبين إلى الإسلام في زماننا، تبين له أن الإسلام الحقيقي قد عاد غريبا كما بدأ أو أشد غربة، وتبين له أن حاصل إسلام الأكثرين الانتساب والدعوى المجردة، وحينئذ فنقول في الوجه الخامس: إن أكثر المنتسبين إلى الإسلام في هذه الأزمان محتاجون إلى الدعاء إلى الإسلام، والتزام شرائعه، كما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أشباههم وسلفهم من أهل الجاهلية، فمن أجاب منهم فهو المسلم له ما للمسلمين وعليه ما على المسلمين، ومن لم يُجب، فإن كانوا جماعة لهم منعة قوتلوا كما قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم مشركي العرب وأهل الكتاب وكما قاتل الصحابة رضي الله عنهم مانعي الزكاة وغيرهم من المرتدين عن الإسلام حتى أدخلوهم من الباب الذي خرجوا منه، وأما الأفراد ومن لا منعة لهم فهؤلاء يؤخذون بالتزام أحكام الإسلام الظاهرة ويجبرون على ذلك، ويعامل العصاة منهم بالتأديب الذي يليق بهم، فبعضهم بالتهديد، وبعضهم بالحبس، وبعضهم بالضرب، وبعضهم بأخذ بعض ماله، وبعضهم بالقتل، كل على حسب جُرمه كما هو مقرر معروف في أحكام العصاة والمرتدين، والله المسؤول أن ينصر دينه، ويعلي كلمته، وأن يظهر دينه على الدين كله ولو كره المشركون، وأن يبعث لهذه الأمة من يجدد لها دينها، دين الحق الذي طمست في زماننا أعلامه، واشتدت غربته ولم يبق منه بين الأكثرين إلا اسمه.

فإن قيل: كل المنتسبين إلى الإسلام يقولون: لا إله إلا الله، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها

ص: 187

عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله»، وقد أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على أسامة بن زيد رضي الله عنهما قتله للرجل بعد ما قال: لا إله إلا الله، فدل على أن من قال: لا إله إلا الله فهو مسلم، معصوم الدم والمال، ولا يضره مع الإتيان بالشهادتين شيء!

قيل: هذه الشبهة قد ابتلي بها أكثر الناس، فظنوا أن مجرد التكلم بالشهادتين مانع من الكفر، عاصم للدم والمال، ولو كان المتكلم بهما مرتكبا ما ينافيهما ويناقضهما، هذا ما يتوهمه كثير من الجهال والضلال، وليس الأمر كما يظنون.

والجواب عن الحديث الأول من وجوه:

أحدها: أنه إنما ورد في حق المشركين الذين يزعمون تعدد الآلهة مع الله تعالى، كما أخبر الله تعالى بذلك عنهم في كثير من الآيات كقوله تعالى:{أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آَلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 19]، ولهذا لما دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى التوحيد أنكروا ذلك وأعظموه وتعجبوا منه، فقالوا:{أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5]، ثم تواصوا بالصبر والثبات على عبادة الآلهة المتعددة بزعمهم، كما أخبر الله عنهم في قوله تعالى:{وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آَلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآَخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ} [ص: 6 - 7]، والدليل على أن الحديث وارد في حق المشركين ما رواه أبو داود، والنسائي، والدارقطني، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

ص: 188

«أُمرت أن أقاتل المشركين حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، فإذا شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلوا صلاتنا، واستقبلوا قبلتنا، وأكلوا ذبيحتنا، فقد حُرِّمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها» هذا لفظ النسائي، ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله ويقاتلهم على ذلك، فمن قالها منهم دخل بها في الإسلام، وكذلك يدخل في الإسلام بقوله: أنا مسلم، ونحو ذلك مما يدل على إسلامه، وبعد الدخول في الإسلام يكون مطالبا بحقوق الإسلام، وتبقى صحة إسلامه معلقة بالتزام شرائعه، فإن قام بها تَبيّنا صحة إسلامه، وإن تركها تبينا كذبه في دعواه الإسلام، ولم ينفعه مجرد التلفظ بلا إله إلا الله.

يوضح ذلك الوجه الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم علّق عصمة الدم والمال في هذا الحديث بشرطين أحدهما: شهادة أن لا إله إلا الله، والثاني: القيام بحقها.

فمن أتى بالشرطين كليهما عصم دمه وماله، ومن امتنع منهما أو من أحدهما فليس بمعصوم الدم والمال؛ لأن الحكم المعلق بشرطين لا يجب بأحدهما والآخر معدوم.

قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري في الكلام على هذا الحديث: فيه منع قتل من قال: لا إله إلا الله ولو لم يزد عليها، لكن هل يصير بمجرد ذلك مسلما؟ الراجح: لا، بل يجب الكف عن قتله حتى يُختبر، فإن شهد بالرسالة والتزم أحكام الإسلام حكم بإسلامه، وإلى ذلك الإشارة بالاستثناء بقوله:«إلا بحق الإسلام» . انتهى.

وقال الشيخ حمد بن ناصر بن معمر رحمهم الله تعالى: قال علماؤنا

ص: 189

رحمهم الله: إذا قال الكافر لا إله إلا الله فقد شرع في العاصم لدمه، فيجب الكف عنه، فإن تمم ذلك تحققت العصمة، وإلا بطلت، ويكون النبي صلى الله عليه وسلم قد قال كل حديث في وقت، فقال:«أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله» ليعلم المسلمون أن الكافر المحارب إذا قالها كف عنه، وصار دمه وماله معصوما، ثم بيّن صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر أن القتال ممدود إلى الشهادتين والعبادتين فقال:«أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة» ، فبيّن أن تمام العصمة وكمالها إنما يحصل بذلك، ولئلا تقع الشبهة بأن مجرد الإقرار يعصم على الدوام، كما وقعت لبعض الصحابة حتى جلاها أبو بكر الصديق، ثم وافقوه رضي الله عنهم. انتهى.

إذا عُرف هذا، فأعظم‌

‌ حقوق لا إله إلا الله

إفراد الله بالعبادة، والكفر بما يُعبد من دون الله كائنا ما كان، كما في المسند، وصحيح مسلم، عن أبي مالك الأشجعي عن أبيه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«من وحّد الله، وكفر بما يُعبد من دون الله، حرم ماله ودمه، وحسابه على الله عز وجل» ، وهذا هو معنى قوله تعالى:{فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا} [البقرة: 256]، والطاغوت اسم لكل معبود سوى الله تعالى، كما في قوله تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].

ومن أعظم حقوق لا إله إلا الله أيضا إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ

ص: 190

وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5]، وقال تعالى:{فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5]، وفي الآية الأخرى:{فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة: 11]، وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله» ، وقد همّ النبي صلى الله عليه وسلم بغزو بني المصطلق لما قيل له أنهم منعوا الزكاة وكان الذي أخبره بذلك كاذبا عليهم، فأنزل الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6]، واتفق الصحابة رضي الله عنهم على قتال مانعي الزكاة، واحتج أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه على قتالهم بقول النبي صلى الله عليه وسلم:«إلا بحقها» ، كما في الصحيحين، والمسند، والسنن إلا ابن ماجة، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب قال لأبي بكر رضي الله عنه: علام تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها» ؟! فقال أبو بكر رضي الله عنه: والله لو منعوني عناقا، وفي رواية: عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقتالهم على منعه، إن الزكاة حق المال، والله لأقاتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة. قال عمر رضي الله عنه: فما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق.

ص: 191

وفي رواية لأحمد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم وحسابهم على الله» ، قال فلما قام أبو بكر، وارتد من ارتد، أراد أبو بكر قتالهم، قال عمر: كيف تقاتل هؤلاء القوم وهم يصلون؟ قال: فقال أبو بكر: والله لأقاتلن قوما ارتدوا عن الزكاة، والله لو منعوني عناقا مما فرض الله ورسوله لقاتلتهم. قال عمر: فلما رأيت الله شرح صدر أبي بكر لقتالهم عرفت أنه الحق.

ورواه الشافعي في مسنده ولفظه أن عمر رضي الله عنه قال لأبي بكر رضي الله عنه في مَن منع الصدقة: أليس قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا أزال أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله» ؟ فقال أبو بكر رضي الله عنه: هذا من حقها؛ يعني منعهم الصدقة.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في آخر كلامه على كفر مانعي الزكاة: والصحابة رضي الله عنهم لم يقولوا: هل أنت مقر بوجوبها أو جاحد لها؟ هذا لم يعهد عن الصحابة بحال، بل قال الصدِّيق لعمر رضي الله عنهما: والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها، فجعل المبيح للقتال مجرد المنع لا جحد الوجوب.

وقد روي أن طوائف منهم كانوا يقرون بالوجوب لكن بخلوا بها، ومع هذا فسيرة الخلفاء فيهم سيرة واحدة؛ وهي قتل مقاتلتهم وسبي ذراريهم وغنيمة أموالهم، والشهادة على قتلاهم بالنار، وسَمُّوهم جميعهم أهل الردة، وكان من أعظم فضائل الصديق عندهم أن ثبته الله على قتالهم، ولم

ص: 192

يتوقف كما توقف غيره، حتى ناظرهم فرجعوا إلى قوله.

وأما قتال المقرين بنبوة مسيلمة فهؤلاء لم يقع بينهم نزاع في قتالهم، وهذه حجة من قال: إن قاتلوا الإمام عليها كفروا، وإلا فلا، فإنَّ كفر هؤلاء وإدخالهم في أهل الردة قد ثبت باتفاق الصحابة المستند إلى نصوص الكتاب والسنة، بخلاف من لم يقاتل الإمام عليها، فإن الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قيل له: منع ابن جميل، فقال:«ما ينقم ابن جميل إلا أنه كان فقيرا فأغناه الله» فلم يأمر بقتله، ولا حكم بكفره.

وفي السنن من حديث بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم:«ومن منعها فإنَّا آخذوها وشطر إبله» الحديث. انتهى كلامه رحمه الله تعالى.

فتأمل كلام هذا الإمام، وتصريحه بأن الطائفة الممتنعة عن أداء الزكاة إلى الإمام يقاتلون، ويحكم عليهم بالردة عن الإسلام، وتسبى ذراريهم وتغنم أموالهم، وإن أقروا بوجوب الزكاة، وصلُّوا الصلوات الخمس، وفعلوا جميع شرائع الإسلام غير أداء الزكاة، وأن ذلك ليس بمسقط لقتالهم والحكم عليهم بالردة، وأن كفرهم وقتالهم ثابت بالاتفاق المستند إلى نصوص الكتاب والسنة.

وتأمل الفرق بين الطائفة الممتنعة، المقاتلة على منع الزكاة، وبين من لم يقاتل عليها، ومثلهم من لا منعة له كالأفراد، فإن هؤلاء تؤخذ منهم الزكاة، ويعاقبون على منعها بأخذ شطر أموالهم، ولا يقتلون ولا يحكم عليهم بالكفر، كما تدل على ذلك الأحاديث، بخلاف من قاتل عليها وله منعة،

ص: 193

فقد اتفق الصحابة على كفرهم وقتالهم، والله أعلم.

ومن أعظم حقوق لا إله إلا الله أيضا صيام رمضان وحج بيت الله الحرام، قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]، وقال تعالى:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97].

وروى الترمذي، وابن مردويه، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ملك زادًا وراحلة ولم يحج بيت الله فلا يضره مات يهوديا أو نصرانيا، وذلك بأن الله قال: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}» قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وفي إسناده مقال.

وروى سعيد بن منصور بإسناده، عن عبد الرحمن بن سابط قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من مات ولم يحج حجة الإسلام، لم يمنعه مرض حابس أو سلطان جائر أو حاجة ظاهرة، فليمت على أي حال شاء؛ يهوديا أو نصرانيا» .

ورواه البغوي في تفسيره بإسناده، عن عبد الرحمن بن سابط، عن أبي أمامة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه.

وروى الإسماعيلي من حديث الأوزاعي، حدثني إسماعيل ابن أبي المهاجر، حدثني عبد الرحمن بن غنم أنه سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول:

ص: 194

«من أطاق الحج فلم يحج فسواء عليه مات يهوديا أو نصرانيا» قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: هذا إسناد صحيح إلى عمر رضي الله عنه، قال: وروى سعيد بن منصور في سننه، عن الحسن البصري قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لقد هممت أن أبعث رجالا إلى هذه الأمصار فينظروا إلى كل من كان عنده جدة فلم يحج فيضربوا عليهم الجزية، ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين.

وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بني الإسلام على خمس؛ شهادة أن لا إله ألا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصيام رمضان» .

وروى أبو يعلى بإسناد حسن، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال حماد بن زيد ولا أعلمه إلا وقد رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال:«عرى الإسلام وقواعد الدين ثلاثة عليهن ابتني الإسلام، من ترك واحدة منهن فهو بها كافر؛ حلال الدم؛ شهادة أن لا إله إلا الله، والصلاة المكتوبة، وصوم رمضان» .

وفي رواية: «من ترك منهن فهو بالله كافر، لا يقبل منه صرف ولا عدل، وقد حل دمه وماله» .

ورواه سعيد بن زيد -أخو حماد بن زيد- عن عمرو بن مالك البكري، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا.

وروى ابن شهاب، عن حنظلة، عن علي بن الأشجع أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه بعث خالد بن الوليد رضي الله عنه وأمره أن يقاتل الناس على خمس، فمن ترك واحدة فقاتله عليها كما تقاتله على الخمس؛ شهادة أن لا إله إلا الله

ص: 195

وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام.

وعن سعيد بن جبير قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لو أن الناس تركوا الحج لقاتلناهم على تركه، كما نقاتل على الصلاة والزكاة.

قال ابن القيم رحمه الله تعالى: وهل يلحق تارك الصوم والحج والزكاة بتارك الصلاة في وجوب قتله؟ فيه ثلاث روايات عن الإمام أحمد:

إحداها: يقتل بترك ذلك كله كما يقتل بترك الصلاة، وحجة هذه الرواية أن الزكاة والصيام والحج من مباني الإسلام، فيقتل بتركها جميعا كالصلاة، ولهذا قاتل الصديق رضي الله عنه مانعي الزكاة وقال: والله لأقاتلن من فرَّق بين الصلاة والزكاة إنها لقرينتها في كتاب الله. وأيضا فإن هذه المباني من حقوق الإسلام، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يؤمر برفع القتال إلا عمن التزم كلمة الشهادة وحقها، وأخبر أن عصمة الدم لا تثبت إلا بحق الإسلام، فهذا قتال للفئة الممتنعة، والقتل للواحد المقدور عليه إنما هو لتركه حقوق الكلمة وشرائع الإسلام، وهذا أصح الأقوال.

والرواية الثانية: لا يُقتل بترك غير الصلاة؛ لأن الصلاة عبادة بدنية لا تدخلها النيابة بحال، والصوم والحج والزكاة تدخلها النيابة.

والرواية الثالثة: يقتل بترك الزكاة والصيام، ولا يقتل بترك الحج؛ لأنه مُختَلف فيه هل هو على الفور أو على التراخي؟ فمن قال هو على التراخي قال: كيف يقتل بتأخير شيء موسع له في تأخيره، وهذا المأخذ ضعيف جدا؛ لأن من يقتله بتركه لا يقتله بمجرد اتفاقا، وإنما صورة

ص: 196

المسألة أن يعزم على ترك الحج، ويقول هو واجب عليّ ولا أحج أبدا، فهذا موضع النزاع.

والصواب: القول بقتله؛ لأن الحج من حقوق الإسلام، والعصمة لم تثبت لمن تكلم بالإسلام إلا بحقه، والحج من أعظم حقوقه. انتهى.

ومن أعظم حقوق لا إله إلا الله أيضا طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وتجريد المتابعة له، والإيمان بكل ما جاء به، قال الله تعالى:{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]، وقال تعالى:{وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54]، وقال تعالى:{وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، وقال تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 31 - 32]، فجعل سبحانه وتعالى اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم سببا لمحبته سبحانه لمن اتصف بذلك ومغفرته لذنوبه، وأخبر أن التولي عن طاعته وطاعة رسوله كفر، والله لا يحب الكافرين، والآيات في طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم كثيرة جدا تزيد على تسعين آية، وفي أكثرها يقرن الله تبارك وتعالى بين طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.

وقد تقدم حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله» رواه مسلم والدارقطني.

وهذا الحديث من جوامع الكلم، فيدخل تحته جميع ما تقدم ذكره، وغير

ص: 197

ذلك من واجبات الدين ومحرماته التي لا عذر لأحد في جحودها أو تركها، وتقدم كلام الشيخ تقي الدين رحمه الله تعالى في ذلك في أول الوجه الرابع، وكذلك قول غيره من كبار الأئمة قد تقدم هناك فليراجع.

الوجه الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قاتل اليهود وهم يقولون لا إله إلا الله، واتفق الصحابة رضي الله عنهم على قتال مانعي الزكاة ومن أقر بنبوة مسيلمة وغيره من الكذابين، وسموهم كلهم أهل الردة وهم يقولون: لا إله إلا الله، وقاتل عليّ رضي الله عنه الخوارج مستندا إلى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتالهم وهم يقولون: لا إله إلا الله، فدل على أن مجرد التلفظ بلا إله إلا الله مع ترك حقها لا ينفع صاحبه ولا يغني عنه شيئا، وقد عقد كل طائفة من أتباع الأئمة في كتب الفقه بابا في حكم المرتد، وذكروا أشياء كثيرة يكفر بها الإنسان ولو كان يشهد أن لا إله إلا الله، وبعضهم أفرد ذلك بكتاب مستقل.

وأما إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على أسامة بن زيد رضي الله عنهما قتله للرجل بعد ما قال: لا إله إلا الله فلأن أسامة رضي الله عنه عاجل الرجل بعدما أظهر الإسلام، ظنا منه أنه إنما قال ذلك متعوذا من القتل، وكان الواجب على أسامة أن يكف عنه ويتثبت في أمره حتى يظهر صدقه أو كذبه فيما قال؛ لقول الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 94]، ففي هذه الآية دليل على وجوب الكف عمن أظهر الإسلام والتثبت

ص: 198

في أمره، فإن قام بحق الإسلام فهو مسلم، له ما للمسلمين وعليه ما على المسلمين كما تقدم في الأحاديث الصحيحة، وإن لم يقم بحقوق الإسلام، أو تبين منه بعد التزامها ما يخالف الإسلام قُتل؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«إلا بحقها» ، فقد جعله شرطا في عصمة الدم والمال.

ولقوله أيضا في الخوارج: «أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرا عظيما عند الله لمن قتلهم» .

وقال: «لئن أنا أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد» .

وأخبر أنهم يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية، هذا مع قولهم لا إله إلا الله ومع عبادتهم العظيمة، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم:«يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم» ، فإذا كان هذا حال من ترك بعض حقوق الإسلام لم تنفعه عبادته ولا قوله لا إله إلا الله، فكيف بمن يترك حقوق الإسلام كلها ويزعم أنه مسلم معصوم الدم والمال بمجرد قوله بلسانه لا إله إلا الله من غير اعتقاد لمعناها ولا عمل بمقتضاها؟! فما أشبه من كانت هذه حاله بمن قال الله تعالى فيهم:{إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأعراف: 30]، قال ابن جرير رحمه الله تعالى في هذه الآية: وهذا من أبين الدلالة على خطأ من زعم أن الله لا يعذب أحدا على معصية ركبها، أو ضلالة اعتقدها، إلا أن يأتيها بعد علم منه بصواب وجهها، فيركبها عنادا منه لربه فيها؛ لأنه لو كان كذلك لم يكن بين فريق الضلالة الذي ضل وهو يحسب أنه مهتد وفريق الهدى فرق، وقد فرّق الله تعالى بين أسمائهما

ص: 199

وأحكامهما في هذه الآية. انتهى.

وقال شيخ الإسلام أبو العباس بن تيمية قدس الله روحه: من سأل الأموات ما لا يطلب إلا من الله؛ كمغفرة الذنوب وهداية القلوب وإنزال المطر، فإنه يُستتاب فإن تاب وإلا قتل؛ لأن هذا عين الشرك الذي نهت عنه الرسل، ونزلت الكتب بتحريمه وتكفير فاعله.

وقال أيضا: من اعتقد في نفيسة أنها باب الحوائج إلى الله، وأنها تكف الضر، وتفتح الرزق، وتحفظ مصر، فهذا كافر مشرك يجب قتله، وكذلك من اعتقد ذلك في غيرها كائنا من كان، والقرآن من أوله إلى آخره، وجميع الكتب والرسل إنما بعثوا بأن يُعبد الله وحده لا شريك له، وأن لا يجعلوا مع الله إلها آخر، والإله من يألهه القلب عبادة، واستعانة، وإجلالا، وإكراما، وخوفا، ورجاء، كما هو حال المشركين في آلهتهم، وإن اعتقد المشرك أن ما يألهه مخلوق مصنوع، كما كان المشركون يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك. انتهى.

فتأمل كلام هذا الإمام، ثم انظر إلى ما يعتقده القبوريون في هذه الأزمان في نفيسة، وزينب، والبدوي، والدسوقي، والجيلاني، وغيرهم من الأموات، وما يفعلونه عند القبور من الشرك الأكبر يتبين لك غربة الدين، ويتضح لك وجوب قتال الأكثرين بعد إقامة الحجة عليهم.

وقال الشيخ أيضا في الوصية الكبرى لما ذكر الخوارج، ومروقهم من الدين وأمره صلى الله عليه وسلم بقتالهم، قال رحمه الله تعالى: فإذا كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين قد انتسب إلى الإسلام من مَرَق منه مع عبادته

ص: 200

العظيمة حتى أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم، فليعلم أن المنتسب إلى الإسلام أو السنة في هذه الأزمان قد يمرق أيضا من الإسلام والسنة، حتى يدَّعي السنة من ليس من أهلها بل قد مرق منها، وذلك بأسباب منها الغلو الذي ذمه الله تعالى في كتابه حيث قال:{لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} الآية.

ثم ذكر رحمه الله تعالى أن عليا بن أبي طالب رضي الله عنه حرق الغالية بالنار، وأمر بأخاديد خدّت لهم عند باب كندة، وقذفهم فيها بعد أن أجَّلهم ثلاثا ليتوبوا، فلما لم يتوبوا أحرقهم بالنار، واتفق الصحابة رضي الله عنهم على قتلهم، لكن ابن عباس رضي الله عنهما كان مذهبه أن يقتلوا بالسيف بلا تحريق، وهو قول أكثر العلماء، وقصتهم معروفة عند العلماء، وكذلك الغلو في بعض المشايخ إما في الشيخ عدي، ويونس القني، أو الحلاج، وغيرهم، بل الغلو في علي بن أبي طالب رضي الله عنه ونحوه، بل الغلو في المسيح عليه السلام ونحوه، فكل من غلا في نبي، أو في رجل صالح كمثل علي رضي الله عنه أو عدي، أو نحوه، أو فيمن يعتقد فيه الصلاح كالحلاج، أو الحاكم الذي كان بمصر، أو يونس القني، ونحوهم، وجعل فيه نوعا من الإلهية مثل أن يقول: كل رزق لا يرزقنيه الشيخ فلان ما أريده، أو يقول إذا ذبح شاة: باسم سيدي، أو يعبده بالسجود له أو لغيره، أو يدعوه من دون الله تعالى مثل أن يقول: يا سيدي فلان اغفر لي، أو ارحمني، أو انصرني، أو ارزقني، أو أغثني، أو أجرني، أو توكلت عليه، أو أنت حسبي، أو أنا في حسبك، أو نحو هذه الأقوال والأفعال التي هي من خصائص الربوبية التي لا تصلح إلا لله تعالى، فكل هذا شرك وضلال

ص: 201

يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قتل، فإن الله تعالى إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب لنعبد الله وحده لا شريك له، ولا نجعل مع الله إلها آخر، والذين كانوا يدعون مع الله آلهة أخرى مثل الشمس، والقمر، والكواكب، والعزير، والمسيح، والملائكة، واللات، والعزى، ومناة الثالثة الأخرى، ويغوث، ويعوق، ونسرا، وغير ذلك لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق، أو أنها تنزل المطر، أو أنها تنبت النبات، وإنما كانوا يعبدون الأنبياء، والملائكة، والكواكب، والجن، والتماثيل المصورة لهؤلاء، أو يعبدون قبورهم ويقولون: إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى، ويقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله، فأرسل الله رسله تنهى أن يدعى أحد من دونه، لا دعاء عبادة ولا دعاء استغاثة، وقال الله تعالى:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء: 56 - 57]، قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون المسيح، وعزير، والملائكة فقال الله لهم: هؤلاء الذين تدعونهم يتقربون إليّ كما تتقربون، ويرجون رحمتي كما ترجون رحمتي، ويخافون عذابي كما تخافون عذابي. وعبادة الله وحده هي أصل الدين، وهو التوحيد الذي بعث الله به الرسول وأنزل به الكتب، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحقق التوحيد ويُعلِّمه أمته، حتى قال له رجل: ما شاء الله وشئت، فقال:«أجعلتني لله ندا؟ بل ما شاء الله وحده» ، وقال:«لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد، ولكن ما شاء الله ثم شاء محمد» ، ونهى عن الحلف بغير الله

ص: 202

فقال: «من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت» ، وقال:«من حلف بغير الله فقد أشرك» ، وقال:«لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله» ، ولهذا اتفق العلماء على أنه ليس لأحد أن يحلف بمخلوق كالكعبة ونحوها، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن السجود له وقال:«لا يصلح السجود إلا لله» ، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ القبور مساجد فقال في مرض موته:«لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» يُحذِّر ما فعلوا، وقال:«اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد» ، وقال:«لا تتخذوا قبري عيدا ولا بيوتكم قبورا، وصلوا عليّ حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني» ، ولهذا اتفق أئمة الإسلام على أنه لا يشرع بناء المساجد على القبور، ولا تشرع الصلاة عند القبور، بل كثير من العلماء يقول: الصلاة عندها باطلة، وذلك أن من أكبر أسباب عبادة الأوثان كان التعظيم للقبور بالعبادة ونحوها، ولهذا اتفق العلماء على أن من سلّم على النبي صلى الله عليه وسلم عند قبره أنه لا يتمسح بحجرته ولا يقبلها؛ لأن التقبيل والاستلام إنما يكون لأركان بيت الله الحرام، فلا يشبه بيت المخلوق ببيت الخالق، وكذلك الطواف، والصلاة، والاجتماع للعبادات إنما تقصد في بيوت الله وهي المساجد التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، فلا تقصد بيوت المخلوقين فتتخذ عيدا كما قال صلى الله عليه وسلم:«لا تتخذوا بيتي عيدا» كل هذا لتحقيق التوحيد الذي هو أصل الدين ورأسه، الذي لا يقبل الله عملا إلا به، ويغفر لصاحبه، ولا يغفر لمن تركه، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا

ص: 203

عَظِيمًا} [النساء: 48]، ولهذا كانت كلمة التوحيد أفضل الكلام وأعظمه، فأعظم آية في القرآن آية الكرسي {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَاخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ

}، وقال صلى الله عليه وسلم:«من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة» ، والإله الذي يألهه القلب عبادة له، واستعانة، ورجاء له، وخشية، وإجلالا، وإكراما. انتهى كلامه رحمه الله تعالى مُلخَّصا.

فتأمل كلام هذا الإمام من أوله إلى آخره، وتأمل قوله فيمن غلا في نبي، أو رجل صالح، أو من يُعتقد فيه الصلاح، وجعل فيه نوعا من الإلهية، أو صرف له شيئا من خصائص الربوبية أنه يُستتاب، فإن تاب وإلا قُتل، فإن هذا مطابق لما دلت عليه الأحاديث الصحيحة التي تقدم ذكرها في أول الوجه الرابع، وإنما أبيح قتله لمخالفته لمعنى شهادة التوحيد لا إله إلا الله، وتركه لأعظم حقوقها وهو إفراد الله بالعبادة.

وقال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبابطين رحمه الله تعالى: من جعل نوعا من أنواع العبادة لغير الله كالدعاء، والسجود، والذبح، والنذر، وغير ذلك فهو مشرك، ولا إله إلا الله متضمنة للكفر بما يعبد من دونه؛ لأن معنى لا إله إلا الله إثبات العبادة لله وحده، والبراءة من كل معبود سواه، وهذا معنى الكفر بما يعبد من دونه، قال: وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «من قال لا إله إلا الله، وكفر بما يُعبد من دون الله حرم ماله ودمه، وحسابه على الله» فقوله: «وكفر بما يعبد من دون الله» الظاهر أن هذا زيادة إيضاح؛ لأن لا إله إلا الله متضمنة الكفر بما يعبد من دون الله، ومن قال: لا إله إلا الله ومع ذلك يفعل الشرك الأكبر كدعاء الموتى، والغائبين، وسؤالهم قضاء

ص: 204

الحاجات، وتفريج الكربات، والتقرب إليهم بالنذور والذبائح، فهذا مشرك شاء أم أبى، والله لا يغفر أن يشرك به، ومن يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار، ومع هذا فهو شرك، ومن فعله كافر، ولكن كما قال الشيخ: لا يقال فلان كافر حتى يبين له ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن أصر بعد البيان حكم بكفره، وحل دمه وماله، وقال تعالى:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} أي: شرك، {وَيَكُونَ الدِّينُ

(1)

كُلُّهُ لِلَّهِ}، فإذا كان في بلد وثن يعبد من دون الله قوتلوا لأجل هذا الوثن، أي لإزالته وهدمه، وترك الشرك، حتى يكون الدين كله لله، والدعاء دين، سماه الله دينا كما في قوله تعالى:{فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت: 65] أي: الدعاء، وقال صلى الله عليه وسلم «بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يُعبد الله وحده لا شريك له» ، فمتى كان شيء من العبادة مصروفا لغير الله فالسيف مسلول عليه، والله أعلم. انتهى كلامه رحمه الله تعالى.

وقوله: إنه لا يقال للمشرك بالله الشرك الأكبر إنه كافر إلا بعد البيان، وإصراره على المخالفة. فيه نظر، فإن الله تعالى يقول:{وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون: 117]، فقد كفّر تبارك وتعالى كل من دعا معه إلها آخر، وأطلق ولم يقيد ذلك بالإصرار بعد إقامة الحجة، وقال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ

(1)

لفظة (الدين) ساقطة من الأصل، وينظر (الدرر السنية 3/ 313).

ص: 205

إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} [الرعد: 14]، فسماهم الكافرين بدعائهم غيره، ولم يقيد ذلك بالإصرار بعد البيان، وقال تعالى:{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر: 3].

قال البغوي رحمه الله تعالى في تفسيره: لا يرشد لدينه من كذب، فقال: إن الآلهة لتشفع، وكفى باتخاذ الآلهة دونه كذبا وكفرا. انتهى.

ولم يذكر سبحانه في هذه الآية تقييدا بالإصرار بعد البيان، بل أطلق ذلك، فعلم أن التقييد غير معتبر، وأنه لا مانع من إطلاق الكفر على من اتصف بالشرك الأكبر، نعم، حلّ الدم والمال هو الذي يعتبر فيه الإصرار بعد البيان، فمن قامت عليه الحجة وأصر على المخالفة حل دمه وماله، والله أعلم.

الوجه السادس: في تمييز الخبيث من الطيب؛ ليستبين حاصل العدد المزعوم الذي يكثر به من قل نصيبه من العلم والإيمان، فنقول - والله المستعان-: المنتسبون إلى الإسلام في زماننا على ثلاثة أقسام:

‌القسم الأول: أدعياء الإسلام

الذين هم في معزل عنه.

الثاني: أهل البدع والأهواء الذين هم على شفا جرف هار.

الثالث: أهل السنة والجماعة.

فأما القسم الأول: فهم أصناف:

الصنف الأول: المشركون الذين اتخذوا من دون الله آلهة لا يخلقون

ص: 206

شيئاً وهم يخلقون، ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً، ولا يملكون موتاً ولا حياة ولا نشوراً، وهم عبّاد الأوثان، والطواغيت، والأشجار، والأحجار، والعيون، والغيران، وغيرها مما يعبد من دون الله، وهم أشبه الناس بمشركي العرب؛ الذين كانوا يعبدون اللات، والعزى، ومناة الثالثة الأخرى، ووداً، وسواعاً، ويغوث، ويعوق، ونسراً، ونحوها من معبودات أهل الجاهلية، بل مشركو هذه الأزمان وقبلها بدهر طويل أجهل بالله تعالى وتوحيده، وأعظم شركاً من مشركي العرب ومن قبلهم، وبيان ذلك من وجهين:

أحدهما: أن مشركي هذه الأزمان، وقبلها بقرون كثيرة إذا وقعوا في الشدائد أخلصوا الدين لغير الله؛ فتراهم يهتفون باسم علي وغيره من أهل البيت، أو باسم عبد القادر الجيلاني، أو أحمد البدوي، أو الدسوقي، أو زينب، أو أمثال هؤلاء المعبودين من دون الله، وينادونهم من قريب وبعيد، وينذرون لهم النذور، ويقربون لهم القرابين، ويتضرعون إليهم، ويدعونهم رغبا ورهبا، منيبين إليهم، مخلصين لهم الدين، معتقدين أنهم أسرع إجابة لهم وفرجا من الله تعالى، وقلّ من يستغيث منهم بالله في تلك الحال، فشركهم دائم في الرخاء والشدة؛ وهو في الشدة أعظم، وهذا بخلاف ما كان عليه المشركون الأولون فإنهم يشركون في حال الرخاء، فإذا وقعوا في الشدائد دعوا ربهم منيبين إليه، مخلصين له الدين، قال الله تعالى مخبرا عنهم:{فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65]، وقال تعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ

ص: 207

كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} الآية [لقمان: 32]، وقال تعالى:{وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا} [الإسراء: 67]، وقال تعالى:{وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} [الروم: 33]، وقال تعالى:{وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} الآية [الزمر: 8]، وقال تعالى:{قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 40 - 41]، وقال تعالى:{قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 63 - 64]، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن المشركين الأولين أعلم بالله من مشركي هذه الأزمان.

وقد روى النسائي في سننه، عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: لما كان يوم فتح مكة أمّن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلا أربعة نفر وامرأتين، وقال: «اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة؛ عكرمة بن أبي جهل

» وذكر بقية الأربعة- ثم قال: وأما عكرمة فركب البحر فأصابهم عاصف، فقال أصحاب السفينة: أخلصوا فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئا هاهنا، فقال عكرمة: والله لئن لم ينجني من البحر إلا الإخلاص لا ينجيني في البر غيره،

ص: 208

اللهم إن لك عليّ عهدا إن أنت عافيتني مما أنا فيه أن آتي محمدا حتى أضع يدي في يده ولأجدنه عفوَّا كريما، فجاء فأسلم.

الوجه الثاني: أن مشركي هذه الأزمان وقبلها بدهر طويل قد وصلوا إلى دعوى الربوبية في معبوديهم من دون الله، فزعموا أنهم يعلمون الغيب، ويدبرون الأمور، ويتصرفون في الكون بالمشيئة والقدرة العامة؛ فيعطون ويمنعون، وينفعون ويضرون، وينزلون المطر ويشفون المرضى، وينقذون من أشفى على الهلاك في البر والبحر، وينصرون عابديهم، ويهزمون أعداءهم ويقهرونهم، إلى غير ذلك من أفعال الربوبية، وأن ذلك لآلهتهم على سبيل الكرامة، فألهوهم وعبدوهم عبادة ما صدرت من مشركي العرب، ولا ادعاها أحد منهم لوثنه ومعبوده، وقد صرح بعض غلاتهم المتأخرين بأن آلهته تقدر على الخلق وإحياء الموتى، كما ذكر ذلك ابن النعمي وغيره فيما سننقله قريبا إن شاء الله تعالى، وهذا شيء ما وصل إليه أحد من المشركين الأولين ولا حام حول حماه، ومن وقف على كتاب الأغلال للصعيدي الملحد الخبيث فقد وقف على ساحل بحر الكفر بالله العظيم، والاستهزاء به، وسلبه من كل كمال، وإعطاء ذلك للإنسان العاجز الضعيف، وقد حاول المرتد المنسلخ من آيات الله ودينه أن يجعل آلهته من أمم الكفر والضلال أربابا مع الله تعالى، تُنازع الله تعالى في عظمته، وعلمه، وقوته، وقدرته، فتعلم ما لا يعلمه إلا الله، وتقدر على ما لا يقدر عليه إلا الله من جميع أفعال الربوبية، كالخلق، والرزق، والإعطاء، والمنع، والنفع، والضر، وجميع التصرفات الكونية، وأنها تقدر على جَعْل

ص: 209

الحَمَل ذَكَرًا وجَعْله أنثى، يعني فتهب لمن تشاء إناثا، وتهب لمن تشاء الذكور، إلى غير ذلك من دعاواه الباطلة العريضة في كتابه الذي جمع كل شر وبعد عن كل خير، وخليق بكل عاقل أن يُنزّه نفسه عن نقل هذيان ذلك المغرور الجاهل بالله تعالى وعظمته وجلاله، فما أشبهه بمن قال الله تعالى فيه:{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} الآيات [الأعراف: 175 - 176]، وممن قال تعالى فيهم:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ * وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} [الأنعام: 112 - 113]، والحمد لله الذي عافانا وإخواننا المسلمين مما ابتلاه به وابتلى به أمثاله من الزنادقة والملاحدة، ونسأل الله تعالى أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب، وقد قال الله مخبرا عن المشركين الأولين:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} بالزخرف: 87]، وقال تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [العنكبوت: 63]، وقال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ

ص: 210

وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} [يونس: 31]، وقال تعالى:{قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون: 84 - 89]، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على إقرارهم لله تعالى بأفعال الربوبية كلها، وأنه لا شريك له في ذلك.

وقد روى الإمام أحمد، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة، وابن جرير من حديث أبي وائل، عن الحارث البكري قال: خرجت أشكو العلاء بن الحضرمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث وفيه -: إن عاداً قحطوا؛ فبعثوا وافدا لهم يقال له: قيل بن عمرو، فمر بمعاوية بن بكر فأقام عنده شهرا يسقيه الخمر وتغنيه جاريتان يقال لهما: الجرادتان، فلما مضى الشهر خرج إلى جبل مهرة فقال: اللهم إنك تعلم أني لم أجئ إلى مريض فأداويه، ولا إلى أسير فأفاديه، اللهم اسق عادا ما كنت تسقيه. الحديث.

وذكر أبو القاسم السهيلي في كتاب "الروض" ما رواه أبو سليمان الخطابي بإسناده إلى رقيقة بنت أبي صيفي بن هاشم قالت: تتابعت على قريش سنو جدب، فذكرت رؤيا رأتها؛ فيها أمر قريش بالاغتسال والتطيب والطواف بالبيت والاستسقاء عقب ذلك، وأن قريشا فعلوا ذلك، ثم ارتقوا أبا قبيس حتى قروا بذروه الجبل، فقام عبد المطلب فاعتضد ابن ابنه محمدا صلى الله عليه وسلم -

ص: 211

فرفعه على عاتقه - وهو يومئذ غلام - ثم قال: اللهم سادّ الخلة، وكاشف الكربة، أنت عالم غير معلَّم، ومسؤول غير مبخل، وهذه عبداؤك وإماؤك بعذرات حرمك، يشكون إليك سنتهم، فاسمعنّ اللهم وامطرنّ علينا غيثاً مريعا مغدقا، فما راموا حتى انفجرت السماء بمائها، وكظّ الوادي بثجيجه.

وذكر ابن إسحاق في قصة أبرهة صاحب الفيل لما أراد هدم الكعبة أن عبد المطلب قام فأخذ بحلقة باب الكعبة، وقام معه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرون على أبرهة وجنده، فقال عبد المطلب وهو آخذ بحلقة باب الكعبة:

يا رب لا أرجو لهم سواكا

يا رب فامنع منهم حماكا

إن عدو البيت من عاداكا

امنعهم أن يخربوا قراكا

وقال أيضا:

لا همّ إن المرء يمـ

ـنع رحله فامنع رحالك

وانصر على آل الصليـ

ـب وعابديه اليوم آلك

وروى الإمام أحمد، والنسائي، والحاكم، من حديث الزهري، عن عبد الله بن ثعلبة بن أبي صعير أن أبا جهل قال حين التقى القوم: اللهم أقطعنا للرحم، وآتانا بما لا يعرف، فأحنه الغداة، فكان هو المستفتح. قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه.

وقال السدي: كان المشركون حين خرجوا من مكة إلى بدر أخذوا بأستار الكعبة فاستنصروا الله وقالوا: اللهم انصر أعلى الجندين، وأكرم الفئتين،

ص: 212

وخير القبيلتين، فقال الله:{إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} [الأنفال: 19]، يقول: قد نصرت ما قلتم؛ وهو محمد صلى الله عليه وسلم.

فتأمل أيها الموحد -وفقني الله وإياك- حال المشركين الأولين كيف كانوا يفردون الله تعالى بالخلق، والرزق، والإحياء، والإماتة، وإنزال الغيث، وإنبات النبات، وتسخير الشمس والقمر وغيرهما، وتدبير الأمور كلها، معتقدين أنه رب كل شيء ومليكه، بيده ملكوت كل شيء، وهو يجير ولا يجار عليه، وكيف كانوا يفزعون إلى الله تعالى إذا دهمتهم الشدائد، ويستغيثون به وحده، ويطلبون النصر منه، وتفريج الشدائد لا من غيره، وينسون في تلك الأحوال ما كانوا يشركون به من قبل! ثم تأمل حال مشركي زماننا، وما قبله بأزمان كيف صرفوا خصائص الربوبية والألوهية لغير الله، وكيف كانوا يفزعون إلى معبوديهم من دون الله، فيستجيرون بهم مما يخافونه، ويستغيثون بهم في جميع الملمات، ويطلبون منهم النصر، والظفر، وقضاء الحاجات، وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، قد نسوا فاطر الأرض والسموات، واتخذوه

(1)

وراءهم ظهريا، ومع ذلك كله يدَّعون أنهم من أهل الإسلام، {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ * اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المجادلة: 18 - 19]، فقبَّح الله من كانت عاد الأولى وفرعون هذه الأمة وأشياعه أعلم بالله منهم وأشد له إجلالا وتعظيما، وهذا الشرك الأكبر الذي هو أظلم الظلم وأنكر المنكرات وأقبح القبائح،

(1)

جاء في الأصل: واتخذوهم، وهو سبق قلم، والله أعلم.

ص: 213

وأعظم ذنب عُصي الله به، وغاية أمنية إبليس لعنه الله، ما زال يدب في هذه الأمة دبيب السم في جسد اللديغ، حتى طبق مشارق الأرض ومغاربها إلا ما شاء الله منها وهو النزر اليسير، وطغى بَحْره الأجاج على أكثر الممالك الإسلامية، حتى فر الإسلام هاربا منه إلى معاقله الأولى كما هو معلوم بالمشاهدة عند كل من فهم ودرى، وقد سرى هذا الداء العضال في هذه الأمة قديما بعد القرون الثلاثة المفضلة، وما زال شره يستطير ويزداد على ممر الأوقات، حتى عادت الجاهلية الجهلاء في أكثر الأقطار الإسلامية أعظم مما كانت عليه قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يسلم من غائلة هذا الداء القاتل إلا من جرَّد التوحيد لله رب العالمين، ولزم المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم، وما أقلهم في هذه الأزمان المظلمة، فالله المستعان.

وسبب هذا الشرك الذي عظمت فتنته، وتطاير شررها في جميع الآفاق هو الغلو في الصالحين ومن يُظن صلاحه، وبناء المشاهد على قبورهم، وتعظيم القبور، والأشجار، والأحجار، والعيون، والغيران وغيرها بما نهى عنه الشرع، حتى اتُخذ الكثير منها بعد طول الأمد أوثانا وطواغيت تُعبد من دون الله، ويُفعل عندها وبها من أنواع الشرك مثل [ما

(1)

] كان المشركون الأولون يفعلونه عند أوثانهم وطواغيتهم أو أعظم، وهذا مصداق ما تقدم ذكره من حديث ثوبان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان» رواه البرقاني في صحيحه بهذا اللفظ، وأصله في مسلم.

(1)

غير موجودة في الأصل والسياق يقتضيها.

ص: 214

ورواه أبو داود وابن ماجة بلفظ: «حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان» .

ورواه الترمذي بلفظ: «حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين، وحتى يعبدوا الأوثان» وقال: هذا حديث صحيح.

ومثل ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقوم الساعة حتى يرجع ناس من أمتي إلى الأوثان يعبدونها من دون الله» رواه أبو داود الطيالسي.

ففي هذين الحديثين معجزة ظاهرة للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لكونه أخبر عما سيقع بعده، فوقع الأمر طبق ما أخبر به صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين.

ومن المحزن جدا ما نسمعه كثيرا من دعاء غير الله تعالى في أشرف البقاع وأحبها إلى الله تعالى وفي أعظم الأيام عنده، فضلا عما نسمعه كثيرا فيما سوى ذلك من البقاع والأزمان، وكذلك ما نراه في كلام كثير من المنتسبين إلى العلم فضلا عن غيرهم من أنواع الشرك بالله تعالى، وصرف خالص حقه لبعض المخلوقين الذين لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا فضلا عن غيرهم، وكثير من الضُّلال قد اتخذوا البردة والهمزية، وما شابههما -مما هو مشتمل على الشرك بالله تعالى، وزيادة الغلو في المخلوقين- أورادا يحافظون عليها، ويعتنون بها أكثر مما يعتنون بالأوراد والأدعية المأثورة، بل الأوراد والأدعية المأثورة مهجورة عندهم، لا

ص: 215

يعرفونها، ولا يرفعون بها رأسا {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة: 16]، وقلّ أن ترى من يشمئز من هذه الأمور الشركية ويُغيِّرها، ويتبرأ من أهلها ويبغضهم ويعاديهم، ويتقرب إلى الله بمقتهم والبعد عنهم، بل لعل الإنكار لها بأضعف الإيمان قليل في هذه الأزمان، فالله المستعان.

فأما الطامات التي تُفعل الآن في أكثر الأقطار الإسلامية ولاسيما في العراق ومصر، فأمر لا يضبطه الوصف ولا تحيط به العبارة، وحسبك شرا من مصرين هما كالبحر المحيط لأنواع الشرك بالله تعالى في ربوبيته وإلهيته، مع ما ضم إلى ذلك من اطّراح الحكم بالشريعة المحمدية، والاستبدال عنها بأحكام الطاغوت، من قوانين ونظامات وسياسات إفرنجية، وما ضم إلى ذلك أيضا من أنواع البدع والضلالات، والتصديق بالأكاذيب والخرافات، والإصغاء إلى الجهالات والخزعبلات، وما ضم إليه أيضا من مزيد المشابهة لأعداء الله تعالى من اليهود والنصارى والمجوس، وغيرهم من أصناف أعداء الله تعالى في أخلاقهم وآدابهم ولباسهم وهيئاتهم وأنظمتهم وقوانينهم وسياساتهم، وأكثر أحوالهم أو جميعها، وما ضم إليه أيضا من التلبس بأنواع الفسوق والمعاصي واتباع الشهوات، وأعني بهذا حال الأكثرين منهم، فأما أهل الإسلام الحقيقي فيهم فإنهم نزر قليل مستضعفون في الأرض، غرباء بين أهل الشر والفساد الذين أشرنا إليهم، وحال أكثر الأقطار الإسلامية في طغيان الشرك وأنواع البدع وكثرة الشر والفساد وقلة أهل الخير قريب مما ذكرنا عن مصر

ص: 216

والعراق، فلا حول ولا قوة إلى بالله العلي العظيم.

ونذكر ههنا إشارة مختصرة عن محيطي الشرك بالله تعالى، ثم نتبعها بذكر ما شابههما في كثرة الأوثان وأمور الجاهلية، ليعرف الموحدون قدر نعمة الله عليهم، وما اختصهم به من معرفته وتوحيده، وفضلهم بذلك على غيرهم، رحمة منه لهم، وفضلا عليهم، فيشكروه على إنعامه، ويذكروه في أنفسهم تضرعا وخيفة، ويتقوه حق تقاته، ويزدادوا له حبا وإجلالا وتعظيما، فإن فضله كان عليهم عظيما.

فأما العراق ففيه مشاهد كثيرة قد اتخذت أوثانا تعبد من دون الله، ويفعل عندها وبها أعظم مما كان أهل الجاهلية يفعلونه عند اللات، والعزى، ومناة الثالثة الأخرى، فمنها: مشهد علي، ومشهد الحسين، ومشهد العباس، ومشهد موسى الكاظم، ومشهد أبي حنفية، ومشهد معروف الكرخي، ومشهد عبد القادر الجيلاني، وغير ذلك من المشاهد، والقبور التي عظمت الفتنة بها، وأدرك بها عدو الله إبليس غرضه من هذه الأمة بعد ما كان قد أيس من ذلك في أول الإسلام، وقد افتتن سُنّية أهل العراق ورافضتهم بتلك المشاهد إلا من شاء الله منهم، وأعادوا بها المجوسية، وأحيوا بها معاهد اللات والعزة ومناة، ونحوها من معبودات أهل الجاهلية، وافتتن بها أيضا غيرهم في كثير من الأقطار الإسلامية كالشام، ومصر، والمغرب، وبلاد العجم، والهند، والبحرين، والقطيف، والأحساء، وغير ذلك من الأمصار المتباعدة، والرافضة يصلون إلى تلك

ص: 217

المشاهد، ويركعون ويسجدون لمن في تلك الأجداث من الأموات، وينادونهم من قريب وبعيد، يطلبون منهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، ويحجون أيضا إلى تلك القبور، ويطوفون بها، ويستلمون أركانها، ويُقبِّلون حيطانها، ويحلقون الرؤوس عندها، ويقربون لها القرابين، ويصرفون لها من النذور والأموال شيئا كثيرا، ويزعمون أن زيارتهم لعلي وأمثاله أفضل من الحج إلى بيت الله الحرام، وبعضهم يقول أفضل من سبع حجج، وبعضهم يقول أفضل من سبعين حجة، قال الله تعالى في سلفهم:{وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [المائدة: 103 - 104].

وقد صنف بعض متقدميهم من شيوخ الإمامية كتاب سماه مناسك حج المشاهد، وكثير منهم يرون أن كربلاء خير وأفضل من مكة، وقد ذكر لنا أن كثيرا منهم إذا سافروا لزيارة تلك المشاهد يذهب معهم جملة من النساء الأجانب ممن لهن أزواج وممن لا أزواج لهن، فلا يزال أحدهم يزني بمن معه منهن باسم المتعة من حين يخرجن من بيوتهن إلى أن يرجعن إليها، ولا يرون بذلك بأسا، وهذا لا يستبعد من حمير اليهود، الذين لا غيرة لهم ولا أنفة {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 44]، ويشهد لهذا من فعلهم ما ذكره بعض أهل العلم بالإخبار أنهم في بعض المواضع يجتمع رجالهم ونساءهم في ليلة من السنة قيل إنها أول ليلة من برج الحمل

ص: 218

ويسمون يومها يوم النيروز، وقيل غير ذلك، فيقرأ عليهم بعض طواغيتهم مما لفقوه من السخافات والأكاذيب، ثم يقومون فيرقصون، فإذا فرغوا أطفأوا سراجهم، واختلط الرجال بالنساء، فمن وقع في يده امرأة جامعها ولو كانت أمه، أو بنته، أو أخته، أو غيرهن من محارمه، ويقولون هذا اصطياد مباح، ويخصون طاغوتهم بأحسن امرأة تكون في ذلك المجمع، فتجلس إلى جانبه ليزني بها إذا أطفئ السراج، وكل امرأة تحمل من الزنا في تلك الليلة فولدها سيد عندهم، فما أشبههم بمن قال الله تعالى فيهم:{وَلَقَدْ ذَرَانَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179]، وهذه البدعة الشنعاء، والفاحشة الصلعاء تسمى عند القرامطة وأتباعهم بالماشوش، وهي موروثة عنهم، وهم أخذوها عن البابكية أتباع بابك الخرمي، ذكر ذلك الحافظ أبو الفرج ابن الجوزي في تلبيس إبليس، ونقله عنه الحافظ ابن كثير في تاريخه، وذكره غيرهما من أهل العلم بالأخبار، والله أعلم.

وكثير من الرافضة يعبّد أولاده لأهل البيت، فيسميهم عبد علي، وعبد الحسين، وعبد العباس، ونحو ذلك مضاهاة منهم للنصارى في تسميتهم بعبد المسيح، وللمشركين في تسميتهم بعبد العزى، وعبد مناة، وعبد ود، وعبد يغوث، ونحو ذلك، وقد قال الله تعالى: {فَلَمَّا آَتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آَتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ

ص: 219

يَنْصُرُونَ} [الأعراف: 190 - 192]، وقال أبو صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى:{وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَولَادِ} [الإسراء: 4]، قال: هو تسميتهم أولادهم عبد الحارث، وعبد شمس، وعبد العزى، وعبد الدار ونحوها.

قلت: وكذلك الرافضة قد جعلوا للشيطان نصيبا في أولادهم بتسميتهم إياهم عبيدا لغير الله، فصنيع الرافضة في أولادهم كصنيع النصارى والمشركين سواء بسواء، ولآلهتهم من الحب، والتعظيم، والتوقير، والخشية، والاحترام ما ليس معه شيء لله تعالى، ولو طلب من أحدهم أن يحلف بالله تعالى على الكذب لبادر إلى ذلك بلا مبالاة، ولو طلب منه أن يحلف ببعض أهل البيت لنكص واستعظم الحلف بهم على الكذب، وإذا حزب أحدا منهم أمر، أو نزلت به نازلة فإلى أهل البيت مشتكاه، وهم ملجأه في الشدائد كلها، ومستعاذه، ومستغاثه، ولا يعرف له ملجأ وملاذا سوى أهل البيت، تعالى الله وتقدس وتنزه عن إفكهم وشركهم، لا إله إلا هو ولا رب سواه، قال تعالى:{قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آَلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا * سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا} [الإسراء: 42]، وقد حدثني بعض أصحابنا أنه كان مع الإخوان في بعض غزواتهم التي قاتلوا فيها عبدة تلك المشاهد قال: فلحقت رجلا منهم فضربته بالبندق فصاح مستغيثاً بعلي، وما زال يستغيث به حتى خرجت روحه، نعوذ بالله من سوء الخاتمة، وقد قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ

ص: 220

فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأعراف: 194]، وقال تعالى:{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف: 5 - 6]، وقال تعالى:{وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 13 - 14]، وقال تعالى:{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آَلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا * كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} [مريم: 81 - 82]، وقال تعالى:{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آَلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ * لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ} [يس: 74 - 75]، وقبائح الرافضة ودعاواهم في أهل البيت طويلة عريضة، فلا نطيل بذكرها، والله المسؤول أن يطهر الأرض من أدرانهم وأدران إخوانهم من المشركين الذين هم بربهم يعدلون.

وأعظم أوثان العراق فتنة مشهد علي ومشهد الحسين وهما للرافضة، ومشهد عبد القادر الجيلاني وهو للإسماعيلية وكثير ممن ينتسب إلى السنة، وهم برآء من السنة بل ومن الإسلام بالكلية، والفتنة به قديمة.

قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية قدس الله روحه: كان بعض الشيوخ الذين أعرفهم -وله فضل وعلم وزهد- إذا نزل به أمر خطا إلى جهة عبد القادر خطوات معدودات، واستغاث به، قال: وهذا يفعله كثير من الناس وأكبر منه. انتهى.

ص: 221

وقال محمد رشيد رضا: قد ذكروا في بعض الكتب، وما زالوا يتناقلون أن من أصابته شدة فليصل ركعتين، ثم ليتوجه إلى الشرق؛ أي إلى بغداد، وينادي الشيخ وينشد هذين البيتين في الاستغاثة والاستجارة به:

أيدركني ضيم وأنت ذخيرتي

وأُظلم في الدنيا وأنت مجيري!

وعارٌ على راعي الحمى وهو في الحمى

إذا ضاع في الهيجا عقال بعير

ويقول: سيدي عبد القادر اقض حاجتي، ويذكرها، قالوا: فإنها تقضى وإن ذلك مُجرَّب، وقد يروون ذلك عنه، برأه الله من شركهم بالله وكفرهم بدينه. انتهى.

وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله تعالى: اشتهر عن ابن كمال بأخبار الثقات أنه يقول: عبد القادر في قبره يسمع، ومع سمعه ينفع، قال الشيخ رحمه الله تعالى: وهذا قول شنيع، وشرك فظيع.

وقال أيضا: وكذلك ما يفعله أهل العراق، والمغرب، والسواحل، والهند من البناء على قبر عبد القادر الجيلاني، وبناء المشاهد لعبادة عبد القادر، كالمشهد الذي في أقصى المغرب، والذي في الهند، وينادونه من مسافة أشهر بل سنة لتفريج كرباتهم، وإغاثة لهفاتهم، ويعتقدون أنه من تلك المسافة يسمع داعيه، ويجيب مناديه، وهو لما كان حيا يسمع ويبصر لم يعتقد أحد فيه أنه يسمع من ناداه من وراء جدار، ثم بعد موته صار منهم بما صار، وهل هذا إلا لاعتقادهم أنه يعلم الغيب، ويقدر على ما لا يقدر عليه إلا الله، فهذا الذي يفعله هؤلاء مع ما ذكرنا إنما هو من تأله القلوب بهم، وشدة اعتقادهم فيهم، فما أعظم ما وقع من الشرك في كثير من هذه

ص: 222

الأمة، فقد ربا على شرك أهل الجاهلية، فإن أولئك أقروا بتوحيد الربوبية، وجحدوا توحيد الألوهية، وهؤلاء صرفوا خصائص الربوبية والإلهية لغير الله، فالله المستعان. انتهى ملخصا.

وقال المنفلوطي في كتابه "النظرات": كَتَبَ إليَّ أحد علماء الهند كتابا يقول فيه: إنه اطلع على مؤلَّف ظهر حديثا بلغة الهنود، موضوعه تاريخ حياة عبد القادر الجيلاني، وذكر مناقبه، وكراماته، فرأى فيه من بين الصفات والألقاب التي وصف بها الكاتب عبد القادر ولقبه بها صفات وألقاب هي بمقام الألوهية أليق منها بمقام النبوة، فضلا عن مقام الولاية، كقوله: سيد السموات والأرض، والنفّاع الضرّار، والمتصرف في الأكوان، والمطلع على أسرار الخليقة، ومحيي الموتى، ومبرئ الأعمى والأبرص والأكمه، وأمره من أمر الله، وماحي الذنوب، ودافع البلاء، والرافع الواضع، وصاحب الشريعة، وصاحب الوجود التام

إلى كثير من أمثال هذه النعوت والألقاب، ويقول الكاتب إنه رأى في ذلك الكتاب فصلا يشرح فيه المؤلف الكيفية التي يجب أن يتكيف بها الزائر لقبر عبد القادر الجيلاني، يقول فيه: أول ما يجب على الزائر أن يتوضأ وضوءا سابغا، ثم يصلي ركعتين بخشوع واستحضار، ثم يتوجه إلى قبة القبر، وبعد السلام على صاحب الضريح يقول: يا صاحب الثقلين أغثني، وأمدني بقضاء حاجتي، وتفريج كربتي، أغثني يا محيي الدين عبد القادر، أغثني يا ولي عبد القادر، أغثني يا سلطان عبد القادر، أغثني يا بادشاه عبد القادر، أغثني يا خوجه عبد القادر، يا حضرة الغوث الصمداني، يا سيدي عبد القادر عبدك ومريدك مظلوم عاجز،

ص: 223

محتاج إليك في جميع الأمور؛ في الدين والدنيا والآخرة.

ويقول الكاتب أيضا: إن في بلدة ناقور في الهند قبرا يسمى شاه عبد الحميد، وهو أحد أولاد عبد القادر كما يزعمون، وإن الهنود يسجدون بين يدي ذلك القبر سجودهم بين يدي الله، وإن في كل بلدة من بلدان الهند وقراها مزارا يمثل مزار عبدالقادر، فيكون القبلة التي يتوجه إليها المسلمون في تلك البلاد، والملجأ الذي يلجئون في حاجاتهم وشدائدهم إليه، وينفقون من الأموال على خَدَمته وسدنته وفي موالده وحضراته ما لو أنفق على فقراء الأرض جميعا لصاروا أغنياء.

قال المنفلوطي: هذا ما كتبه إليَّ ذلك الكاتب، ويعلم الله أني ما أتممت قراءة رسالته حتى دارت بي الأرض الفضاء، وأظلمت الدنيا في عيني، فما أبصر مما حولي شيئا حزنا وأسفا على ما آلت إليه حالة الإسلام بين أقوام أنكروه بعد ما عرفوه، ووضعوه بعدما رفعوه، وذهبوا به مذاهب لا يعرفها ولا شأن له بها، أيُّ عين يجمل بها أن تستبقي في محاجرها قطرة واحدة من الدمع فلا تريقها أمام هذا المنظر المؤثر المحزن؟! منظر أولئك المسلمين وهم ركع سجد على أعتاب قبر ربما كان بينهم من هو خير من ساكنه في حياته، فأحرى أن يكون كذلك بعد مماته، أيُّ قلب يستطيع أن يستقر بين جنبي صاحبه ساعة واحدة، فلا يطير جزعا حينما يرى المسلمين أصحاب دين التوحيد أكثر من المشركين إشراكا بالله، وأوسعهم دائرة في تعدد الآلهة وكثرة المعبودات؟! والله لن يسترجع المسلمون سالف مجدهم إلا إذا استرجعوا ما أضاعوه من عقيدة التوحيد، وإن طلوع الشمس من مغربها،

ص: 224

وانصباب ماء النهر في منبعه أقرب من رجوع الإسلام إلى سالف مجده ما دام المسلمون يقفون بين يدي الجيلاني كما يقفون بين يدي الله، ويقولون له: أنت المتصرف في الكائنات، وأنت سيد الأرضين والسموات، بمن أستغيث؟ وبمن أستنجد؟ ومن الذي أدعوه لهذه الملمة

(1)

الفادحة؟ أأدعو علماء مصر وهم الذين يتهافتون على يوم الكنيسة تهافت الذباب على الشراب؟ قال في الهامش يوم الكنسة: يوم يذهب فيه علماء الدين إلى ضريح الإمام الشافعي للتبرك بكنس ترابه- قال المنفلوطي: أم علماء الأستانة وهم الذين قتلوا جمال الدين الأفغاني ليُحيوا أبا الهدى الصيادي شيخ الطريقة الرفاعية؟ أم علماء العجم وهم الذين يحجون إلى قبر الإمام كما يحجون إلى بيت الله الحرام؟ أو علماء الهند وبينهم أمثال مؤلف هذا الكتاب؛ يعني الكتاب المصنف في مناقب الجيلاني؟ يا قادة الأمة ورؤسائها، عذرنا العامة في إشراكها وفساد عقائدها، وقلنا: إن العامي أقصر نظرا وأضعف بصيرة، فما عذركم أنتم وأنتم تتلون كتاب الله، وتقرؤون صفاته ونعوته، وتفهمون معنى قوله تعالى:{قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل: 65]، وقوله مخاطبا نبيه:{قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا} [الأعراف: 188]، وقوله:{وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17]؟! إنكم تقولون في صباحكم ومسائكم، وغدوكم ورواحكم: كل خير في اتباع من سلف، وكل شر في ابتداع من خلف، فهل تعلمون أن السلف الصالح كانوا يخصصون قبرا

(1)

في المخطوط [الملة]، والتصحيح من النظرات 2/ 69 ط. دار الشروق العربي.

ص: 225

أو يتوسلون بضريح؟ وهل تعلمون أن واحدا منهم وقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم أو قبر أحد من أصحابه وآل بيته يسأله قضاء حاجة أو تفريج هم؟ وهل تعلمون أن الرفاعي، والدسوقي، والجيلاني، والبدوي أكرم عند الله وأعظم وسيلة إليه من الأنبياء، والمرسلين، والصحابة، والتابعين؟ وهل تعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما نهى عن إقامة الصور والتماثيل نهى عنها عبثا ولعبا، أم مخافة أن تعيد للمسلمين جاهليتهم الأولى؟ وأي فرق بين الصور والتماثيل، وبين الأضرحة والقبور ما دام كل منهما يجر إلى الشرك، ويفسد عقيدة التوحيد؟ والله ما جهلتم شيئا من هذا، ولكنكم آثرتم الحياة الدنيا على الآخرة، فعاقبكم الله على ذلك بسلب نعمتم وانتقاض أمركم، وسلّط عليكم أعداءكم يسلبون أوطانكم ويستعبدون رقابكم ويخربون دياركم، والله شديد العقاب. انتهى كلامه باختصار، ولقد أجاد في هذا الموضع وأفاد.

وفيما ذكرت ههنا عن المحيط الشرقي كفاية.

وأما المحيط الغربي ففي بلاد مصر وأعمالها، وهي شقيقة العراق في كثرة الأوثان والطواغيت التي تعبد من دون الله، وقد جمعت من الأمور الشركية والعبادات الوثنية والدعاوي الفرعونية ما لا يتسع له كتاب، كيف لا؟! وقد باض فيها إبليس وفرّخ، وبسط عليها عبقريه، وفيها مشهد أحمد البدوي، وهو أعظم الأوثان المصرية فتنةً، ويضاهي مشهد الحسين، وعبد القادر الجيلاني في كثرة الإشراك به، وفي كثرة من ينتابه من قريب وبعيد، يطوفون حوله ويتمسحون بأحجاره، ويسجدون على عتبته،

ص: 226

ويدعونه رغبا ورهبا، يرجون منه قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، وينفقون في زيارته ومولده وعلى سدنته من الأموال ما لا يحصى كثرة، فما أشبههم بمن قال الله تعالى فيهم:{فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً} [الأنفال: 36]، ويجعلون له نصيبا مما رزقهم الله تعالى من الأموال والأولاد، ويقربون له القرابين، ويذبحونها على اسمه، وما يجعلون له من أولادهم إما تمليكا له، أو شراء منه بزعمهم، فإن كان ذكرا دفعوا ثمنه لصندوق السحت، أو جعلوه رسما جاريا للصندوق كل عام، وإن كان بنتا فله مهرها أو نصفه أو جزء معلوم منه، قال الله تعالى:{وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ} [النحل: 56]، وقد استباحوا عند مشهده من المنكرات والفواحش ما لا يمكن حصره ولا يستطاع وصفه، واعتمدوا في ذلك على الحكايات والخرافات والجهالات التي لا تصدر عمن له أدنى مسكة من عقل، فأولئك كالأنعام بل هم أضل، أولئك هم الغافلون.

ومن الأوثان المصرية التي عظم افتتانهم بها، وافتتن بها غيرهم أيضا مشهد الحسين، والرفاعي، والدسوقي، والحنفي، ونفيسة، وزينب، وأمثالهم من المعتقدين المعبودين من دون الله، وقد جاوزوا بهم ما ادعاه المشركون الأولون لآلهتهم، وجمهورهم يرون لهم أو لبعضهم من تدبير الربوبية، والتصرف في الكون بالمشيئة، والقدرة العامة ما لم ينقل مثله عن أحد من أهل الجاهلية الذين بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عمن قبلهم من أئمة الكفر والضلال كالفراعنة والنماردة، وبعضهم يقول: يتصرف في

ص: 227

الكون سبعة، وبعضهم يقول أربعة، وبعضهم يقول: قطب يرجعون إليه، وكثير منهم يرى أن الأمر شورى بين عدد ينتسبون إليه، تعالى الله وتقدس عما يقول الظالمون الجاحدون علوا كبيرا، قال الله تعالى:{أَمِ اتَّخَذُوا آَلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ * لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنبياء: 21 - 22].

وقد ذكر محمد رشيد رضا أن في بعض كتب الرفاعية أن أحمد الرفاعي كان يُفقر ويُغني، ويُسعد ويُشقي، ويُميت ويُحيي، وفيها أن السموات السبع في رجله كالخلخال. انتهى.

قلت: ومن هذا الهوس والجنون ما ذكر عن بعض شياطينهم المتقدمين أنه قال: رأيت لهاتي الفوقانية فوق السموات، وحنكي تحت الأرضين، ونطق لساني بلفظة لو سُمعت مني ما وصل إلى الأرض من دمي قطرة. وهذا اللفظة هي التي تكلم بها إمامهم فرعون، كما ذكرها الله عنه في سورة النازعات، وكان فرعون مع قلة عقله أعقل منهم، فلم يقل إنه التقم السموات والأرض، ولا أن السموات في رجله كالخلخال، ونحو هذا الهذيان والسخف الذي يضحك منه السفهاء والصبيان فضلا عن العقلاء.

قال الشيخ سليمان بن سحمان رحمه الله تعالى: قال شيخنا الشيخ عبد اللطيف قدس الله روحه: من وقف على كتاب مناقب الأربعة المعبودين بمصر وهم البدوي، والرفاعي، والدسوقي، ورابعهم فيما أظن أبو العلاء، فقد وقف على ساحل كفرهم، وعرف صفة إفكهم، قال: وقد اجتمع جماعة من الموحدين من أهل الإسلام في بيت رجل من أهل مصر،

ص: 228

وبقربه رجل يدَّعي العلم، فأرسل إليه صاحب البيت فسأله بجمع من الحاضرين، فقال له: كم يتصرف في الكون؟ قال: يا سيدي سبعة، قال: من هم؟ قال: فلان، وفلان، وعد أربعة من المعبودين بمصر، فقال صاحب الدار لمن بحضرته من الموحدين: إنما بَعثتُ لهذا الرجل وسألته لأعرفكم قدر ما أنتم فيه من نعمة الإسلام، أو كلاما نحو هذا.

قال: وقد ذكر هذا شيخ الإسلام في منهاجه عن غلاة الرافضة في علي، فعاد الأمر إلى الشرك في توحيد الربوبية والتدبير والتأثير، ولم يبلغ شرك الجاهلية الأولى إلى هذه الغاية، بل ذكر الله جل ذكره أنهم يعترفون له بتوحيد الربوبية ويقرون به، ولذلك احتج عليهم في غير موضع من كتابه بما أقروا به من الربوبية والتدبير على ما أنكروه من الإلهية.

قال الشيخ: وحدثني سعد بن عبد الله بن سرور الهاشمي رحمه الله أن بعض المغاربة قدموا مصر يريدون الحج، فذهبوا إلى الضريح المنسوب إلى الحسين بالقاهرة، فاستقبلوا القبر، وأحرموا، ووقفوا، وركعوا، وسجدوا لصاحب القبر، حتى أنكر عليهم سدنة المشهد وبعض الحاضرين، فقالوا: هذا محبة في سيدنا الحسين، وذكر بعض المؤلفين من أهل اليمن أن مثل هذا وقع عندهم.

قال: وحدثني الشيخ خليل الرشيدي بالجامع الأزهر أن بعض أعيان المدرسين هناك قال: لا يُدق وتد في القاهرة إلا بإذن أحمد البدوي، قال: فقلت له: هذا لا يكون إلا لله! أو كلاما نحو هذا، فقال: حبي في سيدي أحمد البدوي اقتضى هذا. انتهى المقصود مما نقله الشيخ سليمان عن

ص: 229

شيخه الشيخ عبد اللطيف رحمهما الله تعالى.

وقال محمد رشيد رضا: ومن كلمات خواصهم التي سمعت من بعض قضاة الشرع وغيرهم من أهل العلم، قولهم عند القبر المنسوب إلى الحسين: يا سيدي العارف لا يُعرَّف. انتهى.

ومعنى قول أولئك المشركين "العارف لا يعرَّف": أن صاحب القبر يعلم الغيب، ويعرف ما تكنه صدور سائليه من الحاجات التي يرجون منه قضاءها، وما يخافونه من المكاره التي يرجون منه أن يدفعها عنهم، ومجرد وقوفهم عنده راغبين أو راهبين يكفيهم عن البيان له؛ لعلمه بأحوالهم وما في أنفسهم على زعمهم الكاذب، سبحانه وتعالى عما يشركون، قال تعالى:{قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل: 65]، وقال تعالى:{وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} [القصص:69].

وقد تقدم ما ذكره المنفلوطي من تهافت علماء مصر على يوم الكنيسة تهافت الذباب على الشراب، فإذا كان حال خاصتهم من العلماء والقضاة وغيرهم ما ذكرنا، فكيف تكون حال العوام؟! فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ولهذا لما ادَّعى بعض دجاجلتهم منذ بضع سنين أنه رب العالمين تبعه واستجاب له فئام منهم، قيل إنهم ثمانون ألفا، {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} ، ويستثنى من علمائهم أفراد قليلون، لهم مقامات في الإرشاد، والدعوة إلى التوحيد، والتحذير من ضده، وجهاد الوثنيين بالقلم واللسان، ولهم في ذلك كتب وتعليقات

ص: 230

كثيرة معروفة، جزاهم الله خيرا، ونصرهم على أعداء الدين، وثبت أقدامهم، وكثرهم، فأما الأكثرون من الخاصة والعامة فكما ذكر عنهم المنفلوطي وغيره ممن تقدم ذكرهم.

وقال العلامة حسين بن مهدي النعمي اليمني رحمه الله تعالى: ومن طرائف ما يحكى أن رجلا سأل من فيه مسكة من عقل فقال: كيف رأيت الجمع لزيارة الشيخ؟ فأجابه: لم أر أكثر منه إلا في جبال عرفات، إلا أني لم أرهم سجدوا لله سجدة قط، ولا صلوا مدة الثلاثة الأيام فريضة! فقال السائل: قد تحمَّلها عنهم الشيخ، قال ابن النعمي رحمه الله: وباب قد تحمل عنهم الشيخ مصراعاه ما بين بصري وعدن، قد اتسع خرقة، وتتابع فتقه، ونال رشاش زقومه الزائر والمعتقد، وساكن البلد والمشهد، وهو أمر شهير في العامة، فقل أي ملة -صان الله ملة الإسلام- لا يمانعها كل ذلك، ولا يدافعها. انتهى.

قال الشيخ سليمان بن سحمان رحمه الله تعالى: حدثني الشيخ إسحاق -يعني ابن عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله تعالى-: أنه رأى أيام رحلته إلى مصر للطلب هذا المجمع العظيم الذي يسمونه مولد أحمد البدوي، فذكر أنه أعظم مما رآه في جبال عرفات، قال: ورأيت فيه سوقا طويلا للبغايا اللاواتي أوقفن أنفسهن للزنا في هذا المجمع صدقة لسيدهم أحمد البدوي، وليس هذا بعجيب ولا غريب من فعلهم، فإنه يجري منهم في ذلك الجمع من الكفر بالله والإشراك به ما لم يصل إلى ساحله كفر أبي جهل وأشياعه، فالله المستعان. انتهى.

ص: 231

قلت: وقد ذكر بعض الصحفيين من أهل مصر أن الزوار لمولد البدوي في سنة ألف وثلاثمائة وأربع وسبعين بلغوا خمسمائة ألف تقريبا، وأنه تزوج في ذلك المجمع عشرة آلاف تقريبا، وختن فيه من الأطفال أكثر من ذلك، يرجون بذلك البركة من البدوي، فالله المستعان.

قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن قدس الله روحه: صح عن البدوي أنه ما كان يصلي، بل يبول في المسجد ولا يتطهر. ذكر ذلك السخاوي عن أبي حيان مشاهدة منه لذلك.

قال الشيخ رحمه الله: وقد افتتن أهل مصر به وبأمثاله من الأموات، فاعتقدوا فيه أنه يفك الأسير إذا دعاه وهو في أيدي الكفار، وينجي من أشفى على الغرق في البحار، ويطفئ الحريق إذا اضطرمت فيه النار، وينادونه من مكان بعيد، وهم لا يعتقدون أن حيًّا مِن الفُضلاء فيهم يسمع ويبصر لا يسمع من ينادونه من فرسخ فأقل، فصار هذا الميت المدفون في مقر الأرض، الذي تقطعت أوصاله في اعتقادهم أنه يسمع مناديه من البحور، ومن هو عنه بمسافة شهور، كما كان أهل العراق يعتقدون ذلك في عبد القادر وغيره، وهل هذا إلا لاعتقادهم أنه حي كحياة الله، وأنه يسمع ويبصر ويقدر ويرحم وينتقم كشأن رب العالمين، وأنه لذلك يعلم الغيب، ويضر وينفع ويقدر على ما لا يقدر عليه إلا الله، وأنهم بعقيدتهم الوثنية يفعلون في مولد البدوي من عظائم الشرك والفساد ما يطول تعداده، إذ يعتقدون عقيدة جازمة أنه يتحمل عن الزناة واللوطية في مولده ذنوبهم؛ بمعنى أنه يُكفّرها عنهم، وبعضهم يسجد على باب حضرته، وبعض المؤذنين

ص: 232

بالقاهرة إذا فرغ من الأذان ينادي بأعلى صوته قائلا: يا أبا فراج؛ يعنون بهذه الكنية أن يفرج الكربات، ولا يخفى ما بين القاهرة وقبره من البعد، فإنه في قرية في غربي مصر اسمها طنطا. انتهى كلامه رحمه الله تعالى.

وحدثنا صاحب لنا أنه رأى في جبل المقطم مغارة عظيمة، قد عشش عليها بعض الشياطين، وجعلها مزارا للفساق والغوغاء، وبنى في أقصاها بيتا، وجعل عليه بابا وسادنا، وزين للجهال الطغام الذين هم أضل سبيلا من الأنعام أن التمرغ فيه يشفي من الأمراض مهما كانت، ويحبل العواقر ولابد، فافتتن به المصريون فتنة عظيمة، وجعلوا يذهبون إليه لهذه المقاصد، فكل مريض أعياهم دواؤه يذهبون به إلى تلك المغارة، ليتمرغ في ذلك البيت منها كما يتمرغ الحمار، وكل من لم تحمل من النساء تذهب إليه فتتمرغ فيه، وكذلك يصنع الرجل إذا لم يحمل له، قال صاحبنا: دخلت تلك المغارة في سياحتي، وشاهدت هذا البيت في أقصاها، وما يصنع فيه، وذكر أنه لم يبق فيه تراب أبدا من كثرة ما يتمرغ فيه، وقد عاد الصخر في أرضه بسبب التمرغ أملس جدا شبيها بالرخام الأملس، وقد قال الله تعالى:{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [النمل: 62 - 64]، وقال تعالى عن خليله إبراهيم:{وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80]،

ص: 233

وهؤلاء المشركون يطلبون الشفاء والنفع وقضاء الحاجات وتفريج الكربات من الأموات والمغارات والصخور والأتربة، فما أشبههم بمن قال الله تعالى فيهم:{وَلَقَدْ ذَرَانَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179].

والعجب كل العجب من طوائف ينتسبون إلى السنة والجماعة، ويزعمون التمسك بما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعون لهم بإحسان، ثم هم مع هذا يخالفون حكم الكتاب والسنة، فيتولون من وصفنا حالهم وذكرنا يسيرا من أفعالهم، ويوادونهم ويبالغون في إكرامهم وتوقيرهم واحترامهم، وهذا يناقض ما زعموه ويهدمه من أصله، قال الله تعالى:{لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} الآية [المجادلة: 22]، وما أحسن ما قيل:

وما الدين إلا الحب والبغض والولا

كذاك البرا من كل غاوٍ ومعتد

* * *

ص: 234

فصل

وفي بلاد اليمن من الأمور الشركية والعبادات الوثنية نظير الجاهلية الأولى، ونظير ما يفعل في العراق والبلاد المصرية، كما ذكر ذلك أهل الخبرة بهم من أعيان علمائهم المتأخرين وغيرهم.

قال العلامة محمد بن إسماعيل الصنعاني رحمه الله تعالى في كتابه "تطهير الاعتقاد": أهل العراق، والهند يدعون عبد القادر الجيلاني، وأهل التهائم لهم في كل بلد ميت يهتفون باسمه، يقولون: يا زيلعي، يا ابن العجيل، وأهل مكة وأهل الطائف: يا ابن العباس، وأهل مصر: يا رفاعي، يا بدوي، والسادة البكرية وأهل الجبال: يا أبا طير، وأهل اليمن: يا ابن علوان، وفي كل قرية أموات يهتفون بهم، وينادونهم، ويرجونهم لجلب الخير ودفع الضر، وهو بعينه فعل المشركين في الأصنام كما قلنا في الأبيات النجدية:

أعادوا بها معنى سواع ومثله

يغوث وودّ بئس ذلك من ود

وقد هتفوا عند الشدائد باسمها

كما يهتف المضطر بالصمد الفرد

وكم نحروا في سُوحها من بحيرة

أُهِلّتْ لغير الله جهرا على عمد

وكم طائف حول القبور مُقبِّل

ومستلم الأركان منهن باليد!

وأعجب من هذا أن القبوريين وغيرهم من الأحياء ومن أتباع من يعتقدون فيه يجعلون له حصة من الولد إن عاش، ويشترون منه الحمل في بطن أمه ليعيش، ويأتون بمنكرات ما بلغ إليها المشركون.

ص: 235

ولقد أخبرني بعض من يتولى قبض ما ينذر القبوريون لبعض أهل القبور أنه جاء إنسان بدارهم وحلية نسائية، وقال: هذه لسيده فلان -يريد صاحب القبر- نصف مهر ابنتي لأني زوجتها، وكنت ملَّكت نصفها فلانا -يريد صاحب القبر- وهذه النذور بالأموال، وجعل قسط منها للقبر، كما يجعلون شيئا من الزرع يسمونه ثلما في بعض الجهات اليمنية، وهذا شيء ما بلغ إليه عُبّاد الأصنام، وهو داخل تحت قوله تعالى:{وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} [النحل: 56] بلا شك ولا ريب.

وأخبرني من أثق به أنه رأى من يسجد على عتبة مشهد الولي الذي يقصده، تعظيما له وعبادة، ويقسمون بأسمائهم، بل إذا حلف من عليه حق باسم الله تعالى لم يقبل منه، فإذا حلف باسم ولي من أوليائهم قبلوه وصدّقوه، وهكذا كان

(1)

عُبّاد الأصنام. انتهى ملخصا.

وقال العلامة حسين بن مهدي النعمي التهامي ثم الصنعاني رحمه الله تعالى في كتابه "معارج الألباب": طالما شاهدنا عُبّاد أرباب هذه القباب إذا التطمت عليهم أمواج البحر سمعت ذكر الزيعلي، والحداد، وكل يدعو شيخه عند ذلك الاضطراب، ولكل من الجيلاني، وابن علوان، والعيدروس، والحداد وغيرهم من آلهة هذه الطوائف طائفة من العُبّاد -وأطال الكلام رحمه الله تعالى- ثم ذكر ما فشا في العامة من أنواع الشرك، وما صار هجيراهم عند الأموات، من دعائهم، والاستغاثة بهم،

(1)

في الأصل المخطوط (كانت) ولعلها سبقة قلم. ينظر (تطهير الاعتقاد 29].

ص: 236

والعكوف حول أجداثهم، ورفع الأصوات بالخوار، وإظهار الفاقة والاضطرار، واللجأ في ظلمات البحر، والتطام أمواجه الكبار، والسفر نحوها بالأزواج والأطفال، والالتجاء المحقق إلى سكان المقابر في فتح أرحام العقام، وتزويج الأرامل والأيامى، واستنزال السحائب والأمطار، ودفع المحاذير من المكاره والشدائد، والإناخة بأبوابها لنيل ما يرام من الحوائج والمقاصد، وبالجملة فأي مطلب، وأي مهرب ترى هنالك ربع المشهد مأهولا، وقد قطعت إليه المهامه وعوراً وسهولاً، والنداء لساكنه أن يمنح أو يريح، والتأدب والخضوع والتوقير والرغبة ومشاعر الرهبة، وينضاف إلى ذلك - خصوصا في الزيارات في الأعياد والموالد - نحر الأنعام وترك الصلاة، وصنوف الملاهي، وأنواع المعاصي للمليك العلام.

وكثيرون لا طمع في حصرهم، ولعلهم العموم إلا من شاء الله إن لم تلد زوجة أحدهم، أو طال مرض مريض منهم، أو أصاب امرأة التوق إلى النكاح، أو قحطت الأرض، أو دهمهم نازل من عدو أو جراد أو غيرهما، أو راموا أمرا عناهم تحصيله، فالولي في كل ذلك نصب العين، وحاصل معتقدهم أن للولي اليد الطولى في الملك والملكوت، فإن العامة في كثير من حالاتهم وتقلبهم قد بدلوا معالم الشرع بسواها؛ فجعلوا الذهاب إلى قبة الشيخ والتضرع له والإلحاح عليه عوضا عن الخروج إلى ظاهر البلد للاستسقاء، وجمهورهم لا يعرف لهذا المقام وظيفة سوى عتبات المشايخ، ولقد سلكوا هذا المسلك في مريض أعيى داؤه، وذليل قهره أعداؤه، وذي سفينة عصفت عليها الرياح، وتجارة امتدت آمال

ص: 237

قاصدها إلى نيل الأرباح، فيقول أحدهم: ألتمس بركة الشيخ وكرامته فأنزل بهذا البلد، وبعد ذلك حصلت لنا من الشيخ كرامة أو ما قبلنا أو شبه ذلك.

وحيث إن جماهير من العامة لا يحصون في أقاليم واسعة وأقطار متباعدة ونواحي متباينة- لما كانوا قد نشأوا لا يعرفون إلا ما وجدوا عليه مَن قبلهم من الآباء والشيوخ من هذه العقائد الوثنية والمفاسد، فتجدهم إذا شكى أحدهم على الآخر نازلة نزلت فلعله لا يخطر له في بال إلا: هل قد ذهبت إلى الولي؟ وقد يضرب له الأمثال بأن فلانا كان من أمره كذا، وفلانا كان من أمره كذا، حتى أنسوا بهذا الباب أكثر مما يصفه الواصف، حتى أنَّا شاهدنا ما لا يحصى قدره الآن إذا سقطت دابة أحدهم أو عثر هو، أو بغتته حادثة من هذا القبيل نادى ببديهة الحس: يا هادياه، يا ابن علوان، يا جيلاني.

ومن عجيب ما أتته العامة من طرائف هذا الباب وغرائبه الفاحشة ما شاهدناه بالمعاينة مكتوبا على راية مشهد من المشاهد: هذه راية البحر التيار فلان بن فلان، به أستغيث وأستجير، وبه أعوذ من النار.

ومن ذلك أن حيا من أهل البوادي إذا أرسلوا أنعامهم للمرعى قالوا: في حفظك يا فلان؛ يعنون ساكن مشهدهم، وأنهم إذا أرادوا السفر إلى جهة استأذنوه، والعمل في الجواب على سادن المشهد، حتى إنه اشتد المرض برجل من العامة فشد رحاله إلى قبر الولي يستجير به، أو عنده من الموت، فهلك هنالك، ومنهم من يخاطب الولي بزعمه فيقول: يا خالق الولد الذي تخلقه مطهور، ومنهم أقوام يخاطبون المقبور من مسافة أربعة

ص: 238

برد وأكثر من ذلك، وينادونه يسألونه المطر.

وكثيرون لا يدخلون تحت حد الإحصاء إذا كان الحلف باسم الله أقدم عليه الحالف بلا مبالاة، حتى إذا طلب منه الحلف بصاحب القبر -وبالأخص إذا ألزمه محلفه بإمساك حلقة باب النصب- فلا يتجاسر قط إن كانت يمينا فاجرة، وقد لا يرضى المحلوف له إلا بذلك دون الرسم الشرعي، ويعتقد أنه إن أقدم الحالف فإن كان بارا وإلا بادره الولي بالعقوبة العاجلة والبطشة الكبرى، وهذا باب عمّت به البلوى، وأصاب شواظه كثيرا من العامة، لا يرضى من خصمه مثلا إلا باليمين على الشيخ أو به، وساعدهم في ذلك بعض الذين انتصبوا للحكومة بين العباد لجهل بما يلزم الذمة، وكانت منهم تلك المساعدة، أو وقع في الخطر من جهالة العامة، لما أنه صورة تقرير ممن يظنونه أخا علم، فيقول ذلك الحاكم: لا بأس أجبه إلى الحلف على قبر الشيخ، فإن رجع عن الإصرار على اليمين ظن الحاكم أنه قد أتى على الوجه الأحمد، الذي يخرج به الحق ممن هو عليه، وما علم الغافل ما تضمنه مقامه هذا من تبديل حكم الله تعالى وتشريع في الدين لم يأذن به الله، وتقرير لهذه الشناعة في قلوب العامة.

ولقد بلغنا أن رجلا من أهل ذمار ولي القضاء بمدينة بيت الفقيه ابن عجيل في زمن قريب من عصرنا هذا، فتداعى عنده رجلان من أهل الجهة وجبت اليمين على أحدهما، فأراد تحليف خصمه على مشهد الفقيه أحمد بن موسى عجيل عملا بما في باله وعادة من هناك، فقال الحاكم: والله ما يحلف لك إلا في مقامي هذا، فألهم الله الرجل حينئذ الفطرة الإسلامية والطريقة الإبراهيمية.

ص: 239

ونمي إلينا بطريق قوي أن رجلا حلف لغريمه أن لا حق له، فبعد ذلك سأله اليمين بمعتقد يسمى شويع، فنكل وسلّم الدين.

وما سقنا هذه الكلمات عن العامة إلا على سبيل المثال، وهذا شيء لا يختص به الواحد والاثنان، ولا البلدة والبلدتان، ولا القطر ولا القطران، بل عمّ أمر المشاهد وعبادة الأموات البلاد من أقصاها إلى أقصاها، حتى آل الأمر إلى أن عاد غصن الشرك غضا طريا، ويبلغنا من ذلك الكثير الذي لا يحويه السطور سوى ما سمعناه وشاهدناه، ونحن ببلد أقل شيء فيها هذا القبيل، وإلا فمن سكن بفرس، والمخا، وصعدة، وغيرها من قطرنا هذا خاصة -كيف سواه- رأى العجب إن كان قلبه حيا.

ومن ذلك أن امرأة كُفّ بصرها ومات ولدها، فنادت وليها: أما الله فقد صنع ما ترى، ولم يبق إلا حسبك فيَّ.

ومن ذلك -وهو من أشهر عجائبهم المعلومة في نواحي البلدان- شراؤهم الأولاد بزعمهم من الميت بشيء معين، فيبقى ثمنه رسما جاريا يؤدى كل عام لصندوق الولي، وإن كانت امرأة فمهرها له، أو نصف مهرها، إذ هي مشتراة منه.

ومن ذلك -وهو من طرائفهم الشهيرة أيضا- ترك أشجار ومراع حول المشهد -لمكان قربها منه- مع الحاجة الشديدة إليها، فتبقى على ممر الأزمان سائبة.

ومن عجائبهم ما حدّث به جمع من أهل الدين أنه وقع في زيارة بعض المشاهد اجتماع خلق كثير من الرجال والنساء والأطفال، فكان هناك

ص: 240

من القبائح ما منه السجود للمعتقد، شاهد ذلك الجمع ما ذكر عيانا.

ومن ذلك -وهو من غرائب الانحلال من الدين-: أن جماعة من العامة خرجوا من مسجد بجوار مشهد بعد أن صلوا فريضة من المكتوبات، فدخلوا المشهد، فرفعوا وضموا وركعوا إلى جدار القفص، وأما ما يقع من العامة عند التطام موج البحر، ونازلة باغتة، وجرئيات لا تنحصر -من تبادر بوادرهم إلى دعاء الولي والاستغاثة به، ونسيان الله أو تشريكه فقط- فأمر أوسع من فج البر، ولقد سمعنا وصحّ لنا، بل ما هو إلا التواتر الذي هو أجلى الضروريات، ولقد سمعت من بعض الإخوان أنه كان نازلا بمدينة زبيد في سابق الأيام، وأن بها قوما يقرؤون صحيح البخاري، فإذا فرغوا -إما أحيانا أو مطلقا- ذهبوا إلى مشهد الجبرتي -فيما يغلب على ظني الآن ويحتمل غيره- فيظلون عاكفين هنالك ما شاء الله، وعليهم السكينة، والوقار، وضروب من الخضوع، والتأدب لنازل الحفرة، هل هذا عمل بشيء وجدوه في كتاب البخاري أو غيره، أم ما هو؟!

ومن عجيب أمر العامة نداؤهم المقبور أن ذُبَّ عن قُبَّتك، وافعل ما يشيع به ذكرك في الآفاق، وصار كثير منهم وسيلته عند حبس القطر الذهاب إلى المشهد والعقر فيه وسؤاله، وربما يقول السادن حرصا على الحطام: حُبس القطر بسبب الإساءة أو منعكم نذره مثلا، فإن فعلوا ولم يحصل المطلوب تحدثوا بأنه غائب في مكة مثلا، ولقد تجاسر بعض العامة زعما منه أنه صادق الاعتقاد في الولي أو ذو دراية بما ينبغي له، فقال: والله أما الولي فلان فإنه يُحيي الموتى، أما الولي فلان فإنه حي لا

ص: 241

يموت، قد والله أقامني هذا الجاثم وسط القبة الذي زعمتم أنه لا يضر ولا ينفع، إنه يفعل ويفعل، ولست أقول لك إن قائل هذه الحوالق واحد.

ومن عجيب أمر العامة تصريحهم في كثير مما يحدثه الله؛ من أمره، وشأنه في عباده وبلاده وملكه، وتقليبه الدهر كيف يشاء، فيقول أحدهم فعل الولي، هذا أمر شهير بينهم.

ومن قولهم في أوليائهم: رد الجراد، وعلق الهرة في رأس الشجرة، يشفي المجانين، يقطع الحمى، يزيل الأمراض المؤلمة، حتى إنهم يقولون إذا قصد البلد الذي معتقدهم فيها فئام من الناس للإفساد فيها، ثم رجعوا عنها، أو توقفوا عن دخولها ردهم الشيخ، وإن فعلوا بغيتهم قالوا مثلا: كان غائبا، أو ساخطا عليهم، أو أية علة اعتلوا بها مما يوحي بها شياطين الإنس والجن.

ومن طريف أخبارهم أن منهم من يمرض، فيلازم المشهد يستجير به من ذلك المرض، ويتوصل إلى زوال ما به من الداء الذي أضناه وخصوصا إذا كان من نوع الماليخوليا أو أمراض العقل، قائلا بلسان الحال والمقال:{وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80]، ومنهم من يمكث في المشهد أياما محبوسا بلا صلاة قط، زاعما أنه في حبس الولي وقيده، لا يطلقه إلى لحاجته.

ومن طريف أقوالهم في أوليائهم: إنه يضرب من تظلم منه، أو شكى به إليه، ويعزل الوالي إذا لم يزره، ويهب الولد إذا جومعت المرأة عند مشهده، ويسلب السلاح، ويقيد، ويفك الأسرى والمحبسين، ويهدي الضالين،

ص: 242

ويجير القوم، ويترك بنادقهم قصبا، وعاقلهم خنثى لا أنثى ولا ذكر، ويعاقب من أخذ من ضريحه ورقة للتبرك بها في الحال، حتى صار في بعض الجهات أن المرأة لا تدخل عند زوجها حتى تزور الولي، وأن رجلا زعم أن وليا نبه عليه في النوم أن يبني عليه قبة قال: فبنيت خوفا منه.

قلت: وباب تنبيه الأموات كباب تحمل الشيخ الصلاة وغيرها في السعة والشيوع، والله يغلقها كلها بنصر دينه.

ومن عجيب أمرهم أن امرأة جاءت قبرا فجعلت تقول: يا سيدي بعت مالي، ورحلت إليك من مسافة كذا، سألتك بالله أن تشفي ولدي، فإني جارة الله وجارتك.

ومن عجائبهم أنه أُخرب بناء على معتقد من الأموات، فصاحت امرأة: من يشفي لنا مرضانا؟! من يحمي لنا حمانا؟! آها عليك يا شريف، ولما غيرت بعض المعتقدات صاحت العامة: ههنا سادة، غيروا أربابكم، ثم أقبلوا يزفون يقولون: أهكذا فعلتم بأربابنا؟! فنحن الآن نتقرب إليهم بقتلهم، وإنهم أربابنا، ولا نعرف لنا غيرهم، ولا مقعد لنا في هذا المكان إلا بهم.

فهذه قطرة سردناها ليعلم الأغبياء ما صار عليه الحال مما لا يحصى كثرة، وكثير من العامة يتخذ قسطا من مزرعته أو من غنمه لابن علوان، ويقبضه قوم يقال لهم المناصيب، هم من الدعاة إلى الشرك بالله أو رؤوسهم فيحملون العامة بعباراتهم، وتهويلهم، ومسالكهم الشيطانية، ومَن تأخر فليحذر هجوم رسول الشيخ في الليل حتى يذروا القوم بلا

ص: 243

قلوب ولا عقول ولا أديان ولا نظر أصلا؛ بل أشباه الأنعام والمجانين يصدقون الكذب، ويعتقدون المعدوم، ويعطون من حرم الله، ويمنعون من أمر الله بإعطائه من الآباء وذوي القربى، فهم بكل هذا يسلخونهم من شعار التوحيد إلى لباس الشرك والتنديد والإعراض عن الله الحميد المجيد، حتى إنك لتجدهم يحاذرون، ويرجون من جهة الشيخ ما لا شيء منه مع باريهم وفاطرهم؛ لجهلهم بحقه دون ما اتخذوه من رسوم الشيخ، ويحرصون على براءة نفوسهم من نذره وإتاوته، والقيام في طاعة وبر وإرضاء من يأتي من قبله من منصوب أو مجذوب وغيرهما، ويطوفون نحو الراية، ويتمسحون بها، ويرجون من كل ذلك نفعا ودفعا، وإذا أتاهم لجهة الله من يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويدعوهم أن ينفقوا في سبيل الله، ويصلوا أرحامهم ويقيموا الصلاة، ويجمعوا ما قدروا عليه -أقل مما يدفعونه إلى المنصوب بكثير- لفقير أو أرملة، أجفلوا وفروا، أو قابلوه بمقابلة مريضة أو كالميتة؛ بلا نشاط ولا رغبة ولا رعاية ولا إقبال قلب، ولا يقومون لله في براءة ذممهم وما علقه تعالى بها من مال وغيره بعضا مما يقومون به للشيخ؛ حتى إن كثيرا منهم ينفق في الزيارة واسع النفقة، ويثابر على أن لا تفوته في مواسمها، ويتهيأ لها برغبة ونشاط، أكثر مما يكون إلى بيت الله الحرام، بل ربما لا يعرف الحج قط مع الاستطاعة، بل ربما كثيرا ما يضيع الصلاة المكتوبة وعدة فرائض؛ إما لاشتغاله بفرض الزيارة الشركية وإما مطلقا، وأما رسوم الشيخ وعاداته فالوفاء حتم لا فكاك منه، فبيعة العقبة للشيخ في أعناقهم خوفا وطمعا؛

ص: 244

بحيث يهدرون ما لا يحصى من أوامر الله وحقوق الخالق، وما ألزم به ذممهم لحلول ما يضادها في ساحتهم، ونزوله بمنازل اعتبارهم، وشرح هذا الباب يطول؛ حتى كاد يستأصل منهم جميع شرائع الأديان والعقول، بل لقد استأصلها كما قد صنع ذلك في عدد لا يسعف الحاصر ولا يلم به الخامل. انتهى كلامه رحمه الله ملخصا.

وقال العلامة محمد بن علي الشوكاني رحمه الله تعالى في كتابه "الدر النضيد": من أنكر حصول النداء للأموات والاستغاثة بهم استقلالا؛ فليخبرنا ما معنى ما نسمعه في الأقطار اليمنية من قولهم: يا ابن العجيل، يا زيلعي، يا ابن علوان، يا فلان يا فلان، وهل ينكر هذا منكر، أو يشك فيه شاك، وما عدا ديار اليمن فالأمر فيها أطم وأعم، ففي كل قرية ميت يعتقده أهلها وينادونه، وفي كل مدينة جماعة منهم؛ حتى إنهم في حرم الله ينادون يا ابن عباس، يا محجوب، فما ظنك بغير ذلك؟! فلقد تلطف إبليس وجنوده لغالب أهل الملة الإسلامية بلطيفة تزلزل الأقدام عن الإسلام، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

قال: ولقد أخبرني بعض من ركب البحر للحج أنه اضطرب اضطرابا شديدا، فسمع من أهل السفينة من الملاحين وغالب الراكبين معهم ينادون الأموات، ويستغيثون بهم، ولم يسمعهم يذكرون الله قط، قال: ولقد خشيت في تلك الحال الغرق لما شاهدته من الشرك بالله.

وقد سمعنا عن جماعة من أهل البادية المتصلة بصنعاء أن كثيرا منهم إذا حدث له ولد جعل قسطا من ماله لبعض الأموات المعتقدين، ويقول: إنه

ص: 245

قد اشترى ولده من ذلك الميت الفلاني بكذا، فإذا عاش حتى يبلغ سن الاستقلال دفع ذلك الجعل لمن يعتكف على قبر ذلك الميت من المحتالين لكسب الأموال. انتهى.

وقال الشيخ حسين بن غنام الأحسائي رحمه الله تعالى في كتابه "روضة الأفكار والأفهام": وأما ما يفعل في بلدان اليمن من الشرك فأكثر من أن يحصى، فمن ذلك ما يفعله أهل شرقي صنعاء بقبر عندهم يسمى الهادي، يدعونه ويستغيثون به، وتأتيه المرأة إذا تعسر عليها الحمل أو كانت عقيم، فتقول عنده كلمة قبيحة عظيمة، وأما أهل برع فعندهم البرعي يدعونه، ويأتون إليه من مسيرة أيام لشكاية الحال وطلب الإغاثة، ويقيمون عند قبره، ويتقربون بالذبائح عنده، وأما أهل الهجرية ومن حذا حذوهم فعندهم قبر يسمى ابن علوان تستغيث به العامة، ويسميه غوغاؤهم منجى الغارقين، وأغلب أهل البر منهم والبحر يطربون عند سماع ذكره، ويستغيثون به وإن لم يصلوا إلى قبره، وينذرون له في البر والبحر، ويبالغون في تعظيمه، ويفعلون عند قبره السماعات والموالد، ويجتمع عنده أنواع من المعاصي والمفاسد، وأما حضرموت، والشجر، ويافع، وعدن فعندهم العيدروس يفعل عند قبره السفه والضلال، ويقول قائلهم: شيء لله يا عيدروس، شيء لله يا محيي النفوس.

وأما بلدان السواحل فعند أهل المخا علي بن عمر الشاذلي، أكثرهم يدعوه ويستغيث به، ولا تفتر ألسنتهم عن ذكره قياما وقعودا.

وأما أهل الحديد فعندهم الشيخ صديق، يعظمونه ويغلون فيه، وقد

ص: 246

أدى بهم الضلال إلى أنه لا يمكن أحد يريد ركوب البحر، أو يريد النزول منه إلى البر حتى يجيء إليه، ويسلم عليه، ويطلب منه الإعانة والمدد فيما أراده وقصده.

وأما أهل اللحية فعندهم الزيلعي، يعظمونه ويدعونه، ويصرفون إليه جميع النذور، وقبر رابعة عندهم مشهور، لا يحلفون صدق اليمين إلا بها. انتهى المقصود من كلامه باختصار وتصرف في بعض العبارة.

وقد حدثني بعض أصحابنا من طلبة العلم أنه رأى في سياحته في أدنى اليمن أشجارا وأحجارا كثيرة، يعتقد فيها أهل تلك النواحي، ويفعلون بها نظير ما كان المشركون الأولون يفعلونه بذات أنواط وإساف ونائلة، وذكر أنه رأى كثيرا ممن هناك لا يدرون ما صيام ولا صلاة ولا وضوء، إلى غير ذلك مما ذكره عنهم من كثافة الجهل بالإسلام، ومزيد الضلال على الأنعام، وهذا من مصداق ما رواه ابن ماجة، والحاكم في مستدركه عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب؛ حتى لا يدري ما صيام ولا صلاة ولا صدقة

» الحديث، قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وأقره الذهبي في تلخيصه.

وإذا كان الأمر هكذا في أدنى اليمن فما الظن بأقصاه، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

وقد روى الشيخان في صحيحيهما، والإمام أحمد في مسنده، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات

ص: 247

نساء دوس حول ذي الخلصة، وكانت صنما تعبدها دوس في الجاهلية بتبالة».

وهذا الحديث الصحيح من معجزات النبوة؛ لكونه صلى الله عليه وسلم أخبر عما سيقع بعده من الافتتان بذي الخلصة وعبادتها من دون الله، فوقع الأمر طبق ما أخبر به صلوات الله وسلامه عليه، فكانت دوس ومن حولها من القبائل ينتابونها ويفعلون عندها وبها نظير ما كان يفعل عندها وبها في الجاهلية، حتى مَنَّ الله تعالى على آخر هذه الأمة بظهور شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، ودعوته إلى التوحيد، وتحديد وتجديد ما اندرس من معالم الدين، وسعيه في محو الشرك ووسائله، وما يدعو إليه ويُرغِّب فيه، فبعث إمام الموحدين في ذلك الزمان عبد العزيز بن محمد بن سعود -رحمة الله عليه وعلى من كان السبب في إمامته- جماعة من الموحدين إلى ذي الخلصة، فهدموا بعض بنائها، وبقي بعضه قائما إلى أن ولي الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود على الحجاز وما حولها، فبعث عامله على تلك النواحي سرية في سنة ألف وثلاثمائة وأربع وأربعين أو خمس وأربعين، فهدمت ما بقي من بناء ذي الخلصة، ورمت بأنقاضها في الوادي، فعفا بعد ذلك رسمها وانقطع أثرها، ولله الحمد والمنة.

وقد ذكر بعض الإخباريين عن بعض الذين شاهدوا هدمها أن بناءها كان قويا محكما، وأحجاره كانت ضخمة جدا، بحيث لا يقوى على زحزحة الحجر الواحد أقل من أربعين رجلا، فالحمد لله الذي يسَّر هدمها ومحو أثرها، وأثر غيرها من الأوثان والأشجار والأحجار التي قد اتخذت آلهة

ص: 248

تعبد من دون الله، والله المسؤول أن ينصر دينه، ويعلي كلمته، وييسر محو ما سوى ذلك من المعابد الوثنية، والمعتقدات الجاهلية التي قد عظم شرها والافتتان بها في أكثر الأقطار الإسلامية، إن الله على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.

* * *

ص: 249

فصل

وفي البلاد الشامية من النصب والقبور المفتتن بها شيء كثير، ومن أعظم ما هناك فتنةً واعتقادًا فيه قبر ابن عربي الطائي الملحد، إمام الاتحادية وخليفة فرعون الداعي إلى مذهبه، قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله: إن بعض أهل الشام يعتقد فيه مثل ما يعتقده أهل مصر في أحمد البدوي. انتهى.

وأما ما وراء الشام من بلاد الترك فالنصب والأوثان فيها أكثر، وقد حكي أن جمهورهم منذ سنين أجمعوا على رفض الإسلام بالكلية؛ فتركوا الصلاة والأذان وغيرهما من شعائر الإسلام الظاهرة، وأن رئيسهم داس المصحف برجليه وقال: هذا هو الذي أخّرنا عن اللحاق بالأمم الغربية. ولا ندري عن صحة هذه الحكاية، وعلى تقدير صحتها فشؤم ذلك ووباله عليهم وعلى من والاهم ورضي بأفعالهم.

وأما المسلمون فلهم أسوة حسنة في نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله تعالى له:{وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} [لقمان: 23 - 24]، {وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [آل عمران: 176 -

ص: 250

178]، ولهم أيضا أسوة حسنة {فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4].

ونظير هذه الحكاية ما ذكره بعض الأفاضل أنه ورد الأمر من سلطانهم في أواخر القرن الثالث عشر بتعطيل الأذان في الحرمين الشريفين، وإلزام النساء بالسفور، وأن لا يسترن وجوههن عن الرجال الأجانب، وقد رد أهل الحرمين أمره، وأجمعوا على خلافه، ولله الحمد والمنة.

فهذا شاهد لصحة هذه الحكاية، وأنهم يحاولون هدم دين الإسلام من زمن طويل {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَابَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 32 - 33].

والمقصود أن التُرك من أعظم الناس فتنة بالقبور خاصتهم وعامتهم، ومن أكثر الناس بناء عليها، وقد بنوا في العراق قبابا كثيرة باقية إلى الآن، وبنوا في الحجاز كثيرا أزاله الله على أيدي أهل السنة والجماعة ولله الحمد والمنة، وكثير مما كان لهم عليه ولاية في الأزمان الماضية لا يخلو من قباب على القبور من بنائهم مما هو باق إلى الآن، ولم يبق في الحجاز من القباب التي وضعوها على القبور سوى القبة الخضراء على قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبري صاحبيه رضي الله عنهما، وقد ذكر بعض المؤرخين أن هذه القبة من أبنية بعض ملوك مصر وهو قلاوون الصالحي المعروف بالملك المنصور

ص: 251

في سنة ثمان وسبعين وستمائة.

قلت: وقلاوون هذا هو ابن عبد الله التركي، والصالحي نسبه إلى مولاه الملك الصالح نجم الدين أيوب الأيوبي.

ومن ضلال خواصهم وافتتانهم بالقبور، ما ذكره الإمام سعود بن الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود -قدس الله أرواحهم ونور ضرائحهم- في رسالته إلى سليمان باشا قال فيها: وقد رأينا لما فتحنا الحجرة الشريفة -على ساكنها أفضل الصلاة والسلام- عام اثنين وعشرين -يعني بعد المائتين والألف- رسالة لسلطانكم سليم، أرسلها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغيث به ويدعوه، ويسأله النصر على الأعداء من النصارى وغيرهم، وفيها من الذل والخضوع والعبادة والخشوع ما يشهد بكذبكم، وأولها: من عُبيدك السلطان سليم، وبعد: يا رسول الله، قد نالنا الضر، ونزل بنا من المكروه ما لا نقدر على دفعه، واستولى عُبّاد الصلبان على عُبّاد الرحمن، نسألك النصر عليهم والعون عليهم، وأن تكسرهم عنا. وذكر كلاما كثيرا هذا معناه وحاصله، فانظر إلى هذا الشرك العظيم، والكفر بالله الواحد العليم، فما سأله المشركون من آلهتهم العزى واللات، فإنهم إذا نزلت بهم الشدائد أخلصوا لخالق البريات، فإذا كان هذا حال خاصتكم، فما الظن بفعل عامتكم؟! وقد رأينا من جنس كلام سلطانكم كتبا كثيرة في الحجرة للعامة والخاصة، فيها من سؤال الحاجات، وتفريج الكربات ما لا نقدر على ضبطه. انتهى.

ص: 252

وقد مُحي منذ زمن قريب كثير من الكتابات التركية المرقومة في حوائط المسجد النبوي حين عثر على ما فيها من الشرك بالله العظيم، والله المسؤول أن ييسر هدم القبة الخضراء وتسويتها بالأرض، امتثالا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في قوله لعلي رضي الله عنه:«لا تدع تمثالا إلا طمسته، ولا قبرا مشرفا إلا سويته» ، وأن ييسر إعادة المسجد من ناحية القبر على ما كان عليه في زمن الصحابة رضي الله عنهم قبل ولاية الوليد بن عبد الملك؛ حتى لا يتمكن أحد من استقباله في الصلاة ولا من الطواف به.

* * *

ص: 253

فصل

وقد كان في الحجاز ونجد في الأزمان الماضية معتقدات كثيرة؛ من قبور وأشجار وأحجار وغيرها، فأزال الله ذلك كله على أيدي أهل السنة والجماعة، الذين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم، وذلك ببركة دعوة شيخ الإسلام وعَلَم الهُداة الأعلام، مجدد الدين محمد بن عبد الوهاب، قدس الله روحه ونوّر ضريحه وأجزل له الأجر والثواب.

فأما ما كان في نجد فإنه لم يبق لشيء منه عين ولا أثر من زمن الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى يومنا هذا، ولله الحمد المنة.

وأما ما كان في الحجاز فإنه على السداد والاستقامة نحوا من عشر سنين، ولما زالت ولايتهم عن الحجاز واستولى عليها الترك وأشباههم من المحادين لله ورسوله، أعيدت تلك المشاهد والقباب والأمور الشركية كما كانت قبل ذلك.

قال صديق حسن خان في كتاب "الدين الخالص": بلغنا أن أهل نجد لما تغلبوا على الحرمين الشريفين وحكموا فيها مدة معتدا بها، هدموا المشاهد التي كانت في مقبرة مكة، وكذلك القباب التي كانت ببقيع الغرقد في المدينة، وسووها بالأرض، ولم يغادروا أثرا من آثارها إلا قبة الرسول صلى الله عليه وسلم خوفا من بلوى الجهال، وصونا من إثارة الضلال، ثم لما ذهب سلطانهم عن هاتين البقعتين أحدث الناس المبتدعة قبابا ومشاهد في

ص: 254

الحرمين وأعادوها فيها، لكن في مواضع مظنونة لهم لا على الحقيقة، والناس العامة بل الخاصة الذين هم كالأنعام إنما يزورون هذه المزارات المستحدثة على خيال أنها لأصحابها، وفيها أجسادهم وأبدانهم أو ترابها، مع أن ذلك ليس بصحيح. انتهى.

وقد ذكر الشيخ حسين بن غنام في كتابه "روضة الأفكار والأفهام" ما كان يفعله أهل الحجاز في زمانه من الأمور الشركية والعبادات الوثنية، قال: فمن ذلك ما يفعل عند قبر المحجوب، وقبة أبي طالب، وهم يعلمون أنه شريف حاكم، متعد غاصب، كان يخرج إلى بلدان نجد، ويضع عليهم من المال خرجا ومطالب، فإن أعطي ما أراد انصرف، وإلا أصبح لهم معاديا محاربا، فيأتون قبره بالسماعات والعلامات؛ للاستغاثة عند حلول المصائب ونزول الكوارث، وكذلك عند قبر المحجوب، يطلبون منه الشفاعة لغفران الذنوب، وإن دخل متعد أو سارق أو غاصب قبر أحدهما لم يتعرض له أحد، وإن تعلق جان - ولو أقل جناية - بالكعبة سحب منها.

قلت: ومن تعظيمهم للقبور واحترامهم لها أعظم من احترامهم للكعبة؛ ما ذكره حسين بن مهدي النعمي أن بعض من جاور بالبلد الحرام حكى له أن رجلا كان ببعض المشاهد بمكة، فقال لمن عنده: أريد الذهاب إلى الطواف، فقال له بعض كبرائها: مقامك ههنا أكرم. انتهى.

قال ابن غنام: ومن ذلك ما يفعل عند قبر ميمونة بنت الحارث أم المؤمنين رضي الله عنهما في سرف، وعند قبر خديجة رضي الله عنها في المعلاة، ويقع فيه اختلاط النساء بالرجال، وفعل الفواحش والمنكرات،

ص: 255

وارتفاع الأصوات بالدعوات والاستغاثات، وفي الطائف قبر ابن عباس رضي الله عنهما يقف عنده كل مكروب وخائف متضرعا مستغيثا، وينادي أكثر الباعة في الأسواق: اليوم على الله وعليك ابن عباس. ويسألونه الحاجات ويسترزقونه.

قلت: وقد ذكر حسين بن مهدي النعمي أنه سمع بعض الأفاضل يحدث أن رجلين قصدا الطائف من مكة المشرفة، وأحدهما يزعم أنه من أهل العلم، فقال له رفيقه ببديهة الفطرة: أهل الطائف لا يعرفون الله، إنما يعرفون ابن عباس! فأجابه بأن معرفتهم لابن عباس كافية؛ لأنه يعرف الله. انتهى.

قلت: وهذا مصداق ما جاء في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى» الحديث.

وقبر ابن عباس رضي الله عنهما وإن لم يكن في موضع اللات بنفسه فإنه قريب منه في الموضع، وشبيه به في المعنى؛ إذ كل منهما في ناحية من نواحي المسجد المسمى بمسجد ابن عباس في الطائف، وقد قيل: إن موضع اللات في موضع المنارة من ذلك المسجد، وأما قبر ابن عباس رضي الله عنهما فمعروف مشهور، وقد اتخذه الضلال من آخر هذه الأمة وثنا يعظمونه كما تعظم اللات من قبل، ويدعونه ويلجئون إليه في قضاء الحاجات وتفريج الكربات كما كانت ثقيف ومن حولها من أحياء العرب يدعون اللات ويلجئون إليها، فغلو ضلال هذه الأمة في ابن عباس شبيه بغلو المشركين الأولين في اللات، قال الله تعالى: {كَذَلِكَ قَالَ

ص: 256

الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} [البقرة: 118].

وقد أزيلت آثار الوثنية من قبر ابن عباس مرتين:

إحداهما: في حدود العشرين بعد المائتين والألف.

والثانية: في آخر سنة اثنين وأربعين وثلاثمائة وألف.

وكلتا المرتين على أيدي أهل نجد، كما أزيلت آثار الوثنية من اللات على أيدي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمره صلى الله عليه وسلم، فلله الحمد لا نحصي ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه، وفوق ما يثنى عليه أحد من خلقه.

قال ابن غنام: وأما ما يُفعل عند قبره عليه الصلاة والسلام من الأمور المحرمة؛ من تعفير الخدود، والانحناء بالخضوع والسجود، واتخاذ ذلك القبر عيدا فهو مما لا يخفى.

قلت: قال صديق بن حسن: رأيت الناس في المسجد الشريف إذا سلم الإمام من الصلاة قاموا من مصلاهم مستقبلين القبر الشريف كالراكعين، ومنهم من يلتصق بالسرادق ويطوف حوله، وكل ذلك حرام باتفاق أهل العلم. انتهى.

قلت: وما زال الشرك ووسائله في ازدياد وكثرة حول القبر الشريف، وعند غيره من قبور الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، ولكن لما قوي الوازع عن ذلك في زماننا ولله الحمد والمنة صار الغوغاء يفعلون بعض ذلك خفية، وقد حدثني بعض أصحابنا من قضاة المدينة النبوية أن خدام المسجد النبوي إذا كان ليلة الجمعة أخرجوا ما يلقيه الغوغاء داخل الشباك الذي حول

ص: 257

الحجرة؛ من أواني الطيب والكتب الكثيرة، قال: وقد عرض عليَّ بعض الكتب التي تلقى هناك فإذا هي مشتملة على الشرك الأكبر؛ فبعضهم يسأل المغفرة والرحمة من النبي صلى الله عليه وسلم، وبعضهم يسأل منه أن يهب له الأولاد، وبعضهم يطلب منه تيسير النكاح إذا تعسر عليه، إلى غير ذلك من الأمور التي يفزعون فيها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وينسون الخالق المالك المتصرف، فاطر السموات والأرض، الذي بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه، وهو المعطي المانع، النافع الضار، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، قال الله تعالى:{وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 13 - 14]، وقال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128]، وقال تعالى:{قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا} [الجن: 21]، وقد عكس المشركون هذا الأمر، فزعموا أن الرسول صلى الله عليه وسلم يملك لهم الضر والرشد والإعطاء والمنع، وهذا عين المحادة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.

قال ابن غنام رحمه الله تعالى: ويَكَلُّ اللسان عما يُفعل عند قبر حمزة والبقيع وقباء من ذلك القبيل.

قلت: وقد ذكر لنا أن لهم في كل سنة مجمعا عظيما عند قبر حمزة رضي الله عنه يضاهي في كثرته مجمع عرفات، وذلك في اليوم الثاني عشر من شهر رجب؛ يخرج إليه أهل المدينة كلهم رجالهم ونساؤهم، والخوالف من

ص: 258

النساء اللاتي لم يخرجن إذا رأين رجلا متخلفا عن الخوارج أنّبنه وحصبنه بالحجارة حتى يخرج، وتأتي وفود الشيطان إلى هذا المجتمع أفواجا من كل فج عميق؛ من مكة وغيرها من الأماكن البعيدة؛ ليشهوا ما يضرهم ولا ينفعهم، ويذكروا اسم الشيطان على ما زين لهم من هذه المجامع المؤسسة على الشرك والبدع، ويقضوا وطرهم من المنكرات والقبائح، ويوفوا نذورهم لغير الله، ويطوفوا بالأوثان، ثم ينقلبوا إلى أوطانهم بالخيبة والخسران، قد حازوا رضا الشيطان، وباؤوا بسخط الرحمن.

قال ابن غنام: وأما ما يُفعل في جدة فقد بلغ من الضلالة والفحش الغاية القصوى، وعندهم قبر طوله ستون ذراعا عليه قبة، يزعمون أنه قبر حواء، وضعه بعض الشياطين من قديم، والسدنة عنده يَجْبُون من الأموال ما لا يخطر على البال، وعندهم مشهد يسمى العلوي قد بالغوا في تعظيمه والغلو فيه، وفي سنة عشر بعد المائتين والألف اشترى تاجر من أهل جدة من أهل الهند -التجار القادمين- وأهل الأحساء مالا كثيرا، فوقع عليه بعد أيام انكسار وإفلاس، فهرب إليه مستجيرا، فلم يتقدم إليه منهم شريف ولا وضيع، ولا كبير ولا صغير، وترك بيته وما فيه، حتى اجتمع التجار وجعلوا ذلك عليه نجوما في سنين، وذلك بإشارة بعض من ينتسب إلى الدين. انتهى باختصار وتصرف في بعض العبارة.

وقد ذكر الشيخ حمد بن ناصر بن معمر رحمه الله تعالى أنه لما قدم مكة في سنة إحدى عشرة بعد المائتين والألف رأى في مقبرة المعلاة أكثر من عشرين قبة، ورأى فيها أكثر من مائة قنديل.

ص: 259

قلت: وقد افتتن عامتهم وخاصتهم بتلك المشاهد والقباب، حتى إن أكابر علمائهم في أواخر القرن الثاني عشر أنكروا هدم القباب والأبنية التي على القبور، وشنّعوا على من يسعى في إزالتها وتسويتها بالأرض، وهذا في الحقيقة إنكار على النبي صلى الله عليه وسلم ومعارضة له؛ لأنه صلى الله عليه وسلم هو الذي نهى عن البناء [على

(1)

] القبور، وأمر بتسوية ما بني عليها، كما في المسند وصحيح مسلم والسنن إلا ابن ماجة، عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم «أن لا تدع تمثالا إلا طمسته، ولا قبرا مشرفا إلا سويته» .

وعن ثمامة بن شفي قال: كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم برودس، فتوفي صاحب لنا، فأمر فضالة بن عبيد بقبره فسُوِّي ثم قال:«سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بتسويتها» رواه مسلم وأبو داود والنسائي.

وعن جابر رضي الله عنه قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه» رواه الإمام أحمد ومسلم وأهل السنن، ورواية ابن ماجة مختصرة، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وعنده زيادة:«وأن يكتب عليها» .

وفي رواية لأبي داود والنسائي: «أو يزاد عليه أو يكتب عليه» .

ورواه ابن ماجة مختصرا قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتب على القبر شيء» .

ورواه الحاكم في مستدركه ولفظه قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبنى

(1)

في الأصل (عن) وهو سبق قلم، والله أعلم.

ص: 260

على القبر، أو يجصص، أو يقعد عليه، ونهى أن يكتب عليه» قال الحاكم: على شرط مسلم، وقد خرج بإسناده غير الكتابة فإنها لفظة صحيحة غريبة، وقال الذهبي في تلخيصه: على شرط مسلم، وخرج منه.

وفي رواية للحاكم: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تجصيص القبور، والكتابة فيها، والبناء عليها، والجلوس عليها» صححه الحاكم، وافقه الذهبي في تلخيصه.

وفي المسند من حديث أم سلمة رضي الله عنها قالت: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبنى على القبر، أو يجصص» .

وفي سنن ابن ماجة عن أبي سعيد رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يبنى على القبر» .

وقد خالف القبوريون هذه الأحاديث جملة، وارتكبوا ما نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عنه من البناء على القبور، والزيادة عليها، وتجصيصها، والكتابة عليها، وساعدهم على ذلك أدعياء العلم؛ فأباحوا لهم هذه المحرمات، ثم زاد بهم الشر فأنكروا على من اتبع رضوان الله وامتثل أمر رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فسعى في إزالتها وتسويتها بالأرض، وليس مع أولئك الأدعياء حجة فيما ذهبوا إليه إلا كونه مخالفا لعوائدهم وما نشأوا عليه وألِفوه من التقليد الأعمى، وقد انتدب أربعة من رؤسائهم الجهال الذين أصمهم التقليد وأعماهم واستزلهم الشيطان وأغواهم، فأصدر كل واحد منهم جوابا في المنع من هدم القباب والإنكار على من فعل ذلك، وعلى من يترك التقليد ويتبع الكتاب والسنة، ذلك مبلغهم من العلم، نعوذ بالله من عمى البصيرة.

وقد تصدى للرد عليهم شيخ اليمن العلامة المحقق الشيخ حسين بن

ص: 261

مهدي النعمي الصنعاني في كتابه "معارج الألباب" فأجاد وأفاد، جزاه الله خير الجزاء.

وقد ناظرهم العلامة المحقق الشيخ حمد بن ناصر بن معمر رحمه الله تعالى بحضرة والي مكة، في سنة إحدى وعشرة بعد المائتين والألف، فأدحض حججهم المتهافتة، وقذف بالحق على باطلهم فدمغه فإذا هو زاهق، وكتب في ذلك رسالة مفيدة جدا، جزاه الله خير الجزاء.

وقد ذكر الشيخ حسين بن غنام في تاريخه: أن علماء مكة لما حضروا لمناظرة الشيخ حمد بن معمر قال له كبيرهم: اعلم أني أقول لا أخاصمك ولا أناظرك إن أتيتني بالدليل من الكتاب أو السنة، ولا أجاريك ولا أطالب بما قال علماء المذاهب، سوى ما قال به إمامي أبو حنيفة؛ لأني مقلد له فيما قال، فلا أسلم لسوى قوله، ولو قلتَ قال الله أو قال رسول الله؛ لأنه أعلم مني ومنك بأولئك، والأخذ بغير قول الأئمة هو عين اقتحام المهالك. انتهى.

فانظر يا من وفقه الله لاتباع الكتاب والسنة إلى جريرة التقليد على أهله كيف أوقعهم في هذه الجرأة العظيمة، وسوء الأدب مع الله تعالى وكتابه ورسوله صلى الله عليه وسلم، وقد قال تعالى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَاوِيلًا} [النساء: 59]، وقال تعالى:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]، وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ

ص: 262

وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية: 23]، وقال تعالى:{فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى} [النجم: 29 - 30].

ولما أبوا عن الانقياد للحجة والبيان، عدل الموحدون إلى جهادهم بالسيف والسنان، فدخلوا مكة في أول سنة ألف ومائتين وثمانية عشر، واستولوا على الحجاز بكامله، وأزالوا جميع ما كان يعبد من دون الله -بالتعظيم والاعتقاد فيه ورجاء النفع ودفع الضر بسببه- من الأبنية على القبور وغيرها، حتى لم يبق في الحجاز طاغوت يعبد، وهذه هي المرة الأولى كما أشرنا إليه قريبا، وبعد بضع سنين نكث والي مكة وخان الموحدين، ومالأ عليهم الترك والمصريين حتى استولوا على الحجاز، وأعاد القبوريون الأبنية على القبور، وفعلوا عندها وبها من الأمور الشركية ما كانوا يفعلونه من قبل، وزاد غلوهم في التقليد ونفورهم عن الكتاب والسنة، حتى آل بهم ذلك إلى ظلم المتبعين للكتاب والسنة، والبغي في الأرض بغير الحق.

قال صديق بن حسن في كتاب "الدين الخالص": من غرائب الزمان أن أهل مكة يُخرجون كل من يسمعون أنه يعمل بالحديث وينكر التقليد، ويضطرونه إلى الخروج والجلاء مع أنه مهاجر غريب الدار والأهل والوطن والسكن، هاجر من ماله وأهله حبا لله ولرسوله، وسكن أشرف البلاد، وهو ليس بمشغول في رد أحد من أهل المذاهب ولا في الجهاد،

ص: 263

يصلي الصلاة في الحرم الشريف المكي ويطوف، ويدرس في بيته مختفيا إن كان من أهل العلم، وإلا يسكت عن الجميع إن كان عامِّيا، ومع ذلك إذا سمعوا في حق أحد من هؤلاء المهاجرين من بلاد الهند وغيره أنه لا يقلد إماما من الأئمة الأربعة، ويتبع السنن ويقتدي بكتاب الله، سخطوا عليه ورموه بكل حجر ومدر، وسعوا به إلى الحكام، وألزموه ما لا يلزمه من الآثام، وتعاقبوه إلى أن أخرجوه من مكة إلى جدة ومن جدة إلى الغربة، وهذا من فتن آخر الزمن، ولا تخرج هذه الفتنة إلا من عند علمائها وكبرائها، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«تخرج الفتنة من عندهم، وفيهم تعود» ، حتى سمعنا أن بعضهم أفتى بقتل المتبعين، وقال: يُقتل سياسة، وإن لم يستحق القتل. وهذا حال مكة المكرمة، فما مقام الشكوى من بلاد أخرى ليست هي في الشرف والفضيلة معشار عشرها. انتهى.

ثم إن الله سبحانه وتعالى رد الكَرَّة للموحدين، ومكَّن لهم في الأرض، فدخلوا الحجاز سنة ألف وثلاثمائة وثلاث وأربعين، وأزالوا جميع الأبنية على القبور وغيرها مما يعتقد فيه، حتى لم يبق في الحجاز طاغوت يُعبد ولا قبر يُتخذ عيدا، ومنعوهم من الاجتماعات المحدثة للموالد والتعازي، وغيرها من الأعياد البدعية، وهذه هي المرة الثانية كما أشرنا إليه قريبا، ولم يزل الأمر على ذلك إلى الآن، فلله الحمد رب السموات ورب الأرض رب العالمين؛ حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله، والله المسؤول أن ينصر دينه ويعلي كلمته،

ص: 264

ويؤيد التوحيد وأهله، ويتم نعمته عليهم، ويجعلهم قائمين بأمر الله، ظاهرين منصورين على من ناواهم، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، وأن يطهر الحرمين الشريفين وسائر البلاد الإسلامية من أدران الفسوق والعصيان، ويمحق ما فشا وظهر فيها من المنكرات، إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.

* * *

ص: 265

فصل

وأما العجم فقد فشت فيهم الوثنية، وآل بهم الغلو في أهل البيت إلى أن اتخذوهم أربابًا من دون الله، وقد تقدم قول المنفلوطي إن علماءهم يحجون إلى قبر الإمام كما يحجون إلى بيت الله الحرام، وقال الشوكاني: إنهم غلوا في الكفر حتى أثبتوا الإلهية لمن يزعمون أنه المهدي المنتظر، وأنه دخل السرادب وسيخرج منه في آخر الزمان، وبلغ من تلاعبهم بالدين أنهم يجعلون في كل مكان نائبا عن الإمام المذكور الموصوف بأنه إلههم، ويُسمُّون أولئك النواب حُجَّابا للإمام المنتظر، ويثبتون لهم الإلهية، وهذا مصرح به في كتبهم، وقد وقفنا منها على غير كتاب. انتهى.

وأما بلاد الهند فأكثر أهلها قد اتخذوا عبد القادر الجيلاني إلها معبودا، وربا مدبرا ميسرا، والذين يحجون منهم إلى قبره أكثر ممن يحج إلى البيت الحرام، وقد تقدم ما ذكره المنفلوطي عنهم فليراجع.

وقال صديق بن حسن رحمه الله تعالى: في الهند رجال كثيرون من هذا الوادي؛ منهم السيد معين الدين الجشتي، والشيخ قطب الدين الكاكي، والسيد بديع الدين المدار، والمسعود الغازي السالار، والشيخ نظام الدين أوليا، والسيد قطب عالم، إلى غيرهم ممن يطول ذكرهم، بل لا بلد من بلاده، ولا قصبة من قصباته، ولا قرية من قراه، إلا وفيه قبر ولي أو صالح يعبدونه جهارا، ويلقون أردية ورياحين، ويوقدون عليه السرج، ويسافرون إليه في شهر مُعيَّن من كل سنة زرافات ووحدانا، وينذرون له بأنواع من

ص: 266

النذور، ويبذلونه لسدنة القبور ومجاوري المقبور، فإذا وصلوا إليه بعد مشقة من شقة بعيدة فعلوا به من الطواف والتقبيل والاستلام، والقيام بالأدب التمام في محاذاة قبورهم ونحوها مما هو شرك بحت في الإسلام، وذلك كله بعينه صنائع المشركين الماضين، وبدعهم التي جاءت الرسل لمحوها. انتهى.

وأما أهل المغرب فعندهم أحمد التيجاني، يبالغون في تعظيمه، ويعتقدون فيه نحوا مما يعتقده أهل مصر في البدوي وأمثاله، ومنهم من يغلو في الحسين، وقد تقدم ما ذكره سعد بن عبد الله بن سرور الهاشمي عن بعضهم من الفعل الشنيع عند المشهد المنسوب إلى الحسين بالقاهرة.

وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه أن في المغرب مشهدا منسوبا إلى الحسين.

ومنهم من يغلوا في عبد القادر الجيلاني.

وقد ذكر الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله تعالى أن في أقصى المغرب مشهدا لعبادة عبد القادر، وأنهم ينادونه من مسافة أَشهُر، بل سَنَة لتفريج كرباتهم، وإغاثة لهفاتهم، ويعتقدون أنه من تلك المسافة يسمع داعيه، ويجيب مناديه، يقول قائلهم: إنه يسمع، ومع سماعه ينفع، وهو لما كان حيا يسمع ويبصر لم يعتقد أحد فيه أنه يسمع من ناداه من وراء جدار، ثم بعد موته صار منهم بما صار، وهل هذا إلا لاعتقادهم أنه يعلم الغيب، ويقدر على ما لا يقدر عليه إلا الله. انتهى.

وبالجملة فالأمور الشركية، والعبادات الوثنية قد غلبت على الأكثرين،

ص: 267

وعظمت فتنتها في أكثر الأقطار الإسلامية، حتى عاد غصن الشرك فيها غضا طريا كما كان في زمن الجاهلية الذي بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم، وما أعزَّ من تخلص من شَرَك الشرك في هذه الأزمان المظلمة، فالله المستعان.

وقد روى الإمام أحمد في مسنده، والحاكم في مستدركه من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الدّواوين عند الله عز وجل ثلاثة: ديوان لا يعبأ الله به شيئا، وديوان لا يترك الله منه شيئا، وديوان لا يغفره الله؛ فأما الديوان الذي لا يغفره الله فالشرك بالله، قال الله عز وجل: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ}، وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئا فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربه من صوم يوم تركه أو صلاة تركها، فإن الله عز وجل يغفر ذلك ويتجاوز إن شاء الله، وأما الديوان الذي لا يترك الله منه شيئا فظلم العباد بعضهم بعضا القصاص لا محالة» .

وفي مسند البزار عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الظلم ثلاثة: فظلم لا يغفره الله، وظلم يغفره الله، وظلم لا يترك الله منه شيئا، فأما الظلم الذي لا يغفره الله فالشرك وقال: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}، وأما الظلم الذي يغفره الله فظلم العباد لأنفسهم فيما بينهم وبين ربهم، وأما الظلم الذي لا يتركه فظلم العباد بعضهم بعضا حتى يدين لبعضهم من بعض» .

وروى الطبراني في معجمه الصغير، عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذنب لا يغفر، وذنب يغفر، فأما الذنب الذي لا يغفر

ص: 268

فالإشراك بالله، وأما الذنب الذي لا يترك فظلم العباد بعضهم بعضا، وأما الذي يغفره فذنب العبد بينه وبين الله تعالى».

وفي مسند الإمام أحمد، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية: {الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} شق ذلك على الناس وقالوا: يا رسول الله فأينا لا يظلم نفسه؟ قال: «إنه ليس الذي تعنون، ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح: {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} إنما هو الشرك» .

والله المسؤول أن يطهِّر جميع البلاد الإسلامية من نجاسة الشرك، وأدناس البدع والفسوق والعصيان، وأن يعيدها إلى مثل الحالة الأولى في زمن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

* * *

ص: 269

فصل

‌الصنف الثاني من أدعياء الإسلام أهل التعطيل

؛ الذين يعبدون العدم، وهم الجهمية ومن شابههم ونحا نحوهم، وهم أتباع فرعون؛ ولهذا كان غلاتهم من الاتحادية ينافحون عنه ويفضلونه على موسى، وبعضهم يصرح أنهم من أتباعه؛ كما جاء في حكاية ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى عن بعض شيوخهم، قال في كتابه "الحجج النقلية والعقلية": هؤلاء الملاحدة يعظمون فرعون وأمثاله، ويدَّعون أنهم خير من موسى وأمثاله، حتى إنه حدثني بهاء الدين عبد السيد الذي كان قاضي اليهود وأسلم وحسن إسلامه رحمه الله، وكان قد اجتمع بالشيرازي -أحد شيوخ هؤلاء- ودعاه إلى هذا القول وزينه له، فحدثني بذلك، فبينت له ضلال هؤلاء وكفرهم، وأن قولهم من جنس قول فرعون، فقال لي: إنه لما دعاه حسن الشيرازي إلى هذا القول قال له: قولكم هذا يشبه قول فرعون! فقال: نعم، ونحن على قول فرعون -وكان عبد السيد إذ ذاك لم يسلم بعد- فقال: أنا لا أدع موسى وأذهب إلى فرعون، قال له: ولم؟ قال: لأن موسى أغرق فرعون

فانقطع، فاحتج عليه بالنصر القدري الذي نصر الله به موسى، لا بكونه كان رسولا صادقا، قلت لعبد السيد: وأقر لك أنه على قول فرعون؟ قال: نعم، قلت: فمع إقرار الخصم لا يحتاج إلى بينة، أنا كنت أريد أن أُبيِّن لك أن قولهم هو قول فرعون، فإذا كان قد أقر بهذا فقد حصل المقصود. انتهى.

ص: 270

وقال أيضا قدس الله روحه: المشهور من مذهب أحمد وعامة أئمة السنة تكفير الجهمية؛ وهم المعطلة لصفات الرحمن؛ فإن قولهم صريح في مناقضة ما جاءت به الرسل من الكتاب، وحقيقة قولهم جحود الصانع، وجحود ما أخبر به عن نفسه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، بل وجميع الرسل، وقال غير واحد من الأئمة: إنهم أكفر من اليهود والنصارى، وبهذا كفّروا من يقول إن القرآن مخلوق، وإن الله لا يُرى في الآخرة، وإن الله ليس على العرش، وإنه ليس له علم ولا قدرة ولا رحمة ولا غضب، ونحو ذلك من صفاته.

وقال أيضا: نفي الصفات كفر، والتكذيب بأن الله لا يُرى في الآخرة كفر، وإنكار أن يكون الله على العرش كفر، وكذلك ما كان في معنى ذلك؛ كإنكار تكليم الله لموسى، واتخاذ الله إبراهيم خليلا. انتهى.

وقال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في الكافية الشافية:

ولقد تقلد كفرهم خمسون في

عشر من العلماء في البلدان

واللالكائي الإمام حكاه عنـ

ـهم بل حكاه قبله الطبراني

فذكر رحمه الله تعالى أن خمسمائة عالم كفَّروا الجهمية.

وقد ذكر عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب "السنة" جملة منهم، وكان بعض الأئمة يسميهم الزنادقة.

وروي عن عبد الله بن المبارك ويوسف بن أسباط، وغيرهما من أهل العلم والحديث أنهم قالوا: أصول اثنتين وسبعين فرقة هي أربع:

ص: 271

الخوارج، والروافض، والمرجئة، والقدرية، قيل لابن المبارك: فالجهمية؟ قال: ليست الجهمية من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.

وقال أبو داود في كتاب "المسائل": حدثنا الحسن بن الصباح قال: حدثنا علي بن الحسن بن شقيق، عن ابن المبارك قال: إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى، ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية.

ورواه عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب "السنة" عن أحمد بن إبراهيم الدورقي، عن علي بن الحسن بن شقيق، سمعت عبد الله بن المبارك يقول: إنا نستجيز أن نحكي كلام اليهود والنصارى، ولا نستجيز أن نحكي كلام الجهمية.

وروى عبد الرحمن بن أبي حاتم في كتاب "السنة" عن سعيد بن عامر الضبعي إمام أهل البصرة علما ودينا -وهو من شيوخ الإمام أحمد- أنه ذكر عنده الجهمية فقال: هم شر قولا من اليهود والنصارى، قد أجمع اليهود والنصارى وأهل الأديان مع المسلمين على أن الله على العرش، وهم قالوا: ليس على العرش شيء.

وقال أحمد بن سعد الجوهري: سمعت أحمد بن حنبل يقول: ما أحد أضر على أهل الإسلام من الجهمية، ما يريدون إلا إبطال القرآن وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم.

وقال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله تعالى: نظرت في كلام اليهود والمجوس، فما رأيت قوما أضل في كفرهم منهم؛ يعني الجهمية، وإني لأستجهل من لا يُكفِّرهم إلا من لا يعرف كفرهم. ذكره

ص: 272

عنه البخاري رحمه الله تعالى في كتاب "خلق أفعال العباد".

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: وعن أحمد في تكفير من لم يكفر الجهمية روايتان، أصحهما لا يكفر. انتهى.

قلت: وبالتكفير يقول أبو بكر بن عياش، وسفيان بن عيينة، وأبو زرعة وأبو حاتم الرازيان، وحكى أبو زرعة وأبو حاتم ذلك عمن أدركاه من العلماء في جميع الأمصار.

قال أبو بكر أحمد بن محمد بن عبد الخالق في كتاب "الورع": سمعت عبد الوهاب الوراق يقول: قال أبو بكر بن عياش: من قال القرآن مخلوق فهو كافر، ومن شك في كفره فهو كافر.

وقال عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب "السنة": حدثني غياث بن جعفر، سمعت سفيان بن عيينة يقول: القرآن كلام الله، من قال مخلوق فهو كافر، ومن شك في كفره فهو كافر.

وقال الإمام أحمد في رسالته إلى مسدد: كلام الله غير مخلوق، فمن قال مخلوق فهو كافر بالله العظيم، ومن لم يُكفِّره فهو كافر.

وذكر القاضي أبو الحسين في "الطبقات" في ترجمة شاهين بن السميدع أبي سليم العبدي قال: سمعت أبا عبد الله يقول: من قال القرآن مخلوق فهو كافر، ومن شك في كفره فهو كافر.

وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم رحمه الله تعالى: سألت أبي وأبا زرعة عن مذهب أهل السنة في أصول الدين، وما أدركا عليه أئمة العلم في

ص: 273

ذلك؟ فقالا: أدركنا العلماء في جميع الأمصار؛ حجازا وعراقا، وشاما ويَمنا، فكان من مذهبهم: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، والقرآن كلام الله غير مخلوق بجميع جهاته، ومن زعم أن القرآن مخلوق فهو كافر بالله العظيم كفرا ينقل عن الملة، ومن شك في كفره -ممن يفهم ولا يجهله- فهو كافر، ومن وقف في القرآن فهو جهمي، ومن قال: لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي، قال أبو حاتم: والقرآن كلام الله وعلمه، وأسماؤه وصفاته، وأمره ونهيه، ليس بمخلوق من جميع الجهات.

وقال أبو بكر أحمد بن محمد بن عبد الخالق في كتاب "الورع": سألت عبد الوهاب -يعني الوراق- عمن لا يُكفِّر الجهمية؛ قلت: يُصلَّى خلفه؟ قال: لا يُصلَّى خلفه، هذا ضال مضل، مُتَّهم على الإسلام.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: ومن الجهمية المتفلسفة والمعتزلة يقولون: إن كلام الله مخلوق، وإن الله كلم موسى بكلام مخلوق خلقه في الهواء، وإنه لا يُرى في الآخرة، وإنه ليس مباينا لخلقه، وأمثال هذه المقالات التي تستلزم تعطيل الخالق، وتكذيب رسوله، وإبطال دينه.

وقال أيضا: أصل هذه المقالة -أي التعطيل للصفات- إنما هو مأخوذ من تلامذة اليهود والمشركين وضُلال الصابئين، فإن أول من حُفظ عنه أنه قال هذه المقالة في الإسلام جعد بن درهم، وأخذها عنه الجهم بن صفوان وأظهرها، فنُسبت مقالة الجهمية إليه، وقد قيل: إن الجعد أخذ مقالته عن أبان بن سمعان، وأخذها أبان من طالون بن أخت لبيد بن الأعصم، وأخذها طالوت من لبيد بن الأعصم اليهودي الساحر الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم، وكان

ص: 274

الجعد بن درهم هذا قيل من أرض حران، وكان فيهم خلق كثير من الصابئة والفلاسفة؛ بقايا أهل دين نمرود والكنعانيين الذين صنف بعض المتأخرين في سحرهم؛ فيكون الجعد قد أخذها عن الصابئة والفلاسفة، وأخذها الجهم أيضا فيما ذكره الإمام أحمد وغيره لما ناظر السمنية بعض فلاسفة الهند، وهم الذين يجحدون من العلوم ما سوى الحسيات، فهذه أسانيد جهم ترجع إلى اليهود والصابئين والمشركين. انتهى.

وقد روى البخاري في "التاريخ الكبير" وفي كتاب "خلق أفعال العباد"، وابن أبي حاتم في "كتاب السنة"، وأبو بكر الآجري في كتاب "الشريعة" وغيرهم: أن خالد بن عبد الله القسري خطب الناس في يوم عيد أضحى فقال: أيها الناس، ضحُّوا تقبَّل الله ضحاياكم، فإني مُضحٍّ بالجعد بن درهم، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكليما، تعالى الله عما يقول الجعد علوا كبيرا، ثم نزل فذبحه في أصل المنبر، كان ذلك في زمن التابعين فشكروا ذلك، وشكره مَن بعدهم مِن أهل السنة إلى يومنا هذا، وقد قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في الكافية الشافية:

ولأجل ذا ضحى بجعد خالد الـ

قسري يوم ذبائح القربان

إذ قال إبراهيم ليس خليله

كلا ولا موسى الكليم الداني

شكر الضحية كل صاحب سنة

لله درك من أخي قربان

وأما جهم بن صفوان تلميذ الجعد فإنه قُتل بخراسان، قتله سالم بن أحوز.

وقد ذكر الإمام أحمد رحمه الله تعالى في رده على الزنادقة والجهمية: أن الجهم لما ناظر السمنية الكفار وشبَّهوا عليه، تحير فلم يدر من يعبد

ص: 275

أربعين يوما.

وقال عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب "السنة": حدثني إسماعيل بن عبيد بن أبي كريمة، سمعت يزيد بن هارون يقول: لعن الله الجهم ومن قال بقوله؛ كان كافرا جاحدا؛ ترك الصلاة أربعين يوما يزعم [أنه

(1)

] يرتاد دينا، وذلك أنه شك في الإسلام، قال يزيد: قتله سالم بن أحوز على هذا القول.

وقال عبد الله أيضا: حدثني محمد بن إسحاق الصنعاني، حدثني يحيى بن أيوب، سمعت أبا نعيم البلخي شجاع بن أبي نصر، سمعت رجلا من أصحاب جهم كان يقول بقوله، وكان خاصا به ثم تركه، وجعل يهتف بكفره قال: رأيت جهما يوما افتتح طه، فلما أتى على هذه الآية:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} قال: لو وجدت السبيل إلى حكِّها لحككتها، ثم قرأ حتى أتى على آية أخرى فقال: ما كان أظرف محمدا حين قالها، ثم افتتح سورة القصص، فلما أتى على ذكر موسى جمع يديه ورجليه، ثم دفع المصحف، ثم قال: أي شيء ذكره ههنا فلم يتم ذكره، وذكره فلم يتم ذكره.

وقد رواه ابن أبي حاتم، عن عبد الله بن محمد بن الفضل الأسدي، عن يحيى بن أيوب

فذكره بنحوه.

وذكر شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى أن عبد الله ابن المبارك رحمه الله تعالى كان ينشد في الجهم:

عجبت لشيطان دعا الناس جهرة

إلى النار واشتق اسمه من جهنم

(1)

ليست في المخطوط، والتصويب من "السنة" لعبد الله ابن الإمام أحمد 1/ 167.

ص: 276

وأما تلميذ الجهم بشر بن غياث المريسي فقد أراد الرشيد قتله، ولكنه لم يظفر به.

قال عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب "السنة": حدثني أحمد بن إبراهيم الدورقي، حدثني محمد بن نوح المضروب، عن المسعودي القاضي، سمعت هارون أمير المؤمنين يقول: بلغني أن بشر المريسي يزعم أن القرآن مخلوق، لله عليّ إن أظفرني الله به إلا قتلته قتلة ما قتلها أحدا قط.

وقال عبد الله أيضا: أخبرت عن يحيى بن أيوب قال: كنت أسمع الناس يتكلمون في المريسي، فكرهت أن أقدم عليه حتى أسمع كلامه لأقول فيه بعلم، فأتيته فإذا هو يكثر الصلاة على عيسى ابن مريم عليه السلام، فقلت له: إنك تكثر الصلاة على عيسى فأهل ذاك هو، ولا أراك تصلي على نبينا ونبينا أفضل منه، فقال: ذاك كان مشغولا بالمرآة والمشط والنساء.

فهؤلاء الثلاثة هم أئمة الجهمية وقادتهم.

وقد انفرد الجهم عن صاحبيه بخمس قبائح:

إحداها: الشك في الإسلام.

الثانية: الحيرة في المعبود أربعين يوما.

الثالثة: ترك الصلاة في تلك الأيام، حتى يجد له دينا وإلها يعبده.

الرابعة: استهانته بالقرآن.

الخامسة: زعمه أنه قول البشر.

وأما بشر فقد امتاز بأمرين قبيحين:

ص: 277

أحدهما: تفضيل عيسى على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم موافقة منه للنصارى.

الثاني: الاعتراض على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فيما أحل الله.

ومع هذا فما زال مذهبهم الخبيث منتشرا في أقطار الأرض من زمنهم إلى يومنا هذا، وما أكثر المستجيبين لهم من هذه الأمة قديما وحديثا، وما أشبههم بمن قال الله تعالى فيهم:{قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 77]، وبمن قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عن حذيفة رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله، هل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: «نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها

» الحديث، وقد تقدم بطوله.

وفي رواية: «وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس» .

وقد رأيت طائفة من الجهمية يطوفون بالكعبة ويتكلمون بالتعطيل وعقائدهم الفاسدة جهرا، وقد جعلوا ذلك بدلا عن الدعاء في الطواف، وما رأيت أحدا أنكر ذلك عليهم، فالله المستعان.

وحدثنا الثقة من أصحابنا أنه صلَّى مع جهمي في بعض مساجد عمان -ولم يعلم أنه جهمي- قال: فافتتح سورة طه، فلما أتى على قوله:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} حرَّفها وقرأها هكذا: الرحمن على العرش استولى، قال: ورفع بذلك صوته.

قلت: وهذا ما كان يوده إمامهم الجهم من حكِّها، وهو ما كان تلقاه عن

ص: 278

أشياخه اليهود من تحريف الكلم عن مواضعه، قال الله تعالى مخبرا عنهم:{أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ} [البقرة: 75]، وقال تعالى:{يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [المائدة: 13]، ولما كان الله سبحانه وتعالى قد تكفل بحفظ كتابه العزيز كما في قوله تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] لم يمكن جهما ولا أتباعه ولا أحدا من البشر أن يغيروا حرفا واحدا منه، اللهم إلا أن يكون حال التلاوة كما صنع ذلك الجهمي الذي حدثنا عنه صاحبنا فهذا ممكن، وكذلك تغيير بعض الآيات حال الكتابة ممكن أيضا.

وقد ذكر القاضي أبو الحسين في "الطبقات" في ترجمة حنبل بن إسحاق، قال حنبل: حججت في سنة إحدى وعشرين -يعني بعد المائتين- فرأيت في المسجد الحرام كسوة البيت الديباج وهي [تخاط

(1)

] في صحن المسجد، وقد كتب في الدارات ليس كمثله شيء وهو اللطيف الخبير، فلما قدمتُ سألني أبو عبد الله عن بعض الأخبار، فأخبرته بذلك، فقال أبو عبد الله: قاتله الله، الخبيث عمد إلى كتاب الله فغيَّره! يعني ابن أبي دؤاد؛ يعني أزال السميع البصير. اهـ.

قلت: مثل هذا التحريف العارض من بعض الزائغين الملحدين لا يستقر بحيث يروج على الناس، بل كل مسلم قارئ يعرف أنه تحريف من أول وهلة، فيرده ويمقت فاعله، وقد صنف بعض الأزهريين منذ سنين كتابا حافلا في

ترجمة الإمام أحمد، وذكر فضائله، وصبره على المحنة، وما أصابه في الله تعالى،

(1)

جاء في الأصل المخطوط (تخيط) وهو سبق قلم، والتصحيح من الطبقات 1/ 144.

ص: 279

فأجاد وأفاد، إلا أنه مال إلى رأي الجهمية والمعتزلة في دعواهم أن القرآن مخلوق، واغتر بما احتجوا به لباطلهم من متشابه القرآن، وأضاف على ذلك عقله الفاسد وبداهته المنحرفة، ولم يكفه ذلك، بل تجاوزه إلى مدح هذا الرأي الفاسد والنظر الشيطاني، فقال فيه: إنه نظر عميق سليم، يحتاط للوحدانية، ويحتاط للإسلام، فهو موقف لا يخلو من النبل، وهو إيمان سليم

إلى آخر كلامه الفاسد، ودسيسته السُمية، ثم أيّد ذلك في موضع آخر بكلام فاسد لبعض من مضى قريبا من المتحذلقين المتمسكين بأذيال المتكلمين من المعتزلة والمتفلسفة؛ ظلمات بعضها فوق بعض، نعوذ بالله من عمى القلوب وانتكاسها، قال الله تعالى:{فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46]، وقال تعالى:{وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40]، ولولا خشية الإطالة لذكرت كلام أئمة السلف في رد الشبهات التي اغتر بها الجهمي وأمثاله، وقد ذكرها الإمام أحمد رحمه الله تعالى في رده على الزنادقة والجهمية، وذكرها غيره ممن صنف في هذا الشأن، فمن وقف على دسيسة هذا الكتاب الذي أشرنا إليه، وما اغتر به من شبهات أهل الزيغ والضلال، ولم يعرف وجه بطلانها، فليراجع كلام الإمام أحمد رحمه الله تعالى في رده عليهم، يجد الحق واضحا بالأدلة والبراهين، ويرى حجج الجهمية والزنادقة داحضة متهافتة، والمقصود ههنا التنبيه على دسيسة هذا الكاتب لئلا يغتر بها أحد، والله المستعان.

* * *

ص: 280

فصل

الصنف الثالث من أدعياء الإسلام: أشباه النصارى الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم؛ وهم غلاة الرافضة والجهمية ونحوهم، ممن ذهب إلى القول بالحلول والاتحاد أو وحدة الوجود، وبعضهم أكفر من النصارى وأخبث منهم قولا.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه: من جعل الرب هو العبد حقيقة، فإما أن يقول بحلوله فيه أو اتحاده به، وعلى التقديرين فإما أن يجعل ذلك مختصا ببعض الخلق كالمسيح، أو يجعله عاما لجميع الخلق، فهذه أربعة أقسام:

الأول: هو الحلول الخاص؛ وهو قول النسطورية من النصارى ونحوهم، ممن يقول إن اللاهوت حل في الناسوت وتدرع به كحلول الماء في الإناء، وهذا قول من وافق هؤلاء النصارى من غالية هذه الأمة؛ كغالية الرافضة الذين يقولون إنه حلَّ بعلي بن أبي طالب وأئمة أهل بيته، وغالية النُسَّاك الذين يقولون بالحلول في الأولياء ومَن يعتقدون فيه الولاية، أو في بعضهم كالحلاج ويونس والحاكم ونحو هؤلاء.

والثاني: هو الاتحاد الخاص؛ وهو قول يعقوبية النصارى، وهم أخبث قولا، وهم السودان والقبط؛ يقولون: إن اللاهوت والناسوت اختلطا وامتزجا كاختلاط اللبن بالماء، وهو قول من وافق هؤلاء من غالية المنتسبين إلى الإسلام.

ص: 281

والثالث: هو الحلول العام؛ وهو القول الذي ذكره أئمة أهل السنة والحديث عن طائفة من الجهمية المتقدمين، وهو قول متعبدة الجهمية الذين يقولون إن الله بذاته في كل مكان.

الرابع: الاتحاد العام؛ وهو قول هؤلاء الملاحدة الذين يزعمون أنه عين وجود الكائنات، وهؤلاء أكفر من اليهود والنصارى من وجهين.

من جهة أن أولئك قالوا: إن الرب يتحد بعبده الذي قربه واصطفاه بعد أن لم يكونا متحدين، وهؤلاء يقولون: ما زال الرب هو العبد وغيره من المخلوقات ليس هو غيره.

والثاني من جهة أن أولئك خصوا ذلك بمن عظموه كالمسيح، وهؤلاء جعلوا ذلك ساريا في الكلاب والخنازير، والقذر والأوساخ، وإذا كان الله تعالى قال:{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة: 17]، فكيف بمن قال إن الله هو الكفار والمنافقون، والصبيان والمجانين، والأنجاس والأنتان، وكل شيء، وإذا كان الله قد رد قول اليهود والنصارى لما قالوا نحن أبناء الله وأحباؤه؛ وقال لهم:{قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} الآية [المائدة: 18]، فكيف بمن يزعم أن اليهود والنصارى هم أعيان وجود الرب الخالق، ليسوا غيره ولا سواه، ولا يتصور أن يعذب إلا نفسه، وأن كل ناطق في الكون فهو عين السامع، وأن الناكح عين المنكوح، قال: واعلم أن هؤلاء لما كان

ص: 282

كفرهم في قولهم: إن الله مخلوقاته كلها، أعظم من كفر النصارى بقولهم: إن الله هو المسيح ابن مريم، فكان النصارى ضلال أكثرهم لا يعقلون مذهبهم في التوحيد، إذ هو شيء متخيل لا يعلم ولا يعقل، حيث يجعلون الرب جوهرا واحدا، ثم يجعلونه ثلاثة جواهر، ويتأولون ذلك بتعدد الخواص والأشخاص التي هي الأقانيم، والخواص عندهم ليست جواهر، فيتناقضون مع كفرهم، كذلك هؤلاء الملاحدة الاتحادية ضلال، أكثرهم لا يعقلون قول رؤوسهم ولا يفقهونه، وهم في ذلك كالنصارى، كلما كان الشيخ أحمق وأجهل كان بالله أعرف وعندهم أعظم.

قال: ومذهب هؤلاء الاتحادية كابن عربي وابن سبعين والقونوي والتلمساني مركب من ثلاث مواد: سلب الجهمية وتعطيلهم، ومجملات الصوفية؛ وهو ما يوجد في كلام بعضهم من الكلمات المجملة المتشابهة، كما ضلت النصارى بمثل ذلك فيما يروونه عن المسيح، فيتبعون المتشابه ويتركون المحكم، وأيضا كلمات المغلوبين على عقلهم الذين تكلموا في حال السكر، ومن زندقة الفلسفة التي هي أصل التجهم، فهذه المادة أغلب على ابن سبعين والقونوي، والثانية أغلب على ابن عربي؛ والكل مشتركون في التجهم، والتلمساني أعظمهم تحقيقا لهذه الزندقة والاتحاد التي انفردوا بها، وأكفرهم بالله وكتبه ورسله وشرائعه واليوم الآخر.

وقال الشيخ أيضا: معطلة الجهمية ونفاتهم يقولون: إن الله تعالى لا هو داخل العالم ولا خارجه، ولا مباين له، ولا محايث له، فينفون الوصفين

ص: 283

المتقابلين الَّذَين لا يخلو موجود عن أحدهما، كما يقول ذلك أكثر المعتزلة ومن وافقهم من غيرهم، وحلولية الجهمية الذين يقولون إنه بذاته في كل مكان، يقول ذلك النجارية أتباع حسين النجار وغيرهم من الجهمية، وهؤلاء القائلون بالحلول والاتحاد من جنس هؤلاء، فإن الحلول أغلب على عُبّاد الجهمية وصوفيتهم وعامته، والنفي والتعطيل أغلب على نظارهم ومتكلميهم، كما قيل: متكلمة الجهمية لا يعبدون شيئا، ومتصوفة الجهمية يعبدون كل شيء.

وقال الشيخ أيضا: وقد كان سلف الأمة وسادات الأئمة يرون كفر الجهمية أعظم من كفر اليهود كما قال عبد الله بن المبارك والبخاري وغيرهما، وإنما كانوا يلوحون تلويحا، وقلَّ أن كانوا يصرحون بأن ذاته في مكان، وأما هؤلاء الاتحادية فهم أخبث وأكفر من أولئك الجهمية، فإن قول الاتحادية يجمع كل شرك في العالم، وهم لا يوحدون الله سبحانه وتعالى وإنما يوحدون القدر المشترك بينه وبين المخلوقات، فهم بربهم يعدلون؛ ولهذا حدَّث الثقة أن ابن سبعين كان يريد الذهاب إلى الهند وقال: إن أرض الإسلام لا تَسَعَهُ؛ لأن الهند مشركون يعبدون كل شيء حتى النبات والحيوان، وهذا حقيقة قول الاتحادية. انتهى.

قلت: ومذاهب القائلين بالحلول والاتحاد منتشرة في كثير من الأقطار الإسلامية في هذه الأزمان، وخصوصا في غلاة الرافضة، والصوفية الجهلة الطغام، الذين هم أضل سبيلا من الأنعام.

ص: 284

وقد جمع العلامة إبراهيم بن البقاعي الشافعي أقوال العلماء في تكفير إمامي الاتحادية ابن عربي وابن الفارض ومن قال بقولهما في كتابين سمى أحدهما "تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي"، والآخر سماه "تحذير العباد من أهل العناد"، وما زال علماء أهل السنة والجماعة منذ القرن السابع إلى يومنا هذا يُكفِّرون ابن عربي وابن الفارض وابن سبعين والقونوي والتلمساني وأضرابهم، ومَن يقول بقولهم من أهل الحلول والاتحاد والزندقة والإلحاد، والله المسؤول أن يُطهِّر الأرض منهم ومن إخوانهم الوثنيين أعداء الله ورسوله والمؤمنين.

* * *

ص: 285

فصل

الصنف الرابع: غُلاة القدرية؛ وهم الذين يجحدون العلم والكتاب.

قال عبد الله ابن الإمام أحمد: سمعت أبي وسأله علي بن الجهم عمَّن قال بالقدر، يكون كافرا؟ قال: إذا جحد العلم؛ إذا قال: إن الله لم يكن عالما حتى خلق علما فعلم؛ فجحد علم الله فهو كافر.

وقال بعض السلف: خاصموهم بالعلم، فإن أقروا به خصموا، وإن جحدوه كفروا.

وقال إبراهيم بن طهمان: الجهمية كفار، والقدرية كفار. رواه عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب "السنة".

وروى أيضا في كتاب "الزهد" عن الحسن أنه قال: من كذَّب بالقدر فقد كفر.

وسيأتي ذكر الأحاديث في تسميتهم مجوس هذه الأمة قريبا إن شاء الله تعالى.

* * *

ص: 286

فصل

الصنف الخامس: أفراخ الفلاسفة، الذي يُحكّمون عقولهم الفاسدة، ويجعلونها موازين للشرع؛ فما وافقها قبلوه، وما خالفها نبذوه وراء ظهورهم.

ويقولون: إن النبوة مكتسبة، وإنها فيض يفيض على روح النبي إذا استعدت نفسه لذلك، فمن راض نفسه حتى استعدت فاض ذلك عليه، والنبي صلى الله عليه وسلم عندهم من جنس غيره من الأذكياء الزهاد؛ لكنه قد يكون أفضل.

والملائكة عندهم هي ما يتخيل في نفسه من الخيالات النورانية.

وكلام الله هو ما يسمع في نفسه من الأصوات؛ بمنزلة ما يراه النائم في منامه.

ويجوّزون على الأنبياء الكذب في خطاب الجمهور للمصلحة.

والفيلسوف عند بعضهم أعظم من النبي صلى الله عليه وسلم، وعند بعضهم أن الرسالة إنما هي للعامة دون الخاصة.

والعبادات كلها عندهم مقصودها تهذيب الأخلاق، والشريعة عندهم سياسة مدنية، إلى غير ذلك من أقاويل الفلاسفة وكفرياتهم.

وقد تعلق بأذيالهم كثير من منافقي هذه الأمة من المتقدمين والمتأخرين إلى زماننا هذا، ووردوا مواردهم الآجنة المُنتنة؛ فمستقل منها ومستكثر، وهم مع انتسابهم إلى الإسلام أضر على الإسلام وأهله من اليهود والنصارى والمشركين، وقد قيل فيهم:

ص: 287

الدين يشكو بليه

من فرقة فلسفيه

لا يشهدون صلاة

إلا لأجل التقيه

ولا ترى الشرع إلا

سياسة مدنيه

ويؤثرون عليه

مناهجاً فلسفيه

وقد ذُكر لنا عن بعض أتباعهم في هذه الأزمان أنهم لا يصلون إلا للرياضة أو للتقية، وأنهم ينكرون وجود الملائكة؛ وتنزلهم بأمر الله، وتدبيرهم للأمور بإذنه، وبعضهم ينكر كونهم يعقلون؛ وإنما هم عنده بمنزلة الجمادات والنباتات، وينكرون أيضا وجود الجن وصرعهم لبني آدم، إلى غير ذلك مما دخل عليهم من سموم الفلاسفة وجراثيم أمراضهم المهلكة، وكثير من أتباعهم من المتقدمين والمتأخرين قد اتخذوا الشمس والقمر النجوم آلهة يدعونها دون الله، ويطلبون منها ما لا يطلب إلا من الله، وقد صنّف بعضهم في ذلك كتابا سماه "السر المكتوم في السحر ومخاطبة الشمس والقمر والنجوم"، قال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه: وهذه رِدَّة صريحة. انتهى.

وانظر إلى كثير من كتبهم المصنَّفة في الطب وغيره؛ تجد فيها من تعليم السحر ودعاء الكواكب والشياطين وأنواع الطلسمات شيئا كثيرا، وهم مع هذا ينتسبون إلى الإسلام، ويحسبون أنهم على شيء إلا إنهم هم الكاذبون، {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ * اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ}

ص: 288

[المجادلة: 18 - 19].

ومن‌

‌ ضرر الفلاسفة على الإسلام وأهله

ما ذكره المؤرخون في وقعة بغداد المشهورة في سنة ست وخمسين وستمائة، فقد قيل: إن القتلى بلغوا ألف ألف وثمانمائة ألف، وقيل: ألف ألف، وقيل غير ذلك.

وهذه الملحمة العظيمة لم يجر على أهل الإسلام مثلها، لا قبل ولا بعد، إلى زماننا هذا في أواخر القرن الرابع عشر، وكان ذلك بإشارة عدويّ الإسلام نصير الشرك الطوسي، الفيلسوف الملحد الباطني الإسماعيلي، والوزير ابن العلقمي الرافضي وكيدهما للإسلام وأهله، عاملهما الله تعالى بعدله، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} .

قال ابن القيم رحمه الله تعالى في الكافية الشافية:

وكذا أتى الطوسي بالحرب الصريـ

ـح بصارم منه وسل سنان

وأتى إلى الإسلام يهدم أصله

من أُسِّه وقواعد البنيان

عمر المدارس للفلاسفة الأُولى

كفروا بدين الله والقرآن

وأتى إلى أوقاف أهل الدين ينـ

ـقلها إليهم فعل ذي أضغان

وأراد تحويل الإشارات التي

هي لابن سينا موضع الفرقان

وأراد تحويل الشريعة بالنوا

ميس التي كانت لدى اليونان

لكنه علم اللعين بأن هـ

ـذا ليس في المقدور والإمكان

إلا إذا قتل الخليفة والقضا

ة وسائر الفقهاء في البلدان

فسعى لذاك وساعد المقدور بالـ

أمر الذي هو حكمة الرحمن

فأشار أن يضع التتار سيوفهم

في عسكر الإيمان والقرآن

ص: 289

لكنهم يبقون أهل صنائع الـ

ـدُّنيا لأجل مصالح الأبدان

فغدا على سيف التتار الألف في

مثل لها مضروبة بوزان

وكذا ثمان مئينها في ألفها

مضروبة بالعد والحسبان

حتى بكى الإسلام أعداه اليهو

دُ كذا المجوس وعابدو الصلبان

فشفى اللعين النفس من حزب الرسو

ل وعسكر الإيمان والقرآن

فانظروا أيها المسلمون إلى شدة عداوة الفلاسفة والرافضة للإسلام وأهله، وخبث طويتهم، وكيدهم للمسلمين، وطلبهم الغوائل لهم والشرور، حتى أوقعوا بهم هذا الأمر الفظيع الذي لم يؤرَّخ في الإسلام أشنع ولا أبشع منه، فهذا دليل على أن انتسابهم إلى الإسلام كذب محض، ومكر وخديعة، ليفعلوا بالإسلام مثل ما فعله بولص بالنصرانية، ولهذا قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى: ليس الفلاسفة من المسلمين.

ونقل عن بعض أعيان القضاة في زمانه أنه قيل له: ابن سينا من فلاسفة الإسلام؟ فقال: ليس للإسلام فلاسفة.

قال ابن القيم رحمه الله تعالى: الفلاسفة اسم جنس لمن يحب الحكمة ويؤثرها، وقد صار هذا الاسم في عرف كثير من الناس مختصا بمن خرج عن ديانات الأنبياء، ولم يذهب إلا إلى ما يقتضيه العقل في زعمه، وأخص من ذلك أنه في عرف المتأخرين اسم لأتباع أرسطو، وهم المشاؤون خاصة، وهُم الذين هذَّب ابن سينا طريقتهم، وبسطها وقررها، وهي التي يعرفها، بل لا يعرف سواها المتأخرون من المتكلمين. انتهى.

ص: 290

قلت: وبين الفلاسفة والملاحدة الباطنية تناسب وتقارب واتفاق في بعض الأمور.

وقد ذكر بعض العلماء عن ابن سينا أنه قال: كان أبي وأخي من أهل دعوة الحاكم؛ يعني العبيدي.

وذكروا عن عبيد الله بن الحسين القيرواني -جد العبيدين- أنه قال في رسالته إلى سليمان بن الحسن القرمطي: إذا ظفرت بالفلسفي فاحتفظ به، فعلى الفلاسفة معولنا، وإنَّا وإياهم مُجمعون على رد نواميس الأنبياء، وعلى القول بقِدَم العالم، لولا ما يخالفنا فيه بعضهم من أن للعالم مدبرا لا نعرفه. ورسالة عبيد الله هذه تسمى عندهم بـ"البلاغ الأكبر" و"الناموس الأعظم"، أوصى فيها القرمطي بالدعاء إلى مذهبهم الخبيث، وأمره بالاحتفاظ بإخوانهم الفلاسفة، وهذا مما يدعو كل مسلم إلى زيادة البغض للفلاسفة ومقتهم والبعد عنهم، ولكن الأمر قد انعكس في زماننا حتى صار الانتساب إلى الفلسفة مألوفا عند المسلمين، حتى عند كثير من المنتسبين إلى العلم، فإذا بالغوا في مدح العالم والثناء عليه قالوا: هو فيلسوف، وكذلك الكلام الجيد المشتمل على الحِكَم يسمونه فلسفة، ويجعلون الوصف بذلك تعظيما له وثناء عليه، وهو في الحقيقة تهجين له وعيب وذم؛ لأنه ليس للإسلام فلاسفة، وليس الفلاسفة من المسلمين، وأقل ما يقال في ذلك: إنه خلاف عرف المسلمين ولغتهم، وعدول عن ذلك إلى عرف اليونان ولغتهم، ففي ذلك نوع من التشبه بهم، وفي الحديث:«من تشبه بقوم فهو منهم» رواه الإمام أحمد، وأبو داود

ص: 291

من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وقد قال الله تعالى:{يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269]، وقال تعالى:{وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [النساء: 113]، وقال تعالى:{فَقَدْ آَتَيْنَا آَلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [النساء: 54]، وقال تعالى:{وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآَتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} [ص: 20]، وقال تعالى:{وَلَقَدْ آَتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} [لقمان: 12] فسماها الله تعالى حكمة ولم يسمِّها فلسفة، وكذلك سمى أهلها علماء وأئمة وربانيين وأحبارا ولم يسمهم فلاسفة، قال تعالى:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]، وقال تعالى:{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24]، وقال تعالى:{لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ} [المائدة: 63]، وقال تعالى:{مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران: 79].

وفي الصحيحين وغيرهما عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا حسد إلا في اثنتين؛ رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها» فسماها حكمة ولم يسمِّها فلسفة.

وروى أبو نعيم وغيره عن سويدي بن الحارث رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أثنى على وفد الأزد ووصفهم بأنهم حكماء علماء، ولم يقل فلاسفة.

ص: 292

وفي حديث أبي الدرداء رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر» رواه الإمام أحمد، والدارمي، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجة، وابن حبان في صحيحه، والبيهقي.

فإذا كان العلماء ورثة الأنبياء فالفلاسفة ورثة اليونان، وكان معلمهم الأول أرسطو وزيرا للأسكندر بن فيلبس المقدوني ملك اليونان، وكان هو والملك وأصحابهما مشركين يعبدون الكواكب والأصنام، ويعانون السحر، فهذا ميراثهم الذي خلَّفوه لأتباعهم، مع ما تقدم ذكره في أول الفصل، وما لم يذكر وهو أكثر، وأما معلمهم الثاني أبو نصر الفارابي التركي فخلَّف لهم من الميراث أنواع الألحان والمعازف.

إذا عرف هذا فما أسفه رأي من رغب عن الأسماء التي اختارها الله لهذه الأمة، واختارها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت هي المعروفة عنده وعند أصحابه، والتابعين لهم بإحسان، وعَدَل إلى أسماء أجنبية عن الإسلام وأهل الإسلام ولُغتهم وعُرفهم.

وقد قال العلامة الشيخ سليمان بن سحمان رحمه الله تعالى في رده على زنادقة البحرين؛ لما خاطبوا محمد رشيد رضا باسم الفيلسوف: ثم لو سلَّمنا أن الفيلسوف على عُرف الفلاسفة وأتباعهم من أهل الكلام هو محب الحكمة، وأنه يُمدح ويُثنى به على العالم المصلح المرشد للعباد، لم يكن هذا من عرف أهل الإسلام ولا من لغتهم، ولا يمدح به أحد من علماء الإسلام؛ لأنه قد كان من المعلوم أنه لم يكن يسمى به أحد من علماء

ص: 293

الصحابة ولا علماء التابعين، ولا من بعدهم من الأئمة المهتدين والعلماء المصلحين المرشدين، ولا أكابر علماء أهل الحديث المجتهدين، بل كان هذا الاسم في عرف أهل الإسلام لا يسمى به إلا من كان من علماء الفلاسفة ومن نحا نحوهم من زنادقة هذه الأمة؛ فكان في الحقيقة أن هذا مما يعاب ويذم به من يسمى بذلك، لا مما يمدح ويثنى به عليه، ولو أراد هؤلاء المتنطعون المتعمقون أن ينقلوا هذا عن أحد من أهل العلم، أو يذكروه في شيء من دواوين أهل الإسلام لم يجدوا إلى ذلك سبيلا البتة؛ اللهم إلا ما يُذكر عن أشباه هؤلاء الهمج الرعاع أتباع كل ناعق؛ الذين لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجئوا إلى ركن وثيق من الفهم، إنْ هم إلا كالأنعام بل هم أضل، أولئك هم الغافلون. انتهى كلامه رحمه الله تعالى.

إذا علم هذا، فينبغي التمسك بما كان عليه سلف الأمة وأئمتها، وترك ما أحدثه الخلوف، والبعد عن ذلك كل البعد، والله الموفق.

ص: 294

فصل

الصنف السادس: القاديانية، ويقال لهم أيضا الطائفة الأحمدية.

وهم أتباع المتنبئ الكذاب مرزا غلام أحمد القادياني، الذي خرج سنة ألف وثلاثمائة وأربع عشرة في بلاد الهند فادّعى أنه المهدي المنتظر، ثم ترقى إلى دعوى أنه المسيح الموعود بنزوله في آخر الزمان حكما عدلا، وله سجع ركيك جدا شبيه بسجع مسيلمة، وله الآن أتباع كثيرون في كثير من الأقطار الإسلامية وغيرها، ويعرفون بالأحمدية، ولهم اعتناء بنشر أساجيع إمامهم الكذاب، والدعاء إلى مذهبه الخبيث، وهم مع هذا ينتمون إلى دين الإسلام {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ * اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المجادلة: 18 - 19]، وحكم القادياني وأتباعه كحكم مسيلمة وأتباعه سواء بسواء، والله أعلم.

ص: 295

فصل

الصنف السابع: تاركو الصلاة عمدا من غير عذر، على القول الراجح؛ وما أكثرهم في هذه الأزمان في جميع الأقطار الإسلامية، ولاسيما في الأمصار التي غلبت فيها الحرية الإفرنجية، وانطمست فيها أنوار الملة الحنيفية، فبعضهم يترك الصلاة بالكلية، وبعضهم يصلي بعضها ويترك بعضها، وبعضهم يجمع صلاة الأسبوع ونحوه ثم ينقرها جميعا، وبعضهم يصلي الجمعة ويترك غيرها، إلى غير ذلك من تلاعبهم بهذا الركن العظيم، واستهانتهم بجميع أمور الدين، فالله المستعان.

ولقد ذُكر لنا أن بعض المنتسبين إلى العلم، بل المنتصبين للتدريس والتعليم في مصر وغيرها يفعل بالصلاة هذه الأفعال التي ذكرنا، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

قال الخطابي رحمه الله تعالى: التروك على ضروب:

منها: ترك جحد الصلاة، وهو كفر بإجماع الأمة.

ومنها: ترك نسيان، وصاحبه لا يكفر بإجماع الأمة.

ومنها: ترك عمد من غير جحد، فهذا قد اختلف الناس فيه:

فذهب إبراهيم النخعي، وابن المبارك، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه إلى أن تارك الصلاة عمدا من غير عذر حتى يخرج وقتها كافر.

وقال أحمد رحمه الله تعالى: لا نُكفِّر أحدا من المسلمين بذنب إلا تارك الصلاة.

ص: 296

وقال مكحول الشامي، والشافعي: تارك الصلاة مقتول كما يقتل الكافر، ولا يخرج بذلك من الملة، ويدفن في مقابر المسلمين، ويرثه أهله، إلا أن بعض أصحاب الشافعي قال: لا يُصلَّى عليه إذا مات.

وقال أبو حنيفة وأصحابه: تارك الصلاة لا يُكفّر ولا يُقتل، ولكن يحبس ويضرب حتى يصلي، وتأوَّلوا الخبر على معنى الإغلاظ له والتوعد عليه. انتهى.

والقول الأول أسعد بالدليل من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.

أما الكتاب: ففي مواضع كثيرة منه:

الأول: قوله تعالى: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الروم: 31].

قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري": هذه الآية مما استدل به من يرى تكفير تارك الصلاة؛ لما يقتضيه مفهومها، وهي من أعظم ما ورد في القرآن في فضل الصلاة. انتهى.

الدليل الثاني: قوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ} [التوبة: 11].

قال ابن القيم رحمه الله تعالى: علَّق أخوتهم للمؤمنين بفعل الصلاة، فإذا لم يفعلوا لم يكونوا إخوة للمؤمنين، فلا يكونون مؤمنين؛ لقوله تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم:«المسلم أخو المسلم» .

ص: 297

الدليل الثالث: قوله تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} إلى قوله: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} [القلم: 35 - 43].

قال ابن القيم رحمه الله تعالى: وجه الدلالة من الآية أن الله سبحانه أخبر أنه لا يجعل المسلمين كالمجرمين، وأن هذا الأمر لا يليق بحكمته ولا بحكمه، ثم ذكر أحوال المجرمين الذين هم ضد المسلمين فقال:{يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} ، وأنهم يدعون إلى السجود لربهم تبارك وتعالى فيحال بينهم وبينه، فلا يستطيعون السجود مع المسلمين عقوبة لهم على ترك السجود له مع المصلين في دار الدنيا، وهذا يدل على أنهم مع الكفار والمنافقين الذين تبقى ظهورهم إذا سجد المسلمون كصياصي البقر، ولو كانوا من المسلمين لأذن لهم بالسجود كما أذن للمسلمين.

الدليل الرابع: قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ * فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر: 38 - 48].

قال ابن القيم رحمه الله تعالى: لا يخلو إما أن يكون كل واحد من هذه الخصال هو الذي سلكهم في سقر وجعلهم من المجرمين، أو مجموعها،

ص: 298

فإن كان كل واحد منها مستقلا بذلك فالدلالة ظاهرة، وإن كان مجموع الأمور الأربعة فهذا إنما هو لتغليظ كفرهم وعقوبتهم، وإلا فكل واحد منها مقتض للعقوبة، إذ لا يجوز أن يضم ما لا تأثير له في العقوبة إلى ما هو مستقل بها، ومن المعلوم أن ترك الصلاة وما ذكر معه ليس شرطا في العقوبة على التكذيب بيوم الدين، بل هو وحده كاف في العقوبة، فدل على أن كل وصف ذكر معه كذلك؛ إذ لا يمكن قائلا أن يقول لا يعذب إلا من جمع هذه الأوصاف الأربعة، فإذا كان كل واحد منها موجبا للإجرام، وقد جعل الله سبحانه المجرمين ضد المسلمين؛ كان تارك الصلاة من المجرمين السالكين في سقر، وقد قال:{إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ * يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} [القمر: 47 - 48]، وقال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا يَضْحَكُونَ} [المطففين: 29] فجعل المجرمين ضد المؤمنين المسلمين. انتهى.

قلت: وفي الآيات دليل آخر على كفر تارك الصلاة، وهو أن شفاعة الشافعين ما تنفعهم، ولو كانوا كسائر العصاة من المسلمين لنفعتهم الشفاعة، ولم يسلكوا مع الكفار في سقر.

قال البغوي رحمه الله تعالى في تفسيره: قال ابن مسعود رضي الله عنه: يشفع الملائكة والنبيون والشهداء والصالحون وجميع المؤمنين فلا يبقى في النار إلا أربعة ثم تلا: {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} إلى قوله: {بِيَوْمِ الدِّينِ} ، وقال عمران بن الحصين رضي الله عنهما: الشفاعة نافعة لكل واحد دون هؤلاء الذي تسمعون.

ص: 299

قلت: وفي الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يجمع الله الناس يوم القيامة

» فذكر الحديث وفيه: «حتى إذا فرغ الله من القضاء بين العباد وأراد أن يخرج برحمته من أراد من أهل النار، أمر الملائكة أن يخرجوا من النار من كان لا يشرك بالله شيئا، ممن أراد الله أن يرحمه ممن يشهد أن لا إله إلا الله، فيعرفونهم في النار بأثر السجود، تأكل النار ابن آدم إلا أثر السجود؛ حرم الله على النار أن تأكل أثر السجود، فيخرجون من النار قد امتحشوا، فيصب عليهم ماء الحياة، فينبتون تحته كما تنبت الحبة في حميل السيل» الحديث.

وفي الصحيحين أيضا من حديث أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه، وفيه:«فما أنتم بأشد لي مناشدة في الحق قد تبين لكم مَنِ المؤمن يومئذ للجبار، وإذا رأوا أنهم قد نجوا في إخوانهم، يقولون: ربنا إخواننا كانوا يصلون معنا ويصومون معنا ويعملون معنا، فيقول الله تعالى: اذهبوا، فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من إيمان فأخرجوه، ويحرم الله صورهم على النار» الحديث.

ففي هذين الحديثين دليل على أن الشافعين إنما يشفعون لعصاة المسلمين الذين كانوا يصلون ويصومون ويحجون ويعملون مع المسلمين، ولكن كانت لهم ذنوب حُبسوا بسببها في الطبقة العليا من طبقات النار؛ لتُمحِّصهم النار وتطهرهم من ذنوبهم، وحرم الله على النار أن تأكل أثر السجود منهم، وبهذا الأثر يعرفهم الشافعون فيخرجونهم من النار، وليس لمن ترك

ص: 300

الصلاة أثر يعرف به، وليس منه شيء يحرم على النار أن تأكله، وليسوا أيضا إخوة للمؤمنين حتى يشفعوا لهم، وإنما هم إخوة للمجرمين الذين سلكوا معهم في سقر كما قال تعالى:{احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} [الصافات: 22]؛ قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إخوانهم. وفي رواية: أشباههم. وعن النعمان بن بشير، وابن عباس رضي الله عنهم: يعني بأزواجهم أشباههم وأمثالهم، وكذا قال جماعة من المفسرين، والله أعلم.

الدليل الخامس: قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النور: 56].

قال ابن القيم رحمه الله تعالى: وجه الدلالة أنه سبحانه علق حصول الرحمة لهم بفعل هذه الأمور، فلو كان ترك الصلاة لا يوجب تكفيرهم وخلودهم في النار، لكانوا مرحومين بدون فعل الصلاة، والرب تعالى إنما جعلهم على رجاء الرحمة إذا فعلوها.

الدليل السادس: قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون: 4 - 5].

قال ابن القيم رحمه الله تعالى: اختلف السلف في معنى السهو عنها:

فقال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، ومسروق بن الأجدع، وغيرهما: هو تركها حتى يخرج وقتها، وروي في ذلك حديث مرفوع قال محمد بن نصر المروزي: حدثنا سفيان بن أبي شيبة، حدثنا عكرمة بن إبراهيم، حدثنا عبد الملك بن عمير، عن مصعب بن سعد، عن أبيه أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن

ص: 301

الذين هم عن صلاتهم ساهون قال: «هم الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها» .

وقال حماد بن زيد: حدثنا عاصم، عن مصعب بن سعد قال: قلت لأبي: يا أبتاه، أرأيت قول الله:{الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} أيّنا لا يسهو، أينا لا يحدث نفسه؟ قال: إنه ليس ذلك، ولكنه إضاعة الوقت.

وقال حيوة بن شريح: أخبرني أبو صخر أنه سأل محمد بن كعب القرظي عن قوله: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} قال: هو تاركها، ثم سأله عن الماعون قال: منع المال عن حقه.

إذا عُرف هذا، فالوعيد بالويل اطَّرد في القرآن للكفار كقوله:{* الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} [فصلت: 6 - 7]، وقوله:{أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ آَيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا} إلى قوله: {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [الجاثية: 7 - 9]، وقوله:{وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [إبراهيم: 2]، إلا في موضعين وهما:{وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} ، و {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} فعلق الويل بالتطفيف، وبالهمز واللمز، وهذا لا يكفر به بمجرده، فويل تارك الصلاة إما أن يكون ملحقا بويل الكفار أو بويل الفساق، فإلحاقه بويل الكفار أولى لوجهين:

أحدهما: أنه قد صح عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في هذه الآية أنه قال: لو تركوها لكانوا كفارا، ولكن ضيعوا وقتها.

الثاني: ما سنذكره من الأدلة على كفره.

ص: 302

الدليل السابع: قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59].

قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره: قال سفيان الثوري، وشعبة، ومحمد بن إسحاق، عن أبي إسحاق السبيعي، عن أبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} قال: واد في جهنم بعيد القعر، خبيث الطعم.

وقال الأعمش عن زياد، عن أبي عياض في قوله {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} قال: واد في جهنم من قيح ودم.

ثم ذكر ما رواه ابن جرير، ومحمد بن نصر، عن لقمان بن عامر الخزاعي قال: جئت أبا أمامة الباهلي رضي الله عنه فقلت: حدثنا حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا بطعام ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو أن صخرة زِنَة عشر أواق قذف بها من شفير جهنم ما بلغت قعرها خمسين خريفا، ثم تنتهي إلى غي وأثام» ، قال: قلت: ما غي وأثام؟ قال: «بئران في أسفل جهنم يسيل فيهما صديد أهل النار، وهما اللذان ذكرهما في كتابه: {أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا}، وقوله في الفرقان: {ولَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان: 68]» قال ابن كثير: هذا حديث غريب، ورفعه منكر. انتهى.

وروى محمد بن نصر، والبغوي في تفسيره، كلاهما من طريق عبد الله بن المبارك، عن هشيم بن بشير، أخبرنا زكريا بن أبي مريم الخزاعي قال: سمعت أبا أمامة الباهلي رضي الله عنه يقول: «إن ما بين شفير جهنم إلى قعرها مسيرة سبعين خريفا من حجر يهوي -أو قال-: صخرة تهوي، عظمها كعشر

ص: 303

عشروات سمان» فقال له مولى لعبد الرحمن بن خالد بن الوليد: هل تحت ذلك شيء يا أبا أمامة؟ قال: «نعم، غي وأثام» .

وقال أيوب بن بشير، عن شقي بن ماتع قال: إن في جهنم واديا يسمى غيا، يسيل دما وقيحا، فهو لمن خلق له، قال تعالى:{فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} .

قال ابن القيم رحمه الله تعالى: وجه الدلالة أن الله سبحانه جعل هذا المكان من النار لمن أضاع الصلاة واتبع الشهوات، ولو كان مع عصاة المسلمين لكانوا في الطبقة العليا من طبقات النار، ولم يكونوا في هذا المكان الذي هو في أسفلها، فإن هذا ليس من أمكنة أهل الإسلام بل من أمكنة الكفار، ومن الآية دليل آخر؛ وهو قوله:{فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} فلو كان مضيع الصلاة مؤمنا لم يشترط في توبته الإيمان؛ لأنه يكون تحصيلا للحاصل. انتهى.

الدليل الثامن: قوله تعالى: {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [القيامة: 31 - 32].

قال ابن القيم رحمه الله تعالى: لما كان الإسلام تصديق الخبر، والانقياد للأمر، جعل سبحانه له ضدين؛ عدم التصديق، وعدم الصلاة، وقابل التصديق بالتكذيب، والصلاة بالتولي عن الصلاة.

قال سعيد عن قتادة: {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى} لا صدق بكتاب الله ولا صلى لله، ولكن كذّب بآيات الله وولى عن طاعته، {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} وعيد على أثر وعيد.

ص: 304

الدليل التاسع: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون: 9].

قال ابن جريج: سمعت عطاء بن أبي رباح يقول: هي الصلاة المكتوبة.

قال ابن القيم رحمه الله تعالى: ووجه الاستدلال بالآية أن الله حكم بالخسران المطلق لمن ألهاه ماله وولده عن الصلاة، والخسران المطلق لا يحصل إلا للكفار، فإن المسلم ولو خسر بذنوبه ومعاصيه فآخر أمره إلى الربح، يوضحه أن الله سبحانه وتعالى أكَّد خسران تارك الصلاة في هذه الآية بأنواع من التأكيد:

أحدها: إتيانه به بلفظ الاسم الدال على ثبوت الخسران ولزومه، دون الفعل الدال على التجدد والحدوث.

الثاني: تصدير الاسم بالألف واللام المؤدية لحصول كمال المسمى لهم، فإنك إن قلت: زيد العالم الصالح، أفاد ذلك إثبات كمال ذلك له، بخلاف قولك: عالم صالح.

الثالث: إتيانه سبحانه بالمبتدأ والخبر معرفتين، وذلك من علامات انحصار الخبر في المبتدأ، كما في قوله تعالى:{أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 5]، وقوله تعالى:{وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 254]، وقوله تعالى:{أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال: 4] ونظائره.

الرابع: إدخال ضمير الفصل بين المبتدأ والخبر، وهو يفيد مع الفصل فائدتين أخريين؛ قوة الإسناد، واختصاص المسند إليه بالمسند، كقوله:

ص: 305

{وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [الحج: 64]، وقوله:{وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [المائدة: 76]، وقوله:{إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الشورى: 5]، ونظائر ذلك. انتهى.

الدليل العاشر: قوله تعالى: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} [السجدة: 15].

قال ابن القيم رحمه الله تعالى: وجه الاستدلال بالآية أنه سبحانه نفى الإيمان عمَّن إذا ذُكِّروا بآيات الله لم يخروا سجدا مسبحين بحمد ربهم، ومن أعظم التذكير بآيات الله التذكير بآيات الصلاة، فمن ذُكِّر بها ولم يتذكر ولم يصلّ لم يؤمن بها؛ لأنه سبحانه خص المؤمنين بها بأنهم أهل السجود، وهذا من أحسن الاستدلال وأقربه، فلم يؤمن بقوله تعالى:{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} إلا من التزم إقامتها. انتهى.

الدليل الحادي عشر: قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات: 48 - 49].

قال البغوي رحمه الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا} يعني صلُّوا، لا يُصلُّون.

وقال ابن عباس رضي الله عنهما: إنما يقال لهم هذا يوم القيامة، حين يُدعون إلى السجود فلا يستطيعون.

قال ابن القيم رحمه الله تعالى: توعّدهم على ترك الركوع، وهو الصلاة إذا دعوا إليها، ولا يقال إنما توعدهم على التكذيب، فإنه سبحانه وتعالى إنما أخبر عن تركهم لها، وعليه وقع الوعيد، على أنّا نقول: لا يصر على

ص: 306

ترك الصلاة إصرارا مستمرا من يصدق بأن الله أمر بها أصلا، فإنه يستحيل في العادة والطبيعة أن يكون الرجل مصدقا تصديقا جازما أن الله فرض عليه كل يوم وليلة خمس صلوات، وأنه يعاقبه على تركها أشد العقاب، وهو مع ذلك مُصِرّ على تركها، هذا من المستحيل قطعا فلا يحافظ على تركها مصدق بفرضها أبدا، فإن الإيمان يأمر صاحبه بها، فحيث لم يكن في قلبه ما يأمر بها فليس في قلبه شيء من الإيمان، ولا تصغ إلى كلام من ليس له خبرة ولا علم بأحكام القلوب وأعمالها، وتأمل في الطبيعة بأن يقوم بقلب العبد إيمان بالوعد والوعيد، والجنة والنار، وأن الله فرض عليه الصلاة، وأن الله يعاقبه معاقبة على تركها، وهو محافظ على الترك في صحته وعافيته وعدم الموانع المانعة له من الفعل، وهذا القدر هو الذي خفي على من جعل الإيمان مجرد التصديق وإن لم يقارنه فعل واجب ولا ترك محرم، وهذا من أمحل المحال أن يقوم بقلب العبد إيمان جازم لا يتقاضاه فعل طاعة ولا ترك معصية، ونحن نقول الإيمان هو التصديق، ولكن ليس التصديق مجرد اعتقاد صدق المخبر دون الانقياد له، ولو كان مجرد اعتقاد التصديق إيمانا لكان إبليس، وفرعون وقومه، وقوم صالح، واليهود الذين عرفوا أن محمدا رسول الله كما يعرفون أبناءهم مؤمنين مصدقين، وقد قال تعالى:{فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ} أي يعتقدون إنك صادق {وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33]، والجحود لا يكون إلا بعد معرفة الحق، قال تعالى:{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14]، وقال موسى لفرعون: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ

ص: 307

بَصَائِرَ} [الإسراء: 102]، وقال تعالى عن اليهود:{يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 146]، وأبلغ من هذا قول النفرين اليهوديين لما جاءا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وسألاه عما دلهما على نبوته فقالا: نشهد أنك لنبي، فقال:«ما يمنعكما من اتباعي؟» قالا: إن داود دعا أن لا يزال في ذريته نبي، وإنا نخاف إن اتبعناك أن تقتلنا اليهود. فهؤلاء قد أقروا بألسنتهم إقرارا مطابقا لمعتقدهم أنه نبي، ولم يدخلوا بهذا التصديق والإقرار في الإيمان؛ لأنهم لم يلتزموا طاعته والانقياد لأمره.

ومن هذا كفر أبي طالب، فإنه عرف حقيقة المعرفة أنه صادق، وأقر بذلك بلسانه، وصرح به في شعره، ولم يدخل بذلك في الإسلام، فالتصديق إنما يتم بأمرين:

أحدهما: اعتقاد الصدق.

والثاني: محبة القلب وانقياده.

ولهذه قال تعالى لإبراهيم: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} [الصافات: 105]، وإبراهيم كان معتقدا لصدق رؤياه من حين رآها؛ فإن رؤيا الأنبياء وحي، وإنما جعله مصدقا لها بعد أن فعل ما أمر به.

وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «والفرج يصدق ذلك أو يكذبه» ؛ فجعل التصديق عمل الفرج ما يتمنى القلب، والتكذيب تركه لذلك، وهذا صريح في أن التصديق لا يصح إلا بالعمل.

وقال الحسن: ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن ما وقر في

ص: 308

القلب، وصدّقه العمل. وقد رُوي هذا مرفوعا.

والمقصود أنه يمتنع مع التصديق الجازم بوجوب الصلاة، والوعد على فعلها، والوعيد على تركها، وبالله التوفيق. انتهى كلامه رحمه الله.

وكأن في آخره سقطا، والمعنى: أنه يمتنع مع التصديق الجازم بما ذكر أن يصر على ترك الصلاة مسلم، كما تقدم في أول كلامه، والله أعلم.

الدليل الثاني عشر: قوله تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [الأنعام: 92].

ووجه الاستدلال بهذه الآية: أن الإيمان بالآخرة يُحمل على الإيمان بكتاب الله الذي أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى المحافظة على الصلوات الخمس، فالتارك للصلاة عمدا إنما يتركها لعدم إيمانه بالآخرة وذلك كفر، فيكون تارك الصلاة كافرا، والله أعلم.

الدليل الثالث عشر: قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 34].

قال ابن رجب رحمه الله تعالى: استدل أحمد وإسحاق على كفر تارك الصلاة بكفر إبليس بترك السجود لآدم، وترك السجود لله أعظم. انتهى.

وقد روى مسلم في صحيحه حديثين في كفر تارك الصلاة؛ أحدهما حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي يقول يا ويله» ، وفي رواية:«يا ويلي، أُمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار» ، وفي

ص: 309

رواية: «فعصيت فلي النار» .

وظاهر صنيع مسلم رحمه الله تعالى في ضم هذا الحديث إلى حديث جابر الصريح في كفر تارك الصلاة مشعرٌ بموافقته لأحمد وإسحاق فيما استدلا به.

ص: 310

فصل

وأما الاستدلال بالسنة على كفر تارك الصلاة فمن وجوه:

الأول: ما رواه الإمام أحمد، ومسلم، وأهل السنن، وعبد الله ابن الإمام أحمد، والدارقطني، وأبو بكر الآجري، وغيرهم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «بين العبد وبين الكفر أو الشرك ترك الصلاة» هذا لفظ أكثرهم، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

ولفظ مسلم: «بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة» .

وفي رواية للترمذي: «بين الكفر والإيمان ترك الصلاة» .

وفي أخرى له: «بين العبد وبين الشرك والكفر ترك الصلاة» وقال: هذا حديث حسن صحيح.

وفي رواية لعبد الله ابن الإمام أحمد: «بين الرجل وبين الشرك أن يترك الصلاة، وبين الرجل وبين الكفر أن يترك الصلاة» .

وفي رواية للطبراني: «ليس بين العبد وبين الكفر إلا ترك الصلاة» .

وفي رواية للآجري: «ليس بين العبد المسلم وبين الشرك إلا ترك الصلاة» .

الدليل الثاني: ما رواه الإمام أحمد، وابنه عبد الله، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة، والدارقطني، وأبو بكر الآجري عن بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر» .

ص: 311

قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب، وصححه أيضا ابن حبان، والحاكم وقال: لا تعرف له علة بوجه من الوجوه. ووافقه الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى في تلخيصه.

الدليل الثالث: ما رواه الطبراني في الكبير، عن ثوبان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «بين العبد وبين الكفر والإيمان الصلاة، فمن تركها فقد أشرك» ورواه الحافظ هبة الله الطبراني بإسناده، قال المنذري: صحيح، وكذا قال ابن القيم في كتاب الصلاة: رواه هبة الله الطبراني وقال إسناده صحيح على شرط مسلم.

الدليل الرابع: ما رواه ابن ماجة في سننه، وعبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب "السنة" عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«ليس بين العبد والشرك إلا ترك الصلاة، فإذا تركها فقد أشرك» .

ورواه الحافظ محمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة ولفظه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «بين العبد والكفر والشرك ترك الصلاة، فإذا ترك الصلاة فقد كفر» .

ورواه الطبراني في الأوسط بإسناد لا بأس به ولفظه: «من ترك الصلاة متعمدا فقد كفر جهارا» .

الدليل الخامس: وما رواه أبو نعيم في الحلية عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الشرك أخفى في أمتي من دبيب الذر على الصفا، وليس بين العبد والكفر إلا ترك الصلاة» .

ص: 312

الدليل السادس: ما رواه الإمام أحمد بإسناد جيد، وابنه عبد الله في كتاب "السنة"، والآجري في كتاب "الشريعة"؛ كلاهما من طريقه، والطبراني في الكبير والأوسط، وابن حبان في صحيحه، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر الصلاة يوما فقال:«من حافظ عليها كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور ولا برهان ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأُبي بن خلف» .

قال ابن القيم رحمه الله تعالى: إنما خص هؤلاء الأربعة بالذكر لأنهم من رؤوس الكفرة، وفيه نكتة بديعة؛ وهو أن تارك المحافظة على الصلاة إما أن يشغله ماله، أو ملكه، أو رياسته، أو تجارته، فمن شغله عنها ماله فهو مع قارون، ومن شغله عنها ملكه فهو مع فرعون، ومن شغله عنها رياسة من وزارة أو غيرها فهو مع هامان، ومن شغله عنها تجارته فهو مع أبي بن خلف. انتهى.

الدليل السابع: ما رواه الطبراني، ومحمد بن نصر المروزي، وابن أبي حاتم عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: أوصانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «لا تشركوا بالله، ولا تتركوا الصلاة عمدا، فمن تركها عمدا متعمدا فقد خرج من الملة» .

الدليل الثامن: ما رواه الطبراني، وأبو يعلى، وابن خزيمة في صحيحه، عن أبي عبد الله الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا لا يتم ركوعه، وينقر في سجوده وهو يصلي فقال صلى الله عليه وسلم: «لو مات هذا على حاله مات على غير

ص: 313

ملة محمد صلى الله عليه وسلم».

قال أبو صالح: قلت لأبي عبد الله: من حدَّث بهذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أُمراء الأجناد؛ عمرو بن العاص، وخالد بن الوليد، وشرحبيل بن حسنة، ويزيد بن أبي سفيان سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قلت: إذا كان من يصلي ولا يتم الركوع، وينقر في السجود على غير الملة المحمدية، فتارك الصلاة بالكلية أولى أن يكون خارجا من الملة.

الدليل التاسع: ما رواه الإمام أحمد، والبخاري، والنسائي، عن حذيفة رضي الله عنه أنه رأى رجلا لا يتم الركوع والسجود قال:«ما صليت، ولو متّ متّ على غير الفطرة التي فطر الله محمد صلى الله عليه وسلم» .

قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري": استدل به على تكفير تارك الصلاة؛ لأن ظاهره أن حذيفة نفى الإسلام عمن أخل ببعض أركانها، فيكون نفيه عمن أخل بها كلها أولى، قال: وهو مصير من البخاري إلى أن الصحابي إذا قال سنة محمد أو فطرته كان حديثا مرفوعا، وقد خالف فيه قوم، والراجح الأول. انتهى.

الدليل العاشر: ما رواه الإمام أحمد، والطبراني في الكبير والأوسط، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ترك صلاة مكتوبة عمدا فقد برئت منه ذمة الله عز وجل» .

قال ابن القيم رحمه الله تعالى: ولو كان باقيا على إسلامه لكانت له ذمة الإسلام. انتهى.

ص: 314

الدليل الحادي عشر: ما رواه البخاري في "الأدب المفرد"، وابن ماجة في سننه، عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: أوصاني رسول الله صلى الله عليه وسلم بتسع؛ فذكر منها: «ولا تتركن الصلاة المكتوبة متعمدا، ومن تركها متعمدا برئت منه الذمة» .

الدليل الثاني عشر: ما رواه البخاري في صحيحه، عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله، فلا تخفروا الله في ذمته» .

ورواه الإمام أحمد، وأهل السنن إلا ابن ماجة بنحوه.

قال ابن القيم رحمه الله تعالى: وجه الدلالة فيه من وجهين:

أحدهما: أنه إنما جعله مسلما بهذه الثلاثة؛ فلا يكون مسلما بدونها.

الثاني: أنه إذا صلى إلى الشرق لم يكن مسلما حتى يصلي إلى قبلة المسلمين، فكيف إذا ترك الصلاة بالكلية. انتهى.

الدليل الثالث عشر: ما رواه مالك، والشافعي، وأحمد، والنسائي، والحاكم في مستدركه، والبخاري في تاريخه، وابن حبان، والدارقطني، من حديث بسر بن محجن، عن أبيه محجن بن الأدرع الأسلمي رضي الله عنه أنه كان في مجلس مع النبي صلى الله عليه وسلم فأذن بالصلاة، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلّى، ورجع ومحجن في مجلسه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ما منعك أن تصلي مع الناس، ألست برجل مسلم؟» قال: بلى يا رسول الله، كنت قد صليت في أهلي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إذا جئت المسجد وكنت قد صليت، فأقيمت الصلاة، فصل مع الناس وإن كنت قد صليت» قال الحاكم:

ص: 315

صحيح. وأقرّه الذهبي.

قال ابن القيم رحمه الله تعالى: فجعل الفارق بين المسلم والكافر الصلاة، وأنت تجد تحت ألفاظ الحديث أنك لو كنت مسلما لصليت، وهذا كما تقول: مالك لا تتكلم، ألست بناطق؟ ومالك لا تتحرك، ألست بحي؟ ولو كان الإسلام يثبت مع عدم الصلاة لما قال لمن رآه لا يصلي:«ألست برجل مسلم؟» . اهـ.

الدليل الرابع عشر: ما رواه أبو داود في سننه، والبخاري في تاريخه، عن يزيد بن عامر رضي الله عنه قال: جئت والنبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة، فجلست ولم أدخل معهم في الصلاة، قال: فانصرف علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى يزيد جالسا فقال: «ألم تُسلم يا يزيد؟» قال: بلى يا رسول الله قد أسلمت، قال:«فما منعك أن تدخل مع الناس في صلاتهم؟» قال: إني كنت قد صليت في منزلي، وأنا أحسب أن قد صليتم، فقال:«إذا جئت إلى الصلاة فوجدت الناس فصل معهم، وإن كنت قد صليت تكن لك نافلة وهذه مكتوبة» .

ففي هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الصلاة عَلَما على الإسلام، وفرقًا بين المسلم والكافر، ولو كان تارك الصلاة مسلما لما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمن رآه لم يدخل مع الناس في الصلاة:«ألم تسلم؟» فدل على أن تارك الصلاة ليس بمسلم.

الدليل الخامس عشر: ما رواه الإمام أحمد، والترمذي، والنسائي،

وابن ماجة، والبخاري في تاريخه، من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم -

ص: 316

قال: «رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة

» الحديث، قال الترمذي: هذا حديث صحيح.

قال ابن القيم رحمه الله تعالى: وجه الاستدلال به أنه أخبر أن الصلاة من الإسلام بمنزلة العمود الذي تقوم عليه الخيمة، فكما تسقط الخيمة بسقوط عمودها فهكذا يذهب الإسلام بذهاب الصلاة، وقد احتج أحمد بهذا بعينه. انتهى.

الدليل السادس عشر: ما في الصحيحين عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بني الإسلام على خمس؛ شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان» ورواه الإمام أحمد وغيره.

قال ابن القيم رحمه الله تعالى: وجه الاستدلال به من وجوه:

أحدها: أنه جعل الإسلام كالقبة المبنية على خمسة أركان، فإذا وقع ركنها الأعظم وقعت قبة الإسلام.

الثاني: أنه جعل هذه الأركان في كونها أركانا لقبة الإسلام قرينة الشهادتين، فهما ركن، والصلاة ركن، والزكاة ركن، فما بال قبة الإسلام تبقى بعد سقوط أحد أركانها دون بقية أركانها.

الثالث: أنه جعل هذه الأركان نفس الإسلام، وداخلة في مسمى اسمه، وما كان اسما لمجموع أمور إذا ذهب بعضها ذهب ذلك المسمى، ولاسيما إذا كان من أركانه لا من أجزائه التي ليست بركن؛ كالحائط للبيت؛ فإنه إذا

ص: 317

سقط سقط البيت، بخلاف العود والخشبة واللبنة ونحوها. انتهى.

الدليل السابع عشر: ما رواه الإمام أحمد، والدارمي، والطبراني في الصغير، والبيهقي في شعب الإيمان، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«مفتاح الجنة الصلاة، ومفتاح الصلاة الطهور» .

قال الطيبي: جعلت الصلاة مقدمة لدخول الجنة، كما جعل الوضوء مقدمة للصلاة، فكما لا تمكن الصلاة بدون وضوء، لا يتهيأ دخول الجنة بدون صلاة، قال بعضهم: فيه دليل لِمن كفَّر تارك الصلاة. انتهى.

وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: هذا يدل على أن من لم يكن من أهل الصلاة لم تفتح له الجنة، وهي تفتح لكل مسلم فليس تاركها مسلما، ولا تناقض بين هذا وبين الحديث الآخر وهو قوله:«مفتاح الجنة شهادة أن لا إله إلا الله» ، فإن الشهادة أصل المفتاح، والصلاة وبقية الأركان أسنانه التي لا يحصل الفتح إلا بها، إذ دخول الجنة موقوف على المفتاح وأسنانه، وقال البخاري رحمه الله تعالى: وقيل لوهب بن منبه: أليس مفتاح الجنة «لا إله إلا الله» ؟ قال: بلى، ولكن ليس مفتاح إلا وله أسنان، فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك، وإلا لم يفتح لك. انتهى.

قلت: وهذا المسلك الذي سلكه ابن القيم رحمه الله تعالى في الجمع بين الحديثين ضعيف؛ لتسويته بين الصلاة وبقية الأركان في كون الجميع أسناناً لمفتاح الجنة لا غير، وعلى هذا فلا يكون في حديث جابر فائدة، ولا يكون للصلاة مزية تخصها، والذي يظهر لي أنه إنما أطلق الصلاة على أنها مفتاح الجنة لكونها مشتملة على أصل المفتاح، وأعظم أسنانه، فأصل

ص: 318

المفتاح شهادة أن لا إله إلا الله؛ وهي مع التشهد الأخير ركن من أركان الصلاة، لا تصح الصلاة بدونها، ومع التشهد الأول واجب تبطل الصلاة بتعمد تركها فيه، ويتلوها شهادة أن محمدا رسول الله؛ وهي قرينة الشهادة بالوحدانية وأعظم من سائر الأسنان، ثم الصلاة مع قطع النظر عما اشتملت عليه هي السن الأعظم للمفتاح؛ لأنها عمود الإسلام، إذا سقطت سقط بناء الإسلام وذهب؛ كما في الحديث الصحيح:«بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة» .

وأيضا فقد جاء في حديث سيأتي ذكره إن شاء الله أن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر، وفي حديث آخر أنها:«إن تُقُبِّلت تُقُبِّل منه سائر عمله وإن رُدَّت رُدَّ سائر عمله» .

ولما كانت الصلاة مختصة بهذه المزايا دون بقية الأركان كانت مفتاحا للجنة.

وإذا عرفت أن من أتى بها فقد أتى بأصل المفتاح وزيادة، عرفت أنه لا تعارض بين حديث جابر وبين قوله في الحديث الآخر:«مفتاح الجنة شهادة أن لا إله إلا الله» ، والله أعلم.

الدليل الثامن عشر: ما رواه الإمام أحمد، والبخاري، والنسائي، وابن ماجة، عن بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ترك صلاة العصر حبط عمله» .

ص: 319

وروى الإمام أحمد أيضا، عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ترك صلاة العصر متعمدا حتى تفوته فقد أحبط عمله» .

ووجه الاستدلال به أنه لا يحبط إلا عمل الكافر، كما أخبر الله بذلك في آيات من القرآن، فدل على أن تارك الصلاة كافر، والله أعلم.

قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: فإن قيل: فأي فائدة في تخصيص صلاة العصر بكونها محبطة دون غيرها من الصلوات؟ قيل: الحديث لم ينف الحبوط بغير العصر إلا بمفهوم لقب؛ وهو مفهوم ضعيف جدا، وتخصيص العصر بالذكر لشرفها من بين الصلوات، ولهذا كانت هي الصلاة الوسطى بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيح الصريح، ولهذا خصها بالذكر في الحديث الآخر وهو قوله:«الذي تفوته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله» ؛ أي فكأنما سلب أهله وماله فأصبح بلا أهل ولا مال، وهذا تمثيل لحبوط عمله بتركها، كأنه شبه أعماله الصالحة بانتفاعه بها وتمتعه بها بمنزلة أهله، فإذا ترك صلاة العصر فهو كمن له أهل ومال، فخرج من بيته لحاجة وفيه أهله وماله، فرجع وقد اجتيح الأهل والمال، فبقي وترا دونهم، وموتورا بفقدهم، فلو بقيت عليه أعماله الصالحة لم يكن التمثيل مطابقا. انتهى.

الدليل التاسع عشر: ما رواه الإمام أحمد، ومسلم، وابن ماجة بإسناد مسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي يقول يا ويله» ، وفي رواية: «يا ويلي،

ص: 320

أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار».

وقد ذكرنا قريبا أن مسلما رحمه الله تعالى ضم هذا الحديث إلى حديث جابر الصريح في تكفير تارك الصلاة، فأفاد صنيعه أنه أورده ليستدل به على كفر تارك الصلاة.

كما استدل أحمد وإسحاق على ذلك بقوله تعالى: {فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 34]، فإن إبليس كفر بترك السجود لآدم، وترك السجود لله تعالى أعظم من ترك السجود لغيره، فيكون تارك الصلاة كافرا بطريق الأولى، والله أعلم.

الدليل العشرون: ما رواه الحاكم في مستدركه من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «والله يا معشر قريش لتقيمنّ الصلاة ولتؤتنّ الزكاة، أو لأبعثن عليكم رجلا فيضرب أعناقكم على الدين» قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي في تلخيصه، وفيه دليل على أن لا دين لمن لم يصل.

ص: 321

فصل

في ذكر إجماع الصحابة رضي الله عنهم على كفر تارك الصلاة، وسياق أقوالهم في ذلك، وأقوال علماء التابعين، ومن بعدهم، ومن حكى منهم الإجماع على ذلك.

قال الترمذي في جامعه: حدثنا قتيبة، أخبرنا بشر بن المفضل، عن الجريري، عن عبد الله بن شقيق العقيلي قال: كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة. إسناده صحيح.

وقد رواه الحاكم في مستدركه، عن أحمد بن سهل الفقيه، حدثنا قيس بن أنيف، حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا بشر بن المفضل، عن الجريري، عن عبد الله بن شقيق، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة. قال الذهبي: إسناده صالح.

قلت: وهذا حكاية إجماع من الصحابة رضي الله عنهم على تكفير تارك الصلاة.

وقال ابن زنجويه: حدثنا عمر بن الربيع، حدثنا يحيى بن أيوب، عن يونس بن شهاب قال: حدثني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أخبره أنه جاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين طُعن في المسجد، قال: فاحتملته أنا ورهط كانوا معي في المسجد، حتى أدخلناه بيته، قال: فأمر عبد الرحمن بن عوف أن يصلي بالناس، قال: فلما دخلنا

ص: 322

على عمر بيته غشي عليه من الموت، فلم يزل في غشيته حتى أسفر، ثم أفاق فقال: هل صلَّى الناس؟ قال: فقلنا: نعم، فقال: لا إسلام لمن ترك الصلاة.

وروى مالك في الموطأ، عن هشام بن عروة، عن أبيه أن المسور بن مخرمة رضي الله عنهما أخبره أنه دخل على عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الليلة التي طعن فيها، فأيقظ عمر لصلاة الصبح، فقال عمر: نعم، لا حظَّ في الإسلام لمن ترك الصلاة. فصلى عمر رضي الله عنه وجرحه يثعُبُ دما.

ورواه الدارقطني في سننه، من حديث هشام بن عروة، عن أبيه، عن سليمان بن يسار، عن المسور بن مخرمة رضي الله عنهما قال: جاء ابن عباس رضي الله عنهما إلى عمر رضي الله عنه حين طعن، فقال: الصلاة يا أمير المؤمنين، فقال عمر رضي الله عنه: إنه لا حظَّ في الإسلام لأحد أضاع الصلاة. فصلى عمر وجرحه يثعُب دما.

وقال عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد": حدثنا داود بن عمر، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، عن عروة وسليمان بن يسار، عن المسور بن مخرمة رضي الله عنهما أنه دخل هو وابن عباس على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقالا: الصلاة يا أمير المؤمنين -بعد ما أسفر- فقال: نعم، ولا حظّ في الإسلام لمن ترك الصلاة. فصلى والجرح يثعب دما.

ورواه أبو بكر الآجري في كتاب "الشريعة" من حديث الزهري قال: أخبرني سليمان بن يسار أن المسور بن مخرمة رضي الله عنهما أخبره خبر طعن عمر رضي الله عنه، أنه دخل عليه هو وابن عباس رضي الله عنهما، فلما

ص: 323

أصبح أفزعوه فقالوا: الصلاة الصلاة، فقال: نعم، ولا حظَّ في الإسلام لمن ترك الصلاة. فخرج والجرح يثعب دما.

ورواه أيضا من حديث جابر بن سمرة، عن المسور بن مخرمة رضي الله عنهما قال: دخلت على عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين طعن فقالوا: الصلاة يا أمير المؤمنين، فقال: الصلاة ها الله إذًا، ولا حظَّ في الإسلام لمن ترك الصلاة.

فهذا قول الخليفة الراشد الذي وضع الله الحق على لسانه يقول به، وقد قال هذا بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم فلم ينكروه، ولا يعرف عن صحابي خلافه فيكون إجماعا.

وروى ابن أبي شيبة، والبخاري في التاريخ، عن علي رضي الله عنه أنه قال: من لم يُصلِّ فهو كافر.

وقال أبو بكر الآجري: حدثنا أبو نصر محمد بن كردي، قال: حدثنا أبو بكر المروزي، قال: حدثنا أحمد بن حنبل، قال: حدثنا عبد الله بن نمير، عن محمد بن إسماعيل، عن معقل بن معقل الخثعمي قال: أتى رجل عليًا رضي الله عنه وهو في الرحبة قال: يا أمير المؤمنين، ما ترى في المرأة لا تصلي؟ فقال: من لم يصل فهو كافر.

وقد تقدم قول ابن القيم رحمه الله تعالى أنه قد صح عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه قال: لو تركوها لكانوا كفارا.

وقال ابن رجب رحمه الله تعالى: قال سعد، وعلي بن أبي طالب -رضي

ص: 324

الله عنهما-: من تركها فقد كفر.

وقال عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب "السنة": حدثني أبي، حدثنا وكيع وعبد الرحمن، عن سفيان، عن عاصم، عن ذر، عن عبد الله رضي الله عنه قال: من لم يصل فلا دين له.

وقال عبد الله أيضا: حدثني أبي، حدثنا وكيع، حدثنا المسعودي، عن القاسم والحسن بن سعيد قالا: قال عبد الله؛ وهو ابن مسعود رضي الله عنه: تركها الكفر.

وقال أبو بكر الآجري: حدثنا أبو نصر محمد بن كردي، قال: حدثنا أبو بكر المروزي، قال: حدثنا أحمد بن حنبل، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن المسعودي، عن القاسم قال عبد الله؛ يعني ابن مسعود رضي الله عنه: الكفر ترك الصلاة.

وتقدم قريبا ما رواه الإمام أحمد، والبخاري، والنسائي، عن حذيفة رضي الله عنه أنه رأى رجلا لا يتم الركوع والسجود، قال:«ما صليت، ولو مت مت على غير الفطرة التي فطر الله محمد صلى الله عليه وسلم» .

وروى الحاكم، عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: من لم يُصلِّ فهو كافر.

وروى محمد بن نصر المروزي، وابن عبد البر، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: من ترك الصلاة فقد كفر.

وروى ابن عبد البر، عن جابر رضي الله عنه أنه قال: من لم يصل فهو كافر.

وروى أيضا عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال: لا إيمان لمن لا صلاة له،

ص: 325

ولا صلاة لمن لا وضوء له.

وروى البخاري في تاريخه، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: مَن ترك الصلاة لا دين له.

وروى أيضا عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أنه قال: من شرب الخمر ممسيا أصبح مشركا، ومن شربه مصبحا أمسى مشركا. فقيل لإبراهيم النخعي: كيف ذلك؟ قال: لأنه يترك الصلاة. ذكر ذلك شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية في كتاب "الإيمان" قال: وقال أبو عبد الله الأخنس في كتابه: من شرب المسكر فقد تعرض لترك الصلاة، ومن ترك الصلاة فقد خرج من الإيمان.

وذكر ابن القيم رحمه الله تعالى، عن أبي محمد ابن حزم أنه قال: قد جاء عن عمر، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاذ بن جبل، وأبي هريرة، وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم: أن من ترك صلاة فرض واحدة متعمدا حتى يخرج وقتها فهو كافر مرتد.

قال ابن القيم رحمه الله تعالى: ولا يعلم عن صحابي خلافهم.

وقال الحافظ عبد الحق الإشبيلي رحمه الله تعالى في كتابه في الصلاة: ذهب جملة من الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم إلى تكفير تارك الصلاة متعمدا لتركها حتى يخرج جميع وقتها، منهم: عمر بن الخطاب، ومعاذ بن جبل، وعبد الله بن مسعود، وابن عباس، وجابر، وأبو الدرداء، وكذلك روي عن علي رضي الله عنه، هؤلاء من الصحابة، ومن غيرهم: أحمد بن

ص: 326

حنبل، وإسحاق بن راهويه، وعبد الله بن المبارك، وإبراهيم النخعي، والحكم بن عتيبة، وأيوب السختياني، وأبو داود الطيالسي، وأبو بكر بن أبي شيبة، وأبو خيثمة زهير بن حرب. انتهى.

قلت: وهو قول مسروق، والقاسم بن مخيمرة، وذكر الشيخ أبو محمد المقدسي في المغني أنه مذهب الحسن، والشعبي، والأوزاعي، وحماد بن زيد، ومحمد بن الحسن. قال: واختاره أبو إسحاق بن شاقلا، وابن حامد. وذكر شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية أنه اختيار أبي بكر، وطائفة من أصحاب مالك.

وذكر ابن القيم رحمه الله تعالى أنه قول سعيد بن جبير، وعبد الملك بن حبيب من المالكية، وأحد الوجهين في مذهب الشافعي، وحكاه الطحاوي عن الشافعي نفسه.

قلت: وكذا حكاه عنه الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره.

وروى النسائي في سننه، عن أبي وائل، عن مسروق قال: من شرب الخمر فقد كفر، وكفره أن ليس له صلاة.

وروى سعيد بن منصور: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن مسلم، عن مسروق في قول الله تعالى:{وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} قال: على مواقيتها، فقالوا: ما كنا نرى ذلك إلا الترك، قال: تركها كفر.

وقال عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب "السنة": حدثني أبي، حدثنا الوليد بن مسلم: سمعت الأوزاعي، عن القاسم بن مخيمرة قال: أضاعوا المواقيت ولم يتركوها، ولو تركوها صاروا بتركها كفارا.

ص: 327

وهكذا رواه أبو بكر الآجري، عن جعفر بن محمد الصندلي، عن الفضل بن زياد، عن الإمام أحمد بن حنبل، عن الوليد بن مسلم فذكره، وزاد في أوله ذكر الآية؛ وهي قوله تعالى:{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} .

وروى أبو نعيم في "الحلية" من طريق أخرى عن الأوزاعي، حدثنا موسى بن سليمان قال: سمعت القاسم يقول في هذه الآية {أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} قال: أضاعوا المواقيت، فإنهم لو تركوها كانوا بتركها كفارا.

وروى أسد بن موسى، عن الحكم بن عتيبة أنه قال: من ترك الصلاة متعمدا فقد كفر.

وروي أيضا عن سعيد بن جبير مثل ذلك. ذكر ذلك شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى في كتاب "الإيمان".

وقال محمد بن نصر: حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا أبو النعمان، حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب قال: ترك الصلاة كفر لا يختلف فيه. ذكر ذلك الحافظ ابن القيم رحمه الله تعالى في "كتاب الصلاة"، قال: وحكى محمد، عن ابن المبارك قال: من أخّر صلاة حتى يفوت وقتها متعمدا من غير عذر فقد كفر.

وقال علي بن الحسن بن شقيق: سمعت عبد الله يقول: من قال إني لا أصلي المكتوبة اليوم فهو أكفر من حمار.

وقال يحيى بن معين: قيل لعبد الله بن المبارك: إن هؤلاء يقولون: من

ص: 328

لم يصم ولم يصل بعد أن يُقرّ به فهو مؤمن مستكمل الإيمان، فقال عبد الله: لا نقول نحن ما يقول هؤلاء، من ترك الصلاة متعمدا من غير علة حتى أدخل وقتا في وقت فهو كافر.

وقال ابن أبي شيبة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من ترك الصلاة فقد كفر» فيقال له: ارجع عن الكفر، فإن فعل وإلا قتل بعد أن يؤجله الوالي ثلاثة أيام.

وقال أحمد بن يسار: سمعت صدقة بن الفضل؛ وسئل عن تارك الصلاة فقال: كافر، فقال له السائل: أتطلق منه امرأته؟ فقال صدقة: وأين الكفر من الطلاق؟! لو أن رجلا كفر لم تطلق منه امرأته.

وقال محمد بن نصر المروزي: سمعت إسحاق يقول: صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن تارك الصلاة كافر، وكذلك كان رأي أهل العلم من لدن النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا أن تارك الصلاة عمدا من غير عذر حتى يذهب وقتها كافر.

قال ابن القيم رحمه الله: ومن العجب أن يقع الشك في كفر من أصر على تركها، ودعي إلى فعلها على رؤوس الملأ، وهو يرى بارقة السيف على رأسه، وشد للقتل، وعصبت عيناه، وقيل له: تصلي وإلا قتلناك، فيقول: اقتلوني ولا أصلي أبدا.

ومن لا يُكفِّر تارك الصلاة يقول: هذا مؤمن، مسلم، يُغسّل، ويُصلَّى عليه، ويدفن في مقابر المسلمين! وبعضهم يقول: إنه مؤمن كامل الإيمان، كإيمان جبريل وميكائيل! أفلا يستحي مَن هذا قوله مِن إنكاره تكفير من شهد بكفره الكتاب والسنة واتفاق الصحابة رضي الله عنهم، والله الموفق. انتهى.

ص: 329

فصل

وهل يلحق تارك الزكاة، والصوم، والحج بتارك الصلاة -في الحكم بكفره إذا تعمد الترك- أم لا؟

قال محمد بن نصر رحمه الله تعالى: ذهب طائفة من أهل الحديث إلى أن من ترك شيئا من أركان الإسلام الخمس عمدا أنه كافر. ذكر ذلك عنه الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى، قال: وروي ذلك عن سعيد بن جبير، ونافع، والحكم، وهو رواية عن الإمام اختارها طائفة من أصحابه، وهو قول ابن حبيب من المالكية. انتهى.

وقال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى: هو اختيار أبي بكر، وطائفة من أصحاب مالك كابن حبيب، ثم ذكر رحمه الله تعالى ما رواه أسد بن موسى، عن الحكم بن عتيبة قال: من ترك الصلاة متعمدا فقد كفر، ومن ترك الزكاة متعمدا فقد كفر، ومن ترك الحج متعمدا فقد كفر، ومن ترك صوم رمضان متعمدا فقد كفر. وروى أسد أيضا عن سعيد بن جبير قال: من ترك الصلاة متعمدا فقد كفر بالله، ومن ترك الزكاة متعمدا فقد كفر بالله، ومن ترك صوم رمضان متعمدا فقد كفر بالله.

قلت: وهذا هو المروي عن سفيان بن عيينة رحمه الله تعالى، قال عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب "السنة": حدثنا سويد بن سعيد الهروي، قال: سألْنا سفيان بن عيينة عن الإرجاء؟ فقال: يقولون: الإيمان قول، ونحن نقول: الإيمان قول وعمل. والمرجئون أوجبوا الجنة لمن شهد أن

ص: 330

لا إله إلا الله مُصرًّا بقلبه على ترك الفرائض، وسموا ترك الفرائض ذنبا بمنزلة ركوب المحارم، وليس سواء؛ لأن ركوب المحارم من غير استحلال معصية، وترك الفرائض متعمدا من غير جهل ولا عذر هو كفر، وبيان ذلك في أمر آدم، وإبليس، وعلماء اليهود؛ أما آدم فنهاه عن أكل الشجرة وحرمها عليه، فأكل منها متعمدا ليكون ملكا أو يكون من الخالدين، فسمي عاصيا من غير كفر، وأما إبليس فإنه فرض عليه سجدة واحدة، فجحدها متعمدا فسمي كافرا، وأما علماء اليهود فعرفوا نعت النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه نبي رسول كما يعرفون أبناءهم، وأقروا به باللسان، ولم يتبعوا شرائعه، فسماهم الله كفارا؛ فركوب المحارم مثل ذنب آدم وغيره من الأنبياء، أما ترك الفرائض جحودا فهو كفر مثل كفر إبليس، وتركهم على معرفة من غير جحود فهو مثل كفر علماء اليهود، والله أعلم.

قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى: وعن أحمد رحمه الله تعالى رواية ثانية: لا يكفر إلا بترك الصلاة والزكاة فقط.

وذكر هذه الرواية أيضا الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى.

ويستدل لهذه الرواية بآيتين من كتاب الله عز وجل، وحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأما الآيتان فالأولى منهما: قوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة: 11]، فعلق أخوتهم للمؤمنين بإيتاء الزكاة، فإذا لم يفعلوا لم يكونوا إخوة للمؤمنين، فلا يكونون مؤمنين لقوله تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]، ولقوله صلى الله عليه وسلم:«المسلم أخو المسلم» ، وتقدم مثل ذلك في الصلاة.

ص: 331

الآية الثانية: قوله تعالى: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت: 6 - 7]؛ وفي معنى هذه الآية أقوال أقربها قول قتادة: يمنعون زكاة أموالهم. قال ابن كثير رحمه الله تعالى: وهذا هو الظاهر عند كثير من المفسرين، واختاره ابن جرير. انتهى.

ولفظة "الإيتاء" وهو إعطاء الغير تدل على ذلك، كما هو مُطَّرد في القرآن في مواضع كثيرة.

قال الراغب الأصفهاني: الإيتاء: الإعطاء، وخص دفع الصدقة في القرآن بالإيتاء نحو:{أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ} [الحج: 41]، {وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ} [النور: 37]. انتهى.

فإن قيل: إن الآية مكية، والزكاة إنما فرضت بعد الهجرة إلى المدينة.

فالجواب: ما قاله البغوي رحمه الله تعالى في تفسيره: إنه يجوز أن يكون النزول سابقا على الحكم؛ كما قال تعالى: {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} ، فالسورة مكية، وظهر أثر الحل يوم الفتح، حتى قال عليه الصلاة والسلام:«أحلت لي ساعة من نهار» ، وكذلك نزل بمكة:{سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر: 45]، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: كُنت لا أدري أي جمع يهزم، فلما كان يوم بدر رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يثب في الدرع ويقول:«{سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ}» . انتهى.

قلت: فكذلك هذه الآية؛ هي -والله أعلم- مما نزل سابقا وتأخر حكمه، ومثلها قوله تعالى:{وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141]، وهي الزكاة المفروضة، كما قاله أكابر المفسرين؛ فهذه الآية مكية،

ص: 332

وتأخر حكمها بعد الهجرة، إذ من المعلوم بالضرورة أنه لم يكن بمكة يومئذ نخل ولا زرع، ولم تكن الزكاة فرضت إلا بعد الهجرة، ومن ذلك قوله تعالى:{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى: 14] أي: أعطى صدقة الفطر، {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 15] أي خرج إلى العيد فصلى صلاته، روي ذلك عن أبي سعيد الخدري، وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم، وهو قول أبي العالية وابن سيرين، فهذه الآية مكية، وحكمها على قول هؤلاء متأخر بعد الهجرة، والله أعلم.

والمقصود هاهنا أن قول قتادة أولى وأقرب إلى ظاهر هذه الآية، وفيها دليل على كفر تارك الزكاة، والله أعلم.

وأما الحديث: فهو ما رواه الحاكم في مستدركه، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«والله يا معشر قريش لتقيمن الصلاة ولتؤتن الزكاة، أو لأبعثن عليكم رجلا فيضرب أعناقكم على الدين» قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.

وفيه دليل على أنه لا دين لمن ترك الزكاة، ومن لا دين له فليس بمسلم.

وقد اتفق الصحابة رضي الله عنهم على قتال مانعي الزكاة، وسموهم أهل الردة.

وقال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتاب "الهدي": روينا من حديث أبي علي الحسن بن الحسين بن دوما، عن البراء بن عازب رضي الله عنهما-

ص: 333

يرفعه: «كفر بالله العظيم من هذه الأمة -وذكر منهم- مانع الزكاة» .

وقال عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب "السنة": حدثني أبي، حدثنا وكيع، حدثنا حسن بن صالح، عن مطرف، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص قال: قال عبد الله رضي الله عنه: ما تارك الزكاة بمسلم.

وقد جاء في حديث مرفوع أن تارك الصيام كافر، فروى الحافظ أبو يعلى بإسناد حسن، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال حماد بن زيد: ولا أعلمه إلا وقد رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عرى الإسلام وقواعد الدين ثلاثة عليهن ابتنى الإسلام؛ من ترك واحدة منهن فهو بها كافر حلال الدم؛ شهادة أن لا إله إلا الله، والصلاة المكتوبة، وصوم رمضان» .

وفي رواية: «من ترك منهن واحدة فهو كافر، ولا يقبل منه صرف ولا عدل، وقد حل دمه وماله» .

وروى اللالكائي من طريق مؤمل قال: حدثنا حماد بن زيد، عن عمرو بن مالك البكري، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما ولا أحسبه إلا رفعه، قال:«عرى الإسلام وقواعد الدين ثلاثة، عليهن أسس الإسلام؛ شهادة أن لا إله إلا الله، والصلاة، وصوم رمضان، من ترك منهن واحدة فهو بها كافر، ولا يحل دمه، وتجده كثير المال لم يحج فلا يزال بذلك كافرا ولا يحل بذلك دمه، وتجده كثير المال ولا يزكي فلا يزال بذلك كافرا ولا يحل دمه» ورواه قتيبة بن سعيد، عن حماد بن زيد مرفوعا مختصرا.

ص: 334

ورواه سعيد بن زيد -أخو حماد بن زيد- عن عمرو بن مالك بهذا الإسناد مرفوعا، وقال:«من ترك منهن واحدة فهو كافر، ولا يقبل منه صرف ولا عدل، وقد حل دمه وماله» ولم يذكر ما بعده.

وأما الحج فقد قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97].

وروى ابن جرير، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله كتب عليكم الحج» فقال رجل: أفي كل عام يا رسول الله؟ فقال: «والذي نفسي بيده لو قلت نعم لوجبت، ولو وجب عليكم ما أطقتموه، ولو تركتموه لكفرتم» .

وروى ابن جرير أيضا من حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه نحوه.

وكذا من طريق العوفي، عن ابن عباس، ومن طريق علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس رضي الله عنهما نحوه.

وروى الترمذي، وابن مردويه، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا، وذلك أن الله يقول في كتابه: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}» قال الترمذي: هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وفي إسناده مقال.

وروى سعيد بن منصور بإسناده، عن عبد الرحمن بن سابط قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من مات ولم يحج حجة الإسلام، لم يمنعه مرض حابس،

ص: 335

أو سلطان جائرا، أو حاجة ظاهرة، فليمت على أي حال شاء يهوديا أو نصرانيا».

ورواه أبو نعيم في الحلية، من طريق محمد بن أسلم الطوسي، والبغوي في تفسيره من طريق سهل بن عمارة، كلاهما عن يزيد بن هارون، قال: أخبرنا شريك، عن ليث، عن عبد الرحمن بن سابط، عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لم يمنعه من الحج حاجة ظاهرة، أو مرض حابس، أو سلطان جائر؛ فمات ولم يحج فليمت يهوديا أو نصرانيا» .

وقال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتاب "الهدي": روينا من حديث أبي علي الحسن بن الحسين بن دوما، عن البراء بن عازب رضي الله عنهما يرفعه:«كفر بالله العظيم عشرة من هذه الأمة -وذكر منهم-: من وجد سعة فمات ولم يحج» .

وروى الإسماعيلي، من حديث الأوزاعي، حدثني إسماعيل بن أبي المهاجر، حدثني عبد الرحمن بن غنم، أنه سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول:«من أطاق الحج فلم يحج فسواء عليه مات يهوديا أو نصرانيا» قال ابن كثير رحمه الله تعالى: هذا إسناد صحيح إلى عمر رضي الله عنه.

قلت: ورواه أبو نعيم في الحلية، من طريق محمد بن أسلم الطوسي، حدثنا قبيصة، حدثنا سفيان، عن الأوزاعي، فذكره بنحوه.

وروى سعيد بن منصور في سننه، عن الحسن البصري قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لقد هممت أن أبعث رجالا إلى هذه الأمصار فينظروا إلى كل من كان عنده جدة فلم يحج فيضربوا عليهم الجزية، ما هم بمسلمين، ما

ص: 336

هم بمسلمين.

وفي الصحيحين وغيرهما، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بني الإسلام على خمس؛ شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصيام رمضان» .

وفي رواية لأحمد: «الإسلام خمس» .

ورواية محمد بن نصر المروزي بلفظ: «بني الإسلام على خمس دعائم ..» فذكره.

وهذه الدعائم مرتبط بعضها ببعض، وقد روي أنه لا يقبل بعضها بدون بعض، كما في مسند الإمام أحمد، عن زياد بن نعيم الحضرمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أربع فرضهن الله في الإسلام، فمن جاء بثلاث لم يغنين عنه شيئا حتى يأتي بهن جميعا: الصلاة، والزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت» وهذا مرسل.

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: وقد روي عن زياد، عن عمارة بن حزم، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

قال: وروي عن عثمان بن عطاء الخراساني، عن أبيه، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الدين خمس، لا يقبل الله منهن شيئا دون شيء؛ شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وبالجنة والنار، والحياة بعد الموت» هذه واحدة، والصلوات الخمس عمود الدين؛ لا يقبل الله الإيمان إلا بالصلاة، والزكاة طهور من الذنوب، ولا يقبل الله الإيمان ولا الصلاة إلا بالزكاة،

ص: 337

فمن فعل هؤلاء الثلاث، ثم جاء رمضان فترك صيامه متعمدا لم يقبل الله منه الإيمان ولا الصلاة ولا الزكاة، فمن فعل هؤلاء الأربع ثم تيسر له الحج فلم يحج، ولم يوص بحجته، ولم يحج عنه بعض أهله، لم يقبل الله منه الأربع التي قبلها. ذكره ابن أبي حاتم فقال: سألت أبي عنه فقال: هذا حديث منكر؛ يحتمل أن هذا من كلام عطاء الخراساني. قال ابن رجب رحمه الله تعالى: الظاهر أنه من تفسيره لحديث ابن عمر رضي الله عنهما وعطاء من أجلاَّء علماء الشام. انتهى.

وقد رواه أبو نعيم في "الحلية"، وزاد بعد قوله:«ولم يحج عنه بعض أهله» : «لا يقبل الله منه الإيمان ولا الصلاة ولا الزكاة ولا صيام رمضان؛ لأن الحج فريضة من فرائض الله، ولن يقبل الله شيئا من فرائضه بعضها دون بعض» قال أبو نعيم: غريب من حديث ابن عمر بهذا اللفظ، لم يروه عنه إلا عطاء، ولا عنه إلا ابنه عثمان، تفرد به عبد الحميد بن أبي جعفر. انتهى.

وروى أبو بكر الآجري في كتاب "الشريعة"، عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خمس من جاء بهن يوم القيامة مع إيمان دخل الجنة؛ من حافظ على الصلوات الخمس؛ على وضوئهن، وركوعهن، وسجودهن، ومواقيتهن، وأعطى الزكاة من ماله طيب النفس بها» قال وكأنه يقول: «وأيم الله لا يفعل ذلك إلا مؤمن، وصام رمضان، وحج البيت إن استطاع إليه سبيلا، وأدى الأمانة» قال أبو الدرداء: وما أداء الأمانة؟ قال: «الغسل من الجنابة، فإن الله عز وجل لم يأمن ابن آدم على شيء من

ص: 338

دينه غيرها».

ورواه أبو نعيم في الحلية بنحوه.

وهذا الحديث في سنن أبي داود، من رواية أبي سعيد بن الأعرابي عنه، وفيه اختصار يسير عما هنا.

وإذا عرف هذا فلا يخفى على عاقل له أدنى خبرة بأحوال المنتسبين إلى الإسلام في هذه الأزمان، أن الأكثرين منهم قد أضاعوا هذه الأركان العظام، وقلت مبالاتهم بها، وأن المحافظين على القيام بها كلها هم الأقلون عددا، فالله المستعان.

ص: 339

فصل

الصنف الثامن: المنافقون الذين يُظهرون الإيمان ويُبطنون الكفر، ويسمون الزنادقة.

وسئل حذيفة رضي الله عنه: ما المنافق؟ قال: الذي يصف الإيمان ولا يعمل به، وفي لفظ: يصف الإسلام ولا يعمل به. رواه عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب "السنة"، من طريق أبيه رحمه الله.

وقال أبو عثمان: كان حذيفة يؤيس المنافق. رواه عبد الله أيضا، من طريق أبيه.

وقد قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا * مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا * إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 142 - 146]، وقال تعالى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَامُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ

ص: 340

وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [التوبة: 67 - 68]، والآيات فيهم كثيرة جدا.

وروى الإمام مالك، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي من حديث العلاء بن عبد الرحمن، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «تلك صلاة المنافق؛ يجلس يرقُب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقرها أربعا، لا يذكر الله فيها إلا قليلا» هذا لفظ مسلم، والترمذي، والنسائي.

ولفظ مالك وأبي داود: «تلك صلاة المنافقين، تلك صلاة المنافقين، تلك صلاة المنافقين؛ يجلس أحدهم حتى إذا اصفرّت الشمس، وكانت بين قرني الشيطان، أو على قرني الشيطان، قام فنقر أربعا، لا يذكر الله فيها إلا قليلا» .

وفي الصحيحين وغيرهما، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أثقل صلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا، ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلا فيصلي بالناس، ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة، فأحرق عليهم بيوتهم بالنار» .

وفي رواية: «ولو علم أحدهم أنه يجد عظما سمينا لشهدها» يعني صلاة العشاء. هذا لفظ مسلم.

ولفظ البخاري: «والذي نفسي بيده لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقا سمينا، أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء» ، قال أبو عبد الله البخاري رحمه الله

ص: 341

تعالى: مرماة: ما بين ظلف الشاة من اللحم.

وفي صحيح مسلم، عن أبي الأحوص قال: قال عبد الله؛ يعني ابن مسعود رضي الله عنه: لقد رأيتنا وما يتخلف عن الصلاة إلا منافق قد علم نفاقه، أو مريض، إن كان المريض ليمشي بين رجلين حتى يأتي الصلاة، وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم علَّمنا سنن الهدى، وإن من سنن الهدى الصلاة في المسجد الذي يؤذن فيه.

وفي رواية: قال عبد الله رضي الله عنه: من سره أن يلقى الله غدا مسلما فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن، فإن الله شرع لنبيكم صلى الله عليه وسلم سنن الهدى وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة، ويرفعه بها درجة، ويحط عنه بها سيئة، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادي بين الرجلين حتى يقام في الصف.

ورواه الإمام أحمد، والنسائي، وأبو داود، وابن ماجة.

وفي رواية أبي داود: وما منكم من أحد إلا وله مسجد في بيته، ولو صليتم في بيوتكم وتركتم مساجدكم تركتم سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم، ولو تركتم سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم لكفرتم.

وروى أبو نعيم في "الحلية"، من طريق محمد بن أسلم الطوسي، حدثنا قبيصة بن عقبة، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي وائل قال: قال

ص: 342

عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: صلوا الصلوات في المسجد، فإنها من الهدى وسنة محمد صلى الله عليه وسلم.

وروى الإمام أحمد، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إن للمنافقين علاماتٍ يعرفون بها؛ تحيّتهم لعنةٌ، وطعامهم نهبةٌ، وغنيمتهم غلولٌ، ولا يقربون المساجد إلا هجرا، ولا يأتون الصلاة إلا دبرا مستكبرين، لا يألفون، ولا يُؤلفون، خشب بالليل، صخب بالنهار» .

وذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره، عن كعب الأحبار أنه قال: والله إني لأجد صفة المنافقين في كتاب الله عز وجل؛ شرَّابين للقهوات - يعني الخمور - ترّاكين للصلوات، لعّابين بالكعبات، رقّادين عن العتمات، مفرطين في الغدوات، ترّاكين للجماعات، قال: ثم تلا هذه الآية: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59].

وروى أبو نعيم في "الحلية"، عن الحسن البصري رحمه الله تعالى أنه قال: المنافق يقول: سواد الناس كثير، وسيغفر لي، ولا بأس علي، فينسئ العمل، ويتمنى على الله تعالى.

وروى الإمام أحمد، ومسلم، والنسائي، وابن جرير، عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«مثل المنافق كمثل الشّاة العائرة بين الغنمين، تعير إلى هذه مرّةً، وإلى هذه مرة» .

زاد أحمد والنسائي: «لا تدري أيهما تتبع» .

ص: 343

قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية قدس الله روحه: من النفاق ما هو أكبر؛ يكون صاحبه في الدرك الأسفل من النار؛ كنفاق عبد الله بن أُبي وغيره، بأن يظهر تكذيب الرسول، أو جحود بعض ما جاء به، أو بغضه، أو عدم اعتقاد وجوب اتباعه، أو المسرة بانخفاض دينه، أو المساءة بظهور دينه، ونحو ذلك مما لا يكون صاحبه إلا عدوا لله ورسوله.

وهذا القدر كان موجودا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما زال بعده، بل هو بعده أكثر منه على عهده؛ لكون موجبات الإيمان على عهده أقوى، فإذا كانت مع قوتها وكان النفاق موجودا، فوجوده فيما دون ذلك أولى، وفي المنتسبين إلى الإسلام من عامة الطوائف منافقون كثيرون في الخاصة والعامة، ويسمون الزنادقة، وهؤلاء يكثرون في المتفلسفة من المنجمين ونحوهم؛ ثم في الأطباء، ثم في الكُتَّاب أقل من ذلك، ويوجدون في المتصوفة، والمتفقهة، وفي المقاتلة، والأمراء، وفي العامة أيضا، ولكن يوجدون كثيرا في نحل أهل البدع لا سيما الرافضة، ففيهم من الزنادقة والمنافقين ما ليس في أحد من أهل النحل، ولهذا كانت الخرمية، والباطنية، والقرامطة، والإسماعيلية، والنصيرية، ونحوهم من المنافقين الزنادقة منتسبة إلى الرافضة.

وهؤلاء المنافقون في هذه الأوقات، لكثير منهم ميل إلى دولة هؤلاء التتار؛ لكونهم لا يُلزمونهم شريعة الإسلام، بل يتركونهم وما هم عليه، وبعضهم إنما ينفرون عن التتار لفساد سيرتهم في الدنيا، واستيلائهم على الأموال، واجترائهم على الدماء والسبي، لا لأجل الدين، فهذا ضرب النفاق الأكبر.

وأما النفاق الأصغر فهو النفاق في الأعمال ونحوها؛ مثل أن يكذب إذا

ص: 344

حدَّث، ويخلف إذا وعد، ويخون إذا اؤتُمن، أو يفجر إذا خاصم. انتهى.

قلت: ومن النفاق الأكبر أيضا بغض ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، أو بغض شيء منه.

ومنه أيضا‌

‌ التحاكم إلى الطواغيت والقوانين الدولية،

وعدم الرضى بالأحكام الشرعية، قال الله تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء: 60 - 61]، ثم نفى تبارك وتعالى الإيمان عمن لم يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم عند الخصومات والتنازع، ويرضى بحكمه، ويطمئن إليه قلبه، ولا يبقى لديه شك ولا شبهة في أنما حكم به فهو الحق الذي يجب المصير إليه، فيذعن لذلك، وينقاد له ظاهرا وباطنا، وأقسم سبحانه وتعالى على هذا النفي بنفسه الكريمة المقدسة فقال تعالى:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65].

وقد وقع في هذا النوع كثير من أهل زماننا، ولاسيما أهل الأمصار الذين غلبت عليهم الحرية الإفرنجية، وهانت لديهم الشريعة المحمدية، فاعتاضوا عن التحاكم إليها بالتحاكم إلى القوانين والسياسات والنظامات التي ما أنزل الله بها من سلطان، وإنما شرعتها لهم الدول الكافرة بالله ورسوله، أو من يتشبه بهم ويحذو حذوهم من الطواغيت الذين ينتسبون إلى الإسلام وهم عنه بمعزل.

ص: 345

وكثير من المتحاكمين إليها يعتذرون بما كان يعتذر به سلفهم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم؛ كما أخبر الله تعالى عنهم بذلك في قوله: {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} أي يقولون: ما أردنا بالتحاكم إلى أعداء الرسول إلا المداراة والمصانعة، لا اعتقاد صحة حكمهم. وهكذا يقول كثير من المتحاكمين إلى المحاكم المؤسسة على العمل بالنظامات والقوانين الخاطئة، تشابهت قلوبهم، فالله المستعان.

وأقبح من فعل المنافقين ما يُذكر عن بعض أهل زماننا أنهم قالوا: إن العمل بالشريعة المحمدية يؤخرهم عن اللحاق بأمم الإفرنج وأضرابهم من أعداء الله تعالى، وهذه ردة صريحة قيض الله لأهلها من يعاملهم معاملة أبي بكر الصديق رضي الله عنه لإخوانهم من قبل.

ومن النفاق الأكبر أيضا الاستهزاء بالله وآياته ورسوله، ولو كان على وجه المزح واللعب، قال الله تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 65 - 66]، وقد وقع في هذا كثير من الملاحدة في زماننا؛ كصاحب الأغلال وأمثاله من المرتدين المنافقين، ومثل ذلك الاستهزاء ببعض أمور الدين كما يقع ذلك من كثير من الجهال، ويلتحق بذلك أيضا الاستهزاء بأهل الدين والسخرية بهم كما يفعله كثير من السفهاء، وقد أنزل الله تعالى سورة براءة؛ فكشف فيها أسرار المنافقين، وهتك أستارهم وفضحهم، وأخزاهم في الحياة الدنيا، ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون، قال الله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ

ص: 346

مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 63].

وفي الصحيحين عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس رضي الله عنهما: سورة التوبة؟ قال: آلتّوبة؟! هي الفاضحة، ما زالت تنزل: ومنهم، ومنهم، حتى ظنوا أنها لم تُبق أحدا منهم إلا ذُكر فيها.

وقال البغوي في تفسيره: قال قتادة: هذه السورة تسمى الفاضحة، والمعيرة، والمثيرة؛ أثارت مخازيهم ومثالبهم. انتهى.

وكل من فعل شيئا من أفعالهم التي ذكرها الله عنهم في سورة براءة وغيرها من السور فهو شريكهم في النفاق بقدر ما فعل، فمستقل ومستكثر، وأولو البصائر والفراسة الإيمانية يعرفون كثيرا منهم بما يبديه الله على صفحات وجوههم وفلتات ألسنتهم من آثار المرض الكامن في قلوبهم، وبما يظهر من أفعالهم المطابقة لأفعال المنافقين، قال الله تعالى:{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ * وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 29 - 30]؛ ولحن القول: هو فحوى الكلام الدال على مقصد المتكلم به.

قال البغوي رحمه الله تعالى: والمعنى: تعرفهم فيما يعرضون به؛ من تهجين أمرك وأمر المسلمين، والاستهزاء بهم. انتهى.

وما أكثر الواقعين في أمراض النفاق في زماننا هذا، حتى في كثير ممن ينتسب إلى العلم، فالله المستعان.

ص: 347

ومن أوضح‌

‌ العلامات التي يعرف بها المنافقون

إقدامهم على رد الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وجراءتهم على تكذيبها ومعارضتها بغير مستند صحيح، بل بمجرد الرأي الفاسد والظن الكاذب، وكذلك الطعن في أئمة الحديث الذين أجمع العلماء على إمامتهم وجلالتهم، ووصفهم بالعجمة، ورميهم باختلاق الأحاديث، وأعظم من ذلك الطعن في الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، وكل هذا قد رأيناه في كتب لضُلال العصريين، وتعليقات لهم كثيرة، وإنما يفعلون ذلك إذا أعيتهم الأحاديث أن يفهموا معانيها، أو لم يظهر لهم وجه الحكمة منها، وربما يفعلون ذلك إذا عارضت الأحاديث ما فتنوا به مما تلقوه من آراء أعداء الله وقوانينهم وسياساتهم ونظاماتهم، فالله المستعان.

وقد رأيت لبعضهم كلاما سيئا على حديث: «إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه

» الحديث، فطعن في الحديث أولاً بغير حجة، ثم قدح في الصحابي الذي رواه، ثم تجاوز ذلك إلى الكلام في النبي صلى الله عليه وسلم وتخطئته، ومعارضة قوله بكلام الأطباء الكفرة وآرائهم الفاسدة، وهذا عين النفاق عياذا بالله من ذلك

(1)

.

(1)

بعد هذا الكلام ضرب الوالد رحمه الله على عدد من الصفحات، وأسقط أربعا منها، وقد أشار رحمه الله إلى نقل المكتوب فيها إلى كتابه "إقامة البرهان على نزول عيسى ابن مريم في آخر الزمان".

والمضروب عليه والمسقط يبتدئ من أثناء السطر الخامس من صفحة 119 من المخطوط إلى السطر الحادي عشر من صفحة 126 مع حواشيها وملحقاتها.

ص: 348

ومن ذلك تولي أعداء الله من اليهود والنصارى وغيرهم من أصناف الكفار والمشركين، وتفضيل ولاياتهم وسياساتهم وقوانينهم على ولاية المسلمين وسياسة الشرع الشريف وأحكامه، قال الله تعالى:{وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ} [المائدة: 50 - 51]، وما أكثر الواقعين في هذا أو بعضه من المنتسبين إلى الإسلام في هذه الأزمان، وما أكثر من يميل منهم إلى الحرية الإفرنجية ويؤثرها؛ لتحصيل أغراضه الفاسدة، ونيل شهواته العاجلة من أنواع الفسوق والعصيان، ويكره الولاية الإسلامية التي تمنعه من تعاطي المحرمات، وتؤدِّبه على المخالفات.

ومن علامات المنافقين أيضا بغض الأنصار لما في الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار» .

وفي رواية لمسلم: «آية المنافق بغض الأنصار، وآية المؤمن حب الأنصار» .

روى الإمام أحمد، والبخاري في تاريخه، والطبراني، عن سعد بن عبادة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«الأنصار مِحْنة، حبهم إيمان، وبغضهم نفاق» .

وروى البخاري في تاريخه أيضا، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يبغض الأنصار إلا منافق» .

ص: 349

وفي الصحيحين عن البراء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق، فمن أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله» .

وفي المسند، و"التاريخ الكبير" للبخاري، عن معاوية رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«من أحب الأنصار أحبه الله، ومن أبغض الأنصار أبغضه الله» .

وفي المسند أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أحب الأنصار أحبه الله، ومن أبغض الأنصار أبغضه الله» .

وفي صحيح مسلم عنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يبغض الأنصار رجل يؤمن بالله واليوم الآخر» .

وفيه أيضا عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يبغض الأنصار رجل يؤمن بالله واليوم الآخر» .

وفي مسند الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يبغض الأنصار رجل يؤمن بالله ورسوله، أو إلا أبغضه الله ورسوله» .

ورواه الترمذي ولفظه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لي: «لا يبغض الأنصار رجل يؤمن بالله واليوم الآخر» قال الترمذي: هذا حديث صحيح.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما آمن بي من لم يحبني، وما أحبني من لم يحب الأنصار» رواه الدارقطني والبيهقي.

وعن رباح بن عبد الرحمن بن أبي سفيان بن حويطب قال: أخبرتني جدتي، عن أبيها رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يؤمن بالله من لم يؤمن

ص: 350

بي، ولا يؤمن بي من لم يحب الأنصار» رواه الدارقطني في سننه.

ومن أوضح الأدلة على بغض الأنصار هجائهم، والرضا بذلك، وتقريره ونشره، وقد أخبرنا من يُوثق به من التلاميذ أن بعض المدرسين من أدعياء العلم أملى عليهم قصيدة الأخطل النصراني في ذم الأنصار وهجائهم، قال: فامتنع بعض التلاميذ من كتابتها وقالوا: هذا هجاء لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يجوز ذلك، فألزمهم أن يكتبوا ذلك، وأن لا يعارضوه في شيء مما يمليه عليهم، قال: وأملى عليهم أيضا لبعض الشعراء في هجو بعض الصحابة رضي الله عنهم، ومدح الحجاج وأمثاله من الظالمين.

قلت: وهذا دليل على النفاق، والبغض لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس العجب من هذا وأمثاله من المغموصين بالنفاق، وإنما العجب من الذين يستجلبونهم من الأماكن البعيدة، ويمكنونهم من إظهار ذلك ونشره بين المسلمين، ومن بث البدع والتكلم بها علانية في المجامع، فالله المستعان وعليه التكلان.

ومن علامات المنافقين أيضا بغض علي رضي الله عنه؛ لما في صحيح مسلم عنه رضي الله عنه أنه قال: والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة؛ إنه لعهد النبي الأمي صلى الله عليه وسلم إليَّ أن لا يحبني إلا مؤمن، ولا يبغضني إلا منافق.

ورواه الإمام أحمد، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

وفي المسند عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم -

ص: 351

يقول لعلي: «لا يبغضك مؤمن، ولا يحبك منافق» .

وفي المسند أيضا، ومستدرك الحاكم عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«من سب عليا فقد سبني، ومن سبني فقد سب الله» .

وفي المستدرك للحاكم أيضا عن سلمان الفارسي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أحب عليا فقد أحبني، ومن أبغض عليها فقد أبغضني» قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه.

إذا علم هذا فليس المراد بحب علي رضي الله عنه ما يفعله الروافض من الإطراء والغلو فيه، والإفراط في حبه، حتى آل بهم ذلك إلى أن اتخذوه إلها من دون الله، وإنما المراد ما عليه أهل السنة والجماعة من الاقتصاد في حبه؛ لما روى عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد المسند"، وفي كتاب "السنة"، والحاكم في مستدركه عن علي رضي الله عنه قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: «فيك مثل من عيسى، أبغضته اليهود حتى بهتوا أمه، وأحبته النصارى حتى أنزلوه بالمنزل الذي ليس به» ، ثم قال: يهلك فيّ رجلان: محب مفرط يقرظني بما ليس فيّ، ومبغض يحمله شنآني على أن يبهتني.

وفي كتاب "السنة" أيضا عن علي رضي الله عنه قال: مثلي في هذه الأمة كمثل عيسى ابن مريم، أحبته طائفة فأفرطت في حبه فهلكت، وأبغضته طائفة فأفرطت في بغضه فهلكت، وأحبته طائفة فاقتصدت في حبه فنجت.

وإذا كان حب علي رضي الله عنه آية على الإيمان، وبغضه آية على النفاق،

ص: 352

فحب من هو خير منه كأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم أولى أن يكون آية على الإيمان، وبغضهم آية على النفاق؛ لما روى البخاري، وأبو داود، والترمذي، وعبد الله ابن الإمام أحمد، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا نخير بين الناس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فنخير أبا بكر، ثم عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان رضي الله عنهم. هذا لفظ البخاري.

زاد أبو داود: ثم نترك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا نفاضل بينهم.

وعند عبد الله بن أحمد: ثم لا نفضل أحدا على أحد.

وفي رواية له: ويبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينكره علينا.

وفي رواية له، ولأبي داود، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه قال: كنا نقول ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي: أفضل أمة النبي صلى الله عليه وسلم بعده أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان رضي الله عنهم أجمعين.

وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا نعد ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي، وأصحابه متوافرون أبو بكر، وعمر، وعثمان، ثم نسكت.

وفي المسند أيضا من حديث عمر بن أسيد، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا نقول في زمن النبي صلى الله عليه وسلم: رسول الله خير الناس، ثم أبو بكر، ثم عمر.

وفي صحيح البخاري، وسنن أبي داود، وكتاب "السنة" لعبد الله ابن الإمام أحمد، عن محمد بن الحنفية قال: قلت لأبي: أي الناس خير بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أبو بكر، قلت: ثم من؟ قال: ثم عمر، وخشيت أن يقول

ص: 353

عثمان، قلت: ثم أنت، قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين.

وروى الإمام أحمد، وابنه عبد الله، من طرق كثيرة، وابن ماجة عن علي رضي الله عنه أنه قال: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، ثم عمر.

وفي بعض الروايات عند الإمام أحمد، وابنه عبد الله، عن أبي جحيفة، وعبد خير، عن علي أنه قال: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، وخيرها بعد أبي بكر عمر، ولو شئت سميت الثالث.

وروى أبو نعيم في "الحلية" من طريق محمد بن المثنى قال: سمعت بشر بن الحارث يقول: سمعت الحجاج بن المنهال يقول: سمعت حماد بن سلمة يقول: سمعت عاصما يقول: سمعت زرا يقول: سمعت أبا جحيفة رضي الله عنه يقول: خطبنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه على منبر الكوفة فقال: ألا إن خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر، ثم عمر، ولو شئت أن أخبركم بالثالث لأخبرتكم، ثم نزل من على المنبر وهو يقول: عثمان، عثمان.

ثم رواه أبو نعيم بإسناد آخر، عن حماد بن زيد عن عاصم بن بهدلة نحوه.

وروى أبو نعيم أيضا من طريق بشر بن الحارث، عن عبد الله بن داود الخريبي، عن سويد مولى آل عمر بن حريث قال: سمعت علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول على المنبر: إن أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم.

وقال عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب "السنة": حدثني أبي، حدثنا هشيم، حدثنا حصين، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: خطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ألا إن خير هذه الأمة بعد

ص: 354

رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر، فمن قال سوى هذا بعد مقامي هذا فهو مفتر، عليه ما على المفتري. إسناده صحيح على شرط الشيخين.

وقد اختُلف في سماع عبد الرحمن بن أبي ليلى من عمر رضي الله عنه، فقال يحيى بن معين، وأبو حاتم، والنسائي: إنه لم يسمع منه.

وقال مسلم في مقدمة صحيحه: إنه قد حفظ عن عمر. قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: وهو الصواب إن شاء الله.

قلت: وفي مسند الإمام أحمد ما يدل على ذلك؛ ففيه بإسناد حسن عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: كنت مع عمر فأتاه رجل فقال: إني رأيت الهلال

الحديث.

وفيه أيضا عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن عمر رضي الله عنه قال: صلاة السفر ركعتان

الحديث، وفي آخره: وقال يزيد -يعني ابن هارون-: ابن أبي ليلى قال: سمعت عمر.

وقد روى البخاري في تاريخه الصغير، بسنده عن ابن أبي ليلى قال: ولدت لست سنين بقين من خلافة عمر. وكذا ذكر الخطيب البغدادي في تاريخه أنه ولد لست بقين من خلافة عمر.

ومثل هذا السن يعقل فيه الذكي كثيرا مما يراه ويسمعه، بل بعض الأذكياء يحفظ كثيرا من الأشياء لأقل من هذا السن، وعلى هذا فظاهر حديث ابن أبي ليلى عن عمر رضي الله عنه الاتصال، ولم يصنع شيئا من نفى سماعه منه من أجل صغره، والله أعلم.

ص: 355

وفي جامع الترمذي، ومستدرك الحاكم، عن عائشة رضي الله عنها، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: أبو بكر سيدنا، وخيرنا، وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الترمذي: هذا حديث صحيح غريب. وقال الحاكم: صحيح على شرطهما ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي في تلخيصه.

إذا عُرف هذا فالواقع من حال المنتسبين إلى الإسلام شاهد بصحة ما قلنا من الأولوية، فهذه طائفة الروافض، الذين يبغضون أبا بكر وعمر وعثمان وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم، ويسبونهم ويتبرءون منهم، فيهم من الزنادقة والمنافقين ما ليس في أحد من أهل النحل، فأبعد الله الروافض وخذلهم، وأبعد الله الخوارج الذين يبغضون عثمان وعليا رضي الله عنهما، ويسبونهما ويتبرءون منهما، وأبعد الله كل من أبغض أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو تنقصه أو سبه أو تبرأ منه، ورحمة الله على أهل السنة والجماعة الذين يتولون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم، ويحبونهم وينشرون فضائلهم، و {يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10].

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تسبوا أصحابي، لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مُدَّ أحدهم ولا نَصيْفه» .

وفي رواية: «لا تسبوا أحدا من أصحابي» والباقي مثله.

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل الرواية الأولى عن أبي هريرة. رواه الترمذي والطبراني، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

ص: 356

وعن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضا بعدي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله يوشك أن يأخذه» رواه الإمام أحمد، والترمذي وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.

وعن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «شرار أمتي أجرؤهم على صحابتي» رواه أبو نعيم في الحلية.

وله أيضا من حديث جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني أرى الناس يكثرون، وأصحابي يقلون، فلا تسبوهم، من سبهم فعليه لعنة الله» .

وعن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيتم الذين يسبون أصحابي فقولوا لعنة الله على شرّكم» رواه الترمذي وقال: هذا حديث منكر، لا نعرفه من حديث عبيد الله بن عمر إلا من هذا الوجه.

وعنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لعن الله من سب أصحابي» رواه الطبراني.

وله أيضا عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لعن الله من سب أصحابي» رواه الطبراني.

وله أيضا عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من سب أصحابي فعليه لعنة الله، والملائكة، والناس أجمعين» .

وفي مستدرك الحاكم عن عويم بن ساعدة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تبارك وتعالى اختارني، واختار لي أصحابا، فجعل لي منهم وزراء وأنصارا وأصهارا، فمن سبهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا

ص: 357

يقبل الله منه يوم القيامة صرف ولا عدل» قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه.

وقد ذهب طائفة من العلماء إلى تكفير من سب الصحابة، وهو رواية عن الإمام مالك.

وقال محمد بن سيرين: ما أظن رجلا يبغض أبا بكر وعمر يحب النبي صلى الله عليه وسلم. رواه الترمذي.

وعن مغيرة قال: كان يقال: شتمُ أبي بكر وعمر رضي الله عنهما من الكبائر. رواه ابن أبي حاتم.

وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق عن معمر، عن الزهري، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله فرض عليكم حب أبي بكر وعمر وعثمان وعلي؛ كما فرض الصلاة والصيام والحج والزكاة، فمن أبغض واحدا منهم فلا صلاة له ولا حج ولا زكاة له، ويحشر يوم القيامة من قبره إلى النار» هكذا ساق هذا الحديث القاضي أبو الحسين في ترجمة صدقة بن موسى من طبقات الحنابلة، والله أعلم.

وروى أبو نعيم في الحلية من حديث شعبة، عن سلمة بن كهيل، عن أبي الزعراء، أو عن زيد بن وهب، أن سويد بن غفلة دخل على علي بن أبي طالب رضي الله عنه في إمارته فقال: يا أمير المؤمنين، إني مررت بنفر يذكرون أبا بكر وعمر رضي الله عنهما بغير الذي هما أهل له من الإسلام، فنهض إلى المنبر وهو قابض على يدي فقال: والذي فلق الحبة، وبرأ النسبة لا يحبهما إلا مؤمن فاضل، ولا يبغضهما ويخالفهما إلا شقي مارق، فحبها

ص: 358

قربة، وبغضهما مروق، ما بال أقوام يذكرون أخوي رسول الله صلى الله عليه وسلم ووزيريه، وصاحبيه، وسيدي قريش، وأبوي المسلمين، فأنا بريء ممن يذكرهما وعليه معاقب.

وبالجملة فالنفاق من أشد الأمور خطرا، فينبغي للمؤمن أن يحذر منه أشد الحذر، ويخافه على نفسه ولا يأمنه، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم مع كثرة تقواهم لله تعالى، وشدة اجتهادهم في العبادة يخافونه على أنفسهم.

وروي أن عمر رضي الله عنه قال لحذيفة: أنشدك الله أمنهم أنا؟ قال: لا، ولا أؤمِّن منها أحدا بعدك.

قال ابن القيم رحمه الله تعالى: سمعت شيخنا -يعني أبا العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى- يقول: ليس مراده أني لا أبرِّئ غيرك من النفاق، بل المراد: لا أفتح عليّ هذا الباب؛ فكل من سألني هل سماني لك رسول الله صلى الله عليه وسلم أزكيه. انتهى.

وقال البخاري في صحيحه: قال ابن أبي مليكة: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه. ويُذكر عن الحسن أنه قال: ما خافه إلا مؤمن، ولا أمنه إلا منافق.

وروى جعفر الفريابي، عن المعلى بن زياد قال: سمعت الحسن يحلف في هذا المسجد بالله الذي لا إله إلا هو ما مضى مؤمن قط ولا بقي إلا وهو من النفاق مشفق، ولا مضى منافق قط ولا بقي إلا وهو من النفاق آمن، وكان يقول: من لم يخف النفاق فهو منافق.

ص: 359

وسمع رجل أبا الدرداء يتعوذ من النفاق في صلاته، فلما سلم قال له: ما شأنك وشأن النفاق؟! فقال: اللهم اغفر لي -ثلاثا- لا تأمن البلاء، والله إن الرجل ليفتن في ساعة واحدة فينقلب عن دينه.

وعنه رضي الله عنه أنه قال: ما الإيمان إلا كقميص أحدكم، يخلعه ويلبسه أخرى، والله ما أمن عبد على إيمانه إلا سلبه فوجد فقده. رواه عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب "السنة".

وفي صحيح البخاري عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما: إن المنافقين اليوم شر منهم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم؛ كانوا يومئذ يسرون، واليوم يجهرون.

وفيه أيضا عنه رضي الله عنه قال: إنما كان النفاق على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فأما اليوم فإنما هو الكفر بعد الإيمان.

قلت: إذا كان هذا قول حذيفة رضي الله عنه في زمن الخلفاء الراشدين، ووقت عزة الإسلام وظهوره، وانقماع المنافقين وذلهم بين المؤمنين، فكيف لو رأى حال الأكثرين في أواخر القرن الرابع عشر، فقد تغيرت فيه الأحوال وانعكست الأمور، وظهر الكفر والنفاق، حتى كان بعض ذلك يُدرس في المدارس ويعتنى به، فالله المستعان.

فمن ذلك ما فشا في زماننا؛ من موافقة طواغيت الإفرنج، وزنادقة المنجمين ونحوهم، وتقليدهم فيما ذهبوا إليه من التخرصات، والظنون الكاذبة المخالفة للقرآن والأحاديث الصحيحة؛ كقولهم: إن الشمس قارة ساكنة لا تزول عن مكانها، وإن الأرض هي التي تجري وتدور حول

ص: 360

الشمس، وشبهوا ذلك براكب القطار ونحوه من المراكب السريعة يرى في حال سيرها كأن الذي حوله من المباني والشجر يسير، وكأن ما تحته من المركوب واقف، والحال بالعكس، قالوا: فهكذا الأرض مع الشمس، فالشمس قارة لا تزول، والأرض هي التي تجري، ولها دورتان، دورة في كل يوم وليلة، ودورة في كل سنة، هكذا افتروا وزعموا، وهي دسيسة خبيثة من دسائس أعداء الله ورسوله والمؤمنين، قد جعلوها حبالة يصيدون بها خفافيش الأبصار من غوغاء المسلمين وجُهَّالهم، ويحملونهم بذلك على تكذيب القرآن والأحاديث الصحيحة، حتى ينسلخوا من دين الإسلام بالكلية ويصيروا كفارا مثلهم، وقد قال تعالى:{وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} الآية [النساء: 89]، وقال تعالى:{وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة: 109]، وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آَيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران: 100 - 101]، وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [آل عمران: 149]، ففي هؤلاء الآيات الكريمات أبلغ تحذير للمؤمنين من طاعة الكفار والمنافقين، وقبول آرائهم وظنونهم وتخرصاتهم، فإنهم لا يألون المسلمين خبالا، وودوا ما عنَّتهم، وأزلَّهم عن الحق، وأضلهم عن الصراط السوي والهدى، وقد

ص: 361

جعل الله سبحانه وتعالى للمسلمين في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كفاية وغنية عما سواهما من أقوال الناس وآرائهم وتخرصاتهم، قال الله تعالى:{أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت: 51]، وقال تعالى:{وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آَيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ} [آل عمران: 101]، وقال تعالى:{اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 3].

وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وأيم الله لقد تركتكم على مثل البيضاء ليلها ونهارها سواء» ، قال أبو الدرداء رضي الله عنه: صدق والله رسول الله صلى الله عليه وسلم، تركنا والله على مثل البيضاء ليلها ونهارها سواء. رواه ابن ماجة.

وعن العرباض بن سارية رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قد تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك» رواه الإمام أحمد، وابن ماجة، والحاكم في مستدركه.

ومن لم يكتف بكتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما عند المسلمين من العلوم الشرعية النافعة المستفادة من الكتاب والسنة، بل ذهب يطلب غير ذلك من أقوال الكفار والمنافقين وآرائهم وتخرصاتهم التي ما أنزل الله بها من سلطان، فأبعده الله ولا كفاه، والمقصود ههنا التحذير من دسيسة أعداء الله التي قد سرت في جميع الأقطار الإسلامية على أيدي الكفار والمنافقين، وقبلها الجماهير تلو الجماهير من الأغبياء الغافلين الذين لا يسمعون ولا يعقلون، {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} ، وليس للكفار

ص: 362

والمنافقين ومقلديهم حجة على هذا القول الذي شغفوا به؛ لا من كتاب الله تعالى ولا من أخبار المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، وإنما يعتمدون على ما زخرفته لهم شياطين الإنس والجن من الآراء الفاسدة، والظنون الكاذبة، والقياس الذي يكذبه الحس، ويعلم كل عاقل فساده بالبديهة، وقد قال الله تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ * وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} [الأنعام: 112 - 113].

وها أنا أذكر الأدلة على رد هذا القول الباطل من كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ليعرف الجاهلون به مغزاه، وما أراد به مخترعوه وموافقوهم من تكذيب القرآن

(1)

.

وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الشمس تدنو يوم القيامة حتى يبلغ العرق نصف الأذن» .

(1)

سقط بعد هذا الكلام من الأصل ست صفحات من صفحة (131 - 136)، وهي المشتملة على الأدلة التي أشار -رحمة الله- إلى أنه سيذكرها من الكتاب والسنة على قرار الأرض ودوران الشمس، ولعله رحمه الله أزالها بعد أن نقل ما فيها إلى كتابه الذي صنفه لهذا الموضوع خاصة وهو كتاب "الصواعق الشديدة على أتباع الهيئة الجديدة"، أو إلى ذيله "ذيل الصواعق لمحو الأباطيل والمخارق"، فاكتفى بذكرها هناك، والله أعلم.

يؤكد ذلك أن الصفحات التالية وهي صفحة (137) من الأصل قد ضُرب على الأسطر الخمسة الأولى منا وما يتبعها من اللحق والحواشي.

ص: 363

وفي المسند، وصحيح مسلم، وجامع الترمذي من حديث المقداد بن الأسود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «تُدنى الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل» الحديث، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

وفي المسند أيضا من حديث أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تدنو الشمس يوم القيامة على قدر ميل، ويُزاد في حرِّها» الحديث.

وفي المسند أيضا، وصحيح الحاكم، عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «تدنو الشمس من الأرض، فيعرق الناس ..» الحديث، قال الحاكم: صحيح الإسناد.

وهذه الأحاديث الأربعة وإن كانت في أخبار يوم القيامة ففيها دلالة على أن الأرض قارة ثابتة، لا تفارق موضعها، ولو كانت الشمس هي القارة الثابتة لكانت الأرض هي التي تُدنى منها، وهذا خلاف نصوص هذه الأحاديث، والله أعلم.

فهذا ما يسَّره الله تعالى من الآيات والأحاديث

(1)

الدالة على أن الشمس تسير وتدور على الأرض، وأن الأرض قارة ثابتة، خلاف ما يزعمه الجغرافيون من أن الشمس قارة، وأن الأرض تدور عليها، وحقيقة قولهم تكذيب الآيات والأحاديث التي ذكرنا، وإطراحها بالكلية، وذلك هو الكفر

(1)

الإشارة هنا بناء على ما كان في الأصل من ذكر الأدلة من الكتاب والسنة على قرار الأرض ودوران الشمس، وقد سبقت الإشارة إلى أنه نقل ذلك إلى ما كتبه في هذا الموضوع بخصوصه، وهما كتابا الصواعق الشديدة، وذيل الصواعق، فليتنبه.

ص: 364

الصريح، والضلال البعيد، قال الله تعالى:{ومَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} [العنكبوت: 68]، وقول الجغرافيين في الشمس والأرض دائر بين افتراء الكذب والتكذيب بالحق.

ومن أعجب العجب أنها قد جُعلتْ في زماننا من الفنون المهمة التي تدرس في كثير من المدارس، ويُعتنى بها في كثير من الأقطار الإسلامية أكثر مما يعتنى بالعلوم الشرعية، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وهذا مصداق ما جاء في الحديث الصحيح عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم، ويثبت الجهل» الحديث متفق عليه.

وفي رواية: «من أشراط الساعة أن يقل العلم، ويظهر الجهل» .

ولهما عن عبد الله بن مسعود، وأبي موسى رضي الله عنهما قالا: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن بين يدي الساعة لأياما ينزل فيها الجهل، ويرفع فيها العلم» الحديث.

ومن أقبح الجهل وأظلم الظلم تكذيب الله تعالى، وتكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعارضة القرآن والسنة بأقوال الملاحدة والزنادقة وآرائهم الفاسدة، وتَعلُّم ذلك وتعليمه، فالله المستعان.

وقد ثبت أيضا بالدليل العقلي أن الأرض قارة ساكنة لا تدور، ولا تفارق موضعها أبدا، وذلك بما يسره الله تعالى في زماننا من وجود المراكب الجوية التي تخترق الهواء في جميع أرجاء الأرض، فإن سيرها من المشرق

ص: 365

إلى المغرب مثل سيرها من المغرب إلى المشرق، وكذلك سيرها من الجنوب إلى الشمال مثل سيرها من الشمال إلى الجنوب، كل ذلك لا يختلف، ولو كان الأمر على ما يزعمه الجغرافيون لكان من في المشرق إذا أراد المغرب رفع طائرته في الهواء، ثم امسكها وقتا يسيرا حتى تصل إليه أقطار المغرب فينزل فيها، وأما من في المغرب فلا يمكنه أن يسير إلى المشرق في مركب جوي أبدا؛ لأنه إذا رفع طائرته عن الأرض فاتته الأرض بسرعة سيرها، هذا على حد زعمهم، وكذلك الذين في الجنوب والشمال لابد أن تفوتهم الأرض بسرعة سيرها، فلا يهتدون إلى موضع قصدوه، ولما كانت هذه التقديرات منتفية، وكان السير في الجو من الأقطار المتباينة مقاربا بعضه بعضا؛ دل ذلك على أن الأرض قارة ساكنة، فقاتل الله زنادقة الجغرافيين الذين خالفوا النقل والعقل جميعا.

ومن كفريات الجغرافيين التي تدرس في كثير من المدارس أيضا، ويعتني بها كثير من الجهال؛ إضافتهم الإيجاد والتكوين في بعض الأشياء إلى الطبيعة لا إلى الفاعل المختار جل جلاله.

ومن الجهل الفاضح، وتكذيب الآيات والأحاديث الصحيحة ما زعمه بعض العصريين من كون الملائكة غير عقلاء، وإنما هم عنده بمنزلة الجمادات والنباتات، وفي هذا القول الوخيم أعظم تنقص بالرب جل جلاله، حيث ائتمن على وحيه ووكل بكثير من أمور مخلوقاته من لا يعقل، وفيه أيضا تنقص بجميع الأنبياء والمرسلين حيث أخذوا عمَّن لا يعقل، وفيه أيضا تنقص بالقرآن، وجميع الكتب السماوية، وما فيها من الشرائع

ص: 366

المنزلة من عند الله تعالى بسفارة الملائكة الكرام، وفيه أيضا تنقص بجميع المؤمنين بالرسل حيث التزموا بشرائع وصدقوا بأمور جاء بها من لا يعقل، هذا ما يقتضيه زعم هذا المبطل، وهو زعم كاذب خاطئ، {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} .

والمقصود ههنا التحذير من مكائد أعداء الله ودسائسهم وزخارفهم التي اغتر بها كثير من الناس، حتى آل الأمر ببعضهم إلى تكذيب ما جاء في القرآن والأحاديث الصحيحة، ومعارضة ذلك بآراء أعداء الله وتخرصاتهم، وذلك هو الكفر بعد الإيمان كما تقدم في حديث حذيفة رضي الله عنه، وقد قال الله تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ * وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ * أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ * وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ * إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [الأنعام: 112 - 117]، وقد نصب أعداء الله الحبائل للمسلمين، وكادوهم بأنواع الكيد والمكر والخداع، وزخرفوا لهم الشبهات والشكوك، ونشروا ذلك في الكتب والصحف؛ ليفتنوهم ويردوهم عن دينهم إن استطاعوا، فمن أصغى إلى أقوالهم،

ص: 367

وأكبَّ على مطالعة كتبهم وصحفهم فقد عرّض نفسه للبلاء، وألقى بيده إلى التهلكة، ولا يؤمَن عليه أن يقع في كفر أو نفاق أو بدعة، كما وقع ذلك لكثير من المشغوفين بأقوال أعداء الله وآرائهم وتخرصاتهم، والمعصوم من عصمه الله تعالى، قال الله تعالى:{مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [الكهف: 17].

ص: 368

فصل

وأما‌

‌ النفاق الأصغر

فهو نفاق العمل.

قال الحسن رحمه الله تعالى: كان يقال: النفاق اختلاف السر والعلانية، والقول والعمل، والمدخل والمخرج، وكان يقال: أُسُّ النفاق الذي بني عليه الكذب.

وروى الإمام أحمد في الزهد، عن الحسن أنه قال: الكذب جماع النفاق.

ورُوي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه أنه قال على المنبر: إن أخوف ما أخاف عليكم المنافق العليم، قالوا: كيف يكون المنافق عليما؟! قال: يتكلم بالحكمة، ويعمل بالجور، أو قال: المنكر.

وروى الإمام أحمد في مسنده، عن أبي عثمان النهدي قال: إني لجالس تحت منبر عمر وهو يخطب الناس، فقال في خطبته: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أخوف ما أخاف على هذه الأمة كل منافق عليم اللسان» إسناده جيد.

وروي نحوه من حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم. أخرجه الطبراني في الكبير، والبزار، وابن حبان في صحيحه.

وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «آية المنافق ثلاث؛ إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان» .

وفي رواية لمسلم: «آية المنافق ثلاث، وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم» .

ص: 369

ورواه الإمام أحمد ولفظه قال: «ثلاث من كُنَّ فيه فهو منافق، وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم: من إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان» إسناده صحيح على شرط مسلم.

وفي الصحيحين أيضا عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر» .

وروى الحافظ أبو يعلى الموصلي، وأبو الشيخ الأصبهاني، عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«ثلاث من كن فيه فهو منافق، وإن صام وصلى وقال إني مسلم: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان» .

وفي رواية أبي الشيخ: «وإن صام وصلى، وحج واعتمر، وقال إني مسلم» .

قال ابن القيم رحمه الله تعالى: نفاق العمل قد يجتمع مع أصل الإيمان، ولكن إذا استحكم وكمل فقد ينسلخ صاحبه عن الإسلام بالكلية، وإن صلى وصام، وزعم أنه مسلم، فإن الإيمان ينهى المؤمن عن هذه الخلال، فإذا كملت في العبد ولم يكن له ما ينهاه عن شيء منها فهذا لا يكون إلا منافقا خالصا. انتهى.

ومن خصال النفاق أيضا الإعراض عن الجهاد في سبيل الله؛ لما روى مسلم، وأبو داود، والنسائي، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من مات ولم يغزُ، ولم يُحدِّث به نفسه مات على شعبة من نفاق» .

ص: 370

ومن خصاله أيضا تبرج النساء، وكذلك اختلاعهن من أزواجهن من غير ضرر؛ لما رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«المختلعات والمتبرجات هن المنافقات» .

ورواه أبو نعيم في الحلية من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.

وروى الترمذي، وابن جرير، عن ثوبان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«المختلعات هن المنافقات» قال الترمذي: هذا حديث غريب من هذا الوجه، وليس إسناده بالقوي.

وروى ابن جرير أيضا عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن المختلعات المنتزعات هن المنافقات» .

وروى الإمام أحمد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.

وفي المسند أيضا، والسنن إلا النسائي، عن ثوبان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«أيما امرأة سألت زوجها طلاقها في غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة» .

وفي سنن ابن ماجة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تسأل المرأة زوجها الطلاق في غير كنهه فتجد ريح الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاما» .

ومن خصال النفاق أيضا الثناء على الملوك والأمراء ونحوهم في وجوههم، وإذا خرج قال غير ذلك؛ لما روى البخاري في صحيحه أن أناسا قالوا لابن عمر رضي الله عنهما: إنا ندخل على سلطاننا فنقول لهم خلاف ما نتكلم إذا خرجنا من عندهم. قال: كنا نعدها نفاقا.

ص: 371

ورواه الإمام أحمد، وابن ماجة من حديث الأعمش: عن إبراهيم، عن أبي الشعثاء قال: قيل لابن عمر رضي الله عنهما: إنا ندخل على أُمرائنا فنقول القول، فإذا خرجنا قلنا غيره، قال: كنا نعد ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم النفاق.

ورواه أبو نعيم في الحلية من حديث داود بن أبي هند، عن الشعبي قال: قلنا لابن عمر رضي الله عنهما: إذا دخلنا على هؤلاء نقول ما يشتهون، فإذا خرجنا من عندهم قلنا خلاف ذاك، قال: كنا نعد ذلك نفاقا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ورواه الإمام أحمد أيضا من حديث يزيد بن الهاد، عن محمد بن عبد الله أنه حدثه أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما لقي ناسا خرجوا من عند مروان فقال: من أين جاء هؤلاء؟ قالوا: خرجنا من عند الأمير مروان، قال: وكل حق رأيتموه تكلمتم به وأعنتم عليه، وكل منكر رأيتموه أنكرتموه ورددتموه عليه؟ قالوا: لا والله، بل يقول ما يُنكَر فنقول: قد أصبت أصلحك الله، فإذا خرجنا من عنده قلنا: قاتله الله، ما أظلمه وأفجره، قال عبد الله: كنا بعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نعد هذا نفاقا لمن كان هكذا.

وفي المسند أيضا عن حذيفة رضي الله عنه قال: إنكم لتكلمون كلاما إن كنا لنعده على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم النفاق.

وفي رواية قال: إن كان الرجل ليتكلم بالكلمة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يصير بها منافقا، وإني لأسمعها من أحدكم في اليوم أو في المجلس عشر مرات.

قلت: إذا كان الأمر هكذا في غرة الإسلام، وأفضل قرون هذه الأمة،

ص: 372

فكيف بمن بعدهم إلى زماننا هذا الذي نجم فيه النفاق الأكبر فضلا عن الأصغر، وساد فيه الجهل وأهله، واشتدت غربة السُنَّة فيه، وعاد المعروف بين الأكثرين منكرا، والمنكر معروفا، والسنة بدعة، والبدعة سنة، وصار الأمر طبق ما جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال:«كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يهرم فيها الكبير، ويربو فيها الصغير، ويتخذها الناس سُنَّة، فإذا غُيِّرت قالوا: غُيِّرت السنة» قيل: متى ذلك يا أبا عبد الرحمن؟ قال: «إذا كثرت قُراؤكم، وقلت فقهاؤكم، وكثرت أموالكم، وقلت أمناؤكم، والتمست الدنيا بعمل الآخرة، وتفقه لغير الدين» رواه عبد الرزاق، والدارمي، والحاكم في مستدركه، وقال الذهبي في تلخيص المستدرك: هو على شرط البخاري ومسلم، وقد تقدم هذا الحديث في أول الكتاب، وتقدم أيضا عن حذيفة رضي الله عنه أنه أخذ حصاة بيضاء، فوضعها في كفة ثم قال: إن هذا الدين قد استضاء استضاءة هذه الحصاة، ثم أخذ كفا من تراب فجعل يذره على الحصاة حتى واراها، ثم قال: والذي نفسي بيده ليجيئن أقوام يدفنون الدين كما دفنت هذه الحصاة. رواه الحافظ محمد بن وضاح في كتاب "البدع والحوادث".

والآثار في هذا المعنى كثيرة جدا، وقد ذكرت منها طرفا في أول الكتاب فليراجع، والله المستعان وعليه التُكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ص: 373

فصل

وأما القسم الثاني من المنتسبين إلى الإسلام فهم أهل البدع والأهواء الذين هم على شفا جرف هار، وقد افترقوا على ثنتين وسبعين فرقة، كما سيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى.

قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية قدس الله روحه: المبتدع يؤول إلى الشرك، ولم يوجد مبتدع إلا وفيه نوع من الشرك كما قال تعالى:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31]، وكان من شركهم أنهم أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم، وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم. انتهى.

وقال السدي في تفسير هذه الآية: استنصحوا الرجال، ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم.

قلت: وهذا هو المطابق لحال المشركين وأهل البدع والأهواء، قال الله تعالى:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَاذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21]، وقد أمر الله تعالى عباده المؤمنين بالجماعة، والاعتصام بحبله المتين، واتِّباع صراطه المستقيم، ونهاهم عن التفرق والاختلاف، واتِّباع سبل الشياطين، فبدَّل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم، وخالفوا ما أمرهم الله به، وارتكبوا ما نهاهم عنه، فتفرقت بهم السبل عن سبيل الله، ومالت بهم الأهواء والبدع عن صراطه المستقيم،

ص: 374

حتى آل الأمر بكثير منهم إلى الشرك الأكبر فما دونه، كما يشهد بذلك الواقع، وهم مع هذا ينتسبون إلى الإسلام، وبهم يتكثر المغررون المخدوعون الجاهلون بدين الإسلام، وقد قال الله تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم:{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} الآية [الأنعام: 159].

وروى ابن جرير، والطبراني، وابن مردويه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الآية {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} : «وليسوا منك؛ هم أهل البدع، وأهل الشبهات، وأهل الضلال من هذه الأمة» في إسناده عباد بن كثير، قال البخاري والنسائي وغيرهما: متروك الحديث.

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: ولم يختلق هذا الحديث، ولكنه وهِم في رفعه، فإنه رواه سفيان الثوري، عن ليث -وهو ابن أبي سليم- عن طاوس، عن أبي هريرة رضي الله عنه في الآية أنه قال: نزلت في هذه الأمة.

وقال أبو غالب عن أبي أمامة رضي الله عنه في قوله: {وَكَانُوا شِيَعًا} قال: هم الخوارج. وروي عنه مرفوعا، قال ابن كثير رحمه الله تعالى: ولا يصح.

وروى الطبراني، وابن مردويه، والبيهقي، وأبو نعيم عن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعائشة رضي الله عنها:«يا عائش، إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا هم أصحاب البدع وأصحاب الأهواء من هذه الأمة» .

ص: 375

قال ابن كثير رحمه الله تعالى: وهو غريب ولا يصح رفعه.

قال: والظاهر أن الآية عامة في كل من فارق دين الله وكان مخالفا له، فإن الله بعث رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وشرعه واحد لا اختلاف فيه ولا افتراق، فمن اختلف فيه وكانوا شيعا -أي فرقا- كان أهلا لذلك؛ كأهل الملل والنِحَل والأهواء والضلالات، فإن الله تعالى قد برَّأ رسوله صلى الله عليه وسلم مما هم فيه، وهذه الآية كقوله تعالى:{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} الآية [الشورى: 13]، وفي الحديث:«نحن معاشر الأنبياء أولاد علات، ديننا واحد» ، فهذا هو الصراط المستقيم، وهو ما جاءت به الرسل من عبادة الله وحده لا شريك له، والتمسك بشريعة الرسول المتأخر، وما خالف ذلك فضلالات وجهالات، وآراء وأهواء، والرسل براء منها كما قال تعالى:{لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} . انتهى كلامه رحمه الله تعالى.

وقال ابن عطية في تفسير قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} الآية [الأنعام: 153] قال: هذه السبل تعم اليهودية والنصرانية والمجوسية، وسائر أهل الملل وأهل البدع والضلالات، من أهل الأهواء والشذوذ في الفروع، وغير ذلك من أهل التعمق في الجدل والخوض في الكلام، وهذه كلها عرضة للزلل، ومظنة لسوء المعتقد. انتهى، وهو كلام جيد.

قال قتادة: اعلموا أن السبيل واحد، جماعة الهدى ومصيره الجنة،

ص: 376

وأن إبليس استبدع سبلا متفرقة، جماعة الضلالة ومصيرها إلى النار.

وروى الإمام أحمد، والنسائي، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في المستدرك، وأبو بكر الآجري، وغيرهم، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا بيده ثم قال: «هذا سبيل الله مستقيما» ، وخط عن يمينه وشماله، ثم قال:«هذه السبل، ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه» ثم قرأ: «{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}» .

وروى الإمام أحمد، وعبد بن حميد، وابن ماجة، والآجري، عن جابر رضي الله عنه نحوه.

وروى ابن جرير، وابن مردويه: أن رجلا قال لابن مسعود رضي الله عنه: ما الصراط المستقيم؟ قال: تركنا محمد صلى الله عليه وسلم في أدناه، وطرفه في الجنة، وعن يمينه جواد، وعن يساره جواد، وثَمَّ رجال يدعون مَنْ مر بهم، فمن أخذ في تلك الجواد انتهت به إلى النار، ومن أخذ على الصراط انتهى به إلى الجنة، ثم قرأ ابن مسعود رضي الله عنه {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} الآية.

ويشهد لهذا ما في الصحيحين وغيرهما من حديث حذيفة رضي الله عنه قال: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، قال: قلت: يا رسول الله، إنَّا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال:«نعم» ،

ص: 377

قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: «نعم وفيه دخن» ، قلت: وما دخنه؟ قال: «قوم يستنون بغير سنتي، ويهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر» ، قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: «نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها» ، قلت: يا رسول الله، صفهم لنا، قال:«هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا» ، قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: «تلزم جماعة المسلمين وإمامهم» ، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: «فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك» .

وعن ابن عباس رضي الله عنهما: السبل الضلالات.

وروى علي بن أبي طلحة عنه رضي الله عنه في قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} الآية، وقوله تعالى:{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} الآية، وقوله تعالى:{فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} الآية، وقوله تعالى:{فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا} الآية، وقوله تعالى:{وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ} الآية، وقوله تعالى:{أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} الآية.

قال ابن عباس رضي الله عنهما: أمر الله عز وجل المؤمنين بالجماعة، ونهاهم عن الاختلاف والفرقة، وأخبرهم أنه إنما هلك من كان قبلهم

ص: 378

بالمراء والخصومات في دين الله عز وجل. رواه الآجري في كتاب الشريعة.

قال ابن كثير رحمه الله تعالى: وإنما وحَّد سبيله لأن الحق واحد، ولهذا جمع السبل لتفرقها وتشعبها؛ كما قال الله تعالى:{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [البقرة: 257]. انتهى.

وروى أبو بكر الآجري بإسناده عن عاصم الأحول قال: قال أبو العالية: تعلموا الإسلام، فإذا تعلمتموه فلا ترغبوا عنه، وعليكم بالصراط المستقيم فإنه الإسلام، ولا تحرفوا عن الصراط يمينا ولا شمالا، وعليكم بسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم والذي عليه أصحابه، وإياكم وهذه الأهواء التي تلقي بين الناس العداوة والبغضاء. فحدثت به الحسن فقال: صدق ونصح، وحدثت به حفصة بنت سيرين فقالت: أحدثتَ بهذا محمدا؟ قلت: لا، قالت فحدِّثه إذًا.

قال أبو بكر محمد بن الحسين الآجري رحمه الله تعالى: علامة من أراد الله عز وجل به خيرا سلوك هذه الطريق؛ كتاب الله عز وجل، وسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسنن أصحابه رضي الله عنهم ومن تبعهم بإحسان رحمة الله تعالى عليهم، وما كان عليه أئمة المسلمين في كل بلد إلى آخر ما كان من العلماء مثل الأوزاعي، وسفيان الثوري، ومالك بن أنس، والشافعي، وأحمد بن حنبل، والقاسم بن سلام، ومن كان على مثل طريقهم،

ص: 379

ومجانبة كل مذهب لا يذهب إليه هؤلاء العلماء رحمهم الله تعالى. انتهى.

وروى أبو داود، والترمذي، وابن ماجة، والحاكم في مستدركه، وأبو بكر الآجري في كتاب "الشريعة" عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، أو ثنتين وسبعين فرقة، والنصارى مثل ذلك، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة» قال الترمذي: حسن صحيح، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه، قال الترمذي: وفي الباب عن سعد، وعبد الله بن عمرو، وعوف بن مالك.

قلت: أما حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، فرواه محمد بن نصر المروزي، وأبو بكر الآجري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «افترقت بنو إسرائيل على إحدى وسبعين ملة، ولن تذهب الأيام والليالي حتى تفترق أمتي على مثلها، أو قال: على مثل ذلك، فكل فرقة منها في النار إلا واحدة وهي الجماعة» .

وأما حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما فرواه الترمذي، والحاكم في المستدرك وضعفه، وأبو بكر الآجري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل، حتى إن كان منهم من أتى أمه علانية لكان في أمتي من يصنع ذلك، وإن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة، وتفترق أمتي على ثلاثة وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة» ، قالوا: من هي يا

ص: 380

رسول الله؟ قال: «ما أنا عليه وأصحابي» قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب مفسر لا نعرفه مثل هذا إلا من هذا الوجه.

وأما حديث عوف بن مالك، فرواه ابن ماجة في سننه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، فواحدة في الجنة وسبعون في النار، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة فإحدى وسبعون في النار وواحدة في الجنة، والذي نفس محمد بيده لتفترقن أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، فواحدة في الجنة وثنتان وسبعون في النار» قيل: يا رسول الله، من هم؟ قال:«الجماعة» .

وفي الباب أيضا عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن بني إسرائيل تفرقت إحدى وسبعين فرقة، فهلكت سبعون فرقة وخلصت فرقة واحدة، وإن أمتي ستفترق على اثنين وسبعين فرقة، يهلك إحدى وسبعون وتخلص فرقة» قالوا: يا رسول الله، ما تلك الفرقة؟ قال:«الجماعة» رواه الإمام أحمد.

ورواه ابن ماجة في سننه بنحوه ولفظه: «إن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة، وأن أمتي ستفترق على ثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة» .

ورواه أبو بكر الآجري من طرق عن أنس رضي الله عنه، وفي بعض طرقه:«كلها في النار إلا السواد الأعظم» .

ورواه الطبراني في معجمه الصغير مختصرا ولفظه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

ص: 381

«تفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلهم في النار إلا واحدة» قالوا: وما هي تلك الفرقة؟ قال: «ما أنا عليه اليوم وأصحابي» .

وفي الباب أيضا عن أبي الدرداء، وأبي أمامة، وواثلة بن الأسقع، وأنس بن مالك رضي الله عنهم قالوا: خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نتمارى في شيء من الدين، فغضب غضبا شديدا لم يغضب مثله -فذكروا الحديث وفي آخره-:«ذروا المراء، فإن بني إسرائيل افترقوا على إحدى وسبعين فرقة، والنصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وإن أمتي ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها على الضلالة إلا السواد الأعظم» قالوا: يا رسول الله، ما السواد الأعظم؟ قال صلى الله عليه وسلم:«من كان على ما أنا عليه وأصحابي» رواه أبو بكر الآجري في كتاب "الشريعة".

وتفسير «السواد الأعظم» في هذا الحديث يدفع ما قد يتوهمه من كثف جهله، من أن السواد الأعظم المذكور في حديث أنس رضي الله عنه يراد به معظم المنتسبين إلى الإسلام وجمهورهم نظرا منهم إلى ظاهر اللفظ.

فإن قيل: إن هذا الحديث ضعيف، قيل: تقدم ما يشهد له من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما الذي رواه الترمذي وحسّنه، وقد روي عن علي، وابن مسعود رضي الله عنهما وغيرهما ما يؤيد ذلك.

فروى العسكري عن سليم بن قيس العامري قال: سأل ابن الكواء عليا رضي الله عنه عن السنة والبدعة، وعن الجماعة والفرقة، فقال: يا ابن الكواء، حفظت المسألة فافهم الجواب: السنة والله سنة محمد صلى الله عليه وسلم، والبدعة ما

ص: 382

فارقها، والجماعة والله مجامعة أهل الحق وإن قلُّوا، والفرقة مجامعة أهل الباطل وإن كثروا.

وقال عمرو بن ميمون الأودي: صحبت معاذا باليمن فما فارقته حتى واريته في التراب بالشام، ثم صحبت بعده أفقه الناس عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فسمعته يقول: عليكم بالجماعة، فإن يد الله على الجماعة، ثم سمعته يوما من الأيام وهو يقول: سَيَلي عليكم ولاة يؤخرون الصلاة عن مواقيتها، فصلوا الصلاة لميقاتها فهي الفريضة، وصلوا معهم فإنها لكم نافلة، قال: قلت يا أصحاب محمد ما أدري ما تحدثونا؟ قال: وما ذاك؟ قلت: تأمرني بالجماعة وتحضني عليها ثم تقول: صل الصلاة وحدك وهي الفريضة، وصل مع الجماعة وهي نافلة؟! قال: يا عمرو بن ميمون قد كنت أظنك من أفقه أهل هذه القرية! تدري ما الجماعة؟ قلت: لا، قال: إن جمهور الجماعة الذين فارقوا الجماعة؛ الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك.

وفي طريق أخرى: فضرب على فخذي وقال: ويحك، إن جمهور الناس فارقوا الجماعة، وإن الجماعة ما وافق طاعة الله عز وجل.

قال نعيم ين حماد: يعني إذا فسدت الجماعة فعليك بما كانت عليه الجماعة قبل أن تفسد وإن كنت وحدك، فإنك أنت الجماعة حينئذ. ذكره البيهقي وغيره.

ونقله الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في كتاب "الإغاثة" قال: وكان

ص: 383

محمد بن أسلم الطوسي -الإمام المتفق على إمامته- مع رتبته أتبع الناس للسنة في زمانه، حتى قال: ما بلغني سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عملت بها، ولقد حرصت على أن أطوف بالبيت راكبا فما مُكِّنت من ذلك. فسُئل بعض أهل العلم في زمانه عن السواد الأعظم الذين جاء فيهم الحديث:«إذا اختلف الناس فعليكم بالسواد الأعظم» فقال: محمد بن أسلم الطوسي هو السواد الأعظم. قال ابن القيم رحمه الله: وصدق والله، فإن العصر إذا كان فيه عارف بالسنة داع إليها، فهو الحجة وهو الإجماع وهو السواد الأعظم، وهو سبيل المؤمنين التي من فارقها واتبع سواها ولاَّه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرا. انتهى.

وقد قال أبو نعيم في الحلية: حدثنا أبي، حدثنا خالي أحمد بن محمد بن يوسف، حدثنا أبي قال: قرأت على أبي عبد الله محمد بن القاسم الطوسي خادم ابن أسلم قال: سمعت إسحاق بن راهويه يقول، وذكر في حديث رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إن الله لم يكن ليجمع أمة محمد صلى الله عليه وسلم على ضلالة، فإذا رأيتم الاختلاف فعليكم بالسواد الأعظم» . فقال رجل: يا أبا يعقوب، مَن السواد الأعظم؟ فقال: محمد بن أسلم وأصحابه ومن تبعه، ثم قال: سأل رجل ابن المبارك فقال: يا أبا عبد الرحمن، من السواد الأعظم؟ قال: أبو حمزة السكوني، ثم قال إسحاق: في ذلك الزمان -يعني أبا حمزة- وفي زماننا محمد بن أسلم ومن تبعه، ثم قال إسحاق: لو سألت الجهال من السواد الأعظم؟ قالوا:

ص: 384

جماعة الناس، ولا يعلمون أن الجماعة عالم متمسك بأثر النبي صلى الله عليه وسلم وطريقه، فمن كان معه وتبعه فهو الجماعة، ومن خالفه فيه ترك الجماعة، ثم قال إسحاق: لم أسمع عالما منذ خمسين سنة أعلم من محمد بن أسلم. انتهى ما ذكره أبو نعيم.

وقال ابن القيم أيضا: وما أحسن ما قال أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل المعروف بأبي شامة في كتاب "الحوادث والبدع": حيث جاء الأمر بلزوم الجماعة فالمراد به لزوم الحق واتباعه، وإن كان المتمسك به قليلا والمخالف له كثيرا.

قال ابن القيم رحمه الله تعالى: لأن الحق هو الذي كانت عليه الجماعة الأولى من عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولا نظر إلى كثرة أهل البدع بعدهم. انتهى.

وقد وصفت الفرقة الناجية في الأحاديث التي تقدمت بثلاث صفات؛ إحداها: أنهم الجماعة، الثانية: أنهم السواد الأعظم، الثالثة: أنهم من كان على مثل ما عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم أجمعين.

وهذه الصفة تبين المراد من الصفتين قبلها، وتدل على أن أهل الحق هم الجماعة والسواد الأعظم، مَن كانوا وأين كانوا، ولو كانوا من أقل الناس، والله أعلم.

وفي الباب أيضا عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما أنه لما قدم مكة حاجا قام حين صلى صلاة الظهر فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أهل

ص: 385

الكتابين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة -يعني الأهواء- كلها في النار إلا واحدة؛ وهي الجماعة، وإنه سيخرج في أمتي أقوام تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكَلَب بصاحبه، لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله» رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والحاكم في مستدركه، وأبو بكر الآجري في كتاب "الشريعة"، وصححه الحاكم وأقره الذهبي، وزاد الحاكم في روايته:«والله يا معشر العرب لئن لم تقوموا بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، لغير ذلك أحرى أن لا تقوموا به» .

قال الخطابي رحمه الله تعالى: الكَلَب داء يعرض للإنسان من عضة الكَلْب الكَلِب، وهو داء يصيب الكلب كالجنون، وعلامة ذلك فيه أن تحمر عيناه، وأن لا يزال يدخل ذنبه بين رجليه، وإذا رأى إنسانا ساوره، فإذا عقر هذا الكلب إنسانا عرض له من ذلك أعراض رديئة، منها أن يمتنع من شرب الماء حتى يهلك عطشا، ولا يزال يستسقي حتى إذا سُقي الماء لم يشربه، ويقال: إن هذه العلة إذا استحكمت بصاحبها فقعد للبول خرج منه هنات مثل صور الكلاب، فالكَلَب داء عظيم إذا تجارى بالإنسان تمادى وهلك. انتهى.

وفي سنن ابن ماجة عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يقبل الله لصاحب بدعة؛ صوما، ولا صلاة، ولا صدقة، ولا حجا، ولا عمرة، ولا جهادا، ولا صرفا، ولا عدلا، يخرج من الإسلام كما تخرج الشعرة من العجين» .

ص: 386

وله أيضا عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أبى الله أن يقبل عمل صاحب بدعة حتى يدع بدعته» .

وروى أبو الفرج ابن الجوزي بإسناده إلى سفيان الثوري أنه قال: البدعة أحب إلى إبليس من المعصية؛ المعصية يُتاب منها، والبدعة لا يتاب منها.

وروى أيضا بإسناده إلى أيوب السختياني أنه قال: ما ازداد صاحب بدعة اجتهادا إلا زاد من الله عز وجل بعدا.

وقال أبو بكر الآجري في كتاب "الشريعة": أخبرنا الفريابي قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا معاذ بن معاذ قال: حدثنا ابن عون، عن محمد بن سيرين أنه كان يرى أن أسرع الناس ردة أهل الأهواء.

وقال أيضا: حدثنا أبو بكر بن أبي داود قال: حدثنا المسيب بن واضح قال: سمعت يوسف بن أسباط يقول: أصول البدع أربع؛ الروافض، والخوارج، والقدرية، والمرجئة، ثم تتشعب كل فرقة ثماني عشرة طائفة، فتلك اثنتان وسبعون فرقة، والثالثة والسبعون الجماعة التي قال النبي صلى الله عليه وسلم إنها ناجية.

وقد روي عن عبد الله بن المبارك وغيره من أهل العلم والحديث نحو قول يوسف بن أسباط، قيل لابن المبارك رحمه الله تعالى: فالجهمية؟ قال: ليست الجهمية من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.

قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية قدس الله روحه: أول بدعة

ص: 387

حدثت في الإسلام بدعة الخوارج والشيعة؛ حدثتا في أثناء خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه فعاقب الطائفتين؛ أما الخوارج فقاتلوه فقتلهم، وأما الشيعة فحرق غاليتهم بالنار، وطلب قتل عبد الله بن سبأ فهرب منه، وأمر بجلد من يفضله على أبي بكر وعمر، وروي عنه من وجوه كثيرة أنه قال: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، ثم عمر. ورواه عنه البخاري في صحيحه.

وقال أيضا في موضع آخر: وابن سبأ هذا أول من ابتدع الرفض، وكان منافقا زنديقا، أراد فساد دين الإسلام كما فعل بولص صاحب الرسائل التي بأيدي النصارى؛ حيث ابتدع لهم بدعا أفسد بها دينهم، وكان يهوديا فأظهر النصرانية نفاقا لقصد إفساد ملتهم، وكذلك كان ابن سبأ يهوديا فقصد ذلك، وسعى في الفتنة فلم يتمكن، لكن حصل بين المؤمنين تحريش وفتنة، فقتل فيها عثمان بن عفان رضي الله عنه، وتبع ابن سبأ جماعات على بدعته وضلالته، وقال هؤلاء: إن عليا رضي الله عنه لم يمت، وإنما الذي قتله عبد الرحمن بن ملجم شيطان، وأما علي ففي السحاب، والرعد صوته، والبرق سوطه، وإنه ينزل إلى الأرض ويملأها عدلا، ويقولون عند الرعد عليك السلام يا أمير المؤمنين.

وقال أيضا في موضع آخر: لما حدثت بدع الشيعة في خلافة علي رضي الله عنه ردها، وكانت ثلاث طوائف؛ غالية، وسبابة، ومفضلة؛ فأما الغالية فإنه حرقهم بالنار، فإنه خرج ذات يوم من باب كندة فسجد له

أقوام فقال: ما هذا؟ فقالوا: أنت هو الله، فاستتابهم ثلاثا فلم يرجعوا، فأمر في

ص: 388

اليوم الثالث بأخاديد فخُدَّت، وأضرم فيها النار، ثم قذفهم فيها، وأما السبابة فإنه لما بلغه أن ابن سبأ يسب أبا بكر وعمر طلب قتله، فهرب إلى قرقيسيا، وأما المفضلة فقال: لا أوتى بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري. انتهى.

قلت: وما زالت سموم ابن سبأ وأمثاله من الزنادقة الملحدين تنتشر في الأرض، وتفتك في هذه الأمة فتكا ذريعا، حتى تركت الأكثرين صرعى بأمراض الشرك والشكوك والشبهات، بل كثير من المستجيبين لهم في زماننا وقبله قد انسلخوا من الدين بالكلية، وقاموا في صف إبليس وجنوده يحاربون الإسلام وأهله بأيديهم وألسنتهم، وينشرون الكتب والمقالات في ذم الإسلام وأهله، ومدح أعداء الدين وتبجيلهم، {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَابَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} .

وقد قال عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد المسند": حدثني عثمان بن أبي شيبة، حدثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة قال: قلت للحسن بن علي رضي الله عنهما: إن الشيعة يزعمون أن عليا يرجع، قال: كذب أولئك الكذابون، لو علمنا ذلك ما تزوج نساؤه، ولا قسمنا ميراثه.

وقد رواه الحاكم في مستدركه من طريق زهير بن معاوية قال: سمعت أبا إسحاق يحدث عن عمرو الأصم قال: قلت للحسن بن علي: إن هذه

ص: 389

الشيعة يزعمون أن عليا مبعوث قبل يوم القيامة، قال: كذبوا والله، ما هؤلاء بشيعته، لو علمنا أنه مبعوث ما زوجنا نساءه، ولا اقتسمنا ماله.

وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا جرير، عن حصين بن عبد الرحمن، عن عمران بن الحارث قال: بينما نحن عند ابن عباس رضي الله عنهما إذ جاء رجل فقال له: من أين جئت؟ قال: من العراق، قال: من أية؟ قال: من الكوفة، قال: فما الخبر؟ قال: تركتهم يتحدثون أن عليا خارج إليهم، ففزع ثم قال: ما تقول لا أبا لك؟! لو شعرنا ما أنكحنا نساءه، ولا قسمنا ميراثه.

ورواه الحاكم في مستدركه من حديث جرير به، وقال الذهبي في تلخيصه: صحيح.

وقال عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب "السنة": سألت أبي: من الرافضة؟ فقال: الذين يسبون، أو يشتمون أبا بكر وعمر.

وروى أيضا بإسناد فيه مجهول عن علي رضي الله عنه قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: «إن قوما لهم نبز يقال لهم الرافضة إن أدركتم فاقتلهم فإنهم مشركون» قال علي رضي الله عنه: ينتحلون حبنا أهل البيت وليسوا كذلك، وآية ذلك أنهم يشتُمون أبا بكر وعمر.

وروى أيضا في "زوائد المسند" وفي كتاب "السنة" عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يظهر في أمتي في آخر الزمان قوم يسمون الرافضة، يرفضون الإسلام» .

ورواه البخاري في التاريخ الكبير بلفظ: «يكون قوم نبزهم الرافضة

ص: 390

يرفضون الدين».

وفي رواية لعبد الله ابن الإمام أحمد: «يجيء قوم قبل قيام الساعة يسمون الرافضة برآء من الإسلام» .

وروى الحافظ أبو يعلى، والطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«يكون في آخر الزمان قوم يسمون الرافضة يرفضون الإسلام، فإذا رأيتموهم فاقتلوهم فإنهم مشركون» .

وفي رواية الطبراني قال ابن عباس رضي الله عنهما: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وعنده علي رضي الله عنه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«سيكون من أمتي قوم ينتحلون حب أهل البيت، لهم نبز، يسمون الرافضة، فاقتلوهم فإنهم مشركون» .

وروى أبو نعيم في الحلية من حديث محمد بن سوقة، عن أبي الطفيل، عن علي رضي الله عنه قال:«تفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، شرها فرقة تنتحل حبنا وتفارق أمرنا» .

وروى البخاري في "التاريخ الكبير" عن علي رضي الله عنه قال: دعاني النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «يا علي إن لك من عيسى مثلا، أبغضته اليهود حتى بهتوا أمه، وأحبته النصارى حتى أنزلوه بالمنزل الذي ليس به» .

ورواه عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد المسند" وفي كتاب "السنة" وزاد: ألا وإنه يهلك فيَّ اثنان؛ محب يقرظني بما ليس فيَّ، ومبغض يحمله شنآني على أن يبهتني، ألا إني لست بنبي، ولا يوحى إليّ، ولكني أعمل بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ما استطعت، فما أمرتكم من طاعة الله

ص: 391

فحق عليكم طاعتي فيما أحببتم وكرهتم.

ورواه الحاكم في مستدركه وزاد: وما أمرتكم بمعصية أنا وغيري فلا طاعة لأحد في معصية الله عز وجل، إنما الطاعة في المعروف. قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

وقال عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب "السنة": وجدت في كتاب أبي بخط يده -وأظنني سمعته منه- حدثنا وكيع، عن شريك، عن عثمان بن أبي يقظان، عن زاذان، عن علي رضي الله عنه قال: مثلي في هذه الأمة كمثل عيسى ابن مريم، أحبته طائفة فأفرطت في حبه فهلكت، وأبغضته طائفة فأفرطت في بغضه فهلكت، وأحبته طائفة فاقتصدت في حبه فنجت.

وقال عبد الله أيضا: حدثني أبي، حدثنا أبو معاوية، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، عن علقمة قال: غلت هذه الشيعة في علي كما غلت النصارى في عيسى ابن مريم، قال: وكان الشعبي يقول: لقد بغضوا إلينا حديث علي.

وقال عبد الله أيضا: حدثنا أبو صالح هدبة بن عبد الوهاب بمكة، حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا محمد بن طلحة، عن أبي عبيدة بن الحكم، عن الحكم بن حجل، سمعت عليا رضي الله عنه يقول: لا يفضلني أحد على أبي بكر وعمر إلا جلدته حدّ المفتري.

وقال أيضا: حدثني عثمان بن أبي شيبة، حدثنا محمد بن الحسن؛ يعني الأسدي، حدثنا أبو كدينة، عن أبي خالد، عن الشعبي قال: لو

ص: 392

كانت الشيعة من الطير لكانوا رخما.

قال الشعبي: ونظرت في هذه الأهواء وكلَّمت أهلها؛ فلم أر قوما أقل عقولا من الخشبية.

وفي رواية أخرى عن الشعبي: لو كانت الشيعة من الطير لكانت رخما، ولو كانت من البهائم لكانت حُمُرا.

وفي رواية أخرى عنه: لو شئت أن يملأوا لي بيتي هذا ورقا على أن أكذب لهم على علي لفعلت، والله لا كذبتُ عليه أبدا.

وروى أبو نعيم في الحلية، عن الشافعي رحمه الله تعالى أنه قال: لم أر أحدا من أصحاب الأهواء أشهد بالزور من الرافضة.

فهذا ما يتعلق بالروافض الأنجاس، وكان بعض السلف يسميهم الخشبية لقولهم: إنا لا نقاتل بالسيف إلا مع إمام معصوم، فقاتلوا بالخشب.

وسُموا رافضة لرفضهم زيد بن علي بن الحسين رضي الله عنهم لما ترحم على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وقيل: لرفضهم إمامة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. ذكره أبو الحسن الأشعري في كتاب "المقالات".

وبسبب الرافضة حدث الشرك وعبادة الأوثان في هذه الأمة، وهم أول من عطل المساجد، وبنى المشاهد على القبور وجعلها أوثانا، واتخذ أهلها أربابا من دون الله، ومن هذا الوجه شابهوا المشركين الأولين الذين كانوا يعبدون اللات والعزى ومناة، وودا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا، ونحوها من معبودات أهل الجاهلية، وكذلك

ص: 393

شابهوا اليهود في الكذب، وتحريف الكلم عن مواضعه، واتباع الهوى، وغير ذلك من مساوئ أخلاق اليهود، وكذلك شابهوا النصارى في الغلو والجهل واتباع الهوى، وغير ذلك من مساوئ أخلاق النصارى، وما زال العلماء يصفونهم بذلك كما ذكره شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية قدس الله روحه في ردِّه على الرافضي.

وذكر أيضا أن متأخري الرافضة ذهبوا إلى التجهم وإبطال صفات الله، وقد قال عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب "السنة": حدثني أبي، حدثنا حجاج، سمعت شريكا -وذكر المرجئة- فقال: هم أخبث قوم، وحسبك بالرافضة خبثا.

ورواه أبو بكر الآجري في كتاب "الشريعة" فقال: حدثنا أبو نصر قال: حدثنا أبو بكر قال: حدثنا أبو عبد الله -يعني أحمد بن حنبل- قال: حدثنا حجاج قال: سمعت شريكا فذكره.

وإذا كان هذا قول السلف في متقدمي الروافض، فكيف لو رأوا حالتهم اليوم، وما جمعوا من الشر بحذافيره؛ مع بُعدهم عن الهدى ودين الحق! ومع هذا فهم ينتسبون إلى الإسلام، وبهم وبأشباههم يتكثر الذين لا يعرفون الإسلام، ولا يبعد أن تكون الرافضة نصف العدد الذي ذكرنا في السؤال المتقدم أو أكثر من نصفه، وإذا ضممنا إليهم أشباههم من عُبَّاد الأوثان والطواغيت والأشجار والأحجار والكواكب، وغيرها مما يعبد من دون الله، مع سائر أدعياء الإسلام الذين ذكرناهم فيما تقدم لم يبق من العدد المتقدم ذكره إلا القليل، وبهذا يعرف غربة الإسلام الحقيقي وأهله في الأزمان وقبلها بدهر طويل، فالله المستعان.

ص: 394

فصل

وأما الخوارج فهم أول من كفّر المسلمين بالذنوب، ويُكفِّرون من خالفهم في بدعتهم، ويستحلون دمه وماله.

قال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه: وكان ابن عمر رضي الله عنهما يراهم شر خلق الله، وقال: إنهم انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين. انتهى.

وحكي عنهم أنهم لا يتبعون النبي صلى الله عليه وسلم إلا فيما بلغه عن الله من القرآن والسنة المفسرة له، وأما ظاهر القرآن إذا خالفه الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يعملون إلا بظاهره، ذكر ذلك شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية قدس الله روحه، ولهذا كانوا مارقين، مرقوا من الإسلام مروق السهم من الرمية كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم.

قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: صح الحديث في الخوارج من عشرة أوجه، وقد خرَّج مسلمٌ أكثرَها في صحيحه، وخرّج البخاري طائفةً منها.

وبدعتهم هي أول بدعة حدثت في الإسلام، وأول قرن طلع منهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو ذو الخويصرة التميمي، الذي اعترض على النبي صلى الله عليه وسلم وطعن عليه في قسمته العادلة بالاتفاق؛ وقال له في وجهه: اتق الله واعدل، فإنك لم تعدل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«ويلك، ومن يعدل إذا لم أكن أعدل، لقد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل» ، وفي رواية: «فمن يطيع

ص: 395

الله إذا عصيته، أيأمنني على أهل الأرض ولا تأمنوني؟!»، وفي رواية:«ألا تأمنوني وأنا أمين مَن في السماء، يأتيني خبر السماء صباحا ومساء» .

وقد اختلف في معنى قوله: «لقد خبت وخسرت» بناء على اختلاف الرواية في ضبط هذين الحرفين، فرُوي بضم المثناة، قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري": بضم المثناة للأكثر؛ ومعناه ظاهر ولا محذور فيه، والشرط لا يستلزم الوقوع؛ لأنه ليس ممن لا يعدل حتى يحصل له الشقاء، بل هو عادل فلا يشقى، وحكى عياض فتحها، ورجحه النووي، وحكاه الإسماعيلي عن رواية شيخه المنيعي من طريق عثمان بن عمر عن قرة، والمعنى: لقد شقيت أي ضللت أنت أيها التابع، حيث تقتدي بمن لا يعدل، أو حيث تعتقد في نبيك هذا القول الذي لا يصدر عن مؤمن. انتهى.

واختار هذا القول الأخير الإمامان؛ شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية، والحافظ ابن القيم رحمة الله عليهما.

قال شيخ الإسلام قدس الله روحه: إذا جوز أن الرسول يجوز أن يخون ويظلم فيما ائتمنه الله عليه من الأموال، وهو معتقد أنه أمين الله على وحيه فقد اتبع ظالما كاذبا، وجوز أن يخون ويظلم فيما ائتمنه من المال من هو صادق أمين فيما ائتمنه الله عليه من خبر السماء؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:«أيأمنني من في السماء ولا تأمنوني» أو كما قال، يقول صلى الله عليه وسلم: إن أداء الأمانة في الوحي أعظم، والوحي الذي أوجب لله طاعته هو

ص: 396

الوحي بحكمه وقسمته. انتهى.

وقال ابن القيم رحمه الله تعالى في "تهذيب السنن": الصواب فتح التاء من خبت وخسرت؛ والمعنى أنك إذًا خائب خاسر إن كنت تقتدي في دينك بمن لا يعدل، وتجعله بينك وبين الله، ثم تزعم أنه ظالم غير عادل، ومن رواه بضم التاء لم يفهم معناه هذا. انتهى.

قلت: وضم التاء أوجه من نصبها لوجوه:

أحدها: أنه رواية الأكثر.

الثاني: ما جاء في صحيح ابن حبان في هذا الحديث أن الرجل لما قال للنبي صلى الله عليه وسلم: اعدل فإنك لم تعدل، قال النبي صلى الله عليه وسلم:«يا ويلي، لقد شقيت إن لم أعدل» ، فظاهر هذا السياق أن النبي صلى الله عليه وسلم عنى بذلك نفسه.

الثالث: أن في توجيه المعنى على النصب تكلفا ظاهرا، وأما الرفع فليس فيه تكلف.

الرابع: أن الرفع يتأيد بأدلة كثيرة من القرآن؛ كقوله تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65]، وقوله تعالى:{وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 88]، وقوله تعالى:{قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [الأنعام: 56]، وقوله تعالى:{وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ}

ص: 397

[البقرة: 120]، وقوله تعالى:{وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 145]، وقوله تعالى:{وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} [يونس: 106]، وقوله تعالى:{قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف: 81]، وقوله تعالى:{لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:17]، وقوله تعالى:{لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الزمر: 4].

والمعنى في هؤلاء الآيات، وفي الحديث أيضا: أنه لو فرض وجود الشرط لكان المشروط، ولكن هذا كله محال وممتنع في حق الله تعالى وحق رسوله صلى الله عليه وسلم، والشرط لا يلزم منه الوقوع ولا الجواز أيضا، فإن الله سبحانه وتعالى أحد صمد، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، ولم يكن له كفوا أحدا، تعالى وتقدس وتنزه عما يقول الظالمون علوا كبيرا، وقد عصم الله تبارك وتعالى رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم من الشرك والظلم والجور والغي والضلال، ومتابعة أهواء اليهود والنصارى والمشركين، وبرَّأه من كل نقص وعيب، وكذلك سائر الأنبياء والمرسلين، فكلهم معصومون مُبرَّؤون، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

والمقصود هنا أن توجيه المعنى على الرفع صحيح ولا محذور فيه، والله أعلم.

وقد روى الإمام أحمد، والبخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي عن

أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في ذي الخويصرة: «إن من ضئضئ

ص: 398

هذا قوما يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية، يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد».

وروى الإمام أحمد، وأبو داود، والحاكم في مستدركه، عن أبي سعيد وأنس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«سيكون في أمتي اختلاف وفرقة؛ قوم يحسنون القيل ويسيئون الفعل، يَقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ثم لا يرجعون حتى يرتد السهم على فُوقه؛ هم شر الخلق والخليقة، طوبى لمن قتلهم أو قتلوه، يدعون إلى كتاب الله وليسوا منه في شيء، من قاتلهم كان أولى بالله منهم» قالوا: يا رسول الله، ما سيماهم؟ قال:«التحليق» .

وقد رواه الحاكم أيضا من حديث أنس رضي الله عنه وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وأقره الحافظ الذهبي في تلخيصه.

وروى الإمام أحمد أيضا، والبخاري، وعبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب "السنة" عن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«يخرج ناس من قبل المشرق ويَقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ثم لا يعودون فيه حتى يعود السهم إلى فُوقه» قيل: ما سيماهم؟ قال: «سيماهم التحليق» ، أو قال:«التسبيد» .

ص: 399

وفي صحيح مسلم، وسنن ابن ماجة، عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن بعدي من أمتي، أو سيكون بعدي من أمتي قوم يقرؤون القرآن لا يجاوز حلاقيمهم، يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية ثم لا يعودون فيه؛ هم شر الخلق والخليقة» فقال ابن الصامت: فلقيت رافع بن عمرو الغفاري -أخا الحكم الغفاري- قلت: ما حديث سمعته من أبي ذر كذا وكذا؟ فذكرت له هذا الحديث فقال: وأنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وروى الإمام أحمد، والترمذي، وابن ماجة، والآجري، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يخرج قوم في آخر الزمان، سفهاء الأحلام، أحداث -أو حدثاء- الأسنان، يقولون من خير قول الناس، يقرؤون القرآن بألسنتهم لا يعدو تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، فمن أدركهم فليقتلهم فإن في قتلهم أجرا عظيما عند الله لمن قتلهم» قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

وروى الإمام أحمد أيضا، والبخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، وعبد الله ابن الإمام أحمد، عن علي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يأتي في آخر الزمان قوم حدثاء الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، فإن لقيتموهم فاقتلوهم، فإن قتلهم أجر لمن قتلهم يوم القيامة» .

ص: 400

وروى الإمام أحمد أيضا عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يخرج من أمتي قوم يسيئون الأعمال، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يحقر أحدكم عمله مع عملهم، يقتلون أهل الإسلام، فإذا خرجوا فاقتلوهم، فطوبى لمن قتلهم، وطوبى لمن قتلوه، كلما طلع منهم قرن قطعه الله، كلما طلع منهم قرن قطعة الله، كلما طلع منهم قرن قطعة الله» فردد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرين مرة أو أكثر وأنا أسمع.

ورواه ابن ماجة في سننه بلفظ: «ينشأ نشء يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، كلما خرج قرن قطع» قال ابن عمر رضي الله عنهما: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كلما خرج قرن قُطع -أكثر من عشرين مرة- حتى يخرج في عراضهم الدجال» .

وفي المسند أيضا عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «سيخرج أناس من أمتي من قِبل المشرق يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، كلما خرج منهم قرن قطع، كلما خرج منهم قرن قُطع» حتى عدها زيادة على عشر مرات «كلما خرج منهم قرن قُطع، حتى يخرج الدجال في بقيتهم» .

ورواه الحاكم في مستدركه، وأبو نعيم في الحلية بنحوه، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.

ص: 401

وفي سنن النسائي، ومستدرك الحاكم، عن أبي برزة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«يخرج في آخر الزمان قوم يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، سيماهم التحليق، لا يزالون يخرجون حتى يخرج آخرهم مع المسيح الدجال، فإذا لقيتموهم فاقتلوهم، هم شر الخلق والخليقة» قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وأقره الحافظ الذهبي في تلخيصه.

وفي المسند عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يكون في آخر الزمن قوم يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، قتالهم حق على كل مسلم» .

وقال عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب "السنة": حدثني أبي، حدثنا وكيع، حدثنا بسام، عن أبي الطفيل قال: سأل ابن الكواء عليا رضي الله عنه عن الأخسرين أعمالا، قال: منهم أهل حروراء.

ورواه الحاكم في مستدركه من حديث بسام الصيرفي به نحوه، وقال: صحيح ولم يخرجاه، وأقره الذهبي في تلخيصه.

وقال عبد الله أيضا: حدثني أبي، حدثنا وكيع، حدثنا ابن أبي خالد، عن مصعب بن سعد، عن أبيه رضي الله عنه قال: ذكر عنده الخوارج، قال: هم قوم زاغوا فأزاغ الله قلوبهم.

ورواه من طريق أخرى فقال: حدثني أبي، حدثنا هشيم، أخبرنا حصين، عن مصعب بن سعد، عن سعد رضي الله عنه، فذكر مثله.

ص: 402

ورواه الحاكم في مستدركه من طريق جرير، عن منصور، عن مصعب بن سعد، عن أبيه رضي الله عنه، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.

وروى البخاري في صحيحه من حديث مصعب عن أبيه رضي الله عنه قال: الحرورية الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه، وكان سعد يسميهم الفاسقين.

وقال عبد الله ابن الإمام أحمد: حدثني أبي، حدثنا هشيم، أخبرنا العوام، حدثنا أبو غالب، عن أبي أمامة رضي الله عنه: زاغوا فأزاغ الله قلوبهم، قال: هم الخوارج.

وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: حدثنا أبو كامل، حدثنا حماد، عن أبي غالب قال: سمعت أبا أمامة رضي الله عنه يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} قال: هم الخوارج، وفي قوله تعالى:{يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} قال: هم الخوارج.

وروى أبو بكر الآجري بإسناده عن طاوس قال: ذكر لابن عباس رضي الله عنهما الخوارج وما يصيبهم عند قراءة القرآن، فقال رضي الله عنه: يؤمنون بمحكمه، ويضلون عن متشابهه، وما يعلم تأويله إلا الله، والراسخون في العلم يقولون آمنا به.

وروى أيضا بإسناده عن عبد الله بن يزيد قال: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما وذكر له الخوارج واجتهادهم وصلاحهم فقال رضي الله عنه:

ص: 403

ليسوا هم بأشد اجتهادا من اليهود والنصارى وهم على ضلالة.

وروى أيضا بإسناده عن الحسن -وذكر الخوارج- قال: حيارى، سكارى، ليسوا يهودا ولا نصارى، ولا مجوسا فيعذرون.

روى الإمام أحمد، والترمذي من حديث أبي غالب قال: رأى أبو أمامة رؤوسا منصوبة على درج مسجد دمشق فقال: «كلاب النار، شر قتلى تحت أديم السماء، خير قتلى من قتلوه، ثم قرأ {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} إلى آخر الآية» ، قلت لأبي أمامة: أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لو لم أسمعه إلا مرة أو مرتين أو ثلاثا أو أربعا حتى عد سبعا ما حدثتكموه. قال الترمذي: هذا حديث حسن.

ورواه ابن ماجة ولفظه: «شر قتلى قتلوا تحت أديم السماء، وخير قتلى من قتلوا، كلاب النار، قد كان هؤلاء مسلمين فصاروا كفارا» ، قلت: يا أبا أمامة، هذا شيء تقوله؟ قال: بل سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ورواه عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب "السنة" من طرق، عن أبي غالب، عن أبي أمامة، وفي بعضها أنه لما أُتي برؤوس الأزارقة فنصبت على درج دمشق، جاء أبو أمامة فلما رآهم دمعت عينه قال:«كلاب النار، كلاب النار، كلاب النار -ثلاث مرات- هؤلاء شر قتلى قتلوا تحت أديم السماء، وخير قتلى تحت أديم السماء الذين قتلهم هؤلاء» قلت: فما شأنك دمعت عينك؟ قال: رحمة لهم؛ لأنهم كانوا من أهل الإسلام، قلت: أبرأيك قلت هم كلاب النار، أو شيئا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

ص: 404

قال: إني إذًا لجريء، بل سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مرة، ولا مرتين، ولا ثلاثة، قال: فعد مرارا، قال: ثم تلا هذه الآية {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} حتى بلغ {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} .

وقد رواه الطبراني في معجمه الصغير من طريق الوليد بن مسلم، حدثنا خليد بن دعلج، حدثنا أبو غالب قال: جيء برؤوس الخوارج فنصبت على درج مسجد دمشق، فجعل الناس ينظرون إليها، وخرجت أنا أنظر إليها، فجاء أبو أمامة على حمار وعليه قميص سنبلاني، فنظر إليهم فقال: ما صنع الشيطان بهذه الأمة؟! يقولها ثلاثا؛ «شر قتلى تحت ظل السماء هؤلاء، خير قتلى تحت ظل السماء من قتله هؤلاء، كلاب النار -يقولها ثلاثا» ثم بكى، ثم انصرف، قال أبو غالب: فاتبعته، فقلت: سمعتك تقول قولا قبل، أفأنت قلته؟ فقال: سبحان الله! إني إذًا لجريء، بل سمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم مرارا، فقلت له: رأيتك بكيت؟ فقال: رحمة لهم؛ كانوا من أهل الإسلام مرة، ثم قال لي: أما تقرأ؟ قلت: بلى، قال: فاقرأ من آل عمران، فقرأت فقال: أما تسمع قول الله عز وجل: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} ؛ كان في قلوب هؤلاء زيغ فزيغ بهم، اقرأ عند رأس المائة، فقرأت حتى إذا بلغت:{يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} فقلت: يا أبا أمامة، أهم هؤلاء؟ قال: نعم هؤلاء.

وقد رواه عبد الله ابن الإمام أحمد من وجه آخر فقال: حدثني أبو خيثمة

ص: 405

زهير بن حرب، حدثنا عمرو بن يونس الحنفي، حدثنا عكرمة بن عمار، حدثنا شداد بن عبد الله قال: وقف أبو أمامة وأنا معه على رؤوس الحرورية بالشام، فذكر نحو ما تقدم في حديث أبي غالب وفيه: فقال له رجل: رأيتك دمعت عيناك! فقال: رحمة، رحمتهم، كانوا مؤمنين فكفروا بعد إيمانهم، ثم قرأ هذه الآية:{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} الآية.

وقد رواه الحاكم في مستدركه من حديث عكرمة بن عمار به نحوه، ثم قال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه.

ورواه عبد الله ابن الإمام أحمد أيضا من وجه آخر فقال: حدثنا أبي، حدثنا أنس بن عياض -وهو أبو حمزة المديني- قال: سمعت صفوان ابن سليم يقول: دخل أبو أمامة الباهلي دمشق فرأى رؤوس الحرورية، وذكر نحو ما تقدم وفيه قال: أبكي لخروجهم من الإسلام، هؤلاء الذين تفرقوا واتخذوا دينهم شيعا.

وروى الطبراني في الصغير من طريق أبي غالب، عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الخوارج كلاب النار» .

وقال عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب "السنة": حدثني أبي، حدثنا إسحاق بن يوسف -يعني الأزرق- عن الأعمش، عن ابن أبي أوفى

ص: 406

قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الخوارج هم كلاب النار» .

وهكذا رواه ابن ماجة عن أبي بكر بن أبي شيبة، وأبو بكر الآجري عن حامد بن شعيب البلخي، عن أبي خيثمة زهير بن حرب، كلاهما عن إسحاق بن يوسف الأزرق به مثله.

ورواه أبو نعيم في الحلية من طريق الإمام أحمد، وأبي بكر بن أبي شيبة، وهارون بن محمد المستملي، كلهم عن إسحاق بن يوسف الأزرق، عن الأعمش به.

ورواه أيضا من طريق سفيان الثوري، عن الأعمش، عن ابن أبي أوفى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الخوارج هم كلاب النار» .

وقال عبد الله أيضا: حدثني أبي، حدثنا هشام بن القاسم، حدثنا حشرج بن نباتة العبسي، حدثني سعيد بن جهمان قال: لقيت عبد الله بن أبي أوفى -وهو محجوب البصر- فسلمت عليه فقال لي: من أنت؟ قال: قلت: أنا سعيد بن جهمان، قال: فما فعل والدك؟ قال: قلت قتلته الأزارقة، قال: لعن الله الأزارقة، حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إنهم كلاب النار» قال: قلت: الأزارقة وحدهم أم الخوارج كلها؟ قال: لا بل الخوارج كلها. ورواه الحاكم في مستدركه مختصرا.

فهذا ما يتعلق بالخوارج المارقين من دين الإسلام، فليتدبر المتكثرون بأهل الضلالات والأهواء هذه الأحاديث الواردة في الخوارج مع انتسابهم إلى الإسلام، وكثرة صلاتهم وصيامهم وقراءتهم واجتهادهم

ص: 407

في العبادة، وما تركت ذكره من الأحاديث الواردة فيهم أكثر مما ذكرته، وهم في هذه الأزمان كثيرون في أرض عمان وما حولها من السواحل، وأكثر ما يوجد منهم طائفة الإباضية أتباع عبد الله بن إباض.

وقد حدثنا من اجتمع بهم أنهم لا يزالون يتذكرون أهل النهروان الذين قتلهم علي رضي الله عنه وأصحابه، ويتحزنون على قتلهم، وينشدون فيهم المراثي الكثيرة، وذكر أنهم لا يجدون هناك أحدا من أهل السنة يقدرون على قتله إلا قتلوه ما لم يدخل عليهم بأمان من بعضهم.

قلت: وللخوارج المارقين أشباه كثيرون ممن يدعي العلم والتحقيق في هذه الأزمان وقبلها، وعلامتهم التهجم على كتاب الله تعالى وتفسيره بآرائهم الفاسدة، واتباع ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، وكثير منهم يزعمون أنهم هم الذين غاصوا على معاني القرآن واستخرجوا علومه، فأما الصحابة والتابعون لهم بإحسان من أئمة العلم والهدى فعند هؤلاء المتعمقين المعجبين بأنفسهم أنهم لم يفسروا إلا ألفاظه فقط، ومنهم من يحاول تطبيق القرآن والسنة المطهرة على قوانين النصارى وسياساتهم الخاطئة الفاجرة، وهذا هو غاية الزيغ والإلحاد والزندقة، وكثير منهم يرد الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا خالفت رأيه وهواه، ويعارضها كما فعل شيخهم ذو الخويصرة بقر الله خاصرته وخواصر أتباعه إلى يوم القيامة، ولهذا تجد كثيرا منهم يطعن في أئمة الحديث الذين أجمع العلماء على إمامتهم وجلالتهم، ويصفهم بالعجمة، وربما

ص: 408

رماهم باختلاق الأحاديث، وبعضهم يتجاوز ذلك إلى الطعن في الصحابة من أجل حديث لم يفهم معناه، أو لم يظهر له وجه الحكمة منه، كما رأينا ذلك في كتب لهم وتعليقات كثيرة، وقد آل الأمر بكثير منهم إلى الانسلاخ من دين الإسلام بالكلية، وبعضهم تجاوز ذلك إلى محاربة الشريعة المحمدية والقدح فيها وفي سائر الأديان السماوية، وزعم الخبيث أنها نكبة على البشر، وأن الإيمان والتزام أحكام الشريعة أغلال، ومشكلة لم تحل، وأن السيادة والسعادة الدنيوية في رفض الأديان كلها، والتوجه إلى الطبيعة بالكلية، وصرف الهمم كلها إلى الأعمال الدنيوية، والتعلق بالأسباب لا بمسببها، وبذلك تَنْحلُّ المشكلة على زعمه الكاذب الخاطئ الفاجر، {ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة: 30]، {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} [الكهف: 5]، وقد قال الله تعالى في أسلاف هؤلاء المتهوكين: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ * الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ * ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ * ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ * ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى

ص: 409

الْمُتَكَبِّرِينَ} [غافر: 69 - 76]؛ وهذه الآيات نزلت في كفار قريش، ونحوهم ممن كان يُقرّ بأن الله تبارك وتعالى رب كل شيء ومليكه، وأنه الخالق الرازق المدبر لجميع الأمور، المتصرف في خلقه بما يشاء، وإنما كانوا يشركون به في الألوهية والعبادة كما أخبر الله عنهم أنهم قالوا:{أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} الآية [ص: 5].

فأما صاحب الأغلال وأضرابه من المرتدين عن الإسلام فإنهم -مع مجادلتهم في آيات الله وتكذيبهم بالكتاب وبما أرسل الله به رسله- قد جعلوا الطبيعة رب كل شيء وخالقه، وعدلوا الكفرة من الإفرنج وغيرهم بالله في ربوبيته، وزعموا أنهم يقدرون على ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى من الخلق، والرزق، والإحياء، والتصرف في الكون، وغير ذلك مما هو محشو في كتاب الأغلال الجامع للكثير من أشتات الكفر والضلال.

والله المسؤول أن يعافيني وإخواني المسلمين مما ابتلاه به، ويثبتنا جميعا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، ويهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب.

ص: 410

فصل

وأما بدعة القدرية فإنها حدثت في آخر عصر الصحابة، فأنكرها من كان منهم حيا؛ كعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس وغيرهما رضي الله عنهم، وكذلك أئمة التابعين، ومن بعدهم من الأئمة.

وقد روى الإمام أحمد، ومسلم، وأهل السنن، وغيرهم عن يحيى بن يعمر أنه قال لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أبا عبد الرحمن، إنه قد ظهر قِبَلنا ناس يقرؤون القرآن، ويتقفرون العلم، يزعمون أن لا قدر، وأن الأمر أُنف، فقال: إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم بُرآء مِنِّي، والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أُحُد ذهبا فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر. الحديث.

وقال عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب "السنة": حدثني أبي، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن سعيد بن حيان، عن يحيى بن يعمر قال: قلت لابن عمر رضي الله عنهما: إن ناسا عندنا يقولون: الخير والشر بقدر، وناس عندنا يقولون الخير بقدر، والشر ليس بقدر، فقال ابن عمر رضي الله عنهما: إذا رجعت إليهم فقل لهم: إن ابن عمر يقول: إنه منكم بريء، وأنتم منه برآء.

وقال أيضا: حدثنا أبي، حدثنا هشيم، أخبرني أبو هاشم، عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ذكر عنده القدرية قال: فقال: لو رأيت

ص: 411

أحدا منهم لعضضت أنفه، قال مجاهد: قال ابن عمر: من رأى منكم أحدا منهم فليقل له: إن ابن عمر منكم بريء.

وقال أيضا: حدثني أبي، حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا يحيى بن سعيد، أن أبا الزبير أخبره أنه كان يطوف مع طاوس بالبيت فمر بمعبد الجهني، فقال قائل لطاوس: هذا معبد الجهني الذي يقول في القدر، فعدل إليه طاوس حتى وقف عليه فقال: أنت المفتري على الله، القائل ما لا تعلم؟ قال معبد: يُكذب عليّ، قال أبو الزبير: فعدلت مع طاوس حتى دخلنا على ابن عباس رضي الله عنهما فقال له طاوس: يا أبا عباس، الذين يقولون في القدر؟ فقال ابن عباس رضي الله عنهما أروني بعضهم، قال: قلنا صانع ماذا؟ قال: إذًا أجعل يدي في رأسه ثم أدق عنقه. وهكذا رواه الآجري، عن الفريابي، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن يزيد بن هارون، فذكره.

وروى الإمام أحمد في مسنده، والآجري في كتاب "الشريعة" عن محمد بن عبيد المكي، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قيل لابن عباس رضي الله عنهما: إن رجلا قدم علينا يكذب بالقدر، فقال: دلوني عليه -وهو يومئذ قد عمي- قالوا: وما تصنع به يا أبا عباس؟ قال: والذي نفسي بيده لئن استمكنت منه لأعضنَّ أنفه حتى أقطعه، ولئن وقعت رقبته في يدي لأدقنّها، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كأني بنساء بني فهر يطفن بالخزرج تصطفق ألياتهن مشركات، هذا أول

ص: 412

شرك هذه الأمة، والذي نفسي بيده لينتهين بهم سوء رأيهم حتى يخرجوا الله عز وجل من أن يكون قدر خيرا كما أخرجوه من أن يكون قدر شرا» هذا لفظ أحمد، ورواية الآجري مختصرة.

وروى ابن أبي حاتم عن عطاء بن أبي رباح قال: أتيت ابن عباس رضي الله عنهما وهو ينزع من زمزم وقد ابتلت أسافل ثيابه، فقلت له: قد تُكُلم في القدر، فقال: أَوَقد فعلوها؟ قلت: نعم، قال: فوالله ما نزلت هذه الآية إلا فيهم: {ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 48 - 49]، أولئك شرار هذه الأمة، فلا تعودوا مرضاهم، ولا تصلوا على موتاهم، إن رأيت أحدا منهم فقأت عينيه بأصبعي هاتين.

وروى ابن أبي حاتم أيضا عن ابن زرارة، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تلا هذه الآية:{ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} قال: «نزلت في أناس من أمتي يكونون في آخر الزمان يكذبون بقدر الله» .

وقال عبد الله ابن الإمام أحمد: سمعت أبي رحمه الله تعالى يقول: لا يصلى خلف القدرية والمعتزلة والجهمية.

وقال أيضا: سألت أبي مرة أخرى عن الصلاة خلف القدري؟ فقال: إن كان يخاصم فيه ويدعو إليه فلا يُصلى خلفه.

وقال أيضا: سمعت أبي وسأله علي بن الجهم عمن قال بالقدر يكون كافرا؟ قال: إذا جحد العلم؛ إذ قال: إن الله لم يكن عالما حتى خلق علما فعلم؛ فجحد علم الله فهو كافر.

ص: 413

وقال أيضا: حدثني الحسن بن عيسى مولى عبد الله بن المبارك، حدثني حماد بن قيراط، سمعت إبراهيم بن طهمان يقول: الجهمية كفار، والقدرية كفار.

وروى أبو نعيم في الحلية عن عمار بن عبد الجبار قال: سمعت عبد الله بن المبارك يقول: سمعت سفيان الثوري يقول: الجهمية كفار، والقدرية كفار، فقلت لعبد الله بن المبارك: فما رأيك؟ قال: رأيي رأي سفيان.

وقال عبد الله ابن الإمام أحمد: حدثني أبي، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن قتادة، عن الحسن قال: من كذب بالقدر فقد كذب بالقرآن.

وروى أيضا في كتاب "الزهد" عن الحسن أنه قال: من كذب بالقدر فقد كفر.

وروى أبو نعيم في الحلية من طريق سلمة بن شبيب، حدثنا مروان بن محمد قال: سئل مالك بن أنس عن تزويج القدري، فقرأ:{وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} .

وقال عبد الله ابن الإمام أحمد: حدثني أبي، حدثنا مؤمل، حدثنا عمر بن محمد، حدثنا نافع قال: قيل لابن عمر رضي الله عنهما: إن قوما يقولون لا قدر، فقال: أولئك القدريون، أولئك مجوس هذه الأمة.

وقال أيضا: حدثني أبي، حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا جعفر -يعني ابن زياد- عن عبادة بن مسلم قال مجاهد: لا يكون مجوسية حتى

ص: 414

يكون قدرية، ثم تزندقوا ثم يتمجسوا.

وقال أبو داود في سننه: حدثنا مسوى بن إسماعيل، أخبرنا عبد العزيز بن أبي حازم، عن أبيه، عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«القدرية مجوس هذه الأمة، إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم» .

ورواه الحاكم في مستدركه، عن أبي بكر أحمد بن سلمان بن الحسن الفقيه، حدثنا أبو داود سليمان بن الأشعث، فذكره ثم قال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين إن صح سماع أبي حازم من ابن عمر ولم يخرجاه، وافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه.

وقال المنذري: هذا منقطع؛ أبو حازم سلمة بن دينار لم يسمع من ابن عمر، وقد روي هذا الحديث من طرق عن ابن عمر ليس فيها شيء يثبت. انتهى.

وقد روى هذا الحديث أبو بكر الآجري من طريقين؛ عن أبي حازم، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما ولكن قال أبو داود: إن الإمام أحمد رحمه الله تعالى أنكره من حديث أبي حازم عن نافع.

ورواه الآجري أيضا من طريق آخر؛ عن الجعيد بن عبد الرحمن، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنه يكون في آخر الزمان قوم يكذبون بالقدر، ألا أولئك مجوس هذه الأمة، فإن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم» .

ص: 415

ورواه الطبراني في الصغير من حديث الجعيد به.

وروى أبو داود، عن عمر مولى غفرة، عن رجل من الأنصار، عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لكل أمة مجوس، ومجوس هذه الأمة الذين يقولون: لا قدر، مَنْ مات منهم فلا تشهدوا جنازته، ومن مرض منهم فلا تعودوهم، وهم شيعة الدجال، وحق على الله أن يُلحقهم بالدجال» .

رواه عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب "السنة"، عن أبيه، عن مؤمل، عن عمر مولى غفرة بنحوه.

قال المنذري: عمر مولى غفرة لا يُحتج بحديثه، ورجل من الأنصار مجهول، وقد روي من طريق آخر عن حذيفة ولا يثبت. انتهى.

وروى الآجري بإسناده عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال: «لتتبعن أمر من كان قبلكم حذو النعل بالنعل، لا تخطئون طريقتهم ولا تخطئكم، ولتنقضن عُرى الإسلام عروة فعروة، ويكون أول نقضها الخشوع حتى لا ترى خاشعا، وحتى يقول أقوام: ذهب النفاق من أمة محمد صلى الله عليه وسلم فما بال صلوات الخمس، لقد ضل من كان قبلنا حتى ما يصلون بصلاة نبيهم، أولئك المكذبون بالقدر، وهم أسباب الدجال، وحق على الله أن يمحقهم» .

ورواه الحاكم في مستدركه وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.

ص: 416

وروى ابن ماجة في سننه، عن محمد بن المصفى، عن بقية بن الوليد، عن الأوزاعي، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن مجوس هذه الأمة المكذبون بأقدار الله، إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم، وإن لقيتموهم فلا تسلموا عليهم» .

ورواه الطبراني في الصغير، عن عبد الله بن الصقر السكري، عن محمد بن المصفى.

ورواه الآجري، عن الفريابي، عن محمد بن المصفى، فذكره إلى قوله:«فلا تشهدوهم» وليس عنده ما بعده، وقد أُعلَّ هذا الحديث بأن بقية بن الوليد عنعنه مع كثرة تدليسه.

وروى الآجري من طريقين؛ عن مكحول، عن أبي هريرة رضي الله عنه نحو حديث جابر وابن عمر رضي الله عنهم، وأُعلّ بالانقطاع، قال ابن القيم رحمه الله تعالى: لم يسمع مكحول من أبي هريرة.

وقال عبد الله ابن الإمام أحمد: حدثني أبي، حدثنا وكيع، حدثني القاسم بن حبيب، عن رجل يقال له نزار، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:«صنفان من هذه الأمة ليس لهم في الإسلام نصيب؛ المرجئة والقدرية» .

ورواه الترمذي من حديث القاسم بن حبيب، وعلي بن نزار، عن نزار.

وابن ماجة من حديث علي بن نزار، عن أبيه، عن عكرمة، عن ابن

ص: 417

عباس رضي الله عنهما مرفوعا، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.

ورواه ابن ماجة أيضا من حديث عبد الله بن محمد الليثي، حدثنا نزار بن حيان، عن عكرمة، عن ابن عباس وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهم قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صنفان من أمتي ليس لهما في الإسلام نصيب: أهل الإرجاء، وأهل القدر» .

وروى الآجري من حديث عكرمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا بنحوه.

وروى البخاري في "التاريخ الكبير"، وأبو بكر الآجري من طريقين؛ عن عمرو بن مهاجر، عن عمر بن عبد العزيز، عن يحيى بن القاسم، عن أبيه، عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما هلكت أمة قط إلا بالإشراك بالله، وما أشركت أمة قط إلا وكان بدو إشراكها التكذيب بالقدر» قال ابن القيم رحمه الله تعالى: هذا الإسناد لا يحتج به، قال: وأجود ما في الباب حديث حيوة بن شريح: أخبرني أبو صخر، حدثني نافع أن ابن عمر رضي الله عنهما جاءه رجل فقال: إن فلانا يقرأ عليك السلام، فقال: إنه قد بلغني أنه قد أحدث، فإن كان قد أحدث فلا تقرئه مني السلام، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«يكون في هذه الأمة أو في أمتي خسف أو مسخ أو قذف في أهل القدر» قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب. انتهى.

وقد رواه ابن ماجة في سننه من حديث حيوة بن شريح، عن أبي صخر، وعنده بالواو في قوله «مسخ وخسف وقذف» فأفاد أن «أو»

ص: 418

في رواية الترمذي بمعنى الواو، وليست للتنويع ولا للشك.

ورواه الإمام أحمد في مسنده فقال: حدثنا هارون بن معروف، أخبرنا عبد الله بن وهب، أخبرني أبو صخر، عن نافع قال: بينما نحن عند عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قعودا إذ جاء رجل فقال: إن فلانا يقرأ عليك السلام -لرجل من أهل الشام- فقال عبد الله: بلغني أنه أحدث حدثا، فإن كان كذلك فلا تقرأنَّ عليه مني السلام، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«إنه سيكون في أمتي مسخ وقذف وهو في الزنديقية والقدرية» .

وقال الإمام أحمد أيضا: حدثنا أبو عبد الرحمن عبد الله بن يزيد، حدثنا سعيد -يعني ابن أبي أيوب- حدثني أبو صخر، عن نافع قال: كان لابن عمر رضي الله عنهما صديق من أهل الشام يكاتبه، فكتب إليه مرة عبد الله بن عمر: إنه بلغني أنك تكلمت في شيء من القدر، فإياك أن تكتب إليَّ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«سيكون في أمتي أقوام يكذبون بالقدر» .

ورواه أبو داود في سننه، وعبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب "السنة"، كلاهما عن أبي عبد الله أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى.

ورواه الحاكم في مستدركه من طريق عبد الله ابن الإمام أحمد عن أبيه، ومن طريق السري بن خزيمة، كلاهما عن عبد الله بن يزيد المقري، ثم قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى في تلخيصه.

ص: 419

وروى الإمام أحمد، والبخاري في "التاريخ الكبير"، وأبو داود، وعبد الله بن الإمام أحمد، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تجالسوا أهل القدر ولا تفاتحوهم» .

وروى البخاري في "التاريخ الكبير"، عن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن جعفر، عن أبيه، سمع ابن عباس رضي الله عنهما قال: كل شيء بقدر حتى وضعك يدك على خدك.

وقال عبد الله بن الإمام أحمد: حدثني أبي، حدثنا عبد الصمد، حدثنا عكرمة، سألت يحيى بن أبي كثير عن القدرية، فقال: هم الذين يقولون: إن الله لم يقدر الشر.

وروى أبو نعيم في الحلية عن المزني قال: قال الشافعي: تدري من القدري؟ القدري الذي يقول: إن الله لم يخلق الشر حتى عمل به.

ورأيت في عقيدة منسوبة للإمام أحمد رحمه الله تعالى ما نصه: القدرية هم الذين يزعمون أن الاستطاعة والمشيئة والقدرة إليهم، وأنهم يملكون لأنفسهم الخير والشر، والضر والنفع، والطاعة والمعصية، والهدى والضلالة، بدءا من أنفسهم، من غير أن يكون سبق لهم ذلك من الله، أو في علم الله، وقولهم يضارع قول المجوسية والنصرانية. انتهى.

قال الخطابي رحمه الله تعالى: إنما جعلهم مجوسا لمضاهاة مذهبهم مذهب المجوس في قولهم بالأصلين وهما: النور والظلمة، يزعمون أن

ص: 420

الخير من فعل النور، والشر من فعل الظلمة، فصاروا ثانوية، وكذلك القدرية يضيفون الخير إلى الله عز وجل والشر إلى غيره، والله سبحانه وتعالى خالق الخير والشر، لا يكون شيء منهما إلا بمشيئته، وخلقه الشر شرا في الحكمة كخلقه الخير خيرا، فالأمران مضافان إليه خلقا وإيجادا، وإلى الفاعلين لهما من عباده فعلا واكتسابا. انتهى.

وقال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية قدس الله روحه: أهل الضلال الخائضون في القدر انقسموا إلى ثلاث فرق: مجوسية، ومشركية، وإبليسية.

فالمجوسية: الذين كذبوا بقدر الله، وإن آمنوا بأمره ونهيه، فغلاتهم أنكروا العلم والكتاب، ومقتصدوهم أنكروا عموم مشيئته وخلقه وقدرته، وهؤلاء هم المعتزلة ومن وافقهم.

والفرقة الثانية المشركية: الذين أقروا بالقضاء والقدر، وأنكروا الأمر والنهي، قال تعالى:{سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 148]، فمن احتج على تعطيل الأمر والنهي بالقدر فهو من هؤلاء، وهذا قد كثر فيمن يدعي الحقيقة من المتصوفة.

والفرقة الثالثة وهم الإبليسية: الذين أقروا بالأمرين، لكن جعلوا هذا متناقضا من الرب سبحانه وتعالى، وطعنوا في حكمته وعدله كما يذكر ذلك عن إبليس مقدمهم، كما نقله أهل المقالات، ونقل عن أهل الكتاب. انتهى.

و‌

‌أول من تكلم في القدر

معبد الجهني؛ أخذ ذلك عن نصراني مرتد

ص: 421

عن الإسلام.

وقد روى الطبراني وغيره بإسناد فيه مقال، عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا:«اتقوا القدر فإنه شعبة من النصرانية» .

قال أبو بكر الآجري رحمه الله تعالى: أخبرنا الفريابي قال: حدثنا صفوان بن صالح قال: حدثنا محمد بن شعيب قال: سمعت الأوزاعي رحمه الله تعالى يقول: أول من نطق في القدر رجل من أهل العراق يقال له سوسن، وكان نصرانيا فأسلم ثم تنصر، فأخذ عنه معبد الجهني، وأخذ غيلان عن معبد.

وقال أيضا: أخبرنا الفريابي قال: حدثنا أحمد بن خالد قال: حدثنا معاذ بن معاذ قال: سمعت ابن عون يقول: أول من تكلم من الناس في القدر بالبصرة معبد الجهني، وأبو يونس الأسوار.

وقال عبد الله ابن الإمام أحمد: حدثني أبي، حدثنا مرحوم بن عبد العزيز العطار، سمعت أبي وعمي يقولان: سمعنا الحسن وهو ينهى عن مجالسة معبد الجهني يقول: لا تجالسوه فإنه ضال مضل، قال مرحوم: قال أبي: ولا أعلم أحدا يومئذ يتكلم في القدر غير معبد، ورجل من الأساورة يقال له سسويه.

وهكذا رواه الآجري، عن أحمد بن محمد بن شاهين، عن عمار بن خالد الواسطي، عن مرحوم، فذكره إلا أنه قال: يقال له: سيسفوه.

قلت: لعل هذا لقب لأبي يونس الأسوار.

ص: 422

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: وكان معبد ممن خرج مع ابن الأشعث، فعاقبه الحجاج عقوبة عظيمة بأنواع العذاب ثم قتله.

وقال سعيد بن عفير: بل صلبه عبد الملك بن مروان في سنة ثمانين بدمشق ثم قتله. انتهى.

وأما غيلان فقتله هشام بن عبد الملك، وصلبه على باب دمشق، ذكر ذلك عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب "السنة"، وأبو بكر الآجري في كتاب "الشريعة".

وروى مالك في الموطأ عن عمه أبي سهيل بن مالك أنه قال: كنت أسير مع عمر بن عبد العزيز فقال: ما رأيك في هؤلاء القدرية؟ فقلت: رأيي أن تستتيبهم، فإن قبلوا وإلا عرضتهم على السيف، فقال عمر بن عبد العزيز: وذلك رأيي، قال مالك: وذلك رأيي.

وروى أبو نعيم في الحلية، عن سعيد بن عبد الجبار قال: سمعت مالك بن أنس يقول: رأيي فيهم أن يُستتابوا، فإن تابوا وإلا قُتلوا؛ يعني القدرية.

قلت: ولم يزل مذهب القدرية الذين سماهم النبي صلى الله عليه وسلم مجوس هذه الأمة ساريا في كثير من المنتسبين إلى الإسلام منذ آخر عصر الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين إلى زماننا هذا.

وقد انتدب في هذه الأزمان لتقرير قول القدرية النفاة، ونشره عدو الله صاحب الأغلال، الجامع للكثير من أشتات الكفر والضلال، ولولا

ص: 423

خشية الإطالة لذكرت جملة من كلامه، وبينت فساده وتناقضه، ومخالفته لما أخبر الله تعالى في آيات كثيرة من كتابه، ولما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الثابتة عنه، ولما كان عليه أهل السنة والجماعة من الإيمان بالقضاء والقدر، وأن الله سبحانه وتعالى قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكتب جميع ما قدره وقضاه في اللوح المحفوظ عنده، فلا يزاد أحد على وقته المقدر له ولا ينقص عنه، ولا يتقدم شيء على وقته المقدر له ولا يتأخر عنه، والعباد مع ذلك مأمورون بالسعي والاكتساب، والأخذ بالأسباب المأمور بها في تحصل ما ينفعهم ودفع ما يضرهم، مع التوكل على الله تعالى، والتسليم لقضائه وقدره، فإنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، لا راد لما قضى، ولا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، قال الله تعالى:{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج: 70]، وقال تعالى:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْ لَا تَاسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ} الآية [الحديد: 22 - 23]، وقال تعالى:{وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس: 12]، والآيات في هذا المعنى كثيرة جدا.

والأخذ بالأسباب منه ما هو واجب، ومنه ما هو مستحب، ومنه ما هو مباح، ومع هذا فالاعتماد على الأسباب والثقة بها كما يدعو إليه صاحب

ص: 424

الأغلال وأضرابه شرك بالله تعالى، ومحو الأسباب أن تكون أسبابا نقص في العقل، وقدح في الشرع، وترك الأخذ بالأسباب مع القدرة على الأخذ بها عجز محض وكسل، وقد «كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ من العجز والكسل» رواه الإمام أحمد، والشيخان، وأهل السنن إلا ابن ماجة، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان» رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

وروى الطبراني وغيره من حديث أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن روح القدس نفث في روعي أن نفسا لن تموت حتى تستكمل أجلها، وتستوعب رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب» .

وروى الترمذي من حديث أنس رضي الله عنه أن رجلا قال: يا رسول الله، أعقل ناقتي وأتوكل، أو أطلقها وأتوكل؟ فقال:«اعقلها وتوكل» .

وروى الطبراني، والحاكم وابن حبان في صحيحيهما، من حديث عمرو بن أمية الضمري رضي الله عنه نحوه.

إلى غير ذلك من الأحاديث الدالة على أن الأخذ بالأسباب مشروع، وذلك لا ينافي التوكل، ولكن لا يعتمد على الأسباب ويوثق بها، كما يدعو إليه صاحب الأغلال وأضرابه، وإنما يعتمد ويوثق بالله تعالى

ص: 425

المسبب الميسر، القابض الباسط، الخافض الرافع، المعز المذل، الذي إن شاء جعل في الأسباب منفعة لصاحبها، وإن شاء جعل فيها مضرة له، وإن شاء أعطاه، وإن شاء حرمه، فلم ينتفع بعمله وأسبابه، وكل ذلك جار على وفق الحكمة البالغة، وما قدره الرب وقضاه قبل أن يخلق هذا العالم بخمسين ألف سنة، وهذا مما ينكره صاحب الأغلال وأضرابه من الزنادقة والملاحدة والقدرية الذين هم مجوس هذه الأمة.

وما أشبه صاحب الأغلال وأضرابه بالذين قال الله تعالى فيهم: {وكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ * وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} [الأنعام: 112 - 113]، وقال تعالى:{أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [فاطر: 8]، وقال تعالى:{لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل: 25].

وقد تقدم في حديث حذيفة رضي الله عنه أن القدرية شيعة الدجال، وأسباب خروجه، وحق على الله أن يلحقهم بالدجال ويمحقهم، وقد تقارب الزمان، وكثرت الفتن، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه، وآن خروج المسيح الدجال قائد اليهود والخوارج

ص: 426

والقدرية، فنسأل الله تعالى أن يعيذنا وإخواننا المسلمين من فتنته، وفتنة شيعته، ومن سائر الفتن ما ظهر منها وما بطن، والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ص: 427

فصل

وأما بدعة الإرجاء فإنها حدثت في آخر عصر الصحابة رضي الله عنهم بعد بدعة القدرية، وتكلم فيها أكابر التابعين ومن بعدهم من الأئمة، وأنكروا على أهلها، وصاحوا بهم من كل جانب، وبدّعوهم، وضللوهم، وحذّروا منهم، واستقر الأمر عند أهل السنة والجماعة على أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، وأن المؤمنين يتفاضلون في الإيمان، وأنه يُستثنى فيه ويُعاب على من لا يستثني.

قال عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب "السنة": حدثني أبي، حدثنا أبو عامر العقدي، حدثنا أبو هلال، عن قتادة قال: إنما حدث الإرجاء بعد هزيمة ابن الأشعث.

قلت: وكانت هزيمة ابن الأشعث في سنة ثلاث وثمانين.

وقال عبد الله أيضا: حدثني أبي، حدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا محمد -يعني ابن طلحة- عن سلمة بن كهيل قال: وصف ذر الإرجاء، وهو أول من تكلم فيه، ثم قال: إني أخاف أن يُتخذ هذا دينا، فلما أتته الكتب من الآفاق قال: فسمعته يقول: وهل أمر غير هذا؟

وروى أيضا بإسناده عن الأعمش قال: سمعت ذر الهمداني يقول: لقد أشرعت رأيا خفت أن يُتخذ دينا.

وبإسناده عن الحسن بن عبيد الله قال: سمعت إبراهيم يقول لذر: ويحك يا ذر، ما هذا الدين الذي جئت به؟ قال ذر: ما هو إلا رأي رأيتُه.

ص: 428

قال: ثم سمعت ذرا يقول: إنه لدين الله الذي بعث به نوح.

وروى أيضا عن أبيه بإسناده، عن العلاء بن عبد الله بن رافع، أن ذرا أبا عمر أتى سعيد بن جبير يوما في حاجة، قال: فقال: لا، حتى تخبرني على أي دين أنت اليوم، أو رأي أنت اليوم، فإنك لا تزال تلتمس دينا قد أضللته، ألا تستحي من رأي أنت اليوم أكبر منه؟

وفي رواية له عن غير أبيه: ألا تستحي من دين أنت أكبر منه؟

وروى أيضا بإسناده عن الأعمش، عن حبيب قال: كنت عند سعيد بن جبير في مسجد فتذاكرنا ذرا في حديثنا فنال منه، فقلت: يا أبا عبد الله، إنه لوادٌّ لك؛ يحسن الثناء عليك إذا ذكرت، فقال: ألا تراه ضالا كل يوم يطلب دينه.

وروى أيضا عن أبيه بإسناده، عن أبي المختار قال: شكى ذرٌ سعيدَ بن جبير إلى أبي البختري الطائي فقال: مررت فسلمت عليه فلم يرد عليّ، فقال أبو البختري لسعيد بن جبير، فقال سعيد: إن هذا يجدد كل يوم دينا، لا والله لا أكلمه أبدا.

وروى أيضا عن أبيه بإسناده، عن أيوب قال: قال لي سعيد بن جبير: ألم أرك مع طلق؟ قال: قلت: بلى، قال: لا تجالسه، فإنه مرجئ، قال أيوب: وما شاورته في ذلك، ولكن يحق للمسلم إذا رأى من أخيه ما يكره أن يأمره وينهاه.

وروى أيضا عن أبيه بإسناده، عن المغيرة قال: مر إبراهيم التيمي

ص: 429

بإبراهيم النخعي فسلَّم؛ فلم يرد عليه.

وروى أيضا بإسناده عن ميمون بن أبي حمزة قال: قال لي إبراهيم النخعي: لا تدعوا هذا الملعون يدخل عليَّ بعد ما تكلم في الإرجاء؛ يعني حمادا.

قلت: الظاهر أنه يعني حماد بن أبي سليمان شيخ أبي حنفية، فإنه كان من المرجئة.

وروى أيضا عن أبيه بإسناده، عن ابن عون قال: كان إبراهيم يعيب على ذر قوله في الإرجاء.

وروى أيضا عن أبيه بإسناده، عن حكيم بن جبير قال: قال إبراهيم: المرجئة أخوف عندي على أهل الإسلام من عدتهم من الأزارقة.

وروى أيضا عن أبيه بإسناده، عن سعيد بن صالح قال: قال إبراهيم: أنا لِفتنة المرجئة أخوف على هذه الأمة من فتنة الأزارقة.

وروى أيضا عن أبيه، عن المؤمل، عن سفيان قال: قال إبراهيم: تَرَكَتْ المرجئة الدين أرق من ثوب سابري.

وروى أبو بكر الآجري في كتاب "الشريعة" بإسناده، عن أبي حمزة الثمالي الأعور قال: قلت لإبراهيم: ما ترى في رأي المرجئة؟ فقال: أوه، لفقوا قولا، فأنا أخافهم على الأمة، والشر من أمرهم كثير، فإياك وإياهم.

وروى أيضا بإسناده عن الزهري قال: ما ابتدعت في الإسلام بدعة

ص: 430

أضر على الملة من هذه؛ يعني أهل الإرجاء.

وروى عبد الله ابن الإمام أحمد، عن أبيه بإسناده، عن الأوزاعي قال: كان يحيى بن أبي كثير وقتادة يقولان: ليس من الأهواء شيء أخوف عندهم على الأمة من الإرجاء.

وروى أيضا عن أبيه، عن عبد الله بن نمير، عن سفيان، وذكر المرجئة فقال: رأي محدث، أدركنا الناس على غيره.

وروى أيضا عن أبيه، عن عبد الله بن نمير، عن جعفر الأحمر قال: قال منصور بن المعتمر في شيء: لا أقول كما قالت المرجئة الضالة المبتدعة.

وروى أيضا عن أبيه، عن حجاج، سمعت شريكا -وذكر المرجئة- فقال: هم أخبث قوم، وحسبك بالرافضة خبثا، ولكن المرجئة يكذبون على الله.

وروى أيضا عن أبيه بإسناده، عن سعيد بن جبير وذكر المرجئة فقال: اليهود.

وبإسناده عن سعيد أيضا أنه قال: المرجئة يهود القبلة.

وروى أيضا عن أبيه بإسناده، عن سعيد أيضا أنه قال: مثل المرجئة مثل الصابئين.

وروى أيضا عن أبيه بإسناده، عن حذيفة رضي الله عنه قال: إني لأعلم أهل دينين؛ أهل ذينك الدينين في النار؛ قوم يقولون: إنما الإيمان كلام،

ص: 431

وقوم يقولون: ما بال الصلوات الخمس وإنما هما صلاتان.

ورواه الحاكم في مستدركه ولفظه: إني لأعلم أهل دينين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في النار؛ قوم يقولون: إن كان أولنا ضلالا، ما بال خمس صلوات في اليوم والليلة، إنما هما صلاتان العصر والفجر، وقوم يقولون: إنما الإيمان كلام، وإن زنى وإن قتل. قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.

وقد تقدم قريبا حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صنفان من أمتي ليس لهما في الإسلام نصيب: القدرية، والمرجئة» .

وحديث ابن عباس وجابر رضي الله عنهم قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صنفان من أمتي ليس لهما في الإسلام نصيب: أهل الإرجاء، وأهل القدر» .

وحديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا مثله.

وقال أبو بكر الآجري: حدثنا جعفر بن محمد الصندلي قال: حدثنا الفضل بن زياد قال: سمعت أبا عبد الله وسئل عن المرجئة فقال: مَن قال إن الإيمان قول.

وقال القاضي أبو الحسين في الطبقات في ترجمة إسحاق بن منصور الكوسج: قال إسحاق: قلت لأحمد: فسِّر لي المرجئة، قال: المرجئة تقول: الإيمان قول، ورأيت في عقيدة منسوبة للإمام أحمد ما نصه: المرجئة هم الذين يزعمون أن الإيمان مجرد التصديق، وأن الناس لا

ص: 432

يتفاضلون في الإيمان، وأن إيمانهم وإيمان الملائكة والأنبياء واحد، وأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وأن الإيمان ليس فيه استثناء، وأن من آمن بلسانه ولم يعمل فهو مؤمن حقا، هذا كله قول المرجئة، وهو أخبث الأقاويل. انتهى.

وقال حرب بن إسماعيل الكرماني -صاحب الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه- في مسائله المشهورة: مَن زعم الإيمان قول بلا عمل فهو مرجئ، ومن زعم أن الإيمان هو القول، والأعمال شرائع فهو مرجئ، ومن زعم أن الإيمان يزيد ولا ينقص فقد قال بقول المرجئة، ومن لم ير الاستثناء في الإيمان فهو مرجئ، ومن زعم أن إيمانه كإيمان جبريل والملائكة فهو مرجئ، ومن زعم أنه المعرفة في القلب وإن لم يتكلم بها فهو مرجئ. وهذا الذي قاله حرب كله من كلام الإمام أحمد رحمه الله تعالى، وقد ساقه بهذا اللفظ بعينه القاضي أبو الحسين في ترجمة أحمد بن جعفر بن يعقوب أبي العباس الفارسي الاصطخري، وسيأتي بأبسط من هذا قريبا إن شاء الله تعالى.

وقال عبد الله ابن الإمام أحمد: سمعت أبي سُئل عن الإرجاء فقال: نحن نقول الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، إذا زنا وشرب الخمر نقص إيمانه.

وقال أبو داود سمعت أحمد يقول: الإيمان قول وعمل، ويزيد وينقص، الصلاة والزكاة والحج والبر كله من الإيمان، والمعاصي تنقص من الإيمان.

ص: 433

وقال عبد الله ابن الإمام أحمد: حدثنا سويد بن سعيد الهروي قال: سألنا سفيان بن عيينة عن الإرجاء فقال: يقولون: الإيمان قول، ونحن نقول: الإيمان قول وعمل.

والمرجئون أوجبوا الجنة لمن شهد أن لا إله إلا الله مصرّا بقلبه على ترك الفرائض، وسموا ترك الفرائض ذنبا بمنزلة ركوب المحارم، وليس سواء؛ لأن ركوب المحارم من غير استحلال معصية، وترك الفرائض متعمدا من غير جهل ولا عذر هو كفر، وبيان ذلك في أمر آدم وإبليس وعلماء اليهود؛ أما آدم فنهاه عن أكل الشجرة وحرمها عليه فأكل منها متعمدا ليكون ملكا أو يكون من الخالدين فسُمي عاصيا من غير كفر، وأما إبليس فإنه فرض عليه سجدة واحدة فجحدها متعمدا فسمي كافرا، وأما علماء اليهود فعرفوا نعت النبي صلى الله عليه وسلم وأنه نبي رسول كما يعرفون أبنائهم، وأقروا به باللسان، ولم يتبعوا شرائعه فسماهم الله كفارا، فركوب المحارم مثل ذنب آدم وغيره من الأنبياء، أما ترك الفرائض جحودا فهو كفر مثل كفر إبليس، وتركهم على معرفة من غير جحود فهو مثل كفر علماء اليهود، والله أعلم.

وقال أيضا: حدثني محمد بن علي بن الحسن، حدثنا إبراهيم بن الأشعث، سمعت الفضيل -يعني ابن عياض- يقول: الإيمان؛ المعرفة بالقلب، والإقرار باللسان، والتفضيل بالعمل.

قال: وسمعت الفضيل يقول: أهل الإرجاء يقولون: الإيمان قول بلا عمل، ويقول الجهمية: الإيمان المعرفة بلا قول ولا عمل، ويقول أهل

ص: 434

السنة: الإيمان؛ المعرفة والقول والعمل.

وقال أبو بكر الآجري: أخبرنا خلف بن عمرو العكبري قال: حدثنا الحميدي قال: سمعت وكيعا يقول: أهل السنة يقولون الإيمان قول وعمل، والمرجئة يقولون: الإيمان قول، والجهمية يقولون: الإيمان المعرفة.

وروى أبو نعيم في الحلية، عن محمد بن أسلم الطوسي أنه قال: الجهمية زعمت أن الإيمان المعرفة فحسب بلا إقرار ولا عمل، والمرجئة زعمت أنه قول بلا تصديق قلب ولا عمل، فكلاهما شيعة إبليس.

قال أبو السعادات ابن الأثير رحمه الله تعالى: المرجئة فرقة من فرق الإسلام، يعتقدون أنه لا يضر مع الإيمان معصية، كما أنه لا ينفع مع الكفر طاعة، سموا مرجئة لاعتقادهم أن الله أرجأ تعذيبهم على المعاصي؛ أي أخَّرَه عنهم، والمرجئة تهمز ولا تهمز، وكلاهما بمعنى التأخير. انتهى.

وقال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري": المرجئة بضم الميم وكسر الجيم بعدها ياء مهموزة، ويجوز تشديدها بِلا همز، نُسبوا إلى الإرجاء -وهو التأخير- لأنهم أخّروا الأعمال عن الإيمان فقالوا: الإيمان هو التصديق بالقلب فقط، ولم يشترط جمهورهم النطق، وجعلوا للعصاة اسم الإيمان على الكمال، وقالوا: لا يضر مع الإيمان ذنب أصلا، وإن إيمان الصديقين وغيرهم بمنزلة واحدة. انتهى.

ص: 435

وقال ابن القيم رحمه الله تعالى في الكافية الشافية:

وكذلك الإرجاء حين تقر بالـ

معبود تصبح كامل الإيمان

فارم المصاحف في الحشوش وخرب الـ

بيت العتيق وجد في العصيان

واقتل إذا ما استطعت كل موحد

وتمسحنْ بالقس والصلبان

واشتم جميع المرسلين ومن أتوا

من عنده جهراً بلا كتمان

وإذا رأيتَ حجارة فاسجد لها

بل خر للأصنام والأوثان

وأُقرّ أن الله جل جلاله

هو وحده الباري لذي الأكوان

وأقر أن رسوله حقا أتى

من عنده بالوحي والقرآن

فتكون حقاً مؤمناً وجميع ذا

وزر عليك وليس بالكفران

هذا هو الإرجاء عند غلاتهم

من كل جهمي أخي الشيطان

وقد روى ابن أبي حاتم في مناقب الشافعي: حدثنا أبي، حدثنا الميموني، حدثنا أبو عثمان ابن الشافعي، سمعت أبي يقول ليلة للحميدي: ما يحتج عليهم -يعني أهل الإرجاء- بآية أحج من قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5].

وقال أبو نعيم في الحلية: حدثنا عبد الله بن محمد بن يعقوب، حدثنا أبو حاتم قال: سمعت الربيع يحكي عن الشافعي قال: ما أعلم في الرد على المرجئة شيئا أقوى من قول الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} .

قلت: ومن أقوى ما يُرد به على المرجئة أيضا قول الله تعالى: {إِنَّ

ص: 436

هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} [الإسراء: 9]، وقوله تعالى:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا * قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَاسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا * مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا} [الكهف: 1 - 3]؛ فوصف المؤمنين بأنهم الذين يعملون الصالحات فدل على أن الإيمان قول وعمل.

ومن أقوى ما يحتج به عليهم أيضا قول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 2 - 4].

وقال حنبل: حدثنا الحميدي قال: أُخبرت أن ناسا يقولون: من أقر بالصلاة والزكاة والصوم والحج ولم يفعل من ذلك شيئا حتى يموت، أو يصلي مستدبر القبلة حتى يموت فهو مؤمن، ما لم يكن جاحدا، إذا علم أن تركه ذلك فيه إيمانه، إذا كان مقرا بالفرائض واستقبال القبلة، فقلت: هذا الكفر الصراح، وخلاف كتاب الله وسنة رسوله وعلماء المسلمين، قال الله تعالى:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} الآية.

وقال حنبل: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول: من قال هذا فقد كفر بالله، ورد على الله أمره، وعلى الرسول صلى الله عليه وسلم ما جاء به.

ص: 437

وقال عبد الله ابن الإمام أحمد: حدثني أبي، حدثنا خالد بن حيان أبو يزيد الرقي، حدثنا معقل بن عبيد الله العبسي قال: قدم علينا سالم الأفطس بالإرجاء فعرضه، فنفر منه أصحابنا نفاراً شديداً، وكان أشدهم ميمون بن مهران، وعبد الكريم بن مالك؛ فأما عبد الكريم فإنه عاهد الله لا يؤويه وإياه سقف بيت إلا في المسجد، قال معقل: فحججت فدخلت على عطاء بن أبي رباح في نفر من أصحابي قال: فإذا هو يقرأ سورة يوسف قال: فسمعته قرأ هذا الحرف: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} -مخففة- قال: قلت: إن لنا إليك حاجة فاخل لنا، ففعل، فأخبرته أن قوما قِبلنا قد أحدثوا وتكلموا، وقالوا: إن الصلاة والزكاة ليستا من الدين، قال: فقال: أوليس يقول الله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} ؟ فالصلاة والزكاة من الدين، قال: فقلت له: إنهم يقولون ليس في الإيمان زيادة، قال: أو ليس قد قال الله فيما أنزله: {فَزَادَهُمْ إِيمَانًا} ، فما هذا الإيمان الذي زادهم؟! قال: قلت: فإنهم قد انتحلوك، وبلغني أن ذرا دخل عليك وأصحابه، فعرضوا عليك قولهم فقبلته وقلت: هذا الأمر، فقال: لا والله الذي لا إله إلا هو، ما كان هذا مرتين أو ثلاثا، قال: ثم قدمت المدينة فجلست إلى نافع، فقلت له: يا أبا عبد الله، إن لي إليك حاجة، قال: سرا أم علانية؟ فقلت: لا بل سر، قال: رُبَّ سر لا خير فيه، فقلت له: ليس من ذلك، فلما صلينا العصر قام وأخذ بيدي وخرج من الخوخة ولم ينتظر القاص،

ص: 438

فقال: ما حاجتك؟ قال: قلت: أخلني من هذا، قال: تنح يا عمرو، قال: فذكرت له بدؤ قولهم فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أضربهم بالسيف حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوا: لا إله إلا الله عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقه، وحسابهم على الله» قال: قلت: إنهم يقولون نحن نقر بأن الصلاة فريضة ولا نصلي، وأن الخمر حرام ونشربها، وأن نكاح الأمهات حرام ونحن نفعل، قال: فنتر يده من يدي وقال: من فعل هذا هو كافر، قال معقل: ثم لقيت الزهري فأخبرته بقولهم فقال: سبحان الله

(1)

أوقد أخذ الناس في هذه الخصومات؟! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الشارب الخمر حين يشربها وهو مؤمن» قال: ثم لقيت الحكم بن عتيبة، قال: فقلت: إن ميمونا وعبد الكريم بلغهما أنه دخل عليك ناس من المرجئة فعرضوا عليك قولهم فقبلت قولهم، قال: فقبل ذلك علي ميمون وعبد الكريم؟! قلت: لا، قال: دخل عليَّ منهم اثنا عشر رجلا وأنا مريض فقالوا: يا أبا محمد، بلغك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه رجل بأمة سوداء أو حبشية فقال يا رسول الله، إن عليّ رقبة مؤمنة أفترى هذه مؤمنة؟ قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أتشهدين أن لا إله إلا الله؟» قالت: نعم، قال:«وتشهدين أني رسول الله؟» قالت: نعم، قال:«وتشهدين أن الجنة حق وأن النار حق؟» قالت: نعم، قال:

(1)

لفظ الجلالة سقط من الأصل، ولا يستقيم الكلام بدونه، ولعله سقط سهوا.

ص: 439

«أتشهدين أن الله يبعثك من بعد الموت؟» قالت: نعم، قال:«فأعتقها، فإنها مؤمنة» قال: فخرجوا وهم ينتحلوني، قال: جلست إلى ميمون بن مهران فقلت له: يا أبا أيوب، لو قرأت لنا سورة ففسرتها، قال: فقرأ أو قرئت {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} حتى إذا بلغ {مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} قال: ذاكم جبريل، والخيبة لمن يقول: إيمانه كإيمان جبريل.

وقال عبد الله أيضا: حدثني سويد بن سعيد، حدثنا عبد الله بن ميمون، قال: سمعت ابن مجاهد قال: كنت عند عطاء بن أبي رباح، فجاء ابنه يعقوب فقال: يا أبتاه، إن أصحابا لنا يزعمون أن إيمانهم كإيمان جبريل، فقال: يا بُني، كذبوا، ليس إيمان من أطاع الله، كإيمان من عصى الله.

وقال أيضا: حدثني أبي وقرأته عليه، حدثنا مهدي بن جعفر، حدثنا الوليد بن مسلم، سمعت أبا عمرو -يعني الأوزاعي- ومالكا وسعيد بن عبد العزيز يقولون: ليس للإيمان منتهى، هو في زيادة أبدا، وينكرون على من يقول أنه مستكمل الإيمان، وأن إيمانه كإيمان جبريل.

وقال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه: قال ابن أبي مليكة: أدركتُ ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول: إنه على إيمان جبريل وميكائيل.

وقال البخاري أيضا: وكتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى إلى عدي بن عدي: إن للإيمان فرائض وشرائع وحدودا وسننا، فمن استكملها استكمل الإيمان، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان، فإن

ص: 440

أعش فسأبينها لكم حتى تعلموا بها، وإن أمت فما أنا على صحبتكم بحريص.

وفي سنن أبي داود، عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:«من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله فقد استكمل الإيمان» .

وروى الإمام أحمد، والترمذي، والحاكم في مستدركه، عن معاذ بن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«من أعطى لله ومنع لله وأحب لله وأبغض لله، وأنكح لله، فقد استكمل الإيمان» قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه.

وقال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه: وقال عمار: «ثلاث من جمعهن فقد جمع الإيمان: الإنصاف من نفسك، وبذل السلام للعالم، والإنفاق من الإقتار» .

وقال أيضا: باب الصلاة من الإيمان، وقول الله تعالى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143]: يعني صلاتكم عند البيت، ثم ذكر حديث البراء رضي الله عنه في تحويل القبلة، وفي آخره قال زهير: حدثنا أبو إسحاق، عن البراء في حديثه هذا: إنه مات على القبلة قبل أن تُحوّل رجال وقُتلوا، فلم ندر ما نقول فيهم، فأنزل الله تعالى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} .

وروى الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، والحاكم نحوه، عن ابن عباس رضي الله عنهما، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه.

ص: 441

زاد الحاكم: قال عبيد الله بن موسى: هذا الحديث يخبرك أن الصلاة من الإيمان.

وقال عبد الله ابن الإمام أحمد: حدثني يعقوب بن إبراهيم الدورقي، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال: بلغني أن شعبة قال لشريك: كيف لا تجيز شهادة المرجئة؟ قال: كيف أجيز شهادة قوم يزعمون أن الصلاة ليست من الإيمان.

وقال أيضا: حدثني أبي، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن الأعمش، عن أبي ظبيان، عن علقمة، عن عبد الله رضي الله عنه قال: الصبر نصف الإيمان، واليقين الإيمان كله.

وذكر البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه الجملة الأخيرة منه تعليقا بصيغة الجزم.

وفي الحديث الصحيح عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الطهور شطر الإيمان» رواه الإمام أحمد، ومسلم، وأهل السنن إلا أبا داود، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

وله عن رجل من بني سليم، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«الطهور نصف الإيمان» وقال: هذا حديث حسن.

وقال عبد الله ابن الإمام أحمد: حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق أبو عبد الله، حدثنا أبو إسحاق، قال إبراهيم بن الأشعث: سمعت فضيلا -يعني ابن عياض- يقول: يا سفيه ما أجهلك، لا ترضى أن

ص: 442

تقول: أنا مؤمن حتى تقول: أنا مستكمل الإيمان! لا والله، لا يستكمل العبد حتى يؤدي ما فرض الله عليه، ويجتنب ما حرم الله عليه، ويرضى بما قسم الله له، ثم يخاف مع ذلك أن لا يُقبل منه.

وقال عبد الله أيضا: وجدت في كتاب أبي: أُخبرت أن الفضيل بن عياض قرأ أول الأنفال حتى بلغ: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 4]، قال حين فرغ: إن هذه الآية تخبرك أن الإيمان قول وعمل، وأن المؤمن إذا كان مؤمنا حقا فهو من أهل الجنة، فمن لم يشهد أن المؤمن حقا من أهل الجنة فهو شاك في كتاب الله، مكذب أو جاهل لا يعلم، فمن كان على هذه الصفة فهو مؤمن حقا مستكمل الإيمان، ولا يستكمل الإيمان إلا بالعمل، ولا يستكمل عبد الإيمان ولا يكون مؤمنا حقا حتى يؤثر دينه على شهوته، ولن يهلك عبدٌ حتى يؤثر شهوته على دينه، يا سفيه ما أجهلك، لا ترضى أن تقول أنا مؤمن حتى تقول أنا مؤمن حقا مستكمل الإيمان، والله لا تكون مؤمنا حقا مستكمل الإيمان حتى تؤدي ما افترض الله عليك، وتجتنب ما حرم الله عليك، وترضى بما قسم الله لك، ثم تخاف مع هذا أن لا يقبل الله منك.

ووصف فضيل الإيمان بأنه قول وعمل، وقرأ:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5]، فقد سمى الله دين القيمة بالقول والعمل، فالقول:

ص: 443

الإقرار بالتوحيد والشهادة للنبي بالبلاغ، والعمل: أداء الفرائض واجتناب المحارم، وقرأ:{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا * وَكَانَ يَامُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} [مريم: 54 - 55]، وقال الله:{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13]، فالدين: التصديق بالعمل كما وصفه الله وكما أمر أنبياءه ورسله بإقامته، والتفريق فيه: ترك العمل والتفريق بين القول والعمل، قال الله:{فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة: 11]، فالتوبة من الشرك جعلها الله قولا وعملا بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وقال أصحاب الرأي: ليس الصلاة ولا الزكاة ولا شيء من الفرائض من الإيمان؛ افتراء على الله، وخلافا لكتابه، وسنة نبيه، ولو كان القول كما يقولون لم يقاتل أبو بكر أهل الردة.

وقال فضيل: يقول أهل البدع: الإيمان الإقرار بلا عمل، والإيمان واحد، وإنما يتفاضل الناس بالأعمال، ولا يتفاضلون بالإيمان، فمن قال ذلك فقد خالف الأثر، ورد على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«الإيمان بضع وسبعون شعبة، أفضلها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان» ، وتفسير من يقول الإيمان لا يتفاضل يقول: إن فرائض الله ليست من الإيمان، فميز أهل البدع العمل من الإيمان، وقالوا: إن فرائض الله ليست من الإيمان، ومن قال ذاك

ص: 444

فقد أعظم الفرية، أخاف أن يكون جاحدا للفرائض رادا على الله أمره.

ويقول أهل السنة: إن الله قرن العمل بالإيمان، وإن فرائض الله من الإيمان، قالوا:{وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} فهذا موصول العمل بالإيمان، ويقول أهل الإرجاء: لا، ولكنه مقطوع غير موصول.

وقال أهل السنة: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} فهذا موصول، وأهل الإرجاء يقولون: بل هو مقطوع.

وقال أهل السنة: {وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ} فهذا موصول، وكل شيء من أشباه هذا فأهل السنة يقولون: هو موصول مجتمع، وأهل الإرجاء يقولون: بل هو مقطوع متفرق.

ولو كان الأمر كما يقولون لكان من عصى، وارتكب المعاصي والمحارم ولم يكن عليه سبيل، فكان إقراره يكفيه من العمل، فما أسوأ هذا من قول وأقبحه، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وقال فضيل: أصل الإيمان عندنا وفرعه بعد الشهادة والتوحيد، والشهادة للنبي بالبلاغ، وبعد أداء الفرائض؛ صدق الحديث، وحفظ الأمانة، وترك الخيانة، ووفاء بالعهد، وصلة الرحم، والنصيحة لجميع المسلمين، والرحمة للناس عامة.

قيل له -يعني فضيلا-: هذا من رأيك تقوله أو سمعته؟ قال: بل سمعناه وتعلمناه، ولو لم آخذه من أهل الفقه والفضل لم أتكلم به.

ص: 445

وقال فضيل: يقول أهل الإرجاء: الإيمان قول بلا عمل، ويقول الجهمية: الإيمان المعرفة بلا قول ولا عمل، ويقول أهل السنة: الإيمان المعرفة والقول والعمل؛ فمن قال: الإيمان قول وعمل، فقد أخذ بالتوثيقة، ومن قال: الإيمان قول بلا عمل فقد خاطر؛ لأنه لا يدري أيقبل إقراره أو يرد عليه بذنوبه.

وقال -يعني فضيلا-: قد بيّنت لك إلا أن تكون أعمى.

وقال فضيل: لو قال رجل: مؤمن أنت؟ ما كلمته ما عشت، وقال: إذا قلت: آمنت بالله فهو يجزيك أن تقول أنا مؤمن، وإذا قلت: أنا مؤمن لا يجزيك من أن تقول آمنت بالله؛ لأن آمنت بالله أمر، قال الله:{قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ} الآية، وقولك: أنا مؤمن تكلف لا يضرك أن لا تقوله، ولا بأس إن قلته على وجه الإقرار، وأكرهه على وجه التزكية.

وقال فضيل: سمعت سفيان الثوري يقول: من صلى إلى هذه القبلة فهو عندنا مؤمن، والناس عندنا مؤمنون بالإقرار والمواريث والمناكحة والحدود والذبائح والنسك، ولهم ذنوب وخطايا الله حسبهم إن شاء الله عذبهم، وإن شاء غفر لهم، لا تدري ما لهم عند الله.

قال فضيل: سمعت المغيرة الضبي يقول: من شك في دينه فهو كافر، وأنا مؤمن إن شاء الله، قال فضيل: الاستثناء ليس بشك.

وقال فضيل: المرجئة كلما سمعوا حديثا فيه تخويف قالوا: هذا تهديد، وإن المؤمن يخاف تهديد الله وتحذيره وتخويفه ووعيده،

ص: 446

ويرجو وعده، وإن المنافق لا يخاف تهديد الله ولا تحذيره ولا تخويفه ولا وعيده، ولا يرجو وعده.

وقال فضيل: الأعمال تحبط الأعمال، والأعمال تحول دون الأعمال.

وقال عبد الله أيضا: حدثنا محمد بن سليمان بن حبيب -لوين- سمعت ابن عيينة غير مرة يقول: الإيمان قول وعمل، قال ابن عيينة: أخذناه ممن قبلنا: قول وعمل، وأنه لا يكون قول بغير عمل، قيل لابن عيينة: يزيد وينقص؟! قال: فأي شيء إذًا.

وقال أيضا: حدثني أبي، سمعت يحيى بن سعيد يقول: ما أدركنا من أصحابنا ولا بلغني إلا على الاستثناء، والإيمان قول وعمل، قال يحيى: وكان سفيان الثوري ينكر أن يقول: أنا مؤمن، وحسَّن يحيى الزيادة والنقصان ورآه.

وقال أيضا: حدثني أبي، حدثنا عبد الله بن يزيد، حدثنا ابن لهيعة، عن عبد الله بن هبيرة، عن عبيد بن عمير الليثي قال: ليس الإيمان بالتمني، ولكن الإيمان قول يُعقل، وعمل يُعمل.

وروى أيضا في كتاب "الزهد" بإسناده، عن الحسن قال: كان يقال: إن الإيمان ليس بالتحلي ولا بالتمني، وإنما الإيمان ما وقر في القلب، وصدقه العمل.

وروى أبو بكر الآجري بإسناده، عن سفيان الثوري قال: إن الإيمان يزيد وينقص، قال سفيان: وأقول: إن الإيمان ما وقر في الصدور،

ص: 447

وصدقه العمل.

وقال عبد الله ابن الإمام أحمد: حدثني أبي، حدثنا أبو سلمة الخزاعي قال: قال مالك، وشريك، وأبو بكر بن عياش، وعبد العزيز بن أبي سلمة، وحماد بن سلمة، وحماد بن زيد: الإيمان؛ المعرفة والإقرار والعمل، إلا أن حماد بن زيد كان يفرق بين الإيمان والإسلام، ويجعل الإسلام عاما والإيمان خاصا.

وروى أيضا عن أبيه بإسناده، عن مجاهد قال: الإيمان يزيد وينقص، والإيمان قول وعمل.

وروى أيضا عن أبيه بإسناده، عن الحسن قال: الإيمان قول وعمل.

وبإسناده عن يحيى بن سليم قال: قال محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان: لا يصلح قول إلا بعمل.

وقال عبد الله أيضا: حدثني سليمان بن شبيب قبل سنة ثلاثين ومائتين، حدثنا عبد الرزاق قال: كان معمر وابن جريج والثوري ومالك وابن عيينة يقولون: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، قال عبد الرزاق: وأنا أقول ذلك: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، وإن خالفتهم فقد ضللتُ إذا وما أنا من المهتدين.

وقال أيضا: حدثني أبي قال: بلغني أن مالك بن أنس، وابن جريج، وشريكا، وفضيلا بن عياض قالوا: الإيمان قول وعمل.

وقال أيضا: حدثني أبي، حدثنا إبراهيم بن شماس، سمعت جرير بن

ص: 448

عبد الحميد يقول: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، قيل له: كيف تقول أنت؟ قال: أقول مؤمن إن شاء الله، قال إبراهيم بن شماس: وسُئل فضيل بن عياض وأنا أسمع عن الإيمان فقال: الإيمان عندنا داخله وخارجه الإقرار باللسان والقبول بالقلب والعمل به، قال: وسمعت يحيى بن سليم يقول: الإيمان قول وعمل.

وروي أن ابن جريج قال: الإيمان قول وعمل، قال: وسألت أبا إسحاق الفزاري عن الإيمان فقلت: الإيمان قول وعمل؟ قال: نعم، قال: وسمعت ابن المبارك يقول: الإيمان قول وعمل، والإيمان يتفاضل، قال: وسمعت النضر بن شميل يقول: الإيمان قول وعمل.

وقال الخليل النحوي: إذا أنا قلت مؤمن، فأي شيء بقي؟ قال: وسألت بقية وابن عياش -يعني إسماعيل- فقالا: الإيمان قول وعمل.

وقال عبد الله أيضا: حدثني محمد بن علي بن الحسن بن شقيق، سمعت أبي يقول: الإيمان قول وعمل.

وقال أيضا: حدثنا إبراهيم بن دينار الكرخي، سمعت خالد بن الحارث يقول: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص.

وروى أبو بكر الآجري بإسناده، عن الحسن قال: الإيمان قول، ولا قول إلا بعمل، ولا قول وعمل إلا بنية، ولا قول وعمل ونية إلا بسنة.

وبإسناده عن يحيى بن سليم قال: سألت سفيان الثوري عن الإيمان قال: قول وعمل، وسألت ابن جريج فقال: قول وعمل، وسألت

ص: 449

محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان فقال: قول وعمل، وسألت نافع بن عمر الجمحي فقال: قول وعمل، وسألت مالك بن أنس فقال: قول وعمل، وسألت فضيل بن عياض فقال: قول وعمل، وسألت سفيان بن عيينة فقال: قول وعمل.

وبإسناده عن يحيى بن سليم الطائفي، عن هشام، عن الحسن قال: الإيمان قول وعمل، قال يحيى بن سليم: فقلت لهشام: فما تقول أنت؟ فقال: الإيمان قول وعمل، وكان محمد الطائفي يقول: الإيمان قول وعمل، قال يحيى بن سليم: وكان مالك بن أنس يقول: الإيمان قول وعمل، قال يحيى: وكان سفيان بن عيينة يقول كذلك، قال: وكان فضيل بن عياض يقول: الإيمان قول وعمل، وبإسناده عن المؤمل بن إسماعيل قال: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص.

وروى أبو نعيم في الحلية، من طريق أبي حاتم قال: سمعت حرملة بن يحيى يقول: اجتمع حفص الفرد، ومصلان الإباضي عند الشافعي في دار الجروي وأنا حاضر، واختصم حفص الفرد ومصلان في الإيمان، فاحتج على مصلان وقوي عليه، وضعف مصلان، فحمي الشافعي وتقلد المسألة على أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، فطحن حفصا الفرد وقطعه. وكذا ذكر هذه القصة ابن أبي حاتم في "مناقب الشافعي" بنحو رواية أبي نعيم.

وقال الحاكم في "مناقب الشافعي": حدثنا أبو العباس الأصم،

ص: 450

أخبرنا الربيع قال: سمعت الشافعي يقول: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص.

وروى أبو نعيم في الحلية عن الربيع بن سليمان قال: سمعت الشافعي يقول: الإيمان قول وعمل، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، ثم تلا هذه الآية {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِيمَانًا} الآية.

وتقدم قول الإمام أحمد فيما نقله عنه ابنه عبد الله، وأبو داود السجستاني رحمهم الله تعالى.

وقال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه: كتاب الإيمان وهو قول وفعل، ويزيد وينقص، قال الله تعالى:{لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} ، {وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} ، {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} ، وقال:{وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} ، {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِيمَانًا} ، وقوله:{أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا} ، وقوله تعالى ذكره:{فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا} ، وقوله تعالى:{وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} ، والحب في الله، والبغض في الله من الإيمان. انتهى.

وروى أبو القاسم اللالكائي بسنده عن البخاري قال: لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار فما رأيت أحدا منهم يختلف في أن الإيمان قول وعمل، ويزيد وينقص.

قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى: القول أن الإيمان قول وعمل عند أهل السنة من شعائر السنة، وحكى غير واحد

ص: 451

الإجماع على ذلك. ثم ذكر قول الشافعي رحمه الله تعالى في "الأم": وكان الإجماع من الصحابة والتابعين من بعدهم، ومن أدركناهم يقولون: إن الإيمان قول وعمل ونية، لا يجزئ واحد من الثلاثة إلا بالآخر.

وذكر القاضي أبو الحسين في الطبقات في ترجمة أحمد بن جعفر بن يعقوب بن عبد الله أبي العباس الفارسي الاصطخري قال: قال أبو عبد الله أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى: هذه مذاهب أهل العلم، وأصحاب الأثر، وأهل السنة المتمسكين بعروقها، المعروفين بها، المقتدى بهم فيها، من لدن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، وأدركت مَن أدركت من علماء أهل الحجاز والشام وغيرهم عليها، فمن خالف شيئا من هذه المذاهب، أو طعن فيها، أو عاب قائلها فهو مبتدع خارج عن الجماعة، زائل عن منهج السنة وسبيل الحق، فكان قولهم: إن الإيمان قول وعمل ونية وتمسك بالسنة، والإيمان يزيد وينقص، ويستثنى في الإيمان غير أن لا يكون الاستثناء شكا، إنما هي سنة ماضية عند العلماء، قال: وإذا سئل الرجل: أمؤمن أنت؟ فإنه يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، أو مؤمن أرجو، أو يقول: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله، ومن زعم أن الإيمان قول بلا عمل فهو مرجئ، ومن زعم أن الإيمان هو القول، والأعمال شرائع فهو مرجئ، ومن زعم أن الإيمان يزيد ولا ينقص فقد قال بقول المرجئة، ومن لم ير الاستثناء في الإيمان فهو مرجئ، ومن زعم أن إيمانه كإيمان جبريل والملائكة فهو مرجئ، ومن زعم أن المعرفة تنفع في القلب لا يتكلم بها

ص: 452

فهو مرجئ. إلى آخر الرسالة.

وذكر شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله في كتاب "الإيمان" ما رواه أبو عمر الطلمنكي بإسناده المعروف، عن موسى بن هارون الحمال قال: أملى علينا إسحاق بن راهويه: إن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، لا شك أن ذلك كما وصفنا، وإنما عقلنا هذا بالروايات الصحيحة والآثار العامة المحكمة، وآحاد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتابعين هلم جرا على ذلك، وكذلك بعد التابعين من أهل العلم على شيء واحد لا يختلفون فيه، وكذلك في عهد الأوزاعي بالشام، وسفيان الثوري بالعراق، ومالك بن أنس بالحجاز، ومعمر باليمن على ما فسرنا وبينا أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، قال: واتبعهم على ما وصفنا من بعدهم من عصرنا هذا أهل العلم إلا من باين الجماعة، واتبع الأهواء المختلفة، فأولئك قوم لا يعبأ الله بهم لما باينوا الجماعة.

وقال الشيخ أيضا: قال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله تعالى: هذه تسمية من كان يقول الإيمان قول وعمل يزيد وينقص:

من أهل مكة: عبيد بن عمير الليثي، عطاء بن أبي رباح، مجاهد بن جبر، ابن أبي مليكة، عمرو بن دينار، ابن أبي نجيح، عبيد الله بن عمر، عبد الله بن عمرو بن عثمان، عبد الملك بن جريج، نافع بن جبير، داود بن عبد الرحمن العطار، عبد الله بن رجاء.

ومن أهل المدينة: محمد بن شهاب الزهري، ربيعة بن أبي

ص: 453

عبد الرحمن، أبو حازم الأعرج، سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن، يحيى بن سعيد الأنصاري، هشام بن عروة بن الزبير، عبد الله بن عمر العمري، مالك بن أنس، محمد بن أبي ذئب، سليمان بن بلال، عبد العزيز بن عبد الله؛ يعني الماجشون، عبد العزيز بن أبي حازم.

ومن أهل اليمن: طاووس اليماني، وهب بن منبه، معمر بن راشد، عبد الرزاق بن همام.

ومن أهل مصر والشام: مكحول، الأوزاعي، سعيد بن عبد العزيز، الوليد بن مسلم، يونس بن يزيد الأيلي، يزيد بن أبي حبيب، يزيد بن شريح، سعيد بن أبي أيوب، الليث بن سعد، عبيد الله بن أبي جعفر، معاوية بن صالح، حيوة بن شريح، عبد الله بن وهب.

وممن سكن العواصم وغيرها من الجزيرة: ميمون بن مهران، يحيى بن عبد الكريم، معقل بن عبيد الله، عبيد الله بن عمرو الرقي، عبد الملك بن مالك، المعافى بن عمران، محمد بن سلمة الحراني، أبو إسحاق الفزاري، مخلد بن الحسين، علي بن بكار، يوسف بن أسباط، عطاء بن مسلم، محمد بن كثير، الهيثم بن جميل.

ومن أهل الكوفة: علقمة، الأسود بن يزيد، أبو وائل، سعيد بن جبير، الربيع بن خيثم، عامر الشعبي، إبراهيم النخعي، الحكم بن عتيبة، طلحة بن مصرف، منصور بن المعتمر، سلمة بن كهيل، مغيرة الضبي، عطاء بن السائب، إسماعيل بن أبي خالد، أبو حيان، يحيى بن سعيد،

ص: 454

سليمان بن مهران الأعمش، يزيد بن أبي زياد، سفيان بن سعيد الثوري، سفيان بن عيينة، الفضيل بن عياض، أبو المقدام، ثابت بن العجلان، ابن شبرمة، ابن أبي ليلى، زهير، شريك بن عبد الله، الحسن بن صالح، حفص بن غياث، أبو بكر بن عياش، أبو الأحوص، وكيع بن الجراح، عبد الله بن نمير، أبو أسامة، عبد الله بن إدريس، زيد بن الحباب، الحسين بن علي، علي الجعفي، محمد بن بشر العبدي، يحيى بن آدم، ومحمد، ويعلى، وعمرو بنو عبيد.

ومن أهل البصرة: الحسن بن أبي الحسن، محمد بن سيرين، قتادة بن دعامة، بكر بن عبد الله المزني، أيوب السختياني، يونس بن عبيد، عبد الله بن عون، سليمان التيمي، هشام بن حسان الدستوائي، شعبة بن الحجاج، حماد بن سلمة، حماد بن زيد، أبو الأشهب، يزيد بن إبراهيم، أبو عوانة، وهيب بن خالد، عبد الوارث بن سعيد، معتمر بن سليمان التيمي، يحيى بن سعيد القطان، عبد الرحمن بن مهدي، بشر بن المفضل، يزيد بن زريع، المؤمل بن إسماعيل، خالد بن الحارث، معاذ بن معاذ، أبو عبد الرحمن المقري.

ومن أهل واسط: هشيم بن بشير، خالد بن عبد الله، علي بن عاصم، يزيد بن هارون، صالح بن عمر، عاصم بن علي.

ومن أهل المشرق: الضحاك بن مزاحم، أبو جمرة نصر بن عمران، عبد الله بن المبارك، النضر بن شميل، جرير بن عبد الحميد الضبي، قال

ص: 455

أبو عبيد: هؤلاء جميلا يقولون: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، وهو قول أهل السنة، المعمول به عندنا. انتهى ما ذكره شيخ الإسلام قدس الله روحه.

وتقدم قول الفضيل بن عياض، وسفيان بن عيينة، ويحيى بن سعيد: أنهم أخذوا عن أهل الفقه والفضل قبلهم أن الإيمان قول وعمل.

وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سألت أبي وأبا زرعة عن مذهب أهل السنة في أصول الدين، وما أدركا عليه أئمة العلم في ذلك، فقالا: أدركنا العلماء في جميع الأمصار؛ حجازا وعراقا، وشاما ويمنا، فكان من مذهبهم الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص.

وقال حرب بن إسماعيل الكرماني -صاحب الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه- في مسائله المشهورة: هذه مذاهب أهل العلم، وأصحاب الأثر، وأهل السنة، المتمسكين بها المقتدى بهم فيها، من لدن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، وأدركت من أدركت من علماء أهل الحجاز والشام وغيرهم عليها، فمن خالف شيئا من هذه المذاهب، أو طعن فيها، أو عاب قائلها فهو مخالف مبتدع، خارج عن الجماعة، زائل عن منهج السنة وسبيل الحق، قال: وهو مذهب أحمد، وإسحاق بن إبراهيم، وعبد الله بن مخلد، وعبد الله بن الزبير الحميدي، وسعيد بن منصور، وغيرهم ممن جالسنا وأخذنا عنهم العلم، وكان من قولهم: إن الإيمان قول وعمل ونية وتمسك بالسنة، والإيمان يزيد وينقص، ويستثنى في الإيمان غير أن لا

ص: 456

يكون الاستثناء شكا؛ إنما هي سنة ماضية عند العلماء، فإذا سئل الرجل: أمؤمن أنت؟ فإنه يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، أو مؤمن أرجو، أو يقول: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله، ومن زعم أن الإيمان قول بلا عمل فهو مرجئ، ومن زعم أن الإيمان هو القول، والأعمال شرائع فهو مرجئ، ومن زعم أن الإيمان يزيد ولا ينقص فقد قال بقول المرجئة، ومن لم يرَ الاستثناء في الإيمان فهو مرجئ، ومن زعم أن إيمانه كإيمان جبريل والملائكة فهو مرجئ، ومن زعم أنه المعرفة في القلب وإن لم يتكلم بها فهو مرجئ. انتهى المقصود من كلامه رحمه الله.

وقال أبو بكر محمد بن الحسين الآجري في كتاب "الشريعة": الذي عليه علماء المسلمين أن الإيمان واجب على جميع الخلق، وهو تصديق بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بالجوارح، قال: ولا تجزئ معرفة القلب، ونطق اللسان حتى يكون عمل بالجوارح، فإذا كملت فيه هذه الثلاث الخصال كان مؤمنا، دل على ذلك الكتاب والسنة وقول علماء المسلمين. انتهى.

وقال أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري في كتاب "مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين": جملة ما عليه أصحاب الحديث وأهل السنة الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله، وما جاء من عند الله، وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يردون من ذلك شيئا -إلى أن قال-:

ص: 457

ويقرون بأن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، وقال في آخره: وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول، وإليه نذهب. انتهى.

وقال أبو الحسن علي بن خلف بن بطال المالكي في شرح البخاري: مذهب جماعة أهل السنة من سلف الأمة وخلفها، أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، والحجة على زيادته ونقصانه ما أورده البخاري من الآيات. انتهى.

فهذا ما حكاه الأئمة الأعلام من إجماع أهل السنة والجماعة على أن الإيمان قول وعمل، قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح، وأنه يزيد وينقص؛ مع دلالة الكتاب والسنة على ذلك في آيات وأحاديث كثيرة ليس هذا موضع بسطها، وقد تقدم ذكر شيء منها في كلام بعض الأئمة.

وقال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه: باب زيادة الإيمان ونقصانه، وقول الله تعالى:{وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} ، {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آَمَنُوا} ، وقال:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} ، فإذا ترك شيئا من الكمال فهو ناقص، ثم ساق حديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من خير، ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه وزن برة من خير، ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرة من خير» .

وفي رواية أخرى عن أنس: «من إيمان» مكان «خير» .

ص: 458

وساق أيضا حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلا من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين، آية في كتابكم تقرؤونها، لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا، قال: أي آية؟ قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} قال عمر رضي الله عنه: قد عرفنا ذلك اليوم، والمكان الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائم بعرفة يوم جمعة.

وقال أبو داود في سننه: باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه، ثم ساق حديث ابن عمر رضي الله عنهما الذي رواه الإمام أحمد في مسنده، ومسلم في صحيحه، وابن ماجة في سننه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن» قالت: يا رسول الله، وما نقصان العقل والدين؟ قال:«أما نقصان العقل فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل؛ فهذا نقصان العقل، وتمكث الليالي ما تصلي، وتفطر في رمضان؛ فهذا نقصان الدين» .

وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن» قلن: وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله؟ قال: «أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل؟» قلن: بلى، قال:«فذلك من نقصان عقلها، أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟» قلن: بلى، قال:«فذلك من نقصان دينها» .

ص: 459

وفي المسند، وصحيح مسلم، وجامع الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«وما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذوي الألباب وذوي الرأي منكن» قالت امرأة منهن: وما نقصان عقلها ودينها؟ قال: «شهادة امرأتين منكن بشهادة رجل، ونقصان دينكن الحيضة؛ فتمكث إحداكن الثلاث والأربع لا تصلي» هذا لفظ الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح، قال: وفي الباب عن أبي سعيد وابن عمر رضي الله عنهم.

وترجم لهذا الحديث وما في معناه بقوله: باب ما جاء في استكمال الإيمان وزيادته ونقصانه.

وفي مستدرك الحاكم من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «وما وجد من ناقص الدين والرأي، أغلب للرجال ذوي الأمر على أمورهم من النساء» قالوا: وما نقص دينهن ورأيهن؟ قال: «أما نقص رأيهن؛ فجعلت شهادة امرأتين بشهادة رجل، وأما نقص دينهن؛ فإن إحداهن تقعد ما شاء الله من يوم وليلة لا تسجد لله سجدة» قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الحافظ الذهبي في تلخيصه.

وروى الإمام أحمد، وابنه عبد الله، وأبو بكر الآجري، عن عمير بن حبيب بن خماشة الخطمي رضي الله عنه أنه قال: إن الإيمان يزيد وينقص، قيل له: وما زيادته، وما نقصانه؟ قال: إذا ذكرنا الله وحمدناه وسبحناه، وفي رواية: وخشيناه، فذلك زيادته، وإذا غفلنا وضيعنا ونسينا فذلك نقصانه.

ص: 460

وروى ابن ماجة، وعبد الله ابن الإمام أحمد، عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه كان يقول: الإيمان يزداد وينقص.

وروى عبد الله أيضا، وأبو بكر الآجري، عن أبي هريرة رضي الله عنه مثل ذلك.

ورواه ابن ماجة، والآجري أيضا، عن أبي هريرة وابن عباس رضي الله عنهم.

وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا محمد بن طلحة، عن زبيد اليامي، عن زر بن حبيش قال: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لأصحابه: هلموا نزدد إيماناً، فيذكرون الله تعالى.

وقال عبد الله ابن الإمام أحمد: حدثني أبي، حدثنا وكيع، حدثنا الأعمش ومسعر، عن جامع بن شداد، عن الأسود بن هلال قال: قال معاذ رضي الله عنه: اجلس بنا نؤمن ساعة.

وذكره البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه معلقا بصيغة الجزم.

وفي رواية لأحمد وابن أبي شيبة: كان معاذ يقول للرجل من إخوانه: اجلس بنا نؤمن ساعة، فيجلسان فيذكران الله تعالى ويحمدانه.

وقال عبد الله أيضا: حدثني أبي، حدثنا وكيع، عن شريك، عن هلال بن حميد، عن عبد الله بن عكيم، سمعت ابن مسعود رضي الله عنه يقول في دعائه: اللهم زدنا إيمانا ويقينا وفقها.

وقال أيضا: حدثني أبي، حدثنا وكيع، عن حماد بن نجيح، حدثنا أبو عمران الجوني، عن جندب رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكنا

ص: 461

فتيانا حزاورة، فتعلمنا الإيمان، ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيمانا.

ورواه ابن ماجة في سننه، عن علي بن محمد، عن وكيع به مثله.

وقال عبد الله أيضا: حدثني أبي، حدثنا وكيع، عن إسرائيل، عن أبي الهيثم، عن سعيد بن جبير قال:{وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} قال: لأزداد إيمانا.

وقال أيضا: حدثني أبي، حدثنا وكيع، حدثنا سفيان، عن هشام بن عروة قال: ما نقصت أمانة عبد قط إلا نقص إيمانه.

وقال أيضا: حدثني أبي، حدثنا عبد الصمد، حدثنا أبو هلال، حدثنا قتادة، عن أنس رضي الله عنه قال: ما خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم إلا قال: «لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له» .

وروى أبو بكر الآجري بإسناده، عن سفيان بن عيينة أنه قيل له: الإيمان يزيد وينقص؟ قال: أليس تقرؤون القرآن {فَزَادَهُمْ إِيمَانًا} في غير موضع؟ قيل: ينقص؟ قال: ليس شيء يزيد إلا وهو ينقص.

وبإسناده عن الحميدي قال: سمعت ابن عيينة يقول: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، فقال له أخوه إبراهيم بن عيينة: يا أبا محمد، لا تقولن يزيد وينقص، فغضب وقال: اسكت يا صبي، بلى حتى لا يبقى منه شيء.

وبإسناده عن الأوزاعي قال: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، فمن زعم أن الإيمان يزيد ولا ينقص فاحذروه فإنه مبتدع.

وقال عبد الله ابن الإمام أحمد، حدثني عثمان بن محمد بن أبي شيبة

ص: 462

قال: سألت ابن إدريس، وجريرا، ووكيعا فقالوا: الإيمان يزيد وينقص.

وقال أيضا: حدثني عبدة بن عبد الكريم بن حسان بن طريف -من أهل مرو- حدثنا بقية، حدثني موسى بن أعين الجزري، سمعت عبد الكريم بن مالك الجزري، وخصيف بن عبد الرحمن يقولان: يزداد وينقص.

وقال أيضا: حدثني أبي، حدثنا أبو نعيم، سمعت سفيان -يعني الثوري- يقول: الإيمان يزيد وينقص.

وقال أيضا: حدثني أبي قال: سمعت وكيعا يقول: الإيمان يزيد وينقص، وكذا كان يقول سفيان.

فهذا ما يتعلق بزيادة الإيمان ونقصانه.

وأما‌

‌ تفاضل المؤمنين في الإيمان

فقال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه: باب تفاضل أهل الإيمان في الأعمال، ثم ساق حديثي أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في الدلالة على ذلك.

وقال عبد الله ابن الإمام أحمد: حدثني يعقوب الدورقي قال: قال عبد الرحمن بن مهدي: أنا أقول الإيمان يتفاضل.

وتقدم قول عطاء بن أبي رباح، وفضيل بن عياض، وعبد الله بن المبارك في ذلك.

وقال عبد الله أيضا: حدثني أبي قال: كان وكيع يقول: ترى إيمان الحجاج بن يوسف مثل إيمان أبي بكر وعمر؟!.

وقال أيضا: حدثنا هارون بن معروف غير مرة، حدثنا ضمرة، عن ابن

ص: 463

شوذب، عن محمد بن جحادة، عن سلمة بن كهيل، عن الهذيل بن شرحبيل قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض لرجح به. سمعت أبي يحدث عن هارون فذكر مثله.

وأما‌

‌ الاستثناء في الإيمان

فقال أبو بكر الآجري: حدثني أبو بكر عبد الله بن محمد بن عبد الحميد الواسطي قال: حدثنا أبو بكر الأثرم قال: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل سئل عن الاستثناء في الإيمان، ما تقول فيه؟ قال: أما أنا فلا أعيبه.

قال أبو عبد الله: إذا كان تقول إن الإيمان قول وعمل، واستثناء مخافة واحتياطا ليس كما يقولون على الشك، أفما تستثني للعمل؟ قال الله عز وجل:{لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ} فهذا استثناء بغير شك، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:«إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله عز وجل» قال: هذا كله تقوية للاستثناء في الإيمان.

وقال الآجري أيضا: حدثنا جعفر الصندلي قال: حدثنا الفضل بن زياد قال: سمعت أبا عبد الله يعجبه الاستثناء في الإيمان، فقال له رجل: إنما الناس رجلان مؤمن وكافر، فقال أبو عبد الله: فأين قوله تعالى: {وَآَخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} ؟!

قال: وسمعت أبا عبد الله يقول: سمعت يحيى بن سعيد يقول: ما أدركت أحدا إلا على الاستثناء.

قال: وسمعت أبا عبد الله مرة أخرى يقول: سمعت يحيى يقول: ما

ص: 464

أدركت أحدا من أهل العلم ولا بلغني إلا على الاستثناء.

قال: وسمعت أبا عبد الله يقول: سمعت سفيان بن عيينة يقول إذا سُئل: أمؤمن أنت؟ إن شاء لم يجبه، وإن شاء قال: سؤالك إياي بدعة، ولا أشك في إيماني، ولا يعنف من قال: إن الإيمان ينقص، أو قال: إن شاء الله، ليس يكره، وليس بداخل في الشك.

قال: وسمعت أبا عبد الله يقول: إذا قال أنا مؤمن إن شاء الله، فليس هو بشاك، قيل له: إن شاء الله أليس هو شك؟! فقال: معاذ الله، أليس قد قال الله عز وجل:{لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ} ؟! وفي علمه أنهم يدخلونه، وصاحب القبر إذا قيل له: وعليه تبعث إن شاء الله، فأي شك ههنا؟ وقال النبي صلى الله عليه وسلم:«وإنَّا إن شاء الله بكم لاحقون» .

وقال أبو داود: سمعت أحمد قال له رجل: قيل لي: أمؤمن أنت؟ فقلت: نعم، هل عليَّ في ذلك شيء؟ هل الناس إلا مؤمن وكافر؟ فغضب أحمد وقال: هذا كلام الإرجاء، قال الله عز وجل:{وَآَخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ} من هؤلاء؟ ثم قال أحمد: أليس الإيمان قول وعمل؟ فقال الرجل: بلى، قال: فجئنا بالقول؟ قال: نعم، قال: فجئنا بالعمل؟ قال: لا، قال: فكيف تعيب أن تقول: إن شاء الله وتستثني.

قال أبو داود: فأخبرني أحمد بن شريح أن أحمد بن حنبل كتب إليه في هذه المسألة: أن الإيمان قول وعمل، فجئنا بالقول ولم نجيء بالعمل، فنحن مستثنون في العمل.

ص: 465

قال أبو داود: وسمعت أحمد قال له هذا الرجل: أعلي في هذا شيء إن قلت: أنا مؤمن؟ فقال أحمد: لا تقل أنا مؤمن حقا ولا البتة ولا عند الله.

قال أبو داود: قال أحمد: قال يحيى: وكان ينكر أن يقول أنا مؤمن.

وروى الآجري بإسناده، عن الأوزاعي قال: ثلاث هن بدعة؛ أنا مؤمن مستكمل الإيمان، وأنا مؤمن حقا، وأنا مؤمن عند الله تعالى.

وقال عبد الله ابن الإمام أحمد: قال أبي: نُصيِّر الاستثناء على العمل؛ لأن القول قد جئنا به.

وقال أيضا: سمعت أبي يقول: الحجة على من لا يستثني قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل القبور: «وإنا إن شاء الله بكم لاحقون» .

وقال أيضا: حدثني أبي، حدثني وكيع قال: قال سفيان الثوري: الناس عندنا مؤمنون في الأحكام والمواريث، ونرجو أن يكون كذلك، ولا ندري ما حالنا عند الله.

وقال أيضا: حدثني أبي، حدثنا علي بن بحر، سمعت جرير بن عبد الحميد يقول: الإيمان قول وعمل، وكان الأعمش، ومنصور، ومغيرة، وليث، وعطاء بن السائب، وإسماعيل بن أبي خالد، وعمارة ابن القعقاع، والعلاء بن المسيب، وابن شبرمة، وسفيان الثوري، وأبو يحيى صاحب الحسن، وحمزة الزيات يقولون: نحن مؤمنون إن شاء الله، ويعيبون على من لا يستثني.

وقال عبد الله أيضا: قرأت على أبي، حدثنا مهدي بن جعفر الرملي،

ص: 466

حدثنا الوليد -يعني ابن مسلم- سمعت أبا عمرو -يعني الأوزاعي- ومالك بن أنس، وسعيد بن عبد العزيز ينكرون أن يقول: أنا مؤمن، ويأذنون في الاستثناء أن أقول: أنا مؤمن إن شاء الله.

وقال أبو بكر الآجري: قال أبو بكر المروذي: سمعت بعض مشيختنا يقول: سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: إذا ترك الاستثناء فهو أصل الإرجاء.

وروى أبو نعيم في الحلية، عن يوسف بن أسباط قال: سمعت سفيان -يعني الثوري- يقول: من كره أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله فهو عندنا مرجئ، يمد بها صوته.

وقال عبد الله ابن الإمام أحمد: حدثني أبي، حدثنا مؤمل، حدثنا حماد بن زيد، سمعت هشاما يقول: كان الحسن ومحمد يقولان: مسلم، ويهابان مؤمن.

وقال أبو بكر الآجري: حدثنا أبو نصر محمد بن كردي، حدثنا أبو بكر المروذي قال: قيل لأبي عبد الله: نقول نحن المؤمنون؟ قال: نقول نحن المسلمون، ثم قال أبو عبد الله: الصوم والصلاة والزكاة من الإيمان، قيل له: فإن استثنيت في إيماني أكون شاكا؟ قال: لا.

وروى الآجرى أيضا بإسناده، عن الحسن قال: قال رجل عند ابن مسعود: إني مؤمن، قال: فقيل له: يا أبا عبد الرحمن، يزعم أنه مؤمن! قال: فاسألوه: أهو في الجنة، أو في النار؟! قال: فسألوه، فقال: الله

ص: 467

أعلم، فقال: ألا وَكَلْتَ الأولى كما وكلت الأخرى.

وقال عبد الله ابن الإمام أحمد: حدثني أبي، حدثنا يحيى، حدثنا شعبة، حدثني سلمة بن كهيل، عن إبراهيم، عن علقمة قال رجل عند عبد الله: إني مؤمن، قال: قل إني في الجنة، ولكنا نؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله. إسناده صحيح.

وقال عبد الله أيضا: حدثني أبي، حدثنا وكيع، عن الأعمش، عن أبي وائل قال: جاء رجل إلى عبد الله فقال: يا أبا عبد الرحمن، لقيت ركبا فقلت: من أنتم؟ فقالوا: نحن المؤمنون، قال عبد الله: أفلا قالوا: نحن أهل الجنة؟! إسناده صحيح.

وقال عبد الله أيضا: حدثني يعقوب بن إبراهيم الدورقي، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا سفيان، عن مغيرة قال: قال رجل لأبي وائل: أسمعتَ ابن مسعود يقول: من شهد أنه مؤمن فليشهد أنه من أهل الجنة؟! قال: نعم. إسناده صحيح.

وقد رواه الحاكم في مستدركه من طريق جرير عن مغيرة قال: سمعت الفضيل بن عمرو يقول لأبي وائل -شقيق بن سلمة-: أسمعت عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: من قال إني مؤمن فليقل: إني في الجنة؟! فقال: نعم، فقال المغيرة: وقرأ أبو وائل -شقيق بن سلمة-: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ..} حتى بلغ {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} إلى قوله: {وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} ، قرأها وهو يعرض بالمرجئة. قال الحاكم:

ص: 468

صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأقره الذهبي في تلخيصه.

فهذا ما يسره الله تعالى من أقوال أئمة السلف في باب الإيمان، والرد على المرجئة، وقد تركت كثيرا من أقوالهم إيثارا للاختصار، وفيما ذكرته كفاية لمبتغي الحق إن شاء الله تعالى، والغرض من البسط في هذا الفصل خمسة أمور:

أحدها: بيان مذهب أهل السنة والجماعة في باب الإيمان، وتقرير ذلك بأدلته من الكتاب والسنة والإجماع.

الثاني: الحث على اتباعهم في ذلك، والسير على منهاجهم، فإنه يُرجى لمن اتبعهم بإحسان أن يفوز بالجنة والرضوان، قال الله تعالى:{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100].

الثالث: التحذير من مخالفتهم واتباع غير سبيلهم، فإن ذلك هو الضلال البعيد والخسران المبين، قال الله تعالى:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115].

الرابع: تنبيه المنحرفين عن أقوال سلف الأمة وأئمتها في باب الإيمان، وإرشادهم إلى الحق والصواب، لعل الله تعالى أن يشرح صدورهم للسنة، واتباع السلف الصالح، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

ص: 469

الخامس: الرد على من زعم أن الإيمان هو التصديق الجازم فحسب، والإنكار على من يعتني بتعلمه وتعليمه، فإن هذا القول دائر بين رأي المرجئة الضالة والجهمية الكافرة، فمن قال: إن الإيمان هو التصديق بالقلب فحسب فقوله قول الجهمية، ومن قال: إنه الإقرار باللسان فحسب بلا تصديق بالقلب ولا عمل بالجوارح فقوله قول المرجئة، وكذلك القول بأنه التصديق بالقلب والإقرار باللسان فحسب هو أيضا من أقوال المرجئة، وكل هذه الأقوال من محدثات الأمور التي حذر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته كما في حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«عليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة» رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجة، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وصححه أيضا ابن حبان، والحاكم.

وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبته: «أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة» رواه الإمام أحمد، ومسلم، والنسائي، وابن ماجة، وابن حبان في صحيحه.

وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم ومحدثات الأمور، فإن شر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة» رواه ابن ماجة.

ص: 470

قال أبو السعادات ابن الأثير: محدثات الأمور جمع محدثة -بالفتح- وهي ما لم يكن معروفا في كتاب ولا سنة ولا إجماع. انتهى.

وقد ذكرنا أن حدوث الإرجاء كان في آخر عصر الصحابة رضوان الله عليهم، وما زال ينتشر في المسلمين، ويكثر القائلون به إلى زماننا هذا الذي اشتدت فيه غربة الدين، وصار أهل السنة في غاية الغربة بين أهل البدع والضلالة والجهالات، وعاد المعروف بين الأكثرين منكرا، والمنكر معروفا، والسنة بدعة، والبدعة سنة، وصارت أقوال السلف في باب الإيمان مهجورة، لا يعتني بها إلا الأقلون، وأما الأكثرون فهم عنها معرضون، لا يعرفونها، ولا يرفعون بها رأسا، وإنما المعروف عندهم ما رآه المبتدعون الضالون، المخالفون للكتاب والسنة والإجماع من أن الإيمان هو التصديق الجازم لا غير، فهذا هو الذي يُعتنى بتعلمه وتعليمه في أكثر الأقطار الإسلامية، فما أشدها على الإسلام وأهله من بلية، وما أعظمها من مصيبة ورزية، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

فهذا زمان الصبر من لك بالتي

كقبض على جمر فتنجو من البلا

وبالجملة فالأمر في هذه الأزمان كما قال محمد بن إسماعيل الصنعاني رحمه الله تعالى:

طغى الماء من بحر ابتداع على الورى

فلم ينج منه مركب وركاب

أسائل من دار الأراضي سياحة

عسى بلدة فيها هدى وصواب

فيخبر كل عن قبائح ما رأى

وليس لأهليها يكون متاب

ص: 471

لأنهم عدوا قبائح فعلهم

محاسن يرجى عندهن ثواب

ترى الدين مثل الشاة قد وثبت له

ذئاب وما له عنهن ذهاب

(1)

لقد مزقته بعد كل ممزق

فلم يبقَ منه جثة وإهاب

وليس اغتراب الدين إلا كما ترى

فهل بعد هذا الاغتراب إياب

فيا غربة هل يرتجى منك أوبة

فيجبر من هذا البعاد مصاب

فلم يبق للراجي سلامة دينه

سوى عزلة فيها الجليس كتاب

(1)

هكذا في الأصل. وصوابه كما في ديوان الصنعاني:

ترى الدين مثل الشاة قد وثبت لها

ذئاب وما عنه لهن ذهاب

ديوان الأمير الصنعاني ص19، طبع مطبعة المدني بالقاهرة 1384هـ.

ص: 472

فصل

وقد رأيت كلاما حسنا للإمام الحافظ ابن القيم رحمه الله تعالى، ذكر فيه حدوث البدع، وضررها على الإسلام والمسلمين، فأحببت أن أذكره ههنا لما فيه من الفوائد الجليلة.

قال رحمه الله تعالى ورضي عنه في كتاب "الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة": لما أظلمت الأرض، وبعد عهدها بنور الوحي، فكانوا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال:«إني خلقت عبادي حنفاء، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا، وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب» فكان أهل العقل كلهم في مقته إلا بقايا متمسكين بالوحي، فلم يستفيدوا بعقولهم حين فقدوا نور الوحي إلا عبادة الأوثان، والصلبان، والنيران، والكواكب، والشمس، والقمر، والحيرة، والشك، أو السحر، أو تعطيل الصانع والكفر به، فأطلع الله لهم شمس الرسالة في تلك الظلمة سراجا منيرًا، وأنعم بها على أهل الأرض في عقولهم وقلوبهم ومعاشهم ومعادهم نعمة لا يستطيعون لها شكورا، فأبصروا بنور الوحي ما لم يكونوا بعقولهم يبصرونه، ورأوا في ضوء الرسالة ما لم يكونوا يرونه، فكانوا كما قال الله تعالى:{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 257]، وقال تعالى:

ص: 473

{الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [إبراهيم: 1]، وقال تعالى:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52]، وقال تعالى:{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122]، فمضى الرعيل الأول وضوء ذلك النور لم تطفئه عواصف الأهواء، ولم يلتبس بظلم الآراء، وأوصوا من بعدهم أن لا يفارقوا ذلك النور الذي اقتبسوه منهم، فلما كان في أواخر عصرهم حدثت الشيعة، والخوارج، والقدرية، والمرجئة، فبعدوا عن النور الذي كان عليه أوائل الأمة، ومع هذا فلم يفارقوه بالكلية، بل كانوا للنصوص معظمين، وبها مستدلين، ولها على الآراء والعقول مقدمين، ولم يدَّع أحد منهم أن عنده عقليات تعارض الوحي والنصوص، وإنما أتوا من سوء الفهم فيها، فصاح بهم من أدركهم من الصحابة وكبار التابعين من كل قطر، ورموهم بالعظائم، وتبرؤوا منهم، وحذروا من سبيلهم أشد التحذير، وكانوا لا يرون السلام عليهم ومجالستهم.

ولما كثرت الجهمية في آخر عصر التابعين، كانوا هم أول من عارض الوحي بالرأي، ومع هذا فكانوا قليلين أذلاء مذمومين، وأولهم وشيخهم الجعد بن درهم، وإنما نفق عند الناس لأنه كان معلم مروان بن محمد وشيخه، ولهذا يسمى مروان الجعدي، وعلى رأسه سلب الله بني أمية

ص: 474

الملك والخلافة، وشتتهم في البلاد، ومزقهم كل ممزق، ببركة شيخ المعطلة النفاة، ولما اشتهر أمره في المسلمين، طلبه خالد بن عبد الله القسري، وكان أميرا على العراق حتى ظفر به، فخطب الناس في يوم الأضحى، وكان آخر ما قال في خطبته: أيها الناس، ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بالجعد بن درهم، فإنه زعم أن الله لم يكلم موسى تكليما، ولم يتخذ إبراهيم خليلا، تعالى الله عما يقول الجعد علوا كبيرا، ثم نزل فذبحه في أصل المنبر وكان ضحيته، ثم طفئت تلك البدعة، والناس إذ ذاك عنق واحد أن الله فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه، موصوف بصفات الكمال ونعوت الجلال، وأنه كلم عبده ورسوله موسى تكليما، وتجلى للجبل فجعله دكا هشيما، إلى أن جاء أول المائة الثالثة، وولي على الناس عبد الله المأمون، وكان يحب أنواع العلوم، وكان مجلسه عامرا بأنواع المتكلمين في العلوم، فغلب عليه حب المعقولات، فأمر بتعريب كتب يونان، وأقدم لها المترجمين من البلاد، فترجمت له وعربت، فاشتغل بها الناس، والملك سوق، ما ينفق فيه جلب إليه، فغلب على مجلسه جماعة من الجهمية، ممن كان أخوه الأمين قد أقصاهم، وتتبعهم بالحبس والقتل، فحشوا بدعة التجهم في أذنه وقلبه، فقبلها واستحسنها، ودعا الناس إليها، وعاقبهم عليها، فلم تطل مدته، فصار الأمر بعده إلى المعتصم وهو الذي ضرب أحمد بن حنبل، فقام بالدعوة بعده، والجهمية تصوب فعله، وتدعو إليه، وتخبره أن ذلك هو تنزيه الرب عن التشبيه والتجسيم، وهم الذين غلبوا على مجلسه وقربه، والقضاة والولاة منهم فإنهم تبع لملوكهم، ومع هذا فلم يكونوا يتجاسرون على إلغاء النصوص

ص: 475

وتقديم العقول والآراء عليها فإن الإسلام كان في ظهور وقوة، وسوق الحديث نافقة، وأعلام السنة على ظهر الأرض، ولكن كانوا على ذلك يحومون، وحوله يدندنون، وأخذوا الناس بالرغبة والرهبة، فمن بين أعمى مستجيب، ومن بين مكره مفتد منهم بإعطاء ما سألوه وقلبه مطمئن بالإيمان، وثبّت الله أقواما جعل قلوبهم في نصر دينه أقوى من الصخر وأشد من الحديد، فأقامهم لنصر دينه، وجعلهم أئمة يقتدي بهم المؤمنون لما صبروا وكانوا بآياته يوقنون، فإنه بالصبر واليقين تُنال الإمامة في الدين، قال الله تعالى:{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24]، فصبروا من الجهمية على الأذى الشديد، ولم يتركوا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رغبوهم به من الوعد ولا لما أرعبوهم به من الوعيد، ثم أطفأ الله برحمته تلك الفتنة، وأخمد تلك الكلمة، ونصر السنة نصرا عزيزا، وفتح لأهلها فتحا مبينا، حتى صرخ بها على رؤوس المنابر، ودعي إليها في كل باد وحاضر، وصنف في ذلك الزمان في السنة ما لا يحصيه إلا الله.

ثم انقرض ذلك العصر وأهله، وقام بعدهم ذريتهم يدعون إلى كتاب الله وسنة رسوله على بصيرة، إلى أن جاء ما لا قبل لأحد به وهم جنود إبليس حقا؛ المعارضون لما جاءت به الرسل بعقولهم وآرائهم؛ وهم القرامطة، والباطنية، والملاحدة؛ ودعوهم إلى العقل المجرد، وأن أمور الرسل تعارض المعقول، فهم القائمون بهذه الطريقة حق القيام بالقول والفعل، فجرى على الإسلام وأهله منهم ما جرى، وكسروا عسكر الخليفة مرارا

ص: 476

عديدة، وقتلوا الحاج قتلاً ذريعاً، وانتهوا إلى مكة فقتلوا بها من وصل من الحاج إليها، وقلعوا الحجر الأسود من مكانه، وقويت شوكتهم، واستفحل أمرهم، وعظمت الرزية، واشتدت بهم البلية.

وأصل طريقهم أن الذي أخبرت به الرسل قد عارضه العقل، وإذا تعارض العقل والنقل قدمنا العقل، وفي زمانهم استولى الكفار على كثير من بلاد الإسلام بالمشرق والمغرب، وكاد الإسلام أن ينهدم ركنه لولا دفاع الذي ضمن حفظه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ثم خمدت دعوة هؤلاء في المشرق وظهرت من المغرب قليلا قليلا، حتى استفحلت وتمكنت واستولى أهلها على كثير من بلاد المغرب، ثم أخذوا يطأون البلاد حتى وصلوا إلى بلاد مصر فملكوها، وبنوا بها القاهرة، وأقاموا على هذه الدعوى مصر حين بها هم وولاتهم وقضاتهم.

وفي زمانهم صنفت رسائل من أخوان الصفا، والإشارات، والشفا، وكتب ابن سينا فإنه قال: كان أبي من أهل الدعوة الحاكمية، وعطلت في زمانهم السنة وكتبها والآثار جملة إلا في الخفية، وشعار هذه الدعوة تقديم العقل على الوحي، واستولوا على بلاد المغرب ومصر والشام والحجاز، واستولوا على العراق سنة، وأهل السُنة فيهم كأهل الذمة بين المسلمين، بل كان لأهل الذمة من الأمان والجاه والعز عندهم ما ليس لأهل السنة، فكم أغمد من سيوفهم في أعناق العلماء! وكم مات في سجونهم من ورثة الأنبياء! حتى استنقذ الله الإسلام والمسلمين من أيدهم في أيام نور الدين وصلاح الدين، فابل الإسلام من علته بعدما وطن نفسه على العزاء،

ص: 477

وانتعش بعد طول الخمول حتى استبشر أهل الأرض والسماء، وأبدر هلاله بعد أن دخل في المحاق، وثابت إليه روحه بعد أن بلغت التراق، وقيل من راق، واستنقذ الله بعبده وجنوده بيت المقدس من أيدي عبدة الصليب، وأخذ كل من أنصار الله ورسوله صلى الله عليه وسلم من نصرة دينه بنصيب، وعلت كلمة السنة وأُذن بها على رؤوس الأشهاد، ونادى المنادي يا أنصار الله لا تنكلوا عن الجهاد، فإنه أبلغ الزاد ليوم المعاد، فعاش الناس في ذلك النور مدة حتى استولت الظلمة على بلاد الشرق، فقدّموا الآراء والعقول والسياسة والأذواق على الوحي، وظهرت فيهم الفلسفة والمنطق وتوابعهما، فبعث الله عليهم عبادا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار، وعاثوا في القرى والأمصار، وكاد الإسلام أن يذهب اسمه، وينمحي رسمه، وكان مشار هذه الفئة وعالمها الذي يرجع إليه وزعيمها المعول فيها عليه شيخ شيوخ المعارضين بين الوحي والعقل وإمامه في وقته نصير الشرك والكفر الطوسي، فلم يُعلم في عصره أحد عارض بين العقل والنقل معارضة رام بها إبطال النقل بالكلية مثله، فإنه أقام الدعوة الفلسفية، واتخذ الإشارات عوضا عن السور والآيات، وقال: هذه عقليات قطعية برهانية قد قابلت تلك النقليات الخطابية، واستعرض أهل الإسلام وعلماء الإيمان والقرآن والسنة على السيف، فلم يبقَ منهم إلا من قد أعجزه، قصدا لإبطال الدعوة الإسلامية، وجعل مدارس المسلمين وأوقافهم للنجسية السحرة، والمنجمين، والفلاسفة، والملاحدة، والمنطقيين، ورأى إبطال الأذان، وتحويل الصلاة إلى القطب الشمالي، فحال بينه وبين ذلك من تكفل

ص: 478

بحفظ الإسلام ونصره، وهذا كله من ثمرة المعارضين بين الوحي والعقل، ولتكن قصة شيخ هؤلاء القديم منك على ذكر كل وقت؛ فإنه أول مَن عارض بين العقل والنقل، وقدم العقل، فكان من أمره ما قص الله، وورَّث الشيخ تلامذته هذه المعارضة، فلم يزل يجري على الأنبياء وأتباعهم منها كل محنة وبلية، وأصل كل بلية في العالم كما قال محمد الشهرستاني من معارضة النص بالرأي، وتقديم الهوى على الشرع، والناس إلى اليوم في شرور هذه المعارضة، ثم ظهر مع هذا الشيخ المتأخر المعارض أشياء لم تكن تعرف قبله، حسيات العميدي، وحقائق ابن عربي، وتشكيكات الرازي، وقام سوق الفلسفة والمنطق، وعلوم أعداء الرسل.

ثم نظر الله إلى عباده، وانتصر لكتابه ودينه، وأقام جندا يغزو ملوك هؤلاء بالسيف والسنان، وجندا يغزو علماءهم بالحجة والبرهان، ثم نبغت نابغة منهم في رأس القرن السابع، فأقام الله لدينه شيخ الإسلام أبا العباس أحمد بن تيمية قدس الله روحه، فأقام على غزوهم مدة حياته باليد والقلب واللسان، وكشف للناس باطلهم، وبين تلبيسهم وتدليسهم، وقابلهم بصريح المعقول وصحيح المنقول، وشفى واشتفى، وبيَّن تناقضهم ومفارقتهم لحكم العقل الذي به يدلون، وإليه يدعون، وأنهم أترك الناس لأحكامه وقضاياه، فلا وحي ولا عقل، فأرداهم في حفرهم، ورشقهم بسهامهم، وبيَّن صحيح معقولاتهم خدم لنصوص الأنبياء، فجزاه الله عن الإسلام وأهله خيرا. انتهى كلامه رحمه الله تعالى.

وقوله: ولتكن قصة شيخ هؤلاء القديم منك على ذكر كل وقت؛ يريد به

ص: 479

إبليس لعنه الله تعالى، حين خالف ما أمره الله به من السجود لآدم، وعارض الأمر الشرعي بما أداه إليه عقله الفاسد، فقال:{قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} [الحجر: 33]، وقال:{أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [ص: 76]، وقد تعارض عنده النص وعقله، فقدم العقل على النص، وأبى عن السجود لآدم، واستكبر وكان من الكافرين.

ولم يزل أعداء النصوص يقتبسون من هذا العقل الفاسد إلى زماننا هذا، ويسمون ميراثهم من شيخهم القديم حرية الفكر، يعنون أن الفكر مطلق فيما يراه، ولا يتقيد بشرع ولا غيره، هذا ما يراه زنادقة هذه الأزمان، مثل صاحب الأغلال وأشباهه من الملاحدة والمنافقين، وقد جرى صاحب الأغلال في ميدان المعارضة بين الشرع وبين العقل الفاسد أمدا بعيدا، زلت فيه إلى الحضيض قدمه، وهوى منتكسا على أم رأسه، عافانا الله وإخواننا المسلمين مما ابتلاه به وابتلى به إخوانه من المرتدين والمنافقين المعارضين للنصوص الثابتة بعقولهم الفاسدة تقليدا منهم لشيخهم القديم الملعون، ولتلامذته من طواغيت الإفرنج وأشباههم من الضُّلاَّل، قاتل الله الجميع أنى يُفكون.

ثم إنه بعد عصر شيخ الإسلام أبي العباس وأصحابه رحمهم الله تعالى كثر الشرك وعبادة القبور، وأنواع البدع المضلة، وظهر ذلك وانتشر في جميع الأقطار الإسلامية، وعمت الفتنة بذلك وطمت، ودخل فيها الخواص والعوام إلا من شاء الله تعالى وهم الأقلون، وما زال الشر يزداد ويكثر أهله، والخير ينقص ويقل أهله، حتى ضعف الإسلام جدا، وكاد أن

ص: 480

يقضى عليه، فأقام الله تعالى لدينه شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب قدس الله روحه، ونوّر ضريحه، فجاهد المشركين وأهل البدع مدة حياته باليد واللسان، وأعانه الله بجند عظيم من أنصار الدين وحماة الشريعة المطهرة، فريق منهم يجاهدون المبطلين بالحجة والبيان، وفريق يجالدون المعاندين بالسيف والسنان، حتى أعاد الله للإسلام عزه ومجده، ورفعت بحمد الله أعلام السنة النبوية، والعلوم السلفية في الجزيرة العربية، ونكست فيها أعلام الشرك والبدع والتقاليد الجاهلية، وسار على منهاج الشيخ من بعده أولاده وتلاميذه، وغيرهم ممن هداهم الله ونوّر بصائرهم من أهل نجد وغيرها من الأمصار، وكلما مضى منهم سلف صالح أقام الله بعده خلفا عنه يقوم مقامه، وقليل ما هم في زماننا، فالله المستعان.

ص: 481

فصل

وأما القسم الثالث: وهم أهل السنة والجماعة؛ الذين سلموا من نجاسة الشرك وأدران البدع، فهؤلاء هم أهل الإسلام الحقيقي، وهم الجماعة والسواد الأعظم، وهم أولى الناس باسم الإسلام؛ لأنهم آثروا اتباع الكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأمة وأئمتها، ولم يلتفتوا إلى ما خالف ذلك من زخارف الأئمة المضلين.

وهم على طبقتين:

الطبقة الأولى: المتقون الذين سلموا من فتنة الشبهات وفتنة الشهوات المحرمة، وصبروا على دينهم، وهؤلاء هم الغرباء حقا، الذين جاءت الأحاديث بغبطتهم، والثناء عليهم، ووعدهم بالحسنى وجزيل الثواب، كما تقدم ذكر ذلك، وما أقلهم في هذه الأزمان التي من تمسك فيها بدينه كان كالقابض على الجمر.

الطبقة الثانية: العصاة الذين سلموا من فتنة الشبهات ولكنهم تلوثوا بفتن الشهوات المحرمة، مِن ترك مأمور، وإتيان محظور، فهؤلاء {مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} .

وأهل الطبقة الأولى غرباء في أهل هذه الطبقة، كما أن الطبقتين غرباء في طوائف البدع، والجميع غرباء في سائر فرق الكفر والضلال.

ص: 482